شرح أصول الكافي
تألیف: للمولى محمد صالح المازندراني المتوفى 1081 ه
المجموعة : مصادر الحديث الشيعية - قسم الفقه
تحقيق : مع تعليقات : الميرزا أبو الحسن الشعراني / ضبط وتصحيح : السيد علي عاشور
سنة الطبع :1929ه. 2008م
دار احياء التراث العربي
بيروت _ لبنان
ص: 1
جمیع الحقوق محفوظة للناشر
الطبعة الثّانیة
1929ه. 2008م
الطبعة الثّانیه المصّیحة المنقّحة
بیروت - لبنان طریق المطار. خلف غولدن بلازا تلفن:01/540000_01455559
- فاکس: 850717
850717 : Beyrout Liban - Rue Arport Tel: 01/455559 - 01/540000 - fax-
www.dartourath.com
Email:info@dartourath.com
ص: 2
هو المولى محمد صالح السّرّوي المازندراني - قدَّس سرُّه - كان رحمه الله - من أعاظم العلم، ونقدة الحديث، وفطاحل العرفان، جامعاً للمعقول والمنقول، ماهراً في الأُصول والفروع، أزهد أهل زمانه وأعبدهم وأروع أهل أوانه وأورعهم، قل من يساويه أو يدانيه في الزهد من أهل دهره. وقد يعبر عنه بفخر المحققين الصالح الزاهد المجاهد.
ورد محروسة إصبهان في حلمه، وسكن بها، وتتلمذ لعلمائها الأعيان منهم المولى عبد الله التستري. وولده المولى حسنعلى، والمولى محمد تقي المجلسي، وتزوج بابنته الكبرى (آمنة بيكم) التي هي معروفة بالفضل والعلم والدين، ورزقه الله تعالى منها بنات وبنين، ومن جملة بناتها زوجة مولينا محمد أكمل الأصبهاني والدة الأستاذ الأكبر المولى محمد باقر البهبهاني.
توفي - قدس سره - بأصبهان سنة 1081 أو 1086. والظاهر أن الاختلاف نشأ مما كتب على مزاره الشريف في تاريخ وفاته في مرثية طويلة بالفارسية حيث قال:
هاتفى گفت بتاريخ كه آه *** صالح دين محمد شده فوت
فإذا حسبنا مادة التاريخ من لفظه (آه) الواقعة في المصراع الأول يكون 1086 وإن لم نحسبها يكون 1081.
ودفن بأصبهان في مقبرة أستاذه العلامة المجلسي حنب المسجد الجامع مما يلي رجله - رحمهما الله.
وهو مزار معروف يزار.
وأما شرحه هذا فهو كتاب علمي كبير قل مثله، شرح الكافي مزجيا وفسر غريبه، وأبلج معضله، وشرح غامضه في مجلدات ضخمة فخمة. وهو من أحسن شروح الكافي وضعا، وأتمها نفعا، وأبعدها عن الافراط والتفريط، يطفح بالفضيلة، ويمتاز عما سواه من الشروح بجودة السرد ورصانة البيان، ويعرب عن طول باع مؤلفه الفذ في التحقيق وسعة اطلاعه، ولا غنى عنه لأي باحث متضلع في الحديث لما أودعه من العلم الغزير والدقائق والرقائق.
ألا وهي بشرى نزفها إلى العلماء ورواد الفضل ومعتنقي الحديث والرواية من المثقفين الذين يرجون أن تخدم تراثنا العلمي الديني سيما كتب الحديث على النحو الذي يقرب منالها وييسر الانتفاع بها.
فبذلنا غاية الوسع في تصحيح الكتاب على أوسع مدى مستطاع ولم نأل جهدا في تنميقه ومقابلته وعرضه على النسخ المصححة المقروءة على العلماء وتخريج أحاديثه، وتوضيح مشكله.
ص: 3
هذا ولأستاذنا العلامة الحاج الميرزا أبو الحسن الشعراني خطوات واسعة ويد ناصعة في إعانتنا بإحياء هذا التراث العلمي فأفاد بأثارة علمه الغزير وفضله الجم وعلق على الكتاب تعليقات راقية وشروحا وافية، حافلة بآرائه العملية التي لا غنى عنه لأي بحاثة منقب ديني تروقه دراية الحديث فضلا عن روايته، فجزاه الله عن الإسلام وأهله خير جزاء المحسنين آمين رب العالمين، ونرمز إلى تعاليقه ب (ش).
علي أكبر الغفاري * واعتمدنا في التصحيح والمقابلة على نسخ عدة:
1 - نسخة كاملة مصححة مقروءة على بعض العلماء في ثلاث مجلدات، تفضل بها الفاضل الألمعي السيد أبو الحسن الكتابي الأصبهاني أدام الله تعالى عمره.
2 - نسخة نفيسة ثمينة مصححة جدا، كتبها السيد محمد بن السيد زين العابدين وأرخها 1088 لخزانة كتب سماحة الحجة آية الله السيد شهاب الدين النجفي المرعشي نزيل قم المشرفة لاضحى ظله. وقد وعدنا بإرسال نسخ أخرى.
3 - نسخة مصححة (من أول الكتاب إلى تمام كتاب الحجة) لخزانة كتب المحقق المدقق البارع، سيدنا الحجة السيد موسى المازندراني دام ظله العالي.
4 - نسخ; مصححة (شرح كتاب الحجة) لمكتبة البحاثة، الاستاد السيد محمد مشكاة. وللمعظم له نسخة أخرى (شرح كتاب الروضة) تفضل بإرسالها أدام الله إفضاله.
5 - نسخة (من كتاب الإيمان والكفر) مصححة لخزانة كتب أستاذنا العلامة الحاج الميرزا أبو الحسن الشعراني أبقاه الله منارا للحق.
6 - نسخة مصححة مؤرخة 1202 كتبها محمد علي بن شاه مراد التنكابني لمكتبة العلم الحجة المهذب البارع السيد محي الدين العلوي الطالقاني دام ظله.
7 - نسخة نفيسة ثمينة موشحة بالحواشي (شرح كتاب التوحيد فقط) لخزانة كتب المحقق، الأستاذ السيد محمد باقر السبزواري أدام الله عمره.
8 - نسخة نفيسة من أول الكتاب إلى آخر كتاب التوحيد تاريخها سنة 1124 تفضل بإرسالها السيد الجليل والحبر النبيل السيد صدر الدين الجزائري أدام الله إفضاله.
ص: 4
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله الذي ألهم قلوب العارفين وجوب حمده، وأنطق لسان المتكلمين بشكر رفده، والصلاة على النبي الهادي إلى سبيل الرشاد والداعي إلى طريق الخير والسداد، وآله أمناء الدين وحجج رب العالمين.
وبعد فإن كتاب الكافي أجمع الكتب المصنفة في فنون علوم الإسلام وأحسنها ضبطا، وأضبطها لفظا، وأتقنها معنى، وأكثرها فائدة، وأعظمها عائدة، حائز ميراث أهل البيت وقمطر علومهم، فهو بعد القرآن الكريم أشرف الكتب وهو أحد الثقلين اللذين أمرنا رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالتمسك بهما وبأنا لو تمسكنا بهما لن نضل. وتصدى جماعة من أعاظم العلماء لشرحه خصوصا لقسم الأصول ومن جملتها هذا الشرح وهو للمولى العظيم العارف الحكيم المحقق الجامع للفضائل العملية والفنون العقلية والشرعية المولى محمد صالح بن أحمد بن شمس الدين السروي المازندراني المتوفى سنة 1086 وهو شرح مزجي حسن العبارة خال من التكلف لم يترك شيئا يحتاج إلى بيان إلا أتى به وسنذكر إن شاء الله ترجمة الشارح ومزايا شرحه ليكون الناظر فيه على بصيرة وهذا الشرح مع كمال جودته وكثرة فوائده لم يطبع إلى أن قيض الله في زماننا أناسا شمروا عن ساق الاجتهاد لنشر الكتب الدينية وطبع الآثار النبوية وعلوم أهل بيت الرسالة، ومنها هذا الشرح فقوبل بنسخ مخطوطة كثيرة وصحح بغاية الدقة وخرج صديقنا الفاضل الخريت (علي أكبر الغفاري) مصحح الكتاب أسناد الأحاديث الواردة في الشرح وذكر المأخذ في ذيل الصفحات وعلقت أنا عليه بعض ما ورد في خاطري الفاتر وفكري القاصر أثناء المطالعة مما يوضح كلام الشارح أو يسد ثلمة فيه أو يرفع ما يوهم التناقض منه وغير ذلك، من الفوائد، والمرجو من القارئين أن يعذرونا إن وقفوا على خطأ وسهو ويقيلونا من عثرة أو زلة فإنا معترفون بالقصور ونسئلهم لنا الدعاء وطلب المغفرة ولهم من الله التوفيق والهداية إن شاء الله.
والفضل في عمل هذا الخير للسيد القدوة الموفق لكل سعادة (الحاج سيد إسماعيل الكتابچي) وإخوانه الغر، أصحاب المكتبة الإسلامية المقدمين على نشر آثار الائمة الطاهرين نرجو لهم ولنا التوفيق لإتمام هذا الغرض.
ص: 5
ص: 6
قال في الروضات بعد ذكر الألقاب على ما هو دأبه: محمد صالح بن مولينا أحمد السروي المازندراني ثم الأصفهاني، كان من العلماء المحدثين والعرفاء المقدسين، ماهرا في المعقول والمنقول، جامعا للفروع والأصول ورد ماء مدين إصفهان وتلمذ عند علمائها الأعيان مثل المولى عبد الله التستري أو ولده المولى حسن علي والمولى محمد تقي المجلسي وتزوج بابنته الكبرى المعروفة بسمة الفضل والعلم والدين ورزقه الله منها بنات وبنين ومن جملة بناتها زوجة مولانا محمد أكمل الأصفهاني التي هي والدة سمينا المروج البهبهاني رحمة الله عليهم أجمعين إلى أن قال: توفي بأصفهان سنة إحدى وثمانين بعد الألف ودفن مما يلي رجل صهره المجلسي في قبته المشهورة ثمة ونظموا في تاريخ وفاته بالفارسية من جملة مرثية طويلة كتبت على لوح مزاره الشريف (صالح دين محمد شده فوت) انتهى ما أردنا نقله.
وأقول: كان وفاة المجلسي الأول أبي زوجته سنة ألف وسبعين قبل ما ذكر في تاريخ وفاة صاحب الترجمة بإحدى عشرة سنة، فكان هو والمجلسي أبو زوجته متقاربي السن وكان وفاة المجلسي الثاني بعد وفاة صاحب الترجمة بثلاثين سنة والحق ما ذكرناه أولا من أن وفاته سنة 1086 بزيادة كلمة آه على المصراع وأورده المحدث النوري في خاتمة المستدرك حكايات لا فائدة فيها في تراجم الرجال ولعله أخذها من أفواه الناس لا من مأخذ يعتمد عليه. وفي بعض ما حكاه شك قال: كان - رحمه الله - يقول أنا حجة على الطلاب من جانب رب الأرباب; لأنه لم يكن في الفقر أحد أفقر مني وقد مضى علي برهة لم أقدر على ضوء غير ضوء المستراح، وأما في الحافظة والذهن فلم يكن أسوء مني إذا خرجت من الدار كنت أضل عنها وكنت أنسى أسامي ولدي وابتدأت بتعلم حروف التهجي بعد ثلاثين من عمري فبذلت مجهودي حتى من الله تعالى علي بما قسمه لي. وهذا نصح حسن، لكن روى عن الوحيد البهبهاني أنه شرح معالم الأصول في صغر سنه قال: ومن لاحظ شرح معالم الأصول علم مهارته في قواعد المجتهدين في ذلك السن انتهى. وهذا ينافي شروعه في تعلم حروف التهجي بعد الثلاثين، وروى أيضا أنه بعد فراغه من شرح أصول الكافي أراد أن يشرح فروعه أيضا فقيل له يحتمل أن لا يكون لك رتبة
ص: 7
الاجتهاد فترك لأجل ذلك شرح الفروع.
وقال شيخنا المحقق الحفظة وارث آثار العلماء صاحب الذريعة أطال الله بقاءه خرج منه أي من شرح الكافي للمولى صالح شرح كتاب العقل والجهل والتوحيد والحجة والايمان والكفر والدعاء والزكاة والخمس وجميع كتاب الروضة. وقال المحدث النوري إن السيد حامد حسين الهندي طاب ثراه ذكر في بعض مكاتيبه إلي من بلدة لكهنو أنه عثر على مجلد من مجلدات شرحه على الفروع وعزم على استنساخه وإرساله إلي فلم يمهله الأجل. وهذا يناقض ما ذكر من امتناعه عن شرح الفروع وليس الاجتهاد في الفروع أصعب حصولا وأمنع وصولا من التمهر في الأصول حتى يقتحم في الأصول من يحترز عن الفروع والخطأ في الفروع سهل، بخلاف الأصول ومن قدر على شرح أحاديث الأصول وبيان الأدلة فيها وتأويل ما يخالف أصول المذهب ببيان شاف فهو قادر على حل مسائل الفقه وفهم معاني أخبار الفروع بطريق أولى، والذي يظهر من بعض عبارات الشارح أن علم الفروع عنده لم يكن بمثابة المعارف في الشرف والأهمية ولذا لم ينظر إليه إلا بالقصد الثاني وصرح بذلك في بعض كلامه قال: إن اسم الفقه في العصر الأول إنما كان يطلق على علم الآخرة ومعرفة دقائق آفات النفوس ومفسدات الأعمال وقوة الإحاطة بحقارة الدنيا وشدة التطلع في نعيم الآخرة واستيلاء الخوف على القلب ويدل عليه قوله تعالى (فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون) فقد جعل العلة الغائية من الفقه الانذار والتخويف ومعلوم أن ذلك لا يترتب إلا على هذه المعارف لا على معرفة فروع الطلاق والمساقاة والسلم وأمثال ذلك.
ثم إن الشارح - رحمه الله - كان راغبا في التصوف شديد التمسك به لكن تصوفه وتصوف أمثاله من علماء ذلك العصر كان خاليا من البدع والأهواء وكانوا مرتاضين متشرعين عاملين في السلوك والرياضة بما يوافق الشرع المبين البتة، قال في بعض كلامه: فيه أي في الحديث دلالة على أنه لا بد للناس من أستاذ مرشد عالم ليحصل به نجاتهم. وفي كلام آخر له: " وبين أهل السلوك خلاف في أنه هل يضطر السالك إلى الشيخ العارف أم لا، وأكثرهم يرى وجوبه ويفهم ذلك من كلامه (عليه السلام) وبه يتمسك الموجبون له ويؤيده أن طريق المريد مع شيخه العارف بالله أقرب إلى الهداية وبدونه أقرب إلى الضلالة فلذلك قال (عليه السلام) " فنجا " أي النجاة متعلقة به ودلائل الفريقين مذكورة في مصباح العارفين " انتهى ثم إن الشارح مع تبحره في الحديث والنقليات كان عارفا بالعلوم المتداولة في عصره كالعلوم الرياضية والطب والكلام والحكمة الإلهية والمفهوم من تحقيقاته أنه كان خبيرا متضلعا بها وكان في الأكثر معتقدا لأصول صدر المتألهين والفيض - قدس سرهما - وكان يعترف بتشكيك الوجود وأنه ذو مراتب وأن وجود الممكن بالنسبة إلى الواجب وجود
ص: 8
ربطي تعلقي وكان معتقدا للحركة الجوهرية والأجسام المثالية وبتجسم الأعمال في الآخرة وأنها نشأة أخرى، وكان معتقدا بتجرد النفوس وإمكان إتحادها بالعقول المجردة وغير ذلك من أصول صدر المتألهين، ولم يكن مقلدا يقبل مجازفات قدماء المشائين التي لا دليل لهم عليها على ما هو دأب بعض المتفلسفة كحصر العقول في العشرة وأن الله تعالى خلق كل عقل مع فلك إلى العقل العاشر، ولم يكن ينكر وجود العقول الجوهرية ولكن كان ينكر ما يوهم ظاهر كلامهم أن الله تعالى فوض أمر العالم إلى العقول ووساطة العقول عند أهل الحق نظير سببية الشمس والريح والماء في النبات، وبالجملة كانت فلسفته حكمة شرعية أو شريعة مستدلة بالعقل; ومع ذلك كان في التعبير بحيث لا يشمئز منه طبع الجاهل، وأذكر في ذلك مثالا من واعظ خبير باصطلاح الحكماء - وكان يخطب في المشهد الرضوي عليه آلاف التحية والثناء ورزقنا الفوز بسعادة زيارته أبدا دائما - فقال الواعظ في ضمن كلامه في تحقيق الوجود وأن الوجود الحق هو عين ذات الله تعالى ولذلك يجب أن يقال: هو وجود ولا يقال هو موجود بمعنى أنه ذات له الوجود، توهم بعض الحاضرين أنه يريد إنكار وجود الواجب فاستشاط وقام وخرج.
وبالجملة فالشارح حسن التعبير ولا يتكلم على اصطلاحات خاصة بهم لا يتبادر معناها إلى ذهن الأكثر ومع ذلك فإنه يأتي بجمل متعاطفة متأكدة وقرائن متكررة يوجب التطويل. وقد يعترض على السيد المحقق الداماد في اختياره الغريب من الكلمات مثل كلمة «الحرص» في الحديث الثاني عشر «التوكل وضده الحرص» قال السيد: ضده الحرض بالضاد المعجمة وكذلك «الفهم وضده الحمق» قال الصحيح «القهم» بالقاف وقد يعترض على الحكيم المحقق المدقق استاد العلماء صدر المتألهين (قدس سره) في تعبيراته العويصة البعيدة عن أذهان الأكثرين ولكن اعتراضاته غالبا مناقشات لفظية ومؤاخذات تافهة والحق أن الصدر لم يكتب شرحه للأكثرين ولا يرد عليه شئ مما أورده، ولا يجب على العلماء أن يقتصروا على ما يفهمه جميع الناس، بل لأهل الدقة والذوق حق على العلماء يجب الإيفاء به ولا يعبؤ بما يعتقده كثير من أن ما لا يفهمه العامة من دقائق الحكمة ورقائق المعرفة فهو باطل فإن الناس مختلفون وما يعرفه المدقق الخبير يعسر على غيره، ويجب على من لا يفهم معنى أن لا يسرع إلى رده وإبطاله.
ثم إن من أهم ما يجب أن يعلم أن الاعتماد في الأصول على العقل والكتاب والأخبار المتواترة وبالجملة ما يوجب اليقين دون أخبار الآحاد، والأحاديث الواردة في أبواب الأصول إنما يعتمد عليها إذا كانت موافقة لاعتقاد الشيعة الإمامية المعلوم بالقطع واليقين مما صرف العلماء عمرهم واستفرغوا جهدهم في استخراجها من الأدلة اليقينية، وأما ما خالفه فمأول أو مردود فلذلك ترى أن أكثر أحاديث الأصول في الكافي غير صحيحة الإسناد ومع ذلك أورده الكليني - رحمه الله - معتمدا عليها لاعتبار
ص: 9
متونها وموافقتها للعقائد الحقة ولا ينظر في مثلها إلى الإسناد.
ورأيت أن أشير إشارة مختصرة إلى عقائد الطائفة هنا وأذكر ما ذكره أعلم علمائنا وأوثقهم أعني العلامة الحلي - قدس سره - في الباب الحادي عشر ونبذة من غيره ليكون الناظر في الشرح على بصيرة تحفظه من التحير وتشتت الفكر عند اختلاف التأويلات ووجوه التفاسير، ويجعل العقيدة المعلومة أصلا يرجع ما يخالفه ظاهرا إليه إن شاء الله.
فأقول: «اعتقادنا في الايمان أنه يجب فيه اليقين ولا يكتفي فيه بالظن إذ لم يعهد من أحد من المسلمين أن يكتفي في الحكم بإسلام الكافر بأن يقول: أظن أن لا إله إلا الله وأظن أن محمدا رسول الله، بل صيغة الإسلام «أشهد» وهي أدل على اليقين من «أعلم» وأمثاله ونسب ذلك العلامة إجماع المسلمين وهو حق. واعتقادنا فيه أنه يجب أن يكون بالدليل لا بالتقليد لأن الاعتقاد التقليدي ليس علما ولأن الله تعالى ذم أقواما بتقليد آبائهم، ولأن التقليد لو كان إيمانا كان الكفار أيضا معذورين ولأن من يقلده الإنسان إن ثبت عصمته بالدليل اليقين فقوله يفيد العلم وليس ذلك تقليدا وإن لم يثبت عصمته يحتمل الخطأ عليه في قوله واعتقاده ولا يفيد قوله شيئا، واعتقادنا في الايمان أنه التصديق بالجنان فقط وأما الاقرار باللسان فهو علامة عليه فلو علم إيمان رجل من علامة أخرى كفى وليس العمل بالأركان أيضا جزء من الايمان لأن الإخلال بالواجبات وارتكاب المناهي لا يوجب الكفر بالاتفاق، وأيضا اعتقادنا فيه أنه لا يزيد ولا ينقص بنفسه لأن اليقين هو عدم احتمال الخلاف فإن احتمل الخلاف لم يكن إيمان، وإن لم يحتمل كان اليقين حاصلا وليس لعدم احتمال الخلاف مراتب كمراتب الظن، وإنما يكون الزيادة في الأدلة والمعتقدات والآثار، مثلا يعرف أحدنا إمامة أمير المؤمنين علي (عليه السلام) بدليل واحد ولا يحتمل الخلاف، ويعرفها آخر بألف دليل ولا يحتمل الخلاف فهذا الاختلاف في الأدلة لا في نفس اليقين، وأيضا يعرف أحد أن الله تعالى واحد لا شريك له ويعلم ذلك يقينا لا يشك فيه أصلا، ويعرف آخر أسمائه وصفاته ومعاني كل واحد وما يجوز عليه تعالى وما لا يجوز بالأدلة وغير ذلك مما لا حصر له، فهذه الكثرة في المعتقدات، ثم إن بعض الناس يؤثر يقينه في العمل أكثر من تأثيره في الآخر فيخاف من عذاب الله أشد من آخر فهذا الاختلاف في الخوف، وهو من آثار الايمان بالمعاد لا نفس الايمان، والمؤمن لا يشك في المعاد ولا يتصور أن يكون أحد منهم يحتمل الخلاف والآخر لا يحتمله أو أحد يحتمل احتمالا ضعيفا والآخر احتمالا قويا. واعتقادنا في الله وصفاته ما هو معروف من أنه عالم بكل شئ جزئي وكلي من غير أن يكون له جارحة وعضو، وعلمه بالجزئيات علم حضوري على ما حققه المتأخرون من الحكماء كالمحقق الطوسي - قدس سره - وقال بعض المتكلمين: إن بصره بمعنى العلم
ص: 10
بالمبصرات وسمعه بمعنى العلم بالمسموعات ولا يطلق عليه اللامس والذائق والشام مع علمه بالملموسات والمذوقات والمشمومات تعبدا شرعيا أو لغويا، وأيضا أنه تعالى قادر حي مريد كاره مدرك قديم أزلي باق أبدي متكلم وكلامه مخلوق حادث ليس قديما كما يقول به الأشاعرة، وأنه صادق لقبح الكذب عليه واعتقادنا في هذه الصفات أنه لا تشبه صفات الإنسان فهو موجود قائم بذاته وليس بجسم ولا حالا في جسم ولا محل له ولا جهة ولا يصح عليه التأثرات النفسانية كاللذة والألم والشهوة والغضب والأسف والحزن وأنه لا يتحد بغيره كما يقول به النصارى والغلاة من الشيعة، وأما الاتحاد في عرف المتصوفة فتصور معناه أشكل من التصديق بصحته وبطلانه، والحق السكوت عنه، ونعم ما قال شارح الباب الحادي عشر بعد ابطال الاتحاد بمعناه المتبادر: فإن عنوا غير ما ذكرناه فلا بد من تصوره أولا ثم يحكم عليه وإن عنوا ما ذكرناه فهو باطل قطعا. واعتقادنا في الله تعالى أنه لا يرى بالبصر وأنه لا شريك له، وليست صفاته معاني زائدة على ذاته مثلا ليست حياته بنفس أو روح حيواني كما في أبداننا وليس صفاته منحصرة فيما ذكر بل لا يحيط بصفاته وأسمائه إلا هو، واعتقادنا أن حسن الأفعال أو قبحها ذاتي يعرفان بالعقل ولذا يحكم بهما من لا يعترف بشرع أصلا واعتقادنا أنا فاعلون بالاختيار ولذلك يصح من الله تكليفنا ولو كنا مجبورين قبح أن يخلق الفعل فينا ثم يعذبنا عليه.
واعتقادنا أن القبيح محال عليه تعالى فلا يصدر منه وإن قدر عليه. واعتقادنا أن فعل الله تعالى لغاية ومصالح ولا يجوز أن يصدر منه فعل عبثا بل لا يمكن صدوره من غيره ولا يجوز أن يكون غاية فعله تعالى تكميل ذاته لأنه فوق كل كمال ولا أن يكون حاله بعد الفعل أولى به مما قبله، بل مقتضى حكمته ورحمته ولطفه إفاضة الخيرات وبذلك الاعتبار يصح أن يقال: هو ذاته غاية فعل نفسه فمنه المبدء وإليه المصير، فإذا قيل: لم فعل الله تعالى العالم أجيب بأن ذلك لرحمته وحكمته وهما عين ذاته، ولو قيل: لم فعل الإنسان بيتا له؟ أجيب لأن يسكن فيه ويأمن الحر والبرد وهذه الغاية ليست عين ذات الإنسان بخلاف غاية فعله تعالى. واعتقادنا أن التكليف من الشارع حسن إذ خلق الشهوة والميل إلىالقبيح والتكليف زاجر عنه وكل شئ يقرب العبد إلى ارتكاب المحاسن ويبعده عن المكاره كبعث الأنبياء وتأييدهم بالمعجزات والأمر والنهي والتخويف من العقاب والترغيب في الثواب لطف كما قيل: التكاليف الشرعية ألطاف في الواجبات العقلية. واعتقادنا أن اللطف واجب في حكمته ورحمته كما قال: (كتب ربكم على نفسه الرحمة) وشرط اللطف أن لا يبلغ الإلجاء بأن يسبب الأسباب بحيث لا يتمكن العبد من المعصية مثلا لا يجب على الله أن لا يخلق الخمر حتى لا يشربها أحد أو لا يخلق فيه الشهوة حتى لا يزني فإن ذلك وإن كان يقرب العبد إلى الطاعة لكن يبلغ حد الإلجاء وهو ينافي التكليف كما قال: (لو شاء ربك لآمن
ص: 11
من في الأرض كلهم جميعا) يعني بالإلجاء لكن خيرهم ولم يجبرهم ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة. ويجب أيضا عليه إقدار العبد وتمكينه من الفعل المكلف به وهذا شرط التكليف ولا يسمى لطفا فإن قيل: نرى كثيرا مما يقرب العبد إلى الطاعة يقينا لم يحصل مثلا لو رأى الفاسق في كل يوم معجزة من ولي ربما يرتدع ولو ابتلى كل فاسق ببلاء بعد عمله ربما انزجر، وأمثال ذلك.
قلنا جميع ما يتوهم من ذلك إما أمور غير ممكنة في حكمة الله تعالى وإما يصير إلى حد الالجاء وإن لم نعلم تفصيله.
واعتقادنا في أفعال الله تعالى أنه ليس فيه شر وأن الآلام الصادرة عنه تعالى معوض في الآخرة أو الدنيا بحيث يرضى به المبتلى ونظير ذلك من يموت بالزلازل والصواعق والأوبئة ومن يتضرر بذلك وهذا مقتضى عدل الله.
واعتقادنا في القضاء والقدر أنهما علم الله بما سيقع وأن علمه لا يوجب جبر العباد.
واعتقادنا في الفطرة التي خلق الله الناس عليها أنها فطرة التوحيد والتصديق ولم يخلق أحدا على فطرة خبيثة بحيث يستلزم جبره على الكفر والشر أو أقربيته إلى الشر ثم يعاقبه عليه، وقد سوى أولا التوفيق في الوضيع والشريف.
واعتقادنا في البداء على الله تعالى أنه محال لأن البداء ندامة والندامة من الجهل صرح بذلك علماؤنا في التفاسير والأصول كالشيخ الطبرسي والطوسي والسيد المرتضى والعلامة الحلي وقال السيد عميد الدين في شرح التهذيب في قصة أمر إبراهيم بذبح ولده أنه لو كان أمرا حقيقة لزم منه البداء وهو باطل بالاتفاق، ومن أقر به لفظا فقد أوله معنى بحيث أخرجه من حقيقته كصدر المتألهين والمجلسي والسيد الداماد - رحمهم الله - وتأويل البداء نظير تأويل الغضب والرضا والأسف والترجي، فان جميع ذلك محال على الله تعالى بمعناها الحقيقي.
واعتقادنا في أفعال الله تعالى أيضا أن كل شئ مخلوق له يحتاج إليه حدوثا وبقاء ولا يستغنى عنه شئ بعد الحدوث. ولا قديم ذاتا غيره تعالى ولا المادة ولا الخلاء على ما كان يقول به بعض قدماء الفلاسفة، ولم يرد التعبد باعتقاد شئ من المكونات كعدد السماوات وطبقات الأرض وأبعاد الكواكب وعظام بدن الإنسان وشكل العرش والكرسي. والعلم المتعلق بهذه الأمور ليس من الدين إلا من جهة دلالتها على حكمة الله وقدرته، نعم يجب الاعتقاد بوجود الملائكة والجن والشياطين من الموجودات الروحانية.
واعتقادنا في النبوة أنها واجبة في الحكمة لأنها لطف في الواجب العقلي. واعتقادنا أن الأنبياء
ص: 12
معصومون من المعصية عمدا وخطأ وإلا لارتفع الوثوق بهم، ولم يكن قولهم وفعلهم حجة وأنهم منزهون من كل ما ينفر الطباع ويسقط محلهم من القلوب كدناءة الآباء وعهر الامهات والرذائل الخلقية والعيوب الخلقية. وأنهم أفضل أهل زمانهم لأن تقديم غير الأفضل قبيح. واعتقادنا فيهم أنهم أفضل من الملائكة لأن الإنسان الكامل أشرف من كل موجود مجرد أو مادي، وربما خالف في ذلك بعض العلماء فجعل الملائكة أفضل. وليس في عدد الأنبياء وكتبهم وقصصهم ونسبهم واممهم شئ موظف يجب الاعتقاد به إلا ما ورد في نص القرآن، إذ ليس في ذلك أخبار متواترة غالبا.
واعتقادنا في نبوة نبينا محمد (صلى الله عليه وآله) معروف وأنه أفضل الأنبياء وخاتم النبيين، وكتابه وهو القرآن أفضل الكتب فمن اعتقد أن هنا حكما أحسن من حكمه وقانونا أفضل من شرعه أو أنه كان نبيا لقوم خاص كالعرب أو في زمان خاص، ولا يناسب شرعه جميع الأزمنة فهو كافر ليس بمسلم البتة.
واعتقادنا في الإمامة أنها رئاسة عامة في أمور الدين والدنيا نيابة عن النبي (صلى الله عليه وآله) وأنها لطف إذ يقرب العباد إلى الطاعة ويبعدهم من المعصية، فهي واجبة ويجب أن يكون الإمام معصوما حتى يجب طاعته ويحرم عصيانه، ولو احتمل في قوله وفعله خطأ خرجا من أن يكونا حجة ولذلك يجب أن يكون منصوصا من الله تعالى والنبي (صلى الله عليه وآله) أو الإمام السابق لان العصمة أمر خفي لا يطلع عليه إلا من قبل الله تعالى، ويجب أن يكون الإمام أفضل الناس لقبح إطاعة الفاضل المفضول. واعتقادنا في الأئمة بعد النبي (صلى الله عليه وآله) أنهم اثنا عشر معروفون، أجمع المسلمون على طهارتهم وفضلهم وقال النبي (صلى الله عليه وآله) في الحديث المتفق عليه بين الفريقين «أن الأئمة بعده اثنا عشر» روي بألفاظ مختلفة عن جابر بن سمرة وأورده البخاري والمسلم في الصحيحين وغيرهما في كتب كثيرة.
واعتقادنا في المعاد أنه حق واجب «لتجزى كل نفس بما تسعى» ولو لم يكن معاد لزم العبث في التكليف وإرسال الرسل وإنزال الكتب، وجميع ما ورد في القرآن أو الروايات المتواترة من الصراط والميزان وإنطاق الجوارح وغير ذلك حق والثواب والعقاب لأهل الاستحقاق، والأعواض لأصحاب الضر والبلاء واجب، والتفضل لمن لا يستحق شيئا كالموتى بعمل الأحياء لهم حق واقع أيضا.
واعتقادنا أن الاحباط باطل، وهو أن يقع العمل بشرائط الصحة ثم يبطل ثوابه بوقوع معصية فان ورد لفظ الاحباط في القرآن والروايات فهو بمعنى آخر غير معناه الاصطلاحي كعدم الثواب لعدم وجود شرائطه لئلا يخالف ما دل على وجود الجزاء. واعتقادنا أن الملكف معذور في الفروع إذا خالف مودى اجتهاده أو فتوى مجتهده الحكم الواقعي; إذ لا يقدر على غيره وما ورد في ذم الاجتهاد ليس بمعنى الاجتهاد المصطلح في زماننا. واعتقادنا أن قبول التوبة تفضل من الله تعالى وغير واجب ولذلك يمكن أن
ص: 13
يؤخر عن التوبة.
واعتقادنا أن كل مشقة تحملها لمكلف في سبيل أمر الشارع فقد وقع أجره على الله سواء في ذلك مقدمات الواجب أو نفسه وإن لم يوفق لاتمامه لعذر من جانب الله كمجاهد أو حاج مات في الطريق; لأن ترك إثابته بعد المشقة ظلم قبيح.
ثم إن هذه الأصول وأمثالها المستفادة من القرآن الكريم المؤيدة بالعقول والاخبار المتواترة التي استخرجها علماؤنا منها بفكرهم الدقيق وجمعوها في كتبهم الكلامية وغيرها وإن وجد شئ في بعض الأخبار مخالف لها في الظاهر يجب تأويلها إن ثبتت صحتها بحيث يرفع التنافي. وذكر العلماء أن إنكار الضروري دليل على إنكار الرسالة وعلامة للخروج عن ربقة الإسلام. ومعنى الضروري أن يكون ثبوته في دين الإسلام بديهيا لا يقبل الشك كالصلاة والحج بحيث لا يمكن أن يعتقد أحد رسالة نبينا (صلى الله عليه وآله) ولا يعتقد وجوب الحج في شرعه إلا أن يدعى شبهة ممكنة في حقه مثل أن يكون في بلاد بعيدة عن الإسلام أو يكون قريب العهد به بحيث يمكن أن يتصور جهله به. ومثل المجسم والقائل بالجهة إذا كان بليدا جدا لا يعقل الأدلة على بساطة الواجب وتركب الجسم ويزعم أن غير الجسم موهوم، ولكن في اعتقادات المجلسي - رحمه الله - في تعداد الضروريات ما يوهم التناقض، فإنه عرف الضروري بما لا يخفى على أحد من المسلمين إلا ما شذ، ثم عد منه اشتمال الصلاة على تكبيرة الاحرام والقيام على الأظهر. وقوله «على الأظهر» يدل على عدم كونه ضروريا. وعد من الضروري غسل النفاس على الأظهر، وكون الريح ناقضا للوضوء على احتمال، يعني يحتمل كونه ضروريا، وهذا تناقض ظاهر لأن الضروري ما لا يحتمل الخلاف. قال: اشتمال الحج على الرمي ضروري على احتمال، والجمع بين الزوجة واختها وامها ضروري على الأظهر، وحرمة الربا في الجملة على احتمال. والعجب أنه عد حرمة الربا ضرورية على احتمال مع أنه حرام من غير شبهة يعرف ذلك غير المسلمين أيضا من مذهب الإسلام. وعد من الضروريات رجحان السلام ورده على الأظهر ورجحان صلة الأرحام على احتمال. قال: وغير ذلك مما اشتهر بينهم بحيث لا يشك فيه إلا من شذ منهم. وأقول: وهذا عجيب ولا يبعد أن يكون هذه الرسالة منحولة وإذا كان الضروري ما لا يشك فيه كيف يوصف بالاحتمال والأظهر، ومعنى الاحتمال والأظهر أن فيه شكا وكلام المجلسي - رحمه الله - مثل أن يقول أحد أظن أني عالم بمجيء زيد ثم يجعل ذلك علما.
ثم اعلم أن لفظ القرآن والحديث يحمل على ظاهره إلا أن يدل قرينة نقلية أو عقلية على خلافه ويختلف الناس في فهم القرآن ومثاله ما روي أن شاعرا مدح النبي (صلى الله عليه وآله) فقال لبعض أصحابه: إقطع لسانه.
ص: 14
والظاهر منه قطع اللسان بالسكين لكن القرينة العقلية تدل على عدم كونه مرادا ولم يفهمه الصحابي حتى دله غيره بأن المراد الإحسان إلى الشاعر فان الإحسان يقطع اللسان إذ لا يأمر النبي (صلى الله عليه وآله) بقطع اللسان من غير تقصير وما من أحد إلا ويأول الحديث في الجملة حتى الحنابلة مع أنهم أبعد الناس من التأويل ويبالغون في حمل الألفاظ على الظواهر حتى مثل قوله وجه الله ويد الله والرحمن على العرش استوى بل المجددون منهم أيضا مصرون على ذلك ورأيت في كتاب بعضهم حديثا في شمائل النبي (صلى الله عليه وآله) أن سبابته كان أطول من الوسطى والظاهر منه سبابة اليد ولا يستحيل ذلك وجعله بعض أصحاب القيافة دليلا على العزم والصبر وعلو الهمة ولكن هذا العالم الحنبلي أوله بسبابة الرجل لاستبعاده ذلك في اليد ولو كان المراد الرجل لم يستحق الذكر فان جميع الناس سبابة رجلهم أطول من وسطاها. وأورد الصدوق (رحمه الله) في اعتقاداته بابا في الأخبار الواردة في الطب وأولها على خلاف ظاهرها بل رد بعضها بقرائن عقلية مثل الحديث الدال على أن العسل شفاء من كل داء حمله على الشفاء من كل داء بارد مع أن الصدوق كان شديد الاحتراز من الرد والتأويل حتى أنه لم يأول ولم يرد رواية سهو النبي (صلى الله عليه وآله) ولا رواية طهارة الخمر المخالفة لاجماع المسلمين إلا أهل الظاهر، ولا رواية أن شهر رمضان لا ينقص أبدا وذلك لأنه عرف باليقين بعض مسائل الطب وخواص الأدوية ورأى بعض الروايات مخالفا له فحمل بعضها على خلاف الظاهر، وبعضها على سهو الناقل وبعضها على تدليس المخالفين في الكتب، وأما كون شهر رمضان ناقصا ووجوب عصمة النبي (صلى الله عليه وآله) فلم يتضح عنده كما اتضح مسائل الطب فلم يحمله على سهو الرواة ولا على خلاف ظاهره، والعلامة المجلسي - رحمه الله - أيضا كان أبعد الناس في المتأخرين من التأويل بالقرينة العقلية ومع ذلك أول جميع الروايات الواردة في تجسم الأعمال ووزنها في الآخرة على خلاف ظاهرها بأن ذلك محال عقلا وقال: لا يتصور أن يتجسم العمل ويكون له وزن ونسب جميع من حملها على ظاهرها إلى الضلال ووافق العلماء في تأويل آيات الجبر والتفويض ورواياتهما ونسبة السهو والعصيان إلى الأنبياء: إذ علم استحالتهما ولم يوافقهم في إنكار البداء والحبط وغير ذلك وبالجملة الناس مختلفون في إدراك القرائن العقلية مع اتفاقهم على التأويل فيما يعتقدون استحالته فبعضهم لم يعرف استحالة كون الله تعالى جسما وفي جهة وعلى العرش ولم يأولها مع أنه أول حديث طول سبابة النبي (صلى الله عليه وآله). وبعضهم لم يأول رواية عدم نقص شهر رمضان وسهو النبي (صلى الله عليه وآله) ولكن أول أحاديث الطب لأنه اعتقد استحالة هذا ولم يعرف استحالة ذاك، والأشاعرة لم يأولوا الروايات والآيات الدالة على الجبر إذ لم يعرفوا استحالة القبيح على الله تعالى. أولوا آيات التجسيم إلى غير ذلك.
وإياك أن تظن أن مثل هذا الاختلاف بين علمائنا الإمامية قدح فيهم أو أن تتعصب لواحد وتتبرأ من
ص: 15
الآخر فإن هذا من موبقات الآثام. وأول ما يشقى ظان السوء بهم الحرمان من بركاتهم، وليس غير الأئمة المعصومين خاليا عن السهو والخطأ، ولو لا محبة الحق وحرصهم على إظهاره لم يخالف أحدهم أحدا فكلهم صلحاء أمناء مرضيون مجاهدون مأجورون عند الله. وهذه العلوم الشرعية كلها واجبة وقوام الدين بكل واحد منها كقوامه بالآخر وسواء في ذلك علم التجويد والقراءات والفقه والنحو والكلام والتفسير والحديث والرجال، ولا يمكن التمهر للكل في الجميع إلا للأوحدي وليس للمحدث أن يبغض المتكلم ولا للمتكلم أن يسفه المحدث ولا للاصولي أن يستحقر المجود وهكذا، هدانا الله وأياكم إلى طريق السداد ويوفقنا لتحصيل الزاد ليوم المعاد بحق محمد وآله الأمجاد.
(كتبه الفقير إلى الله أبو الحسن المدعو بالشعراني عفا الله عنه).
ص: 16
بسم الله الرحمن الرحيم.
نحمدك يا مروج عقول العارفين بمظاهر كمالك ليلا ونهارا، ونشكرك يا مفرج قلوب السالكين بظواهر جلالك سرا وجهارا، ونشهد أن لا إله إلا أنت شهادة توجب لنا في مقام قربك مستقرا وقرارا. ونصلي على سيد أنبيائك وأشرف أوليائك صلاة دائمة ما دامت الأرض ساكنة والفلك دوارا (1).
وبعد فيقول المفتقر إلى رحمة ربه الغني حسام الدين محمد صالح بن أحمد المازندراني: إني قد رسمت على جميع أبواب الكافي تعليقات، ورقمت على جميع فنونه تحقيقات، مع قلة البضاعة في هذه الصناعة وتشتت البال وتفرق الحال فلما أردت جمعها وتدوينها خطر ببالي أن أشرح جميع أحاديث هذا الكتاب شرحا متوسطا بين الايجاز والاطناب; لأن الأحاديث وإن كان بعضها ظاهر الدلالة على المعنى المراد واضح الإشارة على المفهوم المستفاد، لكن قد يوجد فيه من الفرائد النفيسة والفوائد الشريفة ما لا يدركه بدء النظر، ولا يبلغه أول الفكر، كم من لئالي فريدة تؤخذ في الساحل لغفلة الواردين عنها، وعدم التفات الطالبين إليها، فها أنا أشرع في المقصود بعون الله الملك المعبود مبتدئا بشرح الخطبة لما فيها من منافع الحكمة.
بسم الله الرحمن الرحيم «الحمد لله المحمود لنعمته، المعبود لقدرته، المطاع في سلطانه، المرهوب لجلاله، المرغوب إليه فيما عنده النافذ أمره في جميع خلقه، علا فاستعلى، ودنا فتعالى، وارتفع فوق كل منظر، الذي لا بدء لأوليته، ولا غاية لأزليته، القائم قبل الأشياء، والدائم الذي به قوامها،والقاهر الذي لا يؤوده حفظها، والقادر الذي بعظمته تفرد بالملكوت، وبقدرته توحد بالجبروت، وبحكمته أظهر حججه على خلقه،
ص: 17
اخترع الأشياء إنشاء، وابتدعها ابتداء (1) بقدرته وحكمته لا من شئ فيبطل الاختراع، ولا لعلة فلا يصح الابتداء، خلق ما شاء كيف شاء متوحدا بذلك لاظهار حكمته، وحقيقة ربوبيته، لا تضبطه العقول، ولا تبلغه الأوهام، ولا تدركه الأبصار، ولا يحيط به مقدار، عجزت دونه العبارة، وكلت دونه الأبصار، وضل فيه تصاريف الصفات، احتجب بغير حجاب محجوب، واستتر بغير ستر مستور، عرف بغير روية، ووصف بغير صورة، ونعت بغير جسم، لا إله إلا الله الكبير المتعال»
أبتدأ باسمه الحميد مقتديا بالسلف وبالقرآن المجيد ومعتمدا بما قاله سيد البشر «كل أمر ذي بال لم يبدء فيه باسم الله فهو أبتر» وفي ذكر الاسم إيماء إلى أن المراد بهذه الأسماء الشريفة المسميات وأن الاستعانة في الاستفاضة وقعت بأسمائها، لأن لتلك الأسماء من الشرف والكمال ما لا يعرف قدره الغواصون في بحار آثارها والوصافون بشرح منافعها وأسرارها، على أن الاستعانة بالاسم تدل على الاستعانة بالمسمى قطعا دون العكس، وإنما خص هذه الأسماء بالذكر لأنها أصل لأصول الفيض عاجلا وآجلا. ومبدئا بحصول الرجاء ظاهرا وباطنا.
(الحمد لله) اختلفوا في تحديد الحمد والأحسن ما ذهب إليه بعض المحققين من الصوفية ومال إليه المحقق الشريف العلامة الدواني، وهو أن الحمد إظهار صفات الكمال بالقول أو بالفعل، والثاني أقوى من الأول; لأن الأفعال التي هي آثار السخاوة مثلا تدل عليها دلالة عقلية قطعية لا يتصور فيها التخلف بخلاف الأقوال فان دلالتها عليها وضعية وقد يتخلف عنها مدلولها، وعلى هذا كان حمده تعالى على ذاته حمدا على سبيل الحقيقة، بل هو من أفضل أفراده لأنه تعالى كشف عن صفات كماله ببسط بساط الوجود على ممكنات لا تحصى، ووضع عليها موائد كرمه التي لا تتناهى، إذ كل ذرة من ذرات الوجود تدل عليها، ولا يتصور في العبارات مثل هذه الدلالات. وما اشتهر من أن الحمد في اللغة الثناء باللسان على الجميل، وفي العرف أعم منه ومن عقد الجنان وفعل الأركان، فهو باعتبار أن هذه الأمور من الأفراد الشايعة لذلك المفهوم، لا أن الحمد مختص بها كما فهمه الأكثر وحكموا بأن حمده تعالى على ذاته مجاز، واللام في «الحمد» للجنس أو الاستغراق وفي «لله» للاختصاص يعني أن جنس الحمد أو جميع أفراده مختص به سبحانه وبينهما تلازم، وصح ذلك لأنه تعالى مبدء كل كمال ومرجع كل جلال.
(المحمود بنعمته) للحمد أركان أربعة: الحامد، والمحمود، والمحمود به والمحمود عليه. والأولان قد يتحدان بالذات كحمده تعالى على ذاته، وقد يتغايران كحمدنا له تعالى، وكذا الأخيران كحمده تعالى
ص: 18
بالنعمة لأجلها. وحمده بالعلم لأجل إنعامه. إذا عرفت هذا فنقول: النعمة في قوله: «بنعمته» إما محمود عليها إن كانت الباء سببا للحمد أو محمود بها إن كانت صلة له، ولا يلزم من الحمد بها أن يكون الحمد لأجلها; لجواز أن يكون لأجل غيرها، كما إذا حمدت زيدا بالشجاعة لأجل سخاوته. وفي بعض النسخ «لنعمته» باللام وهو يؤيد الأول كما يؤيده نظيره في القرينة الثالثة.
لا يقال: لا يصح جعل الحمد للنعمة علة للحمد على ما يقتضيه قاعدة التعليق بالوصف; لأنه من باب تعليل الشئ بنفسه.
لأنا نقول: على تقدير اطراد تلك القاعدة الحمد لأجل النعمة بمنزلة العلة الغائية لجنس الحمد فيصح أن يجعل علة له. وإنما ابتدأ بعد التسمية بالحمد لحفظ ما أدرك من آلائه، وجلب ما يترقب من نعمائه، مع أنه من أفضل الطاعات وأكمل العبادات إذ الحامد يلاحظ جماله وجلاله ويراعي إحسانه وإفضاله فيكون ذلك سببا لمزيد امتنانه حالا ورضوانه مآلا.
(المعبود لقدرته) قدم الحمد للنعمة على الحمد للقدرة مع أن القدرة من الصفات الذاتية التي هي أجدر بالثناء عليها; لأن النعمة قد وصلت إلى الحامد بخلاف القدرة فان الواصل إليه إنما هو أثره، فالنعمة أولى بالحمد لها بهذا الاعتبار ولقد أحسن في جعل النعمة سببا لمحموديته والقدرة سببا لمعبوديته، لأن نعمته الواصلة إلى الغير توجب الحمد من حيث هو وقدرته على جميع الممكنات توجب العبادة والتذلل لله تعالى.
(المطاع في سلطانه) السلطان التسلط والقهر أو الحجة والبرهان، وقد فسر بهما قوله تعالى:
«فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا » (1)والله سبحانه مطاع بالمعنيين لكونه قاهرا على جميع الممكنات فيطيعه كل ما كان في عنقه ربقة الامكان، وينقاد له كل من احتجب عن الحس أو يشار إليه بالبنان، لا يقدر شئ أن يتجاوز عن حده المقدر وكماله المقرر بالأمر المبرم والقضاء المحكم، وغالبا على جميع المخلوقات بالحجج القاطعة والبراهين الساطعة، فلا يتمكن أحد أن يرد حجته وبرهانه ويمنع دليله وفرقانه، ولفظ «في» إما للظرفية أو للسببية والثاني أولى بالنظر إلى السابق واللاحق، واستعمالها فيه شايع حتى قيل: إنها حقيقة فيه.
(المرهوب لجلاله) قال في المغرب رهبه: خافه رهبة، والله مرهوب، ومنه «لبيك مرهوب ومرغوب إليك» ويفهم منه أن مرهوبا متعد بنفسه، والذي يفهم من كلام ابن الأثير في النهاية أنه متعد بمن، وعلى هذا حذف «من» للاقتصار كما هو المتعارف، واللام لأن من عرف عظمته وجلاله ولاحظ غناه عن
ص: 19
الخلق وكماله وعلم أن كل موجود بأسره مقهور تحت حكمه وأمره، وهو يتصرف فيه ما يشاء كيف يشاء، ويحكم ما يريد كيف يريد، ولا يسئل، حصلت له بذلك رهبة وخوف يتحير فيه العقول حيث رأى نفسه عارية عن الاختيار في الرد والقبول كما هو المعروف من أحوال الأنبياء والصلحاء وبه يظهر سر قوله تعالى: « إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ».(1) (المرغوب إليه فيما عنده) من النعم الدنيوية والاخروية جليها وخفيها يقال: رغب فيه وإليه إذا أراده وطمع فيه وحرص عليه. الرغبة السؤال والطلب، وإنما عقب بالرهبة الرغبة للتنبيه على وجوب مقارنتهما في التحقق، إذ لا خير في رهبة بلا رغبة، ولا رغبة بلا رهبة، بل وجب تقارنهما وتساويهما كما دل عليه بعض الأخبار ويرشد إليه قوله تعالى في وصف الأنبياء والأولياء «إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ »(2)وقوله تعالى: «وادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ » وإنما ترك سبب الرغبة للإشارة إلى أن ذاته بذاته هو الجواد المطلق، فلا حاجة في بسط الرجاء إلى ملاحظة شئ آخر غير ذاته أو لاندراج سببها تحت سبب الرهبة لأن جلالته المطلقة كما يكون بالقهر والغلبة على ما عداه ممن اتصف بسمة الامكان كذلك يكون بالرحمة واللطف والاحسان; إذ لولا الثاني لكانت عظمته وجلالته مقيدة بوجه من الوجوه فحينئذ نقول من ملاحظة الأول تحصل الرهبة ومن ملاحظة الثاني تحصل الرغبة، ولا يجوز ملاحظة أحدهما وحده، لأنه يستلزم القنوط أو الجرأة وكلاهما مذموم، أو نقول في كل واحد من الأول والثاني تحصل الرهبة والرغبة جميعا، أما في الأول فلأن لطفه مستور في قهره فمن حيث القهر تحصل الرهبة ومن حيث اللطف تحصل الرغبة، واليه يشير قوله تعالى:«وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ. »(3)وأما في الثاني فلان قهره مستور في لطفه وإحسانه لاحتمال أن يكون ذلك على سبيل الاستدراج، وإليه يشير قوله تعالى حكاية عن سليمان (عليه السلام)« لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ»(4) وقوله تعالى:«لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ »(5) وبالجملة هو مرهوب ومرغوب إليه دائما، والعبد راغب وراهب في جميع الأحوال واليه يشير قول أمير المؤمنين (عليه السلام) «هو المأمول مع النقم والمرهوب مع النعم» (6).
(النافذ أمره في جميع خلقه) أي أمر التكوين، أو أمر الافناء والإعدام، أو حكم القضاء، أو أمر التشريع بإرادة لازمة من الثواب والعقاب دون ظاهره بأنه متعلق بالثقلين منهم من أطاعه ومنهم من عصاه.
ص: 20
(علا فاستعلى) الاستعلاء هنا لزيادة المبالغة أي علا في رتبته عن رتبة المخلوقين، فاستعلى عن التشبه بصفاتهم، والتفريع ظاهر لأن الأول مستلزم للثاني، وإن أردت زيادة توضيح فنقول: العلو يطلق بالاشتراك على معان ثلاثة: الأول الحسي كالعلو بحسب المكان. الثاني التخيلي كعلو الملك على رعيته. والثالث العقلي كعلو السبب على المسبب، والأول محال في حقه تعالى لاستحالة كونه في المكان، وكذا الثاني لتنزهه عن الكمالات الخيالية إذ هي إضافية تتغير وتدرك بحسب الأشخاص والأوقات، ولا شئ من كماله كذلك فبقي أن يكون عقليا مطلقا بمعنى أنه لا رتبة تساوي رتبته.
بيان ذلك: أن أعلى مراتب الكمال العقلي هو مرتبة العلية ولما كان ذاته المقدسة هي مبدء كل موجود حسي وعقلي وعلته التي لا يتصور فيها النقصان بوجه من الوجوه لاجرم كانت مرتبته أعلى المراتب العقلية على الاطلاق وله العلو في الوجود العاري عن الإضافة إلى شئ، وعن إمكان أن يكون في مرتبته أو فوق مرتبته شئ ومن كان كذلك فهو منزه عن التشبه بصفات خلقه، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
(دنا فتعالى) أي قرب من كل شئ من كل وجه بحيث لا يكون شئ أقرب منه فتعالى أن يكون في مكان أو زمان أو مدركا بالبصر أو بغيره من الحواس، والتفريع أيضا ظاهر لأن الزماني والمكاني والمدرك بالحواس يمتنع أن يكون قريبا من كل شئ لظهور أن قربه من أحد مستلزم لبعده عن الآخر، ثم الدنو يطلق على معان ثلاثة ومقابلة لمعاني العلو ولا يجوز أن يراد هنا شئ منها، ويطلق على معنى رابع في مثل قولك فلان أدنى إلى فلان إذا كان مطلعا على أحواله أكثر من غيره، وهو المراد هنا، فدنوه في قربه إذن بحسب علمه الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر، فهو أدنى من كل دان، وأقرب من كل قريب بهذا الاعتبار، كما قال سبحانه:«وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ».(1) (وارتفع فوق كل منظر) الظرف حال من فاعل «ارتفع». ويجوز أن يراد بالمنظر العلة لأن نظر المعلول إليها، يعني أنه فوق كل علة لأن تاليه نظر جميع الكائنات وانتهاء سلسلة جميع الممكنات، وأن يراد به المدرك بالعقل يعني أنه فوق كل ما أدرك العقل لأن كل ما أدركه العقل فهو صورة ومثال يمتنع أن يقال: إنه هو، ويحتمل أن يكون هذا الكلام على سبيل التمثيل والله أعلم.
(لا بدأ لأوليته) لاستحالة الحدوث عليه. (ولا غاية لأزليته) لاستحالة العدم عليه. (القائم قبل
ص: 21
الأشياء) أي قبل كل واحد منها، لأنه كان ولم يكن معه شئ ثم أحدثه بمجرد حكمته فهو متفرد بالقدم، وفيه رد على بعض الفلاسفة، وليس المراد بالقبلية القبلية الزمانية حتى يلزم أن يكون في زمان وأن لا يكون متقدما عليه، لأن القبلية الزمانية إنما يكون في الزمانيات كما بين في موضعه والله سبحانه ليس بزماني.
(والدائم الذي به قوامها) قوام الشئ - بالكسر -: نظامه، وتقديم الظرف للحصر; وفيه رد على من أسند نظام هذا العالم إلى غيره كالدهرية والمبتدعة من الفلاسفة وأضرابهم.
(والقاهر الذي لا يؤوده حفظها) آدني الحمل يؤودني أودا، أي أثقلني، وأنا مؤود مثال مقول.
يعني لا يثقله ولا يتعبه حفظه للأشياء مثل السماوات والأرضين وما فيهما وما بينهما لأن فعله سبحانه بمجرد الإرادة والمشيئة ولا يحتاج فيه إلى استعمال الآلات وتحريك الجوارح كما يحتاج إليهما أصحاب الصنايع فلا مدافع له في فعله أصلا فلا يلحقه الانفعال، ولا يعرض له الثقل والتعب والكلال. تعالى عن ذلك علوا كبيرا.
(والقادر الذي بعظمته تفرد بالملكوت، وبقدرته توحد بالجبروت) القادر من أسمائه تعالى ومعناه المتمكن من جميع الأشياء بحيث لا تطيق شئ منها الامتناع عن مراده ولا يستطيع الإباء عن إصداره وإيراده. وله في هذا النحو من التمكن وصفان: الأول الكبرياء والعظمة، والثاني القدرة التامة، و «الملكوت» فعلوت من الملك - بالكسر - وهو الموضع كالمملكة وخص بعد الزيادة بملك الله تعالى سواء كان من عالم المجردات والمفارقات أو من عالم الجسمانيات والمقارنات، ولو اجتمع الملك والملكوت كما في قولهم «يا ذا الملك والملكوت» يراد بالملك الجسمانيات وبالملكوت المجردات.
«والجبروت» من الجبر وهو إغناء رجل من فقر ونحوه أو إصلاح عظمه من كسر ونحوه، ومنه الجبار من أسمائه تعالى لأنه يغنى من يشاء متى يشاء ويجبر مفاقر الخلق ويكفيهم أسباب المعاش والرزق ويصلح نقائص حقائق الممكنات بإفاضة الوجود وما يتبعه من الخيرات والكمالات وهو أيضا خص بعد الزيادة بالله سبحانه. والمقصود أنه تعالى شأنه بالوصف الأول تفرد بمالكية جميع الأشياء من الممكنات المجردة والمادية، لأن العظمة المطلقة مقتضية لعدم المشاركة، وأما المالك غيره فانما هو مالك بالإضافة وله عظمة بالإضافة، وهي عند ذاتها بذاتها ليست عظمة بل هي عجز وقصور. وبالوصف الثاني تفرد بايجاد الممكنات وإصلاحها وتكميلها بإفاضة ما يليق بها من الكمالات وإفنائها متى يشاء، من غير معارض ولا مدافع لأن القدرة الكاملة الإلهية توجب عدم مشاركة الغير معه في شئ من ذلك فكل شئ مملوك له منقاد لأمره، وكل كامل مستكمل به مفتقر إليه، وهو الغني الحميد.
(وبحكمته أظهر حججه على خلقه) الحكمة العلم والاتقان; والله سبحانه حكيم لأنه عالم بحقائق
ص: 22
الأشياء متقن بخلقها بلطف التدبير وحسن التصوير والتقدير. و «الحجج» جمع الحجة والمراد بها هنا البرهان، يعني أنه سبحانه بحكمته البالغة أظهر براهين وجوده ووحدته وقدرته وساير كماله على خلقه بايجاد الممكنات وتصوير المخلوقات على النظام المشاهد، ويحتمل أن يراد باظهار الحجج نصب الأنبياء والأوصياء إلا أنه يوجب التكرار فيما سيأتي.
(اخترع الأشياء إنشاء وابتدعها ابتداء بقدرته وحكمته) لا أجد لأهل اللغة فرقا بين الاختراع والابتداء. قال الجوهري: «ابتدعت الشئ اخترعته لاعلى مثال» ولا بين الانشاء والابتداء قال:
«أنشأ يفعل كذا ابتدأه» لكن الظاهر من كلام المصنف أن الاختراع هو الايجاد لا من شئ والابتداء هو الايجاد لا من علة كما ستعرفه. وقيل: الانشاء هو الايجاد الذي لم يسبق غير الموجد إلى إيجاد مثله، والابتداء هو الايجاد الذي لم يوجد الموجد قبله مثله. وقوله: «إنشاء» و «ابتداء» مفعول مطلق من باب جلست قعودا لتأكيد الفعلين. أو تمييز لنسبتهما إليه، وقوله: «بقدرته وحكمته» متعلق بالفعلين على الترتيب المذكور أو بكل واحد منهما.
(لا من شئ فيبطل الاختراع) يعني اخترع الأشياء بقدرته لا عن أصل ومثال، إذ لو أوجدها عن مثال لبطل الاختراع لأنه في إيجاد ذلك المثال يحتاج إلى مثال آخر وهكذا، وبطلان الاختراع يستلزم عدم القدرة على وجه الكمال كما يشاهد في الكاتب المحتاج في كتابته إلى أصل منتسخ فإنه بدون ذلك الأصل عاجز عن الكتابة.
(ولا لعلة فلا يصح الابتداع) يعني ابتدع الأشياء لا لعلة مادية أو لا لعلة فاعلية متوسطة بينه وبينها وإلا لبطل معنى الابتداع، لأنا ننقل الكلام إليهما فيتسلسل، أو لا لعلة غائية تعود إليه وإلا لكان ناقصا في ذاته وصفاته والناقص لا يخترع شيئا من غير حاجة إلى شئ أصلا. وقيل: لا لعلة غائية (1)، ويكون هذا إشارة إلى نفي الغرض والعلة الغائية عن فعله تعالى بالكلية كما ذهب إليه طائفة وإلا لكان ناقصا في فاعليته مستكملا فيها بذلك الغرض، والناقص لا يصلح للاختراع، أما الشرطية فلأن الغرض يجب أن يكون أصلح للفاعل من عدمه إذ ما استوى وجوده وعدمه بالنظر إليه أو كان عدمه راجحا لا يكون باعثا على الفعل بالضرورة، فكل ما كان غرضا وجب أن يكون وجوده أصلح للفاعل وأليق به وهو معنى الكمال، فإذن يكون الفاعل مستكملا به ناقصا بدونه.
ص: 23
أقول: الغرض عائد إلى الغير ووجوده وعدمه سواء بالنظر إليه سبحانه لتنزهه عن عود المنفعة أو المضرة إليه، وعدم كونه حينئذ باعثا على الفعل ممنوع، ودعوى الضرورة في محل النزاع لا يجدي نفعا، والمسألة محلها علم الكلام.
(خلق ما يشاء كيف شاء) يعني أنه خلق الأشياء على الوزن والتقدير والأحوال اللائقة بها لمشيئته وإرادته، لا بالايجاب، ولا بتحريك الآلة والجوارح، ولا بتوسط اللفظ والصوت لأن ذلك من خواص الجسم والجسمانيات.
(متوحدا بذلك) بالنصب على أنه حال من فاعل خلق، يعني خلق ما شاء حال كونه متوحدا بالذات والصفات بخلقه وإيجاده، غير مستعين أصلا لا بذات آخر ولا بصفات زائدة عليه وإلا لكان ناقصا لاحتياجه في الايجاد إلى الغير.
(لإظهار حكمته وحقيقة ربوبيته) يعني خلق ما شاء على النظام العجيب والصنع الغريب الذي يتحير فيه عقول العقلاء وفحول العلماء; لاظهار علمه وحكمته وحقيقة ربوبيته التي كانت في مكمن الخفاء كما قال: «كنت كنزا مخفيا فأحببت أن اعرف فخلقت الخلق لاعرف» (1).
(لا تضبطه العقول) أي لا تضبط شرح حقيقة ذاته ولا ماله من كمال صفاته عقول العارفين، لأنه تعالى في علو الذات وارتفاع الصفات إلى حيث يقف دون بلوغه عقول أهل العرفان وأذهان أهل الايقان; وإنما يعرفونه بنحو خاص من المعرفة اليقينية التي هي غاية الوسع للعقول البشرية، ولأنه لا حد لحقيقته لأنه بريء عن أنحاء التركيب الخارجية والعقلية فهي منزهة (2) عن اطلاع العقول عليها، ولا نهاية لصفاته يقف عنده تقدر بها، فلا يكون العقول محيطة ضابطة إياها.
(ولا تبلغه الأوهام) لأنه تعالى ليس بمحسوس والوهم لا ينال إلا المحسوسات.
(ولا تدركه الأبصار) لأن البصر إنما يدرك اللون والضوء وما تتبعها من الجسمانيات والله سبحانه منزه عن الجسمية ولواحقها.
(ولا يحيط به مقدار) لأن المقدار من لواحق الجسمية وأيضا ما يقبله يقبل التحيز والقسمة والزيادة والنقصان ولا يجري شئ من ذلك عليه سبحانه.
(عجزت دونه العبارة، وكلت دونه الأبصار) «دون» ظرف نقيض «فوق» وهو يقصر عن الغاية، والكلال الأعياء يقال: كلت العين إذا أعيت عن الادراك وعجزت عنه، و «الأبصار» بالفتح جمع البصر يعني عجزت قبل بلوغ صفاته عبارة الواصفين، وأعيت قبل بلوغ ذاته أبصار الناظرين، كما أشار إليهما
ص: 24
في الصحيفة السجادية على صاحبها أفضل الصلوات وأكمل التحيات «الذي قصرت عن رؤيته أبصار الناظرين، وعجزت عن نعته أوهام الواصفين».
(وضل فيه تصاريف الصفات) ضل الشئ يضل: ضاع، والضلال ضد الرشاد، والمعنى ضل في طريق صفاته الحقة تصاريف صفات الواصفين، وأنحاء تعبيرات العارفين، يعني أنهم وإن بالغوا في التوصيف (1) وانتقلوا من صفة إلى ما هو أشرف وأعظم عندهم، لم يصفوه بما هو وصفه، ولم ينعتوه بما هو حقه، ولم ينالوا حقيقة صفاته على وجه يليق بذاته. وذلك لأن تصاريف الصفات والنقل من بعضها إلى بعض إنما هو من خواص الممكنات التي يتصور فيها الزيادة والنقصان والله سبحانه منزه عنها. وأيضا لسان التعبير إينما يخبر عما في الضمير، وكل ما هو في الضمير مخلوق مثله كما دل عليه قوله: «كلما ميزتموه بأوهامكم في أدق معانيه مصنوع مثلكم مردود إليكم»، وقال بعض العارفين: هر چه پيش تو بيش از آن ره نيست * غايت وهم تو است الله نيست لا يقال: إذا كان الأمر كذلك لم يكن ثناؤه مقدورا لنا فكيف وقع التكليف به؟ لأنا نقول: لم يقع التكليف بمعرفة كنه الصفات الكمالية والثناء بها لأن ذلك محال، بل التكليف إنما وقع بالثناء عليها بمفهومات كلية حاصلة في الذهن صادقة عيها، فتلك الصفات الكمالية إنما هي معقولة بعنوانات هي مفهوماتها ومعبر عنهما بهذه المفهومات والعنوانات لا بالكنه، وإدراكها بالكنه مختص به سبحانه، ولذلك قال (صلى الله عليه وآله) «لا احصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك (2)» أو المعنى ضل في الوصول منتهى بسيط بساط ثنائه وإحصائه أقدام تصاريف صفات الواصفين لأنها كلما بلغت مرتبة من مراتب المدح والتكريم كان وراءها أطوار من استحقاق الثناء والتعظيم. وانطباق الحديث المذكور عليه ظاهر.
(احتجب بغير حجاب محجوب واستتر بغير ستر مستور) أي: احتجب عن العقول واستتر عن الأبصار والحجب لغة: المنع، ومنه حاجب العين لأنه يمنعها من الأذى، وحاجب الملك لأنه يمتنع من الناس والخلق ممنوعون من إدراك ذاته سبحانه عينا وعقلا، ويسمى ذلك المنع حجابا مستورا، ثم الحجاب والستر بهذا المعنى ليسا وصفين لأمر حائل بين العقول والأبصار وبين ذات الباري لأن ذلك الحائل إما حسي كالأجسام الحائلة بين الرائي والمرئي أو عقلي كالعوائق الواسطة بين الصور العقلية والعقول، والحجب الحسية إنما تحجب الجسم والجسمانيات المحدودة المستترة بها، والحجب العقلية إنما تحجب الصور; والله تعالى شأنه ليس بجسم ولا جسماني ولا صورة، وإلى نفي هذين النوعين من الحجاب أشار بقوله «بغير حجاب محجوب» و «بغير ستر مستور» لدفع توهم أن الاحتجاب والاستتار
ص: 25
هنا كما في أكثر الموجودات بالحجاب والساتر ة وهذا التركيب يحتمل وجهين: الأول أن يكون «محجوب» خبر مبتدأ محذوف والجار والمجرور متعلق به أي هو محجوب بغير حجاب بالمعنى المتعارف في أكثر الموجودات، والجملة مستأنفة لدفع ذلك التوهم الناشئ من قوله: «احتجب». الثاني أن يكون مضافا إليه والإضافة بتقدير اللام والنفي راجع الحجاب والمقصود أن حجابه ليس بالمعنى المتعارف بل لتعاليه عن إدراك القوة البشرية إياه وهذا الاحتمال بعيد جدا، ويخطر بالبال أيضا معنى آخر لهذا الكلام وظني أنه أولى بالإرادة منه وهو أنه لما قال: «احتجب» توهم منه أن حجابه غليظ ثخين كثيف مانع من إدراك وجوده وصفاته تعالى شأنه بالكلية فدفع ذلك التوهم بقوله: «بغير حجاب محجوب» صفة لحجاب والمقصود أن احتجابه ليس بحجاب محجوب بحجاب آخر بأن يكون غليظا أو يكون بعضه فوق بعض آخر مانعا من مشاهدته. نظير ذلك قوله تعالى: (حجابا مستورا) قال الجوهري في تفسيره أي حجابا على حجاب، والأول مستور بالثاني يراد بذلك كثافة الحجاب. وهذا المعنى رقمته سالف الزمان ورأيت الآن حين التحرير أنه سبقني إليه سيد الحكماء الإلهيين (1) حيث قال: هذا من باب «حِجَابًا مَسْتُورًا » أي حجابا على حجاب.
(عرف بغير روية) «عرف» مبني للمفعول، الروية - بفتح الراء وكسر الواو وشد الياء - التفكر والنظر يعني عرف وجوده من غير نظر واستدلال لأنه بديهي كما صرح به بعض المحققين، أو لأن الاستدلال لا يفيد معرفته بخصوصه; لأن اللمي غير ممكن أو ليس له علة والإني لا يفيد لأنه استدلال من الأثر والأثر لا يفيد إلا مؤثرا ما على وجه كلي لا مؤثرا معينا، فمعرفته بالحقيقة ليس إلا بالمشاهدة الحضورية كما هي لبعض الكاملين. وفي بعض النسخ «رؤية» بضم الراء والهمزة الساكنة يعني عرف بغير إبصار كما قال سبحانه: «لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ »(2)وهو تأكيد للسابق.
(ووصف بغير صورة) أي وصف بغير صفة فإنه وصف بأنه قادر بغير قدرة قائمة بذاته وكذلك وصف بأنه سميع بصير عالم حكيم لطيف خبير إلى غير ذلك، وليس هناك صورة وصفات زائدة على الذات وإطلاق الصورة على الصفة شايع أو وصف بغير حد، إذ كل ما وصف بحد لا بد أن يكون له مهية كلية مركبة من جنس وفصل وإذ ليس له تعالى شأنه شئ من أنحاء التركيب لا يجوز أن يوصف بالحد.
(ونعت بغير جسم) أي نعت بأنه مغاير بجسم وجسماني أي بأمر مغاير لهما بحدوثهما وتحيزهما وهو منزه عنهما، ولما ذكر حمده تعالى على وجه يشعر بالاختصاص وكان ذلك مفيدا لتفرده بالالهية وذكر أيضا تفرده بالملكوت والجبروت وبخلق الأشياء إلى غير ذلك من صفات المدح والتكريم المفيدة
ص: 26
لتفرده بالثناء والتعظيم أراد أن يصرح بالمقصود لأنه كالنتيجة لما مر فقال:
(لا إله إلا الله الكبير المتعال) أي العظيم لا بالكم والمقدار، بل بالرتبة والرفعة، لأن ذاته المقدسة مبدء كل موجود، ومنتهى كل مقصود، المتعال عن التشابه بالخلق. هذه الكلمة الطيبة أشرف كلمة وحد بها الخالق عز اسمه وهي منطبقة على جميع مراتب التوحيد، وقد سميت فاتحة الإسلام.
ونقل عن بعض العلماء أن الله سبحانه جعل عذابه نوعين أحدهما السيف في يد المسلمين والثاني عذاب الآخرة، فالسيف غلاف يرى والنار في غلاف لا يرى فقال تعالى لرسوله (صلى الله عليه وآله) من أخرج لسانه من الغلاف المرئي وهو الفم فقال «لا إله إلا الله» أدخلنا السيف في الغمد المرئي، ومن أخرج لسان قلبه من الغلاف الذي لا يرى وهو غلاف الشرك فقال: «لا إله إلا الله» أدخلنا سيف عذاب الآخرة في غمد الرحمة واحدة بواحدة جزاء ولا ظلم اليوم.
«ضلت الأوهام عن بلوغ كنهه، وذهلت العقول أن تبلغ غاية نهايته لا يبلغه حد وهم، ولا يدركه نفاذ بصر، وهو السميع العلم، احتج على خلقه برسله، وأوضح الأمور بدلائله، وابتعث الرسل مبشرين ومنذرين، ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة، وليعقل العباد عن ربهم ما جهلوه فيعرفوه بربوبيته بعدما أنكروه، ويوحدوه بالالهية بعد ما أضدوه، أحمده حمدا يشفي النفوس; ويبلغ رضاه، ويؤدي شكر ما وصل إلينا من سوابغ النعماء، وجزيل الآلاء، وجميل البلاء».
(ضلت الأوهام عن بلوغ كنهه) إشارة إلى نفي الحد عنه لانه تعالى ليس بمركب وكل ما ليس بمركب لا يمكن إدراك كنه حقيقته بالحد. أما الصغرى فلان كل مركب محتاج إلى الجزء الذي هو غيره، وكل محتاج إلى الغير ممكن لأن ذاته بذاته من دون ملاحظة الغير لا يكون كافيا في وجوده وإن لم يكن فاعلا له خارجا عنه، وأما الكبرى فلأن إدراك كنه الحقيقة إنما يكون من الحد المؤلف من أجزائها كما بين في موضعه والله سبحانه منزه عن أن يكون لكنهه أجزاء.
(و ذهلت العقول أن تبلغ غاية نهايته) يمكن أن يراد بالغاية المسافة ونهاية الشئ آخره، فالإضافة لامية ويمكن أن يراد بها النهاية. قال الجوهري: «النهاية: الغاية» فالإضافة بيانية. وإنما لا تبلغ العقول غاية نهايته لأنه لا نهاية له، إذ ليس له طبيعة امتدادية تنتهي إلى حد ونهاية، وأيضا لا يطرء عليه العدم، «فهذا الكلام مثل قول العرب «لا يرى بها ضب ينجحر» أي ليس بها ضب فضلا عن أنه ينجحر.
لا يقال: ذهول العقول عن البلوغ أي نسيانها عنه يشعر بإمكان البلوغ في نفسه.
لأنا نقول: الذهول عن الشئ يستلزم عدم حصول ذلك الشئ والمراد هنا هذا اللازم على سبيل الكناية على أن ذلك الاشعار ممنوع ألا ترى أن غفلتنا عن وجود شريك البارىء لا يستلزم وجوده.
ص: 27
(ولا يبلغه حد وهم) أي منتهاه لأن كل ما بلغه الوهم فهو ممكن ولا سبيل للإمكان في ساحة جنابه، وأيضا الوهم إنما يلحق بالمادي ويتعلق بأمور محسوسة ذات صور وأحيان حتى أنه لا يقدر نفسه ولا يدركها إلا ذات مقدار وجسم، والله سبحانه منزه عن المادة.
(ولا يدركه نفاذ بصر) قال الجوهري: «نفذ السهم من الرمية (1) ونفذ الكتاب إلى فلان، ورجل نافذ في أمره أي ماض» ونفاذ البصر بكل واحد من هذه المعاني محال على الله سبحانه، أما الأول فلأن شعاع البصر إنما ينفذ في جسم شفاف، وهو سبحانه ليس بجسم ولا شفاف، وأما الأخيران فلاستحالة أن يدرك سبحانه بحاسة البصر لأنه غير ذي وضع وكل غير ذي وضع يمتنع رؤيته، والمقدمة الأولى استدلالي والثانية ضرورية، وربما استدل عليها والمسألة مستقصاة في علم الكلام، ثم الظاهر من هذه المعاني هو الأول لأن الأخيرين قد ذكرهما سابقا.
(وهو السميع العليم) يعنى أنه السميع لا بآلة السمع، والعليم لا بعلم زائد عليه، لأنهما من صفات خلقه، بل هما عبارتان عن عدم خفاء المسموعات والمعلومات وإن كانت خفية دقيقة عند ذاته بذاته حتى يعلم كفر من كفر وإيمان من آمن. (و هو عليم بذات الصدور) والجمع بين الوصفين لاشتمال الأمرين على القول والاعتقاد.
(احتج على خلقه برسله) ليهدوهم إلى معرفة ذاته وصفاته، وحشره ونشره وثوابه عقابه وربوبيته، ومعرفة ما به يتم نظامهم في الدين وكمالهم في النشأتين; ويجذبوهم عن مقتضيات نفوسهم من اتباع الشهوات الباطلة واقتفاء اللذات الزائلة بتذكيرهم لما في الدار الباقية وتنفيرهم عن خسائس هذه الدار الفانية لئلا يكون لهم على الله حجة بعد الرسل.
