موسوعة الامام الخمیني قدس سرة الشریف المجلد 1 و 2 منهاج الوصول الی علم الاصول

هوية الکتاب

عنوان واسم المؤلف: موسوعة الامام الخمیني قدس سرة الشریف المجلد 1 و 2 منهاج الوصول الی علم الاصول/ [روح الله الامام الخمیني قدس سرة].

مواصفات النشر : طهران : موسسة تنظیم و نشر آثارالامام الخمیني قدس سرة، 1401.

مواصفات المظهر: 740ص.

الصقيع: موسوعة الامام الخمیني قدس سرة

ISBN: 9789642123568

حالة القائمة: الفيفا

ملاحظة: الببليوغرافيا مترجمة.

عنوان : الخميني، روح الله، قائد الثورة ومؤسس جمهورية إيران الإسلامية، 1279 - 1368.

عنوان : الفقه والأحكام

المعرف المضاف: معهد الإمام الخميني للتحرير والنشر (س)

ترتيب الكونجرس: BP183/9/خ8الف47 1396

تصنيف ديوي : 297/3422

رقم الببليوغرافيا الوطنية : 3421059

عنوان الإنترنت للمؤسسة: https://www.icpikw.ir

ص: 1

المجلد 1

اشارة

ص: 2

«بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ»

ص: 3

ص: 4

مقدّمة موسوعة الإمام الخميني (س)

بسم الله الرحمن الرحيم

قضى الإمام الخميني(س) أكثر من خمسين عاماً من عمره الشريف مشتغلاً بالتعليم والتحقيق والتأليف ناجحاً في كلّ هذه المراحل كلّ النجاح، أثمرت له مكتسبات وحصائل عظيمة وذات قيمة سامية. وهذا بالإضافة إلى ثلاثة عقود من تولّيه للمرجعية الشيعية وقيادته لنضال الشعب الإيراني المسلم وإقامته لكيان الجمهورية الإسلامية الإيرانية.

كان سماحة الإمام(س) خلال سنوات حضوره في الحوزتين العلميتين في قم المقدّسة والنجف الأشرف وبالتوازي مع تعليمه وتدريسه على أعلى المستويات في الفقه والاُصول والفلسفة والعرفان والأخلاق؛ مهتمّاً كلّ الاهتمام بتأليف الكتب في هذه الموضوعات، ما يظهر ويتجلّى لنا بوضوح من خلالها تعدّد الجهات العلمية المختلفة ومدى إحاطته وتضلّع باعه في تلك العلوم وما يرتبط بها كالمنطق والفلسفة والتفسير والحديث والرجال وغيرها من شعب العلوم.

من الطريف أنّ سماحة الإمام بدأ تأليفه من الموضوعات العقلية الغامضة والصعبة التي لا تنالها أيدي الأفكار إلاّ بجهاد واجتهاد حتّى مرحلة التعلّم، فضلاً عن التعليم

والتأليف. فقد ألّف عام 1307 ش «شرح دعاء السحر» في العرفان وهو أوّل كتاب له،

ص: 5

واستمرّ في سياق التأليف حتّى عام 1357 ش حيث ألّف أيّام إقامته في النجف الأشرف آخر كتاب له «الخلل في الصلاة» وهو أيضاً من أصعب المباحث المطروحة في الفقه.

ففي مجال العرفان، ألّف باللغة العربية: «شرح دعاء السحر» و«التعليقة على الفوائد الرضوية» و«مصباح الهداية إلى الخلافة والولاية» و«التعليقة على شرح فصوص الحكم ومصباح الاُنس».

وفي الأبحاث الأخلاقية والعرفانية وباللغة الفارسية: «سرّ الصلاة» و«آداب الصلاة» و«شرح چهل حديث» و«شرح حديث جنود عقل وجهل».

وفي علم اُصول الفقه، ألّف أسفاراً قيّمة كما يلي: «مناهج الوصول إلى علم الاُصول» و«الطلب والإرادة» و«أنوار الهداية في التعليقة على الكفاية» و«بدائع الدرر في قاعدة لاضرر» و«الاستصحاب» و«التعادل والترجيح» و«الاجتهاد والتقليد»؛ وكذا «لمحات الاُصول» التي هي تقريراته من إفادات السيّد البروجردي لمحاضرات ألقاها في خارج الاُصول.

وفي إطار الفقه الفتوائي، صنّف باللغة العربية: «التعليقة على وسيلة النجاة» و«التعليقة على العروة الوثقى» و«تحرير الوسيلة» و«مناسك الحجّ».

وباللغة الفارسية: «حاشيه بر رساله ارث ملاهاشم خراساني» و«حاشيه بر توضيح المسائل آيت الله بروجردي» و«نجاة العباد» و«توضيح المسائل» و«مناسك حج».

وفي الفقه الاستدلالي: «كتاب الطهارة» و«المكاسب المحرّمة» و«كتاب البيع» و«الخلل في الصلاة».

وخلال هذه الكتب، قد ألّف سماحته «ولايت فقيه» بالفارسية وعدّة رسائل فقهية

ص: 6

واُصولية - منها التقيّة - ، و رسائل عرفانية وهناك «جهاد اكبر» و«دروس تفسيرية لسورة الحمد» حصيلة عدة محاضرات له في الأخلاق والتفسير.

أمّا الاستفتائات، فهي مجموعة من الأجوبة التي أفادها بعد انتصار الثورة الإسلامية إلاّ بعض ما وصل إلينا من فترة حضوره في النجف الأشرف.

هذه الآثار القيّمة - عدا قسم كبير من الاستفتائات وعدّة رسائل صغيرة - قد تولّت نشرها مؤسّسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني(س) ودور نشر اُخرى بصور مختلفة، ولكن كان من الحقيق علينا القيام بنشرها في مجموعة فاخرة وعصرية وفي متناول اليد للجميع.

و لنيل هذا المرام قامت مؤسّسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني - فرع قم المقدّسة - بإنجاز هذه المهمّة طوال سنوات باهتمام ومساهمة من المحقّقين المحنّكين والمسيطرين على شؤون التحقيق العلمية ونجحت في هذه العملية بتقديم آثار سماحة الإمام تحت عنوان «موسوعة الإمام الخميني(س)».

جدير بالذكر أنّ ما أوردناه في هذا الإطار هو ما كتَبه وألّفه سماحته شخصياً وبقلمه ولم يرد في الموسوعة شيء من التقريرات التي ألّفها وحرّرها تلامذته.

وفي ما يلي نذكر المراحل التي قضيناها في سبيل إعداد هذه المجموعة :

1 - إعادة القراءة وتصحيح المتن والمقابلة مع النسخ الأصلية والموجودة.

2 - استخراج المصادر والمآخذ والأقوال وتوحيدها وإكمال العناوين الأصلية والفرعية.

3 - إعداد الفهارس الفنّية لكلّ مجلّد لتسهيل وصول المحقّقين والمشتاقين إليها.

4 - التحرير العلمي والفنّي ووضع العلامات.

5 - إعداد مقدّمة التحقيق لكلّ كتاب بانفراده.

ص: 7

6 - التصنيف الموضوعي في الموسوعة الخمسين جزءاً بالترتيب التالي: الاُصولية منها سبعة أجزاء، والفقهية الاستدلالية أربعة عشر جزءاً، والفقهية الفتوائية عشرة أجزاء، والاستفتائات عشرة أجزاء، والكتب العقلية تسعة أجزاء.

وفي المستقبل القريب يصدر الجزء الصفر لهذه المجموعة والذي يشتمل على مقدّمة مفصّلة حول مكانة وشخصية الإمام العلمية وآثاره هكذا كما يصدر جزءان كفهارس ودلالات على الموسوعة بأسرها.

وفي الختام نقدّم جزيل الشكر والتقدير لكلّ من حجّة الإسلام والمسلمين مسيح بروجردي بوصفه مشرفاً عامّاً وحجّة الإسلام والمسلمين حسين شايعي بوصفه ناظراً علمياً، وأيضاً سماحة إبراهيم طاهري كيا بوصفه مديراً للمشروع، وهكذا حجج الإسلام مهدي مهريزي الذي اقترح المشروع ورسول عبداللهي، وقد تمّ قسم من العمل في فترة إدارتهما للمؤسّسة وأيضاً الإخوة والسادة : حسن پويا مساعد التحقيق ومحمّد كاظم تقوي، رضا هوشياري، حجت الله أخضري، عباس أخضري، داود صالحيتبار، سيّد مرتضى سيّد إبراهيمي، حسين شهابي، محمود أيّوبي، محسن إيزدي، علي كريمي، حسنعلي منصوري، محمّد علي حسن زاده، محمّد حسن عباسي، محمّد روحاني وعلي سبحاني، وكلّ من ساهم من الإخوة الكرام في إنجاز هذا المشروع وما تحمّلوا في سبيله من عناء؛ ولا شكّ أنّه لم يكن ليؤتي بثماره لولا هذه الهمم العالية والجهود السامية. والحمد لله ربّ العالمين

مدير مؤسّسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني

فرع قم المقدّسة

سيّد حبيب الله الموسوي

اسفند 1392 / ربيع الثاني 1435

ص: 8

مقدّمة التحقيق

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على محمّد وآله الطاهرين

من البركات الإلهية توفيق الإمام الخميني قدّس سرّه لكتابة دورة كاملة من علم اُصول الفقه؛ فإنّه وبإزاء تدريسه لهذا العلم وبعد إلقائه الدروس على جمع من الطلاّب كان يدوّنها، وقد قام بتتميم بعض أبحاثه عند تدريسه له في الدورات اللاحقة.

وقد نظّمت المدوّنات الاُصولية للإمام الخميني قدّس سرّه في هذه الموسوعة ضمن سبعة مجلّدات وستأتي التوضيحات المتعلّقة بكلّ منها في مقدّمته الخاصّة به.

الكتاب الحاضر - وهو «مناهج الوصول إلى علم الاُصول» الذي حرّره من عام 1370 ه . ق ، وقد فرغ منه في الرابع والعشرين من شهر شوّال المكرّم من سنة 1373 ه . ق مجلّدان يشتملان على مباحث الألفاظ وفقاً لكتاب «كفاية الاُصول». وقد درّس الإمام الخميني قدّس سرّه هذه الأبواب مرّتين، والمرّة الثانية هي

ص: 9

آخر دورة درّسها في علم الاُصول حتّى بحث «حديث الرفع»، وقد أضاف إلى الكتاب تعاليق وعبارات وفقاً لآرائه الأخيرة.

ولا يخفى على القارئ أنّه - مضافاً إلى المعالم الرئيسية والكلّية للمدرسة الاُصولية للإمام الخميني قدّس سرّه التي جاءت بعضها في مقدّمة تلميذه المبرّز آية الله العظمى الفاضل اللنكراني قدّس سرّه - من الضروري الإشارة إلى أنّ سماحة الإمام قدّس سرّه قد ذكر في «المناهج» نقاطاً هامّة قيّمة وتحقيقات ذات تأثير بالغ، مثل ما ذكره حول نقد قياس العلل التشريعية على التكوينية، الفرق بين العامّ والمطلق، متعلّق الأمر والنهي، المعانى الحرفية وغيرها... أهمّها نظرية «الخطابات القانونية» وهي نظرية بديعة وذات آثار واسعة في الفقه، بل في الكثير من الأبحاث الاُصولية أيضاً، وقد أثبت قدّس سرّه في هذه النظرية ثلاث اُمور:

1 . إنّ الخطابات الشرعية ليست على أساس خطاب المولى والعبد، بل هي على أساس القواعد القانونية الرائجة بين الحكومة والمجتمع.

2 . إنّ الخطابات الشرعية هي كالخطابات القانونية الرائجة بين العقلاء، لا تنحلّ إلى عدد الأفراد والموضوعات وإنّما هي خطابات كلّية لا يلاحظ فيها الأفراد والموضوعات بخصوصياتها.

3 . إنّ الخطابات الشرعية حيث لا يلاحظ فيها اختصاصات الأفراد، تشمل العاجز والناسي والعاصي والكافر، إلاّ أن يخرج الشارع نفسه بعض الأفراد من خطابه.

الخصيصة الاُخرى الملحوظة بكثرة في هذا الكتاب هي تبيين بعض المسائل والأبحاث الفلسفية العميقة وهي قاعدة الواحد، الوجود الرابط، الكلّي الطبيعى،

ص: 10

اعتبارات الماهية، أحكام التناقض والتضادّ وغيرها، وذلك لبيان مزالق الأبحاث في المؤلّفات الاُصولية للآخرين، حفظاً على أصل عدم الخلط بين الأبحاث الحقيقية والاعتبارية.

رسالة «الطلب والإرادة»

ثمّ هذا الكتاب يشتمل على رسالة حول بحث «الطلب والإرادة» الذي هو من الأبحاث الكلامية والفلسفية المعقّدة؛ لأ نّه قد اُورد في «كفاية الاُصول» وصار جزءاً من الكتب الاُصولية المتأخّرة، لكن حيث إنّ دأب الإمام الخميني قدّس سرّه هو عدم خلط المسائل المتعلّقة بعلم مع علم آخر، بل كان يبذل جهده ببيان المسائل الخاصّة بذلك العلم خاصّة، من هنا فإنّه لمّا وصل في درسه إلى هذا البحث وكان يرى أنّه خارج عن الاُصول المتعارفة كتب رسالة مستقلّة سنة 1371 ه . ق وطبعت سابقاً شكل مستقلّ. أمّا في هذه الطبعة فلمّا رأينا شدّة احتياج الباحثين إلى هذه الرسالة مع صغر حجمها، طبعناها تبعاً لصاحب «الكفاية» منضمّة إلى مباحث الألفاظ من علم الاُصول.

منهجنا في التحقيق

التحقيق المطلوب له مراحل عديدة ومعروفة، فلأجل الدقّة في إنجاز الأعمال اللازمة في تحقيق هذه الموسوعة لم تقنع المؤسّسة بتنفيذ مراحلها مرّة واحدة وإنّما قامت بتكرارها عدّة مرّات ومن قبل العديد من الباحثين؛ تفادياً للأخطاء المحتملة. وإليك فيما يلي إيضاح هذه المراحل بشكل مختصر:

ص: 11

1 . تصحيح الكتاب طبقاً للنسخة التي بخطّ المؤلّف قدّس سرّه .

2 . تقويم النصّ وترقيمه بعلائم الترقيم.

3 . إضافة عدد من العناوين بهدف تسهيل الرجوع للكتاب، ونظراً إلى كثرتها فقد جرّدناها من المعقوفين [ ] .

4 . تخريج الآيات الكريمة، والأحاديث الشريفة، وقد أسندناها إلى مصادرها الأصلية كالكتب الأربعة وكتب الواسطة ك«وسائل الشيعة».

5 . تخريج الأقوال والآراء المنقولة قدر المستطاع؛ سواء الفقهية منها والاُصولية والفلسفية واللغوية وغيرها.

ولا يخفى أنّه قد عبّرنا بلفظ «اُنظر» فيما لو لم نتمكّن من تحديد صاحب القول الأصلي، أو لم نعثر على القول في كتابه، أو لم يكن المنقول مطابقاً للموجود في الكتاب.

6 . وضع الفهارس الفنّية لكلّ مجلّد تسهيلاً لأمر المحقّقين والاستفادة الكاملة من الكتاب.

7 . تسمية الكتاب ب «مناهج الوصول إلى علم الاُصول»؛ فإنّها كانت من قبل مؤسّسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني قدّس سرّه ، بإجازة نجله الرحيل حجّة الإسلام والمسلمين الحاج السيّد أحمد الخميني قدّس سرّه عند نشره بعد رحلة الإمام قدّس سرّه .

وأنّ الكتاب قد طبع لأوّل مرّة في شوّال 1414ه .ق الموافق لشهر فروردين من عام 1373 ه . ش . ولقد كان انتشرت نظرياته الاُصولية حول مباحث الألفاظ قبل هذا التأريخ في ضمن «تهذيب الاُصول» تقريرات آية الله العظمى الشيخ جعفر السبحاني.

ص: 12

وليعلم أنّ هذه المراحل قد وقعت في الطبعة الاُولى لهذه المؤسّسة وفي هذه الطبعة قد صحّحناها وهذّبناها ثانياً.

وختاماً نتقدّم بالشكر الجزيل والثناء الجميل لجميع الأفاضل الذين ساهموا في هذا المشروع المبارك والذي استمرّ ستّة أعوام لنشر هذه الموسوعة، ونسأل البارئ أن يوفّقهم جميعاً ويثيبهم من فضله.

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين، وحسبنا الله ونعم الوكيل

مؤسّسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني قدّس سرّه

فرع قم المقدّسة

ص: 13

مقدّمة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام

على خير خلقه وأشرف بريّته محمّد وعلى آله الطيّبين

الطاهرين، واللعن الدائم على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.

وبعد:

فممّا أنعم الله تعالى به عليّ - من نعمائه التي لا تحصى، وآلائه التي لاتعدّ - نعمة عظيمة يجب عليّ بإزائها الشكر الكثير، وهي أن وفّقني لإدراك دورة كاملة من المباحث الاُصولية التي ألقاها سيّدنا الاُستاذ العلاّمة المحقّق الإمام الخميني قدّس سرّه على جمّ غفير من الأفاضل في الحوزة العلمية المقدّسة التي هي بالفعل اُمّ الحوزات العلمية في عالم الشيعة، وهي حوزة قم المحمية، التي هي عُشّ أهل البيت - عليهم الصلاة والسلام - من الزمن القديم إلى يومنا هذا.

وليس غرضي في هذا المجال تعريف الاُستاذ وتبيين شخصيته، بل ولا حاجة إليه؛ لكونها غنيّة عن البيان، لا سيّما من مثلي الذي هو من أقلّ تلاميذه بعد كون أبعاده العلمية - الفقهية والاُصولية والفلسفية والعرفانية والأخلاقية

ص: 14

والتفسيرية والرجالية وغيرها من العلوم الإسلامية والفنون المذهبية ومقدّماتها - واضحة لدى المخالف والمؤالف، لا سيّما بعد تحقّق الثورة الإسلامية الإيرانية المشتهرة في الآفاق، الواقعة بتفضّل الله وعنايته الخاصّة، بعد المجاهدات الكثيرة وتحمّل المشاقّ والآلام المتنوّعة والتضحيات الكثيرة من الاُمّة المسلمة الإيرانية، الذين كان كثير منهم من الشباب؛ لأنّ الثورة المسبوقة بالمعارضات التي طالت خمس عشرة سنة كانت بقيادة الروحانية والمرجعية وعلى رأسهم الإمام قدّس سرّه ، فإنّه كان هو القائد الأعظم والمؤسّس لنظام الحكومة الإسلامية المحضة، التي يكون تعريفها وتبيينها من طريق أهل البيت عليهم الصلاة والسلام، والإنصاف أنّ تأسيس تلك الحكومة - في الظرف الذي كان الحاكم على إيران مستظهراً بالقدرة العظيمة الظاهرية التي لم يكن فوقها قدرة، وهي قدرة الشيطان الأكبر الذي هو اُمّ الفساد في جميع أقطار العالم في هذا الزمان، وهو أمريكا - كان أشبه بالمعجزة، خصوصاً مع عدم الاستظهار بقدرة اُخرى أصلاً وعدم توفّر الإمكانات وعدم التجهيزات حتّى الأجهزة الأوّلية والآلات الساذجة. نعم، كان المستظهَر به هي القدرة المطلقة الإلهية، التي لا يماثلها قدرة أصلاً، والإيمان والاعتقاد بتلك القدرة غير المحدودة )إِنْ تَنْصُرُوا الله يَنْصُرْكُمْ

وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ( ولا شكّ أنّ النصر المضاف إلى المحدود محدود، والمضاف إلى الله غيرِ المحدود غيرُ محدود، فجزاء النصر الجزئي المحدود هو النصر الكلّي غير المحدود.

واليوم نشاهد ثمرات الثورة في أبعادها المختلفة، ومن ثمراتها حدوث التحوّل الكامل، خصوصاً في الشباب الذين كان كثير منهم قبل الثورة غوّاصين

ص: 15

في بحار الشهوات، وأحاطت بهم الخطيئات، ولم يكن همّهم إلاّ الالتذاذ بالمعاصي والاشتغال بالسيّئات، وقد تحوّل حالهم إلى أن صار مطلوبهم الأكبر الذي كانوا يدعون له في صلاة ليلهم هي الشهادة في سبيل الله وفداء أنفسهم في الحرب مع العراق التي أشعلها الشيطان الأكبر لغرض مواجهة الثورة وإسقاطها واجتثاثها من أصلها؛ اعتقاداً بأنّ الحكومة الإسلامية والقوانين القرآنية المنطبقة على الفطرة الأصلية والعقل السليم لا تقف عند نقطة خاصّة، بل تسري إلى سائر البلاد، وهو كذلك، فنرى الميل إلى الإسلام الواقعي المحض في كثير من الممالك الإسلامية التي يترأّسها المنتحلون للإسلام المتظاهرون به مع عدم اعتقادهم به بوجه، ولأجله تكون المعارضة والمخالفة مستمرّة، وكثيراً ما يقدّم المعارضون التضحيات الكثيرة.

وفي عقيدتي أنّ أهمّ ثمرة للثورة، الذي لا تبلغه ثمرة اُخرى في الأهمّية والعظمة هو اشتهار عقائد الشيعة واطّلاع العالم عليها وعلى أنّ مدرسة التشيّع هي مدرسة المعارضة للظالم والخروج على الطاغوت وحكومته بأيّ نحو كان على مرّ التاريخ، ولم يكن لهذه الشهرة سابقة في بدء الإسلام وأوّل حدوثه؛ ولذا ترتّب على هذه الشهرة توجّه أنظار المحقّقين وأفكار الباحثين الطالبين للحقيقة إلى هذا المذهب. ومن الواضح أنّ الفطرة السليمة غير المشوبة إذا نظرت إلى عقائد الشيعة وأفكارهم في الفنون الإسلامية المختلفة - الفردية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وسائر شؤونها المتكثّرة - لا تكاد تشكّ في صحّتها وكونها هي العقائد الحقّة والقوانين الصالحة لإدارة المجتمعات والحكومات؛ لابتنائها على العقل السليم والمنطق الصحيح والحرّية والاستقلال والتكفّل

ص: 16

لجميع شؤون المعاش والمعاد في جميع الأعصار والأدوار وكلّ أقطار العالم على اختلاف ألسنتهم وألوانهم وأفكارهم.

وبعد ذلك نرجع الآن إلى ما هو الغرض في هذه المقدّمة، فنقول:

أوّل من صنّف في علم الاُصول

قال السيوطي في محكيّ كتاب «الأوائل»: أوّل من صنّف في اُصول الفقه الشافعيُ بالإجماع. وصرّح بذلك جمع من أعلام المؤرّخين وبعض المصنّفين فيما يتعلّق بالكتب كصاحب كتاب «كشف الظنون».

وربما يحتمل أن يكون أبو يوسف - الذي هو سابق على الشافعي وتلميذ لأبي حنيفة - هو أوّل من صنّف في ذلك، كما قاله ابن خلّكان في ترجمته، كما أنّه هو أوّل من لُقّب بقاضي القضاة.

كما أنّه يحتمل أن يكون هو محمّد بن الحسن الشيباني فقيه العراق؛ لأ نّه مقدّم على الشافعي، وقد صرّح ابن النديم في «الفهرست»: أنّ من جملة مؤلّفاته الكثيرة تأليفاً يسمّى ب «اُصول الفقه»، وتأليفاً سمّاه كتاب «الاستحسان»، وتأليفاً

بعنوان كتاب «اجتهاد الرأي».

لكنّ الظاهر - كما يظهر من كتاب «تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام» للسيّد الأجلّ الصدر قدّس سرّه - أنّ أوّل من صنّف في ذلك - بعد ما كان المؤسّس هما الإمامين الهُمامين الصادقين علیهما السلام - هشام بن الحكم، صنّف كتاب «الألفاظ ومباحثها»، وهو أهمّ مباحث هذا العلم، ثمّ يونس بن عبدالرحمان مولى آل يقطين، صنّف كتاب «اختلاف الحديث ومسائله»، وهو مبحث تعارض

ص: 17

الحديثين ومسائل التعادل والترجيح في الحديثين المتعارضين، ذكرهما أبوالعبّاس النجّاشي في كتاب «الرجال»؛ والشافعي متأخّر عنهما.

سير علم الاُصول عند الشيعة وقوسه النزولي والصعودي

الظاهر أنّ أوّل من اعتمد على علم الاُصول في مقام الاستنباط واستند إليه الشيخ الجليل حسن بن علي بن أبي عقيل، الذي هو من مشايخ جعفر بن محمّد ابن قولويه صاحب كتاب «كامل الزيارات» وأحد مشايخ الشيخ المفيد قدّس سرّه وهو أوّل من هذّب الفقه، واستعمل النظر، وفتّق(1) البحث عن الاُصول والفروع في ابتداء الغيبة الكبرى، وله كتاب «المتمسّك بحبل آل الرسول صلی الله علیه و آله وسلم » في الفقه.

ثمّ اقتفى أثره ونهج منهجه ابن الجنيد المعروف بالإسكافي، الذي هو - كما صرّح به السيّد بحر العلوم قدّس سرّه - من أعيان الطائفة الإمامية، وأعاظم الفرقة المُحقّة، وأفاضل قدماء الإمامية، وأكثرهم علماً وفقهاً وأدباً وتصنيفاً، وأحسنهم تحريراً وأدقّهم نظراً، تبلغ مصنّفاته نحواً من خمسين كتاباً، منها كتاب «تهذيب الشيعة لأحكام الشريعة» مشتمل على جميع مباحث الفقه، وهو عشرون مجلّداً.

وقد وصلت النوبة بعدهما إلى الشيخ الأكبر محمّد بن محمّد بن النعمان المعروف ب «المفيد» فأ لّف كتاباً في الاُصول، يشتمل مع اختصاره على اُمّهات المباحث والمطالب، وقد رأيت مصنّفاً له في الاُصول في غاية الاختصار لا يتجاوز عدّة صفحات، ولعلّه كان كتاباً آخر منه في هذا العلم.

وتبعه في ذلك تلميذاه اللذان هما من أركان الطائفة، والمتبحّرين في الفنون

ص: 18


1- فتَّق الكلام: نقّحه وقوّمه.

المختلفة الإسلامية، ولهما تآليف قيّمة وتصنيفات ثمينة في أكثرها، وهما: السيّد الأجلّ السيّد المرتضى الملقّب ب «علم الهدى» وشيخ الطائفة أبوجعفر محمّد بن الحسن الطوسي - قدّس سرّه القدّوسي - فقد صنَّف الأوّل كتاب «الذريعة إلى اُصول الشريعة»، والثاني كتاب «عدّة الاُصول» الذي قال في شأنه السيّد بحر العلوم: «هو أحسن كتاب صنّف في الاُصول».

ولجلالة شأن الشيخ الطوسي وعظمة مقامه وكثرة تأليفاته واستنباطاته وفتاواه، لم يعْدُ أحد من تلامذته نظريات اُستاذهم، ولم يتجاسروا على نقدها وتمحيصها.

واستمرّت هذه الحالة إلى أن وصلت النوبة إلى سبط الشيخ ابن إدريس الحلّي المعروف بصاحب «السرائر»، فجدّد البحث والانتقاد، وفتح باب الاستنباط والاجتهاد بعد الركود والانسداد.

وانتقل الدور بعده إلى الفاضلين: المحقّق صاحب «الشرائع» وابن اُخته العلاّمة الحلّي، فأحكما أساس البحث والنظر، وأ لّفا في الفقه والاُصول كتباً كثيرة، فأ لّف الأوّل في الاُصول كتاب «نهج الوصول إلى معرفة الاُصول» وكتاب «المعارج»، والثاني صنّف كتباً كثيرة عمدتها «نهج الوصول إلى علم الاُصول» الذي تصدّى لشرحه جمع من أجلاّء الأصحاب منهم ابنه فخر المحقّقين، وصار مدار البحث والدرس إلى زمان الشهيد الثاني، وقد أ لّف الشهيد المزبور كتاباً في ذلك سمّاه «تمهيد القواعد»، وابنه صاحب «المعالم» كتابه المعروف ب «المعالم» الذي كان إلى زماننا هذا مدار البحث والدرس في بدء الشروع في علم الاُصول؛ لسلاسة تعبيره وجودة جمعه وسهولة تناوله، ولأجله صار مورداً لإقبال العلماء

ص: 19

عليه بالتحشية والتعليق والشرح، وأحسنها ما أ لّفه الشيخ محمّد تقي الأصفهاني - أخو صاحب «الفصول» - المسمّى ب «هداية المسترشدين» وهو كتاب كبير مشتمل على تحقيقات كثيرة وتدقيقات بديعة.

وفي هذه الدورة بلغت العناية بعلم الاُصول مرتبةً لم تكن حاجة إلى بلوغه تلك المرتبة بوجه؛ بعد كونها مقدّمة للفقه، ولم تكن لها موضوعية، وعلى حسب تعبير بعض الأعاظم اتّصف بالتورّم والخروج عن الحدّ.

إلى أن وصلت النوبة إلى الشيخ الأعظم الشيخ مرتضى الأنصاري صاحب كتاب «الرسائل» وتلميذه المحقّق الخراساني صاحب «الكفاية» فقد وقع منهما التنقيح والتهذيب والترتيب على وجه أنيق، وصار الكتابان من الكتب الدراسية في الحوزات العلمية، وعليهما شروح وتعاليق كثيرة، وصارت أنظارهما مورداً للتدقيق والتحقيق من قبل أجلاّء تلاميذهما، ولهم في ذلك تآليف قيّمة وأنظار ثمينة، لا يمكن إنكار علوّ رتبتها الكاشف عن الغوص في أعماق بحار المطالب، والبلوغ إلى منتهى المراتب العالية والدرجات المتعالية.

وبعد ذلك انتقل الدور إلى الطبقة اللاحقة التي منهم سيّدنا الاُستاذ العلاّمة المحقّق الاُصولي الكبير الإمام الخميني قدّس سرّه .

منهج الإمام قدّس سرّه وأنظاره في علم الاُصول

وأمّا منهجه: فقد كان بناؤه على ملاحظة المطالب من أصلها والنظر في أساسها وأنّها هل اُسّست على أساس صحيح قابل للقبول، أو أنّ أساسها مخدوش ومورد للنظر والبحث، فقد رأينا في مباحثه أنّه كثيراً ما يضع إصبعه

ص: 20

على نكتة البحث، ويهتمّ بالأساس الذي لعلّه كان مسلّماً عندهم، ويناقش فيه، ولأجله تصير المسألة متطوّرة متغيّرة، ولا تصل النوبة إلى البحث عن الأغصان والفروع، ومن هذه الجهة كان بحثه قدّس سرّه في أعلى درجة الفائدة، وموجباً لشحذ أذهان الفضلاء والطلبة، ولم تكن المطالب مقبولة عنده تعبّداً وتقليداً، بل كانت ملحوظة اُسُساً واُصولاً. ولعمري إنّ هذه مزية مهمّة توجب الرشد والرقاء، وتؤثّر في كمال التحقيق والتدقيق.

وأمّا أنظاره القيّمة الابتكارية المحضة أو تبعاً لبعض مشايخه، فكثيرة نشير إلى بعضها:

منها: ما يترتّب عليه ثمرات مهمّة وفوائد جمّة: وهو عدم انحلال الخطابات العامّة المتوجّهة إلى العموم - بحيث يكون الخطاب واحداً والمخاطب متعدّداً - إلى الخطابات الكثيرة حسب كثرة المخاطبين وتعدّد المكلّفين، بل الخطاب واحد والمخاطب متعدّد، والشرط في صحّة هذا النحو من الخطاب يغاير الشرط في الخطابات الشخصية، فإنّه لا يمكن في الخطاب الشخصي توجيهه إلى المخاطب مع العلم بعدم القدرة مثلاً، مع أنّه لا مانع من كونه مخاطباً في ضمن العموم مع وصف كونه كذلك.

ويترتّب عليه صحّة الأمر بالضدّين الأهمّ والمهمّ من دون أن يكون هناك ترتّب في البين، كما يتكلّفه القائل بالترتّب الذي صار مورداً للإثبات والنفي إلى حدّ الاستحالة، فإنّه عليه يكون الأمران ثابتين من دون ترتّب وطولية في البين. وكذا يترتّب عليه صحّة تكليف الكفّار والعصاة مع العلم بعصيانهم ومخالفتهم. وكذا ثمرات مهمّة اُخرى كعدم اشتراط الابتلاء الذي جعله الشيخ الأعظم

ص: 21

الأنصاري قدّس سرّه من شرائط منجّزية العلم الإجمالي، وقال: بأنّ خروج بعض الطرفين أو الأطراف عن محلّ الابتلاء يمنع عن تأثير العلم رأساً، وعلى مبنى الإمام قدّس سرّه لا يبقى مجال لهذا الاشتراط.

ومنها: ما أفاده في إ بطال ما اشتهر - بل ولعلّه من المسلّم عندهم - من أنّ الماهية توجد بوجود فردٍ ما، وتنعدم بانعدام جميع الأفراد.

وملخّص ما بيّنه وأفاده: أنّه إذا كان الطبيعي موجوداً بوجود فردٍ ما، فالإنسان يوجد بوجود زيد لا محالة، كما أنّه يوجد بوجود عمرو، لكنّ زيداً وعمراً إنسانان لا إنسان واحد، فإذا كان وجود زيد وجود إنسان تامّ وتحقّق كمال الطبيعة وتمام الماهية، فكيف لا يكون عدمه عدمها؟! فكما أنّ الإنسان يوجد بوجود زيد، كذلك ينعدم بعدمه لا محالة، لكن لا مانع من وجود الماهية وعدمها في آنٍ واحد، فكما أنّ الإنسان يتّصف في آنٍ واحد بالبياض والسواد معاً لأجل اتّصاف زيد بالأوّل وعمرو بالثاني، كذلك يتّصف بالوجود والعدم معاً للعلّة المذكورة بعينها، وعليه فلا يبقى مجال لما اشتهر من أنّ الماهية توجد بوجود فردٍ ما، وتنعدم بانعدام جميع الأفراد، بل هي توجد بوجود فرد، وتنعدم بانعدام فرد، ويجتمع الأمران - الوجود والعدم - فيها في آنٍ واحد.

ومنها: ما أفاده في إبطال ما استفاده مثل المحقّق الخراساني قدّس سرّه من المسألة المعروفة في الفلسفة، وهي أنّ الماهية من حيث هي هي ليست إلاّ هي؛ لا موجودة ولا معدومة، ولا مطلوبة ولا غير مطلوبة، من أنّ مقتضى ذلك عدم إمكان تعلّق الأحكام التكليفية بنفس الطبائع والماهيات؛ لأنّها في عالم الماهية ليست إلاّ هي، ولا تكون مطلوبة كما أنّها لا تكون غير مطلوبة.

ص: 22

ومحصّل ما أفاد في إبطال هذا المقال: أنّ مقصود الفلاسفة من العبارة المذكورة أنّ الماهية في مرتبتها التي هي مرتبة الجنس والفصل لا يكون أمر آخر غيرهما مأخوذاً فيها؛ بحيث يكون في عداد الجنس والفصل حتّى الوجود، فإنّ الماهية وإن كانت متّصفة بالوجود إلاّ أنّ الوجود لا يكون داخلاً فيها جزءاً؛ لا جنساً ولا فصلاً، كما أنّ العدم أيضاً يكون كذلك، مع أنّها في الخارج لا تخلو إمّا عن الوجود وإمّا عن العدم.

وبعبارة اُخرى: العبارة المذكورة ناظرة إلى الحمل الأوّلي الذاتي الذي لا يكون دون الاتّحاد في الماهية وإن لم نقل باعتبار الاتّحاد في المفهوم فيه أيضاً، والبحث في تعلّق الأحكام بالطبائع ناظر إلى الحمل الشائع الصناعي، فماهية الصلاة واجبة لا بمعنى كون الوجوب جزءاً لماهيتها، بل بمعنى كونها معروضة للوجوب.

ومن هنا يظهر: أنّ إضافة الوجوب إلى الماهية إنّما هي في عداد إضافة الوجود إليها، ولا فرق بين الأمرين، وعليه فلا مجال للفرار عن الشبهة المذكورة بالالتجاء إلى كون متعلّق الأحكام هو وجود الطبائع، كما زعمه المحقّق الخراساني قدّس سرّه مضافاً إلى استحالة تعلّق التكليف بالوجود؛ للزوم تحصيل الحاصل، والتحقيق في محلّه. ويترتّب على ما أفاده وضوح جواز اجتماع الأمر والنهي في مثل الصلاة في الدار المغصوبة؛ لعدم تحقّق الاتّحاد بين العنوانين في عالم تعلّق الأمر والنهي، وكون الاتّحاد في الخارج الذي هو خارج عن مرحلة تعلّق الأحكام وغير ذلك من الثمرات.

ومنها: أنّه قد اشتهر لا سيّما في كلام المحقّق الخراساني قدّس سرّه أنّ لكلّ حكم

ص: 23

مراتب أربعة: الاقتضاء والإنشاء والفعلية والتنجّز، ولو أخرجنا الاقتضاء والتنجّز عن المراتب؛ نظراً إلى كون الأوّل قبل الحكم وسبباً مقتضياً له، والثاني بعد الحكم؛ لأ نّه عبارة عن استحقاق العقوبة على المخالفة، تبقى المرتبتان؛ الإنشاء والفعلية، والمراد بالأوّل مرتبة جعل الحكم ووضعه وإنشائه، وبالثاني مرتبة بلوغه إلى لزوم العمل على طبقه، والجري على وفقه.

والإمام قدّس سرّه قد أنكر هذه المراتب بل المرتبتين أيضاً، والتزم بأنّ الأحكام على قسمين، لا أنّ لكلٍّ منها مرتبتين:

قسم - وهو جُلّ الأحكام - عبارة عن الأحكام الفعلية الواقعة في جريان العمل والقوانين التي يلزم تطبيق العمل عليها.

والقسم الآخر: هي الأحكام الإنشائية التي تصير فعلية في زمن المهديّ صاحب العصر والزمان - عجّل الله فرجه - وبعد ظهوره.

فالإنشائية والفعلية منوّعتان لجنس الحكم، لا أنّهما مرتبتان لكلّ حكم، والتحقيق في محلّه.

ومنها: ما أفاده في إبطال ما كان مسلّماً عند مثل المحقّق الخراساني قدّس سرّه : من أنّ الأوامر على ثلاثة أقسام: الأمر الواقعي الأوّلي، والأمر الثانوي الاضطراري، والأمر الظاهري، وأنّ الأوّل مثل الأمر بالصلاة مع الطهارة المائية، والثاني مثل الأمر بها مع الطهارة الترابية، والثالث مثل الأمر بها مع الطهارة الظاهرية الثابتة

بالبيّنة أو بمثل الاستصحاب وقاعدة الطهارة.

ومحصّل ما أفاده: أنّ تعدّد الأمر غير قابل للقبول، بل في المثال المذكور الأمر الواحد قد تعلّق بطبيعة الصلاة في قوله تعالى في موارد متعدّدة: )أَقِيمُوا

ص: 24

الصَّلَوةَ(. وآية الوضوء والتيمّم ناظرة إلى تبيين المتعلّق واشتراطه بالوضوء لواجد الماء وبالتيمّم لفاقد الماء، من دون أن يكون هناك أمران، كما أنّ أدلّة حجّية البيّنة والاُصول العملية المثبتة للطهارة ناظرة إلى جواز الاكتفاء بالطهارة الثابتة بها في مقام الامتثال وموافقة الأمر بالصلاة من دون أن يكون هناك أمر ثالث، فالأمر واحد ومتعلّقه أيضاً واحد، لكنّ الأدلّة الاُخرى ناظرة إلى بيان الشرطية والاكتفاء بالشرط ولو كان ثابتاً بأصل أو أمارة، فنرى في مورد بعض أدلّة الاستصحاب إجراءه في مورد الشكّ في الوضوء مع العلم بحدوثه من دون أن يكون فيه إشعار بتعدّد الأمر ووجود أمر آخر غير الأمر المتعلّق بطبيعة الصلاة، بل مفاده التوسعة في دليل آية الوضوء، وأنّ الوضوء الاستصحابي يكفي في تحقّق الشرط. نعم، قد وقع البحث في أنّه مع انكشاف الخلاف وأنّه لم يكن متوضّئاً في حال الشكّ، هل يكون المأتيّ به مُجزياً أم لا؟

ومنها: ما اختاره تبعاً لشيخه واُستاذه صاحب كتاب «وقاية الأذهان» من أنّ المجاز لا يكون استعمالاً للّفظ في غير ما وضع له، بل يكون استعمالاً فيما وضع له، غاية الأمر ثبوت ادّعاء في البين شبيه ما يقوله السكّاكي في خصوص باب الاستعارة التي هي المجاز مع علاقة المشابهة، مع فرق بينهما قد حقّق في محلّه.

وغير ذلك من الموارد الكثيرة والأنظار القيّمة التي يظهر لمن راجع مباحثه.

الكتاب الذي بين يديك

حيث إنّ الفضلاء الذين كانوا يستفيدون من مباحثه كثيرون، وكان أكثرهم يقرّرون ويثبتون مطالبه كلاًّ أو جُلاًّ، لكن المطبوع منها الذي كان ملحوظاً

ص: 25

للإمام قدّس سرّه ومتصدّراً بتقريظه الشريف ما قرّره الفاضل العالم الكامل أخونا المعظّم آية الله الحاج الشيخ جعفر السبحاني التبريزي - أدام الله بركات وجوده - المسمّى ب «تهذيب الاُصول»، وكان مرجعاً للفضلاء والطلاّب في الحوزات العلمية من الأساتذة والتلامذة وغيرهم.

لكن الكتاب الذي بين يديك وجد بعد ارتحاله قدّس سرّه في قراطيس متفرّقة ولم يخرج إليك إلاّ بعد إعمال جهد شديد وعمل متواصل تصدّت له مؤسّسة تنظيم ونشر آثار الإمام قدّس سرّه التي هي مؤسّسة كثيرة البركات والآثار، وهي تحت إشراف قُرّة العين حجّة الإسلام والمسلمين الحاج السيّد أحمد الخميني - دامت بركاته العالية - وقد صدرت منها كتب نافعة كثيرة مطبوعة.

واللازم أوّلاً التقدير والتشكّر من تلك المؤسّسة التي لا زالت مؤيّدة، وثانياً من الذين أتعبوا أنفسهم في تنظيم هذا الكتاب وتذييله بمطالب يترتّب عليها فوائد مهمّة لا يُستغنى عنها بوجه أصلاً.

وفي الختام نرجو من الله تعالى أن يزيد في علوّ درجات الإمام قدّس سرّه

وأن يحشره مع أجداده الطيّبين الطاهرين وأن يجزيه عن الإسلام والمسلمين خير جزاء المحسنين بحقّ بقيّة الله تعالى في الأرضين - روحي وأرواح العالمين لتراب مقدمه الفداء - وكان اللازم البحث في المقدّمة على سبيل التفصيل، لكن ضيق الوقت، والاستعجال قد منعا من ذلك.

محمّد الفاضل اللنكراني

25 / 1 / 72

ص: 26

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين، وصلّى الله

على محمّد وآله الطاهرين ولعنة الله على أعدائهم

وبعدُ:

فقبل الورود في المقصود لا بدّ من تقديم اُمور:

ص: 1

ص: 2

الأمر الأوّل : في موضوع علم الاُصول وتعريفه

اعتبارية وحدة العلم

إنّ كلّ علم عبارة عن عدّة قضايا مرتبطة تجمعها خصوصية بها يترتّب عليها غرض واحد وفائدة واحدة بالوحدة السنخية. ووحدة العلم - كوجوده - اعتبارية لا حقيقية؛ ضرورة امتناع حصول الوحدة الحقيقية المساوقة للوجود الحقيقي للقضايا المتعدّدة؛ لأنّ المركّب من الشيئين أو الأشياء لا يكون موجوداً [آخر] غير الأجزاء. اللهمّ إلاّ المركّب الحقيقي الحاصل من الكسر والانكسار المتحصّلة منهما صورة غير صورة الأجزاء.

تدريجية تكامل العلوم

ولا إشكال في أنّ العلوم كلّها - عقلية كانت أو غيرها - إنّما نشأت من النقص إلى الكمال، فكلّ علم لم يكن في أوّل أمره إلاّ قضايا معدودة لعلّها لم تبلغ عدد

ص: 3

الأصابع، فأضاف إليها الخلف بعد السلف، وكم ترك الأوّل للآخر، والفَرَط للتابع.

فهذا المنطق، فقد نقل الشيخ أبوعلي عن معلّم الفلاسفة: إنّا ما ورثنا عمّن تقدّمنا في الأقيسة إلاّ ضوابط غير مفصّلة... إلى آخره(1)، وهذا حال سائر العلوم، فلا أظنّ بعلم اُسّس من بدو نشئه على ما هو الآن بين أيدينا، فانظر علوم الرياضيات والطبّ والتشريح حاضرها وماضيها، وعلمي الفقه والاُصول من زمن الصدوقين والشيخين إلى زماننا.

عدم لزوم موضوع واحد لكلّ علم

ثمّ اعلم: أنّ القضايا المركّبة منها العلوم مختلفة: فمن العلوم ما يكون جميع قضاياه أو غالبها قضايا حقيقية أو بحكمها، كالعقليات والفقه واُصوله.

ومنها ما تكون جزئية حقيقية، كالتأريخ والجغرافيا وغالب مسائل الهيئة وعلم العرفان.

ونسبة موضوع المسائل إلى ما قيل: إنّه موضوع العلم، قد تكون كنسبة الطبيعي إلى أفراده، وقد تكون كنسبة الكلّ إلى أجزائه، بل قد يكون موضوع جميع المسائل هو موضوع العلم، فمن الأوّل الأمثلة الاُول، ومن الثاني الثانية غالباً ما عدا العرفان، ومن الثالث العرفان؛ فإنّ موضوعه هو الله - تعالى - وهو عين موضوع مسائله.

فاتّضح ممّا ذكر اُمور:

منها: أنّ ما اشتهر: من أنّ موضوع كلّ علم ما يبحث فيه عن عوارضه

ص: 4


1- الشفاء، قسم المنطق، السفسطة 4: 113؛ اُنظر شرح حكمة الإشراق: 21.

الذاتية، ممّا لا أصل له، سواء فسّرناها بما فسّرها القدماء(1)،

أو بأ نّها ما لا تكون لها واسطة في العروض(2)؛

ضرورة أنّ عوارض موضوعات المسائل - التي تكون نسبتها إلى موضوع العلم كنسبة الأجزاء إلى الكلّ، لا الجزئيات إلى الكلّي - لا تكون من عوارضه الذاتية بالتفسيرين إلاّ بتكلّف.

ومنها: ما قيل: من أنّ مسائل العلوم هي القضايا الحقيقية(3)، غير مطّرد.

ومنها: ما قيل: من أنّ موضوعات المسائل هي موضوع العلم خارجاً، ويتّحد معها عيناً كاتّحاد الطبيعي وأفراده(4)، غير تامّ.

ومنها: ما اشتهر من أنّه لا بدّ لكلّ علم من موضوع واحد جامع بين موضوعات المسائل، ممّا لا أصل له؛ فإنّك قد عرفت أنّ كلّ علم إنّما كان بدو تدوينه عدّة قضايا، فأضاف إليه الخلف حتّى صار كاملاً، ولم يكن من أوّل الأمر في نظر المؤسّس البحث عن عوارض الجامع بين موضوعات المسائل.

فهذا علم الفقه، فهل يكون في مسائله ما يبحث عن عوارض فعل المكلّف بما هو فعله الجامع بين الأفعال؟! وهل كان نظر مدوّنيه في أوّل تدوينه إلى ذلك،

ص: 5


1- الإشارات والتنبيهات، شرح المحقّق الطوسي 1: 298 - 299؛ البصائر النصيرية: 5 - 6؛ شرح الشمسية: 14؛ الحكمة المتعالية 1: 30.
2- الحكمة المتعالية 1: 32، الهامش 1 (تعليقة الحكيم السبزواري)؛ الفصول الغروية: 10 / السطر 23؛ كفاية الاُصول: 21.
3- اُنظر كفاية الاُصول: 21؛ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 22.
4- كفاية الاُصول: 21؛ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 22.

أم كان هذا التكلّف كالمناسبات بعد الوقوع على وجه لا يصدق في جميع مسائل العلوم أو غالبها؟!

وهل تظنّ أنّ مدوّن علم الجغرافيا في بدو تأسيسه كان شخصاً ناظراً إلى أحوال الأرض وهيئاتها؟! أو أنّ في كلّ صقع وجد شخص أو أشخاص في مرّ الدهور، ودوّن جغرافيا صُقعه، أو مع البلاد المجاورة، ثمّ ضمّ آخر جغرافيا صقعه إليه، فصار جغرافيا مملكة، وهكذا إلى أن صار جغرافيا جميع الأرض، فلم يكن البحث فيه من أوّل الأمر عن أحوال الأرض، تأمّل. وهكذا الأمر في كثير من العلوم.

فالالتزام بأ نّه لا بدّ لكلّ علم من موضوع يبحث فيه عن عوارضه الذاتية، ثمّ التزام تكلّفات باردة لتصحيحه، ثمّ التزام استطراد كثير من المباحث التي تكون بالضرورة من مسائل الفنون، ممّا لا أرى له وجهاً.

فأيّ داعٍ للالتزام بكون موضوع علم الفقه هو فعل المكلّف(1)،

وأنّ موضوع كلّ علم ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتية، مع أنّ الأحكام ليست من العوارض؟!

ومع التسليم وتعميم الأعراض للاعتباريات، ليست كلّها من الأعراض الذاتية لموضوعات المسائل؛ فإنّ وجوب الصلاة لا يمكن أن يكون من الأعراض الذاتية لها بوجودها الخارجي؛ لكون الخارج ظرف السقوط لا الثبوت، ولا بوجودها الذهني، وهو واضح، ولا للماهية من حيث هي؛ ضرورة

ص: 6


1- معالم الدين: 29.

عدم كونها مطلوبة، فمعنى وجوبها أنّ الآمر نظر إلى الماهية وبعث المكلّف نحو إيجادها، وبهذا الاعتبار يقال: إنّها واجبة، لا بمعنى اتّصافها بالوجوب في وعاء من الأوعية، ووعاء الاعتبار ليس خارجاً عن الخارج والذهن.

هذا، مع لزوم الاستطراد في كثير من مهمّات مسائل الفقه، كأبواب الضمان، وأبواب المطهّرات والنجاسات، وأبواب الإرث، وغير ذلك.

أو أيّ داعٍ لجعل موضوع الفلسفة هو الوجود، ثمّ التكلّف بإرجاع المسائل فيها إلى البحث عن أعراضه الذاتية له بما تكلّف به بعض أعاظم فنّ الفلسفة(1)،

ثمّ الالتزام باستطراد كثير من المباحث، كمباحث الماهية والأعدام، بل مباحث المعاد وأحوال الجنّة والنار وغيرها، أو التكلّف الشديد البارد بإدخالها فيها.

هذا، مع أنّ كثيراً من العلوم مشتمل على قضايا سلبية بالسلب التحصيلي، والتحقيق في السوالب المحصّلة أنّ مفادها هو قطع النسبة وسلب الربط، لا إثبات النسبة السلبية، كما أوضحناه بما لا مزيد عليه في مباحث الاستصحاب(2).

فتحصّل ممّا ذكرنا: أنّ دعوى كون موضوع كلّ علمٍ أمراً واحداً منطبقاً على موضوعات المسائل ومتّحداً معها، غيرُ سديدة.

وما ربما يتوهّم: من لزوم ذلك عقلاً؛ استناداً إلى قاعدة عدم صدور الواحد إلاّ من الواحد(3)، ممّا لا ينبغي أن يصدر ممّن له حظّ من العقليات؛ فإنّ

ص: 7


1- الحكمة المتعالية 1: 23 و28.
2- الاستصحاب، الإمام الخميني قدس سره: 105.
3- حاشية كفاية الاُصول، المشكيني 1: 48.

موضوع القاعدة هو البسيط الحقيقي صادراً ومصدراً، لا مثل العلوم التي هي قضايا متكثّرة، كلّ منها مشتملة على فائدة تكون مع اُخرى واحدةً بالسنخ؛ فإنّ قاعدة «كلّ فاعل مرفوع» يستفاد منها فائدة غير ما يستفاد من قاعدة «كلّ مفعول منصوب» وسائر القواعد، لكن لتلك الفوائد الكثيرة ربط وسنخية من وجه، ولها وحدة انتزاعية اعتبارية.

مع أنّ حديث تأثير الجامع بين المؤثّرات إذا اجتمعت على أثر واحد، حديث خرافة؛ لعدم تحقّق الجامع في الخارج بنعت الوحدة إلاّ على رأي الرجل الهمداني(1).

تنبيه: فيما به امتياز العلوم

كما أنّ منشأ الوحدة في العلوم هو سنخية قضاياها المتشتّتة، منشأ امتيازها هو اختلاف ذاتها وسنخ قضاياها. ولا يمكن أن يكون ما به اختلافها وامتيازها هو الأغراض أو الفوائد المترتّبة عليها؛ لتأخّرها رتبة عن القضايا، فمع عدم امتيازها لا يمكن أن يترتّب عليها فوائد مختلفة.

نعم، قد تتداخل العلوم في بعض القضايا؛ بمعنى أن تكون لقضيّة واحدة فائدة أدبية - مثلاً - يبحث الأديب عنها لفائدتها الأدبية، والاُصولي لفهم كلام الشارع، كبعض مباحث الألفاظ، فالاُصولي والأديب يكون غرضهما فهم كون «اللام» للاستغراق، و«ما» و«إلاّ» للحصر، لكن يكون ذلك هو الغرض الأقصى

ص: 8


1- رسائل ابن سينا 1: 462؛ اُنظر الحكمة المتعالية 1: 273؛ شرح المنظومة، قسم الحكمة 2: 347 - 348.

للأديب بما أنّه أديب، أو يكون أقصى مقصده أمراً أدبياً، وللاُصولي غرض آخر؛ هو فهم كلام الشارع لتعيين تكليف العباد.

وتداخل العلوم في بعض المسائل لا يوجب أن تكون امتيازها بالأغراض بما أنّها واحدة بالوحدة الاعتبارية؛ فإنّ المركّب من مسائل شتّى إذا اختلف مع مركّب آخر بحسب مسائله، واتّحد معه في بعضها، يكون مختلفاً معه بما أنّه واحد اعتباري ذاتاً، خصوصاً إذا كان التداخل قليلاً، كما أنّ الأمر كذلك في العلوم.

فتحصّل ممّا ذكر: أنّ اختلاف العلوم إنّما يكون بذاتها، لا بالأغراض والفوائد؛ فإنّه غير معقول.

ثمّ إنّه بما ذكرنا - من عدم لزوم كون المبحوث عنه في مسائل العلم من الأعراض الذاتية لموضوع العلم، بل ولا لموضوع المسائل - يتّضح: أنّ بعض المباحث اللفظية، كالبحث عن دلالة الأمر والنهي وكلمات الحصر وكثير من مباحث العامّ والخاصّ، والمطلق والمقيّد، وبعض المباحث العقلية التي يكون البحث فيها أعمّ ممّا ورد في كلام الشارع، تكون من مسائل العلم بما أنّها مسائل مرتبطة بسائر مسائلها ومشتركة معها في الخصوصية التي لأجلها صارت واحدة بالاعتبار، إذا لم يكن محذور آخر في عدّها منه، كما سنشير إليه(1).

بحث وتحقيق: في تعريف الاُصول

قد عرّف الاُصول بتعاريف لم يسلم واحد منها من الإشكال طرداً أو عكساً؛ بخروج ما دخل فيه تارة، ودخول ما خرج منه اُخرى. فقد اشتهر تعريفه: بأ نّه

ص: 9


1- يأتي في الصفحة 12.

العلم بالقواعد الممهّدة لاستنباط الأحكام الشرعية الفرعية(1).

فاستشكل عليه بلزوم استطراد الظنّ على الحكومة، ومسائل الاُصول العملية في الشبهات الحكمية(2).

ويظهر من الشيخ الأعظم ما يوجب انسلاك كثير من القواعد الفقهية فيه(3).

وقد عدل المحقّق الخراساني رحمه الله علیه عنه إلى تعريفه: «بأ نّه صناعة يعرف بها القواعد التي يمكن أن تقع في طريق استنباط الأحكام، أو التي ينتهى إليها في مقام العمل»(4)

لإدخال الظنّ على الحكومة والاُصول العملية، ولعلّ التعبير بالصناعة للإشارة إلى أنّ الاُصول علم آلي بالنسبة إلى الفقه، كالمنطق بالنسبة إلى العلوم العقلية.

وكأنّ هذا التعريف أسوأ التعاريف المتداولة بينهم؛ لأنّ كلّ علم إمّا نفس المسائل، فتكون البراهين على إثباتها من المبادئ التصديقية، أو مجموع المسائل والمبادئ، كما قيل: «إنّ أجزاء العلوم ثلاثة»(5) واُريد به أجزاء العلوم المدوّنة، وأمّا كون العلم هو المبادئ فقط فلم يذهب إليه أحد، ولا يمكن التزامه، وقد سبق منه رحمه الله علیه أنّ مسائل العلم هي قضايا متشتّتة

ص: 10


1- قوانين الاُصول 1: 5 / السطر 4؛ الفصول الغروية: 9 / السطر 39 - 40؛ هداية المسترشدين 1:97.
2- كفاية الاُصول: 23 - 24.
3- فرائد الاُصول، ضمن تراث الشيخ الأعظم 26: 18 - 19.
4- كفاية الاُصول: 23.
5- شرح الشمسية: 185 / السطر 7؛ الحاشية على تهذيب المنطق: 114؛ البصائر النصيرية: 148 / السطر 25.

جمعها اشتراكها في الدخل في الغرض(1)، مع أنّ تعريفه ذلك لا ينطبق إلاّ على المبادئ؛ فإنّها هي التي تعرف بها القواعد التي يمكن أن تقع في طريق الاستنباط.

مع أنّ القواعد الكلّية الفقهية - كقاعدة ما يضمن أصلاً وعكساً، وقاعدة الضرر، والحرج، والغرر، وغيرها من القواعد التي يستنبط منها أحكام كلّية - داخلة في هذا التعريف. اللهمّ إلاّ أن يراد بالصناعة هو العلم الآلي المحض كما احتملنا.

وهذا الإشكال وارد على تعريف شيخنا العلاّمة - أعلى الله مقامه -(2)

مع

ورود بعض مناقشات اُخر عليه.

كما أنّه وارد على تعريف بعض أعاظم العصر رحمه الله علیه : «من أنّه عبارة عن العلم بالكبريات التي لو انضمّت إليها صغرياتها يستنتج منها حكم فرعي كلّي»(3) فإنّه صادق على القواعد المتقدّمة، مع ورود الإشكال المتقدّم على التعريف المعروف عليه، وقد تصدّى لدفع الإشكال في أوائل الاستصحاب(4) بما لا يخلو من غرابة، فراجع.

كما أنّ بعض المحقّقين تصدّى لدفع الإشكال على الطرد والعكس بأنّ المدار في المسألة الاُصولية على وقوعها في طريق استنباط الحكم الشرعي

ص: 11


1- كفاية الاُصول: 21.
2- درر الفوائد، المحقّق الحائري: 31 - 32.
3- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 19.
4- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4: 309.

بنحو يكون ناظراً إلى إثبات الحكم بنفسه، أو بكيفية تعلّقه بموضوعه، قائلاً: «إنّ المسائل الأدبية لا تقع إلاّ في طريق استنباط موضوع الحكم بلا نظر إلى كيفية تعلّق حكمه، بخلاف مباحث العامّ والخاصّ، والمطلق والمقيّد»(1).

وأنت خبير بأنّ كثيراً من مباحث العامّ والخاصّ، والمطلق والمقيّد، والمفاهيم، والأمر والنهي، مباحث لغوية يحرز بها أوضاع الكلمات، كمبحث المشتقّ الذي اعترف بخروجه(2)،

وكسائر المباحث اللغوية، فأيّ فرق بين البحث عن أنّ «اللام» للاستغراق، و«ما» و«إلاّ» للحصر، وأداة الشرط دالّة على المفهوم، والضمير المتعقّب للجمل يرجع إلى الأخيرة منها، والأمر والنهي ظاهران في الوجوب والحرمة، إلى غير ذلك، وبين البحث عن أنّ الصعيد مطلق وجه الأرض، وهيئة الفعل دالّة على الصدور الاختياري - مثلاً - وغير ذلك من المباحث اللغوية؟! فجميع ذلك ممّا يستنتج منه كيفية تعلّق الحكم بالموضوع. مع ورود إشكال دخول القواعد الفقهية فيه عليه أيضاً.

ونحن قد تصدّينا في مباحث الظنّ لبيان الفرق بين القواعد الاُصولية والفقهية(3)

بما لا يخلو من إشكال.

ولا أظنّ إمكان حدّ جامع لجميع المسائل التي يبحث عنها في الاُصول بوضعه الفعلي، وطارد لغيرها من المباحث الأدبية التي تكون نظير كثير من مباحث الألفاظ، والفقهية التي تكون نظير الاُصولية في وقوعها كبرى قياس الاستنتاج.

ص: 12


1- مقالات الاُصول 1: 53 - 54؛ نهاية الأفكار 1: 22 - 23.
2- مقالات الاُصول 1: 54 - 55؛ نهاية الأفكار 1: 23.
3- أنوار الهداية 1: 13 و211.

في تحقيق المقام

والذي يمكن أن يقال: إنّ كلّية المباحث التي يبحث فيها عن الأوضاع اللغوية، وتشخيص مفاهيم الجمل والألفاظ، ومداليل المفردات والمركّبات، وتشخيص الظهورات، خارجةٌ من المسائل الاُصولية، وداخلة في علم الأدب، وإنّما يبحث عنها الاُصولي؛ لكونها كثيرة الدوران في الفقه والسيلان في مباحثه؛ ولهذا لا يقنع الاُصولي بالبحث عنها في باب من الفقه، بل المناسب له بما أنّ منظوره الاجتهاد في الأحكام، أن ينقّح تلك المباحث العامّة البلوى ولو لم تكن اُصولية.

وقد أدرج المتأخّرون(1) بعض المسائل التي لا ابتلاء بها رأساً أو قليلة الفائدة جدّاً في فنّهم لأدنى مناسبة؛ إمّا تشييداً لأذهان المشتغلين، أو لثمرة علمية، أو لدخالة بعيدة في الاستنباط.

وبعد ما عرفت ذلك لا بأس بتعريفه: «بأ نّه هو القواعد الآلية التي يمكن أن تقع كبرى استنتاج الأحكام الكلّية الإلهية أو الوظيفة العملية».

فالمراد ب «الآلية» ما لا ينظر فيها بل ينظر بها فقط، ولا يكون لها شأن إلاّ ذلك، فتخرج بها القواعد الفقهية، فإنّها منظور فيها؛ لأنّ قاعدة «ما يضمن» وعكسها - بناءً على ثبوتها - ممّا ينظر فيها، وتكون حكماً كلّياً إلهياً، مع أنّها من

جزئيات قاعدة اليد، ولا يثبت بها حكم كلّي.

ص: 13


1- فرائد الاُصول، ضمن تراث الشيخ الأعظم 24: 367؛ كفاية الاُصول: 353؛ وراجع أيضاً الاجتهاد والتقليد، الإمام الخميني قدس سره: 9.

نعم، لو كانت الملازمة الشرعية بين المقدّم والتالي كان للنقض وجه، لكن ليس كذلك عكساً ولا أصلاً.

وكذا قاعدة الضرر والحرج والغرر؛ فإنّها مقيّدات للأحكام ولو بنحو الحكومة، فلا تكون آلية بل استقلالية، وإن يعرف بها حال الأحكام.

نعم، يخرج بهذا القيد بعض الاُصول العملية، كأصل البراءة الشرعية المستفاد من حديث الرفع(1)

وغيره، ولا غرو فيه؛ لأ نّه حكم شرعي ظاهري كأصل الحلّ والطهارة(2).

ص: 14


1- التوحيد، الصدوق: 353 / 24؛ الخصال: 417 / 9؛ وسائل الشيعة 15: 369، كتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس، الباب 56، الحديث 1.
2- ولك أن تدرج المسائل المتداخلة، في هذا العلم - كالمسائل المتقدّمة اللغوية والأدبية وغيرهما - وتميّزها عن غيرها بقولنا: «قواعد آلية» بما فسّرناها، وتكون المسألة الأدبية بما أ نّها آلة اُصوليةً، وبما أ نّها استقلالية أو بجهات اُخر من مسائل الأدب أو غيره، لكن لابدّ أن يراد بالاستنتاج - حينئذٍ - أعمّ ممّا بلا واسطة، لكن التحقيق هو ما تقدّم، والدليل عليه - بعد الوجدان - التعريف المشهور. كما أنّ التحقيق: أنّ أصل البراءة الشرعية من الاُصول، وماهيته ليست غير أصل البراءة العقلية، بل العقل والنقل متطابقان على معذورية الجاهل، كقوله تعالى: «مَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً»أ و«لا يُكَلِّفُ الله نَفْساً...»(ب) إلى آخره، وقوله: «الناس في سعة ما لايعلمون»(ج) وحديث الرفع؛ بناءً على كونه لرفع المؤاخذة. وأمّا مثل: «كلّ شيءٍ حلال...»(د) وحديث الرفع؛ بناءً على رفع الحكم ورفع الشرطية والجزئية، و«كلّ شيء مطلق...»(ه ) بناءً على كونه بمعنى المباح، لا على احتمال آخر، فأجنبيّ عن أصل البراءة، بل هي أحكام فقهية، فأصل البراءة مسألة اُصولية، وأصل الإباحة والحلّ فقهية، فافهم. [منه قدس سره] أ - الإسراء (17): 15. ب - البقرة ((2)): 286. ج - راجع عوالي اللآلي 1: 424 / 109؛ اُنظر الكافي 6: 297 / 2؛ وسائل الشيعة 24: 90، كتاب الصيد والذبائح، أبواب الذبائح، الباب 38، الحديث 2. د - الكافي 5: 313 / 40؛ وسائل الشيعة 17: 89، كتاب التجارة، أبواب مايكتسب به، الباب 4، الحديث 4. ه - الفقيه 1: 208 / 937؛ وسائل الشيعة 27: 173، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 12، الحديث 67.

وقولنا: «يمكن أن تقع...» إلى آخره لأجل أنّ الاُصولية لا تتقوّم بالوقوع الفعلي، فالبحث عن القياس وحجّية الشهرة والإجماع المنقول اُصولي.

وبقولنا: «تقع كبرى...» خرجت مباحث العلوم الاُخر.

ولم نقل: الأحكام العملية؛ لعدم عملية جميع الأحكام، كمطهّرية الماء والشمس، ونجاسة الأعيان النجسة. وإضافة «الوظيفة» لإدخال مثل أصل البراءة.

وأمّا الظنّ على الحكومة ففيه كلام آخر، حاصله: أنّه إن كان العقل حكم بحجّيته يدخل بالقيد، وإن كان إيجاب العمل على طبقه عقلاً لأجل كونه أحد أطراف العلم فيكون أمارة على الواقع، وليس للظنّ من هذه الحيثية دخالة، وإن لا يجوز رفع اليد عنه.

ولم نكتف بأ نّه ما يمكن أن تقع كبرى استنتاج الوظيفة؛ لعدم كون ما يستنتج منها وظيفة دائماً كالأمثلة المتقدّمة، وإن تنتهي إلى الوظيفة. ولعلّ ذلك أسلم من سائر التعاريف، والأمر سهل.

ص: 15

الأمر الثاني : في الواضع وكيفية الوضع

اشارة

لا شبهة في أنّ البشر في الأزمنة القديمة جدّاً كان في غاية سذاجة الحياة وبساطة المعيشة، وبحسبها كان احتياجه إلى الألفاظ محصوراً محدوداً، فوضعها على حسب احتياجه المحدود، ثمّ كلّما كثر احتياجه كثرت الأوضاع واللغات، فكثرة الألفاظ والمعاني والاحتياجات في الحال الحاضر لا تدلّ على أنّ الواضع هو الله - تعالى - أو بوحيه وإلهامه، بل الواضع هو البشر، لا شخص واحد، بل أشخاص كثيرة في مرّ الدهور وتمادي الأزمنة، فما صدر عن بعض الأعاظم في المقام(1)

ممّا لا ينبغي أن يصغى إليه.

كما أنّه لا إشكال في عدم العلاقة الذاتية بين الألفاظ والمعاني: أمّا قبل الجعل فهو واضح.

وتوهّم لزوم العلاقة - دفعاً للترجيح بلا مرجّح في الوضع، وجعل هذا برهاناً

ص: 16


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 30.

على لزوم كونه تعالى واضعاً؛ لعدم إحاطة البشر بالخصوصيات والروابط بينها(1) - واضح الضعف؛ لعدم لزوم كون المرجّح هو الرابطة بين اللفظ والمعنى؛ لإمكان أن يكون انتخاب لفظ لترجيحٍ فيه لدى الواضع، من قبيل سهولة الأداء، وحسن التركيب، إلى غير ذلك، من غير أن يكون بين الألفاظ والمعاني أدنى مناسبة.

وبالجملة: دعوى المناسبة بين جميع الألفاظ والمعاني ممّا يدفعه الوجدان. ويمكن إقامة البرهان على دفعها؛ بأن يقال: إذا وضع لمعنىً بسيط من جميع الجهات ألفاظ مختلفة في لغة أو لغات: فإمّا أن يكون لجميعها الربط مع المعنى، أو لبعضها دون بعض، أو لا ربط لواحد منها معه. لا سبيل إلى الأوّل؛ للزوم تحقّق الجهات المختلفة في البسيط الحقيقي، وهو خلف، وعلى الثاني والثالث تبطل دعوى الخصم.

هذا، وأمّا عدم تحقّق العلقة بينهما بعد الوضع بمعنى أنّ الجاعل لم يوجد علقة خارجية بينهما، فهو - أيضاً - واضح؛ لأنّ تعيين اللفظ للمعنى لا يعقل أن يكون موجباً لوجود العلقة الخارجية التكوينية، وأمّا فهم المعنى من اللفظ فليس إلاّ للاُنس الحاصل من الاستعمال، أو من العلم بأنّ المتكلّم يعمل على طبق الوضع، من غير أن تكون علقة زائدة على ما ذكر.

وما قيل: من أنّ لازم ذلك انعدام هذه العلقة بانعدام المعتبرين والعالمين، كما أنّ القوانين الجعلية العلمية التي قد يتعلّق بها العلم وقد يتعلّق بها الجهل، لو كانت

ص: 17


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 30 - 31.

من الاعتبارات ولم يكن لها وعاء غير الاعتبار، يلزم الالتزام بانعدامها بالغفلة عنها، وهذا ممّا يأبى عنه العقل السليم(1).

ليس بشيءٍ؛ لعدم فساد تاليه، بل الأمر كذلك بلا إشكال في القوانين الجعلية، كقانون الزواج والنظام(2)

وغيرهما؛ فإنّه مع انعدام المعتبرين ومناشئ اعتبارها ومحالّ كتْبها لم يكن لها تحقّق، كما أنّ الألسنة القديمة المتداولة بين البشر المنقرضة بوجودها العلمي والكتبي صارت منقرضة معدومة وليس لها عين ولا أثر في الخارج والذهن، وما لا وجود له في الخارج والعين فليس بشيء.

نعم، القوانين العلمية التي لها موازين واقعية كشف عنها العلم لم تنعدم بانعدام المكاشفين، فقانون الجاذبة له واقع كشف أم لم يكشف، بخلاف الجعليات، فلا ينبغي التأمّل في أنّ الواضع لم يجعل علاقة واقعية بين اللفظ والمعنى، مع أنّ البرهان المتقدّم يبطل تحقّق هذه العلاقة قبل الجعل وبعده.

حقيقة الوضع

ثمّ إنّ الوضع - على ما يظهر من تصاريفه - هو جعل اللفظ للمعنى وتعيينه للدلالة عليه، وهذا لا ينقسم إلى قسمين؛ لأنّ التعيّني لا يكون وضعاً وجعلاً.

والاختصاص الواقع في كلام المحقّق الخراساني(3) ليس وضعاً بل أثره.

ص: 18


1- مقالات الاُصول 1: 63 - 64.
2- أي: قانون الخدمة العسكرية.
3- كفاية الاُصول: 24.

كما أنّ التعهّد الذي وقع في كلام المحقّق الرشتي(1)،

وتبعه شيخنا الاُستاذ قائلاً: «إنّه لا يعقل جعل العلاقة بين الأمرين اللذين لا علاقة بينهما أصلاً، والذي

يمكن تعقّله هو أن يلتزم الواضع أنّه متى أراد وتعقّله وأراد إفهام الغير تكلّم بلفظ

كذا»(2) أيضاً متأخّر عن الجعل والتعيين؛ لأنّ هذا التعهّد هو الالتزام بالعمل بالوضع لا نفسه، وما قال: من أنّا لا نعقل جعل العلاقة، هو حقّ إذا كان الوضع جعل العلاقة الواقعية، وأمّا إذا كان عمل الواضع تعيين اللفظ للمعنى فهو بمكان من الإمكان، بل الواقع كذلك وجداناً، بل ربما يكون الواضع غير المستعمل، فيكون الوضع للغير، ويكون الواضع غافلاً عن هذا الالتزام التعليقي، فالاختصاص والربط والتعهّد كلّها غير حقيقة الوضع.

ص: 19


1- لم نعثر عليه في بدائع الأفكار للمحقّق الرشتي رحمه الله، ولكن هذا القول منسوب إلى المحقّق النهاوندي، كما هو كذلك. تشريح الاُصول: 25 / السطر 18؛ اُنظر نهاية الدراية 1: 47.
2- درر الفوائد، المحقّق الحائري: 35.

الأمر الثالث : في أقسام الوضع

اشارة

ينقسم الوضع إلى عمومه وعموم الموضوع له، أو خصوصهما، أو عموم الأوّل، أو الثاني.

وما يقال: من عدم امتناع كون العامّ مرآةً للخاصّ ووجهاً له دون الخاصّ للعامّ(1)، غير صحيح؛ لأنّ العامّ - أيضاً - لا يمكن أن يكون مرآةً للخاصّ بما أنّه خاصّ؛ لأنّ الخصوصيات وإن اتّحدت مع العامّ وجوداً، لكن يخالفها عنواناً وماهية، ولا يمكن أن يحكي عنوان إلاّ عمّا بحذائه، فالإنسان لا يحكي إلاّ عن حيثية الإنسانية، لا خصوصيات الأفراد، فلا يكفي للوضع للأفراد تصوّر نفس عنوان العامّ الذي ينحلّ الخاصّ والفرد إليه وإلى غيره، بل لا بدّ من لحاظ الخاصّ، ولا يعقل الوضع إلاّ مع تصوّر الطرفين ولو بالإجمال، فلو تقوّم الوضع بمرآتية العنوان للموضوع له كان عموم الوضع وخصوص الموضوع له

ص: 20


1- كفاية الاُصول: 24.

كالعكس محالاً، وإلاّ - كما هو الحقّ - يكون كلاهما ممكنين.

والتحقيق: أنّ تصوّر العامّ قد يكون موجباً لانتقال الذهن إلى مصاديقه بوجه إجمالي، فيتصوّر العامّ ويوضع اللفظ بإزاء ما هو مصداقه، ويكون هذا العنوان الإجمالي المشير آلة للوضع للأفراد، ولا يحتاج في الوضع إلى تصوّرها بخصوصياتها تفصيلاً، بل لا يمكن ذلك؛ لعدم إمكان الإحاطة بها تفصيلاً؛ لعدم تناهي أفراد الطبيعي، وبهذا المعنى يكون خصوص الوضع وعموم الموضوع له ممكناً.

نقل وتنقيح تصوير المحقّق العراقي لعموم الوضع والموضوع له

ربّما يقال: إنّ لعموم الوضع والموضوع له معنىً آخر غير ما هو المشهور، بتوهّم أنّ للطبيعي حصصاً في الخارج متكثّرة الوجود، ولها جامعاً موجوداً في الخارج بالوجود السعي ملاصقاً للخصوصيات، واحداً بالوحدة الذاتية؛ بدليل انتزاع المفهوم الواحد منها وتأثير العلّتين في معلول واحد، وللصور الذهنية للأفراد - أيضاً - جامعاً كذلك، وإلاّ لم يكن تامّ الانطباق على الخارج، ولازم ذلك عدم مجيء المعنى المشترك في الذهن إلاّ في ضمن الخصوصيات، فحينئذٍ يمكن ملاحظة صورة هذه الجهة المتّحدة السارية في الخصوصيات المطابقة لما في الخارج بتوسيط معنىً إجمالي ووضع اللفظ لها لا للخصوصيات، في قبال وضعه للجامع المجرّد عنها، وهذا - أيضاً - من الوضع العامّ والموضوع له كذلك، لكن لازمه انتقال النفس في مقام الاستعمال

ص: 21

إلى صور الأفراد، وهذا لا ينافي كون الطبيعي مع الأفراد كالآباء مع الأولاد(1)،

انتهى ملخّصاً.

وفيه ما لا يخفى على أهله؛ فإنّ الجامع الخارجي بنعت الوحدة يساوق الوجود الواحد بالوحدة العددية؛ ضرورة مساوقة الوحدة للوجود، وفساده أوضح من أن يخفى، وهو رحمه الله علیه وإن فرّ من ذلك قائلاً: «إنّ الحصص متكثّرة الوجود» لئلاّ يلزم الوحدة العددية، لكن كرّ عليه بالالتزام بالجامع الموجود بالوجود السعي الذي توهّم كونه منشأ انتزاع المفهوم الواحد، وكونه مؤثّراً عند اجتماع العلّتين على معلول واحد، وإن سمّاه واحداً ذاتياً وسنخياً، وهذا رأي الرجل الهمداني(2)،

ولعلّ منشأ توهّمه - أيضاً - ما توهّم من قيام البرهان عليه.

وأمّا قضيّة عدم انتزاع مفهوم واحد إلاّ من منشأ واحد فهو كذلك، لكن ليس معناه أنّه يكون في الخارج أمر واحد جامع موجود بنعت الوحدة ينتزع منه المفهوم، بل المراد منه أنّ الماهية اللا بشرط الموجودة في الخارج بنعت الكثرة المحضة، للعقل أن يجرّد أفرادها عن اللواحق والمشخّصات، فعند ذلك ينال من كلّ فرد ما ينال من الآخر.

فالإنسان اللا بشرط إنسان متكثّر الوجود، واللا بشرط يتكثّر مع الكثرة، لا بمعنى صيرورته حصصاً منقسماً متجزّئاً كما يوهمه لفظ الحصص، بل بمعنى

ص: 22


1- مقالات الاُصول 1: 72 - 74.
2- رسائل ابن سينا 1: 462؛ اُنظر الحكمة المتعالية 1: 273؛ شرح المنظومة، قسم الحكمة 2: 347 - 348.

كون كلّ فرد تمام حقيقة الإنسان؛ فإنّها لا تأبى عن الكثرة في وعاء الخارج، والعقل بعد التخلية والتجريد يراها بنعت الوحدة، لكن وعاء تحقّقها بالوحدة هو الذهن، فللماهية نشأة خارجية هي نشأة الكثرة المحضة، ونشأة عقلية بعد التجريد هي نشأة الوحدة الذاتية أو النوعية أو السنخية، وهذا مراد من قال: «إنّ الطبيعي مع الأفراد كالآباء مع الأولاد»(1)

وما زعمه رحمه الله علیه هو عين القول بكونه كالأب مع الأولاد، ولازمه الوحدة العددية.

وأمّا حديث كون الجامع مؤثّراً في العلل المستقلّة إذا اجتمعت على معلول واحد، متمثّلاً بعدّة قضايا عرفية؛ كالبنادق المؤثّرات في قتل حيوان، وكالشمس والنار المجتمعتين على تسخين ماء واحد، وكاجتماع عدّة أشخاص لرفع الحجر العظيم، فهو من غرائب الكلام، لا يصدر إلاّ ممّن لا يعلم كيفية تعلّق المعلول بالعلّة في الفاعل الإلهي؛ إذ لا يمكن اجتماع العلّتين البسيطتين على معلول واحد قطّ حتّى يلتزم بتأثير الجامع.

مع أنّ الواحد بالنوع والذات والسنخ بما أنّه كذلك لا يمكن أن يكون مؤثّراً ومتأثّراً إلاّ بالعرض، والمؤثّر والمتأثّر دائماً هو الهوية الوجودية الواحدة بالوحدة الحقيقية، وموارد النقض كلّها من قبيل تأثير الكثير في الكثير عقلاً، وإنّما خلط الأمر العرفي بالعقلي، والأولى إيكال أمثال هذه المسائل إلى علمه وأهله(2)، حتّى لا يقع الباحث في مفاسد عظيمة من حيث لا يعلم، كدعوى كون

ص: 23


1- الحكمة المتعالية 2: 8؛ شرح المنظومة، قسم الحكمة 2: 347 - 348.
2- الإشارات والتنبيهات، شرح المحقّق الطوسي 3: 122؛ الحكمة المتعالية 2: 204؛ شرح المنظومة، قسم الحكمة 2: 446.

السنخية بين العلّة والمعلول من قبيل الجامع الخارجي بينهما.

فتحصّل ممّا ذكرنا - وأوكلنا تحقيقه إلى محلّه(1) - : أنّ الجامع الخارجي بين الأفراد الخارجية غير معقول، وكذا لا جامع بين الأفراد الذهنية بنعت الوحدة بما هي موجودة في الذهن، ولكن للعقل أن يُجرّدها عن الخصوصيات وينال الجامع منها.

ثمّ مع تسليم تحقّق الجامع الكذائي - لو فرض وضع اللفظ له - لا يعقل إحضار الخصوصيات اللاحقة له خارجاً في الذهن؛ لأنّ الجامع لم يكن ذاته إلاّ نفس الماهية، والخصوصيات خارجة عنها، واتّحادها معها أو لصوقها بها - بزعمه - ولزومها لها خارجاً لا يوجب إحضارها في الذهن بلفظ موضوع لغيرها ما لم يكن بينهما لزوم ذهني، وهو غير معلول للاتّحاد أو الالتصاق، ومجرّد كونها جامعاً بينها لو أوجب ذلك لزم إحضار الخصوصيات باللفظ الموضوع لنفس الماهية؛ لأ نّها - أيضاً - موجودة بوجودها ومتّحدة معها ولو بنعت الكثرة. وبالجملة: الاتّحاد الخارجي غير الانفهام من اللفظ.

وهم ودفع: تخيّل امتناع عموم الوضع وإبطاله

ولعلّك تقول: إنّ عموم الوضع مطلقاً محال؛ لأنّ الملحوظ جزئي حقيقي؛ لوجوده في الذهن، وقطع النظر عن اللحاظ أو كونه مغفولاً عنه لا يوجب انقلابه كلّياً، بل الكلّي القابل للصدق على الكثيرين لا يمكن أن يتحقّق مجرّداً

ص: 24


1- يأتي في الجزء الثاني: 55 وما بعدها.

عن الخصوصيات وبنعت الكلّية في وعاء من الأوعية؛ إذ لا تقرّر للطبيعي إلاّ بالوجود، ومعه جزئي، فأين لحاظ الكلّي؟! فعموم الوضع خصوصه بحسب الواقع، وإن يتوهّم اللاحظ كونه عامّاً.

فيجاب: بأنّ المراد من الملحوظ حال الوضع هو الملحوظ بالعرض لا بالذات؛ ضرورة أنّ اللفظ لم يوضع له في عموم الوضع والموضوع له، ولا في خصوصهما، ولا لمصاديقه في خصوص الموضوع له؛ لعدم المصداق له، والملحوظية بالعرض تكفي للوضع وصيرورته عامّاً أو خاصّاً، وإلاّ يلزم امتناع الوضع للخارجيات مطلقاً؛ لعدم تصوّرها بالذات، فالصورة الملحوظة بالذات في خصوص الوضع والماهية الملحوظة كذلك في عمومه، وسيلة للحاظ الخاصّ والعامّ؛ كوساطة الصورة الذهنية من المعدوم المطلق للإخبار بعدم الإخبار عنه، ومن شريك الباري للإخبار بامتناعه.

تنبيه

في المراد بالعموم في الوضع

ربما يسبق إلى بعض الأذهان مقابلة الوضع العامّ والموضوع له كذلك لخصوصهما، فيتوهّم أنّ الموضوع له في الثاني هو الخاصّ بما أنّه خاصّ؛ أي المتشخّص الخارجي بما هو كذلك، فلا بدّ وأن يكون في الأوّل العامّ بما أنّه عامّ، كما التزم به بعض المدقّقين(1).

ص: 25


1- نهاية الدراية 1: 49 مع الهامش 3.

لكنّه فاسد، بل المراد بالعموم هو نفس الطبائع والماهيات، كما يشهد له [التمثيل] بأسماء الأجناس، ولا ريب في أنّها نفس الطبائع لا بما هي عامّة؛ ضرورة أنّها كذلك آبية عن الحمل، فلو وضع اللفظ لها لزم التجريد والتجوّز دائماً، وهو كما ترى.

وممّا ذكرنا يتّضح تصوّر قسم آخر للوضع، وهو عموم الموضوع له بما هو عامّ، لكن ثبوته محلّ منع(1).

ص: 26


1- ثمّ اعلم أنّ لخصوص الموضوع له صوراً: منها: ما تقدّم من عموم الوضع وخصوص الموضوع له. ومنها: أن يكون الملحوظ شخصاً والموضوع له كلّ ما كان من أمثاله، فإنّه - أيضاً - من خصوصهما. ومنها: خصوصهما بالمعنى المعروف. ومنها: أن يكون الملحوظ جميع الأفراد بنحو الإجمال والموضوع [له] كذلك، فإنّه أيضاً من خصوصهما. وبعد تصوّر ما ذكر، وإمكان الوضع الخاصّ وعموم الموضوع له، لا طريق لنا في مورد عموم الموضوع له - الثابت بالتبادر وغيره - لإثبات عموم الوضع، كما لا طريق لإثبات عمومه في مثل معاني الحروف على فرض ثبوت خصوص الموضوع له فيها؛ لإمكان أن يكون من قبيل الصورة الثانية أو الصورة الثالثة من صور خصوص الموضوع له. نعم، بناءً على امتناع عموم الموضوع له وخصوص الوضع يستكشف من عموم الأوّل عموم الوضع. ولا يذهب عليك أنّ العموم والخصوص في المقام غيرهما في باب العامّ والخاصّ؛ فالعامّ هاهنا نفس الماهية، والخاصّ جزئي حقيقي، والعامّ هناك القضيّة المحصورة ب «كلّ» ونحوه، والخاصّ ما كان أقلّ ولو كانت محصورة أيضاً. ولعلّ الخلط في ذلك صار موجباً لغفلة بعض المدقّقينأ. [منه قدس سره] أ - نهاية الدراية 1: 49 مع الهامش 3.

الأمر الرابع : في أمثلة أقسام الوضع

اشارة

لا إشكال في ثبوت عموم الوضع والموضوع له. قالوا: وكذا في ثبوت خصوصهما، ومثّلوا له بالأعلام الشخصية(1)،

وفي كونها منه إشكال؛ للزوم كون نحو: «زيد موجود» قضيّة ضرورية، كقولنا: «زيد زيد»، وكون حمله عليه كحمل الشيء على نفسه، ومجازية مثل قولنا: «زيد معدوم»، وقولنا: «زيد إمّا موجود وإمّا معدوم»، مع عدم الفرق وجداناً بينه وبين قولنا: «زيد إمّا قائم أو قاعد» في عدم العناية فيه، فلا يبعد أن يلتزم بأ نّها وضعت للماهية الكلّية التي لا تنطبق إلاّ على الفرد الواحد.

وتوهّم أنّ الماهية الكذائية مغفول عنها حين الوضع بالوجدان، مدفوع بأنّ الارتكاز مساعد لذلك؛ كما نرى من إخبار العوامّ والنساء بمعدومية المسمّيات في الأعلام وموجوديتها.

ص: 27


1- هداية المسترشدين 1: 171؛ كفاية الاُصول: 25؛ درر الفوائد، المحقّق الحائري: 36.

والموضوع في هذا الحكم ليس الماهية الكلّية القابلة للانطباق على الكثيرين، ولا الشخص الموجود بما هو كذلك، بل الماهية التي لا تنطبق إلاّ على الفرد الخارجي، وهي متصوّرة ارتكازاً، والأعلام الشخصية موضوعة لها. وهذا أهون من الالتزام بمجازية كثير من الاستعمالات الرائجة بلا عناية وجداناً، تأمّل.

وأمّا الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ فقد ذهب جمع بأنّ وضع الحروف كذلك(1)، فلا بدّ من تحقيق معانيها أوّلاً حتّى يتّضح ما هو الحقّ، فنقول:

القول في معاني الحروف

لا إشكال في أنّه مع قطع النظر عن الوضع تكون الموجودات مختلفة في أنحاء الوجود:

فمنها: ما تكون موجودة ومعقولة في نفسها كالجواهر.

ومنها: ما تكون موجودة في غيرها ومعقولة في نفسها كالأعراض.

ومنها: ما لا تكون في نفسها موجودة ولا معقولة كالنسب والإضافات.

ففي «الجسم الأبيض» يكون الجسم موجوداً بوجود مستقلّ، ويكون له ماهية معقولة بذاتها، وللبياض وجود خارجي غير مستقلّ؛ أي يكون وجوده

ص: 28


1- قوانين الاُصول 1: 10 / السطر 3؛ الفصول الغروية: 16 / السطر 6؛ نهاية الدراية 1: 51.

في نفسه عين وجوده للجسم، فلا يمكن أن يتحقّق في نفسه مستقلاًّ، ولكن له ماهية معقولة بذاتها من غير احتياجها إلى أمر آخر، فنفس ذات البياض معقولة مع الغفلة عن وجود الجوهر وماهيته، لكن في وجوده يحتاج إلى الموضوع.

وأمّا النسب والروابط بينهما فليس لها وجود مستقلّ، بل تكون موجوديتها تبعاً لهما، كما لا تكون لها ماهيات مستقلّة بالمعقولية حتّى تتعقّل بنفس ذاتها، بل يكون نحو تعقّلها في الذهن كنحو وجودها في الخارج تبعاً للطرفين، فمثل هذه النسب والإضافات وكذا الوجودات الرابطة لا يكون معدوماً مطلقاً؛ بحيث يكون حصول البياض للجسم كلا حصوله، ووقوع زيد في الدار كلا وقوعه، لكن تكون موجوديتها بعين موجودية الطرفين بنحوٍ، ولا يكون لها ماهية معقولة مستقلّة في المعقولية كماهية الجواهر والأعراض.

نعم، للعقل أن ينتزع منها مفهوماً مستقلاًّ بالمفهومية، كمفهوم «النسبة» و«الربط» و«الإضافة» وأمثالها، ويجعلها حاكية عنها بنحو من الحكاية، لا كحكاية الماهية عن مصداقها الذاتي؛ ضرورة عدم إمكان تعقّلها بنحو الاستقلال، لا بالذات ولا بالعرض، فليست نسبتها إليها كنسبة الماهية إلى مصداقها، ولا كنسبة مفهوم الوجود أو العدم إليهما، فلا يمكن استحضار حقائق النسب في الذهن بذاتها بتوسّط هذه العناوين، نعم، يمكن الاستحضار التبعي كالوجود الخارجي.

ثمّ إنّا قد نعقل الخارج على ما هو عليه، فنعقل الجسم الذي له البياض كما هو في الخارج، فيتحقّق الجسم والبياض بصورتهما في الذهن والإضافة بينهما

ص: 29

تبعاً لهما، من غير أن يكون لها صورة استقلالية متصوّرة، ففي هذا النحو من التعقّل تكون حقيقة النسبة والكون الرابط متحقّقين في الذهن كتحقّقهما في الخارج، فيكون البياض والجسم مربوطين في الذهن والخارج بتوسّط هذه المعاني الإضافية والنسب؛ فزيد في الخارج لا يكون مرتبطاً بالدار ولا الدار به إلاّ بالإضافة الحاصلة بينهما المتحقّقة بنحو الكون الرابط، وهو كونه في الدار، لا كونه المطلق، وكذا في العقل.

هذا إذا تعقّلناه على ما هو في الخارج؛ أي بنحو الارتباط والانتساب بالحمل الشائع.

وأمّا إذا تعقّلنا الربط والنسبة بالحمل الأوّلي فلا يمكن أن يكون ما به الارتباط بين المعقولات، كما إذا تعقّلنا مفاهيم الدار، والربط، والإنسان، والابتداء، والسير، والبصرة، والانتهاء، والسير، والكوفة؛ فإنّها مفاهيم مفردة استقلالية لا يرتبط بعضها ببعض، كما لو فرض وجود هذه الماهيات في الخارج من غير توسّط الانتسابات والإضافات، فالربط التكويني بين الجواهر والأعراض إنّما هو بالنسب والإضافات والأكوان الرابطة، وكذا حال المعقولات؛ فلا يتحقّق الربط بين الجواهر والأعراض المعقولة إلاّ بالنسب والإضافات والأكوان الرابطة بالحمل الشائع، لا الأوّلي.

هذا حال العين والذهن مع قطع النظر عن الوضع والدلالة. وأمّا بالنظر إليهما، فقد يريد المتكلّم أن يحكي عن الخارج على ما هو عليه من ارتباط الجواهر بالأعراض وحصول الأعراض للجواهر، فلا بدّ له من التشبّث بألفاظ الحروف

ص: 30

والهيئات، وسيأتي الفرق بينهما(1)، كما أنّه لو أراد الحكاية عن الصور المعقولة المترابطة فلا محيص له إلاّ التشبّث بها، فلو قال: «زيد ربط قيام» أو «زيد سير ابتداء كوفة انتهاء بصرة» مثلاً، تكون ألفاظ مفردة غير مترابطة، غير حاكية عن الواقع.

ومن هذا يتّضح: أنّ هذا النوع من الحروف - أي «في» و«على» و«من» و«إلى» - إنّما هي حاكية حكاية تصوّرية عن الارتباطات بين المعاني الاسمية.

مع أنّ الأمر أوضح من ذلك؛ ضرورة أنّه لو حاول أحد تجزئة قولنا: «سرت من البصرة إلى الكوفة»، وقاس كلّ لفظ منه إلى الواقع، لوجد دلالة مادّة الفعل على طبيعة السير، وهيئته على الانتساب الصدوري إلى المتكلّم، والبصرة والكوفة على البلدين، و«من» و«إلى» على الابتداء والانتهاء المرتبطين بالسير والبلدين، والهيئة على تحقّق الارتباطات كما سيأتي بيانه(2)، فهذه الحروف حاكية عن الارتباطات والإضافات بين الجواهر والأعراض - سواء في الخارج أو الذهن - وموقعة للارتباط بين ألفاظ الأسماء في الجمل تبعاً واستجراراً، لا ملحوظاً بالاستقلال، فلولا محكيّاتها ومعانيها لم ترتبط الجواهر بالأعراض في الخارج، ولا الصور المعقولة الاسمية الحاكية عن الخارج بعضها بالبعض، ولولا ألفاظها لم ترتبط ألفاظ الأسماء، ولم تحصل الجمل، فتدبّر.

ص: 31


1- يأتي في الصفحة 39.
2- يأتي في الصفحة 45.

بحث وتحقيق: في بيان بعض أقسام الحروف

ما ذكرنا من كون الحروف حاكيات عن الارتباطات ليس حكماً كلّياً للحروف، بل هو شأن بعضها، وبعض آخر منها ليس حاكياً عن الواقع، بل موجد لمعناه، كحروف القسم والتأكيد والتنبيه والتحضيض والردع وأمثالها؛ فإنّها وضعت لأن تكون آلة لإيجاد معانيها، وتستعمل استعمالاً إيجادياً، كما أنّ شأن بعض الأفعال كذلك كما يأتي(1)؛

ضرورة أنّه ليس للقسم والتأكيد والردع - مثلاً - واقع تحكي حروفها عنه، بل المتكلّم ينشئ معانيها بالحروف، فلا شبهة في تحقّق هذين النحوين في الحروف.

ولست الآن بصدد استقصاء أحوال جميع الحروف، ولا دعوى حصرها فيهما، ولا بصدد أقسام النسب في القضايا البسيطة والمركّبة والإيجابية والسلبية، بل بصدد بيان أنّ هذين النحوين من الحروف يكونان في لسان العرب والفرس بل سائر الألسنة حسب مسيس الاحتياج إليهما، ولا يكون جميعها إيجادية ولا حاكية، ولا ننحرف عن هذه الطريقة المطابقة لوجدان كلّ صاحب لسان إلاّ ببرهان.

وسيأتي حال ما زُعم قيامه على امتناع الإيجادية(2)، لكن بعد التنبيه على الخلط الذي وقع لبعض أعاظم العصر في المقام:

ص: 32


1- يأتي في الصفحة 53.
2- يأتي في الصفحة 35.

في الخلط من بعض الأعاظم

فإنّه قد قسّم المعاني المرادة من الألفاظ على قسمين:

إخطارية: وهي معاني الأسماء؛ لأنّ استعمال ألفاظها في المعاني يوجب إخطار معانيها في ذهن السامع.

وإيجادية: وهي معاني الحروف؛ لأنّ استعمالها في معانيها يوجب إيجاد معانيها، من دون أن يكون لها نحو تقرّرٍ مع قطع النظر عن الاستعمال(1).

ومراده من الإيجادية - على ما صرّح به - هو إيجاد الربط بين أجزاء الكلام؛ حيث قال: «التحقيق: أنّ معاني الحروف كلّها إيجادية حتّى ما أفاد منها النسبة؛ لأنّ شأن أدوات النسبة ليس إلاّ إيجاد الربط بين جزأي الكلام؛ لعدم الربط بين ألفاظ الأسماء كلفظ «زيد» و«القائم» بما لهما من المعنى، وأدوات النسبة وضعت لإيجاد الربط بينهما على وجه يصحّ السكوت [عليه]، ثمّ بعد إيجاد الربط يلاحظ مجموع الكلام من النسبة والمنتسبين، فإن كان له خارج يطابقه يكون صادقاً، وإلاّ فلا»(2)،

انتهى ملخّصاً.

وأنت خبير بما فيه؛ لأنّ كون تلك الأدوات موقعة للربط مسلّم، لكن عدم شأن لها إلاّ ذلك صِرف ادّعاء من غير دليل.

مع أنّ الدليل على خلافه؛ لأنّ إيقاع الربط بالحروف فرع استعمالها بما لها من المعنى؛ ضرورة أنّ نفس الحروف بلا دلالة على المعنى غير موقعة للربط،

ص: 33


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 37.
2- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 42.

والتبادر والوجدان من أهل كلّ لسان حاكمان بأنّ بعض الحروف حاكٍ عن الإضافات والنسب، كما نبّهنا عليه(1).

وما ذكر - من أنّ مجموع الكلام بعد إيقاع الربط حاكٍ عن الواقع - كما ترى؛ ضرورة أنّه لا وضع لمجموعه، إلاّ أن يرجع إلى ما سنذكره(2) من أنّ هيئات الجمل التامّة تدلّ على تحقّق النسب، فالحروف وضعت للإضافات التصوّرية، وهيئات الجمل [للدلالة] على تحقّقها.

وبما ذكرنا اتّضح: أنّه لا مقابلة بين المعنى الإخطاري والإيجادي كما ذكره، بل إيجاديتها ملازمة لإخطاريتها؛ بمعنى أنّ ألفاظ الحروف المستعملة في معانيها موقعة للربط بين أجزاء الكلام.

وبعبارة اُخرى: أنّ المتكلّم إذا أراد الحكاية عن الواقع على ما هو عليه من ربط الأعراض بالجواهر، وجعل كلامه حاكياً عنه، يصير أجزاء كلامه مرتبطة، وهذا واضح لمن راجع وجدانه، فالإخطارية والإيجادية بهذا المعنى غير متقابلتين، كما أنّ الإيجادية بالمعنى المتقدّم لا تقابل الإخطارية بمعنى إخطار المعنى في الذهن؛ فإنّ ألفاظ الحروف - سواء كانت حاكيات عن الواقع المقرّر حكاية تصوّرية مع قطع النظر عن الاستعمال، أو كانت موجدة لمعانيها كحروف القسم والنداء والتحضيض - إخطارية موجبة لانتقال [السامع] من اللفظ إلى المعنى.

ص: 34


1- تقدّم في الصفحة 32.
2- يأتي في الصفحة 50.

في كلام بعض المحقّقين

ثمّ إنّ بعض المحقّقين بعد تسليم إيجادية بعض الحروف أنكر كون الفرد الموجود به معناه الموضوع له، واستدلّ عليه بوجوه(1):

أحدها: أنّ معنى اللفظ ومدلوله بالذات هو ما يحضر في الذهن عند سماع اللفظ الموضوع له، ولا ريب أنّ الموجود الخارجي لا يمكن أن يحضر في الذهن، فالخارج هو المدلول عليه بالعرض؛ لفناء المدلول عليه بالذات فيه.

وفيه أوّلاً: أنّه منقوض بالأعلام الشخصية، بناءً على أنّها من قبيل خصوص الوضع والموضوع له كما هو المشهور، واعترف به، ولو أنكر أحد كون الموضوع له فيها هو الوجود الخارجي، فلا ريب في إمكان الوضع للموجود المتشخّص في الخارج من غير لزوم محال أو اختلال في المحاورة والدلالة.

وثانياً: أنّ ما ذكره - من أنّ معنى اللفظ هو ما يحضر في الذهن بالذات عند سماعه؛ أي المعلوم بالذات هو الموضوع له - ادّعاء من غير إشفاعه بالدليل، والقائل بأنّ بعض الألفاظ موضوعة للموجود الخارجي ينكر ذلك، ويدّعي أنّ الموضوع له فيه هو المعلوم بالعرض، والألفاظ وضعت للإفادة والاستفادة بإحضار المعاني في الذهن، سواء في ذلك العرضية والذاتية.

وثالثاً: أنّ الموضوع له في كافّة الأوضاع هو غير ما يحضر في الذهن

ص: 35


1- بدائع الأفكار (تقريرات المحقّق العراقي) الآملي 1: 46 - 47.

بالذات، بل هو ما يفهم من اللفظ ويتوجّه السامع إليه عند سماع اللفظ، ولا ريب أنّ الصورة الحاضرة في الذهن بالذات مغفول عنها عند سماع اللفظ، وليست ما يفهم منه، بل تكون مرآة للمعنى المفهوم الذي هو الموضوع له، وأنت إذا راجعت وجدانك ترى أنّه عند سماع اللفظ تنتقل إلى المعاني النفس الأمرية، لا الموجودة في ذهنك أو ذهن المتكلّم، سواء في ذلك الأعلام الشخصية، وأسماء الأجناس، وغيرها، فلفظ الإنسان يدلّ على نفس الطبيعة لا الموجودة في الذهن، نعم ينتقل السامع إلى المعنى الموضوع له بتوسّط الصورة الحاضرة في الذهن التي تكون مرآة له، ومغفولاً عنها.

ثانيها: أنّ هذا الموجود الخارجي - الذي هو بالحمل الشائع نداء - لا يتحقّق في الخارج إلاّ بنفس الاستعمال، فيكون متأخّراً عنه تأخّر المعلول عن علّته، ولا ريب في أنّ المستعمل فيه متقدّم على الاستعمال بالطبع، فإذا كان هذا الوجود هو المستعمل فيه يلزم تقدّم الشيء على نفسه.

وفيه: أنّ القائل بكون الألفاظ على قسمين - إيجادية وحاكية - لا يسلّم بلزوم تقدّم المستعمل فيه على الاستعمال؛ إذ ليس معنى الاستعمال إلاّ ذكر اللفظ لإفهام المعنى وطلب عمل اللفظ في المعنى من غير لزوم التقدّم المدّعى. ولعلّه أخذ بظاهر لفظة «في» الدالّة على الظرفية، فتوهّم أنّ استعمال شيء في شيء يتوقّف على وجود الظرف قضاءً لحقّ الظرفية، وإلاّ فأيّ دليل على تقدّم المستعمل فيه على الاستعمال؟!

والتحقيق: أنّ الألفاظ قد تكون حاكيات عن المعاني المقرّرة في نفس الأمر، فيكون التكلّم بها موجباً لإخطار معانيها في الذهن، وقد تكون موجدة لمعانيها

ص: 36

في الوعاء المناسب لها، ومع ذلك موجبة لإخطار معانيها في الذهن ولو بالعرض، ولا يكون لها واقع تطابقه أو لا تطابقه، فالمستعمل فيه لا يكون مقدّماً على الاستعمال تقدّماً بالطبع حتّى في الحاكيات؛ لعدم ملاك التقدّم، والتقدّم في بعضها اتّفاقي، لا طبعي بملاكه.

ثالثها: أنّه لا شبهة في استعمال أدوات النداء والتشبيه والتمنّي والترجّي والطلب في غير ما يكون كذلك بالحمل الشائع، بل تستعمل هذه الألفاظ بداعي التشوّق أو السخرية أو التعجيز وأمثالها، ولا ريب في أنّ الموجود بهذا الاستعمال لا يكون بالحمل الشائع نداءً وتشبيهاً وطلباً، بل يكون تشوّقاً وتعجيزاً إلى غير ذلك بهذا الحمل، فلا بدّ إمّا من الالتزام بالمجازية، وهو ممّا

لا يقول به المفصّل، وإمّا أن تكون مستعملة في معانيها الحقيقية بداعي ما ذكر، فما تكون مستعملة فيه هو معانيها الحقيقية فيما إذا استعملت بداعي إفادة ما وضعت له.

وفيه: أنّ العارف بموارد الاستعمالات ومحاسن الكلام يعلم أنّ هذه الألفاظ في أمثال الموارد المتقدّمة تستعمل استعمالاً إيجادياً، لكن بدواعٍ اُخر، فالقائل في قوله:

يا كوكباً ما كانَ أقصرَ عمرَهُ(1)

..................................

يوجِد فرداً من النداء بالحمل الشائع، لكن بداعٍ آخر، ويكون الاستعمال فيما وضع له، وإنّما الجدّ بخلافه، وإلاّ لصار الكلام خلواً عن الحسن ومبتذلاً، وكذا

ص: 37


1- وعجزه: «وكذاكَ عُمْرُ كواكبِ الأسحارِ» وهو من قصيدة للشاعر أبي الحسن التهامي. راجع تأسيس الشيعة: 215 - 216.

غيره من الأمثلة، فما قال - من عدم كونها مجازاً - ممنوع، لكن في مطلق المجازات تستعمل الألفاظ في معانيها الحقيقية، لكن بداعي التجاوز عنها إلى غيرها، وسيأتي تحقيق ذلك في محلّه(1).

دفع وهم: ردّ مقالة المحقّق العراقي في مدلول الحروف

قد ذهب بعض المحقّقين إلى أنّ مدلول الحروف قسم من الأعراض النسبية المعبّر عن وجودها ووجود بقيّة الأعراض بالوجود الرابطي، ومداليل الهيئات هي الوجود الرابط، ففي مثل «زيد في الدار» تدلّ لفظة «في» على مقولة الأين، والهيئة على ربطها بالموضوع؛ ضرورة دلالته على مقولة الأين، ولا دالّ عليها إلاّ هي. وما قيل - من لزوم التكرار في الدلالة على الانتساب؛ لدلالة الحروف الدالّة على المقولة عليه، ولو دلّت الهيئة عليه لزم التكرار - مدفوع بأ نّه من قبيل

الإجمال والتفصيل؛ لدلالة الحرف على العرض المنتسب لموضوع ما، والهيئة على ربطه بموضوع معيّن(2).

وفيه أوّلاً: أنّه بعد الإذعان بأنّ الأعراض النسبية من قبيل الوجود الرابطي وتقع طرف الربط، لا مجال لجعلها مدلولاً عليها بالحروف؛ للزوم كون معاني الحروف مستقلاّت بالمفهومية وصيرورتها محكوماً بها؛ فإنّ الوجود الرابطي هو المحمولي، ومعاني الحروف غير مستقلّة بالمفهومية ولا يمكن جعلها طرف الربط .

ص: 38


1- يأتي في الصفحة 60 - 64.
2- بدائع الأفكار (تقريرات المحقّق العراقي) الآملي 1: 50 - 51.

وثانياً: أنّ في قولنا: «زيد له البياض» و«الجسم له طول وعرض» ممّا يكون طرف الإضافة غير الأعراض النسبية، ليس المدلول عليه بالحرف إلاّ نفس الربط، فهل «اللام» في أمثال ما ذكر تدلّ على عرض نسبي، أو استعملت في غيرما وضعت له؟!

والحلّ: أنّها تفيد الإضافة بينهما، والهيئة تدلّ على الوجود الرابط، وكذا حال سائر الحروف الحاكية؛ فإنّها بإزاء الإضافات والروابط، وسيأتي الكلام في الهيئات(1).

وثالثاً: أنّ الحروف الإيجادية بالمعنى الذي ذكرناه، كحروف النداء والقسم والردع، لا يكون لها واقع مقرّر محكيّ بها؛ ضرورة أنّ حروف النداء لا تحكي عن نداء خارجي أو ذهني، ولا تستعمل في مفهومه، بل يوجد بها النداء، فلا يعقل حكايتها عن عرض نسبي، وكذا حروف القسم؛ فإنّها آلة إيجاده، ولا يكون القسم من الأعراض النسبية بالضرورة.

والعجب أنّه قدّس سرّه قال: «إنّ الحروف كلّها حاكيات عن الأعراض النسبية،

ولا يهمّنا تشخيص كونها من أيّ الأعراض»(2)

مع أنّ دعوى هذه الكلّية بمكان من الفساد.

ص: 39


1- يأتي في الصفحة 45.
2- بدائع الأفكار (تقريرات المحقّق العراقي) الآملي 1: 50.

تكميل : في أنّ الوضع في الحروف عامّ والموضوع له خاصّ

التحقيق في وضع الحروف عموم الوضع وخصوص الموضوع له، وهذه الدعوى وإن كانت بيّنة بعد التأمّل في معاني الحروف بما تقدّم - بعد عدم تعقّل حصول الربط بالمفاهيم الكلّية، وعدم تعقّل جامع ماهوي بينها كما تقدّم(1) - لكن اللازم إبطال الدعاوى الاُخر حتّى تدفع المغالطات الواقعة في المقام:

نقل كلمات الأعلام في وضع الحروف ونقدها

منها: عموم الوضع والموضوع له والمستعمل فيه، كما ذهب إليه المحقّق الخراساني رحمه الله علیه قائلاً: إنّ الخصوصية المتوهّمة لا يمكن أن تكون قيداً للموضوع له ولا المستعمل فيه، سواء كانت خارجية أو ذهنية(2).

وفيه ما لا يخفى: بعد وضوح اختلاف معاني الأسماء والحروف ذاتاً وتعقّلاً ودلالةً، وسيأتي(3)

بيان أنّ الموضوع له هو الخاصّ حتّى في مورد نقضه من نحو قوله: «سر من البصرة إلى الكوفة» ممّا يتوهّم استعمالها كلّياً.

ومنها: ما في تقريرات بعض أعاظم العصر رحمه الله علیه ؛ من عموم الوضع والموضوع

له، لا بالمعنى الذي في الأسماء، بل بمعنى أنّ الموجَد في الحروف في جميع

ص: 40


1- تقدّم في الصفحة 29.
2- كفاية الاُصول: 25 - 26.
3- يأتي في الصفحة 43.

مواطن الاستعمالات شيء واحد بالهوية، وأنّ الخصوصيات اللاحقة لها خارجة عن الموضوع له ولازمة لوجوده، كالأعراض المحتاجة في الوجود إلى المحلّ، مع أنّه خارج عن هوية ذاتها، من غير أن يكون الموضوع له معنىً كلّياً قابلاً للصدق على الكثيرين كالكلّية في الأسماء، فالاحتياج إلى الخصوصيات في موطن الاستعمال لا يوجب الجزئية، كما أنّ كونها إيجادية وموضوعة لإيجاد الربط لا يوجبها، بعد البناء على وجود الكلّي الطبيعي، وأنّ التشخّص والوجود يعرضان له دفعة(1).

وفيه أوّلاً: أنّ الهوية الواحدة التي ذكرها إن كانت شيئاً في قبال الوجود - كما قابلها به في قوله: «إنّ وجود المعنى الحرفي خارجاً يتقوّم بالغير، لا هويته وحقيقته» - وفي قبال الماهية القابلة للصدق على الكثيرين، ومع ذلك تكون أمراً واحداً موجداً للربط، فهو كما ترى لا يستأهل جواباً.

وإن كانت وجوداً سعيّاً مشتركاً بين الروابط، أو ماهية كذلك لكن بنعت الوحدة الخارجية، فهو فاسد؛ لعدم الجامع الخارجي بنعت الوحدة بين الوجودات، لا من سنخ الوجود، ولا من سنخ الماهية: أمّا سنخ الوجود فواضح؛ للزوم وحدة الروابط وجوداً في جميع القضايا، وأمّا الماهية فلما حقّق في محلّه وأشرنا إليه سابقاً من أنّ الماهية في الخارج موجودة بنعت الكثرة، ولا جامع اشتراك خارجي بنعت الوحدة بين الأفراد؛ فإنّ الوحدة تساوق الوجود، فلزم موجوديتها بوجود واحد. وأمّا تنظيره بالأعراض فمناقض لقوله؛

ص: 41


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 57 - 58.

لأنّ للأعراض ماهية مستقلّة مقولة على الكثيرين محمولة عليها.

وثانياً: أنّ ابتناء وجود معاني الحروف على القول بوجود الكلّي الطبيعي يناقض قوله: «إنّ الكلّية في معانيها ليست كالأسماء»؛ لأنّ نسبة المعاني الحرفية إلى وجوداتها إن كانت كالطبيعي إلى أفراده فتكون قابلة للصدق على الكثيرين، وإلاّ فلا معنى لابتناء وجودها على وجود الطبيعي.

هذا، مضافاً إلى ما عرفت من الإشكال في مبناه في باب معاني الحروف.

ومنها: ما اختاره بعض المحقّقين؛ من عموم الموضوع له، لكن لا بالمعنى المشهور بل بالذي اختاره. وقد عرفت بطلان مبناه(1)؛ أي وجود الجامع بين الموجودات الخارجية، مضافاً إلى ما عرفت من بطلان مختاره في باب معاني الحروف(2).

ومنها: ما نسب إلى بعض الفحول؛ من كون معانيها جزئياً إضافياً(3)، وألجأه إليه توهّم استعمالها كلّياً فيمثل: «سر من البصرة إلى الكوفة» و«كلّ عالم في الدار».

كما التجأ بعضهم إلى اختيار كونها موضوعة للأخصّ من المعنى الملحوظ حال الوضع، وقال: «إنّ القول بوضعها للجزئي الحقيقي خارجاً أو ذهناً من قبيل إلزام ما لا يلزم»(4).

ص: 42


1- تقدّم في الصفحة 21 - 22.
2- تقدّم في الصفحة 38 - 39.
3- هداية المسترشدين 1: 175.
4- نهاية الدراية 1: 58.

وبعض آخر إلى أنّ الكلّية والجزئية فيها تبع لكلّية الطرفين وجزئيتهما(1).

وهذه الآراء مستلزمة لتصوّر الكلّية القابلة للصدق على الكثيرين في معانيها، مع أنّها مخالفة لحرفية المعاني وعدم استقلالها في المفهومية والمعقولية والوجود، مضافاً إلى أنّ كلّ ذلك من باب الإلجاء والاضطرار.

والتحقيق: أنّ الوضع فيها - مطلقاً - عامّ والموضوع له خاصّ: أمّا الحروف التي وضعت لإيجاد معانيها - كحروف النداء، والقسم، والتنبيه، والردع، والتحضيض - فلا ينبغي توهّم عموم الموضوع له فيها؛ ضرورة عدم معنىً لوضعها للكلّي واستعمالها فيه؛ فإنّ مثلها آلات لإيجاد المعاني، والوجود الإيقاعي متشخّص جزئي، فلفظة «يا» توجد النداء بالحمل الشائع، كان المنادى واحداً أو كثيراً، ففي قوله: «يا أيّها الناس» نداء واحد شخصي نادى به جميع الناس، وكذا الحال في سائرها، فحروف القسم وضعت لإيقاع القَسم بالحمل الشائع، كان المُقسم به واحداً أو كثيراً.

وأمّا سائر الحروف ممّا يتوهّم استعمالها في المعنى الكلّي؛ فلأ نّه بعد عدم تصوّر جامع ذهني أو خارجي بينها - إلاّ بعض العناوين الاسمية التي لا تكون جامعاً ذاتياً لها، ولا يمكن إيقاع الربط بها؛ كمفهوم «الابتداء الآلي» و«الربط» و«النسبة» وأمثالها، ممّا لا تكون من سنخ المعاني الحرفية - لا يمكن الالتزام فيها بعموم الموضوع له بأيّ نحو من الأنحاء المتقدّمة.

والتحقيق أن يقال: إنّ تلك الحروف لمّا كانت تابعة للأسماء في التحقّق

ص: 43


1- مقالات الاُصول 1: 92.

الخارجي والذهني وفي أصل الدلالة على معانيها، كانت تابعة لها في كيفية الدلالة؛ أي الدلالة على الواحد والكثير، فتكون دالّة على واحد عند كون الأطراف كذلك، وعلى الكثير إذا كانت الأطراف كذلك. ففي قولنا: «كلّ عالم في الدار» يكون العالم دالاًّ على عنوان المتلبّس بالعلم، والكلّ على أفراده، ولفظة «في» على الروابط الحاصلة بينها وبين الدار، فيكون من قبيل استعمال اللفظ في المعاني الكثيرة، لا استعماله في كلّي منطبق على الكثيرين؛ لعدم تعقّل ذلك، وإمكان ما ذكرنا بل وقوعه.

وهذا النحو من الاستعمال في الكثير كالوضع له والحكاية عنه ممّا لا مانع منه، ولو كان المستعمل فيه غير متناهٍ؛ لأنّ تكثير الدلالة والاستعمال تبعي، فلا محذور فيه ولو قلنا بعدم جواز استعمال اللفظ في أكثر من معنىً في الأسماء؛ لعدم جريان البرهان المتوهّم(1)

في الحروف؛ لما عرفت(2)

من أنّ استعمالها ودلالتها وتعقّلها وتحقّقها تبعية غير مستقلّة.

ففي قوله: «كلّ عالم في الدار» يدلّ «كلّ عالم» على الكثرة التفصيلية، ولفظة «في» تدلّ على انتساب كلّ فرد إلى «الدار» لا بالاستعمال في طبيعة كلّية، وكذا في مثل: «سر من البصرة إلى الكوفة» تدلّ «من» و«إلى» على نسبتي الابتدائية والانتهائية بين طبيعة السير المقتطع من الطرفين، دلالة تصوّرية مع قطع النظر عن ورود هيئة الأمر، من غير تكثير في محكيّهما، فإذا دلّت الهيئة على البعث إلى السير المقتطع بالبصرة والكوفة من غير بعث استقلالي إلى

ص: 44


1- راجع كفاية الاُصول: 53.
2- تقدّم في الصفحة 29.

الابتداء والانتهاء، وانطبق السير المحدود على المتكثّر، صارت الحدود متكثّرة بالتبع، ولفظتا «من» و«إلى» حاكيتان عنهما حكاية الواحد عن الكثير، لا عن الواحد المنطبق عليه؛ ضرورة عدم تعقّل واحد قابل للانطباق على محكيّهما ذهناً أو خارجاً.

ولو أنكرت جواز استعمال اللفظ في أكثر من معنىً، أو أنكرت كون المقام من قبيله، فلنا أن نقول في مثل «سر من البصرة» أو «كلّ عالم في الدار»: إنّه مستعمل في ربط جزئي يحلّله العرف إلى الروابط، لا كلّي قابل للصدق.

وأنت إذا تأمّلت فيما ذكرنا من أوّل البحث إلى هاهنا - من امتناع تصوّر جامع ذاتي فيها، واختلاف معانيها مع الأسماء في جميع الشؤون، وتبعيتها لها فيها - يسهل لك تصديق ما ذكرنا مع مساعدة الوجدان والبرهان عليه.

القول : في معاني الهيئات

ليس للهيئات - أيضاً - ميزان كلّي وضابطة واحدة كما سيتّضح لك، فلا بدّ من البحث عن مهمّاتها وتميّز حال بعضها عن بعض:

فمنها: هيئة القضيّة الخبرية الحملية التي لا يتخلّلها الحروف، مثل: «الإنسان حيوان ناطق» و«زيد إنسان» و«عمرو قائم»، فالهيئة فيها وضعت للدلالة على الهوهوية التصديقية، ومفادها أنّ المحمول موضوع من غير دلالة على إضافة أو نسبة مطلقاً، لا في الشائعات من الحمل، ولا في

ص: 45

الأوّليات منه، ولا في البسائط، ولا المركّبات:

أمّا في الأوّليات والبسائط فواضح؛ لأنّ النسبة بين المحمول والموضوع فيهما غير معقولة بحسب نفس الأمر؛ فإنّ الحدّ عين المحدود، وإنّما هو تفصيل نفس حقيقة المحدود، فلا يعقل إضافة واقعية بينهما في اعتبار تقرّر الماهية، وكذا في الهليات البسيطة لا يمكن تحقّق الإضافة بين موضوعها ومحمولها، وإلاّ يلزم زيادة الوجود على الماهية في الخارج، وكذا في حمل الشيء على نفسه، كقولنا: «زيد زيد» و«الإنسان إنسان» وهو واضح. وكذا فيما إذا حمل الشيء على مصداقه الذاتي، كقولنا: «البياض أبيض» و«زيد إنسان»، أو كمصداقه الذاتي، مثل: «الوجود موجود» و«الله تعالى موجود»؛ فإنّ في شيء ممّا ذكر لا يتعقّل نسبة وإضافة بحسب نفس الأمر والخارج.

وأمّا القضيّة اللفظية بما أنّها حاكية عن الواقع وتامّة الانطباق عليه، فلا يمكن أن تشتمل على شيء زائد عن الواقع أو ناقص عنه ومع ذلك تكون منطبقة عليه، فإذا اشتملت على الدالّ على الإضافة والنسبة بين الموضوع والمحمول، فلا بدّ وأن يكون محكيّها كذلك، مع أنّ الواقع خلاف ذلك، ولا معنى لتحقّق إضافة في الكلام من غير حكاية عن الواقع، فالهيئة الحملية في مثل تلك القضايا تحكي عن الهوهوية وعينية الموضوع للمحمول، فلا يعقل أن تشتمل على النسبة؛ لمنافاة الهوهوية مع النسبة والإضافة، وأمّا المعنى المفهوم من القضيّة فلا يعقل أن يكون أمراً زائداً عمّا اشتملت عليه القضيّة اللفظية، فالقضيّة اللفظية موجبة لإحضار مفادها في الذهن، وكذا المعقول من نفس الأمر لا يمكن أن يكون زائداً على ما فيه، فلا تكون للنسبة واقعية في تلك

ص: 46

القضايا، لا في الخارج ونفس الأمر، ولا في القضيّة اللفظية، ولا المعقول من الواقع، ولا المفهوم من القضيّة.

وأمّا حديث تقوّم القضيّة بالنسبة، وأنّ الخبر ما كان لنسبته واقع تطابقه [أو لا تطابقه] فمن المشهورات(1)

التي لا أصل لها، وسنشير(2)

إلى ميزان قبول القضيّة لاحتمال الصدق والكذب.

وأمّا الشائعات من الحمل التي لا يحمل فيها المحمول على مصداقه الذاتي، مثل «زيد أبيض» و«عمرو عالم» فتدلّ الهيئة فيها أيضاً على الهوهوية، فحينئذٍ: إن قلنا بأنّ الذات مأخوذة في المشتقّ فتكون حالها كالحمل الشائع بالذات؛ لعدم تعقّل النسبة بين الذات والشيء وبين الموضوع خارجاً.

وإن قلنا ببساطة المشتقّ، وأنّ الفرق بينه وبين المبدأ باللا بشرطية والبشرط لائية، فبلحاظ أنّ اللا بشرط لا يأبى عن الاتّحاد مع غيره، يكون الموضوع متّحداً مع المحمول وتكون الهوهوية متحقّقة فيها والقضيّة حاكية عنها. وقضيّة عرضية الحمل إنّما هي بالنظر الدقيق البرهاني كموجودية الماهية بالعرض.

فتحصّل ممّا ذكرنا: أنّ تلك القضايا الحملية بجميع أقسامها حاكية عن الهوهوية، وهيئتها وضعت للدلالة عليها بحكم التبادر.

ومنها: هيئة القضيّة الخبرية التي تتخلّلها الأداة، مثل: «زيد في الدار» و«عمرو على السطح» و«الجسم له البياض»، وهذه القضايا ليست حملية، لكن

ص: 47


1- الجوهر النضيد: 38؛ شرح الشمسية: 68؛ شرح المطالع: 113؛ نهاية الأفكار 1: 56 - 57.
2- يأتي في الصفحة 49 - 50.

تؤول إليها؛ فإنّ قوله: «زيد في الدار» يؤول إلى زيد حاصل أو كائن أو مستقرّ فيها؛ ولهذا يقال عنها: «الحملية» فهذه القضايا تحكي عن النسبة بين الجواهر والأعراض والموضوع والمحمول، فقوله: «زيد له البياض» تحكي اللام عن نحو إضافة بين «البياض» و«زيد»، والهيئة تدلّ على تحقّق هذه الإضافة دلالة تصديقية، ولهذا ترى أنّ في القضيّة السالبة المحصّلة مثل «زيد ليس له البياض» تدلّ اللام على الإضافة، وحرف السلب على سلب تحقّقها، فورود حرف السلب عليها يدلّ على أنّها لنفس الإضافة، لكن لا بمعنى كونها ماهية كلّية، بل بمعنى نفس الإضافة الجزئية بين الشيئين، فحرف السلب يرد على الكون الرابط، فإذا سلبه صارت الإضافة مسلوبة بالتبع، فأداة الإضافة والنسبة تدلّ على معانيها في القضايا السالبة والموجبة على السواء، لكن القضايا الموجبة تدلّ على تحقّقها دلالة تصديقية، والسالبة على سلبه كذلك، وفي كلتيهما تكون الدلالة التصديقية لهيئة الجمل الخبرية.

وممّا ذكرنا يتّضح حال السوالب؛ فإنّ في حمليتها يدلّ حرف السلب على سلب الهوهوية، فيرد على الحمل، فيكون مفاد السوالب سلب الحمل، لا حمل السلب أو حمل هو السلب كما يتوهّم، فقولنا: «زيد إنسان» حمل يدلّ على الهوهوية، و«زيد ليس بحجر» سلب حمل يدلّ على نفي الهوهوية.

وأمّا السوالب الحملية بالتأويل كقولنا: «زيد ليس في الدار» و«عمرو ليس له البياض»، فحرف السلب يرد على الكون الرابط، فيسلب به الكينونة في الدار. وأمّا الجمل الفعلية فسيأتي الكلام فيها في المشتقّ(1).

ص: 48


1- يأتي في الصفحة 152.

فاتّضح ممّا ذكرنا: أنّ ما اشتهر بينهم: من أنّ الخبر ما كان لنسبته خارج تطابقه أو لا تطابقه(1)،

فاسد في الحمليات التي لا تتخلّلها الأداة؛ لعدم تعقّل نسبة واقعية لجلّها؛ للزوم التوالي الفاسدة مع تحقّق النسبة؛ من تخلّل الإضافة بين الشيء ونفسه، وبين الماهية والوجود، وبين الشيء ومصداقه الذاتي، ولزوم كون الوجود زائداً على الماهية في الخارج، وكون الإمكان والشيئية من الاُمور العامّة زائدين على الموضوعات في الخارج، إلى غير ذلك ممّا برهن على امتناعه في محلّه.

وما يتصوّر فيه النسبة كالهليات المركّبة؛ فلأنّ القضيّة لا تحكي عن النسبة بل عن الهوهوية، ويكون الحمل في لحاظ الوحدة، لا العروض واعتبار النسبة بين الموضوع والمحمول، وسيأتي في المشتقّ(2)

ما يوضّح ذلك.

وكذا ما ذكر فاسد في السوالب المحصّلة مطلقاً؛ لأنّ حرف السلب فيها آلة لسلب الهوهوية في الحمليات الصريحة، ولسلب الكون الرابط في الحمليات المؤوّلة، فلا يكون للسوالب نسبة بين الموضوع والمحمول بحسب الواقع.

فعلم أنّ ما اشتهر(3) [من] أنّ القضيّة متقوّمة بالنسبة، وأنّ التصديق هو الإذعان بالنسبة، وأنّ المحمول متأخّر عن الموضوع، ممّا لا أصل لها.

ص: 49


1- تقدّم في الصفحة 47.
2- يأتي في الصفحة 174.
3- الجوهر النضيد: 38 و192؛ شرح المطالع: 7 و113؛ الحاشية على تهذيب المنطق: 14؛ شرح المنظومة، قسم المنطق 1: 78 - 79.

تنبيه: في الجمل التامّة وغير التامّة

إنّ الجمل تارةً: تكون تامّة، وتارةً: تكون غير تامّة، والتامّة، تارةً: تكون محتملة للصدق والكذب، وتارةً: لا تكون كذلك.

أمّا الجمل الغير التامّة فهي التي تحكي عن مفادها حكاية تصوّرية، ويكون حالها حال المفردات من هذه الجهة؛ ففي قوله: «غلام زيد» تدلّ الهيئة على نفس الربط بين الغلام وزيد لا تحقّقه، وهو معنىً تصوّري لا يتّصف بالصدق والكذب ولا يحتملهما.

وأمّا التامّة الخبرية فهي حاكية عن نفسِ الأمر حكاية تصديقية؛ أي حكاية تحقّق شيء أو لا تحقّقه، أو كونِ شيء شيئاً أو لا كونه حكاية تصديقية، فيتّصف بالصدق والكذب، فقوله: «زيد له القيام» دالّ بهيئته على أنّ القيام حاصل له بحسب الواقع، وقيام زيد دالّ على إضافة القيام إليه من غير حكاية عن تحقّقها، فهو معنىً تصوّري للانتساب بين الطرفين، والأوّل معنىً تصديقي إخباري عن حصوله بينهما.

ثمّ إنّ الجمل الغير التامّة على ضربين:

أحدهما: ما تدلّ على الانتساب والإضافة التصوّرية، كجملة المضاف والمضاف إليه.

وثانيهما: ما تدلّ على الهوهوية التصوّرية، كجملة الصفة والموصوف، فنحو «زيد الموجود» يدلّ على الاتّحاد بينهما دلالة تصوّرية غير محتملة للصدق والكذب، ولا يحكي عن الإضافة؛ لعدم الإضافة بينهما؛ ولهذا ترى

ص: 50

أنّ ما جعل صفة يمكن أن يحمل على الموصوف من غير تخلّل حروف دالّة على الإضافة، فيقال في «زيد العالم»: «زيد عالم»، وفي «زيد الإنسان»: «زيد إنسان»، بخلاف جملة المضاف والمضاف إليه؛ حيث لا بدّ من تخلّل الأداة بينهما، فيقال في «غلام زيد»: «زيد له الغلام» لا «زيد غلام»، وفي «قيام زيد»: «زيد له القيام»... وهكذا، حتّى في مثل «خاتم فضّة» تكون الإضافة بتقدير «من».

فاتّضح ممّا ذكرنا ما في كلام بعض المحقّقين: من أنّ مدلول الهيئة ربط العرض بموضوعه، وذلك هو المعبّر عنه بالوجود الرابط(1)؛ فإنّ فيه وجوهاً من الخلط تظهر بعد التأمّل فيما ذكرناه.

كما يظهر النظر فيما ذكر في وجه افتراق المركّبات الناقصة عن التامّة: «بأنّ الاُولى تحكي عن النسبة الثابتة التي تعتبر قيداً مقوّماً للموضوع أو المحمول، والثانية تحكي عن إيقاع النسبة؛ فإنّ المتكلّم وجداناً يرى الموضوع عارياً عن النسبة التي يريد إثباتها، وهو بالحمل أو الإنشاء يوقعها بين الموضوع والمحمول؛ ولهذا يكون مفاد التركيب الأوّل متأخّراً عن الثاني تأخّر الوقوع عن الإيقاع»(2)،

انتهى ملخّصاً.

فإنّ المراد من النسبة الثابتة إن كان النسبة الواقعية - كما هو مقتضى مقابلتها لإيقاع النسبة - فلا ريب في أنّ المركّبات الناقصة لا تحكي عنها؛

ص: 51


1- بدائع الأفكار (تقريرات المحقّق العراقي) الآملي 1: 50 - 51.
2- بدائع الأفكار (تقريرات المحقّق العراقي) الآملي 1: 60.

فإنّ الحكاية عن الواقع تصديقية لا تصوّرية، وهي شأن المركّبات التامّة الإخبارية.

مضافاً إلى أنّ المركّبات التامّة الإخبارية لا تحكي عن إيقاع المتكلّم النسبة ذهناً أو لفظاً كما ذكره، ولهذا لا ينتقل السامع إلاّ إلى الثبوت الواقعي، والإيقاع

مغفول عنه إلاّ باللحظ الثاني، وسيأتي حال الإنشائيات.

مع أنّ في الجمل الناقصة والتامّة تكون النسبة بإيقاع المتكلّم بوجه؛ فإنّ إضافة «غلام» إلى «زيد» وتوصيف «زيد» بالعالم في الجمل الناقصة إنّما هو بفعل المتكلّم، فلا تكون النسبة ثابتة في الكلام قبل إيقاعه.

هذا، مضافاً إلى أنّ تأخّر الوقوع عن الإيقاع إنّما هو فيما إذا كان الأوّل معلول الثاني لا مطلقاً، وليست النسبة في الجمل الناقصة معلولة لإيقاع النسبة في التامّة، فلا وجه للتأخّر مع فقدان مناطه.

على أنّ إيقاع النسبة في القضيّة اللفظية متوقّف على تصوّر الموضوع استقلالاً، مع أنّ القضيّة اللفظية مرآة الواقع، والعناوين المأخوذة فيها لا تكون ملحوظة بالاستقلال حتّى يرى خلوّها منها ويمكن إيقاع النسبة بينها، وما ذكرنا من إيقاعها بوجه إنّما هو بنحو الاستجرار تبعاً للإخبار عن الواقع على ما هو عليه.

اللهمّ إلاّ أن يكون مراده ذلك، لكنّه خلاف ظاهر كلامه أو نصّه؛ حيث قال: «إنّ المتكلّم يرى الموضوع عارياً عن النسبة فيوقعها».

ص: 52

الكلام في الإنشاء والإخبار

أمّا الجمل الإنشائية في باب العقود والإيقاعات، فهيئاتها تكون آلة لإيجاد شيء من الاعتباريات التي يحتاج إليها البشر، ف «بعت» الإنشائي بهيئته آلة إيجاد مادّتها؛ أي حقيقة البيع التي تكون من الحقائق الاسمية ذات الإضافة إلى الثمن والمثمن والبائع والمشتري، والتاء تدلّ على كون الصدور منتسباً إلى المتكلّم أو الانتساب الصدوري إليه، فيكون معنى الهيئة نفس الإيجاد الذي هو صرف التعلّق بالفاعل ومحض الإضافة بينه وبين الفعل بإزاء الإيجاد التكويني. وهيئة «بعت» الخبري تحكي عن نفس هذا الإيجاد، كهيئة «ضربت» و«قتلت» الحاكية عن الإيجاد التكويني، فهيئة «بعت» الإنشائي موجدة للبيع، وهيئة الإخباري تحكي عن هذا الإيجاد، وكلتاهما معنىً حرفي غير مستقلّ بالمفهومية ولا بالموجودية، وكذا حال جميع الهيئات في أبواب العقود والإيقاعات.

في أنحاء الإنشاء

ثمّ إنّ الهيئات الإنشائية مختلفة، كاختلاف الهيئات في الجمل الإخبارية كما تقدّم، فقد ينشئ المتكلّم الهوهوية كقوله: «أنتَ حُرّ» و«أنتِ طالق» و«أنا ضامن» في مقام الإنشاء، فإنّ الاعتبار في أمثالها هو إنشاء الهوهوية وجعل الموضوع مصداق المحمول في وعاء الاعتبار، فيصير بهذا الجعل مصداقاً للمحمول لدى العقلاء، فتترتّب الآثار عليها.

ص: 53

وقد ينشئ الإضافة والكون الرابط، كقوله: «من ردّ ضالّتي فله هذا الدينار» مشيراً إلى معيّن، فينشئ كون الدينار له، وقد ينشئ كون شيء على عهدته لشخصٍ، كمن قال: «من ردّ ضالّتي فله عليّ دينار»، ومنه قوله: «لله عليّ كذا»، فيجعل على عهدته شيئاً لله - تعالى - فيكون هو- تعالى - مطالباً له.

وقد ينشئ ماهية اعتبارية ذات إضافة كنوع العقود، فقوله: «بعتك» و«آجرتك» ونحوهما الاعتبار فيه هو إيجاد نفس الطبيعة الاعتبارية مضافة إلى مضايفاتها، فالمؤجر يوجد بآلية الهيئة إجارة البيت في مقابل شيء من شخص، إلى غير ذلك من الاعتبارات.

والمقصود من أنحاء الإنشاءات وإن كان تحقّق ما يحتاج إليه من الأمر الاعتباري ممّا يترتّب عليه أثر عند العقلاء، لكن إنشاء الهوهوية يغاير إنشاء الإضافة، وهما يغايران إنشاء الماهية ذات الإضافة.

هذا كلّه في الجمل الإنشائية المستعملة في أبواب المعاملات، وأمّا هيئة الأمر والنهي وسائر المشتقّات فسيأتي - إن شاء الله - كلّ في محلّه.

الكلام في ألفاظ الإشارات وأخواتها

أمّا ألفاظ الإشارة وضمائر الغيبة: فالظاهر أنّها موضوعة لإيجاد الإشارة، إلاّ

أنّ الاُولى وضعت لإيجاد الإشارة إلى الحاضر وما هو بمنزلته، والثانية إلى الغائب وما هو بمنزلته، ف «هذا» وأشباهه كإصبع الأخرس، فكما أنّه آلة لإيجاد الإشارة إلى مطلوبه فهي كذلك وضعاً، من غير فرق بينهما من هذه الجهة،

ص: 54

ولا يكون المشار إليه بها داخلاً في معناها، بل معناها نفس الإشارة وإحضار المشار إليه في ذهن السامع ليس إلاّ، كإحضار إشارة الأخرس المشار إليه في ذهنه من غير أن تكون موضوعة له.

وكذا الكلام في ضمائر الغيبة؛ فإنّها موضوعة للإشارة إلى الغائب، ولهذا يشترط فيها أن يكون مرجعها مذكوراً أو معهوداً لتصحّ الإشارة إليه، ومرجع الضمير هو المشار إليه، ونسبته إليه كنسبة المشار إليه إلى اسم الإشارة.

وبالجملة: أنّ هذه الألفاظ وضعت لنفس الإشارة، ولازمها إحضار المشار إليه في ذهن السامع؛ ولهذا قلنا: لم تقع تلك الألفاظ بما لها من المعنى محكوماً بها ولا عليها كسائر المعاني الحرفية، بل المحكوم به وعليه هو المشار إليه بها، فقوله: «هذا زيد» و«هو قائم» ليس المحكوم عليه والمخبر عنه معنى لفظة «هذا» و«هو»، بل المشار إليه بهما، كما أنّ الواقع كذلك.

ففرق بين قولنا: «زيد قائم» وبين «هذا - أو هو - قائم»؛ فإنّ زيداً يحكي عن المحكوم عليه حكاية اللفظ عن معناه الموضوع له، بخلافهما؛ فإنّهما يحضران المحكوم عليه في ذهن السامع إحضار الإشارة بالإصبع إيّاه في ذهنه، من غير أن تكون موضوعة له، ومن دون أن تكون حكاية اللفظ عن معناه؛ ولهذا أدرجناها في الحروف؛ لأنّ الميزان في حرفية الألفاظ كون معانيها غير مستقلّة بالمفهومية والموجودية، وهي كذلك؛ فإنّ نفس الإشارة بالحمل الشائع ممّا يتحصّل ويتقوّم بالمشير والمشار إليه، ولا يمكن تعقّلها بذاتها ولا إحضارها في ذهن السامع ولا وجودها في الخارج كذلك.

وما ذكرنا - من كون ألفاظ الإشارات وضمائر الغيبة من سنخ واحد، والفرق

ص: 55

بينهما بالحضور والغيبة - إنّما هو بحكم التبادر؛ فإنّك إذا راجعت وجدانك في لفظة «هذا» و«هو» ومرادفهما في لسان الفرس؛ أي «اين» و«او» ترى أنّ ما ذكرنا موافق لوجدانك، ولا يتبادر منهما إلاّ ما ذكرنا، وهو أصدق شاهد في هذه الأبواب.

وأمّا الموصولات: فيحتمل أن تكون موضوعة لإيجاد الإشارة إلى مبهم متوقّع رفع إبهامه؛ بحيث يكون عملها أمرين: أحدهما أصل الإشارة، وثانيهما إفهام المشار إليه المتوقّع للتوصيف لا بما أنّه مشار إليه. ويمكن أن تكون موضوعة لنفس الإشارة إلى المبهم الكذائي حتّى تكون كأسماء الإشارة، وتفترق عنها بالمشار إليه، كما تفترق أسماء الإشارة عن ضمائر الغيبة به. ولا يبعد أن يكون الأوّل متبادراً وإن كان تصوّره لا يخلو من صعوبة، لكنّه غير ممتنع.

وأمّا ضمائر المخاطب والمتكلّم: فالظاهر أنّ سنخها يغاير ألفاظ الإشارة

وضمائر الغيبة؛ فإنّ ضمير «أنا» و«أنت» وكذا المتّصل منه ليس للإشارة جزماً، بل ضمير المتكلّم موضوع لنفس المتكلّم بهويته الجزئية، وضمير المخاطب للمخاطب الجزئي كذلك، كما هو المتبادر منهما.

هذا حال معاني ما تقدّم.

وأمّا الوضع فيها: فيكون عامّاً والموضوع له خاصّاً، أمّا فيما يكون معانيها من سنخ الحروف فلما ذكرنا فيها(1) من عدم تصوّر جامعٍ حرفي بينها لا ذهناً

ص: 56


1- تقدّم في الصفحة 29.

ولا خارجاً، والعنوان الاسمي الحاكي عنها بنحو من الحكاية متصوّر لكن لا يمكن أن يعمل عمل الحروف في الحكاية عن الروابط والإضافات والإيجادات، فالحروف كالهيئات في القضايا مطلقاً لا يعقل فيها عموم الموضوع له، فيتطابق فيها البرهان والوجدان.

وكذا الحال في الإشارات وضمائر الغيبة والموصولات، سواء قلنا في الأخيرة بتضمّنها معنى الحرف أو بكونها كأسماء الإشارة.

وأمّا ضمير المتكلّم والمخاطب ممّا لم تكن معانيها حرفية، [فهما] وإن يمكن فيهما عمومه، لكن التبادر على خلافه؛ ضرورة فهم نفس المخاطب والمتكلّم بهويتهما الشخصية من حاقّ اللفظ، ولا يكون «أنت» مرادفاً لمفهوم المخاطب المذكّر، ولا «أنا» لمفهوم المتكلّم... وهكذا، وهو واضح لمن راجع وجدانه.

تنبيه : في أنّ معاني الحروف ليست مغفولاً عنها

بقي شيء: وهو أنّ ما اشتهر بينهم من أنّ الحروف آلات لملاحظة حال الغير، وأنّ معانيها مغفول عنها؛ ولذا لا يخبر عنها وبها(1)، ليس على ما ينبغي.

أمّا دعوى كونها آلة ومغفولاً عنها فواضحة الفساد بعد أدنى تأمّل في التراكيب الكلامية؛ ضرورة أنّ عمدة مقاصد المتخاطبين تفهيم المعاني الحرفية

ص: 57


1- قوانين الاُصول 1: 10 / السطر 3؛ هداية المسترشدين 1: 189؛ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 45.

وتفهّمها، وقلّما يتعلّق الغرض بغير ذلك؛ فإنّ القضايا على أنواعها إمّا تفيد الهوهوية، أو الكون الرابط، أو الإضافات والانتسابات بين المعاني الاسمية، فيكون غرض المتكلّم والمخاطب متعلّقاً بها، لا بالموضوع والمحمول، ففي قوله: «زيد موجود» ليس الغرض إفهام زيد ولا مفهوم الموجود، بل إفهام كون زيد موجوداً؛ أي الهوهوية المفهمة بالهيئة، وفي قوله: «زيد في الدار» و«عمرو على السطح» يكون الغرض إفهام الكون الرابط.

وبالجملة: بعد كون المعاني الحرفية هي المهمّ في التفهيم والتفهّم لا معنى لكونها مغفولاً عنها وآلة للحاظ غيرها، بل هي منظور فيها وألفاظها آلات للحاظ معانيها كالأسماء، لكن لمّا كانت معانيها على نحو لا يمكن أن تتعقّل إلاّ بتبع الغير يكون إفهامها تبعياً لا استقلالياً، وفرق واضح بين تبعية شيء لشيء في التعقّل والتحقّق وكونه مغفولاً عنه وآلة للحاظ الغير.

وبالتأمّل فيما ذكرنا يتّضح ما في دعوى عدم الإخبار عنها وبها؛ فإنّ المراد به إن كان عدم الإخبار عنها وبها على وزان المعاني الاسمية؛ بحيث تقع مبتدأً مستقلاًّ وخبراً كذلك، فلا شبهة فيه، لكنّ الإخبار عن الشيء أعمّ من ذلك.

وإن كان المراد به عدم الإخبار بقول مطلق، كما يقال: «المعدوم المطلق لا يخبر عنه»، فهو واضح الفساد؛ ضرورة عدم المانع العقلي عنه، وشهادة الوجدان بالخبر عنها وبها في التراكيب الكلامية، لكن تبعاً للمعاني الاسمية، فقوله: «ضربت زيداً في الدار يوم الجمعة» و«ولد لعمرو مولود ساعة [كذا]»

يكون الغرض [منهما] إفهام حدوث الضرب منه في محلّ كذا ويوم كذا،

ص: 58

وحدوث ولادة ابن عمرو ساعة كذا، ويفهم من مثلهما هذا الغرض، ولا يكون إلاّ لكون الحدوث بالمعنى الحرفي يمكن أن يخبر عنه وبه، فيصحّ تقييد المعاني الحرفية وتعليقها واشتراطها، فإنكار الواجب المشروط ومفهوم الشرط وإرجاع القيود الكلامية - الظاهرة في الرجوع إلى الهيئة - إلى المادّة بدعوى عدم الإمكان(1)

ممّا لا ينبغي أن يصغى إليه.

ص: 59


1- مطارح الأنظار 1: 247 - 249.

الأمر الخامس : في المجاز

اشارة

قد اشتهر بينهم: أنّ المجاز هو استعمال اللفظ في غير ما وضع له بعلاقة معتبرة مع قرينة معاندة(1).

وخالفهم السكّاكي في الاستعارة على ما هو المشهور من مذهبه من كون المجاز عقلياً فيها مبنيّاً على ادّعاء فردية المشبّه للماهية المشبّه بها(2).

وفيه أوّلاً: أنّ الادّعاء لا يخرج الكلام عن المجاز اللغوي؛ لأنّ اللفظ استعمل في غير ما وضع له على الفرض.

هذا، مضافاً إلى أنّ استعمال اللفظ الموضوع للطبيعة في مصاديقها الواقعية أيضاً مجاز، فضلاً عن المصداق الادّعائي، وأمّا مثل «زيد إنسان» فلم يستعمل الإنسان إلاّ في نفس الطبيعة، والحمل يفيد اتّحادها معه

ص: 60


1- المطوّل: 353؛ مبادئ الوصول إلى علم الاُصول: 71؛ قوانين الاُصول 1: 13 / السطر 5؛ الفصول الغروية: 14 / السطر 12.
2- مفتاح العلوم: 156 - 158.

خارجاً ولم يستعمل في الفرد.

وثانياً: أنّ ما ذكره لا يجري في الأعلام الشخصية مثل قوله: «رأيت حاتماً» إلاّ بتأويل بارد مقطوع الفساد.

فما ذكره وإن كان أقرب إلى الذوق السليم ممّا هو المشهور؛ لما قال في وجهه(1): من صحّة التعجّب في قوله:

............................... شمسٌ تظلِّلُني من الشمس(2)

والنهي عنه في قوله:

لا تعجَبوا من بِلى غِلالتِهِ(3) ...............................

أضف إليه قوله تعالى: )مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ((4)؛ حيث نفى البشرية وأثبت الملَكية، وهو لا يستقيم إلاّ مع ادّعاء كونه مَلَكاً، لا إعارة لفظ «الملَك» له.

وما قيل في ردّ السكّاكي: [من] أنّ التعجّب والنهي عنه فللبناء على تناسي التشبيه؛ قضاءً لحقّ المبالغة(5).

فيه: أنّ تناسي التشبيه وقضاء حقّ المبالغة يقتضيان ما ذكره من الادّعاء، ومع عدمه لا التشبيه صار منسيّاً، ولا حقّ المبالغة مقضيّاً.

ص: 61


1- مفتاح العلوم: 157.
2- صدره: «قامت تظلّلني ومن عجب»
3- عجزه: «قد زرّ أزراره على القمر»
4- يوسف (12): 31.
5- المطوّل: 362.

وأنت إذا كنت ذا طبع سليم، وتصفّحت كلام خطباء العرب والفرس وشعرائهم، لا تشكّ في عدم صحّة ما ذهب إليه المشهور.

لكن ما ذهب إليه السكّاكي - أيضاً - غير تامّ.

التحقيق في المجاز

والحقّ الحقيق بالتصديق هو ما اختاره بعض أجلّة العصر رحمه الله علیه في وقايته(1)

وتبعه غيره(2):

أنّ اللفظ في مطلق المجاز - مرسلاً كان أو استعارة أو مجازاً في الحذف، مفرداً كان أو مركّباً - وكذا في الكناية، مستعمل فيما وضع له لا غير، لكن يكون جدّه على خلاف استعماله، وإنّما يكون تطبيق المعنى الموضوع له على ما أراده جدّاً؛ بادّعاء كونه مصداقه كما في الكلّيات، وعينه كما في الأعلام الشخصية.

فقوله: )مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ( استعمل «المَلَك» في الماهية المعهودة من الروحانيين، وإنّما حملها عليه بادّعاء كونه من مصاديقها، فالادّعاء على مذهب السكّاكي وقع قبل الإطلاق، فاُطلق اللفظ على المصداق الادّعائي، دون هذا؛ فإنّ الادّعاء بناءً عليه وقع بعد الاستعمال وحين إجراء الطبيعة الموضوع لها اللفظ على المصداق الادّعائي.

وفي قوله: «رأيت حاتماً» اُريد ب «حاتم» هو الشخص المعروف وادّعي أنّ فلاناً هو هو، فالادّعاء لتصحيح إجراء المعنى على المعنى، فحسن

ص: 62


1- وقاية الأذهان: 103.
2- نهاية الاُصول: 28 - 30.

الكلام في باب المجازات إنّما هو بتبادل المعاني والتلاعب بها، لا بعارية الألفاظ وتبادلها، والشاهد على صحّة هذا المذهب هو الطبع السليم والذوق المستقيم.

ثمّ لا وجه لتخصيص ما ذكر بالاستعارة، بل هو جارٍ في المجاز المرسل أيضاً، فلا يطلق العين على الربيئة إلاّ بدعوى كونه نفس العين؛ لكمال مراقبته، لا بعلاقة الجزئية والكلّية، ولا الميّت على المريض المشرف على الهلاك إلاّ بدعوى كونه ميّتاً، والمصحّح للدعوى إشرافه عليه وانقطاع أسباب الصحّة عنه. وفي قوله: )وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ...((1) إلى آخره، يدّعى كون القضيّة بمثابة تجيب عنها القرية والعير، وتقدير «الأهل» فيه يحطّ الكلام من ذروة البلاغة والحسن إلى حضيض البرودة والسوقية.

وكذا الحال في المجاز المركّب، فإذا قيل: «أراك تُقدّم رِجلاً وتُؤخّر اُخرى» للمتحيّر والمتردّد، لم تستعمل الألفاظ المفردة إلاّ في معانيها الحقيقية، لكن ادّعي كون المتردّد والمتحيّر شخصاً متمثّلاً كذلك، وليس للمركّب وضع على حدة - بحيث كانت أجزاؤه بمنزلة حروف الهجاء في المفردات بالضرورة، ولعدم الاحتياج إليه ولغويته - حتّى يقال: إنّ اللفظ الموضوع لمعنىً استعمل في غيره.

وهذا أقوى شاهد على ما قضى به الوجدان من أنّ حال المجازات ما تقدّم. وعليك بالتأمّل والتدبّر والفحص في لطائف محاورات الخطباء والشعراء حتّى

ص: 63


1- يوسف (12): 82.

تؤمن بما ذكر، فحينئذٍ يسقط البحث عن أنّ المجاز هل يحتاج إلى رخصة الواضع أم لا؟ وأنّ العلاقات موضوعة بالوضع الشخصي أو النوعي؟ ممّا يعلم فساده؛ لعدم استعمال اللفظ إلاّ فيما وضع له، فتدبّر جيّداً.

استعمال اللفظ في اللفظ

لا شبهة في وقوع إطلاق اللفظ وإرادة شخصه ومثله ونوعه وصنفه، كما أنّه لا شبهة في عدم كونه من قبيل استعماله فيما وضع له.

إنّما الإشكال في كيفية إطلاقه فيها، وأنّه في الجميع على منوال واحد أو لا؟

فلا بدّ من البحث عن كلّ واحد حتّى يتّضح الأمر:

إطلاق اللفظ وإرادة شخصه

أمّا إطلاقه وإرادة شخصه: فالتحقيق صحّته، لكن لا بمعنى كون اللفظ دالاًّ على نفسه ولا مستعملاً في نفسه؛ لامتناع اتّحاد الدالّ والمدلول، ولا يجدي التعدّد الاعتباري المتأخّر عن الاستعمال في صحّته(1).

مضافاً(2)

إلى أنّ كونه صادراً مغفول عنه حين الاستعمال، مع أنّه لا بدّ فيه من لحاظ اللفظ المستعمل ولو آلياً، فيلزم كون المغفول عنه غير مغفول عنه.

ص: 64


1- كفاية الاُصول: 29.
2- بايد تأمّل شود. [منه قدس سره] أشار المصنّف قدس سره في الهامش بقوله: «بايد تأمّل شود» إلى لزوم التأمّل في المطلب ابتداءً من قوله: «مضافاً» وانتهاءً بقوله: «غير المغفول عنه».

وأيضاً يلزم الجمع بين اللحاظ الآلي والاستقلالي في الشيء الواحد؛ ضرورة أنّ اللفظ في الاستعمال ملحوظ آلياً والمعنى المراد استقلالياً، فلا يمكن أن يكون هذا الإطلاق من قبيل استعمال اللفظ وإرادة المعنى، ولا من قبيل إلقاء الموضوع في ذهن السامع؛ ضرورة أنّ الموضوع المتعلّق للحكم فيما إذا اُريد شخص اللفظ هو الذي صدر من المتكلّم، وهو الموجود الخارجي، ولا يمكن إلقاؤه في ذهن السامع.

والتحقيق: أنّ المتكلّم الذي بصدد الإخبار عن شخص اللفظ الصادر منه، يتلفّظ به حتّى يسمع المخاطب ويتصوّره، فإذا حمل عليه ما يكون من خواصّ هذا اللفظ أو أقام قرينة عليه، يرجع ذهن السامع من الصورة المتصوّرة بالذات إلى اللفظ الصادر من المتكلّم، فاللفظ الصادر منه موجد في نفس السامع ما يصير في الآن المتأخّر حاكياً وكاشفاً عن لفظه، لا كحكاية اللفظ عن المعنى الموضوع له أو غير الموضوع له؛ ضرورة أنّ الصورة الذهنية لم تكن لفظاً ولا موضوعاً، فاللفظ في هذا الإطلاق موجد لكاشفه في ذهن [السامع]، ويصير منكشفاً في الآن المتأخّر، فلا يكون هذا الانكشاف من قبيل الدلالة الوضعية، ولا من قبيل إلقاء الموضوع في ذهن السامع.

ولو قيل: ذلك الإيجاد - للكشف عن نفسه - دلالة حتّى يكون اللفظ دالاًّ بواسطة إيجاد كاشفه، ومدلولاً في الآن المتأخّر لانكشافه به؛ فلا مانع منه ولا مشاحّة في الاصطلاح.

كما أنّه لو اُطلق عليه الإلقاء ببعض الاعتبارات فلا مانع منه أيضاً بعد وضوح الحقيقة.

ص: 65

إطلاق اللفظ وإرادة مثله

وأمّا فيما إذا اُريد مثله؛ فإن اُريد منه لفظ آخر في كلامه أو كلام غيره؛ بأن يقال: «زيد - في قولي هذا أو مكتوبي هذا: زيد قائم - مبتدأ»، فلا يعقل فيه إلاّ استعمال لفظه في المماثل؛ فإنّ المفروض أنّ الحكم له لا للّفظ الصادر منه، فيكون اللفظ الصادر آلة للحاظ مماثله ووسيلة لتصوّره بالعرض بواسطة الصورة الذهنية الحاصلة بإيجاد اللفظ، كدلالة اللفظ على معناه من هذه الجهة، وإن كان مفترقاً عنها باستعماله في غير ما وضع له، ولا يعقل فيه الإلقاء؛ لأنّ الموضوع الخارجي المحكوم بالحكم لا يمكن إحضاره في النفس بذاته، وما يحضر هو صورته بآلية اللفظ المستعمل، فالانتقال منه إليه بآليته كالانتقال في سائر الاستعمالات، وما أوجد المتكلّم - أي اللفظ الصادر عنه - لم يكن موضوع الحكم، كما في إطلاقه وإرادة شخصه، فلا يكون هذا الإطلاق إلاّ استعمالاً ودلالة.

نعم، قد يريد إثبات حكم للصورة الحاصلة في ذهن المخاطب، مثل قوله: «زيد - الحاصل في ذهنك الآن بقولي - معلومك بالذات» ففي مثله يكون تحقّق الموضوع في ذهنه بالإيجاد، فالاستعمال إيجادي لا لمعنى اللفظ بل لصورته، وبهذا يفترق عن الاستعمالات الإيجادية التي مرّت في باب الحروف، ولو سمّي هذا إلقاء فلا مانع منه بعد وضوح الأمر.

إطلاق اللفظ وإرادة نوعه

وأمّا إطلاق اللفظ وإرادة نوعه وصنفه فهو أيضاً من قبيل الاستعمال في المعنى غير الموضوع له، فيكون اللفظ الصادر من المتكلّم - بواسطة القرينة أو

ص: 66

المناسبة بين الحكم والموضوع - حاكياً عن نوعه وصنفه ودالاًّ عليهما؛ إذ ليس معنى الدلالة والحكاية إلاّ كون الشيء بحيث يفهم منه المعنى، فاللفظ آلة للتوسّل إلى إفهام نفس الطبيعة أو صنف منها بتوسّط إيجاد الصورة في الذهن.

فإذا قال: «ضَرَبَ فعل ماضٍ» ينتقل المخاطب من لفظه المتصوّر بتبع صورته إلى طبيعي اللفظ، وليس هذا إلاّ استعمال اللفظ في المعنى، لكن المعنى ليس الموضوع له بل طبيعي اللفظ.

وما قد يقال: إنّه من قبيل الإلقاء لا الاستعمال؛ فإنّ السامع لمّا كان حين سماعه لفظ «ضَرَبَ» يحصل في ذهنه صورة مع الغفلة عن تشخّصاتها الزمانية والمكانية والصدورية وغيرها، فتكون كلّية، فإذا بقيت الصورة على حالها تكون من قبيل إلقاء الكلّي الطبيعى، وإذا قيّدها بدالّ آخر ويحكم على صنفه يكون من إلقاء الصنف، بل يمكن أن يقال: إنّ المتكلّم بعد إلقائه الكلّي في ذهن السامع بواسطة تذكار بعض التشخّصات يتشخّص الكلّي بوجود مثله، فيكون حال إطلاق اللفظ وإرادة المثل حالهما؛ أي يكون من قبيل الإلقاء لا الاستعمال(1).

مدفوع: بأنّ المراد من الكلّي المذكور إن كان الصورة الحاصلة في ذهن السامع بإيجاد المتكلّم - أي المعلوم بالذات - فلا إشكال في أنّه جزئي حقيقي، والغفلة عن التشخّصات لا توجب كلّية ما هو متشخّص واقعاً، وإن كان المراد أنّ المتكلّم بواسطة هذه الصورة والغفلة عن خصوصيتها يفهم بنحو نفس الطبيعة

ص: 67


1- نهاية الاُصول: 32 - 35.

بالعرض، فهو حقّ، لكن لا يكون ذلك من قبيل الإلقاء، بل من قبيل الدلالة كسائر الدلالات، فاللفظ الصادر من المتكلّم يكون آلة لإيجاد الصورة في الذهن، ووسيلة لانتقال المخاطب إلى ما هو المراد؛ أي نفس الطبيعة.

لا يقال: يلزم من استعمال اللفظ في نوعه اتحاد الدالّ والمدلول؛ لأنّ اللفظ المستعمل في نوعه إمّا أن يكون طبيعي اللفظ أو شخصه: فعلى الأوّل لزوم اتّحادهما واضح، وعلى الثاني يلزم ذلك فيما إذا كان الحكم شاملاً لموضوع القضيّة الملفوظة، مضافاً إلى تباين الشخص مع الطبيعي؛ لأ نّه مركّب منه ومن التشخّص، والمركّب من المباين مباين، فعلى فرض الإمكان لا يصحّ الاستعمال؛ للمباينة(1).

فإنّه يقال: اللفظ المستعمل لا يمكن أن يكون طبيعيّه في مقابل الشخص بل هو شخصه، ولا يلزم اتّحاد الدالّ والمدلول؛ لأنّ الدالّ هو الشخص والمدلول هو نفس الطبيعي، لا الأشخاص المنطبق عليها، فلا تكثّر في المدلول بوجه حتّى يلزم ما ذكر. وأمّا قضيّة المباينة وعدم صحّة الاستعمال لأجلها ففيها غرابة؛ ضرورة أنّ المصحّح للاستعمال هو المناسبة ولو بوجه، وهي حاصلة.

ثمّ إنّ هذا الاستعمال - أي استعمال اللفظ في نوعه ومثله - لم يكن استعمالاً حقيقياً، وهو واضح، ولا من قبيل المجاز المتعارف؛ لما عرفت [من] أنّ المجاز استعمال اللفظ فيما وضع له وتطبيق المعنى على المصداق الادّعائي، وفي هذا الاستعمال ليس كذلك، فهو استعمال في غير ما وضع له من غير ادّعاء

ص: 68


1- بدائع الأفكار (تقريرات المحقّق العراقي) الآملي 1: 89.

ولا تأوّل، ولا اختلاف في الإرادة الجدّية والاستعمالية، بل المناسبة بين اللفظ ونوعه وصنفه، ومثله توجب إحضار المستعمل فيه في ذهن السامع، ولا يريد المتكلّم غير ذلك، من غير أن يكون بصدد حسن الكلام وبلاغته.

بل لو بنينا على أنّ المجاز استعمال في غير ما وضع له بمناسبة وعلاقة ولو ذوقية طبعية، لا يكون استعمال اللفظ في نوعه وصنفه ومثله مجازاً؛ لأنّ المناسبة هاهنا هي المشابهة الصورية بينها وبينه، فتكون العلاقة هي المشابهة. مع أنّها غيرمنظورة للمستعمل؛ بداهة أنّ القائل بأنّ «ضَرَبَ فعل ماضٍ» لا يخطر بباله تلك العلاقة.

ص: 69

الأمر السادس : في أنّ الألفاظ موضوعة لذات المعاني

الحقّ أنّ الألفاظ موضوعة لذوات المعاني لا بما أنّها مرادة:

سواء اُريد به تقيّدها بها بالذات أو بالعرض - أي سواء اُريد أنّها موضوعة للمرادة بالذات أو بالعرض - تقيّداً اسمياً؛ لأنّ الإرادة لمّا كانت من شؤون النفس لا يمكن أن تتعلّق بالذات بما هو خارج عن حيطتها، فما تتعلّق به بالذات هو الصورة القائمة بالنفس صدورياً(1)

أو حلولياً(2)

على المشربين، وأمّا الخارج فهو المراد بالعرض كما أنّه المعلوم بالعرض، وإن كان الخارج بوجه هو المطلوب والمراد، والصورة فانية فيه وتكون ما بها ينظر.

فحينئذٍ: إن وضعت للمراد بالذات يلزم منه عدم انطباقها على الخارج حتّى مع التجريد، مضافاً إلى ورود ما يرد على الشقّ الثاني - أي الوضع للمراد بالعرض - عليه.

ص: 70


1- الحكمة المتعالية 1: 264؛ شرح المنظومة، قسم الحكمة 2: 124.
2- الإشارات والتنبيهات، شرح المحقّق الطوسي 3: 298؛ كشف المراد: 227؛ شرح المواقف 1: 77.

وإن وضعت للمراد بالعرض يلزم منه عدم صحّة الحمل إلاّ مع التجريد، مع صحّته بدونه بالضرورة، مع لزوم كون الوضع عامّاً والموضوع له خاصّاً في جميع الأوضاع، إلاّ أن يقال بتقيّدها بمفهوم الإرادة، وهو مقطوع الفساد، ولم يقل به أحد.

أو(1) اُريد وضعها لذات المعنى المراد، لا بما أنّها مرادة وملحوظة فيها الإرادة، بل لذات ما تتعلّق به من غير تقيّد بها، بل للمتضيّق بواسطة تعلّقها به، سواء اُريد أيضاً ذات ما تعلّق بها الإرادة بالذات أو بالعرض: أمّا الأوّل فلورود بعض الإشكالات المتقدّمة كعدم صحّة الحمل عليه. وأمّا الثاني [فهو] وإن سلم عن الإشكالات المزبورة - حتّى لزوم خصوص الموضوع له؛ لأنّ التخصّص بالعرض لا يوجب جزئية ما هو كلّي - لكنّه خلاف التبادر والوجدان، ورفع اليد عنه يحتاج إلى دليل، وهو مفقود.

لا يقال: وضع اللفظ للمعنى بما أنّه فعل اختياري لا بدّ له من غاية، وهي إظهار مرادات المتكلّمين، فلا محيص إلاّ أن يكون موضوعاً للمعنى المراد؛ لأنّ الغاية علّة فاعلية الفاعل، ولمّا كانت الغاية إظهار المرادات تحرّك الواضع إلى وضعه للمعنى المراد لا مطلقاً؛ لأنّ المعلول يتضيّق بتضيّق علّته من غير تقيّد، ولا يمكن أوسعية المعلول من علّته. هذا، مضافاً إلى لزوم اللغوية إذا وضع لذات المعنى بعد كون الداعي إفادة المراد(2).

فإنّه يقال: العلّة الغائية للوضع إفادة المرادات، لكن لا بما أنّها مرادات، بل

ص: 71


1- عطف على «سواء» المتقدّم. [منه قدس سره]
2- اُنظر الفصول الغروية: 17 / السطر 34.

بما هي نفس الحقائق؛ لأنّ المتكلّم بالألفاظ يريد إفادة نفس المعاني لا بما أنّها مرادة، والواضع وضع اللفظ لذلك، وأمّا كون المعاني مرادة فهو مغفول عنه عند السامع والمتكلّم.

فدعوى كون الغاية إفهام المرادات بما هي كذلك فاسدة، بل الغاية إفهام نفس المعاني، وكونها مرادة إنّما هو حين الاستعمال أو من مقدّماته، ولا ربط له بالوضع.

وممّا ذكرنا يظهر النظر في الكلام المنسوب إلى العَلَمين(1)؛

لأنّ لازم كون الدلالة الوضعية تابعة للإرادة أن تكون الألفاظ موضوعة للمعاني المرادة، ولمّا كان الوضع للمتقيّد بها ظاهر البطلان لا بدّ من صرف كلامهما إلى ما ذكر أخيراً من كون الوضع لذات المراد من غير تقييد.

وأمّا توجيه المحقّق الخراساني رحمه الله علیه من الصرف إلى الدلالة التصديقية؛ أي دلالتها على كونها مرادة للافظها تتبع إرادتها تبعية مقام الإثبات للثبوت(2)،

فلا يناسب ما نقل(3)

عن المحقّق الطوسي قدّس سرّه ؛ فإنّه صريح في الدلالة اللفظية الوضعية، وأنّ الجريان على قانون الوضع يقتضي أن تكون دلالة اللفظ على معناه تابعة لإرادة المتكلّم، فراجع. هذا مضافاً إلى أنّ حمل كلامهما على ما ذكر حمل على معنىً مبتذل لا يناسب مقامهما.

ص: 72


1- اُنظر الفصول الغروية: 17 / السطر الأخير؛ الشفاء، المنطق، الفنّ الأوّل 1:25 و42 - 43؛ الإشارات والتنبيهات، شرح المحقّق الطوسي 1: 32.
2- كفاية الاُصول: 32.
3- الجوهر النضيد: 8؛ قوانين الاُصول 1: 248 / السطر 7.

الأمر السابع : في الهيئات

اشارة

لا إشكال في أنّ اللغات الراقية المتداولة كافلة لكافّة احتياج البشر في الإفادة والاستفادة، وممّا يحتاج إليه احتياجاً مبرماً إفهام المعاني التصديقية وما

هو من شؤونها، بل أغراض المتكلّمين تحوم نوعاً حول إفادتها، فلا يمكن إهمال ذلك في اللغات، ولم تكن تلك الدلالة إلاّ بالجعل والمواضعة، وإنّما الكلام في الدالّ عليها:

فالمشهور أنّ هيئات الكلام متكفّلة بذلك(1)، فهيئة(2) الجملة الحملية تدلّ على الهوهوية التصديقية، وهيئة الجملة الحملية بالتأويل - على ما سبق منّا(3) - تدلّ على تحقّق الروابط وعلى الأكوان الرابطة، فللهيئات شأن عظيم في الإفادة.

ص: 73


1- الفصول الغروية: 28 / السطر 5؛ كفاية الاُصول: 32؛ أجود التقريرات 1: 47.
2- هذا التفسير منّي، لا من المشهور؛ لأنّ هذا التفصيل غير مذكور في كلامهم، بل خلافه مشهور. منه عفي عنه.
3- تقدّم في الصفحة 47 - 48.

وأظنّ أنّ القول المقابل للمشهور هو وضع مجموع الجملة لإفادة المعاني التصديقية بأقسامها وخصوصياتها، فجملة «زيد قائم» موضوعة لإفادة الهوهوية التصديقية، كما أنّ مفرداتها وضعت للمعاني التصوّرية.

فالاختلاف بين المشهور وغيره في أنّ الدالّ على المعاني التصديقية هل هي الهيئات أو مجموع الجملة، كما يشهد به كلام ابن مالك الآتي؟

ولا أظنّ أن يكون مراد القائل بالوضع للمجموع هو ما نسب إليه المتأخّرون من وضع جديد له من غير إفادة شيء(1)،

ممّا هو واضح الفساد.

نعم، هنا احتمال آخر: هو كون المجموع موضوعاً لإفادة ما تفيد الهيئة على سبيل الترادف، ولا يرد على ما ذكرنا شيء ممّا ذكروا إلاّ ما نقل عن ابن مالك في «شرح المفصّل» من أنّ المركّبات لو كان لها وضع لما كان لنا أن نتكلّم بكلام لم نسبق إليه؛ إذ المركّب الذي أحدثناه لم يسبق إليه أحد، فكيف وضعه الواضع؟!(2)

انتهى.

وهذا إشكال متين؛ لأنّ الالتزام بالوضع لمجموع الجملة - هيئة ومادّة - مستلزم للالتزام بوضع كلّ جملة جملة على حدة بالوضع الشخصي؛ لعدم تصوّر الوضع النوعي إلاّ لهيئات الجمل، لا لمجموع المادّة والهيئة، ف «زيد قائم» و«عمرو قاعد» مشتركان في الهيئة لا المادّة، فلا يمكن الوضع النوعي للمجموع، فلا محيص عن الالتزام بأنّ الجمل التي أحدثها المتكلّم - ممّا تكون

ص: 74


1- الفصول الغروية: 28 / السطر 4؛ كفاية الاُصول: 32؛ أجود التقريرات 1: 47.
2- اُنظر نهاية الدراية 1:76.

موادّها مختلفة عن السابقة - غير موضوعة، وهو واضح البطلان.

فتحصّل ممّا ذكرنا: أنّ الحقّ ما عليه المشهور من أنّ الدالّ على المعاني التصديقية هي الهيئات، ولا وضع لمجموع الجملة.

ولا ينقضي تعجّبي من بعض المدقّقين من المحشّين على «الكفاية»؛ كيف ادّعى أنّ كلام ابن مالك ظاهر في أنّ محلّ النزاع هذا الأمر البديهي البطلان، قائلاً: «إنّه لا يخفى على مثل ابن مالك أنّ الوضع نوعي لا شخصي»(1).

ولا أدري أنّه ما فهم من كلامه! وما موضع دلالته على أنّ النزاع فيه؟

تنبيه: في الموضوع له في الهيئات

الحقّ أنّ هيئات الجمل الخبرية وضعت للهوهوية الواقعية إن كانت حملية، مثل: «زيد إنسان» أو«قائم»، وللأكوان الرابطة النفس الأمرية إن كانت حملية مؤوّلة، مثل: «زيد في الدار» أو «له القيام»، لا للنسب الذهنية من حيث كشفها عن الواقع كما اختاره صاحب «الفصول»(2)؛

ضرورة أنّه لا فرق بينها وبين الألفاظ الموضوعة للمعاني النفس الأمرية.

ودعوى وضع جميع الألفاظ حتّى الأعلام الشخصية للصور الذهنية الحاكية كما ترى؛ فإنّ تبادر نفس المعاني من الألفاظ من غير خطور الصور الذهنية الحاصلة للمتكلّم أقوى شاهد على المدّعى.

هذا، مضافاً إلى أنّ الغرض من الوضع هو إفهام نفس الحقائق، فلا معنى

ص: 75


1- نهاية الدراية 1: 76.
2- الفصول الغروية: 28 / السطر 6.

لجعل الألفاظ إلاّ لها. نعم في إفهامها يحتاج إلى التصوّر، وهذا غير كون الموضوع له هو المتصوّر.

ودعوى تبادر الصور الذهنية الحاكية في الجمل الخبرية(1)،

ممنوعة جدّاً.

وعمدة ما دعاه إلى الالتزام بذلك هو الإشكال المتراءى وروده على وضعها للنسبة النفس الأمرية من لزوم أن لا يكون لها معنىً في الأخبار الكاذبة؛ لانتفاء النسبة الواقعية فيها(2).

وفيه: أنّ ذلك وارد - أيضاً - على فرض وضعها بإزاء النسبة الذهنية الكاشفة عن الواقع؛ ضرورة أنّ الكواذب لا تحقّق لنسبها حتّى تكشف الصور الذهنية عنها، ولو قيل من حيث صلاحيتها للكشف، فلا بدّ من الالتزام بوضعها للنسبة الذهنية من حيث هي؛ فإنّها صالحة له، وهو مقطوع الفساد، ولا يلتزم به القائل.

والتحقيق: أنّها وضعت للواقعيات، والإشكال مدفوع بأنّ الاستعمال ليس إلاّ طلب عمل اللفظ في المعنى؛ بمعنى جعل اللفظ وسيلة لانتقال ذهن السامع إلى المعنى انتقالاً بالعرض لا بالذات، وفي هذا الانتقال بالعرض لا يلزم أن يكون المعنى محقّقاً في الخارج، كما أنّ الأمر كذلك في الإخبار عن المعدوم المطلق بأ نّه لا يخبر عنه، وعن شريك الباري بأ نّه ممتنع، فالمشرك المعتقد للشريك إذا أخبر عن معتقده يخبر عن الواقع لا الشريك الذهني، ولهذا يكون مخطئاً، والمخبر بأنّ زيداً قائم يخبر عن الواقع ويريد أن يلقي في ذهن

ص: 76


1- الفصول الغروية: 29 / السطر 21.
2- الفصول الغروية: 29 / السطر 23.

المخاطب قيامه واقعاً، وهو لا يحصل إلاّ بالاستعمال.

وبالجملة: أنّ استعمال اللفظ في المعنى لا يتوقّف على تحقّق المعنى، بل يتوقّف على تصوّره بالعرض، وهو لا يتوقّف على وجوده.

فتحصّل ممّا ذكرنا: أنّ هيئات القضايا موضوعة لنفس الهوهويات أو الأكوان الرابطة النفس الأمرية، وتكون آلة لإحضار معانيها في ذهن السامع بالعرض، وقضيّة مطابقة الإخبار للواقع وعدمها أمر خارج عن حريم الوضع والدلالة، كما أنّ إرادة المتكلّم وانفهام المعنى وفهم السامع كلّها خارجة عنه.

هذا كلّه إذا قلنا بأنّ الموضوع له في الهيئات خاصّ كما هو التحقيق، وأمّا مع اختيار عمومه فالأمر أوضح؛ لأ نّها دائماً مستعملة في المعنى الكلّي، والتطبيق على الجزئيات إنّما هو بدالّ آخر.

