الافعال في الخطبة المونقة للامام علي بين الدلالة المعجمية والاستعمال الوظيفي

اشارة

الافَعشالُ في الخُطبِة المِونقِتة للامَٰام عَلي

بين الدلالة المعجمية والاستعمال الوظيفي مصدر افهرسه:IQ-KaPLI ara IQ-KaPLI rda .

رقم تصنیفُ LC : BP38.08 .A25 2016 .

المؤًلف الشخصی: شغیدل، يصطفى كاظم.

العنوان: ٌالأفعال فی الخطبه انمونقه علىً (علیه السلام) بین الدلاله المجمعیه و الاستعمال بیان المسوولیه: مصطفی کاظم شغیدل.

بیان الطبعه: الطبعه الاولی.

بیانات النشر: کربلا: العتبه الحسینیه المقدسه - موسسه علوم نهج البلاغه.

الوصف المادی: 392 صحفه.

سلسه النشر: سلسله الکتب العلمیه - وحده علوم اللغه العربیه - موسسه علوم نهج البلاغه.

تبصره عامه:

تبصره ببیلوغرافیه: الکتاب یتضمن هوامش - لاحه المصادره .(367 - 384).

تبصره محتویات:

موضوع الشخصی: الشریف الرضی، محمد بن الحسین بن موسی، 359 - 406 هجریا نهج البلاغه - شرح.

موضوع الشخصی: علی ابن ابی طالب (علیه السلام)، 23 قبل الهجرة - 40 هجریاً - الخطبة المونقه - الافعال.

موضوع الشخصی: علی ابن ابی طالب (علیه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة هجریاً - الخطبة المونقه - حوار.

مصطلح موضوعی: البلاغة العربیة.

مصطلح موضوعی: الخظابة الغربیة.

مصطلح موضوعی: اللغة - الافعال.

مولف اضافی: الشریف الرضی، محمد بن الحسین بن موسی، 359- 406 هجریاً نهج البلاغه - شرح

مولف اضافی: الحسنی، نبیل قدوری، 1965، مقدم.

عنوان اضافی: نهج البلاغه - شرح. سلطان

تمت الفهرسة قبل النشر في مكتبة العتبة الحسينية المقدسة

ص: 1

اشارة

ص: 2

سلسلة الكتب العلمية وحدة علوم اللغة العربية (5)

الافعال في الخطبة المونقة للامام علي علیه السلام

بين الدلالة المعجمية والاستعمال الوظيفي

تألیف

د. مصطفی کاظم شغیدل

اصدرا

مؤسسة علوم نهج البلاغة

فی العتبة الحسينية المقدسة

ص: 3

جميع الحقوق محفوظة

للعتبة الحسينية المقدسة

الطبعة الأولى

1438ه-2017م

العراق:كربلاء المقدسة-شارع السدرة

مجاور مقام علي الاكبر (علیه السلام)

مؤسسة علوم نهج البلاغة

هاتف:07728243600 07815016633

الموقع ا الكتروني:www.inahj.org

لا ايميل: Inahj.org@gmail.com

ص: 4

الإِهْدَاءُ

إلى نفسِ رسولِ الله(صَلَّ الله عَليِهِ وآلهِ وَسَلَّمَ)..

مع الاعتذار

عبدك

ص: 5

ص: 6

بِسم اللهِ الرّحمنِ الرّحیَمِ

مقدمة المؤسسة

الحمد لله على ما انعم وله الشكر بما الهم والثناء بما قدم من عموم نعم ابتدأها وسبوغ آلاء اسداها والصلاة والسلام على خیر الخلق أجمعین محمد وآله الطيبین الطاهرين الأخيار.

أما بعد:

لم يزل كلام مولى من كان النبي مولاه، وأمیر من كان المصطفى نبيه (صلوات الله عليها وآلهما) منهلاً عذباً روياً لطلاب العلم والمعرفة منذ أن شرف الله الدنيا بوجوده.

ومن ثم فإن الثناء عليه ومدحه وبيان خصائص شخصيته في هذه المقدمة التي تصدر بها البحث الموسوم ب (الأفعال في الخطبة المونقة للإمام علي (عليه السلام) بین الدلالة المعجيمية والاستعمال الوظيفي) وما حظي به كلامه من التوصيف لدى أهل اللغة والفصاحة والدلالة والبيان كناقل التمر إلى هجر؛ لا سيما وأن الباحث الدكتورمصطفى كاظم شغيدل قد عطربحثه هذا بشطر من ذلك البيان المخصوص بوصف كلام أمیر المؤمنين (عليه السلام).

ص: 7

ولذا:

ما نود أن نقوله هنا إن هذا البحث القيم الذي نال من الباحث جهد ثلاث سنوات ما هو إلا رافد مهم من روافد اللغة العربية، كي ينهل منه الدارسون والباحثون في الدلالة المعجمية لمجموعة من الأفعال بلغت (170) فعلاً، واستعمالاتها الوظيفية مما اكتسبت التميز والابداع، والدقة في البيان وجودة التأصيل والارجاع القرآني للفعل واعرابه، مقدماً بذلك جملة من المنافع للباحث والدارس؛ وهو بذاك قد بذل جهده وعلى الله اجره.

وآخر دعوانا «أن الحَمْدُ لله رَبِّ العَالِمين»

السید نبیل قدوري حسن الحسني

رئيس مؤسسة علوم نهج البلاغة

ص: 8

المُقدِّمَةُ

بِسۡمِ اللهِ الّرحَٰمنِ الرّحيَمِ

الحمد لله الَّذي صَدَقَنا وعدَهُ هي مقالة المتَّقین، وصلىَّ الله على خیر خلقه أَجمعین محمَّد وآله الطَّيبن الطَّاهرين، السَّلام عليك يا سيِّدي يا أَمیر المؤمنین، ورحمة الله وبركاته.

يأْتي كلام أَمیرالمؤمنین علي بن أَبي طالب )عليه السلام) بالمرتبة الثَّالثة من الإعجاز بعد القرآن والسُّنَّة؛ ففيه مسحة وطلاوة من الكلام الإلهيّ، وفيه عبقة ونفحة من الكلام النبويّ - كما يقول السَّيِّد الشّرَيف الرَّضيّ(رضوان الله عليه)(1) -، فأُسلوبه عذب المورد؛ «لَأنَّه نَهَلَ من القرآن، ومن أُستاذه محمَّد - صَلىَّ اللهُ عَلِيهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ-، وهوغصن من شجرة النُّبوَّة تربَّى في وارف ظلِّها، فجاء أُسلوبه مطبوعاً، صافي الدِّيباجة، شديد الرَّوعة، متخیرَّالأَلفاظ من غیرعمد؛ لهذا سبى المشاعر، وأَخذ بالأَلباب، وعُدَّ بيانه بعد بيان رسول الله - صَلىَّ اللهُ عَلِيهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ»(2). فكان أَمیر المؤمنین (عليه السلام) من الفصاحة بمكان؛

ص: 9


1- ينظر: منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة(للخوئي):1/ 217
2- روائع البيان في خطاب الإمام (الجوانب البلاغية واللغوية في بيان أمیر المؤمنین علي بن أبي طالب(عليه السلام)):93

فهو إمام الفصحاء، وسيِّد البلغاء، ومنه تعلَّم النَّاس الخطابة والكتابة(1) .

وتعدُّ «الخطبة المُوْنِقَة» ،أَو «الخطبة الخالية من الأَلف»، اَو «الخطبة الدُّرَّة اليتيمة» - كما سيأْتي بيانه في سبب تسميتها إنْ شاء الله تعالى - أُعجوبة من أَعاجيبه، وكلُّ كلامه معجب، قالها في موضع التَّندُّر- كما سيأْتي بيانه في توثيق نسبتها إِليه (عليه السلام) - وهذه الخطبة مع أَنَّها قيلت في موضع التَّندُّر؛ لخلوِّها من الأَلف، غیرأَنَّها لم تكن خالية من الفكر بمختلف أَبعاده؛ فتراه (عليه السلام) يبدأُ بالحمد والثَّناء على الله - تبارك وتعالى-، وبيان صفاته وأَفعاله، ثُمَّ الإقرار بالنُّبوَّة، وَوَصْفِها، وصفات النَّبيِّ الخاتم - صَلىَّ اللهُ عَلِيهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ-، وينتقل إلى الموعظة، وبيان حال الإنسان المحتضرَ، وحال أَلصق الأَشياء به، وما يحصل على الميِّت في المغتسل بعد موته، وتشييعه،وتسليمه لمَنْ يحمله، والصَّلاة عليه، وحاله في القبر وما يجري عليه، وحاله في النّشَر، وحاله إِنْ كان صالحاً في النَّعيم، وإِنْ كان طالحاً في الجحيم، ثُمَّ يسأَل الله - عَزَّوَجَلَّ - العفو والمغفرة، ويصف القرآن، ويختم الخطبة بالصَّلاة على النَّبيِّ-صَلىَّ اللهُ عَلِيهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ، والاستعاذة بالله، والتَّرُّع إليه، والابتهال، والاستغفار، وكلُّ هذه الأُمور الَّتي ذكرها (عليه السلام) بتفصيل دقيق - كماسيأْتي بيانه في تصوُّرأَوَّليٍّ عام لدلالة أَفعال الخطبة، وفي تناول اَلأَفعال بشكل مفصَّل، وتفصيل دقيق - فلم تكن الخطبة مجرَّد نزوة يظهر فيها قدرته الأَدبيَّة، وقوَّته في الفصاحة والبيان، ولاشكَّ في أَنَّ كتابة خطبة تخلو من حرف من الحروف،فضلاً عن حرف الأَلف، يُلقي بظلاله على الخطبة بشيء من التَّكلُّف، غیر أَنَّنا نجد أَنَّ الخطبة المونقة مع خلوِّها من حرف مهمٍّ، وهو الأَلف، بعيدة عن التَّكلُّف، فتجد صفاء اللَّفظ،ونقاءه، وسهولته، ونجد

ص: 10


1- ينظر:شرح ابن أبي الحديد:1/ 49، وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد المعتزلي رؤية اعتزالية عن الإمام علي(عليه السلام):7

في عبارات السَّماحة، والجزالة، والقوَّة، والوضوح، فعبارات أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) طبيعيَّة بعيدة التَّكلُّف على الرَّغم من قصر العبارات، ووجود السَّجع، وهذا هو أُسلوب القرآن الكريم الَّذي اتَّخذه الإمام منحىً له ومنهجاً، والطَّبعيَّة أَبعدته عن الأَدب المتكلَّف، وليس السَّجع الذي جاء على لسانه إِلاَّ السَّجع عينه الَّذي جرى على لسان الأَعراب وأَهل البوادي، الَّذي ينساب بلا تكلُّف(1).

أَمَّا في الموضوع والمعنى، فتجد الوضوح، والجلاء، والدِّقَّة، والسّلَامة، والقرب، والقوَّة، وتجد - أَيضاً - الابتكار، والجدَّة، والاتِّساع، والعمق والشُّمولية، والتّرَتيب، مستمِدّاً معينه من القرآن الكريم، وكلام رسول الله - صَلَّی اللهُ عَلِيهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ - ويصف محمَّد طاهر درويش خطب أَمیر المؤمنین (عليه السلام) بقوله:

«سماحة في لفظه تشبه سماحة نفسه، وسهولة في عباراته تناسب سهولة طبيعته، وسمو في غرضه يشاكل سموَّ خلقه، وأُسلوب زاده حسناً ووقعاً، فالسَّجع والازدواج والطِّباق واستواء الفواصل وتوازن الجمل والإيقاع الموسيقي ومحاكاة القرآن الكريم»(2).

وهذا الكتاب يُعنى بدراسة دلالة أَبنية الأَفعال في الخطبة المُوْنِقَة المنسوبة لأَمیر المؤمنین علي بن أَبي طالب (عليه السلام)؛ إِذ امتازت هذه الخطبة بكثرة الأَفعال فيها؛ إذ وصلت إلى (170) فعل، فضلا عماَّ جاء مكرَّرا، وبصيغة مختلفة، نحو:(شَربَ، يَشرْبُ) ،و(سَكَنَ، تُسَكِّنُ، يَسْكُنُ)، وغيرها؛ ولذا شرعتُ في بيان دلالتها، مستفيداً من أَصوات الكلمة، وبنيتها، وتركيبها مع الكلمات الأُخرى في ضمن السِّياق الَّذي وردت فيه، في بيان معنى الفعل في الخطبة، فوسمتُ الكتاب ب: «الأَفْعَالُ فِی الْخطْبَةِ المُوْنِقَةِ لأَمِیرْالُمؤْمِنِینْ (عليه السلام) بَینْ الدَّلَلَةِ الُمعْجَمِيَّةِ

ص: 11


1- ينظر:المدخل إلى علوم نهج البلاغة:32و 33
2- ينظر:الخطابة في صدر الإسلام:1/ 34

وَالاسْتِعْماَلِ الْوَظِيْفِيِّ»، وجعلتُ الكتاب على قسمين، كان الأَوَّل منهما تمهيدًا، بيَّنتُ فيه تسمية الخطبة «المُوْنِقَة»، مع توثيق نسبتها إلى أَمیرالمؤمنین (عليه السلام)، وأَعطيتُ تصوُّرًا أَوَّليًّا عامًّا لدلالة الأَفعال فيها، ثُمَّ ذكرتُ نصَّ الخطبة.

أَمَّا القسم الثَّاني، فكان من نصيب الأَفعال، فكان «دراسة في دلالة الأَفعال في الخطبة المونقة»، وتلا ذلك كلَّه قائمة المصادر والمراجع.

وكان منهجي في الكتاب أَنِّي تناولتُ الأَفعال تباعاً، بحسب ورودها في الخطبة، فأَضع للفعل عنواناً، وهو الفعل نفسه، وأَبدأ ببيان دلالته في اللُّغة، معتمداً في ذلك على المعجمات اللُّغويَّة، كالعین، ومعجم المقاييس، والصِّحاح، ولسان العرب، ثُمَّ أَذكر دلالة الفعل في الخطبة بحسب استعمال أَمیر المؤمنین (عليه السلام)،شافعاً ذلك بإعراب الفعل، وما يتَّصل به من كلمات.

وقد انفرط من هذا المنهج - أَيْ: تناول الأَفعال تباعاً بحسب وروده في الخطبة - بعض الأَفعال التي تكرَّرورودها في الخطبة بأَكثر من اشتقاق(صيغة)، وأَكثر من موضع، فأَذكره في موضع واحد، وأُشیر إلى المواضع التي وردت فيه، وأُبینِّ معانيها بحسب ذلك، نحو:«تُسَكِّنُ قلوبَكُم، وسَكَنَ حَنينُهُ، وسَكَنَ في جنَّتِهِ بقُرْبِه، وسَكَنَ في حَظیرةِ فردوس»، ونحو: «وَنُشرعليهِ كَفَنُهُ، ويُنْشرَمن قبرِه» - في سبيل التَّمثيل لا الحصر- .

وممَّا تجدر الإشارة إليه ثلاثة أُمور، الأَوَّل:أَنَّ الكتاب، وإِنّْ كان معنياً بدلالة الأَفعال الواردة في الخطبة المباركة، بَيْدَ أَنَّني - في بعض الأَحيان - أَشرع في بيان دلالة الكلمات المتَّصلة بها - أَيْ:الأَفعال -، من خال المعجمات والتَّفاسیر؛ لكي تتَّضح دلالتها - أَيْ:الأَفعال -، فلم يقتصر البحث على دلالة أَفعال الخطبة المباركة، كقول أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) :«تَضْربُهُ زَبِيْنَتُه بمَقْمَعٍ مِنْ حَديد»؛ فإنَّني بعد

ص: 12

أَنْ بيَّنتُ دلالة الفعل «تضربه» كان لابدَّلي من بيان «زبينتُه»، و«بمقمع»؛ لتتَّضح دلالة الفعل بشكل جلٍّی - في سبيل التَّمثيل لا الحصر- .

الثَّاني:أَنَّني في منهجية البحث مع كلِّ فعل أَذكر ما قاله أَصحاب المعجمات في بيان معنى الفعل،ثُمَّ أَذكرمعنى الفعل عند أَمیر المؤمنین (عليه السلام)، وظاهر هذا الأَمر أَنَّ كلام أَصحاب المعجمات متقدِّم على كلام أَمیر المؤمنین (عليه السلام)، وليس كذلك؛ بل إنَّ طبيعة المنهج اقتضت ذلك؛ إذ لا يخفى على القارئ اللَّبيب أَنَّ قول أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) متقدِّم على قول أَصحاب المعجمات من النَّاحية الزَّمنيَّة.

الثَّالث: أَنَّ الباحث واجه صعوبات في البحث، كان أَهمَّها عدم وجود شارح للخطبة، وإنَّ ما أَورده بعض مَنْ نقل الخطبة لا يعدو نتفاً قليلة جدّاً لتوضيح نزر يسیرمن كلمات الخطبة؛ ممَّا دعا الباحث إلى أَنْ يستنطق أَفعال الخطبة؛ ليسرغورها؛ وليصل إلى المعنى المراد للفعل، ويرسم لها لوحة متكاملة، كما كانت هي كذلك.

ومهما يكن من أَمر، فإنَّ هذا الكتاب استغرقت مني كتابته قرابة ثلاث سنوات؛ لمشاغل الحياة، وأَرجو أَنْ تكون به فائدة للباحثن؛ كونه معجماً ل (170) فعل، سوى ما جاء مكررًّا، وبصيغة مختلفة،نحو:(شَربَ، يَشرْبُ)، و (سَكَنَ، تُسَكِّنُ، يَسْكُنُ)، وغيرها؛ فهو رافد مهمٌّ من روافد اللُّغة العربيَّة ينهل منه الدَّارسون، وقد استندتُ فيه إلى أَفصح نصٍّ بعد القرآن الكريم، وهو كلام أَمیرالمؤمنین (عليه السلام)، فضلاً عن فائدته التعليميَّة؛ ولاسيَّما فيما يتعلَّق بإعراب الأَفعال فيه، وما اتَّصل بها.

أَسأَل الله - تبارك وتعالى - أَنْ يجعل هذا العمل خالصاً لوجهه الكريم، وأَنْ

ص: 13

يُعرِّف به بيننا وبین محمَّد وآله الطاهرين، وآخر دعوانا أَن الحمد لله ربِّ العالمین، والسَّلام عليك يا سيِّدي يا أَمیر المؤمنین، ورحمة الله وبركاته.

1.تسمية الخطبة

اشتهرت بعض الخطب بمضامينها المهمَّة، أَو المناسبات الَّتي قيلت فيها، وأَخذ المصنِّفون والأُدباء يضعون لها تسميات يميِّزونها من الخطب الأُخرى، كخطبة الأَشباح، والخفَّاش، والدِّيباج، والغرَّاء، وغيرها.

واشتهرت الخطبة المونقة بتسميات ثلاث، وهي:

الأُولى:المُوْنِقَة، ووجه التَّسمية فيها أَمران، أَحدهما:ورود كلمة «مونقة» في طيَّات الخطبة في وصف الجنَّة، إذ قال أَمیر المؤمنین (عليه السلام): «رَحْمتُهُ جَنَّةٌ عَرِيضَةٌ مُوْنِقَةٌ، وَعُقُوبَتُهُ جَحِيْمٌ ممَحدُودَةٌ».

والآخر: أَنَّها تُعجب مَنْ يسمعها، فمعنى المونقة: الحسنة المعجبة. ومن قمن القول إِنَّ العلاَّمة الخوئيّ نصَّ على أَنَّ أَمیر المؤمنین سمَّاَّها المونقة(1).

الثَّانية:الدُّرَّة اليتيمة، ولا نعلم أَحداً علَّل تسميتها بهذا الاسم، ولعلَّ سبب تسميتها عدم وجود ما يشابهها لخلوِّها من حرف الأَلف، فهي يتيمة في بابها؛ ولذا فهي درَّة يتيمة ثمينة.

الثَّالثة: الخطبة الخالية من الأَلف، وواضح أَنَّها تفصح عماَّ في داخلها بشكل مباشر، وهو خلوُّها من حرف الأَلف.

ص: 14


1- ينظر:منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة:1/ 175

2.سند الخطبة ونسبتهاإلى أَمير المؤمنين(عليه السلام)

الخطبة المونقة من مشاهير خطب أَمیرالمؤمنین (عليه السلام)، رواها جمع غفیر من علماء الفريقین، وذكرها أَغلب مَن استدرك على الرَّضيّ ممَّن جمع كلام أَمیرالمؤمنین (عليه السلام)، فضلاً عمَّن أَلَّف دراسة في نهج البلاغة، ولم أَرَ- فيما اطَّلعتُ عليه من مصادر قديمة وحديثة - مَنْ شكَّك بصحَّة نسبة هذه الخطبة إلى أَمیرالمؤمنین (عليه السلام)، بل اتَّفقت كلمة كلِّ مَنْ يتندَّر بأَنواع الخطب على هذه الخطبة، وكونها خالية من الأَلف، وبطريقة المسلِّم ينسبونها إليه (عليه السلام)، ولعلَّ ممَّا يقوِّي نسبتها إليه أَمرين:

الأَوَّل: اتِّفاق جميع مَنْ ذكرها على نسبتها إلى أَمیرالمؤمنین (عليه السلام)، ولم يُشكِّك أَحد في نسبتها إليه (عليه السلام) مع ندرتها في بابها.

الثَّاني:اتِّصال السَّند إلى الإمام الرِّضا (عليه السلام)، إذ نصَّ كلُّ مَنْ ذكرها على ذلك: «روى هشام بن محمَّد السَّائب الكلبيّ عن أَبي صالح، وأَبو جعفر بن بابويه بإسناده عن الرِّضا عن آبائه (عليهم السلام) أَنَّه اجتمع أَصحاب النَّبيِّ صَلىَّ اللهُ عَلِيهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ، فتذاكروا أَيّ الحروف أَدخل في الكلام، فأَجمعوا على أَنَّ الأَلف أَكثر دخولاً، فخطب (عليه السلام) بهذه الخطبة ارتجالاً» .

