أثر القرائن العلائقية في اتساق النص في نهج البلاغة

اشارة

رقم الإيداع في دار الكتب والوثائق العراقية

353 لسنة 2017م

مصدر الفهرسة: IQ-KAPLI ana IQ-KOPLIrda

رقم تصنيف BP39.5 .A8 H3 2017

المؤلف الشخصي: الحدراوي، إيناس عید برالك يشان.

العنوان: أثر القرائن العتنقية في اتساق التص في نهج البلاغة خطب الحروب أتمونجا بيانات المسؤولية، إیناس عبد براك بشان الحمراوي؛ تقليم السيد نبيل الحسني

بيانات الطبعة: الطبعة الأولى

بيانات النشر: کریلاء: العتبة الحسينية المقدسة - مؤسسة علوم نهج البلاغة.

1438ه=2017م

الوصف المالي: 312 صفحة

سلسلة النشر: الرسائل الجامعة - وحدة علوم اللغة العربية - مؤسسة علوم نهج البلاغة

تبصرة عامة: تبصرة ببيلوغرافية، الكتاب يتضمن هوامش - لائحة المصادر ( الصفحات 291 - 308)

تبصره محتویات: موضوع شخصی: الشريف الرضي، محمد الحسين بن موسی، 359 - 406هجرياً - نهج البلاغة.

موضوع شخصي: علي بن أبي طالب (عليه السام) الإمام الأول، 23 قبل الهجرة - 40 هجرياً - أحاديث .

موضوع شخصي: علي بن أبي طالب (عليه السلام)، الإمام الأول، 23 قبل الهجرة - 40 هجرياً - خطب.

مصطلح موضوعي: البلاغة العربية . خطب.

مصطلح موضوعي: الخطابية العربية - دراسة لغوية .

مؤلف إضافي: الحسني، نبيل قندوري، 1965- مقدم.

عنوان إضافي: نهج البلاغة - شرح

تمت الفهرسة قبل النشر في مكتبة العتبة الحسينية المقدسة

ص: 1

اشارة

«بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ »

ص: 2

أثر القرائن العلائقية في اتساق النص في نهج البلاغة

ص: 3

جميع الحقوق محفوظة

للعتبة الحسينية المقدسة

الطبعة الأولى 1438 ه - 2017 م

العراق: كربلاء المقدسة - شارع السدرة - مجاور مقام علي الأكبر(علیه السّلام)

مؤسسة علوم نهج البلاغة

هاتف:07728243600- 07815016633

الموقع :www.imahj.org

Email: Inahj.org@gmail.com

ص: 4

«بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ »

«وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ »

صدق الله العلي العظيم

(الحجرات: 9)

ص: 5

ص: 6

الإهداء

إلى معلم البلاغة وأميرها

الى الحاكم بالحكمة وعدلها

فنفرت منه نفوس جبلت على الخداع

وتنكبت عن الصراط باتباع الهوى

فمُلئ قلبه قيحا وغادر دنیا طالما ذمها

بعد أن طلقها ثلاثا...

إلى روح والدي

الذي غادرني وأنا أحوج ما أكون إليه..

سأتفقد وجهك الحبيب بين الحضور

وأعلم أنك موجود ترعاني وتدعولي كما أنت دائما..

أهدي جهدي المتواضع هذا

الباحثة

ص: 7

ص: 8

مقدمة المؤسسة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله على ما أنعم وله الشكر بما ألهم والثناء بما قدم من عموم تعم ابتدأها وسبوغ آلاء أسداها و أفضل الصلاة وأتم التسليم على خير الخلق أجمعين محمد و آله الطيبين الطاهرين.

وبعد: حينما جعل الله تعالى لكتابه العزيز الذي:

«لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ »(1).

عدلاً في حرمته وتشريعه وعصمته واعجازه وقيمومته وديمومته يصبح من البداهة بمكان أن يندفع الباحثون والدارسون للثقل الأصغر میداناً خصباً ومنهلاً روياً فيما يدرسون ويبحثون.

ص: 9


1- فصلت: 42.

إلا أن الباحث في الثقل الأكبر (القرآن الكريم) وإن سبقه التوفيق لهذا العمل إلا أنه لا يحرز من اللطف الإلهي ما لم يتاله الباحث في شؤون محمد وعترته صلوات الله عليهم أجمعين وذلك أن القرآن غیر کاشف عن الإيمان والنفاق کما یکشف حب علي ويغضه کما ورد في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه و آله ، ومن ثم لا يتدفع لهذا التوفيق إلا من امتحن الله قلبه للإيمان كما قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام:

«إن أمرنما صعب مستصعب لا يحمله إلا عبد مؤمن امتحن الله قلبه للإيمان ولا يعي حديثنا إلا صدور أمينة و أحلام رزينة».

ولا شك إن البحث الموسوم ب (أثر القرائن العلائقية في اتساق النص في نهج البلاغة خطب الحروب انموذجاً) للباحثة الموفقة إيناس عبد براك كان بحثاً رصيناً و موفقاً وما ذاك إلا من اليقين بأن الانشغال في الكتابة والدراسة للنصوص الشريفة عن هارون الأمة وقسيم النار والجنة وباب مدينة علم النبوة يحتاج إلى الطاف إلهية ترفرف فوق قلب العامل في حضرة هذه الشخوص الروحانية.

ص: 10

حتى أن القارئ لهذا البحث يدرك بأن الانشغال في هذه النصوص العلوية يحتاج إلى مقدمات لا بد من التنويه إلى بعضها كما أشارت الباحثة فقالت في مقدمة الكتاب (فقد صارت هذه الدراسة مع الخطب الحربية للإمام علي عليه السلام موحدة في خطوتها ومتنوعة في اختيارها بحسب ما تطلبه طبيعة السياق النصي حتى تصل إلى نتائج علمية مرضية و مستنطقة لكل ما تتضمنه تلك الخطب من دلالات واشارات مثيرة وان جاء فيها تقصير او غيره فهو ما تفرضه طبيعة النص، وإن عد دون النص القرآني مرتبة، إلا أنه لا يقل أهمية وما تطلبه تلك الدراسة من صفاء نیة واخلاص الله تعالى فالتعامل معها يكون على حذر وتأمل).

أما بخصوص هذه الدراسة التي بين يدي القارئ الكريم فقد اجادت في فصولها الثلاثة وما تضمنته من مباحث و مسائل في تقديم مادة علمية ثرية في علم اللسانيات وفي مجالها المعرفي التخصصي. وكشفها من خلال عينة الدراسة خطب الحروب لمولی الموحدین و امير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام لتلك العلاقات التي تنظم النص الشريف تنظيماً متسقاً و منسجماً مع توظيفها أي للعلاقات السياحية وما تتضمنه من وسائل ترابطية.

ص: 11

ويلمس القارئ تفاعل الباحثة في أسلوب الإمام علي عليه السلام الخطابي فكانت بحد ذاتها مصداقاً لميدان دراستها دون أن تنطق بذلك محققة معادلة قيام علم اللسانيات في مراعاته للأطراف الثلاثة (المتكلم والنص والمتلقي) مما يتضح بأنها قد بذلت جهدها وعلى الله أجرها و آخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمین۔

السيد نبيل قدوري الحسني رئيس مؤسسة علوم نهج البلاغة

ص: 12

المقدمة

اشارة

ص: 13

ص: 14

المقدّمة

الحمد لله على ما أنعم، وله الشكر على ما ألهم، والثناء بما قدّم من عموم نعم ابتدأها وسبوغ آلاء أسداها، و تمام مننٍ أولاها، والصلاة والسلام على الهادي الأمين محمدٍ وعلى أهل بيتهِ الطيبين الطاهرين الهداة الميامين.

أمّا بعد..

فإنَّ انبثاق هذا العلمِ اللساني قد أحدث نهضةً علميةً واسعة في علوم اللغة العربية؛ لرويتهِ الشاملة، فلم ينظر لميدانٍ معين من دون آخر، فإن قيل : ما الفرع العلمي الشامل لميادين اللغة العربية وفنونِها جميعها؟ قبل: هو «لسانيات النّصِّ»، فترّكزَ منهجها الجديد فيما بعد حول «النّصّ» وما يحمله من مكامن، لحريتهِ المعطاة وشموليتهِ، إذا ما قورن ب« الجملة» المراعية لحدود النحو وقوانينه، وهي الأخرى تعود على المتكلّم نفسه، على حين يُمكن ملاحظة مدى مراعاة النّصِّ للأطراف الثلاثة المتكلّم + النّصّ نفسه+ المتلقي»، إلى غير ذلك من الأمور المستندعية لهذا الاختيار.

فأصبح التعامل معه يتضمن توعاً من المرونةِ والمنهجية، والبحث في وسائل اتساقه و قرائنه السياقية الخاصة، وما تُحيلهُ على العلاقات المعنويةِ الضميمة؛

ص: 15

لإنتاج الدلالات النّصِّية، من طريق القراءة التأويلية، اعتماداً على ربطِها-تلك القرائن العلائقي في السياق العام للنّصِّ، فهي قد تميّزت -من وجهة نظر النحو العربي الحديث -من غيرها من القرائن؛ لأثِرها التركيبي والسياقي؛ لِذا نالت هذه الأهمية في هذا النحو الحديث ولاسیما عند رائِده «تمام حسّان»

وعليه جاء البحثُ جامعاً بين «لسانيات النّصِّ»، والنحو الحديث بصورةٍ تطبيقية من طريق «القرائن العلائقية» المعتمدة مع التمييز في الفكر النحوي واللساني عند «تمام حسّان». .

وفي ضوءِ هذه المقاربات، سعينا في عملنا إلى كشف تلك العلاقات التي تُنظّم النّصَّ تنظيماً متسقاً ومنسجماً، فحاولتُ توظيف تلك العلاقات السياقية وما تتضمنه من وسائل ترابطية في ممارسة تطبيقية على جزءٍ متخصص من القسم الأكبر - الخطب - لنهج البلاغة «خطب الحروب» للإمام علي(علیه السّلام) ، ومزية هذه الدراسة أنّها لم تُقيد الباحثة بضوابط مُقيّدة لعملها الوصفي التحليلي، إنّما أعطتها الحرية في التفاعل مع أسلوبه الخطابي التأثيري، وسياقاته المحبوكة الرشيقة، وما تحمله من دلالاتٍ منسجمةٍ عميقة، كلُّ ذلك في الجزء المختار من نهج البلاغةِ «خطب الحروب».

وما سوّغ لي اختيار هذا النوع من الخطب- خطب الحروب- للتطبيق عليه؛ هو کون «خطب الحروب» توافرت فيها مميزات النّصّية- وهذا لا يُنافي ما بقي من القسم الأكبر من نهج البلاغةِ - ك«وحدة الموضوع»، فقد تناولت موضوعاً واحداً، ألا وهو «الموضوع القتاک»، وإن تفرّعت فيها موضوعات جزئية، إلّا أنّها تمركزت لإظهار الموضوع الأساسي «بؤرة النّصِّ»، فضلاً عن ذلك فقد تمثّل فيها الخطاب المباشر، فأعطتها مزية التواصل المباشر مع المتلقي من دون وجود

ص: 16

حاجز روائي أو كتابي، ثمّ مراعاتِها طبيعة الموقف، وما فيه من متغيرات إحداثية في جميع الجوانب المتعلقةِ بكلا الطرفين «والمتكلّم + المتلقي».

لذا فقد سارت هذه الدراسة مع «الخطب الحربية» للإمام علي(علیه السّلام) موحدة في خطواتها ومتنوعةً في اختيارِها بحسب ما تطليه طبيعة السياق النّصّي، حتى تصل بذلك إلى نتائجَ علميةٍ مرضيةٍ و مستنطقةٍ لكلِّ ما تتضمنه تلك الخطب من دلالاتٍ وإشاراتٍ مثيرةٍ، وإن جاء فيها تقصيرٌ أو غيره؛ فهو ما تفرضه طبيعة النصٍّ، وإن عُدّ دون النص القرآني مرتيةً، إلّا أنَّه لا يقل أهمية، وما تطلبه تلك الدراسة من صفاء تية وإخلاص لله تعالى، قالتعامل معها يكون على حذرٍ وتأمل .

وعلى الرغم ما تميّزت به من مميّزات لكنها -بحسب علمي- لم تضع لها دراسة نصّية متخصصة مبينة لتعالق وحداتها الجزئية، وإن وُضِعت فهي متناثرة في أثناء الحديث عن العلاقة النّصِّية، ومنها:

أطروحة الدكتوراه المسماة به «التماسك النّصِّيي، دراسة تطبيقية في نهج البلاغة» التي أعدّها «السيد عيسي الوداعي» في الجامعة الأردنية سنة (2005م)، وقد تحدثت عن أسباب الانتقال من نحو الجملة إلى نحو النصّ، واختلاف النصّيّين في القواعد النحوية التي يمكنها وصفُ النصّ، وتحديدِ مصطلح التماسك، و قسمت مستويات التماسك إلى أربعة: المعجمي، والنحوي، والدلالي، والتداولي، وطبّقت على بعض نصوص نهج البلاغة، وركزت الحديث على التماسك الشكلي والتماسك الداخلي.

ومنها أيضاً رسالة الماجستير المياة ب« الاتساق في نهج البلاغة، دراسة في ضوء لسانيات النّصِّ «أعدتها «رائدة كاظم فياض العكيلي» في جامعة بغداد (2013م)، فقد قسمّت الاتساق على غرار مستويات اللغة، فجاء فيها الجانب

ص: 17

الصوتي والجانب المعجمي والجانب النحوي۔

ومنها أيضا رسالة ماجستير المسماة به «القرائن العلائقية وأثرها في الاتساق سورة الإنعام إنموذجاً» أعدها «سلیمان بوراس»، في الجامعة الجزائرية «جامعة الحاج لخضر باتنة ( 2009م)، وقال تناول تلك القرائن «التضام و الرتبة والريط» إلّا أن دراسته كانت في إطار الجملة، فقد جمع في دراسته بين النحو العربي القديم والنحو العربي الحديث.

أمّا هذه الرسالة الموسومة به« أثر القرائن العلائقية في اتساق النّصِّ في نهج البلاغة -خطب الحروب إنموذجا»، فقد اقتضت هيكلتها أن تكون على ثلاثة فصول تسبقها مُقدِمةٌ وتمهيد، وتلحقها خاتمةٌ بمجموعةٍ من النتائج، ومن ثمَّ قائمة المصادر والمراجع.

تضمّن التمهيد تحديداً لأهم المصطلحات والمفاهيم المتعلقة بالموضوع، منها مصطلح «النّصّ»، وتعريفاته في ضوء الرؤى اللغوية المتنوعة، مع وقفة سريعة لمفهوم «لسانيات النّصِّ»، ومن ثمَّ التعريف ب« الاتساق» وأهميته في إظهار الوحدة النّصّية وتمييزها عن غير النّصّية، مردفةً ذلك بتعريف القرينةِ وأنواعِها ووظيفتِها، مميزة في ذلك القرائن العلائقية وأثرها العلائقي في السياق النَصِّي.

أمّا الفصل الأول فقد تناول أولي تلك القرائن ألا وهي «قرينة التضام» مستفتحةً ذلك ب« توطئة» تعريفية ل«قرينة التضام» مقسمةً إياه على مبحثين؛ تناول المبحث الأول: «التضام النحوي» العلاقات التلازمية بين العناصر اللغوية في الوحدات الجزئية، ومن ثمَّ بين تلك الوحدات الجزئية. على حين

ص: 18

تناول المبحث الثاني: «التضام المعجمي، وما يحمله من علاقات معجمية فيما بين العناصر اللغوية داخل الوحدة النّصّية مشتملةً على مجموعةٍ من تلك العلاقات، ک« التضاد والترادف والتكرار... وغيرها»، وقد راعث هذه الدراسة- بوصفها جامعة بين النحو الحديث ولسانيات النّصّ - ما آلت إليه لسانيات النّصّ التي عدّت الأصل فيه - التصام - أن يكون معجمياً، وما آلَ إليه النحو الحديث الذي عدّ الأصل فيه - التضام- أن يكون نحوياً، وعلى وفق ذلك قسّم الفصل على مبحثين درسهما، وبيَّن أثرهما في اتساق النّصِّ.

ودرس الفصل الثاني: «قرينة الرتية»، وجاء في مبحثين: تناول الأول منهما «التعريف بقرينة الرتبة، وأنواعها، وآراء العلماء فيها. على حين تناول المبحث الأخر دراسة تطبيقية لتلك القرينة وقد عنون ب« العدول عن أصل الرتبة وأثره في المعنى النّصّي»، وقد تطلّبت الدراسة ذلك الأمر؛ لأسباب عدّة منها: ضيق أبواب هذه القرينة، وجفاف مادتها العلمية إذا ما قورنث بالقرينتين الأُخريين ؛ إذ إنّ الرتبة المحفوظة لا تخرج عن القواعد النحويةِ وضوابطِها، فاقتصر الحديثُ في المبحث الثاني على ما تؤول إليه الرتبة غير المحفوظةِ من دلالات.

أمّا الفصل الثالث: «قرينة الريط»، فقد جاء مقسماً على مبحثين؛ تناول الأول منهما «الربط بالإحالةِ»، وما تتضمنه من إحالاتٍ ضميرية وإشارية، قبلية وبعدية، ولم نغفل الحديث عن الحذف بوصفه إحالة صفرية متعلقة بالبنية العميقة للنّصِّ، على حين تناول المبحث الثاني: «الريط بالأدوات؛ إذ انتخبتُ فيه مجموعة من الأدوات ذات أهميةٍ ترابطية.

وقد استقت الرسالة مادتها العلمية من المصادر الحدية المهمة العربية منها و الغربية التي أعانت الباحثة في تسليط الضوء على المقومات الحديثة المتعلقة

ص: 19

بالنص والقرينة و غيرها ما ورد في الرسالة، فضلا عن كتب التراث العربي النحوية والبلاغية، وكتب التفسير وشروح نهج البلاغة.

ولا تخلو أية مسيرةٍ بحثية من صعوباتٍ علمية أو شخصية، وإن تنوعت درجة الصعوبةِ بين القوة والضعف، وبين الكثرةِ والقلّة، فكان أقصى ما واجهته الباحثةُ من انتكاسةٍ نفسِّية في منتصف کتابتها البحث هو فقدُها عزيزاً عليها كان المخيّمَ المظلَّ لها، ألا وهو والدها الكريم، ما شكّلَ عائِقاً كبيراً تسبب بمشکلاتٍ متنوعة في كلا الجانبين «العلمي والشخصي»، وهذه تُغني عن غيرها من الصعوبات الأُخر.

وقبل أن أختم، أتقدّم بشكري الخالص لمن أمر الله بشكرهما؛ إذ قال: « أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ » [لقمان: 14].

و أتقدم بالشكرِ الجزيل ل« لأستاذ الدكتور عبد الكاظم الياسري»؛ لتفضّله بالإشراف على هذا البحث، وما أبداء لي من سعة صدرٍ في المتابعة وحُسن تحملٍ، وطول رعايةٍ، فله كلّ الودّ والامتنان، وأدعو الله أن يُلبسَهُ ثوبَ الصحةِ والعافية وأن يحفظَه من كلِّ مكروهٍ إنّهُ سميع مجيب.

الباحثة

ص: 20

التمهيد

اشارة

ص: 21

ص: 22

التّمهید تحديد المصطلحات والمفاهيم

أولاً: النّصّ معايیره ووظائفه النّصّ:

اشارة

یعد النّصّ واحدا من أهم المصطلحات اللسانية الشائكة؛ لاتساع حقوله المعرفية والنقدية المختلفة، وتنوّع المنهجيات المتداخلة، مما يصعب تحديده ، ويُرجع (د. منذر عيّاشي) ذلك إلى ذاتية النصِّ؛ فالنصُّ «دائم الإنتاج، لأنَّه مستحدثٌ، ودائم التخلّف، لأنّه دائماً في شأن ظهورٍ وبيان ويستمر في الصَّيرورة؛ لأنَّه متحركٌ وقايلٌ لكلِّ زمان ومكان؛ لأنَّ فاعليته متولّدة من ذاتيته النصية، وهو إذا كان كذلك فإنَّ وضع تعريفٍ له يعتبر تحديداً يلقي الصيرورة فيه، و يعطل في النهاية فاعليته النَّصية»(1)، ولا بد من المحاولة قدر الإمكان ضبط المجال الذي تدور فيه مصطلحاته في توضيح معالم الدراسة النصية.

فالنصُّ لغةً: مأخوذ من الجذر الثلاثي المضعّف (نصص) ومعناه بالعربية مدَّ أو رقع، ویُحيل النص أينما ورد في المعجمات العربية على معانٍ ودلالات عدّة؛

ص: 23


1- منذر عیاشي، النّصّ تجلياته وممارساته : 55، (بحث) بمجلة الفكر العربي، ع 96- 97، 1992م.

کالرفع والظهور ومقصد الشيء ومتهاء، ف« النون والصاد أصل صحيح بدل على رفع و ارتفاع وانتهاء في الشي. منه قولهم:نّصُّ الحديث إلى فلان رفعه إليه. والنَّصُّ في السير ارفعه «...» و سیر نص ونصيص. ومنصة العروس منه أيضا «... » ونص كل شيء منتهاه. وفي حديث علي(علیه السّلام) : إذا بلغ النساء نّصُّ الحقاق أي إذا بلغ غاية الصغر وصرن في حال البلوع »(1). والحقاق مصدر المحاقة وهي أن يقول بعض الأولياء أنا أحق بها وبعضهم أنا أحق. ونصصت الرجل استقصیث مسألته عن الشيء حتى تستخرج ما عنده. وهو القياس لأنك تبتغي بلوغ النهاية »(2)

ومن دلالته على غاية الأمر ومقصده، ما أورده (ابن منظور) (ت711م.) في معجمه (لسان العرب): النصُّ أصلُه «منتهى الأَشياء ومَبلغُ أقصاها و منه قيل نصَصتُ الرجلَ إذا استقصيت مسأَلته عن الشيء حتى تستخرج كل ما عنده وكذلك النصّ في السير إنما هو أقصى ما تقدر عليه الدابة ... وانتَصَّ الشيءُ وانتصب إذا استوى واستقام »(3)

أما في الأصطلاح فقد تباين المفهوم الدلالي للنضِّ في البحث اللساني؛ لاتساع مجاله العلمي، ومن ثمَّ تنوّعت روى الباحثين في تعريفهم له فكلُّ باحث یُعرفهُ على وفق النطاق المعرفي الذي ينتمي إليه، فمنهم من ينطلق في تعريفه للنصِّ على وفق رؤيته الجمالية ومدى تأثيرها في نفس المتلقي، ومنهم من

ص: 24


1- نهج البلاغة:518.
2- ابن فارس، معجم مقاییس اللغة: 5/ 356، و ظ: الزمخشري، أساس البلاغة: 961 (مادة نصص).
3- این منظور، لسان العرب: 7/ 97(مادة نصص).

تكون رؤاهم علمية محضة؛ لكونهم يخاطبون العقل لا الإحساس، وعلى هذا الأساس بدأت «مسالة وجود تعریف جامع مانع للنصِّ مسألة غير منطقية من جهة التصوّر اللغوي؛ ويؤكد ذلك الاختلاف بين علماء اللغة الذين ينتمون إلى مدارس لغوية مختلفة حول حدود المصطلحات التي ترتكز عليها بحوثهم»(1).

ويمكن عرض بعض تعريفاتهم بحسب وجهة نظر اتجاه دراستهم، ومنهم (برینکر Brinker) يذهب إلى أنَّ النَّصَّ هو«تتابع مترابط من الجمل»(2)

ويعلق (شبلتر) على هذا التعريف بأنّه «دائري بمعنى أنّه يوضح النّصّ بالجملة من خلال النّصّ، وأنّه غير منهجي من الناحية العملية لغموض الرمز والعلاقات التي يتضمنها واتساع الوصف «(3). ناقداً ذلك عن طريق وصفه للجملة بأنّها جزء صغير ترمز إلى النّصِّ، ويتحدد هذا الجزء المصغّر بوضع علامات توضيحية ك«علامة الاستفهام، والتعجب، والنقطة... وغيرها»(4).

وإنَّ الجملة ذات دلالات جزئية في النصّ، فلا يمكن استنباط الدلالة الحقيقية لكلّ جملة داخل كليّة النصّ، إلا بمراعاة الدلالات السابقة واللاحقة في التتابع الجملي(5) ، فالنصّ مهما صغر حجمه على أنَّه وحدة كليّة مترابطة الأجزاء، أو بنية معقدة متشابكة مكتفية بذاتها دلالياً، يتحقق التماسك بين عناصرها المضمونية المتنوعة الأجزاء من عناصر تحوية ودلالية ومنطقية

ص: 25


1- سعيد البحيري، علم اللغة النص: المفاهيم والاتجاهات: 107
2- م. ن: 130.
3- م. ن: 130.
4- ظ: م.ن: 103.
5- ظ: م.ن: 140.

وتداولية متألقة في إخراج البنية النّصّية(1).

ولكن في تعريف آخر ل(برینکر) تجد فيه توّسعا لرؤيته البيانية في دلالة النّصِّ فشملتِ المنظور التواصلي، يقول: «تتابع محدود من علامات لغوية متماسكة في ذاتها، وتُشير بوصفها كلّا إلى وظيفة تواصلية مدركة»(2) فلم یهمل التتابع الجملي، وإنّما أضفى عليه صفة الاتصال النّصّي: لتحقيق التفاعل بين الطرفين المتكلّم والمتلقي.

وإن كان ذلك قد راعَي الإطار الشكلي مع مراعاته لأثر الجملة، فقد قابله من كان مراعياً لقضية النّصِّ الدلالية، فهذا (بریتکر)، تجده على غير عادته في تعريفه للنّصِّ، فقد تجاوز حدود الشكل والجملة في ذلك، يقول: (مجموعة منظمة من القضايا أو المركبات القضوية، تترابط بعضها مع بعض على أساس محوري موضوعي أو جملة أساس، من علاقات منطقية دلالية»(3). فلم يكتفِ بأثر العلامات اللغوية الشكلية «البسيطة والمعقدة» في تشكيل النَّصِّ، وإنَّما جعل الأساس في ذلك هو انسجام التصوّرات والقضايا الدلالية يعكسها ترابط العلاقات اللغوية الظاهرة، فتدّرجه الإيجابي المعمق للنّصِّ يدل دلالة واضحة على اتساع رؤيته النّصِّية.

أمّا (فان دايك) فقد تشكّل النّصُّ عنده من مجموعه بُنی نعمل على انسجام النّصِّ واتساقه، يقول: بأنَّه بنية سطحية توجهها وتُحفزها بنية عميقة دلالية ويتصور البنية العميقة اللنَّصَّ «منظماً من التتابعات»؛ فهي تعرض البنية المنطقية

ص: 26


1- ظ: م.ن : 139-140.
2- کلاوس برينكر، التحليل اللغوي، تر: سعيد البحيري: 34.
3- سعيد البحيري علم لغة النّصّ:110، 109.

المجردة للنّصِّ ، وتعدّ البنية العميقة الدلالية للنّصِّ بالنسبة له نوعاً من إعادة صياغة مجردة تتحد في النواة «البنية الموضوعية» للنَّصِّ»(1)، فهذا التفاعل فيما بين البني يجعل المتلقي أكثر انجذابلً لتفاعل السياق النّصِّي.

وتُعرّف (جولیا کریستیفا) النّصَّ: بأنّه «جهاز عبر [كذا] لغوي يُعيد توزيع نظام اللغة، ويكشف العلاقة بين الكلمات التواصلية، مشيراً إلى بيانات مباشرة، تربطها بأنماط مختلفة من الأقوال السابقة والمتزامنة معها»(2)، إذ تنظر للنّصِّ من جانبين «الدلالي والوظيفي»، فالنّصُّ عندها يتشكل من مجموعة أحداث كلامية سواء سابقة على المؤلف أم مزامنة له، فأعطتِ الخطاب أهميته في النّصِّ، فالتواصل، والبيانات المباشرة، قد تتطلب کلاماً مباشراً. وتفصح عن رأيها أكثر في قولها: «النَّصُّ الأدبي خطاب يخترق حاليا وجه العلم والإيديولوجيا والسياسة»(3).

ونجد إشارة لترادف الخطاب مع النّصِّ، وذلك عند الباحثَينِ (هاليداي) و (رقية حسن)؛ إذ يعرِّفان النّصُّ بأنّه «أية فقرة مكتوبة أو منطوقة مهما كان طولها، شريطة أن تكون وحدة متكاملة»(4)، فيوسعان النّصَّ ليدخل فيه الخطاب؛ فالنّصّ مرادف للخطاب سواء أكان مكتوباً أم منطوقاً قصيراً أم طويلاً، وكما هو مألوف أنَّ الخطاب غالباً ما تغلب عليه صفة الكلام المنطوق، وصفة الترادف الأخرى بينهما هي الوحدة الدلالية المتسقة والمنسجمة.

ص: 27


1- زتسيسلاف و اورزنیاك، مدخل إلى علم النَّصِّ، تر: سعيد البحيري: 56.
2- صلاح فضل، بلاغة الخطاب وعلم النّصِّ: 212، 211.
3- جولیا کریستیفا: علم النص، تر: فرید الزاي : 13.
4- أحمد عفيفي، نحو النّصِّ، اتجاه جديد في دراسة النحو العربي: 22.

ويأتي باحث آخر ليزيد الأمر إيضاحاً، فيقول: «الوسائل اللغوية «الشكلية » التي تصل بين العناصر المكونة لجزء من خطاب أو خطاب برمته»(1)، فالجامع اللنّصِّ والخطاب هو حكمها بالتعالقات الداخلية والخارجية تربط بعض الأجزاء مع بعضها الآخر، وتقوي عملية التواصل بين الطرفين.

المعايير النّصية ووظائفها:

عرف (دي بوجراند) و (ولفجانج دريسلر ) النَّصَّ بأنّه: «حدث تواصلي، يلزم لكونه نصا أن تتوافر له سبعة معايير للنصية مجتمعة، ويزول عنه هذا الوصف إذا تخلف عنه واحد من هذه المعايير»(2) وهي كالآتي (3):

السبك «Cohesion»: هو الترابط الرصفي النحوي الذي يتفاعل مع المعلومات التي يعرضها النّصِّ، فيعمل على ربط السابق باللاحق ک«الإحالات، والحذف، والتكرار، وروابط أخرى كالعطف « ومن ثمَّ يسهل معرفة الدلالة الضمنية.

الالتحام «Coherence»: هو الترابط المفهومي العميق للنص كالتعميم

والتخصيص والسببية.

القصد «Intentionality»: يتضمن الصورة المبتغاة بالنسبة للمتكلّم؛

ص: 28


1- محمد خطابي، لسانیات النّصِّ مدخل إلى انسجام الخطاب: 5، فالمتتبع لكتابه يجده يجمع كلمة «الخطاب« مع كلِّ كلمة «نّصِّ»، و حتی عنوان کتابه فقد جمع بين النّصِّ والخطاب، ولا سيما في أثناء الحديث عن وسائل اتساقه وانسجامه، ومنها الجزء المقتطع -الذي أشرنا إليه في المتن - من تعريفه للاتساق، الذي سيأتي بيانه كاملا.
2- دي بوجراند، النّصُّ والخطاب والإجراء: 103.
3- ظ: م. ن: 105، 103.

وذلك يعتمد على الفعل التواصلي والتفاعل اللغوي مع المخاطب.

القبول «Acceptability»: يتعلق بموقف المتلقي واستحسانه للصورة

الذهنية لمنشئ النّصِّ، ومدی سبکها والتحامها.

الإعلامية «informatively : تعتمد على ما يتضمنه النص من موضوع

وقائع النّصية ومضمونها، يُفهمها المتكلم للمتلقي من نقلها المتبلور.

المقامية (سياق الموقف) «Situationality»: علاقة النص بما خارج السياق النّصِّي؛ أي بما يحيط به من مواقف وأحداث قد تكون مباشرة، ما يُعطي صفة الاستمرارية بين الطرفين «المتكلّم والمتلقي».

التناص «intertextuality»: علاقة النّصِّ المقصود بنص أو نصوص أخرى ترتبط بها لفظيا أو معنويا أو كلاهما معا.

فمجموع هذه المعايير تجعل النص كلّا، ووحدة دلالية مترابطة، فيقع تركيز كلّ من «السبك والحبك» على طبيعة النّصِّ . أمّا «القصد والقبول» فيتعلقان بمستعملي النَّصِّ «المتكلّم والمتلقي معاً» وتُكمل المعايير الأخرى الوحدة النّصِّية؛ إذ تتوزع فيها بين الأجزاء الثلاثة «المتكلّم + النّصّ - المتلقي»، فتوافرها يعطي المتكلّم القدرة على إنتاج النص، وفي الوقت نفسه تُمكّن المتلقي من استيعاب المقصد الدلالي المتبلور، ثمّ الحكم على النّصِّ بالقبول أو الرفض.

يضع (برینکر) مجموعة وظائف متعلقة بالنّصِّ، منها (1):

وظيفة الإبلاغ: فعن طريقها يقوم المتكلّم بإفهام المتلقي، ومن ثمَّ توفير

المعرفة المبتغاة له، إذا ما أراد إبلاغه شيئا ما.

ص: 29


1- ظ: برینكر، التحليل اللغوي، تر: سعيد البحيري: 138 - 157.

وظيفة الاتصال: فالحصول على المعنى المراد يتطلّب تواصلاً حوارياً بين المتكلّم والمتلقي، بأي نوع من أنواع التواصل المناسب ونوع النّصِّ شعراً كان أم نثراً وغير ذلك، فكلما زاد جهد الطرفين في الحوار حقق تفاعلاً حاملاً آثاراً

جمالية ترسم الصورة الحقيقية بإبداع فني.

وظيفة الإقناع «الاستشارية»: وهذه ترتكز على قوة الاتصال بين الطرفين، فالغرض الأساسي في النّصِّ هو التأثير في المتلقي، ومن ثمَّ إفهامه. وغيرها من الوظائف(1).

فما ورد عند الغربيين من ممارسات نّصِّية لا يعني أنّ العرب القدماء منهم والمحدثين قد غفلوها، فما تميّز عند القدماء هو أبحاثهم القرآنية، ولاسيما المفسرون منهم والبلاغيون (2)، فنظرية النظم التي تعد من أقوم النظريات وأقدمها وأولها في الدراسة، وهي الحجر الأساس للدراسات النّصّية، و النظم يعني «تعليق الكلم بعضها ببعض وجعل بعضها بسبب من بعض»(3) أمّا أبحاثهم الأخرى فتطغى عليها اللغة النفعية أو الفنية، حسب نوع النّصِّ سواء أكان مجرداً أو حسياً (4). أمّا المحدثون فقد تابعوا الباحثين الغربيين في الدراسة

ص: 30


1- وهناك وظائف أخرى ذكرها (برینکر) ومن تبعه، ولكن ركّز البحث على هذه الوظائف المذكورة، التي هي محل البحث، للاستزادة يراجع: برینكر، التحليل اللغوي، تر: سعید البحيری: 138-157.
2- للاستزادة أكثر يراجع: الباقلاني، إعجاز القرآن تح: أحمد صقر : 540، و: عبد القاهر الجرجاني، دلائل الإعجاز، تح: محمود محمد شاكر : 38، 36، 35. و: الزركشي، البرهان في علوم القرآن، تح: محمد أبو الفضل إبراهيم: 1/ 35.
3- عبد القاهر الجرجاني، دلائل الإعجاز: 40.
4- ظ: أبو هلال العسكري، کتاب الصناعتين، تح: محمد علي البجاوي، ومحمد أبو الفضل إبراهيم:= =167 وما بعدها، و: حازم القرطاجي، منهاج البلغاء وسراج الأدباء، تح: محمد الحبيب: 287.

النّصّية في ضوء لسانیات النّصِّ، وخير دليل على ذلك (الدكتور صبحي إبراهيم الفقي)، فقد تبّتی تعریف (دي بو جراند) ومعاييره النّصّية، واعتمدها في دراسته التطبيقية للسور المكية. وأكثرهم في تأليفهم حول النّصّ قد أفادوا من الترجمة للجهد الغربي.

ثانياً: مفهوم لسانيات النّصّ:

على الرغم من تعدد تسميات هذا المصطلح (1)، إلّا أنّنا لم نجد هناك

اختلافاً في مفهومه، ولا في هدفه وأهميته، فهدفه واحد هو وصف العلاقات السطحية والعميقة وتحليلها.

فلسانيات النّصِّ: وهي منهج من مناهج علم اللغة تُعنى بدراسة النصِّ بوصفه الوحدة اللغوية الكبرى، وذلك عن طريق وسائل تماسكه، واتّساقه وسياقه النّصّي، وكذا تُعنى بدراسة أطرافه «المتكلم، والمتلقي، والنّصّ» ودرجة تواصلهما- المتكلم والمتلقي ؛ لإفادته بالدلالة الكلية للنّصِّ، وتكشف عما في النّصِّ من محتوی مکتوب أو منطوق (2). والوظيفة الأساسية ل«لسانیات

ص: 31


1- فاستعمل كلُّ من (صلاح فضل، وسعيد البحيري، وجميل عبد المجيد، جولیا کریستیفا -مصطلح علم النص)، و استعمل كلُّ من (سعيد البحيري، وعزّة شبل محمد- مصطلح علم لغة النص)، واستعمل كلُّ من (تمام حسان و محمد خطابي ونعمان بوقرة وأغلب الباحثين الغربيين - مصطلح لسانيات النّصِّ)، واستعمل (إبراهيم خليل، وأحمد عفيفي - مصطلح نحو النّصِّ)، واستعمل (صبحي إبراهيم الفقي - مصطلح علم اللغة النّصّي)، فيمكن أن يُقال إنَّ أبواب نحو النّصِّ لا تخرج عما هو نحو، أما علم النصّ فواسع يشمل كلُّ ما يتناوله النّصِّ من عناصر لغوية .
2- ظ: صبحي إبراهيم الفقي: علم اللغة النّصِّي: 1/ 36.

النّصِّ» بحسب ما يُفضلها (صبحي إبراهيم الفقي) هي التحليل النّصّي ووصفه، وذلك يشمل العلاقات والروابط الخارجية والداخلية والمؤثرات النّصّية جميعها، وذلك على وفق المعايير التي اشترطها (دي بوجراند)(1)، فكلُّ ذلك يقوم برسم الصورة المعنية بأسلوب فني متسق.

يضيف (سعيد البحيري) إلى ذلك وصف الظواهر التركيبية؛ لعدم إعطائها حقَّها من التحليل والتفسير في إطار الجملة، يقول: «إنَّ نحو النّصِّ يُراعي في وصفه وتحليلاته عناصر أخرى لم توضع في الاعتبار من قبلُ، ويلجأ في تفسيراته إلى قواعد دلالية ومنطقية إلى جوار القواعد التركيبية »(2). فبعد هذا العرض الموجز لتعريفات النّصِّ وأهميته ومعاييره النّصّية ووظائفه، نأتي لبيان الوحدة النّصّية عن غير النّصيّة من طريق الاتساق النّصّي ووسائله.

ص: 32


1- ظ: صبحي إبراهيم الفقي، علم اللغة النّصّي: 56/1 ، 55، و : سعيد البحيري، علم لغة النّصِّ : .133 ،134
2- سعيد البحيري، علم لغة النّصِّ: 134، هذه من المميزات بين الجملة والنّصِّ، فهو تعليل لدراسة نحو النص بديلا عن الجملة، ويُميّز (روبرت دي بو جراند) بینهما، بأنّ النّصَّ نظام فعّال، والجمل نظام افتراضي، والنّصّ يتعلق بالموقف الذي يكون فيه، ولا نجد ذلك في الجملة، والجملة تتكون من قواعد خالصة تتحدد على مستوى النحو، أمّا النّصّ فحقه أن يخضع للمعايير النّصّية الكاملة، وكذا أنّ الحالات النفسية والأعراف الاجتماعية نجدها لصيقة بالنصِّ ومفقودة في الجملة، ط: دي بو جراند، النص والخطاب والإجراء: 93، 89، ولهذا لا يعترف نحو النّصِّ باستقلالية الجملة نظراً لقصورها وتضييق مساحة البحث فيها وتحجيم وسائلها فاندفع البحث إلى وحدة النّصِّ، للتفصل أكثر ينظر على سبيل المثال لا الحصر: أحمد عفيفي، نحو النّصِّ: 66.

ثالثاً : الاتساق

ثالثاً : الاتساق(1):

يعد الاتساق من معايير النّصّية التي تُحيل على العلاقات المعنوية في النّصِّ(2) فحظي باهتمام الدراسات اللسانية النّصِّية، وهذه الأهمية تتطلب من البحث إعطائه حقَّه في التعريف وعدم الاكتفاء بالنزر القليل من الأسطر.

فالاتساق لغة: من الوسق بمعنی ضمك الشيء إلى الشيء بعضها إلى بعض والاتساق الانضمام والاستواء(3)، و«الوسوق ما دخل فيه الليل وما ضم، وقد وسق الليل واتسق، وكلُّ ما انضم فقد اتَّسَق والطريق يأتَسِقُ ویَتَّسق أي ينضم ... واتَّسَق القمر استوى وفي التنزيل:

«فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ *وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ *وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ » [الانشقاق :

[18-16 ].

ص: 33


1- يسمي الباحثون «الاتساق «كلَّا حسب تفسيره وترجمته لمصطلح «Cohesion»، فترجمها = = بعض الباحثين في العربية - ب (التماسك)، وهناك من يترجمها ب(السبك)، وبعض منهم يترجمها ب(الترابط)، وآخرون يترجمونها ب (التماسك النصي الشكلي)، للتفريق بينها وبين كلمة (Coherence)، إذ يترجمونها ب(التماسك الدلالي)، وغيرها من المصطلحات؛ ولملائمة تلك المعاني التي يحملها المصطلح المترجم لما يتضمّنه المعنى اللغوي ل «لاتّساق» في العربية ألا وهي -کما سبق بيانه أنفاً - « الجمع والانضمام والامتلاء»، كذلك اعتمادا على حسب تسمية الباحثين (هاليداي ورقية حسن) في كتابيهما المسمى ب«الاتساق في اللغة الإنكليزية - Cohesion in English»، وهذا الأقرب والأكثر استعمالاً في سياق الكلام لما توحيه دلالة الكلمة، للاستزادة أكثر يراجع: جبار سويس الذهبي، «الاتساق في العربية دراسة في ضوء علم اللغة الحديث»، رسالة ماجستير، جامعة المستنصرية : 38، 39.
2- ظ: محمد خطابي، لسانیات النّصِّ: 15.
3- ظ: الخليل، العين: 5/ 191، مادة (وسق).

أي وما جمع وضم واتَّساقُ القمر امتلاؤه واجتماعه واستواؤه... وما وَسَقَ

أي وما جمع»(1).

هذه المعاني جميعها تُعطي دلالات متقاربة تدور حول «الضم، والجمع، والانتظام»، فإذا ما بحثنا عن أثرها في الاصطلاح نجدها تُعطي الدلالات نفسها أو قريبة منها.

ففي الاصطلاح: فقد عرّفه (محمد خطابي) «هو ذلك التماسك الشديد بين الأجزاء المشكلّة لنص خطاب ما ويهتم بالوسائل اللغوية الشكلية التي تصل بين العناصر المكونة لجزء من خطاب أو خطاب برمته»(2).

وكأنَّ الباحث - محمد خطابي - يُجيب على سؤال مطروحٍ في ذهنه كيف

نصف الاتساق ؟ فيُجيبُ قائلاً: «من أجل وصف اتساق الخطاب / النّصُّ يسلك المحلل – الواصف طريقة خطية، متدرجاً من بداية الخطاب «الجملة الثانية منه غالباً» حتى نهايته راصداً الضمائر والإشارات المحيلة إحالة قبلية أو بعدية مهتماً أيضاً بوسائل الربط المتنوعة كالعطف والاستبدال والحذف والمقارنة والاستدراك وهلم جرّا كلُّ ذلك من أجل البرهنة على أنَّ النّصَّ / الخطاب... يشكّل كلّاً متآخذاً» (3).

يقع الاتساق في النّصِّ - بحسب ما يرى الباحثان (هاليداي ورقية حسن)- عندما يتوقف تفسير عنصر في الخطاب على تفسير عنصر آخر؛ إذ

ص: 34


1- ابن منظور، لسان العرب: 379/10 ، مادة (وسق).
2- محمد خطابي، لسانیات النّصِّ: 5.
3- م. ن: 5.

يُفترض الأول سلفاً لتفسير الثاني، بمعنى أنّه لا يمكن فكّ شفرته -الأول بشكل فعّال إلّا بالرجوع للثاني عندها يدمج العنصران، وعلى هذا الأساس يمكن عدُّ الاتساق مفهوما دلاليا علائقيا؛ لكونه لا يكمن في وجود فئة خاصة من العناصر الاتساقية، بل يمثل العلاقة بين عنصر وآخر، ما يتيح له القدرة في الإحالة على العلاقات المعنوية الموجودة في داخل النّصِّ، التي تجعل منه نصّاً (1). ويضيف عليهما (محمد خطابي) مستويات أخرى يتضمنها الاتساق هي المعجمي والنحوي، فلا يقتصر على المستوى الدلالي(2).

فأثر الاتساق يبرز على سطح النّصِّ من طريق مجموعة من الروابط والقرائن اللفظية، وما تتضمنه من عناصر نحوية ومعجمية تعمل على ضمّ الأجزاء النّصّية المتراتبة حتى تُشكّل وحدة نصّية متسقة ومسبوكة، ما يؤكد أهمية الاتساق في التأثير في المتلقي عن طريق تواصله وتفاعله معه، فينتج عنه حتمية تجلي الدلالة ووضوحها لدى المتلقي، ومن ثمَّ فهم النّصِّ و بیان دلالته.

هناك بعض النّصوص لا تتوافر فيها بعض الوسائل اللفظية، وإنَّما الظاهر

ص: 35


1- ظ: محمد خطابي، لسانیات النّصِّ: 15، و: شريفة بلحوت، الإحالة دراسة نظرية مع ترجمة الفصلين من كتاب «الاتساق في الإنكليزية» (هاليداي ورقية حسن): 88، 75، رسالة ماجستير في جامعة الجزائر، كلية اللغات، 2006م.
2- ظ: محمد خطابي، لسانیات النّصِّ: 15، إذاً فقرينة التضام تعد جزءاً من الاتساق النّصِّي، وعلى هذا الأساس قسمتُ هذه القرينة على مبحثين الأول: «التضام النحوي»، والثاني: «التضام المعجمي»، ودراستي جمت بين ما آلت إليه اللسانيات وما آل إليه النحو الحديث «على رأسه (تمام حسان)، فاللسانيات النّصّية جعلت التضام المعجمي» هو الأساس، على حين جعل النحو الحديث «التضام النحوي» هو الأساس، وجاء البحث ليجمعهما معاً.

فيها هو تجاور بين الجمل من دون الاهتمام بالروابط التي تُجسّد الاتساق. يُعطي (محمد خطابي) لها أمثلة «التلغراف، والإعلانات الحائطية، وإعلانات البيع والكراء، والخدمات الإشهارية في الجرائد أو في الشعر الحديث وغيرها»؛ فعلى الرغم من افتقارها لتلك الروابط، إلّا أنّها توصف بأنّها متسقة؛ وذلك لما تحمله من مقاصد إبداعية ابتكارية، وضرورات تواصلية(1)، فالمعنى المنطقي فيها منسجم لا يحتاج لتلك الروابط.

ولأهمية «الاتساق» فقد اعتنى البلاغيون به، وذلك ب«الكشف عن الترابط القائم بين سلسلة الأقوال المؤلفة الفقرة أو مجموعة أجزاء من العمل الأدبي، ونجد هذا واضحاً فيما كتبه حازم القرطاجني (ت 684ه) الذي سلّط الضوء على العلاقات الترابطية لأجزاء القصيدة» (2)، وقد جعله (السيوطي) أحد أوجه الإعجاز القرآني، يقول: «الوجه الثالث من وجوه إعجازه حسن تأليفه، التئام كلمه وفصاحتها. والوجه الرابع مناسبة آياته وسوره و ارتباط بعضها ببعض حتى تكون كالكلمة الواحدة، متسقة المعاني منتظمة البناء»(3).

ومن هذا المنطلق أصبح يُنظر إلى الاتساق على أنّه ظاهرة متميزة فعّالة لتشكيلها وحدة علائقية نّصية عند تحليلها تجدها مؤلفة من مجموعة علاقات

«ظاهرية وباطنية، وخارجية وداخلية، وبسيطة وعميقة»، فتعكس الانسجام

الداخلي للنّصِّ.

ص: 36


1- ظ: محمد خطابي، لسانیات النصِّ: 5.
2- إبراهيم خليل، في اللسانيات ونحو النّصِّ: 185.
3- السيوطي، معترك الأقران: 1/ 23، 43.

رابعاً: القرينة:

القرينة لغةً: من القرن «قَرنتُ الشيء أقرنه قرناً أي شددته إلى شيء... والقرين صاحبك الذي يُقارنك»(1)، يرى (ابن فارس) أنَّ لمعنى مادة «قرن» اللغوي معنيين؛ «أحدهما: يدلُّ على جمعِ شيء إلى شيء، والآخَر شيء ينتَأ بقُوّة وشِدّة» (2)، واقترن الشيء بغيره وقاره قرانا، أي صاحبته، ومنه القرين أي المصاحب سواء أكان ذلك في الخير أم الشر (3).

تدور دلالات هذه المعاني حول كلِّ من الاجتماع وشدة المصاحبة والتلازم والازدواج»، فإذا ما بحثنا في المعنى الاصطلاحي فلا نجدها تبتعد عنه، فصحبتها واجتماعها فيه إعانة على إزالة الغموض.

ففي الاصطلاح: أول تعريف لها تجده عند (الشريف الجرجاني) (ت716ه): «أمرٌ يشيرُ إلى المطلوب»(4)، ولكن عند التمعن في دلالته تجد أنّ الغموض يشوبه بعض الشيء لعموميته، ونجدها أخص في التعريف المحدث القائل: «هي الدلالة اللفظية أو المعنوية التي تمحض المدلول وتصرفه إلى المراد منه مع منع غيره من الوصول فيه»(5).

ف «القرينة» مثلما يتضح من المعنى اللغوي والاصطلاحي معا أنّها في الظاهر صغيرة الحجم كبيرة المعني، على الرغم من صغرها لكنها قد تسوق سياقاً برمته،

ص: 37


1- الخليل، العين: 5/ 242، 241، مادة (فرن)
2- ابن فارس، مقاییس اللغة : 5/ 76.
3- ظ: ابن منظور، لسان العرب: 7/ 340، مادة (قرن).
4- الشريف الجرجاني، التعريفات: 174.
5- محمد سمير نجیب، معجم المصطلحات النحوية والصرفية: 186.

فهي کالمؤشر توّجه دلالة السياق المراد فتجعله مُصيباً في رميته الهدف وهو ذهن المتلقي، مع الإفصاح عن الدلالة المقصودة أهي مجردة أم محسوسة؟ فالأولى يكون إرسالها مباشرة للذهن، أمّا الأخرى فيكون إرسالها للنفس، وتكون مطعمة بعناصر إبداعية مؤثرة في المتلقي؛ لذا لا يكون إرسالها مباشرا.

وهاتان الوظيفتان اللتان تؤديهما «القرينة» يكون عن طريق عملها الأساسي، وهو الربط العلائقي للبني الصغرى داخل البنية الكبرى، حتى تجعلها وحدة نصّية متسقة ومنسجمة، علماً أنَّ هذه القرائن يُدركها المتكلم سليقةً من دون شعور منه، فيستعين بها في إفهامه الدلالة النّصّية، كي يتسنى له التعبير عن غرضه، كلُّ ذلك عن طريق هذه القرائن وما تحمله من سمات ومعانٍ ودلالات(1). وهذه القرائن تؤدي معناه الوظيفي في القصد من منابع متنوعة بحسب الجانب الوظيفي الذي تنتمي إليه، فتحقق الغرض المطلوب في تناسق الدلالة وتلاقي معانيها؛ إذ قد تكون معنوية أو لفظية، بحسب تقسیم (تمام حسان) لها، بعد أن جمعها تحت عنوان «قرائن التعليق»، وهو مصطلح استقاه من کلام (عبد القاهر الجرجاني)(2)، فما سبق بيانه- إنّ الجامع لها هو عملها في تنشيط حلقة التواصل بين المتكلم والمتلقي، وعليه ينتقل المعنى الدلالي بينهما، وهذا ينبغي- بحسب ما يرى تمام - «أن نتصدى للتعليق النحوي بالتفصيل تحت عنوانين أحدهما: العلاقات السياقية ... والثاني هو القرائن اللفظية فإذا علمنا أن العلاقات السياقية التي تربط بين الأبواب وتتضح بها الأبواب هي في الحقيقة «قرائن معنوية» ... فهذه تتناول القرائن من الناحيتين المعنوية واللفظية

ص: 38


1- ظ: محمد محمد يونس علي، المعنى وظلال المعنی: 318.
2- ظ: تمام حسان، اللغة العربية معناها و مبناها: 189.

وهما مناط التعليق ... فالتعليق هو الإطار الضروري للتحليل النحوي أو لما يسميه النحاة الإعراب »(1)، ففكرة التعليق التي اعتمدها (تمام حسان) هي في الحقيقة ترتكز على العلاقات السياقية، وما تكمن من قرائن لفظية ومعنوية .

ويُعرّف (مصطفى حميدة) التعليق، بقوله: «إنَّ التعليق ترتیب دلالات الألفاظ في العقل، والنظم ترتيب للألفاظ نفسها في الجملة الملفوظة. هذا مع التسليم بأنّ التمييز بين هاتين العمليتين أمرٌ في غاية الصعوبة، وإنّ المتكلّم يؤديهما على حالٍ تُكاد تجعلهما عملية واحدة»(2)، واصفاً بتعريفه هذا علاقة التعليق بالنظم؛ فهي أشبه بالمترادفة.

يُقسّم (تمام حسان) تلك القرائن على قسمين: القسم الأول: القرائن المقالية، القسم الثاني: القرائن الحالية»، وتُقسّم الأولى على «معنوية ولفظية»، ويتضح الفرق بينهما عن طريق التسمية والتقسيم، في « القرائن المعنوية» أصعب إدراكاً من القرائن اللفظية؛ لأنَّ مجالها عقلي، على حين أنَّ اللفظية يمكن إدراكها عن طريق الحواس، وما يُدرك عقلاً يكون أصعب منالاً مما يُدرك حساً (3).

وعلى هذا التقسيم يمكن أن يطلق عليها القرائن العقلية والمادية، وتشمل الأولى قرائن: «الإسناد، والتخصيص، والنسبة، والتبعية، والمخالفة» (4)، وهذه يحكم دلالتها المعنى وصحته (5). أمّا الأخرى - اللفظية - فهي «اللفظ

ص: 39


1- م.ن: 189.
2- مصطفى حميدة، نظام الارتباط والربط: 11.
3- ظ: تمام حسان، اللغة العربية معناها ومبناها: 191، 190.
4- ظ: تمام حسان، اللغة العربية معناها ومبناها: 191،90 .
5- ظ: فاضل السامرائي، الجملة العربية والمعنى: 61، لم يصرح (د. فاضل السامرائي) بوجود= = قرائن لفظية ومعنوية، ولكن حين العودة لتطبيقاته تجده يلمح بوجود تلك قرائن، فيشير ضمناً أو إظهاراً إلى وجود قرينة داخل السياق محدداً نوعها إن كانت لفظية أو معنوية، هاك مثلاً: قوله تعالى : فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ » [البقرة: 91]، فمن قبل هي قرينة تدل على المضي وليس الحال أو الاستقبال، للاستزادة يراجع: فاضل السامرائي، الجملة العربية والمعنى : 59- 62.

الذي يدل على المعنى المقصود ولولاه لم يتضح المعنى»(1) فتشمل : «الإعراب، والتنغيم، والصيغة، والمطابقة، والأداة، والربط، والرتبة، والتضام»(2)، فالقرائن عند (تمام حسّان) تعتمد على السياق بصورة عامة سواء أكان حقيقةً أم مجازاً.

وقد تابعه في ذلك (د. فاضل السامرائي)؛ إذ جعلها على ضربين (مادية

عقلية)، إلّا أنّه قيد من شأنها وقصرها على ملمح المجاز فقط (3):

الأول: ضربٌ لا يحتاج إلى قرينة؛ لتوافق الدلالة الظاهرية مع الدلالة الباطنية، نحو قوله تعالى:

«وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ » [الأنعام: 74].

وهذه هي الدلالة الحقيقية .

أمّا الضرب الآخر فلا يتضح مقصده إلّا بقرينة كقولك: «رأيتُ أسداً » بمعنی شجاعاً، وكذلك قولك: «هذا بحرٌ» أي جواد، وهذه المعاني تعتمد على

ص: 40


1- م.ن: 60.
2- ظ: تمام حسان، اللغة العربية معناها ومبناها: 205.
3- ظ: فاضل السامرائي، الجملة العربية والمعنى: 59.

القرينة في إيضاح دلالتها المجازية وصرفها عن المعنى الحقيقي، فقد عملت عملین، إيضاح الدلالة وصرفها، فهي لم تصرفها عن المعنى الحقيقي فقط، وإنّما تحصرها في الجانب المجازي، وبذا قد أعطتِ الدلالة المبتغاة، فالقرينة هنا تدخل في باب المجاز فقط.

يمكن أن نستخرج من هذه القرائن ما تدخل ضمن البحث التطبيقي في الرسالة، ألا وهي قرائن «التضام، والرتبة والربط»، هذه القرائن أطلق عليها

(تمام حسان) مفهوم «العلائقية»(1)، فأعطاها مزيةً تُميزها عن بقية القرائن الأخرى، فربما يسأل سائل لِمَ سميت بالقرائن العلائقية؟ لم يُفصح (د.تمام) عن سبب التسمية، ولكن عند البحث والدراسة تجد أنَّها ومن دون بقية القرائن يكون عملها ضخماً جداً، وقد اتضح ذلك سابقا أنَّ مزية القرينة وصغرها قد تسوق دلالة سياقية أو ترکيبية، وتجعلها مسلكةً لطريقِها ومؤديةً لغرضِها. على حين أن بقية القرائن قد تكون حرفاً أو صوتاً، ک«العلامة الإعرابية، ونغمة الكلام» أو كلمةً «ک«البنية صرفية، والمطابقة، والأداة»(2) فاهتمام الأخرى مقتصر على ما تدور حوله من معنى.

هذا بالنسبة للقرائن اللفظية، أمّا القرائن المعنوية فهي الأخرى لا تستغني عن هذه القرائن - التركيبية العلائقية - بإعطاء المسوّغ الترابطي في إطار الدلالة التركيبية والسياقية، فلا يمكن لها القيام بذلك إلّا بتضافرها مع هذه القرائن؛ إذ تقوم بإبرازها عن طريق الإحالة إليها، إذاً فهي الوحيدة التي تؤدي أثرها

ص: 41


1- فقد جمعها بكتابه «الخلاصة النحوية»: 80، تحت عنوان «القرائن العلائقية»، من دون تعليل لسبب التسمية؛ لأنّها واضحة عن طريق عملها.
2- ظ: تمام حسان، الخلاصة: 13، 12، 11.

العلائقي في إطار السياق ضمن المباحث التخاطبية؛ وذلك عن طريق ارتباطها بالمباني الدلالية والتركيبية المتضامة هي الأخرى ضمن وحدة نّصّية كبری(1) و«القرائن العلائقية تقع في المرحلة الثانية من مراحل التضييق، يمكن توضيحها وأثرها العلائقي عن طريق المخطط الآتي:

ص: 42


1- ظ: محمد محمد یونس علي، المعنى وظلال المعنى: 321، وللتعريف بكلِّ قرينة من هذه القرائن «التضام والرتبة والربط» فقد خصص البحث فصلاً لكلِّ قرينة مسهلاً ذلك بتوطئة تعريفة مبينة لأصل كلِّ منها ووظيفتها وأهميتها العلائقية، إلّا قرينة الرتبة لاختلاف الآراء في أصل عملها بين الربط والترتيب، وبالأصل كما يبدو لي أنَّ الترتيب هو اتساقٌ وانسجام، ولا سيما وإذا تقدّم فيها الترتيب الدلالي على اللفظي، سيأتي بيان كلِّ منها في فصلها المحدد، إن شاء الله تعالى .

الفصل الأول

اشارة

المبحث الأول: التضام النحوي

المبحث الثاني :التضام العجمي

ص: 43

ص: 44

توطئة

يعد التضام من أبرز القرائن العلائقية؛ وذلك نتيجة ما يقوم به من أثر علائقي جامع بين العلاقات النّصية السطحية والضميمة، وعلى وفق هذا المضمون يمكن بيان معناه مبتدأ في ذلك من المعنى اللغوي.

التضام في اللغة: ضمّ الشيءِ إلى الشيءِ ضماً فانضم وتضام، وتَضام القومُ

إذا انضم بعضُهم إلى بعضٍ (1).

وفي الاصطلاح لا يبعد المعنى الاصطلاحي عن المعنى اللغوي؛ فهو - کما عرّفه تمام حسان - «أن يستلزم أحد العنصرين التحليليين النحويين عنصراً آخر، فيسمى التضام هنا «التلازم»، أو يتنافى معه فلا يلتقي به، ويسمى هذا «التنافي» (2).

والتضام قرينة لفظية تركيبية، تُظهر العلاقة الدلالية التركيبية الكامنة بين العناصر اللغوية، كأن تكون مفردات أو تراکیب، وقد تتعدى ذلك إلى الوحدات النصية، فتؤدي المعنى العام للوحدة النصية المنسوجة المسبوكة، ولأهميتها لا یکاد باب من أبواب النحو يخلو منها؛ إذ تتمثل بصورتين، الإيجابية، وتشمل

ص: 45


1- ظ: ابن منظور، لسان العرب: 12/ 358، 357، مادة (ضمم)، و: الفيروز آبادي، القاموس المحيط : 1043، باب (الميم).
2- تمام حسان، اللغة العربية معناها ومبناها: 217.

«الافتقار، والاختصاص، والتوارد». أمّا صورته - التضام- السلبية (1) فتشمل «التنافي، والتنافر».

والمعروف أنّ «الافتقار والاختصاص والتنافي «من الظواهر التركيبية ، أمّا «التوارد، والتنافر» من ظواهر الكليات المعجمية(2)، ويمكن بيان ذلك

ص: 46


1- التضام السلبي: المتمثّل ب«التنافر، والتنافي» ولا يعول على هذا التقسيم في بنية السياق بنوعيها المعجمي والتركيبي، فهذا «التنافي» يفرض استبعاد وجود علاقة تلازمية بين عنصرين متنافيين في سياق الجملة، ولا سيما فيما يخصُّ التعالق المعنوي، ويرتبط بالفكرة الأساسية، وارتباطه دائماً يكون ب«النمطية التركيب النحوي»، أو امتناع المعاقبة، فقولك: «کتاب زید»، لا يحلُّ محله فعل و لا ضمير و لا أداة شرط، ولا تنفيس، ولا تحقيق..إلخ؛ إذ يمتنع أن تحل الألفاظ المذكورة في هذا الموضع، ظ: تمام حسان، التضام و قيود التوارد: 103، (بحث) بمجلة المناهل، ع6، السنة الثالثة، رجب 1396 ه- يوليوة1976م، وليس هذا عمل بحثي فما يعنيني هو وجه التضام الإيجابي المتمثّل بجانبيه المتضافرين «النحوي، والمعجمي» العملهما الوظيفي العلائقية في العلاقات السياقية النّصّية.
2- فصّل (تمام حسان القول في كلِّ ظاهرة من ظواهر التضام بقسميّه: «النحوي، والمعجمي »، فالتضام المعجمي- کما عرفه - هو انتظام مفردات المعجم في طوائف یتوارد بعضها مع بعضٍ أخر، فالأفعال طوائف تتوارد كل طائفة منها مع طائفة من الأسماء، وتتنافر مع الأسماء الأخرى، ويؤكد قوله - هذا- بعرضه رأي البلاغيين بهذا الجانب، يقول: «إسناد الفعل إلى من هو له أو إلى غير من هو له». تمام حسان، البيان في روائع البيان: 154. ودلالة التضام بوصفه قرينة لفظية ترکيبية تتحقق غالباً بالإسناد، وذلك «كدلالة قولنا: زید قائم وعمرو خارج، فإنّ ما هذه حاله دال على معنی مرّکب، وهو إضافة هذه الأحكام ويتحصل من أجلها الفائدة المركبة» العلوي، الطراز: 2/ 9. فالإسناد کما هو مألوف علاقة معنوية؛ ما يدل دلالة واضحة على أنَّ الأساس في التضام هو التعالق المعنوي أكثر مما هو لفظي، وكفى بدلالة اسمه عليه؛ فعلاقته ضميمة أكثر منها سطحية وقد أطلق البلاغيون على الارتباط المباشر صفة «كمال الاتصال»، وغالباً ما يتحقق هذا الارتباط -علاقة المسند بالمسند إليه- في مجموعة من الأمور منها: = 1- أن تكون الجملة الثانية مؤكدة للأولى؛ ومن ثم يصبح المؤكِّد والمؤكَّد واحداً، أي جمل متضامة بعضها البعض، من غير حاجتها إلى عاطف يعطفها. 2-أن تكون الجملة الثانية مبينة وموضحة للأولى. 3- أن تكون الجملة الثانية بمنزلة البدل من الجملة الأولى، فيتحقق بذلك «كمال الاتصال» ظ: الجرجاني، دلائل الإعجاز: 243، 244، و: الخطيب القزويني، الإيضاح في علوم البلاغة : 153، أي اتحاد الجملتين اتحادا تاما، فلا يجوز عطف إحداهما على الأخرى، و «لا يغنى واحد منهما عن الآخر، ولا يجد المتكلم منه بدا» سيبويه، الكتاب: 1/ 23. ويقسم الإسناد إلى: إسناد معنوي، وآخر لفظي، والمعنوي هو الأصل، يتحقق حين تنسب كلمة ما لمعناها، معناه الحقيقي، ک« إسناد الخبر إلى المبتدأ، نحو «خالد مسافر»، وإسناد الفعل إلى الفاعل، نحو «حضر أخوك». أما اللفظي فيتحقق حين يُنسب الحكم إلى اللفظ، نحو قولك: «لا إله إلّا الله كلمة الإخلاص»، ظ: فاضل السامرائي، الجملة العربية، أقسامها وتأليفها: 30. وعليه فالتضام - كما يبدو لا يقتصر على كونه قرينة لفظية فحسب، وإنّما يتسع مداه إلى الربط المعنوي، كما في الإسناد، والتضام هو ما قصده علماء العربية في دراساتهم في قضايا الإسناد، والعلاقة بينهما، أي لم يقتصر على الدراسات الحديثة، للاستزادة يراجع: سيبويه، الكتاب: 1/ 23، و : والمبرد، المقتضب: 4/ 126.

بالمخطط الآتي:

وغالباً ما تتحقق العلاقة الوظيفية التركيبية للتضام بين العناصر المتلازمة

ص: 47

في حالة الافتقار؛ إذ تكمن وظيفته اللغوية العلائقية حين تشتد حاجة أحد العنصرين إلى الآخر، فيرتبط أحدهما بالآخر ارتباطا معنوياً مباشراً، لا يحتاج في حينها إلى رابط لفظي - «الأداة» - كحال «الصفة والموصوف، والتأكيد والمؤكد، والمضاف والمضاف إليه وغيرها». فإنّ «كلَّ جملتين متتالين في النّصِّ، ثانيتهما بيان للأولى ترتبطان ارتباطاً مباشراً بغير أداة»(1)، وهذا ارتباطٌ معنوي بين التراكيب الإسنادية(2)، ويتصف النّصّ بهذه العلاقات الإسنادية بصفة الانتظام – التي يعكسها رصف الكلمات والتراكيب المتجاورة - التي تؤدي إلى استقرار الفكرة في ذهن المتلقي ورسوخها؛ وذلك لأنّ « انتظام الجمل في ذلك النّصِّ دليل على انتظام العناصر المكونة لعالم النّصِّ؛ فالمسند يقتضي المسند إليه، وهذا الأخير يقتضي الأول، وهما معاً يقتضيان متممات، فهذه حلقة أولى تنتهي دون أن تنغلق على نفسها... ترصف الحلقة إلى جانب الأخرى لتكوِّن عالماً ممتداً هو عالم النّصِّ»(3).

وتكمن أهمية التضام في الاتساق النّصِّي، في ضوء تعالق التراكيب، وتلازمها داخل الوحدة النّصّية، وهذا لا يقتصر على الجانب الشكلي، وإنّما يتسع لتحقيق الاتساق الدلالي في ترابط جمل النّصّ، فإن لم يتحقق ذلك الترابط والاتساق، «فإنّ النسيج النّصّي، يبقى بلا قدرة على إيجاد التواصل بين المبدع والمتلقي»(4) ، لذا

ص: 48


1- على حين أنّ الربط اللفظي «الخلافي» يكون بوساطة الأدوات التي تربط بين «كلّ جملتين متتاليتين في النّصِّ، ثانيتهما تخالف الأولى، ترتبطان بأداة ربط» الأزهر الناد، نسيج النّصِّ : 28.
2- وهذا ما سيفصله البحث في المبحث الأول: (التضام النحوي).
3- الأزهر الزناد، نسيج النّصّ: 67.
4- خليل أحمد عمايرة، المسافة بين التنظير النحوي والتطبيق اللغوي:350، 349.

فالاتساق الدلالي يكمن في قرينة التضام، الذي يُعد- وكما يبدو -من أبرز القرائن العلائقية الاتساقية؛ فهو مرآة عاكسة لعلاقاتٍ ضميمة تتمثّل بعلاقات الإسناد والتخصيص والتبعية؛ إذ يُشكّل جسر اتصال ما بين الترابط الداخلي والخارجي، ويمكن ملاحظة ذلك عن طريق التطبيق الموزّع بحسب أبواب التضام.

ص: 49

ص: 50

المبحث الأول: التضام النحوي

اشارة

التضام النحوي: هو التلازم الحاصل بين العناصر اللغوية - التراكيب المترابطة -، فيكون بعضها سبباً في حصول بعضها الآخر، ما يؤثر في تصميم البنية التركيبية، حتى يصل إلى حالٍ من الاتساق الدلالي، والتآلف النّصّي بين المضمون التركيبي؛ لأداء المعنى العام للنّصِّ؛ فالتضام کما سبق - «قرينة على المعنى بحسب ما يرهص به حيز اللفظ من افتقار إلى لفظ آخر، أو اختصاص به، أو مناسبة بين هذا اللفظ وغيره، أو مفارقة بين اللفظين»(1).

وغالباً ما تظهر علاقة التضام بين التابع والمتبوع، والمفسِّر والمفسَّر، والتمييز والمميز، والضمير ومرجعه، والفصل والوصل، والافتقار والاختصاص، والاقتران، وتقدير الجملة، والتركيب وغيرها(2).

مظاهر التضام النحوي:

أولاً- الاختصاص:
اشارة

وهو أحد مظاهر التضام التركيبي؛ إذ يُعني بأهمية الحروف والأدوات باختصاص كلّ نوعٍ منها بالدخول على عناصر لغوية

ص: 51


1- تمام حسان، الخلاصة النحوية: 81.
2- ظ: تمام حسان، البيان في روائع القرآن: 153.

محددة، ما يؤكد وظيفتها في قوة المعنى والارتباط؛ وذلك لأنّ الحرف لا يمكن إدراكه في ذاته، أي من دون ارتباطه بكلام آخر، وإنّما عن طريق تضامه مع ألفاظ أخرى، أو جمل، وقد يتعدى الأمر إلى الوحدات النّصّية (1). وقد عناه (تمام حسان) به «أن يدخل الحرف على مدخول بعينه وأن كان ذلك له بسبب لفظه لا بسبب معناه»(2)، فهو صفة خاصة بالحروف والأدوات (3)، کاختصاص (إنّ وأخواتها) بالدخول على الاسماء، واختصاص (حروف الجر)، و(أدوات النداء) بذلك أيضاً، واختصاص (أحرف الجزم والنصب) بالدخول على الأفعال المضارعة، وغيرها من الأدوات، وقد علل (السيوطي) اختصاصها

ص: 52


1- يرى أغلب النحاة - من القدماء والمحدثين - أنّ ليس للحرف دلالة على معنى في نفسه، وإنما تكمن دلالته في غيره، ومنهم (ابن جني)، إذ يقول «الحرف ما لم تحسن فيه علامات الاسماء ولا علامات الأفعال، وإنّما جاء لمعنى في غيره» اللمع في العربية: 8، ومن المحدثين (عباس حسن) -على سبيل المثال لا الحصر - الذي قال: «الحرف كلمة لا تدل على معنى في نفسها، وإنما تدل على معنى في غيرها فقط، بعد وضعها في جملة . دلالتها خالية من الزمن» النحو الوافي: 1/ 68.
2- تمام حسان، الخلاصة النحوية: 80. وهناك بعض الحروف والأدوات غير مختصة تصلح للدخول على مختلف أنواع الكلمات مثل «ما» النافية و«أدوات الاستفهام» و «أدوات العطف»، وقد تنبه تمام حسان إلى مدى انتفاع النحاة من هذه الظاهرة في تنظيرهم للإعراب فكان من أصولهم: «لا يعمل الحرف إلّا إذا كان مختصا » . ابن الأنباري، في الانصاف في مسائل الخلاف 730/1 ، و : البيان في روائع القرآن: 154، 155 . وعليه اقتصرنا على تناول ما كان مختصاً لقوة عمله في التضام والاتساق الدلالي.
3- قسّم ابن الأنباري الحرف على قسمين: معمل ومهمل، فالمعمل هو الحرف المختص، ک«حرف الجرّ، وحروف الجزم»، والمهمل غير المختص، ک«حرف الاستفهام وحرف العطف». للاستزادة يراجع: أسرار العربية : 28، و : الجنى الداني: 90.

بقوله: «كلّ حرفٍ اختص بشيءٍ ولم ينزّل منزلة الجزء منه فأنّه يعمل«(1)، ولا مجال للبحث لذكرها جميعا، فاقتصر على تناول ما كان أثرها واضحة وبارزة في اتساق النص في خطب الحروب، وهي كالآتي :

الاختصاص الاسمي:

تختص بعض الحروف بالدخول على مخصوصات كلامية اسمية من ألفاظ

ومركبات، فيتضام الحرف المختص مع مدخوله، ما يؤدي إلى سبك وتراص مفردات التركيب اللغوي، من ذلك «إنّ وأخواتها»، و «حروف الجرِّ»، التي كان لها الأثر الواضح في التضام والاتساق الدلالي في خطب الحروب، كلُّ ذلك نجده في ضوء عملها المتخصص، و سنعرض ذلك عن طريق نصوص نهج البلاغة:

إنّ وأخواتها: وهي من الحروف المختصة بالدخول على الأسماء ، وهي في تضامها هذا مع الجملة الاسمية تنصب الأول اسماً لها، وترفع الثاني خبراً لها، وهذه الحروف - «إنّ، أنَّ كأن لكنَّ، لعلّ، ليت» - « إنّما كان عملها بالاختصاص، وإذا لحقتها «ما» فارقها الاختصاص فينبغي ألّا تعمل إلّا ليت فإنّها تبقى على اختصاصها»(2)، وقد كثر استعمالها في خطب الحروب للإمام (علیه السّلام) ولاسيما «إنّ» المؤكِّدة، منه قوله(علیه السّلام) :

وَ اَللَّهِ مَا أَنْكَرُوا عَلَيَّ مُنْكَراً وَ لاَ جَعَلُوا بَيْنِي وَ بَيْنَهُمْ [نَصَفاً] ، وَ إِنَّهُمْ لَيَطْلُبُونَ

ص: 53


1- وخرج بذلك السين وسوف وقد ولام التعريف، فلم تعمل في الكلمات التي تليها برغم اختصاصها؛ لأنها كالجزء منه، السيوطي، الأشباه والنظائر :2/ 246.
2- ابن عصفور، شرح جمل الزجاج: 1/ 434.

حَقّاً هُمْ تَرَكُوهُ وَ دَماً هُمْ سَفَكُوهُ فَإِنْ كُنْتُ شَرِيكَهُمْ فِيهِ فَإِنَّ لَهُمْ نَصِيبَهُمْ مِنْهُ وَ إِنْ كَانُوا وَلُوهُ دُونِي فَمَا اَلطَّلِبَةُ إِلاَّ قِبَلَهُمْ وَ إِنَّ أَوَّلَ عَدْلِهِمْ لَلْحُكْمُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ إِنَّ مَعِي لَبَصِيرَتِي مَا لَبَسْتُ وَ لاَ لُبِسَ عَلَيَّ وَ إِنَّهَا لَلْفِئَةُ اَلْبَاغِيَةُ فِيهَا اَلْحَمَأُ وَ اَلْحُمَّةُ وَ اَلشُّبْهَةُ اَلْمُغْدِفَةُ وَ إِنَّ اَلْأَمْرَ لَوَاضِحٌ وَ قَدْ زَاحَ اَلْبَاطِلُ عَنْ نِصَابِهِ وَ اِنْقَطَعَ لِسَانُهُ عَنْ شَغْبِهِ»(1).

يُلحظ في النّصِّ المتقدم تعالق نصّي مكثّف، يتجلّى في تضام «إنّ» الموکِّدة

مع التراكيب الاسمية، وتلازمها معها؛ لبيان المقصود من المعنى العام؛ وذلك لأنّ مقام المتكلّم مقام شكِّ؛ لذا غلب عليها سيطرة (إنَّ) المكسورة المؤكدة على النّصِّ من دون وجود (أنَّ) المفتوحة الهمزة؛ لأنّها تحتاج إلى تأكيد أقوى في ذلك السياق (2)، فقد كان معرض حديث الإمام (علیه السّلام) هو التعريف ب(الفئة الباغية)، ما أدى إلى إيصال المعنى متسقاً في ذهن المتلقي، فقد تكررت -» إنّ» - خمس مرات، ولم تأتِ في كلِّ ترکیب من هذه التراكيب النصية منفصلة عن غيرها، وإنّما جاءت متعالقةً مع بعضها الآخر مبنی ومعنى، عن طريق تضافرها مع القرائن الأخرى؛ إذ تجد في قوله: « وَ إِنَّهُمْ لَيَطْلُبُونَ حَقّاً هُمْ تَرَكُوهُ»؛ أنّ التضام

ص: 54


1- نهج البلاغة: 194، خطبة : 137، بتحقيق: صبحي الصالح، اعتمدت على تحقيقه في اختيار الخطب الحربية من النهج.
2- فإضافة (إنّ) المكسورة نجد أنَّ المعنى قد تأكد وأصبح غير قابل للشكِّ من قبل المستمع، أمّا (أنَّ) المفتوحة المشددة، فهي أقل تأكيداً من المكسورة؛ لأنّها تتطلب «إيجاد عنصر لغوي قبلها، غالباً ما يكون فعلاً او ما هو من خصوصياته، نحو (لو) وتتحول الجملة من جملة قائمة بذاتها ذات معنى إلى جملة مؤولة بمفرد معمول لما سبقه» الصادق خليفة راشد، دور الحرف في أداء معنى الجملة : 183.

لا يقتصر على اقتران المختص «إنّ» مع المخصوص «هم لَيَطْلُبُونَ»، وإنما يتعدى أثره في الاتساق بتماسك إجزاء النّصّ، وذلك بتعالق المبنى التركيبي «ِنَّهُمْ لَيَطْلُبُونَ حَقّاً هُمْ تَرَكُوهُ» بما قبله وما بعده، كما سبق - عن طريق تضافره مع القرائن الأخرى، ومنها: الإحالة الضميرية «هم «المحيلة إلى الفئة الباغية، التي توافرت بكثافة في النّص، ومن ثم تعالق التركيب النصي المؤكد «َ إِنَّهُمْ لَيَطْلُبُونَ حَقّاً هُمْ تَرَكُوهُ» مع القسم المستهل به «والله»، وما لحقها من تراکیب منها «وَ دَماً هُمْ سَفَكُوهُ » إشارة إلى دم الخليفة عثمان، مستعينة في تضامها بحرف العطف «الواو» بغية إيصال المتلقي إلى المعرفة الحقيقية بهذه الفئة الباغية)، ما يشدّ من عملية التواصل بينها؛ لانسجام الكلام مبنی ومعنى في ذهن المتلقي، ومن ثم إصغاؤه لما يقول.

ولم يخرج النّصّ عن بيان معنى (الفئة الباغية)، وما تحمله من الغلّ والفساد، بالرغم من التنويع في المدخولات الاسمية بين الأسماء الظاهرة «وَ إِنَّ أَوَّلَ عَدْلِهِمْ لَلْحُكْمُ»، «وَ إِنَّ اَلْأَمْرَ لَوَاضِحٌ» والضمائر « وَ إِنَّهُمْ لَيَطْلُبُونَ حَقّاً هُمْ تَرَكُوهُ»، «فَإِنَّ لَهُمْ نَصِيبَهُمْ»، «وَ إِنَّهَا لَلْفِئَةُ اَلْبَاغِيَةُ»، ومن ثم تنوّع الأخرى، فضلا عن تناول المتكلّم لمعانٍ فرعية منها تفريقه بين الحق والباطل، و تنزيه نفسه الشريفة عن هذه الفئة، فتضامّت جميعها، واتسقت في بيان المعنى العام، الذي بدا واضحا في ذهنه لا غبار عليه، «وَ إِنَّ اَلْأَمْرَ لَوَاضِحٌ وَ قَدْ زَاحَ اَلْبَاطِلُ عَنْ نِصَابِهِ وَ اِنْقَطَعَ لِسَانُهُ عَنْ شَغْبِهِ»، فالبنية التركيبية - هنا۔ لا تحمل معنى الإخبار فحسب، إنّما الإخبار المؤكد بدخول حرف التوكيد «إنّ»، و معروف «أنّ زيادة المبنى تدلّ على زيادة المعنى غالباً و تكثير اللفظ يؤدي إلى تقوية المعني»، ويمكن تمثيلها بالشكل الآتي :

ص: 55

وقد ميّزت تأثيرها المعنوي بتغير حركة الاسم المخصوص، من الضم إلى الفتح، حتى بدت واضحة ومنسجمة في ذهن المتلقي، فجيء ب«إنَّ» للتوكيد، وذلك بزيادة المعنى وتثبيته؛ لأنّه إذا كان المتلقي شاکَّا فیزيل هذا الحرف الشكّ عنه وهذا حال الأمة في مسألة التشكيك بأحقية الإمام علي(علیه السّلام) وهكذا تعالقت الجمل الأخرى مع بعضها الآخر، وعمل حرف العطف «الواو» على زيادة تضامها واتساقها النّصّي، علماً أنّ أخباره هذا كان على وفق العلامات التي أعلمه إياها رسول الله «عن تلك الفئة، فهي معلومة سابقاً، وبمجرد تحقق بعض العلامات انكشف الأمر؛ لذا جاءت معرّفة ب(ال)(1)، «وَ إِنَّهَا لَلْفِئَةُ اَلْبَاغِيَةُ» التُزيد الأمر تأكيداً؛ لكونها تمثل بؤرة النّصّ الأساسية، ما منح النّصّ قوة التضام والتماسك.