(و أوضح الأمور بدلائله) أي أوضح أمور الرسل وحقية رسالتهم وشرايعهم بالدلائل الظاهرة والمعجزات الباهرة لتقريب الخلق إلى التصديق وتبعيدهم عن التكذيب أو أوضح الشرايع بالرسل وأوصيائهم (عليهم السلام) أو أوضح وجود ذاته وكمال صفاته مثل العلم والقدرة وغيرهما بنصب سماء ذات أبراج وأرض ذات مهاد غير ذلك من الآثار الدالة على صدورها من العزيز الجبار، ولما كان الرسل علماء وحكماء يحملون الخلق على الطريقة الإلهية من معرفة أحوال المبدء أو المعاد وما يتبعهما من الأعمال الصالحة والأخلاق الفاضلة على حسبما يقتضيه الحكمة، وذلك قد يكون بالتذكير والتنبيه كما أشرنا إليه، وقد يكون بالتبشير والتهديد وهذا مما يحتاج إليه أكثر الناس لأن طبايعهم مثل طبايع الأطفال في الميل إلى الظاهر من الحياة الدنيا وزهراتها فيحتاجون في الميل إلى الخيرات والزجر عن المنهيات إلى
ص: 28
الوعد الوعيد، أشار إليهما بقوله:
(وابتعث الرسل) بعثهم وابتعثهم بمعنى أرسلهم (مبشرين) للخلق بما أعد الله للمطيع من الثواب العظيم (ومنذرين) لهم بما أعد الله للعاصي من العذاب الأليم وبذلك يجذبونهم عن طريق الغواية ويرشدونهم إلى سبيل الهداية، وأما من أخذت يده العناية الأزلية وتنور قلبه من المشكاة النبوية فإنه يعلم أنه لولا الثواب والعقاب لاستحق سبحانه التوصل إليه بذاته والتذلل له طلبا لمرضاته (ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة) تضمين للآية الكريمة وإشارة إلى غاية الاحتجاج والإبتعاث قال القاضي (1): والمعنى ليموت من يموت عن بينة عاينها ويعيش من يعيش عن حجة شاهدها لئلا يكون له حجة ومعذرة. فإن الاحتجاج بالرسل ابتعاثهم وتصديقهم بالمعجزات من البينات الواضحة، أو ليصدر كفر من كفر وإيمان من آمن عن وضوح بينة، على استعارة الهلاك والحياة للكفر والإسلام. المراد بمن هلك ومن حي المشارف للهلاك والحياة أو من هذا حاله في علم الله وقضائه، وقيل: يحتمل أن يكون هذا من باب المجاز المرسل لأن الكفر سبب للهلكة الحقيقية الأخروية، والايمان سبب للحياة الحقيقية الأبدية فأطلق المسبب على السبب مجازا.
(وليعقل العباد عن ربهم) بتذكير الرسل وتعليمهم (ما جهلوه) من أحوال المبدء والمعاد (فيعرفوه بربوبيته بعدما أنكروه) لغفلتهم عن العهود الإلهية والمواثيق الربانية ونبذ طاعته وترك عبادته كأن لم يكن شيئا مذكورا.
(و يوحده بالالهية بعد ما أضدوه) بالتشريك وعبادة الأصنام. للوساوس الشيطانية وتخيلات الأوهام.
توضيح ذلك: أن المعرفة هي إدراك الشئ، ثانيا بعد توسط الجهل، والعباد قد أقروا له بالربوبية وهم في صورة الذر حين قال: «أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى »(2)لشهادة عقولهم الخالصة عليها. ثم جهلوا ذلك وأنكروه لتعلقهم بالعلائق الجسمانية، وتشبثهم بالتسويلات النفسانية، وتمسكهم بالتخيلات الشيطانية; فبعث الله تعالى رسله رحمة منه وتفضلا لتعليمهم وتذكيرهم، فمن ضل بعد ذلك فقد غوى ومن آمن فقد اهتدى، ولما حمد سابقا ذاته تعالى لأجل نعمته وقدرته وغيرهما من الصفات المذكورة أراد أن يحمده ثانيا على نعمائه المتجددة آنا فآنا على سبيل الاستمرار التجددي فأتى بالجملة الفعلية رعاية للتناسب فقال: (أحمده) أي أحمده آنا فآنا وساعة فساعة، ولما كان الحمد من أجل الطاعات وأكمل العبادات إذ الحامد يلاحظ جلالا وجمالا ومنعما، وإطاعة دواء الأمراض النفسانية على حسب تفاوت مراتبها في
ص: 29
الاخلاص كما قال سبحانه:«ِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ »والدافعة لجميع الأمراض هي المرتبة القصوى من مراتب الاخلاص قيده بقوله: (حمدا يشفي النفوس) طلبا لتلك المرتبة ورجاء لحصولها، ثم لما كان شفاء النفس من جميع الأمراض سببا لرضاه حالا ومآلا عقبه بقوله (و يبلغ رضاه) الموجب لمزيد امتنانه في الدنيا ورضوانه في الآخرة، ثم مفهوم الحمد وإن كان مغايرا لمفهوم الشكر لكنهما قد يصدقان على فرد ما، فوصف الحمد بقوله: (و يؤدي شكر ما وصل إلينا) حصرا للحمد هنا في ذلك الفرد لأنه أفضل أفراده وأكملها ثم بين الموصول بقوله: (من سوابغ النعماء، وجزيل الآلاء، وجميل البلاء) هذه التراكيب من باب جرد قطيفة، والمراد بسوابغ النعماء: النعماء الكاملة الوافية الواسعة; قال الجوهري: «شئ سابغ أي كامل واف وسبقت النعمة تسبغ بالضم سبوغا اتسعت وأسبغ الله عليه النعمة أي أتمها» والجزيل: الكثير العظيم. والآلاء بالمد النعم واحدتها الألاء بالفتح ويجوز القراءة هنا بالجمع والافراد، والبلاء الاختبار بالخير والشر، يقال: بلوته بلوا جربته اختبرته، ولا يبعد أن يراد بالفقرة الأولى النعم الباطنة كالعقل والحواس المستورة وملائماتها، وبالثانية النعم الظاهرة، وبالثالثة الاحتجاج بالرسل وابتعاثهم لأن أعظم الاختبار هو الاختبار بما جاء به الرسل: وهذه وإن كانت من النعم الظاهرة المندرجة في الثانية لكن خصها بالذكر لشدة الاهتمام بها; ثم لما كان أفضل أفراد الحمد هو الشهادة بالتوحيد وبرسالة رسولنا بخصوصه (صلى الله عليه وآله) إذ هي أصل للبواقي أشار إليهما بقوله:
(وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له) «وحده» تأكيد للحصر وتقرير له وحال بتأويل منفردا (إلها واحدا) دل الأول على جميع صفات الكمال والثاني على جميع صفات الجلال إذ الواحد الحقيقي منزه عن أنحاء التركيب الخارجية والذهنية والتعدد وعما يستلزم أحدهما كالجسمية والتحيز وأمثالهما (صمدا) الصمد السيد لأنه يصمد إليه في الحوائج من صمد إذا قصد، والله سبحانه هو الموصوف به على الاطلاق لاستغنائه عن غيره مطلقا واحتياج غيره إليه من جميع الجهات (لم يتخذ صاحبة) لاستحالة الشهوة والحركة عنه تعالى، ولأن اتخاذها يقتضي المجانسة بينه وبينها ولا يجانسه أحد (ولا ولدا) لأن الولد يجانس الوالد ولا يجانسه شئ، ولأنه تعالى لا يلتذ بشئ لأن اللذة من لواحق الجسمية ولا يفتقر إلى ما يعنيه أو يخلف عنه لامتناع الحاجة والفناء عليه. (وأشهد أن محمدا (صلى الله عليه وآله) عبد انتجبه) أي اختاره واصطفاه وإنما قرنت هذه الكلمة بكلمة التوحيد لأن كلمة التوحيد يعتبر فيها الاخلاص ولا يحصل الاخلاص الا بسلوك مراتبه ودرجاته ولا يحصل ذلك إلا بمعرفة كيفية السلوك ولا تحصل تلك المعرفة إلا بالبيان النبوي فكانت الشهادة بصدق النبيين أجل كلمة بعد كلمة الاخلاص وأنها بمنزلة الباب لها فلذلك قرنت بها وصارتا كلمتين مقارنتين لا يصح انفكاك إحديهما عن الأخرى (و رسول ابتعثه)
ص: 30
وارشاد العباد وهدايتهم، وفي تقديم العبودية على الرسالة إشارة إلى تقدمها في التحقق (1) كما دل عليه بعض الاخبار (على حين فترة من الرسل) الفترة الضعف والانكسار وما بين الرسولين من رسل الله تعالى، يعني ابتعثه على حين فتور من الارسال وانقطاع من الوحي. وذلك الابتعاث نعمة عظيمة لا يدانيها شئ من النعماء لظهور أن خلو الزمان عن رسول فيه يستلزم وجود الشرور بمقتضى النفوس البشرية ووقوع الهرج والمرج وتلك أحوال مذمومة يلحق ذلك الزمان بها من الذم بمقدار ما يلحق زمان وجود الرسول من المدح، ولذلك ذكر من خبث أحوال ذلك الزمان وذم الخلائق فيه ما يدل على عظمة نعمة بعثته (صلى الله عليه وآله) ما استلزمه من الخيرات ليعتبروا ويعرفوا قدر تلك النعمة ويحصل لهم التوجه إلى الله ويشكروا له.
(وطول هجعة من الأمم) الهجع والهجعة والهجيع بالفتح في الجميع طائفة من الليل، الهجوع النوم ليلا كذا في النهاية. وقال الجوهري: «أتيت بعد هجعة من الليل أي بعد نومة خفيفة» وهي ههنا كناية عن غفلة الأمم في ظلمات الجهالة عن أمر المبدء والمعاد وسائر المصالح التي ينبغي التوجه إليها.
(و انبساط من الجهل) أي انتشاره في الربع المسكون وإحاطته بالامم أجميعن لفقدهم من يهديهم إلى المعارف الالهية والمصالح الدينية والدنيوية (و اعتراض من الفتنة) أي عروضها في الأقاليم وإحاطتها بأهلها طولا وعرضا، أو وقوعها على غير قانون شرعي ومشيها في غير طريق عقلي ونقلي، من اعترض الشئ صار عارضا كالخشبة المعترضة في عرض النهر، والفرس الماشي في عرض الطريق من غير استقامة بتشبيهها بالفرس المتصف بهذه الصفة واستعارة لفظ الاعتراض لها.
(و انتقاض من المبرم) المبرم المحكم من أبرمت الشئ أحكمته، والمراد به نظام أحوالهم وإبرام أمورهم أي استحكامها بالشرائع السالفة، والمراد بانتقاضه انقطاع ذلك النظام وانهدام بناء ذلك الاستحكام بتغيير تلك الشرائع وفسادها، فان الخلائق كلهم في زمان الفترة حرفوا الطريقة الربانية، وخرجوا عن الشريعة الالهية وأرقدتهم نقمات وساوس الشياطين في مهاد المراقد الطبيعية إلا من عصمه الله بلطفه الخفي وقليل ما هم.
(و عمى عن الحق) العمى يطلق على معنيين أحدهما عدم البصر وثانيها عدم البصيرة وهو المراد هنا. والحق هو الأمور الثابتة بالشرائع السابقة من التوحيد وصفات الكمال والجلال وغير ذلك من الأمور المتعلقة بصلاح النشأتين، والعمى عن الحق عبارة عن بطلان بصيرتهم القلبية باستيلاء الأمراض النفسانية عن إدراك هذه الأمور.
ص: 31
(و اعتساف من الجور) العسف الأخذ على غير الطريق وكذلك التعسف والاعتساف، والجور الميل عن طريق الحق، والظلم; قال في المغرب «جار عن طريق مال جار ظلم» والمعنى الثاني أنسب يعني ابتعثه (صلى الله عليه وآله) حين مالوا عن طريق الهداية وسلكوا طريق الغواية وظلموا بذلك أنفسهم، فبعضهم كانوا من عبدة الأوثان (1) وبعضهم كانوا من عبدة النيران، و بعضهم كانوا من عبدة الشمس والقمر، وبعضهم كانوا من عبدة الشجر والبقر، وبعضهم: قالوا عزير ابن الله، وبعضهم قالوا: المسيح ابن الله، وبعضهم قالوا: الملائكة بنات الله، وبعضهم قالوا: الله جسم، وبعضهم قالوا: هو نور مثل سائر الأنوار، وبعضهم قالوا: يجوز رؤيته - إلى غير ذلك من الملل الفاسدة والمذاهب الباطلة.
(و امتحاق من الدين) محقه أبطله ومحاه وتمحق الشئ وامتحق أي بطل. والدين في اللغة: الطاعة والجزاء. وفي العرف: الشرائع الصادرة بواسطة الرسل. وبطلانه كناية عن تركهم العمل بما فيه من صلاح معاشهم ومعادهم فإنهم غيروا وبدلوا وشرعوا لهم ما سولت لهم أنفسهم فحللوا حراما وحرموا حلالا فبعثه الله الرؤف الرحيم ليهديهم إلى الصراط المستقيم.
«و أنزل إليه الكتاب فيه البيان والتبيان، قرآنا عربيا غير ذي عوج لعلهم يتقون، قد بينه للناس ونهجه بعلم قد فصله، ودين قد أوضحه، وفرائض قد أوجبها وأمور قد كشفها لخلقه وأعلنها، فيها دلالة إلى النجاة ومعالم تدعو إلى هداه، فبلغ (صلى الله عليه وآله) ما أرسل به، وصدع بما أمر، وأدى ما حمل من أثقال النبوة، وصبر لربه، وجاهد في سبيله، ونصح لامته، ودعاهم إلى النجاة، وحثهم على الذكر، ودلهم على سبيل الهدى من بعده بمناهج ودواع، أسس للعباد أساسها، ومنائر رفع لهم أعلامها، لكيلا يضلوا من بعده وكان بهم رؤوفا رحيما».
(و أنزل إليه الكتاب) الكتاب في الأصل الفرض والحكم والقدر كما يظهر من الصحاح والمغرب; ثم المتبادر منه عند الاطلاق هو القرآن العزيز لاشتماله على هذه الأمور على الوجه الأتم والأكمل.
(فيه البيان والتبيان) أي بيان كل شئ وتبيانه وهو البيان مع البرهان، وقدم الظرف للحصر أو لقرب المرجع أو الاهتمام لاشتماله على ضمير «الكتاب» أو لربط الحال على صاحبها ابتداء.
(قرآنا) حال بعد حال عن «الكتاب» (عربيا) صفة للتخصيص أو للمدح واشتماله على غير العربي نادرا على تقدير ثبوته لا يقدح في عربيته (غير ذي عوج) لا اختلال ولا اختلاف ولا شك فيه أصلا لا من جهة المباني ولا من جهة المعاني (لعلهم يتقون) من العقوبات الأخروية والمشتهيات الدنيوية،باتباع
ص: 32
أوامره ونصايحه واستماع زواجره ومواعظه.
(قد بينه للناس) ضمير المفعول للقرآن وضمير الفاعل لله تعالى أو للرسول (صلى الله عليه وآله) وكذا الفاعل في الأفعال الآتية والأول أولى وأرجح (و نهجه) بالتخفيف أي أوضحه وأبانه من نهجت الطريق إذا أبنته وأوضحته، أو سلكه من نهجت الطريق إذا سلكته (بعلم قد فصله، ودين قد أوضحه، وفرائض قد أوجبها وامور قد كشفها لخلقه وأعلنها) الظاهر أن القرائن الأربعة أحوال متعاقبة للقرآن، يعني أوضحه حال كونه متلبسا بعلم عظيم من التأويل والتفسير والمحكم والمتشابه والعام والخاص وغير ذلك قد فصله الله تعالى لرسوله (صلى الله عليه وآله) أو الرسول للناس، وبدين يعني بشرايع نبوية ونواميس إلهية قد أوضحه لهم، وبفرائض مثل الصلاة والصوم والزكاة والحج والجهاد ونحوها قد أوجبها عليهم، و بأمور من أحوال الأمم الماضية والقرون السالفة قد كشفها وأعلنها لهم، وبالجملة في القرآن علم ما كان وما يكون وما هو كائن وما يحتاج إليه الخلائق وقد بينه الله تعالى لرسوله وبينه الرسول لامته وهو مخزون عند أهله.
(فيها دلالة إلى النجاة) أي في الأمور المذكورة دلالة إلى نجاة الخلق من الخزي والنكال عاجلا، و من الحرمان عن الثواب والخذلان بالعقاب آجلا. (و معالم تدعو إلى هداه) معالم جمع معلم وهو ما جعل علامة للطرق والحدود، والمراد بها هنا مواضع العلوم ومرابطها من الكلمات الرائقة والعبارات الراشقة والدلائل الواضحة، هي بالرفع عطف على «دلالة»، وبالجر عطف على «النجاة» والجملة الفعلية صفة لها، والضمير المجرور بالإضافة يعود إلى الله أو إلى الرسول أو إلى الكتاب، والهدى ضد الضلالة وإضافته من باب إضافة المصدر إلى الفاعل ومفعول «تدعو» محذوف وهو الخلق وقيل:
الهدى المهتدى به وهو الدين والكتاب والرسول. والإضافة على تقدير رجوع الضمير إلى الله لامية، وعلى الاحتمالين الأخيرين بيانية. وقيل: الهاء في «هداه» ساكنة زائدة للوقف كما في كتابيه ويا رباه ويا سيداه، وفيه نظر يعرف بالتأمل.
(فبلغ (صلى الله عليه وآله) ما ارسل به) من أحوال المبدء والمعاد وجميع ما يحتاج إليه الأمة إلى يوم القيامة (وصدع بما أمر) أي أجهر به من صدع بالحجة إذا تكلم بها جهارا أو أظهره من صدعه إذا أظهره وبينه أو فرق به بين الحق والباطل من صدعه إذا شقه على سبيل الاستعارة، وتشبيه الفرق بينهما بصدع الزجاجة ونحوها في عدم الالتيام من باب تشبيه المعقول بالمحسوس لزيادة الايضاح، والباء على الأخيرين زائدة أو للتعدية بها على طريق التجوز، و «ما» مصدرية أو موصولة أو موصوفة، والعائد محذوف أي بما أمر به (و أدى ما حمل من أثقال النبوة) الأثقال إما جمع ثقل وهو ضد الخفة أو جمع ثقل بالتحريك وهو متاع البيت والمسافر على سبيل الاستعارة، وقد أدى كلها عند الامامية إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) ولم يكن أحد غيره حاملا بجميعها باتفاق الأمة وقالت العامة لم يخص (صلى الله عليه وآله) أحدا من الأمة بجميعها وإنما أدى
ص: 33
جميعها إلى جميع الأمة بأن أخذ كل واحد منهم ما يليق بفهمه، ثم أدوا إلى التابعين كذلك، وهكذا إلى انقراض العالم. وأنت تعلم ما في هذا القول ولكن من أضله الله فلا هادي له.
(و صبر لربه) أي صبر لرضا ربه وطلب التقرب منه في تبليغ الرسالة وأداء أثقال النبوة على تحمل المشاق وأذى المعاندين وطعن الطاعنين من كفرة قريش وفسقة العرب (و جاهد في سبيله) الذي هو التوحيد ودين الحق مع قلة العدد وضعف العدد (1) (و نصح لامته) النصح في اللغة الخلوص،يقال: نصحه ونصح له، فتعديته إلى المنصوح إما بنفسه أو باللام، والمراد بنصحه لهم إرشادهم إلى مصالح دينهم ودنياهم وتعليمه إياها وعونهم عليها والذب عنهم وعن أعراضهم، وبالجملة جلب خير الدنيا والآخرة إليهم خالصا مخلصا لوجه الله، ومن ثم قيل: النصيحة في وجازة لفظها وجمع معانيها كلفظ «الفلاح» الجامع لخير الدنيا والآخرة (و دعاهم إلى النجاة) النجاة مصدر نجوت من كذا إذا تخلصت منه وتنحيت عنه، يعني دعاهم بالحكمة والموعظة الحسنة إلى نجاتهم من العقوبات والشدايد أو إلى ما به نجاتهم من المصالح وخلوص العقايد (وحثهم على الذكر) حث يتعدى بعلى، يقال: حثه على كذا إذا حضه عليه، وتعديته هنا بالى إما باعتبار أن حروف الجر قد يجيء بعضها في موضع بعض أو بتضمين معنى الدعاء ونحوه، والمراد بالذكر ذكر الله تعالى بالقلب واللسان في جميع الأحوال وله شرف عظيم قال الله تعالى «وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً »(2)قال («يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا «وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا »(3) وقال «اذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ »(4)وقال الصادق (عليه السلام): «و قال الله تعالى من ذكرني في ملاء من الناس ذكرته في ملاء من الملائكة» (5) المراد به ذكر آلاء الله ونعمائه أو الصلاة والدعاء لأنهما نوعان كاملان من الذكر والقرآن العزيز. (و دلهم على سبيل الهدى من بعده بمناهج ودواع أسس للعباد أساسها) المناهج جمع المنهج وهو الطريق الواضح الذي لا يضل سالكه. والدواعي جمع داعية التي تدعوهم إلى اتباع سبيل الهدى. والأساس جمع أس بالضم وهو أصل الحائط وضمير التأنيث يعود إلى المناهج والدواعي، والمراد بتأسيس الأساس: وضعها وإحكامها، وبسبيل الهدى: الطريقة الشرعية، وبالمناهج، الأوصياء الطاهرين. ويجوز أن يراد بالأول الأوصياء وبالأخير الأدلة الدالة على خلافتهم (ومنائر رفع له أعلامها) عطف على «سبيل الهدى» والمنائر جمع المنارة على القياس لأن وزنها مفعلة إذ أصلها نورة موضع النور وهي ما يوضع فوقه السراج وقياسها في الجمع مفاعل كمناور ومنائر بقلب الواو همزة تشبيها للأصلي بالزائد
ص: 34
كما قالوا مصائب في مصاوب. وفي بعض النسخ «منار» وهي جمع منارة أيضا على غير القياس، ثم استعير للأوصياء (عليهم السلام) لأنهم محال للأنوار العقلية، وبهم يستبين حقائق الدين ويستنير قلوب العارفين كما أن المشبه به للأنوار الحسية، ورفع الأعلام عبارة عن نصب الأدلة الدالة على خلافتهم وإمامتهم: (لكيلا يضلوا من بعده) أي دلهم على كذا وكذا لكيلا يضلوا من بعده على طريق الحق بالاقتداء بآثارهم والاهتداء بأنوارهم (وكان به رؤفا رحيما) الرأفة أشد الرحمة والواو للعطف على الأفعال المتقدمة، أو للحال عن المستكن فيها أو عن البارز في «يضلوا».
«فلما انقضت مدته، واستكملت أيامه، توفاه الله وقبضه إليه وهو عند الله مرضي عمله، وافر حظه، عظيم خطره، فمضى (صلى الله عليه وآله) وخلف في أمته كتاب الله ووصيه أمير المؤمن وإمام المتقين صلوات الله عليه، صاحبين مؤتلفين، يشهد كل واحد منهما لصاحبه بالتصديق، ينطق الإمام عن الله في الكتاب بما أوجب الله فيه على العباد من طاعته، وطاعة الإمام وولايته، وواجب حقه الذي أراد من استكمال دينه، وإظهار أمره، والاحتجاج بحججه، والاستضاءة بنوره في معادن أهل صفوته ومصطفى أهل خيرته، فأوضح الله بأئمة الهدى من أهل بيت نبينا (صلى الله عليه وآله) عن دينه وأبلج بهم عن سبيل مناهجه وفتح بهم عن باطن ينابيع علمه وجعلهم مسالك لمعرفته ومعالم لدينه حجابا بينه وبين خلقه والباب المؤدي إلى معرفة حقه، وأطلعهم على المكنون من غيب سره».
(فلما انقضت مدته واستكملت أيامه توفاه الله وقبضه إليه) تفصيل لقوله: «ودلهم - آخره -» والعطف للتفسير، قال الجوهري: «توفاه الله أي قبض روحه، والوفاة الموت» (وهو عند الله مرضي عمله وافر حظه عظيم خطره) أي قدره ومنزلته، والواو للحال عن مفعول «توفاه» (فمضى (صلى الله عليه وآله) وخلف في أمته كتاب الله ووصيه أمير المؤمنين وإمام المتقين صلوات الله عليه) تصريح لما علم سابقا ولذلك صح التفريع، قال الجوهري: «خلف فلان فلانا إذا كان خليفته في قومه ومنه قوله تعالى:
«هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي» (1)وقال المطرزي في المغرب: «خلفته خلافة كنت خليفته» وقال القاضي: الخليفة من يخلف عيره وينوب منابه; والهاء للمبالغة، والأنسب بالنظر هذه المعاني أن مفعول خلف محذوف وهو الضمير العائد إليه (صلى الله عليه وآله) والواو للحال بتقدير «قد» و «كتاب الله» وما عطف عليه فاعله، ويجوز أن يقرأ «خلف» بتشديد اللام ويجعل الواو للعطف; أي وجعلهما خليفته في أمته ليقطع أعذارهم في ترك دين الحق ورفض العمل بما فيه بفقدهم من يرجعون إليه من التوقيف على الأسرار الشرعية، فإن
ص: 35
المرجع إذا كان موجودا بينهم بعده (صلى الله عليه وآله) لم يبق لهم معذرة لاتباع الأهواء الباطلة، واقتفاء الآراء الفاسدة.
(صاحبين مؤتلفين) حال عن الكتاب والوصي، أي لا يفارق أحدهما الآخر أصلا، الائتلاف مطاوع التأليف; يقال: ألفت بين الشيئين تأليفا فتألفا وائتلفا، وفيه إشارة إلى قوله (صلى الله عليه وآله) «إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي الحديث» (يشهد كل واحد لصاحبه بالتصديق) أي بسبب تصديق كل واحد ما يقول وينطق; فالقرآن يصدقه (عليه السلام) في كل ما يقول باعتبار اشتماله عليه ومن جملة ما يقوله (عليه السلام) تقدمه في خلافته، ووجوب إطاعته، والقرآن يشهد له بقوله (إنما وليكم الله - الآية) وبقوله (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الامر منكم) إلى غير ذلك وهو (عليه السلام) يصدق القرآن فيما ينادي من اشتماله على كل ما كان وما يكون وما يحتاج إليه الأمة إلى يوم القيامة لأنه عالم بظاهره وباطنه ومفهومه ومنطوقه وعامه وخاصه وناسخه ومنسوخه وأسراره كما يرشد إليه قوله تعالى (ومن عنده علم الكتاب) قوله تعالى (فاسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون).
(ينطق الإمام عن الله في كتاب الله بما أوجب الله فيه على العباد من طاعته) خلق الله تعالى عباده للطاعة والانقياد له في كل ما أمر به ونهى عنه في الكتاب، وظاهر أن كل أحد لا يقدر على استنباط المقصود مه لكونه ظاهرا وباطنا، ورمزا وإشارة ومجملا ومفصلا، ومحكما ومتشابها، وعاما وخاصا، ومطلقا ومقيدا، ومفهوما ومنطوقا، وناسخا ومنسوخا; فلذلك وجب في الحكمة ثبوت إمام ينطق عن الله بما أوجب عليهم وما يحتاجون إليه لئلا يضلوا، ولا يبقى لهم حجة ولا معذرة وهو لسان الحق والناطق عن كتابه والمبين لخطابه. ووجب عليهم الانقياد له واتباع آثاره، واستماع أخباره، واقتفاء أفعاله وأطواره (وطاعة الإمام وولايته) لدلالة الآيات القرآنية والبينات الربانية على ثبوت الإمامة والولاية لأمير المؤمنين (عليه السلام) وبعد لأولاده الطاهرين، وبينها الرسول وأهل الذكر (عليهم السلام) وعينوها وعينوا مواضعها وكيفية دلالتها، والمنكرون لفضل آل محمد صلوات الله عليهم أجمعين أولوها بما سولت لهم أنفسهم فضلوا وأضلوا كثيرا وأوردوهم النار وبئست مصيرا. (وواجب حقه) ليس عطفا «على ولايته» والضمير للامام، بل على الموصول أو على طاعته والضمير لله تعالى وإدراج الواجب على الأخير للمبالغة والإضافة على التقديرين من باب جرد قطيفة. (الذي أراد) أي أراده من الإمام أو العباد والموصول مع صلته صفة لحقه. (من استكمال دينه) بالعلم والعمل (وإظهار أمره) لحفظ الطريقة الالهية عن الانطماس والعلوم النبوية عن الاندراس سيما عند ظهور البدعة وبروز الخدعة فإنه يجب على العالم حينئذ إبطالها باظهار
ص: 36
الحق. ومن ثم وجب وجود معصوم في كل عصر ليكون مفزعا في كل مصيبة وملجأ في كل بلية.
(والاحتجاج بحججه) إذ لكل حق حقيقة، ولكل حقيقة دليل وحجة من الله سبحانه فوجب على العاقل التمسك في إثباتها بتلك الحجة لا بما سولت له نفسه فان إيصاله إلى المفاسد أولى من إيصاله إلى المقاصد. ويجوز أن يراد بالحجج الأئمة المعصومين إذ من حق الله تعالى على العباد أن يحتجوا في العلوم الدينية والمعارف اليقينية بقولهم (عليهم السلام) لأنهم حفظة لسره وخزنة لعلمه (والاستضاءة بنوره) الذي أودعه (في معادن أهل صفوته) المراد بالنور العلم على سبيل الاستعارة وتشبيه المعقول بالمحسوس لجامع عقلي وهو الايصال إلى المطلوب إذ بالعلم يدرك الحق ويفرق بينه وبين الباطل كما أن بالنور يدرك المحسوس ويفصل بين الأشياء المرئية، والاستيضاء ترشيح، وصفوة الشئ خالصه، ونبينا (صلى الله عليه وآله) وعترته الطاهرين (عليهم السلام) صفوة الله من خلقه، والإضافة الأولى بيانية أو لامية إن أريد بالمعادن القلوب والثانية بيانية والثالثة لامية، وتتابع الإضافات لا يوجب ثقلا مخلا بالفصاحة (ومصطفى أهل خيرته) عطف على المعادن، الاصطفاء الاختيار يقال: اصطفيته أي اخترته، والمصطفى بصيغة الافراد أو الجمع باسقاط النون للإضافة، والإضافة إما بيانية أو بتقدير «من» والخيرة مثال العنبة والسيرة إما بمعنى المختار أو بمعنى الاختيار وقد استعملت فيهما كما في قولهم محمد (صلى الله عليه وآله) خيرة الله وقوله تعالى: (ما كان لهم الخيرة).
(فأوضح الله بأئمة الهدى من هل بيت نبينا) حال عن الأئمة أو بيان لها. (عن دينه) الذي هو عبارة عن مجموع ما جاء به نبينا من القوانين. والايضاح الاظهار والإبانة. يقال: وضح الشئ أي ظهر وبان; وأوضحته أي أظهرته وتعديته بعن للمبالغة (وأبلج بهم عن سبيل مناهجه) بلج الصبح يبلج بالضم بلوجا إذا أشرق وأضاء وكذا الحق إذا اتضح، وأبلجه إذا أظهره وأوضحه و «عن» زائدة للمبالغة في الربط والايصال ومناهجه كل ما يتقرب به إليه سبحانه من العلوم الكاملة والأعمال الصالحة والأخلاق الفاضلة، وسبيلها دلائلها، يعني أضاء بأنوار أئمة الهدى وإشراقاتهم سبيل هذه الأمور الموصلة إلى جناب الحق الموجبة للتقرب به، وأوضح دلائلها (وفتح بهم عن باطن ينابيع علمه) الينابيع جميع ينبوع وهي عين الماء، وهذا الكلام إما على سبيل الاستعارة المكنية والتخييلية.
بتشبيه العلم بالماء، وإثبات الينابيع له، أو من قبيل لجين الماء، وفي لفظ الباطن إشارة إلى علمهم بالأسرار الالهية والعلوم الغيبية اللدنية المشار إليها بقوله تعالى: (عالم الغيب والشهادة فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول) أو إلى علمهم بباطن القرآن ومتشابهاته على أن يكون المراد بالينابيع الآيات القرآنية.
ص: 37
(وجعلهم مسالك لمعرفته) لكل مطلوب طريق ومسلك من سلكه وصل إليه وهم (عليهم السلام) طرق معرفة الله بما يليق به ومسالكها بأمر الله عز شأنه ومن رجع إليهم يتنور ذهنه بنور المعرفة وضوء الايمان ومن أعرض عنهم يتحير قلبه في تيه الجهالة وظلمة الكفران. (ومعالم لدينه) الناس بتعليمهم يعلمون أطوار الطريقة وبتفهيمهم يفهمون أسرار الشريعة (وحجابا بينه وبين خلقه) الحجاب بالضم والتشديد جمع حاجب السلطان وهو الذي يمنع من شاء من الدخول عليه ويأذن من شاء ولا يمكن الوصول إلا بالرجوع إليه والتمسك به وهم (عليهم السلام) كذلك بالنسبة إلى السلطان الأعظم جل شأنه (والباب المؤدي إلى معرفة حقه) الباب جنس يصدق على الكثير وبهذا الإعتبار صح حمله على الجمع.
وتوضيح المرام في هذا المقام: أن حقوق الله على عباده كثيرة وهي مدينة ليس فيها إلا الحق ولا يدخلها إلا أهل الحق، وتلك الحقوق أشرف وأعظم من أن ينالها العقول البشرية بذاتها ويدركها باستقلالها; لخفاء طرقها ودقة مسالكها فربما يقع في الخيال مثلا التماثل بينه تعالى وبين المخلوقات ويجري عليه أحكام الأجسام والجسمانيات كما ترى في كثير من المبتدعة، ولذلك جعل الله تعالى نبيه (صلى الله عليه وآله) مدينة تلك الحقوق وعليا وأوصياءه (عليهم السلام) بابها كما يدل عليه «أنا مدينة العلم وعلي بابها» وهو في الحقيقة باب الجنة وباب الرحمة وباب السعادة، فمن عكف على سدنته فقد رشد، ومن أعرض عنه فقد هلك وقد فسد.
(أطلعهم على المكنون من غيب سره) أطلعهم إما بتخفيف الطاء من قولك أطلعت على سري إذا أظهرته له ووقفته عليه، وإما بتشديدها من قولك اطلعت على باطن أمره بمعنى أشرفت عليه، فلا يناسب المقام لأنه لازم والمقصود أنهم (عليهم السلام) لم يكونوا مقصورين على العلم بظاهر الشريعة بل أطلعهم الله سبحانه على أسرار مكنونه في لوح التصوير مكتوبة بقلم التقدير، غايبة عن بصائر الخلائق، مستورة عن ضمائر أرباب العلائق والعوائق وهم قد كانوا يظهرون بعضها لبعض إن وجدوه أهلا ويخفونها من غير أهله إذ كانوا أطباء النفوس يتكلمون الناس بقدر عقولهم ومن ثم قال سيد الوصيين أمير المؤمنين (عليه السلام) وقد أشار بيده إلى صدره «إن ههنا لعلوما جمة لو وجدت لها أهلا».
«كلما مضى منهم إمام نصب لخلقه من عقبه إماما بينا، وهاديا نيرا. وإماما قيما، يهدون بالحق وبه يعدلون، حجج الله ودعاته ورعاته على خلقه، يدين بهديهم العباد، ويستهل بنورهم البلاد، وجعلهم الله حياة للأنام ومصابيح للظلام ومفاتيح للكلام ودعائم للاسلام وجعل نظام طاعته وتمام فرضه التسليم لهم فيما علم والرد إليهم فيما جهل، وحظر على غيرهم التهجم على القول بما يجهلون ومنعهم جحد ما لا يعلمون، لما أراد تبارك وتعالى من استنقاذ من شاء من خلقه، من ملمات الظلم ومغشيات البهم
ص: 38
وصلى الله على محمد وأهل بيته الأخيار الذين أذهب الله عنهم الرجس [أهل البيت] وطهرهم تطهيرا».
(كلما مضى منهم إمام نصب) فاعله ضمير يعود إلى الله أو إلى الإمام، ولا تفاوت في المعنى لأن الإمامة عهد من الله ورسوله لرجل بعد رجل حتى ينتهى الأمر إلى صاحبه (لخلقه من عقبه إماما) «من» جارة أو موصولة «وإماما» على الأول مفعول «نصب» وعلى الثاني حال عن الموصول وذلك لاستحالة خلو الأرض من حجة وإلا لساخت بأهلها (بينا) في العلم والحلم والإمامة لظهور الآيات والكرامات منه مقرونا بدعوى الإمامة (وهاديا) للقرن الذي هو فيهم إلى الدين القويم والصراط المستقيم (نيرا) كالشمس الطالعة المجللة بنورها للعالم، إذ بنوره يضيء قلوب المؤمنين ويرتفع عنها ظلمة الجهالة والغواية، كما أن بنور الشمس يضيء وجوه الأرضين ويرتفع عن الأبصار ظلمة الغطاء والغشاوة (وإماما قيما) أي مستقيما في أفعاله وأعماله وسائر الحالات الكاملة المطلوبة من الإنسان، من قومت الشئ فهو قويم أي مستقيم أو قيما بأمر الإمامة من قام بأمر كذا (يهدون بالحق) «يهدون» حال عن الأئمة و «بالحق» ظرف مستقر حال عن ضمير الجمع أي يهدون الناس حال كونهم متلبسين بالحق، أو ظرف لغو أي يهدونهم بكلمة الحق ويدلونهم على الاستقامة ويرشدونهم إليها (وبه يعدلون) بينهم في الأحكام.
(حجج الله) أي هم حجج الله على خلقه والجملة حال عن ضمير الجمع (ودعاته ورعاته) جمع الداعي والراعي، وهو إما من رعى الأمير رعيته رعاية إذا حفظهم عن المكاره أو من رعيت الأغنام أرعاها رعيا إذا أرسلتها إلى المرعى، وكفلت مصالحها بتشبيه الخلق بالأغنام لأنهم قبل الاستكمال بالشريعة بمنزلتها في الحيرة وعدم علمهم بمصالحهم ومضارهم أو لاحتياجهم إلى من يحبسهم على مرعى الشريعة ويمنعهم عن الخروج عنها، كما أن الأغنام تحتاج إلى من يحبسها على مرعاها وما فيه مصالحها (على خلقه) متعلق بالثلاثة المذكورة على سبيل التنازع إذ بهم يحتج الله على خلقه استكمال الدين فلا يكون لهم عليه حجة وهم دعاته على خلقه يدعونهم إلى معرفة ذاته وصفاته وشريعته، ورعاته عليهم يحفظونهم عن المكاره والمقابح ويرشدونهم إلى المحاسن والمصالح (يدين بهديهم العباد) أي العباد يطيعون الله ورسوله في الأمر والنهي وغيرهما مما يجب التقرب والرضوان بسبب هدايتهم وإرشادهم ولولا ذلك لهلكوا جميعا (ويستهل بنورهم البلاد) أي يستضي بعلمهم البلاد أو أهلها على سبيل الاستعارة بتشبيه العلم بالنور في الهداية (جعلهم الله حياة للأنام) أي سببا لحيوتهم وبقائهم في الدنيا إلى أجل معدود إذ لولا وجودهم لمات الخلائق دفعة واحدة. ويحتمل أن يراد بالحياة الإيمان بالله وباليوم الآخر والتصديق بما جاء به الشرع من باب تسمية السبب باسم المسبب لأن هذه الأمور سبب للحيوة الأبدية (ومصابيح للظلام) شبه البدعة والجهالة بالظلمة في المنع من الاهتداء للطريق واستعمل
ص: 39
في المشبّه لفظ المشبه به ولزم من ذلك تشبيههم (عليهم السلام) بالمصابيح إذ بنورهم يرتفع غشاوة البدعة والجهالة عن بصائر المؤمنين فيهتدون سبيل الحق ويجتنبون عن طريق المفاسد كما أن بنور المصباح يرتفع غشاوة الظلمة عن أبصار الناظرين فيبصرون المطالب ويرشدون إلى المقاصد.
(ومفاتيح للكلام) تشبيه الكلام بالبيت المخزون فيها الجواهر استعارة مكنية وإثبات المفاتيح له تخييلية. والمراد بالكلام الكلام الحق مطلقا أو القرآن العزيز ولا يفتح باب حقايقه وأسراره على قلوب العارفين ولا يشاهدها بصائر الطالبين إلا بتفسيرهم وتعليمهم (عليهم السلام) (ودعائهم للاسلام) تشبيه الإسلام بالبيت مكنية، وإثبات الدعائم له تخييلية، فكما أن بقاء البيت يحتاج إلى دعائم متناوبة يقوم الآخر مقام الأول عند زواله كذلك بقاء الإسلام وعدم اندراسه بتوارد صواعق المحن وتواتر سيول الفتن يحتاج إلى ناصر ومعين يقوم واحد بعد واحد إلى قيام الساعة. (وجعل نظام طاعته) أي ما ينتظم به طاعته. والنظام - بالكسر - الخيط الذي ينظم به اللؤلؤ ففي الكلام استعارة مكنية وتخييلية (وتمام فرضه) على العباد من غير أن يكون فيه نقص وعيب (التسليم لهم فيما علم) أي فيما علمه العبد أو فيما هو معلوم ومعنى التسليم الاخبات والخضوع، وتصديق قولهم فيما أسروا وما أعلنوا سواء علمت المصلحة أو لم تعلم، ومن التسليم نقل حديثهم كما سمعوه من غير زيادة ونقصان كما دل عليه رواية أبي بصير عن الصادق (عليه السلام) (1) (والرد إليهم فيما جهل) أي فيما جهله العبد أو فيما هو مجهول يعني الرجوع إليهم في استعلام المجهولات لا إلى غيرهم قال الله تعالى (فاسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) وبالجملة أوجب الله تعالى علينا التسليم لهم في كل ما علمناه من تعليمهم والرجوع إليهم في كل ما جهلناه لأنهم أستاذنا وهادينا (2) في ظلمات الطبايع البشرية.
(وحظر على غيرهم التهجم على القول بما يجهلون) الحظر المنع ومنه قوله تعالى (وما كان عطاء ربك محظورا) وكثيرا ما يرد في الحديث ذكر المحظور ويراد به الحرام، قد حظرت الشئ إذا حرمته وهو راجع إلى المنع، والهجوم الاتيان بغتة والدخول من غير استيذان من باب طلب يعني حرم على غيرهم الدخول على القول بما يجهلون ومنعهم عن الاقدام عليه بمجرد الظن والرأي والقياس بقوله تعالى (و لا تقف ما ليس لك به علم) وقوله تعالى (ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا
ص: 40
على الله إلا الحق) ومثله ما روي عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «حق الله على العباد أن يقولوا ما يعلمون ويقفوا عند ما لا يعلمون» (1) وما روي عنه (عليه السلام) أيضا قال لسدير: «يا سدير أفاريكم الصادين عن دين الله ثم نظر إلى أبي حنيفة وسفيان الثوري وهم حلق في المسجد يعني في مسجد الحرام فقال هؤلاء الصادون عن دين الله بلا هدى من الله ولا كتاب مبين، إن هؤلاء الأخابث لو جلسوا في بيوتهم فجال الناس فلم يجدوا أحدا يخبرهم عن الله تبارك وتعالى وعن رسوله حتى يأتونا فنخبرهم عن الله تبارك وتعالى وعن رسوله (صلى الله عليه وآله)» (2).
(ومنعهم جحد ما لا يعلمون) لأن عدم العلم بالشيء ليس علما بعدمه ولا مستلزما له فإنكاره لا يجوز عقلا ولا نقلا لقوله تعالى: (فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم والله يعلم وأنتم لا تعلمون) وقوله تعالى: (بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله) (لما أراد تبارك وتعالى من استنقاذ من شاء من خلقه من ملمات الظلم ومغشيات البهم) (3) اللام لتعليل ما تقدم في حقهم: من لطف الله تعالى بهم وإكرامه عليهم وما موصولة والعائد إليه محذوف والملمات جمع الملمة وهي النازلة من نوازل الدنيا وحوادثها، والظلم جمع الظلمة والمراد بها البدعة والفتنة على سبيل الاستعارة وملمات الظلم من باب جرد قطيفة، والغشاوة الغطاء والإغشاء التغطية ومنه قوله تعالى (فأغشيناهم فهم لا يبصرون) والبهم جمع البهمة بالضم وهي ما يوقع في الحيرة لعدم معرفة وجهه من قولهم كلام مبهم إذا لم يعرف له وجه، والتركيب أيضا من باب جرد قطيفة يعني فعل الله تعالى في شأن الأئمة ما فعل وأكرمهم بما ذكر وجعلهم هادي الأمة لما أراده الله تبارك وتعالى من استنقاذ من شاء من خلقه برحمته ورأفته ونجاتهم بسبب هداية الأئمة وإشراقات أنوارهم من ظلمات البدع والفتن إذا نزلت بهم ومن البهم الموجبة لحيرة عقولهم المغطية لبصائر قلوبهم إذا وردت عليهم ولما حمد الله تعالى على صفاته الذاتية والفعلية التي من جملتها بعث الرسول ونصب الخلفاء، أراد أن يدعو لهم أستعانة بأرواحهم المقدسة المطهرة فيما هو بصدده وامتثالا لقوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه).
فقال (وصلى الله) عطف على قوله «الحمد لله» لأنه في قوة الجملة الفعلية أو على قوله «أحمد» (على
ص: 41
محمد وأهل بيته) الطاهرين المعصومين جميعا وإن كان أهل البيت يطلق تارة على علي وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام) (الأخيار) جمع الخير بالتشديد إذ الخير بالتخفيف اسم تفضيل لا يثنى ولا يجمع كما بين في موضعه (الذين أذهب الله عنهم الرجس) اللام إما للجنس أو للاستغراق (وطهره تطهيرا) اقتباس لقوله تعالى (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا).
«أما بعد فقد فهمت يا أخي ما شكوت من اصطلاح أهل دهرنا على الجهالة وتوازرهم وسعيهم في عمارة طرقها ومباينتهم العلم وأهله، حتى كاد العلم معهم أن يأرز كله وينقطع مواده; لما قد رضوا أن يستندوا إلى الجهل ويضيعوا العلم وأهله. وسألت: هل يسع الناس المقام على الجهالة والتدين بغير علم إذ كانوا داخلين في الدين مقرين بجميع أموره على جهة الاستحسان والنشوء عليه والتقليد للآباء والأسلاف والكبراء والاتكال على عقولهم في دقيق الأشياء وجليلها؟ فعلم يا أخي رحمك الله إن الله تبارك وتعالى خلق عباده خلقة منفصلة من البهائم في الفطن والعقول المركبة فيهم، محتملة للأمر والنهي وجعلهم جل ذكره صنفين: صنفا منهم أهل الصحة السلامة وصنفا منهم أهل الضرر والزمانة، فخص أهل الصحة والسلامة بالأمر والنهي بعدما أكمل لهم آلة التكليف ووضع التكليف عن أهل الزمانة والضرر إذ قد خلقهم خلقة غير محتملة للأدب والتعليم وجعل عز وجل سبب بقائهم أهل الصحة والسلامة وجعل بقاء أهل الصحة والسلامة بالأدب والتعليم، فلو كانت الجهالة جائزة لأهل الصحة والسلامة لجاز وضع التكليف عنهم وفي جواز ذلك بطلان الكتب والرسل والآداب وفي رفع الكتب والرسل والآداب فساد التدبير والرجوع إلى قول أهل الدهر فوجب في عدل الله عز وجل وحكمته أن يحض من خلق من خلقه خلقة محتملة للأمر والنهي لئلا يكونوا سدى مهملين، وليعظموه يوحدوه ويقروا له بالربوبية وليعلموا أنه خالقهم ورازقهم، إذ شواهد ربوبيته دالة ظاهرة و حججه نيرة واضحة وأعلامه لائحة، تدعوهم إلى توحيد الله عز وجل وتشهد على أنفسها لصانعها بالربوبية والالهية، لما فيها من آثار صنعه وعجائب تدبيره، فندبهم إلى معرفته لئلا يبيح لهم أن يجهلوه ويجهلوا دينه وأحكامه لأن الحكيم لا يبيح الجهل به والانكار لدينه، فقال جل ثناؤه: (ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب ألا يقولوا على الله إلا الحق) وقال (بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه) فكانوا محصورين بالأمر والنهي، مأمورين بقول الحق، غير مرخص لهم في المقام على الجهل، أمرهم بالسؤال والتفقه في الدين فقال (لولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم) وقال
ص: 42
(فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) فلو كان يسع أهل الصحة والسلامة المقام على الجهل، لما أمرهم بالسؤال ولم يكن يحتاج إلى بعثة الرسل بالكتب والآداب وكادوا يكونون عند ذلك بمنزلة البهائم ومنزلة أهل الضرر والزمانة. ولو كانوا كذلك لما بقوا طرفة عين، فلما لم يجز بقاؤهم إلا بالأدب والتعليم وجب أنه لا بد لكل صحيح الخلقة كامل الآلة، من مؤدب ودليل ومشير وآمر وناه وأدب وتعليم وسؤال ومسألة».
ولما فرغ عن التحميد والصلاة أراد أن يشير إلى سبب تأليف هذا الكتاب وسببه بطريق الاجمال أن رجلا من المؤمنين شكى إليه الخلائق بسوء عقايدهم وأفعالهم من اتفاقهم على الجهل بأمر الدين وتعظيمهم لأهله لعله ينزعه عن شكايته ويزيله عما يشكوه وسأله هل يسعهم المقام على الجهل والتقليد بالآباء والأسلاف أم لا، فأجاب بأن الناس على صنفين: صنف أهل الضرر والزمانة، وصنف أهل الصحة والسلامة، وهذا الصنف لا يجوز لهم المقام على الجهل بل وجب عليهم التعلم والتعليم وبينه في كلام طويل، ثم لما علم وجوب التعلم على هذا الصنف شكى إليه اختلاف الروايات وأنه ليس بحضرته من يسأله ويعتمد بقوله، وسأله أن يصنف له كتابا جامعا للروايات الواردة في أصول الدين وفروعه فأجاب سؤاله، وصنف هذا الكتاب ليكون مرجعا له ولسائر المؤمنين إلى يوم الدين فأشار إلى ما ذكرناه إجمالا بقوله:
(اما بعد فقد فهمت يا أخي ما شكوت من اصطلاح أهل دهرنا على الجهالة) أي من تراضيهم وتوافق آرائهم عليها ومحبتهم لأهلها واجتماع كلمتهم فيها واستحسانهم إياها; لأن كل حزب بما لديهم فرحون. والاصطلاح من الصلي وهو اسم بمعنى المصالحة والتصالح خلاف المخاصمة والتخاصم (وتوازرهم) أي تعاونهم من الأزر وهو القوة يقال: آزرت فلانا أي عاونته والعامة تقول وازرته (وسعيهم في عمارة طرقها) بتزيينها وتحسينها وترويج آثارها من اكتساب الخطيئات واقتراف السيئات ومودة الأنذال ومعاشرة الأرذال لأن كل ذلك سبب لشهرتها واتضاح أمرها وميل أهل الطبع إليها. (ومباينتهم العلم وأهله) في لفظ المباينة إشعار بأن الفعل من الطرفين ذلك لأن العلم ضد الجهل فمن اتصف بأحدهما وحسنه لنفسه يجتنب عن الآخر وأهله، فكما أن الجاهل يستنكف عن التحلي بالعلم والاستكمال بصحبة العلماء ومجالستهم كذلك العالم يستنكف عن التدنس بالجهل والاسترذال بصحبة الجهال ومجالستهم مما ينبهك على ذلك وإن لم يكن من هذا الباب حكاية الخضر وموسى على نبينا وآله عليهما الصلاة والسلام فإذا كان الحال بين النبيين المقربين الكاملين في القوة العلمية والعلية ما قد تعلم فالحال بين غيرهما أظهر ولزوم الافتراق أبين وأجدر (حتى كاد العلم معهم) أي مع سوء معاملتهم وقبح أفعالهم وشدة معاندتهم (أن يأرز كله) بتقديم الراء المهملة على المنقوطة أي يجتمع كله في زاوية النسيان من
ص: 43
أرزت الحية إلى جحرها إذا انضمت إليها واجتمع بعضها إلى بعض فيها، أو يتقبض ويهزل من الهم الغم من أرز فلان يأرز أرزا فهو أروز إذا تقبض من بخله ولم ينبسط للمعروف، وعلى التقديرين في الكلام استعارة تبعية، ويأزر بتقديم المنقوطة على المهملة بمعنى يضعف غير بعيد، والأرز مشترك بين الضدين أي القوة والضعف (و ينقطع مواده) بالكلية وهي الأخبار والآثار المروية عن المعصوم (عليه السلام) (لما قد رضوا أن يستندوا) في أعمالهم وعقايدهم (إلى الجهل) ويعتمدوا عليه ويركنوا إليه وهو إشارة إلى الاصطلاح والتوازر المذكورين كما أن قوله (و يضيعوا العلم وأهله) إشارة إلى المباينة المذكورة لأنهم بسبب تلك المباينة يلبسون الحق بالباطل وهم عن الحق معرضون، ويدرسون كتاب الجهل وهم به موقنون ويروجون مسائله وهم بذلك مبتهجون، ويتبعون آثاره من الخطيئات وهم على ذلك مفرطون، ويمدحون الدنيا وأهلها وهم إليهم متقربون، ويذمون العلم وأهله وهم عنهم يجتنبون، ويوحون إلى أقرانهم زخرف القول في ذم العلماء وهم بذلك مستبشرون، ويكرهون مجالسة الحكماء الذين هم ورثة الأنبياء وهم بهم مستهزؤون، كذلك طبع الله على قلوبهم وهم عن إدراك الحق مبعدون، فلذلك كاد العلم أن يأرز وينقطع مواده وينهزم عن عساكر الجهل لفقده من ينصره إلا قليلا من المؤمنين.
(و سألت هل يسع الناس المقام) بنصب الأول على المفعولية ورفع الثاني على الفاعلية (على الجهالة) في المعارف الحقيقية والأمور الشرعية. و «يسع» من وسعة المكان إذا لم يضيق عليه ويستعمل كثيرا في معنى الجواز يقال: يسعه أن يفعل كذا أي يجوز لأن الجائز موسع غير مضيق.
والمقام بفتح الميم وضمها لأنه إن كان من قام يقوم فمفتوح، وإن كان من أقام يقيم فمضموم، وهو على التقديرين قد يكون مصدرا بمعنى القيام أو الإقامة، وقد يكون إسما لموضع القيام ويجوز حمله هنا على كلا المعنيين; لأن الأول يناسب الوسع بمعنى الجواز والثاني يناسبه بمعنى الضيق (و التدين بغير العلم) يستند إلى معصوم شفاها أو بواسطة رواة ثقات (إذ كانوا داخلين في الدين، مقرين بجميع أموره على جهة الاستحسان) من غير حجة وبرهان، والظرف متعلق بالدخول والاقرار على سبيل التنازع. (و النشوء عليه) نشأ الصبي ينشأ نشا على فعل بتسكين العين ونشوء على فعول بضمتين وهمز اللام: إذا كبر وشب ولم يتكامل، قيل: في بعض النسخ «والنشق» قال الجوهري: «يقال رجل نشق إذا كان يدخل في أمور لا يكاد يتخلص منها» (و التقليد) القلادة هي التي في العنق وقلدت المرأة فتقلدت هي، ومنه التقليد في الدين وتقليد الولاة الأعمال وتقليد الهدي وهو أن يعلق في عنقه شئ ليعلم أنه هدي (للآباء والأسلاف والكبراء) فقبلوا ما قبلوه وردوا ما ردوه من غير أن يتمسكوا في ذلك بمتمسك صحيح ومستند صريح كما هو المشاهد في أكثر هذه الأمة. ولو سئلتهم عن وجه ذلك لسكتوا بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون (و الاتكال على عقولهم في دقيق الأشياء وجليلها) يعني في أصول العقائد
ص: 44
وفروعها كما هو شأن بعض الحكماء والمتكلمين وتابعيهما وبعض الفقهاء المتمسكين بالأدلة العقلية مثل الاستحسان والاستصحاب والمفهومات وغيرها.
(فاعلم يا أخي) شرع في الجواب عما سئله السائل بقوله: «هل يسع الناس» وما أشكاه عن شكايته لم يأت بما يزيلها لأن تلك الخصال الذميمة قد صارت في أكثر الناس كالطبيعة الثانية فلا بد للعاقل اللبيب أن يتجرع كأس الغصص ويصبر صبرا جميلا (إن الله تبارك وتعالى خلق عباده خلقة) بكسر الخاء للنوع والحالة (منفصلة) أي متميزة (عن البهائم في الفطن) جمع الفطنة وهي الفهم والذكاء رجل فطن وفطن ذكي فهيم، وفي بعض النسخ «في الفطر» بالراء جمع الفطرة وهي الخلقة من الفطر بمعنى الايجاد كالخلقة من الخلق في أنها اسم للحالة ثم جعلت إسما للخلقة القابلة لدين الحق على الخصوص، وعليه الحديث المشهور «كل مولود يولد على الفطرة» إسما لملة الإسلام نفسها لأنها حالة من أحوال صاحبها وعليه قوله (عليه السلام) «قص الأظفار من الفطرة» كذا في المغرب، وقد يرجح هذا على ما في الأصل بأن الكلام في أصل الخلقة والفطنة من الأمور العارضة. (والعقول المركبة فيهم) بالجر عطف على الفطن يحتمل الرفع بالابتداء قال الجوهري: «تقول في تركيب الفص في الخاتم والنصل في السهم ركبته فتركب فهو مركب» (محتملة) بالنصب حال عن العقول على الأول وبالرفع خبر لها على الثاني (للأمر والنهي) بخلاف البهائم، إذ ليست لها فطانة وذكاء ولا عقول بل يتعلق بها نفوس حيوانية لحفظ التركيب والاغتذاء والنمو وتوليد المثل والاحساس والحركات الارادية.
(وجعلهم) بعد اشتراكهم في الفطن والعقول (صنفين صنفا منهم) بدل أو عطف بيان للمفعول الأول (أهل الصحة والسلامة) مفعول ثان، ومن قال: إن «صنفا منهم» منصوب على أنه بدل عن مفعول ثان لجعل وأورد على قوله «أهل الصحة والسلامة» بأنه لا محل له من الأعراب فقد أخطأ (وصنفا منهم أهل الضرر) الضر خلاف النفع والاسم الضرر وهو المشقة والضرير ذاهب البصر (والزمانة) هي آفة في الحيوانات ورجل زمن أي مبتلى بين الزمانة قيل: المراد أنهم ضراير وزمناء في الجوهر الباطني والأول إشارة إلى قصور القوة النظرية التي يقال لها العقل النظري، والثاني اختلال القوة العلمية التي يقال لها العقل العملي.
وأقول الأولى حملهما على كل ما يمنع من توجه خطاب التكليف بالأدب والتعليم لأن المقصود بيان من يجوز له التقليد ومن لا يجوز. وأهل الضرر في العقل النظري وأهل الزمانة في العقل العملي قد لا يكونون من أهل التقليد أيضا، ولا يشتبه حالهم على أحد فلا يكون التقسيم كثير فائدة. وههنا سؤال مشهور وهو أنه لم لم يخلقهم سواء؟ وما الباعث على هذا التفاوت وما المصلحة فيه؟ فأجاب عنه الأشاعرة بأنه فاعل مختار يفعل في ملكه ما يشاء ويحكم ما يريد، لا يسئل عما يفعل وهم يسئلون وأجاب بعض الحكماء بأن هذا التفاوت للتفاوت في القابلية، والقابلية شرط في الإفاضة وهذا إلى
ص: 45
الإيجاب أقرب ومن ظاهر الشريعة أبعد. وأجاب بعض آخر منهم بأنه لمصلحة نظام الكل الذي لا نظام أكمل منه; لأنه لو خلق كل فرد على الوجه الأكمل بالنسبة إليه وحده لفات نظام الكل من حيث هو كل بل فات نظام كل فرد أيضا، مثلا لو جعل كل فرد فاضلا عاملا لما انتظم المصالح الجزئية التي لا بد في مزوالتها خسة. والحق أن لهذا التفاوت بواعث ومصالح جمة والعقول الناقصة قاصرة عن معرفة تفاصيلها.
و قد سأل المفضل بن عمر في توحيده عن الصادق (عليه السلام) حين ذكر (عليه السلام) منافع الإنسان من العقل والقوى الظاهرة والباطنة وغير ذلك من الأعضاء وذكر مضار عدمها، فقال المفضل: قلت فلم صار بعض الناس يفقد شيئا من هذه الجوارح فيناله في ذلك مثل ما وصفته يا مولاي؟ قال (عليه السلام): ذلك للتأديب والموعظة لمن يحل ذلك به ولغيره بسببه، كما قد يؤدب الملوك الناس للتنكيل والموعظة فلا ينكر ذلك عليهم بل يحمد من رأيهم ويصوب من تدبيرهم، ثم إن الذين تنزل بهم هذه البلايا من الثواب بعد الموت أن شكروا وأنابوا ما يستصغرون معه ما ينلهم منها حتى أنهم لو خيروا بعد الموت لاختاروا أن يردوا إلى البلايا ليزدادوا من الثواب، (فخص أهل الصحة السلامة) القابلة عقولهم للأدب والتعليم. وخص بالخاء المعجمة والصاد المهملة (بالأمر والنهي) في المعارف الالهية والفروع الشرعية، وطلب منهم معرفة ذلك بالاستدلال على الوجه المعتبر وتعليمهم لغيرهم كما يشعر به قوله تعالى (فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون) (بعد ما أكمل لهم آلة التكليف) يعني القوى الباطنة والظاهرة مع صحتها عن الآفات وخلوها عن الموانع (ووضع التكليف عن أهل الضرر والزمانة إذ خلقهم خلقة غير محتملة للأدب والتعليم) في المعارف اليقينية والقوانين الشرعية بالنظر والاستدلال. ولبعض ههنا كلام لا يخلو من مناقشة لأنه فسر آلة التكليف بالعقل الذي لم يعرضه الجنون والإغماء وشبههما وفسر الضرر والزمانة بالاختلال في العقل وهذا صريح بقرينة المقابلة في أن أوضع التكليف عن أهلهما عنده لفقد العقل بالجنون ونحوه، ثم خص الأدب والتعليم بالمعارف الإلهية حيث قال: أي غير محتملة للتأدب بالآداب العقلية والنسك الإلهية والتعلم بالعلوم الحقيقية والمعارف اليقينية العلمية، والا فالقسمان مكلفان بالأوامر والنواهي الشرعية والأعمال من الصلاة والطواف والزكاة والصيام وغيرها من الأعمال البدنية. هذه عبارته، وفيه: أن القسم الثاني إذا فقد العقل كيف يكون مكلفا بهذه الأمور فتأمل.
(وجعل عز وجل سبب بقائهم) في الدنيا (أهل الصحة والسلامة وجعل بقاء أهل الصحة والسلامة بالأدب والتعليم) إذ لولا الأدب والتعليم لكانوا كلهم بمنزلة البهائم ولفات الغرض من الايجاد ولو كانوا كذلك لما بقوا طرفة عين; لأن الله تعالى لا يدع الأرض بغير عالم يعرف به الحق من الباطل (فلو كانت
ص: 46
الجهالة جايزة) الظاهر أن الفاء للتعليل (لأهل الصحة والسلامة) ولم يجب عليهم الأدب والتعليم كما لم يجب على أهل الضرر والزمانة (لجاز وضع التكليف عنهم) كما جاز وضعه عن أهل الضرر الزمانة (وفي جواز ذلك بطلان الكتب والرسل والآداب) لأن الغرض من إنزال الكتب وإرسال الرسل وتقرير الآداب هو التلقي بما تضمنه الأول والتصديق بما جاء به الثاني وتزيين النفس وتكميلها بالثالث; ليحصل لهم بذلك نظام الدنيا وكمال الآخرة، وإذا لم يجب عليهم ذلك بطل الغرض من هذه الأمور وإذا بطل الغرض بطل هذه الأمور ولزم العبث (و في رفع الكتب والرسل والآداب) والقول ببطلانها وفسادها (فساد التدبير) أي: القول بأن ليس لهذا العالم صانع عالم مدبر يصنعه بتقدير وتدبير وعلم بعواقب الأمور من تدبر الأمر إذا نظر في إدباره أي في عواقبه (والرجوع إلى قول أهل الدهر) المنكرين للحشر والنشر وبعث الأنبياء، والقائلين بأن وجود هذا العالم وأجزائه منفعل الطبيعة بإهمال لا بعلم ولا بتدبير، ولا صنعة فيه ولا تقدير بل الأشياء تتكون من ذاتها وكانت الدنيا لم تزل ولا تزال ويقولون (إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيى وما يهلكنا إلا الدهر) وإن شئت أن تعرف جملة من تقديرات ربك وتدبيرات إلهك فعليك بمطالعة توحيد المفضل المنقول عن الصادق جعفر بن محمد (عليه السلام) وقد سمعت عمن أثق به أن السيد الجليل ابن طاووس رضي الله عنه أوصى إلى بعض أحبائه وأمره أن يطالعه ويمارسه (1) والحق أنه مع قلة حجمه كتاب يظهر لمن مارسه من العلم بالحكم الإلهية والتدبيرات الربوبية ما يكل اللسان عن وصفه، ويعجز البيان عن شرحه.
(فوجب في عدل الله وحكمته أن يحض) بالحاء المهملة والضاد المعجمة أو بالخاء المعجمة والصاد المهملة وقيل: في بعض النسخ «أن يحصر» بالحاء والصاد المهملتين والراء أخيرا أي يضيق ويحبس. ويؤيد الأخيرين قوله فيما بعد «فكانوا محصورين بالأمر والنهي» (من خلق من خلقه خلقة محتملة للأمر والنهي) وهو من كان من أهل الصحة والسلامة كاملا فيه آلة الكليف (بالأمر والنهي) في الأحكام والمعارف والظرف متعلق بيحض (لئلا يكونوا سدى) السدى بضم السين وقد يفتح وكلاهما للواحد والجمع بمعنى المهمل يقال إبل سدى أي مهملة، وأسديتها أي أهملتها وذلك إذا أرسلتها ترعى ليلا ونهارا بلا راع، فقوله (مهملين) بدل أو بيان أو صفة للتوضيح والتفسير، وفي إهمالهم والتخلية بينهم وبين نفسوهم غير ما ذكر من المفاسد ما لا يخفى (وليعظموه) بتحميده وتمجيده وتوصيفه بما يليق به من صفات الكمال ونعوت الجلال (ويوحدوه) بنفي الشريك والتجزية ذهنا وخارجا (ويقروا له بالربوبية) أي بأنه رب كل شئ ومالكه ومدبره ولا رب سواه. والرب من أسمائه تعالى ولا يطلق على
ص: 47
غيره إلا بالإضافة (وليعلموا أنه خالقهم) منه بدء وجودهم وبقاؤهم (ورازقهم) في كل ما ينتفعون به ويحتاجون إليه في التعيش والبقاء، والرزق في اللغة ما ينتفع به وعند الأشاعرة كل ما ينتفع به حي، غذاء كان أو غيره، مباحا كان أو حراما، وخصه بعضهم بالأغذية والأشربة وعند المعتزلة هو كل ما صح انتفاع الحيوان به بالتغذي وغيره وليس لأحد المنع منه فليس الحرام رزقا عندهم.
(إذ شواهد ربوبيته دالة ظاهرة وحججه نيرة واضحة وأعلامه لائحة) العطف فيهما للتفسير ويحتمل أن يراد بالشواهد طبائع الممكنات القابلة للتربية الموصلة لها إلى كمالاتها، بالحجج نفس تلك الكمالات، وبالأعلام مجموع ذلك من حيث المجموع أو وضع كل ممكن في حده ومرتبته التي يليق به.
(تدعوهم إلى توحيد الله عز وجل) وعلمه قدرته وتدبيره وساير صفاته وكمالاته وتبعثهم على التصديق بذلك، والجملة في محل النصب على أنها حال من فاعل الأخبار المذكورة وإنما وضع الظاهر موضع الضمير للتبرك بذكر الله والإشارة إجمالا إلى دلالة الأمور المذكورة على جميع كمالاته أيضا كما أشرنا إليه. (وتشهد) أي تلك الشواهد والحجج والأعلام (على أنفسها لصانعها بالربوبية والإلهية لما فيها من آثار صنعه وعجايب تدبيره) فان من نظر بقلب سليم وعقل صحيح إلى أحوال هذا العالم وكيفية نضدها ومنافعها وأحوال الأفلاك وكيفية حركتها حول الأرض من شرق إلى غرب ومن غرب إلى شرق وأحوال الشمس في طلوعها وغروبها وانتقالها من برج إلى برج لإقامة دور السنة والفصول ومنافعها التي من جملتها نشو النبات ونموها وإدراك الثمار والغلات وضبط الأوقات للديون والمعاملات وأحوال القمر في إنارته ونقصانه وزيادته وحركته في منازله ومنافع هذه الأمور وأحواله المتحيرة في اختلاف حركاتها كما وكيفا وجهة وانتقالاتها واقتراناتها واستقامتها ووقوفها، ورجوعها وما يترتب على هذه الأمور من المنافع وأحوال السفليات مثل الأرض والماء والنار والهواء والسحاب المسخر بين الأرض والسماء وانتقاله من موضع إلى موضع، و إفاضة الماء في وقت وفي محل دون وقت ومحل آخر وأحوال المعدنيات مثل الذهب والفضة والياقوت والزبرجد والزمرد والفيروزج والحديد والنحاس والرصاص والزرنيخ والكبريت والقار والموميا، وغيرها مما يشتد حاجة الناس إليه وتكثر منافعه، وأحوال الحيوانات ومنافعها وفوائدها وخواصها واهتدائها إلى مصالحها في معاشها وبقائها وفرارها عما يضرها وميلها إلى ما ينفعها، ومن جملتها الذرة الحقيرة وهي مع حقارتها وصغرها يجتمعن في جمع القوت وإعداده بالمعاونة في نقله إلى بيوتهن ثم يعمدن ويقطعن الحب لكيلا ينبت ولا يفسد، ومنها الزنبور فإنه يعمل بيوتات مسدسات ومخمسات متجاورات من غير فرجة وقد يعجز عن مثلها المهرة من أرباب الهندسة. وأحوال الإنسان وما فيه من القوى والحواس والأعضاء والجوارح والعروق الساكنة والمتحركة والنفوس القابلة للعروج إلى أعلى عليين والنزول أسفل السافلين، وأحوال الجنين واحتجابه في
ص: 48
ظلمات; ظلمة البطن وظلمة الرحم وظلمة المشيمة حيث لا حيلة له في طلب الغذاء ولا دفع الضرر ولا جلب النفع كيف يجري إليه في تلك الأحوال جميع ما يحتاج إليه وكيف يجعل له ثدي الام بمنزلة الأداوتين وكيف يجعل له الدم لبنا خالصا وكيف يحرك هو شفتيه طلبا لغذائه، عرف أن كل هذه الأمور وغيرها مما لا يعد ولا يحصى بأمر صانع عليم خبير قدير مدبرا أوجد كل ذرة من ذرات هذا العالم بعلم وقدرة وتدبير لا إله إلا هو تعالى الله عما يقوله الظالمون علوا كبيرا.
(وندبهم) أي دعاهم (إلى معرفته) أي معرفة ذاته وصفاته وشرايعه وأحكامه كما يرشد إليه قوله (لئلا يبيح لهم أن يجهلوا دينه) الذي شرعه لنظام أحوالهم وانقيادهم بالعبودية (وأحكامه) الخمسة المعروفة (لأن الحكيم لا يبيح الجهل به والانكار لدينه) لأرباب الاستعداد وأهل الصحة والسلامة، ولعل المراد بالانكار الجهل بناء على أن إنكار الشئ مستلزم للجهل به، فيطبق الدليل على المدعى (فقال جل ثناؤه) الفاء تفصيل لقوله «ندبهم» أو تعليل له، أو لقوله «لأن الحكيم لا يبيح الجهل والإنكار لدينه» (ألم يؤخذ عليهم) إنكار للنفي أي أخذ على أهل الكتاب (ميثاق الكتاب) أي الميثاق المذكور في الكتاب وهو التورية، والميثاق العهد (أن لا يقولوا على الله إلا الحق) وهو القول باشتراط التوبة في غفران الذنوب حتما، و فيه أن ما ذهب إليه اليهود من إثبات المغفرة بغير توبة والبت عليها نقض لميثاق الكتاب وافتراء على الله وتقول عليه بما ليس بحق «وأن لا يقولوا» عطف بيان للميثاق أو متعلق به أي بأن لا يقولوا، وقيل المراد بميثاق الكتاب قوله تعالى في التورية «من ارتكب ذنبا عظيما فإنه لا يغفر إلا بالتوبة» وحينئذ قوله «أن لا يقولوا» مفعول له ومعناه لئلا يقولوا، ثم الآية وإن نزلت لسبب مخصوص كما ذكره المفسرون إلا أنا قد بينا في الأصول أن خصوص السبب لا يخصص عموم الحكم، وعلى هذا دلت الآية على أنه يجب على هذه الأمة أيضا أن يقولوا الحق ويحرم عليهم أن يقولوا في صفاته وأفعاله وأحكامه وشرائعه ما ليس بحق، وأن يثبوا له ما هو منزه عنه من الولد والصاحبة والتجسم والتحديد والتشبيه وغير ذلك.
(وقال بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه) قال القاضي وصاحب الكشاف: بل سارعوا إلى التكذيب بالقرآن أول ما سمعوه وفي بديهة السماع قبل أن يفقهوا ويتدبروا آياته ويعلموا كنه أمره ويفقهوا على تأويله ومعانيه، وذلك لفرط نفورهم على مخالفة دينهم ومفارقة دين آبائهم كالناشي على التقليد إذا أحس بكلمة لا توافق ما نشأ عليه وألفه وإن كانت أضوء من الشمس في ظهور الصحة وبيان الاستقامة، أنكرها أول وهلة واشمئز منها قبل أن يحسن إدراكها بحاسة سمعه من غير فكر في صحة أو فساد لأنه لم يشعر قلبه إلا صحة مذهبه وفساد ما عداه من المذاهب، ففي هاتين الآيتين دلالة واضحة على الندب إلى معرفة الحق والقول به وذم الجهل والمنكرين لدين الحق (فكانوا) أي أهل الصحة والسلامة (محصورين بالأمر والنهي) في المعارف والأحكام أي محبوسين بهما لا يجوز لهم التفارق عنهما أو
ص: 49
أنهما يتوجهان إليهم لا غيرهم من أهل الضرر والزمانة (مأمورين بقول الحق) فيهما، والإضافة بيانية أو من إضافة المصدر إلى المفعول (غير مرخص لهم) بفتح الخاء والظرف قائم مقام الفاعل أو بكسرها والفاعل هو الله تعالى (في المقام) بالفتح والضم مصدر (على الجهل) بدين الحق وأحكامه (أمرهم بالسؤال والتفقه في الدين) بمنزلة التعلى لما مر فلذلك ترك العاطف (فقال فلو لا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين لينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم) قال القاضي وصاحب الكشاف: فهلا نفر من كل جماعة كثيرة كقبيلة وأهل بلدة جماعة قليلة ليتكلفوا الفقاهة في الدين، ويتجشموا المشاق في أخذها وتحصيلها، و ليجعلوا غرضهم ومرمى همتهم في التفقه إرشاد القوم وإنذارهم والنصيحة لهم; وتخصيصه بالذكر لأنه أهم، وفيه دليل على أنه ينبغي أن يكون غرض المتعلم فيه أن يستقيم في نفسه ويقيم غيره، لا الترفع على الناس والتبسط في البلاد والتشبه بالظلمة في ملابسهم ومراكبهم كما هو شأن بعض المتفقهين.
وأورد عليهما بعض الأفاضل وتبعه بعض آخر بأنهما جعلا الانذار والنصيحة آخر القصد ومرمى الهمة في التفقه ولم يتفطنا بأنه مما لا يساعده اللفظ لوجود العاطف في التعليل فيكون «لينذروا» عطفا على «ليتفقهوا» بإعادة لام العلة ولو لم يكن الواو كان لما ذكره وجه.
أقول: نسبة عدم التفطن بالعاطف إلى مثلهما سيما إلى صاحب الكشاف المبرز في علم العربية والمقنن لقوانينها في غاية البعد وإنما نشأ ذلك من عدم التفطن بمقصودهما لأن مقصودهما أن مجموع التفقه في الدين وتعلم الأحكام وأصول القواعد على اليقين وإنذار القوم وإرشادهم إليهما وإن كان غاية السعي والنفر لكن الظاهر أن الانذار غاية النفر بواسطة التفقه إذ لا يمكن حصوله بدونه فهو بحسب الحقيقة والمعنى غاية التفقه وإن كان في العبارة بظاهر العطف غاية النفر فهما جعلا الانذار غاية التفقه رعاية لجانب المعنى وتنبيها على ما ذكرنا.
(وقال فاسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) أمرهم بالسؤال على تقدير عدم العلم ولم يجوز لهم البقاء على الجهالة. والمقدم هنا جزاء للشرط عند من جوز تقديمه عليه، ودليل على جزاء محذوف بعده عند طائفة، والشرط حال لا يحتاج إلى جزاء عند آخرين (فلو كان يسع أهل الصحة والسلامة المقام على الجهل لما أمرهم بالسؤال) فيه دلالة على أن الأمر للوجوب إذ استحباب السؤال لا ينافي جواز المقام على الجهل (ولم يكن يحتاج إلى بعثة الرسل بالكتب والآداب) لأن البعثة على هذا التقدير عبث; إذ الغرض منها تكميل الخلائق وتهذيبهم فإذا لم يجب عليهم قبول ذلك وجاز لهم المقام على الجهل بطل الغرض، وإذا بطل الغرض لزم العبث وإذا لزم العبث لزم عدم الإحتياج إلى ما ذكر، ولكن عدم الإحتياج باطل إما لما مر من نفي التدبير والرجوع إلى قول أهل الدهر، وإما لما أشار إليه بقوله (فكانوا) أي أهل السلامة (يكونون عند ذلك) أي عدم بعثة الرسل بالكتب والآداب (بمنزلة البهائم ومنزلة أهل
ص: 50
الضرر والزمانة) عدم الفرق بين الحق والباطل وعدم التمييز بين المعارف وغيرها، وقيل: إلا أن بين الفريقين فرقا لأن أهل الصحة والسلامة لهم عذاب أليم في القيامة لأنهم أبطلوا استعدادهم وأفسدوا قوة مرآة بصيرتهم دون الطائفة الأخيرة لأنهم مختوم على قلوبهم في الأزل. وفيه نظر لأن المفروض عدم وقوع التكليف بشئ أصلا فكيف يكونون معذبين في القيامة والعذاب إنما يكون بترك التكاليف (ولو كانوا كذلك) أي بمنزلة البهائم وأهل الضرر والزمانة (لما بقوا طرفة عين) وهلكوا دفعة واحدة من غير مهلة لأن حكمة الله تعالى تقتضي عدم بقاء الأرض ومن عليها بدون أهل شريعة ودين وأصحاب معرفة ويقين.
(فلما لم يجز بقاؤهم إلا بالآداب والتعليم وجب أنه لا بد لكل صحيح الخلقة كامل الآلة من مؤدب ودليل مشير) ليحصل التأدب بالآداب بإعانته وإرفاده والاهتداء إلى الحق بدلالته وإرشاده (وآمر وناه) ليسلك سبيل الخيرات بزواهر أمره ويسد سبيل المنهيات بزواجر نهيه (وأدب وتعليم) ليكتسب الذهن من نورهما جلاء ويقترف العقل من ضوئهما صفاء (وسؤال ومسئلة) ليرفع عن وجه القلب نقاب الجهالة ويزيل عن ساحة العقل حجاب الضلالة، لأن شفاء العي هو السؤال، كل ذلك ليستكمل القوة النظرية والعملية على مراتبهما وتتخلى النفس عن الرذائل وتتحلى بالفضائل، وتخرج إلى حد الكمال من حد النقصان; وتشاهد الصور الإدراكية مشاهدة العيان، وتدرك جلال الحق في مرآة ذاته، ولا تغفل طرفة عين عن أفعاله، وصفاته; ففي كل وقت يحصل لها الشوق والسرور، والله وليها يخرجها من الظلمات إلى النور.