ولكن ممَّا يؤسف عليه - كما يقول السَّيِّد عبد الزَّهراء الحسينيّ الخطيب - :

«أَنَّ الأُستاذ محمَّد أَبو الفضل إبراهيم لمَّا أَشرف على طبع شرح ابن أَبي الحديد وضع عنواناً لهذه الخطبة بهذا اللَّفظ (خطبة منسوبة للإمام علي خالية من حرف الأَلف) ج19: 140وهو وإنْ ذكر في مقدِّمة تلك الطَّبعة أَنَّه وضع العناوين للفصل بین موضوعات الكتاب لتتَّضح معالمه وتسهل الإحاطة به، ولكنَّ العنوان بهذه الصُّورة يوجب الرَّيب بالنِّسبة، ويوهم أَنَّها من وَضْعِ الشَّارح؛ إذ ليس أَكثر

ص: 15

القرَّاء يتصفَّحون المقدِّمات، مع أَنَّ ما يظهر من رواية ابن أَبي الحديد لها أَنَّه واثق بصحَّتها، ولم يتصنَّع (عليه السلام) إنشاءها، ولكنَّ القضيَّة في الواقع - على ما ذكره الرُّواة - وهو أَنَّ جماعة من الصَّحابة تذاكروا أَيّ حروف الهجاء أَدخل في الكلام؟ فأَجمعوا على الأَلف، فارتجل (عليه السلام) تلك الخطبة، ولا يُستكثَرُعلى سيِّد الفصحاء وإمام البلغاء أَنْ يأتي بمثلها. فهذا واصل بن عطاء أَسقط الرَّاء من كلامه، وأَخرجها من حروف منطقه، ولا يظهر على كلامه شيء من التَّكلُّف حتَّى قال فيه بشار بن بُرد(1) :

تكَلَّف القولَ والأَقوامُ قد هجروا***وحَبَّروا خُطباً ناهيكَ من خطبِ

فقامَ مُرتجلاً تغلي بَداهتُه***كمرجلِ القینِ لَماَّ حفَّ باللهبِ

وجانبَ الرَّاءَ لم يشعرْ به أَحدٌ***قبلَ التَّصحُّفِ والإغراقِ في الطَّلبِ(2)

وممَّا تجدرالإشارة إليه أَنَّ عدم ذكرالرَّضيّ الخطبة لا يعني عدم صحَّة نسبتها إلى أَمیرالمؤمنین (عليه السلام)؛ فالرَّضيّ نفسه قال في خطبة كتاب نهج البلاغة:

«وما أدَّعي مع ذلك أَنِّي أُحيط بأَقطار جميع كلامه رضي الله عنه حتَّى لا يشُذَّ عنِّي منه شاذٌّ، ولا يندَّ نادٌّ، بل لا أُبعدُ أَنْ يكون القاصرُ عنِّي فوق الواقع إليَّ، والحاصل في ربقتي دون الخارج من يديَّ»(3) . وهو ما شجَّع جماعة من العلماء، وشحذ هممهم، ودعاهم إلى أَنْ يستدركوا على الرَّضيّ ما فاته ذكره في نهج البلاغة، وسلكوا على نهجه، ونسجوا على منواله، وأَلَّفوا على غراره.

وإليك بعض المصادر الَّتي ذكرت الخطبة، وأَسندتْها إلى أَمیر المؤمنین (عليه

ص: 16


1- ديوانه:157
2- مصادر نهج البلاغة وأسانيده:1/ 268
3- منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة(للخوئي):1/ 227

السلام):

شرح ابن أَبي الحديد(1) ، والمناقب لابن شهر آشوب(2) ، وبحار الَأنوار(3) ، وكفاية الطَّالب(4) ، وكنز العماَّل(5) ، والمصباح للكفعميّ(6) ، ونهج السَّعادة في مستدرك نهج البلاغة(7) ، والكوكب الدُّرِّي للمازندرانّي(8) ، والذَّريعة إلى تصانيف الشِّيعة(9) ، والخرائج والجرائح(10) ، وفضائل الخمسة(11) ، ومنهاج البراعة(12) ،في شرح نهج البلاغة(13) ، وبهج الصُّباغة في شرح نهج البلاغة، وقضاء أَمیر

ص: 17


1- ينظر:19/ 140
2- ينظر:1/ 280
3- ينظر:40/ 63
4- ينظر:248
5- ينظر:8/ 221
6- ينظر:744
7- ينظر:2/ 82
8- ينظر:2/ 211
9- ينظر:19/ 162
10- ينظر:2/ 250
11- ينظر:2/ 256
12- ينظر:1/ 175 و 176
13- ينظر:10/ 218

المؤمنین (عليه السام)(1) ، وإثبات الهداة(2) ،ونورالإفهام(3) ، ومستدرك نهج البلاغة(لكاشف الغطاء)(4) ، وتصنيف نهج البلاغة(5) ، والمدخل إلى علوم نهج البلاغة(6) .

3.تصوُّر أَوَّلي عامٌّ لدلالة أَفعال الخطبة

قبل أَن أَشرع في بيان دلالة كلِّ فعل من أَفعال الخطبة، وجدتُ من المناسب أَن أُقدِّم تحت هذا العنوان تصوُّراً أَوَّلياً لدلالة أَفعال الخطبة؛ إذ إنَّ هناك أَفعالاً تأْتي مجتمعةً لبيان دلالة واحدة، فلا يتمّ المعنى المراد بفعل واحد أَحياناً، بل يتمّ بفعلین، أَو ثلاثة، أَو أَكثر لإتمامه، فيكون هذا العنوان خارطة طريق للقارئ الكريم؛ ولذا سأَذكر المطالب الجليلة التي ضمَّنها أَمیر المؤمنین (عليه السلام) خطبته، وأَذكر قبالها أَفعال تلك المطالب، وهو الآتي:

1. افتتاح الخطبة بالحمد والثَّناء على الله - تبارك وتعالى -، وبيان صفاته وأَفعاله، بالأَفعال: «حمدتُ، عظمت، سبغت، سبقت، تمت، نفذت، بلغت، عدلت، حمدته، تنجيه، يَشْغَلُ، نستعينه، نسترشده، نستهديه، نؤمن، نتوكَّل، شهدت، فرَّدته، وحَّدته، ليس، يكن، جلَّ، تنزَّه، علم، فَسَترَ، بطن، فخبر، ملك، فقهر، عُصي، فغفر، عُبد، فشكر، حكم، فعدل، تكرَّم، تفضَّل، يزول، يزل،

ص: 18


1- ينظر:61
2- ينظر:5/ 72
3- ينظر:1/ 162
4- ينظر:44
5- ينظر:1/ 175
6- ينظر:417و 418

ليس، ليس، يدركه، يُحط، عجز، يصفه، ضَلَّ، يُعرِّفُه، قَرُبَ، فَبَعُد، وَبَعُد، فقَرُبَ، يجيب، يدعوه، يرزق، يحبوه».

2. في الإقراربنبوَّة النبيِّ الأَكرم صَلىَّ اللهُ عَلِيهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ، ووَصْفِهَا، وصفات النبيِّ صَلىَّ اللهُ عَلِيهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ بالأَفعال: «شهدتُ، بعثه، ختم، قوَّى، فوعظ، نصح، بلَّغَ، كدح».

3. الانتقال إلى موعظة النَّاس، بالأَفعال: «وصيتُكم، حضرني، ذكَّرتكم، تُسكِّن، تذرئ، تنجيكم، يذهلكم، يبليكم، يفوز،ثقل، خَفَّ، لتكن، ليغتنم».

4. في بيان سبب توجيه أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) مَنْ كان حاضراً عنده في مجلسه إلى اغتنام الصِّحَّة قبل السُّقم، والشَّبيبة قبل الهرم، والسَّعة قبل الفقر، والخلوة قبل الشُّغل، والحضر قبل السَّفر، بالأَفعال: «يكبر، يهرم، يمرض، يسقم،يملُّه، يُعرض، يتغیرَّ، ينقطع».

5. في بيان حال الإنسان المحتضرَ، بالأَفعال: قيل،جَدَّ، حضره، شَخص، طمح، رشح، سكن، جذبت».

6. بيان حال أَلصق الأَشياء بالإنسان الميِّت بعد موته، وهي: «الزَّوجة، والقبر، والولد، والجاه - العدد، والجمع - التَّركة، والبصر، والسَّمع»، بالأَفعال: «بكته، حفر، يتم، تفرَّق، قُسِّم، ذهب».

7. ما يحصل على الإنسان الميِّت في المغتسل بعد موته، بالأَفعال: «غُمِّض، مُدِّد، وُجِّه، جُرِّد، غُسِّل، نُشِّفَ، سُجِّي، بُسِطَ، هُيِّءَ، نشُرِ، شُدَّ، قُمِّص، عُمِّمَ، لُفَّ».

8. تشييع الميِّت، وتسليمه لمَنْ يحمله، وحَملُهُ، بالأَفعال: «وُدِّع، سُلِّمَ، حُملَ».

ص: 19

9. الصَّلاة على الميِّت، بالفعل: «صُلّیِ».

10. وصف حال الميِّت بعد الصَّلاة عليه، بالفعل: «نُقِلَ».

11. بيان حال الميِّت في القبر، بالفعل: «جُعِلَ».

12. فيما يجري على الميِّت بعد جعله في القبر، بالفعلين: «هيل، حُثِيَ».

13. بيان حال الإنسان بعد وضعه في قبره، بالفعلين: «تحقَّق، نُسي».

14. حال مَنْ كان مع ذلك الميِّت بعد أَنْ يجعل في ضريح ملحود، بالفعل: «رجع».

15. حال زوج ذلك الميِّت بعد أَنْ يوضع في قبره، بالفعل: «تبدَّل».

16. بيان ما يجري على جسم الإنسان في داخل القبر، بالأَفعال: «يسعى، يسيل، يُسحَقُ، ينشف، يَرِمُّ».

17. بقاء الميِّت في قبره، بالفعل: «يقيم».

18. حال الإنسان في النَّشر وما بعد الموت، بالأَفعال:«فيُنشَر، يُنْفَخُ، يُدعى».

19. بيان موقف من مواقف البعث والنُّشور في اليوم الآخر، بالأَفعال: «بعثرت، حُصِّلت، جيء، تولَّی».

20. ما يحصل لذلك الإنسان، الَّذي انصرف لِفَصْلٍ عند ربٍّ قدير، بعبده خبیربصیر، بالفعلن: «تضنيه، تنضيه».

21. حال الإنسان الماثل بین يدَي الملك الجبَّارالعليم، بالأَفعال: «يلجمه، يخفره، قوبل، تبینَّ، نطق، فشهدت».

ص: 20

22. في تهديد الملكين الموكَّلين بالميِّت حين الدَّفن، بالفعل: «يهدِّده».

23. في كشف الخالق البصیرعن ذلك الإنسان كلّ ما غُطِّي ووُري، بالفعل: «كشف».

24. بيان الكيفيَّة الَّتي يؤخذ بها الإنسان المذنب إلى النَّار، ودخوله فيها، بالأَفعال:

«فَسُلسِلَ، غُلَّت، سيق، فورد».

25. حال الإنسان الَّذي ورد جهنَّم، بالأَفعال:«فظَلَّ، يُعذَّب، يُسقى، تشوي، تسلخ، يضربه، يعود، يستغيث، فتعرض، يستصرخ، فيلبث».

26. وصف شربة الحميم، بالفعلين: «تشوي، تَسْلَخُ».

27. في الاستعاذة بالله بعد بيان حال الإنسان الَّذي ورد جهنَّم،بالأَفعال:«نعوذ، نسأَله، رضي، قبل».

28. في وصف مَنْ زُحزِح عن النَّار،وحاله، بالأَفعال:«زُحزح، سكن، خُلِّد، مَلَكَ، طيف، سكن، تقلَّب،سُقِيَ، شِربَ، يشرب، ليس، يصَّدع، ليس، ينزف».

29. في بيان سؤال متقدِّم من الله - عَزَّ وَجَلَّ - العفو والمغفرة والرِّضا، بالفعلین:

«خشي،حَذَّر».

30. بيان سبب العقوبة المذكورة في الخطبة، بالفعلين: «جحد، سوَّلت».

31. في وصف القرآن الكريم، بالأَفعال:«قُصَّ، نُصَّ، نزل».

32. ختام الخطبة بالصَّلاة على النبيِّ صَلىَّ اللهُ عَلِيهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ، والاستعاذة بالله، والتّضَرُّع إليه، والابتهال والاستغفار، بالأَفعال:«صَلَّت، عُذتُ، فليتضرَّع،

ص: 21

ليبتهل، فنستغفر».

4.نصُّ الخطبة المونقة:

تذاكر قوم من أصحاب رسول الله(صَلىَّ اللهُ عَلِيهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ):ايّ حروف الهجاء أَدخل في الكلام؟فأَجمعواعلى الألف،فارتجل الإمام علي(عليه السلام)من غیر تريُّث ولا تفكیر،فقال:

(حَمِدْتُ مَنْ عَظُمَتْ مِنَّتُهُ،وَ سَبَغَتْ نِعْمَتُهُ،وَ سَبَقَتْ رَحْمَتُهُ، وَ تَمَّتْ کَلِمَتُهُ وَ نَفَذَتْ مَشِیَّتُهُ، هُ وَ بَلَغَتْ حُجَّتُهُ، حمدْتُهُ حمْد مُقرٍّ برُبُوبیّته، مُتخضّعٍ لعُبُودیّته، مُتفضّلٍ منْ خطیئته، مُعْترفٍ بتوْحیده، مُؤَمِّلٍ مِن رَبِّهِ مَغفِرَهً تُنجیهِ، یَومَ یشغَلُ عَن فَصیلَتِهِ وَ بَنیهِ، وَ نَستَعینُهُ، وَ نَستَرشِدُهُ، وَ نَسْتَهْدِيهِ، وَ نُؤْمِنُ، بِهِ وَ نَتَوَكَّلُ عَلَيْهِ، و شهدْتُ لهُ شُهُود مُخْلصٍ مُوقنٍ، و فرّدْتُهُ تفْرید مُؤْمنٍ مُتیقّنٍ، و وحّدْتُهُ توْحید عبْدٍ مُذْعنٍ، لیْس لهُ شریکٌ فی مُلْکه، ولمْیکُنْ لهُ ولیٌّ فی صُنْعه، جلّ عنْ مُشیرٍ ووزیرٍ، وَ تَنَزَّهَ عَنْ مِثْلٍ، وَ نَظِیرٍ عَلِمَ فَسَتَرَ وَ بَطَنَ فَخَبَرَ وَ مَلَکَ فَقَهَرَ وَ عُصِیَ فَغَفَرَ وَ عُبِدَ فَشَکَرَ وَ حَکَمَ فَعَدَلَ وَ تَکَرَّمَ وَ تَفَضَّلَ لَمْ یَزَلْ وَ لاَ یَزُولُ وَ لَیْسَ کَمِثْلِهِ شَیْءٌ وَ هُوَ قَبْلَ کُلِّ شَیْءٍ وَ بَعْدَ کُلِّ شَیْءٍ رَبٌّ مُتَفَرِّدٌ بِعِزَّتِهِ مُتَمَلِّکٌ بِقُوَّتِهِ مُتَقَدِّسٌ بِعُلُوِّهِ مُتَکَبِّرٌ بِسُمُوِّهِ لَیْسَ یُدْرِکُهُ بَصَرٌ وَ لَمْ یُحِطْ بِهِ نَظَرٌ قَوِیٌّ مَنِیعٌ بَصِیرٌ سَمِیعٌ عَلِیٌّ حَکِیمٌ رَءُوفٌ رَحِیمٌ عَزِیزٌ عَلِیمٌ عَجَزَ فِی وَصْفِهِ مَنْ یَصِفُهُ وَ ضَلَّ فِی نَعْتِهِ مَنْ یَعْرِفُهُ قَرُبَ فَبَعُدَ وَ بَعُدَ فَقَرُبَ یُجِیبُ دَعْوَهَ مَنْ یَدْعُوهُ وَ یَرْزُقُ عَبْدَهُ وَ یَحْبُوهُ ذُو لُطْفٍ خَفِیٍّ وَ بَطْشٍ قَوِیٍّ وَ رَحْمَهٍ مُوَسَّعَهٍ وَ عُقُوبَهٍ مُوجِعَهٍ رَحْمَتُهُ جَنَّهٌ عَرِیضَهٌ مُونِقَهٌ وَ عُقُوبَتُهُ جَحِیمٌ مُؤْصَدَهٌ مُوبِقَهٌ وَ شَهِدْتُ بِبَعْثِ مُحَمَّدٍ عَبْدِهِ وَ رَسُولِهِ وَ صَفِیِّهِ وَ حَبِیبِهِ وَ خَلِیلِهِ بَعَثَهُ فِی خَیْرِ عَصْرِ وَ فِی حِینِ فَتْرَهٍ وَ کُفْرٍ رَحْمَهً لِعَبِیدِهِ وَ مِنَّهً لِمَزِیدِهِ خَتَمَ بِهِ نُبُوَّتَهُ وَ قَوَّی بِهِ حُجَّتَهُ فَوَعَظَ وَ نَصَحَ وَ بَلَّغَ وَ کَدَحَ رَءُوفٌ بِکُلِّ مُؤْمِنٍ رَحِیمٌ وَلِیُّ سَخِیٌّ زَکِیٌّ رَضِیٌّ عَلَیْهِ رَحْمَهٌ وَ تَسْلِیمٌ وَ بَرَکَهٌ وَ تَعْظِیمٌ وَ تَکْرِیمٌ مِنْ رَبٍّ

ص: 22

غَفُورٍ رَحِیمٍ قَرِیبٍ مُجِیبٍ وَصَّیْتُکُمْ مَعْشَرَ مَنْ حَضَرَنِی بِتَقْوَی رَبِّکُمْ وَ ذَکَّرْتُکُمْ بِسُنَّهِ نَبِیِّکُمْ فَعَلَیْکُمْ بِرَهْبَهٍ[بِرَحْمَهٍ]تُسْکِنُ قُلُوبَکُمْ وَ خَشْیَهٍ تُذْرِی دُمُوعَکُمْ وَ تَقِیَّهٍ تُنْجِیکُمْ یَوْمَ یُذْهِلُکُمْ وَ تُبْلِیکُمْ یَوْمَ یَفُوزُ فِیهِ مَنْ ثَقُلَ وَزْنُ حَسَنَتِهِ وَ خَفَّ وَزْنُ سَیِّئَتِهِ وَ لْتَکُنْ مَسْأَلَتُکُمْ مَسْأَلَهَ ذُلٍّ وَ خُضُوعٍ وَ شُکْرٍ وَ خُشُوعٍ وَ تَوْبَهٍ وَ نُزُوعٍ وَ نَدَمٍ وَ رُجُوعٍ وَ لِیَغْتَنِمْ کُلُّ مُغْتَنِمٍ مِنْکُمْ صِحَّتَهُ قَبْلَ سُقْمِهِ وَ شیبته[شَبِیبَتَهُ]قَبْلَ هَرَمِهِ وَ سَعَتَهُ قَبْلَ عَدَمِهِ وَ خَلْوَتَهُ قَبْلَ شُغْلِهِ وَ حَضَرَهُ قَبْلَ سَفَرِهِ قَبْلَ هُوَ یَکْبُرَ وَ یَهْرَمَ وَ یَمْرَضَ وَ یَسْقَمَ وَ یَمَلَّهُ طَبِیبُهُ وَ یُعْرِضَ عَنْهُ حَبِیبُهُ وَ یَتَغَیَّرَ عَقْلُهُ وَ یَنْقَطِعَ عُمُرُهُ ثُمَّ قِیلَ هُوَ مَوْعُوکٌ وَ جِسْمُهُ مَنْهُوکٌ قَدْ جَدَّ فِی نَزْعٍ شَدِیدٍ وَ حَضَرَهُ کُلُّ قَرِیبٍ وَ بَعِیدٍ فَشَخَصَ بِبَصَرِهِ وَ طَمَحَ بِنَظَرِهِ وَ رَشَحَ جَبِینُهُ وَ سَکَنَ حَنِینُهُ وَ جَذَبَتْ نَفْسُهُ وَ نُکِبْتَ عِرْسُهُ وَ حُفِرَ رَمْسُهُ وَ یُتِمَ مِنْهُ وُلْدُهُ وَ تَفَرَّقَ عَنْهُ عَدَدُهُ وَ قُسِمَ جَمْعُهُ وَ ذَهَبَ بَصَرُهُ وَ سَمْعُهُ وَ کُفِّنَ وَ مُدِّدَ وَ وُجِّهَ وَ جُرِّدَ وَ غُسِّلَ وَ عُرِّیَ وَ نُشِّفَ وَ سُجِّیَ وَ بُسِطَ لَهُ وَ هُیِّئَ وَ نُشِرَ عَلَیْهِ کَفَنُهُ وَ شُدَّ مِنْهُ ذَقَنُهُ وَ قُمِّصَ وَ عُمِّمَ وَ لُفَّ وَ وُدِّعَ وَ سُلِّمَ وَ حُمِلَ فَوْقَ سَرِیرٍ وَ صُلِّیَ عَلَیْهِ بِتَکْبِیرٍ وَ نُقِلَ مِنْ دُورٍ مُزَخْرَفَهٍ وَ قُصُورٍ مُشَیَّدَهٍ وَ حَجَرٍ مُنَضَدَّهٍ فَجُعِلَ فِی ضَرِیحٍ مَلْحُودٍ ضَیِّقٍ مَرْصُوصٍ بِلَبِنٍ مَنْضُودٍ مُسَقَّفٍ بِجُلْمُودٍ وَ هِیلَ عَلَیْهِ حَفْرُهُ وَ حُشِیَ عَلَیْهِ مَدَرَهٌ فَتَحَقَّقَ حَذَرُهُ وَ نُسِیَ خَبَرُهُ وَ رَجَعَ عَنْهُ وَلِیُّهُ وَ نَدِیمُهُ وَ نَسِیبُهُ وَ حَمِیمُهُ وَ تَبَدَّلَ بِهِ قَرِینُهُ وَ حَبِیبُهُ وَ صَفِیُّهُ وَ نَدِیمُهُ فَهُوَ حَشْوُ قَبْرٍ وَ رَهِینُ قَفْرٍ یَسْعَی فِی جِسْمِهِ دُودُ قَبْرِهِ وَ یَسِیلُ صَدِیدُهُ مِنْ مَنْخِرِهِ وَ یُسْحَقُ ثَوْبُهُ وَ لَحْمُهُ وَ یَنْشُفُ دَمُهُ وَ یَرِقُّ عَظْمُهُ حَتَّی یَوْمَ حَشْرِهِ فَیُنْشَرُ مِنْ قَبْرِهِ وَ یُنْفَخُ فِی صُوْرٍ وَ یُدْعَی لِحَشْرٍ وَ نُشُورٍ فَثَمَّ بُعْثِرَتْ قُبُورٌ وَ حُصِّلَتْ صُدُورٌ وَ جِیءَ بِکُلِّ نَبِیٍّ وَ صِدِّیقٍ وَ شَهِیدٍ مِنْطِیقٍ وَ تَوَلَّی لِفَصْلِ حُکْمِهِ رَبٌّ قَدِیرٌ بِعَبِیدِهِ خَبِیرُ بَصِیرٌ فَکَمْ مِنْ زَفْرَهٍ تُضْنِیهِ وَ حَسْرَهٍ تُنْضِیهِ فِی مَوْقِفٍ مَهُولٍ عَظِیمٍ وَ مَشْهَدٍ جَلِیلٍ جَسِیمٍ بَیْنَ یَدَیْ مَلِیکٍ کَرِیمٍ بِکُلِّ صَغِیرَهٍ وَ کَبِیرَهٍ عَلِیمٍ حِینَئِذٍ یُلْجِمُهُ عَرَقُهُ وَ یَحْفِزُهُ قَلَقُهُ عَبْرَتُهُ غَیْرُ مَرْحُومَهٍ وَ صَرْخَتُهُ غَیْرُ مَسْمُوعَهٍ وَ حُجَّتُهُ غَیْرُ مَقْبُولَهٍ وَ تَئُولُ صَحِیفَتُهُ وَ تَبِینُ جَرِیرَتُهُ وَ نَطَقَ کُلُّ عُضْوٍ مِنْهُ بِسُوءِ عَمَلِهِ فَشَهِدَتْ عَیْنُهُ بِنَظَرِهِ وَ یَدُهُ بِبَطْشِهِ وَ رِجْلُهُ