تتميم: في تقسيم اللفظ إلى المفرد والمركّب

قالوا: إنّ اللفظ إمّا مفرد أو مركّب، والثاني ما دلّ جزء لفظه على جزء معناه، أو ما قصد بجزء لفظه الدلالة كذلك، والأوّل بخلافه(1).

أقول: إن كان اللفظ بمعنى الرمي، وإطلاقه على ما خرج من الفم معتمداً على أحد المخارج باعتبار رميه منه، لم يكن تقسيم اللفظ إلى المفرد والمركّب صحيحاً؛ لأنّ اللفظ مفرداً كان أو مركّباً لم يكن شيئاً خارجاً من الفم، فإنّ زيداً - مثلاً - مركّب من حروف، وكلّ حرف لفظ وملفوظ، والتركيب

ص: 77


1- الجوهر النضيد: 11؛ شرح الشمسية: 24 - 25؛ الحاشية على تهذيب المنطق: 24؛ شرح المنظومة، قسم المنطق 1: 109.

منها اعتباري، فلم يكن المجموع لفظاً ولا موجوداً إلاّ في الاعتبار، فما وضع للمعاني ليس لفظاً.

نعم ما لا جزء له كهمزة الاستفهام وكاف التشبيه لفظ موضوع.

وإن كان اللفظ موضوعاً للكلمة أو منقولاً إليها فتقسيمه إليهما أيضاً ليس بصحيح؛ لأنّ المركّب ك «عبدالله» ليس بلفظ، بل لفظان موضوعان لمعنيين، والمجموع ليس لفظاً، والأمر سهل.

ص: 78

الأمر الثامن : في العلائم التي يمتاز بها المعنى الحقيقي من غيره

اشارة

وليس الكلام مقصوراً على تشخيص المعنى الحقيقي من المجازي في موارد الاستعمال إذا علم مراد المتكلّم وشكّ فيهما حتّى يقال: إنّ اللفظ في المجاز - بناءً على ما سلف(1) - مستعمل في معناه الحقيقي، فالسامع إذا استقرّ ذهنه على المعنى المراد ولم يتجاوز منه إلى غيره، حكم بأ نّه حقيقة، وإن تجاوز إلى غيره حكم بأنّ ذلك الغير مجاز كما قيل(2)،

بل من تلك العلامات أو غالبها عرفنا المعنى الحقيقي ولو لم يكن استعمال أو لم نكن بصدد تشخيص استعمال اللفظ في المعنى الحقيقي أو المجازي.

فلو شككنا في كون لفظ «الماء» موضوعاً لهذا الجسم السيّال المعهود، يكون التبادر طريقاً لإثباته استعمل أو لا، بل ربّما يكون الاستعمال مردّداً بين الحقيقة

والغلط لا المجاز.

ص: 79


1- تقدّم في الصفحة 62.
2- نهاية الاُصول: 39.

ثمّ إنّ هذه العلائم ليست علائم للوضع؛ لما قدّمنا(1)

من أنّ الرابطة الحاصلة بين اللفظ والمعنى بكثرة الاستعمال حتّى صار حقيقة فيه ليست وضعاً، فتلك العلائم للربط الخاصّ بينهما أعمّ من كونه حاصلاً بالوضع أو بكثرة الاستعمال.

التبادر

ليس المراد منه ما [يفهم] من لفظه؛ أي سبق المعنى بالنسبة إلى معنىً آخر في الذهن أو سرعة حصوله فيه(2)،

بل المراد منه هو حصول المعنى من اللفظ في الذهن وظهور اللفظ بنفسه فيه من غير قرينة، وهو من علائم الربط المعهود.

وقد استشكل عليه بوجوه، عمدتها الدور المعروف(3).

وقد أجاب عنه بعض المحقّقين: بأ نّه لاوجه للإشكال بالدور؛ فإنّ العلم

المستفاد بالتبادر غير العلم الذي يتوقّف عليه التبادر حتّى لو قلنا بتوقّفه على العلم التفصيلي؛ لاختلاف الموقوف والموقوف عليه بالشخص، وهو يكفي في رفع الدور، ولا شبهة في مغايرة العلم الشخصي الحاصل بالتبادر مع العلم الشخصي الذي يتوقّف عليه التبادر(4)،

انتهى.

ولا يخفى ما فيه؛ لأنّ العلم بالشيء هو الكشف عنه، ولا يعقل الكشف

ص: 80


1- تقدّم في الصفحة 18.
2- كفاية الاُصول: 33.
3- اُنظر هداية المسترشدين 1: 227؛ الفصول الغروية: 33 / السطر 22 - 24؛ كفاية الاُصول: 33.
4- بدائع الأفكار (تقريرات المحقّق العراقي) الآملي 1: 97.

التفصيلي في حال واحد عن شيء واحد مرّتين، فمع العلم التفصيلي بأنّ اللفظ الكذائي معناه كذا لا يعقل أن يكون التبادر موجباً لحصول مصداق آخر منه في هذا الحال كما هو المفروض، ومع الذهول عن التفصيل يرجع إلى الارتكاز، والظاهر وقوع الخلط بين الصور الحاصلة في الذهن - أي المعلوم بالذات - وبين الكشف عن الواقع - أي المعلوم بالعرض - فما يتكرّر هو الأوّل، وما يتوقّف عليه هو الثاني.

والحقّ في الجواب عن الدور ما هو المعروف: من أنّ العلم التصديقي التفصيلي بأنّ هذا اللفظ وضع لهذا المعنى يتوقّف على التبادر، وهو لا يتوقّف على هذا العلم التصديقي المحتاج إلى تصوّر الموضوع والمحمول(1).

في طرق إحراز كون التبادر من حاقّ اللفظ

ثمّ إنّه إذا علم أنّ التبادر كان من نفس اللفظ من غير قرينة فهو، وإلاّ فهل لإثباته طريق يمكن أن يتّكل عليه؟

ربّما يقال: إنّ الاطّراد طريق تشخيص نحو الانسباق وإحرازه، فإن كان انسباق المعنى مطّرداً أحرزنا كونه مستنداً إلى الوضع(2).

وفيه: أنّه إن اُريد منه أنّ الاطّراد يوجب العلم بذلك، فمع ممنوعيته خروج عن محطّ البحث، وإن اُريد أنّه مع عدم العلم منه يكون طريقاً شرعياً أو عقلائياً عليه فهو - أيضاً - ممنوع: أمّا الشرعي فواضح، وأمّا العقلائي فهو

ص: 81


1- هداية المسترشدين 1: 227؛ الفصول الغروية: 33 / السطر 28؛ كفاية الاُصول: 33.
2- بدائع الأفكار (تقريرات المحقّق العراقي) الآملي 1: 97.

كذلك؛ لعدم بناء العقلاء على إثبات الوضع به.

فالتبادر مع اطّراده في صورة الشكّ في كونه لقرينة مشهورة عامّة بين المتخاطبين لا يثبت به الربط المعهود.

كما أنّ أصالة عدم القرينة الراجعة إلى عدم اعتناء العقلاء باحتمالها حجّة عقلائية على المراد بعد العلم بالمعنى الحقيقي، لا على إحرازه مع الشكّ فيه(1).

صحّة الحمل

والتحقيق: أنّ صحّة الحمل لا تكون علامة، لا الأوّلي منه ولا الشائع؛ لأنّ الاستشهاد إمّا أن يكون بصحّته عنده أو عند غيره:

فعلى الأوّل: يتوقّف التصديق بصحّة الحمل على التصديق بكون اللفظ بما له من المعنى الارتكازي متّحداً مع المعنى المشكوك فيه، ومع هذا لا يبقى شكّ حتّى يرفع بصحّة الحمل.

وبعبارة اُخرى: أنّ التصديق بصحّة الحمل الأوّلي يتوقّف على العلم باتّحاد المعنى مع اللفظ بما له من المعنى الارتكازي مفهوماً، وهذا عين التصديق بوضع اللفظ للمعنى، فلا مجال لتأثير صحّة الحمل في رفع الشكّ.

وعلى الثاني: فلا يمكن الكشف عن كونه حملاً أوّلياً إلاّ مع تصريح الغير به، فيرجع إلى تنصيص أهل اللسان، لا صحّة الحمل أو العلم بوحدة المفهومين، فعاد المحذور السابق.

وأمّا الحمل الشائع فلمّا كان على قسمين: بالذات وبالعرض، فمع الترديد

ص: 82


1- راجع قوانين الاُصول 1: 14 / السطر 18؛ كفاية الاُصول: 33 - 34.

بينهما لا يمكن الكشف، ومع التميّز عاد المحذور المتقدّم؛ فإنّ العالم بأنّ الحمل بالذات عالم بالوضع للطبيعة المحمولة قبل الحمل.

صحّة السلب

وممّا ذكرنا يعرف حال صحّة السلب؛ فإنّ العلم بصحّته يتوقّف على العلم باختلافهما؛ ومعه لا شكّ حتّى يرفع، والأمر كذلك في عدم صحّة السلب.

وما قيل: من أنّ صحّة الحمل والسلب الارتكازيين موجبة للعلم التفصيلي كما في التبادر(1)، ليس بشيء؛ لأنّ الملتفت إلى المقصد - المستشهد بصحّة الحمل أو السلب للوضع - لا يمكن أن يكون غافلاً عن مقصده، ومع توجّهه إليه يفصّل الأمر لديه قبل تصديق صحّة الحمل والسلب.

وقد يفصّل بين الحمل المتداول بين اللغويين، كحمل أحد اللفظين المترادفين بما له من المعنى على الآخر، وبين الحمل المستعمل في الحدود، كحمل الإنسان على الحيوان الناطق، فيقال: إنّ الاستكشاف لا يمكن في الثاني؛ لامتناع أن يكون المفهوم المركّب المفصّل هو مفهوم لفظ مفرد(2).

وفيه: أنّ المفهوم المفصّل حاكٍ عن الماهية البسيطة، والشكّ في وضع اللفظ لها لا له، والتفصيل في الحدّ لا المحدود، والشكّ في المحدود لا الحدّ، فلا إشكال من هذه الجهة.

وقد يقال: إنّ العلامة في المقام إنّما هي صحّة السلب وعدمها، لا بمعنى

ص: 83


1- الفصول الغروية: 37 / السطر 33؛ كفاية الاُصول: 34.
2- بدائع الأفكار (تقريرات المحقّق العراقي) الآملي 1: 99.

صحّة سلب اللفظ بما له من المعنى، بل المراد صحّة سلب المعنى عن اللفظ بما هو لفظ وعدمها؛ فإنّ اللفظ لمّا كان فانياً في المعنى وصار وجوداً لفظياً له تنفر الطباع عن سلبه عنه، بل تراه كسلب الشيء عن نفسه، ولا تنفر عن سلبه عن غير معناه(1).

وأنت خبير بما فيه من الخلط؛ فإنّ اللفظ بما أنّه لفظ يصحّ سلبه عن معناه،

وما لا يصحّ سلبه عنه وينفر الطبع منه هو اللفظ بما هو مرآة المعنى؛ أي بما له من المعنى، فعاد المحذور السابق.

الاطّراد وعدمه

وفي تقريرهما وجوه:

منها: أنّه إذا اطّرد إطلاق لفظ على أفراد كلّي يكشف ذلك عن علاقة الوضع بينه وبين الكلّي؛ لعدم الاطّراد في علائق المجاز، كما أنّ عدمه يكشف عن عدمها؛ إذ معها يطّرد، وإلاّ يلزم تخلّف المعلول عن علّته(2).

والتحقيق: أنّ الإشكال المتقدّم في صحّة السلب والحمل وارد عليه؛ لأنّ المراد باطّراد الإطلاق: إن كان الاستعمال في الأفراد بخصوصياتها، فهو مع العلاقة مجاز، ومع عدمها غير صحيح.

وإن كان المراد منه صحّة تطبيق المعنى المستفاد من اللفظ ارتكازاً على الأفراد فيرجع إلى صحّة الحمل وما بحكمه، فلا بدّ من تقدّم العلم بأنّ اللفظ

ص: 84


1- نهاية الاُصول: 41.
2- نهاية الدراية 1: 84.

بما له من المعنى قابل للانطباق على الأفراد، وهو لا يحصل إلاّ بالتبادر، وكذا في عدم الاطّراد.

ومنها: أنّه لا بدّ في المجاز من مصحّح الادّعاء، ومن حسنه بعد استعمال اللفظ فيما وضع له، كما تقدّم في المجاز(1)، وحسن الادّعاء ومصحّحه لا يطّردان حتّى في صنف العلائق، وأمّا الحقيقة فتطّرد؛ لتوقّفها على مجرّد الوضع، فالأوّل علامة المجاز، والثاني علامة الحقيقة(2).

وفيه: أنّ العلم بحسن الادّعاء ومصحّحه، والعلم بصحّة الاستعمال مطّرداً، متوقّفان على فهم المعنى الموضوع له وغيره.

وبالجملة: لا نرى غير التبادر علامة للوضع، وغيرها يرجع إليه أو مسبوق به، كما يظهر بالتأمّل.

ص: 85


1- تقدّم في الصفحة 62.
2- نهاية الاُصول: 42 - 43.

الأمر التاسع : في تعارض الأحوال

اشارة

قد ذكر في باب تعارض الأحوال(1) مرجّحات ظنّية لا دليل على اعتبارها، والمتّبع لدى العقلاء هو الظهور، فإن حصل للّفظ فهو، وإلاّ فلا يتّبع.

نعم، يقع الكلام في أنّ ما لدى العقلاء هو أصالة الظهور، أو أصالة عدم القرينة، أو أصالة الحقيقة. والفرق بينها: أنّه لو بنينا على الاُولى لاتّبعنا الظهور ولو كان في الكلام ما يحتمل القرينية، لكن لا يكون بحيث يصادم ظهور ذي القرينة بخلاف ما لو صادم، ولو بنينا على أصالة الحقيقة تعبّداً لحمل على الحقيقة معه أيضاً، ولو بنينا على أصالة عدم القرينة لم يكن حجّة؛ لعدم جريانها لدفع احتمال قرينية الموجود، والتفصيل في محلّه(2).

ص: 86


1- هداية المسترشدين 1:290؛ الفصول الغروية: 40 / السطر 7؛ قوانين الاُصول 1: 32 / السطر 9؛ تقريرات السيّد المجدّد الشيرازي 1: 175.
2- راجع أنوار الهداية 1: 193.

الأصل في صورة دوران الأمر بين النقل وغيره

ثمّ إنّه قد ذكر في دوران الأمر بين النقل وغيره أنّ المعوّل [عليه] أصالة عدمه، وهي أصل عقلائي حجّة مع مثبتاته.

والتحقيق: أنّ المتيقّن من بناء العقلاء هو عدم الاعتناء بالشكّ في أصل النقل.

وهل المعوّل عليه عندهم هو الاستصحاب العقلائي، أو عدم رفع اليد عن الظهور الثابت بمجرّد الاحتمال؟

وجهان: أوجههما الثاني؛ لعدم التفات العقلاء إلى جرّ العدم، مع أنّ الاستصحاب العقلائي مطلقاً ممّا لا أصل له.

نعم، قد يكون الشيء بحيث تطمئنّ النفس ببقائه، ويكون الاحتمال المخالف لضعفه غير معتدّ به، وهو غير الاستصحاب، ولو اُريد به ذلك فلا مشاحّة فيه.

الأصل في صورة الشكّ في تقدّم النقل على الاستعمال وتأخّره عنه

هذا، وأمّا مع العلم بالنقل والشكّ في تقدّمه على الاستعمال وتأخّره عنه، فالظاهر عدم بناء العقلاء على التعويل على أصالة عدم النقل ولو مع العلم بتأريخ الاستعمال، ولا أقلّ من عدم إحرازه.

وما أفاد شيخنا العلاّمة: من أنّ الوضع السابق عندهم حجّة، فلا يرفعون اليد عنها إلاّ بعد العلم بالوضع الثاني(1).

ففيه: أنّ الوضع بما هو ليس بحجّة بل الظهور حجّة، ومع العلم بالوضع

ص: 87


1- درر الفوائد، المحقّق الحائري: 47.

الثاني والشكّ في التقدّم والتأخّر لا ينعقد للكلام ظهور، والأصل المذكور لا يوجب انعقاده. مضافاً إلى أنّ لازم ما ذكر عدم رفع اليد عن الوضع الأوّل إلاّ مع العلم بتأخّر الاستعمال عن الوضع الثاني، لا مع العلم بالوضع، وإلاّ فهو حاصل، فحينئذٍ لا معنى للفرق بين أقسام مجهول التأريخ؛ لعدم العلم بنقض الوضع الثاني للوضع الأوّل حال الاستعمال.

وممّا ذكرنا يظهر النظر في كلام بعض أجلّة العصر رحمه الله علیه حيث تشبّث بأصالة عدم النقل في ظرف الاستعمال مع العلم بتأريخه لإحراز استعمال اللفظ في المعنى الأوّل؛ لحجّية مثبتاتها، وحكم بلزوم التوقّف فيما علم تأريخ النقل وجهل تأريخ الاستعمال؛ فإنّه ليس للعقلاء بناء عملي على عدم الاستعمال. وكذا في مجهولي التأريخ؛ لعدم جريان الأصلين؛ لأنّ المانع في جميع صور مجهولي التأريخ هو عدم إمكان إحراز موضوع الأثر بالأصل؛ لأنّ أصل العدم مطلقاً مفاده جرّ العدم في أجزاء الزمان، لا إثباته بالإضافة إلى أمر آخر، وعليه لا يمكن إثبات عدم الوضع في حال الاستعمال بالأصل وإن كان عقلائياً؛ لأنّ نفس القيد - أي الاستعمال - مشكوك فيه، فلا يمكن إحراز موضوع الأثر بالأصل وإن أمكن إحراز التقيّد والمقارنة به، وإنّما بنينا على صحّة الأصل مع كون الاستعمال معلوم التأريخ؛ إذ بالأصل والوجدان يتحقّق موضوع الأثر.

نعم، لو كان مفاد الأصل جرّ العدم بالإضافة إلى أمر آخر لأمكن إحراز الموضوع في المقام، لكنّه خلاف التحقيق(1)،

انتهى ملخّصاً.

ص: 88


1- بدائع الأفكار (تقريرات المحقّق العراقي) الآملي 1: 103 - 104.

وفيه وجوه من النظر:

منها: أنّ أصل عدم النقل إن كان الاستصحاب العقلائي - كما يظهر منه - فأركانه موجودة في جميع الصور، فمع الشكّ في تأخّر الاستعمال مع العلم بتأريخ الوضع يستصحب عدم الاستعمال إلى حال الوضع، وبما أنّه أصل عقلائي أمارة على الواقع يثبت به تأخّر الاستعمال عن الوضع، ويحرز كون الاستعمال في المنقول إليه مع العلم بهجر الوضع الأوّل في حال الوضع الثاني؛ للّزوم العقلي بعد الدوران بينهما، وكذا الحال في مجهولي التأريخ.

ودعوى عدم بناء عملي على عدم الاستعمال، كدعوى عدم إمكان إحراز موضوع الأثر، كما ترى بعد تمامية أركان الاستصحاب وكونه أمارة أو مثلها في إثبات اللوازم.

وما قد يتوهّم - من أنّ النقل لندرته يجري فيه الأصل دون الاستعمال - واضح البطلان؛ لأنّ النادر أصل النقل لو سلّم، والكلام في تقدّمه وتأخّره بعد العلم بتحقّقه.

ومنها: أنّ إجراء أصالة العدم في عمود الزمان؛ إن لم يثبت نفس الاستعمال لا يثبت استعمال اللفظ في المعنى الأوّل أيضاً؛ فإنّه أمر حادث بمنزلة نفس القيد، وما يكون محرزاً بالوجدان أصل الاستعمال، لا الاستعمال في المعنى الأوّل، فإن يثبت به ذاك يثبت ذلك أيضاً، كما هو الحقّ على فرض جريانها؛ لأ نّه من اللوازم العقلية.

هذا، مع أنّ أصل الاستعمال وجداني في كلتا الصورتين، والمستعمل فيه

ص: 89

مشكوك فيه في كلتيهما، فاستصحاب عدم الوضع إلى زمان الاستعمال جارٍ في كلتيهما.

ولو قيل: إنّ استصحاب العدم هو جرّ العدم فقط لا إلى كذا، فهو مع بطلانه لازمه عدم الإنتاج في الصورة الاُولى أيضاً؛ لأنّ جرّ العدم مطلقاً إذا لم يكن إلى زمان الاستعمال الوجداني لا ينتج شيئاً، وإذا جرّ إلى الزمان المعلوم يمكن جرّه إلى الزمان المعيّن واقعاً المجهول عندنا.

ومنها: أنّ ما ذكره - من إحراز الأصل والوجدان موضوعَ الأثر في الصورة الاُولى - غريب؛ لأنّ عدم النقل ونفس الاستعمال ليسا في شريعة موضوعاً لأثر، وما هو الموضوع هو ما يثبت بالاستعمال؛ أي المعنى المراد، ولو سلّم ذلك فلا تفترق الصورتان - أيضاً - لما أشرنا إليه، فتدبّر.

ص: 90

الأمر العاشر : في الحقيقة الشرعية

اختلفوا في ثبوت الحقيقة الشرعية(1)، والحقّ أنّ المراجع للكتاب والسنّة، يطمئنّ بأنّ هذه الألفاظ من لدن أوّل البعثة استعملت في تلك المعاني من غير احتفافها بالقرينة، ودعوى القرائن الحالية(2) كما ترى، هذا هو القرآن

المجيد، ترى قوله في سورة المزّمّل المكّية النازلة - على المحكيّ(3) - في أوائل البعثة: )وَأَقِيمُوا الصَّلَوةَ وَآتُوا الزَّكَوةَ وَأَقْرِضُوا الله قَرْضاً حَسَناً((4)، وقوله في المدّثّر المكّية كذلك: )قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ((5)، وقوله في القيامة المكّية: )فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صَلَّى((6)، وفي الأعلى المكّية: )وَذَكَرَ اسْمَ

ص: 91


1- راجع هداية المسترشدين 1: 412 - 413.
2- معالم الدين: 38.
3- مجمع البيان 10: 568.
4- المزّمّل (73): 20.
5- المدّثِّر (74): 43.
6- القيامة (75): 31.

رَبِّهِ فَصَلَّى((1)، وفي العلق المكّية: )أَرَأَيْتَ الَّذِى يَنْهَى * عَبْداً إِذَا صَلَّى((2)...

إلى غير ذلك من المكّيات، فضلاً عن المدنيات.

فلا إشكال في أنّ نوع ألفاظ العبادات كانت مستعملة في عصر النبي صلی الله علیه و آله وسلم في المعاني المعهودة، وكان المخاطبون يفهمونها منها من غير قرينة، وأمّا في لسان التابعين ومن بعدهم فالأمر أوضح من أن يذكر.

وأمّا الوضع التعييني بمعنى التصريح بالوضع، فهو أيضاً واضح البطلان، فمن يرى طريقة المسلمين وحرصهم على حفظ سيرة النبي صلی الله علیه و آله وسلم وجزئيات حياته - حتّى كيفية نومه ومشيه وقيامه وقعوده وأكله وشربه وشمائله ممّا لا ربط له بالتشريع - ليقطع بأ نّه لو صرّح بوضع لفظة واحدة لنقل، فضلاً عن وضع جميع الألفاظ أو نوعها.

وأمّا الوضع بالاستعمال فليس بذلك البعد بعد إمكانه بل وقوعه.

وما يقال: من أنّ الاستعمال إفناء اللفظ في المعنى، ومعه لا يمكن الوضع به؛ للزوم الجمع بين اللحاظ الآلي والاستقلالي(3).

ففيه: أنّ كونه كذلك مطلقاً ممنوع، فإمكان لحاظ اللفظ في حال الاستعمال وجداني واضح. نعم، كثيراً ما يكون اللافظ غير ملتفت إلى ألفاظه. وأمّا مع تسليم كون الاستعمال كذلك فالظاهر امتناع الوضع به.

إلاّ أن يقال: إنّه كناية عن الوضع وجعل الملزوم بجعل لازمه من غير توجّه

ص: 92


1- الأعلى (87): 15.
2- العلق (96): 9 - 10.
3- أجود التقريرات 1: 49.

إلى الجعل حين الاستعمال وإن التفت إليه سابقاً أو بنظرٍ ثانوي، وهذا المقدار كافٍ في الوضع. وهو أيضاً مشكل مخالف للاستعمال الكنائي.

أو يقال: إنّ المستعمل شخص اللفظ والموضوع طبيعيّه، فلا يجتمع اللحاظان في شيءٍ واحد، فجعل الاستعمال كناية عن وضع طبيعي اللفظ للمعنى، وهو كافٍ في الوضع وإن [كان] لا يكفي في العقود والإيقاعات نوعاً أو جميعاً، والأمر سهل.

لكن إثبات أصل الوضع ولو بهذا النحو، موقوف على إثبات كون العبادات أو هي مع المعاملات من مخترعات شرعنا، ولم تكن عند العرب - المتشرّعة في تلك الأزمنة - ألفاظها مستعملةً في تلك الماهيات ولو مع اختلاف في الخصوصيات، وأنّى لنا بإثباته؟!

ولو عُلم إجمالاً باختراع بعض العبادات في هذه الشريعة، لم يثمر فيما نحن بصدده، وأمّا المعاملات فالعلم بالاختراع [فيها] ولو إجمالاً غير حاصل حتّى في مثل الخلع والمباراة. نعم، لا يبعد كون المتعة مخترعة، لكنّها أيضاً نحو من النكاح، وليست ماهية برأسها.

وبالجملة: ليست لهذا البحث ثمرة واضحة، وما ذكر من الثمرة(1) فرضية،

وإلاّ فالاستعمالات الواردة في مدارك فقهنا إنّما هي في هذه المعاني التي عندنا الآن، كما يقطع به المراجع. وأمّا الاستدلالات التي تشبّث بها القوم في إثبات المرام فمخدوشة لا تفيد شيئاً.

ص: 93


1- معالم الدين: 35؛ كفاية الاُصول: 37؛ درر الفوائد، المحقّق الحائري: 46.

الأمر الحادي عشر : في المبحث المعروف بالصحيح والأعمّ

اشارة

ونذكر قبل المقصد مقدّمات:

المقدّمة الاُولى : في اختلاف كلماتهم في عقد البحث

اختلفت تعبيراتهم في طرح هذا البحث: فقد يعبّر عنه بأنّ ألفاظ العبادات هل هي موضوعة للصحيحة أو الأعمّ منها(1)؟

فيخرج الاختصاص الحاصل بالتعيّن؛ لما عرفت(2)

من أنّه ليس بوضعٍ، فضلاً عن الاستعمالات المجازية ومذهب الباقلاني(3)،

فلا بدّ من إدخالها بالمناط.

وقد يعبّر عنه بأ نّها أسامٍ لها أو له(4)، فيدخل الاختصاص التعيّني فيه

دون البقيّة.

ص: 94


1- بدائع الأفكار، المحقّق الرشتي: 128 / السطر 3؛ درر الفوائد، المحقّق الحائري: 47.
2- تقدّم في الصفحة 18.
3- شرح العضدي على مختصر ابن الحاجب: 51 - 52.
4- قوانين الاُصول 1: 40؛ الفصول الغروية: 46 / السطر 14؛ كفاية الاُصول: 38.

ويمكن أن يعبّر عنه بأنّ الأصل في استعمال الشارع ماذا؟ فيدخل فيه الجميع حتّى المجاز بناءً على ما قوّينا(1)

من كونه استعمالاً فيما وضع له، والدعوى في تطبيق المعنى على المصداق، فيقال: هل الأصل هو ادّعاء هذه أو هذا؟ فما يقال من لغوية البحث بناءً عليه، ليس بشيء(2).

بل يمكن جريان البحث المثمر على مذهب الباقلاني - من غير ورود ما أورده عليه بعض المدقّقين من أهل العصر؛ حيث قال: «إنّ القرينة إن دلّت على جميع ما يعتبر في المأمور به فلا شكّ ليتمسّك بالإطلاق، وإن دلّت عليها بنحو الإهمال فلا إطلاق لفظي، والإطلاق المقامي جارٍ على كلا القولين»(3) - بأن يقال: هل الأصل في القرينة الدالّة على الأجزاء والشرائط هو إقامة القرينة المجملة على ما ينطبق عليها، فلا يجوز التمسّك بالإطلاق، أو عليه فيجوز؟

المقدّمة الثانية : في الإشكال على التعبير عن المبحث بالصحيح والأعمّ

لا أرى لعقد البحث ب «أنّ الألفاظ موضوعة للصحيحة أو الأعمّ منها» وجهاً معقولاً إلاّ سهولة التعبير عن الشيء بلازمه في الوجود، وهو أيضاً غير تامّ.

توضيحه: أنّه لا إشكال في أنّه ليس نزاعهم في أنّ الصلاة مثلاً، هل هي

ص: 95


1- تقدّم في الصفحة 62.
2- بدائع الأفكار (تقريرات المحقّق العراقي) الآملي 1: 109.
3- بدائع الأفكار (تقريرات المحقّق العراقي) الآملي 1: 110.

موضوعة لمفهوم الصلاة المتقيّد بمفهوم الصحّة؟ حتّى يكون الموضوع له هي الصلاة الصحيحة بالحمل الأوّلي.

كما أنّ الالتزام بكون النزاع في وضعها للصحيحة بالحمل الشائع، غير ممكن:

أوّلاً: للزوم كون الوضع فيها عامّاً والموضوع له خاصّاً؛ لأنّ ما هو الصحيح بالحمل الشائع هي الصلاة الخارجية التي يتصادق عليها العنوانان، وإلاّ فكلّ عنوان يباين الآخر في المفهومية، وهم لا يلتزمون بذلك، والالتزام بالجامع الخارجي قد سبق(1)

دفعه وامتناعه.

وثانياً: أنّ الصحيح بالحمل الشائع، هو الجامع لجميع الأجزاء والشرائط حتّى ما يتأتّى من قبل الأمر، وغيره باطل فاسد بذاك الحمل، مع خروج مثلها عن محطّ البحث، كخروج ما يتأتّى من قِبل النهي في العبادة، أو اجتماع الأمر والنهي مع تقديم جانب النهي على القول بإيجابه الفساد.

والقول بأنّ الصحّة أمر إضافي فيكون الشيء صحيحاً بملاحظة الأجزاء، فاسداً بملاحظة الشرائط(2)،

مع عدم مساعدة العرف واللغة [عليه]، لا يدفع به الإشكال؛ لأنّ الأجزاء مع فقد الشرائط لا تقع صحيحة، فلا الماهية صحيحة ولا أجزاؤها الفاقدة للشروط، فأين الصحّة حتّى تنسب إلى الماهية بالعرض والمجاز؟!

ص: 96


1- تقدّم في الصفحة 22.
2- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 60.

وعلى فرضها يكون الانتساب إلى نفس الماهية مجازاً، وهو كما ترى، كالالتزام بالصحّة التعليقية؛ أي إذا ضمّ إليها سائر الشرائط.

وتوهّم اصطلاح خاصّ للاُصولي في الصحّة والفساد قبال العرف واللغة فاسد لا يلتزم به أحد.

ولعلّ هذه الشبهة ألجأتهم إلى التزام كون الصحّة بمعنى التمامية(1)،

الظاهر منهم أنّ المفهومين متساوقان عرفاً ولغة، وأنّ بين الصحّة والفساد تقابل عدم وملكة.

وهو غير جيّد؛ لعدم مساعدتهما عليه، بل الصحّة والفساد كيفيتان وجوديتان عارضتان للشيء في الوجود الخارجي، فيقال للشيء الموجود المتّصف بكيفية ملائمة لطبيعته النوعية: إنّه صحيح سالم، وللمتّصف بكيفية منافرة لها: إنّه فاسد. ويشبه أن يكون إطلاقهما على الماهيات الاعتبارية بنحو من التوسّع؛ فإنّ لتلك الماهيات وراء الأجزاء هيئة اعتبارية اتّصالية أو وحدة اعتبارية لأجلها يقال: «قطع صلاته» و«أفطر صومه» فيدّعى لأجل فقد شيء معتبر فيها عروض الفساد لها كالموجود الخارجي الذي عرض له الفساد، وكذلك في الصحّة.

وأمّا التمام والنقص فيطلقان [عليه] باعتبار جامعيته للأجزاء والشرائط وعدمها، فإن اُطلقا على الكيفيات والحقائق البسيطة فباعتبار لحاظ الدرجات فيها، فيقال للوجود والنور: إنّهما تامّان وناقصان، فالإنسان الذي ليس له عين أو يد، ناقص لا فاسد.

ص: 97


1- بدائع الأفكار، المحقّق الرشتي: 132 / السطر 7؛ كفاية الاُصول: 39.

فمفهوم النقص والتمام يخالفان الصحّة والفساد وبينهما تقابل العدم والملكة، كما أنّ بين الصحّة والفساد تقابل التضادّ، كما أنّ التمام والنقص إضافيان؛ بمعنى أنّ الجامع للأجزاء دون الشرائط تامّ بحسب الأجزاء ناقص بحسب الشرائط، لا مطلقاً.

فمن اشتهى أن يبقي عنوان البحث على حاله فلا بدّ له من الالتزام باستعمال الصحّة والفساد في التامّ والناقص مجازاً بنحو المشهور - أي استعمال اللفظ الموضوع لمفهوم في مفهوم آخر - ثمّ يجري على المنوال المعهود، مع أنّ هذا الإطلاق أشبه بالغلط من المجاز؛ لعدم العلاقة بين المفهومين، واتّحاد مصداقهما خارجاً لا يصحّح العلاقة.

ولعمري إنّه لا موجب لهذه التكلّفات الباردة، ولا ملزم لإبقاء العنوان على حاله، فالأولى أن يقال في عنوان البحث: «في تعيين الموضوع له في الألفاظ المتداولة في الشريعة» أو «في تعيين المسمّى لها» أو «في تعيين الأصل في الاستعمال فيها»، على اختلاف التعبيرات فيها كما مرّ.

المقدّمة الثالثة : في تعيين محلّ النزاع

قد ادّعى بعضهم أنّ محلّ النزاع هو الأجزاء مطلقاً والشرائط التي اُخذت في متعلّق الأمر، كالستر والقبلة والطهور، دون ما يأتي من قِبله، كقصد الأمر والوجه ممّا لا يمكن أخذه في المتعلّق، ودون الشرائط العقلية،

ص: 98

كاشتراط كونه غير مزاحم بضدّه الأهمّ أو غير منهيّ عنه(1).

وقد يدّعى عدم إمكان دخولهما فيه، لتأخّر رتبتهما عن رتبة المسمّى؛ لأنّ تعيين المسمّى مقدّم على الطلب المتقدّم على قصده وقصد وجهه، وكذا مقدّم على ابتلائه بالضدّ أو تعلّق النهي به(2).

بل قد يقال: إنّ النزاع مقصور على الأجزاء؛ لأنّ رتبة الشرائط متأخّرة عنها، فلا يمكن جعلهما في رتبة واحدة عند التسمية(3).

والحقّ إمكان جريان النزاع في جميع الشرائط: أمّا عند من يرى جواز أخذ ما لا يتأتّى إلاّ من قِبل الأمر في المتعلّق(4) فواضح؛ لتقدّم رتبة المسمّى على الطلب، وأمّا مع القول بامتناعه(5)

فلإمكان دعوى كون المسمّى غير ما يتعلّق به الطلب، وكون رتبته مقدّمة على الطلب أوّل الكلام.

وأمّا حديث عدم إمكان تسوية الأجزاء والشرائط في الرتبة فظاهر الفساد؛ لأنّ الاجتماع في التسمية غير الاجتماع في الرتبة في الواقع، والمحال هو الثاني، واللازم هو الأوّل.

وقد يقال في جواب هذا الإشكال - بل الإشكال المتقدّم - بإمكان الوضع

ص: 99


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 60 - 61.
2- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 61.
3- نهاية الأفكار 1: 76.
4- كما هو مختاره قدس سره وسيوافيك في مبحث التعبّدي والتوصلي في الصفحة 201 وما بعدها.
5- كفاية الاُصول: 95؛ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 150؛ نهاية الأفكار 1: 188.

لنفس الأجزاء المقترنة بالشرائط؛ أعني لتلك الحصّة من مطلق الأجزاء، فيجري فيها النزاع، فيقول الصحيحي: إنّ اللفظ موضوع للحصّة المقترنة بجميع الشرائط، فلا تصدق الصلاة مثلاً مع فقد بعضها، وينكره الأعمّي(1).

وفيه: أنّ الاقتران إمّا أن يؤخذ على سبيل الشرطية والقيدية، فيعود المحذور، أو على سبيل الحينية فلا تدخل في المسمّى بوجه حتّى لا يصدق الاسم مع فقدها.

فتحصّل ممّا ذكر: إمكان جريان النزاع في جميع الشرائط.

ثمّ بعد إمكانه هل النزاع مقصور على ما قالوا، أو لا؟

الظاهر من كلماتهم في الباب وكيفية استدلالاتهم هو كون النزاع في مطلق الشرائط، كالإشكال على الصحيحي بأ نّه يلزم عليه تكرار معنى الطلب في الأوامر المتعلّقة بها؛ لأنّ الأمر حينئذٍ يرجع إلى الأمر بالمطلوب؛ فيكون المعنى: اُطلب مطلوبي، ويلزم الدور؛ لتوقّف الطلب حينئذٍ على الصحّة، والصحّة على الطلب. والصحيحي لم يدفع الإشكال بأنّ محلّ النزاع غير تلك الشروط، فراجع «الفصول»(2).

بل الاستدلال بوحدة الأثر لكشف وحدة المؤثّر الظاهر منه أنّه هو المسمّى(3)، يؤيّد ما قلنا، بل يدلّ عليه؛ فإنّ المؤثّر هو الصحيح الفعلي، وهو

ص: 100


1- بدائع الأفكار (تقريرات المحقّق العراقي) الآملي 1: 111 - 112.
2- الفصول الغروية: 48 / السطر 14.
3- كفاية الاُصول: 39.

الجامع لجميع الشرائط. وتخيّل كون الدعوى أنّ المسمّى بعض المؤثّر أو المؤثّر الاقتضائي أو التعليقي(1)،

بعيد عن الصواب.

والإنصاف أنّ كلماتهم لا تخلو من تشويش واضطراب.

والتحقيق - بعد ما قلنا من أنّ الصحيح والأعمّ غير دخيلين في النزاع، وإنّما النزاع في مسمّى الألفاظ المستعملة في المعاني - أن يقال: إنّ سنخ الشرائط مختلفة، فبعضها تكون من قيود الماهية المسمّاة؛ بحيث تكون بما هي كذلك منحلّة إلى الأجزاء والتقيّدات، وبعضها تكون من شروط تحقّقها خارجاً - أي صحّتها - لا من قيود نفسها.

فحينئذٍ: يقع النزاع في أنّ الشرائط أيّها من قيود نفس المسمّى؛ بحيث لا يصدق على الفاقد، وأيّها من شروط صحّته؛ حتّى يصدق على الفاقد ولو كان فاسداً مع فقدانه؟

وكلمات القوم مختلفة، لكن يشبه أن يكون مثل قصد الوجه من شروط التحقّق والصحّة، ولا دخالة له في الماهية، ومثل التزاحم والنهي من موانعها غير دخيل فيها، وأمّا الشرائط الاُخر فمورد البحث.

وأمّا الأجزاء فالبحث فيها في أنّها مطلقاً من مقوّمات الماهية أو بعضها من أجزاء الموجود على فرض تحقّقه، كالأجزاء المستحبّة، والمسألة لا تخلو من غموض وإشكال، كتعيين محلّ النزاع.

ص: 101


1- نهاية الأفكار 1: 76 - 77.

المقدّمة الرابعة : في لزوم تصوير الجامع

لا بدّ للصحيحي والأعمّي من تصوير الجامع - بعد وضوح فساد خصوص الموضوع له في الماهيات المعهودة - أو تعدّد الأوضاع بالاشتراك اللفظي، فلا بدّ من بيان ما قيل أو يمكن أن يقال:

فمن الجوامع المتصوّرة للصحيح ما أفاده المحقّق الخراساني رحمه الله علیه قال: «لا إشكال في وجوده بين الأفراد الصحيحة، وإمكان الإشارة إليه بخواصّه وآثاره؛ فإنّ الاشتراك في الأثر كاشف عن الاشتراك في جامع واحد يؤثّر الكلّ فيه بذلك الجامع، فيصحّ تصوير المسمّى بلفظ الصلاة مثلاً ب «الناهية عن الفحشاء» و«ما هو معراج المؤمن» ونحوهما»(1)،

انتهى.

وفيه: - بعد منع كون المقام موضوعاً للقاعدة العقلية، وإنّما موضوعها الواحد من جميع الجهات والحيثيات - أنّه بناءً عليه يلزم أن تكون الصلاة من متكثّر الحقيقة؛ فإنّ «النهي عن الفحشاء»(2) و«معراج المؤمن»(3) و«مقرّب كلّ تقيّ»(4)

ص: 102


1- كفاية الاُصول: 39.
2- إشارة إلى قوله تعالى: «إنَّ الصَّلَوةَ تَنْهَى عَنِ الفَحشَاءِ وَالمُنْكَرِ». العنكبوت (29): 45.
3- إشارة إلى حديث: «الصلاة معراج المؤمن...». الاعتقادات، العلاّمة المجلسي: 39.
4- إشارة إلى حديث: «الصلاة قُربان كلّ تقيّ». الكافي 3: 265 / 6؛ وسائل الشيعة 4: 43، كتاب الصلاة، أبواب أعداد الفرائض، الباب 12، الحديث 1.

و«عمود الدين»(1) اُمور مختلفة، فمع صدورها منها يكون كلٌّ صادراً من حيثية.

مضافاً إلى أنّ النهي عن الفحشاء ليس على ما هو ظاهره، فيرجع إلى كونها دافعة ومانعة عنها، والفحشاء أمر متكثّر، فلا بدّ أن تكون في الصلاة حيثيات، بكلّ حيثية دافعة لواحد منها، مع بعد التزامهم بالجامع الذي له حيثيات متكثّرة حسب تكثّر ما ذكر.

ودعوى كون هذه الاُمور ترجع إلى أمر واحد هو كمال حاصل للنفس يوجب ذلك(2)،

خروج عن الاستدلال بها، وإيكال إلى أمر مجهول من غير بيّنة وبرهان.

وأمّا ما اُورد عليه: من أنّ الملاكات من الدواعي لا الأسباب التوليدية، فلا يصحّ تعلُّق التكليف بها، لا بنفسها ولا بأخذها قيداً لمتعلّق التكليف، فكما لا يصحّ التكليف بإيجاد معراج المؤمن مثلاً، لا يصحّ التكليف بالصلاة المقيّدة بكونها كذلك؛ إذ يعتبر في التكليف أن يكون المكلّف به بجميع قيوده مقدوراً عليه، والملاكات ليست كذلك، فلم تصحّ أن تكون هي الجامع ولا معرّفة وكاشفة عنه؛ بداهة أنّه يعتبر في المعرّف أن يكون ملازماً للمعرّف بوجه(3)،

انتهى بعض كلامه المطوّل.

ص: 103


1- إشارة إلى حديث: «الصلاة عمود الدين». المحاسن: 44 / 60؛ وسائل الشيعة 4: 27، كتاب الصلاة، أبواب أعداد الفرائض، الباب 6، الحديث 12.
2- نهاية الأفكار 1: 84 - 85؛ بدائع الأفكار (تقريرات المحقّق العراقي) الآملي 1: 118 - 119.
3- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 72.

ففيه: أنّ المسمّى هو ذات المكشوف من حيث هي لا مقيّدة بالملاكات، فإذا كان شيء منشأ أثر وحداني أو قائماً به أثر وحداني ممّا يكشف منه وحدة الذات، يمكن أن يشار إليه بهذه الخواصّ والآثار ويوضع اللفظ لنفس المؤثّر أو القائم به المصلحة لا بعنوانهما، فلا يتعلّق التكليف إلاّ به من غير تقييد بالملاك

أو الأثر.

ومنها: ما صوّره بعض المدقّقين من أهل العصر رحمه الله علیه بعد إيراد إشكال على «الكفاية» من بعض محقّقي العصر رحمه الله علیه : من أنّ الجامع العنواني ممكن، لكن لا يلتزم به أحد، والجامع المقولي الذاتي غير ممكن؛ لكون الصلاة مركّبة من مقولات مختلفة، وهي متباينات، ولا جامع فوق الأجناس العالية(1).

فأجاب عنه: بأنّ الجامع لا ينحصر فيهما، بل لنا فرض جامع آخر، هو مرتبة خاصّة من الوجود الجامع بين تلك المقولات المتباينة ماهية، فتكون الصلاة أمراً بسيطاً خاصّاً يصدق على القليل والكثير؛ لكون ما به الاشتراك نفس ما به الامتياز؛ فإنّ الوجود الخاصّ اُخذ لا بشرط، إلى أن قال:

إن قلت: بناءً على هذا يكون مفهوم الصلاة مثلاً، هو تلك الحصّة من الوجود الساري في المقولات المزبورة، وهو فاسد.

قلت: مفهوم الصلاة كسائر مفاهيم الألفاظ منتزع من مطابق خارجي، ولكن عند التحليل نقول: إنّ معنى الصلاة هي الحصّة المقترنة بالمقولات الخاصّة، نحو مفهوم المشتقّ، فإنّه بسيط، وعند التحليل يقال: مركّب من ذات وحدث،

ص: 104


1- نهاية الدراية 1: 98 - 99.

وكمفهوم الإنسان، فإنّه بسيط ينحلّ إلى حيوان ناطق، فاتّضح ممّا تقدّم أنّه يمكن تصوّر جامع بسيط غير عنواني ولا ماهوي، وهو مرتبة من الوجود الساري في جملة من المقولات(1)،

انتهى ملخّصاً.

وأنت خبير بما فيه من الغرائب؛ فإنّ المرتبة من الوجود والحصّة منه إن كانت

هي الوجود الخارجي، فكيف صار وجودات المقولات المختلفة بالذات وجوداً واحداً سارياً؟!

وما معنى هذا السريان والوحدة؟ ولعلّه سمع اصطلاح أهل الذوق في بعض المقامات فاشتهى إيراده هاهنا، ومن له أدنى اُنس باصطلاحاتهم يعلم أنّه أجنبيّ عن مثل المقام.

ثمّ إنّ الوجود الخارجي إذا كان جامعاً ومسمّى بالصلاة، فلازمه تعلّق الأمر إمّا به أو بغير الصلاة، وفسادهما مغنٍ عن البيان، بل لازمه كون الصلاة [أمراً] متجزّئاً ويكون كلّ ما وجد جزءاً منها لا نفسها؛ لأنّ الحصّة الخارجية لا يمكن أن تنطبق على الأفراد انطباق الكلّي على المصاديق.

ثمّ إنّ كونها حصّة من الوجود ينافي ما ذكره أخيراً من أنّ مفهومها كسائر المفاهيم منتزع عن مطابقه الخارجي، إلاّ أن يراد بالحصّة، الكلّي المقيّد، فلا محالة تكون من سنخ المفاهيم، فيكون مفهوم الصلاة مساوقاً لمفهوم الوجود المقيّد الذي لا ينطبق إلاّ على المقولات الخاصّة، وهو واضح البطلان، مع أنّ ذلك هو الجامع العنواني الذي فرّ منه.

ص: 105


1- بدائع الأفكار (تقريرات المحقّق العراقي) الآملي 1: 116 - 118.

ثمّ إنّه قاس الجامع في الصلاة بالكلمة والكلام، فقال: «كما أنّ الجامع بين أفراد الكلمة عبارة عن المركّب من حرفين فما فوق؛ بنحو يكون ذلك المعنى المركّب بشرط شيء من طرف القلّة ولا بشرط من طرف الزيادة، كذلك الجامع بين أفراد الصلاة»(1).

وهو فاسد؛ فإنّ الكلمة عبارة عن لفظ موضوع لمعنىً مفرد، وهذا يصدق على كلّ ما كان كذلك، كان حرفاً واحداً أو حرفين فصاعداً، من غير أن يكون بشرط لا في طرف القلّة ولا بشرط في طرف الكثرة، وليست الصلاة على ما زعمها كذلك.

وبالجملة: لا أرى محملاً صحيحاً لكلامه الذي لا تلتئم أجزاؤه، وإن هذا إلاّ لغموض المسألة وعجزه عن تصوّر جامع معقول.

ومنها: ما ذكره بعض المدقّقين وحاصله: أنّ سنخ المعاني والماهيات بعكس الوجود، كلّما كان الإبهام فيه أكثر كان الإطلاق والشمول فيها أوفر، فإن كانت الماهيات من الحقائق كان إبهامها بلحاظ الطوارئ والعوارض مع حفظ نفسها، وإن كانت من الاُمور المؤتلفة من عدّة اُمور؛ بحيث تزيد وتنقص كمّاً وكيفاً، فمقتضى الوضع لها أن تلاحظ على نحو مبهم في غاية الإبهام بمعرّفية بعض العناوين الغير المنفكّة عنها. فلفظ الصلاة مع الاختلاف الشديد بين مراتبها لا بدّ أن يوضع لسنخ عمل معرّفه النهي عن الفحشاء، بل العرف لا ينتقلون من سماع لفظها إلى سنخ عمل خاصّ مبهم إلاّ من حيث كونه مطلوباً في الأوقات

ص: 106


1- بدائع الأفكار (تقريرات المحقّق العراقي) الآملي 1: 118.

الخاصّة، وهذا غير النكرة؛ فإنّه لم يؤخذ فيه خصوصية البدلية(1)،

انتهى.

وفيه: أنّ الإبهام في نفس الذات لا يمكن إلاّ في الفرد المردّد ونحوه، فلا بدّ وأن تكون الصلاة شيئاً متحصّلاً في مقام ذاته؛ تخلّصاً عن كونها من قبيل الفرد المردّد، ويعرضها الإبهام باعتبار العوارض والطوارئ، فحينئذٍ نسأل عن ذلك الجامع المعيّن هل هو من العناوين الخارجية أو من المقولات؟ وكلاهما فاسدان كما اعترف به(2)،

بل لا تنحلّ العقدة بما ذكره لو لم نقل إنّه نحو مصادرة.

وبالجملة: أنّ ماهية الصلاة تقال على الأفراد بالتواطؤ، فلا بدّ لها من جامع صادق عليها يكون في ذاته أمراً متعيّناً ولو بالاعتبار، ويعرضه الإبهام بلحاظ الطوارئ.

ولعلّ ما ذكره يرجع إلى ما سنذكره بعد مقدّمة، وهي أنّ محطّ البحث للأعلام إنّما هو تصوير جامع كلّي قابل للانطباق على الأفراد المختلفة كيفية وكمّية، فمرتبة فرض الجامع مقدّمة على عروض الفساد والصحّة عليه؛ لما عرفت(3) من

أنّهما من عوارض وجود العبادات خارجاً، وأنّهما ليسا من الاُمور الإضافية؛ بحيث يكون ماهية صحيحة من حيثية وفاسدة من اُخرى.

نعم، ربّما توجد ماهية من الطبائع الحقيقية يكون بعضها فاسداً بقول مطلق وبعضها صحيحاً كذلك، كبطّيخ نصفه فاسد، لكن هذا غير ممكن للصلاة وأمثالها،

ص: 107


1- نهاية الدراية 1: 101 - 102.
2- نهاية الدراية 1: 98 - 100.
3- تقدّم في الصفحة 97.

فالصلاة الموجودة مع فقدان شرط أو وجود مانع، فرد من الصلاة، وعرضه الفساد في الخارج لا الصحّة، ولا يكون صحيحاً من حيث وفاسداً من حيث.

فحينئذٍ: بعد كون بعض الشرائط الدخيلة في الصحّة خارجاً عن محطّ البحث، فلا محالة تكون الماهية الموضوعة لها لفظة «الصلاة» ما إذا وجدت في الخارج مجرّدة عن تلك الشرائط الخارجة عن محطّ البحث تقع فاسدة لا صحيحة، فلا يكون نزاعهما في وضعها للصحيحة أو الفاسدة؛ لتسالمهم على عدم الوضع للماهية المتقيّدة بمفهوم الصحّة، وعدم إمكان الوضع لماهية ملازمة لها من حيث تقرّر الماهية؛ لأنّ مفهوم الصحّة وحقيقتها غير لازمين للماهية - وهو واضح - ولا لماهية إذا وجدت في الخارج تكون صحيحة؛ لخروج بعض الشروط الدخيلة في الصحّة عن محطّ البحث كما تقدّم(1)، فلا تكون الماهية الموضوعة لها ملازمة في الخارج مع الصحّة(2).

وإرجاع النزاع إلى أنّ الصحيحي يقول: إنّ اللفظ موضوع لماهية إذا لحقت بها تلك الشروط تقع صحيحة والأعمّي ينكره، لا يرجع إلى محصّل.

فالأولى إلقاء لفظي الصحيح والأعمّ، ويقال: هل لفظ الصلاة - مثلاً - موضوع لماهية تامّة الأجزاء والشرائط الكذائية أو ما هو ملازم لها، أو لا؟ ولعلّ نظر القوم إلى ذلك، وتخلّل لفظ الصحيح والأعمّ لإفادة المقصود في أبواب العبادات والمعاملات بلفظ جامع، والأمر سهل.

ص: 108


1- تقدّم في الصفحة 101.
2- نهاية الأفكار 1: 74.

التحقيق في تصوير الجامع

إذا عرفت ذلك فاعلم: أنّ المركّبات الاعتبارية التي عرضتها وحدة ما على قسمين:

أحدهما: ما يكون الكثرة فيها ملحوظة كالعشرة والمجموع؛ فإنّ العشرة وإن لوحظت واحدة - فتكون مقابلَ العشرتين والعشرات ومفردَهما - لكنّ الكثرة فيها ملحوظة، وكذا المجموع، وفي مثلها يفقد الكلّ بفقدان جزء منها، فلا يصدق العشرة ولا المجموع إلاّ على التامّ الأجزاء.

وثانيهما: ما تكون الكثرة [فيه] فانية في الوحدة والهيئة فناء المادّة في صورتها، ففي مثلها تكون شيئية المركّب الاعتباري بصورته - التي هي الهيئة العرضية الاعتبارية، لا الصورة الجوهرية أو الحقيقية - لا بمادّته، وتكون المادّة فانية في الهيئة، وهي قائمة بالمادّة متّحدة معها؛ ولهذا لا يضرّ اختلاف الموادّ - أيّ اختلاف عرض لها - بشيئية المركّب الكذائي.

فالسيّارة سيّارة مادامت صورتها وهيئتها محفوظة من أيّ فلزّ كانت مادّتها، فالمادّة مأخوذة بنحو اللا بشرط والعرض العريض، لا بمعنى لحاظها كذلك؛ فإنّه ينافي اللا بشرطية، بل بمعنى عدم اللحاظ في مقام التسمية إلاّ للهيئة، والموادّ فانية فيها.

ثمّ إنّ الهيئة قد تلاحظ بنحو التعيّن الخاصّ، وقد تلاحظ بنحو اللا بشرط والعرض العريض أيضاً، كالدار والسيّارة والبيت والمكائن والساعات وكلّ ما هو من قبيل المركّبات الغير الحقيقية من سنخها، فمثلها تكون موادّها فانية في

ص: 109

هيئاتها في مقام التسمية ومقام استعمال ألفاظها فيها، وهيئاتها مأخوذة لا بشرط، فتصدق الدار على المسكن الخاصّ بأيّة مادّة صنعت وفي أيّة هيئة صيغت، لكن تكون بينها جهة جامعة عرضية لا يمكن أن يعبّر عنها إلاّ بمثل المسكن الخاصّ؛ لعدم الجنس والفصل لها كالحقائق حتّى تحدّ بهما.

فالسيّارة مركوب خاصّ لمّا صنعها صانعها سمّاها باسم، فانية موادّها في هيئتها، وغير ملحوظ فيها هيئة خاصّة لا تتعدّاها، وهذا معنى اللا بشرط في الهيئة والمادّة؛ ولهذا تصدق على المركوب الخاصّ بأيّة هيئة أو مادّة كانت.

ثمّ إنّه قد يعتبر في المركّبات الاعتبارية موادّ خاصّة، ومع ذلك تكون في مقام التسمية فانية في الهيئة، وتؤخذ الهيئة لا بشرط من جهة أو جهات، فيصدق الاسم مع تحقّق سنخ الموادّ بنحو العرض العريض مع الهيئة كذلك، فلا يمكن التعبير عنها إلاّ باُمور عرضية.

فحينئذٍ نقول: يمكن أن يقال: إنّ الصلاة عبارة عن ماهية خاصّة اعتبارية مأخوذة على النحو اللا بشرط فانية فيها موادّ خاصّة مأخوذة كذلك، فموادّ الصلاة: ذكر وقرآن وركوع وسجود على النحو اللا بشرط صادقة على الميسور منها، وهيئتها صورة اتّصالية خاصّة نسبتها إلى الموادّ نسبة الصورة إلى المادّة، لكنّ الهيئة أيضاً اُخذت لا بشرط من بعض الجهات، كهيئة السيّارة والدار والبيت، ولا يمكن أن يعبّر عنها إلاّ بعناوين عرضية كالعبادة الخاصّة، كالتعبير عن السيّارة بالمركب الخاصّ، وعن البيت والدار بالمسكن الخاصّ، من غير أن يكون لها جنس وفصل يمكن تحديدها بهما.

وبما ذكرنا يتّضح: أنّ الشرائط مطلقاً - سواء ما يتأتّى من قِبل الأمر أو لا -

ص: 110

خارجة عن حقيقة الصلاة، ويشبه أن تكون الشرائط مطلقاً - خصوصاً الآتية من قِبل الأمر - من شرائط صحّة تلك الماهيات، لا من قيودها المعتبرة في ماهيتها، فالصلاة اسم للهيئة الخاصّة الحالّة في الأجزاء الخاصّة، مأخوذة هي والهيئة لا بشرط، وتتّحدان اتّحاد المادّة والصورة.

ثمّ إنّه بما ذكرنا سابقاً يعلم أنّ فرض الجامع على الصحيحي وعلى الأعمّي ممّا لا معنى محصّل له، فالتحقيق ما تقدّم من فرض الجامع بين أفراد الماهية، ورجوع النزاع إلى أنّ المسمّى هو الماهية التامّة الأجزاء، أو هي والشرائط، أو لا؟ فتدبّر جيّداً.

المقدّمة الخامسة : في الثمرة بين القول بالصحيح والأعمّ

الثمرة الاُولى: جريان أصل البراءة

بناءً على ما ذكرنا من الجامع تجري البراءة لدى الشكّ في الأقلّ والأكثر، دون ما ذكره المحقّق الخراساني رحمه الله علیه (1).

توضيحه: أنّه قد عرفت أنّ الصلاة عبارة عن الهيئة الخاصّة لا بشرط فانية فيها الكثرات والأجزاء، فبناءً عليه تكون الصلاة حقيقة وحدانية صادقة على الهيئة الحاصلة من تلك الموادّ، من غير أن تكون الكثرة ملحوظة فيها، ونسبة

ص: 111


1- كفاية الاُصول: 39.

الهيئة إلى المادّة ليست كنسبة المحصَّل إلى المحصِّل، بل هما متّحدان ذهناً وخارجاً نحو اتّحاد الصورة والمادّة، ويكون الأمر المتعلّق بالصلاة مع كونه واحداً على ماهية واحدة، لا أمراً بالأجزاء والكثرات، لكن ذلك الأمر الوحداني باعث إلى الأجزاء التي تنحلّ الماهية إليها، فالأمر بالواحد أمر بالكثرات في لحاظ التحليل.

فإذا شكّ في حال الانحلال في جزئية شيء أو شرطيته للمأمور به، يرجع الشكّ إلى أصل تعلّق الأمر به في لحاظ الكثرة بعد العلم بتعلّقه بسائرها فيه، وبعد العلم بتحقّق المسمّى في الخارج، كما هو مذهب الأعمّي.

ولو قيل: إنّ الهيئة - بناءً على ما ذكرت - أمر غير الموادّ، وهي متعلّقة للأمر، والموادّ محصّلة لها، تجري البراءة في نفس الهيئة اللا بشرط الصادقة على القليل والكثير والطويل والقصير؛ لأنّ المفروض أنّ المسمّى صادق عليها، ومع صدقه إذا شكّ في شيء آخر دخيل في زيادة الهيئة كيفية أو كمّية، يكون مرجعه إلى الشكّ في خصوصية زائدة على أصل المسمّى؛ لصدقه عليه مع فقدانه، فالشكّ في تعلّق الأمر بهيئة حاصلة من موادّ - كتسعة أجزاء أو عشرة - شكّ في الأقلّ والأكثر في الهيئة، فتكون مورد جريان البراءة.

هذا مع تسليم كون الموادّ بالنسبة إلى الهيئات كالمحصّل، وإلاّ فهو في معرض المنع.

وأمّا على ما ذكره المحقّق الخراساني فلا تجري البراءة ولو قلنا باتّحاد الأمر الانتزاعي مع الأجزاء؛ لأنّ المدّعى هو كون الصلاة أمراً بسيطاً مبدأً للأثر الخاصّ؛

أي معراجية المؤمن والنهي عن الفحشاء، فإذا شكّ في جزء أو شرط يكون

ص: 112

راجعاً إلى تحقّق هذا البسيط؛ لاحتمال أن لا يكون المأتيّ به مبدأ الأثر الخاصّ، ولا فرق في ذلك بين كون المأمور به هو عنوان «معراج المؤمن» أو عنوان «الصلاة» التي تكون مبدأً لهذا الأثر، سواء قيّدت به أو لا، فلا محيص في مقام الإتيان بالمأمور به عن حصول العلم بتحقّق ما تعلّق به الأمر وقامت عليه الحجّة.

وإن شئت قلت: لا ينحلّ المأمور به على ما ذكره إلى معلوم ومشكوك فيه، بل الأمر قد تعلّق بعنوان معلوم ولو بأ نّه مبدأ للأثر الكذائي، فلا بدّ من اليقين بالفراغ منه، بخلاف ما ذكرنا، كما عرفت.

وبما ذكرنا يتّضح: أنّ لازم مذهب الصحيحي - بعد توجيهه بأنّ مراده منه ما ينطبق على الموضوع له الصحيح بالحمل الشائع في الوجود الخارجي - هو تصوّر الموضوع بعنوان لا ينفكّ عن الصحّة في الخارج، فلا محالة بعد تعلّق الأمر بذلك العنوان - على أيّ نحو فرض - يكون الأصل عند الشكّ فيه هو الاشتغال؛ لما ذكرنا آنفاً، كان العنوان بسيطاً قابلاً للنقص والكمال والزيادة والنقصان، أو لا؛ لأ نّه مع الشكّ في الجزء أو الشرط يكون الشكّ في تحقّق المتعلّق، ومعه لا يمكن إحراز الفرد الملازم للصحّة.

فيسقط ما ذكره بعضهم - من جريان البراءة، قائلاً: إنّ المأمور به إذا كان بسيطاً ذا مراتب يتحقّق بعض مراتبه بتحقّق بعض الاُمور المحصّلة له وشكّ في دخل شيء آخر في تحقّق مرتبته العليا، لكان مورداً للبراءة(1) - لأنّ ذلك خروج عن مذهب الصحيحي؛ لأ نّه مع الشكّ في دخالة مرتبة من العنوان في المأمور به

ص: 113


1- بدائع الأفكار (تقريرات المحقّق العراقي) الآملي 1: 123 - 124.

لا يعقل القطع بتحقّق المسمّى المأمور به على وصف الصحّة، ومع إحراز تحقّق بعض مراتبه والشكّ في صحّته يكون المسمّى - لا محالة - أعمّ من الصحيح.

فتحصّل ممّا ذكرنا: صحّة جعل القول بالبراءة والاشتغال ثمرة للقول بالأعمّ والصحيح.

نعم، لو قلنا بأنّ ألفاظ العبادات وضعت بإزاء الماهية الجامعة لجميع الأجزاء والشرائط، وإطلاقها على غيرها بعناية وعلاقة، كان لجريان البراءة مجال، لكنّه بعيد غايته.

كما أنّه لو قيل: إنّ الموضوع له هو هذه العناوين أو ما يلازمها اقتضاءً، لكان لجريانها وجه(1)،

لكنّه خروج عن مذهب الصحيحي.

الثمرة الثانية: صحّة التمسّك بالإطلاق على الأعمّ

وتظهر الثمرة بين القولين أيضاً بصحّة التمسّك بالإطلاق على الأعمّ دون الصحيح. والإشكال تارةً: بأ نّه ليس في الكتاب والسنّة إطلاق في مقام البيان حتّى يثمر النزاع(2)،

واُخرى: بأنّ المأمور به هو الصحيح على القولين، والأخذ بالإطلاق بعد التقييد أخذ في الشبهة المصداقية(3) مردود؛ ضرورة مجازفة الدعوى الاُولى، كما يظهر للمراجع.

ص: 114


1- لكنّ التحقيق: عدم جريانها على جميع المسالك على الصحيح، وتجري على جميع المسالك على الأعمّ؛ لأ نّه على المسلكين لا بدّ من إتيان المسمّى يقيناً، ولا يحصل ذلك إلاّ بإتيان المشكوك فيه على الصحيح دون الأعمّ، كما لا يخفى. [منه قدس سره]
2- اُنظر مطارح الأنظار 1: 67؛ أجود التقريرات 1: 67.
3- اُنظر أجود التقريرات 1: 69.

وأمّا ما قيل من كفاية الثمرة الفرضية للمسألة الاُصولية(1)،

فهو كما ترى .

وأمّا الدعوى الثانية، ففيها: أنّ الأوامر متعلّقة بنفس العناوين على الأعمّ، ولا ينافي تقيّدها بقيود منفصلة، فإذا ورد مطلق في مقام البيان نأخذ بإطلاقه ما لم يرد مقيّد، ونحكم بصحّة المأتيّ به.

وأمّا توهّم تعلّقها بعنوان الصحيح أو ما يلازمه، ففي غاية السقوط.

وأمّا ما قيل في جوابه: من أنّ المخصّص لبّي غير ارتكازي، وفي مثله يجوز التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقية(2)،

ففيه منع؛ لعدم الفرق بين اللبّي الغير الارتكازي واللفظي المنفصل في عدم جواز التمسّك وسقوط أصالة الجدّ لدى العقلاء، والتحقيق موكول إلى محلّه(3).

حول أدلّة الصحيحي والأعمّي

الإشكال في استدلال الصحيحي بالتبادر

إذا عرفت ذلك، فقد تمسّك كلّ من الصحيحي(4) والأعمّي(5) بالتبادر وغيره.

والعمدة هو التبادر، لكن دعواه للصحيح محلّ إشكال؛ لأنّ معنى التبادر هو فهم المعنى من اللفظ، ولا يمكن أن يتبادر منه أمر زائد عن الموضوع له من

ص: 115


1- أجود التقريرات 1: 67.
2- بدائع الأفكار (تقريرات المحقّق العراقي) الآملي 1: 130.
3- راجع ما يأتي في الجزء الثاني: 215 وما بعدها.
4- هداية المسترشدين 1: 442؛ الفصول الغروية: 46 / السطر 25؛ كفاية الاُصول: 44.
5- قوانين الاُصول 1: 44 / السطر 4؛ درر الفوائد، المحقّق الحائري: 51.

اللوازم الذهنية أو الخارجية للمعنى؛ لعدم كونها معناه.

نعم، بعد تبادر نفس المعنى ينتقل الذهن إلى لوازمه ولوازم لوازمه، وقد ينتقل الذهن بواسطة جهات واُنس ذهني من المعنى إلى مصاديقه ولوازمها الوجودية، بل إلى عوارضها الاتّفاقية أحياناً.

فإذا كان الموضوع له للفظ الصلاة - مثلاً - ماهية بسيطة مجهولة إلاّ ببعض العناوين المتأخّرة عن الموضوع له، ك «الناهي عن الفحشاء» و«معراج المؤمن» وغيرهما، فلا بدّ لمدّعي التبادر أن يدّعي تبادر نفس المعنى من اللفظ مقدّماً على فهم تلك العناوين، سواء كانت من لوازم الماهية أو عوارض الوجود كما هو الحقّ؛ فإنّ النهي عن الفحشاء وغيره ممّا ذكر ليس من لوازم الماهية بالبداهة، ولا يمكن أن يكون من آثار نفسها؛ لعدم كونها منشأً للأثر، وإنّما تلك الآثار من وجودها الخارجي، كما أنّ الصحّة والفساد من عوارضها الخارجية؛ أي عوارض وجودها.

فحينئذٍ يكون انتقال الذهن من لفظ الصلاة إلى ذات الموضوع له أوّلاً، وإلى مصاديقه ثانياً لأجل اُنس الذهن، وإلى الصحّة ثالثاً بواسطة الارتكاز العقلائي، وكذا إلى تلك العناوين بعد معرّفية الشارع في الرتبة المتأخّرة أو الآن المتأخّر عن تبادر المعنى الموضوع له، فلا يمكن أن تكون تلك العناوين مطلقاً معرّفة للمعنى لتصحيح التبادر؛ لتأخّر رتبتها بمرتبة أو مرتبتين عنه، فحينئذٍ يبقى الموضوع له مجهول العنوان والحقيقة في وعاء التبادر، فلا يمكن تبادر المجهول المطلق.

واللوازم والعوارض وإن كانت من معرّفات الشيء إنّاً، والشيء يعرف

ص: 116

بمعاليله وآثاره وعوارضه، لكن لا يمكن أن تكون مصحّحة للتبادر ومعرّفة للمعنى لأجل تصحيحه؛ لأنّ فهم المعنى من اللفظ سابق على فهم العناوين اللازمة للذات والعارضة للوجود.

فدعوى التبادر للصحيحي ممّا لا مصحّح معقول لها، فما يتخيّل أنّه يتبادر من لفظ الصلاة - وهو الصحيحة منها - فاسد، منشؤه الخلط بين تبادر المعنى الذي لا يتّصف بالصحّة والفساد في مرتبة ذاته وماهيته، وبين فهم الاُمور الخارجة عن فهم المعنى ممّا هو من عوارض المصاديق لأجل اُنس الذهن، فتدبّر.

الإشكال في استدلال الصحيحي بصحّة السلب

وممّا ذكرنا يتّضح الإشكال على صحّة السلب عن الفاسدة؛ لأنّ المدّعى: إمّا صحّة سلب المعنى مع معرّفيته بتلك العناوين المتأخّرة وجوداً وعلماً، أو لا. وكلاهما باطلان:

أمّا الثاني فواضح؛ لأنّ سلب المعنى المجهول ممّا لا محصّل له.

وأمّا الأوّل فمصادرة؛ لأنّ مرجع صحّة سلب ما هو «معراج المؤمن» الملازم للصحّة الفعلية إلى صحّة سلب الصلاة الصحيحة عن الفاسدة، وهو أمر واضح، لكن لا تدلّ على أنّ المسمّى هو الصحيحة، فسلب نفس المعنى بما هو هو غير ممكن للجهل به، وسلب المعنى بمعرّفية هذه العناوين غير مفيد؛ فإنّها معرّفات الصحيحة، وللأعمّي أن يدّعي أنّ الصلاة المعرّفة بهذه العناوين قسم من المسمّى.

ومن ذلك يعرف حال صحّة الحمل الأوّلي، وأمّا الشائع فلا يفيد أصلاً.

ص: 117

دفع الإشكال وتصحيح دعوى التبادر للصحيحي ثبوتاً

هذا، ويمكن أن [يدفع] أصل الإشكال بعد التنبّه إلى مقدّمة: وهي أنّ وضع اللغات في جميع الألسنة لمّا كان على نحو التدريج حسب الاحتياجات الماسّة إليه، يشبه أن يكون - نوعاً - من قبيل خصوص الوضع وعموم الموضوع له بالمعنى الذي تقدّم(1)

من كون الخاصّ ملحوظاً حين الوضع ووضع اللفظ بإزاء الجامع الملحوظ بتبعه إجمالاً، عكس عموم الوضع وخصوص الموضوع له؛ لأنّ الانتقال حال الوضع - نوعاً - كان من بعض المصاديق إلى الجوامع بعنوان كونها جامعة لها، من غير التفات إلى حقائقها وأجناسها وفصولها، فوضعت الألفاظ بإزائها بمعرّفية هذا العنوان.

فكلّما عثر البشر على شيء ورأى احتياجه إلى تسميته باسم، وضع لفظاً له من غير نظر إلى خصوصيته الشخصية، بل لجامعه وطبيعته النوعية من غير اطّلاع على جنسها وفصلها، بل بما أنّه جامع بينه وبين غيره من الأفراد، لا لهذا العنوان، بل بمعرّفيته لنفس الطبيعة المعلومة بوجه.

ولو ادّعى أحد القطع بأنّ ديدن الواضعين كان كذلك نوعاً، خصوصاً في المصنوعات والمخترعات، بل والطبائع التي اطّلع البشر على مصداقها في الأزمنة السابقة جدّاً، ووضع اللفظ لجامعها بنحو، لم يكن مجازفاً.

فإذا كان كيفية الوضع كذلك يمكن أن يكون التبادر وصحّة السلب كذلك؛ أي

ص: 118


1- تقدّم في الصفحة 20 - 21.

بهذا المعنى الإجمالي، فيقال: يتبادر من لفظ الحنطة والشعير معنىً إجمالي يعرف بأ نّه جامع لهما، فيدّعي الصحيحي بأنّ «الصلاة» بحسب ارتكاز المتشرّعة يتبادر منها معنىً إجمالي هو الجامع الذي لا ينطبق إلاّ على الأفراد الصحيحة، كما أنّ الوضع كان كذلك.

فالمتبادر من ألفاظ العبادات هو الجوامع المعلومة ببعض العناوين، لا مثل ما ذكره المحقّق الخراساني(1)؛

فإنّها مغفول عنها حين سماع لفظ الصلاة، بل مثل ما يكون جامعاً للأفراد الصحيحة على دعوى الصحيحي، أو الأعمّ منها على الأعمّي.

ثمّ إنّ ما ذكرنا هو تصحيح دعوى التبادر تصوّراً وثبوتاً، وأمّا إثباتاً فلا إشكال في أنّ المتبادر من ألفاظ العبادات في عصرنا هو نفس الطبائع بما هي، لا بما هي ملزومة اللوازم أو معروضة العوارض، كما أنّ طريقة الواضع كذلك، فمن صنع السيّارة وأراد تسميتها باسم، أشار إلى الشخص المصنوع الموجود بين يديه وسمّاه باسم، لا بما أنّه اسم لشخص خاصّ في زمان ومكان خاصّين وغير ذلك من المشخّصات، بل يشير بالتوجّه إليه إلى نفس الجامع من غير لحاظ الخصوصيات من الصحّة والفساد.

والإنصاف: أنّ إنكار تبادر نفس الطبائع في زماننا لا مجال له، كما أنّ المراجع للأخبار والآثار يقطع بأنّ زمان الصادقين علیهما السلام - عصر نشر الأحكام - كان كذلك، بل دعوى كون عصر النبي صلی الله علیه و آله وسلم كذلك أيضاً قريبة جدّاً.

ص: 119


1- كفاية الاُصول: 39.
استدلال الأعمّي بصحّة تعلّق النذر بترك الصلاة في الأمكنة المكروهة

وقد استدلّ للصحيح والأعمّ بأدلّة غير تامّة لا داعي للتعرّض لها إلاّ لمورد واحد استدلّ به للأعمّ:

تقريره: أنّه لا إشكال في صحّة تعلّق النذر بترك الصلاة في الأمكنة المكروهة وحنث النذر بفعلها فيها، فلو كانت موضوعة للصحيحة يلزم منه عدم قدرة المكلّف على إتيانها، ومع عدم القدرة لا يمكن توجّه الأمر بالوفاء بالنذر، فيلزم من صحّة النذر عدم صحّته(1).

ولا يخفى: أنّ هذا الإشكال وارد على الأعمّي أيضاً؛ فإنّ ما هو مكروه في تلك الأمكنة هو الصلاة المكتوبة على المكلّفين، لا الإتيان بالصورة المعهودة، فما هو متعلّق النذر هو هي، فحينئذٍ يرد الإشكال عليه أيضاً، فيكون أجنبيّاً عن نزاع الصحيحي والأعمّي.

وأمّا دفع أصله، فالتحقيق فيه أن يقال: إنّ الأمر بالصلاة تعلّق بنفس الطبيعة، من غير لحاظ الخصوصيات - زمانية أو مكانية - في متعلّقه، فوقوعها في الحمّام والبيت والمسجد ليس بمأمور به، والأمر المتعلّق بعنوان لا يمكن أن يتجاوز منه إلى غيره، فخصوصية وقوعها في الحمّام غير مأمور به، وأمّا النهي التنزيهي فلم يتعلّق بنفس الطبيعة المتعلّقة للأمر، بل تعلّق بإيقاعها في الحمّام، فحينئذٍ يمكن أن يقال: إنّ الصلاة صحيحة ومأمور بها، وإيقاعها في

ص: 120


1- قوانين الاُصول 1: 51 / السطر 4.

الحمّام مكروه ومتعلّق النذر، فتصحّ صلاته ويحنث نذره. كذا أفاد شيخنا العلاّمة - أعلى الله مقامه - في بحثه.

ولك أن تقول: إنّ الصلاة في الحمّام بعد تعلّق النذر بها ينطبق عليها عناوين ثلاثة: عنوان الصلاة، وهو عنوان ذاتي لها، وهي مصداق ذاتي له، وعنوان كونها في الحمّام، وهو عنوان عرضي لها، وهي مصداق بالعرض له، وعنوان كونها مخالفة للنذر، وهو - أيضاً - عنوان عرضي لها، وهي مصداق بالعرض له.

ولا منافاة بين تعلّق الأمر بذات الصلاة، والأمر الآتي من قبل «أوف بالنذر»؛ فإنّ الثاني تعلّق بعنوان الوفاء، والأوّل بعنوان ذاتها، فإذا صلّى في الحمّام فعل ما

هو مصداق الواجب بالذات وما هو مصداق تخلّف النذر بالعرض، وهو عنوان زائد على ذات الصلاة منطبق على مصداقها انطباقاً عرضياً، فلو فرض تعلّق النذر بذات الصلاة في الحمّام لم تصر محرّمة، بل المحرّم عنوان تخلّف النذر المنطبق عليها عرضاً، فحينئذٍ كما لا يجتمع الأمر والنهي والوجوب والحرمة في شيء واحد، كذلك يمكن قصد التقرّب بذات الصلاة الغير المحرّمة وإن انطبق عليها عنوان محرّم زائد على ذاتها، تأمّل.

هذا حال العبادات.

ص: 121

القول في المعاملات

وأمّا المعاملات فيتمّ الكلام فيها في ضمن اُمور:

الأوّل: في عدم جريان النزاع بناءً على الوضع للمسبّبات

إنّ المعروف عدم جريان النزاع بناءً على وضعها للمسبّبات؛ لأنّ الأمر فيها دائر بين الوجود والعدم، لا الصحّة والفساد(1)؛ لأ نّهما أمران عارضان على الماهية بعد وجودها أو على وجودها، وماهيات المعاملات اُمور اعتبارية متقوّمة به.

فالشرع: إمّا موافق للعرف فيها، فتكون المعاملة العرفية بعد اجتماع شرائط تحقّقها محقّقة معتبرة عرفاً وشرعاً، وعند عدم اجتماعها غير محقّقة ولا معتبرة، فلا معنى للفساد فيها.

وإمّا مخالف له، كما في نكاح بعض المحارم والبيع الربوي، فيرجع مخالفته إلى عدم اعتباره لها، وردعه إلى إعدام الموضوع ونفي الاعتبار؛ فإنّ نفي الآثار مع اعتبار الموضوع ممّا لا مجال له؛ للزوم اللغوية باعتبار ما لا أثر له بوجه، ولو سلّم جوازه فمخالف لارتكاز المتشرّعة؛ لأنّ نكاح المحارم غير واقع ولا مؤثّر رأساً عندهم كالبيع الربوي، فيدور أمر المعاملات

ص: 122


1- كفاية الاُصول: 49؛ درر الفوائد، المحقّق الحائري: 54؛ أجود التقريرات 1: 71.

المسبّبية بين الوجود والعدم، لا الصحّة والفساد.

إلاّ أن يقال: إنّ المعاملات المعتبرة عند العقلاء لا يترتّب عليها الآثار لدى الشارع، فيعتبر تحقّق الموضوع في محيط العرف وعدم ترتّب الآثار في محيط التشريع، فباعتبار أنّها محقّقة معتبرة لدى العرف، ولا يترتّب عليها الآثار لدى الشرع، يقال: إنّها فاسدة، وأمّا مع لحاظ كلّ محيط فالأمر دائر بين الوجود والعدم.

وأمّا الالتزام بأنّ المسبّبات اُمور واقعية كشف عنها الشارع، ويرجع ردعه إلى عدم ترتيب الآثار - أي التخصيص الحكمي بعد تحقّق الأمر الواقعي - فهو مقطوع الفساد.

وأمّا بناءً على وضعها للأسباب، فيجري النزاع فيها كالعبادات.

الثاني: في اختلاف الشرع والعرف في المقام

بناءً على كون الأسامي للصحيح من الأسباب، يرجع اختلاف الشرع والعرف إلى مفهومها، لا إلى المصاديق فقط، كما التزم به في «الكفاية»(1)؛

لأنّ الموضوع له؛ إمّا العقد الصحيح بالحمل الأوّلي أو بالحمل الشائع؛ أي ما هو المؤثّر خارجاً، وهما واضحا البطلان، ولا أظنّه يلتزم بهما، فلا بدّ من القول بأ نّها وضعت لماهية إذا وجدت في الخارج لا تنطبق إلاّ على الصحيح المؤثّر، فحينئذٍ لا بدّ من الالتزام بتضييق دائرة المفهوم؛ حتّى لا ينطبق إلاّ على

المؤثّر عنده.

ص: 123


1- كفاية الاُصول: 49.

فإذا كان الأثر مترتّباً - مثلاً - على الإيجاب والقبول العربيين الماضويين مع تقدّم الإيجاب، ولدى العرف مترتّباً عليهما مطلقاً، فيختلفان في المفهوم والماهية، ولا يعقل رجوع الاختلاف إلى المصاديق مع الموافقة في المفهوم.

ومن ذلك يتّضح: أنّه بناءً على وضعها للأسباب الصحيحة يلزم إجمال الخطاب وعدم جواز التمسّك بالإطلاق؛ لأنّ ماهية ما هو المؤثّر لدى الشرع غير ما هو المؤثّر لدى العرف، فإذا احتمل دخالة قيد أو شرط فيها يرجع ذلك إلى الشكّ في الموضوع، فتصير الشبهة مصداقية، بخلاف ما إذا كانت أسامي للأعمّ أو للصحيح عرفاً؛ فإنّه على الأوّل يؤخذ بالإطلاق بعد صدق الأعمّ، ويرفع الشكّ به حتّى بالنسبة إلى الشرائط العرفية على فرضها، وعلى الثاني يرفع الشكّ بالنسبة إلى الشرائط الشرعية بعد إحراز الموضوع العرفي، فما أفاده المحقّق الخراساني(1)

ممّا لا مجال لتصديقه.

الثالث: في حال التمسّك بالإطلاق لو كانت الأسامي للمسبّبات

قد يقال: بناءً على كون الأسامي للمسبّبات يشكل الأمر في التمسّك بالإطلاق؛ لأنّ المسبّب أمره دائر بين الوجود والعدم، لا الصحّة والفساد، كما عرفت، فحينئذٍ لو التزمنا بأنّ الأدلّة الرادعة ترجع إلى نفي الآثار والتخصيص الحكمي، جاز التمسّك بأدلّة الإمضاء للمسبّبات المعتبرة بنظر العرف، فنأخذ بها حتّى يرد دليل على الردع الراجع إلى عدم ترتيب الأثر على ما لدى العرف، ومع الشكّ في التقييد أو التخصيص كان المرجع هو الإطلاق أو العموم، لكن

ص: 124


1- كفاية الاُصول: 50.

التخصيص الحكمي مع إمضاء الموضوع موجب للّغوية ومخالف لارتكاز المتشرّعة - كما أشرنا إليه - فلا يمكن التزامه، فلا بدّ من الذهاب إلى رجوع الردع إلى التخصّص ورفع الموضوع وعدم اعتبار المسبّب، فيشكل التمسّك بالإطلاق والعموم لدى الشكّ.

فإن قلت: بناءً على كون الأسامي للمسبّبات لا يكون العرف والشرع مختلفين في المفهوم؛ فإنّ مفهوم البيع لدى الكلّ هو المبادلة بين المالين، والإجارة نقل المنفعة بالعوض... وهكذا، وإنّما يرجع ردع الشارع إلى عدم اعتبار المصداق وإعدام الموضوع، فعدم صدق البيع على الغرري ليس لأجل تضييق في مفهوم المسبّب، بل لعدم تحقّق المصداق بعد التخصيص الراجع إلى التخصّص، فحينئذٍ لا مانع من التمسّك بالإطلاق إلاّ مع إحراز التخصيص الكذائي، ومع الشكّ تكون الحجّة على العنوان قائمة لا ترفع اليد عنها إلاّ بالدليل.

قلت: التمسّك بالإطلاق إنّما ينتج إذا انطبق العنوان على المصداق ولم يكن إجمال في الصدق، ومع الشكّ في اعتبار الشارع يشكّ في الصدق، فلا ينتج الإطلاق.

وبعبارة اُخرى: إذا رجع ردع الشرع إلى إعدام الموضوع، فمع إيقاع البيع المحتمل للردع عنه يشكّ في تطبيق عنوان البيع المأخوذ في دليل الإمضاء عليه ولو من جهة الشكّ في الإعدام وعدم الاعتبار؛ لأ نّه معه تكون الشبهة مصداقية.

هذا، لكنّ التحقيق: جواز التمسّك بإطلاق أدلّة الإمضاء؛ لأ نّها محمولة على

ص: 125

المعاني العرفية جارية على مصاديقها، كما هو الأمر في جميع الخطابات التي لها مصاديق عرفية، وأدلّة الردع مخصّصة حكماً لأدلّة الإمضاء؛ لعدم إمكان التصرّف فيها إلاّ بالتخصيص؛ فإنّ التصرّف في موضوعها غير ممكن؛ لرجوعه إلى إعدام اعتبار العرف، وهو ليس في قدرة التشريع، وعدم اعتبارها في محيط التشريع - كما أشرنا إليه آنفاً وقلنا: إنّه موافق لارتكاز المتشرّعة - غير مربوط بالتصرّف في أدلّة الإمضاء، فالأخذ بأدلّته مع الشكّ في التخصيص والتقييد كسائر موارد الشكّ فيهما.

مضافاً إلى إمكان التمسّك بالإطلاق المقامي ولو في الشبهة المصداقية لكشف حال الموضوع كما قيل(1)،

وإن لا يخلو من إشكال وبحث، فالمعوّل عليه الإطلاق اللفظي، فتدبّر.

ثمّ إنّه لو كانت الأسامي للأسباب فلا إشكال في كونها للأعمّ؛ للتبادر، ولما عرفت من كيفية الوضع(2)،

وإن كان الأرجح كونها موضوعة للمسبّبات؛ أي لنفس التبادل الحاصل بالأسباب، لا للأسباب المحصّلة له، ولا للنتيجة التي هي صيرورة المبيع ملكاً للمشتري والثمن للبائع؛ ضرورة أنّ الأخير ليس بيعاً ولا غيره، والأوّل منهما وإن كان محتملاً؛ لكنّ التبادر يساعد على ما ذكرناه، تأمّل(3).

ص: 126


1- نهاية الأفكار 1: 100؛ بدائع الأفكار (تقريرات المحقّق العراقي) الآملي 1: 141.
2- تقدّم في الصفحة 118.
3- وجهه: أنّ تقسيمها إلى الصحيحة والفاسدة بلا تأوّل، آية على كونها موضوعة للأسباب لا المسبّبات. منه عفي عنه.

خاتمة : في تصوير جزء الفرد في المركّبات الاعتبارية

لا إشكال في إمكان دخل شيء وجودي - تارةً بنحو الشطرية واُخرى بنحو الشرطية - في ماهية المأمور به، وأمّا الشيء العدمي فلا يمكن إلاّ أن يرجع إلى دخالة شيء وجودي، وإلاّ فالعدم بما هو لا تأثير فيه بوجه.

إنّما الكلام في تصوير جزء الفرد وشرطه في المركّبات الاعتبارية، كتصويرهما في الماهيات الحقيقية والمركّبات التحليلية، فإنّ الماهيات الحقيقية لمّا وجدت بالوجود وتشخّصت به، تتّحد معها جميع لوازم الماهية وعوارضها وعوارض الوجود؛ فإنّ حقيقة الوجود [تدور] مدار الوحدة وجمع الكثرات بنحو الوحدة والبساطة مع عدم انثلام وحدتها، فالفرد الخارجي بجميع خصوصياته عين الماهية وجوداً، فصحّ فيها تصوّر مقوّمات الماهية وأجزاء الفرد.

وأمّا الماهيات الاعتبارية لمّا كانت غير متحقّقة في الخارج حقيقة، بل التحقّق للأجزاء، ومجموع الأجزاء ليس له وجود إلاّ اعتباراً، فتصوّر علل القوام فيها لا مانع منه.

وأمّا تصوير جزء الفرد فقد يستشكل فيه: بأنّ كلّ ما وجد في الخارج غير أجزاء الماهية يكون موجوداً بحياله، وله تشخّص خاصّ به غير بقيّة الأجزاء، فلا يكون لماهية المركّب وجود حقيقي يجمع الكثرات، فلا يتصوّر فيها جزء الفرد في قبال الجزء المقوّم للماهية، ولو اعتبر مجموعها باعتبار على حدة يكون ماهية اعتبارية اُخرى، ويكون المصداق الخارجي - أي مجموع

ص: 127

الأجزاء - مصداقاً لتلك الماهية، والأجزاء بلا هذه الزيادة مصداقاً للماهية الاُولى، فلا يصير المجموع مع الزيادة فرداً للمجموع بغيرها(1).

والتحقيق أن يقال: إنّ لبعض المركّبات الغير الحقيقية هيئة خاصّة يكون المركّب متقوّماً بها، كما عرفت(2)

في تصوير الجامع، فالقصر والدار حقيقتهما متقوّمة بهيئة ما لابشرط، لاتتحقّق في الخارج إلاّ بوجود موادّ على وضع خاصّ.

فحينئذٍ نقول: كلّ ما له هيئة قائمة بأجزاء، يكون حسن الهيئة وتفاضلها فيه باعتبار التناسب الحاصل بين الأجزاء، فالحسن أينما حلّ يكون مرهون التناسب، فحسن الصوت والخطّ عبارة عن تناسب أجزائهما، فلا يقال للشعر: «حسن» إلاّ إذا تناسبت جمله، ولا للدار إلاّ إذا تناسبت مرافقها وغرفاتها، فربّما تكون غرفة في دار توجب حسنها؛ لإيقاعها التناسب بين الأجزاء.

فالصلاة ليست نفس الأجزاء بالأسر، بل لها هيئة خاصّة لدى المتشرّعة زائدة على الأجزاء، فيمكن أن يكون تفاضل أفرادها لأجل تفاضل التناسب بين أجزائها، وإن كان فهم التناسب بين أجزائها غير ميسور لنا، فلا يبعد أن يكون للقنوت دخالة في حسن الهيئة الصلاتية، فيوجد المصداق معه أحسن صورة منه مع فقدانه مع عدم دخالته في تحقّق الماهية، وهذا واضح لدى التأمّل في الأشباه والنظائر. ثمّ إنّه قد أشرنا سابقاً(3) إلى الموضوع له في الصلاة فلا نعيده، والظاهر خروج الشروط قاطبةً عنه، فراجع.

ص: 128


1- نهاية الدراية 1: 141 - 142.
2- تقدّم في الصفحة 109.
3- تقدّم في الصفحة 110.

الأمر الثاني عشر : في الاشتراك

الحقّ إمكان الاشتراك ووقوعه في الجملة.

وربّما قيل بامتناعه؛ لأنّ الوضع جعل اللفظ مرآةً للمعنى وفانياً فيه، ولا يمكن أن يكون شيء واحد مرآةً لشيئين وفانياً في اثنين(1).

وفيه: منع كون الوضع إلاّ جعل اللفظ للمعنى وتسمية المعنى باسم، وأمّا فناء اللفظ في المعنى فأمر غير معقول، كما يأتي في المبحث الآتي(2).

وما قيل في جوابه - بأنّ الوضع يوجب استعداد اللفظ للمرآتية، وبالاستعمال يصير فعلياً(3) - إن كان مراده صيرورة اللفظ فانياً في المعنى فسيجيء بطلانه(4)، وإن كان صيرورته فانياً في لحاظ المتكلّم؛ أي آلة

ص: 129


1- اُنظر بدائع الأفكار (تقريرات المحقّق العراقي) الآملي 1: 144.
2- يأتي في الصفحة 135.
3- بدائع الأفكار (تقريرات المحقّق العراقي) الآملي 1: 145.
4- يأتي في الصفحة 135.

للحاظ المعنى وملحوظاً به لا فيه، فصيرورة اللفظ مرآتين كذلك ممّا لم يقم على امتناعه برهان كما سيمرّ عليك(1).

وربّما يقرّر الامتناع: بأنّ الوضع عبارة عن جعل الملازمة الذهنية بين اللفظ والمعنى أو عمّا يستلزمها، فحينئذٍ يلزم منه عند تصوّر اللفظ انتقالان مستقلاّن دفعة واحدة، وهو محال(2).

وفيه: أنّه إن كان المراد بالاستقلال عدم انتقال آخر معه فلا نسلّم أن يكون لازم الوضع هو الاستقلال، وإن كان المراد به هو الانتقال الاستقلالي في مقابل الانتقال إلى معنىً واحد منحلّ إلى اثنين، كمفهوم اثنين حيث يكون الانتقال إلى الواحد في ضمنه، فلا نسلّم امتناعه، بل يكون واقعاً، كما سيتّضح(3) لك(4).

فالحقّ عدم امتناعه وعدم وجوبه، بل إمكانه ووقوعه في الجمل-ة؛ ضرورة أنّا نرى في لساننا ما يكون كذلك بحكم التبادر، لكن لا طريق لنا إلى كيفية تحقّقه، فيحتمل قريباً أن يكون من تداخل اللغات، كما احتمل ذلك في الترادف أيضاً(5)،

ويحتمل أن يكون لحدوث الأوضاع التعيّنية بالاستعمال فيما يناسب المعاني... إلى غير ذلك.

ص: 130


1- يأتي في الصفحة 134 - 135.
2- تشريح الاُصول: 47 / السطر 20؛ اُنظر نهاية الدراية 1: 147.
3- يأتي في الصفحة 131.
4- مضافاً إلى منع لزومه إلاّ إذا استعمل في معنيين، وإلاّ فمع الاستعمال في أحدهما وإقامة القرينة فلا يلزم الانتقالان. [منه قدس سره]
5- أجود التقريرات 1: 76.

الأمر الثالث عشر : في استعمال اللفظ في أكثر من معنىً

اشارة

الحقّ جواز استعمال اللفظ في أكثر من معنىً واحد.

ومحلّ البحث وما ينبغي أن يكون مورد النقض والإبرام هو أنّه: هل يجوز أن يستعمل اللفظ الواحد في المتعدّد؛ بأن يكون المستعمل فيه والمعنى الملقى إلى السامع متعدّداً؟

والظاهر أنّ هذا مرادهم من الاستقلال والانفراد، فعليه يخرج عن محلّ البحث ما إذا استعمل في معنىً واحد ذي أجزاء أو ذي أفراد.

وذهب إلى امتناعه عقلاً كثير من المحقّقين(1)، وإلى عدم جوازه لغةً بعضهم(2).

وما يكون وجهاً للامتناع اُمور:

ص: 131


1- كفاية الاُصول: 53؛ حاشية كفاية الاُصول، المشكيني 1: 209؛ أجود التقريرات 1: 76؛ مقالات الاُصول 1: 162؛ نهاية الدراية 1: 152.
2- بدائع الأفكار، المحقّق الرشتي: 163 / السطر 21؛ قوانين الاُصول 1: 67 / السطر 23.

أدلّة الامتناع والجواب عنها

الأوّل: ما ذكره المحقّق الخراساني رحمه الله علیه (1) وتبعه بعضهم(2):

من لزوم اجتماع اللحاظين الآليين في اللفظ، وهو محال.

ويمكن بيان الملازمة بوجهين:

أحدهما: ما يظهر منه، وهو أنّ الاستعمال هو جعل اللفظ فانياً في المعنى، فيكون لحاظه تبعاً للحاظه، فإذا استعمل في المعنيين يكون تبعاً لهما في اللحاظ، فيجتمع فيه اللحاظان التبعيان الآليان(3).

ثانيهما: أنّ في كلّ استعمال لا بدّ من لحاظ اللفظ والمعنى؛ ضرورة أنّه مع الذهول عن واحد منهما لا يمكن الاستعمال، ففي الاستعمال في معنيين لا بدّ من لحاظهما ولحاظ اللفظ مرّتين، فاجتمع اللحاظان الآليان فيه.

وبيان استحالة اجتماعهما فيه: هو أنّ تشخّص الملحوظ بالذات إنّما هو باللحاظ، كما أنّ تعيّن اللحاظ بالملحوظ، فإذا اجتمع اللحاظان في شيء واحد يلزم أن يكون الشيء شيئين والموجود موجودين.

وبعبارة اُخرى: أنّ العلم والمعلوم بالذات شيء واحد ذاتاً، ولحاظ الشيء هو العلم به، وتعلّق العلمين بمعلوم واحد مستلزم لكون الواحد اثنين والمعلوم معلومين.

ص: 132


1- كفاية الاُصول: 53.
2- أجود التقريرات 1: 76؛ مقالات الاُصول 1: 162.
3- كفاية الاُصول: 53.

ومنه يتّضح عدم إمكان الجمع في الملحوظ بالعرض؛ لأ نّه تابع للملحوظ بالذات في اللحاظ، فيلزم من اجتماع اللحاظين في الملحوظ بالذات كون الملحوظ بالعرض معلوماً في حال واحد مرّتين ومنكشفاً في آنٍ واحد انكشافين، وهو محال.

والجواب هو منع الملازمة:

أمّا على التقرير الأوّل: فلأنّ المراد من تبعية لحاظ اللفظ للمعنى إن كان بمعنى أنّ المتكلّم يتصوّر المعنى فينتقل منه إلى اللفظ، فلا نسلّم أنّه يجب أن ينتقل من تصوّر المعنيين انتقالين مستقلّين إلى اللفظ، بل ينتقل منهما إليه انتقالاً

واحداً، كالانتقال من اللازمين لشيء واحد إليه، وكون الانتقال إلى الملزوم غير آلي لا يوجب الفرق. هذا حال المتكلّم.

وأمّا السامع فيكون انتقاله، من اللفظ إلى المعنى وإن كان اللفظ آلياً منظوراً به والمعنى مقصوداً بالذات ومنظوراً فيه، لكنّه في هذا الانتقال يكون المعنى تبعاً متأخّراً، فالسامع يسمع اللفظ ويحضر هو في نفسه ويدركه وينتقل منه إلى المعنى، ولا يعقل أن ينتقل إلى المعنى قبل اللفظ، كما أنّ الناظر إلى الكتاب يدرك المكتوب أوّلاً، ومنه يدرك المعنى وإن كان الأوّل آلةً للثاني. فكما إذا سمعنا من متكلّمين دفعة لفظاً ننتقل منه إلى معناه بالضرورة، ولا يلزم منه الجمع بين اللحاظين المستقلّين في المعنى، فكذلك في ناحية اللفظ.

وبالجملة: لا يلزم من تبعية الانتقال جمع اللحاظين والانتقالين في اللفظ، كما لا يلزم في المعنى في المثال.

ص: 133

وإن كان المراد من التبعية سراية اللحاظ من المعنى إلى اللفظ؛ حتّى يكون في الاستعمال في المعنيين سرايتان، فهو ممنوع بل غير معقول؛ للزوم انقلاب اللحاظ الاستقلالي آلياً.

وإن كان المراد أنّ اللفظ ملحوظ ثانياً وبالعرض؛ حتّى يكون لحاظ واحد يستند إلى المعنى بالذات وإلى اللفظ بالعرض، فهو - مع كونه خلاف الواقع وخلاف المفروض - لا يلزم منه اجتماع اللحاظين؛ لعدم اللحاظ في اللفظ حقيقة.

وأمّا على التقرير الثاني ؛ فلأنّ غاية ما يكون لازماً في الاستعمال أن لا يكون اللفظ غير ملحوظ مطلقاً ولو آلياً، وأمّا لزوم ملحوظيته في كلّ استعمال لحاظاً على حدة فلم يدلّ عليه دليل. فجعل اللفظ آلة لإفهام المعنيين هو استعماله فيهما، ولا بدّ من لحاظ اللفظ آلياً في هذا الاستعمال، ولا يلزم منه اللحاظان. ألا ترى أنّ قوى النفس كالباصرة والسامعة آلات لإدراكاتها، وتدرك بها المبصرات، وقد تبصر الشيئين وتسمع الصوتين في عرض واحد، ولا يلزم منه أن يكون للآلة حضوران لدى النفس؟!

الثاني من وجوه الامتناع: أنّ الاستعمال هو جعل اللفظ بكلّيته قالباً للمعنى، ولا يمكن أن يكون مع ذلك قالباً لمعنىً آخر؛ للزوم كون شيء واحد شيئين(1).

وفيه: أنّ الاستعمال ليس إلاّ جعل اللفظ آلة لإفادة المعنى، فإن كان هذا هو المراد من جعله قالباً وفانياً ومرآةً ووجهاً وعنواناً للمعنى إلى غير ذلك من

ص: 134


1- حاشية كفاية الاُصول، المشكيني 1: 209.

التعبيرات، فلا دليل على امتناع كون شيء واحد قالباً لشيئين أو فانياً فيهما؛ أي يكون اللفظ منظوراً به والمعنيان منظوراً فيهما، وإن كان المراد شيئاً آخر فلا بدّ من بيانه ووجه امتناعه.

وأمّا فناء اللفظ بحسب وجوده الواقعي في المعنى؛ بحيث لا يبقى واقعاً إلاّ شيئية المعنى، فهو أمر غير معقول؛ لأنّ اللفظ له فعلية، وما كان كذلك لا يمكن أن يفنى في شيء.

وما قرع بعض الأسماع من الفناء في بعض الاصطلاحات، فهو أمر موكول إلى أهله(1)

غير مربوط بمثل المقام.

الثالث: أنّ حقيقة الاستعمال إيجاد المعنى في الخارج باللفظ؛ لأنّ اللفظ وجود حقيقي لطبيعي اللفظ بالذات ووجود تنزيلي للمعنى بالجعل والتنزيل، وحيث إنّ الموجود الخارجي بالذات واحد، فلا مجال لأن يقال: بأنّ وجود اللفظ وجود لهذا المعنى خارجاً ووجود آخر لمعنىً آخر؛ حيث لا وجود آخر ينسب إلى الآخر بالتنزيل(2).

وفيه: أنّ هذا أشبه بالخطابة من البرهان؛ فإنّ معنى كون اللفظ وجوداً للمعنى أنّه لفظ موضوع له، ولا يلزم من وضعه للمعنيين أو استعماله فيهما كونه موجودين وله وجودان.

وإن شئت قلت: كون شيء واحد وجوداً تنزيلياً لألف شيء ممّا لا مانع منه، ولا يلزم منه التكثّر في الوجود الواقعي.

ص: 135


1- راجع الفتوحات المكّية 2: 512؛ شرح منازل السائرين، القاساني: 574.
2- نهاية الدراية 1: 152.

وأمّا ما قيل في وجه الامتناع: من استحالة تصوّر النفس شيئين، واستحالة كون اللفظ علّة لحضور المعنيين في الذهن؛ لامتناع صدور الكثير من الواحد.

ففيه ما لا يخفى، مع قيام الضرورة بجواز تصوّر شيئين معاً، وإلاّ لصار التصديق والحكم بكون شيء شيئاً أو لشيء ممتنعاً، ودلالة اللفظ على المعنى ليست من قبيل صدور شيء عن شيء، وهو واضح.

ثمّ إنّه قد فصّل بعض محقّقي العصر رحمه الله علیه (1) بين ما إذا كان الاستعمال في أكثر من معنىً بنحو يكون كلّ واحد من المعنيين ملحوظاً بلحاظ خاصّ به، فاختار فيه الامتناع وقرّر وجهه بما قرّره المحقّق الخراساني، وقد مرّ الجواب عنه(2)،

وبين ما إذا كان الاستعمال في المعنيين بلحاظ واحد بنحو يكون اللفظ حاكياً عن مفهومين ملحوظين بلحاظ واحد، فاختار الجواز فيه.

ولا يخفى ما فيه؛ فإنّ وحدة اللحاظ إن رجعت إلى لحاظ المعنيين بعنوان واحد واستعمال اللفظ فيه، فهذا ليس محلّ النزاع قطعاً، كما اعترف به أيضاً(3).

وإن كان المراد أنّ المعنيين - مع كون كلّ واحد منهما ملحوظاً ومستعملاً فيه - يكونان ملحوظين بلحاظ واحد، كما هو ظاهر كلامه.

ففيه: أنّ اللحاظ والملحوظ هو العلم والمعلوم، وكثرة المعلوم تستتبع كثرة العلم، فلا يمكن أن يكون الملحوظ بما هو ملحوظ متعدّداً واللحاظ واحداً؛

ص: 136


1- بدائع الأفكار (تقريرات المحقّق العراقي) الآملي 1: 146 و150.
2- تقدّم في الصفحة 133.
3- بدائع الأفكار (تقريرات المحقّق العراقي) الآملي 1: 146.

للزوم موجودية المتكثّر بما هو متكثّر بوجود واحد، فإنّ لحاظ الشيء هو وجوده في الذهن، ففرض كون الشيئين موجودين في الذهن مع وحدة اللحاظ، فرض توحيد الكثير مع كثرته. نعم، يمكن أن توجد عناوين كثيرة بوجود واحد، لكنّه غير مربوط بما نحن فيه.

فتحصّل ممّا ذكر: أنّ هذا التفصيل ممّا لا وجه له، كما أنّ القول بالامتناع أيضاً كذلك. هذا، مع وقوعه في كلمات الشعراء والبلغاء.

وأمّا المنع من قِبل الواضع(1)

أو الوضع(2)،

فجوابه واضح لا يحتاج إلى التطويل.

ص: 137


1- اُنظر بدائع الأفكار، المحقّق الرشتي: 163 / السطر 28؛ وقاية الأذهان: 97.
2- الفصول الغروية: 55 / السطر 3؛ بدائع الأفكار، المحقّق الرشتي: 163 / السطر 21.

الأمر الرابع عشر في المشتقّ

اشارة

اختلفوا في أنّ المشتقّ حقيقة في خصوص المتلبّس بالمبدأ في الحال(1)،

أو

الأعمّ منه وممّا انقضى عنه(2).

وقبل تحقيق المقام لا بدّ من تقديم اُمور:

الأوّل: في كون النزاع لغوياً

لا إشكال في أنّ النزاع في المشتقّ إنّما هو في أمر لغوي؛ أي في أنّ لفظ المشتقّ هل وضع للمتلبّس الفعلي أو الأعمّ منه؟ لا في أمر عقلي؛ ضرورة عدم احتمال أحد أنّ من كان عالماً في زمان وانقضى عنه المبدأ يكون بحكم العقل صادقاً عليه عنوان العالم، فلو لم يكن وضع لم يحتمل أحد تحقّق حقيقة في ظرف عدمها.

ص: 138


1- قوانين الاُصول 1: 76 / السطر 8؛ كفاية الاُصول: 64.
2- مبادئ الوصول إلى علم الاُصول: 67.

فما ذكره بعضهم(1) في وجه الخلاف: من ابتنائه على اختلاف نظرهم في حمل المواطاة والاشتقاق، كما ذكره بعض الأعاظم(2) في سرّ اتّفاقهم على المجاز في المستقبل، وسرّ عدم جريان النزاع في أسماء الذوات من الأجناس والأنواع والأعلام، ممّا يظهر منه أنّ النزاع عقلي، ليس على ما ينبغي، كما يأتي الكلام فيه.

الثاني: في العناوين الداخلة في محلّ النزاع

إنّ العناوين الجارية على الذوات لا تخلو:

إمّا أن تكون منتزعة من نفسها من غير دخالة شيء مطلقاً، كالذاتيات المنتزعة منها، ومنها عنوان الوجود والموجود بالنسبة إلى نفس الوجودات الخارجية. وبالجملة: كلّ عنوان بالقياس إلى مصداقه الذاتي أو كمصداقه الذاتي.

وإمّا أن تكون منتزعة باعتبار شيء وجودي كالعالم والأبيض، أو اعتباري كالإمكان؛ فإنّه غير منتزع من نفس الذات بما هي، بل باعتبار تساوي نسبتي الوجود والعدم إليها، وكالملكية والزوجية والرقّية وأمثالها، أو باعتبار أمر عدمي كالإمكان لو قلنا بأ نّه سلب الضرورتين عن الذات سلباً تحصيلياً، وكالأعمى والاُمّي.

ثمّ إنّ العنوان قد يكون ملازماً للذات خارجاً أو خارجاً وذهناً، وقد

ص: 139


1- هو المحقّق الطهراني رحمه الله صاحب «محجّة العلماء». اُنظر نهاية الدراية 1: 164.
2- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 82 - 84.

لا يكون كذلك كالمفارقات من الأعراض. وأيضاً قد تكون العناوين من المشتقّات كالناطق والممكن والموجود، وقد لا تكون كالإنسان والماء والنار والزوج والرقّ.

لا إشكال في عدم جريان النزاع في العناوين الغير الاشتقاقية الصادقة على الذوات بذاتها كالماء والنار والإنسان والحيوان، لا لما ذكره بعض الأعاظم رحمه الله علیه : من أنّ شيئية الشيء بصورته لا بمادّته، فإذا تبدّل الإنسان بالتراب لم يبق ملاك الإنسانية، والمادّة الباقية ليست متّصفة بالإنسانية في وقت(1)؛ لأنّ ذلك منقوض بمثل الخلّ والخمر والماء والجمد ممّا يرى العرف بقاء الذات وتغيّرها في الصفات.

مع أنّ البحث ليس عقلياً حتّى يأتي فيه ما ذكر، وإلاّ فمع انقضاء المبدأ لم يبق ملاك الاتّصاف بالضرورة، ومجرّد الاتّصاف في وقت لا يصحّح الملاك، ومع لغوية النزاع فلم لا يجوز أن يوضع لفظ الكلب - مثلاً - للهيولى الثانية المتلبّسة بصورة الكلب في زمان وإن زال عنوانه وبقيت الهيولى مع صورة اُخرى؟ ألا ترى أنّ العرف والعقل متّفقان على أنّ الملح المنقلب إليه كان كلباً وصار ملحاً؟!

فعدم الجريان فيها ليس لما ذكره، بل لتسالم العرف وأهل اللغة على كونها موضوعة لنفس تلك العناوين، لا للذات المتلبّسة بها ولو في وقت، بخلاف المشتقّات؛ فإنّها محلّ بحث وكلام.

ولا ينبغي الإشكال في جريان النزاع في المشتقّات - سواء كانت منتزعة من

ص: 140


1- أجود التقريرات 1: 79؛ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 83.

نفس الذات كالموجود من الوجود، أو لا، وسواء كان المبدأ لازم الذات بحيث تنتفي بانتفائه كالممكن، أو مقوّماً للموضوع كالموجود بالنسبة إلى الماهية، أو لا - لأنّ محلّ النزاع في المشتقّ هو الهيئات، ووضعها نوعي من غير لحاظ كلّ مادّة مادّة معها، فزنة الفاعل وضعت نوعياً للاتّصاف الخاصّ مثلاً، من غير نظر إلى الموادّ كلّ برأسها، ومن غير أن تكون في كلّ مادّة موضوعة على حدة، ومن غير نظر إلى خصوصيات المصاديق.

فالقول - بأنّ مثل الناطق والضاحك والممكن والموجود خارج عن محلّ البحث؛ لأنّ تلك العناوين ليس لها معنون باقٍ بعد انقضاء المبدأ عنه(1) - بعيد عن الصواب؛ لأنّ محلّ النزاع زنة الفاعل والمفعول وغيرهما من المشتقّات.

وأمّا العناوين العرضية التي تنتزع من الذات باعتبار أمر وجودي أو اعتباري أو عدمي ممّا ليست اشتقاقية، فميزان جريان البحث فيها هو جواز بقاء الذات مع انقضاء المبدأ فيما إذا كان الوضع شخصياً، ومطلقاً فيما إذا كان نوعياً، كهيئة الانتساب مثل الحمّامي والسلماني والطهراني وأمثالها.

كلام فخر المحقّقين في الرضاع

والدليل على جريان النزاع في مثل تلك العناوين الغير المشتقّة: ما حكي عن فخر المحقّقين(2) والشهيد(3) في مسألة من كانت له زوجتان

ص: 141


1- أجود التقريرات 1: 78 - 79.
2- إيضاح الفوائد 3: 52.
3- مسالك الأفهام 7: 269.

كبيرتان أرضعتا زوجته الصغيرة؛ من ابتناء تحريم المرضعة الثانية على النزاع في المشتقّ.

فعن «الإيضاح»: «أنّ تحريم المرضعة الاُولى والصغيرة مع الدخول بإحدى الكبيرتين بالإجماع، وأمّا المرضعة الأخيرة ففي تحريمها خلاف، فاختار والدي المصنّف(1)

وابن إدريس(2)

تحريمها؛ لأنّ هذه يصدق عليها أنّها اُمّ زوجته؛ لأ نّه لا يشترط في صدق المشتقّ بقاء المشتقّ منه»(3)، هذا.

وقد يقال: إنّ تسليم حرمة المرضعة الاُولى والخلاف في الثانية مشكل لاتّحادهما في الملاك، وذلك لأنّ اُمومة المرضعة الاُولى وبنتية المرتضعة متضايفتان متكافئتان في القوّة والفعلية، وبنتية المرتضعة وزوجيتها متضادّتان شرعاً، ففي مرتبة حصول اُمومة المرضعة تحصل بنتية المرتضعة، وتلك المرتبة مرتبة زوال زوجية المرتضعة، فليست في مرتبة من المراتب اُمومة المرضعة مضافة إلى زوجية المرتضعة؛ حتّى تحرم بسبب كونها اُمّ الزوجة(4).

واُجيب عنه: بأنّ الرضاع المحرّم علّة لتحقّق عنوان الاُمومة والبنتية، وعنوان البنتية للزوجة المرتضعة علّة لانتفاء عنوان الزوجية عنها، فانتفاء عنوان الزوجية عن المرتضعة متأخّر رتبة عن عنوان البنتية لها، ولا محالة أنّها تكون زوجة في رتبة عنوان البنتية؛ لاستحالة ارتفاع النقيضين، ففي تلك المرتبة

ص: 142


1- قواعد الأحكام 3: 25.
2- السرائر 2: 556.
3- إيضاح الفوائد 3: 52.
4- نهاية الدراية 1: 168.

تجتمع الزوجية والبنتية واُمومة الزوجة(1).

أقول: الظاهر من فخر المحقّقين أنّ تحريم المرضعة الاُولى والمرتضعة ليس منوطاً بالنزاع في المشتقّ؛ لتحقّق الإجماع على حرمتهما، كان المشتقّ موضوعاً للمتلبّس أو الأعمّ منه، بل يمكن استفادة حرمتهما من صحيحتي محمّد بن مسلم، عن أبي جعفر علیه السلام (2)، والحلبي عن أبي عبدالله علیه السلام (3) - واللفظ من أوّلهما - قالا: «لو أنّ رجلاً تزوّج جارية رضيعة، فأرضعتها امرأته فسد النكاح».

وأمّا حرمة الثانية فليست إجماعية، ولعلّه استشكل في النصّ الوارد فيها - وهو رواية ابن مهزيار المصرّحة بحرمة المرضعة الاُولى دون الثانية(4) - بالإرسال وضعف السند(5).

فحينئذٍ تكون المسألة عنده غير منصوصة ولا إجماعية، فتكون مبنيّة على النزاع في المشتقّ، ولم يظهر منه أنّ المسألة الاُولى خارجة عن بحث المشتقّ لولا الإجماع والنصّ. فالإشكال عليه - بأنّ تسليم حرمة المرضعة

ص: 143


1- بدائع الأفكار (تقريرات المحقّق العراقي) الآملي 1: 161.
2- الفقيه 3: 306 / 1472؛ وسائل الشيعة 20: 399، كتاب النكاح، أبواب ما يحرم بالرضاع، الباب 10، الحديث 1.
3- الكافي 5: 444 / 4؛ وسائل الشيعة 20: 399، كتاب النكاح، أبواب ما يحرم بالرضاع، الباب 10، الحديث 1.
4- الكافي 5: 446 / 13؛ وسائل الشيعة 20: 402، كتاب النكاح، أبواب ما يحرم بالرضاع، الباب 14، الحديث 1.
5- إيضاح الفوائد 3: 52.

الاُولى والخلاف في الثانية مشكل(1) - كأ نّه في غير محلّه، ودعوى وحدة الملاك(2)

غير مسموعة.

نعم، لولا الإجماع كانت الاُولى أيضاً من مصاديق محلّ النزاع، ولا يدفع الإشكال بما تقدّم؛ لأنّ بنتية المرتضعة ليست علّة تكوينية لرفع الزوجية، بل لا بدّ في استفادة العلّية أو التمانع بين الزوجية والبنتية من الأدلّة الشرعية، وظاهرها عدم اجتماع الزوجية مع العناوين المحرّمة، فقوله: )حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ اُمَّهَاتُكُمْ...((3) إلى آخره ظاهر في أنّ الاُمّ وغيرها من العناوين لا تصير زوجة، وهذا ينافي اجتماعهما في آنٍ أو رتبة.

وأمّا ما أفاده صاحب «الجواهر»(4) في دفع الإشكال: بأنّ آخر زمان الزوجية متّصل بأوّل زمان صدق الاُمّية، ولعلّ هذا كافٍ في الاندراج تحت )اُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ((5).

ففيه: أنّ الصدق مسامحي لا حقيقي إلاّ بناءً على وضع المشتقّ للأعمّ.

ثمّ إنّ الظاهر عدم وجود عنوان «اُمّ الزوجة» في النصوص، بل الموجود «اُمّهات النساء»، ولا إشكال في عدم جريان نزاع المشتقّ فيه، فالكلام ساقط من أصله.

ص: 144


1- نهاية الدراية 1: 168.
2- نفس المصدر.
3- النساء (4): 23.
4- جواهر الكلام 29: 330.
5- النساء (4): 23.

الثالث: في خروج أسماء الزمان عن محطّ البحث

الظاهر خروج اسم الزمان عن محطّ البحث؛ لعدم بقاء الذات مع انقضاء المبدأ فيه، واُجيب عن الإشكال بوجوه غير مقنعة:

منها: ما قال المحقّق الخراساني: من أنّ انحصار مفهوم عامّ بفرد - كما في المقام - لا يوجب أن يكون وضع اللفظ بإزاء الفرد دون العامّ، كالواجب الموضوع للمفهوم العامّ مع انحصاره فيه تعالى(1).

وفيه: أنّ الوضع إنّما هو للاحتياج إلى إفهام المعنى، وليس له موضوعية، فالوضع لمعنىً غير محتاج إليه رأساً لغو، والواجب مفهوم عامّ له مصاديق كثيرة لا ينحصر فيه تعالى، بل ما ينحصر فيه تعالى هو الواجب بالذات، وهو غير موضوع، بل الموضوع هو المفردات، ولفظ الجلالة علم لذاته تعالى، مع أنّه على فرض وضعه للذات الجامعة للكمالات لعلّه للاحتياج إلى الاستعمال أحياناً، وكذا في مثل لفظ الشمس والقمر على فرض عدم كونهما علمين.

وأمّا الذات الباقية في الزمان مع انقضاء المبدأ عنها فلا يكون لها مصداق خارجي، ولا يتصوّر له مصداق عقلي مع حفظ ذاته؛ فإنّه متصرّم متقضٍّ بالذات، فلا احتياج لإفهام ما لا يتصوّر له وجود ولا يتعقّل له مصداق.

وبالجملة: ماهية الزمان آبية عن البقاء مع انقضاء المبدأ، فلا تقاس

ص: 145


1- كفاية الاُصول: 58.

بمفهوم الذات الجامعة للصفات أو الشمس والقمر؛ فإنّ مفاهيمها بما هي لا تأبى عن الكثيرين.

ومنها: ما قاله بعض الأعاظم: من أنّ اسم الزمان موضوع لمعنىً كلّي له أفراد غير مجتمعة في الوجود، فالمقتل موضوع لزمان كلّي متّصف بالقتل، وهو باقٍ بوجود فرد آخر(1).

هذا، وهو لا يخلو من غرابة؛ لأنّ اسم الزمان موضوع لكلّ زمان يكون وعاء الحدث، لا لكلّ زمان مطلقاً، ومعلوم أنّ وعاءه هو الزمان الخارجي، وهو غير باقٍ، والموجود في عام آخر مصداق لعنوان آخر مثل عاشر المحرّم، وهو موجود آخر ولو اعتباراً(2)،

فالكلّي القابل للصدق على الكثيرين ليس وعاءً للحدث، وما هو وعاؤه هو الموجود الخارجي، وهو غير باقٍ.

ومنها: ما قاله بعض آخر: وهو أنّ الزمان هوية متّصلة باقية بالوحدة الوجودية، وإلاّ لزم تتالي الآنات وهو مستحيل كاستحالة الجزء، وعليه يكون الزمان بهويته ووحدته باقياً وانقضى عنه المبدأ، ولولا كون الألفاظ موضوعة للمعاني العرفية لقلنا بصدق اسم الزمان على الهوية الزمانية إلى آخر الأبد، فكان مقتل يحيى والحسين علیهما السلام صادقاً على الزمان إلى الأبد، لكن العرف بعد حكمه بأنّ للزمان بقاءً ووحدة قسّمه إلى أقسام حسب احتياجاته أو العوارض الخارجية كالنهار والليل والفصول، فحينئذٍ إذا وقع قتل في حدّ من

ص: 146


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 89.
2- وإنّما قلنا: «اعتباراً»؛ لأنّ الزمان هوية متّصلة إلى الأبد، وتقسّماته إلى الأيّام والشهور اعتبارية حسب احتياج البشر. منه عفي عنه.

حدود اليوم يرى العرف اليوم باقياً إلى الليل ومتلبّساً بالمبدأ ومنقضياً عنه مع بقائه، فيطلق المقتل على اليوم بعد انقضاء التلبّس، كإطلاقه «العالم» على «زيد» بعد انقضاء العلم(1).

وفيه: أنّ العرف كالعقل كما يحكم بالوحدة الاتّصالية للزمان يرى تجدّده وتصرّمه وعدم اجتماع لاحقه بسابقه، فللزمان هوية اتّصالية لكنّها متصرّمة متقضّية، فاليوم لدى العرف عبارة عن هوية باقية لكن على نحو التصرّم، لا بمعنى كون حدّه الأوّل باقياً إلى آخره، فيرى أوّله غير وسطه وآخره، فإذا حدثت في أوّل اليوم حادثة لا يرى زمان الوقوع باقياً وقد زال عنه المبدأ، بل يرى اليوم باقياً وزمان الوقوع منقضياً.

وبالجملة: البقاء الذي يعتبر في المشتقّ هو بقاء الشخص الذي يتلبّس بالمبدأ عيناً، وهو غير باقٍ في الزمان، والبقاء التصرّمي التجدّدي لا يدفع الإشكال.

نعم، لو كان في نظر العرف بقاء الزمان كالزماني كان الإشكال مرتفعاً، لكنّه ليس كذلك عرفاً ولا عقلاً.

ومنها: ما احتمل بعضهم: من أنّ اسم الزمان موضوع لوعاء الحدث؛ من غير خصوصية الزمان والمكان، فيكون مشتركاً معنوياً للجامع بينهما، فحينئذٍ وضع الهيئة للأعمّ ممّا لا مانع منه، فيأتي النزاع فيه(2).

وفيه: أنّه لا جامع ذاتي بين الزمان والمكان، وكذا بين وعائيتهما للمبدأ؛ فإنّ الوقوع في كلّ على نحو يباين الآخر، فلا بدّ من انتزاع جامع عرضي بينهما،

ص: 147


1- بدائع الأفكار (تقريرات المحقّق العراقي) الآملي 1: 162 - 164.
2- نهاية الدراية 1: 172؛ نهاية الاُصول: 72.

كمفهوم الوعاء أو الظرف مثلاً، والالتزامِ بوضعه له.

مع أنّه خلاف المتبادر من أسماء الزمان والمكان؛ ضرورة أنّه لا يفهم من لفظ المقتل مفهوم وعاء الحدث أو مفهوم ظرفه، بل لو كان الوعاء جامعاً ذاتياً بينهما أيضاً، لم يوضع اسمهما له لما ذكر.

فالظاهر أنّ أسماء الزمان والمكان مشتركة لفظاً، بل يختلج في الذهن أنّ الوعائية والظرفية بالنسبة إلى الزمان ليست على نحو الحقيقة، بل اُطلقت عليه بدعوى كون الزمان كالمكان محيطاً بالزماني إحاطة المكان بالمتمكّن.

فتحصّل ممّا ذكرنا: أنّ أسماء الزمان خارجة عن محطّ البحث؛ لعدم ملاكه فيها.

الرابع: في وضع المشتقّات

وفيه جهات:

الاُولى: في كيفية وضع المادّة

التحقيق: أنّ لمادّة المشتقّات السارية فيها وضعاً مستقلاًّ، ولا يمكن أن يكون المصدر أو اسمه مادّة لها؛ لتأبّي هيئتهما عن ورود هيئة اُخرى عليهما، ولولا وضع المادّة لكان الوضع الشخصي لا بدّ منه في جميع الاشتقاقات؛ لعدم محفوظية ما يدلّ على المادّة لولا وضعها - ووضع المادّة شخصي، ولا مشاحّة لو قيل [بسبب] تطوّرها بالهيئات: إنّ وضعها نوعي(1) - والالتزام

ص: 148


1- نهاية الأفكار 1: 125؛ بدائع الأفكار (تقريرات المحقّق العراقي) الآملي 1: 156.

بالوضع الشخصي لها في جميع الهيئات خلاف الوجدان والضرورة، بل يلزم اللغوية منه.

مع أنّا قد نعلم معنى مادّة ونجهل معنى الهيئة، كما لو فرض الجهل بمعنى هيئة اسم الآلة في «مضراب» مع العلم بمعنى «الضرب»، فلا إشكال في أنّا نفهم أنّ للضرب هاهنا تطوّراً وشأناً، وليس هذا إلاّ للوضع.

كما أنّ دلالة الهيئة على معناها مع الجهل بمعنى المادّة دليل على وضعها مستقلاًّ نوعياً، مع أنّ بعض المصادر قياسي، فلا بدّ له من مادّة سابقة.

لا يقال: إنّ الموادّ المجرّدة عن كافّة الهيئات ليست من مقولة اللفظ؛ لعدم إمكان النطق بها، فلا معنى لوضعها.

مضافاً إلى أنّ المادّة إذا كانت موضوعة لنفس الحدث اللابشرط، يلزم منه كون اسم المصدر الموضوع له بعينه، بل المصدر - على ما هو المعروف بين أهل الأدب الموافق للتبادر من كونه موضوعاً للحدث(1) - غير مشتقّين من المادّة؛ لأنّ الهيئة لا بدّ لها من وضع وإفادة زائدين على المادّة.

هذا، مضافاً إلى أنّه على فرض وضع المادّة المجرّدة عن كافّة الهيئات، أنّه لو وجدت في ضمن هيئة غير موضوعة أيضاً، دلّت على معناها، مع أنّه خلاف الواقع.

فإنّا نقول: إنّ الموادّ موضوعة بالوضع التهيّئي لأن تتلبّس بهيئة موضوعة كذلك للإفادة والدلالة، ومثل ذلك لا يلزم أن يكون من مقولة اللفظ مستقلاًّ

ص: 149


1- شرح الرضي على الكافية 3: 399 و402؛ شرح ابن عقيل 1: 557؛ البهجة المرضيّة 1: 196.

وابتداءً، ولا ممّا يمكن به النطق كذلك، بل يكفي الإمكان ولو في ضمن هيئة ما.

وأمّا الفرق بينها وبين اسم المصدر الدالّ على نفس الحدث والمصدر بناءً عليه: أنّ هيئتهما يمكن أن تكون موضوعة لتمكين النطق بالمادّة؛ لإفادة نفس الحدث من حيث هو في مقابل سائر المشتقّات، فالمادّة موضوعة لنفس الحدث، لكن لا يمكن الإفادة بنفسها ولا النطق بها، والناس قد يحتاجون إلى إفادتها، فوضعت هيئتهما لا لمعنىً من المعاني، بل لكونهما آلة للنطق بالمادّة، فإفادة معنى الحدث إنّما هي بالمادّة المتحصّلة بهذه الصورة، لا بمعنى أنّ التحصّل بها دخيل في إفادة المعنى حتّى تكون المادّة المقيّدة دالّة، بل بما ذكرناه.

وممّا ذكرناه يتّضح أنّه يصحّ أن يقال: إنّ المصدر أو اسمه أصل المشتقّات؛ لأ نّهما كأ نّهما المادّة من غير زيادة.

وأمّا لزوم دلالة المادّة في ضمن أيّة هيئة ولو كانت لغواً، ففيه: أنّ المادّة بعد ما كانت موضوعة بالوضع التهيّئي للازدواج مع الهيئات الموضوعة للدلالة، يكون لها ضيق ذاتي، فلا تدلّ في ضمن غيرها، مع أنّ في كيفية دلالتها كلاماً يحلّ به الإشكال، يأتي عن قريب إن شاء الله.

لا يقال: وضع المادّة والهيئة مستقلاًّ ينافي بساطة المشتقّات، بل يلزم منه دلالتها على معنيين مستقلّين، وهو خلاف التحقيق بل الضرورة(1).

فإنّه يقال: هذا يلزم لو كانت المادّة والهيئة موجودتين بوجودين مستقلّين،

ص: 150


1- اُنظر وقاية الأذهان: 161.

ودالّتين على المعنى كذلك، وهو خلاف الواقع؛ فإنّ المادّة كما أنّها مندكّة في الصورة، وهي مزدوجة معها، فتركيبهما كأ نّه اتّحادي، تكون دلالتهما على المعنى كذلك، كما أنّ معانيهما كذلك، فبين معاني المشتقّات - كألفاظها ودلالتها - نحو اتّحاد، كاتّحاد المادّة والصورة، كما سنشير إليه(1).

وبهذا يظهر دفع ما يتوهّم من لزوم دلالة المادّة في ضمن الهيئات المهملة.

وأمّا ما عن سيّد مشايخنا المحقّق الفشاركي - رحمه الله تعالى - : «من أنّ المادّة ملحوظة أيضاً في وضع الهيئات، فيكون الموضوع هي المادّة المتهيّئة بالهيئة الخاصّة، وهو الوضع الحقيقي الدالّ على المعنى، وليس الوضع الأوّل إلاّ مقدّمة لهذا الوضع وتهيئة له، ولا نبالي بعدم تسمية الأوّل وضعاً؛ إذ تمام المقصود هو الوضع الثاني»(2)،

انتهى.

ففيه أوّلاً: لا معنى لعدم دلالة المادّة إذا كانت موضوعة للمعنى، ومجرّد كونه مقدّمة لا يوجب عدم الدلالة، فحينئذٍ يلزم ما هو أفحش، وهو التركيب مع تكرّر الدلالة؛ لتكرّر الوضع استقلالاً وتبعاً، تأمّل.

وثانياً: أنّ الوضع الثاني إن كان مع كلّ هيئة يلزم منه الوضع الشخصي، وهو مع بطلانه مغنٍ عن وضع المادّة مستقلاًّ، ووضعها مع مادّة ما - مع فساده في نفسه؛ لعدم وجود مادّة ما بالحمل الشائع، والالتزام بالحمل الأوّلي أفحش - لا يقطع الإشكال لولا الوضع في كلّ بخصوصه. فالتحقيق ما مرّ، فافهم واغتنم.

ص: 151


1- يأتي في الصفحة 167 - 168.
2- اُنظر وقاية الأذهان: 161 - 162.

الثانية: في وضع الهيئات

ولا يلزم من وضعها إمكان تصوّرها مجرّدة عن المادّة، بل يكفي تصوّرها في ضمن مادّة وتعلّق الوضع بها، فيقال: زِنة فاعل أو مفعول لكذا.

والمشتقّات: فعلية واسمية، والفعلية منها حاكيات كالماضي والمضارع، ومنها موجدات كالأوامر.

والتحقيق: أنّ هيئات الأفعال حروف لها معانٍ حرفية غير مستقلّة بالمفهومية ولا بالموجودية، ويكون وضعها - كالحروف - عامّاً والموضوع له خاصّاً على التفصيل الذي سبق في الحروف(1).

أمّا كون معانيها حرفية؛ فلأنّ هيئة الماضي وضعت للحكاية عن تحقّق صدور الحدث من فاعل على ما هو عليه من كون الصدور وتحقّقه يكون بتبع الفاعل، أو للحكاية عن الكون الرابط؛ أي حلول الحدث في الفاعل، كبعض الأفعال اللازمة، ك «حَسُن وقَبُح».

وبالجملة: الهيئات موضوعة لتحقّق المعاني الربطية بالحمل الشائع.

والفرق بين الماضي والمضارع: أنّ الأوّل يحكي عن سبق تحقّق الحدث، والثاني عن لحوقه، لكن لا بمعنى وضع اللفظ بإزاء الزمان الماضي والمستقبل، أو بإزاء السبق واللحوق، بل اللفظ موضوع لحصّة من التحقّق الملازم للسبق أو اللحوق لزوماً بيّناً؛ فإنّ الإيجاد بعد الفراغ عنه يكون سابقاً لا محالة، وإذا لم يتحقّق لكن يصير متحقّقاً، يكون لاحقاً لا محالة.

ص: 152


1- تقدّم في الصفحة 28.

ولا يبعد دلالتهما على السبق واللحوق بالمعنى الحرفي، فإنّهما بالحمل الشائع من الإضافات التي لا تكون موجودة إلاّ بتبع مناشئها، فيكون الماضي موضوعاً للصدور السابق بالإضافة بالحمل الشائع، ولا يخرج بذلك عن المعنى الحرفي، ولا يلزم التركيب.

ولكنّ التحقيق: أنّ دلالة الفعل على الحدث، وعلى سبق الصدور في الماضي، أو على لحوقه في المضارع، أو على البعث إلى الصدور، ليست دلالات مستقلّة متعدّدة، بل لها وحدة بنحو، فكما أنّ المادّة والهيئة كأ نّهما موجودتان بوجود واحد، كأ نّهما دالّتان دلالة واحدة على معنىً واحد قابل للتحليل.

بيان ذلك: أنّ تحقّق الصادر والصدور ليس تحقّقين، كما أنّ تحقّق الحالّ والحلول كذلك، لكنّهما قابلان للتحليل، وفي ظرفه يكون كلّ واحد منهما مستقلاًّ بالملحوظية، والأسماء الموضوعة لما في ظرفه مستقلّة في الدلالة، كالربط والمربوط، والصادر والصدور، والحالّ والحلول، وأمثالها.

ولا يكون في ظرف التحليل ربط بين الفاعل والفعل والموضوع والعرض، ولا تكون حكاية تلك الألفاظ عن الواقع على طبقه، لكن إذا لوحظ الواقع على ما هو عليه لا يكون تكثّر في الصدور والصادر والحالّ والحلول، ولا يكون في الخارج إلاّ الفاعل وفعله والموضوع وعرضه.

ف «زيد ضَرَبَ» يحكيان عن زيد وفعله في ظرف حصوله، فلا تكون لفظة «ضَرَبَ» دالّة على الحدث والحدوث والانتساب إلى الفاعل وسبق الصدور دلالات مستقلّة متكثّرة، بل لفظة واحدة ودلالة كذلك، لكن قابلة للتحليل، فكما

ص: 153

أنّ الجسم دالّ على معنىً واحد، لكن المعنى مركّب قابل للتحليل كذلك «ضَرَبَ»، والفرق بينهما: أنّ لفظ «ضَرَبَ» كمعناه مركّب من مادّة وصورة، وكذا دلالته على معناه دلالة واحدة منحلّة، دون لفظ «الجسم» ودلالته عليه، فكما أنّ وحدة حقيقة الجسم لا تنافي التحليل، كذلك وحدة فعل الفاعل ووحدة اللفظ الدالّ عليه، فافهم واستقم.

الثالثة: في كيفية دلالة الفعل المضارع على الحال

لا إشكال في اختلاف الفعل المضارع في الدلالة:

فمنه: ما يدلّ على المستقبل ولا يطلق على الحال، مثل: «يقوم» و«يقعد» و«يذهب» و«يجيء» و«يجلس»... إلى غير ذلك، فلا تطلق على المتلبّس بمبادئها في الحال.

ومنه: ما يطلق على المتلبّس في الحال بلا تأوّل، مثل: «يعلم» و«يحسب» و«يقدر» و«يشتهي» و«يريد».

ومنه: الأفعال التي مبادئها تدريجية الوجود.

وما يقال: من أنّ استعمال المضارع في التدريجيات باعتبار الأجزاء اللاحقة(1) - مع ممنوعيته؛ لعدم صحّة إطلاق الماضي عليها، فلا يقال: «صلّى» لمن يصلّي - لا يتمّ بالنسبة إلى الأمثلة المتقدّمة، ممّا كانت مبادئها دفعية ولها بقاء، فلا فرق من حيث المبدأ بين «يقدر» و«يعلم» وبين «يقوم» و«يقعد»، والالتزام بتعدّد الوضع بعيد.

ص: 154


1- درر الفوائد، المحقّق الحائري: 60.

ولا يبعد أن يقال: إنّ هيئة المضارع وضعت للصدور الاستقبالي، لكنّها استعملت في بعض الموادّ في الحال حتّى صارت حقيقة فيه.

وهاهنا جهات اُخرى من البحث مرتبطة بالمشتقّات الاسمية، سيأتي التكلّم فيها في المشتقّ، كالمباحث المرتبطة بهيئته، يأتي كلّ في بابه.

الخامس: في اختلاف مبادئ المشتقّات

اختلاف مبادئ المشتقّات - من حيث كون بعضها حرفة وصنعة أو قوّة وملكة - لا يوجب اختلافاً في الجهة المبحوث عنها، وإنّما الفرق في أنحاء التلبّس والانقضاء، وهذا ممّا لا إشكال فيه.

إنّما الكلام في وجه هذه الاختلافات، فإنّا نرى أنّ مفهوم التاجر والصائغ والحائك وأمثالها يدلّ على الحرفة والصنعة، وأسماء الآلات والمكان قد تدلّ على كون الشيء معدّاً لتحقّق الحدث به أو فيه، فالمفتاح مفتاح قبل أن يفتح به، والمسجد مسجد قبل أن يصلّى فيه... وهكذا.

قد يقال: «إنّ هذه المشتقّات مستعملات في المعاني الحدثية كسائر المشتقّات، وإنّما الاختلاف في الجري على الذوات، فقولنا: هذا مسجد، وهذا مفتاح، كقولنا: هذا كاتب بالقوّة؛ حيث إنّ الكاتب مستعمل في معناه لا في الكاتب بالقوّة. وكذا الكلام في أسماء الأزمنة والأمكنة والآلات؛ فإنّ الجري فيها بلحاظ القابلية والاستعداد. وأمّا ما يدلّ على الحرفة، فسرّ الإطلاق [فيها] مع عدم التلبّس، أنّه باتّخاذه تلك المبادئ حرفة

ص: 155

كأ نّه صار ملازماً للمبدأ دائماً»(1)، انتهى ملخّصاً.

وفيه: أنّ تلك المشتقّات مع قطع النظر عن الجري والحمل تفيد معاني غير معاني المشتقّات المتعارفة، فالمسجد بمفهومه التصوّري يدلّ على المكان التهيّئي للعبادة، وكذا المفتاح، ولفظ التاجر والحائك بمفهومهما التصوّري يدلاّن على الحرفة، وإنكار ذلك مكابرة، فدلالة هذه على تلك المعاني غير مرتبطة بالجري والحمل.

فلا محيص بعد عدم الالتزام بتعدّد الأوضاع أن يقال:

أمّا في مثل التاجر والخيّاط - ممّا تدلّ على الحرفة والصنعة - فإنّها استعملت في تلك المعاني أوّلاً بنحو المجاز فصارت حقيقة إمّا باستعمال الموادّ في الصنعة والحرفة، أو استعمال مجموع المادّة والهيئة مجازاً؛ باعتبار أنّ المشتقّات كأ نّها كلمة واحدة مادّة وهيئة كسائر العناوين البسيطة.

وهذا أيضاً لا يخلو من بُعد، وحيث إنّ المتبادر منها الحرفة والصنعة لوحظت المناسبة بينها وبين المعنى الحقيقي، ولم تكن العناية المصحّحة فرض الفترات كالأعدام ورؤية المبدأ الفعلي حاصلاً؛ لكون ذلك خلاف المتبادر؛ فإنّا لا نفهم من التاجر ومثله إلاّ من كان حرفته كذلك، لا المشتغل بفعل التجارة دائماً، كما هو واضح.

وممّا ذكرنا يتّضح الحال في أسماء المكان والآلات، مع إمكان أن يقال: إنّ في مثل المسجد والمنبر والمحراب وأمثالها، انقلبت الوصفية إلى الاسمية،

ص: 156


1- نهاية الدراية 1: 184 - 185.

فكأ نّها أسماء أجناس لا يفهم العرف منها إلاّ ذات تلك الحقائق، ولا ينسبق إلى الذهن المبادئ رأساً، وكذا في أسماء الآلات.

بل يمكن أن يقال: إنّ المفهوم العرفي من مكان السجدة وآلة الفتح ليس إلاّ ما يعدّ لهما، لا المكان الحقيقي الذي اختلفت فيه آراء الحكماء والمتكلّمين، ولا الآلة الفعلية للفتح، فحينئذٍ يمكن أن يلتزم بأنّ هيئة اسم الآلة وضعت لها، وتكون هي في نظر العرف بمعنى ما يعدّ لكذا، وهيئة اسم المكان لمكان الحدث، والمكان لدى العرف ما يعدّ لتحقّق الشيء فيه، لكنّه لا يطّرد ذلك بالنسبة إلى الثاني، وإن لا يبعد بالنسبة إلى الأوّل.

وبعدُ فالمسألة لا تخلو من الإشكال.

السادس: في المراد ب- «الحال»

بعد ما أشرنا إلى أنّ الكلام في المشتقّ إنّما هو في المفهوم اللغوي التصوّري يتّضح أنّ المراد بالحال في العنوان ليس زمان الجري والإطلاق، ولا زمان النطق، ولا النسبة الحكمية؛ لأنّ كلّ ذلك متأخّر عن محلّ البحث، ودخالتها في الوضع غير ممكن، وبما أنّ الزمان خارج عن مفهوم المشتقّ لا يكون المراد زمان التلبّس، بل المراد أنّ المشتقّ هل وضع لمفهوم لا ينطبق إلاّ على المتّصف بالمبدأ أو لمفهوم أعمّ منه؟

وإن شئت قلت: إنّ العقل يرى بين أفراد المتلبّس فعلاً جامعاً انتزاعياً، فهل اللفظ موضوع لهذا الجامع أو الأعمّ منه؟

وممّا ذكرنا - من أنّ محطّ البحث هو المفهوم التصوّري - يدفع ما ربّما

ص: 157

يتوهّم: أنّ الوضع للمتلبّس بالمبدأ ينافي عدم التلبّس به في الخارج، خصوصاً إذا كان التلبّس ممتنعاً كالمعدوم والممتنع؛ للزوم انقلاب العدم والامتناع إلى الوجود والإمكان(1).

وذلك لأنّ التالي إنّما يلزم - على إشكال فيه - لو كان المعدوم مثلاً، وضع لمعنى تصديقي هو كون الشيء ثابتاً له العدم، ومعه يلزم الإشكال ولو مع الوضع للأعمّ أيضاً، وسيأتي(2)

أنّ مفاهيم المشتقّات ليست بمعنى «شيء ثبت له كذا»؛ حتّى يقال: إنّ ثبوت شيء لشيء فرع ثبوت المثبت له.

وعلى هذا لا نحتاج إلى التشبّث بأنّ الكون الرابط لا ينافي الامتناع الخارجي للمحمول(3)؛

فإنّ الإشكال لا يدفع بما ذكر؛ لأنّ الكون الرابط وإن كان لا ينافي كون المحمول عدماً أو ممتنعاً - على تأمّل فيه - لكن لا يمكن تحقّقه إذا كان الموضوع معدوماً أو ممتنعاً كما فيما نحن فيه، ففي مثل: «زيد معدوم» و«شريك الباري ممتنع» لا يمكن تحقّق الكون الرابط، وهذه القضايا في قوّة المحصّلات من القضايا السالبة.

السابع: في امتناع تصوير الجامع على الأعمّ

لا بدّ للقائل بالوضع للأعمّ من فرض جامع بين المتلبّس به والمنقضي عنه، ومع عدم تصويره تسقط دعواه من غير احتياج إلى إقامة البرهان؛ لأنّ مدّعى

ص: 158


1- اُنظر نهاية الدراية 1: 191.
2- يأتي في الصفحة 167.
3- نهاية الدراية 1: 191.

الأعمّي هو الوضع لمعنىً عامّ بنحو الاشتراك المعنوي، دون اللفظي ودون عموم الوضع وخصوص الموضوع له، فلا بدّ من جامع يكون هو الموضوع له.

مع أنّ الجامع الذاتي بينهما غير ممكن؛ لأنّ المدّعى أنّ الفاقد يصدق عليه المشتقّ في حال فقدانه لأجل التلبّس السابق لا الجري عليه بلحاظ حال التلبّس، فإنّه لا نزاع في أنّه حقيقة حتّى فيما سيأتي، ومعلوم أنّ الجامع بين الواجد والفاقد ممّا لا يعقل.

والجامع الانتزاعي البسيط أيضاً غير متصوّر؛ بحيث يدخل فيه الواجد والفاقد الذي كان متلبّساً، ويخرج منه ما سيتلبّس.

والجامع البسيط الذي ينحلّ إلى المركّب أيضاً غير معقول؛ لأنّ مثله إنّما يتصوّر فيما إذا كان الواقع كذلك، فإنّه مأخوذ منه.

فلا بدّ من الالتزام بالتركيب التفصيلي، وهو يرجع إلى الاشتراك اللفظي ولو بوضع واحد، وذلك من غير فرق بين القول بأخذ الذات في المشتقّ وعدمه، أو الزمان فيه وعدمه؛ لأنّ الذات بما هي ليست موضوعاً لها، وكذا الزمان، فلا بدّ من تقييدهما بالتلبّس وعدمه مع انقضائه خارجاً، ويعود محذور عدم الجامع مطلقاً والتركيب التفصيلي الراجع إلى الاشتراك اللفظي.

فليس للقائل بالأعمّ وجه معقول يعتمد عليه، وظنّي أنّ القائل به لمّا توهّم صحّة إطلاق بعض المشتقّات على المنقضي عنه المبدأ التزم بالأعمّ من غير توجّه إلى أن لا جامع بينهما.

ص: 159

التحقيق كون المشتقّ حقيقة في خصوص المتلبّس

اشارة

إذا عرفت ما ذكر: اتّضح لك الأمر من كون المشتقّ حقيقة في المتلبّس، مع أنّ التبادر هو الدليل الوحيد في مثل المقام الذي يكون البحث فيه لغوياً لا عقلياً،

وهو يساعد [على] المتلبّس به لا الأعمّ.

وصحّة السلب ترجع إليه كما تقدّم(1)، وكذا ما يقال من تضادّ الصفات المأخوذة من المبادئ المتضادّة على ما ارتكز لها من المعاني(2)؛ فإنّه لو لا التبادر لما كان بينها تضادّ ارتكازاً.

وقد يستدلّ بوجوه عقلية:

من أنّ الحمل والجري لا بدّ له من خصوصية؛ وإلاّ لزم حمل كلّ شيء على كلّ شيء، وهي نفس المبادئ القائمة بالذوات، ولا يمكن الحمل على الفاقد المنقضي عنه المبدأ، فلا بدّ للقائل بالأعمّ: إمّا إنكار الخصوصية في الجري، وهو خلاف الضرورة، أو دعوى بقاء الخصوصية بعد الانقضاء، وليس بعده شيء إلاّ بعض العناوين الانتزاعية، هذا.

وفيه: أنّ هذا الوجه إن رجع إلى التبادر فوجيه، بأن يقال: إنّ المشتقّ يتبادر منه المتلبّس بالفعل، وإلاّ فالحمل والجري متأخّران عمّا هو محلّ البحث،

ص: 160


1- تقدّم في الصفحة 82 - 83 و85.
2- كفاية الاُصول: 65.

فلو وضع اللفظ لمعنىً أعمّ يكون الحمل صحيحاً بعد الانقضاء على فرض تصوير الجامع.

ويتلوه ما قيل: من أنّ مفهوم الوصف بسيط: إمّا على ما يرى العلاّمة الدواني(1)

من اتّحاد المبدأ والمشتقّ ذاتاً واختلافهما اعتباراً، أو على نحو آخر، ومعه لا يعقل الوضع للأعمّ، ثمّ أخذ في الاستدلال على الامتناع(2).

وفيه: أنّ بساطة مفهوم المشتقّ وتركيبه فرع الوضع، وطريق إثباته التبادر لا العقل، وسيأتي الكلام في الوجوه العقلية التي أقاموها على البساطة(3).

وبالجملة: هذه المسألة اللغوية الراجعة إلى مفهوم اللفظ لا طريق لإثباتها إلاّ مباني إثبات سائر اللغات، والعقليات بمراحل عنها، إلاّ أن يكون المقصود تقريبات لإثبات التبادر، والحقّ تبادر المتلبّس، لا المعنى الأعمّ على فرض تصويره.

نقد الوجوه التي استدلّ بها للأعمّ

ثمّ إنّ الأعمّي قد استدلّ بوجوه، وهي مع عدم تصوير الجامع ممّا لا تغني من الحقّ شيئاً، مع عدم تماميتها في نفسها:

منها: دعوى التبادر في مثل «المقتول» و«المضروب»(4) حتّى التجأ بعض

ص: 161


1- شرح تجريد العقائد، القوشجي: 85، تعليقة المحقّق الدواني، ذيل قوله: «ويستفاد منه».
2- نهاية الدراية 1: 194 - 195.
3- يأتي في الصفحة 164.
4- اُنظر كفاية الاُصول: 67.

الأعاظم إلى إخراج اسم المفعول عن محطّ النزاع، قائلاً: إنّ اسم المفعول موضوع لمن وقع عليه الحدث، وهو أمر لا يعقل فيه الانقضاء(1).

وفيه: منع التبادر، وإنّما استعمال «المضروب» و«المقتول» وأمثالهما بلحاظ حال التلبّس، وإلاّ فالضاربية والمضروبية متضايفان عرفاً، فلا فرق بينهما. مع أنّ لقائل أن يعارضه ويقول: إنّ اسم الفاعل وضع لمن صدر منه الضرب، وهو أمر لا يعقل فيه الانقضاء.

ثمّ العجب منه رحمه الله علیه مع إشكاله في تصوير الجامع(2) التزم بالأعمّ.

ومنها: التمسّك بنحو قوله تعالى: )الزَّانِيَةُ وَالزَّانِى فَاجْلِدُوا...((3) إلى آخره و)السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا...((4) إلى آخره، بتقريب: أنّ الجلد والقطع إنّما هما ثابتان للزاني والسارق، ولولا صدقهما على المنقضي عنه لا موضوع لإجرائهما(5).

وفيه ما لا يخفى؛ فإنّ المفهوم من هذه الأحكام السياسية أنّ ما صار موجباً للسياسة هو العمل الخارجي، لا صدق العنوان الانتزاعي، فالسارق يقطع لأجل سرقته، وفي مثله يكون «السارق» و«الزاني» إشارة إلى من هو موضوع الحكم مع التنبيه على علّته، وهو العمل الخارجي لا العنوان الانتزاعي، فكأ نّه قال:

ص: 162


1- أجود التقريرات 1: 123 - 124.
2- أجود التقريرات 1: 115.
3- النور (24): 2.
4- المائدة (5): 38.
5- اُنظر مفاتيح الاُصول: 17 / السطر 8؛ هداية المسترشدين 1: 373.

الذي صدر منه السرقة تقطع يده لأجل صدورها منه.

ومنها: استدلال الإمام علیه السلام بقوله تعالى: )لاَ يَنَالُ عَهْدِى الظَّالِمِينَ((1) على عدم لياقة من عبد صنماً لمنصب الإمامة؛ ردّاً على من تصدّى لها مع كونه عابداً للصنم مدّة(2)،

والتمسّك يصحّ مع الوضع للأعمّ؛ فإنّهم غير عابدين للصنم حين التصدّي(3).

والجواب: أنّ الظلم يشمل المبادئ المتصرّمة وغيرها، ومنصب الإمامة أمر مستمرّ باقٍ، فلا بدّ معه من كون الموضوع هو الأشخاص ولو تلبّسوا بمثل المبادئ المتصرّمة، فمن ظهر منه قتل أو سرقة فتاب فوراً تشمله الآية؛ فإنّه ظالم في ذلك الحين، فهو غير لائق لمنصبها الذي [هو] أمر مستمرّ، فلا بدّ أن يراد منها: أنّ المتلبّس بالظلم ولو آناً لا يناله العهد مطلقاً، تأمّل.

ثمّ إنّ سوق الآية يشهد بأنّ الإمامة والزعامة والسلطنة على النفوس والأعراض والأموال، أمر مهمّ لا ينالها مثل إبراهيم خليل الرحمان - مع رسالته وخلّته - إلاّ بعد الابتلاء والامتحان والتمحيص وإتمامها، فمناسبة الحكم والموضوع وسوق الآية يشهدان بأنّ الظالم ولو آناً ما، والعابد للصنم ولو برهة من الزمان، غير لائقين لها.

بقي اُمور:

ص: 163


1- البقرة (2): 124.
2- الكافي 1: 174 / 1؛ معاني الأخبار: 131 / 1؛ الخصال: 310 / 84.
3- اُنظر مفاتيح الاُصول: 18 / السطر 11؛ هداية المسترشدين 1: 373؛ كفاية الاُصول: 68.

الأوّل: في بساطة المشتقّ وتركيبه

اختلف القوم في بساطة المشتقّ وتركيبه على أقوال، ومنشأ الاختلاف هو اشتمال المشتقّ على المادّة والهيئة الموضوعتين:

فمن رأى أنّهما دالّتان على المعنيين دلالة مستقلّة مفصّلة، ذهب إلى التركيب التفصيلي.

ومن رأى أنّ الهيئة وضعت لأجل قلب المادّة من البشرط لائية وتعصّي الحمل إلى اللا بشرطية الغير المتعصّية عنه، ذهب إلى البساطة المحضة الغير القابلة للانحلال العقلي(1).

ومن رأى أنّهما موضوعتان لمعنيين يكون نحو وجودهما في الخارج والذهن ومقام الدلالة والدالّية والمدلولية بنحو من الوحدة القابلة للتحليل، ذهب إلى البساطة القابلة له(2).

وظنّي أنّ المسألة ذات قولين، ولا أظنّ بأحد يرى التركيب التفصيلي. ثمّ إنّ القائلين بالتركيب اختلفوا في أنّ تركيبه من الذات والحدث والنسبة(3)، أو من الحدث والنسبة(4)،

أو الحدث والذات(5)...

إلى غير ذلك.

ص: 164


1- شرح تجريد العقائد، القوشجي: 85، تعليقة المحقّق الدواني، ذيل قوله: «ويستفاد منه»؛ أجود التقريرات 1: 99.
2- الفصول الغروية: 61 / السطر 30؛ مقالات الاُصول 1: 188؛ نهاية الأفكار 1: 144.
3- اُنظر الشواهد الربوبية: 43.
4- مقالات الاُصول 1: 190؛ نهاية الأفكار 1: 143.
5- شرح المطالع: 11 / السطر 13؛ الشواهد الربوبية: 44.

والظاهر أنّ القول بالبساطة المحضة يرجع إلى التركيب الانحلالي وإن غفل

عنه قائله؛ فإنّ غاية ما يمكن أن يتصوّر في ذلك هو أنّ الهيئة لم توضع لمعنىً، بل موضوعة لقلب المعنى الذي هو بشرط لا إلى لا بشرط، كما احتملنا في هيئة المصدر(1)

من كونها موضوعة للتمكين من النطق بالمادّة، وصيرورة المادّة الغير المتحصّلة متحصّلة قابلة للدلالة المستقلّة، وإلاّ فمفاد المصدر واسمه ليس إلاّ نفس طبيعة الحدث، وهي بعينها معنى المادّة، لكنّها غير متحصّلة ولا مستقلّة في الدلالة، وسيأتي مزيد توضيحه(2).

فمفاد المشتقّات الاسمية القابلة للحمل شيء بسيط واحد هو مفاد المادّة اللابشرط.

هذا غاية توجيه القول بالبساطة المحضة مع كون المادّة والهيئة موضوعتين.

وفيه: أنّ اللا بشرطية والبشرط لائية ليستا من الاعتبارات الجزافية؛ بحيث يكون زمامهما بيد المعتبر، فإن شاء اعتبر ماهية لا بشرط، فصارت قابلة للحمل وإن لم تكن في نفسها كذلك، وبالعكس.

بل التحقيق في جلّ المعقولات الثانوية والأوّلية أنّها نقشة لنفس الأمر والواقع، فالمفاهيم في كونها قابلة للحمل وعدمه تابعة لما في نفس الأمر، والألفاظ الموضوعة للمفاهيم تابعة لها ولنفس الأمر.

فالأجناس والفصول مأخذهما المادّة والصورة المتّحدتان بحسب الواقع، ولولا اتّحادهما كان حمل أحدهما على الآخر ممتنعاً ولو اعتبرا ألف مرّة

ص: 165


1- تقدّم في الصفحة 149 - 150.
2- يأتي في الصفحة 171.

لا بشرط، فالحمل هو الهوهوية، وهي حكاية عن الهوهوية النفس الأمرية.

فالجوهر والعنصر والمعدن والنبات والحيوان والناطق مأخذها ومحكيّها هي الحقائق المتّحدة بعضها مع بعض من المادّة الهيولانية المترقّية في مدارج الكمالات إلى منزل الإنسان، ففي كلّ منزل تكون المادّة متّحدة مع الصورة، وهذا الاتّحاد مناط صحّة الحمل واللابشرطية في المفاهيم المأخوذة منهما. وللعقل أن يجرّد المادّة عن الصورة ويراهما بحيالهما ومنحازةً كلّ عن الاُخرى، وفي هذا اللحاظ التجريدي الانحيازي يكون مفهوم كلٍّ متعصّياً عن الحمل.

كما أنّ الصور المتدرّجة في الكمال إذا وقفت عند حدّ، تكون بشرط لا بالنسبة إلى الحدود الاُخر، والمفهوم المأخوذ منها بشرط لا بالنسبة إلى حدود اُخر، وإن كان لا بشرط بالنسبة إلى مصاديقه، فالشجر هو النبات الواقف؛ أي بشرط لا، والنامي هو الحقيقة المتدرّجة في الكمال؛ أي لا بشرط، والتفصيل موكول إلى محلّه(1).

والمراد أنّ اللا بشرطية والبشرط لائية ليستا جزافيتين تابعتين لاعتبار المعتبر، فحينئذٍ نقول: لا يمكن أن تكون الهيئة لنفس إخراج المادّة عن البشرط لائية إلى اللا بشرطية من غير أن تكون حاكية لحيثية بها صار المشتقّ قابلاً للحمل؛ فإنّ نفس الحدث غير قابل للحمل، ولم يكن متّحداً في نفس الأمر مع الذات، فقابلية الحمل تابعة لحيثية زائدة على الحدث

ص: 166


1- الحكمة المتعالية 2: 16 و37، و5: 282؛ شرح المنظومة، قسم الحكمة 2: 350.

المدلول عليه بالمادّة، فلمادّة المشتقّات معنىً ولهيئتها معنىً آخر به صار مستحقّاً للحمل، وهذا عين التركيب.

تحقيق المقام

ثمّ إنّ التحقيق الموافق للارتكاز العرفي والاعتبار العقلائي: هو أنّ لفظ المشتقّ الاسمي القابل للحمل على الذوات - كأسماء الفاعل والمفعول وأضرابهما من أسماء المكان والزمان والآلة - موضوع لأمر وحداني قابل للانحلال إلى معنون مبهم وعنوان دون النسبة، كما يشهد به تسميتها باسم الفاعل واسم المفعول، ونعم التسمية.

فإنّا إذا سمعنا لفظ «الأبيض» و«الأسود» و«الضارب» و«المضروب» لا يقع في ذهننا إلاّ المعنون بها، لكن بنحو الوحدة، فنجد فرقاً بين معنى «الأبيض» وبين «الجسم»، وكذا بينه وبين «شيء له البياض» فكأ نّه أمر متوسّط بينهما.

فلفظ «الجسم» بسيط دالاًّ ودلالةً ومدلولاً، فلا يدلّ إلاّ على معنىً وحداني لا يكون في عالم الدلالة إلاّ وحدانياً غير قابل للانحلال.

وقوله: «شيء له البياض» أو «شيء معنون بالأبيضية»، يدلّ بالدلالات المستقلاّت المنفصلات على المعاني المفصّلة المشروحة.

وأمّا «العالم» فيدلّ على أمر وحداني منحلّ في عالم الدلالة إلى معنون وعنوان كأ نّهما مفهومان بدلالة واحدة، فيكون لفظ «العالم» دالاًّ على المعنون بما هو كذلك، لا بنحو التفصيل والتشريح، بل بنحو الوحدة، فالدلالة والدالّ والمدلول لكلّ منها وحدة انحلالية في عالم الدلالة والدالّية والمدلولية.

ص: 167

فانحلال «الجسم» إلى المادّة والصورة إنّما هو في ذاته لا بما أنّه مدلول لفظه، بخلاف «العالم»؛ فإنّ انحلاله إلى المعنون والعنوان انحلال مدلوله بما أنّه مدلوله،

فكما أنّ المادّة والهيئة في المشتقّات كأ نّهما موجودان بوجود واحد كذلك في الدلالة كأنّ دلالتهما دلالتان في دلالة واحدة، والمفهوم منهما مفهومان في مفهوم واحد، وفي نفس الأمر أيضاً كأ نّهما موجودان بوجود واحد، وهذا المفهوم - أي المعنون بما هو كذلك - قابل للصدق على الذات والحمل على الأفراد، فزيد في الخارج متّحد الوجود مع الضارب الذي مفاده بحسب التحليل المعنون بالضرب أو الضاربية.

استدلال المحقّق الشريف على بساطة المشتقّ ونقده

وأمّا ما عن المحقّق الشريف من الذهاب إلى البساطة بالبرهان المعروف(1)، فمع أنّه لا تثبت به البساطة - بل عدم أخذ الذات في المشتقّ، وهو أيضاً بصدد هذا، لا البساطة على ما ظهر من محكيّ كلامه - أنّ الإشكال في جعل الناطق بما له من المعنى فصلاً لا يرتفع ببساطة المشتقّ؛ فإنّ المبدأ في المشتقّ لا بدّ وأن يكون حدثاً أو ما بحكمه ممّا يجوز الاشتقاق منه، كالوجود وأمثاله على ما سيأتي(2)، فلا يمكن أن يكون المشتقّ بما له من المعنى فصلاً، بسيطاً كان أو

ص: 168


1- إنّ المحقّق الشريف استدلّ على بساطة المشتقّ بامتناع دخول الشيء في مفهوم الناطق؛ لاستلزامه دخول العرضي العامّ في الفصل المميّز. راجع شرح المطالع: 11 / السطر الأوّل من الهامش.
2- يأتي في الصفحة 177 - 178.

مركّباً، فما يظهر منه - من أنّه لو كان بسيطاً لارتفع الإشكال - ليس بشيء. ولو التزم بأنّ الناطق جعل فصلاً لا بما له من المعنى الاشتقاقي حقيقةً، لم يتمّ مدّعاه

من عدم أخذ الذات في المشتقّ.

ثمّ إنّ إشكاله - على فرض وروده - إنّما يتمّ إذا كان مفهوم المشتقّ مركّباً تفصيلياً من مثل الذات أو الشيء أو نحوهما دون ما ذكرنا.

توضيحه: أنّ الحدّ التامّ لا بدّ وأن يكون محدّداً ومعرّفاً للماهية على ما هي عليه في نفس الأمر، ولو تخلّف عنها في حيثية من الحيثيات لم يكن تامّاً، وماهية الإنسان ماهية بسيطة يكون جنسها مضمّناً في فصلها وفصلها في جنسها؛ لأنّ مأخذهما المادّة والصورة المتّحدتان، ولا بدّ أن يكون الحدّ مفيداً لذلك، فلو كانت أجزاء الحدّ حاكية عن أجزاء الماهية في لحاظ التفصيل لم يكن تامّاً.

فلا محيص عن أن يكون كلّ جزء حاكياً عن المحدود بما هو بحسب الواقع من الاتّحاد، وهو لا يمكن إلاّ بأن يكون الحيوان الناطق - المجعول حدّاً - حاكياً عن الحيوان المتعيّن بصورة الناطقية؛ أي المادّة المتّحدة بتمام المعنى مع الصورة، فالذات المبهمة المأخوذة على نحو الوحدة مع العنوان في المشتقّ صارت متعيّنة بالتعيّن الحيواني، فكأ نّه قال: الإنسان حيوان متلبّس بالناطقية، وكانت الناطقية صورة له، وهو متّحد معها، لا أنّه شيء والناطق شيء آخر، فتدبّر جيّداً.

وأمّا الشقّ الثاني من إشكاله، فمدفوع أيضاً بما ذكرنا من أنّ الشيء أو الذات أو المصاديق لم تؤخذ في مفهوم المشتقّ على نعت التفصيل، بل المفهوم منه

ص: 169

شيء واحد، فالإخبار بقوله: «زيد ضارب» إخبار عن ضاربيته، لا عن زيد وعن ضاربيته.

مع أنّه لو اُخذ تفصيلاً أيضاً لا يرد إشكاله؛ لأنّ قوله: «الإنسان إنسان له الضرب» قد يراد به إخباران: أحدهما عن إنسانيته، والثاني عن ضاربيته، فيصير قضيّتين ضرورية وممكنة، وأمّا لو لم يرد بذلك إلاّ الإخبار بضاربيته، فلا يكون الكلام إلاّ مسوقاً لإخبار واحد هو حكاية ضاربيته، ومعلوم أنّ قوله: «زيد ضارب» يراد به الإخبار بالضاربية.

ثمّ بعد اللتيّا والتي ليس إشكال «الشريف» عقلياً، بل هو تشبّث بالتبادر عند المنطقيين.

وقد يتمسّك لإثبات البساطة: بأنّ الضرورة قاضية بأ نّه لو قيل: «الإنسان

قائم» ثمّ قيل: «إنّه شيء» أو «ذات» ما فهم منه التكرار، ولو قيل: «إنّه ليس بشيء وذات» ما فهم منه التناقض، وكذا لو قيل: «الإنسان قائم» ثمّ قيل: «إنّه إنسان» ما فهم منه التكرار، ولو قيل: «إنّه إنسان وليس بقائم» ما فهم منه التناقض، وهذه آيات البساطة وعدم أخذ الذات أو مصداقها فيه.

وفيه: - مضافاً إلى عدم إثباتها البساطة - أنّ ذلك ردّ على من قال بأخذ الذات أو مصداقها تفصيلاً، وأمّا على ما ذكرناه فلا ينقدح في الذهن إلاّ عنوان واحد، وبعد التوجّه الثاني ينحلّ إلى شيء مبهم وغيره.

هذا مضافاً إلى أنّ التناقض بين القضيّتين فرع الإخبار، وقد عرفت أنّ قوله: «زيد قائم» إخبار واحد بقيام زيد لا بشيئيته أو إنسانيته، وكذا الحال لو اُريد بالتكرار تكرار القضيّة، وإن اُريد تكرار المفردات فالجواب ما تقدّم.

ص: 170

الثاني: في الفرق بين المشتقّ ومبدئه

قال المحقّق الخراساني رحمه الله علیه : «الفرق بين المشتقّ ومبدئه مفهوماً أنّه بمفهومه لا يأبى عن الحمل لاتّحاده مع الموضوع، بخلاف المبدأ؛ فإنّه يأبى عنه، بل إذا قيس إليه كان غيره لا هو هو، وإليه يرجع ما عن أهل المعقول: من أنّ المشتقّ يكون لابشرط، والمبدأ بشرط لا»(1)،

انتهى ملخّصاً.

أقول: لولا قوله: «إلى ذلك يرجع...» إلى آخره، كان كلامه مجملاً قابلاً للحمل على الصحّة، وإن لم يكن مفيداً؛ فإنّ قابلية حمل المشتقّ ليست مجهولة، وكذا عدم قابلية المبدأ، فكان عليه بيان لمّية قابلية حمل ذاك، وعدم قابلية ذلك.

كما أنّ ما نسب إلى أهل المعقول لا تنحلّ به عقدة، مع عدم صحّته في نفسه؛ لأنّ المادّة إذا كانت بشرط لا، وهي مأخوذة في المشتقّ اللابشرط، يجتمع فيه المتنافيان؛ لاقتضاء أحدهما الحمل والآخر عدمه.

ولو قيل: إنّ الهيئة تقلب المادّة إلى اللابشرط(2)، ففيه: أنّ ذلك لا يرجع إلى

محصّل، إلاّ أن يراد به استعمال المادّة في ضمن هيئة المشتقّ في الماهية اللابشرط، وهو - مع استلزامه المجازية - يهدم دعوى الفرق بين المادّة والمشتقّ بما ذكر، إلاّ أن يراد بالمادّة المصدر، وهو كما ترى.

والتحقيق: أنّ مادّة المشتقّات موضوعة لمعنىً في غاية الإبهام واللاتحصّلية،

ص: 171


1- كفاية الاُصول: 74.
2- أجود التقريرات 1: 99.

ويكون تحصّله بمعاني الهيئات، كما أنّ نفس المادّة أيضاً كذلك بالنسبة إلى الهيئة، فمادّة «ضارب» لا يمكن أن تتحقّق إلاّ في ضمن هيئة ما، كما أنّه لا تدلّ على معنىً باستقلالها، فهي مع هذا الانغمار في الإبهام وعدم التحصّل، لا تكاد تتّصف بقابلية الحمل ولا قابليته بنحو الإيجاب العدولي أو الموجبة السالبة المحمول.

نعم، هي لا تكون قابلة للحمل بنحو السلب التحصيلي؛ لعدم شيئية لها بنحو التحصّل والاستقلال، فهي مع كلّ مشتقّ بنحو من التحصّل.

نعم، بناءً على ما ذكرنا سابقاً(1) من كون هيئة المصدر واسمه إنّما هي موضوعة للتمكين من النطق بالمادّة، يكون المصدر كاسمه هو الحدث المتحصّل، ولأجل تحصّله يأبى عن الحمل؛ لحكايته عن الحدث المجرّد عن الموضوع ولو بنحو من التحليل، بخلاف المادّة؛ فإنّها بنفسها لا تحصّل لها ولا لمعناها.

فاتّضح بما ذكرنا: أنّ مادّة المشتقّات مفترقة عن المصادر وأسمائها بالتحصّل واللاتحصّل. وأمّا الفرق بينها وبين المشتقّات القابلة للحمل، فهو أنّ المشتقّات موضوعة للمعنون بما أنّه معنون، والمادّة موضوعة للعنوان المبهم لا بقيد الإبهام، بل يكون نفسه مبهماً، والهيئة موضوعة لإفادة معنونية شيء ما بالمبدأ، فإذا تركّب اللفظ من المادّة والهيئة كالتركيب الاتّحادي، يدلّ على المعنون بالحدث بما أنّه معنون، لا بنحو الكثرة كما مرّ(2).

ولا يخفى: أنّ مرادنا من التحصّل ليس الوجود؛ فإنّه واضح الفساد، بل

ص: 172


1- تقدّم في الصفحة 150.
2- تقدّم في الصفحة 167.

المراد به هو التحصّل المستعمل في الماهيات النوعية مقابل الجنس، فلا تغفل؛ حتّى لا تتوهّم لزوم دلالة المصدر على معنىً زائد عن نفس الحدث، ولو اشتهى أحد أن يقول: إنّ حيثية تحصّل الحدث - ولو نوعياً - نحو من المعنى المدلول عليه بالهيئة، فلا مضايقة بعد وضوح المطلب.

الثالث: كلام صاحب الفصول ومناقشته

قال في «الفصول» - ردّاً على من ذهب إلى أنّ الفرق بين المشتقّ ومبدئه هو الفرق بين الشيء لابشرط وبينه بشرط لا - ما حاصله:

إنّ الحمل يتقوّم بمغايرة باعتبار الذهن في لحاظ الحمل، واتّحاد باعتبار ظرف الحمل من ذهن أو خارج. ثمّ التغاير قد يكون اعتبارياً والاتّحاد حقيقياً، وقد يكون حقيقياً والاتّحاد اعتبارياً، فلا بدّ فيه من أخذ المجموع من حيث المجموع شيئاً واحداً، وأخذ الأجزاء لابشرط، واعتبار الحمل بالنسبة إلى المجموع؛ حتّى يصحّ الحمل، والعَرض لمّا كان مغايراً لموضوعه فلا بدّ في حمله عليه من الاتّحاد على النحو المذكور، مع أنّا نرى بالوجدان عدم اعتبار المجموع من حيث المجموع، بل الموضوع المأخوذ هو ذات الأشياء.

فيتّضح من ذلك: أنّ الحمل فيها لأجل اتّحاد حقيقي بين المشتقّ والذات، فلا بدّ أن يكون المشتقّ دالاًّ على أمر قابل للحمل، وهو عنوان انتزاعي من الذات بلحاظ التلبّس بالمبدأ، فيكون المشتقّ مساوقاً لقولنا: ذي كذا؛ ولذا يصحّ الحمل(1)،

انتهى بتوضيح وتلخيص منّا.

ص: 173


1- الفصول الغروية: 62 / السطر 5.

وكلامه فيما هو راجع إلى ما نحن فيه لا يخلو من جودة، ويقرب ممّا تقدّم منّا،

مع فرق غير جوهري. وردّ المحقّق الخراساني(1) كأ نّه أجنبيّ عن كلامه، خصوصاً قوله: «مع وضوح عدم لحاظ ذلك في التحديدات...» إلى آخره؛ فإنّ «الفصول» لا يدّعي اعتبار المجموع في مطلق الحمل، بل في حمل المتغايرين.

نعم، يرد عليه: أنّ ذلك الاعتبار لا يصحّح الحمل، وهو لا يضرّ بدعواه فيما نحن فيه، فراجع «الفصول».

ثمّ اعلم أنّ الحمل الهوهوي متقوّم بالاتّحاد بين الموضوع والمحمول، فيريد المتكلّم حكاية هذا الاتّحاد، فلا تكون في نفس الأمر - أي ما هو ظرف الإخبار - مغايرة بينهما حتّى بالاعتبار؛ فإنّ لحاظ التفكيك والمغايرة يباين الإخبار بالاتّحاد.

نعم، يكون الموضوع والمحمول في القضيّة اللفظية والمعقولة متغايرين وجوداً أو مفهوماً أيضاً، ففي مثل: «زيد زيد» لفظ «زيد» بتكرّره في ذهن المتكلّم وكلامه وذهن المخاطب، موجودان حاكيان عن هوية واحدة، من غير اعتبار الكثرة في الواقع بين زيد ونفسه، فإنّه مخالف للواقع ومنافٍ للإخبار بالوحدة، فالكثرة في القضيّة اللفظية والذهنية المنظور بهما آلياً، لا المنظور فيهما واستقلالياً.

وأمّا حديث لزوم اعتبار التغاير - لئلاّ يلزم حمل الشيء على نفسه، المساوق لوجود النسبة بين الشيء ونفسه، وهو محال - ففيه: ما تقدّم في بعض المباحث

ص: 174


1- كفاية الاُصول: 75.

من عدم تقوّم القضيّة بالنسبة، بل القضايا الحملية التي مفادها الهوهوية ممّا لا نسبة فيها(1)،

فراجع. فما يرى في كلمات بعض المحشّين(2)

من التغاير الاعتباري الموافق لنفس الأمر، فليس بشيء.

الرابع: في الإشكال على الصفات الجارية على ذاته تعالى

قد يستشكل في الصفات الجارية على الله تعالى:

تارةً: بأنّ المشتقّ بمفهومه يقتضي مغايرة المبدأ لما يجري عليه المشتقّ، والمذهب الحقّ عينية الذات للصفات.

واُخرى: بأنّ المبدأ في المشتقّات موضوع للحدث، وذاته - تعالى - كصفاته فوق الجواهر والأعراض، فضلاً عن الأحداث.

والتزم بعضهم بالنقل والتجوّز(3)، وهو بعيد، مع أنّا لا نرى بالوجدان تأوّلاً في حملها عليه تعالى، بل الوجدان حاكم بعدم الفرق بين جريانها على ذاته تعالى وعلى غيره.