«فأحق ما اقتبسه العاقل والتسمه المتدبر الفطن وسعى له الموفق، المصيب العلم بالدين ومعرفة ما استعبد الله به خلقه: من توحيده وشرايعه وأحكامه وأمره ونهيه وزواجره وآدابه، إذ كانت الحجة ثابتة والتكليف لازما والعمر يسيرا والتسويف غير مقبول والشرط من الله جل ذكره فيما استعبد به خلقه أن يؤدوا به جميع فرائضه بعلم ويقين وبصيرة ليكون المؤدي لها محمودا عند ربه مستوجبا لثوابه وعظيم جزائه، لأن الذي يؤدي بغير علم وبصيرة لا يدري ما يؤدي ولا يدري إلى من يؤدي. وإذا كان جاهلا لم يكن على ثقة مما أدى، و لا مصدقا. لأن المصدق لا يكون مصدقا حتى يكون عارفا بما صدق به من غير شك ولا شبهة، لأن الشاك لا يكون له من الرغبة والرهبة والخضوع والتقرب مثل ما يكون من العالم المستيقن وقد قال الله عز وجل: «الا من شهد بالحق وهم يعلمون» فصارت الشهادة مقبولة لعلة العلم بالشهادة، ولولا العلم بالشهادة لم تكن الشهادة مقبولة، والأمر في الشاك المؤدي بغير علم وبصيرة إلى لله جل ذكره إن شاء تطول عليه فقبل عمله وإن شاء رد عليه، لأن الشرط عليه من الله أن يؤدي
ص: 51
المفروض بعلم وبصيرة ويقين كيلا يكونوا ممن وصفه الله فقال تبارك وتعالى: (ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة، ذلك هو الخسران المبين) لأنه كان داخلا فيه بغير علم ولا يقين فلذلك صار خروجه بغير علم ولا يقين وقد قال العالم (عليه السلام): «من دخل في الإيمان بعلم، ثبت فيه ونفعه إيمانه، ومن دخل فيه بغير علم خرج منه كما دخل فيه». وقال (عليه السلام): «من أخذ دينه من كتاب الله وسنة نبيه (صلى الله عليه وآله) زالت الجبال قبل أن يزول، ومن أخذ دينه من أفواه الرجال ردته الرجال». وقال (عليه السلام) «من لم يعرف أمرنا من القرآن لم يتنكب الفتن».
(فأحق ما اقتبسه) العاقل من المؤدب والدليل، يقال: اقتبست منه علما أي استفدته (و التمسه) أي طلبه بالمسئلة والسؤال (المتدبر الفطن وسعى له الموفق المصيب العلم بالدين ومعرفة ما استعبد الله به خلقه) إذ بهذين العلمين يخرج الخلق من ظلمات الجهالة ويعلمون كيفية الخروج عن غشاوة الغواية والضلالة، وبذلك يحصل لهم إصابة قرب رب العالمين ورفاقة من أنعم الله عليه من الأنبياء والملائكة المقربين وحسن أولئك رفيقا. (من توحيده) بيان للدين أي العلم بالدين هو التصديق بوحدانيته وصفاته اللايقة به ويندرج فيه التصديق بملائكته وكتبه ورسله وأوصياء رسله، وبما أخبر به الرسل من أحوال الآخرة مثل الحشر والنشر والحساب والميزان والصراط والجنة والنار وغير ذلك من أحوال القيامة (وشرايعه وأحكامه وأمره ونهيه وزواجره وآدابه) بيان لما استعبد الله به خلقه (إذ كانت الحجة ثابتة) على صحيح الخلقة كامل الآلة وهذا مع ما عطف عليه دليل على أن العلم بالدين ومعرفة ما استعبد الله به خلقه أحق بالاقتباس وأولى بالالتماس (والتكليف لازما) لما عرفت من الدلايل (والعمر يسيرا) مع ما فيه من الضروريات التي لا يمكن البقاء بدونه كالنوم وتحصيل الغذاء واللباس ونحوها فلا يسع العمر إلا للأهم والأحق وهو الأمور المذكورة (والتسويف غير مقبول) لأن العمر لا يفي بذلك ولأن التكليف ثابت في وقت التسويف أيضا (والشرط من الله جل ذكره فيما استعبد به خلقه أن يؤدوا جميع فرائضه بعلم ويقين وبصيرة) لقوله تعالى (ولا تقف ما ليس لك به علم) وقوله (فاسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) وقوله (فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم) وقوله (فلولا نفر - الآية -) إلى غير ذلك من الآيات الدالة على اشتراط العلم والبصيرة في العمل.
(ليكون المؤدي لها محمودا عند ربه) من ألطافه الخفية وعناياته الجلية أنه تعالى مع كمال استغنائه عن الخلق يقابل حمدهم بالحمد وشكرهم بالشكر وذكرهم بالذكر كما قال: (اذكروني أذكركم) وفي الحديث «قال الله تعالى من ذكرني في ملاء من الناس ذكرته في ملاء خير من ملائه (1)» (مستوجبا لثوابه
ص: 52
وعظيم جزائه) لأن الثواب والجزاء إنما يترتب على فعل المأمور به وترك المنهي عنه ولا يتصور ذلك إلا بالعلم والبصيرة بهما (لأن الذي يؤدي بغير علم وبصيرة لا يدري ما يؤدي ولا يدري إلى من يؤدي) لظهور أن من لم يعرف ربه ولم يعلم أوامره نواهيه لا يدري ما يفعل، ولا لمن يفعل، ولا من يتقرب إليه فلو فعل شيئا لم يكن ذلك عبادة لأن العلم أصل العبادة والتقرب روحه فإذا لم يتحققا لم يتحقق العبادة (وإذا كان جاهلا لم يكن على ثقة مما أدى ولا مصدقا) بأن ما أداه هو المطلوب منه ويترتب عليه الثواب والجزاء (لأن المصدق لا يكون مصدقا حتى يكون عارفا بما صدق به من غير شك ولا شبهة) إن لم يكن للطالب بعد الشعور بالمطلوب رجحان بأحد طرفيه كان له شك فلا يكون عارفا ومصدقا به وإن كان له رجحان فإن لم يكن ذلك الرجحان مستندا إلى دليل كان له تقليد وإن كان مستندا إلى دليل فإن كان ذلك الدليل ظنيا كان له ظن وهذان قد اشتركا في أن تصديقهما قابل للشبهة فليس تصديقهما في الحقيقة تصديقا، لزواله بسهولة عند توارد الشبهات، فلا يكون لهما معرفة وتصديق بحسب الحقيقة، وإن كان ذلك الدليل برهانا مفيدا لليقين كان له تصديق قطعي وعلم يقيني غير قابل للشبهة وهو مصدق بحسب الحقيقة وعارف بما صدق به، وهذا التصديق هو المطلوب في دين الحق ومعارفه (لأن الشاك) بدين الحق الغير الثابت الذي يمكن زوال معرفته بتوارد الشبهات (لا يكون له من الرغبة والرهبة والخضوع والتقرب مثل ما يكون من العالم المستيقن) بالله وصفاته وبدينه الذي شرعه للتقرب إليه ولصلاح الخلق عاجلا وآجلا كما قال عز شأنه (إنما يخشى الله من عباده العلماء) وقال: (هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولو الألباب). (وقد قال الله عز وجل (إلا من شهد بالحق وهم يعلمون)) قيد الشهادة بالعلم وهو يفيد اشتراط قبولها (فصارت الشهادة مقبولة لعلة العلم بالشهادة) أي بالأمر المشهود ولولا العلم بالشهادة (لم يكن الشهادة مقبولة ضرورة انتفاء المشروط بانتفاء شرطه ولا شبهة في أن الشهادة بالأمور الدينية والمعارف اليقينية داخلة تحت هذا الحكم بل هي من أعظم الشهادات فهي مشروطة بالعلم قطعا (والأمر في الشاك) الظاهر أن المراد بالشاك من ليس له رجحان وتصديق أصلا ومن كان لد رجحان مستند إلى تقليد أو إلى دليل ظني بقرينة تقييد العلم فيما سيأتي باليقين، إذ يفهم منه أن الشاك يشمل الأخيرين لقبول رجحانهما تشكيكا وشبهة (المؤدي) لفرائض الله تعالى (بغير علم وبصيرة) قلبية بتلك الفرائض (إلى الله جل ذكره) أي إلى مشيته من غير أن يكون قبوله واجبا عليه كما هو الواجب في صورة العلم (إن شاء تطول عليه فقبل عمله وإن شاء رد عليه) هذا إن اتفق إصابته في العمل.
إن قلت: أصحاب التقليد مع تحقق الإصابة مؤمنون من أهل الجنة، غايته أن إيمانهم دون إيمان أصحاب اليقين من أرباب المكاشفة والبراهين ودرجاتهم دون درجاتهم فكيف يصح الرد عليهم؟
ص: 53
قلت: أولا كون اعتقادهم إيمانا يوجب ترتب القبول والثواب والجزاء عليه غير معلوم، وثانيا، أن الايمان التقليدي قابل للزوال بطريان أدنى شبهة خصوصا عند حضور الموت واضطراب النفس وإلقاء الشياطين شبهات متكاثرة فربما ينهدم اعتقاده بتلك الشبهات لعدم ابتنائه على أصل ثابت وأساس قائم، ولقد سمعت من أثق به أنه قال: كانت لعجوزة دعوى على أحد بمال جزيل فمرضت مرضا شديدا وحضرتها في حال الاحتضار وكررت الشهادتين عليها وهي لم تتكلم بهما، فلما بالغت في ذلك قالت: إن هذا الذي حاضر يقول لا تتكلمي بهما فانهما تمنعانك من أخذ حقوقك من فلان فماتت، وربما يظهر عنده خلاف بعض عقائده وبطلانه فيصير ذلك سببا لعدم وثوقه بساير اعتقاداته فيتردد، وربما يميل قلبه إلى حب زهرات الدنيا وشهواتها فيشتغل بها ويغفل عن أمور الآخرة لعدم كونه واثقا بها ثابتا عليها فيزهق روحه وهو على تلك الحالة مسلوب الايمان نعوذ بالله من هذه المفاسد وهذا هو المراد بقوله «إن شاء تطول عليه فقبل عمله وإن شاء رد عليه» يعنى أن مشية الله تعالى في شأنه لكون متزلزلا غير ثابت غير معلومة لنا إن شاء أبقاه على ما كان عليه بفضله وإن شاء وكله إلى نفسه. وهذا بخلاف العالم الثابت المنور قلبه بنور ربه فإنه لما كان مستيقنا مشاهدا لما في عالم الملك والملكوت بعين البصيرة عارفا بالمطالب عالما بالمفاسد وبحقارة الدنيا وزينتها كان له قدرة له تامة على أن يدفع عن نفسه جميع هذه المفاسد بعون الله تبارك وتعالى، وقد نقل عن بعض المشايخ العارف الكامل: أنه قال في حال الاحتضار حضرني ذلك اللعين وألقى علي شبهات كثيرة وأنا أجبت عن كل واحدة واحدة منها ببراهين قاطعة فأفحم فعلمت أن علمي نفعني في الدنيا والآخرة، و الله الموفق والمعين. و إلى ما ذكرناه أشار بقوله: (لأن الشرط عليه من الله أن يؤدي المفروض بعلم وبصيرة ويقين كيلا يكون ممن وصفه الله فقال تبارك وتعالى: (ومن الناس من يعبد الله على حرف)) قال القاضي أي على طرف من الدين لاثبات له فيه كالذي يكون على طرف الجيش فإن أحس بظفر قر وإلا فر ((فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه) قال أيضا، روي أنها نزلت في أعاريب قدموا إلى المدينة فكان أحدهم إذا صح بدنه ونتجت فرسه مهرا سريا وولدت امرأته غلاما سويا وكثر ماله وماشيته قال ما أصبت منذ دخلت في ديني هذا إلا خيرا واطمأن به وإن كان الأمر بخلافه قال: ما أصبت إلا شرا وانقلب، وعن أبي سعيد أن يهوديا أسلم فأصابته مصايب فتشأم بالإسلام فأتى النبي (صلى الله عليه وآله) فقال أقلني فقال: إن الإسلام لا يقال. فنزلت (خسر الدنيا والآخرة) أما خسران الدنيا فلابتلائه بالمصايب والفتن وذهاب الأموال والأولاد، وأما خسران الآخرة فلذهاب عصمته وحبوط عمله وفساد دينه بالارتداد (ذلك هو الخسران
ص: 54
المبين) لفوات رأس ماله الذي هو حياته الدنيا وحياته في الآخرة ولا خسران أظهر من ذلك وإنما كان شأنه ذلك.
(لأنه كان داخلا فيه) أي في الدين (بغير علم ولا يقين فلذلك صار خروجه بغير علم ولا يقين) فخرج منه كما دخل فيه (وقد قال العالم (عليه السلام)) المراد به هنا موسى بن جعفر (عليهما السلام)، وقيل: هو المراد من العالم إذا أطلق، ويقال له الكاظم وأبو الحسن على الاطلاق وأبو الحسن الأول والعبد الصالح وأبو إبراهيم، ويقال أبو الحسن الثاني للرضا (عليه السلام). وأبو الحسن الثالث للهادي (عليه السلام) وأبو عبد الله الصادق (عليه السلام). وأبو جعفر على الاطلاق وأبو جعفر الأول للباقر (عليه السلام). وأبو جعفر الثاني للجواد (عليه السلام) والماضي وأبو محمد للعسكري (عليه السلام) (من دخل في الايمان بعلم ثبت فيه ونفعه إيمانه، ومن دخل فيه بغير علم خرج منه كما دخل فيه) أي خرج منه بغير علم إما لشبهة أو لغرض من أغراض نفسانية وفيه أيماء إلى تساوي الايمان وعدمه عنده فليس استقراره فيه أولى من خروجه عنه.
(و قال (عليه السلام) من أخذ دينه) أي فرائضه أو طريقه وسبيله إلى الحق وثوابه (من كتاب الله وسنة نبيه (صلى الله عليه وآله)) بفهم وبصيرة (زالت الجبال قبل أن يزول) الضمير المستكن راجع إلى «من» أو إلى «دينه» وفيه على التقديرين مبالغة في استقراره على الدين وعدم اهتزازه بصرصر الشبهات وهبوب رياح الأغراض والبليات، لحصول اعتقاده بعلم ويقين وابتنائه على أصل متين (و من أخذ دينه من أفواه الرجال) تقليدا لهم واتباعا لآثارهم واقتفاء لأفعالهم وأطوارهم (ردته الرجال) عنه بإلقاء أدنى الشبهات وأضعف التدليسات لعدم تمسكه بمستند شديد وأصل سديد فهو كنبات يابس تكسره حوادث الزمن، وتقلبه رياح الفتن، وفيه إيماء لطيف إلى أن المقلد لا بد من أن ينقل من حال إلى حال لأن متابعته للأول ليس بأولى من متابعته للآخر، فإذا اختلفا يبقى هو مترددا في قبول قول أحدهما دون صاحبه فيرجع من الظن إلى الشك (و قال (عليه السلام) من لم يعرف أمرنا) أي شأننا في الإمامة ورتبتنا في الخلافة والوراثة (من القرآن) بل أخذه بمجرد التقليد أو الاستحسان (لم يتنكب الفتن) تنكبها تجنبها وتباعد عنها، يعني لا يقدر على العدول عنها ولا يأمن الوقوع فيها لأن فتنة الشبهة والشكوك قد تزيله عن عقايده، وفيه دلالة على وجوب الاستدلال في الأصول.
«و لهذه العلة انبثقت على أهل دهرنا بثوق هذه الأديان الفاسدة، والمذاهب المستشنعة التي قد استوفت شرائط الكفر والشرك كلها; وذلك بتوفيق الله تعالى خذلانه فمن أراد الله توفيقه وأن يكون إيمانه ثابتا مستقرا، سبب له الأسباب التي تؤديه إلى أن يأخذ دينه من كتاب الله وسنة نبيه صلوات الله عليه وآله بعلم ويقين وبصيرة، فذاك أثبت في دينه من الجبال الرواسي، ومن أراد الله خذلانه وأن يكون دينه معارا مستودعا - نعوذ بالله منه - سبب له أسباب الاستحسان والتقليد والتأويل من غير علم
ص: 55
وبصيرة. فذاك في المشيئة إن شاء الله تبارك وتعالى أتم إيمانه وإن شاء سلبه إياه ولا يؤمن عليه أن يصبح مؤمنا ويمسي كافرا، أو يمسي مؤمنا ويصبح كافرا، لأنه كلما رأى كبيرا من الكبراء مال معه وكلما رأى شيئا استحسن ظاهره قبله، وقد قال العالم (عليه السلام): إن الله عز وجل خلق النبيين على النبوة فلا يكونون إلا أنبياء، وخلق الأوصياء على الوصية فلا يكونون إلا أوصياء، وأعار قوما إيمانا فإن شاء تممه لهم وإن شاء سلبهم إياه. وقال: وفيهم جرى قوله: (فمستقر ومستودع).
وذكرت أن أمورا قد أشكلت عليك، لا تعرف حقائقها لاختلاف الرواية فيها، وأنك تعلم أن اختلاف الرواية فيها لاختلاف عللها وأسبابها وأنك لا تجد بحضرتك من تذاكره وتفاوضه ممن تثق بعلمه فيها، وقلت إنك تحب أن يكون عندك كتاب كاف يجمع [فيه] من جميع فنون علم الدين ما يكتفي به المتعلم ويرجع إليه المسترشد، ويأخذ منه من يريد علم الدين والعمل به بالآثار الصحيحة عن الصادقين (عليهما السلام) والسنن القائمة التي عليها العمل، وبها يؤدي فرض الله عز وجل وسنة نبيه (صلى الله عليه وآله) وقلت: لو كان ذلك رجوت أن يكون ذلك سببا يتدارك الله تعالى - بمعونته وتوفيقه - إخواننا وأهل ملتنا ويقبل بهم إلى مراشدهم».
(ولهذه العلة) بعينها وهي أن من أخذ دينه من أفواه الرجال ردته الرجال ومن لم يعرف أمرنا من القرآن يقع في الفتنة (انبثقت على أهل دهرنا) أي جرت عليهم. وفي النهاية انبثق الماء انفجر وجرى.
وفي المغرب بثق الماء بثقا: فتحه بأن خرق الشط أو السكر وانبثق هو إذا جرى بنفسه من غير فجر.
والبثق بالفتح والكسر الاسم. (بثوق هذه الأديان الفاسدة) فاعل انبثقت شبه الأديان الفاسدة بالسيول وأثبت لها البثوق أي الشقوق جمع البثق بمعنى الشق ففيه استعارة مكنية وتخييلية وأقحم البثوق وأسند الفعل إليها مع أن إسناده إلى هذه الأديان الشبيهة بالسيول أولى; للتنبيه على أن هذه الأديان قد أحدثت في دين الحق ثلما متكثرة وخللا متفاحشة متعددة لا يمكن تدراكها وإصلاحها، وفي بعض النسخ «انبسق» بالسين المهملة ومعناه طالت عليهم فروع هذه الأديان وأغصانها من انبسق النخل إذا طالت باسقاتها وبواسقها وفيه أيضا استعارة مكنية وتخييلية وما في الأصل أحسن وأتقن (والمذاهب المستشنعة) هي اثنان وسبعون لقوله (صلى الله عليه وآله) «ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة الناجية منها واحدة» (التي قد استوفت شرائط الكفر والشرك كلها) لأن أصحاب هذه المذاهب مخلدون في النار كما يقتضيه الحديث المذكور وغيره ولا معنى للكفر والشرك إلا ما يوجب الخلود فيها (وذلك) المذكور يعنى أخذ الدين من كتاب الله تعالى وسنة نبيه أخذه من أفواه الرجال (بتوفيق الله عز وجل وخذلانه) التوفيق: توجيه الأسباب نحو المطلوب الخير وهو يرجع إلى نصرة الطالب وإعانته على طلبته. ولا بد من وقوع ذلك لكل من تمسك بذيل رحمته لقوله تعالى (والذين جاهدوا فيها لنهدينهم
ص: 56
سبلنا إن الله لمع المحسنين) والخذلان: عدم الإعانة لمن أعرض عنه.
والحاصل: أنه تعالى هدى عباده أجمعين طريق الخير وطريق الشر فمن اختار طريق الخير أعانه عليه، ومن اختار طريق الشر وكله إلى نفسه فلا جبر ولا ظلم والله ليس بظلام للعبيد (فمن أراد الله توفيقه وأن يكون إيمانه ثابتا مستقرا) في لفظ الاستقرار إيماء إلى أن لفعل العبد مدخلا في ثبوت إيمانه (سبب له الأسباب التي تؤديه إلى أن يأخذ دينه من كتاب الله) وضع الظاهر موضع الضمير لزيادة التعظيم والتكريم (وسنة نبيه (صلى الله عليه وآله) بعلم ويقين وبصيرة) قلبية بها يسلك سبيل المعارف ويشاهد كمال الله وجماله وجلاله (فذاك أثبت في دينه من الجبال الرواسي) أي الثوابت لأن زوال الاعتقادات إنما يكون بتطرق الشبهات وتصادم التدليسات ولا سبيل لها إليه.
(و من أراد الله خذلانه وأن يكون دينه معارا مستودعا - نعوذ بالله منه - سبب له أسباب الاستحسان) أي خلا بينه وبينها ويعمل بعقله ما رآه حسنا مثل القياس وأصالة البراءة ومفهوم اللقب ومفهوم الصفة (1) إلى غير ذلك من المحسنات العقلية في أصول العقائد وفروعها (والتقليد للآباء) والكبراء (و التأويل) في المجمل المتشابه وغيرهما بمجرد رأيه (من غير علم وبصيرة) ناشية من الكتاب والسنة، وقول أهل البيت (عليهم السلام) (فذاك في المشية إن شاء الله تبارك وتعالى أتم إيمانه) ووفقه لسلوك سبيل النجاة (وإن شاء سلبه إياه) ووكله إلى نفسه، والنفس أمارة بالسوء فتورده موارد الهلكات (ولا يؤمن عليه أن يصبح مؤمنا ويمسي كافرا أو يمسي مؤمنا ويصبح كافرا) مثله كمثل المسافر لا بصيرة له وقد صادفه طريقان: أحدهما يوصله إلى المطلوب والآخر يبعده عنه، فان سلك الأول فقد اهتدى وإن سلك الآخر فقد ضل، أو كمثل مسافر سلك طريقا مخوفا قد كثر فيه السباع وقطاع الطريق فإن سلم منهم فقد رشد وإلا فقد هلك (لأنه كلما رأى كبيرا من الكبراء مال معه) من غير علم بأن ذلك حق أو باطل وقد ذمهم سبحانه بقوله (وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون) وحكى عنهم بقوله (يوم تقلب وجوههم في النار يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا) (وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا * ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنا كبيرا)) (وكلما رأى شيئا استحسن ظاهره قبله) لاستيناس قلبه بظواهر المحسوسات واستيحاش عقله عن بواطن المعقولات; إذ المعقولات إنما تدرك بعلوم برهانية وأنوار
ص: 57
ربانية وهي مفقودة فيه (ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور) فلذلك أفلس قلبه عن معرفة الأشياء على ما هي عليه وعن معرفة الأحكام وأحوال الآخرة التي بها قوام الايمان وثباته (وقد قال العالم (عليه السلام): إن الله عز وجل خلق النبيين على النبوة فلا يكونون إلا أنبياء) ولا يتزايلون عن وصف النبوة أصلا (وخلق الأوصياء على الوصية فلا يكونون إلا أوصياء) ولا يتفارقون عن معنى الوصاية والخلافة أبدا (وأعار قوما إيمانا فإن شاء تممه لهم وإن شاء سلبهم إياه، قال: وفيهم جرى قوله فمستقر ومستودع) مستقر بفتح القاف أو كسرها على اختلاف القراءة جار في النبي والوصي فبالفتح اسم مفعول يعني مثبت في الايمان، أو اسم مكان يعنى له موضع استقرار وثبات فيه وبالكسر اسم فاعل يعني مستقر ثابت فيه. و مستودع بفتح الدال اسم مفعول أو اسم مكان جار في المعار، واعلم أن الايمان والكفر طريقان متقابلان ولكل منهما سالك والسالك على طبقات متفاوتة. فالطبقة الأولى للايمان من وضع القوانين الشرعية بأمر الله تعالى وهم الأنبياء الذين أيدهم الله بروح النبوة وروح القدس. والثانية أوصياؤهم الذين أيدهم الله بروح الإمامة وإذا قبض الأنبياء انتقل روح القدس إلى أوصيائهم وهو لا ينام ولا يغفل ولا يلهو ولا يزهو، وبه يعرفون ما تحت العرش إلى ما تحت الثرى، ويشاهدون ما كان وما هو كائن وما يكون في الدنيا والآخرة. والثالثة التابعون لهم في الأقوال والأعمال والعقائد والمسلمون لهم في جميع ما أمروا به ونهوا عنه. والرابعة أصحاب التقليد والاستحسان الذين ينظرون ظواهر الأشياء ويأخذون ما رأوا حسنا ويتركون ما عدوه قبيحا. والطبقة الأولى للكفر من وضع القوانين الفاسدة لشبهات شيطانية وتسويلات نفسانية كواضعي الدين من الملاحدة والمجسمة ونحوهما من الأديان الفاسدة، والثانية المتعلمون لتلك الشبهات بتعليمهم والمروجون لتلك الأديان بأمرهم وتفهيمهم وهم بمنزلة أوصيائهم مقابل أوصياء الأنبياء (عليهم السلام). والثالثة التابعون لهم وأهل التسليم لعقائدهم وأفعالهم وأعمالهم. والرابعة أصحاب التقليد والاستحسان وحال الكل في الهداية والضلالة والرسوخ وعدمه ظاهرة إلا أصحاب التقليد والاستحسان من الفريقين فان الايمان والكفر فيهما معاران مستودعان فإن شاء الله تممها لهم وإن شاء سلبهم إياهما ومن ههنا ترى المؤمن قد يرتد فيصير كافرا بعدما كان مؤمنا أو الكافر يرجع ويصير مؤمنا بعدما كان كافرا، نعوذ بالله من سوء العاقبة.
(وذكرت أن أمورا قد أشكلت عليك لا تعرف حقايقها لاختلاف الرواية فيها) اختلافا يوجب الأخذ ببعضها طرح البواقي لعدم إمكان الجمع بينها بوجه (وإنك تعلم أن اختلاف الرواية فيها لاختلاف عللها وأسبابها) من جملتها أغراض نفسانية وتقربات سلطانية وتخيلات شيطانية لقوم سولت لهم أنفسهم فوضعوا الأحاديث لخبث عقائدهم على وفق مقاصدهم كما حكي أن غياث بن إبراهيم دخل على المهدي العباسي وكان المهدي يحب المسابقة بالحمام فروى عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال لا سبق إلا في خف أو
ص: 58
حافر أو نصل أو جناح فأمر له المهدي بعشرة آلاف درهم فلما خرج قال المهدي أشهد أن قفاه قفا كذاب على رسول الله، ما قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) أو جناح ولكن هذا أراد أن يتقرب إلينا وأمر بذبح الحمام وقال: أنا حملته على ذلك. وقد وضع المنافقون والزنادقة والغلات والخوارج أحاديث كثيرة، وحكي أن بعضهم كان يقول بعد ما رجع عن ضلالته: انظروا إلى هذه الأحاديث عمن تأخذونها فانا كنا إذا رأينا رأيا وضعنا له حديثا، ومنها توهم الراوي فربما سمع حديثا ولم يحفظه على وجهه ووهم فيه فلم يتعمد كذبا وهو في يده يقول ويعمل به ولو علم أنه وهمه لرفضه ولو علم المسلمون أنه وهم لرفضوه. ومنها: التقية إذ كثيرا ما كانوا (عليهم السلام) يفتون على سبيل التقية والخوف من النهب والقتل. ومنها: عدم علم الراوي بالناسخ فربما سمع الأمر بالشيء ثم نهوا عنه وهو لا يعلم، أو سمع النهي عن الشئ ثم أمروا به وهو لا يعلم فعلم المنسوخ ولم يعلم الناسخ فيروي المنسوخ ويعمل به، ولو علم هو أو المسلمون أنه منسوخ لرفضوه.
(وذكرت أنك لا تجد بحضرتك) حضرة الرجل قربه وفناؤه (من تذاكره وتفاوضه) فاوضه في الأمر أي جاراه ومفاوضة العلماء أن يعطي كل واحد منهم ما عنده من العلم صاحبه ويأخذ ما عند صاحبه وهي المساواة والمشاركة مفاعلة من التفويض وهو رد الأمور إلى الغير (ممن تثق بعلمه فيها) أي في الروايات حتى يكشف لك عن وجهها حجاب الاختلاف (وقلت: إنك تحب أن يكون عندك كتاب كاف يجمع [فيه] من جميع فنون علم الدين) الفنون الأنواع والأفانين الأساليبت وهي أجناس الكلام وطرقه، المراد بها هنا أصول المعارف وفروعها على اختلاف أنواعها (ما يكتفى به المتعلم ويرجع إليه المسترشد ويأخذ منه من يريد علم الدين والعمل به) ليكون تبصرة للطالبين وتذكرة للعالمين وتكملة للعاملين (بالآثار الصحيحة) متعلق بيجمع أو بيأخذ أو بعلم الدين أو ظرف مستقر حال عن «كتاب» (عن الصادقين (عليهما السلام) والسنن القائمة) المراد بالسنة هنا الطريقة النبوية الشاملة للمندوبات والمفروضات غيرها، والمراد بقيامها دوامها واستمرارها واتصال العمل بها إلى يوم القيامة (التي عليها العمل وبها يؤدي فرض الله وسنة نبيه (صلى الله عليه وآله)) تقديم الظرف في الموضعين للحصر، والمراد بالسنة هنا خلاف الفرض بقرينة المقابلة أو الأعم من الندب والفرض بتخصيص الفرض المذكور بما ثبت بالقرآن فقد طلب منه كتابا يكون العامل به مؤديا جميع ما عليه من معرفة أحوال المبدء والمعاد ومعرفة الفروع كلها.
(وقلت لو كان ذلك) أي لو وجد الكتاب المذكور (رجوت أن يكون ذلك سببا يتدارك الله) استدركت ما فات وتداركته بمعنى، وفيه إشارة إلى ما مر صريحا من اضمحلال أهل الملة المستقيمة وتفرق نظامهم وتشتت أحوالهم (بمعونته وتوفيقه) المعونة والإعانة بمعنى وفي بعض النسخ «بمعرفته» والمصدران مضافان إلى الفاعل الضمير عايد إلى قوله «سببا» وإرجاعه إلى الله تعالى يوجب خلو الجملة الوصفية
ص: 59
عن ضمير الموصوف (إخواننا وأهل ملتنا) من الفرقة الامامية فينتظم به أحوالهم بعد تشتتها ويجتمع كلمتهم بعد تفرقها (ويقبل بهم) أي يجعلهم مقبلين (إلى مراشدهم) الرشد خلاف الغي والمراشد الطرق الموصلة إلى الحق لأنها محال الرشد والهداية.
«فاعلم يا أخي أرشدك الله أنه لا يسع أحدا تمييز شئ مما اختلف الرواية فيه عن العلماء (عليهم السلام) برأيه إلا على ما أطلقه العالم بقوله (عليه السلام): اعرضوها على كتاب الله فما وافق كتاب الله عز وجل فخذوه، وما خالف كتاب الله فردوه وقوله (عليه السلام) دعوا ما وافق القوم فان الرشد في خلافهم.
وقوله (عليه السلام) خذوا بالمجمع عليه، فان المجمع عليه لا ريب فيه. ونحن لا نعرف من جميع ذلك إلا أقلة ولا نجد شيئا أحوط ولا أوسع من رد علم ذلك كله إلى العالم (عليه السلام) وقبول ما وسع من الأمر فيه بقوله (عليه السلام) بأيما أخذتم من باب التسليم وسعكم وقد يسر الله وله الحمد تأليف ما سألت وأرجو أن يكون بحيث توخيت فمهما كان فيه من تقصير فلم تقصر نيتنا في إهداء النصيحة إذ كانت واجبة لإخواننا وأهل ملتنا مع ما رجونا أن نكون مشاركين لكل من اقتبس منه وعمل بما فيه في دهرنا هذا وفي غابره إلى انقضاء الدنيا إذ الرب جل وعز واحد والرسول محمد خاتم النبيين - صلوات الله وسلامه عليه وآله - واحد والشريعة واحدة وحلال محمد حلال وحرامه حرام إلى يوم القيامة. ووسعنا قليلا كتاب الحجة وإن لم نكمله على استحقاقه لأنا كرهنا أن نبخس حظوظه كلها وأرجو أن يسهل الله جل وعز إمضاء ما قدمنا من النية إن تأخر الأجل صنعنا كتابا أوسع وأكمل منه نوفيه حقوقه كلها إن شاء الله تعالى وبه الحول والقوة وإليه الرغبة في الزيادة في المعونة والتوفيق. والصلاة على سيدنا محمد النبي صلى الله عليه وآله الطاهرين الأخيار. وأول ما أبدأ به وأفتتح به كتابي هذا كتاب العقل وفضائل العلم وارتفاع درجة أهله وعلو قدرهم ونقص الجهل وخساسة أهله وسقوط منزلتهم، إذ كان العقل هو القطب الذي عليه المدار، وبه يحتج وله الثواب وعليه العقاب والله الموفق».
(فاعلم يا أخي أرشدك الله أنه لا يسع أحدا تمييز شئ) أي لا يجوز من وسعه الشئ إذا جاز له أن يفعله ولم يضق عنه (مما اختلفت الرواية فيه عن العلماء (عليهم السلام)) «فيه» متعلق بالاختلاف، «وعن» بالرواية، والمراد بالاختلاف ما ذكرنا من الاختلاف التام الذي يوجب عليه العمل ببعضها طرح البواقي، وحمله على مطلق الاختلاف بين الروايات التي يصلح أن يكون بعضها مفسرا لبعض بعيد جدا (برأيه) متعلق بالتمييز أي لا يجوز التمييز بما يقتضيه رأيه بنحو من أنحاء الاستحسان لأن دين الله لا يدرك بالرأي والقياس (الا على ما أطلقه العالم) أي أحله وجوزه من الطلق بالكسر وهو الحلال (بقوله (عليه السلام) اعرضوها) أي الروايات المختلفة (على كتاب الله عز وجل فما وافق كتاب الله جل وعز
ص: 60
فخذوه وما خالف كتاب الله فردوه) لأن كل حكم من الأحكام وكل حق من الحقوق موجود في الكتاب كما قال سبحانه (ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين) (1) فما لم يوجد فيه ليس بحكم ولا حق وكل ما ليس بحكم ولا حق فهو مردود.
(وقوله (عليه السلام) دعوا) من الروايات المختلفة بعد موافقة الجميع كتاب الله (ما وافق القوم) يعني العامة فان الرشد أي الهداية إلى الحق (في خلافهم) لأنهم سالكون مسالك الطبايع راغبون عن مراشد الشرايع غالبا وهذه قرينة واضحة على أن الحق في خلافهم (وقوله (عليه السلام) خذوا) من الروايات المختلفة (بالمجمع عليه) عند العصابة المحقة (فان المجمع عليه) عندهم (لا ريب فيه) وقد يستدل بهذا على حجية الإجماع وسنتكلم عليه إن شاء الله تعالى (و نحن لا نعرف من جميع ذلك إلا أقله) أي أقل ذلك الجميع يعني إنا لا نعرف من أفراد التمييز الحاصل من جهة تلك القوانين المذكورة إلا الأقل أو إنا لا نعرف من جميع ذلك المذكور من القوانين الثلاثة إلا الأقل فان ذلك متوقف على معرفة الأحكام الجزئية واستنباطها من الكتاب ومعرفة مذاهب العامة فيها ومعرفة إجماع الفرقة الناجية عليها، وتحصيل هذه المعارف متعسر جدا، وقيل: المقصود أنا لا نعرف للاعتماد والتعويل لكل أحد من المتعلمين من جميع ما ذكرنا إلا ما هو أقله إتعابا وأسهله عليهم مأخذا، وهو المفسر بقوله «ولا نجد» وهذا مستبعد جدا لعدم فهمه من العبارة (ولا نجد شيئا أحوط ولا أوسع من رد علم ذلك كله إلى العالم) من أهل بيت نبينا (صلى الله عليه وآله) فان فيه التحرز عن القول في الدين بغير علم والتخلص عن التعب والتجنب من عذاب الآخرة كما قال العالم (عليه السلام) «إذا كان ذلك فأرجه حتى تلقى إمامك فان الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات» وقيل: يجوز أن يراد بالعالم العالم من علماء الامامية الذي علم أصول المذهب وفروعه ببصيرة وبرهان، وهذا بعيد أما أولا فلأن المعهود من كلام المصنف أنه كلما أطلق العالم أراد به المعصوم (عليه السلام) وأما ثانيا فلوجود (عليه السلام) بعد العالم في بعض النسخ، وأما ثالثا فلأنه لا يناسب العبارات الآتية إلا بتكلف كما ستعرفه (وقبول ما وسع من الأمر فيه) أي فيما اختلفت الرواية فيه عنهم (عليهم السلام) وفاعل «وسع» بالتشديد ضمير العالم (بقوله) متعلق بوسع (بأيما أخذتم من باب التسليم) للعالم والانقياد له (وسعكم) أي جاز لكم، وفيه دلالة على أن المكلف مخير في العمل بالروايات المختلفة في زمان الغيبة كما هو مذهب أرباب أصول الفقه وعلى ما جوزه ذلك القائل لا يرتبط هذا الكلام بما قبله إلا بتكلف وهو أن يجعل قوله: «بقوله» متعلقا بالقبول، ومعناه قبول ما وسع ذلك العالم من علماء الامامية وصح له من التحقيق والتوفيق بين الروايات المختلفة بقوله أي بمجرد
ص: 61
قوله ورأيه للاعتماد عليه فيما صححه أو رده من الروايات والفتاوي والأحكام ويجعل قوله «بأيما أخذتم - إلى آخره -» مبتدءا وخبرا على سبيل الاستيناف لا مقول القول، يعنى أيما أخذتم به من أقوال ذلك العالم تسليما له وقبولا لقوله جاز لكم العمل به، وهذا التكلف بعينه من غير تفاوت أشار إليه ذلك القائل وهو أعلم بما قال وبما حداه على ذلك.
(وقد يسر الله وله الحمد تأليف ما سألت) من الكتاب الكافي الشامل لجميع فنون علم الدين (وأرجو أن يكون بحيث توخيت) أي تحريت وقصدت فمهما كان فيه من تقصير في الجمع والتأليف وذكر ما يحتاج إليه (فلم تقصر نيتنا في إهداء النصيحة) التقصير في الأمر التواني فيه وعدم الاتيان به على وجه الكمال والاهداء الابلاغ والإرسال. والنصيحة فعل شئ الذي به الصلاح كارشاد الجاهل وتنبيه الغافل والإعانة على مصالح الدنيا والدين، يعني لو كان فيه تقصير ما لم يكن ذلك لقصور في النية وتوانيها بل بالغت في إبلاغ النصيحة بقدر الوسع والطاقة (إذ كانت) أي النصيحة (واجبة لإخواننا وأهل ملتنا) لقول رسول الله (صلى الله عليه وآله) «لينصح الرجل أخاه كنصيحته لنفسه» (1) وقول الصادق (عليه السلام): «يجب للمؤمن على المؤمن النصيحة» (2) (مع ما رجونا) «ما» مصدرية والظرف حال من فاعل أرجو يعني أن ذلك الرجاء مقرون مع رجاء (أن نكون مشاركين لكل من اقتبس منه) أي استفاد منه علما وهداية (وعمل بما فيه) من الأحكام (في دهرنا) متعلق باقتبس وعمل أو حال عن فاعلهما (وفي غابره) الغابر الماضي والمستقبل وهو من الأضداد والمراد هنا الثاني (إلى انقضاء الدنيا) متعلق بالغابر وغاية للاقتباس والعمل فلا ينافي رجاء مشاركة الثواب في الآخرة ولم يذكره لأنه تابع لذلك الرجاء; ثم علل بقاء الاقتباس والعمل إلى انقضاء الدنيا بثلاثة أمور، الأول: ما أشار إليه بقوله (إذ الرب عز وجل واحد) لا شريك له فلا يتطرق التغير في تدبيره من جهة الشركة والتنازع، والثاني: ما أشار إليه بقوله (والرسول محمد خاتم النبيين (صلى الله عليه وآله) واحد) لا شريك له في تبليغ الرسالة فلا يتصور فساد الدين من جهة الشركة في الرسالة أيضا.
والثالث: ما أشار إليه بقوله (والشريعة واحدة) إذ لا نبي بعده ولا شريعة بعد شريعته فلا يتصور زوال الدين من جهة النسخ أيضا، وبالجملة زوال الدين إما من جهة التنازع التابع للشركة في الرب أو في الرسول أو من جهة النسخ وإذا انتفت هذه الأمور بقي الدين إلى قيام الساعة كما أشار بقوله (وحلال محمد حلال، وحرامه حرام إلى يوم القيامة) فإذن كان الاقتباس والعمل بما في هذا الكتاب المشتمل على حلاله وحرامه باقيا إلى يوم القيامة (ووسعنا قليلا) التوسيع خلاف التضييق، تقول وسعت الشئ فاتسع أي صار واسعا و «قليلا»
ص: 62
منصوب على المصدر أي توسيعا قليلا (كتاب الحجة) وهو الكتاب الثالث (1) من كتب الكافي سمي به لاشتماله على بيان لزوم الحجة وعدم خلو الأرض منها ما دامت السماوات والأرض (وإن لم نكمله) أي كتاب الحجة (على استحقاقه) لأنا لم نذكر جميع ما يتعلق به الأحاديث والأخبار (لأنا كرهنا) تعليل للتوسيع في الحجة (أن نبخس) أي ننقص ونترك (حظوظه كلها) الحظوظ جمع كثرة للحظ وهو النصيب (وأرجو أن يسهل الله عز وجل امضاء ما قدمنا من النية) أي القصد إلى تأليف كتاب الكافي أو إلى توسيع كتاب الحجة قليلا هذا إن كان وضع الخطبة قبل التأليف وإلا فالمراد بالنية القصد إلى توسيع كتاب الحجة منفردا على وجه الكمال وذكر جميع ما يتعلق به من الأخبار كما أشار إليه بقوله (إن تأخر الأجل) أي الوقت المضروب المحدود من العمر (صنعنا) من الصنع أو من التصنيف (كتابا) في الحجة (أوسع وأكمل منه) أي من كتاب الحجة الذي ذكرناه في هذا الكتاب (نوفيه حقوقه كلها إن شاء الله تعالى) أوفاه حقه ووفاه بمعنى أي أعطاه وافيا كاملا غير ناقص، والجملة حال عن فاعل «صنعنا» (وبه الحول والقوة) الحول الحركة يقال: حال الشخص يحول إذا تحرك، والقوة الطاقة، يقال: قوي على الأمر إذا طاقه، أي به الحركة إلى المقاصد والمطالب مطلقا والقوة على تحصيلها والطاقة، على تحملها أو به الحركات الفكرية والأنظار العقلية مطلقا أو في تأليف هذا الكتاب والقوة عليها. وتقديم الجار للاختصاص مع الاهتمام ومراعاة قرب المرجع (وإليه الرغبة في الزيادة في المعونة) أي في الإعانة على الخيرات مطلقا أو على تأليف هذا الكتاب (والتوفيق) أي تكميل الأسباب لتحصيل المطالب (والصلاة) أي الرحمة التامة الربانية بمعنى إفاضة الإحسان دائما (على سيدنا محمد النبي) أي المرتفع على جميع الخلائق من النبوة وهي الارتفاع أو المخبر عن الله من النبأ وهو الخبر (وآله الطيبين الأخيار).
(وأول ما أبدء به وأفتتح به كتابي هذا كتاب العقل والجهل وفضايل العلم وارتفاع درجة أهله وعلو قدرهم) في الدنيا والآخرة (ونقص الجهل وخساسة أهله وسقوط منزلتهم) عند رب العالمين والملائكة المقربين والأنبياء المرسلين وعباد الله الصالحين، ثم أشار إلى وجه تقديم كتاب العقل على سائر الكتب بقوله (إذا كان العقل هو القطب الذي عليه المدار) أي مدار التكليف والحكم بين الحق والباطل من الأفكار وبين الصحيح والسقيم من الأنظار وسائر القوى تابعة له منقادة لأمره ونهيه وهو الحاكم على جميعها، وقطب الرحى بحركات القاف والضم أشهر: الحديدة المركبة في وسط حجر الرحى السفلى التي تدور حولها العليا، وقطب القوم سيدهم الذي يدور عليه أمرهم كصاحب الجيش ونحوه (وبه يحتج) على العباد في تصويب أعمالهم وتخطئة أفعالهم (و له الثواب وعليه العقاب) اللام في «له» إما للتعليل
ص: 63
أي لأجله أو للاختصاص وحصر الثواب والعقاب باعتبار أنه منشأ وأهل لهما سواء حصلا له عند تجرده عن البدن كما في البرزخ أو عند اقترانه به كما في الآخرة.
ص: 64
بسم الله الرحمن الرحيم 1 - أخبرنا أبو جعفر محمد بن يعقوب قال: حدثني عدة من أصحابنا منهم محمد بن يحيى العطار، عن أحمد بن محمد، عن الحسن بن محبوب، عن العلاء بن رزين عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: لما خلق الله العقل استنطقه ثم قال له: أقبل فأقبل ثم قال له أدبر فأدبر ثم قال وعزتي وجلالي ما خلقت خلقا هو أحب إلي منك ولا أكملتك إلا فيمن أحب، أما أني إياك آمر وإياك أنهي وإياك اعاقب وإياك اثيب».
الغرض من الفصل بين أنواع المسائل بالترجمة بالكتاب وبين مسائل النوع بالفصول والأبواب هو التسهيل على الناظر وتنشيط المتعلم فان المتعلم إذا ختم كتابا اعتقد أنه كاف في ذلك النوع فينشط إلى قراءة غيره، بخلاف ما لو كان التصنيف كله جملة واحدة. والأولى بالقاري أن يصرح بالترجمة ويقول مثلا كتاب كذا لأنها جزء من التصنيف، وكتاب العقل والجهل اسم لجملة من الأحاديث المتضمنة لأحكامها.
(أخبرنا أبو جعفر محمد بن يعقوب) كان هذا كلام الرواة عنه أو كلامه بلسانهم أو إخبار عن نفسه بطريق الغيبة (قال حدثني عدة من أصحابنا) قال المصنف رحمه الله في هذا الكتاب في كثير من الأخبار «عدة من أصحابنا» قال العلامة وغيره أنه رحمه الله قال: «كل ما قلت في هذا الكتاب عدة من أصحابنا عن أحمد بن محمد بن عيسى فهم محمد بن يحيى العطار، وعلي بن موسى الكميذاني وداود بن كورة وأحمد بن إدريس وعلي بن إبراهيم بن هاشم. وكل ما قلت فيه عدة من أصحابنا عن أحمد بن محمد بن خالد فهم علي بن إبراهيم، وعلي بن محمد بن عبد الله بن أذينة، وأحمد ابن عبد الله ابن أذينة، وعلي بن الحسن. وكل ما ذكرت فيه عدة من أصحابنا عن سهل بن زياد فهم علي بن محمد بن علان، ومحمد بن أبي عبد الله، ومحمد بن الحسن، ومحمد بن عقيل الكليني إنتهى» والظاهر أن محمد بن أبي عبد الله هو محمد بن جعفر الأسدي الثقة، والعدة على هذا في جميع الموارد مشتملة على العدول والثقاة فهذا
ص: 65
الحديث صحيح لأن بواقي الرجال ثقات وعدول.
(منهم محمد بن يحيى العطار عن أحمد بن محمد عن الحسن بن محبوب عن العلاء بن زرين عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال لما خلق الله العقل) أي النفس الناطقة وهي الجوهر المجرد عن المادة في ذاته دون فعله في الأبدان بالتصرف والتدبير وهذا الجوهر يسمى نفسا باعتبار تعلقه بالبدن وعقلا باعتبار تجرده ونسبته إلى عالم القدس، إذ هو بهذا الاعتبار يعقل نفسه أي يحبسها ويمنعها عما يقتضيه الاعتبار الأول من الشرور والمفاسد المانعة من الرجوع إلى هذا العالم وله مراتب متفاوتة وحالات مختلفة في القوة والضعف. وهي ستة، أولها: حالة الاستعداد الصرف للكمالات (1).
وثانيهما: حالة بها يشاهد الأوليات (2). وثالثها: حالة بها يشاهد النظريات من مرآت الأوليات (3).
ورابعها:حالة بها يشاهد تلك النظريات بعد زوالها من هذه المرآة واختزانها من غير كسب جديد وهذه الحالة حالة علم اليقين، وهي حالة بها يشاهد الصور العلمية والمطالب اليقينية في ذاته، وخامسها: حالة عين اليقين وهي حالة بها يشاهد تلك الصور والمطالب في ذات المفيض (4). وسادسها: حالة حق اليقين وهي حالة بها يتصل بالمفيض اتصالا معنويا وتلاقي به تلاقيا روحانيا (5) وهذه الحالة هي أعظم الحالات للقوة
ص: 66
البشرية، وقد تسمى هذه الحالات التي للنفس فيها عقلا أيضا. ومن ههنا ظهر وجه تفاوت العقول في البشر ووجه قبولها للكمال والنقصان. وقد يطلق العقل على الجوهر المفارق عن المادة في ذاته وفعله (1) ويقال إنه أول خلق من الروحانيين، وإنه كثير العدد كثرة لا مثل كثرة الأشخاص المندرجة تحت نوع واحد، ولا مثل كثرة الأنواع المندرجة تحت جنس واحد لأن تلك الكثرة من توابع المادة (2) والعالم القدسي منزه عنها بل هي مراتب وجودية نورانية بسيطة مختلفة في الشدة والضعف في النورية متفاوتة في الكمال والقرب إلى نور الأنوار، وأنه روح النفس الناطقة وحالة لها ومتعلق بها كتعلق النفس بالبدن وباضاءاته وإشراقاته تضيء النفس وتشرق وتبصر ما في عالم الملك والملكوت وتعرف منافعها ومضارها فتطلب الأول وتجتنب عن الثاني، وأنه لا بعد في ذلك التعلق لأنه إذا جاز تعلق النفس بالبدن مع المباينة بينهما في التجرد والمادية جاز تعلق ذلك الجوهر بالنفس (3) مع المناسبة بينهما في التجرد بالطريق الأولى. والحق أن وجود ذلك الجوهر أمر ممكن دل عليه ظاهر كثير من الروايات لكن لا على الوجه الذي ذهب إليه طائفة من الفلاسفة من أنه موجد للأفلاك (4) وما فيها وما تحتها من الأجسام
ص: 67
والعناصر وغيرها فان وجوده على هذا الوجه غير ثابت لا عقلا ولا نقلا، بل باطل بالنظر إلى الآيات والروايات الدالة على أن موجد ما ذكر ليس إلا الله جل شأنه وأن تكثره وتعلقه بالنفس على الوجه المذكور أيضا أمر ممكن، وأن انتساب الحالات والمراتب المذكورة للنفس إليه باعتبار تفاوت إشراقاته عليها أيضا جايز، وأن انتساب الثواب والعقاب إليه غير بعيد إذ كما أن ثواب البدن وعقابه باعتبار متعلقه وروحه الذي هو النفس كذلك يجوز أن يكون ثواب النفس وعقابها باعتبار متعلقها وروحها الذي هو ذلك الجوهر، إذا عرفت هذا فلا يبعد أن يراد بالعقل في الروايات الدالة على أنه أول خلق من الروحانيين وأنه حالة من أحوال النفس كما في حديث الجنود وغيره ذلك الجوهر (1) ثم معاني العقل على تباينها يجمعها أمر واحد يشترك الكل فيه وهو أنه ليس بجسم ولا جسماني ولهذا صح أن يجعل موضوعا لفن واحد كما في هذا الكتاب ويبحث عن العوارض الذاتية له ولأقسامه وللرأي الصائب أن يحمله في كل حديث على ما يناسبه من المعاني المذكورة.
وإذا عرفت العقل فاعرف الجهل بالمقابلة فهو إما النفس باعتبار تعلقها بالبدن والحالات المقابلة للحالات المذكورة لأن ذلك التعلق وتلك الحالات منشأ لظلمة النفس وانكسافها وميلها إلى الشرور، أو أمر مقابل لذلك الجوهر النوراني متعلق بالنفس وروح خبيث لها يدعوه إلى الشر والفساد، ولا يبعد أن يكون ما في بعض الروايات «من أن المؤمن مؤيد بروح الايمان» (2) و «أن لكل قلب اذنين على أحدهما ملك يهديه وعلى الآخر شيطان يضله» (2) إشارة إلى العقل والجهل بهذا المعنى والله أعلم بحقائق الأمور (استنطقه) ناطقة واستنطقه أي كلمه وفي استنطاقه إخراج له عن الوحشة وتأنيس له بالقربة وتكريم له
ص: 68
بالعزة كما يقع مثل ذلك كثيرا ما بين المحب والمحبوب ومن هذا القبيل قوله تعالى (وما تلك بيمينك يا موسى) مع علمه تعالى بخفيات الأمور (ثم قال له:
أقبل فأقبل ثم قال له أدبر فأدبر) كأن المراد إقباله إلى ما يصلح أن يؤمر به من الطاعة وإدباره عما ينهى عنه من المعصية أو إقباله إلى المقامات العالية والدرجات الرفيعة التي يمكنه الوصول إليها، وإدباره عن تلك المقامات ونزوله في منازل الطبيعة الجسمانية وهبوطه مواطن الظلمة البشرية، ولعل الغرض من الأمر بالاقبال إراءه مقاماته وإظهار درجاته ليستيقظ في العالم السفلي من نوم الجهالة وسنة البطالة ويتذكر بأن له سوى هذه النشأة الدنية نشأة أخرى أحسن وأفضل منها بل لا نسبة بينهما، أو إقباله إلى الدنيا وإدباره عنها وعدم ركونه إليها، وقيل: المراد بالأمر بالاقبال والادبار هو الأمر التكويني الايجادي لا التكليفي والاقبال والادبار التزيد والتنقص في كل مرتبة من مراتب القوة العاملة بالقياس إلى العلوم والأخلاق كما وكيفا بحسب كل من الاستعداد الأولي الجبلي في الفطرة الأولى والاستعداد الثاني المكتسب في الفطرة الثانية، فان بالإعمال والتعطيل في الفطرة الثانية يربو ويطف ما في الفطرة الأولى والذي من لوازم الذات هو القدر المشترك السيال بين حدي الربو والطفافة وهو متحفظ غير متبدل ما دامت الذات في مراتب التزيد والتنقص. وفيه: أن تكوينه على قبول الزيادة والنقصان إنما هو في مرتبة تكوين ذاته لا بعده كما يشعر به لفظة «ثم» (ثم قال وعزتي) أي وغلبتي على جميع الممكنات يقال: عزه يعزه بالفتح عزا إذا غلبه والاسم العزة ومنه العزيز من أسمائه تعالى بمعنى القوي الغالب الذي لا يغلب وبمعنى الملك مثل قول إخوة يوسف (يا أيها العزيز) (وجلالي) أي وعظمة شأني وارتفاع قدري ومكاني، ومنه الجليل من أسمائه تعالى بمعنى العظيم المطلق، والواو للقسم وما بعدها مبتدأ وخبره محذوف وهو قسمي (ما خلقت خلقا هو أحب إلي منك) دل على أن العقل ليس هو أول المجعولات (1) كما زعم. قيل: المحبة ميل القلب إلى ما يوافقه وهي بين الطرفين لما روي عن الصادق (عليه السلام) حين سأله رجل عن رجل يقول: أودك فكيف أعلم أنه يودني فقال: امتحن قلبك فإن كنت توده فإنه يودك» (2) سيما إذا أخبر أحدهما الآخر بحبه له فإنه يوجب حب الآخر للمخبر أيضا كما ورد في بعض الأخبار، ومن ههنا يعلم أن العقل كما كان أحب المخلوقات إلى الله سبحانه كذلك كان سبحانه أحب الموجودات إلى العقل وسبب محبة الشئ إما كونه حسنا في ذاته، أو في الحس كالصور الجميلة. أو في العقل كمحبة الصالحين، أو كونه محسنا يجلب نفعا أو يدفع ضرا، وثمرة محبة الله لخلقه إرادة الخير له وإفاضة رحمته عليه والاحسان إليه بكشف الحجاب عنه وتمكينه من أن يطأ بساط قربه وثمرة محبة الخلق له تعالى وقوفه عند حدوده وحبه لمن أحبه وبغضه لمن أبغضه
ص: 69
واستيناسه واستيحاشه عما سواه، وتجافيه عن دار الغرور وترقيه إلى عالم النور، وكأن من أنكر المحبة بينه وبين خلقه وزعم أن ذلك يوجب نقصا في ذاته تعالى أنكر المحبة بمعنى الميل لأن الله تعالى منزه عن أن يميل أو يمال إليه وليس هذا المعنى مرادا هنا بل المراد هنا هي الغايات والثمرات المذكورة لأن ما نسب إليه تعالى مما يمتنع أخذه باعتبار المبادي والحقائق وجب أخذه باعتبار الغايات وقد شاع أمثال ذلك في القرآن العزيز. على أنه قد يقال محبة الخلق له بمعنى ميل العقل ليس بممتنع لأن الميل العقلي إدراك ولا يمتنع ذلك كما لا يمنع العلم به، وإنما الممتنع هو الميل الحسي لاستلزامه أن يكون في جهة والوجه العقلي في كونه أحب المخلوقات إليه أن الطاعة والانقياد مع القدرة على المخالفة أشد من الطاعة بدونها وأدخل في التقرب واستفاضة الرحمة والاحسان منه تعالى. وقيل: الوجه فيه أن المحبة تابعة لادراك الوجود لأنه خير محض، فكل ما كان وجوده أتم كانت خيريته أعظم والإدراك المتعلق به أقوى والابتهاج به أشد فأجل مبتهج بذاته هو الحق الأول، لأن إدراكه لذاته أشد إدراكا لأعظم مدرك له الشرف الأكمل والنور الأنور والجلال الأرفع، فذاته سبحانه أحب الأشياء إليه وهو أشد مبتهج به، ومحبته لعباده راجعة إلى محبته لذاته لأن كل من أحب شخصا أحب جميع حركاته وأفعاله وآثاره لأجل ذلك المحبوب; فكل ما هو أقرب إليه فهو أحب إليه وجميع الممكنات على مراتبها آثار الحق وأفعاله فالله يحبها لأجل ذاته وأقرب المجعولات إليه هو العقل، فثبت أنه أحب المخلوقات إليه. ومن المتكلمين من أنكر محبة الله لعباده زعما منهم أن ذلك يوجب نقصا في ذاته ولم يعلموا أن محبة الله لخلقه راجعة إلى محبته لذاته إنتهى. وفيه نظر من وجوه أما أولا فلان قوله «المحبة تابعة لادراك الوجود، ممنوع وما ذكرناه لاثباته من أن الوجود خير محض مدخول (1) والبحث عنه مشهور مذكور في موضعه، وأما ثانيا فلأن كون العقل المبحوث عنه أقرب المجعولات كلها إليه سبحانه ممنوع (2) وأما ثالثا فلأن المحبة والبغض متقابلان وقد نسب البغض لبعض المخلوقات إليه سبحانه ولا شك أن بغضه له ليس لأجل أنه من آثاره بل لأجل شئ آخر فلم لا يجوز أن لا يكون محبته لخلقه لا لأجل أنه من آثاره بل لأجل شئ آخر (3) وأما رابعا فلأن قوله تعالى (إن الله يحب المحسنين) (إن الله يحب التوابين
ص: 70
ويحب المتطهرين) صريح في أن محبته لهم لأجل إحسانهم وتوبتهم وطهارتهم لا لأجل أنهم من آثاره، ولو أريد أن الاحسان والتوبة والطهارة من فعله وآثاره لرجع هذا إلى قول الأشاعرة ويتسع دائرة المناقشة فليتأمل.
(و لا أكملتك إلا فيمن أحب) دل على أن كمال العقل كأصله حباء من الله جل شأنه ولكن لكسب العبد وعنايته مدخل فيه كما يدل عليه قول موسى بن جعفر (عليه السلام): «من أراد الغنى بلا مال، وراحة القلب من الحسد، والسلامة في الدين فليتضرع إلى الله عز وجل في مسئلته بأن يكمل عقله (1)» ويرشد إليه التجربة فإن من نشأ في التعلم وطهارة النفس وصرف القوة العلمية والعملية في تحصيل العلوم والأعمال والأخلاق المرضية ازداد عقله ضوءا ونفسه نورا يكاد يبصر ما تحت العرش وما تحت الثرى، وتلك العناية التي هي من التوفيقات الربانية إنما يتوقف على وجود أصل العقل لا على كماله فلا يلزم الدور.
(أما إني إياك آمر وإياك أنهى وإياك اعاقب وإياك اثيب) «أما» حرف تنبيه يصدر بها الكلام الذي لمضمونه خطر وعناية لتنبيه المخاطب وإيقاظه طلبا لاصغائه، وتقديم المفعول للاختصاص فإن العقل وإن استشعر من الأمر بالاقبال والإدبار أنه مخلوق يتوجه إليه الأمر والنهي لكنه استشعر أيضا بأنه مقارن مع مخلوق آخر فكأنه غفل عن ذلك لشدة شغفه بمخاطبة ربه جل ذكره وتوهم أن الأمر والنهي والثواب والعقاب يتوجه إليه مع مشاركة الغير أو يتوجه إلى الغير وحده لا إليه، فأتى الله سبحانه بحرف التنبيه إيقاظا له عن تلك الغفلة وإظهارا بأن الكامل لا بد من أن لا يصير مغرورا بكماله بل هو دائما يحتاج إلى تنبيه وتذكير وبطريق الحصر دفعا لما عرض له من التوهم وإشعارا بأن القابل للخطاب هو دون غيره وحصر الثواب والعقاب فيه باعتبار أنه بذاته، أو بواسطة قوة وروية فيه منشأ للطاعة والعرفان ومبدء للمعصية والطغيان في مواد الإنسان ومستحق لهما في ضمن تلك المواد. فلا يدل الحديث على ثبوتهما له مجردا عنها أصلا فضلا عن أن يدل على نفي المعاد الجسماني.
وانطباق معنى الحديث على العقل بالمعنى الأول وهو النفس باعتبار التجرد ظاهر، وبالمعنى الثاني وهو حالة النفس وقوتها الداعية إلى الخيرات في المراتب المذكورة يحتاج في قوله «إياك أعاقب وإياك اثيب» إلى تكلف بأن يقال معناه بك أعاقب وبك اثيبت على سبيل التوسع، لأن المعاقب والمثاب هو النفس، أو يقال لما كانت تلك القوة
ص: 71
منشأ تكليف النفس نسب الثواب والعقاب إليها على سبيل التجوز والمعنى الأخير وهوا لجوهر النوراني المفارق عن المادة في ذاته وفعله يحتاج في هذا القول وفي قوله: «ولا أكملتك إلا فيمن أحب» إلى تكلف بأن يقال المراد بإكماله أكمال إشراقاته على النفس، وبثوابه وعقابه ثواب النفس وعقابها باعتبار الاستضاءة من مشكاته وعدمها. وقيل:
المراد بالعقل هنا العقل النبوي والحقيقة المحمدية وهو الروح الأعظم المشار بقوله تعالى (قل الروح من أمر ربي) وأحب الخلق إليه استنطقه الله تعالى بعد ما خلقه وجعله ذا نطق وكلام يليق بذلك المقام ثم قال له: أقبل إلى الدنيا واهبط إلى الأرض رحمة للعاملين فأقبل فكان روحه مع كل نبي باطنا ومع شخصه المبعوث ظاهرا، ثم قال له: أدبر يعني أدبر عن الدنيا وارجع إلى ربك، فأدبر عنها ورجع إليه ليلة المعراج وعند المفارقة عن دار الدنيا ثم أعلمه تشريفا وتكريما له بأنه أحب الخلق إليه وآكد ذلك بالقسم، ثم قال: «إياك آمر وإياك أنهى وإياك أعاقب وإياك اثيب» والمراد بك آمر وبك أنهى وبك أعاقب من جحدني وجحدك من الأولين والآخرين وبك اثيب من عرفني وعرفك منهم كل ذلك لأنك سبب للايجاد ولولاك لما خلقت الأفلاك، أو المراد إياك آمر إياك أنهى لأنك ملاك التكليف وإياك اعاقب بحبسك في الدنيا مدة ودخولك في المنزل الرفيع من الجنة وإياك اثيب باعتبار غاية كمالك وكمال قربك ومنزلتك لدينا، ولدينا مزيد والله أعلم بحقيقة كلامه.
2 - «علي بن محمد، عن سهل بن زياد، عن عمرو بن عثمان، عن مفضل بن صالح، عن سعد بن طريف، عن الأصبغ بن نباته، عن علي (عليه السلام) قال: هبط جبرئيل (عليه السلام) على آدم (عليه السلام) فقال: يا آدم إني امرت أن اخيرك واحدة من ثلاث فاخترها ودع اثنتين فقال له آدم: يا جبرئيل وما الثلاث؟ فقال: العقل والحياء والدين، فقال آدم (عليه السلام) إني قد ا خترت العقل فقال جبرئيل للحياء والدين:
انصرفا ودعاه فقالا: يا جبرئيل إنا امرنا أن نكون مع العقل حيث كان قال: فشأنكما وعرج».
(علي بن محمد) يروي المصنف في هذا الكتاب كثيرا عن علي بن محمد وهو علي بن محمد بن إبراهيم بن أبان الرازي الكليني المعروف بعلان ثقة عين (عن سهل بن زياد) ضعيف في الحديث (عن عمر بن عثمان) كوفي ثقة نقي الحديث (عن مفضل بن صالح) ضعيف كذاب (عن سعد بن طريف) قيل:
هو صحيح الحديث ونقل العلامة عن النجاشي أن يعرف وينكر، وعن ابن الغضائري أنه ضعيف وقال الكشي عن حمدويه أنه كان ناو وسيا وقف على أبي عبد الله (عليه السلام) (عن الأصبغ ابن نباته) بضم النون قال العلامة والنجاشي الشيخ في فهرست: إنه كان من خاصة أمير المؤمنين (عليه السلام) وقال العلامة: إنه
ص: 72
مشكور.
(عن علي (عليه السلام) قال هبط جبرئيل (عليه السلام) على آدم (عليه السلام)) الظاهر أن ذلك كان بعد هبوط آدم من الجنة وبعد قبول توبته (فقال يا آدم إني امرت أن أخيرك واحدة من ثلاث أي خصلة واحدة من ثلاث خصال فاخترها ودع اثنتين فقال: آدم يا جبرئيل وما الثلاث) الظاهر أن الواو لمجرد حسن الارتباط وزيادة الاتصال لا للعطف (فقال: العقل والحياء والدين) العقل هنا قوة نفسانية وحالة نورانية بها يدرك الإنسان حقائق الأشياء ويميز بين الخير والشر وبين الحق والباطل، ويعرف أحوال المبدء والمعاد وبالجملة هو نور إذا لمع في آفاق النفوس يكشف عنها غواشي الحجب فتتجلى فيها صور المعقولات كما يتجلى في العين صور المحسوسات. والحياء خلق يمنع من ارتكاب القبيح وتقصير في الحقوق، وقال الزمخشري هو تغير وانكسار يلحق من فعل ما يمدح به أو ترك ما يذم به وهو غريزة وقد يتخلق به من يجبل عليه فيلتزم منه ما يوافق الشرع وسيجئ تحقيقه وتحقيق أن ما في بعض الإنسان من الكيفية المانعة له عن القيام بحقوق الله تعالى من الحياء إن شاء الله تعالى. والدين هو الصراط المستقيم الذي يكون سالكه قريبا من الخيرات بعيدا عن المنهيات (1) وهو عبارة عن معرفة مجموع ما يوجب القرب من الرب والعمل بما يتعلق به الأمر ومعرفة مجموع ما يوجب البعد عنه وترك العمل بما يتعلق به النهي (فقال آدم إني اخترت العقل) لا يقال: اختياره للعقل لم يكن إلا لملاحظة أن حسن عواقب أموره في الدارين يتوقف عليه وإن نظام أحواله في النشأتين لا يتم إلا به ولا يكون ذلك إلا لكونه عاقلا متفكرا متأملا فيما ينفعه عاجلا وآجلا، لأنا نقول: المراد بهذا العقل العقل الكامل الذي يكون للأنبياء والأوصياء واختياره يتوقف على عقل سابق يكون درجته دون هذا وللعقل درجات ومراتب. وقد يقال هذه الأمور الثلاثة كانت حاصلة له (عليه السلام) على وجه الكمال والتخيير فيها لا ينافي حصولها والغرض منه إظهار قدر نعمة العقل والحث على الشكر عليها (فقال جبرئيل للحياء والدين انصرفا ودعاه) أي انصرفا عن آدم ودعاه مع العقل معه (فقال يا جبرئيل) الظاهر أن هذا القول حقيقة بلسان المقال بحياة خلقها الله تعالى فيهما ولا يبعد ذلك عن القدرة الكاملة وقد ثبت نطق اليد والرجل على صاحبهما ونطق الكعبة والحجر وغيرهما. ويحتمل أن يكون ذلك مجازا بلسان الحال أو يخلق الله سبحانه فيهما كلاما أسمعه جبرئيل وآدم (عليه السلام) كما قد خلق ذلك في بعض الأجسام الجمادية وأسمعه من شاء من خلقه (إنا امرنا أن نكون مع العقل حيث كان) أي حيث وجد أو حيث كان موجودا، يفهم منه أن العقل مستلزم لهما وهما تابعان له، والأمر كذلك لأن بالعقل يعرف الله سبحانه وجلاله وجماله وكماله وتنزهه عن النقايص وإحسانه وإنعامه وقهره
ص: 73
وغلبته بحيث يرى كل جلال وجمال وكمال وإحسان وإنعام وقهر وغلبة مقهورا تحت قدرته مغلوبا تحت قهره وغلبته بل لا يرى في الوجود إلا هو فيحصل له بذلك خوف وخشية يرتعد به جوانحه كما قال سبحانه: (إنما يخشى الله من عباده العلماء) ويحصل له بذلك قوة وملكة تمنعه عن مخالفته طرفة عين وهذه القوة هي المسماة بالحياء، ثم بتلك القوة يسلك الصراط المستقيم وهو الدين القويم، ومن ههنا ظهر أن الحياء مستلزم للدين والدين تابع له، ثم جبرئيل (عليه السلام) إن كان عالما بكونهما مأمورين بذلك كان قوله: «انصرفا ودعاه» محمولا على نوع من الامتحان لاظهار شرف العقل ونباهة قدره وإن لم يكن عالما كان ذلك القول محمولا على الطلب (قال فشأنكما وعرج) الشأن بالهمزة الأمر والحال والقصد أي فشأنكما معكما أو ألزما شأنكما، وهذا الحديث وإن كان ضعيفا بحسب السند لكن صحيح المضمون، وكذا الحديث الآتي مع ضعفه بالارسال أيضا لاعتماده بالبرهان العقلي وكذلك كثير من الأحاديث الواردة في الأحكام العقلية من أصول المعارف ومسائل التوحيد.
3 - «أحمد بن إدريس، عن محمد بن عبد الجبار، عن بعض أصحابنا رفعه إلى أبي عبد الله (عليه السلام) قال، قلت له: ما العقل؟ قال: «ما عبد به الرحمن واكتسب به الجنان، قال: قلت: فالذي كان في معاوية؟ فقال: تلك النكراء تلك الشيطنة وهي شبيهة بالعقل وليست بالعقل»
(أحمد بن إدريس، عن محمد بن عبد الجبار، عن بعض أصحابنا رفعه إلى أبي عبد الله (عليه السلام) قال قلت له: ما العقل قال ما عبد به الرحمن واكتسب به الجنان).
سأل سائل عن معرفة العقل مطلقا سواء كان حقيقيا أو رسميا أو لفظيا أو عن حقيقته وأجاب (عليه السلام) ببعض خواصه وأغراضه المقصودة منه للتنبيه على أن معرفة هذا هو الأهم والأسهل له دون معرفة حقيقته وإشعارا بأن عرفان حقيقته متعسر جدا فلا يحصل له بسهولة، ولهذا اختلف العلماء فيها وتحيرت عقول الحكماء في تحديدها وهذا التعريف إشارة إلى القوة النظرية المسماة بالعقل النظري وإلى القوة العملية المسماة بالعقل العملي إذ بالأولى يعلم المعارف الإلهية والأحكام الشرعية والأخلاق الحسنة النفسانية، وبالثانية يعمل بها ويهذب الظاهر والباطن وبالعلم والعمل يتم نظام عبادة الرحمن واكتساب الجنان، ويمكن أن يكون إشارة إلى العقل بالمعنى الأول والأخير أيضا لأن مقتضى النفس من حيث التجرد وعدم معارضة الأوهام وسائر القوى البدنية ومقتضى الجوهر النوراني المجرد عن شوائب المادة من جهة إشراقاته على النفس عبادة الرحمن واكتساب الجنان كما يشهد به الذوق السليم، ولما
ص: 74
كان هذا الجواب من الخواص الشاملة للعقل من شأنها عدم تخلفها عما هي خاصة له وقد تخلفت ههنا عما في بعض الأشخاص مثل معاوية من مناط التدبير والتصرف في الأمور الدنيوية الموجبة لبعده عن عبادة الرحمن واكتساب الجنان، والناس يسمونه عقلا وصاحبه عاقلا، سأل ثانيا حيث (قال: قلت: فالذي كان في معاوية) الموصول مبتدأ خبره محذوف وهو ما هو (فقال) كشفا لغمته وتوضيحا لمسألته (تلك النكراء) النكراء بالفتح والسكون والنكر بالضم وبضمتين: المنكر والأمر الشديد وكل ما قبحه وكرهه العقل أو الشرع فهو منكر أي تلك القوة التي كانت في معاوية وكانت سببا لتحصيله المصالح الدنيوية واكتساب الأمور الشرية، وانحرافه عن الله وعن أمر الآخرة قوة منكرة شنيعة قبيحة (تلك الشيطنة) فيعلة من شطن عنه إذا بعد، ومنه الشيطان لبعده عن رحمة الله سبحانه والمراد بها روية نفسانية تكتسب بها أعمال الجاهلين وملكة شيطانية يقترف بها أفعال الشياطين، وقوة داعية إلى الأغراض الفاسدة والشرور وتحصيل المطالب بالحيل والمكر وقول الزور (وهي شبيهة بالعقل) في أنها حالة للنفس وقوة محركة لها منافعها كما أن العقل كذلك. توضيح ذلك: أن العقل نورانية شريف الذات نقي الجوهر يدعو إلى ملازمة العلم والعمل واكتساب المنافع الاخروية الموجبة للسعادة الأبدية وكلما زاد العلم والعمل زادت نورانيته وصفاؤه حتى يصير نورا محضا وضوءا صرفا يضيء به سماء القلوب وأرض النفوس، والشيطنة قوة ظلمانية خسيس الذات مكدر الجوهر تدعو إلى ملازمة الشرور واكتساب المنافع الدنيوية الموجبة للشقاوة السرمدية واقتراف زهراتها الزائلة الفانية بالمكر والحيل والوساوس الشيطانية وكلما زادت تلك الشرور والمنافع زادت ظلمتها وكثرت كدورتها حتى تصير ظلمة صرفة وشيطنة محضة، ولكن لما كان التمايز بينهما ومنافع العقل من الأمور المعنوية ومنافع الشيطنة ورويتها من الأمور الحسية صارت الشيطنة شبيهة بالعقل بل عقلا عند الجهال (وليست بالعقل) ولا شبيهة به عند أهل الفضل والكمال، فالجهال لفقدان بصيرتهم عن تلك القوة النوارنية وعميان سريرتهم عن مشاهدة تلك الروية الربانية مع سماعهم بأن للانسان عقلا هو مبدء الفطانة والروية يغصبون اسم العقل عن موضعه ويسمون هذه الروية النكراء وهذه الفطانة العمياء عقلا ويعدون معاوية من جملة العقلاء، وأما أهل الفضل والكمال فإنهم يعرفون بنور البصيرة أن بين تينك القوتين تباينا بحسب الذات والصفات لأن إحداهما نور والأخرى ظلمة، وبين الحركتين تغايرا في الجهات لأن جهة إحداهما التقرب بالحق والنتعم وجهة الأخرى التقرب بالشيطان والدخول في الجحيم وبين المغرضين تفاوتا في الحالات لأن غرض إحداهما التلذذ باللذة الروحانية وغرض الأخرى التلذذ باللذة الجسمانية، ويمكن أن يقال: العقل على أي معنى كان يقع الاشتباه بينه وبين الشيطنة عند الجهلة لأن في كل واحد منهما جودة الروية وسرعة التفطن بما ينفع ويضر وعزم الانتقال إلى النافع والاجتناب عن الضار سواء كان
ص: 75
متعلقا بأمر الدنيا بأمر الآخرة تحقيق ذلك أن للعقل على الإطلاق بداءة ونهاية وكلتهاهما تسميان عقلا أما الأولى فهي جوهر مبدء للعلوم والأعمال والخيرات كلها ومنشأ للروية والتفطن بها والتمييز بينها وبين غيرها من أضدادها وأما الثانية فهي العلوم والمعارف التي بها يعبد الرحمن ويكتسب الجنان وهي ثمرة الأولى فإذا استعمل ذلك الجوهر مع ما فيه من الروية والتفطن فيما خلق لأجله من اتخاذ الزاد ليوم المعاد واقتباس العلم والحكمة غير ذلك مما هو نافع في الآخرة زادت رويته وتفطنه وعظمت قوتهما، وتسمى تلك القوة أيضا عقلا إما حقيقة أو مجازا، وتتفاوت بحسب التفاوت في القوة والضعف وكثرة جنود العقل وقلتها وشدة معارضة الأوهام والقوى وعدمها وإن ترك مهملا ولم يستعمل فيما ذكر، بل استعمل في أضداده وصرف رويته وفاطنته بجميع أنحاء الحيل والمكر إلى جمع متفرقات الدنيا وزهراتها وتحصيل جزئياتها وضبط من خرافاتها حتى يكون أبدا في الحزن والأسف في فوات ما فات وفي الخوف من ذهاب ما حصل وفي الحرص على جمع ما لم يحصل، وعاونته جنود الجهل صارت قوة تلك الروية والفطانة شيطنة وروية من الشيطان وهو عقل عند الجهلة دون الكملة كما عرفت.