ص: 23

بِخَطْوِهِ وَ جِلْدُهُ بِمَسِّهِ وَ فَرْجُهُ بِلَمْسِهِ وَ یُهَدِّدُهُ مُنْکَرٌ وَ نَکِیرٌ وَ کَشَفَ عَنْهُ بَصِیرٌ فَسُلْسِلَ جِیدُهُ وَ غَلَتْ یَدُهُ وَ سِیقَ یُسْحَبُ وَحْدَهُ فَوَرَدَ جَهَنَّمَ بِکَرْبٍ شَدِیدٍ وَ ظِلٍّ یُعَذَّبُ فِی جَحِیمٍ وَ یُسْقَی شَرْبَهً مِنْ حَمِیمٍ تُشْوِی وَجْهَهُ وَ تَسْلَخُ جِلْدَهُ یَضْرِبُهُ زَبِینَتُهُ بِمِقْمَعٍ مِنْ حَدِیدٍ یَعُودُ جِلْدُهُ بَعْدَ نُضْجِهِ بِجِلْدٍ جَدِیدٍ یَسْتَغِیثُ فَیَعْرِضُ عَنْهُ خَزَنَهُ جَهَنَّمَ وَ یَسْتَصْرِخُ فَیَلْبَثُ حُقْبَهُ بِنَدَمٍ نَعُوذُ بِرَبٍّ قَدِیرٍ مِنْ شَرِّ کُلِّ مَصِیرٍ وَ نَسْأَلُهُ عَفْوَ مَنْ رَضِیَ عَنْهُ وَ مَغْفِرَهَ مَنْ قَبِلَ مِنْهُ فَهُوَ وَلِیُّ مَسْأَلَتِی وَ مُنْجِحٌ طَلِبَتِی فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ تَعْذِیبِ رَبِّهِ سَکَنَ فِی جَنَّتِهِ بِقُرْبِهِ وَ خُلِّدَ فِی قُصُورٍ مُشَیَّدَهٍ وَ مُکِّنَ مِنْ حُورٍ عِینٍ وَ حَفَدَهٍ وَ طِیفَ عَلَیْهِ بِکُئُوسٍ وَ سَکَنَ حَظِیرَهَ فِرْدَوْسٍ وَ تَقَلَّبَ فِی نَعِیمٍ وَ سُقِیَ مِنْ تَسْنِیمٍ وَ شَرِبَ مِنْ عَیْنٍ سَلْسَبِیلٍ مَمْزُوجَهٍ بِزَنْجَبِیلٍ مَخْتُومَهٍ بِمِسْکٍ وَ عَبِیرٍ مُسْتَدِیمٍ لِلْحُبُورِ مُسْتَشْعِرٍ لِلسُّرُورِ یَشْرَبُ مِنْ خُمُورٍ فِی رَوْضٍ مُشْرِقٍ مُغْدِقٍ لَیْسَ یَصْدَعُ مِنْ شُرْبِهِ وَ لَیْسَ یُنْزَفُ هَذِهِ مَنْزِلَهُ مَنْ خَشِیَ رَبَّهُ وَ حَذَّرَ نَفْسَهُ وَ تِلْکَ عُقُوبَهُ مَنْ عَصَی مُنْشِیَهُ وَ سَوَّلَتْ لَهُ نَفْسُهُ مَعْصِیَهَ مُبْدِیهِ ذَلِکَ قَوْلٌ فَصْلٌ وَ حُکْمٌ عَدْلٌ خَیْرُ قِصَصٍ قُصَّ وَ وَعْظٍ بِهِ نُصَّ تَنْزِیلٌ مِنْ حَکِیمٍ حَمِیدٍ نَزَلَ بِهِ رُوحُ قُدُسٍ مُبِینٍ عَلَی نَبِیٍّ مُهْتَدٍ مَکِینٍ صَلَّتْ عَلَیْهِ رُسُلٌ سَفَرَهٌ مُکْرَمُونَ بَرَرَهٌ عُذْتُ بِرَبٍّ رَحِیمٍ مِنْ شَرِّ کُلِّ رَجِیمٍ فَلْیَتَضَرَّعْ مُتَضَرِّعُکُمْ وَ لْیَبْتَهِلْ مُبْتَهِلُکُمْ فَسَنَسْتَغْفِرُ رَبَّ کُلِّ مَرْبُوبٍ لِی وَ لَکُمْ).

ص: 24

دِلالَةُ الأَفْعَالِ فِی الخُطْبَةِ المُوْنِقَةِ

ص: 25

ص: 26

حَمِدْتُ،حَمِدْتُهُ

الَحمْدُ: خلاف الذَّمِّ، تقول:حمدْتُ الرَّجل أَحْمدُه حَمداً إِذا رَأَيْت مِنْهُ فعلا مَحمُوداً، واصطنع إِلَيْك يدًا تحمدهُ عَلَيْهَا(1) .وقال ابن فارس: «الحاء والميم والدَّال كلمةٌ واحدة، وأَصلٌ واحد، يدلُّ على خلاف الذمِّ. يقال حَمدْتُ فلاناً أَحْمدُه...» .

(2) .

والحمدُ«الشُّكْرُ، والرِّضى، والجَزاءُ، وقَضاءُ الحَقِّ، حَمدَهُ، كسَمِعَهُ، حَمداً ومَحمِداً ومَحمَداً ومَحمِدَةً ومَحَمدَةً، فهو حَمودٌ وحَميدٌ»(3).

ورد الفعل «حَمدَ» في الخطبة مرَّتین مطابقاً دلالته اللُّغوية، صدَّر في المرَّة الأُولى أَمیرُ المؤمنین (عليه السلام) خطبته بهذا الفعل، فقال(عليه السلام): «حَمدْتُ مَنْ عَظُمَتْ مِنَّتُهُ» ،و «حمدتُ» فعل ماضٍ مبنيٌّ على السُّكون؛ لاتِّصاله بضمیر رفع متحرِّك، وهو التَّاء العائدة إلى أَمیرالمؤمنین (عليه السلام)؛ فهو يحمد الله - تبارك وتعالى لعظيم منَّته عليه، وإحسانه لديه(4) ،والله - عَزَّوَجَلَّ - يقول:(وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللِّه لاَ تُحصُوهَا إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ)(5) .

واستعمل أَمیر المؤمنین (عليه السلام) صيغة (حَمدَ) الفعل الماضي؛ لما في فعل المضيِّ من دلالة النَّفاذ في الأَمر، والفراغ منه(6) ، فكأَنَّ (حْمدَ) أَمیر المؤمنین (عليه السلام) لله - تبارك وتعالى - أَمرٌ نافذٌ، مفروغٌ منه، قديم؛ لعظيم منَّته - عَزَّوَجَلَّ

ص: 27


1- اينظر: جمهرة اللغة 1/ 254
2- معجم مقاييس اللغة2/ 79
3- القاموس المحيط1/ 273
4- ينظر:نهج السعادة في مستدرك نهج البلاغة:2/ 82
5- النحل:18
6- ينظر: شرح المفصَّل7/ 2و 4، وشرح شذور الذهب 38و 39، وأبنية الأفعال في دعاء الصباح (دراسة ومعجم): 25 و26

- ونفاذ إحسانه لديه، فهو (عليه السلام) يتحدَّث عن حدث، أَو أَمر حاصل قبل زمن التَّكلُّم.

والحمد لله تعالى هو«الثَّناء عليه بالفضيلة، وهو أَخصُّ من المدح وأَعمُّ من الشُّكر؛ فإنَّ المدح يقال فيما يكون من الإنسان باختياره، وممَّا يقال منه وفيه بالتَّسخير، فقد يُمْدَح الإنسان بطول قامته وصباحة وجهه، كما يُمْدَح ببذل ماله وسخائه وعلمه، والحمد يكون في الثَّاني دون الأَوَّل، والشُّكر لا يقال إلاَّ في مقابلة نعمة، فكلُّ شكر حمد، وليس كلُّ حمد شكرا، وكلُّ حمد مدح، وليس كلُّ مدح حمداً...»(1).

وفرَّق أَبو هال العسكريّ بین (الحمد) ،و (المدح) بقوله: «إنَّ الحمد لا يكون إلاَّ على إحسان، والله حامد لنفسه على إحسانه إلى خلقه، فالحمد مضمَّن بالفعل، والمدح يكون بالفعل والصِّفة، وذلك مثل أَنْ يُمْدَح الرَّجل بإحسانه إلى نفسه وإلى غیره، وأَنْ يمدحه بحسن وجهه، وطول قامته، ويمدحه بصفات التَّعظيم من نحو: قادر، وعالم، وحكيم، ولا يجوز أَنْ يحمده على ذلك، وإنَّما يحمده على إحسان يقع منه فقط»(2) .

وفرَّق أَبو هال العسكريّ - أَيضاً بین (الحمد)، و(الشكر)بقوله: «إنَّ الشكرهو الاعتراف بالنِّعمة على جهة التَّعظيم للمنعم، والحمد الذِّكر بالجميل على جهة التَّعظيم المذكور به أَيضاً، ويصحُّ على النِّعمة وغیر النِّعمة، والشُّكرلا يصحُّ إلاَّ على النِّعمة، ويجوز أَنْ يحمد الإنسان نفسه في أُمور جميلة يأْتيها، ولا يجوز أَنْ يشكرها؛ لأَنَّ الشُّكر يجري مجرى قضاء الدَّيْن، ولا يجوز أَنْ يكون للإنسان على

ص: 28


1- مفردات ألفاظ القرآن: 256
2- الفروق اللغوية 37

نفسه دَيْن، فالاعتماد في الشُّكر على ما توجبه النِّعمة، وفي الحمد على ما توجبه الحكمة. ونقيض الحمد الذَّمُّ إلاَّ على إساءة، ويقال الحمد لله على الإطلاق، ولا يجوز أَنْ يطلق إلاَّ لله؛ لأَنَّ كلَّ إحسان فهو منه في الفعل أَو التَّسبيب، والشَّاكر هو الذَّاكر بحق المنعم بالنِّعمة على جهة التَّعظيم، ويجوز في صفة الله شاكر مجازاً، والمراد أَنَّه يجازي على الطَّاعة جزاء الشَّاكرين على النِّعمة، ونظیر ذلك قوله تعالى: (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّه قَرْضاً حَسَناً)(1) ،وهذا تلطُّف في الاستدعاء إلى النَّفقة في وجوه البرِّ... والحمد لله شكراً أَبلغ من قولك: الحمد لله حمداً؛ لأَنَّ ذلك للتَّوكيد، والأَوَّل لزيادة معنى، وهو - أَيْ: أَحمده - في حال إظهار نعمه عليه»(2) .

وبابتداء أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) خطبته بالفعل (حمِدَ) يكون قد سنَّ سنَّة حسنة، بالابتداء بالحمد؛ ليقلِّده مَنْ جاء من بعده، حتى أَصبح (الحمد) جزءاً أَصيلاً من الخطبة، فقيل عن الخطبة الَّتي لا تبتدأ بالحمد «البتراء»(3) .

أَمَّا المرَّة الثَّانية الَّتي ورد فيها الفعل (حمِدَ) في الخطبة، فلبيان كيفيَّة هذا الحمد، فقال (عليه السلام): «حمدتُهُ حَمدَ مُقِرٍّ بِربُوبيَّتهِ»، فالفعل (حَمدَ) ماضٍ مبنيٌّ على السكون؛ لاتِّصاله بضمیر رفع متحرٍّك (التَّاء)، وهو عائد إلى أَمیر المؤمنین (عليه السلام) وهو ضمیر متَّصل مبنيٌّ في محلِّ رفع فاعل، والهاء ضمیر متَّصل مبنيٌّ في محلِّ نصب مفعول به، وهو عائد إلى الذَّات المقدَّسة.

***

ص: 29


1- البقرة: 245
2- الفروق اللغوية35و36
3- ينظر:المدخل إلى علوم نهج البلاغة 25

عَظُمَتْ

عَظُم الشيَّءُ عِظَماً فهو عظيمٌ، وعَظُمَ الأَمْرُ عَظَامَةً(1) .وعَظُمَ الشيَّءُ «عِظَماً وعَظَامَةً... وعَظْمُ الشيَّء ومُعْظَمُه: سَوَاء... وما يُعْظِمُني فِعْلُه - ويَعْظُمُني أَيضاً - أَي: ما يَهوْلُني»(2) .

وقال الرَّاغب:«... وعَظُمَ اشَّیء أَصلُهُ: كَبرُعَظمُهُ، ثُمَّ استعير لكلِّ كبیر، فأُجري مجراه محسوساً كان أَو معقولاً، عيناً كان أَو معنىً. قال: (عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) [الزمر/ 13]،(قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ) [ص/67]، (عَمَّ يَتَساءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ) [عمّ/1- 2]، (مِنَ الْقَرْيَتَینْ عَظِيمٍ) [الزخرف/31]»(3) .

وورد الفعل (عَظُمَ) في الخطبة مرَّة واحدة، مطابقاً دلالته اللُّغوية؛ إذ قال أَمیرالمؤمنین (عليه السلام): «حَدْتُ مَنْ عَظُمَتْ مِنَّتُهُ»،و صيغة (فَعُلَ) لا يكون مضارعه إلاَّ مضموماً، وأَكثر ما يكون في الغرائز والطِّباع والخصال، واشترطوا في هذا الوزن أَنْ يكون لازماً، فإنْ ضُمِّن معنى التَّعدِّي كُسرِ(4) .و (عَظُمَ) في الخطبة جاء مبنيّاً للمجهول، مبنيّاً على الفتح، والتَّاء تاء التَّأْنيث السَّاكنة لا محلَّ لها من الإعراب، و (منَّتُه) نائب فاعل مرفوع، وعلامة رفعه الضَّمَّة الظَّاهرة على آخره، وهو مضاف، والهاء ضمیر متَّصل مبنيٌّ على الضَّمِّ في محلِّ جرٍّ بالإضافة عائد إلى الله - تبارك وتعالى - وجملة (عظمت منَّته) صلة الموصول (مَنْ) لا محلَّ لها من الإعراب، وأَراد أَمیر المؤمنین (عليه السلام) به - أَي: الفعل أَنْ يبینِّ عظيمَ منَّة الله

ص: 30


1- ينظر:العين: 1/ 104 و105
2- المحيط في اللغة 1/ 83.وينظر: المحكم والمحيط الأعظم1/ 224
3- مفردات ألفاظ القرآن: 573
4- ينظر:المصباح المنير 2/ 1065، وأوزان الفعل ومعانيها29و30

- تبارك وتعالى-، وإحسانه لديه.

ويسبِّح العبدُ ربَّه، فيقول: «سبحان ربِّ العظيم الَّذي جاوز قدره، وجلَّ عن حدود العقول حتَّى لا تُتصوَّرالإحاطة بكنهه وحقيقته»(1) .والعظيم من صفات الله - عَزَّوَجَلَّ - وقيل: (العظيم) بمعنى المعظَّم، والعظيم معناه العظيم الشَّأن، وهذا قول الطَّبرسيّ(2) .وذكر الزَّجَّاجيّ أَنَّ العظيم ذو العظمة والجلال في ملكه وسلطانه - عَزَّ وَجَلَّ -(3) .

***

سبَغَتْ

تدلُّ مادَّة (سَبَغَ) في اللُّغة على الاتِّساع والطُّول. قال ابن فارس: «السّیِن والباء والغین أَصلٌ واحدٌ، يدلُّ على تمامِ الشيَّء وكماله»(4) .

فالسَّابغة:الدِّرع الواسعة، والسَّابغ: الكامل الوافي، ويطلق على كلِّ شيء طال إلى الأَرض.

والثُّاثي المجرَّد يأْتي لازماً من باب (نصَرَ)، يُقال: سبغَ يسبُغُ: تَمَّ، واتَّسع، وطال.وسبغ المطر: دنا إلى الأَرض وامتَدَّ(5) .وبهذه الدَّلالة جاء هذا الفعل في

ص: 31


1- ينظر:لسان العرب 12/ 409
2- ينظر: مجمع البيان 3/ 301
3- ينظر: اشتقاق أساء الله (للزجاجي) 111، وألفاظ العقيدة والشريعة في نهج البلاغة-دراسةومعجم -(رسالة ماجستير) 68
4- مقاييس اللغة 3/ 129
5- ينظر:العين 1/ 348،وتهذيباللغة 5/ 55،والعباب الزاخر 1/ 346،والمصباح المنير 4/ 147

الخطبة مرَّة واحدةً مطابقاً دلالته اللُّغوية؛ إذ قال أَمیر المؤمنین (عليه السلام):

«وَسَبَغَتْ نِعْمَتُهُ» ،أَي: امتدَّت، واتَّسعت، وطالتْ، وكملت، وتمَّت، وفيه تضمین لقوله تبارك وتعالى: (وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً)(1) .

و(سبغَتْ) سبغ: فعل ماضٍ مبنيٌّ على الفتح، والتَّاء تاء التَّأنيث السَّاكنة لا محلَّ لها من الإعراب، و(نعمتُه) فاعل مرفوع، وعلامة رفعه الضَّمَّة الظَّاهرة على آخره، وهو مضاف، والهاء ضمر متَّصل مبنيٌّ على الضَّمِّ في محلِّ جرٍّ بالإضافة، عائد إلى الله عَزَّ وَجَلَّ، و (جملة) وسبغت نعمته (معطوفة على جملة) (عظمت منَّتهُ).

***

سبَقَتْ

تدلُّ مادَّة (سبق) في اللُّغة على التَّقدُّم إلى الأَشياء، كأَنْ يتقدَّم شيء إلى شيء،أَو يتقدَّم شيء على شيء(2) ،يُقال: سَبَقَ يسبِقُ سبقاً(3) ،والاستباق:التَّسابق(4) .

وقد ورد هذا الفعل (سبق) في الخطبة مرَّةً واحدة للدَّلالة على المعنى نفسه؛ إذ قال أَمیرالمؤمنین (عليه السلام): «وسَبَقَتْ رَحْمُتُهُ»، ف (سبقت) فعل ماضٍ مبنيٌّ على الفتح، والتَّاء تاء التَّأنيث السَّاكنة لا محلَّ لها من الإعراب، ومضارعه (يسبِقُ) ،أَي: سبقَتْ رحمتُهُ غضبَهُ(5) . و(رحمتُه) فاعل مرفوع، وعلامة رفعه

ص: 32


1- لقمان:20
2- ينظر:معجم مقاييس اللغة 3/ 129، وجمهرة اللغة 2/ 233، وتهذيب اللغة 2/ 91، والمصباح المنیر5/481،والقاموس المحيط 3/ 79
3- ينظر:جمهرة اللغة 2/ 233
4- ينظر: معجم مقاييس اللغة 3/ 129
5- ينظر: مصباح المتهجّدين 33،ومنهاج السعادة في مستدرك نهج البلاغة 2/ 82

الضَّمَّة الظَّاهرة على آخره، وهو مضاف، والهاء ضمیر متَّصل مبنيٌّ على الضمِّ في محلِّ جرٍّ بالإضافة، عائدٍ إلى الله عَزَّ وَجَلَّ، وجملة (وسبقت رحمته) معطوفة على جملة (وسبغت نعمتُه).

***

تَمَّتْ

تدلُّ مادَّة (تَمَّ) في اللُّغة على الانتهاء، والكمال، والتَّحقُّق. قال الرَّاغب: «تَمام الشيَّء: انتهاؤه إلى حدٍّ لا يحتاج إلى شيء خارج عنه، والنَّاقص: ما يحتاج إلى شيءخارج عنه. ويقال ذلك للمعدود والممسوح، تقول: عدد تَامٌّ وليل تامٌّ»(1) ،ويُقال: رجل تميمٌ وامرأَة تميمة:تامَّا الخلق،ومن الحسيِّ:التَّميمة،كأَنَّهم يريدون أَنَّها تَمام الدَّواءِ والشِّفاءِ المطلوب(2) ، وليل التّمَام: أَطول ليلة في السَّنة تطلع فيه النُّجوم كلُّها. وقيل: ليلة التَّمام هي اللَّيلة الَّتي يتمُّ فيها القمر(3) .

والفعل المجرَّد يأتي من باب (ضَرب)، يُقال: تمَّ الأَمرُ، تحقَّق، وتمَّ الشيَّء:

كملت أَجزاؤه(4) .

وورد هذا الفعل (تَمَّ) في الخطبة مرَّةً واحدةً مطابقاً دلالته اللُّغوية؛ إذ قال أَمير المؤمنین (عليه السلام) : «وتمَّت كلمتُه»، أَيْ: تحقَّقت، وكملت، ف «تمَّت» فعل ماضٍ مبنيٌّ على الفتح، والتَّاء تاء التَّأنيث السَّاكنة لا محلَّ لها من الإعراب، و (كلمتُه)

ص: 33


1- مفردات ألفاظ القرآن:168
2- ينظر:معجم مقاييس اللغة1/ 339
3- ينظر:الصحاح في اللغة1/ 65
4- ينظر:أبنية الأفعال(دراسة لغوية قرآنية)100و101

فاعل مرفوع، وعلامة رفعه الضَّمَّة الظَّاهرة على آخره، وهو مضاف، والهاء ضمير متَّصل مبنيٌّ على الضَّمِّ في محلِّ جرٍّ بالإضافة، عائدٍ إلى الله تبارك وتعالى، وجملة (وتمَّت كلمته) معطوفة على جملة (وسبقت رحمته).

وقول أَمير المؤمنين (عليه السلام) : «وتمَّت كلمته» فيه تضمين لقوله تبارك وتعالى: (وَتَّمتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ) (1) .

* * *

نَفَذَتْ

تدلُّ مادَّة (نَفَذَ) في اللُّغة على الجواز، والخلوص في الشيَّء، والمضيِّ فيه. جاء في (العین): «ونَفَذْتُ أي جُزْتُ، وطريقٌ نافِذٌ: يجُوزُه كلُّ أَحَدٍ ليس بین قومٍ خاصٍّ دون العامَّة، ويُقال: هذا الطَّريق ينفُذ إلى مكان كذا وكذا، وفيه منفَذٌ أَي: مجاز»(2).