فهذا القول ضعيف، وإن لا يرد عليه: أنّ لازم النقل كون جريها عليه لقلقة لسان، أو إرادة المعاني المقابلة، تعالى عن ذلك(4)؛ وذلك لأنّ القائل به لمّا رأى أنّ مفاهيم المشتقّات تقتضي زيادة المبادئ عن الذات نزّهه تعالى عنها والتزم

ص: 175


1- تقدّم في الصفحة 45 - 46.
2- نهاية الدراية 1: 232.
3- الفصول الغروية: 62 / السطر 28.
4- كفاية الاُصول: 77 - 78.

بالنقل إلى ما لا يلزم [منه] الزيادة، فالعالم الجاري عليه تعالى هو نفس العلم، فهو تعالى علم وقدرة وحياة، لا شيء له هذه، فلا يلزم عليه ما ذكر.

وأمّا ما قال المحقّق الخراساني: من كفاية المغايرة بين المبدأ وما يجري عليه المشتقّ مفهوماً، وبه صحّح حملها على ذاته تعالى(1).

ففيه: أنّ الكلام في أنّ المشتقّ بهيئته ومادّته يدلّ على تلبّس الذات بالمبدأ ولو تحليلاً، وهو تعالى منزّه عنه، فاختلافهما مفهوماً كأ نّه أجنبيّ عن الإشكال.

مع أنّ اختلاف المبادئ مع ذاته تعالى ليس في المفهوم؛ بناءً على أنّه تعالى نفس العلم والقدرة، بل الاختلاف بينهما هو الاختلاف بين المفهوم ومصداقه الذاتي.

وأمّا قوله: «ففي صفاته الجارية عليه تعالى يكون المبدأ مغايراً له تعالى مفهوماً، قائماً به عيناً، لكنّه بنحو من القيام، لا بأن يكون هناك اثنينية وكان ما

بحذائه غير الذات، بل بنحو الاتّحاد والعينية، وعدم فهم العرف مثل هذا التلبّس لا يضرّ؛ لكونه مرجعاً في المفاهيم لا في تطبيقها»(2).

ففيه: أنّ المدّعى أنّ العرف يجري هذه الصفات عليه تعالى كما يجريها على غيره تعالى، [فكون] المرجع هو العرف في المفاهيم لا التطبيق، أجنبيّ عن هذا. مع أنّ عدم مرجعيته في التطبيق أيضاً محلّ منع.

مضافاً إلى أنّ العقل يرى عينية الصفات مع الذات غير قيامها بها، فلو دلّ المشتقّ على قيام المبدأ بالذات لم يدفع الإشكال بذلك.

ص: 176


1- كفاية الاُصول: 76.
2- كفاية الاُصول: 77.

فالتحقيق: أنّ المشتقّ لا يدلّ إلاّ على المعنون بعنوان المبدأ بما أنّه معنون، فلا يفهم من لفظ «العالم» إلاّ المعنون به من حيث هو كذلك. وأمّا زيادة العنوان على المعنون وقيامه به فهو خارج عن مفهومه، لكن لمّا كان الغالب فيه هو الزيادة، تنسبق المغايرة والزيادة إلى الذهن لأجل التعارف الخارجي، لا لدلالة المفهوم عليها، فالمشتقّ يدلّ على المعنون، والعينية والزيادة من خصوصيات المصداق.

وهو تعالى موصوف بجميع الصفات الكمالية ومعنون بهذه العناوين، وهي جارية عليه بما لها من المعاني من غير نقل ولا تسامح، وإنكار ذلك إلحاد في أسمائه على فرض، وخلاف المتبادر والارتكاز العقلائي على آخر، فهو تعالى موصوف بكلّ كمال، وإنّ صِرف الوجود كلّ كمال. وتحقيق جمع صرف الوجود للأسماء - مع كونها بحقائقها ثابتة له من دون شوب كثرة عقلية أو خارجية - موكول إلى علمه(1).

وأمّا إشكال كون المبدأ في المشتقّ لا بدّ وأن يكون حدثاً وعرضاً وهو تعالى منزّه عنه.

ففيه: أنّ ما هو مسلّم أنّ المبدأ لا بدّ وأن يكون قابلاً للتصريف لو وردت الهيئات عليه، ولا دليل على كونه حدثاً وعرضاً بالمعنى المنافي لذاته. والحقائق التي لها مراتب الكمال والنقص والعلّية والمعلولية - كحقيقة الوجود وكمالاتها -

ص: 177


1- الحكمة المتعالية 2: 368، و6: 100 و121 و145؛ شرح المنظومة، قسم الحكمة 3: 559.

قابلة للتصريف والتصرّف، فإذا صدر منه تعالى وجود، يصدق عليه أنّه موجِد، وعلى المعلول أنّه موجَد، ويجيء فيه سائر التصرّفات.

فالمشتقّ يدلّ على المعنون بعنوان، من غير دلالة على الحدثية والعرضية، فالعلم حقيقته الانكشاف من غير دخالة العرضية والجوهرية فيه، فليس حقيقته إلاّ ذلك، وهو ذو مراتب وذو تعلّق بغيره، لا نحو تعلّق الحالّ بالمحلّ.

وهو تعالى - باعتبار كونه في مرتبة ذاته كشفاً تفصيلياً في عين البساطة والوحدة عن كلّ شيء أزلاً وأبداً - عالم، وباعتبار كون ذاته منكشفة لدى ذاته يكون معلوماً، فصدق المشتقّات الجارية على ذاته تعالى، حقيقي من غير شوب إشكال.

والحمد لله أوّلاً وآخراً .

ص: 178

المقصد الأوّل في الأوامر وفيه فصول :

اشارة

ص: 179

ص: 180

الفصل الأوّل فيما يتعلّق بمادّة الأمر

اشارة

وفيه اُمور:

الأمر الأوّل: في معاني لفظ الأمر
اشارة

المعروف بينهم أنّ الأمر مشترك لفظي بين الطلب وغيره(1)،

والأوّل معنىً حدثي يصحّ منه الاشتقاق، ك «أمر يأمر»، والثاني ليس كذلك، سواء كان واحداً يساوق الشيء، أو الأخصّ منه كما هو الظاهر، أو متعدّداً.

وفيه: أنّ الموضوع للمعنى الحدثي القابل للانتساب الذي منه يصحّ الاشتقاق، هو المادّة السارية في المشتقّات، كما هو شأن سائر موادّ المشتقّات، والموضوع للمعنى الآخر أو المعاني الاُخر هو لفظ الأمر جامداً كلفظ إنسان وشجر، فلا معنى للاشتراك فيه، ولعلّ من ذهب إليه كان ممّن يرى المصدر مادّة المشتقّات، وجرى غيره على منواله من غير توجّه إلى تاليه.

ص: 181


1- الفصول الغروية: 62 / السطر 35؛ نهاية الأفكار 1: 156.

وممّا ذكرنا يتّضح فساد القول بالاشتراك المعنوي بين المعنى الحدثي وغيره(1).

مضافاً إلى أنّ الجامع بينهما لا يكون حدثياً، فلا يمكن منه الاشتقاق إلاّ بنحو التجوّز، وهو كما ترى.

تنبيه:

المتبادر من مادّة الأمر المستعملة في المشتقّات هو المعنى الجامع بين هيئات الصيغ الخاصّة بما لها من المعنى، لا الطلب - إلاّ أن يراد به ما ذكرناه، وعليه فلا إشكال في الاشتقاق أصلاً - ولا الإرادة المظهرة ولا البعث وأمثالها.

ولا يبعد أن يكون المعنى الاصطلاحي مساوقاً للغوي؛ أي لا يكون له اصطلاح خاصّ، فإذا قال: «اضرب زيداً» يصدق على قوله «أمَرَه»، وهو غير «طلب منه» أو «أراد منه» أو «بعثه»؛ فإنّها غير الأمر عرفاً.

فمادّة الأمر موضوعة لمفهوم اسمي منتزع من الهيئات بما لها من المعاني، لا بمعنى دخول المعاني في الموضوع له، بل بمعنى أنّ الموضوع له جامع الهيئات الدالّة على معانيها، لا نفس الهيئات ولو استعملت لغواً أو في غير معناها، فالمعنى مفهوم اسمي مشترك بين الهيئات التي هي الحروف الإيجادية، وهذا المعنى بما أنّه قابل للانتساب والتصرّف يصحّ منه الاشتقاق، كما أنّ الكلام واللفظ والقول مشتقّات باعتبار ذلك، فلا إشكال من هذه الجهة بوجه.

ص: 182


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 128؛ أجود التقريرات 1: 131.

فلو سلّم أنّ الأمر لغةً بمعنى الطلب، فالاشتقاق كما يمكن باعتباره كذلك يمكن باعتبار المعنى الاصطلاحي؛ أي القول الخاصّ، لكن باعتبار كونه حدثاً صادراً من المتكلّم.

فما يقال: من أنّ المعنى الاصطلاحي غير قابل للاشتقاق(1)، صحيح لو جرى الاصطلاح على أنّ الأمر بإزاء معنىً متحصّل لا يصدق إلاّ على الصيغ المتحصّلة، وهو غير معلوم.

الأمر الثاني: في اعتبار العلوّ والاستعلاء في مادّة الأمر

المتبادر من الأمر هو اعتبار العلوّ في معناه، فلا يكون من السافل والمساوي أمراً عرفاً. والعلوّ أمر اعتباري له منشأ عقلائي يختلف بحسب الزمان والمكان، والميزان هو نفوذ الكلمة والسلطة والقدرة على المأمور، فالسلطان المحبوس لا يكون إنشاؤه أمراً، بل طلباً والتماساً، ورئيس المحبس يكون آمراً بالنسبة إليه.

والظاهر أنّ الاستعلاء أيضاً مأخوذ فيه، فلا يكون استدعاء المولى من العبد وإرشاده أمراً، كما أنّ الطلب من السافل ليس أمراً ولو استعلى، هذا.

وقد يقال: إنّ العلوّ والاستعلاء لم يعتبرا في معنى الأمر بنحو القيدية، بل الطلب على قسمين؛ أحدهما ما صدر بغرض أنّه بنفسه يكون باعثاً بلا ضميمة من دعاء والتماس، فيرى الآمر نفسه بمكانة يكون نفس أمره باعثاً

ص: 183


1- الفصول الغروية: 63 / السطر 6؛ كفاية الاُصول: 82.

ومحرّكاً، وهذا الأمر لا ينبغي صدوره إلاّ من العالي المستعلي، وهو غير الأخذ في المفهوم(1).

وفيه: أنّ مادّة الأمر إذا كانت موضوعة لمفهوم مطلق؛ أي مطلق الطلب أو مطلق القول الخاصّ، فلا معنى لعدم صدقه على الصادر من السافل أو المساوي، فعدم الصدق معلول التقييد في المعنى، فبناءً على كون الوضع في الأمر عامّاً والموضوع له كذلك، لا محيص عن الالتزام بتقييده بقيد؛ حتّى لا يصدق إلاّ على العالي المستعلي.

فما ذكره - من أنّ الأمر الكذائي لا ينبغي صدوره خارجاً إلاّ من العالي المستعلي، من غير تقييد في المفهوم - كأ نّه لا يرجع إلى محصّل.

الأمر الثالث: في دلالة مادّة الأمر على الوجوب

كون مادّة الأمر موضوعة للجامع بين الهيئات الصادرة عن العالي المستعلي مطلقاً، أو على سبيل الإلزام والإيجاب، محلّ تأمّل.

لا يبعد رجحان الثاني، ويؤيّده الآية(2) والروايات؛ فإنّ قوله صلی الله علیه و آله وسلم : «لولا أن أشقّ على اُمّتي لأمرتُهم بالسواك»(3) ظاهر في أنّ الأمر يوجب المشقّة

ص: 184


1- نهاية الاُصول: 86.
2- وهي قوله تعالى: )فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ(. النور (24): 63.
3- الفقيه 1: 34 / 123؛ وسائل الشيعة 2: 17، كتاب الطهارة، أبواب السواك، الباب 3، الحديث 4.

والكلفة مع أنّ الاستحبابي لا يوجبهما، مضافاً إلى أنّ الطلب الاستحبابي وارد فيه، فلو كان أمراً لم يقل ذلك، والعمدة في الباب التبادر لو تمّ، كما لا يبعد.

وأمّا ما قال بعض أهل التحقيق(1) - بعد اختياره كون لفظ الأمر حقيقة في مطلق الطلب - من أنّه لا شبهة في ظهوره حين إطلاقه في خصوص الطلب الوجوبي، ثمّ تفحّص عن منشأ الظهور؛ أنّه هل لغلبة الاستعمال في الوجوب، أو هو قضيّة الإطلاق ومقدّمات الحكمة، وردّ الأوّل استشهاداً بقول صاحب «المعالم» من كثرة استعماله في الاستحباب(2)،

واختار الوجه الثاني، ثمّ حاول تقريبه بوجهين.

فهو بمكان من الغرابة؛ لخلطه بين مادّة الأمر الموضوعة لمفهوم كلّي، وبين صيغ الأمر؛ فإنّ كثرة الاستعمال في كلام صاحب «المعالم» إنّما هي في الثاني دون الأوّل، كما أنّ مورد التمسّك بالإطلاق ومقدّمات الحكمة كذلك، وسيأتي في محلّه الكلام فيه(3).

ثمّ إنّ مبحث «الطلب والإرادة» بما هو عليه من طول الذيل لا يناسب المقام، ولهذا أفرزته رسالة مفردة، وتركته هاهنا حذراً من التطويل(4).

ص: 185


1- بدائع الأفكار (تقريرات المحقّق العراقي) الآملي 1: 196 - 197.
2- معالم الدين: 53.
3- يأتي في الصفحة 195.
4- قد أوردنا هذه الرسالة الشريفة في آخر مجلّد الثاني، فراجع.

الفصل الثاني فيما يتعلّق بصيغة الأمر

اشارة

وفيه مباحث:

المبحث الأوّل: في أنّ صيغة الأمر موضوعة للبعث والإغراء

قد ذكرنا معاني هيئات الفعل الماضي والمضارع والمشتقّات الاسمية سابقاً(1)،

وبقي بيان هيئة الأمر، وهي - على ما يتبادر منها - موضوعة للبعث والإغراء، وتستعمل استعمالاً إيجادياً لاحكائياً، بخلاف هيئة الماضي والمضارع، فإنّها موضوعة للحكاية.

فهيئة الأمر كالإشارة البعثية والإغرائية، وكإغراء جوارح الطير والكلاب المعلّمة، والفرق: أنّها موضوعة لإفادة ذلك وإفهامه، فهي مع إيجاد معناها مفهمة له وضعاً، وأيضاً إنّ انبعاث الحيوانات يكون بكيفية الصوت والحركات

ص: 186


1- تقدّم في الصفحة 152.

والإشارات المورثة لتشجيعها أو تحريكها نحو المقصود، لكن انبعاث الإنسان - بعد فهم بعث المولى من أمره، وتحقّق موضوع الإطاعة - لأجل مبادٍ موجودة في نفسه كالخوف والرجاء.

وما قيل: من عدم تصوّر كون اللفظ موجداً(1)،

وجيه لو كان ما يوجد به تكوينياً، لا مثل مفاد الهيئات والحروف الموجدة، فكما أنّ حروف القسم والنداء موجدات بنحو من الإيجاد لمعانيها كما تقدّم(2)، وألفاظ العقود والإيقاعات كذلك عند العقلاء، كذلك هيئات الأوامر وضعت لإيجاد الإغراء والبعث، بل نرى أنّ بعض الألفاظ المهملة مستعمل لإغراء بعض الحيوانات كالكلاب وغيرها، فهي موجدة للإغراء والبعث بنحو لا بالوضع.

فما أفاده المحقّق الخراساني: من كونها موضوعة لإنشاء الطلب(3)،

الظاهر

منه أنّه غير البعث والإغراء؛ إن كان مراده الطلب الحقيقي المتّحد مع الإرادة على مذهبه(4)

كما ذهب إليه بعض آخر؛ حتّى يكون معنى «اضرب» اُريد منك الضرب، فهو ممنوع، والسند التبادر.

وإن كان المراد الطلب الإيقاعي، فلا نتصوّر غير البعث والإغراء شيئاً آخر نسمّيه الطلب حتّى ينشئه المتكلّم بداعي البعث، ومع فرضه مخالف للتبادر والتفاهم العرفي في كلّ لغة.

ص: 187


1- درر الفوائد، المحقّق الحائري: 71.
2- تقدّم في الصفحة 32 و53.
3- كفاية الاُصول: 91.
4- كفاية الاُصول: 85.
المبحث الثاني في المعاني الاُخر لهيئة الأمر

الظاهر أنّ المعاني الكثيرة التي عُدّت للأمر - كالترجّي والتمنّي والتهديد... إلى غير ذلك(1) - ليست معانيه، ولم توضع الهيئة لها، ولا تستعمل فيها في عرض استعمالها في البعث والإغراء، بل مستعملة فيها على حذو سائر الاستعمالات المجازية، على ما سبق من استعمال اللفظ فيما وضع له؛ ليتجاوز منه إلى المعنى المراد جدّاً لعلاقة.

فهيئة الأمر تستعمل: تارةً في البعث ليحقّ ذهن السامع عليه ويفهم منها ذلك، فينبعث إلى المطلوب، فيكون حقيقة.

واُخرى تستعمل فيه، لكن ليتجاوز ذهنه منه إلى المعنى المراد جدّاً بعلاقة ونصب قرينة:

ففي قوله تعالى: )أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ((2)

استعملت هيئة الأمر في البعث، لكن لا لغرض البعث، بل للانتقال منه إلى خطائهم في التقوّل على رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم أو لتعجيزهم عن الإتيان.

وقولِ الشاعر:

ألا أيُّها اللّيلُ الطويلُ ألا انْجلِ(3) .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .

ص: 188


1- مفاتيحالاُصول:110/السطر18؛هدايةالمسترشدين1:596؛كفايةالاُصول: 91.
2- هود (11): 13.
3- عجزه: «بصُبْحٍ وما الإصباحُ منكَ بأمثلِ». ديوان امرئ القيس: 108.

استعملت الهيئة في البعث أيضاً؛ للانتقال منه إلى تمنّيه للانجلاء، أو تحسّره وتأثّره من عدمه. فاتّضح أنّه قد تستعمل الهيئة للانتقال إلى معنىً إنشائي إيقاعي، فينشأ تبعاً لصيغة الأمر كالتمنّي والترجّي، وقد تستعمل للانتقال إلى معنىً محقّق في الواقع، كما احتملنا في الآية الشريفة.

وبما ذكرنا يوجّه الاستفهام والتمنّي والترجّي وأمثالها الواردة في كلام الله تعالى، فإنّ صدورها من المبادئ التي تكون مستلزمة للنقص والجهل والانفعال ممتنع عليه تعالى دون غيرها، فيفرّق بين الجدّ والاستعمال، وإن كان للكلام في كيفية صدور القرآن الكريم وسائر الكتب المنزلة على الأنبياء طور آخر لا يساعد [عليه] هذا المقام، وقد أشرنا إليها إجمالاً في «رسالة الطلب والإرادة»(1).

المبحث الثالث في أنّ الهيئة تدلّ على الوجوب أم لا؟
اشارة

بعد ما عرفت أنّ الهيئة وضعت للبعث والإغراء، يقع الكلام في أنّها هل وضعت للبعث الوجوبي، أو الاستحبابي، أو القدر المشترك بينهما، أو لهما على سبيل الاشتراك اللفظي؟ فلا بدّ في تحقيق ذلك من مقدّمات:

الاُولى: أنّه تختلف إرادة الفاعل فيما صدر منه قوّة وضعفاً حسب اختلاف

ص: 189


1- الطلب والإرادة، الإمام الخميني قدس سره: 11.

أهمّية المصالح المدركة عنده، فالإرادة المحرّكة لعضلاته لنجاة نفسه عن الهلكة أقوى من الإرادة المحرّكة لها للقاء صديقه، وهي أقوى من المحرّكة لها للتفرّج والتفريح، فمراتب الإرادات قوّة وضعفاً تابعة لإدراك أهمّية المصالح أو اختلاف الاشتياقات، واختلاف حركة العضلات سرعة وقوّة تابع لاختلاف الإرادات، كما هو ظاهر.

فما في تقريرات بعض أعاظم العصر رحمه الله علیه : من أنّ تحريك النفس للعضلات في جميع الموارد على حدّ سواء(1)، كما في تقريرات بعض المحقّقين رحمه الله علیه من أنّ الإرادة التكوينية لا يتصوّر فيها الشدّة والضعف(2)، مخالف للوجدان والبرهان:

أمّا الأوّل: فظاهر؛ ضرورة أقوائية إرادة الغريق لخلاص نفسه من إرادة الفاعل لكنس البيت وشراء الزيت.

وأمّا الثاني: فلأنّ اختلاف الآثار يدلّ على اختلاف المؤثّرات، واختلاف حركة العضلات المشاهد كاشف عن اختلاف الإرادات المؤثّرة فيها، كما أنّ اختلاف الدواعي موجب لاختلاف الإرادات، فالداعي لإنجاء المحبوب من الهلكة موجب للإرادة الحتمية القويّة، بخلاف الداعي إلى شراء اللحم، وهذا لا ينافي كون الإرادة بفعّالية النفس، كما هو التحقيق.

وأمّا التفصيل بين الإرادة التكوينية والتشريعية، فلا يرجع إلى محصّل.

الثانية: أنّ الإرادة لمّا كانت من الحقائق البسيطة كالعلم والوجود، يكون

ص: 190


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 135 - 136.
2- بدائع الأفكار (تقريرات المحقّق العراقي) الآملي 1: 212 - 213.

التشكيك الواقع فيها خاصّياً - ما به الافتراق بين مراتبها عين ما به الاشتراك - ولا يكون الاختلاف بينها بتمام الذات المستعمل في باب الماهيات، أو بعضها، أو خارجها؛ ضرورة عدم التباين الذاتي بين الإرادة القويّة والضعيفة، ولا يكون اختلافهما ببعض الذات لبساطتها، ولا بأمر خارج حتّى تكونا في مرتبة واحدة والشدّة والضعف لاحقان بها، فالإرادة كسائر الحقائق البسيطة يكون افتراق مراتبها كاشتراكها بتمام الذات، وتكون ذات عرض عريض ومراتب شتّى.

الثالثة: أنّ صدور الأمر من الآمر بما أنّه فعل إرادي له كسائر أفعاله الإرادية، مسبوق بمقدّمات من التصوّر إلى الإرادة وتحريك العضلات، غاية الأمر أنّ العضلات فيه عضلات اللسان، وتكون الإرادة فيه - قوّة وضعفاً - تابعة لإدراك أهمّية الفعل المبعوث إليه؛ ضرورة أنّ الإرادة الباعثة إلى إنجاء الولد من الغرق أقوى من الباعثة إلى شراء اللحم.

ثمّ إنّه قد يظهر آثار الشدّة في المقال، بل في كيفية تأدية الكلام شدّة، أو في الصوت علوّاً وارتفاعاً، وقد [يقرن] أمره بأداة التأكيد والوعد والوعيد، كما أنّه قد [يقرنه] بالترخيص في الترك، أو بما يفهم منه الوجوب أو الاستحباب.

وبالجملة: أنّ الأمر بما هو فعل اختياري إرادي صادر من الفاعل المختار، كسائر أفعاله من حيث المبادئ وجهات الاختلاف، فقد يحرّك الفاعل عضلات يده أو رجله لتحصيل مطلوبه مباشرة، وقد يحرّك عضلات لسانه لتحصيل مطلوبه بمباشرة الغير، لا لأنّ الأمر الذي مفاده البعث هو الباعث بذاته؛ فإنّه غير معقول، بل لأدائه بمقدّمات اُخر - على فرض تحقّقها - إلى انبعاث المأمور، فإذا

ص: 191

أمر المولى بشيء ووصل إلى العبد وتصوّر أمره، فإن وجدت في نفسه مبادٍ اُخر كالحبّ والمعرفة والطمع والخوف وأمثالها تصير هذه المبادئ داعية للفاعل، فالأمر محقّق موضوع الطاعة، لا المحرّك بالذات.

الرابعة: قد ظهر ممّا مرّ أنّ الأمر بما هو فعل إرادي للفاعل تابع لإرادته، فهو كاشف عنها نحو كشف المعلول عن علّته؛ فإنّ العقل يحكم بأنّ كلّ فعل إرادي لا يتحقّق من الفاعل المختار إلاّ بإرادته، وبما أنّه بعث نحو المبعوث إليه كاشف عن مطلوبيته، نظير كشف المعلول عن علّته بوجه؛ فإنّ الداعي إلى الأمر مطلوبية فعل المأمور به.

فدلالة الأمر على الإرادة المتعلّقة بصدوره وعلى مطلوبية الفعل المأمور به ليست دلالة لفظية وضعية، بل دلالة عقلية كدلالة كلّ ذي مبدأ على تحقّق مبادئه.

منشأ ظهور الصيغة في الوجوب

إذا عرفت ما ذكر: يقع البحث في أنّ هيئات الأوامر هل تدلّ على الوجوب أم لا؟

وعلى الأوّل: هل تكون الدلالة وضعية، أو بسبب الانصراف، أو لا هذا ولا ذاك، بل بمقدّمات الحكمة تكون ظاهرة فيه، أو لا تحتاج إليها أيضاً فيه، أو أنّها كاشفة عن الإرادة الحتمية الوجوبية كشفاً عقلائياً ككاشفية الأمارات العقلائية؟

وعلى فرض عدم وضعها للوجوب وعدم دلالتها عليه، فهل تكون حجّة على الوجوب بحكم العقل والعقلاء أو لا؟ وجوه:

ص: 192

أمّا الدلالة الوضعية(1): فإن يُرَد منها أنّها وضعت للبعث المتقيّد بالإرادة الحتمية، فهو ظاهر البطلان إن اُريد التقيّد بهذا المفهوم؛ ضرورة عدم إمكان تقيّد البعث بالحمل الشائع بمفهوم أصلاً، وقد عرفت أنّ الهيئة وضعت له.

وإن اُريد التقيّد بواقعها فلا يمكن؛ لأنّ البعث متأخّر عن الإرادة بمراتب، فلا يعقل تقيّده بها، والمعلول لا يمكن أن يتقيّد بعلّته، فضلاً عن علّة علّته، أو كعلّة علّته في التقدّم؛ للزوم كون المتأخّر متقدّماً أو بالعكس.

نعم، يمكن أن يقال: إنّ الإرادة الحتمية لمّا كانت منشأً للبعث بآلية الهيئة، فللبعث المنشأ منها تحصّل غير تحصّل البعث المنشأ من الإرادة الغير الحتمية بحسب نفس الأمر، والواضع يمكن أن يتصوّر جامعاً عرضياً انتزاعياً بين أفراد البعث الناشئة من الإرادة الحتمية، فيضع الهيئة بإزاء مصاديقه، فتكون هيئة الأمر مستعملة استعمالاً إيجادياً، ويكون وضعها عامّاً والموضوع له خاصّاً، وهو إيجاد البعث الخاصّ الناشئ من الإرادة الحتمية من غير تقيّد بها.

وهذا التصوير وإن يدفع الاستحالة، لكن التبادر والتفاهم العرفي يضادّه؛ ضرورة أنّ المتفاهم [به] من الهيئة ليس إلاّ البعث والإغراء، كإشارة المشير لإغراء غيره، وكإغراء الجوارح من الطيور وغيرها، فكأنّ لفظ الهيئة قائم مقام تلك الإشارة وذلك الإغراء.

وأمّا دعوى الانصراف إلى البعث المنشأ من الإرادة الحتمية(2)، فلا مجال لها؛

ص: 193


1- معالم الدين: 46.
2- هداية المسترشدين 1: 605؛ نهاية الدراية 1: 308.

لأنّ ملاك الانصراف الحاصل من اُنس الذهن بكثرة الاستعمال مفقود، وغيره ليس منشأً له.

ومن ذلك يعلم ما في دعوى الكشف العقلائي(1)؛ فإنّ الأمر وإن كان كاشفاً عن إرادة الآمر في الجملة، لكن كشفه عن الإرادة الحتمية من غير ملاك، غير معقول، وليس ملاك معقول في المقام إلاّ كثرة الاستعمال؛ بحيث صار غيره من النادر الذي لا يعتني به العقلاء، وهو مفقود.

وأمّا دعوى ظهوره في الوجوب بمقدّمات الحكمة، فقد قرّرها بعض محقّقي العصر رحمه الله علیه بوجهين:

أحدهما: أنّ الطلب الوجوبي هو الطلب التامّ الذي لا حدّ له من جهة النقص والضعف، بخلاف الاستحبابي؛ فإنّه مرتبة محدودة بحدّ النقص والضعف، ولا ريب في أنّ الوجود الغير المحدود لا يفتقر في بيانه إلى أكثر ممّا يدلّ عليه، بخلاف المحدود، فإنّه يفتقر إلى بيان حدوده وأصله، وعليه يلزم حمل الكلام الذي يدلّ على الطلب بلا ذكر حدّ له على المرتبة التامّة، وهو الوجوب، كما هو الشأن في كلّ مطلق(2). هذا ملخّص ما ذكر في مادّة الأمر.

وقرّره في المقام: بأنّ مقدّمات الحكمة كما تجري في مفهوم الكلام

لتشخيصه من حيث سعته وضيقه، كذلك يمكن أن تجري في تشخيص الفرد الخاصّ فيما اُريد بالكلام فرداً مشخّصاً، كما لو كان لمفهوم الكلام فردان في

ص: 194


1- لمحات الاُصول: 43.
2- بدائع الأفكار (تقريرات المحقّق العراقي) الآملي 1: 197.

الخارج وكان أحدهما يستدعي مؤنة في البيان أكثر من الآخر، كالإرادة الوجوبية والندبية، فإنّ الاُولى تفترق عن الثانية بالشدّة، فيكون ما به الامتياز فيها عين ما به الاشتراك، وأمّا الثانية فتفترق عن الاُولى بالضعف، فما به الامتياز

فيها غير ما به الاشتراك، فالإرادة الندبية تحتاج إلى دالّين بخلاف الوجوبية(1)، انتهى ملخّصاً.

وفيه محالّ أنظار:

منها: أنّ مقدّمات الحكمة في المطلق لو جرت فيما نحن فيه، فنتيجتها إثبات نفس الطلب الذي هو القدر المشترك بين الوجوبي والاستحبابي باعترافه؛ فإنّ المادّة إذا وضعت للقدر الجامع لا يمكن أن تفيد مقدّمات الحكمة دلالتها على غيره ممّا هو خارج عن الموضوع له.

ودعوى عدم الفرق بين القدر الجامع والطلب الوجوبي، واضحة الفساد؛ ضرورة لزوم افتراق الفرد عن الجامع بخصوصية زائدة.

نعم، هاهنا كلام، وهو أنّ نفس الطلب الجامع ليس له وجود إلاّ بوجود أفراده، فلا يمكن أن تنتج مقدّمات الحكمة ظهور الأمر في نفس الجامع؛ للقطع بحصوله مع أحد الفردين، لكن هذا يهدم جريان المقدّمات، ولا يوجب إنتاجها ظهور الأمر في أحد القسمين مع كونه متساوي النسبة إليهما.

ومنها: أنّ كون ما به الاشتراك في الحقائق الوجودية عين ما به الامتياز، لا يوجب عدم الاحتياج - في صرف الجامع إلى أحد القسمين - إلى بيان زائد

ص: 195


1- بدائع الأفكار (تقريرات المحقّق العراقي) الآملي 1: 214.

عن بيان نفس الطبيعة؛ ضرورة أنّ الأقسام تمتاز عن المقسم بقيد زائد في المفهوم ولو فرض عدم الزيادة في الوجود.

فالوجود المشترك مفهوماً بين مراتب الوجودات لا يمكن أن يكون معرّفاً لمرتبة منها، بل لا بدّ في بيانها من قيد زائد ولو من باب زيادة الحدّ على المحدود، فنفس مفهوم الوجود لا يكون حاكياً إلاّ عن نفس الحقيقة الجامعة بينها، ولا بدّ لبيان وجود الواجب من زيادة قيد؛ كالتامّ، والمطلق، والواجب بالذات، ونحوها، فالإرادة القويّة كالضعيفة تحتاج إلى بيان زائد، وكذا نظائرها.

ومنها: أنّ ما ذكر - من أنّ ما به الاشتراك في طرف الناقص غير ما به الامتياز - ليس على ما ينبغي؛ لأنّ الإرادة الضعيفة ليست مركّبة من إرادة وضعف، كالإرادة القويّة التي ليست مركّبة منها ومن قوّة، فما به الاشتراك في الحقائق البسيطة عين ما به الامتياز في جميع المراتب؛ قضاءً لحقّ البساطة وكون الحقيقة ذات مراتب.

فالوجود الضعيف والإرادة الضعيفة وأمثالهما مرتبة من الحقيقة البسيطة تكون بنفس ذاتها ممتازة عن القويّة، ففي الوجود الخارجي تكون كلتا المرتبتين بسيطتين؛ ما به الاشتراك فيهما عين ما به الامتياز، وتكون الحقيقة ذات عرض عريض، وفي مقام البيان والتعريف يحتاج كلاهما إلى معرّف غير نفس المفهوم المشترك.

وبالجملة: أنّ ما ذكره من عدم احتياج الطلب التامّ والإرادة التامّة إلى بيان زائد عن أصل الطلب والإرادة، غير وجيه.

ص: 196

الوجه الثاني: أنّ كلّ طالب إنّما يأمر لأجل التوسّل إلى إيجاد المأمور به، فلا بدّ أن يكون طلبه غير قاصر عن ذلك؛ وإلاّ فعليه البيان، والطلب الإلزامي غير قاصر عنه، دون الاستحبابي، فلا بدّ أن يحمل عليه الطلب(1).

وفيه ما لا يخفى من الوهن؛ فإنّ دعوى هذه الكلّية: إن ترجع إلى أنّ كلّ آمر بصدد تحصيل المأمور به على سبيل الحتم والإلزام، فهي مصادرة، مع كونها ممنوعة أيضاً؛ فإنّ الأوامر على قسمين.

وإن ترجع إلى أنّ كلّ آمر بصدد إحداث الداعي وتحصيل المأمور به في الجملة، فهي مسلّمة، لكن لا تفيد؛ فإنّ بعثه أعمّ من الإلزامي وغيره.

وإن ترجع إلى أنّ الطلب الاستحبابي يحتاج إلى البيان الزائد دون الوجوبي، فقد مرّ ما فيه؛ لرجوع هذا الوجه إلى الوجه الأوّل.

وأمّا ما أفاده شيخنا العلاّمة - أعلى الله مقامه - من أنّ الحمل على الوجوب لعلّه لأجل أنّ الإرادة المتوجّهة إلى الفعل تقتضي وجوده ليس إلاّ، والندب إنّما يأتي من قِبل الإذن في الترك منضمّاً إلى الإرادة المذكورة، فاحتاج إلى قيد زائد(2).

ففيه: أنّ الإرادة في الوجوب والندب مختلفة مرتبة كما تقدّم(3)، ولا يمكن أن تكون الإرادة فيهما واحدة ويكون الاختلاف بأمر خارج، فحينئذٍ فللإرادة الحتمية نحو اقتضاء غير [ما ل ] الغير الحتمية.

ص: 197


1- بدائع الأفكار (تقريرات المحقّق العراقي) الآملي 1: 197.
2- درر الفوائد، المحقّق الحائري: 74.
3- تقدّم في الصفحة 189.

وأمّا ما أفاد: من عدم احتياج الحمل على الوجوب إلى مقدّمات الحكمة، نظير القضيّة المسوّرة بلفظة «كلّ»(1)،

فقياسه مع الفارق؛ فإنّ الألفاظ الدالّة بالوضع على الاستغراق إذا استعملت لا محالة يكون المتكلّم بها في مقام بيان حكم الأفراد المدخولة لها؛ فإنّها بمنزلة تكرار الأفراد، فالقضيّة المسوّرة بها متعرّضة لكلّ فرد فرد بنحو الجمع في التعبير، فلا معنى لعدم البيان بالنسبة إليها. نعم أحوال الأفراد لا بدّ لها من مقدّمات الحكمة.

فالحقّ: أنّ الهيئات لا تدلّ بالدلالة الوضعية إلاّ على البعث والإغراء من غير دلالة على الوجوب والاستحباب، بل لا معنى للدلالة عليهما ولا لاستعمالها فيهما؛ فإنّ الوجوب والاستحباب إن كانا بلحاظ الإرادة الحتمية وغيرها أو المصلحة الملزمة وغيرها، فهما من مبادئ الاستعمال، ولا يعقل أن تكون مستعملة فيهما، وحتمية الطاعة وعدمها منتزعتان بعد الاستعمال، فلا يعقل الاستعمال فيهما.

وبعد اللتيّا والتي: أنّ ما لا ريب فيه ولا إشكال يعتريه: هو حكم العقلاء كافّة بأنّ الأمر الصادر من المولى واجب الإطاعة، وليس للعبد الاعتذار باحتمال كونه ناشئاً من المصلحة الغير الملزمة والإرادة الغير الحتمية، ولا يكون ذلك لدلالة لفظية، أو انصراف، أو مقدّمات حكمة.

والدليل عليه: أنّ الإغراء والبعث إذا صدر من المولى بأيّ دالّ كان، لزم عند العقلاء إطاعته، من غير فرق بين اللفظ والإشارة، مع عدم وضع لها، ولا تجري

ص: 198


1- درر الفوائد، المحقّق الحائري: 74.

فيها مقدّمات الحكمة، فنفس صدور البعث والإغراء موضوع حكمهم بلزوم الطاعة، من غير حكمهم بكشفه عن الإرادة الحتمية؛ لعدم الملاك فيه كما عرفت، فكون الأمر للوجوب ليس إلاّ لزوم إطاعته عند العقلاء حتّى يرد منه ترخيص. ولعلّ ذلك مغزى مرام شيخنا العلاّمة أعلى الله مقامه.

تتميم: في الجمل الخبرية المستعملة في مقام الإنشاء

لا إشكال فيأنّ الجمل الخبرية المستعملة في مقام البعث والإغراء، كالهيئات في حكم العقلاء بلزوم إطاعتها؛ لما عرفت من أنّ البعث بأيّ دالّ صدر من المولى، كان تمام الموضوع للزوم الاتّباع، إنّما الكلام في كيفية دلالتها على البعث:

والذي يمكن أن يقال: إنّها مستعملة في معانيها الخبرية بدعوى تحقّقها من المخاطب، مدّعياً أنّ المخبر به أمر يأتي به المخاطب من غير احتياج إلى الأمر؛ لوضوح لزوم إتيانه بحكم العقل، كما إذا قلت: «إنّ ولدي يصلّي» أو «إنّه يحفظ شأن أبيه» بداعي إغرائه بذلك، فإنّك تستعمل الجملة في معناها بدعوى كون الأمر بمكان من الوضوح لا يحتاج إلى الأمر، بل يأتي به بتمييزه وعقله.

وما ذكرنا موافق للذوق السليم والمحاورات العرفية.

ص: 199

المبحث الرابع في التعبّدي والتوصّلي وأنّ مقتضى الأصل ماذا؟
اشارة

ويتمّ البحث بتقديم اُمور:

الأوّل: في معنى التعبّدية والتوصّلية:

إنّ الواجبات بل المستحبّات في الشريعة على أقسام:

أحدها: ما يحصل الغرض بها كيفما تحقّقت؛ أي يكون المطلوب فيها نفس التحقّق والوجود بأيّ نحو حصل، كستر العورة وإنقاذ الغريق والنظافة.

ثانيها: ما لا يحصل الغرض بها إلاّ مع قصد عناوينها، من غير احتياج إلى قصد التقرّب والتعبّد، كردّ السلام وكالنكاح الواجب أو المستحبّ.

ثالثها: ما لا يحصل بها بصرف قصد العناوين، بل لا بدّ في سقوط أمرها من الإتيان بها متقرّباً إلى الله تعالى. وهذا على قسمين:

أحدهما: ما ينطبق عليه عنوان العبودية لله تعالى المعبّر عنه في لغة الفرس ب «پرستش»، كالصلاة والحجّ والاعتكاف.

وثانيهما: ما ليس كذلك وإن كان قربياً؛ أي يعتبر فيه قصد التقرّب والطاعة، كالزكاة والخمس بل والصوم؛ فإنّ إتيان الزكاة - مثلاً - وإن يعتبر فيه قصد التقرّب، لكن لا تكون عبادة بالمعنى المساوق ل «پرستش»؛ ضرورة أنّ كلّ فعل قُربي لا ينطبق عليه عنوان العبودية، ألا ترى أنّه لو أطاع أحد والديه أو السلطان

ص: 200

بقصد التقرّب إليهم لا تكون إطاعته عبادة لهم، فستر العورة والاستبراء بقصد الأمر والتقرّب إلى الله تعالى ليسا عبودية له، بل إطاعة لأمره.

فالواجبات المعتبرة فيها القربة على قسمين: تعبّدي وتقرّبي، فالأوّل ما يؤتى به لأجل عبودية الله تعالى والثناء عليه بالمعبودية، كالصلاة التي [هي] أظهر مصاديقها، فإنّها في الحقيقة ثناء عليه تعالى بعنوان العبودية، بخلاف الثاني؛ فإنّ إعطاء الزكاة إطاعة له تعالى، لا ثناء عليه بالمعبودية، فلا يجوز إتيان عمل بعنوان التعبّد لغيره تعالى، بخلاف الإتيان بعنوان التقرّب.

فحينئذٍ نقول: المراد بالواجب التعبّدي - فيما نحن فيه - هو الواجب التقرّبي بالمعنى الأعمّ من التعبّدي بالمعنى المتقدّم، وهو ما لا يسقط الغرض بإتيانه إلاّ بوجه مرتبط إلى الله تعالى، سواء قصد الامتثال له أو التقرّب إليه تعالى، والتوصّلي بخلافه، سواء سقط الغرض بإتيانه كيفما اتّفق، أو احتاج إلى قصد العنوان.

واتّضح ممّا ذكرنا وجه الخلل في تعريف التعبّدي: بأ نّه الذي شرّع لأجل التعبّد به لربّه المعبّر عنه بالفارسية ب «پرستش»(1)؛ فإنّ الواجبات التعبّدية بالمعنى المبحوث عنه أعمّ ممّا ذكر.

الثاني: في إمكان أخذ قصد الأمر في المتعلّق
اشارة

الدواعي القربية على أنحاء مشتركة في ورود بعض إشكالات المقام عليها، ويختصّ بعضها بإشكالات زائدة، فإن كان التقرّب المعتبر هو قصد امتثال الأمر

ص: 201


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 137.

وإطاعته، ففي جواز اعتباره في متعلّق الأمر وجهان، أقواهما الجواز، ويظهر وجهه بعد رفع الإشكالات المتوهّمة، وهي على أنحاء:

منها: دعوى امتناع أخذه في المتعلّق امتناعاً ذاتياً؛ أي التكليف الكذائي محال.

ومنها: دعوى الامتناع بالغير؛ لكونه تكليفاً بغير المقدور.

ولكلّ منهما تقريبات. أمّا الأوّل:

فيما استدلّ به على امتناع الأخذ امتناعاً ذاتياً

فقد يقرّر وجه الامتناع فيه بلزوم تقدّم الشيء على نفسه:

بأن يقال: إنّ الأحكام أعراض للمتعلّقات، وكلّ عرض متأخّر عن معروضه، وقصد الأمر والامتثال متأخّر عن الأمر برتبة، فأخذه في المتعلّقات موجب لتقدّم الشيء على نفسه برتبتين(1).

وقد يقال: إنّ الأمر يتوقّف على الموضوع، والموضوع يتوقّف على الأمر؛ لكون قصده متوقّفاً عليه، فيلزم الدور(2).

وقد يقال: إنّ ذلك موجب لتقدّم الشيء على نفسه في مرحلة الإنشاء والفعلية والامتثال:

أمّا في مرحلة الإنشاء؛ فلأنّ ما اُخذ في متعلّق التكليف في القضايا الحقيقية لا بدّ وأن يكون مفروض الوجود، سواء كان تحت قدرة المكلّف أو لا، فلو اُخذ

ص: 202


1- مطارح الأنظار 1: 303.
2- اُنظر درر الفوائد، المحقّق الحائري: 94.

قصد الامتثال قيداً للمأمور به فلا محالة يكون الأمر مفروض الوجود في مقام الإنشاء، وهذا ما ذكرنا من لزوم تقدّم الشيء على نفسه.

وأمّا الامتناع في مقام الفعلية والامتثال فيرجع إلى المقام الثاني؛ أي الامتناع بالغير(1).

وهذه الوجوه كلّها مخدوشة:

أمّا الوجه الأوّل: - فمضافاً إلى عدم كون الأحكام من قبيل أعراض

المتعلّقات: أمّا في النفس فلأنّ الإرادة قائمة بالنفس قيام المعلول بعلّته ومضافة إلى المتعلّقات إضافة العلم إلى المعلوم بالذات، وأمّا في الخارج فلأنّ الأحكام اُمور اعتبارية لا خارج لها حتّى تكون قائمة بالموضوعات أو المتعلّقات - أنّه لو فرض كونها من قبيل الأعراض لم تكن من الأعراض الخارجية؛ ضرورة أنّ الخارج ظرف سقوطها لا ثبوتها، ولا ضير في كونها أعراضاً ذهنية، سواء كانت من قبيل أعراض الوجود الذهني أو الماهية، فإنّ المتعلّقات بقيودها ممكنة التعقّل ولو كان تحقّق القيود متأخّراً عن الوجود الخارجي، فالأوامر متعلّقة بالمعقول الذهني من غير توجّه الآمر إلى ذلك، والمعقول بقيوده متقدّم على الأمر في الوجود الذهني، ولو كان في الوجود الخارجي على عكسه.

هذا مضافاً إلى أنّ كلّية القيود الخارجة عن ماهية المأمور به تحتاج في تقييدها بها إلى لحاظ مستأنف، فقوله: «صلّ مع الطهور» تقييد للصلاة بلحاظ آخر، فعليه فلا إشكال في إمكان تقييدها بقصد الأمر والطاعة بلحاظ ثانٍ

ص: 203


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 149 - 150.

مستأنف، ولا فرق في ذلك بين القيود مطلقاً.

ومن ذلك يعلم ما في الوجه الثاني: لأنّ توقّف الموضوع في الخارج على الأمر صحيح، لكن الأمر يتوقّف على الموضوع في الذهن لا الخارج، فيدفع الدور.

وأمّا الوجه الثالث: - فمضافاً إلى منع لزوم أخذ مطلق المتعلّقات ومتعلّقاتها مفروض الوجود - أنّه لو فرض لزومه لم يلزم محذور؛ لأنّ أخذ الأمر مفروض الوجود فرضاً مطابقاً للواقع لا يلزم منه تقدّم الشيء على نفسه، بل يلزم منه فرض وجود الشيء قبل تحقّقه، وهذا أمر غير مستحيل، بل واقع.

فقوله: «صلّ بقصد الأمر» يجوز أن يكون أمره مفروض الوجود فرضاً مطابقاً للواقع؛ لأنّ معنى مطابقته له أن يكون متحقّقاً في محلّه، وهو كذلك، فكما أنّ قوله: «صلّ في الوقت» يكون معنى فرض وجوده أنّه فرض تحقّق الوقت في محلّه، كذلك فيما نحن فيه أيضاً يمكن ذلك. مضافاً إلى ما سمعت من حال تقييد المأمور به بالقيود الخارجة عن تقوّم الماهية.

فتحصّل ممّا ذكرنا: أنّ المحذور إن كان في عدم تعقّل تصوّر الشيء قبل وجوده فهو بمكان من الفساد؛ ضرورة أنّ كلّ فعل اختياري يكون تصوّره مقدّماً على وجوده. وإن كان في إنشاء الأمر على الوجود المتصوّر فهو أيضاً كذلك؛ لأنّ الصورة الذهنية بقيودها متقدّمة على الأمر، فلا يلزم منه تقدّم الشيء على نفسه. وإن كان في فرض وجود الشيء قبل وجوده، فهو أيضاً بمكان من الإمكان، فلا محذور من هذه الجهات.

ص: 204

وقد يقرّر وجه امتناعه الذاتي: بأنّ التكليف بذلك المقيّد موجب للجمع بين

اللحاظ الآلي والاستقلالي؛ لأنّ الموضوع بقيوده لا بدّ وأن يلحظ استقلالاً، والأمر بما أنّه طرف إضافة القيد المأخوذ في الموضوع لا بدّ من لحاظه أيضاً استقلالاً، وبما أنّه آلة البعث إلى المطلوب لا يلحظ إلاّ آلة إليه، فيجمع فيه بين اللحاظين المتنافيين(1).

وفيه: أنّ الموضوع مع قيد قصد امتثال الأمر ملحوظ قبل الإنشاء، واستعمال الأمر آلة للبعث، فالاستعمال الآلي لا يجتمع مع اللحاظ الاستقلالي الذي لا بدّ منه قبل الإنشاء.

وأمّا في مقام الإنشاء فتقييد الموضوع يكون في الآن المتأخّر عن الاستعمال الإيجادي الآلي، فيلحظ ما هو آلة للبعث في الآن المتأخّر بنحو الاستقلال، كما في جميع القيود الواردة على المعاني الحرفية بل الاسمية أيضاً، ففي قوله: «زيد في الدار يوم الجمعة» يكون يوم الجمعة ظرفاً للكون الرابط الذي هو معنىً حرفي، وهو ملحوظ في الآن المتأخّر استقلالاً، مع أنّك قد عرفت في باب المعاني الحرفية أنّ تقييدها والإخبار عنها وبها لا يمكن استقلالاً، إلاّ أنّه يمكن

تبعاً، فراجع(2).

وقد يقرّر(3) وجه الامتناع ذاتاً: بأ نّه يلزم منه التهافت في اللحاظ والتناقض في العلم؛ لأنّ موضوع الحكم متقدّم عليه في اللحاظ، وقصد الأمر متأخّر عنه

ص: 205


1- اُنظر لمحات الاُصول: 53.
2- تقدّم في الصفحة 58 - 59.
3- بدائع الأفكار (تقريرات المحقّق العراقي) الآملي 1: 229 - 231.

في اللحاظ، كما أنّه متأخّر عنه في الوجود، فيكون متأخّراً عن موضوع الأمر برتبتين، فإذا اُخذ جزءاً من موضوع الأمر أو قيداً فيه، لزم أن يكون الشيء الواحد في اللحاظ الواحد متقدّماً في اللحاظ ومتأخّراً فيه، وهذا سنخ معنىً في نفسه غير معقول وجداناً؛ إمّا للخلف أو لغيره.

ثمّ أطال القائل الكلام بإيراد «إن قلتات» وأجوبتها، وحاصلها: أنّ هذا الإشكال غير الدور والتناقض في المعلوم والملحوظ، بل يرجع إلى لزوم التهافت والتناقض في اللحاظ والعلم.

ولعمري إنّ ذلك لا يرجع إلى محصّل فضلاً عن كونه إشكالاً؛ ضرورة أنّ نفس اللحاظ بما هو لا حكم له حتّى يقال: إنّه بنفسه متهافت مع غيره، بل التهافت لو كان فلأجل الملحوظ، وليس في الملحوظ فيما نحن فيه حيثية توجب التهافت إلاّ تقييد الموضوع بما يأتي من قِبل الأمر، فيرجع الكلام إلى أنّ لحاظ الشيئين المترتّبين في الوجود في رتبة موجب للتهافت في اللحاظ والتناقض في العلم، وهذا بمكان من وضوح الفساد. هذا كلّه في تقرير الامتناع الذاتي.

فيما استدلّ به على امتناع الأخذ امتناعاً بالغير

وأمّا الوجوه التي استدلّ بها للامتناع الغيري:

فمنها: أنّ فعلية الحكم الكذائي يلزم منها الدور؛ لأنّ فعلية الحكم تتوقّف على فعلية موضوعه - أي متعلّقات متعلّق التكليف - ضرورة أنّه ما لم تكن القبلة متحقّقة لا يمكن التكليف الفعلي باستقبالها، وفعلية الموضوع فيما نحن فيه تتوقّف على فعلية الحكم، فما لم يكن أمر فعلي لا يمكن قصده، فإذا كانت

ص: 206

فعلية الحكم ممتنعة يصير التكليف ممتنعاً بالغير؛ ضرورة أنّ التكليف إنّما هو بلحاظ صيرورته فعلياً ليعمل به المكلّف(1).

وفيه: - بعد ما عرفت - أنّ إنشاء التكليف على الموضوع المقيّد لا يتوقّف إلاّ على تصوّره، فإذا أنشأ التكليف كذلك يصير في الآن المتأخّر فعلياً؛ لأنّ فعليته تتوقّف على الأمر الحاصل بنفس الإنشاء. وبعبارة اُخرى: أنّ فعلية التكليف متأخّرة عن الإنشاء رتبةً، وفي رتبة الإنشاء يتحقّق الموقوف عليه.

بل لنا أن نقول: إنّ فعلية التكليف لا تتوقّف على فعلية الموضوع توقّف المعلول على علّته، بل لا بدّ في حال فعلية الحكم من فعلية الموضوع، ولو صار فعلياً بنفس فعلية الحكم؛ لأنّ الممتنع هو التكليف الفعلي بشيء لم يكن متحقّقاً بالفعل، وأمّا التكليف الفعلي بشيء يصير فعلياً بنفس فعلية التكليف، فلم يقم دليل على امتناعه.

وممّا ذكرنا يظهر الجواب عمّا قيل: إنّ الأمر يتوقّف على قدرة المكلّف، وهي في المقام تتوقّف على الأمر؛ لأنّ الأمر يتوقّف على قدرة العبد في مقام الامتثال، وفي مقامه يكون الأمر متحقّقاً(2).

ومنها: أنّ امتثال الأمر الكذائي محال، فالتكليف محال لأجله.

بيان الاستحالة: أنّ الأمر لا يدعو إلاّ إلى متعلّقه، والمتعلّق هاهنا هو الشيء المقيّد بقصد الأمر، فنفس الصلاة - مثلاً - لا تكون مأموراً بها حتّى يقصد

ص: 207


1- اُنظر نهاية الدراية 1: 326.
2- كفاية الاُصول: 95؛ اُنظر درر الفوائد، المحقّق الحائري: 94؛ نهاية الدراية 1: 328.

المأمور امتثال أمرها، والدعوة إلى امتثال المقيّد محال؛ للزوم كون الأمر داعياً إلى داعوية نفسه ومحرّكاً لمحرّكية نفسه، وهو تقدّم الشيء على نفسه برتبتين، وعلّية الشيء لعلّة نفسه(1).

وفيه: - بعد ما عرفت أنّ تصوّر هذا الموضوع المقيّد قبل تحقّقه بمكان من الإمكان، وإنشاء الأمر وإيقاعه عليه كذلك ممكن - أنّ الأوامر الصادرة من الموالي ليس لها شأن إلاّ إيقاع البعث وإنشاءه، وليس معنى محرّكية الأمر وباعثيته إلاّ المحرّكية الإيقاعية والإنشائية، من غير أن يكون له تأثير في بعث المكلّف تكويناً، فما يكون محرّكاً له هو إرادته الناشئة عن إدراك لزوم إطاعة المولى، الناشئ من الخوف أو الطمع أو شكر نعمائه أو المعرفة بمقامه... إلى غير ذلك، فالأمر محقّق موضوع الطاعة لا المحرّك تكويناً.

فحينئذٍ نقول: إن اُريد من كون الأمر محرّكاً إلى محرّكية نفسه: أنّ الإنشاء على هذا الأمر المقيّد موجب لذلك، فهو ممنوع؛ ضرورة جواز الإيقاع عليه، كما اعترف به المستشكل.

وإن اُريد منه: أنّه يلزم أن يكون الأمر المحرّك للمكلّف تكويناً محرّكاً إلى محرّكية نفسه كذلك، فهو ممنوع أيضاً؛ لأنّ الأمر لا يكون محرّكاً أصلاً، بل ليس له شأن إلاّ إنشاء البعث على موضوع خاصّ، فإن كان العبد مطيعاً للمولى لحصول أحد المبادئ المتقدّمة في نفسه، ورأى أنّ إطاعته لا تتحقّق إلاّ بإتيان الصلاة المتقيّدة، فلا محالة يأتي بها كذلك، وهو أمر ممكن.

ص: 208


1- اُنظر لمحات الاُصول: 54.

وأمّا حديث عدم أمر للصلاة حتّى يقصد امتثاله، فجوابه يظهر بعد العلم بكيفية دعوة الأمر إلى المتعلّقات المركّبة أو المقيّدة، فنقول:

لا إشكال في أنّ المركّبات المتعلّقة للأوامر كالصلاة - مثلاً - موضوعات وحدانية ولو في الاعتبار، ولها أمر واحد من غير أن ينحلّ إلى أوامر عديدة، لا في الموضوعات المركّبة ولا في المقيّدة، فلا فرق بينهما وبين الموضوعات البسيطة في ناحية الأمر.

فالأمر بعث وحداني سواء تعلّق بالمركّب أو البسيط، فلا ينحلّ الأمر إلى أوامر، ولا الإرادة إلى إرادات كثيرة، فالانحلال في ناحية الموضوع، لكن الموضوع المركّب لمّا كان تحقّقه بإيجاد الأجزاء، يكون الإتيان بكلّ جزء جزء بعين الدعوة إلى الكلّ، والأجزاء مبعوث إليها بعين البعث إلى المركّب، فكلّ جزء يأتي به المكلّف امتثال للأمر المتعلّق بالمركّب.

فإذا قال المولى لعبده: «ابنِ مسجداً»، وشرع في بنائه، لا يكون المأمور به إلاّ واحداً، والامتثال كذلك، لكن كيفية امتثاله بإيجاد أجزائه، فلا تكون الأجزاء غير مدعوّ إليها رأساً، ولا مدعوّاً إليها بدعوة خاصّة بها؛ بحيث تكون الدعوة منحلّة إلى الدعوات، بل ما يكون مطابقاً للبرهان والوجدان أنّها مدعوّ إليها بعين دعوة المركّب، فالأمر واحد والمتعلّق واحد.

فحينئذٍ نقول: إنّ الصلاة المتقيّدة بقصد الامتثال متعلّقة للأمر، فنفس الصلاة المأتيّ بها إنّما تكون مدعوّاً إليها بعين دعوة الأمر المتعلّق بالمقيّد، لا بأمر

متعلّق بنفسها، وهذا كافٍ في تحقّق الإطاعة، فإذا علم العبد أنّ الأمر متعلّق

ص: 209

بالصلاة بداعي امتثال أمرها، ويرى أنّ الإتيان بها بداعوية ذلك الأمر موجب لتحقّق المأمور به بجميع قيوده، فلا محالة يأتي بها كذلك، ويكون ممتثلاً لدى العقلاء.

بل لنا أن نقول: - بعد المقدّمة المتقدّمة - إنّ الأمر لو كان محرّكاً وباعثاً وداعياً بحسب الواقع والتكوين، لا يكون تعلّقه بالموضوع الكذائي ممتنعاً؛ لأنّ محرّكيته إلى نفس الصلاة غير ممتنعة، وإلى قيدها وإن كانت ممتنعة لكن لا يحرّك إليه، ولا يحتاج إلى التحريك إليه؛ لأنّ التحريك إلى نفس الصلاة بداعي امتثال الأمر المتعلّق بالمركّب يكفي في تحقّق المتعلّق، بل التحريك إلى القيد لغو بعد ما يكون حاصلاً، بل تحصيل للحاصل.

وممّا ذكرنا: يظهر النظر في كلام بعض محقّقي العصر في مقام الجواب؛ من دعوى انحلال الأمر إلى أوامر بعضها موضوع لبعض(1).

في تصحيح أخذ قصد الأمر بأمرين

بقي شيء: وهو أنّه على فرض امتناع تعلّق الأمر بموضوع كذائي، هل يمكن تصحيحه بأمرين: تعلّق أحدهما بنفس الطبيعة، والآخر بإتيانها بداعي الأمر بها؟

قد استشكل المحقّق الخراساني رحمه الله علیه - مضافاً إلى القطع بأ نّه ليس في العبادات إلاّ أمر واحد كغيرها - بأنّ الأمر الأوّل إن يسقط بمجرّد موافقته ولو

ص: 210


1- مقالات الاُصول 1: 236؛ نهاية الأفكار 1: 190.

لم يقصد الامتثال، فلا يبقى مجال لموافقة الثاني مع موافقة الأوّل، فلا يتوسّل الآمر إلى غرضه بهذه الوسيلة، وإن لم يسقط فلا يكون إلاّ لعدم حصول الغرض، ومعه لا يحتاج إلى الثاني؛ لاستقلال العقل بوجوب الموافقة بما يحصل به الغرض(1).

وفيه أوّلاً: أنّ دعوى القطع بعدم الأمرين بهذا النحو ممنوعة، بل لولا محذور عقلي يكون مدّعي القطع بخلافه غير مجازف؛ ضرورة أنّ ألفاظ العبادات موضوعة لمعنىً غير مقيّد بشرائط آتية من قِبل الأمر، كما مرّ في الصحيح والأعمّ(2)، فحينئذٍ لا تكفي الأوامر المتعلّقة بنفس الطبائع لإفادة مثل هذا القيد ولو قلنا بجواز أخذه في المتعلّق، فلا بدّ للمولى لإفادته: إمّا من بيان متّصل لو جاز، والمفروض عدم الجواز، بل مع جوازه ليس منه في الأوامر المتعلّقة بالطبائع عين ولا أثر، [وإمّا من بيان منفصل].

نعم، قام الإجماع بل الضرورة على لزوم قصد التقرّب أو الأمر أو نحو ذلك في العبادات، وهو يكشف عن أمر آخر لولا المحذور، ومعه لا بدّ من التشبّث بشيء آخر.

وثانياً: - بعد القطع بأنّ الأمر الأوّل لا يسقط بمجرّد الإتيان؛ لقيام الإجماع والضرورة على عدم صحّة العبادات بلا قصد أمر أو تقرّب أو نحو ذلك، وصحّتها مع قصده - أنّ هذا الإجماع وتلك الضرورة كاشفان عن تقيّد الطبائع بمثل هذا

ص: 211


1- كفاية الاُصول: 96.
2- تقدّم في الصفحة 110 - 111.

القيد، ومع فرض عدم إمكان الأخذ في موضوع الأمر المتعلّق بها يعلم أنّ ذلك كان بأمر آخر وبيان مستقلّ، ولولا هذا الإجماع والضرورة لكنّا شاكّين في اعتبار مثل قصد الامتثال، ومعه كان على المولى بيان ما هو دخيل في غرضه وموضوع حكمه.

إن قلت: إنّ العقل يستقلّ بالاشتغال، ومعه لامجال لأمر مولوي.

قلت: - مضافاً إلى جريان البراءة في المورد كما سيأتي بيانه(1) - إنّ حكم العقل بالاشتغال لم يكن ضرورياً؛ وإلاّ لما اختلفت فيه الأنظار والآراء، ومعه يبقى للمولى مجال التعبّد والمولوية ولو لردع القائلين بالبراءة.

وثالثاً: أنّ قوله: إنّ المولى لا يتوسّل لغرضه بهذه الوسيلة، مدفوع بأنّ ترك الأمر الثاني ولو برفع موضوعه موجب للعقوبة، فيحكم العقل بلزوم إطاعته، وليس للمولى وسيلة للتوصّل إلى أغراضه إلاّ الأمر والإيعاد بالعقاب على تركه، هذا.

وفي المقام إشكال آخر:

وهو أنّه - بعد فرض كون الطبيعة مع قيد قصد الامتثال قامت بها المصلحة، وكان المقيّد بما هو مقيّد محصّل الغرض - لا يمكن أن تتعلّق الإرادة بالمجرّد عن القيد ثبوتاً ولا البعث الحقيقي إليه، فلا يمكن أن يكون الأمر المتعلّق بنفس الطبيعة الخالية عن القيد صالحاً للباعثية، ومعه كيف يمكن الأمر بإتيانها بباعثية الأمر وداعويته؟!

وبالجملة: ما لا يمكن أن يكون باعثاً كيف يمكن الأمر بباعثيته؟!

ص: 212


1- يأتي في الصفحة 219.

والمفروض أنّ المجرّد عن القيد لم تقم به المصلحة، ولا يسقط به الغرض، فلا تتعلّق به الإرادة، ولا يتعلّق به البعث الحقيقي، فلا يمكن أن يأمر المولى بإتيانه بداعي أمره.

هذا، مضافاً إلى أنّه لو فرض جواز تعلّق الأمر به، لم يكن قصد الأمر الصوري - الذي لا يترتّب عليه غرض، ولا يكون متعلّقه ذا مصلحة وحسن - مقرّباً، فقصده مع عدمه سواء، فلا يصل المولى إلى مطلوبه بهذه الوسيلة(1).

والجواب عنه: أنّ الممتنع هو تعلّق الإرادة والبعث بالمجرّد عن القيد مع الاكتفاء به، وأمّا مع إرادة إفهام القيد بدليل آخر فلا، فكما يجوز للآمر الذي تعلّق غرضه بإتيان مركّب أو مقيّد أن يأمر بهما، يجوز له أن يأمر بالأجزاء واحداً بعد واحد مع إفهام أنّ الغرض متعلّق بالمركّب، وأن يأمر بالخالي عن القيد ويأمر بالقيد مستقلاًّ، وهذا ممّا لا محذور فيه، لا سيّما في المقام الذي لا يمكن غير ذلك فرضاً.

وأمّا عدم مقرّبية قصد الأمر المتعلّق بالمجرّد عن القيد، فهو أيضاً ممنوع فيما نحن فيه؛ ضرورة أنّ تمام المحصّل للغرض هو الصلاة مع قصد أمرها. نعم، في الأجزاء والقيود التي لم تكن بتلك المثابة لا يمكن قصد أمرها فقط، ولا يكون قصده مقرّباً، لا في مثل المقام الذي يكون قصد الأمر قيداً متمّماً للغرض.

ص: 213


1- لمحات الاُصول: 57.
تتميم: في إمكان أخذ قصد المصلحة ونحوها في المتعلّق

هذا كلّه لو قلنا بأنّ المعتبر في العبادات هو قصد الأمر، وأمّا لو قلنا بأنّ المعتبر فيها هو إتيان الفعل بداعي المصلحة أو الحسن أو المحبوبية، فقد ذهب المحقّق الخراساني إلى أنّ أخذها بمكان من الإمكان، لكنّها غير مأخوذة قطعاً؛ لكفاية الاقتصار على قصد الامتثال(1).

مع أنّ فيه أيضاً نظير بعض الإشكالات المتقدّمة؛ فإنّ داعوية المصلحة مثلاً لمّا كانت مأخوذة في المأمور به، تصير الداعوية متوقّفة على نفسها، وداعية إلى داعوية نفسها؛ لأنّ الفعل لا يكون بنفسه ذا مصلحة حتّى يكون بنفسه داعياً إلى الإتيان، بل بقيد داعويتها، فلا بدّ أن يكون الفعل مع هذا القيد القائم بهما المصلحة داعياً إلى الإتيان(2)، وهذا عين الإشكال المتقدّم.

وأيضاً لمّا كانت المصلحة قائمة بالمقيّد يكون الفعل غير ذي المصلحة، فلا يمكن قصدها إلاّ على وجه دائر؛ لأنّ قصد المصلحة يتوقّف عليها، وهي تتوقّف على قصدها فرضاً(3).

وأيضاً أنّ الداعي مطلقاً في سلسلة علل الإرادة التكوينية، فلو اُخذ في العمل الذي في سلسلة المعاليل لزم أن يكون الشيء علّة لعلّة نفسه، فإذا امتنع تعلّق الإرادة التكوينية امتنع تعلّق التشريعية؛ لأ نّها فرع إمكان الاُولى(4).

ص: 214


1- كفاية الاُصول: 97.
2- لمحات الاُصول: 56.
3- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 151.
4- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 152.

ويمكن [دفع] الأوّل ببعض ما ذكرنا في [دفع] الإشكال في قصد الأمر(1).

مضافاً إلى أن يقال: إنّ للصلاة مصلحة بنحو الجزء الموضوعي، ولمّا رأى المكلّف أنّ قصدها متمّم للمصلحة فلا محالة يصير داعياً إلى إتيانها بداعي المصلحة، من غير لزوم كون الداعي داعياً.

وبهذا يجاب عن الإشكال الثاني ويقطع الدور؛ فإنّ قصد المصلحة - التي هي جزء الموضوع - يتوقّف عليها، وهي لا تتوقّف على القصد، ولمّا رأى المكلّف أنّ هذا القصد موجب لتمامية الموضوع وحصول الغرض، فلا محالة يدعوه ذلك إلى القصد إلى الفعل. نعم، لا يمكن قصد تلك المصلحة مجرّدة ومنفكّة عن الجزء المتمّم، وفيما نحن فيه لا يمكن التفكيك بينهما.

وأمّا الجواب عن الثالث: فبمثل ما سبق(2): من أنّ الداعي والمحرّك إلى إتيان المأمور به بعض المبادئ الموجودة في نفس المكلّف، كالحبّ والخوف والطمع، وتصير هذه المبادئ داعية إلى إطاعة المولى بأيّ نحو أمر وشاء.

فإذا أمر بإتيان الصلاة بداعي المصلحة تصير تلك المبادئ المتقدّمة داعية إلى إتيانها بداعي المصلحة، من غير لزوم تأثير الشيء في علّته، ألا ترى أنّك إذا أحببت شخصاً حبّاً شديداً، فأمرك بإتيان شيء مبغوض أن تأتي به لأجله، صارت تلك المحبّة داعية إلى إتيانه بداعي إطاعته وطلباً لمرضاته من غير لزوم الدور.

ص: 215


1- تقدّم في الصفحة 208.
2- تقدّم في الصفحة 208.
الثالث: في مقتضى الأصل اللفظي في المقام
اشارة

بعد ما عرفت جواز أخذ جميع القيود في المأمور به، يرفع الشكّ فيها بإطلاق الدليل، ومقتضاه كون الأصل هو التوصّلية.

فإن قلت: لا يمكن التمسّك بالإطلاق هاهنا؛ لأنّ دعوة الأمر إلى متعلّقه من شؤونه ولوازمه التي لا تنفكّ عنه - وهو واضح - ولا عن متعلّقه؛ لأنّ الداعي إلى الأمر بالشيء هو جعل الداعي إلى الإتيان به، فمتعلّق الأمر هو طبيعة الفعل التي جعل المولى داعياً للعبد إلى الإتيان بها، لا مطلق طبيعته، ومعه كيف يتصوّر إمكان الإطلاق في متعلّق الأمر ليتمسّك بإطلاق الخطاب في مورد الشكّ؟!

قلت: لا شكّ في أنّ دعوة الأمر لا تنفكّ عن الأمر ولا عن متعلّقه، كان الأمر توصّلياً أو تعبّدياً، لكن الكلام في أنّ هذه الدعوة هل تعلّقت بذات العمل، أو مع قيد الدعوة؛ حتّى يكون القيد مأخوذاً في المتعلّق قبل تعلّق الدعوة، لا جائياً من قِبلها ومنتزعاً من المتعلّق بعد تعلّقها به؛ ضرورة أنّ ما جاء من قِبلها لا يكون مدعوّاً إليه ولا العبد مأخوذاً بإتيانه.

وبالجملة: أنّ البعث تعلّق بنفس الطبيعة بلا قيد، وهذا معنى الإطلاق المقابل للتقييد في المتعلّق، وأمّا القيد الجائي من قِبل البعث فلا يكون مقابلاً للإطلاق فيه، وهذا واضح جدّاً.

في كلام شيخنا العلاّمة أعلى الله مقامه

ثمّ إنّ شيخنا العلاّمة رحمه الله علیه قد رجع في أواخر عمره الشريف إلى أصالة التعبّدية، قائلاً: إنّ العلل التشريعية كالعلل التكوينية طابق النعل بالنعل، فكلّ ما

ص: 216

هو من مقتضيات الاُولى يكون من مقتضيات الثانية، كتكثّر المعلول بتكثّر العلّة، وكعدم انفكاك المعلول عنها، وغير ذلك.

وإنّ من القيود اللبّية ما يمكن أن يؤخذ في المأمور به على نحو القيدية اللحاظية كالإيمان والكفر في الرقبة.

ومنها ما لا يمكن، كقيد الإيصال في المقدّمة على تقدير وجوبها؛ فإنّ المطلقة غير واجبة، والمقيّدة غير ممكنة الوجوب، فالواجب ما ليس بمطلق ولا مقيّد وإن لا ينطبق إلاّ على المقيّد.

وكالعلل التكوينية؛ فإنّ تأثيرها ليس في الماهية المطلقة ولا المقيّدة بقيد المتأ ثّرة من قِبلها، فإنّه ممتنع، بل يكون في الماهية التي لا تنطبق إلاّ على المقيّد

بهذا القيد، فالنار إنّما تؤثّر في الطبيعة المحترقة من قِبلها واقعاً، لا المطلقة ولا المقيّدة.

وكذا العلل التشريعية، فإنّ الأوامر تحرّك المكلّف نحو الطبيعة التي لا تنطبق إلاّ على المتقيّدة لبّاً بتحريكها إيّاه نحوها، لا نحو المطلقة ولا المقيّدة بالتقييد

اللحاظي. فإذا أتى المكلّف بالطبيعة من غير داعوية الأمر، لا يكون آتياً بالمأمور به؛ لأنّ المأمور به هو ما لا ينطبق إلاّ على المقيّد بداعوية الأمر وباعثيته وإن كان آتياً بالطبيعة؛ لأ نّها قابلة للتكثّر، فعليه يكون مقتضى الأصل اللفظي هو التعبّدية، انتهى ملخّص ما أفاد رحمه الله علیه (1).

وفيه أوّلاً: أنّ قياس علل التشريع بالتكوين مع الفارق؛ لأنّ المعلول في

ص: 217


1- الظاهر أ نّه أفاده في مجلس بحثه.

العلل التكوينية لا شيئية له ولا تشخّص قبل تأثير علّته، فبعلّته يصير موجوداً متشخّصاً، وأمّا المبعوث إليه في الأوامر فتكون رتبته مقدّمة على الأمر، فلا بدّ للآمر من تصوّر المتعلّق بكلّية قيوده حتّى يأمر به، فإذا أمر بنفس الطبيعة بلا قيد

تكون هي المأمور بها لا غير، والقيود المنتزعة من تعلّق الأمر بها لا تكون مأموراً بها ومبعوثاً إليها، إلاّ أن تؤخذ في المتعلّق، كسائر القيود.

وبالجملة: أنّ الأمر التعبّدي بعد اشتراكه مع التوصّلي في أنّ كلّ واحد منهما إذا تعلّق بشيء ينتزع منه بلحاظه عنوان المأمور به والمبعوث إليه، يفترق عنه بأنّ المطلوب منه والمبعوث إليه فيه لم يكن الطبيعة، بل هي مع قصد الأمر أو التقرّب أو نحوهما، فلا بدّ أن يكون مثل تلك القيود مورداً للبعث والتحريك، ولا يكون كذلك إلاّ بأخذه في المتعلّق، وإلاّ فصرف الأمر بالطبيعة لا يمكن أن يكون محرّكاً إلى غيرها.

وثانياً: لقائل أن يقول: إنّه على فرض تسليم كون التشريع كالتكوين لا يلزم منه ما ذكره؛ لأنّ النار المحرقة للقطن - مثلاً - إنّما تحرق نفس الطبيعة، لا ما لاينطبق إلاّ على المقيّد. نعم، بتعلّق الإحراق [بها] تصير الطبيعة موصوفة بوصف لا يمكن أن تنطبق إلاّ على المقيّد، لكن هذا القيد والوصف بعد الإحراق رتبةً وبعلّيته، ولا يمكن أن يصير موجباً لضيق الطبيعة المتعلّقة للإحراق.

وبما ذكرنا من عدم صحّة قياس علل التشريع بالتكوين، يظهر حال بقيّة استنتاجاته منه، كاستفادة الفورية من الأمر، وعدم تداخل الأسباب، كما حقّقنا في محلّه(1).

ص: 218


1- راجع ما يأتي في الصفحة 233، والجزء الثاني: 175.
الرابع: في تحرير الأصل العملي

لا إشكال في جريان البراءة في المقام بناءً على جريانها في الأقلّ والأكثر مع جواز أخذ القيود في المأمور به.

وأمّا مع امتناعه فقد يفرّق بينهما بأنّ هناك رجع الشكّ إلى مقام الثبوت؛ للشكّ في تعلّق الأمر بالأكثر، وفي المقام إلى مقام السقوط، للعلم بتعلّقه بالمجرّد عن القيد، وإنّما الشكّ في سقوطه مع الإتيان بلا قصد الأمر أو نحوه؛ لأنّ الشكّ في الخروج عن عهدة التكليف(1).

وإن شئت قلت: إنّ تحصيل الغرض مبدأ للأمر، فإذا علم أصل الغرض وشكّ في حصوله للشكّ في كون المأتيّ به مسقطاً أو مع قيد التعبّدية، فلا محالة يجب القطع بتحصيل الغرض بإتيان جميع ما له دخل - ولو احتمالاً - في تحصيله(2).

وفيه: أنّه - على فرض تماميته - من أدلّة الاشتغال في الأقلّ والأكثر، لا الفارق بينه وبين المقام؛ لأنّ القائل بالاشتغال هناك يدّعي أنّ الأمر بالأقلّ معلوم ونشكّ في سقوطه لأجل ارتباطية الأجزاء(3)، أو أنّ الغرض المستكشف من الأمر معلوم ونشكّ في سقوطه بإتيان الأقلّ، فيجب الإتيان بكلّ ما احتمل دخله في الغرض(4).

ص: 219


1- نهاية الدراية 1: 345.
2- نهاية الدراية 1: 342.
3- هداية المسترشدين 3: 563.
4- كفاية الاُصول: 414.

هذا، مع أنّ الدليل غير تامّ؛ فإنّا لا نفهم من سقوط الأمر شيئاً إلاّ الإتيان بمفاده على ما هو عليه.

وبعبارة اُخرى: أنّ الأمر حجّة على العبد فيما يبعثه إليه، ولا يعقل أن يكون حجّة على الزائد على المبعوث إليه، فمع الإتيان بجميع قيوده المأخوذة فيه لا يعقل بقاؤه على صفة الحجّية والدعوة، ويكون العقاب على غير المأمور به وما قام عليه الحجّة عقاباً بلا بيان وقبيحاً عند العقلاء، ومجرّد احتمال الغرض لا يصير حجّة على الواقع الغير المبعوث إليه.

مع أنّ مجرّد عدم إمكان تقييد المأمور به لا يوجب عدم إمكان البيان مستقلاًّ، فلو توقّف حصول غرض المولى على أمر وراء المأمور به فعليه البيان.

هذا حال البراءة العقلية.

وأمّا النقلية: فتارةً يفرض الكلام فيما إذا جاز تقييد المأمور به بالقيود الآتية من قِبل الأمر، واُخرى فيما إذا جاز البيان بأمر آخر فقط، وثالثةً فيما لا يجوز مطلقاً، وعلى أيّ حال: تارةً يفرض مع القول بجريان البراءة العقلية، واُخرى مع القول بالاشتغال.

والحقّ جريانها في جميع الصور.

وقد يقال: بعدم الجريان مطلقاً بناءً على القول بالاشتغال، وفيما لا يمكن أخذ القيد في المأمور به ولو بأمر آخر حتّى بناءً على البراءة.

أمّا عدم الجريان على الاشتغال حتّى فيما يمكن الأخذ في المأمور به بأمر

واحد؛ فلقصور أدلّة البراءة عن شمول مثل المورد؛ فإنّ ملاك البراءة النقلية هو كون الأمر المشكوك فيه إذا لم يبيّنه المولى كان ناقضاً لغرضه، والمورد ليس

ص: 220

كذلك؛ فإنّ القيد المزبور - على فرض دخالته - يجوز للمولى الاتّكال فيه على حكم العقل بالاشتغال، ولا يوجب عدم البيان نقض الغرض، وإذا كان كذلك لا يكون مجرى للبراءة.

وليس المدّعى أنّ حكم العقل بالاحتياط بيان نافٍ لموضوع البراءة حتّى يستشكل بلزوم الدور، بل المدّعى قصور أدلّة البراءة عن مثل المورد.

وأمّا فيما يمكن البيان بأمر آخر فقط؛ فلأنّ جريان البراءة لا يثبت أنّ متعلّق الأمر الأوّل تمام المأمور به إلاّ على الأصل المثبت، بخلاف ما إذا قلنا بإمكان أخذ القيد في متعلّق الأمر الأوّل؛ فإنّ الشكّ يرجع إلى انبساط الأمر على الجزء أو القيد المشكوك فيه، فمع جريان البراءة يكون بنظر العرف باقي الأجزاء تمام المأمور به، فيكون من قبيل خفاء الواسطة.

وأمّا مع عدم إمكان الأخذ مطلقاً؛ فلأنّ جريان مثل دليل الرفع موقوف على كون المشكوك فيه قابلاً للوضع والرفع شرعاً، ومع عدم جواز الأخذ لا يمكن الوضع، فلا يمكن الرفع، ودخالته في الغرض واقعية تكوينية غير قابلة للوضع والرفع التشريعيّين.

وأمّا الأجزاء والقيود القابلة للأخذ فيه، فهي وإن كانت دخالتها في تحصيل الغرض واقعية، لكنّها لمّا كانت قابلة لهما فبدليل الرفع - ولو كان أصلاً - يكشف عن أنّه ليس هناك أمر فعلي متعلّق بالمشكوك فيه(1).

والجواب عن الأوّل: أنّ هذه الدعوى ترجع إلى انصراف الأدلّة عن مورد

ص: 221


1- بدائع الأفكار (تقريرات المحقّق العراقي) الآملي 1: 243 - 245.

يكون العقل فيه حاكماً بالاشتغال، وهو ممنوع جدّاً، بل لو ادّعي عكس ذلك فله وجه؛ لأنّ ظاهر الأدلّة هو المولوية، ومع حكم العقل بالبراءة تصير من قبيل الإرشاد إلى حكم العقل، فمورد حكم العقل بالاشتغال كأ نّه القدر المتيقّن لشمول الأدلّة، فدعوى كون ملاك الأدلّة النقلية في غير مورده غريبة.

وعن الثاني: أوّلاً: أنّه لا ملزم لإثبات كون البقيّة تمام المأمور به أو تمام المطلوب؛ حتّى يقال: إنّه لا يثبت إلاّ بالأصل المثبت؛ فإنّ عنوان «تمام المطلوب» لا يكون مأموراً به حتّى يلزم على المكلّف إحرازه، وليس عليه إلاّ الإتيان بما قام عليه الحجّة، وهو بقيّة الأجزاء، كانت تمام المطلوب أو لا.

وثانياً: أنّ رفع الجزء المشكوك فيه ملازم عقلاً لكون البقيّة تمام المطلوب، وهذا عين الأصل المثبت، من غير فرق بين وحدة الأمر وتعدّده.

وثالثاً: أنّ مفاد الأمر الثاني ليس أمراً مستقلاًّ، بل هو من قبيل تتميم الجعل ناظراً إلى متعلّق الأمر الأوّل وموجباً لتقييده، فلو كانت الواسطة خفيّة لم يفرّق بينهما.

وعن الثالث: أنّ دخالة شيء في تحصيل الغرض ثبوتاً، لا محالة تكون على نحو يمكن بيانه إثباتاً، فعلى المولى بيانه، وذلك كافٍ في جريان دليل الرفع؛ فإنّ أمر وضعه بيد الشارع، ودعوى عدم إمكان ذلك أيضاً كما ترى .

ص: 222

المبحث الخامس في أصالة النفسية والعينية والتعيينية

إذا شكّ في كون الوجوب نفسياً تعيينياً عينياً أو مقابلاتها، فالظاهر لزوم الحمل عليها دون المقابلات؛ لأنّ أمر المولى وبعثه بأيّ دالّ كان - بلفظ أو إشارة أو غيرهما - تمام الموضوع عند العقلاء لوجوب الطاعة، ومعه يقطع عذر المكلّف - كما مرّ في باب دوران الأمر بين الوجوب والاستحباب(1) فإنّ الهيئة وإن لم توضع إلاّ لمجرّد البعث والإغراء، وما ذكر ومقابلاتها خارجة عن مدلولها، لكن مجرّد صدور الأمر عن المولى موضوع لوجوب الطاعة، فإذا تعلّق أمر بشيء يصير حجّة عليه، فإذا عدل المكلّف إلى غيره باحتمال التخييرية، أو تركه مع إتيان الغير باحتمال الكفائية، أو تركه مع سقوط الوجوب عن غيره باحتمال الغيرية، لا يكون معذوراً لدى العقلاء، لا لدلالة الهيئة وضعاً على شيء منها؛ ولهذا لو أشار المولى بإتيان شيء يجب عقلاً إتيانه، والأعذار المتقدّمة ليست موجّهة، مع أنّه لا وضع للإشارة.

وأمّا قضيّة مقدّمات الحكمة - مع إطلاق الأمر - ذلك، فمحلّ إشكال ومنع؛ لأنّ مقدّمات الحكمة لا يمكن أن تنتج هاهنا؛ لأ نّه إمّا أن يراد أن تنتج مطلق البعث الجامع بين النفسي والغيري... وهكذا، فمع كونه خلاف المقصود ممتنع؛ لعدم إمكان الجامع بين المعاني الحرفية كما سبق

ص: 223


1- تقدّم في الصفحة 198 - 199.

بيانه(1)، هذا، مضافاً إلى القطع بعدم إرادة الجامع في المقام.

أو تنتج الوجوب النفسي وأخواته - كما ذكر المحقّق الخراساني(2) - فلا يمكن أيضاً؛ لأنّ النفسية متباينة مع الغيرية؛ كلّ منهما يمتاز عن الآخر بقيد وجودي أو عدمي، فالنفسي ما يكون البعث إليه لذاته أو لا لغيره، والغيري بخلافه، ويحتاج كلاهما في مقام التشريع والبيان إلى قيد زائد ولو من باب زيادة الحدّ على المحدود.

وما يقال: إنّ النفسية ليست إلاّ عدم كون الوجوب للغير، وكذا البواقي، وعدم القرينة على القيود الوجودية دليل على عدمها، وإلاّ لزم نقض الغرض، لا أنّ النفسية والغيرية قيدان وجوديان(3).

مدفوع؛ ضرورة امتناع كون النفسية عدم الغيرية على نعت السوالب المحصّلة الصادقة مع عدم الوجوب رأساً.

مع أنّ الوجوب والوجود لا يمكن أن يكونا نفس العدم، بل النفسية إمّا وجوب لذاته، أو لا لغيره على نعت الموجبة المعدولة أو السالبة المحمول، فحينئذٍ كما أنّ الوجوب لغيره يحتاج إلى بيان زائد على أصل الوجوب، كذلك الوجوب لا لغيره.

مع أنّ التحقيق أنّ تعريف النفسي بالوجوب لا لغيره(4) تعريف بلازمه، بل

ص: 224


1- تقدّم في الصفحة 43.
2- كفاية الاُصول: 99.
3- نهاية الدراية 1: 353.
4- نفس المصدر.

النفسية هو الوجوب لذاته والغيرية لغيره، وهما قيدان وجوديان، وعلى أيّ حال لم يكن النفسي هو نفس الطبيعة والغيري هي مع قيد، لا عقلاً - وهو واضح - ولا عرفاً؛ ضرورة أنّ تقسيم الوجوب إلى النفسي والغيري صحيح بحسب نظر العرف.

وممّا ذكرنا يظهر النظر فيما قرّره بعض أعاظم العصر أيضاً(1).

ص: 225


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 220.
المبحث السادس في المرّة والتكرار
اشارة

الحقّ عدم دلالة الأمر على المرّة والتكرار، وقبل الخوض في المطلوب نقدّم اُموراً:

الأوّل: في تحرير محلّ النزاع

جعل في «الفصول» محلّ النزاع في الهيئة؛ استشهاداً بنصّ جماعة وبحكاية السكّاكي الاتّفاق على أنّ المصدر المجرّد من اللام والتنوين لا يدلّ إلاّ على الماهية من حيث هي(1).

واستشكل عليه المحقّق الخراساني: بأنّ ذلك لا يوجب كون النزاع في الهيئة؛ ضرورة أنّ المصدر ليس مادّة لسائر المشتقّات(2).

وهذا الإشكال غير وارد عليه؛ لأنّ مادّة المصدر عين مادّة المشتقّات، ولو لم يكن المصدر مادّة لها.

لكن يرد على «الفصول»: بأنّ ذلك لا يتمّ إلاّ إذا انضمّ إليه الإجماع على كون المصدر أصل المشتقّات، أو الإجماع على أنّ مادّته مادّتها، وهو ممنوع؛ لوقوع الخلاف في مادّة المشتقّات، وفي وضعها نوعاً وشخصاً.

ص: 226


1- الفصول الغروية: 71 / السطر 17.
2- كفاية الاُصول: 100.

ثمّ إنّ النزاع بحسب التصوّر يحتمل أن يكون في الهيئة، وفي المادّة بأن يقال: إنّ مادّة الأمر موضوعة بوضع على حدة، وفي المجموع بأن يقال: إنّ لمجموعهما وضعاً خاصّاً. لكن النزاع في الهيئة كأ نّه يرجع إلى النزاع في أمر غير معقول؛ لأنّ المادّة إذا كانت موضوعة للماهية:

فإمّا أن يقال: إنّ الهيئة وضعت للبعث والإغراء، ولازم الإغراء إلى الماهية هو إيجادها، لا أنّه مدلولها اللفظي، فالإغراءات إلى الماهية اللابشرط لا يمكن أن تكون تأسيسية؛ لما عرفت سابقاً: أنّ متعلّق الإرادة والبعث إذا لم يكن متعدّداً لا يمكن أن تتعدّد الإرادة والبعث التأسيسي إليه؛ لأنّ الشيء الواحد لا يمكن أن يكون مراداً ومشتاقاً إليه مرّتين، فكثرة الإرادة والحبّ والاشتياق تابعة لكثرة المتعلّق، وكذا لا يمكن تعدّد البعث التأسيسي إلى شيء واحد، ومعه يكون النزاع في الهيئة هو النزاع في أمر غير معقول.

نعم، بناءً على ما أفاده شيخنا العلاّمة أعلى الله مقامه - من أنّ علّة التشريع كالتكوين يكون المعلول في وحدته وكثرته تابعاً لها - يكون للنزاع فيها مجال، لكن قد عرفت عدم كونه مرضيّاً(1).

وإمّا أن يقال: إنّها وضعت لطلب الإيجاد؛ بحيث يكون الإيجاد بالمعنى الحرفي مفادها اللغوي، فحينئذٍ وإن جاز النزاع في أنّها وضعت لطلب إيجاد أو إيجادات، لكن الوضع للعنوان المقيّد موجب لاسمية معنى الهيئة، وتقييد المعنى الحرفي في استعمال واحد ممّا لا يمكن؛ فإنّ نفس الإيجاد معنىً حرفي،

ص: 227


1- تقدّم في الصفحة 216 - 218.

وتقييده لا يمكن إلاّ بلحاظ آخر، والجمع بينهما في استعمال واحد غير جائز.

وما ذكرنا في باب معاني الحروف(1) - من أنّ نوع الاستعمالات لإفادة معاني الحروف، وجوّزنا تقييدها - لا ينافي ما ذكرنا هاهنا؛ لأنّ المقصود هناك إمكان تقييدها في ضمن الكلام بلحاظ آخر، فلاتغفل. فالنزاع في الهيئة ممّا لامجال له.

إلاّ أن يقال: إنّ الهيئة يمكن أن توضع لطلب إيجادات بالمعنى الحرفي، لا للإيجاد المتقيّد بالمرّة والتكرار، فكما يجوز استعمال الحرف في أكثر من معنىً، يجوز وضع الحرف للكثرة واستعماله فيها.

ولكنّه على فرض إمكانه العقلي مقطوع الخلاف.

فلا بدّ وأن يرجع النزاع إلى المادّة؛ بدعوى أنّ مادّة الأمر موضوعة مستقلّة إمّا للدفعة أو الدفعات، أو يقال: إنّ المادّة والهيئة موضوعتان مستقلاًّ بحيث يرجع القيد إلى الجزء المادّي لا الصوري.

الثاني: في تعيين المراد من المرّة والتكرار

هل المراد من المرّة والتكرار الدفعة والدفعات، أو الفرد والأفراد؟

لا يبعد أن يكون محلّ النزاع هو الثاني؛ نظراً إلى أنّ هذا النزاع نشأ ظاهراً من النظر إلى اختلاف أحكام الشريعة، فإنّ منها مايتكرّر كالصوم والصلاة، ومنها ما لا يتكرّر كالحجّ، فصار موجباً لاختلاف الأنظار، ومعلوم أنّه ليس في الأحكام ما يكون للدفعة والدفعات، وعلى أيّ حال يمكن النزاع على كلا المعنيين.

واختار صاحب «الفصول» كونه في المعنى الأوّل؛ نظراً إلى ظاهر اللفظ،

ص: 228


1- تقدّم في الصفحة 58.

وأنّهم لو أرادوا بالمرّة الفرد لكان الأنسب أن يجعل هذا البحث تتمّة للبحث الآتي من أنّ الأمر هل يتعلّق بالطبيعة أو الفرد، فيقال: وعلى تقدير تعلّقه بالفرد هل يقتضي تعلّقه بالفرد الواحد أو المتعدّد؟ ولم يحتج إلى إفراد كلّ منهما كما فعلوه، وأمّا على الدفعة فلا علاقة بين المسألتين(1).

وردّ: بأنّ الأمر إذا تعلّق بالطبيعة أيضاً يأتي فيه هذا النزاع بالمعنيين؛ لأنّ القائل بأنّ الأمر تعلّق بالطبيعة لا يقول: إنّه تعلّق بالماهية من حيث هي، بل بما هي موجودة، وبهذا الاعتبار كانت مردّدة بين المرّة والتكرار بكلا المعنيين، فلا يكون هذا البحث من تتمّة البحث الآتي، بل بحث برأسه؛ لاختلاف الجهة المبحوث عنها فيهما(2).

والتحقيق أن يقال: بناءً على تعلّق الأمر بالطبيعة: فإن قلنا بأنّ الهيئة موضوعة لطلب الإيجاد - كما عليه «الفصول»(3) - فلا محيص عن كون متعلّقه هو الطبيعة من حيث هي؛ لأنّ الإيجاد اُخذ في طرف الهيئة، فلو اُخذ الوجود في طرف المادّة يصير معنى الأمر بالصلاة: «أوجِد وجود الصلاة» وهو كما ترى.

فحينئذٍ يكون النزاع في استفادة المرّة والتكرار بالمعنيين راجعاً إلى الهيئة، فيأتي الإشكال المتقدّم في الأمر الأوّل، فلا بدّ من إرجاع البحث إلى المادّة تخلّصاً عن الإشكال، فحينئذٍ لا مجرى للنزاع مع تعلّق الأمر بالطبيعة، سواء

ص: 229


1- الفصول الغروية: 71 / السطر25.
2- كفاية الاُصول: 101 - 102.
3- الفصول الغروية: 71 / السطر 39.

اُريد الفرد والأفراد أو الدفعة والدفعات؛ ضرورة أنّها خارجة عن الطبيعة، وأمّا مع تعلّق الأمر بالفرد فللنزاع مجال.

وإن قلنا بأنّ الهيئة موضوعة للإغراء والبعث، ولازم الإغراء إلى الطبيعة إيجادها؛ لأنّ الماهية من حيث هي ليست مطلوبة، لكن الإيجاد والوجود لم يكونا مدلول الهيئة ولا المادّة، بل من اللوازم العقلية لتعلّق البعث بالطبيعة، فحينئذٍ يكون النزاع بناءً على تعلّق الأمر بالطبيعة في أمر عقلي لا لغوي، وهو خلاف ظاهرهم(1)، فلا بدّ من إجراء النزاع على فرض تعلّق الأمر بالفرد لا الطبيعة حتّى يدفع الإشكال.

لكن بعد اللتيّا والتي لا يصير هذا البحث من تتمّة البحث الآتي بعد كون الجهة المبحوث عنها مختلفة.

الثالث: في وحدة الامتثال وتعدّده عند إتيان الأفراد العرضية دفعة

قد يقال: بناءً على دلالة الأمر على طلب الطبيعة لو أتى المكلّف بعدّة أفراد معاً يكون امتثالات بعدد الأفراد؛ لأنّ الطبيعة متكثّرة بتكثّرها، ولا يكون فردان أو أفراد منها موجودة بوجود واحد؛ لأنّ المجموع ليس له وجود غير وجود الأفراد، فكلّ فرد محقّق الطبيعة، ولمّا كان المطلوب هو الطبيعة بلا تقيّد بالمرّة والتكرار لو أتى المكلّف بأفراد متعدّدة أوجد المطلوب بإيجاد كلّ فرد، ويكون كلٌّ امتثالاً برأسه، كما هو موجود برأسه.

ص: 230


1- معالم الدين: 53؛ قوانين الاُصول 1: 91 / السطر 6؛ الفصول الغروية: 71 / السطر 38؛ كفاية الاُصول: 103.

ونظير ذلك الواجب الكفائي؛ حيث إنّ الأمر فيه متعلّق بنفس الطبيعة، ويكون جميع المكلّفين مأمورين بإتيانها، فمع إتيان واحد منهم يسقط عن الباقي، وأمّا لو أتى عدّة منهم دفعة يكون كلٌّ ممتثلاً، وتحقّقت امتثالات، لا امتثال واحد من الجميع(1).

وفيه: أنّ مناط وحدة الامتثال وكثرته بوحدة الطلب وكثرته ولو بالانحلال بوجه، فلو تعلّق أمر بإكرام كلّ فرد من العلماء، يكون إكرام كلّ فرد واجباً برأسه، وله امتثال برأسه.

وأمّا مع تعلّق الأمر بنفس الطبيعة متوجّهاً إلى مكلّف واحد، فلا يعقل أن يتكثّر الامتثال بتكثّر الأفراد ولا بتكثّر الطبيعة؛ فإنّ تكثّرها لا يوجب تكثّر

الطلب والوجوب ولو انحلالاً، فلا يوجب تكثّر الامتثال؛ ولهذا لو ترك الطبيعة القابلة للكثرة لم يعاقب بعدد كثرة الأفراد، فلو تعلّق الطلب بإكرام العالم؛ بحيث لو أكرم واحداً منهم سقط الطلب، فترك العبد الإكرام مطلقاً، لم يكن له إلاّ عقاب واحد بالضرورة، ومعه كيف يمكن أن يكون له امتثالات مع الإتيان بإكرام عدّة منهم؟! فالامتثال فرع الطلب، كما أنّ العقوبة فرع ترك المطلوب، فلا يمكن الامتثالات مع وحدة الطلب، ولا استحقاق عقوبة واحدة مع كثرته.

وممّا ذكرنا يظهر فارق قياسه بالواجب الكفائي؛ فإنّ الطلب هناك - على فرض كون الكفائي كما ذكر- توجّه إلى كلّ مكلّف بإتيان الطبيعة، فكلّ فرد ممتثل مع الإتيان دفعة ومعاقب مع الترك رأساً، ومع إتيان واحد منهم يسقط

ص: 231


1- لمحات الاُصول: 70.

الطلب عن الباقي؛ لرفعه موضوعه، فهناك طلبات كثيرة فامتثالات كثيرة، بخلاف ما نحن فيه، فلا تغفل.

التحقيق: عدم دلالة الأمر على المرّة والتكرار

إذا عرفت ذلك، فالحقّ: عدم دلالة الأمر على المرّة والتكرار؛ لأنّ المادّة موضوعة للماهية بلا شرط، والهيئة للإغراء والبعث، أو لطلب الوجود، أو الإيجاد، وليس لهما وضع على حدة، ولا قرائن عامّة تدلّ على واحد منهما، كما لا يخفى.

ص: 232

المبحث السابع في الفور والتراخي
اشارة

وبمثل ما ذكر في المرّة يعلم أنّه لا دلالة للأمر على الفور والتراخي؛ إذ ليس مفاده إلاّ البعث إلى نفس الطبيعة، ولازمه إيجادها أو البعث إلى إيجادها، وأيّاً ما

كان لا دلالة فيه على أمر زائد على ما ذكر.

في استدلال العلاّمة الحائري على الفورية

لكن شيخنا العلاّمة - أعلى الله مقامه - كان يقايس الأوامر بالعلل التكوينية في اقتضائها عدم انفكاك معاليلها عنها، قال في كتاب «الصلاة»: «إنّ الأمر المتعلّق بموضوع خاصّ غير مقيّد بزمان، وإن لم يكن مدلوله اللفظي ظاهراً في الفور ولا في التراخي، ولكن لا يمكن التمسّك به للتراخي بواسطة الإطلاق، ولا التمسّك بالبراءة العقلية لنفي الفورية؛ لأ نّه يمكن أن يقال: بأنّ الفورية وإن

كانت غير ملحوظة للآمر قيداً للعمل، إلاّ أنّها من لوازم الأمر المتعلّق به؛ فإنّ الأمر تحريك إلى العمل وعلّة تشريعية له، وكما أنّ العلّة التكوينية لا تنفكّ عن معلولها في الخارج، كذلك العلّة التشريعية تقتضي عدم انفكاكها عن معلولها في الخارج، وإن لم يلاحظ الآمر ترتّبه على العلّة في الخارج قيداً»(1)، انتهى.

أقول: العلّة التامّة التكوينية لا يمكن أن تنفكّ عن المعلول بالبرهان

ص: 233


1- الصلاة، المحقّق الحائري: 573.

والضرورة، وأمّا الأوامر فكما يمكن أن تتعلّق بالطبائع متقيّدة بالفور يمكن أن تتعلّق بها متقيّدة بالتراخي، ويمكن أن تتعلّق بها بلا تقييد، ولا يمكن أن تدعو إلاّ إلى متعلّقاتها، بل مقتضى الملازمة بين الإيجاب والوجوب أنّ الإيجاب إذا تعلّق بأيّ موضوع على أيّ نحو كان تعلّق الوجوب به لا بغيره، فإذا تعلّق الأمر بنفس الطبيعة لا يمكن أن يدعو إلى أمر زائد عنها، فوزان الزمان وزان المكان وسائر القيود الزائدة، فكما لا يمكن أن يكون البعث إلى نفس الطبيعة بعثاً إلى إيجادها في مكان خاصّ، كذلك بالنسبة إلى زمان خاصّ حاضر أو غابر.

وبالجملة: القياس بين التكوين والتشريع كما وقع منه ومن غيره من الأعاظم(1)، غير تامّ.

في الاستدلال على الفور بالآيتين الكريمتين

ثمّ إنّه قد يتشبّث لاستفادة الفورية بأدلّة النقل(2)، مثل قوله تعالى: )فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ((3)، وقوله: )سَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ((4).

وفيه: أنّ الظاهر من مادّة «الاستباق» وهيئة «المسارعة» هو أنّ الأمر متوجّه إلى تسابق المكلّفين بعضهم مع بعض إلى فعل الخيرات، وإلى مغفرة من ربّهم،

ص: 234


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 272 - 273 و280 - 281، و4: 394 - 395.
2- اُنظر تهذيب الوصول إلى علم الاُصول: 99؛ معالم الدين: 56 - 57.
3- البقرة (2): 148؛ المائدة ((5)): 48.
4- آل عمران (3): 133.

ومع حفظ هذا الظهور لا بدّ من حمل الخيرات وأسباب المغفرة على ما لو لم يسبق المكلّف إليه لَفاته بإتيان غيره، مثل الواجبات الكفائية والخيرات التي لا يمكن قيام الكلّ بإتيانها، ومعه يكون الأمر للإرشاد لا للوجوب؛ فإنّ الاستباق والمسارعة في مثلها غير واجب بعد ما قام بأدائها شخص أو أشخاص.

وهذا الحمل أولى من رفع اليد عن ظهور الصدر والأخذ بظهور الذيل، ولا أقلّ من الإجمال، مع عدم دلالة آية المسارعة على العموم.

وما قيل: من أنّ توصيف النكرة بقوله: )مِنْ رَبِّكُمْ( يفيد العموم(1)، كما ترى، ولهذا جرت في الآية احتمالات: ككون المراد كلمة الشهادة، أو أداء الفرائض كما روي عن أمير المؤمنين علیه السلام ، أو التكبير الأوّل من الجماعة، أو الصفّ الأوّل منها، أو التوبة، أو الإخلاص، أو الهجرة قبل فتح مكّة، أو متابعة الرسول، أو الاستغفار، أو الجهاد، أو أداء الطاعات، أو الصلوات الخمس(2).

وقد يورد(3) على التمسّك بهما بوجه عقلي، وهو أنّه يلزم من وجوب الاستباق إلى الخيرات عدمه.

بيانه: أنّ الاستباق بمفهومه يقتضي وجود عدد من الخيرات يتحقّق الاستباق بفعل مقدار منه، وينتفي في المقدار الآخر، ولا ريب أنّ المقدار الذي لا يتحقّق الاستباق فيه هو من الخيرات، وعلى فرض وجوب الاستباق في الخيرات يلزم

ص: 235


1- اُنظر الفصول الغروية: 76 / السطر 16.
2- راجع مجمع البيان 1: 836؛ التفسير الكبير 9: 5؛ الجامع لأحكام القرآن، القرطبي 17: 256.
3- بدائع الأفكار (تقريرات المحقّق العراقي) الآملي 1: 252.

أن يكون المقدار الذي لا يتحقّق به الاستباق غير الخيرات؛ لمزاحمته للمقدار الذي يتحقّق به، وإذا انتفى أن يكون من الخيرات، لزم عدم وجوب الاستباق في المقدار الذي كان الاستباق يتحقّق فيه، فيلزم من وجوبه عدمه، وهو محال.

وفيه ما لا يخفى:

أمّا أوّلاً: فلأنّ معنى «استبقوا» هو بعث المكلّفين إلى سبق بعضهم بعضاً في فعل، كما في السبق والرماية، وكما في قوله تعالى: )وَاسْتَبَقَا الْبَابَ((1)

في قضيّة يوسف علیه السلام ، لا سبق بعض الخيرات على بعض، والخيرات مفعول لا فاعل.

وثانياً: أنّ الأمر في التكاليف متعلّق بالطبائع لا الأفراد حتّى يلزم أن يكون لكلّ خير مقدار متعلّق للأمر، فيلزم منه ما ذكر.

وثالثاً: على فرض تعلّق الأمر بالأفراد يمكن تعلّقه بجميعها على سبيل تعدّد المطلوب، فالتزاحم على فرضه إنّما يقع في المطلوب الأعلى.

ورابعاً: على فرض وقوع التزاحم لا يخرج الواجب عن كونه خيراً؛ فإنّ السقوط للمزاحمة، فحينئذٍ يبقى ظهور مفهوم الاستباق على حاله.

والإنصاف: أنّ ما ذكره رحمه الله علیه تجشّم وتكلّف، كما لا يخفى على المتدبّر.

ص: 236


1- يوسف (12): 25.

الفصل الثالث في الإجزاء

اشارة

وقبل الورود في البحث لا بدّ من ذكر مقدّمات:

المقدّمة الاُولى: في تحرير محلّ النزاع

اختلفت كلماتهم في تحرير محلّ البحث:

فقد يعبّر: بأنّ الأمر بالشيء هل يقتضي الإجزاء إذا اُتي به على وجهه أم لا(1)؟

وقد يعبّر: بأنّ الإتيان بالمأمور به على وجهه هل يقتضي الإجزاء أم لا(2)؟

ولعلّ الفرق بينهما: أنّ النزاع في الأوّل في دلالة الأمر، فصار المبحث من مباحث الألفاظ والدلالات، وفي الثاني في أنّ الإتيان علّة للإجزاء، فصار عقلياً، كذا قيل(3).

لكن كون النزاع في دلالة الأمر بعيد عن الصواب؛ فإنّ الدلالة المتوهّمة

ص: 237


1- قوانين الاُصول 1: 129 / السطر 20؛ الفصول الغروية: 116 / السطر 9.
2- مطارح الأنظار1: 109؛ كفاية الاُصول: 104؛ نهاية الأفكار 1: 222.
3- بدائع الأفكار (تقريرات المحقّق العراقي) الآملي 1: 260.

إن كانت وضعية، فلا أظنّ بأحد يتوهّم دلالة هيئة الأمر أو مادّته على الإجزاء إذا أتى المكلّف بالمأمور به على وجهه؛ بحيث يكون جميع هذه المداليل من دلالة الأمر هيئةً أو مادّةً.

وكذا الحال في الدلالة الالتزامية؛ بأن يدلّ على أنّ المأمور به مشتمل على غرض للآمر، ولا محالة أنّ ذلك الغرض يتحقّق في الخارج بتحقّق المأمور به، وحينئذٍ يسقط الأمر؛ لحصول الغاية الداعية إليه؛ فإنّ عدّ تلك القضايا العقلية المتكثّرة من دلالة الأمر التزاماً ممّا لا مجال للالتزام به، مع ظهور فساده، فحينئذٍ

لا يكون في دلالة الدليل.

وهذا من غير فرق بين إرجاع النزاع إلى الأوامر الاختيارية الواقعية أو الاضطرارية والظاهرية؛ لأنّ دلالة الأمر لا تخرج عن مادّته وهيئته.

نعم، يمكن أن يقال: إنّ النزاع يرجع بالأخرة إلى دلالة الأوامر الاضطرارية والظاهرية بتنقيح موضوع الأوامر الاختيارية والواقعية بنحو الحكومة، فيكون من مباحث الألفاظ، لكن هذا خلاف ظاهرهم، وقضيّة تنقيح الموضوع بالحكومة أمر أحدثه المتأخّرون(1)، فلا يجوز حمل كلام القوم عليه.

وقد يقال: إنّ الجمع بين الإجزاء في الأوامر بالنسبة إلى نفسها والإجزاء بالنسبة إلى أمر آخر ممّا لا يمكن بعنوان واحد؛ لأنّ البحث في الأوّل عقلي صرف، وفي الثاني لفظي راجع إلى دلالة الأدلّة، والجمع بينهما لا يمكن بجامع واحد.

ص: 238


1- فرائد الاُصول، ضمن تراث الشيخ الأعظم 27: 13؛ كفاية الاُصول: 110 و496.

أقول: الأولى إبقاء البحث على حاله؛ بأن يقال: إتيان المأمور به على وجهه هل يجزي أم لا؟ وهذا جامع يشمل جميع العناوين المبحوث عنها، وإنّما الاختلاف بينها في الأدلّة القائمة على المطلوب، فيدلّ دليل عقلي على بعض أقسام المقسم، وشرعي على بعض، ولا يكون النزاع ابتداءً في دلالة الأدلّة، بل في الإجزاء وعدمه، والدليل عليه قد يكون عقلاً، وقد يكون نقلاً، والأمر سهل.

المقدّمة الثانية: في المراد من الاقتضاء

ليس الاقتضاء بمعنى العلّية والتأثير؛ لعدم تأثير لإتيان المكلّف في الإجزاء، سواء فسّر(1) بالمعنى اللغوي - وهو الكفاية(2) - وهو واضح؛ فإنّها عنوان انتزاعي ليس مورداً للتأثّر والتأثير، والعجب من المحقّق الخراساني حيث جمع بين الالتزام بكون الاقتضاء بمعنى العلّية، وبين القول بأنّ الإجزاء هو الكفاية(3).

أو فسّر بإسقاط الأمر(4) ونحوه؛ فإنّ الإتيان ليس علّة مؤثّرة في الإسقاط،

وهو أيضاً ليس شيئاً قابلاً لكونه أثراً لشيء.

وما يمكن أن يقال: إنّ الأمر لمّا صدر لأجل غرض هو حصول المأمور به، فبعد حصوله ينتهي اقتضاء بقائه، فيسقط لذلك، كما أنّ الحال كذلك في إرادة الفاعل المتعلّقة بإتيان شيء لأجل غرض، فإذا حصل الغرض سقطت الإرادة؛

ص: 239


1- كفاية الاُصول: 106؛ نهاية الأفكار 1: 223.
2- العين 6: 162؛ الصحاح 1: 40؛ النهاية، ابن الأثير 1: 266.
3- كفاية الاُصول: 105 - 106.
4- معارج الاُصول: 72؛ قوانين الاُصول 1: 129 / السطر 21.

لانتهاء أمدها، لا لعلّية الفعل الخارجي لسقوطها.

والأولى في عنوان البحث أن يقال: إنّ الإتيان بالمأمور به هل مجزٍ أم لا؟

المقدّمة الثالثة: في معنى «على وجهه»

إنّ المراد من قولهم: «على وجهه» هو ما ينبغي أن يؤتى به؛ أي مع كلّ ما يعتبر فيه ويكون دخيلاً في تحصيل الغرض، لا قصد الوجه، ولا ما ذكره المحقّق الخراساني من أنّ المراد منه إفادة ما يعتبر فيه عقلاً ولا يمكن الاعتبار شرعاً(1)، فإنّ عدم الإمكان غير مسلّم، مع أنّ شبهة عدم إمكان أخذ ما يؤتى من قِبل الأمر في المأمور به حدثت في هذه الأزمنة المتأخّرة، وهذا العنوان مقدّم عليها.

المقدّمة الرابعة: في فارق المسألة عن المرّة والتكرار

الفرق بين هذه المسألة ومسألة المرّة والتكرار واضح، سواء كان البحث في الثانية في دلالة الأمر أو حكم العقل؛ فإنّ البحث هاهنا، بعد الفراغ عن مدلول الأمر أو مقتضى العقل، ومعه لا يمكن وحدتهما، فإذا فرغنا عن دلالة الأمر أو اقتضائه المرّة يقع البحث في أنّ الإتيان بها مجزٍ أم لا؟ كما أنّه لو دلّ على التكرار يقع البحث في إجزاء الإتيان بكلّ فرد.

وأمّا مسألة تبعية القضاء للأداء، فلا جهة اشتراك بينها وبين هذه المسألة؛

فإنّ الكلام هاهنا في أنّ الإتيان بالمأمور به هل مجزٍ عن الأداء والقضاء؟ وفي

ص: 240


1- كفاية الاُصول: 105.

تلك المسألة يكون البحث في أنّ المكلّف إذا لم يأت بالمأمور به في الوقت فهل يدلّ الأمر على الإتيان به بعده؟ فالموضوع هاهنا الإتيان وهناك عدمه، فأيّ تشابه بينهما؟!

والعجب أنّ المحقّق الخراساني تصدّى لبيان الفارق بينهما؛ بأنّ البحث في أحدهما في دلالة الصيغة دون الآخر(1).

المقدّمة الخامسة: في وحدة الأمر أو تعدّده في المقام
اشارة

هل محطّ البحث في إجزاء الأوامر الاضطرارية والظاهرية عن الاختيارية والواقعية، هو أنّ هاهنا أمرين تعلّقا بشيئين: أحدهما بملاحظة حال الاختيار والعلم، والآخر بملاحظة حال الاضطرار والجهل، فيبحث في أنّه هل يجزي الإتيان بمتعلّق الاضطراري أو الظاهري عن الاختياري أو الواقعي؟

أو أنّ محطّه أنّه ليس في المقام إلاّ أمر واحد تعلّق بالطبيعة، ولها أفراد مختلفة بحسب حال الاختيار والاضطرار والعلم والشكّ، وقد أمر الشارع بإتيانها في حال الاختيار والعلم بكيفية خاصّة، وفي حال الاضطرار والجهل بكيفية اُخرى، فوقع البحث في أنّ الإتيان بالكيفية الاضطرارية أو الظاهرية موجب للإجزاء عن الأمر المتعلّق بالطبيعة أو لا؟

مثلاً: إنّ قوله تعالى: )أَقِمِ الصَّلَوةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ((2) يدلّ على وجوب الطبيعة في هذا الوقت المضروب لها، ثمّ دلّ دليل على اشتراطها

ص: 241


1- كفاية الاُصول: 106 - 107.
2- الإسراء (17): 78.

في حال الاختيار بالطهارة المائية، وفي حال فقدان الماء بالترابية، وأمر الشارع بإتيانها في الحال الأوّل بكيفية وفي الآخر بكيفية اُخرى؛ بحيث تكون الكيفيات الطارئة من خصوصيات المصاديق لا من مكثّرات الطبيعة، ولا يكون للطبيعة المتقيّدة بكيفيةٍ أمر، وباُخرى أمر آخر.

فوقع النزاع في أنّ الإتيان بمصداق الاضطراري للطبيعة هل يوجب سقوط الأمر عنها فيجزي، أم لا، وكذلك الحال في إجزاء الأوامر الظاهرية؟

ظاهر كثير منهم هو الأوّل، كما أنّ مقتضى حكمهم بجريان البراءة في المقام الثاني ذلك، وظاهر بعضهم وصريح آخر(1) هو الثاني.

ويمكن ابتناء هذا الخلاف على الخلاف في كيفية جعل الجزئية والشرطية والمانعية للمأمور به؛ فإن قلنا بعدم إمكان جعلها إلاّ تبعاً للتكليف، فإذا أمر بجملة ينتزع من أبعاضها الجزئية للمأمور به، أو أمر بمقيّد ينتزع الشرطية من قيده، وأمّا إذا أمر بشيء ثمّ أراد جعل شيء آخر جزءاً له أو شرطاً، فهو غير معقول، فلا بدّ بعد ذلك البناء من التزام أمرين؛ أحدهما تعلّق بالصلاة المتقيّدة بالطهارة المائية للمختار، والآخر بالمتقيّدة بالترابية للمضطرّ، وكذا الحال في الأجزاء والموانع لا بدّ من التزام الأمرين.

وأمّا مع الالتزام بإمكان الجعل المستقلّ فيها - كما هو الحقّ - فلا داعي لرفع اليد عن الأدلّة الظاهرة في جعل الشرائط والأجزاء والموانع مستقلاًّ، فنلتزم بأ نّه

لا يكون للطبائع إلاّ أمر واحد، وقد أمر الشارع بإتيانها في حال الاختيار

ص: 242


1- لمحات الاُصول: 74 - 75.

بكيفية، وفي حال الاضطرار باُخرى، والاختلاف في الأفراد والمصاديق.

هذا في باب الصلاة التي هي عمدة في الباب، وأمّا في بعض الأبواب الاُخرى - كباب كفّارة الصيد وكفّارة الظهار والقتل الخطائي وأمثالها - فيكون الأمر الاضطراري متعلّقاً بعنوانٍ غير ما تعلّق به الأمر الاختياري، فعليه لا بدّ من

تعميم البحث لكلا الفرضين.

إذا عرفت ما ذكر فالكلام يقع في مواضع:

الموضع الأوّل في إجزاء الإتيان بالمأمور به مطلقاً عن التعبّد به ثانياً

إنّ الإتيان بالمأموربه الواقعي أو الاضطراري أو الظاهري، يجزي عن التعبّد به ثانياً بلا إشكال؛ لأنّ الإرادة والبعث من الآمر إنّما تعلّقا بالطبيعة لأجل تحصيلها

وحصول الغرض بها، فإذا أوجد المكلّف المأمور به على وجهه وبجميع قيوده فلا يمكن بقاؤهما؛ لحصول الغرض الذي هو علّة الإرادة بماهيته، وبحصوله ينتهي أمد الإرادة والبعث، فبقاؤهما مستلزم لبقاء المعلول بلا علّة.

في تبديل الامتثال بالامتثال

ثمّ إنّه وقع في المقام بحث آخر، وهو أنّه هل يكون للعبد تبديل امتثال بامتثال آخر أو لا، أو يكون له فيما إذا لم يكن الفعل علّة تامّة لحصول الغرض؟

التحقيق عدمه مطلقاً، وتوضيحه يتوقّف على مقدّمة: وهي أنّه فرق بين تبديل امتثال بامتثال، وتبديل مصداق المأمور به بمصداق آخر ولو لم يكن امتثالاً؛ فإنّ

ص: 243

تبديل الامتثال يتوقّف على تحقّق امتثالين مترتّبين؛ بمعنى أنّه يكون للمولى أمر متعلّق بطبيعة، فيمتثل المكلّف ويبقى الأمر، ثمّ يمتثل ثانياً ويجعل المصداق الثاني - الذي تحقّق به الامتثال - بدل الأوّل الذي كان الامتثال تحقّق به.

وأمّا تبديل مصداق المأمور به - الذي تحقّق به الامتثال - بمصداق آخر، غير محقّق للامتثال، لكن محصِّل للغرض اقتضاءً مثل المصداق الأوّل أو بنحوٍ أوفى، فهو لا يتوقّف على بقاء الأمر، بل من قبيل تبديل مصداق المأمور به بمصداقٍ آخر لا بصفة كونه مأموراً به.

إذا عرفت ذلك فاعلم: أنّ محلّ كلام الأعلام إنّما هو الأوّل؛ أي تبديل الامتثال بالامتثال، كما هو ظاهر العنوان، ولهذا تصدّى المحقّق الخراساني لإقامة البرهان على بقاء الأمر(1).

والتحقيق: عدم الإمكان مطلقاً فيما هو محلّ كلامهم، والجواز فيما ذكرنا إذا لم يكن المصداق الأوّل علّة تامّة لحصول الغرض.

أمّا الثاني: فلحكم العقل بحسن تحصيل غرض المولى ولو لم يأمر به، ولزوم تحصيله إذا كان لازم التحصيل. ألا ترى أنّه إذا وقع ابن المولى في هلكة وغفل المولى عنه ولم يأمر عبده بإنجائه، لزم بحكم العقل عليه إنجاؤه، ولو تركه يستحقّ العقوبة؛ وذلك لأنّ الأمر وسيلة لتحصيل الغرض ولا موضوعية له، وبعد علم المكلّف بغرض المولى لا يجوز له التقاعد عنه مع لزوم تحصيله.

وكذا لو كان له غرض غير لازم التحصيل ولم يأمر بتحصيله واطّلع المكلّف

ص: 244


1- كفاية الاُصول: 107.

عليه يحسن له تحصيله، ومعه يصير مأجوراً عليه ومورداً للعناية مع عدم كونه امتثالاً، فلو أمره بإتيان الماء للشرب فأتى بمصداق منه، ثمّ رأى مصداقاً آخر أوفى بغرضه فأتى به، ليختار المولى أحبّهما إليه، يكون ممتثلاً بإتيان الأوّل لا غير، ومورداً للعناية لإتيانه ما هو أوفى بغرض المولى، لا لصدق الامتثال وتبديل الامتثال بالامتثال، وهذا واضح.

وأمّا عدم الإمكان فيما هو محلّ كلامهم؛ فلعدم تعقّل بقاء الأمر مع الإتيان بمتعلّقه بجميع الخصوصيات المعتبرة فيه؛ لعين ما ذكر من البرهان سابقاً(1).

وما ذكره المحقّق الخراساني: إن رجع إلى ما ذكرناه - كما يوهمه بعض عباراته - فلا كلام، لكنّه لم يكن من تبديل الامتثال، وإن رجع إلى بقاء الطلب والأمر لبقاء الغرض المحدث للأمر، ولهذا لو أهرق الماء يجب عليه إتيانه، فهو خلط بين تبديل الامتثال وبين وجوب تحصيل الغرض المعلوم للمولى، فما هو موجب لصحّة العقوبة ليس عدم امتثال أمره، بل تفويت غرضه ولو لم يكن أمر، مع أنّ الغرض من الأمر هو تمكين المولى من الشرب، وهو حاصل، وأمّا رفع العطش فهو غرض أقصى مترتّب على فعل العبد وفعله، فبقاء الأمر مع تحصيل الغرض المحدث له من قبيل بقاء المعلول بلا علّة.

وممّا ذكرنا يعلم: أنّ قضيّة الصلاة المعادة ليست من قبيل تبديل الامتثال بالامتثال، بل من قبيل إتيان مصداق من المأمور به وإتيان مصداق آخر له

ص: 245


1- تقدّم في الصفحة 243.

خصوصية زائدة وإن لم يكن امتثالاً للأمر الواجب؛ ضرورة سقوطه بإتيان الصلاة الجامعة للشرائط، ولا يعقل بقاء الأمر بعد الإتيان بمتعلّقه.

ولهذا حكي(1) عن ظاهر الفقهاء - إلاّ من شذّ من المتأخّرين(2) - تعيّن قصد الاستحباب في المعادة؛ للأمر الاستحبابي المتعلّق بها(3).

وأمّا قضيّة الإيفاء بالغرض واختيار أحبّهما إليه وأمثال هذه التعبيرات التي تنزّه عنها مقام الربوبية، فهي على طبق فهم الناس، ولا بدّ من توجيهها.

ثمّ إنّ بعض محقّقي العصر رحمه الله علیه بعد إنكار إمكان تبديل الامتثال بالامتثال، وتقسيم متعلّقات الأوامر إلى ما يكون علّة تامّة لحصول الغرض، وما يكون مقدّمة لتحصيله بفعل جوارحي من المولى كشرب الماء، أو جوانحي كالصلاة المعادة، قال ما حاصله: إذا كان فعل العبد مقدّمة لبعض أفعال المولى، فإن قلنا بوجوب المقدّمة الموصلة كان المتّصف بالوجوب ما أوصل المولى إلى غرضه النفسي، وكان الفعل الآخر الذي أتى به العبد امتثالاً غير متّصف بالوجوب؛ لعدم الإيصال، فعليه لا يعقل تبديل الامتثال، وإن قلنا بالمقدّمة المطلقة فعدم إمكانه في غاية الوضوح؛ لسقوط الأمر بإتيانه(4)،

انتهى.

ص: 246


1- الصلاة، ضمن تراث الشيخ الأعظم 7: 363.
2- ذكرى الشيعة 4: 383؛ الدروس الشرعية 1: 223؛ روض الجنان 2: 989؛ مسالك الأفهام 1: 311.
3- مدارك الأحكام 4: 343؛ كفاية الفقه (كفاية الأحكام) 1: 149؛ رياض المسائل 4: 326.
4- بدائع الأفكار (تقريرات المحقّق العراقي) الآملي 1: 263 - 264.

وفيه أوّلاً: أنّه لو كان الوجوب المتعلّق بشيء لأجل تحصيل غرض من قبيل الوجوب المقدّمي، كانت جميع الوجوبات النفسية من قبيل المقدّمي، وهو لا يلتزم به، فما نحن فيه من قبيل الوجوب النفسي، لا المقدّمي حتّى يأتي فيه ما ذكر، وقد حقّقنا في محلّه ميزان النفسية والمقدّمية(1).

وثانياً: على فرض التسليم لا يمكن الالتزام هاهنا بوجوب المقدّمة الموصلة؛ لأنّ المقدّمة الموصلة - بأيّ معنىً فرضت - لا بدّ وأن تكون تحت قدرة العبد حتّى يتعلّق الوجوب بها، وفي المقام لا يكون الإيصال تحت قدرته؛ فإنّ المفروض أنّ فعل المولى أو اختياره متوسّط بين فعل العبد وحصول الغرض، فلا بدّ أن يتعلّق الأمر بنفس المقدّمة من غير لحاظ الإيصال، أو التقيّد به، أو الحصّة الملازمة، أو بنحو القضيّة الحينية، وأمثال ما ذكر؛ فإنّ الإيجاب بنحو القضيّة الحينية أيضاً إنّما يتصوّر فيما إذا كان الظرف موجوداً أو يكون إيجاده تحت قدرة المكلّف، وهما مفقودان هاهنا؛ فإنّ الوجوب حين وجود ذي المقدّمة لا يتصوّر، والمفروض أنّ إيجاده غير مقدور.

نعم، يمكن أن يقال: إنّ الواجب هو ما يتعقّبه اختيار المولى بنحو الشرط المتأخّر، فلا يكون الواجب هو المقدّمة الموصلة - ولو بنحو القضيّة الحينية - على نحو الإطلاق، حتّى يلزمه تحصيل القيد، بل المشروط بالشرط المتأخّر، فإذا أتى بها ولم يتعقّبها اختياره يكشف ذلك عن عدم وجوبها، فحينئذٍ يخرج عن موضوع تبديل الامتثال، تدبّر.

ص: 247


1- يأتي في الصفحة 305.
الموضع الثاني في أنّ الإتيان بالفرد الاضطراري مقتضٍ للإجزاء

وفيه مقامان:

أحدهما: في الإعادة في الوقت: ولا بدّ من فرض الكلام فيما إذا كان المكلّف مضطرّاً في بعض الوقت، فأتى بوظيفته الاضطرارية، ثمّ طرأ الاختيار، وأيضاً موضوع البحث ما إذا كان الأمر بإتيان الفرد الاضطراري محقّقاً؛ أي يكون الاضطرار في بعض الوقت موضوعاً للتكليف بالإتيان، وصرف وجود الاضطرار كافياً.

وأمّا إذا دلّت الأدلّة على أنّ استيعاب الاضطرار مسوّغ للإتيان، فهو خارج عن موضوع البحث؛ لأ نّه مع عدم الاستيعاب لم يكن مأموراً بالإتيان، ومحلّ البحث هو الإتيان بالمأمور به بالأمر الاضطراري، ومع استيعابه وعدم طروّ الاختيار في الوقت يخرج عن موضوع الإعادة.

ثمّ إنّ الإجزاء بناءً على أنّ محطّ البحث هو الوجه الثاني من الوجهين المتقدّمين(1) في كمال الوضوح؛ لأنّ المفروض عدم تعدّد الأمر، وأنّ الأمر متعلّق بالطبيعة التي لها مصاديق اختيارية واضطرارية، فإذا دلّ الدليل على جواز الإتيان في حال الاضطرار بالفرد الاضطراري، يصير العبد مخيّراً - شرعاً أو عقلاً - بين الإتيان بالفرد الاضطراري في حاله، وبين الانتظار إلى زمان طروّ

ص: 248


1- تقدّم في الصفحة 241.

الاختيار والإتيان بالاختياري، فإذا أتى بالفرد الاضطراري فقد أتى بالطبيعة المأمور بها بجميع الخصوصيات المعتبرة فيها، ولا يعقل بقاء الأمر مع الإتيان بالمأمور به، والمفروض أنّ الفرد الاضطراري مصداق الطبيعة المأمور بها، فلا مجال للتشكيك في الإجزاء.

وممّا ذكرنا يعلم حال القضاء مع استيعاب العذر أيضاً؛ لأنّ وجوب القضاء فرع الفوت، ومع الإتيان بالطبيعة المأمور بها لا موضوع له.

وأمّا بناءً على الوجه الأوّل - أي تعلّق أمرين: أحدهما بالطبيعة المقيّدة بالطهارة المائية مثلاً للواجد، والثاني بالمقيّدة بالترابية للفاقد - فحينئذٍ: إمّا

أن يدلّ دليل على وحدة التكليف كما في الصلاة، فيستفاد منه التخيير بين إتيانها في حال العجز مع الطهارة الترابية، وبين الصبر إلى زوال العذر وإتيانها مع المائية، فلا محالة يكون الإتيان بأحد طرفي التخيير موجباً للإجزاء وسقوط التكليف.

وكذا الحال لو استفدنا من الأدلّة أنّ تعلّق الأمرين بالواجد والفاقد ليس لأجل كون الصلاتين مطلوبتين مستقلّتين، بل لأجل إفادة الشرطية أو الجزئية؛ حيث فرض عدم إمكان جعلهما مستقلاًّ، بل لا بدّ من جعلهما تبعاً للتكليف، فيكون المطلوب هو الصلاة الواحدة، لكن شرطها في ظرف الاختيار شيء وفي ظرف الاضطرار شيء آخر، فتعلّق الأمر المستقلّ بهما لضيق الخناق.

كما لو بنينا على عدم إمكان أخذ قصد الامتثال في التعبّدي في متعلّق أمره وإمكان إفادته بأمر آخر؛ فإنّ الأمر بإتيان المأمور به مع قصد امتثال أمره ليس لإفادة مطلوب مستقلّ، بل لإفادة خصوصيات المطلوب الأوّل وما هو دخيل في

ص: 249

الغرض، ففي هذه الصورة أيضاً مقتضى الأدلّة هو الإجزاء.

وأمّا إذا بنينا على تعدّد الطلب والمطلوب، فلا بدّ من فرض كون الأمر المتعلّق بالبدل من قبيل الترخيص لا الإلزام، فحينئذٍ إن كان للدليلين إطلاق فمقتضى إطلاق دليل المبدل عدم الإجزاء، ولا يضادّه إطلاق دليل البدل؛ لأنّ مقتضاه ليس إلاّ جواز الإتيان به عند طروّ العجز، وأمّا إجزاؤه عن المأمور به بأمر آخر فلا، فقوله تعالى: )فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً ((1) - على فرض إطلاقه - لا يدلّ إلاّ على جواز الإتيان بالصلاة في ظرف فقدان الماء، فإذا فرض كون الصلاة مع الطهارة الترابية متعلّقة لأمر، ومع المائية لأمر آخر، فمقتضى إطلاق الأوّل جواز البدار، ولازمه سقوط أمره، لاسقوط الأمر المتعلّق بالصلاة مع المائية، كما أنّ مقتضى إطلاقه ليس استيفاء تمام مصلحة الصلاة المشروطة بالمائية، أو استيفاء مقدار لم تبق معه مصلحة ملزمة، أو لم يمكن معه استيفاؤها، فلا بدّ للإجزاء من التماس دليل آخر غير إطلاق الأدلّة.

هذا كلّه لو فرغنا عن دلالة أدلّة الاضطرار على أنّه أعمّ من العذر المستوعب، كما هو مفروض الباب.

وأمّا مع إهمال الأدلّة في المبدل منه والبدل، فمقتضى الأصل - بناءً على أنّ الأمر واحد، وخصوصيات حال الاختيار والاضطرار ترجع إلى أفراد المأمور به - هو الاشتغال؛ لأنّ التكليف المتعلّق بالطبيعة متيقّن، ونشكّ في سقوطه بإتيان الفرد الاضطراري.

ص: 250


1- النساء (4): 43؛ المائدة ((5)): 6.

وأمّا بناءً على الأمرين بالنحو الأخير- بحيث يكون للفاقد أمر وللواجد أمر آخر - فمقتضى الأصل البراءة؛ لأنّ الفاقد يعلم بعدم توجّه تكليف الواجد إليه حين كونه فاقداً، ويحتمل كونه مرخّصاً في إتيان الصلاة مع الطهارة الترابية؛ لاحتمال كون العجز المأخوذ في موضوع تكليفه هو الغير المستوعب، فإذا أتى بالصلاة مع الترابية رجاءً يحتمل كونه آتياً بما هو وظيفته، وهو إتيان أحد طرفي التخيير، ومعه يشكّ في تعلّق التكليف عليه بالصلاة مع المائية عند وجدان الماء، فيكون شكّه في حدوث التكليف وتعلّقه، لا في سقوطه بعد العلم به.

وما قلنا من كونه مخيّراً بين إتيانه للفرد الاضطراري حال الاضطرار وبين الصبر إلى زوال العذر، ليس بمعنى تعلّق تكليف المختار به ولو تعليقاً في حال اضطراره حتّى يكون التخيير شرعياً.

هذا إذا قلنا بسقوط الأمر في موارد الاضطرار، وأمّا إذا قلنا بعدمه فالأصل، الاشتغال، كما لا يخفى.

وقد يقال: إنّ المورد يكون من قبيل دوران الأمر بين التعيين والتخيير؛ لأنّ المكلّف يعلم بأ نّه إمّا يجب عليه الانتظار إلى آخر الوقت وإتيان الصلاة مع الوضوء، أو مخيّر بين الإتيان بالترابية وبين الصبر إلى وجدان الماء والإتيان بالمائية، ومعه تكون قاعدة الاشتغال محكّمة(1).

وفيه: أنّه بناءً على تعلّق أمرين بعنوانين يعلم المكلّف الفاقد بأ نّه ليس

ص: 251


1- نهاية الأفكار 1: 230.

مكلّفاً بتكليف الواجد، بل يحتمل كونه مرخّصاً في إتيان الصلاة مع الترابية، ويحتمل كونه غير مكلّف بالصلاة في الحال، وإنّما يتعلّق التكليف به بالمائية حال وجدانه، بل لا يجب عليه الانتظار أيضاً؛ لأ نّه غير متعلّق لتكليف بالبداهة.

وبالجملة: لا يكون في حال الفقدان تكليف فعلي متوجّه إليه بإتيان الصلاة مع الطهارة المائية حتّى يكون من قبيل التعيين والتخيير، ولا يكون التخيير بين الإتيان في الحال والإتيان في الاستقبال من قبيل تكليف شرعي تخييري، بل يكون من قبيل أمر انتزاعي من الترخيص في إتيانها في الحال، ومن الإيجاب في الاستقبال حين تعلّق التكليف به على فرض عدم الإتيان، ومثل ذلك لا يرجع إلى التعيين والتخيير.

هذا إذا قلنا بعدم منجّزية العلم الإجمالي في التدريجيات؛ لعدم العلم بالتكليف الفعلي، وأمّا معها فالظاهر أنّ الأصل الاشتغال؛ لدوران الأمر بين التعيين والتخيير.

هذا حال الإعادة.

وأمّا القضاء فالأصل فيه البراءة؛ فإنّ وجوب القضاء فرع إحراز الفوت، ومع الإتيان بالمحتمل يشكّ فيه، ولا يمكن إحرازه باستصحاب عدم الإتيان بالفريضة إلاّ على القول بالأصل المثبت.

ص: 252

الموضع الثالث في الإتيان بالمأمور به بالأمر الظاهري
اشارة

وفيه مقامان:

المقام الأوّل: في أنّ الإتيان بمقتضى الأمارات هل موجب للإجزاء؟

ومحلّ الكلام في المقام وكذا في المقام الآتي أيضاً فيما إذا كان المكلّف مأموراً بمركّب ذي شرائط وموانع، وقام دليل من أمارة أو أصل على تحقّق جزء أو شرط أو عدم تحقّق مانع، ولم يكن الأمر كذلك، أو على نفي جزئية شيء أو شرطية شيء أو مانعية شيء، وكان المأمور به واقعاً بخلاف ذلك، فيقع الكلام في أنّ الإتيان بمصداق الصلاة مثلاً مع ترك ما يعتبر فيها؛ استناداً إلى الأمارة أو

الأصل، هل يوجب الإجزاء أم لا؟

أمّا إذا قامت أمارة أو أصل على عدم وجوب شيء، فتركه المكلّف ثمّ تبيّن وجوبه، فلا يدخل في محطّ البحث، ولا معنى للإجزاء فيه.

وكيف كان، فالأمارة تارةً تكون عقلائية ولم يرد من الشرع أمر باتّباعها، ولكن استكشفنا إمضاءها من عدم الردع، واُخرى هذا الفرض مع ورود أمر إرشادي منه باتّباعها، وثالثةً تكون تأسيسية شرعية.

وظاهر عنوان القوم خروج الفرض الأوّل عن محطّ البحث، بل الثاني أيضاً؛ لأنّ الأمر الإرشادي لم يكن أمراً حقيقةً.

والتحقيق: عدم الإجزاء في الأمارات مطلقاً:

ص: 253

أمّا في الفرضين الأوّلين فلأنّ المتّبع فيهما هو طريقة العقلاء؛ لعدم تأسيس للشارع، ولا إشكال في أنّهم إنّما يعملون على طبق الأمارات؛ لمحض الكشف عن الواقع، مع حفظه على ما هو عليه، من غير تصرّف فيه وانقلاب عمّا هو عليه، ومع تبيّن الخلاف لا معنى للإجزاء بالضرورة.

وأمّا إذا كانت الأمارة تأسيسية؛ فلأنّ معنى الأمارة هو الكاشف عن الواقع، وإيجاب العمل على طبقها إنّما هو لمحض الكاشفية عن الواقع المحفوظ، من غير تصرّف فيه وانقلاب، وإلاّ لخرجت الأمارة عن الأمارية.

وما قد يقال: إنّ لسان دليل الحجّية في الأمارات والاُصول سواء، وهو وجوب ترتيب الأثر عملاً على قول العادل، فمقتضى قوله: «صدّق العادل» هو التصديق العملي وإتيان المأمور به على طبق قوله، وهو يقتضي الإجزاء كما يأتي في الاُصول(1).

غير تامّ؛ لأنّ إيجاب تصديق العادل لأجل ثقته وعدم كذبه وإيصال المكلّف إلى الواقع المحفوظ، كما هو كذلك عند العقلاء في الأمارات العقلائية، ولا يفهم العرف والعقلاء من مثل هذا الدليل إلاّ ما هو المركوز في أذهانهم من الأمارات، لا انقلاب الواقع عمّا هو عليه، بخلاف أدلّة الاُصول على ما سيأتي بيانه.

وبالجملة: أنّ الإجزاء مع جعل الأمارة وإيجاب العمل على طبقها - لأجل الكشف عن الواقع كما هو شأن الأمارات - متنافيان لدى العرف

ص: 254


1- لمحات الاُصول: 84 - 85.

والعقلاء، هذا من غير فرق فيما ذكرنا بين الأمارات القائمة على الأحكام أو الموضوعات.

المقام الثاني: في أنّ الإتيان بمؤدّى الاُصول هل يقتضي الإجزاء؟

والتحقيق: هو الإجزاء فيها مطلقاً:

أمّا في مثل أصالتي الطهارة والحلّية: فلحكومة أدلّتهما على أدلّة الشرائط؛

لأنّ قوله: «كلّ شيء نظيف حتّى تعلم أ نّه قذر»(1) محقّق لموضوع «لا صلاة إلاّ بطهور»(2)

أي محقّق للطهور في ظرف الشكّ.

وإن شئت قلت: مفاده جواز ترتيب آثار الطهارة على المشكوك فيه بلسان تحقّقه، فيفهم منه عرفاً أنّ الصلاة المشروطة بالطهارة يجوز الإتيان بها في حال الشكّ بهذه الكيفية، ويكون المأتيّ به مع هذه الكيفية مصداقاً للصلاة المأمور بها وواجداً لما هو شرطها، وهو معنى الإجزاء.

لا يقال: هذا إذا لم ينكشف الواقع(3).

فإنّه يقال: لا معنى لانكشاف الخلاف هاهنا؛ لأنّ الأصل ليس طريقاً للواقع يطابقه تارةً ويخالفه اُخرى مثل الأمارة؛ حتّى يقال: انكشف الخلاف.

وكذا الكلام في أصالة الحلّ ؛ فإنّ قوله: «كلّ شيء فيه حلال وحرام فهو لك

ص: 255


1- تهذيب الأحكام 1: 284 / 832؛ وسائل الشيعة 3: 467، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 37، الحديث 4.
2- تهذيب الأحكام 1: 49 / 144؛ وسائل الشيعة 1: 365، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 1، الحديث 1.
3- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 251.

حلال...»(1) إلى آخره حاكم على ما دلّ على عدم جواز الصلاة في محرّم الأكل، ويفهم منه عرفاً كون الوظيفة في هذا الحال إتيان الصلاة بهذه الكيفية، فيصير المأتيّ به كذلك مصداقاً للمأمور به تعبّداً، فيسقط الأمر المتعلّق بطبيعة الصلاة بإتيانها كذلك.

ولا يخفى: أنّ المدّعى حكومة أدلّة الاُصول على أدلّة اعتبار الشرائط والموانع في المركّبات، لا على أدلّة النجاسات والمحرّمات؛ حتّى يقال:

«إنّ الحكومة بينهما ظاهرية في طول المجعول الواقعي؛ لأنّ الشكّ اُخذ في موضوع الاُصول، ولا تنتج تلك الحكومة تخصيصاً. وبعبارة اُخرى: المجعول الظاهري إنّما هو واقع في مرتبة إحراز الواقع، والبناء العملي عليه بعد انحفاظ الواقع على ما هو عليه، فلا يمكن أن يكون موسّعاً أو مضيّقاً للمجعول الواقعي، وأيضاً يلزم من ذلك التزام طهارة ملاقي مشكوك الطهارة بعد انكشاف الخلاف، وهو كما ترى»(2).

ولا يخفى ما فيه من الخلط؛ فإنّ القائل بالإجزاء لا يدّعي أنّ أصالة الطهارة حاكمة على أدلّة النجاسات وأنّها في زمان الشكّ طاهرة، بل يقول: إنّها محفوظة على واقعيتها، وملاقيها أيضاً نجس حتّى في زمان الشكّ، لكن يدّعي حكومتها على أدلّة الاشتراط، وأنّ ما هو نجس واقعاً يجوز

ص: 256


1- الفقيه 3: 216 / 1002؛ وسائل الشيعة 17: 87، كتاب التجارة، أبواب مايكتسب به، الباب 4، الحديث 1.
2- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 250 - 251.

ترتيب آثار الطهارة عليه في زمان الشكّ، ومن الآثار إتيان الصلاة المشروطة بها بلسان تحقّق الطهارة، ولازمه تحقّق مصداق المأمور به لأجل حكومتها على أدلّة الشرائط والموانع، والخلط بين المقامين أوقع المستشكل فيما أوقعه.

وأمّا دعوى: أنّ الحكومة إنّما تستقيم إذا كانت الطهارة والحلّية الظاهريتان مجعولتين أوّلاً، ثمّ قام دليل على أنّ ما هو الشرط في الصلاة أعمّ منهما(1).

ففي غاية السقوط؛ ضرورة أنّ الحكومة من كيفية لسان الدليل، فقوله:

«المشكوك فيه طاهر» حاكم عرفاً على أدلّة اشتراط الطهارة، ولا يلزم فيها التصريح بأنّ الشرط أعمّ من الواقعية والظاهرية، كما لا يحتاج إلى جعل حكمين طوليين ظاهري وواقعي، بل يكفي جعل الظاهري ويكشف منه عرفاً أعمّية الشرط من أوّل الأمر من الواقعي، كما هو واضح.

هذا حال أصالتي الطهارة والحلّية.

وكذا الكلام في حديث الرفع(2)؛ فإنّه - بعد عدم جواز حمله على رفع ما لا يعلمون واقعاً في الشبهات الحكمية - يحمل على الرفع الظاهري؛ أي ترتيب آثار رفع المشكوك فيه بلسان رفع الموضوع، فإذا شكّ في جزئية شيء أو شرطيته أو مانعية شيء، وكذا إذا شكّ في كون شيء مانعاً موضوعاً، فمقتضى

ص: 257


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 249.
2- التوحيد، الصدوق: 353 / 24؛ الخصال: 417 / 9؛ وسائل الشيعة 15: 369، كتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس، الباب 56، الحديث 1.

حديث الرفع هو جواز ترتيب آثار الرفع ظاهراً، ومنها جواز إتيان المأمور به على مقتضاه في مقام الفراغ عن عهدته.

فإذا ورد من المولى: )أَقِمِ الصَّلَوةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ((1)، ودلّت الأدلّة على اعتبار الأجزاء والشرائط، وورد منه قوله: «رفع... ما لا يعلمون»، يفهم منه عرفاً أنّ كيفية إطاعة الأمر في حال الشكّ في السورة هو الإتيان بالمأمور به بلا سورة مثلاً، ومع الشكّ في مانعية شيء هو جواز الإتيان به معه، فإذا أتى به كذلك أتى بالمأمور به؛ لحكومة دليل الرفع على أدلّة الجزء والشرط والمانع.

وأمّا الاستصحاب: فلأنّ الظاهر من دليله(2) - ولو بملاحظة مورده وهو عدم نقض اليقين بالشكّ - هو البناء العملي على بقاء المتيقّن في زمان الشكّ، أو وجوب ترتيب آثاره ولو بضميمة الكبريات الكلّية التي هي المجعولات الأوّلية، وانسلاك المستصحب بدليله وحكومته في موضوعها على ما قرّرنا في محلّه(3)، وعلى أيّ حال يكون حاله حال ما ذكرنا.

وأمّا قاعدة التجاوز والفراغ: فإنّ الظاهر من غالب أدلّتها وجوب المضيّ

وعدم الاعتناء بالشكّ، وفي بعضها البناء العملي على وجود المشكوك فيه تعبّداً،

ص: 258


1- الإسراء (17): 78.
2- راجع وسائل الشيعة 1: 245، كتاب الطهارة، أبواب نواقض الوضوء، الباب 1، الحديث 1.
3- الاستصحاب، الإمام الخميني قدس سره: 229 - 230.

كصحيحة حمّاد(1) وموثّقة عبدالرحمان(2)، ولازم ذلك الإجزاء، سواء قلنا بأ نّها أصل محرز، أو أنّها أصل تعبّدي غير محرز؛ لأنّ [مقتضى] الأمر بالبناء التعبّدي على وجود المشكوك فيه أو بالمضيّ وعدم الاعتناء بالشكّ، هو جواز إتيان المأمور به أو لزومه بهذه الكيفية، فيصير المأتيّ به مصداقاً للمأمور به تعبّداً، فيسقط الأمر، ولا نعني بالإجزاء إلاّ ذلك.

نعم، على فرض استفادة الطريقية من أدلّتها فلازمها عدم الإجزاء، لكنّها ممنوعة، والتفصيل موكول إلى محلّه(3).

فتحصّل من جميع ذلك: أنّ التحقيق عدم الإجزاء في الأمارات والإجزاء

في الاُصول.

وأمّا حال تبدّل رأي المجتهد بالنسبة إلى أعماله وأعمال مقلّديه، فقد تصدّينا لتفصيله في بحث الاجتهاد والتقليد(4).

ص: 259


1- وفيها: قلت لأبي عبدالله عليه السلام: أشكّ وأنا ساجد فلا أدري ركعت أم لا؟ قال: «امض». تهذيب الأحكام 2: 151 / 593؛ وسائل الشيعة 6: 317، كتاب الصلاة، أبواب الركوع، الباب 13، الحديث 1.
2- وفيها: قلت لأبي عبدالله عليه السلام: رجل أهوى إلى السجود فلم يدر أركع أم لم يركع؟ قال: «قد ركع». تهذيب الأحكام 2: 151 / 596؛ وسائل الشيعة 6: 318، كتاب الصلاة، أبواب الركوع، الباب 13، الحديث 6.
3- الاستصحاب، الإمام الخميني قدس سره: 375.
4- الاجتهاد والتقليد، الإمام الخميني قدس سره: 103.

الفصل الرابع في مقدّمة الواجب

اشارة

وقبل الخوض في المقصود ينبغي تقديم اُمور:

الأمر الأوّل: في محطّ البحث

ما يمكن أن يكون محطّ البحث فيها هو تحقّق الملازمة بين الإرادة المتعلّقة بذي المقدّمة مع إرادة ما يرى المولى مقدّمة، لا الملازمة بين إرادة ذي المقدّمة مع إرادة المقدّمة، ويتّضح ذلك بعد تصوّر إرادة الفاعل ونحو تعلّقها بذي المقدّمة ومقدّمته، فنقول:

لا إشكال في أنّ الإرادة من الفاعل إنّما تتعلّق بشيء بعد تصوّره والإذعان بفائدته وسائر مقدّماتها، ولا يمكن تعلّقها به قبل تمام المقدّمات، ولا يلزم أن يكون الشيء بحسب الواقع موافقاً لغرضه وصلاحه؛ لأنّ ما يتوقّف عليه تحقّق الإرادة هو تشخيص الفاعل صلاحه وموافقته لغرضه وتصديقه بذلك ولو كان

ص: 260

مخالفاً للواقع، فربّما تتعلّق إرادته بما هو مخالف لصلاحه ومضرّ ومهلك له؛ لسوء تشخيصه وخطائه.

ثمّ إنّه قد تتعلّق الإرادة بشيء لأجل نفسه وتشخيص صلاح فيه، وقد تتعلّق به لأجل غيره وتوقّف الغير عليه، وفي هذا أيضاً لا يمكن تعلّقها به إلاّ بعد تصوّره والتصديق بكونه مقدّمة لمراده النفسي، ولا تتعلّق بما هو في نفس الأمر مقدّمة؛ ضرورة امتناع تعلّقها بالواقع المجهول عنده، ولا بالمعلوم بجهات اُخرى غير المقدّمية، بل قد تتعلّق بما يراه مقدّمة خطأً، فميزان تعلّق الإرادة هو تشخيص الفاعل، لا الواقع. ومعنى تبعية إرادة المقدّمة لذي المقدّمة ليس نشأها وتولّدها منها؛ بحيث تكون إرادة ذي المقدّمة موجدة لإرادتها كما هو ظاهر تعبيراتهم، بل معناها أنّ الفاعل بعد تشخيص التوقّف يريد المقدّمة بعد تحقّق مبادئها لأجل تحصيل ذي المقدّمة لا لنفسها.

فاتّضح: أنّ الملازمة في الإرادة الفاعلية إنّما تكون بين إرادة ذي المقدّمة وإرادة ما يراه مقدّمة، لا بمعنى كون إحداهما لازمة للاُخرى، بل بمعنى تحقّق كلٍّ منهما بمبادئها وتبعية إحداهما في تعلّق الإرادة بها لكونها غيرية، ولا تكون الملازمة بين إرادة ذي المقدّمة ومقدّمته الواقعية؛ ضرورة عدم تعلّق الإرادة بها، وعدم إمكان الملازمة الفعلية بين الموجود والمعدوم. فلا يمكن أن يقال بتحقّق الملازمة بين إرادة ذي المقدّمة وبين الإرادة التقديرية؛ فإنّها ليست بموجودة، والتلازم من التضايف المقتضي للتكافؤ قوّةً وفعلاً.

مع أنّ ذلك إن يرجع إلى دعوى الملازمة بين الإرادة الفعلية لذي المقدّمة

ص: 261

وإرادة المقدّمة على فرض تحقّقها فهي إنكار للملازمة؛ لأنّ مقتضى التلازم أنّ وجود أحدهما ملازم لوجود الآخر.

وإن يرجع إلى دعوى الملازمة بينها وبين قوّة الإرادة فهي فاسدة؛ لأنّ قوّة الإرادة متحقّقة في النفس من أوّل تحقّقها، فيلزم تحقّق ملزومها أو ملازمها كذلك، وهو كما ترى .

وإن يرجع إلى ما ذكرنا بتعبير آخر فلا إشكال. هذا حال الإرادة التكوينية من الفاعل .

وأمّا الكلام في إرادة الآمر، فإنّ ما يمكن أن يقع محلّ البحث أحد أمرين:

الأوّل: أنّه هل تكون ملازمة بين إرادة بعث المولى عبده نحو ذي المقدّمة وبين إرادة بعثه نحو ما يراه مقدّمة، أو لا، أو تكون ملازمة بين إرادتهما، أو لا؟

وأمّا البحث عن الملازمة بين إرادة ذي المقدّمة وإرادة المقدّمة الواقعية بالحمل الشائع فساقط؛ ضرورة عدم تعقّل الملازمة بينهما؛ لعدم تعلّق الإرادة بالواقع، من غير تشخيص مقدّميته، وعدم إمكان تحقّق الملازمة بين الموجود والمعدوم.

ودعوى الملازمة التقديرية أو الفعلية بين المحقّق والمقدّر لا ترجع إلى محصّل، إلاّ أن ترجع إلى ما ذكرنا.

الثاني: أن يقع النزاع في الملازمة العقلية بين وجوب ذي المقدّمة أو الإرادة المتعلّقة به وبين وجوب عنوان ما يتوقّف عليه ذو المقدّمة، أو عنوان ما يتوصّل به إليه، أو الإرادة المتعلّقة بأحد العنوانين.

ص: 262

وهذا يصحّ بناءً على تعلّق الوجوب بأحد العنوانين، وتكون حيثية التوقّف أو التوصّل حيثية تقييدية، كما هو التحقيق في الأحكام العقلية.

وأمّا بناءً على تعلّق الوجوب بذات المقدّمة؛ وما يتوقّف عليه ذو المقدّمة بالحمل الشائع، وعدم رجوع الحيثيات التعليلية إلى التقييدية - كما يظهر من بعضهم(1) - فلا محيص عن الوجه الأوّل.

ثمّ إنّ ما ذكرنا من إمكان تخلّف الواقع عن تشخيص المريد في الوجه الأوّل إنّما هو في غير الشارع، وأمّا فيه فلا يمكن التخلّف كما هو واضح، وفي الموالي العرفية إذا رأى المأمور تخلّف إرادة الآمر عن الواقع لسوء تشخيصه لا يلزم بل لا يجوز في بعض الأحيان اتّباعه، بل يجب عليه تحصيل غرضه بعد العلم به.

ثمّ إنّه لعلّك قد علمت ممّا ذكرنا في خلال البحث، أنّ الملازمة المدّعاة هاهنا

غير الملازمات واللوازم والملزومات العقلية الاصطلاحية ممّا يكون الملزوم فيها علّة اللازم إذا كان لازم الوجود ويكون المتلازمان معلولين لعلّة واحدة؛ ضرورة أنّ إرادة المقدّمة وكذا وجوبها ليسا لازمين لإرادة ذي المقدّمة ووجوبه، بل هي مثل إرادة ذيها تحتاج إلى مبادٍ نظير مبادئها من التصوّر والتصديق بالفائدة وغيرهما، ومع عدم تمامية مبادئها لا تتحقّق ولو تحقّقت إرادة ذيها، وكذا الأمر في الإيجاب والوجوب.

ص: 263


1- كفاية الاُصول: 149 - 150؛ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 288.
الأمر الثاني في أنّ المسألة عقلية اُصولية

إنّ المسألة بناءً على كون النزاع في الملازمة وعدمها، عقلية محضة لا لفظية.

ودعوى كون النزاع في الدلالة الالتزامية، وهي مع كونها عقلية، من الدلالات اللفظية بوجه(1)، مردودة:

أمّا أوّلاً: فلأنّ في كون الدلالة الالتزامية من الدلالات اللفظية بحثاً؛ لأنّ اللفظ لا يكون دالاًّ لفظياً إلاّ على ما وضع له، ودلالة الالتزام دلالة المعنى على

المعنى، ولهذا لو حصل المعنى في الذهن بأيّ نحوٍ، يحصل لازمه فيه.

وأمّا ثانياً: فلأ نّه يشترط في الدلالة الالتزامية أن يكون اللازم لازماً للمعنى المطابقي أو له وللتضمّني، فإذا دلّ اللفظ على المعنى ويكون له لازم ذهني يدلّ عليه ولو بوسط، تكون الدلالة التزامية، وما نحن فيه ليس كذلك؛ لأنّ دلالة الأمر على كون متعلّقه مراداً للآمر ليس من قبيل دلالة اللفظ، بل من قبيل كشف الفعل الاختياري عن كون فاعله مريداً له، فالبعث المتعلّق بشيء إنّما هو كاشف عن كون فاعله مريداً له لأجل كونه فعلاً اختيارياً له، لا لأجل كونه دالاًّ عليه مطابقةً؛ حتّى يكون لازمه لازم المعنى المطابقي، وتكون الدلالة من الدلالات اللفظية.

هذا مضافاً إلى ما عرفت من أنّ هذا اللزوم ليس على حذو اللزومات

ص: 264


1- نهاية الأفكار 1: 261.

المصطلحة، مع أنّ اللزوم ليس ذهنياً، مع أنّ محلّ الكلام أعمّ من المدلول عليه بالدلالة اللفظية.

ثمّ إنّه بما عرفت في أوائل الكتاب من الميزان في المسائل الاُصولية(1) تكون المسألة اُصولية.

وربّما يقال: إنّها من المبادئ الأحكامية وإن كان البحث عن الملازمة؛ لأنّ موضوع الاُصول هو الحجّة في الفقه، والبحث إذا كان عن حجّية شيء يكون من العوارض، فيبحث في الخبر الواحد عن أنّه حجّة في الفقه أو لا، وكذا سائر المسائل، فعليه يكون البحث عن الملازمات خارجاً عن المسألة الاُصولية؛ لعدم كون البحث في الحجّة في الفقه(2).

وفيه: ما عرفت في محلّه بما لا مزيد عليه(3): من عدم تطبيق ما ذكر وما ذكروا في موضوع العلوم ومسائلها على الواقع، هذا هو الفقه، فقد جعلوا موضوعه أعمال المكلّفين، وادّعوا أنّ موضوع كلّ علم ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتية(4)، مع أنّ مسائل الفقه ليست كذلك حتّى الأحكام التكليفية؛ فإنّها ليست من العوارض حتّى يقال: إنّها أعراض ذاتية، ولو سلّم فيها فكثير من مباحث الفقه لا ينطبق عليها هذا العنوان، كالنجاسات والطهارات وأبواب الضمان وأمثالها، وإن ترجع بالأخرة إلى ثمرة عملية.

وبالجملة: فالمسألة على ما ذكرنا من الضابط، اُصولية.

ص: 265


1- تقدّم في الصفحة 13.
2- لمحات الاُصول: 92.
3- تقدّم في الصفحة 3 وما بعدها.
4- معالم الدين: 29؛ اُنظر هداية المسترشدين 1: 107 و124.
الأمر الثالث في تقسيمات المقدّمة
اشارة

تنقسم المقدّمة إلى أقسام:

منها: الداخلية والخارجية

وقد أطالوا نقضاً وإبراماً في الداخلية، ربّما لا يرجع جلّها إلى محصّل.

والتحقيق أن يقال: إنّ المركّب: إمّا حقيقي، وهو بأقسامه خارج عن محطّ بحثنا. وإمّا غير حقيقي، وهو: إمّا صناعي، وهو ما له نحو وحدة وتركيب مع قطع النظر عن اعتبار معتبر، كالبيت والمسجد، ومنه المعاجين والأدوية المركّبة بالصناعة. وإمّا اعتباري: وهو ما يكون تركيبه ووحدته بحسب الاعتبار، كالعشرة والمائة والعسكر، ومنه الماهيات الاختراعية، كالصلاة والحجّ، فإنّ أمثال ذلك مركّبات اعتبارية جعلية، فكون الفوج من العسكر ألفاً أو عشرة آلاف إنّما هو بحسب الجعل والاعتبار، والعشرة مع قطع النظر عن اعتبار الوحدة ليست إلاّ الوحدات المستقلاّت، وهكذا.

ثمّ إنّ الغرض قد يكون قائماً بوجود كلّ واحد واحد من أشخاص أو أشياء، من غير ارتباط بين الوَحدات، كمن كان له عدّة أصدقاء يشتاق لقاء كلّ واحد منهم مستقلاًّ؛ من غير ارتباط بعضهم ببعض، فعند تصوّر كلّ واحد يريد لقاءه بإرادة مستقلّة ولا يعقل أن يكون اجتماعهم بما هو كذلك في هذا اللحاظ مورداً لعلاقته وإرادته، بل ربّما يكون اجتماعهم مبغوضاً عنده.

ص: 266

وقد يكون قائماً بالمجموع لا بالأفراد، كمن يريد فتح بلد لا يمكن فتحه إلاّ بفوج من العسكر، فحينئذٍ يكون كلّ واحد واحد منه غير مراد له ولا متعلّقاً لغرضه، وإنّما قام غرضه بالفوج، فيتصوّره ويشتاقه ويريد إحضاره، ففي هذا التصوّر تكون الآحاد مندكّة فانية في الفوج، فلا يكون كلّ واحد واحد متصوّراً ولا مشتاقاً إليه، ولا يمكن أن تتعلّق به إرادة نفسية؛ لعدم حصول الغرض به.

نعم، لو تصوّر كلّ واحد واحد، ورأى توقّف الفوج على وجود كلّ واحد، أراده لأجل غيره لا لنفسه، فالآحاد بنحو العامّ الاستغراقي - أي كلّ واحد واحد - فيها ملاك الإرادة الغيرية لا النفسية، وفي الفوج ملاك النفسية لا الغيرية، فكلّ واحد مقدّمة، وموقوف عليه العسكر بالاستقلال، ولا يكون الاثنان أو الثلاثة منها وهكذا، مقدّمةً، ولا فيها ملاك الإرادة الغيرية.

وبالجملة: هاهنا أمران: أحدهما: العسكر الذي يراه السلطان فاتحاً للبلد، ففيه ملاك الإرادة النفسية لا غير، وثانيهما: كلّ واحد واحد من الأفراد، ففي كلٍّ ملاك الإرادة الغيرية؛ لتوقّف العسكر عليه.

وأمّا في اثنين اثنين وثلاثة ثلاثة منها وهكذا سائر التركيبات الاعتبارية فليس ملاك الإرادة النفسية - وهو واضح - ولا الغيرية؛ لعدم توقّف العسكر عليها زائداً على توقّفه على الآحاد، فزيد موقوف عليه رأساً بالضرورة، وعمرو كذلك، لكن زيد وعمرو معاً لا يكونان موقوفاً عليهما في مقابل كلّ من زيد وعمرو.

ثمّ لا يخفى أنّ الغرض قائم في المركّبات الاعتبارية بالمجموع الخارجي الذي يكون منشأ اعتبار الوحدة، لا بالاعتبار الذهني، ولا بكلّ فرد فرد، فيكون متعلّق الغرض مقدّماً على رؤية الوحدة وعلى الأمر المتعلّق به.

ص: 267

وأوضح ممّا ذكر، المركّبات الصناعية التي لها وحدة عرفية وتركيب صناعي، فإنّ تصوّر البيت منفكّ عن تصوّر الأجزاء من الأخشاب والأحجار، فإذا تصوّر البيت يكون متعلّقاً لإرادته النفسية، وليس فيه ملاك الإرادة الغيرية، وإذا رأى توقّف البيت على كلّ من الأحجار والأخشاب وغيرهما، يريدها لأجل تحصيل البيت، ويكون فيها ملاك الغيرية لا النفسية.

فإذا عرفت كيفية تعلّق الإرادة الفاعلية يقع البحث في الإرادة الآمرية؛ بأ نّه هل تكون الإرادة الآمرية المتعلّقة بذي المقدّمة - كالبيت والعسكر - ملازمة للإرادة المتعلّقة بما رآه مقدّمة أو لا؟ من غير فرق من هذه الجهة بين المقدّمات الخارجية والداخلية؛ فإنّ كلّ واحد واحد من الأجزاء في المركّبات، ممّا يتوقّف عليه المركّب، وليس الأجزاء بالأسر شيئاً برأسه في مقابل كلّ واحد، وبهذا يدفع الإشكال الذي استصعبه المحقّقون(1).

وكأنّ وجه الخلط هو تخيّل أنّ الأجزاء بالأسر مقدّمة وذو المقدّمة، مع أنّها ليست مقدّمة، بل كلّ واحد مقدّمة، وهو غير المركّب بالضرورة حقيقةً، لا اعتباراً حتّى يستشكل بما في كتب المحقّقين.

دفع وهم : کلام المحقّق العراقي حول ما هو خارج عن محل النزاع

قد يقال: إنّ الوحدة الاعتبارية قد تكون في الرتبة السابقة على الأمر؛ أعني في ناحية المتعلّق، وقد تكون في الرتبة اللاحقة؛ بحيث تنتزع من نفس الأمر

ص: 268


1- مطارح الأنظار 1: 211؛ كفاية الاُصول: 115؛ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 265 - 268؛ نهاية الأفكار 1: 262.

بلحاظ تعلّقه بعدّة اُمور، فيكون تعلّقه بها منشأً لانتزاع الوحدة الملازمة لاتّصافها بعنواني الكلّ والأجزاء، فالوحدة الاعتبارية بالمعنى الثاني لا يعقل أن تكون سبباً لترشّح الوجوب من الكلّ إلى الأجزاء بملاك المقدّمية؛ لأنّ الجزئية والكلّية الملزومة لهذه الوحدة ناشئة من الأمر، فتكون المقدّمية في رتبة متأخّرة عن تعلّق الأمر بالكلّ، ومعه لا يعقل ترشّحه على الأجزاء، فينحصر محلّ النزاع في الوحدة بالمعنى الأوّل(1)، انتهى ملخّصاً.

وأنت خبير بما فيه:

أمّا أوّلاً: فلأنّ الأغراض لا تتعلّق بالواحد الاعتباري بما هو كذلك، بل المحصّل لها إنّما هو الواقع، فحينئذٍ نقول: قد يتعلّق الغرض بالوحدات كلّ برأسها، وقد يتعلّق بالمجموع بما هو كذلك ولو لم يعتبره المعتبِر، كسَوق العسكر لفتح الأمصار؛ فإنّ الغرض لا يتعلّق بواحد واحد، بل الفاتح هو المجموع وسواد العسكر الموجب لإرعاب أهلها.

فإذا كان الغرض من قبيل الأوّل لا يعقل أن يتعلّق بالوحدات أمر واحد؛ لعدم تعلّق الغرض بالمجموع، كما أنّه إذا كان من قبيل الثاني لا يعقل أن يتعلّق به إلاّ أمر واحد نفسي.

فإذا لاحظ المولى الموضوع - أي المجموع الذي هو موضوع غرضه - ورأى أنّ غرضه قائم به، يكون كلّ واحد من الآحاد حين تعلّق الأمر مغفولاً عنه، ولو فرض عدم مغفوليته فلا إشكال في أنّه لم يكن متعلّق غرضه ومحصّله،

ص: 269


1- بدائع الأفكار (تقريرات المحقّق العراقي) الآملي 1: 315 - 316.

فالمجموع مورد تصوّره وغرضه وموضوع أمره، وهذا هو المراد بالواحد الاعتباري، لا لزوم اعتبار الوحدة بالحمل الأوّلي.

فإذن لا يعقل أن تكون الوحدة تابعة لتعلّق الأمر، بل الموضوع - الذي لوحظ بنحو الوحدة القائم به الغرض - متعلّق لأمر واحد.

وثانياً: لو سلّمنا تأخّر اعتبار الوحدة عن الأمر، لكن ذلك لا يوجب خروجه عن محلّ النزاع؛ لأنّ ملاك تعلّق الإرادة بالمقدّمة هو رؤية توقّف ذي المقدّمة عليها في نفس الأمر، وتوقّف المركّب على كلّ جزء من الأجزاء بحسب الواقع ضروري. وما ذكر - من أنّ عنوان الجزئية والكلّية ينتزع بعد تعلّق الأمر، وفي مثله لا يعقل ترشّح الوجوب من الكلّ إلى الأجزاء بملاك المقدّمية - ناشئ من الخلط بين عنوان الكلّية والجزئية للمأمور به بما هو كذلك، وبين ما هو ملاك تعلّق الإرادة الغيرية؛ أي التوقّف الواقعي للمركّب على كلّ جزء من أجزائه.

وإن شئت قلت: إنّ عنوان الجزئية بالحمل الأوّلي لم يكن فيه ملاك النزاع، بل هذا العنوان لا يتأخّر عن عنوان الكلّية؛ ضرورة أنّهما متضايفان، بل الموقوف عليه هو واقع كلّ جزء جزء، والموقوف هو المجموع ولو لم يعتبر فيه الوحدة والكلّية.

وأمّا ما ذكر في ضمن كلامه، وجرت به الألسن والأفواه(1) - من ترشّح الوجوب من ذي المقدّمة إلى المقدّمة - وهو الذي صار منشأً للاشتباه والخلط،

ص: 270


1- كفاية الاُصول: 116؛ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 285 و287.

ففي غاية السقوط؛ لما أشرنا إليه سالفاً(1) من أنّ الإرادة المتعلّقة بذي المقدّمة لم تكن مبدأً للإرادة المتعلّقة بالمقدّمة بنحو النشوّ والرشح والإيجاد، وإذا كان حال الإرادات كذلك - لما مرّ - فالوجوب أسوأ حالاً؛ لأ نّه ينتزع من تعلّق البعث بالشيء، ولا يعقل أن يترشّح بعث من بعث آخر، كما هو واضح. فتحصّل من جميع ما ذكرنا: أنّ المقدّمات الداخلية كالخارجية داخلة في محلّ النزاع.

هذا حال المقدّمات الداخلية.

تتميم: في شمول النزاع لجميع أقسام المقدّمات الخارجية

وأمّا الخارجية: فالتحقيق كون ملاك البحث فيها مطلقاً، من غير فرق بين العلل التامّة وغيرها، والأسباب التوليدية وغيرها.

وما يتوهّم: من أنّ الأمر في المسبّبات التوليدية يرجع إلى أسبابها - فمضافاً إلى أنّه على فرض صحّة التوهّم يكون الخروج من قبيل التخصّص، لا الاستثناء والتخصيص عن مورد البحث - فاسد.

فإنّ ما يقال في وجهه - تارةً: بأنّ المسبّبات غير مقدورة(2)، واُخرى: بأنّ الأمر إنّما يتعلّق بما يتعلّق به إرادة الفاعل، ولا يعقل تعلّقها بما ليس من فعله(3) -

ص: 271


1- تقدّم في الصفحة 261.
2- اُنظر معالم الدين: 60؛ قوانين الاُصول 1: 105 / السطر 24؛ لمحات الاُصول: 98.
3- اُنظر فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 269؛ درر الفوائد، المحقّق الحائري: 120.

فاسد؛ لأنّ ملاك صحّة الأمر عقلاً وعند جميع العقلاء هو كون الشيء مقدوراً ولو مع الواسطة، وإرادة الفاعل أيضاً تتعلّق بما هو مقدور مع الواسطة؛ ضرورة تعلّق إرادة القاتل بقتل عدوّه، وإنّما تتعلّق إرادة اُخرى - تبعاً - بأسبابه لأجل تحصيل مراده النفسي، وهذا كافٍ في تعلّق الأمر المولوي به، ومعه لا معنى لصرف الأوامر إلى الأسباب.

ومنها: تقسيمها إلى المقارن والمتقدّم والمتأخّر

وقد استشكل في الأخيرتين بأنّ المقدّمية تنافي التقدّم والتأخّر؛ لامتناع انفكاك المعلول عن علّته وتقدّمه عليها(1).

الإشكال في الشرط المتأخّر

ولا يخفى: أنّ هذا البحث إنّما نشأ من توهّم تأخّر الشرط عن المشروط في الشرعيات:

تارةً: في شرائط المكلّف به، كأغسال الليلة المستقبلة بالنسبة إلى صوم المستحاضة، على ما أفتى بعض الفقهاء باشتراطه بها(2).

واُخرى: في شرائط الحكم الوضعي، كالإجازة على الكشف الحقيقي.

وثالثةً: في شرائط نفس التكليف، كالقدرة المتأخّرة من المكلّف بالنسبة إلى التكليف المتقدّم الصادر من المولى.

ص: 272


1- اُنظر تقريرات السيد المجدّد الشيرازي 2: 268؛ كفاية الاُصول: 118.
2- شرائع الإسلام 1: 27؛ اُنظر مدارك الأحكام 6: 57؛ مستند الشيعة 3: 38.

فقد تصدّى المحقّقون لدفع الإشكال المتراءى بأجوبة فراراً عنه، لا تصحيحاً للشرط المتأخّر، وإن كان الظاهر من بعضهم التصدّي لتصحيحه أيضاً.

كلام المحقّق العراقي لدفع الإشكال في الشرط المتأخّر

وممّن تصدّى للجواب هو بعض أهل التحقيق، ومحصّل كلامه: أنّ التحقيق هو إمكان تقدّم الشرط على المشروط في التكوين والتشريع؛ لأنّ المقتضي للمعلول هو حصّة خاصّة من المقتضي لا طبيعيّه، فإنّ النار بحصّتها الخاصّة - وهي التي تماسّ الجسم المستعدّ باليبوسة لقبول الإحراق - تؤثّر في الإحراق، لا الحصص الاُخرى، فتلك الخصوصية التي بها تحصّصت الحصّة لا بدّ لها من محصّل في الخارج، وما به تحصل خصوصية الحصّة المقتضية يسمّى شرطاً، والخصوصية المزبورة عبارة عن نسبة قائمة بتلك الحصّة حاصلة من إضافتها إلى شيء ما، فذلك الشيء المضاف إليه هو الشرط، والمؤثّر في المعلول هو نفس الحصّة الخاصّة، فالشرط هو طرف الإضافة المزبورة، وما كان شأنه كذلك جاز أن يتقدّم على ما يضاف إليه أو يتأخّر عنه أو يقترن به.

ثمّ حاول في تفصيل ما ذكر، وأجاب عن الإشكال في الجميع بنهج واحد، فقال: إنّ شرطية شيء للمأمور به ترجع إلى كون حصّة من الطبيعي متعلّقة للأمر، وهي تحصل بالتقييد، فكما يمكن التقييد بأمر مقارن يمكن بالمتقدّم والمتأخّر، وكذا الحال في شرط التكليف والوضع؛ فإنّ قيود الوجوب دخيلة في اتّصاف الشيء بكونه صلاحاً، فالقدرة المتأخّرة شرط بوجودها المتأخّر للتكليف المتقدّم، ومعنى شرطيتها له ليس إلاّ كونها بحيث يحصل

ص: 273

للشيء بالإضافة إليها خصوصية يكون بها متّصفاً بكونه صلاحاً، وهذا كما قد يحصل بإضافة الشيء إلى المقارن يحصل بإضافته إلى المتقدّم والمتأخّر(1)، انتهى ملخّصاً.

وفيه مواقع للنظر:

أمّا أوّلاً: فلأنّ إسراء الأمر إلى التكوين ممّا لا مجال له؛ لأنّ المؤثّر التكويني نحو وجود خاصّ متشخّص لا يكون تشخّصه بالإضافات والاعتبارات، فما هو المؤثّر ليس الحصّة الحاصلة بالإضافة إلى المقارن ولا إلى غيره، بل هو نحو وجود متشخّص بتأثير علله الفاعلية، أو هو مع ضمّ القابل، فالنار بوجودها مقتضية لإحراق ما وقع فيها ممّا هو قابل للاحتراق، من غير أن يكون الوقوع والتماسّ وقابلية المتأثّر محصّلات للحصّة المؤثّرة، وهو أوضح من أن يحتاج إلى البيان.

وأمّا ثانياً: فلأنّ الإضافة إلى المعدوم ممّا لا يعقل، حتّى الاعتباري منها؛ لأنّ الإضافة الاعتبارية نحو إشارة، ولا تمكن بالنسبة إلى المعدوم، فما يتخيّل أنّه إضافة إلى المعدوم لا يخرج من حدّ الذهن والتخيّل؛ أعني هو تخيّل الإضافة لا نفسها.