4 - «محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن ابن فضال، عن الحسن بن الجهم قال:
سمعت الرضا (عليه السلام) يقول: صديق كل امرء عقله وعدوه جهله».(1)
(محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن ابن فضال) وهو الحسن بن علي بن فضال من أصحاب الرضا (عليه السلام) وكان خصيصا به. وكان جليل القدر عظيم المنزلة ورعا ثقة وكان فطحيا يقول بإمامة عبد الله بن جعفر في جميع عمره حتى حضره الموت فرجع إلى الحق (جش) (عن الحسن بن الجهم قال: سمعت الرضا (عليه السلام) يقول: صديق كل امرء عقله وعدوه جهله) كما أن صديق كل رجل يجلب له الخير، ويدفع عنه الشر وعدوه بالعكس كذلك عقله يجلب له المنافع ويدفع عنه المضار، وجهله بالعكس إذ بالعقل يعرف الحلال والحرام وأحوال المبدء والمعاد، ويسلك سبيل الهداية والرشاد، ويميز بين الحق والباطل، ويعبد الرحمن ويكتسب الجنان فهو أجدر باطلاق الصديق عليه وأولى; إذ كل صديق غيره لا ينفع بدونه وبالجهل يغفل عن جميع ذلك ويسلك سبيل الغي والجهالة ويسعي في طريق الشر والضلالة ويعبد الشيطان ويكتسب غضب الرحمن فهو أليق باطلاق العدو عليه وأحرى; إذ كل عدو غيره لا يضره بدونه، وفيه إيماء إلى أنه ينبغي أن لا يتخذ الجاهل صديقا والعاقل عدوا; لأن الجاهل إذا كان عدوا لنفسه فكيف يكون صديقا لغيره والعاقل كما يكون صديقا لنفسه يكون صديقا لأخيه ويعينه
ص: 76
فيما يعينه فمن اتخذه عدوا كان أثر عدواته خزيا بين يديه ومانعا من وصول الخير إليه، ولذلك كثر الأمر في الأحاديث بملازمة العالم ومفارقة الجاهل. وكما أن صداقة الأصدقاء وعداوة الأعداء متفاوتة في الناس كذلك صداقة العقل وعداوة الجهل متفاوتة بحسب تفاوت مراتب العقل والجهل في الشدة والضعف لكثرة جنودهما وقلتها على ما سيأتي تفصيل ذلك في الحديث المتضمن لذكر الجنود إن شاء الله تعالى.
5 - «وعنه، عن أحمد بن محمد، عن ابن فضال، عن الحسن بن الجهم قال: قلت لأبي الحسن (عليه السلام):
إن عندنا قوما لهم محبة وليست لهم تلك العزيمة يقولون بهذا القول؟ فقال: ليس أولئك ممن عاتب الله إنما قال الله: (فاعتبروا يا أولي الأبصار)».
(وعنه) أي محمد بن يحيى (عن أحمد بن محمد) الظاهر أنه أحمد بن محمد بن عيسى الأشعري ويحتمل أحمد بن محمد بن خالد البرقي لأن محمد بن يحيى يروي عنهما إلا أن روايته عن الأول أكثر ورواية الأول عن ابن فضال أشهر وكلاهما عدلان ثقتان (عن ابن فضال عن الحسن بن الجهم قال:
قلت لأبي الحسن (عليه السلام)) الظاهر أنه أبو الحسن الرضا (عليه السلام) ويحتمل أبا الحسن موسى بن جعفر (عليهما السلام) لأن الحسن بن الجهم يروي عنهما (إن عندنا قوما) من الشيعة والتنكير للتكثير (لهم محبة) لكم أهل البيت والتنكير للتحقير (وليست لهم تلك العزيمة) الواو للعطف أو للحال والعزم إرادة الفعل والقطع عليه والجد فيه يعني ليس لهم القطع واليقين بمحبتكم كما يكون لخلص شيعتكم; وذلك لعدم كمالهم في العقل والتمييز وعدم تمسكهم في الدين بالبرهان (يقولون بهذا القول) بمجرد التقليد والنشوء عليه لا بالبصيرة والبرهان وهو تأكيد للسابق ولذا ترك العطف (فقال ليس أولئك ممن عاتب الله) للتقليد وترك الاستدلال لأن الاستدلال متوقف على إدراك مقدمات مناسبة للمطلوب واعتبار الحدود فيها وترتيبها على نهج الصواب واعتبار الشرايط المعتبرة في الانتاج وقوة الانتقال منها. ولا يتصور ذلك إلا فيمن له قوة استعدادية وبصيرة عقلية ومكنة ذهنية (1) وليس أولئك بهذه الصفة فلا يتعلق بهم الخطاب بالاستدلال والعتاب بتركه (إنما قال الله فاعتبروا يا أولي الابصار) خص الأمر بالاعتبار باولي الابصار والحث على الاستدلال بذوي الأفكار إذ لهم أذهان ثاقبة وعقول كاملة وبصائر نافذة تمكنوا بها من معرفة غوامض الأمور من مباديها، فأولئك مكلفون بمعرفتنا والتصديق بولايتنا والاقرار بإمامتنا والبلوغ إلى أعلى مراتب محبتنا بمناهج البرهان ومعارج التبيان، فإن فعلوا اتصفوا بحقايق الأيمان وصاروا رفقاءنا في
ص: 77
الجنان وإن أهملوا تمسكوا بعروة الكفران واستحقوا عذاب النيران ومذلة الخذلان. وهذا الحديث كما ترى صريح في أن تكليف عاجلا وتحصيل كمال الرضا والقرب عاجلا وآجلا متوجه إلى العاقل الكامل، وأن الضعفاء من الشيعة غير مؤاخذين بالتقليد في أصول الدين، وأن هذا الصنف دون الصنف الأول في الثواب والعقاب كما قال سبحانه (ورفع بعضهم فوق بعض درجات).
6 - «أحمد بن إدريس، عن محمد بن حسان، عن أبي محمد الرازي، عن سيف بن عميرة، عن إسحاق بن عمار قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): من كان عاقلا كان له دين، ومن كان له دين دخل الجنة».(1)
(أحمد بن إدريس، عن محمد بن حسان) ضعيف (عن أبي محمد الرازي) قيل هو جعفر بن محمد بن يحيى القاضي بالري ويحتمل أحمد بن إسحاق الرازي (عن سيف بن عميرة) بفتح العين ثقة عند الأكثر، وقال محمد بن شهر آشوب: هو واقفي، وقال الشهيد في شرح الارشاد - في نكاح الأمة باذن المولى -: وربما ضعف بعضهم سيفا والصحيح أنه ثقة (عن إسحاق بن عمار) ثقة عند الكل شيخ من أصحابنا عند بعض وفطحي عند بعض، وقال العلامة: الأولى عندي التوقف فيما ينفرد به.
(قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): من كان عاقلا كان له دين ومن كان له دين دخل الجنة) هذا ضرب أول من الشكل الأول (2) مركب من متصلين والنتيجة من كان عاقلا دخل الجنة; أما بيان الصغرى فلما مر في حديث عقل آدم (عليه السلام) من أن الدين لازم للعقل وذلك لأن العاقل يعرف أحوال المبدء والمعاد وما هو خير له في الدنيا والآخرة فيحصل له بذلك قوة تمنعه من الخروج عن الصراط المستقيم، والدين عبارة عنه، وبعبارة أخرى العاقل من كان له علم بالمصالح وعمل بها إذ لو لم يكن الأول كان جاهلا ولو لم يكن الثاني كان سفيها وهو أيضا جاهلا، وهذا المعنى هو الذي أشار إليه (عليه السلام) في الحديث السابق من «أن العقل ما يعبد به الرحمن ويكتسب به الجنان» فثبت أن من كان له عقل كان له دين. وأما الكبرى فلأن الدين كما عرفت عبارة عن الصراط المستقيم وهو طريق الجنة، فمن سلكه كان لا محالة غايته دخول الجنة ولأن سالكه استحق دخولها ومحال على فضل الله وإحسانه أن يمنعه من دخولها مع الاستحقاق، ويلزم من مفهوم الشرط أن من كان جاهلا لا دين له ولا يدخل الجنة ولكن لا بد من القول بأن هذا المفهوم غير معتبر لأن الجاهل قد يكون له دين وإن كان ضعيفا وقد يدخل الجنة بالتفضل، أو القول بأن المراد بدخول العاقل الدخول بلا تعذيب بعذاب يوم القيامة أو بلا حساب لأن العاقل يؤدي حسابه في دار الدنيا ويلزم أيضا من قاعدة انتفاء الملزوم عند انتفاء اللازم أن لا يكون أحد من فرق الكفار والمخالفين عاقلا، وأن
ص: 78
لا يكون ما فيهم من قوة التصرف والتفكر والتدبير عقلا وقد مر أنها شيطنة ونكراء.
7 - «عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن الحسن بن علي بن يقطين، عن محمد بن سنان، عن أبي الجارود، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إنما يداق الله العباد الحساب يوم القيامة على قدر ما آتاهم من العقول في الدنيا».(1)
(عدة من أصحابنا عن أحمد بن محمد بن خالد) ثقة (عن الحسن بن علي بن يقطين) ثقة فقيه متكلم (عن محمد بن سنان) ثقة عند المفيد ضعيف عند الشيخ الطوسي والنجاشي وابن الغضايري، ممدوح بمدح عظيم عند الكشي ولأجل ذلك قال العلامة والوجه عندي التوقف فيما يرويه (عن أبي الجارود) اسمه زياد بن المنذر زيدي أعمى مذموم بذم عظيم (عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إنما يداق الله العباد في الحساب) المداقة مفاعلة من الدقة يعني أن مناقشتهم في الحساب وأخذهم على جليله ودقيقه (يوم القيامة على قدر ما آتاهم من العقول في الدنيا) للعقل مراتب متفاوتة في القوة والضعف والكمال والنقصان المرتبة العليا للأنبياء والأوصياء والمرتبة السفلى لمن يتميز به عن ساير الحيوانات الخارجة عن رتبة التكليف والمتوسطات على كثرتها متوسطات والمداقة في الحساب بحسب تلك المراتب فحساب من في الدرجة الثانية أشق وأدق من حساب من الدرجة الأولى وأخف من حساب من في الدرجة الثالثة هكذا وذلك لأن الحساب على حسب التكاليف والتكاليف متفاوتة على حسب تفاوت العقول إذ الأقوى عقلا أشد تكليفا من الأضعف هذا، وقال سيد الحكماء الإلهيين (2): «إنما يداف الله العباد» بالدال المهملة والفاء المشددة ويروى بالذال المعجمة. وفي بعض النسخ «يدافي» بإبدال إحدى الفائين ياء يقال: دف عليه دفيفا أي وفد وقدم، وداففت الرجل مدافة ودفافا أجهزت عليه، وفي النهاية الأثيرية في حديث ابن مسعود «انه داف أبا جهل يوم بدر» أي أجهز عليه وجز رقبته، ويذاف بالذال المعجمة بمعنى يداف، وأما يداق بالقاف فتصحيف تحريفي وتحريف تسقيمي هذا ملخص كلامه. وإنما كلامه مطول مبسوط كله لبيان معنى هذا اللفظ بحسب اللغة كما هو دأبه في تصحيح اللغات وأسماء الرجال ولا أدري ما الباعث له على الحكم بتحريف «يداق» بالقاف وتسقيمه وترجيح يداف بالفاء عليه.
8 - علي بن محمد بن عبد الله، عن إبراهيم بن إسحاق الأحمر، عن محمد بن سليمان الديلمي، عن
ص: 79
أبيه قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): فلان من عبادته ودينه وفضله؟ فقال: كيف عقله؟ قلت: لا أدري، فقال: إن الثواب على قدر العقل إن رجلا من بني إسرائيل كان يعبد الله في جزيرة من جزائر البحر خضراء نضرة كثيرة الشجر ظاهرة الماء وإن ملكا من الملائكة مر به فقال: يا رب أرني ثواب عبدك هذا فأراه الله تعالى ذلك، فاستقله الملك فأوحى الله تعالى إليه: أن اصحبه فأتاه الملك في صورة إنسي فقال له: من أنت؟ قال: أنا رجل عابد بلغني مكانك وعبادتك في هذا المكان فأتيتك لأعبد الله معك فكان معه يومه ذلك، فلما أصبح قال له الملك: إن مكانك لنزه وما يصلح إلا للعبادة فقال له العابد: إن لمكاننا هذا عيبا فقال له:
وما هو؟ قال: ليس لربنا بهيمة فلو كان له حمار رعيناه في هذا الموضع فان هذا الحشيش يضيع، فقال له [ذلك] الملك: وما لربك حمار، فقال: لو كان له حمار ما كان يضيع مثل هذا الحشيش فأوحى الله إلى الملك إنما اثيبه على قدر عقله».(1)
(علي بن محمد بن عبد الله) (2) أبو الحسن القزويني وجه من أصحابنا ثقة في الحديث (عن إبراهيم ابن إسحاق الأحمر) النهاوندي ضعيف في حديثه متهم في دينه، وفي مذهبه إرتفاع وأمره مختلط لا أعتمد على شئ مما يرويه (صه) (3) (عن محمد بن سليمان الديلمي، عن أبيه) سليمان بن زكريا الديلمي كذاب غال كذا نقل عن ابن الغضايري. وكذا ابنه ضعيف في حديثه مرتفع في مذهبه (صه) والحديث معتبر لأن الكذوب قد يصدق (قال قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) فلان) بمكان رفيع (من عبادته ودينه وفضله؟ فقال: كيف عقله) في القوة والضعف (قلت: لا أدري) حال عقله فيهما (فقال: إن الثواب) المترتب على العبادة والدين والفضل (على قدر العقل) فإن كان كاملا كان الثواب كاملا وإن كان ناقصا كان الثواب ناقصا لأن زيادة الثواب بكمال العبادة وكمال العبادة بمعرفة المعبود وصفاته واستحقاقه للعبادة دون غيره، ومعرفة حقيقة العبادة وأحكامها وشرايطها وكيفية فعلها وبصدورها على الخوف والخشية ولا يحصل ذلك إلا بزيادة العقل والعلم فإذن زيادة الثواب على قدر العقل كما أن زيادة العقاب على قدره لقول الصادق (عليه السلام): «يغفر للجاهل سبعون ذنبا قبل أن يغفر للعالم ذنب واحد (4)» ولا يقال:
ص: 80
مجاهدة قليل العقل مع نفسه ودفعه للمخاطرات الشيطانية واللذات النفسانية أشق وأعظم لضعف الآلة من مجاهدة العاقل الكامل العالم الماهر فينبغي أن يكون ثواب عبادته أكثر وأعظم كما ورد «ان الذي يعالج القرآن بمشقة وقلة حفظه له اجران (1)» لأنا نقول:
ذلك ممنوع بل الظاهر الحق الذي لا ريب فيه أن مجاهدة العاقل العالم أعظم لأن اللذات النفسانية مشتركة والمخاطرات الشيطانية فيه أكثر وأعظم، وسيره في طرق تفاصيل المقامات العالية الدقيقة وتركه لأضدادها مع كثرة قطاع الطريق والمختلس فيها أشد وأشق بخلاف قليل العقل فإنه إنما يسمع أن هناك طرقا ومقامات وهي معارك النفوس ولم يقع فيها ولم ير مشقتها ولا صولة الأعادي فيها، أما تضعيف أجر من له قلة حفظ على أجر من له قوة حفظ فانما هو بعد تساويهما في العلم بالقراءة وأحكامها فليس هذا من قبيل ما نحن فيه. (إن رجلا من بني إسرائيل كان يعبد الله في جزيرة من جزاير البحر) قال المطرزي في المغرب: الجزر انقطاع المد، ويقال جزر الماء إذا انفرج عن الأرض أي انكشف حين غار ونقص، منه الجزيرة. وقال الجوهري: الجزيرة واحدة جزاير البحر سميت بذلك لانقطاعها عن معظم الأرض (خضراء) بفتح الخاء وسكون الضاد أي فيها الفواكه والتفاح والكمثرى وغيرها أو البقول كالكراث والكرفس والسداب ونحوها أو النبات والكلاء الأخضر أو جميع ذلك (نضرة) صفة بعد صفة، والنضرة الحسن والرونق، وقد نضر وجهه أي حسن ونضره الله يتعدى ولا يتعدى (كثيرة الشجر، ظاهرة الماء) بالظاء المعجمة يعنى أن ماءها كان جاريا على وجه الأرض وقد يقرأ بالطاء المهملة، وكان طهارة مائها كناية عن صفائه ولطافته وخلوه عما يغير لونه أو طعمه، والظاهر «ظاهر الماء» بلا تاء، لأن الوصف بحال المتعلق في التأنيث والتذكير تابع لفاعله دون الموصوف، والفاعل هنا مذكر (وإن ملكا من الملائكة مر به فقال: يا رب أرني ثواب عبدك هذا) دل هذا وغيره من الأخبار على أن الملائكة لا يعلمون ثواب أعمال العباد كما وكيفا بل لا يعلمون نفس الأعمال أيضا إلا ما شاء الله (فأراه الله تعالى ذلك فاستقله الملك) أي عدة قليلا بالنظر إلى عبادته (فأوحى الله تعالى إليه أن اصحبه فأتاه الملك في صورة إنسي) تلبس الملائكة والشياطين والأجنة الذين هم أجسام شفافة بل الأعراض أيضا كالأعمال والعقايد بالصور الجسمانية الكثيفة مما لا ينكره العقل وقد ثبت ذلك من طرق العامة والخاصة بأخبار معتبرة متكثرة، ولا يستلزم ذلك تبدل الحقايق ولا عبرة بانكار بعض أهل الظواهر (2) إذ الحقيقة الواحدة يختلف صورها باختلاف المواطن فيتحلّى في
ص: 81
كل موطن بحلية ويتزيا في كل نشأة بزي، وهو مذهب الخواص من أهل التحقيق وتوضيحه ما أشار إليه الشيخ في الأربعين من أن سنخ الشئ وأصله أمر مغاير لصورته التي يتجلى بها على المشاعر الظاهرة ويلبسها لدى المدارك الباطنة وأنه يختلف في تلك الصور بحسب المواطن والنشآت فيلبس في كل موطن لباسا ويتجلبب في كل نشأة بجلباب كما قالوا: إن لون الماء لون إنائه وأما الأصل الذي يتوارد عليه هذه الصور ويعبرون عنه تارة بالسنخ وتارة بالوجه ومرة بالروح فلا يعلمه إلا علام الغيوب، فلا بعد في كونه متلبسا في موطن بالصورة الملكية أو العرضية وفي آخر بالصورة الإنسانية أو الجوهرية، وأيده بمؤيدات لا يليق المقام ذكرها وإنما أتاه بصورة إنسي لا بصورة ملكية ليعرف ذلك العابد أنه من جنسه ولا يعلم أنه ملك لأنه أدخل في الامتحان، أو لعدم استعداد العابد لرؤية الملك بصورته الأصلية أو لعدم قدرته على تحمل هيبة الصورة الملكية، وفيه دلالة على تحقق المكاشفة وظهور الأشياء الملكوتية والآثار الربوبية التي حجبتها الشواغل الجسمية والعوايق البدنية والعلائق البشرية من مشاهدتها على بعض النفوس العارية عن هذه الشواغل، الخالية عن تلك المواضع، المرتاضة بأنحاء الرياضة، الممتازة بأنواع العبادة. والشواهد عليها من القرآن والأخبار كثيرة فلا عبرة بانكار المنكرين (فقال) أي العابد (له) أي للملك (من أنت؟ قال:
أنا رجل عباد) لم يرد أنه رجل بحسب الحقيقة حتى يلزم انقلاب المهية بل أراد أنه رجل بحسب الصورة ويصدق عليه مفهومه بحسب الرؤية وفائدة الاخبار باعتبار الوصف (بلغني مكانك) أي نزاهة مكانك أو منزلتك أو موضعك (وعبادتك في هذا المكان فأتيتك لأعبد الله معك) فيه ترغيب في الميل إلى الصالحين والرفاقة معهم في العبادة (فكان معه يومه ذلك فلما أصبح قال له الملك: إن مكانك لنزه) بالغ في التأكيد (1) مع أن نزاهة المكان أمر محسوس غير قابل للإنكار لأنه رأى العابد مشتغلا بعبادة ربه معرضا عما سواه بحيث لا يخطر بباله المكان والمكانيات أصلا بل كأنه ينكر وجود غيره بالكلية فهو بهذا الاعتبار صار منكرا مصرا فناسب الخطاب معه تأكيدا بليغا (وما يصلح إلا للعبادة) دل على أن مكان العبادة ينبغي أن يكون طاهرا نزها لأنه يوجب نشاط النفس وسرورها ويدفع عنها أنقباضها وكل ذلك يعدها للحركة إلى المقامات العالية الموجبة لتحمل مشاق العبادة ورياضاتها (فقال له العابد: إن لمكاننا هذا عيبا فقال له: وما هو؟ قال: ليس لربنا بهيمة) أي في الوجود أو في هذا الموضع والأول أولى وأنسب وإنما عد هذا عيبا للمكان باعتبار أنه سبب لعيبه وهو ضياع حشيشه كما
ص: 82
أشار إليه بقوله (فلو كان له حمار رعيناه في هذا الموضع، فإن هذا الحشيش يضيع) بيان للملازمة (فقال له ذلك الملك: وما لربك حمار) «ما» للاستفهام ويحتمل أن يكون للنفي أيضا أي ليس لربك حمار لأنه أجل وأرفع من أن يكون له حمار، وفيه أن النفي على تقدير صحته لا يناسب قوله (فقال: لو كان له حمار ما كان يضيع مثل هذا الحشيش) هذا قياس استثنائي أنتج برفع التالي رفع المقدم والملازمة ممنوعة لأن خلق كل حشيش لا يجب أن يكون للحمار ونحوه إذ له منافع كثيرة ومصالح جمة لا يعلمها إلا هو، فهذا الكلام من جملة ما دل على قلة عقله (فأوحى الله إلى الملك إنما اثيبه على قدر عقله) فكما كان عقله قليلا كان ثواب عمله أيضا قليلا، وأما عقله فلعدم علمه بأنه ما يفعل ربه بالحمار وأي احتياج له إليه وأن العيب الذي نسبه إلى المكان راجع بزعمه إلى عيب ربه واعتراض عليه بضعف تدبيره لخلق الحشيش عبثا بلا منفعة ولا مصلحة، وأن خلق كل حشيش لا يجب أن يكون لأجل حمار وأن لكل شئ منافع وأغراضا لا يعلمها إلا هو وأن ليس لأحد أن يقوله لربه: لم خلقت هذا؟ ولم تخلق ذاك، وأن المقامات العلية والدرجات الرفيعة إنما هي للعابدين المعرضين عما سواه حتى علق قلبه بأخس المخلوقات وصرف همته إلى أن يكون راعيا لئلا يضيع النباتات.
و فيه دلالة على أن أمثال هذه الاعتقادات الفاسدة والاعتراضات الباطلة والاقتراحات الكاسدة لا يضر في أصل الايمان ولا في الإثابة على الأعمال الصالحة إذا كان مستندة إلى قلة العقل وضعف البصيرة كيف وقد دل الأحاديث الكثيرة على أن أكثر أهل الجنة النساء وضعفاء العقول، لا يقال: ترتب الثواب على العبادة مشروط بصحتها وصحتها مشروطة بنية التقرب إلى الله تعالى ونية التقرب إليه متوقفة على معرفته ومعرفته بهذا النحو وهو أنه خالق الأشياء عبثا بلا مصلحة ولا منفعة ليست بمعرفة حقيقة فكيف يترتب الثواب على عبادة هذا الرجل في الآخرة، لأنه يقال: أدنى المعرفة مع نفي الشريك يكفي في ترتب أدنى الثواب على العمل وذلك أن العبد إذا عرف ربه بقدر عقله ووسعه ولم يعتقد الشريك له ولا مشابهته لخلقه في الجسمية والمقدار وما يتبعهما كان قابلا لرحمته الواسعة مع رجحان الرحمة فإذا ضم معها عبادة عارية من الكبر والعجب والرياء وغيرها من الآفات والمفسدات للعبادة صار جانب الرحمة أرجح واستحقاق الثواب أقوى فوجب تحقق الثواب ولو كان حصول أصل الثواب موقوفا على كمال المعرفة فظاهر أن ذلك لا يتيسر إلا للعاقل الكامل الذي هو فريد في العقل والكمال لزم أن لا يكون من هو دونه من الضعفاء من أهل الرحمة. وهو خلاف ما نطقت به الروايات ودلت عليه الآيات والظاهر أنه لم يذهب إليه أحد أيضا.
9 - «علي بن إبراهيم، عن أبيه عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول
ص: 83
الله (صلى الله عليه وآله): إذا بلغكم عن رجل حسن حال فانظروا في حسن عقله، فانما يجازى بعقله».(1)
(علي بن إبراهيم) ثقة معتمد صحيح المذهب له كتب (عن أبيه) إبراهيم بن هاشم أبي إسحاق القمي ولم يصرحوا بجرحه وتعديله والأرجح قبول قوله (صه) (عن النوفلي) الحسين بن يزيد بن محمد بن عبد الملك وكان شاعرا أديبا وقال قوم من الكوفيين إنه غلا في آخر عمره (عن السكوني) إسماعيل بن أبي زياد الشعيري له كتاب وكان عاميا (عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله)) صرح (عليه السلام) بهذه النسبة مع أن جميع ما روي عنه أخذه من مشكاة النبوة للتشرف بذكره (صلى الله عليه وآله) وللتأكيد والمبالغة في قبول مضمون الحديث ولاحتمال أن يكون السامع عاميا لا يقبل منه بدون ذلك (إذا بلغكم عن رجل حسن حال) من فعل الصلاة والزكاة والصيام والحج والصدقات وغيرها من الأعمال الدينية والدنيوية (فانظروا في حسن عقله) فإن وجدتم عقله على وجه الكمال فاعلموا أن أعماله أيضا على وجه الكمال وأن الثواب المترتب عليها على وجه الكمال. وإن وجدتم عقله ناقصا فاعلموا أن جميع ذلك ناقص فلا تغتروا بحسن أعماله وأفعاله واستقامة أحواله ظاهرا ولا تحكموا بمجرد ذلك على صحة عقيدته وسلامة قلبه وكمال عمله وثوابه بل انظروا أولا في حسن عقله وكمال جوهره (فانما يجازى بعقله) أي بقدر عقله وللعقل مراتب متفاوتة تفاوتا فاحشا وهو أصل العبادة وأساسها كما قال الصادق (عليه السلام): «العبادة حسن النية من الوجوه التي يطاع الله منها) (2) وظاهر أن ذلك لا يحصل بدون العقل ففضل العبادة وكمال ثوابها بقدر فضل العقل وكماله، وفيه دلالة على أن ثواب العالم أفضل من ثواب الجاهل وإن كان الجاهل أعبد منه، وعلى اختبار حال الشاهد والراوي وكل مخبر وإن كانت أحوالهم حسنة بحسب الظاهر.
10 - «محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن محبوب، عن عبد الله بن سنان قال: ذكرت لأبي عبد الله (عليه السلام) رجلا مبتلى بالوضوء والصلاة وقلت: هو رجل عاقل، فقال: أبو عبد الله (عليه السلام): وأي عقل له
ص: 84
وهو يطيع الشيطان؟ فقلت له: وكيف يطيع الشيطان؟ فقال: سله هذا الذي يأتيه من أي شئ هو، فإنه يقول لك: من عمل الشيطان».(1)
(محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن محبوب، عن عبد الله بن سنان قال: ذكرت لأبي عبد الله (عليه السلام) رجلا مبتلى بالوضوء والصلاة) أي بالوسواس في نيتهما أو فعلهما أو بالمخاطرات التي تشغل القلب عنها (وقلت هو رجل عاقل) التنكير للتعظيم والتفخيم (فقال أبو عبد الله (عليه السلام): وأي عقل له
ص:86
وهو يطيع الشيطان) إنكار لذلك القول على سبيل المبالغة، فان من يطيع الشيطان كأنه لا عقل له فضلا عن أن يكون عقله كاملا، ويحتمل أن يكون نفيا لعقله حين الإطاعة فيكون ردا لذلك القول على أن يكون قضية دائمة، واعلم أن للشيطان تصرفا عجيبا في الإنسان وعملا غريبا معه. فإنه إذا يئس من كفر من صح إيمانه قصده بالوسوسة ليشغل سره بحديث النفس يكرر عليه أفعاله ويؤذيه فربما يتصرف فيه بأمر النية وهي القصد إلى الفعل المأمور به تقربا إلى الله تعالى فيقول له: إنك لم تقصد قصدا معتبرا ويقول الملك الموكل بقلبه لتسديده إنك قصدت ويقع بينهما تعارض يوجب تردده فعند ذلك يقول له الشيطان: كيف قصدت مع هذا التردد فيبطله ويستأنف، وهكذا دائما وقد يقول له: لا يكفيك هذا القصد الإجمالي بل يجب عليك القصد إلى ما ينحل به تفصيلا، فيشرع في تفصيل معنى القصد والفعل والأمر والقربة وغير ذلك، وكلما خطر معنى من هذه المعاني بالبال غفل عن الآخر لأن مشرب القلب ضيق فيقول له حينئذ لا بد لك من تدارك ذلك الآخر فيأمره بذلك دائما فيبقى مترددا بحيث لا يدري ما يفعل فيصير ذلك سببا لقلقه واضطرابه حتى كأنه مجنون. وقد نقل عن ابن الباقلاني أنه قال يجب على المصلي في نية الصلاة أن يستحضر العلم بالصانع وما يجب له وما يستحيل عليه وما يجوز له من بعثة الرسل وتأييدهم بالمعجزات ووجه دلالتها على صدقهم ويستحضر مع ذلك الطرق التي وصل بها التكليف، ويستحضر حدوث العالم وما يتوقف عليه العلم بحدوثه من إثبات الأعراض واستحالة خلو الجوهر عنها وإبطال حوادث لا أول لها، ويستحضر الصلاة بجميع أجزائها وأفعالها وشرايطها. وقال المازري: إني أردت اتباع الباقلاني في ذلك القول فرأيت في منامي كأني أخوض بحرا من ظلام فقلت: هذه والله قول ابن الباقلاني. وربما يتصرف في قلبه ويشغله عن ذكر ربه وعن أفعال العبادة وأجزائها ويقول له: أذكر كذا وكذا وافعل كذا وكذا إلى غير ذلك من المخاطرات الردية، فيصير بحيث لا يعلم ما فعل وكم صلى. وقد قيل: إن رجلا شكا إلى بعض أهل العلم أنه خبأ شيئا فلم يدر أين هو فأمر أن يصلي ركعتين ويجتهد أن لا يحدث فيهما نفسه ففعل فجاءه الخبيث فذكره أين خبأه.
ولا يخفى أن سرعة قبول القلب لتلك المخاطرات وتأثره بتلك التصرفات إنما هو لضعف العقل، فان العاقل اللبيب يعلم أن العبادة ومقدماتها معراج العارفين وكلما يمنعه ويشغله عن التذكر فهو من تدليسات ذلك اللعين فيسد طرق تصرفاته بالبصيرة واليقين وأن النية إنما هي القصد بالشيء ولا معنى لإنكاره بعد حصوله وأن التردد إنما ينشأ من العدو المبين وأن ملاحظة تفاصيلها وتمييز بعضها عن بعض خارجة عن الدين وأن امتثال أمر الله سبحانه كامتثال العبد أمر سيده وأن تعظيمه كتعظيمه فلو أمره سيده بفعل معين في وقت معين فقام امتثالا لأمره وفعله في ذلك الوقت كان ممتثلا لأمره عرفا وشرعا ولو شرع في القيام وقال: أقوم امتثالا لأمر مولاي قياما مقارنا لتعظيمه وأمشي إلى ذلك المكان مشيا مطلوبا
ص: 85
له وأفعل فيه في وقت كذا الفعل الذي أجزاؤه كذا وكذا، ويكرر ذلك لينتقش في قلبه صور هذه المعاني لعد ضعيفا في عقله وسخيفا في رأيه لأن هذه الصور مخطورة بالبال مندرجة تحت الامتثال على سبيل الإجمال كاندراج أجزاء العالم وعلة حدوثها في قولك: «العالم حادث» فكما أن القصد إلى الأجزاء مثل الأرض والسماء إلى غير ذلك مما لا يحيطه العد والإحصاء خارج عن إفادة هذا القول بل زايد، كذلك القصد إلى الصور المذكورة فيما نحن فيه (فقلت له كيف يطيع الشيطان) مع اشتغاله بالعبادة واهتمامه بها و «كيف» للاستفهام عن وجه ذلك إلا للإنكار (فقال سله هذا الذي يأتيه) من الوسواس في الوضوء والصلاة والابتلاء بهما (من أي شئ هو) إنما أحال البيان إليه للتنبيه على أن كون ذلك من الشيطان أمر بين يعرفه كل أحد حتى صاحبه وذلك لأن كل أحد يعلم أن الزيادة في الدين إنما هو من عمل الشيطان اللعين (فإنه يقول لك من عمل الشيطان) لعلمه بأنه الباعث لهذا العمل دون الشرع أو العقل وتصديقه بذلك لا يوجب كونه عاقلا كاملا كشارب الخمر والزاني والسارق وإنما العاقل من ترك عمل الشيطان ولم يعمل بقوله، وقيل قوله «من عمل الشيطان» قوله بلسانه ولم يؤمن به قلبه إذ لو عرف أنه من عمل الشيطان لكان عاقلا ولا موصوفا وإنما يقوله ذلك تقليدا أو اضطرارا وذلك مثل ما حكى الله سبحانه عن الكفار بقوله «وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ »(1)فان هذا قولهم بأفواههم ولم تؤمن به قلوبهم إذ لو علموا ذلك لم يكونوا كفارا وإنما قالوا ذلك تقليدا وسماعا من الناس على الرسم والعادة لا تحقيقا وعرفانا فلذلك لا ينفعهم في الدنيا والآخرة. وفيه نظر لأنا لا نسلم أن علمه بأن ذلك من عمل الشيطان يستلزم أن يكون عاقلا لما عرفت، ولا نسلم به أن علم الكفار بأن الله تعالى خلق السماوات والأرض يسلتزم عدم كفرهم لجواز أن يكون كفرهم مع علمهم بذلك لأجل أمر آخر كاعتقادهم باستحقاق الأصنام للعبادة ونحوه فليتأمل.
11 - «عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن بعض أصحابنا رفعه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): ما قسم الله للعباد شيئا أفضل من العقل، فنوم العاقل أفضل من سهر الجاهل، وإقامة العاقل أفضل من شخوص الجاهل، ولا بعث الله نبيا ولا رسولا حتى يستكمل العقل ويكون عقله أفضل من جميع عقول أمته وما يضمر النبي (صلى الله عليه وآله) نفسه أفضل من اجتهاد المجتهدين، وما أدى العبد فرائض الله حتى عقل عنه ولا بلغ جميع العابدين في فضل عبادتهم ما بلغ العاقل، والعقلاء هم أولو الألباب، الذين قال الله تعالى: (وما يتذكر إلا أولو الألباب)».(2)
ص: 86
(عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن بعض أصحابه رفعه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) ما قسم الله للعباد شيئا أفضل من العقل) كما قال بالفارسية: «الهى آنرا كه عقل دادي چه ندادي وآنرا كه عقل ندادي چه دادى؟» والمقصود أن العقل أفضل من جميع ما قسمه الله تعالى للعباد وهذا المعنى يفهم من هذه العبارة بحسب العرف فإن المقصود من قولنا ليس في البلد أفضل من زيد هو أن زيدا أفضل من غيره وسر ذلك أن العقل مناط لجميع الفيوضات الدنيوية والاخروية وليس شئ من الأغيار بهذه المثابة، والجهل بحكم المقابلة أخس من جميع الأشياء فيظهر وجه التفريع في قوله (فنوم العاقل أفضل من سهر الجاهل) يعني للعبادة وذلك لأن حقيقة السهر وإن كان أفضل من حقيقة النوم إلا أن النوم المقارن للعقل أفضل وأشرف من السهر المقارن للجهل بحكم المقابلة للملابسة والمجاورة ففيه زيادة مبالغة على شرافة العقل وخساسة الجهل، أو لأن العاقل لا ينام إلا بطهارة ودعاء والملائكة يستغفرون له ويكتبون له الصلاة ما دام نائما، كما نطقت به الأخبار وظاهر أن استغفار الملائكة والصلاة المكتوبة له أفضل من عبادة الجاهل، أو لأن نوم العاقل قلما ينفك عن رؤيا صالحة وهي جزء من ستة وأربعين جزء من النبوة كما دلت عليه الروايات، فنوم العاقل في الحقيقة معراج له بخلاف سهر الجاهل، أو لأن العاقل لا ينام إلا بقدر الضرورة ويجعل نومه وسيلة إلى عبادة أخرى ولا شك أن نومه على هذا الوجه عبادة مستندة إلى العقل وسهر الجاهل لأجل العبادة وعبادة غير مستندة إليه وظاهر أن العبادة المستندة إلى العقل أفضل من العبادة الغير المستندة إليه، وقد سمع أمير المؤمنين (عليه السلام) رجلا من الحرورية أي الخوارج يتهجد ويقرء فقال: «نوم على يقين خير من صلاة في شك» (1) والوجه فيه ظاهر لأن صلاة الشاك فيما يجب الاعتقاد فيه لا ينفعه ونوم المؤمن له فوائد كثيرة (وإقامة العاقل أفضل من شخوص الجاهل) أي انتقاله من بلد إلى بلد في طاعة الله تعالى كالحج والجهاد ونحوهما مع أن في الشخوص مشقة زائدة على الإقامة وذلك لأن عقل العاقل وإن كان جسمه مقيما سائر في المقامات العالية التي لا تخطر ببال الجاهل أبدا وله في كل آن سفر روحاني وشهود رباني ولا شبهة في أن سير الروح في معارج العرفان مع سكون الجسم أفضل من سير الجسم في البلدان مع سكون الروح أو لأن، إقامة العاقل وسكونه عبادة كشخوص الجاهل ولا ريب في أن عبادة العاقل وأشرف من عبادة الجاهل أو لأن روح الطاعة واعتبارها هو النية وقصد القرية ولا يحصل ذلك إلا بالمعرفة واليقين والجاهل بمعزل عنهما (ولا بعث الله نبيا ولا رسولا) من باب ذكر الخاص بعد العام لأن النبي أعم من الرسول كما سيجيء في الباب الثالث من كتاب الحجة.
ص: 87
(حتى يستكمل العقل ويكون عقله أفضل من جميع عقول أمته) لأنه واسطة بينهم وبين الله تعالى فيستحيل أن يكون في أمته من هو أفضل منه عقلا أو مساويا; لاستحالة ترجيح المفضول على الأفضل وترجيح أحد المساويين على الآخر وفيه مدح عظيم للعقل والعقلاء حيث حكم بأن التفاضل في الدرجة والتشريف بشرف النبوة والرسالة إنما حصل به ولذلك صار خاتم المرسلين أشرف المخلوقات أجمعين ولولاه لما خلق الله السماوات والأرضين ولا الملائكة المقربين لأن عقله نور رب العالمين به أخذ النور كل نبي وكل وصي في ديجور الإمكان كما أن الكواكب تستضئ بنور الشمس في ظلمة الليالي وإن كانت غائبة في الحس، فإذا طلعت قهر نورها على أنوار الكواكب ومنه يظهر سر نسخ شريعته الغراء لشرايع الأنبياء (وما يضمر النبي (صلى الله عليه وآله) نفسه أفضل من اجتهاد المجتهدين) لكون عقله أفضل وأرفع من عقولهم لأن عقله لشدة اتصاله بنور الحق جل شأنه كمال محض لا نقص فيه قطعا ونور صرف لا يشوبه ظلمة أصلا وذلك الاتصال بمنزلة اتصال الحديد بالنار وتأثره منها بحيث يصير نارا صرفا يمحو هويته حتى يؤثر في غيره مثل تأثيرها، وبه يشعر قوله تعالى ليلة المعراج خطابا له (صلى الله عليه وآله) «وما يتقرب عبدي إلي بشئ أحب مما افترضت عليه، وإنه ليتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ولسانه الذي ينطق به، ويده التي يبطش بها إن دعاني أجبته، وإن سألني أعطيته (1)» ولأجل ذلك الاتصال التام يظن من ليس له معرفة وتمييز أنهما متحدان. وأما أرباب المعرفة فيعرفون أن بينهما مغايرة وأن هذا مخلوق اتصل بكمالات الخالق كما أن ذلك حديد اتصف بصفات النار، وهذه المرتبة هي المرتبة العظمى والدرجة العليا من مراتب العقل ودرجاته وهي مرتبة حق اليقين، وهو فيما دون تلك المرتبة أعني مرتبة علم اليقين، مرتبة عين اليقين يشاهد المعقولات كلها مشاهدة عيان بحيث لا يعزب عنه شئ إلا ما شاء الله، هذا حال عقله (صلى الله عليه وآله) وعقل أوصيائه (عليهم السلام) إلا أن بين عقله وعقلهم تفاوتا دقيقا لا يعرفه إلا الله سبحانه، وأما عقل غيرهم ممن تمسك بذيل عصمتهم فهو وإن كان كمالا ونورا في حد ذاته لكنه استعداد محض، وظلمة صرف بالنطر إلى عقلهم إذ غاية جهده ونهاية سعيه تحصيل تلك المعقولات على قدر الوسع من مباديها بالاجتهاد وهو في هذه المتربة بمنزلة من استدل على وجود النار بمشاهدة الدخان، وبين هاتين المرتبتين مسافة بعيدة كما لا يخفى على العارفين.
وإذا كان عقله (صلى الله عليه وآله) أكمل وأفضل من عقول المجتهدين كان إدراكاته وتعقلاته أفضل وأتم من اجتهادات المجتهدين وتعقلاتهم ولهذا يحكم بأن عقل الأعلم وإدراكاته أتم وأفضل من عقل العالم
ص: 88
وإدراكاته، وكذا عقل العالم وإدراكاته أتم وأفضل من عقل الجاهل وإدراكاته، بل لا نسبة هنا، ويرشد إلى التفاوت المذكور قول الصادق (عليه السلام) «اعرفوا منازل الناس على قدر رواياتهم عنا (1)» (وما أدى العبد فرائض الله حتى عقل عنه) أي عقل عن الله وعرفه حق معرفته وعلم ما يصح عنه وما يمتنع عليه وحق أمره فيما أراده من الفرائض والأحكام وذلك ظاهر لأن أداء الفرائض لا يتصور بدون معرفتها المتوقفة على معرفته تعالى ومعرفته لا يتصور بدون العقل هو الأصل لجميع ذلك (ولا بلغ جميع العابدين) أي مجموعهم من حيث المجموع أو كل واحد منهم (في فضل عبادتهم ما بلغ العاقل) أي في فضل عبادته أو في عقله عن الله وأحكامه وعلمه بهما لأن العقل أصل للعبادة وروح لها إذ به يحصل الخوف والخشية والخضوع الموجبة لصعودها إلى محل القبول، وانحطاط الفرع عن الأصل وعدم صعود العبادة الفاقدة لروحها بين لا سترة فيه (والعقلاء هم أولو الألباب) في تعريف الخبر باللام وتوسيطه بضمير الفصل تنبيه على التخصيص والتأكيد أي على قصر المسند على المسند إليه كما هو الشايع في مثل زيد هو الأمير، أو على قصر المسند إليه على المسند، فإنه قد يجيء لهذا المعنى أيضا كما في قولهم: الكرم هو التقوى أي لا كرم إلا التقوى، وهذا أنسب بالمقام لأن الظاهر أن المقصود حصر العقلاء بأنهم ليسوا إلا أولو الألباب الذين مدحهم الله تعالى في الكتاب، ويحتمل أن يكون المراد بيان اتحاد المفهومين يعني إذا حصلت مفهوم أولو الألباب وتقرر ذلك في ذهنك وتصورته حق تصوره فقد عرفت مفهوم العقلاء وحقيقتهم، فإنه لا مفهوم لهم وراء ذلك فليس هناك حمل بحسب المعنى ولا قصر، وقد صرح أئمة العربية بجواز إرادة هذا المعنى في مثل هذا التركيب منهم الشيخ في دلائل الإعجاز. (الذين قال الله تعالى) في مدحهم والجملة صفة لاولي الألباب أو للعقلاء (وما يتذكر إلا أولو الألباب) وهم الذين اتصفوا بنور البصائر وجودة الأذهان وشاهدوا المعارف مشاهدة العيان واهتدوا إليها لتجرد عقولهم عن غواشي الحواس وعلايق الأبدان وصعدوا لسلامة عقولهم معارج اليقين فصاورا أهل الذكر ومنبع العرفان الذين فرض الله سبحانه رجوع العباد إليهم بقوله: (فاسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) فالمتمسكون بهم متمسكون بحبل الله وهم مهتدون.
12 - «أبو عبد الله الأشعري، عن بعض أصحابنا، رفعه عن هشام بن الحكم قال: قال لي أبو الحسن موسى بن جعفر (عليهما السلام): يا هشام إن الله تبارك وتعالى بشر أهل العقل والفهم في كتابه فقال:(فبشر عباد * الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوالألباب).
ص: 89
«يا هشام: إن الله تبارك وتعالى أكمل للناس الحجج بالعقول، ونصر النبيين بالبيان ودلهم على ربوبيته بالأدلة فقال: (وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم * إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس، وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيى به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض، لآيات لقوم يعقلون).
«يا هشام قد جعل الله ذلك دليلا على معرفته بأن لهم مدبرا، فقال: (وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون) وقال: (هو الذي خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم يخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ثم لتكونوا شيوخا ومنكم من يتوفى من قبل ولتبلغوا أجلا مسمى ولعلكم تعقلون) وقال: (إن في اختلاف الليل والنهار وما أنزل الله من السماء من رزق فأحيى به الأرض بعد موتها وتصريف الرياح [ والسحاب المسخر بين السماء والأرض] لآيات لقوم يعقلون) وقال: (يحيي الأرض بعد موتها، قد بينا لكم الآيات لعلكم تعقلون) وقال: (وجنات من أعناب وزرع ونخيل، صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الاكل، إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون) وقال:
(ومن آياته يريكم البرق خوفا وطمعا وينزل من السماء ماء فيحيي به الأرض بعد موتها إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون) وقال: (قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا ولا تقتلوا أولادكم من إملاق، نحن نرزقكم وإياهم ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون). وقال:
(هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء فيما رزقناكم فأنتم فيه سواء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم كذلك نفصل الآيات لقوم يعقلون).
«يا هشام: ثم وعظ أهل العقل ورغبهم في الآخرة فقال: (وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو وللدار الآخرة للذين يتقون أفلا تعقلون).
«يا هشام: ثم خوف الذين لا يعقلون عقابه فقال تعالى: (ثم دمرنا الآخرين وإنكم لتمرون عليهم مصبحين وبالليل أفلا تعقلون). وقال: (إنا منزلون على أهل هذه القرية رجزا من السماء بما
ص: 90
كانوا يفسقون ولقد تركنا منها آية بينة لقوم يعقلون).
«يا هشام: إن العقل مع العلم فقال: (وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها العالمون).
«يا هشام ثم ذم الذين لا يعقلون فقال: (وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون) وقال: (مثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء صم بكم عمي فهم لا يعقلون) وقال: (ومنهم من يستمع إليك أفأنت تسمع الصم ولو كانوا لا يعقلون) وقال: (أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا). وقال: (لا يقاتلونكم جميعا إلا في قرى محصنة أو من وراء جدر بأسهم بينهم شديد تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى ذلك بأنهم قوم لا يعقلون) وقال: (وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون).
«يا هشام: ثم ذم الله الكثرة فقال: (وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله).
وقال: (ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون).
وقال: (ولئن سألتهم من نزل من السماء ماء فأحيا به الأرض من بعد موتها ليقولن الله قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعقلون).
«يا هشام ثم مدح القلة فقال: (وقليل من عبادي الشكور) وقال: (وقليل ما هم) وقال:
(وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله). وقال: (ومن آمن وما آمن معه إلا قليل). وقال: (ولكن أكثرهم لا يعلمون) وقال: (وأكثرهم لا يعقلون). وقال:
(وأكثرهم لا يشعرون).
«يا هشام ثم ذكر أولي الألباب بأحسن الذكر وحلاهم بأحسن الحلية فقال: (يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا وما يذكر إلا أولو الألباب) وقال: (الراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب). وقال: (إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لاولي الألباب). وقال: (أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى إنما يتذكر أولو الألباب). وقال: (أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو
ص: 91
رحمة ربه، قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولو الألباب). وقال: (كتاب أنزلناه إليك مبارك ليتدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب). وقال: (لقد آتينا موسى الهدى، وأورثنا بني إسرائيل الكتاب هدى وذكرى لاولي الألباب). وقال: (وذكر فان الذكرى تنفع المؤمنين).
«يا هشام إن الله تعالى يقول في كتابه: (إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب) يعني: عقل:
وقال: (ولقد آتينا لقمان الحكمة). قال: الفهم والعقل».
(بعض أصحابنا رفعه) النسخ هنا مختلفة ففي بعضها هذا وفي بعضها «أبو عبد الله الأشعري، عن بعض أصحابنا رفعه» واسمه الحسين بن محمد وفي بعضها أبو عبد الله الاشعري رفعه» وفي بعضها «أبو علي الأشعري رفعه (1) وضعف الخبر بحسب الاسناد لا يضر بصحته مضمونه لاشتماله على علوم عقلية، وحكم برهانية وآثار إلهية، ودلائل وحدانية وشواهد ربوبية، ومواعظ لقمانية، هي مناهج الايمان، ومعارج العرفان; كما سيظهر ذلك من مطالع البيان ومشارق التبيان (عن هشام بن الحكم) يروي عن أبي عبد الله وأبي الحسن موسى (عليهما السلام) وكان ثقة محققا متكلما حاضر الجواب وله مدائح كثيرة جليلة عنهما (عليهما السلام) وسيجئ في كتاب الحجة بعض مدايحه ومهارته في صناعة الكلام وما روي في ذمه أجابوا عنه في موضعه، وقال العلامة هو عندي عظيم الشأن رفيع المنزلة (قال: قال لي أبو الحسن موسى بن جعفر (عليهما السلام): يا هشام إن الله تعالى بشر أهل العقل والفهم في كتابه) لما كان الغرض من خلق الإنسان معرفته تعالى والعبادة كما قال: «كنت كنزا مخفيا فأحببت أن اعرف فخلقت الخلق لاعرف» وقال: (ما خلقت الجن والانس إلا ليعبدون) وذلك الغرض لا يتصور حصوله إلا باستعمال العقل والفهم خص الله سبحانه أهلهما بالبشارة تعظيما وتكريما لهم وأما غيرهم فلكونهم بمنزلة همج رعاع غير قابلين للبشارة والخطاب لأنهم من أهل الضرر والزمانة كما مر في صدر الكتاب (فقال فبشر عباد * الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه) في إضافة العباد سبحانه تشريف لهم بشرف الاختصاص والتكريم، وفي عدم ذكر المبشر به دلالة على التفخيم والتعظيم، وفيه مدح للسالكين في
ص: 92
منهج الصواب التابعين للحق في كل باب وقد سأل أبو بصير أبا عبد الله (عليه السلام) عن هذه الآية فقال (عليه السلام): «هم المسلمون لآل محمد الذين إذا سمعوا الحديث لم يزيدوا فيه ولم ينقصوا منه جاؤوا به كما سمعوه (1)» ويمكن التعميم بحيث يندرج فيه المترددون بين الفريقين والناصحون بين المتخاصمين يسمعون من أحد الطرفين أقوالا ينقلون إلى أحسنها يرفع التخالف عنهم ويوقع التوافق بينهم ويندرج فيه الناظرون إلى جمال الحقايق بنور البصر والطامحون إلى قعر المعارف بغوص الفكر والمجتهدون في سبيل الحق بالاستدلال والنظر فان كل قول صدق وعقد حق له ضد ومعاند، فإن القول بأن الله تعالى موجود، عالم قادر حكيم مثلا ضد أنه ليس بموجود كما يقول الملاحدة، وأنه ليس بعالم على الإطلاق كما يقوله من نفى عنه العلم بالجزئيات وأنه ليس بقادر على إعادة الأجسام كما يقوله من نفى المعاد الجسماني أو أنه ليس بحكيم كما يقوله من نفى التدبير عنه، وقس عليه غير ذلك مما يتعلق بالأصول والفروع، ومن البين أن التمييز بين الصحيح والسقيم من هذه الأمور وغيرها لا يمكن بمجرد الاستماع وإلا لما وقع الخلاف فيها وإنما يمكن بما هو حجة الله تعالى على عباده وهو العقل الصحيح السليم عن غواشي الأجسام ولوابس الأوهام وذلك التمييز يتصور بوجهين، أحدهما: أن العقل الصحيح إذا لاحظ الضدين يجد منهما ما هو أحسن كما هو شأن المجردين من لواحق الأبدان مثل الأنبياء والأولياء.
وثانيهما: أن يدرك الأحسن من المبادي المتعلقة به كما هو شأن المجتهدين والبشارة تشمل الجميع (أولئك الذين هداهم الله) يعني أولئك الموصوفون بالصفة المذكورة هداهم الله إلى خير الدنيا والآخرة من أجل تلك الصفة ويحتمل أن يكون جواب سؤال عن سبب تبشيرهم دون غيرهم كأنه قيل: ما لهؤلاء العباد الموصوفين بالصفة المذكورة اتصفوا بالتبشير لهم دون غيرهم؟ فأجيب بأن السبب هو اختصاصهم بالهداية واللطف والتوفيق لسلوك سبيل الخيرات من الله سبحانه، وعلى التقديرين لا محل لهذه الجملة من الاعراب، وفيه دلالة على أن الهداية أمر حادث من الله تعالى للعقول القابلة المستعدة لها (وأولئك هم أولو الألباب) أي ذوو العقول السليمة عن التأثر بخبايث العلائق ومفاسد العادات، وأما غيرهم ممن لم يفرق بين الأقوال والعقائد الحسنة والقبيحة أو فرق واتبع القبيحة بحكم النفس الأمارة فهو من أهل الضلالة والجهالة بحكم المقابلة وإن كان له ما يحيل به في اقتناص الدنيا وزهراتها فإن ذلك عقل عند الجهلاء وشيطنة عند العقلاء.
(يا هشام: إن الله تبارك وتعالى أكمل للناس الحجج بالعقول) الحج القصد ومنه الحجة أي البرهان وولاة أمر الله سبحانه لأنهما يقصدان ويعتمدان وبهما يقصد الحق المطلوب. وقد تطلق على العقل أيضا
ص: 93
كما في بعض الروايات: لله على الناس حجتان إحداهما العقل وأخراهما الرسول (1). ولا يجوز إرادته هنا بخلاف الأولين، فإنه يجوز إرادة الأول على أن يكون الباء للسببية يعني أكمل للناس براهين وجوده ووجوبه وقدرته إلى غير ذلك من الصفات بسبب العقول وخلقها وتركيبها فيهم ويجوز إرادة الثاني على أن يكون الباء للتعدية أو للسببية أيضا يعني أكمل للناس حججه من الأنبياء والأوصياء المرضيين بعقولهم الصافية وأذهانهم الثاقبة أو بسبب أن منحهم عقولا زكية عارية عن شوائب النقصان مدركة لشواهد الربوبية بحقايق الإيمان (ونصر النبيين بالبيان) البيان الفصاحة لأن نبي كل قوم أفصح منهم لسانا ويجوز أن يراد به ما يتبين به الشئ من الكلام والآيات وغيرهما يعني نصرهم بالكلمات الفائقة والمعجزات الظاهرة والآيات الباهرة الدالة على ثبوت نبوتهم ليكمل بهم أحوال عباده وينور بهدايتهم أطراف بلاده ويخرج الناس من ظلمة الجهالة والغواية وينجيهم من حيرة الندامة والضلالة (ودلهم على) طريق (ربوبيته) عود ضمير الجمع إلى «النبيين» قريب وإلى «الناس» بعيد (بالأدلة) الدالة على وجود ذاته، والآيات الكاشفة عن جمال صفاته، وتلك الأدلة من آثاره العجيبة وأفعاله الغريبة; لأن معرفة الشئ إما بمشاهدته وحضوره عند العارف كمعرفة هذا الرجل وهذا الجبل، وإما بمعرفة علته وهذا الطريق يقال له برها لمي، وإما بمعرفة معلوله ويقال له: برهان إني. ولا طريق للمعرفة غير هذه الثلاثة لأن ما لا يكون نفس الشئ ولا علته ولا معلوله لا تعلق له بذلك الشئ فلا دخل له في معرفته، ثم الطريق الأول لا يتيسر الوصول إليه إلا للمقربين المخصوصين بزيادة اللطف والتوفيق وهم الذين أخذت أيديهم العناية الأزلية وأزالت عنهم الهويات البشرية وقطعت عنهم العوائق البدنية وأنزلتهم في أعلى منازل القدس وأرفع مقامات الانس، فصاروا بحيث يشاهدونه بلا حجاب ويكالمونه بلا سؤال ولا جواب، كما هو وصف نبينا وأوصيائه (عليهم السلام). والطريق الثاني لا أثر له في ساحة قدسه جل شأنه لأنه بسيط صرف لا تركيب فيه أصلا لا ذهنا ولاخارجا، واجب لذاته مبدء لجميع ما سواه وإليه ينتهي الآثار كلها فلا فاعل له خارجا عن ذاته ولا سبب له داخلا في ذاته تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، والطريق الثالث يشترك فيه الكل فلذا خصه بالذكر وهو طريق يسلكه كل من له عقل سليم وطبع مستقيم ولكن سلوكهم ووصولهم وإيمانهم وإيقانهم على حسب تفاوت مراتب عقولهم أما ترى أنك تستدل بملكوت السماوات وحركات الكواكب وبزوغها وافولها على وجود صانعها ومدبرها كما استدل بها خليل الرحمن وإن كان استدلاله بها للتعليم وقد حصل لك علم ضعيف شبيه بالجهل حتى لو وقعت في أدنى بلية تلوذ بكل من زعمت أنه ينجيك منها، وحصل له علم ثابت ويقين جازم حتى قال له الروح الأمين حين رمي بالمنجنيق وكان في
ص: 94
الهواء مايلا إلى النار: ألك حاجة؟ فقال: أما إليك فلا فإعراضه عنه في تلك الحالة والتجاؤه إلى ربه ليس إلا لأنه رأى أن كل ما سواه محتاج إليه خاشع لديه خاضع بين يديه مقهور لعزته مغلوب لقدرته بل لم ير موجودا سواه وملجأ إلا أياه، ولو عاد ضمير الجمع في «دلهم» إلى الناس أمكن أن يراد بالأدلة معصومون المطهرون (عليهم السلام).
(فقال وإلهكم إله واحد) أي مستحق العبادة منكم واحد لا شريك له يصلح أن يعبد ويسمى إلها. قيل: وحدة الشئ ما يوجب عدم انقسامه من جهة اتصافه بها، فكل موجود متصف بها فإن الرجل الواحد مثلا يستحيل أن ينقسم إلى رجلين وإن أمكن أن ينقسم من وجوه أخر وقيل: هي وجوده الخاص الذي به يوجد، ووحدته تعالى لما لم تكن مقيدة بجهة دون أخرى بل هو متصف بها من جميع الجهات كانت وحدته راجعة إلى أنه بسيط في الذات يعني أن ذاته غير مؤلفة من الأجزاء أصلا; وإلى إنه فرد لا شريك له في الوجود الذاتي والالهية، وإلى أنه واحد في أفعاله لا شريك له في المبدئية وفي انتساب جميع الكائنات إليه إما بلا واسطة أو بواسطة، وإلى أنه واحد في صفاته لان صفاته عين ذاته، وبالجملة عالم الالهية والوجوب الذاتي يتأبى عن تحقق الكثرة فيه ذاتا وصفة والشركة والكثرة إنما يتحقق في عالم الأمكان فمن قال بوقوع الكثرة في ذلك العالم كان ذلك لقصور بصيرته وعدم تميزه بين عالم الأمكان وعالم الوجوب (لا إله إلا هو) قال القاضي وغيره: هذا تقرير للوحدانية وإن أحدا لا يتوهم أن في الوجود إلها ولكن لا يستحق منهم العبادة، وتوضيحه أنه لما قال «وإلهكم إله واحد» ومعناه أن مستحق العبادة منكم واحد أمكن أن يتوهم أحد ويقول: إلهنا إله واحد يستحق العبادة منا فلعل في الوجود إلها غير إلهنا لا يستحق العبادة منا، فأزال هذا الوهم ببيان التوحيد المطلق حيث نفى مهية الإله وأثبت فردا منها فعلم أنه لا وجود لها إلا في هذا الفرد وهو التوحيد التام (الرحمن الرحيم) أي المعطي لجميع النعم الدنيوية والاخروية، فهذا كالبرهان لما مر من أنه يستحق العبادة دون غيره; لأنه لما كان هو المعطي للنعم كلها أصولها وفروعها في الدنيا والآخرة وما سواه إما نعمة أو منعم كانت الالهية واستحقاق العباة منحصرة فيه لا توجد في غيره أصلا. قيل:
كان للمشركين حول الكعبة ثلاثمائة وستون صنما فلما سمعوا بهذه الآية تعجبوا وقالوا إن كنت صادقا فأت بآية نعرف بها صدقك فنزلت (إن في خلق السماوات) على مقادير متفاوتة وأبعاد مشاهدة في البعد البعيد لما في قربها من تحير الأبصار بمشاهدة شعاع الكواكب وسرعة دورانها كما يشاهد ذلك من البروق المتوالية المضطربة في الجو ومن المصابيح المتكثرة التي تدور حول أحد دورانا حثيثا فإنها تحير بصره حتى يتحير لوجهه، وعلى إدارتها مثل الدولاب مع ما فيها من الشمس والقمر والنجوم الثوابت والسيارات على بسيط الأرض دائما بهذا التقدير المشهود والتأثير المعلوم لصلاح الأرض ومن عليها، من غير انثلام ولا انكسار مع كمال لطافتها وانشفافها وعلى حركات
ص: 95
مختلفة في الكم والكيف والجهة فبعضها سريع وبعضها بطيء وبعضها شرقي وبعضها غربي وبعضها ذاتي وبعضها عرضي وعلى تجزئتها بممثلات ومتممات وحوامل، وخوارج المراكز والتداوير كل ذلك على أنحاء مخصوصة وأوضاع معلومة لأغراض مقصودة بعضها جلي وبعضها خفي (والأرض) على حجمها وثقلها ورسوبها في الماء وانكشاف بعضها ليكون مسكنا للحيوانات البرية وعلى سعتها وسكونها وتوسطها بين الصلابة والرخاوة لتكون مأوى أنواع الوحوش ومسكن أصناف الناس ومزارعهم ومنابت أخشابهم وأحطابهم ولا يكونوا بمنزلة المتحصنين في حصار ضيق. وليتمكنوا من السعي فيها في مآربهم والجلوس فيها والنوم عليها والاتقان لأعمالهم فإنها لو كانت متحركة رجراجة (1) لم يتمكنوا التعيش فيها كما نشاهد ذلك فيما يصيبهم حين الزلازل على قلة مكثها وليتمكنوا من الزرع فيها والبناء عليها والمشي فيها ويسهل خروج النبات والأشجار. فإنها لو كانت شديدة الصلابة مثل الحجر أو شديدة الرخاوة مثل الماء لما أمكن شئ من ذلك، وعلى ما فيها وما عليها من المياه والجبال والمعادن مثل الياقوت والزبرجد والفيروزج والذهب والنحاس والحديد وغيرها كل ذلك لمنافع الخلق التي يعجز الوصافون عن توصيفها وتحديدها وعلى كرويتها الموجبة لاختلاف الآفاق والطوالع والمطالع والتعديلات والطلوع والغروب مستويا ومعكوسا واختلاف أهوية الأقاليم الموجبة لاختلاف أمزجة سكانها واختلاف أحوالهم وأخلاقهم وألوانهم، وقيل: إنما جمع السماء وأفرد الأرض لأن كل سماء جنس آخر بخلاف الأرض فانها جنس واحد.
كتاب العقل والجهل (واختلاف الليل والنهار) أي تعاقبهما على النظام المشاهد من الخلقة بالكسر وهي أن يذهب أحدهما ويجيء الآخر خلفه وبه فسر قوله تعالى «وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة» ومنه قولهم:
واختلفا ضربة أي ضرب كل واحد منهما صاحبه على التعاقب، أو اختلافهما في النور والظلمة، أو في الزيادة والنقصان ودخول أحدهما في الآخر على سبيل التدريج حتى يبلغ كل واحد منهما منتهاه في الزيادة والنقصان وهي خمس عشر ساعة تقريبا أو في الطول والقصر والحر والبرد باعتبار العروض وأهويتها فان العروض الشمالية كلما كانت أكثر كان قوس النهار أطول وقوس الليل أقصر فيكون النهار أطول من الليل بقدر ضعف تعديل النهار، والعروض الجنوبية بعكس ذلك واختلاف كل واحد منهما بحسب الأمكنة فان الأرض لما كانت كروية فأية ساعة فرضت من النهار فهي صبح لموضع وظهر لآخر وعصر لثالث ومغرب لرابع، وقس على هذا ولاختلافهما فوائد ومنافع للخلق فإنه لو كان الليل أو النهار سرمدا إلى يوم القيامة أو كان مقدار النهار مائة ساعة أو مائتي ساعة أو أكثر كما في عرض تسعين - فان
ص: 96
هناك مدة كل منها ستة أشهر كان في ذلك بوار كل ما في الأرض من حيوان ونبات ولو كان دخول أحدهما في الآخر دفعيا لأضر ذلك بالأبدان وأسقمها كما يضر الخروج من الحمام إلى موضع بارد دفعة، ولو كانت العروض متساوية في الحر والبر والأهوية لضاق الأمر على العباد بخلاف ما إذا كانت متفاوتة فإنه ينتقل منهم من أراد من موضع إلى موضع وجده موافقا لمزاجه فهي كالخوان الموضوع بين يدي جماعة فيه ألوان مختلفة من الأطعمة والأشربة في الكمية والكيفية يأكل منها كل واحد منهم ما أراد ووافق مزاجه، وبالجملة آثار صنع الله تعالى وحسن تدبيره في اختلافهما ومصالحه ومنافعه أعظم من أن يحيط بها علم الإنسان أو يكتب في الدفاتر ويذكر باللسان ولذلك ذكره الله تعالى في القرآن المجيد في مواضع عديدة وموارد كثيرة تنبيها لهم عن الغفلة وتذكرا لهم بالحكمة.
(و الفلك التي تجري في البحر) الفلك بضم الفاء وسكون اللام واحد وجمع فإذا كان واحدا فالضمة بمنزلة ضمة قفل، وإذا كان جمعا فالضمة بمنزلة اسد، فالضمتان متفقتان لفظا ومختلفتان معنى أما الجمع فكما في قوله تعالى (حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم) وأما الواحد فقد يأتي للمذكر بمعنى المركب كما في قوله تعالى (في الفلك المشحون) وقد يأتي للمؤنث بمعنى السفينة كما في قوله تعالى (والفلك التي تجري في البحر) ويحتمل أن يكون فيه جمعا (بما ينفع الناس) «ما» إما مصدرية أي بنفعهم، أو موصولة أي بالذي ينفعهم من المحمولات والمجلوبات وغوص اللآلي، وضمير «ينفع» على الأول يعود إلى «الفلك» بمعنى المركب ففيه استخدام أو إلى الجري أو البحر، وعلى الثاني إلى الموصول وفي موضع هذا المركوب المشكل بالشكل المخصوص الداخل فيه الهواء وحمله للأمتعة الكثيرة وأصناف من الحيوان وجريه في الماء بسياق الرياح، وعدم رسوبه فيه وتقوية القلوب على ركوبه، وجعل البحر متوسطا بين الكثيف واللطيف القابل لجريانه من لطايف الصنع وحسن التدبير في مصالح الناس ومعاشهم ما لا يخفى على ذوي البصائر الثاقبة، ومن جملتها أنه لولا هذا المركوب لعطلت التجارات التي تجلب من البلاد البعيدة مثل ما يجلب من الصين إلى العراق ومن العراق إلى الصين، وبقيت الأمتعة في بلدانها في أيدي صاحبها لأن أجر حملها على ظهور الدواب كان يجاوز أثمانها فلا يتعرض أحد لحملها على أن بعض المسافات كالبحر مما لا يمكن قطعه بالدواب، فتفقد أشياء كثيرة تعظم الحاجة إليها فينقطع المعاش ويتضيق طرقه على الناس، فلأجل هذه الحكمة جعل الفلك بحيث يحمل ما لا يحصى من الحمولة والأفراس والأفيال وهي تجري بعنايته في موج كالجبال وجعل الريح سايقها ومحركها ولولا الريح لركدت كما قال سبحانه (ومن آياته الجوار في البحر كالأعلام إن يشأ
ص: 97
يسكن الريح فيظللن رواكد على ظهره إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور) ومن جملتها أنه لو جعل البحر لطيفا محضا مثل الهواء لما استقر الفلك على ظهره بل غاص فيه، ولو جعله كثيفا محضا مثل الأرض لما أمكن من قطعه وشقه فجعل متوسطا بينهما لتكميل مصالحهم، قال القاضي: القصد من هذه الآية إلى الاستدلال بالبحر وأحواله وتخصيص الفلك لأنه سبب الخوض فيه والاطلاع على عجائبه ولذلك قدمه على ذكر المطر والسحاب لأن منشأهما البحر في غالب الأمر، وقيل: الحكمة في عدم رسوب السفينة إلى الماء وإن كان بعض أجزائه أو كلها أثقل منه كالحديد هي أن الأجسام المتداخلة بعضها في بعض بمنزلة جسم واحد والمعتبر في الرسوب في الماء وعدمه ثقل المجموع بالقياس إليه وعدمه; ولذلك لو كثرت الحمولة وقل الهواء الداخل بحيث يكون المجموع أثقل من الماء لرسب فيه وغرق أهلها، والضابطة فيه أنه إذا فرض مع الماء جسم آخر فإن كان نسبة حجمه إلى حجم الماء كنسبة ثقله إلى ثقل الماء فلا يرسب فيه أصلا بل يكون سطحه العالي مساويا لسطح الماء في العلو والسفل وإن كانت نسبة حجمه إلى حجم الماء أقل منها فيرسب فيه البتة وبقدر تفاوت ثقله يكون سرعة حركته وبطؤها في النزول إلى القعر، وإن كانت أكثر فلا يرسب على الطريق الأولى لكن يخرج منه شئ من الماء ثم بقدر أكثرية هذه النسبة يكون خروج أبعاضه حتى يستوفي جميع النسبة التي يتصور بينهما وإن لم يبق بينهما نسبة أصلا وذلك بأن لا يكون لذلك الشئ ثقل وميل إلى المركز أصلا وعند ذلك يكون مماسا له بنقطة إن كان كرة أو بخط أو سطح إن كان غيرها من الاشكال كل ذلك إذا كان غير طالب للعلو وإلا فيرفع منفصلا على الماء ذلك تقدير العزيز العليم.
(وما أنزل الله من السماء من ماء) «من» الأولى للابتداء والثانية للبيان والسماء يحتمل الفلك والسحاب المعلق وهذه من آيات وجوده سبحانه وقدرته وحكمته وحسن تدبيره من جهة كيفية نزو المطر ومبدء نزوله وفوائده. أما الأول فإنه ينزل متقاطرا متعاقبا ولو نزل متصلا دفعة واحدة مثل البحر لأضر كل ما تصيبه وينزل في وقت دون وقت آخر على تعاقب بينه وبن الصحو لما في دوام أحدهما من فساد العالم وبطلان نظامه، إذ لو دام المطر عفنت البقول والنباتات واسترخت أبدان الإنسان وساير الحيوانات وحسر الهواء فأحدث ضروبا من الأمراض والوباء وأفسد الطرق والمسالك والبلاد وأخرب البناء إلى غير ذلك من المفاسد التي لا يحيط بها العد والإحصاء، ولو دام الصحو جفت الأرض واحترق النبات وغيض ماء العيون والأودية وغلب اليبس وحدث القحط والجدب وضروب من الأمراض، وفيه هلاك الأرض ومن عليها وما فيها جميعا، ففي هذا التعاقب على النحو المشاهد الذي يوجب اعتدال
ص: 98
الهواء ونظام الأشياء وصلاحها واستقامتها ودفع كل منهما عادية الآخر دلالة على اللطيف الخبير، وأما الثاني فقال بعض الطبيعيين أن الشمس وغيرهما إذا أثرت في الأرض يخرج منها أبخرة متصاعدة إلى الطبقة الزمهريرية التي لا يصل إليها أثر شعاع الشمس المنعكس من وجه الأرض وهي منشأ السحب والصواعق والرعد والبرق، فإذا وصلت تلك الأبخرة إلى هذه الطبقة تتكاثف بالبرد وتصير سحابا، فإما أن لا يكون البرد قويا فيتقاطر وهو المطر أو يكون قويا بأن أثر في الأجزاء المائية قبل اجتماعها يحصل الثلج وإن أثر بعده يحصل البرد، وروي عن أمير المؤمنين (عليه السلام): «أن تحت العرش بحرا فإذا أراد الله أن ينبت به ما يشاء أوحى إليه فمطر ما شاء من سماء إلى سماء حتى يصير إلى السماء الدنيا فيلقيه إلى السحاب والسحاب بمنزلة الغربال فيمطر على النحو الذي أمر به، وليس من قطرة تقطر إلا ومعها ملك حتى يضعها موضعها» (1) والحديث طويل نقلنا بعض مضمونه.
شرح أصول الكافي: 1 ويؤيده ما روي عنه (عليه السلام) قال: قال «رسول الله (صلى الله عليه وآله): إن الله عز وجل جعل السحاب غرابيل للمطر حتى يذيب البرد حتى يصير ماء كيلا يضر شيئا يصيبه» (2) وهذا وإن كان مما يستبعده الغافلون لكن وجب قبوله وإذعانه إذا أخبر به المخبر الصادق كما في سائر الأسرار الالهية (3) وروي عنه (عليه السلام) أيضا أنه سئل عن السحاب أين يكون قال: «يكون على شجر على كثيب (4) على شاطئ البحر يأوي إليه فإذا أراد الله عز وجل أن يرسله أرسل ريحا وأتارته ووكل به ملائكة يضربونه بالمخاريق وهو البرق ويرتفع ثم قرأ هذه الآية (هو الذي يرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه إلى بلد ميت) واللمك اسمه رعد (5)» وفيه دلالة على أن السحاب تحمل الماء من بحار الأرض ويتصاعد بأمر الله تعالى ويمطر في كل مكان تعلق به إرادته ومشيئته ويدل عليه أيضا ظاهر ما نقله العامة والخاصة كما صرح به الشيخ في مفتاح الفلاح من أن المأمون خرج يوما من بغداد فأرسل صقره فارتفع في الهواء ولم يسقط على الأرض حتى رجع
ص: 99
في منقاره سمكة فتعجب المأمون من ذلك فلما رجع بغداد رأى في بعض طريقه محمد بن علي بن موسى الرضا (عليه السلام) وله في ذلك الوقت إحدى عشرة سنة وقيل عشرة فتقدم إليه المأمون وهو ضام كفه على السمكة وقال له قل أي شئ في يدي فقال (عليه السلام): إن الغيم حين يأخذ من ماء البحر يداخله سمك صغار فتسقط منه فيصيدها صقور الملك فيمتحنون بها سلالة النبوة، فأدهش ذلك المأمون فنزل عن فرسه وقبل رأسه وتذلل له ثم زوجه ابنته (1).
والظاهر أن جميع ذلك حق لأن الشئ الواحد قد يكون له أسباب متعددة وفي جميع ذلك دلالة على الحكيم القدير المدبر للأشياء على أحسن ما ينبغي.
فان قال قائل: إنما ينزل المطر من السحاب بطبعه لأنه ثقيل فأي دلالة فيه على ما ذكرتم؟ قلنا: أولا: هذا الطبع له ليس من قبل نفسه بالضرورة فمن أعطاه إياه دون غيره من الأجسام الخفيفة مع اشتراكهما في الجمسية؟ ومن أسكنه في جو السماء وكبد السحاب بحيث ينزل تارة دون أخرى مع اقتضاء طبعه نزوله وعدم استقراره؟ ومن ساقه من جو إلى جو مع اقتضاء طبعه الحركة إلى المركز؟ وثانيا: أنه إذا نزل بطبعه لثقله فلم يتصاعد إلى أعالي الشجر والأوراق والنباتات من المسامات الضيقة والعروق الدقيقة ليصل منافعه إلى كل جزء من أجزائها؟ ولو قال: صعود لجذب قواها الجاذبة إياه، قلنا له: من أعطاها تلك القوى التي تفسره إلى الصعود المخالف لمقتضى طبعه فيرجع الكلام بالآخرة إلى وجود واجب الوجود الذي بأمره وتدبيره يتحرك الماء فيما بين الأرض والسماء، من شرق إلى غرب ومن غرب إلى شرق، ومن شمال إلى جنوب ومن جنوب إلى شمال، ومن علو إلى سفل، ومن سفل إلى علو، ذلك تقدير العزيز العليم، وأما الثالث: فهو أشار إليه سبحانه بقوله (فأحيا به الأرض بعد موتها) أي بسبب ما يتبعه من النباتات والحيوانات والكلام هنا في ثلاثة أمور، الأول: في كون النبات والحيوان حياة الأرض، ومجمل القول فيه أن نسبة النبات والحيوان الأرض كنسبة النفس إلى الحيوان فكما أن الحيوان بلا نفس ميت عديم المنفعة، كذلك الأرض بلا نبات ولا حيوان، ومن ثم قيل: الأرض بما فيه من النبات والحيوان بمنزلة حيوان واحد تموت عند الجدب والشتاء ويحيى عند الخصب والربيع. والثاني: في أن الماء سبب لحياة النبات والحيوان وهما يحتاجان إليه احتياجا شديدا، ووجهه ظاهر لأن القوى النباتية والحيوانية في جذب الغذاء والإلصاق والتنمية تحتاج إلى ماء يرطب ذلك الغذاء ويعده للنفوذ في المنافذ الضيقة ويعين تلك القوى في أعمالها، وإذا فقد الماء بطلت أعمالها وإذا بطلت أعمالها عدم الحيوان والنبات وبالجملة الإنسان وسائر الحيوانات والزروع وساير النبات يحتاجون إليه في
ص: 100
الوجود والنمو والبقاء احتياجا شديدا. وقال صاحب العدة روي أن بعض الوعاظ دخل على هارون الرشيد فقال له هارون عظني،فقال: أراك لو منعت شربة ماء عند عطشك بم كنت تشتريها؟ قال: بنصف ملكي، قال: أتراها لو حبست عنك عند خروجها بم كنت تشتريها؟ قال: بالنصف الباقي، قال: لا يغرنك ملك قيمته شربة ماء.