ونفذ السَّهمُ من الرَّمية يَنفُذ نفاذاً، وَرَمَيْتُه فأَنفذتُه، ورجلٌ نافذ في أَمره، وهو الماضي فيه، وقد نَفَذَ يَنفُذُ نفاذاً(3) ،ونَفَذَ السَّهمُ نفوذاً من باب (قَعَد) ونفاذاً، خرق الرَّمية وخرج منها، ويتعدَّى بالهمزة والتَّضعيف، ونَفَذَ الأَمرُ والقولُ نفوذاً ونفاذاً مضى، وأَمرُه نافذٌ، أَي: مطاع(4) .

وورد هذا الفعل (نَفَذَ) في الخطبة مرَّةً واحدةً مطابقاً دلالته اللُّغوية؛ إذ قال أَميرالمؤمنین (عليه السلام): «ونَفَذَتْ مَشيَّتُهُ»، ف «نفذت» فعل ماضٍ مبنيٌّ على الفتح، والتَّاء تاء التَّأنيث السَّاكنة لا محلَّ لها من الإعراب، أَيْ: إرادته ماضية نافذة كنفاذ

ص: 34


1- الأنعام: 115
2- العين 2/ 153
3- ينظر:جمهرة اللغة1/ 378، وتهذيب اللغة5/ 63، والصحاح في اللغة 2/ 222، والمحيط في اللغة2/222
4- ينظر:المصباح المنير9/ 404

السَّهم من الرَّمية. و(مشيَّتُه) فاعل مرفوع، وعلامة رفعه الضَّمَّة الظَّاهرة على آخره، وهو مضاف، والهاء ضمیرمتَّصل مبنيٌّ على الضَّمِّ في محلِّ جرٍّ بالإضافة، عائدٍ إلى الله عَزَّ وَجَلَّ، وجملة (ونفذَت مشيَّتُه) معطوفة على جملة (وتمَّت كلمته).

* * *

بَلَغَتْ،بَلَّغَ

تدلُّ مادَّة (بَلَغَ) في اللُّغة على الكفاية، والوصول، والانتهاء، والجودة، والغاية، والإدراك. فيُقال: «بَلَغَ الشيَّءُ يبلُغُ بُلُوغاً، وأَبْلَغْتُه إبلاغاً. وبلَّغْتُه تبليغاً في الرِّسالةِ ونحوها. وفي كذا بَاغٌ وتَبَليغٌ، أَي: كفاية. وشيء بالغٌ، أَي: جيد»(1) .

وقال ابن فارس:«الباء واللاَّم والغین أَصلٌ واحد، وهو الوُصول إلى الشَّيء.

تقول بَلَغْتُ المكانَ، إذا وَصَلْتَ إليه. وقد تُسَمَّى المُشارَفَةُ بُلوغاً بحقِّ المقاربة. قال الله تعالى: (فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ)(2) .ومن هذا الباب قولهم هو أَحْمقُ بِلْغٌ وبَلْغٌ، أَي: إنَّه مع حماقته يبلغ ما يريده»(3) .

وقال الرَّاغب: «البُلُوغ والبَلاغ: الانتهاء إلى أَقصى المقصد والمنتهى، مكانا كان أَو زمانا، أَو أَمرًا من الأُمور المقدَّرة... والبلَاغ:الكفاية»(4) .

وقال ابن سيده:«بلغ الشيَّء يبلغ بلوغاً:وصل وانْتهى.وأَبلغه هُوَ، وبَلَّغه...» وتبلَّغ بالشيَّء: وصل بِهِ إلى مُرَاده... وَبلغ النَّبت: انْتهى. وتبالغ الدِّباغ فِی الْجلد:

ص: 35


1- العين 1/ 357
2- الطلاق: 2
3- معجم مقاييس اللغة 1/ 302
4- مفردات ألفاظ القرآن: 144

انْتهى فِيهِ...وبَلَغت النخلةُ، وَغَيرهَا من الشَّجر: حَان إِدْرَاك ثَمَرهَا... وَالُمبَالغَة:

أَنْ تبلغ من الْامر جهدك. وَأَمْرٌ بَالِغٌ: جَيِّدٌ. وَرجل بليغ، وبَلْغ، وبِلْغ: حسن الْكَلام فصيحه، يبلغ بِعِبَارَة لِسَانه كُنه مَا فِ قلبه...»(1) .

وقال ابن منظور: «بَلغَ الشيَّءُ يَبْلُغُ بُلُوغاً وبَلاغاً: وصَلَ وانْتَهَى، وأَبْلَغَه هُوَ إِبْلاغاً وبَلَّغَه تَبْلِيغاً... وتَبَلَّغَ بِالشيَّءِ: وصَلَ إلى مُرادِه... البَلاغُ: مَا يُتَبَلَّغُ بِهِ ويُتَوَصَّلُ إلى الشيَّءِ الَمطْلُوبِ. والبَلاغُ: مَا بَلَغَكَ. والبَلاغُ: الكِفايةُ... وبَلَّغْتُ الرِّسالةَ.والبَلاغُ: الإِبْلاغُ... والإِبلاغُ: الإِيصالُ، وَكَذَلِكَ التَّبْلِيغُ»(2) .

وبهذا المعنى ورد الفعل (بلغ) مرَّتین في الخطبة، مرَّةً أُسند الفعل فيها إلى الحجَّة؛ إذ قال أَمیرالمؤمنین (عليه السلام): «وبَلَغَتْ حُجَّتُهُ»، أَيْ: وصلت حجَّتُه، وكفتْ، وانتهت إلى النَّاس كافَّة، وأَدركتهم، لهدايتهم(3) ، والفعل (بلغت) ماضٍ مبنيٌّ على الفتح، والتَّاء تاء التَّأنيث السَّاكنة لا محلَّ لها من الإعراب، و (حجَّتُه) فاعل مرفوع، وعلامة رفعه الضَّمَّة الظَّاهرة على آخره، وهو مضاف، والهاء ضمير متَّصل مبنيٌّ على الضَّمِّ في محلِّ جرٍّ بالإضافة، عائدٍ إلى الله عَزَّ وَجَلَّ، و (بلغ) من باب (قعد)(4) .وجملة (وَبَلَغَتْ حُجَّتُه) معطوفة على جملة (ونفذَت مشيَّته).

أَمَّا في المرَّة الثَّانية، فقد أَورده أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) لبيان صفة من

ص: 36


1- المحكم والمحيط الأعظم 2/ 434
2- لسان العرب 8/ 419 . وينظر تهذيب اللغة 3/ 84، والصحاح في اللغة 1/ 53، وأساس البلاغة 31/1، والقاموس المحيط 2/ 345 ، والعباب الزاخر1/ 337،والمصباح المنیر1/ 368، وتاج العروس5647/1
3- ينظر: مناقب آل أبي طالب 2/ 48، وقضاء أمیرالمؤمنین (عليه السلام) 67،وكنز العمال 8/ 221،ونهج السعادة في مستدرك نهج البلاغة 2/ 82
4- ينظر:تاج العروس 1/ 5647

صفات النبيِّ صَلىَّ اللهُ عَلِيهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ في أَداء وظيفة النبوَّة؛ إذ قال (عليه السلام):

«... وَشَهِدْتُ بِبَعْثِ مُحمَّدٍ عَبْدِهِ... بَعَثَهُ فِی خَیرْ عَصرْ... خَتَمَ بِهِ نبُوَّتَهُ، وَقَوَّى بِهِ حُجَّتَهُ، فَوَعَظَ وَنَصَحَ، وَبَلَّغَ وَكَدَحَ...».

وَوُرُوْدُ الفعل (بلَّغ) بهذه الصيغة (فَعَّلَ) إنَّما جاء موافقاً المعنى المراد في الخطبة؛ فَزِنَةُ (فَعَّلَ) لها معانٍ متعدِّدة ذكرها العلماء(1)، منها المبالغة والتَّكثیر(2)- وهو أَشهرها-، ويدلُّ على تكرير الفعل وكثرة القيام به. قال ابن جنِّي: «إنّمَا تُخبرِأَنَّ هذا فعل وَقَعَ منك شيئاً بعد شيء على تطاول الزَّمان»(3) ، وتدلُّ زنة (فَعَّلَ) على الجَعْلِ أَيضاً(4)، وهو جَعْلُ مفعوله على ما هو عليه، نحو: سُبحانَ الَّذي ضَوَّء الأَضواء، وكَوَّف الكوفة، وبَصرَّ البصرة، أَيْ: جعلها أَضواءً، وكوفةً، وبصرةً.

فيكون المعنى: أَنَّ رسول الله صَلىَّ اللهُ عَلِيهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ بلَّغ رسالةَ خالقه، فأَوصلها، وكفتْ، وانتهى بها إلى النَّاس، فأَدركتهم، وكان ذلك كلُّه منه صَلىَّ اللهُ عَلِيهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ بتكريرالفعل، وكثرة القيام به.

و (بلَّغ) فعل ماضٍ مبنيٌّ على الفتح، والفاعل ضمیرمستتر فيه جوازاً، تقديره (هو) عائدٌ إلى رسول الله صَلىَّ اللهُ عَلِيهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ.وجملة (وبلَّغ) معطوفة على جملة (ونصح).

* * *

ص: 37


1- ينظر: ديوان الأدب 2/ 380 -381، والمفصّل 372 - 373، وشرح الشافية
2- ينظر: أدب الكاتب 354، وشرح الشافية 1/ 92، وشذا العرف في فن المصرف 21، وأوزان الفعل ومعانيها 82
3- المنصف 1/ 91
4- ينظر: تسهيل الفوائد وتكميل المقاصد 75، وشرح الشافية 1/ 95، وأوزان الفعل ومعانيها 82

عَدَلتْ،عَدَل

تدلُّ مادَّة (عَدَلَ) في اللُّغة على الإنصاف، والحقِّ، والمساواة، والاعوجاج.

يُقال: عَدَلَ يَعدِلُ، أَيْ: يحكم بالحقِّ والعدلينظر: العين 1/ 93، والعادل المقسط، وعدلت الشيَّء بالشيَّء عدلاً، إذا جعلته بوزنه(1)، والشيَّء إذا ساوى الشيَّء، فهو عِدْلُه، وعدلت بفلان فلاناً، وهو يُعادلُه، إذا ساويته به، وتعني: الحكم. فالعدل: الحكم بالاستواء(2)،وعدل في القضيَّة، فهوعادل، والعديل الذي يعادلك في الوزن والقدر(3) .

وقال الرَّاغب:«العَدَالَةُ والمُعَادَلَةُ: لفظٌ يقتي معنى المساواة، ويستعمل باعتبارالمضايفة، والعَدْلُ والعِدْلُ يتقاربان، لكن العَدْل يستعمل فيما يدرك بالبصرة كالأَحكام... والعِدْل والعَدِيلُ فيما يدرك بالحاسَّة، كالموزونات والمعدودات والمكيلات، فالعَدْلُ هو التَّقسيط على سواء»(4) .

والعدل هو «مَا قَامَ فِی النُّفُوسِ أَنَّه مُسْتقيم، وَهُوَ ضِدُّ الجَوْر. عَدَل الحاكِمُ فِی الُحكْمِ يَعْدِلُ عَدْلاً وَهُوَ عادِلٌ مِنْ قَوْمٍ عُدُولٍ وعَدْلٍ؛ الأَخیرة اسْمٌ لِلْجَمْعِ»(5) .

والعدل الحكم الحقُّ «يُقال: هو يقضي بالحقِّ، ويَعدل، وهو حَكَمٌه»(6) .

ص: 38


1- ينظر: جمهرة اللغة 1/ 355
2- ينظر: معجم مقاييس اللغة 4/ 246
3- ينظر: الصحاح في اللغة 1/ 451
4- مفردات ألفاظ القرآن: 551
5- لسان العرب 14 / 456
6- تحفة الأريب بما في القرآن من الغريب 186

وفرَّق أَبو هال العسكريّ بین (العدل) و(الإنصاف) بقوله: «إنَّ الإنصاف إِعْطَاء النَّصف، وَالْعدْل يكون فِی ذَلِك وَفِی غَیره، أَلا ترى أَنَّ السَّارِق إِذا قطع قيل إنَّه عدل عَلَيْهِ، وَلا يُقَال إِنَّه أَنصف»(1) .

وفرَّق أَبو هال العسكريّ بین (العدل) و (القسط) بقوله: «إنَّ الْقسْط هُوَ الْعدْل البینِّ الظَّاهِر، وَمِنْه سُمِّي الِمكْيَال قسطاً، وَالِميزَان قسطاً؛ لأَنَّهُ يصور لَك الْعدْل فِی الْوَزْن حَتَّى ترَاهُ ظَاهرا، وَقد يكون من الْعدْل مَا يخفى...»(2) .

وفرَّق أَبو هال العسكريّ - أَيضاً - بین (العدل) و(الحسن) بقوله: «الْحسن مَا كَانَ الْقَادِرعَلَيْهِ فعله، وَلا يتَعَلَّق بنفع وَاحِدٍ أَو ضرِّه، وَالْعدْل حسن يتَعَلَّق بنفعزيد أَو ضرِّغَیرْه؟، أَلا ترى أَنه يُقَال إِنَّ كل الَحلال حسن، وَشرب الُمبَاح حسن، وَلَيْسَ ذَلِك بِعدْل»(3) .

وبهذا المعنى ورد الفعل (عدل) مرَّتین في الخطبة، مرَّةً أُسند الفعل فيها إلى (القضيَّة)، فقال أَمیرالمؤمنین (عليه السلام): «وعَدَلَتْ قضيّتُهُ»،و(عَدَلَت) فعل ماضٍ مبنيٌّ على الفتح، والتَّاء تاء التَّأنيث السَّاكنة لا محلَّ لها من الإعراب، و(قضيَّتُه) فاعل مرفوع، وعلامة رفعه الضَّمَّة الظَّاهرة على آخره، وهو مضاف، والهاء ضمیر متَّصل مبنيٌّ على الضَّمِّ في محلِّ جرٍّ بالإضافة، عائد إلى الله تبارك وتعالى، أَي: أَنَّ الله - عَزَّ وَجَلَّ - عادلٌ في قضيَّته، فهو كناية عن عدل الله في حكمه وقضائه، وجملة (وعَدَلَتْ قضِيَّتُهُ) معطوفة على جملة (وبَلَغَتْ حُجَّتُهُ).

أَمَّا في المرَّة الثَّانية، فقد قابل أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) بین هذا الفعل

ص: 39


1- الفروق اللغوية: 194
2- المصدر نفسه:194
3- الفروق اللغوية: 194

(عدل) وفعل آخر، وهو(حَكَمَ)، فقال (عليه السلام): «وَحَكَمَ فَعَدَلَ»، وسيأْتي الكلام - إنْ شاء الله تعالى - على دلالة الفعل (حَكَمَ)، بَيْدَ أَنَّه ممَّا تجدرالإشارة إليه أَنَّ العطف بالفاء يُفيد التَّرتيب باتِّصال، أَيْ:با مهلة، وهو المعبرَّ عنه بالتَّعقيب، نحو قوله تعالى: (ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقبْرَهُ)(1)، وكثیراً ما تقتضي أَيضاً السَّبب إنْ كان المعطوف جملةً، نحو قوله تعالى: (فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضىَ عَلَيْهِ)(2) .وكذا هي الحال في الخطبة، إذ قال أَمیرالمؤمنین (عليه السلام): «وحَكَمَ فَعَدَلَ» ،ف (حَكَمَ) فعل ماضٍ مبنيٌّ على الفتح، والفاعل ضمیر مستتر، تقديره (هو) عائد إلى الله تبارك وتعالى، والفاء عاطفة، و(عَدَلَ) فعل ماضٍ مبنيٌّ على الفتح، والفاعل ضمیر مستتر، تقديره (هو) عائد إلى الله عَزَّ وَجَلَّ، والجملة الفعليَّة (عَدَلَ) معطوفة علیرالجملة الفعليَّة (حَكَمَ).

* * *

تُنْجِيْهِ،تُنْجِيْكُم

تدلُّ مادَّة (نَجَوَ) في اللُّغة على التَّخلُّص من كلِّ خطر وأَذى. فيُقال: نجا فلانٌ من الشَّرَّ ينجو نجاةً، ونجا ينجو في السُّرعة نجاءً، فهو ناجٍ(3) . وَنَجَا المَرْءُ يَنْجُو نَجَاةً ونجاءً، أَيْ: ذهب، وانكشف من خطر يداهمُه(4). وأَنجاه من خطرٍ، وأَنجيتُ غیري ونجَّيتُه، إذا ساعدته في النَّجاة من أَمرٍ ليس بمقدوره النَّجاة منه(5). وناجيتُه.

ص: 40


1- عبس: 21
2- القصص: 15.وينظر: حاشية الصبّان على شرح الأشموني على ألفية ابن مالك 3/ 92
3- ينظر: العين 1/ 492
4- ينظر: معجم مقاييس اللغة 5/ 397، والصحاح 6/ 2501
5- ينظر: الصحاح 6/ 2501

أَيْ: ساررْتُه، وأَصله أَنْ تخلو به في نجوةٍ من الأَرض. وقيل: أَصلُه من النَّجاة، وهو أَنْ تعاونه على ما فيه خلاصُه. أَو أَنْ تنجو بسرِّك من أَنْ يطَّلع عليك(1).

وبهذا المعنى ورد الفعل (نجى) مرَّتین في الخطبة، قرنه أَمیر المؤمنین (عليه السلام) في المرَّة الأُولى ب (الرَّحمة)؛ إذ قال: «مُؤَمِّلٍ مِنْ ربِّهِ، رَحْمةً تُنْجِيهِ»، فبعد أَنْ أَقرَّأَمیرالمؤمنین (عليه السلام) بربوبيَّة الله عَزَّ وَجَلَّ، والخضوع لعبوديَّته، وبعد أَنْ تبرَّأَ من خطيئته، واعترف بتوحيده، أَمِلَ رحمةً من ربِّه تُخلِّصه من خطر يوم القيامة وشرِّه وأَذاه؛ وهو يومٌ يَشغلُ كُلٌّ عن فصيلته، وفصيلة الرَّجل: رهطه الأَدنون وبنوه(2) .

و (تنجيه) فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه الضَّمَّة المقدَّرة على الياء؛ منع من ظهورها الثِّقل،والفاعل ضمیرمستتر فيه، تقديره (هي)، عائد إلى (رحمة)، والهاء ضمیر متَّصل مبنيٌّ على الضَّمِّ في محلِّ جرٍّ بالإضافة، عائدٍ إلى (مؤمل)، وجملة (تنجيه) صفة ل (رحمة).

أَمَّا في المرَّة الثَّانية، فقرنه (عليه السلام) ب (التَّقوى) في مقام وصيَّته معشرمَنْ كان حاضراً عنده في مجلسه - وسيأْتي بيانه إنْ شاء الله تعالى -؛ إذ قال (عليه السلام):

«فَعَلَيْكُم بِرَهْبَةٍ تُسَكِّنُ قُلُوْبَكُم، وَخَشْيًةٍ تُذْرِىءُ دُمُوْعَكُم، وَتَقِيَّةٍ تُنْجِيْكُم».

وقد أَحسن أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) حين قرن الفعل (تُنْجِيْكُم) ب (التَّقوى)؛ إذ إنَّ التَّقوى في اللُّغة تدلُّ على الاجتناب، يُقال: وقاه الله وقياً ووقاية وواقيةً:

ص: 41


1- ينظر: مفردات ألفاظ القرآن: 792 و793. وينظر: جمهرة اللغة 2/ 87، والمحيط في اللغة 2/ 139، وتاج العروس 1/ 8615
2- ينظر: مطالب السؤول 175، ومصباح المتهجّدين 33، وكفاية الطالب 55،ونهج السعادة في مستدرك نهج البلاغة 2/ 82

صانه(1) . فالتَّقوى مشتقَّة من الوقاية، وهي حفظ الشيَّء ممَّا يؤذيه ويضرُّه، يُقال: وقيتُ الشيَّء أَقيه وقايةً ووقاءً(2) . قال الله تبارك وتعالى: (فَوَقَاهُ اللَّه سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ)(3) .

وقد قرن أَمیر المؤمنین (عليه السلام) في موضع آخر، في غیر الخطبة المُوْنِقَة - محلِّ البحث (النَّجاة) ب (التَّقوى)؛ إذ قال (عليه السلام): «إنَّ تقوى الله مِفْتَاح سُدَادٍ، وَذَخِیرْةُ مَعَادٍ، وَعِتْقٌ مِنْ كُلِّ مَلَكَةٍ، وَنَجَاةٌ مِنْ كُلِّ هَلَكَةٍ»(4) .

وممَّا تجدرالإشارة إليه - هنا - أَنَّ (التَّقوى) في كلام أَمیرالمؤمنین جاءت مقترنة ب (الخشية) في سياق واحد، إذ قال (عليه السلام): «فَعَلَيْكُم... وَخَشْيًةٍ تُذْرِىءُ دُمُوْعَكُم، وَتَقِيَّةٍ تُنْجِيْكُم»، وهو بذلك يحاكي القرآن الكريم حین قال الله عَزَّوَجَلَّ: (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْعَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّه وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً)(5) .

و (تنجيكم) فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه الضَّمَّة المقدَّرة على الياء؛ منع من ظهورها الثِّقل، والفاعل ضمیر مستتر فيه، تقديره (هي)، عائد إلى (تقية)، و(كم) ضمیر متَّصل مبنيٌّ في محلِّ نصب مفعول به، وجملة (تنجيكم) صفة ل (تقية).

***

ص: 42


1- ينظر: لسان العرب 20 / 281
2- ينظر: مفردات ألفاظ القرآن: 833
3- غافر: 45
4- منهاج البراعة (للخوئي): 4/ 200
5- النساء: 9

یَشغَلُ

جاء في معجم مقاييس اللُّغة: «الشّیِن والغین واللام أَصلٌ واحدٌ يدلُّ على خلاف الفَراغ..»(1) . وقد شَغَلَه كمنعه، يَشغَلُه شَغْلًا، ويُضمُّ(2) .

وقال الرَّاغب: «الشَّغْلُ والشُّغْلُ: العارض الَّذي يذهل الإنسان... وقد شُغِلَ فهو مَشْغُولٌ، ولا يُقال: أَشْغَلَ، وشُغُلٌ شَاغِلٌ»(3) .

واستعمل أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) هذا الفعل «شَغَلَ» مرَّةً واحدةً في الخطبة: للدَّلالة على العارض الَّذي يُذهِل كُلَّ إنسان، وهو يوم القيامة، الَّذي يُذهَلُ فيه كلُّ إنسان عن بنيه ورهطه الأَدنین(4)، إذ قال (عليه السلام): «يَومَ يَشْغَلُ كُلٌّ عَنْ فَصِيْلَتِهِ وَبَنِيْهِ». و«يَشْغَلُ» من باب (منع)، وهو فعل مضارع مرفوع؛ لتجرُّده عن النَّاصب والجازم، وعلامة رفعه الضَّمَّة الظَّاهرة على آخره، و«كُلٌّ» فاعل مرفوع، وعلامة رفعه الضَّمَّة الظَّاهرة على آخره، والتَّنوين عوضٌ عن اسم، أَيْ: كلُّ إنسان. وجملة (يَشغَلُ كُلُّ...) في محلِّ جرٍّ بالإضافة إلى (يوم).