ويتبيّن من ذلك أنَّ «إنَّ» تتعامل في النّصَّ مع المتلقي الذي يكون على ثلاث

حالات:

1. خالي الذهن = ترکیب من دون «إنَّ» .

2. المتلقي الشاكّ = إنَّ + التركيب لإزالة الشكّ .

ص: 56


1- ظ: ابن میثم البحراني، شرح نهج البلاغة: 3/ 156.

3. المتلقي منكر = إنَّ وغيرها من المؤكدات کالقسم الذي يسبقها؛ لإزالة

الإنكار + التركيب. وحال الأمة (المتلقي) انقسم في هذه المسألة؛ لذلك

أكد الإمام (علیه السّلام) النّصَّ بتكرار «إنَّ» في تركيب المبتدأ والخبر.

حروف الجر: وحروف الجر كذلك لا تخرج عن حيز الأسماء في تأدية وظيفتها في التضام، وغالباً ما يبدو أثرها أكثر وضوحاً في تعالق الأسماء بالأفعال، وذلك نحو قولك: «صلّيتُ في المسجد»، فحرف الجر «في» متعلق بالاسم التالي له «المسجد»؛ لافتقاره إليه، ومن ثَم مع تعلق حرف الجر مع مجروره «في المسجد» بالفعل «صليتُ»، لافتقاره إليه، ما يؤكد تداخل الاختصاص مع الافتقار في بعض الجوانب، منها (الجار والمجرور)(1). ولا يقتصر أثر «حروف الجر» في التعليق على البني الشكلية، وإنّما لها وظائف معنوية كوظيفة الاختصار (2).

وقد تنوع وجود هذا اللون من التعالق في خطب الحروب؛ لتنوع دلالاته السياقية، ومن ذلك قول الإمام(علیه السّلام) في الخوارج لما سَمِع قولهم «لا حكم إلّا لله» :

كَلِمَةُ حَقٍّ يُرَادُ بِهَا بَاطِلٌ! نَعَمْ إِنَّهُ لاَ حُكْمَ إِلاَّ لِلَّهِ، وَ لَكِنَّ هَؤُلاَءِ يَقُولُونَ: لاَ إِمْرَةَ ، قإِنَّهُ لاَ بُدَّ لِلنَّاسِ مِنْ أَمِيرٍ بَرٍّ أَوْ فَاجِرٍ، يَعْمَلُ فِي إِمْرَتِهِ اَلْمُؤْمِنُ وَ يَسْتَمْتِعُ

ص: 57


1- أشار تمام حسان إشارة سريعة لافتقارها وافتقار حروف العطف والحروف المصدرية، ظ: تمام حسان، الخلاصة النحوية: 80.
2- أشار «ابن جني» إلى هذه القضية – الاختصار - وضرب لها الأمثلة، منها قولك: (أمسكتُ بالحبل)، فقد نابت (الباء) عن قولك: أمسكته مباشراً له، وملاصقة بيدي له، وقولك) أكلت من الطعام) فقد نابت (من) عن بعض، أي: أكلتُ بعض الطعام، وغير ذلك، للاستزادة أكثر يراجع: ابن جني، الخصائص: 2/ 274.

فِيهَا اَلْكَافِرُ وَ يُبَلِّغُ اَللَّهُ فِيهَا اَلْأَجَلَ، وَ يُجْمَعُ بِهِ اَلْفَيْءُ، وَ يُقَاتَلُ بِهِ اَلْعَدُوُّ ،وَ تَأْمَنُ بِهِ اَلسُّبُلُ، وَ يُؤْخَذُ بِهِ لِلضَّعِيفِ مِنَ اَلْقَوِيِّ، حَتَّى يَسْتَرِيحَ بَرٌّ، وَ يُسْتَرَاحَ مِنْ فَاجِرٍ»(1).

لقد تضافرت حروف الجر -هنا مع الإحالات المتنوعة؛ لتصب جميعها حول الموضوع الأساسي للنصِّ الذي تضمن تقريعاً للخوارج عن طريق ردّه على مقولتهم الشهيرة «لا حكم إلّا لله»، ولم يخرج النّصُّ عن المعنى الأساسي المتمثل بحاجة الناس للأمير وما ينبغي عليه(2). فقد صرّح الإمام (علیه السّلام) بوجوب الإمامة، فجعل مرجعين تدور حولها العناصر النصية، فلا تحاول الخروج عن إطار النصِّ:

المرجع الأول: هو كلمة «أمِير» مطلقاً - سواء أكان باراً أم فاجراً، وهذا

هو المرجع العام، «البؤرة الأساسية في النّصِّ». .

أمّا المرجع الثاني: هو «أمرته -أي الأمير - وهذا ثانوي فهو جزء تابع للمرجع الأول.

فتعالقت هذه التراكيب المتتالية أشد التعالق؛ لتتضام جميعها في بيان الدلالة العميقة للوحدة النصية، استرسل فيها المتكلم الأمور الدنيوية التي يديرها الأمير» بالترتيب التصاعدي، فلابد من أمير يدير أمور البلاد والعباد سواء أكان أميرَ برٍ أم فاجر، إذ نجد تلازماً واقتراناً لحروف الجر بالإحالات الضميرية

ص: 58


1- وفي رواية أُخرى آنّه (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) لمّا سمع تحكيمهم قال: حُكْمُ اَللَّهِ أَنْتَظِرُ فِيكُمْ وَ قَالَ أَمَّا اَلْإِمْرَةُ اَلْبَرَّةُ فَيَعْمَلُ فِيهَا اَلتَّقِيُّ وَ أَمَّا اَلْإِمْرَةُ اَلْفَاجِرَةُ فَيَتَمَتَّعُ فِيهَا اَلشَّقِيُّ إِلَى أَنْ تَنْقَطِعَ مُدَّتُهُ وَ تُدْرِكَهُ مَنِيَّتُهُ .» نهج البلاغة: 83، خطبة: 40.
2- ظ: ابن میثم البحراني، شرح نهج البلاغة: 2/ 104، 103.

المتنوعة منذ بدء حديثه لتؤدي أثرها في تماسك النصّ، فسجلّت حضوراً مكثفاً؛ إذ تكررت اثنتي عشرة مرة «مِنْ أَمِيرٍ فِي إِمْرَتِهِ اَلْمُؤْمِنُ ، فِيهَا، فِيهَا بِهِ، بِهِ، بِهِ، بِهِ، مِنَ مِنَ، حَتَّى» فلا يكاد ترکيب في هذا النّصِّ يخلو من حروف الجر، فهي، وإن كان ربطها مقتصراً على أركان الجملة في أغلب الأحيان، إلّا أنّ اقترانها بالإحالات الضميرية، وتنوعها بحسب اتصالها بالعنصر الإحالي، فنجد عند الحديث عن الأمير کثرة اتصال حرف الجر «به» بالضمائر المحالة عليه - الأمير مطلقاً - « وَ يُجْمَعُ بِهِ اَلْفَيْءُ وَ يُقَاتَلُ بِهِ اَلْعَدُوُّ وَ تَأْمَنُ بِهِ اَلسُّبُلُ وَ يُؤْخَذُ بِهِ لِلضَّعِيفِ مِنَ اَلْقَوِيِّ » يدل اقترانهما وتلازمهما- (حرف الجر «الباء» + الإحالة الضميرية «الأمير») - على كون الأمير هو المعين أو الوسيلة أو الوساطة لهم في تدبير أمورهم.

على حين يُلحظ في حديثه عن «أمرة الأمير» كان الغالب عليها «في» بالضمائر المحالة على (الأمرة)، «يَعْمَلُ فِي إِمْرَتِهِ اَلْمُؤْمِنُ وَ يَسْتَمْتِعُ فِيهَا اَلْكَافِرُ وَ يُبَلِّغُ اَللَّهُ فِيهَا اَلْأَجَلَ ٍ. «فتضامهما- (حرف الجر «في» + الإحالة الضميرية «الأمرة» - تجلّى بوصف الأمرة، والمراد به «يعمل المؤمن في أمرة البرّ عمله على وفق أوامر الله ونواهيه... والمراد باستمتاع الكافر انهما که في اللذات الحاضرة التي يُخالف فيها أوامر الله»(1)، فترتبت عليها جملة التبليغ حذر فيها العصاة بانتهاء الأجل «يُبَلِّغُ اَللَّهُ فِيهَا اَلْأَجَلَ»، وهكذا سارت الجمل الأخرى، وهذا التنوع المتوافق وسياق النّصِّ عمل على ترابط الخطاب وتماسكه، وقد زاد وجود حرف العطف «الواو» الأمر اتساقاً وانسجاماً.

تتفق حروف الجر مع النواسخ الحرفية «إنّ وأخواتها» في إحداث التغيير

ص: 59


1- ابن میثم البحراني، شرح نهج البلاغة: 2/ 103.

الحركي(1) على مدخولها الاسمي، فعادةً ما تنقل - حروف الجر - الاسم المخصوص من (النصب في محل المفعول به إلى (الجر)؛ وذلك لكونها تُمثّل حلقة وصل تصل ما قبلها بما بعدها، وتمیز ما بعدها بالجر دون الرفع والنصب، يوکد ذلك (ابن السرّاج) بقوله: «حروف الجر تصل ما قبلها بما بعدها، فتوصل الاسم بالاسم، والفعل بالاسم، ولا يدخل حرف الجر إلّا على الأسماء» (2)؛ لذا يعدّ الاختصاص بها من العلاقات السياقية والتركيبية التي تؤدي معاني لغوية مقصودة، منها قوله(علیه السّلام) عند قتاله الخوارج، فقيل له: يا أمير المؤمنين، هلك القوم بأجمعهم، فقال(علیه السّلام) :

«كَلاَّ وَ اَللَّهِ إِنَّهُمْ نُطَفٌ فِي أَصْلاَبِ اَلرِّجَالِ، وَ قَرَارَاتِ اَلنِّسَاءِ،كُلَّمَا نَجَمَ مِنْهُمْ قَرْنٌ قُطِعَ ،حَتَّى يَكُونَ آخِرُهُمْ لُصُوصاً سَلاَّبِينَ»(3) .

في النّصِّ المتجلّي تقدّم الاتساق الدلالي على الشكلي؛ وذلك عن طريق الترتيب التسلسلي الموجز، فقد استطاع المتكلّم بهذا الترتيب التدرجي، أن يُقدّم صورة واضحة عن الخوارج، مكثفة بالكنايات اللطيفة، بدءاً من أول مرحلة من

ص: 60


1- الحركة الإعرابية : هي قرينة لفظية لها أثر واضح في وضوح المعنى؛ وذلك بتضافرها مع القرائن الأخرى، فيرى (تمام حسان) أنّ العلامة الإعرابية لا تعين بمفردها على تحديد المعنى، يقول: «هي قرينة يستعصي التمييز بين الأبواب بواسطتها حتى يكون في كلِّ واحدة من هذه الحالات لیست ظاهرة، فيستفاد منها معنى الباب، حتى حين ننظر إلى مطلق العلامة كمطلق الضمة أو مطلق الفتحة أو مطلق الكسرة، فنجد أنّها لا تدل على باب واحد، وإنّما تدلّ الواحدة منها على أكثر من باب». تمام حسّان، اللغة العربية معناها ومبناها: 205.
2- ابن السراج، الأصول في النحو: 1/ 408.
3- نهج البلاغة: 93، خطبة: 60.

مراحل وجودهم، التي استفتحت بحرف الجر (في)، الدال على الظرفية المكانية في قوله: «إِنَّهُمْ نُطَفٌ فِي أَصْلاَبِ اَلرِّجَالِ»، إلى آخر مرحلة من مراحلهم، ختمها ب(حتى)(1)، للدلالة على انتهاء أمرهم بقوله: «حَتَّى يَكُونَ آخِرُهُمْ لُصُوصاً سَلاَّبِينَ»، وقد توسط ما بين هاتين المرحلتين مراحل موجزاً إياها؛ منها المرحلة الثانية المتمثلة بانتقالهم من «أَصْلاَبِ اَلرِّجَال»، إلى أرحام النساء «وَ قَرَارَاتِ اَلنِّسَاءِ»، معبراً عن انتقالهم لهذه المرحلة بحرف العطف «الواو» الذي أفاد الترتيب، فهذا التنظيم النصّي المتعالق المترتب بعضه على بعض، يرسم صورةً واضحة منسجمة في ذهن المتلقي.

وهذا التضام بين حرف الجر «في»، وحرف العطف «الواو» جاء لتأكيد أهمية حرف الجر «في» في إحداث التغير النحوي على مدخوله الاسمي، «أَصْلاَبِ اَلرِّجَالِ» – المتعلق والمبين لخبر «إنَّ» المعجمي نُطَفٌ» - بالجر من دون الرفع والنصب، واستمرار تأثيره في معطوفه الاسمي «وَ قَرَارَاتِ اَلنِّسَاءِ»، ما يعكس استمرار شرّهم؛ لذا استبدل حرف الجر «إلى»، بحرف العطف «الواو»، ما يشدّ من عملية التواصل بين المتكلّم والمتلقي.

وقد عبّر المتكلّم عن انتهاء مرحلة الطاقة الشِّرية عندهم بالإخماد بقتلهم؛ وذلك عن طريق تضافر العناصر اللغوية وتضام بعضها مع بعض [ك + لمّا «الشرطية» + فعل الشرط «نَجَمَ مِنهُم قَرنٌ»، الذي تضمن حرف الجر (مِن)+(هم) الإحالة مقامية عائدة على الخوارج)]، فكلّما طلع «نَجَمَ» منهم أمير أو رئیس، قُتل «قَرنٌ» حتى أنتهى أمرهم بالتخاذل فأصبحوا «لُصُوصاً سَلاَّبِينَ» شأنهم في ذلك شأن الصعاليك بل أظل سبيلا، فهذه العلاقات الدلالية تُعطي

ص: 61


1- هذه ناصبة للفعل المضارع.

المتلقي الحرية في ربط القضايا بعضها ببعض، وتصور الفكرة كاملة مسبوكة متراصة عنهم.

ولا يقتصر الأمر على المبنى الوجودي، وإنّما يتعدى ذلك إلى المبنى العدمي،

ومنه حذف حرف «النداء» في بعض الخطب مع بقاء أثره على المدخول الاسمي كقرينة دالة عليه، ومن ذلك قوله(علیه السّلام) في تعليم الحرب والمقاتلة في بعض أيام صفين:

«مَعَاشِرَ اَلْمُسْلِمِينَ: اِسْتَشْعِرُوا اَلْخَشْيَةَ، وَ تَجَلْبَبُوا بِالسَّكِينَةِ، وَ عَضُّوا عَلَى اَلنَّوَاجِذِ، فَإِنَّهُ أَنْبَى لِلسُّيُوفِ عَنِ اَلْهَامِ، وَ أَكْمِلُوا اَللَّأْمَةَ، وَ قَلْقِلُوا اَلسُّيُوفَ فِي أَغْمَادِهَا قَبْلَ سَلِّهَا، وَ اِلْحَظُوا اَلْخَزْرَ، وَ اُطْعُنُوا اَلشَّزْرَ، وَ نَافِحُوا بِالظُّبَا، وَ صِلُوا اَلسُّيُوفَ بِالْخُطَا، وَ اِعْلَمُوا أَنَّكُمْ بِعَيْنِ اَللَّهِ، وَ مَعَ اِبْنِ عَمِّ رَسُولِ اَللَّهِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ فَعَاوِدُوا اَلْكَرَّةَ، وَ اِسْتَحْيُوا مِنَ اَلْفَرِّ ،فَإِنَّهُ عَارٌ مِنَ اَلْأَعْقَابِ، وَ نَارٌ يَوْمَ اَلْحِسَابِ، وَ طِيبُوا عَنْ أَنْفُسِكُمْ نَفْساً، وَ اِمْشُوا إِلَى اَلْمَوْتِ مَشْياً سُجُحاً،...»(1).

فحذف حرف النداء «یا» - هنا أوجد تماسكاً دلالياً عبر ارتباطه بالسياق المحكوم بالقرائن المقالية والحالية، فقد تداخل وجوده المعنوي مع المنادی «مَعَاشِرَ اَلْمُسْلِمِينَ»، والتقدير ««مَعَاشِرَ اَلْمُسْلِمِينَ»، وكذلك ارتباطه مع كل عدد من هذه الجمل الأمرية المباشرة، والمترابطة مع بعضها بالإحالات الضميرية المتصلة «واو الجماعة» المحيلة في جميعها على المتلقين خارج النّصِّ «إحالة مقامية»، ويزيد حرف العطف «الواو» قوة الاتساق والترابط بينها، ومن ثم يفضي ترابطها اللفظي والدلالي المتدرج إلى النتيجة المبتغاة وهي «النصر

ص: 62


1- نهج البلاغة: 97، خطبة : 66.

المؤزر في الحرب).

لقد سارت هذه الأوامر التركيبية عبر تدرج خطي، يعكس التدرج المعنوي في المسيرة الحربية، بدءاً من أول مرحلة اِسْتَشْعِرُوا اَلْخَشْيَةَ، وَ تَجَلْبَبُوا بِالسَّكِينَةِ» هي استشعار الخشية من الله والوقار والسكينة، للصبر على الحرب؛ لكون خشية الله تستلزم الامتثال لأوامره التالية لها، ولذلك قدمها(1). وهكذا سارت الأوامر المتدرجة، ففي قوله(علیه السّلام) : «عَضُّوا عَلَى اَلنَّوَاجِذِ» (2)، الذي مثّل مرحلة مهمة، وقد عللها(علیه السّلام) بقوله: «فَإِنَّهُ أَنْبَى لِلسُّيُوفِ عَنِ اَلْهَامِ»، فعلاقة «الفاء» السبية بين الجملتين ليست لفظية فحسب، وإنّما هي علاقة تعليلية منطقية؛ لانسجامها والسياق المتقدّم؛ إذ عللت فائدة العض على النواجذ، «وهي إنَّ العض يستلزم تصلب العضلات والأعصاب المتصلة بالدماغ فيقاوم ضربة السيف، ويكون نكايته أقد(3). وقد زاد الضمير «أنَّه» المحيل على الجملة السابقة في تماسك العلاقة بينهما، يقول (ابن میثم البحراني): «والضمير في قوله «فإنّهُ» يعود إلى الصدر الذي دلّ عليه «عضّوا»، كقولك: من أحسن كان

ص: 63


1- ظ: ابن میثم البحراني، شرح نهج البلاغة: 2/ 181.
2- وعضوا على النواجذ: «جمع ناجذ، وهو أقصى الأضراس، وللإنسان أربعة نواجذ في كل شق، والنواجذ بعد الأرحاء، ويسمى الناجذ ضرس الحلم، لأنه ينبت بعد البلوغ وكمال العقل، ويقال : إن العاض على نواجذه ينبو السيف عن هامته نبواً ما، وهذا مما يساعد التعليل الطبيعي عليه، وذلك أنه إذا عض على نواجذه تصلبت الأعصاب والعضلات المتصلة بدماغه، وزال عنها الاسترخاء، فكانت على مقاومة السيف أقدر، وكان تأثير السيف فيها أقل»، ابن أبي الحدید، شرح نهج البلاغة: 169/5
3- ابن میثم البحراني، شرح نهج البلاغة: 2/ 182، 181.

خيراً له»(1). ويستمر في التدرج الخطي في طرح الأوامر الوعظية، مبيناً فائدة مالم يتضح عندهم ونتيجته، «وَ أَكْمِلُوا اَللَّأْمَةَ، وَ قَلْقِلُوا اَلسُّيُوفَ فِي أَغْمَادِهَا قَبْلَ سَلِّهَا، وَ اِلْحَظُوا اَلْخَزْرَ، وَ اُطْعُنُوا اَلشَّزْرَ، وَ نَافِحُوا بِالظُّبَا، وَ صِلُوا اَلسُّيُوفَ بِالْخُطَا»(2) إلى أن قال: «وَ اِعْلَمُوا أَنَّكُمْ بِعَيْنِ اَللَّهِ، وَ مَعَ اِبْنِ عَمِّ رَسُولِ اَللَّهِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ»، هذه الأخرى تؤكد قربه النّصّي والفعلي منهم:

ص: 64


1- م.ن: 2/ 182.
2- وضّح (ابن میثم البحراني) معنی کلّ منها وفائدتها، أذكر بإيجاز ما اشتمل عليها الجزء المقتطع من النّصّ، كونها تمثل كيفية الاستعداد من خلالها للحرب المراد لها النصر لا محالة، وهي كالآتي : 1- الأمر باستشعار خشية الله بما يلزم، سبق بيانه في متن البحث. 2- الأمر باتخاذ السكينة جلباً، وفائدته هو طرد الفشل وإرهاب العدو، فإنّ الطيش والاضطراب يستلزمان الفشل وطمع العدو. 3- العض على النواجذ، سبق بيانه في متن البحث وهامشه. 4- الأمر بإكمال الامة، وإكمال الدرع البيضة والسواعد، وفائدته شدة التحصن. 5- الأمر بقلقلة السيوف في الأغماد، وفائدته سهولة جذبها حال الحاجة، فإنّ طول مكثها في الأغماد یوجب صداها وصعوبة محرجها حال الحاجة. 6- الأمر بلحظ الخزر: وذلك من هيئات الغضب فإنّ الإنسان إذا نظر من غضب عليه نظر خزراً، وفائدته إحماء الطبع واستثارة الغضب؛ لأنّ النظر إلى العدو بكلية العين إمارة الفشل، ومن عوارضة الطيش والخوف، وذلك يُطمع العدو. 7- الأمر بالطعن بالشزر؛ وذلك أنّ الطعن يميناً وشمالاً يوسع المجال على الطاعن. 8- الضرب بأطراف السيوف، وفائدته أنَّ مخالطة العدو والقُرب الكثير منه يُشغل عن التمكن من ضربه. 9- الأمر بوصل السيوف بالخطا، ومن فوائده أنَّ السيف ربما يكون قصيراً فلا ينال الغرض به، فإذا انضاف إليه مدّ اليد والخطوات بلغ به المراد. 10 - الأمر بمعاودة الكّر، وذلك عند الانحراف عن القتال و الانحياز إلى فئة، سببه عار الدنيا ونار الآخرة. 11- طيبوا عن أنفسكم نفساً، وهو تسهيل للموت تسهیلاً لا تكلّف فيه ولا تخشّع، فإنَّ المتكلّف سريع الفرار... الخ. وللاستزادة أكثر عن هذه الأوامر الحربية، يراجع: ابن میثم البحراني، شرح نهج البلاغة : 2/ 181، وما بعدها.

- فتمثل القرب النّصّي بالخطاب المباشر الموجه إليهم - کما مر بيان ذلك أنفاً- (النداء + ضمير المخاطب «أنتم» في الجمل الأمرية)، والمعلوم أنّ حرف النداء «یا» يُستعمل للبعيد(1)، والمتلقي -هنا- قريب من المتكلّم، فاستغنی عن ذكره الوجودي في البنية النّصّية المقالية، ومن ثم فهو قائم معلوم في البنية العميقة للنّصِّ ، وهذا يمنح النّصِّ ترابطاً وقوة في اتساقِه.

- أما القرب الفعلي «المعنوي «وَ اِعْلَمُوا أَنَّكُمْ بِعَيْنِ اَللَّهِ، وَ مَعَ اِبْنِ عَمِّ رَسُولِ اَللَّهِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ» اذ لم يكتفِ بإعطائهم الأوامر الحماسية السابقة التي تُعيّن مقصدهم الأساس في الحرب، وإنّما شجعهم «أَنَّكُمْ بِعَيْنِ اَللَّهِ »، بأنّ الله يراهم وينظر إليهم، وأنّه معهم في كلِّ خطوة، «بكونهم مع ابن عم رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) تنبيهاً لهم على فضيلته، وأنّ طاعته كطاعة رسول الله(صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) ، وحربه کحربه كما هو المنقول عنه حربك يا علي حربي. فيثبتوا على قتال عدوهم کما ثبتوا مع رسول الله(صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) »(2)، فتطلبت الحرب منه توجيه خطاب الحماسي لجند متوجهين إلى حرب عدوهم.

ولمّا كان هدف المتكلّم التأثير في المتلقي، فقد انتقل من العطف ب«الواو» إلى العطف بالفاء»، كسراً للرتابة ودفعاً للملل، فضلاً عن إثارة انتباه المتلقي (3)، ثمّ أنّ «الواو» قد جمعت الصفات اللازم توفرها مجتمعة فيهم وإن

ص: 65


1- اتفق المفسرون على أنها موضوعة لنداء البعيد، وصوت يهتف به الرجل لمن يناديه، وبين أبو حيّان أنها أعم أدوات هذا الأسلوب، وأنها قد تتجرد للتنبيه، فيليها المبتدأ والأمر والتمني والتعليل، ظ: أبو حیان، بحر المحيط: 1/ 93.
2- ابن میثم البحراني، شرح نهج البلاغة: 2/ 183.
3- ليس هذا فحسب فالعطف بالواو غير العطف بالفاء، فالأولى جاءت لمطلق الجمع بينما الثانية جاءت للترتيب والتعقيب، ما يعني أنّ الفاء أخصّ من الواو في نقل القصد. ظ: ابن السراج:= = الأصول في النحو: 2/ 55، و: الهروي، الأزهية في علم الحروف: 2/ 250، وللاستزادة في أدوات العطف يراجع المبحث الثاني من الفصل الثالث في هذا البحث: 168، وما بعدها .

كانت عبر مراحل تعبيرية إلّا أن فقد إحداها سوف يسمح بتداخل الفشل في صفوفهم، فضلاً عن ذلك فقد مثّل مجيء «الفاء» في مرحلة مهمة، فينبغي على المتلقي الانتباه إليها «فَعَاوِدُوا اَلْكَرَّةَ، وَ اِسْتَحْيُوا مِنَ اَلْفَرّ»؛ لكونها تمثّل مصير دنياه وآخرته، فعللها المتكلّم عن طريق قوله: «فَإِنَّهُ عَارٌ مِنَ اَلْأَعْقَابِ، وَ نَارٌ يَوْمَ اَلْحِسَابِ»، فحملت دلالة الخسران في الدنيا والآخرة، وهذه من أهم الدلالات التي سعى المتكلّم إلى إبرازها في هذه البنية النصيّة، عن طريق العلاقة السببية؛ إذ «يُستخدم السبب لإيضاح علاقة بين حدث وحدث آخر تلاه، فالحدث الأول أتاح الظروف لحدوث حدث آخر وعلى العكس»(1)، وبذا تعد هذه العلاقة من الأدوات الدالة على انسجام النّصِّ وتلاحمِه .

الاختصاص الفعلي:

تختص بعض الحروف بالدخول على مخصوصات فعلية من الألفاظ أو التراكيب اللغوية المختلفة؛ لتؤدي معنی لغوياً مقصوداً داخل السياق، لا تستطيع تأديته إلّا بتضامها مع هذه المخصوصات الفعلية، وتميزت بقوة عمِلها في ترابط السياق؛ لاختصاصها بنوعٍ واحدٍ من العملِ لا تنفك عنه، وتشمل هذه الحروف «الجوازم والنواصب»، التي تختص بالدخول على الفعل المضارع دون غيره، يمكن توضيح أثرها البارز في السياقات النصية في خطب الحروب، كالآتي:

الجوازم: وهي الحروف التي تختص بالدخول على الأفعال دون

ص: 66


1- صلاح الدين صالح، الدلالة والنحو : 228

الأسماء؛ لتلازمها للأفعال، واقترانها بها، فيكون عملها في الأفعال نظيراً لعمل حروف الجر في الأسماء، قال «سيبويه»: «اعلم أنّ حروف الجزم لا تجزم إلّا الأفعال ولا يكون الجزم إلّا في هذه الأفعال المضارعة للأسماء، كما أنّ الجر لا يكون إلّا في الأسماء، والجزم في الأفعال نظير الجر في الأسماء، فليس للاسم في الجزم نصيب وليس للفعل في الجر نصيب، فمن ثَم لم يضمروا الجازم کما لم يضمروا الجار»(1). ومن حروف الجزم «لا» الناهية (2) التي ظهر أثرها واضحاً في الترابط في خطب الحروب، من ذلك ما قاله الإمام (علیه السّلام) في الخوارج:

« لاَ تَقْتُلُوا اَلْخَوَارِجَ بَعْدِي فَلَيْسَ مَنْ طَلَبَ اَلْحَقَّ فَأَخْطَأَهُ، كَمَنْ طَلَبَ اَلْبَاطِلَ فَأَدْرَكَهُ»(3).

يعني: معاوية وأصحابه (4).

نهى الإمام(علیه السّلام) أصحابه عن قتل الخوارج بعده لأسباب أوجزها بقوله: «فَلَيْسَ مَنْ طَلَبَ اَلْحَقَّ فَأَخْطَأَهُ، كَمَنْ طَلَبَ اَلْبَاطِلَ فَأَدْرَكَهُ»، فقد فرق بين من يطلب الحق لذاته فيظهرهُ في صورة الباطل، وبين من يطلب الباطل لذاته فيظهره في صورة الحق حتى يُدرکه(5).

ص: 67


1- سیبویه، الكتاب: 3/ 9.
2- (لا) حرف نهي وجزم، يدخل على الفعل المضارع فيجزمه ويخلصه للاستقبال، وهو يدخل على فعل الحاضر والغائب، وذلك قولك: لا یَقُم زید، ولا تَقُم يا رجلُ، ولا تقومِي يا امرأةُ، فالفعل بعده مجزوم به، ط: المبرد، المقتضب: 2/ 43، و: المرادي، الجنى الداني في حروف المعاني: 300، و: ابن هشام، مغني اللبيب: 1/ 246.
3- نهج البلاغة: 94، خطبة: 62.
4- م. ن: 94.
5- ظ: ابن میثم البحراني، شرح نهج البلاغة: 2/ 157، 156.

فقد حققت «لا» الجازمة الترابط مع مخصوصها الفعلي المسند لضمير الخطاب؛ لكونه يمثل خطابا مباشرا للمتلقين - خارج النص- « لاَ تَقْتُلُوا اَلْخَوَارِجَ بَعْدِي» داخل سياقها المستقبلي، وجعلت المعني تاماً متسقاً بين أجزاء الكلام، وأدت وظيفتها متضامّةً مع أدوات لغوية أخرى أهمها «الفاء» الرابطة التي تضامت واقترنت مع جواب (لا)، «فَلَيْسَ مَنْ طَلَبَ اَلْحَقَّ فَأَخْطَأَهُ، كَمَنْ طَلَبَ اَلْبَاطِلَ فَأَدْرَكَهُ» فجاءت مکررة ثلاث مرات لترتب أمراً على آخر، وذلك يؤكد خطورة الموقف «قتلهم»، فجاء الجواب مبيناً وموضحاً له، فضلال الخوارج نتيجة «شبهة دخلت عليهم، وكانوا يطلبون الحق، «...» ومحاماة عن عقيدة اعتقدوها، وإن أخطأوا فيها. أما معاوية فلم يكن يطلب الحق، وإنما كان ذا باطل، لا يحامي عن اعتقاد قد بناه على شبهة «...» وكانت أحواله كلها مؤذيةً بانسلاخه عن العدالة، وإصراره على الباطل»(1)، فهذا التعالق التقابلي بين العناصر اللغوية يقوي تماسك النّصِّ وانسجامه؛ إذ جاء ضمن ترکيبين متقابلين في السياق النّصّي، وإن توافقا بعض الشيء.

ومن ذلك قوله(علیه السّلام) أيضاً مخاطباً (أهل البصرة) في إحدى الملاحم:

«فَمَنِ اِسْتَطَاعَ عِنْدَ ذَلِكَ أَنْ يَعْتَقِلَ نَفْسَهُ عَلَى اَللَّهِ، فَلْيَفْعَلْ فَإِنْ أَطَعْتُمُونِي فَإِنِّي حَامِلُكُمْ إِنْ شَاءَ اَللَّهُ عَلَى سَبِيلِ اَلْجَنَّةِ، وَ إِنْ كَانَ ذَا مَشَقَّةٍ شَدِيدَةٍ وَ مَذَاقَةٍ مَرِيرَةٍ. »(2).

في النّصِّ المتقدم ترابط دلالي واضح، وذلك عن طريق دخول «إن» الشرطية

ص: 68


1- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة: 5/ 78.
2- نهج البلاغة: 218، خطبة : 156.

على مدخوليها، حتى صيرتهما تركيبا واحدا، «فَإِنْ أَطَعْتُمُونِي فَإِنِّي حَامِلُكُمْ إِنْ شَاءَ اَللَّهُ عَلَى سَبِيلِ اَلْجَنَّةِ»، مستعينةً في ذلك ب«الفاء» الرابطة، المقترَنة بجواب الشرط، «فَإِنِّي حَامِلُكُمْ»، فدلّت على تعالقهما.

وقد زاد الأمر اتساقاً بتوسط الجواب الشرطي بين فعلين شرطين؛ إذ مثل

هذا التركيب اللغوي «فَإِنِّي حَامِلُكُمْ» جواباً للشرط السابق عليه، وجواباً متقدماً على فعلهِ للفعل اللاحق له في آنٍ واحد، «وَ إِنْ كَانَ ذَا مَشَقَّةٍ شَدِيدَةٍ وَ مَذَاقَةٍ مَرِيرَةٍ. » ؛ وذلك لأهميته كونه مثّل «البؤرة النّصيّة» - هنا-، فسبيل الجنة صعب وفيه مشقة شديدة، وبالرغم من ذلك تعهد(علیه السّلام) لمن يتبعه بطاعة الله حمله على سبيل الجنة؛ لذا تعمد المتكلم هذا التغير الدلالي في البنية التركيبية النّصّية؛ لغرض التأثير في المتلقي، ومن ثم توافر عنصر المتابعة والتوصيل، وبذا فقد تضامّت العناصر اللغوية في النّصِّ، وكان الرابط الأساس له هو الشرط والجزاء(1).

ب- النواصب: التي تختص بالدخول على حيز الأفعال، ولا تتعداه إلى غيره، يقتصر اختصاص عملها على نصب الفعل المضارع تحديداً؛ لذا تميّزت بقوة عملها، ونحو ذلك يرى (السكاكي) إنّما عملت النصب؛ لتضمنها دلالتين: الاختصاص، واللزوم أو الالتزام (2)، وبعملها هذا فهي وسيلة من وسائل الترابط، وهي كثيرة نقتصر على تناول ما كان أثرها واضحاً في تحقق

ص: 69


1- للاستزادة في تحليل هذا النّصّ، تأثیر عناصر الاتساق الأخرى، يراجع: الفصل الثالث من هذه الرسالة، ولتفصيل قضية الشرط والجزاء، يراجع المبحث الثاني من الفصل الثالث في هذه الرسالة: 158، وما بعدها .
2- ظ: السكاكي، مفتاح العلوم: 123.

التضام والاتساق الدلالي، منها قوله(علیه السّلام) في بعض الغارات التي بين فيها فضل أهل البيت(علیه السّلام) :

«اُنْظُرُوا أَهْلَ بَيْتِ نَبِيِّكُمْ فَالْزَمُوا سَمْتَهُمْ، وَ اِتَّبِعُوا أَثَرَهُمْ، فَلَنْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ هُدًى وَ لَنْ يُعِيدُوكُمْ فِي رَدًى، فَإِنْ لَبَدُوا فَالْبُدُوا، وَ إِنْ نَهَضُوا فَانْهَضُوا، وَ لاَ تَسْبِقُوهُمْ فَتَضِلُّوا، وَ لاَ تَتَأَخَّرُوا عَنْهُمْ فَتَهْلِكُوا»(1).

يتحدث النصّ المتقدم عن وجوب إتباع أهل البيت(علیهم السّلام) ، فجاءت أدوات النصب وسطاً ما بين الأوامر والنواهي؛ لتمثّل نتيجة وسطية للأمرين کليهما؛ أيّ عقدت حلقة اتصال معللة ورابطة لكلِّ من العلاقتين الأخريين، فقوله(علیه السّلام) :

«فَلَنْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ هُدًى وَ لَنْ يُعِيدُوكُمْ فِي رَدًى» جواباً سبيباً لما سبقه من أوامر «اُنْظُرُوا أَهْلَ بَيْتِ نَبِيِّكُمْ فَالْزَمُوا سَمْتَهُمْ، وَ اِتَّبِعُوا أَثَرَهُمْ»؛ وذلك بتضام « «الفاء» الرابطة من «لن»(2) الناصبة، فقويتا على أداء الدلالة المعنوية المنسجمة مع ما سبقها من التراكيب الأمرية، والجوازم التابعة لها والمتممة لتلك الدلالة هي الأخرى قد تطلّبت جواب قد يكون سابقاً عليها يتضمن تهيئةً سبية؛ لاتباع هذه الفئة الممدوحة. فهذه الأدوات وإن كان عملها لفظيا إلّا أنّها أسهمت في حدوث بعض الآثار المعنوية بتضامها مع التراكيب الفعلية المتعالقة مع بعضها الآخر».. «فَلَنْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ هُدًى وَ لَنْ يُعِيدُوكُمْ فِي رَدًى»، «فَإِنْ لَبَدُوا فَالْبُدُوا،

ص: 70


1- نهج البلاغة: 143، خطبة : 88.
2- لن: فهي حرف نصب و نفي المستقبل، قال سيبويه: «لن أضربَ نفي لقوله: سأضربُ» سیبویه، الكتاب 1 / 135، 136، ودائماً تكون أداة تؤكد النفي في المستقبل، يؤكد ذلك الزمخشري بقوله: «إنّ في (لن) تو کیدا و تشدیدا تقول لصاحبك : لا أقيمُ غدا، فإن أنكر عليك قلت: لن أقيمَ غدا، کما تفعل في أنا مقيمٌ وأنّي مقيمٌ»، الزمخشري، الكشاف 1/ 131.

وَ إِنْ نَهَضُوا فَانْهَضُوا،»، يؤكد للمتلقين أنّكم باتباعهم - أهل البيت - تسلكون طريق الهدى ولا تخرجون منه، ولا يردونهم إلى ردی الجاهلية والضلال القديم . فقد جاءت مناسبةً وسياق الحال، ما أعطى النّصّ الحركة الدلالية التي تَنمي الحدث النّصّي، واستمراره في الزمن، وهذا يقود المتلقي إلى نتيجة مقنعة مفادها اتباعهم – أهل البيت - وعدم تركهم، لأنّ في الأخير هلاكاً.

أمّا التكاثف الإحالي للضمير المخاطب الوجودي «انتم»، فقد ساعد - بتضامه مع «إن» الشرطية - في اضفاء صفة الاستمرارية في النصِّ، نحو قوله (علیه السّلام): «فَإِنْ لَبَدُوا فَالْبُدُوا، وَ إِنْ نَهَضُوا فَانْهَضُوا، وَ لاَ تَسْبِقُوهُمْ فَتَضِلُّوا، وَ لاَ تَتَأَخَّرُوا عَنْهُمْ فَتَهْلِكُوا»، فقد أشار إلى اتباعهم حتى في لزومهم البيت عن طلب أمر الخلافة؛ لأنّ في ذلك مصلحة تغيب عن غيرهم، وإن نهضوا فانهضوا معهم (1)، فأبقى مديات النصّ مفتوحة أمام المتلقي.

ومن ذلك قوله (علیه السّلام) يذم فيه الناكثين، ويلزمهم دم عثمان، ويتهددهم بالحرب:

«أَلاَ وَ إِنَّ اَلشَّيْطَانَ قَدْ ذَمَّرَ حِزْبَهُ، وَ اِسْتَجْلَبَ جَلَبَهُ، لِيَعُودَ اَلْجَوْرُ إِلَى أَوْطَانِهِ، وَ يَرْجِعَ اَلْبَاطِلُ فِي نِصَابِهِ، وَ اَللَّهِ مَا أَنْكَرُوا عَلَيَّ مُنْكَراً وَ لاَ جَعَلُوا بَيْنِي وَ بَيْنَهُمْ نَصَفاً وَ إِنَّهُمْ لَيَطْلُبُونَ حَقّاً تَرَكُوهُ، وَ دَماً هُمْ سَفَكُوهُ،«... فَإِنْ أَبَوْا أَعْطَيْتُهُمْ حَدَّ اَلسَّيْفِ، وَ كَفَى بِهِ شَافِياً مِنَ اَلْبَاطِلِ، وَ نَاصِراً لِلْحَقِّ وَ مِنَ اَلْعَجَبِ بَعْثُهُمْ إِلَيَّ أَنْ أَبْرُزَ لِلطِّعَانِ وَ أَنْ أَصْبِرَ لِلْجِلاَدِ! هَبِلَتْهُمُ اَلْهَبُولُ! لَقَدْ كُنْتُ وَ مَا أُهَدَّدُ بِالْحَرْبِ، وَ لاَ أُرْهَبُ بِالضَّرْبِ! وَ إِنِّي لَعَلَى يَقِينٍ مِنْ رَبِّي، وَ غَيْرِ شُبْهَةٍ مِنْ دِينِي»(2).

ص: 71


1- ظ: ابن میثم البحراني، شرح نهج البلاغة: 2/ 425.
2- نهج البلاغة: 64، خطبة: 22

لقد ظهر أثر أدوات النصب في النّصِّ المتجلّي في ضوء دخولها على مخصوصها الفعلي «فعل المضارع»، «لام التعليل» في أول النّصِّ، و «أن» الناصبة، فقد دخلت «لام» التعليل على مخصوصها الفعلي، « لِيَعُودَ اَلْجَوْرُ إِلَى أَوْطَانِهِ، وَ يَرْجِعَ اَلْبَاطِلُ فِي نِصَابِهِ»، لتُبين علة ما قبلها، أي لمعرفة سببها يتطلب الرجوع إلى الجزء السابق لها والمسبب لمعناها الدلالي المنسجم، وهو قوله: «اَلشَّيْطَانَ قَدْ ذَمَّرَ حِزْبَهُ، وَ اِسْتَجْلَبَ جَلَبَهُ»، فيظهر «أنّ غاية سعي الشيطان من الوسوسة هو تمكنه من الخداع وعود المذاهب الباطلة التي كانت قبل الرسول «دينه وطريقته ، وكلُّ ذلك تنفيرٌ للسامعين عماله من جذب إلى الحرب»(1)، فقد كونت علاقة سبية دلالية، وذلك بتزويدها «المرء بما يلزم من العلاقات لاستخراج المعنى من النّصِّ»(2)، ليزيد في عملية التواصل بينهما، ومن ثمّ يُتيح للمتكلّم الاستمرارية في بثّ ما يبتغيه من المعاني المرجوة.

وهكذا سارت الجمل الأخرى التي عملت بها المختصات الأخرى على التضام والاتساق الدلالي، سواء أكانت الاسمية منها أم الفعلية؛ منها: (القسم

وَاللهِ»، والعطف ب«الواو»، وحرف التوكيد «إنَّ»، المتضام مع لام التوكيد والإحالات الضميرية الغائبة العائدة على المتلقين خارج النّصِّ «الناكثين»، نحو قوله(علیه السّلام) : « وَ إِنَّهُمْ لَيَطْلُبُونَ حَقّاً هُمْ تَرَكُوهُ، وَ دَماً هُمْ سَفَكُوهُ »، والتركيب الشرطي المتضام مع أداتهِ «إن»، « فَإِنْ أَبَوْا أَعْطَيْتُهُمْ حَدَّ اَلسَّيْفِ»، فلم يخرج النّصِّ عن دلالتِه في التوبيخ على الرغم من تنويع الأساليب، وذلك منح النّصّ قوة التماسك والترابط.

ص: 72


1- ابن میثم البحراني، شرح نهج البلاغة: 1/ 44.
2- الهام أبو غزالة، وعلي خليل محمد، مدخل إلى علم لغة النّصِّ: 27.

ويمكن ملاحظة ذلك في قوله (علیه السّلام) متعجباً من تهديدهم له مع علمهم بحاله في الشجاعة والحرب والصبر على المكاره (1)، فقال مستهزئا بهم: «وَ مِنَ اَلْعَجَبِ بَعْثُهُمْ إِلَيَّ أَنْ أَبْرُزَ لِلطِّعَانِ! وَ أَنْ أَصْبِرَ لِلْجِلاَدِ!»، فقد أسهمت «أن» الناصبة - المتضامة مع مدخولها الفعلي - في توضيح العلاقة بين تهديدهم له، وموقفه المستهزئ من بعثهم تهديدهم هذا، ومن ثمّ أريد الإشارة لاستحقارهم واستنفار السامعين للقتال؛ لذا دعا عليهم بالثكل: «هَبِلَتْهُمُ اَلْهَبُولُ» (2)، وبذا بدت العلاقة واضحة جلية؛ لانسجامها وتلاحمها مع هدف المتكلّم.

ثانياً: الافتقار:
اشارة

معناه أنّ لفظاً ما لا تتم به الفائدة، ولا يؤدي معنى مفيداً في الكلام، وإنّما يتطلب في حيزه لفظاً آخر؛ لاحتياجه إليه(3)، أي يتمثل باحتیاج عنصٍر لغوي لعنصٍر لغويٍ آخر، كأن يكون كلمة أو جملة، و يتعدى الأمر ليشمل الوحدة النصّية.

يقسم الافتقار على قسمين:
اشارة

الافتقار المتأصل: ويكون بحسب أصل الوضع وهو افتقار العناصر التي لا يصلح إفرادها في الاستعمال، وإن صح ذلك عند إرادة الدراسة والتحليل، مثاله: افتقار (حرف الجر إلى مجروره، وحرف العطف إلى معطوفه، والوصول إلى صلته، وبعض الظروف إلى مضاف إليه)(4).

ص: 73


1- ظ: ابن میثم البحراني، شرح نهج البلاغة:1/ 406، 405.
2- تعني: «ثكلتهم الثواكل» وهي من الكلمات التي تدعو بها العرب، ظ: ابن میثم البحراني، شرح نهج البلاغة: 408/1 .
3- ظ: تمام حسان، الخلاصة النحوية : 80.
4- ظ: تمام حسان، البيان في روائع القرآن: 154.

الافتقار غير المتأصل: والافتقار فيه غير منسوب إلى كلمة؛ لأنها غير مفتقرة بحسب الأصل، وإنّما يعود الافتقار للباب، فكلّ كلمة تقع هذا الموقع يفرض عليها الباب هذا النوع من الافتقار(1).

ويمكن بيان مدى تضام الأنماط التركيبية المتعالقة داخل البنية النصّية المتسقة المسبوكة - في خطب الحروب، من طريق ملاحظة تلازم عناصرها اللغوية مع مخصوصات ترکيبية أو كلمات أو جمل متعلقة بتلك المخصوصات، حتى تصل إلى حالٍ من الاتساق والتآلف، وهذا وسيتضح من العلاقات الآتية أثر الافتقار، وهي كالآتي:

الإسناد النّصّي:

إنَّ العلاقة الإسنادية هي الأساس الذي تُبني عليه الجمل، وتسمى في

ص: 74


1- ظ: م.ن: 154، وقد وضح (الصبان) في حاشيته الفرق بينهما - الافتقار المتأصل، وغير المتأصل بقوله: «أمّا الافتقار المتأصل فهو أن يفتقر الاسم إلى الجملة افتقاراً مؤصلاً أي لازماً کالحرف في: «إد، إذا، حيث «الموصلات الاسمية». الصبان في حاشيته على شرح الأشموني : 1/ 81، 82.أما الافتقار غير المتأصل، كافتقار كلمة «سبحان» إلى مفرد أو جملة افتقاراً غير لازم، کافتقار «يوم» إلى جملة بعده، نحو قوله تعالى : « هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ »، [المائدة: 119]؛ وذلك لأنّ افتقار «اليوم» إلى الجملة بعده ليس لذاته، وإنمّا لعارض لكونِهِ مضافاً إليها، والمضاف لكونِهِ مضافاً مفتقرا إلى مضاف إليه، ودليل ذلك أنّ كلمة «يوم» في سياق آخر مثل «هذا يوم مبارک «لا تفتقر إلى جملة. ظ: م.ن: 1/ 55. و: نادية النجار، التضام والتعاقب : 113، (بحث) مجلة علوم اللغة العربية، ع 12، 200م، وما بعدها. وسيقتصر البحث على إبراز علاقات الافتقار المتأصل عن طريق تطبيق ما وجد منها في خطب الحروب؛ وذلك لصلته الشديدة - الافتقار المتأصل - بتحقيق التضام النحوي والاتساق الدلالي.

هذه الحالة (الإسناد الجُملي)(1)، وهذه العلاقة النحوية تجمع بين المسند إليه (المبتدأ - الفاعل...)، والمسند (الخبر - الفعل...)، وقد عدّها (مهدي المخزومي): «عملية ذهنية تعمل على ربط المسند بالمسند إليه» (2)، ومن ثم هي الوسيلة التي تنقل ما يجول في ذهن المتكلّم إلى ذهن المتلقي (3)، فتكون وحدة لغوية متماسكة، تُمثل بؤرة النّصِّ، سواء أكانت هذه الوحدة الإسنادية اسمية أم فعلية، وهذا يؤكد أنّ التضام لا يقتصر على اللفظ، وإنّما أساسه الترابط المعنوي.

وتتجاوز هذه العلاقة الإسنادية مستوى الجمل عبر كثير من التراكيب المتوالية على امتداد النّصّ؛ لتحقيق (الإسناد النّصّي)، والتأكيد على علاقاته الترابطية الإسنادية، وتكون حينئذ علاقة بين (موضوع) هو المسند إليه و(محمول) هو المسند، وأطلق علماء النّصِّ على الأول منهما «الموضوع» - المسند إليه - المعلومة المذكورة سلفاً في النّصِّ. أمّا الثاني «المحمول- المسند - فقد أطلقوا عليه المعلومة الجديدة في النّصِّ (4)، وهذا التوالي لا يؤثر في التغيير الوظيفي للنواة الإسنادية، فبعض هذه المتواليات تكون متصلة بمركز النّصِّ «النواة»، وبعضها منفصلة عنها، فالأولى يمكن توزيعها بما يطابق توزيع مكوّن من مكوناتها المباشرة (5).

ص: 75


1- ظ : صبحي إبراهيم الفقي، علم اللغة النصي بين النظرية والتطبيق: 1/ 72.
2- مهدي المخزومي، في النحو العربي، نقد وتوجيه: 31 .
3- ظ: م.ن: 31.
4- ظ: برند شبلنر، علم اللغة والدراسات الأدبية : 185، نقلاً عن صبحي إبراهيم الفقي، علم اللغة النّصّي بين النظرية والتطبيق: 1/ 72.
5- ظ: المنصف عاشور، بنية الجملة العربية بين التحليل والنظرية: 71.

فقد ذكرنا آنفاً أن الإسناد يُقسم على نوعين: الإسناد الاسمي، والإسناد الفعلي، وعلى هذا الأساس نتناول أثر الإسناد النّصّي في تحقيق التضام والاتساق الدلالي، عن طريق تطبيق هذا الأمر على خطب الحروب، وهي کما يأتي:

الإسناد الاسمي: وفيه يتقدّم المسند إليه «الموضوع المبتدأ على المسند «المحمول» الخبر، وفي هذه الحالة تُسمى بالجملة الاسمية، التي تكون جزءاً من نسيج البنية النصّية، بل تمثل البؤرة الأساسية في النّصِّ، وما يتصل بها من متتاليات تركيبية، تتضمن البؤر الثانوية «الفرعية»، حتى يتشكل النّصّ المتسق المسبوك، وبهذا عرّفه (برینکر) بقوله: «هو مجموعة منظمة من القضايا والمركبات القضوية، تترابط بعضها مع بعض على أساس محوري موضوعي، أو جملة أساس، عن طريق علاقات منطقية دلالية»(1). فالنّصّ وحدة دلالية غالباً ما تظهر دلالته عن طريق العلاقات الإسنادية، كقول الإمام (علیه السّلام) في ذمّ النّساء بعد وقعة الجمل:

«مَعَاشِرَ اَلنَّاسِ إِنَّ اَلنِّسَاءَ نَوَاقِصُ اَلْإِيمَانِ، نَوَاقِصُ اَلْحُظُوظِ، نَوَاقِصُ اَلْعُقُولِ: فَأَمَّا نُقْصَانُ إِيمَانِهِنَّ فَقُعُودُهُنَّ عَنِ اَلصَّلاَةِ وَ اَلصِّيَامِ فِي أَيَّامِ حَيْضِهِنَّ، وَ أَمَّا نُقْصَانُ عُقُولِهِنَّ فَشَهَادَةُ اِمْرَأَتَيْنِ مِنْهُنَّ كَشَهَادَةِ اَلرَّجُلِ اَلْوَاحِدِ، وَ أَمَّا نُقْصَانُ حُظُوظِهِنَّ فَمَوَارِيثُهُنَّ عَلَى اَلْأَنْصَافِ مِنْ مَوَارِيثِ اَلرِّجَالِ؛ فَاتَّقُوا شِرَارَ اَلنِّسَاءِ، وَ كُونُوا مِنْ خِيَارِهِنَّ عَلَى حَذَرٍ، وَ لاَ تُطِيعُوهُنَّ فِي اَلْمَعْرُوفِ حَتَّى لاَ يَطْمَعْنَ فِي اَلْمُنْكَرِ»(2) .

فالمسند إليه واحد هو «النَّسَاءَ» جاء مؤكَّداً بالناسخ الحرفي «إنّ» مثّل هو

ص: 76


1- سعید بحيري، علم لغة النصِّ: 109، 110.
2- نهج البلاغة: 105، خطبة : 80.

الموضوع الأساسي «البؤرة الأساسية في النّصِّ والراسخ في ذهن المتلقي، ومنه بدأت نقطة الانطلاق بالتعريف بما يحمله من معلومات، والتي تمثلت بالمسندات متعددة: «نَوَاقِصُ اَلْإِيمَانِ»، «نَوَاقِصُ اَلْحُظُوظِ»، «نَوَاقِصُ اَلْعُقُولِ»، ف«إنَّ هذه المحمولات تُقدم بصورة حدسية معلومات جديدة باستمرار تُعنی بتوالي الحدث ويصلح شرطاً هنا أنَّ المحمولات يجب أن ترد في واقع الأمر أيضاً من المجال التصوري ذاته»(1) فقد ارتبطت هذه المسندات ارتباطاً دلالياً ب«المسند إليه»، ومن ثم حققت الاتساق الدلالي، لعدم استغناء أحدهما عن الآخر.

ومن ثمَّ بدأ بتفصيل السابق عن طريق «أمّا» التفصيلية، فتحولت المحمولات السابقة إلى موضوعات «بؤر ثانوية تابعة للبؤرة الأساسية «النساء»، وتراتب الجمل قد تحقق عن طريق التدرج استعمله المتكلّم؛ لإيصال الفكرة واضحة متدرجة إلى ذهن المتلقي بصورة مباشرة، ويمكن توضيح صورة التراتب بالمخطط الآتي:

ص: 77


1- فان دايك، علم النّصِّ مدخل متداخل الاختصاصات: 64.

فهذا التدرج المتسق عمودياً وأفقياً في التعريف بالنساء ووصفهن بهذا

الوصف الدقيق يجعل المتلقي على علم ودراية بالنساء، ومن ثم تهيئهُ لتلقي المرحلة الثالثة المتمثلة بمرحلة التحذير»، «فَاتَّقُوا شِرَارَ اَلنِّسَاءِ، وَ كُونُوا مِنْ خِيَارِهِنَّ عَلَى حَذَرٍ، وَ لاَ تُطِيعُوهُنَّ فِي اَلْمَعْرُوفِ حَتَّى لاَ يَطْمَعْنَ فِي اَلْمُنْكَرِ » فكأنّه انتقل من خطابٍ عام مفتوح الدلالة إلى خطاب مباشر للمتلقي،«اتَّقُوا»، «كُونُوا»، «وَ لاَ تُطِيعُوهُنَّ»، وهذا متعلق بالمنادى في أول النّصِّ «مَعَاشِرَ اَلنَّاسِ»، فالترابط الاسنادي بين أول الخطاب وآخره يجعل النّصِّ وحدة واحدة، على الرغم من انتقالات الخطاب، ومن ثم يشدّ انتباه المتلقي في زمانه نتيجة ما جرى في وقعة الجمل، وفضلاً عن ذلك يوسع- هذا الإسنادي النّصّي والتوازي الخطابي - عملية التضام داخل النّصِّ، وهذا يمنح النّصّ صفة الاتساق والانسجام، وهذا هو التراتب النّصي الإسنادي هذه مزية والأخرى أنّها جاءت عمودية(1).

ومن ذلك أيضاً قوله(علیه السّلام) أيضاً في دعوة الصالحين من أصحابه إلى نصرته:

«أَنْتُمُ اَلْأَنْصَارُ عَلَى اَلْحَقِّ، وَ اَلْإِخْوَانُ فِي اَلدِّينِ، وَ اَلْجُنَنُ يَوْمَ اَلْبَأْسِ، وَ اَلْبِطَانَةُ دُونَ اَلنَّاسِ، بِكُمْ أَضْرِبُ اَلْمُدْبِرَ، وَ أَرْجُو طَاعَةَ اَلْمُقْبِلِ، فَأَعِينُونِي بِمُنَاصَحَةٍ خَلِيَّةٍ مِنَ اَلْغِشِّ، سَلِيمَةٍ مِنَ اَلرَّيْبِ؛ فَوَ اَللَّهِ إِنِّي لَأَوْلَى اَلنَّاسِ بِالنَّاسِ. !»(2).

لقد مثّل المسند إليه ضمير الجمع المنفصل «أَنْتُمُ» الموضوع الأساسي في النّصّ «البؤرة النّصّية» ؛ لوجودهِ المباشر في الخطاب، فهو متعلق بالمتلقين

ص: 78


1- تتحقق العملية التراتبية النّصية من عناصر عدة أهمها: الإحالة، والإسناد النّصّي، الحال، الموصوف، وغير ذلك، وهذا ما أثبته البحث في الإسناد النّصّي.
2- نهج البلاغة: 175، خطبة : 118.

خارج النّصِّ، ومنه انطلقت المستندات الاسمية المتعددة «اَلْأَنْصَارُ عَلَى اَلْحَقِّ، وَ اَلْإِخْوَانُ فِي اَلدِّينِ، وَ اَلْجُنَنُ يَوْمَ اَلْبَأْسِ، وَ اَلْبِطَانَةُ دُونَ اَلنَّاسِ» وكلّ هذه المسندات المتضامّة مع المسند إليه، لافتقارها إليه؛ إذ لا يستطع الاستغناء عنه، ومن ثم عدم استغناء الثاني عن الأول في أداء المعنى أدى إلى عدم استغناء الأول عن الثاني، فلا يستقيم المعنى المراد بمجرد قولك : «أَنْتُمُ»، ولا يعرف منهم الأنصار على الحقِّ، بمجرد قولك: «اَلْأَنْصَارُ عَلَى اَلْحَقِّ» فلا يعرف الممدوح في الخطاب ، فتضامهما وتراصهما النّصّي أدى معنی دلالياً تاماً متسقاً.

فأنَّ تحديد (المسند إليه «الموضوع» + المسند «المحمول») منذ الجملة الأولى يسمح للسياق بتوظيف العناصر اللغوية الجديدة (الموضوعات الثانوية والمحمولات) بِكُمْ أَضْرِبُ اَلْمُدْبِرَ، وَ أَرْجُو طَاعَةَ اَلْمُقْبِلِ»؛ إذ نجد فيها الحضور الموازي بين ضمائر المتلقي «أنتم» والمتكلم «أنا» سواء تقدّم فيها المسند إليه على المستندات أو تأخر، اعتماداً على الموضوع الأول «البؤرة الأساسية» ؛ لأنّ مرحلة الإعلام تتطلب مقدمة مدحية، للوصول إلى الغاية المبتغاة، فجاءت على الوجه الآتي: أنتم = (الأنصار + أهل الدين + الشجاعة)، ومن ثم أعلمهم بأنّهم من أهل خاصته الذين يعتمد عليهم في ضرب المدبر وطاعة المقبل، وبعدها طلب إعانتهم له بمناصحة صادقة في الحرب سليمة من الشکِّ(1)، ويمكن تصویر ذلك بالمخطط الآتي:

ص: 79


1- ظ : ابن میثم البحراني، شرح نهج البلاغة : 3/ 104.

فهذا التدرج الخطي المنسجم، والمتراتب في أحداثه ودلالاته النّصّية يحرك التفاعل الحواري بينهما، ومن ثم يزيد من عملية التواصل الذهني لدى المتلقي، فجاء متعلق المتلقي مقدمة؛ لتعلق الأمر به.

ثانياً الإسناد الفعلي:

وفيها يتقدّم المسند هو «الفعل« على المسند إليه هو « الفاعل« ؛ لقصد السبك اللفظي، وهذا التقديم لا يُعطي الفعل التقدّم على الاسم؛ لأنّ وجود الاسم ثابت و مستقر في الذهن قبل وجود فعلهِ (1)؛ لذا لا يستطيع الفعل الاستغناء عن اسمه(2)، ومن ثم لا يستطيع الاسم الاستغناء

ص: 80


1- ظ: ابن یعیش، شرح المفصل: 2/ 30، 31.
2- ظ: السيرافي، شرح كتاب سيبويه: 2/ 265.

عنه كذلك في أداء معنى تام، وفي هذا يقول (السيد البطليوسي): «الفعل والفاعل الشيء الواحد»(1) فلا يستغني أحدهما عن صاحبهِ، وتسمى الجملة في هذه الحالة «جملة فعلية»، التي تمثل الفعل المركزي في البنية النّصّية، وتتعلق به المتتاليات الإسنادية التركيبية، التي تسهم - غالباً بيان ووضوح المعنى الذي يتضمنه الفعل المركزي عن طريق ارتباطها وتعالقها الدلالي به، حتى يؤدي الإسناد النّصّي أثره في تحقيق التضام والاتساق الدلالي، ويمكن تأمل ذلك في البنية الخطابية للإمام علي (علیه السّلام) في قولهِ لبعض أصحابه لمّا عزم على المسير إلى الخوارج، «فقال له: يا أمير المؤمنين إن سرت في هذا الوقت، خشيتُ ألَّا تظفر بمرادك، من طريق علم النجوم، فقال(علیه السّلام) :

«أَتَزْعُمُ أَنَّكَ تَهْدِي إِلَى اَلسَّاعَةِ اَلَّتِي مَنْ سَارَ فِيهَا صُرِفَ عَنْهُ اَلسُّوءُ؟ وَ تُخَوِّفُ مِنَ اَلسَّاعَةِ اَلَّتِي مَنْ سَارَ فِيهَا حَاقَ بِهِ اَلضُّرُّ؟ فَمَنْ صَدَّقَكَ بِهَذَا فَقَدْ كَذَّبَ اَلْقُرْآنَ، وَ اِسْتَغْنَى عَنِ اَلاِسْتِعَانَةِ بِاللَّهِ تَعَالَى فِي نَيْلِ اَلْمَحْبُوبِ وَ دَفْعِ اَلْمَكْرُوهِ، وَ تَبتَغِي فِي قَوْلِكَ لِلْعَامِلِ بِأَمْرِكَ أَنْ يُولِيَكَ اَلْحَمْدَ دُونَ رَبِّهِ، لِأَنَّكَ بِزَعْمِكَ أَنْتَ هَدَيْتَهُ إِلَى اَلسَّاعَةِ اَلَّتِي نَالَ فِيهَا اَلنَّفْعَ، وَ أَمِنَ اَلضُّرَّ !!

ثم أقبل (علیه السّلام) الناس فقال:

« أَيُّهَا اَلنَّاسُ، إِيَّاكُمْ وَ تَعَلُّمَ اَلنُّجُومِ، إِلاَّ مَا يُهْتَدَى بِهِ فِي بَرٍّ أَوْ بَحْرٍ، فَإِنَّهَا تَدْعُو إِلَى اَلْكِهَانَةِ،[و] اَلْمُنَجِّمُ كَالْكَاهِنِ، وَ اَلْكَاهِنُ كَالسَّاحِرِ، وَ اَلسَّاحِرُ كَالْكَافِرِ !وَ اَلْكَافِرُ فِي اَلنَّارِ سِيرُوا عَلَى اِسْمِ اَللَّهِ »(2).

ص: 81


1- السيد البطليوسي، إصلاح الخلل الواقع في الجمل: 95.
2- نهج البلاغة: 105، خطبة : 79.

لقد بني المتكلّم هذا النّصّ باعتماده على التراكيب الإسنادية الفعلية المكثفة،

التي جاءت متتابعة للفعل المركزي في النّصِّ والمتمثل بالجملة الاستفهامية، التي افتتح فيها الن «أَتَزْعُمُ أَنَّكَ تَهْدِي إِلَى اَلسَّاعَةِ...؟» فمثّل هذا السؤال الإنكاري الموجه للرجل(1) القاعدة النصّية «الموضوع» الذي رسخ في ذهن المتلقي، فالضمير المستتر «أنت» في «أتزعم» هو المسند إليه في النّصِّ، وذلك بإحالته على الرجل خارج النّصِّ «إحالة مقامية»، وجاءت المسندات الفعلية المكثفة «سَارَ، صُرِفَ، تُخَوِّفُ، سَارَ، حَاقَ، صَدَّقَكَ، کَذَّبَ، استَغنَی، تَبتَغِي، یُولِيَكَ، نَالَ، أمِنَ» متضامّة معه، لأداء معنی دلالي، فأتاحت له تفصیل ظاهرة «علم النجوم» واستقصاء جوانبها، في ضوء الإجابة المفصلة على السؤال، في خط التدرجي للتراكيب الفعلية المترابطة، بدءاً من نقطة انطلاق الموضوع «أتزعم»، فتجاوز الإسناد التركيبي إلى الإسناد النّصّي، وحافظ على تماسك النّصِّ ووحدته .

وقد أضفت المسندات الفعلية صفة الاستمرارية على النص، باستعمال القرائن الدالة على المستقبل ک(الأفعال المضارعة)، و(أسلوب الشرط)، الذي جاء متضاماً مع الاستفهام، «أَتَزْعُمُ أَنَّكَ تَهْدِي إِلَى اَلسَّاعَةِ اَلَّتِي مَنْ سَارَ فِيهَا صُرِفَ عَنْهُ اَلسُّوءُ؟ وَ تُخَوِّفُ مِنَ اَلسَّاعَةِ اَلَّتِي مَنْ سَارَ فِيهَا حَاقَ بِهِ اَلضُّرُّ؟ «فَمَنْ صَدَّقَكَ بِهَذَا فَقَدْ كَذَّبَ اَلْقُرْآنَ، وَ اِسْتَغْنَى عَنِ اَلاِسْتِعَانَةِ بِاللَّهِ عزّ وجلّ

ص: 82


1- قيل أنّ المشير عليه هو« عفيف بن قيس «أخوه الأشعث بن قیس» فقد كان يتعاطى علم النجوم، أمّا نهيه (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) عن «علم النجوم «لأسباب ذكرها القرآن الكريم، وأكدها الرسول محمد(صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) ، وتعرض لها الأمام علي (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) ووضحه ووضح أسبابه في كلامه هذا وفي مواضع أخرى، لامجال للبحث للتفصيل بها، فقد فصّلها ابن میثم البحراني في غاية الدقة، ظ: شرحه لنهج البلاغة : 219/2 ، وما بعدها.

فِي نَيْلِ اَلْمَحْبُوبِ وَ دَفْعِ اَلْمَكْرُوهِ»؛ للتأكيد على أهمية الأمر، فنفي الإمام ل«علم النجوم»، لم يكن معتمداً على أدوات النفي، وإنّما عن طريق هذه التراكيب الشرطية التي تضامت مع الاستفهام، واتسقت معه؛ لأداء المعنى العام.

لقد مثلّت المرحلة السابقة خطاباً خاصاً موجهاً للرجل- الذي أشار عليه

هذا الأمر في قتالهم للخوارج- ومن ينحو منحاه، في حين المرحلة الآتية مثّلت خطاباً عاماً موجهاً للمتلقي، « أَيُّهَا اَلنَّاسُ، إِيَّاكُمْ وَ تَعَلُّمَ اَلنُّجُومِ» الذي جاء في سياق تحذير وترهيب، من أنّ الأمر يُفضي بصاحبه إلى النار، ذلك عبر تعالقات دلالية، تمثّلت هنا بالمسندات الاسمية المرتبطة بالمسند إليه الضمير «أنّها» المحال على النجوم ذُكرت سابقاً في سياق المقال «فَإِنَّهَا تَدْعُو إِلَى اَلْكِهَانَةِ،[و] اَلْمُنَجِّمُ كَالْكَاهِنِ، وَ اَلْكَاهِنُ كَالسَّاحِرِ، وَ اَلسَّاحِرُ كَالْكَافِرِ !وَ اَلْكَافِرُ فِي اَلنَّارِ !»، التي دلّت على ثبات الأمر، ورسوخه، وعدم تعرضه للتغير لأي أمر طارئ.

وعلى الرغم من تنوع الخطاب، إلّا أنّ النّصَّ يدور حول وحدة دلالية متسقة هي (ظاهرة التنجيم وجزاء صاحبها)، بل أنّ التنوع الخطابي - هنا - شدّ من عملية التواصل بين المتكلّم والمتلقي، ولاسيما في قوله: «« أَيُّهَا اَلنَّاسُ، إِيَّاكُمْ وَ تَعَلُّمَ اَلنُّجُومِ» ؛ لانسجام الكلام، ومن ثم إصغاء المتلقي لما يقوله المتكلم.

افتقار الصفة إلى الموصوف:

للنعت أثرٌ واضح في الاتساق، فقد أشار القدماء إلى أثره في اتساق الجملة، فيصف (سیبویه) علاقة أحدهما بالآخر، بأنّ النعت والمنعوت کالاسم الواحد(1)، ويؤكد (الجرجاني) شدة تعالقهما - الصفة والموصوف-، بقوله:

ص: 83


1- ظ : سیبویه، الكتاب: 1/ 423.

«أنَّ الصفة هي الموصوف في المعنى، فإذا قلت جاءني زيدٌ الظريف لم يكن الظريف غيره»(1).

وقد تنبّه المحدثون على أثرهِ العلائقي في النّصِّ والسياق، فعلاقتهما سياقية معنوية تربط بين التابع والمتبوع؛ كونها تندرج ضمن القرائن التبعية، التي جمعها

(تمام حسان) تحت عنوان «التبعية»، فيقول: وأمّا التبعية فهي «قرينة معنوية عامة يندرج تحتها أربع قرائن هي النعت والعطف والتوكيد والإبدال، وهذه القرائن المعنوية تتضافر معها قرائن أخرى لفظية» (2).

وغالباً ما تتمثل هذه القرائن اللفظية بالإحالات الضميرية، يؤكد ذلك (السيوطي)، بقوله: «الصفة لا يربطها إلّا الضمير»(3)، فالعلاقة المعنوية تظهر عن طريق الرابط اللفظي «الضمير»؛ لأنّه يقوي علاقة التضام النصّية بين «الموصوف» والتركيب الوصفي «الصفة»، فلو انعدم الضمير ما صحت العبارة ولا فهمت (4).

لقد غلب وجود هذا اللون من التضام على الخطب الحربية؛ لتعلقه الشديد بالمتلقي؛ لكونه يرسم صورة واضحة منسجمة في ذهنه، ومن ذلك قوله(علیه السّلام) في استهلاله خطب الملاحم:

« اَلْحَمْدُ لِلَّهِ اَلْمُتَجَلِّي لِخَلْقِهِ بِخَلْقِهِ، اَلظَّاهِرِ لِقُلُوبِهِمْ بِحُجَّتِهِ، خَلَقَ اَلْخَلْقَ مِنْ غَيْرِ رَوِيَّةٍ، إِذْ كَانَتِ اَلرَّوِيَّاتُ لاَ تَلِيقُ بِذَوِي اَلضَّمَائِرِ، وَ لَيْسَ بِذِي ضَمِيرٍ فِي

ص: 84


1- الجرجاني، المقتصد في شرح الإيضاح: 2/ 900.
2- تمام حسان، اللغة العربية معناها ومبناها: 204.
3- السيوطي، الأشباه والنظائر: 2/ 148.
4- ظ: ليث أسعد: الجملة الوصفية في النحو العربي: 39-40.

نَفْسِهِ. خَرَقَ عِلْمُهُ بَاطِنَ غَيْبِ اَلسُّتُرَاتِ وَ أَحَاطَ بِغُمُوضِ عَقَائِدِ اَلسَّرِيرَاتِ»(1).

في النّصِّ المتجلّي ثمة تمييز لائق للذات القدسية عن طريق التراكيب الوصفية المتعالقة بالتوالي الدلالي، بغية إيصال المتلقي إلى المعرفة الحقيقية بالله تعالى، فقد نعت المتكلّم شبه الجملة «لله» – المتعلقة بالخبر المحذوف - بصفات قدسية، جعلها المتكلّم حلقات تعلّق بعضها ببعض («َلْمُتَجَلِّي لِخَلْقِهِ بِخَلْقِهِ»، اَلظَّاهِرِ لِقُلُوبِهِمْ بِحُجَّتِهِ»، خَلَقَ اَلْخَلْقَ مِنْ غَيْرِ رَوِيَّةٍ»، «خَرَقَ عِلْمُهُ بَاطِنَ غَيْبِ اَلسُّتُرَاتِ وَ أَحَاطَ بِغُمُوضِ عَقَائِدِ اَلسَّرِيرَاتِ »)، فجاءت هذه الأوصاف مناسبة وسياق الحال، فقد تجلى وظهر لخلقهِ، ودلّهم عليه بخلقهِ إياهم وإيجاده لهم؛ إذ وصف المتكلّم ظهوره لخلقه عن طريق خلقه لهم، ولإبعاد الظن عن المتلقي، فقد أكد - في الصفة الثانية - أنّه الظاهر لقلوبهم بحجته، ولم يقل لعيونهم؛ لأنّه غير مرئي ولكنه ظاهر للقلوب بما أودعها من الحجج الدالة عليه؛ لذا قال ظهر لقلوبهم ولم يقل لعيونهم (2)، وبدا الأمر أكثر بیاناً وضوحاً في تفسيره للصفتين السابقتين، بقوله: «خَلَقَ اَلْخَلْقَ مِنْ غَيْرِ رَوِيَّةٍ، إِذْ كَانَتِ اَلرَّوِيَّاتُ لاَ تَلِيقُ بِذَوِي اَلضَّمَائِرِ، وَ لَيْسَ بِذِي ضَمِيرٍ فِي نَفسِهِ»؛ للتأكيد على نفي الروية والفكر عنه تعالى والتمثيل بين خاطرين؛ «ليعمل على أحدهما، لأن ذلك إنما يكون لأرباب الضمائر والقلوب أولي النوازع المختلفة والبواعث المتضادة»(3) فإنّه لمّا نزههُ على أن يكون مدركاً بالنظر نزههُ على أن يكون عمله مثل عمل

ص: 85


1- نهج البلاغة: 155، خطبة : 108.
2- ظ: ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة: 7/ 181، و: ابن میثم البحراني، شرح نهج البلاغة : 3/ 38.
3- ظ : ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة: 7/ 181 .

ذوي العقول والضمائر، وفي ذلك إزالةٌ للشكِّ والريب من نفس المتلقي الذي قد يظن أنّ هذه الصفات مشتركة بين «الخالق» و «المخلوق».

وقد مثلّت «ال» التعريف نقطة انطلاق التخصيص الموصوف «الله » جل جلاله بهذه الصفات، فهو (تعالى) المتجلّي بهذه الصفات دون غيرهِ، وكذلك قد استغرقت كلّ الأزمنة، وأكد ذلك الأمر بوصف علمه (تعالى)، «خَرَقَ عِلْمُهُ بَاطِنَ غَيْبِ اَلسُّتُرَاتِ وَ أَحَاطَ بِغُمُوضِ عَقَائِدِ اَلسَّرِيرَاتِ»»؛ الذي جاء به لتحفيز ذهن المتلقي، فشمل علمه الغيبي كلّ الأزمنة من دون تحديد، أي لا يرتبط علمه بزماني معين، وكلُّ أولئك تابع للمتعلق «لله» الذي مثّل محلّ اهتمام المتكلّم؛ لأنّه محور النّصّ، وبذا أقام بنية نصية متماسكة منسجمة في ذهن المتلقي.

ومن ذلك قوله(علیه السّلام) :

«أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اَللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، شَهَادَةً مُمْتَحَناً إِخْلاَصُهَا، مُعْتَقَداً مُصَاصُهَا نَتَمَسَّكُ بِهَا أَبَداً مَا أَبْقَانَا، وَ نَدَّخِرُهَا لِأَهَاوِيلِ مَا يَلْقَانَا، فَإِنَّهَا عَزِيمَةُ اَلْإِيمَانِ، وَ فَاتِحَةُ اَلْإِحْسَانِ، وَ مَرْضَاةُ اَلرَّحْمَنِ، وَ مَدْحَرَةُ اَلشَّيْطَانِ»(1).

لقد جعل (علیه السّلام) من المتعلق الموصوف «شَهَادَةً» بؤرة ثانوية للصفات التابعة ها و متعلقة بها، «مُمْتَحَناً إِخْلاَصُهَا»، «مُعْتَقَداً مُصَاصُهَا»، التي جاءت لتوضيح الموصوف «شَهَادَةً» وبيانه، فارتبطت به أشد ارتباط عن طريق التبعية، وقد بان هذا التعالق الدلالي بينها عن طريق الرابط اللفظي، المتمثل بالإحالة الضميرية «الهاء» المحيلة على «شَهَادَةً»، فقد أحال الضمير المستتر «أنا» على المتكلّم في «مُمْتَحَناً» و «مُعْتَقَداً »، فأدى التضام دلالته في بيان شهادته (علیه السّلام) لله تعالى

ص: 86


1- نهج البلاغة: 46، خطبة : 2.

وتوضيحها، في ذهن المتلقي، فغالباً ما يستعمل المتكلّم الصفة للدلالة على التوضيح، أكد ذلك الجرجاني بقوله: «إذا وقعت الحاجة في العلم إلى الصفة كان الاحتياج إليها من أجل خيفة اللبس على المخاطب»(1)، وهذا التضام نتيجة الافتقار، قد أدى المقصود التام من شهادته، التي مثلّت أعلى مراتب الإيمان، وبها قد انهدمت قواعد الشيطان(2).

ولا يقتصر تضام الصفة مع الموصوف على المبنى الوجودي، وإنّما يتعداه إلى المبنى العدمي، فتكون البؤرة النّصّية «الموصوف» فيه محذوفة؛ لوجود القرائن الدالة عليه في سياق الحال والمقال، من ذلك قوله(علیه السّلام) في ذمّ أصحابه :

«أَيُّهَا اَلشَّاهِدَةُ أَبْدَانُهُمْ، اَلْغَائِبَةُ عَنْهُمْ عُقُولُهُمْ، اَلْمُخْتَلِفَةُ أَهْوَاؤُهُمْ، ، اَلْمُبْتَلَى بِهِمْ أُمَرَاؤُهُمْ! صَاحِبُكُمْ يُطِيعُ اَللَّهَ وَ أَنْتُمْ تَعْصُونَهُ، وَ صَاحِبُ أَهْلِ اَلشَّامِ يَعْصِي اَللَّهَ وَ هُمْ يُطِيعُونَهُ لَوَدِدْتُ وَ اَللَّهِ أَنَّ مُعَاوِيَةَ صَارَفَنِي بِكُمْ صَرْفَ اَلدِّينَارِ بِالدِّرْهَمِ، فَأَخَذَ مِنِّي عَشَرَةً مِنْكُمْ وَ أَعْطَانِي رَجُلاً مِنْهُمْ!. يَا أَهْلَ اَلْكُوفَةِ ، مُنِيتُ مِنْكُمْ بِثَلاَثٍ وَ اِثْنَتَيْنِ: صُمٌّ ذَوُو أَسْمَاعٍ، وَ بُكْمٌ ذَوُو كَلاَمٍ، وَ عُمْيٌ ذَوُو أَبْصَارٍ، لاَ أَحْرَارُ صِدْقٍ عِنْدَ اَللِّقَاءِ وَ لاَ إِخْوَانُ ثِقَةٍ عِنْدَ اَلْبَلاَءِ. تَرِبَتْ أَيْدِيكُمْ! ...»(3).

فالبنية الخطابية في إطار توبيخٍ للمتلقين وتنفيرٍ لهم، عن طريق وصفهم بما هم عليه من مخالفةٍ لأمر المتكلّم، فعمد المتكلّم إلى حذف الموصوف واكتفى بالإشارة إليه عن طريق تعدد أوصافه المعنوية المتناقضة «اَلشَّاهِدَةُ أَبْدَانُهُمْ»،

ص: 87


1- الجرجاني، دلائل الإعجاز: 377.
2- ظ: ابن میثم البحراني، شرح نهج البلاغة: 1/ 298.
3- نهج البلاغة: 188، خطبة: 97.

«اَلْغَائِبَةُ عَنْهُمْ عُقُولُهُمْ»، «اَلْمُخْتَلِفَةُ أَهْوَاؤُهُمْ» ، اَلْمُبْتَلَى بِهِمْ أُمَرَاؤُهُمْ) من دون التصريح به، وهذا يعود لوظيفته اللغوية؛ إذ يمثل محور النّصِّ الذي تتعلق به صفاته التابعة له والوقائع المحيطة به؛ لافتقارها إليه، ما دلّت عليه دلالة واضحة، في سياق الحال والمقال، «فالحذف لا يكون إلّا بدليل من بنية معهودة أو نمط معروف أو قرينة قائمة أو معنى في السياق لا يستقيم إلّا مع تقدير الحذف»(1)، لكون الأمر متعلقاً به، والخطاب المباشر موجهاً إليه، وهذا يحفز المتلقي في استمرار التفاعل الذهني.

ويمكن تقدير المحذوف من السياق المحكوم بالقرائن المقالية والحالية،

بالناس»، أو «القوم»، هذا في الوصف المتقدم المتمثل بقوله: «أَيُّهَا اَلشَّاهِدَةُ أَبْدَانُهُمْ..»، وهذا ينسجم وسياق الخطبة، فمثله قال(علیه السّلام) في المقام آخر موافق له، والأحداث نفسها مع معاوية:

«أَيُّهَا اَلنَّاسُ اَلْمُجْتَمِعَةُ أَبْدَانُهُمْ اَلْمُخْتَلِفَةُ أَهْوَاؤُهُمْ! كَلاَمُكُمْ يُوهِنُ اَلصُّمَّ اَلصِّلاَبَ،...»(2).