وإن شئت قلت: إنّ الإضافة إلى الشيئين ولو بنحو الاعتبار نحو إثبات شيء لهما، وهو إن لم يكشف عن الثبوت في ظرفه لا يكون إلاّ توهّماً وتخيّلاً، ومع كشفه عنه يكون ثبوته له فرع ثبوت المثبت له، فإذا تحقّقت الإضافة بين

ص: 274


1- بدائع الأفكار ((تقريرات المحقّق العراقي)) الآملي 1: 320 و323 - 324.

الموجود والمعدوم يكون المعدوم مضافاً ومضافاً إليه في ظرف تحقّق الإضافة، فلا بدّ من صدق قولنا: «المعدوم مضاف ومضاف إليه في حال عدمه»؛ لتحقّق الإضافة في حاله، فلا بدّ من تحقّق المعدوم في حال عدمه قضاءً لحقّ القضيّة الموجبة وقاعدة الفرعية.

وبعبارة اُخرى: أنّ المتضايفين متكافئان قوّةً وفعلاً، حتّى أنّ العلّة لا تكون في تقدّمها على المعلول بالمعنى الإضافي متقدّمة عليه، بل هما في إضافة العلّية والمعلولية متكافئان لا يتقدّم أحدهما على الآخر حتّى في الرتبة العقلية. نعم العلّة متقدّمة على المعلول تقدّماً عقلياً.

وكذا الزمان لا يكون بين أجزائه الوهمية تقدّم وتأخّر بالمعنى الإضافي، فإنّ ذلك محال ينافي قاعدة الفرعية، أو موجب لثبوت المعدوم واتّصافه بشيء وجودي، بل تقدّم بعض أجزائه على البعض بالذات، فإنّ ذاته نفس التصرّم والتدرّج، وما كان كذلك يكون ذا تقدّم وتأخّر بالذات، لا بالمعنى الإضافي، وهذا بعد تصوّر الأطراف بديهي لا يحتاج تصديقه إلى مؤنة.

وأمّا ثالثاً: فلأنّ ما ذكره أخيراً - من أنّ شرائط التكليف كالقدرة دخيلة في اتّصاف الشيء بكونه صلاحاً - خلط بين الشرائط الشرعية والعقلية، فإنّ ما هو دخيل في المصلحة هي الشرائط الشرعية، وأمّا القدرة التي هي شرط عقلي فغير دخيلة في اتّصاف المتعلّق بالمصلحة، فإنقاذ الغريق ذو مصلحة؛ كان المكلّف قادراً أو لا، ومع عدم القدرة تفوت المصلحة.

وممّا ذكرنا اتّضح: أنّ ما أجاب به عن الإشكال لا يصلح للدفع، وكذا ما هو على هذا المنوال، كالقول بأنّ الشرط في الفضولي عنوان تعقّب العقد بالإجازة،

ص: 275

وهو حاصل(1)؛ لما عرفت أنّ هذا العنوان الإضافي لا يمكن أن يكون حاصلاً بالفعل للعقد؛ فإنّ الإجازة حين العقد معدومة، وهذا العنوان من العناوين الإضافية.

التحقيق في دفع الإشكال عن الشرط المتأخّر

والتحقيق أن يقال: إنّ ما يتراءى من تقدّم المشروط على الشرط ليس شيء منها كذلك:

أمّا في شرائط التكليف، كالقدرة المتأخّرة بالنسبة إلى التكليف المتقدّم،

فلأنّ ما هو شرط لتمشّي الإرادة من الآمر والبعث الجدّي هو تشخيص الآمر قدرة العبد مع سائر شرائط التكليف في ظرف الإتيان كانت القدرة حاصلة أو لا، فإذا قطع المولى بأنّ العبد قادر غداً على إنقاذ ابنه، يصحّ منه الإرادة والبعث الحقيقي نحوه، فإذا تبيّن عجز العبد لا يكشف ذلك عن عدم الأمر والبعث الحقيقي في موطنه، بل يكشف عن خطائه في التشخيص، وأنّ بعثه الحقيقي صار لغواً غير مؤثّر.

هذا حال الأوامر المتوجّهة إلى الأشخاص.

وأمّا الأوامر المتوجّهة إلى العناوين الكلّية، مثل: «أ يّها الناس» و«أ يّها المؤمنون»، فشرط تمشّي الإرادة والبعث الحقيقي هو تشخيص كون هذا الخطاب صالحاً للبعث - من بين المخاطبين - من كان واجداً لشرائط التكليف، من غير لزوم تقييده بالقدرة وسائر الشرائط العقلية، بل التقييد إخلال في بعض

ص: 276


1- الفصول الغروية: 80 / السطر 35.

الموارد، فإذا علم المولى بأنّ إنشاء الأمر على العنوان الكلّي صالح لانبعاث طائفة من المكلّفين كلّ في موطنه، يصحّ منه التكليف والأمر، فشرط التكليف حاصل حين تعلّق الأمر.

ولعلّه إلى ذلك يرجع كلام المحقّق الخراساني، وإن كان إلحاق الوضع بالتكليف - كما صنعه(1) - ليس في محلّه.

وأمّا في شرائط المأمور به، كصوم المستحاضة بناءً على صحّته فعلاً لحصول

شرطه - وهو أغسال الليلة الآتية - في موطنه، وفي شرائط الوضع، كالإجازة بناءً على الكشف الحقيقي، فتحقيقه يتّضح بعد مقدّمة ، وهي:

أنّ للزمان بما أنّه أمر متصرّم متجدّد متقضٍّ بذاته، تقدّماً وتأخّراً ذاتياً، لا بالمعنى الإضافي المقولي، وإن كان عنوان المتقدّم والمتأخّر معنيين إضافيين، ولا يلزم أن يكون المنطبق عليه للمعنى الإضافي إضافياً، كالعلّة والمعلول؛ فإنّهما بعنوانهما إضافيان، لكن المنطبق عليهما؛ أي ذات المبدأ تعالى - مثلاً - ومعلوله، لا يكونان من الاُمور الإضافية، وكالضدّين، فإنّهما مقابل المتضايفين، لكن عنوان الضدّية من التضايف، وذات الضدّين ضدّان.

فالزمان بهويّته التصرّمية، متقدّم ومتأخّر بالذات، والزمانيات متقدّمة بعضها على بعض بتبع الزمان؛ فإنّ الهويّة الواقعة في الزمان الماضي بما أنّ لها نحو اتّحاد معه تكون متقدّمة على الهويّة الواقعة في الزمان الحال، وهي متقدّمة على الواقعة في الزمان المستقبل، وهذا النحو من التقدّم التبعي ثابت لنفس الهويّتين

ص: 277


1- كفاية الاُصول: 119.

بواسطة وقوعهما في الزمان المتصرّم بالذات، وليس من المعاني الإضافية والإضافات المقولية. فالحوادث الواقعة في هذا الزمان متقدّمة بواقع التقدّم - لا بالمفهوم الإضافي - على الحوادث الآتية، لكن بتبع الزمان.

إذا عرفت ذلك، يمكن لك التخلّص عن الإشكال؛ بجعل موضوع الحكم الوضعي والمكلّف به هو ما يكون متقدّماً بحسب الواقع على حادث خاصّ، فالعقدُ الذي هو متقدّم بتبع الزمان على الإجازة تقدّماً واقعياً موضوع للنقل، ولا يكون مقدّماً عليها بواقع التقدّم التبعي إلاّ أن تكون الإجازة متحقّقة في ظرفها، كما أنّ تقدّم الحوادث اليومية إنّما يكون على الحوادث الآتية، لا على ما لم يحدث بعدُ، من غير أن تكون بينها إضافة، كما عرفت.

وموضوع الصحّة في صوم المستحاضة ما يكون متقدّماً تقدّماً واقعياً تبعاً للزمان على أغسال الليلة الآتية، والتقدّم الواقعي عليها لا يمكن إلاّ مع وقوعها في ظرفها، ومع عدم الوقوع يكون الصوم متقدّماً على سائر الحوادث فيها، لا على هذا الذي لم يحدث، والموضوع هو المتقدّم على الحادث الخاصّ.

وبما ذكرنا يدفع جميع الإشكالات، وكون ما ذكر خلاف ظواهر الأدلّة مسلّم، لكن الكلام هاهنا في دفع الإشكال العقلي، لا في استظهار الحكم من الأدلّة.

وهاهنا طريق آخر لدفع الشبهة، وهو أن يقال:

إنّ موضوعات الأحكام وشرائطها كلّها تكون عرفية لا عقلية، والعرف لمّا يرى إمكان التقييد والإضافة بالأمر المتأخّر والمتقدّم كالمقارن، يكون موضوع النقل هو العقد المتقيّد بنظره، والصوم المتقيّد كذلك، ولو كان العقل

ص: 278

لا يساعد عليه والبرهان يضادّه، كما هو الحال في سائر الموضوعات الشرعية، وهذا الوجه يرجع إلى ما ذهب إليه القوم.

نقل كلام المحقّق النائيني في تحرير محطّ البحث في الشرط المتأخّر

إنّ بعض الأعاظم بعد إخراج الاُمور الانتزاعية عن محطّ البحث؛ لأ نّها تنتزع عمّا تقوم به، من غير دخالة الطرف الآخر في الانتزاع؛ لأنّ السبق ينتزع من نفس السابق بالقياس إلى ما يوجد بعد ذلك، وكذا اللحوق من اللاحق، ولا دخل لشيء منهما في انتزاع العنوان عن صاحبه، فما فرض شرطاً هو المقارن لا المتأخّر.

وبعد إخراج شرائط المأمور به عنه؛ لبداهة أنّ شرطية شيء له ليست إلاّ بمعنى أخذه قيداً فيه، فيجوز التقييد بالمتأخّر كالمقارن، بل لا فرق بين الأجزاء والشرائط، فكما يمكن الأمر بمركّب ذي أجزاء من غير إشكال، يمكن بمقيّد، بل لا يعقل تعلّق الأمر بالانتزاعيات، فلا بدّ من إرجاعه إلى القيد، فكما أنّ الأمر بالمركّب يتعلّق بكلّ واحد من أجزائه، كذا أنّ الأمر بالمقيّد يتعلّق بقيده.

فامتثال أمر المقيّد بقيد متأخّر إنّما يكون بإتيان الشرط المتأخّر، كما أنّ امتثال المركّب التدريجي إنّما هو بإتيان الجزء الأخير، فلا إشكال فيهما.

وبعد إخراج العلل الغائية؛ لأ نّها بوجودها العلمي مؤثّرة في التشريع، لا الخارجي، فشرائط الجعل أيضاً خارجة عن محطّه؛ لأ نّها بوجودها العلمي مؤثّرة في الجعل، فيكون الشرط مقارناً دائماً.

خصّ النزاع بشرائط الحكم المجعول، وقال في توضيحه: إنّ القضايا إمّا خارجية: فلا يتوقّف الحكم فيها على غير دواعي الحكم المؤثّرة بوجودها

ص: 279

العلمي لا الخارجي، طابق الواقع أم لا، وهي أيضاً خارجة عن محطّ الكلام؛ فإنّ الحكم فيها يدور مدار علم الحاكم، كان المعلوم مقارناً أو مؤخّراً.

وإمّا حقيقية: وهي التي حكم فيها بثبوت الحكم على الموضوعات المقدّر وجودها، فيحتاج الحكم فيها إلى أمرين:

أحدهما: ما يكون داعياً إلى جعل الحكم، وهو أيضاً كالعلل الغائية خارج عن البحث. ثانيهما: ما يكون موضوعاً له واُخذ مفروض الوجود في مقام الحكم، ويدخل في ذلك الشرائط؛ لأنّ شرائط الحكم ترجع إلى قيود الموضوع، وهذا هو محلّ البحث.

والحقّ امتناع الشرط المتأخّر فيه، سواء قلنا بأنّ المجعول هو السببية وأمثالها، أو المجعول هو الحكم عند وجود السبب:

أمّا الأوّل: فواضح؛ لأ نّه يرجع إلى تأخّر أجزاء العلّة العقلية عن المعلول.

وأمّا الثاني: فللزوم الخلف والمناقضة من وجود الحكم قبل وجود موضوعه، وقد عرفت أنّ الشرائط كلّها ترجع إلى قيود الموضوع(1)، انتهى ملخّصاً.

وفيه مواقع للنظر، نذكر بعض مهمّاتها:

منها: ما ذكره في الاُمور الانتزاعية من جواز الانتزاع عمّا تقوم به من غير دخالة الطرف فيه: فإن أراد أنّه ينتزع الأمر الإضافي من غير إضافة إلى الطرف الآخر فهو واضح البطلان، مع أنّه مخالف لقوله: بالقياس إلى ما يوجد بعد ذلك.

وإن أراد أنّه ينتزع منه فعلاً بالقياس إلى ما سيصير طرف الإضافة، من غير أن يكون طرفاً فعلاً، فهو أيضاً واضح البطلان؛ لتكافؤ المتضايفين قوّةً وفعلاً،

ص: 280


1- أجود التقريرات 1: 321 - 330.

وهل هذا إلاّ دعوى جواز انتزاع الاُبوّة من طفل نعلم أنّه سيولد له ولد؟!

وإن أراد أنّ المعدوم مضاف فعلاً فهو أوضح بطلاناً.

ومنها: أنّ إخراج شرائط المأمور به ممّا لا وجه له؛ لأنّ الكلام ليس في جواز تعلّق الأمر بشيء مركّب أو مقيّد، بل في جواز اشتراط صحّة المأمور به بأمر متأخّر، فاشتراط الصوم بأغسال الليلة المستقبلة - بمعنى صحّة صومها فعلاً إذا أتت بالأغسال في الليلة المستقبلة - عين محلّ النزاع والإشكال.

كما أنّه يأتي الإشكال في أجزاء المركّب أيضاً، إذا قيل بصحّة الجزء الأوّل مشروطاً بوقوع الأجزاء والشرائط التدريجية في محالّها، والجواب هو الجواب عن الشرط المتأخّر.

ومنها: أنّ ابتناء الامتناع على حقيقية القضايا ممّا لا وجه له، ودعوى رجوع جميع شرائط القضايا الخارجية إلى العلل الغائية التي تكون بوجودها العلمي لا العيني مؤثّرة - اغتراراً ببعض الأمثلة الجزئية - ممّا يكذّبها الوجدان والبرهان؛ ضرورة أنّ الإجازة بوجودها الخارجي دخيلة في صحّة الفضولي، كانت القضيّة التي أنفذته خارجية أو حقيقية، وإنّما الإحراز شرط الجعل لا المجعول، والكلام فيه لا في الجعل. ومع كون القضايا حقيقية يمكن [دفع] الإشكال بالوجهين المتقدّمين.

فتحصّل ممّا ذكرنا: أنّ محطّ البحث أعمّ من شرائط الجعل كالقدرة المتأخّرة، وشرائط المكلّف به كأغسال الليلة المتأخّرة، وشرائط الوضع كالإجازة في الفضولي بناءً على الكشف، والجواب ما مرّ(1).

ص: 281


1- تقدّم في الصفحة 278.
الأمر الرابع في تقسيمات الواجب
الواجب المطلق والمشروط

ومن تقسيمات الواجب تقسيمه إلى المطلق والمشروط، والإطلاق والاشتراط وصفان إضافيان، كالإطلاق والتقييد في باب المطلق والمقيّد، فكلّ قيد يلاحظ ويقاس بالنسبة إلى الواجب، فإمّا أن يكون وجوبه بالنسبة إليه مشروطاً أو لا، فيمكن أن يكون الواجب مطلقاً من جهة وبالنسبة إلى قيد، ومشروطاً من اُخرى.

والكلام في الواجب المشروط يتمّ في ضمن جهات من البحث:

الجهة الاُولى: في تصوير الواجب المشروط
اشارة

لا إشكال في أنّ مقتضى القواعد العربية والتفاهم العرفي هو رجوع القيد في مثل قولنا: «إن استطعت فحجّ» إلى الهيئة، فلا بدّ في رفع اليد عن الظاهر من دليل، كامتناع الرجوع إليها، أو لزوم الرجوع إلى المادّة لبّاً كما نسب إلى الشيخ الأعظم(1).

والتحقيق: عدم لزوم هذا وعدم امتناع ذاك: أمّا الثاني فسيأتي الكلام فيه.

وتوضيح الأوّل:

ص: 282


1- مطارح الأنظار 1: 235 و247.
ضابط قيود المادّة والهيئة

إنّ لرجوع القيد إلى المادّة وإلى الهيئة ميزاناً بحسب اللبّ، وليس ذلك بجزاف:

فالقيود الراجعة إلى المادّة هي كلّ ما يكون بحسب الواقع دخيلاً في تحصيل الغرض المطلق، من غير أن يكون دخيلاً في ثبوت نفس الغرض.

مثلاً: قد يكون الغرض اللازم التحصيل هو الصلاة في المسجد - بحيث تكون الصلاة فيه متعلّقة لغرضه الذي لا يحصل إلاّ بها، كان المسجد متحقّقاً أو لا - فلا محالة تتعلّق إرادته بها مطلقاً، فيأمر بإيجاد الصلاة فيه، فلا بدّ للمأمور

- إطاعةً لأمره - أن يبني المسجد على فرض عدمه ويصلّي فيه.

وقد يكون الغرض لا يتعلّق بها كذلك، بل يكون وجود المسجد دخيلاً في تحقّق غرضه - بحيث لو لم يكن ذلك لم يتعلّق غرضه بالصلاة كذلك، بل قد يكون وجوده مبغوضاً له، لكن على فرض وجوده تكون الصلاة فيه متعلّقاً لغرضه - فلا محالة تتعلّق إرادته بها على فرض تحقّق المسجد، ففي مثله يرجع القيد إلى الهيئة.

ثمّ إنّ للقيود الراجعة إلى الهيئة موارد اُخر:

منها: أن تكون المصلحة في فعل مطلقاً، لكن يكون في بعثه كذلك مانع؛ لجهة في المأمور كالعجز، فلو غرق ابن المولى فأمر عبده: بأ نّه إذا قدرت فأنقذه، لم يعقل رجوع القيد إلى المادّة؛ لأ نّها مطلوبة على الإطلاق.

ومنها: أن يكون المطلوب مطلقاً، لكن يكون للآمر مانع من إطلاق الأمر، فيأمر مشروطاً.

ص: 283

ومنها: ما إذا لزم من تقييد المادّة محال، كما في قول الطبيب: «إن مرضت فاشرب المسهل»، فإنّ شربه لدفع المرض، ولا يعقل أن يكون المرض دخيلاً في صلاح شرب المسهل بنحو الموضوعية؛ بحيث يرجع القيد إلى المادّة.

ومن ذلك الكفّارات في الإفطار والظهار وحنث النذور وغيرها؛ فإنّ الأمر بها لرفع منقصة حاصلة لأجل ارتكاب المحرّمات، ولا يعقل أن يكون ارتكابها من قيود المادّة، إلى غير ذلك.

نقل وتحصيل : حول کلام المحقّق العراقي في الضابط في القیدین

ومن المحقّقين من قال في الضابط في القيدين بحسب اللبّ: «إنّ ما يتوقّف اتّصاف الفعل بكونه ذا مصلحة على حصوله في الخارج - كالاستطاعة بالنسبة إلى الحجّ؛ فإنّ قبل حصولها لا يتّصف الحجّ بعنوان الصلاح - ففي مثله يكون القيد راجعاً إلى الهيئة، ويكون الأمر معلّقاً على تحقّقه، وأمّا قبل حصوله فلا يرى المولى مصلحة فيه.

وما تتوقّف فعلية المصلحة وحصولها في الخارج على تحقّقه، فلا تحصل المصلحة إلاّ إذا اقترن الفعل به كالطهارة والاستقبال والستر، يكون من قيود المادّة»(1)، انتهى.

وفي الشقّ الأوّل إشكال طرداً وعكساً؛ فإنّ الصلاح الذي يتوقّف على حصول شيء إذا كان لازم التحصيل مطلقاً تتعلّق الإرادة بتحصيله على نحو الإطلاق، ويأمر بإتيان الفعل كذلك، وعلى المكلّف أن يأتي به ولو بإيجاد شرطه.

ص: 284


1- بدائع الأفكار (تقريرات المحقّق العراقي) الآملي 1: 335.

مثلاً: إذا كان الحجّ لا يتّصف بالصلاح إلاّ مع الاستطاعة، لكن يكون للمولى غرض مطلق في تحصيل مصلحة الحجّ، فلا محالة يأمر عبده بتحصيلها بنحو الإطلاق، فلا بدّ له من تحصيل الاستطاعة؛ ليصير الحجّ معنوناً بالصلاح، ويأتي به لتحصيل غرضه المطلق، بل لو فرض غرض للمولى لا يحصل إلاّ بتحصيل المصلحة التي في شرب المسهل، فيأمر عبده بتحصيلها، فلا بدّ له من إمراض نفسه وشربه. وقد عرفت أنّ بعض القيود لا يكون دخيلاً في اتّصاف الموضوع بالمصلحة، ومع ذلك يكون قيداً للهيئة، كالقدرة وسائر الأمثلة المتقدّمة.

ويرد على الشقّ الثاني: أنّ قيود المادّة كالطهارة والستر والاستقبال دخيلة

في اتّصاف الموضوع بالصلاح، فإنّ الصلاة بدون الطهارة والقبلة لا مصلحة فيها، وليس حال تلك القيود كحال آلات الفاعل في إيجاد موضوع ذي صلاح بالضرورة، فما ذكره في ضابط المطلق والمشروط غير تامّ، إلاّ أن يرجع إلى ما ذكرنا، وهو خلاف ظاهره.

تذكرة: في أدلّة امتناع رجوع القيد إلى الهيئة والجواب عنها

قد يقال بامتناع رجوع القيد إلى الهيئة؛ فإنّها من الاُمور الغير المستقلّة في اللحاظ، والاشتراط والتقييد متوقّفان على اللحاظ الاستقلالي للمشروط والمقيّد(1).

وفيه أوّلاً: أنّ التقييد إنّما هو باللحاظ الثاني حتّى في المعاني الاسمية، فإنّ «العالم» في قولنا: «رأيت العالم العادل» لا يكون دالاًّ إلاّ على معناه لا غير، ففي

ص: 285


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 181.

استعماله لا يكون إلاّ حاكياً عن نفس معناه، فإذا وصف بأ نّه «العادل» يكون توصيفه بلحاظ ثانٍ، وهذا بعينه ممكن في المعاني الحرفية.

وثانياً: يمكن أن يكون تصوّر التوصيف والوصف والموصوف قبل الاستعمال، سواء في ذلك المعاني الاسمية والحرفية، وتصوّر الحرفيات قبل استعمالها استقلالاً وتصوّر توصيفها، ممّا لا مانع منه، تأمّل. والمانع لو كان إنّما

هو حين الاستعمال حرفاً.

وثالثاً: أنّ تقييد المعاني الحرفية ممكن، بل نوع المحاورات والتفهيم والتفهّمات لإفهام المعاني الحرفية وتفهّمها، وقلّما يتعلّق الغرض بإفهام المعنى الاسمي فقط، فالمطلوب الأوّلي هو إفهام المعاني الحرفية، فتكون هي ملحوظة بنحو يمكن تقييدها وتوصيفها.

وإن شئت قلت: إنّ الإخبار عنها وبها غير جائز، وأمّا تقييدها في ضمن الكلام فواقع جائز.

وبالجملة: أنّ التقييد لا يحتاج إلى اللحاظ الاستقلالي، بل يكفي فيه ما هو حاصل في ضمن الكلام الذي يحكي عن الواقع، مثلاً: إذا رأى المتكلّم أنّ زيداً في الدار جالس يوم الجمعة، وأراد الإخبار بهذا الأمر، فأخبر عن الواقع المشهود بالألفاظ [التي هي قالب] للمعاني، يقع الإخبار عن التقييد والقيد والمقيّد، من غير احتياج إلى غير لحاظ المعاني الاسمية والحرفية على ما هي عليه واقعاً.

هذا في الحروف الحاكيات. وأمّا غيرها؛ أي التي تستعمل استعمالاً إيجادياً، فالمتكلّم قبل استعمالها يقدّر المعاني والألفاظ في ذهنه، ويرى أنّ مطلوبه

ص: 286

لا يكون إلاّ مطلوباً على تقدير، فإذا تكلّم بالألفاظ [التي هي قالب] لإفادة هذه المعاني الذهنية فلا محالة تكون الهيئة مقيّدة، من غير احتياج إلى نظر استقلالي حال الاستعمال، وأنت إذا راجعت وجدانك ترى صدق ما ادّعيناه.

وقد يقال في تقرير الامتناع: إنّ الهيئة موضوعة بالوضع العامّ والموضوع له الخاصّ، ومثله جزئي حقيقي غير قابل للتقييد(1).

والجواب: أنّ تعليق الجزئي وتقييده ممكن واقع، ف «زيد» قابل للتقييد بالنظر إلى طوارئه؛ ولهذا تجري فيه مقدّمات الحكمة إذا وقع موضوعاً للحكم.

وقد يقال: إنّ الهيئة في الأمر والنهي من الحروف الإيجادية كما سبق، وتعليق الإيجاد مساوق لعدم الإيجاد، كما أنّ تعليق الوجود مساوق لعدمه(2).

والجواب: أنّ الوجود الاعتباري والإنشائي قابل للتعليق والتقييد، ومعنى تعليقه أنّه بعث على تقدير، وقياسه بالوجودات الحقيقية مع الفارق.

الجهة الثانية: في حكم الواجب المشروط قبل تحقّق شرطه

هل الوجوب في المشروط قبل تحقّق شرطه فعلي أو لا يصير فعلياً إلاّ بعده؟

والتحقيق هو الثاني، وتوضيحه يتوقّف على تحقيق حقيقة الحكم، فنقول:

لا إشكال في أنّ الآمر قبل إنشاء التكليف يتصوّر المبعوث إليه، ويدرك فائدته ولزوم حصوله بيد المأمور وصدوره منه، وبعد تمامية مقدّمات الإرادة

ص: 287


1- مطارح الأنظار 1: 236.
2- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 181؛ منية الطالب 1: 253؛ اُنظر لمحات الاُصول: 109.

يريد بعثه إليه، فيأمره ويبعثه نحوه.

إنّما الكلام في أنّ الحكم عبارة عن الإرادة، أو الإرادة المظهرة بنحو من الإظهار، أو نفس البعث الناشئ من إرادته؛ بحيث تكون الإرادة كسائر المقدّمات من مبادئ حصوله لا مقوّمات حقيقته؟

الحقّ هو الأخير؛ لشهادة العرف والعقلاء بذلك، ألا ترى أنّه بمجرّد صدور الأمر من المولى يرى العبيد وجوب الإتيان، من غير أن يخطر ببالهم كون الأمر ناشئاً من الإرادة؟! فنفس البعث - بأيّ آلة كان - موضوع لانتزاع الوجوب.

ولأنّ الإيجاب والوجوب واحد ذاتاً مختلف بالاعتبار، والإرادة لا تكون إيجاباً وإلزاماً بالضرورة، بل نفس البعث والإغراء إلزام وإيجاب، وهو الحكم.

ولأنّ الأحكام التكليفية قسيم الأحكام الوضعية وقرينها، ولا إشكال في أنّ الوضعيات لم تكن من قبيل الإرادات المظهرة، فالولاية والحكومة والقضاء والملكية وغيرها تنتزع من جعلها، ولا يمكن أن يقال: هذه العناوين منتزعة عن الإرادة، أو عبارة عنها، أو عن مقام إظهارها، كما أنّ حكم السلطان والقاضي عبارة عن نفس الإنشاء الصادر منهما في مقام الحكومة والقضاء، لا الإرادة المظهرة.

والحاصل: أنّ الحكم مشترك معنوي بين الوضع والتكليف إذا لوحظ اسماً، فلا بدّ وأن يكون الاعتبار فيهما واحداً، فنفس البعث عبارة عن الحكم والإيجاب أو هما منتزعان منه، والوجوب عين الإيجاب ذاتاً.

نعم، لو لم ينشأ البعث من الإرادة الجدّية لم ينتزع منه الوجوب والإيجاب،

ص: 288

وهو لا يوجب أن تكون الإرادة دخيلة في قوام الحكم، أو تكون تمام حقيقته، ويكون الإظهار واسطة لانتزاع الحكم منها.

فما ادّعى بعض أهل التحقيق من كون الحكم عبارة عن الإرادة التشريعية التي يظهرها المريد بأحد مظهراتها(1)، خلاف التحقيق.

إذا عرفت ذلك: يسهل لك التصديق بأنّ الواجب المشروط قبل تحقّق شرطه ليس وجوبه فعلياً كما هو مقتضى تعليق الهيئة، ومعلوم أنّ إنشاء البعث على تقدير لا يمكن أن يكون بعثاً فعلياً قبل حصول التقدير؛ للزوم تخلّف المنشأ عن الإنشاء، كما أنّ إنشاء الملكية على تقدير الموت في الوصية، لا يمكن أن يؤثّر إلاّ في الملكية الفعلية بعد الموت لا قبله.

بل لو قلنا بأنّ الإرادة دخيلة في الحكم لم تكن دخالتها إلاّ بنحو منشئية الانتزاع، وأمّا كونها نفس الحكم ذاتاً فهو خلاف الضرورة، فحينئذٍ يمكن أن يقال: إنّ الإرادة المعلّقة على شيء لا ينتزع منها الوجوب الفعلي، بل هي منشأ انتزاع الوجوب المشروط.

الجهة الثالثة: في إشكالات الواجب المشروط على مسلك المشهور
اشارة

ربما يستشكل على الواجب المشروط على مسلك المشهور بوجوه:

منها: ما أورده بعض أهل التحقيق، وهو أنّه لا ريب في أنّ إنشاء التكليف من مقدّمات التوصّل إلى تحصيل المكلّف به، والواجب المشروط على المشهور ليس بمراد للمولى قبل تحقّق شرطه، فكيف يتصوّر أن يتوصّل العاقل إلى

ص: 289


1- مقالات الاُصول 1: 310 - 311؛ نهاية الأفكار 1: 302.

تحصيل ما لا يريده فعلاً؟! فلا بدّ أن يلتزم المشهور بوجود غرض نفسي في إنشاء التكليف المشروط، وهو كما ترى.

وأمّا على مذهبنا فلا يرد الإشكال؛ لفعلية الإرادة قبل تحقّق الشرط، فيتوصّل المولى إلى ما يريده فعلاً، وإن كان على تقدير(1)، انتهى.

وهذا من عجيب الكلام؛ فإنّ الإنشاء وإن كان للتوصّل إلى المبعوث إليه، لكن في المشروط يتوصّل المولى إليه على تقدير حصول الشرط، فإذا قال: «حجّ إن استطعت» يكون إنشاء الإيجاب أو البعث على تقدير الاستطاعة للتوصّل إليه على هذا التقدير لا قبله.

بقي الكلام في فائدة هذا الإنشاء قبل حصول الشرط، وهي متصوّرة في الإنشاء المتوجّه إلى مكلّف جزئي، وأمّا الحكم التشريعي القانوني المتعلّق بالعناوين الكلّية فلا يمكن أن ينشأ إلاّ على هذا النحو، كما لا يخفى.

وبالجملة: أنّ إنشاء البعث المشروط، للتوصّل به إلى المبعوث إليه على تقدير حصول الشرط، سواء في ذلك مذهب المشهور وغيره.

ومنها: أنّ وجوب المقدّمة قبل وجوب ذي المقدّمة ممتنع؛ لأنّ وجوبها ناشئ من وجوبه، وعلى فرض التلازم بين الإرادتين تكون إرادة المقدّمة ناشئة من إرادة ذي المقدّمة، فلا يعقل وجود المعلول قبل علّته وأحد المتلازمين قبل صاحبه.

ولعلّ بعض أهل التحقيق فراراً من مثل الإشكال ذهب إلى أنّ الحكم

ص: 290


1- بدائع الأفكار (تقريرات المحقّق العراقي) الآملي 1: 346 - 347.

عبارة عن الإرادة المظهرة(1)؛ بتخيّل أنّه معه يرفع الإشكال عنه، وسيتّضح

ما فيه(2).

والجواب عن الإشكال: أنّ وجوب المقدّمة لا يكون ناشئاً من وجوب

ذي المقدّمة:

أمّا إذا قلنا بأنّ الوجوب هو البعث أو المنتزع منه فواضح؛ ضرورة عدم التلازم بين البعث إلى شيء والبعث إلى مقدّمته، بل غالباً لا يكون للمولى بعث إلى المقدّمات.

وأمّا التلازم بين الإرادة المتعلّقة بذي المقدّمة مع إرادة مقدّمته، فليس بمعنى نشوّ إرادة من إرادة؛ بحيث تكون إرادة ذي المقدّمة علّة موجدة لها؛ لما عرفت سابقاً(3) من أنّ الآمر - على فرض الملازمة - لمّا رأى توقّف ما هو مطلوبه على شيء، فهو يريد البعث إليه لأجل تحصيله، وهذا معنى الإرادة الغيرية، فللإرادة مطلقاً مقدّمات لا تتحقّق بدونها، ولا تكون إرادة ناشئة من اُخرى.

فهاهنا نقول: إنّ الملاك في إرادة المقدّمة هو علمه بتوقّف التوصّل إلى ذي المقدّمة عليها، فإذا كان ذو المقدّمة مراداً فعلياً فلا محالة تتعلّق إرادة بما

يراه مقدّمة بملاك التوصّل بناءً على الملازمة.

وأمّا إذا فرض عدم تعلّق إرادة فعلاً بتحصيل ذي المقدّمة فعلاً، لكن يعلم المولى أنّه عند حصول شرطه مطلوب له لا يرضى بتركه، ويرى أنّ له مقدّمات

ص: 291


1- مقالات الاُصول 1: 310 - 311؛ نهاية الأفكار 1: 302.
2- يأتي في الصفحة 292.
3- تقدّم في الصفحة 261.

لا بدّ من إتيانها قبل حصول الشرط، وإلاّ يفوت الواجب في محلّه بفوتها، فلا محالة تتعلّق إرادة آمرية بتحصيلها لأجل التوصّل بها إليه في محلّه وبعد تحقّق شرطه، لا لشيء آخر.

بل إذا علم المكلّف بأنّ المولى أنشأ البعث على تقدير يعلم حصوله، ويرى أنّه يتوقّف على شيء قبل تحقّق شرطه؛ بحيث يفوت وقت إتيانه، يجب عليه عقلاً إتيانه؛ لحفظ غرض المولى في موطنه.

فإذا قال: «أكرم صديقي إذا جاءك»، ويتوقّف إكرامه على مقدّمات يكون وقت إتيانها قبل مجيئه، يحكم عقله بإتيانها لتحصيل غرضه، بل لو كان المولى غافلاً عن مجيء صديقه لكن يعلم العبد مجيئه وتعلّق غرض المولى بإكرامه على تقديره وتوقّفه على مقدّمات كذائية، يحكم العقل بإتيانها لحفظ غرضه، ولا يجوز له التقاعد عنه.

فتحصّل: أنّه على فرض الملازمة لا محيص عن تعلّق الإرادة بها، وتوهّم لزوم تحقّق المعلول قبل علّته ناشئ من توهّم كون الإرادة المتعلّقة بالمقدّمات ناشئة من إرادة ذي المقدّمة أو كونهما متلازمتين بالمعنى المصطلح، وهما بمكان من الفساد.

ثمّ إنّه مع قطع النظر عمّا ذكرنا يرد الإشكال حتّى على القول بأنّ الحكم عبارة عن الإرادة المظهرة؛ لأنّ الإرادة المتعلّقة بشيء كما أنّها لاتؤثّر في البعث

نحو ذي المقدّمة؛ للاشتراط بشيء غير حاصل، لا يمكن أن تؤثّر في البعث نحو مقدّماته، ومجرّد وجود الإرادة الغير المؤثّرة فعلاً لا يكفي في البعث نحو المقدّمة مطلقاً، فالإشكال يأتي على المذهبين، والجواب ما تقدّم، فتدبّر.

ص: 292

الواجب المعلّق والمنجّز

ومن تقسيمات الواجب تقسيمه إلى المعلّق والمنجّز، وهذا تقسيم في «الفصول»(1) أبداه لدفع إشكال وجوب المقدّمة قبل وجوب ذي المقدّمة، وبعد تصوير وجوبها قبل وجوبه لا وقع لهذا التقسيم.

وقد استشكل على الواجب المعلّق باُمور:

أهمّها ما حكاه المحقّق الخراساني(2) عن بعض أهل النظر(3)، وفصّله وقرّره بعض المدقّقين في تعليقته(4)، ولم يأت بشيء مقنع مع طوله، وتلخيصه:

إشكال المحقّق النهاوندي على الواجب المعلّق

إنّ الإرادة هي الشوق البالغ حدّ نصاب الباعثية، وهي جزء أخير للعلّة التامّة لتحريك العضلات، فلا يمكن تعلّقها بأمر استقبالي؛ للزوم انفكاك العلّة التامّة عن المعلول.

نعم، الشوق المتعلّق بالمقدّمات بما هي مقدّمات من الشوق إلى ذي المقدّمة، لكن في المقدّمات يصل إلى حدّ الباعثية، لعدم المزاحمة، دون ذي المقدّمة؛ فإنّ فيه يبقى بحاله إلى أن يرفع المانع، فيصل إلى حدّ النصاب.

ص: 293


1- الفصول الغروية: 79 / السطر 36.
2- كفاية الاُصول: 128.
3- تشريح الاُصول: 191 / السطر 21.
4- نهاية الدراية 2: 73 - 79.

وأمّا الإرادة التشريعية فلا يمكن أن تتعلّق بأمر استقبالي؛ لعدم إمكان انبعاث المكلّف، ومعه لا يمكن البعث؛ لأ نّه لغرض جعل الداعي.

ثمّ شرع في «إن قلت قلتات» ممّا لا داعي لذكرها.

والجواب: أمّا عن الإرادة التكوينية، فغاية ما يمكن أن يقال في بيان كونها علّة تامّة لحركة العضلات: إنّ القوى العاملة للنفس وآلاتها المنبثّة هي فيها، لمّا

كانت تحت سلطان النفس وقدرتها، بل هي من مراتبها النازلة وشؤونها، فلا يمكن لها التعصّي عن إرادتها، فإذا أرادت قبضها تنقبض أو بسطها تنبسط، من غير تعصٍّ وتأخّر مع عدم آفة للآلات، هذا أمر برهاني ووجداني، لكن كون القوى تحت إرادة النفس وإطاعتها أنّها إذا أرادت تحريكها في الحال تحرّكت، لا عدم إمكان تعلّق الإرادة بأمر استقبالي.

فما اشتهر بينهم: من أنّ الإرادة علّة تامّة للتحريك، ولا يمكن تخلّفها عن المراد، حتّى أخذوه كالاُصول الموضوعة، ونسجوا على منواله ما نسجوا(1)، ممّا لم يقم عليه برهان إلاّ ما ذكرنا، ولازم ذلك هو ما عرفت من أنّ الإرادة إذا تعلّقت بتحريك عضلة في الحال ولم يكن مانع في البين تتحرّك إطاعة للنفس.

وأمّا عدم إمكان التعلّق بأمر استقبالي فيحتاج إلى برهان مستأنف، ولم يقم عليه، لو لم نقل بقيامه على إمكانه، وقضاء الوجدان بوقوعه، كيف؟! وإرادة الله تعالى قد تعلّقت أزلاً بإيجاد ما لايزال على الترتيب السببي والمسبّبي، من غير

ص: 294


1- اُنظر نهاية الدراية 2: 73؛ نهاية الأفكار 1: 168 - 169؛ غرر العوائد من درر الفوائد: 34.

إمكان التغيّر والحدوث في ذاته وإرادته كما برهن عليه في محلّه(1).

ولا يمكن أن يقال في حقّه تعالى: كان له الشوق ثمّ صار الإرادة وبلغ حدّ النصاب، وما قرع سمعك: أنّ الإرادة فيه تعالى هو العلم بالنظام الأصلح(2): إن اُريد به اتّحاد صفاته تعالى فهو حقّ، وبهذا النظر كلّها يرجع إلى الوجود الصرف التامّ وفوق التمام.

وإن اُريد نفي صفة الإرادة فهو إلحاد في أسمائه تعالى، ومستلزم للنقص والتركيب والإمكان، تعالى عن ذلك علوّاً كبيراً.

وأمّا الإرادة فينا فليست شوقاً مؤكّداً كما تمور به الألسن موراً(3)، فإنّ الشوق من الصفات الانفعالية للنفس، والإرادة من صفاتها الفعّالة، والشوق لا يبلغ حدّ الباعثية وإن بلغ ما بلغ في الشدّة، والإرادة هي تصميم العزم وإجماع النفس والهمّة، بل قد لا يكون الشوق من مبادئها، فيريد المكروه ولا يريد المشتاق إليه، كمن يشرب الدواء البشيع لتشخيص الصلاح فيه مع النفرة والكراهة الشديدة، ويترك شرب الماء البارد مع شدّة عطشه واشتياقه لشربه؛ تسليماً لحكم العقل بأ نّه مضرّ للاستسقاء.

ثمّ إنّ الإرادة كالشوق تتعلّق بالأمر الحالي والاستقبالي، وليست كالعلل الطبيعية، ولم تكن مطلق الإرادة علّة تامّة لمطلق حركة العضلات، بل العضلات

ص: 295


1- الشفاء، الإلهيات: 363 - 368؛ الحكمة المتعالية 6: 325 - 354، و7: 282.
2- الشفاء، الإلهيات: 363 و415؛ الحكمة المتعالية 6: 316 و333.
3- كفاية الاُصول: 86؛ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 132؛ نهاية الدراية 2: 73.

بما هي تابعة للنفس تكون تحت سلطانها، فإذا أرادت إيجاد أمر في المستقبل لا تتعلّق الإرادة بتحريك العضلات في الحال، بل إن بقيت الإرادة إلى زمان العمل تتعلّق إرادة اُخرى بتحريك العضلات؛ لرؤية توقّف الإيجاد على حركتها، لا لأنّ إرادة الإيجاد محرّكة للعضلات.

مثلاً: إرادة شرب الماء لا يمكن أن تكون محرّكة لعضلات اليد للبطش، بل لمّا ترى النفس توقّف الشرب على تحرّك العضلات، تريد حركتها للتوصّل إلى مطلوبها، فالإرادة المتعلّقة بتحريك العضلات غير الإرادة المتعلّقة بإيجاد المطلوب نوعاً، ألا ترى أنّ المطلوب مراد لذاته وتحريك العضلات توصّلي وغير مشتاق إليه أصلاً ولا مراد بالذات؟!

وما تقدّم منه - أنّ الاشتياق يتعلّق بالمقدّمة من ذي المقدّمة - غير مطّرد؛ لما عرفت آنفاً أنّ الاشتياق لم يكن من مقدّمات الإرادة في جميع الموارد، وفي كثير من الموارد يريد الشيء مع شدّة كراهته له، والحاكم هو الوجدان.

فحينئذٍ نقول: في مثل هذه الأفعال لا يمكن أن يقال: إنّ الإرادة تتعلّق بمقدّماتها، من غير تصميم العزم بإتيان ذي المقدّمة.

ولا أن يقال: إنّ حالتنا الوجدانية بالنظر إلى هذا الفعل وغيره بالنسبة إلى المستقبل سواء؛ لقضاء الوجدان بخلافه.

ولا أن يقال: إنّ الحالة الوجدانية هو العلم بالصلاح فقط، فإنّه أيضاً خلاف الوجدان.

وبالجملة: الوجدان أصدق شاهد بأنّ الإنسان قد يشتاق الأمر الاستقبالي كمال الاشتياق، لكن لا يريده ولا يكون عازماً على إتيانه، وقد يريده ويقصده

ص: 296

من غير اشتياق، بل مع كمال كراهته، ففي الفرض الثاني يتصدّى لإتيان مقدّماته دون الأوّل، ولم يقم برهان يصادم هذا الوجدان، وما قالوا من لزوم انفكاك العلّة عن المعلول، قد عرفت ما فيه.

هذا كلّه في الإرادة التكوينية.

وأمّا التشريعية: فإمكان تعلّقها بأمر استقبالي أوضح من أن يخفى ولو سلّمنا امتناعه في التكوينية؛ فإنّها وإن تتعلّق بالأمر لغرض البعث، ومعه لا بدّ وأن يكون الانبعاث ممكناً، لكن يكفي إمكانه على طبق البعث في إمكانه وصحّته، والبعث إلى أمر استقبالي يقتضي إمكان الانبعاث إليه لا إلى غيره، والأغراض المتعلّقة للبعث في الحال كثيرة، بل قد عرفت أنّ البعث القانوني لا يمكن إلاّ بهذا النحو، فلا ينبغي الإشكال فيه.

إشكال المحقّق النائيني على الواجب المعلّق

ومن الإشكالات في المقام: ما أورده بعض الأعاظم رحمه الله علیه مع تطويل وتفصيل، ولم يأت بشيء إلاّ أنّ القيود الغير الاختيارية لا بدّ وأن تؤخذ مفروضة الوجود وفوق دائرة الطلب، سواء كان لها دخل في مصلحة الوجوب أو الواجب، وسواء كانت القضايا حقيقية أو لا، وعليه بنى بطلان الواجب المعلّق قائلاً:

«إنّ كلّ حكم مشروط بوجود الموضوع بما له من القيود، من غير فرق بين الموقّتات وغيرها، وأيّ خصوصية في الوقت حيث يقال بتقدّم الوجوب عليه دون سائر القيود من البلوغ والاستطاعة مع اشتراك الكلّ في كونها قيداً للموضوع؟! وليت شعري ما الفرق بين الاستطاعة في الحجّ

ص: 297

والوقت في الصوم؟! بل الأمر في الوقت أوضح؛ لأ نّه لا يمكن إلاّ أخذه مفروض الوجود؛ لعدم تعلّق القدرة به، ولا يمكن أن تتعلّق إرادة الفاعل به من وجوه»(1).

وفيه: أنّ قيود المتعلّق والموضوع - أي ما رجعت إلى المادّة - ممتازة عمّا رجعت إلى الهيئة في نفس الأمر، لا يمكن التخلّف عمّا هي عليه، فإذا كان محصّل الغرض هو المتقيّد بأيّ قيد كان، لا يمكن تعلّق الإرادة بالمجرّد عنه؛ لفقدان الملاك فيه، كما أنّه لو كان الملاك في المطلق لم يمكن تعلّق الإرادة بالمقيّد، فسؤال الفرق بين الاستطاعة والتقيّد بالزمان على فرض كونه دخيلاً في تحصيل الغرض، عجيب مع وضوحه.

وظنّي أنّ عمدة ما أوقعه في الإشكال هو دعوى أنّ القيود في المقيّدات تحت الأمر والبعث، ولمّا رأى عدم إمكان البعث إلى الأمر الغير الاختياري أنكر المعلّق(2)،

وهي بمكان من الضعف؛ فإنّ الأمر المتعلّق بالمقيّد لا يمكن أن يتعدّى من متعلّقه إلى أمر آخر، والقيد خارج عن المتعلّق والتقيّد داخل، فالأمر إنّما يتعلّق بالمقيّد لا بالقيد، والعقل يحكم بتحصيل القيد إذا لم يكن حاصلاً، وأمّا مع حصوله بنفسه فلا، فإذا أمر المولى بالصلاة تحت السماء لا يكون ذلك أمراً بإيجاد السماء، بل بإيجاد الصلاة تحتها، وهو أمر مقدور، كذلك الأمر بإيجاد صلاة المغرب ليس أمراً بإيجاد المغرب.

ص: 298


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 186 - 187.
2- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 183.

نعم، لا يمكن الأمر بمقيّد لا يصير قيده موجوداً في ظرفه، ولا يكون تحت اختيار العبد، وأمّا إذا كان موجوداً في ظرف الإتيان أو كان تحت اختياره، فالأمر بالمقيّد ممكن، والواجب مطلق لا مشروط.

تتمّة: في دوران القيد بين الهيئة والمادّة

لو دار أمر قيد بين رجوعه إلى الهيئة أو المادّة، فمع اتّصاله بالكلام لا إشكال في صيرورة الكلام مجملاً، مع عدم ظهور لغوي أو انصراف وقرينة. ومع انفصاله أيضاً كذلك؛ إذ لا مرجّح لرجوعه إلى أحدهما إلاّ ما عن المحقّق صاحب الحاشية نقلاً عن بعض: من أنّ الرجوع إلى الهيئة مستلزم لرجوعه إلى المادّة دون العكس، فدار الأمر بين تقييد وتقييدين(1)، وهو كما ترى، وإلاّ ما عن الشيخ الأعظم من وجهين:

حول الوجهين المنقولين عن الشيخ لترجيح رجوع القيد إلى المادّة

أحدهما: أنّ إطلاق الهيئة شمولي كالعامّ، وإطلاق المادّة بدلي، وتقييد الثاني أولى(2).

وقرّر بعض الأعاظم وجه تقديمه: بأنّ تقديم الإطلاق البدلي يقتضي رفع اليد عن الإطلاق الشمولي في بعض مدلوله، بخلاف تقديم الشمولي؛ فإنّه لا يقتضي رفع اليد عن الإطلاق البدلي، فإنّ المفروض أنّه الواحد على البدل، وهو

ص: 299


1- هداية المسترشدين 2: 98.
2- مطارح الأنظار 1: 252.

محفوظ، غاية الأمر أنّ دائرته كانت وسيعة فصارت ضيّقة.

وببيان آخر: أنّ البدلي يحتاج - زائداً على كون المولى في مقام البيان - إلى إحراز تساوي الأفراد في الوفاء بالغرض؛ حتّى يحكم العقل بالتخيير، بخلاف الإطلاق الشمولي، فإنّه لا يحتاج إلى أزيد من ورود النهي على الطبيعة الغير المقيّدة، فيسري الحكم إلى الأفراد قهراً، فمع الإطلاق الشمولي لا يحرز تساوي الأفراد، فيكون الشمولي حاكماً على البدلي(1)، انتهى ملخّصاً.

أقول: التحقيق أنّ تقسيم الإطلاق إلى الشمولي والبدلي غير صحيح، لا في المقام ولا في باب المطلق والمقيّد، أمّا هناك فلأنّ اللفظ الموضوع للطبيعة أو لغيرها لا يمكن أن يدلّ ويحكي عن شيء آخر وراء الموضوع له، وخصوصيات الأفراد أو الحالات لا بدّ لإفادتها من دالّ آخر، ومقدّمات الحكمة لا تجعل غير الدالّ دالاًّ وغير الحاكي حاكياً.

فلا يستفاد من مقدّمات الحكمة إلاّ كون ما جعل موضوعاً تمام الموضوع للحكم، من غير دخالة قيد آخر فيه، وهذا ليس من قبيل دلالة اللفظ، ففي قوله: )أَحَلَّ الله الْبَيْعَ((2) بعد مقدّمات الحكمة يحكم العقلاء بأنّ الطبيعة من غير دخالة شيء فيها محكومة بالحلّية لا أفرادها؛ فإنّها ليست مفاد اللفظ، ولا مفاد الإطلاق ومقدّمات الحكمة.

فالإطلاق الشمولي ممّا لا معنى محصّل له، كما أنّ الأمر كذلك في الإطلاق البدلي أيضاً؛ فإنّ قوله: «أعتق رقبة» لا يستفاد منه البدلية، لا من اللفظ

ص: 300


1- أجود التقريرات 1: 235 - 236.
2- البقرة (2): 275.

[ولا من التنوين]؛ فإنّ الرقبة وضعت لنفس الطبيعة، والتنوين إذا كان للتنكير يدلّ على تقيّدها بقيد الوحدة الغير المعيّنة لكن بالمعنى الحرفي، وذلك غير البدلية كما يأتي في العامّ والخاصّ توضيحه(1). وأمّا كونها تمام الموضوع فيستفاد من مقدّمات الحكمة، لا الوضع.

فما هو مفاد الإطلاق في المقامين شيء واحد هو كون ما جعل موضوعاً تمام الموضوع من غير تقييد، وأمّا الشمول والبدلية فغير مربوطين بالإطلاق رأساً، بل هما من تقسيمات العامّ، فدوران الأمر بين الإطلاق الشمولي والبدلي ممّا لا معنى محصّل له؛ حتّى يتنازع في ترجيح أحدهما.

وأمّا استفادة الشمول والبدلية من دليل لفظي فغير مربوطة بما نحن فيه، ومع التسليم فتقديم أحدهما على الآخر ممّا لا وجه له.

وأمّا دعوى أنّ تقييد الشمولي تصرّف في الدليل، دون البدلي؛ فإنّه على مفاده وإن صارت دائرته مضيّقة، فمن غريب الدعاوى؛ فإنّ التضييق تصرّف وتقييد، ومعه كيف لا يرفع اليد عن الدليل؟!

كدعوى أنّ البدلي يحتاج إلى أمر زائد عن مقدّمات الحكمة لإثبات تساوي الأفراد، بخلاف الشمولي، فإنّ نفس تعلّق النهي يكفي للسراية؛ ضرورة أنّ المستفاد من مقدّمات الحكمة هو عدم دخالة قيد في موضوع الحكم، وهذا معنى تساوي الأفراد.

وأمّا دعوى كفاية نفس تعلّق الحكم للسراية إلى الأفراد بخصوصياتها،

ص: 301


1- يأتي في الجزء الثاني: 207.

فممنوعة حتّى بعد جريان مقدّمات الحكمة؛ لأنّ التحقيق - كما يأتي في محلّه(1) أنّ الحكم في الإطلاق لا يسري إلى الأفراد؛ لا شمولياً ولا بدلياً.

هذا كلّه في غير المقام.

وأمّا فيه ممّا تعلّق البعث بالطبيعة كقوله: «أكرم عالماً»، فالإطلاق الشمولي في الهيئة والبدلي في المادّة - بعد تسليم صحّتهما في غير المقام - ممّا لا يعقل؛ فإنّ معنى الشمولي أن يكون البعث على جميع التقادير عرضاً، كما مثّلوا له بالعامّ(2)؛ بحيث يكون في كلّ تقدير إيجاب ووجوب، ومعه كيف يمكن أن يكون إطلاق المادّة بدلياً؟! فهل يمكن أن تتعلّق إرادات أو إيجابات في عرض واحد بفردٍ ما؟!

والقول بأنّ المراد من الشمولي هو كون البعث واحداً لكن من غير تقييد بقيد، فالمراد من وجوبه على كلّ تقدير أنّه لا يتعلّق الوجوب بتقدير خاصّ، رجوع عن الإطلاق الشمولي، فحينئذٍ لا فرق بين إطلاق المادّة والهيئة؛ فإنّ المادّة أيضاً

مطلقة بهذا المعنى.

والإنصاف: أنّ الإطلاق الشمولي والبدلي ممّا لا معنى محصّل لهما، وفيما نحن فيه غير معقولين، ومع معقوليتهما لا وجه لتقديم التقييد في أحدهما على الآخر.

الوجه الثاني: أنّ تقييد الهيئة يوجب بطلان محلّ الإطلاق في المادّة،

ص: 302


1- يأتي في الجزء الثاني: 277 و288.
2- مطارح الأنظار 1: 252؛ كفاية الاُصول: 133.

بخلاف العكس، وكلّما دار الأمر بين التقييدين كذلك كان تقييد ما لا يوجب ذلك أولى.

أمّا الصغرى: فإنّه لا يبقى مع تقييد الهيئة محلّ بيان لإطلاق المادّة؛ لأ نّها لا تنفكّ عن وجود قيد الهيئة، بخلاف تقييد المادّة؛ فإنّ محلّ الحاجة إلى إطلاق الهيئة على حاله، فيمكن الحكم بالوجوب على تقدير وجود القيد وعدمه.

وأمّا الكبرى: فلأنّ التقييد خلاف الأصل، ولا فرق بينه وبين ما يوجب بطلان محلّه في الأثر(1).

وفيه: - بعد معلومية أنّ قيود كلّ من الهيئة والمادّة لا ترجع إلى صاحبتها، وأنّ لكلٍّ مورداً خاصّاً ثبوتاً - أنّ تقييد كلّ منهما يوجب نحو تضييق لصاحبتها وإبطالاً لمحلّ إطلاقها؛ فإنّ إطلاق «أكرم زيداً» يقتضي الوجوب بلا قيد، كما يقتضي وجوب نفس طبيعة الإكرام من غير تقييد.

فإذا رجع قيد إلى الهيئة - نحو «إن جاء زيد فأكرمه» - تكون الهيئة مقيّدة دون المادّة؛ أي يجب على فرض مجيئه نفس طبيعة الإكرام بلا قيد، لكن يوجب ذلك تضييقاً قهرياً في الإكرام أيضاً، لا بمعنى التقييد، بل بمعنى إبطال محلّ الإطلاق.

وكذلك إذا ورد قيد على المادّة نحو «أكرمه إكراماً حال مجيئه»؛ فإنّ الهيئة مطلقة ولو من جهة تحقّق المجيء ولا تحقّقه كما في الواجب المعلّق، لكن مع ذلك لا تدعو إلى نفس الإكرام بلا قيد، ف «أكرم» بعث إلى نفس

ص: 303


1- مطارح الأنظار 1: 253.

الطبيعة، و«أكرم إكراماً حال مجيئه» بعث إليها مقيّدة لا مطلقة، فدائرة البعث في الفرض الأوّل أوسع منها في الثاني.

فقوله في بيان بقاء محلّ الإطلاق في طرف الهيئة - من إمكان الحكم بالوجوب على تقدير وجود القيد وعدمه - لا يخلو من خلط؛ فإنّ الواجب المعلّق وإن كان مطلقاً من حيث تحقّق القيد وعدمه، لكن دائرة دعوته أضيق من المطلق من القيد، فبالنسبة إلى غير محلّ القيد يبطل محلّ إطلاقه وإن لم يصر مقيَّداً، فلا فرق بين تقييد الهيئة والمادّة؛ لا من جهة أنّ تقييد كلّ لا يوجب تقييد

الآخر، ولا من جهة أنّ تقييده يوجب إبطال محلّ إطلاقه، ففرق بين البعث قبل وجود القيد وبينه بالنسبة إلى المقيّد لا المطلق.

وبما ذكرنا يتّضح عدم تمامية ما في تقريرات بعض المحقّقين: من أنّ تقييد المادّة معلوم تفصيلاً؛ لأ نّها إمّا مقيّدة ذاتاً، أو تبعاً، وتقييد الهيئة مشكوك فيه

بدوياً، فيصحّ التمسّك بإطلاقها لإلغائه(1).

لأ نّه يرد عليه: - مضافاً إلى ما ذكرنا في بيان عدم الفرق بينهما - أنّ إبطال محلّ الإطلاق غير التقييد ولو تبعاً، فلا يكون تقييدها متيقّناً.

ثمّ إنّه - مع تسليم الصغرى - لمنع الكبرى أيضاً مجال؛ لعدم الدليل على الترجيح المذكور.

ص: 304


1- بدائع الأفكار (تقريرات المحقّق العراقي) الآملي 1: 366.
الواجب النفسي والغيري

ومن تقسيمات الواجب: تقسيمه إلى النفسي والغيري، ولا يخفى: أنّ إرادة الفاعل والآمر لشيء وإن كانت لأغراض متصاعدة إلى أن تبلغ إلى ما هو المقصود بالذات، لكن تقسيم الواجب إلى أقسامه ليس باعتبار الإرادة أو الغرض؛ فإنّهما خارجان عن اعتبار الوجوب والواجب، بل تقسيم الواجب إلى النفسي والغيري باعتبار تعلّق البعث والوجوب، فقد يتعلّق البعث بشيء لأجل التوصّل إلى مبعوث إليه فوقه وتوقّفه عليه، وقد يتعلّق به من غير أن يكون فوقه مبعوث إليه، فالأوّل غيري، والثاني نفسي.

ولا يرد على هذا ما قد يقال: من أنّ الواجبات مطلقاً [مطلوبة] لأجل

التوصّل إلى أغراض ولأجل حصول ملاكات، فتكون كلّها غيريات(1).

وذلك لأنّ التقسيم باعتبار الوجوب والبعث من غير دخالة الأغراض والملاكات فيه.

فإذا أمر المولى ببناء مسجد ولم يكن فوق ذلك أمر متوجّه إلى المأمور يكون ذلك نفسياً وإن كان لأجل غرض، وإذا أمر ذلك المأمور بإحضار الأحجار والأخشاب لأجل التوصّل إلى ذلك المبعوث إليه وتوقّفه عليها يكون غيرياً، لكن إذا صدر منه أوامر ابتداءً إلى أشخاص، فأمر شخصاً بشراء الأحجار، وآخر بإحضارها، وثالثاً بتحجيرها وتنقيشها، تكون تلك الأوامر نفسية، وإذا أمر

ص: 305


1- مطارح الأنظار 1: 330.

لأجل التوصّل إلى تلك المبعوث إليها يكون غيرياً، مع أنّ كلّها لأغراض، وهي ترجع إلى غرض أقصى فوقها، والأمر سهل.

مقتضى الأصل اللفظي عند الشكّ في الغيرية

ثمّ إذا شككنا في واجب بأ نّه نفسي أو غيري يحمل على النفسي لأجل الانصراف كما لا يبعد، لا بمعنى انصراف جامع إلى أحد أقسامه؛ فإنّ التحقيق أنّ الموضوع له في الهيئة خاصّ، وأنّها في النفسي والغيري لا تستعمل إلاّ استعمالاً إيجادياً لنفس البعث والإغراء، والنفسية والغيرية انتزاعيتان، لا من مقوّماته، بل لمّا كان البعث لأجل الغير نادراً، لا يعتني باحتماله العقلاء.

ويمكن أن يقال: إنّ البعث المتعلّق بشيء حجّة على العبد، ولا يجوز التقاعد عن طاعته باحتمال كونه مقدّمة لغيره إذا سقط أمره.

وأمّا ما قيل: من أنّ الإطلاق يرفع القيد الزائد(1) فغير تامّ؛ لأنّ كلاًّ من النفسية والغيرية متقوّم بقيد زائد على فرض كون البعث موضوعاً لجامعهما، مع أنّه خلاف التحقيق.

وقد يقال: إنّ الوجوب الغيري لمّا كان مترشّحاً عن وجوب الغير كان وجوبه مشروطاً بوجوب الغير، كما أنّ الغير يكون مشروطاً بالواجب الغيري، فيكون وجوب الغير من المقدّمات الوجوبية للواجب الغيري، ووجود الواجب الغيري من المقدّمات الوجودية لذلك الغير، كالصلاة والوضوء، فهي مشروطة به ووجوبه مشروط بوجوبها، فحينئذٍ يرجع الشكّ في كون وجوب غيرياً إلى

ص: 306


1- كفاية الاُصول: 136.

شكّين: أحدهما الشكّ في تقييد وجوبه بوجوب الغير، وثانيهما الشكّ في تقييد مادّة الغير به، فيرفع الشكّان بإطلاق المادّة والهيئة، بل إطلاق أحدهما كافٍ لرفعهما؛ لحجّية مثبتات الاُصول اللفظية(1)، انتهى ملخّصاً.

وفيه: - مضافاً إلى أنّ تقييد المادّة إنّما يكون في بعض الواجبات الغيرية كالشرائط، لا في جميعها كنصب السلّم بالنسبة إلى الصعود - أنّ الوجوب الغيري إذا كان مترشّحاً من النفسي - كما هو ظاهرهم(2) - يكون معلوله، ولا يمكن أن يكون المعلول متقيّداً ومشروطاً بعلّته؛ بحيث يكون المعلول هو المشروط بما هو كذلك، فإنّ الوجوب الغيري على فرض المعلولية يكون بحقيقته وهويّته معلولاً، واشتراط الشيء فرع وجوده؛ ضرورة أنّ المعدوم لا يمكن أن يشترط بشيء، فلا بدّ وأن يكون الواجب الغيري متحقّقاً قبل تحقّقه حتّى يكون المشروط بما هو مشروط معلولاً.

وبالجملة: تقييد المعلول بوجود علّته مستلزم لوجوده قبل وجودها أو اشتراط المعدوم في حال عدمه، وأمّا المعلولية وتوقّف وجود شيء على وجود شيء آخر فغير اشتراطه به، واستناد المعلول إلى العلّة وضيقه الذاتي غير التقيّد والاشتراط، فالتمسّك بإطلاق الهيئة لرفع الشكّ ممّا لا مجال له.

هذا حال الاُصول اللفظية.

ص: 307


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 220 - 222.
2- كفاية الاُصول: 130؛ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 220؛ نهاية الأفكار 1: 303.
مقتضى الأصل العملي عند الشكّ في الغيرية
اشارة

أمّا الأصل العملي، فقد قال بعض الأعاظم فيه: إنّ الشكّ في الوجوب الغيري على أقسام:

الأوّل: إذا علم بوجوب الغير والغيري من دون اشتراط وجوب الغير بشرط غير حاصل، كما إذا علم بعد الزوال بوجوب الوضوء والصلاة، وشكّ في وجوب الوضوء أنّه غيري أو نفسي، ففي هذا القسم يرجع الشكّ إلى تقييد الصلاة بالوضوء، فيكون مجرى البراءة؛ لكونه من صغريات الأقلّ والأكثر الارتباطيين، وأمّا الوضوء فيجب على أيّ حال نفسياً كان أو غيرياً(1).

وفيه: أنّ إجراء البراءة في الصلاة غير جائز بعد العلم الإجمالي بوجوب الوضوء نفسياً أو وجوب الصلاة المتقيّدة به، والعلم التفصيلي بوجوب الوضوء الأعمّ من النفسي والغيري لا يوجب انحلاله إلاّ على وجه محال، كما اعترف به القائل في الأقلّ والأكثر، فراجع كلامه في بابهما(2).

ثمّ قال: القسم الثاني: ما إذا علم بوجوب الغير والغيري، لكن كان وجوب الغير مشروطاً بشرط غير حاصل، كالوضوء قبل الوقت بناءً على اشتراط الصلاة بالوقت، ففي هذا القسم لا مانع من جريان البراءة؛ لعدم العلم بالوجوب الفعلي قبل الوقت(3).

ص: 308


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 222 - 223.
2- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4: 159 - 162.
3- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 223.

وفيه: أنّ ذلك يرجع إلى العلم الإجمالي بوجوب الوضوء نفساً، أو وجوب الصلاة المتقيّدة به بعد الوقت، والعلم الإجمالي بالواجب المشروط إذا علم تحقّق شرطه أو الواجب المطلق في الحال منجّز عقلاً، فيجب عليه الوضوء في الحال، والصلاة مع الوضوء بعد حضور الوقت.

نعم، لو قلنا بعدم منجّزية العلم الإجمالي المذكور كان إجراء البراءة في الطرفين بلا مانع، لكنّه خلاف التحقيق، وقد اعترف بتنجيز العلم الإجمالي في التدريجيات ولو كان للزمان دخل خطاباً وملاكاً، فراجع كلامه في الاشتغال(1).

ثمّ قال: القسم الثالث: ما إذا علم بوجوب ما شكّ في غيريته ولكن شكّ في وجوب الغير، كما إذا شكّ في وجوب الصلاة في المثال المتقدّم وعلم بوجوب الوضوء، ولكن شكّ في كونه غيرياً حتّى لا يجب لعدم وجوب الصلاة ظاهراً بمقتضى البراءة، أو نفسياً حتّى يجب، ففي هذا القسم يجب الوضوء دون الصلاة؛ لأ نّه من قبيل الأقلّ والأكثر الارتباطيين؛ حيث إنّ العلم بوجوب ما عدا السورة مع الشكّ في وجوبها يقتضي وجوب امتثال ما علم، ولا يجوز إجراء البراءة فيه، مع أنّه يحتمل كون ما عدا السورة واجباً غيرياً، وكون المقام من قبيل المقدّمات الخارجية وهناك من الداخلية لا يوجب فارقاً(2).

وفيه: أنّ العلم التفصيلي بوجوب الوضوء وتردّده بين الوجوب النفسي والغيري، لا يمكن إلاّ مع العلم الإجمالي بوجوب الصلاة المتقيّدة بالوضوء أو

ص: 309


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4: 110 - 112.
2- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 223 - 224.

وجوب الوضوء نفسياً، وهذا العلم الإجمالي لاينحلّ إلاّ بوجه محال، كما عرفت.

وتصوّر الشكّ البدوي للصلاة مع العلم التفصيلي الكذائي بوجوب الوضوء جمع بين المتنافيين، والعجب منه حيث قال: «وعلم بوجوب الوضوء، ولكن شكّ في كونه غيرياً حتّى لا يجب...» كيف جمع بين العلم بالوجوب والشكّ فيه؟!

ثمّ إنّ الفرق بين المقام والأقلّ والأكثر في الأجزاء واضح، اعترف به في باب الأقلّ والأكثر(1)، وأوضحنا سبيله؛ فإنّ المانع من الانحلال هو الدوران بين النفسية والغيرية، وفي الأجزاء ليس الدوران بينهما، والتفصيل موكول إلى محلّه(2).

بقي في المقام تنبيهات:

التنبيه الأوّل في ترتّب الثواب والعقاب على التكاليف الغيرية

اختلفت الأنظار في كيفية الثواب والعقاب الاُخرويين:

فذهب بعض إلى أنّها من قبيل التمثّل الملكوتي عملاً وخلقاً واعتقاداً، وأنّ النفس بواسطة الأعمال الحسنة تستعدّ لإعطاء كمال تقتدر به على تمثيل الصور الغيبية البهيّة، وإيجاد الحور والقصور، وكذا في جانب الأعمال السيّئة، وكذا الحال في الأخلاق والعقائد على ما فصّلوا في كتبهم(3).

ص: 310


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4: 157.
2- أنوار الهداية 2: 263.
3- الحكمة المتعالية 7: 82، و9: 175 - 179 و290 - 296.

وذهب آخر إلى أنّهما بحسب الجعل(1)، كالجعل في الجعالة، وكالجزائيات العرفية في الحكومات السياسية، كباب الحدود، كما هو ظاهر الكتاب والسنّة، كقوله تعالى: )مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا((2) إلى غير ذلك.

وذهب آخر إلى أنّهما بالاستحقاق وجزاء العمل(3)، بمعنى أنّه لو أمر الله تعالى بشيء، فعمله أحد وتركه الآخر، يكون المطيع مستحقّاً من الله تعالى أجر عمله، ولا يجوز له تعالى التخلّف عنه عقلاً، والعاصي مستحقّاً للعقوبة، لكن يجوز له العفو.

ثمّ إنّه بناءً على المسلك الأوّل، يكون الاستحقاق واللااستحقاق بمعنى غير ما هو المعروف لدى الناس، وأمّا بناءً على جعلية الثواب فلا إشكال في قبح تخلّفه بعد الجعل؛ للزومِ الكذب لو أخبر عنه مع علمه بالتخلّف، وتخلّفِ الوعد والعهد مع الإنشاء. وقبحهما وامتناعهما عليه تعالى واضحان، ولا كلام فيهما.

وإنّما الكلام في أنّ إطاعة أوامره تعالى هل توجب الاستحقاق، أو لا، ويكون الإعطاء على سبيل التفضّل؟

والحقّ: أنّ من عرف مقامه تعالى ونسبته إلى الخلق ونسبة الخلق إليه، وتأمّل في قوى العبد وأعضائه ونسبتهما إلى بارئهما جلّ شأنه، لا يتفوّه

ص: 311


1- تشريح الاُصول: 111 / السطر 13 و: 114 / السطر 10.
2- الأنعام (6): 160.
3- كشف المراد: 407 - 408؛ إرشاد الطالبين إلى نهج المسترشدين: 411 - 413.

بأنّ صَرف بعض نعمه في طريق طاعته تعالى موجب للاستحقاق، والأولى إيكال هذه المباحث إلى أهلها ومحلّها.

ثمّ إنّه بعد البناء على الاستحقاق في الواجبات النفسية، هل يكون الواجب الغيري مثلها فيه أم لا؟

وأمّا بناءً على المسلك الأوّل - من كون الثواب والعقاب من قبيل اللوازم والتمثّلات الملكوتية - فالعلم بخصوصياتها وتناسب الأفعال وصورها الغيبية لا يمكن لأمثالنا.

نعم، لا شبهة في أنّ الإتيان بالمقدّمات لأجل الله تعالى موجب لصفاء النفس وتحكيم ملكة الانقياد والطاعة، ولها - بحسب مراتب النيّات وخلوصها - تأثيرات في العوالم الغيبية.

وبناءً على مسلك الجعل: فالثواب تابع للجعل، فقد يجعل على ذي المقدّمة، وقد يجعل عليها أيضاً، كما في زيارة مولانا أبي عبدالله الحسين علیه السلام حيث ورد الثواب على كلّ خطوة لمن زاره ماشياً(1). وهذا المسلك غير بعيد في الجملة، ومعه لا إشكال في الثواب الوارد على المقدّمات، والالتزام بكونها عبادة بنفسها بعيد عن الصواب.

وأمّا بناءً على المسلك الأخير: فالتحقيق عدم الاستحقاق على الغيريات؛ لأنّ الاستحقاق إنّما هو على الطاعة، ولا يعقل ذلك في الأوامر الغيرية؛ لأ نّها

ص: 312


1- راجع كامل الزيارات: 252، الباب 49؛ وسائل الشيعة 14: 439، كتاب الحجّ، أبواب المزار وما يناسبه، الباب 41.

لا يمكن أن تبعث نحو متعلّقاتها؛ فإنّ المكلّف بذي المقدّمة: إمّا أن يكون عازماً على إتيانه ويكون أمره داعياً إليه، أو لا:

فعلى الأوّل: تتعلّق - لا محالة - إرادته بما يراه مقدّمة. وعلى الثاني: لا يمكن أن تتعلّق إرادته بها من حيث مقدّميتها. فلا يمكن أن يكون الأمر الغيري بما هو كذلك داعياً وباعثاً مطلقاً، وما هو كذلك لا يعقل استحقاق الثواب عليه.

وأمّا استحقاق الثواب عليها باعتبار الواجب النفسي(1) فهو أيضاً غير صحيح؛ فإنّ الآتي بالمقدّمات لأجل الإتيان بالواجب النفسي، لو لم يأت به لعذر أو لغيره لم يأت بمتعلّق الأمر النفسي، ومعه لا يعقل الاستحقاق بالمعنى الذي هو مورد البحث؛ أي كون ترك الثواب ظلماً وقبيحاً؛ لأنّ استحقاق من لم يأت به: إمّا للأمر الغيري فقد عرفت حاله، وإمّا للأمر النفسي فمع عدم الإتيان بمتعلّقه لا وجه للاستحقاق.

فلو أمر شخص أحداً بردّ ضالّته، فتحمّل المشقّة الكثيرة ولم يوفّق إلى ردّها ورجع صفر الكفّ، فطالب بالأجر، فهل تراه محقّاً أو مبطلاً؟ لا أظنّك - بعد تشخيص محلّ النزاع - أن تشكّ في عدم الاستحقاق.

نعم، إذا كان لذي المقدّمة مقدّمات كثيرة وتحصيلها مستلزم للمشقّات، يكون أجر نفس العمل بحسب المقدّمات مختلفاً، لا بمعنى التقسيط عليها، بل يكون التفاوت بلحاظها، فالآتي بالحجّ من البلاد النائية بأمر شخص يكون اُجرته أكثر [من اُجرة الآتي بالحجّ] من غيرها، ولو أتى بجميع المقدّمات ولم يأت بالحجّ

ص: 313


1- لمحات الاُصول: 122 - 123.

فليس له استحقاق للاُجرة؛ لعدم الإتيان بمتعلّق الأمر، فكذا الحال في أوامره تعالى بناءً على الاستحقاق.

وظنّي أنّهم خلطوا بين الاستحقاق وممدوحية العبد؛ بمعنى إدراك العقل صفاء نفسه، وكونه بصدد إطاعة أمره، وكونه ذا ملكة فاضلة وسريرة حسنة؛ ضرورة أنّ الآتي بالمقدّمات مع عدم توفيقه لإتيان ذي المقدّمة ممدوح، لا مستحقّ للأجر بالمعنى المتقدّم.

وأمّا ما ربّما يقال: من أنّ الآتي بالمقدّمة بقصد التوصّل إلى ذي المقدّمة مشتغل بامتثال الواجب النفسي ومستحقّ للمدح والثواب، وهما من رشحات الثواب الذي للواجب النفسي(1).

ففيه: أنّ الاشتغال بالواجب النفسي لا يكون إلاّ بالشروع فيه نفسه لا مقدّماته، ولو اُطلق عليه لا يكون إلاّ من باب التوسّع، وهو لا يوجب شيئاً.

مع أنّ مجرّد الاشتغال بالنفسي أيضاً لا يوجب الاستحقاق، فالاشتغال بالصلاة لا يوجب استحقاق الأجر عند الله، ولا الاُجرة على الآمر أو المستأجر، وإنّما الأجر والاُجرة على الإتيان بمتعلّق الأمر، ولا يكون ذلك إلاّ بإتمام الواجب، والأمر لا يقسّط على أجزاء المتعلّق كما مرّ في الصحيح والأعمّ(2).

وأمّا رشح ثواب الواجب النفسي على المقدّمات، فممّا لا يرجع إلى محصّل ومعنىً معقول، مع أنّه على فرض صحّته لازمه عدم كثرة الثواب مع كثرة

ص: 314


1- بدائع الأفكار (تقريرات المحقّق العراقي) الآملي 1: 375 - 376.
2- تقدّم في الصفحة 111.

المقدّمات؛ لأنّ ثواب الواجب النفسي على الفرض مقدار محدود يترشّح منه إلى المقدّمات، فكلّما كثرت المقدّمات يقسّط ذلك الثواب عليها، فيكون الثواب مقداراً محدوداً لا يتجاوزه؛ قلّت المقدّمات أو كثرت.

إلاّ أن يقال: إنّ كثرة المقدّمات توجب كثرة الثواب بلحاظها على ذي المقدّمة، ثمّ يترشّح منه إليها، وهذا خيال في خيال.

التنبيه الثاني في الإشكالات الواردة على الطهارات الثلاث

قد استشكل في الطهارات الثلاث التي جعلت مقدّمة للعبادة بوجوه:

الأوّل: أنّه لا إشكال في ترتّب الثواب عليها، مع أنّ الواجب الغيري لا يترتّب عليه ثواب(1).

ويمكن [دفعه]: بأنّ الثواب جعلي ليس باستحقاقي، وهو تابع للجعل، وقد يجعل على المقدّمات، لكن سيأتي [دفعه] بوجه آخر.

الثاني: لزوم الدور؛ فإنّ الطهارات بما هي عبادات جعلت مقدّمة، وعباديتها تتوقّف على الأمر الغيري، ولا يترشّح الوجوب الغيري إلاّ إلى ما هو مقدّمة، فكلّ من الأمر الغيري والعبادية يتوقّف على صاحبه(2).

ص: 315


1- اُنظر مطارح الأنظار 1: 347؛ كفاية الاُصول: 139.
2- الطهارة، ضمن تراث الشيخ الأعظم 2: 54؛ اُنظر فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 227.

وقد يقرّر الدور: بأنّ الأمر الغيري لا يدعو إلاّ إلى ما هو مقدّمة، والمقدّمة هاهنا ما يؤتى بها بداعوية الأمر الغيري؛ فإنّ نفس الأفعال الخاصّة لم تكن مقدّمة بأيّ نحو اتّفقت، فيلزم أن يكون الأمر داعياً إلى داعوية نفسه(1).

ويمكن [دفعه]: بأنّ ذات الأفعال بما هي لمّا كانت مقدّمة تكون مأموراً بها بناءً على الملازمة، وقيدها - أي إتيانها بداعوية أمرها - أيضاً مأمور به بملاك المقدّمية.

مع أنّ إشكال الدور مطلقاً قد دفع في محلّه(2)، والأمر هاهنا أهون؛ لما عرفت من أنّ ذوات الأفعال مأمور بها لأجل المقدّمية، لكن هذا الجواب إلزامي، وإلاّ فقد عرفت أنّ الأمر الغيري لا يصلح للداعوية، والداعي لإتيان المقدّمة بما هي كذلك لا يكون إلاّ الأمر النفسي المتعلّق بذي المقدّمة، وسيأتي الجواب عن جميع الإشكالات إن شاء الله.

والثالث: - وهو العمدة - أنّ الأوامر الغيرية توصّلية لا يعتبر في سقوطها قصد التعبّد، مع أنّ الطهارات معتبر فيها قصده بلا إشكال(3).

والتحقيق: أنّ الطهارات الثلاث بما هي عبادات جعلت مقدّمة للصلاة وغيرها، وعباديتها لا تتوقّف على الأمر الغيري حتّى ترد الإشكالات المتقدّمة، بل التحقيق: أنّ المعتبر في صحّة العبادة ليس الأمر الفعلي النفسي أيضاً، بل مناط الصحّة صلوح الشيء للتعبّد به، وهذا ممّا لا يمكن الاطّلاع عليه غالباً إلاّ

ص: 316


1- لمحات الاُصول: 123.
2- تقدّم في الصفحة 202 وما بعدها.
3- اُنظر مطارح الأنظار 1: 349؛ كفاية الاُصول: 139.

بوحي الله تعالى، وبعد ما علم صلوح شيء للتعبّد به واُتي به بقصد التقرّب إليه تعالى يقع صحيحاً، قصد الأمر أو لا، بل لا يبعد دعوى ارتكاز المتشرّعة في إتيان الواجبات التعبّدية بقصد التقرّب إليه تعالى مع الغفلة عن الأمر بها، تأمّل. فلو فرض سقوط الأمر بواسطة عروض شيء، فأتى به متقرّباً، تكون العبادة صحيحة.

فإن قلت: إنّ ذلك لا يتمّ في التيمّم؛ فإنّه ليس عبادة نفسية، والاستشهاد لعباديته بظواهر بعض الأخبار - على فرض التسليم - ليس في محلّه؛ لإعراض الأصحاب عنها(1).

قلت: يمكن أن يقال: إنّه عبادة في ظرف خاصّ، وهو حال كونه مأتيّاً به بقصد التوصّل إلى الغايات.

ويمكن أن يقال: إنّه صالح ذاتاً للعبادية، لكن في غير ذلك الظرف ينطبق عليه عنوان مانع عن عباديته الفعلية.

فإن قلت: إذا أتى المكلّف بالطهارات بداعوية الأمر الغيري ولأجل التوصّل إلى الغايات مع الغفلة عن الأوامر النفسية أو عباديتها في نفسها تقع صحيحة، بل في ارتكاز المتشرّعة إتيانها لأجل الغير لا لأجل رجحانها النفسي.

قلت: كلاّ؛ فإنّه لو أتى بها لصرف التوصّل إلى الغايات من غير قصد التعبّد والتقرّب بها تقع باطلة قطعاً، وارتكاز المتشرّعة على خلاف ما ذكرت، بل كلّ متشرّع يرى من نفسه أنّ إتيانه للستر وغسل الثوب لأجل التوصّل إلى الصلاة مخالف لإتيانه بالطهارات لأجل التوصّل إليها، فإنّ فيها يقصد التعبّد بها ويجعل

ص: 317


1- بدائع الأفكار (تقريرات المحقّق العراقي) الآملي 1: 380.

ما هو عبادة وسيلةً للتوصّل إلى الغايات، فيأتي بالوضوء المتقرّب به إليه تعالى للصلاة، وإن كان غافلاً عن أمره النفسي، لكنّه غير غافل عن التعبّد والتقرّب به، ولا يحتاج في عبادية الشيء ووقوعه صحيحاً زائداً عن قصد التقرّب بما هو صالح للتعبّد به إلى شيء آخر، فالأمر النفسي المتعلّق بذي المقدّمة يدعو إلى الوضوء بقصد التقرّب؛ فإنّه مقدّمة للصلاة، فلا محالة يأتي المكلّف به كذلك.

وبما ذكر ينحلّ جميع الشبهات المتقدّمة؛ لأنّ ترتّب الثواب لأجل إتيانها على وجه العبودية، وشبهة الدور إنّما ترد لو قلنا بأنّ عباديتها موقوفة على الأمر الغيري.

ثمّ إنّ هاهنا أجوبة غير تامّة في نفسها أو غير دافعة لجميع الشبهات، لا داعي لذكرها وما فيها بعد تحقيق الحقّ.

وما ذكرنا يقرب ممّا ذكره المحقّق الخراساني(1)، وإن اختلف معه من بعض الجهات، ويسلم عن بعض المناقشات الواردة عليه.

التنبيه الثالث في منشأ عبادية الطهارات

قد ظهر ممّا مرّ: أنّ الطهارات بما هي عبادات جعلت مقدّمة للصلاة، وأمّا صيرورتها عبادة بواسطة الأمر الغيري أو النفسي المتعلّق بذي المقدّمة فغير صحيحة:

ص: 318


1- كفاية الاُصول: 139 - 140.

أمّا الغيري: فلأ نّه - بعد تسليم إمكان داعويته، والغضّ عمّا تقدّم من الإشكال فيه - أنّ دعوته ليست إلاّ إلى إتيان المقدّمة للتوصّل إلى ذي المقدّمة، وليست له نفسية وصلاحية للتقرّب، ولم تكن المقدّمة محبوبة للمولى، بل لو أمكنه أن يأمر بإتيان ذي المقدّمة مع عدم الإتيان بمقدّمته لأمر أحياناً، فالأمر

بها - على فرضه - من جهة اللابدّية، ومثل ذلك لا يصلح للمقرّبية، ولهذا لو أتى بالمقدّمة بناءً على وجوب المقدّمة المطلقة بانياً على عدم إتيان ذي المقدّمة لم يصر مقرّباً.

وأمّا بواسطة الأمر النفسي المتعلّق بذي المقدّمة: فلأنّ الأمر النفسي لا يدعو إلاّ إلى متعلّقه، ولا يعقل أن يدعو إلى المقدّمات؛ لعدم تعلّقه بها، فلا يكون الإتيان بها إطاعة له، بل مقدّمة لها. وما قيل: من أنّه نحو شروع في الواجب النفسي قد تقدّم ما فيه(1).

فالإتيان بالمقدّمة: إمّا يكون بحكم العقل، وإمّا بداعوية الأمر الغيري على القول به، والظاهر وقوع الخلط بين حكم العقل وداعوية الأمر.

وما يقال: إنّه يكفي في عبادية الشيء أن يؤتى به لأجل المولى ولو بمثل هذه الداعوية(2).

مقدوح فيه؛ فإنّ العبادية فرع صلوح الشيء للتقرّب، والمقدّمة لا تصلح لذلك ولو قلنا بتعلّق الأمر الغيري بها، مع أنّه ممنوع أيضاً.

ثمّ إنّ الوضوء قبل الوقت بداعوية أمره النفسي صحيح يجوز الدخول معه في

ص: 319


1- تقدّم في الصفحة 314.
2- نهاية الأفكار 1: 326 و328.

الصلاة بعد حضور الوقت، كما أنّه لو لم يكن للمكلّف داعٍ إلى إتيان الوضوء الاستحبابي قبل الوقت، لكن لمّا رأى أنّ الصلاة في الوقت مشروطة به، فصار ذلك داعياً إلى إتيانه لله، يقع صحيحاً أيضاً.

وأمّا بعد الوقت: فإن أتى به بداعي أمره الغيري لكن متقرّباً به إلى الله، يقع صحيحاً؛ لصلوح الموضوع للتقرّب، وهو كافٍ في الصحّة.

وأمّا بداعي أمره الاستحبابي فصحّته فرع بقاء أمره، وهو فرع أن يكون الوضوء بما هو مأمور به بالأمر النفسي مقدّمةً، ولم نقل بانحلاله إلى الذات والقيد، وتكون الذات أيضاً متعلّقة للأمر الغيري، وإلاّ فلا يبقى الأمر النفسي مع الغيري، وسيأتي التحقيق في متعلّق الأمر الغيري حتّى يتّضح عدم المنافاة بينه وبين الأمر الاستحبابي؛ لتعدّد العنوان.

وأمّا الإتيان به لأجل التوصّل إلى الغير من دون قصد التقرّب فلا يوجب الصحّة كما تقدّم.

ص: 320

الأمر الخامس ما هو الواجب في باب المقدّمة ؟
اشارة

بناءً على الملازمة هل الواجب هو مطلق المقدّمة، أو المقدّمة التي اُريد الإتيان بصاحبها، أو التي قصد بها التوصّل إليه، أو المقدّمة الموصلة، أو التي في حال الإيصال؟ أقوال:

حول ما نسب إلى صاحب المعالم في المقام

نسب(1) إلى صاحب «المعالم» أنّه قال: باشتراط وجوبها بإرادة ذي المقدّمة. ورُدّ بأنّ المقدّمة تابعة لصاحبها في الإطلاق والاشتراط، فيلزم أن يشترط وجوب الشيء بإرادة وجوده، وهو واضح البطلان(2).

لكن عبارة «المعالم» خالية عن ذكر الاشتراط، بل نصّ في أنّ الوجوب في حال كون المكلّف مريداً للفعل المتوقّف عليها(3)، وهو وإن كان غير صحيح، لكن لم يكن بذلك الوضوح من الفساد.

نعم يرد عليه: أنّ حال إرادة ذي المقدّمة غير دخيلة في ملاك وجوبها، مع أنّه حال إرادته لا معنى لإيجاب مقدّمته؛ لأ نّه يريدها لا محالة.

ص: 321


1- مطارح الأنظار 1: 353؛ كفاية الاُصول: 142.
2- مطارح الأنظار 1: 353.
3- معالم الدين: 71.
حول ما نسب إلى الشيخ الأعظم في المقام

ونسب(1) إلى الشيخ الأعظم: أنّ الواجب هو المقدّمة بقصد التوصّل إلى ذي المقدّمة. وهذه النسبة غير صحيحة جدّاً؛ فإنّ كلامه من أوّله إلى آخره يأبى عن ذلك(2)، بل يستشمّ من أوّل كلامه في ردّ توجيه كلام صاحب «المعالم» أنّه أنكر قيد قصد التوصّل، بل مطلق القيود، وظاهر كلامه في خلال الردّ على مقالة صاحب «الفصول»(3)، وجوب ذات المقدّمة بما هي مقدّمة؛ حيث قال:

«إنّ الحاكم بوجوب المقدّمة - على القول به - هو العقل، وهو القاضي فيما وقع من الاختلافات، ونحن بعد ما استقصينا التأمّل لا نرى للحكم بوجوب المقدّمة وجهاً إلاّ من حيث إنّ عدمها يوجب عدم المطلوب، وهذه الحيثية هي التي يشترك فيها جميع المقدّمات... إلى أن قال: فملاك الطلب الغيري في المقدّمة هذه الحيثية، وهي ممّا يكفي في انتزاعها عن المقدّمة ملاحظة ذات المقدّمة»(4).

ثمّ إنّ كلام المحقّق المقرّر وإن كان مشوّشاً، لكن لا يحتمل فيه ما احتمله بعض المحقّقين من الاحتمالات الكثيرة(5).

بل محتمل كلامه أمران بعد الفراغ عن أنّ كلامه ليس في نفس الملازمة بين

ص: 322


1- كفاية الاُصول: 143.
2- مطارح الأنظار 1: 353.
3- الفصول الغروية: 81 / السطر 4؛ و: 86 / السطر 12.
4- مطارح الأنظار 1: 368.
5- بدائع الأفكار (تقريرات المحقّق العراقي) الآملي 1: 385.

وجوب ذي المقدّمة وبين وجوبها، بل كلامه في وقوع المقدّمة على صفة الوجوب في الخارج:

أحدهما: أنّ الامتثال بالواجب لا يحصل إلاّ بقصد التوصّل إلى ذي المقدّمة، كما صرّح به في خلال كلامه من تخصيص النزاع بما اُريد الامتثال بالمقدّمة.

وقد برهن على ذلك: بأنّ الامتثال لا يمكن إلاّ أن يكون الداعي إلى إيجاد الفعل هو الأمر، ولمّا كان الأمر لا يدعو إلاّ إلى متعلّقه فلا بدّ في الامتثال من قصد عنوان المأمور به، والمأمور به هاهنا هو المقدّمة بالحيثية التقييدية؛ لأنّ الكاشف عن وجوب المقدّمة هو العقل بالملاك العقلي، والعقل يحكم بوجوب المقدّمة من حيث هي مقدّمة، فلا بدّ من كشف الحكم الشرعي بذلك الملاك على الحيثية التقييدية، ولمّا كان القصد بهذه الحيثية لا ينفكّ عن القصد بالتوصّل إلى ذي المقدّمة - للزوم التفكيك للتناقض - فلا بدّ في امتثال أمر المقدّمة من قصد التوصّل إلى صاحبها.

هذا، ولا يخفى أنّه لا يرد على هذا الاحتمال شيء ممّا وقع في كلام بعض المحقّقين:

تارةً: بإنكار رجوع الحيثيات التعليلية في الأحكام العقلية إلى التقييدية(1).

وذلك لأنّ إنكاره مستلزم لإسراء حكم العقل من موضوعه إلى غيره بلا ملاك؛ فإنّ الظلم مثلاً إذا كان قبيحاً عقلاً، فوقع عمل في الخارج معنوناً بعنوان الظلم وعناوين اُخر، فحكم العقل بقبحه إذا لم يرجع إلى حيثية الظلم،

ص: 323


1- بدائع الأفكار (تقريرات المحقّق العراقي) الآملي 1: 387.

فإمّا أن يرجع إلى حيثيات اُخر، وهو كما ترى، أو إلى الذات بعلّية الظلم بحيث تكون الذات قبيحة، لا الظلم وإن كان هو علّة لقبحها، فهو أيضاً فاسد وخلف؛ فإنّ الذات تكون قبيحة بالعرض، فلا بدّ وأن يكون الظلم قبيحاً بالذات، فيصير الظلم موضوعاً بالحقيقة للقبح، وهذا معنى رجوع الحيثيات التعليلية إلى التقييدية.

واُخرى: بإنكار رجوعها إليها فيما كان الوجوب بحكم الشرع ولم يكن للعقل دخل فيه إلاّ بنحو الكاشفية(1).

وفيه: أنّ العقل إذا كشف عن حكم بملاكه العقلي لا يمكن أن يكشف أوسع أو أضيق من ملاكه، ولا في موضوع آخر غير حيثية الملاك، وهذا واضح جدّاً.

والاحتمال الثاني - الذي يشعر به صدر كلامه ويظهر من ذيله -: أنّ وقوع المقدّمة على صفة الوجوب مطلقاً يتوقّف على قصد التوصّل، لكن لا تظهر الثمرة في غير العباديات إلاّ في المقدّمات المحرّمة، فمع عدم قصد التوصّل يبقى الفعل على حكمه السابق، فيحرم الدخول في ملك الغير مع عدم قصد التوصّل، وصريح كلامه أنّه لا يختصّ النزاع بالمقدّمة المحرّمة، لكن تظهر الثمرة في غير العباديات فيها(2).

وكيف كان يرد عليه: أنّ وقوع الفعل على صفة الوجوب في التوصّليات لا يتوقّف على القصد، وإن كان الوقوع على صفة الامتثال موقوفاً عليه، فإذا كان غسل الثوب واجباً متعلّقاً لإرادة المولى، فغسله بلا توجّه إلى وجوبه وإن لم يعدّ

ص: 324


1- بدائع الأفكار (تقريرات المحقّق العراقي) الآملي 1: 387.
2- مطارح الأنظار 1: 353.

امتثالاً لأمره، لكن يقع في الخارج مصداق ما هو واجب ومتعلّق إرادته، ولا نعني بالوقوع على صفة الوجوب إلاّ ذلك.

ثمّ إنّ قيدية قصد التوصّل في وجوب المقدّمة ممنوعة؛ أمّا كونه شرطاً للوجوب فواضح، وأمّا كونه قيداً للواجب؛ بحيث يكون قصد التوصّل أيضاً متعلّقاً للبعث، ويكون الأمر داعياً إلى المقدّمة بقصد التوصّل إلى صاحبها، فهو وإن لم يكن محالاً؛ لأنّ القصد قابل لتعلّق البعث به كقيديته في العباديات، لكن قصد المكلّف غير دخيل في ملاك المقدّمية قطعاً، فتعلّق الوجوب به يكون بلا ملاك، وهو ممتنع.

حول وجوب المقدّمة الموصلة (مقالة صاحب الفصول)

وقد ذهب إلى أنّ الواجب هو خصوص المقدّمة الموصلة، وصرّح بأنّ الإيصال قيد للواجب، لا شرط في الوجوب(1).

وقد أوردوا عليه باُمور:

إشكالات المقدّمة الموصلة وأجوبتها

منها: لزوم الدور؛ لأنّ وجود ذي المقدّمة يتوقّف على وجود المقدّمة، وبناءً على قيدية الإيصال وجود المقدّمة يصير متوقّفاً على وجود صاحبها(2).

وفيه: أنّ وجود ذي المقدّمة يتوقّف على ذات المقدّمة لا بقيد الإيصال،

ص: 325


1- الفصول الغروية: 86 / السطر 12.
2- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 290.

واتّصافها بالموصلية يتوقّف على وجود ذي المقدّمة، فالموقوف غير الموقوف عليه.

وبعبارة اُخرى: أنّ صاحب «الفصول» يدّعي أنّ متعلّق الوجوب أخصّ من الموقوف عليه، فلا تكون المقدّمة بقيد الإيصال موقوفاً عليها، فلا يرد الدور.

وممّا ذكرنا يظهر النظر في تقرير شيخنا العلاّمة - أعلى الله مقامه - للدور: بأنّ مناط وجوب المقدّمة ليس إلاّ التوقّف، فحينئذٍ يكون اعتبار قيد الإيصال لملاكه، فيلزم توقّف كلّ من المقدّمة وذيها على الآخر(1).

والجواب: أنّ مناط الوجوب ليس التوقّف على مسلكه، بل التوصّل إلى ذي المقدّمة، فمتعلّقه أخصّ من التوقّف، بل دعوى بداهة كون المناط هو التوقّف مساوقة لدعوى بداهة وجوب المقدّمة المطلقة، وهي تنافي ما ذهب إليه من وجوبها حال الإيصال.

وأمّا تقرير الدور: بأ نّه يلزم بناءً عليه أن يكون الواجب النفسي مقدّمة للمقدّمة واجباً بوجوب ناشئ من وجوبها، وهو يستلزم الدور؛ لأنّ وجوب المقدّمة ناشئ من وجوب ذي المقدّمة، فلو ترشّح وجوب ذي المقدّمة من وجوبها لزم الدور(2).

ففيه ما لا يخفى؛ لأنّ وجوب ذي المقدّمة الناشئ منه وجوب المقدّمة، لم ينشأ من وجوب المقدّمة حتّى يدور.

ومنها: لزوم التسلسل؛ بأن يقال: إنّ المقدّمة الموصلة تنحلّ إلى ذات وقيد،

ص: 326


1- درر الفوائد، المحقّق الحائري: 116 - 118.
2- أجود التقريرات 1: 344 - 345.

وفي كلّ منهما مناط الوجوب للتوقّف، فعلى وجوب المقدّمة الموصلة يجب أن تكون الذات بقيد الإيصال واجبة، وقيد الإيصال أيضاً بقيد الإيصال واجباً، فيتقيّد كلّ منهما بإيصال آخر، وهكذا.

وفيه: أنّ الواجب هو المقدّمة بقيد هذا الإيصال لا إيصال آخر، ولا معنى لفرض إيصال زائد على الإيصال، بل لا يتعقّل إيصال آخر؛ لأ نّه حقيقة لا يمكن تكرّرها، فالواجب هو المقدّمة الموصلة بهذا الإيصال، وأمّا الإيصال فلا يكون فيه ملاك المقدّمية حتّى يتقيّد بإيصال آخر، بل لا يمكن أن يكون للإيصال إيصال.

وقد يقرّر التسلسل: بأنّ المقدّمة الموصلة تنحلّ إلى ذات وقيد، فتكون الذات مقدّمة لحصول المقدّمة المقيّدة، فلا بدّ من اعتبار قيد الإيصال فيها، وهكذا(1).

وفيه: أنّ الواجب هو المقدّمة الموصلة إلى ذي المقدّمة لا إلى المقدّمة، فالذات لم تكن واجبة بقيد الإيصال إلى المقيّد، بل واجبة بقيد الإيصال إلى ذي المقدّمة، وهو حاصل بلا قيد زائد.

ومنها: لزوم كون ذي المقدّمة مقدّمة لمقدّمته ، فيتعلّق به الوجوب الغيري، بل وجوبات غيرية بعدد المقدّمات، بل يلزم أن يجب ذو المقدّمة الموصل إلى نفسه ولو بوسط، وهو أفحش(2).

وجوابه: أنّ القائل بهذه المقالة يقول: إنّ ما يتعلّق به الوجوب الغيري هو المقدّمة مع قيد الإيصال إلى ذي المقدّمة، فلا بدّ فيه من جهتين: الاُولى كونه

ص: 327


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 290.
2- لمحات الاُصول: 129.

موقوفاً عليه، والثانية كونه موصلاً إلى ذي المقدّمة، ونفس ذي المقدّمة لا يكون موقوفاً على نفسه، ولا يكون موصلاً إلى نفسه، فلا يتعلّق به الوجوب الغيري، وتوقّف وصف المقدّمة على وجوده لا يوجب تعلّق الوجوب به.

ومنها: أنّ الإيصال ليس أثر كلّ مقدّمة، فلا بدّ من الالتزام إمّا باختصاص الوجوب بالأسباب التوليدية، أو الالتزام بوجوب الإرادة، وهو التزام بالتسلسل(1).

والجواب: أنّ المراد بالإيصال أعمّ من الإيصال مع الواسطة، فالقدم الأوّل بالنسبة إلى الحجّ قد يكون موصلاً - ولو مع الوسائط - إليه؛ أي يتعقّبه الحجّ، وقد لا يكون كذلك، والواجب هو الأوّل.

وأمّا الإشكال بالإرادة، ففيه:

أوّلاً: أنّ الإرادة قابلة لتعلّق الوجوب بها كما في الواجب التعبّدي.

وثانياً: أنّ الإشكال فيها مشترك الورود؛ إذ بناءً على وجوب المقدّمة المطلقة تكون الإرادة غير متعلّقة للوجوب لو لزم منه التسلسل.

ومنها: أنّ الإتيان بالمقدّمة بناءً على وجوب الموصلة لا يوجب سقوط الطلب منها إلاّ أن يترتّب الواجب عليها، مع أنّ السقوط بالإتيان واضح، فلا بدّ وأن يكون بالموافقة(2).

وفيه: أنّ الأمر غير ساقط بعد فرض تعلّقه بالمقيّد، وهو لا يتحقّق إلاّ بقيده كما في المركّبات؛ فإنّ التحقيق فيها أنّ الأمر بها لا يسقط إلاّ بإتيان تمام

ص: 328


1- كفاية الاُصول: 145 - 146.
2- كفاية الاُصول: 146.

المركّب، وليس للأجزاء أمر أصلاً، فبناءً على المقدّمة الموصلة ليست ذات المقدّمة متعلّقة للأمر، بل للمتقيّدة أمر واحد لا يسقط إلاّ بإتيان قيدها، فدعوى وضوح سقوطه في غير محلّها.

في حال وجوب المقدّمة حال الإيصال

قد تخلّص شيخنا العلاّمة - أعلى الله مقامه - عن الإشكالات: بأنّ الواجب هو المقدّمات في لحاظ الإيصال لا مقيّدة به، فإذا تصوّر المولى جميع المقدّمات الملازمة لوجود المطلوب يريدها بذاتها؛ لأ نّها بهذه الملاحظة لا تنفكّ عن المطلوب الأصلي، ولو لاحظ مقدّمة منفكّة عمّا عداها لا يريدها جزماً؛ فإنّ ذاتها وإن كانت مورداً للإرادة، لكن لمّا كانت المطلوبية في ظرف ملاحظة باقي المقدّمات، لم يكن كلّ واحدة منها مرادة بنحو الإطلاق؛ بحيث تسرّى الإرادة إلى حال الانفكاك، وهذا موافق للوجدان من غير ورود إشكال عليه(1).

ومراده من لحاظ الإيصال ليس دخالة اللحاظ فيه، بل كونه مرآة إلى ما هو الواجب، فالواجب هو ذات المقدّمات في حال ترتّبها وعدم انفكاكها عن ذي المقدّمة، لا مطلقة ولا مقيّدة، وإن لا تنطبق إلاّ على المقيّدة.

وقريب منه ما في تقريرات بعض أهل التحقيق: من أنّ الواجب هو المقدّمة في ظرف الإيصال بنحو القضيّة الحينية؛ أي الحصّة من المقدّمة التوأمة مع وجود سائر المقدّمات الملازمة لوجود ذي المقدّمة(2).

ص: 329


1- درر الفوائد، المحقّق الحائري: 119.
2- بدائع الأفكار (تقريرات المحقّق العراقي) الآملي 1: 389.

ويرد على شيخنا العلاّمة: أنّ حال عدم انفكاك المقدّمات عن المطلوب إن لم تكن دخيلة في وجوب المقدّمة يكن تعلّق الوجوب بها في هذه الحالة من باب الاتّفاق لا الدخالة، فلا يعقل رفع الوجوب عنها مع زوال تلك الحالة، ولا توقّف تعلّقه عليها؛ لأنّ تمام الموضوع للوجوب إذا كان ذات المقدّمة من غير دخالة شيء آخر، فمع بقائها على ما هي عليه لا يمكن انفكاك الحكم عنها.

وعلى المحقّق المتقدّم - مضافاً إلى ذلك - أنّ الطبيعة لا يعقل أن تصير حصّة إلاّ بانضمام قيد إليها، ومعه تصير مقيّدة، والتوأمية إذا صارت موجبة لصيرورتها حصّة خاصّة، تصير قيداً لها، وهو يفرّ منه.

وغاية ما يمكن أن يوجّه به كلامهما: أنّ المقدّمة واجبة لغاية التوصّل إلى ذي المقدّمة، فالموصلية من قبيل العلّة الغائية لتعلّق الوجوب بالمقدّمة، فلا يمكن أن تكون واجبة مطلقاً؛ لأنّ الوجوب إذا تعلّق بشيء لغاية لا يعقل أن يسري إلى ما لا تترتّب عليه تلك الغاية؛ للزوم أن يكون التعلّق بلا علّة غائية ولا فاعلية؛ لأنّ الغاية علّة فاعلية الفاعل، وكذا لا يمكن أن تكون المقدّمة المقيّدة واجبة؛ لأنّ الغاية متقدّمة على ذي الغاية ماهيةً وتصوّراً، ومتأخّرة عنه وجوداً وتحقّقاً، وما يكون كذلك لا يمكن أن يصير قيداً لما لا يكون في رتبته؛ للزوم التجافي عن المرتبة، فالواجب لا يكون مطلقاً ولا مقيّداً وإن لا ينطبق [إلاّ] على المقيّد. وعليه يمكن تصوير الحصّة أيضاً بتبع تعلّق الوجوب المعلول لعلّة خاصّة.

وفيه: أنّ الوجوب هاهنا مستكشف من حكم العقل، ولا يمكن تخلّفه عمّا هو مناطه في نظره؛ ضرورة أنّ العقل إذا أدرك حيثية تكون تمام المناط لتعلّق

ص: 330

حكم مولوي يكشف [عن كون] الحكم متعلّقاً بتلك الحيثية من غير دخالة شيءٍ آخر جزءاً للموضوع أو تمامه.

فحينئذٍ نقول: إنّ وجوب المقدّمة إذا كان لأجل التوصّل إلى ذي المقدّمة، تكون تلك الحيثية - أي التوصّل إلى ذي المقدّمة - تمام الموضوع لمناط حكم العقل، فيكشف [عن ثبوت] الحكم على المقدّمة بهذه الحيثية لا غيرها، فاللازم

هو وجوب المقدّمة المتحيّثة بها من حيث هي كذلك، ولا يمكن أن تصير تلك الحيثية علّة لسراية الحكم إلى غيرها.

نعم، يمكن تعلّق بعث مولوي بشيء لأجل غاية؛ بحيث يكون البعث متوجّهاً إلى عنوان تترتّب عليه الغاية، لكن الكلام في الوجوب المنكشف بحكم العقل، ولا يمكن كشف العقل [عن ثبوت] حكم على غير ما هو المناط ذاتاً، فكون الأحكام الشرعية متعلّقة بالعناوين لأجل المصالح والمفاسد، لا يكون نقضاً على ما ذكرنا لو اُعطي التدبّر حقّه.

وممّا ذكرنا يظهر النظر في كلام بعض أهل التدقيق في تعليقته على «الكفاية»، فإنّه لأجل الفرار عن الإشكالات المتقدّمة على المقدّمة الموصلة وجّه كلام القائل بها:

تارةً: بأنّ الغرض الأصيل حيث يترتّب على وجود المعلول، فالغرض التبعي من أجزاء علّته هو ترتّب وجوده على وجودها إذا وقعت على ما هي عليه من اتّصاف السبب بالسببية والشرط بالشرطية، فوقوع كلّ مقدّمة على صفة المقدّمية الفعلية ملازم لوقوع الاُخرى على تلك الصفة ووقوع ذيها في الخارج، فالواجب هو المقدّمة الفعلية التي لا تنفكّ عن ذيها.

ص: 331

واُخرى: بأنّ متعلّق الغرض التبعي هو العلّة التامّة؛ حيث إنّها محصّلة لغرضه الأصيل، لا كلّ ما له دخل وإن لم يكن محصّلاً له، وإنّما تعلّقت بالعلّة التامّة إرادة واحدة لوحدة الغرض، وهو حصول ذيها(1).

ويرد عليهما: أنّ الغاية لوجوب المقدّمة إذا كانت التوصّل إلى ذيها، يكون المتعلّق بالذات للإرادة هو المقدّمة بهذه الحيثية لا بحيثيات اُخر، فالسبب الفعلي بما هو كذلك لا تتعلّق به الإرادة بهذه الحيثية بل بحيثية الموصلية، وكون حيثية فعلية السبب ملازمة للمطلوب خارجاً لا يوجب أن تكون مطلوبة بالذات، وكذا الحال في العلّة التامّة وسائر العناوين والحيثيات الملازمة للمطلوب بالذات.

والعجب منه حيث اعترف أنّ الحيثيات التعليلية في الأحكام العقلية كلّها ترجع إلى التقييدية، وأنّ الغايات عناوين للموضوعات(2)، ومع ذلك ذهب إلى ما ذكر وارتضاه.

ويرد على ثانيهما: - مضافاً إلى ما تقدّم - أنّ العلّة التامّة إذا كانت مركّبة من شرط ومعدّ وسبب وعدم مانع ممّا لا يكون بينها جامع ذاتي، ولا تكون من قبيل التوليديات لا تتعلّق بها إرادة واحدة، مع أنّ العقل إذا فصّل بينها ورأى أنّ في كلّ

منها مناط الوجوب والتوصّل إلى ذي المقدّمة، فلا محالة تتعلّق إرادته به، فلا معنى لتعلّق إرادة واحدة بالمجموع بعد كون المناط في كلّ منها، وشأن العقل تفصيل الاُمور وتحليلها، لا رؤية المجموع وإهمال الحيثيات.

ولعمري: إنّ توهّم ورود الإشكالات ألجأهم إلى تلك التكلّفات.

ص: 332


1- نهاية الدراية 2: 138 - 139.
2- نهاية الدراية 2: 131 - 132 و133.
التحقيق وجوب المقدّمة الموصلة

ثمّ إنّ صاحب «الفصول» استدلّ على مذهبه باُمور، عمدتها هو ما ذكره أخيراً من الوجه العقلي: وهو أنّ المطلوب بالمقدّمة مجرّد التوصّل بها إلى الواجب وحصوله، فلا جرم يكون التوصّل بها إليه وحصوله معتبراً في مطلوبيتها(1).

ومقصوده بتوضيح منّا يرجع إلى مقدّمتين:

إحداهما: أنّ ملاك مطلوبية المقدّمة ليس مجرّد التوقّف، بل ملاكها هو حيثية التوصّل بها إلى ذي المقدّمة، فذات المقدّمة وحيثية توقّف ذي المقدّمة عليها لا تكونان مطلوبتين بالذات، وهذه مقدّمة وجدانية يرى كلّ أحد من نفسه أنّ المطلوبية الغيرية إنّما هي لأجل الوصول إليه، بل لو فرض انفكاك التوقّف عن التوصّل خارجاً كان المطلوب هو الثاني لا الأوّل.

وثانيتهما: أنّ الغايات عناوين الموضوعات في الأحكام العقلية، والجهات التعليلية فيها ترجع إلى التقييدية، وهذه مقدّمة برهانية كما تقدّم بيانها(2).

ونتيجتهما وجوب المقدّمة الموصلة.

وبما ذكرنا يدفع الإشكال الذي أورده المحقّق الخراساني على كلتا المقدّمتين(3).

فتحصّل ممّا مرّ: أنّ التحقيق وجوب المقدّمة الموصلة على فرض وجوب المقدّمة.

ص: 333


1- الفصول الغروية: 84 / السطر 18، و: 86 / السطر 12.
2- تقدّم في الصفحة 323.
3- كفاية الاُصول: 147 - 150.
ثمرة القول بالمقدّمة الموصلة

بقي شيء: وهو أنّ ثمرة القول بالمقدّمة الموصلة تصحيح العبادة التي يتوقّف على تركها فعل الواجب، بناءً على كون ترك الضدّ مقدّمةً لفعل ضدّه؛ فإنّ نقيض الترك الموصل ترك هذا الترك، وهو مقارن لفعل الضدّ، ومجرّد المقارنة لا يوجب سراية الحكم إلى مقارنه.

وبعبارة اُخرى: أنّ نقيض ترك الصلاة هو فعل الصلاة؛ لأنّ النقيضين هما المتقابلان إيجاباً وسلباً، أو نقيض الشيء رفعه، أو كونه مرفوعاً به، فإذا وجب الترك حرمت الصلاة، فتصير باطلة.

وأمّا نقيض الترك الموصل فلا يمكن أن يكون الفعل والترك المجرّد؛ لأنّ نقيض الواحد واحد، وإلاّ لزم إمكان اجتماع النقيضين وارتفاعهما، فلا محالة يكون نقيض الترك الموصل ترك هذا الترك المقيّد، وهو منطبق على الفعل بالعرض؛ لعدم إمكان انطباقه عليه ذاتاً؛ للزوم كون الحيثية الوجودية عين الحيثية العدمية، والانطباق العرضي لا يوجب سراية الحرمة، فتقع صحيحة.

وبما ذكرنا يدفع ما اُورد عليه: بأنّ فعل الضدّ لازم لما هو من أفراد النقيض؛

فإنّ نقيض الترك الخاصّ رفعه، وهو أعمّ من الفعل والترك الآخر المجرّد، وهذا يكفي في إثبات الحرمة(1).

ص: 334


1- مطارح الأنظار 1: 379.

وجه الدفع: أنّ رفع الترك الخاصّ لا يمكن أن ينطبق عليه ذاتاً، فلا يكون الفعل مصداقاً ذاتياً له، والانطباق العرضي لا يكفي في الحرمة، وسيأتي الإشكال في الانطباق العرضي أيضاً.

وأمّا ما أورد عليه المحقّق الخراساني: بأنّ الفعل وإن لم يكن عين مايناقض الترك المطلق مفهوماً، لكنّه متّحد معه عيناً وخارجاً، فيعانده وينافيه، وأمّا الفعل

في الترك الموصل فلا يكون إلاّ مقارناً لما هو النقيض من رفع الترك المجامع له أحياناً بنحو المقارنة، ومثله لا يوجب السراية(1).

ففيه: أوّلاً: أنّ الفعل عين النقيض في الترك المطلق؛ فإنّ بينهما تقابل الإيجاب والسلب.

وثانياً: لو قلنا بأنّ نقيض الترك رفعه، فلا يمكن أن يتّحد مع الفعل خارجاً اتّحاداً ذاتياً، فلو كفى الاتّحاد الغير الذاتي في سراية الحكم يكون متحقّقاً في الترك الموصل بالنسبة إلى الفعل؛ فإنّه أيضاً منطبق عليه بالعرض.

وقوله: إنّه من قبيل المقارن المجامع له أحياناً.

مدفوع: بأنّ الفعل مصداق الترك الموصل ومنطبق عليه دائماً من غير انفكاك بينهما. نعم قد لا يكون المصداق متحقّقاً، وعدم الانطباق بعدم الموضوع لا يوجب المقارنة؛ ضرورة أنّ العناوين لا تنطبق على مصاديقها الذاتية أيضاً حال عدمها.

ص: 335


1- كفاية الاُصول: 151 - 152.

وقد يقال: إنّ المراد بالمقدّمة الموصلة: إمّا العلّة التامّة، وإمّا المقدّمة التي

لا تنفكّ عن ذيها.

فعلى الأوّل: تكون المقدّمة الموصلة [للإزالة] ترك الصلاة ووجود الإرادة، ونقيض المجموع من الأمرين مجموع النقيضين، وإلاّ فليس لهما معاً نقيض؛ لأنّ المجموع ليس موجوداً على حدة حتّى يكون له نقيض، فحينئذٍ يكون نقيض ترك الصلاة فعلها، ونقيض إرادة ذي المقدّمة عدمها، فإذا وجب مجموع العينين بوجوب واحد حرم مجموع النقيضين بحرمة واحدة، ومن الواضح تحقّق مجموع الفعل وعدم الإرادة عند إيجاد الصلاة.

وعلى الثاني: فالمقدّمة هو الترك الخاصّ، وحيث إنّ الخصوصية ثبوتية فالترك الخاصّ لا رفع لشيء ولا مرفوع بشيء، فلا نقيض له بما هو، بل نقيض الترك هو الفعل، ونقيض الخصوصية عدمها، فيكون الفعل محرّماً لوجوب نقيضه، ومن الواضح أنّ الفعل مقترن بنقيض الخصوصية المأخوذة في طرف الترك(1)، انتهى.

وفيه: - بعد الغضّ عمّا مرّ من الإشكال في كون الواجب هو العلّة التامّة، أو المقدّمة الفعلية الغير المنفكّة - أنّ العلّة التامّة إذا كانت متعلّقة للإرادة الواحدة،

فلا محالة تكون ملحوظة في مقام الموضوعية بنعت الوحدة، وإلاّ فالمتكثّر بما هو كذلك لا يمكن أن تتعلّق به إرادة واحدة؛ لأنّ تشخّص الإرادة بالمراد وتكثّرها تابع لتكثّره، فالموضوع للحكم إذا كان واحداً يكون نقيضه رفعه، وهو

ص: 336


1- نهاية الدراية 2: 150 - 152.

رفع الواحد الاعتباري في المقام، لا فعل الصلاة وعدم الإرادة؛ ضرورة أنّ نقيض كلّ شيء رفعه، أو كونه مرفوعاً به، والصلاة لم تكن رفع هذا الواحد الاعتباري ولا مرفوعة به: أمّا عدم كونها رفعاً فواضح، وأمّا عدم كونها مرفوعة به فلأ نّه أمر وجودي لا يمكن أن يكون رفعاً، فرفعه عدمه المنطبق على الصلاة عرضياً وعلى الترك المجرّد.

وكذا الحال في المقدّمة الخاصّة - أي الترك الغير المنفكّ - فإنّه في مقام الموضوعية للإرادة الواحدة غير متكثّر، وعدم هذا الواحد نقيضه، والمفردات في مقام الموضوعية غير ملحوظة حتّى تلاحظ نقائضها.

نعم، مع قطع النظر عن الوحدة الاعتبارية العارضة للموضوع يكون نقيض الترك هو الفعل، ونقيض الخصوصية عدمها، ولم يكن للخاصّ بما هو وجود حتّى يكون له رفع، وكذا المجموع في الفرض الأوّل، فالخلط إنّما هو من أجل إهمال الحيثيات والوحدة الاعتبارية اللاحقة لموضوع الحكم الذي هو محطّ البحث.

وبما ذكرنا يتّضح الإشكال في كلام بعض المحقّقين - على ما في تقريرات بحثه(1) - مع بعض الإضافات تركناه مخافة التطويل.

ص: 337


1- نهاية الأفكار 1: 345 - 346؛ بدائع الأفكار (تقريرات المحقّق العراقي) الآملي 1: 395 - 396.
الواجب الأصلي والتبعي

من تقسيمات الواجب تقسيمه إلى الأصلي والتبعي، والظاهر أنّ هذا التقسيم بحسب مقام الإثبات ولحاظ الخطاب، وهو تقسيم معقول في مقابل سائر التقسيمات، وإن لا يترتّب عليه أثر مرغوب فيه.

والمحقّق الخراساني(1) أرجعه إلى مقام الثبوت: بأنّ الشيء إذا كان متعلّقاً للإرادة والطلب مستقلاًّ - للالتفات إليه بما هو عليه ممّا يوجب طلبه، سواء كان طلبه نفسياً أو غيرياً - يكون الطلب أصلياً، وإذا كان متعلّقاً لها تبعاً لإرادة

غيره لأجل كون إرادته لازمة لإرادته من دون التفات إليه بما يوجب إرادته يكون تبعياً.

ولما ورد عليه - أنّ الاستقلال إن كان بمعنى الالتفات التفصيلي يكون في مقابله الإجمال والارتكاز، لا عدم الاستقلال بمعنى التبعية، فيكون الواجب النفسي أيضاً تارةً مستقلاًّ، وتارةً غير مستقلّ، مع أنّه لا شبهة في أنّ إرادته أصلية

لا تبعية، وإن كان بمعنى عدم التبعية فلا يكون الواجب الغيري مستقلاًّ، سواء التفت إليه تفصيلاً أو لا - تشبّث بعض محقّقي المحشّين للتقسيم في مقام الثبوت في مقابل الواجب النفسي والغيري: بأنّ للواجب - وجوداً ووجوباً - بالنسبة إلى مقدّمته جهتين من العلّية:

ص: 338


1- كفاية الاُصول: 152.

إحداهما: العلّية الغائية؛ حيث إنّ المقدّمة إنّما تراد لمراد آخر، دون ذي المقدّمة.

والثانية: العلّية الفاعلية، وهي أنّ إرادة ذي المقدّمة علّة لإرادة مقدّمته، ومنها تنشأ وتترشّح عليها الإرادة.

والجهة الاُولى مناط الغيرية، والجهة الثانية مناط التبعية(1).

وأنت خبير بما فيه من التكلّف، مع أنّ الإرادة المتعلّقة بذي المقدّمة ليست علّة فاعلية لإرادة المقدّمة؛ بحيث تنشأ منها، وإلاّ لصارت متحقّقة من غير لزوم مقدّمات اُخر: من التصوّر، والتصديق بالفائدة، وسائر المبادئ، ولا شبهة في أنّ الإرادة لا تتعلّق بها إلاّ مع هذه المبادئ كما يحتاج إليها ذو المقدّمة بلا افتراق

بينهما من هذه الجهة، وسيأتي مزيد بيان لهذا، فالجهة الثانية ممّا لا أصل لها حتّى يكون التقسيم بلحاظها، بل كلامه لا يخلو من تهافت.

ثمّ إنّه لا أصل لتنقيح الأصلية والتبعية، سواء كانتا وجوديتين أو عدميتين أو مختلفتين، وسواء قلنا بأنّ المناط في التقسيم هو ما ذكره المحقّق الخراساني أو المحقّق المحشّي أو غيره؛ لأنّ عدم تفصيلية القصد والإرادة لإحراز التبعية وعدم ترشّح الإرادة من إرادة اُخرى لإحراز الأصلية، إنّما هي من قبيل الموجبات المعدولة أو الموجبة السالبة المحمول، وفي مثلها لا يجري الأصل كما في أصالة عدم القرشية، والتفصيل موكول إلى محلّه.

ص: 339


1- نهاية الدراية 2: 157 - 158.
تتميم : في ثمرة بحث مقدّمة الواجب

الحقّ: أنّه لا ثمرة في هذه المسألة؛ لأنّ الوجوب المقدّمي - على فرضه - وعدمه سواء؛ لأ نّه وجوب غير قابل للباعثية، ولا يترتّب عليه ثواب وعقاب، ولزوم الإتيان بالمقدّمة عقلي، كانت واجبة أو لم تكن، والثمرات التي ذكروها(1)

ليست ثمرة في المسألة الاُصولية.

وأمّا ما ذكره بعض محقّقي العصر - بعد الاعتراف بأنّ وجوب المقدّمة ليس بنفسه ثمرة عملية - من أنّه يمكن تحقّق الثمرة بتطبيق كبريات اُخر عليها، فإنّه على فرض الوجوب يمكن تحقّق التقرّب بقصد أمرها، كما يمكن التقرّب بقصد التوصّل بها إلى ذي المقدّمة، فيتّسع بذلك نطاق التقرّب بها، وأيضاً إذا أمر شخص بما له مقدّمات - كبناء البيت - فأتى بالمقدّمات المأمور بها ولم يأت بذي المقدّمة، فعلى فرض تعلّق الأمر بها يكون ضامناً للمأمور اُجرة المقدّمات المأمور بها(2).

ففيه: أنّ الأمر الغيري - على ما سبق - غير صالح للباعثية والإطاعة؛ لأنّ المكلّف إن كان مريداً لإتيان ذي المقدّمة، ويكون أمره باعثاً له، فلا محالة

ص: 340


1- قوانين الاُصول 1: 101 / السطر 19؛ هداية المسترشدين 2: 104؛ الفصول الغروية: 87 - 88؛ مطارح الأنظار 1: 391؛ كفاية الاُصول: 153.
2- بدائع الأفكار (تقريرات المحقّق العراقي) الآملي 1: 397.

تتعلّق إرادته بمقدّماته، فيكون البعث التبعي غير صالح للباعثية، ومع عدم باعثية أمر ذي المقدّمة لا يمكن أن يكون أمر المقدّمة الداعي إلى التوصّل به باعثاً، ومعه لا يمكن التقرّب به، مضافاً إلى أنّه على فرض باعثيته غير قربي، كما مرّ(1).

وبما ذكرنا يظهر ما في الثمرة الثانية؛ لأنّ الضمان الآتي من قِبل الأمر فرع إطاعته، وإلاّ فلو أتى بمتعلّق الأمر بلا باعثية له لم يستحقّ شيئاً كما لو كان جاهلاً بأمره، فمع عدم صلوح الأمر المقدّمي للباعثية لا يوجب الضمان.

هذا، مع أنّ مبنى المستدلّ وجوب المقدّمة الملازمة لوجود ذي المقدّمة، وهو ينافي ما ذكره هاهنا.

اللهمّ إلاّ أن يكون المفروض بعد تسليم وجوب المقدّمة المطلقة.

نعم، لو كان لهذا وجه صحّة كان ثمرة بين المقدّمة المطلقة والموصلة.

هذا كلّه مضافاً إلى كون ما ذكر ثمرةً للمسألة الاُصولية ممنوعاً.

حول تأسيس الأصل في مقدّمة الواجب

ثمّ إنّه لا أصل في المسألة: أمّا بالنسبة إلى الملازمة؛ فلأ نّها وإن كانت بين إرادة ذي المقدّمة وبين إرادة ما يرى مقدّمة لا بنحو لازم الماهية أو لازم الوجود؛ بمعنى المعلولية والعلّية، لكن ليس لها حالة سابقة معلومة، بل لو كانت معلومة بنحو الليس الناقص لما جرى الأصل؛ لعدم ترتّب حكم عليها بلا توسّط

ص: 341


1- تقدّم في الصفحة 312 و316.

أمر عقلي؛ لأنّ الملازمة لم تكن موضوعة لحكم شرعي، بل العقل يحكم بعدم الوجوب على فرض عدم الملازمة، وبتحقّقه على فرض تحقّقها.

وأمّا الأصل الحكمي؛ فلأنّ جريانه فرع الأثر الشرعي، وقد عرفت أنّه لا أثر لهذا الوجوب ولا لنفيه.

وأمّا الإشكال: بأنّ جريانه مستلزم للتفكيك بين المتلازمين؛ لكونه من قبيل لوازم الماهية أو الوجود(1).

ففيه: - مع ما في دعوى كونه من قبيلهما - أنّه لا يلزم التفكيك الواقعي، والظاهري منه لا إشكال فيه.

مع أنّه لو سلّم يلزم احتمال التفكيك، وهو لا يمنع جريان الأصل؛ لعدم جواز رفع اليد عن الأدلّة الشرعية بمجرّد احتمال الامتناع.

التحقيق عدم وجوب المقدّمة

إذا عرفت ما تقدّم فالتحقيق: عدم وجوب المقدّمة وعدم الملازمة بين الإرادتين، ولا بين البعثين:

أمّا الثاني: فأوضح من أن يخفى؛ لأنّ الهيئات الدالّة على البعث لا يمكن أن تبعث إلاّ إلى متعلّقاتها، وهي الواجبات النفسية، وكون البعث إلى المقدّمات من قبيل لوازم الماهيات ضروري الفساد، وكونه علّة للبعث إليها - بحيث يكون

ص: 342


1- اُنظر كفاية الاُصول: 156.

نفس البعث؛ أي الهيئة بما لها من المعنى، علّةً فاعلية لبعث المولى بالنسبة إلى المقدّمات؛ بحيث يكون مؤثّراً قهراً في المولى - أوضح بطلاناً.

ودعوى لابدّية البعث إلى المقدّمات بعد العلم بمقدّميتها(1) كما ترى؛ ضرورة عدم البعث إلى المقدّمات من الموالي غالباً، مع أنّ البعث إلى المقدّمة لغو، وما يرى وقوعه: إمّا إرشاد إلى الشرطية كالوضوء والغسل، وإمّا بعث إلى ذي المقدّمة بنحو الكناية تأكيداً، أو إرشاد إلى حكم العقل كالأمر بإطاعة الله.

وأمّا بين الإرادتين: فكون إرادة المقدّمة من قبيل لازم الماهية ضروري

الفساد؛ لأنّ لوازمها اعتبارية. وكونها معلولة لها؛ بمعنى كون إرادة ذي المقدّمة علّة فاعلية لإرادتها من غير احتياج إلى مبادٍ اُخر، كالتصوّر والتصديق بالفائدة وغيرهما، فهو أيضاً مثله في وضوح الفساد. وكفاية صرف تصوّر المقدّمية أو هو مع التصديق بكونها مقدّمة من غير التصديق بالفائدة، خلاف الوجدان.

فتعلّق الإرادة بها كتعلّقها بسائر المرادات من الاحتياج إلى المبادئ والغايات. فحينئذٍ نقول: إنّ غاية تعلّق الإرادة المولوية بها هو التوصّل إلى ذي المقدّمة، وبعد إرادة ذي المقدّمة والبعث نحوه، لمّا رأى المولى أنّ إرادة المقدّمات ممّا لا فائدة لها، ولا يمكن أن تكون تلك الإرادة مؤثّرة في العبد ولو بعد إظهارها وبعد البعث نحو المقدّمة - كما سنشير إليه - يكون تعلّقها بها

ص: 343


1- نهاية الأفكار 1: 352.

لغواً بلا غاية، وفي مثله لا يعقل تعلّقها.

وما قيل: من أنّ التعلّق قهري لا يحتاج إلى الغاية(1)، في غاية السقوط، كما تقدّم.

كما أنّ ما قيل: - من أنّ الإرادة التشريعية تابعة للتكوينية إمكاناً وامتناعاً، ووجوداً وعدماً، فكلّ ما يكون مورداً للإرادة التكوينية عند تحقّقها من نفس المريد، يكون مورداً للتشريعية عند صدورها من غير المريد(2) - ممّا لا برهان عليه، بل البرهان على خلافه؛ لأنّ المريد لإيجاد الفعل لمّا رأى توقّفه على المقدّمة، فلا محالة يكون جميع مبادئ إرادة المقدّمة موجودة في نفسه من التصوّر والتصديق بالفائدة، والاشتياق التبعي في بعض الأحيان، والغاية هي التوصّل إلى ذي المقدّمة.

وأمّا الإرادة التشريعية، فليست إلاّ إرادة البعث إلى الشيء، وأمّا إرادة نفس عمل الغير فغير معقولة؛ لأنّ عمل كلّ أحد متعلّق إرادة نفسه لا غيره.

نعم، يمكن اشتياق صدور عمل من الغير، لكن قد عرفت مراراً أنّ الاشتياق غير الإرادة التي هي تصميم العزم على الإيجاد، وهذا ممّا لا يتصوّر تعلّقه بفعل الغير.

فإرادة البعث لا بدّ لها من مبادٍ موجودة في نفس المولى، [وهي] بالنسبة إلى ذي المقدّمة موجودة؛ لأنّ غاية البعث هو التوصّل إلى المبعوث إليه ولو إمكاناً، وهو حاصل.

ص: 344


1- بدائع الأفكار (تقريرات المحقّق العراقي) الآملي 1: 399.
2- نفس المصدر.

وأمّا إرادة البعث إلى المقدّمات فممّا لا فائدة لها ولا غاية؛ لأنّ البعث إلى ذي المقدّمة إن كان مؤثّراً في نفس العبد، فلا يمكن انبعاث فوق الانبعاث، وإلاّ فلا يمكن أن يكون البعث الغيري موجباً لانبعاثه مع كونه لنفس التوصّل إلى ذي المقدّمة، ومع عدم ترتّب أثر عليه من الثواب والعقاب، فحينئذٍ تكون إرادة البعث من دون تمامية المبادئ من قبيل وجود المعلول بلا علّة تامّة. نعم، يمكن تعلّقها بها إرشاداً، أو لتأكيد ذي المقدّمة كنايةً.

هذا، مع أنّ الضرورة قاضية بعدم إرادة البعث نحو المقدّمات؛ لعدم تحقّق البعث في غالب الموارد، فيلزم تفكيك الإرادة عن معلولها، فإرادة البعث غير حاصلة.

والتأمّل الصادق فيما ذكرنا يوجب التصديق به، والمظنون أنّ كلّ ما صدر عن الأعاظم(1) من دعوى الوجدان والبرهان نشأ من قياس الإرادة التشريعية بالإرادة الفاعلية، كما تقدّم التصريح به من بعضهم.

وأمّا ما نقل(2) عن أبي الحسن(3)

البصري(4)

فلا يستأهل الجواب، مضافاً إلى أنّه منقوض بالمتلازمين؛ لأنّ برهانه آتٍ فيهما، مع أنّ تعلّق الإرادة بملازمِ ما فيه المصلحة مع خلوّه عنها ممّا لا يعقل؛ للزوم تعلّقها بلا ملاك، وهو ممتنع.

ص: 345


1- مطارح الأنظار 1: 405؛ كفاية الاُصول: 156.
2- كفاية الاُصول: 157.
3- هكذا ورد في «الكفاية»، لكنّ الصحيح - كما في سائر المصادر الاُصولية - هو «أبو الحسين البصري» صاحب كتاب «المعتمد في اُصول الفقه».
4- المعتمد في اُصول الفقه 1: 95.

وأمّا التفصيل بين السبب وغيره(1) فليس تفصيلاً.

وأمّا بين الشرط الشرعي وغيره فقد استدلّ على الوجوب فيه: بأ نّه لولا وجوبه شرعاً لما كان شرطاً؛ حيث إنّه ليس ممّا لا بدّ منه عقلاً أو عادةً(2).

ففيه: أنّه إن اُريد ممّا ذكر توقّف الشرطية ثبوتاً على الأمر الغيري، فهو دور واضح.

وإن اُريد أنّه لولا وجوبه لم يكن في مقام الإثبات دليل عليها، فالعلم بالشرطية يتوقّف على الوجوب الغيري.

ففيه: أنّ الوجوب التبعي الغيري - بما هو محلّ البحث في المقام - لا يمكن أن يكون كاشفاً عن الشرطية؛ لأنّ الملازمة الواقعية بين الإرادتين بنحو الكبرى الكلّية لا يمكن أن تكون كاشفة عن الصغرى، وكذا بين البعث إلى ذي المقدّمة والبعث التبعي إلى مقدّمته، فلا بدّ للكشف عن الشرطية من دليل: إمّا بعث نفسي إلى ذي المقدّمة متقيّداً بالشرط، كقوله: «صلّ متطهّراً»، أو بعث إرشادي إلى المقدّمة، كقوله: )إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَوةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُم...((3) إلى آخره، وبعد هذا الكشف تكون المقدّمة عقلية لا شرعية.

ص: 346


1- معالم الدين: 70؛ اُنظر مطارح الأنظار 1: 402.
2- شرح العضدي على مختصر ابن الحاجب: 91.
3- المائدة (5): 6.
تتمّة : في مقدّمة الحرام

وممّا ذكرنا من البرهان على عدم وجوب مقدّمة الواجب يظهر حال مقدّمة الحرام، وأنّها ليست بحرام، كانت من التوليديات أو لا.

وقد فصّل المحقّق الخراساني بينهما، فاختار الحرمة في التوليديات؛ لعدم توسّط الاختيار بينها وبين الفعل، دون غيرها لتوسّطه، فيكون المكلّف متمكّناً من ترك الحرام بعد حصوله، كما كان متمكّناً قبله، فلا ملاك لتعلّق الحرمة بها، وأمّا الاختيار فلا يمكن أن يتعلّق به التكليف؛ للزوم التسلسل(1).

وفيه: أنّ النفس لمّا كانت فاعلة بالآلة في العالم الطبيعي، لا يمكن أن تكون إرادتها بالنسبة إلى الأفعال الخارجية المادّية جزءاً أخيراً للعلّة؛ بحيث لا يتوسّط بينها وبين الفعل الخارجي شيء حتّى من آلاتها، وتكون النفس خلاّقة بالإرادة، بل هي مؤثّرة في الآلات والعضلات بالقبض والبسط، حتّى تحصل الحركات العضوية، وترتبط بواسطتها بالخارج، وتتحقّق الأفعال الخارجية.

مثلاً: إذا أمر المولى بشرب الماء، فالشرب عبارة عن بلع الماء وإدخاله في الباطن بتوسّط الحلقوم، ولم يحصل هذا العنوان بمجرّد الإرادة، بل تتوسّط بينه وبينها حركات العضلات المربوطة بهذا العمل، وهي اُمور اختيارية للنفس وتوليدية للشرب، فالمتوسّط بينها وبين الشرب والضرب والمشي

ص: 347


1- كفاية الاُصول: 159 - 160.

والقيام وهكذا، تحريكات اختيارية وأفعال إرادية قابلة لتعلّق التكليف بها، فالمشي مثلاً لا يتحقّق بنفس الإرادة؛ بحيث تكون هي مبدأً خلاّقاً له بلا توسّط الآلات وحركاتها وتحريك النفس إيّاها بتوسّط القوى المنبثّة التي تحت اختيارها.

نعم، لا يتوسّط بين الإرادة والمظاهر الأوّلية للنفس في عالم الطبيعة متوسّط.

وما ذكره رحمه الله علیه وإن يصحّ بنظر العرف، لكن المسألة لمّا كانت عقلية لا بدّ فيها من الدقّة وتحصيل المقدّمات والمتوسّطات بين الإرادة والأفعال.

فتحصّل ممّا ذكرنا: أنّ التفصيل الذي ذكره غير مرضيّ.

وممّا ذكرنا: يظهر النظر فيما أفاده شيخنا العلاّمة - أعلى الله مقامه - حيث فصّل بين ما هو محرّم بعنوانه من غير تقييده بالاختيار فتحرم مقدّمته، وبين ما هو مبغوض إذا صدر عن إرادة واختيار فلا تحرم المقدّمات الخارجية؛ لأنّ الإرادة على الثاني تكون من أجزاء العلّة، فلا تتّصف الأجزاء الخارجية بالحرمة؛ لعدم صحّة استناد الترك إلاّ إلى عدم الإرادة؛ لأ نّه أسبق رتبةً من سائر المقدّمات الخارجية(1).

لما عرفت من أنّ إرادة الفعل ليست جزءاً أخيراً للعلّة، بل الجزء الأخير فعل اختياري للنفس، وهو بمنزلة الفعل التوليدي.

فإذا حرم الشرب العمدي الإرادي يتوقّف تحقّقه على الشرب والإرادة

ص: 348


1- درر الفوائد، المحقّق الحائري: 130 - 132.

المتعلّقة به، فإذا أراد الشرب يتحقّق جزء من الموضوع، وجزؤه الآخر يتوقّف على أفعال اختيارية، منها تحريك عضلات الحلقوم وقبضها حتّى يتحقّق الازدراد، والجزء الأخير لتحقّق الموضوع هو هذا الفعل الاختياري، فتتعيّن الحرمة فيه بعد تحقّق سائر المقدّمات المتقدّمة عليه.

وأمّا قضيّة استناد الترك إلى عدم إرادة الفعل، فصحيحة في الأفعال الاختيارية، لكن الكلام في مقدّمات وجود المبغوض، وأنّ الإرادة التشريعية إذا تعلّقت بالزجر عنه فهل تتعلّق إرادة بالزجر عن المقدّمات الخارجية أم لا؟ ومع كون بعض المقدّمات الخارجية متوسّطاً بين إرادة الفعل وتحقّقه الخارجي - وهو من الأفعال الاختيارية للنفس - فلا محالة على الملازمة يصير مبغوضاً بعد تحقّق سائر المقدّمات.

ثمّ إنّه بناءً على الملازمة هل يحرم جميع المقدّمات، كما تجب جميع مقدّمات الواجب، أو يحرم الجزء الأخير إذا كانت أجزاء العلّة مترتّبة، وأحد الأجزاء إذا كانت عرضية؟

التحقيق: هو الثاني؛ لمساعدة الوجدان عليه، ولأنّ الزجر عن الفعل مستلزم للزجر عمّا يخرج الفعل من العدم إلى الوجود، لا عن كلّ ما هو دخيل في تحقّقه؛ لأنّ وجود سائر المقدّمات وعدمها سواء في بقاء المبغوض على عدمه، والمبغوض هو انتقاض العدم بالوجود، وما هو سبب لذلك هو الجزء الأخير في المترتّبات؛ بمعنى أنّ وجود سائر الأجزاء مع عدم هذا الجزء لا يوجب انتقاض العدم وتحقّق المبغوض، فلا ملاك لمبغوضيتها، وفي غير المترتّبات

ص: 349

يكون المجموع كذلك، وعدمه بعدم جزء منه، وقياس مقدّمات الحرام بالواجب مع الفارق.

وما في تقريرات بعض محقّقي العصر: من أنّ مقوّم الحرمة هو مبغوضية الوجود، كما أنّ مقوّم الوجوب محبوبيته، ومقتضاه سراية البغض إلى علّة الفعل المبغوض، فيكون كلّ جزء من أجزاء العلّة - التوأم مع وجود سائر الأجزاء بنحو القضيّة الحينية - مبغوضاً بالبغض التبعي، وحراماً بالحرمة الغيرية(1).

ففيه: - مضافاً إلى أنّ المبغوضية لا يمكن أن تكون مقوّمة للحرمة، ولا المحبوبية للوجوب؛ لأ نّهما في الرتبة السابقة على الإرادة المتقدّمة على البعث والزجر المنتزع منهما الوجوب والحرمة - أنّ مبغوضية الفعل لا يمكن أن تكون منشأً لمبغوضية جميع المقدّمات؛ لعدم المناط فيها على نحو العامّ الاستغراقي؛ لأنّ البغض لشيء يسري إلى ما هو محقّق وجوده وناقض عدمه، وغير الجزء الأخير من العلّة أو مجموع الأجزاء في المركّب الغير المترتّب، لا ينقض العدم.

وقوله: إنّ الجزء التوأم مع سائر الأجزاء مبغوض، من قبيل ضمّ ما ليس بالدخيل إلى ما هو الدخيل؛ فإنّ المجموع بما هو مجموع وإن كان مبغوضاً؛ لأ نّه العلّة التامّة لتحقّق الحرام، لكن كلّ واحد ليس كذلك بنحو القضيّة الحينية؛

لعدم الملاك فيه.

ص: 350


1- بدائع الأفكار (تقريرات المحقّق العراقي) الآملي 1: 403.

هذا، مع أنّه قاس الإرادة التشريعية بالتكوينية في مقدّمات الواجب(1)،

ومقتضى قياسه عدم الحرمة هاهنا؛ ضرورة أنّ من أراد ترك شيء لا تتعلّق إرادته بترك كلّ واحد من مقدّماته، بل تتعلّق بترك ما هو مخرج مبغوضه إلى الوجود، وهذا واضح.

انتهى الجزء الأوّل من الكتاب حسب تجزئتنا ويليه إن شاء الله تعالى الجزء الثاني منه بحول الله وقوّته وصلّى الله على محمّدٍ وآله الطاهرين.

ص: 351


1- بدائع الأفكار (تقريرات المحقّق العراقي) الآملي 1: 399.

ص: 352

الفهارس العامّة

اشارة

1 - الآيات الكريمة

2 - الأحاديث الشريفة

3 - أسماء المعصومين علیهم السلام

4 - الأعلام

5 - الكتب الواردة في المتن

6 - مصادر التحقيق

7 - الموضوعات

ص: 353

ص: 354

1 - فهرس الآيات الكريمة

الآية رقمها الصفحة

البقرة (2)

(لاَ يَنَالُ عَهْدِى الظَّالِمِينَ) 124 163

(فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ) 148 234

(أَحَلَّ الله الْبَيْعَ) 275 300

آل عمران (3)

(سَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) 133 234

(مِنْ رَبِّكُمْ) 133 235

النساء (4)

(حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ اُمَّهَاتُكُمْ) 23 144

(اُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ) 23 144

(فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً

طَيِّباً ) 43 250

ص: 355

الآية رقمها الصفحة

المائدة (5)

(إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَوةِ فَاغْسِلُوا

وُجُوهَكُم) 6 346

(فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً

طَيِّباً) 6 250

(vالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا( 38 162

(فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ) 48 234

الأنعام (6)

(مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا

وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ

مِثْلَهَا) 160 311

هود (11)

(أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأ ْتُوا بِعَشْرِ

سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ) 13 188

يوسف (12)

(وَاسْتَبَقَا الْبَابَ) 25 236

(مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ) 31 61، 62

(وَاسْأَلِ القَرْيَةَ) 82 63

ص: 356

الآية رقمها الصفحة

الإسراء (17)

(أَقِمِ الصَّلَوةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى

غَسَقِ الَّيْلِ) 78 241، 258

النور (24)

(الزَّانِيَةُ وَالزَّانِى فَاجْلِدُوا) 2 162

محمّد (47)

(إِنْ تَنْصُرُوا الله يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ

أَقْدَامَكُمْ) 7 6

المزمّل (73)

(أَقِيمُوا الصَّلَوةَ) 20 15

(وَأَقِيمُوا الصَّلَوةَ وَآتُوا الزَّكَوةَ

وَأَقْرِضُوا الله قَرْضاً حَسَناً) 20 91

المدّثّر (74)

(قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ) 43 91

القيامة (75)

(فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صَلَّى) 31 91

ص: 357

الآية رقمها الصفحة

الأعلى (87)

(وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى) 15 91

العلق (96)

(أَرَأَيْتَ الَّذِى يَنْهَى * عَبْداً إِذَا

صَلَّى) 9 - 10 92

2 - فهرس الأحاديث الشريفة

رفع... ما لا يعلمون 258

كلّ شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال... 255

كلّ شيء نظيف حتّى تعلم أنّه قذر 255

لا صلاة إلاّ بطهور 255

لو أنّ رجلاً تزوّج جارية رضيعة، فأرضعتها امرأته فسد النكاح 143

لو لا أن أشقّ على اُمّتي لأمرتُهم بالسواك 184

ص: 358

3 - فهرس أسماء المعصومين علیهم السلام

النبي، محمّد، رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم = محمّد بن عبدالله صلی الله علیه و آله وسلم ، نبي الإسلام

محمّد بن عبدالله صلی الله علیه و آله وسلم ، نبي الإسلام 1، 92، 119، 188، 235،

351

أميرالمؤمنين علیه السلام = علي بن أبي طالب علیه السلام ، الإمام الأوّل

علي بن أبي طالب علیه السلام ، الإمام الأوّل 235

الحسين، أبو عبدالله الحسين علیه السلام= الحسين بن علي علیه السلام ، الإمام الثالث

الحسين بن علي علیه السلام ، الإمام الثالث 146، 312

أبو جعفر علیه السلام = محمّد بن علي علیه السلام ، الإمام الخامس

محمّد بن علي علیه السلام ، الإمام الخامس 143

أبو عبدالله علیه السلام = جعفر بن محمّد علیه السلام ، الإمام السادس

جعفر بن محمّد علیه السلام ، الإمام السادس 143

الصادقين علیهما السلام (محمّد بن علي علیه السلام ، الإمام الخامس /

جعفر بن محمّد علیه السلام ، الإمام السادس) 119

إبراهيم، النبي 163

يوسف، النبي 236

يحيى، النبي 146

ص: 359

ص: 360

4 - فهرس الأعلام

الآخوند الخراساني، محمّد كاظم بن الحسين 10، 18، 40، 72، 102،

111، 112، 119، 124،

132، 136، 145، 171،

174، 176، 187، 210،

214، 224، 226، 239،

240، 241، 244، 245،

277، 293، 318، 333،

335، 338، 339، 347

الآغا ضياء= العراقي، ضياء الدين

ابن إدريس، محمّد بن أحمد 142

ابن سينا، الحسين بن عبدالله 4

ابن مالك، محمّد بن عبدالله 74، 75

ابن مهزيار= علي بن مهزيار

أبو الحسن البصري= ابو الحسين البصري= البصري، محمّد بن علي

الأصفهاني، محمّد تقي 42، 299

الأصفهاني، محمّد حسين 25، 104، 106، 293، 339

ص: 361

الأصفهاني، محمّد حسين بن عبدالرحيم 75، 173، 228، 322، 325، 326، 333

الأصفهاني، محمّد رضا 62

الأنصاري، مرتضى بن محمّد أمين 10، 282، 299، 322

الباقلاني، محمّد بن الطيّب 94، 95

البصري، محمّد بن علي 345

بعض أجلّة العصر= الأصفهاني، محمّد رضا

بعض أجلّة العصر= العراقي، ضياء الدين

بعض الأعاظم= النائيني، محمّد حسين

بعض أعاظم العصر= النائيني، محمّد حسين

بعض أعاظم فنّ الفلسفة= صدر الدين الشيرازي، محمّد بن إبراهيم

بعض أهل التحقيق= العراقي، ضياء الدين

بعض أهل النظر= النهاوندي النجفي، علي بن فتح الله

بعض الفحول= الأصفهاني، محمّد تقي

بعض المحقّقين= العراقي، ضياء الدين

بعض محقّقي العصر= العراقي، ضياء الدين

بعض المدقّقين= الأصفهاني، محمّد حسين

بعض المدقّقين من أهل العصر= العراقي، ضياء الدين

الحائري، عبدالكريم 11، 19، 87، 121، 197،

199، 216، 227، 233،

326، 329، 330، 348

الحسيني الأسترآبادي، محمّد بن علي 168، 170

الحلبي، عبيدالله بن علي 143

الحلّي= ابن إدريس، محمّد بن أحمد

ص: 362

حمّاد بن عيسى 259

الخراساني= الآخوند الخراساني، محمّد كاظم بن الحسين

الدواني، محمّد بن أسعد 161

الرشتي، حبيب الله بن محمّد علي 19

السكّاكي، يوسف بن أبي بكر 60، 61، 62، 226

الشهيد الثاني، زين الدين بن علي 141

الشيخ أبو علي سينا= ابن سينا، الحسين بن عبدالله

الشيخ الأعظم= الأنصاري، مرتضى بن محمّد أمين

الشيخان (المفيد، محمّد بن محمّد / الطوسي، محمّد بن الحسن) 4

شيخنا العلاّمة= الحائري، عبدالكريم

صاحب الجواهر، محمّد حسن بن باقر 144

صاحب الحاشية (هداية المسترشدين)= الأصفهاني، محمّد تقي

صاحب الفصول الغروية= الأصفهاني، محمّد حسين بن عبدالرحيم

صاحب المعالم= ابن الشهيد الثاني، الحسن بن زين الدين

صدر الدين الشيرازي، محمّد بن إبراهيم 7

الصدوقان (ابن بابويه، علي بن الحسين / ابن بابويه، محمّد بن علي) 4

ابن الشهيد الثاني، الحسن بن زين الدين 185، 321، 322

عبدالرحمان بن أبي عبدالله 259

العراقي، ضياء الدين 11، 21، 35، 38، 42،

51، 80، 88، 104، 136،

185، 190، 194، 210،

246، 273، 289، 290،

304، 322، 323، 329،

340، 350

ص: 363

العلاّمة الحائري= الحائري، عبدالكريم

علي بن مهزيار 143

فخر المحقّقين، محمّد بن الحسن 141، 143

المحقّق الشريف= الحسيني الأسترآبادي، محمّد بن علي

المحقّق الطوسي= نصير الدين الطوسي، محمّد بن محمّد

المحقّق المحشّي= الأصفهاني، محمّد حسين

محمّد بن مسلم 143

النائيني، محمّد حسين 11، 32، 40، 139، 140،

190، 225، 279، 297

نصير الدين الطوسي، محمّد بن محمّد 72

النهاوندي النجفي، علي بن فتح الله 293

ص: 364

5 - فهرس الكتب الواردة في المتن

القرآن الكريم 91، 110، 189

الإيضاح= إيضاح الفوائد

إيضاح الفوائد 142

التعليقة على الكفاية للمحقّق الأصفهاني= نهاية الدراية

الجواهر= جواهر الكلام

جواهر الكلام 144

رسالة الطلب والإرادة للإمام الخميني(سلام الله عليه) 185، 189

شرح المفصّل 74

الصلاة للمحقّق الحائري 233

الفصول الغروية 75، 100، 173، 174،

226، 228، 229، 293،

322، 325، 326، 333

الكفاية= كفاية الاُصول

كفاية الاُصول 75، 104، 123، 331

المعالم= معالم الدين

معالم الدين 185، 321، 322

نهاية الدراية 293، 331

وقاية الأذهان 62

ص: 365

ص: 366

6 - فهرس مصادر التحقيق

«القرآن الكريم».

«أ»

1 - الاجتهاد والتقليد، ضمن «موسوعة الإمام الخميني قدّس سرّه ».= موسوعة الإمام

الخميني قدّس سرّه .

2 - أجود التقريرات (تقريرات المحقّق النائيني). السيّد أبو القاسم الموسوي الخوئي (1317 - 1413)، تحقيق مؤسّسة صاحب الأمر(عج)، الطبعة الاُولى، 4 مجلّدات، قم، مطبعة ستارة، 1419 ق.

3 - إرشاد الطالبين إلى نهج المسترشدين. جمال الدين مقداد بن عبدالله السيوري الحلّي (م 826)، تحقيق السيّد مهديّ الرجائي، قم، مكتبة آية الله المرعشي، 1405 ق.

4 - الاستصحاب، ضمن «موسوعة الإمام الخميني قدّس سرّه ».= موسوعة الإمام الخميني قدّس سرّه .

5 - الإشارات والتنبيهات. مع الشرح للمحقّق نصير الدين الطوسي وشرح الشرح للعلاّمة قطب الدين الرازي. الشيخ الرئيس أبو علي حسين بن عبدالله بن سينا (370 - 427)، الطبعة الثانية، 3 مجلّدات، طهران، دفتر نشر كتاب، 1403 ق.

6 - الاعتقادات. العلاّمة الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقيّ المجلسي، تحقيق السيّد مهديّ الرجائي، الطبعة الاُولى، أصفهان، مكتبة العلاّمة المجلسي، 1409 ق.

7 - أنوار الهداية في التعليقة على الكفاية، ضمن «موسوعة الإمام الخميني قدّس سرّه ».= موسوعة الإمام الخميني قدّس سرّه .

ص: 367

8 - إيضاح الفوائد في شرح إشكالات القواعد. فخر المحقّقين الشيخ أبو طالب محمّد بن الحسن بن يوسف بن المطهّر الحلّي (682 - 771)، إعداد عدّة من العلماء، الطبعة الاُولى، 4 مجلّدات، قم، المطبعة العلمية، 1387 ق.

«ب»

9 - بدائع الأفكار. الشيخ حبيب الله الرشتي، الطبعة الحجرية، مؤسّسة آل البيت علیهم السلام لإحياء التراث.

10 - بدائع الأفكار في الاُصول (تقريرات المحقّق العراقي). الشيخ هاشم الآملي (1282 - 1371 ش)، الطبعة الاُولى، النجف الأشرف، 1370 ق.

11 - البصائر النصيرية في المنطق. زين الدين عمر بن سهلان الساوجي، قم، مدرسة الرضوية.

12 - البهجة المرضيّة. جلال الدين السيوطي، تعليق مصطفى الحسيني الدشتي.

«ت»

13 - تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام. السيّد حسن الصدر (1272 - 1354)، طهران، مكتبة الأعلمي.

14 - تشريح الاُصول. الشيخ مولى علي بن مولى فتح الله النهاوندي (م 1322)، الطبعة الحجرية، طهران، دار الخلافة، 1320 ق.

15 - تفسير القرطبي ( الجامع لأحكام القرآن). أبو عبدالله محمّد بن أحمد الأنصاري القرطبي (م 672)، الطبعة الثانية، 24 مجلّداً، بيروت، دار إحياء التراث العربي، 1405ق / 1985 م.

16 - التفسير الكبير. محمّد بن عمر الخطيب فخر الدين الرازي (544 - 606)، الطبعة الثالثة، 32 جزءاً في 16 مجلّداً، قم، مكتب الإعلام الإسلامي، 1411 ق.

17 - تقريرات آية الله المجدّد الشيرازي. المولى علي الروزدري (م 1290)، تحقيق مؤسّسة آل البيت علیهم السلام لإحياء التراث، الطبعة الاُولى، قم، مطبعة مهر، 1409 ق.

18 - التوحيد. أبو جعفر محمّد بن علي بن الحسين بن بابويه القمّي، الشيخ الصدوق

ص: 368

(م 381)، تحقيق السيّد هاشم الحسيني الطهراني، قم، مؤسّسة النشر الإسلامي، 1398 ق.

19 - تهذيب الأحكام. أبو جعفر محمّد بن الحسن، الشيخ الطوسي (385 - 460)، إعداد السيّد حسن الموسوي الخرسان، الطبعة الرابعة، 10 مجلّدات، طهران، دار الكتب الإسلامية، 1365 ش.

20 - تهذيب الوصول إلى علم الاُصول. العلاّمة الحلّي جمال الدين أبو منصور الحسن بن يوسف بن المطهّر (648 - 726)، تحقيق السيّد محمّد حسين الرضوي الكشميري، الطبعة الاُولى، لندن، مؤسّسة الإمام علي علیه السلام ، 1421 ق / 2001 م.

«ج»

21 - جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام. الشيخ محمّد حسن بن باقر النجفي (م 1266)، تحقيق الشيخ عبّاس القوچاني، الطبعة الثالثة، 43 مجلّداً، طهران، دار الكتب الإسلامية، 1367 ش.

22 - الجوهر النضيد في شرح منطق التجريد. العلاّمة الحلّي جمال الدين الحسن بن يوسف ابن المطهّر (648 - 726)، قم، انتشارات بيدار، 1413 ق.

«ح»

23 - الحاشية على تهذيب المنطق. المولى عبدالله بن شهاب الدين الحسيني اليزدي (م 981)، الطبعة العاشرة، قم، مؤسّسة النشر الإسلامي، 1421 ق.

24 - حاشية كفاية الاُصول. الميرزا أبو الحسن المشكيني (م 1358)، تحقيق الشيخ سامي الخفّاجي، الطبعة الاُولى، 5 مجلّدات، قم، منشورات دار الحكمة، 1413 ق.

25 - الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة. صدر المتأ لّهين محمّد بن إبراهيم الشيرازي (م 1050)، الطبعة الثانية، 9 مجلّدات، قم، مكتبة المصطفوي.

«خ»

26 - الخصال. أبو جعفر محمّد بن علي بن الحسين بن بابويه القمّي المعروف بالشيخ

ص: 369

الصدوق (م 381)، تصحيح علي أكبر الغفّاري، الطبعة الثانية، جزءان في مجلّد واحد، قم، مؤسّسة النشر الإسلامي، 1403 ق.

«د»

27 - درر الفوائد. العلاّمة الشيخ عبدالكريم الحائري اليزدي، تعليق آية الله الشيخ محمّد علي الأراكي والمؤلّف، تحقيق الشيخ محمّد المؤمن القمّي، الطبعة الخامسة، جزءان في مجلّد واحد، قم، مؤسّسة النشر الإسلامي، 1408 ق.

28 - الدروس الشرعية في فقه الإمامية. الشهيد الأوّل شمس الدين محمّد بن مكّي العاملي (م 786)، تحقيق مؤسّسة النشر الإسلامي، الطبعة الاُولى، 3 مجلّدات، قم، مؤسّسة النشر الإسلامي، 1412 - 1414 ق.

29 - ديوان امرئ القيس. تحقيق الدكتور عمر فاروق الطبّاع، بيروت، شركة دار الأرقم بن أبي الأرقم.

«ذ»

30 - ذكرى الشيعة في أحكام الشريعة. الشهيد الأوّل شمس الدين محمّد بن مكّي العاملي (م 786)، تحقيق مؤسّسة آل البيت علیهم السلام لإحياء التراث، الطبعة الاُولى، 4 مجلّدات، قم، مؤسّسة آل البيت علیهم السلام لإحياء التراث، 1414 ق.

«ر»

31 - رسائل ابن سينا. الشيخ الرئيس أبو علي حسين بن عبدالله بن سينا (370 - 427)، قم، نشر مكتبة البيدار، 1400 ق.

32 - روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان. الشهيد الثاني زين الدين بن علي بن أحمد العاملي (911 - 965)، تحقيق مركز الأبحاث والآثار الإسلامية، الطبعة الاُولى، مجلّدان، قم، مكتب الإعلام الإسلامي، 1422 ق.

33 - رياض المسائل في بيان أحكام الشرع بالدلائل. السيّد علي بن محمّد علي الطباطبائي (1161 - 1231)، تحقيق مؤسّسة النشر الإسلامي، الطبعة الاُولى، 14 مجلّداً، قم، مؤسّسة النشر الإسلامي، 1412 - 1423 ق.

ص: 370

«س»

34 - السرائر الحاوي لتحرير الفتاوي. أبو جعفر محمّد بن منصور بن أحمد بن إدريس الحلّي (543 - 598)، إعداد مؤسّسة النشر الإسلامي، الطبعة الثانية، 3 مجلّدات، قم، مؤسّسة النشر الإسلامي، 1410 - 1411 ق.

«ش»

35 - شرائع الإسلام في مسائل الحلال والحرام. المحقّق الحلّي نجم الدين جعفر بن الحسن بن يحيى بن سعيد الهذلي (602 - 676)، تحقيق عبدالحسين محمّد علي بقّال، الطبعة الثالثة، 4 أجزاء في مجلّدين، قم، مؤسّسة إسماعيليان، 1409 ق.

36 - شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك. عبدالله بن عقيل العقيلي الهمداني المصري (698 - 769)، الطبعة الرابعة عشرة، القاهرة، المكتبة التجارية الكبرى، 1384 ق / 1964 م.

37 - شرح الرضيّ على الكافية. رضيّ الدين محمّد بن الحسن الأسترآبادي النحوي (م 688)، تصحيح يوسف حسن عمر، الطبعة الاُولى، 4 مجلّدات، تهران، منشورات مؤسّسة الصادق، 1398 ق/ 1978 م.

38 - شرح الشمسية. قطب الدين محمود بن محمّد الرازي (م 766)، الطبعة الحجرية، طهران، انتشارات علميه إسلامية، 1304 ق.

39 - شرح العضدي على مختصر ابن الحاجب. القاضي عبدالرحمان بن أحمد بن عبد الغفّار، تصحيح أحمد رامز الشهير بشهري المدرّس بدار الخلافة، إسلامبول، مطبعة العالم، 1307 ق.

40 - شرح المطالع. قطب الدين محمّد بن محمّد الرازي (م 766)، قم، انتشارات الكتبي.

41 - شرح المنظومة. المولى هادي بن مهديّ السبزواري (1212 - 1289)، تصحيح وتعليق وتحقيق حسن حسن زاده الآملي ومسعود الطالبي، الطبعة الاُولى، 5 مجلّدات، طهران، نشر ناب، 1369 - 1379 ش.

42 - شرح المواقف. السيّد الشريف علي بن محمّد الجرجاني (م 812)، تصحيح السيّد

ص: 371

محمّد بدرالدين النسعاني، الطبعة الاُولى، 8 أجزاء في 4 مجلّدات، قم، منشورات الشريف الرضيّ، 1412 ق / 1370 ش، «بالاُفست عن طبعة مصر، 1325».

43 - شرح تجريد العقائد. علاء الدين علي بن محمّد القوشجي (م 879)، الطبعة الحجرية، قم، منشورات الشريف الرضيّ - بيدار.

44 - شرح حكمة الإشراق. محمّد بن مسعود بن مصلح المشهور بقطب الدين الشيرازي (م 710)، قم، انتشارات بيدار.

45 - شرح منازل السائرين. كمال الدين عبدالرزّاق القاساني (م 736)، تحقيق محسن بيدارفر، الطبعة الاُولى، قم، انتشارات بيدار، 1413 ق / 1372 ش.

46 - الشفاء. الشيخ الرئيس أبو علي حسين بن عبدالله بن سينا (370 - 427)، تحقيق عدّة من الأساتذة، 10 مجلّداً ( الإلهيات + المنطق 4 مجلّدات + الطبيعيات 3 مجلّدات + الرياضيات مجلّدان)، قم، مكتبة آية الله المرعشي، 1405 ق.

47 - الشواهد الربوبية في المناهج السلوكية. صدر المتأ لّهين محمّد بن إبراهيم الشيرازي، تصحيح السيّد جلال الدين الآشتياني، الطبعة الثانية، مشهد، مركز نشر دانشگاهى، 1360 ش.

«ص»

48 - الصحاح (تاج اللغة وصحاح العربية). إسماعيل بن حمّاد الجوهري (م 393)، تحقيق أحمد عبدالغفور عطّار، الطبعة الرابعة، 6 مجلّدات، بيروت، دار العلم للملايين، 1407 ق / 1987 م.

49 - الصلاة. المحقّق الحائري (م 1355)، قم، مكتب الإعلام الإسلامي، 1362 ش.

50 - الصلاة، ضمن «تراث الشيخ الأعظم» ج 6 - 8. الشيخ الأعظم مرتضى بن محمّد أمين الأنصاري الدزفولي (1214 - 1281)، إعداد لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم، الطبعة الاُولى، 3 مجلّدات، قم، المكتبة الفقهية، 1415 ق.

«ط»

51 - الطلب والإرادة، ضمن «موسوعة الإمام الخميني قدّس سرّه ».= موسوعة الإمام الخميني قدّس سرّه .

ص: 372

52 - الطهارة، ضمن «تراث الشيخ الأعظم» ج 1 - 5. الشيخ الأعظم مرتضى بن محمّد أمين الأنصاري الدزفولي (1214 - 1281)، إعداد لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم، الطبعة الاُولى، 5 مجلّدات، قم، المكتبة الفقهية، 1415 ق.

«ع»

53 - عوالي اللآلي العزيزية في الأحاديث الدينية. محمّد بن علي بن إبراهيم الأحسائي المعروف بابن أبي جمهور (م - أوائل القرن العاشر)، تحقيق مجتبى العراقي، الطبعة الاُولى، قم، مطبعة سيّد الشهداء، 1403 ق.

54 - العين. أبو عبدالرحمان الخليل بن أحمد الفراهيدي (100 - 175)، تحقيق الدكتور مهديّ المخزومي وإبراهيم السامرائي، 8 مجلّدات، بيروت، دار ومكتبة الهلال.

«غ»

55 - غرر العوائد من درر الفوائد. الميرزا محمّد الثقفي الطهراني، مطبعة الحيدرية، 1389 ق.

«ف»

56 - الفتوحات المكّية. أبو عبدالله محمّد بن علي الحاتمي الطائي المعروف بابن العربي (560 - 638)، 4 مجلّدات، بيروت، دار إحياء التراث العربي.

57 - فرائد الاُصول، ضمن «تراث الشيخ الأعظم» ج 24 - 27. الشيخ الأعظم مرتضى بن محمّد أمين الأنصاري (1214 - 1281)، إعداد لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم، الطبعة الاُولى، 4 مجلّدات، قم، مجمع الفكر الإسلامي، 1419 ق / 1377 ش.

58 - الفصول الغروية في الاُصول الفقهية. محمّد حسين بن عبدالرحيم الطهراني الأصفهاني الحائري (م 1250)، قم، دار إحياء العلوم الإسلامية، 1404 ق. «بالاُفست عن الطبعة الحجرية».

59 - الفقيه (من لا يحضره الفقيه). أبو جعفر بن محمّد بن علي بن الحسين بن بابويه القمّي

المعروف بالشيخ الصدوق (م 381)، إعداد السيّد حسن الموسوي الخرسان، الطبعة

ص: 373

الرابعة، 4 مجلّدات، النجف الأشرف، دار الكتب الإسلامية، 1377 ق / 1957م.

60 - فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني). الشيخ محمّد علي الكاظمي الخراساني (1309 - 1365)، الطبعة الاُولى، 4 مجلّدات، قم، مؤسّسة النشر الإسلامي، 1404ق.

«ق»

61 - قواعد الأحكام في مسائل الحلال والحرام. العلاّمة الحسن بن يوسف بن علي بن المطهّر الحلّي (648 - 726)، تحقيق مؤسّسة النشر الإسلامي، الطبعة الاُولى، 3 مجلّدات، قم، مؤسّسة النشر الإسلامي، 1413 ق.

62 - قوانين الاُصول. المحقّق ميرزا أبو القاسم القمّي بن المولى محمّد حسين الجيلاني المعروف بالميرزا القمّي (1151 - 1231)، مجلّدان، الطبعة الحجرية، المجلّد الأوّل، طهران، المكتبة العلمية الإسلامية، 1378، والمجلّد الثاني، طهران، المستنسخة سنة 1310 ق.

«ك»

63 - الكافي. ثقة الإسلام أبو جعفر محمّد بن يعقوب بن إسحاق الكليني الرازي (م 329)، تحقيق علي أكبر الغفّاري، الطبعة الخامسة، 8 مجلّدات، طهران، دار الكتب الإسلامية، 1363 ش.

64 - كامل الزيارات. أبو القاسم جعفر بن محمّد بن قولويه القمّي، الشيخ جواد القيّومي، الطبعة الاُولى، قم، مؤسّسة نشر الفقاهة، 1417 ق.

65 - كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد. العلاّمة الحلّي جمال الدين الحسن بن يوسف بن المطهّر، تحقيق الشيخ حسن حسن زاده الآملي، قم، مؤسّسة النشر الإسلامي، 1414 ق.

66 - كفاية الاُصول. الآخوند الخراساني المولى محمّد كاظم بن حسين الهروي (1255 - 1329)، تحقيق مؤسّسة النشر الإسلامي، قم، مؤسّسة النشر الإسلامي.

ص: 374

67 - كفاية الفقه المشتهر ب «كفاية الأحكام». محمّد باقر بن محمّد مؤمن الشريف الخراساني السبزواري (1017 - 1090)، تحقيق الشيخ مرتضى الواعظي الأراكي، الطبعة الاُولى، مجلّدان، قم، مؤسّسة النشر الإسلامي، 1423 ق.

«ل»

68 - لمحات الاُصول (تقريرات المحقّق البروجردي)، ضمن «موسوعة الإمام الخميني قدّس سرّه ».= موسوعة الإمام الخميني قدّس سرّه .

«م»

69 - مبادئ الوصول إلى علم الاُصول. العلاّمة الحلّي الحسن بن يوسف بن علي بن المطهّر الحلّي (648 - 726)، تحقيق عبدالحسين محمّد علي البقّال، الطبعة الثالثة، قم، مكتب الإعلام الإسلامي، 1404 ق.

70 - مجمع البيان في تفسير القرآن. أبو علي أمين الإسلام الفضل بن الحسن الطبرسي (حوالي 470 - 548)، تحقيق وتصحيح السيّد هاشم الرسولي المحلاّتي والسيّد فضل الله اليزدي الطباطبائي، الطبعة الاُولى، 10 أجزاء في 5 مجلّدات، بيروت، دار المعرفة للطباعة والنشر.

71 - المحاسن. أبو جعفر أحمد بن محمّد بن خالد البرقي (م274 أو 280)، تحقيق جلال الدين الحسيني الاُرموي، الطبعة الثانية، قم، دار الكتب الإسلامية.

72 - مدارك الأحكام في شرح شرائع الإسلام. السيّد محمّد بن علي الموسوي العاملي (م 1009)، تحقيق مؤسّسة آل البيت علیهم السلام لإحياء التراث، الطبعة الاُولى، 8 مجلّدات، قم، مؤسّسة آل البيت علیهم السلام لإحياء التراث، 1410 ق.

73 - مسالك الأفهام إلى تنقيح شرائع الإسلام. الشهيد الثاني زين الدين بن علي العاملي الجبعي (911 - 965)، تحقيق مؤسّسة المعارف الإسلامية، الطبعة الاُولى، 15 مجلّداً، قم، مؤسّسة المعارف الإسلامية، 1413 - 1419 ق.

74 - مستند الشيعة في أحكام الشريعة. أحمد بن محمّد مهديّ النراقي (م 1245)، تحقيق

ص: 375

مؤسّسة آل البيت علیهم السلام لإحياء التراث، الطبعة الاُولى، 18 مجلّداً، قم، مؤسّسة آل البيت علیهم السلام لإحياء التراث، 1415 - 1420 ق.

75 - مطارح الأنظار (تقريرات الشيخ الأعظم الأنصاري). الميرزا أبو القاسم الكلانتري (1236 - 1292)، تحقيق مجمع الفكر الإسلامي، الطبعة الاُولى، مجلّدان، قم، مجمع الفكر الإسلامي، 1425 ق.

76 - المطوّل في شرح تلخيص المفتاح. سعد الدين التفتازاني الهروي مسعود بن عمر بن عبدالله (م 792)، وبهامشه حاشية المير سيّد شريف، قم، مكتبة آية الله المرعشي النجفى، 1407 ق.

77 - معارج الاُصول. المحقّق الحلّي جعفر بن الحسن بن يحيى بن سعيد الهُذلي (602 - 676)، إعداد محمّد حسين الرضوي، الطبعة الاُولى، قم، مؤسّسة آل البيت علیهم السلام ، 1403 ق.

78 - معالم الدين وملاذ المجتهدين «قسم الاُصول». أبو منصور جمال الدين الحسن بن زين الدين العاملي (959 - 1011)، تحقيق لجنة التحقيق، الطبعة الحادي عشر، قم، مؤسّسة النشر الإسلامي، 1416 ق.

79 - معاني الأخبار. أبو جعفر محمّد بن علي بن الحسين بن بابويه القمّي المعروف بالشيخ الصدوق (م 381)، تصحيح علي أكبر الغفّاري، قم، مؤسّسة النشر الإسلامي، 1361 ش.

80 - المعتمد في اُصول الفقه. أبو الحسين محمّد بن علي بن الطيّب البصري المعتزلي (م 436 ق / 1044م)، الطبعة الاُولى، مجلّدان، بيروت، دار الكتب العلمية، 1403 ق.

81 - مفاتيح الاُصول. السيّد محمّد الطباطبائي (م 1242)، الطبعة الحجرية، قم، مؤسّسة آل البيت علیهم السلام لإحياء التراث.

82 - مفتاح العلوم. أبو يعقوب يوسف بن أبي بكر محمّد بن علي السكّاكي (م 626)، بيروت، دار الكتب العلمية، 1348 ق.

83 - مقالات الاُصول. الشيخ ضياء الدين العراقي (1278 - 1361) ، تحقيق الشيخ محسن

ص: 376

العراقي والسيّد منذر الحكيم والشيخ مجتبى المحمودي، الطبعة الاُولى، مجلّدان، قم، مجمع الفكر الإسلامي، 1414 - 1420 ق.

84 - منية الطالب في شرح المكاسب (تقريرات المحقّق النائيني). الشيخ موسى بن محمّد النجفي الخوانساري (1254 - 1363)، تحقيق مؤسّسة النشر الإسلامي، الطبعة الثانية، 3 مجلّدات، قم، مؤسّسة النشر الإسلامي، 1424 ق.

85 - موسوعة الإمام الخميني قدّس سرّه . تحقيق مؤسّسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني قدّس سرّه ،

الطبعة الاُولى، قم، مؤسّسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني قدّس سرّه ، 1434 ق / 1392 ش.

«ن»

86 - نهاية الاُصول (تقريرات المحقّق البروجردي). الشيخ حسينعلي المنتظري، الطبعة الاُولى، قم، نشر تفكّر، 1415 ق.

87 - نهاية الأفكار (تقريرات المحقّق آغا ضياء الدين العراقي). الشيخ محمّد تقيّ البروجردي النجفي (م 1391)، تحقيق مؤسّسة النشر الإسلامي، الطبعة الاُولى، 4 أجزاء في 3 مجلّدات، قم، مؤسّسة النشر الإسلامي، 1405 ق.

88 - نهاية الدراية في شرح الكفاية. الشيخ محمّد حسين الأصفهاني (1296 - 1361)، تحقيق مؤسّسة آل البيت علیهم السلام لإحياء التراث، الطبعة الاُولى، 4 مجلّدات، قم، مؤسّسة

آل البيت علیهم السلام لإحياء التراث، 1414 ق.