* * *

نَستَعنُهُ

ص: 43


1- معجم مقاييس اللغة 3/ 151. وينظر: جمهرة اللغة: 1/ 488 ،والصحاح في اللغة: 1/ 360، والمحيط في اللغة، 1/ 393 ،ولسان العرب: 11 / 355،وتاج العروس : 1/ 7209
2- ينظر: القاموس المحيط: 3/ 116
3- مفردات ألفاظ القرآن: 457
4- ينظر: مطالب السؤول: 175 ، ومصباح المتهجّدين: 44،وكفاية الطالب: 55، ونهج السعادة في مستدرك نهج البلاغة: 2/ 82

أَعانك فهوعونك. والصَّوم عونٌ على العبادة، وتعاونوا أَيْ: أَعانَ بعضهم بعضاً(1) . وقد استعنتُه، واستعنتُ به فأَعانني «وَإِنَّماَ أُعِلَّ اسْتَعَانَ وَإِنْ لم يكن تْحتَهُ ثلاثيٌّ معتلٌّ، أَعني: أَنَّه لا يُقَال عان يعون كقام يقوم لأَنَّهُ وَإِنْ لم يُنْطق بثلاثيِّه فَإِنَّهُ فِی حكم الَمنْطُوق. وَعَلِيهِ جَاءَ أَعان يعین، وَقد شاع الإعال فِی هَذَا الأَصْل، فَلَماَّ اطَّرد الإعال فِی جَميع ذَلِك دلَّ أَنَّ ثلاثيَّهُ وَإِنْ لم يكن مُسْتَعْملا فَإِنَّهُ فِی حكم ذَلِك...»(2). والمستعان - اسم لله - تبارك وتعالى - «باعتبارأَنَّه لا يستعين أَحد غيره إلاَّ خاب عن مراده؛ فهو تعالى محلُّ الاستعانة لا غیره»(3) .

وممَّا تجدر الإشارة إليه - هنا - أَمران: الأَوَّل: أَنَّ أَمیر المؤمنین (عليه السلام) استعمل في كلامه السَّابق كلِّه في الأَفعال صيغة (الماضي)، وكنتُ قد أَشرتُ إلى أَنَّه (عليه السلام) استعمل صيغة (حَمدْتُ) بصيغة الماضي؛ لما في فعل المضيِّ من دلالة النَّفاذ في الأَمر، والفراغ منه، فهو أَمر نافذ، مفروغ منه، تمَّ وحصل قبل زمن التَّكلُّم(4) . أَمَّا في هذا الفعل وما بعده، وهو قوله (عليه السلام): «ونستعينُه، ونسترشدُه، ونستهديه، ونؤمن به، ونتوكَّل عليه» نجده (عليه السلام) قد استعمل صيغة المضارع؛ لما فيه من الدَّلالة على الحال والاستقبال(5)، والتَّجدُّد

ص: 44


1- ينظر: العین: 1/ 139 ،وتهذيب اللغة: 1/ 378، ومعجم مقاييس اللغة: 4/ 16و 120 ،والمحيط في اللغة: 1/ 124 ،والقاموس المحيط: 3/ 455، ولسان العرب: 13 / 298، وتاج العروس: 1/ 8116
2- المحكم والمحيط الأعظم: 1/ 333. وينظر: لسان العرب: 13 / 298 ،وتاج العروس: 1/ 8116
3- شرح الأسماء الحسنى: 81
4- ينظر:الفعل (حَمِدْتُ) من الكتاب
5- ينظر: الكتاب: 1/ 12 ، والمقتضب: 2/ 1، والإيضاح في علل النحو: 87 و 88 ، والجمل 8، وإصاح الخلل الواقع في الجمل: 21 ، والمفصل: 24 ، وشرح المفصل: 7/ 6، والإيضاح في شرح المفصّل: 2/ 5 و 6، وهمع الهوامع: 1/ 7، والفعل المضارع دلالته وعلّة إعرابه وبنائه (رسالة ماجستير): 50 - 52

والحدوث(1)، فيكون الفعل المضارع مناسباً لهذه الَأفعال؛ فالعبد يحتاج في كلِّ وقت ومكان إلى أَنْ يستعين بالله - تبارك وتعالى -، ويسترشده، ويستهديه ويؤمن به، ويتوكَّل عليه.

واللاَّفت للنَّظرأَنَّ أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) يعود بعد هذه الأَفعال المضارعة إلى صيغة الماضي، فيقول (عليه السلام): «وَشَهِدْتُ لَهُ شُهُوْدَ مُخلِصٍ مُوْقِنٍ.... وَوَحَّدْتُهُ وَشَهِدْتُ بِبِعْثَةِ مُحمَّدٍ عَبْدِهِ...»؛ لدلالة الفعل على المعنى المراد، فهو (عليه السلام) يستعمل كلَّ لفظ لما يوافق معناه، وبدقَّة متناهية.

والأَمر الثَّاني: أَنَّ أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) عدل - هنا - من صيغة المفرد في الأَفعال «حمدتُ... حمدتُه» إلى صيغة الجمع «ونستعينه، ونسترشدُه، ونستهديه، ونؤمنُ به، ونتوكَّلُ عليه»، والأَصل في لحوق النُّون في أَوَّل المضارع المسند إلى جماعةالمتكلِّمین للدَّلالة على أَنَّ الفعل صدر عن جماعة، ذكوراً كانوا أَم إناثاً، وقد وردت في استعمال آخر، وذلك إذا أُسند الفعل المضارع إلى المتكلِّم الفرد المعظِّم نفسَه(2)، وأَرى أَنَّ أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) عدل - هنا - من صيغة المفرد «حمدت... حمدته إلخ» إلى صيغة الجمع «نستعينه، ونسترشده إلخ»؛ لأَنَّ هذه الأَفعال بصيغة الجمع تتناسب مع معانيها أَنفسها؛ تعظيماً لها، من طلب الاستعانة، والرَّشاد، والهداية، والإيمان، والتوكُّل، ولا يريد أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) بصيغة الجمع تعظيم نفسه.

* * *

ص: 45


1- ينظر: معاني الأبنية في العربية: 24، والتعبر القرآني: 24، والالتفات في القرآن الكريم (أُطروح دكتوراه): 134
2- ينظر: ارتشاف الضرب: 1/ 99

نَستَرِشدُهُ

تدلُّ مادَّة «رَشَدَ» في اللُّغة على الاستقامة، والهداية، والدَّلالة والصَّلاح، وإصابة الصَّواب، وهي نقيض الغيِّ والضَّلال، جاء في الصِّحاح: «الرَّشاد خلاف الغيِّ، وقد رَشَدَ يَرشُدُ رُشداً، ورَشِدَ بالكسريَرْشَدُ رَشَداً لُغَةٌ فيه... والطَّريق الأَرْشَدُ: نحو الأَقْصد»(1) .

وقال صاحب القاموس المحيط: «رَشَدَ، كنصَرَ وفَرِح، رُشداً ورَشَداً ورشاداً: اهتدى، كاسترشد. واسترشد: طَلَبَهُ... والرُّشد: الاستقامة على طريق الحقِّ مع تصلُّب فيه. والرَّشيد في صفات الله تعالى: الهادي إلى سواء الصرِّاط، والَّذي حَسُنَ تقديرُه فيما قَدَّر»(2) ، والرَّشيد في أَسماء الله تعالى هو الَّذي أَرشدَ الخلق إلى مصالحهم، أَيْ: هداهم، ودلَّهم عليها، وقيل: هو الَّذي تنساق تدبيراته إلى غاياتها على سبيل السَّداد من غیر إشارة مستشیر ولا تسديد مسدِّد، واسترشده: طلب منه الرُّشد(3) .

وفرَّق أَبو هال العسكريّ بین (الهداية) و(الإرشاد) بقوله: «إنَّ الإِرْشَاد إلى الشيَّء هُوَ التَّطريق إليه، والتَّبین لَهُ. وَالْدَايَة هِيَ التَّمَكُّن من الْوُصُول إليه، وَقد جَاءَت الْهدَايَة للمهتدي فِی قَوْله تَعَالَی: (اهْدِنَا الصرِّاطَ الُمسْتَقِيمَ)(4)، فَذكر أَنَّهم دعوا بالهداية، وهم مهتدون لا محَالة، وَلم يجئ مثل ذَلِك فِی الإِرْشَاد، وَيُقَال أَيْضاً:

ص: 46


1- الصحاح في اللغة: 1/ 254. وينظر: العين 2/ 2، وجمهرة اللغة: 1/ 331
2- ينظر:القاموس المحيط: 1/ 277. وينظر: معجم مقاييس اللغة: 2/ 327، وتاج العروس: 1985/1
3- ينظر: لسان العرب: 3/ 175.وينظر: معجم مقاييس اللغة: 2/ 327،والقاموس المحيط: 1/ 277، وتاج العروس: 1/ 1985
4- الفاتحة: 6

هداه إِلَ الَمكْرُوه، كَماَ قَالَ الله تَعَالَی: (فَاهْدُوهُمْ إِلَی صِراطِ الَجحِيمِ)(1)، وَقَالَ تَعَالَ: (إِنَّكَ لَعَىَ هُدًى مُسْتَقِيمٍ)(2) ، وَالْدى الدَّلالَة، فَإِذا كَانَ مُسْتَقِيمًا فَهُوَ دلالَة إلى الصَّوَاب، والإيمان هدى؛ لأَنَّه دلالَة إلى الجنَّة، وَقد يُقال: الطَّرِيق هدى، وَلا يُقال: أَرشده إلاَّ إِلَی المحبوب...»(3) .

وورد هذا الفعل «رَشَدَ» في الخطبة مرَّةً واحدةً موافقاً دلالته اللُّغوية؛ إذ قال أَمیرالمؤمنین (عليه السلام): «ونسترشُدُهُ»، فهو على صيغة «استفعل»، الَّتي تدلُّ على الطَّلب - وهو أَشهر معانيها - ،والاتِّخاذ(4) ؛فأَمیر المؤمنین (عليه السلام) يطلب من الله تبارك وتعالى - الرَّشاد، ويتَّخذه مُرشداً، فهو- عَزَّوَجَلَّ - الرَّشيد الهادي إلى سواء الصرِّاط، والَّذي حَسُنَ تقديره فيما قَدَّر ويُقدِّر، ويُرشُد الخلق ما فيه مصلحتهم، وهدايتُهم، وتنساق تدبيراتُه إلى غاياتها على سبيل السَّداد؛ فهو المدبِّرُ الحكيم الخبیر.

و«نسترشُدُه» فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه الضَّمَّة الظَّاهرة على آخره، والفاعل ضمیر مستتر، تقديره (نحن) عائد إلى أَمیرالمؤمنین (عليه السلام)، والهاء ضمیر متَّصل مبنيٌّ في محلِّ نصب مفعول به، عائد إلى الله - تبارك وتعالى -.

وجملة (ونسترشدُه) معطوفة على جملة (ونستعينُه).

* * *

ص: 47


1- الصافات: 23
2- الحج:67
3- الفروق اللغوية: 172
4- ينظر: الفعل (نستعينه) من الكتاب

نستَهْدِيْه

تدلُّ مادَّة «هدي» في اللُّغة على البيان، والدَّلالة، والقصد، والطَّريق، والتَّقدُّم، والتَّوفيق. جاء في (العین): «الهُدى نقيض الضَّلالة. هُدِيَ فاهْتَدَى. والهادي من كلِّ شيءٍ: أَوَّلُهُ... وسُمِّيت العصا هادياً؛ لأَنَّ الرَّجل يُمْسِكُها فهي تَديه، تتقدَّمه.

والدَّليلُ يُسَمَّى هادياً، لتقدُّمهِ القومَ بهدايته. والهادي: العُنُق والرَّأْسُ... هَدَيْتُ لك، أَيْ: بَيَّنْتُ لك»(1) .والهدى: الرَّشاد، والدَّلالة: وهديتُه الطَّريقَ والبيتَ هداية، أَيْ:عرَّفته، وهي لغة أَهل الحجاز، وغيرهم يقول: هديتُه إلى الطريق، وإلى الدَّار(2) ،وغرَّة كلِّ شهر: هاديتها، وكلُّ شيء قاد شيئاً فهو هاديه(3) ، والهادي من أَسماء الله تعالى: هو الذي بصَرَّ عباده وعرَّفهم طريق معرفته حتَّى أُمروا بربوبيِّته، وهدى كلَّ مخلوق إلى ما لابُدَّ له منه في بقائه ودوام وجوده(4) .

وقال الرَّاغب: «وهداية الله تعالى للإنسان على أَربعة أَوجه: الأَوَّل: الهداية الَّتي عمَّ بجنسها كلَّ مكلَّف من العقل، والفطنة، والمعارف الضَّوريَّة الَّتي أَعمَّ منها كلَّ شيء بقدر فيه حسب احتماله... الثَّاني: الهداية الَّتي جعل للناس بدعائه إيَّاهم عى أَلسنة الأَنبياء، وإنزال القرآن... الثَّالث: التَّوفيق الذي يختصُّ به من اهتدى... الرَّابع: الهداية في الآخرة إلى الجنَّة... وهذه الهدايات الأَربع مترتِّبة، فإنَّ مَنْ لم تحصل له الأُولى لا تحصل له الثَّانية، بل لا يصحُّ تكليفه، ومَنْ لم تحصل له

ص: 48


1- العين: 1/ 278
2- ينظر: الصحاح في اللغة: 2/ 247.وينظر: تهذيب اللغة: 2/ 357، والمحكم والمحيط الأعظم: 217/2، والمصباح المنر: 10:115، والقاموس المحيط: 3/ 487
3- ينظر: المحيط في اللغة: 1/ 317
4- ينظر: لسان العرب: 15/ 353. وينظر: معجم مقاييس اللغة: 6/ 31، والقاموس المحيط: 1733/1، وتاج العروس: 1/ 8662

الثَّانية لا تحصل له الثَّالثة والرَّابعة، ومَنْ حصل له الرَّابع فقد حصل له الثَّلاث الَّتي قبلها، ومَنْ حصل له الثَّلالث فقد حصل له اللَّذان قبله، ثمَّ ينعكس، فقد تحصل الأُولى ولا يحصل له الثَّاني ولا يحصل الثَّالث، والإنسان لا يقدر أَنْ يهدي أَحداً إلاَّ بالدُّعاء وتعريف الطُّرق دون سائر أَنواع الهدايات...»(1) .

وتطابقت دلالة الفعل «هدي» في الخطبة مع دلالته اللُّغوية؛ إذ جاء الفعل «هدي» مرَّةً واحدةً في الخطبة؛ إذ قال أَمیرالمؤمنین (عليه السلام): «ونستهديهِ» ،أَيْ: نطلب البيان، والدَّلالة، والقصد، والتَّقدُّم، والتَّوفيق، و«نستهديه» على زنة (استفعل)، الَّتي تدلُّ على الطَّلب - وهو أَشهرها -، والاتِّخاذ(2)، وأَمیرالمؤمنین (عليه السلام) يطلب من الله - تبارك وتعالى - الهداية، ويتَّخذه هادياً؛ فهو الَّذي يصُبرِّعباده، ويعرِّفهم طريق معرفته حتى يقرُّوا بربوبيِّته، ويهدي كلَّ مخلوق إلى ما لابدَّ له منه في بقائه ودوام وجوده.

و (نَستهديه) فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه الضَّمَّة المقدَّرة على الياء؛ منع من ظهورها الثِّقل، والفاعل ضمیر مستتر فيه، تقديره (نحن) عائد إلى أَمیرالمؤمنین (عليه السلام)، والهاء ضمیر متَّصل مبنيٌّ في محلِّ نصب مفعول به، عائد إلى الله - تبارك وتعالى-. وجملة (ونستهديه) معطوفة على جملة (ونسترشده).

* * *

ص: 49


1- ينظر: مفردات ألفاظ القرآن: 835 و836
2- ينظر: الفعل (نستعينه) من الكتاب

نُومِنُ

تدلُّ مادَّة «آمَنَ» في اللُّغة على الإخلاص، والتَّصديق، والوثوق، والتَّسليم.

فالأَمانة نقيض الخيانة، والإيمان التَّصديق نفسه(1)، والإيمان: الإخلاص، يُقال: أَعطيته من آمَنِ مالي، أَيْ: من خالصه، وقيل، ناقة أَمُون، وهي الأَمينة الوثيقة، والإيمان مصدر آمَنَ يُؤمِنُ إيماناً، فهو مؤمن، ومعناهُ: التَّصديق، وهو اعتقاد وتصديق بالقلب، فإنْ قيل: آمَنْتُ بالله، فمعناه: صدَّقتُ، وهو خاف الكفر والنِّفاق، فهو اعتقاد بالتَّصديق بالقلب، والمؤمن من أَسماء الله - تعالى -، وقيل من صفاته، وهو الَّذي يصدق عباده ما وعدهم(2)، ويُقال: آمنتُ بالله إيماناً، أَيْ:أَسلمتُ له(3) . والإيمان ضدّ الكفر، والإيمان بمعنى التَّصديق ضدّه الكذب، ويُقال: آمن به قومٌ، وكذَّب به قومٌ، والإيمان الثِّقة، ورجلٌ أَمَنَةٌ للَّذي يُصدِّق كُلَّ ما يسمع، ولا يكذِّب بشيء، وإذا كان يطمئنُّ إلى كُلِّ أَحد، ويثق به، وآمن بالشيَّء صدَّق، والإيمان إظهار الخضوع والقبول بالشيَّء(4) .

والإيمان والمؤمن لفظان كانا يدلَّن في الجاهليَّة على التَّصديق، فكانا مستعملين بدلالتها اللُّغوية، وأَصبحا بعد الإسلام يُطلقان على الإيمان ضدّ الكفر، والمؤمن الَّذي هو غیر الكافر، فهما من الأَلفاظ الَّتي تطوَّرت في لغة القرآن، وصارت تُطلق على معانٍ غیر المعاني الَّتي كانت تدلُّ عليها(5) ، فالمؤمن في الإسلام مَنْ

ص: 50


1- ينظر: العين: 2/ 202. وينظر الصحاح في اللغة: 1/ 23، والمحيط في اللغة: 2/ 476
2- ينظر: تهذيب اللغة: 5/ 224
3- ينظر: المصباح المنير: 1/ 136
4- ينظر: لسان العرب: 13/ 21.وينظر: أساس البلاغة: 1/ 200،وتاج العروس: 1/ 7965
5- ينظر: تاريخ آداب العربية: 1/ 193 و194. وينظر: التطوّر اللغوي التاريخي: 50- 51، وعلم المفردات في إرثنا اللغوي: 137، وتاريخ آداب العرب: 1/ 208

آمن بالله ورسوله(1) .

وقال الرَّاغب: إنَّه يُطلق لفظ الإيمان، ويُراد به «إذعان النَّفس للحقِّ على سبيل التَّصديق، وذلك باجتماع ثلاثة أَشياء: تحقيق بالقلب، وإقرارٌ باللِّسان، وحمل بحسب ذلك بالجوارح.... ويقال لكلِّ واحد من الاعتقاد، والقول، والصِّدق، والعمل الصَّالح: إيمان...»(2) .

و«آمَنَ» أَصلها أَأْمَنَ على زنة «أَفْعَلَ»، توالت همزتان، وسكنت الثَّانية، فأُبدلت أَلفاً من جنس حركة الهمزة الأُولى، وهي الفتحة، ويُقال: آمَنَ يُؤمِنُ إيماناً(3) .وقد استُعمِلَ هذا الفعل «آمَنَ» مرَّةً واحدةً في الخطبة، مطابقاً دلالته اللُّغويَّة والاصطلاحيَّة؛ إذ قال أَمیر المؤمنین (عليه السلام): «وَنُؤْمِنُ بِهِ»، أَيْ: نخلص، ونصدِّق، ونثق، ونسلِّم - لله تبارك وتعالى -، ونؤمن به، وكيف لا وهو أَوَّل مؤمن بعد الرسول القائد محمَّد صَلىَّ اللهُ عَلِيهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ.

و (نؤمن) فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه الضَّمَّة الظَّاهرة على آخره،والفاعل ضمیرمستتر فيه وجوباً، تقديره (نحن) ،و(به) الباء حرف جرٍّ، والهاء ضمیر متَّصل مبنيٌّ على الكسر في محلِّ جرٍّ بحرف الجرِّ، وهو عائدٌ إلى الله - تبارك وتعالى - والجارُّ والمجرورمتعلِّقان بالفعل (نؤمن)، وجملة (نؤمن) بهمعطوفة على جملة (ونستهديه).

* * *

ص: 51


1- ينظر: دستور العلماء: 3/ 382
2- مفردات ألفاظ القرآن: 91 . وينظر: كشّاف اصطلاحات الفنون: 1/ 134
3- ينظر: الصرف الوافي: 258،ومحاضرات في علم الصرف: 200

نَتَوَكَّلُ

تدلُّ مادَّة «وَكَلَ» في اللُّغة على التَّسليم، والاكتفاء، والثِّقة، واللُّجوء، والانقياد.

جاء في معجم مقاييس اللُّغة: «وَكَلَ الواو والكاف والاَّم: أَصلٌ صحيحٌ يدلُّ على اعتادِ غیرِكَ في أَمرك... والتَّوكُّل منه، وهو إظهار العَجْز في الأَمر، والاعتادُ على غيرك»(1) .

وقال الرَّاغب: «التَّوْكِيلُ: أَنْ تعتمد على غیرك، وتجعله نائبا عنك... والتَّوَكُّلُ يقال على وجهین، يُقال: تَوَكَّلْتُ لفلان بمعنى: تولَّيتُ لهُ، ويُقال: وَكَّلْتُهُ فَتَوَكَّلَلي، وتَوَكَّلْتُ عليه بمعنى: اعتمدتُه....»(2) .

والمتوكِّلُ على الله الَّذي يعلم أَنَّ الله كافل رزقه وأَمره؛ فيركن إليه وحده، ولا يتوكَّل على غیره، ويُقال: وَكَلَ، وتَوَكَّلَ عَلَيْهِ، واتَّكَلَ استَسْلم إِليه، ووَكَلَ إِليه الأَمرَ: سلَّمه، ووَكَّلَ فلانٌ فُلاناً إِذا استَكْفاه أَمرَه؛ ثِقةً بكِفايتِه أَو عَجْزاً عَنِ القِيام بأَمر نَفْسِهِ(3) . والتوكُّل: هو إيكال الَأمر إلى الله عند ركوب الغمار، بعد دراسة الطَّريق، وهو بمنزلة طلب الشِّفاء من الله بعد رجوع المريض إلى الطَّبيب واستعمال الدَّواء، وهو الَّذي يستحسنه العقل(4) .ويعني الثِّقة بما عند الله، والاستغناء عمَّا في أَيدي النَّاس من المخلوقین(5) .