الثالث: في دلالة إحياء الأرض بالمطر على وجود الصانع المدبر للعالم وذلك أن البرد في الشتاء يوجب كثافة الهواء والأرض والشجر ويبس ظاهرها فتعود القوى النباتية والحرارة الغريزية في الشجر والنبات، وتستقر في بطونها وأصولها وتهيء فيهما مواد الثمار وتولد الأمثال فإذا نزل الماء وقت الربيع الذي هو وقت بروز ما في البطون وظهور ما في الكمون انتفخت الأرض واهتزت وتحركت القوى والحرارة وتتولد المواد الكامنة في الشتاء فيطلع النبات ويتنور الأشجار والأزهار ويخرج أصناف مختلفة مونقة رايقة من الثمار التي يتمتع بها الإنسان وغيره من أنواع الحيوان، كما قال سبحانه: (وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج) وقال: (وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا لنخرج به حبا ونباتا وجنات ألفافا) فالعاقل اللبيب إذا نظر هذه الحركات والانقلابات وفي صنوف مختلفة من النباتات والأشجار والأزهار والأثمار من حب وعنب وقضب وزيتون ونخل ورمان وفواكه كثيرة على اختلاف أنواعها وأصنافها مختلفة الأشكال والألوان والطعوم والروايح يفضل بعضها على بعض في الاكل والمنافع مع أن جميعها يخرج من أرض واحدة ويسقى من ماء واحد، وتفكر ما في النباتات من ضروب المنافع وصنوف المآرب فالثمار للغذاء والنبات للعلف والحطب للوقود والخشب لكل شئ من أنواع التجارة وغيرها واللحاء والورق والأصول والعروق والصموغ وغيرها لضروب المنافع فبعضها يقوي وبعضها يغذي، وبعضها يقتل وبعضها يحيى، وبعضها يسخن وبعضها يبرد، وبعضها يدفع السوداء وبعضها يسهل للصفراء، وبعضها يقمع البلغم إلى غير ذلك من الفوائد الغير المحصورة، ورأى ما في الأوراق من شبه العروق مبثوثة في جرمها أجمع فمنها غلاظ ممتدة في طولها وعرضها لامساكها وحفظها عن التمزق والاضطرب ولإيصال الماء إلى أطرافها بمنزلة الجداول ومنها دقاق تتخلل تلك الغلاظ لإيصال الماء والغذاء إلى كل جزء من أجزائها بمنزلة العروق المبثوثة في البدن. علم أن جميع ذلك من فاعل قادر مختار عليم حكيم يوجد الأشياء بمجرد إرادته لمصالح أو منافع غير محصورة (وبث) عطف على أنزل فهو صلة على حدة لموصول مقدرة بحكم العطف ويجوز عطفه على «أحياء» لأن الحيوان أيضا ينمو بالماء ويعيش بالخصب والحب (فيها من كل دابة)
ص: 101
مختلفة في الطبايع والأخلاق والأشكال والادراك والحواس والحركات والمنافع والاهتداء إلى طرق المعاش. فمنها ما يمشي على بطنه كالحيات، ومنها ما يمشي على رجلين كالإنسان، ومنها ما يمشي على أربع كالفرس، ومنها ما يمشي على أكثر كبعض الحشرات، ومنها ما يمشي تارة ويطير أخرى كالطيور، ومنها ما يدخر قوته بحيلة وتدبير كالذرة والعنكبوت، ومنها ما يطلب قوته عند الحاجة كالطير فإنه يروح جايعا ويرجع شبعانا، ومنها ما في خلقه صنعة عجيبة كالبعوضة فإنها مع صغرها على هيئة الفيل مع زيادة الجناحين تطير بهما.
ومنها ما لا يحتاج إلى بيت بل يبيت حيث كان من الأرض، ومنها ما يحتاج إليه ويبنيه على شكل عجيب غريب لا يهتدى إليه المهرة من المهندسين كالنحل; وكل ذلك وغيره مما يتعذر عده وإحصاؤه دل على أن في الوجود موجودا عالما حكيما يفعل ما يشاء كيف يشاء، وإليه ينتهي الموجودات على تفاوت طبايعهم ومراتبهم التي أرفعها وأعلاها وأشرفها وأسناها المرتبة الانسانية; لأن الإنسان على تفاوت الطبقات في العقل والأدراك خلق له أكثر هذه الموجودات فبعضها لمأكله ومشربه وسائر منافعه وبعضها يستدل به على وجود صانعه وقدرته وعلمه وحكمته بل لو لم يكن في هذا العالم موجود سواه وتأمل في مبدء نشؤه وصورته وأعضائه ومنافع قواه الظاهرة والباطنة وفي أحوال نفسه وعقله وعلمه بالمعلومات الكلية والجزئية وإحاطته بالمدركات العقلية والحسية علم أنه مخلوق مغلوب مقهور له خالق غالب قاهر مصور عليم حكيم، فإنه إذا اعتبر مثلا حاله حين كونه نطفة في الرحم وصيرورته جنينا حيث لا تراه عين ولا تناوله يد مع اشتماله على جميع ما فيه قوامه وصلاحه من الأحشاء والجوارح وسائر الأعضاء من العظام واللحم والشحم والمخ والعصب والعروق والغضروف وهو محجوب في ظلمات ثلاث ظلمة البطن وظلمة الرحم وظلمة المشيمة ولا حيلة له في طلب غذائه، ولا دفع أذاه، ولا استجلاب منفعته، ولا دفع مضرته، وقد جرى إليه من دم الحيض ما يغذوه كما يغذو الماء النبات فلا يزال ذلك غذاه حتى إذا كمل خلقته واستحكم بدنه وقوي أديمه على مباشرة الهواء وبصره على ملاقاة الضياء هاج الطلق (1) بأمه فأزعجه أشد إزعاج واعنفه حتى يولد وإذا ولد صرف ذلك الدم الذي كان يغذوه في الرحم إلى ثديي أمه وانقلب الطعم واللون إلى ضرب آخر من الغذاء وهو أشد موافقة له من الدم فيوافيه في وقت حاجة إليه وحين تولد قد تلمظ وحرك شفتيه طلبا للغذاء فلا يزال يغتذي باللبن ما دام رطب البدن دقيق ا لامعاء لين الأعضاء حتى إذا تحرك واحتاج إلى غذاء فيه صلابة ليشتد ويقوى بدنه طلعت له الطواحن من الأسنان والأضراس ليمضغ بها الطعام فيلين عليه ويسهل له إساغته،
ص: 102
فلا يزال كذلك حتى يدرك فإذا أدرك وكان ذكرا طلع الشعر في وجهه فكل ذلك علامة الذكر وعزه الذي يخرج به من حد الصبى وشبه النساء، وإن كانت أنثى يبقى وجهها نقيا من الشعر ليبقى لها البهجة والنضارة التي تحرك الرجال لما فيه دوام النسل وبقاؤه،واعتبر أنه لو لم يجر إليه ذلك الدم وهو الرحم لزوى وجف كما يجف النبات إذا فقد الماء ولو لم يزعجه المخاض عند استحكامه لبقي في الرحم كالموؤد في الأرض; وفي ذلك هلاكه وهلاك أمه، ولو لم يوافقه اللبن بعد الولادة لمات جوعا، ولو لم يطلع عليه الأسنان في وقتها لامتنع عليه مضغ الطعام وإساغته أو يقيم على الرضاع فلا يشتد بدنه ولا يصلح للعمل مع أن ذلك يمنع أمه عن تربية غيره من الأولاد بل عن امورها مطلقا، ولو لم يخرج الشعر من وجهه في وقته لبقي شبيها بالصبيان والنساء فلم يكن له جلالة ولا وقار، وكذا إذا اعتبر في وصول الغذاء إلى البدن وما فيه من التدبير، وفكر في أن الطعام يصير إلى المعدة فتطحنه وتبعث بصفوه إلى الكبد منه في عروق دقاق قد جعلت كالمصفاة للغذاء لكيلا يصل إلى الكبد منه شئ فينكأها (1) وذلك أن الكبد رقيقه لا يحتمل العنف ثم إن الكبد تقبله فيستحيل بلطف التدبير دما وينفذ إلى البدن كله في مجاري مهياة لذلك بمنزلة المجاري التي للماء حتى يطرد في الأرض كلها، وينفذ ما يخرج منه من الخبث والفضول إلى مفايض قد اعدت لذلك، فما كان منه من جنس المرة الصفراء جرى إلى المرارة، وما كان من جنس السوداء جرى الطحال، وما كان من البلة والرطوبة جرى إلى المثانة، وتأمل في حكمة التدبير في تركيب البدن، ووضع هذه الأعضاء منه في مواضعها، وإعداد هذه الأوعية فيه لتحمل الفضول لئلا تنتشر في البدن فتسقمه وتنهكه، وفكر في أعضاء البدن أجمع وتدبير كل منها للإرب والحاجة، فاليدان للعلاج، والرجلان للسعى، والعينان للاهتداء، والفم للاغتذاء، واللسان للتكلم.
والحنجرة لتقطيع الصوت وتحصيل الحروف، والمعدة للهضم، والكبد للتخليص والمنافذ لتنفيذ الفضول، والأوعية لحملها، والفرج لإقامة النسل، وفكر في سائر الأعضاء والقوى ومنافعها وأعمل فكره فيها ووجد كل شئ قد قدر لشئ على صواب وحكمة وتقدير وتدبير يعجز العقل عن معرفة تفاصيلها، علم أن له خالقا عالما قديرا عليما حكيما يوجد الأشياء بمجرد إرادته بلا كلام ولا حركة ولا آلة لأغراض ومصالح لا يعرف تفاصيلها إلا هو وهو اللطيف الخبير.
(وتصريف الرياح) الرياح جمع كثرة للريح وهي الهواء المتموج المتحرك بسبب مقدر من الله العزيز العليم، والعين فيهما واو قلبت ياء لكسرة ما قبلها وجمع القلة أرواح بالواو إذ لم يوجد فيه ما يوجب الإعلال، والمراد بتصريفها في مهابها صباء ودبورا وشمالا وجنوبا، أو في أحوالها حارة وباردة وعاصفة
ص: 103
ولينة وعقما ولواقح، أو جعلها تارة للرحمة يرحم بها من أطاعه وتارة للعذاب يعذب بها من عصاه ولكل واحدة من الرياح الأربع المذكورة ملك يهيجها ويحركها بأمر الله سبحانه كما ورد في الرواية الصحيحة عن أبي جعفر (عليه السلام) (1) «إن الرياح الأربع الشمال والجنوب والصبا والدبور إنما هي أسماء الملائكة الموكلين بها فإذا أراد الله أن يهب شمالا أمر الملك الذي اسمه الشمال فهبط على البيت الحرام فقام على الركن الشامي فضرب بجناحه فتفرقت ريح الشمال حيث يريد الله من البر والبحر، وإذا أراد الله أن يبعث جنوبا أمر الملك الذي اسمه الجنوب فهبط على البيت الحرام فقام على الركن الشامي فضرب بجناحه فتفرقت ريح الجنوب في البر والبحر حيث يريد الله، فإذا أراد الله أن يبعث ريح الصبا أمر الملك الذي اسمه الصبا فهبط على البيت الحرام فقام على الركن الشامي فضرب بجناحه فتفرقت ريح الصبا حيث يريد الله في البر والبحر، وإذا أراد الله أن يبعث دبورا أمر الملك الذي اسمه دبور فهبط على البيت الحرام فقام على الركن الشامي فضرب بجناحه فتفرقت ريح الدبور حيث يريد الله من البر والبحر، ثم قال (عليه السلام) أما تسمع لقوله (2) ريح الشمال. وريح الجنوب; وريح الدبور، وريح الصبا. إنما تضاف إلى الملائكة: الموكلين بها».
إذا عرفت هذا فنقول: في تصريف الرياح ومنافعها دلالة واضحة على أن مبدعا حكيم قادر عليم بمصالح العباد أما الأول فلأن حركة الهواء إلى الجوانب المختلفة إرادية بالضرورة ولا طبيعية لأن الحركة الطبيعية إلى جهة واحدة هي العلو والسفل. وحركة الهواء إلى جهات متعددة فينبغي أن يكون لأمر خارج فإن كان ذلك الخارج إرادة الواجب بالذات ثبت المطلوب، وإن كان غيرها ننقل الكلام إلى ذلك الغير فيرجع بالآخرة إلى المطلوب، وأما الثاني فلان الريح تحيي الأبدان وتمسكها من داخل بما تستنشق منها ومن خارج بما تباشر بها من روحها وتبلغ الأصوات وتؤديها إلى المسامع من البعد والبعيد ولولا ذلك لبطل نظام العالم، وتحمل الأراييح التي تقوي القلب والدماغ من موضع إلى موضع، ألا ترى كيف تأتيك الرائحة من حيث تهب الريح وتروح عن الأجسام وتدخل في فرجها وتصير مادة لنشوء النباتات التي يحتاج إليها جميع الحيوانات في الاغتذاء والدواء وغيرهما فلولا الريح لتعفنت وفسدت، وتعفنها وفسادها يؤدي إلى فساد الحيوان والإنسان جميعا، وتزجي السحاب من موضع إلى من موضع ليعم نفعه ثم تعصره حتى يستكثف فيمطر ثم تنفضه حتى يتخلخل ويستخف فيتفشى وينتشر، وتلقح الشجر، وتسير السفن، وترخى الأطعمة، وتبرد الماء وتشب النار، وتجفف الأشياء الندية، وتعين في تصفية
ص: 104
الغلات ولو ركدت دائما لفاتت هذه المصالح الجليلة والمنافع العظيمة، وحدث الكرب في النفوس، ومرض الأصحاء ونهك المرضى (1) وفسد الثمار، وعفنت البقول، وحدث الوباء في الأبدان، والآفة في الغلات، وركدت السفن، وتحير التجار، وبالجملة بطل نظام العالم بالكلية، ففيها من تدبير الحكيم ومصالح الخلق ما لا يحصيه اللسان ولا يحيط به العبارة والبيان، وكل هذا شواهد صادقة وآيات ناطقة بلسان حالها، مفصحة عن جلالة باريها وقدرته، ومعربة عن كمال صانعها وحكمته.
(والسحاب المسخر بين السماء والأرض) وهو يحمل مع ما فيه من الصواعق الصادعة والبروق اللامعة والرعود القارعة ثقل الماء وكثره مستقلا في الهواء ويجمع بعد تفرقه وينفجر بعد تمسكه ويرفع مرة ويدنو أخرى فتصفقه الرياح وتسوقه وتفرقه بأمر مدبره وخالقه فيما بين الأرض والسماء إلى البلدان النائية فيخرج الوقد من خلاله بقدر معلوم لمعاش ورزق مقسوم، ويرسل قطرة بعد قطرة وشيئا بعد شئ على رسله حتى يغمر البرك ويملأ الفجاج، ويعتلي الأودية وتحيى به الأرض الميتة فتصبح مخضرة بعد أن كانت مقبرة وتعود معشبة بعد أن كانت مجدبة وتكسو ألوانا من نبات ناضرة زاهرة مزينة معاشا للناس والأنعام ولو احتبس عن أزمنته وتخلف عن وقته هلكت الخليقة ويبست الحديقة، ثم إذا صب ما فيه أقلع وتفرق وذهب حتى لا يعاين ولا يدري أين يتوارى، فعرف العاقل حيت تفكر في ذلك أن له مدبرا حكيما عالما حيا قيوما وأن السحاب لو تحرك بنفسه وصب ما فيه بمقتضى طبعه لما مضى به ألف فرسخ وأكثر وأقرب من ذلك وأبعد ليرسل قطرة بعد قطرة بلا هدم ولا فساد ولا سارية إلى بلدة متجاوزا عن الأخرى. (لآيات لقوم يعقلون) أي في كل واحد من الأمور الثمانية آية ظاهرة ودلالة واضحة على وجود الصانع وقدرته وحكمته ووحدته واستحقاقه للعباد لقوم ينظرون إليه بعيون عقولهم الصحيحة ويعتبرونه ببصاير أذهانهم السليمة، أو في كل واحد منها آيات كثيرة كما يظهر لمن تأمل فيها تأملا عاريا عن الأوهام الفاسدة وقد يوجه بأن كل واحد منها يدل من حيث وجوده على وجود الصانع، ومن حيث حدوثه في وقت معين على إرادته وعلمه بالجزئيات، ومن حيث منافعه على حكمته واتقان صنعه وحسن تدبيره، ومن حيث ارتباط بعضه ببعض على وجه الانتظام والتعاون على وحدانيته.
وقال القاضي دلالة هذه الآيات على وجود الإله ووحدته من وجوه كثيرة يطول شرحها مفصلا، والكلام المجمل أنها أمور ممكنة وجد كل منها بوجه مخصوص من وجوه محتملة مثلا إذا كان من الجائز أن لا تتحرك السماوات أو بعضها كالأرض وأن تتحرك بعكس حركاتها وبحيث تصبر المنطقة دائرة مارة بالقطبين، وأن لا يكون لها أوج وحضيض أصلا وعلى هذا الوجه لبساطتها وتساوي أجزائها فلا بد لها
ص: 105
من موجد قادر حكيم يوجدها على ما يستدعيه حكمته وتقتضيه مشيئته متعاليا عن معارضة غيره، إذ لو كان معه إله يقدر على ما يقدر عليه فإن توافقت إرادتهما فالفعل إن كان لهما لزم اجتماع مؤثرين على أثر واحد وإن كان لأحدهما لزم ترجيح الفاعل بلا مرجح وعجز الآخر المنافي لالهيته وإن اختلفت لزم التمانع والتطارد كما أشار إليه بقوله تعالى (قل لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا) وفي الآية تنبيه على شرف علم الكلام وأهله وحث على البحث والنظر فيه. اه. وقيل:
الأحق بذلك هو العلم الذي فوق الطبيعة وهو الحكمة الالهية الحقة.
(يا هشام قد جعل الله ذلك) أي المذكور من الآيات ومثلها أو مضمونها فان مضمونها مذكور تفصيلا في الآيات الآتية (دليلا على معرفته بأن لهم مدبرا) لأنهم إذا تأملوا فيها ونظروا إليها بعين البصاير واعتبار الضمائر علموا أن لهم خالقا خبيرا وصانعا بصيرا خلقهم بعمد وتقدير، وصنعهم بقصد وتدبير، وخلق لهم جميع ما يصلح لانتفاعهم وينفعهم في وجودهم وبقائهم كما يظهر بعض ذلك مما ذكرناه آنفا. (فقال: وسخر لكم الليل والنهار) بأن قدرهما لمنافعكم وهيأهما مخصوصا لمصالحكم، وجزء الزمان بهما لصلاح بالكم ونظام حالكم فصارا يتعاقبان تعاقبا مخصوصا ويتبادلان تبادلا معلوما، لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله، ومتى نظر فيه اللبيب البصير دله إلى وجود الصانع العليم الخبير، وقيل: وجه دلالتهما عليه أنهما أجزاء الزمان الواحد المتصل، والزمان مقدار حركة دورية غير مستقيمة، فالحافظ لها لا بد أن يكون جسما كرويا إبداعيا وهو السماء فدل وجودهما على وجود السماء، والسماء دل على وجود خالق الأشياء لأن السماء ممكنة مفتقرة العلة وعلتها ليست مادتها ولا صورتها ولا نفسها ولا جسم آخر حاويا أو محويا فتتعين أن يكون خارجا عن الكون والمكان وهو المطلوب. وفيه: أن هذا على تقدير تمامه مبني على مقدمات كثيرة كلامية وليس هذا المقام موضع ذكر أمثال هذا الكلام (والشمس والقمر) سخر الشمس بأن جعلها ضياء وأمرها بالارتفاع والانحطاط والسير في البروج لإقامة الفصول وتربية البقول وتنمية الحيوان والأشجار وتقوية الفواكه والأثمار إلى غير ذلك من المنافع التي يعجز عن ذكرها القلم واللسان ولا يحيط بها الوصف والبيان ولو سارت دائما على مدار واحد لأحرقت ما تحته وما يليه وفات أثرها فيما لا يدانيه، ولم يتحقق الفصول الأربعة، ومنافعها المذكورة في الكتب مع أن المذكور منها ليس إلا قليل من كثير. وسخر القمر بأن جعله نورا يستضيء به المسافرون في قطع المفاوز، ويستعين به العاملون في حرث الزرع وضرب اللبن وقطع الخشب ونحو ذلك. وسائرا في منازله المعروفة ليكون أثره في أقطار الأرض وفيضه على أهاليها على السواء ولغير ذلك من المنافع الغير
ص: 106
المحصورة ومختلفا في أحواله من الزيادة والنقصان والمحق والخسوف والوجود غالبا في بعض الليل دون بعض ليعلموا به عدد الشهور والسنين والحساب ولئلا ينبسطوا في العمل والسير لشدة الشره والحرص مثل انبساطهم بالنهار ويمتنعوا من الهدء والقرار فيهلكهم ذلك، ولغير ذلك من المنافع التي يعلمها أرباب البصائر الثاقبة وأصحاب الضمائر النافذة، ويحكمون بأنها من لدن حكيم خبير فسبحان من نور بهما الظلم، وأوضح بهما البهم، وجعلهما آيتين من آيات ملكه، وعلامتين من علامات سلطانه (والنجوم مسخرات بأمره) قرأهما حفص بالرفع على الابتداء والخبر فيكون تعميما للحكم بعد تخصيصه، ونصب ما قبلهما على المفعولية. وقرئ «الشمس والقمر» بالرفع أيضا ونصب الليل والنهار وحدهما.
والقراءة المشهورة عند الأكثر: نصب جميع الأسماء الستة، وأورد على هذه القراءة بأنه ما الحاجة إلى مسخرات بعد قوله «وسخر لكم» وأجيب عنه بأن نصب الأخيرين بفعل مقدر يعني وجعل النجوم مسخرات بأمره خلقها ودبرها كيف شاء، أو نصب «مسخرات» على الحالية للمفاعيل الخمسة على أن سخر بمعنى صير يعني صير هذه الأشياء الخمسة نافعة لكم، ونفعكم بها حال كونها مسخرات بأمره لما خلقن له أو على المصدرية يعني سخرها لكم أنواعا من التسخير على أن يكون مسخر بمعنى تسخير، كما في قولك سخره مسخرا مثل سرحه مسرحا فجمع لاختلاف الأنواع. وتلك التسخيرات في النجوم اختلاف أشكالها وصورها ونورها ومقاديرها ومواقعها وحركتها كما وكيفا وجهة وتقارنها وتفارقها وتثليثها وتربيعها وتسديسها واستقامتها ورجعتها ووقوفها وظهور بعضها دائما وخفاء بعضها كذلك وظهور بعضها في بعض السنة واحتجابها في بعضها (1) كل ذلك لمصالح كثيرة بعضها معلوم بالضرورة وبعضها بالنظر الصادق، وبعضها لا يعلمه إلا هو. أما ترى أن الثريا والجوزاء والشعريين والسهيل كل ذلك يطلع حينا ويغيب حينا لمصالح معروفة ومنافع مشهورة وفوائد مذكورة ولو كانت بأسرها تظهر في وقت لم يكن لواحد منها على حياله دلالات يعرفها الناس ويهتدون بها لبعض أمورهم كمعرفتهم بما يكون من طلوع الثريا والجوزاء إذا طلعتا ومن احتجابها إذا اجتجبتا فصار ظهور كل واحد منهما في وقت واجتجابه في وقت آخر لينتفع الناس بما يدل كل واحد منهما على حدته وكما جعلت الثريا وأشباهها
ص: 107
تظهر حينا وتحجب حينا لضرب من المصلحة، كذلك جعلت بنات النعش ظاهرة لا يغيب لضرب آخر من المصلحة; فإنها بمنزلة الأعلام التي يهتدي بها الناس في البر والبحر للطرق المجهولة وذلك أنها لا تغيب أبدا فهم ينظرون إليها متى أرادوا أن يهتدوا بها إلى حيث توجهوا وصار الأمران جميعا على اختلافهما موجهين نحو الإرب والمصلحة وفيهما مآرب أخرى مع ما في ترددها في كبد السماء مقبلة ومدبرة ومشرقة ومغربة من العبرة لاولي الألباب، وبالجملة خلق الله جل شأنه الإنسان لمعرفته وعبادته وخلق لهم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم كلها بل هذا العالم كله، وقد قال إمامنا ومولانا الصادق جعفر بن محمد (عليه السلام) في كتاب التوحيد للمفضل: أول العبر والأدلة على الباري جل قدسه تهيئة هذا العالم وتأليف أجزائها ونظمها على ما هي عليه، فانك إذا تأملته بفكرك وميزته بعقلك وجدته كالبيت المبني المعد فيه جميع ما يحتاج إليه عباده، فالسماء مرفوعة كالسقف والأرض ممدودة كالبساط والنجوم منضودة كالمصابيح والجواهر مخزونة كالذخائر وكل شئ فيها لشأنه معد والإنسان كالمملك ذلك البيت، والمحول فيه وضروب النبات مهيأة لمآربه وصنوف الحيوان مصروفة في مصالحه ومنافعه ففي هذا دلالة واضحة على أن العالم مخلوق بتقدير وحكمة ونظام وملائمة، وأن الخالق له واحد وهو الذي ألفه ونظمه بعضا إلى بعض جل قدسه وتعالى جده وكرم وجهه ولا إله غيره تعالى عما يقول الجاحدون وجل وعظم عما ينتحله الملحدون لقصور أفهامهم عن تأمل الصواب والحكمة فيما ذرأه الباري فخرجوا بقصر علومهم الجحود وبضعف بصائرهم إلى التكذيب والعنود حتى أنكروا خلق الأشياء وادعوا أن كونها بالاهمال لا صنعة فيها ولا تقدير ولا حكمة من مدبر ولا صانع تعالى الله عما يصفون وقاتلهم الله أنى يؤفكون. (إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون).
تأمل أيها اللبيب كيف جعل الله سبحانه هذه الأمور أدلة على معرفته ودل العقلاء الراسخين في علم على ربوبيته ومدحهم بذلك الفضل والروية، ومنحهم بتلك النعمة والعطية فأولئك هم المقربون يوم التناد، وأولئك هم المقصودون من الغرض في الإيجاد (وقال: هو الذي خلقكم من تراب) نسب خلق هذا النوع إلى التراب لأن خلق أول أفراده منه، ويحتمل أن يراد بالتراب الغذاء الذي يتكون منه المني (ثم من نطفة) النطفة الماء القليل ومنه سمي نطفة لقلته وجمعها نطف (ثم من علقة) هي قطعة جامدة منعقدة من الدم يتغير بالتدريج إلى أن تصير مضغة هي قطعة من اللحم قدر ما يمضغ وهي تنتهي بالتدريج إلى العظام المكسوة باللحم المنتهية بالتدريج إلى خلق آخر وهو صورة البدن المشتملة على القوى والروح الإنساني، ولم يذكر بعض هذه المراتب هنا لذكره قبل ذلك في مواضع أخر، وللإنسان في انتقالاته
ص: 108
واستحالاته إلى أوان خروجه من بطن الأم الذي هو العالم الأول والعالم الأصغر منازل غير محصورة والمعروف منها هذه الستة التي أولها التراب يعني الغذاء، وثانيها العلقة،ورابعها المضغة، وخامسها العظام الكاسية باللحم. (1) وسادسها الصورة الانسانية التي فيها الروح والقوى، ثم له بعد خروجه منه ودخوله في بطن اللام الكبرى الذي هو العالم الأوسط إلى دخوله في العالم الأكبر وهو عالم الآخرة وعالم لقاء الله تعالى أيضا مراحل غير معدودة إلا أن المعروف منها أولها منزل الصبا والطفولية، وثانيها منزل تمام النمو وكمال القوة وهو منزل الشباب، وثالثها منزل الشيخوخة، فأشار جل شأنه إلى الأول من هذه الثلاثة بقوله (ثم يخرجكم طفلا) أي أطفالا وإنما أفرد لإرادة الجنس والجنس يصدق على الكثير; أو على تأويل ويخرج كل واحد منكم، أو لأنه في الأصل مصدر وهو في هذا المنزل في التزايد والنمو وكما، فيكمل قواه ويزيد مقداره شيئا فشيئا بحسبما يقتضيه الطبيعة فيلقى الأشياء بذهن ضعيف ومعرفة ناقصة ثم لا يزال يتزايد في المعرفة قليلا قليلا وشيئا بعد شئ حتى يألف الأشياء ويتمرن عليها ويصل إلى غايته ويخرج من حد الحيرة فيها إلى التصرف في المعاش بعقله والى الاعتبار والطاعة والسهو والمعصية وذلك من تدبير الحكيم العليم، إذ لو كان النمو دائما لعظمت الأبدان واشتبهت المقادير حتى لا يكون لشئ منها حد يعرف، ولو ولد فهما عاقلا كاملا لأنكر العالم عند ولادته ولبقي حيران تائه العقل إذ رأى ما لم يعرف وورد عليه ما لم ير مثله ولم يأنس به من اختلاف صور العالم والطيور والبهائم غير ذلك مما يشاهده ساعة بعد ساعة ويوما بعد يوم، ولوجد في نفسه غضاضة إذا رأى نفسه محمولا مرضعا معصبا بالخرق مسجى في المهد، لأنه لا يستغني عن هذا كله لرقة بدنه ورطوبته حين يولد ولذهبت حلاوة تربية الأولاد للأب والأم وما يوجبه التربية من البر والعطف ولفاتت الالفة بين الأبوين والأولاد لأنهم يستغنون عن تربيتهما فيتفرقون عنهما قريبا من الولادة، فلا يعرف الرجل أباه وأمه، ولا يمتنع من نكاح أمه وأخته وذوات المحارم إذ كان لا يعرفهن ولأنه يرى ويعقل حين الولادة من أمه ما لا يحل له أن يراه، فمن تفكر في هذه الأمور وغيرها علم أن ذلك من تدبير اللطيف الخير الذي أقام كل شئ من الخلقة
ص: 109
على غاية الصواب وأشار إلى الثاني بقوله (ثم لتبلغوا) قيل: متعلق بمحذوف أي ثم يبقيكم لتبلغوا (أشدكم) أي كمالكم في القوة والعقل، جمع الشدة كالأنعم جمع النعمة وهو حد التكليف ووقت الشباب وكمال النشوء الذي يكون القوي فيه أقوى من ساير أوقات العمر ويستمر إلى أوان شروع تلك القوى في الانحطاط.
وأشار إلى الثالث بقوله ثم (لتكونوا شيوخا) وهو حد ينتهي إليه الشباب ويتوجه الباطن بسبب حدوث قوة أخرى من نوع آخر فيه إلى عالم الآخرة فيظهر أثر من آثار الضعف فيه ويتزايد على التدريج إلى أوان الفراغ من هذه الدار الفانية (ومنكم من يتوفى من قبل) أي من قبل الشيخوخة أو الأشد، ومنشأ الموت عند الأطباء والطبيعيين أن الحرارة الغريزية التي هي آلة للطبيعة في أفعالها كالجذب والدفع والهضم وغير ذلك، ولذلك قيل: إنها كدخداء البدن تفنى الرطوبة الغريزية شيئا فشيئا ثم تفنى هي بفناء الرطوبة كما أن النار تفني الدهن، ثم تنطفي بانتفائه.
وقيل: منشأه أن النطفة التي هي مادة البدن جسم مركب ذو نضج تام إذ وقع هضمه في خمس مراتب: أربعة منها لأن يصير الغذاء جزء من بدن المتغذي (1) والخامسة لأن يصير مادة لتكون المثل فإن المادة المنوية فضلة الهضم الرابع، وإذا وقعت في أوعية التوليد كالخصية استحالت نطفة بهضم خامس، ثم يزيد مقدارها بورود الغذاء عليها بدلا مما يتحلل منها، وليس حكم هذا الوارد في الاعتدال والنضج حكم ما ينقص منها بالتحليل فما دام شئ منها باقيا في البدن كانت الحياة باقية ونسبة القوة والضعف على نسبة ما بقي منها زيادة ونقصانا وإذا تحللت بالكلية تحقق الموت وهذا قريب مما قيل من أن الموت طبيعي
ص: 110
ومعناه أن الإنسان عند نشأة منه تعالى يتوجه بحسب الغريزة الفطرية والأشواق الإلهية نحو النشأة الآخرة ويسلك سبيله تعالى ليرجع إليه كما نزل منه فهو متحرك دائما على منازل ومراحل من طور إلى طور في دار البلية ودار الفراق إلى أن يبلغ تلك النشأة التي هي منتهى حركته في هذه الدار، فإذا بلغها انتقل إليها وأوائلها القبر والبرزخ والحشر والنشر والعرض والحساب إلى غير ذلك، ثم بعد ذلك يرجع إما إلى نعيم مقيم أو إلى عذاب أليم يفعل الله ما يشاء ويحكم ما يريد (ولتبلغوا) متعلق بمحذوف أي يفعل ذلك لتبلغوا (أجلا مسمى) قيل: هو وقت الموت أو يوم القيامة، وقيل: يحتمل أن يراد به وقت لقاء الله تعالى في الجنة الذي هو الغاية الأخيرة لخلق الإنسان (ولعلكم تعقلون) ما في هذه الأحوال العجيبة والأطوار الغريبة من العبر والحجج الدالة على أنه سبحانه هو الذي خلقكم على أطوار مختلفة وخلق مادتكم وأصولكم من الأشياء المذكورة وأودع الحياة فيها وأبدعها، ثم أبقاكم إلى أجل مقدر، وإن من كان قادرا على ذلك فهو قادر على جميع تلك المواد وإحيائها ثانيا فالآية الكريمة دليل على التوحيد والبعث جميعا. وقيل:
معناه لعلكم تصيرون بعد هذه الأحوال عاقلا كاملا بالفعل فيكون إشارة إلى أن غاية الخلقة وآخر النشأة والأطوار هي صيرورة الإنسان جوهرا عقليا (1).
والحاصل أنه إشارة إلى أن غاية هذه الأكوان وجود العقل وذات العاقل مع قطع النظر عن تعقله وقال: (إن في اختلاف الليل والنهار وما أنزل الله من السماء من رزق) أي من ماء وإطلاق الرزق على الماء من باب الحقيقة بالنظر تفسيره لغة وعرفا قال الجوهري: الرزق ما ينتفع به. وقالت الأشاعرة: هو كل ما ينتفع به حي غذاء كان أو غيره حلالا كان أو حراما ومنهم من خصه بالأغذية والأشربة فيخرج نحو اللباس والهواء الذي ينتفع به المتنفس. وقالت المعتزلة: هو كل ما صح أن ينتفع به حي بالتغذي وغيره وليس لأحد منعه منه فيخرج الحرام فالماء رزق على هذه التفاسير لأنه مما ينتفع به. ويحتمل أن يكون من باب المجاز تسمية السبب باسم المسبب، ويؤيده قول الجوهري وقد يسمى المطر رزقا، وذلك قوله عز وجل: (وما أنزل لكم من السماء من رزق فأحيا به الأرض بعد موتها) (وفي السماء رزقكم) وهو اتساع في اللغة كما يقال: التمر في قعر القليب يعنى به سقى النخل (فأحيا به الأرض بعد موتها) الظاهر أن المراد بالأرض والرزق معناهما الحقيقي ويحتمل أن يراد بالأرض القلب لاشتراكهما في قبول الحياة وبالرزق العلم لاشتراكهما في السببية للحياة. قال ابن الأثير في النهاية: الأرزاق نوعان ظاهرة للأبدان كالأقوات وباطنة للنفوس والقلوب كالمعارف والعلوم وقد شاع في
ص: 111
القرآن العزيز وكلام الحكماء نسبة الحياة بالعلم، والموت بالجهل القلب (وتصريف الرياح (والسحاب المسخر بين السماء والأرض) (1) لآيات لقوم يعقلون) أي يفهمون تلك الأيات بعقولهم الصافية ويستدلون بها علي وجوده جل شأنه ووحدته وعلمه وقدرته وحكمته، وقد ذكرنا سابقا ما يناسب هذا المقام.
وقال (يحي الأرض بعد موتها قد بينا لكم الآيات لعلكم تعقلون وقال (وجنات) جمع جنة وهي البستان سمي بها لاجتنانه واستتاره بالأشجار والأغصان والأوراق وهذا التركيب دل على الأستتار ومنه الجن لاستتاره من الانس والجنون لأنه يستر العقل والجنين لأنه مستور في الرحم والمجنة والجنة بمعنى الترس لانه يستر صاحبه وهي بالرفع عطف على «قطع» في قوله تعالى (وفي الأرض قطع متجاورات) أي بعضها طيبة وبعضها سبخة وبعضها رخوة وبعضها صلبة وبعضها حجر وبعضها رمل وبعضها أبيض وبعضها أسود وبعضها أحمر وبعضها أصفر وبعضها معدن للجواهر المختلفة مثل الياقوت والعقيق والزبرجد والفيروزج والزمرد والذهب والفضة والنحاس والرصاص والحديد وغيرها مما يستعمله الناس في مآربهم وفي هذا أيضا دلالة على المطلوب لأن انقسام الأرض إلى هذه الأقسام واتصافها بهذه الأوصاف مع اتحاد الطبيعة الأرضية في تلك الأقسام وتساوي الأجرام العلوية وأوضاعها بالنسبة إليها دل علي وجود قادر مختار يوجد الأشياء الممكنة على وجه دون وجه (2) بلا ضد ولا ند له وحده لا شريك له (من أعناب وزرع ونخيل) أفرد الزرع لأنه في الأصل مصدر، والنخيل
ص: 112
اسم جمع وهما إما مرفوعان معطوفان «على» «جنات» أي في الأرض قطع متجاورات وجنات من أنواع الاعناب وفيها زروع ونخيل أو مجروران معطوفان على «أعناب» أي في الأرض بساتين مشتملة على أنواع الاعناب والزروع والنخيل و (صنوان) أي نخلات أصلها واحد، جمع صنو وهو أو تطلع نخلتان من عرق واحد ومنه الصنو بمعنى المثل كما في قولهم عم الرجل صنو أبيه أي مثله لأنهما خرجا من أصل واحد (وغير صنوان) أي نخلات متفرقات مختلفة أصولها وعروقها، وقرأ حفص بضم الصاد فيهما وهي لغة تميم (يسقى بماء واحد) في الطبيعة والصورة والغرض من ذلك دفع توهم إسناد هذا الأمور والاختلاف إلى الماء، ويسقى بالتذكير في قراءة عاصم ويعقوب وابن عامر على تأويل ما ذكر (ونفضل) بالنون في القراءة المشهورة وبالياء في قراءة حمزة والكسائي (بعضها على بعض في الأكل) أي في الثمر شكلا وقدرا ورايحة وطعما كما هو المشاهد (إن في ذلك) المذكور (لايات لقوم يعقلون) أي يستعملون عقولهم السليمة عن شوائب النقص بالتفكر فيها ويستدلون بها على وجود الصانع الحكيم القادر المختار، فان من تفكر في تلك الأشجار المختلفة في الهيئة والمقدار وخروجها من الأرض واغتذائها من أجزاء أرضية ونموها وفي أوراقها المشتملة على العروق الصغار والكبار لاستقامة الحجم ووصول الغذاء إلى جميع الأجزاء وفي أثمارها حين كونها بمنزلة الأجنة في بطونها ثم خروجها بعد استكمال المواد واستقرارها على رؤس الأغصان وانضياف ما ينميها آنا فآنا إليها من المنافذ الضيقة إلى وقت بلوغها حد الكمال لمنافع الناس وغيرهم وفي اختلاف أنواعها وأصنافها وأشكالها وأقدارها وروايحها وطعومها وفي أن الطبيعة الأرضية مع اتحادها وعدم شعورها لا يمكن اسناد هذه الأمور إليها وكذا الطبيعة المائية، وفي الأوضاع الفلكية والاتصالات الكوكبية وتأثيرات الأجرام السماوية نسبتها إليها متساوية متشابهة سيما القطعات المتجاورات علم أن ذلك من تدبير عليم بصير وقدير حكيم خبير يتعلق قدرته بجميع الممكنات ويحيط علمه بكيفية نظام جميع الكائنات فيوجب كلا منها على أحسن وجه وأكمله على حسب الإرادة والاختيار وقال (ومن آياته يريكم البرق) الفعل مصدر بتقدير «أن» أو صفة لمحذوف أي آية يريكم بها البرق (خوفا) من الصاعقة أو تخريب المنازل والزروع أو من المسافرة ونحوها (وطمعا) في الغيث والنبات وسقي الزروع وغير ذلك ونصبهما على العلة لفعل لازم للفعل المذكور فإن إرائتهم يستلزم رؤيتهم أو لفعل مذكور بتقدير مضاف أي إرإة خوف وطمع أو بتأويل الخوف والطمع بالإخافة والأطماع، وعلى التقادير يتحد فاعلهما وفاعل عاملهما أو على الحال مثل كلمته شفاها. وأما البرق آية من آياته فإما لأن البخار الممتزج مع الدخان إذا وصل إلى الكرة الزمهريرية يحتبس فيما بين السحاب فيميل إلى السفل للثقل وغلبة البرد أو العلو لبقاء سخونته وزيادة لطافته فيمزق السحاب تمزيقا عنيفا
ص: 113
فيحصل الرعد ويشتعل الدخان بالتسخين الحاصل من المصاكة العنيفة فأن كان لطيفا ينطفي سريعا وهو البرق وإن كان كثيفا لا ينطفي حتى يصل إلى الأرض وهو الصاعقة أو لأن السحاب فيه كثافة ولطافة بالنسبة إلى الهواء والماء وإذا هبت ريح قوية تخرقه بعنف فيحدث صوت الرعد ويخرج منه النار للمصادمة بينهما كما تخرج من ضرب الحديد على الحجر ولا خفاء في أن خروج البرق الذي هو نار محرقة من السحاب الرطب المشتمل على الماء لأي سبب كان دل على وجود الصانع الذي رتب المسببات على أسبابها وآية من آياته. ونقل عن العترة الطاهرة «أن الرعد صوت ملك يزجر السحاب ويسوقه والبرق نار تحدث من حركة سوطه (1)».
وقال بعض العارفين: من سمع هذا الصوت ورأى هذه النار وكان له رؤية قلبية وبصيرة ذهنية علم أن ما نقل عنهم (عليه السلام) حق وصدق (2) (وينزل) قرئ بالتشديد (من السماء ماء فيحيى به الأرض بعد موتها) بأنواع النباتات والحيوانات (إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون) أي يفهمونها ويتدبرون بها في استنباط أسبابها وتكونها، وكيفية ربطها بتلك الأسباب ليظهر لهم كمال قدرة الصانع وحكمته وعلمه بحقائق الأمور خفيها وجليها. وقال (قل تعالوا) أمر من تعالون قال القاضي وصاحب الكشاف: هو من الخاص الذي صار عاما فإن أصله أن يقوله من كان في مكان عال لمن هو أسفل منه ثم اتسع فيه بالتعميم (أتل) مجزوم بشرط مقدر بعد الأمر (ما حرم ربكم) منصوب بأتل «وما» إما موصولة والعايد محذوف أو مصدرية، ويحتمل أن يكون استفهامية منصوبة بحرم بمعنى أتل أي شئ حرم (عليكم) متعلق بأتل أو حرم على سبيل التنازع (أن لا تشركوا به شيئا) «أن» ناصبة «ولا» للنفي والجملة خبرية لفظا وإنشائية معنى بدلا من «ما حرم» أو من العائد المحذوف، ويحتمل أن يكون مفسرة لما حرم ولا للنهي (وبالوالدين إحسانا) أي وأن تحسنوا بمعنى أحسنوا أو أحسنوا بالوالدين إحسانا، فالجملتان المتعاطفتان إنشائيتان معنى فقط، أو لفظا ومعنى جميعا، أو الأولى معنى فقط والثانية لفظا ومعنى، أو بالعكس ويكونان في بعض الوجوه مثل قوله تعالى (وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحسانا وذي القربى واليتامى والمساكين وقولوا للناس حسنا) فإن لا
ص: 114
تعبدون بمعنى لا تعبدوا وبالوالدين بتقدير وتحسنون بهما بمعنى أحسنوا أو بتقدير وأحسنوا بهما. وفي جعلهما خبريتين لفظا وإنشائيتين معنى فائدة لطيفة وهي المبالغة باعتبار أن المخاطب كأنه شرع في الامتثال وهو يخبر عنه، ورد صاحب الكشاف أن يكون «أن» ناصبة «ولا» للنفي بأنه وجب أن يكون «لا تشركوا» نهيا لعطف الأمر عليه وهو قوله تعالى (وبالوالدين إحسانا) لأن التقدير وأحسنوا بالوالدين إحسانا. والجواب عنه يظهر بالتأمل فيما ذكرناه.
بقي ههنا شئ وهو «أن لا تشركوا» وما عطف عليه لا يصح أن يجعل تفسيرا لما حرم لأن كلا من ترك الشرك والاحسان بالوالدين واجب لا محرم، والجواب أن ايجاب ترك الشرك مستلزم لتحريم الشرك وإيجاب الاحسان بالوالدين مستلزم لتحريم إلا ساءة إليهما مع ما فيه الإشارة إلى أن ترك إساءتهما غير كاف بل لابد من الاحسان بهما والتفسير باعتبار اللازم. وفي ذكر الإحسان بهما عقيب النهي عن الشرك بالله دلالة واضحة على جلالة حق الوالدين على الولد لأن أعظم النعم على الإنسان نعمة الايجاد ونعمة التربية وللوالدين مدخل في كل واحد منهما كما يقتضيان عدم الشرك بالله كذلك يقتضيان عدم إساءتهما والاحسان بهما ولذلك قال الله سبحانه: «وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا - الآية» (ولا تقتلوا أولادكم من إملاق) أي من أجل فقر (نحن نرزقكم وإياهم) فوجب على الوالدين تبقية الأولاد وتربيتهم والاتكال في رزقهم على الله. لا يقال:
يلزم جواز قتلهم عند عدم خوف الفقر لما تقرر من أن النفي والإثبات في الكلام راجعان إلى القيد لأنا نقول إذا لم يجز مع الفقر فعدم جوازه بدونه أولى فهذا من قبيل التنبيه بالأدنى على الأعلى على أن للتقييد فائدة أخرى هي زجرهم عما كانوا عليه من الخصلة الذميمة (ولا تقربوا الفواحش) في النهي عن قربها مبالغة في المنع منها (ما ظهر منها وما بطن) بدل من الفواحش، قيل: المراد بها الزنى سرا وعلانية: وقيل الكبائر مطلقا (ولا تقتلوا النفس التي حرم الله) لما نهى أولا عن قتل الأولاد لعلة مذكورة نهى ههنا عن القتل مطلقا دفعا لتوهم الاختصاص. إن قلت: قتل النفس المحرمة داخل تحت الفواحش على تقدير عمومها فما الفائدة في ذكره على حدة؟ قلت: الفائدة هي الإشارة إلى تعظيمه وزيادة فظاعة عقوبته كما قال سبحانه (ومن قتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها) (إلا بالحق) كالقود وقتل المرتد ورجم المحصن وغيرها مما ثبت جوازه بدليل منفصل، والاستثناء متصل إن كان عن القتل المطلق ومنقطع إن كان عن القتل المقيد بالتحريم، هذا وقال سيد الحكماء لعل معناه: ولا تميتوا النفس المجردة التي حرم الله موت ذاتها بالجهل.
ص: 115
وهو أعظم داهية من موت بدنها بهلاك الروح الحيواني إماتة الجهالة والغواية والإضلال والإبعاد عن سمت الرشد وسبيل القدس، ولا تخرجوها عن حياة جوهرها الحقيقية بالعلم والمعرفة إلا بحق سوء استعدادها الفطري ونقص جبلتها الغريزي (ذلكم) إشارة إلى ما مر ذكره مفصلا (وصاكم به) أي بحفظه ورعايته ولا يخفى ما في التعبير عن التكليف بالتوصية من اللطف المقرب إلى القبول (لعلكم تعقلون) فوايد هذه التكاليف وتبصرون بعيون البصائر منافعها المترتبة عليها في الدنيا والآخرة، فانظر أيها اللبيب كيف مدح الله سبحانه العقل والعقلاء الذين هم الغايات الذاتية للإيجاد بما لهم من الحكمة النظرية (1) التي هي إدراك السماوات والأرض وما بينهما من الأمور المذكورة والتصديق بأحوالها والانتقال منها إلى مبدعها، وفي هذه الآية بمالهم من الحكمة العملية التي هي العلم بأصول الشرايع وقوانينها والعمل بها للإشارة إلى أن كمال الإنسان إنما يحصل بتكميل القوة النظرية بصور الحقائق وتحليها بنور العرفان وتكميل القوة العملية بمعرفة الشرايع وتخليها عن الرذايل والنقصان ليحصل له بذلك البهجة والسرور الدنيوية والفوز بالسعادات الأبدية الأخروية (وقال:
هل لكم) هذا بعض آية صدرها (ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم) أي منتزعا ذلك المثل من أحوال أنفسكم التي هي أقرب الأمور إليكم فالاعتبار بحالها أولى و أقرب من الاعتبار بحال غيرها.
وإنما لم يذكره (عليه السلام) لأن ما ذكره لكونه مثلا لا يحتاج إليه ويتم المقصود بدونه وفيه دلالة على جواز الاستشهاد ببعض آية أو بعض حديث إذا كان تام الفائدة والمطلوب نفي شريك البارىء وهو كما يثبت بدلائل عقلية ونقلية توجب انتقال النفس من معقول صرف إلى معقول، وإذعانها بها كما مر من الآيات والبينات الظاهرة; كذلك يثبت بالأمثال الجزئية المحسوسة لأنها تكشف الممثل له وترفع الحجاب عنه وتبرزه في صورة المشاهد المحسوس ليساعد فيه الوهم والعقل ويتفقا عليه، فإن المعنى الصرف إنما يدركه العقل مع منازعة الوهم لأن الوهم من طبعه الميل إلى المحسوس وحكاية المعقول به، ولذلك شاعت الأمثال في الكتب الإلهية وفشت في عبارات البلغاء وإشارات الحكماء وكتب المصنفين مشحونة بذكر الأمثلة الجزئية لأن أكثر الافهام قاصرة عن إدراك حقيقة الشئ إلا في مادة مخصوصة محسوسة (مما ملكت إيمانكم) يعنى
ص: 116
عبيدكم وإمائكم (من شركاء) «من» زائدة لتأكيد الاستفهام الجاري مجرى النفي (فيما رزقناكم) من الأموال (فأنتم فيه سواء) متفرع على الشركة وحمله على الاستفهام الإنكاري محتمل أيضا (تخافونهم كخيفتكم أنفسكم) حال عن «أنتم» أو عن ضمير المخاطبين في «رزقناكم» أي والحال أنكم تخافون من شركة مماليككم في أموالكم واستبدادهم بالتصرف فيها، كما يخاف الأحرار بعضها من بعض في ذلك، والاستفهام ليس محمولا على الحقيقة لأنه على الله سبحانه محال فوجب صرفه إلى المجاز وهو إما إنكار أن يكون مماليكهم شركاؤهم في ملكهم لينتقلوا من ذلك إلى أنه لا ينبغي أن يكون مملوكه سبحانه شريكا له بالطريق الأولى أو تقريرهم وحملهم على الاقرار بما يعرفونه من عدم شركة المماليك لأن الاستفهام عن أمر معلوم للمخاطب يستلزم حمله على الإقرار بما هو معلوم له أو استبعاد أن يكون مماليكهم شركاؤهم لأن الاستفهام عن الشئ يستلزم به وهو يناسب استبعاد وقوعه، لأن ما هو قريب الوقوع شانه أن يكون معلوما والمقصود على التقادير كلها هو أنه إذا لم يكن مماليككم مع نقصانكم وشدة حاجتكم شركاءكم فيما لكم من أموالكم، مع أنهم مثلكم في الصورة والسيرة وقابلية التصرف لا يكون مماليك الحق جل شأنه مع شدة ضعفهم وكمال نقصهم شركاءه في الإلهية واستحقاق العبادة مع كمال قدرته ونهاية عظمته وعدم المشابهة بينه وبينهم بالطريق الأولى.
(كذلك) أي مثل ذلك التفصيل التمثيل الذي يرفع الحجاب ويكشف المعاني ويوضحها (نفصل الآيات) الدالة على وحدة الصانع واستحقاقه للعبادة دون غيره (لقوم يعقلون) أي يستعملون عقولهم الصحيحة في تدبر الأمثال ومعرفة حسن موقعها ومضربها والانتقال منها إلى المقصود، وفيه دلالة واضحة على شرف العقل وتعظيم العقلاء حيث جعل العقل باعثا لتفصيل الآيات في الكتاب والعاقل مقصودا من التكلم والخطاب لأنه ينتفع به دون غيره فلو لم يكن عقل ولا عاقل لم يكن تفصيل ولا خطاب بل لم يكن كون ولامكان ولا إيجاد ولا زمان.
(يا هشام ثم وعظ أهل العقل) وزهدهم عن الدنيا (ورغبهم في الآخرة) بعد دلالتهم على توحيد الذات والصفات بالآيات والبينات (فقال: وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو) شبه التقلب في الدنيا والأعمال المختصة بها باللعب واللهو وساعة قليلة لاشتراكهما في الأتعاب بلا منفعة وفي المنع عما يورث منفعة أبدية ولذة حقيقية من الأعمال للآخرة (وللدار الآخرة) خير من الدار الدنيا لعد زوالها ودوام منافعها ولذاتها بخلاف الدنيا. وذلك لأن الحقير الدايم خير من العظيم المنقطع فكيف إذا كان الأمر بالعكس (للذين يتقون) من الشرك والمعاصي، أو من الدنيا وزهرتها وأعمالها الشبيهة باللهو واللعب (أفلا تعقلون) التفاوت بين الدنيا والآخرة ولا تعلمون أن الآخرة خير من الأولى أو التفاوت بين أعمالها ولا تعلمون أن أعمال الأولى بمنزلة اللهو تعب بلا منفعة، وأعمال الثانية تورث منفعة دائمة غير
ص: 117
منقطعة، والهمزة للإنكار وإنكار النفي إثبات والمعنى أنتم تعقلون هذا التفاوت فوجب عليكم أن لا تستبد لوا الذي هو أدنى بالذي هو خير والغرض من الآية ذكر فضيلة العقل، ونحن نقدم قبل بيانها الكلام في شيئين.
في الزهد في الدنيا وهو ضد الرغبة فيها وقد فسر الزهد في بعض الأحاديث بأنه الحب في الله والبغض في الله وترك طول الأمل وترك حطام الدنيا وزينتها وعدم الالتفات إلى حرامها وهو يوجب معرفة القلب بحلاوة الإيمان وتفرغه للآخرة، كما قال الصادق (عليه السلام) «حرام على قلوبكم أن تعرف حلاوة الإيمان حتى تزهد في الدنيا» (1) وقال: «ألا إنه حرام عليكم أن تجدوا طعم الإيمان حتى تزهدوا في الدنيا» (2) وقال: «كل قلب فيه شك أو شرك فهو ساقط وإنما أرادوا بالزهد في الدنيا لتفرغ قلوبهم للآخرة» (3) ومن ادعى رغبته في ثواب الآخرة وهو حريص على الدنيا فهو كاذب لأن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: «علامة الراغب في ثواب الآخرة زهده في عاجل زهرة الدنيا أما إن زهد الزاهد في هذه الدنيا لا ينقص مما قسم الله عز وجل فيها وإن زهد، وإن حرص الحريص على عاجل زهرة الدنيا لا يزيده فيها وإن حرص، فالمغبون من حرم حظه من الآخرة» (4) إن الزهد بالمعنى المذكور عمل يتوقف على العلم بأحوال الدنيا وانقلابها وعدم ثباتها ودوامها والعلم بأحوال الآخرة ودوامها ودوام سعادتها وشقاوتها فإذا حصل هذا العلم وصار ملكة أمكن الوصول إلى مقام الزهد بتوفيق الله تعالى.
في التقوى وقد فسره الصادق (عليه السلام): بأن لا يفقدك الله حيث أمرك ولا يراك حيث نهاك (5)، وبعبارة أخرى ذكر الله عندما أحل وحرم فإن كان طاعة عمل بها وإن كان معصية تركها فهو عبارة عن فعل الطاعات وترك المنهيات والثاني أهم من الأول لأن الثاني يفيد في نفسه وينمو معه الأول وإن قل، والأول بدون الثاني لا ينفع كما صرح به صاحب العدة (2)، وفي خبر معاذ دلالة عليه ودل عليه أيضا روايات أخر، ثم التقوى خصلة عظيمة أوصى الله سبحانه بها الأولين والآخرين كما قال (ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله) وأثنى عليها كما قال: (وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور) وهي توجب حفظ النفس والمال من الأعداء كما قال:
(وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا) وتوجب النصر من الله تعالى كما قال: (إن الله مع المتقين) وتوجب محبته كما قال: (إن الله يحب المتقين) وتوجب إكرامه كما قال: (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) وتوجب إصلاح العمل كم قال: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم) وتوجب قبول
ص: 118
العبادة كما قال: (إنما يتقبل الله من المتقين) وتوجب البشارة عند الموت كما قال: (الذين آمنوا وكانوا يتقون لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة) وتوجب النجاة من شدايد الدنيا والرزق الحلال، كمال قال: (ومن يتق الله جعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب) وتوجب تيسير الحساب كما قال: (وما على الذين يتقون من حسابهم من شئ) وتوجب النجاة من النار كما قال: (ثم ننجى الذين اتقوا) وتوجب الخلود في الجنة كما قال:
(اعدت للمتقين) وبالجملة هي حكمة عملية مركبة من العلم والعمل توجب محبة صاحبها لله تعالى ومحبة الله تعالى لصاحبها ولا تحصل إلا بمعرفة مصالح الجوارح والأعضاء ومفاسدها واكتساب الأول وترك الثاني وذلك بأن يعرف مثلا مصالح القلب ومفاسدها ويكتسب العقائد الصحيحة ويجتنب عن العقائد الذميمة ويعرف مصالح اللسان ومفاسده ويكتسب الأقوال الصحيحة ويجتنب عن الأقوال الباطلة وعلى هذا القياس في ساير الأعضاء ولا يكفي العمل بدون العلم لأنه يوجب الخطأ والبعد عن الحق كثيرا ما، ولا العلم بدون عمل فإن من به داء وعلم أن هذا الدواء ينفعه وذاك يضره واستعمل الثاني وترك الأول لا ينفعه علمه بل يصير سببا لذمه ولومه عرفا وشرعا بل اللوم عليه أشد وأعظم من لوم الجاهل بمنافع الدواء ومضاره، كما يرشد إليه قول مولانا الصادق (عليه السلام): يغفر للجاهل سبعون ذنبا قبل أن يغفر للعالم ذنب واحد (1).
إذا عرفت هذا فانظر إلى العقل كيف فضله الله تعالى وشرفه حيث جعله حاكما على أفعال جميع الجوارح والأعضاء يميز بين صحيحها وسقيمها وحسنها وقبيحها، ويقبل الصحيح والحسن ويرد السقيم والقبيح حتى يحصل له بذلك السلطنة العظمى والفضيلة الكبرى وهي الوصول إلى غاية مدارج الزهد ونهاية مناهج التقوى، فيمشى على بساط الحق في الآخرة والأولى. وإلى العاقل كيف عظمه وكرمه حيث جعله مخاصبا بهذا الوعظ الشريف والخطاب المنيف تنبيها على تمامه وكماله وإنافة رتبته وحاله وعلى أنه ينتفع به دون غيره ممن صار لقوة جهله وضعف عقله ذليلا وفي عدم صلاحية الخطاب كالأنعام بل هو أضل سبيلا.
(يا هشام ثم خوف الذين لا يعقلون) أي خوف الذين لا يستعملون عقولهم في الاتعاظ بأحوال الماضين والاعتبار من استيصالهم للشرك وارتكاب المعاصي والقبايح ولا يتبعون الرسول فيما جاء به من التوحيد والصفات وغيرهما من المعارف والشرايع.
(عقابه) بتدمير أمثالهم وإنزال الرجز عليهم من السماء ليمتنعوا عن الأعمال الشنيعة والأفعال القبيحة فقال عز وجل (ثم دمرنا الآخرين) بعد تنجية لوط وأهله إلا امرأته فإنها كانت من الغابرين، وكيفية
ص: 119
تدميرهم أنه اقتلع جبرئيل (عليه السلام) قريتهم لسوء صنيعتهم بجناحه من سبع أرضين ومعه من الملائكة ميكائيل وإسرافيل وكروبيل، ثم رفعها حتى سمع أهل السماء الدنيا نباح الكلاب وصياح الديكة، ثم قلبها وأمطر عليها وعلى من حولها حجارة من سجيل (وإنكم) يا أهل مكنة أو أهل الضلالة (لتمرون) في متاجرتكم ومسافرتكم إلى الشام (عليهم) أي على منازلهم فإن قريتهم وهي سدوم بفتح السين في طريقه بين القدس والكرك (مصبحين) أي داخلين في الصباح (وبالليل) أي بالمساء يعنى داخلين في هذا الوقت أو نهارا وليلا. قال القاضي وغيره: لعلها وقعت قريب منزل يمر بها المرتحل عنه صباحا والقاصد لها مساء (أفلا تعقلون) أي أفليس لكم عقل تعتبرون به وتعلمون أن تدميرهم وإهلاكهم لمعصية ربهم ومخالفة رسولهم لكي تطيعوا ربكم وتتبعوا رسولكم فيما جاء به من التوحيد والشرايع وتتركوا الشرك والمعصية وتنجوا من وبال الدنيا ونكال الآخرة، والإنكار للتوبيخ على عدم استعمالهم العقول في الاعتبار والاستبصار بمثل هذه الآية الجلية الدالة على وخامة حال أهل المعصية وقال (إنا منزلون) من الانزال على القراءة المشهورة وقرأ ابن عامر بالتشديد (على أهل هذه القرية) هي سدوم قرية قوم لوط (عليه السلام) وهذا خطاب الملائكة معه بدليل قوله تعالى قبله (ولما أن جاءت رسلنا لوطا سيئ بهم وضاق بهم ذرعا وقالوا لا تخف ولا تحزن إنا منجوك وأهلك إلا امرأتك كانت من الغابرين) وإنما قدم التنجية على التعذيب لوجوه سنحت لي، الأول: أن التنجية من آثار الرحمة والتعذيب من آثار الغضب وقد سبقت رحمته غضبه.
الثاني: أن بشارة أحد بالنفع العايد إليه أدخل في السرور من بشارته بالضرر العايد إلى عدوه.
الثالث: أن في التنجية إشارة إجمالية إلى العذاب فإذا وقع العذاب بعده وقع بعد الطلب والواقع بعد الطلب أهم وأوقع في النفس وأدخل في التعظيم. الرابع: أن لا يتطرق الحزن إلى خاطره (عليه السلام) إذ لو قدم تعذيب أهل القرية على تنجية المؤمنين كان ذلك موهما ابتداء لتعميم العذاب وشموله كل من فيها (رجزا من السماء) أي عذابا واختلفوا فيه فقيل: هو حجارة من سجيل، وقيل: هو نار، وقيل: هو تقليب الأرض وجعل عاليها سافلها. والمراد بإنزاله إنزال مبدئه والقضاء به من السماء لاعينه (بما كانوا يفسقون) أي بسبب فسقهم. وفيه دلالة على استمرارهم فيه وعدم انزجارهم عنه أصلا، وإنما علل التعذيب بالفسق دون التنجية بالايمان ونحوه; لأن الرحمة بالذات فلا يحتاج التعليل بخلاف الغضب فإنه أمر عرضي نشأ لعلة (ولقد تركنا منها) أي من القرية (آية بينة) دالة على سوء عاقبة الفاسقين، قيل: هي حكايتها الشايعة، وقيل: هي آثار الديار الخربة، وقيل: هي الحجارة الممطورة بعد
ص: 120
تقليب الأرض فإنها كانت باقية بعده، وقيل: هي الماء الأسود فإن أنهارها صارت مسودة (لقوم يعقلون) أي لقوم لهم عقل وبصيرة فيستبصرون ويعتبرون أن الفسق يوجب خراب الديار وعقوبة الدنيا والآخرة.
(يا هشام إن العقل مع العلم) المراد بالعقل هنا نور يعرف به حقائق الأشياء على ما هي عليه في نفس الأمر وهو العقل بالفعل أو العقل المستفاد، والعلم هو هذه المعرفة ولا خفاء في التلازم بينهما وعدم انفكاك أحدهما عن الآخر وإنما آكده مع ظهوره دفعا لتوهم ما هو المتعارف عند الجمهور حيث يقولون لمن له روية وكياسة في أمور الدنيا أنه عاقل فإن تلك الروية ليست بعقل بل هي شيطنة ونكراء، وما هو المتعارف عندهم أيضا حيث يطلقون العقل على الغريزة التي يتميز الإنسان بها عن البهائم فإن ذلك يتحقق في الصبيان والجهال مع أنهم معزولون عن المدح والكمال بل المراد به ذلك النور الذي لا يفارق العلم والعرفان والعقلاء هم العلماء الربانيون والحكماء الإلهيون (1) الذين قال الله تعالى في شأنهم (يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتى خيرا كثيرا) فقال (وتلك الأمثال) لما مثل سبحانه حال الذين اتخذوا من دون الله أولياء واتكلوا عليهم واعتمدوا بهم بحال العنكبوت اتخذت بيتا في الوهن والضعف فكما أن الثاني لا يقي الحر والبرد وينهدم بورود أدنى شئ عليه كذلك الأول لا يدفع حر العذاب عنهم يوم القيامة ولا يقيهم شر ذلك اليوم ولا ينهدم أساسه بالكلية بورود صرصر غضب الله عليهم عقبه بقوله وتلك الأمثال إشارة إلى المثل المذكور ونظايره من الأمثال المذكورة في القرآن المجيد (نضربها للناس) تقريبا لما بعد من أفهامهم وتفهيما لما شرد عن أذهانهم إذ المثل يبرز المعقول بصورة المحسوس وذلك أسهل في التفهيم وأجدر في التعليم لمن ألف طبعه بالمحسوسات واشمأز عقله عن المعقولات. ولذلك قال سيد المرسلين (نحن معاشر الأنبياء امرنا أن نكلم الناس على قدر عقولهم) (2) (وما يعقلها إلا العالمون) لأنهم يعرفون بنور بصيرتهم وضياء سريرتهم حسن مبانيها ولطف معانيها وكيفية ارتباطها بالمقصود وطريق دلالتها على المطلوب وينتقلون من ظاهرها إلى باطنها ومن محسوسها إلى معقولها بل يجدون عالم المحسوس كله مثالا لعالم المعقول ويعلمون أن كل صورة محسوسة في هذا العالم لها صورة حقيقية وحقيقة عقلية في العالم المعقول يرشد إلى ذلك ما نقل عن أبي
ص: 121
جعفر (عليه السلام) حين سأله النصراني فقال له: أخبرني عن أهل الجنة كيف صاروا يأكلون ولا يتغوطون أعطني مثلهم في الدنيا فقال (عليه السلام): «هذا الجنين في بطن أمه يأكل مما تأكل أمه ولا يتغوط» (1) وما نقل عن بعض أئمتنا (عليه السلام) حين سئل عن الأجساد المعادة يوم القيامة هل هي عين الأول أو غيره قال: لاعينه ولا غيره، فقيل: أخبرني عن مثله في الدنيا فقال مثل اللبنة المضروبة بقالب مخصوصة فإنها إذا كسرت وضربت تارة أخرى بذلك القالب ليست عين الأولى ولا غيرها» (2) وبالجملة ما من صورة في الدنيا إلا وله حقيقة في عالم العقول والآخرة (3) وما من معنى حقيقي فيهما إلا وله مثال وصورة في الدنيا ولا يعلم ذلك إلا العلماء الراسخون في العلم الناظرون إليها بنور العقل، وأما الجهال فهم الغافلون عن ذلك ولا يعلمون إلا ما هو ظاهر محسوس بل لا يدر كون من الظواهر إلا ما يدركه سائر البهائم فأولئك كالأنعام بل هم أضل سبيلا.
(يا هشام ثم الذين لا يعقلون) مدارك أصول العقايد ولا يفهمون ما نطقت به الشريعة من فروع القواعد (فقال: إذا قيل لهم) الضمير للناس في قوله تعالى: (يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا ولا تتبعوا خطوات الشيطان) على سبيل الالتفات من الخطاب إلى الغيبة للتنبيه على بعدهم عن رتبة
ص: 122
الخطاب بسبب سلوكهم طريق التقليد الذي هو خارج عن منهج الصواب وإنما عقب الآية المذكورة بهذا الذم للتنبيه على التقليد من جملة خطوات الشيطان (اتبعوا ما أنزل الله) قيل المأمورون بالاتباع هم المشركون فالموصول حينئذ عبارة عن القرآن وما اشتمل عليه من أصول الشرايع وفروعها ومواعظها ونصائحها مما ينتظم به نظام الدنيا والآخرة.
وقيل: هم طائفة من اليهود دعاهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى الإسلام فالموصول على هذا يشمل التورية أيضا لأن التورية أيضا تدعو إلى الإسلام والاقرار بنبينا (صلى الله عليه وآله) وبما أنزل الله سبحانه إليه (قالوا: بل نتبع ما ألفينا) أي ما وجدنا (عليه آباؤنا) قدم الظرف على المفعول به لقرب المرجع أو لقصد الحصر أو للاهتمام لاشتماله على ضمير دينهم الذي هو مستحسن عندهم (أولو كان آباؤهم) الهمزة لانكار فعل مقدر والتعجب منه والواو للحال ومعناه أيتبعون آباءهم والحال أن آباءهم (لا يعقلون شيئا) من الحق مثل صفات الواجب وأفعاله وكتبه ورسله وما جاء به رسله مما يكمل به نظام الخلق عاجلا وآجلا (ولا يهتدون) إليه لعميان بصيرتهم وفقدان ضياء سريرتهم ويجوز أن يكون الواو للعطف على ذلك المقدر وجزاء الشرط محذوف ومعناه لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون لا تبعوهم.
والآية تدل على وجوب النظر والمنع من التقليد أعني الرجوع إلى الغير والأخذ منه بغير بصيرة مطلقا، خرجت الفروع بالإجماع كما قيل، فبقيت الأصول مندرجة تحت المنع هذا إذا لم يعلم ذلك الغير صادقا محقا وإما إذا علم كالأنبياء والأوصياء فاتباعه واجب ولا يسمى ذلك تقليدا في العرف بل هو اتباع لما أنزل الله. قيل: وجوب النظر شرعا محال لأنه لو وجب النظر فأما على العارف وهو تحصيل الحاصل، أو على غيره وهو دور لتوقف وجوب النظر على معرفة إيجاب الله إياه وهي متوقفة على معرفة ذاته وهي متوقفة على معرفة وجوب النظر. وأجيب بأن معرفة إيجابه متوقفة على معرفة ذاته باعتبار ما وبوجه من الوجوه والمتوقف على وجوب النظر هو معرفة ذاته بوجه أتم.
أقول: هذا لو تم فإنما يتم في وجوب النظر على صفاته وأفعاله وآثاره وأما على أصل وجوده فلا لأن معرفة إيجابه متوقفة على معرفة ذاته والتصديق بوجوده كما لا يخفى والأحسن أن يقال معرفة ذاته لا يتوقف على وجوب النظر لجواز حصولها بالنظر وإن لم يجب. ومنهم من أوجب التقليد في الأصول وحرم النظر لأن الشبهات في الأنظار كثيرة والنظر مظنة الوقوع (1) في الضلالة وهي في الأصول كفر
ص: 123
بخلاف التقليد فإنه أسلم لعدم مشاهدة المقلد تلك الشبهات فوجب لوجوب الاحتراز عن مظنة الضلالة إتفاقا. والجواب أنه إن أريد بالتقليد تقليد أهل العصمة (عليهم السلام) فلا ينبغي النزاع فيه إلا أن ذلك لا يسمى تقليدا ولكن لا مشاحة في الاصطلاح. وإن أريد به مطلقا ففيه أن المظنة أي مظنة الضلالة تجري في التقليد أيضا لأن المقلد إما يقلد ناظرا أو مقلدا آخر فعلى الأول يلزم المحذور المذكور وهو الوقوع في الضلالة مع زيادة وهي احتمال كذب الناظر في صدور النظر منه، وعلى الثاني فاما أن لا ينتهي سلسلة التقليد إلى ناظر فيلزم التسلسل وهو باطل أو ينتهى فيلزم ذلك المحذور مع احتمال كذب ذلك الناظر بخلاف ما إذا كان هو ناظرا بنفسه فإنه لا يجرى فيه هذا الاحتمال لأن الإنسان عالم بما أدى إليه نظره فالتقليد أولى وأجدر بأن يكون حراما (وقال مثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء) هذه الآية في القرآن متصلة بالآية السابقة ولما ذم الكفرة في الآية السابقة بسبب التقليد لآبائهم وعدم متابعتهم لما أنزل الله وعدم التدبر والنظر فيه ضرب لهم مثلا متضمنا لتشبيههم بالبهائم في عدم فهم المقصود من الخطاب توضيحا لسوء حالهم.
فإن قلت: الذين كفروا هم المدعوون إلى دين الحق والذي ينعق هو الداعي للبهائم فلا مطابقة بين المشبه والمشبه به؟ قلت: للناظرين في هذه الآية اختلاف في تفسيرها وحلها، فمنهم من قدر مضافا ومنهم من حملها على ظاهرها، فأما الذين قدروا مضافا فمنهم من قدره في جانب المشبه وقال تقديره ومثل داعي الذين كفروا وهو الرسول ومن يحذو حذوه في إلقاء الخطاب إليهم وعدم فهمهم لما هو المقصود منه وعدم استبصارهم به لانهماكهم في التقليد واستحسانهم دين آبائهم كمثل داعي البهائم
ص: 124
الذي ينعق بها وهي لا تسمع إلا دعاءه ونداءه الذي هو تصويت بها ولا تقف على شئ آخر فقد شبه الكفرة المقلدين في عدم فهمهم لما يسمعون من الرسول بالبهائم التي تسمع الصوت من الراعي ولا تفهم معناه، ومنهم من قدره في جانب المشبه به وقال: تقديره كمثل بهائم الذي ينعق، ومعناه مثل الذين كفروا في عدم فهم ما ألقى إليهم من الخطاب كمثل بهائم الراعي الذي يتصوت بها فتسمع الصوت ولا تعرف مغزاه، وتحس بالنداء ولا تفهم معناه والمعنيان متقاربان أو معناه ومثلهم في اتباعهم آباءهم والتقليد لهم على ظاهر حالهم وعدم فهمهم أهم على حق أم على باطل كمثل بهائم الراعي التي لا تسمع ألا ظاهر الصوت ولا تفهم ما تحته.
وأما الذين حملوها على ظاهرها فقيل: معناها مثل الذين كفروا في دعائهم أصنامهم التي لا شعور لها بدعائهم وخطابهم كمثل الراعي الذي يتصوت بالبهائم التي لا تسمع إلا دعاء ونداء، فقد شبه الأصنام بالبهائم في عدم الفهم المتحقق في الطرفين; وتحققه فيهما وإن لم يكن متوقفا على قوله إلا دعاء ونداء، لكن الغرض من ذكره زيادة المبالغة في التوبيخ والذم إذ لا شبهة في أن من دعى بهيمة لا تسمع إلا دعاء ونداء عد جاهلا ضعيف العقل سخيف الرأي، فمن دعا صنما لا يسمع شيئا كان أولى بالذم والسخافة وبما قررنا ظهر اندفاع ما أورده القاضي وصاحب الكشاف من أن هذا التفسير لا يساعده قوله ألا دعاء ونداء لأن الأصنام لا تسمع شيئا. وأجاب عنه القاضي بأن التشبيه من باب التمثيل المركب والتشبيه غير معتبر في مفرداته وهذا مدفوع بأن التشبيه وإن كان مركبا لكن المذكور في الجانبين لا بد أن يكون له مدخل في التشبيه وإن يكون ما اعتبر في أحد الجانبين مما له مناسبة في الجانب الآخر، وقيل: معناها مثل الذين كفروا في قلة عقلهم وضعف حالهم في عبادة الأصنام كمثل الراعي الذي ينعق بالبهائم فكما أن هذا يقضى على الراعي بقلة العقل فكذا ذاك، فوجه التشبيه قلة العقل وقيل: معناها مثلهم في اتباعهم آباءهم والرسوخ في دينهم بالتقليد لهم كمثل الراعي الذي ينعق بالبهائم فكما أن الكلام مع البهائم عديم الفائدة كذلك التقليد، ثم بالغ في ذمهم على التقليد وعدم النظر فيما أنزل الله إليهم.
بقوله (صم بكم عمى) رفع على الذم من باب التشبيه البليغ أي هم بمنزلة الصم حيث تركوا العمل بما سمعوه فكأنهم لم يسمعوه لفوات الغرض الأصلي منه وهذا كما يقال لعالم لم يعمل بعلمه: إنه ليس بعالم، وبمنزلة البكم حيث لم يتكلموا بالحق ولم يستجيبوا لما دعوا إليه وقالوا: (بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا) وبمنزلة العمى حيث أعرضوا عن الدلائل الساطعة والبراهين القاطعة فكأنهم لم يشاهدوها. وبالجملة لما فات منهم الغرض من السماع والتكلم والإبصار فكأنه فقد عنهم تلك الآلات، ويمكن حمل الكلام على الحقيقة وذلك لأنه كما يكون للإنسان مؤمنا كان أو كافرا سمع ظاهري به يدرك المسموعات ونطق ظاهري به يتكلم بالكلمات وبصر ظاهري به يدرك المبصرات كذلك يكون للمؤمن
ص: 125
قوة باطنية بها يفرق بين الحق والباطل وهي من حيث إنها الحاكمة في المسموعات فارقة بين صحيحها وسقيمها تسمى سمعا عقليا ومن حيث إنها فارقة بين الأقوال الصادقة والكاذبة تسمى نطقا عقليا، ومن حيث أنها فارقة بين المبصرات تسمى بصرا عقليا، وقد يطلق البصيرة على قوة بها تدرك النفس صور الحقايق الكلية بلا آلة وأما الذين كفروا واتبعوا أقوال آبائهم، وتركوا ما سمعوه من كلام داعي الحق ولم ينظروا فيما شاهدوه من الدلائل فهم فاقدون لتلك القوة العقلية فهم صم بكم عمي حقيقة حيث لم يكن لهم سمع ونطق وبصيرة عقلية أصلا، ونسبة العمى إلى القلب أولى من نسبته إلى العين كما يشعر به قوله تعالى (لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدر) (فهم لا يعقلون) أي لا يعقلون فرقا بين الحق والباطل ولا يتفكرون فيما أنزل الله ولا ينظرون إليه بعيون عقولهم ليعلموا أنه الحق من ربهم.
(وقال: ومنهم) أي ومن المكذبين الذين سارعوا إلى تكذيب القرآن وما اشتمل عليه من الحشر والنشر والثواب والعقاب، وسائر ما يخالف دينهم ودين آبائهم قبل أن يقفوا على معانيه وينظروا إلى مبانيه حتى يتبين لهم أنه صدق (من يستمع إليك) إذا قرأت القرآن وعلمت الشرايع ولكن لا يقبلون كالأصم الذي لا يسمع أصلا لغلبة الشقاوة عليهم وإحاطة الغواية بهم بسبب التقليد والإلف بالباطل ومعارضة الوهم (أفأنت تسمع الصم ولو كانوا لا يعقلون) أي أفأنت تقدر على إسماعهم ولو انضم إلى صممهم عدم تعقلهم شيئا من الحق لقساوة قلوبهم وجمود طبايعهم وخمود أذهانهم حتى صاروا بمنزلة البهائم، فيه تنبيه على أن الإعراض عن نصح أمثالهم أولى لأن من شرائط النصيحة أن يكون للمنصوح قوة سامعة وبصيرة قلبية فإذا انتفت إحداهما أو كلاهما فالإعراض عنها حري ولذلك ترى الطبيب الحاذق إذا علم استيلاء المرض وعدم قبوله للعلاج يعرض عنه، قيل: هذه الآية تدل على أن السمع أفضل من البصر لأنه قرن ذهاب العقل بذهاب السمع لا بذهاب البصر فالسمع أفضل ويرشد إليه تقديمه فيما قبل أيضا ويدل عليه أيضا قوله تعالى: (إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع) فجعل السمع قرينا للقلب، والمراد به العقل دل على أنه أفضل، وقوله تعالى:
(لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير) فإنهم جعلوا السمع مثل العقل سببا للخلاص عن السعير، وقيل: البصر أفضل من السمع لأن آلة القوة الباصرة هي النور وآلة القوة السامعة هي الهواء، والنور أشرف من الهواء فالبصر أفضل من السمع، ولأن البصر يرى ما فوق سبع سماوات والسمع لا يدرك ما بعد عنه على فرسخ فكان البصر أقوى، ولأن محله الوجه وهو أشرف الأعضاء وللطرفين مؤيدات وتزئيفات لا يناسب المقام ذكرها.