وهذا يمنع تقديرها عما خرج عن السياق، فقد خصّه السياق بهم دون غيرهم عن طريق الخطاب المباشر لهم «النداء»، وضمائر الخطاب المحيلة عليهم «هم، أنتم» و «ال» التعريف، التي خصت الوصف بهم، فقد شبههم (علیه السّلام) بالغياب مع شهادتهم، وبالأرباب مع كونهم عبيداً، نتيجة عدم انتفاعهم بالنصح والموعظة، ونتيجة لزيادة أوامرهم، وعدم الأخذ بما يؤمروا؛ لذا استعاض في مستهل كلامه عن ضمير الحضور «كم» بضمير الغياب «هم» لدلالة على عدم حضور عقولهم

ص: 88


1- تمام حسان، البيان في روائع القرآن: 157.
2- نهج البلاغة: 72، خطبة : 29.

معه، وبدا الأمر أكثر وضوحاً في محيط البنية الخطابية، وذلك عند تفسيره(علیه السّلام) لأوصافهم السابقة، «صَاحِبُكُمْ يُطِيعُ اَللَّهَ وَ أَنْتُمْ تَعْصُونَهُ، وَ صَاحِبُ أَهْلِ اَلشَّامِ يَعْصِي اَللَّهَ وَ هُمْ يُطِيعُونَهُ ...» فجاءت أوصافهم هذه من طاعتهم لعدوه(علیه السّلام) وعدو الله (تعالى) معاوية.

فاتكأ المتكلّم اتكاءً واضحاً على الوصف، وحذف الموصوف، الممثل لبؤرة النّص يعيّنه المتكلّم، ويحيطه بدوائر دلالية «الأوصاف المتناقضة» يستمر دويّها

حتى نهاية الوحدة الخطابية؛ إذ لم يكتفِ بالأوصاف السابقة، وإنّما أردفها بأوصاف أخرى في محيط کلامه، (« صُمٌّ ذَوُو أَسْمَاعٍ»، «وَ بُكْمٌ ذَوُو كَلاَمٍ»، «وَ عُمْيٌ ذَوُو أَبْصَارٍ»، لاَ أَحْرَارُ صِدْقٍ عِنْدَ اَللِّقَاءِ وَ لاَ إِخْوَانُ ثِقَةٍ عِنْدَ اَلْبَلاَ»)، وهي الأخرى تابعة للأوصاف السابقة ومتعلقة بها؛ لإتمامها المعنى المراد، فقد جاءت مبينة لمدى ابتلائه وتذمره منهم، فجعلها بخمس خصال، ولم يجمعها، إنّما قال: « مُنِيتُ مِنْكُمْ بِثَلاَثٍ وَ اِثْنَتَيْنِ..» ؛ لكون الثلاث من نوع والاثنتين من أُخَر(1). أمّا الأوصاف الثلاثة المتناقضة هي: «

«صُمٌّ ذَوُو أَسْمَاعٍ»، «وَ بُكْمٌ ذَوُو كَلاَمٍ»، «وَ عُمْيٌ ذَوُو أَبْصَارٍ»»، جاءت في مقام التعجب من أفعالهم، والتوبيخ لهم، في حين تمثل الاثنين بالتخاذل عن النصرة، نحو قوله: «لا أحرَارُ صِدْقٍ عِنْدَ اَللِّقَا»، وليس مما يوثق بإخوتهم عند الابتلاء، نحو قوله: «وَ لاَ إِخْوَانُ ثِقَةٍ عِنْدَ اَلْبَلاَءِ »، وعائد هذه الأوصاف هو الضمير المتصل «أنتم» يحيل على المتلقين خارج النّص، يُستشف من سياق المقام، ومن تحركه السياقي داخل النّص، في التراكيب الوصفية الدلالية المتعالقة بعضها ببعض، داخل الوحدة الخطابية المتماسكة المتراصة.

ص: 89


1- ظ: ابن میثم البحراني، شرح نهج البلاغة: 2/ 424.
افتقار الموصول إلى صلته:

يعد الاسم الموصول من الضمائم المفتقرة لصلاتٍ تُضم إليه؛ لتُزيل إبهامه، فلا يستغني عن صلته؛ لأنّها معرّفة له وموضحة لمعناه، يقول (ابن يعيش):

«معنى الموصول أن لا يتم بنفسه، ويفتقر إلى كلام بعده تصله به ليتم اسما، فإذا تم بما بعده كان حكمه حكم سائر الأسماء التامة»(1)، لذا اشتدت صلته بها، حتى قيل: إنّ اتصال «الموصول بصلته أشدُّ من اتصال الموصوف بصفتهِ لتلازمهما»(2).

وغالباً ما تكون الصلة أو الصلات معلومة لدى المتكلّم والمخاطب، يقول (الجرجاني): «لا تصل الذي إلّا بجملة من الكلام قد سبق من السامع علمٌ بها وأمر قد عرفه له» (3)، وذلك لتحديد السياق له عن طريق قرائنه المقالية أو المقامية.

ويغلب على الاسم الموصول الربط بين أجزاء جملة أو السياق القائم على أكثر من جملة (4)، فيؤلف مجموعة تراكيب جملية مترابطة بعضها ببعض، وبهذا يتمثل أثره في التضام بين حلقات النّصِّ، والاتساق الدلالي في سياقه، وفي هذه الحالة لابد لهُ من رابط لفظي حتى يؤدي دوره الترابطي؛ إذ غالباً ما يتمثل هذا الرابط ب«الضمير»، يؤكد ذلك (ابن يعيش) في قوله: «ولابد في كلِّ جملة من هذه الجمل من عائد يعود منها إلى الموصول وهو ضمير ذلك الموصول ليربط

ص: 90


1- ابن یعیش، شرح المفصل: 3/ 138.
2- ابن هشام، مغني اللبيب عن كتب الأعاريب: 2/ 626.
3- الجرجاني، دلائل الاعجاز: 200 .
4- ظ: تمام حسان، مقالات في اللغة والأدب: 1/ 200.

الجملة بالموصول، ويؤذن بتعلقها بالموصول»(1)، وجاء منه في خطب الحروب قوله(علیه السّلام) في حضِّ أصحابهِ على القتال:

«.. وَ رَايَتَكُمْ فَلاَ تُمِيلُوهَا وَ لاَ تُخَلُّوهَا، وَ لاَ تَجْعَلُوهَا إِلاَّ بِأَيْدِي شُجْعَانِكُمْ، وَ اَلْمَانِعِينَ اَلذِّمَارَ مِنْكُمْ، فَإِنَّ اَلصَّابِرِينَ عَلَى نُزُولِ اَلْحَقَائِقِ هُمُ اَلَّذِينَ يَحُفُّونَ بِرَايَاتِهِمْ وَ يَكْتَنِفُونَهَا: حِفَافَيْهَا وَ وَرَاءَهَا، وَ أَمَامَهَا لاَ يَتَأَخَّرُونَ عَنْهَا فَيُسْلِمُوهَا وَ لاَ يَتَقَدَّمُونَ عَلَيْهَا فَيُفْرِدُوهَا»(2).

لقد مثّل الاسم الموصول «الذين» -هنا-عنصرا إحاليا على الضمير الغائب «هم» والآخر بدوره محال على «الصابرین»، فربط بين الجزء السابق عليه «فَإِنَّ اَلصَّابِرِينَ عَلَى نُزُولِ اَلْحَقَائِقِ هُمُ والجزء اللاحق، «يَحُفُّونَ بِرَايَاتِهِمْ، وَ يَكْتَنِفُونَهَا: حِفَافَيْهَا، وَ وَرَاءَهَا، وَ أَمَامَهَا لاَ يَتَأَخَّرُونَ عَنْهَا فَيُسْلِمُوهَا وَ لاَ يَتَقَدَّمُونَ عَلَيْهَا فَيُفْرِدُوهَا»، وأشتد أثره في الترابط الدلالي بالسياق البعدي، عن طريق ضمه وتلازمه لصلته «يَحُفُّونَ بِرَايَاتِهِمْ وَ يَكْتَنِفُونَهَا...»، التي جاءت موضحة ومبينة له، فقد وضحت أثر حامل الراية، بأن يحفظها ويحيط بها ولا يتخلى عنها، بأن يسلمها لغيره أو يفردها، وبهذا شكّل الموصول مع صلته انسجاماً داخلياً للفكرة النّصّية في ذهن المتلقي.

أمّا فيما يخصُّ الاتساق الشكلي الظاهر عن طريق الروابط اللفظية «الإحالات الضميرية» المكثفة، المحيلة على الاسم الموصول (الذين» في الصلات الضميمة له، (يحُفُّ+ونَ «واو الجماعة»، بِرَایَاتِ +هم، ويَكتَنِفُ + ونَهَا

ص: 91


1- ابن یعیش، شرح المفصل: 3/ 151.
2- نهج البلاغة: 180، خطبة : 124.

واو الجماعة»... لآ يَتَأخَّرُ+ ونَ «واو الجماعة» عَنهَا فَيُسلِمُوهَا +هم، وَلاَ يَتَقَدَّمُ + ونَ «واو الجماعة» عَلَيهَا فَيُفرِدُ+وهَا «واو الجماعة»)، فقد أسهمت في اتساق النّصِّ، وتراصهِ، وذلك عن طريق افتقارها - الصلات لهذه الروابط اللفظية، التي ربطتها بموصولها، ومن ثم إحالة الموصول على الضمير «هم»، وإحالة الأخير على الموصوف «الصابرین»، وأحال الاسم الظاهر «الصابرین » إحالة مقامية على المتلقين، «الأصحاب»، وهذا التعالق المتدرج، هو لتخصيص الأمر بهم، ولتعظيمهم -بصيغة الغائب - عن طريق صلته المعظمة؛ وذلك «بأن تذكره بصلته المعظَّمة»(1)، ولم يكتفِ بذلك، إنّما قد يستعان بضمائم أخرى ك(العطف ب«الواو»، والوصف «هُمُ الَّذِينَ يَحُفُّونَ بِرَايَاتِهم...) التابعة لموصوفها «الصابرین»، والروابط اللفظية «الإحالات لضميرية»)، فقد تضام كلُّ ذلك في سبيل إيصال المعنى العام تاماً واضحاً لدى المتلقي، ومسبوكة منسجماً في ذهنِه، والذي تمثّل بتقوية قلوبهم، وتشجيعهم، على الصبر عند نزول الشدائد.

ومن ذلك قوله(علیه السّلام) فيما يخبرُ بهِ من الملاحم بالبصرة:

«يَا أَحْنَفُ، كَأَنِّي بِهِ وَ قَدْ سَارَ بِالْجَيْشِ الَّذِي لَا يَكُونُ لَهُ غُبَارٌ وَ لَا لَجَبٌ، وَ لَا قَعْقَعَةُ لُجُمٍ، وَ لَا حَمْحَمَةُ خَيْلٍ، يُثِيرُونَ الْأَرْضَ بِأَقْدَامِهِمْ كَأَنَّهَا أَقْدَامُ النَّعَامِ.»(2).

لقد أسهم ضمير «الهاء» في «له» إسهاماً واضحاً في التماسك النّصّي؛ إذ قام بوظيفتين في آنٍ واحد، هما ربط الصلة لَا يَكُونُ لَهُ غُبَارٌ وَ لَا لَجَبٌ ...»

ص: 92


1- فاضل السامرائي، معاني النحو «111/1
2- نهج البلاغة: 185، خطبة : 128..

بالموصول «الذي»، وربط الوصف المتمثل «بالموصول + صلته»، «الَّذِي لَا يَكُونُ لَهُ غُبَارٌ وَ لَا لَجَبٌ...» بموصوفه «بِالْجَيْشِ»، فقد وصفهم الإمام(علیه السّلام) بأنّهم لم يكونوا أهل خيلٍ، ولا جند، وكانوا في أغلب حروبهم حفاة (1) ، لذا كنّاهم الإمام (علیه السّلام) بأنّهم «یُثِيرُونَ الْأَرْضَ بِأَقْدَامِهِمْ»، وشبّه أقدامهم بأقدام النعّام، وفي ضوء ذلك أسهم الاسم الموصول متضاماً مع «الربط اللفظي»، و «الوصف« بتماسك النّصّ وتقريب وحدات المعنى؛ ليكشف عن دلالاته اللغوية.

افتقار الحال لصاحبه:

الحال: ما دلّ على هيئة صاحبها، ودلالته، إذ تلتقي دلالة الحال مع صاحبها؛ لإحداث الأثر الدلالي النّصّي معاً، فالعلاقة التي تنشأ بين الحال وصاحبها علاقة معنوية وهذه العلاقة المعنوية بين الحال المفردة وصاحبها تُغني عن الاحتياج إلى ضمير رابط؛ كون علاقتهما وطيدة وحاصلة من دون حدوث أي لبسٍ في تلازمهما، ففي قولك: (جاء الرجل يسعی) علاقة ارتباط لا ربط، وإن وجد الضمير الرابط فهو ضمير معنوي ناشئ من تلك العلاقة، في حين يعتمد ترابطهما الدلالي على رابط لفظي في حال كون الحال جملة (2)، ف «لولا الرابط لكانت الجملتان منفصلتين لا صلّة بينهما»(3)، وغالباً ما يتمثل هذا

ص: 93


1- وقد أحال الضمير الفاعل المستتر «هو» بالفعل «سار» على صاحب الزنج: وهو علي بن محمد، علوي النسب، والجيش المشار إليه هم «الزنج»، وواقعتهم بالبصرة «مشهورة، وقد وصفهم الإمام (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) بأوصافٍ عدة منها ما ورد في النّصِّ السابق، للاستزادة يراجع: ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة: 8/ 126، و: ابن میثم البحراني، شرح نهج البلاغة : 3/ 129.
2- ظ: مصطفى حميدة، نظام الارتباط والربط: 173.
3- عباس حسن، النحو الوافي : 2/ 395.

الرابط ب«الضمير» العائد على صاحب الحال»، فإن خلت الجملة منه، عندها لابد من «الواو»؛ لإفادة الربط بين الجملة الحالية وصاحبها، وإن جاء الضمير والواو معاً فجيد، وهما لتأكيد ربط الجملة بما قبلها، ودونهما - الضمير والواو - يصبح النّصُّ مفكك الأجزاء غير مفهوم الدلالة(1)، ويؤكد ذلك (السيوطي) بقوله: «لا بد للحال الجملة من رابط يربطها بصاحبها، ورابطها إمّا الواو أو الضمير أو كلاهما»(2)، فافتقارها لصاحبها هو افتقار دلالي، وافتقارها لل «ضمير، والواو» لفظي، وباجتماعهما يقوى الترابط النّصّي.

لابد من الإشارة إلى أن الحال المعنوي العام - قد توفر في خطب الحروب،

سواء في بيان حال الأعداء «الجانب السلبي»، أم في بيان حال الأنصار «الجانب الإيجابي». أمّا ما يخصّ الحال النحوي - الخاص - فوجوده قليل، ومن ذلك قول الإمام علي(علیه السّلام) :

«طَبِيبٌ دَوَّارٌ بِطِبِّهِ، قَدْ أَحْكَمَ مَرَاهِمَهُ، وَ أَحْمَى مَوَاسِمَهُ، يَضَعُ ذَلِكَ حَيْثُ

ص: 94


1- نحو قولك: «جاء الرجلان يسعيان» ونحوه، فاللغة تلجأ إلى هذا الربط لأمن اللبس في فهم الانفصال بين الجملتين؛ إذ لولا وجود الضمير البارز في الفعل هنا ما نشأ التعليق بين الجملتين؛ فهو الرابط اللفظي بينهما، فيمثل وجوده صورةً لفظية لاستتاره في العقل عند الارتباط، وهو الأوثق من «الواو» في مجال العلاقات السياقية، ظ: مصطفی حميدة، نظام الارتباط والربط : 173. ما يعني أنّ الأصل في العلاقة بينهما هي معنوية وإن وجد الرابط اللفظي، ويؤكد ذلك «تمام حسان» بقوله: «وأما الملابسة للهيئات فهي قرينة معنوية على إفادة المعنى «الحال» بوساطة الاسم المنصوب، أو الجملة مع الواو وبدونها، فإذا قلت «جاء زیدا ركباً»، فالمعنى جاء زيد ملابساً الحال الركوب، وكذلك إذا قلت: جاء زيد وهو يركب، فالحال هنا عبر عنها بالجملة والواو وتسمى «واو الحال تمام حسان، اللغة العربية معناها ومبناها: 189.
2- السيوطي، الأشباه والنظائر: 1/ 248.

اَلْحَاجَةُ إِلَيْهِ مِنْ قُلُوبٍ عُمْيٍ، وَ آذَانٍ صُمّ،ٍ وَ أَلْسِنَةٍ بُكْمٍ؛ مُتَتَبِّعٌ بِدَوَائِهِ مَوَاضِعَ اَلْغَفْلَةِ، وَ مَوَاطِنَ اَلْحَيْرَةِ؛ لَمْ يَسْتَضِيئُوا بِأَضْوَاءِ اَلْحِكْمَةِ، وَ لَمْ يَقْدَحُوا بِزِنَادِ اَلْعُلُومِ اَلثَّاقِبَةِ؛ فَهُمْ فِي ذَلِكَ كَالْأَنْعَامِ اَلسَّائِمَةِ، وَ اَلصُّخُورِ اَلْقَاسِيَةِ. »(1).

لقد انطلق المتكلّم من الاسم المستعار لنفسه «دوّارٌ» المحال على الضمير المستتر «هو؛ ليمثل صاحب الحال، فجعل منه بؤرة نصية ترتبط به الأحوال التركيبية، قَدْ أَحْكَمَ مَرَاهِمَهُ، وَ أَحْمَى مَوَاسِمَهُ»، وقد قيدها حرف التأكيد «قد» لحصرها به، فهو كالطبيب - الدوّار - الكامل الذي يملك المرهم والأدوية لمن لا ينفع فيه المراهم، وقد أسهمت الإحالات الضميرية «أحكم + هو« «مراهم + ه» ، «أمضى + هو «، «مواسم + ه» ، «يضع + هو)) بتقوية الترابط بين الحال وصاحبه، ومن ثم إيصال الصورة الجزئية إلى ذهن المتلقي واضحة ومنسجمة .

وقد أكتمل المعنى العام بمجيئ صاحب الحال الثاني «مُتَتَبِّعٌ»، الذي يمثل البؤرة الثانوية، المتعلقة والمتممة للبؤرة الأساسية، فتعلقت به الأحوال المفتقرة إليه، والملاءمة لسياقه، « لَمْ يَسْتَضِيئُوا بِأَضْوَاءِ اَلْحِكْمَةِ، وَ لَمْ يَقْدَحُوا بِزِنَادِ اَلْعُلُومِ اَلثَّاقِبَةِ؛ فَهُمْ فِي ذَلِكَ كَالْأَنْعَامِ اَلسَّائِمَةِ، وَ اَلصُّخُورِ اَلْقَاسِيَةِ»، وبعد أن أكمل من بيان حاله، المتمثل بالجانب الإيجابي، انتقل في هذا الجزء من الوحدة النّصّية لبيان حال الناس وجانبهم السلبي، فحالهم هذا مثّل نتيجة عدم استضاءتهم بأضواء حكمته(علیه السّلام) ، وعدم أخدهم بزناد علومه الثاقبة، فشبّه (علیه السّلام) حالهم بحال الأنعام السائمة، والصخور القاسية؛ ل«استوائهم في الغفلة والانخراط في سلك الشهوة والغضب دون اعتبار شيء من حفظ العقل وعدم التقيد به کما لا

ص: 95


1- نهج البلاغة: 156، خطبة : 108.

قيد للأنعام السائمة، وبينهم وبين الصخور قساوة قلوبهم وعدم لينها وخشيتها من ذكر الله وآياته، قال تعالى:

«ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً » [البقرة:

74 ](1).

فقد سبکت هذه الأحوال الصورة التشبيهية بتصويرها المنظر، وتقريبها المعنى الدلالي المنسجم، فأصبحت الأحوال متعالقة، لا تنفك عن صاحبها؛ لكونها تمثل تصوير له.

ويمكن ملاحظة ذلك التعالق على المستوى الشكلي عن طريق الروابط اللفظية المتمثلة ب(العطف ب«الواو»، وضمير الغائب «هم») في ( « يَسْتَضِيئُ + وا «واو الجماعة»، «یَقدَحُ + وا «واو الجماعة»، «هُم») المحال عليهم «الناس»، ما أعطى المتلقي الأداة التي بها يستنتج تماسك النّصِّ.

ص: 96


1- ابن میثم البحراني، شرح نهج البلاغة: 3/ 41.

المبحث الثاني: التضام المعجمي

اشارة

التضام المعجمي(1): يعدّ مظهراً من مظاهر الاتساق النّصّي والدلالي، فهو توارد زوج من الكلمات بالفعل أو بالقوّة نظرا لارتباطها بحكم هذه العلاقة أو تلك، بحسب ما ذهب إليه المؤلفان (هاليداي، ورقية حسن)، فإنّ العلاقة

ص: 97


1- لقد جاء مصطلح «التضام المعجمي «بوصفه مصطلحاً لسانياً نّصِّياً تحت مسميات أخرى، إذ أُطلق عليه مصطلحات عدة منها: «المصاحبة المعجمية، التلازم، الاقتران اللفظي، الرصف والنّظم، التضام، قيود التوارد، وغيرها، فهذه المسميات جاءت نتيجة لاختلافهم في ترجمة مصطلح «فيرث الانكليزي» «Collocability»، الذي وضع ما سماه «اختيار الوقوعية أو الرصفية» الذي يقوم على أساس تبديل المفردات المعجمية أو تبديل أنواع السياق اللغوي، ينظر أحمد مختار عمر، علم الدلالة: 75، فقد عرّف بعض النصيين «المصاحبة المعجمية» بأنّها: «الورود المتوقع أو المعتاد لكلمة ما مع ما يناسبها أو يتلاءم معها من الكلمات الأخرى في سياق لغوي ما، مثل: البقرة مع اللبن، والليل مع الظلمة»، عبد الفتاح البركاوي، دلالة السياق بين التراث الحديث وعلم اللغة الحديث : 52، أي أنّها تقوم بين أزواج الكلمات، فتشكل علاقة دلالية عن طريق ثنائية التقابل في السياق النّصّي، وهذه مهمة التضام المعجمي، فهذه المسميات ما هي إلّا نتيجة اختلاف الترجمة، فموضوعها واحد ومهمتها واحدة، وقبل ذلك هو أنّ مصطلحها الانكليزي واحد، كما سبق أنفاً.

النسقية التي تحكم هذه الأزواج في خطابٍ ما، هي علاقة التعارض مثلما هو الأمر في أزواج كلمات مثل: «ولد، بنت، جلس، وقف، أحبَّ، کره، الجنوب، الشمال... الخ»(1)، وعليه فهو مصدرٌ للترابط بين أزواجٍ من العناصر المعجمية التي تظهر مع بعضها، فيعالج الرصف اللفظي المعجمي للكلمات في علاقاتٍ دلالية يمكن إدراكها في السياق النّصِّي المتعالق.

التعالق المعجمي يحقق الاتساق النّصِّي عن طريق استمرارية المعنى، وانتظام العناصر المعجمية، واتجاهها نحو بناء الفكرة الأساسية للنّصِّ؛ إذ تُسهم هذه العناصر في توضيح العناصر المعجمية الأخرى المرتبطة بها وبيانها، ومن ثم تضمن للنّصِّ الفهم المتواصل للمتلقي وانسجامه مع المتكلّم في أثناء السماع أو القراءة(2).

ويعدّ هذا النوع من أكثر الأنواع صعوبةً في التحليل، ويمكن تجاوز هذه الصعوبة بتكوين سياق تترابط فيه العناصر المعجمية معتمداً على الحدس اللغوي في علاقتها مع العناصر الأخرى، وكذلك على معرفته بمعاني الكلمات وغير ذلك (3).

یُقسم التضام المعجمي إلى: «التوارد والتنافر»، والأول -کما سبق بیانه آنفاً (4)- يُعد أحد مظاهر التضام الإيجابي، في حين يُعد الثاني «التنافر»(5)

ص: 98


1- ظ: محمد الخطابي، لسانیات النّصِّ مدخل إلى انسجام الخطاب: 25.
2- ظ: عزة شبيل محمد، علم لغة النّصِّ: 105.
3- ظ: محمد الخطابي، لسانیات النّصِّ مدخل إلى انسجام الخطاب: 25.
4- ظ: 22 من هذا البحث.
5- عدَّ تمام حسان «التوارد» هو صلاح الكلمتين للاجتماع في الجملة، أو النّصّ، وسماه ب«المناسبة = - المعجمية»، وهذه هي منبع الإفادة، في حين عدَّ «التنافر » عدم صلاح الكلمتين للاجتماع، وسماه ب«المفارقة المعجمية»، وهذه هي منبع «الإحالة» ؛ إذ يصبح الكلام معها غير مفيد على وجه الحقيقة إلّا إذا أمكن تفسيره في ظلّ المجاز، ينظر : بحث ضوابط التوارد لتمام حسان مجمع اللغة العربية، الجزء الثامن والخمسون، شعبان 1406 ه-1986م.

من مظاهر التضام السلبي، وهذا ليس محل البحث، إنّما تتعلق دراسته بالجانب الإيجابي من التضام و المسهم بالاتساق النّصِّي، والمتوافر بكثافة في الخطب الحربية في نهج البلاغة، وعليه لابد من التعريف ب«التوارد» على أنّه انتظام العلاقة المعجمية في سبيل تحقيق الدلالة السياقية النّصِّية المبتغاة، وذلك عن طريق «معرفة ما يقوم بين مفردات المعجم من علاقات تجعلها تقع في أصناف متمایزة، بحيث يلتقي صنف منها بصنف، فيصبح للكلمة من هذا والكلمة من ذلك أن يجتمعا في الجملة الواحدة»(1). وهذا يقوم بين الكلمات في المعجم، فقد يكون بين الكلمتين علاقة تضاد، أو علاقة ترادف، أو تناقض، أو العكس، أو كلية، أو بعضية، أو مجرد مغايرة إلى غير ذلك، ومن التشابك بين هذه العلاقات المعجمية الدلالية تنشأ شبكة وثيقة الاحتباك في النّصِّ الخطابي (2)، وعليه يمكن تقسيم علائق التوارد إلى:

التضاد أو التقابل

التضاد أو التقابل(3):

ص: 99


1- تمام حسان، ضوابط التوارد: 318، (بحث)، في مجمع اللغة العربية، الجزء الثامن والخمسون، شعبان، 1406ه -1986م.
2- ظ: تمام حسان، التضام وقيود التوارد: 111، بحث بمجلة المناهل، العدد السادس، السنة الثالثة، رجب 1396 ه-وليو 1976.
3- يأتي التضاد بوصفه فناً بلاغية في سياق التعريف متداخلاً مع الفنون البلاغية والدلالية الأخرى، أو يمكن أن يُقال إنه يأتي تحت مسمياتٍ أخرى؛ لصلتهِ الشديدة مع هذه المصطلحات في = = معالجة المتضادات والمتقابلات الدلالية المعجمية في سياق الجملة أو النّصِّ، فهي غالباً ما تعني «الجمع بين الكلام وضده» ومن هذه المسميات «الطباق، المطابقة، التطبيق، المجاورة، الأضداد، التكافؤ، التخالف، المقابلة ... وغيرها»، ظ: أحمد مطلوب معجم المصطلحات البلاغية وتطورها: 2/ 251، وما بعدها.

هو الجمع بين الشيء وضده، فقد عرّفه (أبو هلال العسكري) هو «الجمع بين الشيء وضدّه في جزء من أجزاء الرسالة أو الخطبة أو البيت من بيوت القصيدة مثل الجمع بين البياض والسواد...»(1)، فترابط الكلمات مع بعضها عن طريق أشكال التقابل بأنواعها المختلفة (2).

وتظهر أهمية التقابل في تضامة أجزاء الكلام، وإقامة علاقات دلالية داخل السياق النّصِّي أو خارجه، ما يؤدي إلى التلازم الذهني بين المتكلّم والمتلقي، يؤكد ذلك (الزركشي) بقولهِ: «من أنواع العلاقات أو التلازم الذهني كالسبب والمسبب، والعلة والمعلول، والنظيرين، والضدين ...» (3)، وبذا فهو يسهم في عملية التضام المعجمي.

والتقابل غالباً ما يقع بين معاني النّصِّ الخطابي ؛ لتنبيه المتلقي، فيزيد الأمر قوة ووضوحاً، وكذا يقع بين ألفاظه التي تؤثر بعضها في بعض تأثيراً واضحاً ما يزيدها حضوراً وإثارة في ذهن المتلقي، ومن ذلك قول الإمام(علیه السّلام) :

«أُنْبِئْتُ بُسْراً قَدِ اِطَّلَعَ اَلْيَمَنَ ، وَ إِنِّي وَ اَللَّهِ لَأَظُنُّ أَنَّ هَؤُلاَءِ اَلْقَوْمَ سَيُدَالُونَ

ص: 100


1- أبو هلال العسكري، کتاب الصناعتين: 316، وظ: أحمد مطلوب، معجم المصطلحات البلاغية: 2/ 251، 252.
2- ظ: عزة شبيل محمد، علم لغة النّصِّ: 109.
3- البرهان في علوم القرآن: 1/ 35، و ظ: السيوطي، الاتقان في علوم القرآن: 2/ 289.

مِنْكُمْ بِاجْتِمَاعِهِمْ عَلَى بَاطِلِهِمْ وَ تَفَرُّقِكُمْ عَنْ حَقِّكُمْ، وَ بِمَعْصِيَتِكُمْ إِمَامَكُمْ فِي اَلْحَقِّ، وَ طَاعَتِهِمْ إِمَامَهُمْ فِي اَلْبَاطِلِ، وَ بِأَدَائِهِمُ اَلْأَمَانَةَ إِلَى صَاحِبِهِمْ وَ خِيَانَتِكُمْ، وَ بِصَلاَحِهِمْ فِي بِلاَدِهِمْ وَ فَسَادِكُمْ، فَلَوِ اِئْتَمَنْتُ أَحَدَكُمْ عَلَى قَعْبٍ لَخَشِيتُ أَنْ يَذْهَبَ بِعِلاَقَتِهِ! أَللَّهُمَّ إِنِّي قَدْ مَلِلْتُهُمْ وَ مَلُّونِي، وَ سَئِمْتُهُمْ وَ سَئِمُونِي، فَأَبْدِلْنِي بِهِمْ خَيْراً مِنْهُمْ، وَ أَبْدِلْهُمْ بِي شَرّاً مِنِّي. اَللَّهُمَّ مِثْ قُلُوبَهُمْ كَمإِيمَاثِ اَلْمِلْحِ فِي اَلْمَاءِ. أَمَا وَ اَللَّهِ لَوَدِدْتُ أَنَّ لِي بِكُمْ أَلْفَ فَارِسٍ مِنْ بَنِي فِرَاسِ بْنِ غَنْمٍ »(1).

لقد أتكأ الإمام (علیه السّلام) في النّصِّ المتجلّي على أزواج الكلمات المتضادة لعقد مقارنة بين الحق والباطل، فنسج هذا التقابل في سياق وصفه لقومه، مقابل قوم معاوية، وبيان موقفه من القومين، فأقام تقابله بين الجمل التركيبية المترابطة بعضها ببعض، نحو قوله(علیه السّلام) :

«اجْتِمَاعِهِمْ عَلَى بَاطِلِهِمْ» x « وَ تَفَرُّقِكُمْ عَنْ حَقِّكُمْ »

فقد أثبت صفة «اجتماعهم على الباطل«التي استدعت نقيضها وهو «تفرقكم عن الحق»، وبذا يُثير انتباه المتلقي، ومن ثم يشدّ من عملية التواصل بين المتكلّم والمتلقي، ما تطلّب من المتكلّم إكمال التقابلات المكثّفة، بين القومين، نحو قوله(علیه السّلام) :

• وَ « بِمَعْصِيَتِكُمْ إِمَامَكُمْ فِي اَلْحَقِّ » x « وَ طَاعَتِهِمْ إِمَامَهُمْ فِي اَلْبَاطِلِ»

• وَ « بِأَدَائِهِمُ اَلْأَمَانَةَ إِلَى صَاحِبِهِمْ » x « وَ خِيَانَتِكُمْ»

• وَ « بِصَلاَحِهِمْ فِي بِلاَدِهِمْ» X « وَ فَسَادِكُمْ»

• « فَأَبْدِلْنِي بِهِمْ خَيْراً مِنْهُمْ» X «وَ أَبْدِلْهُمْ بِي شَرّاً مِنِّي »

ص: 101


1- نهج البلاغة: 67، خطبة : 25.

المتكلّم يُريد بذلك تقريع المتلقي، ومن ثم إيقاظه لما يحدث؛ إذ لم تأت هذه التقابلات على وتيرة واحدة، وإنّما تنوّعت استعمالاتها والسياق، فقد تقابلت الكلمات بين كلِّ ترکيبين متقابلين «اجتماع x تفرق، الباطل x الحق»، هذا في التقابل التركيبي الأول («باجْتِمَاعِهِمْ عَلَى بَاطِلِهِمْ» x « وَ تَفَرُّقِكُمْ عَنْ حَقِّكُمْ »)، ومثله في التقابل الثاني المرتبط به دلالياً ولفظياً «معصية x طاعة، باطل x حق» في قوله: (« بِمَعْصِيَتِكُمْ إِمَامَكُمْ فِي اَلْحَقِّ » x « وَ طَاعَتِهِمْ إِمَامَهُمْ فِي اَلْبَاطِلِ»»)، في حين تعلّق التقابل في بعض التراكيب بالمبنى العدمي في السياق النّصّي، (« بِأَدَائِهِمُ اَلْأَمَانَةَ إِلَى صَاحِبِهِمْ » x « وَ خِيَانَتِكُمْ»)، فعمد المتكلّم إلى حذف نصف الجزء التركيبي المتقابل، واكتفى بالإشارة إليه من دون التصريح، والتقدير «خِيَانَتِكُمْ [إِلَى صَاحِبِکُمْ»، وقوله أيضاً: («بِصَلاَحِهِمْ فِي بِلاَدِهِمْ» X « وَ فَسَادِكُمْ»)، والتقدير» وَ فَسَادِكُمْ [فِي بِلاَدِکُمْ]» »؛ لوجود قرينة دالة في سياق الحال والمقال، ك(الإحالات الضميرية - المحيلة إحالة مقامية - العائدة على المتلقي «كم»، ووجود ذكر سابق للمحذوف في السياق اللغوي «صاحب»، «بلاد»)، وزاد العطف الأمر ترابطاً، وكلّ أولئك قد عمل على التعالق الدلالي للتراكيب المتقابلة في النّصِّ، حتى أصبحت عضواً واحداً لا ينفك عن غيره، ما أسهم في بناء صورة نصّية متسقة في ذهن المتلقي في تفريقها الحق والباطل وأنصارهما.

وقد غلب على النّصِّ التقابل الجملي والاسمي بنوعية الاسم الظاهر والضمائر؛ إذ نجد حضوراً واضحاً ومؤثراً في بناء الوحدة النّصّية تفاعلها الحيوي المستمر من أول النّصِّ عن طريق ضمير الجمع الغائب «هم» المحيل على قوم معاوية، يقابله في كلِّ اسمٍ وتركيب ضمير الخطاب «كم» المحيل على

ص: 102

المتلقين، وكلاهما خارج النّصِّ، ما يُثير حفيظة القوم، ومن ثم رؤيتهم الباطنية للحق، يصاحبها التوجه الصائب له دون الباطل الذي غلب على القوم المقابل .

وقد يتطلّب الأمر تقابلا فعليا لترسيخ المعنى في ذهن المتلقي، وهذا ما نجده في قوله(علیه السّلام) لرسم صورة منسجمة في ذهن المتلقي عن فتن الزمان، ومدی تعلقها بمعاوية:

«إِنَّ اَلْفِتَنَ إِذَا أَقْبَلَتْ شَبَّهَتْ، وَ إِذَا أَدْبَرَتْ نَبَّهَتْ، يُنْكَرْنَ مُقْبِلاَتٍ، وَ يُعْرَفْنَ مُدْبِرَاتٍ، يَحُمْنَ حَوْمَ اَلرِّيَاحِ، يُصِبْنَ بَلَداً وَ يُخْطِئْنَ بَلَداً. أَلَا وَ إِنَّ أَخْوَفَ اَلْفِتَنِ عِنْدِي عَلَيْكُمْ فِتْنَةُ بَنِي أُمَيَّةَ، فَإِنَّهَا فِتْنَةٌ عَمْيَاءُ مُظْلِمَةٌ، عَمَّتْ خُطَّتُهَا، وَ خَصَّتْ بَلِيَّتُهَا، - وَ أَصَابَ اَلْبَلاَءُ مَنْ أَبْصَرَ فِيهَا، وَ أَخْطَأَ اَلْبَلاَءُ مَنْ عَمِيَ عَنْهَا »(1).

لقد ألّف المتكلم في علاقتين متضادتين بين الفعلين «أقبلت X أدبرت»، صورة «الفتن «لبيان مدى تأثيرها السلبي في المحيط البشري بدءاً من إقبالهاحتى انتهائها. ونجد أنَّ المعنى التقابلي يكتمل بذكر ما يؤديه هذا الزوج من

الكليات «شبّهت X نبهّت»، فالفتن تقوم بخلط الحق بالباطل(2)، ما يتسبب بإلحاق الضرر بالناس، ولا يتميز أمرها إلّا عند انتهائها و إدبارها، فهذا التضاد الفعلي القوي في قوله«إِنَّ اَلْفِتَنَ إِذَا أَقْبَلَتْ شَبَّهَتْ، وَ إِذَا أَدْبَرَتْ نَبَّهَتْ، الذي

ص: 103


1- نهج البلاغة: 137، خطبة : 93.
2- يضرب ابن أبي الحديد مثالا لذلك الفتن التي حصلت في زمان الإمام (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) وقد قادها بعلمه وحكمته، يقول: «ومثال ذلك فتنة الجمل و فتنة الخوارج كان كثير من الناس فيها في مبدأ الأمر متوقفين واشتبه عليهم الحال ولم يعلموا موضع الحق إلى أن انقضت الفتنة، ووضعت الحرب أوزارها، وبان لهم صاحب الضلالة من صاحب الهداية». ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة: 7/ 53.

استهله المتكلّم للتعريف ب«الفتن» فقد ربط تدريجياً جميع الأحداث الواقعة فيها والناتجة عنها.

ومن أجل الاتساق الدلالي بين العلاقات السياقية؛ لإثارة المتلقي وترسيخ المعاني الأساسية في البنية النّصّية في ذهنه، فقد انزاح المتكلّم عن الرتابة في تعریف «الفتن» ووصفها من الأفراد إلى الجمع، نحو قوله(علیه السّلام) :

يُنْكَرْنَ مُقْبِلاَتٍ، <تقابل> وَ يُعْرَفْنَ مُدْبِرَاتٍ

يُصِبْنَ بَلَداً-وَ يُخْطِئْنَ بَلَداً

يستثمر المتكلّم طاقة التقابل للتعبير عن أمر مهم يتعلق بالمتلقين؛ لذا استرعي انتباههم إليه بالعدول عن الإفراد إلى الجمع؛ للتأكيد على أثرها السلبي الذي يتفاقم تدريجياً، ولإظهار الدلالات المتصلة بها وهذا يجعل المتلقي أكثر إيقاظاً ونشاطاً للمتابعة؛ لذا نجد المتكلّم يعمد لإكمال الجزء المتمم للمعنی السابق بأنّ هذه الفتن «يُصِبْنَ بَلَداً-وَ يُخْطِئْنَ بَلَداً»، فيبتلى بها أناسٌ، ويسلم منها آخرون، ما يزيد في قوة التلاحم بين العلاقات التقابلية. كلُّ ذلك بعكس ما عاناه الأمام(علیه السّلام) من بني أمية فقد واجه نوعين من الحرب: «الحرب الإعلامية » وهي الأساس المتمثّلة ب «الفتن»، والحرب القتالية، وهذه الأخرى تكون على نوعيين: خارجية، وداخلية، وقد كانت الأخرى بين أصحابه نتيجة الحرب الإعلامية «الفتن». .

وفي قوله(علیه السّلام) : «وَ أَصَابَ اَلْبَلاَءُ مَنْ أَبْصَرَ فِيهَا، وَ أَخْطَأَ اَلْبَلاَءُ مَنْ عَمِيَ عَنْهَا » تضمن تقابلاً معنوياً عن طريق علاقة الأفعال المتضادة والمترابطة مع بعضها عن طريق علاقتي التضاد والسبب والنتيجة :

ص: 104

- «أصَابَ x أخطَأَء أبصَرَ X عمي «صفة معنوية للعالم x الجاهل؛

وذلك أنّ العالم بارتكابه «المنكر مأثوم إذ لم ينكر والجاهل بذلك لا إثم عليه إذا

لم ينههم عن المنكر؛ لأن من لا يعلم المنكر منكرا لا يلزمه إنكاره، ولا يعني بالمنكر هاهنا ما كان منكرا من الاعتقادات، ولا ما يتعلق بالأمانة، بل الزنا وشرب الخمر ونحوهما من الأفعال القبيحة»(1)، فبينت هذه العلاقة الضدية الواردة بين أزواج الكلمات علاقة السياق النّصّي بالصورة المركزية للوحدة النّصّية.

وفي خطبة أخرى يصور(علیه السّلام) موقف المتلقين تجاه «الفتن» ويصفهم بالأوصاف المتضادة لعدم امتثالهم لأمره، وأخذهم الحيطة والحذر لما يحيط بهم، فيقول:

«مَا لِي أَرَاكُمْ أَشْبَاحاً بِلَا أَرْوَاحٍ، وَ أَرْوَاحاً بِلَا أَشْبَاحٍ، وَ نُسَّاكاً بِلَا صَلَاحٍ، وَ تُجَّاراً بِلَا أَرْبَاحٍ، وَ أَيْقَاظاً نُوَّماً، وَ شُهُوداً غُيَّباً، وَ نَاظِرَةً عَمْيَاً، وَ سَامِعَةً صَمَّاً، وَ نَاطِقَةً بَكْمَاً!»(2).

ص: 105


1- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة: 53/7 .
2- نهج البلاغة: 156، خطبة : 108، هذه الخطبة من الخطب المهمة لدى الإمام (علیه السّلام)، فهي تؤكد «الاستشراف عند الإمام (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )، أو کما بعض الدارسين الأمور الغيبية عنده (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) تضمّنت الكثير من أخبار الملاحم والغائبات، وقد استشهدت ببعضها كثير؛ لتضمنها جميع عناصر الاتساق، منها كونها جاءت مفتوحة الدلالة أمام المتلقي في كلِّ زمان ومكان، وقد أشرتُ لذلك في الفصل الرابع من هذا البحث،محل الشاهد، هو تحذيرهم من فتن بني أمية قبل أوانها، وتقريعهم لعدم انتفاعهم بكلامه (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) ، كما جاء في هذا الجزء المقتطع، فقد سبق هذا الجزء قوله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) : «قَدِ اِنْجَابَتِ اَلسَّرَائِرُ لِأَهْلِ اَلْبَصَائِرِ، وَ وَضَحَتْ مَحَجَّةُ اَلْحَقِّ لِخَابِطِهَا، وَ أَسْفَرَتِ اَلسَّاعَةُ عَنْ وَجْهِهَا، وَ ظَهَرَتِ اَلْعَلاَمَةُ لِمُتَوَسِّمِهَا»، المراد با«أسفار الساعة» و «ظهور العلامة» قرب القيامة بعدم بقاء نبيّ ينتظر بعثته و ظهور الفتن و الوقائع التي هي من أشراطها، وقيل أنّ ذكره (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) لأسفار الساعة وعلاماتها تهدید و ترغيب في العمل لها، ينظر: میثم البحراني، شرح نهج البلاغة : 3/ 92. وهذا= = يؤكد سبب كثرة تحذير (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) من فتن «بني أمية» لتأثيرها البالغ في الترويع والتعذيب، وكثرة قيام الحروب بسببها، ليس في زمنها- بني أمية - فقط وإنّما يظهر أثرها حتى آخر الزمان، وهذا ما يحصل في زماننا اليوم، والله أعلم، وقد فسر قوله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) : «مَا لِي أَرَاكُمْ أَشْبَاحاً بِلَا أَرْوَاحٍ، وَ أَرْوَاحاً بِلَا أَشْبَاحٍ...) بعدة وجوه منها: تشبيههم بالجمادات و الأموات في عدم انتفاعهم بالعقل و عدم تأثير المواعظ فيهم كما قال تعالى : « كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ » [المنافقون: 4]. إنّ المراد الإشارة إلى قصورهم عما يراد بهم من القيام بأمر الجهاد و التنبيه على أنّ بعضهم بمنزلة الميّت والجهاد و كجسد بلا روح و بعضهم له عقل و فهم و لكن لا قوّة له على الحرب كروح بلا جسد، فانّ الروح غير ذات الجسد ناقصة عن الاعتماد و التّحريك اللّذين كانا من فعلها، حيث كانت تدبّر الجسد فالمقصود أنّ الجميع عاطلون عمّا يراد منهم. أنّه كناية عن عدم نهوض بعضهم إلى الحرب دون بعض إذا دعوا إليه كما يقوم البدن بدون الرّوح والرّوح بدون البدن. إنّ المراد أنّهم إذا خافوا ذهلت عقولهم وطارت ألبابهم وكانوا كأجسام بلا أرواح، وإذا آمنوا تركوا الاهتمام بأمورهم كأنهم أرواح لا تعلّق لها بالأجسام. للاستزادة يراجع: میثم البحراني، شرح نهج البلاغة: 3/ 42.

يكشف النّصِّ عن التعالق الدلالي في السياق، الناتج من علاقة التضاد في البنية العميقة في المحيط النّصِّي، ولاسيما وقد تداخل مع الصورة البيانية، التي غالباً ما يلجأ إليها المتكلّم؛ لتعميق الدلالة النّصّية، فبعدما شبّههم بالجمادات والأموات، بسبب تقصيرهم، وإيتائهم الأعمال على غير وجهها، وصفهم بالأزواج المتضادة ظاهراً، وهي مجتمعة في الحقيقة، فقال: «وَ أَيْقَاظاً نُوَّماً، وَ شُهُوداً غُيَّباً، وَ نَاظِرَةً عَمْيَاً، وَ سَامِعَةً صَمَّاً، وَ نَاطِقَةً بَكْمَاً»، فهذه الأوصاف المتضادة متلازمة بالفعل والقوة، وقد جمعت بين المعنى الحقيقي المقابل للمعنی المجازي؛ لتُثير الحركة الذهنية لدى المتلقي، فالصفات الحقيقية ثابتة عندهم،

ص: 106

أمّا الأخرى فهي المثيرة للجدل، ففيها تنبيه وإيقاظ للمتلقي بالتوبيخ، وهي كالآتي:

* «المعنى الحقيقي + المعنى المجازي»

- «أَيْقَاظاً+ نُوَّماً»

- وَ« شُهُوداً+ غُيَّباً، -

وَ «نَاظِرَةً + عَمْيَاً»

- وَ «سَامِعَةً + » - صُمَّاً»

وَ «نَاطِقَةً+ بُكْمَاً»

وهذا النوع من علاقة التضاد بين المفردات داخل الوحدة النّصّية سهل

على المتلقي استيعابها، فضلاً عن تقويته عملية الربط النّصّي، إذ يقوم بتكريس الدلالات المترابطة، فالإمام (علیه السّلام) يريد من ذوي العيون والآذان والألسنة بالصفات المذكورة التنبّه لما يحيط بهم وإيقاظهم من غفلتهم، إذ على الرغم من توافر هذه الصفات عندهم كصفة السمع - « سَامِعَةً +صُمَّاً » – مثلاً بفعلها الحركي وقوتها، إلّا أنّ المتكلّم يصورها كأنّها ساكنة لا تعمل؛ لعدم انتفاعهم بكلامه، فهي بهذه الحالة تشبه الصّمَّ لا تحقق الفائدة المرجوة فجاء توبيخه وتقريعه لهم على وفق هذا التوارد المعجمي، الذي أسهم في ترابط أجزاء النّصِّ، واتساقه.

الترادف:

هو وسيلة من وسائل التضام المعجمي، ويطلق على العلاقة بين الكلمات

المختلفة في ألفاظها المتفقة في معانيها (1).

ص: 107


1- ظ: محمد محمد یونس، المعنى وظلال المعنى: 397.

يطلق (دي بو جراند) على الترادف مصطلح «إعادة الصياغة البسيطة»،

وتقع هذه - إعادة الصياغة- كلّما أمكن استبدال عنصر معجمي بآخر في السياق من دون تغير ملحوظ في المعنى(1).

وللسياق أثرٌ واضح في تحديد معنى الكلمة ودلالتها، ويؤكد ذلك (جون لاينز) بقوله: «إنّما يهمنا هو المدى السِّياقي للتعبير، أي مجموع السِّياقات التي يظهر فيها التعبير، وربما يظنّ أن المدى السِّياقي للتعبير يحدد معناه»(2) ؛ إذ يتخذ من السِّياق الحدُّ الفاصل بين المترادفات.

ويُقسِّم (حلمي خليل) الترادف على قسمين (3):

شبه الترادف: وذلك في حالة التشابه الدلالي الواضح بين كلمتين أو أكثر مع وجود اختلاف بينهما؛ إذ يمكن استعمال إحدى الكلمتين، ولا يصح استعمال الأخرى في السِّياق نفسه، على الرغم من اتفاقهما في المعنى، نحو: «بیت

ومنزل».

الترادف المطلق: وهو اتفاق كلمتين في المعنى اتفاقاً تاماً وهو نادر الوقوع في أية لغة(4). ويمكن التمثيل على هذا النوع بالمزاوجة بين الكلمات الأجنبية ومرادفاتها باللغة العربية نحو: «هاتف / تلفون، الطبيعة / الفيزياء، راديو / مذياع، علم الدلالة / السيمانطيقا... الخ»(5).

ص: 108


1- ظ: عزة شبيل محمد، علم لغة النّصّ: 107.
2- جون لاينز، اللغة والمعنى و السِّياق: 55، 56.
3- ظ: حلمي خليل، الكلمة دراسة لغوية معجمية: 132، 133.
4- ظ: م. ن: 125.
5- ظ: عزة شبيل محمد، علم لغة النّصِّ: 108.

وعند ملاحظة النصوص المدروسة يلحظ ثمة أثر واضح للترادف في تضام النصوص؛ لإثارة المتلقي، ومن ثم استمراره للمتابعة، علماً أنَّ ما وجدناه من تغير في استعمال المترادفات -حسب ما تُسمى -، كان أغلبها متقارب المعنى في إطار استعمالها المعجمي، وتتغير دلالتها بحسب سياق ورودها، ولا يمكن أن نحسبه تغييراً شديداً وإنّما مثّل تحديداً دقيقاً للمعنى الكامن في المفردة المعجمية والواضح عن طريق سياق ورودها اللغوي، من ذلك ما وجدناه في المعاني المترادفة للفظتي «الحق والباطل»، جاء ورودهما متنوعا في مجموعة من النصوص، بحسب سياق ورودهما، وكما يأتي:

1. «فَأَجْمَعَ رَأْيُ مَلَئِكُمْ عَلَى أَنِ اخْتَارُوا رَجُلَيْنِ، فَأَخَذْنَا عَلَيْهِمَا أَنْ يُجَعْجِعَا عِنْدَ الْقُرْآنِ، وَ لَا يُجَاوِزَاهُ، وَ تَكُونَ أَلْسِنَتُهُمَا مَعَهُ وَ قُلُوبُهُمَا تَبَعَهُ، فَتَاهَا عَنْهُ، وَ تَرَكَا الْحَقَّ وَ هُمَا يُبْصِرَانِهِ، وَ كَانَ الْجَوْرُ هَوَاهُمَا، وَ الِاعْوِجَاجُ رَأْيَهُمَا، وَ قَدْ سَبَقَ اسْتِثْنَاؤُنَا عَلَيْهِمَا فِي الْحُكْمِ بِالْعَدْلِ وَ الْعَمَلِ بِالْحَقِّ سُوءَ رَأْيِهِمَا وَ جَوْرَ حُكْمِهِمَا، وَ الثِّقَةُ فِي أَيْدِينَا لِأَنْفُسِنَا، حِينَ خَالَفَا سَبِيلَ الْحَقِّ وَ أَتَيَا بِمَا لَا يُعْرَفُ مِنْ مَعْكُوسِ الْحُكْمِ»(1).

2. « اِسْتَعِدُّوا لِلْمَسِيرِ إِلَى قَوْمٍ حَيَارَى عَنِ اَلْحَقِّ لاَ يُبْصِرُونَهُ، وَ مُوزَعِينَ بِالْجَوْرِ لاَ يَعْدِلُونَ بِهِ، جُفَاةٍ عَنِ اَلْكِتَابِ نُكُبٍ عَنِ اَلطَّرِيقِ. »(2).

3. « اُنْظُرُوا أَهْلَ بَيْتِ نَبِيِّكُمْ فَالْزَمُوا سَمْتَهُمْ، وَ اِتَّبِعُوا أَثَرَهُمْ، فَلَنْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ هُدًى، وَ لَنْ يُعِيدُوكُمْ فِي رَدًى، فَإِنْ لَبَدُوا فَالْبُدُوا،...»(3).

ص: 109


1- نهج البلاغة: 256، خطبة: 177.
2- م.ن: 182، خطبة: 125.
3- م. ن: 143، خطبة : 88.

4. «وَ إِذَا رَأَيْتُمُ الْخَيْرَ فَخُذُوا بِهِ، وَ إِذَا رَأَيْتُمُ الشَّرَّ فَأَعْرِضُوا عَنْهُ »(1).

فالمتمعن في هذه النّصوص المتجلّية يجد أنّ المتكلّم قد جعل من «الحق، الباطل «البؤرة الأساسية تدور حولها الأحداث المتعالقة مع بعضها والمتعاقبة ، ما يؤدي إلى استمرار حديثه حتى يشمل موضوعات متعددة في مواقف متنوعة، ففي النّصِّ الأول كان حديثه عن أمر الحكمين في معركة صفين؛ الاتباعهما الهوى، فقال: «وَ تَرَكَا اَلْحَقَّ وَ هُمَا يُبْصِرَانِهِ وَ كَانَ اَلْجَوْرُ هَوَاهُمَا » فجاء لفظ «الحق» باسمه وقابله بلفظ «اَلْجَوْرُ» المرادف للفظ الباطل، فجاء استعماله محكومة بطبيعة السياق، فالإمام (علیه السّلام) يتحدث عن بطلان حكم الرجلين، والجور نقيض الحق في الحكم، فهو العدول عن الحق بالحكم الفعلي، يؤكد ذلك (أبو هلال العسكري) بقوله: «أن الجور خلاف الاستقامة في الحكم، وفي السيرة السلطانية، تقول جار الحاكم في حكمه والسلطان في سيرته إذا فارق الاستقامة في ذلك ... والجور العدول عن الحق» (2)؛ لذا كان وروده - الجور - أدل على المعنى العميق في البنية النصية من غيره، وأكثر انسجاماً وتوائماً في سياق الحال والمقال، وقد أكد(علیه السّلام) ذلك بقوله: «وَجَورَ حُکمِهِمَا» في النّصِّ نفسه.

فكما عدل(علیه السّلام) عن استعمال لفظ «الباطل«ب «الجور» في سياق حديثه عن الحكم، فقد عدل عن استعمال لفظ «الحق» في السياق نفسه - سياق الحكم - ب«العدل»، لكن لا نعده عدولاً تاماً، وإنّما تخصيصاً للحكم، فعلى الرغم من كثرة مرادفات «الحق» يبقى هو الأساس في الجانب الإيجابي، ويؤكد ذلك قوله(علیه السّلام) : « وَ قَدْ سَبَقَ اسْتِثْنَاؤُنَا عَلَيْهِمَا فِي الْحُكْمِ بِالْعَدْلِ وَ الْعَمَلِ بِالْحَقِّ سُوءَ

ص: 110


1- م. ن: 242، خطبة : 167.
2- أبو هلال العسكري، الفروق اللغوية: 231.

رَأْيِهِمَا ». فقد لازم لفظ«الْعَدْلِ» الحكم الصحيح وهذا جزء من الحق، الذي يشمل العام والخاص، فنجد أنَّ الإمام(علیه السّلام) قدّم الخاص «الْحُكْمِ بِالْعَدْلِ» وأردفهُ مباشرةً بالعام «الْعَمَلِ بِالْحَقِّ»؛ ليؤكد أنّ الحكمين كانا جائرين في حكمهما، بعيدين عن الحق في أفعالهما وحتى رأيهما «الْعَمَلِ بِالْحَقِّ سُوءَ رَأْيِهِمَا »، ما يؤدي إلى الاتساق الدلالي في النّصِّ، ومن ثمّ إيصاله منسجماً إلى ذهن المتلقي، ويؤكد خطابه في نهاية البنية النّصّية أنّ ذلك يتضام ويدور حول محور أساس هو طريق الحق؛ إذ يقول: «حِينَ خَالفَا سَبِيلَ الحَقِّ».

ومثله قوله(علیه السّلام) : «وَمُوزَعِينَ بِالجَورِ لاَ يَعدِلُونَ بِهِ» بما أنّ الجور جزء من الباطل، مختص بالحكم، يقابله العدل الذي هو جزء من الحق كذلك مختص بالحكم؛ أي اجتماع الترادف والتقابل المؤدي إلى سبك المعنى وانسجام في ذهن المتلقي، فالإمام (علیه السّلام) دعا لقتال هؤلاء الخوارج الذين خرجوا عن الحق «- اِسْتَعِدُّوا لِلْمَسِيرِ إِلَى قَوْمٍ حَيَارَى عَنِ اَلْحَقِّ لاَ يُبْصِرُونَهُ»، فهم بدعوتهم «لا حكم إلّا لله»، ومحاربتهم إمام زمانهم، قد عدلوا عن الحق إلى الجور، وأصبحوا حیاری لیس لديهم سبیل حق يدعون إليه، فهذا المعنى العميق لا يُستنبط من المفردة المعجمية على الرغم مما تحمله من دلائل لغوية؛ لذا تعلّق أمرها بالسياق النّصّي المحكوم بالقرائن الحالية والمقالية، ما أدى إلى ترابط أجزاء البنية الخطابية بما قبلها وما بعدها، كلُّ أولئك بغية إيصال الفكرة واضحة منسجمة إلى ذهن المتلقي.

ف«للحق والباطل «ألفاظ مرادفة وأخرى شبه مرادفة يحكمها السياق الواردة فيه، منها ما توارد في النّصوص السابقة، التي جاءت فيها المترادفات - کما سبق أنفاً- مناسبةً وطبيعة السياق المتحدث عن الحكم، أمّا الألفاظ شبه المترادفة ك« الهدیX به الردى»، فقد وجدناها في بعض النّصوص، كما في قوله(علیه السّلام) :

ص: 111

« فَلَنْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ هُدًى وَ لَنْ يُعِيدُوكُمْ فِي رَدًى» هي شبه مرادفة؛ إذ إنَّ دلالة «الهدی» تقترب من «الحق»؛ لأنَّ سبيلهما واحد هو «سبيل النجاة» المؤدي إلى الجنة، يؤكد ذلك (أبو هلال العسكري) بقوله: «الإيمان هدى لأنّه دلالة إلى الجنة، وقد یُقال الطريق هدى»(1)، أمّا «الردى» فهي تقترب في دلالتها من « الباطل «وسبيلهما هو «الهلاک»، وعليه يُمكن أن يُقال أنّهما من فروع الحق والباطل في الجانب الديني، فالإمام (علیه السّلام) يُشير إلى فضل أهل البيت- عليهم السلام- ودورهم في الإصلاح الديني، و يتضح من المعنى العميق أنَّ من يسلك غير طريقهم يحصل له العكس من ذلك، إذ يكون خارجاً من الهدى إلى الردي، و في نصِّ آخر للإمام (علیه السّلام) يؤكد هذا المعنى العام المنتشر في محيط البني النّصّية، وكذلك يؤكد أنّ طاعتهم غير مقتصرة على الجانب الديني، يقول(علیه السّلام) : «فَإِنْ أَطَعْتُمُونِي فَإِنِّي حَامِلُكُمْ إِنْ شَاءَ اَللَّهُ عَلَى سَبِيلِ اَلْجَنَّةِ، وَ إِنْ كَانَ ذَا مَشَقَّةٍ شَدِيدَةٍ وَ مَذَاقَةٍ مَرِيرَةٍ.»(2)، فسبيل الجنة هو النتيجة العليا للحق بكلِّ فروعِه . وعليه فنصوص الإمام (علیه السّلام) مترابطة مع بعضها، منسجمة مع موضوعها، ومناسبةً لسياق الحال.

ومثله أيضاً «الخير X الشّرِّ» لأنَّ الخير يكمن في جانب الحق، والعكس منه الشّرِّ، فعبر كلُّ منهما عن معانٍ عميقة، تتضح عن طريق السياق المحكوم بالقرائن الحالية والمقالية، ومنه قوله(علیه السّلام) : « وَ إِذَا رَأَيْتُمُ الْخَيْرَ فَخُذُوا بِهِ، وَ إِذَا رَأَيْتُمُ الشَّرَّ فَأَعْرِضُوا عَنْهُ»، فقد أجمل المتكلّم وجههما في سياق الأمر والنهي؛ لأنَّ الخيرَ هو دائماً ملازم للحق، والشّرَّ ملازم للباطل، فمن هذا الترادف يتضح أنّ الترابط لم

ص: 112


1- أبو هلال العسكري، الفروق اللغوية:209.
2- نهج البلاغة: 218، خطبة : 218

يقتصر على هذا النّصِّ وإنّما يتعداه إلى نصوص عدة التي تفتح المجال أمام المتلقي؛ لاستيعاب المعاني العميقة في محيط البني النّصّية، وكذلك يهدف إلى إظهار البؤرة الأساسية في هذه النصوص، وجعلها مسبوكة باستمرار في ذهن المتلقي.

التكرار:

هو أحد وسائل الاتساق المعجمي، وهو «إعادة ذكر لفظ أو عبارة أو جملة أو فقرة، وذلك باللفظ نفسه أو بالترادف؛ وذلك لتحقيق أغراض كثيرة أهمها تحقيق التماسك بين عناصر النّصِّ المتباعدة»(1)، وذلك عن طريق امتداد عنٍصر ما من بداية النّصِّ حتى آخره، وهذا الامتداد يربط بين عناصر هذا النّصِّ بالتأكيد مع مساعدة عوامل التماسك النّصّي الأخرى(2).

فضلاً عن ذلك يعدّ التكرار ضرباً من ضروب الإحالة إلى السابق؛ إذ يتكرر لفظان مرجعهما واحد (3)، «بمعنى أنّ الثاني منهما يحيل إلى الأول، ومن ثمّ يحدث السبك بينهما، وبالتالي بين الجملة أو الفقرة الوارد فيها الطرف الأول من طرفي التكرار، والجملة أو الفقرة الوارد فيها الطرف الثاني من طرفي التكرار» (4)، فيعطي «منتج النّصِّ القدرة على خلق صورٍ لغوية جديدة»(5) ولا يقتصر أمره في ذلك على التماسك، وإنَّما «يمثل دعماً للربط الدلالي»(6)، ما

ص: 113


1- صبحي أبراهيم الفقي، علم اللغة النّصّي بين النظرية والتطبيق: 2/ 20.
2- ظ: م. ن: 2/ 22.
3- ظ: جمال عبد المجيد، البديع بين البلاغة العربية واللسانيات النّصِّية: 79.
4- م.ن: 79.
5- دي بو جراند، النّصِّ والخطاب والإجراء: 306.
6- حسام أحمد فرج، نظرية علم النّصِّ: 106.

يسهم في الفهم المتواصل للنّصِّ، ومن ثمّ استمرار العملية النّصّية، ما يؤدي إلى إنعاش ذاكرة المتلقي، وذلك عند «إعادة ذكر صدر الكلام بعد أن حال بينه وبين ما يتعلق به فاصل طويل من الكلام جعله مضنة النسيان أو ضعف العلاقة بما يتبعه من خبر أو فاعل أو جواب، فإذا أعيد صدر الكلام إلى الذاكرة اتضحت العلاقة بما يليه وينتمي إليه »(1).

والتكرار بوصفه أحدى وسائل الاتساق المعجمي، يكون ذا أثر واضح؛ فقد يكون كلياً، وقد يكون جزئياً، وهو كالآتي:

التكرار الكلي: وينشأ هذا نتيجة إعادة العنصر المعجمي نفسه من دون أن يتغير منه شيء، وهذا له أثر واضح في الاتساق؛ إذ يُسهم في تأكيد العنصر المكرر وترسيخه في ذهن المتلقي، ومن ثم يؤدي إلى استمرار النّصِّ وتماسكه، من ذلك ما جاء في قول الإمام(علیه السّلام) :

«اَلْحَمْدُ لِلَّهِ كُلَّمَا وَقَبَ لَيْلٌ وَ غَسَقَ، وَ اَلْحَمْدُ لِلَّهِ كُلَّمَا لاَحَ نَجْمٌ وَ خَفَقَ، وَ اَلْحَمْدُ لِلَّهِ غَيْرَ مَفْقُودِ اَلْإِنْعَامِ، وَ لاَ مُكَافَإِ اَلْإِفْضَالِ »(2).

لقد أسهم تكرار الجملة الاسمية «الحمد لله» إسهاماً بليغاً باستمرار التماسك داخل الوحدة النّصّية، وبدوام المعنى وثباتهِ في ذهن المتلقي، ماخلق تنبيهاً وتذكيراً في التأكيد على وجوب شكره تعالى لقدرته وعظمته في خلقهِ، فعبارة «اَلْحَمْدُ لِلَّهِ كُلَّمَا وَقَبَ لَيْلٌ وَ غَسَقَ» جاءت مفتوحة الدلالة لما تحمله من معانٍ عميقة، موجهةً إلى المحور الأساس «الحمد لله» ومؤكدةً ديمومة حمده،

ص: 114


1- تمام حسان، البيان في روائع القرآن: 113.
2- نهج البلاغة: 87، خطبة: 48.

ويأتي الجزء الثاني المتمم له والمرتبط به مقروناً بحمد الله أيضاً، لما يحمله من دلالاتٍ عميقة مستوجبة لحمد الله، وَ اَلْحَمْدُ لِلَّهِ كُلَّمَا لاَحَ نَجْمٌ وَ خَفَقَ»، فعمد المتكلّم إلى تقييد «الحمد بالقيود المذكورة قصدا للدّوام و الثّبات مع ما في ذلك من الاشارة إلى کمال القدرة والعظمة و التّنبيه بما في وقوب الليل من النّعم الجميلة من النّوم و السّكون و السّبات، والتّذكير بما في طلوع الكواكب وغروبها من المنافع الجليلة من معرفة الحساب والسّنين والشّهور والسّاعات»(1).

وفي قوله(علیه السّلام) : «وَ اَلْحَمْدُ لِلَّهِ غَيرِ مَفقُودِ الإنعَام...» فقد اقترن دوام النّعمة وعدم فقدانها بدوام الحمد والثناء على الله تعالى، فاستهلال الخطبة بهذا الثناء و ملازمتهِ لهذه النعم فيه إشارة لفضل الله تعالى على الخلق ولا سيما أنَّ الخطبة كانت عند مسيره إلى الشام؛ لذا ذكرّهم بدوام نعم الله تعالى، وهذا الترابط المعنوي بين نعم الله وحمده الصورة قد أعطى صورة مسبكة في ذهن المتلقي؛ وذلك بغية التذكير والتنبيه لإمرٍ مهم متعلق بالمتلقي نفسه.

ومن ذلك قوله (علیه السّلام) قال «عبدالله بن عباس (رحمه الله) : دخلتُ على أمير المؤمنين صلوات الله عليه بذي قار وهو يخصف نعله، فقال لي: ما قيمة هذا النعل؟ فقلت: لا قيمةَ لها! قال:وَ اَللَّهِ لَهِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ إِمْرَتِكُمْ، إِلاَّ أَنْ أُقِيمَ حَقّاً، أَوْ أَدْفَعَ بَاطِلاً .، ثمّ خرج (علیه السّلام) فخطب الناس، فقال:

«..أَمَا وَ اَللَّهِ إِنْ كُنْتُ لَفِي سَاقَتِهَا حَتَّى تَوَلَّتْ بِحَذَافِيرِهَا، مَا عَجَزْتُ، وَ لاَ جَبُنْتُ، وَ إِنَّ مَسِيرِي هَذَا لِمِثْلِهَا، فَلَأَنْقُبَنَّ اَلْبَاطِلَ حَتَّى يَخْرُجَ اَلْحَقُّ مِنْ جَنْبِهِ، مَا لِي وَ لِقُرَيْشٍ! وَ اَللَّهِ لَقَدْ قَاتَلْتُهُمْ كَافِرِينَ، وَ لَأُقَاتِلَنَّهُمْ مَفْتُونِينَ، وَ إِنِّي لَصَاحِبُهُمْ

ص: 115


1- الخوئي، منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة: 4/ 270.

بِالْأَمْسِ كَمَا أَنَا صَاحِبُهُمُ اَلْيَوْمَ!»(1) .

الملاحظ أنَّ البنية الخطابية تحمل معنى التهديد والتنبيه على ما عليه خصومه من الباطل وتسعى إلى إيضاح سبيل الحق، فقوله: « وَ اَللَّهِ لَقَدْ قَاتَلْتُهُمْ كَافِرِينَ، وَ لَأُقَاتِلَنَّهُمْ مَفْتُونِينَ »، تهديد بأن يوقع بهم القتال نتيجة لفتنتهم، فالقسم - هنا- فضلاً عن تأكيدهِ، ودفع الشكّ عن المتلقي، أصبح كالمفاتيح التي تربط القضايا الكبرى فيما بينها فكلّ قضية طرحها المتكلّم افتتحها بالقسم، ما يدلّ على أهمية الأمر المتناول، بدءاً من قوله: «أَمَا وَ اَللَّهِ إِنْ كُنْتُ لَفِي سَاقَتِهَا حَتَّى تَوَلَّتْ بِحَذَافِيرِهَا، مَا عَجَزْتُ وَ لاَ جَبُنْتُ » إثباتاً لفضيلته وتأكيداً على شجاعتِه في الدفاع عن حوزة الدين، وسوقهِ لكتائب الناسِّ بين الطرد والهزيمة حتى توّلّت ولم يبق منها من يغالبه (2)، وقد ربط ذلك بقضية أخرى متعلقة بها افتتحها بالقسم، تؤكد شجاعته، فساعد هذا التكرار على استمرارية المعنى في البنية الخطابية، ما أدى إلى تماسك بنيته العميقة، فما قاتلهم في زمن النبي(صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) كانوا «كَافِرِينَ»، « وَ اَللَّهِ لَقَدْ قَاتَلْتُهُمْ كَافِرِينَ»، جاء به في صيغة المضي وما يريد أن يُقاتلهم هنا «مَفْتُونِينَ»، «وَ لَأُقَاتِلَنَّهُمْ مَفْتُونِينَ »، جاء به في صيغة المستقبل، وبذلك يؤكد أنَّ حربه مع أهل الجمل تجري مجرى حربه مع الكفّار في زمن الرسول، فالهدف من الاثنين هو إقامة الحقِّ وإزاحة الباطل(3)، فالقسم الثاني

ص: 116


1- نهج البلاغة: 77، خطبة : 33.
2- ظ: الخوئي، منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة: 16/ 53.
3- روى في وسائل الشيعة «الحسن بن محمد الطوسي في (مجالسه) عن أبيه، عن المفيد عن علي بن بلال، عن أحمد بن الحسن البغدادي، عن الحسين بن عمر المقري، عن علي بن الأزهر، عن علي بن صالح المكي، عن محمد بن عمر بن علي، عن أبيه، عن جده أنَّ النبي(صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) قال له: يا علي إنَّ= = الله تعالى قد كتب على المؤمنين الجهاد في الفتنة من بعدي، کما کتب عليهم جهاد مع المشركين معي، فقلت: يا رسول الله وما الفتنة التي كتب علينا فيها الجهاد؟ قال: فتنة قوم يشهدون أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله وهم مخالفون لسنتي وطاعنون في ديني، فقلت: فعلام نقاتلهم یا رسول الله وهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله ؟ فقال : على أحداثهم في دينهم، وفراقهم لأمري، واستحلالهم دماء عترتي». الشيخ محمد ابن الحر العاملي، وسائل الشيعة: 15/ 82، رقم الحدیث، [20029]7.

بتتابعهِ الأول قد فكَّ شفرة النّصِّ، وقوي بنيته الدلالية وجعلها واضحة مسبوكة في ذهنِ المتلقي.

التكرار الجزئي: يقصد به تکرار عنصر معجمي سبق استعماله، ولكن في أشكال وفئات مختلفة (1)، أي مع إحداث تغيير في صيغته نتيجة تكرار المعنى المركزي للعنصر، وعليه «يمكن أن يُشتق من المادة الواحدة أكثر من اشتقاق ... ومن ثم يكون السبك بين ألفاظ عدة، وليس بين لفظتين فقط. وحين تتوزع هذه الاشتقاقات على امتداد النّصِّ، يبدو السبك المعجمي شاملاً هذا الامتداد» (2) فيؤدي تكراره إلى الاتساق الدلالي، ومن ذلك قول الإمام علي(علیه السّلام) :

«ااَللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ وَعْثَاءِ اَلسَّفَرِ، وَ كَآبَةِ اَلْمُنْقَلَبِ، وَ سُوءِ اَلْمَنْظَرِ فِي اَلْأَهْلِ وَ اَلْمَالِ وَ اَلْوَلَدِ. اَللَّهُمَّ أَنْتَ اَلصَّاحِبُ فِي اَلسَّفَرِ ،وَ أَنْتَ اَلْخَلِيفَةُ فِي اَلْأَهْلِ، وَ لاَ يَجْمَعُهُمَا غَيْرُكَ، لِأَنَّ اَلْمُسْتَخْلَفَ لاَ يَكُونُ مُسْتَصْحَباً، وَ اَلْمُسْتَصْحَبُ لاَ يَكُونُ مُسْتَخْلَفاً »(3).

ص: 117


1- ظ: سعد مصلوح، نحو أجرومية للنّصِّ الشعري 158، (بحث) بمجلة الفصول (مجلة النقد الأدبي): ج 1، المجلد العاشر، ع 1 - 2، 1991م.
2- جمال عبد المجيد، البديع بين البلاغة العربية واللسانيات النّصِّية: 101.
3- نهج البلاغة: 86، خطبة: 46.

تظهر مفردتا «الصاحب، الخليفة» في ضوء دعاء الإمام (علیه السّلام) أثناء مسيره إلى الشّام، فقد استلزم المتكلّم جمعهما في موصوف واحد وهو «الله» جلّا وعلا المتمثل بالمرجع لهما، والواضح في سياقات النّصِّ سواء بالاسم الظاهر أو المضمر ، «اللَّهُمّ بِكَ أنتَ، غَیرُكَ »؛ بغية تخصيص الوصف به دون غيره، وتقوية الترابط الداخلي للبنية النّصّية، نحو قوله: «اَللَّهُمَّ أَنْتَ اَلصَّاحِبُ فِي اَلسَّفَرِ ،وَ أَنْتَ اَلْخَلِيفَةُ فِي اَلْأَهْلِ»، فدعا حضوره تعالى معهم في السفر، ومع الأهل في الدار، قد نفى المتكلّم مباشرة جمعهما «الخلافة، والاستصحاب»؛ لغير الله تعالى بقولِه: «وَ لاَ يَجْمَعُهُمَا غَيْرُكَ»، لدفع الشكِّ عن المتلقي، مؤكداً ذلك بالتكرار الجزئي لكلِّ من المفردتين؛ لفكِّ شفرة النّصِّ الدلالية، فالكلمات «الُمُسْتَخْلَفَ، مُسْتَخْلَفاً» ترجع الجذر «الخليفة»، ومثلها «مُسْتَصْحَباً، وَ اَلْمُسْتَصْحَبُ » ترجع لجذر «الصاحب «وهذا التكرار الجزئي لصيغة الكلمات يؤدي إلى دوام المعنى النّصّي وثباتهِ عن طريق تماسكهِ الدلالي، وذلك أنّ «اَلْمُسْتَخْلَفَ لاَ يَكُونُ مُسْتَصْحَباً،اَلْمُسْتَصْحَبُ لاَ يَكُونُ مُسْتَخْلَفاً »، فهذا الكلام قد وضع الحدِّ المعنوي الفاصل بين الخالق والمخلوق، ف«لا يكون الجسم مستصحباً مستخلفاً في حالٍ واحد»(1)، ما میّز الخالق بتوافر الصفتين معاً الاستصحاب، و الاستخلاف، وذلك أظهر عجز المخلوق تجاه الخالق، وعليه يستدعي الخضوع والتضرع له تعالی.

لا يقتصر أثر التكرار في الاتساق المعجمي في أجزاء النّصِّ الواحد، وإنّما يتعداه ليضم نصوصا عدة تجمعها مناسبة معينة، فنجد بؤرتها النّصّية مكررة وحاضرة في جميع هذه النّصوص، بل قد نجدها مكررة في النّصِّ الواحد أكثر

ص: 118


1- ابن میثم البحراني، شرح نهج البلاغة: 2/ 123.

من مرة سواء كان تكرارا جزئيا أم كليا، وهذا يُدلل على أهميتها وعلاقتها المباشرة بالمتلقي، كما في «الفتنة»؛ إذ نجد جميع النّصوص التي تتضمنها مفتوحة الدلالة، فلا تتعلق بزمن معين، ولاسيما فيما يخص فتنة بني أمية وعلاقتها فيما تعاقبها من الفتن، وهي كما يأتي:

1. « أَمَّا بَعْدَ، أَيُّهَا النَّاسُ فَأَنَي فَقَأْتُ عَيْنَ الْفِتْنَةِ، وَ لَمْ يَكُنْ لِيَجْتَرِئَ عَلَيْهَا أَحَدٌ غَيْرِي بَعْدَ أَنْ مَاجَ غَيْهَبُهَا، وَ اشْتَدَّ كَلَبُهَا. فَاسْأَلُونِي قَبْلَ أَنْ تَفْقِدُونِي، فَوَ الَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا تَسْأَلُونَنِي عَنْ شَيْ ءٍ فِيمَا بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَ السَّاعَةِ، وَ لَا عَنْ فِئَةٍ تَهْدِي مِائَةً وَ تُضِلُّ مِائَةً إِلَّا نْبَأْتُكُمْ بِنَاعِقِهَا وَ قَائِدِهَا وَ سَائِقِهَا وَ مُنَاخِ رِكَابِهَا وَ مَحَطِّ رِحَالِهَا وَ مَنْ يُقْتَلُ مِنْ أَهْلِهَا قَتْلًا وَ مَنْ يَمُوتُ مِنْهُمْ مَوْتاً... إِنَّ اَلْفِتَنَ إِذَا أَقْبَلَتْ شَبَّهَتْ وَ إِذَا أَدْبَرَتْ نَبَّهَتْ، يُنْكَرْنَ مُقْبِلاَتٍ، وَ يُعْرَفْنَ مُدْبِرَاتٍ، يَحُمْنَ حَوْمَ اَلرِّيَاحِ يُصِبْنَ بَلَداً وَ يُخْطِئْنَ بَلَداً. أَلَا وَ إِنَّ أَخْوَفَ اَلْفِتَنِ عِنْدِي عَلَيْكُمْ فِتْنَةُ بَنِي أُمَيَّةَ فَإِنَّهَا فِتْنَةٌ عَمْيَاءُ مُظْلِمَةٌ عَمَّتْ خُطَّتُهَا وَ خَصَّتْ بَلِيَّتُهَا - وَ أَصَابَ اَلْبَلاَءُ مَنْ أَبْصَرَ فِيهَا وَ أَخْطَأَ اَلْبَلاَءُ مَنْ عَمِيَ عَنْهَا... تَرِدُ عَلَيْكُمْ فِتْنَتُهُمْ شَوْهَاءَ مَخْشِيَّةً وَ قِطَعاً جَاهِلِيَّةً لَيْسَ فِيهَا مَنَارُ هُدًى وَ لاَ عَلَمٌ يُرَى»(1).

2. « فَوَ اَلَّذِي فَلَقَ اَلْحَبَّةَ، وَ بَرَأَ اَلنَّسَمَةَ،إِنَّ اَلَّذِي أُنَبِّئُكُمْ بِهِ عَنِ اَلنَّبِيِّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ مَا كَذَبَ اَلْمُبَلِّغُ، وَ لاَ جَهِلَ اَلسَّامِعُ، لَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى ضِلِّيلٍ قَدْ نَعِقَ بِالشَّامِ، فَحَصَ بِرَايَاتِهِ فِي ضَوَاحِي كُوفَانَ، فَإِذَا فَغَرَتْ فَاغِرَتُهُ، وَ اِشْتَدَّتْ شَكِيمَتُهُ، وَ ثَقُلَتْ فِي اَلْأَرْضِ وَطْأَتُهُ؛ عَضَّتِ اَلْفِتْنَةُ أَبْنَاءهَا

ص: 119


1- نهج البلاغة: 137، خطبة : 93.

بِأَنْيَابِهَا، وَ مَاجَتِ اَلْحَرْبُ بِأَمْوَاجِهَا،وَ بَدَا مِنَ اَلْأَيَّامِ كُلُوحُهَا، وَ مِنَ اَللَّيَالِي كُدُوحُهَا فَإِذَا أَيْنَعَ زَرْعُهُ وَ قَامَ عَلَى يَنْعِهِ وَ هَدَرَتْ شَقَاشِقُهُ، وَ بَرَقَتْ بَوَارِقُهُ، عُقِدَتْ رَايَاتُ اَلْفِتَنِ اَلْمُعْضِلَةِ، وَ أَقْبَلْنَ كَاللَّيْلِ اَلْمُظْلِمِ، وَ اَلْبَحْرِ اَلْمُلْتَطِمِ. هَذَا وَ كَمْ يَخْرِقُ اَلْكُوفَةَ مِنْ قَاصِفٍ، وَ يَمُرُّ عَلَيْهَا مِنْ عَاصِفٍ! وَ عَنْ قَلِيلٍ تَلْتَفُّ اَلْقُرُونُ بِالْقُرُونِ، وَ يُحْصَدُ اَلْقَائِمُ، وَ يُحْطَمُ اَلْمَحْصُودُ ....»(1).