والوكيل في صفات الله تعالى هو الحافظ، والنَّاصر، والمعین، فهو اسم له -

ص: 52


1- معجم مقاييس اللغة: 6/ 136
2- مفردات ألفاظ القرآن: 882
3- ينظر: لسان العرب: 1/ 734.وينظر: النهاية في غريب الحديث والأثر: 5/ 496
4- ينظر: محمد في القرآن: 553
5- ينظر: محيط المحيط: 2/ 2283

تبارك وتعالى - باعتبار أَهليَّته لإسام الأُمور إليه(1). وفرَّق أَبو هال العسكريّ بین (الوكيل) في صفات الله - عَزَّ وَجَلَّ - وبينه في صفات العباد؛ إذ قال: «...أَنَّ الْوَكِيل فِی صِفَات الله بِمَعْنى المُتَوَلِّی الْقَائِم بتدبیر خلقه؛ لأَنَّهُ مَالكٌ لَهم، رَحِيم بهم، وَفِی صِفَات غَیره إِنّمَاَ يعْقد بِالتَّوْكِيلِ»(2)، فهو - عَزَّوَجَلَّ - وكيل الخلق من غیرعقد، فهو خالقهم ورازقهم.

وورد هذا الفعل «وَكَلَ» مرَّةً واحدةً في الخطبة للدَّلالة على معناه اللُّغوي؛ إذ قال أَمیرالمؤمنین (عليه السلام): «وَنَتَوَكَّلُ عليهِ»، أَي: نُسلِّمُ له، ونكتفي، ونثق به، ونلجأُ وننقاد إليه، فهو الحيُّ القيُّوم، وربُّ كلِّ شيء ومليكه، ومَنْ يتوكَّل عليه، فإنَّه مكفول الأَمر كلّه، فا يخاف من أَنْ يفوته شيء في الدُّنيا والآخرة، فهو القادرالَّذي لا يعجزه شيء، والعزيز الَّذي لا يغلبه أَحد، ولا يمتنع عليه شيء تشاؤه مشيئتُه - تبارك وتعالى - بمقتى حكمته، وبيده الأَمر كلُّه(3) .

و (نتوكَّل) فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه الضَّمَّة الظَّاهرة على آخره، والفاعل ضمیرمستتر فيه وجوباً، تقديره (نحن)، و(عليه) على: حرف جرٍّ، والهاء: ضمیر متَّصل مبنيٌّ على الكشر في محلِّ جرٍّ بحرف الجرِّ، وهو عائدٌ إلى الله - تبارك وتعالى - والجارُّ والمجرورمتعلِّقان بالفعل (نتوكَّل)، وجملة (ونتوكَّل عليه) معطوفة على جملة (ونؤمن به).

* * *

ص: 53


1- ينظر: شرح الأسماء الحسنى: 103
2- الفروق اللغوية: 70
3- ينظر:مطالب السؤول: 175، وكنز العمال: 8/ 221، ونهج السعادة في مستدرك نهج البلاغة: 82/2

شهِدْتُ،;َشهِدْتُ،فَشهِدَتْ

تدلُّ مادَّة «شَهِدَ» في اللُّغة على الحضور، والعلم بالأَمر، والتَّبیين. قال ابن فارس: «الشَّین والهاء والدَّال أَصلٌ يدلُّ على حضور وعلم وإعلام، لا يخرُج شيءٌ من فروعه عن الَّذي ذكرناه. من ذلك الشَّهادة، يجمع الأُصولَ الَّتي ذكرناها من الحضور، والعلم، والإعلام.يقال شَهد يَشْهَدُ شَهَادَةً. والمَشهد: محضر النَّاس...

وشَهِدَ فلانٌ عند القاضي، إذا ببنَّ وأَعلَمَ لمن الحقُّ، وعلى مَنْ هو»(1) .

وقال الرَّاغب: «الشُّهُودُ والشَّهَادَةُ: الحضور مع المشاهدة، إمَّا بالبصر، أَو بالبصیرة... والشَّهَادَةُ: قول صادرعن علمٍ حَصَلَ بمشاهدة بصیرة أَو بصر..»(2) .

والشَّهيد من أَساء الله - تبارك وتعالى - الأَمين في شهادته، وقيل: الشَّهيد الَّذي لا يغيب عن علمه شيء، والشَّهيد الحاضر(3)، والشَّهيد على زنة (فعيل)، وهو من أَبنية المبالغة من (فاعل)(4)، والشَّهيد بمعنى الشَّاهد، كما أَنَّ العليم بمعنى العالم، والرَّحيم بمعنى الرَّاحم، والشَّاهد خلاف الغائب، فالشَّهيد هو الشَّاهد الَّذي يَشهَدُ بما عاين وحضر(5) ،والشَّاهد: اسم لله - جلَّ وعلا - باعتبار فعليَّة تلك الصِّفة بالنِّسبة إلى كُلِّ موجود(6) .

ص: 54


1- معجم مقاييس اللغة 3/ 221
2- مفردات ألفاظ القرآن: 465
3- ينظر: لسان العرب: 3/ 238 و 239،وتاج العروس: 8/ 238 و239
4- ينظر: تاج العروس: 8/ 239
5- ينظر: اشتقاق أسماء الله: 132
6- ينظر: شرح الأسماء الحسنى: 70

وقيل: ما «كان حاضراً في قلب الإنسان، وغلب عليه ذكره؛ فإنْ كان الغالب عليه العلم، فهو شاهد العلم، وإنْ كان الغالب عليه الحقّ، فهو شاهد الحقِّ»(1) .

وورد هذا الفعل «شَهِدَ» في الخطبة ثلاث مرَّات، ورد في المرَّة الأُولى ماضياً مبنيَّاً على السُّكون؛ لاتِّصاله بضمیر رفع متحرِّك، أُسندَ إليه، عائدٌ إلى أَمیرالمؤمنین (عليه السلام)، إذ قال: «وَشَهِدْتُ لَهُ شُهُودَ مُخلِصٍ مُوْقِنٍ»، فشهادة أَمیر المؤمنین (عليه السلام) قول صادر عن علم حصل بمشاهدة بصیروبصیرة، شهادة بربوبيَّة الله - تبارك وتعالى -،شهادة مخلص موقن بهذا القول.

وورد في المرَّة الثَّانية - أَيضاً - مبنيَّاً على السُّكون؛ لاتِّصاله بضمیر رفع متحرِّك، أُسندَ إليه عائد إلى أَمیرالمؤمنین (عليه السلام)، مُقِرَّاً فيها أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) ببعثة النبيِّ الأَكرم - صَلىَّ اللهُ عَلِيهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ -، إذ قال (عليه السلام): «وشَهِدْتُ ببعْثَةِ مُحمَّدٍ عَبْدِهِ، ورَسُوْلِه، وَصَفِيِّهِ، وحَبِيْبِهِ، وَخَلِيْلِهِ، بَعَثَهُ فِی خَیرْ عَصرْ، وفي حینِ فَترْةٍ وَكُفْر؛ رَحْمةً لِعَبِيْدِهِ، وَمِنَّةً لِمزِيْدِهِ، خَتَمَ بِهِ نُبُوَّتَهُ، وَقَوَّى بِهِ حُجَّتَهُ».

أَمَّا في المرَّة الثَّالثة، فورد مبنيَّاً على الفتح، متَّصلاً بتاء التَّأنيث السَّاكنة؛ إذ قال أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) في بيان حال الإنسان يوم القيامة، يوم تشهد عليه جوارحه بما ارتكب من معاصٍ، وذنوب، وآثام: «فَيُنْشرَ مِنْ قَبرْهِ حِین ْيُنْفَخُ فِی صُوْرٍ... فَشَهِدَتْ عَيْنُهُ بِنَظَرِهِ، ويَدُهُ بِبَطْشِهِ، وَرِجْلُهُ بِخَطوِهِ، وجِلدُهُ بِمَسِّهِ، وفَرْجُهُ بِلَمْسِهِ»، وفيه تضمن لقوله - تعالى -: (وَيَوْمَ يُحشرَ أَعْدَاءُ اللَّه إِلَی النَّارِفَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِماَ كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالُوا لُجلُودِهِمْ لِهم شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللُّه الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ

ص: 55


1- التعريفات:164

شَیءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)(1) .

و «فَشَهِدَتْ عَيْنُهُ بِنَظَرِهِ» (شهدت): فعل ماضٍ مبنيٌّ على الفتح، والتَّاء تاء التَّأْنيث السَّاكنة، و(عينُهُ) فاعل مرفوع، وعلامة رفعه الضَّمَّة الظَّاهرة على آخره، وهو مضاف، والهاء ضمیر متَّصل مبنيٌّ في محلِّ جرٍّ بالإضافة، و(بنظره) الباء:

حرف جرٍّ، و(نظره): اسم مجرور، وعلامة جرِّه الكسرة الظَّاهرة على آخره، والهاء ضمیر متَّصل مبنيٌّ في محلِّ جرٍّ بالإضافة، وجملة (فَشَهِدَتْ عَيْنُهُ بِنَظَرِهِ) معطوفة على جملة (فَيُنشرُ من قَبرْهِ حینَ يُنْفَخُ في صُوْرٍ).

* * *

فَرَّدْتُهُ

الفرد: ما كان وحده، يُقال: فَرَدَ يَفرُدُ، وانفرد انفراداً، وأَفردته: جعلته واحداً، والله الفرد: تفرَّد بالرُّبوبية والأَمر دون خلقه(2)، وقيل: إنّمَا وُصِفَ الله - عَزَّ وَجَلَّ - بالفرديَّة؛ «لأَنَّه لا يختلط بالأَشياء ولا يمازجها، بل هو مستغنٍ عنها... وهوجلَّ وعزَّ لا يقال له موافق، ولا مخالف لها في جوهر ولا طبيعة ولا قوَّة؛ لأَنَّه خالق الجوهر والطَّبيعة والقوَّة، فهو لا متَّصل ولا منفصل عنها، والاتِّصال يدلُّ على الانفصال، ظهر لنا لا يتَّصل ولا ينفصل، بل هو الفرد الخالق لكلِّ ما نالته العقول من هذا العالم، فالفرد اسم في أَسمائه، والزَّوج من أَسماء المخلوقین»(3)، والفَرْدُ:الوِترُ، وتفرَّدْتُ بكذا، إذا انفردتَ به(4) ، وفَرَدَ بالَأمر فهو فَرْدٌ به، وفَرِدَ

ص: 56


1- فصلت:19- 21
2- ينظر: العين: 2/ 115
3- ينظر: الزينة في الكلمات الإسلامية: 2/ 46 - 47
4- ينظر: الصحاح في اللغة: 2/ 37

فهو فَرِدٌ به وفَارِدٌ ومُفرِدٌ، وتفرَّد: يذهب وحده(1)، والفَرْدُ هو الله تعالى، وهو الواحد الأَحد الذي لا نظیر له ولا مثل ولا ثاني(2) .

وورد هذا الفعل «فرد» مرَّةً واحدةً في الخطبة على زنة «فَعَّلَ»؛ إذ قال أَمیرالمؤمنین (عليه السلام): «وَفرَّدْتُهُ تَفْرِيْدَ مُؤْمِنٍ مُتْقِنٍ». وزنة «فَعَّلَ» مزيد بتضعيف العین، له معانٍ كثرة، ذكرها العلماء(3)، منها المبالغة والتَّكثیر(4)، وهو -أَشهرها-، ويدلُّ على تكريرالفعل، وكثرة القيام به، وكلا المعنيین واردٌ في قول أَمیرالمؤمنین (عليه السلام)، أَعني: المبالغة والتَّكثیر، والجعل؛ فأَمیرالمؤمنین (عليه السلام) يُريد أَنْ يقول: إنَّه يجعل الله - تبارك وتعالى - فرداً واحداً، وإنَّما يقع هذا الفعل منه شيئاً بعد شيء، على تطاول من الزَّمان، فهو (عليه السلام) يُفرِّدُه تفريدَ مؤمِنٍ به، مُتقنٍ له.

و«فَرَّدْتُه» فعل ماضٍ مبنيٌّ على السُّكون؛ لاتِّصاله بضمیررفع متحرِّك وهو التَّاء،والتَّاء ضمیر متَّصل مبنيٌّ في محلِّ رفع فاعل، عائد إلى أَمیرالمؤمنین (عليه السلام)، والهاء ضمیر متَّصل مبنيٌّ في محلِّ نصب مفعول به، عائد إلى الله - جلَّ وعزَّ-، وجملة (وفرَّدته) معطوفة على جملة (وشهدت له شهود مخلص موقن).

* * *

ص: 57


1- ينظر: المحيط في اللغة: 2/ 343
2- ينظر: تهذيب اللغة: 4/ 448، ولسان العرب: 3/ 331، والقاموس المحيط: 1/ 390، وتاج العروس: 1/ 2166 - 2169
3- ينظر: ديوان الأدب: 2/ 380، والمفصل: 372 - 373، وشرح الشافية: 1/ 92
4- ينظر: أدب الكاتب: 354، وشرح الشافية: 1:/ 92، وشذا العرف في فن الصرف: 21، وأوزان الفعل ومعانيها: 82

وَحَّدْتُهُ

تدلُّ مادَّة «وحد» في اللُّغة على التَّفرُّد، يُقال: رجلٌ أَحدٌ ووَحَدٌ ووَحِدٌ ووَحْدٌ ووَحِيدٌ ومُتَوَحِّد، أَيْ: مُنْفَرِدٌ، والأُنثى وَحِدةٌ. وَرَجُلٌ وحِيدٌ: لا أَحَدَ مَعَهُ يُؤنِسُه، وَتَقُولُ: بَقِيتُ وَحيداً فَريداً حَريداً بِمَعْنًى وَاحِداً، وَلا يُقال: بَقِيتُ أَوْحَدَ، وأَنت تُرِيدُ فَرْداً، وَقولهم: كَانَ رَجُاً مُتوحِّداً، أَي: مُنْفرداً لا يُالِط النَّاسَ وَلا يُجالِسُهم(1) .

وقال الرَّاغب: «الوحدة: الانفراد، والواحد في الحقيقة هو الشيَّء الَّذي لا جزء له البتَّة، ثُمَّ يُطلق على كلِّ موجود حتَّى إنَّه ما من عدد إلاَّ ويصحُّ أَنْ يوصف به، فيُقال: عشرة واحدة، ومائة واحدة، وأَلفٌ واحدٌ... والوَحَدُ: المفردُ، ويوصفُ غیرُ الله تعالى، كقول الشَّاعر(2) :

عَلَی مُسْتَأْنِسٍ وَحِدِ»(3) .

والواحد من صفات الله تعالى؛ فهو المتفرِّد بالوحدانيَّة، والمختصُّ بها، فلم يُشركه في هذا الاسم شيءٌ من الأَعداد(4)، فلا قديم سواه، ولا إله سواه، فهو واحدٌ من حيث إنَّه ليس له شريك فيجري عليه حُكم العدد، وتبطل به وحدانيَّته، وذاتُه ذاتٌ لا يجوز عليه التَّكثُّر بغیره، والإشارة فيه إلى أَنَّه ليس بجوهر ولا عرض؛ لأَنَّ

ص: 58


1- ينظر: الصحاح في اللغة: 2/ 69
2- البيت للنابغة، ينظر: ديوانه: 31، وتمام البيت: كأنّ رحلي وقد زال النهارُ بنا يوم الجليل على مستأنس وحد
3- مفردات ألفاظ القرآن: 857 و 858
4- ينظر: الزينة في الكلمات الإسلامية: 2/ 47

الجوهر قد يتكثَّر بالانضمام إلى جوهر مثله،ويتركَّب منها جسم(1)، والواحد من صفات الله تعالى، ومعناه: أَنَّه لا ثاني، ويجوز أَنْ ينعت الشيَّء بأَنَّه واحد؛ فأَمَّا «أَحد» فا ينعت به غیر الله؛ لخلوص هذا الاسم الشَّيف له جلَّ ثناؤه، فقول: أَحَّدْتُ الله تعالى: ووحَّدتُه، وهو الواحد الأَحد، والَأحد بمعنى واحد(2)، وهو في الأَصل وحد(3) .

وفَصَّل أَبو هال العسكريّ في التَّفريق ببن (الواحد)، و(الأَحد)، إذ قال:«الواحد: الفرد الَّذي لم يزل وحده، ولم يكن معه آخر. والأَحد: الفرد الَّذي لا يتجزَّأُ، ولا يقبل الانقسام. فالواحد: هو المتفرِّد بالذَّات في عدم المثل. والأَحد:

المتفرِّد بالمعنى. وقيل المراد بالواحد: نفي التَّركيب والأَجزاء الخارجيَّة والذِّهنيَّة عنه تعالى، وبالأَحد: نفي الشَّريك عنه في ذاته وصفاته. وقيل: الواحديَّة: لنفي المشاركة في الصِّفات، والأَحديَّة لتفرُّد الذَّات. ولمَّا لم ينفك عن شأنه تعالى أَحدهما عن الآخر قيل: الواحد والأَحد في حكم اسم واحد. وقد يُفرَّق بينهما في الاستعمال في وجوه: اَحدها: أَنَّ الواحد يستعمل وصفا مطلقاً، والأَحد يختصُّ بوصف الله تعالى نحو: (قُلْ هُوَ اللَّه أَحَدٌ)(4) . الثَّاني: أَنَّ الواحد أَعمُّ مورداً؛ لَأنَّه يُطلق على مَنْ يعقل وغیره، والأَحد لا يطلق إلاَّ على مَنْ يعقل. الثَّالث: أَنَّ الواحد يجوز أنْ يُعل له ثانٍ؛ لأَنَّه لا يستوعب جنسه بخاف الأَحد،أَلا ترى أَنَّك لو قلت:فلانٌ لا يقاومه واحد، جاز أَنْ يقاومه اثنان، ولا أَكثر. الرَّابع: أَنَّ الواحد يدخل فيالحساب، والضرَّب، والعدد، والقسمة. والأَحد يمتنع دخوله في ذلك. الخامس:

ص: 59


1- ينظر: الأسماء والصفات: 14 و 15
2- ينظر: لسان العرب: 3/ 70
3- ينظر: كشّاف اصطلاحات الفنون: 1/ 91
4- الإخلاص: 1

أَنَّ الواحد يؤنَّث بالتَّاء، والأَحد يستوي فيه المذكَّر والمؤنَّث، قال تعالى: (كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ)(1)، ولا يجوز: كواحد من النِّساء، بل: كواحدة. السَّادس: أَنَّ الواحد لا يصلح للإقرار والجمع، بخلاف الأَحد فإنَّه يصلح لهما؛ ولهذا وصف بالجمع قوله تعالى: (مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ)(2) .السَّابع: أَنَّ الواحد لا جمع له من لفظه، وهو أَحدون، وآحاد»(3) .

وقيل: إنَّ الفرق بین الواحد والأَحد: «إنَّ الأَحد شيءٌ بُني لنفي ما يُذكرمعه من العدد، والواحد اسم لمفتتح العدد، وأَحَدٌ يصلح في الكلام في موضع الجحود، وواحدٌ في موضع الإثبات، يُقال: ما أَتاني منهم أَحدٌ، فمعناه: لا واحد أَتاني ولا اثنان، وإذا قلت: جاءني منهم واحد، فمعناه: أَنَّه لم يأتني منهم اثنان، فهذا حدُّ الأَحد ما لم يُضف، فإذا أُضيف قَرُبَ من معنى الواحد، وذلك أَنَّك تقول: قال أَحد الثَّلاثة كذا وكذا، وأَنت تُريد واحداً من الثَّلاثة، والواحد بُني على انقطاع النَّظیر، وعزو المِثْل والوحيد بُني على الوحدة والانفراد عن الأَصحاب من طريق بينونته عنهم»(4)، فالَأحديَّة الإلهيَّة تعني أَنَّ الله واحد لا ثاني له في الرُّبوبية، ولا يُراد بها الوحدة العارضة؛ لأَنَّ الله تعالى أَحديّ الذَّات والصِّفات، لا تركيب له في ذاته ولا وراء ذاته(5)، فالله - سبحانه وتعالى واحد في ذاته وصفاته، ولا شريك له في وجوده، ولا في أَفعاله(6) .

ص: 60


1- الأحزاب: 32
2- الحاقة: 47
3- الفروق اللغوية: 95
4- ينظر: تاج العروس: 1/ 2223 و2224
5- ينظر: شرح الأسماء الحسنى: 75
6- ينظر: رسالة التوحيد: 57 و58

وورد هذا الفعل «وحد» مرَّة واحدةً في الخطبة على زنة «فَعَّلَ»مطابقاً دلالته اللُّغوية؛ إذ قال أَمیرالمؤمنین (عليه السلام): «وَوَحَّدْتُهُ تَوْحِيْدَ عَبْدٍ مُذْعِنٍ، لَيْسَ لَهُ شَريْكٌ فِی مُلْكِهِ وَلَم يَكُنْ لَهُ وَليٌّ فِی صُنْعِهِ، جَلَّ عَنْ مُشِیرْ وَوَزِيْرٍ، وَتَنَزَّهَ عَنْ مِثْلٍ وَنَظِیرْ»، ومن معاني زنة «فَعَّلَ» الجعل(1) ،فأَمیرالمؤمنین (عليه السلام) جعل الله - تبارك وتعالى - واحداً، توحيد عبد مذعن، لا ثاني له بالرُّبوبيَّة، فهو - جلَّ وعلا- واحد في ذاته وصفاته، لا شريك له في وجوده، ولا في أَفعاله(2) ،و«ووَحَّدْتُه» فعل ماضٍ مبنيٌّ على السُّكون؛ لاتِّصاله بضمیر رفع متحرِّك، وهو التَّاء، والتَّاء ضمیر متَّصل مبنيٌّ في محل رفع فاعل، عائد إلى أَمیرالمؤمنین (عليه السلام)، والهاء ضمیر متَّصل مبنيٌّ في محلِّ نصب مفعول به، عائد إلى الله - تبارك وتعالى-. وجملة (ووَحَّدْتُهُ) عطوفة على جملة (وفَرَّدْتُهُ).

* * *

لَيْسَ

جاء في العین: «ليس: كلمة جحود، قال الخليل: معناه: لا أَيس، فَطُرِحت الهمزة، وأُلزقت اللاَّم بالياء، ودليله: قول العرب: ائتني به من حيث أَيس وليس، ومعناه: من حيث هو، ولا هو»(3) .

وقال الأَزهريّ: «وَقد صَفوا لَيْسَ تصريفَ الْفِعْل الَماضِی فثَّنَوْا وجَمعوا وأَنَّثوا، فَقَالُوا: لَيْس ولَيْسَا ولَيْسُوا، ولَيْسَت المرأَةُ ولَسْنَ، وَلم يُصرِّفوها فِی الُمسْتَقْبل، وَقَالُوا:

ص: 61


1- ينظر: الفعل (فَرَّدتُهُ) من الكتاب
2- ينظر: بحار الأنوار: 38/ 160
3- العين 2/ 73 .وينظر: جمهرة اللغة: 1/ 481

لَسْتُ أَفعَل، ولَسْنا نَفْعل»(1).