89 - النهاية في غريب الحديث والأثر. مجد الدين أبو السعادات المبارك بن محمّد بن محمّد الجزري المعروف بابن الأثير (544 - 606)، تحقيق طاهر أحمد التراوي ومحمود محمّد الطناحي، 5 مجلّدات، قم، مؤسّسة إسماعيليان، 1364 ش.

«و»

90 - وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة. الشيخ محمّد بن الحسن الحرّ العاملي (1033 - 1104)، تحقيق مؤسّسة آل البيت علیهم السلام لإحياء التراث، الطبعة الاُولى،

ص: 377

30 مجلّداً، قم، مؤسّسة آل البيت علیهم السلام لإحياء التراث، 1409 ق.

91 - وقاية الأذهان مع رسالتي سمطا اللآل في مسألتي الوضع والاستعمال وإماطة الغين عن استعمال العين في معنيين. الشيخ أبو المجد محمّد رضا بن محمّد حسين النجفي الأصفهاني، تحقيق مؤسّسة آل البيت علیهم السلام لإحياء التراث، الطبعة الاُولى، قم، مؤسّسة آل البيت علیهم السلام لإحياء التراث، 1413 ق.

«ه»

92 - هداية المسترشدين في شرح اُصول معالم الدين. الشيخ محمّد تقيّ الرازي النجفي الأصفهاني (م 1248)، تحقيق مؤسّسة النشر الإسلامي، الطبعة الاُولى، 3 مجلّدات، قم، مؤسّسة النشر الإسلامي، 1420 - 1421 ق.

ص: 378

7 - فهرس الموضوعات

مقدّمة موسوعة الإمام الخميني(س) ··· ه

مقدّمة التحقيق ··· ط

مقدّمة بقلم آية الله العظمى الشيخ محمّد الفاضل اللنكراني ··· يد

المقدّمة

وفيها اُمور :

الأمر الأوّل: في موضوع علم الاُصول وتعريفه ··· 3

اعتبارية وحدة العلم ··· 3

تدريجية تكامل العلوم ··· 3

عدم لزوم موضوع واحد لكلّ علم ··· 4

تنبيه: فيما به امتياز العلوم ··· 8

بحث وتحقيق: في تعريف الاُصول ··· 9

في تحقيق المقام ··· 13

الأمر الثاني: في الواضع وكيفية الوضع ··· 16

حقيقة الوضع ··· 18

الأمر الثالث: في أقسام الوضع ··· 20

نقل وتنقيح: تصوير المحقّق العراقي لعموم الوضع والموضوع له ··· 21

ص: 379

وهم ودفع: تخيّل امتناع عموم الوضع وإبطاله ··· 24

تنبيه: في المراد بالعموم في الوضع ··· 25

الأمر الرابع: في أمثلة أقسام الوضع ··· 27

القول في معاني الحروف ··· 28

بحث وتحقيق: في بيان بعض أقسام الحروف ··· 32

في الخلط من بعض الأعاظم ··· 33

في كلام بعض المحقّقين ··· 35

دفع وهم: ردّ مقالة المحقّق العراقي في مدلول الحروف ··· 38

تكميل: في أنّ الوضع في الحروف عامّ والموضوع له خاصّ ··· 40

نقل كلمات الأعلام في وضع الحروف ونقدها ··· 40

القول في معاني الهيئات ··· 45

تنبيه: في الجمل التامّة وغير التامّة ··· 50

الكلام في الإنشاء والإخبار ··· 53

في أنحاء الإنشاء ··· 53

الكلام في ألفاظ الإشارات وأخواتها ··· 54

تنبيه: في أنّ معاني الحروف ليست مغفولاً عنها ··· 57

الأمر الخامس: في المجاز ··· 60

التحقيق في المجاز ··· 62

استعمال اللفظ في اللفظ ··· 64

إطلاق اللفظ وإرادة شخصه ··· 64

إطلاق اللفظ وإرادة مثله ··· 66

إطلاق اللفظ وإرادة نوعه ··· 66

الأمر السادس: في أنّ الألفاظ موضوعة لذات المعاني ··· 70

الأمر السابع: في الهيئات ··· 73

ص: 380

تنبيه: في الموضوع له في الهيئات ··· 75

تتميم: في تقسيم اللفظ إلى المفرد والمركّب ··· 77

الأمر الثامن: في العلائم التي يمتاز بها المعنى الحقيقي من غيره ··· 79

التبادر ··· 80

في طرق إحراز كون التبادر من حاقّ اللفظ ··· 81

صحّة الحمل ··· 82

صحّة السلب ··· 83

الاطّراد وعدمه ··· 84

الأمر التاسع: في تعارض الأحوال ··· 86

الأصل في صورة دوران الأمر بين النقل وغيره ··· 87

الأصل في صورة الشكّ في تقدّم النقل على الاستعمال وتأخّره عنه ··· 87

الأمر العاشر: في الحقيقة الشرعية ··· 91

الأمر الحادي عشر: في المبحث المعروف بالصحيح والأعمّ ··· 94

ونذكر قبل المقصد مقدّمات:

المقدّمة الاُولى: في اختلاف كلماتهم في عقد البحث ··· 94

المقدّمة الثانية: في الإشكال على التعبير عن المبحث بالصحيح والأعمّ ··· 95

المقدّمة الثالثة: في تعيين محلّ النزاع ··· 98

المقدّمة الرابعة: في لزوم تصوير الجامع ··· 102

التحقيق في تصوير الجامع ··· 109

المقدّمة الخامسة: في الثمرة بين القول بالصحيح والأعمّ ··· 111

الثمرة الاُولى: جريان أصل البراءة ··· 111

الثمرة الثانية: صحّة التمسّك بالإطلاق على الأعمّ ··· 114

حول أدلّة الصحيحي والأعمّي ··· 115

الإشكال في استدلال الصحيحي بالتبادر ··· 115

ص: 381

الإشكال في استدلال الصحيحي بصحّة السلب ··· 117

دفع الإشكال وتصحيح دعوى التبادر للصحيحي ثبوتاً ··· 118

استدلال الأعمّي بصحّة تعلّق النذر بترك الصلاة في الأمكنة المكروهة ··· 120

القول في المعاملات ··· 122

يتمّ الكلام فيها في ضمن اُمور:

الأوّل: في عدم جريان النزاع بناءً على الوضع للمسبّبات ··· 122

الثاني: في اختلاف الشرع والعرف في المقام ··· 123

الثالث: في حال التمسّك بالإطلاق لو كانت الأسامي للمسبّبات ··· 124

خاتمة: في تصوير جزء الفرد في المركّبات الاعتبارية ··· 127

الأمر الثاني عشر: في الاشتراك ··· 129

الأمر الثالث عشر: في استعمال اللفظ في أكثر من معنىً ··· 131

أدلّة الامتناع والجواب عنها ··· 132

الأمر الرابع عشر: في المشتقّ ··· 138

قبل تحقيق المقام لابدّ من تقديم اُمور:

الأوّل : في كون النزاع لغوياً ··· 138

الثاني: في العناوين الداخلة في محلّ النزاع ··· 139

كلام فخر المحقّقين في الرضاع ··· 141

الثالث: في خروج أسماء الزمان عن محطّ البحث ··· 145

الرابع: في وضع المشتقّات ··· 148

وفيها جهات:

الاُولى: في كيفية وضع المادّة ··· 148

الثانية: في وضع الهيئات ··· 152

الثالثة: في كيفية دلالة الفعل المضارع على الحال ··· 154

الخامس: في اختلاف مبادئ المشتقّات ··· 155

ص: 382

السادس: في المراد ب«الحال» ··· 157

السابع: في امتناع تصوير الجامع على الأعمّ ··· 158

التحقيق كون المشتقّ حقيقة في خصوص المتلبّس ··· 160

نقد الوجوه التي استدلّ بها للأعمّ ··· 161

بقي اُمور:

الأوّل: في بساطة المشتقّ وتركيبه ··· 164

تحقيق المقام ··· 167

استدلال المحقّق الشريف على بساطة المشتقّ ونقده ··· 168

الثاني: في الفرق بين المشتقّ ومبدئه ··· 171

الثالث: كلام صاحب الفصول ومناقشته ··· 173

الرابع: في الإشكال على الصفات الجارية على ذاته تعالى ··· 175

المقصد الأوّل: في الأوامر

الفصل الأوّل: فيما يتعلّق بمادّة الأمر ··· 181

وفيه اُمور:

الأمر الأوّل: في معاني لفظ الأمر ··· 181

تنبيه: ··· 182

الأمر الثاني: في اعتبار العلوّ والاستعلاء في مادّة الأمر ··· 183

الأمر الثالث: في دلالة مادّة الأمر على الوجوب ··· 184

الفصل الثاني: فيما يتعلّق بصيغة الأمر ··· 186

وفيه مباحث:

المبحث الأوّل: في أنّ صيغة الأمر موضوعة للبعث والإغراء ··· 186

المبحث الثاني: في المعاني الاُخر لهيئة الأمر ··· 188

ص: 383

المبحث الثالث: في أنّ الهيئة تدلّ على الوجوب أم لا؟ ··· 189

منشأ ظهور الصيغة في الوجوب ··· 192

تتميم: في الجمل الخبرية المستعملة في مقام الإنشاء ··· 199

المبحث الرابع: في التعبّدي والتوصّلي وأنّ مقتضى الأصل ماذا؟ ··· 200

ويتمّ البحث بتقديم اُمور:

الأوّل: في معنى التعبّدية والتوصّلية: ··· 200

الثاني: في إمكان أخذ قصد الأمر في المتعلّق ··· 201

فيما استدلّ به على امتناع الأخذ امتناعاً ذاتياً ··· 202

فيما استدلّ به على امتناع الأخذ امتناعاً بالغير ··· 206

في تصحيح أخذ قصد الأمر بأمرين ··· 210

تتميم: في إمكان أخذ قصد المصلحة ونحوها في المتعلّق ··· 214

الثالث: في مقتضى الأصل اللفظي في المقام ··· 216

في كلام شيخنا العلاّمة أعلى الله مقامه ··· 216

الرابع: في تحرير الأصل العملي ··· 219

المبحث الخامس: في أصالة النفسية والعينية والتعيينية ··· 223

المبحث السادس: في المرّة والتكرار ··· 226

وقبل الخوض في المقصود نقدّم اُموراً:

الأوّل: في تحرير محلّ النزاع ··· 226

الثاني: في تعيين المراد من المرّة والتكرار ··· 228

الثالث: في وحدة الامتثال وتعدّده عند إتيان الأفراد العرضية دفعة ··· 230

التحقيق: عدم دلالة الأمر على المرّة والتكرار ··· 232

المبحث السابع: في الفور والتراخي ··· 233

في استدلال العلاّمة الحائري على الفورية ··· 233

في الاستدلال على الفور بالآيتين الكريمتين ··· 234

ص: 384

الفصل الثالث: في الإجزاء ··· 237

وقبل الورود في البحث لابدّ من ذكر مقدّمات:

المقدّمة الاُولى: في تحرير محلّ النزاع ··· 237

المقدّمة الثانية: في المراد من الاقتضاء ··· 239

المقدّمة الثالثة: في معنى «على وجهه» ··· 240

المقدّمة الرابعة: في فارق المسألة عن المرّة والتكرار ··· 240

المقدّمة الخامسة: في وحدة الأمر أو تعدّده في المقام ··· 241

إذا عرفت ما ذكر فالكلام يقع في مواضع:

الموضع الأوّل: في إجزاء الإتيان بالمأمور به مطلقاً عن التعبّد به ثانياً ··· 243

في تبديل الامتثال بالامتثال ··· 243

الموضع الثاني: في أنّ الإتيان بالفرد الاضطراري مقتضٍ للإجزاء ··· 248

الموضع الثالث: في الإتيان بالمأمور به بالأمر الظاهري ··· 253

وفيه مقامان :

المقام الأوّل: في أنّ الإتيان بمقتضى الأمارات هل موجب للإجزاء؟ ··· 253

المقام الثاني: في أنّ الإتيان بمؤدّى الاُصول هل يقتضي الإجزاء؟ ··· 255

الفصل الرابع: في مقدّمة الواجب ··· 260

وقبل الخوض في المقصود ينبغي تقديم اُمور:

الأمر الأوّل: في محطّ البحث ··· 260

الأمر الثاني: في أنّ المسألة عقلية اُصولية ··· 264

الأمر الثالث: في تقسيمات المقدّمة ··· 266

تنقسم المقدّمة إلى أقسام:

منها: الداخلية والخارجية ··· 266

دفع وهم: كلام المحقّق العراقي حول ما هو خارج عن محل النزاع ··· 268

تتميم: في شمول النزاع لجميع أقسام المقدّمات الخارجية ··· 271

ص: 385

ومنها: تقسيمها إلى المقارن والمتقدّم والمتأخّر ··· 272

الإشكال في الشرط المتأخّر ··· 272

كلام المحقّق العراقي لدفع الإشكال في الشرط المتأخّر ··· 273

التحقيق في دفع الإشكال عن الشرط المتأخّر ··· 276

نقل كلام المحقّق النائيني في تحرير محطّ البحث في الشرط المتأخّر ··· 279

الأمر الرابع: في تقسيمات الواجب ··· 282

الواجب المطلق والمشروط ··· 282

والكلام في الواجب المشروط يتمّ في ضمن جهات:

الجهة الاُولى: في تصوير الواجب المشروط ··· 282

ضابط قيود المادّة والهيئة ··· 283

نقل وتحصيل: حول كلام المحقّق العراقي في الضابط في القيدين ··· 284

تذكرة: في أدلّة امتناع رجوع القيد إلى الهيئة والجواب عنها ··· 285

الجهة الثانية: في حكم الواجب المشروط قبل تحقّق شرطه ··· 287

الجهة الثالثة: في إشكالات الواجب المشروط على مسلك المشهور ··· 289

الواجب المعلّق والمنجّز ··· 293

إشكال المحقّق النهاوندي على الواجب المعلّق ··· 293

إشكال المحقّق النائيني على الواجب المعلّق ··· 297

تتمّة: في دوران القيد بين الهيئة والمادّة ··· 299

حول الوجهين المنقولين عن الشيخ لترجيح رجوع القيد إلى المادّة ··· 299

الواجب النفسي والغيري ··· 305

مقتضى الأصل اللفظي عند الشكّ في الغيرية ··· 306

مقتضى الأصل العملي عند الشكّ في الغيرية ··· 308

بقي في المقام تنبيهات:

التنبيه الأوّل: في ترتّب الثواب والعقاب على التكاليف الغيرية ··· 310

ص: 386

التنبيه الثاني: في الإشكالات الواردة على الطهارات الثلاث ··· 315

التنبيه الثالث: في منشأ عبادية الطهارات ··· 318

الأمر الخامس: ما هو الواجب في باب المقدّمة؟ ··· 321

حول ما نسب إلى صاحب المعالم في المقام ··· 321

حول ما نسب إلى الشيخ الأعظم في المقام ··· 322

حول وجوب المقدّمة الموصلة (مقالة صاحب الفصول) ··· 325

إشكالات المقدّمة الموصلة وأجوبتها ··· 325

في حال وجوب المقدّمة حال الإيصال ··· 329

التحقيق وجوب المقدّمة الموصلة ··· 333

ثمرة القول بالمقدّمة الموصلة ··· 334

الواجب الأصلي والتبعي ··· 338

تتميم: في ثمرة بحث مقدّمة الواجب ··· 340

حول تأسيس الأصل في مقدّمة الواجب ··· 341

التحقيق عدم وجوب المقدّمة ··· 342

تتمّة: في مقدّمة الحرام ··· 347

الفهارس العامّة

1 - فهرس الآيات الكريمة ··· 355

2 - فهرس الأحاديث الشريفة ··· 358

3 - فهرس أسماء المعصومين علیهم السلام ··· 359

4 - فهرس الأعلام ··· 361

5 - فهرس الكتب الواردة في المتن ··· 365

6 - فهرس مصادر التحقيق ··· 367

7 - فهرس الموضوعات ··· 379

ص: 387

المجلد 2

هوية الکتاب

عنوان واسم المؤلف: موسوعة الامام الخمیني قدس سرة الشریف المجلد 2 منهاج الوصول الی علم الاصول المجلد 2/ [روح الله الامام الخمیني قدس سرة].

مواصفات النشر : طهران : موسسة تنظیم و نشر آثارالامام الخمیني قدس سرة، 1401.

مواصفات المظهر: 334ص.

الصقيع: موسوعة الامام الخمیني قدس سرة

ISBN: 9789642123568

حالة القائمة: الفيفا

ملاحظة: الببليوغرافيا مترجمة.

عنوان : الخميني، روح الله، قائد الثورة ومؤسس جمهورية إيران الإسلامية، 1279 - 1368.

عنوان : الفقه والأحكام

المعرف المضاف: معهد الإمام الخميني للتحرير والنشر (س)

ترتيب الكونجرس: BP183/9/خ8الف47 1396

تصنيف ديوي : 297/3422

رقم الببليوغرافيا الوطنية : 3421059

عنوان الإنترنت للمؤسسة: https://www.icpikw.ir

ص: 1

المقدّمة

اشارة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين

وصلّى الله على محمّد وآله الطيّبين الطاهرين

ولعنة الله على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين

وبعد، فلمّا انتهى بحثنا في اُصول الفقه إلى مسألة الطلب والإرادة، المنتهية إلى مسألة الجبر والتفويض، أردنا أن نتركها لأهلها ومحلّها؛ لعدم إمكان أداء حقّها كما هو في هذه المظانّ؛ لكثرة مقدّماتها، ودقّة مطالبها، وبُعدها عن أفهام الأكثر.

إلاّ أنّ إصرار بعض المولَعين بتنقيح المباحث ألجأني إلى التعرّض لبعض أطراف المسألة ممّا يناسب المقام، والإشارة إلى ما هو التحقيق ممّا ساق إليه البرهان، من غير ذكر البراهين غالباً؛ إيكالاً إلى العلم الأعلى المعدّ لتحقيق

هذه المباحث.

ولمّا رأيت أنّ المسألة مع ذلك صارت طويلة الذيل، أفرزتها من بين المباحث رسالة مفردة مشتملة على مقدّمة ومطالب.

ص: 1

اعلم: أنّ مبنى الاختلاف في الطلب والإرادة هو الاختلاف في الكلام النفسي، ومبنى ذلك هو اختلاف أصحاب الكلام في أوصاف الواجب تعالى شأنه. فذهبت الأشاعرة(1) إلى جانب الإفراط بإثبات صفات قديمة زائدة على ذاته تعالى، قائمة بها؛ قياماً حلولياً ثابتة لها في الأزل، والمعتزلة(2) إلى جانب التفريط من نفي الصفات عنه تعالى؛ قائلين: إنّ ذاته نائبة مناب الصفات، من قبيل «خذ الغايات، واترك المبادي».

والقول الفحل الوسط(3) هو إثبات الصفات المتّحدة مع الذات؛ لأنّ صرف الوجود صرف كلّ كمال وجمال، لا تشذّ عنه حيثية كمالية، بل يرجع كلّ كمال

ص: 2


1- المطالب العالية 3: 223 - 224؛ شرح المقاصد 4: 69 - 77؛ اُنظر شرح المواقف 8: 44 - 49.
2- شرح الاُصول الخمسة، القاضي عبدالجبّار: 80 و118؛ الملل والنحل 1: 49؛ شرح المنظومة، قسم الحكمة 3: 558.
3- الشفاء، الإلهيات: 362؛ الحكمة المتعالية 6: 133؛ شرح المنظومة، قسم الحكمة 3: 552.

وجمال إلى حقيقة الوجود بحسب الخارج، وإلاّ يلزم الأصلان أو الاُصول، والتركيب في ذاته، والخلف في صرافة الوجود، والإمكان في الوجود الواجبي... إلى غير ذلك ممّا يطول ذكرها وذكر البراهين عليها.

ولمّا انتهى بحثهم إلى الكلام طال التشاجر بين الفريقين، ولعلّ تسميتهم بالمتكلّمين لذلك.

فذهبت المعتزلة(1) ومتكلّموا الإمامية(2) إلى أنّ توصيف الباري بالمتكلّم لأجل إيجاده الكلام في شيء مثل شجرة موسى علیه السلام ، أو نفس نبيّ، أو ملك.

وقال بعض أهل التحقيق(3): إنّ إطلاقه عليه لقيام التكلّم به، لا الكلام؛ قياماً صدورياً لا حلولياً، كما أنّ إطلاقه علينا أيضاً كذلك، إلاّ أنّ الفرق: أنّ إيجادنا

بالآلة، دونه تعالى.

وذهبت الأشاعرة(4) إلى أنّ كلامه تعالى ليس من جنس الأصوات والحروف، بل هو معنى قائم بذاته تعالى في الأزل، يسمّى الكلام النفسي، وهو مدلول الكلام اللفظي المركّب من الحروف، ومنه الطلب القائم بنفسه، وهو غير الإرادة.

والقول الحقّ الموافق للبرهان: أنّ إطلاق المتكلّم عليه تعالى ليس لذاك ولا لذا.

ص: 3


1- شرح الاُصول الخمسة، القاضي عبدالجبّار: 365؛ المغني في أبواب التوحيد والعدل 7: 3.
2- كشف المراد: 289؛ إرشاد الطالبين إلى نهج المسترشدين: 208؛ گوهر مراد: 275.
3- الحكمة المتعالية 7: 4؛ نهاية الدراية 1: 261 - 268.
4- المطالب العالية 3: 201؛ شرح المواقف 8: 93؛ شرح المقاصد 4: 147.

أمّا فساد قول المعتزلة: فلأنّ إحداث الكلام المتجدّد والمتصرّم بلا وسط مستلزم لمفاسد كثيرة؛ منها التجدّد في صفاته وذاته، تعالى عنه. وقضيّة إيحاء الوحي وإنزال الكتب إلى الأنبياء والمرسلين علیهم السلام من العلوم العالية الربّانية التي قلّما يتّفق لبشر أن يكشف مغزاها كتكلّمه تعالى مع موسى علیه السلام ، ولقد أشار إلى بعض أسرارها قوله تعالى: )نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ((1) وقوله تعالى: )إِنَّهُ لَقُرءَانٌ كَرِيمٌ * فِى كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ((2) وقوله تعالى: )إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْىٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى((3) إلى آخره، فأشار إلى كيفية الوحي ونزول الكتاب بوجه موافق للبرهان، غير منافٍ لتنزيهه تعالى عن شوب التغيّر، ووصمة الحدوث.

ولعمري إنّ الأسرار المودعة في هذا الكلام الإلهي المشير إلى كيفية الوحي، ودنوّ روحانية رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم إلى مقام «التدلّي»، والمقام المعبّر عنه ب )قاب قوسين(، وما يشار إليه بقوله: )أَوْ أَدْنَى( ثمّ تحقّق الوحي، ممّا لم يصل إليه فكر البشر إلاّ الأوحدي الراسخ في العلم بقوّة البرهان المشفوع إلى الرياضات ونور الإيمان.

والمقصود: دفع توهّم كونه تعالى متكلّماً بإيجاد الكلام المتصرّم في

ص: 4


1- الشعراء (26): 193 - 194.
2- الواقعة (56): 77 - 79.
3- النجم (53): 4 - 11.

شجرة أو غيرها، أو بقيام التكلّم به قياماً صدورياً، والفرق بيننا وبينه: أنّ إيجادنا بالآلة وإيجاده بغيرها؛ فإنّ ذلك أيضاً ملازم للتصرّم والتغيّر في الصفات والذات.

وما قرع سمعك من بعض أصحاب الحديث(1) اغتراراً بظواهر بعض الأحاديث من غير الغور إلى مغزاها - من كون إرادته تعالى حادثة مع الفعل، ومن صفات الفعل - ممّا يدفعه البرهان المتين، جلّ جنابه تعالى أن يكون في ذاته خلوّاً عن الإرادة التي هي من صفات الكمال للموجود بما أ نّه موجود، وكونه كالطبائع في فعله الصادر من ذاته؛ للزوم التركيب في ذاته، وتصوّر ما هو الأكمل منه، تعالى قدسه.

شكٌّ ودفع: ربّما يقال(2): إنّ إرادته تعالى لا يمكن أن تكون عين علمه تعالى؛ فإنّه يعلم كلّ شيء، ولا يريد شرّاً ولا ظلماً ولا شيئاً من القبائح، فعلمه

متعلّق بكلّ شيء دون إرادته، فعلمه غير إرادته، وعلمه عين ذاته، فيجب أن تكون إرادته غير ذاته، فهو مريدٌ، لا بإرادة ذاتية (أزلية - خ. ل)، وعالم بعلم ذاتي.

فيدفع بما في مسفورات أئمّة الفلسفة(3) بأنّ إفاضة الخيرات غير منافية لذات الجواد المطلق، بل اختيارها لازم ذاته، وكون إفاضة الخيرات مرضيّاً بها بحسب ذاته هو معنى إرادته، ووزان الإرادة المتعلّقة بالخيرات بالإضافة إلى العلم وزان

ص: 5


1- الكافي 1: 111 - 112؛ التوحيد، الصدوق: 148.
2- الكافي 1: 111 - 112.
3- القبسات: 325؛ الحكمة المتعالية 6: 343 - 344.

السمع والبصر؛ فإنّهما عين ذاته تعالى مع أ نّهما متعلّقان بالمسموعات والمبصرات.

فذاته تعالى علم بكلّ معلوم، وسمع بكلّ مسموع، وبصر بكلّ مُبصَر. وكذلك الإرادة الحقّة مع كونها متعلّقة بالخيرات عين ذاته.

ولنا مسلك آخر في دفعه نشير إليه إجمالاً، والتفصيل - كالبرهان عليه - موكول إلى محلّه(1)، وهو: أنّ العلم الذي هو عين ذاته تعالى - وهو كشف

تفصيلي في عين البساطة والوحدة حقيقته حقيقة الوجود الصرف الجامع لكلّ وجود بنحو الوحدة والكشف التامّ المتعلّق بتبع كشفه عن الأشياء - إنّما هو كشف عن الوجود بما هو وجود بالذات.

وجهات الشرور والنقائص الراجعة إلى الأعدام لا يمكن أن يتعلّق بذاتها العلم بالذات؛ لنقص فيها، لا في العلم. وإنّما يتعلّق العلم بها بوجه على جهة التبعية وبالعرض، كما أنّ الإرادة أيضاً متعلّقة بها كذلك، فوزان الإرادة بعينها وزان العلم في التعلّق الذاتي والعرضي.

فما قيل(2): من أنّ العلم يتعلّق بكلّ شيء دون الإرادة، غير تامّ، بل كلُّ ما يتعلّق به العلم بالذات تتعلّق به الإرادة كذلك، وكلُّ ما يتعلّق به بالعرض تتعلّق هي أيضاً به بالعرض.

فتحصّل ممّا ذكر: أنّ الإرادة فيه تعالى من صفات الذات. نعم هذه الإرادة

المتصرّمة المتجدّدة التي لنا منفيّة عنه تعالى، كما أنّ سائر الأوصاف بحدودها

ص: 6


1- راجع الحكمة المتعالية 6: 344.
2- تقدّم تخريجه في الصفحة 5، الهامش 1.

الإمكانية منفيّة عنه. وللأخبار الواردة(1) في المقام، الموهمة خلاف ما ذكرنا توجيه لطيف لا يسع المقام ذلك.

وبالجملة، فلا يمكن إثبات التكلّم له تعالى بما ذكره المعتزلة، وتبعه بعض الإمامية.

كما أنّ ما ذهبت إليه الأشاعرة(2)، من قيام صفات على ذاته - ومنها الكلام - باطل؛ فإنّ القيام الحلولي مستلزمٌ للقوّة والنقص والتركيب، تعالى عنه. كما أنّ خلوّ الذات عن صفات الكمال مستلزم لذلك، ولكونه تعالى ذا ماهية، ولانقلاب الوجوب الذاتي إلى الإمكان، إلى غير ذلك من المفاسد.

نعم، إنّه تعالى متكلّم بوجه آخر - حتّى في مرتبة ذاته - يعرفه الراسخون في الحكمة(3) ولو اُطلق على ذلك، الكلام النفسي لا مشاحّة فيه، لكن الأشعري لا يستشعره، وأفهام أصحاب الكلام من المعتزلة والأشاعرة بعيدة عن طور هذا الكلام، والإعراض عنه أولى.

ص: 7


1- الكافي 1: 109 - 110 / 1 - 3 و7؛ التوحيد، الصدوق: 146 - 148 / 15 - 19، و336 - 337 / 1 - 5.
2- المطالب العالية 3: 223؛ شرح المقاصد 4: 69؛ اُنظر شرح المواقف 8: 44.
3- راجع الحكمة المتعالية 7: 4 - 5؛ شرح المنظومة، قسم الحكمة 3: 634.

المطلب الأوّل في المهمّ ممّا استدلّ به الأشعري على مطلوبه

وهو اُمور:

الاستدلال بالأوامر الامتحانية على اختلاف الطلب والإرادة

منها(1): أنّ الطلب اللفظي قد يتحقّق من غير أن تكون الإرادة مبدأً له، كالأوامر الامتحانية والإعذارية، ولا بدّ له من مبدأ، وليس من الصفات النفسانية شيء يصلح للمبدئية له إلاّ الطلب النفساني القائم بالنفس، فإذا ثبت إمكانه في موردٍ فليكن كذلك في سائر الموارد، بل في مطلق الكلام؛ طلباً كان أو لا.

والجواب عنه: أمّا في الأوامر الامتحانية والإعذارية فينا، فالمبدأ هو الإرادة. بيانه: أنّ كلّ فعل اختياري صدر منّا مسبوق بالتصوّر والتصديق بالفائدة بنحو؛ فإن كان موافقاً لتمايلات النفس ومشتهياتها، تشتاق إليه وبحسب اختلاف

ص: 8


1- شرح المقاصد 4: 149؛ شرح المواقف 8: 94.

مراتب الملائمة يشتدّ الاشتياق إليه، ثمّ بعد الاشتياق قد تختاره وتصطفيه فتعزم

على إتيانه وتهمّ إليه فتحرّك الأعضاء التي تحت سلطانها نحوه فتأتي به. وإن لم يكن ملائماً لمشتهاها لكنّ العقل يرى أصلحية تحقّقه وإتيانه يحكم - على رغم مشتهيات النفس - بإتيانه، فتختار النفس وجوده وتعزم عليه وتهمّ وتحرّك الأعضاء، كشرب الدواء النافع وقطع اليد الفاسدة، فإنّ العقل يحمل النفس على الشرب والقطع مع كمال كراهتها.

فما في كلام القوم: من أنّ الإرادة هو الاشتياق الأكيد(1) أو أنّ الاشتياق من مقدّماتها(2) ليس على ما ينبغي، بل ليس التصديق بالفائدة أيضاً من المقدّمات الحتمية، ولا يسع المقام تفصيل ذلك.

ثمّ إنّ الأوامر الصادرة من الإنسان، من جملة أفعاله الاختيارية الصادرة منه بمباديها. والفرق بين الأوامر والنواهي الامتحانية والإعذارية وبين غيرها ليس في المبادي ولا في معاني الأوامر والنواهي؛ فإنّها بما هي أفعال اختيارية محتاجة إلى المبادي من التصوّر إلى تصميم العزم وتحريك عضلة اللسان، والهيئة مستعملة في كليهما استعمالاً إيجادياً؛ أي تكون مستعملة في البعث إلى المتعلّق أو الزجر عنه، وإنّما الفارق بينهما بالدواعي والغايات، فالداعي للأوامر الغير الامتحانية وما يكون باعثاً للآمر وغاية له هي الخاصّية المدركة من

ص: 9


1- راجع شرح المنظومة، قسم الحكمة 3: 647؛ اُنظر كفاية الاُصول: 86؛ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 132؛ نهاية الدراية 1: 279.
2- راجع كشف المراد: 123؛ گوهر مراد: 250؛ بدائع الأفكار (تقريرات المحقّق العراقي) الآملي 1: 207.

المتعلّقات، فالداعي إلى الأمر بإتيان الماء للشرب هو الوصول إلى الخاصّية المدركة. وأمّا الداعي إلى الأوامر الامتحانية والإعذارية فهو امتحان العبد واختباره أو إعذار نفسه.

فما ذهب إليه الأشعري من أنّ المبدأ لها ليست الإرادة(1)، إن كان مراده إرادة الفعل الصادر من المأمور فهو صحيح، لكن في الأوامر الغير الامتحانية أيضاً لا تتعلّق الإرادة بالفعل الصادر من المأمور؛ لأنّ فعل الغير ليس متعلّقاً لإرادته،

وإن كان مراده إرادة بعث الغير إلى الفعل فهي حاصلة في الأوامر الامتحانية والإعذارية أيضاً، إلاّ أنّ الدواعي مختلفة فيها وفي غيرها، كما أنّ الدواعي في مطلق الأوامر مختلفة.

وبالجملة: ما هو فعل اختياري للآمر هو الأمر الصادر منه وهو مسبوق بالمبادي الاختيارية، سواء فيه الأوامر الامتحانية وغيرها.

هذا كلّه في الأوامر الصادرة من الموالي العرفية.

وأمّا الأوامر والنواهي الإلهية ممّا أوحى الله إلى أنبيائه، فهي ليست كالأوامر الصادرة منّا في كيفية الصدور ولا في المعلّلية بالأغراض والدواعي؛ لأنّ الغايات والأغراض والدواعي كلّها مؤثّرات في الفاعل ويصير هو تحت تأثيرها وهو غير معقول في المبادي العالية الروحانية، فضلاً عن مبدأ المبادي جلّت عظمته؛ لاستلزامه للقوّة التي حاملها الهيولى، وتركّب الذات من الهيولى والصورة والقوّة والفعل والنقص والكمال وهو عين الإمكان والافتقار تعالى عنه،

ص: 10


1- تقدّم تخريجه في الصفحة 8، الهامش 1.

فما هو المعروف بينهم «أ نّه تعالى يفعل للنفع العائد إلى العباد»(1)، مشترك في الفساد والامتناع مع فعله للنفع العائد إليه.

ولا يلزم ممّا ذكرنا أن يكون فعله لا لغرض وغاية فيكون عبثاً؛ لأنّ الغاية في فعله وهو النظام الأتمّ التابع للنظام الربّاني هو ذاته تعالى، والفاعل والغاية فيه تعالى واحد لا يمكن اختلافهما، لا بمعنى كونه تعالى تحت تأثير ذاته في فعله؛ فإنّه أيضاً مستحيل لوجوه، بل بمعنى أنّ حبّ ذاته مستلزم لحبّ آثاره استجراراً وتبعاً لا استقلالاً واستبداداً، فعلمه بذاته علم بما عداه في مرتبة ذاته،

وعلّة لعلمه بما عداه في مرآة التفصيل، وحبّه بذاته كذلك، وإرادته المتعلّقة بالأشياء على وجه منزّه عن وصمة التغيّر والتصرّم لأجل محبوبية ذاته وكونها مرضيّة، لا محبوبية الأشياء وكونها مرضيّة استقلالاً، وإلى ذلك أشار الحديث القدسي المعروف: «كُنتُ كنزاً مخفيّاً فأحببتُ أن اُعرف فخلقتُ الخلقَ لِكي اُعرف»(2) فحُبّ ظهور الذات ومعروفيتها حبّ الذات لا الأشياء.

وليعلم: أنّ إيحاء الوحي وإنزال الكتب وإرسال الرسل جزء من النظام الأتمّ الكياني التابع للنظام الأجمل الربّاني، وكيفية تعلّق الإرادة بها ككيفية تعلّقها بالنظام الكياني بنحو التبعية والاستجرار للنظام الربّاني؛ أي حضرة الأسماء والصفات وهي الكنز المخفيّ المحبوب بالذات، والمحبّ والمحبوب والحبّ عين الذات.

ص: 11


1- كشف المراد: 306؛ نهج الحقّ وكشف الصدق: 89؛ گوهر مراد: 308؛ شرح المواقف 8: 203.
2- جامع الأسرار: 102؛ كلمات مكنونة: 33؛ بحار الأنوار 84: 344.

فتحصّل ممّا ذكرنا وهن تمسّك الأشعري لإثبات مطلوبه بالأوامر الامتحانية؛ فإنّه مع ما عرفت بطلانه لو فرض كلام نفسي وطلب نفسي لنا فيها، لا يمكن تصوّره في ذات القيّوم الواجب جلّ وعلا، وهل هذا إلاّ قياس الحقّ بالخلق، والتراب وربّ الأرباب، ولعلّ النملة ترى أنّ لله تعالى زُبانَيَين(1).

كما اتّضح وهن كلام المحقّق الخراساني رحمه الله علیه (2)؛ من أ نّه ليس في الأوامر الامتحانية إرادة حقيقية ولا طلب حقيقي، بل فيها إرادة إنشائية وطلب إنشائي؛ فإنّه - مضافاً إلى ما عرفت - يرد عليه أ نّه لا معنى محصّل للإرادة الإنشائية، بل لا معنى للوجود الإنشائي والاعتباري للحقايق المتحقّقة كالسماء والأرض والإنسان. نعم، يعتبر العقلاء اُموراً لا حقيقة لها لمسيس الحاجة إليها، كالزوجية والملكية وسائر الاعتباريات، فليس للإرادة والطلب فرد حقيقي وفرد إنشائي.

الاستدلال بتكليف العصاة على اختلاف الطلب والإرادة

ومن متمسّكات الأشاعرة(3) لإثبات اختلاف الطلب والإرادة: أ نّه يلزم بناءً

على اتّحادهما في تكليف الكفّار بالإيمان بل مطلق أهل العصيان: إمّا أن لا يكون تكليف جدّي وهو فاسد بالضرورة، أو تخلّف مراد الله تعالى عن إرادته

ص: 12


1- الأربعون حديثاً، الشيخ البهائي: 81؛ القبسات: 343؛ الرواشح السماوية: 206؛ علم اليقين 1: 74.
2- كفاية الاُصول: 86.
3- المحصول في علم اُصول الفقه 1: 252.

وهو أفسد، وحيث لا بدّ في هذه التكاليف من مبدأ ولا يمكن أن يكون الإرادة، وليس شيء آخر مناسباً للمبدئية غير الطلب، فهو مبدأ. وبعبارة اُخرى: لو كانت الإرادة الواجبة مبدأً للطلب اللفظي لزم حصول المطلوب بالضرورة؛ لامتناع تخلّف مراده تعالى عن إرادته. ولمّا رأينا التخلّف علمنا أنّ المبدأ غيرها، ولم يكن غير الطلب صالحاً لها فهو المبدأ، فيكون في سائر الموارد أيضاً كذلك.

وأجاب المحقّق الخراساني رحمه الله علیه (1) عنه بكلام مجمل ثمّ أردفه ب- «إن قلت قلت»، حتّى انتهى الأمر إلى عويصة الجبر والتفويض، وأجاب عنها بما يزيد الإشكال، فلا محيص عن طرح المسألة على ما هي عليها وبيان الحقّ فيها إجمالاً.

فيتمّ الكلام في ضمن فصول:

ص: 13


1- كفاية الاُصول: 88 - 89.

فصل : في مسألة الجبر والتفويض

إنّ المسألة بما هي معنونة في مسفورات أهل الكلام فرع من فروع أصل المسألة العقلية ونطاق البحث العقلي أوسع منه بل من بين السماء والأرض كما سيتّضح، ولعلّه إليه الإشارة فيما ورد أنّ بين الجبر والتفويض منزلة أوسع ممّا بين السماء والأرض(1)، تأمّل.

فنقول: هل المعلولات الصادرة من عللها، والآثار والخواصّ المترتّبة على الأشياء، والمسبّبات المربوطة بالأسباب، والأفعال الصادرة عن الفواعل - سواء في عالم الملك أو الملكوت، والمجرّدات أو المادّيات، وسواء صدرت عن الفواعل الطبيعية كإشراق الشمس وإحراق النار، أو الحيوانية والإنسانية، أو الآثار والخواصّ المترتّبة على الأشياء كحلاوة العسل ومرارة الحنظل، وسواء كان الفاعل مختاراً أو لا، وبالجملة: كلّ ما يترتّب على شيء بأيّ نحو كان - هل هو مترتّبٌ عليه وصادر منه على سبيل الاستقلال والاستبداد؛ بحيث لا يكون للحقّ - جلّ شأنه - تأثير فيها، وإنّما شأنه تعالى خلق المبادي فقط، ونسبته إلى العالم كالبنّاء والبناء؛ بحيث يكون بعد الإيجاد منعزلاً عن التأثير والتدبير، ويكون الشمس في إشراقها والنار في إحراقها والإنسان في أفعاله والملائكة في شؤونها مستقلاّت ومستبدّات ويكون وجود الباري وعدمه - العياذ بالله - في

ص: 14


1- الكافي 1: 159 / 9 و11؛ التوحيد، الصدوق: 360 / 3.

فاعلية العبد ومنشئية الموجودات للآثار على السواء، وأ نّه تعالى أوجد العقل مثلاً وفوّض الأمر إليه أو أوجد المكلّف وفوّض أفعاله إليه.

أو أ نّه تعالى كما هو فاعل المبادي فاعل للآثار بلا وسط ولا فاعلية ولا تأثير لشيء من الأشياء، ولا علّية لموجود بالنسبة إلى غيره، ولا خاصّية لموجود، بل الأشياء كلّها منعزلة عن العلّية والتأثير والخواصّ والآثار، ولكن جرت عادة الله بإيجاد أشياء عقيب أشياء كالإشراق عقيب وجود الشمس، والإحراق عقيب النار، والإرادة والقدرة في الإنسان، والفعل عقيب الإرادة، والعلم بالنتائج عقيب الأقيسة، والأشياء كلّها على السواء في عدم التأثير لكن الجاهل بالواقع يرى ترتّب الآثار على المؤثّرات غفلة عن حقيقة الأمر، حتّى أنّ قوله: كلّ إنسان حيوان وكلّ حيوان جسم لا ينتج كلّ إنسان جسم، وكانت نسبتهما إلى النتيجة كنسبة ضَرَبَ فعل ماضٍ ويَضربُ فعل مضارع بالنسبة إليها لكن جرت عادة الله على إيجادها عقيب الاُوليين لا الأخيرتين؟

فالتفويضي يرى انعزاله تعالى عن التأثير مطلقاً إلاّ في المبادي(1)، والجبري يرى انعزال الخلق عنه واستناد الكلّ إليه تعالى بلا وسط وبنحو المباشرة(2).

ص: 15


1- المغني في أبواب التوحيد والعدل 8: 3؛ اُنظر نقد المحصّل: 325؛ كشف المراد: 308.
2- شرح المقاصد 4: 223؛ اُنظر شرح المواقف 8: 145.

فصل : في إبطال مذهبي التفويض والجبر

أمّا التفويض: فلأنّ استقلال موجود في الإيجاد إنّما يعقل إذا سدّت العلّة جميع الأعدام الممكنة على المعلول وإلاّ لم يكن مستقلاًّ فيه، فإذا توقّف وجود المعلول على ألف شرط وكان في قدرة الفاعل إيجاد ما عدا واحد منها، فسدّ عدم المعلول من ناحية ما عدا الواحد منها، لم يكن علّةً تامّةً مستقلّة ولا فاعلاً بالاستبداد والاستقلال في الإيجاد. وهذه المقدّمة ضرورية لا تحتاج إلى الإثبات. ومن الأعدام الممكنة على المعلول عدمه بعدم فاعله ومقتضيه، وليس في شأن ممكن من الممكنات مجرّداً كان أو مادّياً سدّ هذا العدم وإلاّ انقلب الممكن بالذات إلى الواجب بالذات.

وأيضاً المعلول بالذات في الفاعل الإلهي؛ أي فاعل الوجود، بتمام هويته وحاقّ حقيقته وذاتيته متعلّق ومفتقر إلى العلّة، ويكون ذاته بذاته عين الافتقار والتعلّق وصرف الربط والاحتياج، ولو كان شيئاً له الافتقار حتّى يكون افتقاره زائداً على ذاته وتعلّقه بالعلّة عارضاً على أصل هويته يلزم أن يكون واجباً في وجوده وجوهره وعَرَضَه المعلولية، وهو واضح الاستحالة.

ومرادنا من المعلول بالذات هو وجود الممكن الذي هو أثر جعل الجاعل، وإلاّ فالماهيات ليست مجعولةً ولا موجودة إلاّ بالعرض؛ لكونها اعتبارات وانتزاعات من حدود الوجود، والوجود المعلولي ذاته الافتقار والتعلّق، ولو

ص: 16

استغنى في حيثية من الحيثيات لانقلب من الإمكان والافتقار الذاتي إلى الوجوب والاستغناء، وهو مستحيل بالضرورة.

وأيضاً المستقلّ في الإيجاد لا بدّ وأن يكون مستقلاًّ في الوجود؛ لأنّ الإيجاد

فرع الوجود، ولا يمكن أشرفيته عنه، فالتفويض بمعنى جعل ممكن مستقلاًّ في الفاعلية مستحيل ومستلزم للانقلاب المستحيل، سواء في ذلك المجرّد والمادّي، والفاعل المختار وغيره، فلا يعقل تفويض الإيجاد والفعل والأثر والخواصّ إلى موجود )إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ الله لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لاَ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ * مَا قَدَرُوا الله حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ الله لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ((1).

وأمّا إبطال الجبر: فمع أنّ تحقيقه كتحقيق إبطال التفويض على ما هو عليه موكول إلى بيان مقدّمات مبرهنة في العلم الأعلى، لكن لا محيص عن الإشارة إلى بعض الوجوه منه.

منها: أنّ الوجود لمّا كان أصلاً في التحقّق وبسيطاً لا جنس له ولا فصل، ومن ذاته أن يكون ذا مراتب ومشكّكاً بالتشكيك الخاصّ، فلا محالة يتعلّق كلّ مرتبة ناقصة بالمرتبة المتلوّة تعلّقاً ذاتياً غير متجافية عنها؛ بحيث يكون تعلّقها

بمرتبة اُخرى غيرها موجباً ومساوقاً للانقلاب الذاتي المستحيل، ومقدّمات هذا البرهان تطلب من مظانّه(2).

ص: 17


1- الحجّ (22): 73 - 74.
2- راجع الحكمة المتعالية 1: 38 و50 و427؛ شرح المنظومة، قسم الحكمة 2: 64 و105 و179.

ومنها: أ نّه تعالى لمّا كان بسيطاً في غاية البساطة، وجميع صفاته وشؤونه الذاتية يرجع إلى الوجود الصرف البسيط، فلا يتصوّر في ذاته وصفاته التجدّد والتصرّم والتغيّر، وإلاّ لانقلب البسيط مركّباً، والفعلية الصرفة قوّةً، والوجوب بالذات إمكاناً. ولازم بساطة الذات والصفات أنّ ما يصدر منه يكون صادراً من حاقّ ذاته وتمام هويته وصرف حقيقته، فلو صدر المتجدّدات والمتصرّمات عنه تعالى من غير وسط وبالمباشرة والمزاولة يلزم منه التصرّم والتغيّر في ذاته وصفاته التي هي ذاته.

وقد تقدّم(1) فساد كون الإرادة من صفات الفعل لا الذات، فما صدر عنه تعالى لا يمكن أن يصدر من إرادته لا من ذاته، أو من ذاته دونها فإنّها عين ذاته، فإذن صدور المتغيّر والمتصرّم منه تعالى مستلزم لحدوث القديم، أو قدم الحادث بالذات وثبات المتغيّر بالذات.

ومنها: أنّ صدور الكثير بلا وسط عن الواحد البسيط من جميع الجهات مستلزم للتركيب والتكثير فيه وهو خلف.

وما قيل: إنّ ذلك مستحيل في غير الفاعل المختار وأمّا هو فله أن يفعل باختياره كلّ ما أراد(2)، فليس بشيء؛ فإنّ الاختيار والإرادة عين الذات البسيطة

وما صدر عنهما صدر عنها، وتحقّق الكثرة والتجدّد في الإرادة عين تحقّقهما في الذات. وقياس إرادته تعالى وفعله الإرادي وكذا صدور الفعل عنه تعالى على الإنسان مع الفارق. وغالب الاشتباهات منشأه هذا القياس الباطل، فأين

ص: 18


1- تقدّم في الصفحة 5.
2- اُنظر كشف المراد: 116 و178؛ شرح المواقف 4: 125.

الإنسان الناقص الكثير المتكثّر المتغيّر المتصرّم ذاتاً وصفاتاً وربّ الأرباب

البسيط الذات والصفات!؟ وما قد يتوهّم أ نّه يلزم من ذلك قصور في قدرته تعالى ومغلولية يده(1)، فاسد سيأتي ما يدفعه.

ومنها: أنّ حقيقة الوجود ذاتها عين منشأية الآثار، ولا يمكن سلب الأثر مطلقاً عن ذاته لمساوقته لسلب ذاته، فلا يمكن أن يكون موجود مسلوباً عنه الآثار، بل سلب الأثر عن وجود مستلزم لسلبه عن كافّة الوجودات حتّى وجود الواجب لبساطة حقيقة الوجود واشتراكه المعنوي، فتدبّر جيّداً.

ص: 19


1- المطالب العالية 4: 389؛ اُنظر نقد المحصّل: 300؛ كشف المراد: 116 و283؛ شرح المواقف 8: 49 - 61.

فصل : في بيان المذهب الحقّ

وهو الأمر بين الأمرين والمنزلة بين المنزلتين، وفيه طرق:

منها: أ نّه بعد ما علم أنّ التفويض وهو استقلال الممكن في الإيجاد والفاعلية، والجبر وهو سلب التأثير عن الموجود ومزاولته تعالى للأفعال والآثار مباشرة وبلا وسط، مستحيلان، اتّضح سبيل الأمر بين الأمرين وهو كون الموجودات الإمكانية مؤثّرات لكن لا بالاستقلال، وفيها الفاعلية والعلّية والتأثير لكن من غير استقلال واستبداد. وليس في دار التحقّق فاعل مستقلّ سوى الله تعالى.

وسائر الموجودات كما أ نّها موجودات لا بالاستقلال بل روابط محضة ووجودها عين الفقر والتعلّق ومحض الربط والفاقة تكون في الصفات والآثار والأفعال كذلك. فمع أ نّها ذات صفات وآثار وأفعال لم تكن مستقلاّت في شيء منها كما تقدّم برهانه(1).

فمن عرف حقيقة كون الممكن ربطاً محضاً عرف أنّ فعله مع كونه فعله فعل الله سبحانه. فالعالم بما أ نّه ربط صرف وتعلّق محض ظهور قدرة الله وإرادته وعلمه وفعله، وهذا عين المنزلة بين المنزلتين والأمر بين الأمرين.

ولعلّه إليه أشار في قوله - وهو الحقّ - : )وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ الله

ص: 20


1- تقدّم في الصفحة 16.

رَمَى((1) حيث أثبت الرمي من حيث نفاه فقال: «رميت وما رميت»، فإنّ الرمي كونه منه لم يكن بقوّته واستقلاله بل بقوّة الله وحوله، وقوله: )وَمَا تَشَآؤُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَآءَ الله((2) فأثبت المشيّة لله من حيث كونها لهم، لا بأن يكون المؤثّر مشيّتين أو فعلين بالاشتراك بل بما أنّ مشيّة الممكن ظهور مشيّته تعالى وعين الربط والتعلّق بها.

تنبيه: في شرك التفويضي وكفر الجبري

التفويضي أخرج الممكن عن حدّه إلى حدّ الواجب بالذات فهو مشرك، وا لجبري حطّ الواجب تعالى عن علوّ مقامه إلى حدود بقعة الإمكان فهو كافر، ولقد سمّى مولانا عليّ بن موسى الرضاI القائل بالجبر كافراً، والقائل بالتفويض مشركاً على رواية صدوق الطائفة كما عن «عيونه»(3)، والأمر بين الأمرين هو الطريقة الوسطى التي للاُمّة المحمّدية صلی الله علیه و آله وسلم وهي حفظ مقام الربوبية والحدود الإمكانية.

فالجبري ظلم الواجب حقّه بل الممكنات حقّها، والتفويضي كذلك، والقائل بالأمر بين الأمرين أعطى كلّ ذي حقّ حقّه. الجبري عينه اليمنى عمياء فسرى عماه منها إلى اليسرى، والتفويضي عينه اليسرى عمياء فسرى منها إلى اليمنى، والقائل بالمنزلة بين المنزلتين ذو العينين. الجبري مجوس هذه الاُمّة حيث نسب

ص: 21


1- الأنفال (8): 17.
2- الإنسان (76): 30؛ التكوير ((81)): 29.
3- عيون أخبار الرضا عليه السلام 1: 124 / 17؛ بحار الأنوار 5: 12 / 18.

الخسائس (الخبائث - خ. ل) والنقائص إلى الله تعالى، والتفويضي يهود هذه الاُمّة حيث جعل يد الله تعالى مغلولة )غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ((1) والقائل بالأمر بين الأمرين على الحنفية الإسلامية.

إرشاد: في استناد الأفعال إلى الله

مع أنّ أثر كلّ ذي أثر وفعل كلّ فاعل منسوب إلى الله تعالى وإليها كما عرفت، لكن خيراتها وحسناتها وكمالاتها وسعاداتها كلّها من الله وهو تعالى أولى بها منها، وشرورها وسيّئاتها ونقائصها وشقاواتها ترجع إلى نفسها وهي أولى بها منه تعالى؛ فإنّه تعالى لمّا كان صرف الوجود فهو صرف كلّ كمال وجمال، وإلاّ يلزم عدم كونه صرفاً وهو يرجع إلى التركيب والإمكان، وأيضاً يلزم منه أن يكون في التحقّق أصلان: الوجود ومقابله، مع أنّ مقابله العدم والماهية، وحالهما معلومة.

فهو تعالى صرف الوجود وصرف كلّ الكمالات، والصادر من صرف الوجود لا يمكن أن يكون غير الوجود والكمال، والنقائص والشرور لوازم ذوات المعاليل من غير تخلّل جعل؛ لعدم إمكان تعلّقه إلاّ بالوجود وهو نفس الكمال والسعادة والخير.

فالخيرات كلّها مجعولات ومبدأ الجعل فيها هو الحقّ تعالى، والشرور التي في دار الطبيعة المظلمة من تصادمات المادّيات وضيق عالم الطبيعة وكلّها ترجع إلى عدم وجود أو عدم كماله. والأعدام مطلقاً غير متعلّقة للجعل، بل المضافة منها من لوازم المجعول، وتضائق دار البوار، وتصادم المسجونين في سجن

ص: 22


1- المائدة (5): 64.

الطبيعة وسلاسل الزمان، فكلّها ترجع إلى الممكن.

فما أصابك من حسنة وخير وسعادة وكمال فمن الله، وما أصابك من سيّئة وشرّ ونقص وشقاء فمن نفسك(1). لكن لمّا كانت النقائص والشرور اللازمة للوجودات الإمكانية من قبيل الأعدام المضافة، والحدود والماهيات كان لها وجود بالعرض، وما كان كذلك فمن عند الله لكن بالعرض، فالخيرات من الله بالذات ومنسوبة إلى الممكنات بالعرض، والشرور من الممكنات بالذات ومنسوبة إليه تعالى بالعرض، فحينئذٍ يصحّ أن يقال: كلٌّ من عند الله، فإنّه لولا الإيجاد والإفاضة وبسط الخيرات لم يكن وجود ولا حدّه ولا طبيعة ولا ضيقها. ولعلّ تغيير الاُسلوب وتخلّل لفظة «عند» في قوله تعالى: )قُلْ كُلٌّ مِنْ عِندِ الله((2) للإشارة إلى المجعولية بالعرض.

تمثيل

والمثال يقرّب من وجه لا من جميع الوجوه. إذا أشرقت الشمس على مرآة ووقع النور منها على جدار، فنور الجدار ليس من المرآة بذاتها لعدم نور لها، ولا من الشمس المطلقة أي بلا وسط وبلا قيد، بل هو نور شمس المرآة، فمَن نظر إلى المرآة غافلاً عن الشمس يزعم كونه للمرآة، ومَن نظر إلى الشمس غافلاً عن المرآة يزعم كونه من الشمس بلا وسط، ومَن كان ذا العينين يرى الشمس والمرآة، يرى أنّ النور من شمس المرآة ومع ذلك يحكم بأنّ النور - وما هو من

ص: 23


1- راجع النساء (4): 79.
2- النساء (4): 78.

سنخه - للشمس بالذات وللمرآة بالعرض، ومحدودية النور حسب حدّ المرآة للمرآة بالذات وللنور بالعرض، ومع ذلك لولا الشمس وإشراقها لم يكن نور ولا حدّ، فالنور وحدّه من عند الشمس.

فالأنوار الطالعة من اُفق عالم الغيب إنّما هي لنور الأنوار، )وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ الله لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ((1). فنور الوجود من حضرة الرحموت وظلّ نور الله تعالى؛ )الله نُورُ السَّمَواتِ وَالْأَرْضِ((2)، ولا نور إلاّ نوره ولا ظهور إلاّ ظهوره ولا وجود إلاّ وجوده ولا إرادة إلاّ إرادته ولا حول ولا قوّة إلاّ به وإلاّ بحوله وقوّته، والحدود والتعيّنات والشرور كلّها من حدود الإمكان ومن لوازم الذوات الممكنة وضيق المادّة وتصادم المادّيات.

تمثيل أقرب

فانظر قوى النفس المنبثّة في تلك الصيصية البدنية من غيبها، فإنّها بما هي متعلّقات بذات النفس وروابط محضة بها فعلها فعل النفس، بل هي ظهورها وأسماؤها وصفاتها، فمع صحّة نسبة الرؤية إلى البصر، والسماع إلى السمع وهكذا، تصحّ نسبتها إلى النفس فبالسمع تسمع وبالبصر تبصر، فلا يصحّ سلب الانتساب عن القوى ولا عن النفس؛ لكونها روابطها وظهورها. وليعلم أنّ فناء نور الوجود في نور الأنوار أشدّ من فناء قوى النفس فيها بما لا نسبة بينهما؛ لأنّ النفس بما أ نّها موجودة متعيّنة ذات ماهية وحدٍّ - والماهية من ذاتها التباين

ص: 24


1- النور (24): 40.
2- النور (24): 35.

والغيرية - تُصحّح الغيرية والتباين مع قواها، ومع ذلك تكون النسبة إليهما حقيقية لأجل الحظّ الوجودي الذي لهما، فكيف بموجود بريء من جهات النقص والتعيّن، ومنزّه عن الماهية ولوازمها، ومقدّس عن شوائب الكثرة ومصحّحات الغيرية والتضادّ والتباين؟!

تأييدات نقلية

وهي أكثر من أن يذكر، فالآيات الكريمة والأحاديث الشريفة مشحونة بذكر هذه اللطيفة الربّانية والحقيقة الإلهية تصريحاً وتلويحاً، تنصيصاً وكناية.

فمن الآيات - مضافاً إلى ما قدّمنا من قوله تعالى: )وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ الله رَمَى((1) وقوله تعالى: )وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ الله((2) وقوله تعالى: )مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ الله...((3) الآية - الآيات(4) الواردة في قضيّة خضر وموسى - على نبيّنا وآله وعليهما السلام - فإنّ فيها إشارة لطيفة إلى هذه الحقيقة.

والآيات التي وردت فيها نسبة التوفّي تارة إلى الله تعالى فقال: )الله يَتَوَفَّى

الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا((5)، واُخرى إلى ملك الموت فقال: )قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ

ص: 25


1- الأنفال (8): 17.
2- الإنسان (76): 30؛ التكوير ((81)): 29.
3- النساء (4): 79.
4- الكهف (18): 60 - 82.
5- الزمر (39): 42.

الْمَوْتِ الَّذِى وُكِّلَ بِكُمْ((1)، وثالثة إلى الملائكة فقال: )وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلاَئِكَةُ((2).

والآيات التي تنسب الإضلال تارةً إلى الله تعالى فقال: )وَيُضِلُّ الله الظَّالِمِينَ((3)، واُخرى إلى إبليس فقال: )إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ((4)، وثالثة إلى العباد فقال: )وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ((5)، وقال: )وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِىُّ((6).

وأنت إذا كنت ذا قلب متنوّر بنور فهم القرآن بعد تطهيره من أرجاس التعلّق إلى الطبيعة ف)إِنَّهُ لَقُرْءَانٌ كَرِيمٌ * فِى كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ((7)، لوجدت هذه اللطيفة في آيات لا يمسّها العامّة، فهذا قوله تعالى: )الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِينَ((8) قصّر جميع المحامد عليه تعالى وأرجع كلّ محمدة إليه، فلولا أنّ كلّ كمال وجمال كمالُه وجماله بالذات وبحسب الحقيقة لم يكن وجه لصحّة هذا القصر. ولو أضفت إلى ذلك ما عند أهل المعرفة(9) من

ص: 26


1- السجدة (32): 11.
2- الأنفال (8): 50.
3- إبراهيم (14): 27.
4- القصص (28): 15.
5- طه (20): 79.
6- طه (20): 85.
7- الواقعة (56): 77 - 79.
8- الفاتحة (1): 2.
9- الفتوحات المكّية 1: 422؛ شرح توحيد الصدوق 1: 613.

أنّ قوله: )بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ( متعلّق بقوله: )الْحَمْدُ لله(ترى أنّ المحامد من كلّ حامد إنّما يقع باسم الله، فباسمه يكون كلّ حمد لله تعالى، فهو الحامد والمحمود.

هذه شمّةٌ من الآيات ذكرناها اُنموذجة لغير ما ذكر.

وأمّا الروايات من طريق أهل بيت الوحي والتنزيل علیهم السلام فكثيرة جدّاً، جمَع

المحقّق البارع الداماد - جزاه الله عن الحقيقة خيراً - شطراً منها(1)، فقال في آخر الإيقاظ الرابع من «الإيقاظات»: «وإذ أحاديث هذا الباب كثيرة وفيما أوردناه كفاية للمتبصّر، فلنكتف الآن بما حواه هذا الإيقاظ، وذلك اثنان وتسعون حديثاً»(2) انتهى، فمن شاء فليراجع إليها وإلى الكتب الناقلة لأحاديث العترة الطاهرة علیهم السلام .

فالآن نتبرّك بذكر رواية صحيحة منها هي ما رواه الشيخ الكليني في جامعه «الكافي» عن محمّد بن يحيى، عن أحمد بن محمّد، عن أحمد بن محمّد بن أبي نصر، قال: قال أبوالحسن الرضا علیه السلام : «قال الله: يابن آدم بمشيّتي كنت أنت الذي تشاء لنفسك ما تشاء، وبقوّتي أدّيت فرائضي، وبنعمتي قويت على معصيتي، جعلتك سميعاً بصيراً قويّاً )مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ الله وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ( وذلك أ نّي أولى بحسناتك منك وأنت أولى بسيّئاتك منّي، وذاك أ نّني لا اُسئل عمّا أفعل وهم يسألون»(3). ولقد شرحنا هذا

ص: 27


1- مصنّفات ميرداماد، الإيقاضات (الإيقاظات) 1: 227 - 255.
2- مصنّفات ميرداماد، الإيقاضات (الإيقاظات) 1: 255.
3- الكافي 1: 152 / 6.

الحديث شرحاً وافياً في «الأربعين»(1).

وأنت إذا تأمّلت ما تقدّم منّا ترى أنّ الروايات الشريفة متوافقة المضمون غير متعارضة الحقيقة وإن كان الجاهل يزعم الاختلاف، فلا منافاة بين قول أبي عبدالله علیه السلام في رواية أبي بصير «من زعم أنّ الخير والشرّ إليه فقد كذب على الله»(2)، وقوله علیه السلام : «من زعم أنّ الخير والشرّ بغير مشيّة الله فقد أخرج الله عن سلطانه»(3)، وكذا بين ما ورد «أنّ الشرّ ليس إليه والخير بيديه»(4) وما ورد من «أنّ الخيرات والشرور كلّها ممّا أجرى الله تعالى على يدي العباد»(5)... إلى غير ذلك.

ص: 28


1- شرح چهل حديث، امام خميني قدّس سرّه : الحديث الخامس والثلاثون.
2- الكافي 1: 156 / 2.
3- الكافي 1: 158 / 6؛ التوحيد، الصدوق: 359 / 2.
4- راجع الكافي 3: 310 / 7؛ كنز العمّال 11: 434 / 32042.
5- راجع الكافي 1: 154، باب الخير والشرّ.

فصل في ذكر بعض الشبهات الواردة وجوابها

شبهة عدم إرادية الإرادة الإنسانية

فمنها - وهي أصعبها -: أنّ الإرادة الإنسانية إن كانت واردة من الخارج بأسباب وعلل منتهية إلى الإرادة القديمة كانت واجبة التحقّق من غير دخالة العبد في ذلك فيكون مضطرّاً وملجأً في إرادته، ولازمه الاضطرار في فعله؛ لأنّ ما يكون علّته التامّة اضطرارية يكون هو أيضاً كذلك. وإن كانت إرادته بإرادته ننقل الكلام إلى إرادة إرادته، فإمّا أن يتسلسل أو يلزم الاضطرار والجبر(1).

ولقد أجاب عنها أساطين الفلسفة وأئمّة الفنّ بما لا يخلو عن التكلّف

والإشكال، فتصدّى السيّد المحقّق الداماد - نضّر الله تربته - لجوابها: «بأنّ الإرادة حالة شوقية إجمالية متأكّدة بحيث إذا ما قيست إلى نفس الفعل وكان هو الملتفت إليه باللحاظ بالذات كانت هي شوقاً وإرادة بالقياس إليه، وإذا ما قيست إلى إرادته والشوق الإجماعي إليه وكان الملتفت إليه باللحاظ بالذات تلك الإرادة والشوق لا نفس الفعل كانت هي شوقاً وإرادة بالقياس إلى الإرادة من غير شوق آخر مستأنف وإرادة اُخرى جديدة، وكذلك الأمر في إرادة الإرادة، وإرادة إرادة الإرادة إلى سائر المراتب. فإذن كلٌّ من تلك الإرادات المفصّلة

ص: 29


1- المطالب العالية 9: 21 - 22؛ نقد المحصّل: 170؛ اُنظر القبسات: 473؛ الحكمة المتعالية 6: 388.

يكون بالإرادة والاختيار، وهي بأسرها مضمّنةٌ في تلك الحالة الشوقية الإجماعية المعبّر عنها بإرادة الفعل واختياره»(1)، انتهى كلامه رفع مقامه.

ثمّ حاول(2) مقايسة الإرادة في ذلك بالعلم بالشيء تارةً، وبالعلم بذواتنا اُخرى، وبالنيّة في العبادة ثالثةً، وباللزوم ولزوم اللزوم رابعةً، وبالإرادة المتعلّقة

بالمسافة القابلة للانقسام إلى غير النهاية خامسةً، ولك قياسها بالإمكان في الممكنات والوجوب في الواجب وضرورة القضايا الضرورية إلى غير ذلك.

وأنت خبير بما فيه وفي مقايساته؛ فإنّ الإرادة بما أ نّها صفة موجودة حقيقية تحتاج إلى علّة موجدة؛ إمّا إرادة اُخرى أو شيء من خارج، فيتسلسل أو يلزم الاضطرار والجبر. ولا يمكن أن يقال: إنّ علّة تحقّق الإرادة نفس ذاتها بالضرورة، كما أنّ العلم بالغير أو بذواتنا ليس معلولاً لنفسه بل لأمر آخر. نعم، إذا لاحظنا علمنا بصورة، يكون معلوماً بواسطة هذا اللحاظ وتنقطع اللحاظات بتركها، وكذا في اللزومات؛ فإنّ اللزوم أمر اعتباري إذا لوحظ طرفاً يعتبر لزوم آخر بينه وبين الموضوع وتنقطع بانقطاع الاعتبار، وأمّا الإرادة المتعلّقة بالشيء فلا تكون اعتبارية وتابعة للحاظ.

وبالجملة: فقياساته مع الفارق خصوصاً بالإرادة المتعلّقة بالمسافة كما لا يخفى. وأمّا القياس بالنيّة في العبادة فغير معلوم الوجه؛ فإنّ النيّة فيها لا تلزم أن تكون منويّة وإلاّ فيرد عين الإشكال فيها أيضاً، ولا يدفع بما ذكر. واتّضح بطلان قياسنا بالإمكان والوجوب والضرورات أيضاً.

ص: 30


1- القبسات: 473؛ مصنّفات ميرداماد، الإيقاضات (الإيقاظات) 1: 209 - 210.
2- راجع القبسات: 474؛ مصنّفات ميرداماد، الإيقاضات (الإيقاظات) 1: 210.

وبالجملة: ما أفاده لا يغني من الجواب عن الشبهة.

وأشكل عليه تلميذه الأكبر رحمه الله علیه : بأنّ لنا أن نأخذ جميع الإرادات بحيث لا يشذّ عنها شيء ونطلب أنّ علّتها أيّ شيء هي ؟ فإن كانت إرادة اُخرى لزم الجبر في الإرادة(1).

أقول: هذا نظير ما يقال في الاستدلال على وجود غنيّ بالذات: إنّه لو فرض سلسلة غير متناهية في الوجود يكون كلّ فرد فرد فيها فقيراً ممكناً لنا أن نحيط بعقلنا على السلسلة إجمالاً، فنقول: السلسلة الغير المتناهية من الفقراء لا يمكن أن تدخل ولا فرد منها في الوجود إلاّ بإفاضة غنيّ بالذات، وإلاّ فالفقير الفاقد للشيء لا يمكن أن يكون معطياً ومغنياً، فكلّ موجود دلّ على الغنيّ بالذات، فسدّ فقر الفقير لا يمكن إلاّ بالغنيّ. والعجب أنّ المحقّق الداماد

كان متنبّهاً على هذا الإشكال في تقريره أصل الشبهة ومع ذلك أجاب بما عرفت.

وأجاب المحقّق الخراساني رحمه الله علیه عن أصل الشبهة بأنّ الاختيار وإن لم يكن بالاختيار إلاّ أنّ بعض مباديه غالباً يكون بالاختيار؛ للتمكّن من عدمه بالتأمّل فيما يترتّب على ما عزم عليه من تبعة العقوبة واللوم والمذمّة(2).

وفيه: أنّ الفعل الاختياري على الفرض ما كان مباديه بالاختيار، فحينئذٍ ننقل الكلام إلى تلك المبادي التي ادّعى أ نّها بالاختيار، هل تكون الإرادة المتعلّقة بها بالإرادة واختيارها بالاختيار فيتسلسل أو يلزم المحذور.

ص: 31


1- الحكمة المتعالية 6: 390.
2- كفاية الاُصول: 300.

وبما ذكرنا يظهر الجواب عمّا ذكره شيخنا العلاّمة - أعلى الله مقامه - من أنّ الإرادة قد تتحقّق لمصلحة في نفسها؛ لأ نّا نرى بالوجدان إمكان أن يقصد الإنسان البقاء في مكان عشرة أيّام ويكون الأثر مترتّباً على القصد لا على البقاء(1)، فإنّه بذلك لا تنحسم مادّة الإشكال؛ فإنّا ننقل الكلام إلى إرادة الإرادة هل هي إرادية أو لا ؟ فيتسلسل أو عاد المحذور. مضافاً إلى امتناع تعلّق الإرادة بالبقاء من غير مصلحة فيه، وفي المثال لا محيص إلاّ من تعلّق رجحان ولو بالعرض والواسطة بالبقاء وإلاّ فتعلّق الإرادة به بلا ترجيح واصطفاء ممّا لا يعقل.

وقد يقال: إنّ إرادية الفعل بالإرادة لكن إرادية الإرادة بنفسها لا بإرادة اُخرى، كموجودية الوجود ومنوّرية النور(2).

وفيه: أنّ ذلك خلط بين الجهات التقييدية والتعليلية؛ فإنّ معنى موجودية الوجود بذاته أ نّه لا يحتاج في صدق المشتقّ عليه إلى حيثية تقييدية وإن احتاج إلى حيثية تعليلية إذا كان ممكناً، وبهذا المعنى لو فرض كونها مرادة بذاتها لا تستغني عن العلّة، والإشكال في أنّ علّتها هل هي إرادة اُخرى منه أو أمر من خارج؟

وأسدّ ما قيل في المقام هو ما أجاب عنه بعض الأكابر(3) وإنّي كنت معتمداً عليه سابقاً، وبيانه بتوضيح منّا: أنّ الإرادة بما هي من الصفات الحقيقية

ص: 32


1- درر الفوائد ، المحقّق الحائري: 338.
2- نهاية الاُصول: 122.
3- راجع الحكمة المتعالية 6: 388.

ذات الإضافة، وزانها وزان سائر الصفات الكذائية، فكما أنّ المعلوم ما تعلّق به العلم لا ما تعلّق بعلمه العلم، والمحبوب ما تعلّق به الحبّ لا ما تعلّق بحبّه الحبّ... وهكذا، كذلك المراد ما تعلّق به الإرادة لا ما تعلّق بإرادته الإرادة، والمختار من يكون فعله بإرادته واختياره لا إرادتُه واختيارُه، والقادر من يكون بحيث إذا أراد الفعل صدر عنه وإلاّ فلا، لا من يكون إذا أراد إرادة الفعل فعل، ولو توقّف الفعل الإرادي على كون الإرادة المتعلّقة به متعلّقة للإرادة لزم أن لا يوجد فعل إرادي قطّ حتّى ما صدر عن الواجب.

إن قلت: هذا مجرّد اصطلاح لا يدفع به الإشكال من عدم صحّة العقوبة على الفعل الإلجائي الاضطراري؛ فإنّ مبدأ الفعل وهو الإرادة إذا لم يكن إرادياً اختيارياً يكون الفعل اضطرارياً ومعه لا تصحّ العقوبة.

قلت: هاهنا مقامان؛ أحدهما: تشخيص الفعل الإرادي من الاضطراري وثانيهما: تشخيص مناط صحّة العقوبة عند العقلاء.

أمّا المقام الأوّل، فلا إشكال في أنّ مناط إرادية الفعل في جميع الأفعال الإرادية الصادرة من الفاعل واجباً كان أو ممكناً في مقابل الاضطراري الإلجائي هو تعلّق الإرادة به لا بإرادته، والاضطراري كحركة المرتعش ما لا تتعلّق به الإرادة، فهذا تمام مناط الإرادية لا غير، كما أنّ تمام مناط المعلومية هو كون الشيء متعلّقاً للعلم لا مباديه ولا العلم المتعلّق به.

وأمّا المقام الثاني، فلا ريب في أنّ العقلاء من كلّ ملّة يفرّقون بين الحركة الارتعاشية والإرادية في صحّة العقوبة على الثانية دون الاُولى، وليس ذلك إلاّ لحكمهم كافّة على أنّ الفعل الاختياري صادر عن إرادته واختياره من

ص: 33

دون إلجاء واضطرار وإجبار، وهذه الشبهات في نظر العقلاء سوفسطائية وفي مقابل البديهة.

تحقيق به يدفع الإشكال

اعلم: أنّ الأفعال الاختيارية الصادرة من النفس على ضربين:

أحدهما: ما يصدر منها بتوسط الآلات الجرمانية كالكتابة والصياغة والبناء، ففي مثلها تكون النفس فاعلة الحركة أوّلاً وللأثر الحاصل منها ثانياً وبالعرض، فالبنّاء إنّما يحرّك الأحجار والأخشاب من محلّ إلى محلّ ويضعها على نظم خاصّ وتحصل منه هيئة خاصّة بنائية وليست الهيئة والنظم من فعل الإنسان إلاّ بالعرض، وما هو فعله بالآلة هو الحركة القائمة بالعضلات أوّلاً وبتوسّطها بالأجسام، وفي هذا الفعل تكون بين النفس المجرّدة والفعل وسائط ومبادٍ من التصوّر إلى العزم وتحريك العضلات.

والضرب الثاني: ما يصدر منها بلا وسط أو بوسط غير جسماني كبعض التصوّرات التي يكون تحقّقها بفعّالية النفس وإيجادها - لو لم نقل جميعها كذلك - مثل كون النفس لأجل الملكة البسيطة الحاصلة لها من ممارسة العلوم خلاّقة للتفاصيل، ومثل اختراع نفس المهندس صورة بدعية (بديعة - خ. ل) هندسية؛ فإنّ النفس مع كونها فعّالة لها بالعلم والإرادة والاختيار لم تكن تلك المبادي حاصلة بنحو التفصيل كالمبادي للأفعال التي بالآلات الجسمانية؛ ضرورة أنّ خلق الصور في النفس لا يحتاج إلى تصوّرها والتصديق بفائدتها والشوق والعزم وتحريك العضلات، بل لا يمكن توسيط تلك الوسائط بينها وبين

ص: 34

النفس؛ بداهة عدم إمكان كون التصوّر مبدأً (مبدئاً - خ. ل) للتصوّر بل نفسه حاصل بخلاّقية النفس وهي بالنسبة إليه فاعلة بالعناية بل بالتجلّي؛ لأنّها مجرّدة والمجرّد واجد لفعليات ما هو معلول له في مرتبة ذاته، فخلاّقيته لا تحتاج إلى تصوّر زائد بل الواجدية الذاتية في مرتبة تجرّدها الذاتي الوجودي تكفي للخلاّقية كما أ نّه لا يحتاج إلى إرادة وعزم وقصد زائد على نفسه.

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ العزم والإرادة والتصميم والقصد من أفعال النفس ولم يكن سبيلها سبيل الشوق والمحبّة من الاُمور الانفعالية، فالنفس مبدأ الإرادة والتصميم ولم تكن مبدئيتها بالآلات الجرمانية بل هي موجدة لها بلا وسط جسماني. وما كان حاله كذلك في صدوره من النفس لا يكون بل لا يمكن أن يكون بينه وبينها إرادة زائدة متعلّقة به، بل هي موجدة له بالعلم والاستشعار الذي في مرتبة ذاتها وبالعزم والإرادة والاختيار الحاصلة في تلك المرتبة؛ لأنّ النفس مبدؤها وفاعل إلهي بالنسبة إليها والفاعل الإلهي واجد لأثره بنحو أعلى وأشرف، فكما أنّ المبدأ للصور العلمية واجد لها في مرتبة ذاته البسيطة بنحو أعلى وأشرف وأكمل فكذا الفاعل للإرادة، لكن لمّا كانت النفس ما دامت متعلّقة بالبدن ومسجونة في الطبيعة غير تامّة التجرّد تجوز عليها التغيّرات والتبدّلات والفاعلية تارةً وعدمها اُخرى، والعزم وعدمه، فلا يجب أن تكون فعّالة بالدوام ولا عالمة (عاملة - خ. ل) وعازمة كذلك. نعم، لو فرض حصول التجرّد التامّ لها تصير مبدأً للصور الملكوتية من غير تخلّف عنها إلاّ بوجه الظهور والبطون ممّا يعرفه الراسخون في العلم.

ص: 35

تنبيه : في عدم تعلّق الإرادة بالإرادة

إنّ هاهنا نكتة لعلّها أقرب إلى بعض الأفهام لدفع الشبهة، وهي أنّ النفس في الأفعال الخارجية الصادرة منها لمّا كان توجّهها الاستقلالي إليها وتكون المبادي من التصوّر إلى العزم والإرادة منظوراً بها؛ أي بنحو التوسّل إلى الغير وبنعت الآلية لم تكن متصوّرة ولا مرادة ولا مشتاقاً إليها بالذات بل المتصوّر والمراد والمشتاق إليه هو الفعل الخارجي الذي يتوسّل بها إليه، فلا معنى لتعلّق الإرادة بالإرادة ولو فرض إمكانه؛ لعدم كونها متصوّرة ولا مشتاقاً إليها ولا معتقداً فيها النفع، فتدبّر.

شبهة استلزام قاعدة «الشيء ما لم يجب لم يوجد» الجبر

ومن الإشكالات في المقام: أ نّه من المقرّر في الفلسفة «أنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد»(1) ووجوب الشيء ضرورة تحقّقه وامتناع لا تحقّقه، فحينئذٍ

يكون صدور الفعل عن الفاعل واجب التحقّق، وما كان كذلك يكون الفاعل مضطرّاً في إيجاده ملجأً في فعله.

وقد فصّل جمع من المتكلّمين(2) بين ما يصدر عن الفاعل المختار فمنعوا القاعدة لئلاّ ينسدّ باب إثبات الاختيار للواجب، وبين غيره لئلاّ ينسدّ باب إثبات الصانع تعالى، فكأ نّهم بنوا جريان القاعدة العقلية على أهوائهم لا على ما ساق

ص: 36


1- الحكمة المتعالية 1: 221؛ شرح المنظومة، قسم الحكمة 2: 272.
2- راجع الإشارات والتنبيهات، شرح المحقّق الطوسي 3: 122؛ الحكمة المتعالية 6: 320.

إليه البرهان، فكأنّ النتائج دعتهم إلى قبول البراهين لا هي هدتهم إلى النتائج،

فانظر ماذا ترى!

وكان الأولى والأجدر ترك التعرّض لأقوالهم، لكن لمّا اغترّ بقولهم بعض الأعيان من أهل التحقيق رحمه الله علیه (1) وتبعه غيره(2) من غير تدقيق، دعانا ذلك إلى تعرّض إجمالي لمعنى القاعدة فنقول:

التحقيق: أ نّها قاعدة تامّة مبرهنة مؤسّسة على الأوّليات كلّية عامّة لجميع الممكنات والحوادث الذاتية والزمانية - صدرت من فاعل مختار أو لا - غير مصادمة لاختيار الفاعل المختار.

أمّا كونها تامّة عامّة فيتّضح بعد ذكر اُصول:

الأوّل: إنّ كلّ ما يتعقّل ويتصوّر إمّا ضروري التحقّق، أو ضروري اللا تحقّق،

أو لا ضروري التحقّق واللا تحقّق. الأوّل هو الواجب، والثاني الممتنع، والثالث الممكن. والتقسيم بينها حاصر دائر بين النفي والإثبات، ولا يعقل قسم آخر؛ للزوم اجتماع النقيضين أو ارتفاعهما.

وهذا التقسيم بحسب مقايسة ذات الشيء ومفهومه، وأمّا بحسب نفس الأمر فكلّ شيء ممكن إمّا واجب التحقّق أو ممتنعه؛ لأنّ علّته التامّة إمّا محقّقة فيجب تحقّقه وإلاّ لم تكن تامّة، أو غير محقّقة فيمتنع وإلاّ ما فرض علّة ليس بعلّة وسيأتي بيانه، ولا ثالث لهما بحسب نفس الأمر، فحينئذٍ كلّ ما خرج عن أحد القسمين دخل في القسم الآخر.

ص: 37


1- أجود التقريرات 1: 139.
2- محاضرات في اُصول الفقه 2: 52.

الثاني: إنّ كلّ ممكن بالنظر إلى ذاته وماهيته، نسبة الوجود والعدم إليه على السواء لا يترجّح إحداهما على الاُخرى، ويستحيل ثبوت الأولوية الذاتية لها؛ سواء كانت بالغة حدّ الوجوب كافية في الوجود أو لا. أمّا الاُولى فواضحة؛ للزوم انقلاب الممكن بالذات إلى الواجب بالذات، وأمّا الثانية فلأنّ الممكن قبل تحقّقه وبالنظر إلى ذاته وماهيته ليس بشيء، بل هو اعتبار محض واختراع عقلي صرف؛ فإنّ ما ليس بموجود ليسٌ محضٌ لا يمكن أن يثبت له شيء حتّى ذاته وذاتياته، والأولوية خصوصية وجودية تجعل الماهية أقرب إلى التحقّق، وما ليس بموجود - أي معدوم صرف - لا يعقل فيه ثبوت أمر عدمي له فضلاً عن ثبوتي ولا يتصوّر فيه اقتضاء رأساً، والماهية من حيث هي ليست إلاّ هي بل في حال العدم ليست هي هي.

الثالث: بعد ما لم يكن للممكن اقتضاء ذاتي مطلقاً وتكون نسبة الوجود والعدم إليه على السواء، لا بدّ في تحقّقه ووجوده من علّة مؤثّرة، وهي إمّا أن تسدّ جميع الأعدام الممكنة عليه أو لا. فعلى الثاني لا يمكن أن يصير موجوداً للزوم الأولوية الذاتية و موجودية المعلول بلا علّة مؤثرة والترجّح بلا مرجّح وهو اجتماع النقيضين.

وبعبارة اُخرى: لو كان لموجوديته ألف شرط فوجد الجميع إلاّ واحد منها لا يمكن أن يصير موجوداً؛ للزوم الخلف، بل مع عدم واحد من شروطه لا يمكن أن يصير أولى بالوجود؛ لأنّه بَعدُ في حال العدم فلا يعقل اتّصافه بصفة وجودية وجهة اقتضائية ولو غيرية.

وبعد تحقّق جميع ما يحتاج إليه في وجوده وحصول علّته التامّة لا يمكن

ص: 38

عدم تحقّقه؛ للزوم الخلف وسلب الشيء عن نفسه، فلا بدّ أن ينضمّ إليها ما يخرج الممكن عن الامتناع الوقوعي وهو بتمامية علّته. فإذا خرج من الامتناع، ينسلك في الوجوب؛ لامتناع الواسطة بينهما بحسب متن الواقع؛ لأنّه إمّا بقي بَعدُ على حاله الأوّل ولم تؤثّر العلّة فيه وهذا عين الامتناع، وإمّا أثّرت فيه وسدّت الأعدام الممكنة عليه وهذا عين الوجوب الغيري. وهذا الوجوب لمّا لم يكن ذاتياً فلا محالة يكون من قبل العلّة وإيجابه. فإذا اعتبر في جانب العلّة وقيس إليها يكون العلّة فاعلاً موجباً - بالكسر - وهو الوجوب السابق، وإذا اعتبر في جانب المعلول وقيس إليه يكون المعلول واجباً وهو الوجوب اللاحق، فالفاعل أو العلّة أوجب الشيء فأوجده، والفعل أو المعلول وجب فوجد.

إذا عرفت ما ذكر يتّضح لك: أنّ القاعدة تامّة مؤسّسة على الأوّليات وعامّة لجميع الماهيات الممكنة ويكون الممكن - أيّ ممكن كان - من طباع ذاته ذلك سواء كان أثر الجاعل المختار أو لا، ولا يكون موضوع القاعدة المبرهنة ممكناً خاصّاً، وفعل الفاعل المختار ممكن أيضاً يأتي فيه ما ذكر، ولا يعقل تخصيصها إلاّ على أهواء بعض أصحاب الجدل. هذا حال القاعدة.

وأمّا عدم منافاتها لمختارية الفاعل المختار: فهو أيضاً بمكان من الوضوح بعد فهم مفادها؛ فإنّ مقتضى القاعدة أنّ الممكن ما لم يصر واجباً لم يصر موجوداً، والعلّة التامّة باقتضائها أوجب المعلول فأوجده، فأيّة منافاة بين هذا وبين كون الفاعل مختاراً؛ لأنّ الفاعل المختار بإرادته واختياريته وفعّاليته أوجب الفعل فأوجده، وهذا يؤكّد اختيارية الفاعل.

وبعبارة اُخرى: أنّ العلّة موجبة - بالكسر - فإذا كان الموجد فاعلاً مختاراً

ص: 39

يكون موجباً - بالكسر- باختياره. والمتكلّم لعدم استشعاره بموضوع القاعدة وبرهانها ومفادها زعم أنّ الإيجاب والوجوب ينافيان الاختيار مع أنّ الإيجاب بالاختيار لا يعقل أن يصير علّة ومنشأً للاضطرار، والوجوب الإلجائي من قبل العلّة يستحيل أن يؤثّر فيها.

وممّا ذكرنا يعلم: أنّ جواز الترجيح بلا مرجّح أو عدم جوازه غير مربوط بمفاد القاعدة وصحّتها؛ فإنّه لو سلّمنا جوازه أو منعناه، لا تنهدم بهما القاعدة؛ لأنّ معنى جوازه أنّ الفاعل يجوز أن يختار أحد طرفي الفعل من غير أن يكون فيه ترجيح بل يختار أحد المتساويين من جميع الجهات، فإذا اختار أحدهما أراده وأوجده. فالفاعل بعد اختياره أحد المتساويين بلا مرجّح موجب - بالكسر - لوجوده فموجدٌ، فيكون اختيار الفعل بلا ترجيح أو مع ترجيح مقدّماً على الإرادة، وبعد الاختيار تكون النفس فاعلاً موجباً - بالكسر - للإرادة، وبها تكون فاعلاً موجباً - بالكسر - لتحريك العضلات، وبتوسّطها لتحريك الأعيان الخارجة. فامتناع الترجيح بلا مرجّح لا يجعل الفاعل مضطرّاً وموجباً - بالفتح - كما أنّ جوازه لا يجعله مختاراً. فالفاعل المختار علّة باختياره وإرادته للفعل بعد حصول المقدّمات الاُخر، وموجب - بالكسر - للفعل مع كونه مختاراً.

نعم، هنا نكتة اُخرى - قد نبّهنا عليها - ينبغي تذكارها وهو أنّ العلّة المستقلّة التامّة ما تسدّ بذاتها جميع الأعدام الممكنة على المعلول وبهذا المعنى لم يكن ولا يكون في نظام الوجود ما يستقلّ بالعلّية والتأثير إلاّ ذات واجب الوجود - علت قدرته - وغيره تعالى من سكّان بقعة الإمكان ليس له هذا الشأن؛ لكونهم

ص: 40

فقراء إلى الله )وَالله هُوَ الْغَنِىُّ الْحَمِيدُ((1) ولعلّ في توصيف الغنيّ بالحميد في المقام في القرآن الكريم إشارة لطيفة إلى ما أشرنا سابقاً(2) من أنّ المحامد كلّها من مختصّات ذات الواجب الغنيّ الذي بغناه الذاتي أعطى كمال كلّ ذي كمال وجمال كلّ ذي جمال. فمبادي المحامد والمدائح منه وإليه ف )هُوَ الْأَوَّلُ وَالاْخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَىْ ءٍ عَلِيمٌ((3).

شبهة منافاة الإرادة الأزلية لكون الإنسان مختاراً

ومن الإشكالات(4): أنّ نظام الكيان - بقضّه وقضيضه - تابع إرادة الله تعالى وقضائه، وتنتهي سلسلة الوجود في الغيب والشهود إلى إرادة أزلية واجبة بالذات لا يمكن تخلّف المراد عنها، فيجب صدور ما صدر من العبد بالقضاء السابق الإلهي والإرادة الأزلية، فيكون مضطرّاً في أفعاله في صورة المختار.

وإليه يرجع مغزى قول من يقول(5): إنّ علمه تعالى بالنظام الأتمّ مبدأ له؛ فإنّه تعالى فاعل بالعناية والتجلّي. فنفس تعلّق علمه مبدأ لمعلوماته وهي تابعة لعلمه لا العكس، كما في العلوم الانفعالية، بل العلم والإرادة والقدرة فيه - تعالى شأنه - متحقّقات بحقيقة واحدة بسيطة، والوجود الصرف صرف

ص: 41


1- فاطر (35): 15.
2- تقدّم في الصفحة 26.
3- الحديد (57): 3.
4- راجع المطالب العالية 9: 58؛ شرح المواقف 8: 174؛ القبسات: 471 - 472؛ الحكمة المتعالية 6: 384 - 389.
5- راجع الشفاء، الإلهيات: 414؛ القبسات: 416؛ الحكمة المتعالية 7: 55.

كلّ كمال. وليست القدرة فيه تعالى كقدرة الإنسان تستوي نسبتها إلى الفعل والترك؛ لأنّ واجب الوجود بالذات واجب الوجود من جميع الجهات، واستواء النسبة جهة إمكانية يستحيل تحقّقها في ذاته البسيطة الواجبة، بل قدرتها أحدية التعلّق كإرادته، وهما عين علمه بالنظام الأتمّ، فالنظام الكياني تابع لعلمه العنائي.

وبما قرّرنا يدفع ما قد يقال(1): إنّ العلم تابع للمعلوم ولا يمكن أن يكون علّة له؛ فإنّ ذلك شأن العلوم الانفعالية، لا مثل علمه تعالى الذي هو فعلي وفعل محض.

والتحقيق في الجواب عن الشبهة، ما أسلفناه في تحقيق الأمر بين الأمرين(2) ونزيدك بياناً: أنّ علمه وإرادته تعلّقا بالنظام الكوني على الترتيب العلّي والمعلولي، ولم يتعلّقا بالعلّة في عرض معلوله وبالمعلول بلا وسط حتّى يقال: إنّ الفاعل مضطرّ في فعله. فأوّل ما خلق الله تعالى هو حقيقة بسيطة روحانية بوحدتها كلّ كمال وجمال وجفّ القلم بما هو كائن، وتمّ القضاء الإلهي بوجوده، ومع ذلك لمّا كان نظام الوجود فانياً في ذاته ذاتاً وصفةً وفعلاً، يكون كلّ يوم هو في شأن.

فحقيقة العقل المجرّد والروحانية البسيطة المعبّر عنها بنور نبيّنا صلی الله علیه و آله وسلم (3)

ص: 42


1- شرح الاُصول الخمسة، القاضي عبدالجبّار: 295 و347؛ المطالب العالية 9: 64؛ وراجع نقد المحصّل: 328؛ القبسات: 471؛ الحكمة المتعالية 6: 384.
2- تقدّم في الصفحة 20.
3- راجع عوالي اللآلي 4: 99 / 140؛ بحار الأنوار 15: 28 / 48، و54: 199 / 145.

والملك الروحاني(1) صادر منه تعالى بلا وسط وهي بما أ نّها صرف التعلّق

والربط ببارئه - تعالى شأنه - تعلّقاً لا يشبه التعلّقات المتصوّرة وربطاً لا

يماثل الروابط المعقولة يكون ما صدر منها صدر منه تعالى بنسبة واحدة؛ لعدم بينونة عزلة بينه تعالى وبين شيء؛ لكونه تعالى صرف الوجود من غير ماهية وهي مناط بينونة عزلة، وسائر الموجودات والعلل المعانقة لها لم تكن مع معاليلها بهذه المثابة، فالحقيقة العقلية ظهور مشيّته وإرادته كما أنّ الطبيعة يد الله المبسوطة: «خمّرت طينة آدم بيدي أربعين صباحاً»(2). فمن عرف كيفية ربط الموجودات على ترتيب سببي ومسبّبي إليه تعالى، يعرف أ نّها مع كونها ظهوره تعالى تكون ذات آثار خاصّة، فيكون الإنسان مع كونه فاعلاً مختاراً ظلّ الفاعل المختار وفاعليته ظلّ فاعليته تعالى )وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ الله((3).

فتحصّل من جميع ما ذكرنا أنّ تعلّق إرادته تعالى بالنظام الأتمّ لا ينافي كون الإنسان فاعلاً مختاراً، كما أنّ كون علمه العنائي منشأً للنظام الكياني لا ينافيه بل يؤكّده، هذا.

ص: 43


1- راجع الكافي 1: 21 / 14؛ بحار الأنوار 1: 109 / 7.
2- مرصاد العباد: 65؛ عوالي اللآلي 4: 98 / 138.
3- الإنسان (76): 30؛ التكوير ((81)): 29.
المطلب الثاني في بيان حقيقة السعادة والشقاوة وتوضيح بعض الاشتباهات الواقعة من بعض المحقّقين

ويتمّ ذلك برسم اُمور:

الأمر الأوّل: في المراد من الذاتي في قاعدة «الذاتي لا يعلّل»

إنّ الذاتي الذي يقال: إنّه لا يعلّل(1) هو ما اصطلح عليه في باب البرهان وهو أعمّ من الذاتي في باب إيساغوجي؛ لشموله أجزاء الماهية ولوازمها، وفي مقابله العرضي في ذلك الباب وهو أخصّ من عرضي باب إيساغوجي؛ لاختصاصه بالمفارقات(2).

وسرّ عدم معلّلية الذاتي ومعلّلية العرضي: أنّ مناط الافتقار إلى العلّة هو

ص: 44


1- راجع المباحث المشرقية 1: 55؛ الحكمة المتعالية 1: 398؛ شرح المنظومة، قسم المنطق 1: 177.
2- راجع الجوهر النضيد: 15 و209؛ شرح المنظومة، قسم المنطق 1: 177 - 180.

الإمكان، كما أنّ مناط الاستغناء عنها هو الوجوب، فأيّ محمول يلاحظ ويقاس إلى موضوعه فلايخلو من إحدى الجهات الثلاث: الإمكان والوجوب والامتناع.

فإن كانت نسبته إليه بالإمكان ففي اتّصافه به يحتاج إلى العلّة؛ لأنّ ما يمكن أن يتّصف بشيء وأن لا يتّصف لا يمكن أن يتّصف به بلا علّة؛ للزوم الترجيح (الترجّح - خ. ل) بلا مرجّح، وهو يرجع إلى اجتماع النقيضين. فالإنسان لمّا كان ممكن الوجود واجب الحيوانية ممتنع الحجرية، يكون في وجوده مفتقراً إلى العلّة دون حيوانيته وحجريته؛ لتحقّق مناط الافتقار في الأوّل ومناط الاستغناء وهو الوجوب في الأخيرين إن أرجعنا الامتناع إلى الوجوب، وإلاّ فالامتناع أيضاً مناط عدم المجعولية بذاته. والأربعة ممكنة الوجود واجبة الزوجية واللا فردية ممتنعة الفردية، فتعلّل في الأوّل دون الأخيرتين. والجسم ممكن الوجود والأبيضية والأسودية، فيعلّل فيها وهكذا.

ثمّ إنّ عدم معلّلية الممكن في ذاته ولوازمها لا يخرجه عن الإمكان؛ لأنّ الماهية ولوازمها اعتبارية لا حقيقة لها فهي بلوازمها دون الجعل ولا يمكن تعلّق الجعل بالذات بها كما هو المقرّر في محلّه(1).

الأمر الثاني: في فقر وجود الممكنات وعوارضه ولوازمه

إنّ الوجود وعوارضه ولوازمه ليست ذاتية لشيء من الماهيات الإمكانية وإلاّ لانقلب الممكن بالذات إلى الواجب بالذات واللا مقتضي بالذات إلى

ص: 45


1- راجع الحكمة المتعالية 1: 38 و421؛ شرح المنظومة، قسم الحكمة 2: 64 و221.

المقتضي بالذات. فالماهيات الإمكانية في اتّصافها بالوجود وعوارضه مفتقرة إلى العلّة. كما أنّ في مراتب الوجود ما كان مستغنياً عن العلّة هو الوجود القيّوم بالذات - تعالى شأنه - وسائر الوجودات مفتقرة إليه تعالى بل نفس الفقر والربط إليه بلا وسط أو معه.

فالماهيات الإمكانية في موجوديتها تحتاج إلى حيثية تعليلية وتقييدية؛ لأنّها مجعولة وموجودة بالعرض، والوجودات الإمكانية مستغنية عن التقييدية دون التعليلية؛ لأنّها مجعولات بالذات لا بالعرض ومفتقرات إلى العلّة بذاتها، فنفس ذاتها معلّلة مفتقرة وذاتيتها (ذاتيها - خ. ل) الافتقار

والتعلّق.

فلم يكن شيء متّصفاً بالوجود في نظام التحقّق وكيان التقرّر بلا جهة تعليلية إلاّ الواجب - تعالى شأنه - فالواجب تعالى ذاته الوجوب والوجود، فلم يكن مفتقراً ولا معلّلاً بوجه، والوجودات الإمكانية ذاتها التعلّق والافتقار فلم تكن معلّلة في افتقارها بأن يكون افتقارها لأجل شيء آخر وراء ذاتها. فهي معلّلة بالذات غير معلّلة في المعلّلية، والماهيات غير معلّلة في ذاتها وذاتياتها معلّلة في تحقّقها، ولوازم الماهيات غير معلّلة في لزومها معلّلة في تحقّقها، ولوازم الوجود معلّلة في تحقّقها، فالمعلول بالذات لازم ذات العلّة التامّة بالذات لزوماً بالعلّية والتأثير، فلزوم المعلول لعلّته عين معلوليته ومعلّليته ولم تكن معلّلة في

هذه بمعلّلية اُخرى غير ذاتها.

ص: 46

الأمر الثالث: في استناد الكمالات إلى الوجود

إنّ الماهيات الإمكانية بما أ نّها اُمور اعتبارية لا حقيقة لها، لم تكن ذات أثر واقتضاء بالذات، ولزوم اللوازم لها ليس بمعنى اقتضائها لها، بل بمعنى عدم انفكاكها عنها من غير تأثير وتأثّر. كيف؟! وما ليس بموجود لم يثبت له ذاته وذاتياته فضلاً عن ثبوت اقتضاء وتأثير وتأثّر له ممّا هو من الحيثيات الوجودية، فالماهيات خلوٌ عن كلّ كمال وجمال وخير وسعادة.

فماهية العلم لا تكشف عن الواقع ولم تكن كمالاً، وكذا ماهيات القدرة والحياة وغيرها. وإنّما الكمال والخير والجمال والسعادة كلّها في الوجود وبالوجود، وهو مبدأ كلّ خير وكمال وشرف، والعلم بوجوده شرف وشريف. وكذا سائر الكمالات والفضائل كلّها ترجع إلى الوجود ومبدأ الوجود، وصرفه مبدأ كلّ كمال وصرفه، والوجودات الخاصّة الإمكانية لها آثار وخواصّ وكمال وشرف بقدر حظّها من الوجود، ولماهياتها آثار وخواصّ وكمال بالعرض وبتبع وجوداتها وهذه المذكورات من الاُصول المبرهنة تركنا براهينها حذراً من التطويل.

الأمر الرابع: في معنى السعادة والشقاوة

السعادة لدى العرف والعقلاء عبارة عن جمع (جميع - خ. ل) موجبات اللذّة والراحة وحصول وسائل الشهوات والأميال وتحقّق ملائمات النفس بقواها دائماً أو غالباً، والشقاوة في مقابلها. فمن حصل له موجبات لذّات النفس وكان

ص: 47

في روح وراحة بحسب جميع قوى النفس دائماً يكون سعيداً مطلقاً، وبإزائه الشقيّ المطلق، وإلاّ فسعيد وشقيّ بالإضافة.

ولمّا كان في نظر المؤمنين بعالم الآخرة لذّات الدنيا بحذافيرها ومشتهياتها

بأجمعها بالقياس إلى لذّات الآخرة والجنّة التي فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذّ الأعين دائماً أبداً، تكون شيئاً حقيراً ضعيفاً (طفيفاً - خ. ل) كيفية وكمّية، بل في

الحقيقة لا نسبة بين المتناهي وغير المتناهي، تكون السعادة لديهم ما يوجب دخول الجنّة، والشقاوة ما يوجب دخول النار )فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِى النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ * وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِى الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ((1) فمن ختم له بالخير وقدّر له الجنّة فهو سعيد ولو كان في الدنيا في تعب ومرض وشدّة وفقر وفاقة، ومن ختم له - والعياذ بالله - بالشرّ وقدّر له النار فهو شقيّ ولو كان

في الدنيا في عيش ولذّة وروح وراحة؛ لعدم النسبة بين لذّات الدنيا والآخرة وعذابهما شدّة وعدّة ومدّة.

وقد تطلق السعادة لدى طائفة على الخير المساوق للوجود(2)، فالوجود خير وسعادة. وتفاوت مراتب السعادات حسب تفاوت كمال الوجود، فالخير المطلق سعادة مطلقة والموجود الكامل سعيد على الإطلاق، وفي مقابله الناقص حسب مراتب نقصه.

ص: 48


1- هود (11): 106 - 108.
2- التحصيل: 832؛ الحكمة المتعالية 9: 121.

ثمّ إنّ السعادة والشقاوة بالمعنى المتقدّم أمران يحصلان للإنسان حسب عمله وكسبه )فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَوةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِىَ الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِىَ الْمَأْوَى((1).

التحقيق: كون السعادة والشقاوة غير ذاتيتين

إذا عرفت ما تلوناه عليك: اتّضح لك أنّ السعادة والشقاوة ليستا ذاتيتين غير

معلّلتين؛ لعدم كونهما جزء ذات الإنسان ولا لازم ماهيته، بل هما من الاُمور الوجودية التي تكون معلّلة بل مكسوبة باختيار العبد وإرادته. فمبدأ السعادة هو العقائد الحقّة والأخلاق الفاضلة والأعمال الصالحة، ومبدأ الشقاوة مقابلاتها ممّا يكون لها في النفس آثار وصور، ويرى جزاءها وصورها الغيبية في عالم الآخرة على ما هو المقرّر في لسان الشرع والكتب العقلية المعدّة لتفاصيل ذلك(2).

فتحصّل ممّا ذكرنا: أنّ السعادة والشقاوة لمّا كانتا منتزعتين من الحيثيات الوجودية وهي كما عرفت معلّلة كلّها، لا سبيل إلى القول بأ نّها من الذاتيات الغير المعلّلة، والمحقّق الخراساني رحمه الله علیه قد أخذ هذه القضيّة من محالّها واستعملها في غير محلّها فصار غرضاً للإشكال(3).

ص: 49


1- النازعات (79): 37 - 41.
2- راجع الحكمة المتعالية 9: 225 و290؛ المبدأ والمعاد: 423؛ شرح المنظومة، قسم الحكمة 5: 352 - 358.
3- راجع كفاية الاُصول: 68.

المطلب الثالث في شمّة من اختلاف خلق الطينات

توهّم كون الجبر مقتضى أخبار الطينة

ربّما يتوهّم: أنّ اختلاف خلق طينة السعيد والشقيّ موجب لاختيار السعيد السعادة والشقيّ الشقاوة كما دلّت عليه الأخبار الكثيرة(1)، فعادت شبهة الجبر.

فلا بأس لدفعه بصرف عنان القلم إلى توضيح ذلك بعد بيان مقدّمة وهي:

موضوع حكم العقلاء في صحّة العقوبة وعدمها

إنّه لا إشكال في أنّ موضوع حكم العقلاء كافّة - من أيّة ملّة ونحلة - في صحّة العقوبة هو المخالفة الاختيارية للقوانين شرعية كانت أو سياسية (أو - خ. ل) مدنية من أرباب السياسات، بعد صحّة التكليف بحصول مقدّماته وشرائطه من العقل والتميّز (التمييز - خ. ل) بين الحَسَن والقبيح ووصول

ص: 50


1- الكافي 1: 152، باب السعادة والشقاوة؛ و2: 1، باب طينة المؤمن والكافر؛ بحار الأنوار 64: 77 - 130.

التكليف إلى المكلّف. فالعقل المميّز بين الإنسان والحيوان شرّفه بالتكليف وبه يعاقب ويثاب؛ لأنّه بالعقل يحكم بوجوب طاعة مولى الموالي وقبح مخالفته، وبه يعرف المولى وحقّه ودار الثواب والعقاب. فإذا خالفه باختياره وإرادته من غير اضطرار وإلجاء، يحكم عقله وعقل كافّة العقلاء بصحّة عقوبته، كما أنّ الأمر كذلك في مخالفة القوانين الجارية في الممالك المتمدّنة. فما هو الملاك في صحّة العقوبة فيها هو الملاك في صحّة العقوبة على مخالفة مولى الموالي. فلا بدّ للناظر في كيفية اختلاف طينة أفراد الإنسان والأخبار الواردة فيه من كون ما ذكر - من ملاك صحّة العقوبة في كلّ ملّة ونحلة - نصب عينيه، فإن اختلّ بواسطة خلق الإنسان من طينة علّيين وسجّين، أحد أركان موضوع حكم العقلاء بصحّة العقوبة، حكم بعدم صحّتها وإلاّ فحكم العقل والعقلاء بحاله.

إفاضة الفيض الوجودي بمقدار قابلية الموادّ

إذا عرفت ذلك فاعلم: أنّ واجب الوجود بالذات لمّا كان واجباً من جميع الجهات والحيثيات، يمتنع عليه قبض الفيض عن الموضوع القابل، فإنّ قبضه بعد تمامية الاستعداد وعدم نقص في جانب القابل مستلزم لنقص في الفاعل أو جهة إمكان فيه - تعالى عنه - وهذا اللزوم والوجوب كلزوم عدم صدور القبيح وامتناع صدور الظلم عنه اختياري إرادي لا يضرّ بكونه مريداً مختاراً قادراً، فإذا تمّت الاستعدادات في القوابل اُفيضت الفيوضات والوجودات من المبادي العالية. وإنّما إفاضة الفيض الوجودي بمقدار الاستعداد وقابلية الموادّ؛

ص: 51

للتناسب بين المادّة والصورة للتركيب الطبيعي الاتّحادي بينهما لا يمكن قبولها

صورة ألطف وأكمل من مقتضى استعدادها كما لا يمكن منعها عمّا استعدّت له كما عرفت.

منشأ اختلاف النفوس في الميل إلى الخير أو الشرّ

ثمّ اعلم: أنّ منشأ اختلاف نفوس الإنسان في الحنين إلى الخيرات أو الشرور والميل إلى موجبات السعادة أو الشقاوة اُمور كثيرة نذكر مهمّاتها:

منها: اختلافها في نفسها، ومنشأ اختلافها اختلاف الإفاضة على الموادّ المستعدّة لها، ومنشأ اختلاف الموادّ - أي النطف التي تستعدّ لقبول الصورة الإنسانية - أنّ النطف تحصل من الأغذية الخارجية بعد عمل القوى فيها أعمالها فتفرز القوّة المولّدة من فضول الأغذية أجزاءً لتوليد المثل هي في الحيوان النطفة. ولمّا كانت الأغذية مختلفة غاية الاختلاف في اللطافة والكثافة والصفاء والكدورة، فلا محالة تختلف النطف الحاصلة منها فيها. فإذا حصلت النطفة من أغذية لطيفة صافية يكون لها استعداد خاصّ لقبول الصورة غير ما للموادّ الكثيفة الكدرة أو المختلطة من اللطيفة والكثيفة. ولا يخفى عليك أنّ للاختلاط والتمزيج أنواعاً كثيرة لا يحيط بها إلاّ الله تعالى، وقد عرفت آنفاً أنّ الإفاضات

على الموادّ إنّما هي على مقدار استعداداتها لا تتعدّاها ولا يمكن ذلك كما لا يمكن قصور الإفاضة عليها (عنها - خ. ل).

ومنها: شموخ الأصلاب وعدمه، وطهارة الأرحام وعدمها؛ فإنّ لهما دخالة كاملة في اختلاف الاستعدادات والإفاضات، وقد أشار (اُشير - خ. ل) إلى ما

ص: 52

ذكر في زيارة سيّدنا أبي عبدالله الحسين - صلوات الله وسلامه عليه - حيث تقول: «أشهدُ أ نّك كنت نوراً في الأصلاب الشامخة والأرحام المطهّرة»(1) فسمّي النطفة لكمال لطافتها وصفائها نوراً.

ومنها: مراعات آداب النكاح والمقاربة وأوقاتها ومراعات آداب زمان الحمل والرضاع وانتخاب الزوجة والمرضعة إلى غير ذلك ممّا له دخالة كاملة في مزاج بدن الطفل وروحه كما أنّ للمحيط والمربّي والمعلّم والصاحب والمعاشر والعلوم المختلفة إلى غير ذلك ممّا يعسر حصرها ويطول ذكرها تأثيرات عجيبة مشاهدة.

وبالجملة: الإنسان بما أ نّه واقع في دار الهيولى من بدو خلقه بل قبله حسب اختلاف الموادّ السابقة إلى زمان انتقاله من هذه النشأة واقع تحت تأثير الكائنات، لكن كلّ ذلك لا يوجب اضطراره وإلجاءه في عمل من أعماله الاختيارية بحيث تعدّ حركاته لدى العقل والعقلاء كحركة المرتعش خارجة عن قدرته واختياره ويكون في أعماله غير مؤاخذ عند العقلاء. فمن حصل له جميع أسباب التوفيق من لطافة المادّة وشموخ الأصلاب وطهارة الأرحام إلى آخر ما عدّدناه وغيرها ممّا لم نحصها مع مَن حصل له مقابلاتها في قوّة العقل والتميّز (التمييز - خ. ل) والاختيار والإرادة وما هو دخيل في صحّة العقوبة لدى العقل والعقلاء على السواء، لا ذلك مضطرّ وملجأ في فعال الخير، ولا ذاك في فعال الشرّ بالضرورة والعيان. فما هو موضوع حكم العقلاء في جميع الأعصار

ص: 53


1- تهذيب الأحكام 6: 114 / 201؛ مصباح المتهجّد: 549؛ بحار الأنوار 98: 200 / 32.

والأمصار في صحّة العقوبة من صدور الفعل عن علمه وإرادته واختياره بلا اضطرار وجهل وإلجاء، حاصل في كليهما بلا تفاوت في ذلك، فباختلاف الطينات لا يختلّ ركن من أركان صحّة العقوبة. وأخبار الطينة(1) على كثرتها تحوم حول هذه الحقائق أو ما يقرب منها ممّا لا يضرّ بما هو موضوع حكم العقل الصريح وكافّة العقلاء، وما يكون ظاهره الجبر لا بدّ من تأويله أو حمله على التقيّة بعد مخالفته لصريح البرهان وصراح الحقّ والأخبار المتظافرة الناصّة على نفي الجبر والتفويض(2)، بل لا يبعد أن يكون الأمر بين الأمرين من الضروريات من مذهب الأئمّة علیهم السلام الغير المحتاجة إلى البرهان.

تنبيه: حول مفاد بعض الأحاديث

وممّا ذكرنا ظهر مغزى قوله - صلوات الله وسلامه عليه -: «الناس معادن كمعادن الذهب والفضّة»(3) فإنّه كناية عن اختلاف نفوس البشر في جواهرها (جوهرها - خ. ل) صفاءً وكدورة كاختلاف المعادن في الصور النوعية والخاصّية.

وكذا قوله - صلوات الله وسلامه عليه-: «السعيد سعيد في بطن اُمّه، والشقيّ شقيّ في بطن اُمّه»(4)، فإنّ من ينتهي أمره إلى الراحة الدائمة الغير المتناهية

ص: 54


1- الكافي 1: 152، باب السعادة والشقاوة، و2: 1، باب طينة المؤمن والكافر؛ بحار الأنوار 64: 77 - 130.
2- الكافي 1: 155؛ التوحيد، الصدوق: 359.
3- الكافي 8: 177 / 197؛ كنز العمّال 10: 149 / 28761.
4- التوحيد، الصدوق: 356 / 3؛ بحار الأنوار 5: 157 / 10؛ كنز العمّال 1: 107 / 491.

واللذّات الغير المنقطعة والعطاء الغير المجذوذ، فهو سعيد من أوّل أمره وإن كان في أيّام قلائل - لا نسبة بينها وبين الغير المتناهي - في تعب وشدّة، وكذا في جانب الشقاوة.

ويمكن أن يكون المراد منه ما نبّهنا عليه من اختلاف النفوس في بدو النشو؛ فإنّ النفس المفاضة على المادّة اللطيفة لطيفة نورانية تكون ممّن تحنّ إلى الخيرات وموجبات السعادة، فهي سعيدة خيّرة، وعكس ذلك ما يفاض على المادّة الكثيفة. وقد عرفت أنّ هذا الحنين والميل لا يخرج النفوس عن الاختيار والإرادة.

ولا ينافي ما ذكرناه ما عن «التوحيد» للشيخ الصدوق رحمه الله علیه بسنده عن محمّد بن أبي عمير، قال: سألت أبا الحسن موسى بن جعفرI عن معنى قول رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم : «الشقيّ من شقي في بطن اُمّه والسعيد من سعد في بطن اُمّه». فقال: «الشقيّ من علم الله وهو في بطن اُمّه أ نّه سيعمل عمل الأشقياء، وا لسعيد من علم الله وهو في بطن اُمّه أ نّه سيعمل أعمال السعداء». قلت له: فما معنى قوله صلی الله علیه و آله وسلم : «اعملوا فكلّ ميسّر لما خلق له» فقال: «إنّ الله - عزّ وجلّ - خلق الجنّ والإنس ليعبدوه ولم يخلقهم ليعصوه وذلك قوله - عزّ وجلّ -: )وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالاْءِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونَ((1) فيسّر كلاًّ لما خلق له. فالويل لمن استحبّ العمى على الهدى»(2).

فإنّ من علم الله أ نّه سيعمل عمل الأشقياء هو الذي ينتهي أمره إلى الشرّ وإلى

ص: 55


1- الذاريات (51): 56.
2- التوحيد، الصدوق: 356 / 3.

النار وهو الذي تكوّن طينته من السجّين والنطفة التي كانت مبدأه القابلي نطفة خبيثة صلبة كدرة، وكذا في جانب السعادة. ولا ينافيان الاختيار والإرادة كما أشار إليه في ذيل الحديث الشريف.

خاتمة: حول فطرة العشق إلى الكمال والتنفّر عن النقص

اعلم: أنّ الله تعالى وإن أفاض على الموادّ القابلة ما هو اللائق بحالها من غير ضنّة وبخل - والعياذ بالله- ولكنّه تعالى فطر النفوس سعيدها وشقيّها، خيّرها وشريرها على فطرة الله؛ أي العشق بالكمال المطلق، فجبلت النفوس بقضّها وقضيضها إلى الحنين إلى كمال لا نقص فيه وخير لا شرّ فيه ونور لا ظلمة فيه وإلى علم لا جهل فيه وقدرة لا عجز فيها.

وبالجملة: الإنسان بفطرته عاشق الكمال المطلق، وتبع هذه الفطرة فطرة اُخرى فيها هي فطرة الانزجار عن النقص؛ أيّ نقص كان.

ومعلوم: أنّ الكمال المطلق والجمال الصرف والعلم والقدرة وسائر الكمالات على نحو الإطلاق بلا شوب نقص وحدّ، لا توجد إلاّ في الله تعالى، فهو هو المطلق وصرف الوجود وصرف كلّ كمال، فالإنسان عاشق جمال الله تعالى ويحنّ إليه وإن كان من الغافلين.

وفي الروايات فسّرت الفطرة بفطرة المعرفة وفطرة التوحيد(1) )أَلاَ بِذِكْرِ الله

ص: 56


1- راجع الكافي 2: 12، باب فطرة الخلق على التوحيد؛ التوحيد، الصدوق: 328، الباب 53.

تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ((1) وإليه المرجع والمآب والمصير وهو تعالى غاية الغايات

ونهاية المآرب، فهو تعالى بلطفه وعنايته فطر الناس على هاتين الفطرتين: الفطرة الأصلية هي فطرة العشق بالكمال المطلق، والفطرة التبعية هي فطرة الانزجار عن النقص؛ لتكونا براق سيره ورفرف معراجه إلى الله تعالى، وهما جناحان بهما يطير إلى وكره وهو فناء الله وجنابه.

وقد فصّلنا أحكام الفطرة في بعض الرسائل والكتب(2) سيّما ما كتبنا سابقاً في «شرح حديث جنود العقل والجهل»(3) ولقد جفّ قلمي في خلال شرحه ولم يشملني إلى الآن التوفيق منه تعالى لإتمامه وابتلاني الله تعالى وله الحمد والشكر بالدخول في أحكام الكثرة وإليه المشتكى وعليه المعوّل.

ثمّ إنّ الله تعالى لم يترك الإنسان بفطرته؛ لعلمه تعالى بأ نّه سيحجب عن الفطرة المخمورة بابتلائه بالقوى الحيوانية الشهوية والغضبية والقوّة الوهمية الشيطانية، وهذه القوى معه منذ فطره؛ لاحتياجه إليها في عيشه وبقاءه شخصاً ونوعاً، وفي رقاه وسيره وسلوكه إلى الله تعالى، لكنّ الحنين الجبلّي إليها حجبه عن فطرته ومنعه عن سيره، فبعث الله تعالى رسلاً مبشّرين ومنذرين

ص: 57


1- الرعد (13): 28.
2- راجع شرح چهل حديث، امام خميني قدّس سرّه ، الحديث الحادي عشر؛ و آداب الصلوة، مقاله دوم، مقصد اول، فصل دوم: «در اشاره به مراتب طهور است» ومقصد پنجم، فصل دوم: «در بعضى از آداب قلبيه استقبال است».
3- راجع شرح حديث جنود عقل وجهل، مقاله ششم، مقصد اول: «در بيان خير و شر»، و مقصد دوم، فصل چهارم: «در بيان آنكه ايمان بر طبق فطرت است و كفر خارج از طريقه فطرت است».

تكون أحكامهم على طبق مقتضى الفطرة لرفع الحجب عنها وإعانتها في سيره وسلوكه.

فأحكامهم: إمّا على مقتضى الفطرة الأصلية ابتداءً أو مع الواسطة كالدعوة إلى الله ومعارفه وأسماءه وصفاته، وإلى فضائل النفس وكمالاتها وكالصلاة التي هي معراج المؤمن إلى الله تعالى والحجّ الذي هو الوفود إليه تعالى وأشباهها.

أو مقتضى الفطرة التابعة كالزجر عن الكفر والشرك وعبادة الأوثان والتوجّه إلى غيره وعن الأخلاق الذميمة والأفعال القبيحة ممّا تمنع النفس عن الوصول إلى الله والأمر بالتقوى والصوم الذي هو تقوى النفس ويكون لله وهو جزاؤه.

وبالجملة: جلّ أحكام الله تعالى مطابق لمقتضى الفطرة؛ أي مربوط برفع حجبها وإحياء مقتضاها. والمقصود الأصلي والمقصد الأسنى هو المعرفة والوصول إلى باب الله تعالى، كلّ ذلك من عناياته تعالى على عباده؛ لتخلّصهم عن سجن الطبيعة وإرجاعهم إلى مأوى المقرّبين ومقرّ المخلصين. فالتكاليف ألطاف إلهية وأدوية ربّانية لعلاج الأرواح المريضة والقلوب العليلة، والأنبياء علیهم السلام أطبّاء النفوس ومربّي الأرواح ومخرجها من الظلمات إلى النور ومن النقص إلى الكمال.

بل البرازخ والمواقف في القيامة من عنايات الله تعالى على العباد؛ لئلاّ ينتهي أمرهم إلى النار. فلا يزال يخرجهم من مستشفىً إلى آخر؛ لشفاء

ص: 58

عللهم الروحية. فإن لم تشف بتلك الأدوية فآخر الدواء الكيّ، فلا بدّ من دخول

النار - والعياذ بالله - للتصفية مع الإمكان، وإلاّ فللقرار فيها. فالنار بالنسبة إلى أهل العصيان من المؤمنين لطف وعناية وطريق إلى جوار الله، وبالنسبة إلى الكفّار وأصحاب النار جزاء وغاية، فهم أصحاب النار ومأويهم النار وهم ناريّون لهَبيّون مصيرهم النار )وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالاْءِنْسِ...((1) الآية.

هذا بعض الكلام في مسألة الجبر والقدر حسبما يناسب المقام.

والحمد لله أوّلاً وآخراً وظاهراً وباطناً.

وقد وقع الفراغ عن تبييضه يوم الخميس

لخمس بقين من شهر الله المبارك سنة 1371 في مدينة همدان.

ص: 59


1- الأعراف (7): 179.

ص: 60

الفهارس العامّة

اشارة

1 - الآيات الكريمة

2 - الأحاديث الشريفة

3 - أسماء المعصومين علیهم السلام

4 - الأعلام

5 - الكتب الواردة في المتن

6 - مصادر التحقيق

7 - الموضوعات

ص: 61

ص: 62

1 - فهرس الآيات الكريمة

الآية رقمها الصفحة

الفاتحة (1)

(بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) 1 27

(الْحَمْدُ لله) 2 27

(الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِينَ) 2 26

النساء (4)

(قُلْ كُلٌّ مِنْ عِندِ الله) 78 23

(مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ الله) 79 25

(مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ الله وَمَا

أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) 79 27

المائدة (5)

(غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ

يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ) 64 22

ص: 63

الآية رقمها الصفحة

الأعراف (7)

(وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ

وَالاْءِنْسِ) 179 59

الأنفال (8)

(وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ الله رَمَى) 17 20، 25

(وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا

الْمَلاَئِكَةُ) 50 26

هود (11)

(فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِى النَّارِ لَهُمْ فِيهَا

زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا

دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاءَ

رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ * وَأَمَّا

الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِى الْجَنَّةِ خَالِدِينَ

فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ

مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) 106 - 108 48

الرعد (13)

(أَلاَ بِذِكْرِ الله تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) 28 56

إبراهيم (14)

(وَيُضِلُّ الله الظَّالِمِينَ) 27 26

ص: 64

الآية رقمها الصفحة

طه (20)

(وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ) 79 26

(وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِىُّ) 85 26

الحجّ (22)

(إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ الله لَنْ

يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ

يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لاَ يَسْتَنقِذُوهُ

مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ * مَا

قَدَرُوا الله حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ الله لَقَوِىٌّ

عَزِيزٌ) 73 - 74 17

النور (24)

(الله نُورُ السَّمَواتِ وَالْأَرْضِ) 35 24

(وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ الله لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ

مِنْ نُورٍ) 40 24

الشعراء (26)

(نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ

لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ) 193 - 194 4

القصص (28)

(إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ) 15 26

ص: 65

الآية رقمها الصفحة

السجدة (32)

(قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِى وُكِّلَ

بِكُمْ) 11 25

فاطر (35)

(وَالله هُوَ الْغَنِىُّ الْحَمِيدُ) 15 41

الزمر (39)

(الله يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا) 42 25

الذاريات (51)

(وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالاْءِنْسَ إِلاَّ

لِيَعْبُدُونِ) 56 55

النجم (53)

(إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْىٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ

شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى *

وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى

* فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى *

فَأَوْحَى إِلى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى * مَا

كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى) 4 - 11 4

ص: 66

الآية رقمها الصفحة

الواقعة (56)

(إِنَّهُ لَقُرءَانٌ كَرِيمٌ * فِى كِتَابٍ

مَكْنُونٍ * لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ) 77 - 79 4، 26

الحديد (57)

(هُوَ الْأَوَّلُ وَالاْخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ

وَهُوَ بِكُلِّ شَىْ ءٍ عَلِيمٌ) 3 41

الإنسان (76)

(وَمَا تَشَآؤُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَآءَ الله) 30 21، 25، 43

النازعات (79)

(فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَوةَ

الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِىَ الْمَأْ وَى *

وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ

عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِىَ الْمَأْوَى) 37 - 41 49

التكوير (81)

(وَمَا تَشاؤونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ الله) 29 21، 25، 43

ص: 67

ص: 68

2 - فهرس الأحاديث الشريفة

أشهدُ أ نّك كنت نوراً في الأصلاب الشامخة والأرحام المطهّرة 53

اعملوا فكلّ ميسّر لما خلق له 55

إنّ الله - عزّ وجلّ - خلق الجنّ والإنس ليعبدوه 55

خمّرت طينة آدم بيدي أربعين صباحاً 43

السعيد سعيد في بطن اُمّه، والشقيّ شقيّ في بطن اُمّه 54

الشقيّ من شقي في بطن اُمّه والسعيد من سعد في بطن اُمّه 55

الشقيّ من علم الله وهو في بطن اُمّه أ نّه سيعمل عمل الأشقياء 55

قال الله: يابن آدم بمشيّتي كنت أنت الذي تشاء لنفسك ما تشاء 27

كُنتُ كنزاً مخفيّاً فأحببتُ أن اُعرف فخلقتُ الخلقَ لِكي اُعرف 11

من زعم أنّ الخير والشرّ إليه فقد كذب على الله 28

من زعم أنّ الخير والشرّ بغير مشيّة الله فقد أخرج الله عن سلطانه 28

الناس معادن كمعادن الذهب والفضّة 54

والسعيد من علم الله وهو في بطن اُمّه أ نّه سيعمل أعمال السعداء 55

ص: 69

ص: 70

3 - فهرس أسماء المعصومين علیهم السلام

رسول الله، نبيّنا، محمّد صلی الله علیه و آله وسلم = محمّد بن عبدالله صلی الله علیه و آله وسلم ، نبي الإسلام

محمّد بن عبدالله صلی الله علیه و آله وسلم ، نبي الإسلام 1، 4، 21، 25، 42، 55

أبو عبدالله الحسين علیه السلام= الحسين بن علي علیه السلام ، الإمام الثالث

الحسين بن علي علیه السلام ، الإمام الثالث 53

أبو عبدالله علیه السلام = جعفر بن محمّد علیه السلام ، الإمام السادس

جعفر بن محمّد علیه السلام ، الإمام السادس 28

أبو الحسن موسى بن جعفر علیه السلام = موسى بن جعفر علیه السلام ، الإمام السابع

موسى بن جعفر علیه السلام ، الإمام السابع 55

أبو الحسن الرضا علیه السلام = علي بن موسى علیه السلام ، الإمام الثامن

علي بن موسى علیه السلام ، الإمام الثامن 21، 27

آدم 43

خضر، النبي 25

موسى، نبي اليهود 3، 4، 25

ص: 71

ص: 72

4 - فهرس الأعلام

الآخوند الخراساني، محمّد كاظم بن الحسين 12، 13، 31، 49

ابن أبي عمير، محمّد 55

ابن بابويه، محمّد بن علي 21، 55

أبو بصير 28

أحمد بن محمّد بن أبي نصر= البزنطي، أحمد بن محمّد

البزنطي، أحمد بن محمّد 27

الحائري، عبدالكريم 32

الخراساني= الآخوند الخراساني، محمّد كاظم بن الحسين

الداماد، مير محمّد= الميرداماد، محمّد باقر بن محمّد

شيخنا العلاّمة= الحائري، عبدالكريم

الصدوق= ابن بابويه، محمّد بن علي

العلاّمة الحائري= الحائري، عبدالكريم

الكليني، محمّد بن يعقوب 27

محمّد بن أبي عمير= ابن أبي عمير، محمّد

محمّد بن يحيى العطّار 27

ص: 73

محمّد بن يحيى= محمّد بن يحيى العطّار

الميرداماد، محمّد باقر بن محمّد 27، 29، 31

5 - فهرس الكتب الواردة في المتن

القرآن الكريم 4، 26، 41

الأربعين للإمام الخميني(سلام الله عليه) 28

الإيقاظات (الإيقاضات) 27

التوحيد للصدوق 55

شرح حديث جنود العقل والجهل للإمام الخميني (سلام الله عليه) 57

العيون= عيون أخبار الرضا علیه السلام

عيون أخبار الرضا علیه السلام 21

الكافي 27

ص: 74

6 - فهرس مصادر التحقيق

«القرآن الكريم».

«أ»

1 - آداب الصلاة، ضمن «موسوعة الإمام الخميني قدّس سرّه ».= موسوعة الإمام الخميني قدّس سرّه .

2 - أجود التقريرات (تقريرات المحقّق النائيني). السيّد أبو القاسم الموسوي الخوئي (1317 - 1413)، تحقيق مؤسّسة صاحب الأمر(عج)، الطبعة الاُولى، 4 مجلّدات، قم، مطبعة ستارة، 1419 ق.

3 - الأربعون حديثاً. أبو الفضائل محمّد بن الشيخ حسين الجبعي العاملي المعروف ب«الشيخ البهائي» (953 - 1031)، تحقيق مؤسّسة النشر الإسلامي، الطبعة الاُولى، قم، مؤسّسة النشر الإسلامي، 1415 ق.

4 - إرشاد الطالبين إلى نهج المسترشدين. جمال الدين مقداد بن عبدالله السيوري الحلّي (م 826)، تحقيق السيّد مهديّ الرجائي، قم، مكتبة آية الله المرعشي، 1405 ق.

5 - الإشارات والتنبيهات، مع الشرح للمحقّق نصير الدين الطوسي وشرح الشرح للعلاّمة قطب الدين الرازي. الشيخ الرئيس أبو علي حسين بن عبدالله بن سينا (370 - 427)، الطبعة الثانية، 3 مجلّدات، طهران، دفتر نشر كتاب، 1403 ق.

«ب»

6 - بحار الأنوار الجامعة لدُرر أخبار الأئمّة الأطهار. العلاّمة محمّد باقر بن محمّدتقي المجلسي (1037 - 1110)، الطبعة الثانية، إعداد عدّة من العلماء، 110 مجلدٍ (إلاّ

ص: 75

6 مجلّدات، من المجلّد 29 - 34) + المدخل، بيروت، دار إحياء التراث العربي، 1403 ق / 1983 م.

7 - بدائع الأفكار في الاُصول (تقريرات المحقّق العراقي). الشيخ هاشم الآملي (1282 - 1371 ش)، الطبعة الاُولى، النجف الأشرف، 1370 ق.

«ت»

8 - التحصيل. بهمنيار بن المرزبان (م 458)، تعليق و تصحيح استاد شهيد مرتضى مطهري، چاپ دوم، تهران، مؤسسه انتشارات دانشگاه تهران، 1375 ش.

9 - التوحيد. أبو جعفر محمّد بن علي بن الحسين بن بابويه القمّي، الشيخ الصدوق (م 381)، تحقيق السيّد هاشم الحسيني الطهراني، قم، مؤسّسة النشر الإسلامي، 1398 ق.

10 - تهذيب الأحكام. أبو جعفر محمّد بن الحسن، الشيخ الطوسي (385 - 460)، إعداد السيّد حسن الموسوي الخرسان، الطبعة الرابعة، 10 مجلّدات، طهران، دار الكتب الإسلامية، 1365 ش.

«ج»

11 - جامع الأسرار ومنبع الأنوار. سيّد حيدر الآملي (م القرن الثامن)، تحقيق هنري كربن، الطبعة الثانية، طهران، انتشارات علمى و فرهنگى، 1368 ش.

12 - الجوهر النضيد في شرح منطق التجريد. العلاّمة الحلّي جمال الدين الحسن بن يوسف ابن المطهّر (648 - 726)، قم، انتشارات بيدار، 1413 ق.

«ح»

13 - الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة. صدر المتأ لّهين محمّد بن إبراهيم الشيرازي (م. 1050)، الطبعة الثانية، 9 مجلّدات، قم، مكتبة المصطفوي.

«د»

14 - درر الفوائد. العلاّمة الشيخ عبد الكريم الحائري اليزدي، تعليق آية الله الشيخ محمّد علي الأراكي والمؤلّف، تحقيق الشيخ محمّد المؤمن القمّي، الطبعة الخامسة، جزءان

ص: 76

في مجلّد واحد، قم، مؤسّسة النشر الإسلامي، 1408 ق.

«ر»

15 - الرواشح السماوية في شرح أحاديث الإمامية. السيّد محمّد باقر بن شمس الدين محمّد الحسيني الأسترآبادي المعروف ب «الميرداماد» (م 1041)، تحقيق غلامحسين قيصريه ها ونعمة الله الجليلي، الطبعة الاُولى، قم، دار الحديث للطباعة والنشر،

1422 ق / 1380 ش.

«ش»

16 - شرح الاُصول الخمسة. القاضي أبو الحسن عبد الجبّار الأسدآبادي (م 415)، تعليق الإمام أحمد بن الحسين بن أبي هاشم، الطبعة الاُولى، بيروت، انتشارات دار الإحياء التراث العربي، 1422 ق / 2001 م.

17 - شرح المقاصد. مسعود بن عمر بن عبدالله المعروف ب «سعد الدين التفتازاني» (712 - 793)، تحقيق عبد الرحمان عميرة، الطبعة الاُولى، 5 أجزاء في 4 مجلّدات، قم، منشورات الشريف الرضيّ، 1370 - 1371 ش.

18 - شرح المنظومة. المولى هادي بن مهديّ السبزواري (1212 - 1289)، تصحيح وتعليق وتحقيق حسن حسن زاده الآملي ومسعود الطالبي، الطبعة الاُولى، 5 مجلّدات، طهران، نشر ناب، 1369 - 1379 ش.

19 - شرح المواقف. السيّد الشريف علي بن محمّد الجرجاني (م 812)، تصحيح السيّد محمّد بدرالدين النسعاني، الطبعة الاُولى، 8 أجزاء في 4 مجلّدات، قم، منشورات الشريف الرضيّ، 1412 ق / 1370 ش، «بالاُفست عن طبعة مصر، 1325».

20 - شرح توحيد الصدوق. القاضي سعيد محمّد بن محمّد مفيد القمّي (1049 - 1107)، تصحيح الدكتور نجفقلي حبيبي، الطبعة الاُولى، 3 مجلّدات، طهران، مؤسّسة الطباعة والنشر، 1405 ق.

ص: 77

21 - شرح چهل حديث (أربعين حديث)، ضمن «موسوعة الإمام الخميني قدّس سرّه ».= موسوعة

الإمام الخميني قدّس سرّه .

22 - شرح حديث جنود عقل و جهل، ضمن «موسوعة الإمام الخميني قدّس سرّه ».= موسوعة الإمام الخميني قدّس سرّه .

23 - الشفاء. الشيخ الرئيس أبو علي حسين بن عبدالله بن سينا (370 - 427)، تحقيق عدّة من الأساتذة، 10 مجلّداً (الإلهيات + المنطق 4 مجلّدات + الطبيعيات 3 مجلّدات + الرياضيات مجلّدان)، قم، مكتبة آية الله المرعشي، 1405 ق.

«ع»

24 - علم اليقين في اُصول الدين. محمّد محسن الملقّب بالفيض الكاشاني (م 1091)، مجلّدان، قم، انتشارات بيدار، 1358 ش / 1400 ق.

25 - عوالي اللآلي العزيزية في الأحاديث الدينية. محمّد بن علي بن إبراهيم الأحسائي المعروف بابن أبي جمهور (م - أوائل القرن العاشر)، تحقيق مجتبى العراقي، الطبعة الاُولى، قم، مطبعة سيّد الشهداء، 1403 ق.

26 - عيون أخبار الرضا علیه السلام . أبو جعفر محمّد بن علي بن الحسين بن بابويه القمّي، الشيخ الصدوق (م 381)، تصحيح السيّد مهديّ الحسيني اللاجوردي، الطبعة الثانية، منشورات جهان.

«ف»

27 - الفتوحات المكية. أبو عبدالله محمّد بن علي الحاتمي الطائي المعروف بابن العربي (560 - 638)، 4 مجلّدات، بيروت، دار إحياء التراث العربي.

28 - فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني). الشيخ محمّد علي الكاظمي الخراساني (1309 - 1365)، الطبعة الاُولى، 4 مجلّدات، قم، مؤسّسة النشر الإسلامي، 1404 ق.

«ق»

29 - القبسات. السيّد محمّد باقر بن شمس الدين محمّد الحسيني الأسترآبادي المعروف

ص: 78

ب-«الميرداماد» (م 1041)، تحقيق الدكتور مهديّ المحقّق، الطبعة الثانية، طهران،

انتشارات و چاپ دانشگاه طهران، 1374 ش.

«ك»

30 - الكافي. ثقة الإسلام أبو جعفر محمّد بن يعقوب بن إسحاق الكليني الرازي (م 329)، تحقيق علي أكبر الغفّاري، الطبعة الخامسة، 8 مجلّدات، طهران، دار الكتب الإسلامية، 1363 ش.

31 - كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد. العلاّمة الحلّي جمال الدين الحسن بن يوسف بن المطهّر، تحقيق الشيخ حسن حسن زاده الآملي، قم، مؤسّسة النشر الإسلامي، 1414 ق.

32 - كفاية الاُصول. الآخوند الخراساني المولى محمّد كاظم بن حسين الهروي (1255 - 1329)، تحقيق مؤسّسة النشر الإسلامي، قم، مؤسّسة النشر الإسلامي.

33 - كلمات مكنونة من علوم أهل الحكمة والمعرفة. محمّد محسن الملقّب بالفيض الكاشاني (م 1091)، تصحيح عزيزالله العطاردي، الطبعة الثانية، طهران، انتشارات فراهاني، 1360 ش.

34 - كنز العمّال في سنن الأقوال والأفعال. علاء الدين علي المتّقي بن حسام الدين الهندي (888 - 975)، إعداد بكري حيّاني وصفوة السقا، الطبعة الثالثة، 16 مجلّداً + الفهرس، بيروت، مؤسّسة الرسالة، 1409 ق / 1989 م.

«گ»

35 - گوهر مراد. ملاّ عبدالرزاق فيّاض لاهيجي (م 1072)، الطبعة الاُولى، طهران، سازمان چاپ و انتشارات وزارت فرهنگ و ارشاد اسلامى، 1372 ش.

«م»

36 - المباحث المشرقية. الإمام فخر الدين محمّد بن عمر الرازي (م 606)، الطبعة الثانية، قم، مكتبة بيدار، 1411 ق.

37 - المبدأ والمعاد. صدر المتأ لّهين محمّد بن إبراهيم الشيرازي (م 1050)، تصحيح السيّد

ص: 79

جلال الدين الآشتياني، طهران، انجمن فلسفه ايران، 1354 ش.

38 - محاضرات في اُصول الفقه (تقريرات المحقّق السيّد الخوئي). محمّد إسحاق الفيّاض، الطبعة الثالثة، 5 مجلّدات ، قم، دار الهادي للمطبوعات، 1410 ق.

39 - المحصول في علم اُصول الفقه. فخر الدين محمّد بن عمر بن الحسين الرازي (م 606)، تحقيق عادل أحمد عبد الموجود وعلي محمّد معوض، الطبعة الثانية، 4 مجلّدات، بيروت، المكتبة العصرية، 1420 ق / 1999 م.

40 - مرصاد العباد من المبدء إلى المعاد. نجم الدين أبو بكر بن محمّد بن شاهاور بن انوشروان رازي معروف به دايه (م 654)، به اهتمام دكتر محمّد امين رياحى، چاپ دوم، طهران، شركت انتشارات علمى و فرهنگى، 1365 ش.

41 - مصباح المتهجّد وسلاح المتعبّد. أبو جعفر شيخ الطائفة محمّد بن الحسن المعروف بالشيخ الطوسي (385 - 460)، تحقيق الشيخ حسين الأعلمي، الطبعة الاُولى، بيروت، مؤسّسة الأعلمي للمطبوعات، 1418 ق / 1998 م.

42 - مصنّفات ميرداماد. السيّد محمّد باقر بن شمس الدين محمّد الحسيني الأسترآبادي المعروف ب- «الميرداماد» (م 1041)، تحقيق عبدالله نوراني، چاپ اول، 2 جلد، طهران، انجمن آثار و مفاخر فرهنگى، 1381 ش.

43 - المطالب العاليه من العلم الإلهي. محمّد بن عمر الخطيب فخر الدين الرازي (544 - 606)، تحقيق الدكتور أحمد حجازي السقّا، الطبعة الاُولى، 9 أجزاء في 5 مجلّدات، بيروت، دار الكتب العربي، 1407 ق / 1987 م.

44 - المغني في أبواب التوحيد والعدل. القاضي أبو الحسن عبد الجبّار الأسدآبادي (م 415)، إشراف الدكتور طه حسين، الطبعة الاُولى، 20 جزءاً عثر منها حتّى الآن على أربعة عشر جزءاً وطبعت.

45 - الملل والنحل. أبو الفتح محمّد بن عبد الكريم بن أبي بكر أحمد الشهرستاني (479 - 548)، تخريج محمّد بن فتح الله بدران، الطبعة الثانية، جزءان في مجلّد واحد، القاهرة، مكتبة الانجلو المصرية، 1375 ق / 1956 م.

ص: 80

46 - موسوعة الإمام الخميني قدّس سرّه . تحقيق مؤسّسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني قدّس سرّه ، الطبعة الاُولى، قم، مؤسّسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني قدّس سرّه ، 1434 ق / 1392 ش.

«ن»

47 - نقد المحصّل (تلخيص المحصّل). الخواجه نصير الدين الطوسي (م 672)، الطبعة الثانية، بيروت، دار الأضواء، 1405 ق / 1985 م.

48 - نهاية الاُصول (تقريرات المحقّق البروجردي). الشيخ حسينعلي المنتظري، الطبعة الاُولى، قم، نشر تفكّر، 1415 ق.

49 - نهاية الدراية في شرح الكفاية. الشيخ محمّد حسين الأصفهاني (1296 - 1361)، تحقيق مؤسّسة آل البيت علیهم السلام لإحياء التراث، الطبعة الاُولى، 4 مجلّدات، قم، مؤسّسة آل البيت علیهم السلام لإحياء التراث، 1414 ق.

50 - نهج الحقّ وكشف الصدق. العلاّمة الحلّي جمال الدين الحسن بن يوسف بن المطهّر (648 - 726)، تحقيق الشيخ عين الله الحسيني الاُرموي، الطبعة الرابعة، قم، دار الهجرة، 1414 ق.

ص: 81

ص: 82

7 - فهرس الموضوعات

الطلب

والإرادة

المقدّمة ··· 2

المطلب الأوّل: في المهمّ ممّا استدلّ به الأشعري على مطلوبه

منها: الاستدلال بالأوامر الامتحانية على اختلاف الطلب والإرادة ··· 8

منها: الاستدلال بتكليف العصاة على اختلاف الطلب والإرادة ··· 12

فصل: في مسألة الجبر والتفويض ··· 14

فصل: في إبطال مذهبي التفويض والجبر ··· 16

فصل: في بيان المذهب الحقّ ··· 20

تنبيه: في شرك التفويضي وكفر الجبري ··· 21

إرشاد: في استناد الأفعال إلى الله ··· 22

تمثيل ··· 23

تمثيل أقرب ··· 24

تأييدات نقلية ··· 25

فصل: في ذكر بعض الشبهات الواردة وجوابها ··· 29

ص: 83

شبهة عدم إرادية الإرادة الإنسانية ··· 29

تحقيق به يدفع الإشكال ··· 34

تنبيه: في عدم تعلّق الإرادة بالإرادة ··· 36

شبهة استلزام قاعدة «الشيء ما لم يجب لم يوجد» الجبر ··· 36

شبهة منافاة الإرادة الأزلية لكون الإنسان مختاراً ··· 41

المطلب الثاني: في بيان حقيقة السعادة والشقاوة

ويتمّ ذلك برسم اُمور:

الأمر الأوّل: في المراد من الذاتي في قاعدة «الذاتي لا يعلّل» ··· 44

الأمر الثاني: في فقر وجود الممكنات وعوارضه ولوازمه ··· 45

الأمر الثالث: في استناد الكمالات إلى الوجود ··· 47

الأمر الرابع: في معنى السعادة والشقاوة ··· 47

التحقيق: كون السعادة والشقاوة غير ذاتيتين ··· 49

المطلب الثالث: في شمّة من اختلاف خلق الطينات

توهّم كون الجبر مقتضى أخبار الطينة ··· 50

موضوع حكم العقلاء في صحّة العقوبة وعدمها ··· 50

إفاضة الفيض الوجودي بمقدار قابلية الموادّ ··· 51

منشأ اختلاف النفوس في الميل إلى الخير أو الشرّ ··· 52

تنبيه: حول مفاد بعض الأحاديث ··· 54

خاتمة: حول فطرة العشق إلى الكمال والتنفّر عن النقص ··· 56

ص: 84

الفهارس العامّة

1 - فهرس الآيات الكريمة ··· 63

2 - فهرس الأحاديث الشريفة ··· 69

3 - فهرس أسماء المعصومين علیهم السلام ··· 71

4 - فهرس الأعلام ··· 73

5 - فهرس الكتب الواردة في المتن ··· 74

6 - فهرس مصادر التحقيق ··· 75

7 - فهرس الموضوعات ··· 83

ص: 85

الفصل الخامس في اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن ضدّه

اشارة

هل الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه أم لا ؟ فيه أقوال.

وتحقيق الحال يستدعي رسم اُمور:

الأمر الأوّل: في اُصولية المسألة

جمع بعض الأعاظم بين كون المسألة اُصولية وأ نّها من المسائل العقلية الغير

المستقلّة - أي يكون البحث فيها عن الملازمات - وبين تعميم الاقتضاء في العنوان إلى كونه على نحو العينية، أو التضمّن، أو الالتزام بالمعنى الأخصّ، أو الأعمّ. وعلّل التعميم بأنّ لكلٍّ وجهاً بل قائلاً(1).

ولا يخفى ما فيه من التهافت لو قلنا بأنّ المسائل اللغوية - كالمشتقّ - خارجة عن الاُصولية؛ لأنّ في الجمع بين الاُصولية والتعميم كذلك تهافتاً؛ لأنّ التعميم لأجل إدخال تمام المذاهب والوجوه في العنوان، والقول بالعينية

ص: 1


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 301.

والتضمّن على بعض الوجوه والآراء يرجع إلى الدلالة اللغوية الوضعية، بل الأمر كذلك مع الدلالة الالتزامية بناءً على المشهور من كونها لفظية(1). نعم، لو قلنا بأنّ كون المسألة لغوية لا ينافي الاُصولية مع اختلاف الجهة المبحوث عنها - كما هو الحقّ - فيدخل المشتقّ وبعض المباحث اللغوية - كدلالة الأمر والنهي - في الاُصولية، لم يرد هذا الإشكال.

وكذا في الجمع بين كون المسألة عقلية وبين ذلك التعميم تهافت؛ لأنّ التعميم لأجل إدخال مذهب القائل بإحدى الدلالات اللفظية.

الأمر الثاني : في معنى الاقتضاء في عنوان المسألة

الاقتضاء في عنوان البحث ليس بمعناه الحقيقي في المقام على أيّ حال، ولا جامع بين المعاني التي ذكروها في مقام التعميم(2) حتّى يكون مستعملاً فيه، مضافاً إلى أنّ الاقتضاء بمعنى العينية ممّا لا محصّل له رأساً.

فالأولى إسقاطُ بعض المذاهب والوجوه التي [هي] واضحة البطلان، كالقول بالعينية والتضمّن، وجعلُ المسألة اُصولية عقلية، ومعه يمكن إبقاء الاقتضاء وإرادة الاستلزام منه ولو بنحو من المسامحة، أو تبديله بالاستلزام،

ص: 2


1- الشفاء، قسم المنطق، الفنّ الأوّل 1: 43؛ شرح المنظومة، قسم المنطق 1: 103؛ الجوهر النضيد: 8.
2- كفاية الاُصول: 160؛ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 301.

فيقال: هل الأمر بالشيء مستلزم للنهي عن ضدّه ؟ أو يقال: هل إرادة الشيء مستلزمة لإرادة ترك ضدّه ؟

الأمر الثالث : في الاستدلال على القول بالاقتضاء في الضدّ الخاصّ

اشارة

إنّ الأقوال في المسألة كثيرة، لكن ما يعتدّ به من بينها هو القول بالاقتضاء في الضدّ الخاصّ، والأولى صرف الكلام إليه، فأقول: قد استدلّ عليه بوجهين:

الوجه الأوّل: - وهو العمدة - من جهة المقدّمية

وهي تتمّ بإثبات اُمور:

أحدها: مقدّمية ترك الضدّ لفعل ضدّه.

ثانيها: إثبات وجوب المقدّمة.

ثالثها: إثبات اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن ضدّه العامّ؛ أي نقيضه، فإنّه المراد بالضدّ العامّ، وجودياً كان أو عدمياً، ولا مشاحّة في الاصطلاح بعد وضوح المراد.

فمع عدم تمامية واحد منها لا يثبت المطلوب.

واستدلّ لإثبات المقدّمية بأنّ الضدّين متمانعان، وعدم المانع من المقدّمات(1).

واُجيب عنه بوجوه:

الأوّل: أنّ التمانع لا يقتضي تقدّم ترك أحدهما على الآخر، وحيث لا منافاة

ص: 3


1- اُنظر هداية المسترشدين 2: 223.

بين أحد العينين ونقيض الآخر وبديله - بل بينهما كمال الملاءمة - كان أحد

العينين مع نقيض الآخر في رتبة واحدة(1).

وأنت خبير بأنّ كمال الملاءمة لا يوجب اتّحاد الرتبة.

ويمكن أن يقال في تقريره: إنّ نقيض أحد العينين يحمل على عين الآخر بالحمل الشائع ولو عرضياً، وهو يقتضي الاتّحاد، ولا يعقل أن يكون المتّحدان مختلفين في الرتبة. بيان صدق أحد النقيضين على عين الآخر: أنّ السواد لا يصدق على البياض، وإلاّ اجتمع الضدّان، ومع عدم صدقه لا بدّ وأن يصدق عليه نقيضه، وإلاّ ارتفع النقيضان، والصدق يقتضي الاتّحاد، وهو ينافي التقدّم والتأخّر رتبةً، فثبت اتّحادهما رتبة.

والجواب: أنّ نقيض صدق البياض على السواد عدم صدقه عليه على أن يكون السلب تحصيلياً، لا صدق عدمه عليه بنحو الإيجاب العدولي أو الموجبة السالبة المحمول، فالبياض إذا لم يصدق عليه أ نّه سواد صدق عليه أ نّه ليس بسواد بالسلب التحصيلي، وهو نقيض الإيجاب، لا صدق عدم السواد؛ لأنّ نقيض صدق الشيء عدم صدقه، لا صدق عدمه حتّى يلزم اتّحادهما في الوجود ولو بالعرض. وأمّا توهّم صدق قولنا: «إنّ البياض لاسواد أو عدم سواد» فهو فاسد إن اُريد أنّ الأمر العدمي والباطل المحض ثابت وصادق على شيء ومتّحد معه؛ لأ نّها أوصاف وجودية لا يمكن ثبوتها للعدم.

وما يقال: من أنّ للأعدام المضافة حظّاً من الوجود(2)، كلام مسامحي

ص: 4


1- كفاية الاُصول: 161.
2- راجع الحكمة المتعالية 1: 344؛ شرح المنظومة، قسم الحكمة 2: 152.

لا يعوّل عليه؛ فإنّ حيثية العدم لا يمكن أن تكون ذات حظّ من الوجود، بل الإضافات الواقعة بينها وبين غيرها إنّما هي في الذهن، وفي وعائه تكون الأعدام المطلقة أيضاً موجودة بالحمل الشائع وإن كانت أعداماً بالحمل الأوّلي، فلا حقيقة للعدم - أيّ عدم كان - حتّى يتّصف بوصف وجودي أو اعتباري أو عدمي، فالعدم لا يثبت له العدم أيضاً.

وما يقال: من أنّ ثبوت شيء لشيء فرع ثبوت المثبت له لا الثابت(1)، ليس المراد منه أنّ الجهات العدمية - بما هي كذلك - يمكن أن تثبت لشيء؛ بحيث يكون التصادق والاتّحاد بينهما كاتّحاد شيء مع شيء، وإلاّ يلزم كذب قاعدة الفرعية أيضاً؛ لأنّ ثبوت الثابت بهذا النحو إثبات صفة ثبوتية له، فيلزم صدق قولنا: العدم ثابت للوجود وصادق عليه، وهو فرع ثبوت المثبت له.

وبالجملة: ليس للعدم حيثية، والقضايا الصادقة في باب الأعدام لا بدّ وأن ترجع إلى السالبات المحصّلات، وإن كانت بحسب الظاهر موجبات.

الثاني من وجوه عدم تقدّم الترك: دعوى وحدة الرتبة بين ترك الضدّ ووجود ضدّه أيضاً(2)؛ بأن يقال: إنّ النقيضين في رتبة واحدة، والضدّين كذلك، ولازم ذلك كون أحد الضدّين مع نقيض الآخر في رتبة واحدة؛ لأنّ ما يتّحد رتبةً مع أحد المتّحدين كذلك يتّحد مع الآخر أيضاً.

أمّا كون النقيضين في رتبة واحدة فلأنّ نقيض الشيء بديله، فنقيض شيء في زمان أو رتبة، عدمه الذي في ذلك الزمان وتلك الرتبة، وإلاّ يلزم اجتماع

ص: 5


1- راجع الحكمة المتعالية 1: 370؛ شرح المنظومة، قسم المنطق 1: 248.
2- كفاية الاُصول: 161؛ حاشية كفاية الاُصول، المحقّق القوچاني 1: 112.

النقيضين، فالمعلول معدوم في رتبة العلّة وموجود في رتبة متأخّرة، فنقيض الوجود في رتبة العلّة العدمُ في رتبتها، وبهذا البيان يلزم أن يكون الضدّان في رتبة واحدة. وأمّا المقدّمة الثالثة فمرّ بيانها.

والجواب: منع كون النقيضين في رتبة واحدة؛ لأنّ نقيض كلّ شيء رفعه، فنقيض البياض في المرتبة رفعه على أن يكون القيد للمسلوب لا للسلب، فإذا لم يصدق كون المعلول في رتبة علّته، صدق عدم كونه في رتبتها بنحو السلب التحصيلي مفاد الهلية المركّبة أو بنحو السلب المحمولي للمقيّد على أن يكون القيد للمسلوب وإن كذب كون عدمه في رتبتها، فنقيض كون المعلول في رتبة العلّة عدم كونه في رتبتها، لا كون العدم في رتبتها.

وأمّا لزوم كون الضدّين في رتبة واحدة فهو أوضح فساداً؛ لأ نّهما يمتنع اجتماعهما في الوجود الخارجي، ولا ربط للرتبة العقلية في ذلك، فلو فرض أنّ البياض والسواد مختلفا الرتبة عقلاً، كان اجتماعهما الوجودي في موضوع واحد محالاً، فهل ترى إمكان علّية سواد لبياض في الموضوع الذي هو فيه ؟ !

ولو سلّم كون النقيضين والضدّين في رتبة واحدة، فلإنكار لزوم كون أحد العينين في رتبة نقيض الآخر مجال واسع؛ لعدم البرهان على أنّ الرتب العقلية حكمها حكم الزمان في الخارج، بل البرهان على خلافه؛ لأنّ للرتب العقلية ملاكات خاصّة ربّما يكون الملاك موجوداً في الشيء دون متّحده في الرتبة؛ ألا ترى أنّ ما مع علّة شيء لا يكون مقدّماً عليه رتبةً؛ لفقدان ملاك التقدّم فيه، وهو كون وجوب الشيء من وجوبه، ووجوده من وجوده ؟ !

ص: 6

الثالث: أ نّه لو توقّف وجود الضدّ على عدم ضدّه لزم الدور؛ لأنّ التوقّف لأجل التمانع من الطرفين، فعدم أحد الضدّين أيضاً متوقّف على وجود الآخر توقّف العدم على وجود مانعه(1).

وفيه: أنّ التمانع إذا اقتضى توقّف وجود أحد الضدّين على عدم الآخر توقّف الشيء على عدم المانع، يقتضي - بمقتضى المقابلة - توقّف وجود الضدّ الآخر على عدم ضدّه أيضاً، لا توقّف عدمه على وجوده؛ لأنّ العدم ليس بشيء حتّى يتوقّف تحقّقه على شيء.

والتحقيق: أنّ التوقّف مطلقاً باطل فيهما؛ لأنّ العدم ليس بشيء بل باطل محض، فلا يمكن أن يكون دخيلاً في تحقّق شيء أو متأ ثّراً من شيء، فما لا شيئية له يسلب عنه بالسلب التحصيلي جميع الاُمور الثبوتية، ولا شكّ أنّ التوقّف من طرف الموقوف والموقوف عليه ثبوتي، وثبوته له فرع ثبوت المثبت له، بل ثبوت كلّ شيء لشيء فرع ثبوته، فما لا شيئية له لا تقدّم له ولا تأخّر ولا مقارنة، فكلّ الحيثيات مسلوبة عنه سلباً تحصيلياً، لا بمعنى سلب شيء عن شيء، بل السلب عنه من قبيل الإخبار عن المعدوم المطلق: بأ نّه لا يخبر عنه؛ لأجل التوسّل بالعناوين المتحصّلة في الذهن.

وما في بعض التعليقات: من أنّ عدم الضدّ من مصحّحات قابلية المحلّ لقبول الضدّ؛ لعدم قابلية الأبيض للسواد ولا الأسود للبياض، وأنّ القابليات والاستعدادات والإضافات وأعدام الملكات وإن كان لا مطابق لها في الخارج، لكنّها من الاُمور الانتزاعية وحيثيات وشؤون لاُمور خارجية، وثبوت شيء

ص: 7


1- كفاية الاُصول: 161.

لشيء لا يقتضي أزيد من ثبوت المثبت له بنحو يناسب ثبوت الثابت(1).

فيه ما لا يخفى؛ لأنّ قابلية المحلّ من شؤونه في وجوده من غير دخالة عدم شيء فيها، فالجسم قابل للسواد - كان موصوفاً بالبياض أو لا - ولا يتوقّف قابليته له على عدمه، وعدم قبوله في حال اتّصافه به لأجل التمانع بين الوجودين لا لتوقّف القابلية على عدم الضدّ؛ ضرورة أنّ العدم واللا شيء لا يمكن أن يكون مؤثّراً في تصحيح القابلية، بل لا يكون شأن الاُمور الخارجية ولا منتزعاً منها، فما اشتهر بينهم من أنّ للأعدام المضافة حظّاً من الوجود(2)، كلام مسامحي؛ لأنّ العدم لا يمكن أن يكون مضافاً ولا مضافاً إليه، والإضافة بينه وبين الوجود إنّما هي في ظرف الذهن بين عنوان العدم والوجود، لا بين العدم حقيقةً والوجود.

وما هو المعروف في لسان أهل الفنّ [من] أنّ عدم المانع من أجزاء العلّة(3)، فليس مرادهم منه أنّ العدم حقيقةً علّة وله جزئية لشيء، بل من قبيل التسامح في التعبير بعد وضوح المطلب لديهم، فعبّروا عن مزاحمة المقتضيات والتمانع بين الوجودات بأنّ عدم المانع كذلك، وإلاّ فلا شبهة في أ نّه لا يتّصف بالجزئية، ولا يصير علّة ولا جزءها.

وما في كلام المحشّي المحقّق - من التسوية بين القابليات والاستعدادات والإضافات وأعدام الملكات - لم يقع في محلّه، كيف ؟ ! والقابليات

ص: 8


1- نهاية الدراية 2: 183 - 184.
2- الحكمة المتعالية 1: 344؛ شرح المنظومة، قسم الحكمة 2: 152.
3- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 307؛ نهاية الأفكار 1: 361.

والاستعدادات بل والإضافات لها نحو وجود؛ بخلاف أعدام الملكات؛ فإنّ لملكاتها نحو تحقّق، لا لحيثية الأعدام. فتحصّل ممّا ذكرنا: بطلان تقدّم الترك على فعل الضدّ، وكذا فعل الضدّ على الترك.

هذا كلّه حال أوّل الاُمور المتقدّمة، وقد مرّ بطلان الأمر الثاني - أي وجوب المقدّمة - في محلّه.

وأمّا ثالثها: - أي اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن نقيضه - فللمنع فيه مجال:

أمّا مع بقاء البحث على ظاهره فواضح؛ لأنّ البعث لا يكون عين الزجر ولا متضمّناً له.

وأمّا كون النهي عن النقيض لازماً للأمر، كما قد يقال: إنّ نفس تصوّر الوجوب والإلزام يكفي في تصوّر النهي عن الترك والحرمة(1).

ففيه: أ نّه إن اُريد الانتقال التصوّري، فمع ممنوعيته لا يفيد، وإن اُريد اللزوم الواقعي؛ بأن يدّعى أنّ المولى إذا أمر بشيء فلازمه أن ينهى عن نقيضه، فهو واضح الفساد؛ ضرورة أنّ الصادر من المولى ليس إلاّ الأمر.

ومع عدم بقاء البحث على ظاهره؛ بأن يقال: إنّ الإرادة المتعلّقة بشيء مستلزمة للإرادة المتعلّقة بترك تركه، فإن اُريد العينية والتضمّن فهو أيضاً واضح الفساد؛ ضرورة أنّ ترك الترك ليس عين الشيء بالحمل الأوّلي، ولا جزءه المقوّم له، وانطباقه عليه في الخارج - مع فساده في نفسه - لا يفيد.

وأمّا الاستلزام بالمعنى الذي قيل في باب المقدّمة(2)؛ بأ نّه إذا تعلّقت إرادة

ص: 9


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 303.
2- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 262.

تشريعية بشيء، فمع الالتفات إلى تركه تتعلّق إرادة تشريعية بتركه، فهو وإن كان

أسلم من غيره، لكنّه أيضاً غير تامّ؛ لأ نّه بعد تعلّق الإرادة التشريعية الإلزامية

بشيء، لا معنى لتعلّق إرادة اُخرى بترك تركه؛ لعدم تحقّق مبادئ الإرادة وغايتها؛ فإنّ غايتها التوصّل إلى المبعوث إليه، ومع إرادة الفعل والبعث إليه لأجله لا معنى لبعث إلزامي آخر لأجله، فلا غاية للإرادة التشريعية.

نعم، بناءً على ما ذكروا في المقدّمة - إنّ تعلّقها بها قهري(1) - فله وجه، لكنّ المبنى فاسد، كما مرّ(2).

فتحصّل ممّا ذكرنا: بطلان اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن ضدّه الخاصّ من ناحية المقدّمية، واتّضح ضمناً عدم اقتضائه للنهي عن ضدّه العامّ أيضاً.

الوجه الثاني: من جهة الاستلزام

وهو أيضاً يبتني على ثلاث مقدّمات:

إحداها: أنّ وجود كلّ من العينين مع عدم ضدّه متلازمان.

ثانيتها: أنّ المتلازمين محكومان بحكم واحد لا محالة.

ثالثتها: أنّ الأمر بالشيء مقتضٍ للنهي عن ضدّه العامّ.

والدليل على الاُولى: أنّ الضدّ لا يصدق مع ضدّه؛ لبطلان اجتماعهما، فإذا لم يصدق هو، لا بدّ من صدق نقيضه؛ لبطلان ارتفاع النقيضين، ولمّا لم يمكن

ص: 10


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 262؛ بدائع الأفكار ((تقريرات المحقّق العراقي)) الآملي 1: 399.
2- تقدّم في الجزء الأوّل: 342 - 344.

الصدق الذاتي بين الوجود والعدم، فلا بدّ وأن يكون عرضياً بنحو التلازم في الصدق، وهو المطلوب.

والجواب عنه: أنّ نقيض صدق إحدى العينين على الاُخرى، عدم صدقها عليها على نعت السلب التحصيلي، لا الإيجاب العدولي، وإلاّ لزم ارتفاع النقيضين؛ ضرورة كذب الإيجاب العدولي أيضاً؛ للزوم كون العدم صادقاً على الوجود ومتلازماً معه فيه.

هذا، مع أ نّه لا شيئية له حتّى يكون ملازماً لشيء.

مضافاً إلى أنّ التلازم في الوجود يقتضي عروض الوجود للمتلازمين، فيلزم اجتماع النقيضين، فالغلط ناشٍ من عدم اعتبار الحيثيات وتقديم الحمل على السلب وعدم [التفريق] بين السوالب المحصّلة والموجبات المعدولة، وكم له من نظير.

والدليل على الثانية: أنّ المتلازم مع وجوب ملازمه إن لم يكن واجباً، فلا بدّ وأن يكون محكوماً بحكم آخر؛ لعدم خلوّ الواقعة عن حكم، والجامع بين ما عدا الوجوب هو جواز الترك، ومع جوازه يلزم إمّا خروج الواجب عن كونه واجباً، وإمّا التكليف بما لا يطاق.

والجواب أمّا أوّلاً: أنّ العدم ليس من الوقائع؛ فإنّه بطلان محض لا يمكن أن يكون بما هو محكوماً بحكم، وما ترى من نسبة الحكم إلى بعض الأعدام لا بدّ من إرجاعه إلى مقابلاته، كوجوب تروك الإحرام وتروك المفطرات.

وثانياً: لم يقم دليل على عدم خلوّ الواقعة عن الحكم، بل الدليل على خلافه؛ فإنّ الواقعة لو لم يكن لها اقتضاء أصلاً، ولم يكن لجعل الإباحة أيضاً

ص: 11

مصلحة، فلا بدّ وأن لا تكون محكومة بحكم، والإباحة العقلية غير الشرعية المدّعاة، ومع خلوّها عن الجواز الشرعي لا يلزم المحذور المتقدّم.

هذا، مع أ نّه لو سلّم فلزوم ما ذكر ممنوع.

وقد مرّ الجواب عن الثالثة(1).

ثمّ إنّه ربّما يفرّق بين الضدّين اللذين لا ثالث لهما وبين غيرهما؛ بدعوى الاقتضاء فيهما عرفاً؛ لأنّ عدم السكون هو الحركة في الخارج عرفاً وإن لم يكن كذلك عقلاً، ويكون الأمر بأحدهما عين الأمر بالآخر، ولا يرى العرف فرقاً بين «تحرّك» و«لا تسكن»(2).

وفيه: أ نّه إن كان المدّعى أنّ العرف لا يفرّق بين الحركة وعدم السكون؛ بحيث يكون في نظره الحركة حيثيةً عدميةً، أو حيثية العدم عين حيثية الوجود، ولم يفرّق بين الأمر والنهي، ويكون في نظره «تحرّك» عين «لا تسكن»، فهو ظاهر البطلان، مع أ نّه غير منتج.

وإن كان المدّعى أ نّه لا يفرّق بينهما نتيجةً فالعقل أيضاً كذلك، ولكن لا ربط له بما نحن فيه؛ لعدم لزوم ذلك اقتضاء الأمر بالحركة لنهي متعلّق بالسكون لا عرفاً ولا عقلاً.

واعلم أنّ ما ذكرنا من الدليلين وابتناء أوّلهما على ثلاث مقدّمات، إنّما هو بناءً على وجوب المقدّمة المطلقة، وأمّا بناءً على وجوب الموصلة، فلا بدّ من مقدّمة اُخرى في الدليل الأوّل، وهو لزوم كون المتلازمين محكومين بحكم

ص: 12


1- تقدّم في الصفحة 9 - 10.
2- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 304.

واحد؛ لما عرفت في باب المقدّمة(1) من أنّ نقيض الترك الموصل هو ترك هذا الترك المقيّد، فإذا وجب الترك الموصل يحرم تركه بمقتضى المقدّمة الثالثة، ولا يلزم حرمة الفعل إلاّ مع تمامية دليل الاستلزام؛ لأنّ ترك الترك المقيّد ملازم

للوجود، فحينئذٍ لا يتمّ الدليل الأوّل إلاّ بضمّ الثاني إليه، وهو موجب لسقوط أحدهما، فلا يكون في الباب دليلان مستقلاّن.

الأمر الرابع في ثمرة المسألة

اشارة

تظهر الثمرة في أنّ نتيجة المسألة - وهي النهي عن الضدّ بناءً على الاقتضاء - بضميمة أنّ النهي في العبادات يقتضي الفساد، تنتج فساده إذا كان عبادة.

ويمكن إنكارها؛ فإنّ اقتضاء النهي للفساد: إمّا لأجل كشفه عن مفسدة في المتعلّق، أو لأجل أنّ الإتيان بمتعلّق النهي مخالفة للمولى ومبعّد عن ساحته، فلا يمكن أن يقع مقرِّباً، والنهي فيما نحن فيه لا يكشف عن المفسدة، بل العقل يحكم بتحقّق المصلحة الملزمة في الضدّ المزاحم؛ لعدم المزاحمة بين المقتضيات.

وأيضاً النهي الاستلزامي الذي يكون من جهة ملازمة شيء للمأمور به بالأمر المقدّمي، لا يكون موجباً للبعد عن ساحة المولى، فلا يوجب الفساد، فالثمرة ساقطة.

ص: 13


1- تقدّم في الجزء الأوّل: 334.
مقالة الشيخ البهائي في إنكار الثمرة بعدم الأمر بالمهمّ وما اُجيب عنها
اشارة

وأمّا الشيخ البهائي فأنكرها بدعوى كفاية عدم الأمر للفساد(1).

ورُدّ بوجوه:

الوجه الأوّل: كفاية الرجحان والمحبوبية الذاتية في صحّة العبادة(2).

تصوير المحقّق الثاني الأمر بالمهمّ بالأمر المتعلّق بنفس الطبيعة

الوجه الثاني(3): أنّ ذلك صحيح في المضيّقين، وأمّا إذا كان أحدهما موسّعاً فتظهر الثمرة؛ لإمكان الأمر بالموسّع والمضيّق، فحينئذٍ: إن اقتضى الأمر بالشيء النهي عن الضدّ لا يمكن أن يقع مصداق الموسّع صحيحاً؛ وإلاّ يقع صحيحاً.

وتوضيح الإمكان: أنّ الأوامر متعلّقة بالطبائع، والخصوصيات الشخصية كلّها خارجة عن متعلّقها؛ لعدم دخالتها في الغرض، وما هو كذلك لا يمكن أن يؤخذ في المتعلّق ولا يمكن سراية النهي إليه، وما هو مضادّ للمأمور به هو المصداق لا الطبيعة، وما هو المأمور به هي الطبيعة لا المصداق.

وهذا من غير فرق بين الأفراد العرضية والطولية، ولا بين صيرورة الوقت

ص: 14


1- زبدة الاُصول: 117 - 118؛ الاثنا عشرية في الصلاة اليومية: 55، الهامش 193.
2- كفاية الاُصول: 166.
3- جامع المقاصد 5: 13؛ اُنظر فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 313.

مضيّقاً أو لا؛ فإنّ الأمر لا يتجافى عن متعلّقه بصيرورة الوقت مضيّقاً. نعم، في آخر الوقت ومع انحصار الفرد يحكم العقل بإيجادها فوراً وفي ضمنه من غير تغيير في ناحية الأمر، فيمكن قصد الأمر المتعلِّق بالطبيعة مع الإتيان بالفرد المنحصر وفي الوقت المضيّق ولو زاحم الضدّ الأهمّ.

هذا، ويمكن أن يقال: إنّ ملاك استحالة الأمر بالضدّين - وهو التكليف بالمحال - موجود مع تضييق الوقت، أو انحصار الفرد، أو كون الأفراد طولية؛ فإنّ معنى تعلّق الأمر بالطبيعة هو البعث إلى إيجادها، والأمر وإن تعلّق بنفس الماهية، لكنّ البعث إليها هو البعث إلى إيجادها، فمع ضيق الوقت إن كان البعث إلى إيجادها فعلياً وكذلك إلى ضدّ مصداقها، ينتهي الأمر إلى التكليف بالمحال؛ لأنّ إيجاد الطبيعة وضدّ المصداق ممّا لا يمكن في الوقت المضيّق، وكذا الحال مع انحصار المصداق، بل مع كون الأفراد طولية؛ فإنّ فعلية الأمر بالطبيعة في وقت يكون فردها مبتلى بالضدّ الواجب لازمها التكليف بالمحال.

هذا، لكن سيأتي تحقيق الحال بما يدفع الإشكال، فانتظر.

التحقيق في تصوير الأمر بالمهمّ بلا تشبّث بالترتّب

الوجه الثالث: ما سلكناه في هذا المضمار، وهو تصوير الأمر بالأهمّ والمهمّ في عرض واحد بلا تشبّث بالترتّب، وهو يبتني على مقدّمات:

المقدّمة الاُولى: أ نّه سيأتي في محلّه أنّ الأوامر متعلّقة بالطبائع، وأنّ الخصوصيات الفردية مطلقاً خارجة عن المتعلّق وإن كانت متّحدة معها خارجاً(1).

ص: 15


1- يأتي في الصفحة 55.

المقدّمة الثانية: أنّ الإطلاق بعد تمامية مقدّماته يباين العموم في أنّ الحكم فيه لم يتعلّق إلاّ بنفس الماهية أو الموضوع من غير دخالة فرد أو حال أو قيد فيه، وليس الحكم متعلِّقاً بالأفراد والحالات والطوارئ، ففي قوله: «اعتق الرقبة» تكون نفس الطبيعة - لا أفرادها أو حالاتها - موضوعاً للحكم؛ فإنّ الطبيعة لا يمكن أن تكون حاكية ومرآة للأفراد والخصوصيات وإن كانت متّحدة معها خارجاً، وهذا بخلاف العموم؛ فإنّ أداته وضعت لاستغراق أفراد المدخول، فيتعلّق الحكم فيه بالأفراد المحكيّة بعنوان الكلّ والجميع، وسيأتي في محلّه توضيح الحال فيه(1).

المقدّمة الثالثة: أنّ التزاحمات الواقعة بين الأدلّة بالعرض لأجل عدم قدرة المكلّف على الجمع بين امتثالها، كالتزاحم بين وجوب إزالة النجاسة عن المسجد ووجوب الصلاة، حيث تكون متأخّرة عن تعلّق الحكم بموضوعاتها وعن ابتلاء المكلّف بالواقعة، لم تكن ملحوظة في الأدلّة، ولا تكون الأدلّة متعرّضة لها، فضلاً عن التعرّض لعلاجها، فقوله: «أزل النجاسة عن المسجد» مثلاً، لا يكون ناظراً إلى حالات الموضوع - كما عرفت في المقدّمة المتقدّمة - فضلاً عن أن يكون ناظراً إلى حالاته مع موضوع آخر ومزاحمته معه، فضلاً عن أن يكون ناظراً إلى علاج المزاحمة، فاشتراط المهمّ بعصيان الأهمّ الذي هو من مقدّمات الترتّب، لا يمكن أن يكون مفاد الأدلّة إن كان المراد شرطاً شرعياً مأخوذاً في الأدلّة، ولا يكون بنحو الكشف عن الاشتراط؛ لما سيأتي من عدم

ص: 16


1- يأتي في الصفحة 203.

لزومه بل عدم صحّته(1)، وسيأتي حال حكم العقل.

المقدّمة الرابعة: أنّ الأحكام الشرعية القانونية المترتّبة على موضوعاتها على قسمين:

أحدهما: الأحكام الإنشائية، وهي التي اُنشئت على الموضوعات ولم تبق على ما هي عليه في مقام الإجراء، كالأحكام الكلّية قبل ورود المقيّدات والمخصّصات ومع قطع النظر عنهما، أو لم يأنِ وقت إجرائها، كالأحكام التي بقيت مخزونة لدى وليّ العصر - عجّل الله فرجه - ويكون وقت إجرائها زمان ظهوره؛ لمصالح [تقتضيها] العناية الإلهية.