3. ثُمَّ إِنَّكُمْ مَعْشَرَ اَلْعَرَبِ ! أَغْرَاضُ بَلاَيَا قَدِ اِقْتَرَبَتْ، فَاتَّقُوا سَكَرَاتِ اَلنِّعْمَةِ، وَ اِحْذَرُوا بَوَائِقَ اَلنِّقْمَةِ، وَ تَثَبَّتُوا فِي قَتَامِ اَلْعِشْوَةِ، وَ اِعْوِجَاجِ اَلْفِتْنَةِ عِنْدَ طُلُوعِ جَنِينِهَا، وَ ظُهُورِ كَمِينِهَا، وَ اِنْتِصَابِ قُطْبِهَا، وَ مَدَارِ رَحَاهَا، ثُمَّ يَأْتِي بَعْدَ ذَلِكَ طَالِعُ اَلْفِتْنَةِ اَلرَّجُوفِ وَ اَلْقَاصِمَةِ اَلزَّخُوفِ، فَتَزِيغُ قُلُوبٌ بَعْدَ اِسْتِقَامَةٍ، وَ تَضِلُّ رِجَالٌ بَعْدَ سَلاَمَةٍ،...».(2)

4- ومنها ما قاله جواباً لسؤال رجل عن الفتنة، وهل سأل عنها رسول

الله(صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) ؟ فقال : « لَمَّا أَنْزَلَ اَللَّهُ سُبْحَانَهُ قَوْلَهُ:

«الم *أَ حَسِبَ اَلنّٰاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنّٰا وَ هُمْ لاٰ يُفْتَنُونَ»

[العنكبوت: 1، 2]

عَلِمْتُ أَنَّ اَلْفِتْنَةَ لاَ تَنْزِلُ بِنَا وَ رَسُولُ اَللَّهِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ بَيْنَ أَظْهُرِنَا.

فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اَللَّهِ مَا هَذِهِ اَلْفِتْنَةُ اَلَّتِي أَخْبَرَكَ اَللَّهُ بِهَا؟

فَقَالَ: يَا عَلِيُّ إِنَّ أُمَّتِي سَيُفْتَنُونَ مِنْ بَعْدِي».

ص: 120


1- نهج البلاغة: 374، خطبة: 16.
2- م. ن: 210، خطبة: 151..

فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اَللَّهِ أَوَ لَيْسَ لِي قَدْ قُلْتَ لِي يَوْمَ أُحُدٍ حَيْثُ اُسْتُشْهِدَ مَنِ اُسْتُشْهِدَ مِنَ اَلْمُسْلِمِينَ وَحِيزَتْ عَنِّي اَلشَّهَادَةُ فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيَّ فَقُلْتَ لِي: أَبْشِرْ فَإِنَّ اَلشَّهَادَةَ مِنْ وَرَائِكَ»؟.

فَقَالَ لِي: «إِنَّ ذَلِكَ لَكَذَلِكَ فَكَيْفَ صَبْرُكَ إِذان؟

فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اَللَّهِ لَيْسَ هَذَا مَوَاطِنَ اَلصَّبْرِ وَ لَكِنْ مِنْ مَوَاطِنِ اَلْبُشْرَى وَ اَلشُّكْرِ. وَ قَالَ: يَا عَلِيُّ سَيُفْتَنُونَ بَعْدِي بِأَمْوَالِهِمْ، وَ يَمُنُّونَ بِدِينِهِمْ عَلَى رَبِّهِمْ وَ يَتَمَنَّوْنَ رَحْمَتَهُ وَ يَأْمَنُونَ سَطْوَتَهُ، وَ يَسْتَحِلُّونَ حَرَامَهُ بِالشُّبُهَاتِ اَلْكَاذِبَةِ وَ اَلْأَهْوَاءِ اَلسَّاهِيَةِ، فَيَسْتَحِلُّونَ اَلْخَمْرَ بِالنَّبِيذِ وَ اَلسُّحْتَ بِالْهَدِيَّةِ وَ اَلرِّبَا بِالْبَيْعِ.

قُلْتُ: يَا رَسُولَ اَللَّهِ فَبِأَيِّ اَلْمَنَازِلِ أُنْزِلُهُمْ عِنْدَ ذَلِكَ أَبِمَنْزِلَةِ رِدَّةٍ أَمْ بِمَنْزِلَةِ فِتْنَةٍ؟ قَالَ: بِمَنْزِلَةِ فِتْنَةٍ»»(1).

لقد مثّل تکرار «الفتنة» تماسكاً نصّياً؛ لكونها تمثّل عنصراً أساسياً في خطب الحرب، وهي الجزء الأكبر منه، ومن المعلوم أنّ الفتنة في أغلب الأحيان هي أساس الحرب، وعلى هذا الأساس نجد أغلب الخطب الحربية دارت حول قضية أساسية «الفتنة» مثلت البؤرة الموضوعية لهذه الخطب، ففي قوله: «... فَأَنَي فَقَأْتُ عَيْنَ» نجد أنّ الإمام (علیه السّلام) قد بيّن فضيلته في إزالة هذه الفتنة ، التي لم يستطع أحدٌ غيره إزالتها، فيقول: «وَ لَمْ يَكُنْ لِيَجْتَرِئَ عَلَيْهَا أَحَدٌ غَيْرِي بَعْدَ أَنْ مَاجَ غَيْهَبُهَا، وَ اشْتَدَّ كَلَبُهَا. ..»، و يتضح من كلامه أنّ هذه الفتنة

ص: 121


1- م.ن: 220، خطبة: 156.

معلومة ومشهودة لدى المتلقي، وذلك عن طريق تعريفها ب«ال» التعريف «الفتنة» التي مثلت نقطة انطلاق؛ لتهيئة ذهن المتلقي لمعرفة كلِّ ما يتعلق بها ومنها يتوخى الحذر؛ لتعلقها به. والإمام(علیه السّلام) بعد بيان فضيلته في إزالة هذه الفتنة بقتل أصحابها، ينتقل إلى التعريف بها عند إقبالها وإدبارها، إذ تُخلط الحق بالباطل -کما سبق أنفاً- فيشتبه الأمر على الناس، يستمر في التعريف حتى يصل إلى بيان محور الفتنة في الإسلام، فيقول: « فِتْنَةُ بَنِي أُمَيَّةَ»، التي تمثّل القضية الكبرى تدور حولها الكلمات الأخرى «الفتنة، الفتن، الفتن، فتنتهم »، فهي بمثابة الحرب الإعلامية، والتي بدورها خلّفت حروباً قتالية - سبق أنفاً-؛ لذا تجدها تتوسط في محيط البنية الخطابية، وهذا يعكس عظم شدّة تلك الفتنة على الإسلام في هتك الحرمات وغيرها، «أَلاَ إِنَّ أَخْوَفَ اَلْفِتَنِ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِي فِتْنَةُ بَنِي أُمَيَّةَ»، المتكلّم لم يترك تحذيرهم منها من غير مسوّغ، وإنّما أردفه مباشرة؛ ليعطي صورة واضحة عند المتلقي عنها، يقول: « فإِنَّهَا فِتْنَةٌ عَمْيَاءُ صَمَّاءُ مُظْلِمَةٌ: عَمَّتْ خُطتُهَا وَ خَصَّتْ بَلِيَّتُهَا أَصَابَ اَلْبَلاَءُ مَنْ أَبْصَرَ فِيهَا وَ أَخْطَأَ اَلْبَلاَءُ مَنْ عَمِيَ عَنْهَا ...»، ففي جميع الكلمات السابقة المكررة هي معرّفة، إلّا هنا «فِتْنَةٌ»، ما يؤكد مدى عظم تلك الفتنة.

لقد أعطى المتكلّم صورة واضحة مسبوكة عن الفتنة وخطرها وفاعلها

وعلاقتها ببني أميَّة، ومن ثم مدى تراكمها عن طريق الإفراد والجمع، فإنَّ الجزئيات «الفتن» قد أدت إلى الفتنة الكبرى، التي ألصقها المتكلّم بهم مباشرةً «فتنة بني أميَّة»، ووصفها وصفاً دقيقاً بأنّها فتنةٌ عمياء، «استعار لفظ العمى لها لجريانها على غير قانون حقِّ كالأعمى المتصرف في حركاتهِ في غير جادة، أو لكونها لا يسلك فيها سبيل الحقِّ كما لا يهتدي بالعين العمياء، وكذلك لفظ

ص: 122

المظلمة...»(1)، فكثافة هذه الكلمات المكررة تُسهم في نسيج النّصِّ، ومن ثم في فكِّ شفراته الدلالية في سبيل إعطاء صورة واضحة متعاقبة عن «الفتنة» وربط القضية الكبرى «فتنة بني أمية» بالفتن الأخرى ربطاً قضوياً ونّصّياً.

فضلاً عن ذلك فقد أوضح المتكلّم أثرها المباشر في المتلقي عن طريق استعمال الضمير المخاطب عَلَيْ +کُمْ»، في قوله: «تَرِدُ عَلَيْكُمْ فِتْنَتُهُمْ شَوْهَاءَ مَخْشِيَّةً وَ قِطَعاً جَاهِلِيَّةً لَيْسَ فِيهَا مَنَارُ هُدًى وَ لاَ عَلَمٌ يُرَى»، ما أثار انتباه

المتلقي، ومن ثم توقي الحذر مما سيأتيه وسيُحيط به.

ويأتي النّصُّ الثاني ليُتمم الصورة المرسومة في ذهن المتلقي، فيستمر المتكلّم في التحذير من هذه الفتن ومن عواقبها عن طريق وصفها الدقيق بإعطاء رؤية استشرافية دقيقة لما سيجري عليهم مستقبلاً، مؤكداً ذلك عن طريق القسم البار أنّه ما سيخبرهم هو من عند رسول الله، لدفع الشكِّ عن أذهان المتلقين وإثارتهم لما يقول لتعلق الأمر بهم، إذ يقول: «فَوَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَ بَرَأَ النَّسَمَةَ إِنَّ الَّذِي أُنَبِّئُكُمْ بِهِ عَنِ النَّبِيِّ (صلی الله علیه وآله)، مَا كَذَبَ الْمُبَلِّغُ وَ لَا جَهِلَ السَّامِعُ.،لَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى ضِلِّيلٍ قَدْ نَعَقَ بِالشَّامِ وَ فَحَصَ بِرَايَاتِهِ فِي ضَوَاحِي كُوفَانَ»، الضليل قيل فيه إشارة إلى السفياني، أو معاوية، فكلاهما مبدأ ملكهما في الشام، وانتهاء غاراتهما بالكوفة (2)، لكونها مكررة في جميع النصوص، فالمتكلّم قد أشار في النّصّ الأول إلى ما حدث في حياته، فاستطاع

ص: 123


1- ابن میثم البحراني، شرح نهج البلاغة:409/2
2- ظ: ابن میثم البحراني، شرح نهج البلاغة : 11/3 -13، ما يؤكد مدى تعالق الفتن بعضها ببعض عبر الأزمنة، وهذا يعكس تعالق النصوص المتحدثة عن الفتنة مع بعضها، ولاسيما تعالق فتنة بني أمية بفتن آخر الزمان، منها فتنة «السفياني» الدجّال.

إزالتها، في حرب الجمل وصفين والنهروان(1)، أمّا في هذا النّصّ فقد أشار إلى ما يحدث فيهم مستقبلاً، فالفرق ليس بالصياغة الزمنية فقط، إنّما يريد التأكيد على ما سيحدث أخطر؛ لشدّة ما يحصل فيها من الشرِّ والمصائب، کما يصفها المتكلّم وصفاً بليغاً مكثف بالاستعارات والكنايات «عَضَّتِ اَلْفِتْنَةُ أَبْنَاءَهَا بِأَنْيَابِهَا، وَ مَاجَتِ اَلْحَرْبُ بِأَمْوَاجِهَا وَ بَدَا مِنَ اَلْأَيَّامِ كُلُوحُهَا وَ مِنَ اَللَّيَالِي كُدُوحُهَا » فهي تقود إلى الحرب مباشرةً، وأنّ هذه الفتنة هي التي تحمل - سبق بيانه - رايات الفتن الأخرى لذا شبهها بالليل المظلم تعبيراً عن شدة ظلمتها، والبحر المتطم، لعظمتها وشدة الهلاك فيها وإثارتها كثير من الفتن، «عُقِدَتْ رَایَاتُ الْفِتَنِ الْمُعْضِلَةِ وَ أَقْبَلْنَ کَاللَّیْلِ الْمُظْلِمِ وَ الْبَحْرِ الْمُلْتَطِمِ» فهي تمثّل البؤرة الأساسية في هذه الخطب، وتُمثل حقبة «بني أُميَّة» المحور الأساس للفتن، وبذا تتضح الصورة أكثر لدى المتلقي، فتبقى النصوص مفتوحة الدلالة أمام المتلقي لاستنباط المعنى الدلالي العميق للفتنة، ما يعكس انفتاح فتنة بني أُميَّة زمانياً ومكانياً.

وقد أشار الإمام في النّصِّ الثالث لتلك الفتنة وأنذرهم منها، «وَ اِحْذَرُوا بَوَائِقَ اَلنِّقْمَةِ، وَ تَثَبَّتُوا فِي قَتَامِ اَلْعِشْوَةِ، وَ اِعْوِجَاجِ اَلْفِتْنَةِ عِنْدَ طُلُوعِ جَنِينِهَا، وَ ظُهُورِ كَمِينِهَا، وَ اِنْتِصَابِ قُطْبِهَا، وَ مَدَارِ رَحَاهَا، ثُمَّ يَأْتِي بَعْدَ ذَلِكَ طَالِعُ اَلْفِتْنَةِ اَلرَّجُوفِ وَ اَلْقَاصِمَةِ اَلزَّخُوفِ، »، فالتحذير مختص به النِّقمَةِ، و الفِتنَةِ» لأثرهما

ص: 124


1- إذ قال لهم الإمام (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) - كما فسّر كلامه «ابن میثم البحراني» في قوله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ): «أنا فقأتُ عين الفتنة ...» - «ولو لم أكن لما قوتل أصحاب الجمل ولا صفين ولا أصحاب النّهر»، شرح نهج البلاغة: 2/ 406، وهذا يؤكد مدى شدّة تحذيره من الفتنة الواردة في النّصِّ لخلو هذا الزمن منه، ولا يستطيع أحدٌ اجتراء هذه الفتنة غيره.

المباشر فيهم، ولاسيما الأخرى التي أوردها -حسب واقعها الطبيعي -عبر مراحل متتالية :

طلوع جنينها، وظهور كمينها، وانتصاب قطبها، ومدار راهعها

فأول أمرها يظهر جزءاً منها ويختفي الآخر، ومن يظهر الجزء الأكبر، حتى يتهيأ للقيام بها، ومن ثم يقوم بها، وأخيراً تدور على صاحبها لتقتله أشار بذلك لفتنة بني أميَّة، فقد كان مبدؤها قتل عثمان، وكلُّ ذلك كان طمعاً في الملكِ والدولة، حتى هُدم الإسلام بفتنهم المتراكمة، وقد ربطها بفتنة آخر الزمان، يقول: «ثُمَّ يَأْتِي بَعْدَ ذَلِكَ طَالِعُ اَلْفِتْنَةِ اَلرَّجُوفِ وَ اَلْقَاصِمَةِ اَلزَّخُوفِ»، قال بعض الشارحين: إنّ في ذلك إشارة إلى «الملحمة الكائنة في آخر الزمان كفتنة الدّجال، وكني عن أحوالهِ واضطراب أمر الإسلام فيها بكونها رجوفاً: أي كثيرة الرجف... وکنی عن بعضها عن إهلاك الخلق فيها، واستعار لها لفظ الزحوف ملاحظة لشبهها بالرجل الشجاع كثير الزحف في

ص: 125

الحرب إلى أقرانِه...»(1)، فالتكرار لم يقتصر على أداء وظيفة الترابط النّصّي، وإنَّما يشمل وظيفة الربط الدلالي.

أمّا في النّصِّ الرابع فنجد فيه من الاتساق البليغ؛ لتوافر أغلب عناصر الاتساق ک«التناص، والحوار، والاستفهام، والتكرار»، وأول هذه العناصر هو الحوار، فقد كان النّصِّ عبارة عن جواب السؤال المتلقي، وقد استهّل المتكلّم جوابه بآي القرآن الكريم:

«أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ » [العنكبوت: 2].

ما يُثير انتباه المتلقي لمعرفة مقصد الآية، فأشار المتكلّم إلى أنّ الفتنة لا تشملهم لإيمانهم، «عَلِمْتُ أَنَّ اَلْفِتْنَةَ لاَ تَنْزِلُ بِنَا وَ رَسُولُ اَللَّهِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ بَيْنَ أَظْهُرِنَا، »، فالسؤال كان عن الفتنة، الإجابة تتحدث عن الفتنة، تراتبياً، فيتبين منه تدرج نحو تبئير الفتنة، ويستمر المتكلّم في الإخبار عما جرى بينه وبين الرسول الأكرم (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )من حوار حول الفتنة، الذي يُمثل الرتبة الثانية بعد القرآن الكريم، «فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اَللَّهِ مَا هَذِهِ اَلْفِتْنَةُ اَلَّتِي أَخْبَرَكَ اَللَّهُ بِهَا؟»، وكذلك يتبين من الحوار أنّ الفتنة هي إخبارٌ من الله تعالى به، فليس من النبي (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) أو الإمام علي(علیه السّلام) ، فردَّ عليه بافتتان الأُمة بأجمعها، « فَقَالَ: «يَا عَلِيُّ إِنَّ أُمَّتِي سَيُفْتَنُونَ مِنْ بَعْدِي»،

ص: 126


1- ابن میثم البحراني، شرح نهج البلاغة : 3/ 211، هذه الخطبة خاصة للتعريف بالفتنة ووصفها الدقيق المفعم بالکنایات والاستعارات البلاغية، فحضورها كان مؤثراً في البنية الخطابية، وذلك عن طريق الدلالة الظاهرة والمضمرة، فقد يذكر فيها الاسم الظاهر وقد يحيل عليها إحالة ضميرية، وذلك لرسم صورة مستقبلية منسجمة وواضحة في ذهن المتلقي، ومحذرة من آثارها السلبية، منذرةً لهم من الانجراف تحت وطأة هذه الفتن وحوادثها المدمرة. للاستزادة أكثر في مضامين هذه الخطبة، يراجع: م. ن: 208-214.

ويستمر الحوار النّصّي الجاري بين النبي(صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) والإمام (علیه السّلام)، فتستمر الوحدة النّصّية تبعاً لذلك، ونتيجة للتكرار الحاصل لل«الفتنة، قال، وقلتُ، علي، رسول الله»، ولكن جميع الكلمات هي متجهة نحو «الفتنة» البؤرة الأساسية، فكان آخر ما سأله عن الفتنة القوم بأموالهم ودينهم، « قُلْتُ: يَا رَسُولَ اَللَّهِ فَبِأَيِّ اَلْمَنَازِلِ أُنْزِلُهُمْ عِنْدَ ذَلِكَ أَ بِمَنْزِلَةِ رِدَّةٍ أَمْ بِمَنْزِلَةِ فِتْنَةٍ؟ قَالَ: بِمَنْزِلَةِ فِتْنَةٍ.؟»، فكان الجواب : «بِمَنْزِلَةِ فِتْنَةٍ»، وتعليل ذلك يستنبط من المعنى العميق للحوار النّصّي؛ لكونهم في عداد المسلمين لنطقهم الشهادتين، ولكنَّهم عملوا على الشبهات والمحارم كالخمر والسحت والربا، وإبعاد الحقّ عن صاحبه في مسألة الخلافة، فتوافَر الاتساق اللفظي والمعنوي معاً؛ لتوافر وسائل الاتصال الإقناعي، والتأثير، والاستمرار النّصِّي والدلالي، وما أسهمهُ التكرار المكثف في النسيج النّصّي.

4- علاقات أخرى: هناك علاقات زوجية من الألفاظ المتضامة، تستدعي

إحداهما الأخرى، ومنها(1):

أ- علاقة الترتيب، مثل: «الثلاثاء / الأربعاء، الدولار السنت، اللواء/

العميد». .

ب- علاقة الكلِّ بالجزء، مثل: «السيارة الفرامل، الصندوق / الغطاء» .

ج-علاقة الجزء بالجزء، مثل: «الفم/ الذقن».

د- الاندراج في صنف عام، مثل: «الكرسي / الطاولة، تشملها كلمة

الأثاث.

وهذه العلاقات الرابطة بين زوج من الكلمات تخلق في النّصِّ قوة سابكة،

ص: 127


1- ظ: عزة شبيل، علم لغة النصّ: 109، 110.

تُسمى بالتضام، تظهر في جمل متجاورة، من ذلك قوله(علیه السّلام) :

«فَتَدَاكُّوا عَلَيَّ تَدَاكَّ اَلْإِبِلِ اَلْهِيمِ يَوْمَ وِرْدِهَا وَ قَدْ أَرْسَلَهَا رَاعِيهَا وَ خُلِعَتْ مَثَانِيهَا حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُمْ قَاتِلِيَّ أَوْ بَعْضُهُمْ قَاتِلُ بَعْضٍ لَدَيَّ وَ قَدْ قَلَّبْتُ هَذَا اَلْأَمْرَ بَطْنَهُ وَ ظَهْرَهُ حَتَّى مَنَعَنِي اَلنَّوْمَ فَمَا وَجَدْتُنِي يَسَعُنِي إِلاَّ قِتَالُهُمْ أَو اَلْجُحُودُ بِمَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه و سلم فَكَانَتْ مُعَالَجَةُ اَلْقِتَالِ أَهْوَنَ عَلَيَّ مِنْ مُعَالَجَةِ اَلْعِقَابِ وَ مَوْتَاتُ اَلدُّنْيَا أَهْوَنَ عَلَيَّ مِنْ مَوْتَاتِ اَلْآخِرَةِ.»(1).

أول هذه العلاقات الظاهرة هي علاقة الترتيب لمراحل الإبل الهيم بدءاً من ازدحامها في يوم شرابها الماء «تَدَاكَّ اَلْإِبِلِ اَلْهِيمِ يَوْمَ وِرْدِهَا»، بعد إطلاقها للشراب «قَدْ أَرْسَلَهَا رَاعِيهَا»، ومن ثم خلعها شعرها أو عقالها، «وَ خُلِعَتْ مَثَانِيهَا »، فهذا الترتيب لمراحل شراب الأبل، وإن حصل فيه تقديم وتأخير الأهمية الأمر، ليس هو المقصد الأساس، وإنّما جيء به لربط الأحداث المشابهة حالهِ هذه وواقع المتلقين في أثناء ازدحامهم واجتماعهم على مبايعته مثل الإبل الهيم؛ وجاء بهذا التشابه بغية ربط الأحداث وتقريبها في ذهن المتلقي، ما يجعل الخطاب متماسكاً في ذهنه.

وتأتي علاقتي «الجزء بالجزء، والكلِّ بالجزء»؛ لتُتمم عملية التماسك والترابط بين الوحدات المعجمية، نحو قوله: «حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُمْ قَاتِلِيَّ أَوْ بَعْضُهُمْ قَاتِلُ بَعْضٍ لَدَيَّ وَ قَدْ قَلَّبْتُ هَذَا اَلْأَمْرَ بَطْنَهُ وَ ظَهْرَهُ »، فعلاقة الأجزاء بعضها مع بعضها الآخر تبدو واضحة، فقد قسمت الناس على قسمين بين قاتل و مقتول، إن انتموا إلى طائفة واحدة تُمثل نواة النّصِّ؛ لأنّها تجتمع لأداء

ص: 128


1- نهج البلاغة: 90، خطبة: 54.

معنی واحد هو تصوير هيئة بيعتهم لهُ، وهذا يتضح من ارتباط كلِّ من اللفظين «بَعضُهُم»، «بَعض»، ما يؤدي إلى تلاحم أجزاء النّصِّ.

ومن علاقة الكلِّ بالجزء «وَ قَدْ قَلَّبْتُ هَذَا اَلْأَمْرَ بَطْنَهُ وَ ظَهْرَهُ » ؛ للتأكيد على معنى القتال مع أهل الشّام، فقد تخاذل أصحابه عن قتال أهل الشام بعدإصرارهم على مبايعتهِ، فبعلاقتها مع مؤكداتها تؤدي إلى فهم النّصِّ .

وجميع هذه الوحدات المعجمية والجمال التركيبية المترتبة تربط الأحداث الوصفية تنتظم جميعها تحت عنوان دلالي هو الذّم لهم، فقد تمثل وصفهم المباشر وغير المباشر بالذم، ما يجعل النّصِّ كلَّا واحداً متماسكاً، ترتبط أجزاؤه بعضها ببعض ارتباطاً عضوياً، لا انفكاك بينها.

ص: 129

ص: 130

الفصل الثاني

اشارة

المبحث الأول: الرتبة وأنواعها

المبحث الثاني: العدول عن أصل الرتبة وأثر في المعنى النّصّي

ص: 131

ص: 132

المبحث الأول: الرتبة(مفهومها وأنواعها)

مفهوم الرتبة:

الرتبة لغةً: تعني المنزلة والثبات، وهي من «رَتَبَ الشيءُ يَرتُبُ رتُوباً،

وَتَرَتَّبَ: ثبت فلم يتحرّك، يقال : رَتَبَ رُتُوبَ الكَعبِ أي انتَصَبَ انتِصابَه؛ وَ رَتَّبَه تَرتیباً: أثبَتَه...

الرَّتبةُ: الواحدة من رَتَباتِ الدَّرَجِ.

والرُّتبة والمرتَبةُ: الَمنزِلةُ عند المُلوکِ ونحوها»(1).

أمّا في الاصطلاح: فهي قرينة تُشكّل «علاقة بين جزأين من أجزاء السياق یدل موقع كلِّ منهما من الآخر على معناه»(2)، فلا يبعد معناه عن الأصل اللغوي؛ إذ يدل على المنزلة أو القيمة الموقعية في الكلام؛ إذ «تعني ملاحظة موقع الكلمة في التركيب الكلامي» (3)، فهي من الظواهر اللفظية التي تُسهم في تحديد مواقع

ص: 133


1- ابن منظور، لسان العرب: 1/ 409، 410، (مادة رتب)
2- تمام حسان، اللغة العربية معناها ومبناها: 209.
3- فاضل مصطفى الساقي، أقسام الكلام العربي: 146.

الكلمات ومعانيها في السياق الواردة فيه، ف«تُساعد على رفع اللبس عن المعنى بتحديد موقع الكلمة فيها»(1)، فكلّ كلمة أو عبارة تتخذ موضعاً خاصاً بها، وترتيباً خاصاً، فإن تغيّر ذلك الترتيب أو زال، تغيّرت دلالتها في سياق التركيب الكلامي (2)، وترتبط وظيفتها السياقية بالسوابق واللواحق على أساس ذلك الموقع الثابت لها في السياق، وهذا يوحي بتعالق أجزاء الكلام وتماسكها، فالتركيب الكلامي يرتكز بشكل أساس على «موقع العنصر وهو ثابت نسبياً في التركيب اللغوي»(3)، ما يعني أنّ هذا الترتيب يُعطي الجملة العربية نظاماً خاصاً، متى ما تغير ذلك الترتيب اختل النظام، فلو تقدمت كلمة على أُخرى أو حرف على فعل؛ لاختل المعنى أو اختلف وانتفت دلالة التركيب أو تغيّرت، وقد يصبح مجرد كلمات مصفوفة لا ترابط بينها، وعليه فالإخلال بقرينة الرتبة يُخرجها من كونها نسقاً ويفقدها دلالتها بالضرورة (4).

فالقول ب«الرتبة» يدفعنا إلى توقع الترابط بين العناصر المكوّنة للجملة، بما يضمن لها تلازماً على هذه الحال، فليس بمقدور أي ترکيب أن يُعبّر عن الأفكار الذهنية المقصودة بدون التزامٍ دقيق لترتيب منظم، يعينه على أداء المهمة بدقة، ولا سبيل إلى تحقق ذلك من دون مراعاة الأحكام التي تحفظ لكل كلمة رتبتها في الجملة (5).

ص: 134


1- محمد حماسة عبد اللطيف، لغة الشعراء دراسة في الضرورة الشعرية: 285.
2- ظ: م.ن: 285
3- نوم جومسكي، البني النحوية، ترجمة يؤيل يوسف عزيز: 7.
4- ظ : إبراهيم أنيس، من أسرار اللغة: 295، و: محمد محمد يونس علي، المعنى وظلال المعني: 331.
5- ظ: علي أبو مکارم، الظواهر اللغوية : 233.

لقد جعل النحاة لمواقع الكلام رتباً بعضها أسبق من بعض، فثمَّة تصوّر لهم يكشف عن أنَّ رتبة العمدة قبل رتبة الفضلة، فرتبة المبتدأ قبل رتبة الخبر، ورتبة ما يصل إليه الفعل بنفسه قبل رتبة ما يصل إليه بحرف الجر، وإن كانا فضلتين، ورتبة المفعول الأول قبل رتبة المفعول الثاني؛ لأنّه فاعل في المعنى(1).

فترتيب الكلمات في العربية يتجه نحو الاستقرار؛ لأنَّ النحو يفرض على الكلمات ترتيباً لا يتغير، أمّا التغيير الحاصل هو نتيجةٌ لتغيير الحالة الانفعالية للمتكلم(2)؛ لأنّ «الحالة النفسية والعصبية لأي إنسان تنعكس على انفعالاته وسلوكياته ومنها السلوك اللغوي»(3)، فالترتيب يفرضه المقصد الدلالي لدى المتكلم، يكون ذلك على وفق دعامتين لغوية أو نفسية - سيأتي بيان ذلك-، ما يؤكد أنّ الترتيب الكلامي يأخذ حيزين في إنتاج الدلالة هما «الثبات الموقعي، وحرية الحركة»، يؤكد ذلك (فندریس) بقوله: «فالحقيقة أنّه لا توجد لغة واحدة تسير في ترتيب الكلمات على حرية مطلقة، كما لا توجد لغة واحدة ترتيب الكلمات فيها جامد لا يتحرك»(4).

وتزداد «أهمية الرتبة في اللغات الخالية من الإعراب» (5)، وهي أكثر ورودا مع المبنيات منها مع المعربات، وورودها مع الأدوات والظروف من بين المبنيات

ص: 135


1- ظ: فاضل السامرائي، الجملة العربية تأليفها، وأقسامها: 36.
2- ظ: كوليزار کاکل عزیز، القرينة في اللغة العربية: 99.
3- د. سلطانة الجابر، الجوانب النفسية في اللغة، شبكة المعلومات العالمية (الأنترنيت)، منتدى التعليمي.
4- فندريس، اللغة: 187.
5- محمد حماسة عبد اللطيف، لغة الشعر دراسة في الضرورة الشعرية: 285.

أكثر اطرادا منه مع غيرها، وربما يرجع ذلك إلى أنّ عدم وجود العلامة الإعرابية في المبنيات قد جنح بها إلى قرينة الرتبة، وجعلت الرتبة عوضا لها عن العلامة الإعرابية (1).

ولأهميتها السياقية والنحوية نجد لها أثراً واضحاً عند النحاة القدماء، وأكثر ما نجدها بارزةً عند (ابن السراج) (ت 316ه) فقد أولاها اهتماماً واضحاً، يقول: «أما تقديم المضمر على الظاهر الذي يجوز في اللفظ فهو أن يكون مقدماً في اللفظ مؤخراً في معناهُ ومرتبته، وذلك نحو قولك: (ضَربَ غلامَه زيدٌ) كان الأصل: (ضَرَبَ زيدٌ غلامَهُ)، فقدمتَ ونيتُكَ التأخير، ومرتبةُ المفعول أن يكون بعد الفاعل «(2).

ويظهر اهتمامه جلياً عند تعداده المفصّل للأبواب النحوية ذات الرتب المتأخرة المحفوظة - وسيأتي بيانه - ک(الموصول وصلته، والتوابع، والتمييز والفاعل، والمضاف والمضاف إليه وغير ذلك).

وقد أشار إليها (السيرافي) (ت 368ه) في شرحه كتاب سيبويه، يقول: «فإذابنيتَ الفعلَ على الاسم قلتَ: زيدٌ ضربته، فلزمته الهاء، يعني أنك إذا جعلت زيدا هو الأول في الرتبة، فلا بد من أن ترفعه بالابتداء، فإذا رفعته بالابتداء فلا بد من أن يكون في الجملة التي بعده ضمير يعود إليه، وتكون هذه الجملة مبنية على المبتدأ، كأنك قلت: زیدٌ مضروبٌ»(3).

وهذا لا يعني انعدام أثرها - الرتبة - عند النحاة السابقين على (ابن السّراج)، وإن غاب لفظها عندهم، فدلالتها جاءت متناثرةً في ضوء حديثهم

ص: 136


1- ظ: تمام حسان، اللغة العربية معناها ومبناها: 208، 209.
2- ابن السّراج، الأصول: 2/ 238.
3- السيرافي، شرح كتاب سيبويه : 3/ 101.

عن «التقديم والتأخير»، فهذا مقصدها الأساسي، ومن أوائل أولئك (سیبویه) (ت 180 ه)، (والفراء) (ت207 ها)، في كتابه (معاني القرآن)، و(المبرد) (ت 285ه) في كتابه (المقتضب)، فهذا (سیبویه) يقول في باب الفاعل الذي يَتعداه فعلُه إلى مفعول: «وذلك قولك: ضَرَبَ عبدُ الله زيداً... انتصب زيدٌ لأنه مفعول تعدّى إليه فعلُ الفاعل. فإن قدمتَ المفعولَ وأخَّرتَ الفاعل جری اللفظُ کما جرى في الأوّل، وذلك قولك: ضَرَبَ زيداً عبدُ الله؛ لأنّك إنَّما أردت به مُؤخّرا ما أردت به مقدَّماً، ولم تُرد أن تَشغلَ الفعل بأوَّلَ منه وإن كان مؤخراً في اللفظ. فَمن ثمَّ كان حدّ اللفظ أن يكون فيه مقدَّما، وهو عربيٌّ جيَّد كثير، كأنّهم إنَّما يقدّمون الذي بيانه أهم لهم وهم ببيانه أعني، وإن كانا جميعاً یُهمّانِهم ويَعنِيانهم»(1)، فتقديم المفعول جاء للاهتمام به والعناية .

وكان من معاييرهم في ذلك- التقديم والتأخير - أنَّ العامل رتبته التقديم ثم يأتي بعده المعمولات، فالجملة الفعلية مثلاً يكون ترتيبها على تقديم الفعل، ثم يأتي بعده الفاعل، ثم المفعول به (2)، ولم يجوزوا تقديم الفاعل على عامله، في حين جوزوا حرية التقديم للمفعول به، فقدموه على الفاعل والفعل معاً (3) و معيارهم في ذلك أمن اللبس- سبق بيانه - وتحقيق الفائدة، فإذا اتضحت الدلالة السياقية في تقديمه فلا مانع من الترتيب اللفظي؛ لأنَّه يعتمد في ذلك على الترتيب المعنوي للسياق.

ومن علماء اللغة (ابن جني (ت 392ه) الذي درس هذا الجانب في إطار

ص: 137


1- سیبویه، الكتاب: 1/ 34.
2- ظ: ابن السراج، الأصول: 2/ 222، و: ابن فارس، الصاحبي في فقه اللغة: 244.
3- ظ: ابن السّراج، الأصول: 2/ 294، و : ابن الأنباري، الإنصاف في مسائل الخلاف: 1/ 236.

تناولهم أهمية التقديم والتأخير، ففصل القول في بيان مواضع الرتبة، ومدی أثرها في المعنى النحوي أو السياقي في كتابه (الخصائص)، من ذلك قوله في باب «نقض المراتب إذا عرض هناك عارض»: «من ذلك امتناعهم من تقديم الفاعل في نحو ضرب غُلامُهُ زيداً، فهذا لم يمتنع من حيث كان الفاعل ليس رتبته التقديم، وإنّما امتنع القرينة انضمت إليه، وهي إضافة الفاعل إلى ضمير المفعول، وفساد تقدّم المضمر على مظهره لفظاً ومعنى»(1)، لئلا يعود الضمير على متأخر لفظاً ورتبةً(2).

وقد نالت الرتبة حظاً وافراً عند البلاغيين؛ وذلك لما تمتاز به من دلالات الارتباط والتعليق بين أجزاء الكلام، معتمدين في ترتيبهم السياقي على الأصل النحوي، إلّا أنّهم يدرسون أسلوب التركيب لا التركيب نفسه (3) ف« الترتيب عمل يعمله مؤلف الكلام في معاني الكلم لا في ألفاظها » (4)، فلا يقع الترتيب بحكم اللفظ من غير قصدٍ له في المعنى (5)، فسياق الكلام قائم عندهم على أساس الربط بين الترتيب والقصد الدلالي، كما يقول في ذلك (الجرجاني (ت 471ه): «لا يكون الترتيب في شيء حتى يكون هناك قصد إلى صورة وصنعة، إن لم يُقدّم، ولم يُؤخر ما أخر وبدئ بالذي يُثني به

ص: 138


1- ابن جني، الخصائص: 1/ 293.
2- ظ: ابن عقیل، شرح ابن عقیل: 1/ 240.
3- ظ: تمام حسان، اللغة العربية معناها ومبناها: 207.
4- الجرجاني، دلائل الإعجاز: 359.
5- ظ : المالقي، رصف المباني في شرح حروف المعاني: 411.

أو ثُني بالذي ثلّث به لم تحصل لك تلك الصورة وتلك الصنعة»(1)، حتى بدت الرتبة -عندهم - فنّ من الفنون التي يوظفونها في أساليبهم، وأجادوا في توظيفها في السياق الكلامي ووضعه الموضع الذي يقتضيه، وأنَّ أخذ الكلمة مكانها في الأسلوب ناشئ عن ارتباط معناها بجاراتها (2). ومن ثمَّ أنَّ الترتيب يتركز على معنى السياق، فغالباً ما ينصرم - الترتيب عندهم - في الفضاء الدلالي على وفق ضوابط تراتبية؛ كالمتعلق الزماني والمكاني، والفضل والشرف، والكلي والجزئي، وغير ذلك(3).

ص: 139


1- الجرجاني، دلائل الإعجاز: 337.
2- ظ: كوليزار کاکل عزيز، القرينة في اللغة العربية: 103.
3- نحو قوله تعالى: ««أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ *أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ *أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ *أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ *أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ » ، [النمل: 60-64]، فقد جاء الترتيب النّصّي في الآيات السابقة مراعياً بعدين من أبعاد الترتيب الأول: زمن وجود كلّ عنصر مذكور في الآيات فبدأ بذكر السموات فالأرض مهدت فيه للأرض ما جرى عليها وتشكّل، ثم أعقب ذلك بزمن وجود الإنسان و استخلافه. والثاني: حجم العناصر في الوجود، فبدأ بالكليات ثم أخذت مساحة هذه الموجودات تصغر شيئا فشيئا، مما يؤكد على الترتيب الدقيق لعناصر التكوين، ظ: د. أمير فاضل سعد، الترتيب والتتابع: 79، 78، وعليه فقيد الترتيب عند البلاغيين يأتي على وفق هذه الضوابط والأسس المنسجمة وسياق المعنى وهذا متعلق بالعمق الدلالي للترتيب.

نوعا الرتبة:

ثمة نوعان للرتبة في السياق الكلامي من حيث ثباتها في بعض أجزاء السياق تتمثل بعدم جواز تقديم بعض أجزاء الجملة على بعضها الآخر، وتغيّرها في أجزاء أُخر. وهذه تسمح بحرية التقديم والتأخير، هما:

. الرتبة المحفوظة.

. الرتبة غير المحفوظة.

الرتبة المحفوظة: وتعني موقع الكلمة الثابت بالنسبة لغيرها تقدماً أو تأخراً في التركيب الكلامي، ومتى اختل الموقع أدى إلى اختلال التركيب (1)، فأي اختلال يلحق بها یُبعد التركيب عن الصواب، ولهذا تُعد محفوظة «في نظام اللغة، والاستعمال في الوقت نفسه»(2)، ما يدلُّ على أنَّ ترتيب العناصر اللغوية في السياق الكلامي مرتبط بضوابط تحد من حريتها غالباً ما تتعلق بالمعنى الوظيفي؛ إذ بوساطتها «يمكن تحديد موقع الكلمة بين أقسام الكلم کما يمكن تحديد معنى الأبواب النحوية ومن ثمَّ معرفة وظائفها»(3).

ومن أبوابها النحوية التي عددها (ابن السّراج) مفصلا إياها: وهي عنده

ثلاثة عشر باباً (4):

ص: 140


1- ظ: تمام حسان اللغة العربية معناها ومبناها: 207، و: فاضل الساقي، أقسام الكلام العربي: .146
2- تمام حسان، البيان في روائع القرآن: 91.
3- فاضل مصطفى الساقي، أقسام الكلام العربي: 146.
4- ظ: ابن السراج، الأصول: 2/ 222-247.

الصلة مع الموصول؛ لوجود علاقة تلازم بينهما، فالصلة تكون هنا جزءاً من الموصول لافتقار الموصول إليها، ويؤكد ذلك (خليل عمايرة) بقوله:

«هناك علاقة تلازم بين الموصول والصلة، الذي نعنيه هنا بالتلازم أن الاسم

الموصول لإبهامه وعدم إشارته إلى مدلولٍ بعينه لا ينفك يحتاج إلى ما يأتي بعده جملة فعلية أو اسمية، ويكون مع صلته في المعنى والحكم كلمة واحدة، ترتبط ببؤرة الجملة لتقوم بدورها في المعنى. وقد أدرك النحاة العرب... ذلك بقولهم جملة الصلة لا محل لها من الإعراب، وذلك لأنّها جاءت لتحديد الاسم قبلها ولتخصيصه»(1).

المضمر مع الظاهر في اللفظ والمعنى.

الصفة وما اتصل بها مع الموصوف، وجميع توابع الاسم حكمها كحکم

الصفة.

المضاف إليه وما اتصل به مع المضاف.

العوامل في الأسماء والحروف التي تدخل على الأفعال سواء أكانت عاملة

أم غير عاملة ك«حروف الجرِّ، وإنَّ وأخواتها ونواصب وجوازم الفعل، وأدوات الشرط، ولا النافية، وقد وسوف وغيرها».

الفاعل

الأفعال التي لا تتصرف، ک«نعم وبئس وفعل التعجب وليس، وأسماء

الأفعال»..

ما أعمل من الصفات تشبيهاً بأسماء الفاعلين وتعمل عمل الفعل،

ص: 141


1- خلیل عمايرة، في نحو اللغة العربية وتراكيبها: 200، ومثله بقية الرتب المحفوظة.

کالصفة المشبهة وصيغ المبالغة» .

الحروف التي لها صدر الكلام، ويقصد بها ذلك النوع من الكلم الذي يلتزم فيه دائماً أن يكون في أول جملته، أو الكلام الذي يتعلق به، فلا يعمل فيها قبله ولايعمل فيه ما قبله، فصدر الكلام (1) «هو كلُّ ما يُغير معنى الكلام ويُؤثر في مضمونه و كان حرفاً فمرتبته الصدر کحروف النفي ... والتنبيه، والاستفهام، والتشبيه والتحضيض...»(2).

ما عمل فيه معنى الفعل، ولم يكن فعلاً، نحو قولك: «هذا زيدٌ منطلقاً» لا يجوز تقديم الحال على العامل المعنوي المفهوم من «هذا» وهو التنبيه إلّا أن يكون المعنوي ظرفاً أو جاراً ومجرور نحو قولك: «فيها زيدٌ قائماً» فيعمل العامل المعنوي في الظرف الاستقرار» في الحال(3).

التمييز.

التقديم إذا ألبس أنّه مقدم، نحو «ضرب موسی عیسی»، «ضربتُ زيداً قائماً»، إذا كان السامع لا يعلم من القائم الفاعل أم المفعول لم يجز أن تكون الحال من صاحبها إلّا في وضع الصفة ولم يجز أن تقدم على صاحبها (4)

أن يُفرق بين العامل والمعمول بما ليس فيه سبب وهو غريب عنه، فصل

ص: 142


1- ظ: ابن السّراج، الأصول: 1/ 55.
2- الرضي، شرح الرضي على الكافية: 4/ 336.
3- ظ: ابن السّراج، الأصول: 2/ 222-247.
4- ظ: ابن السّراج، الأصول: 2/ 245، و: فاضل الساقي، أقسام الكلام العربي: 186، 187، و : ردة الله الطلحي، دلالة السياق: 460 .

المتطالبين (العامل والمعمول بأجنبي)(1).

يتضح من كلام (ابن السّراج) أنّ الرتبة ملزمة لعلاقة التضام - وسيأتي بيان

ذلك - لافتقارها لسوابق و لواحق متعلقة بها.

أمّا الرتبة غير المحفوظة: فهي بعكس السابقة تغير موقع الكلمة في تركيب الكلام تقدّماً أو تأخراً، ولا يتبع ذلك التغيير تغييراً في الحكم النحوي، فهي

«رتبة في نظام اللغة لا في استعمالها؛ لأنّها في الاستعمال معرضة للقواعد النحوية من حيث عود الضمير ثم للاختيارات الأسلوبية من التقديم والتأخير»(2)، فيها يُعطي المتكلم الحرية في تغيير مواضع الكلمات داخل السياق على وفق قواعد لغوية مقررة (3)، فعلى وفقه سُمیت ب«الرتبة غير المحفوظة»؛ إذ تُهدر عند أمن اللبس لمقتضيات السياق، نحو قولك: «زيداً ضربهُ عمرو» فقد اقتضى السياق تقدّم المفعول به «زیداً» على الفاعل «عمرو»، وبعكس ذلك تُحفظ - إذا توِقف المعنى عليها و اقتضى السياق الاحتفاظ بها(4).

وهذه الرتبة هي الأخرى تتطلب نوعين من الوظيفة في سياق الكلام؛ إذ

ثمَّة نوعان من حرية الرتبة:

أولهما: يتقدم فيه المتأخر مع المحافظة على وظيفته السياقية، نحو تقدم

«الخبر على المبتدأ»، و«المفعول به على الفاعل»، أو «على الفعل نفسه»، الذي يحرس الوظيفة السياقية لهذه المفردات هو «العلامة الإعرابية»، وكذلك إذا

ص: 143


1- للاستزادة أكثر، ظ: ابن السراج، الأصول: 2/ 237.
2- تمام حسان،البيان في روائع القرآن: 94.
3- ظ: تمام حسان، اللغة العربية معناها مبناها: 207.
4- ظ: م. ن: 208.

توسط خبر كان وأخواتها أو تقدم عليها، وكذلك اسم أنَّ إذا تأخر وتوسط الخبر وهو ظرف أو جار ومجرور وهكذا(1).

وثانيهما : ما يتقدَّم فيه المتأخر ولكَّنه لا يبقي على وظيفته السياقية التي كان عليها، بل ينتقل إلى وظيفة أخرى، نحو تقدّم الفاعل على الفعل، ينقلهُ من فاعل إلى مبتدأ، نحو قولك: «قام محمد»، إذا تقدّم محمد لم يعد فاعلاً، بل يصبح مبتدأ (2).

فالرتبة غير المحفوظة رتبة مجردة في الذهن تُمثل أصلاً من أصول النحو صالح؛ لأنّ يعدل عنه إلى ظاهرة التقديم والتأخير وهي ظاهرة مرتبطة بالأسلوب الذي هو عمل فردي في الأساس، بهذا يصبح العدول فكرة نحوية ، ويصبح التقديم والتأخير نشاطاً أدبياً ينتمي إلى الكلام لا إلى نظام اللغة، فهي تنطلق من دواعٍ أسلوبية؛ ولذا انصب اهتمام البلاغيين عليها (3)، لكونها تمنح المتكلّم الحرية في التعبير.

فعلى الرغم من رفع القيود عنها وإعطائها الحرية في الترتيب، إلا أنّها قد تكون أصعب وأدق من تقييدها؛ لأن ممارسة الحق في التقديم والتأخير لابد من أن يفي بمتطلبات المقام و الانسجام بين المباني، وعليه يمكن عدّ الرتبة المحفوظة علماً والرتبة غير المحفوظة فنّاً. وهناك فرق بين العلم والفن، وإن كانا

ص: 144


1- ظ: محمد حماسة عبد اللطيف، العلامة الإعربية: 314، تخلو نسخة هذا الكتاب من المعلومات؛ لأنّي لم أجد لها سوى نسخة «Word) .
2- ظ: م. ن: 314.
3- ظ: تمام حسان، الخلاصة النحوية: 86.

خاضعين لقانون المنزلة(1).

ومن أمثلة الرتبة غير المحفوظة (رتبة المبتدأ والخبر، ورتبة الفاعل والمفعول، ورتبة الضمير والمرجع، ورتبة الفاعل والتمييز، ورتبة المفعول به والفعل، وغيرها)(2).

وثمَّة نوع آخر من الرتب، يسميها (تمّام حسّان) ب«أشباه الرتب»، وهذا النوع يتعلق بتعدد العناصر التي تقع في الباب النحوي الواحد، كتعدد الخبر، والنعت، والحال، والمتعاطفات، فتكون مختلفة إفراداً و ترکیباً «مفرد، شبه جملة، جملة»، ويُعرّف (تمام حسّان) هذه الأشباه بقوله: «أفراد كلّ طائفة من الطوائف حين تتوالى فتثور قضية ترتيبها، والنظر إلى أیِّها أولى بالتقديم من سواه»(3)،

ص: 145


1- ظ: عزام محمد ذيب إشریده، دور الرتبة في الظاهرة النحوية : 108، وعليه فالعدول في الرتبة غير المحفوظة يخضع لاعتبارات بلاغية ومعنوية بخلاف الرتبة المحفوظة فلا نجد فيها البلاغة؛ لكونها خاضعة للقاعدة الأصلية والقيود في النحو العربي، ماجعلها تفتقر إلى التعليل، يؤكد ذلك «تمام حسان» بقوله: «لا يتناول التقديم والتأخير البلاغي ما يُسمى في النحو باسم الرتبة المحفوظة؛ لأنَّ هذه الرتبة المحفوظة لو اختلت لاختل التركيب باختلالها»، تمام حسّان، اللغة العربية معناها ومبناها: 207؛ لذا حاول البحث الابتعاد عنها لأنّها أصلٌ والأصل لا يُعلل، فالتعليل دائماً يكون رفيق الانزياح؛ لذا اقتصر المبحث الثاني من هذا الفصل على تطبيق ما تتضمنه «الرتبة غير المحفوظة «من فوائد وأسباب أسلوبية ومعنوية، فأسميته (العدول عن أصل الرتبة وأثره في المعنى النّصِّي)؛ وذلك لما تمثله الرتبة في مجالها الوظيفي السياقي، باشتمالها المعنى النحوي والدلالي والصرفي والبلاغي والأسلوبي وغيره، وتتضام هذه المعاني اللغوية لتشكيل الوحدة النصية.
2- ظ: تمام حسان، اللغة العربية معناها و مبناها: 207، و: فاضل الساقي، أقسام الكلام العربي: 147.
3- تمام حسّان، البيان في روائع القرآن: 98.

فاتخذ الصورة الآتية في ترتيبها على خط أفقي: «الكلمة المفردة + المركب العددي أو الإضافي + شبه الجملة + الجملة التامّة»، مراعياً في ذلك الترتيب أمن اللبس مع تحقيق الفائدة (1)، نحو قوله تعالى:

«وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ» [غافر: 28].

فقد جاءت صفات الرجل مترتبة بحسب الطول والقصر مبتدأً في ذلك من الإفراد «مُؤْمِنٌ»، فشبه الجملة «مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ»، فالجملة التامة «يَكْتُمُ إِيمَانَهُ»،وقد سبقه القدماء في بيان هذا اللون من الترتيب؛ إذ يُقدمون النعت المفرد ويوسطون الظرف أو شبهه، ويؤخرون الجملة (2).

وهذا (ابن جني) يُقدّم في ترتيبه البنيوي للكليات الواحد على الجمع معللاً ذلك بقوله: «إنَّ الواحد أقدم في الرتبة من الجمع وإنَّ الجمع فرع على الواحد»(3).

ولا يقتصر الأمر على الترتيب الموقعي للعناصر اللغوية، وإنَّما يتعداه للترتيب الزماني، فترتيب الأفعال زمانياً يكون بحسب نوع الفعل، فيقدم العلماء فعل المستقبل على غيره یُعلل ذلك (الزجاجي) بقوله: «أعلم أنَّ أسبق الأفعال في التقديم الفعل المستقبل؛ لأنَّ الشيء لم يكن ثم كان والعدم سابق للوجود، فهو في التقديم منتظر ثم يصيّر في الحال (ثمَّ) ماضيا، فيخبر عنه بالمضي، فأسبق الأفعال في المرتبة المستقبل ثم فعل الحال ثم فعل الماضي» (4). وهذا الترتيب

ص: 146


1- ظ: م. ن: 99، 98.
2- ظ: الأشموني، شرح الأشموني: 1/ 182.
3- ابن جني، سّر صناعة الإعراب : 1/ 94.
4- الزجاجي، الإيضاح في علل النحو: 85، وظ: السيرافي، شرح كتاب سيبويه: 1/ 58.

يفرضه ترتيب الأحداث التي ستقع وبعد وقوعها يصبح ترتيبها ماضوياً، ما يؤدي إلى تحقيق الفهم و الإفهام، ومن ثمَّ تعيين معنى الفاعلية؛ لأنَّه بعد الفعل بحسب الرتبة(1).

ويشمل هذا الترتيب للعناصر اللغوية ترتيب الضمائر ولاسيما المتصلة منها، فغالباً ما يُقدم العلماء ضمير المتكلّم على المخاطب ومن ثمَّ الغائب إن اجتمعن، يقول (ابن مالك)(2):

وقدّم الأخصَّ في اتصال و قدِّمن ما شئت في انفصال فهذا الترتيب المختص بضمائر الاتصال ناتج عن علاقتها بمراجعها، ومن ثمَّ أن تلازمها مع مرجعها يُعطي البنية التركيبية تمييزاً، ولاسيما في تعيين المعنى وتقريره (3)

الترخص في قرينة الرتبة:

اشارة

الرخصة: هي «تركيب الكلام على ما تقتضي به القاعدة اتكالاً على أمن اللبس، فإن لم يؤمن اللبس نسب الكلام إلى الخطأ لا إلى الترخص» (4)، ما يؤكد على توازي العلاقة بين الترخص وأمن اللبس، فالرخصة مرهونة بأمن اللبس ومن ثمَّ تحقيق الفائدة المتمثلة بوضوح المعني بدونها؛ وذلك عن طريق توافر القرائن الأُخر، فضلاً عن سياق المعنى (5).

ص: 147


1- ظ: تمام حسان، اللغة العربية معناها ومبناها: 208، 207.
2- ابن عقیل، شرح ابن عقیل: 1/ 106.
3- ظ: جون سيرل، تشومسكي والثورة اللغوية – صاحب مدرسة النحوالتوليدي والتحويلي-، بحث في مجلة الفكر العربي: 141.
4- تمام حسان، البيان في روائع القرآن:9
5- ظ: تمام حسان، مقالات في اللغة والأدب: 2/ 224.

إنَّ الأساس الذي تعتمد عليه ظاهرة الترخص هو عملية تضافر القرائن «لأنَّ تعدد القرائن على إرادة المعنى قد يجعل واحداً من هذه القرائن زائدة على مطالب وضوح المعنى؛ لأنَّ غيرها يمكن أن يُغني عنها بتجاهل التمسك بهذه القرينة»(1).

ویری (تمام حسان) أنّ تضافر بعض القرائن قد يُغني عن بعضها الآخر عند أمن اللبس، فيقول: «إنَّ اللغة العربية وكلَّ لغة أخرى في الوجود تنظر إلى أمن اللبس باعتباره غاية لا يمكن التفريط فيها؛ لأنَّ اللغة الملبسة لا تصلح واسطة للإفهام والفهم.. فإذا كان من الممكن الوصول إلى المعنى بلا لبس مع عدم توافر إحدى القرائن اللفظية الدّالة على هذا المعنى فإنَّ العرب كانت تترخص أحياناً في هذه القرينة اللفظية الإضافية؛ لأنَّ أمن اللبس يتحقق بوجودها وبعدمهِ »(2)؛ فالترخص في الرتبة المحفوظة مقرون بأمن اللبس، نحو ذلك رتبة جملة الحال من الفعل، كقوله تعالى:

«وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ » [هود: 38).

فقد كان ملأ من قومه يسخرون منه وهو يصنع الفلك (3).

أمّا «الرتبة غير المحفوظة فلا ترتكز بشكل أساسي على الترخص؛ لاعتمادها على الأسلوب السياقي والدلالي؛ فالمتكلّم بإمكانه أن يُقدم أو يؤخر

ص: 148


1- تمام حسان، البيان في روائع القرآن:9
2- تمام حسان، اللغة العربية معناها مبناها: 233.
3- ظ: تمام حسان، الخلاصة النحوية : 83.

بحسب مقصده في المعنى السياقي، ومن ثمَّ فلا يعترض به على الترخص بالتقديم والتأخير (1).

فالفرق بينهما هو اعتاد الرتبة المحفوظة على الأصل النحوي، وهي محل اهتمام النحاة، والرتبة غير المحفوظة فقد اعتمدت على أسلوب التركيب في السياق الكلامي، التي أصبحت منهج البلاغيين في دراستهم لل«تقديم والتأخير»، منطلقين في ذلك من الأصل النحوي. أمَّا علماء هذه الحقبة کما یری (خليل عمايرة)، فقد اختلط عند أغلبهم المنهجان النحوي والبلاغي، فغلبت الصنعة الشكلية في أبحاث بعض منهم، في حين استطاع آخرون أن يوازنوا بين اللفظ وما فيه من قرائن، والمعنى الذي يعتزم المتكلم أن يوصلهُ إلى السامع (2).

فيتضح أنَّ لكلِّ ظاهرة مقاصد وأغراضاً منها ظاهرة الترخص في القرائن، ولاسيما القرائن اللفظية التي شغلت العلماء، ولاسيما المحدثون فقد ركزوا اهتمامهم بها في مقدمتهم (تمام حسان)، و من هذه القرائن «قرينة الرتبة»، فقد كان لكلِّ منهج مقاصده وأسبابه الخاصة التي قد تكون لغوية أو نفسية، وهي كالآتي:(3)

فالأسباب اللغوية:

العناية والاهتمام: ومن أوائل من أشار لهذا المقصد (سیبویه) في كتابه کما سبقت الإشارة إلى ذلك، يقول: «إنَّما يقدّمون الذي بيانه أهم لهم وهم ببيانه أعني، وإن كانا جميعاً یُهِمانِهم ویَعنِيانهم»(4)، ولا يقف (الجرجاني) عند هذا،

ص: 149


1- ظ: م. ن: 83.
2- ظ: خليل عمايرة، في نحو اللغة و تراکیبها: 93.
3- للتفصيل أكثر، ظ: كوليزار کاکل عزيز، القرينة في اللغة العربية : 265-275.
4- سیبویه، الكتاب: 1/ 34.

الحدِّ إنَّما يذكر دلالة أعمق من ذلك لتعلق تفسيره بالبنية العميقة للنّصِّ، إذ يقول: «إنَّ معنى ذلك أنَّه قد يكون من أغراض الناس في فعل ما أن يقع بإنسان بعينه، ولا يبالون من أوقعه، کمثل ما يعلم من حالهم في حال الخارجي يخرج فيبعث و يفسد، ويكثر به الأذى... فإذا قتل وأراد الأخبار بذلك، فإنّه يُقدم الخارجي، فيقول: (قتل الخارجي زيدٌ ولا يقول: زيدٌ قتل الخارجي لأنّه يعلم أنّه ليس للناس أن يعلموا القاتل له زيد جدوى وفائدة»(1)، فتغيير الترتيب هنا جاء لمراعاة حال المتلقي، وهذا ما يتضح من قوله أعلاه.

الاختصاص: وهو أن يختص حدث أو ظرف أو حال لشخص محدد ونفيه عن غيره، يقول (الجرجاني): «وهو أن يكون الفعل فعلاً قد أردت أن تنص فيه على واحد فتجعله له، وتزعم أنّه فاعله، دون واحد آخر أو دون كلِّ أحد»(2)، نحو قوله تعالى:

« أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ » [الشورى: 53].

فصيرورة الأمور خاصة بالله تعالى دون غيره.

إفادة العموم، وعادة ما يكون بتقديم أدوات العموم ک«جميع وكلّ» وهذا

مختص بأسلوب النفي، كتقديم أداة العموم على أداة النفي، نحو قولك: « كلُّ إنسان لم يقم» نفيت القيام عن كلِّ واحد من الناس، بعكس لو قدّمت أداة النفي على أداة العموم نحو قولك: «لم يقم كلُّ إنسان» لم يشمل النفي جميع الناس(3).

ص: 150


1- الجرجاني، دلائل الإعجاز: 107، 108.
2- الجرجاني، دلائل الإعجاز: 128
3- ظ: كوليزار کاکل عزيز، القرينة في اللغة العربية: 268.

تقوية الحكم: يفيد التقديم أحياناً تقوية الحكم، وذلك عند تقديم المسند

إليه، نحو قوله تعالى:

«وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ » [المؤمنون: 59].

فقد ذكر الضمير «هم» ثم كرره من خلال الفاعل في الفعل «یشرکون»، فيفيد التأكيد في نفي الإشراك عنهم، وإذا قال: «والذين لا يشركون بربهم أو : بربهم لا يشركون، لم يفد ذلك»(1).

الأسباب النفسية:

غالباً ما ينتج التغيير في الترتيب السياقي من مكون نفسي ف «مجرد تغيير موضع الكلمة عن المعتاد يُشير إلى غرض ما في نفس المتكلّم فيستطيع أن يُعبّر عن الأفكار المهمة بوضعها في المقدمة سواء أكان الأهم فعلا أم فاعلا أم مفعولا أم ظرفا» (2)، وهذا ناتج عن طبيعة التجربة الشعورية ومدى تعلقها بالأبعاد النفسية؛ إذ تثير انفعالا مبايناً للانفعال الذي يريده المتكلّم في نفس المتلقي، ومن ثمَّ إيصال المعنى المراد إليه؛ لغرض إثارته ومن ثم استمرار تواصله(3) ومن المعاني النفسية التي يُعبر عنها: هي «الشكُّ، التشوق، التلذذ، الدهشة، وغيرها».

غالباً ما تتعالق قرينة الرتبة مع القرائن الأُخر؛ لتحديد المعنى النّصي، ولاسيما القرائن اللفظية، وفي مقدمتها قرينة التضام؛ لكون الترتيب مفتقراً

ص: 151


1- الجرجاني، دلائل الإعجاز: 138.
2- کولیزار کاکل عزيز، القرينة في اللغة العربية : 273.
3- ظ: مجيد عبد الهادي ناجي، الأسس النفسية للبلاغة العربية: 130.

للتضام، ومن ثم يكون تابعاً له، وعليه فالرتبة «فرع على التضام بمعناه العام، إذ لا رتبة لغير متضامين»(1)، فهي علاقة نحوية بين جزأين مرتبين من أجزاء السياق تخضع لمطالب أمن اللبس، فيدل موقع كل منهما من الآخر على معناه الوظيفي أو الباب النحوي الذي ينتمي إليه(2)؛ إذ يكون أحدهما مفتقراً إلى الآخر نحو (الصلة و الموصول، أو الصفة والموصوف وغيرها) ؛ فلا يجوز تقدیم الصلة على الاسم الموصول، أو تقديم الاسم المجرور على حرف الجر، وقد قرر النحاة منع تقديم الحال على صاحبها المجرور بحرف الجر، فلم يجيزوا قول القائل «مررتُ واقفا برجلٍ». ويرى (الرضي) إن كان صاحب الحال مجروراً فإنّ الجرَّ معه بالإضافة إليه لم يتقدم الحال عليه اتفاقا سواء كانت الإضافة محضة أو لا، لأنَّ الحال تابعٌ وفرعٌ لذي الحال، ومثله المضاف إليه لا يتقدم على المضاف، فلا يتقدم تابعه أيضاً (3)، ما يعني مدى تعالقهما في أداء المعنى، إذ يتوقف أداء المعنى المراد على الترتيب والتضام.

ص: 152


1- تمام حسان، اللغة العربية معناها ومبناها: 210.
2- ظ: م. ن: 208، 2009.
3- ظ: الرضي، شرح الرضي على الكافية: 2/ 30.

المبحث الثاني: العدول عن أصل الرتبة وأثره في المعنى النّصّي

اشارة

العدول لغة:من الفعل عدلَ، عدلَ عن الشيء يَعدِلُ عَدلاً وعُدولاً حاد عنه، وعن الطريق جار وعَدَلَ إليه عُدُولاً رجع وما لَه مَعِدلٌ ولا مَعدولٌ أي مَصرِفٌ وعَدَلَ الطريقُ مال، وعَدَلَ الفحل عن الطريق أو الضرّاب ترکه وانصرف إلى غيره (1)، فالعدول يعني الحياد والانصراف والميل عن الأصل.

أمّا الاصطلاح: فيعني الخروج عن اللغة النفعية إلى اللغة الإبداعية (2) بحسب ما عرّفهُ المحدثون من النقّاد والأسلوبيين المعاصرين، وهذا لا يبتعد عن المعنى اللغوي و لا يبتعد مفهومه ودلالته عن العلماء القدماء والمحدثين(3)

ص: 153


1- ظ: ابن منظور، لسان العرب، 11/ 430، مادة (عدل)، و: مجد الدين بن يعقوب الفيروز آبادي، قاموس المحيط، 3/ 131، مادة (العدل).
2- ظ: محمد عبد المطلب، البلاغة والأسلوبية: 268.
3- فمن أوائل من أشار إليه هو (سیبویه)، فقد عقد فيه باباً بعنوان «باب ما جاء معدولاً عن حده من المؤنث کما جاء المذكر معدولاً عن حده »، وهذا الباب جاء في المطابقة، ففي العدول عن المذكر إلى المؤنث قال: «هذا باب تسمية المذكر بالمؤنث: أعلم أن كلّ مذكر سميته مؤنث على أربعة = =أحرف فصاعداً لم ينصرف وذلك أنّ أصل المذكر عندهم أن يُسمى بالمذكر وهو شكله والذي يلائمه، فلمّا عدلوا عنه ما هو له في الأصل وجاؤوا بما لا يلائمه، لم يكن منه فعلوا ذلك به کما فعلوا ذلك بسميتهم إياه بالمذكر، وتركوا صرفه کما تركوا صرف الأعجمي فمن ذلك: عناق وعقرب وعقاب و عنکبوت وأشباه ذلك» سیبویه، الكتاب: 3/ 235، فمن سمى مذكراً بهذه الأسماء لا تُصرف؛ لأنّها عُدلت عن الأصل، فأصلها للتأنيث والتأنيث لا يُصرف و كلُّ ما يُعامل معاملة المؤنث فانّه ممنوع من الصرف، ظ: سیبویه، الكتاب: 3/ 235-237. وقد وظّف (أبو بكر الباقلاني (ت 430)» مصطلح العدول في بعض التراكيب، فقد عدل عن صيغة الفاعل إلى صيغة فعّال للدلالة على كثرة المعنى وذلك على وجوه منها المبالغة في الصيغة المبنية لذلك، كقولك: رحمن عدل عن راحم للمبالغة، ظ: إعجاز القرآن الكريم: 273، وهذا العدول على مستوى البنية الصيغ الكلمات، هذا بالنسبة للنحو والصرف. أما على مستوى البلاغة، فقد استعمل «الجرجاني» «ت(471)ه» مصطلح «العدول» في حديثه عن الكلام الفصيح، إذ يقول: «وأعلم أنّ الكلام الفصيح ينقسم قسمين: قسمٌ تُعزَى المزيَّة والحسنُ فيه إلى اللفظ وقسمٌ يعزى ذلك فيه إلى النّظم، فالقسم الأول: «الكناية» و«الاستعارة» و«التمثيل الكائن على حدّ الاستعارة» وكل ما كان فيه، على الجملة، مجازاً واتساع وعدول باللفظ عن الظاهر، فما ضربٍ من هذه الضرُّوب إلَّا وهو إذ وقع على الصّواب و على ما ينبغي، أوجب الفضل والمزية» الجرجاني، دلائل الإعجاز: 460، 429.

وإن تعددت تسمياته، فإنّ التعدد في التسميات يرجع إلى سبب اتساع دلالته ؛ إذ أنَّهُ يشمل معظم مستويات اللغة، فقد يكسر القواعد اللغوية الموضوعة ، أو يخرج عن الخط المألوف للغة أو يبتكر صيغاً وأساليب جديدة أو يستبدل تعبيرات جديدة ليست شائعة بأخرى قديمة، أو يقيم نوعاً من الترابط بين لفظين أو أكثر، أو يستعمل لفظاً في غير ما وضع له(1).

لقد تمثلّت ظاهرة «العدول لدى المحدثين في التجدد والقدرة في الكفاية اللغوية المفضيين إلى الإبداع الفني بالخروج من التراكيب والألفاظ المطردة

ص: 154


1- ظ: عبد الحميد يوسف الهنداوي، الإعجاز الصرفي في القرآن الكريم: 191141- 143، 162.

المعروفة إلى أخرى أكثر تصويراً للأمر، وتأثيراً في النفس؛ أي لغرض تحقيق الإبداع الفني والتواصل النّصي والإقناع والتأثير والتفنن في الأساليب، يؤكد ذلك (عبد الحميد الهنداوي) بقوله: «إنَّ الخروج على الطرق المتعارفة في التعبير معیب اجتماعياً ولكَّنه مقبول إذا كان له غرض فني، ولذلك لا يقبل عليه إلّا أديبٌ متمكن، كما كان القدماء يقولون: إنَّ العربي الفصيح إذا قوي طبعهُ لم يُبال أن يقع الشذوذ في شيء من كلامهِ»(1)، فكلُّ شيء يُخالف الشائع والمتداول هو أكثر إثارةً وفهماً للمتلقي من الفهم المألوف (2).

وعلى الرغم من تحديد دلالة «العدول «إلّا أنّنا نجد تسمياته متعددة في بادئ

الأمر، وهذا يرجع إلى اضطراب الترجمة، فقد جمع (عبد السلام المسدِّي) بعض تسمياته في الدراسة الحديثة منها: (الانحراف، الانزياح، الانتهاك، التجاوز، المخالفة، اللحن، الاختلال، خرق السنن، التحريف وغيرها)(3).

فالنّصّ يعدّ وحدة منتظمة ومتماسكة تّعبر عن معنی کُلِّي، والوصول إليه - المعنى الكلِّي - يتطلب ترتیب «الأفكار ونظم الأجزاء مثل العقد، يُراعى فيه الانسجام والاتساق، والالتحام تعاقباً وترابطاً، وذلك يحتاج إلى ملكة مالكة وقدرة بارعة وذكاء لمّاح»(4)، وهذا الترتيب غالباً ما يرتكز على العدول عن

ص: 155


1- م.ن: 143.
2- ظ: تمام حسان، الأصول دراسة ایستيمولوجية للفكر العربي: 139، 238.
3- ظ: عبد السلام المسدّي، الأسلوبية والأسلوب: 164- 165، وكتابه الأصول دراسة ابستيمولوجية للفكر العربي: 121 و مابعدها، و: عبد الحميد هنداوي، الإعجاز الصرفي في القرآن الكريم : 143 وما بعدها، وغيرها من المصادر الحديثة .
4- أحمد عبد الستار الجواري، نحو المعاني: 94.

الأصل، والخروج عنه يشترط وضوح المعنى والذي يُسميه (تمام حسان) وقد سبق أنفاً ب«الترخص» المتمثل بتضافر القرائن الأُخر للحفاظ على المعنى(1)، فيستغنی حينها عن دور الرتبة المحفوظة، نحو قولك: «البيت دخلتُ إليه»، فتمثل وجود قرينة الربط بالضمير، والمطابقة بالنوع والعدد، و بهذا التضافر حفظ معنى الجملة وتماسكها.

وعليه فالعدول لا يمس الأصول والفروع (2)، إنّما يكون لغرض اقتضاه السياق في بعض النصوص کالاعتماد على الاعتبارات البلاغية والمعنوية، منها التقديم والتأخير، وشرط «جواز العدول عن الأصل من هذه الأصول أنّ يؤمن اللبس فتتحقق الفائدة، ومن هنا لا يكون.. التقديم والتأخير إلّا مع وضوح المعنى وحيث لا تكون الرتبة واجبة الحفظ »(3).

والتقديم والتأخير إمّا أن يكون بحسب الأصل أو بالعدول عن الأصل للعناية والاهتمام (4)، فقد أوضح (الجرجاني) ضربين «للتقديم والتأخير»،

ص: 156


1- ظ: تمام حسان، العربية معناها ومبناها: 237، 236.
2- فتفضيل العدول من الأصول إلى الفروع «إرادة أمن اللبس الذي قد يكون مع الاستصحاب، فالمبدأ العام في اللغة العربية (وفي اللغات الأخرى كذلك) هو ما عبر عنه ( ابن مالك) بقوله: «وإن بشكل خيف لبس یُجتنب «مثال ذلك أنّ القاعدة الأصلية تجعل المبتدأ متقدما على الخبر ولكن يحدث أحياناً أن يشتمل المبتدأ على ضمير يعود على لفظ يشتمل عليه الخبر، فلو استصحبنا هذا الأصل لعاد الضمير على متأخر لفظاً ورتبة ولأدي ذلك إلى اللبس عندئذ يعدل عن هذا الأصل إلى القاعدة الفرعية، وهي قاعدة تقديم الخبر»، تمام حسان، الأصول دراسة ابستمولوجية للفكر العربي: 135، فالاعتبارات البلاغية هي السبب الأول في العدول عن الأصل إلى الفرع.
3- تمام حسان، الأصول دراسة ابستمولوجية للفكر العربي: 122.
4- ظ: فاضل السامرائي، الجملة العربية والمعنى: 58.

الأول: التقديم على نية التأخير وهذا مجال بحثي - «الرتبة غير المحفوظة»، والثاني: التقديم لا على نية التأخير، وقد بين -(الجرجاني)- الأول «التقديم على نية التأخير»، بقوله: «وأعلم أنَّ تقديم الشيء على وجهين: تقديم يُقال له إنّه على نيِّة التأخير، وذلك في كلِّ شيء أقررته مع التقديم على حكمه الذي كان عليه، وفي جنسه الذي كان فيه، كخبر المبتدأ إذا قدمته ...، أو المفعول إذا قدَّمته على الفاعل، كقولك: «منطلق زيدٌ»، و «ضرب عمرا زیدٌ»، فمعلوم أنَّ «منطلق» و عمرا» لم يخرجا بالتقديم عمّا كانا عليه من كون هذا خبر للمبتدأ، ومرفوعاً بذلك، وكونِ ذلك مفعولاً ومنصوباً من أجله، كما يكونُ إذا أخرَّت»(1)؛ فاللبس فيه مأمون؛ إذ لا تداخل فيه للمعاني، فلم يكن سياقه مجرد ترتیب الفاظ وإنّما إدخالها في تركيب سیاقي مؤتلف الدلالة و محدد المعني.

صور التقديم والتأخير في الرتبة غير المحفوظة:

أوّلاً- التقديم الاسمي: إنَّ الأصل المعهود عند أغلب النحاة تقديم المبتدأ أو مافي رتبته على الخبر؛ لأسباب منها عدّ المبتدأ هو الموصوف والخبر هو وصف له، وكذلك كون المبتدأ محكوماً عليه والخبر هو الحكم (2)، ولكن

ص: 157


1- الجرجاني، دلائل الإعجاز: 106.
2- لقد طُرحت أسباب وأوصاف تُبرر حفظ رتبة المبتدأ بتقدمه على الخبر، منها ما عدّ بأنّ المبتدأ هو المحكوم والخبر هو الحكم، ومن ثم فلابد أن يسبق الحكم وجود المحكوم، هذا ما أكده (الرضي) بقوله: «إنّما كان أصل المبتدأ التقديم لأنّه محكوم عليه ولابد من وجوده قبل الحكم، فقصد في اللفظ أيضاً أن يكون ذكره قبل ذكر الحكم عليه»، شرح الرضي على الكافية: 1/ 229، وكذلك ما قيل بأنّ الخبر هو وصف للمبتدأ من ناحية المعني، ومن ثم فلابد من تأخر الوصف عن الموصوف، يقول (ابن عقیل) بهذا الشأن: «الأصل تقديم المبتدأ وتأخير الخبر؛ لأنّ الخبر وصف في المعنى للمبتدأ فاستحق التأخير کالوصف»، شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك: 1/ 227.

قد يحدث أن يتقدم الخبر على المبتدأ ؛ لتحقيق فائدة بلاغية أو معنوية، مع مراعاة سياق الحال والمقال، ما يولد أثراً واضحاً في تحقيق الاتساق والانسجام داخل مكونات الوحدة النصية، ومن ثمَّ التأثير البالغ في نفس المتلقي، وهذا ما يبتغيه المتكلم، فيرى أحد الباحثين أنَّ العدول يتوافق والنفس الإنسانية؛ إذ يقول: «التغيير في الترتيب أمرٌ طبيعي؛ لأنَّ الكلام يعبّر عن نفس إنسانية تختلج فيها الانفعالات والمشاعر وتخضع لأحاسيس شتى مما يضطرها إلى تأكيد أجزاء من الجملة بتقديمها، أو تشويق السامع إلى أجزاء متممة قطع ذكره لها»(1). فالتقديم والتأخير يُعد أداة أسلوبية غالباً ما يتكئ عليها المتكلّم بغية إظهار المعاني الدلالية بحسب ترتيبها في نفسه وشدة انتباه المتلقي والتأثير فيه عن طريق تحريك حسّه الفني وعواطفه(2). ويمكن إظهار صور التقدم الاسمي للخبر، ودلالاته وأغراضه، عن طريق تحليل النصوص الحربية المتضمنة لأثره، وهي على ما يأتي:

تقديم الخبر شبه الجملة: من أهم أغراض تقديم شبه الجملة وهو «الجار

والمجرور أو الظرف» هو الاختصاص والحصر(3).

تقديم الجار والمجرور: ومواضعه كثيرة في الخطب الحربية - منها

قوله (علیه السّلام) في ذكر بعض الملاحم:

«أَلَا بِأَبِي وَ أُمِّي هُمْ مِنْ عِدَّةٍ، أَسْمَاؤُهُمْ فِي اَلسَّمَاءِ مَعْرُوفَةٌ وَ فِي اَلْأَرْضِ مَجْهُولَةٌ،

ص: 158


1- سناء حميد البياتي، قواعد النحو العربي في ضوء نظرية النظم: 388.
2- ظ: سناء حميد البياتي، قواعد النحو العربي في ضوء نظرية النظم: 388، و: الإعجاز الصرفي في القرآن الكريم: 143.
3- ظ: فاضل السامرائي، معاني النحو: 1/ 140.

أَلَا فَتَوَقَّعُوا مَا يَكُونُ مِنْ إِدْبَارِ أُمُورِكُمْ وَ اِنْقِطَاعِ وُصَلِكُمْ وَ اِسْتِعْمَالِ صِغَارِكُمْ ذَاكَ حَيْثُ تَكُونُ ضَرْبَةُ اَلسَّيْفِ عَلَى اَلْمُؤْمِنِ أَهْوَنَ مِنَ اَلدِّرْهَمِ مِنْ حِلِّهِ ذَاكَ حَيْثُ يَكُونُ اَلْمُعْطَى أَعْظَمَ أَجْراً مِنَ اَلْمُعْطِي !»(1)

يتحدّث الإمام (علیه السّلام) عن فضل «فئة معينة» تأتي بعده، لهم درجات عند ربهم ومغفرةٌ، أمّا عند الناس فهم من المنسيين، فجرى عليهم من الظلم والجور في غابر الأزمان ما جرى، وقد استهل المتكلم الحديث عنهم بإفدائهم بأبيه وأمه، فتقدّم فيها الخبر، المتمثل بالجار والمجرور «بِأبيِ وأُمِّي» (2)، على الضمير العائد عليهم «هُم» مبتدأ مؤخر؛ لأنَّ «هم» وما بعدها كلام مستأنف متضمن جواباً السؤال ذهني يدور في ذهن المتلقي، يقول: «من هم الذين تفدیهم؟ » فجاء الجواب صادراً: «هم الذين ...»، ما يدل دلالةً واضحةً على فضلهم وشرفهم، فنجد أنَّ المتكلم قد عدل عن ذكر أسمائهم للمتلقين، واكتفى بالإشارة إليهم بضمير الجمع الغائب «هم»؛ لبعدهم الزمني عن المتلقين في أثناء الخطاب، متضمنا ذلك استحضاراً لهم، ومن ثم أنّ التوجيه كان عاماً لم يقتصر على المتلقي في وقت إيراد الكلام، وإنّما يشمل زمن الموصوفين، فجاء الضمير «هم» ؛ ليعكس سترهم وخفاءهم عن أهل الأرض- وسيتضح لاحقاً- ما يدفع المتلقي إلى التشويق لمعرفة صفاتهم المعنوية، وهذا ما يبتغيه المتكلّم، ومن ثم أنّه - المتكلّم - لم يقتصر على تقديمهم بالرتبة في سياق الكلام، وإنّما استهل حديثه بالفدية وقدّم ذكرهم ووصفهم زمانياً، ما يؤكد على مكانتهم السماوية.

ص: 159


1- نهج البلاغة: 277، خطبة : 187.
2- ظ: الخوئي، منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة: 11/ 143، و: محمد جواد مغنية، في ظلال نهج البلاغة: 3/ 80.

يستمر المتكلّم في التعريف بهم ووصفهم عن طريق العدول عن الأصل بتقديم الخبر المتمثّل بالجار والمجرور «فِي السَّماءِ» على المبتدأ «مَعرُوفَةٌ» ؛ لقصر معرفتهم على أهل السماء، دون غيرهم، فهم «من أشخاص معدودة معروفة أسماؤهم في السماء مشهورة عند الملائكة المقربين و في الملأ الأعلى، لعلوّ درجاتهم وسمّو مقاماتهم ... أعرف بهم من أهل الأرض»(1)؛ لذا عدل عن أصل الرتبة، فلو قال: «مَعرُوفَةٌ أسماؤهم فِي السَّماء» لما تضمن حصر المعرفة على أهل السماء ، وإنّما يقتصر على فضلهم لمعرفة أهل السماء بهم، أمّا الأول - التركيب الأول - فقد اشتمل على الحصر والفضل، فهذا التعقيد التركيبي في يحمل مضامين عميقة الدلالة.

ويأتي العطف ب«الواو»؛ ليزيد الأمر إيضاحا واتساقاً في رسم الصورة المعنوية لهذه الفئة المعدودة «وَفِي الأرضِ مَجهُولَةٌ»، فمعرفة هؤلاء كانت مقتصرة

على أهل السماء دون أهل الأرض؛ لاستيلاء الضلال على الناس فصار حاجباً لهم عن الفئة المفضلة عند الله، وأضيف إليه سبب آخر هو غلبة الجهل عن أهل الأرض؛ لذا استتر ذكرهم الاسمي عن أهل الأرض، وهذا لا ينافي معرفة الخواص لهم و إن كانوا أيضا لا يعرفونهم حقّ معرفتهم»(2).

ولم يكتفِ المتكلّم بهذا التعقيد التركيبي المعمق في دلالته (3)، فعقد تقابلاً دلالياً بين عناصر النّصِّي اللغوية، فمعروفة هي مقابلة «السماء» ب«الأرض»، وما تحمله من مكامن، جاءت لفظة «مَعرُوفَةٌ» نكرة؛ لتدل على ذلك القدر

ص: 160


1- الخوئي، منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة: 11/ 143.
2- الخوئي، منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة: 11/ 144.
3- يمكن الوقوف على التعقيد التركيبي عن طريق الرجوع إلى إعراب النّصِّ.