ص: 126
(وقال أم تحسب) «أم» حرف عطف في الاستفهام ولها موضعان، أحدهما: أن يكون متصلة بما قبلها وهي تقع دائما معادلة لألف الاستفهام ولا تستعمل بدونها تقول: أزيد في الدار أم عمرو وتعلم أن الكائن فيها أحدهما وتطلب التعين والمعنى أيهما فيها، وشرطها أن يكون أحد المستويين يليها والآخر يلي الهمزة بلا فصل، والثاني: أن يكون منقطعة عما قبلها خبرا كان أو استفهاما تقول في الخبر أنها لابل أم شاة يا فتى، وذلك إذا نظرت إلى شخص فتوهمته إبلا فقلت ما سبق إلى وهمك، ثم أدركك الظن أنه شاة فانصرفت عن الأول وقلت أم شاة بمعنى بل أشاة إلا أن ما يقع بعد «بل» يقين، وما بعد «أم» مظنون، وتقول في الاستفهام: هل زيد منطلق أم عمرو يا فتى، إنما أضربت عن سؤالك عن انطلاق زيد وجعلته عن عمرو والمعنى بل عمرو منطلق، إذا عرفت هذا فنقول: «أم تحسب» عطف على قوله تعالى «أفأنت» في الآية المتصلة به في القرآن العزيز وهي قوله تعالى: (أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا) والاستفهام الأول للتقرير والتعجيب، والثاني لإنكار الفاعل، والثالث لإنكار الفعل و «أم» ههنا ليست متصلة لانتفاء الشرط المذكور، بل هي منفصلة إضراب عن الأول إلى ما هو أشد مذمة منه حتى حق بالاضراب عنه إليه، والمعنى بل أتحسب (أن أكثرهم يسمعون) آيات القرآن والحجج المنزلة للتحدي بها (أو يعقلون) معانيها الدقيقة ولطائفها الخفية وحقايقها الجلية وفيه قطع لاهتمامه بشأنهم وطمعه بايمانهم وخص الأكثر بالذكر لأن منهم من عرف الحق وآمن به، ومنهم من عرفه وأنكره عنادا أو استكبارا أو خوفا على فوات الرياسة (إن هم إلا كالأنعام) وفي عدم انتفاعهم بما يقرع آذانهم من الآيات وعدم تدبرهم فيما شاهدوا من الدلائل والمعجزات. وفيه تنبيه على أن تميز الإنسان في الحقيقة عن غيره من الحيوانات ليس بحسب الصورة المحسوسة بل بحسب الحقيقة الإنسانية التي بها يدرك المعقولات المفصلة ويميز بين الحق والباطل فإذا فسدت تلك الحقيقة وبطل فعلها ارتفع التميز وحصل التشابه (بل أضل سبيلا) من الأنعام لأنها تنقاد لصاحبها وتميز المحسن إليها من المسئ، وتطلب ما ينفعها وتجتنب عما يضرها وهؤلاء لا ينقادون لربهم، ولا يميزون إحسانه من إساءة الشيطان ولا يطلبون ثوابه الذي هو أعظم المنافع، ولا يجتنبون عن عذابه الذي هو أشد المضار ولأنها لم تعتقد حقا ولم تكتسب خيرا ولم تعتقد باطلا ولم تكتسب شرا بخلاف هؤلاء فإنهم اعتقدوا باطلا واكتسبوا شرا، ولأن جهالتها لا تضر بأحد وجهالة هؤلاء تهيج الفتن وتصد الناس عن الحق، ولأنها تتخلص بالموت ونفوسهم الشريرة باقية أبدا متألمة محزونة منكوسة إلى أسفل السافلين، ولأنها غير متمكنة من طلب الكمال فلا تقصير منها ولا ذم وهؤلاء مقصرون مستحقون للبعد عن حضرة القدس.
وتوضيح ذلك: أن للأنعام صورة ظاهرية محسوسة وحقيقة باطنية معدة لأفعال مخصوصة وآثار معلومة وتلك الصورة دائما مطابقة لهذه الحقيقة لا تتعداها إلى غيرها، مثلا الأسد أسد بحسب الصورة
ص: 127
وبحسب الحقيقة الباطنية السبعية، والذئب ذئب بحسب الصورة وبحسب الحقيقة الباطنية الضارية، والحمار حمار بحسب الصورة وبحسب الحقيقة الباطنية الناهقية، وتلك الحقيقة لا تقدر أن تبطل آثارها وخواصها بخلاف الإنسان فإنه إنسان بحسب الصورة والحقيقة الروحانية القلبية وهي مستعدة لاكتساب الضدين اكتساب الخير والشر وقابلة للتحلي بالفضائل والتدنس بالرذايل، فإذا اعتقد شيئا أو فعل فعلا واستمر فيه صار ذلك ملكة يصدر منها الأفعال بسهولة وتلك الملكة صورة باطنية فإن كانت ملكة الفضايل طابقت الصورة الظاهرة تلك الصورة الباطنة ويترقي بذلك الإنسان إلى أن يتصل بملاء الروحانيين ويصير من أصحاب اليمين ويعد من السابقين، وإن كانت ملكة الرذايل والكفر والزندقة خالفت الصورة الظاهرة تلك الصورة الباطنة ويتنزل الإنسان بذلك إلى أسفل السافلين ويصير من أصحاب الشمال ويعد من الخاسرين، فصورته الظاهرة صورة إنسان وصورته الباطنة صورة كلب أو خنزير أو سبع أو شيطان أو أخس منها ولكن لا ترى هذه الصورة في الدار الدنيا لكونها دار التباس ودار تدليس ودار تكليف إلا من منحه الله سبحانه وتعالى بزيادة بصيرة قلبية بمجاهدات نفسانية ورياضات جسمانية ومكاشفات روحانية، فإنه قد يظهر له هذه الصورة على ما هي عليه في نفس الأمر لكن لامن حيث إنه في هذا العالم بل كأنه في عالم آخر بين العالمين (1) ولقد رأى بعض الصالحين - ممن اصدقه في عقايده وأعماله - جماعة من الناس في جنب كل واحد منهم كلب بحقيقة الكلبية وصورته، له ذنب واذن وعينان ورأس وفم وشعر مثل الكلب المشاهد. وأما دار الآخرة فلما كان موطن بروز الحقايق بصورها الذاتية بلا التباس يحشر بعض الناس على صورة القردة والخنازير أو الكلاب أو الذر، فأولئك لعدم المطابقة بين ظاهرهم وباطنهم وإبطالهم الحقيقة الانسانية وإفسادهم قوة الاستعداد للسعادة الاخروية أضل من الأنعام للمطابقة بين ظاهرها وباطنها وعدم إبطالها الحقيقة الحيوانية والقوة الاستعدادية.
(وقال لا يقاتلونكم) ضمير الخطاب للرسول ومن معه من المؤمنين وضمير الغائب لليهود والمنافقين إذ وعد المنافقون اليهود بالنصرة على قتال المؤمنين (جميعا) أي مجتمعين في محاربتكم (إلا في قرى محصنة) بالحصون والقلاع والدروب والخنادق (أو من وراء جدر) لشدة رهبتهم منكم، ولما توهم منه أن يكون ذلك لضعف حالهم وقلة عدتهم وعدتهم دفعه على سبيل التكميل بقوله (بأسهم بينهم شديد) يعني ليس ذلك لضعف حالهم وقلة شوكتهم إذ يشد بأسهم إذا حارب بعضهم بعضا بل لأن الله تعالى قذف الرعب في قلوبهم والرهبة في صدورهم (تحسبهم جميعا) أي مجتمعين في الحاربة متفقين على الالفة والمحبة (وقلوبهم شتى) أي متفرقة غير متفقة في الأمر لاختلاف عقايدهم وافتراق مقاصدهم، وذلك
ص: 128
يوجب اختلافهم في الأمور وفيه تقوية للمؤمنين وتحريضهم على القتال (ذلك) أي تشتت قلوبهم وهذا وإن كان معنى غير محسوس لكن لظهور آثاره أعني تباين كلمتهم وافتراق شملهم صار بمنزلة المحسوس فاستحق الإشارة إليه (بأنهم) أي بسبب أنهم (قوم لا يعقلون) إذ العقلاء متوافقون في أمر ظاهرا وباطنا وقلوبهم غير متفرقة فيه; لأن دينهم واحد بخلاف الجهلاء، لأن طرق الجهل متعددة فلا جرم قلوبهم متفرقة متفاوتة بحسب تفاوت أغراضهم، ولذلك قيل: العقل فن واحد والجنون فنون، ويحتمل أن يكون المراد أنهم قوم لا يفقهون ما فيه صلاحهم وبقاء شملهم وإن تشتت قلوبهم يوجب وهنهم وافتراقهم، ففي الأول إشارة إلى علة التشتت وفي الثاني إلى عدم علمهم بغايته، ولك أن تجعل ذلك إشارة إلى شدة بأسهم بينهم واختيارهم قرى محصنة خوفا من المؤمنين يعني أن كل ذلك لعدم عقلهم إذ العقلاء لا بأس بينهم بل هم كنفس واحدة ولا يخافون إلا الله ولا يرهبون إلا منه، وهؤلاء أشد رهبة في صدرو المؤمنين من الله عز شأنه.
(وقال وتنسون أنفسكم) الواو للعطف على تأمرون في قوله تعالى (أتأمرون الناس بالبر) أو للحال عن ضمير الجمع والهمزة للتنبيه على الضلال أو للانكار والتوبيخ بمعنى لا ينبغي أن يكون ذلك أو للتعجب أو للتقرير والتثبيت، والبر الصلاح. وقيل الخير، وقيل التوسع في الخير من البر وهو الفضاء الواسع، وبالجملة هو يتناول كل خير والآية نزلت في جماعة كانوا يأمرون الناس بطاعة الله تعالى وهم كانوا يتركونها ويقدمون على المعاصي، وقيل: كانوا يأمرونهم بالصلاة والزكاة وهم كانوا يتركونهما، وقيل: نزلت في أحبار اليهود كانوا يأمرون من نصحوه في السر من الأقارب وغيرهم باتباع محمد (صلى الله عليه وآله) وهم لا يتبعونه، وقيل: كانوا يأمرون الناس قبل بعثة الرسول باتباعه فلما بعث أنكروه، وعلى التقادير لا يختص الذم بمن نزلت الآية فيهم بل يجري فيمن يقتفى أثرهم إلى يوم القيامة; لأنا قد بينا في أصول الفقه أن خصوص السبب لا يخصص الحكم، والمعنى أتأمرون الناس بما فيه صلاحهم في الدنيا والآخرة وتتركون أنفسكم منه كالمنسيات وتفعلون ما فيه فسادها فيهما (وأنتم تتلون الكتاب) أي القرآن على أن يكون الخطاب لطائفة من المسلمين فإن فيه وعيدا على ترك البر والصلاح ومخالفة القول للعمل مثل قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون * كبر مقتا عند الله أن تقولوا مالا تفعلون) أو التورية على تقدير أن يكون الخطاب لأحبار اليهود فإن الوعيد المذكور موجود في التورية أيضا; إذ الكتب الإلهية كلها نازلة لتكميل الخلق ومشتملة على ما فيه صلاحهم في الدارين. وأما تعميم الكتاب بحيث يشتمل الكتب المدونة في الأحكام كما زعم فغير مناسب إذ لم يعهد في القرآن إطلاق الكتاب
ص: 129
عليها (أفلا تعقلون) أي أتصنعون ذلك فلا تعقلون قبحه وشناعته حتى يمنعكم عنه فكأنه لا عقل لكم إذ العقل يمنع عن الاقدام به.
ولقبح ذلك وجوه، الأول: أن من ارتكب ذلك كان قوله مناقضا لفعله وهو مستقبح من العاقل.
الثاني: أن الغرض من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إرشاد الغير والاحسان إليه والاحسان إلى نفسه أولى من الاحسان إلى الغير فمن أمر ولم يأتمر ونهى ولم ينته فقد ترك ما هو الأحسن بالنسبة إليه ولا يليق ذلك بالعاقل. الثالث: الغرض من الأمر والنهي ترويج الدين وهو بفعله يريد عدم ترويجه فقد جمع بين المتناقضين وهو غير واقع من العاقل. الرابع: الآمر لا محالة يريد نفاذ أمره في القلوب وفعله يوجب عدم نفاذه لأنه ينفر القلوب عن القبول فقد نقض مراده بفعله والعاقل لا يفعل ذلك ولذلك ورد «أن العالم إذا لم يعمل بعلمه زلت موعظته عن القلوب كما يزل المطر عن الصفا» (1). الخامس: أنه إذا أمر بشئ أظهر للناس علمه بذلك الشئ فإذا تركه كان لومهم به أشد وذمهم به أبلغ من لوم من تركه تجاهلا أو بلا علم، ولذلك ورد أن عقوبة العالم إذا لم يعمل أعظم من عقوبة الجاهل (2).
السادس: أنه بقوله يقول لهم افعلوا وبفعله يقول لهم لا تفعلوا فقد أتى بالمتناقضين والعقل يأباه. ثم المراد بالآية حث الواعظ على تزكية نفسه وتهذيبها والاقبال عليها بتقديسها وتكميلها ليقيمها أولا ثم يقيم غيره ولذلك كان بعث الأنبياء بعد تكميل نفوسهم القدسية، لأمنع الفاسق عن الوعظ كما زعم، لأنه مأمور بشيئين أحدهما ترك المعصية والثاني منع الغير منها والاخلال بأحد التكليفين لا يوجب الاخلال بالآخر، ودلالة الآية على النهي عن الجمع بينهما وتحريمه غير مسلمة لجواز أن يكون النهي راجعا إلى نسيان النفس مطلقا لا إلى نسيانها منضما إلى الأمر بالمعروف ويشعر بذلك قوله (عليه السلام) وقال: «وتنسون أنفسكم» حيث رتب الذم عليه ولم يذكر صدر الآية، وفيه دلالة أيضا على جواز الاستشهاد ببعض الآية إذا كان تام الفائدة فيفهم جواز ذلك في الحديث بالطريق الأولى.
(يا هشام ثم ذم الله الكثرة فقال: وإن تطع أكثر من في الأرض) في عقايدهم وأقوالهم وأعمالهم (يضلوك عن سبيل الله) إذ الحق له سبيل واحد لا يسلكه إلا العارف العالم الراسخ في علمه وورعه وهو قليل جدا وأما الباطل فله طرق متكثرة يسلكها أكثر من في الأرض على مطايا الغواية والجهالة ومراكب الغباوة والضلالة ويدعون إليها من اقتفى آثارهم وتتبع أطوارهم ولا يأمرونه إلا بما فيه هواهم ولا يرشدونه إلا إلى مقاصدهم ومناهم، كما دل عليه قوله تعالى (كل حزب بما لديهم فرحون) والآية كما دلت على أن إطاعة الأكثر سبب للضلالة كذلك دلت على أن مخالفتهم سبب للهداية وعلى هذا لا
ص: 130
يجوز متابعة الأكثر إلا إذا كان هناك دليل على حقيتهم فالمتبع حينئذ هو الدليل دون الكثرة من حيث هي ولا يجور التمسك في الأحكام بمجرد الشهرة وكثرة القائلين بها ولا تأييدها به والله أعلم.
(وقال ولئن سألتهم) أي الذين يعبدون غير الله سبحانه (من خلق السماوات والأرض ليقولن الله) أي ليقولن خلقهن الله فحذف المسند بقرينة سؤال محقق. والدليل على أن المرفوع فاعل والمحذوف فعله أنه جاء عند عدم الحذف في مثل هذا الكلام كذلك كقوله تعالى (ولئن سئلتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم) وقوله تعالى (قال من يحيى العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة) ويحتمل أن يكون المرفوع مبتدأ والمحذوف خبره أي الله خلقهن ليطابق السؤال في الاسمية ولأن السؤال عن الفاعل لا عن الفعل وتقديم المسؤول عنه أولى وأهم، وإقرارهم بذلك على سبيل الالجاء والاضطرار لوضوح الدليل المانع من اسناد خلقهن غير الله تعالى (قل الحمد لله) على إلزامهم وإلجائهم إلى الاعتراف بما يوجب بطلان عقائدهم وأعمالهم في باب الشريك أو على حفظك وعصمتك من مثل هذه الضلالة (بل أكثرهم لا يعلمون) أي لا يعلمون أن ذلك يلزمهم، أو لا يعلمون ما اعترفوا به ببرهان عقلي ودليل قطعي لأن كونه تعالى خالق السماوات والأرض نظري لا يعلم إلا بالبرهان وهم معزولون عن العلم به وإنما اعترفوا به اضطرارا وكل من ادعى علما نظريا بلا نظر استحق أن يلام بالسفاهة ويذم بالجهاله، أو لا يعلمون ما تريد بتحميدك عند مقالتهم، أو يعلمون أنهم يتناقضون حيث يقرون بأنه خالق السماوات والأرض ثم يشركون به غيره، أو لا علم لهم أصلا حتى يقروا بالتوحيد بعد ما أقروا بما يوجبه، وفيه ذم عظيم للجهلة الذين انصرفوا عن طريق الحق وسلكوا طريق الضلالة، ومدح بليغ للعلماء الذين يميزون بين الحق والباطل ويسلكون سبيل الهداية، وإرشاد إلى كيفية الاستدلال على التوحيد.
(يا هشام ثم مدح القلة) يعنى أن الممدوح من الناس وهو المؤمن الحقيقي العالم العامل المهذب للظاهر والباطن قليل نادر جدا وقد دلت على قلته الآيات المتكثرة والروايات المعتبرة المتواترة كما يظهر ذلك لمن تأمل في أحاديث الكفر والايمان ودلت عليه التجربة أيضا (فقال وقليل من عبادي الشكور) قيل: الشكر في اللغة فعل ينبئ عن تعظيم المنعم بسبب إنعامه، وفي العرف صرف العبد جميع ما أنعم الله عليه فيما أنعمه لأجله.
أقول: الظاهر أن النسبة بينهما عموم من وجه لتحقق الأول في صرف اللسان وحده مثلا في مقابلة النعمة دون الثاني إذ قد اعتبر فيه صرف جميع الجوارح، وتحقق الثاني في صرف الجميع لا في مقابلة النعمة بل لأجل كمالاته الذاتية وتحققهما جميعا في صرف الجميع بإزاء النعمة ولكن القوم صرحوا بأن الأول أعم مطلقا من الثاني لأنه كلما يتحقق صرف الجميع بإزاء النعمة يتحقق صرف واحد بإزائها أيضا
ص: 131
من غير عكس، وأورد عليه بأن هذه النسبة إنما يتم لو اعتبر في الثاني كونه في مقابل النعمة ولا إشعار به في التعريف: وأجيب عنه تارة بأن هذا القيد يستنبط من تعليق الحكم بوصف الانعام الصالح للعلية، ورد ذلك بأنه يلزم منه أن لا يكون الخلص شاكرين ولا واسطة بين الشكر والكفران، وتارة بأن المراد بكونه في مقابل النعمة أن يكون بإزائها وإن لم تكن ملحوظة للشاكر ومحصله أن إنعامه هنا عرفية لا حقيقية، ويمكن دفعه أيضا بأن مفهوم التعريف مطلق والايراد المذكور وارد بالنظر إلى ظاهره، إذا عرفت هذا فنقول: الشكر بكلا المعنيين منزلة عظيمة ومرتبة جليلة والمانع فيه قليل جدا، وبالمعنى الثاني أعظم لأن حصوله يتوقف على العلم بالله وصفاته وأفعاله والتصديق بالرسول وخواصه وكمالاته وبجميع ما جاء به من الشرايع والآداب مع العمل بها وتهذيب الظاهر والباطن عن الأخلاق الرذيلة ورداها، ومجاهدة النفس الأمارة بدفع متمنياتها وهواها، وقال الشريف في حاشية المطالع قيل: وبهذا المعنى يعني بالمعنى الثاني ورد قوله تعالى (وقليل من عبادي الشكور) وقال بعض المحققين: بل الظاهر أنه بالمعنى الأول وتكون القلة ناشئة عن المبالغة المستفادة من الشكور كما هو المعروف من أن النفي والاثبات في الكلام راجعان إلى القيد، وأما المعنى الثاني فلا يتصور فيه المبالغة، لأن المراد به صرف الجميع في الجميع فيكون الشكور بهذا المعنى ممتنع الوجود لا قليلا، ولو سلم استقامة حمله على هذا المعنى فلا يتعين لجواز حمله على المعنى الأول أيضا، وأجاب عنه المحقق الداوني بأن صرف الجميع في الجميع يتفاوت بحسب استغراق الأوقات وعدمه وتحقق المبالغة في استغراق الأوقات بأن يتحقق صرف الجميع في الجميع في أكثر الأوقات أو في جميعها، ثم أورد على نفسه بأن صرف الجميع في الجميع في أكثر الاوقات أو في جميعها مما لا يتصور ضرورة أنه لا يمكن صرف جارحة اللسان مثلا في وقت من الأوقات في جميع ما خلق لأجله كالذكر والنصيحة وإنذار الأعمى من البئر إلى غيرها، وأجاب بأن جميع ما خلق لأجله هو جميع ما كلف به وفي ذلك الوقت فهو شاكر بالمعنى الثاني وإذا استمر على ذلك الوصف في جميع الأوقات أو في أكثرها فهو شكور، وأجاب عن المنع المذكور بأن المعنى اللغوي غير محتمل لأن المبالغة فيه ليس قليلا لصدور البسملة والشهادتين وغيرها من الأفعال والأقوال المنبئة عن تعظيمه سبحانه عن كثير من العباد.
أقول: كما أن صرف الجميع في الجميع يتفاوت بحسب استغراق الأوقات وعدمه كذلك صرف البعض فيتحقق المبالغة فيه أيضا بأن يصرف البعض في أكثر الأوقات أو في جميعها ولا شبهة في أن الصارف بهذا الوصف قليل بالنسبة إلى الصارف في وقت ما; نعم هو كثير في حد ذاته وبالنسبة صارف الجميع في الجميع في معظم الأوقات ولا يقدح شئ من ذلك كونه قليلا بالنسبة إلى الصارف في وقت ما فكما يجوز إرادة المعنى الثاني في الآية يجوز إرادة المعنى الأول أيضا فليتأمل.
(وقال: وقليل
ص: 132
ما هم) الضمير راجع إلى الموصول في قوله تعالى: (إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات) أي المؤمنون العاملون للصالحات قليلون جدا، و «ما» مزيدة للابهام والتعجب من قلتهم وسبب القلة أن الله سبحانه خلق أعضاء الإنسان على مقتضى حكمته البالغة بحيث تصلح أن تناول الخير والشر فإن اليد تتناول الضرب والبطش والاعطاء والمنع وغيرها من الأفعال الصادرة منها، والرجل يتناول المشي إلى سبيل الحق والباطل، والبصر يقدر أن يدرك المصنوعات العجيبة والمبدعات الغريبة التي دلت على وجود صانعها وقدرته وحكمته. وأن يدرك المحرمات من الصور وغيرها والسمع يصلح أن يسمع الآيات والبينات المحركة للسير إلى الله تعالى، وأن يسمع الهزل واللغو والأقوال الكاذبة الموجبة للبعد منه ومن رحمته، وقس عليها البواقي وجعل النفس واسطة بين القوة الشهوية والغضبية وغيرهما من القوى الطبيعية الحيوانية وبين القوة العاقلة والملكية، وهي بالأولى تحرص على تناول اللذات البهيمية الفانية كالقهر والغلبة والشره والشبق (1) والعداوة، والتهجم على الغير بالضرب والشتم وتستعمل الأعضاء والجوارح في وجوه الشر والضلالة وإذا استمرت على ذلك صارت شيطانا ولحقت بزمرة الشياطين وترجع إلى أسفل السافلين، وبالثانية تتناول اللذات الملكية الباقية مثل العلوم الحقيقية والخصال الحميدة المؤدية إلى السعادات الأبدية وتستعمل الأعضاء والجوارح في وجوه الخير وتستكمل السياسة البدنية وإذا استمرت على ذلك شاركت الملائكة المقربين في فضائلهم، وزاحمت الأنبياء والمرسلين في منازلهم، وتستحق أن تخاطب بيا أيتها النفس المطمئنة إرجعي إلى ربك راضية مرضية - وإلى هذين الطريقين أشار سبحانه بقوله (وهديناه النجدين) وبقوله (إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا) ولكن النفس بالذات لما كانت مايلة إلى اللذات آنسة بالمحسوسات، واللذات الفانية الدنيوية لذات حاضرة محسوسة ظاهرة واللذات الاخروية لذات غائبة عقلية مخفية صارت النفوس كلها مايلة إلى الدنيا وزخارفها باغواء الشياطين وغلبة الشقاوة والهوى عليها حتى خرجوا عن الدين، واندرجوا في سلك الشياطين، واتصفوا بالخسران المبين، أو خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا، وصاروا من المذنبين إلا من عصمه الله وأخذت بيده العناية الأزلية ونور قلبه بنور الحكمة والايمان وأفاض عليه مياه الكرامة والاحسان وطهر ظاهره بالأعمال الصالحة وحلى باطنه بالأخلاق الفاضلة وهذا القليل الوجود جدا كما أشار إليه مولانا الصادق (عليه السلام) بقوله: «المؤمنة أعز من المؤمن والمؤمن أعز من الكبريت الأحمر، فمن رأى منكم الكبريت الأحمر» (2).
ص: 133
(قال: وقال رجل مؤمن من آل فرعون) من أقاربه، قيل: هو ابن عمه، وقيل: كان قبطيا من قومه، وقيل: كان من بني إسرائيل ويرجح الأول لفظ الآل لأنه يطلق على القريب كما قال سبحانه:
(إلا آل لوط نجيناهم بسحر) وهو صفة ثانية لرجل، وقيل: هو متعلق بقوله (يكتم إيمانه) هذا صفة ثالثة على ما قلنا، وصفة ثانية على ما قيل، وهذا القول بعيد لأنه يلزم الفصل بين الصفة والموصوف بأجنبي، اللهم إلا أن يجعل (يكتم إيمانه) حالا وهو بعيد جدا.
ولأنه لو كان كذلك لكانت تأخيره أولى إذ لاوجه لتقديمه إلا الحصر وهو غير مناسب للمقام ولأن كتمان الايمان دل على ثبوت الايمان مثل مؤمن، فكان الأنسب أن يذكر بعده بلا فصل، فإن قلت:
فعلى هذا لو كان صفة كان الأنسب أيضا تأخيره عن الصفة الثالثة، قلت: نعم ولكن في تأخيره إخلال بيان المعنى المقصود لأنه يتوهم حينئذ أنه من صلة (يكتم) فلم يفهم أن ذلك الرجل كان من آل فرعون فقدم لدفع هذا التوهم على أن تقديمه أهم لأن إيمانه مع كونه من آل فرعون كان مستبعدا (أتقتلون رجلا) وهو موسى (عليه السلام) والهمزة للانكار إما للتوبيخ أو للتعجب وحملها على حقيقة الاستفهام بعيد (أن يقول) أي لأن يقول أو وقت أن يقول (ربي الله) وحده لا شريك له وهو يفيد قصر الربوبية على الله ردا لقول فرعون (أنا ربكم الأعلى) فهو من قبيل صديقي زيد والغرض من ذكر الآية الكريمة أن الله سبحانه وصف رجلين من بين كثيرين لا يعلم عددهم إلا هو بالايمان ومدحهما به (وقال ومن آمن) عطف على أهلك في قوله تعالى (قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول) ولما أوحى إلى نوح (عليه السلام) أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن وأمره بعمل السفينة وأخبره بإهلاك قومه بالغرق شرع (عليه السلام) في عمل السفينة، فلما تم عمله وجآء أمر الله تعالى وفار التنور أمره بأن يحمل معه في السفينة من كل نوع من الحيوان ذكرا وأنثى وأهله إلا ابنه كنعان وامه وأن يحمل فيها المؤمنين فحمل (عليه السلام) فيها زوجين من كل حيوان وكل من آمن (وما آمن معه إلا قليل) قيل: كانوا ثمانين مقاتلا وفي ناحية الموصل قرية يقال لها قرية الثمانين سميت بها لأن هؤلاء لما خرجوا من السفينة بنوها وهذا القول بعيد وقال في الكشاف روي عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال:
كانوا ثمانية نوح وأهله وبنوه الثلاثة ونساؤهم، وعن محمد بن إسحاق كانوا عشرة خمسة رجال وخمسة نسوة وقيل: كانوا اثنين وسبعين رجلا وامرأة وأولاد نوح سام وحام ويافث ونساءهم والجميع ثمانية وسبعون نصفهم رجال ونصفهم نساء وقال:
(ولكن أكثرهم لا يعلمون) أي لا يوجد لهم حقيقة العلم ولا يعلمون استقامة هذا الدين لعدم
ص: 134
تدبرهم فيه حتى يحصل لهم العلم باستقامته وبما يتبعها من نظام أحوالهم في الدنيا والآخرة وقال (أكثرهم لا يعقلون) أي ليس لهم فضيلة العقل أو لا يعقلون الحلال والحرام وما جاء به رسولهم من المصالح والأحكام ليهذبوا ظاهرهم وباطنهم ويتصفوا بكمال الإنسان ويتركوا ما سولت لهم أنفسهم وزينه لهم الشيطان وقال (أكثرهم لا يشعرون) (1) بما فيه صلاحهم في الدارين وكمالهم في النشأتين وهذه الآيات الثلاث يستلزم مدح القليل وهو المقصود في هذا المقام.
واعلم أن الآيات والروايات الدالة على ذم الكثير ومدح القليل أكثر من أن تحصى، والغرض من ذكر بعضها هنا أمران: أحدهما بيان أن الضلالة والطغيان صارتا كالطبيعة الثانية للانسان إلا من عصمه الله من سلوك سبيل الشيطان ونور قلبه بنور المعرفة والايمان وهذا الصنف قليل جدا بل ينحصر في بعض الأعصار في فرد كما قيل في تفسير قوله تعالى (إن إبراهيم كان أمة) إنه كان وحده مؤمنا وكان سائر الناس كفارا، الثاني التنبيه على أن ما وقع بعد نبينا (صلى الله عليه وآله) من ارتداد أكثر الناس وخروجهم عن الدين وبقاء قليل منهم مثل عمار وسلمان وأبي ذر وأضرابهم غير مستبعد (يا هشام ثم ذكر اولى الألباب) أي ذوي العقول الخالصة عن لواحق الوهم والفشل، الكاملة بفضيلتى العلم والعمل (بأحسن الذكر) الذكر نقيض النسيان ويطلق أيضا على الصيت والثناء والشرف كما في قوله تعالى (والقرآن ذي الذكر) أي ذي الشرف (وحلاهم بأحسن الحلية) أي زينهم بأحسن الزينة، أو وصفهم بأحسن الصفة، والحلية بكسر الحاء المهملة وسكون اللام تطلق على الصفة مثل العلم والشجاعة والسخاوة ونحوها وعلى الزينة من ذهب أو فضة أو لؤلؤ أو نحوها وفي التنزيل (وتستخرجون حلية تلبسونها) ومن حلي بضم الحاء وكسر اللام وشد الياء جمع حلى بفتح الحاء وسكون اللام وهي ما يتحلى به المرأة، جمع الحلية حلى مثل اللحية ولحى وربما ضم (فقال يؤتى الحكمة) قال أبو عبد الله جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام): «هي طاعة الله ومعرفة الإمام» (2) وهذا القول منه (عليه السلام) إشارة إلى الحكمة النظرية والعملية (3) وهما خروج النفس من القوة الاستعدادية إلى حقيقة العلم والعمل لأن معرفة الإمام إشارة اجمالية إلى معرفته على ما ينبغي ومعرفة الرسول وما جاء به ومعرفة الله وما يليق به، وهذه المعارف عبارة عن الحكمة النظرية.
وطاعة الله إشارة إلى تخلية الظاهر والباطن عن الرذائل وتحليتهما بالفضائل وهذه هي الحكمة
ص: 135
العملية ويرجع إلى هذا التفسير قول القاضي: هي تحقيق العلم والعمل.
وقول صاحب الكشاف: هي العلم والعمل به والحكيم عند الله هو العالم العامل وقول المازري:
هي العلم النافع المصحوب بإنارة البصيرة وتهذيب النفس.
وقول ابن دريد: هي كل ما يؤدي إلى مكرمة ويمنع من قبيح.
وقال شيخ العارفين بهاء الملة والدين: هي ما يتضمن صلاح النشأتين أو صلاح النشأة الأخرى من العلوم والمعارف وأما ما تضمن صلاح الحال في الدنيا فقط فليس من الحكمة في شئ.
وقال مالك: الحكمة في الفقه في الدين (1) وهذان التعريفان لا يصدقان على الحكمة العملية كما لا يصدق تعريف من قال: هي الإصابة في القول ومن قال: هي طاعة الله تعالى على الحكمة النظرية.
(من يشاء) مفعول أول أخر للاهتمام بالمفعول الثاني وللدلالة على تعظيمه في أول الأمر (ومن يؤت الحكمة) بفتح التاء في القراءة المشهورة على البناء للمفعول لأن المقصود بيان حال المفعولين بخلاف الأول لأن المقصود هنا تعلق الفعل بالفاعل أيضا ليتبين أن الحكمة فضيلة إلهية وموهبة ربانية للنفوس المستعدة لها ولا تحصل بمجرد الاكتساب وإن كان للاكتساب مدخل فيها (فقد أوتى خيرا كثيرا) التنكير للتعظيم والتكثير جميعا والوصف بالكثرة للمبالغة والتأكيد وكثرته باعتبار اشتماله على خير الدنيا والآخرة، وفيه دلالة على كمال العلم وعلو منزلته وعموم فوائده.
لا يقال هذا ينافي قوله تعالى: (وما أوتيتم من العلم إلا قليلا) لأن قلته بالإضافة إلى علم الواجب لا ينافي كثرته بالنظر إلى ذاته ومدة بقائه وبقاء السعادة اللازمة له (وما يذكر) أي وما يعلم الحكمة التي أعطاها للنفوس القابلة ولا يعرف قدر تلك النعمة، أو وما يتفكر في القرآن وما فيه من حقايق العلوم ودقايقها (إلا أولو الألباب) أي ذوو العقول الكاملة المائلة عن الدنيا وزهراتها، الآمنة من مكايد النفس ومتمنياتها، وقد نقل في هذا الكتاب عن الرضا (عليه السلام) في فضل الإمام وصفاته في حديث طويل: «إن الأنبياء (عليهم السلام) يوفقهم الله ويؤتيهم من مخزون علمه وحكمته ما لا يؤتيه غيرهم فيكون علمهم فوق علم
ص: 136
أهل زمانهم ثم قرأ هذه الآية (1) وقال: (والراسخون في العلم) رسخ الشئ رسوخا ثبت كل ثابت راسخ ومنه الراسخون في العلم أي الذين ثبتوا فيه واستقروا بحيث لا يؤزهم شئ من مكايد الشيطان ومتمنيات النفوس وزهرات الدنيا على الخروج عن سبيل الحق بوجه من الوجوه (يقولون آمنا به) أي بالكتاب الذي منه آيات محكمات هن أم الكتاب واخر متشابهات أو بالمتشابه وهو كلام يحتمل وجوها متعددة لا يتضح المقصود منه لإجمال أو مخالفة ظاهر إلا بالفحص الشديد والنظر الدقيق.
والمحكم كلام لا يحتمل إلا وجها واحدا (كل من عند ربنا) أي كل واحد من المحكم والمتشابه نزل من عند ربنا وهذا كالتأكيد للسابق فلذا فصل عنه (وما يذكر إلا أولو الألباب) أي وما يعلم المتشابه إلا الكاملون في العقول وهم الراسخون في العلم أو وما يعلم الراسخين في العلم وهم النبي (صلى الله عليه وآله) والأئمة الطاهرون (عليهم السلام) وما يذكر أحوالهم إلا اولو الألباب الذين هم شيعتهم.
روى أبو بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «نحن الراسخون في العلم ونحن نعلم تأويله» (2) وروى عبد الله بن بكير عنه (عليه السلام) قال: «الراسخون في العلم أمير المؤمنين والأئمة» (عليهم السلام) (3) وروى بريد بن معاوية عن أحدهما (عليهما السلام) «أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أفضل الراسخين في العلم قد علمه الله جميع ما أنزله عليه من التنزيل والتأويل وما كان لينزل عليه شيئا لم يعلمه تأويله وأوصياؤء من بعده يعلمونه كله الحديث (4)» روى جابر عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله الله تعالى (هل يستوى الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولو الألباب) (5) قال أبو جعفر (عليه السلام) (إنما نحن الذين يعلمون والذين لا يعلمون عدونا وشيعتنا أولو الألباب).
وقال (إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات) أي لعلامات ظاهرة وأدلة واضحة على وجود الصانع ووحدته وقدرته وحكمته وتدبيره (لاولى الألباب) أي لذوي العقول الثاقبة والبصاير النافذة لأنهم لصفاء ضمايرهم ونور بصايرهم هم القادرون على التفكر في خلق السماوات وما فيها من الثوابت والسيارات وحركاتها شرقا وغربا جنوبا وشمالا إجتماعا وافتراقا إلى غير ذلك من أحوال السماء والسماويات وما يترتب عليها من المنافع والمصالح، وفي خلق الأرض وما فيها وما عليها من أنواع المعادن والنباتان والحيوانات ومنافعها وفي اختلاف الليل والنهار وتعاقبهما وتفاوتهما في الزيادة والنقصان وفوايدها وعلى الاستدلال بهذه الأمور وأمثالها مما لا يحصى على أن
ص: 137
لها صانعا لطيفا عليما خبيرا حكيما قادرا موجدا لها بمجرد إرادته ومشيته بلا مشاركة ولا معاونة وأما غيرهم ممن ضعف ضمائرهم وعمت بصايرهم فهم إنما ينظرون إليها نظر البهائم ويدركون منها ما يدركه المعلوفة والسوائم، ذاهلين عما فيها من عجائب الفطر ولطائف التقدير وغرائب الصنع وبديع التدبير. قال القاضي ولعل الاقتصار على هذه الثلاثة في هذه الآية لأن مناط الاستدلال هو التغير، والتغير إما أن يكون في ذات الشئ كتغير الليل والنهار، أو في جزئه كتغير العناصر بتبدل صورها، أو في الخارج عنه كتغير الأفلاك بتبدل أوضاعها، وقال بعض أهل الإشارة: وخلق السماوات (1) إشارة إلى خلق الأرواح وأطوارها العالية وخلق الأرض إشارة إلى خلق النفوس البشرية وقرارها وتسفلها في مراكز الأبدان، واختلاف الليل والنهار إشارة إلى اختلاف ظلمة النفوس البشرية والأنوار الروحانية فإن هذه الأمور أدلة واضحة على وجود الصانع لاولى الألباب، وهم الذين عبروا بقدم الذكر والفكر عن قشر الوجود الظلماني الفاني إلى لب الوجود الروحاني الباقي فشاهدوا بعيون البصائر ونواظر الضمائر أن لهم إلها قيوما قادرا حيا عليما سميعا بصيرا متكلما حكيما له الأسماء الحسنى والصفات العليا وقال: (أفمن يعلم أن ما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى) لما ضرب الله سبحانه مثلا للذين استجابوا لربهم استجابة حسنة وهم المؤمنون العالمون العاملون والذين لم يستجيبوا له وهم الكافرون والجاهلون تارة بالماء وزبده وهو وضره ودرنه، وتارة بالفلزات كالذهب والفضة والحديد والنحاس وزبدها وهو خبثها ورديها.
وأوضح الفرق بين الفريقين بأن الأول بمنزلة الماء والفلزات الخالصة التي تبقى في الأرض وينتفع بها انتفاعا عظيما والثاني بمنزلة زبدها ودرنها يرمى به الماء والفلزات المذابة الخالصة أنكر على من زعم التساوي بينهما بعد ضرب المثل والايضاح وبين أنه لا مساواة بين من يعلم أن ما أنزل إليك من ربك وهو القرآن وما اشتمل عليه من التوحيد وصفات الواجب والأحكام وأحوال الحشر والنشر والثواب والعقاب والأمثال وغيرها حق وصدق ويذعن به إذعانا جازما ثابتا، وبين من هو أعمى القلب فاقد البصيرة لا يهتدي إلى الحق منكرا له أو جاهلا به بل بينهما مباينة تامة وبعد مفرط كبعد ما بين الماء والزبد والفلزات الخالصة وأخبائها (إنما يتذكر) أي ما يعلم ذلك أولا يتفكر فيه إلا (اولو الألباب) وأما الكفرة والجهلة الفاقدون للبصاير الذهنية والأنوار العقلية والسالكون سبيل الغي والضلالة فهم بمنزلة البهائم، بل هم أضل فطمع التذكر والتفكر منهم في المطالب العالية كطمعه من البهائم.
وقال (أمن هو قانت) أي قائم بوظايف الطاعات من القنوت وهي الطاعة والدعاء والقيام في قوله (عليه السلام): «أفضل الصلاة طول القنوت» (2) والمشهور الدعاء وقولهم دعاء القنوت إضافة بيان كذا في
ص: 138
المغرب، وقال الجوهري: «القنوت الطاعة هذا هو الأصل; ومنه قوله تعالى (والقانتين والقانتات) ثم سمي القيام في الصلاة قنوتا وفي الحديث «أفضل الصلاة طول القنوت» ومنه قنوت الوتر.
وقال ابن الأثير في النهاية: «قد تكرر ذكر القنوت في الحديث ويرد بمعان متعددة كالطاعة والخشوع والصلاة والدعاء والعبادة والقيام وطول القيام والسكون فيصرف في كل واحد من هذه المعاني إلى ما يحتمله لفظ الحديث الوارد فيه» قرأ حمزة (أمن) بتخفيف الميم بمعنى أمن هو قانت كمن هو ليس بقانت، والمقصود نفي المساواة بينهما وإثبات الفضل للأول، وقرأ الباقون بتشديد الميم أصله أم من أدغمت الميم في الميم (أم) متصلة معطوفة على محذوف دخل عليه حرف الاستفهام تقديره أتارك القنوت خير أمن هو قانت مثل قولك أزيد أفضل أم عمر وأم منقطعة بمعنى بل والمعنى بل أمن هو قانت كمن ليس كذلك قيل: فيه دلالة على أن العمل الذي يتصف بسببه الإنسان بالكمال هو ما كان الإنسان مواظبا عليه، فإن القنوت عبارة عن كون الرجل قائما عليه من الطاعات فما لا مواظبة فيه من الأعمال ليس فيه كثير فائدة (آناء الليل) أي ساعاته خصها بالذكر مع أن العبادة في كل وقت فضيلة يتقرب بها العبد إلى الله تعالى، ويتميز بها عن غيره، لوجوه:
أولها: أن القلب في الليل فارغ عن المحسوسات المانعة عن السير إلى الله سبحانه، فيتوجه إلى ذكره مشاهدا له ولصفاته الذاتية والفعلية، وكمال قدرته وغلبته على جميع الممكنات فيحصل له بذلك خوف وخشية بحيث لا يغفل عنه طرفة عين وهذه الحالة أفضل الحالات الواقعة والطاعة فيها أفضل الطاعات لأن التفاوت في مراتب الطاعات بحسب تفاوت مراتب القلب في القرب والبعد.
وثانيها: أن الليل وقت النوم والاستراحة فيكون القيام أشق فيكون الطاعة فيه أفضل وقد دل على هذين الوجهين قوله تعالى: (إن ناشئة الليل هي أشد وطأ وأقوم قيلا).
وثالثها: أن القيام في الليل لكونه أقرب من الخلوص وأبعد من الرياء أفضل من القيام في النهار.
ورابعها: أن النهوض في الليل للعبادة لما كان غير مدافع بطلب المعاش ونحوه كان أكمل من النهوض في النهار وأفضل. (ساجدا وقائما) حالان من فاعل «قانت» ونقل أيضا قراءتهما بالرفع والخبرية وتعدد الخبر بدون العطف جائز والواو للجمع بين الصفتين، وتقديم السجود على القيام للاهتمام به لأن السجود أرفع منازل العارفين وأعلى معارج العابدين كما نطق به الأخبار عن الأئمة الطاهرين (يحذر الآخرة) أي عذابها (ويرجو رحمة ربه) استيناف للتعليل كأنه قيل ما سبب قنوته وسجوده وقيامه؟ فأجيب ببيان سببها أو في موضع النصب على الحال ولابد من نكتة في إيراد بعض الأحوال مفردا وبعضها جملة فعلية ولعل النكتة فيه هو التنبيه على اعتبار استمرار الحذر والرجاء ووجود كل واحد منهما في زمان وجود الأخرى بخلاف السجود والقيام.
ص: 139
وإنما أثر الحذر على الخوف مع أن الخوف في مقابل الرجاء على ما هو المتعارف لأن الحذر أبلغ من الخوف لأنه خوف مع الاحتراز عن المعاصي وإنما أضاف الحذر إلى الآخرة لا إلى عذابه وأضاف الرجا إلى رحمته للتنبيه على أن الرجاء أفضل وبحضرة الربوبية أليق ولذلك أيضا أضاف الرحمة إلى الرب والرب إلى الضمير مع ما فيه من الدلالة على الاستعطاف والاختصاص ورجحان الرحمة على العذاب (قل هل يستوي الذين يعلمون) وهم القانتون الموصوفون بالصفات المحمودة المذكورة (والذين لا يعلمون) وهم التاركون للقنوت، وهذه الآية على هذا التفسير بيان للسابق وإشارة إلى أن منشأ تلك الصفات هو العلم ومنشأ عدمها هو الجهل وتنبيه على شرف العلم والفضيلة وفضل العلماء على الجهال ونفي لاستواء الفريقين باعتبار القوة العلمية كما أنا السابق نفي لاستوائهما باعتبار القوة العملية للاشعار بأن الحقيقة الإنسانية إنما تتسم بالنباهة والجلال وتتصف بالفضيلة والكمال باعتبار العلم والعمل فمن لم يتصف بهما ليس له من وصف الإنسانية إلا اسم ولا من حقيقتها إلا اسم، وإنما أخر العلم عن العمل مع أن العمل تابع له، متوقف عليه للتنبيه على أن العمل هو الغرض الأصلي من العلم حتى أن العالم إذا لم يعمل بعلمه كانت الحجية عليه أعظم والحسرة عليه أدوم، أو للدلالة باختلاف الآثار الظاهرة أعني العبادة وعدمها على اختلاف مباديها الباطنة أعني العلم والجهل فكان من قبيل اثبات معقول بمحسوس، وقيل: وجه الترتيب بين الأوصاف المذكورة أن الإنسان عند قيامه بوظايف الطاعات ومواظبته عليها ينكشف له في أول الامر مقام القهر المقتضى للخوف والحذر ثم ينكشف له بعده مقام الرحمة الباعث للرجاء ثم يحصل له بعده أنواع العلوم والمكاشفات فالعلم على هذا تابع للأوصاف المتقدمة ولذلك أخره عنها (إنما يتذكر أولو الألباب) يعني أن هذا التفاوت العظيم بين العالم والجاهل وبين القانت وغيره لا يعرفه إلا ذوو العقول الكاملة الخالصة عن غواشي الأوهام لأنهم القادرون على التمييز بين الحق والباطل بما لهم من بصيرة عقلية وقوة روحانية دون غيرهم ممن كان على بصائر عقولهم غشاوة وفي صفحات قلوبهم قساوة وقد روي عن الباقر (عليه السلام) أنه قال في تفسير هذه الآية: (نحن الذين يعلمون وعدونا الذين لا يعلمون وشيعتنا اولو الألباب) (1) وعن الصادق (عليه السلام) «أن الآية نزلت في وصف علي (عليه السلام) وذم أبي الفصيل» (2) يعني أن عليا (عليه السلام) لكونه قانتا بالأوصاف المذكورة وعالما بأن محمدا (صلى الله عليه وآله) رسول الله ليس مثله، وهو لا يقنت ولا يعلم ذلك ويقول باطنا أنه ساحر كذاب وما نقلناه معنى الحديث والحديث المذكور في كتاب الروضة قبل حديث الصيحة.
وقال: (كتاب أنزلناه إليك مبارك) مبارك بالرفع على القراءة المشهورة صفة للكتاب أو خبر بعد
ص: 140
خبر، وبالنصب على الحالية في بعض القراءة ومعناه نفاع من البركة وهي في الأصل الزيادة والنمو (ليدبروا آياته) فيعرفوا ما فيه من الشرايع والأحكام والمواعظ والنصائح والعبر التي بها يتم نظامهم في الدارين ويصلح حالهم في النشأتين (وليتذكر اولو الألباب) أي وليعلم ما فيه من الأسرار الإلهية الربانية التي لا يهتدي إليها إلا ذوو العقول الكاملة والأذهان الثاقبة وهم أهل العصمة (عليهم السلام) فإن علوم الكتاب بعضها ظاهر سهل المأخذ يعرفه أكثر العلماء بالتدبر والتأمل فيه، وبعضها خفي لا يصل إليه إلا اولو الألباب وذوو العقول الكاملة العارية عن شوايب النقصان، وقيل:
الكتب الإلهية بيان لما لا يعرف إلا بالشرع وإرشاد إلى ما يستقل به العقل والتدبر للأول والتذكر للثاني، وقيل: الكتاب مشتمل على أسرار عظيمة ومعارف لطيفة وفائدة إنزاله أن يتدبر المتدبرون ويتفكر المتفكرون آياته، والغرض الأصلي من التدبر والتفكر وهو النظر والتأمل أن يحصل لهم الذكر أي المعرفة اليقينية بتلك الأسرار والمعارف، والتدبر لا يستلزم التفكر إذ رب متفكر لا ينتهي بفكره إلى المطلوب فالتدبر غير مختص باولي الألباب، بل يعمهم وغيرهم بخلاف التذكر فإنه مختص بهم، فقد ثبت أن غاية إنزاله ليس إلا التذكر المختص باولى الألباب، وهذا غاية المدح والتعظيم لهم، وفيه أن ظاهر العطف يقتضي أن كلا من التدبر والتذكر غاية مستقلة لانزاله (قال: (ولقد أتينا موسى الهدى) أي الدلالة على الدين أو ما يهتدي به إليه من المعجزات والصحف والشرايع (وأورثنا بني إسرائيل الكتاب) أي التوراة يعني تركناه بعده عليهم يتوارثونه ويأخذونه بعضهم من بعض ويحملونه ويحفظون ألفاظه ومدلولاته اللفظية ومعانيه الأولية وأحكامه الظاهرية (هدى وذكرى) مفعول له لقوله أورثنا أو حال عن فاعله أو عن الكتاب أي أورثناه لأجل الهداية والتذكير أو هاديا ومذكرا (لاولى الألباب) أي لذوي العقول الصحيحة السليمة وهم الراسخون في العلم العارفون بالله وصفاته وأفعاله العالمون بأحوال المبدء والمعاد المشاهدون لها بعيون البصائر المهذبون لأخلاقهم الظاهرة والباطنة: وملخصه: أن غير اولى الألباب من أهل الكتاب بمنزلة الخدمة لهم يحفظون الكتاب لئلا يندرس بطول الأزمنة فيبقي محفوظا لهؤلاء الكاملين في العقول وهم أوصياء موسى (عليه السلام) وعلماء امته فهم الممدوحون غاية المدح والتعظيم المقصودون من الثناء والتكريم، وفيه تنبيه على أن سبحانه أورث القرآن في هذه الامة بعد نبينا (صلى الله عليه وآله) هدى وذكرى لأولي الألباب وهم العلماء الراسخون من امته الأوصياء المرضيون من عترته لا يفارقهم القرآن ولا يفارقونه حتى يردوا عليه يوم القيامة كما قال (صلى الله عليه وآله) «إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله عز وجل وعترتي أهل بيتي ألا وهما الخليفتان من بعدي ولن يفترقا حتى يردا علي الحوض» (1).
ص: 141
وقال (وذكر) لما أمر الله سبحانه نبيه محمدا (صلى الله عليه وآله) بالتولي والاعراض عن مجادلة المشركين المنكرين لنبوته المصرين على إنكار دعوته إلى ما فيه صلاحهم في الدارين وبين أنه ليس بملوم على ذلك الاعراض لبذل جهده في التبليغ بقوله «فتول عنهم فما أنت بملوم» وأمره ثانيا بالتذكير والتعليم تسلية وبشارة له بقوله «ذكر» يعني لا تدع التذكير والموعظة الحسنة (فان الذكرى تنفع المؤمنين) أي الذين يؤمنون بك ممن هو في أصلاب الآباء وأرحام الامهات إلى يوم القيامة، أو الذين آمنوا بك فإنها تنفعهم وتزيد بصيرتهم وتحبي أرواحهم وتنور قلوبهم وتصقل إذهانهم كما أن المطر في الأراضي القابلة توجب حيوتها، وفي ذكر هذه الآية في مقام مدح أولي الألباب إشارة أنهم هم المؤمنون بالايمان الحقيقي وهذا غاية المدح والتعظيم لهم.
(يا هشام إن الله تعالى يقول في كتابه: إن في ذلك) أي فيما ذكر من خلق السماء وبنائها بلا عمد وتزيينها بالكواكب ومد الأرض وإلقاء الجبال الرواسي فيها وإنبات أنواع النباتات الحسنة البهيجة وتنزيل الأمطار وإنبات الزروع والأشجار والجنات الرائقات والنخيل الباسقات وإحياء البلاد وإهلاك بعض القرون السابقة بسبب تكذيب رسلهم مثل قوم نوح وأصحاب الرس وثمود وعاد وفرعون وإخوان لوط وأصحاب الأيكة وقوم تبع إلى غير ذلك من الأمور المذكورة في سورة ق (لذكرى) أي لتذكرة (لمن كان له قلب) أي عقل وإطلاق القلب على العقل شايع لغة وعرفا وبذلك فسره القراء أيضا في هذه الآية ومن قال: قلب واع يتفكر في الحقايق.
أراد به ما قلنا لأن التفكر من صفات العقل (1) دون العضو المخصوص المتشكل بشكل مخصوص صنوبري لأن ذلك موجود في الصبيان والمجانين مع عدم تحقق التذكر لهم وفيه دلالة واضحة على أن غاية إيجاد هذه العالم وإنزال المواعظ الربانية والنصايح القرآنية ليست إلا أصحاب العقول الراسخة وهذا كمال المدح والتعظيم لهم.
وقال (ولقد آتينا لقمان الحكمة قال الفهم والعقل) الفهم العلم تقول: فهمت الشئ إذا علمته والعقل الجوهر المجرد (2) الذي يدرك المعاني الكلية والحقايق المعنوية من عقل البعير عقلا إذا شد
ص: 142
بالعقال سمي به لأنه يمنع صاحبه عن ارتكاب ما لا ينبغي مثل العقال وإطلاق الحكمة عليهما إن كانت عبارة عما يمنع من الجهل كما صرح به في المغرب أو ما يمنع من قبيح ويؤدي إلى مكرمة كما صرح به أبن دريد ظاهر لأنهما يمنعان صاحبهما عن الجهل والقبيح وإطلاقها على الفهم إن كانت عبارة عن العلم مطلقا كما صرح به بعض أرباب اللغة أو عن العلم بالدين كما صرح به بعض العلماء أو عن معرفة حقائق الأشياء وأحوالها والتخلق بالأخلاق الحسنة على قدر الطاقة البشرية كما هو المعروف أيضا ظاهر وعلى العقل يعني العقل بالفعل من قبيل إطلاق الحال على المحل أو إطلاق الأثر على المبدء والمؤثر أو على اعتبار اتحاد بين العقل والمعقول (1) وقال القاضي: هو ابن أخت أيوب أو خالته وعاش حتى أدرك داود وأخذ منه العلم وكان يفتي قبل مبعثه، وقال بعض الأفاضل ناقلا عن كتاب عين المعاني: إنه تولد في عشر سنين من سلطنة داود (عليه السلام) وعاش إلى أن أدرك يوسف (عليه السلام) وقيل:
إنه عاش ألف سنة، واختلف في نبوته فأكثر العلماء على أنه لم يكن نبيا، وقيل: كان حبشيا أسود اللون غليظ الشفتين وقيل: ذكر السجاوندي نقلا عن أهل السير أنه كان في بيته وقت القيلولة إذ دخل جمع من الملائكة وسلموا عليه فأجابهم ولا يرى أشخاصهم، فقالوا: يا لقمان نحن ملائكة الله نزلنا إليك لنجعلك خليفة في الأرض لتحكم بين الناس بالحق قال إن كان هذا أمرا حتميا فالسمع والطاعة وأرجو منه أن بوفقني ويسددني وإن جعلني مخيرا فإني أريد العافية لا التعرض للفتنة فاستحسنه الملائكة وأحبه الله وزاده في الحكمة والمعرفة (2) ومن حكمته أنه صحب داود شهورا وكان يسرد الدرع فلم يسأله عنها فلما أتمها لبسها وقال: نعم لبوس الحرب أنت، وقال: الصمت حكمة وقليل فاعله وإن داود قال له يوما: كيف أصبحت
ص: 143
فقال: أصبحت في يدي غيري مرتهنا بعملي، وأنه أمره بذبح شاة وأن يأتي بأطيب مضغتين منها فأتى باللسان والقلب ثم بعد أيام أمر بأن يأتي بأخبث مضغتين فأتى بهما أيضا فسأله عن ذلك فقال: هما أطيب شئ إذا طابا وأخبث شئ إذا خبثا.
«يا هشام إن لقمان قال: لابنه: تواضع للحق تكن أعقل الناس وإن الكيس لدى الحق يسير، يا بني إن الدنيا بحر عميق، قد غرق فيها عالم كثير فلتكن سفينتك فيها تقوى الله وحشوها الايمان وشراعها التوكل وقيمها العقل ودليلها العلم وسكانها الصبر يا هشام إن لكل شئ دليلا ودليل العقل الفكر، ودليل التفكر الصمت، ولكل شئ مطية ومطية العقل التواضع وكفى بك جهلا أن تركب ما نهيت عنه يا هشام ما بعث الله أنبياءه ورسله إلى عباده إلا ليعقلوا عن الله فأحسنهم استجابة أحسنهم معرفة، وأعلمهم بأمر الله أحسنهم عقلا، وأكملهم عقلا أرفعهم درجة في الدنيا والآخرة.
يا هشام إن لله على الناس حجتين: حجة ظاهرة وحجة باطنة، فأما الظاهرة فالرسل والأنبياء والأئمة (عليهم السلام)، وأما الباطنة فالعقول.
يا هشام إن العاقل الذي لا يشغل الحلال شكره ولا يغلب الحرام صبره.
يا هشام من سلط ثلاثا على ثلاث فكأنما أعان على هدم عقله: من أظلم نور تفكره بطول أمله ومحا طرائف حكمته بفضول كلامه وأطفأ نور عبرته بشهوات نفسه فكأنما أعان هواه على هدم عقله، ومن هدم عقله أفسد عليه دينه ودنياه.
يا هشام كيف يزكو عند الله عملك وأنت قد شغلت قلبك عن أمر ربك وأطعت هواك على غلبة عقلك. يا هشام الصبر على الوحدة علامة قوة العقل، فمن عقل عن الله اعتزل أهل الدنيا والراغبين فيها ورغب فيما عند الله، وكان الله انسه في الوحشة و صاحبه في الوحدة وغناه في العيلة ومعزه من غير عشيرة. يا هشام نصب الحق لطاعة الله، ولا نجاة إلا بالطاعة، والطاعة بالعلم، والعلم بالتعلم، والتعلم بالعقل يعتقد ولا علم إلا من عالم رباني، ومعرفة العلم بالعقل.
يا هشام قليل العمل من العالم مقبول مضاعف وكثير العمل من أهل الهوى والجهل مردود.
يا هشام إن العاقل رضي بالدون من الدنيا مع الحكمة، ولم يرض بالدون من الحكمة مع الدنيا، فلذلك ربحت تجارتهم. يا هشام إن العقلاء تركوا فضول الدنيا فكيف الذنوب وترك الدنيا من الفضل وترك الذنوب من الفرض. يا هشام إن العاقل نظر إلى الدنيا وإلى أهلها فعلم أنها لا تنال إلا بالمشقة
ص: 144
ونظر إلى الآخرة فعلم أنها لا تنال إلا بالمشقة فطلب بالمشقة أبقاهما يا هشام إن العقلاء زهدوا في الدنيا ورغبوا في الآخرة، لأنهم علموا أن الدنيا طالبة مطلوبة والآخرة طالبة ومطلوبة، فمن طلب الآخرة طلبته الدنيا حتى يستوفي منها رزقه ومن طلب الدنيا طلبته الآخرة فيأتيه الموت فيفسد عليه دنياه وآخرته. يا هشام من أراد الغنى بلا مال وراحة القلب من الحسد والسلامة في الدين، فليتضرع إلى الله عز وجل في مسألته بأن يكمل عقله، فمن عقل قنع بما يكفيه ومن قنع بما يكفيه استغنى ومن لم يقنع بما يكفيه لم يدرك الغنى أبدا.
(يا هشام إن لقمان قالا لابنه: تواضع للحق تكن أعقل الناس) التواضع التذلل من الوضع وهو خلاف الرفع ويحصل ذلك بالاجتناب عن التكبر والافتخار وسائر المنهيات والآتيان بالأوامر والمصالح وسائر الخيرات والتمسك بحول الله وقوته في الحركات والسكنات ولا ريب في أن هذه خصلة عظيمة دلت على أن صاحبها من أعقل الناس لأن العقل هو الداعي إليها ويمكن أن يكون المراد أن تواضعك سبب لصيرورتك من أعقل الناس، ويؤيده ظاهر الشرط المقدر وتوجيه ذلك أن العقل من أفضل النعماء وشكرها التواضع وشكر النعمة يجلب الزيادة كما قال سبحانه (ولئن شكرتم لأزيدنكم) فالتواضع سبب لازدياد العقل وكماله (وإن الكيس لدى الحق يسير) الكيس - بفتح الكاف وتشديد الياء مع كسرها - من دان نفسه وعمل لما بعد الموت أي العاقل الذكي المتأني في الأمور وحسن عاقبتها، وقد كأس يكيس كيسا وكياسة يعني أن العاقل الذي يعمل بمقتضى عقله ويطلب ثواب الله ورضاه بتسديد قوتي العلم والعمل عند الحق قليل لظهور أن أكثر الناس تابع للنفس وهواها مشتغل بلذات الدنيا ومقتضاها كما نطق به الكتاب العزيز في مواضع عديدة والسنة النبوية في مواطن كثيرة، وهذا الحكم وإن كان ظاهرا لكن لما كان خلافه أولى صار بهذا الاعتبار محلا للانكار، فلذا أكده، ثم لا يبعد أن يكون الغرض من هذه الأخبار هو التنبيه على أن الاعتزال عن أكثر الناس أولى وأهم والفرار عنهم أحرى وأسلم، ويحتمل أن يكون الكيس - بفتح الكاف وسكون الياء - وهو العقل والذكاء وحسن التأني في الأمور.
واليسير أيضا بمعنى القليل يعني أن عقل الرجل وذكاء وحسن تأنيه وتدبره عند ظهور الحق وموافاته قليل كما هو المشاهد في أكثر الناس والمعلوم بالنظر إلى أحوالهم.
قيل: اليسير ضد العسير ومعناه أن كياسة الإنسان وهي عقله وفطانته سهل هين عند الحق لاقدر له وإنما الذي له قدر عند الله تعالى هو التواضع والمسكنة والخضوع والعجز والافتقار، فكل علم وكمال لا
ص: 145
يؤدي بصاحبه إلى مزيد فقر وحاجة إليه سبحانه يصير وبالا عليه وكان الجهل والنقيصة أولى به ولذلك قيل غاية مجهود العابدين تصحيح جهة الامكان والفقر إليه تعالى فكل عالم كيس [زعم] أن له وجودا وكمالا غير ما هو رشح من رشحات بحر وجوده وتفضله (1) فهو في غطاء شديد وحجاب عظيم عن درك الحقيقة.
(يا بني إن الدنيا بحر عميق) هذا تشبيه بليغ بحذف الأداة وحمل المشبه به على المشبه للمبالغة في الاتحاد ووجه التشبيه تغيرها وانقلابها واضرابها وعدم ثبات ما فيها من صور الكائنات كتغير البحر وانقلابه واضطرابه بالأمواج المتعاقبة أو إهلاك من دخل فيها وركن إليها ومشى عليها بقدم الضلالة والطغيان وأخذها بيد الجهالة والعصيان وهذا الوجه أظهر ولما كان وجوده في الأصل ظاهرا محسوسا بخلاف وجوده في الفرع أوضحه بقوله (قد غرق) أي هلك (فيها عالم كثير) لانهماكهم في لذاتها وانغمارهم في زهراتها واشتغالهم بشواتها وإغماض بصيرتهم عن الآخرة وأحوالها وتركهم ما يوجب النجاة عن عقباتها والخلاص من عقوباتها وجعلهم قوله تعالى (ولا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور) من وراء ظهورهم ورضائهم باللذات الحاضرة الهالكة والمنافع المغوية الباطلة بغرورهم فكأنهم لم يسمعوا قوله سبحانه (وعد الله لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون) (يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون) وإنما خص العالم بالذكر لأن هلاكه محل التعجب وأما الجاهل فلا اعتناء به لعدم اتصافه بالحقيقة الإنسانية واللطيفة الروحانية، أو لأن حكمه يعلم بالأولوية وفي الكلام استعارة تبعية لأنه شبه الهلاك بالغرق واشتق منه فعل فوقع التشبيه في المشتق بتبعية المصدر وهي تأكيد لتشبيه الدنيا بالبحر باعتبار أنه أثبت المشبه في المشتق بتبعية المصدر وهي تأكيد لتشبيه الدنيا بالبحر إيماء لطيف إلى أنه يجب لأهلها أن لا يقصدوا الإقامة فيها والركون إليها، بل يجب لهم أن يقصدوا المرور منها إلى ساحلها أعني دار الآخرة كما أن راكب البحر لا يقصد الإقامة فيه والركون إليه بل غرضه المرور إلى ساحله، ولما شبه الدنيا بالبحر وكان سائر البحر يحتاج إلى آلات للنجاة منه والوصول إلى الساحل سالما غانما كان السائر في الدنيا أيضا محتاجا في المرور منها والوصول إلى جناب الحق ونعيم الأبد إلى أمور للنجاة منها، وقد بين هذه الأمور وشبهها بتلك الآلات في كونها أسبابا للنجاة بقوله (فلتكن سفينتك فيها تقوى الله) وهي ملكة التجنب عن المعاصي والتنزه عما
ص: 146
يشغل السر عن الحق وإنما شبهها بالسفينة لأن من اتصف بالتقوى وجلس فيها يطفو الدنيا ويأمن من الرسوب فيها كما أن جالس السفينة يطفوا البحر ويأمن من الرسوب فيه.
(وحشوها الإيمان) بالله وبصفاته وأفعاله وبجميع ما أنزله إلى رسوله وإنما شبه الايمان بما في السفينة من المتاع وأنواع ما يتجر به لأنه حافظ للتقوى عن الانقلاب والاضطراب مثل ما في السفينة أو لأنه ينفع بعد الخروج من الدنيا، كما أن ما في السفينة ينفع جالسها بعد الخروج من البحر إذ لو خلت سفينة التقوى عن الايمان بقي صاحبها بعد خروجه من الدنيا فقيرا مضطرا متحيرا في أمره مستحقا للعذاب. وشراعها التوكل شراع السفينة بالفارسية بادبان كذا في المغرب والشين مكسورة، والتوكل إظهار العجز والاعتماد على الله والوثوق به في جميع الأمور وتفويضها إليه وهو درجة عليه للعارفين ومنزلة رفيعة للسالكين، من وصل إليها بطلت عنه قيود الهموم، وتقشعت عنه سحائب الغموم، وارتفعت بواعث الاضطراب، وانقطعت عنه دواعي الاكتساب، وسبحت عليه مزن الأمن والايمان، وجلس على موائد الرحمة والرضوان وارتوى من حياض الفيوضات الربانية وشبع من موائد الكرامات الرحمانية وإنما شبهه بالشراع لأن سفينة التقوى المحشوة بالايمان لا تسير بدونه، إذ من لم يعتقد أن الأمور كلها يجري بأمر الله والأرزاق كلها بيد الله وأنه المتكفل لها يعتقد بأسبابها ويشتغل بتحصيل تلك الأسباب فيمنعه ذلك عن السير إلى المقامات العالية وطلب الوصول إليها بالطاعات ويضعف اعتقاده بالمبدء كما أن غير المتوكل من المسافرين في هذه الدنيا يشتغل بتحصيل الأسباب وينتظر وجود القوافل والرفيق حذرا عن عدم القوت وخوفا عن قاطع الطريق فيبقى مقيما في آونة من الزمان منتظرا في مدة لحصول الأسباب واجتماع الإخوان. (وقيمها العقل) العقل (1) جوهر قلبي قابل لمعرفة الصانع وما يتعلق به، أي معرفة الآخرة وما يتعلق بها، وهو مبدء التقوى وبه ضبطها وحفظها وسيرها ونقل صاحبها إلى ساحة حضرة القدس وقرب الحق فهو بمنزلة قيم السفينة وربانها (2) في إصلاحها وضبطها وحفظها من المفاسد والخلل الواردة عليها فكما أنه لو لم يكن للسفينة قيم لفسدت امورها وبطلت أوضاعها وتعطلت أحوالها بحيث لا تصلح لقطع البحر الزاخر ويصير أهلها مشرفا بالهلاك كذلك لو لم يكن للمتقى عقل ينهدم أساس تقواه إذ لم يتميز عنده الحق من الباطل، والصحيح من الفاسد، ومخاطرات الشيطان من إلهامات الرحمن. (ودليلها العلم) الدليل ما يهديك إلى شئ سمي العلم دليلا لأنه يدل العقل على الطريق المستقيم ويهديه إلى المنهج القويم كما أن دليل المسافرين يهديهم إلى سواء السبيل والكواكب دليل قيم
ص: 147
السفينة وبه يهتدي إلى الطريق بل النسبة بين العلم والعقل أكد من النسبة بين الكواكب والقيم إذ العقل لا ينفك عن العلم فأن نسبته كنسبة النور إلى السراج ونسبة الرؤية إلى البصر.
(وسكانها الصبر) السكان ذنب السفينة لأنها به تقوم وتسكن; والصبر في الأصل الحبس يقال:
صبرت نفسي على كذا أي حبستها ويطلق على حبسها على الطاعة بأن يربطها عليها ليلا ونهارا ويقدم عليها سرا وجهارا، وعلى المصيبة بأن لا يجزع ولا يشكو، وعلى الفاقة والمسكنة بأن يرضى بها ولا يسأل غير الله سبحانه أصلا، وعلى الغنى بأن لا يغتر به ولا يتكبر ويؤدي الحقوق المالية وعلى المجاهدات الطويلة والرياضات الشديدة بأن يقوم عليها طلبا للوصول إلى المقامات العالية وعلى الأمراض والبلايا بأن يرضى بها ولا يشكو لها وإنما شبهه بالسكان لأنه كما يتوقف سير السفينة وتقويمها وتسديدها وتسكينها وثباتها بالسكان يعرف ذلك ربانها وقيمها بعلمه وتدبيره كذلك يتوقف سير سفينة التقوى إلى حضرة القدس وقرب الحق في تقويمها وتسديدها وتسكينها وثباتها بالصبر على الأمور المذكور لظهور أن ارتقاء النفس من حد النقص إلى حد الكمال ومن المنازل البشرية إلى المنازل الإلهية لا يتحقق إلا بتحولات كثيرة (1) وانتقالات عديدة وانقلابات شديدة ومجاهدات عظيمة في مدة طويلة مع النفس المايلة إلى الراحة فيحتاج إلى صبر كامل وعزم ثابت ولذلك أمر الله سبحانه أشرف الكاملين الصديقين الراسخين بقوله (فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل) وتلك الأمور ستة ضرورية (2) النجاة من العقوبة الدنيوية والاخروية، والفوز بالسعادة الدايمة الأبدية.
(يا هشام إن لكل شئ) وهو يطلق على الموجودات أو على المعدومات أيضا عند المحققين (دليلا) وهو الموجودات عبارة عما يقتضي وجودها أو العلم بها من الأسباب والشرائط والآثار، وإنما سمي هذا دليلا لأن الأشياء بسببه تنتقل من العدم إلى الوجود كما أن المسافر بالدليل ينتقل من بلد إلى بلد، وأما المعدومات فدليلها (3) عدمي أعني عدم ما يقتضي وجودها فإنه سبب لنقل العدم من آن إلى آن آخر، ومن زمان إلى زمان آخر (ودليل العقل التفكر) في أبواب المعارف وأحوال المبدء والمعاد وما يتبعهما وإنما صار التفكر دليل العقل لأن العقل بسببه ينتقل من عالم الجهالة والسفالة الذي هو منزل الإدبار
ص: 148
والمسخ عند أصحاب القلوب النورانية إلى العلم الحقيقي والعالم العلوي فيستريح عن اللواحق الناسوتية ويتحلي بالفضايل اللاهوتية وهذا المعبر عنه بالإقبال كما في بعض الأحاديث (ودليل التفكر الصمت) أي السكوت عما لا يعني; لأن التفكر أعني حركة الروح النورانية القابلة للمطالب العالية من المبادي إلى تلك المطالب إذا أخذت في الاستدلال أو إدراكهما معا إذا كانت لها رتبة المكاشفة يتوقف على سد طرق الحواس ويحتاج إلى المنع من دخول الأغيار في القلب أما على الأول فلأن مشرب القلب على ذلك التقدير ضيق جدا فلا يرد فيه من لطايف المعاني إلا واحد بعد واحد، فإذن دخول الغير من طرق الحواس يمنع ورودها فيه قطعا، وأما على الثاني فلأن القلب لغاية صفائه ونهاية ضيائه يتأثر سريعا من أنفاس تلك الأغيار وأكدارها فلا ينطبع فيه صور هذه المطالب ومن جملة الحواس اللسان وهو أعظهما فإنه يتناول كل موجود ومعدوم ومعلوم وموهوم ويتعرض له بنفي وإثبات وهذه الحالة لا توجد في غيره فإن اليد لا تصل إلى غير الأجسام والأذن لا تصل إلى غير الأصوات وكذا القياس في البواقي فلذلك خص الصمت بالذكر تنبيها على اعتبار حال سائر الحواس أيضا فإذن الصمت مما يتوقف عليه التفكر وهو دليله في انتقاله من القوة إلى الفعل.
(ولكل شئ مطية ومطية العقل التواضع) المطية الدابة التي تمطو في سيرها أي تجد وتسرع والجمع المطايا والمطي والامطاء، وفي النهاية هي الناقة التي يركب مطاها.
أي ظهرها يعني لكل شئ في انتقاله من العدم إلى الوجود أو من القوة إلى الفعل أو من حالة أنقص وأدنى إلى حالة أرفع وأعلى سبب هو كالمطية له وسبب انتقال العقل من القوة الذاتية الفطرية إلى العقل بالفعل ومن عالم الغواشي الجسمانية إلى عالم المجردات (1) هو التواضع لله سبحانه والتذلل له عند الوقوف على معارفه والعكوف على نواهيه وأوامره فمن ورد في مكان المعارف والأحكام ولم يتواضع له تعالى فقد فقد مطيته للحركة إليه والنزول بين يديه فيبقي تائها متحيرا في ذلك المكان أو يرجع مدبرا بتطاول الأعادي وإغواء الشيطان.
وقيل تحقيق هذا الكلام: أن لكل شئ طبيعة متوجهة إلى غايتها وله مادة حاملة لقوتها واستعدادها نحو كمال هي بمنزلة الراحلة (2) له ومادة العقل هي النفس وكل مادة تستعد لكل صورة كماليه فإنما
ص: 149
تستعدها لكونها في نفسها خالية عن الفعلية والوجود الذي من جنسها وإلا لم تكن قابلة فكذلك النفس ما لم تصر موصوفة بصفة التواضع والفقر لم تصر مطية للعقل الذي هو الصورة الكمالية التي بها تصير الأشياء معقولة للانسان فليتأمل وفي صدر هذا الكلام استعارة مصرحة وفي آخره تشبيه بليغ (وكفى بك جهلا أن تركب ما نهيت عنه) ارتكاب المنهي عنه من آثار الجهل وعلاماته وقد شبهه بالمركوب لأن الإنسان بسببه يتقلب في عالم اللذات الجسمية وينتقل إلى أسفل السافلين كما أنه بالتواضع لله وانقياد أحكامه والعمل بها يتقلب في عالم المجردات ويرتقى إلى أعلى عليين، ففي الكلام استعارة مصرحة وذكر الركوب ترشيح وقيل في بيان هذا الكلام أن جميع المناهي أمور محسوسة ولذات جسمانية واشتغال النفس بها يوجب تقيدها بالصور الجسمية فيحجب العقل عن إدراك الصور العقلية لأنها تضاد تلك الصور، وينبغي أن يعلم أن العقل إما مستقيم أو راجع أو مقيم والاستقامة بأن يسير إلى أعلى عليين ومركبه التواضع، والرجوع بأن يسير إلى أسفل السافلين ومركبه المناهي، والإقامة بأن يقف في هذا العالم ويشتغل بالمباحات، وهذا وإن كان مذموما من حيث أنه مفوت للمقصود ولكنه غير مذموم من حيث أنه لم يشتغل بالمناهي وغير ممدوح من حيث أنه لم يتصف بالتواضع فلذا لم يذكره (عليه السلام) واقتصر على الأولين لأن المدح والذم إنما يتعلقان بهما وينبغي أن يعلم أيضا أن الجهل عند العترة (عليهم السلام) هو ارتكاب المناهي وإن كان المرتكب لها عالما بل هو عندهم في الحقيقة أجهل والذم المتعلق به أشنع وأكمل فمن ادعى كونه عالما عاقلا واختار الدنيا وشهواتها وآثر الزهرات الفانية ولذاتها فهو مفتون بالضلالة وملتبس بلباس الجهالة.