ثانيهما: الأحكام الفعلية، وهي التي آنَ وقت إجرائها، وبلغ موقع عملها بعد تمامية قيودها ومخصّصاتها، ف )أَوْفُوا بِالْعُقُودِ((2) بهذا العموم حكم إنشائي، والذي بقي بعد ورود المُخصّصات عليه بلسان الكتاب والسنّة هو الحكم الفعلي، ونجاسة بعض الطوائف المنتحلة للإسلام وكفرهم حكمان إنشائيان في زماننا، وإذا بلغ وقت إجرائهما يصيران فعليين.

وأمّا الفعلية والشأنية بما هو معروف - من أنّ الحكم بالنسبة إلى الجاهل والغافل والساهي والعاجز يكون شأنياً، وبالنسبة إلى مقابليهم يصير فعلياً - فليس لهما وجه معقول؛ لأنّ الاشتراط الشرعي في بعضها غير معقول، مع عدم الدليل عليه في جميعها، والتصرّف العقلي غير معقول، كما سيتّضح لك.

وبالجملة: إنّ الأحكام المضبوطة في الكتاب والسنّة لا يعقل فيها غير هاتين

ص: 17


1- يأتي في الصفحة 22.
2- المائدة (5): 1.

المرتبتين، فقوله: )لله ِِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيتِ...((1) إلى آخره لا يختلف بالنسبة إلى الجاهل والعالم، ولا معنى للفعلية والشأنية في هذا الحكم المجعول المنضبط، وكذا لا يعقل تغيير إرادة الله - تعالى - الصادع بالشرع؛ لامتناع تغيّرها، كما هو معلوم لدى أهله.

وأمّا الاقتضاء والتنجّز فليسا من مراتب الحكم: أمّا الأوّل فواضح، وأمّا الثاني فلأ نّه حكم عقلي غير مربوط بمراتب الأحكام المجعولة، ومعنى تنجّزه قطع عذر المكلّف في المخالفة، وعدمه كونه معذوراً فيها، من غير تغيير وتبديل في الحكم ولا في الإرادة.

المقدّمة الخامسة: أنّ الأحكام الكلّية القانونية تفترق عن الأحكام الجزئية من جهات، صار الخلط بينهما منشأً لاشتباهات:

منها: حكمهم بعدم منجّزية العلم الإجمالي إذا كان بعض الأطراف خارجاً عن محلّ الابتلاء؛ بتوهّم أنّ الخطاب بالنسبة إليه مستهجن.

وقد ذكرنا في محلّه: أنّ الاستهجان ليس في الخطابات الكلّية المتوجّهة إلى عامّة المكلّفين، فراجع(2).

ومنها: توهّم أنّ الخطاب لا يعقل أن يتوجّه إلى العاجز والغافل والساهي؛ ضرورة أنّ الخطاب للانبعاث، ولا يعقل انبعاث العاجز ومثله.

وهذا أيضاً من موارد الخلط بين الحكم الكلّي والجزئي؛ فإنّ الخطاب الشخصي إلى العاجز ومثله لغو ممتنع صدوره من الملتفت، وهذا بخلاف

ص: 18


1- آل عمران (3): 97.
2- أنوار الهداية 2: 204.

الخطابات الكلّية المتوجّهة إلى العناوين الكلّية، كالناس والمؤمنين، فإنّ مثل تلك الخطابات تصحّ من غير استهجان إذا كان فيهم من ينبعث عنها، ولا يلزم أن تكون باعثة أو ممكنة البعث بالنسبة إلى جميعها في رفع الاستهجان.

ألا ترى أنّ الخطاب الشخصي إلى من كان عاصياً، أو الكلّي إلى عنوان العصاة، مستهجن غير ممكن الصدور من العاقل الملتفت، ولكنّ الخطاب العمومي غير مستهجن بل واقع؛ لأنّ الضرورة قائمة على أنّ الخطابات والأوامر الإلهية شاملة للعصاة؛ وأنّ المحقّقين على أ نّها شاملة للكفّار أيضاً، مع أنّ الخطاب الخصوصي إلى الكفّار المعلومي الطغيان من أقبح المستهجنات، بل غير ممكن لغرض الانبعاث، فلو كان حكم الخطاب العامّ كالجزئي فلا بدّ من الالتزام بتقييد الخطابات بغيرهم، وهو كما ترى.

وكذا الحال في الجاهل والغافل والنائم وغيرهم ممّا لا يعقل تخصيصهم بالحكم، ولا يمكن توجّه الخطاب الخصوصي إليهم، وإذا صحّ في مورد فليصحّ فيما هو مشترك معه في المناط، فيصحّ الخطاب العمومي لعامّة الناس من غير تقييد بالقادر، فيعمّ جميعهم، وإن كان العاجز والجاهل والناسي والغافل وأمثالهم معذورين في مخالفته، فمخالفة الحكم الفعلي قد تكون لعذر كما ذكر، وقد لا تكون كذلك.

والسرّ فيما ذكرنا: هو أنّ الخطابات العامّة لا ينحلّ كلّ [منها] إلى خطابات بعدد نفوس المكلّفين؛ بحيث يكون لكلٍّ منهم خطاب متوجّه إليه بالخصوص، بل يكون الخطاب العمومي خطاباً واحداً يخاطب به العموم، وبه يفترق عن الخطاب الخصوصي في كثير من الموارد.

ص: 19

هذا، مضافاً إلى أنّ الإرادة التشريعية ليست إرادة إتيان المكلّف وانبعاثه نحو العمل، وإلاّ يلزم في الإرادة الإلهية عدم انفكاكها عنه وعدم إمكان العصيان، بل هي عبارة عن إرادة التقنين والجعل على نحو العموم، وفي مثله يراعى الصحّة العقلائية بملاحظة الجعل العمومي القانوني، ومعلوم أ نّه لا تتوقّف صحّته على صحّة الانبعاث بالنسبة إلى كلّ الأفراد، كما يظهر بالتأمّل في القوانين العرفية.

المقدّمة السادسة: أنّ الأحكام الشرعية غير مقيّدة بالقدرة، لا شرعاً ولا عقلاً:

أمّا شرعاً فظاهر؛ فإنّه ليس في الأدلّة ما يوجب التقييد بالقدرة العقلية، ولو فُرض التقييد الشرعي للزم الالتزام بجواز إيجاد المكلّف العذر لنفسه، ولا أظنّ التزامهم به، وللزم جريان البراءة عند الشكّ في القدرة، ولا يلتزمون به، وليس ذلك إلاّ لعدم تقييد شرعي. ومن ذلك يعلم عدم كشف التقييد الشرعي عقلاً.

وأمّا التقييد العقلي - بمعنى تصرّفه في الأدلّة - فهو لا يرجع إلى محصّل، بل تصرّف العقل في إرادة المولى أو جعله، ممّا لا معنى معقول له، والتقييد والتصرّف لا يمكن إلاّ للجاعل لا لغيره.

نعم، للعقل الحكم في مقام الإطاعة والعصيان، وأنّ مخالفة الحكم في أيّ مورد توجب استحقاق العقوبة، وفي أيّ مورد لا توجب؛ لمعذورية العبد، وليس للعقل إلاّ الحكم بأنّ الجاهل والعاجز ونظيرهما معذورون في ترك الواجب أو إتيان الحرام، من غير تصرّف في الدليل.

المقدّمة السابعة: أنّ الأمر بكلّ من الضدّين أمر بالمقدور الممكن، والذي

ص: 20

يكون غير مقدور هو جمع المكلّف بين الإتيان بمتعلّقهما، وهو غير متعلّق للتكليف، فإذا أمر المولى بإزالة النجاسة عن المسجد وأمر بالصلاة، لا يكون له إلاّ أمر بهذه وأمر بتلك، ومجموع الأمرين ليس موجوداً على حدة، والأمر بالجمع أو المجموع غير صادر من المولى، وقد تقدّم(1) أنّ الأمر لا يتعلّق إلاّ بنفس الطبائع، من غير نظر إلى الخصوصيات والحالات الطارئة وجهات التزاحم وعلاجه.

إذا عرفت ما ذكر فاعلم: أنّ متعلّقي التكليفين قد يكونان متساويين في الجهة والمصلحة، وقد يكون أحدهما أهمّ.

فعلى الأوّل: لا إشكال في حكم العقل بالتخيير؛ بمعنى أنّ العقل يرى أنّ المكلّف مخيّر في إتيان أيّهما شاء، فإذا اشتغل بأحدهما يكون في مخالفة الأمر الآخر معذوراً عقلاً، من غير أن يكون تقييد واشتراط في التكليف والمكلّف به، ومع عدم اشتغاله بذلك لا يكون معذوراً في ترك واحد منهما؛ فإنّه قادر على إتيان كلّ واحد منهما، فتركه يكون بلا عذر؛ فإنّ العذر عدم القدرة، والفرض أ نّه قادر على كلّ منهما، وإنّما يصير عاجزاً عن عذر إذا اشتغل بإتيان أحدهما، ومعه معذور في ترك الآخر، وأمّا مع عدم اشتغاله به فلا يكون معذوراً في ترك شيء منهما، والجمع لا يكون مكلّفاً به حتّى يقال: إنّه غير قادر عليه، وهذا واضح بعد التأمّل.

وأمّا إذا كان أحدهما أهمّ: فإن اشتغل بإتيان الأهمّ فهو معذور في ترك المهمّ؛ لعدم القدرة عليه مع اشتغاله بضدّه بحكم العقل، وإن اشتغل بالمهمّ فقد أتى

ص: 21


1- تقدّم في الصفحة 15.

بالمأمور به الفعلي، لكن لا يكون معذوراً في ترك الأهمّ، فيثاب بإتيان المهمّ ويعاقب بترك الأهمّ.

فقد اتّضح ممّا ذكرنا أمران:

أحدهما: أنّ الأهمّ والمهمّ كالمتساويين في الأهمّية؛ كلّ منهما مأمور به في عرض الآخر، والأمران العرضيان فعليان متعلّقان بعنوانين كلّيين من غير تعرّض لهما لحال التزاحم وعجز المكلّف، والمطاردة التي تحصل في مقام الإتيان لا توجب تقييد الأمرين أو أحدهما أو اشتراطهما أو اشتراط أحدهما بحال عصيان الآخر لا شرعاً ولا عقلاً، بل تلك المطاردة لا توجب عقلاً إلاّ المعذورية العقلية عن ترك أحد التكليفين حال الاشتغال بالآخر، وعن ترك المهمّ حال اشتغاله بالأهمّ.

فظهر: أنّ الأمر بالشيء لا يقتضي عدم الأمر بضدّه في التكاليف الكلّية القانونية كما فيما نحن فيه. فما ادّعى شيخنا البهائي(1) ليس على ما ينبغي، كما أنّ ما أجابوا عنه بنحو الترتّب وتصوير الأمر بالمهمّ مشروطاً بعصيان الأهمّ ممّا لا أساس له، كما سيتّضح لك.

وثانيهما: أنّ المكلّف مع ترك الأهمّ والمهمّ يستحقّ عقابين؛ لما تقدّم تفصيله.

ولو تأمّلت فيما تقدّم تأمّلاً صادقاً، وتدبّرت فيه تدبّراً أكيداً، يسهل لك التصديق بما ذكرنا، والله وليّ الأمر.

ص: 22


1- زبدة الاُصول: 117 - 118؛ الاثنا عشرية في الصلاة اليومية: 55، الهامش 193.
تصوير المحقّق النائيني الأمر بالمهمّ بنحو الترتّب

الوجه الرابع: تصوير الأمر بالمهمّ بنحو الترتّب؛ ولقد تصدّى الأعاظم لبيانه وتوضيحه، وبالغوا في الفحص والتحقيق حوله بتقديم مقدّمات كثيرة، ونحن نتعرّض لبعضها الذي [هو] أمتن ما في الباب، وهو ما عن السيّد المجدّد الشيرازي - طاب ثراه -(1) وشيّد أركانه سيّد أساتيذنا المحقّق الفشاركي رحمه الله علیه (2)، وبالغ في تنقيحه وتثبيته بعض أعاظم العصر رحمه الله علیه (3)، ونحن نذكر خلاصة مقدّماته وبعض محالّ الأنظار فيها:

المقدّمة الاُولى: أنّ المحذور إنّما ينشأ من إيجاب الجمع بين الضدّين المستلزم للتكليف بما لا يطاق، ولا بدّ من سقوط ما هو موجب لذلك لا غير، فإذا كان الخطابان طوليين لا يلزم منه ذلك، فيقع الكلام في أنّ الموجب لذلك هو نفس الخطابين حتّى يسقطا، أو إطلاقهما حتّى يسقط إطلاق خطاب المهمّ فقط مشروطاً بعصيان الأهمّ ؟

ثمّ قال: والعجب من الشيخ الأنصاري مع إنكاره الترتّب(4) ذهب في تعارض الخبرين - على السببية - إلى ما يلزم منه الالتزام بخطابين مترتِّب كلّ منهما على

ص: 23


1- تقريرات المجدّد الشيرازي 3: 121 - 123.
2- الرسائل الفشاركية: 187 - 189.
3- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 336 - 357؛ أجود التقريرات 2: 55 - 79.
4- مطارح الأنظار 1: 285 - 286؛ فرائد الاُصول، ضمن تراث الشيخ الأعظم 25: 440.

عدم امتثال الآخر(1)، فليت شعري لو امتنع ترتّب أحد الخطابين على عدم امتثال الآخر، فهل ضمّ ترتّب إلى مثله يوجب ارتفاع المحذور ؟ ! إلاّ أنّ الاشتباه من الأساطين غير عزيز(2).

أقول: هذه المقدّمة بصدد بيان محطّ البحث، ولا إشكال فيها من هذه الجهة، إلاّ أنّ الاعتراض على الشيخ الأعظم من أغرب الاُمور، ناشٍ من عدم التأمّل في كلامه، ونحن نذكره لكي يتأمّل فيه:

قال قدّس سرّه بعد إيراد شبهة في وجوب الأخذ بأحد المتعارضين بناءً على السببية: «إنّ الحكم بوجوب الأخذ بأحد المتعارضين في الجملة وعدم تساقطهما، ليس لأجل شمول اللفظ لأحدهما على البدل من حيث هذا المفهوم المنتزع؛ لأنّ ذلك غير ممكن، كما تقدّم وجهه في بيان الشبهة، لكن لمّا كان امتثال التكليف [بكلٍّ] منهما كسائر التكاليف الشرعية والعرفية مشروطاً بالقدرة، والمفروض أنّ كلاًّ منهما مقدور في حال ترك الآخر وغير مقدور مع إيجاد الآخر، فكلّ منهما مع ترك الآخر مقدور يحرم تركه ويتعيّن فعله، ومع إيجاد الآخر يجوز تركه ولا يعاقب عليه، فوجوب الأخذ بأحدهما نتيجة أدلّة وجوب الامتثال والعمل بكلّ منهما بعد تقييد وجوب الامتثال بالقدرة، وهذا ممّا يحكم به بديهة العقل...»(3) إلى آخره، انتهى.

ص: 24


1- فرائد الاُصول، ضمن تراث الشيخ الأعظم 27: 35.
2- أجود التقريرات 2: 57؛ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 336 - 339.
3- فرائد الاُصول، ضمن تراث الشيخ الأعظم 27: 35 - 36.

وأنت إذا تأمّلت فيه تجد أنّ مقصوده أنّ العقل يتصرّف في مقام الامتثال، بلا تصرّف في نفس الأدلّة كما عرفت - فيما تقدّم(1) - تحقيقه منّا، وأنّ التقييد العقلي إنّما هو في وجوب الامتثال، وهو حكم عقلي ليس للشارع تصرّف فيه وتعبّد بالنسبة إليه، وهو أجنبيّ عن الترتّب المتقوّم باشتراط التكليف بعصيان الآخر، فضلاً عن الترتّبين ممّا تحكم بديهة العقل بامتناعهما؛ للزوم تقدّم الشيء على نفسه.

هذا، مع أنّ الترتّب يتقوّم باشتراط الأمر بعصيان الآخر، وما ذكره الشيخ لو فرض أنّ نظره التصرّف في الأدلّة، يكون التصرّف بتقييد كلٍّ من الدليلين بعدم إتيان متعلّق الآخر، لا بعصيانه، وفرق بيّن بينهما؛ لأنّ الثاني مناط الترتّب، والأوّل نتيجته التخيير، والعجب من الخلط بينهما، إلاّ أنّ الاشتباه من الأساطين غير عزيز.

المقدّمة الثانية: أنّ الواجب المشروط لا يخرج إلى المطلق بعد حصول شرطه؛ لأنّ شرائط التكليف كلّها ترجع إلى قيود الموضوع، والحكم المجعول على موضوعه لا ينقلب عمّا هو عليه، ولا يخرج الموضوع عن كونه موضوعاً.

والسرّ فيه: أنّ القضايا الشرعية على نهج القضايا الحقيقية لا الخارجية، فالقائل بالانقلاب قوله مساوق للقول بأنّ الموضوع بعد وجوده ينسلخ عن موضوعيته، ولا يبعد أن يكون ذلك من جهة خلط موضوع الحكم بداعي الجعل وعلّة التشريع؛ بتوهّم أنّ شرط التكليف خارج عن موضوعه، بل هو من قبيل

ص: 25


1- تقدّم في الصفحة 20.

الداعي لجعل الحكم على موضوعه، فبعد وجوده يتعلّق الحكم بموضوعه، ولا يبقى للاشتراط مجال.

وقد بيّنّا: أنّ كون شرط الحكم من قبيل دواعي الجعل، يبتني على أن تكون القضايا المتكفّلة لبيان الأحكام الشرعية من قبيل الإخبار عن إنشاء تكاليف عديدة، يتعلّق كلّ واحد منها بمكلّف خاصّ عند تحقّق شرطه، وهذا الخلط وقع في جملة من المباحث، منها ما نحن فيه؛ فإنّه توهّم فيه أ نّه بعد عصيان الأمر بالأهمّ يكون الأمر بالمهمّ مطلقاً(1).

أقول أوّلاً: عدم خروج الواجب المشروط إلى المطلق حقّ لا يحتاج إلى تبعيد المسافة وإرجاع شرائط الحكم إلى الموضوع، من غير فرق بين حقيقيات القضايا أو خارجياتها؛ لأنّ صيرورة الحكم المشروط مطلقاً: إمّا بتبدّل الإرادة إلى إرادة اُخرى، وذلك مستحيل؛ لامتناع تغيّر إرادته تعالى، بل يمتنع تبدّل إرادة إلى اُخرى مطلقاً؛ فإنّها بسيطة، والبسائط لا يمكن أن يدخلها التبدّل.

وإمّا بأن تتعلّق إرادة جديدة بالحكم رأساً، وهو أيضاً مستحيل؛ لامتناع تجدّد الأحوال فيه تعالى، مع أ نّه خروج عن فرض صيرورة المشروط مطلقاً.

وإمّا بأن تتبدّل إرادة التشريع باُخرى، وذلك أيضاً مستحيل؛ لما ذكر، ولانتهاء أمد التشريع بتحقّقه، فلا تبقى إرادة تشريعية حتّى تتبدّل لو فرض جواز هذه الاُمور في حقّه تعالى.

وإمّا بتبدّل الحكم المنشأ على نحو المشروط إلى الإطلاق، وهو مستحيل أيضاً؛ لأنّ ما شرّع لا ينقلب عمّا هو عليه.

ص: 26


1- أجود التقريرات 2: 58؛ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 339.

وإمّا بإنشاء حكم آخر مطلق بعد حصول الشرط، وهو خلاف المفروض والواقع.

فخروج الحكم المجعول عمّا هو عليه ممّا لا معنى معقول له. نعم، قبل تحقّق الشرط لم يأنِ آنُ امتثاله، وبعده يصير وقته ويصير حجّة على العبد مع كونه مشروطاً، فعدم صيرورة المشروط مطلقاً لا يتوقّف على ما ذكره.

وثانياً: ما ذكره من رجوع جميع شرائط التكليف إلى الموضوع لم يقم [عليه] دليل بعد اختلاف الواجب المشروط والمطلق ثبوتاً، كما ذكرنا في محلّه(1)، وبعد كون الواجب المشروط من الاعتبارات المعتبرة لدى العقلاء، بل لايجوز الإرجاع بعد كونه معتبراً عقلاً ولدى العقلاء واختلاف الآثار بينهما في الأحكام أحياناً.

وما قيل: من أنّ لازم ذلك كون السبب أو الشرط أمراً تكوينياً مؤثّراً في المسبّب والمشروط تكويناً وخروج زمام أمرهما من يد الشارع، واضح الفساد؛ لأنّ جعل السببية والشرطية تشريعاً لشيء لا يوجب انقلاب التشريع إلى التكوين ولا خروج الأمر عن يد الجاعل، كما هو واضح.

هذا لو قلنا بجعل السببية والشرطية.

وأمّا لو قلنا بجعل الحكم مترتّباً على شيء، فالأمر أوضح.

وبالجملة: لا وجه لرفع اليد عن ظواهر الأدلّة من غير دليل واضح.

وثالثاً: أنّ ما ذكره - من توهّم الخلط بين موضوع الحكم وبين داعي الجعل وعلّة التشريع؛ بتوهّم أنّ شرط التكليف من قبيل الداعي لجعل الحكم - واضح البطلان؛ لأنّ شرط التكليف غير قيود الموضوع وغير دواعي الجعل، بل هو رحمه الله علیه

ص: 27


1- تقدّم في الجزء الأوّل: 282.

خلط بين شرائط المجعول ودواعي الجعل، مع أ نّهما مفترقان؛ لأنّ دواعي الجعل هي غايات جعل الأحكام، وضعية كانت أو تكليفية، مطلقة أو مشروطة، وشرائط التكليف - أي المجعول - ما يكون الحكم معلّقاً عليه ومنوطاً به، وهي غير مربوطة بقيود الموضوع ودواعي الجعل.

واتّضح ممّا ذكرنا: أنّ ما أتعب نفسه به في هذه المقدّمة غير تامّ في نفسه، وغير محتاج إليه لإثبات المطلوب.

ثمّ إنّ كون القضايا حقيقيةً لا خارجية أجنبيّ عن المطلب، كما أنّ القول بالانقلاب لا يساوق انسلاخ الموضوع عن موضوعيته، وإرجاع الشرائط كلّها إلى قيود الموضوع إنكار للواجب المشروط، والتفصيل يوجب الملال.

المقدّمة الثالثة: التي هي من أهمّ المقدّمات وعليها يدور رحى الترتّب، وإن ظنّ المستدلّ أ نّها غير مهمّة، وهي أنّ الواجب المضيّق على قسمين:

قسم اُخذ فيه الشيء شرطاً للتكليف بلحاظ حال الانقضاء، كالقصاص والحدود، فإنّ القصاص مترتّب على مضيّ القتل وانقضائه ولو آناً ما.

وقسم اُخذ فيه الشيء شرطاً بلحاظ حال وجوده، فيثبت التكليف مقارناً لوجود الشرط، ولا يتوقّف ثبوته على انقضائه، بل يتّحد زمان وجود الشرط وزمان التكليف وزمان الامتثال كأغلب الواجبات المضيّقة كالصوم.

ففي مثله يستحيل تخلّف التكليف عن الشرط ولو آناً ما؛ لما عرفت من رجوع كلّ شرط إلى الموضوع، ونسبة الموضوع إلى الحكم نسبة العلّة إلى المعلول، فلازم التخلّف: إمّا عدم موضوعية ما فرض موضوعاً للحكم، أو تخلّف الحكم عن موضوعه.

ص: 28

وكذا يستحيل تخلّف زمان الامتثال عن التكليف؛ لأنّ التكليف يقتضي الامتثال، فنسبة اقتضاء التكليف للحركة كنسبة اقتضاء حركة اليد لحركة المفتاح.

نعم، الفرق بين المقام والعلل التكوينية هو دخل العلم والإرادة في الامتثال، دون العلل التكوينية.

وبالجملة: مقتضى البرهان هو أن لا يتخلّف التكليف عن الشرط ولا الامتثال عن التكليف زماناً، بل يتقارنان في الزمان وإن كان بينهما تقدّم وتأخّر رتبي(1).

ثمّ شرع في الإشكال والجواب إلى أن قال:

إذا عرفت ذلك: ظهر لك دفع بعض الإشكالات في المقام:

منها: أ نّه يتوقّف صحّة الخطاب الترتّبي على صحّة الواجب المعلّق.

وأجاب عنه: بأنّ ذلك مبنيّ على مبنى فاسد، وهو لزوم تأخّر زمان الامتثال عن الأمر، وقد عرفت فساده.

ومنها: أنّ خطاب المهمّ لو كان مشروطاً بنفس عصيان الأهمّ لزم خروج المقام عن الترتّب، ولو كان مشروطاً بعنوان انتزاعي؛ أي كون المكلّف ممّن يعصي، لزم الأمر بالجمع بين الضدّين، وهو محال.

وأجاب عنه: بأ نّا نختار الشقّ الأوّل، وتوهّم استلزامه تأخّر طلب المهمّ عن عصيان الأمر بالأهمّ زماناً إنّما يتمّ على القول بلزوم تأخّر الخطاب عن شرطه، وأمّا على ما حقّقناه من مقارنة الخطاب لوجود شرطه، فلا بدّ من فعلية خطاب المهمّ في زمان عصيان خطاب الأهمّ بلا تقدّم وتأخّر بينهما خارجاً.

ص: 29


1- أجود التقريرات 2: 60 - 63؛ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 341 - 343.

أو نختار الشقّ الثاني، ولا يلزم منه طلب الجمع بين الضدّين؛ بداهة أنّ عنوان المتعقّب بالمعصية إنّما ينتزع من المكلّف بلحاظ تحقّق عصيانه في ظرفه المتأخّر، فإذا فرض وجود المعصية في ظرفها وكون التعقّب بها شرطاً لخطاب المهمّ، يكون الحال فيه بعينه الحال في فرض كون نفس العصيان شرطاً لطلب المهمّ.

وبالجملة: فرض تحقّق امتثال طلب الأهمّ في ظرفه هادم لشرط خطاب المهمّ، فكيف يمكن أن يكون المهمّ مطلوباً في ظرف وجود الأهمّ؛ ليرجع الأمر إلى طلب الجمع بين الضدّين(1) ؟ !

أقول: ما ذكره من عدم تأخّر الحكم عن شرطه زماناً متين، سواء رجعت الشرائط إلى قيود الموضوع أو لا، ولو سلّمنا المقدّمة الثانية أيضاً - وهي عدم إمكان تخلّف البعث عن اقتضاء الانبعاث زماناً - وأنكرنا الواجب التعليقي، لَما [أجدَته] المقدّمتان؛ لأنّ كلّ شرط إنّما يتقدّم على مشروطه رتبةً في ظرف تحقّقه، لا حال عدمه.

وبعبارة اُخرى: أنّ وجود الشرط يتقدّم على المشروط تقدّماً رتبياً، فقبل وجود الشرط لا يمكن تحقّق المشروط بالضرورة، فحينئذٍ يلاحظ؛ فإن كان الشرط أمراً زمانياً فلا بدّ من تحقّقه في زمانه حتّى يتحقّق بعده مشروطه بلا تخلّل آنٍ بينهما، وكذا لو كان غير زماني.

فإذا فرضنا واجبين مضيّقين أحدهما أهمّ، كإنقاذ الابن في أوّل الزوال وإنقاذ

ص: 30


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 346 - 348؛ أجود التقريرات 2: 63.

العمّ في أوّله، ويكون ظرف إنقاذ كلّ منهما ساعة بلا نقيصة ولا زيادة، فمع أمر

المولى بإنقاذ الابن مطلقاً لا يعقل تعلّق أمره بإنقاذ العمّ مشروطاً بعصيان أمر الأهمّ؛ لأنّ العصيان عبارة عن ترك المأمور به بلا عذر في مقدار من الوقت يفوت به الإتيان به، ولا محالة يكون ذلك في زمان، ولا يعقل أن يكون الترك في غير الزمان - أي في ظرفه - محقّقاً للمعصية؛ لعدم محقّقية الفوت به، ففوت الأهمّ المحقّق لشرط المهمّ لا يتحقّق إلاّ بمضيّ زمان لا يتمكّن المكلّف من إطاعة أمره، ومضيّ هذا الزمان كما أ نّه محقّق لفوت الأهمّ، محقّق لفوت المهمّ أيضاً، فلا يُعقل تعلّق الأمر بالمهمّ في ظرف فوته، ولو فرض الإتيان به قبل عصيان الأهمّ يكون بلا أمر، وهو خلاف مقصود القائل بالترتّب.

وبالجملة: قد خلط المحقّق المتقدّم بين عدم تخلّف الشرط عن التكليف والتكليف عن اقتضاء البعث، وبين لزوم كون الشرط بوجوده مقدّماً على المشروط، وظنّ أنّ التقدّم الرتبي يدفع الإشكال؛ غفلةً عن أنّ العصيان ما لم يتحقّق لا يعقل تعلّق الأمر بالمهمّ؛ لامتناع تحقّق المشروط قبل شرطه، وبتحقّقه يفوت وقت الأهمّ والمهمّ في المضيّقين، ولو فرض زمان إطاعة المهمّ بعد زمان عصيان الأهمّ يخرج عن فرض الترتّب.

والعجب أ نّه تنبّه للإشكال، وأجاب بما هو أجنبيّ عن دفعه، وتخيّل أنّ التأخّر الرتبي يدفعه، مع أ نّه لا يدفع إلاّ بصيرورة العصيان غير زماني، وأنت خبير بأن لا معنى للعصيان الرتبي؛ لأنّ ترك المأمور به بمقدار يفوت به ذلك من الاُمور الزمانية، لا الرتب العقلية، مع أ نّه لا يعقل بقاء التكليف على فعليته مع عصيانه، وأنّ كونه رتبياً [لا يصحّح المطلب].

ص: 31

وهذا الإشكال يهدم أساس الترتّب، سواء في مضيّقين، أو مضيّق وموسّع:

أمّا الأوّل: فقد عرفت.

وأمّا الثاني: فبعين ما ذكرنا؛ لأ نّه إذا فرض كون أحدهما موسّعاً، لكن يكون أوّل زمانه أوّل الزوال الذي [هو] ظرف إتيان المضيّق، لا يعقل تعلّق الأمر بالموسّع أوّل الزوال مشروطاً بعصيان المضيّق؛ لما عرفت من أنّ العصيان ترك المأمور به في مقدار من الزمان يفوت به الأهمّ، فلا بدّ من تعلّق الأمر بالموسّع بعد مضيّ زمان يتحقّق به العصيان، وهو هدم أساس الترتّب.

وكذا الحال لو فرض أنّ العصيان آنيّ الوجود؛ لأ نّه قبل مضيّ هذا الآن لا يتحقّق شرط المهمّ، فيكون ظرف تحقّق أمر الأهمّ فقط، وبتحقّقه سقط أمر الأهمّ بحصول العصيان ومضيّ أمد اقتضائه، ولا يعقل بقاؤه على فعليته بعد عصيانه ومضيّ وقته، فتفويت متعلّق الأهمّ في رتبة متقدّمة أو آنٍ متقدّم على تعلّق أمر المهمّ، وسقوط أمر الأهمّ وثبوت أمر المهمّ في رتبة واحدة أو آنٍ واحد، فأين اجتماعهما ؟ !

وإن شئت قلت: إنّ اجتماعهما مستلزم لتقدّم المشروط على شرطه، أو بقاء فعلية الأمر بعد عصيانه ومضيّ وقته، وهما باطلان.

هذا كلّه إذا كان العصيان بوجوده الخارجي شرطاً، كما أصرّ عليه المستدلّ.

وأمّا إذا كان العنوان الانتزاعي - ك «الذي يعصي» - شرطاً، فلا إشكال في لزوم مفسدة طلب الجمع؛ لأنّ العنوان الانتزاعي ثابت للمكلّف من أوّل الأمر، ففي أوّل زمان ظرف الامتثال يكون أمر المهمّ فعلياً لحصول شرطه، ولا يكون أمر الأهمّ ساقطاً؛ لعدم الامتثال والعصيان وعدم مضيّ وقته، فلا محالة يتوجّه

ص: 32

إلى المكلّف أمران فعليان: أحدهما: بعنوان «الذي يعصي»، فيأمره بإنقاذ العمّ في أوّل الزوال، وثانيهما: بعنوان آخر، فيأمره بإنقاذ الابن فيه.

ومجرّد أخذ العنوان الانتزاعي من العاصي بلحاظ ظرف العصيان لا يدفع التضادّ؛ لأنّ ملاك دفع التضادّ بين الأمر المشروط بالعصيان وأمر الأهمّ ليس إلاّ عدم اجتماعهما في آنٍ واحد، لا كونهما في رتبتين، كما تخيّل المستدلّ، وسيأتي فساده في المقدّمة الرابعة.

المقدّمة الرابعة: التي عدّها أهمّ المقدّمات وأنّ عليها يبتني أساس الترتّب، وسيتّضح عدم دخالتها في دفع الإشكال، ومحصّلها: أنّ انحفاظ كلّ خطاب بالنسبة إلى ما يتصوّر من التقادير على أنحاء:

النحو الأوّل: ما يكون انحفاظه بالإطلاق والتقييد اللحاظيين؛ وذلك بالنسبة إلى كلّ تقدير يمكن لحاظه عند الخطاب، وهي التقادير المتصوّرة في المتعلّق مع قطع النظر عن الخطاب، كقيام زيد وقعوده؛ حيث يكون الأمر بالصلاة محفوظاً عنده بالإطلاق اللحاظي، وكالوقت؛ حيث يكون الأمر محفوظاً معه بالتقييد اللحاظي.

النحو الثاني: أن يكون الانحفاظ بنتيجة الإطلاق والتقييد، كالتقادير التي تلحق المتعلّق بعد تعلّق الخطاب به، كالجهل والعلم بالخطاب، فلا يمكن فيها الإطلاق والتقييد اللحاظيان، بل لا بدّ إمّا من نتيجة الإطلاق، كما في العلم والجهل بالحكم بعد قيام الضرورة والأدلّة على اشتراك العالم والجاهل بالأحكام وامتناع الإهمال الثبوتي، وإمّا أن يكون الملاك محفوظاً في تقدير خاصّ، فلا بدّ من نتيجة التقييد.

ص: 33

النحو الثالث: ما كان انحفاظ الخطاب لا بالإطلاق والتقييد اللحاظيين ولا بنتيجة الإطلاق والتقييد، وذلك في التقدير الذي يقتضيه نفس الخطاب، وهو الفعل والترك؛ حيث يكون انحفاظ الخطاب في حالتي الفعل والترك بنفسه، لا بإطلاقه لحاظاً أو نتيجة؛ إذ لا يعقل الإطلاق والتقييد بالنسبة إليهما، بل يؤخذ المتعلّق معرّى عن حيثيتهما؛ لأ نّه مع التقييد بالفعل يلزم طلب الحاصل، وبالترك طلب الجمع بين النقيضين، ومع الإطلاق كلا المحذورين، فليس في الخطاب بالنسبة إليهما إطلاق وتقييد مطلقاً، ولكن مع ذلك يكون الخطاب محفوظاً بالاقتضاء الذاتي في كلتا الحالتين ما لم يتحقّق العصيان والطاعة.

والفرق بين هذا القسم والسابقين من وجهين:

الوجه الأوّل: أنّ نسبة تلك التقادير السابقة إلى الخطاب نسبة العلّة إلى المعلول؛ لمكان رجوعها إلى قيود الموضوع، وهي تتقدّم على الحكم تقدّم العلّة على المعلول، والإطلاق أيضاً يجري مجرى العلّة؛ من حيث إنّ الإطلاق والتقييد في رتبة واحدة، فالإطلاق في رتبة علّة الحكم، وهذا بخلاف تقديري فعل المتعلّق وتركه، فإنّ التقدير معلول الخطاب؛ لأنّ الخطاب يقتضي فعل المتعلّق وطرد تركه.

الوجه الثاني: أنّ الخطاب في التقادير السابقة يكون متعرّضاً لبيان أمر آخر غير تلك التقادير، غايته أ نّه تعرّض لذلك الأمر عند وجودها، وهذا بخلاف تقديري الفعل والترك، فإنّ الخطاب بنفسه متكفّل لبيان هذا التقدير؛ حيث إنّه يقتضي فعل المتعلّق وعدم تركه.

إذا عرفت ذلك فاعلم: أ نّه يترتّب على ما ذكرناه طولية الخطابين؛ وذلك لأنّ

ص: 34

خطاب الأهمّ يكون متعرّضاً لموضوع خطاب المهمّ ومقتضياً لهدمه ورفعه تشريعاً؛ لأنّ موضوع خطاب المهمّ هو عصيان خطاب الأهمّ، فالأهمّ يقتضي طرد موضوع المهمّ، والمهمّ لا يتعرّض لموضوعه، وليس بينهما مطاردة، وليسا في رتبة واحدة، بل خطاب الأهمّ مقدّم على خطاب المهمّ برتبتين أو ثلاث، ومع هذا الاختلاف في الرتبة لا يعقل عرضيتهما(1).

أقول: في هذه المقدّمة مواقع للنظر، نذكر مهمّاتها:

الأوّل: ما ذكر من الفرق بين الإطلاق والتقييد اللحاظيين وما هو نتيجتهما - وأنّ الثاني لا يمكن فيه الإطلاق والتقييد، ولا بدّ لإثبات نتيجة الإطلاق من التشبّث بدليل آخر، ولا يمكن التمسّك بالإطلاق لإثبات الحكم للجاهل والعالم - فمنظور فيه؛ لأنّ معنى الإطلاق ليس إلاّ جعل طبيعة - مثلاً - متعلّقاً أو موضوعاً للحكم من غير تقييدها بقيد، وهو - بما أ نّه فعل اختياري للمتكلّم الملتفت - كاشف عن كونها تمام الموضوع، وهذا ليس من الدلالات اللفظية، ولا يتقوّم باللحاظ وبإمكانه في هذا اللفظ الصادر منه.

فإذا قال: «يجب على المظاهر عتق رقبة» ولم يقيّدها بشيء، يحكم العقلاء بأنّ تمام الموضوع للوجوب على المظاهر عتق الرقبة من غير دخالة شيء فيه، وأنّ الظهار سبب لوجوب العتق من غير قيد، فموضوع احتجاج العقلاء هو أخذ شيء بلا قيد موضوعاً أو متعلَّقاً أو سبباً وهكذا، مع إمكان بيان القيد ولو بدليل آخر، فلو سلّم عدم إمكان تقييد الموضوع أو غيره بما يتأخّر عن الحكم في

ص: 35


1- أجود التقريرات 2: 66 - 73؛ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 348 - 352.

هذا الكلام لم يضرّ بجواز التمسّك بالإطلاق بعد إمكان بيان القيد بدليل آخر،

فالتمسّك بإطلاق الأدلّة لإثبات الأحكام للعالم والجاهل ممّا لا ينبغي الإشكال فيه.

وما قد يقال في بيان الفرق بين ما يمكن التقييد في اللفظ وبين غيره: من أنّ

الأوّل إطلاق لفظي والآخر حالي - مع أ نّه لا يرجع إلى محصّل؛ ضرورة أنّ الإطلاق ليس من المفاهيم الدالّ عليها اللفظ، فليس الإطلاق في كلا القسمين إلاّ معنىً واحداً - لا يضرّ بالمطلوب؛ لجواز التمسّك بالإطلاق الحالي لرفع احتمال القيد.

هذا، مضافاً إلى منع عدم إمكان التقييد في مثل الجهل والعلم بالخطاب؛ فإنّ التقييد غالباً يكون بلحاظ مستقلّ ونظر مستأنف، فإذا قال: «أعتق رقبة مؤمنة» لا تكون إفادة التقييد بنفس الرقبة، بل بقيد المؤمنة، وهو منظور إليه استقلالاً، ولا إشكال في إمكان النظر المستأنف إلى الحكم المجعول في الكلام وتقييده بقيد الجهل والعلم، ولا فرق بين قوله: «أعتق رقبة مؤمنة» و«أعتق رقبة معلومة الحكم» في جواز التقييد ولا جوازه، وقد فرغنا من جواز أخذ ما يأتي من قبل الأمر في متعلّقه في باب التعبّدي والتوصّلي(1)، فهذا التقسيم ممّا لا يترتّب عليه أثر.

نعم، فيما لا يمكن التقييد مطلقاً - مثل الإتيان والترك - لا يجوز التمسّك بالإطلاق والاحتجاج العقلائي، لا من باب أنّ الإطلاق لا يمكن، كما زعم المستدلّ أنّ الإطلاق مستلزم لطلب الحاصل وطلب الجمع بين النقيضين؛

ص: 36


1- تقدّم في الجزء الأوّل: 209 - 210.

ضرورة بطلان ما ذكر؛ لأنّ الإطلاق ليس الجمع بين التقييدين حتّى يلزم ما ذكر، بل هو عبارة عن عدم التقييد بقيد، أمكن تقييده أم لا.

وأمّا ما تكرّر في كلامهم من أنّ الإطلاق عدم التقييد فيما من شأنه التقييد، فهو صحيح في محلّه؛ لأنّ موضوع كلامهم في باب المطلق والمقيّد هو الإطلاق الذي يحتجّ به على المتكلّم والمخاطب، وقد عرفت أنّ موضوع الاحتجاج إنّما هو قسم من الإطلاقات؛ أي ما يمكن تقييده، وليس المقصود أنّ ما لا يمكن تقييده ليس إطلاقاً، بل هو أيضاً إطلاق ويتقابل مع التقييد تقابل الإيجاب والسلب، لا العدم والملكة.

وبالجملة: لا يلزم من الإطلاق في القسم الثالث شيء من المحذورات المتوهّمة إلاّ أن يرجع الإطلاق إلى التقييدات، وهو كما ترى.

الثاني: أنّ الدافع لطلب الجمع ليس كون أمر الأهمّ والمهمّ في رتبتين، بل الدافع هو سقوط أمر الأهمّ بعصيانه ومضيّ وقته، وعدم ثبوت أمر المهمّ إلاّ بعد سقوط الأهمّ أو مساوقاً له.

ولو كان نفس ترتّب الأمرين دافعاً لذلك لوجب الدفع مع الاشتراط بإطاعة الأهمّ؛ فإنّها متأخّرة عن أمره، ولو جعلت شرطاً تصير مقدّمة على أمر المهمّ تقدّم الموضوع على حكمه، مع أنّ ذلك يقتضي الجمع على مبناه، فيكشف ذلك عن أنّ مناط دفع طلب الضدّين أمر آخر غير نفس الترتّب، وهو ما ذكرنا، وسيأتي مزيد بيان له(1) إن شاء الله.

ص: 37


1- يأتي في الصفحة 43.

الثالث: أنّ العصيان لا يكون متأخّراً رتبةً عن الأمر؛ لعدم ملاك التأخّر الرتبي فيه؛ فإنّه إمّا من ناحية العلّية والمعلولية، أو كون شيء جزءاً للعلّة أو جزءاً للماهية أو شرطاً للتأثير أو التأ ثّر، وكلّها مفقود بالنسبة إلى العصيان.

لا يقال: إنّ إطاعة كلّ أمر متأخّرة عن الأمر رتبة؛ لأ نّها عبارة عن الانبعاث عن البعث، ولا إشكال في تأخّر الانبعاث عن البعث رتبةً تأخّر المعلول عن علّته أو عن جزئها، والعصيان عبارة عن ترك الامتثال بلا عذر، وهو مصداق نقيض الإطاعة، والماهية ومصداقها ليسا في رتبتين؛ لمكان اتّحادهما الذاتي، فالعصيان في رتبة نقيض الإطاعة، ونقيض الإطاعة في رتبتها؛ لأنّ النقيضين في رتبة واحدة، وما مع المتأخّر رتبةً متأخّر كذلك، فينتج أنّ العصيان متأخّر عن الأمر.

وأيضاً: إنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه العامّ، فالأمر بالأهمّ دافع للعصيان وعلّة لرفعه، وعلّة الشيء مقدّمة عليه، والعصيان ورفعه في رتبة واحدة؛ لكونهما نقيضين، وما مع المعلول مؤخّر عن العلّة.

فإنّه يقال: كون النقيضين في رتبة واحدة ممنوع، مرّ الكلام فيه(1)، وكون ما مع المتأخّر متأخّراً رتبةً ممنوع أيضاً؛ لأنّ مناط التأخّر الرتبي هو ما قدّمناه، ومع فقدانه لا وجه للتأخّر، وقياس التأخّر الرتبي الذي يدركه العقل لأجل بعض المناطات بالتأخّر الزماني الخارجي، مع الفارق. فاتّضح الجواب عن الشبهتين، وقد أغمضنا عن بعض الشبهات الواردة عليهما.

ص: 38


1- تقدّم في الصفحة 6.

نعم، العصيان يتأخّر عن الأمر زماناً لو اُغمض عن الإشكال الآتي، وهو غير التأخّر الرتبي.

هذا، مضافاً إلى أنّ العصيان عبارة عن ترك المأمور به بلا عذر، وهو معنىً عدمي لا يمكن أن يتّصف بحيثية وجودية مطلقاً، وقد تكرّر منّا(1): أنّ القضايا الصادقة التي موضوعاتها اُمور عدمية لا بدّ وأن تكون من السالبة المحصّلة أو ترجع إليها، والموجبات مطلقاً لا تصدق في الأعدام إلاّ بتأوّل وفي بعض القضايا الغير المعتبرة، كقوله: «العدم عدم»، فالعصيان بما أ نّه عدمي لا يمكن أن يتأخّر عن شيء أو يتقدّم، ولا يمكن أن يكون موضوعاً لحكم ولا شرطاً لشيء أو مانعاً عنه.

وبما ذكرنا ينهدم أساس الترتّب؛ لأ نّه مبنيّ على التقدّم والتأخّر الرتبيين،

وهما بين الأمر وإطاعته - على تأمّل فيه أيضاً - لا بينه وبين عصيانه. اللهمّ إلاّ أن يجعل الموضوع [هو] الذي لا يأتي بالمأمور به بلا عذر، لكن مع ذلك لا يكون التقدّم رتبياً.

المقدّمة الخامسة: الموضوع للحكم إمّا غير قابل للوضع والرفع التشريعيين كالعقل والبلوغ، أو قابل لهما، والثاني إمّا قابل للدفع والرفع أو قابل للدفع فقط، وعلى التقديرين إمّا أن يكون قابلاً للرفع الاختياري للمكلّف أيضاً أو لا، والرفع التشريعي إمّا أن يكون بنفس التكليف أو بامتثاله.

ومحلّ البحث في الأهمّ والمهمّ هو هذا الأخير، وهو ما إذا كان امتثال التكليف رافعاً لموضوع الآخر حيث يتحقّق اجتماع كلّ من الخطابين في

ص: 39


1- تقدّم في الصفحة 5، وفي الجزء الأوّل: 48 - 49.

الفعلية؛ لأ نّه ما لم يتحقّق امتثال أحد الخطابين - الذي فرضنا أ نّه رافع لموضوع الآخر بامتثاله - لا يرتفع الخطاب الآخر، فيجتمع الخطابان في الزمان والفعلية بتحقّق موضوعهما.

والتحقيق: أنّ اجتماع مثل هذين الخطابين لا يوجب إيجاب الجمع، ولا بدّ أوّلاً من معرفة معنى الجمع وما يوجب إيجابه، فنقول:

أمّا الجمع فهو عبارة عن اجتماع كلّ منهما في زمان امتثال الآخر؛ بحيث يكون ظرف امتثالهما واحداً، وأمّا الذي يوجب الجمع فهو أحد أمرين: إمّا تقييد كلّ من المتعلّقين أو أحدهما بحال إتيان الآخر، وإمّا إطلاق كلّ من الخطابين كذلك.

والدليل على عدم إيجاب الجمع اُمور:

الأمر الأوّل: أ نّه لو اقتضيا إيجاب الجمع والحال هذه للزم المحال في طرف المطلوب؛ لأنّ مطلوبية المهمّ إنّما تكون في ظرف عصيان الأهمّ، فلو فرض وقوعه على صفة المطلوبية في ظرف امتثاله - كما هو لازم إيجاب الجمع - لزم الجمع بين النقيضين؛ إذ يلزم أن لا يكون مطلوباً قبل العصيان ومطلوباً قبله.

الأمر الثاني: أ نّه يلزم المحال في طرف الطلب؛ لأنّ خطاب الأهمّ يكون من علل عدم خطاب المهمّ؛ لاقتضائه رفع موضوعه، فلو اجتمع الخطابان في رتبة لزم اجتماع الشيء مع علّة عدمه، أو خروج العلّة عن العلّية، أو خروج العدم عن كونه عدماً، وكلّ ذلك خلف محال.

الأمر الثالث: أنّ البرهان المنطقي أيضاً يقتضي عدم إيجاب الجمع؛ فإنّ الخطاب الترتّبي بمنزلة المنفصلة المانعة الجمع في النسبة الطلبية في جانب المهمّ

ص: 40

والنسبة التلبّسية في جانب الأهمّ، فصورة القضيّة هكذا: إمّا أن يكون الشخص

فاعلاً للأهمّ، وإمّا أن يجب عليه المهمّ، ومعه كيف يعقل إيجاب الجمع(1) ؟!

أقول: - بعد الغضّ عن الإشكال ببعض ما ذكره - إنّ ما ذكره من عدم اقتضاء هذين الخطابين الجمع، ممّا لا إشكال فيه، إنّما الكلام في مناط عدم الاقتضاء، فلا بدّ من استقصاء العناوين التي يتصوّر أخذها شرطاً لخطاب المهمّ أو موضوعاً له؛ حتّى يتّضح موارد اقتضاء الجمع وعدم اقتضائه والمناط فيهما، فنقول:

الشرط إمّا أن يكون العصيان الخارجي، أو التلبّس بالعصيان والأخذ والشروع فيه، كما تشبّث به المستدلّ في خلال كلامه، أو العنوان الانتزاعي من العاصي، ك «الذي يعصي» أو «الذي يتعقّبه العصيان». وتلك العناوين إمّا يكون ظرف تحقّقها أو انتزاعها ظرف تحقّق العصيان، أو ظرف الشروع فيه، أو قبلهما:

فإن كان العصيان الخارجي أو ما يساوقه خارجاً - أيّ عنوان كان - يلزم الخروج عن بحث الترتّب وإن لم يلزم إيجاب الجمع؛ وذلك لأ نّه ما دام عدم تحقّق العصيان لا يكون أمر المهمّ فعلياً، وبتحقّق العصيان يسقط أمر الأهمّ بخروج متعلّقه عن إمكان الإتيان به؛ إذ مع إمكانه لا يتحقّق العصيان، ومع عدم إمكانه لا يعقل بقاء الأمر الفعلي، من غير فرق بين كون العصيان زمانيّ التحقّق أو آنيّه، ففي الثاني أيضاً قبل تحقّق الآن ظرف أمر الأهمّ فقط، وبتحقّقه يتحقّق العصيان، ويسقط أمر الأهمّ، ويثبت أمر المهمّ، فأين اجتماعهما ؟ !

فلازم اجتماعهما في الفعلية: إمّا تخلّف المشروط عن شرطه بتقدّمه عليه إن

ص: 41


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 352 - 363؛ أجود التقريرات 2: 73 - 86.

تعلّق أمر المهمّ قبل تحقّق المعصية، أو بقاء أمر الأهمّ مع تحقّق المعصية وعجز المكلّف عن الإتيان به، وهما محالان.

وأمّا توهّم كون العصيان في الرتبة العقلية فواضح الفساد؛ لأنّ العصيان ترك المأمور به بلا عذر خارجاً، ولا ربط له بالرتبة العقلية.

وهذا الإشكال وارد أيضاً على جعل الشرط ما يكون مساوقاً للعصيان خارجاً طابق النعل بالنعل.

وأمّا إن جُعل الشرط التلبّس بالعصيان بمعنى الأخذ والشروع فيه - فمضافاً إلى أنّ العصيان فيما نحن فيه ليس من الاُمور الممتدّة أو المركّبة ممّا يتصوّر فيه

الأخذ والشروع، بل إذا ترك المأمور به إلى حدّ سلب القدرة ينتزع منه العصيان في حين سلب القدرة، ولا ينتزع قبله، فتحقّق العصيان آنيّ وإن كان محتاجاً في بعض الأحيان إلى مضيّ زمان حتّى تسلب القدرة، فالعصيان بنفسه لا يكون متدرّج الوجود حتّى يأتي فيه الشروع والختم - يرد عليه: أنّ الشروع فيه إمّا مُحقِّق العصيان، أو لا، ولا ثالث لهما.

فالأوّل هو القسم الأوّل بعينه، ويرد عليه ما تقدّم، والثاني يأتي حكمه في القسم الآتي.

وإن جعل الشرط أمراً انتزاعياً من العصيان الخارجي فلازمه طلب الجمع؛ لأنّ الأمر الانتزاعي متحقّق قبل وقت امتثال الأهمّ وقبل عصيانه، فأمر المهمّ صار فعلياً باعثاً نحو المأمور به، وأمر الأهمّ لم يسقط وبقي على باعثيته قبل تحقّق العصيان، فهذا باعث نحو إنقاذ الابن - مثلاً - أوّل الزوال بعنوان «المكلّف»، وذاك إلى إنقاذ الأب كذلك بعنوان «الذي يكون عاصياً فيما بعد»،

ص: 42

والمكلّف الذي يكون عاصياً فيما بعد مبعوث فعلاً نحو ذاك وذلك، وغير قادر على ذلك، ومجرّد اختلاف العنوانين وطولية موضوع الأمرين لا يدفع طلب الجمع؛ ألا ترى أنّ عنوان المطيع أيضاً مؤخّر عن الأمر، فلو جعل شرطاً يكون مقدّماً على أمر المهمّ، فيصير أمر الأهمّ مقدّماً عليه برتبتين، ومع ذلك لا يدفع ذلك طلب جمع الضدّين.

وبذلك يتّضح أنّ التقدّم الرتبي ليس مناطاً لدفع التضادّ، والعصيان إذا جعل

شرطاً مع عدم تأخّره عن أمر الأهمّ - كما مرّ - يدفع به التضادّ؛ لا للتقدّم، بل لعدم جمع الأمرين الفعليين؛ لما عرفت من أنّ ثبوت أمر المهمّ مساوق لسقوط أمر الأهمّ، وهذا هو تمام المناط لرفع التضادّ وطلب الجمع، وهو هدم أساس الترتّب، وكذا يتّضح حال سائر العناوين المساوقة لهذا الأمر الانتزاعي.

فتحصّل من جميع ما ذكرناه: أنّ ما يدفع به التضادّ وطلب الجمع خارج عن أساس الترتّب رأساً.

وما قد يقال: من أنّ المكلّف لو جمع بين الأهمّ والمهمّ لم يقعا على صفة المطلوبية، وهذا آية عدم الأمر بالجمع(1).

مدفوع: بأنّ الذي يعصي يمتنع عليه الجمع بينهما؛ للزوم اجتماع النقيضين، وإلاّ فلو فرض جواز الجمع - بمعنى أنّ العاصي مع كونه عاصياً أتى بالأهمّ - وقع كلّ منهما على صفة المطلوبية؛ لأنّ الذي يعصي مع كونه عاصياً في ظرفه مطلوب منه الإتيان بالأهمّ؛ لعدم سقوط أمره بالضرورة ما لم يتحقّق العصيان خارجاً، والفرض أنّ شرط المهمّ حاصل أيضاً، فيكون مطلوباً.

ص: 43


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 363.
تمسّك المحقّق النائيني ببعض الفروع الفقهية على الترتّب

إن قلت: أدلّ دليل على إمكان الشيء وقوعه، وقد وقع في الشرعيات ما لا محيص عن الالتزام به، مع أ نّها من الخطاب الترتّبي:

منها: ما لو فرض حرمة الإقامة على المسافر من أوّل الفجر إلى الزوال، فلو فرض أ نّه عصى هذا الخطاب وأقام، فلا إشكال في وجوب الصوم عليه، فيكون في الآن الأوّل الحقيقي من الفجر قد توجّه إليه كلّ من حرمة الإقامة ووجوب الصوم، لكن مترتّباً؛ يعني أنّ وجوب الصوم يكون مترتّباً على عصيان حرمة الإقامة، ففي حال الإقامة يجب عليه الصوم مع حرمة الإقامة بالخطاب الترتّبي.

ومنها: لو فرض وجوب الإقامة على المسافر من أوّل الزوال، فيكون وجوب القصر عليه مترتّباً على عصيان وجوب الإقامة؛ حيث إنّه لو عصى ولم يقصد الإقامة توجّه إليه خطاب القصر، وكذا لو فرض حرمة الإقامة؛ فإنّ وجوب التمام مترتّب على عصيان حرمة الإقامة.

ومنها: وجوب الخمس المترتّب على عصيان خطاب أداء الدين إذا لم يكن الدين من عام الربح، إلى غير ذلك(1).

قلت: فيه أوّلاً: أنّ الخطابات التي فرض ترتّبها على عصيان خطابات اُخر تكون فعليتها بعد تحقّق العصيان، وبتحقّق العصيان خارجاً تسقط تلك الخطابات، فلا يمكن اجتماع الخطابين الفعليين في حال من الأحوال،

ص: 44


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 357 - 359.

فلا يعقل تعلّق خطاب الصوم المترتّب على عصيان الإقامة إلى الزوال في الأوّل

الحقيقي من الفجر؛ فإنّ أوّل الفجر لم يكن ظرف العصيان، ومع عدم تحقّقه لا يعقل فعلية المشروط به، وكذا الحال في سائر الفروع المفروضة.

وثانياً: أنّ خطاب الصوم والإتمام والقصر لم يترتّب على عصيان حرمة الإقامة أو وجوبها، بل مترتّب على عزم الإقامة وعدمه، ومع عزمها لا يعقل إيجاب الخروج وإيجاب الصوم عليه؛ للزوم طلب الضدّين، وكذا الأمر بالصلاة فعلاً تماماً والخروج أمر بالضدّين.

وثالثاً: أنّ خطابات الصوم وإتمام الصلاة وقصرها لم تكن مترتّبة على عصيان حرمة الإقامة أو وجوبها، بل على عزم الإقامة - كما تقدّم - أو نفسها فرضاً، وليس شيء منهما متأخّراً عن تلك الخطابات؛ فإنّ المتأخّر عن الأمر أو النهي - بعد التسليم - عصيانهما، دون ذات الإقامة أو عزمها؛ لعدم ملاك التأخّر فيهما، فالعصيان لا ينتزع من نفس الإقامة بما هي، بل من حيثية زائدة عليها، وهي كونها مصداقاً عرضياً لمخالفة المأمور به أو المنهيّ عنه، وهذه الحيثية متأخّرة عن الأمر والنهي، لا ذات الإقامة بما هي أو عزمها بما هو، فالنقوض كلّها أجنبيّة عن باب الترتّب(1).

وأمّا وجوب الخمس فلم يكن مترتّباً على عصيان وجوب الدين في آية أو رواية، بل الخمس إنّما يتعلّق بالغنيمة أو الفائدة الزائدة عن مؤونة السنة، ومع أداء الدين لم تبق فائدة حتّى يتعلّق بها الخمس، من غير أن يكون

ص: 45


1- هذا كلّه مع الغضّ عن أنّ تلك العناوين ليست بذاتها واجبة أو محرّمة، ومع تعلّق النذر وشبهه [بها] لم تصرْ واجبةً أو محرّمةً كما مرّ نظيره. [منه قدّس سرّه ]

خطابه مترتّباً على عصيان خطاب آخر، فإيفاء الدين رافع لموضوع الخمس، لا أنّ خطابه مترتّب على عصيانه.

تقرير الذي أورده المحقّق الأصفهاني لتصحيح الترتّب

وممّا ذكرنا من الإيراد على الترتّب يظهر النظر في تقرير آخر لعدم المطاردة بين الأمرين، وهو: إنّ اقتضاء كلّ أمر لطاعة نفسه في رتبة سابقة على طاعته، وهي مرتبة أثره؛ فإنّ كلّ علّة منعزلة عن التأثير في رتبة أثرها، وإنّما اقتضاؤها في مرتبة ذاتها، ولمّا كان العصيان نقيض الطاعة فيجب أن يكون في رتبتها، فيلزم تأخّره عن الأمر، فإذا اُنيط أمر بعصيان هذا الأمر فلا تعقل المزاحمة بينهما؛ إذ في رتبة تأثير أمر الأهمّ لا وجود لأمر المهمّ، وفي رتبة الأمر بالمهمّ لا يكون اقتضاء للأمر بالأهمّ، فلا يقتضي مثل هذين الأمرين إلقاء المكلّف فيما لا يطاق(1).

وفيه: أنّ الإناطة بالعصيان وإن ترفع التضادّ والمزاحمة بينهما، لكن لا لمناط التقدّم الرتبي، بل لسقوط فعلية الأمر بالأهمّ لأجل العصيان وعدم فعلية أمر المهمّ إلاّ بعد العصيان، فلا يجتمع الأمران في حين من الأحيان، وهذا هدم أساس الترتّب.

هذا، مع ورود ما يرد على التقرير المتقدّم - من عدم تأخّر العصيان عن الأمر - على هذا أيضاً.

ص: 46


1- نهاية الدراية 2: 218.
تقرير المحقّق العراقي لتصحيح الترتّب

وقد قرّر عدم المطاردة بعض مدقّقي العصر رحمه الله علیه بعد الإشارة إلى الترتّب وتصديقه بأ نّه في غاية المتانة والنظر فيه بأنّ ذلك لا يقتضي طولية الأمر واشتراط أحدهما بعصيان الآخر قائلاً بأ نّه: لا إشكال في حكم العقل بالتخيير في صورة تساوي المصلحتين، وليس مرجع التخيير إلى اشتراط وجوب كلّ بعصيان الآخر؛ للزوم تأخّر كلّ عن الآخر رتبةً، وليس مرجعه أيضاً إلى اشتراط كلّ أمر بعدم وجود غيره؛ إذ في مثل ذلك وإن لم يلزم المحذور المتقدّم ولا محذور إيجاب الضدّين بنحو المطاردة في ظرف عدم الضدّين؛ إذ لازم الاشتراط أن لا يقتضي كلّ أمرٍ إيجاد مقتضاه حال وجود الآخر، ولم يخرج الطلب المشروط عن كونه مشروطاً، لكن مع ذلك لا داعي على تقييد الطلب وإناطته بعد إمكان توجّه الطلب الناقص إلى سائر الجهات، الملازم لتحقّق الجهة الملازمة لعدم الآخر من باب الاتّفاق، فيرجع ما ذكرنا إلى أنّ كلّ طلب في ظرف المزاحمة يقتضي المنع عن بعض أنحاء التروك، قبال الطلب التامّ المقتضي لجميع أنحائه، مع اشتراكهما في إطلاق الطلب.

فلنا أن نقول: إنّ الطلب بالنحو المزبور إذا لم يكن بينهما مطاردة لنقص فيهما، كذلك لم يكن بينهما مطاردة لو فرض نقص الطلب من طرف واحد ولو لم يشترط الناقص بعصيان التامّ؛ إذ مقتضى الطلب الناقص حفظ سائر الجهات في ظرف انسداد الباب الملازم لوجود الضدّ، فكيف يقتضي الطلب

ص: 47

التامّ طرد هذا المقتضى ؟! إذ نتيجة طرده منع انسداد تلك الجهة، وفي ظرفه لا اقتضاء للطلب الناقص، فأين المطاردة من طرف واحد، فضلاً عن الطرفين ؟ ! (1)، انتهى.

ولا يخفى: أ نّه يرد عليه ما يرد على الوجهين المتقدّمين؛ لاشتراكه معهما في نقطة الضعف وإن فارقهما في جهة اُخرى، فنقول:

إنّه قبل تحقّق إطاعة الطلب التامّ وعصيانه لا شبهة في اقتضائه البعث نحو متعلّقه فعلاً؛ لعدم سقوطه بهما، فطلب الناقص هل يؤخذ على نحو يكون في هذا الحين باعثاً نحو متعلّقه أو لا ؟

فعلى الأوّل: يلزم طلب الجمع بين الضدّين.

وعلى الثاني: يخرج عن محطّ البحث ويكون باعثية المهمّ بعد سقوط أمر الأهمّ، وأمّا قبله فلمّا لم تكن الجهة الملازمة لعدم الآخر من باب الاتّفاق متحقّقة لم يكن أمر المهمّ فعلياً.

وبعبارة اُخرى: أنّ الطلب الناقص المتوجّه إلى سائر الجهات، الملازم لتحقّق

الجهة الملازمة لعدم الآخر من باب الاتّفاق، قبلَ تحقّق هذه الجهة الملازمة لعدم الآخر لم يكن باعثاً فعلاً، وأمر الأهمّ في هذا الحال باعث فقط، وإذا تحقّقت الجهة الملازمة لعدم الآخر خارجاً - أي صار العصيان متحقّقاً - خرج أمر الأهمّ عن الفعلية، وصار أمر المهمّ فعلياً، وعدم المطاردة بهذا المعنى لا إشكال فيه، لكنّه خارج عن محطّ البحث وهادم لأساس الترتّب.

ص: 48


1- مقالات الاُصول 1: 342 - 343.

ولو اُخذ النقصان لا من هذه الجهة بل من الجهة الملازمة لكون الآخر معدوماً في محلّه؛ أي بعنوان انتزاعي، ورد عليه: لزوم المطاردة، فرفع المطاردة مرهون بتحقّق العصيان خارجاً، وهو ملازم لسقوط أمر الأهمّ، وهادم لأساس الترتّب، وكذا لأساس ما أفاد ذلك المحقّق.

وبالجملة: هذا الوجه عين الوجه الأوّل وجهاً وإيراداً، ومفترق عنه بجهات، منها كون الأوّل مشتملاً على التطويل المملّ، وهو على التقصير المخلّ.

ص: 49

الفصل السادس في جواز الأمر مع العلم بانتفاء الشرط

هل يجوز أمر الآمر مع علمه بانتفاء شرطه ؟

في تقرير محطّ البحث احتمالات، بعضها مناف لعنوان البحث، كاحتمال كون الجواز بمعنى الإمكان الذاتي؛ لأنّ علم الآمر غير ممكن الدخل في الإمكان الذاتي وامتناعه، وبعضها معلوم العدم، كاحتمالٍ ذكره في «الفصول»(1)، وتبعه المحقّق الخراساني رحمه الله علیه (2) وجعله وجه التصالح بين الفريقين؛ ضرورة أنّ أدلّتهما

تنافي ذلك التصالح، وإن كان بعضها لا يخلو من مناسبة لما ذكر.

ولا يبعد أن يكون هذا البحث من تتمّة بحث الطلب والإرادة؛ فإنّ الإمامية(3) لمّا اختاروا بطلان الكلام النفسي وجعلوا الإرادة مبدأ للطلب - أيّ طلب كان - ذهبوا إلى امتناع توجّه الإرادة إلى ما لا يمكن تحقّقه؛ إمّا لفقدان شرط

ص: 50


1- الفصول الغروية: 109 / السطر 17.
2- كفاية الاُصول: 170.
3- كشف المراد: 289؛ نقد المحصّل: 289 - 292.

المأمور به أو لعدم قدرة المكلّف(1).

والأشاعرة(2) لمّا جعلوا الطلب غير الإرادة ولم يجعلوها من مبادئه جوّزوا ذلك، وقالوا: قد يطلب المولى شيئاً ولا يريده، وقد ينهى عنه وهو يريده(3).

ثمّ إنّ البحث قد يقع في الأوامر الشخصية، كأمره تعالى للخليل علیه السلام وقد يقع

في الأوامر الكلّية القانونية.

فعلى الأوّل: فلا إشكال في امتناع توجّه البعث لغرض الانبعاث إلى من علم الآمر فقدان شرط التكليف فيه، بل لا يمكن ذلك بالنسبة إلى من يعلم أ نّه لا ينبعث ولو عصياناً بل إلى من يعلم أ نّه آتٍ بنفسه بمتعلّق الطلب ولا يكون الطلب مؤثّراً فيه بوجه؛ ضرورة أنّ البعث لغرض الانبعاث إنّما يمكن فيما يحتمل أو يعلم تأثيره فيه، ومع العلم بعدم التأثير لا يمكن البعث لغرض الانبعاث، وكذا الحال في الزجر والنهي.

ولا يخفى: أنّ مناط امتناع إرادة البعث لغاية الانبعاث في هذه الموارد واحد، وهو عدم تحقّق مبادئ الإرادة، من غير فرق بين امتناع الانبعاث ذاتاً أو وقوعاً أو إمكانه مع العلم بعدم وقوعه.

هذا كلّه في الإرادة الشخصية المتوجّهة إلى أشخاص معيّنين.

وأمّا الإرادة التشريعية القانونية فغايتها ليست انبعاث كلّ واحد واحد، بل

ص: 51


1- الذريعة إلى اُصول الشريعة 1: 163؛ نهاية الوصول إلى علم الاُصول 1: 607؛ معالم الدين: 82.
2- شرح المواقف 8: 91 - 92؛ شرح المقاصد 4: 143.
3- راجع المستصفى من علم الاُصول 2: 17؛ المحصول في علم اُصول الفقه 2: 435.

الغاية فيها - بحيث تصير مبدأ لها - هي أنّ هذا التشريع بما أ نّه تشريع قانوني

لا يكون بلا أثر، فإذا احتمل أو علم تأثيره في أشخاص مختلطة في [المجتمع] في الأعصار والأمصار، تتحقّق الإرادة التشريعية على نعت التقنين، ولا يلزم فيها احتمال التأثير في كلّ واحد؛ لأنّ التشريع القانوني ليس تشريعات مستقلّة بالنسبة إلى كلّ مكلّف؛ حتّى يكون بالنسبة إلى كلّ واحد بعثاً لغرض الانبعاث، بل تشريع واحد متوجّه إلى عنوان منطبق على المكلّفين، وغرض هذا التشريع القانوني لا بدّ وأن يلحظ بالنسبة إليه، لا إلى كلّ واحد مستقلاًّ، وإلاّ لزم عدم تكليف العصاة والكفّار، بل والذي يأتي [بمتعلّق الأمر] ويترك متعلّق النهي بإرادته بلا تأثير لتكليف المولى فيه، وهذا ممّا لا يمكن الالتزام به، وقد عرفت أنّ مناط الامتناع في البعث الشخصي في العاجز والقادر العاصي واحد، فإذن ما لا يجوز أمر الآمر مع العلم بانتفاء الشرط فيه هو الأوامر الشخصية المتوجّهة إلى أشخاص معيّنين، وأمّا الأوامر الكلّية القانونية المتوجّهة إلى عامّة المكلّفين، فلا تجوز مع فقد عامّتهم للشرط، وأمّا مع كون الفاقد والواجد مختلطاً وموجوداً في كلّ عصر ومصر - كما هو الحال خارجاً - فلا يلزم تقييد التكليف بعنوان الواجد مثلاً، وإلاّ يلزم تقييده بعنوان غير العاصي وغير [الجاهل] وغير النائم، وهكذا، وهو كما ترى.

وإن شئت قلت: لا يكون الخطاب العامّ خطابات مستقلّة لكلّ منها غاية مستقلّة، فتدبّر.

ص: 52

الفصل السابع في متعلّق الأوامر والنواهي

اشارة

هل الأوامر والنواهي تتعلّق بالطبائع أو الأفراد ؟

تحرير محلّ النزاع

لا تخلو كلمات القوم في تحرير محلّ النزاع من اضطراب، فيظهر من بعضها: أنّ المسألة عقلية صرفة أو مبنيّة عليها، وأنّ الإرادة والاشتياق والطلب لا يمكن أن تتعلّق بما لا يكون منشأً للآثار، فعلى القول بأصالة الوجود لا بدّ من تعلّقها به، وعلى القول بأصالة الماهية لا بدّ أن تتعلّق بها، أو أ نّها مبنيّة على

وجود الطبيعي وعدمه، فعلى الأوّل تتعلّق بها، وعلى الثاني بالفرد؛ لامتناع تعلّقها بما لا وجود له(1).

ويظهر من بعضها: أنّ النزاع في أ نّها تتعلّق بالطبائع أو بالوجود الخارجي؛ حيث أبطل الثاني بأ نّه طلب الحاصل(2).

ص: 53


1- اُنظر نهاية الدراية 2: 253 - 255.
2- الفصول الغروية: 109 / السطر 6؛ اُنظر كفاية الاُصول: 172.

ومن بعضها: أ نّها مسألة لغوية؛ حيث تشبّث بالتبادر في إثبات تعلّقها بالطبائع(1).

ومن بعضها: أنّ النزاع في سراية الإرادة للخصوصيات اللاحقة للطبيعة في الخارج وعدمها(2)... إلى غير ذلك.

والتحقيق: أنّ محطّ البحث ليس في تعلّقها بالكلّي الطبيعي أو أفراده ممّا هو المصطلح في المنطق؛ فإنّ الماهيات الاعتبارية المخترعة كالصلاة والحجّ ليست من الكلّيات الطبيعية، ولا مصاديقها مصاديق الكلّي الطبيعي؛ فإنّ الماهيات المخترعة وكذا أفرادها ليست موجودة في الخارج؛ لأنّ المركّب الاختراعي - كالصلاة والحجّ - لم يكن تحت مقولة واحدة، ولا يكون لمجموع اُمور وجود حتّى يكون مصداقاً لماهية وكلّي طبيعي.

وبه يظهر أنّ المسألة أجنبيّة عن أصالة الوجود والماهية، بل المراد من الطبيعي هاهنا هو العنوان الكلّي، سواء كان من الطبائع الأصيلة أم لا.

ولا يختصّ البحث بصيغة الأمر والنهي، بل الكلام في متعلّق الطلب بأيّ دالّ كان؛ ولو بالجملة الإخبارية في مقام الإنشاء.

ثمّ لا يبعد أن يكون محطّ البحث: أنّ الأمر إذا تعلّق بماهية بالمعنى المتقدّم، هل يسري إلى الأفراد والمصاديق المتصوّرة بنحو الإجمال منها؛ بحيث تكون الطبيعة وسيلة إلى تعلّقه بالمصاديق الملحوظة بنحو الإجمال، لا بما هي ملحوظة ومتصوّرة بل بنفس ذاتها، كما في الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ،

ص: 54


1- الفصول الغروية: 107 / السطر 37.
2- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 417.

فيكون معنى «صلّ»: أوجد فردها ومصداقها، لا الفرد الخارجي ولا الذهني، بل ذاته المتصوّرة إجمالاً؛ فإنّ الأفراد قابلة للتصوّر إجمالاً قبل وجودها، كما أنّ الطبيعة قابلة له قبله، وما ذكرنا نزاع معقول.

مقتضى التحقيق: تعلّق الأوامر والنواهي بالطبائع

والتحقيق: أنّ الأوامر والنواهي مطلقاً متعلّقة بالطبائع؛ بمعنى أنّ الآمر قبل تعلّق أمره بشيء يتصوّره بكلّ ما هو دخيل في غرضه، ويبعث المكلّف نحوه ليوجده في الخارج؛ ضرورة أنّ البعث الحقيقي لا يمكن أن يتعلّق بما هو أوسع أو أضيق ممّا هو دخيل في الغرض؛ للزوم تعلّق الإرادة والشوق بغير المقصود أو به مع الزيادة جزافاً، فإذا لم تكن للخصوصيات الفردية دخالة في غرض الآمر لا يمكن أن يبعث نحوها؛ لأنّ البعث تابع للإرادة التشريعية التابعة للمصالح، وتعلّقها بما هو غير دخيل في تحصيلها ممتنع، كتعلّقها ابتداءً بأمر بلا غاية.

وتوهّم تعلّقها تبعاً بما هو من ملازمات المراد باطل؛ لأ نّه مع خروجه عن محطّ البحث - لأنّ الكلام ليس في استلزام إرادة لإرادة اُخرى كباب المقدّمة، بل في متعلّق الأمر - قد فرغنا عن بطلانه.

وإن شئت قلت: إنّ الطبيعة - أيّة طبيعة كانت - لا يعقل أن تكون مرآةً لشيء من الخصوصيات الفردية اللاحقة لها في الخارج، ومجرّد اتّحادها معها خارجاً لا يوجب الكشف والدلالة، فلا يكون نفس تصوّر الماهية كافياً في تصوّر الخصوصيات، فلا بدّ للآمر من تصوّرها مستقلاًّ بصورة أو صور غير صورة الطبيعي ولو بالانتقال من الطبيعي إليها، ثمّ تتعلّق الإرادة بها مستقلاًّ غير الإرادة

ص: 55

المتعلّقة بنفس الطبيعة، وهذه الإرادة جزاف محض.

بل يمكن أن يقال: إنّ تصوّر الأفراد غير تصوّر الطبيعة؛ ضرورة أنّ تصوّر الخاصّ الجزئي من شؤون القوى النازلة للنفس، وتعقّل الطبيعة من شؤون العاقلة بعد تجريد الخصوصيات، فربّما يتصوّر الأفراد مع الغفلة عن نفس الطبيعة وبالعكس.

فالآمر إذا أراد توجيه الأمر إلى الطبيعة لا بدّ من لحاظها في نفسها، وإذا أراد الأمر بالأفراد لا بدّ من لحاظها: إمّا بعنوان إجمالي، وهو مباين

لعنوان الطبيعة في العقل، وإمّا تفصيلاً مع الإمكان، وهو أيضاً غير لحاظ الطبيعة.

فإذا فرض كون الطبيعة ذات مصلحة ولو بوجودها الخارجي فلا بدّ للآمر من تصوّرها وتصوّر البعث إليها وإرادته، ففي هذا اللحاظ لا تكون الأفراد ملحوظة لا إجمالاً ولا تفصيلاً، ولا تكون ملازمة بين اللحاظين، وصرف اتّحاد الخصوصيات الخارجية مع الطبيعة خارجاً لا يوجب الملازمة العقلية، فلا بدّ لتعلّق الأمر بها من لحاظ مستأنف وإرادة مستأنفة جزافاً.

المراد من البعث نحو المأموربه

ثمّ إنّ البعث نحو المأمور به، سواء كان بصيغة الأمر أو بدالّ آخر وكذا الزجر في النهي، هل هو عبارة عن طلب الوجود في الأمر، وطلب تركه أو الزجر عنه في النهي؛ بمعنى وضع الهيئة لطلب الإيجاد أو الوجود مثلاً، أو استعمالها فيه ؟

ص: 56

أو أنّ البعث يتعلّق بوجود الطبيعة؛ بمعنى أنّ الهيئة موضوعة لنفس البعث، ولمّا كان البعث إلى الطبيعة لا معنى له، قُدّر الوجود ؟

أو لا ذا ولا ذاك، بل البعث إلى الطبيعة لازمه العقلي أو العرفي تحصيلها في

الخارج، فقوله: «صلّ» يفيد البعث إلى الطبيعة، ولكن الطبيعة لا تكون طبيعة حقيقة وبالحمل الشائع إلاّ بوجودها الخارجي، فنفس الطبيعة ليست بشيء، وفي الوجود الذهني ليست هي هي حقيقة، فيكون البعث المتعلّق بنفس الطبيعة بعثاً إلى تحصيلها، وهو لا يكون إلاّ بإيجادها خارجاً عقلاً وعرفاً. وبعبارة اُخرى: إنّ إطاعة التحريك نحو الطبيعة والانبعاث عن البعث إليها بإيجادها وتحصيلها خارجاً؟ وجوه:

الظاهر هو الأخير؛ لأنّ الهيئة لم توضع إلاّ لإيقاع البعث نحو المادّة بحكم التبادر، والمادّة هي الطبيعة، والمتفاهم عرفاً من الأمر هو طلب المأمور به؛ أي البعث نحو المادّة؛ ولهذا لا يفهم من مثل «أوجد الصلاة» إيجاد وجود الصلاة، بل يفهم منه البعث إلى الإيجاد.

تنبيه: في تعلّق الأمر بنفس الماهية

هل يتعلّق الأمر بنفس الماهية، أو بما هي ملحوظة مرآةً للخارج باللحاظ التصوّري وإن كان اللاحظ يقطع بخلافه بالنظر التصديقي ؟

قد يقال: إنّ محطّ البحث في تعلّق الأمر بالطبيعة هو الطبيعة على النحو الثاني، وأمّا نفس الطبيعة فلا يعقل تعلّق الأمر بها؛ لأ نّها من حيث هي ليست إلاّ هي؛ لا تكون مطلوبة ولا مأموراً بها، فلا بدّ أن تؤخذ الطبيعة بما هي مرآة

ص: 57

للخارج باللحاظ التصوّري؛ حتّى يمكن تعلّق الأمر بها(1).

ولا يخفى أنّ هذا ناشٍ من الغفلة عن معنى قولهم: «الماهية من حيث هي ليست إلاّ هي»(2)، ولهذا زعم أنّ الماهية لا يمكن أن يتعلّق بها أمر أو يلحقها شيء آخر، مع أنّ الأمر ليس كذلك، بل معنى هذا أنّ الأشياء كلّها منتفية عن مرتبة ذات الماهية، ولم يكن شيء عيناً لها ولا جزءاً مقوّماً، وأنّ كلّ ما ذكر يلحق بها وخارج عن ذاتها وذاتياتها، وهذا لا ينافي لحوق شيء بها، فالماهية وإن كانت من حيث هي ليست إلاّ هي؛ أي في مرتبة ذاتها لا تكون إلاّ نفس ذاتها، لكن تلحقها الوحدة والكثرة والوجود وغيرها من خارج ذاتها، وكلّ ما يلحقها ليس ذاتاً ولا ذاتياً لها؛ أي ذاتي باب إيساغوجي.

فالأمر إنّما يتعلّق بنفس الماهية من غير لحاظها متّحدة مع الخارج، بل لمّا

رأى المولى أنّ الماهية في الخارج منشأ الآثار - من غير توجّه نوعاً إلى كون الآثار لوجودها أو لنفسها في الخارج - ولم تكن موجودة، يبعث المأمور إلى إيجادها وصيرورتها خارجية، فالمولى يرى أ نّها معدومة، ويريد بالأمر إخراجها من المعدومية إلى الموجودية بوسيلة المكلّف. فلحاظ الاتّحاد التصوّري مع القطع بالخلاف تصديقاً - مع كونه لا محصّل له رأساً - لا يفيد شيئاً، ومع الغفلة عن القطع بالخلاف منافٍ لتعلّق الأمر وتحريك المأمور نحو الإيجاد.

وبالجملة: هذا التكلّف ناشٍ من توهّم عدم إمكان تعلّق الأمر بالماهية؛

ص: 58


1- نهاية الأفكار 1: 380 - 381؛ بدائع الأفكار (تقريرات المحقّق العراقي) الآملي 1: 404 - 405.
2- كشف المراد: 86؛ الحكمة المتعالية 2: 3 - 8؛ شرح المنظومة، قسم الحكمة 2: 333.

لتخيّل منافاة ذلك لما اشتهر بينهم من القول المتقدّم، مع أ نّه أجنبيّ عنه.

فالتحقيق الذي يساعد عليه الوجدان: أنّ الأمر متعلّق بنفس الماهية في حين توجّه الآمر إلى معدوميتها، ويريد بالأمر سدّ باب إعدامها، وإخراجها إلى الوجود بوسيلة المكلّف.

هذا كلّه، مع أنّ مرآتية الماهية للأفراد غير معقولة، كما مرّ مراراً(1).

نقد وتحصيل : في سراية الأمر من العنوان إلى الأفراد والحصص

قد استأنف بعض المحقّقين - بعد بنائه على تعلّق الأمر بالطبيعة - فصلاً محصّله: أ نّه إذا تعلّق الأمر بعنوان على نحو صرف الوجود، فهل يسري إلى أفراده تبادلاً، فتكون الأفراد بخصوصياتها تحت الطلب، أم لا ؟

وعلى الثاني فهل يسري إلى الحصص المقارنة للأفراد كما في الطبيعة السارية، أم لا، بل الطلب يقف على نفس الطبيعة ؟

قال: توضيح المراد يحتاج إلى مقدّمة وهي: أنّ الطبيعي حسب أفراده يتحصّص وكلّ فرد منه مشتمل على حصّة منه مغايرة للحصّة الاُخرى باعتبار محدوديتها بالمشخّصات الفردية، ولا ينافي ذلك اتّحاد تلك الحصص بحسب الذات، وهذا معنى قولهم: إنّ نسبة الطبيعي إلى أفراده نسبة الآباء إلى الأولاد، وإنّ مع كلّ فرد أباً من الطبيعي غير الآخر، ويكون الآباء مع اختلافها بحسب المرتبة متّحدة ذاتاً.

ص: 59


1- تقدّم في الصفحة 16 و55 - 56.

ثمّ قال: التحقيق يقتضي وقوف الطلب على نفس الطبيعة، وأقام عليه دليلين، ثمّ قال: لا يخفى أنّ عدم سراية الطلب إلى الحصص إنّما هو بالقياس إلى الحيثية التي تمتاز بها الحصص الفردية بعضها عن البعض الآخر المشترك معه في الجنس والفصل القريبين، وأمّا بالنسبة إلى الحيثية الاُخرى التي بها تشترك تلك الحصص وتمتاز بها عن أفراد النوع الآخر المشاركة لها في الجنس القريب، وهي الحيثية التي بها قوام نوعيتها، فلا بأس بدعوى السراية إليها، بل لعلّه لا محيص عنها؛ من جهة أنّ الحصص بالقياس إلى تلك الحيثية واشتمالها على مقوّمها العالي ليست إلاّ عين الطبيعي، ونتيجة ذلك كون التخيير بين الحصص شرعياً لا عقلياً.

إن قلت: إنّ الطلب تعلّق بالعناوين والصور الذهنية، لا المعنونات الخارجية، فيستحيل سرايته إلى الحصص الفردية؛ حيث إنّها تباين الطبيعي ذهناً، وإن كان كلّ من الحصص والطبيعي ملحوظاً بنحو المرآتية.

قلت: إنّ المدّعى هو تعلّق الطلب بالطبيعي بما هو مرآة للخارج، ولا ريب في أنّ وجود الطبيعي في الخارج لا يمتاز عن وجود الحصص، بل هو الجهة المشتركة الجامعة بين الحصص، والمرئي بالطبيعي الملحوظ مرآةً للخارج ليس إلاّ تلك الجهة الجامعة بين الحصص، وهذا مرادنا من سراية الطلب من الطبيعي إلى حصصه، بل التعبير بها مسامحي؛ إذ بالنظر الدقّي يكون الطلب المتعلّق بالطبيعي الملحوظ مرآةً متوجّهاً إلى الجهة الجامعة بين الحصص، فمتعلّق الطلب في الحقيقة هي تلك الجهة الجامعة بعينها(1)، انتهى بطوله.

ص: 60


1- بدائع الأفكار (تقريرات المحقّق العراقي) الآملي 1: 407 - 410.

الظاهر أ نّه أشار في تحقيق الكلّي الطبيعي إلى ما اشتهر بين تلامذته نقلاً عنه: من أنّ الحصص بالنسبة إلى الأفراد كالآباء والأولاد، والطبيعي هو أب الآباء، وهو الجهة المشتركة بين الحصص، ويكون الطبيعي مرآةً لهذه الجهة المشتركة الخارجية.

وزعم أنّ المراد بقول بعض أهل فنّ المعقول: «إنّ الطبيعي بالنسبة إلى الأفراد

كالآباء والأولاد» هو حصصه، وافترض آباءً هي الحصص، وأب الآباء وهو القدر المشترك بينها الذي يكون الطبيعي مرآةً له، غفلةً عن أنّ ما ذكروا - من أنّ نسبة الطبيعي إلى الأفراد نسبة الآباء إلى الأبناء - فرار عن الأب الواحد الذي التزم به الرجل الهمداني الذي صادف الشيخ الرئيس، ففي الحقيقة جمع هذا المحقّق بين الالتزام بمقالة الرجل الهمداني وبين ما ذكر جواباً له؛ غفلةً عن حقيقة الأمر.

ولمّا كان ذلك منشأً لاشتباه كثير منهم في كثير من المباحث، فلا بأس بالإشارة الإجمالية إلى مراد الرجل الهمداني، ومراد القوم في مقابله.

تحقيق: في الكلّي الطبيعي

فنقول: زعم الرجل أنّ معنى وجود الطبيعي في الأعيان هو أنّ ذاتاً واحدة بعينها مقارنة لكلّ واحد من المقارنات المختلفة موجودة بنعت الوحدة في الخارج، وأنّ ما به الاشتراك الذاتي بين الأفراد متحقّق خارجاً بما هو الجهة المشتركة. وكأ نّه توهّم - من قولهم: إنّ الأشخاص تشترك في حقيقة واحدة هي الطبيعي، وقولهم: إنّ الكلّي الطبيعي موجود في الخارج - أنّ مقصود القوم

ص: 61

هو موجودية الجهة المشتركة بما هي كذلك في الخارج، قائلاً: هل بلغ من عقل الإنسان أن يظنّ أنّ هذا موضع خلاف بين الحكماء ؟ ! على ما حكي عنه(1).

وربّما يستدلّ(2) لما توهّمه الرجل تارةً: بأنّ الطبيعي معنىً واحد منتزع من الخارج، ولا يمكن أن يكون الكثير بما هو كثير منشأً لانتزاع الواحد، فلا بدّ من جهة اشتراك خارجي بنعت الوحدة؛ حتّى يكون الطبيعي مرآةً لها ومنتزعاً منها.

واُخرى: بأنّ العلل المختلفة إذا فرض اجتماعها على معلول واحد، لا بدّ فيها من جهة وحدة خارجية مُؤثّرة في الواحد بمقتضى قاعدة لزوم صدور الواحد عن الواحد.

وربّما يمثّل لذلك بأمثلة جزئية، كتأثير بندقتين في قتل شخص، وتأثير قوى أشخاص في رفع حجر، وتأثير النار والشمس في حرارة الماء... إلى غير ذلك من هوساتهم.

وهذا معنى كون الطبيعي كأب واحد بالنسبة إلى الأبناء؛ أي يكون بنعت الوحدة والاشتراك موجوداً في الخارج.

وفي مقابله قول المحقّقين(3)، وهو أنّ الطبيعي موجود في الخارج لا بنعت الوحدة والنوعية واشتراك الكثرة فيه، بل من حيث طبيعته وماهيته، وأنّ العموم والاشتراك لاحق له في موطن الذهن، والجهة المشتركة ليس لها موطن إلاّ

ص: 62


1- رسائل ابن سينا 1: 471؛ الحكمة المتعالية 1: 273.
2- مقالات الاُصول 1: 72.
3- رسائل ابن سينا 1: 462؛ اُنظر الحكمة المتعالية 1: 273؛ شرح المنظومة، قسم الحكمة 2: 347 - 348.

العقل، والخارج موطن الكثرة، والطبيعي موجود في الخارج بوجودات متكثّرة، وهي متكثّرة حسب تكثّر الأفراد والوجودات، لا بمعنى تحصّصه بحصص؛ فإنّه لا محصّل له، بل بمعنى أنّ كلّ فرد متّحد في الخارج مع الطبيعي بتمام ذاته؛ لأنّ ذاته غير مرهونة بالوحدة والكثرة، فهو مع الكثير كثير [ومع الواحد واحد].

فزيد إنسان لا حصّة منه، وعمرو إنسان آخر لا حصّة اُخرى منه، وهكذا، وإلاّ لزم كون زيد بعض الإنسان لا الإنسان، وعمرو كذلك، وهو ضروري الفساد.

فلو وجدت الجهة المشتركة في الخارج لزم أن تكون موجودة بنعت الوحدة؛ لأنّ الوجود مساوق للوحدة، فلزم إمّا وحدة جميع الأفراد وجوداً وماهية، أو كون الواحد كثيراً وكون كلّ فرد موجوداً بوجودين: أحدهما بحيثية الجهة المشتركة، فيكون كلّ الأفراد واحداً في الوجود الخارجي من هذه الحيثية، وثانيهما وجوده بالحيثية [المميّزة له عن] قرنائه.

وهذا - أي كون الإنسان غير موجود بنعت الوحدة والاشتراك بل بنعت الكثرة المحضة - مرادهم من أنّ الطبيعي مع الأفراد كالآباء مع الأولاد، لا الأب مع الأبناء.

وهذا الفاضل الاُصولي لمّا لم يصل إلى مغزى مرامهم، جمع بين الآباء والأب، فجعل للأفراد أباً وجدّاً هو أب الآباء، ولهذا تراه صرّح في جواب «إن قلت»: بأنّ وجود الطبيعي في الخارج هو الجهة المشتركة، وأنّ المرئي بالطبيعي الملحوظ مرآةً للخارج ليس إلاّ تلك الجهة الجامعة بين الحصص(1)، وهذا بعينه

ص: 63


1- بدائع الأفكار (تقريرات المحقّق العراقي) الآملي 1: 409 - 410.

قول الرجل الهمداني الذي أفرد شيخ المشّائين رسالة لردّه(1).

وقد نقل نصّ الشيخ بأنّ الإنسانية الموجودة كثيرة بالعدد وليست ذاتاً واحدة، وكذلك الحيوانية، لا كثرة باعتبار إضافات مختلفة، بل ذات الإنسانية المقارنة لخواصّ زيد هي غير ذات الإنسانية المقارنة لخواصّ عمرو، فهما إنسانيتان: إنسانية قارنت خواصّ زيد، وإنسانية قارنت خواصّ عمرو، لا غيرية باعتبار المقارنة حتّى تكون حيوانية واحدة تقارن المتقابلات من الفصول(2)، انتهى.

وهذه العبارة - كما ترى - ناصّة على خلاف ما زعم هذا المحقّق، مع أنّ البرهان قائم على خلافه.

وأمّا ما أيّدنا به قول الهمداني: من حديث انتزاع الواحد عن الواحد، فبعد الغضّ عن أنّ الطبيعي ليس من الانتزاعيات - بل من الماهيات المتأصّلة الموجودة في الخارج تبعاً للوجود تحقّقاً وتكثّراً، وأنّ معنى موجوديتها موجوديتها ذاتاً تبعاً للوجود، لا موجودية منشأ انتزاعها، وأنّ كثرة الوجود منشأ تكثّرها خارجاً؛ لأ نّها بذاتها لا كثيرة ولا واحدة، فالكثرة تعرضها خارجاً؛ بمعنى صيرورة ذاتها كثيرة بتبع الوجود خارجاً، والوحدة تعرضها في العقل عند تجريدها عن كافّة اللواحق - أنّ الانتزاع هاهنا ليس إلاّ عبارة عن إدراك النفس من كلّ فرد بعد تجريده عن المميّزات ما تدرك من فرد آخر.

فإذا جرّدت النفس خصوصيات «زيد» تدرك منه معنى الإنسان؛ أي طبيعيّه

ص: 64


1- رسائل ابن سينا 1: 462.
2- الحكمة المتعالية 1: 274.

من غير اتّصافه بنعت الوحدة المشتركة النوعية، وكذا إذا جرّدت خصوصيات «عمرو» تنال منه ما تنال من «زيد» بلا تفاوت، وبعد لحاظ كونه مشتركاً بين الأفراد تحكم بأ نّه الجهة المشتركة، فالوحدة تعرضه في العقل عند التحليل والتجزئة، لا في الخارج ولا في حاقّ الذهن.

وأمّا حديث تأثير الواحد في الواحد ففي غاية السقوط، منشؤه مقايسة الفاعل الإلهي البسيط بالفواعل الطبيعية، مع عدم التأمّل فيها أيضاً؛ ضرورة أنّ العلّة البسيطة الإلهية يكون معلولها عين التعلّق بها، ويكون بتمام هويته وحقيقته ربطاً محضاً بعلّته، لا يمكن أن يكون له حيثية غير مرتبطة بها، وإلاّ لزم الاستغناء الذاتي وهو ينافي الإمكان، وفي مثله لا يمكن أن يجتمع عليه علّتان حتّى يبحث في كيفيته، ولا يعقل تفويض الفاعل الإلهي أثره إلى غيره، أو تعلّق المعلول بالذات بغير علّته الخاصّة به.

وبالجملة: لا يعقل ربط المعلول البسيط تارةً بهذه العلّة واُخرى بهذه وثالثة بالجامع بينهما؛ للزوم الانقلاب الذاتي في البسيط.

وأمّا الفواعل الطبيعية فهي بالنظر إلى شخص الأثر الخاصّ بها كذلك؛ فإنّ شخص الحرارة القائمة بشعاع الشمس لا يمكن أن يكون متعلّقاً بالنار وبالعكس، فإذا اجتمعت الشمس والنار على التأثير في ماء واحد يكون كلّ منهما مؤثّراً فيه بقدر أثره الخاصّ به؛ فإنّ الماء غير بسيط، بل مركّب ذو امتداد يتأ ثّر من هذه وهذه، ولا إشكال في تأ ثّر مثل هذا الواحد الطبيعي القابل للتجزئة والتركيب بعلّتين، فأثر كلّ علّة غير أثر الاُخرى، وتأ ثّر الماء بكلّ غير تأ ثّره بآخر. وهكذا الأمر في اجتماع أشخاص على رفع الحجر؛ فإنّ كلّ واحد يؤثّر

ص: 65

فيه أثراً خاصّاً به، حتّى يحدث في الحجر - بواسطة القواسر العديدة - ما يغلب

على ثقله الطبيعي أو جاذبة الأرض، وهذا واضح جدّاً.

إذا عرفت ذلك: اتّضح لك الخلل فيما زعمه رحمه الله علیه من البناء على هذا المبنى الفاسد.

وأمّا ما ترى في خلال كلامه: من أنّ الحيثية التي تشترك بها هذه الحصص، وتمتاز عن أفراد النوع الآخر، هي الحيثية التي بها قوام نوعيتها، وهي متّحدة مع الطبيعي.

ففيه: أنّ الطبيعي لا يمكن أن يتحصّص بنفس ذاته، بل التحصّص يحصل عن تقيّده بقيود عقلية، مثل الإنسان الأبيض والأسود. وبالجملة: لا يمكن التحصّص - على فرضه - بلا لحوق شيء للطبيعي، فحينئذٍ لا يمكن أن تكون الحصص نفس الطبيعي في اللحاظ العقلي، والاتّحاد الخارجي كما يكون بين الحصص والطبيعي يكون بين الأفراد والطبيعي، والاتّحاد الخارجي لا يوجب سراية الأمر، وما به الامتياز - بين حصص نوع مع حصص نوع آخر - ليس بالفصل المقوّم فقط، بل به وبالتقيّدات الحاصلة من القيود اللاحقة المحصّلة للحصص، والامتياز بالفصل المقوّم فقط إنّما يكون بين نوع ونوع آخر، لا حصصهما.

فتحصّل ممّا ذكرنا: أنّ الأمر المتعلّق بالطبيعي لا يمكن أن يسري إلى الأفراد، ولا إلى الحصص التي تخيّلت للطبيعي.

ص: 66

الفصل الثامن في بقاء الجواز بعد نسخ الوجوب

اشارة

إذا نسخ الوجوب فهل يبقى الجواز ؟ والكلام يقع في مقامات:

المقام الأوّل: في إمكان بقائه عقلاً

قد يقال بإمكانه؛ بدعوى أنّ الوجوب وإن كان بسيطاً، إلاّ أ نّه يتضمّن مراتب عديدة، وهي: أصل الجواز، والرجحان، والإلزام، فيمكن أن يرتفع بعض المراتب ويبقى الآخر. وبما أنّ الوجوب حقيقة ذات تشكيك فلا حاجة في إثبات مرتبة بعد ارتفاع الاُخرى إلى دليل على الفصل؛ فإنّه بعد ذهاب مرتبة منه يتحدّد قهراً بالاُخرى، نظير الحمرة الشديدة التي تزول مرتبة منها فتبقى مرتبة اُخرى(1).

وفيه أوّلاً: أنّ الوجوب أمر انتزاعي من البعث الناشئ من الإرادة الحتمية، والاُمور الانتزاعية ليست ذات مراتب حتّى يأتي فيها ما ذكر، والتفاوت

ص: 67


1- بدائع الأفكار (تقريرات المحقّق العراقي) الآملي 1: 413.

بين البعث الإلزامي والاستحبابي ليس في نفس البعث، بل في منشئه الذي هو الإرادة.

نعم، لو كان الوجوب هو الإرادة المظهرة(1)، فباعتبار الإرادة يكون ذا مراتب، لكنّ المبنى فاسد.

وثانياً: لو كان بسيطاً وذا مراتب لم يلزم منه إمكان ذهاب مرتبة وبقاء الاُخرى؛ لأنّ معنى كون البسائط ذات مراتب ليس أنّ كلّ مرتبة منها كذلك. مثلاً: أنّ الوجود - عند أهله - حقيقة ذات تشكيك(2)، وليس لازمه أنّ الوجود الواجبي أيضاً ذو مراتب، والوجود العقلي كذلك، بل المراد أنّ نفس الحقيقة تصدق على الواجب - الذي هو مرتبة بسيطة كاملة منها عندهم - وعلى المراتب الاُخر دونه صدقاً مشكّكاً، لا أنّ كلّ هوية ذات مراتب.

فنقول: كون الوجوب في المقام ذا مراتب معناه أنّ مرتبة منه الوجوب، ومرتبة منه الوجوب الأكيد، واُخرى آكد منهما... وهكذا، ومفهوم الوجوب يصدق عليها صدقاً مشكّكاً، لا أنّ كلّ وجوب ذو مراتب.

نعم، ينتزع من الوجوب الجواز بالمعنى الأعمّ والرجحان بمعناه، لا بمعنى وجودهما في ضمنه، بل بمعنى أنّ طبيعي الجواز والرجحان موجود بعين وجود الوجوب، فالوجوب هو الجواز والرجحان، ومع ذهابه يذهبان بعين ذهابه.

وثالثاً: لو فرضنا أنّ المنظور من الوجوب ومراتبه هو الإرادة المظهرة، فهي

ص: 68


1- مقالات الاُصول 1: 98 و311؛ نهاية الأفكار، القسم الأوّل 4: 167.
2- الحكمة المتعالية 1: 433؛ شرح المنظومة، قسم الحكمة 2: 105.

في الحيوان والإنسان وإن يتطرّق إليها الشدّة والضعف؛ لكونها من شؤون المادّة،

لكن لا يمكن ذلك في المبادئ العالية.

فالحقّ: عدم إمكان بقاء الجواز أو الرجحان - أي الاستحباب - مع رفع الوجوب.

المقام الثاني: في مقتضى الأدلّة إثباتاً بعد فرض إمكانه

والحقّ عدم دلالة شيء من الناسخ والمنسوخ عليه؛ لأنّ دليل الوجوب ليس له ظهورات حتّى يبقى بعضها مع سقوط بعض، بل البعث الإلزامي لا يكون له ظهور إلاّ في نفس البعث، ويفهم الإلزام من أمر آخر، كحكم العقلاء بكونه تمام الموضوع لوجوب الطاعة، إلاّ أن يقوم دليل على الترخيص، ولو فرض ظهوره في الوجوب وضعاً لا يكون له إلاّ ظهور واحد، فمع قيام الدليل على النسخ لا يبقى ظهور له.

ولو قيل: إنّ الطلب الإلزامي كما يكشف عن الإرادة الإلزامية يكشف عن الرجحان الفعلي وعن أصل الجواز، فإذا سقطت كاشفيته بالنسبة إلى الإلزام بقيت بالنسبة إلى غيره.

قلت أوّلاً: إنّ الطلب لا يكشف إلاّ عن الإرادة الحتمية، لكن العقل يحكم بأنّ الرجحان والجواز بمعناهما الأعمّ موجودان بوجوده، ومع سقوط كشفه عن الإرادة الحتمية لا يبقى منكشف ولا كاشف.

وثانياً: لو فرضنا كون المنكشف متعدّداً لكنّه طولي لا عرضي؛ لأنّ الطلب الإلزامي يكشف عن الإرادة الحتمية، وهي تكشف عن الرجحان والجواز، ومع الطولية لا يمكن بقاء الكاشفية.

ص: 69

بل لو فرض العرضية لم يمكن ذلك أيضاً؛ لأ نّه مع سقوط الكاشف لا مجال للكشف. نعم، لو كان في المقام كواشف فبسقوط أحدها لا يسقط الآخر، لكنّه كما ترى .

وبما ذكرنا سقط ما قيل: من أنّ القدر المتيقّن من دليل النسخ رفع خصوص الإلزام، وفيما عداه يؤخذ بدليل المنسوخ، نظير ما إذا ورد دليل ظاهر في الوجوب ودليل آخر على عدمه، فيجمع بينهما، ويؤخذ بظهور دليل الوجوب في مطلق الرجحان ويرفع اليد عن ظهوره في الإلزام، فليكن المقام كذلك(1).

ضرورة أنّ الجمع بين الأمر الظاهر في الوجوب والنصّ المرخّص في تركه - بحمل الأمر على الاستحباب - ليس أخذاً ببعض مراتب الظهور وترك بعض مراتبه، بل هو تحكيم النصّ على الظاهر وحمله على خلاف ظاهره. هذا لو فرضنا ظهور الأمر في الوجوب، وإلاّ فالكلام فيه غير ذلك.

وأمّا ما نحن فيه، فبعد العلم بأنّ الأمر للوجوب، والعلم برفع الوجوب، فلا مجال لبقاء الاستحباب، إلاّ إذا فرض مراتب للظهور، وهو بمكان من الفساد، فالقياس مع الفارق، والمقيس عليه ليس كما توهّم.

المقام الثالث: في استصحاب الجواز عند الشكّ في بقائه

لو فرض الشكّ في بقاء الجواز هل يمكن استصحابه ؟ بتقريب: أنّ طبيعي الجواز كان موجوداً بوجود الوجوب، ومع رفعه نشكّ في بقاء أصل الجواز مع مصداق آخر، فيستصحب.

ص: 70


1- بدائع الأفكار (تقريرات المحقّق العراقي) الآملي 1: 413.

قلت: الحقّ عدم جريانه هنا ولو سلّمنا جريانه في القسم الثالث من الكلّي؛ لأنّ من شرائط جريانه أن يكون المستصحب موضوعاً ذا أثر شرعي، أو حكماً مجعولاً كنفس الوجوب والاستحباب، والمقام ليس كذلك:

أمّا الأوّل: فواضح.

وأمّا الثاني: فلأنّ الجواز - الجامع بين الوجوب والجواز بالمعنى الأخصّ والاستحباب - ليس مجعولاً وحكماً شرعياً، بل الجعل إنّما تعلّق بكلّ منها، والعقل ينتزع من الجعل المتعلِّق بها الجواز بالمعنى الأعمّ، وهذا الأمر الانتزاعي ليس حكماً شرعياً ومجعولاً شرعاً، فلا مجال لاستصحابه.

ص: 71

الفصل التاسع في الواجب التخييري

اشارة

لا إشكال في وقوع ما هو بظاهره الواجب التخييري في الشرع والعرف، إنّما الكلام في إمكانه ثبوتاً حتّى يؤخذ بظاهر الأدلّة، أو عدمه حتّى يترك ظاهرها ويوجّه بنحو، كالالتزام بتعلّق التكليف بالجامع تعييناً وأنّ التخيير عقلي، أو تعلّقه بالجامع الانتزاعي، أو غيرهما.

مايمكن أن يقال في وجه الامتناع: أنّ الإرادة التكوينية لا يمكن أن تتعلّق بما هو مردّد واقعاً، فكذلك التشريعية. والسرّ في عدم الإمكان: أنّ الوجود - أيّ وجود كان - مساوق للتشخّص والتعيّن الواقعي، والتردّد النفس الأمري مضادّ للموجودية، فلا يمكن أن يكون وجود متردّداً واقعاً بين شيئين ترديداً بحسب نفس الأمر، سواء كان وجوداً خارجياً أو ذهنياً.

ولا إشكال في أنّ الإرادة - سواء كانت تكوينية أو تشريعية - من الأوصاف الحقيقية ذات الإضافة، ولا يمكن تحقّقها بلا إضافة إلى شيء، فلا بدّ من مضاف إليه موجود، فلا يعقل أن تكون الإرادة بحسب نفس الأمر مردّدة التعلّق،

ص: 72

ولا متعلّقها كذلك؛ للزوم أن يكون الموجود متردّداً واقعاً، وهو يرجع إلى التردّد

فيما هو بذاته متعيّن متشخّص.

وكذا الكلام في البعث؛ فإنّه يقع بلفظ - كهيئة الأمر - مضاف إلى شيء هو المبعوث إليه، فيكون لكلّ من آلة البعث ومتعلّقها وجود ذهناً أو خارجاً ممّا لا يمكن أن يتطرّق إليه الترديد الواقعي، فالواجب التخييري لازمه التردّد الواقعي في الإرادة التشريعية ومتعلّقها وفي البعث اللازم منه التردّد في آلته ومتعلّقه، وكلّ ذلك محال؛ لاستلزامه الإبهام الواقعي في المتشخّصات والمتعيّنات الواقعية(1).

وفيه: منع لزوم ما ذكر من الإبهام والتردّد الواقعي في شيء من المذكورات؛ لأنّ المولى إذا رأى أنّ في شيئين أو أشياء مصلحة ملزمة وافية كلٌّ منها بغرضه؛ بحيث يكون كلّ من الطرفين أو الأطراف محصّله، ولم يكن جامع بينها قابل لتعلّق الأمر به - على فرض لزوم الجامع على مبنى بعضهم - فلا محالة يتوسّل لتحصيل غرضه بهذا النحو بإرادة بعث متعلّق بهذا وإرادة بعث آخر متعلّق بذاك، مع تخلّل لفظة «أو» وما في معناها بينهما؛ لإفهام أنّ كلّ واحد منهما محصّل لغرضه، ولا يلزم الجمع بينهما.

فهاهنا إرادة متعلّقة بمراد، وبعث متعلّق بمبعوث إليه، كلّها معيّنات مشخّصات لا إبهام في شيءٍ منها، وإرادة اُخرى متعلّقة بمراد آخر، وبعث آخر إلى مبعوث إليه آخر، كلّها معيّنات مشخَّصات، وبتخلّل كلمة «أو» وما يرادفها

ص: 73


1- راجع نهاية الدراية 2: 271.

يرشد المأمور إلى ما هو مراده، وهو إتيان المأمور بهذا أو ذاك، وبالضرورة ليس في شيء من الإرادة والمراد وغيرهما إبهام بحسب الواقع ونفس الأمر.

وأنت إذا راجعت وجدانك في أوامرك التخييرية ترى أنّ الواقع هو ما ذكرنا، فلا تكون الإرادة في الواجب التعييني والتخييري سنخين، ولا البعث والواجب.

لكنّ الفرق بينهما بحسب الثبوت هو كون الواجب التعييني بنفسه محصّلاً للغرض ليس إلاّ، بخلاف التخييري، ويكون البعث في التعييني متعلّقاً بشيء بلا تعلّقه بشيء آخر، وفي التخييري يكون بعثان متعلّقان بشيئين مع تخلّلهما بما يفيد معنى التخيير في إتيانه.

ويمكن أن يكون كلّ من الطرفين في التخييري محصّلاً لغرض غير الآخر، لكن يكون حصول كلّ غرض هادماً لموضوع الآخر، فيتوسّل المولى إلى حصول غرضه بما ذكر.

ثمّ ليعلم: أنّ تقسيم الواجب إلى التعييني والتخييري كتقسيمه إلى النفسي والغيري، إنّما هو بلحاظ البعث المنتزع منه الوجوب، فحديث الأغراض والمصالح الواقعية ومحصّلها ولزوم صدور الواحد عن الواحد - على فرض صحّته في أمثال المقام - أجنبيّ عن محطّ التقسيم، فكما أنّ تقسيمه إلى النفسي والغيري لا ينافي كون الواجبات لمصالح واقعية كما تقدّم(1)، كذلك كون الجامع مؤثّراً في تحصيل الغرض الواحد لا ينافي تقسيمه إلى التعييني والتخييري، فتدبّر.

ص: 74


1- تقدّم في الجزء الأوّل: 305.

تنبيه : في التخيير بين الأقلّ والأكثر

اشارة

هل يمكن التخيير بين الأقلّ والأكثر أم لا ؟

محطّ البحث والإشكال إنّما هو في الأقلّ الذي اُخذ لا بشرط، وأمّا المأخوذ بشرط لا فهو من قبيل المتباين مع الأكثر، ولا إشكال في جوازه. فحينئذٍ نقول:

قد يقال بامتناعه: أمّا في التدريجيات: فللزوم تحصيل الحاصل. وأمّا في الدفعيات: فلأنّ الزائد يجوز تركه لا إلى بدل، وهو ينافي الوجوب. وبعبارة اُخرى: أنّ الزائد يكون من قبيل إلزام ما لا يلزم، وإيجابه بلا ملاك، وهو محال(1).

أقول: إنّ الأقلّ والأكثر قد يكونان من التدريجيات، وقد يكونان من الدفعيات، وعلى أيّ تقدير قد يكون كلّ منهما محصّلاً لغرض واحد وقد يكون كلّ محصّلاً لغرض غير الآخر، وعلى التقدير [الأخير] قد تكون بين الغرضين مزاحمة بحسب الوجود وقد لا تكون.

التخيير بين الأقلّ والأكثر في التدريجيات

لا إشكال في امتناع التخيير بينهما في التدريجيات؛ لأنّ الأقلّ يتحقّق دائماً قبل الأكثر فيستند إليه الأثر ويسقط الوجوب بوجوده، ولا يعقل إيجاب الأكثر الذي لا يمكن امتثاله.

ص: 75


1- نهاية الدراية 2: 273.

إن قلت: التخيير ممكن إذا كان الأقلّ والأكثر تحت طبيعة واحدة تكون بحسب الوجود مشكّكة، ويكون ما به الاشتراك بين الأفراد عين ما به الامتياز، كالخطّ القصير والطويل؛ لأنّ تعيّن الخطّ لفردية الطبيعة إنّما يكون إذا صار محدوداً، وأمّا مادام الاستمرار التدريجي فلا يتعيّن للفردية، بل كأ نّه مبهم قابل لكلّ تعيّن، فمحصّل الغرض إذا كان فرداً منها، [و]لا يصير القصير فرداً لها إلاّ إذا

صار محدوداً، فالفردان وإن تفاوتا بالأقلّية والأكثرية، لكن صيرورتهما فردين لها ومحصّلين للغرض لا تمكن إلاّ بتحقّق الفردية، وهي متقوّمة بالمحدودية بالحمل الشائع.

وكذا يمكن فيما إذا كانا محصّلين لعنوان آخر يكون ذلك العنوان محصّلاً للغرض، مثلاً: صلاة الحاضر والمسافر مع كونهما مختلفتين بالأقلّية والأكثرية، لكن يكون كلّ منهما محصّلاً لعنوان - كالتخشّع الخاصّ - يكون ذلك العنوان محصّلاً للغرض، ففي مثله يجوز التخيير بينهما(1).

قلت: نعم، هذا ما قرّره بعض سادة العصر - دام بقاه

- لكن فيه خلط نشأ من الخلط بين اللابشرطية والبشرط لائية؛ لأنّ الخطّ الذي لا يتعيّن بالمصداقية للطبيعة هو الخطّ المحدود بحدّ القِصر الذي هو بشرط لا، وأمّا نفس طبيعة الخطّ بمقدار الذراع مثلاً بلا شرط بالمحدودية وغيرها، فلا إشكال في تحقّقها إذا وصل الخطّ المتدرّج إلى مقدار الذراع وإن لم يتوقّف عند ذلك الحدّ؛ ضرورة أنّ الخطّ الموجود في الخارج لا يمكن أن لا تصدق عليه طبيعة الخطّ، وإذا

ص: 76


1- لمحات الاُصول: 152 - 153.

وصل إلى ذراع لا يمكن عدم موجودية الذراع اللا بشرط.

فما هو الموجود يصدق عليه طبيعة الذراع من الخطّ وإن لم يصدق عليه الخطّ المحدود، ومورد الكلام هو الأوّل؛ أي اللا بشرط المتحقّق مع المحدود وغيره.

فقوله: - لا يصير الفرد القصير فرداً لها إلاّ مع محدوديته - إن أراد به أنّ

اللا بشرط لا يتحقّق، فهو مدفوع بما ذكرنا.

وإن أراد أنّ المحدود بالقصر لا يتحقّق، فهو خارج عن محطّ البحث.

وممّا ذكرنا يتّضح النظر في الفرض الثاني؛ لأنّ الأقلّ اللا بشرط إذا وجد يكون محصّلاً للعنوان الذي هو محصّل للغرض، فلا يبقى مجال لتحصيل الأكثر ذلك العنوان المحصِّل له.

هذا كلّه في التدريجيات.

التخيير بين الأقلّ والأكثر في الدفعيات

وأمّا الدفعيات: فإن كان هنا غرض واحد يحصل بكلّ منهما، فلا يعقل التخيير بينهما أيضاً؛ لأنّ الغرض إذا حصل بنفس ذراع من الخطّ بلا شرط، كان التكليف بالزيادة بلا ملاك، فتعلّق الإرادة والبعث بها لغو ممتنع، ومجرّد وحدة وجود الأقلّ بلا شرط مع الأكثر خارجاً لا يدفع الامتناع بعد كون محطّ تعلّق الأمر هو الذهن [الذي هو] محلّ تجريد طبيعة المطلوب عن غيره من اللواحق الزائدة.

وإن كان لكلّ منهما غرض غير ما للآخر: فإن كان بين الغرضين تدافع في

ص: 77

الوجود لا يمكن اجتماعهما أو يكون اجتماعهما مبغوضاً للآمر، فلا يعقل التخيير أيضاً؛ لأنّ الأقلّ بلا شرط موجود مع الأكثر، فإذا وجدا دفعةً لا يمكن وجود أثريهما للتزاحم، أو يكون اجتماعهما مبغوضاً، فلا يعقل تعلّق الأمر بشيء لأجل غرض لا يمكن تحصيله أو يكون مبغوضاً.

وأمّا إذا كان الغرضان قابلين للاجتماع، ولا يكون اجتماعهما مبغوضاً وإن لم يكن مراداً أيضاً، فالتخيير بينهما جائز؛ لأنّ الأقلّ مشتمل على غرض مطلوب، والأكثر على غرض آخر مطلوب، فإذا وجد متعلّق الغرضين كان للمولى أن يختار منهما ما يشاء.

ص: 78

الفصل العاشر في الواجب العيني والكفائي

ينقسم الواجب إلى عيني وكفائي، وهذا ممّا لا إشكال فيه. إنّما الكلام في الفرق بينهما:

فقيل: لا فرق بينهما إلاّ في المكلّف به؛ فإنّ الكفائي متعلّقه نفس الطبيعة، والعيني [الطبيعة] مقيّدةً بمباشرة كلّ مكلّف بالخصوص(1).

وقيل: إنّ الفرق في المكلّف - بالفتح - فإنّه في العيني كلّ الآحاد مستغرقاً، وفي الكفائي صرف وجود المكلّف(2).

والتحقيق: أنّ للكفائي صوراً:

منها: ما لا يمكن له إلاّ فرد واحد، كقتل المرتدّ.

ومنها: ما يمكن، وحينئذٍ: تارةً: يكون المطلوب فيه فرداً من الطبيعة، واُخرى: يكون صرف وجودها.

ص: 79


1- لمحات الاُصول: 155.
2- أجود التقريرات 1: 271.

فعلى الأوّل: إمّا أن يكون الفرد الآخر مبغوضاً، أو لا يكون مبغوضاً ولا مطلوباً.

لا يمكن أن يكون المكلّف جميع المكلّفين في الصورة الاُولى؛ فإنّ التكليف المطلق لهم في عرض واحد بالنسبة إلى ما لا يمكن فيه كثرة التحقّق لغرض انبعاثهم، ممّا لا يمكن. وهذا واضح.

وكذا الحال في الثانية والثالثة؛ فإنّ انبعاثهم وإن كان ممكناً، لكن مع مبغوضية الزائد من الفرد الواحد أو عدم مطلوبيته، لا يمكن بعثهم إليه؛ لأدائه إلى البعث إلى المبغوض في الاُولى، وإلى غير المطلوب في الثانية.

وأمّا الصورة الرابعة: فلازم بعثهم إليه بنحو الإطلاق هو اجتماعهم في إيجاد الصرف، وكون المتخلّف عاصياً.

وممّا ذكرنا يظهر: أنّ التكليف بصرف وجود المكلّف غير جائز في بعض الصور، فلا بدّ من القول بتعلّق التكليف فيه بفرد من المكلّفين بشرط لا في بعض الصور، ولا بشرط في الاُخرى.

وما قيل: - من أنّ الفرد الغير المعيّن لا وجود له(1) - حقّ لو قيّد بعنوان غير المعيّن، وأمّا عنوان فرد من المكلّفين فممّا له وجود في الخارج؛ فإنّ كلّ واحد منهم مصداقه، ومع ذلك لا يلزم بعث الجميع في عرض واحد؛ حتّى يلزم المحذور المتقدّم.

وكذا يجوز التكليف بالفرد المردّد بنحو التخيير، كالتخيير في المكلّف به.

ص: 80


1- نهاية الدراية 2: 271 و277، الهامش 2.

وما قيل: من أنّ المردّد لا وجود له ولا يجوز البعث التخييري(1)، لا يصغى إليه؛ ضرورة صحّة التكليف التخييري بين الفردين فصاعداً، ولم يكن عنوان الترديد قيداً؛ حتّى يقال: لا وجود له، والإشكال العقلي في الواجب التخييري مرّ دفعه(2).

ويمكن في بعض الصور أن يكون المكلّف به صرف الوجود، وكذا المكلّف، ولازمه عصيان الجميع مع الترك، وإطاعتهم مع إتيانهم عرضاً، والسقوط عن الغير مع إتيان البعض.

ص: 81


1- نهاية الدراية 2: 271 - 273.
2- تقدّم في الصفحة 73.

الفصل الحادي عشر في الواجب المطلق والموقّت

اشارة

وينقسم الواجب إلى المطلق والموقّت؛ لأنّ الزمان: إمّا غير دخيل في المتعلّق ويكون المأمور به نفس الطبيعة، وإمّا دخيل، وهو يتصوّر على وجهين؛ فإنّ الغرض: إمّا يحصل من وقوع الطبيعة في الزمان مطلقاً، أو في زمان معيّن، فالأوّل منهما لا يكون موقّتاً وإن كان للزمان دخالة في حصول الغرض، لكن لا يلزم بل لا يجوز للمولى توقيت المتعلّق؛ للزوم اللغوية، فالموقّت ما عيّن له وقت، والمطلق بخلافه.

ثمّ إنّ تقسيم الموقّت إلى الموسّع والمضيّق ممّا لا إشكال فيه.

والإشكال في الموسّع: بأنّ لازمه ترك الواجب في أوّل وقته بلا بدل، وهو ينافي الوجوب(1).

مدفوع: بأنّ ترك الواجب الموسّع، بتركه في تمام الوقت، وأمّا تركه في بعض الوقت فلا ينافي وجوبه.

ص: 82


1- اُنظر معالم الدين: 73؛ قوانين الاُصول 1: 118 / السطر 5.

وفي المضيّق: بأنّ الانبعاث لا بدّ وأن يكون متأخّراً عن البعث، فلا بدّ من فرض زمان يسع البعث والانبعاث، ولازمه زيادة زمان الوجوب على زمان الواجب(1).

مدفوع أوّلاً: بأنّ الانبعاث لا يلزم أن يتأخّر زماناً عن البعث، بل تأخّره عنه طبعي، لا زماني.

وثانياً: لو فرض لزوم تأخّره زماناً أمكن تصوّر المضيّق بنحو الوجوب التعليقي، فيكون البعث قبل زمان الواجب.

ثمّ إنّه لا إشكال في أنّ التخيير في الواجب الموسّع بين الأفراد الطولية يكون عقلياً، ولا يمكن التخيير الشرعي؛ لأنّ ما هو دخيل في تحصيل الغرض في الموسّع هو حصول الطبيعة بين المبدأ والمنتهى، فلا بدّ وأن يتعلّق الأمر بما هو محصّل للغرض، ولايجوز تعلّقه بالزائد، فتعلّق الأمر بالخصوصيات لغو جزاف.

ومن هنا يعلم: أ نّه لا يتضيّق بتضييق وقته؛ لأنّ الأمر المتعلّق بطبيعة لا يمكن أن يتخلّف إلى موضوع آخر، فالواجب لا يخرج عن كونه موسّعاً بتضييق وقته، وإن حكم العقل بلزوم إتيانه في آخر الوقت.

تتميم: في عدم كون القضاء بالأمر الأوّل

لا دلالة للأمر بالموقّت على وجوب الإتيان في خارج الوقت، كما أنّ الأمر كذلك في سائر التقييدات؛ لأنّ كلّ أمر لا يدعو إلاّ إلى متعلّقه، فبعد خروج

ص: 83


1- اُنظر أجود التقريرات 1: 275.

الوقت لا داعوية للأمر؛ لأنّ الدعوة إلى الموقّت بعد خروج الوقت محال؛ لامتناع إتيانه، وإلى غير الموقّت كذلك؛ لعدم كونه متعلّقاً له، ودعوة الأمر إلى الطبيعة في ضمن المقيّد لا توجب دعوته إليها مطلقاً ولو مع [الخلوّ عن] القيد.

وأمّا التفصيل الذي أفاده المحقّق الخراساني - من أنّ التوقيت إذا كان بدليل منفصل لم يكن له إطلاق على التقييد بالوقت، وكان لدليل الواجب إطلاق يؤخذ بإطلاقه ويتقيّد بمقدار المتيقّن(1) - فخروج عن محطّ البحث؛ فإنّ محطّه هو دلالة الموقّت بعد كونه موقّتاً.

ثمّ إنّه لو شككنا بعد الوقت في وجوب الطبيعة، فلا مجال للاستصحاب؛ لعدم وحدة القضيّة المتيقّنة والمشكوك فيها، وذلك لأنّ العناوين الكلّية كلّها مختلفة مع الآخر - مطلقها ومقيّدها، ومقيّدها مع مقيّد آخر أو مجرّد عنه - فالرقبة عنوان، والرقبة المؤمنة عنوان آخر، والصلاة الموقّتة غير نفس الصلاة وغير الصلاة الغير الموقّتة؛ فالقضيّة المتيقّنة هي وجوب الصلاة الموقّتة، والمشكوك فيها هي نفس الصلاة أو الصلاة خارج الوقت، فإسراء الحكم من المتقيّدة إلى [الخالية من القيد] في القضايا الكلّية إسراء من موضوع إلى موضوع آخر.

لا يقال: إنّ المقيّد إذا وجب ينسب الوجوب إلى المهملة، فتكون نفس الطبيعة واجبة، فشكَّ في بقائه.

ص: 84


1- كفاية الاُصول: 178.

فإنّه يقال: متعلّق الوجوب إذا كان مقيّداً أو مركّباً يكون واحداً لوجوب واحد، فالواجب هو المقيّد بما هو كذلك، وليس للمهملة وجوب حتّى يستصحب.

وما قيل من الوجوب الضمني(1) فلا أصل له، ولا ينحلّ الوجوب إلى وجوب متعلّق بنفس الطبيعة ووجوب متعلّق بقيدها كما اشتهر في الألسن، فالمتيقّن هو وجوب المقيّد، وهو ليس بمشكوك فيه، فلا يجري الاستصحاب.

ص: 85


1- أجود التقريرات 1: 349؛ نهاية الأفكار 3: 376.

ص: 86

المقصد الثاني في النواهي وفيه فصول:

اشارة

ص: 87

ص: 88

الفصل الأوّل في مفاد هيئة النهي

متعلّق الطلب في النهي

ذهب المحقّق الخراساني إلى أنّ النهي كالأمر في دلالته على الطلب، إلاّ أنّ

متعلّق الطلب فيه العدم(1).

والتحقيق: امتناع ذلك ثبوتاً ومخالفته للظواهر إثباتاً؛ ضرورة أنّ العدم ليس بشيء، ولا يمكن أن يكون ذا مصلحة تتعلّق به إرادة واشتياق ولا بعث وتحريك وطلب.

وما قيل: من أنّ للأعدام المضافة حظّاً من الوجود(2)، ليس على ما ينبغي.

وما يتوهّم: من تعلّق الطلب ببعض الأعدام وجداناً، خطاء لدى التفتيش، فليس للعدم شيئية، ولا يمكن أن يتّصف بصفة، وأن يصير متعلّقاً لشيء. نعم قد يكون وجود شيء مبغوضاً لفساد فيه، فتنسب المحبوبية إلى عدمه عرضاً بعد تصوّره بالحمل الأوّلي.

ص: 89


1- كفاية الاُصول: 182.
2- الحكمة المتعالية 1: 345 - 352؛ شرح المنظومة، قسم الحكمة 2: 192.

هذا، مع أنّ النهي كالأمر ينحلّ إلى مادّة وهيئة، والمادّة نفس الماهية كمادّة الأمر، ومفاد الهيئة هو الزجر عنها أو عن وجودها بالمعنى الحرفي، كما سبق في الأمر، فالبعث والزجر متعلّقان بالماهية، وليس في النهي ما يدلّ على العدم لا اسماً ولا حرفاً، فقوله: «لا تضرب» كمرادفه في الفارسية «نزن» ليس مفاده عرفاً وتبادراً إلاّ ما ذكر، مع أ نّه لو صرّح بطلب العدم لا بدّ من تأويله؛ لما تقدّم.

وبما ذكرنا - من أنّ متعلّق النهي كالأمر هو الماهية أو وجودها، وأنّ النهي زجر لا طلب - يسقط النزاع في أنّ متعلّق الطلب فيه الكفّ أو نفس أن لا تفعل.

دلالة النهي على التكرار

ثمّ إنّه لا إشكال في أنّ مقتضى النهي لدى العرف والعقلاء يخالف مقتضى الأمر(1)؛ بأنّ الأمر إذا تعلّق بطبيعة يسقط بأوّل مصداقها، بخلاف النهي؛ فإنّ مقتضاه ترك جميع الأفراد، فهل ذلك من ناحية اللغة، أو حكم العقل، أو العرف ؟

ذهب المحقّق الخراساني إلى أنّ مقتضى العقل أنّ الطبيعي يوجد بوجود فردٍ ما، وينعدم بعدم جميع الأفراد(2).

وفيه منع؛ فإنّ مقتضى وجود الطبيعي بوجود فردٍ ما هو تكثّر الطبيعي بكثرة

ص: 90


1- تعرّض له الأراكي في المرّة والتكرارأ. [منه قدّس سرّه ] أ - مقالات الاُصول 1: 251؛ بدائع الأفكار (تقريرات المحقّق العراقي) الآملي 1: 255.
2- كفاية الاُصول: 182 - 183.

الأفراد، فيكون له وجودات، ومعه لا يعقل أن يكون له عدم واحد؛ لأنّ لكلّ وجود عدماً بديله، فإذا عدم الفرد عدم الطبيعي بعدمه، فيكون الطبيعي موجوداً ومعدوماً، وذلك جائز في الواحد النوعي.

هذا حكم العقل.

وأمّا اللغة: فلا دلالة وضعاً للنهي بمادّته وهيئته عليه؛ ضرورة أنّ ما تعلّقت

به هيئة الأمر عين ما تعلّقت به هيئة النهي، وهو نفس الطبيعة لا بشرط، والهيئة لا تدلّ إلاّ على الزجر مقابل البعث، وليس للمجموع وضع على حدة.

نعم، الظاهر أنّ ذلك حكم العرف؛ لأنّ الطبيعة لدى العرف العامّ توجد بوجود فرد، وتنعدم بعدم جميع الأفراد، و[عليه] تحمل المحاورات العرفية، فإذا تعلّق نهي بطبيعة، يكون حكمه العقلائي أنّ امتثاله بترك جميع الأفراد.

لكن لازم ذلك أن يكون للنهي امتثال واحد ومعصية واحدة؛ لعدم انحلاله إلى النواهي، مع أنّ العرف لا يساعد عليه كما ترى أ نّه لو خولف يرى العرف أنّ النهي بحاله.

ويمكن أن يقال: إنّ الانحلال إلى النواهي أيضاً من الأحكام العرفية، وهو قريب.

وقد يقال: إنّ المُنشأ حقيقةً ليس شخص الطلب المتعلّق بعدم الطبيعة كذلك، بل سنخه الذي لازمه تعلّق كلّ فرد من الطلب بفرد من طبيعة العدم عقلاً؛ بمعنى أنّ المولى ينشئ النهي بداعي المنع نوعاً عن الطبيعة بحدّها الذي لازمه إبقاء العدم بحدّه على حاله، فتعلّق كلّ فرد من الطلب بفرد من العدم - تارةً بلحاظ الحاكم واُخرى بحكم العقل - لأجل جعل الملازمة بين

ص: 91

سنخ الطلب وطبيعي العدم بحدّه(1)، انتهى.

وفيه: - بعد الغضّ عن أنّ النهي ليس طلباً، والمتعلّق ليس عدماً - أنّ ما يدّعي من إنشاء سنخ الطلب إن كان لأجل اتّحاد السنخ والطبيعي مع الشخص، فبجعله يصير مجعولاً، ففيه: أ نّه لا يفيد؛ لأنّ الطبيعي في الخارج ليس إلاّ الفرد، فلا يكون قابلاً للانحلال.

وإن كان لأجل جعل طبيعي الطلب القابل للكثرة ملازماً لطبيعي العدم؛ بحيث يصير قابلاً للانحلال، ففيه: أنّ هذا يحتاج إلى لحاظ غير إنشاء الطلب، ويحتاج إلى قرينة تجوّز.

ومع الالتزام به فالأهون ما ذهب إليه بعض الأعاظم(2): من الالتزام بالعموم الاستغراقي في جانب المتعلّق؛ حتّى ينحلّ النهي بتبعه، وإن كان خلاف التحقيق؛ لعدم استعمال المادّة في الأفراد وجداناً، كما لم تستعمل الهيئة في الطبيعي على ما ادّعاه المدّعي.

وقد يقال: إنّ النهي لمّا تعلّق بالطبيعة بلا شرط، ويكون مفاده الزجر لا الطلب، فلازمه العرفي ترك جميع الأفراد كما تقدّم، وكذا عدم سقوطه بالمعصية؛ لأنّ السقوط أينما كان إنّما هو لأجل حصول تمام المطلوب، ففي الأمر لمّا كان تمام المطلوب هو نفس الطبيعة لا بدّ من سقوطه بحصولها؛ لحصول تمام المطلوب، وأمّا النهي فلا معنى لسقوطه، لا بترك المنهيّ عنه في زمان، ولا بمخالفته:

ص: 92


1- نهاية الدراية 2: 291.
2- فوائد الاُصول ((تقريرات المحقّق النائيني)) الكاظمي 1: 395.

أمّا في جانب الترك: فلأنّ إطاعة النهي، بترك جميع الأفراد مطلقاً بعد إطلاق الطبيعة وكونها لا بشرط.

وأمّا في ناحية المخالفة: فلأ نّها لا يعقل أن تكون مسقطة، إلاّ أن تتقيّد الطبيعة

بأوّل فرد، ويكون المنهيّ عنه ذلك؛ فإنّ لازمه سقوط النهي لأجل عدم الموضوع، فالسقوط لا يكون في شيء من الموارد - حتّى في الأوامر - بالمخالفة، ولا بالموافقة بما هي، بل بحصول تمام المطلوب، فمخالفة المنهيّ عنه في زمان لا توجب سقوط النهي بعد مبغوضية نفس الطبيعة بنحو الإطلاق.

وبعبارة اُخرى: إنّ لازم مبغوضية الطبيعة بلا شرط هو مبغوضيتها أينما تحقّقت، ونتيجة ذلك هو العموم الاستغراقي وإن لم يكن نفسه(1).

وفيه: أنّ ذلك دعوى فهم العرف، وهو مسلّم، ولكنّ المنظور سرّ ذلك.

وما ذكر من أنّ الافتراق لأجل كون مفاد النهي هو الزجر والمنع لا الطلب، مدفوع: بأنّ المولى لو صرّح بطلب ترك شرب الخمر كان الحكم العقلائي والعرفي عيناً كالزجر عن الشرب، بل لو فرض تعلّق الزجر بصرف الوجود - أي ناقض العدم - لسقط النهي مع العصيان، لانتهاء اقتضائه، كما لو نهاه عن ذكر اسمه في الملأ لغرض عدم معروفيته، فمع ذكره يسقط؛ لا لأجل تعلّقه بأوّل الوجود كما اُفيد، بل لأجل تعلّقه بصرف الوجود.

فالأولى أن يتشبّث في مثل المقام بذيل فهم العرف ولو مع عدم كشف سرّه.

ص: 93


1- لمحات الاُصول: 170 - 171.

الفصل الثاني في جواز اجتماع الأمر والنهي

اشارة

اختلفوا في جواز اجتماع الأمر والنهي وعدمه على أقوال، وقبل الخوض في المقصود لا بدّ من تقديم اُمور:

الأمر الأوّل: في تحرير محلّ النزاع

محطّ البحث في الباب هو أ نّه هل يجوز تعلّق الأمر والنهي بعنوانين متصادقين على واحد ؟

فحينئذٍ يكون المراد بالواحد هو الواحد الشخصي؛ لأ نّه الذي تتصادق عليه العناوين، وأمّا الواحد الجنسي فلا تتصادق عليه، بل يكون جنساً لها، مع أنّ النزاع في الواحد الجنسي مع قطع النظر عن التصادق على الواحد الشخصي ممّا لا معنى له؛ ضرورة أنّ الحركة في ضمن الصلاة يمكن أن يتعلّق بها الأمر، وفي ضمن الغصب أن يتعلّق بها النهي مع قطع النظر عن تصادقهما خارجاً على الواحد الشخصي، ومعه يكون محطّ البحث هو ما ذكرنا؛ لأ نّه المنشأ لقول الامتناعي.

ص: 94

وممّا ذكرنا يتّضح: أنّ الأولى في عقد البحث أن يقال: هل يجوز اجتماع الأمر والنهي على عنوانين متصادقين على واحد، أو لا ؟ ويكون حينئذٍ النزاع كبروياً، لا صغروياً كما زعموا(1).

وأمّا إبقاء العنوان على ظاهره فممّا لا يمكن، سواء اُريد ب «الواحد» الشخصي، أو الجنسي، أو الأعمّ؛ أمّا الجنسي فلما عرفت، وأمّا الشخصي فلأنّ الأمر والنهي لا يتعلّقان به؛ لأنّ الخارج لا يمكن أن يكون ظرف ثبوت التكاليف، فاجتماع الأمر والنهي فيه ممّا لا معنى له.

الأمر الثاني: في الفرق بين المقام وبين النهي في العبادة

بناءً على ما ذكرنا - من عقد البحث - يكون الفرق بينه وبين النهي في العبادة

في غاية الوضوح؛ لاختلاف موضوعهما ومحمولهما، واختلاف المسائل إنّما هو بهما أو بأحدهما؛ لأنّ ذات المسائل متقوّمة بهما، والاختلاف بالذاتي هو المميّز بين الشيئين في المرتبة المتقدّمة على الاختلاف بالعرضي، فضلاً عن الاختلاف بالأغراض، والجهات التعليلية - على فرض رجوعها إلى التقييدية عقلاً - متأخّرة عن مقام الذات، فيكون الاختلاف بالذات مميّزاً قبلها.

وأمّا ما أفاد المحقّق الخراساني: من أنّ الاختلاف بالجهة المبحوث عنها - وهي تعدّد الوجه في الواحد - يوجب تعدّد المتعلّق أو لا(2) ؟

ص: 95


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 396 - 397؛ نهاية الأفكار 1: 408 - 409؛ درر الفوائد، المحقّق الحائري: 151.
2- كفاية الاُصول: 184.

ففيه: أنّ الجهة المبحوث عنها ليس ما ذكر كما تقدّم، فلا وجه للعدول عن جواز الاجتماع ولا جوازه إلى شيء آخر هو من مبادئ إثبات المحمول للموضوع وبرهان المسألة، حتّى يلجأ إلى إرجاع البحث من الكبروية إلى الصغروية، ويحتاج إلى التكلّفات الباردة. هذا إذا أراد بالجهة المبحوث عنها محطّ البحث ومورد النزاع، كما هو الظاهر.

وإن أراد علل ثبوت المحمول للموضوع أو الغاية للبحث، فلا إشكال في أنّ اختلاف المسائل ليس بهما كما تقدّم.

الأمر الثالث: في اُصولية مسألة جواز الاجتماع

إنّ المسألة بما هي معنونة - أي جواز الاجتماع - لا يمكن أن تكون فقهية، وذلك واضح، وتغييرها إلى قضيّة اُخرى - أي صحّة الصلاة في الدار المغصوبة - غير مربوطة بهذه المسألة، ممّا لا وجه له.

وكذا لا تكون كلامية؛ [لأ نّه ليس كلّ مسألةٍ عقليةٍ] كلاميةً، وإلاّ كانت مسائل المنطق وكلّيات الطبّ كلامية، وتغييرها إلى الحسن والقبح [بالنسبة له] تعالى قد عرفت حاله.

وليست من المبادئ التصديقية؛ لأ نّها البراهين القائمة في كلّ فنّ لإثبات المحمولات للموضوعات أو نفيها [عنها] أو لإثبات وجود الموضوعات على إشكال في الأخير، وهذه المسألة ليست كذلك.

وما يظهر من بعض الأعاظم: من كونها من المبادئ التصديقية؛ لرجوع البحث فيها إلى البحث عمّا يقتضي وجود الموضوع لمسألة التعارض

ص: 96

والتزاحم(1)، ليس على ما ينبغي؛ لأنّ كون بحثٍ محقّقاً لموضوع بحث آخر لا يوجب أن يكون من المبادئ التصديقية، وبراهين إثبات وجود الموضوع لو سلّم كونها من المبادئ، غير علل وجوده، والله تعالى علّه وجود الموضوعات ومحقّقها، وليس من المبادئ التصديقية لشيء من العلوم، مع أنّ في كون المسألة محقّقة لوجود الموضوع لمسألة التعارض كلاماً وإشكالاً سيأتي في خلال المباحث الآتية التعرّض له(2).

فالتحقيق: أنّ المسألة - بما حرّرناها - اُصولية؛ لصحّة وقوعها في طريق الاستنباط، وإن جعلنا موضوع علم الاُصول الحجّة في الفقه؛ لأنّ جعل موضوعه كذلك لا يستلزم البحث عن عوارض العنوان بالحمل الأوّلي، بل المراد من كون مسألة حجّة في الفقه أ نّها حجّة بالحمل الشائع؛ أي يستنتج منها نتيجة فقهية، وهي كذلك.

الأمر الرابع: في اعتبار قيد المندوحة

لا إشكال في عدم اعتبار قيد «المندوحة» بناءً على كون البحث صغروياً، وأنّ الجهة المبحوث عنها هي أنّ تعدّد الوجه يرفع غائلة اجتماع الضدّين أو لا؛ فإنّ البحث حينئذٍ يصير جهتياً، والبحث من هذه الحيثية لا يتوقّف على قيدها.

وأمّا على ما حرّرناه من كبروية النزاع، وأنّ محطّ البحث هو جواز اجتماع

ص: 97


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 400.
2- يأتي في الصفحة 100 - 102.

الأمر والنهي على عنوانين متصادقين على موضوع واحد، فقد يقال: إنّ قيد «المندوحة» معتبر؛ لأنّ النزاع في اجتماع الحكمين الفعليين لا الإنشائيين؛ ضرورة عدم التنافي في الإنشائيات، فمحطّ البحث جواز اجتماع الفعليين وامتناعه، كان الامتناع لأجل التكليف المحال أو التكليف بالمحال، ومع عدم المندوحة لا ريب في كون التكليف بهما تكليفاً بالمحال.

هذا، لكن لأحد أن يقول: إنّه إن اُريد بقيد «المندوحة» حصول المندوحة لكلّ واحد من المكلّفين فهو غير لازم؛ لأنّ الكلام في جواز تعلّق الحكمين الفعليين بعنوانين، ولا يتوقّف ذلك على المندوحة لكلّ واحد منهم؛ فإنّ الأحكام المتعلّقة بالعناوين لا تنحلّ إلى إنشاءات كثيرة ومجعولات متعدّدة حسب تعدّد المكلّفين كما سبق في بعض المباحث السالفة(1)، فالحكم الفعلي بالمعنى المتقدّم فعلي على عنوانه وإن كان بعض المكلّفين معذوراً في امتثاله وإتيانه لعجز أو جهل أو ابتلاء الحكم بمزاحم أقوى.

وإن اُريد بقيد «المندوحة» كون العنوانين ممّا ينفكّان بحسب المصداق وإن لم يكن كذلك بحسب حال بعض المكلّفين؛ أي لم يكن عنوان المأمور به ملازماً للمنهيّ عنه، فاعتبار «المندوحة» لازم البحث من غير احتياج إلى التقييد به؛ فإنّ تعلّق الحكم الفعلي بعنوان ملازم للمنهيّ عنه فعلاً ممّا لا يمكن؛ للغوية الجعل على العنوانين، بل لا بدّ للجاعل من ملاحظة ترجيح أحد الحكمين على الآخر، أو الحكم بالتخيير مع عدم الرجحان.

فتقييد العنوان بالمندوحة غير لازم على التقديرين.

ص: 98


1- تقدّم في الصفحة 18 - 20.
الأمر الخامس: في عدم ابتناء النزاع على تعلّق الأحكام بالطبائع

الظاهر أنّ النزاع لا يبتني على تعلّق الأمر والنهي بالطبائع، بل يجري في بعض فروض تعلّقهما بالأفراد.

كأن يراد بتعلّقهما بها تعلّقهما بالعنوان الإجمالي منها؛ بأن يقال: معنى «صلّ» أوجد فرد الصلاة، فيكون عنوان فرد الصلاة غير عنوان فرد الغصب، فيجري النزاع فيهما.

أو يراد به تعلّقهما بالطبيعة الملازمة للعناوين المشخّصة، أو أمارات التشخّص، كطبيعي الأين، والمتى، والوضع، وهكذا، فيجري النزاع لاختلاف العنوانين.

أو يراد به تعلّقهما بعنوان وجودات الصلاة والغصب في مقابل الوجود السعي؛ فإنّه لا يخرج به عن العنوانين المختلفين.

نعم، لو اُريد من الفرد هو الخارجي منه فلا إشكال في عدم جريانه فيه، لكنّه بديهي البطلان، وإن يظهر من بعضهم أ نّه مراد القائل به(1).

وكذا لو اُريد به الطبيعة مع كلّ ما يلازمها ويقارنها حتّى الاتّفاقيات منها، كما قيل: إنّ الأمر متعلّق بالصلاة المقارنة لكلّ ما يشخّصها ويقارنها حتّى وقوعها في محلّ مغصوب، واُخذت هذه العناوين في الموضوع، فلا يجري النزاع فيه أيضاً، لكنّه بمكان من الفساد.

ص: 99


1- لمحات الاُصول: 177.

فتحصّل: أنّ النزاع جارٍ على القول بتعلّقهما بالأفراد على الفروض التي تصحّ أن تكون محلّ النزاع.

الأمر السادس: في عدم ابتناء النزاع على إحراز المناط

لا إشكال في عدم ابتناء النزاع على إحراز المناط في متعلّقي الإيجاب والتحريم، سواء حرّر محلّ النزاع بما اختاره المحقّق الخراساني(1) وهو واضح؛ لأنّ النزاع حيثي، أو كما حرّرناه؛ لأنّ النزاع في إمكان تعلّق الحكمين بعنوانين كذائيين لا في وقوعه، ولا يبتني هذا النزاع الكبروي على إحراز المناط.

والظاهر: أنّ مراد المحقّق الخراساني ممّا أفاد في الأمر الثامن والتاسع ليس ذلك، ولعلّ مراده التفرقة بين ما كان من باب اجتماع الأمر والنهي واقعاً وبين ما كان من باب التعارض؛ دفعاً لإشكال ربما يرد على القوم، وهو أ نّهم عنونوا مسألة جواز الاجتماع ومثّلوا له بالعامّين من وجه، واختار جمع الجواز وأ نّه لا تعارض بين الأمر والنهي في محلّ التصادق، وفي باب تعارض الأدلّة جعلوا تعارض العامّين من وجه أحد وجوه التعارض، ولم يجمع بينهما أحد بجواز الاجتماع.

فأجاب عنه: بأنّ الميزان الكلّي في باب الاجتماع هو إحراز المناطين حتّى في مورد التصادق، فكلّما كان هناك دلالة على ثبوت المقتضي في الحكمين

ص: 100


1- كفاية الاُصول: 184.

كان من مسألة الاجتماع، وإلاّ فهو من باب التعارض(1).

وأنت خبير: بأنّ موضوع باب التعارض هو الخبران المختلفان، والمناط في الاختلاف هو الفهم العرفي، والجمع هناك عرفي لا عقلي؛ بخلافه هاهنا، فإنّ المسألة عقلية صرفة، فلا ربط بين البابين رأساً.

فما ادّعى من المناط غير تامّ طرداً وعكساً؛ لأنّ الخبرين إذا كانا مختلفين عرفاً ولم يكن بينهما جمع عرفي، يندرجان تحت أخبار التعارض، ولا بدّ من معاملة التعارض بينهما مطلقاً، والجمع العقلي في باب الاجتماع ليس من وجوه الجمع في باب التعارض.

والسرّ فيه: أنّ رحى باب التعارض تدور على العمل بالأخبار الواردة فيه، وموضوعها مأخوذ من العرف، كموضوع سائر ما ورد في الكتاب والسنّة، فكلّما يحكم العرف باختلاف الخبرين وتعارضهما يعمل بالمرجّحات، وكلّما يحكم بعدمه لأجل الجمع العرفي أو عدم التناسب بين الدليلين لا يكون من بابه، فقوله: «صلّ» و«لا تغصب» غير متعارضين عرفاً؛ لأنّ الحكم على العنوانين، وهما غير مرتبطين، فليس بينهما اختلاف عرفاً ولو لم نحرز المناطين، كما أنّ قوله: «أكرم كلّ عالم» معارض عرفاً - في الجملة - لقوله: «لا تكرم الفسّاق»؛ بناءً على كون العامّين من وجه من وجوه التعارض؛ لأ نّهما يدلاّن على إكرام المجمع وعدم إكرامه؛ لأنّ الحكم فيهما على الأفراد، وليس بينهما جمع عرفي ولو فرض حصول المناطين في مورد الاجتماع وقلنا بجواز الاجتماع حتّى في مثله.

ص: 101


1- كفاية الاُصول: 189 - 190.

وبالجملة: الجمع والتعارض في باب تعارض الأدلّة عرفيان لا عقليان، فجمع باب الاجتماع الذي هو بحكم البرهان العقلي غير مربوط به، كما أنّ التزاحم في نظر العقل لا ينافي التعارض العرفي المناط في بابه، فلا تغفل.

وممّا ذكرنا يظهر النظر فيما قال بعض الأعاظم: من أنّ هذه المسألة محقّقة لموضوع مسألة التعارض(1)؛ لما عرفت من أ نّها أجنبيّة عن تلك المسألة، كما

يظهر النظر فيما ادّعى: - من أنّ المائز بين البابين: أنّ التركيب في باب الاجتماع

انضمامي، وفي باب التعارض اتّحادي(2) - فإنّه لا يرجع إلى محصّل لو لم يرجع إلى ما ذكرنا.

الأمر السابع: في ثمرة النزاع على القول بالجواز

قد يقال: إنّه لا ملازمة بين القول بالجواز والقول بصحّة العبادة مع الإتيان بالمجمع؛ لوجود ملاك آخر للبطلان في بعض الموارد، كالصلاة في الدار المغصوبة؛ لأنّ التصرّف في مال الغير بلا إذنه في الخارج عين الحركة الصلاتية، والمبعّد عن ساحة المولى لا يمكن أن يكون مقرّباً، نعم مع جهله بالموضوع أو الحكم قصوراً تصحّ صلاته بلا إشكال.

والمعيار الكلّي في الحكم بالصحّة والفساد: هو أ نّه كلّما كانت الخصوصية العبادية في المصداق غير الخصوصية المحرّمة وجوداً وإن جمعهما موضوع واحد تصحّ العبادة من غير إشكال؛ لأنّ المكلّف يتقرّب بالجهة المحسّنة،

ص: 102


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 400.
2- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 427 - 428.

وليست فيها جهة مقبّحة على الفرض وإن قارنتها ولازمتها؛ لأ نّهما لا يضرّان

بعباديتها، وكلّما كان العنوانان موجودين بوجود واحد وخصوصية فاردة، لا يمكن التقرّب به وإن جاز الاجتماع؛ فإنّ التقرّب بما هو مبعّد فعلاً غير ممكن(1).

هذا، لكن سيأتي تحقيق المقام(2)، فانتظر.

وقد يقال - في الصلاة في الدار المغصوبة - : إنّها من قبيل الفرض الأوّل، وإنّ الحركة الصلاتية غير الحركة الغصبية خارجاً؛ لأنّ الغصب من مقولة الأين، والصلاة من مقولة الوضع وإن قلنا بأنّ الركوع - مثلاً - هو فعل المكلّف ويكون الهويّ إليه داخلاً في الصلاة؛ فإنّ الهويّ عبارة عن أوضاع متلاصقة، والمقولات متباينات وبسائط، يكون ما به الامتياز فيها عين ما به الاشتراك، وإنّ الحركة لم تكن من المقولات، بل هي مع كلّ مقولة عينها، ولم تكن الحركة جنساً للمقولتين، وإلاّ يلزم تفصّل الواحد بالفصلين المتباينين في عرض واحد، ويلزم التركيب فيهما، ولا معروضاً لهما، وإلاّ يلزم قيام العرض بالعرض، وهو محال.

فالحركة الغصبية تكون من مقولة متباينة للحركة الصلاتية، وليس المراد من الحركة هو رفع اليد أو وضعها أو رفع الرأس أو وضعه، بل المراد الحركة الصلاتية والغصبية، وهما حركتان كما عرفت، فتكون حيثية الصلاتية غير حيثية الغصبية وجوداً وماهيةً، فيجوز اجتماع الأمر والنهي فيهما ويكون المقرّب غير المبعّد.

والشاهد على ما ذكرنا من اختلافهما وجوداً: أنّ نسبة المكان إلى المكين

ص: 103


1- لمحات الاُصول: 186.
2- يأتي في الصفحة 106.

والإضافة الحاصلة بين المكين والمكان لا يعقل أن تختلف في الجوهر والعرض، فكما أنّ كون زيد في الدار المغصوبة لا يوجب كونه غصباً، فكذلك كون الصلاة فيها، فالتركيب بينهما انضمامي لا اتّحادي(1)، انتهى ملخّصاً.

وفيه موارد كثيرة للنظر نعدّ مهمّاتها:

منها: أنّ عدّ الصلاة من مقولة الوضع واضح الفساد؛ لأ نّها من الماهيات الاختراعية المركّبة من عدّة اُمور اعتبارية ومقولية، ومثل ذلك لا يمكن أن يندرج تحت مقولة، ولا يكون من الماهيات الأصيلة. هذا إن اُريد بالصلاة نفسها.

وإن اُريد أجزاؤها فهي لا تكون من مقولة الوضع فقط، بل الركوع - مثلاً - إذا

كان من فعل المكلّف، ويكون الهويّ جزءه، فلا محالة يكون عبارة عن الحركة من الاستقامة إلى انحناء خاصّ تعظيماً، ويكون نفس الانحناء بالمعنى المصدري من قبيل الحركة في الأين، ويكون من مقولته؛ بناءً على كون الحركة في كلّ مقولة من هذه المقولة.

فماهية الركوع إذا كانت الانحناء الخاصّ تعظيماً، لا تندرج تحت مقولة؛ لأنّ كونه تعظيماً من مقوّماتها، وهو خارج عن ماهية المقولة، وجزؤها من مقولة الأين.

وبالجملة: الفعل الصادر من المكلّف هو الحركة من الاستقامة إلى الانحناء، وتبديل الأوضاع لازمه، وما هو جزء الصلاة - على الفرض - هو الفعل الصادر منه، لا الأوضاع المتلاصقة على زعمه، مع ما في تلاصق الأوضاع من المفاسد.

ومنها: أنّ الغصب ليس من المقولات؛ لأ نّه هو الاستيلاء على مال الغير

ص: 104


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 424 - 427.

عدواناً، وهو من الاُمور الاعتبارية، ولا يكون عبارة عن الكون في المكان، بل

استقلال اليد عليه غصب، سواء كان الغاصب فيه أو لا، وهذا واضح.

مع أ نّه لو سلّم أ نّه الكون في المكان الذي للغير عدواناً، لم يصر من مقولة الأين:

أمّا أوّلاً: فلأنّ المقولة ليست نفس الكون في المكان، بل هيئة حاصلة منه.

وأمّا ثانياً: فلأنّ ماهية الغصب متقوّمة بكون المكان للغير، وبكون إشغاله عدواناً، وهما غير دخيلين في ماهية المقولة، فعلى هذا الفرض الباطل تكون المقولة جزء ماهية الغصب.

ومنها: أنّ عدم صحّة الصلاة ليس لأجل الغصب، بل لأجل التصرّف في مال الغير بلا إذنه، وهو عنوان آخر غير الغصب؛ لأ نّه قد يكون التصرّف في ماله بلا إذن ولا يتحقّق عنوان الغصب؛ أي استقلال اليد عليه، وقد يتحقّق الغصب بلا تصرّف خارجي في ماله، فبطلان الصلاة في الدار المغصوبة - على فرضه - ليس لأجل استقلال اليد على ملك الغير؛ لأ نّه اعتباري لا ينطبق على الصلاة، بل لأجل التصرّف فيه؛ لأنّ الحركة الركوعية والسجودية عين التصرّف فيه، بل السجود على سبعةٍ أعظم، والكون الركوعي والقيامي وغيرهما تصرّف ومبعّد، فلا يجوز التقرّب به على الفرض، قيل بجواز الاجتماع أو لا، وسيأتي أنّ جواز الاجتماع لا يتوقّف على كون الحيثيات تقييدية والتركيب انضمامياً(1)، كما بنى عليه هذا القائل.

وممّا ذكرنا يعلم حال ما ذكره من قياس كون «زيد في الدار» بكون «الصلاة

ص: 105


1- يأتي في الصفحة 110.

في الدار»؛ فإنّ الصلاة لمّا كانت فعل المكلّف يكون الإتيان بها تصرّفاً في مال الغير، بخلاف «زيد»؛ فإنّه ليس فعلاً حتّى يكون تصرّفاً.

نعم، كونه في الدار غصب على فرضه، وتصرّف على ما ذكرنا، وزيد غاصب ومتصرّف، كما أنّ صلاته باعتبار كونها من أفعاله وأكوانه غصب وتصرّف، وهو غاصب ومتصرّف، فالأمر أوضح من أن يحتاج إلى البيان.

الأمر الثامن: في ثمرة النزاع على القول بالامتناع

بناءً على الامتناع وترجيح جانب الأمر تصحّ الصلاة في الدار المغصوبة إذا لم تكن مندوحة، وأمّا معها فلا ملاك لتقييد النهي بلغ ملاك الصلاة ما بلغ؛ لعدم دوران الأمر بينهما، بل مقتضى الجمع بين الفرضين تقييد الصلاة عقلاً أو شرعاً بغير محلّ الغصب، فإطلاق كلام المحقّق الخراساني(1) مخدوش.

وأمّا بناءً على ترجيح جانب النهي، فمع العمد والعلم أو الجهل بالحكم تقصيراً لا تصحّ.

وأمّا مع القصور فصحّتها تتوقّف على أمرين:

أحدهما: إثبات وجدانها في مورد الاجتماع للملاك التامّ.

وثانيهما: كون الملاك المرجوح قابلاً للتقرّب.

والأمر الأوّل محلّ إشكال بناءً على كون الامتناع لأجل التكليف المحال؛ وذلك للتضادّ بين ملاكي الغصب والصلاة، فإن رفع تضادّهما باختلاف الحيثيتين رفع التضادّ بين الحكمين أيضاً، فلا محيص عن القول بالجواز، فالقائل بالامتناع

ص: 106


1- كفاية الاُصول: 191.

لا بدّ له من الالتزام بأنّ الحيثية التي تعلّق بها الأمر عين ما تعلّق به النهي؛ حتّى يحصل التضادّ، ومع وحدة الحيثية لا يمكن تحقّق الملاكين، فلا بدّ وأن يكون المرجوح بلا ملاك، فعدم صحّتها لأجل فقدانه، ومعه لا دخالة للعلم والجهل في البطلان والصحّة.

وبالجملة: متعلّق الأمر والنهي بالذات عين حامل الملاك، وهو مع وحدته غير معقول لحمل الملاكين، ومع كثرته يوجب جواز الاجتماع ولو قيل بتعلّقهما بما هو فعل المكلّف خارجاً، فتصوّر الحيثيتين الحاملتين للملاك الرافعتين للتضادّ يناقض القول بالامتناع من جهة التكليف المحال.

وأمّا الأمر الثاني - بعد تصوير الملاك - فلا إشكال فيه؛ لأنّ الحيثية الحاملة

لملاك الصلاة غير الحيثية الحاملة لملاك الغصب، فأتمّية ملاكه من ملاكها وترجيح مقتضاه على مقتضاها لا يوجب تنقيصاً في ملاكها، فملاكها تامّ، لكن عدم إنشاء الحكم على طبقه لأجل المانع، وهو أتمّية ملاك الغصب، وفي مثله لا مانع من صحّتها بعد عدم تأثير النهي للجهل قصوراً؛ لكفاية الملاك التامّ في صحّتها مع قصد التقرّب وكون الموضوع ممّا يمكن التقرّب به.

بل يمكن أن يقال بصحّتها حينئذٍ مع العلم والعمد أيضاً؛ لعين ما ذكر وإمكان التقرّب بها مع تمامية الملاك، فعدم الأمر هاهنا كعدم الأمر في باب الضدّين المتزاحمين.

وربما يقال بالفرق بين البابين؛ لأنّ باب الضدّين من قبيل تزاحم الحكمين في مقام الامتثال بعد إنشاء الحكمين على الموضوعين، وباب الاجتماع من قبيل تزاحم المقتضيين لدى المولى، فلا تأثير لعلم المكلّف وجهله هاهنا،

ص: 107

بخلافه هناك. وبالجملة: يكون المقام من صغريات باب التعارض، ومع ترجيح جانب النهي ينشأ الأمر على الصلاة في غير المغصوب، والتقييد هاهنا كسائر التقييدات، فالصلاة في المغصوب ليست بمأمور بها(1).

وفيه - مضافاً إلى ما عرفت من عدم انسلاك المقام في صغريات باب التعارض(2) - أنّ الكلام هاهنا في صحّة الصلاة بحسب القواعد، وهي غير منوطة بالأمر الفعلي، وإلاّ تبطل في المقامين، والملاك التامّ الموجب لصحّتها موجود فيهما، ومجرّد عدم إنشاء الحكم هاهنا لأجل المانع وإنشائه هناك - لو سلّم - لا يوجب الفرق بعد تمامية الملاك وعدم الاحتياج إلى الأمر بعد إحرازها.

ودعوى عدم تماميته هاهنا؛ لأنّ الملاك مكسور بالتزاحم(3) ممنوعة؛ لأنّ مقتضى أتمّية ملاك الغصب وإن كان عدم جعل الحكم على الصلاة، لكن ليس مقتضاها صيرورة ملاكها ناقصاً.

فإن اُريد بمكسورية الملاك صيرورته ناقصاً فهو ممنوع؛ لأنّ الملاكين القائمين بحيثيتين لا معنى لانكسار أحدهما بالآخر، وأرجحية أحدهما غير مكسورية الآخر.

وإن اُريد بها أنّ الحكم بعد تزاحمهما يصير تابعاً للأقوى، فهذا مسلّم، لكن لا يوجب نقصاً في ملاك المهمّ، فهو على ملاكه مطلقاً، فلا مانع من الصحّة وجواز التقرّب به بعد كفاية الملاك التامّ، فتدبّر.

ص: 108


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 431.
2- تقدّم في الصفحة 101 - 102.
3- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 431.
الأمر التاسع: في شروط جريان النزاع في المقام

لا كلام في عدم جريان النزاع في المتباينين والمتساويين، والظاهر جريانه في الأعمّ والأخصّ المطلقين إذا كان المنهيّ عنه أخصّ، ولم يؤخذ مفهوم الأعمّ في الأخصّ، وتكون الأعمّية بحسب المورد لا المفهوم، وذلك لأنّ المناط - وهو اختلاف العنوانين - متحقّق.

وأمّا العامّ والخاصّ بحسب المفهوم ففي جريانه فيهما إشكال؛ من حيث إنّ المطلق عين ما اُخذ في المقيّد، ووصف الإطلاق ليس بشيء، بل المطلق عبارة عن نفس الطبيعة بلا شرط، والمقيّد هو هذه مع قيد، فلا يمكن أن تكون الطبيعة مورداً لحكمين مختلفين، فلا يجري فيهما، ومن حيث إنّ المقيّد بما هو كذلك عنوان غير المطلق، وليس الحكم فيه على المطلق مع قيده، بل على المقيّد بما هو كذلك، وهو غير المطلق، والأمر الضمني لا أساس له، فيجري فيهما.

والمسألة محلّ إشكال وتأمّل، وإن كان عدم جريانه أشبه.

وأمّا العامّان من وجه فلا إشكال في جريانه فيهما، إلاّ إذا اُخذ مفهوم أحدهما في الآخر، كقوله: «صلّ الصبح» و«لا تصلّ في الدار المغصوبة» فيأتي فيه الإشكال المتقدّم.

وقد يقال: إنّ جريان النزاع في العامّين من وجه يتوقّف على اُمور:

منها: أن تكون النسبة بين نفس الفعلين الصادرين من المكلّف بإرادة واختيار، كما في الصلاة والغصب، وأمّا إذا كانت بين الموضوعين، كما في العالم والفاسق، فهو خارج عن محلّ النزاع؛ لأنّ التركيب بينهما اتّحادي لا انضمامي،

ص: 109

ولازمه تعلّق الأمر بعين ما تعلّق به النهي، فلا بدّ فيهما من إجراء قواعد التعارض.

وممّا ذكرنا علم عدم جريانه فيما إذا كان للفعل عنوانان توليديان تكون النسبة بينهما العموم من وجه، كما لو أمر بإكرام زيد، ونهى عن إكرام عمرو، فقام المكلّف لأجل إكرامهما تعظيماً؛ فإنّ القيام يتولّد منه التعظيمان، وهما وإن كانا بحيثيتين انضماميتين، لكن الأمر بهما أمر بالسبب، فينجرّ إلى تعلّقه بشيء واحد وجوداً وإيجاداً.

ومنها: أن يكون بين الفعلين تركيب انضمامي لا اتّحادي، فيخرج مثل: «اشرب» و«لا تغصب» إذا كان الماء مغصوباً؛ فإنّ نفس الشرب هو الغصب، فالتركيب اتّحادي لا يجري فيه النزاع(1)، انتهى.

وفيه: أنّ قضيّة التركيب الانضمامي والاتّحادي أجنبيّة عن مسألة اجتماع الأمر والنهي، ولا يبتني الجواز على التركيب الانضمامي؛ فإنّ التركيب الخارجي - اتّحادياً أو انضمامياً - غير مربوط بمقام متعلّقات الأوامر والنواهي التي هي العناوين على ما سيأتي بيانه، فيجري النزاع في مثل: «أكرم العالم» و«لا تكرم الفاسق»، وكذا في مثل: «اشرب» و«لا تغصب» مع كون الماء غصباً.

وكذا في الأفعال التوليدية وإن قلنا بتعلّق الأمر بالأسباب؛ فإنّ قوله: «أكرم

زيداً» و«لا تكرم عمراً»، كقوله: «قم لزيد» و«لا تقم لعمرو» عنوانان مختلفان يجوز تعلّق الأمر بأحدهما والنهي بالآخر، سواء في ذلك السبب والمسبّب [التوليديان]، مع أنّ المبنى؛ أي رجوع الأمر إلى السبب التوليدي، محلّ منع.

ص: 110


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 410 - 412.
مقتضى التحقيق هو القول بجواز الاجتماع
اشارة

إذا عرفت ذلك فالتحقيق: هو الجواز، ويتّضح بتقديم اُمور:

الأوّل: أنّ كلّ حكم - أمراً كان أو نهياً - إذا تعلّق بعنوان، لا يمكن أن يتخلّف

عنه ويتجاوز إلى ما ليس بمتعلّقه؛ فإنّ تجاوزه عنه إلى ما لا دخالة له في تحصيل غرضه جزاف بلا ملاك.

فتعلّق الأمر بطبيعة الصلاة - مثلاً - لا يمكن إلاّ إذا كانت بجميع الخصوصيات

المأخوذة فيها دخيلة في تحصيل المصلحة، فكما لا يمكن تعلّقه بالفاقد لها لا يمكن تعلّقه بالخصوصية الغير الدخيلة في تحصيلها، كانت مقارنة أو ملازمة للمأمور به في الوجود الخارجي أو الذهني، فلا يتعدّى الأمر عن عنوان الصلاة إلى عنوان آخر، ولا النهي عن عنوان الغصب أو التصرّف في مال الغير بلا إذنه إلى غيره مطلقاً، فوزان الإرادة التشريعية كوزان التكوينية فيه، فكما أنّ الثانية تابعة لإدراك الصلاح فكذلك الاُولى.

الثاني: المراد بالإطلاق المقابل للتقييد هو كون الماهية تمام الموضوع للحكم؛ بحيث لا يكون شيء آخر دخيلاً في الموضوع، كان متّحداً معه في الخارج أو لا، ملازماً له أو مقارناً أو لا.

فالرقبة في قوله: «إن ظاهرت أعتق رقبة» مطلقة بمعنى أ نّها تمام الموضوع لوجوب العتق من غير دخالة قيد فيها، وليس معنى الإطلاق كون شيء بتمام حالاته ولواحقه موضوعاً للحكم؛ حتّى يكون معنى «أعتق رقبة»: أعتقها سواء كانت عادلة أو فاسقة، عالمة أو جاهلة... وهكذا؛ لعدم دخالة هذه

ص: 111

القيود في موضوع الحكم أوّلاً، وعدم إمكان كون الماهية آلة للحاظ تلك الخصوصيات ثانياً، فلا بدّ للحاظها من دالّ آخر، والفرض عدمه، ومعه يكون عموماً لا إطلاقاً.

فإطلاق الصلاة عبارة عن تعلّق الحكم بها بلا دخالة شيء آخر في الموضوع، وإطلاق قوله: «لا يجوز التصرّف في مال الغير بلا إذنه»(1) عبارة عن كون ذاك العنوان تمام الموضوع للحرمة، فلا يمكن أن يكون الأوّل ناظراً إلى الصلاة في الدار المغصوبة، ولا الثاني إلى التصرّف الصلاتي.

الثالث: الماهية اللا بشرط وإن تتّحد مع ألف شرط في الوجود الخارجي ممّا هو خارج عن ذاتها ولاحق بها، لكن لا تكون كاشفة ودالّة عليه وآلة للحاظه؛ لأنّ الشيء لا يمكن أن يكون كاشفاً عن مخالفاته بحسب الذات والمفهوم، وإن اتّحد معها وجوداً.

فالأبيض والبياض لا يمكن أن يكونا كاشفين عن الإنسان والمتكمّم وإن اتّحدا معهما وجوداً، كما أنّ الماهية لا تكشف عن الوجود وإن اتّحدا خارجاً.

فالصلاة وإن اتّحدت أحياناً مع التصرّف في مال الغير بلا إذنه، لكن لا يمكن أن تكون مرآة له وكاشفة عنه، فالاتّحاد في الوجود غير الكشف عمّا يتّحد به، وهو واضح.

الرابع: - وهو العمدة في هذا الباب - أنّ متعلّق الأحكام ليس الوجود الخارجي؛ لأنّ تعلّق الحكم بالوجود الخارجي أو الإيجاد بالحمل الشائع

ص: 112


1- راجع وسائل الشيعة 25: 386، كتاب الغصب، الباب 1، الحديث 4.

لا يمكن إلاّ في ظرف تحقّقه، والبعث إلى إيجاد المتحقّق تحصيل للحاصل، كما

أنّ الزجر عمّا وجد خارجاً ممتنع، ولا الوجود الذهني بما هو كذلك؛ لأ نّه غير ممكن الانطباق على الخارج، فلا محالة يكون المتعلّق نفس الطبيعة، لكن لمّا كانت الطبيعة لا يمكن أن تصير متعلّقة لحكم إلاّ أن تصير متصوّرة، والتصوّر هو الوجود الذهني، فلا محالة يكون ظرف تعلّق الحكم بها هو الذهن، فالطبيعة متعلّقة للحكم في الذهن، لا بما هي موجودة فيه، ولا بما هي موجودة في الخارج، ولا بما هي مرآة للوجود الخارجي، بل بما هي هي.

فمتعلّق الهيئة في قوله: «صلّ» هو الماهية اللا بشرط، ومفاد الهيئة هو البعث والتحريك إلى تحصيلها، ولازم امتثاله إيجادها، كما مرّ الكلام فيه سالفاً وقلنا: إنّ تعلّق البعث بنفس الطبيعة لا ينافي قولهم: الماهية من حيث هي ليست إلاّ هي، ولا يلزم من ذلك كونها بما هي مؤثّرة في تحصيل الغرض، بل المولى لمّا رأى أنّ إتيان الصلاة ووجودها خارجاً محصّل لغرض، فلا محالة يتوسّل إليه بوسيلة، ولا يكون ذلك إلاّ بالتشبّث بالأمر بالطبيعة؛ ليبعث العبد إلى إيجادها، فمتعلّق الأمر هو الطبيعة، والهيئة باعثة نحو إيجادها؛ إمّا لأجل دلالتها على طلب الوجود؛ أي العنواني، ليحصل الخارجي، أو لأجل حكم العقل به كما عرفت(1).

وما قد يقال: من أنّ التكليف يتعلّق بالطبيعة باعتبار مرآتيتها عن الوجود(2)،

ص: 113


1- تقدّم في الصفحة 57 - 59.
2- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 401.

غير تامّ؛ لأنّ المقصود من هذا التكلّف إن كان إثبات تعلّقه بالمرئي فهو مستلزم

لتحصيل الحاصل، مضافاً إلى أنّ الطبيعة لا يمكن أن تكون مرآة للوجود؛ لما عرفت من أنّ الاتّحاد في الوجود غير الكاشفية.

إذا عرفت ما تقدّم: يسهل لك تصديق المدّعى؛ أي جواز تعلّق الأمر والنهي بعنوانين متصادقين على واحد شخصي خارجي؛ لأنّ الأمر متعلّق بعنوان الصلاة مثلاً، ولا يمكن تجاوزه عن متعلّقه إلى ما يلحقه أو يلازمه أو يتّحد به في الخارج، وكذا النهي بحكم المقدّمة الاُولى.

ولا يكون معنى الإطلاق إلاّ كون الطبيعة تمام الموضوع، ولا تكون الملحقات والمتّحدات معها ملحوظة ومتعلّقة للحكم بحكم الثانية.

والطبيعة اللا بشرط وإن اتّحدت مع العناوين الاُخر في الخارج، لكن لا تكون كاشفة عنها، ولا يكون الحكم المتعلّق بها سارياً إلى غيرها بحكم الثالثة.

ومتعلّق الحكم في الأمر والنهي هو نفس الطبيعة، لا الوجود الخارجي ولا الذهني بحكم الرابعة.

فكيف يمكن أن يسري حكم أحد العنوانين إلى الآخر، مع أنّ في مقام ثبوت الحكمين يكون العنوانان متعدّدين ومتخالفين، فعنوان الصلاة غير عنوان الغصب مفهوماً وذاتاً ؟ ! فلا يمكن أن يسري حكم أحدهما إلى الآخر، والخارج - الذي هو ظرف اتّحادهما - لم يكن ظرف ثبوت الحكم كما تقدّم، فظرف الاتّحاد غير ظرف المتعلّق، وفي ظرف المتعلّق لا يمكن الاتّحاد، فأين اجتمع الحكمان ؟ !

ص: 114

دفع الإشكالات الواردة على القول بالجواز

ومن هنا يتّضح الجواب عن سائر إشكالات الباب، كلزوم كون شيء واحد متعلّقاً للإرادة والكراهة، وكون شيء واحد محبوباً ومبغوضاً، وذا صلاح وفساد، ومقرّباً ومبعّداً.

أمّا بالنسبة إلى المراحل المتقدّمة على الأمر والنهي - أي مبادئهما الموجودة في نفس المولى - فواضح؛ لأنّ المتصوّر من كلّ من طبيعة الغصب والصلاة، وكذا الوجود العنواني منهما، غير المتصوّر من الآخر، ومورد تصديق المصلحة غير مورد تصديق المفسدة، ومورد تعلّق إرادة البعث غير مورد تعلّق إرادة الزجر، فصورة الصلاة وعنوانها في تمام المراحل غير الغصب، فلا تتّحد معه، وإنّما الاتّحاد في خارج الذهن الذي ليس ظرف تعلّق الأمر والنهي، ولا ظرف تحقّق مبادئهما، وكذا الوجود العنواني من كلٍّ غير الآخر لو فرض تعلّقهما به.

وأمّا لزوم كون الموجود الخارجي محبوباً ومبغوضاً فلا محذور فيه؛ لأنّ المحبوبية والمبغوضية ليستا من الصفات القائمة بالموضوع خارجاً، كالسواد والبياض؛ حتّى يكون المحبوب متّصفاً بصفات خارجية بعدد المحبّين، والله تعالى محبوب الأولياء، ولا يمكن حدوث صفة حالّة فيه بعددهم، فالمحبوبية والمبغوضية من الصفات الانتزاعية التي يكون لهما منشأ انتزاع، فلا بدّ من لحاظ المنشأ؛ فإنّ المنتزع تابع لمنشئه في الوحدة والكثرة.