العظيم لهذه الزمرة من عند الله، يقابله لفظة «مَجهُولَةٌ» وما تحمله دلالة بنية الكلمة ومعناها، فتنكيرها ومن ثمَّ تأخيرها؛ يدل دلالة واضحة على نكرانهم وغفلتهم عن هذه الزمرة الطاهرة، عن طريق الاستهلال التوضيحي الممدوح للفئة الموصوفة، انتقل المتكلم في باقي حديثه ليذم جهل من جهلهم محذراً إياهم نتيجة هذا الجهل وتشتيت الآراء وتنافر الأرحام وتفضيل الصغار على الكبار؛ فيؤدي ذلك إلى نشر الظلم والفساد.. الخ، نحو قوله: « أَلَا فَتَوَقَّعُوا مَا يَكُونُ مِنْ إِدْبَارِ أُمُورِكُمْ، وَ اِنْقِطَاعِ وُصَلِكُمْ، وَ اِسْتِعْمَالِ صِغَارِكُمْ: ذَاكَ حَيْثُ تَكُونُ ضَرْبَةُ اَلسَّيْفِ عَلَى اَلْمُؤْمِنِ أَهْوَنَ مِنَ اَلدِّرْهَمِ مِنْ حِلِّهِ!...» فعلاقة الجزء الأول بالأخير علاقة تراتبية، ترتيب السبب على المسبب، فضلا عن أنّ علاقة التقديم السياقي والزماني متعالقة ومترابطة؛ إذ قدّم - الفئة الأولى، وهي التي ستأتي في المستقبل على الأخرى وهم المعاصرون؛ لإغراء المتلقي وتشويقه عن طريق تفضيلها وتشريفها، وأولئك هم أهل الآخرة، وذم الأخرى وتحذيرها.

وتكثرُ مواضع الجار والمجرور - في الخطب - تتنوع تبعاً لذلك دلالاته

السياقية، من ذلك ما جاء متعجباً به من أفعال الأعداء، يقول(علیه السّلام) :

«فَإِنْ أَبَوْا أَعْطَیتُهُمْ حَدَّ السَّیفِ، وَ کفَی بِهِ شَافِیاً مِنَ الْبَاطِلِ، وَ نَاصِراً لِلْحَقِّ! وَ مِنَ الْعَجَبِ بَعْثُهُمْ إِلَی أَنْ أَبْرُزَ لِلطِّعَانِ! وَ أَنْ أَصْبِرَ لِلْجِلَادِ !هَبِلَتْهُمُ الْهَبُولُ! لَقَدْ کنْتُ وَ مَا أُهَدَّدُ بِالْحَرْبِ، وَ لَا أُرْهَبُ بِالضَّرْبِ! وَ إِنِّی لَعَلَی یقِینٍ مِنْ رَبِّی، وَ غَیرِ شُبْهَةٍ مِنْ دِینِی.»(1)..

لقد قدّم المتكلّم الخبر «مِنَ الْعَجَبِ» على المبتدأ «بَعْثُهُمْ»، متعجباً من

ص: 161


1- نهج البلاغة: 64، خطبة: 22.

تهديدهم له بالحرب مع علمهم بشجاعته وصلابته في الحروب «مِنَ الْعَجَبِ بَعْثُهُمْ إِلَی أَنْ أَبْرُزَ لِلطِّعَانِ!وَ أَنْ أَصْبِرَ لِلْجِلَادِ»، فلم يقتصر التعجب على الإشارة السياقية، وإنّما تعدى ذلك إلى اللفظ بذكر لفظ «الْعَجَبِ» المعرّف ب«ال» : للدلالة على شدة تعجّبه منهم، وقد مثّل سياق التعجب في الوحدة النّصّية محل استهزاء منهم، ولعل السبب في هذا الترتيب التركيبي هو تضمنه دلالات متنوعة، وفي مقدمتها التصوّر الانفعالي لذات المتكلّم، وموقفه تجاه المتلقي وفعله التصوّري للأحداث، فهذا يعقد تواصلاً انفعالياً بينهما، ومن ثمَّ يفرض على المتلقي فهم تلك الصورة الحسية وفكّ شفرتها.

وتأكيداً على ذلك فقد أردف ذلك بالدعاء عليهم بالشكل: «هَبِلَتْهُمُ الْهَبُولُ !»(1))، ومن ثمَّ وصف نفسه وعلاقته بالحرب سابقاً؛ تذكيراً لهم «لَقَدْ کنْتُ وَ مَا أُهَدَّدُ بِالْحَرْبِ، وَ لَا أُرْهَبُ بِالضَّرْبِ!»، وقد أشهد الله تعالى على ذلك «وَ إِنِّی لَعَلَی یقِینٍ مِنْ رَبِّی، وَ غَیرِ شُبْهَةٍ مِنْ دِینِی.»؛ للتأكيد على قوته و شجاعته، ومن ثمَّ تنبيه المتلقين بأنَّه على بينةٍ من الله وبصيرة في متابعته على القتال والحرب(2). فهذا التصوّر التراتبي للأحداث المخبر عنها جاء متلاحماً وموقف المتلقي الغافل لها- الأحداث الواقعية المتعلقة بالمتكلّم-، والأحداث

ص: 162


1- أي ثكلتهم الثواكل وهي كلمات تدعو بها العرب، ظ: ابن میثم البحراني، شرح نهج البلاغة : 1/ 408.
2- ظ: ابن میثم البحراني، شرح نهج البلاغة: 408/1 ، قال الشيخ محمد عبده: «بيّن الإمام في الجمل الأخيرة انه خلق للحرب، فهو لا يهابها من طبعه، ثم ازداد إقداما عليها، لأنه على يقين من ربه في حقه، و إنّه ما اعترته شبهة قط في دينه، فكيف يهدد أو يرهب من حاله كذلك» محمد جواد مغنية، في ظلال القرآن: 4/ 187.

تجلّت في قوله (علیه السّلام) «بَعْثُهُمْ إِلَی أَنْ أَبْرُزَ لِلطِّعَانِ!» وهو سابق زمني وواقعي لقوله: «وَ أَنْ أَصْبِرَ لِلْجِلَادِ »؛ لأنَّ البراز أسبق للصبر، ومثل ذلك في قوله(علیه السّلام) : «وَ مَا أُهَدَّدُ بِالْحَرْبِ»، وهو حدث يسبق قوله: « وَ لَا أُرْهَبُ بِالضَّرْبِ»؛ لأنَّ التهديد بالحرب يقع قبل المقاتلة ونشوء الضرب فيها.

ومن ذلك قوله(علیه السّلام) في كلام موجه لبعض أصحابه بصفين، وقد سأله: كيف دفعكم قومكم عن هذا المقام وأنتم أحق به ؟ فقال(علیه السّلام) :

«یَا أَخَا؟بَنِی أَسَدٍ؟ إِنَّکَ لَقَلِقُ الْوَضِینِ، تُرْسِلُ فِی غَیْرِ سَدَدٍ، وَ لَکَ بَعْدُ ذِمَامَهُ الصِّهْرِ وَ حَقُّ الْمَسْأَلَهِ، وَ قَدِ اسْتَعْلَمْتَ فَاعْلَمْ: أَمَّا الاِسْتِبْدَادُ عَلَیْنَا بِهَذَا الْمَقَامِ وَ نَحْنُ الْأَعْلَوْنَ نَسَباً ،وَ الْأَشَدُّونَ بِالرَّسُولِ نَوْطاً- فَإِنَّهَا کَانَتْ أَثَرَهً شَحَّتْ عَلَیْهَا نُفُوسُ قَوْمٍ، وَ سَخَتْ عَنْهَا نُفُوسُ آخَرِینَ، وَ الْحَکَمُ اللَّهُ وَ الْمَعْوَدُ إِلَیْهِ یَوْمُ الْقِیَامَهِ»(1).

لقد مثّل النّصُّ جواباً للمتلقي، وهذه أولى درجات التماسك والانسجام في ذهن المتلقي؛ لتفاعل الطرفين فيما بينهما، وقد استهل المتكلّم جوابه بالاعتراض عليه لعدم مناسبة السؤال وسياق المقام، «إِنَّکَ لَقَلِقُ الْوَضِینِ(2)، تُرْسِلُ فِی غَیْرِ سَدَدٍ»، أي إنّك توجّه أسئلتك وكلامك في غير موضعهما، وتسأل مثل هذا الأمر الذي لا يمكن التصريح فيه بمخّ الحقّ بمجمع النّاس، أو يحتاج إلىتفصيل الجواب في مقام لا يسع لذلك (3)، فكان الخطاب خاصاً وموجّهاً للسائل لا يشمل أحداً غيره، يدل عليه صيغة الخطاب وما تشتمل

ص: 163


1- نهج البلاغة: 231، خطبة : 162.
2- لوَضين: بطان يشد به الرحل على البعير كالحزام للسرج، فإذا قلق واضطرب اضطرب الرحل فكثر تململ الجمل وقلّ ثباته في سيره نهج البلاغة: 633.
3- ظ: الخوئي، منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة: 10/5.

عليه من ضمائر الخطاب ( «إنَّ +كَ، تُ+رسلُ، وَلَ+، استَعلَم +تَ، فَأعلَم + أنت» أسلوب النداء «یَا أخَا بني أسَد»)، وتقديم كلّ من الجار والمجرور

لَك والظرف «بَعدَ» على المبتدأ» ذِمامَةُ الصِّهرِ»، ما يدل على اهتمام المتكلّم وعنايته بالمتلقي على الرغم من عدم مناسبة سؤاله وسياق المقام، فأجابه المتكلّم استعطافاً واستلطافاً، «وَلَكَ بَعدُ ذِمَامَةُ الصِّهِر، وَ حَقُّ المسأَلَةِ » ؛ لصلة القرابة أولاً، وحقّ السؤال، فساق الدليل على أحقية الإجابة مما يتلاءم وأخلاق المتكلم وسؤددهِ .

ومن ثم تصدي المتكلّم للإجابة باستغلال الغاصبين لمقامهم، وتفردهم به، ويكفي من هذا شرف النسب وشدة علاقتهم بالرسول « أَمَّا الاِسْتِبْدَادُ عَلَیْنَا بِهَذَا الْمَقَامِ وَ نَحْنُ الْأَعْلَوْنَ نَسَباً، وَ الْأَشَدُّونَ بِالرَّسُولِ نَوْطاً-» فما زال المتكلّم في إطار الإجابة للمتلقي، إلّا أنّه قد انتقل من الخطاب الخاص إلى العام، فقد دلّ الظرف المقدّم على المبتدأ «بَعدُ» على التوسع بالإجابة، فجعله جزأين، مثّل الجزء الأول من الإجابة الاعتراض والزجر لعدم ملاءمة السياق، ومثّل هذا الجزء الإجابة العلمية، وقد تماسكا بقوة تجمعهما وحدة السؤال والخطاب، الفرق بينهما كون الأول خاصاً والثاني عاماً، وقد جعله عميق الدلالة منسجم المعنى ومفتوحاً أمام كلّ متلقٍ.

ومما جاء في النهج قوله (علیه السّلام) به طلحة والزبير بعد بيعته بالخلافة وقد عتبا من ترك مشورتهما، والاستعانة في الأمور بهما:

«لَقَدْ نَقَمْتُمَا یَسِیراً، وَ أَرْجَأْتُمَا کَثِیراً، أَ لاَ تُخْبِرَانِی، أَیُّ شَیْءٍ لَکُمَا فِیهِ حَقٌّ دَفَعْتُکُمَا عَنْهُ؟ وَ أَیُّ قَسْمٍ اسْتَأْثَرْتُ عَلَیْکُمَا بِهِ؟ أَمْ أَیُّ حَقٍّ رَفَعَهُ إِلَیَّ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِینَ

ص: 164

ضَعُفْتُ عَنْهُ أَمْ جَهِلْتُهُ أَمْ أَخْطَأْتُ بَابَهُ؟!(1).

جاء تقديم الخبر المتمثّل بشبه الجملة (الجار والمجرور) «لَکُمَا»، في سياق الاستفهام الإنكاري، إنكاراً منه - المتكلّم واستفساراً عن الحقّ الذي ينقم به

طلحة والزبير، وتأخر المبتدأ «حَقٌّ» عن الخبر؛ كونه معروفاً وراسخاً في ذهن المتلقي، فأراد المتكلّم عن طريقه - التقديم والتأخير - تقديم طلبهم المجهول، المتمثّل بتجاهلهما لمصلحة المسلمين العامة، وتغليب المصلحة الخاصة عليها والمتمثلة بالولاية، فلم يخرج السياق النّصّي عن دلالته الإنكارية؛ لسيطرة الاستفهام عليه، فضلاً عن العطف ب«الواو، وأم»، « وَ أَیُّ قَسْمٍ اسْتَأْثَرْتُ عَلَیْکُمَا بِهِ؟، أَمْ أَیُّ حَقٍّ رَفَعَهُ إِلَیَّ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِینَ- ضَعُفْتُ عَنْهُ؟ أَمْ جَهِلْتُهُ، أَمْ أَخْطَأْتُ بَابَهُ؟.»، وكلُّ ذلك أسهم في رسم الصورة المبتغاة واضحةً في ذهن المتلقي.

تقدیم خبر كان وأخواتها على اسمها: وهذا العدول له معاني وأغراض لانجدها في حال التأخير، من ذلك ما جاء مقدماً في سياق «كان» قوله (علیه السّلام) يبيّن فيه سبب طلبه الحكم ويصف الإمام الحقّ:

«وَ قَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّهُ لاَ یَنْبَغِی أَنْ یَکُونَ الْوَالِی عَلَی الْفُرُوجِ وَ الدِّمَاءِ وَ الْمَغَانِمِ وَ الْأَحْکَامِ- وَ إِمَامَهِ الْمُسْلِمِینَ الْبَخِیلُ، فَتَکُونَ فِی أَمْوَالِهِمْ نَهْمَتُهُ، وَ لاَ الْجَاهِلُ فَیُضِلَّهُمْ بِجَهْلِهِ، وَ لاَ الْجَافِی فَیَقْطَعَهُمْ بِجَفَائِهِ، وَ لاَ الْحَائِفُ لِلدُّوَلِ فَیَتَّخِذَ قَوْماً دُونَ قَوْمٍ، وَ لاَ الْمُرْتَشِی فِی الْحُکْمِ- فَیَذْهَبَ بِالْحُقُوقِ- وَ یَقِفَ بِهَا دُونَ الْمَقَاطِعِ، وَ لاَ الْمُعَطِّلُ لِلسُّنَّهِ فَیُهْلِکَ الْأُمَّهَ »(2).

ص: 165


1- نهج البلاغة: 321، خطبة: 205.
2- نهج البلاغة: 189، خطبة: 137.

لقد عدل المتكلّم عن الأصل بتقديم خبر «كان» ؛ لتحقيق الغرض المعنوي والمعنون للخطبة، ألا وهو، «الْوَالِی عَلَی الْفُرُوجِ...) وما عُطف عليه «وَ الدِّمَاءِ وَ الْمَغَانِمِ وَ الْأَحْکَامِ- وَ إِمَامَهِ الْمُسْلِمِینَ»على اسم كان « الْبَخِیلُ، فَتَکُونَ فِی أَمْوَالِهِمْ نَهْمَتُهُ...» وما عُطف عليه، «وَ لاَ الْجَاهِلُ فَیُضِلَّهُمْ بِجَهْلِهِ، وَ لاَ الْجَافِی فَیَقْطَعَهُمْ بِجَفَائِهِ، وَ لاَ الْحَائِفُ لِلدُّوَلِ فَیَتَّخِذَ قَوْماً دُونَ قَوْمٍ، وَ لاَ الْمُرْتَشِی فِی الْحُکْمِ- فَیَذْهَبَ بِالْحُقُوقِ- وَ یَقِفَ بِهَا دُونَ الْمَقَاطِعِ، وَ لاَ الْمُعَطِّلُ لِلسُّنَّهِ فَیُهْلِکَ الْأُمَّهَ »» فهذه التوسعة المفصلة ب«اسم كان» تتطلب تأخيره عن الخبر، لأمن اللبس وإن توسع الأخير إلّا أنّ الاسم وما حمله من شروط معللة قد أوصل الصورة متسقةً ومقنعةً عند المتلقي؛ لإزالة الشوائب عن ذهنه، فمقصد المتكلّم أنَّه يريد أن ينفي عن «البخيل، الجاهل...» حالة يكون فيها والياً، ولا يريد أن ينفي عن الوالي أن يكون بخيلاً، فستبعد عن البخيل احتمالية أن يكون والياً؛ لكون الوالي قد يستشعره «البخل، الجبن..»، لكن من يوصف بتلك الصفة كان إلزاماً أن يستبعد عن الحكم، فهذا العدول الأفقي(1) قد ميّز بين الصياغتين، كما أنَّ تعريف الخبر «الوالَي» هي مزیَّة أخرى له، وإلّا فلا احتيج لتعريفه، ويزيد الأمر إيضاحاً هو ما عُطف عليه والتي قد أخذت مواقعها الإعرابية، فلم يترك للمتلقي أيّة فجوةٍ للسؤال عن شروط «الوالي الحقِّ»، وبذا يصل مقصد المتكلّم في تقريع المتلقي وتذكيره

ص: 166


1- قد يسأل سائل إذا كان هذا عدولاً أفقياً كيف يكون العدول العمودي؟ يمكن الإجابة على ذلك من قولنا أنّ هناك بعض العناصر اللغوية قد أدت اتساقاً عمودياً مثل الإحالة واعتقد هذه مزیّتها، وكذا العدول العمودي فيها يحصل بالإحالة كالعدول من الضمائر البدالة على الحضور إلى أخرى دالّة على الغياب، كما جاء ذلك في استحضار الغائبين في خطبة ليلة الهرير ...، في الفصل الثالث، المبحث الأول: الربط بالإحالة: 137، وما بعدها.

بصفات الوالي المفترض توافرها فيه. و من ذلك قوله(علیه السّلام) : في صفة من يتصدّى للحكم بين الأمة وليس لذلك بأَهل «إلَی اللَّهِ أَشْکُو مِنْ مَعْشَرٍ یَعِیشُونَ جُهَّالًا، وَ یَمُوتُونَ ضُلَّالًا، لَیْسَ فِیهِمْ سِلْعَهٌ أَبْوَرُ مِنْ کِتَابِ اللَّهِ إِذَا تُلِیَ حَقَّ تِلَاوَتِهِ، وَ لَا سِلْعَهٌ أَنْفَقُ بَیْعاً وَ لَا أَغْلَی ثَمَناً مِنْهُ إِذَا حُرِّفَ عَنْ مَوَاضِعِهِ، وَ لَا عِنْدَهُمْ أَنْکَرُ مِنَ الْمَعْرُوفِ وَ لَا أَعْرَفُ مِنَ الْمُنْکَرِ!»(1).

لقد وصل حال النّاس من الجهل والضلال الذي دفع الإمام(علیه السّلام) إلى رفع شكواه إلى الله تعالى تذمراً منهم وتضجراً، ولاسيما فيما يخصُّ موقفهم تجاه کتاب الله تعالى، فرسم صورةً متسقةً مترابطة في ذهن المتلقي عن طريق تقديم خبر لیس «لَیْسَ فِیهِمْ» على اسمها «سِلْعَهٌ» التي دلّت على ملازمة صفة الجهل والضلال عندهم، حتى وصل أمر ذلك إلى كتاب الله تعالى، الذي أصبحت تلاوتهُ أبور سلعة، وأنفق سلعة في حال التحريف؛ لملاءمته وأغراضهم ومقاصدهم المظلمة، « لَیْسَ فِیهِمْ سِلْعَهٌ أَبْوَرُ مِنْ کِتَابِ اللَّهِ إِذَا تُلِیَ حَقَّ تِلَاوَتِهِ، وَ لَا سِلْعَهٌ أَنْفَقُ بَیْعاً وَ لَا أَغْلَی ثَمَناً مِنْهُ إِذَا حُرِّفَ عَنْ مَوَاضِعِهِ» إذ لا نجد هذه الصورة في حال التأخير، مثلاً فلو قال: «لَیْسَ سِلْعَهٌ أَبْوَرُفِیهِمْ مِنْ کِتَابِ» لما بان هدف المتكلّم في تصوير الأمر، ولما دلّت على ملازمة الصفة لهم.

ولم يقتصر اتساق الصورة المبتغاة على هذا التقديم، وإنّما هناك دعامات أُخر ک« تقديم الجار والمجرور» على الفعل، «إلَی اللَّهِ أَشْکُو مِنْ مَعْشَرٍ یَعِیشُونَ جُهَّالًا»، وتكرار العطف ب«الواو» في سياق تقديم خبر ليس على اسمها، « وَ لَا سِلْعَهٌ أَنْفَقُ بَیْعاً وَ لَا أَغْلَی ثَمَناً مِنْهُ إِذَا حُرِّفَ عَنْ مَوَاضِعِهِ، وَ لَا عِنْدَهُمْ

ص: 167


1- نهج البلاغة: 60، خطبة: 17.

أَنْکَرُ مِنَ الْمَعْرُوفِ وَ لَا أَعْرَفُ مِنَ الْمُنْکَر» ، متضمنا حرف النفي «لا»؛ لتأكيد النفي في مدى ابتعادهم عن نور الحق، وتأكيد مدى انغراسهم في ظلام الجهل وأعماق الباطل، ومن كلِّ ذلك تظهر دلالة السياق النّصّي؛ لأنّه استند على دعامتين هما التقديم والتأخير والعطف في السياق المقالي.

ومن ذلك أيضاً قوله (علیه السّلام) بعد التحكيم، لما بلغه من أمر الحكمين:

«الْحَمْدُ للَّهِ ِ وَإِنْ أَتَی الدَّهْرُ بِالْخَطْبِ الْفَادِحِ، وَالْحَدَثِ الْجَلِیلِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلّا اللَّهُ ، لَیْسَ مَعَهُ إِلَهٌ غَیْرُهُ وَأَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صلی الله علیه وآله....»(1).

انَّ دلالة السياق النّصِّي في الخطاب أعلاه تدور حول وحدانية الله، وقلق المتكلّم؛ فالثناء هنا لم يقتصر على السّراء وإنّما شمل حتى الضراء، «الْحَمْدُ للَّهِ ِ وَإِنْ أَتَی الدَّهْرُ بِالْخَطْبِ الْفَادِحِ، وَالْحَدَثِ الْجَلِیلِ»، وهذا هو مقصد المتكلّم هنا الذي عبّر عن قلقهِ واضطرابه، ما يدلُّ على أنّ أمراً عظيماً قد حلَّ بأتباعه نتيجة لفعل الحكمين، ما أدى إلى انشقاق صفوف المسلمين(2)، وجاء بالعطف ب «الواو»؛ ليؤكّد على شعور الانسان بوجود الله تعالى وقت الضراء، فيُفضي ذلك إلى توحيد الله تعالى دون غيره، «وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلّا اللَّهُ ، لَیْسَ مَعَهُ إِلَهٌ غَیْرُهُ» على اسمها «إِلَهٌ»، فجاء العدول عن الأصل - مترتباً بعد الحمد والثناء عن طريق التقديم والتأخير في سياق النفي؛ للتأكيد على توحيد الله تعالى، فخضوع المتكلّم منسجم ونفسيته القلقة.

فقد سبق آنفاً أنّ الخبر دائماً يكون هو المحمول، أي يحمل ما هو جديد (3)،

ص: 168


1- نهج البلاغة: 79، خطبة : 35.
2- للاستزادة أكثر، ظ: ابن میثم البحراني، شرح نهج البلاغة: 2/ 85.
3- لقد سبق بيان ذلك في التضام النحوي: 43، وما بعدها.

وهذا غالباً ما يتطلب التفصيل؛ لتوضيح أمرٍ ما، وقد يُفضي ذلك العدول عن أصل الرتبة تقديم الخبر لكونه استفهاماً: لتحقيق أغراض ومقاصد دلالية وبلاغية

تتلاءم وطبيعة السياق من ذلك قوله(علیه السّلام) يومئ فيها إلى ذكر الملاحم:

«ألاَ وَفِي غَدٍ وَسَيَأتِي غَدٌ بِمَا لاَ تَعْرفُونَ يَأخُذُ الْوَالِي مِنْ غَيْرهَا عُمَّالَهَا عَلَى مَسَاوي أعْمَالِهَا وَتُخْرجُ لَهُ الأرْضُ أفَالِيذَ كَبِدِهَا، وَتُلْقِي إِلَيْهِ سِلْماً مَقَالِيدَهَا فَيُريكُمْ كَيْفَ عَدْلُ السَّيرَةِ»(1).

الإمام(علیه السّلام) یخبر عما يجري عن آخر الزمان، فهو خطاب مفتوح الدلالة أمام كلِّ متلقٍ على مرِّ الأزمنة، والوالي هنا إشارة إلى الإمام المنتظر (علیه السّلام)، الذي يؤاخذهم بذنوبهم، وتُخرج الأرض الكنوز و الخزائن الخفية (2)، «يَأخُذُ الْوَالِي مِنْ غَيْرهَا عُمَّالَهَا عَلَى مَسَاوي أعْمَالِهَا وَتُخْرجُ لَهُ الأرْضُ أفَالِيذَ كَبِدِهَا، وَتُلْقِي إِلَيْهِ سِلْماً مَقَالِيدَهَا»، وهذا السياق الإخباري قد مثّل جواب لسؤال يدور في ذهن المتلقي عن عدل الإمام في آخر الزمان «فَيُريكُمْ كَيْفَ عَدْلُ السَّيرَةِ»»؛ أي يُري المتلقي السائل، فتقدّم فيها الخبر المتمثّل بالاستفهام «كَيْفَ» على المبتدأ «عَدْلُ السَّيرَةِ»، فأداة الاستفهام قد فرضت نفسها في التقديم وهذا ناتج من مزيتها في الصدارة في الكلام، هذا بالنسبة لرتبته اللفظية . أمّا مضمونه الدلالي فقد تقدّم جلياً على الاستفهام؛ لإثارة حفيظة المتلقي في معرفة ما تقدّم؛ لأنَّه لم يكن جواباً مباشراً وإنّما جاء ضمن مراحل إخبارية(3)، و أنَّ جواب المتكلّم

ص: 169


1- نهج البلاغة: 196، خطبة : 138.
2- للتفصيل، ظ: ابن میثم البحراني، شرح نهج البلاغة : 3/ 161، 160.
3- ظ: بقية أجزاء الخطبة في نهج البلاغة: 196، 197.

لم يكن مقتصراً على سؤال المتلقي وإنّما أعطاه صورة متسقة وواضحة عما یُرید، ما يؤدي إلى غلق فجوات أمام المتلقي، وتقوية وسيلة الاتصال بينهما، وقد استعاض المتكلّم عن ذكره - الإمام المنتظر - ببعض الألفاظ والضمائر المستترة «غَدٌ بِمَا لاَ تَعْرفُونَ، الْوَالِي إِلَيْهِ فَيُريكُمْ»؛ تعظيماً لشأنه وربما يكون لخفائه عن أعين الناظرين أيضاً.

صور أخر في التقديم الاسمي:

هناك صور أُخر في التقديم الاسمي غير تقديم الخبر؛ لتحقيق أغراض دلالية وسياقية لا يمكن تحقيقها في حال التأخر، كجودة السبك التي يقتضيها السياق ويستدعيها المقام، فينبغي ترتيب «الألفاظ ترتیب صحيحاً، فتُقدّم منها ما كان يحسن تقديمه وتؤخِّر منها ما كان يحسن تأخيره؛ ولا تُقدِّم منها ما يكون التأخير به أحسن، ولا تؤخِّر منها ما يكون التقديم به أليق»(1)، ما يؤدي إلى تشکیل وحدة نّصية منسجمة و متسقة، ك«تقديم شبه الجملة على المفعول به، أو تقديم المفعول به الثاني على الأول، وغيرها»، ويمكن تمثيلها كالآتي:

تقديم الجار والمجرور على المفعول به : لتحقيق دلالات معينة في الوحدة النّصيّة، من ذلك قوله(علیه السّلام) في بعض أيام صفين وقد رأى الحسن (علیه السّلام) يتسرع إلى الحرب:

«امْلِکُوا عَنِّی هَذَا الْغُلاَمَ لاَ یَهُدَّنِی- فَإِنَّنِی أَنْفَسُ بِهَذَیْنِ یَعْنِی ؟الْحَسَنَ؟ وَالْحُسَیْنَ (علیهما السّلام)- عَلَی الْمَوْتِ لِئَلاَّ یَنْقَطِعَ بِهِمَا نَسْلُ رَسُولِ اللَّهِ(صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )»(2).

ص: 170


1- أبو هلال العسكري، کتاب الصناعتين: 157. هذا ينصرف على الترتيب بصورة عامة من دون تخصیص.
2- نهج البلاغة: 323، خطبة: 207.

يطلب الإمام (علیه السّلام) من المتلقي الإسراع في منع الإمام الحسن (علیه السّلام) من المشاركة في الحرب، ما يدلُّ على أهمية الأمر، فالإمام يُقدّم الدليل لذلك فَإِنَّنِی أَنْفَسُ بِهَذَیْنِ یَعْنِی ؟الْحَسَنَ؟ وَالْحُسَیْنَ (علیهما السّلام)- عَلَی الْمَوْتِ لِئَلاَّ یَنْقَطِعَ بِهِمَا نَسْلُ رَسُولِ اللَّهِ(صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )» (1) وعليه جاء تقديم الجار والمجرور «عنِّي»، على المفعول به وتابعه» هذَا الغُلَامَ»، وهذا الذي تطلّب سرعة إجابة المتلقي، ما يدلّ على انسجام الفكرة لديه ومن ثم أدى إلى تفاعلهِ مع المتكلّم أشدُّ التفاعل.

تقديم المفعول الثاني على الأول: من ذلك قوله (علیه السّلام) بصفين في

بیان حق الوالي وحق الرعية:

«ثُمَّ جَعَلَ سُبْحَانَهُ مِنْ حُقُوقِهِ حُقُوقاً افْتَرَضَهَا لِبَعْضِ النَّاسِ عَلَی بَعْضٍ، فَجَعَلَهَا تَتَکافَأُ فِی وُجُوهِهَا، وَ یوجِبُ بعض ها بَعْضاً، وَ لَا یسْتَوْجَبُ بعض ها إِلَّا بِبَعْضٍ.

وَ أَعْظَمُ مَا افْتَرَضَ سُبْحَانَهُ مِنْ تِلْک الْحُقُوقِ حَقُّ الْوَالِی عَلَی الرَّعِیةِ، وَ حَقُّ الرَّعِیةِ، عَلَی الْوَالِی، فَرِیضَةٌ فرض ها اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِکلٍّ عَلَی کلٍّ، فَجَعَلَهَا نِظَاماً لِأُلْفَتِهِمْ، وَ عِزّاً لِدِینِهِمْ، فَلَیسَتْ تَصْلُحُ الرَّعِیةُ إِلَّا بِصَلَاحِ الْوُلَاةِ، وَ لَا تَصْلُحُ الْوُلَاةُ إِلَّا بِاسْتِقَامَةِ الرَّعِیةِ» (2).

ص: 171


1- ف« الحسن و الحسين هما ابنا رسول الله شرعا لا عرفا» محمد جواد مغنية، في ظلال نهج البلاغة : 3/ 235، وذلك لقوله تعالى: « فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ » [61 آل عمران] ، و ما دعا النبي «أحدا من الأبناء غير الحسن و الحسين، و من النساء غير فاطمة، و ما كان من الأنفس إلا هو و الإمام علي (علیه السّلام) باتفاق المفسرين. و قال»، : «كل ولد آدم فإن عصبتهم لأبيهم خلا ولد فاطمة، فإني أنا أبوهم و عصبتهم» محمد جواد مغنية، في ظلال نهج البلاغة : 3/ 235.
2- نهج البلاغة: 333، خطبة : 216.

إنَّ النّصِّ المتقدم كان جلياً في بيان حقوق الوالي وحقوق الرعية، واضعاً شروط كلّ منهما في أداء الحقِّ متضمناً سياق ذلك معنى التوبيخ؛ لقلة الإنصاف عندهم، فقدّم المفعول به الثاني المتمثل بالجار والمجرور «مِن حُقُوقِهِ» على الأول «حُقُوقاً افْتَرَضَهَا لِبَعْضِ النَّاسِ عَلَی بَعْضٍ، فَجَعَلَهَا تَتَکافَأُ فِی وُجُوهِهَا، وَ یوجِبُ بعض ها بَعْضاً، وَ لَا یسْتَوْجَبُ بعض ها إِلَّا بِبَعْضٍ....»؛ لغرض التفصيل، كون المفعول به الأول تتعلق به قضایا تفصيلية موسّعة متعلقة بحقوق الناس، منها

حقّ الوالي و حقّ الرعية وما يتعلق بها من شروط، «مِنْ تِلْک الْحُقُوقِ حَقُّ الْوَالِی عَلَی الرَّعِیةِ، وَ حَقُّ الرَّعِیةِ، عَلَی الْوَالِی، فَرِیضَةٌ فرض ها اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِکلٍّ عَلَی کلٍّ، فَجَعَلَهَا نِظَاماً لِأُلْفَتِهِمْ، وَ عِزّاً لِدِینِهِمْ، فَلَیسَتْ تَصْلُحُ الرَّعِیةُ إِلَّا بِصَلَاحِ الْوُلَاةِ، وَ لَا تَصْلُحُ الْوُلَاةُ إِلَّا بِاسْتِقَامَةِ الرَّعِیةِ»، فتكافأ هذه الحقوق المتعالقة بعضها ببعض سبباً للألفة والمحبة وعزاً للدين، فهذا التفصيل المبسط هو الداعي للعدول عن أصل رتبتها؛ لأخذ الحرية في تفصيلها - الحقوق- وبيانها من دون التقيّد بما بعدها والتأثير فيه - المفعول الثاني -، أي إبعاداً للشوائب والالتباس على المتلقي، ومن ثَمَّ جذب انتباهه وتشوّقه على معرفة تلك الحقوق، وهذا ما يبتغيه المتكلّم.

تقدیم خبر إنَّ على اسمها: من ذلك قوله(علیه السّلام) في حضّ أصحابه على القتال :

«أَجْزَأَ امْرُؤٌ قِرْنَهُ وَ آسَی أَخَاهُ بِنَفْسِهِ، وَ لَمْ یَکِلْ قِرْنَهُ إِلَی أَخِیهِ- فَیَجْتَمِعَ عَلَیْهِ قِرْنُهُ وَ قِرْنُ أَخِیهِ. وَ ایْمُ اللَّهِ لَئِنْ فَرَرْتُمْ مِنْ سَیْفِ الْعَاجِلَهِ، لاَ تَسْلَمُوا مِنْ سَیْفِ الْآخِرَهِ، وَ أَنْتُمْ لَهَامِیمُ الْعَرَبِ، وَ السَّنَامُ الْأَعْظَمُ، إِنَّ فِی الْفِرَارِ مَوْجِدَهَ اللَّهِ، وَ الذُّلَّ اللاَّزِمَ، وَ الْعَارَ الْبَاقِیَ، وَ إِنَّ الْفَارَّ لَغَیْرُ مَزِیدٍ فِی عُمُرِهِ، وَ لاَ مَحْجُوزٍ بَیْنَهُ وَ بَیْنَ یَوْمِهِ »(1).

ص: 172


1- نهج البلاغة: 181، خطبة: 124.

يتمثل الخطاب المباشر بالترغيب والترهيب، خلال النصح والإرشاد حول القتال وقد تحدّث هذا الجزء المقتطع تحديداً عن الفرار ومعايبه، فقد تسلسل بمراحل الفرار بدءاً من الاعتماد على أخيه في مقاتلة قرنه؛ إذ يجتمع على أخيه قرنان، « أَجْزَأَ امْرُؤٌ قِرْنَهُ، وَ آسَی أَخَاهُ بِنَفْسِهِ، وَ لَمْ یَکِلْ قِرْنَهُ إِلَی أَخِیهِ فَیَجْتَمِعَ عَلَیْهِ قِرْنُهُ وَ قِرْنُ أَخِیهِ »، فالفرار لا يُزيد من عمره شيئاً؛ لأنّه لا يحجزه أو ينجيه من الموت، نحو قوله تعالى:

«قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا » [الأحزاب: 16]

ولإبعاد الملل عن المتلقي نجد أنّ المتكلّم لم يستمر في سياق خطابه على وتيرة واحدة، وإنّما ظلَّ يتنقل بين الترهيب تارةً والترغيب تارةً أخرى؛ لجذب المتلقي واستحضاره الذهني؛ فقد انتقل من التحذير والتخويف إلى التذكير والتشجيع، « وَ أَنْتُمْ لَهَامِیمُ الْعَرَبِ، وَ السَّنَامُ الْأَعْظَمُ-» إذ ذكّرهم بأنّ الفرار لا يتناسب وشجاعتكم وعلو مرتبتكم.

لقد أكد العمق الدلالي في كلامه بأمور لغويّة عدة تجلّت في السياق النّصي، منها ما جاء واضحاً كالدعامتين التركيبيتين، الأولى تمثلّث بالقسم «وَ ایْمُ اللَّهِ لَئِنْ فَرَرْتُمْ مِنْ سَیْفِ الْعَاجِلَهِ، لاَ تَسْلَمُوا مِنْ سَیْفِ الْآخِرَهِ»، والدعامة التركيبية الأخرى هي: «إِنَّ فِی الْفِرَارِ مَوْجِدَهَ اللَّهِ وَ الذُّلَّ اللاَّزِمَ وَ الْعَارَ الْبَاقِیَ»، فقد أكد قُبح الفرار عن طريق «إنَّ» المؤكِدة وتقديم خبرها المتمثّل بالجار والمجرور «فِی الْفِرَار» على اسمها «مَوْجِدَهَ اللَّهِ» ؛ لشدّ ذهن المتلقي، وردم الفجوات التي تُشتت ذهنه - المتلقي - فضلاً عن ذلك فقد جاء اسمها متعدداً البيان معایب الفرار كغضب الله تعالى وعقابه واستلزامه - الفرار -

ص: 173

الذلّ والعار المورّث في الأعقاب «وَ الذُّلَّ اللاَّزِمَ وَ الْعَارَ الْبَاقِیَ»، فالمتكلّم بذكره التعليل المتسق مع وحدته الجزئية لكلّ جزء من أجزاء الوحدة الخطابية الكبرى المتعالقة، يؤدي إلى الترابط النصّي، ومن ثم يعكس هيمنة التتابع المفهومي والتعالق الدلالي، و يُضفي على النّصِّ صفة الحيوية والاستمرارية ؛ إذ لم يقتصر التوجيه على من كان معه في ساحة المعركة وإنّما امتد أثره ليشمل كلّ مجاهد في سوح الحرب، في كلِّ زمان ومكان، وعليه فالالتزام بهذه الأمور تحقق النصر والمؤزر والرضا الإلهي(1).

ومن ذلك أيضاً قوله (علیه السّلام) في تهديده لبني أُميّة:

«..أَلاَ إِنَّ لِکُلِّ دَم ثَائِراً، وَلَکُلِّ حَقٍّ طَالِباً، وَإِنَّ الثَّائِرَ فِی دِمَائِنَا کَالْحَاکِمِ فی حَقِّ نَفْسِهِ، وَهُوَ اللهُ الَّذِی لاَ یُعْجِزُهُ مَنْ طَلَبَ، وَلاَ یَفُوتُهُ مَنْ هَرَبَ. فَأُقْسِمُ بِاللهِ، یَا بَنِی أُمَیَّهَ، عَمَّا قَلِیلٍ لَتَعْرِفُنَّهَا فِی أَیْدِی غَیْرِکُمْ وَفِی دَارِ عَدُوِّکُمْ! أَلَا إِنَّ أَبْصَرَ الأبْصَارِ مَا نَفَذَ فِی الْخَیْرِ طَرْفُهُ! أَلَا إِنَّ أَسْمَعَ الأَسْمَاعِ مَا وَعَی التَّذْکِیرَ وَقَبِلَهُ!» . !...»(2).

لقد تقدّم خبر «إنّ» المتمثّل بالجار والمجرور « لِکُلِّ دَم» على اسمها «ثَائِراً» ؛ كونه مِثّل القاعدة المجملة العامة «أَلاَ إِنَّ لِکُلِّ دَم ثَائِراً»، وما أُجمل غالباً ما يتقدم على التفصيل، وتابعه في ذلك المعطوف، «وَلَکُلِّ حَقٍّ طَالِباً »؛ لإشراكهِ ضمن تلك القاعدة وتكميله لها، فقد مثّل ذلك الاستهلال الموضح دلالة ما اتبعه من تفصيل، وهذا يعكس مدى انسجامه والتفصيل من ناحيتي المفهوم والمنطوق،

ص: 174


1- لقد سبق أنفاً بیان نصائح المجاهدين في ساحة المعركة في هامش المبحث الأول من الفصل الأول «التضام النحوي»: 34.
2- نهج البلاغة: 151، خطبة: 105.

فقد أنذرهم بأنَّ الله تعالى هو الثائر لكلِّ دم معصوم والطالب به إن عُدِمَ

طالبه أو ضَعُفَ، ولمّا كان دم مثلهم(علیهم السّلام) ... يجري مجرى الحقّ الثابت المتعارف لله في كونه يطلب به ولا يهمله وهو الحاكم المطلق»(1)، ومن ثم وصفه تعالى بأنّه «لاَ یُعْجِزُهُ مَنْ طَلَبَ، وَلاَ یَفُوتُهُ مَنْ هَرَبَ» في معرض التهديد لهم بأخذهِ وقوّتهِ(2)، وعليه فهذه الكليات والوصف يعود لمرجع واحد هو «اللهُ «تعالى، قد شوّق - المتكلّمُ - المتلقي لمعرفته، و من ثم تخويفه منه تعالى.

ثانياً - التقديم الفعلي: إنَّ العلاقة التلازمية بين العناصر الاسمية والفعلية - في السياق النّصّي- قد تقتضي عدولاً عن أصل ترتيبها - تقديماً أو تأخيراً - لتحقيق مقاصد دلالية مخصصة وأغراض أسلوبية يبتغيها المتكلّم تتسق مع السياق النّصّي بنوعيها المقالي أو المقامي، والذي سبق بيانه آنفاً عن طريق التقدم الاسمي عن طريق صوره ودلالاته المتنوعة، وتكتمل الصورة من طریق بیان صور التقدم الفعلي، وهي كالآتي:

تقدیم شبه الجملة على متعلقها الفعلي: قد تتقدم شبه الجملة على الفعل الذي تعلقت بهِ في الجملة الفعلية في سياقات متنوعة لكلِّ سیاق دلالاته ومقاصده

ص: 175


1- ابن میثم البحراني، شرح نهج البلاغة: 3/ 26.
2- ظ: ابن میثم البحراني: 3/ 26، وقد حذرهم بأنّ ما في أيديكم من أمارة سينتقل إلى عدوكم بني العباس» مؤكداً ذلك بالقسم بالله تعالى «فَأُقْسِمُ بِاللهِ، یَا بَنِی أُمَیَّهَ، عَمَّا قَلِیلٍ لَتَعْرِفُنَّهَا فِی أَیْدِی غَیْرِکُمْ وَفِی دَارِ عَدُوِّکُمْ!»، وقد نبه المتلقي على الأخذ بالفائدة المطلوبة من البصر والسماع، والمتمثّلة بالكمالات النفسيّة في العلوم والأخلاق، وعليه تحصل سعادة الفكر الباقية والخير الدائم وعلى قبول الوعظ والتذكر. فهذه الخطبة طويلة تضمنت مجموعة من الدلالات السياقية العميقة والمنسجمة والوحدة النّصية، للتفصيل في بقية أجزاء الخطبة، ظ: نهج البلاغة: 151، وما بعدها، و: ابن میثم البحراني، شرح نهج البلاغة : 3/ 26.

الخاصة، وهذه من الرتب غير المحفوظة في اللسان العربي؛ إذ تُجوّز قوانين العربية أن يتحرك المتعلق أُفقياً تقديماً وتأخيراً نتيجة التفاعل الذهني الداخلي للمتكلّم؛ لأغراض إبداعية تُضفي على النّصِّ صفة التواصل والحيوية، ومن ثمَّ تؤدي إلى تنوع الناتج الدلالي للنسق اللغوي، وتوافقه مع الحركة الصياغية أفقياً، وهذا يتناسب مع وظيفتها اللغوية لا البلاغية(1)، وهي كالآتي:

الجار والمجرور: تکثر مواضع وجود التركيبية أو السياقية في خطب الحروب للإمام (علیه السّلام)؛ لمناسبته وسياق المقال أو المقام، من ذلك قوله(علیه السّلام) في إثارة أصحابه لنصرته على الأعداء:

«أَنْتُمُ الأَنْصَارُ عَلَی الْحَقِّ، وَالإِخُوَانُ فی الدِّینِ، وَالْجُنَنُ یَوْمَ الْبَأْسِ، وَالْبِطَانَهُ دُونَ النَّاسِ، بِکُمْ أَضْرِبُ الْمُدْبِرَ،وَأَرْجُو طَاعَهَ الْمُقْبِلِ، فَأَعِینُونی بِمُنَاصَحَه خَلِیَّه مِنَ

الْغِشِّ، سَلِیمَه مِنَ الرَّیْبِ؛ فَوَاللهِ إِنِّی لأَوْلَی النَّاسِ بِالنَّاسِ. !»(2).

النّصّ في سياق المدح والتشجيع؛ إذ يُذكّرهم المتكلّم بصفاتهم الحسنة؛

تشجيعاً لهم لنصرته على الأعداء، فقدم الجار والمجرور «بکُم» على التركيب الفعلي «أَضْرِبُ الْمُدْبِرَ»، وتابعه العطفي «وَأَرْجُو طَاعَهَ الْمُقْبِلِ»، فبعد هذه المقدمة المدحية التي استهلها لتهيئة أذهانهم إثارتهم لما يأتي، ما يدل على أهمية الأمر،٫ فقد طلب منهم- من طريق «الفاء» الطلبية - العون في المناصحة صادقة سليمة من الغش، «فَأَعِینُونی بِمُنَاصَحَه خَلِیَّه مِنَ

الْغِشِّ» ، لأنّه أكد ذلك عن طريق القسم البار أنّه أولى من غيره بالإمامة «َوَاللهِ إِنِّی لأَوْلَی النَّاسِ

ص: 176


1- ظ: محمد أحمد عبد المطلب، البلاغة العربية قراءة أخرى: 237
2- نهج البلاغة: 151، خطبة: 118.

بِالنَّاسِ.» فانسجم ذلك التقديم وسياق المقام، وهذا هو مقصد المتكلّم(1).

ومن ذلك قوله(علیه السّلام) وقد جمع الناس وحضّهم على الجهاد، فسكتوا ملياً، فقال : مَا بَالُكُم أمُخرَسُونَ أنتُم ؟ فقال قوم منهم: «يا أمير المؤمنين، إن سرتَ سرنا معک». فقال(علیه السّلام) :

« مَا بَالُكُمْ! لاَ سُدِّدْتُمْ لِرُشْدٍ! وَ لاَ هُدِيتُمْ لِقَصْدٍ! أَفِي مِثْلِ هَذَا يَنْبَغِي لِي أَنْ أَخْرُجَ وَ إِنَّمَا يَخْرُجُ فِي مِثْلِ هَذَا رَجُلٌ مِمَّنْ أَرْضَاهُ مِنْ شُجْعَانِكُمْ وَ ذَوِي بَأْسِكُمْ وَ لاَ يَنْبَغِي لِي أَنْ أَدَعَ اَلْجُنْدَ، وَ اَلْمِصْرَ ،وَ بَيْتَ اَلْمَالِ، وَ جِبَايَةَ اَلْأَرْضِ وَ اَلْقَضَاءَ بَيْنَ اَلْمُسْلِمِينَ وَ اَلنَّظَرَ فِي حُقُوقِ اَلْمُطَالِبِينَ ثُمَّ أَخْرُجَ فِي كَتِيبَةٍ أَتْبَعُ أُخْرَى أَتَقَلْقَلُ تَقَلْقُلَ اَلْقِدْحِ فِي اَلْجَفِيرِ اَلْفَارِغِ وَ إِنَّمَا أَنَا قُطْبُ اَلرَّحَا تَدُورُ عَلَيَّ وَ أَنَا بِمَكَانِي فَإِذَا فَارَقْتُهُ اِسْتَحَارَ مَدَارُهَا وَ اِضْطَرَبَ ثِفَالُهَا هَذَا لَعَمْرُ اَللَّهِ اَلرَّأْيُ اَلسُّوءُ.»(2).

لقد جاء التقديم والتأخير في سياق الاستفهام على سبيل الإنكار والدعاء على حالهم القبيحة، وتوبيخهم لتثاقلهم في الخروج للحرب إلّا بصحبته، فقدّم الجاروالمجرور «في مِثلِ هذَا» على فعله «يَنْبَغِي» ؛ ليدل على استهزائه من طلبهم هذا، فهي لصغرها لا تتلاءم وقيادته للحروب الكبرى، و لا تقتضي تركه أمور الدولة المترتبة عليه بالترتيب الوارد من التجنيد و بیت المال وغيرها، والخروج من كتيبة إلى أخرى وترك شجعانكم تتقلقل، فإنّ ذلك سيحوّل حركة عمله من الحركة الدائرية إلى المستقيمة «إِنَّمَا يَخْرُجُ فِي مِثْلِ هَذَا رَجُلٌ مِمَّنْ أَرْضَاهُ مِنْ شُجْعَانِكُمْ وَ ذَوِي بَأْسِكُمْ وَ لاَ يَنْبَغِي لِي أَنْ أَدَعَ اَلْجُنْدَ، وَ اَلْمِصْرَ ،وَ بَيْتَ اَلْمَالِ،

ص: 177


1- لقد تم تحليل هذا النّصّ مفصلاً في فصل الأول: مبحث الأول التضام النحوي: 45، وما بعدها.
2- نهج البلاغة: 175، خطبة : 119.

وَ جِبَايَةَ اَلْأَرْضِ وَ اَلْقَضَاءَ بَيْنَ اَلْمُسْلِمِينَ وَ اَلنَّظَرَ فِي حُقُوقِ اَلْمُطَالِبِينَ ثُمَّ أَخْرُجَ فِي كَتِيبَةٍ أَتْبَعُ أُخْرَى أَتَقَلْقَلُ تَقَلْقُلَ اَلْقِدْحِ فِي اَلْجَفِيرِ اَلْفَارِغِ»، فاعتاد التقديم والتأخير هنا يُفضي إلى حركة دلالية قوامها توضيح الحقيقة المتجاهلة عند المتلقين والمتمثلة في بيان دوره القيادي وتقريبه لأذهانهم، و سعيه لإيصالهم إلى حقيقة الأمر وبيان وجه المفسدة في رأيهم، و يؤكد ذلك اختتامه التوجيه الخطابي بالقسم البار «هَذَا لَعَمْرُ اَللَّهِ اَلرَّأْيُ اَلسُّوءُ.»» المتسق وطبيعة السياق النّصّي.

تقديم الظرف على الفعل: من ذلك قوله(علیه السّلام) في التحكيم وذمّ أصحابه :

«مَا أَنْتُمْ بِوَثِیقَهٍ یُعْلَقُ بِهَا، وَ لاَ زَوَافِرَ عِزٍّ یُعْتَصَمُ إِلَیْهَا، لَبِئْسَ حُشَّاشُ نَارِ الْحَرْبِ أَنْتُمْ! أُفٍّ لَکُمْ! لَقَدْ لَقِیتُ مِنْکُمْ بَرْحاً، یَوْماً أُنَادِیکُمْ وَ یَوْماً أُنَاجِیکُمْ، فَلاَ أَحْرَارُ صِدْقٍ عِنْدَ النِّدَاءِ، وَ لاَ إِخْوَانُ ثِقَهٍ عِنْدَ النَّجَاءِ !»(1).

لقد رسم المتكلّم صورة معنوية للمتلقين تُعبّر عن عتابه لهم وتضجره منهم لقلّة طاعته، ما يُثير انتباه المتلقين؛ لتعلق الأمر بهم، فعمد إلى تقديم الظرف المكرر عن طريق العطف ب«الواو» الأول «یَوْماً» على الفعل «أُنَادِیکُمْ»، والثاني

«وَ یَوْماً» على الفعل «أُنَاجِیکُمْ»، ما يدل دلالة واضحة على شدّة تضجره منهم وتذمره نتيجة لعدم استجابتهم لندائه ونجوتهِ، فتكراره ل «يوماً» تؤكد أنّ دعوته تارة تكون علنية، وتارة أخرى تكون سرية؛ لذا نجد أنّ المتكلّم قد نفى عنهم الصدق المحيل على النداء والثقة المحيلة على النجوة، يقول: «فَلاَ أَحْرَارُ صِدْقٍ عِنْدَ النِّدَاءِ، وَ لاَ إِخْوَانُ ثِقَهٍ عِنْدَ النَّجَاءِ !»»، ما يؤدي إلى تلاحم الدلالة واتساقها مع وحدة النّصِّ.

ص: 178


1- نهج البلاغة: 183، خطبة: 125.

تقديم المسند إليه على المسند الفعلي(1): وهذا يكثر في السياقات النّصّية، وتتنوّع تبعاً لذلك مقاصده الدلالية، وأغراضه الأسلوبية، من ذلك قوله(علیه السّلام) :

«فَلَمْ آتِ لَا أَبَا لَکُمْ بُجْراً ،وَ لَا خَتَلْتُکُمْ عَنْ أَمْرِکُمْ، وَ لَا لَبَّسْتُهُ عَلَیْکُمْ، وَ إِنَّمَا اجْتَمَعَ رَأْیُ مَلَئِکُمْ عَلَی اخْتِیَارِ رَجُلَیْنِ، أَخَذْنَا عَلَیْهِمَا أَنْ لَا یَتَعَدَّیَا الْقُرْآنَ، فَتَاهَا عَنْهُ، وَ تَرَکَا الْحَقَّ وَ هُمَا یُبْصِرَانِهِ، وَ کَانَ الْجَوْرُ هَوَاهُمَا فَمَضَیَا عَلَیْهِ، وَ قَدْ سَبَقَ اسْتِثْنَاؤُنَا عَلَیْهِمَا فِی الْحُکُومَهِ بِالْعَدْلِ، وَ الصَّمْدِ لِلْحَقِّ سُوءَ رَأْیِهِمَا، وَ جَوْرَ حُکْمِهِمَا.»(2).

لقد تقدّم المسند إليه «هُمَا» على المسند الفعلي «یُبْصِرَانِهِ»، في سياق الحديث عن الحكمين، ونقضهما الشروط المتفق عليها، فالضمير في «یُبْصِرَانِهِ» محيل على «الحق» أحد الشرائط المتفق عليها «وَ تَرَکَا الْحَقَّ وَ هُمَا یُبْصِرَانِهِ»؛ للتأكيد على ترکها العمل به على رغم من علمهما بأحكام القرآن، وهذا الإخبار عنهما كان معلوماً عند المتلقي، وسوقه هنا؛ تذكيراً للمتلقي، وتنشيطاً لذهنه؛ لبيان نتيجة نقضهما الشرائط المتمثلة بوجوب مخالفتهما وهي نتيجة مفهومية «وَ کَانَ الْجَوْرُ هَوَاهُمَا فَمَضَیَا عَلَیْهِ، وَ قَدْ سَبَقَ اسْتِثْنَاؤُنَا عَلَیْهِمَا فِی الْحُکُومَهِ بِالْعَدْلِ، وَ الصَّمْدِ

ص: 179


1- کما معلوم أنّ البنية التركيبية تتكون من المسند إليه والمسند، والجملةالاسمية عادة تبدأ باسم في حين تبدأ الجملة الفعلية بالفعل، لكن قد يتقدّم المسند إليه في الجملة الفعلية ليتحقق المقصد الدلالي الذي لا يمكن أن يؤديه التأخير، كأنّ يكون للتخصيص، يقول الجرجاني في ذلك: «أن يكون الفعل فعلاً قد أردت أن تنصُّ فيه على واحدٍ فتجعله لهُ وتزعم أنَّهُ فاعلهُ دون واحد آخر أو دون كل أحدٍ ومثال ذلك أن تقول: «أنا كتبت في معنى فلان وأنا شفعتُ في بابهِ »» الجرجاني، دلائل الإعجاز : 128.
2- نهج البلاغة: 185، خطبة : 127.

لِلْحَقِّ سُوءَ رَأْیِهِمَا، وَ جَوْرَ حُکْمِهِمَا.» ، فيؤدي إلى الكشف عن آليات الترابط المفهومي عن طريق تعالق البنيات المنطقية التي تحكمها وحدة النّصِّ(1).

ومن ذلك قوله(علیه السّلام) في استنفار الناس إلى الشام (بعد فراغه من أمر الخوارج)، وفيها يتأفف بالناس، وينصح لهم بطريق السداد :

«أُفٍّ لَکمْ! لَقَدْ سَئِمْتُ عِتَابَکمْ! أَرَضِیتُمْ بِالْحَیاةِ الدُّنْیا مِنَ الْآخِرَةِ عِوَضاً؟ وَ بِالذُّلِّ مِنَ الْعِزِّ خَلَفاً؟ إِذَا دَعَوْتُکمْ إِلَی جِهَادِ عَدُوِّکمْ دَارَتْ أَعْینُکمْ، کأَنَّکمْ مِنَ الْمَوْتِ فِی غَمْرَةٍ، وَ مِنَ الذُّهُولِ فِی سَکرَةٍ، یرْتَجُ عَلَیکمْ حَوَارِی فَتَعْمَهُونَ فَکأَنَ قُلُوبَکمْ مَأْلُوسَةٌ، فَأَنْتُمْ لَا تَعْقِلُونَ ،مَا أَنْتُمْ لِی بِثِقَةٍ سَجِیسَ اللَّیالِی، وَ مَا أَنْتُمْ بِرُکنٍ یمَالُ بِکمْ، وَ لَا زَوَافِرُ عِزٍّ یفْتَقَرُ إِلَیکمْ ...»(2).

ينصب هذا النّصّ حول الحثِّ على الجهاد، فكان الخطاب موجهاً إليهم مباشرةً، لتثاقلهم عن الدعوة إلى القتال؛ لذا نجد أنّ المتكلّم قد استفتح حديثه بالتضجر والتأفيف «أُفٍّ لَکمْ!» على سبيل الاستفهام الإنكاري؛ لتركهم الجهادوما يحمله من ثواب وعزّة وتعلقهم بسلامة الدنيا وما تحمله من الذلّ بدلاً من العزّ لأطماع العدو فيهم، «أَرَضِیتُمْ بِالْحَیاةِ الدُّنْیا مِنَ الْآخِرَةِ عِوَضاً؟ وَ بِالذُّلِّ مِنَ الْعِزِّ خَلَفاً؟»، فعمد إلى تقديم المسند إليه «فَأَنْتُمْ» على الجملة الفعلية المنفية «لَا تَعْقِلُونَ»؛ تبكيتاً لهم وتوبیخاً برذائل تعرض لهم عند دعائه لهم إلى الجهاد(3)، فمثلّت نتيجة استقصاء لتثاقلهم عن الجهاد، فنفى العقل عنهم؛ توبيخاً لكون

ص: 180


1- للتفصيل في تحليل هذا النّصّ يرجى مراجعة الفصل الثالث المبحث الأول «الربط بالإحالة»: 142، وما بعدها.
2- نهج البلاغة: 75، خطبة: 34.
3- ظ: ابن میثم البحراني، شرح نهج البلاغة: 2/ 79.

العاقل لا يفعل ما فعلتموه، فهي علاقة جامعة للأحداث النّصّية، التي تؤدي إلى اتساق النّصّ ووحدتهِ، فالتقديم هنا-ذُكر أنفاً عن طريق تحليل النصوص - لم يقتصر على البنية التركيبية المتضمنة له وإنّما ارتبطت دلالته بما قبله وما بعده؛ لترابط أحداث النّصِّ وقضاياه، وعليه لا يمكن إفراده بالتوضيح من دون بيان علاقته بالدلالة النّصّية الكبری.

تقديم المسند الفعلي على المسند إليه: أصل الترتيب بالتركيب الفعلي أن يتقدم المسند الفعلي على المسند إليه في الأحوال العادية لدلالات عامة، ولكن قد يعدل عن هذه الحال وهذه الدلالات - في ترتيبه - إلى أخرى؛ لتوليد معنىً عميق الدلالة وغرض أسلوبي قوي التأثير، وهذا يتمثل بأهمية الحدث المتقدم الذي هو محط اهتمام المتكلّم، وهذا لا تجده في حال التأخير، من ذلك قوله(علیه السّلام) :

«... وَ أَمَّا مَا ذَکَرْتُمَا مِنْ أَمْرِ الْأُسْوَهِ، فَإِنَّ ذَلِکَ أَمْرٌ لَمْ أَحْکُمْ أَنَا فِیهِ بِرَأْیِی، وَ لاَ وَلِیتُهُ هَوًی مِنِّی، بَلْ وَجَدْتُ أَنَا وَ أَنْتُمَا مَا جَاءَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) قَدْ فُرِغَ مِنْهُ، فَلَمْ أَحْتَجْ إِلَیْکُمَا فِیمَا قَدْ فَرَغَ اللَّهُ مِنْ قَسْمِهِ، وَ أَمْضَی فِیهِ حُکْمَهُ، فَلَیْسَ لَکُمَا، وَ اللَّهِ عِنْدِی وَ لاَ لِغَیْرِکُمَا فِی هَذَا عُتْبَی»(1).

الخطاب هنا خاص موجه لطلحة والزبير؛ لطلبهما المساواة في الغنيمة، فردّ عليها الإمام(علیه السّلام) بما يتوافق والمنطق العقلي، بأنَّ حكمه جاء على وفق شريعة محمد»، فقد ساق تقديم المسند الفعلي في سياق النفي القطعي؛ إذ قدّم « لَمْ أَحْکُمْ» على الضمير المنفصل «أَنَا» ؛ لتسليط انتباه المتلقي على الدلالة النّصِّية في النفي، ومن ثم إثباتها في ذهن المتلقي، ما أدى دوراً أساسياً في اتساق النّصِّ،

ص: 181


1- نهج البلاغة: 322، خطبة: 205.

مستعيناً ب «العطف» في استمرار تأثيره الدلالي، نحو قوله: «وَ لاَ وَلِیتُهُ هَوًی مِنِّی، بَلْ وَجَدْتُ أَنَا وَ أَنْتُمَا مَا جَاءَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) قَدْ فُرِغَ مِنْهُ»، فقد ألقى الحجة عليهما بإجابته هذه، فأكتمل رسم الصورة النّصّية كاملة في ذهن المتلقي.

تقديم جواب الشرط على فعله (1): ومنها قوله(علیه السّلام) يومئ فيها إلى ذكر

الملاحم:

«یَعْطِفُ الْهَوَی عَلَی الْهُدَی إِذَا عَطَفُوا الْهُدَی عَلَی الْهَوَی، وَ یَعْطِفُ الرَّأْیَ عَلَی الْقُرْآنِ إِذَا عَطَفُوا الْقُرْآنَ عَلَی الرَّأْیِ. مِنْهَا حَتَّی تَقُومَ الْحَرْبُ بِکُمْ عَلَی سَاقٍ، بَادِیاً نَوَاجِذُهَا، مَمْلُوءَهً أَخْلَافُهَا،حُلْواً رَضَاعُهَا عَلْقَماً عَاقِبَتُهَا .»(2).

ص: 182


1- شكلّت ظاهرة «تقديم جواب الشرط على فعله» خلافاً بين النحاة ولا سيما بين المدرستين البصرة والكوفة، فمنع البصريون العدول عن رتبة كل منهما بالتقديم؛ لأنَّ الثابت عندهم أنّ أداة الشرط «تقوم بوظيفة التعليق المعنوي والزمني معاً بين الشرط والجواب و أنَّ فعل الشرط هو المقدمة للجواب، والعلة فيه، وإنَّ الجواب هو النتيجة الضرورية له، والمعلول الحتمي الذي لابد منه «التراكيب الإسنادية : 187، 186، فعدّوا الجزاء المتقدم هو ما دلّ على الجزء المحذوف، فإذا كان الفعل ماضياً بعد حروف الجزاء جاز أن يتقدم جواب الشرط على فعله جوازاً، نحو قولك: «أكرمك إن تكرمني»، ظ: المبرد، المقتضب: 2/ 68، لأنّ أدوات الشرط «لا تعمل في لفظه شيئاً و إنّما هو موضع الجزاء، فكذلك جوابه يسدُّ مسدَّ الجزاء» المبرد، المقتضب: 2/ 68، أمّا الكوفيون فقد جوّزوا العدول عن أصل الترتيب بتقديم جواب الشرط على فعله، وعدّوا المتقدم هو جواب الشرط نفسه -بعكس = البصريين- فليس دالاً عليه فحسب، ابن السّراج، أصول النحو: 2/ 245. وعليه في الموقف الكوفيين - في هذا الموضوع - أكثر ملاءمة واتساقاً لما فيه من بُعد عن تكلف التأويل دون ضرورة ملحة من مبنى النّصِّ، أو حاجة ماسة يفرضها الموقف التراكيب الإسنادية : 189.
2- نهج البلاغة: 159، خطبة : 138.

لقد أشار الإمام (علیه السّلام) في هذا المستهل من الخطبة إلى وصف الإمام المنتظر الموعود (عجّل الله تعالی فرجه الشریف) فهو في سياق الاستبشار وتهيئة لظهور المنتظر(عجّل الله تعالی فرجه الشریف) المزيل للظلم والظلمات، وقد اتكأ المتكلّم على تقديم جواب الشرط «یَعْطِفُ الْهَوَی عَلَی الْهُدَی» على فعله «إِذَا عَطَفُوا الْهُدَی عَلَی الْهَوَی» وتابعه في الأمر معطوفه

« وَ یَعْطِفُ الرَّأْیَ عَلَی الْقُرْآنِ إِذَا عَطَفُوا الْقُرْآنَ عَلَی الرَّأْیِ» ؛ لأهمية الأمر المتعلق بظهور الإمام ودوره في إظهار الحق بعد إخماده فترة من الزمن، فترد النفوس الحائرة عن سبيل الله المتبعة للظلمات عن طرقها الفاسدة إلى سلوك سبيله واتباع أنوار هداه، و يردُّ القرآن بعد ما فرّق على مذاهب مختلفة من الإسلام كلّ حسب رأيه(1)، فهذا التقديم يستدعي انتقال المتكلّم من الأسلوب الخبري المباشر إلى أسلوب الشرط والجزاء متضمناً استشعار المتلقي بالانتظار والتهيئة له بقدر الإمكان، وهذا فيه مقصد المتكلّم، وقد ساعده «العطف» في ربط البنيات التركيبية في السياق النّصِّي ضمن بنية نصَّية واحدة

علاقة العدول بسياق الموقف:(تأثير الرتبة في المعنى)

لقد كانت ثمة مجموعة سياقات من النّصوص الحربية تحمل معنىً واحداً مع تفاوت دقيق في بعض جزئیاته؛ لكونها تخضع لطبيعة السياق ولاسيما السياق «المقامي»؛ إذ لم يكن للخطب تحضيرٌ مسبق، وإنّما كانت ارتجالية حسب متطلبات المقام، فالمقام هو الذي يُبين مقصدها الإيحائي، حاملةً دلالتين إلى ذهن المتلقي، دلالة التأكيد لمن تكرر سماعه لها، والتنبيه لمن جدَّ عليه سماعه ،

ص: 183


1- ظ : ابن میثم البحراني، شرح نهج البلاغة : 3/ 159.

نحو قوله (علیه السّلام) في خطب الملاحم:

«فَوَالَّذِی فَلَقَ الْحَبَّهَ، وَ بَرَأَ النَّسَمَةَ، إِنَّ الَّذِی أُنَبِّئُکُمْ بِهِ عَنِ النَّبِیِّ (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )، مَا کَذَبَ الْمُبَلِّغُ، وَ لاَ جَهِلَ السَّامِعُ، وَ لَکَأَنِّی أَنْظُرُ إِلَی ضِلِّیلٍ قَدْ نَعَقَ بِالشَّامِ، وَ فَحَصَ بِرَایَاتِهِ فِی ضَوَاحِی کُوفَانَ. فَإِذَا فَغَرَتْ فَاغِرَتُهُ، وَ اشْتَدَّتْ شَکِیمَتُهُ، وَ ثَقُلَتْ فِی الْأَرْضِ وَطْأَتُهُ، عَضَّتِ الْفِتْنَهُ أَبْنَاءَهَا بِأَنْیَابِهَا، وَ مَاجَتِ الْحَرْبُ بِأَمْوَاجِهَا، وَ بَدَا مِنَ الْأَیَّامِ کُلُوحُهَا، وَ مِنَ اللَّیَالِی کُدُوحُهَا»(1).

وقوله(علیه السّلام) :

«کَأَنِّی بِهِ قَدْ نَعَقَ بِالشَّامِ، وَ فَحَصَ بِرَایَاتِهِ فِی ضَوَاحِی؟کُوفَانَ، فَعَطَفَ عَلَیْهَا عَطْفَ الضَّرُوسِ، وَ فَرَشَ الْأَرْضَ بِالرُّءُوسِ، قَدْ فَغَرَتْ فَاغِرَتُهُ، وَ ثَقُلَتْ فِی الْأَرْضِ وَطْأَتُهُ، بَعِیدَ الْجَوْلَهِ عَظِیمَ الصَّوْلَهِ» (2).

فقد أشار النّصُّ الأول - حسب رأي أغلب الشرّاح - إلى أنَّهُ أنباء عما يُحدثه أحد حكام بني أمية بالأمة عند تسنمه الحكم؛ وذلك لتطابق الوصف المعنوي عليه، فقد أوضح الإمام(علیه السّلام) بالدلالة المعنوية في إطار البنية النّصّية العميقة من دون إيضاح الدلالة اللفظية؛ لأسباب عدة موضحاً إياها - الدلالة المعنوية - بمجموعة من المؤكدات، منها استهلاله النبأ بقسم خاص عميق الدلالة «فَوَالَّذِی فَلَقَ الْحَبَّهَ، وَ بَرَأَ النَّسَمَةَ» بخالق الإنسان وفالق الحبّة، ومن ثم أكمل المؤكد «إِنَّ الَّذِی أُنَبِّئُکُمْ بِهِ عَنِ النَّبِیِّ» إنّ ذلك النبأ هو من رسول الله(صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) ، فالإنباء عن الرسول «بحد ذاته مؤكد، فكيف إذا كان مستفتحاً بقسمٍ قوي الدلالة، وما

ص: 184


1- نهج البلاغة:147، خطبة: 101.
2- م. ن: 196، خطبة: 138.

ذلك إلّا لإبعاد الشّك والريب عن ذهن المتلقي.

فضلاً عن ذلك فقد غلب على كلِّ من المؤكدين المتضامين التراكيب الاسمية مركبة إلّا صلة الموصول وهي الأُخرى جاءت متضامةً مع موصولها الاسمي(«واو» القسم، الاسم الموصول و صلته «الَّذِی فَلَقَ الْحَبَّهَ» حرف العطف(وَ) والمعطوف على صلة الموصول «وَ بَرَأَ النَّسَمَةَ»، «إنَّ»، الموصول وصلته «الَّذِی أُنَبِّئُکُمْ بِهِ عَنِ النَّبِیِّ»)، ومن المؤكدات أيضاً نفي الكذب والجهل عن نفسه (علیه السّلام) لما سمعه من الرسول»، فيبدأ الإخبار برسم الصورة الوقائعية أمام المتلقي عن طريق «كانّ» التشبيهية، والفعل المضارع « لَکَأَنِّی أَنْظُرُ»، فيُثير عنصر المفاجأة لدى المتلقي، ومن ثم يجعله يتفاعل ويتجاوب مع ما يبتغيه المتكلم، وعلى فق هذا التفاعل يُركز المتكلم على تصوير الأحداث المستقبلية اليقينية.

لقد عدل المتكلّم عن تسمية الموصوف باسمه يمكن تأويله بأسباب عدة، منها كونه المتمثل بؤرة النّصِّ»، ولربما لإخراجه من متعلق زماني والاكتفاء بمتعلق مکاني - سيأتي لاحقاً، فكنّاه المتكلّم ب «الضليل»(1)؛ لكثرة ضلاله وفساده، وكلُّ أولئك قد عدل عنه المتكلّم في البنية الخطابية الثانية سوى «كَأنِّي»؛ كون الخطبة الأولى - سيتضح من التحليل - جاءت للإخبار المؤكد المُبلّغ والدافع للشك والريب و الصاحب للتلهف والاستغراب، في حين مثلت الثانية تأكيداً على كلام سبقت إليه الإشارة حاملةً التخويف والتحذير، أمّا تکرار «كَأنِّي» جاء ليؤكد أنّها رؤية يقينية تُنبئ عن أحداث مستقبلية، فأنزلها منزلة المتيقن الحاصل، فناسبت الدلالة المنطقية ترتيب الأسبقية في العدول عن

ص: 185


1- الضليل: كثير الضلال، ظ: ابن میثم البحراني، شرح نهج البلاغة : 3/ 11.

بعض الجزئيات المتعالقة في السياق النّصِّي فيها بين الخطبتين.

أمّا تكراره للمتعلق المكاني «قَدْ نَعَقَ بِالشَّامِ، وَ فَحَصَ بِرَایَاتِهِ فِی ضَوَاحِی؟کُوفَانَ» فيحمل صوراً عدة منها تعويضاً عن المتعلق الزماني، وتحذيراً لهاتين البلدتين «الشام، والكوفة» ؛ لشّدة ما يحصل فيها من وقع، فالتفاعل الحامل لعنصر المفاجأة قائم على دعامات منها ارتباطه بالسياق المتمثل بالعلاقات التلازمية بين البنى التركيبية، والتصوير الذي أخذ دوره في تجسيد الأحداث أمام المتلقي. يكتمل التصوير المجسد والملخص بذكر المتعلق المكاني، والأكثر استغراباً من ذلك وفزعاً هو تصوير أفعاله الشريرة عن طريق الألفاظ المكناة المتعالقة و البنى التركيبية المتلازمة، والتي تبدأ بقوله «نَعَقَ بِالشَّامِ» «وَفَحَصَ بِرَایَاتِهِ»(1) كناية عن بدء حُكمهِ بالشام وبلوغه ضواحي الكوفة، فاتسقت في ذهن المتلقي الدلالة المنطقية الموجزة ترتیباً من بداية حكمهِ المظلم حتى نهايته الموحشة.

وقوله(علیه السّلام) في البنية الخطابية الثانية: «فَعَطَفَ عَلَیْهَا عَطْفَ الضَّرُوسِ، وَ فَرَشَ الْأَرْضَ بِالرُّءُوسِ» فلم يذكرها في الوحدة الخطابية الأولى، فيمكن أن تُمثل هذه الجزئية تفصيل ما لُخص في الخطبة الأولى، یُجسد المتكلّم الصورة البشعة لظلم الموصوف؛ «شبّه عطفه أي حمله بعطف النّاقة السّيئة الخلق التي تعضّ حالبها لشدة الغضب والأذي الحاصل منه»(2)، وكنّی به «وَ فَرَشَ الْأَرْضَ بِالرُّءُوسِ»

ص: 186


1- النعيق: صوت الراعي بغنمه، و فحص براياته: من قولهم ما له مفحص قطاة أي مجثمهاكأنهم جعلوا ضواحي الكوفة مفحصا و مجثما لراياتهم، ظ: ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة : 100/7 ، و : ابن میثم البحراني، شرح نهج البلاغة: 3/ 11، 10.
2- الخوئي، منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة : 7/ 163.

بكثرة قتله الناس فحالة الفزع و الاستغراب التي تحصل للمتلقي عن طريق انسجامه مع الصورة المجسدة للأحداث تترك في ذهنه أصداءً تجعله يتجاوب مع توجيهات المتكلّم وأخذ الحذر والحيطة، وهذا هو مقصد المتكلّم، قيل إنّه

«السفياني» وقيل «معاوية»، ولكن أغلب الاحتمال حسب رأي أغلب الشرّاح

أنّه (عبد الملك بن مروان)(1)، «لأنّ معاوية في أيام أمير المؤمنين(علیه السّلام) كان قد نعق بالشام ودعاهم إلى نفسه والكلام يدلُّ على إنسان ينعق فيما بعد ألا تراه يقول لكأني أنظر إلى ضليل قد نعق بالشام...»(2)، وقد حصلت فعلاً بعد زمن المتكلّم، فعنصر المفاجأة الملازم لهذا الخطاب الغيبي قد انتقل من المسرح الذهني إلى حدث مرئي و واقعي.

ص: 187


1- ظ: ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة:7/ 99- 101،و: ابن میثم البحراني، شرح نهج البلاغة: 13، 12، 11، 10، و:الخوئي، منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة : 7/ 170.
2- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة: 99/7 ، فقد جعله أبوه - عبد الملك بن مروان - الخليفة من بعده و سار لقتال «مصعب بن الزبير» إلى الكوفة بعد قتل مصعب «مختار بن أبي عبيدة الثقفي» فالتقوا بأرض مسكن بكسر الكاف من نواحي الكوفة، ثمّ قتل مصعبا و دخل الكوفة فبايعه أهلها، و بعث «الحجّاج بن يوسف إلى «عبد الله بن الزّبير» بمكة فقتله و هدم الكعبة و ذلك سنة ثلاث وسبعين من الهجرة، و قتل خلقا عظيما من العرب في وقائع «عبد الرّحمن بن الأشعث»، و تفاقمت الفتن مع الخوارج. فلمّا كمل أمر عبد الملك عقدت رايات الفتن المعضلة من بعده كحروب أولاده مع بني المهلّب، و كحروبهم مع «زيد بن عليّ(علیه السّلام)»، و کالفتن الكائنة بالكوفة أيّام «یوسف بن عمر»، و «خالد القسري»، و«عمر بن هبيرة»، وغيرهم، و ما جرى فيها من الظلم، و استئصال الأموال، و ذهاب النفوس، و قيل: کنّی(علیه السّلام) عن معاوية، و ما حدث في أيّامه من الفتن و ما حدث بعده من فتنة يزيد، للتفصيل أكثر، ظ: ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة : 101-99/7 ، و: ابن میثم البحراني، شرح نهج البلاغة : 3/ 162، و: الخوئي، منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة: 7/ 163.

ونجد في قوله(علیه السّلام) : «فَإِذَا فَغَرَتْ فَاغِرَتُهُ، وَ اشْتَدَّتْ شَکِیمَتُهُ، وَ ثَقُلَتْ فِی الْأَرْضِ وَطْأَتُهُ»، أنّ فعل الشرط قد جاء متوافقاً في كلا الخطبتين سوى قوله: «وَ اشْتَدَّتْ شَکِیمَتُهُ» كناية عن قوة رأسه وشدّة بأسه(1)، فالمتكلّم يصوّر اقتحام الموصوف على الناس وشدة بأسه وثقل حكمه وما يتبع ذلك من القتل والأهوال. أمّا جواب الشرط فقد جاء متوافقاً دلالياً و مختلفاً لفظياً؛ لتقريب الصورة المعقدة المتشابكة من مجموعة استعارات وکنایات؛ لتصويرها عمق الحدث المعقد الذي وصل إلى أصعب الحالات وحشيةً «عَضَّتِ الْفِتْنَهُ أَبْنَاءَهَا، بِأَنْیَابِهَا، وَ مَاجَتِ الْحَرْبُ بِأَمْوَاجِهَا، وَ بَدَا مِنَ الْأَیَّامِ کُلُوحُهَا، وَ مِنَ اللَّیَالِی کُدُوحُهَا»...» فالمصائب تبلغ غايتها القصوى نتيجة هذه الفتن، فالمتكلّم لا يُفصل الأمر وإنّما يُعطي المتلقي إشارات وأبعاد أساسية توحي إلى بشاعة ما سيجري من أحداثٍ، والمتلقي بدوره يقوم بتفكيك البنية العميقة في النّصِّ بعد انسجامه مع المتكلّم، و بعد أن فتح أمامه آفاقاً مهمة ولاسيما ما يتعلق بحياته سواء الفردية أم في إطار المجتمع، فالدلالة اللفظية كانت غامضة في كثير من المحاور بعكس منها الدلالة المعنوية التي نشطت ذهن المتلقي، من ذلك عدم حصر هذه الأحداث بموصوف اسمي وإنّما موصوف حدثي، وكذلك عدم حصرها بمدة زمنية محددة، وإنّما جعلها مفتوحة الدلالة، وقد أشار إليها بقوله:«وَ بَدَا مِنَ الْأَیَّامِ کُلُوحُهَا، وَ مِنَ اللَّیَالِی کُدُوحُهَا» ما يدلّ على استمرار هذه الأحداث المفزعة والفتن المظلمة باستمرار الليالي والأيام.

ومن ذلك قوله (علیه السّلام) في خطبتين يُعلّم أصحابه ويحثهم على قتال الأعداء

ص: 188


1- أصله أنّ الفرس الجموح قوي الرأس محتاج إلى قوة الشكيمة وشدّتها، ظ: ابن میثم البحراني، شرح نهج البلاغة: 3/ 11.

في صفين، فأصلهما واحد ومضمونهما واحد، وإن حصل عدول في الصياغة اللفظية في بعض الجزئيات النّصّية تبعاً لطبيعة السياق:

«وَعَضُّوا عَلَی النَّوَاجِذِ، فَإِنَّهُ أَنْبَی لِلسُّیُوفِ عَنِ الْهَامِ، وَأَکْمِلُوا اللّأْمَهَ، وَقَلْقِلُوا السُّیُوفَ فِی أَغْمَادِهَا قَبْلَ سَلِّهَا، وَالْحَظُوا الْخَزْرَ، وَاطْعُنُوا الشَّزْرَ، وَنَافِحُوا بِالظُّبَا وَصِلُوا السُّیُوفَ بِالْخُطَا ..»(1).

وقوله(علیه السّلام) :

«فَقَدِّمُوا الدَّارِعَ، وَأَخِّرُوا الْحَاسِرَ، وَعَضُّوا عَلَی الأضراس فَإِنَّهُ أَنْبَیُ لِلسُّیُوفِ عَلَی الْهَامِ، والتووا فی الأطراف فانه اصون للأسنه ، وَغُضُّوا الْأَبْصَارَ فَإِنَّهُ أَرْبَطُ لِلْجَأْشِ وَأَسْکَنُ لِلْقُلُوبِ، وَأَمِیتُوا الْأَصْوَاتَ فَإِنَّهُ أَطْرَدُ لِلْفَشَلِ ....»(2).