(يا هشام ما بعث الله أنبياءه ورسله إلى عباده إلا ليعقلوا عن الله) أي ليعرف العباد ويعلموا بتعليم الرسل وتفهيمهم من الله مالا يعلمون من عند أنفسهم أو ليؤدي الرسل عنه ما لزمه من هداية عباده وإرشادهم إلى دين الحق من عقلت عن فلان إذا أديت عنه ما لزمه (فأحسنهم استجابة) أي أحسن العباد أو أحسن الرسل استجابة لله تعالى بالطاعة والاجتهاد والصبر والانقياد وكذا ضمير الجمع في الفقرات الآتية يحتمل الأمرين إذ كما أن درجات العباد متفاوتة كذلك درجات الرسل كما نطقت به الآيات والروايات الكثيرة (أحسنهم معرفة) بالله وآياته وغيرها من مصالح الدنيا والآخرة، وذلك لأن حسن الاستجابة تابع لحسن المعرفة فكلما زاد حسن الأصل زاد حسن الفرع (وأعلمهم بأمر الله) يعني أحسنهم معرفة بأحكامه وشرايعه (أحسنهم عقلا) لأن حسن العلم والمعرفة تابع لحسن العقل (وأكملهم عقلا) يعني أحسنهم عقلا وإنما عبر عنه بذلك للتفنن وللتنبيه على أن حسن العقل بكماله في العلم بالموجودات والإحاطة بالمعقولات (أرفعهم درجة في الدنيا والآخرة) لأن تفاوت الدرجات فيهما غاية أخيرة للأمور المذكورة وتفاوت الغاية في الكمال والنقصان باعتبار تفاوت ذي الغاية فيهما وهذا
ص: 150
الحديث على ما قررناه من باب القياس المفصول النتايج ينتج أن أحسنهم استجابة أرفعهم درجة في الدنيا والآخرة (1) وفيه مدح عظيم للعقل حيث جعله أصلا لجميع الخيرات ومبدء للتفاضل في الدرجات كما يظهر ذلك بالتأمل الصادق لأنه جعل كمال الدرجات في الدنيا والآخرة الاستجابة كما يقتضيه مضمون النتيجة، وجعل كمال الاستجابة تابعا لكمال المعرفة وكمال المعرفة تابعا لكمال العقل فيفهم منه أن العقل أصل لجميع الكمالات ومبدء للتفاضل في الدرجات.
(يا هشام إن لله على الناس حجتين) أي دليلين (حجة ظاهرة) مشاهدة (وحجة باطنة) مستورة (فأما الظاهرة فالرسل والأنبياء والأئمة (عليهم السلام)، وأما الباطنة فالعقول) لما خلق الله جل شأنه النفوس البشرية واسطة بين النجدين، مستعدة لسلوك الطريقين طريق الخير وطريق الشر.
قابلة للضدين من الصفات الشريفة والسمات الرذيلة مايلة إلى اكتساب الحسنات متشوقة اقتراف السيئات لما فيها من اللذة الحاضرة والمنفعة الظاهرة وأيدها بالقوى الشهوية والغضبية وغيرها من القوى الطبيعية الداعية إلى الشر الناهية عن الخير كانت النفوس لذلك ولما يوحى إليها إبليس وجنوده من الشر أقرب ومن الخير أبعد فالله سبحانه أخذ باعهم برحمته في تيه الضلالة بتبيين المنهج وتعيين الحجج، فجعل عليهم حجتين إحديهما ظاهرة والأخرى باطنة، أما الظاهرة فهم الأنبياء والرسل والأئمة (عليهم السلام) لأنهم أنوار ساطعة في بلاده وبراهين ظاهرة في عباده يدعونهم إلى سبيل النجاة ويخرجونهم من غياهب الظلمات (2) ويحركونهم من حضيض النقص والوبال إلى أوج الفضل والكمال، فمن تبعهم فقد اهتدى ومن تخلف عنهم فقد غوى، وأما الباطنة فهي العقول لأن بها تميز الحق من الباطل والصواب من الخطاء والسعادة من الشقاوة، والحسن من القبيح والخير من الشر وتأمرهم في كل ذلك باتباع أشرف المناهج وأقوم السبل واستماع ما يتلو عليهم الأنبياء والرسل; ويحكم بأن في ذلك حسن عاقبتهم وسعادة خاتمتهم كل ذلك ليحيى من حي عن بينة ويهلك من هلك عن بينة.
(يا هشام إن العقل الذي لا يشغل) من شغل لامن أشغل فإنه لغة ردية والموصول خبر «ان» (الحلال) وهو كل ما يجوز التصرف فيه والانتفاع به شرعا وعقلا من الأموال والأزواج وغيرها (شكره) أي صرف اللسان في مدح المنعم والثناء عليه، وصرف جميع الجوارح فيما خلقن لأجله كصرف اللسان في الثناء والتعظيم وصرف البصر في مطالعة المصنوعات ليستدل به على وجود الصانع ووحدته وقدرته وحكمته وتدبيره وصرف القلب في التفكر في ذاته وصفاته ودقائق حكمته وآثار قدرته، وبالجملة العاقل من لا يمنعه كثرة نعم الله عليه ووفور أياديه لديه عن ذكر الله في جميع الأحوال والأزمان، وعن
ص: 151
الاقرار له بالعظمة والجود والاحسان، وعن التذلل له والتخشع لديه وجلب المزيد منه، والتضرع إليه كما قال سبحانه (يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون) (ولا يغلب الحرام) هو كل ما لا يجوز التصرف فيه شرعا أو عقلا (صبره) في الفاقة والجوع والشدايد، ولا يخرجه التمكن من اكتساب الحرام عن سنن الشرائع وأصول القواعد ولا يقطع عنان اصطباره شموس النفس وجموح (1) الطبيعة بل يقمع نفسه بالمواعظ الحسنة ومقامع النصيحة ويرجو في ذلك أجر الصابر الحزين ومحبة رب العالمين كما قال سبحانه (إن الله يحب الصابرين).
(يا هشام من سلط ثلاثا على ثلاث فكأنما أعان على هدم عقله) كأنما أصله أن دخلت عليه كاف التشبيه وألحقت به «ما» الكافة فلذلك وقع بعده الفعل.
والهدم مصدر، هدم البناء أي نقضه وكسره، ففيه إستعارة تمثيلية لتشبيه الصورة المعقولة بالصورة المحسوسة لزيادة الايضاح والتقرير أو استعارة مكنية لتشبيه العقل بالبيت في أنه يكن صاحبه ويصونه من المكاره واستعارة تخييلية باثبات الهدم له، وإنما أدرج لفظ كأن وأعان ولم يقل: فقد هدم عقله للتنبيه على أن تسليط الثلاث على الثلاث إنما يوجب هدم المسلط عليه حقيقة إلا أن المسلط عليه لما كان من خصال العقل كما ستعرفه في التفصيل فكان هدم ذلك هدمه ويحتمل أن يكون كان ههنا مستعملا العلم بثبوت الخبر من غير قصد إلى التشبيه ويؤيده قوله في آخر التفصيل «ومن هدم عقله أفسد عليه دينه ودنياه» (من أظلم نور تفكره) في أحوال المبدء والمعاد، والإضافة من باب لجين الماء، لأن التفكر يشبه النور في الايصال إلى المطلوب أو بتقدير اللام والمراد بالنور العلوم الحاصلة من التفكر (بطول أمله) فيما لا ينبغي من المقتنيات الفانية المورثة لنسيان الآخرة وخمود التفكر وهو معنى الاظلام وذلك لأن طول توقع الأمور المحبوبة الدنيوية يوجب دوام ملاحظتها الموجب لدوام إعراض النفس عن ملاحظة أحوال الآخرة وهو يوجب انمحاء ما تصور في العقل من تلك الأحوال وذلك معنى النسيان وخمود نور التفكر ولذلك قيل: الدنيا والآخرة ضرتان لأن محبة إحديهما (2) توجب الاضرار بالأخرى (ومحا طرايف حكمته) عن لوح العقل، قال بعض الحكماء: الحكمة شئ يجعله الله تعالى للقلب فينوره حتى يدرك به المشروعات والمحظورات ويعلم المعقولات والمستحيلات، كما أن البصر شئ يرى به
ص: 152
المحسوسات، وسمى ذلك الشئ المنور للقلب حكمة تشبيها له بحكمة اللجام وهي الحديدة المعترضة في فم الفرس في منع صاحبه من الخروج عن طريق الصواب.
والطرائف جمع طريف وهو كل شئ مستحدث يعجبك، والإضافة إما بيانية أو من باب جرد قطيفة أو لامية بأن يراد بالطرائف العلوم والادراكات النابعة لذلك النور (بفضول كلامه) الفضل الزيادة وقد غلب جمعه على ما لا خير فيه حتى قيل: شعر فضول، وقيل: لمن يشتغل بما لا يعينه:
فضولي، والتكلم بما لا يعني سبب لمحو الحكمة وطرائفها لأن اللسان ينبوع القلب فإذا اعتاد المتكلم باللغو وتقاطر منه ذلك أفاض ذلك على القلب وهو يغسل الحكمة عنه ويمحوها.
ولأن مشرب القلب ضيق كلما دخل فيه شئ يخرج منه ضده ولو لم يخرجه بقي شئ مختلط من الحق والباطل وهذا ليس بحكمة كما أن قليلا من الماء إذا خالطه دم كثير لا يسمى هذا المختلط ماء، وأكثر الشبهات مبدؤها ذلك المختلط، وأيضا من أكثر الكلام في مجلس العوام يجد لنفسه في تأثير قلوبهم حلاوة ولذة فإذا دام على ذلك يميل طبعه الخسيس إلى كل كلام مزخرف يروجونه وإن كان باطلا ويتنفر عن كل كلام يستثقلونه وإن كان حكمة فيصرف همته إلى ما تحرك قلوبهم ليعظم منزلته عندهم فلا محالة ينمحي طرائف الحكمة عن قلبه لأن الذي يؤثر في قلوبهم ليس إلا ما فهموه وما فهموه ليس من الحكمة في شئ وأطفأ نور عبرته بشهوات نفسه العبرة هي ملاحظة أحوال الماضين والاتعاظ بما كانوا فيها من نعيم الدنيا ولذاتها والمباهات بكثرة العشيرة والأولاد والافتخار بكثرة أسبابها ومقنياتها، ثم مفارقتهم لذلك كله بالموت الذي هو هادم اللذات وكاسر الفقرات وبقاء الحسرة والندامة لهم حجبا حائلة بينهم وبين الرحمة الإلهية; وكل من اتصف بالعبرة ومارسها حتى صارت ملكة يحصل في قلبه نور يهديه إلى الآخرة وما يوجب تعميرها من الأعمال الصالحة والصفات الفاضلة ومن تبع النفس الأمارة بالسوء وشهواتها ورتع في مرعى ضلالتها ولذاتها حصل في قلبه ظلمة شديدة وغشاوة عظيمة مانعة عن دخول نور الاعتبار ونور الاستبصار، ومن سلط هذه الخصال الثلاث التي بناء الهوى والجهل عليها أعني طول الأمل وفضول الكلام والشهوات النفسانية على الخصال التي بناء العقل عليها أعني نور التفكر وطرايف الحكمة ونور العبرة (فكأنما أعان هواه) وهو ميل النفس الأمارة بالسوء إلى ما يقتضى طباعها من اللذات الدنيوية الغانية إلى حد الخروج من حدود الشريعة (على هدم عقله) وهو نور يسلك به الإنسان طريق الجنان وعبادة الرحمن فيصل إلى السعادة التامة الكبرى وهي مشاهدة الحضرة الربوبية ومجاورة الملاء الأعلى في مقعد صدق عند مليك مقتدر، وذلك لظهور أن أتباع النفس الأمارة بالسوء لميولها الطبيعية وسيرها في سبيل هواها واشتغالها باستيفاء مقتضاها أشد صدمة على العقل وأقوى ظلمة في طمس نوره، وأكمل جاذب له
ص: 153
عن طريق الحق، وأظهر ساد له عن قصد الكمالات والترقي في ملكوت السماوات كما نقل عن سيد المرسلين (صلى الله عليه وآله) «ثلاث مهلكات شح مطاع وهوى متبع وإعجاب المرء بنفسه (1)» (ومن أفسد عليه عقله أفسد عليه دينه ودنياه) أما إفساد الدين فلان استقامته إنما هي بادراك أحوال المبدء والمعاد والتصديق بها والعمل بما ينبغي أن يعمل والانزجار عما ينبغي أن يترك، والمدرك لهذه الأمور والدليل عليها والحاكم بحقيقتها إنما هو العقل فإذا فسد العقل فسد الدين وأما إفساد الدنيا مع أنه روي عن علي بن الحسين عن أبيه عن جده (عليه السلام) قال: «وكل الرزق بالحمق، ووكل الحرمان بالعقل» (2) وروي عن أبي عبد الله (عليه السلام) «أن العقل ما عبد الرحمن واكتسب به الجنان» (3) وأما الذي يتوصل به إلى الأغراض الدنيوية بالمكر والحيل مثل ما في معاوية وأضرابه فتلك شيطنة ونكراء وهي شبيهة بالعقل وليست بالعقل، فوجهه أمران: الأول: أن الدنيا المعتبرة عند أهل البيت (عليهم السلام) هي التي تكون معبرة يعبر بها إلى الآخرة كما دل عليه قولهم: «الدنيا مزرعة الآخرة» (4) فالدنيا عندهم ما يهيىء به المؤمن أمر آخرته ويجعله وسيلة إلى تحصيل فوائدها وذريعة إلى تكميل عوائدها، وظاهر أن هذه الدنيا لا يمكن استقامتها ولا يتيسر استفادتها بدون العقل، إذ غير العاقل لا يأمن وقوعه في الشبهات ووروده على المحرمات واستقراره في المهلكات. الثاني: أن كثرة الرزق وحصول الدنيا وإن كان منوطا بالبطالة والحماقة ومربوطا بالسفاهة والجهالة لكن الأحمق لا يأمن وقوعه في أشنع المهالك وسلوكه في أقبح المسالك وتورطه في أعظم الشدائد والمكاره الموجبة لهلاكه وفساد دنياه كما يشهد به المشاهدة.
(يا هشام كيف يزكو) أي كيف يطهر عن أعراض الدنيا وشوائب النقصان أو كيف يزيد وينمو عند الله (عملك وقد شغلت قلبك عن أمر ربك وأطعت هواك على غلبة عقلك) بالتسليط المذكور في الكلام المتقدم يعني لا يكون عملك طاهرا ومطهرا أو ناميا زاكيا عند الله تعالى وأنت على هذه الصفة لأنك إذا قمت بين يديه ولا يكون قلبك متوجها إليه بل يكون شاغلا عن أمر الله وفارغا عن ذكر الله وغافلا عن عظمة الله وتاركا لأحكام العقل ومقتضاها وتابعا للنفس الأمارة وهواها كنت تعبد بحسب الظاهر إلها وبحسب الحقيقة إلها آخر لأن أصل العبادة هو الطاعة والانقياد ولذلك جعل الله سبحانه اتباع الهوى والانقياد له عبادة فقال جل شأنه (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه) وجعل طاعة الشيطان عبادة له فقال: (ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان) وفي بعض الروايات «إن إطاعة أهل المعاصي
ص: 154
عبادة لهم» (1) «وإن من أصغى ناطق فقد عبده فإن كان الناطق يؤدي عن الله فقد عبد الله وإن كان يؤدي عن الشيطان فقد عبد الشيطان» (2) وهذا هو الشرك الخفي عند العارفين ولئن نزلنا عن ذلك فلا شبهة في أنه يفوتك حينئذ حقيقة العبادة وروحها الذي به تصعد العبادة إلى الدرجة العليا والمرتبة العظمى من الشرف والقبول فلا يكون عبادتك مأمونة عن طرء البطلان ولا مصونة عن شوائب النقصان ولا قابلة للزيادة والنماء عند ما يأخذ العابد بواحدة عشرة أمثالها أو ما زاد في يوم الجزاء.
فلا بد لك أيها العاقل أن تقتل هواك بسيف عقلك وتوجه قلبك إلى أمر ربك وتعبده كأنك تراه، وهذه المرتبة مقام المشاهدة وفي أعلى منازل العابدين ولو لم يكن لك هذه المرتبة فلا أقل تعبده وفي قلبك أنه يراك وهذه المرتبة مقام المراقبة وهي أوسط منازل المقربين ومع ذلك تكون خايفا خاشعا متضرعا راجيا إلى رحمته لعلك تكون من المفلحين، وفي هذا الكلام دلالة واضحة على أن قبول الأعمال وصلاحها وكمالها وطهارتها ونموها إنما هو بالعقل الكامل المتأمل في عظمة الله وقدرته وسطوته وسلطنته وغلبته على جميع الممكنات، وأما الجاهل المغرور المطيع للنفس وهواها الغافل عن أوامر ربه ومقتضاها فهو عبد لئيم، وعمله ساقط هابط سقيم، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
(يا هشام الصبر على الوحدة علامة قوة العقل) لأن الإنسان مدني بالطبع وله ميل إلى بني نوعه في التأليف والتودد والاستيناس بهم والمشاركة معهم في طلب المعاش وساير ما يحتاج إليه فإذا ترك ذلك كله لعلمه بأنه يوجب منقصة في دينه وضعفا في يقينه وآثر الوحدة على الكثرة ورجح الفرقة على الالفة للتحرز عن مشاركتهم في أفعالهم الشنيعة وأطوارهم الدنية علم أنه قوي في العقل والتدبير في أمور الآخرة لأن ذلك من آثار العقول الكاملة (فمن عقل عن الله) أي فمن عرف الله وعرف ذاته وصفاته وما يجوز له وما يمتنع عليه وأحكامه وشرايعه وأحوال الآخرة وشدة فاقة الناس وكثرة احتياجهم إليه يوم القيامة الذي يشتغل فيه الأبرار بأنفسهم فضلا عن الأشرار (اعتزل عن أهل الدنيا والراغبين فيها) وهم الذين يؤثرون الدنيا وزهراتها ويبذلون الجهد في اقتنائها وادخار ثمراتها كما هو المشاهد من أبناء الزمان الذين يجيبون دواعي النفس في منازل الطغيان ويقتفون آثارها ويسمعون وساوس إبليس في مراحل العصيان ويطأون أدبارها كما هو المعلوم من أرباب الفسوق والكفران، وفيه دلالة على شيئين أحدهما أن الاعتزال إنما للعاقل العالم بمعالم دينه وأما الجاهل فاللايق بحاله أن يخالط الناس ويشتغل
ص: 155
بطلب العلم فإن أمكنه في بلده وإلا فليطلبه في بلد آخر كما قيل: «اطلبوا العلم ولو بالصين» (1). الثاني: أن الاعتزال مطلوب عن أهل الدنيا وأهل العصيان لاعن أهل الآخرة، فإنهم أولياء الله وأنصاره في دينه، والتوصل بهم يوجب الاستنارة بنورهم والاستضاءة بضوئهم (ورغب فيما عند الله) من الخيرات والأنوار الإلهية والاشراقات العقلية والابتهاجات الذوقية والترقيات الروحية، إلى غير ذلك مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، ولا بأس أن نشير إلى العزلة وأقسامها وشئ من فوائدها ومنافعها إذ ذكر جميع فوائدها متعذر لأنها ذوقية حاصلة لأرباب العزلة بعد الممارسة في مدة طويلة لمجاهدات شديدة فنقول:
العزلة من الناس أقسام:
الأول: وهو أدناها أن يكون بينهم ولا يكون معهم بل يكون وحيدا غريبا مستوحشا منهم ولا يجالسهم وإن جالسهم أبغضهم كما روي عن الصادق (عليه السلام) قال: «إذا ابتليت بأهل النصب ومجالستهم فكن كأنك على الرضف (2) حتى تقوم فإن الله يمقتهم ويلعنهم فإذا رأيتهم يخوضون في ذكر إمام من الأئمة فقم فإن سخط الله ينزل هناك عليهم» (3).
الثاني: وهو أوسطها أن يسكن في بيته ولا يخرج إليهم أصلا ولا يركن إلى مجالستهم ومقاولتهم كما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال «يا أيها الناس طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس فطوبى لمن لزم بيته، وأكل قوته، واشتغل بطاعة ربه، وبكى على خطيئة» (4) وكما روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) حين سأله عن عقبة بن عامر الجهني عن طريق النجاة أنه قال له: «ليسعك بيتك وأمسك عليك دينك وابك على خطيئتك» (5).
الثالث: أن يخرج إلى الصحاري وقلل الجبال وشعبها ويعبد الله ربه حتى يأتيه اليقين كما قيل له (صلى الله عليه وآله) «أي أفضل: فقال: «رجل في شعب من الشعاب يعبد ربه ويدع الناس من شره» (6) وقال (عليه السلام) «إن
ص: 156
الله يحب العبد التقي النقي الخفي» (1) والاخبار الدالة على مدح المعتزلين من طرقنا وطرق العامة أكثر من أن تحصى وفوائدها كثيرة منها الفراغ لعبادة الله تعالى والذكر له والاستيناس بمناجاته والاستكشاف لأسراره في أمور الدنيا والآخرة من ملكوت السماوات والأرض ولذلك كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يتعبد بجبل حراء ويعتزل به حتى أتته النبوة.
ومنها: الاخلاص في العبادة وتبعيدها عن تطرق احتمال السمعة والرياء كما روي عن الباقر (عليه السلام):
«لا يكون العبد عابدا لله حق عبادته حتى ينقطع عن الخلق كلهم إليه فحينئذ يقول: هذا خالص لي فيقبله بكرمه» (2).
ومنها: صرف القلب عن غير الله وهي نعمة عظيمة وفائدة جليلة كما قال الصادق (عليه السلام) «ما أنعم الله عز وجل أجل من أن لا يكون في قلبه مع الله عز وجل غيره».
ومنها: الأمن من نزول العذاب عليه عند نزوله بساحة الظالمين كما روي عن أبي الحسن موسى بن جعفر (عليهما السلام) أنه نهى رجلا من أصحابه عن مجالسة خالد وهو من أهل الضلال فقال: أي شئ علي منه إذا لم أقل ما يقول؟ فقال (عليه السلام): أما تخاف أن تنزل به نقمة فتصيبكم جميعا، أما سمعت بالذي كان من أصحاب موسى وكان أبوه من أصحاب فرعون، فلما لحقت خيل فرعون موسى تخلف عنه ليعظ أباه فيلحقه بموسى فمضى أبوه وهو يراغمه حتى بلغا طرفا من البحر فغرقا جميعا; فأتى موسى الخبر فقال عوفي: رحمه الله ولكن النقمة إذا نزلت لم يكن لها عمن قارب المذنب دفاع» (3).
ومنها: الاتقاء عن مواضع التهمة والريبة كما روي عن الصادق (عليه السلام) قال: «لا تصحبوا أهل البدع ولا تجالسوهم فتصيروا عند الناس كواحد منهم، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): المرء على دين خليله وقرينه (4) وعنه (عليه السلام) قال: قال «أمير المؤمنين (عليه السلام): من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقوم مكان ريبة» (5).
ومنها: التخلص عن المعاصي إذ الخلطة لا يخلو عنها غالبا كالغيبة والكذب والسب والسكوت عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونحوها.
ص: 157
ومنها: الخلاص من شرهم فإنهم كثيرا ما يؤذون جليسهم بالاستهزاء والغيبة والتهمة والبهتان وافتراء الأقوال والأعمال عليه.
ومنها: النجاة من خبث مشاهد الثقلان والحمقاء وقبح ملاحظة أطوارهم وأخلاقهم فقد قيل للأعشى: لم أعشت عينك؟ قال: من النظر إليك ومن النظر إلى الثقلاء ولهذه الوجوه من الأدلة والفوائد ذهب جماعة من المحققين والعارفين إلى أن العزلة أفضل من المخالطة ذهب طايفة إلى العكس لقوله تعالى (وألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا) وقوله تعالى: (ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا) ومعلوم أن الزلة تنفي تألف القلوب وتوجب تفرقها ولقوله (صلى الله عليه وآله) «من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه» (1) وقوله (صلى الله عليه وآله) «لا هجرة فوق ثلاث» (2) وقول الصادق (عليه السلام) «لا خير في المهاجرة» (3) إلى غير ذلك من الأخبار الدالة على الأمر بالتصافح والتعانق والتعاشر والاجتماع، وعلى النهي عن المهاجر وقطع الرحم والتباعد والافتراق ولكثرة منافع الخلطة وفوائدها التي لا توجد في العزلة مثل التعليم والتعلم والتأديب والتأدب والنفع والانتفاع والإمداد في المهمات وفضيلة الجمعة والجماعة والزيارة والتبرك برؤية العلماء والصلحاء والعبرة بمشاهدة الأحوال وكسب الأخلاف المرضية من أهلها وثواب التأهل والنكاح وتكثير الأولاد إلى غير ذلك من المنافع الدنيوية والاخروية، وينبغي أن يعلم أن كلا الاحتجاجين صحيح ولكن ليست العزلة أفضل من المخالطة مطلقا ولا المخالطة أفضل من العزلة مطلقا، بل كل في حق بعض الناس وفي بعض الأوقات بحسب المصالح، إذ لكل منهما مصالح وشرائط متفاوتة بحسب تفاوت الأشخاص والأوقات.
وقد مر أن من شرايط الاعتزال أن يبلغ الإنسان رتبة الكمال في القوة النظرية والعملية ويستغني عن مخالطة كثير من الناس وأن يعتزل المنهمكين في الدنيا الراغبين في حطامها السالكين سبيل العصيان التابعين لوساوس الشيطان فلو لم يبلغ المعتزل تلك المرتبة أو لم تكن الجماعة موصوفين بالصفات المذكورة كانت المخالطة أفضل والاجتماع لتحصيل المحبة والالفة أجدر وأكمل، وبالجملة النبي (صلى الله عليه وآله) ومن يقوم مقامه علماء حكماء وقد بينوا ما فيه صلاح الناس عاجلا وآجلا جليا وخفيا ولا ينافي تفاوته في أفرادهم كما أمروا بالنكاح تارة ونهوا عنه تارة وأباحوه تارة لتفاوت ذلك في أفراد البشر ومن أراد أن يعرف مقاصدهم من أوامرهم ونواهيهم وتدبيراتهم وتقديراتهم ينبغي أن يعلم طرفا من قوانين الأطباء
ص: 158
ومقاصدهم من العبارات المطلقة، فإنه كما أن الأطباء معالجون للأبدان بأنواع الأدوية والعلاجات لغاية بقائها على صلاحها أو رجوعها إلى العافية من الأمراض البدنية كذلك النبي (صلى الله عليه وآله) ومن يقوم مقامه أطباء النفوس وهم مبعوثون لعلاجها من الأمراض النفسانية كالجهل والحقد والحسد والرياء وسائر رذايل الأخلاق بأنواع الكلام من الآداب والنصائح والمواعظ والأوامر والنواهي والضرب والقتل والاعتزال والاختلاط، وكما أن الطبيب قد يقول إن الدواء الفلاني نافع من المرض الفلاني ولا يعني به في كل الأمزجة وفي كل الأوقات وفي كل البلاد بل في بعضها، كذلك النبي (صلى الله عليه وآله) والقائمون مقامه إذا أطلقوا القول في شئ أنه نافع كالعزلة مثلا فإنهم لا يريدون أنه نافع لكل إنسان وفي كل زمان (1) وكما أن الطبيب قد يصف لمريض دواء ويصف شفاء فيه ويرى أن ذلك الدواء بعينه لمريض آخر كالسم القاتل ويعالجه بغيره، كذلك النبي (صلى الله عليه وآله) والقائمون مقامه قد يرون أن بعض الأمور دواء لبعض النفوس فيقتصرون عليه ويأمرون به كالعزلة وقد يرون أن ذلك مضرا لغير تلك النفس فيأمرون بضد ذلك مثل المخالطة وإن أردت أوضح من ذلك فنقول: إما أن لا يكون في الخلطة خير أصلا أو يكون فيها خير والخير إما للطرفين أو لأحدهما، فهذه أربعة أقسام، ثم الخير إما خير في الدنيا فقط، أو في الآخرة فقط، أو فيهما، فينبعث منها أقسام يرجح في بعضها الخلطة وفي بعضها العزلة ويتساوي في بعضها الأمران، فللعاقل العالم المتدرب أن يختار منها ما يقتضيه عقله وتدبيره والله أعلم بحقايق الأمور (2).
(وكان الله انسه في الوحشة) الانس مصدر قولك آنست به انسا من باب حسب أو من باب ضرب وهو ضد الوحشة، والمشهور فيه ضم الهمزة وسكون النون وقد جاء بكسرة الهمزة قليلا بفتح الهمزة والنون جميعا، والحمل على سبيل المبالغة أو الانس بمعنى الأنيس ويؤيده أنه نقله صاحب العدة بلفظ الأنيس ويحتمل أن يقرأ آنسه على وزن الفاعل وأصله آنسا به أضيف إلى الضمير بعد حذف الجار من
ص: 159
باب الحذف والايصال، وصح إطلاق الآنس عليه سبحانه كما قال أمير المؤمنين (عليه السلام) في دعائه: «اللهم إنك آنس الآنسين بأوليائك» والوحشة بمعنى الخلوة أو بمعنى الهم والحزن الحاصلين له بسبب فقد الالفة بينه وبين بني نوعه وعشيرته أو بسبب الغربة والانفراد من جهة العزلة خصوصا في مباديها أو بسبب عدم تعاهده لذلك المكان إذ غير المألوف من المكان يوجب الوحشة كما يحكم به التجربة، ومحصل معناه أن المعتزل لو حصلت له وحشة ما لأجل تركه صحبة بني نوعه وعشيرته وسلوكه طريق الحق بالمحبة الراسخة والنية الصادقة والرغبة الكاملة كان الله أنيسه الذي يرفع وحشته ويدفع عنه حزنه وكربته ويصرف وجه قلبه إلى شطر كعبة وجوده ويسره بمطالعة أنوار كبريائه ومشاهدة إضافات جوده حتى يرى كل خير حاضرا وكل كمال ظاهرا، فهو بكرمه يألف، وبفضله يستزيد، وبرحمته يستفيض كل ما يريد.
(وصاحبه في الوحدة) والله سبحانه وإن كان صاحب الكل في كل الأوقات كما قال الله تعالى:
(ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا) لكن المقصود هنا إفادة الاختصاص كما يفيده الإضافة ووجه ذلك أن الرجل إذا ترك متاع الدنيا وأبناءها، وأعرض عن الاستماع به واقتنائه، واختار الوحدة والانفراد، وتمرن على الطاعة والانقياد، وأقبل بحسن الطوية إليها وحبس نفسه بزمام المشية عليها وفك عنه أغلال اللذات الدنيوية وقطع عنه أنواع العلاقات النفسانية والهيئات البدنية بحيث لا يبقى معه شئ إلا التفكر في ذاته وصفاته تعالى وما يوجب قربه يستقبله حينئذ نور الحق كما قال: «من تقرب إلي بذراع تقربت إليه بباع» (1) وينزله على بساط العز والمصاحبة ويشرفه بشرف الانس والمكالمة ويكرمه بأنواع التعظيم والمخاطبة حتى إذا ناداه أجابه بلبيك وإذا سكت ناداه يا عبدي أنا مشتاق إليك لم سكت عن عرض الحالات والمقالات بعد الترخص لك بالأجوبة والسؤالات وعند ذلك ينكشف عنه الحجاب ويسكن فيه عروق الاضطراب، ويزول عنه لواحق الوحشة والاغتراب، فيقول: لا إله إلا أنت ولا اشرك بك أحدا، وتسيل عليه الكرامات الإلهية والسعادات الربانية والكمالات النفسانية ما لم يكن يخطر بباله أبدا (2) (وغناه في
ص: 160
العيلة) الغناء بالفتح والمد النفع، وقيل: الكفاية وبالكسر والقصر اليسار والحمل على سبيل المبالغة أو المصدر بتأويل الفاعل، والعيلة بالفتح الفقر والفاقة يعني أنه سبحانه نفس غناه أو مغنيه في وقت حاجته وفقره لا غيره إذ عين افتقاره حينئذ لا تنفتح إلا إليه ويد اضطراره لا تتحرك إلا بين يديه ولا ملجأ له سواه حتى يكله عليه، واعلم أنه يحتمل أن يراد بالفقر والغناء ما هو المعروف بين الناس وهو أن يجد من متاع الدنيا ما يعيش به ويسد خلله ويقيم أمره ويكمل نظامه ويصون وجهه وأن يفقد ذلك ويحتمل أن يراد بهما الغنى والفقر الاخرويين وقد شاع إطلاقها عليهما قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «الغنى والفقر بعد العرض على الله سبحانه» (1) يعني هما يتبينان يوم القيامة ويتحققان بعد العرض على الله سبحانه وبعد الفراغ من الحساب والفقير في ذلك اليوم من تحير في خسارة نفسه وحرم من كرامة ربه والغني من تحلى نفسه بالأخلاق والكمالات واستحق الفوز بالسعادات والكرامات ونظر إليه ربه بعين الرحمة والغفران وأنزله أعلى درجات الفردوس وأشرف منازل الجنان، وهذا الاحتمال أقرب من الأول لأن الفقر بمعنى الافلاس في الدنيا سهل لأنه ينقطع شدائده بالموت بخلاف الفقر والإفلاس في الآخرة فإنه يوجب الهلاك الدايم والشقاء الأبد (ومعزه من غير عشيرة) المعز من العز خلاف الذل أو خلاف الضعف بمعنى القوة والشدة، والمعنى وكان الله معزه في الآخرة بالثواب الجزيل أو في الدنيا بالذكر الجميل والمدح الجليل وبافاضات الأسرار الغيبية وكشف الحقائق العينية، والثاني أنسب بقوله «من غير عشيرة» لأن العشيرة وهي القبيلة المتأكدة بينهم العشرة والصحبة توجب العز في الدنيا.
(يا هشام نصب الحق لطاعة الله) نصب إما على البناء للمفعول أي أقيم الحق يعني الدين بإرسال الرسل وإنزال الكتب لأجل طاعة الله في أوامره ونواهيه، ولو تركت الطاعة صار الحق موضوعا والدين مخفوضا وهو يوجب زواله بالكلية وإما على البناء للفاعل لكن بحذف الفاعل أو استتاره أي أقام الله تعالى الحق يعني الدين لطاعته، وهذا قريب مما ذكر بحسب المعنى أو بحذف المفعول، والمراد بالحق هو الله تعالى أي أقام الله تعالى خلقا أو دينا لطاعته في الأوامر والنواهي وإما على المصدر والمراد بالحق الدين كما في الأول أي إقامة الدين الحق بتحقيق لطاعة الله بفعل ما أمره وترك ما نهاه (ولا نجاة إلا بالطاعة) أي لا نجاة من الشدايد الأبدية والعقوبات الاخروية على سبيل الحتم والجزم إلا بطاعة الله وانقياده وأوامره ونواهيه أو الحصر إضافي بالنسبة إلى المعصية، وعلى التقديرين لا ينافي ذلك حصول النجاة في بعض الأحيان بالعفو والغفران كما دل عليه بعض الأخبار وآيات القرآن، ويحتمل أن يراد أنه لا نجاة للإنسان من الظلمات البشرية والهويات الناسوتية في عالم الأجسام وعالم الأشباح ولا يحصل
ص: 161
لهم الترقي إلى مشاهدة الأنوار الربوبية والأسرار اللاهوتية في عالم المجردات، وعالم الأرواح إلا بالطاعة إذ هي مرقاة للإنسان في البلوغ إلى غاية مرامهم والوصول إلى نهاية مهامهم وهي التشبه بالروحانيين والدخول في زمرة المقربين.
واعلم أن الغرض من هاتين الفقرتين بيان أن الطاعة أصل عظيم إذ بها يتحقق إقامة الدين والنجاة من العذاب المهين كما عرفت ثم بين أنها متوقفة على العقل بثلاث مقدمات آتية على سبيل القياس المفصول النتايج ليظهر لك شرافة العقل وأصالته بالنسبة إلى جميع المقاصد وهذا غاية المدح والتعظيم له ولمن اتصف به (والطاعة بالعلم) أي الطاعة متوقفة على العلم إذ هي عبارة عن فعل المأمور به وترك المنهي عنه وكسب الأخلاق المرضية والأطوار الحسنة للتقرب بالحق فلا بد من العلم بهذه الأمور وبصفات الحق مما يجوز له وما يمتنع عليه وبأحوال المعاد (والعلم بالتعلم) أي العلم بالأمور المذكورة موقوف على التعلم إما بلا واسطة بشر كالأنبياء والرسل ومعلمهم هو الله سبحانه أو بواسطة بشر كما للامة فإن معلمهم هم الأنبياء والرسل (عليهم السلام) بالإرشاد والهداية، وأما مفيض العلوم والصور فليس إلا هو ويحتمل أن يراد بالعلم معناه على الاطلاق تصوريا كان أو تصديقيا، ضروريا كان أو نظريا دينيا كان أو غيره، فإن حصول كلها للبشر متوقف على التعلم من المعلم الحقيقي وهو الله سبحانه بالإفاضة أو الإلهام أو التعليم بواسطة أو بدونها (والتعلم بالعقل يعتقد) من اعتقاد الشئ إذا اشتد وصلب أو من عقدت الحبل فانعقد والزيادة للمبالغة، وفي بعض النسخ «يعتقل» باللام من اعتقل الرجل أي حبس ومنع والظرف متعلق بيعتقد قدم للحصر، أو للاهتمام يعني تعلم الأحكام والمعارف معقود بالعقل ومحكم به، أو محبوس عليه ملازم له لا يحصل بدونه لأن العقل هو القابل لجميع العلوم فلو لم يكن للمتعلم عقل منفعل بالقوة قابل لفيضانها من المعلم العالم بها بالفعل كان تعلمه بلا فائدة وسعيه بلا أثر كالراقم على الماء.
(ولا علم إلا من عالم رباني) في النهاية الرباني منسوب إلى الرب بزيادة الألف والنون للمبالغة وقيل: هو من الرب بمعنى التربية كانوا يربون المتعلمين بصغار العلوم قبل كبارها، والرباني العالم الراسخ في الدين أو الذي يطلب بعلمه وجه الله وقيل: العامل المعلم وفي الصحاح والقاموس الرباني المتأله العارف بالله تعالى وفي الكشاف الرباني هو شديد التمسك بدين الله تعالى وطاعته وفي مجمع البيان هو الذي يرب أمر الناس بتدبيره له وإصلاحه إياه وهذه الجملة اعتراضية وقعت بين كلامين متصلين معنى لنكتة وهي التنبيه على أنه يجب على المتعلم أن يأخذ العلم من العالم الرباني دون غيره أو يقال لأنه وقع حقيقة في آخر الكلام لإفادة نكتة يتم أصل المعنى بدونها وهي زيادة المبالغة والتأكيد لما يستفاد من قوله والعلم بالتعلم فإنه يفهم منه أن حصول العلم موقوف على التعلم من العالم الرباني إذ المراد بالعلم
ص: 162
العلم الإلهي فظاهر أن العلم الإلهي إنما يستفاد من العالم الرباني، وإنما قلنا حقيقة لأن ما بعدها نتيجة للسابق فكان الكلام قد انتهى وتم قبل ذكره من غير حاجة إليه.
(ومعرفة العلم بالعقل) هذا في الحقيقة نتيجة للكلام السابق وهو قوله: «والعلم بالتعلم والتعلم بالعقل» فقد ثبت مما ذكر أن العلم والطاعة مع كونهما أصلين للوصول إلى الدرجة العظمى والبلوغ إلى المرتبة القصوى يتوقفان على العقل وفيه غاية التعظيم للعقل ونهاية التكريم لأهله، ومن العجائب أن امة من السفهاء وزمرة من الحمقاء في عصرنا هذا (1) يعتقدون أنهم الغاية الكبرى من الايجاد والتكوين ويجالسون العلماء والعقلاء بصفة المنافقين (وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزؤن * الله يستهزء بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون).
(يا هشام قليل العمل من العالم مقبول مضاعف) لأن العالم يعرف ربه وما يليق به ومالا يليق وما صنع من إكرامه وإنعامه الذي يعجز عن ذكره اللسان ولا يحيط على وصفه البيان وما شرع من الأوامر والنواهي والأعمال والعبارات وشرائطها ومحسناتها وما يتخلص به العبد عن مخالفته وكيفية التخلص منها، وبالجملة يعرف حقيقة العمل ومصالحه وشرائطه وفوائده ومفاسده ويكون لأنوار تلك المعارف قلبه تقيا نقيا زكيا صافيا طاهرا مضيئا.
ويكون عمله وإن كان قليلا خالصا كاملا مشتملا على جميع الأمور المعتبرة في قوامه وكماله واعتباره وقبوله وتصاعده وتضاعفه فيكون مقبولا مضاعفا لأن الله سبحانه حكيم كريم لايرد عملا صالحا وإن كان قليلا إذ الكثرة ليست من شرائط القبول كيف وقد مدحه في القرآن العزيز في مواضع عديدة ووعد الوفاء به مع الزيادة كما قال: (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره) وقال: (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها) (وكثير العمل من أهل الهوى والجهل مردود) لأن الجاهل لاعلم له بشئ من الأمور المذكورة بل ينظر إليها بعين عمياء فيخبط في كثير منها خبط عشواء وذلك لأن لصلاح العمل طريقا واحدا لا يعرفه إلا ذو فطنة ثاقبة وبصيرة كاملة، ولفساده طرق متكثرة فمن أراد أن يسلك طريق العمل الصالح بلا بصيرة ولا دليل مع مرافقة الجهل والهوى النفسانية والوساوس الشيطانية ضل عنه
ص: 163
وسلك أحد هذه الطرق المضلة، ثم كلما بالغ فيه وأكثر صار أبعد من الحق وأقرب من الباطل وأفسد عليه سعيه وعمله فيكون عمله مردودا عند الله تعالى إذ لا يصعد إليه إلا العمل الصالح، ولو فرض أن عمله مشتمل على جميع الأمور المعتبرة في صلاحه نادرا كان ذلك مثل الكثير لأن الاتفاقيات من الأعمال غير معتبرة بل لابد من وقوعها على ايقان وتصديق. هذا ولبعض الناظرين في هذا الكلام كلام طويل في تفسيره وظني أن المقصود منه ليس ما ذكره وهو أعرف بما قال، وحاصله بعد حذف الزوايد (1) أن العلوم الحقيقية والمعارف الإلهية تطلب لذاتها لا للعمل ثم هي تصلح القلب وتصقله لأنه ينكشف جلال الله وعظمته في ذاته وصفاته وأفعاله، والأعمال لما كانت وسيلة إليها، معينة لها، حافظة إياها تطلب لأجلها، ففضيلة كل عمل إنما هي بقدر تأثيره في صفاء القلب وإزالة الحجاب عنه فكل عمل كان تأثيره أكمل من غيره فهو أفضل، ومراتب الإنسان في ذلك مختلفة، فرب إنسان يكفيه قليل العمل في تأثير قلبه للطافة طبعه ورقة حجابه ورب إنسان بخلافه لغلظة طبعه وكثافة حجابه فربما يؤثر كثير العمل فيه تأثيرا قليلا، وبعد تقرير هذا يتبين معنى قوله (عليه السلام) «قليل العمل من العالم مقبول مضاعف» لأن معنى كونه مقبولا أنه مؤثر في صفاء قلبه وإزالة الحجاب عنه ومعنى كونه مضاعفا أن تأثيره في قلبه أضعاف تأثيره في قلب غيره، وذلك لأن ارتفاع أكثر الحجب عنه بممارسة العلوم فإن كل مسألة يحققها العالم تجلي قلبه وتصقله، فإذا ترادفت المسائل والعلوم يبلغ قلبه في الصفاء إلى حد لا يحتاج إلى كثير عمل لكن ما دام الإنسان في دار الغرور لا يستغني بالكلية عن عمل وكسب لا لأجل إنشاء أصل التصقيل الذي قد فعل بل للمحافظة عليه وحراسته من الآفات وهي مما يكفيه القليل من الأعمال ومعنى قوله (عليه السلام) وكثير العمل من أهل الهوى والجهل مردود أنه لا يؤثر الأعمال الكثيرة في تلطيف قلوبهم وإزالة الحجاب والغشاوة عنها لأن قلوبهم قاسية ونفوسهم جرمانية وسدهم
ص: 164
شديد.
(يا هشام إن العاقل رضي بالدون من الدنيا مع الحكمة) للنفس حياتان وموتان بإزاء كل حياة موت، الحياة الأولى للنفس تعلقها بهذا البدن وتصرفها بهذا النحو من التعلق والتصرف المعلومين، وموتها انتقالها من هذا البدن وانقطاع تعلقها وتصرفها فيه. الحياة الثانية ابتهاجها بكمالاتها وصفاتها وأعمالها وأخلاقها المرضية الموجبة لقرب الحق جل شأنه، وموتها فقدها لتلك الكمالات والأعمال والأخلاق وتحيرها في ظلمات أضدادها، والعاقل يعلم قطعا أن الحياة الأولى حياة مجازية لسرعة انتقال النفس عن البدن وقلة مدتها، وأن الاحتياج إلى زهرات الدنيا التي هي سبب لهذه الحياة إنما هو بقدر بقائها في تلك المدة القليلة وإن الزائد على ذلك وبال عليه وتضييع للغمر فيما لا يحتاج إليه، ويعلم أن الحياة الثانية حياة حقيقية أبدية لعدم انصرامها أبد الآبدين وإن سبب هذه الحياة الأبدية هي الحكمة وقد عرفت تفسيرها آنفا فيرضى مع الحكمة الموجبة للحياة الأبدية بالدون من الدنيا والقليل منها الذي هو سبب للحياة المجازية (ولم يرض بالدون من الحكمة) وقليل من العلم والمعرفة (مع الدنيا الكثيرة) الزائدة التي لا يحتاج إليها في بقاء الحياة الدنيوية، فأولئك اشتروا الأشرف بالأخس والأعلى بالأدنى حيث استبدلوا الحكمة التي قال الله تعالى في وصفها (ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا) بما لا يحتاجون إليه من فضل الدنيا واختاروها عليه (فلذلك ربحت تجارتهم) ضمير الجمع باعتبار إرادة الجماعة من الجنس وإسناد الربح وهو الفضل على رأس المال إلى التجارة وهي طلب الربح بالبيع والشري إسناد مجازي لأن الربح حقيقة للتاجر إلا أن التجارة لما كانت متعلقة بالتاجر ومتلبسة به وسببا للربح أسند الربح إليها اتساعا.
وفيه حث بليغ على الزهد في الدنيا وزهراتها إلا القدر الذي له مدخل في البلغة والحياة فإن زهراتها مع عدم الاحتياج إليها شاغلة للفكر مانعة للقلب عن التوجه إلى حضرة القدس، باعثة لشدة الحساب; مقربة إلى العقاب، محركة للآمال، منسئة للآجال، مذهبة للعبادة وحلاوتها داعية للنفس الأمارة إلى شقاوتها، وحض عظيم على طلب الحكمة (1) فإن السعادة في الدارين والتفاضل في النشأتين إنما تحصل بها بل هي عين السعادة العظمى والغاية القصوى والفضيلة الكبرى، بها يتم نظام الدين; ويحصل قرب رب العالمين، والوصول إلى أعلى منازل المقربين، ولذلك أمر الله سبحانه حبيبه وصفيه بعد تشرفه
ص: 165
بشرف الرسالة وتحليه بلباس الكرامة فقال: عز شأنه وجل برهانه «قل رب زدني علما» ولو كان شئ أعظم من العلم لأمره بطلب زيادته.
(يا هشام إن العقلاء تركوا فضول الدنيا) وهي المباحات (فكيف الذنوب) الموبقة المورثة لخزي الوبال وشدايد النكال، فإنهم تركوها بالطريق الأولى وأعلم أن أمور الدنيا على تكثرها مندرجة تحت الأحكام الخمسة، لأنها إما حرام أو حلال، والحلال إما واجب أو مندوب أو مكروه أو مباح، والمراد بالفضول هو الأخيران، وبالذنوب هو الأول وأما الواجب وهو تحصيل القدر الضروري الذي لا يمكن التعيش والبقاء بدونه، والمندوب وهو الزائد على ذلك مما يتوسع به الرجل على نفسه وعياله على حد القانون الشرعي الذي يسمونه كفافا فليس بمذموم بل هو واجب أو مستحسن عقلا ونقلا، إذا تبين ذلك فنقول: العقلاء تركوا فضول الدنيا لا لأنها مذمومة إذ لا ذم فيها بل لغاية تنزههم ونهاية تقدسهم وكمال حراستهم صرف العمر فيما يشتغل القلب عن ذكر الله تعالى ومشاهدة عظمته وجلاله ومخافة أن ينجر ذلك إلى الحرام كما قال (صلى الله عليه وآله) «لا يكون الرجل من المتقين حتى يدع ما لا بأس به مخافة ما به بأس» وذلك مثل الاجتناب عن التحدث بأحوال الناس لمخافة أن ينجر ذلك إلى الغيبة، وإذا تركوا الفضول لهذه الأمور تركوا الذنوب الموجبة للعذاب المهين، والبعد عن رحمة رب العالمين، المحركة للنفس إلى أسفل السافلين، والداعية لها إلى الخسران المبين (وترك الدنيا من الفضل وترك الذنوب من الفرض) الجملة حالية وهي كالتأكيد للسابق والدليل عليه، لأن ترك فضول الدنيا إذا كان من باب الفضل والكمال دون الفرض وترك الذنوب والاجتناب عنها من باب الفرض الذي يطلب به النجاة عن عقوبات الدنيا والآخرة فهم إذا ارتكبوا ما ليس بفرض ارتكبوا ما هو فرض قطعا وإنما قال: وترك الدنيا، ولم يقل: وترك فضول الدنيا للتنبيه على أن غير الفضول وهو القدر الضروري ليس من الدنيا في شئ لأن المقصود منه حفظ النفس والاستعانة به على العمل للآخرة في طلبه عبادة كما روي «الكاد على عياله كالمجاهد في سبيل الله» (1) والعبادة لا تعد من الدنيا (2).
(يا هشام إن العاقل نظر) بعين البصر والبصيرة (إلى الدنيا وإلى أهلها) الطالبين لزهراتها،الغارقين في
ص: 166
شهواتها، المائلين إلى لذاتها (فعلم أنها لا تنال إلا بالمشقة) لما رأى من أهلها في تحصيلها من خوض اللجج وسفك المهج وقطع البحار وطي القفار في التجارات وصرف الأعمار وقصر الأفكار في الزراعات إلى غير ذلك من أنحاء الأسباب وأنواع الاكتساب، وفي حفظها من دوام السهر ليلا ونهارا وجعلها نصب العين سرا وجهرا إلى أن يموتوا أو يقتلوا ذلا وصغارا (ونظر) بعين البصيرة (إلى الآخرة) ومقاماتها الرفيعة، ومنازلها الشريفة، ومثوباتها الجزيلة، ومنافعها الجميلة وإنما لم يقل هنا «وأهلها» كما قال قرينته للتنبيه على قلتهم بل على عدم وجودهم (فعلم أنها لا تنال إلا بالمشقة) الحاصلة من صرف الفكر في المعارف الإلهية والاحكام الربانية في جميع الأوقات وحبس النفس والجوارح على الطاعات في آناء الليل وأطراف النهار وأشرف الساعات، وعلم مع ذلك أن الدنيا والآخرة كضرتي إنسان في أن محبة إحديهما إسخاط للأخرى، أو مثل كفتي ميزان في أن رفع إحداهما وضع للأخرى (فطلب بالمشقة أبقاهما) لما جبلت النفوس عليه من عدم تحمل المشاق إلا لأجل المنافع والمنافع الاخروية أجل قدرا أو أعظم شأنا وأدوم زمانا من المنافع الدنيوية بل لا نسبة بينهما إذ المتناهي لا يقاس بغير المتناهي كما قال عز شأنه حكاية عن قوم حين شاهدوا أهوال القيامة وعلموا طول زمانها وسئلوا عن كمية زمان تلبثهم في الدنيا (قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم فاسئل العادين) وقال أمير المؤمنين (عليه السلام) «لو كانت الدنيا من ذهب والآخرة من خزف لاختار العاقل الخزف الباقي على الذهب الفاني» كيف والأمر على العكس هذا حال العاقل، وأما الجاهل فلكونه ضريرا يرى أمر الدنيا عظيما وأمر الآخرة حقيرا، وربما يخطر من تدليس إبليس بباله القاصر وذهنه الفاتر أن النقد خير من النسيئة فيختار الدنيا على الآخرة ولا يعلم لعميان قلبه (1) ونقصان بصيرته أن النقد خير من النسيئة إذا كان مماثلا لها في الكمية والكيفية
ص: 167
وليس الأمر ههنا كذلك إذ هذا النقد لا قدر له أصلا ولا وزن له قطعا عند هذه النسيئة على أن أصحاب الايمان وأرباب العرفان لكثرة عبادتهم وشدة رياضتهم يجدون نقدا من الفيوضات الإلهية والإشراقات الربانية مالا يرضون بعوض واحد منها أخذ الدنيا وما فيها.
(يا هشام إن العقلاء زهدوا في الدنيا) وأعرضوا عن حطامها وزهراتها الفانية وطهروا ساحة قلوبهم عن طول الأمل ولوث العوائق وقطعوا عن رقاب نفوسهم زمام التمني وحبل العلائق (ورغبوا في الآخرة) وطلبوا ثوابها باستعمال العبادات واستكمال الطاعات واجتهدوا في الوصول إلى أشرف المنازل وأرفع المقامات فتاهت أرواحهم في مطالعة الملك والملكوت، وكشفت لهم حجب العز والجبروت، وخاضوا في بحر اليقين، وتنزهوا في رياض المتقين، وركبوا سفينة التوكل وأقلعوا بشراع التوسل، وساروا بريح المحبة في جداول قرب الغرة وحطوا بشاطىء الإخلاص (1) حتى نزلوا في ساحة الجلال ومنزل الاختصاص.
(لأنهم علموا أن الدنيا طالبة) لمن فيها لتوصل إليه ما عندها من رزقه المقدر وقوته المقرر (مطلوبة) يطلبها أهلها حرصا في جميع ما لا يحتاج إليه وذخر ما يكون نفعه لغيره وضره عليه (والآخرة طالبة) لمن في الدنيا لتؤتيه ما عندها من وقته المقرر وأجله المقدر، إذا لأجل مثل الرزق مكتوب مقدر (ومطلوبة) يطلبها أهلها للوصول إلى أشرف درجاتها وأرفع طبقاتها بالأعمال الصالحة والأخلاق الفاضلة، وفي ترك عطف «مطلوبة» على «طالبة» في الأول وعطفها في الثاني تنبيه على أن المتحقق من نسبة الطالبية والمطلوبة إلى الدنيا والواقع منهما في نفس الأمر هو المطلوبية بناء على أن النفي والإثبات في الكلام راجعان إلى القيد كما هو المقرر في العربية ووجهه ظاهر لظهور أن الناس كلهم إلا من شذ طالبون للدنيا بخلاف نسبتهما إلى الآخرة، فإن طالبيتها أيضا متحققة في نفس الأمر هذا إن جعلت «مطلوبة» صفة «لطالبة» وقيدا لها وإن جعلت خبرا بعد خبر كما هو الأنسب بالقرينة الثانية فالوجه في ترك العطف هو الإيماء إلى كمال اتصال مطلوبية الدنيا بطالبيتها، ونهاية ربطها بها، وعدم افتراقها عنها باعتبار أن الدنيا في الواقع مطلوبة للكل فلا حاجة هنا إلى رابطة مستفادة من العطف بخلاف مطلوبية الآخرة فإنه لا اتصال بينها وبين طالبيتها لوقوع الافتراق بينهما باعتبار قلة طلب الآخرة فاحتيج في ربط إحديهما بالأخرى إلى العطف هكذا فافهم، ثم الطالبية والمطلوبية في كل واحدة من الدنيا والآخرة يمكن أن تتصور على وجهين أحدهما أن كل واحدة من الدنيا والآخرة متصفة بهما مع قطع النظر عن الأخرى، وثانيهما أن كل واحد منهما طالبة عند كون الأخرى مطلوبة ومطلوبة عند كون الأخرى طالبة،
ص: 168
والوجه الثاني هو المراد هنا كما يرشد إليه قوله (عليه السلام) (فمن طلب الآخرة) وسعى لها سعيها طلبا لمقاماتها العالية، وإنما قدم هنا طلبها على طلب الدنيا للاهتمام به، والتنبيه على أنه هو الذي يجب رعايته، وعكس في السابق باعتبار تقدم الدنيا على الآخرة وملاحظة وقوع طلبها في نفس الأمر (طلبته الدنيا حتى يستوفي منها رزقه) كما قال الله سبحانه (وفي السماء رزقكم وما توعدون، فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون) وقال: (وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها) وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «إن الروح الأمين نفث في روعي أنه لا يموت نفس حتى تستكمل رزقها» (1) وقال الصادق (عليه السلام) «لو كان العبد في جحر لآتاه الله برزقه» وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): «الرزق رزقان رزق تطلبه ورزق يطلبك فإن أنت لم تأته أتاك» (2) وقال: «يا ابن آدم لا تحمل هم يومك الذي لم يأتك على يومك الذي أتاك فإنه إن يك من عمرك يأتي الله فيه برزقك» (3) وقيل لبعض الأكابر: قد غلا السعر، فقال: لو كان وزن حبة من الطعام بمثقال من ذهب ما باليت فإن علينا أن نعبده كما أمرنا، وعليه أن يرزقنا كما وعدنا.
ومن ثم قيل: أترك الدنيا وخذها فإن تركها في أخذها وأخذها في تركها (ومن طلب الدنيا) وسعى لها سعيها وصرف عمره الذي هو رأس ماله في ادخار متقنياتها (طلبته الآخرة) حتى يستوفي منها أجله (فيأتيه الموت فتفسد عليه دنياه وآخرته) أما فساد دنياه فلانقطاعها عنه وعدم وفائها وزوال تصرفه فيها وعود ما جمعه إلى غيره حتى كأنه كان عبدا لذلك الغير، وأما فساد آخرته فلان صلاح الآخرة إنما هو باكتساب الأعمال المرضية وصرف الفكر في الأحكام النافعة الشرعية، وهما إنما يكونان قبل الموت وفي دار الدنيا، وهو قد كان في الدنيا عاملا للدينا، ومكتسبا لزخارفها، ومتفكرا في منافعها، وعبدا لغيره، فقد ظهر من هذا الحديث أن طالب الآخرة له الدنيا والآخرة وطالب الدنيا خاسر فيهما ونظيره قول أمير المؤمنين (عليه السلام): «الناس في الدنيا عاملان عامل في الدنيا للدنيا قد شغلته دنياه عن آخرته، يخشى على من يخلفه الفقر ويأمنه على نفسه، فيفنى عمره في منفعة غيره، وعامل عمل في الدنيا لما بيدها فجاءه الذي له من الدنيا بغير عمل، فأحرز الحظين معا، وملك الدارين جميعا فأصبح وجيها عند الله تعالى لا يسئل الله حاجة فيمنعه» (4) وفيه ترغيب في تفويض الرزق إلى الله تعالى والتوكل عليه وتنبيه على أنه لا يبلغ هذه المرتبة إلا العقلاء لأنهم الذين إذا تأملوا بعقولهم الصحيحة ونظروا إلى لطف الله تعالى في باب الأرزاق وتفكروا في رزق الطيور والأجنة في بطون الأمهات ورزق المجانين وساير
ص: 169
الحيوانات بلا تكلف ولا حيلة علموا أن وصول الرزق منوط بالمشيئة الإلهية وما قدر للشخص فهو يأتيه قطعا ويطلبه جزما، فيكون طلبه عبثا لا فائدة فيه وتضييعا للعمر فيما لا يعنيه، وصرفوا عنان الهمة نحو الآخرة ساعين عابدين خاشعين متضرعين لعلمهم بأن الآخرة ودرجاتها لا تناول إلا بالأعمال الصالحة، فنسأل الله تعالى الاقتفاء بآثارهم والتمسك بأطوارهم إنه على ذلك قدير وبالإجابة جدير.
(يا هشام من أراد الغنى بلا مال) (1) الغنى الدنيوي على وجهين أحدهما ما يدفع ضرورة الحاجة بحسب الاقتصاد والقناعة، وثانيهما المفهوم المتعارف بين أرباب الدنيا من جمع المال وادخاره والاتساع به فوق الحاجة والغنى على الوجه الأول ممدوح عقلا ونقلا، وعلى الوجه الثاني مذموم.
والغنى الديني - وهو ما يدفع النزول في عذاب الجحيم ويوجب الوصول إلى جنات النعيم - مع تفاوت مراتبه كله ممدوح والأنسب هنا هو الوجه الأول بقرينة التفريع الآتي والتنكير في قوله «بلا مال» حينئذ للتكثير لأن الاقتصاد والقناعة يحتاج إلى قليل من المال وحمله على المعنى الأخير محتمل لكنه بعيد جدا (وراحة القلب من الحسد) تارة بأنه تمنى الرجل زوال النعمة من ذوي النعمة وعودها إليه، وأخرى بأنه اغتمامه بخير يناله غيره من حيث لا مضرة عليه، واتفق أرباب القلوب على أنه من أعظم أبواب الشيطان التي يدخل بها على القلب، وعلى أنه من أقبح العوارض الردية للقلب ويتولد من البخل والشر ويراد بالشر التذاذ الطبع بما يضر الناس اغتمامه بما يوافقهم، وعلى أنه مضر بالقلب.
والحسد إما بالقلب فلأنه يصرف فكره إلى الاهتمام بأمر المحسود والاعتماد بشأنه حتى لا يفرغ للتصرف فيما يعود نفعه إليه وينسى ما حصل له من الملكات الخيرية التي هي الحسنات المنقوشة في جوهره فتضمحل تلك الملكات على طول الحسد واشتغال الفكر في المحسود وطول الحزن والهم في أمره ويتضيق وقته ويتوقى عقله من تحصيل الحسنات والخيرات، ولذلك قال أمير المؤمنين (عليه السلام) «لا تحاسدوا فإن الحسد يأكل الايمان كما تأكل النار الحطب» (2) وإما بالجسد فلأنه يعرض له عند حدوث هذه الأعراض الشنيعة والأمراض الردية طول السهر وسوء الاغتذاء ويعقب ذلك رداءة اللون وسوء السحنة وفساد المزاج والقوى (والسلامة في الدين) من الآفات النفسانية والوساوس الشيطانية
ص: 170
(فليتضرع إلى الله عز وجل في مسئلته بأن يكمل عقله) أي علمه أو جوهره المجرد القابل (1) له وفيه دلالة على أن العقل موهبة الهية وعطية ربانية لا يزداد ولا يكمل إلا بعنايته، وعلى أنه سبب للأمور الثلاثة المذكورة أما للثاني فلان العاقل الكامل يعلم أن الحسد لا ينفعه بل يضره وأنه صفة موجبة للمقت من الله جل شأنه لعلمه بأن الحاسد مضاد لإرادته لأنه تعالى هو المتفضل للكل وهو المفيض للخير إلى كل أحد بما يليق به ويصلح له فيعلم أن كلا من الإعطاء والمنع وقع على وفق الحكمة والمصلحة فيطمئن قلبه بقسمة ربه، وأما للثالث فلأن العاقل يعلم بنور عقله طريق الحق وكيفية سلوكه إلى حضرة القدس ويعلم آفات الدين وكيفيته اجتنابه عن تلك الآفات ويعمل بمقتضى عقله الصريح وذهنه الصحيح فيتم له بهذين العلمين مع العمل نظام الدين وكمالاته، ويسلم عن مفاسده وآفاته.
وأما للأول فلما أشار إليه بقوله (فمن عقل قنع بما يكفيه) لأن العاقل إذا نظر إلى جلال الله وآثار ملكه وملكوته وإلى أحوال الآخرة وما فيها من المقامات العالية واللذات الروحانية وإلى ما حصل له عجالة من الأنوار العقلية والفيوضات القلبية وإلى أن كماله فطام النفس عن الشهوات ونزع القلب عن الأماني والشبهات وترك ما يمنعه من التوجه إلى الآخرة من الزهرات وخلو السر عن النظر إلى الدنيا وما فيها من المقتنيات استحقر الدنيا وما فيها ورجع بالكلية إلى حضرة الحق وما في الآخرة من المقامات فيقنع من الدنيا بقدر الكفاف وبما يقيم به بدنه وقواه ويقدر به على الإقامة بالطاعات إذ التعرض للزايد على ذلك لقصور العقل وضعف اليقين وفتور النيات وخلو النفس عن المعارف النورانية وإلفها بالمحسوسات وانفتاح عينها إلى الأمور الدنيوية والصور الوهمية واحتباسها في الظلمات وغفولها أن الدنيا كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه ليجده شيئا فيضيع سعيه ويزداد عليه الندامة والحسرات (ومن قنع بما يكفيه استغنى) بما يكفيه عن الزايد أو بالآخرة عن الدنيا أو بالحق عن الخلق من رضي بالقوت وتوكل على الحي الذي لا يموت لم يفتقر إلى غيره لأجل المسكنة (ومن لم يقنع بما يكفيه لم يدرك الغنى أبدا) لأن الغنى هو الكفاف فمن لم يكفه الكفاف فجميع ما في الأرض لا يكفيه، ولأن طلب الزيادة منوط بالحرص، ومراتب الحرص غير محصورة، فإذا حصلت له مرتبة من تلك المراتب طلب ما فوقها فلذلك قال عيسى (عليه السلام) لأصحابه:
يا معشر الحواريين لأنتم أغنى من الملوك، قالوا: وكيف يا روح الله؟ وليس نملك شيئا، قال: أنتم ليس عندكم شيىء ولا تريدونه وهم عندهم أشياء ولا يكفيهم.
ص: 171
«يا هشام إن الله حكى عن قوم صالحين أنهم قالوا: (ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب) حين علموا أن القلوب تزيغ وتعود إلى عماها ورداها، إنه لم يخف الله من لم يعقل عن الله ومن لم يعقل عن الله لم يعقد قلبه على معرفة ثابتة يبصرها ويجد حقيقتها في قلبه ولا يكون أحد كذلك إلا من كان قوله لفعله مصدقا وسره لعلانيته موافقا، لأن الله تبارك اسمه لم يدل على الباطن الخفي من العقل إلا بظاهر منه وناطق عنه. (يا هشام كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول: ما عبد الله بشئ أفضل من العقل وما تم عقل امرء حتى يكون فيه خصال شتى: الكفر والشر منه مأمونان، والرشد والخير منه مأمولان، وفضل ماله مبذول، وفضل قوله مكفوف، ونصيبه من الدنيا القوت، لا يشبع من العلم دهره، الذل أحب إليه مع الله من العز مع غيره، والتواضع أحب إليه من الشرف، يستكثر قليل المعروف من غيره ويستقل كثير المعروف من نفسه، ويرى الناس كلهم خيرا منه وأنه شرهم في نفسه وهو تمام الأمر يا هشام إن العاقل لا يكذب وإن كان فيه هواه.
يا هشام لادين لمن لا مروة له ولا دين لمن لاعقل له، وإن أعظم الناس قدرا الذي لا يرى الدنيا لنفسه خطرا، أما إن أبدانكم ليس لها ثمن إلا الجنة فلا تبيعوها بغيرها. يا هشام إن أمير المؤمنين (عليه السلام) كان يقول: إن من علامة العاقل أن يكون فيه ثلاث خصال: يجيب إذا سئل وينطق إذا عجز القوم عن الكلام ويشير بالرأي الذي يكون فيه صلاح أهله، فمن لم يكن فيه من هذه الخصال الثلاثة شئ فهو أحمق إن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: لا يجلس في صدر المجلس إلا رجل فيه هذه الخصال الثلاث أو واحدة منهن فمن لم يكن فيه شيىء منهن فجلس فهو أحمق.
وقال الحسن بن علي (عليهم السلام): إذا طلبتم الحوائج فاطلبوها من أهلها، قيل: يا ابن رسول الله ومن أهلها؟ قال: الذين قص الله في كتابه وذكرهم، فقال: إنما يتذكر أولو الألباب قال: هم أولو العقول.
وقال علي بن الحسين (عليهما السلام): مجالسة الصالحين داعية إلى الصلاح وآداب العلماء زيادة في العقل، وطاعة ولاة العدل تمام العز، واستثمار المال تمام المروة، وإرشاد المستشير قضاء لحق النعمة، وكف الأذى من كمال العقل وفيه راحة البدن عاجلا وآجلا.
يا هشام إن العاقل لا يحدث من يخاف تكذيبه، ولا يسأل من يخاف منعه، ولا يعد مالا يقدر عليه، ولا يرجو ما يعنف برجائه، ولا يقدم على ما يخاف فوته بالعجز عنه.».
(يا هشام إن الله حكى عن قوم صالحين أنهم قالوا ربنا لا تزغ) أي لا تمل من الإزاغة وهي الإمالة (قلوبنا) من الحق إلى الباطل أو من الايمان إلى الكفر أو من اليقظة إلى الغفلة أو من العلم والهداية
ص: 172
إلى الجهل والغواية، وقال صاحب الكشاف لا تبتلنا ببلايا تزيغ فيها قلوبنا (بعد إذ هديتنا) إلى الخيرات المذكورة و «بعد» نصب على الظرف و «إذ» في موضع الجر بالإضافة، وقيل: «إذ» ههنا بمعنى أن ولما كان بين الرهبة والرغبة تلازم وقد صدر منهم الدعاء بالنظر إلى الأولى أولا صدر منهم الدعاء بالنظر إلى الثانية ثانيا طلبا لزيادة الإفضال والإحسان ورجاء لمزيد النعمة والامتنان (فقالوا: وهب لنا من لدنك رحمة) أي كرامة توجب قربنا منك والزلفى إليك والفوز بالفلاح لديك أو توفيقا للثبات على الحق أو الإيمان أو مغفرة للذنوب، ثم قالوا لتأكيد رجائهم في إجابه دعائهم (إنك أنت الوهاب) في النهاية: الهبة العطية الخالية عن الأعواض فإذا كثرت سمى صاحبها وهابا، وهو من أبنية المبالغة، يعني أنت الوهاب لكل طلبة ومسئلة أو لوجود كل شئ وحقيقته وماهيته وخواصه وآثاره وكماله من غير عوض، وفيه دلالة على أن السلامة من آفات الدنيا والهداية إلى المولى والنجاة من الضلالة والعمى والاستقامة على سبيل الرشاد من الله المتفضل برحمته على العباد (حين علموا) ظرف لقالوا (أن القلوب تزيغ) بفتح التاء من زاغ بمعنى مال، أي تميل عن طريق الصواب (وتعود إلى عماها) (1) أي جهلها يقال: رجل عمى القلب أي جاهل، وأصل العمى ذهاب البصر وإذا أضيف إلى القلب يراد به ذهاب البصيرة، وقد يجعل كناية عن الجهل (ورداها) أي هلاكها من ردى الدابة في البئر إذا سقط فيها، أو من ردى فلان في الأرض إذا ذهب وتاه فيها، أو من ردي فلان بالكسر يردى رديا إذا هلك، وفيه إشارة إلى شيئين أحدهما أن القلوب يعني النفوس البشرية كانت في مبدء الفطرة جاهلة للمعارف الإلهية، غافلة عن الأنوار الربانية، هالكة ساكنة في تيه الجهالة قابلة لنور الهداية وظلمة الغواية.
كما يظهر ذلك لمن تفكر في أطوار الإيجاد والتكوين فإنه يعلم أنها كانت صورا جمادية، ثم صارت صورا نباتية، ثم صارت صورا حيوانية، ثم صارت بتلك الاستحالات صورا إنسانية مستعدة للخير والشر قابلة للهداية والضلالة، ثم حصلت لها بالترقيات الإلهية والتوفيقات الربانية كما يرشد إليه قوله «بعد إذ هديتنا» جملة من العلوم وزمرة من المعارف ونبذة من الأحوال والأعمال فخرجت بذلك من حد النقص على الاطلاق في قوتي العلم والعمل إلى مرتبة الكمال، الثاني أن هذه المرتبة ليست لازمة للنفس ثابتة لها غير منفكة عنها لأن النفس الحرون قد تقف من الجري في ميدان العلم والعمل، بل ترجع
ص: 173
القهقرى إلى حالتها الأولى، وسر ذلك أنها ما دامت في الدنيا متعلقة بهذا البدن مائلة إلى الهوى ودواعي الشيطان ذاكرة لأصناف الباطل وأنواع العصيان فربما تأخذ يد الشقاوة زمامها وتسوقها إلى ما هو مطلبها ومرامها، وتجذبها عما هي عليه من العلوم والأعمال الصالحة وتوردها في تيه الجهالة والضلالة، وقد روى أبو بصير وغيره قال: قال الصادق (عليه السلام): «إن القلب ليكون الساعة من الليل والنهار ما فيه كفر ولا إيمان كالثوب الخلق، قال ثم قال لي: أما تجد ذلك من نفسك، قال: ثم تكون النكتة من الله في القلب بما شاء من كفر ولا إيمان» (1) ولذلك خاف الصالحون ووجل المتقون وطلبوا بالتضرع والابتهال حسن العاقبة بقولهم (ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا) والأدعية المأثورة في هذا الباب أكثر من أن تحصى، ولما بين أن بقاء النفس على كمالها العملي والعلمي ما دامت في الدنيا ومسكن الشياطين غير لازم، بل ربما تعود إلى عماها ورداها وتترك العمل وتنسى العلم والآخرة أراد أن يبين ذلك فيمن لم يكن قلبه مستضيئا بنور الله وعقله مهتديا بهداية الله ولم يأخذ علمه من الله تعالى إما بلا واسطة كالأنبياء والرسل أو بواسطة كالمتمسكين بذيل عصمتهم والراجعين في كيفية العمل والعلم إلى معدن طهارتهم فأشار إلى الأول بقوله (إنه لم يخف الله من لم يعقل عن الله) لأن من لم يكن علمه بذات الله وصفاته وشرائعه وأركان الأعمال وشرائطها وأحوال الآخرة مستندا إلى الله تعالى بأحد الوجهين المذكورين كان علمه إما تقليدا محضا كما في أكثر العوام وإما رأيا وقياسا كما في أكثر الناس وإما ظنا وتخمينا وجدليا كما في أكثر المتكلمين (2) الذين وضعوا لأنفسهم دلائل على هذه الأمور واستحسنوها وكل ذلك لا يوجب الخوف من الله سبحانه والخشية من عذابه، أما التقليد فظاهر لأنه لم يحصل لهم من الحقيقة الإلهية إلا الاسم ومن حقيقة الأحكام الشرعية وأركانها وشرائطها إلا الرسم، ومن أحوال الآخرة وشدايد أهوالها إلا اللفظ، والخوف منوط بادراك حقائق هذه الأمور، وأما القياس فهو أيضا ظاهر وكذا تخمين المتكلمين على أن أكثرهم القائلين بالفاعل المختار ينكرون السببية في الممكنات (3) ويجوزون مغفرة الكافر الشقي ومعاقبة المؤمن السعيد
ص: 174
فلا يحصل لهم خوف وخشية، وإذا انتفى الخوف انتفى العمل وكماله والجد فيه، وأما العلماء الراسخون الآخذون علومهم من مشكاة النبوة فهم يعلمون الحقائق كما هي وصفات الواجب وما يجوز له وما يمتنع عليه وأحكام الدين وأركانها وشرائطها وأحوال الآخرة وشدائد أهوالها كأنهم يشاهدونها ويعلمون أن الله تعالى لا يظلم أحدا مثقال ذرة وأن ما يرجع إليهم من الخير والشر فهو من نتايج نفوسهم ولوازم أخلاقهم وتبعات أعمالهم (1) وأفعالهم فيخافون من الله عز شأنه غاية الخوف كما قال سبحانه (إنما يخشى الله من عباده العلماء) فلا جرم يعملون في الدنيا للآخرة ويسعون لها غاية السعي ويحصلون ما يوجب نجاتهم من النار وفوزهم بالجنة وأشار إلى الثاني (2) بقوله:
(ومن لم يعقل عن الله لم يعقد قلبه على معرفة ثابتة يبصرها ويجد حقيقتها في قلبه) يعني من لم يأخذ علمه من الله سبحانه بأحد الوجهين المذكورين لم يكن إيمانه ثابتا ولا علمه باقيا لأنهما يزولان بأدنى شبهة بخلاف من أخذ علمه منه تعالى فإن إيمانه ثابت وعلمه راسخ لا يزول بوجه من الوجوه كما قال العالم (عليه السلام) من: «أخذ دينه من كتاب الله وسنة نبيه صلوات الله عليه وآله زالت الجبال قبل ان يزول ومن أخذ دينه من أفواه الرجال ردته الرجال» (3) قال (عليه السلام) «من لم يعرف أمرنا من القرآن لم يتنكب الفتن) (4) (ولا يكون أحد كذلك) أي يعقل عن الله ويعقد قلبه على معرفة ثابتة ويبصرها ويجد حقيقتها في قلبه (إلا من كان قوله لفعله مصدقا) بأن يكون عاملا بالمعروف آمرا به وتاركا للمنكر ناهيا عنه فأن العلم الحقيقي والايمان الكامل يحكمان بالتلازم بينهما وحمل القول هنا على الاعتقاد بعيد (وسره لعلانيته موافقا) بأن يكون صفاته وكمالاته الباطنة موافقة لصفاته وكمالاته الظاهرة مثل الأعمال الحسنة وحسن الخلق وطلاقة الوجه
ص: 175
وإكرام المؤمن وأمثال ذلك (لان الله تبارك اسمه لم يدل على الباطن الخفي من العقل إلا بظاهر منه وناطق عنه) أي مخبر عنه ومشعر به هذا دليل على ما يفيده الاستثناء من أن من كان قوله لفعله مصدقا وسره لعلانيته موافقا تجده عاقلا عن الله ثابتا على معرفته راسخا في إيمانه وعرفانه ويجد حقيقة ذلك في قلبه.
بيان ذلك: أن العلم بخفيات الأمور وصفات القلوب ليس إلا لعلام الغيوب لأنه العليم بذات الصدور وأما غيره فقد يعلم الباطن من الظاهر، فكما يعلم من حمرة الوجه وانتفاخ العروق وغلظ الصوت شدة الغضب وإرادة الانتقام، ومن اصفرار الوجه وتضايل البدن وتحرك الفرائص شدة الخوف كل ذلك للتناسب بين الروح والبدن بحيث يصل أثر أحدهما إلى الآخر كذلك يعلم الصفات النفسانية والكمالات الروحانية والعلوم والعقائد الراسخة القلبية من الأعمال والأفعال الصادرة من الأعضاء الظاهرة مثلا يقول فلان عليم مؤمن راسخ في علمه وإيمانه وكريم حليم رحيم إذا صدر منه الافعال التابعة للعلم والايمان وأفعال الكريم والحليم والرحيم مرارا كرة بعد أخرى، والسر في ذلك أن تلك الصفات أسباب لهذه الافعال والأعمال لأنه ينبعث منها الشوق والإرادة والعزم ويتحرك بسبب هذه الأمور الأعضاء نحو المتشوق والمراد، فيظهر منها الافعال والأعمال، ودلالة هذه الأعمال والافعال على تلك الصفات كدلالة الأثر على المؤثر وبالجملة ظاهر الرجل عنوان لباطنه ومعرفة باطنه تابعة لمعرفة ظاهره، فإن كان جميع أفعاله الظاهرة دائما مستقيمة واقعة على القوانين الشرعية دل ذلك على ثبوت معرفته وإيمانه وكمالهما ورسوخهما وإن كان جميعها غير مستقيمة أو كان القول مستقيما وغيره من الأفعال غير مستقيم أو كان عكس ذلك دل ذلك على عدم ثبوت معرفته وإيمانه وعدم كمالهما ومثل هذه المعرفة والايمان في معرض الزوال.