ص: 115

فنقول: منشأ انتزاع المحبوبية هو الحبّ القائم بالنفس المتعلّق بالطبيعة التي

[هي] وجه الخارج، أو الوجود العنواني كذلك، أو الصورة التي في الذهن كذلك؛ لأنّ الحبّ من الصفات الإضافية، ولا بدّ في تشخّصه وتحقّقه من متعلّق، ولا يمكن أن يكون الموجود الخارجي مشخّصاً له؛ لأ نّه من الكيفيات النفسانية، فلا بدّ من أن يتشخّص بما هو حاضر لدى النفس بالذات، وهو الصورة الحاصلة فيها، ولمّا كانت الصورة وجهاً وعنواناً للخارج تضاف المحبوبية إليه، ولهذا قد تنسب المحبوبية إلى ما ليس موجوداً في الخارج، مع امتناعه لو كان مناط الانتساب قيام صفة خارجية بالموضوع، كما أنّ الأمر كذلك في العلم والقدرة، فيصير الشيء قبل تحقّقه معلوماً ومقدوراً.

فإذا كان الأمر كذلك يمكن أن يتعلّق الحبّ بعنوان والبغض بآخر، فيكون الموجود الخارجي محبوباً ومبغوضاً، مع كون العنوانين موجودين بوجود واحد، ألا ترى أنّ البسائط الحقيقية معلومة لله تعالى ومقدورة ومرضية ومعلولة له،... وهكذا.

بل يمكن أن يكون شيء بسيط معلوماً ومجهولاً بجهتين، كالحركة الخاصّة الركوعية في الدار المجهول غصبيتها؛ فإنّها مع وحدتها معلومة أ نّها ركوع، ومجهولة أ نّها تصرّف في مال الغير، فلو كانت المعلومية والمجهولية كالبياض والسواد من الصفات الخارجية لامتنع اجتماعهما في واحد، فسرّ اجتماعهما أ نّهما من الانتزاعيات كما عرفت.

فتحقّق ممّا ذكرناه: أنّ الشيء الواحد بحسب الوجود الخارجي يمكن

ص: 116

أن يكون محبوباً ومبغوضاً.

وأمّا حديث قيام المصلحة والمفسدة بشيء واحد فهو أيضاً لا محذور فيه؛ لأ نّهما أيضاً لا يجب أن يكونا من الأعراض الخارجية القائمة بفعل المكلّف. مثلاً: التصرّف [في] مال الغير بغير إذنه ظلم قبيح له مفسدة؛ لأنّ ذلك موجب للهرج والمرج والفساد من غير أن تكون هذه العناوين أوصافاً خارجية قائمة بالموضوع، والخضوع لله تعالى والركوع له قيام بأمر العبودية، وله حسن ومصلحة وموجب لأداء حقّ العبودية من غير أن تكون هذه العناوين أعراضاً خارجية، بل هي ومقابلاتها من الوجوه والاعتبارات التي يمكن أن يتّصف شيء واحد بهما.

فمسّ رأس اليتيم في الدار المغصوبة من جهة أ نّه رحمة به حسن ذو مصلحة، ومن جهة أ نّه تصرّف في مال الغير قبيح ذو مفسدة، من غير أن يكون ذلك من اجتماع الضدّين بالضرورة.

وممّا ذكرنا يتّضح: إمكان أن يكون شيء واحد مقرّباً ومبعّداً؛ لأ نّهما أيضاً من الوجوه والاعتبارات التي يمكن اجتماعها في شيء واحد بجهات مختلفة؛ ضرورة أنّ العقل يدرك الفرق بين من ضرب ابن المولى في الدار المغصوبة ومن أكرمه فيها، فحركة اليد لإكرام ابن المولى من جهة أ نّها إكرام محبوبة وصالحة للمقرّبية، ومن جهة أ نّها تصرّف في مال الغير عدواناً، مبغوضة ومبعّدة، فالحركة الصلاتية في الدار المغصوبة من جهة أ نّها مصداق الصلاة محبوبة ومقرّبة، ومن جهة أ نّها مصداق الغصب مبغوضة مبعّدة.

ص: 117

وقد عرفت: أنّ الشيء الواحد يمكن أن يتّصف بمثل هذه الانتزاعيات، فإذا أمكن أن يكون شيء واحد محبوباً من جهة ومبغوضاً من جهة اُخرى، أمكن أن يكون مقرّباً ومبعّداً من غير لزوم تضادّ وامتناع، ولا يلزم أن تكون الجهتان موجودتين بوجودين، ويكون التركيب بينهما انضمامياً.

وممّا ذكرنا: يظهر النظر فيما تكلّفه بعض الأعاظم في تصوير التركيب الانضمامي بين الصلاة والغصب ومبادئ المشتقّات، وبنى جواز الاجتماع وعدمه على التركيب الانضمامي والاتّحادي(1)؛ فإنّه أجنبيّ عن المسألة؛ بل هي مبتنية على ما تقدّم.

نعم، بناءً على تعلّق الأحكام بالوجود الخارجي وما هو فعل المكلّف بالحمل الشائع كان لتكلّفه وجه، لكن مع بطلان هذا البناء لا محيص له عن القول بالامتناع؛ كان التركيب انضمامياً أو لا، مع أنّ التركيب الانضمامي بين الصلاة والغصب أو التصرّف العدواني لا وجه صحّة له كما تقدّم.

ثمّ إنّ تسمية ما ذكر بالتركيب الانضمامي والاتّحادي مجرّد اصطلاح، وإلاّ فليس انطباق العناوين على شيء من قبيل التركيب.

ص: 118


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 406 - 407.
تنبيه : في التضادّ بين الأحكام الخمسة

وبما ذكرنا في وجه الجواز تحسم مادّة الإشكال، كان بين الأحكام تضادّ أو لا، لكن لمّا كان التضادّ بينها معروفاً بينهم(1) وإن خالفهم بعض مدقّقي المتأخّرين(2) فلا بأس بتحقيق المقام:

فنقول: عرّف الضدّان: «بأ نّهما أمران وجوديان لا يتوقّف تعقّل أحدهما على الآخر، بينهما غاية الخلاف، يتعاقبان على موضوع واحد، لا يتصوّر اجتماعهما فيه»، قالوا: «ومن شرط التضادّ أن تكون الأنواع الأخيرة التي توصف به داخلة تحت جنس واحد قريب، فلا يكون بين الأجناس ولا بين صنفين من نوع واحد ولا شخصين منه تضادّ»(3).

وهذا التعريف لا يصدق على الأحكام الخمسة، سواء جعلت الإرادات المظهرة(4) أو نفس البعث والزجر(5)؛ لأ نّه إن جعلت الإرادات فلم تكن الأحكام أنواعاً مختلفة تحت جنس قريب: أمّا الواجب والمستحبّ وكذا الحرام

ص: 119


1- قوانين الاُصول 1: 142 / السطر 14؛ مطارح الأنظار 1: 625؛ كفاية الاُصول: 193؛ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 396.
2- نهاية الدراية 2: 308.
3- التحصيل: 37؛ الحكمة المتعالية 2: 113؛ شرح المنظومة، قسم الحكمة 2: 174.
4- مقالات الاُصول 1: 310 - 311.
5- راجع ما تقدّم في الجزء الأوّل: 288.

والمكروه فواضح؛ لأنّ الإرادة الوجوبية والاستحبابية مشتركتان في حقيقة الإرادة، وممتازتان بالشدّة والضعف، وكذا الحال في الحرمة والكراهة؛ لأنّ المبدأ القريب للزجر - تحريمياً كان أو تنزيهياً - هو الإرادة، فإذا أدرك المولى مفسدة شرب الخمر يتوسّل إلى سدّ بابه بزجر العبيد تشريعاً، فيريد الزجر التشريعي، فيزجرهم عنه، فإرادة الزجر المظهرة إذا كانت إلزامية ينتزع منها التحريم على هذا المبنى، وإذا كانت غير إلزامية ينتزع منها الكراهة، فالإرادة مبدأ الزجر والبعث والإباحة الشرعية.

وما اشتهر بينهم: من تقابل الإرادة والكراهة، وجعلوا الكراهة مبدأ للنهي والإرادة للأمر، ليس على ما ينبغي؛ لأنّ الكراهة لصدور الفعل من المكلّف ليست في مقابل إرادة البعث، بل مقابلة للاشتياق إلى صدوره منه، فكما أنّ استحسان عمل والاشتياق إلى صدوره من المكلّف صارا مبدأ لإرادة بعثه نحو الفعل، فكذا استقباح عمل وكراهة صدوره منه صارا مبدأ لإرادة الزجر التشريعي والنهي عنه، فنفس الكراهة ليست بمبدأ قريب للنهي؛ ضرورة مبدئية الإرادة لصدور جميع الأفعال.

فبناءً على انتزاع الحكم من الإرادة المظهرة لا فرق بين الوجوب وغيره في كون مبدئها الإرادة، فلا تكون الأحكام أنواعاً مختلفة مندرجة تحت جنس قريب، فلا تضادّ بينها، ومطلق عدم الاجتماع لا يوجب الاندراج تحت تقابل التضادّ، مع أنّ غاية الخلاف - لو اعتبرت فيه - لا تتحقّق في جميع الأحكام، بل التعاقب على موضوع واحد - المراد به الموضوع الشخصي لا الماهية النوعية -

ص: 120

ممّا لا معنى له فيها؛ لأنّ متعلّقاتها لا يمكن أن تكون الموجود الخارجي، فلا معنى للتعاقب وعدم الاجتماع فيه.

وبهذا يظهر عدم التضادّ بينها؛ بناءً على أنّ الأحكام عبارة عن البعث والزجر المنشأين بوسيلة الآلات الموضوعة لذلك، كهيئة الأمر والنهي وغيرهما، ولا شكّ في أ نّهما حينئذٍ من الاُمور الاعتبارية، فلم تكن وجودية ولا حالّة في الموضوع الخارجي، بل قائمة بنفس المعتبر قياماً صدورياً، فالتضادّ بين الأحكام ممّا لا أساس له، فتدبّر.

ص: 121

استدلال المجوّزين بوقوع العبادات المكروهة

ثمّ إنّ المجوّزين استدلّوا بوقوع نظيره في الشرع، كالواجبات المكروهة أو المستحبّة، مع أنّ التضادّ بين جميع الأحكام(1)، وهذا الاستدلال ضعيف، لكن لا بأس بالتعرّض إلى كيفية العبادات المكروهة.

كيفية العبادات المكروهة

فنقول: أمّا ما تعلّق الأمر والنهي [فيه] بعنوانين مجتمعين في الوجود بينهما

عموم من وجه، فنحن في فُسحة منه، وكذا في العامّين المطلقين بناءً على دخولهما في محلّ البحث والقول بالجواز.

فالعمدة: هو الجواب عمّا تعلّق النهي بذاتها ولا بدل لها كصوم يوم العاشور والصلوات المبتدأة عند غروب الشمس وطلوعها، فلا يبعد فيها أن يكون النهي متعلّقاً بعنوان آخر منطبق على الصوم، كالتشبّه ببني اُميّة وبني مرجانة - لعنهم الله - فالمأمور به هو ذات الصوم والمنهيّ عنه التشبّه بهم، ولمّا انطبق العنوان عليه

وكان ترك التشبّه أهمّ من الصوم المستحبّ، نهى عنه إرشاداً إلى ترك التشبّه.

هذا لو قلنا بصحّة الصوم يوم العاشور كما نسب إلى المشهور، وإلاّ فللإشكال فيها مجال بالنظر إلى الأخبار.

ونسب إلى المشهور في الجمع بين الأخبار بأنّ الصوم حزناً مستحبّ، وشكراً مكروه، وفيه ما فيه.

ص: 122


1- قوانين الاُصول 1: 142 / السطر 13.

وجَمَعَ جمعٌ بينها باستحباب الصوم الناقص؛ أي صورة الصوم إلى العصر، وبطلان التامّ(1)، وللكلام فيه محلّ آخر.

وكذا الحال في الصلوات في أوقات خاصّة، كقبل طلوع الشمس وغروبها على فرض كراهتها؛ فإنّها أيضاً محلّ مناقشة، لكن يمكن أن يكون لانطباق عنوان آخر مكروه عليها، كالتشبّه بعبدة الأوثان على ما قيل(2).

وأمّا ما ذكره المحقّق الخراساني: من انطباق عنوان ذي مصلحة على الترك، يكون أرجح من الفعل، أو ملازمة الترك لعنوان كذائي(3).

ففيه: أنّ الترك عدمي [لا يمكن انطباق] عنوان وجودي عليه، ولا يمكن أن يكون ملازماً لشيء؛ فإنّ الانطباق والملازمة من الوجوديات التي لا بدّ في ثبوتها لشيء من ثبوت ذلك الشيء، نعم يمكن اعتبار شيء من بعض الأعدام الخاصّة المتصوّرة بنحو من التصوّر.

ثمّ إنّ بعض الأعاظم قد تصدّى للجواب عن هذا القسم بتقديم مقدّمة نافعة على زعمه، وهي: أنّ النذر إذا تعلّق بعبادة مستحبّة يندكّ الأمر الاستحبابي في الأمر الوجوبي من قِبل النذر؛ لوحدة متعلّقهما، فيكتسب الأمر النذري الوجوبي التعبّدية من الاستحبابي، والأمر الاستحبابي يكتسب اللزوم من الوجوبي، فيتولّد منهما أمر وجوبي عبادي.

وأمّا إذا كانت العبادة المستحبّة متعلّقة للإجارة، كان متعلّق الأمر الاستحبابي

ص: 123


1- جامع المقاصد 3: 86؛ مسالك الأفهام 2: 78؛ رياض المسائل 5: 463.
2- لمحات الاُصول: 196.
3- كفاية الاُصول: 198 - 199.

مغايراً لما تعلّق به الأمر الوجوبي؛ لأنّ متعلّق الأوّل ذات العبادة، ومتعلّق الثاني إتيان العبادة بداعي الأمر المتوجّه إلى المنوب عنه وبوصف كونه مستحبّاً على الغير؛ لأنّ الشخص صار أجيراً لتفريغ ذمّة الغير، فلا تكون العبادة من دون قصد النيابة تحت الإجارة، فلا يلزم اجتماع الضدّين، ولا يندكّ أحدهما في الآخر، وما نحن فيه من هذا القبيل؛ لأنّ الأمر تعلّق بذات العبادة، والنهي التنزيهي تعلّق بالتعبّد بها؛ لما فيه من المشابهة بالأعداء(1)، انتهى.

وفيه أوّلاً: أنّ الأمر في النذر إنّما تعلّق بعنوان الوفاء به، وهو عنوان مغاير لعنوان الصلاة والصوم وغيرهما، وإنّما يجتمع معها في الخارج الذي لم يكن ظرف تعلّق الأمر، فإذا نذر أن يأتي بصلاة الليل يجب عليه الوفاء بالنذر، فالإتيان بالصلاة [المستحبّة] مصداق لوفاء النذر في الخارج وللصلاة، وهما عنوانان منطبقان على الخارج كما تقدّم، وكذا الكلام في الإجارة؛ فإنّ الأمر الوجوبي تعلّق بعنوان الوفاء بالعقد، والاستحبابي بالصلاة المستحبّة، أو أمر وجوبي آخر بالصلاة الواجبة على الولي أو الميّت، فافتراق موضوعهما يكون من هذه الجهة.

وثانياً: لا معنى معقول لهذا الاكتساب والتولّد المذكورين، فبأيّ دليل وأيّة جهة يكتسب الأمر الغير العبادي العبادية والغير الوجوبي الوجوب ؟ ! وما معنى هذه الولادة والوراثة ؟ ! بل لا يعقل تغيير الأمر عمّا هو عليه لو فرض وحدة متعلّقه مع الآخر، ولعمري إنّ هذا أشبه بالشعر منه بالبرهان.

ص: 124


1- أجود التقريرات 2: 174 - 176.

وثالثاً: أنّ الأمر فيما نحن فيه وكذا في باب العبادات الاستئجارية، لم يتعلّق بذات الصلاة والصوم، وإلاّ يلزم أن يكون توصّلياً، بل تعلّق بها بقيد التعبّد ولو بدليل آخر، فلا يكون موضوعهما شيئين.

ورابعاً: بعد تسليم جميع ما ذكر لا ينفع ذلك للتخلّص عن الإشكال؛ لأنّ حاصله يرجع إلى أنّ الأمر الاستحبابي تعلّق بصوم يوم العاشور، وصومه بما هو مستحبّ مكروه، وهذا واضح البطلان؛ لأ نّه يلزم منه أن يكون موضوع الحكم مضادّاً لحكمه.

وما قال في خلال كلامه: - من أنّ التعبّد بالصوم مكروه لأجل التشبّه بالأعداء - إن رجع إلى ما ذكرنا لا يحتاج فيه إلى تلك التكلّفات.

ص: 125

تنبيه : في توسّط الأرض المغصوبة

قد وقع الخلاف في أنّ المتوسّط في أرض مغصوبة إذا كان دخوله غصباً ويكون التخلّص منحصراً بالتصرّف فيها بغير إذن صاحبها، هل يكون ذلك التصرّف منه واجباً وحراماً(1)، أو واجباً مع جريان حكم المعصية عليه(2)، أو بدونه(3)، أو حراماً فعلياً(4)، أو لا يكون حراماً ولا واجباً مع جريان حكم المعصية عليه(5) ؟ على أقوال:

أقواها: أ نّه حرام فعلي، ولا يكون واجباً:

أمّا عدم الوجوب: فلعدم دليل عليه بعنوان الخروج من الأرض المغصوبة، أو التخلّص عن الغصب، أو ردّ المال إلى صاحبه، أو ترك التصرّف في مال الغير. نعم دلّ الدليل على حرمة الغصب وحرمة التصرّف في مال الغير بلا إذنه، والعناوين الاُخر لا دليل على تعلّق الوجوب بها، وما في بعض الروايات من أنّ «المغصوب كلّه مردود»(6) لا يدلّ على وجوب الردّ بعنوانه، بل لمّا كان الغصب

ص: 126


1- قوانين الاُصول 1: 153 / السطر 21؛ اُنظر شرح العضدي على مختصر ابن حاجب: 94.
2- الفصول الغروية: 138 / السطر 25.
3- مطارح الأنظار 1: 708.
4- إشارات الاُصول 1: 221؛ اُنظر مطارح الأنظار 1: 713.
5- كفاية الاُصول: 204.
6- الكافي 1: 542 / 4؛ وسائل الشيعة 25: 386، كتاب الغصب، الباب 1، الحديث 3.

حراماً يردّ المغصوب تخلّصاً عن الحرام عقلاً، فهو إرشاد إليه.

نعم، بناءً على أنّ النهي عن الشيء مقتضٍ للأمر بضدّه العامّ، ووجوب مقدّمة

الواجب، يمكن القول بوجوب بعض تلك العناوين؛ لأنّ التصرّف في مال الغير إذا كان حراماً يكون ترك التصرّف واجباً، والخروج عن الدار مقدّمة لتركه على إشكال، لكنّ المقدّمتين ممنوعتان كما سبق في محلّه(1)، وسيأتي الكلام بناءً على تسليمهما.

وأمّا حرمة التصرّف الخروجي فعلاً: فلما تكرّر منّا(2) من أنّ الأحكام المتعلّقة بالعناوين الكلّية - كقوله: «لا يحلّ لأحد أن يتصرّف في مال غيره بغير إذنه»(3) - فعلية على عناوينها من غير لحاظ حالات كلّ واحد من المكلّفين، وصحّة الخطاب العمومي لا تتوقّف على صحّة الباعثية بالنسبة إلى جميع الأفراد، وأنّ الخطابات لم تكن مقيّدة بالقادر العالم الملتفت، لا من ناحية الحاكم، ولا من ناحية العقل كشفاً أو حكومةً، لكن العقل يحكم بمعذورية المكلّف في بعض الأحيان.

فالحكم بعدم جواز التصرّف في مال الغير فعلي على عنوانه غير مقيّد بحال من الأحوال، لكن العقل يحكم بمعذورية العاجز إذا طرأ [عليه لا بسوء] اختياره، وأمّا معه فلا يراه معذوراً في المخالفة.

ص: 127


1- تقدّم في الصفحة 9 - 10، وفي الجزء الأوّل: 342.
2- تقدّم في الصفحة 18 - 20 و98.
3- كمال الدين: 521 / 49؛ وسائل الشيعة 25: 386، كتاب الغصب، الباب 1، الحديث 4.

فالحكم الفعلي بالمعنى المتقدّم قد يخالف بلا عذر، وقد يخالف معه، وما نحن فيه من قبيل الأوّل، وإن حكم العقل بلزوم التخلّص لكونه أقلّ المحذورين، وهكذا الحال في جميع الموارد التي سلب المكلّف قدرته اختياراً.

فإذا أمر المولى بإنقاذ الغريق، فسلب العبد عن نفسه القدرة، لا يكون معذوراً لدى العقل والعقلاء، ولو ساعدناهم في سقوط الأمر لم تمكن المساعدة في عدم إجراء حكم المعصية بشهادة الوجدان والعقل.

ثمّ إنّه لو سلّم بوجوب ردّ المال إلى صاحبه، أو وجوب التخلّص عن التصرّف، أو ترك التصرّف، وكون التصرّف الخارجي مقدّمة للواجب، فإن قلنا بجواز تعلّق النهي بالتصرّف - كما عرفت - فيقوى قول أبي هاشم(1)، وإلاّ فقول صاحب «الفصول»(2).

وما قيل: من لزوم تعلّق الأمر والنهي بشيء واحد(3) ممنوع؛ لأنّ النهي متعلّق بعنوان التصرّف في مال الغير، والأمر المقدّمي بحيثية ما يتوقّف عليه ذو المقدّمة، أو ما يتوصّل به إليه، وهما بما لهما من العنوان قابلان لتعلّق الأمر والنهي بهما، لا

بما هما كذلك بالحمل الشائع؛ لأ نّهما بالحمل الشائع - أي الوجود الخارجي - لا يمكن تعلّق الأمر والنهي بهما، فاتّحاد مقدّمة الواجب مع التصرّف في مال الغير في الوجود الخارجي دون وعاء تعلّق التكليف، فحينئذٍ: إن قلنا بأنّ قيد

ص: 128


1- اُنظر قوانين الاُصول 1: 153 / السطر 22؛ شرح العضدي على مختصر ابن حاجب: 94.
2- الفصول الغروية: 138 / السطر 25.
3- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 448.

«المندوحة» لا يعتبر في باب اجتماع الأمر والنهي، فلا محيص عن قول

أبي هاشم، وإلاّ فعن قول صاحب «الفصول».

ثمّ إنّ بعض الأعاظم(1) اختار ما نسب إلى الشيخ الأعظم(2): من وجوب الخروج وعدم الحرمة لا خطاباً ولا عقاباً، وبنى المسألة على دخول المقام في كبرى قاعدة «الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار» وعدمه، واختار العدم، واستدلّ عليه باُمور غير خالية عن الخلل.

مع أنّ القاعدة أجنبيّة عمّا نحن فيه؛ لأ نّها في مقابل قول من توهّم أنّ قاعدة

«الشيء ما لم يجب لم يوجد، وما لم يمتنع لم يعدم» منافية للاختيار في الأفعال، فيلزم أن يكون الواجب تعالى فاعلاً موجباً - بالفتح - فإنّ الواجب والممتنع خارجان عن [دائرة] الاختيار. فأجابوا عنه: بأنّ الإيجاب السابق من ناحية العلّة وباختياره لا ينافي الاختيار، وأ نّه تعالى فاعل موجب - بالكسر - والإيجاب بالاختيار كالامتناع بالاختيار - أي جعل الشيء ممتنعاً بالاختيار - لا ينافي الاختيار، بل يؤكّده(3)، وما نحن فيه غير مرتبط بهذه القاعدة.

هذا، مضافاً إلى أنّ الامتناع الحاصل بترك المقدّمة - كترك المسير إلى الحجّ إلى وقت يمتنع إدراكه - ينافي الاختيار بالضرورة. وإن شئت قلت: إنّ الإيجاب والامتناع السابقين الحاصلين بإرادة الفاعل لا ينافيان الاختيار، بخلاف ما هو

ص: 129


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 447 - 451.
2- مطارح الأنظار 1: 708.
3- راجع الحكمة المتعالية 2: 131 - 132 و 6: 349؛ شوارق الإلهام 1: 378؛ شرح المنظومة، قسم الحكمة 3: 614.

اللاحق له باعتبار تحقّقه ولا تحقّقه، وفقدان مقدّمات وجوده، فإنّه ينافي الاختيار.

ثمّ إنّ ما نحن فيه تحت قاعدة اُخرى، وهي أنّ الاضطرار إلى فعل الحرام أو ترك الواجب إذا كان بسوء الاختيار هل هو عذر عند العقلاء ولدى العقل، ويقبح العقاب عليه، أو ليس بعذر ويصحّ ؟

الأقوى هو الثاني، فمن ترك المسير إلى الحجّ بسوء اختياره حتّى عجز عنه، يصحّ عقابه وإن كان ينافي الاختيار، وكذا من اضطرّ نفسه إلى التصرّف في مال الغير بلا إذنه - كالتصرّف الخروجي المضطرّ إليه بحكم العقل - لا يكون معذوراً عقلاً، كمن سلب قدرته عمداً عن إنقاذ الغريق، فتدبّر.

هذا حال الحكم التكليفي.

وأمّا الوضعي - أي صحّة الصلاة حال الخروج - فقد تقدّم(1) شطر من الكلام فيه في الصلاة في الدار المغصوبة، وشطر منه مربوط بالفقه، وهو حال الصلاة في ضيق الوقت وكيفيتها.

ص: 130


1- تقدّم في الصفحة 102 - 106.

الفصل الثالث في أنّ النهي عن الشيء هل يكشف عن فساده ؟

اشارة

وقبل تحقيق المقام يقدّم اُمور:

الأمر الأوّل: في الاختلاف في عنوان البحث

تختلف تعبيرات القوم في عقد المسألة:

فقد يقال: إنّ النهي عن الشيء هل يقتضي الفساد(1) ؟ وقد يقال: إنّ النهي عنه هل يدلّ عليه(2) ؟

ولا يخلو كلا التعبيرين عن المسامحة؛ فإنّ الاقتضاء بالمعنى المتفاهم به عرفاً لا يناسب المقام؛ لأنّ النهي لا يكون موجباً ومؤثّراً في الفساد، بل إمّا أن يكون دالاًّ عليه كما يدّعي بعضهم(3)، أو كاشفاً عن مبغوضية متعلّقه، وهي تنافي

ص: 131


1- كفاية الاُصول: 217؛ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 454.
2- قوانين الاُصول 1: 154 / السطر 21؛ الفصول الغروية: 139 / السطر 28.
3- كفاية الاُصول: 217.

الصحّة، كما يدّعي الآخر(1)، من دون أن يكون النهي بما له من المعنى مقتضياً لذلك، اللهمّ إلاّ أن يراد بالاقتضاء معنىً آخر.

وكذا لا يناسب التعبير بالدلالة؛ لأنّ الدلالة اللفظية - كما هو ظاهر العنوان - ولو بنحو الالتزام على فرض كون الدلالة الالتزامية لفظية، لا تشمل الملازمات الخفية العقلية، بل لا بدّ في الالتزام من اللزوم الذهني. مضافاً إلى أنّ المدّعى في

اقتضاء النهي ليس مقصوراً على الدلالة اللفظية.

اللهمّ إلاّ أن يراد بها مطلق الكشف ولو بنحو اللزوم الخفي؛ ولهذا غيّرنا عنوان البحث إلى الكشف؛ حتّى يعمّ الدلالات اللفظية واللوازم العقلية الخفية، والأمر سهل.

الأمر الثاني: في كون المسألة عقلية لفظية

الأولى تعميم عنوان البحث بحيث يشمل العقلي واللفظي؛ حتّى يناسب استدلالات القوم؛ فإنّهم تشبّثوا: تارةً بالدلالة العرفية، واُخرى بالعقلية، فجعله ممحّضاً في أحدهما(2) غير مناسب، بل مع جعله كذلك يبقى [في عهدة الاُصولي] بحث آخر، فلو تمحّض في العقلية لبقي البحث عن الدلالة اللفظية وبالعكس، فالمسألة ليست عقلية محضة، ولا لفظية كذلك.

ثمّ إنّ المسألة اُصولية تقع الكبرى لاستنتاج الفرعية الكلّية، وقد أشرنا(3) إلى الفرق بينها وبين المسألة المتقدّمة هناك.

ص: 132


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 455.
2- كفاية الاُصول: 217؛ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 455.
3- تقدّم في الصفحة 95.
الأمر الثالث: في تحرير محلّ النزاع

الظاهر أنّ محطّ البحث أعمّ من النهي التحريمي والتنزيهي، والنفسي والغيري، والأصلي والتبعي، ولا وجه لاختصاصه(1) بأحدها؛ لأنّ كلّها محلّ النزاع ولو عند من ادّعى أنّ عدم الأمر يكفي في الفساد، وينكر الأمر الترتّبي، ومجرّد كون قوله خلاف التحقيق عند آخر لا يوجب خروجه عن محطّ البحث.

ودعوى تعلّق النهي التنزيهي في الشريعة بالخصوصيات اللاحقة بالعبادات لا بنفسها، أجنبيّة عمّا نحن بصدده على فرض صحّتها؛ لأنّ الكلام في فرض تعلّقه بها، كما أنّ تأويل الكراهة بأقلّية الثواب لا يوجب الخروج عن محطّ البحث، فدعوى خروج النهي الغيري والتنزيهي عنه ضعيفة.

نعم، النهي الإرشادي المسوق لبيان المانعية خارج؛ لأ نّه بعد إحرازه لا يبقى مجال للنزاع، لكن كون النواهي المتعلّقة بالعبادات والمعاملات إرشاديةً محلّ النزاع.

الأمر الرابع: في المراد من العبادات والمعاملات

المراد بالعبادات هو العناوين الواردة في الشريعة ممّا لا يسقط أمرها -

على فرض تعلّقه بها - إلاّ إذا اُتيت بوجه قربي، أو كان عنوانها عبادة ذاتاً، وبالجملة:

مطلق القربيات مع قطع النظر عن النهي.

وأمّا المعاملات: فمطلق ما يتّصف بالصحّة تارةً وبالفساد اُخرى، لا ما يترتّب عليه أثر على وجه ولا يترتّب على آخر؛ لأنّ القتل قد يترتّب عليه القصاص،

ص: 133


1- أجود التقريرات 2: 200 - 201.

وقد لا يترتّب كقتل الأب ابنه، ولا يتّصف بالصحّة والفساد، ومثله خارج عن البحث، والظاهر أنّ أبواب الضمان من هذا القبيل، ولو فرض انفكاك الأثر عن أسبابه أحياناً.

الأمر الخامس: في مساوقة الصحّة والفساد للنقص والتمام
اشارة

قالوا: الصحّة والفساد أمران إضافيان، بينهما تقابل العدم والملكة، مساوقان معنى للتمام والنقص لغة وعرفاً، وكذا في نظر الفقهاء والمتكلّمين، واختلاف تعبير الفريقين لأجل ما هو المهمّ في نظرهما(1).

أقول: أمّا مساوقتهما للتمام والنقص عرفاً ولغة فهو واضح الفساد؛ لاختلاف مفهومهما وموارد استعمالهما، فلا يقال لإنسان فاقد لبعض الأعضاء: إنّه فاسد، ويقال: ناقص، والدار التي بعض مرافقها ناقصة لا يقال: إنّها فاسدة، ولا لما تمّت مرافقها: إنّها صحيحة بهذا الاعتبار.

فالتمام والصحّة عنوانان بينهما عموم من وجه بحسب المورد، فالنقص بحسب الأجزاء غالباً، والتمام مقابله.

وأمّا الصحّة فغالب استعمالها في الكيفيات المزاجية أو الشبيهة بها، ومقابلها الفساد، وهو كيفية وجودية عارضة للشيء منافرة لمزاجه ومخالفة لطبيعته النوعية، فالفاكهة الفاسدة ما عرضتها كيفية وجودية منافرة لمزاجها تتنفّر عنها الطباع غالباً، فبين الصحّة والفساد تقابل التضادّ لو سلّم كون الصحّة وجودية، وبين النقص والتمام تقابل العدم والملكة.

ص: 134


1- كفاية الاُصول: 220.

هذا بحسب اللغة والعرف.

وأمّا في العبادات والمعاملات؛ فلا إشكال في استعمال الصحّة والفساد فيهما مع فقد جزء أو شرط أو وجود مانع، فكأ نّهما مساوقان للتمام والنقص أو قريبان منهما، لكن يمكن أن يكون بوضع جديد، وهو بعيد عن الصواب، ويمكن أن يكون باستعمالهما مجازاً ثمّ بلغا إلى حدّ الحقيقة.

فالصحّة في الماهيات المخترعة صفة لمصداق جامع لجميع الأجزاء والشرائط، مطابق للمخترع والقانون، والفساد مقابلها، وبينهما في هذا المورد تقابل العدم والملكة، وبهذا المعنى يمكن أن يقال: إنّهما أمران إضافيان؛ لإمكان أن يكون عبادة تامّة الأجزاء ناقصة الشرائط، وبالعكس.

وأمّا الصحّة بالمعنى المتعارف فليست كذلك، إلاّ بالإضافة إلى حالات المكلّفين.

وأمّا اختلاف الأنظار في صحّة عبادة وعدمها فلا يوجب إضافيتهما؛ لأنّ الأنظار طريق إلى تشخيص الواقع، فكلٌّ يخطّئ الآخر، فما في كلام المحقّق الخراساني(1) من إثبات إضافيتهما بذلك، غير تامّ.

تنبيه: في مجعولية الصحّة والفساد

هل الصحّة والفساد مجعولتان مطلقاً أو لا؛ أو مجعولتان في المعاملات دون العبادات، أو الصحّة الظاهرية مجعولة دون الواقعية ؟ فيه أقوال:

أقواها عدم إمكان مجعوليتهما مطلقاً، وذلك لأنّ الصحّة - سواء كانت منتزعة

ص: 135


1- كفاية الاُصول: 220.

من مطابقة الخارج للمخترع أو للأمر، أو بمعنى التمامية - أمر تكويني عقلي لا ينالها الجعل.

ومجرّد جعل الآثار في المعاملات(1) - على فرض صحّته - لا يوجب كونهما مجعولين فيها؛ لعدم اتّصاف الماهيات المخترعة بالصحّة والفساد، كما هو واضح، بل المتّصف بهما هو الموجود الخارجي أو الاعتباري بلحاظ انطباق الماهيات عليه ولا انطباقها، وهما عقليان لا يتطرّق الجعل بالنسبة إليهما.

وكذا جعل الصحّة الظاهرية بنفسها(2) لا معنى له؛ لأنّ جعل مطابقة المأتيّ به للمأمور به بلا تصرّف في منشأ الانتزاع غير معقول ولو في ظرف الشكّ وبحسب الظاهر.

نعم، جواز ترتيب أثر الصحّة أو وجوبه قابلان للجعل، لكنّه غير جعل الصحّة بنفسها، بل الظاهر أنّ جواز ذلك أو إيجابه بدون رفع اليد عن الشرط أو الجزء غير ممكن، ومعه يكون التطبيق قهرياً، ولعلّ القائل بالجعل هاهنا خلط بين الأمرين.

الأمر السادس: في تحقيق الأصل في المقام

لا أصل في المسألة الاُصولية لدى الشكّ في دلالة النهي على الفساد لفظاً أو كشفه عنه عقلاً؛ لعدم العلم بالحالة السابقة، لا في الدلالة، ولا في الملازمة:

أمّا الاُولى: فلأنّ اللفظ قبل وضعه وإن لم يكن دالاًّ، لكن في هذه الحالة

ص: 136


1- كفاية الاُصول: 222.
2- أجود التقريرات 2: 209.

لم يكن إلاّ الحروف المقطّعة، وعند عروض التركيب له إمّا وضع لما يستفاد منه

الفساد أو لغيره، فلا حالة سابقة له بنحو الكون الناقص، إلاّ أن يقال: عروض التركيب لطبيعي اللفظ في ذهن الواضع كان قبل الدلالة والوضع زماناً، أو يقال: إنّ الدلالة تحقّقت بعد الوضع زماناً.

وأمّا الملازمات: فليست لها حالة سابقة مفيدة، سواء قلنا بأ نّها أزلية كما قيل(1)، وهو واضح، أو قلنا بأنّ تحقّقها عند تحقّق المتلازمين؛ لأنّ قبل تحقّقهما وإن لم تكن الملازمة بنحو الكون التامّ متحقّقة، لكنّه لا يفيد استصحابها إلاّ على الأصل المثبت، وبنحو الكون الناقص لا حالة سابقة حتّى يستصحب.

ثمّ إنّه لو سلّم تحقّق الحالة السابقة في المقامين لم يجر الاستصحاب؛ لأجل عدم أثر شرعي للمستصحب؛ لعدم كون الدلالة أو الملازمة موضوعاً لحكم شرعي، وصحّة الصلاة لدى تحقّق المقتضيات وعدم الموانع عقلية لا شرعية.

هذا حال الأصل في المسألة الاُصولية.

وأمّا حاله في الفرعية، فلا بدّ أوّلاً من فرض الكلام في مورد تعلّق النهي بالعبادة أو المعاملة وشكّ في اقتضائهما الفساد، فإجراء القواعد الاُخر(2) مثل: رجوع الشكّ إلى الأقلّ والأكثر - إن كان المراد منه رجوع الشكّ إلى تعلّقه بها أو بالخصوصية ككونها في مكان كذا - أو إجراء قاعدة التجاوز، أجنبيّ عن المقام؛ فإنّ الكلام ليس في مانعية شيء عن الصلاة أو شرطيته لها، بل الكلام في الشكّ في اقتضاء النهي الفساد.

ص: 137


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 462.
2- راجع أجود التقريرات 2: 212.

والتحقيق أن يقال: أمّا في المعاملات فمقتضى الأصل الفساد، وأمّا في العبادات فإن كان الشكّ في فسادها بعد الفراغ عن إحراز الملاك كما في النهي عن الضدّ، فالأصل يقتضي الصحّة؛ لأنّ الملاك كافٍ فيها، فيرجع الشكّ إلى كون النهي إرشاداً إلى الفساد لأجل أمر آخر غير فقدان الملاك، فيرجع بالأخرة إلى الشكّ في مانعية النهي عن العبادة، وهو مجرى البراءة.

ولا يخفى عليك الفرق بين ما تقدّم آنفاً - من أنّ إجراء البراءة أجنبيّ عن

المقام - وبين المقام من إجراء البراءة، فلا تغفل.

وأمّا إذا كان الشكّ في تحقّق الملاك أيضاً فالأصل يقتضي الفساد؛ لأنّ صحّة الصلاة تتوقّف إمّا على إحراز الأمر أو الملاك، والأمر لا يجتمع مع النهي في عنوان واحد، ومع عدمه لا طريق لإحراز الملاك.

التحقيق في دلالة النهي على الفساد
اشارة

إذا عرفت ذلك فيقع الكلام: تارةً في دلالة النهي عرفاً إذا تعلّق بعبادة أو معاملة مع عدم إحراز كونه للتحريم أو التنزيه أو غيرهما، واُخرى في الاقتضاء عقلاً إذا اُحرز التحريم أو غيره.

دلالة النهي على الفساد عرفاً مع عدم إحراز حال النهي

أمّا المقام الأوّل: فلا ينبغي الإشكال في ظهوره عرفاً إذا تعلّق بالمعاملات في الإرشاد إلى الفساد لا تحريم السبب؛ فإنّ الأسباب آلات لتحقّق المسبّبات، ولا نفسية لها حتّى يتعلّق بها النهي، مضافاً إلى بُعد تعلّق النهي والحرمة بالتلفّظ

ص: 138

بألفاظ الأسباب. وأمّا المسبّب فهو اعتبار شرعي أو عقلائي لا معنى لتعلّقه به.

وأمّا الآثار المترتّبة عليها فتعلّقه بها ذاتاً بعيد؛ لأ نّه مع تأثير السبب لا معنى للنهي، ومع عدمه يكون التصرّف في مال الغير ووط ء الأجنبيّة وأمثالهما محرّمة لا تحتاج إلى تعلّقه بها، فلا بدّ من حمله على الإرشاد، وأنّ الزجر عن الإيقاع لأجل عدم الوقوع.

وبالجملة: المتفاهم به عرفاً في النهي عن معاملة خاصّة أو إيقاعها على نحو خاصّ، هو الإرشاد إلى أنّ الأثر المتوقّع منها لا يترتّب عليها، فتكون فاسدة.

وأمّا ما يقال: من أنّ النهي فيها منصرف إلى ترتيب الآثار، فقوله: «لا تبع المجهول» مثلاً، منصرف إلى حرمة ترتيب الآثار على بيعه، ومنه يستفاد الوضع.

فغير سديد؛ لمنع الانصراف، ولا داعي لرفع اليد عن ظاهر العنوان، بل الظاهر أنّ النهي متعلّق بإيقاع الأسباب، لكن لا إلى ذاتها بما هي، بل بداعي الإرشاد إلى عدم التأثير.

وأمّا العبادات: فلا يبعد دعوى ذلك فيها أيضاً؛ لأنّ المكلّفين بحسب النوع إنّما يأتون بالعبادات لأجل إسقاط الأمر والإعادة والقضاء، فإذا ورد من المقنّن نهي عن كيفية خاصّة، تنصرف الأذهان إلى أنّ الإتيان بها مع هذه الكيفية غير مسقط للأمر، وأ نّه لأجل الإرشاد إلى فسادها.

فقوله: «لا تصلّ في وبر ما لا يؤكل لحمه»(1) ظاهر - في نظر العرف - في أنّ الطبيعة المتعلّقة للأمر لا تتحقّق بهذه الكيفية، وأنّ الصلاة كذلك لا يترتّب

ص: 139


1- راجع وسائل الشيعة 4: 347، كتاب الصلاة، أبواب لباس المصلّي، الباب 2.

عليها الأثر المتوقّع؛ أي سقوط القضاء والإعادة وسقوط الأمر لأجل الأمن

من العقاب.

وكذا الحال لو تعلّق بصنف خاصّ كصلاة الأعرابي، أو في حال خاصّ كالصلاة أيّام الأقراء، أو مكان خاصّ كالحمّام، فمع عدم الدليل تحمل تلك النواهي على الإرشاد، كالأوامر الواردة في الأجزاء والشرائط، وهذه الدعوى قريبة.

في اقتضاء النهي الفساد عقلاً مع إحراز حال النهي

وأمّا المقام الثاني؛ أي إذا أحرزنا حال النهي:

فتارةً يكون تحريمياً نفسياً متعلّقاً بعبادة: فلا شبهة في اقتضائه الفساد عقلاً؛ فإنّه كاشف عن المبغوضية والمفسدة، ومعهما كيف يمكن صلاحيته للتقرّب والتعبّد ؟ !

وأمّا إتعاب شيخنا العلاّمة - طاب ثراه - نفسه الشريفة في تصوير تعلّق النهي

بأمر خارج، وإدراج المسألة تحت اجتماع الأمر والنهي(1)، فلا يخلو من غرابة؛ لأنّ الكلام هاهنا بعد الفراغ عن تعلّقه بنفس العبادة.

وأمّا النهي التنزيهي: فمع بقائه على تنزيهيته ودلالته على مرجوحية متعلّقه، فلا يجتمع مع الصحّة، لكن يقع البحث حينئذٍ في أنّ النهي التنزيهي ملازم للترخيص، وكيف يمكن الترخيص في التعبّد بأمر مرجوح ؟ ! وهل هذا إلاّ الترخيص بالتشريع ؟ !

ص: 140


1- درر الفوائد، المحقّق الحائري: 187 - 188.

فلا بدّ بعد إحراز المرجوحية من التخلّص عن هذا الإشكال؛ بأن يقال: إنّ الترخيص حيثي، مفاده عدم كون عنوان العبادة محرّماً ذاتاً، ولا يتنافى ذلك مع الحرمة من قبل التشريع على فرضها.

وأمّا النهي الغيري: - كالنهي عن الضدّ بناءً على القول به - فلا يقتضي الفساد عقلاً؛ لعدم دلالته على مبغوضية المتعلّق؛ لأ نّه لم يكن إلاّ للإلزام بإتيان غيره، كما أنّ الأمر المقدّمي لا يكشف عن المحبوبية؛ لأ نّه إلزام لأجل غيره، فمع القول بكفاية الملاك في صحّة العبادة لا إشكال فيها.

وما قيل: من أنّ إتيان الفعل المنهيّ عنه تجرٍّ على المولى، فيكون الفاعل بعيداً عن ساحته به، فلا يمكن التقرّب به(1)، بعيد عن الصواب:

أمّا أوّلاً: فلأنّ فاعل الضدّ عاص بترك الضدّ الأهمّ لا فعل المهمّ، فليس في فعله تجرٍّ.

وأمّا ثانياً: فعلى فرضه لا دليل على أنّ التجرّي موجب لفساد العمل؛ لأنّ المبغوضية لا تسري إليه، وكون الفاعل جريئاً على المولى لا يوجب بُعده بعمله، بل بجرأته وجسارته، وهو عنوان آخر لا تسري المبغوضية منه إلى الفعل.

هذا حال العبادات.

وأمّا المعاملات: فلا إشكال في عدم دلالة النهي التنزيهي والغيري فيها على الفساد.

وأمّا النهي التحريمي: فإن تعلّق بالفعل المباشري - أي صدور هذا اللفظ

ص: 141


1- درر الفوائد، المحقّق الحائري: 185، الهامش 1؛ غرر العوائد من درر الفوائد: 71.

بنفسه أو صدوره بعنوان إيقاع المعاملة - فلا يدلّ على الفساد؛ لعدم المنافاة بين مبغوضيتهما والتأثير في المسبّب والصحّة، وكذا لو تعلّق بها لأجل مبغوضية مسبّبها، كبيع المسلم من الكافر إذا كان المبغوض مملوكيته له؛ لعدم المنافاة أيضاً.

ويظهر من الشيخ الأعظم: التفصيل بين كون الأسباب عقلية كشف عنها الشارع، فتصحّ المعاملة، وإن اُجبر الكافر على إخراجه عن ملكه، وبين كون الأسباب شرعية، فيبعد جعله السبب مع مبغوضية مسبّبه(1).

أقول: الظاهر أنّ الأسباب نوعاً عقلائية، لا عقلية ولا شرعية، والظاهر أنّ مراده من العقلية ما ذكر، تأمّل.

فيقع الكلام: في أنّ النهي عن السبب لأجل مبغوضية المسبّب، هل يكون رادعاً عن المعاملة العقلائية أم لا ؟

الأقوى هو الثاني؛ لعدم المنافاة بينهما، بل لو فرض مجعولية السبب شرعاً لم يرفع اليد عن أدلّة السببية لأجل مبغوضية المسبّب، وما استبعده ليس ببعيد؛ لأنّ جعل القانون الكلّي الذي يشمل المورد لا بعد فيه وإن كان اختصاص المورد بالجعل بعيداً، وليس الأمر كذلك.

وكذا الكلام لو تعلّق النهي بالتسبّب بسبب خاصّ إلى المسبّب بحيث لا يكون المسبّب مبغوضاً، بل التوسّل إليه بذاك السبب مبغوضاً؛ فإنّه أيضاً لا يدلّ على الفساد؛ لعدم المنافاة كما مرّ.

ص: 142


1- مطارح الأنظار 1: 752.

وما قيل: - من أ نّه مع مبغوضية حصول الأثر بذاك السبب لا يمكن إمضاء المعاملة، وهو مساوق للفساد(1) - فيه منع، كالحيازة بالآلة الغصبية - تأمّل - فأيّة منافاة بين تحقّق الوضع والحرمة التكليفية ؟ !

مضافاً إلى أنّ المعاملات عقلائية، لا بدّ فيها من الردع، ومجرّد ذلك لا يكون رادعاً، كما لا يكون مخصّصاً أو مقيّداً لما دلّ على تنفيذ الأسباب.

نعم، لو تعلّق النهي بالمعاملة لأجل مبغوضية ترتيب الآثار المطلوبة عليها لفهم منه الفساد عرفاً؛ لأنّ حرمة ترتيب الأثر على معاملة مساوقة لفسادها عرفاً.

هذا كلّه لو اُحرز تعلّقه بأحد العناوين، ومع عدمه فلا ينبغي الإشكال في ظهوره في النحو الأخير.

فإذا ورد «لا تبع ما ليس عندك»(2) واُحرزت حرمة النهي، يفهم منه أ نّها متعلّقة بالبيع باعتبار ترتيب الآثار، والمبغوض هو العمل على طبقه، كسائر معاملاته، ولا ينقدح في ذهن العرف حرمة التلفّظ بالألفاظ الخاصّة؛ لأ نّها آلات لا ينظر إليها، ولا حرمة المسبّب الذي هو أمر اعتباري لا يكون مبغوضاً نوعاً، ولا التسبّب بها إلى المسبّب، بل ما ينقدح في أذهانهم هو الزجر عن المعاملة على نحو سائر المعاملات من ترتيب الأثر عليها، فالنهي متوجّه إلى المعاملة باعتبار ترتيب الآثار، وهو مساوق للفساد.

ص: 143


1- لمحات الاُصول: 214.
2- المسند، أحمد بن حنبل 12: 129 / 15249؛ سنن الترمذي 2: 350 / 1250.

ومنه يظهر ما في كلام الشيخ الأعظم: من دعوى ظهور تعلّقه بصدور الفعل المباشري(1)، مع أ نّه أبعد الاحتمالات لدى العرف والعقلاء، فتدبّر.

في التمسّك بالروايات على فساد المعاملة المنهيّ عنها

ثمّ إنّه قد يتمسّك(2) بروايات لإثبات الفساد لو تعلّق النهي بعنوان المعاملة:

منها: صحيحة زرارة المرويّة في نكاح العبيد والإماء عن أبي جعفر علیه السلام

قال: سألته عن مملوك تزوّج بغير إذن سيّده، فقال: «ذاك إلى سيّده، إن شاء أجازه، وإن شاء فرّق بينهما» قلت: أصلحك الله إنّ الحكم بن عتيبة وإبراهيم النخعي وأصحابهما يقولون: إنّ أصل النكاح فاسد، ولا يحلّ إجازة السيّد له، فقال أبو جعفر: «إنّه لم يعص الله، إنّما عصى سيّده، فإذا أجازه فهو له جائز»(3).

ومنها: ما عن زرارة عن أبي جعفر علیه السلام قال: سألته عن رجل تزوّج عبده امرأةً بغير إذنه، فدخل بها، ثمّ اطّلع على ذلك مولاه، قال: «ذاك لمولاه، إن شاء فرّق بينهما...» إلى أن قال: فقلت لأبي جعفر: فإنّه في أصل النكاح كان عاصياً، فقال أبو جعفر: «إنّما أتى شيئاً حلالاً، وليس بعاصٍ لله، إنّما عصى سيّده، ولم يعص الله، إنّ ذلك ليس كإتيان ما حرّم الله عليه من نكاح في عدّة وأشباهه»(4).

ص: 144


1- مطارح الأنظار 1: 753 - 754.
2- الوافية في اُصول الفقه: 104.
3- الكافي 5: 478/3؛ وسائل الشيعة 21: 114، كتاب النكاح، أبواب نكاح العبيد والإماء، الباب 24، الحديث 1.
4- الكافي 5: 478 / 2؛ وسائل الشيعة 21: 115، كتاب النكاح، أبواب نكاح العبيد والإماء، الباب 24، الحديث 2.

بتقريب: أنّ الظاهر منهما أنّ النكاح لو كان معصية الله لكان باطلاً، وإنّما نفى الصغرى.

وربّما يستشكل(1) بأنّ عصيان السيّد عصيان الله؛ لحرمة مخالفته شرعاً، فكيف قال: «إنّما عصى سيّده ولم يعص الله» ؟

فهرب كلٌّ مهرباً، ولم يأتوا بشيء مقنع غير مخالف للظاهر.

والتحقيق أن يقال: إنّ مورد السؤال والجواب النكاح بما له من المعنى المتعارف؛ أي ما صنعه العبد بلا إذن مولاه، ومع ذلك أ نّه عصيان سيّده، وليس بعصيان الله: أمّا عصيان السيّد، فلأنّ ارتكابه هذا الأمر المهمّ بلا إذنه مخالفة لسيّده، وخروج عن رسم العبودية، وأمّا عدم كون النكاح عصيان الله تعالى، فلأنّ ما حرّم الله تعالى على العبد هو عنوان مخالفته لمولاه، ومتعلّق النهي هذا العنوان، ولا يكاد يتجاوز عنه إلى عنوان آخر كالنكاح والطلاق.

فالتزويج الخارجي مصداق لعنوان محرّم هو مخالفة المولى، وعنوان غير محرّم بل محلّل هو النكاح، فالتزويج بعنوانه حلال ليس بمحرّم، ولا تسري حرمة مخالفة المولى إلى ذلك العنوان في وعاء من الأوعية، وإنّما يتّحد مصداق النكاح مع مصداق المخالفة في الخارج الذي لم يكن ظرف تعلّق الحكم، كما مرّ الكلام فيه(2) في باب الاجتماع وفي النذر المتعلّق بالنافلة.

ويشهد على ذلك قوله في الرواية الثانية: فقلت لأبي جعفر علیه السلام : فإنّه في

ص: 145


1- الفوائد الحائرية: 176؛ قوانين الاُصول 1: 162 / السطر 4؛ مطارح الأنظار 1: 757.
2- تقدّم في الصفحة 94 - 95.

أصل النكاح كان عاصياً، فقال أبو جعفر: «إنّما أتى شيئاً حلالاً، وليس بعاصٍ لله، إنّما عصى سيّده»، ترى كيف صرّح بأنّ أصل النكاح شيء حلال ليس بمعصية الله، ومع ذلك عصى سيّده؛ أي في النكاح، فالتزويج عصيان السيّد، ومخالفة السيّد عصيان لله، وهي بعنوانها غير النكاح، وإن اتّحدا خارجاً.

ويشهد له أيضاً تعليله بأنّ ذلك ليس كإتيان ما حرّم الله عليه من نكاح في عدّة وأشباهه ممّا تعلّق الحرمة بنفس الطبيعة، ووجه الافتراق ليس إلاّ ما ذكرنا.

ويشهد أيضاً له صحيحة منصور بن حازم عن أبي عبدالله في مملوك تزوّج بغير إذن مولاه، أعاصٍ لله ؟ قال: «عاصٍ لمولاه». قلت: حرام هو ؟ قال: «ما أزعم أ نّه حرام، وقل له: أن لا يفعل إلاّ بإذن مولاه»(1). ترى كيف صرّح بعدم حرمة التزويج، ومع ذلك نهاه عن إتيانه بلا إذن مولاه، وليس له وجه إلاّ ما تقدّم من أنّ النكاح ليس بحرام، لكن إتيانه منطبق عنوان آخر محرّم؛ هو مخالفة المولى.

تذنيب: في دعوى دلالة النهي على الصحّة

حُكي عن أبي حنيفة والشيباني دلالة النهي على الصحّة(2)؛ لأنّ النهي زجر عن إتيان المبغوض، ومع عدم قدرة المكلّف يكون لغواً، فالنكاح في العدّة

ص: 146


1- الكافي 5: 478 / 5؛ وسائل الشيعة 21: 113، كتاب النكاح، أبواب نكاح العبيد والإماء، الباب 23، الحديث 2.
2- اُنظر المحصول في علم اُصول الفقه 2: 456؛ شرح العضدي على مختصر ابن الحاجب: 211 - 212.

وصوم يوم النحر ممّا لا يمكن للمكلّف إتيانهما، يكون النهي عنهما لغواً؛ لتعلّقه

بأمر غير مقدور.

فأجاب عنه المحقّق الخراساني في المعاملات: بأنّ النهي عن المسبّب أو التسبّب يدلّ على الصحّة؛ لاعتبار القدرة في متعلّقه، وأمّا إذا كان عن السبب فلا؛ لكونه مقدوراً وإن لم يكن صحيحاً(1)، انتهى.

ولا يخفى: أنّ نظرهما إلى المعاملات العقلائية على ما هي رائجة بينهم لولا نهي الشارع، فإيقاع السبب - بما أ نّه فعل مباشري - ليس معاملة، ولا مورد نظرهما، ولا متعلّقاً لنهي في الشريعة في مورد من الموارد.

وادّعى بعض المدقّقين سقوط قولهما على جميع التقادير بما محصّله: أنّ ذات العقد الإنشائي غير ملازم للصحّة، فمقدوريته لذاته لا ربط لها بمقدوريته من حيث هو مؤثّر فعلي، وإيجاد الملكية عين وجودها حقيقةً، غيرها اعتباراً، والنهي عنه وإن دلّ عقلاً على مقدوريته لكن لا يتّصف هو بالصحّة؛ لأنّ الاتّصاف إن كان بلحاظ حصول الملكية فهي ليست أثراً له؛ لأنّ الشيء ليس أثراً لنفسه، وإن كان بلحاظ الأحكام المترتّبة على الملكية المعبّر عنها بآثارها، فنسبتها إليها نسبة الحكم إلى موضوعه، لا المسبّب إلى سببه ليتّصف بلحاظه بالصحّة(2)، انتهى.

وأنت خبير بأنّ محطّ نظرهما هو النهي المتعلّق بالمعاملة على نحو

ص: 147


1- كفاية الاُصول: 228.
2- نهاية الدراية 2: 407 - 408.

أوجدها العقلاء - أي العقد المتوقّع ترتّب المسبّب عليه - فلا يرد عليهما

هذا الإشكال.

ولو سلّم تعلّق النهي بإيجاد الملكية فلا محالة يكون إيجادها مقدوراً، كما اعترف به المستشكل. فمقدوريته كاشفة عن صحّة المعاملة، لا عن صحّة الإيجاد حتّى يقال: إنّه لا يتّصف بها، فالحقّ معهما إذا اُحرز أنّ النهي تكليفي لا إرشادي، وإلاّ فظهوره في الفساد لا ينبغي أن ينكر.

هذا إذا لم نقل بأنّ النهي إذا تعلّق بمعاملة لأجل مبغوضية ترتيب الآثار المطلوبة عليها يدلّ على الفساد في نظر العقلاء، وإلاّ فيصير نظير الإرشاد إلى الفساد، تدبّر.

وأمّا العبادات: فكلامهما فيها خالٍ عن التحصيل على أيّ تقدير:

أمّا على قول الأعمّي، فواضح.

وأمّا على الصحيحي فهو أيضاً كذلك؛ لأنّ الصحيحي لم يكن قائلاً بالصحيح حتّى من قبل الشرائط الآتية من قبل الأمر على ما قيل.

وأمّا لو قلنا بالصحّة الفعلية؛ فلأنّ العبادة تتقوّم بالأمر أو الملاك، وشيء منهما لا يتعقّل مع النهي: أمّا الأمر فواضح؛ لأنّ العنوان واحد، [وأمّا الملاك] فلا

يمكن أن يكون عنوان واحد مبغوضاً ومحبوباً وذا صلاح وفساد، فلا يجتمع النهي مع الصحّة الفعلية مطلقاً.

ص: 148

تنبيه في حكم تعلّق النهي بجزء العبادة أو شرطها أو وصفها

قد مرّ الكلام في تعلّق النهي بنفس العبادة كائنة ما كانت(1)، فبعد البناء على فسادها بتعلّقه بها، فهل يوجب تعلّقه بجزئها أو شرطها أو وصفها اللازم أو المفارق فسادها أم لا ؟

ومحطّ البحث: هو اقتضاء الفساد من هذه الحيثية لا الحيثيات الاُخر، مثل تحقّق الزيادة في المكتوبة، أو كون الزائد المحرّم من الكلام الآدمي، إلى غير ذلك ممّا هو أجنبيّ عن محلّ الكلام.

ولا يخفى أنّ كلام المحقّق الخراساني في الأمر الثامن من المقدّمات(2) لا يخلو من اضطراب.

والتحقيق: عدم إيجاب الفساد مطلقاً:

أمّا الجزء: فلأنّ حرمته لا توجب حرمة العبادة المشتملة عليه ولا أجزائها الاُخر بالضرورة، ومحلّ الكلام ما إذا تعلّق بالجزء، لا ما إذا تعلّق لأجله بالكلّ. وما يقال: من أنّ تحريم الجزء يستلزم أخذ العبادة بالإضافة إليه بشرط لا(3)، ممنوع؛ لعدم [قيام] دليل عليه، مع أ نّه خارج عن محلّ البحث.

وأمّا الوصف اللازم كالإجهار بالقراءة، فلأنّ عنوان الصلاة مع القراءة يخالف

ص: 149


1- أي: ولو كانت جزءاً أو شرطاً أو غيرهما. [منه قدّس سرّه ]
2- كفاية الاُصول: 222.
3- فوائد الاُصول ((تقريرات المحقّق النائيني)) الكاظمي 1: 465.

عنوان الإجهار بها، ومعلوم أنّ الإجهار بها غير القراءة جهراً، ومحطّ البحث هو الأوّل، ولا مانع من تعلّق الأمر بعنوان القراءة أو الصلاة مع القراءة، وتعلّق النهي

بإجهارها في الصلاة؛ فإنّهما عنوانان غير مأخوذ أحدهما في الآخر، وإضافة الإجهار إلى القراءة من قبيل زيادة الحدّ على المحدود، واتّحادهما خارجاً غير مضرّ، كما مرّ في باب الاجتماع(1).

ولا يخفى: أنّ المراد بالوصف اللازم ليس بوجه لا تكون مندوحة في البين؛ ضرورة امتناع تعلّق الأمر بشيء والنهي بلازمه الغير المنفكّ عنه، بل المراد منه كلزوم الجهر للقراءة؛ حيث لا يمكن سلبه عنها مع بقائها، وإن أمكن إيجادها في ضمن صنف آخر.

وممّا ذكرنا ظهر حال الوصف الغير اللازم.

وأمّا الشرط: كما لو تعلّق الأمر بالصلاة متستّراً، وتعلّق النهي بالتستّر في

الصلاة بوجه خاصّ أو شيء خاصّ، لا النهي عن التستّر فيها مطلقاً؛ فإنّه ممتنع مع الأمر بها متستّراً، وكيف كان، فلا يلزم من النهي عن التستّر الخاصّ مبغوضية الصلاة، ومبغوضية التستّر بنحو خاصّ لا تنافي محبوبية الصلاة متستّراً، فإنّ التقيّد بالتستّر المأخوذ فيها أمر عقلي ليس كالأجزاء، فيمكن أن يتقرّب بالصلاة مع التستّر بستر منهيّ عنه، ولا يلزم اجتماع المبغوض والمحبوب.

هذا كلّه بحسب حكم العقل دون الاستظهار من الأدلّة، فلا مضايقة في دلالتها على الفساد أحياناً.

ص: 150


1- تقدّم في الصفحة 111.

المقصد الثالث في المفاهيم

اشارة

وفيه مقدّمة وفصول:

ص: 151

ص: 152

مقدّمة في تعريف المفهوم

قد عرّف المفهوم بتعاريف لا داعي لذكرها والنقض والإبرام في أطرافها، لكن لا بدّ من التنبيه على أمر: وهو أنّ المفهوم على بعض الوجوه من مسلك المتأخّرين(1) القائلين باستفادته من دلالة أداة الشرط أو القضيّة الشرطية وضعاً أو إطلاقاً على العلّية المنحصرة، يكون من اللوازم البيّنة للمعنى الموضوع له أو المفهوم من القضيّة المنطوقة؛ لأنّ العلّية المنحصرة وإن لم تكن بمفهومها الاسمي مدلولاً عليها في القضيّة؛ ضرورة أنّ معاني الأداة حرفية، لكن دلّت أداة الشرط - على فرض إفادة المفهوم - على تعليق الجزاء على العلّة المنحصرة، ولازمه الانتفاء عند الانتفاء، فتكون الدلالة على الحصر لفظية بناءً على الوضع له، وعلى المفهوم دلالة التزامية.

وأمّا على مسلك القدماء - على ما نسب إليهم بعض أجلّة العصر(2) - من أنّ

ص: 153


1- يأتي في الصفحة 159.
2- لمحات الاُصول: 225 - 226.

المفهوم مستفاد من وجود القيد، وأنّ الظاهر من إتيان القيد بما أ نّه فعل اختياري

للمتكلّم دخالته في الموضوع، وأ نّه مع انتفائه ينتفي الحكم؛ فتكون دلالته عليه بغير الدلالات اللفظية الالتزامية، كما هو كذلك عند المتأخّرين بناءً على استفادة الحصر من الإطلاق، وسيتّضح الفرق بينهما.

ويمكن انطباق تعريف الحاجبي على كلّ من المسلكين، فإنّه عرّف المنطوق بما دلّ عليه اللفظ في محلّ النطق، والمفهومَ بما دلّ عليه اللفظ لا في محلّ النطق(1).

فيمكن أن يقال: أراد من دلالته في محلّ النطق دلالة المطابقة، أو هي مع التضمّن، ومن دلالته لا في محلّه دلالة الالتزام؛ حيث إنّ اللفظ دالّ على اللازم بواسطة دلالته على المعنى المطابقي، مع عدم كون الدلالة عليه في محلّ النطق، فإذا أخبر المتكلّم بأنّ الشمس طالعة، دلّ لفظه على طلوع الشمس في محلّ النطق؛ أي كان لفظه قالباً للمعنى المطابقي، ودلّ على وجود النهار مع عدم النطق به.

أو يقال: أراد من محلّ النطق الدلالات اللفظية مطلقاً، ومن غيره دلالة اللفظ بما أ نّه فعل اختياري للمتكلّم على دخالته في موضوع الحكم، فدلّ على الانتفاء عند الانتفاء.

وأنت خبير بأنّ ظاهر الحاجبي هو الأوّل، ولهذا يمكن أن يكون مراد القدماء أيضاً موافقاً للمتأخّرين، مضافاً إلى بعد دعواهم استفادة المفهوم من صرف وجود القيد، مع كونه ظاهر الفساد.

ص: 154


1- شرح العضدي على مختصر ابن الحاجب: 306.

وبالجملة: في صحّة النسبة المتقدّمة إلى القدماء تردّد.

وكيف كان، فالمفهوم هو قضيّة غير مذكورة مستفادة من المذكورة، وهذا ينطبق على المسلكين؛ فإنّ طريق الاستفادة قد يكون بدلالة اللفظ، وقد يكون بأصل عقلائي كما سيجيء(1).

ثمّ إنّ كون المفهوم من صفات الدلالة أو المدلول ربّما يكون بحسب الاعتبار والإضافة، فالدلالة على المعنى المطابقي دلالة منطوقية، وعلى الالتزامي مفهومية، وكذا في جانب المدلول؛ فإنّه إمّا منطوق يفهم من محلّ النطق أو مفهوم، وإن كان الأشبه كونه من صفات المدلول.

ثمّ إنّ النزاع صغروي على كلا المسلكين:

أمّا على مسلك المتأخّرين: فلأنّ النزاع في أنّ القضيّة الشرطية مثلاً، هل تدلّ على المفهوم لأجل دلالتها على انحصار العلّة أم لا ؟ وأمّا بعد فرض الدلالة فلا إشكال في حجّيته.

وأمّا على المسلك المنسوب إلى القدماء: فقد يقال: إنّه كبروي؛ فإنّ المفهوم

على هذا لمّا لم يكن في محلّ النطق وليس من المدلولات اللفظية، يقع النزاع في أ نّه هل يمكن الاحتجاج عليه أو لا يمكن؛ لأجل عدم النطق به، فإذا قال: «إذا جاءك زيد فأكرمه» يفهم منه: أ نّه إذا لم يجئ لا يجب الإكرام، لكن لا يمكن الاحتجاج على المتكلّم بأ نّك قلت كذا، وإذا قيل له: ما فائدة القيد ؟ له أن يعتذر بأعذار(2).

ص: 155


1- يأتي في الصفحة 157.
2- لمحات الاُصول: 224 و225.

أقول: النزاع عليه صغروي أيضاً؛ لأنّ القائل بالمفهوم يدّعي أنّ إتيان القيد الزائد يدلّ بما أ نّه فعل اختياري على كون القيد ليس إلاّ موضوع الحكم، ومع عدمه لا ينوب منابه شيء، والمنكر إنّما ينكر هذه الدلالة لا حجّيتها بعد تسليم الدلالة، كما هو ظاهر استدلال النافين من نفي الدلالات، بل ظاهر كلام السيّد المرتضى أيضاً؛ فإنّ قوله: «إنّ تأثير الشرط إنّما هو تعليق الحكم به وليس يمتنع أن يخلفه وينوب منابه شرط آخر»(1) ظاهر في أنّ المستفاد من الشرط دخالته، لا عدم دخالة شرط آخر حتّى يفيد المفهوم، فهو ينكر المفهوم لا حجّيته بعد ثبوته، كما يظهر منه: أنّ مدّعي المفهوم يدّعي دلالة الكلام على عدم نيابة قيد آخر مناب القيد المذكور، وهو عين مسلك المتأخّرين، فتدبّر.

ص: 156


1- الذريعة إلى اُصول الشريعة 1: 406.

الفصل الأوّل في دلالة الجمل الشرطية على المفهوم

اشارة

هل الجمل الشرطية تدلّ على الانتفاء عند الانتفاء مع الخلوّ عن القرينة ؟ فيها خلاف:

قد نسب إلى المتقدّمين: أنّ النكتة الوحيدة في دلالة القضايا على المفهوم شرطية كانت أو وصفية أو غيرهما، هي شيء واحد غير مربوط بالدلالات اللفظية كما تقدّم(1)، مع الترديد في صحّة النسبة.

وتوضيحه: أنّ الأصل العقلائي في كلّ فعل صادر من شاعر مختار - ومنه الكلام بما أ نّه فعله - الحمل على أ نّه صدر لغرض لا لغواً.

ثمّ في الكلام أصل آخر وهو صدوره للتفهيم لا لغرض آخر؛ لأ نّه آلته، واستعماله لغيره خلاف الأصل، ثمّ بعد ذلك لو شكّ في الاستعمال الحقيقي يحمل عليه.

ولا إشكال في جريان الأصل العقلائي في القيود الزائدة في الكلام، فإذا شكّ في قيد أ نّه اُتي به لغواً أو لغرض يحمل على الثاني، وإذا شكّ أ نّه للتفهيم أو غيره

ص: 157


1- تقدّم في الصفحة 154.

حمل على الأوّل. وما يكون القيود آلة لتفهيمه هو دخالتها في الموضوع، وأنّ جعله مقيّداً لأجل كون الموضوع هو الذات مع القيد، وهذا ليس من قبيل الدلالات اللفظية كما مرّ، فتحصّل من ذلك: أنّ إتيان القيد يدلّ على دخالته في الحكم، فينتفي عند انتفائه، من غير فرق بين الشرط والوصف وغيرهما. هذا حاصل ما قرّر بعض الأجلّة(1).

وأنت خبير بأنّ ذلك لا يفيد ما لم يضمّ إليه شيء آخر، وهو أنّ عدم الإتيان بشيء آخر في مقام البيان يدلّ على عدم القرين له، وبه يتمّ المطلوب، وإلاّ فصرف عدم لغوية القيود لا يدلّ على المفهوم ما لم تفد الحصر. فإثبات المفهوم إنّما هو بإطلاق الكلام، وهو أحد الطرق التي تشبّث بها المتأخّرون ممّا يأتي تقريره والجواب عنه، ومحصّله:

أنّ غاية ما يقتضي الدليل المذكور أنّ القيد دخيل في الحكم، وليس الحكم متعلّقاً بذات الموضوع بلا قيد، وإلاّ لزم اللغوية، وأنّ الموضوع مع هذا القيد تمام

الموضوع للحكم، فيترتّب على المقيّد به الحكم بلا انتظار قيد آخر، وهو مقتضى الإطلاق؛ أي عدم التقيّد بقيد آخر.

وأمّا عدم تعلّق سنخ هذا الحكم بموضوع آخر - وهو ذات الموضوع مع قيد آخر - فلا يكون مقتضى إتيان القيد، ولا إطلاق الموضوع.

مثلاً: قوله: «إذا بلغ الماء قدر كُرّ لا ينجّسه شيء»(2) يدلّ باعتبار التقييد

ص: 158


1- لمحات الاُصول: 228.
2- راجع وسائل الشيعة 1: 158، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 9، الحديث 1 و2 و5 و6.

بالكرّ [على] أنّ ذات الماء ليست موضوعة للحكم، وإلاّ لكان القيد لغواً، وأنّ

هذا الموضوع المقيّد تمام الموضوع للحكم، ولا يكون قيد آخر دخيلاً فيه، وإلاّ كان عليه البيان.

وأمّا عدم نيابة قيد آخر عن هذا القيد، وعدم صدور حكم آخر سنخه متعلّقاً بالجاري أو النابع، فلا يكون مقتضى التقييد، ولا مقتضى الإطلاق. وسيأتي تتمّة له عن قريب إن شاء الله.

وأمّا المتأخّرون فقد ذكروا وجوهاً كلّها مخدوشة، مثل التبادر(1)، والانصراف(2). ولا يخفى ما فيهما.

ومثل التمسّك بإطلاق أداة الشرط لإثبات الانحصار، كإطلاق صيغة الأمر لإثبات الوجوب النفسي التعييني(3).

وقد مرّ الإشكال في المقيس عليه(4)، ويرد نظيره هاهنا، مع أنّ القياس مع الفارق.

والتمسّك بإطلاق الشرط؛ بتقريب: أ نّه لو لم يكن بمنحصر لزم تقييده؛ ضرورة أ نّه لو قارنه أو سبقه الآخر لما أثّر وحده أو مطلقاً، وقضيّة إطلاقه أ نّه يؤثّر كذلك مطلقاً(5).

وفيه: أنّ ذلك ليس قضيّة الإطلاق؛ فإنّها - كما مرّ - ليست إلاّ أنّ ما جعل

ص: 159


1- الفصول الغروية: 147 / السطر 27؛ اُنظر كفاية الاُصول: 232.
2- معالم الدين: 78؛ قوانين الاُصول 1: 175 / السطر 15.
3- اُنظر كفاية الاُصول: 232 - 233.
4- تقدّم في الجزء الأوّل: 223.
5- اُنظر مطارح الأنظار 2: 26؛ كفاية الاُصول: 233.

شرطاً هو تمام الموضوع لإناطة الجزاء به، وإلاّ لكان عليه بيانه، كما هو الحال

في جميع موارد الإطلاق.

وبعبارة اُخرى: أنّ الإطلاق في مقابل التقييد، ودخالة شيء آخر في موضوع الحكم وكون شيء آخر موضوعاً للحكم أيضاً، لا يوجب تقييداً في الموضوع بوجه.

وأمّا قضيّة الاستناد الفعلي إلى الموضوع مع عدم كون قرين له قبله وبعده فهو شيء غير راجع إلى الإطلاق والتقييد؛ فإنّ الاستناد واللا استناد في الوجود الخارجي بالنسبة إلى المقارنات الخارجية، غير مربوط بمقام جعل الأحكام على العناوين؛ فإنّ في ذلك المقام لم يكن الدليل ناظراً إلى كيفية الاستناد في الوجود، فضلاً عن النظر إلى مزاحماته فيه.

وكيف كان، فالإطلاق غير متكفّل بإحراز عدم النائب، وإن كان كفيلاً بإحراز عدم الشريك؛ أي القيد الآخر.

ولو فرض إحراز كون المتكلّم بصدد بيان العلّة المنحصرة أو الموضوع المنحصر، فهو غير مربوط بمفهوم الشرط، بل مع هذا يفهم الحصر مع اللقب أيضاً، لكنّه لأجل القرينة لا لأجل المفهوم المورد للنزاع.

وممّا ذكرنا يظهر الإشكال فيما تمسّك به بعض الأعاظم، وهو إطلاق الجزاء - بعد الإشكال على جواز التمسّك بإطلاق الشرط، تارةً: بأنّ مقدّمات الحكمة إنّما تجري في المجعولات الشرعية، والعلّية والسببية غير مجعولة. واُخرى: بما استشكل غيره أيضاً - فقال ما حاصله:

إنّ مقدّمات الحكمة تجري في ناحية الجزاء من حيث عدم تقييده بغير ما

ص: 160

جعل في القضيّة من الشرط مع كونه في مقام البيان، ويحرز كونه في مقامه من تقييد الجزاء بالشرط. ودعوى كونه من هذه الجهة في مقام البيان لا تسمع، وإلاّ لانسدّ باب التمسّك بالإطلاق. ومقتضى كونه في مقامه، وعدم تقييد الجزاء بقيد آخر، هو أنّ الجزاء مترتّب على ذلك الشرط فقط من دون أن يشاركه شرط آخر، أو ينوب عنه(1)، انتهى.

وأنت خبير بما فيه بعد الإحاطة بما تقدّم آنفاً، فلا نعيده.

وأمّا الإشكال في إطلاق الشرط من أجل انحصار جريان المقدّمات بالمجعولات الشرعية، ففيه: - مضافاً إلى منع عدم مجعولية السببية والعلّية على ما حقّقنا في محلّه(2) - أنّ إجراءها لا ينحصر بها، بل الغالب جريانها في غيرها ممّا له أثر شرعي؛ مثلاً: إذا قال: «إن ظاهرت فأعتق رقبة»، وشكّ في اعتبار قيد في الرقبة، تجري المقدّمات في نفس الرقبة التي جعلت موضوع الحكم، وكذا لو شكّ في كيفية العتق يتمسّك بإطلاق المادّة لرفع الشكّ، مع عدم كونهما مجعولين شرعاً.

فكما يقال في مثل ما ذكر: إنّ ما جعل موضوعاً أو متعلّقاً هو تمامهما، وإلاّ لكان عليه البيان، فكذا يقال في المقام: لو كان شيء آخر دخيلاً في الشرط لكان عليه البيان، وهذا غير مربوط بجعل العلّية والسببية.

وهنا وجه آخر لإثبات الانحصار تمسّك به بعضهم، وهو: أنّ مقتضى

ظاهر الشرطية أن يكون المقدّم - بعنوانه الخاصّ - علّة، ولو لم تكن العلّة

ص: 161


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 481 - 484.
2- الاستصحاب، الإمام الخميني قدّس سرّه : 75.

منحصرة لزم استناد التالي إلى الجامع بينهما، وهو خلاف ظاهر الترتّب على المقدّم بعنوانه(1).

وفيه أوّلاً: أنّ استفادة العلّية من القضيّة الشرطية في محلّ المنع، بل لا يستفاد منها إلاّ نحو ارتباط بين المقدّم والتالي ولو كان على نحو الاتّفاق؛ مثلاً: لو فرض مصاحبة الصديقين غالباً في الذهاب والإياب، صحّ أن يقال: «إن جاء أحدهما يجيء الآخر» من غير ارتكاب تجوّز وتأوّل بلا إشكال. نعم لا يصحّ استعمال الشرطية فيما لا ربط بينهما بلا تأوّل، مثل ناهقية الحمار وناطقية الإنسان، فلا تستفاد العلّية حتّى يقال ذلك.

وثانياً: أنّ العلّية والمعلولية في المجعولات الشرعية ليست على حذو التكوين؛ من صدور أحدهما من الآخر؛ حتّى يأتي فيها القاعدة المعروفة، فيجوز أن يكون الكرّ بعنوانه دخيلاً في عدم الانفعال، والجاري والمطر بعنوانهما، كما هو كذلك. فقياس التشريع بالتكوين باطل ومنشأ لاشتباهات كثيرة.

وثالثاً: أنّ لجريان القاعدة مورداً خاصّاً وشرائط، وما نحن فيه ليس بمورده.

ورابعاً: أنّ طريق استفادة الأحكام من القضايا هو الاستظهارات العرفية، لا الدقائق الحكمية.

بقي اُمور:

ص: 162


1- نهاية الدراية 2: 416؛ لمحات الاُصول: 236.
الأمر الأوّل في الإشكال فيما إذا كان مفاد الجزاء معنىً حرفياً

لا إشكال في انتفاء شخص الحكم بانتفاء شرطه أو قيده عقلاً، من غير أن يكون لأجل المفهوم. فإذا وقف على أولاده العدول، أو إن كانوا عدولاً، فانتفاؤه مع سلب العدالة ليس للمفهوم، بل لعدم الجعل لغير مورده.

كما أ نّه لا إشكال - فيما إذا كان مفاد الجزاء حكماً كلّياً، كقوله: «إذا

جاء زيد يكون إكرامه واجباً» ممّا عبِّر عنه بالمعنى الاسمي - في أنّ انتفاءه لأجل المفهوم.

لكن وقع الإشكال في مثل: «إذا جاء فأكرمه» ممّا يكون الجزاء معنىً حرفياً، فقيل بعدم دخوله في محلّ النزاع؛ لأنّ انتفاء الإنشاء الخاصّ بانتفاء بعض القيود عقلي(1).

ودفعه المحقّق الخراساني: بأنّ معاني الحروف كلّيات(2). وقد سبق في بابها أنّ الموضوع له في مطلق الحروف خاصّ(3).

ولكن مع ذلك يمكن دفع الإشكال: بأنّ ظاهر القضايا بدواً وإن كان تعليق الوجوب على الشرط، لكن حكم العقل والعقلاء في مثل تلك القضايا أنّ لطبيعة المادّة مناسبة مع الشرط تكون سبباً لتعلّق الهيئة بها، فيكون الإيجاب المتعلّق

ص: 163


1- اُنظر مطارح الأنظار 2: 38.
2- كفاية الاُصول: 237.
3- تقدّم في الجزء الأوّل: 40.

بالمادّة في الجزاء متفرّعاً على التناسب الحاصل بينها وما يتلو أداة الشرط، فإذا قال: «إن أكرمك زيد أكرمه» يفهم العرف والعقلاء منه أنّ التناسب الواقعي بين إكرام زيد إيّاه وإكرامه دعا المولى لإيجابه عند تحقّقه، فالإيجاب متفرّع على التناسب الواقعي، وإلاّ كان لغواً، فإذا فرض دلالة الأداة على انحصار العلّة تدلّ على أنّ التناسب بينهما يكون بنحو العلّية المنحصرة، ففي الحقيقة يكون التناسب بين طبيعة ما يتلو أداة الشرط ومادّة الهيئة، فإذا دلّت الأداة على الانحصار تتمّ الدلالة على المفهوم، وإن كان مفادها جزئياً.

ولك أن تقول: إنّ الهيئة وإن كانت جزئية، لكن تناسب الحكم والموضوع يوجب إلغاء الخصوصية، وجعل الشرط علّة منحصرة لنفس الوجوب وطبيعيه، فبانتفائه ينتفي طبيعي الوجوب.

ص: 164

الأمر الثاني في تعدّد الشرط واتّحاد الجزاء

إذا تعدّد الشرط واتّحد الجزاء، فبناءً على ظهور الشرطية في المفهوم يقع التعارض بينهما إجمالاً، فهل التعارض بين المنطوقين أوّلاً وبالذات، أو بين مفهوم كلّ منهما ومنطوق الآخر ؟

الظاهر هو الأوّل، سواء قلنا بأنّ المتبادر من الشرطية هو العلّية المنحصرة، أو قلنا بانصرافها إليها، أو بأنّ ذلك مقتضى الإطلاق:

أمّا على الأوّل: فلأنّ حصر العلّية بشيء ينافي إثباتها لشيء آخر، فضلاً عن حصرها به؛ ضرورة التنافي بين قوله: «العلّة المنحصرة للقصر خفاء الأذان»، وقوله: «العلّة المنحصرة له خفاء الجدران».

وكذا لو قلنا بانصرافها إلى العلّة المنحصرة، فيقع التعارض بينهما لأجله.

وكذا على الأخير؛ لوقوع التعارض بين أصالتي الإطلاق في الجملتين.

ثمّ بعد وقوع التنافي بينهما يقع الكلام في التوفيق بينهما:

فنقول: تختلف كيفية التوفيق باختلاف المباني في استفادة المفهوم:

فلو قلنا: بأنّ استفادة الحصر تكون لأجل الوضع، فيقع التعارض بين أصالتي الحقيقة في الجملتين، ومع عدم الترجيح - كما هو المفروض - تصيران مجملتين؛ لعدم ترجيح بين المجازات. وكون العلّة التامّة أقرب إلى المنحصرة واقعاً، لا يكون مرجّحاً في تعيينه؛ لأنّ المعيّن له هو الاُنس الذهني بحيث يرجع إلى الظهور العرفي.

ص: 165

وإن قلنا: بأنّ استفادته لأجل الانصراف، فحينئذٍ إن قلنا: بأنّ الأداة موضوعة للعلّة التامّة ومنصرفة إلى المنحصرة، فمع تعارض الانصرافين تكون أصالة الحقيقة في كلّ منهما محكّمة بلا تعارض بينهما. وكذا لو قلنا بوضعها لمطلق اللزوم، أو الترتّب، أو غيرهما.

وإن قلنا: بأنّ استفادته مقتضى الإطلاق، فحينئذٍ إن قلنا: بأنّ الأداة موضوعة للعلّة التامّة، فمع تعارض أصالتي الإطلاق يؤخذ بأصالة الحقيقة بلا تعارض بينهما. وإن قلنا: بأنّ العلّية التامّة أيضاً مستفادة من الإطلاق، فمقتضى إطلاق قوله: «إذا خفي الأذان فقصّر»(1) هو عدم الشريك وعدم العديل، فإذا ورد: «إذا خفي الجدران فقصّر»(2)، فكما يحتمل أن يكون خفاء الجدران قيداً لخفاء الأذان، يحتمل أن يكون عدلاً له، فيقع التعارض بين أصالتي الإطلاق؛ أي من جهة نفي الشريك ومن جهة نفي العديل، ومع عدم المرجّح يرجع إلى الاُصول العملية.

لكن لأحد أن يقول: إنّ العلم الإجمالي بورود قيد - إمّا على الإطلاق من جهة نفي الشريك، وإمّا عليه من جهة نفي البديل - منحلّ بالعلم التفصيلي بعدم انحصار العلّة، إمّا لأجل تقييد الإطلاق من جهة البديل، وإمّا من جهة تقييده لأجل الشريك الرافع لموضوع الإطلاق من جهة البديل، فيشكّ في تقييد الإطلاق من جهة الشريك بدواً، فيتمسّك بأصالة الإطلاق.

اللهمّ إلاّ أن يقال: إنّ العلم الإجمالي بورود قيد - إمّا على الإطلاق من جهة

ص: 166


1- راجع وسائل الشيعة 8: 470، كتاب الصلاة، أبواب صلاة المسافر، الباب 6.
2- نفس المصدر.

الشريك، أو من جهة العديل - مولّد للعلم التفصيلي بعنوان الآخر، وهو عدم انحصار العلّة، وفي مثله لا يعقل الانحلال؛ لأنّ العلم التفصيلي معلول للعلم الإجمالي الفعلي، فكيف يمكن أن يكون رافعاً له ؟ !

وإن شئت قلت: إنّ الانحلال - أينما كان - يتقوّم بالعلم التفصيلي بأحد الأطراف والشكّ في الآخر، كما في الأقلّ والأكثر، وفيما نحن فيه لا يكون كذلك؛ لأنّ العلم الإجمالي محفوظ، ومنه يتولّد علم تفصيلي آخر، وفي مثله يكون الانحلال محالاً، فيجب الرجوع إلى قواعد اُخر.

هذا حال كلّ من الدليلين مع صاحبه، فهل يدلاّن على عدم مدخلية شيء آخر شريكاً معهما، أو عديلاً لهما ؟

الظاهر ذلك لو قلنا: بأنّ الدلالة على المفهوم وكذا الدلالة على الاستقلال بالإطلاق؛ للزوم رفع اليد عن أصالة الإطلاق بمقدار الدلالة على القيد، بخلاف ما لو قلنا: إنّها بالوضع أو الانصراف؛ لعدم الدليل عليه بعد رفع اليد عن المعنى الحقيقي والانصرافي.

ص: 167

الأمر الثالث في تداخل الأسباب والمسبّبات
اشارة

إذا تعدّد الشرط واتّحد الجزاء، فهل [يلزم] الإتيان بالجزاء متعدّداً حسب تعدّد الشرط، أو يكتفى بإتيانه دفعة واحدة ؟

ينبغي تقديم مقدّمات:

الاُولى: في تحرير محلّ النزاع

إنّ البحث قد يقع قبل الفراغ عن إحراز استقلال الشروط، كما إذا احتمل أنّ الشروط ترجع إلى شرط واحد، ويكون كلٌّ جزءاً للسبب. وهذا ليس محطّ البحث في تداخل الأسباب والمسبّبات.

وقد يقع بعد الفراغ عن إحراز أنّ كلّ شرط مستقلّ لو لم يكن معه غيره، وشكّ في حال اجتماعها في التداخل وعدمه، كالجنابة والحيض والنفاس؛ فإنّ كلاًّ منها سبب مستقلاًّ، ويقع البحث في حال اجتماعها في كفاية غسل واحد. وهذا هو محطّ الكلام في باب التداخل.

الثانية: في المراد من تداخل الأسباب والمسبّبات

المراد من تداخل الأسباب هو عدم اقتضائها إلاّ جزاءً واحداً حال اجتماعها، فإذا اجتمع الجنابة والحيض وغيرهما لا تقتضي إلاّ غسلاً واحداً، فلا تكون تكاليف متعدّدة مجتمعة في مصداق واحد، بل يكون تكليف واحد وإن تعدّدت الأسباب؛ ولهذا يكون التداخل عزيمة لا رخصة.

ص: 168

والمراد من تداخل المسبّبات - بعد الفراغ عن عدم تداخل الأسباب وأنّ كلّ سبب يقتضي مسبّباً - أنّ الاكتفاء بمصداق واحد جائز في مقام الامتثال لإسقاط التكاليف العديدة. فحينئذٍ إن كانت العناوين المكلّف بها قهرية الانطباق على المصداق وتكون من التوصّلي، يكون التداخل عزيمة، وإلاّ فرخصة.

الثالثة: في اختصاص النزاع بالماهية القابلة للتكثّر

محطّ البحث ما إذا كان الجزاء ماهية قابلة للتكثّر كماهية الغسل والوضوء، وأمّا مع عدم قبول التكثّر فلا محيص عن التداخل، كقتل زيد، ومثله خارج عن محلّ النزاع.

وقد يقال: إنّ الجزاء الغير القابل للتكثّر إن كان قابلاً للتقييد يكون داخلاً في النزاع، كالخيار القابل للتقيّد بالسبب، كالتقيّد بالمجلس والحيوان والعيب وغيرها، مع أ نّه أمر واحد هو ملك فسخ العقد وإقراره، ومعنى تقيّده بالسبب هو أ نّه يلاحظ الخيار المستند إلى المجلس فيسقطه، أو يصالح عليه، ويبقى له الخيار المستند إلى الحيوان، وكالقتل لأجل حقوق الناس، فلو قتل زيد عمراً وبكراً وخالداً، فقتله قصاصاً وإن لم يقبل التعدّد إلاّ أ نّه قابل للتقيّد بالسبب؛ أي يلاحظ استحقاق زيد للقتل باعتبار قتله لعمرو، فلو أسقط ورثة عمرو حقّ القَود لم يسقط حقّ ورثة بكر وخالد(1)، انتهى.

وفيه ما لا يخفى؛ فإنّ الخيار إذا كان واحداً غير قابل للتكثّر مع اجتماع الأسباب عليه، فلا يمكن إسقاطه من قِبل أحدها وإبقاؤه من قِبل غيره؛ لأنّ

ص: 169


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 491.

الإسقاط لا بدّ وأن يتعلّق بالخيار الجائي من قِبل كذا، ومع الوحدة لم يكن ذلك

غير الجائي من قِبل غيره.

وإن كان الخيار متعدّداً بالعنوان - بحيث يكون خيار المجلس شيئاً غير خيار

العيب - فيخرج عن محلّ البحث؛ أي تداخل الأسباب، وإن كان كلّياً قابلاً للتكثّر فيرجع إلى الفرض الأوّل.

وكذا الحال في القتل؛ فإنّ حقّ القود إمّا واحد، فلا يمكن إسقاطه من قِبل سبب وإبقاؤه من قِبل الآخر، أو متعدّد عنواناً فيخرج عن محطّ البحث، أو كلّي قابل للتكثّر فيدخل في الفرض الأوّل.

ثمّ لا يخفى: أنّ عدم قبول القتل للتكثّر غير مربوط بعدم قبول حقّ القود له، والقائل خلط بينهما.

الرابعة: في إمكان التداخل وعدمه

لا بدّ قبل الدخول في المقصود من إثبات إمكان التداخل وعدمه:

أمّا إمكان التداخل - بمعنى اجتماع أسباب متعدّدة شرعية على مسبّب واحد - فلا إشكال فيه؛ لأنّ الأسباب الشرعية ليست من قبيل العلل التكوينية، فللشارع جعل إيجاب الوضوء عقيب النوم في صورة انفراده، وعقيب البول والنوم في صورة اجتماعهما، أو جعل السبب بناءً على جوازه.

والمعروف جواز اجتماع العلل التكوينية على معلول واحد بتأثير الجامع بينها فيه، وربّما يمثّل له بأمثلة عرفية، والتحقيق امتناعه، وفي الأمثلة خلط، وتحقيقه موكول إلى محلّه.

ص: 170

وأمّا عدم التداخل فقد يقال بامتناعه؛ لانّ تعلّق الوجوبين بالطبيعة المطلقة غير معقول، وتعلّق الوجوب بفردين من الطبيعة تعاقباً غير معقول أيضاً، مثل: «إذا بلت فتوضّأ» و«إذا نمت فتوضّأ»؛ لأنّ تعلّق الوجوب في الشرطية الاُولى بالطبيعة، وفي الثانية بالطبيعة الاُخرى، أو بالعكس، أو في الاُولى بفرد منها، وفي الثانية بفرد آخر، أو بالعكس، ممتنع؛ لأنّ النوم قد يكون مقدّماً على البول وقد يكون مؤخّراً عنه، وليست القضيتان ناظرتين إلى حال الاجتماع، ولا يكون في البين قيد صالح لتقييد الطبيعة، ومعه لا محيص عن التداخل(1).

وفيه: أ نّه إذا فرض ظهور القضيّتين الشرطيتين في عدم التداخل، واُريد رفع اليد عنه لأجل عدم معقولية تقييد الجزاء بما ذكر، فلنا تصوير قيد آخر ولو لم يكن في الكلام؛ مثل التقييد بالوضوء من قِبل النوم، ومن قِبل البول، أو قيد آخر. وبالجملة: لا يجوز رفع اليد عن الظاهر حتّى يثبت امتناع كافّة القيود، وهو بمكان من المنع، فلا يجوز الالتزام بالتداخل لأجل هذه الشبهة.

وممّا ذكرنا يظهر: أ نّه مع ظهور الدليل لا يلزم إثبات الإمكان، بل مع عدم ثبوت الامتناع يؤخذ به.

الخامسة: في أنحاء تعدّد الشرط
اشارة

إنّ الشرط قد يكون متعدّداً نوعاً ومختلفاً ماهية، مثل البول والنوم، فيقع البحث في أ نّه مع تقارنهما أو تعاقبهما مع عدم تخلّل المسبّب بينهما، يتداخل الأسباب أو لا ؟

ص: 171


1- لمحات الاُصول: 245.

وقد تكون ماهية واحدة ذات أفراد، فيقع البحث في أ نّه مع تعدّد الفرد يتعدّد الجزاء أم لا ؟

والأقوال في المسألة ثلاثة: التداخل مطلقاً(1)، وعدمه كذلك(2)، والتفصيل بين تعدّد الماهية نوعاً وتعدّد الفرد مع وحدتها(3).

إذا عرفت ذلك فيقع الكلام في مقامين:

تداخل الأسباب والمسبّبات فيما إذا تعدّدت الأسباب نوعاً

المقام الأوّل: فيما إذا تعدّدت الأسباب نوعاً، كقوله: «إذا بلت فتوضّأ» و«إذا نمت فتوضّأ».

الاستدلال على عدم تداخل الأسباب

فعن العلاّمة في «المختلف» الاستدلال لعدم التداخل ب «أ نّه إذا تعاقب السببان

أو اقترنا، فإمّا أن يقتضيا مسبّبين مستقلّين، أو مسبّباً واحداً، أو لا يقتضيا شيئاً،

أو يقتضي أحدهما شيئاً دون الآخر، والثلاثة الأخيرة باطلة، فتعيّن الأوّل»(4).

وقال الشيخ الأعظم - على ما في تقريراته - : إنّ محصّل الوجه المذكور ينحلّ إلى مقدّمات ثلاث:

إحداها: دعوى تأثير السبب الثاني.

ص: 172


1- مشارق الشموس: 61 / السطر 31.
2- كفاية الاُصول: 239 - 242.
3- السرائر 1: 258.
4- اُنظر مطارح الأنظار 2: 58؛ مختلف الشيعة 2: 423 - 425.

الثانية: أنّ أثره غير أثر الأوّل.

الثالثة: أنّ تعدّد الأثر يوجب تعدّد الفعل.

ثمّ أطال النقض والإبرام بالنسبة إلى كلّ مقدّمة، ويظهر منه وجوه من البيان

لإثبات كون السبب الثاني مستقلاًّ(1).

وقد أخذ المتأخّرون كلٌّ طرفاً من كلامه لإثبات المطلوب:

كالمحقّق الخراساني؛ حيث تشبّث بأنّ ظهور الجملة الشرطية في كون الشرط سبباً أو كاشفاً عنه، بيان لما هو المراد من الإطلاق، ولا دوران بين ظهور الجملة في حدوث الجزاء وظهور الإطلاق؛ ضرورة أنّ ظهور الإطلاق معلّق على عدم البيان، وظهور الشرطية في ذلك بيان، فلا ظهور له مع ظهورها، فلا يلزم على القول بعدم التداخل تصرّف أصلاً(2).

نعم، قد أعرض عن هذا في هامش «الكفاية»(3)، وجعل الوجه تقديم العرف ظهور الشرطية على الإطلاق، وهو وجيه.

وكالمحقّق النائيني؛ حيث تمسّك بأنّ ظهور الجملة الشرطية وارد على الجزاء؛ لأنّ صيغة الأمر وضعت لطلب إيجاد الطبيعة، وأمّا الوحدة والكثرة فلا تكونان بدلالة لفظية أو عقلية، وإنّما يحكم العقل بالاكتفاء بواحد من الطبيعة؛ لأ نّها تتحقّق بإتيانها، فلا موجب لإتيانها ثانياً، وهذا لا ينافي أن يكون المطلوب إيجادها مرّتين؛ أي لو دلّ دليل على أنّ المطلوب متعدّد

ص: 173


1- مطارح الأنظار 2: 59.
2- كفاية الاُصول: 242.
3- كفاية الاُصول: 242، الهامش 3.

لم يعارضه حكم العقل بأنّ امتثال الطبيعة يحصل بإتيانها مرّة، فظهور القضيّة

الشرطية في تأثير الشرط مستقلاًّ رافع لموضوع حكم العقل حقيقةً، فيكون وارداً عليه(1).

وقريب منه ما في تعليقات بعض المدقّقين على «الكفاية»: من أنّ البعث المتعلّق بشيء يقتضي وجوداً واحداً منه، ولا يقتضي عدم البعث إلى وجود آخر، بل هو بالنسبة إلى وجود آخر بوجوب آخر لا اقتضاء، والبعث الآخر مقتضٍ لوجود آخر بنفسه، فلا تعارض بين المقتضي واللا مقتضي(2).

وكالمحقّق الهمداني؛ حيث قال: إنّ مقتضى القواعد اللفظية سببية كلّ شرط للجزاء مستقلاًّ، ومقتضاه تعدّد اشتغال الذمّة بفعل الجزاء، ولا يعقل تعدّد الاشتغال إلاّ مع تعدّد المشتغل به؛ فإنّ السبب الأوّل سبب تامّ في اشتغال ذمّة المكلّف بإيجاد الجزاء، والسبب الثاني إن أثّر ثانياً وجب أن يكون أثره اشتغالاً آخر؛ لأنّ تأثير المتأخّر في المتقدّم غير معقول، وتعدّد الاشتغال مع وحدة الفعل المشتغل به ذاتاً ووجوداً غير معقول، وإن لم يؤثّر يجب أن يستند إمّا إلى فقد المقتضي أو وجود المانع، والكلّ منتفٍ؛ لأنّ ظاهر القضيّة الشرطية سببية الشرط مطلقاً، والمحلّ قابل للتأثير، والمكلّف قادر على الامتثال، فأيّ مانع من التنجّز ؟ !

وقال أيضاً: ليس حال الأسباب الشرعية إلاّ كالأسباب العقلية، فكما أ نّه يمتنع عدم تحقّق الطبيعة في ضمن فردين على تقدير تكرّر علّة وجودها

ص: 174


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 493.
2- نهاية الدراية 2: 427.

بشرط قابليتها للتكرار، فكذا يتعدّد اشتغال الذمّة بتعدّد أسبابه(1).

وقريب منه ما أفاده شيخنا العلاّمة - أعلى الله مقامه - في أواخر عمره، بعد بنائه على التداخل سالفاً(2).

هذه جملة من مهمّات كلماتهم؛ ممّا هي مذكورة في خلال كلمات الشيخ الأعظم(3).

والعمدة في المقام: النظر إلى أنّ ظهور القضيّة الشرطية في السببية المستقلّة أو الحدوث عند الحدوث، هل هو بالوضع أو بواسطة الإطلاق، وأنّ جعل ماهية تلو أداة الشرط بلا تقيّدها بقيد كما يكشف بالأصل العقلائي عن أ نّها تمام الموضوع لترتّب الجزاء عليه ولا يكون له شريك، كذلك يدلّ على أ نّها مستقلّة في السببية؛ أي كان قبلها أو مقارنها شيء أو لا، تكون تلك الماهية مؤثّرة ؟ وهذا هو المراد بالاستقلال والحدوث عند الحدوث هاهنا.

فإن قلنا بالأوّل فلما ذكروه وجه، خصوصاً على مذهب الشيخ من أنّ الإطلاق معلّق على عدم البيان مطلقاً(4). لكن لا أظنّ ارتضاءهم به، بل صريح بعضهم(5) كون دلالة الشرطية على العلّية المستقلّة بالإطلاق، ولو ادّعى مدّعٍ كونها بالوضع فهو بلا بيّنة.

ص: 175


1- مصباح الفقيه، الطهارة 2: 258 - 261.
2- درر الفوائد، المحقّق الحائري: 174، الهامش 1؛ الصلاة، المحقّق الحائري: 573.
3- تقدّم في الصفحة 172 - 173.
4- مطارح الأنظار 2: 67.
5- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 488 - 489.

فحينئذٍ نقول: كما أنّ مقتضى إطلاق الشرطية في كلّ من القضيّتين هو كون الشرط مستقلاًّ علّةً للجزاء، كذلك إطلاق الجزاء يقتضي أن تكون الماهية المأخوذة فيه - كالوضوء في المثال - تمام الموضوع لتعلّق الإيجاب بها، فيكون الموضوع في القضيّتين نفس طبيعة الوضوء، فحينئذٍ يقع التعارض بين إطلاق الجزاء في القضيّتين مع إطلاق الشرط فيهما، وبتبعه يقع التعارض بين إطلاق الشرطيتين، فيدور الأمر بين رفع اليد عن إطلاق الشرط - ويقال: إنّ كلّ شرط مع عدم تقدّم شرط آخر عليه أو تقارنه به، مستقلّ أو مؤثّر - وحفظ إطلاق الجزاء، وبين رفع اليد عن إطلاق الجزاء بتقييد ماهية الوضوء وحفظ إطلاق الشرط، ولا ترجيح بينهما؛ لأنّ ظهور الإطلاقين على حدّ سواء، فلا يمكن أن يكون أحدهما بياناً للآخر.

وتوهّم تقديم ظهور الصدر على الذيل فاسد؛ لأ نّه لو سلّم فإنّما هو بين صدر كلّ قضيّة وذيلها، لا ذيل قضيّة اُخرى، ونحن الآن في بيان تعارض القضيّتين.

وأمّا الكلام في سببية أفراد ماهية واحدة ممّا يجيء فيها ذلك فسيأتي عن قريب.

وممّا ذكرنا يظهر النظر في جلّ كلماتهم:

أمّا قضيّة تحكيم ظهور الشرط على إطلاق الجزاء فلما مرّ، سواء قلنا بأنّ الإطلاق معلّق على عدم البيان، أو لا.

وأمّا قضيّة ورود ظهور الشرطية على حكم العقل؛ فلأنّ المعارضة كما عرفت إنّما هي بين إطلاق الجزاء وإطلاق الشرط؛ فإنّ الشرط كما يقتضي بإطلاقه أن يكون مستقلاًّ، كذلك الجزاء يقتضي بإطلاقه أن يكون متعلّق الوجوب نفس الماهية بلا قيد.

ص: 176

ومنه يظهر: أنّ التعارض بين المقتضيين، فقول القائل: إنّ اللامقتضي لا يتعارض مع المقتضي، كما ترى.

وكذا يظهر: أنّ ظهور القضيّة في اشتغال ذمّة جديدة ظهوراً إطلاقياً، فرع تحكيمه على إطلاق الجزاء، وهو ممنوع.

ففي جواب المحقّق الهمداني: أنّ عدم الاشتغال إمّا لعدم المقتضي، أو لوجود المانع، وكلٌّ منتفٍ.

قلنا: إنّه لوجود المانع، وهو إطلاق الجزاء المعارض مع إطلاق الشرط.

والعجب منه حيث تنبّه لذلك، وأجاب بما هو غير مقنع، فقال: «إنّ تقييد الجزاء إنّما نشأ من حكم العقل بعد استفادة السببية من الدليل، فإطلاق السبب منضمّاً إلى حكم العقل بأنّ تعدّد المؤثّر يستلزم تعدّد الأثر بيان للجزاء، ومعه لا مجال للتمسّك بإطلاقه، وليس المقام من قبيل تحكيم أحد الظاهرين على الآخر؛ حتّى يطالب بالدليل، بل لأنّ وجوب الجزاء بالسبب الثاني يتوقّف على إطلاق سببيته، ومعه يمتنع إطلاق الجزاء بحكم العقل، فوجوبه ملزوم لعدم إطلاقه»(1)، انتهى.

وأنت خبير بما فيه؛ فإنّه مع اعترافه بأنّ وجوب الجزاء بالسبب الثاني إنّما هو بالإطلاق لا بالدلالة اللغوية، فأيّ معنىً لتحكيم أحد الإطلاقين على الآخر ؟ !

والتخلّص من امتناع تعدّد المؤثّر مع وحدة الأثر - بعد الغضّ عن عدم كون حكم العقل الدقيق مناطاً للجمع بين الأدلّة، وبعد الغضّ عن أنّ مثل ما نحن فيه ليس من قبيل التأثير التكويني - كما يمكن بما ذكره، يمكن برفع اليد عن إطلاق

ص: 177


1- مصباح الفقيه، الطهارة 2: 261.

الشرط عند اجتماعه مع شرط آخر، فالعقل إنّما يحكم باستحالة وحدة الأثر مع تعدّد المؤثّر، وحفظ إطلاق الشرطيتين وإطلاق الجزاء مستلزم للامتناع، فلا بدّ من التخلّص منه، وهو إمّا بتقييد الشرط، أو بتقييد الجزاء، ولا ترجيح بينهما.

وأمّا مقايسة العلل التشريعية بالتكوينية ففيها ما لا يخفى؛ لأنّ المعلول التكويني في تشخّصه ووجوده تابع لعلّته، فلا محالة يكون في وحدته وكثرته كذلك، وأمّا الأسباب الشرعية فلم تكن بهذه المثابة؛ ضرورة أنّ النوم والبول لم يكونا مؤثّرين في الإيجاب والوجوب، ولا في الوضوء، فالقياس مع الفارق، ولا بدّ من ملاحظة ظهور الأدلّة، ومجرّد هذه المقايسة لا يوجب تقديم أحدهما على الآخر، بعد إمكان كون الوضوء مثلاً بلا قيد مأخوذاً في الجزاء، أو مقيّداً.

وممّا ذكرنا يظهر النظر فيما قيل: «إنّ المحرّك الواحد يقتضي التحريك الواحد، والمتعدّد المتعدّد، كالعلل التكوينية»(1)؛ فإنّ ذلك بمكان من الضعف؛ فإنّ المحرّك - أي البعث والأمر - إذا تعلّق بماهية بلا قيد فمع تعدّده لا يعقل التكثّر، بل لا توجب المحرّكات الكثيرة [نحو] ماهية واحدة إلاّ التأكيد، فقياس التشريع بالتكوين موجب لكثير من الاشتباهات، فلا تغفل.

لكن بعد اللتيّا والتي لا شبهة في أنّ فهم العرف مساعد على عدم التداخل، وأنّ الشرطيات المتعدّدة مقتضية للجزاء متعدّداً. ولعلّ هذا من جهة ارتكاز مقايسة التشريع بالتكوين - وإن أبطلناها، لكن إذا كان هذا الارتكاز منشأً للظهور العرفي وتحكيم ظهور على آخر فلا بدّ من اتّباعه - أو من جهة ارتكاز تناسب الشرط مع متعلّق الأمر في الجزاء؛ لحكم العرف بأنّ لوقوع الفأرة

ص: 178


1- درر الفوائد، المحقّق الحائري: 174، الهامش 1؛ الصلاة، المحقّق الحائري: 573.

- مثلاً - في البئر تناسباً مع نزح سبع دلاء، ولوقوع الوزغة تناسباً معه، وأنّ الأمر إنّما تعلّق به لأجل التناسب بينهما، وإلاّ كان جزافاً، فيرى بعد ذلك أنّ لوقوع كلّ منهما اقتضاءً خاصّاً بها، وارتباطاً مستقلاًّ لا يكون في الاُخرى، وهو يوجب تعدّد وجوب نزح المقدّر أو استحبابه، وهذا يوجب تحكيم ظهور الشرطية على إطلاق الجزاء ؟

ثمّ إنّه على فرض استقلال كلّ شرط في التأثير لا بدّ من إثبات المقدّمة الثانية؛ أي كون أثر الثاني غير أثر الأوّل.

ويمكن منع ذلك بأن يقال: إنّ الأسباب الشرعية علل للأحكام، لا لأفعال المكلّفين، فتعدّدها لا يوجب إلاّ تعدّد المعلول؛ أي الوجوب مثلاً، فينتج التأكيد.

وبعبارة اُخرى: مع حمل الأمر على التأكيد يحفظ إطلاق الشرطيتين والجزاء فيهما، ولا يوجب تجوّزاً في صيغة الأمر على فرض وضعها للوجوب؛ فإنّ معنى وضعها له ليس وضعها لهذا المفهوم الاسمي، بل معناه أ نّها وضعت لإيجاد بعث ناشٍ من الإرادة الحتمية، والأوامر التأكيدية كلّها مستعملة كذلك؛ ضرورة أنّ المطلوب إذا كان مهمّاً في نظر الآمر ربّما لا يكتفي بأمر واحد، ويأتي به متعدّداً، وكلّ منها بعث ناشٍ من الإرادة الأكيدة، ولا معنى للتأكيد إلاّ ذلك، لا أنّ

الثاني مستعمل في عنوان التأكيد، أو في الاستحباب، أو الإرشاد، أو غير ذلك؛ فإنّها لا ترجع إلى محصّل.

وأنت إذا راجعت وجدانك في أوامرك التأكيدية ترى أنّ كلّها مستعملة في البعث استعمالاً إيجادياً، وكلّها صادرة عن إرادة إلزامية، وغاية كلّ منها انبعاث المأمور، وإنّما تأتي بها مكرّراً إذا كان المطلوب مهمّاً.

ص: 179

نعم، إذا دار الأمر بين التأكيد والتأسيس لا يبعد الحمل على التأسيس، لكنّه لا يعارض إطلاق المادّة والشرطية، فإذا دار الأمر بين رفع اليد عن أحد الإطلاقين ورفع اليد عن التأسيس، فلا ريب في أولوية الثاني، وفيما نحن فيه إذا حمل الأمر على التأكيد يرفع التعارض بين الإطلاقين.

وبما قرّرنا يدفع ما في مقالات بعض المحقّقين: من أنّ تأكّد الوجوب في ظرف تكرّر الشرط يوجب عدم استقلال الشرط في التأثير؛ لبداهة استناد الوجوب الواحد المتأكّد إليهما، لا إلى كلّ منهما(1)؛ وذلك لأنّ البعث الإلزامي الناشئ من الإرادة الإلزامية متعدّد، وكلّ منهما معلول لواحد من الشرطيتين، لا أ نّهما يؤثّران في وجوب واحد متأكّد؛ لأنّ التأكيد منتزع من تكرار البعثين، وكذا الوجوب المتأكّد أمر انتزاعي منه، لا أ نّه معلول للشرطيتين.

كما يدفع به ما في تقريرات الشيخ الأعظم؛ من أنّ الأسباب الشرعية كالأسباب العقلية، فحينئذٍ لو كانت الأسباب الشرعية سبباً لنفس الأحكام وجب تعدّد إيجاد الفعل؛ فإنّ المسبّب يكون هو اشتغال الذمّة بإيجاده، والسبب الثاني لو لم يقتض اشتغالاً آخر، فإمّا أن يكون لنقص في السبب، أو المسبّب، وليس شيء منهما:

أمّا الأوّل فمفروض، وأمّا الثاني فلأنّ قبول الاشتغال للتعدّد تابع لقبول الفعل

المتعلّق له، والمفروض قبوله للتعدّد، واحتمال التأكيد مدفوع بعد ملاحظة الأسباب العقلية(2)، انتهى.

ص: 180


1- مقالات الاُصول 1: 407.
2- مطارح الأنظار 2: 70.

وفيه أوّلاً: أنّ قياس الأسباب الشرعية بالعقلية مع الفارق كما مرّ(1).

وثانياً: أنّ اشتغال الذمّة بإيجاد الفعل ليس إلاّ الوجوب على المكلّف، وليس هاهنا شيء غير البعث المتعلّق بالطبيعة المتوجّه إلى المكلّف المنتزع منه الوجوب، فحينئذٍ تحقّق اشتغال آخر من السبب الثاني فرع تقديم الظهور التأسيسي على إطلاق الجزاء، وهو ممنوع، بل لو فرض معنىً آخر لاشتغال الذمّة فتعدّده فرع هذا التقديم الممنوع.

ثمّ إنّ الشيخ الأعظم تشبّث بوجه آخر ولم يعتمد عليه(2)، وإنّما اعتمد عليه بعض المحقّقين في «مقالاته»، وحاصله: الالتزام بأنّ الأسباب أسباب لنفس الأفعال لا للأحكام، ولا يلزم منه الانفكاك بين العلّة والمعلول؛ لأ نّها أسباب جعلية، لا عقلية وعادية. ومعنى السبب الجعلي: أنّ لها نحو اقتضاء في نظر الجاعل بالنسبة إلى المعلول.

وبعبارة اُخرى: إنّ ظاهر الشرطية كونه مقتضياً لوجود المسبّب، وإنّ اقتضاءه

لوجوبه من تبعات اقتضائه لوجوده، وحيث إنّ اقتضاءه التشريعي لوجود شيء كونه موجباً لوجوبه، وحينئذٍ لازم إبقاء ظهور الشرط في المؤثّرية المستقلّة اقتضاؤه وجوداً مستقلاًّ(3).

وفيه: أ نّه بعد الاعتراف بأنّ معنى السببية الجعلية هو الاقتضاء، لا المؤثّرية الفعلية؛ فراراً عن انفكاك العلّة عن معلولها، لا منافاة بين استقلال الاقتضاء

ص: 181


1- تقدّم في الصفحة 178.
2- مطارح الأنظار 2: 71.
3- مقالات الاُصول 1: 407.

وعدم تعدّد الوجود؛ لأنّ معنى استقلاله أنّ كلّ سبب بنفسه تمام المقتضي لا

جزؤه، ولا يتنافى الاستقلال في الاقتضاء والاشتراك في التأثير الفعلي، كالعلل العقلية إذا فرض اجتماعها على معلول واحد، فحينئذٍ مع حفظ إطلاق الجزاء واستقلال الشرطيتين في الاقتضاء صارت النتيجة التداخل.

وأمّا قوله: «لازم إبقاء ظهور الشرط في المؤثّرية المستقلّة» فرجوع عن أنّ السببية الجعلية عبارة عن نحو اقتضاء بالنسبة إلى المعلول، لا المؤثّرية الفعلية الاستقلالية.

فالأولى في هذا المقام أيضاً التشبّث بذيل فهم العرف تعدّد الجزاء لأجل مناسبات مغروسة في ذهنه كما تقدّم(1)، ولهذا لا ينقدح في ذهنه التعارض بين إطلاق الجزاء وظهور الشرطية في التعدّد، فتدبّر جيّداً.

الاستدلال على تداخل المسبّبات ثبوتاً وإثباتاً

ثمّ إنّه بعد تسليم المقدّمتين - أي ظهور الشرطية في استقلال التأثير وكون أثر الثاني غير الأوّل - فهل يمكن تداخل المسبّبين ثبوتاً أو لا ؟ وعلى الأوّل فما حال مقام الإثبات ؟

قد منع الشيخ الأعظم إمكان التداخل، قال: «قد قرّرنا في المقدّمة السابقة أنّ متعلّق التكاليف حينئذٍ هو الفرد المغاير للفرد الواجب بالسبب الأوّل، ولا يعقل تداخل فردين من ماهية واحدة، بل ولا يعقل ورود دليل على التداخل أيضاً على ذلك التقدير، إلاّ أن يكون ناسخاً لحكم السببية»(2)، انتهى.

ص: 182


1- تقدّم في الصفحة 178 - 179.
2- مطارح الأنظار 2: 73.

وفيه: أ نّه إن كان مراده من الفرد المغاير للفرد الواجب بالسبب الأوّل هو الفرد الخارجي كما هو الظاهر، فتداخل الفردين غير معقول بلا إشكال، لكن تعلّق الحكم بالفرد الخارجي ممتنع.

وإن كان المراد هو العنوان القابل للانطباق على الخارج وإنّما سمّاه فرداً لكونه تحت العنوان العامّ، فعدم إمكان تداخل العنوانين من ماهية واحدة غير مسلّم، بل القيود الواردة على ماهية مختلفة، فقد تكون موجبة لصيرورة المقيّدين متباينين، كالإنسان الأبيض والأسود، وقد لا تكون كذلك، كالإنسان الأبيض والعالم؛ ممّا بينهما عموم من وجه.

فالوضوء في قوله: «إذا نمت فتوضّأ»، و«إذا بلت فتوضّأ»، ماهية واحدة، ولأجل تسليم المقدّمتين لا بدّ من كونها مقيّدة بقيدين؛ حتّى يكون كلّ سبب علّة مستقلّة للإيجاب على أحد العنوانين، لكن لا يجب أن يكون بين العنوانين التباين؛ حتّى يمتنع تصادقهما على الفرد الخارجي، فمع عدم قيام دليل على امتناعه لا يجوز رفع اليد عن الدليل الدالّ على التداخل فرضاً، فقوله: «لا يعقل ورود دليل على التداخل» فرع إثبات الامتناع، وهو مفقود.

بل لنا أن نقول: لازم ظهور الشرطيتين فيما ذكر، وورود الدليل على التداخل، كون المقيّدين قابلين للتصادق. هذا حال مقام الثبوت.

وأمّا في مقام الإثبات: فما لم يدلّ دليل على التداخل لا مجال للقول به، فلا بدّ في مقام العمل من الإتيان بفردين حتّى يتيقّن بالبراءة؛ للعلم بالاشتغال بعد استقلال الشرطيتين في التأثير، وكون أثر كلّ غير الآخر، كما هو المفروض.

ص: 183

وأمّا دعوى [فهم] العرف تكرار الوضوء من الشرطيتين فعهدتها على مدّعيها؛ لأ نّها ترجع إلى دعوى استظهار كون كلّ عنوان مبايناً للآخر، وهي بمكان من البعد. هذا كلّه حال المقام الأوّل.

تداخل الأسباب والمسبّبات فيما إذا تعدّدت الأسباب شخصاً

وأمّا المقام الثاني: أي إذا تعدّدت الأسباب شخصاً لا نوعاً، كما لو قال: «إذا نمت فتوضّأ» وشكّ في أنّ المصداقين منه يتداخلان في إيجاب الوضوء أم لا ؟ فلا بدّ أوّلاً من فرض الكلام بعد الفراغ عن سببية كلّ مصداق مستقلاًّ لو وجد منفرداً، وإلاّ فمع احتمال كون الطبيعة سبباً لا مصاديقها، يخرج النزاع عن باب تداخل الأسباب؛ لأ نّه نزاع في تعدّد الأسباب وعدمه، لا في تداخلها.

فكلام بعض الأعاظم، وإتعاب نفسه لاستظهار انحلالية القضيّة الشرطية، وتقديم ظهورها في الانحلال على ظهور الجزاء في الاتّحاد(1) مع عدم خلوّه عن الإشكال، أجنبيّ عن محطّ النزاع. نعم هو بحث برأسه ومن مبادئ هذه المسألة.

وكيف كان لو فرض ظهور الشرطية في الانحلال، كما في قوله: «كلّما بلت فتوضّأ» بناءً على دلالته على كون كلّ بول علّة للوضوء، يقع التعارض بين صدر القضيّة الدالّة على علّية مستقلّة لكلّ فرد للوجوب وبين إطلاق ذيلها، ولا ريب في تحكيم ظهور الصدر على إطلاق الذيل عرفاً؛ بمعنى أ نّه إذا سمع المخاطب

ص: 184


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 494.

أنّ كلّ فرد من البول علّة مستقلّة لوجوب الوضوء، لا ينظر إلى إطلاق الذيل، بل يحكم بأنّ كلّ مصداق منه علّة لوجوب خاصّ به بلا تداخل الأسباب.

والكلام في تداخل المسبّبات هو ما تقدّم.

تتمّة الإشكال في العامّ الاستغراقي في المقام

لا إشكال في لزوم تطابق المنطوق والمفهوم في جميع القيود المعتبرة في الكلام، فمفهوم قوله: «إن جاءك زيد يوم الجمعة عند الزوال اضربه ضرباً شديداً»: «إن لم يجئك يوم الجمعة عند الزوال لا يجب أن تضربه ضرباً شديداً»؛ إذ هو مقتضى تبعية المفهوم للمنطوق.

كما لا إشكال في العامّ المجموعي أيضاً، فمفهوم قوله: «إن جاءك زيد أكرم مجموع العلماء»: «إن لم يجئك لا يجب إكرام مجموعهم»، وهو لا ينافي وجوب إكرام بعضهم.

إنّما الإشكال في العامّ الاستغراقي، سواء استفيد العموم بالوضع اللغوي، مثل: كلّ والجمع المحلّى، أو مثل النكرة في سياق النفي، كقوله: «إذا بلغ الماء قدر كرّ لم ينجّسه شيء»(1)، بناءً على استفادة العموم منها، فهل المفهوم فيه العموم أو لا ؟

ص: 185


1- راجع وسائل الشيعة 1: 158، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 9، الحديث 1 و2 و5 و6.

جعل الشيخ الأعظم مبنى الخلاف على أنّ العموم الملحوظ في المنطوق هل يعتبر آلة لملاحظة حال الأفراد على وجه الشمول والاستغراق، فلا يتوجّه النفي إليه في المفهوم، فيكون الاختلاف بين المنطوق والمفهوم في الكيف فقط دون الكمّ، أو يعتبر على وجه الموضوعية، فيتوجّه إليه النفي، فالاختلاف بينهما ثابت كمّاً وكيفاً على قياس النقيض المأخوذ عند أهل الميزان ؟ ثمّ رجّح الأوّل بدعوى أنّ العرف قاضٍ بذلك(1).

أقول: إن كان مراده من كون المذكور في القضيّة آلة ومرآة للأفراد أنّ عنوان الكلّ والشيء غير منظورين، ويكون المجعول أوّلاً وبلا واسطة الحكم على الكثرة التفصيلية، فهو واضح المنع؛ ضرورة ملحوظية عنوان الكلّ في قوله: «أكرم كلّ عالم»، وعنوان الشيء في قوله: «لا ينجّسه شيء».

وإن كان المراد أنّ إثبات الحكم لعنوانهما ليس بما هما كذلك، بل هما وسيلتان إلى إسراء الحكم إلى الأفراد أو العناوين الواقعية، فهو حقّ، لكن في طرف المفهوم لا بدّ وأن ينفى الحكم عنهما كذلك، فمفهوم قوله: «إذا جاءك زيد فأكرم كلّ عالم»: «إذا لم يجئك لا يجب إكرام كلّ عالم»، ولا إشكال في إفادته قضيّة جزئية، مع أنّ فهم العرف أقوى شاهد له.

بل لنا أن نقول: لو كان المراد من المرآتية هو المعنى الأوّل بل لو ذكر الأفراد تفصيلاً في القضيّة، لا يستفاد منه إلاّ الجزئية؛ لأنّ المفهوم من قوله: «إذا بلغ الماء قدر كُرّ لا ينجّسه شيء» هو إذا لم يبلغ قدر كُرّ ليس لا ينجّسه شيء؛ لأنّ

ص: 186


1- مطارح الأنظار 2: 43.

المفهوم نفي الحكم الثابت للمنطوق، لا إثبات حكم مخالف له، فليس مفهوم القضيّة: إذا لم يبلغ قدر كرّ ينجّسه شيء.

فحينئذٍ نقول: مفهوم قوله: «إذا بلغ الماء قدر كرّ لا ينجّسه البول والدم والكلب والخنزير»: «إذا لم يبلغ قدر كرّ ليس لا ينجّسه البول والدم والكلب والخنزير»، وهو لا ينافي تنجيس بعضها.

نعم، لو انحلّت القضيّة إلى تعليقات عديدة، أو الجزاء إلى كثرة تفصيلية حكماً وموضوعاً، كان لما ذكره وجه، لكنّ الانحلالين ممنوعان.

إن قلت: مبنى المفهوم على استفادة العلّية المنحصرة من الشرطية، فحينئذٍ لو كان لبعض الأفراد علّة اُخرى غير ما ذكر في الشرطية، كان مخالفاً لظهورها، ومع انحصار العلّة في جميع الأفراد أو العناوين يستفاد العموم من المفهوم.

قلت: ما يستفاد من الشرطية في مثل تلك القضايا - بعد تسليم المفهوم - هو كون الشرط علّة منحصرة للعموم، فلا ينافي عدم الانحصار بالنسبة إلى البعض، فبلوغ الكرّ علّة منحصرة لعدم تنجّسه بكلّ نجاسة، لا أ نّه علّة منحصرة لعدم تنجّسه بالبول، وعلّة منحصرة لعدم تنجّسه بالدم... وهكذا. والعمدة هو فهم العرف وهو مساعد على ما ذكرنا.

ص: 187

الفصل الثاني في مفهوم الوصف

ولا بدّ فيه من ذكر مقدّمتين:

المقدّمة الاُولى: الظاهر أنّ محطّ الكلام أعمّ ممّا اعتمد الوصف على موصوفه أو لا، كما صرّح به بعض أئمّة الفنّ(1).

والشاهد عليه: أنّ المثبِت تمسّك بفهم أبي عبيدة في قوله: «مَطْلُ الغنيّ ظلم»(2)، و«لَيّ الواجد يُحِلّ عقوبَتَهُ وعِرضَه»(3)، ولم يردّه النافي بأنّ هذا من قبيل مفهوم اللقب، لا الوصف، بل ردّه بغيره(4). مع أ نّه لا وجه لإخراجه؛ لجريان جميع الأدلّة فيه، حتّى لغوية القيد الزائد.

ص: 188


1- مطارح الأنظار 2: 79؛ الفصول الغروية: 151 / السطر 36؛ كفاية الاُصول: 244.
2- الفقيه 4: 272 / 828؛ وسائل الشيعة 18: 333، كتاب التجارة، أبواب الدين والقرض، الباب 8، الحديث 3؛ صحيح مسلم 3: 383 / 33.
3- الأمالي، الطوسي: 520 / 53؛ وسائل الشيعة 18: 333، كتاب التجارة، أبواب الدين والقرض، الباب 8، الحديث 4؛ سنن النسائي 7: 317.
4- اُنظر قوانين الاُصول 1: 178 / السطر 12؛ شرح العضدي على مختصر ابن الحاجب: 311.

وما في تقريرات بعض الأعاظم: من أنّ الالتزام بالمفهوم فيما إذا ذكر الموصوف صريحاً، إنّما هو لخروج الكلام عن اللغوية، وهذا لا يجري في مثل «أكرم عالماً»؛ فإنّ ذكر الموضوع لا يحتاج إلى نكتة غير إثبات الحكم له، لا إثباته له ونفيه عن غيره(1)، منظور فيه؛ لأنّ تقريب اللغوية يأتي في الثاني أيضاً؛ فإنّ الموضوع لو كان فاقد الوصف، وكان الحكم ثابتاً للموصوف وغيره، لما كان لذكر الموصوف بما هو موصوف وجه، والصون عن اللغوية لو تمّ في الأوّل لتمّ في الثاني.

المقدّمة الثانية: لا ينبغي الإشكال في أنّ محطّ البحث فيما إذا كان الوصف أخصّ مطلقاً من الموصوف، أو أعمّ من وجه في مورد الافتراق من جانب الموصوف، مثل «الغنم السائمة» في مقابل «الغير السائمة»؛ ضرورة أنّ حفظ الموضوع في المنطوق والمفهوم ممّا لا بدّ منه، وإنّما الاختلاف بينهما في تحقّق الوصف في أحدهما دون الآخر بعد حفظه، فلا معنى لنفي الحكم عن موضوع أجنبيّ وعدّه مفهوماً للكلام. فقول بعض الشافعية(2): إنّ قوله: «في الغنم السائمة زكاة»(3) يدلّ على عدم الزكاة في الإبل المعلوفة، فاسد.

إذا عرفت ذلك: فالحقّ عدم المفهوم للوصف لا وضعاً، وهو واضح. والتشبّث بقول أبي عبيدة لا يسمن؛ ضرورة عدم حجّية فهمه، وعدم معلومية دعواه الوضع، بل لعلّ فهمه لأجل القرينة في المقام.

ص: 189


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 501.
2- اُنظر مطارح الأنظار 2: 80 - 81؛ المنخول: 291 - 292 و307.
3- راجع عوالي اللآلي 1: 399 / 50.

ولا إطلاقاً، بأن يقال: إنّ إطلاق قوله: «في الغنم السائمة زكاة» بلا توصيفها بوصف آخر، كما يدلّ على كونها تمام الموضوع بلا شريك، يدلّ على عدم العديل للوصف، وإلاّ لم يكن هو في جميع الحالات موضوعاً، كما مرّ نظيره في الشرط، فإنّه قد مرّ جوابه فيه(1).

كما مرّ الجواب عن نظير ما قيل في المقام هناك أيضاً، وحاصله: أ نّه بعد إحراز أنّ الأصل في القيد أن يكون احترازياً، أنّ معنى قيدية شيء لموضوع حكم حقيقةً، أنّ ذات الموضوع غير قابلة لتعلّقه بها إلاّ بعد اتّصافها بهذا الوصف، فالوصف متمّم قابلية القابل، وهو معنى الشرط حقيقةً. وحيث إنّ الظاهر دخله بعنوانه الخاصّ، إذ مع تعدّد العلّة يكون بعنوان جامع علّةً، وهو خلاف الظاهر، فلا محالة ينتفي سنخ الوجوب بانتفاء قيد الموضوع(2).

وفيه: ما تقدّم(3) من أنّ قياس التشريع بالتكوين باطل، وأ نّه يمكن جعل أشياء بعناوينها موضوعاً لحكم، وأنّ مناط القاعدة المعروفة في الفلسفة ليس في مثل ما نحن فيه، وأنّ تأثير الجامع ليس له أصل مطلقاً، وأ نّه بعد تسليم ما ذكر أنّ الميزان في مثل المقام فهم العرف، لا دقائق الفلسفة، فتذكّر.

ص: 190


1- تقدّم في الصفحة 159 - 160.
2- نهاية الدراية 2: 435 - 436.
3- تقدّم في الصفحة 162.

الفصل الثالث في مفهوم الغاية

اشارة

والبحث فيه يقع في مقامين:

المقام الأوّل: في دلالة الغاية على ارتفاع الحكم بعدها

نسب إلى المشهور - خلافاً لجماعة: منهم السيّد(1) والشيخ(2) - دلالة الغاية المذكورة في القضيّة على ارتفاع الحكم عمّا بعدها(3).

وفصّل جمع من المحقّقين(4) بين الغاية المجعولة للموضوع بحسب اللبّ وبين المجعولة للحكم، واختاروا في الأوّل عدم الدلالة؛ لأنّ حالها حال الوصف، بل الظاهر المصرّح به في كلام بعضهم(5): أنّ البحث في مفهوم الوصف

ص: 191


1- الذريعة إلى اُصول الشريعة 1: 407.
2- العدّة في اُصول الفقه 2: 478.
3- مطارح الأنظار 2: 98.
4- كفاية الاُصول: 246؛ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 504 - 505؛ نهاية الدراية 2: 439.
5- مطارح الأنظار 2: 98؛ وقاية الأذهان: 426

أعمّ من الوصف النحوي، فالقيود الراجعة إلى الموضوع كلّها داخلة فيه، وفي الثاني رجّحوا الدلالة.

وإليه ذهب شيخنا العلاّمة - أعلى الله مقامه - في كتابه، وإن رجع عنه أخيراً،

قال ما حاصله:

إن جعلت الغاية غاية للحكم فالظاهر الدلالة؛ لأنّ مفاد الهيئة إنشاء حقيقة الطلب، لا الطلب الجزئي، فتكون الغاية غاية لحقيقة الطلب، ولازمه ارتفاع حقيقته عند وجود الغاية. نعم لو قلنا بأنّ مفاد الهيئة الطلب الجزئي فالغاية لا تدلّ على ارتفاع سنخ الوجوب(1).

ثمّ رجع عنه، فقال - على ما حرّرته - : لا دلالة لها مطلقاً؛ لأنّ الطلب مسبّب

عن سبب بحسب الواقع وإن لم يذكر في القضيّة، وليس فيها دلالة على حصره حتّى تدلّ على المفهوم. وما ذكرنا في المتن غير وجيه؛ لأنّ الطلب المعلول لعلّة لا إطلاق له بالنسبة إلى غير موردها، وإن كان لا تقييد له أيضاً.

هذا، لكن قرّر وجه رجوعه في النسخة المطبوعة أخيراً بما حاصله:

دعوى مساعدة الوجدان في مثل «اجلس من الصبح إلى الزوال» لعدم المفهوم؛ لأ نّه لو قال المتكلّم بعده: «وإن جاء زيد فاجلس من الزوال إلى الغروب» لم يكن مخالفاً لظاهر كلامه، وهذا يكشف عن أنّ المغيّا ليس سنخ الحكم من أيّ علّة تحقّق، بل السنخ المعلول لعلّة خاصّة، سواء كانت مذكورة أو لا(2)، انتهى.

ص: 192


1- درر الفوائد، المحقّق الحائري: 204.
2- درر الفوائد، المحقّق الحائري: 204، الهامش 1.

والحقّ عدم ورود الإشكال على ما حقّقه أوّلاً بعد تسليم وضع الهيئة لحقيقة الطلب واستعمالها فيها:

أمّا على ما حرّرناه فلأنّ المفهوم فيها لا يتوقّف على العلّية المنحصرة كما قيل في الشرطية، بل على تحديد حقيقة الحكم بلا تقييدها بقيد خاصّ إلى غاية، فكأ نّه قال: «حقيقة وجوب الجلوس تكون إلى الزوال»، فحينئذٍ يكون الوجوب بعد الزوال مناقضاً له. والعرف يفهم المفهوم بعد ثبوت كون الغاية للحكم، وثبوت أنّ الهيئة ظاهرة في حقيقة الطلب من غير توجّه إلى علّة الحكم، فضلاً عن انحصارها، ولو فرض توجّهه إليها كشف من هذا الظهور المتّبع انحصارها.

وأمّا على ما قرّر في الطبعة الأخيرة؛ فلأنّ الظاهر من قوله: «اجلس من الصبح إلى الزوال» رجوع الغاية إلى المادّة، ولعلّ عدم فهم المخالفة لذلك، وإلاّ فلا نسلّم عدم ذلك بعد تسليم رجوع الغاية إلى الحكم، وكون المغيّا حقيقته.

هذا، لكن مرّ الإشكال في كون الهيئة موضوعة لكلّي الطلب ومستعملة فيه في محلّه(1)، إلاّ أ نّه مع جزئية معنى الهيئة لا يبعد دعوى المفهوم؛ لمساعدة العرف عليه.

ويمكن أن يقال: إنّ الهيئة وإن وضعت لإيقاع البعث ولا يكون إلاّ جزئياً حقيقياً، لكن لمّا كانت آلة محضة للبعث والإغراء لا ينتزع منه العرف إلاّ نفس الوجوب من غير توجّه إلى الجزئية والكلّية، فيفهم من قوله: «اجلس إلى

ص: 193


1- تقدّم في الجزء الأوّل: 187.

الزوال» وجوبه إلى هذا الحدّ، من غير توجّه إلى أنّ إيقاع الوجوب لا يكون إلاّ

جزئياً، فحينئذٍ يفهم من القضيّة المغيّاة انتفاء سنخ الحكم بعد الغاية.

هذا بحسب الثبوت.

وأمّا كون الغاية للموضوع أو الحكم أو المتعلّق إثباتاً، فهو مختلف بحسب المقامات والتراكيب ومناسبة الغايات لها.

المقام الثاني: في أنّ الغاية داخلة في المغيّا أو لا ؟

ومحطّ البحث هاهنا هو ما إذا كان مدخول «إلى» و«حتّى» - مثلاً - شيئاً ذا أجزاء أو امتداد، كالكوفة في مثل: «سر من البصرة إلى الكوفة»، والمرفق في قوله: )وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ((1) بناءً على كون المرفق محلّ رفق العظمين ممّا له امتداد، فيقع البحث في أنّ الغاية داخلة، أو لا ؟

وأمّا البحث العقلي عن أنّ غايات الأجسام داخلة فيها أو لا، وابتناء الكلام

على امتناع الجزء الذي لا يتجزّأ وعدمه(2)، فهو بمعزل عن البحث الاُصولي.

كما أ نّه لو كان المدخول لهما غير قابل للتجزئة والامتداد كالفصل المشترك، فلا ينتج البحث النتيجة المطلوبة، لكن تعميمه بالنسبة إلى مطلق مدخولهما ممّا لا مانع منه، وإن لم تترتّب الثمرة إلاّ على بعض التقادير، كما في كثير من المسائل الاُصولية.

ثمّ إنّ النزاع يجري في غاية الحكم كما يجري في غاية الموضوع والمتعلّق،

ص: 194


1- المائدة (5): 6.
2- درر الفوائد، المحقّق الحائري: 205.

فيقال: إنّ وجوب الصوم في قوله: «صم إلى الليل» هل ينقطع بانتهاء اليوم، أو يبقى إلى دخول مقدار من الليل، أو إلى انقضائه ؟ فلا يختصّ النزاع بغاية الموضوع.

ولا يخفى أنّ النزاع مختصّ بما دلّ على الغاية، كقوله: )كُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ(، وقوله: )ثُمَّ أَتِمُّوا

الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ((1)، فيخرج مثل: «أكلت السمكة حتّى رأسها» و«قدم الحاجّ

حتّى المشاة» ممّا لم تستعمل الكلمة في الغاية وتكون عاطفة.

فما في «مقالات» بعض المحقّقين من ظهور دخول مدخول «حتّى» في المغيّا في مثل: «أكلت السمكة حتّى رأسها»(2) خلط بين العاطفة والخافضة.

وكيف كان قد فصّل شيخنا العلاّمة - أعلى الله مقامه - بين كون الغاية قيداً

للفعل كقوله: «سر من البصرة إلى الكوفة»، فاختار دخولها فيه، وبين كونها غاية للحكم، فاختار عدمه(3).

والظاهر عدم الدخول مطلقاً؛ ضرورة أ نّه إذا قال: «سر من البصرة إلى الكوفة»، وكانت الكوفة اسماً للمحصور بجدار، فسار إلى جدارها ولم يدخل فيها، يصدق أ نّه أتى بالمأمور به، فإذا أخبر ب «إنّي قرأت القرآن إلى سورة يس» لا يفهم منه إلاّ انتهاؤه إليها، لا قراءتها.

والظاهر أ نّه كذلك في «حتّى» المستعملة في انتهاء الغاية، فإذا قلت: «نمت

ص: 195


1- البقرة (2): 187.
2- مقالات الاُصول 1: 415.
3- درر الفوائد، المحقّق الحائري: 205.

البارحة حتّى الصباح» بالجرّ لا يفهم منه إلاّ ما فهم من «نمت البارحة إلى الصباح»، كما هو كذلك في قوله: )كُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ...( إلى آخره.

نعم استعمالها في غير الغاية كثير، ولعلّه صار منشأً للاشتباه حتّى ادّعى بعضهم فيها الإجماع على الدخول(1).

ص: 196


1- اُنظر مغني اللبيب 1: 168؛ مطارح الأنظار 2: 96.

الفصل الرابع في مفهوم الاستثناء

ولا ينبغي الإشكال في أنّ الاستثناء من النفي يفيد الإثبات وبالعكس، فقوله: «ما جاءني أحد إلاّ زيداً» يدلّ على مجيء زيد.

وحكي عن أبي حنيفة عدم الدلالة، واحتجّ بمثل قوله: «لا صلاة إلاّ بطهور» فإنّه على تقدير الدلالة يلزم أن تكون الصلاة المقرونة بها مع فقد شرائطها صلاة تامّة(1).

وهذا الاستدلال ضعيف؛ ضرورة أنّ مثل قوله: «لا صلاة إلاّ بطهور»(2) و«لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب»(3) كان في مقام الإرشاد إلى اشتراط الصلاة بالطهارة،

ص: 197


1- اُنظر مطارح الأنظار 2: 105؛ شرح العضدي على مختصر ابن الحاجب: 265؛ المحصول في علم اُصول الفقه 2: 548.
2- تهذيب الأحكام 1: 49 / 144؛ وسائل الشيعة 1: 365، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 1، الحديث 1.
3- عوالي اللآلي 3: 82 / 65؛ مستدرك الوسائل 4: 158، كتاب الصلاة، أبواب القراءة في الصلاة، الباب 1، الحديث 5 و8.

وأنّ فاتحة الكتاب جزؤها، لا بصدد الإخبار عن العقد السلبي والإيجابي، وفي مثله لا مفهوم للاستثناء. فمعنى قوله: «لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب» أ نّها جزؤها، ولا تكون الصلاة بدونها صلاة، لا أ نّها تمام الصلاة، أو إذا اشتملت عليها لا يضرّها شيء، وأين هذا من مثل: «جاءني القوم إلاّ زيداً» ؟ !

ثمّ استدلّ المدّعي لاختصاص الحكم بالمستثنى منه، وكون الاستثناء من النفي إثباتاً، وبالعكس، بقبول رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم إسلام من قال: «لا إله إلاّ الله»، ولو لا دلالته على إثبات الاُلوهية لله تعالى لما كان مفيداً للاعتراف

بوجود الباري(1).

ويمكن أن يقال: إنّ عبدة الأوثان في زمانه كانوا معتقدين بالله تعالى، لكن جعلوا الأوثان وسائط له، وكانوا يعبدونها لتقرّبوهم إلى الله تعالى، فقبول كلمة التوحيد إنّما هو لأجل نفي الآلهة - أي المعبودين - لا إثبات وجود الباري تعالى؛ فإنّه كان مفروغاً عنه.

وبهذا يجاب عن الإشكال المعروف في كلمة التوحيد(2).

وأمّا الأجوبة الدقيقة الفلسفية وإن كانت صحيحة، لكنّها بعيدة عن أذهان العامّة، فابتناء قبوله على تلك الدقائق التي قصرت أفهام الناس عنها مقطوع العدم.

ص: 198


1- مطارح الأنظار 2: 106؛ شرح العضدي على مختصر ابن الحاجب: 264 - 265؛ المحصول في علم اُصول الفقه 2: 548.
2- راجع كفاية الاُصول: 248.

المقصد الرابع فيالعامّ والخاصّ

اشارة

وقبل الخوض في المقصود لا بأس بذكر اُمور:

ص: 199

ص: 200

الأمر الأوّل في تعريف العامّ

لا ينبغي صرف الوقت في تعاريفهما، والنقض والإبرام فيها، لكن ينبغي التنبيه لشيء يتّضح من خلاله تعريف العامّ:

وهو أ نّه لا إشكال في أنّ الألفاظ الموضوعة للطبائع بلا شرط كأسماء الأجناس وغيرها لا تكون حاكية إلاّ عن نفس الطبائع الموضوعة لها، فالإنسان لا يدلّ إلاّ على الطبيعة بلا شرط، وخصوصيات المصاديق لا تكون محكية به، واتّحاد الإنسان خارجاً مع الأفراد لا يقتضي حكايتها؛ لأنّ مقام الدلالة التابعة للوضع غير مقام الاتّحاد خارجاً.

وكذا نفس الطبيعة لا يمكن أن تكون مرآة وكاشفة عن الأفراد، سواء كان التشخّص بالوجود والعوارض أماراته، أو بالعوارض؛ ضرورة أنّ نفس الطبيعة تخالف الوجود والتشخّص وسائر [عوارضها] خارجاً أو ذهناً، ولا يمكن كاشفية الشيء عمّا يخالفه، فالماهية لا تكون مرآة للوجود الخارجي والعوارض الحافّة به.

ص: 201

فحينئذٍ نقول: إنّ العموم والشمول إنّما يستفاد من دوالّ اُخر مثل: الكلّ، والجميع، والجمع المحلّى ممّا وضعت للكثرات، أو تستفاد الكثرة منه بجهة اُخرى، فإذا اُضيفت هذه المذكورات إلى الطبائع تستفاد كثرتها بتعدّد الدالّ والمدلول. فقوله: «كلّ إنسان حيوان» يدلّ على أنّ كلّ مصداق من الإنسان حيوان، لكن الإنسان لا يدلّ إلاّ على نفس الطبيعة من غير أن يكون لفظه حاكياً عن الأفراد أو الطبيعة المحكيّة به مرآةً لها، وكلمة «كلّ» تدلّ على الكثرة، وإضافتها إلى الإنسان تدلّ على أنّ الكثرة كثرة الإنسان، وهي الأفراد بالحمل الشائع.

فما اشتهر في الألسن من أنّ الطبيعة في العامّ تكون حاكية عن الأفراد، ليس على ما ينبغي؛ لأنّ العموم مستفاد من كلمة «كلّ» و«جميع» وغيرهما، فهي ألفاظ العموم، وبإضافتها إلى مدخولاتها يستفاد عموم أفرادها بالكيفية التي ذكرناها.

وعلى هذا يصحّ أن يعرّف العامّ بما دلّ على تمام مصاديق مدخوله ممّا يصحّ أن ينطبق عليه.

وأمّا تعريفه: بأ نّه ما دلّ على شمول مفهوم لجميع ما يصلح أن ينطبق عليه(1)، فلا يخلو من مسامحة؛ ضرورة أنّ الكلّ لا يدلّ على شمول الإنسان لجميع أفراده، والأمر سهل.

ص: 202


1- لمحات الاُصول: 254.

الأمر الثاني في الفرق بين المطلق والعامّ

صرّح شيخنا العلاّمة(1) وبعض الأعاظم(2): بأنّ العموم قد يستفاد من دليل لفظي كلفظة «كلّ»، وقد يستفاد من مقدّمات الحكمة، والمقصود بالبحث في العامّ والخاصّ هو الأوّل، والمتكفّل للثاني هو مبحث المطلق والمقيّد.

ومحصّله: أنّ العامّ على قسمين: قسم يسمّى عامّاً، وفي مقابله الخاصّ ويبحث عنه في هذا الباب، وقسم يسمّى مطلقاً، ومقابله المقيّد، ويبحث عنه في باب المطلق والمقيّد.

وهذا بمكان من الغرابة؛ ضرورة أنّ المطلق والمقيّد عنوانان غير مربوطين بالعامّ والخاصّ؛ لأنّ العامّ هو ما عرفت، وأمّا المطلق فبعد جريان مقدّمات الحكمة لايدلّ على العموم والأفراد بوجه، بل بعد تمامية المقدّمات يستكشف بأنّ نفس الطبيعة بلا قيد تمام الموضوع للحكم، فموضوع الحكم في العامّ هو أفراد الطبيعة، وفي المطلق هو نفسها بلا قيد، ولم تكن الأفراد بما هي موضوعة له.

ف )أَوْفُوا بِالعُقُودِ((3) دلّ على وجوب الوفاء بكلّ مصداق من مصاديق العقد، و)أَحَلَّ الله البَيْعَ((4) بناءً على الإطلاق وتمامية المقدّمات يثبت النفوذ

ص: 203


1- درر الفوائد، المحقّق الحائري: 210.
2- فوائد الاُصول ((تقريرات المحقّق النائيني)) الكاظمي 1: 511.
3- المائدة (5): 1.
4- البقرة (2): 275.

والحلّية لنفس طبيعة البيع من غير أن يكون للموضوع كثرة، وإنّما يثبت نفوذ البيع الخارجي لأجل تحقّق الطبيعة التي هي موضوع الحكم به. وسيأتي مزيد بيان لذلك.

الأمر الثالث في عدم احتياج العامّ إلى مقدّمات الحكمة

قد يقال: إنّ العامّ لا يدلّ على العموم إلاّ بعد جريان مقدّمات الحكمة؛ لأنّ الطبيعة المدخولة لألفاظ العموم موضوعة للمهملة غير الآبية للإطلاق والتقييد، وألفاظ العموم تستغرق مدخولها، إن مطلقاً فمطلق، وإن مقيّداً فكذلك، فهي تابعة له، ومع احتمال القيد لا رافع له إلاّ مقدّمات الحكمة(1).

والتحقيق خلافه: أمّا أوّلاً: فلأنّ موضوع الإطلاق هو الطبيعة، ومع جريان المقدّمات يستكشف أنّ موضوع الحكم نفس الطبيعة بلا دخالة شيء آخر، بخلاف العامّ؛ فإنّ موضوع الحكم فيه أفراد الطبيعة، لا نفسها. فموضوع وجوب الوفاء في قوله: )أَوْفُوا بِالْعُقُودِ((2) أفرادها، وجريان المقدّمات إنّما هو بعد تعلّق الحكم، وهو متعلّق بالأفراد بعد دلالة الألفاظ على استغراق المدخول، فهي دالّة عليه جرت المقدّمات أم لا. نعم جريان المقدّمات يفيد بالنسبة إلى حالات الأفراد.

ص: 204


1- أجود التقريرات 1: 237 - 238 و2: 291 - 292؛ اُنظر درر الفوائد، المحقّق الحائري: 210 - 211؛ نهاية الدراية 2: 446.
2- المائدة (5): 1.

وإن شئت قلت: إنّ ألفاظ العموم مثل: «كلّ» و«جميع» موضوعة للكثرة لغةً، وإضافتها إلى الطبيعة تفيد الاستغراق، وتعلّق الحكم متأخّر عنه، وجريان المقدّمات متأخّر عنه برتبتين، فلا يعقل توقّفه عليه.

وأمّا ثانياً: فلأنّ المتكلّم في العموم متعرّض لمصاديق الطبيعة، ومعه لا معنى لعدم كونه في مقام بيان تمام الأفراد، بخلاف باب الإطلاق؛ لإمكان أن لا يكون المتكلّم فيه بصدد بيان حكم الطبيعة، بل يكون بصدد بيان حكم آخر، فلا بدّ من جريان المقدّمات.

وبالجملة: دخول ألفاظ العموم على نفس الطبيعة المهملة يدلّ على استغراق أفرادها.

ويشهد لما ذكر: قضاء العرف به. وأنت إذا تفحّصت جميع أبواب الفقه وفنون المحاورات، لم تجد مورداً توقّف العرف في استفادة العموم من القضايا المسوّرة بألفاظه من جهة عدم كون المتكلّم في مقام البيان، كما ترى في المطلقات إلى ما شاء الله.

ولعلّ هذه الشبهة نشأت من الخلط بين المطلق والعامّ.

والعجب ممّن يرى أنّ الإطلاق بعد جريان المقدّمات يفيد العموم، ومعه ذهب إلى لزوم جريانها في العموم(1)، مع أنّ لازمه لَغوية الإتيان بألفاظ العموم.

ص: 205


1- أجود التقريرات 1: 237 - 238، و2: 291 - 292.

الأمر الرابع في أقسام العموم

اشارة

ينقسم العموم إلى الاستغراقي والمجموعي والبدلي؛ لأنّ اللفظ الدالّ على العموم إن دلّ على مصاديق الطبيعة عرضاً بلا اعتبار الاجتماع بينها مثل: «كلّ» و«جميع» و«تمام» وأشباهها يكون العامّ استغراقياً، ف «كلّ عالم» دالّ بالدوالّ الثلاثة على أفراد طبيعة العالم من غير اعتبار اجتماعها وصيرورتها موضوعاً واحداً، مع كون شموله لها عرضياً.

فإذا اعتبرت الوحدة والاجتماع في الأفراد؛ بحيث عرضتها الوحدة الاعتبارية، وصارت الأفراد بمنزلة الأجزاء، كان العامّ مجموعياً. ولا يبعد أن يكون لفظ المجموع مفيداً له عرفاً، ولذا اختصّ هذا اللفظ ارتكازاً به، فلفظ «مجموع العلماء» يشمل الأفراد مع صيرورتها واحدة اعتباراً.

وإذا دلّ اللفظ على الأفراد لا في عرض واحد يكون بدلياً؛ مثل: «أيّ» الاستفهامية، كقوله: )فَأَىَّ آيَاتِ الله تُنكِرُونَ((1)، وقوله: )أَيُّكُمْ يَأتِينِى بِعَرْشِهَا((2). وقد يكون البدلي في غير الاستفهامية، مثل: «زكّ مالك من أيّ مصداق شئت»، و«اذهب من أيّ طريق أردت»؛ فإنّها تدلّ بالدلالة الوضعية على العموم البدلي.

ص: 206


1- غافر (40): 81.
2- النمل (27): 38.

ولا يخفى: أنّ تلك الأقسام مخصوصة بالعموم، وأمّا الإطلاق فلا تأتي فيه، ومقدّمات الحكمة لا تثبت في مورد أحدَها.

وقد خلط كثير من الأعاظم هاهنا أيضاً، وتوهّموا جريان التقسيم في المطلقات.

قال المحقّق الخراساني في باب المطلق والمقيّد: «إنّ قضيّة مقدّمات الحكمة في المطلقات تختلف حسب اختلاف المقامات؛ فإنّها تارةً يكون حملها على العموم البدلي واُخرى على العموم الاستيعابي»(1).

وعلى منواله نسج غيره كصاحب «المقالات» حيث قال: «إنّما الامتياز بين البدلي وغيره بلحاظ خصوصية مدخوله من كونه نكرة أو جنساً؛ فإنّ في النكارة اعتبرت جهة البدلية دون الجنس»(2)، انتهى.

ولا يخفى: أنّ النكرة تدلّ بمادّتها على نفس الطبيعة بلا شرط، وتنوين التنكير الداخل عليها يدلّ على الوحدة، ف «رجل» يدلّ - بتعدّد الدالّ - على واحد غير معيّن من الطبيعة، ولا تكون فيه دلالة على البدلية بلا ريب، وإنّما يحكم العقل بتخيير المكلّف في الإتيان بأيّ فرد شاء في مورد التكاليف.

فقوله: «أعتق رقبة» يدلّ بعد تمامية المقدّمات على وجوب عتق رقبة واحدة من غير دلالة على التبادل، والتخيير فيه عقلي، بخلاف قوله: «أعتق أيّة رقبة شئت»؛ فإنّ التخيير فيه شرعي مستفاد من اللفظ.

ص: 207


1- كفاية الاُصول: 292.
2- مقالات الاُصول 1: 430.

وقد عرفت فيما تقدّم حال الجنس في سياق الإثبات بعد تمامية المقدّمات، وأ نّها أجنبيّة عن إفادة العموم.

وبالجملة: لا يستفاد من المقدّمات إلاّ كون ما جعل موضوعاً بنفسه تمامه بلا دخالة شيء آخر، وهذا معنىً واحد في جميع الموارد. نعم، حكم العقل والعقلاء فيها مختلف، وهو غير دلالة اللفظ.

تنبيه: في نقد كلام المحقّق الخراساني في وجه انقسام العموم

قد ظهر ممّا ذكرنا من دلالة بعض الألفاظ على العامّ الاستغراقي أو المجموعي أو البدلي أنّ هذا التقسيم إنّما هو قبل تعلّق الحكم؛ فإنّ الدلالات اللفظية لا تتوقّف على تعلّق الأحكام بالموضوعات، ف «كلّ» و«جميع» يدلاّن على استغراق أفراد مدخولهما قبل تعلّق الحكم، وكذا لفظ «مجموع» و«أيّ» دالاّن على ما ذكرناه قبله. ولهذا لا يتوقّف أحد من أهل المحاورة في دلالة «أكرم كلّ عالم» على الاستغراق مع عدم القرينة، بل يفهمون ذلك لأجل التبادر، وكذا الحال في قوله: «أعتق أيّة رقبة شئت» في دلالته على العامّ البدلي، بل لا يبعد ذلك في لفظ «مجموع» على العامّ المجموعي.

فلا يكون هذا التقسيم بلحاظ تعلّق الحكم.

بل لا يعقل ذلك مع قطع النظر عمّا ذكرنا؛ ضرورة أنّ الحكم تابع لموضوعه، ولا يعقل تعلّق الحكم الوحداني بالموضوعات الكثيرة المأخوذة بنحو الاستغراق، كذا لا يعقل تعلّق الحكم الاستغراقي بالموضوع المأخوذ بنحو

ص: 208

الوحدة، والإهمال الثبوتي في موضوع الحكم لا يعقل.

فما ادّعى المحقّق الخراساني(1) وتبعه عليه بعضهم(2)، ممّا لا يمكن تصديقه.

الأمر الخامس في الألفاظ الدالّة على العموم

عدّ النكرة واسم الجنس في سياق النفي أو النهي من ألفاظ العموم وضعاً، ممّا لا مجال له؛ فإنّ اسم الجنس موضوع لنفس الطبيعة بلا شرط، وتنوين التنكير لتقييدها بقيد الوحدة الغير المعيّنة، لكن بالمعنى الحرفي لا الاسمي، وألفاظ النفي والنهي وضعت لنفي مدخولها أو الزجر عنه، فلا دلالة فيها على نفي الأفراد، ولا وضع على حدة للمركّب، فحينئذٍ تكون حالها حال سائر المطلقات في احتياجها إلى مقدّمات الحكمة. فلا فرق بين «أعتق رقبة» و«لا تعتق رقبة» في أنّ الماهية متعلّقة للحكم، وفي عدم الدلالة على الأفراد، وفي الاحتياج إلى المقدّمات.

نعم، بعد تماميتها قد تكون نتيجتها في النفي والإثبات مختلفة عرفاً؛ لما تقدّم

من حكمه بأنّ المهملة توجد بوجود فرد ما، وتنعدم بعدم جميع الأفراد، وإن كان حكم العقل البرهاني على خلافه(3).

ص: 209


1- كفاية الاُصول: 253.
2- فوائد الاُصول ((تقريرات المحقّق النائيني)) الكاظمي 1: 514 - 515؛ نهاية الأفكار 1: 505.
3- تقدّم في الصفحة 90 - 91.

وما ذكرنا من الاحتياج إلى المقدّمات يجري في المفرد المحلّى باللام؛ لعدم استفادة العموم منه، بخلاف الجمع المحلّى الظاهر في العموم الاستغراقي.

ولعلّ الاستغراق فيه يستفاد من تعريف الجمع، لا من اللام ولا من نفس الجمع، ولهذا لا يستفاد من المفرد المحلّى ولا من الجمع الغير المحلّى. ووجه استفادته من تعريفه - على ما قيل(1) - أنّ أقصى مراتب الجمع معيّن معرّف، وأمّا غيره فلا تعيين فيه حتّى أدنى المراتب.

وكيف كان فلا مجال للتشكيك في دلالته على العموم، فلا يحتاج إلى مقدّمات الحكمة، فالميزان في الاحتياج إليها وعدمه دلالة اللفظ على العموم الأفرادي وعدمها.

ص: 210


1- أجود التقريرات 2: 296؛ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 516.

الفصل الأوّل في حجّية العامّ المخصّص في الباقي

لا شبهة في حجّية العامّ المخصّص في الباقي متّصلاً كان المخصّص أو منفصلاً لدى العقلاء.

والقول بإجماله لتعدّد المجازات وعدم ترجيح لتعيّن الباقي(1) ساقط؛ لأنّ المجاز كما عرفت في محلّه(2) ليس استعمال اللفظ في غير ما وضع له، بل يكون استعماله فيما وضع له، وتطبيق المعنى الموضوع له على المعنى المجازي ادّعاءً، سواء في ذلك الاستعارة وغيرها.

فحينئذٍ نقول: إنّ العامّ المخصّص لا يجوز أن يكون من قبيل المجاز؛

ضرورة عدم ادّعاء وتأوّل فيه، فليس في قوله: )أَوْفُوا بِالْعُقُودِ((3) ادّعاء كون جميع العقود هي العقود التي لم تخرج من تحته، ولا في )أَحَلَّ الله

ص: 211


1- اُنظر معالم الدين: 117.
2- تقدّم في الجزء الأوّل: 62 - 63.
3- المائدة (5): 1.

الْبَيْعَ((1)، في المطلق الوارد عليه التقييد ذلك، كما تكون تلك الدعوى في قوله:

جدّدت يوم الأربعين عزائي

والنوح نوحي والبكاء بكائي

حيث ادّعى أنّ حقيقة النوح والبكاء هي نوحه وبكاؤه، وليس غيرهما نوحاً وبكاء.

فلا محالة أنّ مثل: «أكرم العلماء» و)أَوْفُوا بِالعُقُودِ( استعملت جميع ألفاظه فيما وضعت له، لكن البعث المدلول عليه بالهيئة لم يكن في مورد التخصيص لداعي الانبعاث، بل إنّما إنشاؤه كلّياً وقانونياً بداعي الانبعاث إلى غير مورد التخصيص، والجعل الكلّي إنّما هو بداع آخر. فالإرادة الاستعمالية في مقابل الجدّية هي بالنسبة إلى الحكم؛ فإنّه قد يكون إنشائياً، وقد يكون جدّياً لغرض الانبعاث.

ف )أَوْفُوا بِالعُقُودِ( إنشاء البعث على جميع العقود، وهو حجّة ما لم تدفعها حجّة أقوى منها، فإذا ورد مخصّص يكشف عن عدم مطابقة الجدّ للاستعمال في مورده، ولا ترفع اليد عن العامّ في غير مورده؛ لظهور الكلام وعدم انثلامه بورود المخصّص، وأصالة الجدّ التي هي من الاُصول العقلائية حجّة في غير ما قامت الحجّة على خلافه.

إن قلت: لازم تعلّق البعث الجدّي ببعض الأفراد والبعث الإنشائي بالآخر، أن يكون الواحد صادراً عن داعيين، وإنشاء البعث بالنحو الكلّي أمر واحد لا يمكن صدوره عن داعيين بلا جهة جامعة.

ص: 212


1- البقرة (2): 275.

قلت: - مضافاً إلى عدم جريان برهان امتناع صدور الواحد عن الكثير في مثل المقام، وإلى أنّ الوجدان حاكم بأنّ الدواعي المختلفة قد تجتمع على فعل واحد - إنّ الدواعي ليست علّة فاعلية لشيء، بل الدواعي غايات لصدور الأفعال، وكون الغايات علل فاعلية الفاعل ليس معناه أ نّها مصدر فاعليته؛ بحيث تكون علّة فاعلية لها، كما لا يخفى.

وبما ذكرنا في بيان المراد من الإرادة الاستعمالية والجدّية، يدفع إشكال بعض الأعاظم؛ حيث يظهر من تقريرات بحثه: توهّم أنّ مراد القوم من الإرادة الاستعمالية والجدّية هو بالنسبة إلى لفظ العامّ، وأنّ المراد الاستعمالي منه جميع العلماء والجدّي بعضهم.

فأورد عليهم: بأنّ حقيقة الاستعمال ليس إلاّ إلقاء المعنى بلفظه، والألفاظ مغفول عنها حينه؛ لأ نّها قنطرة ومرآة إلى المعاني، وليس للاستعمال إرادة مغايرة لإرادة المعنى الواقعي، فالمستعمل إن أراد المعنى الواقعي فهو، وإلاّ كان هازلاً(1).

وقد عرفت: أنّ الاستعمالية والجدّية إنّما هي بالنسبة إلى الحكم، فما ذكره أجنبيّ عن مقصودهم.

ثمّ إنّ صاحب «المقالات» أجاب عن الإشكال: بأنّ دلالة العامّ وإن كانت واحدة، لكن هذه الدلالة الواحدة إذا كانت حاكية عن مصاديق متعدّدة، فلا شبهة في أنّ هذه الحكاية بملاحظة تعدّد محكيّها بمنزلة حكايات متعدّدة؛ نظراً إلى أنّ شأن الحكاية والمرآة جذب لون محكيّها، فمع تعدّده كانت الحكاية متعدّدة.

ص: 213


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 517.

فحينئذٍ مجرّد رفع اليد عن حجّية الحكاية المزبورة بالنسبة إلى فرد لا يوجب رفع اليد عن حجّية الأعلى.

وأيّد كلامه بالمخصّص المتّصل، بدعوى: أنّ الظهور في الباقي مستند إلى وضعه الأوّل، غاية الأمر تمنع القرينة من إفادة الوضع لأعلى المراتب من الظهور، فيبقى اقتضاؤه للمرتبة الاُخرى دونها بحاله(1).

ولا يخفى ما فيه؛ لأنّ حديث جذب الألفاظ لون محكيّها أشبه بالخطابة والشعر؛ ضرورة أنّ الألفاظ لا تنقلب عمّا هي عليه، وتوهّم ركاكة بعضها ناشٍ من الخلط بين الحاكي والمحكيّ؛ فإنّ الركاكة للمحكيّ، والألفاظ آلة الانتقال إليها، فتعدّد المحكيّ لا يوجب تعدّد الحكاية بعد كون الحاكي عنواناً واحداً، فلفظ العامّ بعنوان واحد وحكاية واحدة يحكي عن الكثير، فإذا علم أنّ اللفظ لم يستعمل في معناه بدليل منفصل لم تبق حكاية بالنسبة إلى غيره.

وما ذكره في المخصّص المتّصل من مراتب الظهور ممنوع؛ ضرورة أنّ كلّ لفظ في المخصّص المتّصل مستعمل في معناه، وأنّ إفادة المحدودية إنّما هي لأجل القيود والإخراج بالاستثناء، فلفظ «كلّ» موضوع لاستغراق مدخوله، فإذا كان مدخوله «العالم إلاّ الفاسق» يستغرقه من غير أن يكون الاستثناء مانعاً عن ظهوره؛ لعدم ظهوره إلاّ في استغراق المدخول؛ أيّ شيء كان. ولو منع القيد أو الاستثناء عن ظهوره صار مجملاً؛ لعدم مراتب للظهور، وهو واضح، تدبّر.

ص: 214


1- مقالات الاُصول 1: 438.

الفصل الثاني في سراية إجمال المخصّص إلى العامّ

التمسّك بالعامّ في الشبهة المفهومية

إذا خصّص العامّ بمجمل متّصل يسري إجماله إليه، من غير فرق بين المجمل مفهوماً وغيره، ولا بين الدائر بين المتباينين وغيره؛ لأنّ الحكم في العامّ الذي استثني منه، متعلّق بموضوع وحداني عرفاً، ويكون حال المستثنى منه والمستثنى حال المقيّد والموصوف، فكما أنّ الموضوع في قوله: «أكرم العالم العادل» هو الموصوف بما هو كذلك، فكذلك في قوله: «أكرم العلماء إلاّ الفسّاق منهم»، ولهذا لا ينقدح التعارض - حتّى البدوي منه - بين المستثنى والمستثنى منه كما ينقدح في المنفصل منه.

فإذا كان الموضوع عنواناً واحداً يكون التمسّك به في الشبهات الموضوعية أو المفهومية للمستثنى كالتمسّك فيهما لنفسه، بل هو هو، فكما لا يجوز التمسّك بقوله: «لا تكرم الفسّاق» مع الإجمال بالنسبة إلى مورده، كذلك لا يجوز في العامّ المستثنى منه بلا فرق بينهما.

وأمّا إذا خصّص به منفصلاً، فمع التردّد بين المتباينين يسري الإجمال إليه

ص: 215

حكماً؛ بمعنى عدم جواز التمسّك به في واحد منهما وإن كان العامّ حجّة في واحد معيّن واقعاً، ولازمه إعمال قواعد العلم الإجمالي.

وأمّا إذا كان الخاصّ مجملاً مفهوماً مردّداً بين الأقلّ والأكثر فلا يسري ويتمسّك به؛ وذلك لأنّ الخاصّ المجمل ليس بحجّة في مورد الإجمال، فلا ترفع اليد عن الحجّة بما ليس بحجّة، ولا يصير العامّ معنوناً بعنوان الخاصّ في المنفصلات.

نعم، لو كان الخاصّ بلسان الحكومة على نحو التفسير والشرح - كما في بعض أنحاء الحكومات - فسراية إجماله إليه وصيرورة العامّ معنوناً غير بعيدة. والمسألة محلّ إشكال.

وأمّا ما أفاده شيخنا العلاّمة أعلى الله مقامه - من إمكان أن يقال: إنّه بعد ما صارت عادة المتكلّم على ذكر المخصّص منفصلاً، فحال المنفصل في كلامه حال المتّصل في كلام غيره(1) - فمقتضاه عدم جواز العمل بالعامّ قبل الفحص، لا سراية الإجمال؛ لأنّ ظهور العامّ لا ينثلم لأجل جريان تلك العادة. كما أنّ الأصل العقلائي بتطابق الاستعمال والجدّ حجّة بعد الفحص عن المخصّص، وعدم العثور إلاّ على المجمل منه.

والحاصل: أنّ مسألة عدم جواز العمل بالعامّ قبل الفحص غير مسألة سراية الإجمال، والعادة المذكورة موجبة لعدم جوازه قبله، لا سراية الإجمال. وهو قدّس سرّه

قد رجع عمّا أفاده في كتابه(2). هذا في الشبهة المفهومية.

ص: 216


1- درر الفوائد، المحقّق الحائري: 215.
2- درر الفوائد، المحقّق الحائري: 215، الهامش 1.
التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقية للمخصّص اللفظي

وأمّا الاشتباه المصداقي بالشبهة الخارجية فقد يقال بجواز التمسّك به مع انفصال المخصّص.

ولا يخفى أنّ محطّ البحث في المقام هو تخصيص العامّ، لا تقييد المطلق، وقد سبق الفرق بينهما.

وقد خلط بينهما بعضهم في المقام أيضاً، وقال: «إنّ تمام الموضوع في العامّ قبل التخصيص هو طبيعة «العالم»، وإذا ورد المخصّص يكشف أنّ «العالم» بعض الموضوع، وبعضه الآخر هو «العادل»، فيكون الموضوع - واقعاً - هو «العالم العادل»، فالتمسّك في الشبهة المصداقية للخاصّ يرجع إلى التمسّك فيها لنفس العامّ من غير فرق بين القضايا الحقيقية وغيرها»(1)، انتهى.

وقد عرفت: أنّ الحكم في المطلق والمقيّد ما ذكره، وأمّا الحكم في العامّ فعلى أفراد مدخول أداته، لا على عنوان الطبيعة، والمخصّص مخرج لطائفة من أفراد العامّ، كأفراد الفسّاق منهم.

وما صرّح به كراراً - بأنّ الحكم في القضايا الحقيقية على العنوان بما أ نّه مرآة لما ينطبق عليه، ولم يتعرّض للأفراد(2) - غير تامّ؛ لأنّ العنوان لا يمكن أن يكون مرآة للخصوصيات الفردية. مع أنّ لازم ما ذكر أن تكون الأفراد موضوعاً للحكم؛ لأنّ المحكوم عليه المرئي لا المرآة.

ص: 217


1- فوائد الاُصول ((تقريرات المحقّق النائيني)) الكاظمي 1: 525.
2- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 171 و186 و276 و525.

والتحقيق: أنّ العنوان لم يكن مرآة إلاّ لنفس الطبيعة الموضوع لها، وأداة العموم تفيد أفرادها، والقضيّة الحقيقية متعرّضة للأفراد.

حول الاستدلال على جواز التمسّك بالعامّ في المقام

فإذا تمحّض محطّ البحث نقول: عمدة استدلال القائل بجواز التمسّك هو: أنّ العامّ بعمومه شامل لكلّ فرد من الطبيعة وحجّة عليها، والفرد المشكوك فيه لا يكون الخاصّ حجّة بالنسبة إليه؛ للشكّ في فرديته، فمع القطع بفرديته للعامّ والشكّ في فرديته للخاصّ يكون رفع اليد عن العامّ الحجّة بغير حجّة(1).

والجواب عنه: أنّ الاحتجاج بكلام المتكلّم يتمّ بعد مراحل: كتمامية الظهور، وعدم الإجمال في المفهوم، وجريان أصالة الحقيقة، وغيرها، ومنها إحراز كون إنشاء الحكم على الموضوع على نحو الجدّ، ولو بالأصل العقلائي.

فحينئذٍ إنّ ورود التخصيص على العامّ يكشف عن أنّ إنشاءه في مورد التخصيص لا يكون بنحو الجدّ، فيدور أمر المشتبه بين كونه مصداقاً للمخصّص حتّى يكون تحت الإرادة الجدّية لحكم المخصّص، وعدمه حتّى يكون تحت الإرادة الجدّية لحكم العامّ المخصّص، ومع هذه الشبهة لا أصل لإحراز أحد الطرفين؛ فإنّها كالشبهة المصداقية لأصالة الجدّ بالنسبة إلى العامّ والخاصّ كليهما، ومجرّد كون الفرد معلوم العالمية وداخلاً تحت العامّ لا يوجب تمامية الحجّة؛ لأنّ صرف ظهور اللفظ وجريان أصالة الحقيقة، لا يوجب تماميتها ما لم تحرز أصالة الجدّ. ولهذا ترى أنّ كلام من كان عادته على الدعابة غير صالح

ص: 218


1- اُنظر كفاية الاُصول: 258.

للاحتجاج، لا لعدم ظهور فيه، ولا لعدم جريان أصالة الحقيقة، بل مع القطع بهما لا يكون حجّة؛ لعدم جريان أصالة الجدّ، فرفع اليد عن العامّ ليس رفع اليد عن الحجّة بغير حجّة، بل لقصور الحجّية فيه.

ولعلّ كلام المحقّق الخراساني(1) يرجع إلى ما ذكرنا، وكذا كلام الشيخ الأعظم(2)، وإن فسّر كلامه بعض المحقّقين بما يرد عليه الإشكال:

قال في «مقالاته»: «الذي ينبغي أن يقال: إنّ الحجّية بعد ما كانت منحصرة بالظهور التصديقي المبنيّ على كون المتكلّم في مقام الإفادة والاستفادة، فإنّما يتحقّق هذا المعنى في فرض تعلّق قصد المتكلّم بإبراز مرامه باللفظ، وهو فرع التفات المتكلّم إلى ما تعلّق به مرامه، وإلاّ فمع جهله به واحتمال خروجه عن مرامه فكيف يتعلّق قصده بلفظه كشفه وإبرازه ؟ ! ومن المعلوم أنّ الشبهات الموضوعية طرّاً من هذا القبيل. ولقد أجاد شيخنا الأعظم فيما أفاد في وجه المنع بمثل هذا البيان. ومرجع هذا الوجه إلى منع كون المولى في مقام إفادة المراد بالنسبة إلى ما كان هو بنفسه مشتبِهاً فيه، فلا يكون الظهور حينئذٍ تصديقياً؛ كي يكون واجداً لشرائط الحجّية»(3)، انتهى.

وأنت خبير بما فيه؛ فإنّ الحجّية وإن كانت منحصرة في الظاهر الذي صدر من المتكلّم لأجل الإفادة ولا بدّ له أن يكون متيقّناً بما تعلّق به مرامه، لكن في مقام

جعل الكبريات، لا في تشخيص صغرياتها.

ص: 219


1- كفاية الاُصول: 259.
2- مطارح الأنظار 2: 136 - 137.
3- مقالات الاُصول 1: 151 / السطر 8 - 13 (ط - الحجري)؛ مقالات الاُصول 1: 443.

فالمتكلّم بمثل: «كلّ نار حارّة» في مقام الإخبار لا بدّ له من إحراز كون كلّ فرد منها حارّاً ببرهان أو غيره، وأمّا تشخيص كون شيء ناراً، أو كون مصداق كذائي له صفة كذائية، فليس متعلّقاً بمرامه، ولا يكون في مقام إبرازه. وكذا المتكلّم بنحو: «أكرم كلّ عالم» لا بدّ له من تشخيص أنّ كلّ فرد من العلماء فيه ملاك الحكم وإن اشتبه عليه الأفراد، ولو خصّص العامّ بمخصّص مثل: «لا تكرم الفسّاق» لا بدّ له من تشخيص كون ملاكه في عدول العلماء، وأمّا كون فرد في الخارج عادلاً أو لا، فليس داخلاً في مرامه حتّى يكون بصدد إبرازه.