في هذين النصيين تنوّع الاستعمال اللفظي فيما بين الخطبتين، مع توافق دلالة المضمون والأصل، والملفت للنظر هو التغاير اللفظي بين قوله: «وَعَضُّوا عَلَی الأضراس» في البنية النّصّية الأولى، وقوله: «وَعَضُّوا عَلَی الأضراس» في البنية النّصّية الثانية، كلاهما يدلّان على الأضراس، لكن الأول يدلُّ على العمق، ما يعكس عمق الدلالة النّصّية، فالتغاير بينهما دقیق، يُقال: «يقال إنَّ العاض على نواجذهِ ينبو السيف عن هامتهِ نبوا ما وهذا مما يساعد التعليل الطبيعي عليه و ذلك أنَّه إذا عضَّ على نواجذه تصلَّبت الأعصاب و العضلات المتصلة بدماغهِ و زال عنها الاسترخاء فكانت على مقاومة السيف أقدر وكان تأثير السيف فيها أقل» (3)، وهذا التغاير اللفظي جاء متناسباً وطبيعة السياق بنوعية المقالي

ص: 189


1- نهج البلاغة: 97، خطبة: 16.
2- م. ن: 180، خطبة : 124.
3- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة: 5/ 169، النواجذ جمع ناجذ و هو أقصى الأضراس و للإنسان أربعة نواجذ في كل شق و النواجذ بعد الأرحاء و يسمى الناجذ ضرس الحلم؛ لأنه ينبت بعد البلوغ و کمال العقل، ط: م.ن: 5/ 169.

والمقامي ففيما يخصُّ السياق المقالي فيتبعه كلُّ ما يعتري اللفظة من تضام مع السوابق واللواحق، فكل مفردة تحمل قيماً أسلوبيَّة تجذب التّركيب إلى استعمالها في المقام المناسب(1)، ما يؤدي إلى تحقيق الاتساق والتلاحم بين وحدات النّصِّ. أمّا فيما يخصُّ السياق المقامي، ففي الخطبة الأولى كان الأمر أشدّ، إذ تُمثل في ساحة المعركة في حرب صفين ففيه تحذير مشدد. أمّا في الخطبة الأخرى فتشمل مجموعة من النصائح الحربية بصورة عامة، وعليه تبع التغاير اللفظي تداعيات دلالية أعمق في المعاني التي تُثير اهتمام المتلقي.

ومن ذلك قوله(علیه السّلام) عند تهديدهم - الناكثين - له بالحرب:

« وَمِنَ الْعَجَبِ بَعْثُهُمْ إِلَیَّ أَنْ أَبْرُزَ لِلطِّعَانِ ! وَأَنْ أَصْبِرَ لِلْجِلادِ ! هَبِلَتْهُمُ الْهَبُولُ ! لَقَدْ کُنْتُ وَمَا أُهَدَّدُ بِالْحَرْبِ ، وَلاَ أُرْهَبُ بِالضَّرْبِ ! وَإِنِّی لَعَلَی یَقِینٍ مِنْ رَبِّی ، وَغَیْرِ شُبْهَهٍ مِنْ دِینی .»(2).

وقوله(علیه السّلام) في معنى طلحة بن عبيد الله (وقد قاله حين بلغه خروج طلحة والزبير إلى البصرة لقتاله):

«قَد کُنتُ وما اُهَدَّدُ بِالحَربِ ، ولا اُرَهَّبُ بِالضَّربِ ، وأَنَا عَلی ما قَد وَعَدَنی رَبّی مِنَ النَّصرِ »(3).

ص: 190


1- ظ: عواطف کنوش، مراتب التفضيل في القرآن الكريم، (بحث)، مجلة الدراسات الإيرانية، العدد6، 2002، : 113.
2- نهج البلاغة: 64، خطبة : 22
3- م. ن:249، خطبة: 174.

فالناظر يجد أنَّ النصين المتجلّيين قد جمعهما مضمون وسياق واحد، مع تغایر دقيق في بعض جزئياته، وهذا تابع لتغایر دلالي يتوازی وطبيعة السياق بنوعيه، فالخطاب الأول كان رداً على تهديدهم «أَبْرُزَ لِلطِّعَانِ !! وَأَنْ أَصْبِرَ لِلْجِلادِ !» مصحوباً بالتعجّب والاستهزاء من قولهم هذا؛ لذا فقد جاء جوابه مؤكداً مع ما يتلاءم وسياق التهديد بأنَّ ذلك – التهديد يرجع في حقِّ الجبان، من مؤكداته («لام التأكيد» في «لقد»، و «إنِّي» و«لَعَلَى» ) في قوله: «لَقَدْ کُنْتُ وَمَا أُهَدَّدُ بِالْحَرْبِ ، وَلاَ أُرْهَبُ بِالضَّرْبِ ! وَإِنِّی لَعَلَی یَقِینٍ مِنْ رَبِّی ، وَغَیْرِ شُبْهَهٍ مِنْ دِینی .» فقد جاءت متضامه مع هيكلية التركيب، حاملةً في دلائلها بصمات تلقائية مؤثرة تناسب و مقتضى المقام، فختم ردّه عليهم با «وَإِنِّی لَعَلَی یَقِینٍ مِنْ رَبِّی ، وَغَیْرِ شُبْهَهٍ مِنْ دِینی» رغم أنّه لم يستلم الوعد الإلهي بالنصر لكنّه تبيّن من البنية التركيبية الاستقبالية أنّه متيقِن من النصر الإلهي والتأييد عن طريق المؤكدات التركيبية المشار إليها أنفاً، ولفظ ال«يَقِين» المتضامة مع السوابق واللواحق، فتعطي المتلقي ارتياحاً نفسياً بالنصر المؤزر، وهذا مقصد المتكلم فالارتياح والطمأنينة يبعث في نفس المتلقي الانسجام واستمرارية التواصل، ويدفع عنه الشكّ والريب.

أمّا الخطاب الثاني فقد كان رداً على أفعالهم وليس أقولهم بعكس الأول، فالمقام يحتل المرتبة الأول في الخطاب ويتبعه التغاير المقالي في السياق النّصّي « وَ أَنَا عَلَی مَا قَدْ وَعَدَنِی رَبِّی مِنَ النَّصْرِ»، فصيغة المضي قد غلبت على السياق ما يدلُّ على أنّه اقتراب استلام الوعد الإلهي في النصر؛ لاقتراب الحرب القتالية، فقد كان قاطعاً في كلامه من دون أي حذر أو خوف، ففي سياق الخطاب الأول تلاحم الخطاب وأقوالهم التهديدية، في حين تلاحمالخطاب الثاني وأفعالهم

ص: 191

الحربية، فمثّل الخطاب الأسبق تهيئة فكرية، والثاني تطلب تقدّماً فعلياً، ما يدلُّ على انسجام الدلالة السياقية ومنطقية الترتيب الخطابي.

ص: 192

الفصل الثالث

اشارة

المبحث الأول : الربط بالإحالة

المبحث الثاني: الربط الأدوات

ص: 193

ص: 194

توطئة

الربط لغةً: من رَبَطً الشيء يَربطُه ربطاً، بمعنی شدَّهُ، وجمعهُ رُبُط،

والرابطة العَلَقَة والوصلة، والربط بمعنى الارتباط (1).

وفي الاصطلاح عُرِّفَ (د. تمام حسّان) الربط بأنّهُ «قرينة لفظية تدل على اتصال أحد المترابطين بالآخر»(2)، هذا يعني أنّه قيد تعريف الربط بالوسائل اللفظية دون المعنوية؛ إذ تدل على تعالق الجزء اللاحق بالسابق ضمن السياق اللغوي، بوساطة وسائل الربط، وأهم هذه الوسائل هي (الإحالة والأدوات)، ومن ثمَّ تؤدي إلى فهم المتلقي للعلاقات النّصّية، في حين عرّف آخر الربط «ما يحصل من ائتلاف وصلة واتحاد وتماسك في أجزاء الكلام والجملة سواء أكانت هذه الأجزاء عناصر أساسية في بنائها، أم غير أساسية، وذلك بوسائل معنوية أو لفظية» (3)، هذا التعريف واسع؛ لضمه الربط المعنوي واللفظي معاً، فهو تعریفٌ شامل مطلق.

ص: 195


1- ظ : ابن منظور، لسان العرب: 302/7 ، مادة (ربط)، و: الزبيدي، تاج العروس: 262/10
2- تمام حسان، اللغة العربية معناها ومبناها: 213.
3- عبد الخالق زغير عدل، الربط في الجملة العربية، رسالة ماجستير، جامعة بغداد، كلية الآداب ، 1988م: 16.

أمّا فيما يخص الوسائل المعنوية فتنضم تحت مصطلح «الارتباط» ويكون بين معنيين من دون وسيلة لفظية؛ لأنّها تمثل علاقة الشيء بنفسه، فلا يحتاج المتكلّم في سبيل إيضاحها إلى رابط لفظي، وإنما يعتمد على عملية تداعي المعاني في العقل البشري؛ لفهمها بمجرد التلاحم والائتلاف بين المعاني (1). على حين يعد الربط اللفظي علاقة سياقية - تصطنعها اللغة -بين معنيين بواسطة أداة تدل على علاقة أحدهما بالآخر (2)، وبدونها - الأداة - تصبح علاقتهما بعيدة «لا تعي الذاكرة معها ما الذي ينتمي إلى هذا، وما الذي ينتمي إلى ذاك وهكذا تتفكك أواصر الكلام ويدخل المعنى في غيابات الغموض أو في متاهات اللبس وكلا الغموض واللبس آفة من آفات الاتصال والتفاهم»(3)، وبذا يضفي سمة التماسك والائتلاف بين الأطراف المتعالقة بالأداة، ومن ثَم تعين المتلقي على إدراك الغاية المبتغاة .

ولأهمية قرينة الربط في تعالق أجزاء النّصِّ، فقد نالت عناية العلماء ولاسيماالمحدثين منهم، أما القدامى فقد كانت لهم إشارات عابرة في مواضع متفرقة، وقد تنبه بعض المتأخرين على أهمية هذه الظاهرة التركيبية، فحاولوا حصرها في مباحث خاصة، ولكنهم لم يحصروا الروابط كلها، لأنّ فكرة الربط لم تكن جزءاً

ص: 196


1- ظ : مصطفى حميدة، نظام الارتباط والربط في تركيب الجملة العربية: 161.
2- ظ: مصطفى حميدة، نظام الارتباط والربط في تركيب الجملة العربية : 143، ورأى أنّ الغرض من الربط هو لأمن اللبس، وفهم الارتباط بين الطرفين المربوطين، وقد يكون أمن لبس فهم الانفصال بينهما، وهذا الذي قصد بالربط، ميّزه عن الارتباط، وهذا يتوافق وتعلیل تمام حسان له.
3- تمام حسان، البيان في روائع القرآن: 207.

من منهجهم (1)

ومن المتأخرين «ابن هشام «الذي حصر الروابط في أحد عشر موضعاً

وحصر أيضاً روابط الجملة الخبرية في بحثٍ مستقل بعشرة مواضع (2).

تجسد قرينة الربط مظهر السبك بوسائل أهمها «الضمائر والأدوات»، ولكن التعليق بالضمائر أكثر ائتلافاً وتلاحماً من الربط بالأدوات؛ كونها ناشئة من وظيفة الضمير المتمثلة بإعادة الذكر، أما وظيفة الأداة في الربط ناشئة من إيجازها للمعنى النحوي ک«العطف والشرط والنفي والاستثناء وغيرها (3) ويؤكد ذلك «سیبویه» بقوله: «وإنّما صار الإضمار معرفة لأنّك إنّما تضمرد

ص: 197


1- ظ: مصطفى حميدة، نظام الارتباط والربط: 190، ف«لم يشر هؤلاء العلماء الأوائل وهم يتناولون الحروف بأنواعها: الجارة والعاطفة، والأدوات على اختلاف وظائفها، من شرط أو توكيد أو استثناء ونحوها، لم يشيروا إلى دورها كقرينة لفظية تفيد أمن اللبس في فهم الانفصال، ففي نحو قولنا: 1- جاء محمد وعلي، 2- جاء محمد وذهب علي، فحرف العطف: «الواو» يعد قرينة لفظية هامة لأمن اللبس في فهم الانفصال بين عناصر التركيبين السابقين، حيث تقوم الواو بالربط بينها»، مصطفی حميدة، نظام الارتباط والربط في تركيب الجملة العربية : 190، حسام البنهساوي، أنظمة الربط في العربية: 7، 8.
2- جعل الروابط أحد عشر رابطاً جمع فيها الربط اللفظي والربط المعنوي معاً: 1- جملة الخبر عشرة روابط جعل لها مبحثاً مستقلاً، 2- جملة الصفة وليس لها إلّا الضمير، 3- جملة الصلة، ورابطها الضمير فقط، 4 - جملة الحال، ويربطها الضمير أو الواو، أو كلاهما معا، وغيرها أمّا فيما يخص روابط الجملة الخبرية فهي: 1- الضمير وهو الأصل، 2- الإشارة.3- إعادة المبتدأ بلفظه، 4- إعادته بمعناه، 5- عموم يشمل المبتدأ، 6- أن يعطف بفاء السببية جملة ذات ضمير على جملة خالية منه، أو بالعکس، وغيرها، للاستزادة أكثر، يراجع: ابن هشام، مغني اللبيب: 2/ 498-503.
3- ظ: مصطفى حميدة، نظام الارتباط والربط: 196.

اسماً بعدما تعلم أنّ من يحدث قد عرف من تعني وما تعني، وأنّك تُريد شيئاً يعلمه»(1)، فتتعلق أهميته بمعرفة المتلقي لمرجعه، أو عائده، وذلك يقتضي على البحث تقسيم هذا الفصل على مبحثين، وتقديم الربط بالضمير على الأدوات، الأول: الربط ب«الإحالة - الضمائر - «، والثاني : الربط بالأدوات.

ص: 198


1- سیبویه، الكتاب: 2/ 6.

المبحث الأول: الربط بالإحالة

الإحالة لغة:

تعددت معانيها، ولكن نأخذ منها ما يتوافق ومفهومها ودلالتها النّصّية المعنية –غالباً- بالعلاقة الموجهة، يقول ابن منظور: «قال أبو منصور: يقال أحَلت فلاناً بما له عليَّ، وهو كذا درهماً، على رجلٍ آخر لي عليه كذا درهماً أُحِيله إحالةً، فاحتال بها عليه ...»(1).

فالإحالة تعني توجيه شيء، أو شخص على شيء معين على وفق علاقة معينة بينهما، وهذا ليس بعيداً عن الاستعمال الدلالي في الاصطلاح، فسيتضح ذلك.

ص: 199


1- ابن منظور، لسان العرب: 190/11 ، من يقرأ عن المعنى اللغوي للإحالة بصورة عامة يجده في مبتدأ معناه، ولكن عند التمعن يجد للسياق أثره المقالي والمقامي، فكثير من الباحثين يستعمل هذا المعنى «المُحَال من الكلام: ما عدل به عن وجهه، وحوّله جعله محالا، وأحَال أتی بمُحَال، ورجل محِوَالٌ: كثير محال الكلام ... ويقال أحلت الكلام أحيله إحالة إذا أفسدته . والمحال الكلام لغير شيء... والحِوَالُ: كلّ شيء حال بين اثنين...حال الرّجل يحول تحوّل من موضع إلى موضع. الجوهريّ: حال إلى مكان آخر أي تحوّل...»، ابن منظور، لسان العرب، : 9/ 155، و يعني المستحيل، والعدول عن أمرِ لآخر مستحيل، وأغلب دلالاته تعني المستحيل وما يدور في سياقاته، وهذا لا يتوافق ودلالة الإحالة بمفهومها الاستعالي.

أمّا من الناحية الاصطلاحية: فتعد الإحالة من أهم وسائل الاتساق النّصّي؛ لما لها من دور في تماسك أجزاء النّصّ بعضها ببعض، وهي مصطلح قدیم ؛ فقد درسها النحاة القدامى في مصنفاتهم، ولكنهم لم يتجاوزوا فيها مستوى الجملة، وكان أكثر حديثهم عن الضمير وعائديته؛ وذلك عن طريق اعتمادهم «تصنیف الألفاظ إلى ألفاظ غير مبهمة؛ وهي الألفاظ التي لها دلالة، والتي تحيل بمفردها على خارجها في الواقع وألفاظ مبهمة لها دلالة لكنك لا تعرف لها خارجاً إلا متى توافر مفسِّرها، وهذا المفسِّر قد يكون مقاميا وقد يكون مقالياً»(1)، وهذا مفهوم قديم يدرس «العلاقة القائمة بين الأسماء والمسميات» (2)، وليس هذاالمقصود في الدراسات اللسانية، وإنما المفهوم النّصّي هو المقصود، الذي يتردد كثيراً في دراساتهم.

وقد توسعت «الإحالة» في الدراسات النصية اللسانية في مفهومها

وتطبيقاتها فأخذت مفهوميّن مختلفين (3):

الأول: المفهوم التقليدي للإحالة : وهو المعتمد في اللسانيات التقليدية ، ولاسيما البنيوية فأخذت مفهوم (المرجعية) وعدته مجالاً لا ينبغي إبعاده عن الدراسة اللسانية على الرغم من ضرورتها في فهم الخطاب البشري(4).

الثاني: يعني «العلاقة القائمة بين عنصر لغوي يطلق عليه «عنصر علاقة »

ص: 200


1- محمد الشاوش، تحليل الخطاب: 1/ 125.
2- أحمد عفيفي، نحو النّصِّ: 116، والقول «لجون لاينز».
3- ظ: مليود نزار، نحو نظرية عربية للإحالة الضميرية دراسة تأصيلية تداولية: 2، (بحث) بمجلة علوم إنسانية، السنة السابعة، ع 42، صيف، 2009م.
4- ظ: م. ن: 2.

وضمائر يطلق عليها «صيغ الإحالة»، وتقوم المكونات الاسمية بوظيفة عناصر العلاقة أو المفسر أو العائد إليه»(1)، وبها تتعالق أجزاء النصّ مع بعضها البعض، فتجعله نصاً مترابطاً متسقا، وهي بحسب ما عرفها (دي بو جراند): بأنّها «العلاقة بين العبارات والأشياء والاحداث والمواقف في العالم الذي يدل عليه بالعبارات ذات الطابع البدائلي في نّصّ ما، إذ تشير إلى شيء ينتمي إلى نفس عالم النّصّ أمكن أن يقال عن هذه العبارات أنها ذات إحالة مشتركة» (2) وبهذه الوظيفة تجعل النّصّ متسقا.

ولكن مع وجود أنواع كثيرة من الإحالة المشتركة (كالمترادفات والألفاظ الشارحة)، فقد اقتصر (دي بوجراند) على استكشاف «الاشتراك في الإحالة عن طريق الألفاظ الكنائية فقط، والألفاظ الكنائية من حيث المحتوى في الاستعمال مأخوذة من العبارات التي تشترك معها في الإحالة. وبهذا تختلف الألفاظ الكنائية عن هذه العبارات بطرائق نظامية» (3) .

وتُطلق تسمية «العناصر الإحالية» -حسب رأي (الأزهر الزناد) - «على قسم من الألفاظ لا تملك دلالة مستقلة، بل تعود على عنصر أو عناصر أُخر مذكورة في أجزاء أُخر من الخطاب. فشرط وجودها هو النّصّ»(4).

وقد أطلق (فان دايك ) على عناصر الإحالة «التعبيرات الإشارية وهي: أنا، أنت، هما، هناك ... وكذلك أدوات (التعريف والتنكير) وضمائر الإشارة (أل،

ص: 201


1- سعید بحیری، دراسات لغوية تطبيقية بين البنية والدلالة: 98.
2- دي بوجراند، النّصّ والخطاب والإجراء: 320، وظ: م.ن: 32.
3- م. ن: 320.
4- الأزهر الزناد، نسيج النّصّ: 118.

هذا، هذه، ذلك، أولئك... الخ)»(1).

وأضاف (دي بو جراند) -كذلك- أنّ الإحالة قد تعود لغير مذكور في النص ويعتمد في هذه الحالة على سياق الموقف وشأنها في ذلك شأن عود الإحالة مذكورٍ في النّصّ (2). ويتضح من الإحالة لغير مذكور أن ثمة تفاعلاً مبنياً بين اللغة والموقف فالموقف يؤثر بقوة في استعمال طرائق إجراء الخطاب وما يتضمنه، وهذا يتعارض واقتصار (الأزهر الزناد) عملها على الترابط النّصِّي فحسب؛ إذ يقول: «فهي غير ذات صلة بما يخرج عن مقام ورودها ويكتفي سامعها بها في تحليلها»(3).

وقد استعمل الباحثان (هاليداي ورقية حسن) مصطلح الإحالة استعمالاً

خاصاً «وهو أنّ العناصر المحيلة كيفما كان نوعها لا تكتفي بذاتها من حيث التأويل؛ إذ لابد من العودة إلى ما تُشير إليه من أجل تأويلها، و... تمتلك كل لغة على عناصر تمتلك خاصية الإحالة، وهي حسب الباحثَينِ الضمائر وأسماء الإشارة وأدوات المقارنة، الإحالة علاقة دلالية ومن ثم فهي لا تخضع لقيود نحوية إلّا أنّها تخضع لقيد دلالي»(4)، ولذا تعد من أهم وسائل الاتساق الحالية، كونها لا تقتصر على الربط السطحي أو التركيبي وانّما الغالب على عملها الربط الدلالي.

ويوسع (سعید بحيري) في وظيفتها الترابطية الاتصالية، بمدّها «جسور

ص: 202


1- فان دايك، علم النّصّ مدخل متداخل الاختصاصات، تر: سعيد البحيري: 135-136.
2- ظ: دي بوجراند، النّصّ والخطاب والإجراء: 332.
3- الأزهر الزنّاد، نسيج النّصِّ: 118.
4- محمد الخطابي، لسانیات النّصّ مدخل الى انسجام النّصّ: 17.

الاتصال بين الأجزاء المتباعدة في النّصِّ؛ إذ تقوم بشبكة من العلاقات المتباعدة في فضاء النّصِّ فتجتمع في كلِّ واحد من تلك الأجزاء» عناصره متناغمة»(1)، فقد أعطى تصوّراً حسّياً في تفاعل الإحالة مع عناصرها الإشارية، يعكس تصوّرها هذا تصوّراً عقلياً يتمثل تفاعل المتلقي في تحديد مواطن تلك الإحالات في البنية الكلية للنّصِّ، فالمرجع ثابت في ذهنه ويعوّل عليه العنصر الإحالي وصولاً إلى تحديد الصورة النهائية لذلك الترابط.

وقد اشار علماء النصّ إلى أن اللغة تشتمل على نوعين من العناصر يمثلان

قطبي الإحالة وهما: (2).

العنصر الإشاري: وهو كلِّ مكوّن لا يحتاج في فهمه إلى مكوّن آخر يُفسرهُ. العنصر الإحالي: كل مكوّن يحتاج في فهمه إلى مكون آخر يُفسرهُ.

أنواع الإحالة:

تنقسم الإحالة على نوعين رئيسين هما: «الإحالة المقامية»، و«لإحالة المقالية (النصية)» وهذه الأخيرة تتفرع بدورها إلى فرعين: «إحالة قبلية » و«إحالة بعدية»، ومتى كان الشيء المحال إليه خارج النص في السياق أو المقام فإن العلاقة تسمى «خارجية» (3)، وهذه يأتي أثرها الترابطي ذهني، يكمن في درجة التواصل المباشر بين ذاتين هما: «ذات المتكلّم»، و «ذات المتلقي»؛ أي عملها خارجي. ومتى كان الشيء المحال عليه داخل النص تكون علاقتها

ص: 203


1- سعيد البحيري، دراسات لغوية تطبيقية بين البنية والدلالة: 98.
2- ظ: الأزهر الزناد، نسيج النّضّ: 127-131.
3- ظ: الأزهر الزناد، نسيج النّصِّ: 119، 118.

داخلية، وهذه أثرها واضح في تماسك أجزاء النص(1). وإن ثمة اختلافاً ملحوظاً بين نوعي الإحالة «النصية والمقامية»، فإن ما يعد أساسياً لكل حالة من الإحالة هو «وجود عنصر مفترض ينبغي أن يستجاب له، وكذا وجوب التعرف على الشيء المحال إليه في مكان ما»(2).

الإحالة المقامية: وهي إحالة عنصر لغوي إحالي على عنصر إشاري غير لغوي موجود في المقام الخارجي، كأن يحيل ضمير المتكلم المفرد على ذات صاحبه المتكلم؛ إذ يرتبط عنصر لغوي إحالي بعنصر إشاري غير لغوي هو المتكلم ذاته، ويمكن أن يكون العنصر الإشاري المحال عليه مقامياً، أو ما يسمى إحالة لغير مذکور حسب رأي (دي بوجراند)، وتعتمد هذه الإحالة على معرفة لما يحيط بالنّصّ من أحداث أو مواقف، إذ يقول: «تقود الكائنات في الإحالة لغير المذكور إلى أمور تستنبط من الموقف لا من عبارات تشترك معها في الإحالة في نفس النّصّ أو الخطاب»(3). ويذهب (هاليداي ورقية حسن) إلى أنّ الإحالة المقامية تربط اللغة بسياق المقام، إلّا أنّها لا تُسهم في اتساقه بشكل مباشر (4)

الإحالة النصّية: أمّا هذه الإحالة فهي الأهم لأنّها تعمل بشكل مباشر في ربط أجزاء النّصّ بعضها ببعض(5) ، فهي تقوي أواصر العناصر المتباعدة في النّصّ، ومن ثمَّ تؤدي إلى اتساق النّصّ؛ وذلك عن طريق عود العنصر الإحالي

ص: 204


1- ظ: م. ن: 119، 118.
2- محمد الخطابي، لسانیات النّصّ مدخل إلى انسجام النّصّ: 17.
3- دي بو جراند، النّصّ والخطاب والإجراء: 332.
4- ظ: محمد الخطابي لسانیات النّصّ مدخل إلى انسجام النّصّ: 17، 18.
5- ظ: محمد خطابي، لسانیات النّصِّ: 19، 18.

على العصر الإشاري في النّصّ (مفسِّر) داخل النّصّ؛ اذ لا يُفهم العنصر الإحالي إلّا بالرجوع إلى مصدروهو (العنصر الإشاري). وتتفرع هذه الإحالة إلى فرعين هما:

الإحالة القبلية: وتُسمى «الإحالة على السابق» أو الإحالة بالعودة؛

لكونها تعود على عنصر سابق، أو ما يسمى بال «مفسِّر سبق التلّفظ به وفيها يجري تعویض لفظ المفسِّر الذي كان من المفترض أن يظهر حيث يرد المضمر»(1)، ويرد ذلك لقصد الاختصار؛ إذ يُكرر الضمير عوضاً عن ظهور وحدة نصية أو عبارة أو كلمة.

وتشتمل الإحالة بالعودة على نوع آخر من الإحالة يتمثل في تكرار لفظ أو عدد من الألفاظ في بداية كل جملة من جمل النص قصد التأكيد وهو (الإحالة التكرارية)، وتمثل هذه الإحالة أكثر وروداً في الكلام(2).

الإحالة البعدية: وتسمى «الإحالة على اللاحق» وهي عودة عنصر إحالي على عنصر إشاری لاحق أو مذكور بعده في النّصّ، ومن ذلك ضمير الشأن في العربية أو غيرها من الأساليب، ويكون باستعمال كلمة أو عبارة تُشير إلى كلمة أو عبارة أُخرى، ستُعمل لاحقاً في النّصّ أو المحادثة (3)، ومثاله قوله تعالى : «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ » [الإخلاص: 1] .

فقد أحال الضمير (هو) على لفظ الجلالة الذي بعده (الله)، ومثال الجُمل

ص: 205


1- الأزهر الزّناد، نسيج النّصّ: 118.
2- ظ: م.ن: 119.
3- ظ: صبحي ابراهيم الفقي، علم اللغة النصي: 40/1 .

والعبارات، الجُمل التفسيرية التي تُفسر جملة أو عبارة (1).

يتضح من السابق أنّ الإحالة هي العلاقة بين الألفاظ سواء أكانت داخل النّصّ أم خارجهُ عن طريق الألفاظ الكنائية وتشمل (الضمائر وأسماء الإشارة والأسماء الموصولة) التي قد تكون سابقة للأحداث أو تالية لها.

الوسائل التي تتحقق عبرها الإحالة: وهي كالآتي:

الضمائر: تعد الضمائر من أكثر العناصر الإحالية التي تُسهم في اتساق النّصّ ؛ وذلك عن طريق نیابتها عن الأسماء والصفات التي لا لزوم لتكرارها؛ فالربط بالضمير (2) يُعدّ «بديلاً لإعادة الذكر أيسر في الاستعمال، وادعى للخفة والاختصار بل أنَّ الضمير إذا اتصل فلربما أضاف إلى الخفة والاختصار عنصراً ثالثاً هو الاقتصار؛ لذا تعدّ من أبرز العناصر الإحالية استعمالاً»(3).

وعادة ما تتعاون هذه الضمائر مع الأسماء المكررة، وتكون شبكة إحالية اسمية داخل النّصّ، وإذا أُحيل النّصّ عدة إحالات غالبا ما تمثّل إحداها موضوع النّصّ؛ فتشكيل المعنى يعتمد بشكل أساسي على الضمائر (4)، ومن ثم تؤدي إلى ترابط النّصّ واتساقه. فضلا عن ذلك فقد أكد علماء النّصّ أهمية الضمير بكونه «يُحيل على

ص: 206


1- ظ: م.ن: 1/ 40.
2- المقصود بها الضمائر البارزة لأنَّ الضمائر المستترة علاقتها معنوية تستنبط بالعقل ولا يشير إليها لفظ، ظ: مصطفی حميدة، نظام الارتباط والربط: 196.
3- تمام حسان، البيان في روائع القرآن: 119.
4- ظ: زتسیسلاف وارزیناك، مدخل إلى علم النّص: 126.

عناصر سبق ذكرها في النّصّ... وإنّ الضمير (هو) له میزتان؛ الأولى : الغياب عن الدائرة الخطابية والثانية : القدرة على إسناد أشياء معينة. وتجعل هاتان الميزتان من هذا الضمير موضوع على قدر كبير من الأهمية في دراسة تماسك النصوص»(1)، وهذا يدل على أنّ للضمائر وظيفتين دلالية وشكلية ؛ لأنّها تؤدي إلى ترابط النّصّ بالشكل والمضمون فتمثل جسراً رابطاً للأسماء والعبارات والأحداث داخل النّصّ.

تنقسم الضمائر إلى: وجودية مثل (أنا، أنت، نحن، هو، هم، هن... الخ)،وإلى الضمائر الملكية مثل (كتابي، كتابك، كتابنا ... الخ)(2).

وسواء أكانت الضمائر وجودية أم ملكية، فإنّ الضمائر الدالة أو المحيلة على المتكلم أو المخاطب، تحيل على شيء خارج النّصّ، وكذلك عندما يخاطب الكاتب المتلقي، فيستعمل الضمير (أنت، انتم، أنتن)، فإنَّه يُحيل على مجموعة من النّاس وهم خارج النّصّ، وهذه الضمائر خارج النّصّ لا تصبح إحالة داخلية أي اتساقية، إلا في الكلام المستشهد به، وهي التي يُسميها (هاليداي ورقية حسن) أدوار الكلام -؛ لذا لا يعوّل عليها النّصيون في عملية الاتساق النّصي(3).

أمّا فيما يخص الضمائر التي تحيل داخل النّص وتندرج ضمنها ضمائر الغيبة إفراداً وتثنية وجمعا (هو، هي، هم، هنّ)، والتي يُسميها (هاليداي ورقية حسن) أدوارة أُخر، وهذه تقوم بربط أجزاء النّص؛ أيّ تربط لاحق بسابق، إذ يكون

ص: 207


1- صبحي ابراهيم الفقي، علم اللغة النصي: 1/ 161.
2- ظ: محمد الخطابي، لسانیات النّص: 18.
3- محمد خطابي، لسانیات النصّ: 18.

مفسِّرها مقالياً دائماً؛ لذا سُميت «الإحالة المقالية» على عكس الأولى - خارج النّص - التي تُسمى «إحالة مقامية»، وهذه لا تسهم في اتساق النّص، أي لا تربط أجزاء النّص سابقاً بلاحق، ويكون مفسرها مقامياً دائماً(1).

يتضح من السابق أنّ عملية الاتساق بالضمائر تعتمد على ضمائر الغيبة، أمّا ضمائر المتكلم (المرسل) والمخاطب (المتلقي، أو المستقبل)، فتربط النّص بما هو خارجه، وهذا ما سيُلاحظ.

أسماء الإشارة: وهي الوسيلة الثانية من وسائل الاتساق الإحالية، فإذا «كانت الضمائر تحدد مشاركة الشخوص في التواصل أو غيابها عنه، فإنّ أسماء الاشارة.. تحدد مواقعها في الزمان والمكان داخل المقام الإشاري، وهي مثلها لا تُفهم إلا إذا رُبطت بما تشير إليه»(2).

وهناك إمكانات عدّة لتصنيفها قد وضعها النّصيون، وفي مقدمتهم الباحثان

(هاليداي ورقية حسن)، أما بحسب:

- الظرفية، في الزمان (الآن، غدا...)، والمكان (هنا، هناك ...)، والانتقاء

هذا، هؤلاء)، والبعد ذلك، تلك)،

- والقرب (هذا، هذه)، وتقوم هذه الأسماء بالربط القبلي والبعدي؛ بمعنی أنّها تربط لاحقاً بسابق، ومن ثَم فهي تُسهم في اتساق النّص؛ فإنّ اسم الإشارة المفرد يتميز بما يُسميه المؤلفان - (هاليداي ورقية حسن) - «الإحالة الموسعة»،

ص: 208


1- ظ: محمد الشاوش، أصول تحليل الخطاب: 1/ 127.
2- الأزهرالزّناد، نسيج النّص: 117، 118.

أي إمكانية الإحالة إلى جملة بأكملها، أو متتالية من الجمل (1).

أدوات المقارنة: تتسم ألفاظ المقارنة بأنّها تعبيرات إحالية لا تستقل بنفسها، وهو ما يؤهلها إلى أن تكون وسيلة من وسائل الربط والاتساق، وعليه فهي لا تختلف عن الضمائر وأسماء الإشارة في كونها نصيّة؛ فقد تعمل المبادئ نفسها، مع أنواع الإحالة الأخرى؛ إذ قد تكون خارج النّص أو داخلهِ، وتعمل في الأخير إما قبلية أو بعدية (2). وعليه تكون وظيفتها كالضمائر وأسماء الإشارة؛ أي اتساقیه نصية ترابطية.

وقد صنّف النصيّون أدوات المقارنة إلى صنفين : (3)

عامة: يتفرع إلى التطابق والتشابه والاختلاف.

خاصة: وتتفرع إلى كمية مثل (أكثر) وكيفية (أجمل من جميل)، وهذه تقوم

بوظائف اتساقيه تربط بين أجزاء النّص.

والمقارنة بابها واسع ووضعها مع الإحالات سیدخل جميع البنى الدلالية التركيبية التي تقتضي عنصرين اثنين إلى حيز الإحالات؛ إذ لا تتحقق إلا بتوفر عدد معين من العناصر، وبذلك تبتلع الإحالة معظم مقتضيات الدلالة والإعراب(4). فضلا عن هذه المسوغات، كان وجودها- في الخطب الحربية للإمام - قليلاً جداً إذا ما قورنت مع الإحالتينِ السابقتينِ، لذلك كَان اقتصار

ص: 209


1- ظ : محمد الخطابي، لسانیات النّص: 19.
2- ظ: محمد الخطابي، لسانیات النّص: 19، و: محمد محمد یونس علي، الإحالة وأثرها في دلالة النّص وتماسکه، بحث من (النت): 2.
3- ظ : محمد الخطابي، لسانیات النّص: 19.
4- ظ : محمد الشاوش، أصول تحليل الخطاب: 1/ 130.

البحث على التنظير لها- من دون التطبيق - في هذه الدراسة.

كثرت العناصر الإحالية في خطب الحرب للإمام علي(علیه السّلام) على نحو بالغ يصعب معه تحليلها بالكامل، فلا تكاد تخلو خطبة من الضمير الذي يسهم في تحقيق الترابط بين أجزائها - الخطبة - سواء أكانت هذه الخطبة طويلة أم قصيرة، وهذه الكثرة تتناسب وطبيعة الخطب ودورها البارز في الإصلاح؛ فقد مالت - الخُطَب - إلى تكثيف العناصر الإحالية وربطها في أغلب الأحيان - بمرجع إشاري واحد يُمثل «بُؤرة النّصِّ»، وهذا ما يجعل المتلقي أو المخاطب في حالة تحفيز مستمرة، ومن ثم يؤدي إلى استحضارهِ في الخطاب حتى النهاية.

وأغلب العناصر الإحالية ظهوراً في الخطب هي «الضمائر»؛ إذ تُمثل أداة يعتمد عليها المتكلم لبناء نصِّ متسقٍ مترابطٍ، بِها يظهر أثر قرينة الربطِ، فتترابط فيها الإحالات في الكلمة أو العبارة الأولى (المرجع الإشاري)، وتمثل اختصاراً لبعض عناصرِها، ما يُسَهِّل على المتلقي ربط عناصر النصِّ بعضها ببعضِ، وإرجاع كلِّ إحالة إلى مرجعِها النّصِّيّ.

ومثلما تظهر أهمية العناصر الإحالية، فكذا الأمر مع العنصر الإشاري الذي يحدد نوع الإحالة؛ هل هي إحالة مقامية أو مقاليه (نصِيَّة)؟ ومن ثمَّ يحدد نوع الأخرى؛ هل هي قبلية أو بعدية؟ ولا يقتصر دورهُ - المرجع الإشاري - على التحديد الرئيس؛ وإنَّما يشمل الفرعي فيحدد نوع الإحالة هل هي وجودية أو ملكية؟ وهذا ما سيتضح من طريق التطبيق، وتظهر أهميتهُ بصورة أوضح عن

طریق تقسیم علماء النصِّ لهُ على قسمين هما:

عنصر إشاريَّ معجمي، يتمثل في وحدةٍ معجميةٍ مفردةٍ يُحالُ عليها .

ص: 210

عنصر إشاري نصِّيٍّ، يتمثّلُ في مقطع أو جزءٍ من نصِّ، يُحالُ عليهِ بعنصرٍ إحاليٍ نصّيٍّ، وهكذا فإنَّ الأخير يتميز عن الأول في طبيعتهِ وتكوينهِ والهدف منه، أيَّ إنَّ العناصر الإشارية هي مقاطع من الملفوظ، قد تطول وقد تقصر، وقد تمثّل جزءاً من مقاطع تجري الإحالة عليها للاختصار واجتناب التكرار. وتتميز هذه العناصر الإشارية النصية عن العناصر الإشارية المعجمية بكونها أقلُّ انتشَاراً ...»(1).

ولدراسة هذه الحالة - بيان مدى ارتباط الإحالات بالمرجع الإشاري - على

سبيل التمثيل، ولإظهار أثر:

- الإحالة الضميرية أولاً في تحقيق اتساق النصِّ، يتتبع البحث عنصريّ

الإحالة المقامية والمقالية (النّصِّيَّة ) عن طريق الخطب الحربية في النهج.

الإحالة المقامية، التي تُسهم في اتساق النصِّ عن طريق ربطهِ بالسياق الخارجي أو سياق الموقف، فيكون العنصر المشار إليه غير مذكور في النصِّ، وهذا النوع من الإحالة منتشر بكثرة في الخطب الحربية للإمام(علیه السّلام) ومن أمثلة ذلك قوله (علیه السّلام) في تخويف الخوارج بالنهروان :

«فَأَنَا نَذِیرٌ لَکُمْ أَنْ تُصْبِحُوا صَرْعَی بِأَثْنَاءِ هَذَا النَّهَرِ، وَبِأَهْضَامِ هَذَا الْغَائِطِ

عَلَی غَیْرِ بَیِّنَهٍ مِنْ رَبِّکُمْ، وَلا سُلْطَانٍ مُبِینٍ مَعَکُمْ، قَدْ طَوَّحَتْ بِکُمُ الدَّارُ، وَاحْتَبَلَکُمُ الْمِقْدَارُ، وَ قَدْ کُنْتُ نَهَیْتُکُمْ عَنْ هَذِهِ الْحُکُومَهِ فَأَبَیْتُمْ عَلَیَّ إِبَاءَ الْمُخالفینَ، حَتَّی صَرَفْتُ رَأْیِی إِلَی هَوَاکُمْ، وَأَنْتُمْ مَعَاشِرُ أَخِفَّاءُ الْهَامِ، سُفَهَاءُ الْأَحْلامِ، وَلَمْ آتِ لا أَبَا لَکُمْ بُجْراً، وَلا أَرَدْتُ لَکُمْ ضُرّاً»(2).

ص: 211


1- سعید حسن البحيري، دراسات لغوية تطبيقية في العلاقة بين البنية والدلالة: 102.
2- نهج البلاغة: 80، خطبة : 36 .

تظهر الإحالة الخارجية منذ بداية النّصّ من طريق ضميري الخطاب «أنا+ أنتم»، وهذا الظهور الموازي منذ بدء الخطاب يعقد تقابلاً متسقاً بين ذاتین هما:

- «ذات المتكلم (أنا) العائد على المتكلم نفسه X ذات المتلقي المعبر عنه بالضمير (أنتم)، أي المتلقين للخطاب»، فهم يمثلون الطرف المقابل في الخطاب . وقوله (أنا نذيرٌ لكم) خطاب مباشر موجه للخوارج حين عزموا على الخروج وشق العصا، فحذرهم من فعلتهم، فهذه الأحداث التي صاحبته هي التي استوجبت ذلك الخطاب المؤثر بطبيعته، ما أدى إلى بروز دور المتكلم بروزا واضحاً؛ إذ عبر عن موقفه تجاه أفعالهم محذراً ومنذراً إياهم مما يُصِيبهم من الهلاك، وهم على غير بينة من ربهم ولا حجة يحتجون بها، نتيجة اتباع أهوائهم الباطلة (1)، فحاول التأثير فيهم بأحداث نصية أغلبها متعلق بالمتلقين «أنتم» ک«لَکُم تُصبِحُوا، رَبَّكُم مَعَكُم، بکم، احتَبَلَکُمُ، أبیتُم، هَواکُم، أنتُم، لَکُم، لَکُم) فجاءت محكمة التوجيه، فكأنّها أفرغت إفراغاً واحداً، وبعضهاالآخر مرتبط ب (أنا) المتكلم ک(نَذِیرٌ، کنتُ، صَرفتُ، رأيي، أردتُ) الذي قرن تلك الأحداث المعاني بنفسهِ بكونهِ ممثلاً عليهم (خليفة) وهي الأقل إذا ما قورنت بسابقتها، مما جاء منسجماً ومقصد المتكلّم في التأثير فيهم ومن ثمَّ إيصال ما يبتغيه لهم؛ فوفق ذلك جاء الضمير العائد عليهم مسيطراً على تلك الوحدة النّصِّية، وتجاوز الربط بها عامة النّصِّ.

ويزيد الأمر اتساقاً هو تعلّق تلك الأحداث النّصّية بواقعهم السلبي، وهي

ص: 212


1- ظ: ابن میثم البحراني، شرح نهج البلاغة: 2/ 91.

ما يسميها بعضهم بالغيبيات» أو «الأمور الغيبية» والتي تدور في محيط البنية الكلية للنّصِّ، والمتمثلة ب «بؤرة النّصِّ »، فقد حاول المتكلم بثّها عبر وسائل نصية مترابطة، ألّف ضمير المتكلم (أنا) + ضمير المخاطب (أنتم) أساس ذلك الاتساق، وفي شكل إحالات مقامية تُدرك من سياق الموقف الذي يدل عليه النّصّ، وهي تعود عليهم وليس إلى النّصّ، و قد يبينه التوزيع الآتي للضمائر في المخطط :

213-1 .jpg

وثمة تفاعل ضميري بين ذاتين في النّصِّ؛ هما ذات المتكلّم، وذات المتلقي

من طريق الفعل النصِّي المشترك بينهما، وهو(نَهَیتُکُم):

213-2.jpg

ومن هذا التفاعل تحققت دلالتين، دلالة ظاهرة، والمتمثلة بالثبوت والتحقق في زمن مضى وانقضى، والدلالة الباطنة على دوام النهي إلى زمن التكلّم، والمستدل عليه بالسياق وما يتضمنه من قرائن لفظية، ما يدل على استمرار نهيه لهم عما يفعلونه، وتحذيره إياهم بما يحيط بهم، وهذا التنوّع الضميري لطرفي الاتصال منح النّصِّ صفة التلاحم؛ إذ جاء بعضها منفصلاً - وقد كانت أقلُّ حضوراً في النّصّ - وبعضها متصلاً بالأسماء والأفعال والحروف، وكانت هي - الضمائر المتصلة - المسيطرة على النّصّ؛ «لأنّ المتصل أكثر اختصاراً في تكوينه وصيغته، وأوضح

ص: 213

وأيسر في تحقيق مهمة الضمير»(1)، وهذا يؤدي إلى ترابط النصِّ واتساقهِ .

و تظهر الإحالة المقامية أيضاً من قوله(علیه السّلام) في توبيخ بعض أصحابهِ بعد ليلة الهرير عندما سألهُ رجل عن الحكومة المتبعة، قال: «نهيتنا عن الحكومة ثم أمرتنا بها، فما ندري أيّ الأمرين أَرشد؟»(2)، فصفق (علیه السّلام) إحدى يديه بالأخرى ثمّ قال :

«هَذَا جَزَاءُ مَنْ تَرَكَ اَلْعُقْدَةَ! أَمَا وَ اَللَّهِ لَوْ أَنِّي حِينَ أَمَرْتُكُمْ بِمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ حَمَلْتُكُمْ عَلَى اَلْمَكْرُوهِ اَلَّذِي جَعَلَ اَللَّهُ فِيهِ خَيْراً، فَإِنِ اِسْتَقَمْتُمْ هَدَيْتُكُمْ وَ إِنِ اِعْوَجَجْتُمْ قَوَّمْتُكُمْ وَ إِنْ أَبَيْتُمْ تَدَارَكْتُكُمْ، لَكَانَتِ اَلْوُثْقَى، وَ لَكِنْ بِمَنْ وَ إِلَى مَنْ؟ أُرِيدُ أَنْ أُدَاوِيَ بِكُمْ وَ أَنْتُمْ دَائِي، كَنَاقِشِ اَلشَّوْكَةِ بِالشَّوْكَةِ، وَ هُوَ يَعْلَمُ أَنَّ ضَلْعَهَا مَعَهَا! اَللَّهُمَّ قَدْ مَلَّتْ أَطِبَّاءُ هَذَا اَلدَّاءِ اَلدَّوِيِّ، وَ كَلَّتِ اَلنَّزَعَةُ بِأَشْطَانِ اَلرَّكِيِّ! أَيْنَ اَلْقَوْمُ اَلَّذِينَ دُعُوا إِلَى اَلْإِسْلاَمِ فَقَبِلُوهُ؟ وَ قَرَءُوا اَلْقُرْآنَ فَأَحْكَمُوهُ وَ هِيجُوا إِلَى اَلْجِهَادِ «...»إِنَّ اَلشَّيْطَانَ يُسَنِّي لَكُمْ طُرُقَهُ وَ يُرِيدُ أَنْ يَحُلَّ دِينَكُمْ عُقْدَةً عُقْدَةً، وَ يُعْطِيَكُمْ بِالْجَمَاعَةِ اَلْفُرْقَةَ، وَ بِالْفُرْقَةِ اَلْفِتْنَةَ؛ فَاصْدِفُوا عَنْ نَزَغَاتِهِ وَ نَفَثَاتِهِ، وَ اِقْبَلُوا اَلنَّصِيحَةَ مِمَّنْ أَهْدَاهَا إِلَيْكُمْ وَ اِعْقِلُوهَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ»(3).

جاء خطاب المتكلم - هنا في إطار إجابة عن سؤال المتلقي، فتمثلت عبر مجموعة من الصور التراتبية؛ لتضمنها دلالات فرعية تنسجم والدلالة المبتغاة،جاءت محكمةً بطبيعة الموقف الخطابي، فأولى تلك الصور هي الصفقة «فصفق (علیه السّلام) إحدى يديه بالأخرى»، التي تدلُّ دلالة واضحة على تألمه وتأسفه على هؤلاء؛ كونه يخاطب عقوطاً لا تعي ما يقول؛ فنهيه لهم لم يكن نهياً مطلقاً عن الحكومة، وإنّما كان

ص: 214


1- حسن عباس، النحو الوافي: 1/ 229.
2- نهج البلاغة: 177، خطبة: 121.
3- نهج البلاغة: 177، خطبة: 121.

نهياً خاصا، وكذلك الأمر مع الإرشاد؛ إذ كان عن قصدٍ معين، فالمتلقين كانوا ينتظرون إجابةً تتردد في أذهانهم بين النفي والإثبات لسؤالهم المرتاب والمشكك، إذا بالمتكلّم صفق يديه، فكانت عنصراً مفاجأً لذلك السؤال، ما أحدث تفاعلاً ذهنياً لدى المتلقي لرصد دلالة تلك الحركة الحسيّة.

وبعدها يأتي التفصيل المباشر في الإجابة بعدما أثار انتباهاً لدى المتلقي، المحكم بالتقابل الضميري بين ضمير المتكلم (إنّي)، وضمير المخاطب (أنتم)، - اللذين يحيلان على خارج النّصِّ -؛ لتمثلهما المحور الأساس في النّصِّ المتجلي، وقد استمر هذا التقابل حتى نهاية الخطاب، وهذه الصورة الثانية من صور التراتبية، ما يولد حركة تفاعلية حيوية مستمرة بين ذاتين. هي ذات المتكلم وذات المتلقي، وتوسيع المسارب بينهما، و يتبين التقابل الضميري بينهما بالمخطط الآتي:

(ضمائر الخطاب)

ص: 215

-يوضح هذا المخطط أنّ التقابل الضميري شامل، فالإحالات الضميرية

المتقابلة قد استحوذت على، أجزاء هذه الوحدة، فحافظت على العلاقات النّصّية التي أقامها المتكلّم بينه وبين المتلقي، ما أدى إلى تتابع الخطاب النّصِّي، وتعالق التراكيب النصية، المنتظمة.

لقد ذكّرهم بجانب إيجابي آخر – فضلاً عن جانبه - متمثل بمتلقٍ سابق استحضره للتذكرة، أخذ النُصح فحصد زرعه و رُزق الفوز العظيم، مثّله ضمير الغياب «هم»، «أَینَ الْقَوْمُ الَّذِینَ دُعُوا إِلَی الْإِسْلاَمِ فَقَبِلُوهُ؟ وَقَرَأُوا الْقُرْآنَ فَأَحْکَمُوهُ؟ وَهِیجُوا إِلی الْجِهَادِ» تحوّل خطابه من الحضور إلى الغياب، فجاءت مقابلته - هنا - استفهام شوقٍ من جانب إيجابي ليقابل استفهام شكِّ وريب من جانهم السلبي، على الرغم من حضورهم - المتلقين - المباشر، مقابل غيّاب ذلك المتلقي، وعليه جاء توبيخه إياهم وتحذيرهم من عثرات أفعالهم.

فتحوّل الخطاب من الحضور إلى الغياب؛ لغرض الاستحضار جاء أمره عجبا؛ إذ استطاع المتكلّم فيه توعية المتلقي الغافل، من طريق ربط أحداثه وشخوصه في عمق البينة الخطابية . فمألوف هو ربط المتكلم خطابه بالمجالات المؤثرة فيه والمتفاعلة معه، فهذا يعد من الظواهر المعرفية و الإحالية(1)، فتعالقت أجزاؤها بعضها ببعض وتألفت مع ما تحمله من عمق الدلالة، وسيكون الأمر أكثر وضوحاً في (الإحالة الوجودية).

الإحالة النّصّية الداخلية (المقالية): وتقع هذه الإحالة داخل النّصّ، ويسهم

السياق اللغوي في فهمها، وهي نوعان: قبلية وبعدية .

ص: 216


1- مؤيد آل صوينت، الخطاب القرآني، دراسة في البعد التداولي: 82.

الإحالة القبلية: وفيها يُذكر ما في النّصِّ من لفظ سبق التلفّظ به (المرجع الإشاري) بعنصر إحالي يأتي بعدهُ، ومرتبط به أشد ارتباط؛ لأنَّه لا يملك دلالة مستقلة، وأمثلتها كثيرة في النّهج، ولاسيما في الخطب الحربية، منها ما مثّل القسم الثاني من خطبتهِ(علیه السّلام) في توبيخ أصحابه بعد ليلة الهرير؛ لتركهم التعاقد معه لحرب الخارجين عن البيعة، فقد ذكّرهم الإمام(علیه السّلام) بالأولين في شجاعتهم وتقواهم، فقال:

أَیْنَ الْقَوْمُ الَّذِینَ دُعُوا إِلَی الْإِسْلاَمِ فَقَبِلُوهُ- وَ قَرَءُوا؟الْقُرْآنَ؟ فَأَحْکَمُوهُ- وَ هِیجُوا إِلَی الْقِتَالِ فَوَلِهُوا- وَلَهَ اللِّقَاحِ إِلَی أَوْلاَدِهَا- وَ سَلَبُوا السُّیُوفَ أَغْمَادَهَا- وَ أَخَذُوا بِأَطْرَافِ الْأَرْضِ زَحْفاً زَحْفاً- وَ صَفّاً صَفّاً بَعْضٌ هَلَکَ وَ بَعْضٌ نَجَا- لاَ یُبَشَّرُونَ بِالْأَحْیَاءِ- وَ لاَ یُعَزَّوْنَ بِالْمَوْتَی- مُرْهُ الْعُیُونِ مِنَ الْبُکَاءِ- خُمْصُ الْبُطُونِ مِنَ الصِّیَامِ- ذُبُلُ الشِّفَاهِ مِنَ الدُّعَاءِ- صُفْرُ الْأَلْوَانِ مِنَ السَّهَرِ- عَلَی وُجُوهِهِمْ غَبَرَهُ الْخَاشِعِینَ- أُولَئِکَ إِخْوَانِی الذَّاهِبُونَ- فَحَقَّ لَنَا أَنْ نَظْمَأَ إِلَیْهِمْ- وَ نَعَضَّ الْأَیْدِی عَلَی فِرَاقِهِمْ- !»(1).

تحوّل خطاب المتكلم في هذا القسم إلى الخطاب غير المباشر، إذ استحضر الغائبين- عن طريق أوصافهم- في محيط البنية الكلية للنّصِّ التي حاول المتكلم بثّها عبر وسائل نصّية مترابطة، فقد عمد المتكلم إلى إظهار الضمير الوجودي المحيل على الغائب (هم)، والذي يرجع إلى (القوم) الغائبين، فألّف ضمير الغائب (الواو) في: (دُعُ+وا، فَقَبِلُ +وهُ، + قَرَأُ+ وا، فأحکَمُ +وهُ، هِيجُ +وا، فَوَلَّهُ+ وا، سَلَبُ +وا، أخَذُ+وا، يُبَشّرُ+ ونَ، يعَزُّ+ ونَ، وَجُوهِ +هم، إخوَاني (هم)،

ص: 217


1- نهج البلاغة: 177، خطبة: 121.

الذَّاهِبُ +ونَ، إلَى +هِم، فِرَاق +هم) أساس ذلك التعالق وعلى شكل إحالات قبلية وجودية يمكن إدراكها من سياق الموقف الذي يدل عليه النّصّ، وهي تعود على النّصِّ وليس المقام، فكأنما عقد - المتكلم - موازنة بين موقفين مترابطين في بناء تواصلي جمع بينهما السياق، فقرن موقف الحضور (المقام) بسیاق سلبي- سبق آنفاً، في حين قرن موقف الغائبين بسياق إيجابي؛ لغرض التذكرة والموعظة.

وقد اعتمد المتكلّم في تشكيل المعنى أو إظهاره على وضع الضمائر داخل النص، وربط التراكيب؛ إذ أنَّ هذه الضمائر من بين الوسائل التي تحقق التماسك الداخلي والخارجي للنّصِّ، ومن ثم أكد علماء النص - ذكر سابقا- أنَّ للضمير أهمية في كونه يحيل على عناصر سبق ذكرها في النص (1)، وكان «القوم» (أهم العناصر الإشارية) في هذا الجزء، أُحيلت عليه شبكة من الإحالات: الضميرية، و الموصولية (الذين)، والإشارية (هؤلاء)، بغية التفصيل بعد الإجمال الذي اقترن بالاسم الموصول (الذين).

إنّ نواة النص مفردة معجمية واحدة (القوم)، أو جملة واحدة (أين القوم الذين دعوا إلى الإسلام فقبلوه)، وشكلّت هذه الجملة (الدعامة الأساسية) للنّصِّ، والتي تطوّر منها النص وتفرّع، فأسندت إليها جملٌ أُخر، و شكلّت هذه الروابط التركيبية، والروابط الإحالية، أساساً لتماسك النّصِّ .

فضلا عن الروابط المكانية التي تمثّلت بالتساؤل الإنكاري عنهم (أين القوم)؛ إذ مهد السبيل؛ لذكر أوصافهم - استحضارهم-، فضلا عن أنّه لم

ص: 218


1- ظ: 132، 133، من هذا البحث.

يذكر اسم (القوم) بلفظه الصريح؛ لكونهِ مشهوداً معهوداً في الأذهان، مكتسباً وجودهُ عند المتلقين، وقد عملت هذه الضمائر على تنوع الحوار الداخلي للنّصِّ، يمكن بيانه من خلال التوزيع الآتي:

تبدو الإحالة رابطاً قوياً لعناصر النّصِّ التي تتكون منها الوحدات التركيبية المترابطة المتعاطفة، فجاء استعمالها على هذا النحو معيناً على استحضار(صورة) الغائبين استحضاراً نصّياً وجودياً علائقياً، حتى أصبح المتلقي قادراً على عودها إلى مرجعها الإشاري المذكور؛ للالتحام الذي امتد إلى نهاية النّصِّ ومن ثمّ ربطه بالإحالة النصّية التي جسدها ضمير الغائب (هم)، فانتقال المتكلم من المقام إلى المقال وعودته جاء متوافقاً ومقصده؛ لذا مثّل انتقالة طفيفة من دون حدوث لبس فيها (1).

فضلاً عن ذلك فإنّ هيمنة الضمير الوجودي في النّصِّ على ضمائر الخطاب، يسمح للنّصِّ بالاستمرار في الزمان، ذلك أنَّ الخطاب يظل عاماً وصالحاً

ص: 219


1- وهو ما يعرف عند علما النّصّ الغربيين ب(ترتیب وقائع الخطاب).

للتطبيق في كل زمان؛ سواء كان ماضياً حاضراً»(1)، ويشمل تأثيره الفعلي المستقبل بصورةعامة (المستمع للخطاب والقارئ للنّصِّ ).

ومثاله في الإحالة الوجودية أيضاً في معنى الحكمين:

«فَأَجْمَعَ رَأْیُ مَلَئِکُمْ عَلَی أَنِ اخْتَارُوا رَجُلَیْنِ- فَأَخَذْنَا عَلَیْهِمَا أَنْ یُجَعْجِعَا عِنْدَ الْقُرْآنِ، وَ لاَ یُجَاوِزَاهُ، وَ تَکُونُ أَلْسِنَتُهُمَا مَعَهُ وَ قُلُوبُهُمَا تَبَعَهُ، فَتَاهَا عَنْهُ، وَ تَرَکَا الْحَقَّ وَ هُمَا یُبْصِرَانِهِ، وَ کَانَ الْجَوْرُ هَوَاهُمَا، وَ الاِعْوِجَاجُ رَأْبَهُمَا- وَ قَدْ سَبَقَ اسْتِثْنَاؤُنَا عَلَیْهِمَا فِی الْحُکْمِ بِالْعَدْلِ- وَ الْعَمَلِ بِالْحَقِّ سُوءَ رَأْیِهِمَا وَ جَوْرَ حُکْمِهِمَا- وَ الثِّقَهُ فِی أَیْدِینَا لِأَنْفُسِنَا حِینَ خَالَفَا سَبِیلَ الْحَقِّ- وَ أَتَیَا بِمَا لاَ یُعْرَفُ مِنْ مَعْکُوسِ الْحُکْمِ »(2).

يتحدث النّصِّ عن خيانة (الحكمين) في حوار بين المتكلم والمتلقين الذين عزموا على اختيارهما وفق شروطٍ لم يعملا بها، وعلى وفقهِ جاء المرجع الإشاري المعجمي (رجلين) الذي ارتبطت به الأحداث النّصّية عن طريق الإحالات الضميرية المكثفة في النّصِّ، التي تحكم الروابط بين شخوصه وأحداثه، وإن كانت متضادة ومتناقضة، وقد أضفت على النّصِّ سمة الإيجاز مع امتداد دلالته واتساعها.

فضلاً عن ذلك فقد حدد المرجع الإشاري نوع الضمير السائد في النّصِّ، وهو الضمير الوجودي المحيل على غائب (هما)، الذي اشترك في بناء النّصِّ،

ص: 220


1- عیسی جواد الوداعي، اطروحة دكتوراه بالجامعة الاردنية بعنوان (التماسك النّصّي دراسة تطبيقية في نهج البلاغة): 149.
2- نهج البلاغة: 257، خطبة : 177، ، يجعجعا: يقيما، وهي من جعجع البعير إذا برك، ولزم الجعجاع، أي الأرض، أي يقيما عند القرآن ولا يجاوزاه، ظ : نهج البلاغة، تح: صبحي الصالح: 641، و: الخوئي : منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة: 2/ 242.، و: محمد جواد مغنية، في ظلال نهج البلاغة: 2/ 546.

وتوجيه دلالاتهِ عن طريق مطابقته مع المرجع الإشاري داخل البنية اللغوية، وهذا الشرط الأساس في عملية الربط بالضمير، فيجب «أن يكون بين الضمير ومرجعه مطابقة في اللفظ والقصد بحيث لو عدنا بالإضمار إلى الإظهار لحصلنا على اللفظ نفسه وعلى المدلول نفسه »(1)، وعليه جاء الترابط في النّصِّ محكماً والنسيج متيناً و حقق وجوده في ذهن المتلقي؛ فمتى ما حُذف المرجع الإشاري فقد النّصُّ اتساقه، ومن ثمَّ أصبح المتلقي فيه عرضةً للتشتت، ويمكن توضيح الإحالات الضميرية الواردة في النّصِّ عن طريق التخطيط الآتي:

221-1.jpg

يلحظ من التخطيط سيطرة الضمير الوجودي - المحيل على الغائب - على الأحداث النصية؛ إذ قام بعملية الربط بين الجمل، وتمكن بذلك من جعل

(الرجلين)؛ أي الحكمين حاضرين بقوة في النّصِّ، وهذا ما يجعل النّصِّ متعالقاً

متسقاً.

ترتبط هذه الإحالة ارتباطا قوياً بالإحالة المقامية من طريق الحوار بين

المتكلّم والمتلقي؛ لتعلق الأمر بهم، وهي كالآتي:

ص: 221


1- تمام حسان، البيان في روائع القرآن: 119.

وهذا يصوّر مدى تذمّر الجميع منها. ثمّة تنوع في الإحالة الضميرية، فجاء ضمير الغائب (هما) مرة منفصلاً وأخرى متصلاً - وهو الأكثر حضوراً في النّصِّ - بالأفعال «یُجَعجِعَا، یُجَاوِزَاهُ، فَتَاهَا تَرَکَا يُبصِرَانِهِ، خَالفَا، أتَيَا» فكونت جملا كاملة مستقلة «فعل + فاعل «وبعضها تحتوي على ضميرين، وهذا كوّنَ شكلاً تعبيرياً حقق في تركيبهِ وحدات انسجام صغرى في النّصِّ، ولم يكتف بذلك، بل قام بوصلها بالأسماء «ألسِنَتُ+ هُما / قُلُوبُ + هُمَا / هَوَا +هُمَا/ دَأبَ + هُمَا / رأيِ + هِمَا / حُكمِ+ هِمَا» وبحرف الجر «عَلَي + هِمَا «وكلها إحالات نصّيَّة مهدت السبيل للمتكلّم؛ لتصوير مدى جزعهم من هذين الرجلين الذين عقدوا معهما استلام الحكم مع الشروط المتفق عليها والتي ذكرها الإمام (عليه السلام، وقد كانت مغامرة خاسرة لا راحة لهم معهما؛ لذا نصحهم الإمام بترکهما وعدم التقيّد بهما، وقد أعرض الإمام ((علیه السّلام) عن ذكرهما بلفظهما، وکنی عنهما بضمير الغائب تقليلاً من شأنهما، واستقباحاً لأمرهما ؛ لكونهِ حانقاً عليهما، والرجلان الحكمان هما: «أبو موسى الأشعري وعمرو بن العاص»(1).

مثلما سيطر ضمير الوجودي على النصوص، سيطر ضمير الملكية على

أُخرى، ومنها ما قالهُ (علیه السّلام) في ذم أهل البصرة بعد وقعة الجمل:

«أَرْضُکُمْ قَرِیبَهٌ مِنَ الْمَاءِ بَعِیدَهٌ مِنَ السَّمَاءِ، خَفَّتْ عُقُولُکُمْ، وَ سَفِهَتْ حُلُومُکُمْ فَأَنْتُمْ غَرَضٌ لِنَابِلٍ، وَ أُکْلَهٌ لِآکِلٍ، وَ فَرِیسَهٌ لِصَائِدٍ»(2).

خصصت ضمائر الملكية الخطاب بالمتلقي (أهل البصرة)، ولاسيما الحضور

ص: 222


1- ابن میثم البحراني، اختیار مصباح السالكين: 364.
2- نهج البلاغة: 55، خطبة: 14.

منهم، فالضمير المتصل «كم» المحيل على المخاطب الجمع قد أدى وظيفة کلامية؛ إذ ساعد في بناء تواصلي بين المتكلم والمتلقي، فهو- هنا- مكون إحالي لغوي يحيل على المتلقي خارج النّصّ «المقام الخارجي» ؛ ليكشف عن الأحداث الخاصة بهم - الصفات - في أثناء إجراء الخطاب، فقد كانت أرضُهم قريبةً من البحر إلّا أنَّها بعيدة عن رحمة الله ؛ لغدرهم وعداوتهم، فقرن المتكلم تلك الأحداث السلبية بهم بإسناد الضمائر الملكية لهم، وحاول تأكيد تلك الأحداث بهم عن طريق اقترانها بالأسماء:

( أرض +کُم، عُقولُ +کُم، حُلُومُ +کُم)

أهل البصرة)

لتؤكد ثبوتها بهم، وكلها تدور مرتبطةً ب «الضمائر الملكية» التي تخصُّ (أهل البصرة)، أي: خطابٌ خاصٌ بهم لا ينصرف لغيرهم، ومحدد الزمان فلا يشمل زماناً آخر، فهذا الحصر الخطابي المختص بهم من روابط «الشخوص، والأحداث، ومتعلقي الزمان والمكان» يؤكد على عظم الذنب المقترف من قبلهم، فضلا عن ابعاد كلُّ ذلك عن غيرهم، و يقوي من صفة التواصل بينهما، ومن ثمَّ فك شفرة النّصِّ وأخذ الحيطة والحذر بما يُحيط بهم، وقد أثرت الإحالة عن طريق الضمير المنفصل (أنتم) تأثيراً فاعلاً في اتساق النّصِّ؛ لربطها أجزاء النّصِّ بعضها ببعض من دون تنافر بين أجزائه، فاستعاض الإمام (علیه السّلام) عن ذكرهم بضمائر الخطاب، فاصبحوا طرفاً مباشراً في عملية التواصل الخطابي.

الإحالة البعدية: وهي تعني مجيء المضمر قبل المرجع المشار إليه، فهي تعود

ص: 223

على عنصر لاحق في النص، ومنها ما قالهُ (علیه السّلام) لمّا اضطرب عليه أصحابه في أمر الحكومة :

«أَیُّهَا النَّاسُ، إِنَّهُ لَمْ یَزَلْ أَمْرِی مَعَکُمْ عَلَی مَا أُحِبُّ، حَتَّی نَهِکَتْکُمُ الْحَرْبُ، وَ قَدْ وَ اللَّهِ أَخَذَتْ مِنْکُمْ وَ تَرَکَتْ، وَ هِیَ لِعَدُوِّکُمْ أَنْهَكُ-...»(1).

الضمير المتصل (الهاء) - هنا- وهو إحالة متقدمة على مفسِّرها (أمري)؛

لغرض شدّ انتباه المتلقين، ودفع الشك عنهم – الذي جاء لتوضيحه بحسب السياق النّصّي، وهذه الإحالة تحكم المتلقي بمتابعة الحديث بشوق، ليجعلهُ حاضراً في النّصِّ ليشارك المتكلم في خطابهِ، إذ أراد التركيز على عدم تركهِ لهم، يمكن بيان بالآتي:

وكذلك قدّم الضمير «هي» في (نهکتکم) الذي يُفسره لفظ (الحرب) الذي جاءبعده؛ لأنَّ مقصد المتكلم هو تبيان مدى الأثر السلبي للحرب؛ إذ ساقت لهم الظمأ والضعف الشديد، وهذا أمر يهمّ المتلقي. ومثلما استعمل الإحالة البعدية ذات المدى القريب، فقد استعملها في المدى البعيد ولكلٍ مقاصدهُ، نحو قوله(علیه السّلام) بعد انصرافه من صفين:

«أَحْمَدُهُ اسْتِتْمَاماً لِنِعْمَتِهِ، وَاسْتِسْلاماً لِعِزَّتِهِ، وَاسْتِعْصَاماً مِنْ مَعْصِیَتِهِ، وَأَسْتَعِینُهُ فَاقَهً إِلَی کِفَایَتِهِ، إِنَّهُ لا یَضِلُّ مَنْ هَدَاهُ، وَلا یَئِلُ مَنْ عَادَاهُ، وَلا یَفْتَقِرُ مَنْ کَفَاهُ فَإِنَّهُ أَرْجَحُ مَا وُزِنَ، وَأَفْضَلُ مَا خُزِنَ. وَ أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلّا اللَّهُ، شَهَادَهً مُمْتَحَناً إِخْلاصُهَا، مُعْتَقَداً مُصَاصُهَا، نَتَمَسَّکُ بِهَا أَبَداً مَا أَبْقَانَا، وَنَدَّخِرُهَا لِأَهَاوِیلِ مَا یَلْقَانَا، فَإِنَّهَا

ص: 224


1- م.ن: 324، خطبة : 208.

عَزِیمَهُ الإِیمَانِ وَفَاتِحَهُ الإِحْسَانِ، وَمَرْضَاهُ الرَّحْمَنِ، وَمَدْحَرَهُ الشَّیْطَانِ»(1).

استحوذت الإحالات الضميرية في هذا النّصِّ على تراكيبها من أول جملة فيها (أحمدهُ)، ما أدى إلى سيطرة الضمير الوجودي - المحيل على الغائب - (هو) على النّصِّ، فكان قادراً على تنظيم المعطى الدلالي المراد في كلِّ مرّةٍ؛ لأنَّهُ كان نائباً عن ذكر لفظ الجلالة (الله) في جزئية الحمد، وكان معتمده في ذلك هو حدس المتلقي ومعرفتهِ، فالمحال عليهِ- لفظ الجلالة - هو (بؤرة النّصِّ) وهو المستكن في ذهن المتلقي، ويمكن تبيان الإحالات الضميرية البعدية الواردة في النّصِّ عن طريق التخطيط الآتي:

فالمتكلم يُريد إثارة هذه المعرفة؛ ليخلق مشاركة إيجابية للمتلقي، فلا يكون متلقياً سلبياً، فقد ذكر اللفظ الصريح في الجزئية الثانية التشهيد (وَ أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلّا اللَّهُ) وزاد العطف الأمر ترابطة (الواو)؛ إذ كان ذا قيمة مهمة في إيجاد الترابط النّصّي بين الوحدات النصية؛ لقدرته على أن يكون عنصرا فاعلا، في استمرارية عمل التواصل الخطابي، وحفظه من القطع الذي قد يُسبب في حصولهِ – القطع- انفكاك في النّصّ. و قد زادت الكنايات المتتالية - (اسْتِتْمَاماً، اسْتِسْلاماً، اسْتِعْصَاماً) - النّصّ اتساقاً، وهذه تُزيد في خضوع العبد واعترافه بأنَّهُ - تعالى - وحده قادر على إتمام النعمة.

ثانياً- الإحالة الإشارية: تعدّ من الوسائل المهمة في تحقيق الاتساق في مستواه

ص: 225


1- نهج البلاغة: 47، خطبة: 2.

التركيبي؛ لأنَّهُ يحيل بالضرورة على تركيب أو جزء من ترکیب سواء أكان سابقاً له أم لاحقاً عليه، وبهذا تقوم بترابط أجزاء التركيب بعضها ببعض، وقد جاءت الإحالة الإشارية في خطب الإمام علي (علیه السّلام) بوصفها رابطا نصيا في خطبهِ، ومن ذلك قوله(علیه السّلام) في تنفيره من خصومهِ (أصحاب الجمل) في البصرة:

« وَاللَّهِ لَتَفْعَلُنَّ أَوْ لَینْقُلَنَّ اللَّهُ عَنْکمْ سُلْطَانَ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ لَا ینْقُلُهُ إِلَیکمْ أَبَداً حَتَّی یأْرِزَ الْأَمْرُ إِلَی غَیرِکمْ. إِنَّ هَؤُلَاءِ قَدْ تَمَالَئُوا عَلَی سَخْطَةِ إِمَارَتِی، وَ سَأَصْبِرُ مَا لَمْ أَخَفْ عَلَی جَمَاعَتِکمْ، فَإِنَّهُمْ إِنْ تَمَّمُوا عَلَی فَیالَةِ هَذَا الرَّأْی انْقَطَعَ نِظَامُ الْمُسْلِمِینَ؛ وَ إِنَّمَا طَلَبُوا هَذِهِ الدُّنْیا حَسَداً لِمَنْ أَفَاءَهَا اللَّهُ عَلَیهِ، فَأَرَادُوا رَدَّ الْأُمُورِ عَلَی أَدْبَارِهَا.وَ لَکمْ عَلَینَا الْعَمَلُ بِکتَابِ اللَّهِ سِیرَةِ رَسُولِه ،وَ الْقِیامُ بِحَقِّهِ وَ النَّعْشُ لِسُنَّتِه»(1).

الحديث هنا عن هؤلاء)، التي تحيل على الغائب القريب (خصومهِ) خارج النصّ، وتعرف من سياق الموقف، وما يحيط بالنّصِّ من أحداث، وهذه - الإحالة الإشارية - تعكس مدى قربهم الواقعي والنّصِّي معاً من حديث الإمام (عليه السلام؛ ففي الخطبة ذاتها كان الخطاب موجَّها لهم مباشرةً بعد سلبهم الخلافة منهُ، فحذَّرهم بقوله(علیه السّلام) : « وَاللَّهِ لَتَفْعَلُنَّ أَوْ لَینْقُلَنَّ اللَّهُ عَنْکمْ سُلْطَانَ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ لَا ینْقُلُهُ إِلَیکمْ أَبَداً حَتَّی یأْرِزَ الْأَمْرُ إِلَی غَیرِکمْ.»؛ أي والله «إن لم تفعلوا نقل الله الخلافة عنكم حتى يجعلها في قوم آخرين، وهم أعداؤكم من أهل الشام وبني أمية ولا يعيدها إليكم إلى مدة طويلة، وهكذا وقع»(2).

ص: 226


1- نهج البلاغة: 244، خطبة : 169.
2- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة: 9/ 297.

ومن ثم انتقل الحديث عنهم إلى الغائب باستعمال الإحالة الإشارية (هؤلاء)؛ ليؤكد ما فعلوه بهِ بعد عودة الخلافة إليهِ، فقد «اجتمعوا وتساعدوا على سخط أمارتي: على سخطها وكراهيتها»(1)، ف(هؤلاء) تحيل إحالة مقامیه على خارج النص، ومن ثم فليس لها دور في اتساق النص وتماسكه؛ ولكن دورها يكمن في بناء النص وتكوينه، وقد استعملت مجردة عن المشار إليه؛ لتدل على الحط من قيمة المشار إليه، أو التنديد به.

ويحيل الإمام (علیه السّلام) باسم الإشارة المفرد الدال على البعيد بوصفهِ رابطاً نصّياً في خطبهِ، منها:

«طَبِيبٌ دَوَّارٌ بِطِبِّهِ، قَدْ أَحْكَمَ مَرَاهِمَهُ، وَ أَمضى مَوَاسِمَهُ يَضَعُ ذَلِكَ حَيْثُ اَلْحَاجَةُ إِلَيْهِ، مِنْ قُلُوبٍ عُمْيٍ، وَ آذَانٍ صُمٍّ، وَ أَلْسِنَةٍ بُكْمٍ؛ مُتَتَبِّعٌ بِدَوَائِهِ مَوَاضِعَ اَلْغَفْلَةِ، وَ مَوَاطِنَ اَلْحَيْرَةِ؛ لَمْ يَسْتَضِيئُوا بِأَضْوَاءِ اَلْحِكْمَةِ، وَ لَمْ يَقْدَحُوا بِزِنَادِ اَلْعُلُومِ اَلثَّاقِبَةِ فَهُمْ فِي ذَلِكَ كَالْأَنْعَامِ اَلسَّائِمَةِ، وَ اَلصُّخُورِ اَلْقَاسِيَةِ. قَدِ اِنْجَابَتِ اَلسَّرَائِرُ لِأَهْلِ اَلْبَصَائِرِ، وَ وَضَحَتْ مَحَجَّةُ اَلْحَقِّ لِخَابِطِهَا، وَ أَسْفَرَتِ اَلسَّاعَةُ عَنْ وَجْهِهَا، وَ ظَهَرَتِ اَلْعَلاَمَةُ لِمُتَوَسِّمِهَا. أَيْنَ تَذْهَبُ بِكُمُ اَلْمَذَاهِبُ، وَ تَتِيهُ بِكُمُ اَلْغَيَاهِبُ، وَ تَخْدَعُكُمُ اَلْكَوَاذِبُ؟ وَ مِنْ أَيْنَ تُؤْتَوْنَ، وَ أَنَّى تُؤْفَكُونَ؟ فَ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتٰابٌ، وَ لِكُلِّ غَيْبَةٍ إِيَابٌ، فَاسْتَمِعُوا مِنْ رَبَّانِيِّكُمْ وَ أَحْضِرُوهُ قُلُوبَكُمْ، وَ اِسْتَيْقِظُوا إِنْ هَتَفَ بِكُمْ . وَ لْيَصْدُقْ رَائِدٌ أَهْلَهُ، وَ لْيَجْمَعْ شَمْلَهُ، وَ لْيُحْضِرْ ذِهْنَهُ، فَلَقَدْ فَلَقَ لَكُمُ اَلْأَمْرَ فَلْقَ اَلْخَرَزَةِ، وَ قَرَفَهُ قَرْفَ اَلصَّمْغَةِ. فَعِنْدَ ذَلِكَ أَخَذَ اَلْبَاطِلُ مَآخِذَهُ، وَ رَكِبَ اَلْجَهْلُ مَرَاكِبَهُ، وَ عَظُمَتِ اَلطَّاغِيَةُ، وَ قَلَّتِ

ص: 227


1- م. ن: 9/ 297.

اَلدَّاعِيَةُ، وَ صَالَ اَلدَّهْرُ صِيَالَ اَلسَّبُعِ اَلْعَقُورِ، وَ هَدَرَ فَنِيقُ اَلْبَاطِلِ بَعْدَ كُظُومٍ، وَ تَوَاخَى اَلنَّاسُ عَلَى اَلْفُجُورِ، وَ تَهَاجَرُوا عَلَى اَلدِّينِ، وَ تَحَابُّوا عَلَى اَلْكَذِبِ، وَ تَبَاغَضُوا عَلَى اَلصِّدْقِ. فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَانَ اَلْوَلَدُ غَيْظاً، وَ اَلْمَطَرُ قَيْظاً، وَ تَفِيضُ اَللِّئَامُ فَيْضاً، وَ تَغِيضُ اَلْكِرَامُ غَيْضاً، وَ كَانَ أَهْلُ ذَلِكَ اَلزَّمَانِ ذِئَاباً، وَ سَلاَطِينُهُ سِبَاعاً، وَ أَوْسَاطُهُ أُكَّالاً، وَ فُقَرَاؤُهُ أَمْوَاتاً، وَ غَارَ اَلصِّدْقُ، وَ فَاضَ اَلْكَذِبُ، وَ اُسْتُعْمِلَتِ اَلْمَوَدَّةُ بِاللِّسَانِ، وَ تَشَاجَرَ اَلنَّاسُ بِالْقُلُوبِ، وَ صَارَ اَلْفُسُوقُ نَسَباً، وَ اَلْعَفَافُ عَجَباً، وَ لُبِسَ اَلْإِسْلاَمُ لُبْسَ اَلْفَرْوِ مَقْلُوباً»(1).

ثمَّة أربع إحالات إشارية دالة في النّصّ السابق؛ لإحكام نسيج النّصِّ،

فهي وإن كانت من لفظٍ واحد؛ إلّا أنّ دلالاتها متنوعة؛ لتنوع سياقها بحسب ما يقتضيه السياق العام، فأسماء الإشارة» تعتمد على الجانب السياقي من معنی الوحدة الكلامية فهي تُمثّل العلاقة القائمة بين المتحدثين (وعلى نحو أعم بين القائمين بعملية التحدث) وبين ما يتحدثون عنهُ في مناسبات معينة» (2)، وقد قامت جميعها بالربط القبلي في النّصِّ، وبذلك تُسهم في نقل الصورة الكلية الناتجة من محنة الناس في زمن بني أمية، وهذا الزمن بعد زمن التكلم؛ لذا يلحظ أنّ الإمام(علیه السّلام) قد استعمل الاسم الإشاري الدال على البعد في جميع السياقات .

فربط الاسم الإشاري الأول (ذلك) بين الجزء السابق والمتمثل ب( الطبيب ومراهمه ومواسمه)(3)، وبين الجزء اللاحق المتمثل ب(المواضع التي تحتاج تلك

ص: 228


1- نهج البلاغة: 156، خطبة : 108.
2- جون لاينز، اللغة و المعنى والسياق: 244، 243.
3- والمراهم: الأدوية المركبة للجراحات والقروح. والمواسم: حدائد يوسم بها الخيل وغيرها، ابن ابي الحديد، شرح نهج البلاغة: 7/ 183.

الأدوية)، عن طريق عودهِ على (المراهم المواسم)، والطبيب - هنا۔ كناية عن الصالحين الذين يأتون مرضى القلوب لمعالجتِهم، وهنا ظهر أثر قرينة الربط الذي أبان السياق الإيجابي عن طريقها المتمثل بالإحالة الإشارية (ذلك).