(يا هشام كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول: ما عبد الله بشئ أفضل من العقل) المقصود أن العقل أفضل ما يتقرب به العبد إلى الله تعالى وكل ما يتقرب به سواه دونه في الفضل وهذا كمال المدح له ولأهله واعلم أن للعقل اطلاقات والمشهور منها أمران: الأول القوة المهيأة للعلوم الكلية ضرورية كانت أو نظرية تصورية كانت أو تصديقية ولا نعني مجرد القوة والاستعداد بل نعني بها القوة الحاصلة معها كمالاتها بالفعل، والثاني العلم والحكمة التي هي ثمرته ويمكن حمله هنا على كل واحد منهما، لأن كل واحد منهما أصل يتوقف عليه غيره مما يتقرب به العبد إلى الله تعالى مثل الصلاة والصيام والحج والزكاة ونحوها فكل واحد منهما أفضل مما عداه وهو المشار إليه بقوله صلى الله عليه وآله لعلي (عليه السلام):
«يا علي إذا تقرب الناس إلى خالقهم بأبواب البر فتقرب أنت بعقلك تسبقهم بالدرجات والزلفى عند الناس في
ص: 176
الدنيا وعند الله في الآخرة (1) (وما تم عقل امرء حتى تكون فيه خصال شتى) الخصال بالكسر جمع الخصلة بالفتح وهي المرة من الخصل وهو الغلبة في النضال، والخصلة أيضا الخلة وهي المراد هنا وكأنها منقولة عن الأولى لجامع الغلبة والفضيلة بينهما، وشتى جمع شتيت وهو التفرق، يقال ثغر شتيت أي مفلج (2) وقوم شتى وأشياء شتى وجاؤا أشتاتا أي متفرقين واحدهم شت وقد ذكر ههنا اثنتي عشر خصلة:
(الكفر والشر منه مأمونان) والناس آمنون من كفره وشره (3) والكفر يطلق على خمسة معان كما يأتي في باب الكفر: الأول إنكار الرب، الثاني إنكار الحق مع العلم بأنه حق، الثالث ترك ما أمر الله تعالى به، الرابع كفران النعم قال هذا من فضل ربي ليبلوني ءأشكر أم أكفر الخامس كفر البراءة قال «كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء» يعني تبرأنا منكم، والشر يطلق على كل خبيث ومنقصه كما يرشد إليه قول أمير المؤمنين (عليه السلام) والشر جامع مساوي العيوب والحاصل أنه امر كلي تحته أفراد كثيرة كلها من العيوب والخبائث وقد يقسم إلى شر مطلق كعدم العقل مثلا وإلى شر مقيد كعدم كل واحدة من الصفات المرضية والشرايع النبوية ووجود أضدادها.
(والرشد والخير منه مأمولان) يعني العقلاء آملون صدورهما منه، والرشد الهداية وخلاف الغي، والخير لفظ جامع لجيمع الأمور الحسنة كما أن الشر جامع لجميع الأمور القبيحة فهو أيضا مفهوم كلي تحته أفراد كثيرة ويقسم إلى خير مطلق كوجود العقل وإلى خير مقيد كوجود كل واحدة من الصفات المرضية والشرائع النبوية ولعل المقصود أن من أتصف بالخير والرشد والهداية واجتنب سبيل الشر والغي والضلالة، وكان جميع أفعاله وأعماله بالفعل على الوجه المستقيم بحيث يأمل العقلاء منه خيرا ورشدا في غابر عمره ويستنبطون منه ذلك في بقية دهره، فهو تام العقل ويجعل ذلك دليلا على كماله، وإنما قلنا المقصد ذلك لأن كونه قابلا لمطلق الرشد والخير في حيز الاستعداد وكونهما مأمولين منه بالقوة من جميع الوجوه لا يدل على تمام عقله وكماله لأن عقله حينئذ في المرتبة الهيولانية.
ص: 177
(وفضل ماله مبذول) يحتمل أن يراد بالفضل ما زاد على القوت والكفاف وإنما خص بالفضل لأن بذل الكفاف قد لا تطيب به نفس أكثر العقلاء بل قد ورد النهي عنه في بعص الروايات، ويدل عليه أيضا قوله تعالى (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا) ويحتمل أن يراد به الصدقات المفروضة مثلا الزكاة وغيرها وفي الخبر «أن السخي هو من أدى فرايض ماله» (1) واعلم أن لبذل المال ومنعه غايات وبين غاياتهما تفاوت والفضل لغايات البذل والحاكم بذلك هو العقل الصحيح والنص الصريح، أما غايات البذل فمنها الذكر الجميل بين الناس وهو مطلوب عقلا وشرعا لقوله تعالى حكاية عن إبراهيم (عليه السلام) «واجعل لي لسان صدق في الآخرين» (2) وقول أمير المؤمنين (عليه السلام) «ولسان صدق يجعله الله للمرء في الناس خير له من المال يورثه غيره» (3)، ومنها رعاية حال الفقراء الذين هم ودائع الله وعيال رسوله وجبر كسر قلوبهم ومواساتهم وقد وقع الحث عليها في روايات متكثرة، ومنها جلب قلوب الناس إلى المحبة والمودة، ومنها تحصيل رضوان الله تعالى وطلب الدرجات العالية في الآخرة، ومنها أنه يأخذ بدل واحد أضعافا كثيرة قال الله تعالى: «من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة» وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): «من يعط باليد القصيرة يعط باليد الطويلة» (4) يعني من يعطي يسيرا يجزى به كثيرا واليدان عبارتان عن النعمتين، وفي طرق العامة قال أبو ذر: «يا نبي الله أرأيت الصدقة ماذا هي؟ قال: أضعاف مضاعفة وعند الله المزيد» قوله: «وعند الله المزيد» هي الزيادة على الثواب لمن يشاء بما يشاء كما قال سبحانه: (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) وأما غايات المنع وترك البذل فيعرف مما ذكرنا بالتضاد وأيضا المنع يورث البخل والشغل عن ذكر الله تعالى ومحبة الدنيا إلى غير ذلك من المفاسد فمن آثر البذل على الجمع مع أن من مقتضى النفوس البشرية والأوامر الشيطانية، فإن الشيطان دائما يأمر الإنسان بالمنع والجمع ويعدهم بالفقر بسبب الاحسان والبذل علم أن ذلك من تمام عقله ومتانته وكمال رأيه ورزانته.
(وفضل قوله مكفوف) لأن العاقل هو الذي يضع الأشياء في مواضعها ومن جملة ذلك أن يتكلم بما يحتاج إليه ويترك ما زاد عليه (5) وهو المراد بالفضل، ولأنه يعلم أن الإكثار يوجب الاهجار، ومن ثمة قال
ص: 178
رسول الله (صلى الله عليه وآله) «من كثر كلامه كثر سقطه ومن كثر سقطه كثر ذنوبه ومن كثر ذنوبه فالنار أولى به» (1) وإن الكلام في وثاقه ما لم يتكلم به فإذا تكلم صار هو في وثاق الكلام فلا يتكلم إلا بالاحتياط.
ولذلك قيل: لا تتكلم بلسانك ما تكسر به أسنانك وأن الجوارح مسؤولة يوم القيامة فلا تتكلم إلا بالحكمة والموعظة الحسنة وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): «من علم أن كلامه من عمله قل كلامه إلا فيما يعنيه» (2).
(ونصيبه من الدنيا القوت) لأن العاقل الكامل يعلم بعين الاعتبار والبصيرة أن المال مادة الشهوات وحبالة الشيطان فلا يطلبه حذرا من الدخول فيها وأن من اقتصر على القوت لا يفتقر أبدا وأن من رضى به كان مستريحا في الدنيا ناجيا في الآخرة وإلى الوجهين الأخيرين أشار أمير المؤمنين (عليه السلام) بقوله: «لا مال أذهب للفاقة من الرضا بالقوت، ومن اقتصر على بلغة الكفاف فقد انتظم الراحة، وتبوأ خفض الدعة» (3) يعني من قنع فقد ألزم الراحة فلهذه الوجوه وغيرها رضي العاقل بالقوت وكف نفسه عن طلب الزايد عليه.
(لا يشبع من العلم دهره) دهره منصوب بنزع الخافض أي في دهره يعني تمام عمره، والمراد بالعلم المتعلق بأحوال المبدء والمعاد وغير ذلك من الأمور الدينية والأحكام الشرعية، وهذا العلم هو الذي يكسب به الإنسان الطاعة في حياته والذكر الجميل والثواب الجزيل بعد وفاته، وإلى مدح هذا العلم وأهله أشار أمير المؤمنين (عليه السلام) بقوله: «هلك خزان الأموال والعلماء باقون ما بقي الدهر» (4) يعني لتنور قلوبهم بأنوار الهية وفيوضات ربانية أو لاشتهار صيتهم وانتشار فضلهم فيما بين فرق الأنام إلى يوم القيامة، وفي قوله «لا يشبع» إشارة إلى أن العلم غذاء القلب وحياته وبه يتعذى ويتقوى ويكمل كما أن الطعام غذاء البدن وحياته وقوامه، وبالجملة شبه العلم بالغذاء إذ كما أن الغذاء سبب لبقاء البدن وحياته في مدة العمر كذلك العلم سبب لبقاء النفس وسعادته في الدارين، ولذلك يقال: الجاهل ميت.
والسرفي أن جوع العاقل في تحصيل العلم لا يسكن هو أن مراتب شوقه غير متناهية وكذا مراتب العلم كما قال سبحانه (فوق كل ذي علم عليم) فكلما وصل إلى مرتبة من مراتب العلم واستضاء قلبه
ص: 179
بنور تلك المرتبة وكمل به واستشرق، رأى فوقها مرتبة أخرى أكمل منها وأنور فيسوقه الشوق إليها ويستضىء بنورها وهكذا إلى ما شاء الله ومن ههنا ظهر أن للعاقل في كل آن ترقيات وفي كل زمان انتقالات وابتهاجات وتلك الترقيات حقيق بأن تسمى معارج النفوس.
(الذل أحب إليه مع الله من العز مع غيره) لعل المراد أن ذل نفسه وهو مع الله بأخذ زمامها كيلا تتجاوز عن حدود الشريعة أحب إليه من عز نفسه وهو مع غيره بارسال زمامها لكي تجري في ميدان مرامها، فلا يرد أنه إذا كان مع الله كان عزيزا لا ذليلا لقوله تعالى: (ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين، ولكن المنافقين لا يعلمون) ويحتمل أن يراد بالعز والذل ما هو المتعارف عند الناس أعني الرفعة فيما بينهم وعدمها يعني إذا كان المماشاة مع الناس موجبا لرفعة القدر فيما بينهم والسير في سبيل الله والتمسك بحبل الله موجبا للذل ووضع القدر عندهم فالعاقل هو الذي يحب هذا الذل ويختاره على ذلك العز لعمله بأن في هذه الرفعة مفاسد غير محصورة، وأنها رفعة دنيوية وذلك الذل رفعة أخروية، والرفعة الدنيوية مثل الدنيا داثرة داحضة، بخلاف الرفعة الاخروية، فإنها باقية أبدا.
(والتواضع أحب إليه من الشرف) التواضع التذلل من الوضع وهو خلاف الرفع.
والشرف الترفع بالنسب أو بالحسب، والمعنى أن العاقل هو الذي يؤثر التواضع لله على الشرف والرفعة (1) لأنه لما عرف عظمة الله ونظر إلى جلال قدره وكمال قدرته على جميع المقدورات وشدة استيلائه على جميع الممكنات بالايجاد والافناء وغاص في بحار وجوده وكماله وقدرته وتفكر في قهره ومنعه وجوده احتقر نفسه ووجوده وكماله وقدرته بل لا يرى لنفسه وجودا وكمالا وقدرة، وإنما يرى هذه الأمور الجاهل الذي لم يخطر بباله ذات الباري وصفاته فيرى لنفسه وجودا ولوجوده آثارا نظير ذلك أن من لم يرماء أبدا ثم رأى جدولا صغيرا فإنه يستعظمه فإذا وقف هناك بقي له ذلك الاستعظام، وأما إذا جاوزه ورأى نهرا عظيما فإنه يزول عنه ذلك الاستعظام ويستعظم هذا النهر ثم إذا جاوزه ورأى بحرا زاخرا زال عنه استعظام ما سواه قطعا.
وإلى ما ذكرنا أشار أمير المؤمنين (عليه السلام) بقوله: «إنه لا ينبغي لمن عرف عظمة الله أن يتعظم» (2) فإن رفعة
ص: 180
الذين يعلمون ما عظمته أن يتواضعوا له في هذا التعليل إشارة إلى أن التواضع له سبحانه عين الرفعة وذلك لأن الله سبحانه هو العظيم المطلق وكل عظمة ورفعة فمستفاده من وجوده والقرب منه فكما كانت العادة جارية من الملوك في حق من يتواضع لهم ويوفيهم حقهم من الإجلال والاكرام وحسن الانقياد أن يرفعوه ويعظموه كذلك عادة مالك الملوك جل شأنه، يرشد إلى ذلك رفعة حال الأنبياء والأوصياء والصالحين عليهم صلوات الله أجميعن، ويدل عليه قول الصادق (عليه السلام) «إن في السماء ملكين موكلين بالعباد فمن تواضع لله رفعاه ومن تكبر وضعاه» (1) وقول أمير المؤمنين (عليه السلام) «لا حسب كالتواضع» (2) يعني في إيجاب الرفعة هذا حال التواضع لله سبحانه وأما التواضع للفقراء والصالحين فمن شعب تواضعه لله تعالى شأنه لأن من أحب أحدا وتواضع له فإنه يجب أن يحب محبوبية ويتواضع لهم على أن التواضع لهم يوجب ازدياد المودة.
وقال أمير المؤمنين (عليه السلام) «التودد نصف العقل» (3) ووجه ذلك أن العقل نصفان نصف عقل المعاد ونصف عقل المعاش، وقال الصادق (عليه السلام): «من التواضع أن ترضى بالمجلس دون المجلس، وأن تسلم على من تلقى، وأن تترك المراء وإن كنت محقا ولا تحب أن تحمد على التقوى» (4) وفي حديث آخر: «التواضع درجات منها أن يعرف المرء قدر نفسه فينزل منزلتها بقلب سليم لا يحب أن يأتي إلى أحد إلا مثل ما يؤتى إليه، إن رأى سيئة درأها بالحسنة، كاظم الغيظ عاف عن الناس والله يحب المحسنين» (5) وينبغي أن يعلم أن الأولى والأحسن بحال الفقراء أن يتركوا تواضع الأغنياء ويعتزلوا عنهم ويتكلوا على الله سبحانه كما قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «ما أحسن تواضع الأغنياء للفقراء طلبا لما عند الله وأحسن منه تيه الفقراء على الأغنياء اتكالا على الله» (6) والتيه التكبر، ولعل المراد به ما ذكرناه من الاعتزال عنهم وترك التواضع لهم وإلا فالتكبر قبيح من كل أحد لأن الكبرياء إنما يليق بالحق عز شأنه إذا الخلق محل النقص، فإذا تكبر تكلف أن يتصف بما لا يليق به، ومن ثم قيل: هتك ستره من جاوز قدره.
(يستكثر قليل المعروف من غيره) العاقل يؤثر ذلك من وجوه:
الأول: التشبه بالبارىء جل شأنه فإنه يقبل قليل الحسنات من عباده ويضاعفه أضعافا كثيرة وفي الأدعية المأثورة «يا من يقبل القليل ويعفو عن الكثير».
الثاني: استكثاره تعظيم للنعمة والمنعم، وكلاهما مطلوب واستقلاله تحقير لهما وهو مذموم جدا.
ص: 181
الثالث: استكثاره نوع من الشكر وهو يوجب الزيادة لقوله تعالى: (ولئن شكرتم لأزيدنكم) ولما رواه مسمع بن عبد الملك قال: كنا عند أبي عبد الله (عليه السلام) بمنى وبين أيدينا عنب نأكله فجاء سائل فسأله فأمر بعنقود فأعطيته فقال السائل: لا حاجة لي في هذا إن كان درهم، قال: يسع الله عليك، فذهب ثم رجع فقال ردوا العنقود فقال: يسع الله لك ولم يعطه شيئا، ثم جاء سائل آخر فأخذ أبو عبد الله (عليه السلام) ثلاث حبات عنب فناولها، إياه فأخذ السائل من يده ثم قال: الحمد لله رب العالمين الذي رزقني، فقال أبو عبد الله (عليه السلام): مكانك فحثا ملأ كفيه عنبا فناولها إياه فأخذها السائل من يده ثم قال الحمد لله رب العالمين فقال أبو عبد الله (عليه السلام) مكانك، يا غلام أي شئ معك من الدراهم فإذا معه نحو من عشرين درهما فيما حرزناه (1) أو نحوها فناوله إياها، فأخذها ثم قال: الحمد لله هذا منك وحدك لا شريك لك فقال أبو عبد الله (عليه السلام) (عليهم السلام) مكانك فخلع قميصا كان عليه فقال: ألبس هذا، فلبسه، ثم قال: الحمد لله الذي كساني وسترني يا أبا عبد الله أو قال: جزاك الله خيرا، لم يدع لأبي عبد الله (عليه السلام) إلا بذا ثم انصرف، فذهب فظننا أنه لو لم يدع له لم يزل يعطيه لأنه كلما كان يعطيه حمد الله أعطاه» (2).
(ويستقل كثير المعروف من نفسه) لأن العاقل يعلم أن في استعظام ما أعطاه من المعروف مفاسد شتى منها أنه يؤذي الآخذو أذاه يحبط الأجر لقوله تعالى (قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى والله غني حليم) ومنها أنه يوجب منا عليه والمن يهدم أجره لقول الصادق (عليه السلام) «المن يهدم الصدقة» (3) ومنها أنه يستلزم البخل لأنه لا يستعظم إلا ما عظم في عينه وكثر في نظره فيشق عليه إخراجه، ومن ثم قيل: الجواد لا يستعظم ولو أعطى الدنيا بحذافيرها، ومنها أنه يوجب العجب والفخر وهما من الصفات الرذيلة التي لا يرتكبها العاقل وأيضا العاقل إذا شاهد نعم الله تعالى على الفقراء ظاهرة وباطنة مما لا يعد ولا يحصى، وعلم أنه تعالى مع ذلك يستصغرها ويخاطبهم يوم القيامة بالاعتذار ويقول: «يا عبادي مامعتكم في الدنيا لهواني بكم بل لاكرامي لكم في هذا اليوم» (4) وقاس معروفه على نعماء الله تعالى يجده شيئا قليلا بل لا شيئا محضا، فلا يخطر بباله استعظام ذلك قطعا، ثم الاستعظام بأن يقول مثلا: لي عليك نعمة عظيمة، أو أعطيتك مالا كثيرا، أو أحييتك باعطاء كذا وكذا، أو خذ هذا المال الكثير، أو يعد نعماءه ويكررها عليه، أو نحو ذلك مما دل عليه صريحا أو ضمنا أو كناية.
(ويرى الناس كلهم خيرا منه) لحسن الظن بهم وعدم علمه بخفيات أمورهم ولاجتنابه عن رذيلة
ص: 182
العجب المانع من الترقي في الكمالات والتودد في الالتيام ولأن هذا نوع من التواضع لله تعالى ولعباده والتواضع يوجب السعادة في الدارين والرفعة في النشأتين ومحبتهم إياه، ولأن الخيرية الحقيقة لكل أحد باعتبار قربه بالمبدء ولطف المبدء به ولا يعلم ذلك إلا الله سبحانه، ومراتبهما مختلفة متفاوتة في الزيادة والنقصان، والعاقل يجوز أن يكون القرب واللطف في غيره أكمل فلذلك يراه خيرا منه وحكاية موسى (عليه السلام): مع الكلب مشهورة وفي الكتب مذكورة.
(وأنه شرهم في نفسه) لما فيه من التواضع والتذلل وإهانة نفسه وعدم إكرامها وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): «طوبى لمن ذل نفسه» (1) ولأن العاقل عارف بعيوبه وعجزه وقصوره لا بعيوب غيره (وهو تمام الأمر) أي هذا الأخير وهو أن يرى العاقل أنه شر الناس في نفسه تمام العقل وكماله إذ به يحصل الاستكانة والتضرع والخضوع لله تعالى والرجوع إليه بالكلية، والتعري عن جلبات الوجود والهوية المجازية والتوصل إلى الفناء في الله والهوية الحقيقية، ويحتمل أن يكون الضمير راجعا إلى جميع ما تقدم من الخصال المذكورة فهو حينئذ بمنزلة إعادة ما أفاده (عليه السلام) بقوله: و «ما تم عقل امرء حتى يكون فيه خصال شتى».
(يا هشام إن العاقل لا يكذب وإن كان فيه هواه) قريب منه قول أمير - المؤمنين (عليه السلام): «علامة الايمان أن تؤثر الصدق حيث يضرك على الكذب حيث ينفعك» (2) قال في المغرب: الهوى مصدر هويه إذا أحبه واشتهاه ثم سمى به المهوى المشتهى، محمودا كان أو مذموما، ثم غلب على غير المحمود فقيل: فلان اتبع هواه إذا أريد ذمه، وفي التنزيل (ولا تتبع أهواء قوم) ومنه فلان من أهل الأهواء إذا زاغ عن الطريقة المثلى من أهل القبلة كالجبرية والحشوية والخوارج.
والمعنى أن العاقل لا يكذب فيما فيه هواه ونفعه تحرزا من الفضيحة ووقوع الناس في أعراضه عند ظهور خلافه أو من عقوبة الله والبعد من رحمته فكيف إذا لم ينفعه الكذب ولا يهويه وفيه ترغيب في إيثار الصدق على الكذب ومبالغة في أن العاقل لا يكذب أصلا، وقال بعض الحكماء: الكذاب والميت سواء لأن فضيلة الحي النطق فإذا لم يوثق بكلامه فقد بطلت حياته.
(يا هشام لا دين لمن لا مروءة له) في المغرب المروءة كمال الرجولية ومنها تجافوا عن عقوبة ذي المروءة وقد مرأ الرجل مروءة، وفي الصحاح المروءة الإنسانية (ولا مروءة لمن لاعقل له) الظاهر أن النفي في المواضع الأربعة وارد على الحقيقة كما يقضيه وقوع النكرة في سياق النفي، والمعنى لا تتحقق حقيقة الدين ولا توجد لمن ليس له حقيقة المروءة، ولا تتحقق حقيقة المروءة لمن ليس له حقيقة العقل
ص: 183
ينتج لا يتحقق حقيقة الدين لمن ليس له حقيقة العقل، والمقدمتان ظاهرتان ضرورة أن من كان له مروءة في الجملة كان له دين في الجملة ومن كان له عقل في الجملة كان له مروءة في الجملة، ويحتمل أن يكون النفي فيها واردا على الكمال كما هو الشايع في استعمال نحو هذا الكلام، والمعنى لا يتحقق كمال الدين لمن ليس له كمال المروءة، ولا يتحقق كمال المروءة لمن ليس له كمال العقل، ينتج لا يتحقق كمال الدين لمن ليس له كمال العقل، والمقدمتان أيضا ظاهرتان ولا يجوز أن يراد في الأولى نفي الحقيقة وفي الثانية نفي الكمال أو بالعكس لفقد الارتباط حينئذ بين الفقرتين وعدم الانتاج لعدم تكرر الأوسط.
والأول أظهر لما مر، والثاني أنسب بما بعده، ولما بين (عليه السلام) أن المروءة والانسانية بالعقل وكان كل واحد منهما مستورا لا يدركه الحواس وكانت الظواهر أدلة على البواطن كما مر أشار إلى أنه يعرف ذلك بترك الدنيا وعدم الركون إليها، وإلى أن مراتبه متفاوتة في الشدة والضعف بقوله:
(وإن أعظم الناس قدرا الذي لا يرى الدنيا لنفسه خطرا) الخطر: الحظ والنصيب والقدر والمنزلة والسبق الذي يتراهن عليه، وقد أخطر المال أي جعله خطرا بين المتراهنين، ويجوز إرادة كل واحد من هذه المعاني هنا، أما الأولان فظاهران لأن أقدار الناس عند الله سبحانه في الدنيا والآخرة متفاوتة في الفضل والكمال والقرب والبعد وأعظمهم قدرا من لا يرى الدنيا حظا ونصيبا وقدرا ومنزلة لنفسه ولا يلتفت إليها أصلا لتنور قلبه بضوء عقله وإشراق لبه بنور ربه; فعاد بحيث لا ينظر إلا إليه ولا يرغب إلا فيما لديه ولعلمه بأن الدنيا والآخرة عدوان متفاوتان وسبيلان مختلفان وهما بمنزلة المشرق والمغرب، وأن من أحب الدنيا وتولاها أبغض الآخرة وعاداها، وأن من مشى إلى إحديهما بعد عن الأخرى، وأن مرارة الدنيا حلاوة الآخرة، وحلاوة الدنيا مرارة الآخرة.
وأن الدنيا موبقة زهراتها مهلكة شهواتها، باقية آفاتها، دائمة كدوراتها، حائلة بين المرء والطاعة لذاتها، فلذلك ترك الدنيا من وراء ظهره وسار إلى حضرة المولى فصار عنده أعظم قدرا وأرفع مكانا وأعلى شأنا ووجيها في الدنيا والآخرة، ومن المقربين الذين لا خوف عليهم ولاهم يحزنون، وأما الأخير فلأن الناس في هذه النشأة بمنزلة أهل السياق والرهان يتسابقون لأغراض مطلوبة وغايات مقصودة وأعظمهم قدرا عند الله تعالى من شرق عقله وكمل علمه فصار بحيث لا يرى الدنيا وزهراتها الغائلة (1) ولذاتها الزايلة ومقتنياتها الباطلة خطرا وسبقا لنفسه أصلا بل غرضه من السباق وغايته من الاستباق هو الفلاح بالسعادات الاخروية والفوز بالمكاشفات الربوبية والدخول في زمرة الأبرار وفي جنات تجري
ص: 184
من تحتها الأنهار، وبالجملة ترك الدنيا دل على كمال العقل والعلم، وظاهر أن العالم الكامل العقل أعظم قدرا عند الله تعالى من غيره (أما إن أبدانكم ليس لها ثمن إلا الجنة) فيه تنبيه للغافلين وإيقاظ لهم عن نوم غفلتهم وترغيب للسالكين في الزهادة عن الدنيا وتحريض للعاملين على تحمل المشقة والفناء بتوقع رفع المنزلة وعظيم الجزاء بنوع من التشبيه والتمثيل، وتلميح إلى قوله تعالى (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة) أي استبدل من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة حياتها السرمدية بالأنفس ونعيمها الأبدية بالأموال فالمشتري هو الله تعالى، والبايع هو النفوس البشرية، والمبيع هو الأبدان، والثمن هو الجنة العالية، الباقية، والدنيا أوان التسليم، فارتضوا بهذا البيع واستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وسلموا المبيع إلى المشتري لتستفيدوا الربح العظيم فإن البايع إذا قصر في تسليم المبيع حتى هلك انفسخ البيع وبطل الربح، قيل: وفي جعل الجنة ثمن الأبدان إشارة إلى أن ثمن النفوس المجردة هو الله تعالى فكأنه (عليه السلام) قال:
أما أن أبدانكم ثمنها الجنة فلا تبيعوها بغيرها وأما نفوسكم المجردة وأرواحكم القدسية فإنما ثمنها هو الله سبحانه والفناء المطلق فيه (1) وفي مشاهدة الوجه الكريم فلا تبيعوها بغيرها ولما كان البيع منوطا بالرضا وكان (عليه السلام) هو الناصح الأمين رغبهم في هذا البيع لما فيه من المصالح الدنيوية والمنافع الاخروية ونهاهم عن بيع أبدانهم بالدنيا الفانية الزايلة الخاسرة الغدارة المكارة بقوله (فلا تبيعوها بغيرها) يعني يجب عليكم أن لا تعاملوا الشيطان ولا تبيعوا الأبدان بالدنيا وشهواتها فإن من آثر مبايعة الرحمن على مبايعة الشيطان فأولئك هم الرابحون، ومن عكس فما ربحت تجارتهم وأولئك هم الخاسرون.
وينبغي أن يعلم أن العبد في الدنيا تاجر وهو في محل الخطر بنفسه وماله فلابد أن لا يغفل لمحة من حاله، فإن الشيطان قاطع الطريق، مترصد في اغتياله، منتهض للفرصة في إضلاله، والمشتري وهو الله تعالى عالم بأحواله ولا يقبل إلا السليم والجيد من أعماله وأقواله وأفعاله فيجب عليه أن يبتهل أن
ص: 185
لا يكون من الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين.
(يا هشام إن أمير المؤمنين (عليه السلام) كان يقول: إن من علامة العاقل) علامة الشئ ما يعرف به ذلك الشئ وللعاقل علامات كثيرة كما يظهر لمن تصفح أحاديث هذا الكتاب وغيرها والمذكور هنا ثلاثة كلها لتكميل الغير اثنان منها لتكميل العلم والآخر لتكميل العمل أو لتكميل العلم والعمل جميعا (أن يكون فيه ثلاث خصال) يريد أن كل واحدة منها علامة بدليل ما بعده (يجيب إذا سئل) لأن الجواب على نهج الصواب عقيب السؤال دل على كمال المجيب وإنارة عقله ونضارة ذهنه ومهارة طبعه في العلوم ولذلك قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «تكلموا تعرفوا فإن المرء مخبوء تحت لسانه» (1) وقال أيضا «قدر كل امرء ما يحسنه فتكلموا في العلم تبين أقداركم» (2) ولأن هذا الجواب ينفع السائل لأنه ينور قلبه بالحكمة وإيصال النفع من الصفات الجلية والسمات العلية للعاقل كما يرشد إليه قول أمير المؤمنين (عليه السلام) «خير القول ما نفع» (3)4 - أخرجه البغوي في المصابيح ج 1 ص 22 بسند ضعيف عن أبي هريرة.
(4) وقوله: أيضا «لا خير في علم لا ينفع» قيل يعني لا ينفع صاحبه غيره بل فيه مضرة، لقول النبي (صلى الله عليه وآله) «من سئل عن علم علمه ثم كتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار» (4) وهذا يفيد وجوب الجواب عقيب السؤال ويستثنى من ذلك ما إذا كان الجواب موجبا لمضرة والترك مشتملا على المصلحة كالتقية ونحوها يدل على ذلك ما رواه المصنف (5) عن الحسين بن محمد عن معلى بن محمد عن الوشاء قال: سألت الرضا (عليه السلام) فقلت له: جعلت فداك (فاسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون)؟ فقال: نحن أهل الذكر ونحن المسؤولون، قلت: فأنتم المسؤولون ونحن السائلون؟ قال: نعم، قلت:
حقا علينا أن نسئلكم؟ قال: نعم، قلت حقا عليكم أن تجيبونا؟ قال: لا، ذاك إلينا إن شئنا فعلنا وإن شئنا لم نفعل أما تسمع قول الله تعالى: (هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب) وبالجملة العاقل حكيم يجيب إن رأى الجواب خيرا وبترك الجواب إن رأى تركه خيرا، وترك الجواب والصمت لمصلحة أيضا من علامات العاقل، وقد نقل بعض أرباب السير أن رجلا من أهل العراق حج بيت الله الحرام وغلبه النوم ليلة في المسجد الحرام فاعطي في المنام تعبير الرؤيا، فلما رجع إلى بلده اشتهر بذلك حتى كان الناس ينتقلون إليه من البلدان البعيدة لاستعلام رؤياهم وكان يجيبهم ويعبر لهم ولا يخطئ أصلا ونقل من جملة تعبيراته حكايات عجيبة غريبة فبلغ ذلك إلى الوالي فطلبه وأجلسه بين يديه وشرع بذكر حكايات من مزخرفات ومنامات مفتريات على سبيل السخرية والاستهزاء وكان ذلك الرجل ساكتا في
ص: 186
كل ما يقول ولم يجبه أصلا فقال له الأمير بعدما أطال الكلام لايش ما تتكلم؟ فقال: أيها الأمير نحن نتكلم إذا كان السائل مستفهما لا ما إذا كان مستهزيا ومتعنتا.
فاستحسن عقله وتدبيره فعززه وقربه.
(وينطق إذا عجز القوم عن الكلام) بالحكمة الإلهية، والأسرار الربوبية والقوانين الشرعية والأخلاق النبوية والسياسات المدنية، وغيرها لشدة خوضه في العلوم والحقائق وكثرة غوصه في بحار المعاني والدقائق إما بتعلم ومناظرة مع الخلان في مدة طويلة وآونة من الزمان أو بمكاشفات وإلهامات لكثرة أفكار ورياضات فحصل له بذلك كمالات لازمة وسعادات دائمة وملكات ثابتة وأحوالات راسخة حتى عرج بذلك إلى رتبة التعليم بعبارات لايقة، ودرجة التفهيم بكلمات رائقة، ومنزل التقويم بتقريرات واضحة، كما هو شأن العلماء ودأب الحكماء، وطرز العقلاء، فدل ذلك على كماله في عقله وتفوقه في فضله وتقدمه في جلال قدره وكمال نيله ومن ههنا يظهر أن أمير المؤمنين (عليه السلام) مقدم على الثلاثة المنتحلين للخلافة لعجزهم عن معرفة كثير من الأحكام ورجوعهم إليه في كثير من مسائل الحلال والحرام (ويشير بالرأي الذي يكون فيه صلاح أهله) لأن ذلك يتوقف على التميز بين الحق والباطل والحسن والقبيح والصحيح والسقيم والخير والشر في الأقوال والأعمال والأخلاق كلها، ثم اختيار أفضل هذه الأمور للاخوان والإشارة إليه شفقة عليهم، وكل ذلك من آثار الفضل وعلامات العقل ولذلك قيل: من أشار إلى أخيه بأمر يعلم أن الرشد فيه فقد كمل عقله وفاق فضله وظهر عدله.
وهذه الفقرة من الكلمات الجامعة لشمولها جميع أنواع الخير مثل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والأمر بالأخلاق المرضية والترغيب في أمر الآخرة والتزهيد عن الدنيا، وغير ذلك مما يتم به نظام الدارين وتكمل به سعادة الكونين، وقيل الفقرة الأولى ناظرة إلى الفتاوى في النقليات والشرعيات والثانية إلى تحقيق المعارف والعقليات والثالثة إلى معرفة التدبيرات والسياسات في العمليات (1) (فمن لم يكن فيه من هذه الخصال الثلاث شئ) يعني لم يقدر على الجواب عند سؤال، وعلى النطق عند عجز القوم، وعلى الإشارة بما فيه صلاح أهله فهو أحمق ناقص العقل لفساد قوته النظرية والعملية المعبرتين بالعقل النظري والعملي.
قال في المغرب: الحمق نقصان العقل عن ابن فارس، وعن الأزهري فساد فيه وكساد، ومنه انحمق
ص: 187
الثوب إذا بلي، انحمقت السوق إذا كسدت، وقد حمق حمقا فهو أحمق، وحمق حماقة فهو أحمق.
(إن أمير المؤمنين (عليه السلام)) تأكيد للسابق وتقرير له ولذلك ترك العاطف (قال لا يجلس في صدر المجلس إلا رجل فيه هذه الخصال الثلاث) التي هي من أعاظم أصول حاجات الناس (أو واحدة منهن) لأن صدر المجلس لأصحاب العلوم الراسخة وأرباب العقول الكاملة في قوتي العلم والعمل ليرجع إليهم الضعفاء ويلوذ بهم الفقراء في تحصيل الكمال وتكميل الأحوال ويعظموهم لحق التعليم والإرشاد ويوقروهم لحق التقدم في المعرفة والعلم بأحوال المبدء والمعاد، وهذا صريح في أن تفاوت الرجال في المجالس باعتبار تفاوتهم في الفضل والكمال لا باعتبار تفاوتهم في النسب والمال، يدل على ذلك قوله (عليه السلام) أيضا «قيمة كل امرء ما يحسنه» (1) وقول الصادق (عليه السلام) «اعرفوا منازل الناس على قدر رواياتهم عنا» (2) وبالجملة التقدم على الاطلاق لرسول الله (صلى الله عليه وآله) ثم بعده لعلي بن أبي طالب وأولاده الطاهرين (عليهم السلام) ثم بعدهم لشيعتهم على تفاوت مراتبهم في العلم والعمل (فمن لم يكن فيه شئ منهن فجلس فهو أحمق) لأنه وضع لنفسه في غير موضعها وموضعها موضع أراذل الناس لأنه رذل وإن كان ذا نسب لقول النبي (صلى الله عليه وآله) ما استرذل الله عبدا إلا حظر عليه العلم والأدب» (3) وقول أمير المؤمنين: «إذا أرذل الله عبدا حظر عليه العلم» (2).
(وقال الحسن بن علي (عليهما السلام) إذا طلبتم الحوائج فاطلبوها من أهلها) يمكن أن يراد بالحوائج الحوائج الدينية أعني أصول المعارف والأحكام وفروعها وأن يراد بها الحوائج الدنيوية وقد دل العقل والنقل على قبح الطلب وذم السؤال في أمور دنيوية لأن فيه خساسة وذلا وانكسارا ودنية وإراقة ماء الوجه وهي أشد وأصعب من منيته، ولذلك قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «أكرم نفسك عن كل دنية وإن ساقتك إلى الرغائب» (3) وهي جمع الرغيبة يعني العطاء الكثير وفي الخبر أيضا «لأن يأتي أحدكم جبلا فيأتي بحزمة حطب على ظهره فيبيعها فيكف الله بها وجهه خير له من إن يسأل أعطوه أو منعوه» (4) وإن اضطررتم وليس الاضطرار إلا لقلة البصيرة وضعف اليقين بالله، لأن من توكل على الله فهو حسبه فاطلبوها من أهلها لأنه إن قضاها قضاها بلا منة ولا استهانة وعلى وجه جزيل وإن ردها ردها بوجه حسن وعلى وجه جميل، ولا تطلبوها من غير أهلها لأن تلك دنية حاضرة ومذلة ظاهرة، وفوت
ص: 188
الحوائج أحسن وأهون منها فقال: (قيل يا ابن رسول الله ومن أهلها؟ قال: الذين قص الله في كتابه وذكرهم فقال: (إنما يتذكر أولو الألباب) قال: هم أولو العقول الخالصة) عن شوائب النقص والأوهام (1) إن أريد بالحوائج الحوائج الدينية فالرجوع فيها إلى اولى الألباب وطلبها منهم ظاهر لأنهم العارفون بالمعارف والأحكام وسائر الناس فقراء يحتاجون إلى السؤال منهم والأخذ من خزائن عقولهم، وكذا إن أريد بها الحوائج الدنيوية لأنهم بسبب كمال عقولهم وعلو طبعهم وشدة محبتهم ومودتهم بخلق الله إما يقضون حوائجهم على الوجه الأحسن، كما روي «أن سائلا سأل الرضا (عليه السلام) فقال اجلس رحمك الله فدخل الحجرة وبقى ساعة ثم خرج ورد الباب وأخرج يده من أعلى الباب وقال للسائل: خذ هذا المائتي دينار واستعن بها على مؤونتك ونفقتك وتبرك بها ثم خرج بعد ذهاب السائل; فقيل له: جعلت فداك لقد أجزلت ورحمت فلما ذا سترت وجهك عنه؟ فقال مخافة أن أرى ذل السؤال في وجهه لقضائي حاجته» (2) وإما يردونهم على الوجه الأحسن ويرشدونهم إلى ما يتحصل به قضاء حوائجهم كما روي «أن رجلا اشتدت فاقته فقالت له امرأته لو أتيت رسول الله فسألته فجاءه ليسأله فلما رآه النبي (صلى الله عليه وآله) قال: من سألنا أعطيناه ومن استغنى أغناه الله فقال الرجل ما يعني غيري فرجع إلى امرأته فأعلمها فقالت: إن رسول الله بشر فأعلمه، فأتاه فلما رآه قال: من سألنا أعطيناه ومن استغنى أغناه الله حتى فعل ذلك ثلاثا ثم ذهب الرجل واستعار معولا واشتغل بالاحتطاب وابتياعه حتى اشترى بكرين وغلاما ثم أثرى حتى أيسر فجاء إليه (صلى الله عليه وآله) فأعلمه كيف جاء يسأله وكيف سمع منه، فقال (صلى الله عليه وآله) قلت لك: من سألنا أعطيناه ومن استغنى أغناه الله» (3) فانظر رحمك الله إلى جلالة قدر العقلاء ونبالة حالهم وعظمة شأنهم حيث جعلهم الله سبحانه منارا في بلاده بهم يعرفون معالم الدين ويصعدون إلى أعلى معارج اليقين، وملاذا لعباده بهم يتوسلون في تحصيل المطالب ويتمسكون في تيسير المآرب، تلك نعمة يمن بها على من يشاء من عباده وهو الحكيم العليم.
ص: 189
(وقال علي بن الحسين (عليهما السلام): مجالسة الصالحين داعية إلى الصلاح) لأن كلامهم يعمر قلب الأنيس ويلين طبع الجليس (1) ويخرجه من الغفلة والنسيان ويذكره ثواب الأبد ونعيم الجنان، ويحييه بالموعظة العليا والسعادة العظمى والزهادة عن الدنيا حتى يصير تكونه كتكونهم وتلونه كتلونهم فيرتقى بذلك إلى معارج القدس، ويرتع في رياض الانس، ألا يرى أن من عقد خدمة النبي في وسط روحه كيف فتح الله عليه أبواب فتوحه ومن قارن بيضاء سماء الولاية ولازم نير فلك الإمامة وأخذ جواهر المعاني من زواهر كلماته واقتبس أنوار الحقايق من ضوء مشكاته كيف نور الله بذلك مهجته وزاد بهاءه وبهجته، وقد يرشد إلى ذلك قول أمير المؤمنين (عليه السلام): «قارن أهل الخير تكن منهم وباين أهل الشر تبن عنهم» (2) أي تتميز عنهم.
وفيه حث عظيم على وجوب مفارقة الفاسقين والاجتناب عن الظالمين والفرار عن أولياء الشياطين حتى كان تقارنهم موجبا للاتحاد بين الاثنين وذلك لأن جليس أهل الشر يأخذ منهم أعمال الشر بدارا كما أن الحديد بمجاورة النار يصير نارا، إذ قد اجتمع على تلك الأعمال بواعث من الطبع ووساوس من الشيطان وتدليسات من مردة الإنس، وتلبيسات من أهل الخذلان، فيوحى بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا، ويزين كل لصاحبه باطلا وزورا.
(وآداب العلماء زيادة في العقل) الآداب جمع الأدب (3) قال في المغرب الأدب أدب النفس والدرس - وقد أدب فهو أديب وأد به غيره فتأدب واستأدب وتركيبه يدل على الجمع - والدعاء ومنه الآدب لأنه يأدب الناس إلى المحامد أي يدعوهم إليها عن الأزهري، وعن أبي يزيد الأدب اسم يقع على كل رياضة محمودة يتخرج به الإنسان في فضيلة من الفضايل والمقصود أن آداب العلماء موجبة لزيادة عقل من
ص: 190
جالسهم وعروجه من حضيض النقص إلى أوج الكمال، والوجه في ذلك مع ظهوره أن عقول العلماء مشرقة مضيئة في سماء الأبدان كالشمس فانقشعت عنهم سحائب الحجب وظلمات الغشاوة إلى أن شاهدوا العلوم الإلهية والحكمة الربانية وإذا قابلت العقول الناقصة القابلة عقولهم استعدت بذلك لأن يتنور بنورها وتستضيء بضوئها كما أن القمر المقابل للشمس يتنور بنورها ويستضىء بضوئها وعلى حسب ذلك ينكشف عنها الحجاب والعوائق ويحصل لها الترقي إلى عالم العلوم والحقائق ولذلك قال أبو الحسن موسى بن جعفر (عليهما السلام) «محادثة العالم على المزابل خير من محادثة الجاهل على الزرابي» (1) (وطاعة ولاة العدل تمام العز) (2) لما كان الإنسان أسيرا للنفس الأمارة بالشهوات والقوى الداعية إلى اللذات وكان أهواؤهم لذلك مختلفة وآراؤهم متباعدة وقلوبهم متفرقة كانت استقامة نظام أحوالهم في أمر معاشهم ومعادهم محوجة إلى سلطان قاهر وحاكم زاجر تأتلف برهبته النفوس والأهواء وتجتمع بهيبته القلوب والآراء وتنكف بسطوته الأيدي العادية إذ في طباعهم من حب الغلبة على ما أثروه والقهر لمن عاندوه مالا ينكفون عنه إلا بمانع قوي ورادع ملي وزاجر جلي وقد أفصح المتنبي عنه حيث قال:
لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى * حتى يراق على جوانبه الدم والظلم من شيم النفوس فإن تكن * ذا عفة فلعلة لا يظلم والعلة المانعة من الظلم عند الاستقراء ترجع إلى أمور أربعة إما عقل زاجر أو دين حاجز، أو عجز مانع، أو سلطان رادع، والسلطان القاهر أبلغها نفعا وأعظمها ردعا لأن العقل والدين ربما كانا مغلوبين
ص: 191
بدواعي الهوى والعجز قد ينتفى كما هو المشاهد في الأكثر فيكون رهبة السلطان أقوى ردعا وأعم نفعا، ثم السلطان الجائر وإن كان دافعا للفتنة من بعض الجوانب لكنه جالب لها من جوانب أخر فلا خير فيه من جهة ما هو جاير فلا بد من أن يكون السلطان عادلا ليكون دافعا للفتنة بالكلية مانعا من وقوع الهرج والمرج والذل والخسران في الخلق ولكن دفعه لها منوط بطاعتهم ومتابعتهم له فوجب عليهم الوفاء بذمامه والاستماع إلى كلامه، والاتباع لأفعاله وأعماله، واللزوم للالفة والتحاض عليها والتواصي بها، والاجتناب عن الفرقة وغيرها مما يكسر فقرتهم ويوهن قوتهم من تضاغن القلوب وتشاحن الصدور وتدابر النفوس وتخاذل الأيدي ليحصل له قوة لدفع كيد المعاندين وشر الظالمين ومكر الحاسدين وطعن الملحدين عن حوزة المسلمين وعرض المؤمنين، فتحصل لهم العافية وتكمل لهم النعمة وتجري عليهم العزة والكرامة، ويكونون حينئذ أنصارا معززين وأربابا في الأرضين ملوكا على رقاب العالمين، ولو تركوا طاعته واختاروا فرقته وجانبوا الفتنة وهدموا كلمته وكسروا شوكته وتشعبوا مختلفين وتفرقوا متحاربين خلع الله تعالى عنهم لباس كرامته ورداء عزته وغضارة نعمته فيستولي عليهم الأعداء ويتخذونهم عبيدا ويسومونهم سوء العذاب وهم متحيرون في ذل الهلكة وقهر الغلبة لا يجدون حيلة في امتناع ولا سبيلا إلى دفاع (1).
(واستثمار المال تمام المروءة) أي استثمار المال واستنماؤه بالتجارة وغيرها من أنواع الاكتساب تمام الانسانية وكمال الرجولية (2) لما فيه من الاستعفاف عن الناس والسعي للتوسعة على الأهل والتعطف على الجار والاقتداء على قضاء الحوائج والإتيان بسائر أبواب البر من مصالح الدنيا والآخرة.
قال الصادق (عليه السلام): «إصلاح المال من الايمان» (3) وقال أيضا: «عليك بإصلاح المال فإن فيه منبهة
ص: 192
للكريم واستغناء عن اللئيم» (4) والاخبار المرغبة في كسب الحلال والاستغناء عن الناس وجعله وسيلة إلى السعادات الأخروية والتقرب بالقربات الإلهية وصرفه في وجوه البر أكثر من أن تعد وتحصى وإنما المذموم من جعل الدنيا لنفسه استقرارا ورضي بها دارا واطمأن بها وركن إليها وجعلها آلة للشهوات الباطلة واللذات الزائلة والسيئات الحائلة بينه وبين السعادة الأبدية.
وقد روى «أن الدنيا دنيا آن دنا دنيا ممدوحة» وهي ما يوجب زيادة القرب من الله تعالى، «ودنيا ملعونة» وهي ما يوجب البعد عن رحمته ويحتمل أن يكون استثمار المال كناية عن إخراج الزكاة لأن إخراج الزكاة يوجب نمو المال ولذلك سمي المخرج من المال زكاة ويدل عليه قول أمير المؤمنين (عليه السلام): «ان الله وضع الزكاة قوتا للفقراء وتوفيرا لأموالكم» (1).
(وإرشاد المستشير قضاء لحق النعمة) الاستشارة أمر مرغوب فيه شرعا وعقلا والروايات المرغبة فيها متظافرة وقد أمر الله تعالى بها سيد المرسلين وهو أعقل العاقلين فقال: «وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله» فمن اهتم بأمر يعلم أن الخيرة في فعله أو في تركه فعليه أن يستشير بذي الرأي المتين فإنه سبحانه يلهمه الخير والشر وعلى المستشار أن لا يخونه فإن من خان مسلما فقد خان رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومن خان رسول الله فقد خان الله ومن خان الله أخزاه الله في الدنيا والآخرة وسلب عنه نعماه ورحمته وعليه هدايته وإرشاده إلى ما هو خير له «قضاء لحق النعمة» أي نعمة المستشير عليه لأن تفويض المسلم أمره إلى أخيه واتكاله على رأيه فيه نعمة عليه، أو المراد بالنعمة عقل المستشار لأن العقل من أفضل نعماء الله تعالى على عباده والمراد بها أعم من ذلك وعلى التقادير إرشاده سبب لمقتضى حقها واستبقاء لها وإضلاله سبب لفسادها ويرشد إليه قول أمير المؤمنين (عليه السلام) «إن لله عبادا يختصهم بالنعم لمنافع العباد فيقرها في أيديهم ما بذلوها فإذا منعوها نزعها ثم حولها إلى غيرهم» (2).
(وكف الأذى من كمال العقل) قال: في المغرب: الأذى ما يؤذيك وأصله المصدر وقوله في المحيض «هو أذى» أي شئ يستقذر كأنه يوذي من يقر به نفرة وكراهة، والتأذي أن يؤثر فيه الأذى.
أقول: الأذى لفظ شامل لجميع أنواع الخصال المذمومة مثل الضرب والشتم والهجو والغيبة والتهمة وغيرها وإنما كان كف الأذى من كمال العقل لأن العاقل يعلم أن الغرض الأصلي من الخلق هو الوصول إلى جناب عزته والطيران في حظاير قدسه بأجنحة الكمال مع الملائكة المقربين وأن ذلك كما يتوقف على عبادة الرحمن كذلك يتوقف على كف الأذى من الإخوان، فكما أن صرف الهمة في العبادة من كمال العقل كذلك صرف النفس عن الأذى، وأما المؤذي فهو بمنزلة البهائم والسباع، عار عن حلية العقل ويعلم
ص: 193
أيضا أن ترك الأذى يوجب التعاون والتعاطف والتراحم والتواصل والتظاهر والتواخي والتآلف والتودد والاجتماع، وكل ذلك مما يقتضيه كمال العقل ويعلم أيضا أن ترك الأذى يدل على حلمه وأناته ورفقه وإشفاقه وعلمه بعواقب الأمور وهي من آثار العقل، ويعلم أيضا أن إيذاء المسلم نقصان في الدين أو خروج منه لقوله (عليه السلام): «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده» (1) فلذلك يتركه طلبا لكماله وأنه من كمال العقل ولا تفاوت في هذا الحكم بين كف نفسه عن أذى الغير أو كف غيره عن أذى أحد (وفيه راحة البدن عاجلا وآجلا) لأن الدنيا والآخرة دار المكافاة فمن ترك الأذى سلم عن الآفات أما الآخرة فلقوله تعالى: (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره) وقوله تعالى: (سيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون) وقول أمير المؤمنين (عليه السلام) «بئس الزاد إلى المعاد العدوان على العباد» (2)3 - (3)4 -(4) وقوله «يوم المظلوم على الظلم أشد من يوم الظالم على المظلوم» (3) إلى غير ذلك من الآيات والروايات، وأما الدنيا فلقوله (عليه السلام) «من سل سيف البغي قتل به، ومن حفر بئرا لأخيه وقع فيها» (4) ولأن المظلوم إن كان ذا قوة فقد ألقى المؤذي نفسه إلى التهلكة وإن لم يكن ذا قوة أضمر العداوة وينتهز الفرصة لايقاع المكروه به كما هو المعلوم من أحوال أبناء الزمان، وأيضا قد يرفعه الدهر وليس ذلك من الدهر ببعيد فالمؤذي دائما في معرض الهلاك وقد يقال: الناس إما كاملون أو ناقصون والناقص نقصانه إما بحسب الدنيا أو بحسب الآخرة والنقصان بحسب الآخرة إما بحسب العمل أو بحسب العلم والنقصان بحسب الدنيا إما في الجاه والعزة أو في المال والثروة، والكامل من حقه أن ينفع غيره أو يدفع الضرر عنه فصارت الأقسام ستة أربعة من جهة النقص واثنان من جهة الكمال فقوله (عليه السلام) «مجالسة الصالحين داعية إلى الصلاح» إشارة إلى الناقص من جهة العمل المفتقر إلى من يدعوه إلى الصلاح وقوله: «وآداب العلماء زيادة في العقل، إشارة إلى الناقص في العلم المفتقر إلى التعلم وقوله: «وطاعة ولاة الأمر تمام العز» إشارة الناقص بحسب الدنيا من جهة العزة.
وقوله: «واستثمار المال تمام المروءة» إشارة إلى الناقص بحسب الدنيا من جهة المال، فهذه أقسام الناقصين وعلاج جميعهم بالمعاشرة والصحبة.
وقوله: «وإرشاد المستشير قضاء لحق النعمة» إلى الكامل النافع لغيره.
وقوله: «وكف الأذى تمام العقل» إشارة إلى الكامل الدافع للضرر عن الغير.
(يا هشام إن العاقل لا يحدث من يخاف تكذيبه) لأن العاقل لا يعين غيره بالإثم والعدوان ولا يسعى
ص: 194
على نفسه بالاستهانة والخذلان، بل يحفظ قدره وشرفه على قدر الامكان ويجتنب من تحديث من يكذبه كما يجتنب من الذنوب والعصيان أو أشد اجتنابا لقول أمير المؤمنين (عليه السلام): «أشد الذنوب ما استهان به صاحبه» (1) ولأن المكذب للعاقل جاهل ورؤية الجاهل ومجالسته شوم فيكف تحديثه ومجاورته ولأن تحديثه مع احتمال تكذيبه ربما ينجر إلى الخصومة والجدال وقد ورد النهي عنها.
(ولا يسأل من يخاف منعه) لأن أصل السؤال - والطمع - عما في أيدي الناس ذل والخيبة بالمنع وعدم الانجاح ذل آخر فالعاقل لا يسأل غيره ما استطاع لقول أمير المؤمنين (عليه السلام) «إن استطعت أن لا يكون بينك وبين الله ذو نعمة فافعل فإنك مدرك قسمك وآخذ سهمك، وإن اليسير من الله سبحانه أكرم وأعظم من الكثير من خلقه وإن كان كل منه» (2) وإن اضطر إليه ونظر إلى أن المال في أيدي العباد مال الله في الحقيقة قد ملكهم التصرف فيه وأن هذا العالم عالم الأسباب فلا يسأل قطعا من يخاف منعه تحاشيا عن ذل في ذل وانكسار في انكسار وإراقه ماء الوجه بلا منفعة أصلا وتماسكا بقوله (عليه السلام) «ماء وجهك جامد فانظر عند من تقطره» (3) وبقوله:
لقلع ضرس، وضنك حبس * ونزع نفس، ورد أمس وحمل عار، ونفخ نار * وبيع دار بعشر فلس وقود قرد، ونسج برد * ودبغ جلد بغير شمس وقتل عم، وشرب دم * وحمل غم، ونقل رمس أهون من وقفة بباب * تلقاك حجابها بعبس (ولا يعد مالا يقدر عليه) لأن خلف الوعد من صفة النفاق وصنع اللئام وفيه مذلة حاضرة وخساسة ظاهرة يستنكفها أصحاب العقول الخالصة وقد روي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) «ثلاث من كن فيه كان منافقا وعد منها خلف الوعد» (4) ولاظهار شرف الوفاء به وسمو رتبته وعلو درجته ذكر الله سبحانه في القرآن العزيز وقدمه على وصف الرسالة والنبوة وغيرهما من الصفات العالية مثل الأمر بالصلاة والزكاة فقال «واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد وكان رسولا نبيا» وقيل، معناه إن العاقل لا يعد أمرا من الأمور حتى يعلم أنه قادر على إتمامه والبلوغ إلى غايته.
ص: 195
وكأنه قرأ يعد بشد الدال من الإعداد والظاهر أنه تصحيف (ولا يرجوا ما يعنف برجائه) التعنيف اللوم والتعيير والرجاء هي الصورة الحاصلة في النفس من تقدير شئ وتصويره فيها وأكثره ينشأ من تخمين بلا روية، وفي النهاية الرجاء هي التوقع والأمل والمراد به هنا طلب رجل ما لا يستحقه ولا يليق بحاله كما هو من بضائع النوكى (1) وشرايع الحمقى، مثل أن يطلب الفقير الخمول السلطنة والجاهل الغبي التطلع بالأسرار اللاهوتية ويدعي المبتدىء في العلم رتبة الاستادين الكاملين ورجاء أمثال ذلك من لوازم الجهالة ولواحق الغباوة لامن صفة العلماء وسمت العقلاء فإن العاقل العالم لإنارة قلبه وإضاءة ذهنه وانفتاح عين بصيرته له حاجز عن ذلك ونور يستبين به العواقب ويترك به القبايح ويجتنب عن رجاء ما لا يليق به وينزل نفسه في مكانه ويطلب الأشياء في مظانها «رحم الله عبدا عرف قدره فلم يجاوز طوره» (لا تقدم على ما يخاف فوته بالعجز عنه) قرء بعض العلماء قوته بالقاف المضمومة وتشديد الواو، وقال: أي على قوته فالنصب على نزع الخافض، والنسخ التي رأيناها بالفاء المفتوحة والواو الساكنة يعني أن العاقل لا يقدم على فعل ليس في وسعه ولا يرتكبه تحرزا عن لحوق اللوم بسبب العجز عنه رأسا أو بسبب العجز عن الاتيان به على وجه الكمال وكذا لا يقدم على قول وفعل في غير وقتهما لأنه يعلم أن الأشياء مرهونة بأوقاتها ومن أقدم عليهما في غيرها عجز عنهما (2) وأذل نفسه، وقال الصادق (عليه السلام): «لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه، قيل له: وكيف يذل نفسه؟ قال: يتعرض لما لا يطيق» (3) وفي رواية أخرى (4) عنه (عليه السلام) قال: «يدخل فيما يتعذر منه». (5)
ص: 196
13 - «علي بن محمد، عن سهل بن زياد رفعه قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام):
العقل غطاء ستير، والفضل جمال ظاهر، فاستر خلل خلقك بفضلك، وقاتل هواك بعقلك، تسلم لك المودة، وتظهر لك المحبة».
(علي بن محمد عن سهل بن زياد رفعه قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): العقل غطاء ستير) العقل جوهر مجرد له مراتب متفاوتة في النقص والكمال باعتبار التفاوت في العلم والعمل والكشف حتى يبلغ غاية الكمال التي تختص بعقول الأنبياء والأوصياء (عليهم السلام)، والمراد بالعقل هنا نوعه في ضمن أي صنف وجد غير الصنف الذي هو في غاية الكمال سواء كان من جهة المكاشفة أو من جهة الاكتساب بقرينة أن هذا الصنف لا يحصل إلا بعد قتل مشتهيات النفس وهواها. والغطاء كالكساء ما يغطى ويستر به مثل الثوب ونحوه وسمي العقل غطاء على سبيل التشبيه لأنه يستر المقابح الظاهرة والمفاسد الفاضحة والعيوب الباطنة بالمدافعة والممانعة، ووصفه بستير بمعنى ساتر على سبيل الكشف والايضاح أو بمعنى مستور لأن العقل جوهر مجرد مستور عن الحواس لا يدرك إلا بشئ من آثاره وأحواله كما أشار إليه بقوله (والفضل جمال ظاهر) والمراد بالفضل إما جنوده الآتية مثل الرأفة والرحمة والعفة وأمثالها ووجه ظهورها ظاهر، وإما ما حصل له من العلوم الحقيقية والمعارف اليقينية والأخلاق النفسانية وظهوره إما لأنه يظهر في بعض الأوقات بالتعليم والتفهيم، أو لأن أكثره حصل من طرق الحواس ولما كان مقتضى العقل هو القرب من الخالق وتحصيل المحبة والإلف بالمخلوق وتكميل المودة ليتم له سعادة الدارين ونظام النشأتين ومقتضى النفس ضده أعني الميل إلى أنواع المشتهيات وأنواع المستلذات ولو بالغلبة الموجبة لعداوة الخالق والمخلوق وكان بينهما تدافع وتعارض وكان لكل منهما ممد ومعين، أما معين العقل فهو العلوم والمعارف وما أعطى له من الأخلاق والأعمال المرضية وهي جنوده الآتية،وأما معين النفس فهو ما قدر لها من الأخلاق الرذيلة وهي جنودها الآتية، واشتغال الحواس
ص: 197
والقوى بتحصيل متمنياتها وتكميل مهوياتها أراد (عليه السلام) أن يبين لنا طريقا به يقطع التنازع بينهما ويحصل القوة على النفس ويصل إلى مقصوده فقال: (فاستر خلل خلقك بفضلك) إن كان «خلقك» بضم الخاء فالمراد بخلله رذائل الأخلاق النفسانية كالغضب والحسد والجور ونحوها، وإن كان بفتحها فالمراد بها هذه، والطرق الموصلة للصورة الشهية المحسوسة إلى النفس أعني الحواس أيضا يعني استر رذائل أخلاقك النفسانية وصور المحسوسات الشهوانية بعلمك وفضائل صفاتك العقلية والمراد بسترها دفعها بلطايف السياسات وطرائف التدبيرات فيتقوى العقل حينئذ بالفضل وتبقى النفس مع المتمنيات وميلها إلى اللذات بلا معين من خارج وداخل فتصير ضعيفة مغلوبة بحيث تقدر على قتلها بسيف العقل، ولذلك أمر (عليه السلام) به حيث قال: (وقاتل) بعد ما صيرت عقلك قويا ونفسك ضعيفة.
(هواك بعقلك) أي متمنياتها ومهوياتها وذلك إنما يتحقق بقتل النفس ويمكن أن يراد بالهوى النفس مجازا من باب تسمية السبب باسم المسبب (تسلم لك المودة وتظهر لك المحبة) الفعلان مجزومان بالشرط المقدر بعد الأمر أي إن سترت وقتلت تسلم لك مودتك الخلق أو موده الخلق لك لخلوصك عما يوجب التباغض والتحاسد والتفارق وغيرها من منافرات التودد والالتيام، وتظهر لك محبة الله تعالى إياك أو محبتك إياه لعروجك بالعقل والفضل بلا معارض من النفس وهواها ومن رذائل الأخلاق ورداها إلى ساحة قدسه ومقام أنسه وفي بعض النسخ وتظهر لك الحجة يعني وتظهر لك الحجة والغلبة بذلك على الخلائق فهم يقتفون آثارك وأطوارك لحق رياستك ويتبعون أفعالك وأقوالك لحسن سياستك فيكمل لك منقبة الدنيا وسعادة الآخرة، هذا ما وصل إليه الفكر الفاتر والله أعلم بحقيقة كلام وليه.
«14 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن علي بن حديد، عن سماعة بن مهران قال:
كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) وعنده جماعة من مواليه فجرى ذكر العقل والجهل فقال أبو عبد الله (عليه السلام): اعرفوا العقل وجنده والجهل وجنده تهتدوا قال سماعة فقلت: جعلت فداك لا نعرف إلا ما عرفتنا، فقال أبو عبد لله (عليه السلام): إن الله عز وجل خلق العقل وهو أول خلق من الروحانيين عن يمين العرش من نوره فقال له أدبر فأدبر، ثم قال له: أقبل فأقبل، فقال الله تبارك وتعالى: خلقتك خلقا عظيما وكرمتك على جميع خلقي قال: ثم خلق الجهل من البحر الاجاج ظلمانيا فقال له:
أدبر فأدبر، ثم قال: له أقبل فلم يقبل فقال له: استكبرت فلعنه، ثم جعل للعقل خمسة وسبعين
ص: 198
جندا فلما رأى الجهل ما أكرم الله به العقل وما أعطاه أضمر له العداوة فقال الجهل: يا رب؟ هذا خلق مثلي خلقته وكرمته وأنا ضده ولا قوة لي به فأعطني من الجند مثل ما أعطيته.
فقال: نعم فإن عصيت بعد ذلك أخرجتك وجندك من رحمتي قال: قد رضيت فأعطاه خمسة وسبعين جندا فكان مما أعطى العقل من الخمسة والسبعين الجند: الخير وهو وزير العقل وجعل ضده الشر وهو وزير الجهل والايمان وضده الكفر، والتصديق وضده الحجود، والرجاء وضده القنوط، والعدل وضده الجور، والرضا وضده السخط، والشكر وضده الكفران، والطمع وضده اليأس، والتوكل وضده الحرص، والرأفة وضدها القسوة، والرحمة، وضدها الغضب، والعلم وضده الجهل، والفهم وضده الحمق، والعفة وضدها التهتك، والزهد وضده الرغبة، والرفق وضده الخرق، والرهبة وضدها الجرأة، والتواضع وضده الكبر، والتؤدة وضدها التسرع، والحلم وضده السفه، والصمت وضده الكبر، والتؤدة وضدها التسرع، والحلم وضده السفه، والصمت وضده الهذر، والاستسلام وضده الاستكبار، والتسليم وضده الشك، والصبر وضده الجزع، والصفح وضده الانتقام، والغنى وضده الفقر، والتذكر وضده السهو، والحفظ وضده النسيان، والتعطف وضده القطيعة، والقنوع وضده الحرص، والمؤاساة وضدها المنع، والمودة وضدها العداوة، والوفاء وضده الغدر، والطاعة وضدها المعصية، والخضوع وضده التطاول، والسلامة وضدها البلاء، والحب وضده البغض، والصدق وضده الكذب، والحق وضده الباطل، والأمانة وضدها الخيانة، والاخلاص وضده الشوب، والشهامة وضدها البلادة، [والفهم وضده الغباوه، والمعرفة وضدها الانكار] والمداراة وضدها المكاشفة وسلامة الغيب وضدها المماكرة، والكتمان وضده الافشاء، والصلاة وضدها الإضاعة، والصوم وضدها الافطار، والجهاد وضده النكول، والحج وضده نبذ الميثاق، وصون الحديث وضده النميمة، وبر الوالدين وضده العقوق، والحقيقة وضدها الرياء، والمعروف وضده المنكر، والستر وضده التبرج، والتقية وضدها الإذاعة، والانصاف وضده الحمية، والتهيئة وضدها البغي، والنظافة وضدها القذر، والحياء وضدها الجلع، والقصد وضده العدوان، والراحة وضدها التعب، والسهولة وضدها الصعوبة، والبركة وضدها المحق، [والعافية وضدها البلاء]، والقوام وضده المكاثرة، والحكمة وضدها الهواء، والوقار وضده الخفة، والسعادة وضدها الشقاوة; والتوبة وضدها الاصرار، والاستغفار وضده الاغترار، والمحافظة وضدها التهاون، والدعاء وضده الاستنكاف، والنشاط وضده الكسل، والفرح وضده الحزن، والالفة وضدها الفرقة، والسخاوة وضده البخل فلا تجتمع هذه الخصال كلها من أجناد العقل إلا في نبي أو وصي نبي أو مؤمن قد آمتحن الله قلبه للايمان، وأما سائر ذلك من موالينا فإن أحدهم لا يخلو من أن يكون فيه بعض هذه الجنود حتى يستكمل وينقى من جنود الجهل فعند ذلك يكون في الدرجة العليا مع الأنبياء والأوصياء وإنما يدرك ذلك بمعرفة العقل وجنوده وبمجانبة الجهل وجنوده، وفقنا الله وإياكم لطاعته ومرضاته».
ص: 199
(عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد; عن علي بن حديد) ضعفه الشيخ في كتابي الحديث وقال: لا يعول على ما ينفرد بنقله وقال الكشي: قال نصر بن الصباح، إنه فطحي من أهل الكوفة وكان أدرك الرضا (عليه السلام) وروى عن أبي جعفر وأبي الحسن (عليهم السلام) ما دل على مدحه وجواز الصلاة خلفه والأخذ بقوله ولكن حكم بعض أصحابنا بضعف هذه الرواية (عن سماعة بن مهران) فطحى ثقة روى عن أبي عبد الله (عليه السلام) وأبي الحسن (عليه السلام) وما قيل: من أنه مات في حياة أبي عبد الله (عليه السلام) فهو غلط لأنه يروي كثيرا عن أبي الحسن (عليه السلام) (قال: كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) وعنده جماعة من مواليه فجرى ذكر العقل والجهل فقال أبو عبد الله (عليه السلام) اعرفوا العقل وجنده) أي أعوانه وأنصاره وفيه مكنية وتخييلية (والجهل وجنده تهتدوا) مجزوم بالشرط المقدر ولعل المراد بالمعرفة المعرفة مع اختيار جنود العقل لأن الهداية لا تحصل إلا بهما (قال سماعة: فقلت: جعلت فداك) الفداء إذا كسر أوله يمد ويقصر وإذا فتح فهو مقصور، وعن المبرد المفاداة أن تدفع رجلا وتأخذ رجلا والفداء أن تشتريه وقيل: هما بمعنى.
(لا نعرف إلا ما عرفتنا فقال أبو عبد الله (عليه السلام): إن الله خلق العقل وهو أول خلق من الروحانيين) الجار والمجرور إن كان خبرا بعد خبر أي هو أول خلق وهو من الروحانيين فأفاد الكلام أن العقل يعني الجوهر المجرد الإنساني (1) أول المبدعات ومقدم على غيره من الممكنات كلها في الفطرة والإيجاد، ويؤيده
ص: 200
قوله (صلى الله عليه وآله) «أول ما خلق الله العقل» وإن كان بيانا لخلق أو صفة أو حالا عنه أفاد أنه أول خلق بالنسبة إلى الروحانيين وأما أنه أول خلق بالنسبة إلى غيره من الممكنات كلها فلا إلا إذا ثبت تقدم الروحانيين على سائر الممكنات في الايجاد وثبوت ذلك خارج عن مفاد هذا الكلام، فما قيل: من أن فيه دلالة على أن العقل هو المبدع الأول بالحقيقة وعلى الاطلاق دون غيره من الممكنات لأنها بتوسطه فمدفوع أما أولا فلأنه لا دلالة فيه على تقدم العقل على غيره على الاطلاق إلا في بعض الاحتمال الذي هو أبعد الاحتمالات فلا يتم بذلك ما ادعاه، وأما ثانيا فلأنه لا دلالة فيه على أن غير العقل من الممكنات صدر منه تعالى بتوسط العقل وهو ظاهر بل لا يبعد القول ببطلان ظاهر هذا الحكم لأن بناء ظاهره (1) على تخليط الفلاسفة وهو أن أرسطو ومن تابعه من فلاسفة الإسلام كالفارابي وابن سينا قالوا: إن الباري تعالى من حيث إنه واجب الوجود يجب أن يكون واحدا ومن حيث إنه واحد يجب أن لا يخلق إلا واحدا إذ لو خلق اثنين لكان ذلك باعتبار أمرين مختلفين في ذاته وتلك كثرة تنافي ما وجب له من الوحدة وذلك الواحد الصادر هو العقل ثم صدر عن ذلك العقل أربعة جواهر عقل ونفس وفلك مركب من جوهرين مادة وصورة، ثم صدر عن العقل الثاني أربعة جواهر أيضا، ثم هكذا على الترتيب إلى أن كملت عشرة عقول وتسع أنفس وتسعة أفلاك، ثم تحركت الأفلاك فحدثت العناصر الأربعة التي هي الماء والهواء والنار والتراب، ثم تمازجت هذه العناصر فحدث العالم السفلى وهو ما تحت الفلك القمر عالم الكون والفساد وسموه بذلك لأن الأجسام العلوية أعني الأفلاك العرية عن العناصر تركبت من العناصر الأربعة تركيبا يقبل الانحلال فسموا ذلك التركيب والانحلال كونا وفسادا ثم تركبت الموجودات في عالم الكون والفساد من آثار طبايع العناصر وآثار عالم الكون والفساد قابلة لاختلاف الأشكال والصور والآثار التي في العالم العلوي متناسبة غير قابلة لاختلاف الصور، فالشمس مثلا لا تقبل أن تكون على غير تلك الصورة وما يجري في العالم السفلي هو من آثار نفوس الأفلاك وعقولها (2)، وكان أصل أكثرهم في
ص: 201
الموجود الأول أن لا يخلق شيئا بالاختيار، فإيجاد العقل الأول إنما هو بحسب الذات إيجاب العلة معلولها فإن العالم العلوي والسفلي لا مفتتح لوجودهما عندهم لأن العلة والمعلول موجودان معا وتقدم العلة على المعلول إنما هو بالذات لا بالوجود إلى غير ذلك من المزخرفات التي ليس هذا موضع استيفائها (1) ولا مستند لهم على طريق البرهان فإذا ضويقوا في المطالبة به قالوا: لا تدرك هذه الأمور بالبرهان وإنما تدرك بالرياضات أو بالرياضيات فمن أحكمها علم ذلك ضرورة ولا يخفى فساد هذا القول أما الرياضات فإن الأنبياء والأوصياء وهم الأقدمون في باب الرياضة والمكاشفة لم يخبروا بذلك (2) وأما الرياضيات فقال المحققون: هذا أسخف لأن الرياضيات كالهندسة والحساب والهيئة والموسيقى لا ارتباط بينها وبين المطلوب فإن الهندسة تنظر في هيئة الجسم المتصل، والحساب ينظر في الكم المنفصل، والهيئة تنظر في كيفية الأجسام (3)والموسيقي ينظر في ترتيب الألحان وتقطيعها على وجه
ص: 202
معروف مخصوص، ثم إنهم رضوا في القطعيات بما لا يفيد علما ولا ظنا (1) والحق أن كل هذا باطل (2) والموجود الأول قديم وحده وفاعل العقول والأجسام والجواهر والأعراض ولوازمها كلها بالاختيار على سبيل الحدوث لا بالايجاب وإلى قدرته ينسب الجميع خالق كل شئ لا إله إلا هو الواحد القهار، والروح يذكر ويؤنث يجمع عل الأرواح وقد تكرر ذكره في القرآن والحديث على معان منها جبرئيل (عليه السلام) في قوله تعالى: روح الأمين وروح القدس ومنها سائر الملائكة ومنها القوة التي تقوم بهذا الجسد وتكون به الحياة ومنها القوة الناطقة الانسانية التي يعبر عنها الإنسان بقوله: أنا.
واختلف المتكلمون والحكماء وغيرهما في حقيقته وقالوا فيه أقوالا كثيرة وظنوا فيه ظنونا متقاربة صدرت عنهم من غير بصيرة فإنه لا يعلم حقيقته إلا الله سبحانه ومن علمه من عباده كما قال جل جل شأنه (ويسئلونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أو تيتم من العلم إلا قليلا) (3)وهو مذهب أكثر المتكلمين وأرباب المعاني وأهل الباطن.
وتقول في نسبة الواحد: الروحاني وفي نسبة الجمع: الروحانيين بضم الراء فيهما والألف والنون من زيادات
ص: 203
النسب وزعم أبو عبيدة أن العرب تقول لكل شئ فيه روح ومكان روحاني بالفتح أي طيب، ثم الروحانيون يطلق عليهم عالم المجردات وعالم الغيب وعالم الملكوت وعالم الأمر كما يطلق على هذا العالم المحسوس عالم الماديات وعالم الشهود وعالم الملك وعالم الخلق، وقد يقال إن الروحانيين جواهر مجردة نورانية غير مفتقرة في وجودها إلى جسم وجسمانيات فإن كان في فعلها وتصرفها مفتقرة إليها فهي نفس وإلا فهي عقل أو غيره (1) وأن الأنوار كلها حقيقة واحدة لا تفاوت بينها في المهية وعوارضها بل في الشدة والضعف والكمال والنقص في أصل النورية والوجود والله أعلم بحقيقة الحال (عن يمين العرش) متعلق بخلق أو حال عن الروحانيين واليمين الجانب الأقوى والأشرف خلاف الشمال، والعرش في اللغة سرير الملك وكونهم على يمين العرش كناية عن كرامتهم وعلو منزلتهم ورفعة شأنهم من بين المخلوقات لأن من عظمت منزلته تبوأ عن يمين الملك وفي عرف المتشرعة يطلق على ثلاثة أمور أحدها الملك، وثانيها الجسم المحيط بسائر الأجسام وهو الفلك التاسع، وثالثها العلم المحيط بجميع الأشياء وكل ذلك على سبيل التشبيه بسرير الملك، ويمكن إرادة كل واحد منها هنا أما الأول فلأن الملك وهو عبارة عن جميع الكائنات له يمين وشمال ويمينه أي جانب أقواه وأشرفه هو يلي المبدء الأول في ترتيب الايجاد وتقدمه (2) فكل ما هو أقرب منه جل شأنه في الايجاد فهو أيمن بالقياس إلى ما بعده لكونه أقوى وأشرف وأما الثاني فلأن ذلك الجسم المحيط إذا سمي بالعرش كان له يمين وشمال كما كان لسرير الملك، ثم الكاين على يمينه من أهل الكرامة والمنزلة كالكاين عن يمين سرير الملك، وأما الثالث فلمثل ما ذكرناه في الثاني أو في الأول باعتبار المعلومات لأن العلم المتعلق باليمين يمين بالنسبة إلى العلم المتعلق بما بعده وإن كان علمه بالأشياء بسيطا والتكثر إنما هو في المعلومات، ولا يبعد أن يقال: يجوز أيضا إطلاق العرش على عالمين: أحدهما عالم الجسمانيات كلها ويسمى بالعرش الجسماني، وثانيهما عالم المجردات كلها ويسمى بالعرش العقلاني والعرش الروحاني.
ويجوز أن يراد بالعرش هنا العرش الروحاني وبيمينه أشرف جانبيه وهو ما يقرب من الحق في سلسلة الإيجاد (3) وأن يقال، يجوز أيضا أن يراد بالعرش القلب الانساني لأنه عرش الرحمن، ويمينه الجانب المائل إلى الحق، وشماله الجانب البعيد عنه لأنه قابل لسلوك الطريقين: طريق الحق وطريق الباطل هذا وقيل: المراد بالعرش هنا الجوهر المجرد الانساني المسمى بالعقل وبالعرش العقلاني وهو بإزاء الفلك التاسع المسمى بالعرش الجسماني وكل منهما في جانب مقابل لجانب آخر، والمراد بيمينه
ص: 204
مطلق جانبه وسمي يمينا للتشريف والتعظيم، وقيل: العرش جوهر متوسط بين العالم العاقل الثابت وبين العالم المتغير المتجدد نفوسا كانت المتغيرات أو أجساما والله سبحانه أوجد الثابتات بنفس ذاته بلا واسطة وأوجد المتغيرات بواسطة العرش والثابت هو اليمين في سلسلة الإيجاد لأنه أقرب منه تعالى (من نوره) متعلق بخلق العقل أي خلقه من ذاته بلا واسطة شئ ولا اعتبار مادة