وبهذا المعنى - أَيْ: النَّفي - أَورد أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) هذا الفعل «ليس» في الخطبة في مواضع خمسة. جاء به أَمیر المؤمنین (عليه السلام) في المواضع الثَّاثة الأُولى في مقام تمجيد الله - تبارك وتعالى -، وتعظيمه ببيان صفاته وأَفعاله - عَزَّ وَجَلَّ؛ إذ قال (عليه السلام) في الموضع الأَوَّل: «ليس له شريك».

وقال في الموضع الثَّاني: «ليس كمثله شيء». وهو اقتباس من قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَیْءٌ)(2) .

وقال في الموضع الثَّالث: «ليس يدركه بصر» - وسيأْتي الكلام على الفعل يدركه -.

أَمَّا في الموضعن الرَّابع والخامس، فجاء به أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) في مقام بيان النَّعيم الَّذي يلقاه مَنْ زحزح عن تعذيب ربِّه؛ إذ قال (عليه السلام) في أَحدهما: «ليس يَصَّدع».

وقال في الآخر: «ليس ينزف». وسيأْتي بيانهما - إنْ شاء الله تعالى -.

* * *

ص: 62


1- تهذيب اللغة: 4/ 322. وينظر: الصحاح في اللغة: 2/ 155، ولسان العرب: 6/ 210، والمصباح المنیر: 8 / 358، ومعجم الأفعال الجامدة: 85 - 91
2- الشورى: 11

يَكُنْ،وَلْتَكُنْ

قال ابن فارس: «الكاف والواو والنُّون أَصلٌ يدلُّ على الإخبارعن حدوث شيء، إمَّا في زمانٍ ماضٍ،أَو زمان راهن»(1) .

وقال الرَّاغب: «كان: عبارة عماَّ مضى من الزَّمان، وفي كثیر من وصف الله تعالى تُنبئ عن معنى الأَزليَّة، قال: (وَكانَ اللُّه بِكُلِّ شَیءٍ عَلِيماً) [الأَحزاب/40]... وما استُعمل منه في جنس الشيَّء متعلِّقاً بوصف له هو موجود فيه فتنبيهٌ على أَنَّ ذلك الوصف لازمٌ له، قليل الانفكاك منه. نحو قوله في الإنسان: (وَكانَ الإِنْسانُ كَفُوراً) [الإسراء/67]... فذلك تنبيهٌ على أَنَّ ذلك الوصف لازمٌ له قليل الانفكاك منه...»(2) .والكون: الحدث، وقد كان يكون كَوْناً وكينونةً، والكائنة: الحادثة:

وكوَّن اللهُ الأَشياء: أَوْجَدَهَا. وكوَّنَهُ فتكوَّنَ، و«كان» ترفع الاسم وتنصب الخبر، والمصدر الكون الكِيان والكينونة. وتكون «كان» زائدة، وتامَّة بمعنى «ثبت»، كان الله، ولا شيء معه، وبمعنى «حدث»: إذا كان الشِّتاء، فأَدفئوني(3)، والكائن اسم لله تعالى «باعتبار قيامه بذاته، لا بالوجود الطَّارد للعدم، وإنَّما الوجود اسم من أَسمائه به قوام كلِّ موجود، وبه يكون»(4).

وورد هذا الفعل «كان» في الخطبة مرَّتین مطابقاً دلالته اللُّغوية، ذكره أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) في المرَّة الأُولى في مقام تمجيد الله - تبارك وتعالى -، وبيان صفاته - عَزَّ وَجَلَّ - وأَنَّه مُتصرِّف بالخلق، كيف يشاء ومتى يشاء، فهو الفرد

ص: 63


1- معجم مقاييس اللغة 5/ 148
2- مفردات ألفاظ القرآن: 730
3- ينظر: لسان العرب: 13/ 366
4- اشتقاق أسماء الله: 13

الأَحد، لا شريك له في ملكه؛ إذ قال (عليه السلام): «وشَهِدْتُ لَهُ شُهُودَ مُخلِصٍ مُوْقِنٍ، وَفَرَّدْتُهُ تفْرِيدَ مُؤْمِنٍ مُتْقِنٍ، وَوَحَّدتُهُ تَوْحِيدَ عَبْدٍ مُذْعِنٍ، لَيسَ لَهُ شَريْكٌ في مُلْكِهِ، ولَم يَكُنْ لَهُ وَلِّم في صُنْعِهِ».و«كان» - هنا - فعل مضارع مجزوم لدخول «لم» الجازمة عليه، وعلامة جزمه السُّكون، وإذا جُزِمَ الفعل المضارع من «كان» قيل:لم يَكُنْ، والأَصل: يَكُونُ، فحذفَ الجازمُ الضَّمَّةَ الَّتي على النُّون، فالتقى ساكنان «الواو، والنُّون»؛ فحُذف الواو لالتقاء السَّاكنين؛ فصاراللَّفظ «لم يَكُنْ» (1)، واسم «كان» هو «وليٌّ» مرفوع، وعلامة رفعه الضَّمَّة الظَّاهرة على آخره، و«لَهُ» اللاّم حرف جرٍّ، والهاء ضمیر متَّصل مبنيٌّ في محلِّ جرٍّ بحرف الجرِّ، والجارُّ والمجرور إمَّا أَنْ يكون متعلِّقاً بخیر محذوف - خبر كان - تقديره «كائن»أَو

«استقرَّ»، أَو أَنَّه خبر«كان»، فهو قسم برأْسه، وليس من قبيل المفرد، ولا من قبيل الجملة(2).

أَمَّا المرَّة الثَّانية الَّتي ورد فيها الفعل «كان»، ففي مقام وصيَّة أَمیر المؤمنین (عليه السلام) معرمَنْ كان حاضراً في وقت إلقاء الخطبة بتقوى الله - تبارك وتعالى -، وتذكُّرِ سُنَّةِ النَّبيِّ الأَعظم - صَلىَّ اللهُ عَلِيهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ، والتَّحذير من يوم القيامة؛ إذ قال(عليه السلام):«وَصَيْتُكُم مَعْشرَ مَنْ حَضرَنِی:تَقْوَى رَبِّكُم، وَذَكَّرتُكُم بِسُنَّةِ نَبِيِّكُم... وَلْتَكُنْ مَسْألَتُكُم مَسْأَلةَ ذُلٍّ وَخُضُوْعٍ، وَشُكْرٍوَخُشُوْعٍ، وَتَوْبَةٍ وَنُزُوْعٍ، وَنَدَمٍ وَرُجُوعٍ».

و«ولتَكُنْ» فعل مضارع مجزوم بام الأَمر، وعلامة جزمه السُّكون، «مسألتكم» اسم «كان» مرفوع، وعلامة رفعه الضَّمَّة الظَّاهرة على آخره، وهو مضاف و«كم» ضمیر متَّصل مبنيٌّ في محلِّ جرٍّ بالإضافة،و«مسألة» خبر«كان» منصوب، وعلامة

ص: 64


1- ينظر: أوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك: 1/ 268 و269، ومنهج السالك إلى ألفية ابن مالك: 442/1
2- ينظر: شرح ابن عقيل: 1/ 211،وحاشية الخضري: 1/ 96

نصبه الفتحة الظَّاهرة على آخره، وهو مضاف، و

«ذُلٍّ» مضاف إليه مجرور، وعلامة جرِّه الكسرة الظَّاهرة على آخره، و«خضوع» الواو حرف عطف، و«خضوع» معطوف مجرور وعلامة جرِّه الكسرة الظَّاهرة على آخره.

* * *

جَلَّ

تدلُّ مادَّة «جَلَّ» في اللُّغة على الإكبار، والتَّجليل، والتَّرفُّع، والتَّعظيم. وقال الرَّاغب: «الجلالة: عِظَمُ القدر، والجَال بغیر الهاء: التَّناهي في ذلك، وخُصَّ بوصف الله تعالى، فقيل: (ذُو الَجلالِ وَالإِكْرامِ) [الرحمن/27]، ولم يستعمل في غیره، والجليل: العظيم القدر. ووصفُه تعالى بذلك إمَّا لخلقه الأَشياء العظيمة المستدلِّ بها عليه، أَو لأَنَّه يجلُّ عن الإحاطة به؛ أَو لأَنَّه يجلُّ أَنْ يُدرك بالحواسِّ...

والجَلَل: كلُّ شيء عظيم»(1) .

وقال القرطبيّ: «الجال عظمة الله وكبرياؤه واستحقاقه صفات المدح، يُقال: جَلَّ الشيء: عَظُمَ، وأَجللتُه أَيْ: عَظَّمتُه، والجلال اسم من جلَّ»(2) .

ويُقال: جَلَّ الشيَّءُ يَجلُّ جَلالاً وجَلالةً، وَهُوَ جَلٌّ وجَلِيلٌ:عَظُم، والأُنثى جَلِيلة وجُلالة. وأَجَلَّه: عَظَّمه، يُقال: جَلَّ فُانٌ فِی عَيني، أَيْ: عَظُم، وأَجْلَلته رأَيته جَلِيلاً نَبيلاً، وأَجْلَلْتُه فِی الَمرْتَبَةِ، وأَجْلَلْتُه، أَيْ: عَظَّمته(3) ، وجُلُّ الشيَّء

ص: 65


1- مفردات ألفاظ القرآن: 198
2- الجامع لأحكام القرآن: 17/ 144. وينظر: فتح القدير: 5/ 193
3- ينظر: لسان العرب: 11/ 116

وجُلالُه بضمِّها: مُعظمُه(1) .

وجاء هذا الفعل «جَلَّ» في الخطبة مرَّةً واحدةً مطابقاً دلالته اللُّغوية، أَورده أَمیرُالمؤمنین (عليه السلام) في مقام تمجيد الله - تبارك وتعالى -، وتعظيمه؛ إذ قال (عليه السلام): «جَلَّ عَنْ مُشِیرْ وَوَزِيْرٍ»؛ أَيْ: أَنَّه - تبارك وتعالى -، أَعظم، وأَكبر، وأَرفع من أَنْ يتَّخذ مُستشاراً، أَو وزيراً في حكمه؛ فهو الفرد الصمد؛ الذي لا يحتاج إلى أَحد من خلقه، والخلق كلُّهم محتاجون إليه؛ قال - عزَّ من قائل -: (يَا أَيُّها النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إلى اللِّه وَاللُّه هُوَ الْغَنِيُّ الَحمِيدُ)(2) .

و«جَلَّ» فعل ماضٍ، مضارعه «يَجلُّ»؛ إذ الأَصل فيه: «جَلَلَ»، عُلَّ فيه بإدغام اللاَّم الأُولى في الثَّانية؛ لعدم جوازاجتماع حرفین متجانسین(3) .

و«جَلَّ» فعل ماضٍ مبنيٌّ على الفتح، والفاعل ضمیر مستتر، تقديره (هو) عائد إلى الله - عَزَّ وَجَلَّ -.

ص: 66


1- ينظر: تاج العروس: 1/ 6936
2- فاطر: 15
3- ينظر: الكتاب: 4/ 467، والكشف عن وجوه القراءات السبع وعللها وحججها: 1/ 134، ومشكل إعراب القرآن: 1/ 74، وأسرار العربية: 418 وشرح الشافية (للرضي): 1/ 25 - 29، والدراسات الصوتية عند علاء التجويد: 391، وأبو عثان المازني ومذهبه في الرف والنحو: 151، والإدغام في العربية (أُطروحة دكتوراه): 333 ،والعلة الصرفية وموقعها في الدرس اللغوي الحديث(أطروحة دكتوراه): 41 و 42

تَنَزَّهَ

تدلُّ مادَّة «نزه» في اللُّغة على البعد. فالتَّنزُّه: التَّباعد، والاسم: النُّزهة، ومكانٌ نَزِهٌ ونَزِيهٌ، وَقد نَزِهَ نَزاهةً ونَزاهِيَةً، وَقد نَزَهتِ الأَرضُ، وَأَرْض نَزَهةٌ: بعيدَة عذبة نائية من الأَنداء، والمياه، والعمق(1) .

وقال ابن الأَثیر: «أَصْلُ النَّزْهِ: البُعْد. وَتَنْزِيهُ اللَّه تَعَالَ: تبعيدُه عَماَّ لا يَجوزُعَلَيْهِ مِنَ النَّقَائِصِ. وَمِنْهُ الَحدِيثُ، فِی تَفْسِیرِ سُبْحَانَ اللَّه، هُوَ تَنْزِيهُهُ، أَيْ: إِبْعَادُهُ عَنِ السُّوءِ، وَتَقْدِيسُهُ»(2) .

وجاء في لسان العرب: «وَالْعَامَّةُ يَضَعُونَ الشيَّءِ فِی غَیرْ مَوْضِعِهِ، ويَغْلَطُونَ؛ فَيَقُولُونَ: خَرَجْنَا نتَنزَّهُ، إِذَا خَرَجُوا إلى الْبَسَاتِينِ، فَيَجْعَلُونَ التَّنزُّهَ الخروجَ إلى الْبَسَاتِينِ، والخُضرَ، والرِّياض،َ إِنَّما التَّنزُّهُ التَّباعدُ عَنِ الأَرياف وَالِميَاهِ حَيْثُ لا يَكُونُ ماءٌ وَلا نَدىً وَلا جَمعُ ناسٍ، وَذَلِكَ شِقُّ الْبَادِيَةِ، وَمِنْهُ قِيلَ: فلانٌ يتَنَزَّهُ عن الأَقذار، ويُنَزِّهُ نفْسَه عَنْهَا، أَيْ: يُباعد نَفْسَهُ عَنْهَا... والتَّنزِيهُ: تَسْبِيحُ اللَّه عَزَّوَجَلَّ وإبعادُهُ عَماَّ يَقُولُ الُمشْركُونَ»(3) .

وقال الفيُّوميّ: «وقال ابن قتيبة: ذهب بعض أَهل العلم في قول النَّاس:خرجوا يَتَنَزَّهُونَ إلى البساتين، إنَّه غلط، وهو عندي ليس بغلط؛ لأَنَّ البساتين في كلِّ بلد، وإنَّا تكون خارج البلد، فإذا أَراد أَحد أَنْ يأْتيها فقد أَراد البعد عن المنازل و البيوت، ثُمَّ كثر هذا حتَّى استعملت النُّزْهَةُ في الخضر والجنان»(4) .

ص: 67


1- ينظر: الصحاح في اللغة: 2/ 204
2- النهاية في غريب الحديث والأثر 5/ 105
3- لسان العرب: 13 / 548
4- المصباح المنير: 2/ 601

وورد هذا الفعل «نزه» في الخطبة مرَّةً واحدةً موافقاً دلالته اللُّغوية؛ إذ قال أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) في مقام تمجيد الله - تبارك وتعالى - بتنزيهه عن اتخاذ المِثْل وهو المشارك في تمام الحقيقية؛ ولذا نفي عن الله سبحانه وتعالى، كما قال: (لَيْسَ كمَثِلْه شَیء)(1)، والنَّظیر الذي هو من جنس المِثل(2)، «وتَنزَّه عن مِثْل ونظیر».

وفرَّق أَبو هال العسكريّ بین (المِثْل)، و(النَّظیر) بقوله:

«إنَّ (المثلین) مَا تكافآ فِی الذَّات... والنَّظیر مَا قَابل نَظِیره فِی جنس أَفعاله، وَهُوَ مُتَمَكِّن مِنْهَا كالنَّحويِّ نَظِیر النَّحْوِيِّ، وَإِنْ لم يكن لَهُ مثل كَلامه فِی النَّحْو أَو كتبه فِيهِ، وَلا يُقَال النَّحْوِيُّ مثل النَّحْوِيِّ؛ لأَنَّ التَّمَاثُل يكون حَقِيقَة فِی أَخصِّ الأَوْصَاف، وَهُوَ الذَّات»(3) .

و«وتَنزَّه» فعل ماضٍ مبنيٌّ على الفتح، والفاعل ضمیر مستتر، تقديره (هو) عائد إلى الله عَزَّ وَجَلَّ، وجملة (تنزَّه) معطوفة على جملة (جلّ).

* * *

عَلِمَ

جاء في (العین): «عَلِمَ يَعْلَمُ عِلْماً، نقيض الجَهل. ورجل علاَّمة، وعلاَّم، وعليم... إِذَا بَالَغْتَ فِی وَصْفِهِ بالعِلْم أَيْ: عَالِم جِدًّا... وما عَلِمْتُ بخبرك، أَيْ: ما شعرت به. وأَعلمته بكذا، أَيْ: أَشْعَرْتُه، وعلَّمته تعليماً»(4) .

ص: 68


1- الشورى: 11
2- الفروق اللغوية: 189
3- الفروق اللغوية: 127
4- العين 2/ 152

والعلم في اللُّغة بمعنى المعرفة، يُقال: عَلِمْتُ الشيَّء أَعْلَمُهُ عِلمْاً: عرفتُه، وعَلَّمَهُ العلم وأَعْلَمَهُ إيَّاه فتعلَّمَهُ، وَفرَّق سِيبَوَيْه بَينهاَ، فَقَالَ: «وقد يجيء (فعَّلتُ وأَفْعَلْتُ) في معنى واحدٍ مشتركين، كما جاء فيما صيَّرته فاعلاً ونحوه؛ وذلك: وعَّزتُ إليه وأَوعزتُ إليه، وخبرَّتُ وأَخْبرَتُ... وقد يجيئان مفترقین، مثل علَّمتُه وأَعْلَمتُه، فعَلَّمتُ: أَدَّبْتُ، وأَعْلَمتُ: آذنتُ، وأَذَّنتُ: أَعْلَمْتُ، وأَذَّنْتُ: النِّداء والتَّصويت بإعلانٍ، وبعض العرب يجري أَذَّنتُ وآذنْتُ مجرى: سمَّيْتُ وأَسْمَيْتُ»(1) .

وفرَّق أَبو هال العسكريّ ببن (العلم)، و(المعرفة) وذلك في قوله: «إنَّ المعرفة أَخصُّ من العلم؛ لأَنَّها علم بعین الشيَّءعماَّ سواه، والعلم يكون مجملاً ومفصَّلاً»(2) .

وقال الرَّاغب: «العلم: إدراك الشيَّء بحقيقته، وذلك ضربان: أَحدهما: إدراك ذات الشيَّء. والثَّاني: الحكم على الشيَّء بوجود شيء هو موجودٌ له، أَو نفي شيء هو منفيٌّ عنه. فالأَوَّل هو المتعدِّي إلى مفعول واحد... والثَّاني: المتعدِّي إلى مفعولین... والعِلْمُ من وجه ضربان: نظريٌّ وعمليٌّ. فالنَّظريُّ: ما إذا عُلِمَ فقد كمل، نحو: العلم بموجودات العالَم. والعمليُّ: ما لا يتمُّ إلاَّ بأَنْ يعمل كالعلم بالعبادات. ومن وجه آخر ضربان: عقليٌّ وسمعيٌّ، وأَعْلَمْتُهُ وعَلَّمْتُهُ في الأَصل واحد، إلاَّ أَنَّ الإعلام اختصَّ بما كان بإخبار سريع، والتَّعْلِيمُ اختصَّ بما يكون بتكريرٍ وتكثیرٍ حتى يحصل منه أَثر في نفس المُتَعَلِّمِ»(3) .

ص: 69


1- الكتاب 4/ 62
2- الفروق اللغوية: 62
3- مفردات ألفاظ القرآن: 580

وعُرِّف العلم اصطلاحاً بأَنَّه: «الاعتقاد الجازم المطابق للواقع»(1).

وورد هذا الفعل «عَلِم» مرَّةً واحدةً في الخطبة مطابقاً دلالته اللُّغوية، قابل فيها أَمیرالمؤمنین بينه وبین فعل آخر، وهو«سَترَ»، فقال (عليه السلام): «عَلِمَ فَسَترَ»، وسيأْتي الكلام - إنْ شاء الله تعالى - على دلالة الفعل «سَترَ»، وقد تقدَّم أَنَّ العطف بالفاء يفيد التَّرتيب باتِّصال، أَيْ: بلا مهلة، وهو المعبرَّ عنه بالتَّعقيب، وكثیراً ما تقتضي السَّبب إنْ كان المعطوف جملة(2)، وكذا هي الحال في الخطبة؛ إذ قال أَمیرالمؤمنین (عليه السلام): «عَلِمَ فَسَترَ»؛ ف «عَلِمَ» فعل ماضٍ مبنيٌّ على الفتح،والفاعل ضمیر مستتر، تقديره (هو) عائد إلى الله تبارك وتعالى، والفاء عاطفة، و(سَترَ) فعل ماضٍ مبنيٌّ على الفتح، والفاعل ضمیر مستتر، تقديره (هو) عائد إلى الله عَزَّ وَجَلَّ، والجملة الفعليَّة (سَترَ) معطوفة على الجملة الفعليَّة (عَلِمَ).

فالله - تبارك وتعالى - عالم بما كان، وما يكون قبل كَوْنِهِ، وبما يكون، ولمَّا يكن، وما يكون، ولا تخفى عليه خافية لا في الأَرض، ولا في السَّماء، أَحاط علمه بجميع الأَشياء، باطنها وظاهرها، وخفيِّها وجليِّها، علم أَتمّ الإمكان(3) .

***

ص: 70


1- التعريفات: 199
2- ينظر: الفعل (عَدَلَ) من الكتاب
3- ينظر: لسان العرب 15/ 416، وتاج العروس 8/ 407

ستَرَ

تدلُّ مادَّة «سَترَ» في اللُّغة على التَّغطية، والإخفاء. جاء في (معجم مقاييس اللُّغة): «السِّین والتَّاء والرَّاء كلمةٌ تدلُّ على الغطاءِ. تقول: سترت الشيَّء ستراً. والسُّترْة: ما استترت به، كائناً ما كان، وكذلك السِّتَار»(1).

ويُقال: «سَترَ الشيَّءَ يَسْترُه ويَسْترِه سَترْاً وسَترَاً: أَخفاه... والسَّتر، بِالْفَتْحِ: مَصْدَرُ سَترَت الشيَّءَ أَسْترُه إِذا غَطَّيْته فاسْتَتَر هُوَ، وتَسَترَّ، أَيْ: تَغَطَّى. وجاريةٌ مُسَرَّةٌ، أَيْ: مُخدَّرَةٌ... .وَيُقال: استَتَر، وانْسَترَ، وتَسَترَّ... والسِّترْ: مَا سُتر ِبهِ، وَالَجمْعُ أَسْتار...»(2) .