في حين عاد (ذلك) الثاني على أحوال الجاهلين- الذين لم ينفع معهم الدواء- وأحال عليهم بالضمير الوجودي المحيل على الغائب (هم)، ونتج عن اشتراك الإحالة الضميرية والإشارية معاً قوة الربط والارتباط (1) في النّصّ. قامت الإحالة الإشارية (ذلك) مقام النّصّ المتقدم عليها أو جزء منهُ (قلوبٌ عميٌ...)، فأصبح ما بعدها (كالأنعام السائمة...) نتيجة لما قبلها و مرتبط بها، فالإحالة هنا تحيل على متتالية من الجمل وهي ما يسمى ب «الإحالة الموسعة» فاسم الإشارة المفرد يتميز بهذا النوع من الإحالات(2)، و سياقه على نقيض من سياق الإحالة الإشارية الأولى؛ إذ تمثّل بالسلب الذي هو مقابل الإيجاب .

ومثله اسم الإشارة الثالث (ذلك)(3) يحيل إحالة قبلية على متتالية من

ص: 229


1- الارتباط یعني «علاقة وثيقة بين طرفين تغني عن الربط بينهما بأداة»، في حين الربط يعني «علاقة تصطنعها اللغة بطريق اللفظ، أي الأداة؛ لأمن اللبس في فهم الارتباط أو الانفصال، ويعني هذا أنّ الارتباط قرينة معنوية، وأنّ الربط قرينة لفظية، وأنّ الارتباط علاقة موجودة بالفعل وأنّ الربط علاقة موجودة بالقوة) . مصطفى حميدة، نظام الارتباط والربط: 152.
2- اسم الإشارة المفرد يتميز (بالإحالة الموسعة) أي إمكانية الإحالة على جملة، بأكملها أو متتالية من الجمل. ظ: محمد خطابي، لسانیات النص، ص 19.
3- إنّ لفظ ذلک في إحالته القبلیة الاقتصاد دون توسیع للجملة، و مثاله(أنّك لو حدثت شخصاً في موضوع ما، ثم بعد ذلك قلت له لقد قلت : لك ذلك، فإنّ (ذلك) هنا تُحيل على قضية سابقة، فتكون (ذلك) قد اقتصرت جملة كاملة من دون احتیاج إلى توسيع بعدها. ظ: عمر أبو خرمة، نحو النّصّ نقد نظرية وبناء أخرى: 174.

الجمل تضمنها النّصّ السابق عليه، وهي إحالة نصية موسعة وقامت الإشارة الإحالية (ذلك) بوظيفة الربط، فوظيفته تنشيط ذهن المتلقي ودفع الريب عنه لاستعادة مذكور سابق؛ لأنّه في طور الحديث عن أمورٍ تصيبه في إمرة بني أمية، وتحذيره منها، وفي قوله: (فَإِذا کانَ ذلِکَ کانَ الوَلَدُ غَیظاً ،وَالمَطَرُ قَیظاً ...) قرن الإحالة الإشارية (ذلك) بالروابط التركيبية الأخرى، ما زاد في قوة التعالق والتآلف؛ إذ تمكن من تضييق الفجوة بينهما، وقصر المسافة، عن طريق الاختزال اللفظي (1)، فاكتفى بهِ لمّا أوردهُ أول مرة، والمتلقي بدوره يقوم باسترجاع هذا المختزل ووضعه في مكانهِ في النّصِّ، فلو حذف المتكلم الإحالة الإشارية بقولهِ: (فإذا أخذ البَاطِلُ مَآخِذَهُ...، كان الولد غيضاً) لأحدث تصدّعا كبيرا في النّصِّ، وللتشتّت عملية التواصل؛ لذا اكتفى بالإحالة عليه لمّا أورده أول مرة، هذه العملية - الاختزال - تسهم في إعادة بناء النّصِّ بشكل أكثر ترابطاً ووضوحاً، ما يحقق عميلة الاتساق.

ومن الإحالة البعدية ما ورد في قوله (علیه السّلام) في بعض أيام صفين حينما رأى الحسن ابنه (علیه السّلام)يسرع إلى الحرب:

«امْلِکُوا عَنِّی هَذَا الْغُلاَمَ لاَ یَهُدَّنِی، فَإِنَّنِی أَنْفَسُ بِهَذَیْنِ یَعْنِی الْحَسَنَ وَالْحُسَیْنَ (علیهما السّلام)- عَلَی الْمَوْتِ، لِئَلاَّ یَنْقَطِعَ بِهِمَا نَسْلُ رَسُولِ اللَّهِ (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) » (2)

ص: 230


1- الاختزال حقيقة اشار إليها (جوفري ليتش ومخائیل شورت: «إنَّ الاتساق يتضمن، بشكل مستمر، مبدأ الاختزال الذي بواسطته تسمح لنا اللغة بتكثيف رسائلنا متيقن بذلك التعبير المكرر عن الأفكار المعادة»، محمد الخطابي، لسانیات النّصّ: 228.
2- نهج البلاغة : 323، خطبة : 207. وقد ورد في كتب الشّراح أنّ هذا من فصيح كلامه «ووجه على هذا الكلام وفصاحته أنه لما كان في: «املكوا» معنى البعد، أعقبه بعن، وذلك أنهم لا =يملكونه دون أمير المؤمنين رضي الله عنه إلا وقد أبعدوه عنه؛ ألا ترى أنك إذا حجرت على زيد دون عمرو، فقد باعدت زیداً عن عمرو، فلذلك قال : املكوا عني هذا الغلام» ابن ابي الحدید، شرح نهج البلاغة: 11/ 26.

أحال اسم الإشارة (هذا) على العنصر الإشاري القريب منه (الغلام)، إي أنَّها تربط جزءاً لاحقاً، والمقصود بالغلام - هنا - ابنه الحسن (علیه السّلام)إذن ف(الغلام) يعدّ دليلاً على العنصر الإشاري خارج النّصِّ (الحسن)، الذي مثّل الدعامة الأساسية للنّصِّ عن طريق الإحالة البعدية ب(اسم الإشارة) (هذا) و من ثمّ يُسهم في اتساق النص وتماسكه؛ كونه يحدد دور المشاركين داخل المقام الإشاري؛ فهو من الألفاظ المبهمة التي تحتاج إلى ما يفسر إبهامها في النص، وهو (العنصر الإشاري) الذي يأتي بعده، بغية تنبيه المتلقي بمدى أهمية هذا المفسِّر الذي جاء لاحقاً (الغلام)، ف« الغرض من الإبهام ثم التفسیر، إحداث وقع في النفوس لذلک المبهم؛ لأنَّ النفوس تتشوق، إذا سمعت المبهم، إلى العلم بالمقصود منهُ، وأيضاً في ذكر الشيء مرتين مبهماً ثم مفسِّراً، توكيد ليس في ذكرو مرّة»(1).

يتضح من السابق أنّ الإحالة الغالبة على الخطب الحربية في النهج هي الإحالة المقامية سواء أكانت بالإحالة ضميرية أم الإحالة إشارية؛ لأنّ الربط المقامي -ربط بما هو مذكور خارج النّصّ-يؤتى به لبقاء دلالات النّصّ مفتوحة - أي غير متعلقة بزمن أو مكان - تشمل كل متلقٍ.

الحذف:

هو ظاهرة لغوية تعني - بحسب (دي بوجراند) - «وهو استبعاد العبارات السطحية التي يمكن لمحتواها المفهومي أن يقوم في الذهن، أو أن يوسّع، أو أن

ص: 231


1- الرضي، شرح الرضي: 1/ 199.

يُعدل بواسطة العبارات النَّاقصة»(1)، وأطلق عليه الاكتفاء بالمبنى العدمي (2) وهذا ما تقتضيه الوحدة النصية؛ لتكامل دلالتها الضمنية عند المتلقي.

ويحدد (هاليداي ورقية حسن) الحذف بأنَّه «علاقة داخل النص، وفي معظم الأمثلة يوجد العنصر المفترض في النص السابق. وهذا يعني أن الحذف عادة علاقة قبلية» (3). والحذف بوصفه علاقة اتساق لا يختلف عن الاستبدال إلا بكون الأول «استبدالاً بالصفر» أي أن علاقة الاستبدال تترك أثراً، وأَثرها هو وجود أحد عناصر الاستبدال، في حين علاقة الحذف لا تُخلِّف أثراً؛ ولهذا فإنَّ المستبدل يبقى مؤثراً يسترشد به القارئ للبحث عن العنصر المفترض، ما يمكنه من ملء الفراغ الذي يخلقه الاستبدال، في حين أنّ الأمر على خلاف هذا في الحذف، إذ لا يحل محل المحذوف أي شيء ومن ثمّ تجد في الجملة الثانية فراغاً بنيویاً يهتدي القارئ إلى ملئه اعتماداً على ما ورد في الجملة الأولى أو النص السابق (4).

ويكثر الحذف في النصوص دون الجمل المنفصلة، والذي يساعد على ذلك هو أن النص بناء يقوم على التماسك والاتساق، وهذان العاملان يساعدان منشئ النص على الاختصار، وعدم الإحالة بذكر معلومات فائضة؛ لذا يشترط في الحذف أن يبدأ النص بجملة تامة تراعي القواعد النحوية، أما في الجمل التالية فإنَّ علماء النص يعتمدون على تبعية الجملة التالية للجملة السابقة، أو على ما

ص: 232


1- دي بوجراند، النص والخطاب والإجراء: 301.
2- ظ: م، ن: 340.
3- محمد خطابي، لسانیات النص: 21.
4- ظ: م. ن: 21.

يُسمى بالجمل المستأنفة، ويكثر الحذف في الجمل المستأنفة؛ لغرض الاختصار، ویکثر الحذف في المسند إليه والمسند والمفعول(1)، فلا تظهر صورته الاتساقية في الجملة الواحدة «وذلك لأنّ العلاقة بين طرفي الجملة علاقة بنيوية لا يقوم فيها الحذف بأي دور اتساقي... إنَّ دور الحذف في الاتساق ينبغي البحث عنه في العلاقة بين الجمل، وليس داخل الجملة الواحدة»(2).

ولأهمية الحذف لا تكاد تجد مؤلفاً في النحو العربي، وفي علم المعاني، وفي إعجاز القرآن وتفسيره، إلا وتحدث عن هذه الظاهرة، فقد وصفه الجرجاني وبيّن علاقته الرابطة، قائلاً: «هو باب دقيق المسلك، لطيف المأخذ عجیب الأمر، شبيهٌ بالسحر، فإنّك تری به تركَ الذكر أفصحَ من الذكر، والصمتَ عن الإفادة أزيدَ للإفادة، وتجدُك أنطقَ ما تكون إذا لم تنطق، وأتمَّ ما تكون بياناً إذا لم تُبِن»(3)، يرى أنّ الحذف مع ما فيه من الإيجاز والاختصار قد يكون به الكلام أرفع وأبلغ، وقد يؤدي من المعاني ما لا يؤدي إليه الذكر.

ص: 233


1- ظ: صلاح الدين صالح حسنين، الدلالة والنحو: 253.
2- محمد الخطابي، لسانیات النص: 22.
3- الجرجاني، دلائل الاعجاز: 146. ولأهمية الحذف فقد عرفه النحاة والبلاغيون العرب، و عندما تحدث ابن هشام عن الحذف ذكر أن من شروط الحذف وجود دليل على المحذوف، وهذا الدليل إما إحالي مثل « فَقَالُوا سَلَامًا » ) [الذاريات: 25]، أي سلمنا سلاما أو مقالي مثل : «وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا» [النحل: 30] وقد أفرد ابن هشام قسماً خاصاً تحدث فيه عن القضايا المتعلقة بالحذف، وذكر فيه أنماط الحذف كلها، فضلا عن شروطه وأنماطه فقد ذكروا أغراضه ومنها: (التفخيم والتعظيم والإيجاز والاتساع وقصد الابهام) وغير ذلك ما فصلوا القول به .للتوسيع. ظ: ابن هشام، مغني اللبيب 2/ 603- 610، و: طاهر حمودي، ظاهرة الحذف في الدرس اللغوي: 97-112.

أنماط الحذف:

للحذف أنماطٌ كثيرة، قد حصرها النصيّون في ثلاثة أنماط هي: (الحذف الاسمي، والفعلي، والجملي)(1)، على حين ذكر القدماء الحذف في (الصوت، والحرف والكلمة، والجملة وأكثر من جملة)؛ أي فيما بين الجمل، وهذا هو المقصود بالبحث، أي النوعين الأخيرين، لكونهما أكثر اتصالاً بالبنية الكلّية للنّصّ؛ ولكون المخاطب يستدعي النّصّ بأكمله للوقوف على العنصر المحذوف في ظاهر النّصّ، يقول (ابن جني): «قد حذفت العرب الجملة والمفرد، والحرف والحركة، وليس شيء من ذلك إلا من دليل عليه، وإلا كان فيه ضرب من تكليف علم الغيب في معرفته» (2)، قرن (ابن جني) الحذف بوجود الدليل أو القرينة التي تدل المتلقي على محذوف.

وأهمية وجود الدليل المقالي والمقامي في الحذف تكمن في كونه يحقق المرجعية بين المذكور والمحذوف في أكثر من جملة، ويحقق التماسك النصَّي بين جملة أو مجموعة من الجمل، فهو بمثابة المرشد الذي يهدي المتلقي في العثور على المحذوف، ولا يوجد محذوف وجوباً أو جوازا إلّا مع وجود القرينة، دالة عليه تعينه(3).

قسم هاليداي الحذف على ثلاثة أنواع:

1- الحذف الاسمي: ويعني حذف اسم داخل المركب الاسمي، مثال

ص: 234


1- ظ: محمد الخطابي، لسانیات النّصّ: 22.
2- ابن جني، الخصائص: 2/ 360.
3- ظ: صبحي إبراهيم الفقي، علم اللغة النصّي بين النّظرية والتطبيق : 2/ 209، 208.

ذلك: أي قبعة ستلبس؟ هذه هي الأحسن، إذ التقدير : هذه القبعة هي الأحسن بحذف كلمة (قبعة).

2- الحذف الفعلي: ويقصد به الحذف داخل المركب الفعلي، مثال ذلك:

هل كنت تسبح؟ نعم فعلت.

3- الحذف داخل شبه الجملة: يشمل «الجار والمجرور، والجملة الظرفية» .

يتضح من السابق أنَّ الحذف له أثر اتساقي، إلا أنّ هذا الأثر يختلف عن الأثر الذي تؤديه الإحالة؛ لأنَّ في الحذف لا يوجد أثر للمحذوف فيما يلحق من النّصّ، إلّا ما دلَّ عليه دليل من السياق (1).وقد ذكر (هاليداي ورقية حسن) المواضيع التي يكثر فيها الحذف وهي: جملة الاستفهام؛ لأنّها تعد الدرجة القصوى للحذف المعجمي؛ لأنّ جملة الاستفهام تشتمل على دليل الحذف، وذكرا أناطاً أُخر للحذف تعدّ مهمة في التحليل اللنّصِّي هو: حذف بعض الأحداث دون بعضها الآخر في التسلسل الزمني للقصة ... والحذف السببي، مثل قوله تعالى:

« اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا » [البقرة: 60].

أي: فضرب فانفجرت، ومنها حذف الزمان والمكان، وغيرها من الحذف

القصصى (2).

وقد لاحظ الباحثان - (هاليداي ورقية حسن)- أن أكثر الأنماط قياما

بمهمة التماسك النّصِّي هي: (1- حذف الاسم، 2- حذف الفعل، 3- حذف

ص: 235


1- ظ : محمد الخطابي، لسانیات النّصّ: 22 .
2- ظ: صبحي إبراهيم الفقي، علم اللغة النّصّي بين النظرية والتطبيق : 195، 194.

العبارة، 4 - حذف الجملة، 5- حذف أكثر من جملة)(1).

علاقة الحذف بالإحالة:

تتم عملية الاتساق على أساس علاقته بالمرجعية السابقة أو اللاحقة؛ لأنّها بمثابة الدليل أو القرينة، التي تُسهم في تقدير المحذوف، «فالحذف بطبيعته علاقة مرجعية قبلية، إلا أنَّ ذلك يكون بعنصر صفري»(2)، فهذا ما يدخل في نطاق تماسك النّصِّ على وفق إحالة سابقة بكونه إحالة بالصفر لما سبق، ومن دون وجود قرينة دالّة عليه في السياق اللغوي، يحدث فجوة لا يمكن ملؤها إلّا بالإحالة على عنصر ملفوظ به داخل النّصِّ، التي تعين المتلقي في تفسير المحذوف وتقديره.

وقد ذكر (هاليداي) أمثلة كثيرة من هذا النوع تتعلق بالاستفهام، وتوضح أهمية المرجعية في تحقيق الاتساق بين جملة الاستفهام وجملة الجواب؛ إذ يوجد في الغالب حذف كثير من العناصر في جملة الجواب، يدل عليه ما ذُكر في جملة الاستفهام(3).

وقد تكون مرجعيته خارجية، وهذه تعتمد على سياق الحال أو الموقف الذي يمدنا بالمعلومات التي تُسهم في تفسير المثال، ولا بيد أنَّ الحذف المرجعي للخارج- خارج النّصّ -، ليس له مكان في التماسك النّصّي، لأنّ أماكن تواجد هذا النوع على مستوى الجملة المفردة وعلاقتها بالسياق الخارجي، لا على

ص: 236


1- ظ : م. ن: 196.
2- حسام أحمد فرج، نظرية علم النّصّ: 88، ط: صبحي إبراهيم الفقي، علم اللغة النّصّي بين النظرية والتطبيق: 2/ 201.
3- ظ: صبحي إبراهيم الفقي، علم اللغة النّصّي بين النظرية والتطبيق : 2/ 202.

مستوى الجمل المترابطة (1).

تزخر خطب النهج بظاهرة الحذف- ولاسيما الخطب الحربية -، سواء أكان حذف الاسم أم الفعل أم العبارة أم الجملة أو حتى الجمل؛ لوجود قرينة دالة عليه في السياق اللغوي، أو سياق الموقف، فغدا ملمحاً أسلوبياً تتبعه الإمام علي(علیه السّلام) في خطبه، وتعدت مهمة الحذف في الاتساق - في النهج - بين أكثر من جملة، فجاء منتشرة في الخطب، ومنها قوله (علیه السّلام) مخاطبة أهل البصرة، على جهة اقتصاص الملاحم:

«فَمَنِ اِسْتَطَاعَ عِنْدَ ذَلِكَ أَنْ يَعْتَقِلَ نَفْسَهُ عَلَى اَللَّهِ، فَلْيَفْعَلْ فَإِنْ أَطَعْتُمُونِي فَإِنِّي حَامِلُكُمْ إِنْ شَاءَ اَللَّهُ عَلَى سَبِيلِ اَلْجَنَّةِ، وَ إِنْ كَانَ ذَا مَشَقَّةٍ شَدِيدَةٍ وَ مَذَاقَةٍ مَرِيرَةٍ وَ أَمَّا فُلاَنَةُ فَأَدْرَكَهَا رَأْيُ اَلنِّسَاءِ وَ ضِغْنٌ غَلاَ فِي صَدْرِهَا كَمِرْجَلِ اَلْقَيْنِ وَ لَوْ دُعِيَتْ لِتَنَالَ مِنْ غَيْرِي مَا أَتَتْ إِلَيَّ لَمْ تَفْعَلْ وَ لَهَا بَعْدُ حُرْمَتُهَا اَلْأُولَى وَ اَلْحِسَابُ عَلَى اَللَّهِ. سَبِيلٌ أَبْلَجُ اَلْمِنْهَاجِ أَنْوَرُ اَلسِّرَاجِ فَبِالْإِيمَانِ يُسْتَدَلُّ عَلَى اَلصَّالِحَاتِ وَ بِالصَّالِحَاتِ يُسْتَدَلُّ عَلَى اَلْإِيمَانِ وَ بِالْإِيمَانِ يُعْمَرُ اَلْعِلْمُ وَ بِالْعِلْمِ يُرْهَبُ اَلْمَوْتُ وَ بِالْمَوْتِ تُخْتَمُ اَلدُّنْيَا وَ بِالدُّنْيَا تُحْرَزُ اَلْآخِرَةُ وَ إِنَّ اَلْخَلْقَ لاَ مَقْصَرَ لَهُمْ عَنِ اَلْقِيَامَةِ مُرْقِلِينَ فِي مِضْمَارِهَا إِلَى اَلْغَايَةِ اَلْقُصْوَى .»(2).

النّصّ في إطار وصيّة للحاضرين في اعتزالهم الفتنة، والالتزام بطاعة الله،

فجاء الحذف منسجماً مع متطلبات الموقف، إذ عمد المتكلم إلى حذف بعض عناصر النّصِّ؛ لدلالة السياق اللغوي السابق، أو اللاحق على طبيعة المحذوف،

ص: 237


1- ظ: حسام أحمد فرج، نظرية علم النّصِّ: 88، و: صبحي إبراهيم الفقي، علم اللغة النّصّي بين النظرية والتطبيق: 2/ 201-203.
2- نهج البلاغة: 218، خطبة : 156.

أو على المحذوف نفسه، فدلَّ السياق الحالي والمقالي على المحذوف ابتداءً من أول ترکیب في الوحدة النّصّية الأولى، وهو قوله:

1- " فمن استَطاعَ [أحدٌ، عِند ذلِك أن يعتَقِل نفسهُ " أي يحبسها" على طاعة اللهِ، فليفعل ذلك أي فليعتقل نفسه) مرجعية لاحقة مرجعية سابقة

يظهر في النّصّ السابق ثلاث حالات حذف: - فالمحذوف في الجملة الأولى لفظ (أحدٌ) دون محله، إذ بقي محله في الذهن (فاعلاً)، وفي المعنى عائداً على المخاطبين، أو (المتلقي) بصورة عامة؛ أي أنَّ الحذف ليس طرداً لعنصر کامل، بل هو اقتصاد في ذكر الملفوظ بكل عناصره، مع أنَّ هذا يُعد إضماراً نحوياً، إلّا أنَّه حذف اتساقي، وهو متعلق بسياق الموقف.

- وبما أنّ النّصّ يدور حول محور الحثّ على طاعة الله، فقد عمد المتكلم -كذلك- إلى حذف المضاف (طاعة) والاستغناء بذكر المضاف إليه «الله» ؛ ليُقيّد الساحة الذهنية في تقدير المحذوف، فلا يخرج عن هذا السياق؛ إذ لا يمكن أن يُقدر ب(معصية الله)، فقد «كان المعنى مفهوماً بترکه معلوماً لدى المخاطب بحيث لا يوقعه هذا الترك في غموضِ أو إشكال لوجود دليل حالي أو مقالي عليه»(1).

- وثمة حذف ل(اسم الإشارة)- وهذا مرتبط بالإحالة- في قوله«فليفعل» والتقدير (فليفعل ذلك)؛ أي (فليعتقل

نفسه)، فاكتفي بتكرار المعني دون اللفظ، وقام بالربط الإضافي عن طريق (الفاء الرابطة)؛ لسد الفراغ الذي يحدث في ذهن المتلقي في عملية فهم النّصّ، وبذلك يُسهم بدوره في تماسك أجزائه ووحدتها .

ص: 238


1- إبراهيم رفيده، الحذف في الأساليب العربية: 147.

2-وقوله:" فَاِنْ اَطَعْتُمُونی فَاِنّی حامِلُکُمْ اِنْ شاءَ اللهِ عَلی سَبیل الجَنَّهِ وَ اِنْ کانَ(سبیل الجنة) ذامشَقَّهِ شَدیدَهٍ وَ (إن کان السبیل ذا)مَذاقَهٍ مَریرَهٍ .

الحذف هنا في سياق شرطي، فيلحظ أنّ متعلق الفعل الشرطي محذوف (سبيل الجنة)؛ لوجود قرينة سابقة عليه (سبيل الجنة) المتقدم، فتكرر بلفظه ومعناه، فصارت مرجعية قبلية، والحذف الآخر (وإن كان السبيل ذا) ارتبط بالعطف؛ ليساعد المتلقي في ملء الفجوة التي أحدثها الحذف في النّصّ، ومن ثمّ فهم النّصّ وربط أوصاله، وفي خضم هذا الترابط يرسم المتكلّم صورته في استعداده لحمل المطيعين له على سبيل الرشاد، وفي تصويره هذه السبيل ومصاعبها، يعكس صورة الباطل وحلاوته «لأنَّ الباطل محبوب في النفوس فإنه اللهو واللذة، وسقوط التكليف، وأما الحق فمكروه النفس لأن التكليف صعب وترك الملاذ العاجلة شاق شديد المشقة»(1)، وفي ضوء هذا التفسير يتبين أنّ الحذف أدى إلى الاتساق الدلالي والشكلي، عن طريق دفع التكرار في الكلام، فقد تُرك هذا الفراغ؛ ليملأه المتلقي، يساعده في ذلك الروابط الإضافية(العطف)، والسياق المقابلي (المرجعية السابقة)، وهي كالآتي:

الروابط الإضافية / \ المرجعية السابقة +التكرار

الحذف الاتساقي 3- ......

3-سَبِیلٌ أَبْلَجُ الْمِنْهَاجِ أَنْوَرُ السِّرَاجِ- فَبِالْإِیمَانِ یُسْتَدَلُّ عَلَی الصَّالِحَاتِ- وَ بِالصَّالِحَاتِ یُسْتَدَلُّ عَلَی الْإِیمَانِ وَ بِالْإِیمَانِ یُعْمَرُ الْعِلْمُ- وَ بِالْعِلْمِ یُرْهَبُ الْمَوْتُ"

ثمّة حذف اسمي (الإيمان)، منذ بدء الوحدة النّصّية؛ لوجود قرينة متأخرة عنه، فقد تكرر لفظ (الإيمان) بعد المحذوف، وعلى هذا تكون المرجعية بعدية،

ص: 239


1- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة: 189/9

فحديث المتكلم في هذه الوحدة النصية قد تجلّى في وصف الإيمان، وتعدد أوصاف المؤمن، فحذف الموصوف (الإيمان) وترك التصريح به، وذكر صفته

(سبيل أبلج المنهاج ...)؛ لأنّ هذا الحذف يترك للمتلقي ولذهنه أن يتفاعلا معالنص لتقدير هذه المحذوفات التي تمثل دعامة الأساسية في النّصّ، ويعتمد في ذلك على السياق اللغوي وعلى الدلالة المتحققة تبعاً لتقدير المحذوف، وهذا التقدير يجعله يتعامل، مع دلالة النّصِّ، ولاسيما وقد ارتبط المحذوف في كل ترکیب من تراكيب الوحدة النّصّية بلفظه ومعناه، الإيمان سَبِیلٌ أَبْلَجُ الْمِنْهَاجِ، الإيمان أَنْوَرُ السِّرَاجِ- فَبِالْإِیمَانِ یُسْتَدَلُّ عَلَی الصَّالِحَاتِ- وَ بِالصَّالِحَاتِ یُسْتَدَلُّ عَلَی الْإِیمَانِ وَ بِالْإِیمَانِ یُعْمَرُ الْعِلْمُ- وَ بِالْعِلْمِ یُرْهَبُ الْمَوْتُ

لأنّ الإيمان مرتبط مع كل فعل خير من أفعال المؤمن، و أنَّ الآخر مرتبط بالأول، أمّا علاقته- الإيمان - مع العناصر الأخرى هي علاقة تراتبية، و يطلق لفظ الإيمان على العلم النافع المرتبط مع العمل، لحصول ثمرته، وهي التصديق، والإيمان هنا هو التصديق، وعليه يتحقق فهم النّصّ، وفك شفرته، وهذا ما يبتغيه المتكلّم، فهم النّصّ ثم العمل، ومرجعية الحذف واضحة أنَّها داخلية بعدية، والمرجعية تحققت بسبب من التكرار للألفاظ نفسها.

و يظهر الحذف بأنواعه في قوله(علیه السّلام) :

«وَلَعَمْرِی مَا عَلَیَّ مِنْ قِتَالِ مَنْ خَالَفَ الْحَقَّ، وَخَابَطَ الْغَیَّ، مِنْ إِدْهَانٍ وَلا إِیهَانٍ فَاتَّقُوا اللَّهَ عِبَادَ اللَّهِ، وَفِرُّوا إِلَی اللَّهِ مِنَ اللَّهِ وَامْضُوا فِی الَّذِی نَهَجَهُ لَکُمْ، وَقُومُوا بِمَا عَصَبَهُ بِکُمْ، فَعَلِیٌّ ضَامِنٌ لِفَلْجِکُمْ آجِلاً إِنْ لَمْ تُمْنَحُوهُ عَاجِلاً»(1).

ص: 240


1- نهج البلاغة: 66، خطبة: 24.

في النّصّ المتقدم ورد الحذف أكثر من مرّة في محيط البنية الكلية للنّصّ، طبعاً لغاية معينة؛ لإسباغ سمة التأثير في نّصّه، وإيصال الفكرة للمتلقي، ولاسيما وقد بدأ خطبته بقسم «لعمري»، ولمّا كان قصد المتكلّم حثّ المؤمنين على قتال الخوارج، حذف الضمير العائد «هود عليهم، وترك التصريح به «من ... خالف الحق و... خابط الغي(1)»، مع أفراد الضمير المحيل «هو«

لتنبه المتلقي على مقاتلة صفة (مخلفة الحق ومخلفة الغي والبغي)، «إذ كانت المقاتلة من هذه الصفة واجبة لا يمكن إنكار وقوعها منه»(2) فالمحذوف - في هذه الحال- يمثل محور النّصّ، والذي تدور حوله الأحداث وتتعلق به الوقائع، ودور المتلقي -هنا- البحث عن الجزء المحذوف في النصّ، عن طريق القرائن الحالية والمقالية التي تُحفّزه للكشف عن العنصر المحذوف؛ وذلك بما يمتلكه من أدوات.

ولما للحذف من إسهامات فاعلة في إسناد صياغة التراكيب داخل النّصّ، فقد عمد المتكلم إلى حذف ما صرّح به في التركيب الأول «وَلَعَمْرِی مَا عَلَیَّ مِنْ قِتَالِ مَنْ [هو]خَالَفَ الْحَقَّ » من التركيب التالي له «و...[ هو]خَابَطَ الغّيَّ؛ لوجود دلیل متقدم عليه في الجملة السابقة، فالمرجعية سابقة، وربما قدّم

التركيب المرتبط بالقسم؛ لأهميته لأنّه يعمل على إثارة المتلقي، فقوله السابق كان رداً «لقول من قال إنَّ متابعته (علیه السّلام) لمحاربيه و مخالفيه ومذاهبهم أولى من

ص: 241


1- وقوله: «خابط الغي، كأنه جعله والغي متخبطين، يخبط أحدهما في الأخر؛ وذلك أشد مبالغة من أن تقول: خبط في الغي، لأن من يخبط ويخبطه غيره يكون أشد اضطراباً ممن يخبط ولا يخبطه غیره)» ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة: 1/ 331.
2- ابن میثم البحراني، شرح نهج البلاغة: 2/ 15.

محاربتهم، فردّ ذلك بقوله: لعمري ما عليَّ إلى قولهِ: ولا إيهان»(1) فعمد إليها المتكلّم؛ لتحقيق مقاصد تواصلية بينه وبين المتلقي، وبهذا يُسهم في نجاح ظاهرة الحذف في صنع الترابط داخل النّص، فالمتكلم يقوم بالحذف عندما يدرك أنّ المتلقي سيدرك المحذوف بذهنه، ولن تعوقه عملية الحذف عند فهم النّصّ (2) ف« العقل من أهم الوسائل التي يلجأ إليها المتلقي لإخراج المعاني وحلّ الإشكالات التي تثيرها ظواهر بعض الملفوظات » (3)، وتعمل الروابط الإضافية «العطف والقسم» على تقوية الرّبط والارتباط بين الجمل مصحوباً بالحذف، فزادت الأمر إيضاحاً.

وقد فتح المتكلم الدلالة النّصّية للمتلقي في حذف المضاف من قوله: «وَفِرُّواإلَى الله مِنَ الله، وإقامة المضاف إليه مقامه، في تأويل المحذوف بما يناسب السياق اللغوي، إذ قد يحتمل عدة تقديرات منها:

أحدها: اهربوا إلى رحمة الله من عذاب الله (4).

الثاني: اهربوا إلى عفو الله من سخط الله .

الثالث: اهربوا إلى عفو الله من عقاب الله.

ص: 242


1- م. ن: 2/ 15، 16. الإيهان: مصدر أوهنتُهُ، بمعنى أضعَفته . الإدمان: المصانعة والمنافقة، ظ: ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة: 1/ 331، قال سبحانه: «وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ » [القلم: 9].
2- ظ: حسام أحمد فرج: نظرية علم النّصّ: 89.
3- مؤيد آل صوينت، الخطاب القرآني دراسة في البعد التداولي: 77.
4- ظ: ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة: 1/ 331.

الرابع: اهربوا إلى رحمة الله من غضب الله(1).

وهذه التأويلات تنسجم ومعطيات النّصّ السياقة؛ إذ أعطى النّصّ عمقاً واتساعاً في الدلالة، فتبقى على أثرهمدیات النّصّ الزمانية مفتوحة؛ لتشمل كل متلقٍ، و أسهم في إنشاء نصّ متسق، وبیان مهمة المتلقي في ملء الفجوات، ومن ثم فك شفرة النص والعثور على المعنى الكامل للنصِّ.

يبدو أنّ حذف الجملة نادرٌ وغالباً ما يرتبط حذفها بالسياق الشرطي؛ إذ

قد يُمثل أحد الطرفين (فعل الشرط أو جوابه) ولاسيما الأخير؛ لدلالة السياق اللغوي عليه، نحو قوله (علیه السّلام) السابق: « فَعَلِیٌّ ضَامِنٌ لِفَلْجِکُمْ آجِلاً إِنْ لَمْ تُمْنَحُوهُ عَاجِلاً. » ؛ إذ ورد فعلُ الشرط جملةً فعليَّةً منفيَّةً ب(لم)، وهي قوله: «لم تمنحوه»، في حين حُذِفَ الجوابُ؛ لوجود المرجع «المحال عليه وهو الجملةُ الاسميَّةُ المُتقدِّمةُ على الأداة، « فَعَلِیٌّ ضَامِنٌ لِفَلْجِکُمْ آجِلاً» والذي يعدّ عاملاً مهماً في التماسك؛ إذ جاء في إطار التأكيد على منهجه الصحيح وجهاده الحقّ، وتعهده هم بضمان الفوز بالآخرة وذلك يؤكد أهمية المرجع في الربط والإحالة.

يتضح من السابق أنّ الحذف يتفق مع الإحالة في المرجعية سواء أكانت خارجية أم نصّية، ومن ثَم في الثانية قبلية أم بعدية، وفي اتساق النّصّ في الإحالة

النّصّية، إلّا أنّ الحذف إحالة صفرية، لا تترك أثراً لفظياً في النّصّ.

و يتفق الحذف مع الإحالة في كون كلِّ منهما يُمثل قاعدة من قواعد قانون الاقتصاد الذي يعمل على ضبط النص، وشدّ أجزائه، وربط عناصره بعضها ببعض عن طريق مجموعة من القواعد التي لا تتعدى الثلاث من وجهة

ص: 243


1- فقد أطال ابن میثم البحراني الحديث عنه للتفصيل ينظر : شرحه: 2/ 15.

نظر باحثين في الموضوع، وهذه القواعد الثلاث هي: الحذف، والإضمار، والترميز».(1) فيختصر التراكيب المكررة، ويستغني عنها لوجود قرائن سیاقية دالّة عليها.

ص: 244


1- عمر أبو خرمة، نحو النّصّ نقد نظرية وبناء أخرى: 167، قد أشار العلماء السابقون إلى الترميز وفي مقدمتهم ابن جني في كتابه الخصائص: راجع كتابه (باب زيادة الحروف): 2/ 300، 301. وأشار إليه عمر أبو خرمة بأنّه ضرب من الاستغناء، وغالباً ما يتمثل في حذف الحرف، فالترميز - من وجهة نظر عمر-: «هو الوضع الذي يحل به عنصر لغوي محل عبارة لغوية أو مفردة أو ترکیب مع أنه -أي العنصر الجديد - لا يدل عليها بالوضع، كدلالة الحرف الواحد من حروف الهجاء، على علاقة لم تذكر في النص فكان وضع هذا العنصر: الحرف الواحد مثالا، دالا على وجود تلك العلاقة نحو النص نقد نظرية وبناء أخرى: 183.

المبحث الثاني: الربط بالأدوات

اشارة

اعتني النحاة القدماء بالأدوات(1) التي تصل بين مكونات الجملة، وصنّفوها حسب معانيها، وقلّبوا النّظر فيها انطلاقاً من مجالات ربطها للألفاظ المجاورة لها، فخصصوا لکل حرف أو أداة مزیةً، تُمیزه عن غیره من الحروف وقد يتضمن الحرف الواحد معاني عدة حسب العلاقة الرابطة (2)، فتُحدث تعالقاً نصياً بين التراكيب اللغوية داخل النّصّ، ما يُؤدي إلى وحدة نّصّية متكاملة البناء.

وعمل قرينة الربط بالاتساق النّصّي لا يقتصر على الإحالة الخارجية أو النّصّية، وإنّما يكتمل على وفق علاقات رابطة أخرى تُحدثها الأداة، ف « التعليق بالأداة أشهر أنواع التعليق في اللغة العربية الفصحى، فإذا استثنينا جملتي الإثبات والأمر بالصيغة، كذلك بعض جمل الإفصاح فإننا سنجد كلّ جملة في اللغة الفصحی علی الأطلاق تُشکّل في تلخیص العلاقة بین أجزائها علی

ص: 245


1- ظ: على سبيل المثال ابن هشام الأنصاري، مغني اللبيب: 14/1 ، وما بعدها
2- ظ: خليفة الميساوي، الوصائل في تحليل المحادثة (دراسة في استراتيجيات الخطاب): 14.

الأداة»(1). وهذه الأدوات هي: أدوات الشرط، وأدوات القسم، وأدوات العطف، والاستثناء، والنفي، والاستفهام وغيرها، ولا مجال للبحث لذكرها جميعاً، إذ اقتصر على تناول ما كان أثرها واضحاً وظاهراً في اتساق النّصّ في الخطب الحربية، وهي كالآتي:

أولاً- أدوات الشرط:

الشرط أسلوب لغوي يترتب على طرفين، يتجلّى ربطها عن طريق أدوات الشرط، التي تعدّ الركن الأساسي الذي يقوم عليه التركيب الشرطي؛ لأنها تعمل على تعالق جملتين؛ جملة (فعل الشرط)، وجملة (جواب الشرط)؛ إذ «تدخل على جملتين، فتربط إحداهما بالأخرى وتصير هما کالجملة» (2). وفي حالة عدم وجودها تصبح الجملتان منفصلتين، وتنفي عنهما قواعد السلامة في البناء التركيبي.

أكد ذلك (الجرجاني ) بقوله: «إن الشرط والجزاء جملتان، ولكننا نقول إن حكمهما حكم جملة واحدة، من حيث دخل في الكلام معنی یربط إحداهما بالأخرى، حتى صارت الجملة لذلك بمنزلة الاسم المفرد في امتناع أن تحصل به الفائدة، فلو قلت إن تأتني وسکت لم يفد، كما لا تفيد إذا قلت «زید» وسكت، فلم تذكر اسماً آخر ولا فعلاً، ولا كان منوياً في النفس ومعلوماً من دليل الحال ...» (3)، فهي على وفق المنظور اللغوي ليس إلّا جملةٍ واحدة، وهذا تعبيرٌ

ص: 246


1- تمام حسان، اللغة العربية معناها ومبناها: 123.
2- ابن یعیش، شرح المفصل: 8/ 156.
3- الجرجاني، أسرار البلاغة: 111

لا يقبل الانشطار؛ لكون الجملتين تُعبران معاً عن فكرة واحدة، فالاقتصار على واحدة منهما تخلُّ بالإفصاح عما يجول في ذهن المتكلّم، وقصرت عن نقل ما يجول فيه إلى ذهن المتلقي، هذا بالنسبة للنظر اللغوي، أمّا من عدّها جملتين فقد جاءت نظرته على وفق الرؤية العقلية والتحليل المنطقي (1).

تُقسم أدوات الشرط على نوعين: الجازمة وهي (إن، مَن، إذما، متی، أين، أيّ، حيثما، أني، أيان، مهما، ما)، وغير الجازمة: (إذا، لو، لوما، لولا، لمّا)(2). ووظيفة أدوات الشرط الأساسية - بحسب ما يرى (مصطفى جمال الدين) - لیست کوظيفة باقي الأدوات الأُخرک(قد، ما، هل)، وإنَّما أثرها كبير في «تغيير النسبة التامة لجملتيها بحيث أفقدتها استقلالهما، وما يترتب على تماميتهما من صحة السكوت، وصيرت كلا منهما طرفاً لنسبة تعليقية جديدة «(3)، وهذا التعالق الشرطي يؤدي إلى توسيع النّصّ.

وتعد أدوات الشرط وسيلة لاختصار النّصّ، ويكمن الاختصار بالأداة لا بالتركيب الشرطي، الذي يؤدي إلى توسيع النّصّ، فتعد رمزاً لغوياً يدلّ على استغناء الفقرة عن تركيب لغوي كامل من الفعل والفاعل ومتعلقاته، فالأداة (إذا) مثلاً تدلّ على معنى اشترط مستقبلاً، أو (كيف) التي تدل على الكيفية أو الحال... وغيرها(4).

وقد يُستعان ب(الفاء الرابطة) في تأكيد الارتباط بين جملتين، ولكن على وفق

ص: 247


1- ظ: مهدي المخزومي، في النحو العربي نقد وتوجيه: 286.
2- ظ : سیبویه، الكتاب : 3/ 57، و : ابن یعیش، شرح المفصل: 6/ 42.
3- مصطفى جمال الدين، البحث النحوي عند الأصوليين: 257.
4- ظ: عمر أبو خرمة، نحو النّصّ نقد نظرية وبناء أخرى: 189 188.

شروط وضعها النحاة وهي : إن كل مالا يصلح أن يكون شرطاً ووقع جواباً للشرط فإنه تلزمه الفاء، ويتحقق ذلك إذا كان الجواب جملة اسمية، أو جملة طلبية، أو جملة فعلية فعلها جامد، أو مسبوقاً بالحرف (قد)، أو بحر في التنفيس (السين، سوف)، أو جملة فعلية مسبوقة بالحرف «ما»، أو «لن»(1).

وقد وردت أدوات الشرط بكثرة في خطب الإمام(علیه السّلام) نظراً لطبيعة هذه الخطب وهدفها المتمثل في الإصلاح عن طريق تصوير الأمر أمام المتلقي، وتحذيره عما يكره، لإتاحة الفرصة له في رسم طريقه، وتحمل عواقب أعماله، منها قوله(علیه السّلام) في ذكر مذام أهل الشام، تنفيراً منهم، وبيان معنى الحكمين:

«إِنَّمَا عَهْدُکُمْ بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَیْسٍ؟ بِالْأَمْسِ یَقُولُ: إِنَّهَا فِتْنَهٌ فَقَطِّعُوا أَوْتَارَکُمْ وَ شِیمُوا سُیُوفَکُمْ- فَإِنْ کَانَ صَادِقاً فَقَدْ أَخْطَأَ بِمَسِیرِهِ غَیْرَ مُسْتَکْرَهٍ- وَ إِنْ کَانَ کَاذِباً فَقَدْ لَزِمَتْهُ التُّهَمَهُ»(2).

ربطت (إن) بين جملتين: الأولى : (فَإِنْ کَانَ صَادِقاً)، والثانية : (فَقَدْ أَخْطَأَ بِمَسِیرِهِ غَیْرَ مُسْتَکْرَهٍ)، والربط في هذا النّصّ لم يقف عندها، بل استُعمِلت (الفاء)؛ لأنَّ الجواب فعل ماضٍ مسبوق ب (قد)، وقد مثّل النّصّ صورةاحتجاج الإمام(علیه السّلام) على المخاطبين في اختيارهم أبا موسى الأشعري (عبدالله بن قیس) ممثلاً لحكومة أهل العراق، وقد مثّل التركيب الشرطي وجه الاحتجاج؛ لكونه اختص بعبد الله نفسه، الذي نقل لهم خبر الفتنة في البصرة «ويقول لهم : هذه هي الفتنة التي وُعِدنا بها، فقطّعوا أوتار قسِّیكم، وشيموا سيوفكم، أي أغمدوها

ص: 248


1- ظ : محمد حماسة عبد اللطيف، بناء الجملة العربية : 213.
2- نهج البلاغة: 357، خطبة: 238.

فإن كان صادقاً فما باله سار إليَّ، وصار معي في الصِّف، وحضر حرب صفين ... وإن كان كاذباً فيما رواه من خبر الفتنة فقد لزمته التُّهم وقبح الاختلاف إليه في الحكومة»(1)، والذي يتبين عن طريق التركيب الشرطي الثاني «وَ إِنْ کَانَ کَاذِباً فَقَدْ لَزِمَتْهُ التُّهَمَهُ» المرتبط به والمكمل له.

وقد دلّ السياق الشرطي المحكوم بالقرائن اللفظية والمعنوية على حصول الأمر كان بالزمن الماضي، وعليه فحصوله - وجوده بالفتنة في البصرة- كان قطعياً ومشهوداً عليه من قبل المتلقي (2)، و من ثمَّ لا ينبغي الاعتماد عليه - أبي موسى الأشعري -في هذا الأمر الجليل سواء كان صادقاً أم كاذباً (3) .

وكذلك من الربط ب (إن)؛ قوله(علیه السّلام) في ذم العاصين من أصحابه:

«أَحْمَدُ اللَّهَ عَلَی مَا قَضَی مِنْ أَمْرٍ، وَ قَدَّرَ مِنْ فِعْلٍ، وَ عَلَی ابْتِلاَئِی بِکُمْ أَیَّتُهَا الْفِرْقَهُ الَّتِی إِذَا أَمَرْتُ لَمْ تُطِعْ، وَ إِذَا دَعَوْتُ لَمْ تُجِبْ، إِنْ أُمْهِلْتُمْ خُضْتُمْ، وَ إِنْ حُورِبْتُمْ خُرْتُمْ، وَ إِنِ اجْتَمَعَ النَّاسُ عَلَی إِمَامٍ طَعَنْتُمْ، وَ إِنْ أُجِئْتُمْ إِلَی مُشَاقَّهٍ نَکَصْتُمْ»(4).

في النّصِّ المتقدّم ثمة تكاثف شرطي، يتجلّى في الروابط الشرطية (الأدوات) التي ربطت أجزاء النّصّ بما سبقها وما لحقها، ومن ثم جعلت النّصّ غاية في الاتساق والترابط. فالإمام (علیه السّلام) انطلق بالشرط منذ بدء التعريف بتلك «الفرقة»،

ص: 249


1- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة: 13/ 195-196.
2- وهذا يدفع تخصیص دلالة الاحتمالية بالشرط التي طال حديث النحاة عنها، للاستزادة، يراجع: ابن يعيش، شرح المفصل: 8/ 57، و: الرضي، شرح الرضي: 4/ 90 ، و: مهدي المخزومي، في النحو العربي نقد وتوجيه: 289.
3- ظ: ابن میثم البحراني، شرح نهج البلاغة: 305، 304.
4- نهج البلاغة: 258، خطبة : 180.

أي بعد حمد الله - إذ بدأ التعريف بأداة الشرط «إذا» التي علقت فعل الشرط

«أمرتُ» وهو في الزمن الماضي بفعل الجواب «لم تُطع» وهو الفعل المضارع المنفي ب«لم» التي قلبت زمنه إلى الماضي، فتساوي زمن الجملتين، وهكذا سارت الجمل الأُخر التي عمل العطف ب«الواو» على الربط فيما بينها؛ إذ تبين هذه الجمل استمرار الإمام (علیه السّلام) في توبيخهم، وبأسلوب الشرط المبدوء بالأداة «إذا» التي ربطت بين فعل الشرط «دعوتُ «وجوابه المنفي «لم تُجب « تارة، وبأداة الشرط «إن» التي ربطت فعل الشرط مع جوابه تارة أخرى. وما يميز النص ذلك التكرار بين الجمل الشرطية؛ فقد جعل اثنتين منها مبدوءة بالأداة (إذ)، وجعل الأربع الأخريات بالأداة (إن)، ولم يخرج عن أسلوب التوبيخ الذي بني عليه النص على الرغم التنويع بأداتي الشرط، والتنويع في صيغ بناء الأفعال الماضية بين المبني للمعلوم، والمبني للمجهول، وكذلك منح النص قوة التماسك والترابط.

ولمّا كان هدف الإمام (علیه السّلام) إحداث التأثير الفاعل، وبثّ التوجيه في المتلقين، صاغ التراكيب الشرطية بدقة وعناية فائقة؛ لتؤدي عملها، وتعبّر عما يتضمنه النص من دلالات حملها المخاطب هذه التراكيب الجملية، وهذا تطلّب؛ إذ يتوجب على منتجي النّصِّ أن تتوافر لديهم القدرة على توّقع استجابات المتلقين، وردود أفعالهم وما تكمن من دعم أو رفض، كأن يقوموا ببناء نموذج داخلي للمتلقين ومعتقداتهم ومعرفتهم(1)، وهذا الدافع الأساس في النّصِّ، وهو ما قام به المتكلّم. فتجلّى الاتساق العجيب في صياغة تراكيبه ، والتغير في بنائها لما يتوافق وسياق الموقف، فارتبط عمل الأداة (إذا) في سياق

ص: 250


1- ظ: إلهام أبو غزالة، مدخل إلى علم لغة النصّ: 178.

الحصول القطعي(1) لأفعالهم، وتصوير مواقفهم السيئة، فإنّهم إذا أمرهم (علیه السّلام) بفعل لا يمتثلون لأمره، وإذا دعاهم إلى الجهاد لا يستجيبون له(2)، فترتبت على حصول فعلهم هذا أسباب، ذكرها الإمام(علیه السّلام) عن طريق الأداة (إن)؛ لقصد التوبيخ والذم، فمن معاني (إن) «التوبيخ على فعل الشرط، وتصوير أنّ المقام لا يصح إلّا لفرضه کیا یُفرض المحال» (3).

وغالباً ما يلجأ المتكلّم إلى صورة تعدد الشروط، حين يُضيف أمراً متعلقا بأكثر من حالة يُسري عليها الموقف، وعليه يستلزم حصوله (الشرط) الجمع بين أمرين أو أكثر.

ومن الربط ب(لو)(4) قوله(علیه السّلام) عندما سمِع قوماً يسبّون أهل الشام في أيام

ص: 251


1- لقد تناول النحاة القدامی موضوع الشرط بالتفصيل لأهميته، ومن ذلك دلالة كل أداة من أدوات الشرط وما يُميزها عن غيرها، فقد فرقوا بدقّة دلالة (إن) عن (إذا)، يرى (ابن يعيش) أنّ الأصل في (إذا) أن تستعمل في الأمر المقطوع بحصوله، ولكثير الوقوع، ويكون زمنها محدداً معلوماً، بخلاف (إن) التي لا تستعمل إلّا في أمر مشكوك في وجوده في المستقبل، وعليه فلا مجازی ب(إذا) في المستقبل إلّا في الأمر المتيقن حصوله كقولك: (إذا طلعت الشمس فأتني) لأنّ الشمس ستطلع لا محالة. ظ: ابن يعيش، شرح المفصل: 9/ 4.
2- ظ: ابن میثم البحراني، شرح نهج البلاغة : 3/ 167.
3- ظ: ابراهيم البب، دلالة أدوات الشرط، مجلة جامعة تشرين، الآداب والعلوم الإسلامية، مجلد(30)، العدد (2)، 2008: 136.
4- «لو» أداة شرط غير جازمة تدل على الزمن الماضي، وقد شاع على ألسنة النحاة أنها: حرف امتناع لامتناع، فيمتنع بها الشيء لامتناع غيره، أي امتناع جواب الشرط لامتناع فعل الشرط، فهي بهذا المفهوم أداة رابطة في التركيب بحيث أنّها تقتضي امتناع ما دخلت عليه، ويستلزم امتناع الذي يليها امتناع التالي. ظ: المرادي، الجنى الداني في حروف المعاني: 287.

حرب صفين:

«إنّی أکرَهُ لَکُم أن تَکونوا سَبّابینَ،ولکِنَّکُم لَو وَصَفتُم أعمالَهُم،وذَکَرتُم حالَهُم،کانَ أصوَبَ فِی القَولِ، وأَبلَغَ فِی العُذرِ،وقُلتُم مَکانَ سَبِّکُم إیّاهُم:اللّهُمَّ احقِن دِماءَنا ودِماءَهُم،وأَصلِح ذاتَ بَینِنا وبَینِهِم،وَاهدِهِم مِن ضَلالَتِهِم،حَتّی یَعرِفَ الحَقَّ مَن جَهِلَهُ،ویَرعَوِیَ عَنِ الغَیِّ وَالعُدوانِ مَن لَهِجَ بِهِ».(1)

في النّصّ المتقدم ربطت «لو« بين جملتين، «وصفتم»، والثانية «كان أصوب في القول»، فقد علّقت ماضياً بماضٍ، فمنعت الأول، واستلزمت الثاني، فقد أعانها هذا التماثل بين فعل الشرط وجوابه؛ إذ يعدّ من أهم القرائن في ربط جملتين، فقدتا خصائصهما الأولى، وكونتا جملة مركبة لها سمات بنائية، وخصائص دلالية(2).

إنّ التركيب الشرطي جاء في سياق تحذير وترغيب فالتحذير عن السبّ؛ لأنّه لا يُجدي نفعاً، واستبداله بأمورٍ أُخر أهمها وصف أعمالهم السيئة، وظلمهم العباد، والنتيجة؛ كون هذا الفعل أصوب؛ لأنّه يكشف حالهم، وأبلغ في العذر، وهذا ما يقود المتلقي لربط السبب مع النتيجة، فلا ينفك أحدهما عن الآخر.

ثانياً - أدوات العطف:

تعدّ أدوات العطف من أدوات الربط المهمة؛ إذ نالت عناية العلماء الفائقة، فقد أشار (الجرجاني) إلى فائدته بربط المفرد والجملة، فقال بشأن المفرد: «إنّ فائدة العطف في المفرد أن يشرك الثاني في إعراب الأول. وأنه إذا أشركه في

ص: 252


1- نهج البلاغة: 323، خطبة:206.
2- ظ: مالك يوسف المطلبي، في التركيب اللغوي للشعر العراقي: 149.

إعرابه فقد أشركه في حكم ذلك الإعراب، نحو أن المعطوف على المرفوع بأنه فاعل مثله، والمعطوف على المنصوب بأنه مفعول به أو فيه أو له، شريك له في ذلك»(1)، وصيّر حكم الجملة كحكم المفرد، ولاسيما فيما يتعلق بالتناسب بين الجمل المعطوفة دون قيامها على الاشتراك في الاشتراك في أيّ حكم إعرابي(2).

وبلغت درجة عناية (الجرجاني) بأثر العطف في تحقيق التماسك، إذ يرى أنه لا يقتصر على الجملة، وإنَّما يتعدى ليشمل المستوى النّصّي في بناء وحدة متسقة، يقول: «فأمر العطف موضوع على أنّك تعطف تارةً جملة على جملة، وتعمد أخرى إلى جملتين أو جمل فتعطف بعضا على بعض، ثم تعطف مجموع هذه على مجموع تلك»(3).

وقد أكثر المحدثون في حديثهم عن العطف، ووضعوا له شروطاً وحدوداً وأحوالآً، وتقسيمات متنوعة، تتسم بالاتساع وشدّة الاختلاف، بحسب طبيعة مكوناتها، وبها يتجلّى أثر العطف في تماسك وحدة النّصّ (4).

ص: 253


1- الجرجاني دلائل الإعجاز: 223، وقد اعتمد محمد حماسة على الجرجاني في بيان أثر حرف العطف في ترابط النص، يقول: «يقوم حرف العطف مع التطابق في العلامة الإعرابية بالدور العظيم في ترابط المعطوف بالمعطوف عليه، وقد تتوافر عناصر أُخر من خارجها، كأن يكون المعطوف عليه المعطوف والمعطوف». بناء الجملة العربية: 193. وعليه يتحقق التاسك لتوافر عوامل الربط، وهي: )حرف العطف، والعلامة الإعرابية، وأفعال المشاركة، ومعنى حرف العطف). ظ: صبحي إبراهيم الفقي، علم اللغة النّصّي بين النظرية والتطبيق: 1/ 259.
2- ظ: الجرجاني، دلائل الإعجاز : 223. و: محمد الشاوش، أصول تحليل الخطاب: 1/ 487.
3- الجرجاني، دلائل الإعجاز: 245.
4- ركز محمد الشاوش - في كتابه أصول تحليل الخطاب -نصابه في تفصيل القول في ظاهرة العطف وأثره في تحقيق وحدة النّصّ، للاستزادة يراجع: أصول تحليل الخطاب: 1/ 433.

والعطف بحسب ما عرفه (دي بوجراند)؛ مجموعة العلاقات التي تقع بين المساحات السطحية للنّصّ، أو بين الأشياء التي في هذه المساحات والصور التي تترابط بأنواع الربط المختلفة، يُحسن أن تُعدّ ذات نظام سطحي متشابه (1). وتجمع هذه العلاقات، العناصر والصور، وتُعلّق بعضها ببعض في وحدة نّصّية متسقة، تؤديها أدوات العطف، التي أطلق عليها (بوجراند) أنواع الربط، فتتمثل في أربعة معاني هي: (مطلق الجمع، والتخيير، والاستدراك، والتفريع)، فتؤدي إلى الترابط العلائقي بين المعطوف والمعطوف عليه(2)، وهو كالآتي:

المعطوف عليه + أداة العطف + المعطوف

الربط التعالقي

وقد عدّ (الزنّاد) أدوات العطف: «علامات على أنواع العلاقات القائمة بين الجمل، وبها تتماسك الجمل، وتبيّن مفاصل النظام الذي يقوم عليه النّصّ»(3)، وقد قرن الربط بالأداة بشروط منها؛ الاختلاف بين الجملتين، أو المقطعين المتصلين، أو المتباعدين(4)، ولا يجوز حذفها أو إضمارها؛ لغموض

ص: 254


1- ظ: دي بو جراند، النّصّ والخطاب والإجراء: 346.
2- ظ: م. ن 346.
3- الأزهر الزناد، نسج النّصّ: 37.
4- ظ: م. ن: 56.

المعنى الدلالي من دونها (1)، فوجودها أمر ضروري، ولا يمكن الاستغناء عنها لما تُحدثه من تماسك نّصّي؛ إذ تربط بين معانيها وترتبها داخل النّصّ (2).

يعد العطف وسيلة من وسائل التماسك النّصّي، في ضوء وظيفته الدلالية والبلاغية، فلكل حرف من حروف العطف ووظيفته في ترابط النّصّ، تميزه من غيره من الحروف، وهذا ما يُلحظ في البنية الخطابية للإمام (علیه السّلام)، ففي قوله(علیه السّلام) :

« وأشهَدُ أنَّ مُحَمَّدا عَبدُهُ ورَسولُهُ ، أرسَلَهُ بِالدِّینِ المَشهورِ ، وَالعَلَمِ المَأثورِ ، وَالکِتابِ المَسطورِ ، وَالنّورِ السّاطِعِ ، وَالضِّیاءِ اللّامِعِ ، والأَمرِ الصّادِعِ ، إزاحَهً لِلشُّبُهاتِ ، وَاحتِجاجا بِالبَیِّناتِ . وتَحذیرا بِالآیاتِ ، وتَخویفا بِالمَثُلاتِ ، وَالنّاسِ فی فِتَنٍ انجَذَمَ فیها حَبلُ الدّینِ ، وتَزَعزَعَت سَوارِی الیَقینِ ، وَاختَلَفَ النَّجرُ وتَشَتَّتَ الأَمرُ ، وضاقَ ...»(3).

نجد أن أداة العطف (الواو)(4) قد حققت وظيفة دلالية في السياق المقالي، فأسهمت في الجمع بين الصفات التي اختصت بالموصوف (الرسول(صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) ، الذي

ص: 255


1- ظ: ابن جني، الخصائص: 2/ 56، و: عثمان أبو زنيد و نحو النص، دراسة تطبيقية في خطب عمر ابن الخطاب ووصاياه ورسائله: 98، رسالة ماجستير في الجامعة الأردنية .
2- ظ: صبحي إبراهيم الفقي، علم اللغة النّصّي بين النظرية والتطبيق: 1/ 259، 258.
3- نهج البلاغة: 46، خطبة: 2.
4- الواو: معناها إشراك الثاني فيها دخل فيه الأول، وليس فيها دليل على أيهما كان أولا، فموقع الواو الوسط ورتبتها التوسط بين أول وثان لا يهم من يكون الأول ولا من يكون الثاني وإنما الذي يهمنا هو وجود أول وثان، ووجود حرف العطف الواو رابطا بينهما، فإذا قلت: جاء محمد وعلي، لم يجز لك أبدا أن تقول: جاء محمد علي ولا أن تقول: جاء ومحمد علي، وأنت تريد العطف بينهما، ظ: ابن السرّج، الأصول في النحو: 2/ 55، و : ابن عقیل، شرح ابن عقيل: 2/ 226.

يُمثل بؤرة النّصّ، ويأتي دور العطف ب(الواو) في توسيع هذه البؤرة؛ لتشمل التراكيب التابعة لها و المتعالقة بعضها ببعض، «فالتوسّع بالعطف قد يشمل في تحليل الجملة العربية الدلالات المنتظمة داخل وحدة كلامية قائمة برأسها، حتى يلتقي الشكل التركيبي بالشكل المعنوي»(1)، وزاد الوصف الأمر تعالقاً وتوسعاً للتراكيب داخل البنية النّصّية. و خصص حرف الجر (الباء) هذه الصفات العظيمة المميزة بالموصوف.

وقد جاءت المركبات العطفية الاسمية المتشابهة (بِالدِّینِ المَشهور)، و(وَالعَلَمِ المَأثورِ)، وَ(الکِتابِ المَسطورِ)، وَ(النّورِ السّاطِعِ)، وَ(الضِّیاءِ اللّامِعِ)، وَ(الأَمرِ الصّادِعِ) مناسبة وطبيعة العناصر المترابطة داخل الوحدة النّصّية، وجميعها معبّرة عن موصوف واحد؛ لتُميّزه دون غيره بهذه الصفات العظيمة، و أنّ كلِّ عنصر من هذه العناصر يُعبّر عن الموصوف نفسه، الذي تُلائمه الصفة العظيمة، فجاء الربط متوازناً بين الجمل الاسمية الثابتة المستمرة، ما زاد في انسجامه وترابطه؛ إذ تعمّق في دلالة النّصّ، وأبقى مدياته مفتوحة أمام كلِّ متلق، دون حصرها بزمن أو مكان معين.

وفي قوله(علیه السّلام) : «بالعلم المأثور، والكتاب المسطور»، عطف «الكتاب» على «العلم»، بواسطة حرف العطف (الواو)، فقرنه به، واشرکه بالوظيفة الدلالية فترتب عليهما نتيجة واحدة، قد ذكرها المتكلّم في التركيب المعطوف عليهما «النُّورِ السَّاطع»، وقد أوّل (ابن أبي الحديد العلم المأثور بتأويلين هما: «يجوز أن يكون عنى به القرآن، لأن المأثور المحكي، والعلم ما بيهتدى به... ويجوز أن یرید به أحد معجزاته غير القرآن، فإنها كثيرة ومأثورة، ويؤكد هذا قوله بعد:

ص: 256


1- المنصف عاشور : بنية الجملة العربية بين التحليل والنظرية: 70.

والكتاب المسطور، فدل على تغایر هما»(1)، والثاني الأرجح؛ لدلالة السياق العطفي عليه، وهذا التناسب الدلالي يقوي عملية الربط بالعطف.

لقد استمر هذا التعالق الدلالي في إطار السياق العطفي، في ترتيب المعطوفات، واعتماد بعضها على بعض في سلسلة منسجمة متسقة، يمكن تمثيلها بالمخطط الآتي:

يتبيّن من التخطيط السابق أنّ ثمّة تعالقاً دلالياً بين الجمل، تمظهَر حول مرجع واحد، هو (الرسول(صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) ، جاء في مضمون الجملة الأولى، ألا وهي:(أرسله) وعليه مثلّت بؤرة النّصّ، فحذفها من الجمل التالية لها، استغناءً عنها بوجود أداة العطف (الواو)، وهنا تحقق الاختصار.

ويتبيّن مدى ملاءمة الاستعمال الأداة العطف (الواو)- التي مثلت القرينة اللفظية الأساسية في النّصّ- ودلالتها على الجمع والإشراك، وليس هذا فحسب،

ص: 257


1- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة: 1/ 32.

وإنّما دلّت على ترتيب (1) الجمل بعضها على بعض، فجاءت مسبوكة متسقة .

ومثله قوله (علیه السّلام) أيضاً في تعداد فضائل الرسول(صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) :

«اختَارَهُ مِن شَجَرَهِ الأنبِیاءِ وَ مِشکَاهِ الضِّیاءِ وَ ذُوَابَهِ العَلیاءِ وَ سُرَّهٍ البَطحَاءِ وَمَصَابِیحِ الظُّلمَهِ وَینَابِیعِ الحِکمَه.» (2).

لقد جمع فضائل الموصوف(صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) ، وتعمق في اختيار التراكيب الاسمية الثابتة الدالة على معانيها؛ (شَجَرَهِ الأنبِیاءِ)، و(مِشکَاهِ الضِّیاءِ)، و(ذُوَابَهِ العَلیاءِ)، و(سُرَّهٍ البَطحَاءِ)، و(مَصَابِیحِ الظُّلمَهِ)، و(ینَابِیعِ الحِکمَه)، كل ذلك في ضوء تعالقها بأداة العطف (الواو)؛ إذ استغني عن تكرار الفعل (اختاره)، مع كلّ ترکیب، مبيناً أصل اختيار النبي(صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) ؛ لتنشيط ذهن المتلقي في تقدير هذا المحذوف بما يمتلكه من أدوات معرفية، تعينه في ذلك القرائن الدالة في السياق المقالي، بما فيها أداة العطف (الواو)،فتمثل الاختصار في هذا الإطار، فأصلَ المتكلّم اختیار الرسول(صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) من ستة أصول وهي كالآتي:

اختاره

شَجَرَهِ الأنبِیاءِ

مِشکَاهِ الضِّیاءِ

ذُوَابَهِ العَلیاءِ،

سُرَّهٍ البَطحَاءِ

مَصَابِیحِ الظُّلمَهِ

ینَابِیعِ الحِکمَه

ص: 258


1- وهذا يتعارض ورأي أغلب النحاة في دلالتها على الترتيب. للاستزادة يراجع: المرادي، الجني الداني في حروف المعاني: 159، 158.
2- نهج البلاغة: 156، الخطبة: 108.

من هذا يظهر مدى اتکاء المتكلم على العطف في استقصاء سبب اختيار الله تعالى الرسول محمد(صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) نبياً للأمة وهادياً لها، فجاء بيانه له مناسباً، وطبيعة العناصر المعبّرة عن كلّ أصل من أصوله، ومنسجمة وسياق المقال، ومن ثم مؤدياً إلى اتساق البنية الكلية للوحدة النّصّية في ذهن المتلقي بصورة عامة؛ لانفتاح دلالة النّصّ.

ووردت (الفاء)(1) العاطفة بوصفها وسيلة للربط في خطب الإمام (علیه السّلام) ، ففي قوله (علیه السّلام) في تصوير الفتن، وأثرها في مذاهب النّاس:

«... وَلَوْ أَنَّ الْحَقَّ خَلَصَ مِنْ لَبْسِ الْبَاطِلِ انْقَطَعَتْ عَنْهُ أَلْسُنُ الْمُعَانِدِینَ وَلَکِنْ یُؤْخَذُ مِنْ هَذَا ضِغْثٌ وَمِنْ هَذَا ضِغْثٌ فَیُمْزَجَانِ فَهُنَالِکَ یَسْتَوْلِی الشَّیْطَانُ عَلَی أَوْلِیَائِهِ وَیَنْجُو الَّذِینَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ الْحُسْنی» (2).

ظهر أثر (الفاء) في الربط بين جمل النّصّ «فَیُمْزَجَانِ»، «فَهُنَالِکَ یَسْتَوْلِی الشَّیْطَانُ عَلَی أَوْلِیَائِهِ ...»، فأضفت عليه صفة التاسك بصورة متقنة، فبعدما جمعت (الواو) الأحداث المتمثلة بالالتباس بين الحق والباطل، فشاركتهما معاً، في قوله: «وَلَکِنْ یُؤْخَذُ مِنْ هَذَا ضِغْثٌ وَمِنْ هَذَا ضِغْثٌ (3)»، الذي يريد به أن

ص: 259


1- الفاء: وهي توجب أن الثاني بعد الأول وأن الأمر بينهما قريب، وتوجب أيضا وجود الاثنين، أول و ثان تتوسط الفاء بینهما ولا یجوز أن یتقدم الاثنان علیها و لا أن یتأخرا عنها ، نحو:«جاء زید فعمرو«، ومنه قوله تعالى: «الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2)»* [الأعلى: 2]، وللفاء معانٍ كثيرة أبرزها الترتيب، للاستزادة يراجع: ابن السراج: الأصول في النحو: 2/ 55، و : الهروي، الأزهية في علم الحروف: 2/ 250.
2- نهج البلاغة: 88، خطبة : 50.
3- الضِغث: قبضة من حشیش مختلط فيها الرطب باليابس، ظ: نهج البلاغة: 581، وظ: ابن میثم البحراني: 2/ 134. منه قوله تعالى: )«وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا »، [ص: 44]

«أخذ الحق من وجه لم يعدم شبيهاً له من الباطل يلتبس به. وإن نظر إلى الباطل لاح كأن عليه صورة الحق فاشتبه به فذلك ضغث الحق وضغث الباطل»(1)، اعقبتها (الفاء) في ترتيب الحكم أو نتيجة على ذلك الحدث، ولاسيما في قوله فَهُنَالِکَ یَسْتَوْلِی الشَّیْطَانُ عَلَی أَوْلِیَائِهِ وَیَنْجُو الَّذِینَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ الْحُسْنی»، فقد أبان الحكم فيها بوضوح؛ فتمكّن الشيطان من الإغواء والوسوسة للمتلقي، هو نتيجة مزج الحق بالباطل. وعليه فالبنية الكلية للنّصّ متلاحمة بفضل أدوات العطف، التي أضفت عليه صفة الاتساق، ليس على المستوى الشكلي فحسب، وإنّما امتد إلى الاتساق الدلالي بين مضمون الأحداث ونتيجتها.

أشار البحث- فيما مرّ آنفاً- إلى أنّ الربط بالعطف لا يقتصر على إطار الجملة، أو الجمل، المتقاربة فحسب؛ وإنّما يمتد ليشمل الجمل المتباعدة، والوحدات النّصّية، وهذا ما أسهمت به الأداة (ثُمَّ)، في قوله (علیه السّلام) في تحذير النّاس من الفتن، بعد حمد الله تعالى، والثناء عليه، والشهادة والتسليم للرسول(صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) ، قال (علیه السّلام):

«... ثُمَّ إِنَّکُمْ مَعْشَرَ الْعَرَبِ أَغْرَاضُ بَلاَیَا قَدِ اقْتَرَبَتْ- فَاتَّقُوا سَکَرَاتِ النِّعْمَهِ وَ احْذَرُوا بَوَائِقَ النِّقْمَهِ- وَ تَثَبَّتُوا فِی قَتَامِ الْعِشْوَهِ وَ اعْوِجَاجِ الْفِتْنَهِ- عِنْدَ طُلُوعِ جَنِینِهَا وَ ظُهُورِ کَمِینِهَا- وَ انْتِصَابِ قُطْبِهَا وَ مَدَارِ رَحَاهَا... - ثُمَّ یَأْتِی بَعْدَ ذَلِکَ طَالِعُ الْفِتْنَهِ الرَّجُوفِ- وَ الْقَاصِمَهِ الزَّحُوفِ فَتَزِیغُ قُلُوبٌ بَعْدَ اسْتِقَامَهٍ- وَ تَضِلُّ رِجَالٌ بَعْدَ سَلاَمَهٍ- وَ تَخْتَلِفُ الْأَهْوَاءُ عِنْدَ هُجُومِهَا- وَ تَلْتَبِسُ الْآرَاءُ عِنْدَ نُجُومِهَا-...»(2).

ص: 260


1- نهج البلاغة، شرح محمد عبده: 1/ 100.
2- نهج البلاغة: 210، خطبة: 151.

يظهر أثر أداة العطف (ثُمَّ)(1) في هذا النّصِّ في الربط بين الوحدات النّصّية، في إطار البنية الكلية للنّصّ، فأدت إلى تلاحم أجزائه «ثُمَّ إِنَّکُمْ مَعْشَرَ الْعَرَبِ أَغْرَاضُ بَلاَیَا قَدِ اقْتَرَبَتْ- فَاتَّقُوا سَکَرَاتِ النِّعْمَهِ وَ احْذَرُوا بَوَائِقَ النِّقْمَهِ- وَ تَثَبَّتُوا فِی قَتَامِ الْعِشْوَهِ...»، ففيها أخذ بإنذار المتلقين بأخذ الاستعداد اللازم، من صواعق الفتن في المستقبل.

ثم شرع في الوحدة النّصّية الثالثة - «ثُمَّ یَأْتِی بَعْدَ ذَلِکَ طَالِعُ الْفِتْنَهِ الرَّجُوفِ- وَ الْقَاصِمَهِ الزَّحُوفِ فَتَزِیغُ قُلُوبٌ بَعْدَ اسْتِقَامَهٍ- وَ تَضِلُّ رِجَالٌ بَعْدَ سَلاَمَهٍ ........ - إلى بيان أفعال تلك الفتنة بالنّاس من إزاغة قلوب القوم عن الاستقامة وهلاكهم، وكان اختيار المتكلّم استعمال (ثم) وسيلة؛ لانتقاله بين تفاصيل كلامه، فقد مهدت السبيل لترتيب أجزاء النّصّ بمهلة، وتقوية أواصره المتباعدة.

ثالثاً - أدوات النفي:

النفي أسلوب تحدده مناسبات القول، وهو أسلوب نقض وإنكار يستعمل؟ لدفع ما يتردد في ذهن المخاطب(2)، ويعرّفه (الشريف الجرجاني) بأنه ما لا ينجزم بلا، وهو عبارة عن الإخبار عن ترك الفعل، ويرى أنه أعم من الجحدة؛ لأن الجحد عنده هو ما انجزم بلم لنفي المضارع، وهو عبارة عن ترك الفعل في الماضي (3).

ص: 261


1- ثمّ: حرف عطف يُشرك في الحكم، ويفيد الترتيب بمهلة، وتنوع الربط بها، إذ قد تربط مفرد على مفرد و جملة على جملة .. الخ، وثم مثل الفاء إلا أنّها أشد تراخيا و تجيء لتعلم أن بين الأول والثاني مهلة، ظ: المرادي، الجنى الداني في حروف المعاني: 406، و : ابن السرّاج، الأصول في النحو : .2/ 55.
2- ظ: مهدي المخزومي، في النحو العربي، نقد وتوجيه: 246.
3- ظ: الشريف الجرجاني، التعريفات: 245.

والإخبار بالنفي عملية قائمة على مقتضيات وتقديرات، وهذه المقتضيات هي التي تقتضي على المتكلم اختیار صيغة النفي، فيقدّر ما هو قائم في نفس المتلقي(1). وعليه فإنّ القيام بهذه العملية- الإخبار بالنفي - يُزيد من الحركة التفاعلية بين المتكلّم والمتلقي، فلا ينفك أحدهما عن الآخر؛ لاختيار المتكلّم أسلوباً يناسب ذهن المتلقي.

وأدوات النفي هي تلك الأدوات التي تنفي حدوث الفعل أو الاسم (2) وهي بعملها هذا تقوم بربط الكلام بعضه ببعض؛ إذ تقوم بتقييد الجملة المنفية، وهي بقيدها هذا تُبيّن نوع العلاقة القائمة بين الجزء المنفي وما يتعلق به، وبذا تُؤسس بنية نّصّية متماسكة، محافظة على المكونات الداخلة في حيّز النفي (3).

ولكلّ أداة دلالة واضحة في البنيّة النّصّية، تميزها عن غيرها من الأدوات، سيقتصر المبحث على دراسة أكثر الأدوات تناولآً، وأبرزها ارتباطاً في البنية الخطابية للإمام (علیه السّلام)، منها ما ورد في قوله(علیه السّلام) :

«...مَا أَنْتُمْ لِی بِثِقَةٍ سَجِیسَ اللَّیالِی، وَ مَا أَنْتُمْ بِرُکنٍ یمَالُ بِکمْ وَ لَا زَوَافِرُ

ص: 262


1- ظ : محمد الخطابي، أصول تحليل الخطاب: 1/ 515.
2- ظ: ابن عقیل، شرح ابن عقيل على ألفية بن مالك: 2/ 349.
3- تناول محمد الشاوش هذا الموضوع بدقة، وناقش الجرجاني بهذا الموضوع ولا سيما في قوله: «ها هنا أصل، وهو أنّه من حكم النّفي إذا دخل على كلام، وكان في ذلك الكلام تقييد على وجه من الوجوه أن يتوجّه إلى ذلك التّقييد وأن يقع له خصوصاً». الجرجاني، دلائل الإعجاز: 316. وسعی- محمد الشاوش -لتعديل قاعدة «الجرجاني» «حيّز النفي في الجملة يتحدّد بالعنصر الذي تباشره أداة النّفي أو بالقيد المتعلّق به». محمد خطابي أصول تحليل الخطاب: 502/1 . للاستزادة بالتفصيل في هذا الأمر، ظ: أصول تحليل الخطاب: 1/ 515، 503، 502.

عِزٍّ یفْتَقَرُ إِلَیکمْ مَا أَنْتُمْ إِلَّا کإِبِلٍ ضَلَّ رُعَاتُهَا فَکلَّمَا جُمِعَتْ مِنْ جَانِبٍ انْتَشَرَتْ مِنْ آخَرَ لَبِئْسَ لَعَمْرُ اللَّهِ سُعْرُ نَارِ الْحَرْبِ أَنْتُمْ تُکادُونَ وَ لَا تَکیدُونَ وَ تُنْتَقَصُ أَطْرَافُکمْ فَلَا تَمْتَعِضُونَ لَا ینَامُ عَنْکمْ وَ أَنْتُمْ فِی غَفْلَةٍ سَاهُونَ غُلِبَ وَ اللَّهِ الْمُتَخَاذِلُونَ وَ ایمُ اللَّهِ إِنِّی لَأَظُنُّ بِکمْ أَنْ لَوْ حَمِسَ الْوَغَی وَ اسْتَحَرَّ الْمَوْتُ قَدِ انْفَرَجْتُمْ عَنِ ابْنِ ابی طَالِبٍ انْفِرَاجَ الرَّأسِ...»(1).

في النّصّ المتقدّم ثمّة تنوّع في استعمال الأدوات الرابطة، ولاسيما أدوات النفي، حتى كوّنت كتلة ملتحمة، فقد تكررت أداة النفي «ما» ثلاث مرات؛ «ما أنتم لي بثقة جيش الليالي»، «مَا أَنْتُمْ لِی بِثِقَةٍ سَجِیسَ اللَّیالِی، وَ مَا أَنْتُمْ بِرُکنٍ یمَالُ بِکمْ وَ لَا زَوَافِرُ عِزٍّ یفْتَقَرُ إِلَیکمْ مَا أَنْتُمْ إِلَّا کإِبِلٍ ضَلَّ رُعَاتُهَا»، وكانت في جميعها داخلة على ضمير المخاطب المنفصل «أنتم»، المحيل على المتلقين خارج النّصّ «الناس في الشام» (إحالة مقامية)، فكما باشرت أداة النفي الحدث أو الموقف، فقد باشرت الخطاب أيضاً؛ أي اعتمد على نوعين من النفي، النفي اللفظي باستعمال «ما» النافية، والنفي المعنوي بإحالة نفي على المقام عن طريق فهم المتلقي لسياق الكلام، وهذا ما يبتغيه المتكلّم، وهي إيصال مدى تذمره منهم، فقد تمثلّت البنية الخطابية - هنا في استنفارهم إلى الحرب، فكانوا كثيراً ما يتناقلون عن دعوته، استقبلهم بالتأنيف والتضجر بما لا يرتضيه من أفعالهم، فكان حديثه هذا تبكيتاً لهم وتوبیخاً برذائل تعرض لهم عند دعوته لهم إلى الجهاد؛ لذا وصفهم برذيلتي الذّلّ والحقارة(2).

وحققت هذه الأداة «ما» الترابط مع البؤرة الأساسية في النّصّ، فدخلت عليها ونفتها، وأدت وظيفتها اللغوية النصية - في النص الذي وجدت فيه -

ص: 263


1- نهج البلاغة: 78، خطبة: 34.
2- ظ: ابن میثم البحراني، شرح نهج البلاغة: 2/ 78، 77.

فجعلت المعنى تاماً متسقاً مع أجزاء الكلام الأُخر.

وقد زادت «لا» النافية استمرار في البؤر الثانوية المتعالقة مع البؤرة

الأساسية، في قوله: «تُکادُونَ وَ لَا تَکیدُونَ وَ تُنْتَقَصُ أَطْرَافُکمْ فَلَا تَمْتَعِضُونَ لَا ینَامُ عَنْکمْ وَ أَنْتُمْ فِی غَفْلَةٍ سَاهُونَ»، فتكررت ثلاث مرات، وتفاعلت مع عناصره، فأفادت نفیا نصيا؛ لتؤدي دورها في الاتساق النّصّي.

وفي قوله(علیه السّلام) : «تُکادُونَ وَ لَا تَکیدُونَ «تعالق الجزء المنفي مع الفعل المثبت، وأسهمت «الواو» في جمعها واشراكهما معاً من غير مهلة، فهم يُخدعون ويمكر بهم عدُّوهم في إيقاع الحيلة، ولا يستطيعون إدراك أنفسهم وحميتها(1)، ما يُزيد النّصّ ترابطاً.

وعطف المتكلّم عليها جملة أخرى: «وَ تُنْتَقَصُ أَطْرَافُکمْ فَلَا تَمْتَعِضُونَ»، فكان العطف فيها في إطار الترتيب بأداة العطف «الفاء»، وكأنه نتيجة لإثبات، فهذا وصف لهم برذيلة المهانة، وهذا التعالق في استعمال أدوات النفي والعطف يقوي تلاحم النّصّ واتساقه.

ولتفادي التكرار؛ فقد قدم المتكلّم في الجملة الثالثة النفي ب(لا) على الإثبات «لَا ینَامُ عَنْکمْ وَ أَنْتُمْ فِی غَفْلَةٍ سَاهُونَ»، في آخر محطة لها في النّصّ، حتى يخرج النّصّ في نسيج محبوك مسبوك، وبغية التأكيد على مدى تنبه العدو، ورقدته واستمرار غفلة المتلقين، وقلة عقولهم لمصالح أنفسهم، وكلّ هذا جاء في مضامة التوبيخ والتثقيف لهم(2)، ما يدل دلالة واضحة على الاتساق القائم

ص: 264


1- ظ: م. ن: 2/ 80، 79.
2- ظ : ابن میثم البحراني: 2/ 80، 79.