فلو صحّ ما ذكره: من أنّ المولى لمّا لم يكن بصدد إفادة المراد بالنسبة إلى ما كان بنفسه مشتبهاً فيه، فليس الظهور حجّة فيه، فلا بدّ من التزامه بعدم وجوب إكرام من اشتبه عند المولى، وإن لم يكن كذلك لدى المكلّف، فمع علم المكلّف بأنّ زيداً عالم عادل، لا بدّ من القول بعدم وجوب إكرامه إذا كان المتكلّم مشتبهاً فيه، ولا أظنّ بأحد التزامه.

وأمّا الشيخ الأعظم فيظهر من تقريراته: أنّ كلام المتكلّم بالعامّ غير صالح

لرفع الشبهة الموضوعية التي هو بنفسه أيضاً قد يكون مثل العبد فيها، فالعامّ مرجع لرفع الشبهة الحكمية لا الموضوعية (1).

وهو متين، ولا يرجع إلى ما في «المقالات». اللهمّ إلاّ أن يرجع ما ذكره إلى

ما ذكرنا، كما قد يظهر من بعض كلماته فيما سيأتي(2)، وإغلاق البيان وسوء التعبير غير عزيزين في «المقالات».

ص: 220


1- مطارح الأنظار 2: 136 - 137.
2- يأتي في الصفحة 225 - 226.

ثمّ إنّه ربّما يستدلّ لجواز التمسّك بالعامّ بوجه آخر، وهو: أنّ العامّ بعمومه الأفرادي يشمل كلّ فرد، وبإطلاقه الأحوالي يعمّ كلّ حالة من حالات الموضوع، ومنها مشكوكية الفسق، والذي كان الخاصّ حجّة فيه هو الأفراد المعلومة، والمشكوك فيها داخلة في إطلاقه(1).

وفيه: - مضافاً إلى ما يرد على التقريب الأوّل - أنّ العامّ بعمومه وإطلاقه إن كان كفيلاً للحكم الواقعي، فكيف يجتمع مع حكم الخاصّ في المشتبه إن كان فاسقاً ؟ ! فلازمه أن يكون الفاسق محرّم الإكرام وواجبه، مع أنّ قوله: «لا تكرم الفسّاق» شامل بإطلاقه لمشتبه الفسق ومعلومه، فلازمه اجتماع الحكمين في موضوع واحد بعنوان واحد.

وإن كان كفيلاً للحكم الواقعي والظاهري، فلا بدّ من أخذ الشكّ في الحكم في موضوعه؛ لأنّ أخذ الشكّ في الموضوع لا يصحّح الحكم الظاهري، فكيف يمكن تكفّل العامّ بجعل واحد للحكم الواقعي على الموضوع الواقعي وللحكم الظاهري على مشتبه الحكم مع ترتّبهما ؟ !

كلّ ذلك مع الإغماض عن أنّ الإطلاق ليس بمعنى أخذ جميع العناوين والحالات في الموضوع؛ فإنّ ذلك معنى العموم.

فحينئذٍ كيف يمكن جعل الحكم الظاهري المتقوّم بأخذ الشكّ موضوعاً، وهل هذا إلاّ الجمع بين عدم لحاظ الشكّ موضوعاً ولحاظه كذلك ؟ !

ص: 221


1- تشريح الاُصول: 261 / السطر 7؛ اُنظر درر الفوائد، المحقّق الحائري: 216.
تتميم: في التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقية للمخصّص اللبّي

ما مرّ كان حال المخصّصات اللفظية، وأمّا اللبّية فيظهر حالها ممّا مرّ، لكن

بعد تمحيض المقام في الشبهة المصداقية للمخصّص اللبّي - وهي متقوّمة بخروج عنوان بالإجماع أو العقل عن تحت حكم العامّ والشكّ في مصداقه - فلا محالة يكون الحكم الجدّي في العامّ على أفراد المخصّص دون المخصّص - بالكسر - ومعه لا مجال للتمسّك بالعامّ لرفع الشبهة الموضوعية؛ لما مرّ.

ومنه يظهر النظر في كلام المحقّق الخراساني، حيث فصّل بين اللبّي الذي يكون كالمخصّص المتّصل وغيره(1)، مع أنّ الفارق بين اللفظي واللبّي من هذه الجهة بلا وجه. ودعوى بناء العقلاء على التمسّك [بالعامّ] في اللبّيات(2) عهدتها عليه.

كما يظهر النظر فيما يظهر من الشيخ الأعظم من التفصيل بين ما يوجب تنويع الموضوعين وتعدّدهما «كالعالم الفاسق» و«العالم الغير الفاسق» فلا يجوز، وبين غيره، كما إذا لم يعتبر المتكلّم صفة في موضوع الحكم غير ما أخذه عنواناً في العامّ، وإن علمنا بأ نّه لو فرض في أفراد العامّ من هو فاسق لا يريد إكرامه، فيجوز التمسّك بالعامّ، وإحراز حال الفرد أيضاً. ثمّ فصّل بما لا مزيد عليه في بيانه(3).

ص: 222


1- كفاية الاُصول: 259.
2- كفاية الاُصول: 260.
3- مطارح الأنظار 2: 143.

ولكن الذي يظهر من مجموع كلماته خروجه عن محطّ البحث، ووروده في وادي الشكّ في أصل التخصيص، ومحطّ الكلام في الشكّ في مصداق المخصّص.

وربّما يوجّه كلامه: بأنّ المخصّص ربّما لا يكون معنوناً بعنوان، بل يكون مخرجاً لذوات الأفراد، لكن بحيثية تعليلية وعلّة سارية، فإذا شكّ في مصداق أ نّه محيّث بالحيثية التعليلية يتمسّك بالعامّ(1).

وفيه: أنّ الجهات التعليلية في الأحكام العقلية موضوع لها، فلا يكون المخرج هو الأفراد، بل العنوان، ومعه لا يجوز التمسّك به.

ومع التسليم بخروج ذوات الأفراد يخرج الكلام عن الشبهة المصداقية للمخصّص، مع أنّ الكلام فيها.

ويظهر النظر في كلام بعض الأعاظم؛ حيث فصّل بين اللبّيات التي توجب تقييد موضوع الحكم وتضييقه، وبين ما هو من قبيل إدراك العقل ما هو ملاك حكم الشارع واقعاً من دون تقييد الموضوع؛ لعدم صلوح تقييد موضوع الحكم بما هو ملاكه، فاختار الجواز في الأوّل دون الثاني(2).

ويظهر منه الخلط بين محلّ البحث وغيره، فراجع.

ص: 223


1- لمحات الاُصول: 273.
2- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 536 - 537.
تنبيهات:
التنبيه الأوّل في التمسّك بالعامّ إذا كان الخاصّ معلّلاً

لو ورد: «أكرم كلّ عالم»، ثمّ ورد - منفصلاً - : «لا تكرم زيداً وعمراً وبكراً؛

لأ نّهم فسّاق»، فربّما يقال بجواز التمسّك بالعامّ في مورد الشكّ في مصداق الفاسق؛ فإنّه من قبيل التخصيص الزائد، لا الشبهة المصداقية للمخصّص(1).

وفيه نظر؛ لأنّ الظاهر من إخراج أفراد بجهة تعليلية أنّ المخرج هو العنوان، لا الأشخاص برأسها، ومعه تكون الشبهة في مصداق المخصّص. وكذا الحال في اللبّيات.

التنبيه الثاني في العامّين من وجه المتنافيي الحكم

إذا ورد حكمان متنافيان على عنوانين مستقلّين بينهما عموم من وجه، فقد يكون أحدهما حاكماً على الآخر، فيصير من قبيل المخصّص، فمع الشبهة المصداقية في مصداق الحاكم لا يجوز التمسّك بالعامّ المحكوم؛ لعين ما تقدّم(2).

ص: 224


1- لمحات الاُصول: 275.
2- تقدّم في الصفحة 217.

وإن لم تكن حكومة بينهما: فإن قلنا: بأنّ العامّين من وجه مشمولان لأدلّة التعارض وقدّمنا أحدهما بأحد المرجّحات، أو كانا من قبيل المتزاحمين وقلنا: إنّ المولى ناظر إلى مقام التزاحم فكان حكمه إنشائياً بالنسبة إلى المرجوح، فيكون حاله حال المخصّص، فلا يجوز التمسّك؛ للملاك المتقدّم.

وأمّا إن قلنا: بأنّ الحكمين في المتزاحمين فعليان على موضوعهما، والانطباق الخارجي وعدم القدرة على إطاعتهما لا يوجبان شأنية المرجوح، بل العقل يحكم بمعذورية المكلّف عن امتثال كليهما من غير تغيير في ناحية الحكم، فالظاهر جواز التمسّك في مورد الشكّ في انطباق الدليل المزاحم الذي هو أقوى ملاكاً؛ لأنّ الحكم الفعلي على موضوعه حجّة على المكلّف ما لم يحرز العذر القاطع، ولا يجوز رفع اليد عن الخطاب الفعلي بلا حجّة، نظير الشكّ في القدرة، فإذا أمر المولى بشيء وشكّ المكلّف في قدرته عليه، لا يجوز عقلاً التقاعد عنه لاحتمال العجز؛ لعين ما ذكر.

التنبيه الثالث في إحراز المصداق بالأصل في الشبهة المصداقية
اشارة

بعد البناء على عدم جواز التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقية، هل يمكن إحراز المصداق بالأصل وإجراء حكم العامّ عليه مطلقاً، أو لا مطلقاً، أو يفصّل بين المقامات ؟

حجّة القائل بالنفي مطلقاً: أنّ العامّ بعد التخصيص يبقى على تمام الموضوعية

ص: 225

للحكم بلا انقلاب عمّا هو عليه، نظير موت الفرد؛ فرقاً بين التخصيص والتقييد،

فحينئذٍ لا مجال للأصل المذكور؛ إذ الأصل السلبي ليس شأنه إلاّ نفي حكم الخاصّ عنه، لا إثبات حكم العامّ عليه، والفرد مورد العلم الإجمالي بكونه محكوماً بحكم أحدهما بلا تغيير العنوان، ونفي أحد الحكمين بالأصل لا يثبت الآخر.

نعم، لا بأس بالتمسّك بالعامّ من غير احتياج إلى الأصل لو كانت الشبهة المصداقية ناشئة عن الجهل بالمخالفة الذي كان أمر رفعه بيد المولى، مثل الشكّ في مخالفة الشرط أو الصلح للكتاب، ولعلّ بناء المشهور في تمسّكهم بالشبهة المصداقية مختصّ بأمثال المورد(1)، انتهى ملخّصاً.

وفيه: أ نّه إن كان المراد من عدم انقلاب العامّ عدمه بحسب مقام الظهور فلا إشكال فيه، لكن لا يمنع ذلك عن جريان الأصل.

وإن كان المراد أنّ الموضوع بحسب الجدّ بقيّة الأفراد بلا عنوان وتقيّد، فهو ممنوع؛ ضرورة أنّ الخاصّ يكشف عن أنّ الحكم الجدّي متعلّق بأفراد العالم الغير الفاسق، ولا سبيل لإنكار تضييق الموضوع بحسب الجدّ. والقياس بموت الفرد مع الفارق؛ لعدم كون الأدلّة ناظرة إلى حالات الأفراد الخارجية.

وأمّا ما ذكره أخيراً: من جواز التمسّك في الشبهة المصداقية في مخالفة الكتاب؛ لأجل أنّ رفعها بيد المولى، ففي غاية الغرابة؛ لأنّ الكلام في الشبهة المصداقية للمخصّص، ولا شبهة في أنّ رفعها لم يكن بيد المولى، وما بيده رفعها هي الشبهة الحكمية، لا المصداقية ممّا فرضت من الاُمور الخارجية.

ص: 226


1- مقالات الاُصول 1: 444 - 445.

هذا، مع أنّ المثالين يكونان من الاستثناء المتّصل بحسب الأدلّة ممّا لا يجوز التمسّك فيه بالعامّ بلا إشكال.

حجّة القول بجريانه مطلقاً: أنّ مثل تلك الأوصاف - أي القرشية والقابلية للذبح ومخالفة الكتاب والسنّة - من أوصاف الشيء في الوجود الخارجي، لا من لوازم الماهيات، فيمكن أن يشار إلى مرأة، فيقال: «إنّ هذه المرأة لم تكن قرشية قبل وجودها»، فيستصحب عدمها، ويترتّب عليه حكم العامّ؛ لأنّ الخارج من العامّ هو المرأة التي من قريش، والتي لم تكن منه بقيت تحته، فيحرز موضوع حكم العامّ بالأصل(1).

وقد يقال في تقريبه: إنّ العامّ شامل لجميع العناوين، وما خرج منه هو عنوان

الخاصّ، وبقي سائرها تحته، فمع استصحاب عدم انتساب المرأة إلى قريش أو عدم قرشيتها ينقّح موضوع العامّ(2).

وقد يقال: إنّ أخذ عرض في موضوع حكم بنحو النعتية ومفاد «كان»

الناقصة، لا يقتضي أخذ عدمه نعتاً في موضوع عدم ذلك الحكم؛ ضرورة أنّ ارتفاع الموضوع المقيّد بما هو مفاد «كان» الناقصة إنّما يكون بعدم اتّصاف الذات بذلك القيد على نحو السالبة المحصّلة، لا على نحو «ليس» الناقصة. فمفاد قضيّة «المرأة تحيض إلى خمسين إلاّ القرشية»: أنّ المرأة التي لا تكون متّصفة بكونها من قريش تحيض إلى خمسين، لا المرأة المتّصفة بأن لا تكون

ص: 227


1- أفاده المحقّق الحائري في مجلس درسه على ما حكي عنه. اُنظر معتمد الاُصول 1: 290؛ تنقيح الاُصول 2: 361.
2- كفاية الاُصول: 261.

منه، والفرق بينهما: أنّ القضيّة الاُولى سالبة محصّلة، والثانية مفاد «ليس»

الناقصة، فلا مانع من جريان الأصل لإحراز موضوع العامّ(1).

التحقيق في جريان الأصل المحرز لموضوع العامّ
اشارة

ونحن قد استقصينا البحث عن هذا الأصل في البراءة(2) والاستصحاب(3)، لكن نشير إلى ما هو التحقيق إجمالاً، وهو يتوقّف على مقدّمات:

الاُولى: أقسام القضايا بلحاظ النسبة

قد تقدّم(4) في وضع الهيئات أنّ القضايا على قسمين: حملية غير مؤوّلة، وحملية مؤوّلة. والقسم الأوّل لا يشتمل على النسبة، لا موجباتها ولا سوالبها، بل تحكي القضيّة بهيئتها عن الهوهوية إيجاباً أو سلباً، كقوله: «الإنسان حيوان ناطق»، و«زيد إنسان، أو موجود، أو أبيض»، وأضرابها.

والقسم الثاني يشتمل على النسبة، لكن موجباتها تحكي عن تحقّق النسبة الواقعية، وفي السوالب تتخلّل أداة النسبة لورود السلب عليها، فتحكي السوالب عن عدم تحقّقها واقعاً، ف- «زيد على السطح» يحكي عن تحقّق النسبة والكون الرابط، و«زيد ليس على السطح» عن عدمه.

ص: 228


1- أجود التقريرات 2: 333، الهامش.
2- أنوار الهداية 2: 93.
3- الاستصحاب، الإمام الخميني قدّس سرّه : 104 - 114.
4- تقدّم في الجزء الأوّل: 45 - 49.

ولا يخفى: أنّ الكون الرابط يختصّ بموجبات تلك القضايا، وأمّا القسم الأوّل فلا يشتمل عليه ولا يحكي عنه؛ لعدم تحقّق النسبة والكون الرابط بين الشيء ونفسه أو متّحداته. وكذا السوالب لا تحكي عنهما، بل تدلّ على رفعهما وقطعهما.

الثانية: مناط الصدق والكذب في القضايا

إنّ المناط في احتمال الصدق والكذب في القضايا هو الحكاية التصديقية، سواء كانت عن الهوهوية إثباتاً ونفياً أو عن الكون الرابط كذلك، والدالّ على الحكاية التصديقية هيئات الجمل الخبرية، فقوله: «زيد إنسان» مشتمل على موضوع ومحمول وهيئة حاكية عن الهوهوية الواقعية، ولا يشتمل على النسبة، وقوله: «زيد له القيام، أو على السطح» مشتمل على موضوع ومحمول وحرف دالّ على النسبة وهيئة دالّة على الحكاية التصديقية عن تحقّق القيام له أو كونه على السطح.

وبالجملة: ما يجعل الكلام محتملاً للصدق والكذب هو الحكاية التصديقية عن نفس الأمر، لا النسبة؛ ضرورة عدم إمكان اشتمال الحمليات الغير المؤوّلة على النسبة مع احتمال الصدق والكذب فيها.

فما اشتهر بينهم: أنّ النسبة تامّة وناقصة، ليس على ما ينبغي؛ فإنّها في جميع الموارد على نهج واحد، فالنسبة في قوله: «زيد له القيام»، وقوله: «زيد الذي له القيام» بمعنىً واحد، وإنّما الفرق بين الجملتين بهيئتهما؛ فإنّ الهيئة الخبرية وضعت للحكاية التصديقية بخلاف غيرها.

ص: 229

ثمّ إنّ مناط الصدق والكذب هو مطابقة الحكاية لنفس الأمر وعدمها، فقولنا: «الله تعالى موجود» حكاية تصديقية عن الهوهوية بين الموضوع والمحمول، ومطابق لنفس الأمر، بخلاف: «الله له الوجود» فإنّه حكاية تصديقية عن عروض الوجود له تعالى، وهو مخالف للواقع، وقولنا: «شريك الباري ليس بموجود» مطابق لنفس الأمر؛ لأ نّه حكاية عن خلوّ صفحة الوجود عنه، والواقع كذلك، بخلاف: «شريك الباري غير موجود، أو لا موجود» بنحو الإيجاب العدولي؛ لأنّ الموجبة مطلقاً تحتاج إلى وجود الموضوع في ظرف الإخبار، وشريك الباري ليس في نفس الأمر شيئاً ثابتاً له غير الموجودية، إلاّ أن يؤوّل بالسالبة المحصّلة، كالتأوّل في مثل: «شريك الباري ممتنع، أو معدوم».

فتحصّل: أنّ مناط الصدق والكذب في السوالب مطابقة الحكاية التصديقية لنفس الأمر؛ بمعنى أنّ الحكاية عن سلب الهوهوية أو سلب الكون الرابط كانت مطابقة للواقع، لا بمعنى أنّ لمحكيّها نحو واقعية بحسب نفس الأمر؛ ضرورة عدم واقعية للأعدام.

الثالثة: القضايا المفتقرة إلى وجود الموضوع

القضيّة موجبة وسالبة، وكلّ منهما بسيطة ومركّبة، وكلّ منهما محصّلة أو غيرها. والموجبة المحصّلة نحو: «زيد قائم»، والمعدولة نحو: «زيد لا قائم»، والموجبة السالبة المحمول نحو: «زيد هو الذي ليس بقائم»، كلّها تحتاج إلى وجود الموضوع؛ لأنّ ثبوت شيء لشيء فرع ثبوت المثبت له، سواء كان الثابت وجودياً أو لا، وكذا اتّحاد شيء مع شيء في ظرف، فرع تحقّقهما فيه.

ص: 230

ففي قوله: «زيد لا قائم» اعتبرت الهوهوية بين زيد وعنوان اللا قائم، والاتّحاد في ظرف فرع تحقّق المتّحدين بنحو، ولهذا قلنا: إنّ المعتبر في المعدولات كون الأعدام من قبيل أعدام الملكات؛ حتّى يكون لملكاتها نحو تحقّق، فلا يصدق قوله: «الجدار لا بصير» ويصدق «الإنسان لا بصير»؛ أي يتّحد مع حيثية هي لا بصيرية قابلة للفعلية.

وكذا الحال في الموجبة السالبة المحمول؛ فإنّ قولنا: «زيد هو الذي ليس له القيام» يرجع إلى توصيف زيد بثبوت وصف عدمي له، أو توصيفه بعدم ثبوت وصف له، فلا بدّ له من وجود الموضوع، وكون المحمول جائز الثبوت له ممّا له نحو ثبوت، كأعدام الملكات مثلاً. فجميع الموجبات معتبر فيها وجود الموضوع، حتّى التي تكون محمولاتها سالبة.

الرابعة: ضرورية كون موضوع الحكم مفرداً

موضوع الحكم سواء كان في الجملة الخبرية أو الإنشائية لا بدّ وأن يكون مفرداً أو في حكمه، كالجمل الناقصة، ولا يمكن جعل الجملة الخبرية - موجبة كانت أو سالبة - موضوعاً لحكم إخباري أو إنشائي؛ لأنّ الحكاية عن موضوع الحكم لا بدّ وأن تكون تصوّرية مقدّمة للحكاية التصديقية المتقوّمة بالهيئة الخبرية، ومقدّمة لجعل الحكم عليه، وهي لا تجتمع مع الحكاية التصديقية التي بها تمّت الجملة، ولا يجتمع النقص والتمام والحكاية التصديقية والتصوّرية في جملة واحدة وحال واحد ولو بتكثّر الاعتبار.

فلو قلت: «زيد قائم غير عمرو قاعد»، لم تكن الحكاية التصديقية فيه إلاّ

ص: 231

عن مغايرة الجملتين، لا عن قيام زيد وقعود عمرو. وكذا الحال في موضوع الأحكام الإنشائية.

نعم، يمكن أن يجعل موضوعهما جملاً ناقصة إذا خرجت عن النقص تكون موجبة أو سالبة محصّلة، مثل: «زيد ليس بقائم غير عمرو ليس بقاعد»، أو موجبة وسالبة معدولة أو سالبة المحمول، مثل: «المرأة الغير القرشية كذا»، أو «المرأة التي ليست بقرشية كذا».

الخامسة: في اعتبارات موضوع العامّ المخصَّص

قد عرفت فيما تقدّم: أنّ الخاصّ سواء كان بنحو الاستثناء أو الانفصال يكشف عن تضييق ما هو موضوع العامّ، وتقييده بحسب الإرادة الجدّية.

ولا يمكن تعلّق الحكم الفعلي الجدّي بوجوب إكرام كلّ عالم بلا قيد، مع كونه مخصّصاً بعدم إكرام الفسّاق منهم، لا لأجل التضادّ بين الحكمين؛ حتّى يقال: إنّه مرفوع بتكثّر الموضوع في ذاتهما، بل لأجل أنّ المولى الملتفت إلى موضوع حكمه لا تتعلّق إرادته الجدّية بالحكم عليه إلاّ بعد تحقّق المقتضي وعدم المانع. فإذا رأى أنّ في إكرام العلماء العدول مصلحة لا غيرهم فلا تتعلّق إرادته إلاّ بإكرامهم، أو رأى أنّ في إكرام عدولهم مصلحة بلا مفسدة، وفي إكرام فسّاقهم مصلحة مع مفسدة راجحة، تتعلّق إرادته بإكرام عدولهم، أو ما عدا فسّاقهم.

وليس باب التخصيص كباب التزاحم حتّى يقال: إنّ المزاحمة في مقام العمل لا توجب رفع فعلية الحكم عن موضوعه.

ص: 232

فحينئذٍ نقول: إنّ موضوع العامّ بعد التخصيص بحسب الحكم الفعلي الجدّي يمكن أن يكون متقيّداً بنحو العدم النعتي على حذو العدول، مثل: «العلماء الغير الفسّاق» و«المرأة الغير القرشية»، ويمكن أن يكون بنحو العدم النعتي على حذو الموجبة السالبة المحمول، مثل: «العلماء الذين لا يكونون فسّاقاً»، أو «المرأة التي لا تتّصف بأ نّها قرشية، أو لا تكون قرشية».

وأمّا كون الموضوع على حذو السالبة المحصّلة الصادقة مع عدم الموضوع، فغير معقول؛ للزوم جعل الحكم على المعدوم بما هو معدوم، فهل يمكن أن يقال: «إنّ المرأة ترى الدم إلى خمسين إذا لم تكن من قريش» بنحو السلب التحصيلي الصادق مع سلب الموضوع، فيرجع إلى أنّ المرأة التي لم توجد ترى الدم ؟ ! فلا بدّ من فرض وجود الموضوع، فيكون الحكم متعلّقاً بالمرأة الموجودة إذا لم تكن من قريش، وهذا إن لم يرجع إلى التقييد بهذا السلب يكون قسماً ثالثاً.

فالاعتبارات التي يمكن أن تؤخذ في موضوع العامّ المخصّص لا تخلو عن العدم النعتي العدولي، أو السالبة المحمول، أو السلب التحصيلي مع اعتبار وجود الموضوع لو لم يرجع إلى التقييد والنعت.

التحقيق في المقام

إذا عرفت ذلك فالتحقيق: جريان الأصل وإحراز مصداق العامّ فيما إذا كان الفرد موجوداً متّصفاً بعنوان العامّ أو بغير عنوان الخاصّ سابقاً، كما لو كان فرد من العلماء عادلاً، فشكّ في بقاء عدالته.

ص: 233

كما يجري ويحرز فيما إذا علم بوجود العالِم متّصفاً بعدم الفسق وشكّ في بقاء علمه، فيقال: إنّ زيداً كان عالماً غير فاسق، فشكّ في بقاء علمه، فيستصحب عنوان العامّ المخصّص، ويحرز الموضوع.

نعم، لو كان زيد غير فاسق، وشكّ في بقاء عدمه النعتي، ولكن لم يكن علمه في حال عدم فسقه متيقّناً حتّى يكون المعلوم العالم الغير الفاسق، ولكن علم أ نّه عالم في الحال، لم يمكن إحراز موضوع العامّ بالأصل والوجدان؛ لأنّ استصحاب عدم كون زيد فاسقاً، أو كونه غير فاسق، مع العلم بأ نّه عالم في الحال، لا يثبت زيداً العالم الغير الفاسق لإحراز موضوع العامّ إلاّ بالأصل المثبت.

وبعبارة اُخرى: إنّ موضوعه هو العالم المتّصف بعدم كونه فاسقاً، فجزؤه عدم نعتي للعالم، وهو غير مسبوق باليقين، وما هو مسبوق به هو زيد المتّصف بعدم الفسق، وهو ليس جزءه، واستصحاب العدم النعتي لعنوان لا يثبت العدم النعتي لعنوان متّحد معه إلاّ بحكم العقل، وهو مثبت، وتعلّق العلم بأنّ زيداً العالم -

في الحال - لم يكن فاسقاً بنحو السلب التحصيلي لا يفيد؛ لعدم كونه بهذا الاعتبار موضوعاً للحكم.

ومن هذا ظهر عدم إمكان إحراز جزأي الموضوع بالأصل، إذا شكّ في علمه وعدالته مع العلم باتّصافه بهما سابقاً لو لم يعلم اتّصافه بهما في زمان واحد حتّى يكون «العالم الغير الفاسق» مسبوقاً باليقين، فالمناط في صحّة الإحراز هو مسبوقية العدم النعتي لعنوان العامّ، لا العدم النعتي مطلقاً، فتبصّر.

وأمّا إذا كان الاتّصاف واللا اتّصاف ملازمين لوجوده، كالقابلية واللا قابلية للذبح في الحيوان، والقرشية واللا قرشية في المرأة، والمخالفة وعدمها للكتاب

ص: 234

في الشرط، فجريان الأصل لإحراز مصداق العامّ ممّا لا مجال له، سواء قلنا: بأنّ الوصف من قبيل العدم النعتي بنحو العدول، كما إذا قلنا: بأنّ المستفاد من العامّ بعد التخصيص كون الموضوع هو المرأة الغير القرشية، والشرط الغير المخالف... وهكذا، أو بنحو الموجبة السالبة المحمول، كالمرأة التي ليست بالقرشية، والشرط الذي ليس مخالفاً للكتاب.

وذلك لما عرفت: من أنّ الإيجاب العدولي والموجبة السالبة المحمول يحتاجان إلى الموضوع؛ فإنّ في كلّ منهما يكون الموضوع متّصفاً بوصف، فكما أنّ المرأة الغير القرشية تتّصف بهذه الصفة، كذلك المرأة التي لم تتّصف بالقرشية، أو لم تكن قرشية، موصوفة بوصف أ نّها لم تتّصف بذلك، أو لم تكن كذلك.

والفرق بالعدول وسلب المحمول غير فارق فيما نحن فيه، فالمرأة قبل وجودها كما لا تتّصف بأ نّها غير قرشية؛ لأنّ الاتّصاف بشيء فرع وجود الموصوف، كذلك لا تتّصف بأ نّها هي التي لا تتّصف بها؛ لعين ما ذكر.

وتوهّم أنّ الثاني من قبيل السلب التحصيلي ناشٍ من الخلط بين الموجبة السالبة المحمول وبين السالبة المحصّلة. والقيد في العامّ - بعد التخصيص - يتردّد بين التقييد بنحو الإيجاب العدولي والموجبة السالبة المحمول، ولا يكون من قبيل السلب التحصيلي؛ ممّا لا يوجب تقييداً في الموضوع.

ولو سلّم أنّ الموضوع بعده «العالم» مسلوباً عنه الفسق بالسلب التحصيلي، فلا يجري فيه الأصل أيضاً لإحرازه؛ إذ قد عرفت أنّ السلب التحصيلي الأعمّ من وجود الموضوع لا يعقل جعله موضوعاً، فلا بدّ من أخذ الموضوع مفروض الوجود، فيكون العالم الموجود إذا لم يكن فاسقاً موضوعاً.

ص: 235

وهذا - مضافاً إلى كونه مجرّد فرض - أنّ صحّة الاستصحاب فيه منوطة بوحدة القضيّة المتيقّنة مع المشكوك فيها، وهي مفقودة؛ لأنّ الشيء لم يكن قبل وجوده شيئاً لا ماهيةً ولا وجوداً، والمعدوم لا يقبل الإشارة لا حسّاً ولا عقلاً، فلا تكون هذه المرأة الموجودة قبل وجودها هذه المرأة، بل تكون تلك الإشارة من اُكذوبة الواهمة واختراعاتها.

فالمرأة المشار إليها في حال الوجود ليست موضوعة للقضيّة المتيقّنة الحاكية عن ظرف العدم؛ لما عرفت: أنّ القضايا السالبة لا تحكي عن النسبة، ولا عن الوجود الرابط، ولا عن الهوهوية بوجه، فلا تكون للنسبة السلبية واقعية حتّى تكون القضيّة حاكية عنها، فانتساب هذه المرأة إلى قريش مسلوب أزلاً؛ بمعنى مسلوبية هذية المرأة وقريش والانتساب، لا بمعنى مسلوبية الانتساب عن هذه المرأة وقريش، وإلاّ يلزم كون الأعدام متمايزة حال عدمها، وهو واضح الفساد، فالقضيّة المتيقّنة غير القضيّة المشكوك فيها.

بل لو سلّم وحدتهما كان الأصل مثبتاً؛ لأنّ المتيقّن هو عدم كون هذه المرأة

قرشية باعتبار سلب الموضوع، أو الأعمّ منه ومن سلب المحمول، واستصحاب ذلك وإثبات الحكم للقسم المقابل أو للأخصّ مثبت؛ لأنّ انطباق العامّ على الخاصّ - في ظرف الوجود - عقلي، وهذا كاستصحاب بقاء الحيوان في الدار وإثبات حكم قسم منه بواسطة العلم بالانحصار.

فقد اتّضح ممّا ذكرنا: عدم جريان استصحاب الأعدام الأزلية في أمثال المقام مطلقاً.

ص: 236

التنبيه الرابع في التمسّك بعمومات النذر وأمثاله لكشف حال الفرد

قد عرفت عدم جواز التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقية للمخصّص، فلا مجال للتمسّك بعموم وجوب الوفاء بالنذر إذا شكّ في صحّة الوضوء بمائع مضاف، فضلاً عن دعوى كشف حال الفرد والحكم بصحّته مطلقاً؛ ضرورة أنّ العموم قد خصّ بمثل: «لا نذر إلاّ في طاعة الله»(1) أو قيّد به، فلا بدّ من إحراز الموضوع للحكم بالوجوب، والعامّ غير كفيل له، فضلاً عن كفالته لكشف الصحّة وكونه طاعةً لله، أو لكشف إطلاق الماء مع الشكّ فيه.

هذا، وقد أيّد المحقّق الخراساني(2) تلك الدعوى بما ورد من صحّة الإحرام قبل الميقات(3) والصوم في السفر(4) إذا تعلّق بهما النذر، وأضاف شيخنا العلاّمة - أعلى الله مقامه - نذر النافلة قبل(5) الفريضة(6)، مع أنّ الأمثلة غير مربوطة بالدعوى؛ لأنّ المدّعى التمسّك بالعامّ المخصّص لكشف حال الفرد، وهي ليست من هذا القبيل؛ فإنّ الإحرام قبل الميقات حرام، وبالنذر يصير واجباً

ص: 237


1- اُنظر وسائل الشيعة 23: 317، كتاب النذر والعهد، الباب 17.
2- كفاية الاُصول: 262.
3- راجع وسائل الشيعة 11: 326، كتاب الحجّ، أبواب المواقيت، الباب 13.
4- راجع وسائل الشيعة 10: 195، كتاب الصوم، أبواب من يصحّ منه الصوم، الباب 10، الحديث 1 و7.
5- في المصدر: وقت الفريضة.
6- درر الفوائد، المحقّق الحائري: 220.

بدلالة الأخبار، وكذا الصوم في السفر، وصيرورة الشيء بالنذر واجباً بدليل خاصّ غير التمسّك بالعموم لكشف حال الفرد.

التنبيه الخامس التمسّك بالعامّ لكشف حال الفرد عند الشكّ بين التخصيص والتخصّص

لو علم عدم محكومية فرد بحكم العامّ، ودار أمره بين التخصيص والتخصّص، فهل يجوز التمسّك بأصالة العموم لكشف حال الفرد، فيقال: إنّ إكرام جميع العلماء واجب بحكم أصالة العموم، فإذا لم يجب إكرام شخص يستكشف أ نّه ليس بعالم بحكم عكس النقيض، كما أنّ صدق «كلّ نار حارّة» ملازم لصدق «كلّ ما لم يكن حارّاً لم يكن ناراً»(1) ؟

الظاهر: عدم جواز التمسّك، لا لما ذكره المحقّق الخراساني(2)، وقرّره تلميذه المحقّق في مقالاته: من أنّ أصالة العموم وإن كانت حجّة، لكن غير قابلة لإثبات اللوازم، ومثبتات هذا الأصل كسائر الاُصول المثبتة؛ مع كونه أمارة في نفسه، فحينئذٍ لا مجال للتمسّك بعكس النقيض؛ فإنّه وإن كان لازماً عقلياً للعامّ، لكن ذلك اللازم إنّما يترتّب عليه لو فرض حجّية أصالة العموم لإثبات لازم المدلول.

ووجه التفكيك بين اللازم والملزوم عدم نظر العموم إلى تعيين صغرى الحكم نفياً وإثباتاً، وإنّما نظره إلى إثبات الكبرى، كما هو المبنى في عدم

ص: 238


1- راجع مطارح الأنظار 2: 149 - 150.
2- كفاية الاُصول: 264.

جواز التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقية، وما نحن فيه أيضاً مبنيّ على

هذه الجهة(1)، انتهى ملخّصاً.

وذلك لأنّ عكس النقيض لازم للكبرى الكلّية، ولا يلزم أن يكون العامّ ناظراً

إلى تعيين الصغرى في لزومه لها، فإذا سلّم جريان أصالة العموم وكونها أمارة، فلا مجال لإنكار حجّيتها بالنسبة إلى لازمها [غير المنفكّ]، فلا يصحّ أن يقال: إنّ العقلاء يحكمون بأنّ كلّ فرد من العامّ محكوم بحكم العامّ واقعاً ومراد جدّاً من غير استثناء، ومعه يحتمل عندهم أن يكون فرد منه غير محكوم بحكمه، إلاّ أن يلتزم بأ نّها أصل تعبّدي لا أمارة.

بل عدم الصحّة لأجل عدم جريانها في مثل المقام؛ لأنّ المتيقّن من جريانها إنّما هو لكشف مراد المتكلّم، وأمّا مع العلم بمراده والشكّ في جهات اُخر فلا تجري، لا أ نّها جارية ومنفكّة عن لازمها، وهذا نظير أصالة الحقيقة التي [هي] جارية مع الشكّ في المراد لا لكشف الوضع، فبعد العلم بعدم وجوب إكرام شخص لا أصل يحرز أ نّه من قبيل التخصيص أو التخصّص، فتدبّر.

التنبيه السادس في دوران الأمر بين التخصيص والتخصّص لإجمال الخاصّ

لو دلّ دليل منفصلاً على عدم وجوب إكرام زيد وكان مردّداً بين الجاهل والعالم، فالظاهر جواز التمسّك بالعامّ لوجوب إكرام العالم منهما؛ لأنّ المجمل

ص: 239


1- مقالات الاُصول 1: 450 - 451.

المردّد ليس بحجّة بالنسبة إلى العالم، والعامّ حجّة بلا دافع.

فحينئذٍ لو كان الخاصّ حكماً إلزامياً كحرمة الإكرام، أمكن أن يقال بانحلال

العلم؛ بمعنى أنّ أصالة العموم حاكمة بأنّ زيداً العالم يجب إكرامه، ولازمه عدم حرمة إكرامه، ولازمه حرمة إكرام زيد الجاهل؛ لحجّية مثبتات الاُصول اللفظية، فتنحلّ بذلك - حكماً - الحجّة الإجمالية التي لولا العامّ لوجب بحكم العقل متابعتها، وعدم جواز إكرام واحد منهما.

وقد سوّى الشيخ الأعظم بين الفرض والذي تقدّم في الأمر الخامس، قائلاً: بأ نّه على ذلك - أي جواز التمسّك - جرى ديدن العلماء في مباحثهم الفقهية(1).

ص: 240


1- مطارح الأنظار 2: 150.

الفصل الثالث هل يجوز العمل بالعامّ قبل الفحص ؟

اشارة

ينبغي تقديم اُمور:

الأمر الأوّل: أنّ محطّ البحث على ما صرّح به المحقّق الخراساني(1) إنّما هو بعد الفراغ عن أنّ حجّية أصالة العموم من باب الظنّ النوعي لا الظنّ الخاصّ، وبعد الفراغ عن حجّيتها بالنسبة إلى المشافه وغيره، وبعد الفراغ عن عدم العلم الإجمالي بالتخصيص؛ ضرورة أ نّه لو كانت الحجّية للظنّ الشخصي لكانت تابعة لحصوله، ولا مدخل للفحص وعدمه فيه، وأ نّه مع العلم الإجمالي لا مجال لإنكار الفحص إلى أن ينحلّ العلم.

ولكن ظاهرهم أعمّية البحث هاهنا؛ لتمسّكهم بالعلم الإجمالي بالمخصّص، ونحن نبحث على فرض العلم وعدمه.

الأمر الثاني: لا إشكال في أنّ البحث منحصر بالمنفصلات، دون المتّصلات

ص: 241


1- كفاية الاُصول: 264.

باحتمال عدم الوصول؛ لعدم اعتناء العقلاء به؛ لأنّ احتماله منحصر بسقوطه عمداً أو خطأً أو نسياناً، والأوّل مخالف لفرض وثاقة الراوي، والأخيران مخالفان للأصل العقلائي، وسيظهر أنّ مناط لزوم الفحص ليس في المتّصل.

الأمر الثالث: فرّق المحقّق الخراساني بين الفحص هاهنا وبينه في الاُصول العملية، قائلاً: بأنّ الفحص هاهنا عمّا يزاحم الحجّة، بخلافه هناك؛ فإنّه من متمّماتها؛ ضرورة أنّ العقل لا يستقلّ بقبح العقاب مع البيان الواصل بنحو متعارف، وإن لم يصل إلى المكلّف بواسطة عدم فحصه(1).

والتحقيق: أنّ الفحص هاهنا أيضاً عن متمّم الحجّية، لا عن مزاحمها، ويتّضح بعد بيان دليل لزوم الفحص(2)، فانتظر.

الأمر الرابع: أنّ البحث لا يختصّ بالعامّ ولا بالأدلّة اللفظية، بل يجري في المطلق قبل الفحص عن المقيّد، وفي الظاهر قبل الفحص عن معارضه، وفي الاُصول العقلية قبل الفحص عن الأدلّة، ومناط الجميع واحد، كما سيتّضح لك.

الاستدلال على وجوب الفحص عن المخصّص بمعرضية العامّ للتخصيص

إذا عرفت ما تقدّم: فالتحقيق ما أفاد المحقّق الخراساني في المقام(3)، وتوضيحه: أنّ الشارع لم يسلك في مخاطباته غير ما سلك العقلاء، بل جرى في قوانينه على ما جرت به عادة العقلاء وسيرتهم. لكن ديدنهم في المخاطبات

ص: 242


1- كفاية الاُصول: 265 - 266.
2- يأتي في الصفحة 243 - 244.
3- كفاية الاُصول: 365.

العادية والمحاورات الشخصية بين الموالي والعبيد وغيرهم عدم [فصل] المخصّصات والمقيّدات والقرائن، ولهذا تكون العمومات والمطلقات الصادرة منهم في محيط المحاورات حجّة بلا احتياج إلى الفحص، ولا يعتني العقلاء باحتمال المخصّص والمقيّد المنفصلين، ويعملون بالعمومات والإطلاقات بلا انتظار.

هذا حال المحاورات الشخصية.

وأمّا حال وضع القوانين وتشريع الشرائع لدى جميع العقلاء، فغير حال المحاورات الشخصية، فترى أنّ ديدنهم في وضع القوانين ذكر العمومات والمطلقات في فصل ومادّة، وذكر مخصّصاتها ومقيّداتها وحدودها تدريجاً ونجوماً في فصول اُخر.

والشارع الصادع جرى في ذلك على ما جرت به طريقة كافّة العقلاء، فترى أنّ القوانين الكلّية في الكتاب والسنّة منفصلة عن مخصّصاتها ومقيّداتها، فالأحكام والقوانين نزلت على رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم نجوماً في سنين متمادية، وبلّغها حسب المتعارف في تبليغ القوانين للاُمّة، وجمع علماؤها بتعليم أهل بيت الوحي القوانين في اُصولهم وكتبهم.

فإذن تكون أحكامه تعالى قوانين مدوّنة في الكتاب والسنّة، والعمومات والمطلقات التي فيها في معرض التخصيص والتقييد حسب ديدن العقلاء في وضع القوانين السياسية والمدنية، وما هذا حاله ليس بناء العقلاء على التمسّك [فيه] بالاُصول بمجرّد العثور على العمومات والمطلقات من غير فحص؛ لأنّ كونهما في معرض المعارضات يمنعهم عن إجراء أصالة التطابق بين الاستعمال والجدّ، ولا يكون العامّ حجّة إلاّ بعد جريان هذا الأصل العقلائي، وإلاّ فبمجرّد

ص: 243

ظهور الكلام وإجراء أصالة الحقيقة والظهور لا تتمّ الحجّية، فأصالة التطابق من متمّماتها لدى العقلاء.

وقد ظهر ممّا ذكرنا اُمور:

منها: أنّ المناط في الفحص ليس العلم الإجمالي، بل مع عدم العلم أيضاً يجب الفحص.

ومنها: أنّ الفحص هاهنا أيضاً عن متمّم الحجّة، لا عن مزاحمها، فكما أنّ قاعدة قبح العقاب بلا بيان لا تجري إلاّ بعد الفحص؛ لتحقّق التبليغ من قِبل الشارع وعلماء الاُ مّة بالجمع في الكتب، ولا عذر للعبد في ترك الفحص، كذلك الاحتجاج بالعمومات والمطلقات والعمل بها لا يجوز إلاّ بعد الفحص، فيكون ذلك مقدّمة لإجراء الأصل العقلائي، وبه تتمّ الحجّة.

إن قلت: ما ذكرت غير صحيح؛ لما ذكرت في باب التعادل والتراجيح: من أنّ المطلقات حجّة فعلية غير معلّقة على المقيّدات الواقعية، بل هي بعد وصولها من قبيل المزاحم، ويتمّ بها أمد الحجّية(1).

قلت: حيثية البحث ها هنا غيرها هناك؛ لأنّ الكلام هاهنا في لزوم الفحص، وقد عرفت عدم حجّية عامّ ولا مطلق إلاّ بعده، وأمّا بعد الفحص المتعارف فيصيران حجّة فعلية، فلو عثرنا بعده على مقيّد ينتهي به أمد الحجّية، ولا يكون المطلق معلّقاً على عدم البيان الواقعي؛ بحيث يكون العثور عليه كاشفاً عن عدم حجّيته. وبالجملة: لا فرق بين العامّ والمطلق من هذه الجهة.

هذا كلّه فيما إذا كان المستند غير العلم الإجمالي.

ص: 244


1- التعادل والترجيح، الإمام الخميني قدّس سرّه : 40.
الاستدلال على وجوب الفحص عن المخصّص بالعلم الإجمالي

وأمّا الكلام فيه فقد استدلّ له: بأ نّا نعلم إجمالاً بورود مخصّصات ومقيّدات

في الشريعة، فلا محيص عن الفحص عنها(1).

وقد استشكل عليه تارةً: بأنّ الدليل أعمّ من المدّعى؛ لأنّ الفحص اللازم في الكتب التي بأيدينا لا يرفع أثر العلم؛ لكونه متعلّقاً بالمخصّصات في الشريعة، لا في الكتب فقط، فلا بدّ من الاحتياط حتّى بعد الفحص.

واُخرى: بأ نّه أخصّ منه؛ لأنّ العلم إذا صار منحلاًّ بمقدار العثور على المتيقّن لا بدّ من الالتزام بجواز التمسّك، والقوم لا يلتزمون به(2).

فأجابوا عن الأوّل: بأنّ العلم الإجمالي لا يتعلّق إلاّ بما في الكتب التي بأيدينا دون غيرها(3).

وهذه الدعوى قريبة؛ فإنّ العلم بالمخصّصات الصالحة للاحتجاج وجداني بالنسبة إلى الكتب التي بأيدينا، وأمّا في غيرها فلا علم لنا بوجود اُصول مفقودة ضائعة، فضلاً عن العلم باشتمالها على المخصّصات الكذائية، فضلاً عن كونها غير ما في الكتب الموجودة، وإنّما ادّعى بعض فقدان بعض الاُصول على نحو الإجمال، ومثله لا يورث علماً بأصلها، فضلاً عن مشتملاتها.

وأجاب بعض المحقّقين عن الثاني: بأنّ مقدار المعلوم وإن كان معلوماً بحيث

ص: 245


1- الفصول الغروية: 200 / السطر 29؛ اُنظر مطارح الأنظار 2: 177.
2- فرائد الاُصول، ضمن تراث الشيخ الأعظم 25: 414 - 415؛ اُنظر فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 542 - 543 و4: 278 - 279.
3- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 542 و4: 280.

ينتهي الزائد إلى الشكّ البدوي، لكن هذا المقدار إذا كان مردّداً بين محتملات

متباينات منتشرات في أبواب الفقه من أوّله إلى آخره تصير جميع الشكوك في تمام الأبواب طرف العلم، فيمنع عن الأخذ به قبل الفحص، وفي هذه الصورة لا يفيد الظفر بالمعارض بمقدار المعلوم؛ إذ مثل هذا العلم الحاصل جديداً بكون المعلوم بالإجمال في غير الشكوك الباقية التي كانت طرفاً من الأوّل للاحتمال في المتباينات - نظير العلوم الحاصلة بعد العلم الإجمالي - غير قابلة للانحلال، فالاحتمال الذي [كان طرفاً] من الأوّل منجّز(1).

وفيه: أ نّه بعد الاعتراف بأنّ للمعلوم قدراً متيقّناً، فإن كان العلم تعلّق بانتشاره في جميع الفقه - بحيث يكون في كلّ باب طائفة منه - فيكون له علمان: أحدهما بأصل المخصّص بمقدار محدود، وثانيهما بانتشاره في الأبواب من الأوّل إلى الآخر.

فحينئذٍ إن عثر على المقدار المعلوم في ضمن الفحص في جميع الأبواب، فلا مجال لعدم الانحلال ولو حكماً؛ ضرورة احتمال انطباق المعلوم من الأوّل على هذا المقدار، فلا يبقى أثر للعلم.

وإن عثر عليه في بعض الأبواب قبل الفحص في سائرها فلا محالة يخطأ أحد علميه: إمّا علمه بالمقدار المحدود، فيتجدّد له علم آخر بوجود المخصّص في سائر الأبواب، وهو خلاف المفروض.

وإمّا علمه بالانتشار في جميع الأبواب، فلا محيص عن الانحلال.

وأجاب بعض الأعاظم عنه بما حاصله: أنّ العلم الإجمالي تارةً: يكون غير

ص: 246


1- مقالات الاُصول 1: 456.

معلّم بعلامة، ومثله ينحلّ بعد العثور على المقدار المتيقّن؛ لأنّ هذا المقدار من أوّل الأمر معلوم، والزائد مشكوك فيه.

واُخرى: يكون معلّماً بعلامة، ومثله لا ينحلّ بذلك؛ لعدم الرجوع إلى العلم بالأقلّ والشكّ في الأكثر من أوّل الأمر، بل يتعلّق العلم بجميع الأطراف؛ بحيث لو كان الأكثر واجباً لكان ممّا تعلّق به وتنجّز بسببه، وليس الأكثر مشكوكاً فيه من أوّل الأمر، كما إذا علم بأ نّه مديون لزيد بما في الدفتر، فإنّ جميع ما فيه من دين زيد تعلّق به العلم؛ لمكان وجوده فيه، وتعلّق العلم بجميع ما فيه، وأين هذا ممّا كان دينه من أوّل الأمر مردّداً بين الأقلّ والأكثر ؟ !

فلنا علمان: أحدهما تعلّق بما في الدفتر، ومقتضٍ للتنجّز بجميع ما فيه، والثاني بأنّ دين زيد عشرة أو خمسة. والثاني لا يقتضي الاحتياط، واللا مقتضي لا يزاحم المقتضي.

ونظيره: ما إذا علم بأنّ البيض في هذا القطيع موطوءة، فأوجب العلم التنجيز بالنسبة إلى كلّ أبيض فيه، فلو عثر على مقدار متيقّن من البيض الموطوءة، فليس له إجراء أصالة الحلّ بالنسبة إلى الزائد(1)، انتهى.

وفيه ما لا يخفى؛ ضرورة أنّ العلم الإجمالي إذا تعلّق بعنوان غير ذي أثر لا يوجب التنجّز بذلك العنوان، فلا بدّ من لحاظ ما له أثر، فإن دار أمره بين الأقلّ والأكثر ينحلّ العلم بلا ريب، وما نحن فيه من هذا القبيل؛ لأنّ الكون في الكتب كالكون في الدفتر ممّا لم يكن موضوعاً ولا جزء موضوع لحكم، وما هو الموضوع للأثر نفس المخصّصات، والكتب ظرفها بلا دخالة في التأثير.

ص: 247


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 543 - 545.

وهذا نظير ما إذا كانت دنانير مردّدة بين الأقلّ والأكثر في كيس فأتلفه، فلا إشكال في تعلّق علمه بأنّ ما في الكيس صار مضموناً عليه، سواء كان أقلّ أو أكثر، لكن مجرّد ذلك لا يوجب إصابة العلم بالأكثر، بل لا يزيد عن الدوران بين الأقلّ والأكثر بالبداهة. فلو كانت أمثال تلك العلامات موجبة لتنجّز الأكثر فما من مورد إلاّ وينطبق على المعلوم عنوان نظير ما ذكر، مثل: «ما في الكيس»، «ما في الدار»، «ما أقرضني»، «ما سلّم إليّ»، وأشباهها.

وما ادّعى: من أنّ العلم إذا تعلّق بما في الدفتر يوجب إصابة العلم بالأكثر،

فاسد؛ لأنّ ما في الدفتر المردّد بين الأقلّ والأكثر لا يعقل أن يكون أكثره متعلّقاً

للعلم، ولا صيرورته منجّزاً به، بل لو كان العنوان المتعلّق للعلم ذا أثر - مثل عنوان الموطوء - وكان منحلاًّ إلى التكاليف الدائرة بين الأقلّ والأكثر، لم يوجب العلم تنجيز غير ما هو المتيقّن؛ أي الأقلّ. نعم لو كان العنوان بسيطاً، وكان الأقلّ والأكثر من محصّلاته، وجب الاحتياط، لكنّه أجنبيّ عمّا نحن فيه.

مقدار الفحص عن المخصّص

ثمّ إنّ مقدار الفحص - بناءً على كون مبنى وجوبه العلم الإجمالي - إلى حدّ

ينحلّ العلم، وقد عرفت انحلاله. وبناء على كون مبناه معرضية العمومات للتخصيص إلى مقدار اليأس عن المخصّص والمعارض، فلا بدّ من بذل الجهد بالمقدار الميسور حتّى يخرج العامّ عن معرضيته ويجري الأصل العقلائي. وقد ذكرنا في باب الاجتهاد والتقليد(1) ما له نفع بالمقام.

ص: 248


1- الاجتهاد والتقليد، الإمام الخميني قدّس سرّه : 11 - 12.

الفصل الرابع في عموم الخطابات الشفاهية لغير الحاضرين

اشارة

هل الخطابات الشفاهية مثل: )يَا أَيُّهَا النَّاسُ( تعمّ غير الحاضرين، حتّى المعدومين ؟

وينبغي التنبيه على اُمور:

الأمر الأوّل: أنّ ظاهر العنوان كظاهر بعض استدلالاتهم هو أنّ النزاع في جواز خطاب المعدوم والغائب، ويكون النزاع على فرض عقليته في إمكانه وعدمه.

وهو وإن لا يبعد عن مثل الحنابلة(1)، لكن النزاع العقلي المعقول يمكن أن يكون في أنّ ألفاظ العموم التي [جاءت] تلو أداة النداء وأشباهها ممّا تكون خطاباً، هل تعمّ المعدومين والغائبين - كما تعمّهم ولو في ظرف وجودهم لو لم تكن مقرونة بها - أو لا ؟ حتّى يرجع النزاع العقلي إلى أ نّه هل يستلزم التعميم

مخاطبتهما حتّى يمتنع، أو لا ؟ فيكون النزاع في الملازمة وعدمها.

وهذا يناسب مبحث العامّ لا ظاهر العنوان؛ لأنّ إمكان مخاطبتهما وعدمه

ص: 249


1- راجع الفصول الغروية: 183 / السطر 27.

غير مربوط به، بل المناسب له هو شمول ألفاظ العموم لهم وعدمه، بعد كونها تلو الخطابات الشفاهية.

الأمر الثاني: صريح الشيخ الأعظم خروج مثل قوله: )لله عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ((1)، وقوله: )لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ((2) ممّا لم يصدّر بألفاظ النداء وأداة الخطاب عن محطّ النزاع، وأ نّه لم يعهد من أحد إنكار شموله لهما(3).

لكن الظاهر أنّ مناط النزاع العقلي يعمّه أيضاً؛ بأن يقال: هل يلزم من شمول أمثال تلك العناوين والأحكام لغير الموجودين تعلّق التكليف الفعلي بهم في حال العدم، وصدق العناوين عليهم كذلك، أو لا ؟ فعلى الأوّل تختصّ بالموجودين، وعلى الثاني تعمّ غيرهم.

وما قيل: من أنّ أسماء الأجناس تشمل غير الموجودين بلا ريب(4) إن كان المراد منه شمولها لهم حال عدمهم فهو ضروري البطلان، وإن كان المراد منه انطباقها عليهم في ظرف الوجود فهو حقّ، لكنّه راجع إلى القضيّة الحقيقية، وهو جواب الإشكال، كما سيأتي.

الأمر الثالث: أنّ حلّ الإشكال في بعض الصور لمّا كان مبنيّاً على بيان القضيّة الحقيقية لا بأس بالإشارة إليها، وإلى الفرق بينها وبين الخارجية إجمالاً، فنقول:

ص: 250


1- آل عمران (3): 97.
2- النساء (4): 7.
3- مطارح الأنظار 2: 186.
4- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 548.

إنّ هذا التقسيم للقضايا الكلّية، وأمّا الشخصية مثل: «زيد قائم» فخارجة عن

المقسم. وفي القضايا الكلّية قد يكون الحكم على الأفراد الموجودة للعنوان؛ بحيث يختصّ الحكم بما وجد فقط، من غير أن يشمل ما سيوجد أو ما كان موجوداً، وذلك بأن يتقيّد مدخول أداة العموم بحيث لا ينطبق إلاّ عليها، كقوله: «كلّ عالم موجود في [هذا] الآن كذا»، و«كلّ ما في هذا العسكر كذا»، سواء كان الحكم على أفراد عنوان ذاتي أو انتزاعي أو عرضي، فلفظ «كلّ» لاستغراق أفراد مدخوله، والعنوان المتلوّ له - بعد التقيّد المذكور - لا ينطبق إلاّ على الأفراد المحقّقة.

وأمّا القضيّة الحقيقية: [فهي] ما يكون الحكم فيها على أفراد الطبيعة القابلة

للصدق على الموجود في الحال وغيره، مثل: «كلّ نار حارّة»، فلفظة «نار» تدلّ على نفس الطبيعة، وهي قابلة للصدق على كلّ فرد، لا بمعنى وضعها للأفراد، ولا بمعنى كون الطبيعة حاكية عنها، بل لا تدلّ إلاّ على نفس الطبيعة، وهي قابلة للصدق على الأفراد، ومتّحدة معها في الخارج.

ولفظ «كلّ» دالّ على استغراق أفراد مدخوله من غير أن يدلّ على الوجود أو العدم، ف «كلّ» وأشباهه - من كلّ لغة - لم يوضع للأفراد بقيد الوجود أو في حاله، ولهذا يصحّ أن يقال: إنّ كلّ فرد من الطبيعة إمّا موجود أو معدوم، بلا تأوّل.

وإضافة «كلّ» إلى الطبيعة تدلّ على كون الاستغراق متعلّقاً بما يتلوه، ولمّا لم يتقيّد بما يجعله منحصر الانطباق على الأفراد المحقّقة، فلا محالة يكون الحكم على كلّ فرد منه في الماضي والحال والاستقبال؛ كلّ في موطنه، فالعقل يحكم بامتناع الصدق على المعدوم، فلم تكن الطبيعة طبيعةً ولا أفرادها أفراداً حال

ص: 251

العدم، فلا محالة يكون الحكم في ظرف صدق الطبيعة على الأفراد، ف «كلّ نار حارّة» إخبار عن مصاديق النار دلالةً تصديقية، والمعدوم ليس مصداقاً لشيء، كما أنّ الموجود الذهني ليس فرداً بالحمل الشائع، فينحصر الصدق في ظرف الوجود الخارجي من غير أن يكون الوجود قيداً، ومن غير أن يفرض للمعدوم وجود، أو ينزّل منزلة الوجود، ومن غير أن تكون القضيّة متضمّنة للشرط.

فإنّ تلك التكلّفات - مع كونها خلاف الوجدان في إخباراتنا؛ ضرورة أنّ كلّ من أخبر: ب «أنّ النار حارّة» لا يخطر بباله الأفراد المعدومة، فضلاً عن تنزيلها منزلة الوجود، أو الاشتراط بأ نّه إذا وجدت كانت كذلك - ناشئة من تخيّل أنّ للطبيعة أفراداً معدومة، وتكون الطبيعة صادقة عليها حال العدم، ولمّا لم يصدق عليها الحكم لا بدّ من تنزيلها منزلة الموجود، أو اشتراط الوجود فيها.

وأنت خبير بأنّ ذلك كلّه في غاية السقوط؛ لأنّ العدم ليس بشيء، فلا تكون القضايا الحقيقية إخباراً عن الأفراد المعدومة، بل إخبار عن أفراد الطبيعة بلا قيد، وهي لا تصدق إلاّ على الأفراد الموجودة في ظرف وجودها، فيكون الإخبار كذلك بحكم العقل من غير تقييد واشتراط.

ثمّ إنّ في القضيّة الحقيقية يكون الحكم على الأفراد المتصوّرة بالوجه الإجمالي، وهو عنوان «كلّ فرد»، أو «جميع الأفراد»، فعنوان «كلّ» و«جميع» متعلّق للحكم، ولمّا كان هذا العنوان موضوعاً للكثرات بنحو الإجمال فبإضافته إلى الطبيعة يفيد أفرادها بنحو الإجمال، فالحكم في المحصورة على أفراد الطبيعة بنحو الإجمال، لا على نفس الطبيعة، ولا على الأفراد تفصيلاً، فقولهم: إنّ الحكم على الطبيعة التي هي مرآة للأفراد ليس بشيء.

ص: 252

فاتّضح ممّا ذكرنا مواقع النظر في كلام بعض الأعاظم(1) في القضايا الخارجية والحقيقية، والفرق بينهما، فراجع.

التحقيق في المقام

إذا عرفت ما تقدّم فنقول: إنّ الإشكال في المقام إن كان من جهة أنّ التكليف الفعلي لا يمكن أن يتوجّه إلى المعدوم، وهو لازم التعميم.

فالجواب عنه: أنّ مثل قوله: )الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ((2) و)لله عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ((3) و«أنّ الصلاة مفروضة على العباد»(4) و«أنّ الخمر حرام»(5)، إنّما هو بنحو القضيّة الحقيقية، والجعل القانوني على مصاديق العناوين بنحو الإجمال فيما إذا كانت القضيّة محصورة، أو على نفس العناوين في غيرها، فلا يكون المعدوم مصداقاً لها حال العدم، فلا يتوجّه إليه التكليف، وأمّا إذا صار المصداق موجوداً فيشمله الحكم.

فإذا رأى المكلّف أنّ في كتاب الله تعالى: حجّ البيت على الناس إذا استطاعوا، من غير تقييد بما يخصّصه بالموجودين في زمن الرسول، ويكون نفسه مصداقاً للمستطيع، يرى أ نّه مأمور بالحجّ من غير توهّم أنّ ذلك الحكم

ص: 253


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 170 - 171 و550 - 551.
2- النساء (4): 34.
3- آل عمران (3): 97.
4- راجع وسائل الشيعة 4: 7، كتاب الصلاة، أبواب أعداد الفرائض، الباب 1.
5- راجع وسائل الشيعة 25: 341، كتاب الأطعمة والأشربة، أبواب الأشربة المحرّمة، الباب 18.

على هذا العنوان مستلزم لتوجّه التكليف إلى المعدوم؛ ضرورة أ نّه ليس ناساً، ولا مستطيعاً، ولا غيرهما.

وإن كان الإشكال من جهة لزوم مخاطبة المعدوم؛ حيث إنّ معنى الخطاب توجيه الكلام إلى المخاطب، سواء اشتمل الكلام على كاف الخطاب أو أداة النداء، أو كان التوجيه إليه بالحمل الشائع من غير ما يدلّ وضعاً على التخاطب.

فالجواب عنه: أنّ خطابات الله النازلة إلى رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم بأيّ نحوٍ كانت لم تكن متوجّهة إلى العباد، سواء كانوا حاضرين في مجلس الوحي أو في مسجد النبي، أم لا؛ ضرورة أنّ الوحي إنّما نزل على شخص رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم وكلام الله وخطاباته لم تكن مسموعة لأحدٍ من الاُمّة، بل الظاهر من الآيات والروايات أنّ الوحي إنّما كان بتوسّط جبرئيل، فهو الحاكي لرسول الله، وهو صلی الله علیه و آله وسلم حاكٍ

بالواسطة، فإذن يكون حال الحاضرين في زمن النبي ومجلس الوحي حال غيرهم من حيث عدم توجّه خطاب لفظي من الله تعالى إليهم.

فالخطابات القرآنية كسائر الأحكام إنّما هي بطريق الوحي إلى رسول الله بلا واسطة أو معها، وتلك الخطابات المحكيّة باقية إلى زماننا، ونسبة الأوّلين والآخرين إليها سواء؛ من غير اختصاص بالحاضرين في مجلس الوحي؛ ضرورة أنّ اختصاصها بهم وتعميمها بدليل آخر لغو باطل. مضافاً إلى عدم الدليل عليه بعد كون العنوان عامّاً أو مطلقاً، وبعد كون الخطاب الكتبي إلى كلّ من يرى الكتابة متعارفاً، كما ترى في الكتب، مثل قوله: «فاعلموا يا إخواني».

ثمّ إنّ ما ذكرنا: من أنّ المقنّن لم يكن طرف المخاطبة في القوانين الإسلامية، بل يكون المقنّن غير المبلّغ؛ لأنّ الأوّل هو الله تعالى، والثاني هو الرسول أوّلاً

ص: 254

وذو الوسائط ثانياً بتوسّط الكتب وغيرها من وسائل التبليغ؛ سنّة جارية في جميع العالم؛ لأنّ المقنّن في القوانين العرفية والسياسية إمّا شخص أو هيئة وجماعة، ولم يتعارف أن يكون الواضع مبلّغاً، بل وسائل التبليغ هي الكتب والجرائد والآلات المستحدثة في هذه الأزمنة، فالقانون الإسلامي كسائر القوانين العرفية، ولم يتّخذ الإسلام طرزاً حادثاً، فقوانينه عامّة لكلّ من بلغت إليه بأيّ نحو كان من غير لزوم محذور.

وممّا ذكرنا اتّضح: أنّ التخلّص عن إشكال توجّه التكليف إلى المعدوم في غير الخطابات يمكن أن يكون بنحو القضيّة الحقيقية.

وأمّا عن إشكال توجّه الخطاب في قوله: )يَا أَ يُّهَا النَّاسُ( و)يَا أَ يُّهَا الَّذِينَ

آمَنُوا( فلا يمكن بذلك؛ لأنّ في القضيّة الحقيقية -

كما عرفت - يكون الحكم على أفراد عنوان قابل للصدق على كلّ مصداق وجد أو سيوجد في ظرفه، وأمّا الخطاب فليس كذلك، بل لا بدّ لصحّته من أن يتوجّه إلى حاضر ملتفت؛ فإنّ الخطاب نحو توجّه تكويني نحو المخاطب لغرض التفهيم، ومثله لا يمكن أن يتعلّق بعنوان أو أفراده ولو لم تكن حاضرة في مجلس التخاطب، ولهذا لا بدّ لتصحيحه - على الفرض - من التشبّث بتنزيل المعدوم منزلة الموجود، أو غير الشاعر منزلة الشاعر الملتفت، كالخطاب للقمر والجبل، وهذا التنزيل ليس لازم القضيّة الحقيقية، كما تُوهّم(1).

كما أنّ الإنشائيات ليست من القضايا الحقيقية؛ لأنّ الخطاب العمومي مثل: )يَا أَ يُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا( لا يمكن أن يكون متوجّهاً بنحو الخطاب الحقيقي إلى

ص: 255


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 550.

أفراد العنوان حتّى يكون كلّ فرد مخاطباً بالخطاب اللفظي في ظرف وجوده؛ لأنّ أدوات النداء وضعت لإيجاد النداء لا لمفهومه، والمخاطبة نحو توجّه إلى المخاطب توجّهاً جزئياً مشخّصاً، فمع الالتزام بأنّ الخطابات حال الوحي كانت خطاباً إلهياً متوجّهاً نحو المخلوق، وكان مثل رسول الله مثل شجرة موسى علیه السلام

لا محيص عن الالتزام بتنزيل المعدوم وغير الحاضر منزلة الموجود الحاضر، وهو يحتاج إلى الدليل بعد عدم كونه لازم القضيّة الحقيقية كما تقدّم، فالتخلّص حينئذٍ عن الإشكال هو ما تقدّم، فتبصّر.

تتمّة: في ثمرة النزاع

نقل المحقّق الخراساني ثمرتين في النزاع:

الاُولى: حجّية ظهور خطابات الكتاب لهم كالمشافهين.

فأجاب عنها: بأ نّها مبنيّة على اختصاص حجّية الظواهر بالمقصودين بالإفهام، وهو باطل، مع أنّ غير المخاطبين أيضاً مقصودون به(1).

وردّه بعض الأعاظم: بأنّ الثمرة لا تبتني عليه؛ فإنّ الخطابات لو كانت مقصورة على المشافهين فلا معنى للرجوع إليها وحجّيتها في حقّ الغير، قلنا بمقالة المحقّق القمّي أو لم نقل(2).

أقول: لو لم نقل بمقالة المحقّق القمّي(3) تكون الظواهر قابلة للرجوع إليها

ص: 256


1- كفاية الاُصول: 269 - 270.
2- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 549.
3- قوانين الاُصول 1: 344 / السطر 17.

لتعيين تكليف المخاطبين، ثمّ التمسّك بدليل الاشتراك لإثباته في حقّنا، بخلاف

ما لو قلنا بمقالته، فظهور الثمرة موقوف على القول بها.

لكن تلك الثمرة التي في الكفاية غير ما ذكرت في الفصول(1) والتقريرات(2)، وإن فهم صاحب الفصول أيضاً ما فهم المحقّق الخراساني، فراجع.

الثانية: صحّة التمسّك بإطلاق الكتاب بناءً على التعميم لإثبات الحكم لنا، وإن لم نكن متّحدين في الصنف مع المشافهين، وعدم صحّته بناءً على الاختصاص؛ لعدم الإجماع مع الاختلاف الصنفي.

فأجاب عنه: بجواز التمسّك بالإطلاق لرفع الشكّ فيما يمكن أن يتطرّق إليه الفقدان، وإن لم يصحّ في غيره(3).

أقول: الظاهر ظهور الثمرة في بعض الأحيان، كالتمسّك بالآية لوجوب صلاة الجمعة علينا إذا احتملنا اشتراط وجوبها أو جوازها بوجود الإمام علیه السلام ، ولو كان الحكم مختصّاً بالمخاطبين أو الحاضرين في زمن الخطاب لما ضرّ الإطلاق بالمقصود؛ لتحقّق الشرط، وهو حضوره إلى آخر عمر الحاضرين؛ ضرورة عدم بقائهم إلى غيبة وليّ العصر عجّل الله فرجه، فلا يرد عليه ما أورد شيخنا العلاّمة(4)، فراجع.

ص: 257


1- الفصول الغروية: 184 / السطر 19.
2- مطارح الأنظار 2: 194.
3- كفاية الاُصول: 270.
4- درر الفوائد، المحقّق الحائري: 226.

الفصل الخامس في تخصيص العامّ بالضمير الراجع إلى بعض أفراده

إذا تعقّب العامّ ضمير يرجع إلى بعض أفراده، هل يوجب تخصيصه به أو لا ؟

ولا يخلو هذا العنوان عن مسامحة؛ لما سيتّضح لك: من أنّ الضمير لا يرجع إلى بعض الأفراد في مورد، بل الحكم بحسب الجدّ يختصّ ببعضها، فعوده إلى بعضها لم يكن مفروغاً عنه.

ثمّ إنّ محطّ البحث - على ما صرّحوا به(1) - هو ما إذا كان الحكم الثابت لمدخول الضمير مغايراً للثابت لنفس المرجع، سواء كان الحكمان في كلام واحد، مثل قوله: «أكرم العلماء وخدّامهم» إذا كان وجوب الإكرام في الخدّام مختصّاً بخدّام عدولهم، أو في كلامين مثل قوله تعالى: )وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ( إلى قوله تعالى: )وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ((2)، وسواء كان الحكمان من سنخ واحد كالمثال الأوّل، أو لا كالثاني.

ص: 258


1- مطارح الأنظار 2: 205؛ كفاية الاُصول: 271؛ درر الفوائد، المحقّق الحائري: 226.
2- البقرة (2): 228.

وأمّا إذا كان الحكم واحداً، مثل قوله: )وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ(؛ حيث إنّ حكم التربّص ليس لجميعهنّ، فلا نزاع.

وليعلم: أ نّه لم يتّضح من كلامهم أنّ النزاع يختصّ بما إذا علم من الخارج أنّ الحكم غير عامّ لجميع أفراد المرجع كالآية الشريفة، أو يختصّ بما إذا علم ذلك بقرينة عقلية أو لفظية حافّة بالكلام - مثل قوله: «أهن الفسّاق واقتلهم»؛ حيث علم المخاطب حين إلقاء الكلام إليه أنّ حكم القتل ليس لجميع أفراد الفسّاق - أو يعمّهما.

ظاهر التمثيل بالآية الشريفة عدم الاختصاص بالثاني، بل لا يبعد أن يكون ذيل كلام المحقّق الخراساني(1) شاهداً على التعميم لهما على تأمّل.

وكيف كان، إن كان محطّ البحث أعمّ منهما فالتحقيق التفصيل بينهما، بأن يقال: إذا كان الدالّ على اختصاص الحكم ببعض الأفراد منفصلاً كالآية الشريفة؛ حيث تكون في نفسها ظاهرة في عموم الحكم لجميع أفراد العامّ، وأنّ بعولة جميع المطلّقات أحقّ بردّهنّ، لكن دلّ دليل خارجي بأن لا رجوع في طلاق البائن، فلا إشكال في بقاء العامّ على عمومه بالنسبة إلى حكمه - أي التربّص - لكون المقام من قبيل الدوران بين تخصيص لعامّ أو تخصيصين لعامّين؛ ضرورة أنّ عموم قوله: )وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ( صار مخصّصاً بما دلّ على اختصاص الحكم بالرجعيات، وشكّ في عروض التخصيص بقوله: )وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ...( فأصالة العموم فيه ممّا لا معارض له.

ص: 259


1- كفاية الاُصول: 272.

وما في كلامهم: من كون المقام من قبيل الدوران بين التخصيص والاستخدام في الضمير(1)، من غريب الأمر؛ لأ نّه يخالف مذاق المتأخّرين في باب التخصيص من عدم كونه تصرّفاً في ظهور العامّ(2)، فقوله: )وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ...( مستعمل في العموم، وضمير بعولتهنّ أيضاً يرجع إليها من غير استخدام وتجوّز، والمخصّص الخارجي في المقام ليس حاله إلاّ كسائر المخصّصات من كشفه عن عدم تعلّق الإرادة الجدّية إلاّ ببعض الأفراد في الحكم الثاني؛ أي الأحقّية، وذلك لا يوجب أن يكون الحكم الأوّل كذلك بوجه، بل هذا أولى بعدم رفع اليد عنه من العامّ الواحد إذا خصّص بالنسبة إلى البقيّة.

وأمّا حديث الاستخدام والمجازية في الإسناد أو في اللفظ، فليس بشيء؛ لأنّ الضمائر على ما تقدّم في باب الوضع(3)، وضعت لإيقاع الإشارة الخارجية، فلا بدّ لها من مرجع مشار إليه، والرجعيات لم تذكر في الكلام، ولم تعهد في الذهن، فلا معنى للرجوع إليها، وقد عرفت في المجاز أ نّه متقوّم بالدعوى(4)، وليس المقام مناسباً لدعوى كون الرجعيات جميع المطلّقات، فما في كلام بعضهم من الدوران بين الاستخدام والتخصيص، وترجيح أحدهما على الآخر، خلاف التحقيق.

ص: 260


1- درر الفوائد، المحقّق الحائري: 226؛ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 551 - 552؛ نهاية الأفكار 1: 545.
2- مطارح الأنظار 2: 131؛ كفاية الاُصول: 255 - 256؛ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 516.
3- تقدّم في الجزء الأوّل: 54.
4- تقدّم في الجزء الأوّل: 62.

كما أنّ ما في كلام المحقّق الخراساني في وجه الترجيح: من أنّ بناء العقلاء

هو اتّباع الظهور في تعيين المراد لا في كيفية الاستعمال(1)، أجنبيّ عن محطّ البحث؛ لأنّ الدوران على فرضه بين الظهور السياقي والتخصيص، وقد عرفت أ نّه أيضاً باطل.

وأمّا إذا كان الكلام مقترناً - عقلاً أو لفظاً - بما يجعل الحكم خاصّاً ببعض

الأفراد، فالظاهر طروّ الإجمال في الغالب؛ لعدم إحراز بناء العقلاء على إجراء أصالة التطابق في مثل ما حفّ الكلام بما يصلح للاعتماد عليه، فصحّة الاحتجاج بمثل: «أهن الفسّاق واقتلهم» لإهانة غير الكفّار، مشكلة.

ص: 261


1- كفاية الاُصول: 272.

الفصل السادس في تخصيص العامّ بالمفهوم

اشارة

قالوا: اختلفوا في جواز التخصيص بالمفهوم المخالف بعد إطباقهم على التخصيص بالمفهوم الموافق.

ولا يخفى أنّ هذه المسألة ليست من التي يكون الإجماع فيها حجّة، فلا بدّ من النظر في كلّ من المفهوم الموافق والمخالف، فيقع الكلام في مقامين:

المقام الأوّل: في المفهوم الموافق

واختلفت التعبيرات في تفسيره، ونحن نذكر الاحتمالات ونتكلّم فيها، فنقول: فيه احتمالات:

الأوّل: ما يعبّر عنه المتأخّرون ب «إلغاء الخصوصية» مثل قوله: «رجل شكّ بين الثلاث والأربع...»(1)، ولا شبهة في أنّ العرف يرى أنّ الحكم إنّما هو

ص: 262


1- راجع وسائل الشيعة 8: 218، كتاب الصلاة، أبواب الخلل الواقع في الصلاة، الباب 10، الحديث 7.

للشكّ بينهما من غير دخالة للرجولية فيه(1).

الثاني: المعنى الكنائي الذي سيق الكلام لأجله، مع عدم ثبوت الحكم للمنطوق، كقوله: )فَلاَ تَقُلْ لَهُمَا اُفٍّ((2)، إذا فرض كونه كناية عن حرمة إيذائهما، ولم يكن الاُفّ محكوماً بحكم.

الثالث: ما إذا سيق الكلام لأجل إفادة حكمٍ فاُتي بأخفّ المصاديق مثلاً للانتقال إلى سائرها، مثل الآية المتقدّمة إذا كان الاُفّ محكوماً بالحرمة أيضاً.

الرابع: الحكم الغير المذكور الذي يقطع العقل به بالمناط القطعي من الحكم المذكور، كقوله: «أكرم خدّام العلماء» حيث يعلم بالمناط القطعي وجوب إكرام العلماء.

الخامس: الحكم المستفاد من القضيّة التعليلية، كقوله: «الخمر حرام؛ لأ نّه مسكر».

فيمكن أن يكون المراد من الموافق بعض هذه الاحتمالات أو جميعها، والجامع بينها هو الحكم في غير محلّ النطق الموافق للحكم في محلّه - على فرضه - في الإيجاب والسلب.

ثمّ إنّ محطّ البحث لا يبعد أن يكون في تخصيص العامّ به إذا كان أخصّ مطلقاً منه، لا ما إذا كان بينهما عموم من وجه. وعمّم بعضهم(3)، وسنشير إليه.

إذا عرفت ذلك فنقول: إن كان المراد من المفهوم ما عدا الرابع فلا إشكال في

ص: 263


1- راجع لمحات الاُصول: 227 و306.
2- الإسراء (17): 23.
3- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 556 - 557.

تخصيص العامّ به إذا كان المفهوم أخصّ منه مطلقاً؛ ضرورة أنّ حال هذا المفهوم

حال اللفظ الملقى إلى المخاطب، بل تسمية بعضها مفهوماً لمجرّد الاصطلاح، وإلاّ فالعرف يفهم من مثل قوله: «رجل شكّ بين الثلاث والأربع...» أو قوله: «أصاب ثوبي دم رعاف...»(1) أنّ ذكر الرجل والثوب لمجرّد التمثيل، ويكون منظور السائل والمجيب حال الشكّ والدم، فيخصّص به العامّ بلا ريب، وكذا الحال في المعنى الكنائي وغيره ممّا ذكر.

ولا يبعد أن يكون محطّ كلام القدماء مثل هذه الأقسام إذا كان المفهوم أخصّ مطلقاً، ومنه يظهر وجه كون المسألة اتّفاقية؛ ضرورة عدم الخلاف في تقديم الخاصّ، وهذا من أقسامه.

وأمّا إذا كان بينهما عموم من وجه، فيعامل معاملتهما مثل المنطوقين، والوجه ظاهر.

وأمّا رابع الاحتمالات: فقد يقال فيه بتقديم المفهوم على العامّ مطلقاً، سواء كان أخصّ مطلقاً منه أو من وجه إذا كان المعارض نفس المفهوم؛ لأنّ رفع اليد عن المفهوم مع عدم التصرّف في المنطوق غير ممكن؛ للزوم التفكيك بين الملزوم واللازم؛ فإنّ المفروض لزومه له بنحو الأولوية، كما أنّ رفع اليد عن المنطوق مع عدم كونه معارضاً للعموم لا وجه له، فيتعيّن التصرّف في العموم وتخصيصه بغير مورد المفهوم(2).

ص: 264


1- وسائل الشيعة 3: 402، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 7، الحديث 2.
2- اُنظر أجود التقريرات 2: 383.

وفيه: أ نّه إذا فرض لزوم تقديم العامّ على المفهوم بحسب القواعد مع قطع النظر عن محذور لزوم التفكيك، كما لو فرض كون العامّ في العموم أظهر من القضيّة في المفهوم، فيمكن تقديمه عليه ورفع اليد عن حكم المنطوق بمقداره، وليس هذا بلا وجه؛ لأنّ وجهه لزوم تقديم العامّ على المفهوم الكاشف عن عدم الحكم للمنطوق، وإلاّ يلزم التفكيك بين المتلازمين.

وبعبارة اُخرى: كما يمكن رفع المحذور العقلي بتخصيص العامّ يمكن رفعه برفع اليد عن حكم المنطوق والمفهوم، بل المعارضة وإن كانت ابتداءً بين العامّ والمفهوم، لكن لمّا كان رفع اليد عن اللازم مستلزماً لرفع اليد عن ملزومه يقع التعارض بينهما عرضاً، فتدبّر.

وأمّا ما قيل: من عدم إمكان كون المفهوم معارضاً للعامّ دون منطوقه؛ لأ نّا فرضنا أنّ المفهوم موافق للمنطوق، وأ نّه سيق لأجل الدلالة عليه، ومعه كيف يعقل أن يكون المنطوق غير معارض للعامّ مع كون المفهوم معارضاً له ؟ ! فالتعارض في المفهوم الموافق يقع ابتداءً بين المنطوق والعامّ ويتبعه وقوعه بين المفهوم والعامّ، ولا بدّ أوّلاً من علاج التعارض بين المنطوق والعامّ، ويلزمه العلاج بين المفهوم والعامّ(1).

ففيه: أ نّه قد يكون وقوع التعارض بين المفهوم والعامّ ابتداءً ويتبعه بين المنطوق والعامّ، كقوله: «أكرم جهّال خدّام النحويين» المفهوم منه بالأولوية وجوب إكرام النحويين، وقوله: «لا تكرم الصرفيين»، فيكون

ص: 265


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 556.

المنطوق أجنبيّاً عن العامّ، وكان التعارض ابتداءً بين العامّ والمفهوم، والنسبة

بينهما عموم من وجه، فحينئذٍ لا بدّ من علاج التعارض ابتداءً بين العامّ والمفهوم، ويتبعه بين المنطوق والعامّ، فإذا فرض تقدّم العامّ على المفهوم حسب القواعد يتبعه رفع اليد عن المنطوق لا محالة بمقداره. هذا حال هذا القسم من المنطوق والمفهوم.

وأمّا إذا كان التعارض بين المنطوق والعامّ ويكون أخصّ منه مطلقاً، فلا محالة يقدّم على العامّ ويتبعه تقديم المفهوم عليه ولو كان بينهما عموم من وجه؛ لعدم جواز رفع اليد عنه بعد القطع بالتلازم، وعدم جواز تقديم العامّ على الخاصّ.

وإن كان أعمّ من وجه منه يعامل معهما معاملتهما، ومع تقديمه على العامّ بحسب القواعد أو القرائن يقدّم المفهوم أيضاً؛ لما عرفت.

المقام الثاني: في المفهوم المخالف

ويتّضح الكلام فيه بعد توضيح محلّ البحث، فنقول:

لا إشكال في أنّ الكلام بعد الفراغ عن المفهوم، وأن يكون التعارض بين عامّ ومفهوم، كما لو ورد: «أكرم كلّ عالم»، وورد: «إن جاءك زيد لا تهن فسّاق العلماء» ممّا كان مفهومه أخصّ من العامّ مطلقاً، ومثل: «أكرم العلماء» و«إن جاءك زيد أ كرم الفسّاق» ممّا كان مفهومه أعمّ من وجه معه.

وأمّا ما قيل: من أنّ الكلام في تخصيص العامّ بالمفهوم عند القدماء هو الكلام في باب الإطلاق والتقييد، ومثّل بقوله: «خلق الله الماء طهوراً لا ينجّسه

ص: 266

شيء»(1)، وقوله: «إذا بلغ الماء قدر كرّ لا ينجّسه شيء»(2) حيث دلّ الأوّل على أنّ الماء تمام الموضوع لعدم الانفعال، والثاني على أنّ للكرّية دخالة، فيحكّم القيد على الإطلاق(3)، ويظهر ذلك من شيخنا العلاّمة(4) أيضاً؛ فهو خروج عن ظاهر البحث وعنوانه بلا دليل.

إذا عرفت ذلك فنقول: إنّ العامّ لمّا كان دلالته بالوضع، فإن كانت الدلالة على المفهوم أيضاً بالوضع، يقع التعارض بين الظاهرين، فمع عدم الترجيح يرجع إلى أخبار العلاج أو يحكم بالإجمال، وإن كانت بمقدّمات الحكمة يرفع اليد عن المفهوم إن كانا في كلام واحد؛ لتحكيم الظهور المنجّز على الإطلاق المعلّق على عدم البيان، ومع انفصالهما يصيران متعارضين، ولا ترجيح للظهور الوضعي على الإطلاقي في مثله.

وما قيل: من أنّ المناط في المفهوم أن يكون التقييد راجعاً إلى الحكم لا إلى الموضوع، والقضيّة الشرطية - بعد ما كانت ظاهرة في كون القيد راجعاً إلى الحكم؛ لأ نّها وضعت لتقييد جملة بجملة - تكون حاكمة على مقدّمات الحكمة في العامّ، فظهورها في المفهوم يوجب عدم جريان مقدّمات الحكمة

ص: 267


1- المعتبر 1: 44؛ وسائل الشيعة 1: 135، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 1، الحديث 9.
2- راجع وسائل الشيعة 1: 158، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 9، الحديث 1 و2 و5 و6.
3- لمحات الاُصول: 308.
4- درر الفوائد، المحقّق الحائري: 227 - 228.

في العامّ؛ لأنّ كون القضيّة ذات مفهوم وإن كانت بمقدّمات الحكمة، إلاّ أنّ

المقدّمات الجارية في طرف المفهوم تكون بمنزلة القرينة على أنّ المراد من العامّ هو الخاصّ، والعامّ لا يصلح أن يكون قرينة على أنّ الشرطية سيقت لفرض وجود الموضوع، فلا بدّ فيه من دليل يدلّ عليه، هذا إذا كان المفهوم أخصّ مطلقاً(1)، انتهى.

ففيه: - بعد الغضّ عن أنّ العامّ لا يحتاج إلى مقدّمات الحكمة كما سبق الكلام فيه(2) - أنّ ظاهر القضيّة وضعاً هو مجرّد إناطة الحكم بالقيد، وهو ليس مناط المفهوم، بل مناطه إثبات الانحصار، وهو بمقدّمات الحكمة كما اعترف به، فحينئذٍ لا وجه لتقديم أحد الإطلاقين على الآخر، وجريان مقدّمات الحكمة في العامّ لا يلزم أن يثبت رجوع القيد إلى الموضوع حتّى يقال: إنّه لا يصلح لذلك، بل يمنع عن جريانها في الشرطية لإثبات الانحصار.

وقوله: إنّ جريانها في المفهوم بمنزلة القرينة للعامّ، لا يرجع إلى محصّل، والتحقيق ما عرفت.

ص: 268


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 560 - 561.
2- تقدّم في الصفحة 204.

الفصل السابع في الاستثناء المتعقّب لجمل متعدّدة

اشارة

الاستثناء المتعقّب لجمل متعدّدة هل يرجع إلى خصوص الأخيرة، أو إلى الجميع، أو لا ظهور فيه وإن كان الرجوع إلى الأخيرة متيقّناً ؟

والكلام يقع في مقامين:

المقام الأوّل: في إمكان الرجوع إلى الجميع

فربّما يستشكل فيما إذا كان الاستثناء بالحروف: بأ نّها لمّا وضعت للإخراج بالحمل الشائع - لأنّ الموضوع له في الحروف خاصّ - يلزم من استعمالها في الإخراجات استعمالُ اللفظ في أكثر من معنىً واحد، وهو في الحروف أشكل؛ لأ نّها آلات لملاحظة الغير، فيلزم أن يكون شيء واحد فانياً في شيئين أو أكثر(1).

ويلزم الإشكال في المستثنى إذا كان مثل «زيد» مشتركاً بين أشخاص،

ص: 269


1- لمحات الاُصول: 309.

ويكون في كلّ جملة شخص مسمّى به، فإخراج كلّ منهم بلفظ واحد مستلزم للإشكال المتقدّم(1).

والجواب عنه قد مرّ في باب الاستعمال، ولقد تصدّينا لدفع الإشكالات العقلية في الأسماء والحروف، فراجع(2).

هذا، مع منع لزوم استعمال الأداة في أكثر من معنىً؛ فإنّ المستثنى إذا كان كلّياً قابلاً للصدق على الكثيرين فاُخرج ب «إلاّ» وغيرها، يكون الاستثناء بإخراج واحد مخرجاً للكثيرين، فقوله: «أكرم العلماء وأضف التجّار إلاّ الفسّاق منهم» إخراج واحد للفسّاق قابل للانطباق على فسّاق العلماء والتجّار، فلا يكون استعمال الأداة في أكثر من معنىً.

وكذا الحال إذا كان المستثنى مثل «زيد» واستثني المتعدّد؛ فإنّ «زيداً» إمّا مستعمل في المسمّى، فيكون الحال كالكلّي، وإمّا مستعمل في الكثير، فتخرج أداة الاستثناء الكثيرَ بإخراج واحد، كما قلنا في حروف النداء مع كثرة المنادى(3)، فلا يلزم في شيء من الموارد استعمال أداة الاستثناء في أكثر من معنىً.

المقام الثاني: في حاله إثباتاً

والظاهر رجوع الاستثناء إلى جميع الجمل إذا ذكر الاسم الظاهر في الجملة الاُولى، وعطف سائر الجمل عليها مشتملاً على الضمير الراجع إليه، واشتمل

ص: 270


1- نهاية الأفكار 1: 542.
2- تقدّم في الجزء الأوّل: 131.
3- تقدّم في الجزء الأوّل: 43.

المستثنى أيضاً على الضمير، كقوله: «أكرم العلماء وسلِّم عليهم وأ لبسهم إلاّ

الفسّاق منهم»؛ لأنّ الضمير - كما مرّ(1) - موضوع لنفس الإشارة إلى الغائب، كما أنّ أسماء الإشارة موضوعة للإشارة إلى الحاضر، فإذا اشتمل المستثنى على الضمير يكون إشارة إلى شيء، ولم يكن في الجمل شيء صالح للإشارة إليه إلاّ الاسم الظاهر المذكور في صدرها، وأمّا سائر الجمل فلا تصلح لإرجاع الضمير إليها؛ لعدم عود الضمير إلى الضمير.

وبالجملة: لمّا كان الاسم الظاهر مرجعاً للضمائر التي في جميع الجمل، فإذا رجع ضمير الاستثناء إليه يخرجه عن تحت جميع الأحكام المتعلّقة به، كما هو المتفاهم به عرفاً أيضاً.

وكذا لا يبعد أن يكون الاستثناء من الجميع إذا لم يشتمل المستثنى على الضمير مع اشتمال الجمل عليه، كما لو قال في المثال المتقدّم: «إلاّ بني فلان».

أمّا إذا قلنا بأنّ الضمير في مثله منويّ فلما ذكرنا، وإن قلنا بعدم النيّة فلأنّ الضمائر في سائر الجمل غير صالحة لتعلّق الاستثناء بها؛ فإنّها بنفسها غير محكومة بشيء، فلا محالة يرجع الاستثناء إلى ما هو صالح له.

وأمّا إذا تكرّر الاسم الظاهر كما لو قال: «أكرم العلماء وأضف التجّار وألبس الفقراء إلاّ الفسّاق منهم» فرجوعه إلى الجميع وإلى الأخيرة محتمل، ولا يكون ظاهراً في واحد منهما.

وما قيل: من أنّ الظاهر رجوعه إلى الأخيرة؛ لأنّ تكرار عقد الوضع في

ص: 271


1- تقدّم في الجزء الأوّل: 55.

الجملة الأخيرة مستقلاًّ يوجب أخذ الاستثناء محلّه من الكلام(1)، لا يرجع إلى محصّل، بل المستثنى إن اشتمل على الضمير يكون الاستثناء تابعاً له في السعة والضيق، وهو محتمل الرجوع إلى الأخيرة وإلى الجميع من غير تأوّل وتجوّز، ومع عدم الاشتمال يحتمل الأمرين أيضاً بانطباق العنوان على الجميع أو الأخيرة. بل رجوع الضمير وانطباق العنوان على الجميع لو لم يكن أولى، فلا أقلّ من المساواة احتمالاً.

وممّا ذكرنا يظهر حال ما إذا اشتمل بعض الجمل المتوسّطة على الاسم الظاهر، وما بعده على الضمير الراجع إليه مثل قوله: «أكرم العلماء وسلّم عليهم، وأضف التجّار، وأكرمهم إلاّ الفسّاق منهم» من احتمال الرجوع إلى المشتمل على الاسم الظاهر في الجملة الأخيرة وما بعدها، وإلى الجميع.

ثمّ إنّه فيما إذا لم يظهر رجوعه إلى الأخيرة أو الجميع فالأخيرة متيقّنة؛ لأنّ الرجوع إلى غيرها خلاف قانون المحاورة، فهل يجوز التمسّك بالعامّ في سائر الجمل التي شكّ في رجوعه إليها أو لا، أو يفصّل بين ما إذا قلنا باحتياج العموم إلى مقدّمات الحكمة وعدمه ؟

الظاهر عدم الجواز مطلقاً؛ لعدم إحراز بناء العقلاء على التمسّك بأصالة الجدّ فيما إذا حفّ الكلام بشيء صالح لتقييد مدخول أداة العموم، فلا محالة يصير الكلام مجملاً.

وما قيل: من أنّ ذلك مخلّ بغرض المتكلّم(2)، منظور فيه؛ لإمكان تعلّق

ص: 272


1- أجود التقريرات 2: 376.
2- أجود التقريرات 2: 377.

غرضه بإلقاء الكلام المجمل، وإلاّ لوجب أن لا يصدر منه المجملات، وهو كما ترى.

وقد يقال: إنّ أصالة الإطلاق في الاستثناء والمستثنى جارية لولا حكومة أصالة العموم عليها، ومعها لا مجال لقرينية الإطلاق؛ لأ نّه دوري(1).

وفيه أوّلاً: أنّ المستثنى إن اشتمل على الضمير يتبع إطلاقه له، ولا يكون الإطلاق مشخّصاً لمرجع الضمير؛ للزوم الدور.

وثانياً: أنّ العموم وإن لم يحتج إلى المقدّمات، لكن يتوقّف الاحتجاج به على جريان أصالة الجدّ، وفي مثل الكلام المحفوف بما ذكر، جريانها غير محرز.

ومع عدم اشتماله على الضمير أيضاً محلّ إشكال؛ لصحّة انطباق عنوانه على الجميع، كان الضمير منويّاً أو لا، ومعه لا تكون أصالة الجدّ محرزة، فتدبّر.

ص: 273


1- مقالات الاُصول 1: 476.

ص: 274

المقصد الخامس في المطلق والمقيّد

اشارة

وفيه فصول:

ص: 275

ص: 276

الفصل الأوّل في تعريف المطلق والمقيّد

قد عرّف المطلق بأ نّه ما دلّ على شائع في جنسه، والمقيّد بخلافه(1).

ويرد عليه:

أوّلاً: بأنّ ظاهره أنّ الإطلاق والتقييد من صفات اللفظ، مع أنّ الظاهر أ نّهما من صفات المعنى، ولو جعلا من صفات اللفظ كانا تبعاً له؛ ضرورة أنّ نفس الطبيعة التي جعلت موضوع الحكم قد تكون مطلقة وقد تكون مقيّدة.

وثانياً: أنّ الشيوع في جنسه الذي جعل صفة المعنى: إن كان المراد منه أ نّه

جزء مدلول اللفظ؛ بحيث يكون الإطلاق دالاًّ على الشيوع، فهو فاسد جدّاً؛ لأنّ المطلق هو ما لا قيد فيه بالإضافة إلى كلّ قيد لوحظ فيه، من غير دلالة على الخصوصيات الفردية، أو الحالات الشخصية، كما مرّ(2).

ص: 277


1- معالم الدين: 150؛ الفصول الغروية: 217 / السطر 36؛ قوانين الاُصول 1: 321 / السطر 16؛ مطارح الأنظار 2: 241.
2- تقدّم في الصفحة 203.

وإن كان المراد أ نّه صفة المعنى وأنّ اللفظ لا يدلّ إلاّ على نفس المعنى وهو

شائع في جنسه، فلا محالة يكون الشيوع في الجنس عبارة عن سريانه في أفراده الذاتية حتّى يصدق بوجه شيوعه في مجانسه، وإلاّ فالجنس - بالمعنى المصطلح - ممّا لا وجه صحيح له.

فحينئذٍ: لا يرد عليه الإشكال المتقدّم، لكن يخرج منه إطلاق أفراد العموم، مثل قوله: )أَوْفُوا بِالعُقُودِ((1)، وكذا الإطلاق في الأعلام الشخصية، مثل قوله: )وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ((2)، وإن تكلّف بعض أهل التحقيق(3) بإدراج الأشخاص فيه بما لا يخفى ما فيه، وكذا يخرج إطلاق المعاني الحرفية. ويرد على عكسه دخول بعض المقيّدات فيه، كالرقبة المؤمنة؛ فإنّه أيضاً شائع في جنسه.

والتحقيق: أنّ المطلق في جميع الموارد لا يكون إلاّ بمعنىً واحد، كما سيأتي الكلام فيه.

فظهر ممّا ذكرنا اُمور:

منها: أنّ الإطلاق لا يختصّ بالماهيات الكلّية، بل قد يكون في الأعلام الشخصية، فالقول بأنّ المطلق هو اللا بشرط المقسمي أو القسمي(4)، ليس بشيء.

ص: 278


1- المائدة (5): 1.
2- الحجّ (22): 29.
3- نهاية الأفكار 1: 559.
4- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 570.

ومنها: أنّ الإطلاق والتقييد أمران إضافيان، فكلّ شيء قيس إلى موضوع الحكم فإمّا قيد له أو لا، فعلى الثاني يكون مطلقاً وإن كان بالنسبة إلى شيء آخر مقيّداً.

ومنها: أنّ بين الإطلاق والتقييد شبه العدم والملكة؛ لأنّ الإطلاق متقوّم بعدم التقييد ممّا كان من شأنه ذلك، وما لا يكون من شأنه التقييد لا يكون مطلقاً ولا مقيّداً.

وإنّما قلنا: شبههما؛ لأنّ التقابل الحقيقي إنّما يكون فيما إذا كان للشيء استعداد حقيقة؛ بحيث يخرج من القوّة إلى الفعل بحصول ما يستعدّ له، فالأعمى إذا صار بصيراً خرج من القوّة إلى الفعل، وفي باب المطلق والمقيّد ليس الأمر كذلك.

ومنها: أنّ الشيوع والسريان لا يستفاد من الإطلاق حتّى بعد مقدّمات الحكمة، بل معنى الإطلاق ليس إلاّ عدم دخالة القيد، وهذا غير السريان والشياع.

ص: 279

الفصل الثاني في اسم الجنس والماهية وأقسامها

اشارة

بناءً على ما مرّ يكون تحقيق اسم الجنس وعلمه وغيرهما وكذا تحقيق الماهية اللابشرط وأقسامها والفرق بين المقسمي والقسمي، غير محتاج إليه، بل أجنبيّاً عن مبحث الإطلاق والتقييد، لكن نذكر إجمالاً منه تبعاً للقوم، فنقول:

إنّ اسم الجنس كالإنسان والفرس والسواد والبياض وغيرها موضوع لنفس الماهيات بلا اعتبار شيء ومن غير دخالة قيد وجودي أو عدمي أو اعتباري فيها، فالموضوع لها نفس الماهية من حيث هي، وهذه الماهية وإن لم تكن مجرّدة عن كافّة الوجودات قابلةً للتعقّل والتحقّق، لكن يمكن تصوّرها مع الغفلة عن كافّة الوجودات واللواحق؛ لأنّ الماهية الملحوظة وإن كانت موجودة بالوجود اللحاظي، لكن لحاظ هذا اللحاظ يحتاج إلى لحاظ آخر، ولا يمكن أن يكون ملحوظاً بهذا اللحاظ، فلا محالة يكون مغفولاً عنه، فيصير المعنى الموضوع له هو نفس الماهية، لا بما هي موجودة في الذهن وملحوظة،

ص: 280

فاللفظ موضوع للماهية بلا لحاظ السريان واللاسريان فيها، وإن كانت بنفسها سارية في المصاديق ومتّحدة معها، لا بمعنى انطباق الماهية الذهنية على الخارج، بل بمعنى كون نفس الماهية متكثّرة الوجود توجد في الخارج بعين وجود الأفراد.

والعجب من بعض أهل التدقيق؛ حيث زعم أنّ الموضوع له نفس المعنى لا المعنى المطلق بما هو مطلق، لكن وجب لحاظه مطلقاً تسرية للوضع إلى الأفراد(1)، كما أ نّه زعم - في باب المطلق - أنّ في قوله: «أعتق رقبة» لوحظت الرقبة مرسلة مطلقة لتسرية الحكم إلى جميع أفراد موضوعه، إلاّ أنّ ذات المحكوم بالوجوب عتق طبيعة الرقبة، لا عتق أيّة رقبة(2).

وأنت خبير بما فيه في المقامين؛ لأنّ الموضوع له إذا كان نفس المعنى لا يعقل سرايته إلى الأفراد، ويكون لحاظ الواضع لغواً بلا أثر، إلاّ أن يجعل اللفظ بإزاء الأفراد، وكذا إذا كان موضوع الحكم نفس الطبيعة لا يمكن سرايته إلى خصوصيات الأفراد، لاحظ الحاكم أفرادها أم لا.

ثمّ إنّ القوم قسّموا الماهية إلى لا بشرط وبشرط شيء وبشرط لا، وظاهر

كلمات أكابر فنّ المعقول أنّ تقسيمها إليها وكذا إلى الجنس والمادّة والنوع بالاعتبار واللحاظ، وكذا الافتراق بينها، وأ نّها إن لوحظت مجرّدة عن اللواحق تكون بشرط لا، وإن لوحظت مقترنة بشيء تكون بشرط شيء، وإن لوحظت

ص: 281


1- نهاية الدراية 2: 494.
2- نهاية الدراية 2: 493 - 494.

بذاتها لا مقترنة ولا غير مقترنة تكون لا بشرط شيء، وأنّ الفرق بين اللا بشرط

المقسمي والقسمي بتقييد الثاني باللا بشرطية دون الأوّل، وكذا حال الجنس وأخويه وأنّ الفرق بينها باللحاظ، فإذا لوحظ الحيوان بشرط لا يكون مادّة، ولا بشرط يكون جنساً، وبشرط شيء يكون نوعاً(1).

وقد اغترّ بظاهر كلماتهم أعاظم فنّ الاُصول ووقعوا في حيص بيص في أقسام الماهية، والفرق بين اللا بشرط المقسمي والقسمي(2)، حتّى قال بعضهم: «إنّ التقسيم إنّما هو للحاظ الماهية، لا لنفسها»(3).

ولا يسع لنا الإذعان بأنّ أعاظم الفلاسفة قد اقترحوا هذه التقسيمات في باب الماهية والجنس والفصل من غير نظر إلى نفس الأمر ونظام الكون، وإنّما كان نظرهم صرف التلاعب بالمفاهيم ومحض اعتبارات ذهنية من غير أن تكون حاكية عن الواقع.

ثمّ لا ينقضي تعجّبي من أنّ صرف اعتبار شيء لا بشرط كيف يؤثّر في الواقع ويجعل الشيء قابلاً للاتّحاد والحمل، وأخذه بشرط لا، يوجب انقلاب الواقع عمّا هو عليه ؟ ! ولو كانت هذه التقسيمات بصرف الاعتبار لجاز أن يعتبرها أشخاص مختلفون، ويصير الواقع مختلفاً بحسب اعتبارهم، فتكون ماهية

ص: 282


1- الإشارات والتنبيهات (شرح المحقّق الطوسي) 1: 76 - 78؛ الحكمة المتعالية 2: 16 - 22؛ شرح المنظومة، قسم الحكمة 2: 339.
2- نهاية الدراية 2: 490 - 493؛ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 568 - 569.
3- لمحات الاُصول: 322.

واحدة متّحدة مع شيء ولا متّحدة معه بعينه، وهو كما ترى.

والذي يؤدّي إليه النظر الدقيق: - وإن لم أرَ المصرّح به - أنّ كلّية التقسيمات

التي في باب الماهية والأجناس والفصول تكون بلحاظ نفس الأمر ومرآةً إلى الواقع، والاختلاف بين المادّة والجنس والنوع واقعي؛ لأنّ المادّة متّحدة مع الصورة التي تبدّلت بها، والتركيب بينهما اتّحادي، وتكون المادّة المتّحدة بالصورة نوعاً من الأنواع، والمادّة القابلة لصورة اُخرى تكون منضمّة إلى الصورة الموجودة، والتركيب بينهما انضمامي لا اتّحادي، وتكون بالنسبة إلى الصورة المتحقّقة بشرط لا؛ لعدم إمكان اتّحادها بها، وبالنسبة إلى الصورة التي تستعدّ لتبدّلها إليها لا بشرط شيء، فالمادّة التي تبدّلت بصورة النواة نوع، وتركيبها معها اتّحادي، وبالنسبة إليها بشرط شيء، والمادّة المستعدّة في النواة لقبول الصورة الشجرية تكون منضمّة إلى الصورة النواتية، وتركيبهما انضمامي، وتكون لا بشرط بالنسبة إلى الصورة الشجرية وما فوقها، وبشرط لا بالنسبة إلى تلك الصورة النواتية المتحقّقة. والتفصيل موكول إلى أهله ومحلّه.

وكذا الحال في أقسام الماهية، فإنّها أيضاً بحسب حالها في نفس الأمر؛ فإنّها إذا قيست إلى أيّ شيء فلا يخلو إمّا أن يكون لازم الالتحاق بها بحسب ذاتها أو وجودها، أو ممتنع الالتحاق بها، أو ممكن الالتحاق، فالأوّل كالزوجية بالنسبة إلى الأربعة، وكالتحيّز بالنسبة إلى الجسم الخارجي، والثاني كالفردية بالنسبة إلى الأربعة، وكالتجرّد بالنسبة إلى الجسم الخارجي، والثالث كالوجود بالنسبة إلى الماهية، وكالبياض بالنسبة إلى الجسم الخارجي.

ص: 283

فالماهية بحسب الواقع لا تخلو عن أحد الأقسام، وهو مناط صحيح في تقسيمها إلى بشرط شيء ولا بشرط وبشرط لا، من غير ورود إشكال عليه، ومن غير أن تصير الأقسام متداخلة.

وحينئذٍ يكون الفرق بين المقسم واللا بشرط القسمي واضحاً؛ لأنّ المقسم نفس ذات الماهية، وهي أعمّ من الأقسام، واللا بشرط القسمي مقابل للقسمين بحسب نفس الأمر ومضادّ لهما.

وما ذكرنا وإن خالف ظاهر كلماتهم في البابين، لكن التأمّل الصادق في كلمات المحقّقين يرفع الاستبعاد [عنه]، مع أ نّه تقسيم صحيح معتبر في العلوم موافق لنفس الأمر، بخلاف ما ذكروا؛ فإنّه صرف اعتبار وتلاعب، مع ما عرفت من الإشكال العقلي فيه.

وأبعد شيء في المقام هو توهّم كون التقسيم للحاظ الماهية لا نفسها(1)، فلا أدري أ نّه أيّة فائدة في تقسيم اللحاظ، ثمّ أيّ ربط بين تقسيمه وصيرورة الماهية باعتباره قابلة للحمل وعدمه.

وممّا ذكرنا يظهر: أنّ هذا التقسيم كما يجري في نفس الماهية، يجري في الماهية الموجودة، بل في وجودها، وقد أجراه بعض أهل الذوق في نفس حقيقة الوجود(2).

ص: 284


1- لمحات الاُصول: 321 - 322.
2- شرح فصوص الحكم، القيصري: 22.
تتميم: في اسم الجنس وعلمه

واعلم أنّ القوم لمّا رأوا أنّ بعض أسماء الأجناس عومل معه معاملة المعرفة - كاُسامة وثعالة - فوقعوا في الإشكال:

فذهب بعضهم إلى أنّ أمثالها معارف لفظية، والتعريف اللفظي كالتأنيث اللفظي متصوّر من غير فرق بين معانيها مع أسماء الأجناس(1).

وذهب آخر إلى أنّ أعلام الأجناس وضعت للطبيعة المتعيّنة بالتعيّن الذهني(2).

فأورد عليه المحقّق الخراساني بلزوم التجريد عند الاستعمال أو عدم إمكان التطبيق على الخارج، والوضع لذلك لغو(3).

وأجاب عنه شيخنا العلاّمة بأنّ اللحاظ حرفي لا يوجب عدم التطبيق(4).

وهذا غير تامّ؛ لأنّ علم الجنس إذا كان متقوّماً باللحاظ وبه يفترق عن اسمه، فلا يعقل انطباقه على الخارج بما هو ملحوظ مفترق؛ لأنّ اللحاظ ولو كان حرفياً موطنه الذهن، وما ينطبق على الخارج هو نفس الطبيعة. مع أنّ الوضع للماهية الملحوظة مستلزم للّحاظ الاسمي واعتبار التعيّن الذهني فيه بنحو الاستقلال، والاستعمال لا بدّ وأن يكون تابعاً له.

ص: 285


1- كفاية الاُصول: 283.
2- قوانين الاُصول 1: 203 / السطر 19؛ هداية المسترشدين 3: 162 - 163.
3- كفاية الاُصول: 283 - 284.
4- درر الفوائد، المحقّق الحائري: 232.

ويمكن أن يقال: إنّ اسم الجنس المجرّد عن اللام والتنوين وغيرهما موضوع لنفس الطبيعة من حيث هي، وهي ليست معرفة ولا نكرة، وهما تلحقانها في رتبة متأخّرة عن ذاتها؛ لأنّ التعريف - في مقابل التنكير - عبارة عن التعيّن الواقعي المناسب لوعائه، والتنكير عبارة عن اللا تعيّن كذلك، فالماهية بذاتها لا تكون متعيّنة ولا لا متعيّنة، ولهذا تصلح لعروضهما عليها، فلو كانت متعيّنة ومعرفة بذاتها لم يمكن أن يعرضها ما يضادّها، وبالعكس، هذا مع أنّ لازم ذلك كونهما جزءها أو عينها، وهو كما ترى.

فحينئذٍ نقول: يمكن أن يفرّق بينهما بأن يقال: إنّ اسم الجنس موضوع لنفس الماهية التي ليست نكرة ولا معرفة، وعلمه موضوع للماهية المتعيّنة بالتعيّن العارض لها متأخّراً عن ذاتها في غير حال عروض التنكير عليها، والفرق بين علم الجنس واسم الجنس المعرّف أنّ الأوّل يفيد بدالّ واحد ما يفيد الثاني بتعدّد الدالّ.

ولا يخفى أنّ التعريف والتنكير غير متقوّمين باللحاظ حتّى يرد عليه الإشكال المتقدّم، بل مع قطع النظر عنه، بعض المعاني معروف معيّن وبعضها منكور غير معيّن، فالماهية بذاتها لا معروفة ولا غيرها، وبما أ نّها معنىً معيّن بين سائر المعاني وطبيعة معلومة - في مقابل غير المعيّن - معرفة، فاُسامة موضوعة لهذه المرتبة، واسم الجنس لمرتبة ذاتها. وتنوين التنكير يفيد نكارتها، واللا تعيّن ملحق بها كالتعيّن.

ثمّ إنّ الظاهر أنّ اللام وضعت مطلقاً للتعريف، وإفادة العهد وغيره بدالّ آخر، فإذا دخلت على الجنس وعلى الجمع تفيد تعريفهما، وإفادة الاستغراق لأجل أنّ

ص: 286

غير الاستغراق من سائر المراتب لم يكن معيّناً، والتعريف هو التعيين، وهو حاصل في استغراق الأفراد لا غير.

وما ذكرنا غير بعيد عن الصواب، وإن لم يقم دليل على كون علم الجنس كذلك، لكن مع هذا الاحتمال لا داعي للذهاب إلى التعريف اللفظي البعيد عن الأذهان.

ثمّ إنّه لا ينبغي الإشكال في أنّ النكرة دالّة بتعدّد الدالّ على الطبيعة اللامعيّنة؛ أي المتقيّدة بالوحدة بالمعنى الحرفي والحمل الشائع، من غير فرق بين مثل: «جاء رجل» ومثل: «جئني برجل» في أنّ «رجلاً» في كلّ منهما بمعنى واحد، وأ نّه قابل للصدق على الكثيرين، وأنّ إفادة البدلية عقلية لا لفظية، كلّ ذلك بحكم التبادر، والفرق بين المثالين إنّما هو بدلالة خارجية ودالّ آخر.

فما أفاده شيخنا العلاّمة من أ نّهما جزئيان(1)، وبعض آخر من أنّ الأوّل جزئي دون الثاني(2)، منظور فيه.

ص: 287


1- درر الفوائد، المحقّق الحائري: 233.
2- كفاية الاُصول: 285؛ اُنظر درر الفوائد، المحقّق الحائري: 232.

الفصل الثالث في مقدّمات الحكمة

اشارة

بناءً على ما تقدّم في معنى الإطلاق لا مجال لما ذكره المحقّق الخراساني: [من] أنّ مقدّمات الحكمة تثبت الشياع والسريان(1).

بل التحقيق: أ نّها بعد تماميتها لا تفيد إلاّ كون الموضوع أو المتعلّق تمامهما من غير دخالة قيد فيهما، فإذا قال: «أعتق رقبة»، وتمّت المقدّمات، يحكم العقلاء بأنّ موضوع حكمه هو نفس الرقبة من غير دخالة شيء فيه، ومتعلّق الحكم هو نفس العتق كذلك، من غير كون ذلك بدلالة لفظية، ومن غير دلالة على الشيوع والسريان.

والعمدة صَرف الكلام إلى مقدّمات الحكمة، والظاهر عدم الاحتياج إلى شيء في الحكم المذكور، إلاّ إحراز كون المتكلّم في مقام بيان تمام المراد.

فهاهنا دعويان: الاُولى: الاحتياج إلى هذه المقدّمة، والثانية: عدم الاحتياج إلى غيرها.

ص: 288


1- كفاية الاُصول: 287.

أمّا الاُولى: فقد خالف فيها شيخنا العلاّمة - أعلى الله مقامه - بدعوى أنّ ظهور الإرادة في الأصلية - لا التبعية - يكفي في الحكم بالإطلاق(1). وأنت خبير بأنّ هذا ليس ظهوراً لفظياً مستنداً إلى الوضع، بل هو لأجل حكم العقلاء بأنّ ما جعل موضوع حكمه يكون تمامه لا بعضه، وهو لا يثبت ولا يحكم العقلاء به إلاّ بعد كون المتكلّم في مقام بيان تمام المراد، وإلاّ فلو فرض كونه في مقام بيان حكم آخر، أو كان بصدد الإهمال، لم يمكن إثبات كون الإرادة ظاهرة في الأصالة، فهذه المقدّمة ممّا لا مناص منها.

وبالجملة: بعد كون معنى الإطلاق هو كون ما جعل الموضوع مثلاً، تمام الموضوع من غير دخالة قيد في موضوعيته للحكم، فلا يحكم العقلاء بأ نّه تمام الموضوع، ولا تتمّ الحجّة العقلائية إلاّ بعد كون المتكلّم في مقام البيان، فيحتجّ العقلاء عليه: بأ نّك كنت في مقام البيان، فلو كان شيء دخيلاً في موضوعيته له كان عليك البيان، فجعل هذا موضوعاً يكشف عن تماميته.

وأمّا الدعوى الثانية: فلأنّ المقدّمة الثانية - أي انتفاء ما يوجب التعيين - ليست من المقدّمات، بل هي محقّقة محلّ البحث؛ فإنّه مع وجود ما يوجب التعيين سواء كان في الكلام أو كان بسبب الانصراف لا معنى للإطلاق؛ لأنّ محطّ البحث - في التمسّك بالإطلاق - ما إذا جعل شيء موضوعاً لحكم وشكّ في دخالة شيء آخر فيه، فيرفع بالإطلاق، وأمّا مع ما يوجب التعيين فلا يبقى شكّ حتّى يتمسّك به.

ص: 289


1- درر الفوائد، المحقّق الحائري: 234.

وأمّا انتفاء القدر المتيقّن، فعلى ما ذكرنا في معنى الإطلاق لا ريب في عدم الاحتياج إليه، بل لا معنى له؛ لأنّ القدر المتيقّن إنّما يكون في مورد يتردّد الأمر

بين الأقلّ والأكثر، بأن يتردّد بين تعلّق الحكم ببعض الأفراد أو جميعها، مع أنّ الأمر في باب الإطلاق دائر بين تعلّق الحكم بنفس الموضوع من غير دخالة شيء آخر فيه، أو بالمقيّد، فيدور الأمر بين كون الطبيعة تمام الموضوع أو المقيّد تمامه، فإذا كانت الطبيعة تمام الموضوع لم يكن القيد دخيلاً، ومع دخالته يكون الموضوع هو المقيّد بما هو مقيّد، ولا يكون ذات الموضوع محكوماً والقيد محكوماً آخر حتّى يكون من قبيل الأقلّ والأكثر، وكذا لو جعل المتقيّد موضوعاً وشكّ في دخالة قيد آخر لا يكون من قبيلهما، فلا يدور الأمر بين الأقلّ والأكثر في شيء من الموارد حتّى يعتبر انتفاء القدر المتيقّن.

نعم، بناءً على ما ذكره رحمه الله علیه : من أنّ الإطلاق عبارة عن جعل الطبيعة مرسلة ومرآة لجميع الأفراد، والمقيّد عبارة عن جعلها مرآة لبعضها(1)، يتصوّر القدر المتيقّن.

لكن اعتبار انتفائه في مقدّمات الحكمة محلّ إشكال؛ لأنّ المتكلّم إذا كان في مقام البيان، وجعل الطبيعة موضوع حكمه، وتكون الطبيعة بلا قيد مرآةً بذاتها إلى جميع الأفراد، ولا يمكن أن تصير مرآةً لبعضها إلاّ مع القيد، فلا محالة يحكم العقلاء بأنّ موضوع حكمه هو الطبيعة السارية في جميع المصاديق لا المتقيّدة، ولهذا ترى أنّ العرف لا يعتني بالقدر المتيقّن في مقام التخاطب وغيره، فلا يضرّ ذلك بالإطلاق إذا لم يصل إلى حدّ الانصراف، قيل بمقالتنا أو لا.

ص: 290


1- كفاية الاُصول: 287.

ثمّ لا يخفى أنّ ورود القيد على المطلق لا يوجب عدم جواز التمسّك به في سائر القيود المشكوك فيها؛ ضرورة أنّ العثور على قيد لا يوجب تصرّفاً في ظاهر المطلق، بل يكشف عن أنّ الموضوع بحسب الإرادة الجدّية هو الطبيعة مع القيد، ودخالة قيد آخر تحتاج إلى الدليل، فصرف جعل الطبيعة في مقام بيان الحكم موضوعاً يكون حجّة عند العقلاء على عدم دخالة قيد فيه، فقيام الحجّة على دخالة قيد لا يوجب الإهمال والإجمال وسقوط المطلق عن الحجّية بالنسبة إلى سائر القيود، ولا إشكال في أنّ العقلاء بناؤهم على التمسّك به في سائر القيود، كما أنّ بناءهم على التمسّك بالعامّ المخصّص في الشكّ في التخصيص الزائد.

تتميم: في الأصل عند الشكّ في مقام البيان

لا شبهة في أ نّه إذا شكّ في أنّ المتكلّم هل هو في مقام بيان جميع ما هو دخيل في مراده بعد إحراز كونه في مقام بيان الحكم أو أ نّه بصدد الإجمال والإهمال، يكون الأصل العقلائي هو كونه في مقام [بيان] تمامه، وبه جرت سيرة العقلاء.

نعم، إذا شكّ في أ نّه في مقام بيان هذا الحكم أو حكم آخر، فلا أصل لإحراز كونه في مقامه، فالأصل بعد إحراز كونه بصدد بيان الحكم يقتضي أن يكون بصدد بيان تمام ما يدخل في الموضوع في مقابل الإهمال والإجمال، لا كونه بصدد بيان هذا الحكم دون غيره، فلا بدّ فيه من الإحراز الوجداني أو بدليل آخر.

ص: 291

الفصل الرابع في حمل المطلق على المقيّد

الصور المتصوّرة في ورود المطلق والمقيّد

إذا ورد مطلق ومقيّد: فإمّا أن يكونا متكفّلين بالحكم التكليفي أو الوضعي.

وعلى التقديرين: فإمّا أن يكونا مثبتين أو نافيين أو مختلفين.

وعلى التقادير: فإمّا أن يعلم وحدة التكليف أو لا.

وعلى الأوّل: فإمّا أن يعلم وحدته من الخارج أو من نفس الدليلين.

وعلى التقادير: فإمّا أن يذكر السبب فيهما أو في واحد منهما أو لا يذكر.

وعلى الأوّل: فإمّا أن يكون السبب واحداً أو لا.

والحكم التكليفي: إمّا إلزامي في الدليلين أو غير إلزامي فيهما أو مختلف.

وعلى التقادير: قد يكون الإطلاق والتقييد في الحكم ومتعلّقه وموضوعه، وقد يكونان في اثنين منها، وقد يكونان في واحدٍ، فهذه جملة الصور المتصوّرة في المقام.

ص: 292

تحرير محطّ البحث

وليعلم: أنّ محطّ البحث إنّما هو في المطلق والمقيّد المنفصلين، وأمّا القيود المتّصلة بالكلام فلا كلام فيها؛ ضرورة أنّ مثلها يمنع عن تحقّق الإطلاق، فلا يكون من باب تعارض المطلق والمقيّد وحمله عليه.

فما في تقريرات بعض الأعاظم: من جعلها محلّ البحث، وقاس المتّصلين بالقرينة وذي القرينة في أنّ ظهور القرينة كما يكون حاكماً على ذي القرينة يكون ظهور القيد حاكماً على الإطلاق، ثمّ قاس المقيّد المنفصل بالمتّصل(1).

ففيه وجوه من الخلط:

منها: أنّ القياس مع الفارق؛ لأنّ الإطلاق لا يكون من قبيل الظهور اللفظي حتّى يقع التعارض بين الظهورين ويقدّم أحدهما بالحكومة، وقد حقّق في محلّه أنّ الحكومة متقوّمة بلسان الدليل(2).

ومنها: أنّ حكومة ظهور القرينة على ذي القرينة ممّا لا أساس لها؛ ضرورة أنّ الشكّ في ذي القرينة لا يكون ناشئاً عن الشكّ في القرينة، ففي قوله: «رأيت أسداً يرمي» لا يكون الشكّ في المراد من «الأسد» ناشئاً عن الشكّ في المراد من «يرمي» كما ادّعى القائل، بل الشكّان متلازمان، فلا حكومة بينهما.

ومنها: أنّ قياس المنفصلين بالمتّصلين مع الفارق؛ لأنّ المنفصل ينعقد إطلاقه، ولا يكون وجه تقديم المقيّد هو الحكومة، بل المطلق إنّما يكون

ص: 293


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 579.
2- الاستصحاب، الإمام الخميني قدّس سرّه : 269.

حجّة إن لم يرد من المتكلّم بيان، وبعد ورود البيان ينتهي أمد الحجّية، تأمّل.

وإنّما يقدّم المقيّد لأظهرية القيد في الدخالة من المطلق في الإطلاق، وهذه الأظهرية المدّعاة هي أظهرية فعل المتكلّم لا الأظهرية اللفظية كما أنّ تقديم ظهور القرينة على ذي القرينة إنّما هو للأظهرية ومناسبات المقام لا للحكومة.

إذا عرفت ذلك فلنتعرّض لمهمّات الصور؛ ليتّضح بها حال غيرها:

أحكام الصور المهمّة في المسألة

فالصورة الاُولى: ما إذا كان الحكم تكليفياً ويكون المطلق نافياً والمقيّد مثبتاً، كقوله: «لا تعتق رقبةً» و«أعتق رقبة مؤمنة»؛ بناءً على أنّ قوله: «لا تعتق رقبة» من قبيل المطلق لا العموم كما هو التحقيق، ففي هذه الصورة لا إشكال في حمل المطلق على المقيّد، كان الحكم إلزامياً أو لا؛ ضرورة تحقّق التنافي بينهما عرفاً؛ لما عرفت في النواهي: أنّ الزجر إذا تعلّق بالطبيعة يرى العرف أنّ امتثاله بتركها مطلقاً(1)، فحينئذٍ لا محيص عن الجمع بين الدليلين بحمل المطلق

على المقيّد مطلقاً؛ فإنّ وجوب عتق الرقبة المؤمنة أو استحبابه لا يجتمع مع حرمة عتق مطلقها أو كراهته.

الصورة الثانية: عكس الاُولى، وهو تعلّق الأمر بالمطلق والنهي بالمقيّد، مثل: «أعتق رقبة» و«لا تعتق رقبة فاسقة» فحينئذٍ:

تارةً: نعلم أنّ النهي تحريمي فلا إشكال في حمل المطلق على المقيّد.

وتارةً: نعلم أ نّه تنزيهي فالظاهر عدم الحمل؛ لأنّ لازم التنزيهي الترخيص

ص: 294


1- تقدّم في الصفحة 90.

بإتيان المتعلّق، فلا يبقى التنافي بينهما، بل يحمل النهي على المرجوحية الإضافية أو الإرشاد إلى أرجحية الغير، فإذا قال: «صلّ» وقال: «لا تصلّ في الحمّام»، وعلم أنّ النهي تنزيهي لازمه الترخيص في إتيانها فيه، فلا إشكال في أنّ العرف يجمع بينهما بأنّ إتيانها فيه راجح ذاتاً وصحيح، ومرجوح بالإضافة إلى سائر الأفراد، فلا وجه للحمل.

وما أفاد شيخنا العلاّمة - أعلى الله مقامه - من لزوم اجتماع الراجحية والمرجوحية في مورد واحد فلا بدّ من الحمل(1)، لا يمكن المساعدة عليه.

وثالثةً: لا نعلم شيئاً منهما، فيدور الأمر بين حمل النهي على الكراهة وحفظ الإطلاق وجعله ترخيصاً وقرينةً على هذا الحمل، وبين رفع اليد عن الإطلاق وحمله على المقيّد.

وما يقال: من أنّ ظهور النهي في التحريم وضعي مقدّم على الظهور الإطلاقي(2) منظور فيه؛ لما عرفت في باب الأوامر أنّ الهيئات لم توضع إلاّ للبعث والزجر، وأنّ الإيجاب والتحريم خارجان عن الموضوع له(3).

هذا، ولكنّ الأظهر حمل المطلق على المقيّد في هذه الصورة وإبقاء النهي على التحريم؛ لأنّ معيار الجمع بين الأدلّة مساعدة العرف، ولا إشكال في أنّ ذهن العرف لو خلّي وطبعه لا يتوجّه عند سماع قوله: «أعتق رقبة» و«لا تعتق رقبة فاسقة» إلاّ إلى تقييد الإطلاق، ولا يختلج بباله الحمل على التنزيه بقرينة

ص: 295


1- درر الفوائد، المحقّق الحائري: 236.
2- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 582.
3- تقدّم في الجزء الأوّل: 186 و189 و198.

الإطلاق، وإنّما هو احتمال عقلي، ولعلّ وجهه تعارف الإطلاق والتقييد في محيط التشريع وعدم معهودية جعل الإطلاق قرينة على النهي، أو كون الهيئات بما أ نّها حرفية لا يلتفت إليها الذهن وإلى طريق الجمع بينها.

وكيف كان فلا إشكال في حمل المطلق على المقيّد في هذه الصورة عرفاً.

إن قلت: لو قلنا بكون المطلق والمقيّد داخلين في نزاع اجتماع الأمر والنهي، وقلنا بالجواز هناك، لرفع التعارض بين المطلق والمقيّد.

قلت: مسألة اجتماع الأمر والنهي عقلية غير مربوطة بالجمع بين الأدلّة؛ لأنّ مناط الجمع بينها هو فهم العرف، ولا شبهة في وقوع التعارض بين المطلق والمقيّد عرفاً، وطريق الجمع عرفي لا عقلي، فلا يكون أحد وجوه الجمع بين الأدلّة الجمع العقلي، وهذا واضح جدّاً، وإن التبس على بعض الأعاظم(1).

الصورة الثالثة: ما كان الدليلان مثبتين إلزاميين، كقوله: «أعتق رقبة» و«أعتق رقبة مؤمنة»، فلا بدّ في الحمل فيها من إحراز التنافي بينهما، وهو يتوقّف على وحدة الحكم، ففي هذه الصورة إن اُحرزت وحدته فلا إشكال، وإلاّ فتارةً يحرز كون الحكم في المطلق على نفس الطبيعة، ولم يحتمل دخالة قيد آخر في الموضوع غير القيد الذي في دليل المقيّد، وتارةً يحتمل قيد آخر.

فعلى الأوّل: يحمل المطلق على المقيّد؛ لإحراز الوحدة عقلاً؛ لامتناع تعلّق الإرادتين بالمطلق والمقيّد؛ لأنّ المقيّد هو نفس الطبيعة مع قيد، فاجتماع الحكمين المتماثلين فيهما ممتنع، فيقع التنافي بينهما، فيحمل المطلق على المقيّد.

وأمّا ما قيل في وجه التنافي: من أنّ الحكم في المقيّد إذا كان إلزامياً متعلّقاً

ص: 296


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 582.

بصرف الوجود، فمفاده عدم الرضا بعتق المطلق، ومفاد دليل المطلق هو الترخيص بعتقه، فيقع التنافي بينهما. وبعبارة اُخرى: إنّ مفاد دليل المقيّد دخالة القيد، ومفاد دليل المطلق عدم دخالته، فيقع التنافي(1).

ففي غاية السقوط؛ لأنّ التنافي بين الترخيص واللا ترخيص، وكذا بين الدخالة وعدمها، يتوقّف على وحدة الحكم، فلا يمكن إحراز الوحدة بهما إلاّ على وجه دائر.

وعلى الثاني: - أي إذا لم يحرز عدم قيد آخر - فيتردّد الأمر بين حمل المطلق على المقيّد ورفع اليد عن ظهور الأمر في استقلال البعث، وبين حفظ ظهور الأمر وكشف قيد آخر في المطلق يجعله مخالفاً للمقيّد وقابلاً لتعلّق حكم مستقلّ به.

والظاهر حمل المطلق على المقيّد في هذه الصورة أيضاً؛ لأنّ ظهور الأمر في الاستقلال ظهور ضعيف لا يكشف به قيد آخر. نعم، مع العلم بتعدّد الحكم لا محيص عن كشف قيد مقابل للمقيّد؛ لما عرفت من امتناع تعلّقهما بالمطلق والمقيّد.

الصورة الرابعة: ما كان الدليلان نافيين، كقوله: «لا تشرب الخمر»، و«لا تشرب الخمر العنبي»، فلا إشكال في عدم الحمل إلاّ مع قيام القرينة؛ لعدم التنافي بينهما، وعدم المفهوم للقيد، تأمّل(2).

هذه الصور هي التي لم يذكر السبب فيها.

ص: 297


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 581 و584.
2- وجهه: أ نّه يأتي فيها ما يأتي في الصورة المتقدّمة، فتدبّر. [منه قدّس سرّه ]

وأمّا إذا ذكر؛ فإمّا أن يذكر فيهما وكانا مختلفين، كقوله: «إن ظاهرت فأعتق رقبة» و«إن أفطرت فأعتق رقبة مؤمنة» فلا يحمل، ومع اتّحادهما يحمل.

[أو يذكر] في أحدهما، كقوله: «إن ظاهرت أعتق رقبة مؤمنة» وقوله: «أعتق رقبة» فالظاهر عدم الحمل، لا لما قيل: من أنّ تقييد كلّ من إطلاق الوجوب والواجب مستلزم للدور؛ لأنّ حمل المطلق على المقيّد يتوقّف على وحدة الحكم، ففي المثال تقييد الوجوب يتوقّف على وحدة المتعلّق؛ إذ مع تعدّدهما لا موجب للتقييد، ووحدة المتعلّق تتوقّف على حمل أحد التكليفين على الآخر؛ إذ مع عدم وحدة التكليف لا تتحقّق وحدة المتعلّق؛ لأنّ أحد المتعلّقين عتق الرقبة المطلقة، والآخر عتق الرقبة المؤمنة(1).

وذلك لأنّ وحدة الحكم وإن توقّفت على وحدة المتعلّق، لكن وحدة المتعلّق لا تتوقّف على وحدته:

لا ثبوتاً؛ لأنّ لوحدة الأشياء وكثرتها واقعيةً، تعلّق بها الحكم أو لا، وفي المقام يكون المقيّد هو المطلق مع قيد، وفي مثله لا يمكن تعلّق الإرادتين والحكمين بهما.

ولا إثباتاً؛ لأنّ تعلّق الحكم في المطلق بنفس الطبيعة يكشف عن كونها تمام الموضوع للحكم، فإذا تعلّق حكم بالمقيّد - والفرض أ نّه نفس الطبيعة مع قيد - يكشف عن كون النسبة بين الموضوعين بالإطلاق والتقييد.

بل عدم الحمل لأجل أنّ التكليف الذي لم يذكر فيه السبب حجّة على العبد

ص: 298


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 580.

في ظرف عدم تحقّق سبب المقيّد، فإذا قال المولى: «أعتق رقبة» لا يجوز رفع اليد والتخلّف عنه إلى وقت فعلية حكم قوله: «إن ظاهرت أعتق رقبة مؤمنة»، بإيجاد سببه.

وبعبارة اُخرى: إنّ العرف يحكم بأنّ عتق الرقبة مطلوب المولى؛ حصل الظهار أو لا، وبعد حصوله يكون عتق رقبة اُخرى مطلوباً له من قِبل سببية الظهار.

هذا كلّه في الحكم التكليفي.

ومنه يتّضح الأمر في الوضعي، ففي بعض الموارد يحمل المطلق على المقيّد، كقوله: «لا تصلّ في وَبر ما لا يؤكل»، وقوله: «صلّ في وبر السباع ممّا لا يؤكل»، وكقوله: «اغسل ثوبك من البول»، وقوله: «اغسل ثوبك من البول مرّتين».

وفي بعضها لا يحمل، كقوله: «لا تصلّ فيما لا يؤكل لحمه»، وقوله: «لا تصلّ في وَبر ما لا يؤكل لحمه»؛ لعدم المنافاة بين مانعية مطلق أجزاء ما لا يؤكل، ومانعية وبره، ولا مفهوم للقيد حتّى يجيء التنافي من قِبله. وعليك بالتأمّل في سائر الموارد، واستخراج حكمها ممّا ذكر.

والحمدُ لله أوّلاً وآخراً وظاهراً وباطناً وقد وقع الفراغ في يوم السبت الرابع والعشرين من شهر شوّال المُكرّم (1373)

ص: 299

ص: 300

الفهارس العامّة

اشارة

1 - الآيات الكريمة

2 - الأحاديث الشريفة

3 - أسماء المعصومين علیهم السلام

4 - الأعلام

5 - الكتب الواردة في المتن

6 - مصادر التحقيق

7 - الموضوعات

ص: 301

ص: 302

1 - فهرس الآيات الكريمة

الآية رقمها الصفحة

البقرة (2)

(كُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ) 187 196

(كُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ

الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ

الْفَجْرِ) 187 195

(ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى الَّيْلِ) 187 195

(وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ) 228 258، 259، 260

(وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ) 228 258، 259

(أَحَلَّ الله الْبَيْعَ) 275 203، 212

آل عمران (3)

(لله عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيتِ) 97 18، 250، 253

النساء (4)

(لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ) 7 250

ص: 303

الآية رقمها الصفحة

(الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ) 34 253

المائدة (5)

(أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) 1 17، 203، 204،

211، 212، 278

(وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ) 6 194

الإسراء (17)

(فَلاَ تَقُلْ لَهُمَا اُفٍّ) 23 263

الحجّ (22)

(وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) 29 278

النمل (27)

(أَ يُّكُمْ يَأتِينِى بِعَرْشِهَا) 38 206

غافر (40)

(فَأَىَّ آيَاتِ الله تُنكِرُونَ) 81 206

ص: 304

2 - فهرس الأحاديث الشريفة

إذا بلغ الماء قدر كُرّ لا ينجّسه شيء 158، 186، 267

إذا بلغ الماء قدر كرّ لم ينجّسه شيء 185

إنّما أتى شيئاً حلالاً، وليس بعاصٍ لله، إنّما عصى سيّده 144، 146

إنّما عصى سيّده ولم يعص الله ؟145

إنّه لم يعص الله، إنّما عصى سيّده، فإذا أجازه فهو له جائز 144

خلق الله الماء طهوراً لا ينجّسه شيء 266

ذاك إلى سيّده، إن شاء أجازه، وإن شاء فرّق بينهما 144

ذاك لمولاه، إن شاء فرّق بينهما... 144

في الغنم السائمة زكاة 189، 190

لا تبع ما ليس عندك 143

لا تصلّ في وبر ما لا يؤكل لحمه 139

لا صلاة إلاّ بطهور 197

لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب 197، 198

لا يحلّ لأحد أن يتصرّف في مال غيره بغير إذنه 127

لَيّ الواجد يُحِلّ عقوبَتَهُ وعِرضَه 188

ما أزعم أ نّه حرام، وقل له: أن لا يفعل إلاّ بإذن مولاه 146

مَطْلُ الغنيّ ظلم 188

المغصوب كلّه مردود 126

ص: 305

ص: 306

3 - فهرس أسماء المعصومين علیهم السلام

النبي، رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم = محمّد بن عبدالله صلی الله علیه و آله وسلم ، نبي الإسلام

محمّد بن عبدالله صلی الله علیه و آله وسلم ، رسول الله 198، 243، 253، 254،

256

أبو جعفر علیه السلام = محمّد بن علي علیه السلام ، الإمام الخامس

محمّد بن علي علیه السلام ، الإمام الخامس 144، 145، 146

أبو عبدالله علیه السلام = جعفر بن محمّد علیه السلام ، الإمام السادس

جعفر بن محمّد علیه السلام ، الإمام السادس 146

وليّ العصر علیه السلام = صاحب الزمان (عجل الله تعالى فرجه الشريف)، الإمام الثاني عشر

صاحب الزمان (عجل الله تعالى فرجه الشريف)، الإمام الثاني عشر 17، 257

الخليل علیه السلام = إبراهيم، النبي

إبراهيم، النبي 51

موسى، نبي اليهود 256

ص: 307

ص: 308

4 - فهرس الأعلام

الآخوند الخراساني، محمّد كاظم بن الحسين 50، 84، 89، 90، 95،

100، 106، 123 135،

147، 149، 163، 173،

207، 208، 209، 219،

222، 237، 238، 241،

242، 256، 257، 259،

261، 285، 288

الآغا ضياء= العراقي، ضياء الدين

إبراهيم النخعي= النخعي، إبراهيم

ابن الحاجب، عثمان بن عمر 154

ابن سينا، الحسين بن عبدالله 61، 64

أبو حنيفة 146، 197

أبو عبيدة= الحذّاء، زياد بن عيسى

أبو هاشم، عبدالسلام الجبّائي 128، 129

الأراكي= العراقي، ضياء الدين

الأصفهاني، محمّد حسين 46، 119، 128، 129،

147، 174، 257

ص: 309

الأنصاري، مرتضى بن محمّد أمين 23، 24، 25، 129، 142،

144، 172، 175، 180،

181، 182، 186، 219،

220، 222، 240، 250

البروجردي، الحسين 153، 158

بعض أجلّة العصر= البروجردي، الحسين

بعض الأعاظم= النائيني، محمّد حسين

بعض المحقّقين= العراقي، ضياء الدين

بعض المدقّقين= الأصفهاني، محمّد حسين

بعض مدقّقي العصر= العراقي، ضياء الدين

بعض مدقّقي المتأخّرين= الأصفهاني، محمّد حسين

البهائي= الشيخ البهائي، محمّد بن الحسين

الحائري، عبدالكريم 140، 175، 192، 195،

203، 216، 237، 257،

267، 285، 287، 289،

295

الحاجبي= ابن الحاجب، عثمان بن عمر

الحذّاء، زياد بن عيسى 188، 189

الحكم بن عتيبة 144

الخراساني= الآخوند الخراساني، محمّد كاظم بن الحسين

زرارة 144

السيّد المجدّد الشيرازي= الميرزا الشيرازي، محمّد حسن بن المحمود

السيّد المرتضى= علم الهدى، علي بن الحسين

ص: 310

الشيباني، محمّد بن الحسن 146

الشيخ الأعظم، الأنصاري= الأنصاري، مرتضى بن محمّد أمين

الشيخ البهائي، محمّد بن الحسين 14، 22

الشيخ الرئيس= ابن سينا، الحسين بن عبدالله

شيخ المشّائين= ابن سينا، الحسين بن عبدالله

الشيخ= الطوسي، محمّد بن الحسن

شيخنا العلاّمة= الحائري، عبدالكريم

صاحب الفصول الغروية= الأصفهاني، محمّد حسين

صاحب المقالات= العراقي، ضياء الدين

الطوسي، محمّد بن الحسن 191

العراقي، ضياء الدين 47، 59، 90، 180، 181،

195، 207، 213، 219،

245

العلاّمة الحائري= الحائري، عبدالكريم

العلاّمة الحلّي، الحسن بن يوسف 172

علم الهدى، علي بن الحسين 156، 191

الفشاركي، محمّد باقر بن محمّد جعفر 23

القمّي= الميرزا القمّي، أبو القاسم بن محمّد حسن

المحقّق الثاني= المحقّق الكركي، علي بن الحسين

المحقّق الكركي، علي بن الحسين 14

منصور بن حازم 146

الميرزا الشيرازي، محمّد حسن بن المحمود 23

الميرزا القمّي، أبو القاسم بن محمّد حسن 256

ص: 311

النائيني، محمّد حسين 1، 23، 44، 92، 96،

102، 118، 123، 129،

160، 173، 184، 189،

203، 213، 223، 246،

253، 256، 293، 296

النخعي، إبراهيم 144

الهمداني، رضا بن محمّد هادى 174، 177

ص: 312

5 - فهرس الكتب الواردة في المتن

القرآن الكريم 195، 254

الاجتهاد والتقليد، للإمام الخميني (سلام الله عليه) 248

الاستصحاب، للإمام الخميني (سلام الله عليه) 228

التعادل والترجيح، للإمام الخميني (سلام الله عليه) 244

تقريرات بحث الشيخ الأعظم= مطارح الأنظار

تقريرات بحث المحقّق النائيني= فوائد الاُصول

الفصول= الفصول الغروية

الفصول الغروية 50، 128، 129، 257

فوائد الاُصول 189، 213، 293

الكفاية= كفاية الاُصول

كفاية الاُصول 173، 174، 257

المختلف= مختلف الشيعة

مختلف الشيعة 172

مطارح الأنظار 172، 180، 220، 257

المقالات= مقالات الاُصول

مقالات الاُصول 180، 181، 195، 207،

213، 219، 220، 238

ص: 313

ص: 314

6 - فهرس مصادر التحقيق

«القرآن الكريم».

«أ»

1 - الاثنا عشرية في الصلاة اليومية. الشيخ بهاء الدين محمّد بن الحسين بن عبدالصمد الحارثي العاملي (953 - 1030)، تحقيق الشيخ محمّد الحسّون، الطبعة الاُولى، قم، مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي، 1409 ق.

2 - الاجتهاد والتقليد، ضمن «موسوعة الإمام الخميني قدّس سرّه ».= موسوعة الإمام الخميني قدّس سرّه .

3 - أجود التقريرات (تقريرات المحقّق النائيني). السيّد أبو القاسم الموسوي الخوئي (1317 - 1413)، تحقيق مؤسّسة صاحب الأمر(عج)، الطبعة الاُولى، 4 مجلّدات، قم، مطبعة ستارة، 1419 ق.

4 - الاستصحاب، ضمن «موسوعة الإمام الخميني قدّس سرّه ».= موسوعة الإمام الخميني قدّس سرّه .

5 - إشارات الاُصول. حاج محمّد إبراهيم بن محمّد حسن الكافي الأصفهاني (1180 - 1261)، الطبعة الاُولى، مجلّدان، طهران، مكتبة المعتمدية، 1245 ق.

6 - الإشارات والتنبيهات، مع الشرح للمحقّق نصير الدين الطوسي وشرح الشرح للعلاّمة قطب الدين الرازي. الشيخ الرئيس أبو علي حسين بن عبدالله بن سينا (370 - 427)، الطبعة الثانية، 3 مجلّدات، طهران، دفتر نشر كتاب، 1403 ق.

ص: 315

7 - الأمالي. أبو جعفر شيخ الطائفة محمّد بن الحسن المعروف بالشيخ الطوسي (385 - 460)، تحقيق مؤسّسة البعثة، الطبعة الاُولى، قم، دار الثقافة، 1414 ق.

8 - أنوار الهداية في التعليقة على الكفاية، ضمن «موسوعة الإمام الخميني قدّس سرّه ». ‘موسوعة الإمام الخميني قدّس سرّه .

«ب»

9 - بدائع الأفكار في الاُصول (تقريرات المحقّق العراقي). الشيخ هاشم الآملي (1282 - 1371 ش)، الطبعة الاُولى، النجف الأشرف، 1370 ق.

«ت»

10 - التحصيل. بهمنيار بن المرزبان (م 458)، تعليق و تصحيح استاد شهيد مرتضى مطهرى، چاپ دوم، تهران، مؤسسه انتشارات دانشگاه تهران، 1375 ش.

11 - تشريح الاُصول. الشيخ مولى علي بن مولى فتح الله النهاوندي (م 1322)، الطبعة الحجرية، طهران، دار الخلافة، 1320 ق.

12 - التعادل والترجيح، ضمن «موسوعة الإمام الخميني قدّس سرّه ».= موسوعة الإمام الخميني قدّس سرّه .

13 - تقريرات آية الله المجدّد الشيرازي. المولى علي الروزدري (م 1290)، تحقيق مؤسّسة آل البيت علیهم السلام لإحياء التراث، الطبعة الاُولى، قم، مطبعة مهر، 1409 ق.

14 - تنقيح الاُصول (تقريرات الإمام الخميني قدّس سرّه ). حسين التقوي الاشتهاردي (1304 - 1378 ش)، تحقيق مؤسّسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني قدّس سرّه ، الطبعة الاُولى، 4 مجلّدات، قم، مؤسّسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني قدّس سرّه ، 1418 - 1419 ق / 1376 - 1377 ش.

15 - تهذيب الأحكام. أبو جعفر محمّد بن الحسن، الشيخ الطوسي (385 - 460)، إعداد السيّد حسن الموسوي الخرسان، الطبعة الرابعة، 10 مجلّدات، طهران، دار الكتب الإسلامية، 1365 ش.

ص: 316

«ج»

16 - جامع المقاصد في شرح القواعد. المحقّق الثاني علي بن الحسين بن عبد العالي الكركي (868 - 940)، تحقيق مؤسّسة آل البيت علیهم السلام لإحياء التراث، الطبعة الاُولى، 13 مجلّداً، قم، مؤسّسة آل البيت علیهم السلام لإحياء التراث، 1408 - 1411 ق.

17 - الجوهر النضيد في شرح منطق التجريد. العلاّمة الحلّي جمال الدين الحسن بن يوسف ابن المطهّر (648 - 726)، قم، انتشارات بيدار، 1413 ق.

«ح»

18 - حاشية كفاية الاُصول المطبوع بهامش كفاية الاُصول. الشيخ علي القوچاني (م 1333)، قم، مكتبة الوجداني.

19 - الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة. صدر المتأ لّهين محمّد بن إبراهيم الشيرازي (م 1050)، الطبعة الثانية، 9 مجلّدات، قم، مكتبة المصطفوي.

«د»

20 - درر الفوائد. العلاّمة الشيخ عبد الكريم الحائري اليزدي، تعليق آية الله الشيخ محمّد علي الأراكي والمؤلّف، تحقيق الشيخ محمّد المؤمن القمّي، الطبعة الخامسة، جزءان في مجلّد واحد، قم، مؤسّسة النشر الإسلامي، 1408 ق.

«ذ»

21 - الذريعة إلى اُصول الشريعة. أبو القاسم علي بن الحسين الموسوي المعروف بالشريف المرتضى وعلم الهدى (355 - 436)، تحقيق أبو القاسم گرجي، مجلّدان، الطبعة الاُولى، طهران، مؤسّسه انتشارات و چاپ دانشگاه طهران، 1363 ش.

«ر»

22 - رسائل ابن سينا. الشيخ الرئيس أبو علي حسين بن عبدالله بن سينا (370 - 427)، قم، انتشارات بيدار، 1400 ق.

23 - الرسائل الفشاركية. السيّد محمّد الطباطبائي الفشاركي (1253 - 1316)، تحقيق

ص: 317

مؤسّسة النشر الإسلامي، الطبعة الاُولى، قم، مؤسّسة النشر الإسلامي، 1413 ق.

24 - رياض المسائل في بيان أحكام الشرع بالدلائل. السيّد علي بن محمّد علي الطباطبائي (1161 - 1231)، تحقيق مؤسّسة النشر الإسلامي، الطبعة الاُولى، 14 مجلّداً، قم، مؤسّسة النشر الإسلامي، 1412 - 1423 ق.

«ز»

25 - زبدة الاُصول. الشيخ بهاء الدين محمّد بن الحسين بن عبد الصمد الحارثي العاملي (953 - 1030)، تحقيق فارس حسون كريم، الطبعة الاُولى، مدرسة وليّ العصر علیه السلام

العلمية، 1423 ق / 1381 ش.

«س»

26 - السرائر الحاوي لتحرير الفتاوي. أبو جعفر محمّد بن منصور بن أحمد بن إدريس الحلّي (543 - 598)، إعداد مؤسّسة النشر الإسلامي، الطبعة الثانية، 3 مجلّدات، قم، مؤسّسة النشر الإسلامي، 1410 - 1411 ق.

27 - سنن الترمذي. أبو عيسى محمّد بن عيسى بن سورة الترمذي (209 - 279)، تحقيق عبد الوهّاب عبد اللطيف، الطبعة الثانية، 5 مجلّدات، بيروت، دار الفكر للطباعة والنشر، 1403 ق.

28 - سنن النسائي. أبو عبد الرحمان أحمد بن شعيب النسائي (214 - 303)، الطبعة الاُولى، 8 أجزاء في 4 مجلّدات، بيروت، دار الفكر للطباع-ة والنشر، 1348 ق / 1930 م.

«ش»

29 - شرح العضدي على مختصر ابن الحاجب. القاضي عبد الرحمان بن أحمد بن عبد الغفّار، تصحيح أحمد رامز الشهير بشهري المدرّس بدار الخلافة، إسلامبول، مطبعة العالم، 1307 ق.

30 - شرح المقاصد. مسعود بن عمر بن عبدالله المعروف ب «سعد الدين التفتازاني» (712 -

ص: 318

793)، تحقيق عبد الرحمان عميرة، الطبعة الاُولى، 5 أجزاء في 4 مجلّدات، قم، منشورات الشريف الرضيّ، 1370 - 1371 ش.

31 - شرح المنظومة. المولى هادي بن مهديّ السبزواري (1212 - 1289)، تصحيح و تعليق وتحقيق حسن حسن زاده الآملي ومسعود الطالبي، الطبعة الاُولى، 5 مجلّدات، طهران، نشر ناب، 1369 - 1379 ش.

32 - شرح المواقف. السيّد الشريف علي بن محمّد الجرجاني (م 812)، تصحيح السيّد محمّد بدرالدين النسعاني، الطبعة الاُولى، 8 أجزاء في 4 مجلّدات، قم، منشورات الرضيّ، 1412 ق / 1370 ش، «بالاُفست عن طبعة مصر، 1325».

33 - شرح فصول الحكم. محمّد داود قيصري رومي (م 751)، تصحيح سيّد جلال الدين آشتياني، چاپ اول، طهران، شركت انتشارات علمى و فرهنگى، 1375 ش.

34 - الشفاء. الشيخ الرئيس أبو علي حسين بن عبدالله بن سينا (370 - 427)، تحقيق عدّة من الأساتذة، 10 مجلّداً ( الإلهيات + المنطق 4 مجلّدات + الطبيعيات 3 مجلّدات + الرياضيات مجلّدان)، قم، مكتبة آية الله المرعشي، 1405 ق.

35 - شوارق الإلهام في شرح تجريد الكلام. المولى عبد الرزّاق بن علي بن الحسين اللاهيجي الفيّاض (م 1051)، تصحيح أكبر أسد عليزاده، الطبعة الاُولى، 5 مجلّدات، قم، مؤسّسة الإمام الصادق علیه السلام ، 1430 ق.

«ص»

36 - صحيح مسلم. أبو الحسين مسلم بن الحجّاج القشيري النيسابوري (206 - 261)، تحقيق وتعليق الدكتور موسى شاهين لاشين والدكتور أحمد عمر هاشم، الطبعة الاُولى، 5 مجلّدات، بيروت، مؤسّسة عزّ الدين، 1407 ق / 1987 م.

37 - الصلاة. المحقّق الحائري (م 1355)، قم، مكتب الإعلام الإسلامي، 1362 ش.

«ع»

38 - العدّة في اُصول الفقه. أبو جعفر شيخ الطائفة محمّد بن الحسن المعروف بالشيخ الطوسي

ص: 319

(385 - 460)، تحقيق محمّد رضا الأنصاري القمّي، الطبعة الاُولى، مجلّدان، قم، مطبعة ستارة، 1417 ق.

39 - عوالي اللآلي العزيزية في الأحاديث الدينية. محمّد بن علي بن إبراهيم الأحسائي المعروف بابن أبي جمهور (م - أوائل القرن العاشر)، تحقيق مجتبى العراقي، الطبعة الاُولى، قم، مطبعة سيّد الشهداء، 1403 ق.

«غ»

40 - غرر العوائد من درر الفوائد. الميرزا محمّد الثقفي الطهراني، مطبعة الحيدرية، 1389 ق.

«ف»

41 - فرائد الاُصول، ضمن «تراث الشيخ الأعظم» ج 24 - 27. الشيخ الأعظم مرتضى بن محمّد أمين الأنصاري (1214 - 1281)، إعداد لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم، الطبعة الاُولى، 4 مجلّدات، قم، مجمع الفكر الإسلامي، 1419 ق / 1377 ش.

42 - الفصول الغروية في الاُصول الفقهية. محمّد حسين بن عبد الرحيم الطهراني الأصفهاني الحائري (م 1250)، قم، دار إحياء العلوم الإسلامية، 1404 ق. «بالاُفست عن الطبعة الحجرية».

43 - الفقيه (من لا يحضره الفقيه). أبو جعفر بن محمّد بن علي بن الحسين بن بابويه القمّي المعروف بالشيخ الصدوق (م 381)، إعداد السيّد حسن الموسوي الخرسان، الطبعة الرابعة، 4 مجلّدات، النجف الأشرف، دار الكتب الإسلامية، 1377 ق / 1957 م.

44 - فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني). الشيخ محمّد علي الكاظمي الخراساني (1309 - 1365)، الطبعة الاُولى، 4 مجلّدات، قم، مؤسّسة النشر الإسلامي، 1404 ق.

45 - الفوائد الحائرية. الشيخ محمّد باقر بن محمّد أكمل المشتهر بالوحيد البهبهاني، تحقيق لجنة تحقيق مجمع الفكر الإسلامي، الطبعة الاُولى، قم، مجمع الفكر الإسلامي، 1415 ق.

ص: 320

«ق»

46 - قوانين الاُصول. المحقّق ميرزا أبو القاسم القمّي بن المولى محمّد حسين الجيلاني المعروف بالميرزا القمّي (1151 - 1231)، مجلّدان، الطبعة الحجرية، المجلّد الأوّل، طهران، المكتبة العلمية الإسلامية، 1378، والمجلّد الثاني، طهران، المستنسخة سنة 1310 ق.

«ك»

47 - الكافي. ثقة الإسلام أبو جعفر محمّد بن يعقوب بن إسحاق الكليني الرازي (م 329)، تحقيق علي أكبر الغفّاري، الطبعة الخامسة، 8 مجلّدات، طهران، دار الكتب الإسلامية، 1363 ش.

48 - كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد. العلاّمة الحلّي جمال الدين الحسن بن يوسف بن المطهّر، تحقيق الشيخ حسن حسن زاده الآملي، قم، مؤسّسة النشر الإسلامي، 1414 ق.

49 - كفاية الاُصول. الآخوند الخراساني المولى محمّد كاظم بن حسين الهروي (1255 - 1329)، تحقيق مؤسّسة النشر الإسلامي، قم، مؤسّسة النشر الإسلامي.

50 - كمال الدين وتمام النعمة. أبو جعفر محمّد بن علي بن الحسين بن بابويه القمّي الشيخ الصدوق (م 381)، تحقيق علي أكبر الغفّاري، الطبعة الاُولى، طهران، مكتبة الصدوق، 1390 ق.

«ل»

51 - لمحات الاُصول (تقريرات المحقّق البروجردي)، ضمن «موسوعة الإمام الخميني قدّس سرّه ».= موسوعة الإمام الخميني قدّس سرّه .

«م»

52 - المحصول في علم اُصول الفقه. فخر الدين محمّد بن عمر بن الحسين الرازي (م 606)، تحقيق عادل أحمد عبدالموجود وعلي محمّد معوض، الطبعة الثانية،

ص: 321

4 مجلّدات، بيروت، المكتبة العصرية، 1420 ق / 1999 م.

53 - مختلف الشيعة في أحكام الشريعة. العلاّمة الحلّي جمال الدين الحسن بن يوسف بن المطهّر (648 - 726)، تحقيق مركز الأبحاث والدراسات الإسلامية، الطبعة الاُولى، 9 مجلّدات + الفهرس، قم، مكتب الإعلام الإسلامي، 1412 - 1420 ق.

54 - مسالك الأفهام إلى تنقيح شرائع الإسلام. الشهيد الثاني زين الدين بن علي العاملي الجبعي (911 - 965)، تحقيق مؤسّسة المعارف الإسلامية، الطبعة الاُولى، 15 مجلّداً، قم، مؤسّسة المعارف الإسلامية، 1413 - 1419 ق.

55 - مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل. الحاج الميرزا حسين المحدّث النوري الطبرسي (1254 - 1320)، تحقيق مؤسّسة آل البيت علیهم السلام لإحياء التراث، الطبعة الاُولى، 25 مجلّداً، قم، مؤسّسة آل البيت علیهم السلام لإحياء التراث، 1407 ق.

56 - المستصفى من علم الاُصول. أبو حامد محمّد بن محمّد الغزالي (م 505)، الطبعة الثانية، مجلّدان، قم، انتشارات دار الذخائر، 1368 ش.

57 - المسند. أحمد بن محمّد بن حنبل (164 - 241)، إعداد أحمد محمّد شاكر وحمزة أحمد الزين، الطبعة الاُولى، 20 مجلّداً، القاهرة، دار الحديث، 1416 ق.

58 - مشارق الشموس في شرح الدروس. آقا حسين بن جمال الدين محمّد الخوانساري (1019 - 1099)، قم، مؤسّسة آل البيت علیهم السلام لإحياء التراث.

59 - مصباح الفقيه (الطهارة، الصلاة، الزكاة، الخمس، الصوم، الرهن). الحاج آقا رضا بن محمّد هادي الهمداني النجفي (م 1322)، الطبعة الاُولى، 19 مجلّداً:

الطهارة والصلاة. تحقيق المؤسّسة الجعفرية لإحياء التراث، (ج 1 - 17)، قم، مؤسّسة مهديّ الموعود(عج)، 1417 - 1431 ق.

الزكاة والخمس والصوم والرهن. (ج 13 و14، حسب ترتيب مؤسّسة النشر الإسلامي) قم، مؤسّسة النشر الإسلامي، 1416 ق.

ص: 322

60 - مطارح الأنظار (تقريرات الشيخ الأعظم الأنصاري). الميرزا أبو القاسم الكلانتري (1236 - 1292)، تحقيق مجمع الفكر الإسلامي، الطبعة الاُولى، مجلّدان، قم، مجمع الفكر الإسلامي، 1425 ق.

61 - معالم الدين وملاذ المجتهدين «قسم الاُصول». أبو منصور جمال الدين الحسن بن زين الدين العاملي (959 - 1011)، تحقيق لجنة التحقيق، الطبعة الحادي عشر، قم، مؤسّسة النشر الإسلامي، 1416 ق.

62 - المعتبر في شرح المختصر. المحقّق الحلّي نجم الدين جعفر بن الحسن بن يحيى بن سعيد الهُذلي (602 - 676)، تحقيق عدّة من الأفاضل، الطبعة الاُولى، مجلّدان، قم، مؤسّسة سيّد الشهداء علیه السلام ، 1364 ش.

63 - معتمد الاُصول. محمّد الفاضل اللنكراني (1310 - 1386 ش)، تحقيق مؤسّسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني قدّس سرّه ، الطبعة الاُولى، جزءان، طهران، مؤسّسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني قدّس سرّه ، 1420 - 1423 ق / 1378 - 1381 ش.

64 - مغني اللبيب عن كتب الأعاريب. ابن هشام أبو محمّد عبدالله بن يوسف بن هشام الأنصاري (708 - 761)، تحقيق عدّة من العلماء، الطبعة الخامسة، قم، مكتبة سيّد الشهداء علیه السلام ، 1375 ش.

65 - مقالات الاُصول. الشيخ ضياء الدين العراقي (1278 - 1361)، تحقيق الشيخ محسن العراقي والسيّد منذر الحكيم والشيخ مجتبى المحمودي، الطبعة الاُولى، مجلّدان، قم، مجمع الفكر الإسلامي، 1414 - 1420 ق.

والطبعة الحجرية منه مجلّدان، قم، كتابفروشى كتبى نجفي (بالاُفست عن طبع النجف الأشرف).

66 - المنخول من تعليقات الاُصول. أبو حامد محمّد بن محمّد بن محمّد الغزالي (م 505)، تحقيق محمّد حسن هيتو، الطبعة الثالثة، بيروت، دار الفكر المعاصر، 1419 ق / 1998 م.

ص: 323

67 - موسوعة الإمام الخميني قدّس سرّه . تحقيق مؤسّسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني قدّس سرّه ، الطبعة الاُولى، قم، مؤسّسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني قدّس سرّه ، 1434 ق / 1392 ش.

«ن»

68 - نقد المحصّل (تلخيص المحصّل). الخواجه نصير الدين الطوسي (م 672)، الطبعة الثانية، بيروت، دار الأضواء، 1405 ق / 1985 م.

69 - نهاية الأفكار (تقريرات المحقّق آغا ضياء الدين العراقي). الشيخ محمّد تقي البروجردي النجفي (م 1391)، تحقيق مؤسّسة النشر الإسلامي، الطبعة الاُولى، 4 أجزاء في 3 مجلّدات، قم، مؤسّسة النشر الإسلامي، 1405 ق.

70 - نهاية الدراية في شرح الكفاية. الشيخ محمّد حسين الأصفهاني (1296 - 1361)، تحقيق مؤسّسة آل البيت علیهم السلام لإحياء التراث، الطبعة الاُولى، 4 مجلّدات، قم، مؤسّسة آل البيت علیهم السلام لإحياء التراث، 1414 ق.

71 - نهاية الوصول إلى علم الاُصول. جمال الدين أبو منصور الحسن بن يوسف بن المطهّر المعروف بالعلاّمة الحلّي (648 - 726)، تحقيق الشيخ إبراهيم البهادري، الطبعة الاُولى، 5 مجلّدات، قم، مؤسّسة الإمام الصادق، 1425 - 1429 ق.

«و»

72 - الوافية في اُصول الفقه. المولى عبدالله بن محمّد البُشروي الخراساني المعروف بالفاضل التوني (م 1071)، تحقيق السيّد محمّد حسين الرضوي الكشميري، الطبعة الاُولى، قم، مجمع الفكر الإسلامي، 1412 ق.

73 - وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة. الشيخ محمّد بن الحسن الحرّ العاملي (1033 - 1104)، تحقيق مؤسّسة آل البيت علیهم السلام لإحياء التراث، الطبعة الاُولى، 30 مجلّداً، قم، مؤسّسة آل البيت علیهم السلام لإحياء التراث، 1409 ق.

74 - وقاية الأذهان مع رسالتي سمطا اللآل في مسألتي الوضع والاستعمال وإماطة الغين عن

ص: 324

استعمال العين في معنيين. الشيخ أبو المجد محمّد رضا بن محمّد حسين النجفي الأصفهاني، تحقيق مؤسّسة آل البيت علیهم السلام لإحياء التراث، الطبعة الاُولى، قم، مؤسّسة آل البيت علیهم السلام لإحياء التراث، 1413 ق.

«ه»

75 - هداية المسترشدين في شرح اُصول معالم الدين. الشيخ محمّد تقي الرازي النجفي الأصفهاني (م 1248)، تحقيق مؤسّسة النشر الإسلامي، الطبعة الاُولى، 3 مجلّدات، قم، مؤسّسة النشر الإسلامي، 1420 - 1421 ق.

ص: 325

ص: 326

7 - فهرس الموضوعات

الفصل الخامس: في اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن ضدّه ··· 1

تحقيق الحال يستدعي رسم اُمور:

الأمر الأوّل: في اُصولية المسألة ··· 1

الأمر الثاني: في معنى الاقتضاء في عنوان المسألة ··· 2

الأمر الثالث: في الاستدلال على القول بالاقتضاء في الضدّ الخاصّ ··· 3

قد استدلّ عليه بوجهين:

الوجه الأوّل: من جهة المقدّمية ··· 3

الوجه الثاني: من جهة الاستلزام ··· 10

الأمر الرابع: في ثمرة المسألة ··· 13

مقالة الشيخ البهائي في إنكار الثمرة بعدم الأمر بالمهمّ وما اُجيب عنها ··· 14

تصوير المحقّق الثاني الأمر بالمهمّ بالأمر المتعلّق بنفس الطبيعة ··· 14

التحقيق في تصوير الأمر بالمهمّ بلا تشبّث بالترتّب ··· 15

تصوير المحقّق النائيني الأمر بالمهمّ بنحو الترتّب ··· 23

تمسّك المحقّق النائيني ببعض الفروع الفقهية على الترتّب ··· 44

تقرير الذي أورده المحقّق الأصفهاني لتصحيح الترتّب ··· 46

تقرير المحقّق العراقي لتصحيح الترتّب ··· 47

ص: 327

الفصل السادس: في جواز الأمر مع العلم بانتفاء الشرط ··· 50

الفصل السابع: في متعلّق الأوامر والنواهي ··· 53

تحرير محلّ النزاع ··· 53

مقتضى التحقيق: تعلّق الأوامر والنواهي بالطبائع ··· 55

المراد من البعث نحو المأموربه ··· 56

تنبيه: في تعلّق الأمر بنفس الماهية ··· 57

نقد وتحصيل: في سراية الأمر من العنوان إلى الأفراد والحصص ··· 59

تحقيق: في الكلّي الطبيعي ··· 61

الفصل الثامن: في بقاء الجواز بعد نسخ الوجوب ··· 67

والكلام يقع في مقامات:

المقام الأوّل: في إمكان بقائه عقلاً ··· 67

المقام الثاني: في مقتضى الأدلّة إثباتاً بعد فرض إمكانه ··· 69

المقام الثالث: في استصحاب الجواز عند الشكّ في بقائه ··· 70

الفصل التاسع: في الواجب التخييري ··· 72

تنبيه: في التخيير بين الأقلّ والأكثر ··· 75

التخيير بين الأقلّ والأكثر في التدريجيات ··· 75

التخيير بين الأقلّ والأكثر في الدفعيات ··· 77

الفصل العاشر: في الواجب العيني والكفائي ··· 79

الفصل الحادي عشر: في الواجب المطلق والموقّت ··· 82

تتميم: في عدم كون القضاء بالأمر الأوّل ··· 83

المقصد الثاني: في النواهي

وفيه فصول:

الفصل الأوّل: في مفاد هيئة النهي ··· 89

ص: 328

متعلّق الطلب في النهي ··· 89

دلالة النهي على التكرار ··· 90

الفصل الثاني: في جواز اجتماع الأمر والنهي ··· 94

وقبل الخوض في المقصود لابدّ من تقديم اُمور:

الأمر الأوّل: في تحرير محلّ النزاع ··· 94

الأمر الثاني: في الفرق بين المقام وبين النهي في العبادة ··· 95

الأمر الثالث: في اُصولية مسألة جواز الاجتماع ··· 96

الأمر الرابع: في اعتبار قيد المندوحة ··· 97

الأمر الخامس: في عدم ابتناء النزاع على تعلّق الأحكام بالطبائع ··· 99

الأمر السادس: في عدم ابتناء النزاع على إحراز المناط ··· 100

الأمر السابع: في ثمرة النزاع على القول بالجواز ··· 102

الأمر الثامن: في ثمرة النزاع على القول بالامتناع ··· 106

الأمر التاسع: في شروط جريان النزاع في المقام ··· 109

مقتضى التحقيق هو القول بجواز الاجتماع ··· 111

دفع الإشكالات الواردة على القول بالجواز ··· 115

تنبيه: في التضادّ بين الأحكام الخمسة ··· 119

استدلال المجوّزين بوقوع العبادات المكروهة ··· 122

كيفية العبادات المكروهة ··· 122

تنبيه: في توسّط الأرض المغصوبة ··· 126

الفصل الثالث: في أنّ النهي عن الشيء هل يكشف عن فساده ؟··· 131

وقبل تحقيق المقام يقدّم اُمور:

الأمر الأوّل: في الاختلاف في عنوان البحث ··· 131

الأمر الثاني: في كون المسألة عقلية لفظية ··· 132

الأمر الثالث: في تحرير محلّ النزاع ··· 133

ص: 329

الأمر الرابع: في المراد من العبادات والمعاملات ··· 133

الأمر الخامس: في مساوقة الصحّة والفساد للنقص والتمام ··· 134

تنبيه: في مجعولية الصحّة والفساد ··· 135

الأمر السادس: في تحقيق الأصل في المقام ··· 136

التحقيق في دلالة النهي على الفساد ··· 138

دلالة النهي على الفساد عرفاً مع عدم إحراز حال النهي ··· 138

في اقتضاء النهي الفساد عقلاً مع إحراز حال النهي ··· 140

في التمسّك بالروايات على فساد المعاملة المنهيّ عنها ··· 144

تذنيب: في دعوى دلالة النهي على الصحّة ··· 146

تنبيه: في حكم تعلّق النهي بجزء العبادة أو شرطها أو وصفها ··· 149

المقصد الثالث: في المفاهيم

وفيه مقدّمة وفصول:

مقدّمة: في تعريف المفهوم ··· 153

الفصل الأوّل: في دلالة الجمل الشرطية على المفهوم ··· 157

بقي اُمور:

الأمر الأوّل: في الإشكال فيما إذا كان مفاد الجزاء معنىً حرفياً ··· 163

الأمر الثاني: في تعدّد الشرط واتّحاد الجزاء ··· 165

الأمر الثالث: في تداخل الأسباب والمسبّبات ··· 168

ينبغي تقديم مقدّمات:

الاُولى: في تحرير محلّ النزاع ··· 168

الثانية: في المراد من تداخل الأسباب والمسبّبات ··· 168

الثالثة: في اختصاص النزاع بالماهية القابلة للتكثّر ··· 169

ص: 330

الرابعة: في إمكان التداخل وعدمه ··· 170

الخامسة: في أنحاء تعدّد الشرط ··· 171

تداخل الأسباب والمسبّبات فيما إذا تعدّدت الأسباب نوعاً ··· 172

الاستدلال على عدم تداخل الأسباب ··· 172

الاستدلال على تداخل المسبّبات ثبوتاً وإثباتاً ··· 182

تداخل الأسباب والمسبّبات فيما إذا تعدّدت الأسباب شخصاً ··· 184

تتمّة: الإشكال في العامّ الاستغراقي في المقام ··· 185

الفصل الثاني: في مفهوم الوصف ··· 188

الفصل الثالث: في مفهوم الغاية ··· 191

والبحث فيه يقع في مقامين:

المقام الأوّل: في دلالة الغاية على ارتفاع الحكم بعدها ··· 191

المقام الثاني: في أنّ الغاية داخلة في المغيّا أو لا ؟··· 194

الفصل الرابع: في مفهوم الاستثناء ··· 197

المقصد الرابع: في العامّ والخاصّ

وقبل الخوض في المقصود لابأس بذكر اُمور:

الأمر الأوّل: في تعريف العامّ ··· 201

الأمر الثاني: في الفرق بين المطلق والعامّ ··· 203

الأمر الثالث: في عدم احتياج العامّ إلى مقدّمات الحكمة ··· 204

الأمر الرابع: في أقسام العموم ··· 206

تنبيه: في نقد كلام المحقّق الخراساني في وجه انقسام العموم ··· 208

الأمر الخامس: في الألفاظ الدالّة على العموم ··· 209

الفصل الأوّل: في حجّية العامّ المخصّص في الباقي ··· 211

ص: 331

الفصل الثاني: في سراية إجمال المخصّص إلى العامّ ··· 215

التمسّك بالعامّ في الشبهة المفهومية ··· 215

التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقية للمخصّص اللفظي ··· 217

حول الاستدلال على جواز التمسّك بالعامّ في المقام ··· 218

تتميم: في التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقية للمخصّص اللبّي ··· 222

تنبيهات:

التنبيه الأوّل: في التمسّك بالعامّ إذا كان الخاصّ معلّلاً ··· 224

التنبيه الثاني: في العامّين من وجه المتنافيي الحكم ··· 224

التنبيه الثالث: في إحراز المصداق بالأصل في الشبهة المصداقية ··· 225

التحقيق في جريان الأصل المحرز لموضوع العامّ ··· 228

نشير إلى ما هو التحقيق إجمالاً، وهو يتوقّف على مقدّمات:

الاُولى: أقسام القضايا بلحاظ النسبة ··· 228

الثانية: مناط الصدق والكذب في القضايا ··· 229

الثالثة: القضايا المفتقرة إلى وجود الموضوع ··· 230

الرابعة: ضرورية كون موضوع الحكم مفرداً ··· 231

الخامسة: في اعتبارات موضوع العامّ المخصَّص ··· 232

التحقيق في المقام ··· 233

التنبيه الرابع: في التمسّك بعمومات النذر وأمثاله لكشف حال الفرد ··· 237

التنبيه الخامس: التمسّك بالعامّ عند الشكّ بين التخصيص والتخصّص ··· 238

التنبيه السادس: في دوران الأمر بين التخصيص والتخصّص لإجمال الخاصّ ··· 239

الفصل الثالث: هل يجوز العمل بالعامّ قبل الفحص ؟··· 241

الاستدلال على وجوب الفحص عن المخصّص بمعرضية العامّ للتخصيص ··· 242

الاستدلال على وجوب الفحص عن المخصّص بالعلم الإجمالي ··· 245

مقدار الفحص عن المخصّص ··· 248

ص: 332

الفصل الرابع: في عموم الخطابات الشفاهية لغير الحاضرين ··· 249

التحقيق في المقام ··· 253

تتمّة: في ثمرة النزاع ··· 256

الفصل الخامس: في تخصيص العامّ بالضمير الراجع إلى بعض أفراده ··· 258

الفصل السادس: في تخصيص العامّ بالمفهوم ··· 262

فيقع الكلام في مقامين:

المقام الأوّل: في المفهوم الموافق ··· 262

المقام الثاني: في المفهوم المخالف ··· 266

الفصل السابع: في الاستثناء المتعقّب لجمل متعدّدة ··· 269

والكلام يقع في مقامين:

المقام الأوّل: في إمكان الرجوع إلى الجميع ··· 269

المقام الثاني: في حاله إثباتاً ··· 270

المقصد الخامس: في المطلق والمقيّد

وفيه فصول:

الفصل الأوّل: في تعريف المطلق والمقيّد ··· 277

الفصل الثاني: في اسم الجنس والماهية وأقسامها ··· 280

تتميم: في اسم الجنس وعلمه ··· 285

الفصل الثالث: في مقدّمات الحكمة ··· 288

تتميم: في الأصل عند الشكّ في مقام البيان ··· 291

الفصل الرابع: في حمل المطلق على المقيّد ··· 292

الصور المتصوّرة في ورود المطلق والمقيّد ··· 292

تحرير محطّ البحث ··· 293

أحكام الصور المهمّة في المسألة ··· 294

ص: 333

الفهارس العامّة

1 - فهرس الآيات الكريمة ··· 303

2 - فهرس الأحاديث الشريفة ··· 305

3 - فهرس أسماء المعصومين علیهم السلام ··· 307

4 - فهرس الأعلام ··· 309

5 - فهرس الكتب الواردة في المتن ··· 313

6 - فهرس مصادر التحقيق ··· 315

7 - فهرس الموضوعات ··· 327

ص: 334

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.