بين ألفاظ هذا التركيب في البنية الخطابية المتعالقة.

ومن مواضع استعمال الربط ب «لم)(1)، قوله (علیه السّلام) في رده على الخوارج؛ لضلالتهم ورفضهم التحكيم، وهو كلام طویل اقتص البحث منه ما يتعلق بأمر الرسول(صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) ، وهدايته لهم:

«وَقَدْ عَلِمْتُمْ أنَّ رَسُولَ الله صلی الله علیه و آله رَجَمَ الزَّانِیَ الْمُحْصَنَ، ثُمَّ صَلَّی عَلَیْهِ، ثُمَّ وَرَّثَهُ أَهْلَهُ، وَقَتلَ الْقَاتِلَ وَوَرَّثَ مِیرَاثَهُ أَهْلَهُ، وَقَطَعَ السَّارِقَ... فَأَخَذَهُمْ رَسُولُ الله صلی الله علیه و آله بِذُنُوبِهِمْ، وَأَقَامَ حَقَّ الله فِیهمْ، وَلَمْ یَمْنَعْهُمْ سَهْمَهُمْ مِنَ الإسْلاَمِ، وَلَمْ یُخْرِجْ أسْمَاءهُمْ مِنْ بَیْنِ أَهْلِهِ ...»(2).

فيما يبدو أنّ العلاقة الإحالية هي التي أسهمت بدور أساسي في تحقيق ترابط النّصّ، فالضمير الغائب «هم» عائد على (الزاني، والقاتل، والسارق) جميعهم، في حين عاد الضمير «هو على الرسول(صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) ، وعليه فالمرجعان الإشاریان قد تجلّيا داخل البنية النّصّية، ما زاد في اتساق النّصّ.

إنّ العنصر اللغوي الذي يقوي الربط النّصّي فيها - البنية النصية - هو أداة النفي «لم»، التي جعلت کامل التركيب متعلقاً بعضه ببعض؛ فالتركيب: «وَلَمْ یَمْنَعْهُمْ سَهْمَهُمْ مِنَ الإسْلاَمِ»، متعلق بالتراكيب السابقة على الأداة «لم» ؛ «فَأَخَذَهُمْ رَسُولُ الله صلی الله علیه و آله بِذُنُوبِهِمْ، وَأَقَامَ حَقَّ الله فِیهمْ». وكذا الأمر مع الأداة

ص: 265


1- لم: هي حرف نفي في الماضي، تدخل على المضارع فتصرف معناه إلى الماضي، کيا تدخل على ماضي اللفظ فتصرف لفظه إلى المبهم دون معناه، وقد تكون ناصبةً أو غير عاملة، وقيل أن أصلها «لا» فأبدلت الألف ميماً لأن الفعل بعدها قد يقع مرفوعا لغة لا ضرورة. ظ: المرادي، الجني الداني في حروف المعاني: 267.
2- نهج البلاغة: 184، خطبة : 127.

الثانية «لم»، وقد اقترنت بأداة العطف «الواو»؛ لتجعل كلّ أجزاء النّصّ تتضام بالأداة «لم»، وتتسق في معنى واحد هو نفي الظاهرة السلبية للتحكيم، الراسخة في عقول هؤلاء الخوارج، ودفع كلّ أكاذيبهم وادعاءاتهم التي لم تكتفِ بإسقاط تحكيم الإمام علي (علیه السّلام) وإنما امتدت لتشمل النبي(صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )

رابعاً - أدوات أخر:

اشارة

فيما يأتي جمعنا مجموعة من الأدوات عملت على ربط أجزاء النص، وأنَّ جمع هذه الأدوات تحت عنوان واحد لا يقلل من أهميتها في الربط، أو كونها لم تكن فاعلة في الترابط النّصّي، وإنّما لقلة وجود بعضها في خطب الحروب، وعمل بعضها الآخر في الربط - فيما يبدو للبحث - ثانوياً؛ أي دائما تستعين بأدوات الربط الأساسية مثل (أدوات العطف) على سبيل المثال، وهذا ما سيتضح في ضوء التحليل النّصّي للخطب، إظهار أثرها جلياً في الاتساق النّصّي.

أدوات القصر والاستثناء:

القصر: وجه لطيف - من أوجه الإخبار-، يحمل بين طياته أسرار النّظم التي عني (الجرجاني)(1) بالكشف عنه، ويمتد معناه - القصر -؛ ليشمل دلالات مختلفة، مصاغة في عدد من التراكيب المترابطة التي تتباین تبعاً لتباين

ص: 266


1- فقد خصص الجرجاني له بابا اسماه باب (القصر والاختصاص)، وقد تناول فيه بعض أشكال القصر، التي تناولها النحاة من وجه واحد، فألزم على نفسه هو تناول الاختلافات الدلالية الدقيقة بينها، وقسمه على نوعين هما ب(انّما، وما+ إلّا)، وفصّل القول فيها في ضوء الآيات القرآنية والأبيات الشعرية في إطار حديثه. للاستزادة أكثر، يراجع: دلائل الإعجاز: 328- 334. و: محمد أبو موسی، دلالات التراكيب عند الأصوليين: 174، وما بعدها، و: سعید البحيري دراسات لغوية تطبيقية بين البنية والدلالة: 64، وما بعدها.

مكوناتها التي يختارها المتكلم، مؤلفاً – المتكلّم- بنية ملتحمة متآلفة فيما بينها؛لإيصال ما يريده من معنى إلى المتلقي، مراعياً في ذلك في اختياره أبنية القصر، و قرائن الحال والمقال (1).

وقد اشترط أغلب الأصوليين لصحة الاستثناء، أن يكون المستثنی متصلاً بالمستثنى منه حقيقة، بألّا يفصل بينهما فاصل أصلاً أو حكماً(2)، فيرتبط المستثنى في أداء وظيفته الدلالية بالمستثنى منه ارتباطاً شديداً، ومن ثم يؤدي إلى تحقيق الاتساق النّصّي داخل البنية الخطابية.

وتقوم أدوات الاستثناء جميعاً بربط ما قبلها (المستثنى منه) بما بعدها (المستثنی)، فقولك: خرج القوم إلّا واحداً، يستثنى من حكم الخروج واحد من القوم، فالجملة - هنا- تبدو لاحنة من دون الأداة؛ لأنها تفتقر إلى قيود سلامة البناء التركيبي في العربية، ما يدل دلالة واضحة على أهمية الأداة «إلّا» أو إحدى أخواتها في الاستثناء والربط معاً؛ إذ تقوم بتعالق أجزاء التراكيب اللاحق بالسابق، وكذلك تقوم باختزال المركب الفعلي (استثنی)، وإحلالها محله(3).

ص: 267


1- ظ : سعيد البحيري، دراسات لغوية بين البنية والدلالة: 264.
2- الاستثناء هو التركيب اللغوي، وهو عندهم أحد القرائن اللفظية التي بها يخصص العموم، أي إخراج بعض أفراد اللفظ العام من الدلالة التركيبية، نحو قوله تعالى: « فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ » [البقرة: 249]. وقد وضعوا له شروطاً متعددة، منها : أن يكون المستثنى غير مستغرق للمستثنى منه، وأن يكون بعضاً من المستثنى منه قصداً بأن يقصد معنی متناولاً له، مجازياً كان أم حقيقية، لا تبعاً من غير قصد إليه، وألا يسبق أداة الاستثناء حرف عطف، وغير ذلك، للاستزادة يراجع على سبيل المثال: محمد أبو موسی، دلالات التراكيب عند الأصوليين: 174 وما بعدها .
3- ظ: حسام البهنساوي، أنظمة الربط في العربية: 27، 26.

ا

ا

ا

ومواضع الربط بأداة الاستثناء تبدو واضحة الاستعمال في خطب

الإمام(علیه السّلام) ، ولاسيما فيما يخصّ خطب الحروب(1). ، منها قوله(علیه السّلام) في الإشارة إلى ظلم بني أمُيّة:

«وَ اللَّهِ لاَ یَزَالُونَ- حَتَّی لاَ یَدَعُوا لِلَّهِ مُحَرَّماً إِلاَّ اسْتَحَلُّوهُ- وَ لاَ عَقْداً إِلاَّ حَلُّوهُ- وَ حَتَّی لاَ یَبْقَی بَیْتُ مَدَرٍ وَ لاَ وَبَرٍ- إِلاَّ دَخَلَهُ ظُلْمُهُمْ- وَ نَبَا بِهِ سُوءُ رَعْیِهِمْ وَ حَتَّی یَقُومَ الْبَاکِیَانِ یَبْکِیَانِ: بَاکٍ یَبْکِی لِدِینِهِ، وَ بَاکٍ یَبْکِی لِدُنْیَاهُ، وَ حَتَّی تَکُونَ نُصْرَهُ أَحَدِکُمْ مِنْ أَحَدِهِمْ- کَنُصْرَهِ الْعَبْدِ مِنْ سَیِّدِهِ، إِذَا شَهِدَ أَطَاعَهُ، وَ إِذَا غَابَ اغْتَابَهُ ...»(2).

يتجلّى في النّصّ المتقدم أثر أداة الاستثناء «إلّآ» في تعالق التراكيب الجزءاللاحق بالسابق، فقد تكررت ثلاث مرات، وأسهمت أبنيتها متضامةً مع «حتى» الرابطة على تأكيد مقصد المتكلّم وتوضيحه في بيان جور بني أمُيّة المستقبلية و مظالمهم بحق المسلمين، حصرها فيهم «لاَ یَدَعُوا لِلَّهِ مُحَرَّماً إِلاَّ اسْتَحَلُّوهُ- وَ لاَ عَقْداً إِلاَّ حَلُّوهُ- «َ حَتَّی لاَ یَبْقَی بَیْتُ مَدَرٍ وَ لاَ وَبَرٍ- إِلاَّ دَخَلَهُ ظُلْمُهُمْ-»، ففي تعدد تراكيب الاستثناء على هذا النحو- على نحو العطف ب«الواو وحتى» - حصر حالات الجور في بني أميّة، ما يدل على تلاحم أجزاء التراكيب داخل البنية الخطابية المتسقة.

وقد جاءت - تراکیب الاستثناء - في سياق تحذير المتلقي؛ لذا استهل حديثه بالقسم ب«الله» تعالى بأنّ هذه الأمور ستجري على أيديهم، ما زاد الأمر تأكیداً

ص: 268


1- فالإمام(علیه السّلام) میزان بصفته أميرا عليهم كانت أغلب خطبه من هذا الجانب - خطب الحروب- متعلقة بتشریعه حکمٍ عام يشمل جميع الحالات، ومن ثم يقصره على حالة معينة، وحتى يفيد الاستثناء ذلك يأتي في الأغلب مسبوقاً بالنفي، وهذا ما سيتضح.
2- نهج البلاغة: 143، خطبة : 98.

وتعالقاً. وقد سُبقت التراكيب الحصرية - الاستثنائية بأداة النفي «لا»، (النفي + الاستثناء) (1)؛ وذلك لحصر هذه المظالم المتعددة في بني أميّة دون غيرهم، وتنبيه المتلقي عليها، ويؤكد ذلك ما ذهب إليه (الجرجاني ) من أنَّ بنية التركيب هذه (النفي + الاستثناء) تحمل معنى القصر والاختصاص، ومثل لها بقوله:«ما جاءني إلّا زيد» فقد خصّ زيد بالمجيئ، ونفاه عن غيره، فهذه البنية توجه الكلام بعدها إلى النّفي، وتفيد وقوع الإثبات على زيد، فيتحقق بهما معنی الاختصاص(2).

ومن ذلك أيضاً قوله(علیه السّلام) في تصويره أبشع أنوع الظلم التي مارستها سياسة بني أمية(3)، يقول:

«وَایْمُ اللَّهِ لَتَجِدُنَّ بَنِی أُمَیَّهَ لَکُمْ- أَرْبَابَ سُوءٍ بَعْدِی، کَالنَّابِ الضَّرُوسِ: تَعْذِمُ بِفِیهَا وَ تَخْبِطُ بِیَدِهَا، وَ تَزْبِنُ بِرِجْلِهَا، وَ تَمْنَعُ دَرَّهَا- لاَ یَزَالُونَ بِکُمْ حَتَّی لاَ یَتْرُکُوا مِنْکُمْ إِلاَّ نَافِعاً لَهُمْ- أَوْ غَیْرَ ضَائِرٍ بِهِمْ، وَ لاَ یَزَالُ بَلاَؤُهُمْ حَتَّی لاَ

ص: 269


1- ف«دلالة أبنية القصر هي دلالة مركبة، وهي إثبات متضمن النفي أو نفي متضمن الإثبات» . سعيد البحيري، دراسات لغوية تطبيقية في العلاقة بين البنية والدلالة: 253.
2- ظ: الجرجاني، دلائل الإعجاز : 337.
3- تعد هذه الخطبة والسابقة من أخباره(علیه السّلام) بما يسميه البعض بالأمور الغيبية، وما يجري من الفتن، وما يمر على بعض الناس، وما يحدث لهم ما لا تتحمله العقول، ولا تقوم به القلوب، وقد اقسم(علیه السّلام) بالله تعالى بهذا الجزء المقتطع من الخطبة الطويلة - وأخبر بأنَّ بني أمية يجعلون أنفسهم کالأرباب في أمرهم ونهيهم؛ لذا شبههم بالناقة المسنة السيئة الأخلاق التي تعض بفمها، وتضرب بيدها وتضرب برجلها، وتمنع حالبها من حلبها، فهم مثلها من جهة إيذاؤهم الناس، وممارستهم أبشع أنواع الظلم والتعدي على الناس. ينظر: على سبيل المثال: عباس الموسوي، شرح نهج البلاغة: 2/ 126، 125.

یَکُونَ انْتِصَارُ أَحَدِکُمْ مِنْهُمْ- إِلاَّ مثل انْتِصَارِ الْعَبْدِ مِنْ رَبِّهِ- وَ الصَّاحِبِ مِنْ مُسْتَصْحِبِهِ...»(1).

فقد أفاد (النفي + الاستثناء) في هذا النّصِّ اختصاص واستمرار الدولة الأموية وحدها في الأحكام والأفعال الظالمة التي يترتب عليها إذلال المسلمين وقهرهم، ولا يُنفي أو يرفع هذا الحكم إلا عمن يكون عميلاً لهم، غير ضائر بهم.

ويصوّر الفعل «ولا يزال« استمرار حالة البلاء هذه حتى تنتج عنها عواقب وخيمة، أوضحتها الأداة «حتى» في ضوء عطفها تركيب الاستثناء (النفي + الاستثناء)؛ «لا یَکُونَ انْتِصَارُ أَحَدِکُمْ مِنْهُمْ- إِلاَّ مثل انْتِصَارِ الْعَبْدِ مِنْ رَبِّهِ- وَ الصَّاحِبِ مِنْ مُسْتَصْحِبِهِ»، فلا تنفي أو تتغير هذه الحالة حتى ينصر أحدكم الأمر في حضوره، ويغتابه في غيابه، فزادت هذه الأدوات المتضامة في قوة الترابط الدلالي بين التراكيب على امتداد النّصّ.

أدوات الاستفهام:

يعدّ أسلوب الاستفهام من الأساليب الإنشائية وأكثرها استعمالآً وأهمية ، والاستفهام فعل إنجازي يُساق لطلب الفهم بأمرٍ مجهول عند المُستَفهم، أي خارج الذهن، مالم يكن حاصلاً عنده(2)، و قد كان محل عناية المحدثين، فقد عدّه البعض من الآليات اللغوية التوجيهية المستعملة؛ بوصفها توجّه المتلقي عما تساءل عنه المتكلّم، «وهو ضرورة الإجابة عليها، ومن ثم فإنّ المرسل يستعملها للسيطرة على مجريات الأحداث، بل وللسيطرة على ذهن المرسل إليه، وتسيير

ص: 270


1- نهج البلاغة: 38، خطبة : 93.
2- ظ: مهدي المخزومي، في النحو العربي، نقد وتوجيه: 264.

الخطاب تجاه ما يُريده المرسل، لا حسب ما يريده الآخرون»(1).

الاستفهام وسيلة من وسائل التخاطب التي لا يمكن للمتكلّم الاستغناء عنها في أداء رسالته؛ لذا كان محط عناية علماء النحو البلاغة والتفسير (2).

وتربط أدواته بين عناصر الجملة التي تدخل عليها، حتى ليصبح كلّ ما في

حیّزه مشمولاً بالمعنى العام الذي عبّرت عنه الأداة(3). ويساعد استعمال هذه الأدوات على «كفاءة القالب اللغوي لدى المرسل إليه على فهم القصد، ومن ثم، فإنّ ما يساعد على أدائها لأفعال الإنجاز هو هذا الفهم المفترض، كما أنَّ استعمالها يُزيل شبهة الخلط بين الصيغ الخبرية والإنشائية، وهذا عامل مساعد أيضاً على إزالة اللبس وإدراك القصد توّاً» (4)، وتكمن أهميتها أيضاً بوصفها بديلة أو مختزلة للفعل المعجمي - استفهم- في سهولة استعمالها؛ وذلك لخفة

ص: 271


1- ظافر الشهري، استراتيجيات الخطاب : 123، وظ: محمود أحمد نحلة، آفاق جديدة في البحث اللغوي المعاصر: 79.
2- لما كان الاستفهام موضوعاً من الموضوعات النحوية، لمس عناية النحاة في دراسته والتفصيل لإبراز أشكاله وأدواته وأغراضه، وقد زخرت مصادرهم بالحديث عنه وعن أدواته؛ لأنها عندهم وسيلة تؤدي إلى فهم كلام العرب، ومثلهم المفسرين والبلاغيين، الذين فصلوا القول في أقسامه: (الحقيقي والمجازي)، وفي ضوء خروج الاستفهام من الحقيقة إلى المجاز، أدى أغراض بلاغية: ك(الإنكار، والتقرير، والتعجب، والتوبيخ...). للاستزادة في هذا الأمر يراجع على سبيل المثال: الكتاب : 1/ 98، وما بعدها، و : أبو عبيدة، مجاز القرآن: 1/ 31-63، و : الباقلاني، إعجاز القرآن: 235، و: الزركشي، البرهان في علوم القرآن: 2/ 327، و: المبرد، الكامل : 277/1 ، و : المبرد المقتضب : 3/ 286-300.
3- ظ: تمام حسان: البيان في روائع القرآن: 136 .
4- ظافر الشهري، استراتيجيات الخطاب: 139.

لفظها، وقلة مكونات الخطاب الواردة فيه(1).

إنّ أداة الاستفهام بوصفها قرينة لفظية، ترمي لمعرفة مقصد المتكلّم في خطابه، ما يضطر المتلقي إلى تنشيط ذهنه وانسجامه مع المتكلّم، ومن ثم تسويغ أقواله؛ «فبدون معرفة المقاصد لا يمكن أن يُستدل بكلام المتكلّم على ما يُريد؛ لأنَّ المواضعة وإن كانت ضرورية لجعل الكلام مفيداً، فهي غيركافية، إذ لابد من اعتبار المتكلّم أي قصده» (2).

وتتجلّى تلك الصفات الاستفهامية في خطابه الاستفهامي عن طريق

«الهمزة» التي أدت معناها الحواري في قوله(علیه السّلام) :

«. أَمَا وَاللّهِ مَا أَتَیْتُکُمْ اخْتِیَارا ؛ وَلکِنْ جِئْتُ إِلَیْکُمْ سَوْقا . وَلَقَدْ بَلَغَنِی أَنَّکُمْ تَقُولُونَ : عَلِیٌّ یَکْذِبُ ، قَاتَلَکُمُ اللّهُ تَعَالَی ! فَعَلی مَنْ أَکْذِبُ ؟ أَعَلَی اللّهِ ؟ فَأَنَا أَوَّلُ مَنْ آمَنَ بِهِ ! أَمْ عَلَی نَبِیِّهِ ؟ فَأَنَا أَوَّلُ مَنْ صَدَّقَهُ ! کَلاَّ وَاللّهِ ، لکِنَّهَا لَهْجَهٌ غِبْتُمْ عَنْهَا ، وَلَمْ تَکُونُوا مِنْ أَهْلِهَا ...»(3).

الغرض من هذا الخطاب المباشر هو ذمّ المتلقين وتوبيخهم؛ لتركهم القتال، وتضمّن هذا الجزء من الخطبة توبيخهم على ما بلغه من تكذيبهم له، فجاء حديثه بأسلوب الاستفهام الإنكاري إنكاراً منه على أوهامهم الفاسدة في حقِّه ، وذمّهم بجهلهم وقصور أفهامهم عما يفيده من الحكمة (4) ، مبيناً ذلك بأسلوب خبري استفتحه بالقسم ب«الله» تعالى أنّه معرض عنهم وعن أكاذيبهم.

ص: 272


1- ظ: م. ن: 140.
2- م. ن: 197.
3- نهج البلاغة: 100، خطبة: 71.
4- ظ: میثم البحراني، شرح نهج البلاغة: 2/ 196.

وقد تكرر الاستفهام في النّصّ ثلاث مرات؛ «فَعَلی مَنْ أَکْذِبُ ؟ أَعَلَی اللّهِ ؟ فَأَنَا أَوَّلُ مَنْ آمَنَ بِهِ ! أَمْ عَلَی نَبِیِّهِ ؟ فَأَنَا أَوَّلُ مَنْ صَدَّقَهُ»، فجاءت متعالقة مع بعضها البعض، ما أدى إلى تعالقها في ذهن المتلقي(1)، فلو حذفت أحدى هذه التراكيب الاستفهامية، لاختل الربط النّصِّي، والتبس المعنى على المتلقي مثلاً قوله: «فعلى من أكذب، فَأَنَا أَوَّلُ مَنْ آمَنَ بِهِ !»، فيؤدي إلى استبدال دلالته في الربط والإيضاح إلى التفكك النّصِّي واللبس والغموض التلقائي؛ وعليه دلّت أدوات الاستفهام متضامة مع «الفاء» الرابطة على مقصد المتكلّم في سياق إنكاره، وتعجّبه من أكاذيبهم عليه.

وقد استعانت هذه الأدوات (من، والهمزة)(2) في أداء وظيفتها السياقية على الربط والإيضاح باقترانها بالفعل المضارع «أكذب «الذي يدل على إنكار الخبر -سواء أذكر في النّصِّ أم حُذف-، فذكره في التركيب الأول من السياق الاستفهامي؛ لاستلزام الحوار الإنكاري له؛ كونه يمثل الدعامة الأساسية في البُنية الخطابية «فَعَلی مَنْ أَکْذِبُ؟ وحذفه من التراكيب التالية له «َعَلَی اللّهِ ؟ فَأَنَا أَوَّلُ مَنْ آمَنَ بِهِ ! أَمْ عَلَی نَبِیِّهِ ؟ »؛ لدلالة السابق عليه، والتقدير : ([أكذبُ] على الله، أم

ص: 273


1- فمن آليات الاستفهام «ألا يفرض المتكلّم نفسه على المخاطب، وأن يجعله يختار ...أو التمثل لجعل المخاطب يبادر إلى الإقناع» آمنة بلعلي، الإقناع: المنهج الأمثل للتواصل والحوار، (بحث) في مجلة التراث العربي، دمشق، مارس، ع289، سنة : 2000م، : 233.
2- همزة الاستفهام: أداة تستعمل لطلب التصور (التعيين) نحو قولك: أنجح محمد أم خالد؟ أو طلب التصديق نحو قولك: أنجح محمد؟ وقد سماها «سيبويه» الهمزة ألفاً ويرى أنها هي أصل أحرف الاستفهام، كما أنّ الهمزة تؤدي معنى التقرير أو التوقيف (الإنكار)، وتنفرد بهذه الخاصية دون غيرها من الأدوات. ظ : سیبویه، الكتاب: 1/ 99، و: المرادي، الجنى الداني في حروف المعني: 97

[أكذبُ] على نبيِّه)؛ وذلك لإثارة انتباه المتلقي، ما يُزيد في عملية التواصل.

ومن مواضع الربط بالاستفهام أيضاً قوله(علیه السّلام) :

« لَا یَمْنَعُ الضَّیْمَ الذَّلِیلُ، وَ لَا یُدْرَکُ الْحَقُّ إِلَّا بِالْجِدِّ.أَیَّ دَارٍ بَعْدَ دَارِکُمْ تَمْنَعُونَ! وَ مَعَ أَیِّ إِمَامٍ بَعْدِی تُقَاتِلُونَ! الْمَغْرُورُ وَ اللَّهِ مَنْ غَرَرْتُمُوهُ وَ مَنْ فَازَ بِکُمْ فَازَ بِالسَّهْمِ الْأَخْیَبِ، وَ مَنْ رَمَی بِکُمْ فَقَدْ رَمَی بِأَفْوَقَ نَاصِلٍ.أَصْبَحْتُ وَ اللَّهِ- لَا أُصَدِّقُ قَوْلَکُمْ، وَ لَا أَطْمَعُ فِی نَصْرِکُمْ، وَ لَا أُوعِدُ الْعَدُوَّ بِکُمْ.مَا بَالُکُمْ؟ مَا دَوَاؤُکُمْ؟ مَا طِبُّکُمْ؟ الْقَوْمُ رِجَالٌ أَمْثَالُکُمْ. أَقَوْلًا بِغَیْرِ عِلْمٍ!وَ غَفْلهً مِنْ غَیْرِ وَرَعٍ! وَ طَمَعاً فِی غَیْرِ حَقٍّ!.؟!»(1).

في النّصّ المتقدم ثمّة كثافة وتنوع في استعمال أدوات الاستفهام (ما، الهمزة، أيّ)، فقد تكررت أي(2) مرتين؛ «أَیَّ دَارٍ بَعْدَ دَارِکُمْ تَمْنَعُونَ! وَ مَعَ أَیِّ إِمَامٍ بَعْدِی تُقَاتِلُونَ!»، ربطت بين جملتيهما أداة العطف «الواو»؛ لتقوية الربط، ولتفعيل تلقي الحوار الخطابي عند المتلقي (3)، وإثارة انتباهه على مدى

ص: 274


1- نهج البلاغة: 73، خطبة : 29.
2- تأتي «أي» في العربية شرطية واستفهامية وموصولة ونكرة موصوفة ودالة على الكمال، ووصلة إلى نداء ما فيه أل، نحو: يا أيها الرجل. ظ: ابن هشام، مغني اللبيب عن كتب الأعاريب : 1/ 76، 77. ولا بد من إضافة «أي» تقول: جاءني رجل، وهي بمنزلة «من» أو «ما»، قال سیبویه» «وأعلم أنَّ أيا مضافاً وغير مضاف بمنزلة من، ألا ترى أنك تقول: أي أفضل؟ وأي القوم أفضل؟ فصار المضاف وغير المضاف يجریان مجری من». سیبویه، الكتاب: 2/ 398 .
3- یری ظافر الشهري أنّ أدوات الاستفهام تسهم في عملية التواصل؛ إذ غالباً ما تأتي لغرض تحقیق التفاعل بين المتكلّم والمتلقي حتى يتشاركون بها في السياق التواصلي هي السياق الدافع لإنتاج الخطاب اللاحق...إذ لا يحصل التواصل، أو إدراك القصد دون تفاعل تعاوني منسق». ظافر الشهري، استراتيجيات الخطاب: 44، 43.

قُبح الذّل والتخاذل، فقد أضيفت إلى اسم «أيَّ دَار» إشارة إلى بعدهم عن دار الإسلام، ومثلها الثانية «أيَّ إمَام»، وقد اعقبت إخبارهم ما يستقبح في الدين والعادة، فجاءت على سبيل الإنكار والتقريع والتذكير(1)، وبذا تجاوزت الربط التركيبي إلى الترابط النّصّي.

في حين تكررت «ما» ثلاث مرات لتصوّر حالهم التي توجب التخاذل والاعراض عن ندائه، والتي عبّر عنها بقوله(علیه السّلام) : «مَا بَالُکُمْ؟ مَا دَوَاؤُکُمْ؟ مَا طِبُّکُمْ؟ الْقَوْمُ رِجَالٌ أَمْثَالُکُمْ»، والذي ورد على سبيل الاستفهام الانکاري، والتقريع لحالهم ودوائهم الصالح، وكيفية علاجهم(2)، فوقع اختياره على هذه الألفاظ والتراكيب المنسجمة؛ لرسم صورة واضحة للمتلقي، وعليه تتوقف فك شفرة النّصِّ على مدى إدراك المتلقي هذه الصورة التي تعكس حالهم، ولاسيما قد اقترنت برابط إحالي هو الضمير «كم» العائد عليهم - المتلقين - (خارج النّصِّ)، ما يؤدي إلى تماسك النّصِّ في أذهانهم.

استمر الاتساق حتى نهاية النّصِّ بأداة الاستفهام «الهمزة»، التي أفادت التقريع؛ لغرض إثارة انتباههم على أمور لا تنبغي؛ كونها مستقبحة في الشريعة والعادة؛ منها انعدام الصدق وجهلهم لمصالح الفضيلة والفطانة، وطمعهم في غير الحق(3)، فجمعت متضامة مع أداة العطف «الواو» ثلاث جمل متتالية، متعلقة إحداها بالأخرى حتى تكوّنت بنية نصّية متكاملة الاتساق.

ص: 275


1- ظ: ابن میثم البحراني، شرح نهج البلاغة :2/ 53.
2- ظ: م. ن: 2/ 54، 54.
3- ظ: ابن میثم البحراني: 2/ 54، 53.
أدوات القسم:

القسم: أسلوبٌ إنشائي، يُساق في الكلام؛ لغرض تأكيدهِ وتقويتهِ لدى السامع، وقد عَرّفَهُ النحاة بأنّه يمين يقسم بها الحالف؛ ليؤكد بها شيئاً يخبر عنه من إيجاب، أو جحد، وهو جملة يؤكد بها جملة أخرى (1)، عن طريق رابط يربطهما أشدّ ارتباط «أداة القسم». ويرى بعض المحدثين أنّ القسم لا يُراد به لذاته، وإنّما «لغرض تواصلي هو دفع المخاطب إلى الوثوق بكلامه».(2)

للقسم أدواته التي تربط بين الفعل والمقسم به، أهمها «الواو، والباء، والتاء»، وقد أكد سيبويه أهميتها بقوله: «للقسم والمقسم به أدوات في حروف الجر وأكثرها الواو ثم الباء، يدخلان على كلِّ محلوف به، ثم التاء لا تدخل إلّا في واحد وذلك قولك والله لأفعلن، وبالله لأفعلن:

«وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ » [ الأنبياء: 57]»(3).

شهد الربط بأدوات القسم حضورة واضحاً في خطب الإمام(علیه السّلام) ، ولاسيما في الخطب الحربية؛ لمناسبتها سياق الحال، فقد كانت أغلب خطبه(علیه السّلام) - في الحروب - موجهةً للأعداء، أو لأصحابه لتخاذلهم عن الجهاد؛ إذ يقف محذراً إياهم لما يصيبهم في المستقبل نتيجة تخاذلهم هذا، من ذلك قوله(علیه السّلام) في بيان فضله، وتوبيخ الخارجين عليه:

ص: 276


1- ظ : ابن الحاجب، الإيضاح في شرح المفصل: 618، و: عبد السلام هارون، الأساليب الإنشائية : 162. و: سناء البياتي، قواعد النحو العربي في ضوء نظرية النظم: 394.
2- مسعود الصحراوي، التداولية عند العلماء العرب: 210.
3- سیبویه، الكتاب: 3/ 496.

«أَمَا وَاللَّهِ إِنْ کُنْتُ لَفِی سَاقَتِهَا حَتَّی تَوَلَّتْ بِحَذَافِیرِهَا مَا (عَجَزْتُ) وَلا جَبُنْتُ وَإِنَّ مَسِیرِی هَذَا لِمِثْلِهَا فَلَأَنْقُبَنَّ الْبَاطِلَ حَتَّی یَخْرُجَ الْحَقُّ مِنْ جَنْبِهِ مَا لِی وَلِقُرَیْشٍ وَاللَّهِ لَقَدْ قَاتَلْتُهُمْ کَافِرِینَ وَلأُقَاتِلَنَّهُمْ مَفْتُونِینَ وَإِنِّی لَصَاحِبُهُمْ بِالْأَمْسِ کَمَا أَنَا صَاحِبُهُمُ الْیَوْمَ !»(1).

تجلّى النّصّ المتقدم بجانبين متقابلين متلاحمين في أداء المعنى العام (بؤرة النّصّ)، تمظهر الجانب الأول في بيان فضيلته: استهله بالقسم «والله» (2) في إيضاحه سبيل الحق، الذي كان دأبه؛ « وَاللَّهِ إِنْ کُنْتُ لَفِی سَاقَتِهَا حَتَّی تَوَلَّتْ بِحَذَافِیرِهَا » ، فجاء القسم مناسباً، والحقيقة المراد تقريرها، التي تمثلّت في مدى

طرده الكتائب حتى تولت بحذافيرها، فقد أسهمت في اتساق النّصِّ هنا -في

ضوء أدائها وظيفتين هما؛ الربط، وتأكيدها الوسيلة الإبلاغية.

وتعالق القسم الثاني «فَلَأَنْقُبَنَّ» بالأول من طريق أداتين هما ؛ « الفاء الرابطة » التي أفادت التعقيب والتوالي، والأداة الأخرى هي «لام القسم» في قوله(علیه السّلام) : «فَلَأَنْقُبَنَّ الْبَاطِلَ حَتَّی یَخْرُجَ الْحَقُّ مِنْ جَنْبِهِ»، فأقسم لينقبن الباطل - أي يثقبه - إلى أن يخرج الحقُّ من جانبه (3)، وهذا من باب الاستعارة؛ «كأنه جعل الباطل کشيء قد اشتمل على الحق، واحتوى عليه، وصار الحق في طيه، كالشيء الكامن

ص: 277


1- نهج البلاغة 77، خطبة: 33.
2- الواو: من أدوات القسم التي تختص بالظاهر، فتجرّه ولا تجر ضميراً وهي تتعلق بفعل محذوف، خلافاً لابن کیسان الذي يجيز إظهار الفعل المحذوف معها فيقال: حلفت والله لأقومن؛ إذ إن القسم أتی بعد كلام تام وهو (حلفت) الذي لا تتعلق به لفظة (والله). ظ: الجني الداني في حروف المعاني: 185.
3- ظ: شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد: 2/ 185 .

المستتر فيه»(1)، فهذه الروابط التركيبية والبيانية جاءت متضامة مع أداة القسم؛ لتجعل النّصِّ بهذا الجانب الإيجابي المتعلق ببيان فضيلته في إيضاحه الحق - كلاَّ؟ متسقا منسجماً في ذهن المتلقي.

ويقابل ذلك الجانب السلبي المتعلق بالمتلقي، فعملت أداة القسم «الواو على ربط بنیات و حدود النّصِّ؛ لربطها بين جملة القسم وجوابه من ناحية، وبينه وبين أجزاء النّصِّ من ناحية أخرى، كما في قوله: «وَاللَّهِ لَقَدْ قَاتَلْتُهُمْ کَافِرِینَ وَلأُقَاتِلَنَّهُمْ مَفْتُونِینَ وَإِنِّی لَصَاحِبُهُمْ بِالْأَمْسِ کَمَا أَنَا صَاحِبُهُمُ الْیَوْمَ !!» لقد جاء القسم في سياق تهدید و تحذير؛ إذ يقف معبّراً عن خضم المعاناة - الأحداث التي رافقته، والتي استحضرها اليوم؛ ليؤكد لهم أنّه لم يتغير، فكما قاتل الكفّار في طلعة الإسلام، فإنه مستعد لقتالهم اليوم (2)، وفي ذلك إشارة إلى شجاعته لإنكارهم إياها، فجاء القسم متوائماً وسياق الحال والمقال. وكانت تراکیب القسم متعالقة أشد التعالق عن طريق أداة القسم «الواو» والمقسم به لفظ الجلالة «الله»؛ لإظهار قصد المتكلم بصورة واضحة وتأكيده في ذهن المتلقي.

ولم يقتصر بوسيلته هذه على أدوات القسم، وإنّما جاءت مجتمعةً مع روابط

ولام القسم، «وَلأُقَاتِلَنَّهُمْ»، والاستفهام الإنكاري «مَالي وَلقُرَيش» - إنکاراً منه على جحدهم فضيلته وتهربهم من الحرب - وأداة التوكيد» إن ولام التوكيد»في

ص: 278


1- م.ن: 2/ 185.
2- أشار ابن میثم البحراني إلى السبب الأصلي لكلام الأمام (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) هذا هو خروج طلحة والزبير وغيرهما من قريش عليه وهو الحسد و المنافسة، لسبب كون النبوة والخلافة في بني هاشم دونهم. ظ: ابن میثم البحراني، شرح نهج البلاغة: 2/ 75، 74، 76.

قوله «وَإِنِّی لَصَاحِبُهُمْ»، فتآزرت هذه الروابط، واتسقت في إخراج المعنى العام واضحاً منسجماً وسياق الموقف، هو تنبيه المتلقين وتحذيرهم من الضلال الذي هم عليه، وإغرائهم السامعين.

وغالباً ما تتآزر أداة القسم مع أداة الشرط فتزيد في تفاعل عملية الخطاب،

ومن ذلك قوله(علیه السّلام) :

«إِنَّ بَنِی أُمَیَّهَ لَیُفَوِّقُونَنِی تُرَاثَ مُحَمَّدٍ تَفْوِیقاً- وَاللهِ لَئِن بَقِیتُ لهُم لَأَنْفُضَنَّهُمْ نَفْضَ اللَّحَّامِ الْوِذَامَ التَّرِبَهَ !»(1).

يشير النّصّ المتقدّم إلى ظلم بني أُميّة في أكلهم ميراث الرسول(صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) ، ولا يعطونه إلا القليل، مع أنّه(علیه السّلام) أولى بهذا الميراث، وعليه أقسم بالله لئن بقي بنو أميّة، ليحرمنهم من التقدّم، ولينزعن عنهم هذه الأموال التي سلبوها من الناس (2)، لذا ارتبط القسم بالشرط لارتباط کلامه (علیه السّلام) بزمن المستقبل، فربطت أداة القسم «الواو» بين جملة القسم المتمثلة بالمقسم به «الله»، وجوابه «لَئِن بَقِیتُ لهُم» (3)، وما يزيد الأمر اتساقاً هو تعالق القَسم اللاحق بالسابق« لَأَنْفُضَنَّهُمْ»، وهذا يؤدي إثارة المتلقي؛ لتفاعله مع الخطاب وانسجامه.

فضلاً عن ذلك، ثمة روابط أُخر كان لها أثر واضح في تعالق أجزاء النّصّ منها؛ حرف التوكيد «إنّ» الذي استهل به الكلام، ولام التوكيد «لَیُفَوِّقُونَنِی»، والاستعارة والتشبيه في قوله (علیه السّلام) «لَأَنْفُضَنَّهُمْ نَفْضَ اللَّحَّامِ الْوِذَامَ التَّرِبَهَ ! !»، فقد

ص: 279


1- نهج البلاغة: 104، خطبة: 77.
2- ظ : ابن میثم البحراني، شرح نهج البلاغة: 2/ 216.
3- معلوم عند اجتماع القسم والشرط فإنّ الجواب للمتقدم منهما، ولدلالة السابق عليه، وهنا تقدم القسم على الشرط، فكان الجواب عائد عليه. ظ: عباس حسن، النحو الوافي: 4/ 482.

استعار لفظ النفض «لإبعادهم عن ذلك، وشبّه نفضه لهم بنفض القصّاب القطعة من الكبد، أو الكرش من التراب إذا أصابته»(1)، وذلك كلّه يقوي أواصر النّصِّ، فيخرج في حلّه ملتحمة متسقة.

يتضح من كل ما تقدّم أنَّ أهم الأدوات الرابطة تمثلت في أدوات العطف والشرط، ولاسيما الأولى التي سجلّت حضورها الترابطي في أغلب الخطب، بل لا تكاد خطبة تخلو منها، ومن معانيها الوظيفية في النّصِّ، وفي مقدمتها الواو ؛ لتوافق دلالتها في الاتساق والسياق.

أمّا أدوات الشرط؛ فقد تجلّت في أغلب الخطب، وأسهمت بالربط النّصّي بين التراكيب المتقاربة والمتباعدة داخل بنية نصية ملتحمة، وتمثلت أهميتها في تحقیق التعلق السببي بین الوحدات النّصّیة،و تقویة الأوصر المتباعدة لأجزاء النّصِّ.

ص: 280


1- ابن میثم البحراني، شرح نهج البلاغة: 2/ 216.

الخاتمة

اشارة

ص: 281

ص: 282

الخاتمة

وبعد رحلة البحث في رحاب نهج البلاغة والنظرية النصية يخرج البحث في

مجموعة من النتائج هي خلاصة لما تناوله البحث في المواطن السابقة:

يمكن عدّ التضام من أبرز القرائن العلائقية أثر في الاتساق الدلالي للنّصِّ ، فهو مرآة عاكسة للعلاقات المعنوية الضميمة، التي غالباً ما تتمثل بعلاقات الإسناد والتخصيص والتبعية، ولا سيما في الاختصاص والافتقار، كما يمكن عدّ كلا المفهومين وجهين لعملةٍ واحدة؛ ألا وهو «التضام». .

تعمل هذه القرائن - العلائقية «التضام، والرتبة، والربط» - على تعالق العناصر اللغوية دلالياً ضمن الجزئيات الصغرى وهي الأخرى تتعالق بتضام وترتيب هذه الجزئيات المترابطة سياقياً والمتمحورة دلالياً حتى تُعطي الدلالة الكلّية في وحدة نصّية متسقة، وبهذا الترابط الدائري، لا تسطيع كلُّ منها إعطاء دلالة حقيقية قائمة بنفسِها؛ كونها جزء لا يتجزأ من الوحدة الكُبرى.

أكثر الأدوات يظهر أثرها العلائقي في اتساق النّصِّ من تعالق ترکيبين خطاً ودلالةً ضمن الوحدة النّصِّية، ک«أدوات الشرط، والعطف، وما تضمّن جواباً أو تعليلاً من النهي والأمر»، وقد تمثّل عمل العطف توسّطاً ما بين الاقتصاد والتوسعة، فما يأتي على الحالة الأولى غالباً ما يكون على خطٍ مستقیم نحو قولك:

ص: 283

«جاء محمدٌ وعليٌ وخالد»، أمّا الحالة الأخرى «التوسعة» فما جاء عليها يتضمن تفصيلاً لمجمل، وغالباً ما يرسم دائرةً دلالية؛ ليؤكد مدى تعالق المعطوفات الدلالي في أداءالمعنى الكلّي والمتمثّل في «البؤرة النّصّية». .

مثّل الاتساق في خطب الحروب حلقة وصل ما بين المتكلّم والمتلقي، ما أدى إلى سيطرة عنصر التفاعل بينهما، ومن ثمَّ فهم النّصِّ وفكّ شفرتهِ من لدن المتلقي.

جاء التكرار على نوعين منه ما اقتصر على نصِّ واحد؛ لإظهار معاڼٍ دلالية يحملها العنصر المكرر، ومن ثمّ انصراف أثره في جذب انتباه المتلقي، ودفع الملل عنه ولاسيما في حالة التباعد الإسنادي للعنصر المكرر «بؤرة النّصِّ »، والنوع الثاني جاء موحدة دلالياً لفكرة مجموعة من الخطب ومتسلسلاً للعنصر المكرر عبر هذه النصوص كما في حال «الفتن»، وبذلك يؤكد أثرها المتدرج بدأ من كونها حربا إعلامية خلّفت نوعين من الحرب القتالية «الحرب الخارجية، والحرب الداخلية» متوسطاً بالبؤرة الأساسية التي خلّفت كلُّ ذلك «فتنة بني أمية»، فتدلُّ على مدى سيطرة العنصر اللغوي المُكرر «بؤرة النّصِّ» سواء مثلّث تلك السيطرة الجانب الإيجابي أم السلبي، فالجانب السلبي معروف، أمّا الإيجابي مثّل دوره القيادي في دحر ذلك الجانب، وكلُّ ذلك جاء في صورة متعالقة منسجمة في ذهن المتلقي. وقد رسم «التضاد» صورة متقابلة متسقة التصوير منسجمة التأثير ما بين الجانب السلبي والإيجابي، وبذا جعل الخيار للمتلقي أيَّ طريق شاء سلك، وبذا يستثمر المتكلّم طاقة التقابل للتعبير عن مقصده، والذي غالبا ما يتعلّق بالمتلقي نفسه مما يُثير انتباهه.

الأصل في الترتيب دلالي وليس لفظيا، فمتى ما أعطي النّصُّ معنی دلالياً منسجماً، ترتبت ألفاظه ترتیباً متسقاً، تتميز الرتبة المحفوظة ب«الثبات الموقعي»،

ص: 284

أمّا الرتبة غير المحفوظة فتتميز ب«حرية الحركة» بحسب أسلوب السياق الكلامي، ولذا يمكن العدول عن الأخرى عن طريق «التقديم والتأخير » مراعاةً للوحدة الدلالية للنّصِّ، فالتقديم والتأخير أداة أسلوبية غالباً ما يتكئ عليها المتكلّم بغية إظهار المعاني بحسب ترتيبها في نفسه وشدّ انتباه المتلقي.

وُجِد في الخطب نوعان من المتلقي هما: «متلقٍ مستمع حاضر» ألا وهو السائل، وهذا يمكن أن يُسمی خطاباً خاصاً، أمّا الآخر «مستمع حاضر» يسمع الجواب فقط من دون أن يشمله الخطاب، وإنّما مثّل حضوره بوصفه شاهد عيان، ومتى ما تحول الخطاب ليشمل العامة سُمي خطاباً عاماً، وهذا النوعُ يصنع حواراً منسجماً ومتفاعلاً بين الطرفين.

لقد كان لطبيعة سياق الموقف أثر واضح في الخطب الحربية في العدول الجزئيات النّصِّية؛ إذ لم يكن لها تحضيرٌ مسبق، وإنَّما هي ارتجالية، وعلى الرغم من ذلك نجده متعلقاً بزمانٍ أو مكان، وقد غلب المتعلق الأخير على تلك الوحدات إذا ما قورن بالأول؛ لما يحمله المتعلق المكاني من تجسيد للأحداث أكثر ارتباطا بالمتلقي من غيره، فضلاً عما تضمّنه هذا العدول من الرعاية الدقيقة لذهن المتلقي ومقامه.

يمكن عدّ الإحالة من أكثر العناصر اللغوية ربطاً للوحدة النّصّية، وقد

غلبت الإحالات المقامية على الخطب لربطها بسياق الموقف، فغالباً ما يقف المتكلّم معبراً عن خضم الأحداث التي صاحبته وهي ذاتها متعلّقة بحالة المتلقي، ويزداد الأمر اتساقاً في حالة وجود مرجعين في النّصِّ، أحدهما عائد على المتكلّم وغالباً ما يكون خارج النّصِّ، والآخر على المتلقي وعادةً ما يكون داخل النّصِّ. وأحياناً يكون خارجه، ما يعني وجود ذاتين في النّصِّ، ما يُزيد في

ص: 285

استمرارية الحوار التواصلي في النّصِّ.

غالباً ما يستحضر المتكلّم الغائبين عن طريق الإحالة النّصّية سواء كانت الضميرية والأغلب فيها- أم الإشارية، وسواء كانت قبلية أم بعدية، ما

يُعطي صفة الاستمرارية في تأثيرها العملي، فأمثالها غالباً ما تكون عميقة الدلالة مفتوحة التبليغ أمام كلِّ متلقٍ.

الحذف هو الإحالة الصفرية المتعلّقة بالبنية العميقة في النّصِّ؛ وكثيراً ما وجد أمره متعلّقا بالمبنى العدمي العميق في دلالته والمتسق في بنيتهِ، ولا يأتيِ من دون قرينة سواء كانت سابقة وهي الأغلب أم لاحقة، ويستطع المتلقي تأويل ذلك المحذوف اعتماداً على السياق وما يحمله من قرائن، إذن هو تنشيط الذاكرة المتلقي.

من مزايا الإحالة في الخطب هو أن أمرها لا يقتصر على الترابط الأفقي بل أغلبه جاء ترابطة عمودياً، بعكس العناصر الأخر غلب عليها التلاحم الأفقي ولا سيما في أسلوب الشرط.

غلبت عناصر الاقتصاد على الحطب وفي مقدمتها الإحالة والعدول والحذف.

أغلب خطب الإمام(علیه السّلام) جاءت مقامية متلائمة مع سياق الموقف؛ فهي ارتجالية حربية، ولا بد من الإشارة إلى أنّ هذه الحروب لم يكن غرضها

«القتال «فهذا الظاهر من اسمها، فعند قراءة تلك الخطب يتبيّن جانبها الاصلاحي في جميع جوانب الحياة ولاسيما الجانب الاخلاقي والديني، فضلاً عن إخماد عيون الفتن التي أحاطت بالمسلمين من كلِّ جانب.

غلب على الخطب الاتساق التقابلي الذي جاء متناثراً في جزئيات البحث؛ إذتضمنت الخطب تقابلا بكلّ ما تحمله الكلمة من معنى، فقد جاء بين الشخوص والأحداث والحسيات والمعنويات، فصورة التقابل بين الشخوص

ص: 286

جاءت أغلبها عن طريق الإحالات الضميرية، ولا سيما بين ضمائر الخطاب («أنا» x «أنت») أو («هو« x «أنت»)، ففيه تقابل بين جانبين (إيجابي X سلبي)، وكذلك الأحداث بين (المضي X الحاضر)، أو (الحاضر X المستقبل) كما في الفتنة ومسيبيها، هذا بالنسبة للمتعلق الزماني، ومن ثم بين المتعلقات المكانية، وغيرها، فلم يقتصر الأمر على التقابل المعجمي، وإنّما شمل تقابلا نسقيا وسياقيا وخطابياً، وموضوعياً، وغيرها.

من مزايا خطبه(علیه السّلام) توافر التراتبية في الأحداث النّصِّية لخطبه، و في الإحالة والإسناد النّصِّي ولا سيما الاسمي منه، فقد ترتبت عناصره عنصراً على آخر، فالمحمول يكون جديدا على موضوع راسخ في ذهن المتلقي، ومن ثم يصبح هذا المحمول موضوعا ثبت هو الآخر في ذهن المتلقي فيترتب عليه محمولٌ آخر وهكذا، ومثله في الحال فصاحب الحال راسخ في ذهن المتلقي وترتب عليه حال جديدة، ومن ثم أصبحت هذه الحال هي صاحب الحال؛ ليترتب عليه حالٌ أخرى وهكذا، وفي كلِّ ذلك مراعاة لذهن المتلقي، فلم تأتي الصورة دفعة واحدة إلى ذهنه وإنا تدرجياً لفك شفرتها الدلالية

يمكن الاستدلال على توافر النصيَّة الإمام (علیه السّلام)؛ وذلك عن طريق خطب الحروب، فقد جاءت على أسلوب واحد ونفسٍ متميز ومنهجٍ خطابي منفرد لا يمكن استبداله أو تداخله مع خطبٍ أخر-خطب غيره -، فالمتمعن فيها يجد فيها، بل في جميع نهج البلاغة نفساً لا يجده عند غيره، ورؤية تقنية لم يجدها في غيره سواء كان نثر أم شعراً، وما خلا القرآن الكريم فنجد فيه أكثر من ذلك.

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين والصلاةُ والسلامُ على محمدٍ وآله

أجمعين.

ص: 287

ص: 288

مصادر البحث و المراجع

اشارة

ص: 289

ص: 290

قائمة المصادر و المراجع

أولاً- المصادر

القرآن الكريم

1. الإمام علي بن أبي طالب (علیه السّلام)؛ - نهج البلاغة ( مجموع ما اختاره الشريف الرضي من كلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (علیه السّلام)؛ ضبط نصّه وابتكر فهارسه العلمية : د. صبحي الصالح، دار الكتاب اللبناني،

بيروت - لبنان، ط1، 01287-1967م.

2. الأشمونيّ (نور الدين علي بن محمَّد)؛ - شرح الأشمونيّ على ألفية ابن

مالك؛ تح: حسن حمد؛ بإشراف: د. أميل بديع يعقوب، دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان، ط 2، 2010م.

3. ابن الأنباريّ (أبو البركات كمال الدين عبد الرحمن بن محمَّد بن أبي

سعید ت - 577 ه) ؛ - أسرار العربية؛ تح: محمد بهجة البيطار، المجمع العلمي العربي، دمشق، (د.ط)، 1377ه-1957م. - الإنصاف في مسائل الخلاف؛ تح: محمد محيي الدين عبد الحميد، دار إحياء التراث

ص: 291

العربي، القاهرة، (د.ط)، (د.ت).

4. الباقلاني (أبو بكر محمد بن الطيب الباقلاني (ت 403ه) ؛ إعجازالقرآن؛ تح: السيد أحمد صقر، دار المعارف، مصر، ط3، (د.ت).

5. السيد البطليوسي، (أبو محمد عبد الله بن محمد بن السيد البطليوسي

(ت521 ه)؛ - کتاب الخلل في إصلاح الخلل من كتاب الجمل ؛ تح: سعيد عبد الكريم سعودي، دار الرشيد للنشر، العراق، (د.ط)، 1429 ه-2008م.

6.الجرجانيّ( أبي بکر عبد القاهر بن عبد الرحمن( ت 471ه»؛ أسرار

البلاغة ؛ قرأه وعلّق عليه: محمود محمد شاكر - مطبعة المدني، القاهرة، ط2، 1412- 1991.-دلائل الاعجاز؛ تح: محمود محمد شاکر، مكتبة الخانجي، القاهرة، 2004م. - المقتصد في شرح الإيضاح ؛تح: کاظم بحر المرجان، دار الرشيد للنشر، - جمهورية العراق، (د.ط)، 1982م.

7. ابن جني : (أبو الفتح عثمان بن جني (ت 392ه)؛ - الخصائص؛ تح: محمد علي النجار؛ دار الكتب المصرية، مصر (د.ط)، (د.ت).-سرُّ صناعة الإعراب؛ تح: د. حسن هنداوي، مطبعة دار القلم، دمشق، ط2، 1405ه-1985م. - اللمع في العربية؛ تح: فائز فارس، دار الكتب الثقافية، الكويت، (د. ط)، 1970م.

8. ابن الحاجب؛(جلال الدين أبو عمروا بن عثمان بن عمر ابن الحاجب (ت 646ه)؛ - الإيضاح في شرح المفصّل، تحقيق: موسی

ص: 292

بنّاي علوان العليلي، مطبعة العاني، بغداد، د.ط، 1982م.

9. ابن أبي الحديد؛ (ابن أبي الحديد (ت 656 ه)؛ - شرح نهج البلاغة ؛تح:محمد أبو الفضل إبراهيم، دار إحياء الكتب العربية، سوريا، ط1، 1378، هه - 1959م. 10. الحرّ العاملي؛ (محمد بن الحسن الحرّ العاملي، (ت 1104ه)؛ – وسائل

الشيعة؛ تح: مؤسسة آل البيت (عليهم السلام» لإحياء التراث، قمّ -

إيران، ط 2، 1414ق.

11. أبو حيان الأندلسي (محمد بن يوسف الأندلسي)؛ - البحر المحيط،

مكتبة النشرة الرياض، (د. ط)، (د.ت).

12. الخليل؛ أبي عبد الرحمن الخليل بن أحمد الفراهيدي (ت 175 ه)؛ -

كتاب العين، تح: د. مهدي المخزومي، و د. إبراهيم السامرائي،

مؤسسة دار الهجرة، (د.م)، ط 2، 1410ه.

13. الخوئي؛ (حبيب الله الهاشمي الخوئي (ت 1324 ه)؛ - منهاج البراعة في

شرح نهج البلاغة؛ تح: سيد إبراهيم الميانجي، مطبعة الإسلامية دار

الهجرة، قمّ- إيران، ط4، (د.ت).

14. الرضيّ؛ (رضي الدين محمَّد بن الحسن الاستر اباذيّ (ت 686ه)؛ -

شرح الرضيّ على الكافية؛ تصحیح و تعليق: يوسف حسن عمر، جامعة

قار یونس، (د.م)، (د.ط)، 1395ه - 1975م.

15. الزبيدي ؛ (أبي فيض السيد محمد مرتضى الحسيني الواسطي الزبيدي: (ت 1205 ه)؛ - تاج العروس من جوهر القاموس ؛ تح: علي شيري،

ص: 293

دار الفکر، بیروت، (د. ط)، 1404ه - 1984م.

16. الزجاجي؛ (أبو القاسم عبد الرحمن بن اسحاق الزجاجي (ت 337ه)،

- الإيضاح في علل النحو تح: د. مازن المبارك، دار الغروب، القاهرة، 1959-1378م

17. الزرکشیّ؛ (بدر الدين محمود بن عبد الله (ت 794ه)؛ - البرهان في

علوم القرآن؛ تح: محمود أبو الفضل إبراهيم، دار إحياء الكتب العربية ،

القاهرة، ط1، 1386ه- 1957م.

18. الزمخشري؛ (أبي القاسم جار الله محمود بن عمر: (ت 375ه)؛ - أساس

البلاغة، دار ومطابع الشعب، القاهرة، (د ط)، 1380ه-1966 م. الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، تحقیق وتعليق ودراسة: عادل أحمد عبد الموجود، علي محمد معوّض. شارك في تحقيقه د.فتحي عبد الرحمن أحمد حجازي، دار الإحياء العربي، بيروت - لبنان، ط1، 1417ه- 1997م

19. ابن السرَّاج؛ (ابو بکر محمَّد بن سهل ابن السراج النحوي البغدادي

(ت316ه)؛ - الأصول في النحو؛ تح: الدكتور عبد الحسين الفتلي،

مؤسسة الرسالة، بيروت، ط 2، 1407ه، 1987م.

20. السكاكي؛ (أبو يعقوب يوسف بن أبي بكر: (ت926 هم)؛ - مفتاح

العلوم، تح: نعیم زرزور، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1403ه- 1983م.

21. سیبویه؛ (أبي بشر عمرو بن عثمان بن قنبر: (ت 180 ه) ب - کتاب

ص: 294

سیبویه ؛تح: عبد السلام محمد هارون، الخانجي، مصر، ط3، 1408ه

- 1988م.

22. السيرافي ؛ (أبو سعید الحسن بن عبد الله بن المرزبان (ت 368ه)؛ - شرح

کتاب سیبویه؛ تح: د. فهمي أبو الفضل، مراجعة: أ. د. رمضان عبد التواب، و أ.د. محمود علي مكي، دار الكتب المصرية، القاهرة، ط1، 1421- 2001م.

23. السيوطي (أبو الفضل جلال الدين عبد الرحمن: (ت 911 هے)؛ -

الإتقان في علوم القرآن؛ تحقيق طه عبد الرؤوف سعد؛ المكتبة التوفيقية ؛ القاهرة - مصر؛ (د. ط)، (د.ت).- الأشباه والنظائر في النحو؛ تح: د. عبد العال سالم مكرم، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط1، 1985 م. معترك الأقران في إعجاز القرآن:تح: أحمد شمس الدين، دار الكتب العلمية - بيروت، ط1، 1408- 1988.

24. الشريف الجرجانيّ (علي بن محمَّد بن علي)؛ - التعريفات؛ ضبطه وصححه جماعة من العلماء بإشراف الناشر، دار الكتب العلمية ، بيروت - لبنان، ط1، 1983-1403م.

25. الصبّان : (الشيخ محمد بن علي بن محمد بن عيسى الأشموني (ت 918ه)حاشية الصّبّان على شرح الأشموني على ألفية ابن مالك، ضبطه وصححه وخرّج شواهده : إبراهيم شمس الدين، منشورات محمد علي بیضون، دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان، ط1، 1417-1997م.

26. عباس علي الموسوي؛ شرح نهج البلاغة، دار الرسول الأكرم، بیروت

ص: 295

لبنان، ط1، 1418ه، 1998م.

27. ابو عبيدة (أبو عبيدة معمر بن المثنى: ت -210ه)، - مجاز القرآن،

عارضه بأصوله وعلق عليه: د. محمد فؤاد سزكين، مكتبة الخانجي،

مصر، ط1، 1390ه- 1970م.

28. ابن عصفور الأشبيلي (ت 669ه)؛ - شرح جمل الزجاجي (الشرح

الكبير)؛ تح: د. صاحب أبو جناح، عالم الكتب، بیروت، ط1، 1999م.

29. ابن عقیل (بهاء الدين عبد الله : (ت-769ه)؛ - شرح ابن عقیل تح:

محمد محيي الدين عبد الحميد، المكتبة التجارية، مصر، ط14، 1384 ه- 1964م.

30. العلوي: (یحیی بن حمزة بن علي بن إبراهيم: (ت -705ه)؛ - کتاب

الطراز المتضمن الأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز، مراجعة وضبط وتدقيق: محمد عبد السلام شاهين، دار الكتب الخديوية، مطبعة المقتضب، مصر، 1332ه- 1914م.

31. ابن فارس ؛ ( أبي الحسن أحمد بن فارس: (ت - 395ه)؛ - الصاحبي «كتاب في فقه اللغة»، تح: عمر فاروق الطباع، مكتبة المعارف، بیروت، ط1، 1414ه-1993م.- معجم مقاییس اللغة، تح: وضبط: عبد السلام محمد هارون، دار الإسلامية، لبنان، (د.ط)، 1410ه-1990م.

32. الفيروز آبادي؛ (مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروز آبادي (ت

817 ه)؛ - القاموس المحيط موشي الحواشي؛ إعداد وتقديم: محمد عبد الرحمن المرعشي، دار إحياء التراث العربي، بيروت - لبنان، ط 2،

ص: 296

1422ه-2003م.

33. القرطاجني (حازم بن محمد حسن: ت - 684ه)، -منهاج البلغاء

و سراج الأدباء، تح، محمد الحبيب بن خوجة، دار الغرب الإسلامي،

بیروت، ط3، 1986م.

34. القزويني؛ (محمد بن عبد الرحمن: (ت- 739ه)؛ - الإيضاح في علوم

البلاغة، تح: د. عبد الحميد هنداوي، مؤسسة المختار القاهرة، ط3،

.1428 -2007

35. المالقي (الإمام أحمد بن عبد النور المالقي (ت 702ه)؛ - رصف المباني

في شرح حروف المعاني اتح: أحمد محمد الخراط، مطبوعات مجمع اللغة

العربية، دمشق، (د. ط)، (د.ت).

36. المبرّد؛ (أبو العباس محمَّد بن یزید ت- 285 ه)؛ - الكامل في اللغةوالأدب؛ تح: محمد أحمد الدالي، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط3، 1404ه- 1984م-

م. - المقتضب؛ تح: محمَّد عبد الخالق عظيمة، لجنة إحياء التراث الإسلامي، وزارة الأوقاف المصرية، القاهرة - مصر، ط3، 1404ه- 1994م.

37. محمد جواد مغنية، في ظلال نهج البلاغة (محاولة لفهم جدید)؛ دار

العلم للملايين، بيروت، ط3، 1979م.

38. محمد عبده - شرح نهج البلاغة، دار المعرفة - بيروت(د. ط)، (دست).

39. المرادي؛ (الحسين بن قاسم المرادي (ت 749ه)؛ - الجنى الداني في

حروف المعاني؛ تح: طه حسين، مؤسسة دار الكتب، جامعة الموصل،

ص: 297

العراق، ط1، 1396ه- 1976م.

40. ابن منظور؛(جمال الدین محمَّد بن مکرم(ت 711ه)؛ -لسان العرب؛

دار صادر، بیروت، (د.ط)، 1405ه-1998.

41. ابن میثم البحراني ؛ (كمال الدين میثم بن علي بن میثم البحراني(ت 669ه)، شرح نهج البلاغة، دار الثقلین، بیروت - لبنان، ط1،1420ه- 1999م.

-اختیار مصباح السالكين؛ تح: د. محمد هادي الأمين، مؤسسة الطبع والنشر التابعة للآستانة الرضوية المقدسة، ط1، 1408- 1366ش.

42. ابن هشام الأنصاري، (أبو محمَّد عبد الله جمال الدين الأنصاريّ، (ت:

761ه)؛ - مغني اللبيب عن كتب الأعاريب؛ تح: محمد محي الدين عبد

الحميد، مطبعة المدني، القاهرة، (د.ط)، (د.ت).

43. الهروي (علي بن محمد النحوي الهروي)؛ - الأزهية في علم الحروف؛

تح: عبد المعين الملوحي، (د. مط)، دمشق، (د. ط)، 1391 ه - 1371م.

44. أبو هلال العسكري؛ (الحسن بن عبد الله بن سهل (ت 395ه)؛ -

الفروق اللغوية اتح: محمد إبراهيم سليم، دار العلم والثقافة، القاهرة،

(د. ط)، (د.ت). - کتاب الصناعتين الكتابة والشعر، تح: د. مفید

قميحة، دار الكتب العالمية، بيروت، ط 2، 1409- 1979م

45. ابن یعیش؛ (موفق الدين ابن علي ابن يعيش النحوي (ت 643ه)؛ -

شرح المفصَّل؛ عالم الكتب؛ بيروت، (د. ط)، (د.ت).

ص: 298

ثانياً - المراجع:

46. إبراهيم أنيس؛ من أسرار اللغة العربية، مكتبة الأنجلو المصرية،القاهرة، ط6، 1978م.

47. إبراهيم محمود خليل - في اللسانيات ونحو النص د.، دار المسيرة -

الأردن، ط 2، 1430- 2009.

48. أحمد عبد الستار الجواري؛-نحو المعني، دار فارس للنشر والتوزيع،

الأردن، (د.ط)، 2006م.

49. أحمد عفيفي - نحو النص - اتجاه جديد في الدرس النحوي، ، مكتبة

زهراء الشرق - القاهرة، ط1، 2001.

50. أحمد مختار عمر؛ علم الدلالة، مكتبة دار العروبة للنشر والتوزيع -

الكويت، ط1، 1402- 1982.

51. أحمد مطلوب؛ - معجم المصطلحات البلاغية وتطورها، ، مكتبة لبنان

ناشرون-بیروت، 2007.

52. الأزهر الزناد؛- نسيج النصّ، بحث في ما يكون به الملفوظ نصاً؛ المركز

الثقافي العربي؛ ط1؛ بیروت، 1993.

53. إلهام أبو غزالة وعلي خليل حمدي - مدخل إلى علم لغة النّصّ، مطبعة دار الكاتب، نابلس، ط1، 1413ه-1992م.

54. أمير فاضل سعد؛ - الترتيب والمتابعة» بحث في الأصول البلاغية

والأبعاد الدلالية في القرآن الكريم»، عالم الكتب الحديث، أربد - الأردن، ط1، 1432ه- 2011م.

ص: 299

55. أميل بديع يعقوب ؛ - موسوعة النحو والصرف والإعراب، ، دار العلم للملايين -بیروت(د-ت).

56. براون (ج، ب) و ج يول؛-تحليل الخطاب، تر: د. محمَّد لطفي الزليطني،

و د. منير التريكي، مطابع جامعة الملك سعود، دط، الرياض، 1418ه -

1998م.

57. تمام حسّان؛ اجتهادات لغوية، عالم الكتب - القاهرة، ط1، 2007.- الأصول دراسة أبستمولوجية للفكر اللغوي عند العرب؛ دار الشؤون الثقافية العامة؛ بغداد؛ د.ط؛ 1988. - البيان في روائع القرآن، عالم الكتب؛ القاهرة؛ ط 2؛2000م. - الخلاصة النحوية، عالم الكتب، للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، ط1، 1420ه-2000م. - اللغة العربية بين المعيارية والوصفية، اللغة بين المعيارية والوصفية، عالم الكتب - القاهرة، ط4، 2000م - اللغة العربية معناها ومبناها؛ الهيئة المصرية العامة للكتاب؛ د. ط، 1973 - مقالات في اللغة والأدب، عالم

الكتب - القاهرة، ط1، 1427- 2006.

58. جميل عبد المجيد؛ - البديع بين البلاغة العربية واللسانيات النصية، الهيأة

المصرية العامة للكتاب - القاهرة، 1998.

59. جولیا کریستیفا؛ -علم النص، تر: فرید الزاهي، مراجعة: عبد الجليل

ناظم، دار توبقال للنشر - المغرب، ط1، 1991.

60. جون لاينز ؛ - اللغةوالمعنى والسياق؛ تر: د. عباس صادق الوهاب،

مراجعة د. يوئيل عزیز، دار الشؤون الثقافية، ط1، بغداد، 1987.

ص: 300

61. حاتم صالح الضامن - علم اللغة، دار الحكمة، وزارة التعليم والبحث

العلمي، بغداد، (د. ط)، (د.ت).

62. حسام احمد فرج؛- نظرية علم النص - رؤية منهجية في بناء النص

النثري، ، مكتبة الآداب - القاهرة، ط1، 1428- 2007.

63. حسام البنهساوي؛ - أنظمة الربط في العربية - دراسة في التراكيب

السطحية بين النحاة ونظرية التوليد التحويلية، مكتبة الزهراء للشرق،

القاهرة، ط1، 1423ه-2003م.

64. حلمي خلیل؛ - الكلمة (دراسة لغوية و معجمية)، دار المعرفة الجامعية -

الإسكندرية، 1998.

65. خليفة الميساوي؛ - الوصائل في تحليل المحادثة - دراسة في استراتيجيات الخطاب، عالم الكتب الحديث، أربد - الأردن، ط1، 2012م.

66. خليل أحمد عمايرة - المسافة بين التنظير اللغوي والتطبيق «بحوث في

التفكير النحوي والتحليل اللغوي»، دار وائل، عمان، ط1، 2004م. - في نحو اللغة وتراكيبها منهج وتطبيق، عالم المعرفة للنشر والتوزيع، جدّة، ط1، 1404ه- -1984م.

67. دي بو جراند (روبرت)؛ - النص والخطاب والإجراء؛ تر: د. تمَّام حسَّان؛ عالم الكتب، ط1، القاهرة، 1998.

68. ردة الله (د. ردة الله بن ردة بن ضيف الله الطلحي)؛ - دلالة السياق،

جامعة أم القری، مکة المکرمة ، ط1، 1424ه.

69. زتسيسلاف واورزنياكي - مدخل إلى علم النص مشکلات بناء النص،

ص: 301

ترجمه وعلق عليه: د. سعيد حسن بحيري، مؤسسة المختار للنشر

والتوزيع - القاهرة، ط 2، 2010.

70. سعید حسن بحيري، إسهامات أساسية في العلاقة بين النص والنحو

والدلالة (بحوث في كتاب)، نقله إلى العربية، مؤسسة المختار - القاهرة، ط 2، 1431- 2010م. - دراسات لغوية تطبيقية في العلاقة بين البنية والدلالة، مكتبة الآداب - القاهرة، ط1، 1429- 2005.-علم لغة النص - المفاهيم والاتجاهات، ، مؤسسة المختار - القاهرة، ط 2، 1431 - 2010م.

71. سناء حميد البياتي ؛ - قواعد النحو العربي في ضوء نظرية النظم دار وائل

للنشر والتوزيع، عمّان، الأردن - 2003م.

72. الصادق خليفة راشد؛ دور الحرف في أداء معنى الجملة، منشورات جامعة قاريونس، بنغاري، (د. ط) 1996م.

73. صبحي إبراهيم الفقي - علم اللغة النصي بين النظرية والتطبيق، دار

قباء للطباعة والنشر والتوزيع، ط 1، القاهرة، 2000م.

74. صلاح الدين صالح حسنين ؛ - الدلالة والنحو، مكتبة الآداب، (د. م)،

ط1، (د.ت).

75. صلاح فضل؛ بلاغة الخطاب وعلم النص، ، الشركة المصرية للنشر -

لونجمان- القاهرة، 1996.

76. طاهر سليمان حمودة؛ - ظاهرة الحذف في الدرس اللغوي، د.، الدار

الجامعية للطباعة والنشر والتوزيع - الإسكندرية (د-ت).

ص: 302

77. عباس حسن - النحو الوافي، دار المعارف، القاهرة - مصر، ط3،

(د.ت).

78. عبد الحميد هنداوي؛ - الإعجاز الصرفي في القرآن الكريم، المكتبة

العصرية، بيروت، (د. ط) 2004م.

79. عبد السلام المسدي؛ - الأسلوبية والأسلوب، الدار العربية للكتاب،

تونس، ط3، 1982م.

80. عبد السلام هارون - الأساليب الإنشائية في النحو العربي، مكتبة

الخانكي، القاهرة، طه، 1421ه-2001م.

81. عبد الفتّاح عبد العليم البركاوي؛-دلالة السياق بين التراث وعلم اللغة الحديث» دراسة تحليلية للوظائف الصوتية والبنيوية والتركيبية في

ضوء نظرية السياق» أم القرى، السعودية، 1409ه- 1989م.

82. عبد الهادي بن ظافر الشهري؛ - استراتيجيات الخطاب مقاربة لغوية و

تداولية، دار الكتاب الجديد - ليبيا، ط1، 2004.

83. عزّام محمد ذيب إشریده؟ - دور الرتبة في الظاهرة النحوية - المنزلة

والموقع، دار الفرقان للنشر والتوزيع، عمان، ط1، 2004.

84. عزة شبل محمد؛ -علم لغة النص- النظرية والتطبيق، ، مكتبة الآداب -

القاهرة، ط1، 1428- 2007.

85. علي أبو مکارم ؛ - التراكيب الإسنادية، الجمل: الوصفية - الظرفیة- الشرطیة، مؤسسة المختار للنشر و التوزیع، القاهرة، 1 ، 1428ه- 2007م.

- الظواهر اللغوية في التُراث النحوي، دار غریب

ص: 303

للطباعة والنشر، القاهرة، ط1، 2007م.

86. عمر أبو خرمة ؛ - نحو النّصِّ نقد نظرية وبناء أخرى سورة البقرة

إنموذجاً، عالم الكتب الحديث، أربد - الأردن، ط1، 1425ه-2004م.

87. فاضل صالح السامرائي ؛ - الجملة العربية - تأليفها وأقسامها: فاضل صالح السامرائي، منشورات المجمع العلمي، بغداد. - الجملة العربية والمعنى: فاضل صالح السامرائي، دار ابن حزم، بیروت، لبنان، الطبعة الأولى، 1421ه-2001م. - معاني النحو، دار إحياء التراث العربي، القاهرة - مصر، ط1، 1428-2007م.

88. فاضل مصطفى الساقي؛ - أقسام الكلام العربي من حيث الشكل

والوظيفة، مكتبة الخانجي، القاهرة، ط 2، 1429ه.

89. فان دايك ؛ - علم النص مدخل متداخل الاختصاصات، تر: د. سعید

حسن بحيري، دار القاهرة للكتاب - القاهرة، ط 2، 2005م.

90. فندريس ؛ - اللغة، تر: عبد الحميد الدواخلي، و محمد القصاص، مكتبة

الانجلو المصرية، مطبعة لجنة البيان العربي - مصر (د- ت).

91. کلاوس برینکر؛ - التحليل اللغوي للنص - مدخل إلى المفاهيم الأساسية

والمناهج، تر: د. سعيد حسن بحيري، مؤسسة المختار - القاهرة، ط1،

1428- 2005م.

92. کولیزار کاکل عزیز ؛ - القرينة في اللغة العربية: دار دجلة، بغداد -

العراق، ط1، 2009م.

93. ليث أسعد عبد الحميد؛ - الجملة الوصفية في النحو العربي، دار الضياء

ص: 304

للنشر والتوزيع، ، عمان - الأردن، ط1، 1427ه-2001م.

94- مالک یوسف المطلبی؛ في الترکیب اللغوي للشعر العراقي المعاصر،(دراسة لغوية في شعر السياب ، نازك ، البياتي)، دار الرشيد للنشر،

منشورات وزارة الثقافة والاعلام (د. ط)، 1981م.

95. مجيد عبد الحميد ناجي؛ - الأسس النفسية لأساليب البلاغة العربية،

مطبعة المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع - بيروت، ط1،

1404- 1984.

96. محمد حماسة عبد اللطيف - بناء الجملة العربية، دار غریب-مصر،

2003م. - العلامة الإعرابية، في الجملة بين القديم والحديث، يخلو من المعلوم؛ لاعتادي على نسخة (Word)، فلم أحصل سوى على هذه النسخة. - لغة الشعر دراسة في الضرورة الشعرية، دار الشروق، القاهرة، ط1، 1416ه-1996م. - النحو والدلالة مدخل لدراسة المعنى النحوي الدلالي، د.، دار الشروق - القاهرة، ط1، 1420ه- 2000م.

97. محمد خطابي؛ - لسانیات النّص، مدخل إلى انسجام الخطاب، المركز

الثقافي العربي، ط1، بیروت، 1991م.

98. محمد سمير نجیب اللبدي؛ - معجم المصطلحات النحوية والصرفية، مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر، بيروت - لبنان، ط1، 1405ه- 1985م. - البلاغة والأسلوبية، الشركة المصرية العالمية للنشر الونجمان، القاهرة، ط1، 1994م.

ص: 305

99. محمد عبد المطلب ؛ - البلاغة العربية قراءة أخرى، الشركة المصرية

العالمية للنشر لونجان، ط1، 1964م.

100. محمد محمد يونس علي ؛ المعنى وظلال المعني - أنظمة الدلالة في العربية، دار المدار الإسلامي، بيروت - لبنان، ط 2، 2007م.

101. محمود أحمد نحلة - آفاق جديدة في البحث اللغوي المعاصر، ، دار

المعرفة الجامعية - الإسكندرية - مصر، 2002م.

102. مسعود صحراوي ؛ - التداولية عند العلماء العرب، دراسة تداولية

الظاهرة «الأفعال الكلامية» في التراث اللساني العربي، دار الطليعة -

بیروت، ط1، 2005م.

103. مصطفى جمال الدين - البحث النحوي عند الأصوليين، وزارة الثقافة

والإعلام، دار الهجرة، قم - ایران، ط 2، 1405ه.

104. مصطفى حميدة؛ نظام الارتباط والربط في تركيب الجملة العربية،

الشركة المصرية العالمية للنشر - لونجمان-مصر، ط1، 1997.

105. المنصف عاشور؛ - بنية الجملة العربية بين التحليل والنظرية، منشورات

كلية الآداب، منوية، جامعة توس، تونس، (د.ط)، 1991م.

106. مهدي المخزومي؛ في النحو العربي نقد وتوجيه، المكتبة العصرية،

صيدا- بيروت، ط1، 1964م.

107. مؤيد عبيد آل صوينت؛ الخطاب القرآني، دراسة في البعد التداولي، مكتبة الحضارات، بيروت - لبنان، ط1، 1431- 2010م.

108. موسی بن مصطفى الأعبدان؛ - دلالات تراكيب الجمل عند الأصوليين،

ص: 306

الأوائل للنشر والتوزيع، دمشق - سوريا، ط1، 2002م.

109. نوم جومسكي؟ - البني النحوية، تر: د. يؤيل يوسف عزيز، مراجعة :

مجید الماشطة، ط1، 1987م.

ثالثاً - الرسائل الجامعية:

110. جبّار سويس الذهبي؛ - الاتساق في العربية دراسة في ضوء علم اللغة

الحديث، رسالة ماجستير، كلية الآداب، جامعة المستنصرية، 2005م.

111.شریفة بلحوت؛ الإحالة نظریة مع ترجمة الفصلین من کتاب الاتساق في الإنكليزية، رسالة ماجستير، كلية الآداب واللغات، جامعة الجزائر/ف 2006م.

112. عبد الخالق زغير عدل ؛ - الربط في الجملة العربية، (رسالة ماجستير)

كلية الآداب، جامعة بغداد، 1988م.

113. عثمان أبو زنید؛-نحو النص- إطار نظري ودراسات تطبيقية، رسالة

ماجستير، كلية الدراسات العليا، الجامعة الأردنية، 2004م.

114. عیسی جواد الوداعي - التماسك النصي دراسة تطبيقية في نهج البلاغة،أطروحة دكتوراه، كلية الدراسات العليا، الجامعة الأردنية، 2005م.

رابعاً - البحوث والدوريات:

115. إبراهيم البب؛-دلالة أدوات الشرط، مجلة جامعة تشرين الأول،

الآداب والعلوم الإسلامية، مجلد 30، ع2.

116. آمنة بلعلي؛ - الإقناع: المنهج الأمثل للتواصل والحوار (نماذج من القرآن

والحديث) مجلة التراث العربي، دمشق، مارس، ع 289، 2003م.

ص: 307

117. تمام حسان ؛ - التضام وقيود التوارد، مجلة المناهل، ع6، السنة 3،

1396ه- 1976م. -ضوابط التوارد، مجمع اللغة العربية، الجزء58، 1406ه- 1986م.

118. جون سيرل؛-تشومسكي والثورة اللغوية، مجلة الفكر العربي، ع 8-9،

بیروت، السنة الأولى، 1979م.

119. سعد مصلوح؛-نحو أجرومية للنّصِّ الشعري» دراسة في قصيدة

جاهلية»، فصول مجلة النقد الأدبي، مج10، ع 1-2، 1991م.

120. سلطانة الجابر - الجوانب النفسية، المنتدى التعليمي، شبكة المعلومات

العالمية (الأنترنيت).

121. عواطف کنوش؛ - مراتب التفضيل في القرآن الكريم، مجلة الدراسات

الإيرانية، ع6، 2002م.

122. محمد محمد يونس علي ؛ الإحالة وأثرها في دلالة النّصِّ وتماسكه، مجلة الدراسات اللغوية، مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، مج6، ع1، 2004م.

123.مليود نزار؛ - نحو نظرية عربية للإحالة الضميرية - دراسة تأصيلية

تداولية، مجلة علو إنسانية، السنة السابعة، ع 42، صيف، 2009م.

124. منذر عياشي ؛ - النّص ممارساته وتجلياته، مجلة الفكر العربي المعاصر،

ع96- 97، 1992م.

125. نادية النجّار ؛ - التضام والتعاقب، مجلة علوم اللغة العربية، ع 12، 200م.

ص: 308

ص: 309

ص: 310

المحتويات

الإهداء ...7

مقدمة المؤسسة...9

المقدّمة ...15

التّمهيد ...23

الفصل الأول

توطئة ....45

المبحث الأول: التضام النحوي ...51

المبحث الثاني: التضام المعجمي ...97

الفصل الثاني

المبحث الأول: الرتبة (مفهومها وأنواعها)...133

المبحث الثاني : العدول عن أصل الرتبة ....153

ص: 311

الفصل الثالث

توطئة ...195

المبحث الأول: الربط بالإحالة ...199

المبحث الثاني: الربط بالأدوات...245

الخاتمة ...283

المصادر ...291

المحتويات ...311

ص: 312

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.