وبینَّ أَبو هلال العسكريّ (السِّتر) حین فرَّق بينه وبین (الغطاء) بقوله:«إنَّ السّترْ مَا يسترك عَن غَیرْك، وَإِنْ لم يكن ملاصقاً لَك، مثل الَحائِط والجبل، والغطاء لا يكون إِلاَّ ملاصقاً؛ أَلا ترى أَنَّك تَقول: تسرَّت بالحيطان وَلا تَقول:تغطَّيت بالحيطان، وَإِنَّماَ تغطَّيت بالثِّياب؛ لأَنَّهَا ملاصقة لَك، والغشاء أَيْضًا لا يكون إِلاَّ ملاصقاً»(3) .

وجاء هذا الفعل «سَترَ» مرَّةً واحدةً في الخطبة مطابقاً دلالته اللُّغوية، قابل فيها أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) بينه وبین الفعل

«علم»، فالله - تبارك وتعالى - عالم بما كان، وما يكون قبل كَوْنِه، ولا تخفى عليه خافية في السَّاوات ولا في الأَرض؛ فهو المحيط بجميع الأَشياء، باطنها وظاهرها، خفيِّها وجليِّها؛ ولذا يسرعلى عباده،

ص: 71


1- معجم مقاييس اللغة 3/ 102
2- لسان العرب 4/ 343. وينظر:العین: 2/ 59، وجمهرة اللغة: 1/ 185، وتهذيب اللغة: 4/ 270، والصحاح في اللغة: 1/ 302،والمحيط: 2/ 254، وتاج العروس: 1/ 2921
3- الفروق اللغوية: 238

وهذا مصداق من مصاديق رحمة الله - عَزَّوَجَلَّ -؛ فالله - تبارك وتعالى - مع علمه بكلِّ ما يصدرعن عباده من ذنوب ومعاصٍ، فهو يسر عليها، ويغطِّيها بمنِّه ورحمته، فهو السَّاتر والسَّتَّار، ويحبُّ السَّتر.

***

بَطَنَ

الباطن خلاف الظَّاهر. جاء في العین: «البَطْنُ في كلِّ شيءٍ خلافُ الظَّهر، كبَطْنِ الأَرْضِ وظَهْرها، وكالباطِنِ والظَّاهر... وبِطانةُ الرَّجل: وَليجَتُهُ من القَوْم الذين يُداخِلُهم ويُداخِلُونه في دُخْلِة أَمْرِهم...»(1) .ويُقال: وأَفْرَشَنِي فلانٌ بطنَ أَمْرِه وظهره، أَيْ: سرّه وعلانيَّته(2) ، وتَبَطَّنْت في الَأمر، أَيْ: دَخَلْتُ فيه حتَّى عَلِمتُ باطنَهُ(3) .

ومن صفات الله - تبارك وتعالى - الباطن، قال الفرَّاء: «الباطن على كلِّ شيء علماً، فهو سبحانه وتعالى العالم الخبر، فيُقال: بطنت الأَمر، أَيْ: خبرته»(4) .

ووصف - عَزَّ وَجَلَّ - بالباطن؛ «لأَنَّه نفى عن أَنْ تدركه الخلائق بكيفيَّة، أَو يحيط به أَوهامهم، أَو تبلغه صفاتهم، أَو تدركه عقولهم، فلماَّ كان هكذا؛ فقيل هو الباطن، ولامتناعه عن درك المخلوقن بذاته باطناً»(5) .

ص: 72


1- العين: 2/ 103
2- ينظر: الصحاح في اللغة: 1/ 46
3- ينظر: المحيط في اللغة: 2/ 325. وينظر: مفردات ألفاظ القرآن: 130، ولسان العرب: 2/ 13
4- معاني القرآن: 3/ 49و50
5- الزينة في الكلمات الإسلامية: 2/ 49 و50

وورد هذا الفعل «بَطَنَ» مرَّةً واحدةً في الخطبة للدَّلالة على معناه اللُّغوي، أَورده أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) في مقام تمجيد الله - تبارك وتعالى - وتعظيمه، ببيان صفاته، وجاء فيها فعلاً ماضياً مجرَّداً مبنيّا على الفتح، إذ قال (عليه السلام):

«بطن فخبر»، والفاعل ضمیر مستتر، تقديره هو، عائد إلى الله - عَزَّ وَجَلَّ - أَيْ: أَنَّ الله - تعالى - عالم بكلِّ شيء، محيط به، لا يخفى عليه شيء؛ فهو المطَّلع على خفايا الأُمور، ويعلم السرِّ وما يخفى. وجملة (بَطَنَ) معطوفة على جملة (فستر).

***

خَبَر

تدلّ مادَّة «خَبرَ» في اللُّغة على العلم بالشيَّء. فالخبیر العالم بالأَمر: والخابر:

المختبرُالمُجرِّبُ، وخَبِرتُهُ أَخْبرهُ: أَيْ: علمتُه(1) . ويُقال: من أَين خرت هذا الَأمر:أَيْ: من أَين علمت؟(2).

وقال الرَّاغب: «الخُبرْ: العلم بالأَشياء المعلومة من جهة الخَبرَ، وخَبَرتُهُ خُبرْاً وخِبرْة... وقيل الخِبرْة المعرفة ببواطن الأَمر... وقوله تعالى: (وَاللَّه خَبِیرٌ بِما تَعْمَلُونَ) [آل عمران/153]، أَيْ: عالم بأَخبار أَعمالكم، وقيل أَيْ: عالم ببواطن أُموركم، وقيل: خبیرٌ بمعنى مُخبرِ، كقوله: (فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [المائدة/105]، وقال تعالى: (وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ) [محمد/31]، (قَدْ نَبَّأَنَا اللَّه مِنْ أَخْبارِكُمْ) [التوبة/94]، أَيْ: من أَحوالكم التي نُخْبرَعنها»(3) .

ص: 73


1- ينظر: العين: 1/ 321. وينظر: تهذيب اللغة: 2/ 484، والمحيط في اللغة: 1/ 361
2- ينظر:الصحاح في اللغة: 1/ 161، والمحكم والمحيط الأعظم: 2/ 332، والقاموس المحيط: 488/8
3- ينظر: الصحاح في اللغة: 1/ 161، والمحكم والمحيط الأعظم: 2/ 332، والقاموس المحيط: 488/8

وجاء في (لسان العرب): «الخَبیِرُ: مِنْ أَسماء اللَّه عَزَّ وَجَلَّ الْعَالِم بِماَ كَانَ وَمَا يَكُونُ... وخَبرَتُ الأَمرَ من باب قَتَلَ كما في القاموس والمصباح، أَيْ: علمتُهُ، وخَبرَتُ الأَمرَ أَخْبرُهُ إِذا عَرَفْتهُ عَلىَ حَقِيقَتِهِ. وَقَوْلُهُ تعالى: (فَسْئَلْ بِهِ خَبِیراً)(1)، أَي: اسأَل عَنْهُ خَبِراً يَخبرُ»(2) .

وفرَّق أَبو هال العسكريّ بین (الخبر)، و(العلم) بقوله: «الْفرق بَین الْعلم وَالْخبرَ: أَنَّ الْخبرَ هُوَ الْعلم بكنه المعلومات على حقائقها، فَفِيهِ معنى زَائِد على الْعلم...»(3) .

وورد هذا الفعل «خَبرَ» مرَّةً واحدةً في الخطبة مطابقاً دلالته اللُّغوية، جاء فيها مقترناً بالفاء العاطفة، بعد الفعل «بَطَنَ»، إذ قال أَمیر المؤمنین (عليه السلام):

«بَطَنَ فخبَرَ». وقد تقدَّم أَنَّ الفاء العاطفة تفيد السَّببيَّة إنْ كان المعطوف جملةً(4)، ف «بَطَنَ»فعل ماضٍ مبنيٌّ على الفتح، والفاعل ضمیر مستتر، تقديره (هو) عائد إلى الله تبارك وتعالى، والفاء عاطفة، و(خَبرَ) فعل ماضٍ مبنيٌّ على الفتح، والفاعل ضمیر مستتر، تقديره (هو) عائد إلى الله -عزَّ وَجَلَّ -، والجملة الفعليَّة (خَبرَ) معطوفة على الجملة الفعليَّة (بَطَنَ). فالله - تبارك وتعالى - عالم بكلِّ الأَشياء ومحيط بها، ولا تخفى عليه خافية في السَّماء ولا في الأَرض؛ ولذا فهو عالمٌ بأَخبارأَعمال العباد.

* * *

ص: 74


1- الفرقان: 59
2- لسان العرب 4/ 226
3- الفروق اللغوية 211
4- ينظر: الفعل (عَدَلَ) من الكتاب

مَلَكَ

تدلُّ مادَّة «مَلَكَ» في اللُّغة على الشَّدِّ،والضَّبط. جاء في (معجم مقاييس اللُّغة):

«الميم واللاَّم والكاف أَصلٌ صحيح يدلُّ على قوَّةٍ في الشيَّء وصحَّة. يُقال: أَملَكَ عجِينَه: قوَّى عَجنَه وشَدَّه. ومَلَّكتُ الشيَّءَ: قوّيتُه»(1) . وَالمِلْكُ ضربان: مِلْك هو التملُّكُ والتَّولِّ، ومِلْكٌ هو القوَّة على ذلك، تولَّی أَو لم يتولَّ»(2)، والمِلْكُ ضَبْطُ الشيَّء المُتَصرَّف فيه بالحكم، والمَلَكَة: قوَّة في النَّفس والشَّدِّ(3) .

والمالك اسم لله - تعالى - باعتبار انفراده في التّصَرُّف في عالم الإمكان، مستولياً على ما يشاء وكيف يريد، لا يُسأَل عماَّ يفعل، وهم يُسألون(4) .

وقد استدلَّ الشَّيخ الطُّوسيّ على ملكيَّته بقوله: «وجوب الوجود يدلُّ على كونه تعالى مِلِكاً؛ لأَنَّه غنيٌّ عن الغیر في ذاته وصفاته، وكلُّ شيء مفتقر إليه؛ لأَنَّ كلَّ ما عداه ممكن إنَّما يوجد بسببه، وله ذات كلِّ شيء؛ لأَنَّه مملوك مفتقر إليه في تحقيق ذاته فيكون مَلِكاً؛ لأَنَّ الملك هو المستجمع لهذه الصِّفات الثَّلاث»(5) .

و(الملِكُ): الحاكم في النَّاس، ولا مَلِكَ على الإطاق إلاَّ الله - تعالى -.وأَمَّا وَصْفُ غیره بالمَلِك فهو بالإضافة إلى طائفة معيَّنة من النَّاس(6). أَيْ: يختصُّ

ص: 75


1- معجم مقاييس اللغة: 5/ 281
2- مفردات ألفاظ القرآن: 774
3- ينظر: عمدة الحفاظ: 4/ 110
4- ينظر: شرح الأسماء الحسنى: 94
5- كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد: 325
6- ينظر:التحرير والتنوير28/ 120

بسياسة النَّاطقین، ولهذا يُقال: مَلِكُ الناس، ولا يُقال: مَلِكُ الأَشياء(1) .

وبهذا المعنى ورد الفعل «مَلَكَ» في الخطبة مرَّتین، قابل أَمیرُ المؤمنین (عليه السلام) في المرَّة الأُولى بينه وبین فعل آخر، وهو«قَهَرَ»، -وسيأْتي الكلام - إنْ شاء الله تعالى - بعد هذا الفعل على دلالة الفعل «قَهَرَ» - ومراده (عليه السلام): أَنَّ الله - عَزَّ وَجَلَّ - هو المالك، والمتصرِّف في عالم الإمكان، وهو المستولي على ما يشاء وكيف يشاء؛ فهو خالقه ومدبِّرُه، إذ قال (عليه السلام): «مَلَكَ فَقَهَرَ».

و«مَلَكَ» فعل ماضٍ مبنيٌّ على الفتح، والفاعل ضمیرمستتر، تقديره (هو) عائد إلى الله تبارك وتعالى، وجملة (وملك) معطوفة على جملة (فخبر).

أَمَّا في المرَّة الثَّانية، فقد أَورده أَمیرُالمؤمنین (عليه السلام) في مقام جزاء مَنْ رضي عنه الله - عَزَّ وَجَلَّ -، وابتعد عن عذابه، وهو ثالث الأَفعال الثَّلاثة عشرالَّتي ذكرها (عليه السلام) في هذا المقام، إذ قال (عليه السلام): «وَنَسألُه عَفْوَ مَنْ رضِی عَنْهُ... فَمَنْ زُحزِحَ عن تعذيب رَبِّه، سَكَنَ في جنَّتِهِ بقربهِ وخُلِّدَ في قصورٍ مُشَيَّدَةٍ، ومَلَكَ حُورَ عینٍ وحَفَدَةً».

و«مَلَكَ» فعل ماضٍ مبنيٌّ على الفتح، والفاعل ضمیر مستتر جوازاً، تقديره (هو) عائد «مَنْ زُحزِحَ» المتقدِّم، و(حورَ) مفعول به منصوب وعلامة نصبه الفتحة الظَّاهرة على آخره، وهو مضاف، و(عن) مضاف إليه مجرورعلامة جرَّه الكسرة الظَّاهرة على آخره، و(وحفدة) الواو حرف عطف، و(حفدة) اسم معطوف على (حور) منصوب، وعلامة نصبه الفتحة الظَّاهرة على آخره، وجملة (وملك حور عن وحفدة) معطوفة على جملة (وخُلِّدَ في قصورٍ مُشَيَّدَةٍ).

ص: 76


1- ينظر: مفردات ألفاظ القرآن: 774

* * *

قَهَرَ

تدلُّ مادَّة «قَهَرَ» في اللُّغة على الغلبة، والعلوِّ. قال ابن فارس:

«القاف والهاء والرَّاء كلمةٌ صحيحةٌ تدلُّ على غَلَبة وعُلُوٍّ.يُقال: قَهَرَه يَقهره قَهْراً. والقاهر:الغالب. وأقْهَرَ الرَّجُل، إذا صُیرِّ في حالٍ يذلُّ فيها. قال المخبّل السَّعديّ:

تَمنَّى حُصَيْن أَنْ يَسُودَ جِذَاعُهُ فَأَمْسَى حُصَيْن قد أَذَلَّ وأَقْهَرا»(1) .

وقال الرَّاغب: إنَّ «القَهْرُ: الغلبة والتَّذليل معاً، ويُستَعملُ في كلِّ واحد منهما.

قال تعالى: (وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ) [الأنعام/18]...»(2) .

وذكر الطَّبريُّ أَنَّ معنى القهر من لدن البارئ - عَزَّ وَجَلَّ - هو«المذلُّ» المستعبد خلقه، العالي عليهم. وإنَّما قال: (فوق عباده)؛ لأَنَّه وصف نفسه - تعالى ذكره - بقهره إيَّاهم. ومن صفة كلِّ قاهر شيئاً أَنْ يكون مستعلياً عليه، فمعنى الكلام إذاً: والله الغالب عبادَه، المذلُّ لهم، العالي عليهم بتذليله لهم، وخلقه إيَّاهم، فهو فوقهم بقهره إيَّاهم، وهم دونه»(3) .

وقال ابن منظور:«والقهَّار: من صفات الله عَزَّ وَجَلَّ. قال الأَزهريُّ: والله القاهر القهَّار، قهر خلقه بسلطانه وقدرته، وصرَّفهم على ما أَراد طوعاً وكرهاً، والقهَّار للمبالغة... وقَهَرَه يقهرُهُ قَهْراً: غَلَبَهُ. وتقول: أَخذتُهم قهراً، أَيْ: من غیر

ص: 77


1- معجم مقاييس اللغة 2/ 836
2- مفردات ألفاظ القرآن: 687
3- جامع البيان في تأويل آي القرآن: 5/ 161

رضاهم»(1) .

والله - تبارك وتعالى - القاهر؛ الذي بادت عند سطوته قوى الخلائق أَجمعین «والَّذي يقصم ظهورالجبابرة، فيقهرهم بالإذلال والإهانة والنَّكبات، والهلاك من القهر، وهو الغلبة وصَرفُ الشيَّء بما طبع عليه بالقسر»(2) .

وفرَّق أَبو هال العسكريّ بین (القهر) و(القدرة) بقوله: «إنَّ القدرة تكون على صغیر المقدور وكبییره، والقهر يدلُّ على كبیرالمقدور؛ ولهذا يُقال: مَلِكٌ قاهرٌ؛ إذا أُريد المبالغة في مدحه بالقدرة، ولا يقال في هذا المعنى: مَلِكٌ قادرٌ؛ لأَنَّ إطاق قولنا: قادر لا يدلُّ على عظيم المقدور كما يدلُّ عليه إطلاق قولنا: قاهر»(3) .

وفرَّق بین (القهر) و(الغلبة) بقوله: «إنَّ الْغَلَبَة تكون بِفضل الْقُدْرَة وبفضل الْعلم، يُقال: قَاتله، فغلَبَهُ، وصَارَعَهُ، فغلَبَه؛ وَذَلِكَ لفضل قدرته، وَتقول حَاجَّهُ، فغلَبَهُ، ولَعَبَهُ بالشَّطرنج، فَغَلَبَهُ، بِفضل علمه وفطنته، وَلا يكون الْقَهْر إِلاَّ بِفضل الْقُدْرَة؛ أَلا ترى أَنَّك تَقول ناواه، فقهره، وَلا تَقول: حَاجَّه، فقهره، وَلا تَقول: قهره بِفضل علمه»(4) .

وورد هذا الفعل «قَهَرَ» مرَّةً واحدةً في الخطبة مطابقاً دلالته اللُّغوية، جاء فيها مقترناً بالفاء العاطفة، بعد الفعل «مَلَك»، إذ قال أَمیرالمؤمنین (عليه السلام):«مَلَك فقَهَرَ»، وقد تقدَّم أَنَّ الفاء العاطفة تفيد السَّببيَّة إنْ كان المعطوف جملةً(5) ،

ص: 78


1- لسان العرب 5/ 120
2- أسماء الله الحسنى: 43
3- الفروق اللغوية: 381
4- المصدر نفسه: 389
5- ينظر: الفعل (عَدَلَ) من الكتاب

ف «مَلَك» فعل ماضٍ مبنيٌّ على الفتح، والفاعل ضمیر مستتر، تقديره (هو) عائد إلى الله - تبارك وتعالى -، والفاء عاطفة، و(قَهَرَ) فعل ماضٍ مبنيٌّ على الفتح، والفاعل ضمیر مستتر، تقديره (هو) عائد إلى الله - عَزَّ وَجَلَّ -، والجملة الفعليَّة (قَهَرَ) معطوفة على الجملة الفعليَّة (مَلَك). فالله - تبارك وتعالى - قهر كلَّ شيء، فذلَّ لله طوعاً وكرهاً(1) ، وهو قادرٌ على إيصال الخبرات، ودَفْعِ الشرُّور والآفات(2) ،فهو - عَزَّ وَجَلَّ - مالك كلِّ شيء، وهو الضَّارُّ والنَّافع، وهو القاهرالذي تخضع له الكائنات، وتذلُّ له الجبابرة، وتدين له الخلائق، وتتضاءل أَمام عظمته وكبريائه المخلوقاتُ أَجمع.

* * *

عُصيَ

تدلُّ مادَّة «عصى» في اللُّغة على الخروج عن الطَّاعة. جاء في(العین): «العصا:جماعة الإسلام، فَمَنْ خالفهم، فقد شقَّ عصا المسلمين... وتقول: عَصىَ يَعْصي عِصياناً ومَعْصية. والعاصي: اسم الفصيل خاصَّة إذا عصى أُمَّة في اتِّباعها»(3).

وقال الجوهريّ: «العصيان: خلاف الطَّاعة، وقد عصاهُ يَعصيه عَصْياً ومَعصيةً، فهو عاصٍ وعَصيِّ»(4) .

وقال الرَّاغب: «وعَصىَ عِصْيَاناً: إذا خرج عن الطَّاعة، وأَصله أَنْ يتمنَّع بِعَصَاهُ.

ص: 79


1- ينظر: جامع البيان في تأويل آي القرآن: 12/ 130
2- ينظر: التفسير الكبير: 18/ 139، والكشّاف: 2/ 321
3- العين: 1/ 125
4- الصحاح في اللغة: 1/ 475

قال تعالى: (وَعَى آدَمُ رَبَّهُ) [طه/121]، (وَمَنْ يَعْصِ اللَّه وَرَسُولَهُ) [النساء/14]، (آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ) [يونس/91]. ويقال فيمَنْ فارق الجماعة: فانٌ شقَّ العَصَا»(1) .

وجاء في (المصباح المنير): «عَصَی العبد مولاه عَصْياً من باب رمى ومَعْصِيَةً فهو عَاصٍ، وجمعه عُصَاةٌ، وعَصِّی أَيضًا مبالغة... وَشَقَّ فُلانٌ العَصَا یضربُ مثلاً لمفارقة الجماعة ومخالفتهم...»(2) .

وورد هذا الفعل «عصى» مرَّةً واحدةً في الخطبة للدَّلالة على معناه اللُّغوي أَورده أَميرالمؤمنين (عليه السلام) في مقام تمجيد الله - تبارك وتعالى - وتعظيمه؛ ببيان صفاته، وجاء فيها مبنيّاً للمجهول، وقابل أَميرالمؤمنين (عليه السلام) بينه وبين فعل آخر، وهو«غَفَرَ» وسيأْتي الكلام على دلالته إنْ شاء الله تعالى إذ قال (عليه السلام): «عُصِی فَغَفَر».

ف «عُصِی» فعل ماضٍ مبنيٌّ للمجهول مبنيٌّ على الفتح، ونائب الفاعل ضمير مستتر، تقديره (هو) عائد إلى الله - عَزَّ وَجَلَّ -، وجملة (وعصي) معطوفة على جملة (فَقَهَر).

* * *

غَفَر،نَستَغْفِرُ

تدلُّ مادَّة «غَفَر» في اللُّغة على التَّغطية، والسَّتر، يُقال: غَفَرَه: ستره، وغَفَرَالمَتَاعَ فِی الوِعَاءِ يَغْفِرُه غَفْراً، وأَغْفَرَه: أَدْخَلَهُ وسَترَهُ، كَذَلِكَ غَفَرَ الشَّيْبَ بالخِضَابِ:

غَطَّاهُ، ويُقال: ليس فيهم غفیرة، أَيْ: لا يغفرون ذنباً، وغفران الذُّنوب إنَّما يكون

ص: 80


1- مفردات ألفاظ القرآن: 570
2- المصباح المنیر6/ 200 .وينظر:تهذيب اللغة: 1/ 332، ومعجم مقاييس اللغة: 4/ 71، والمحيط في اللغة: 1/ 111، والمحكم والمحيط الأعظم: 1/ 398، ولسان العرب: 15 / 63، وتاج العروس:8500/1

بسترها، وعدم فضح مقترفيها بالعقوبة عليها(1) .

وقال الرَّاغب: «الغَفْرُ: إلباس ما يصونه عن الدَّنس، ومنه قيل: اغْفِرْ ثوبك في الوعاء، واصبغ ثوبك؛ فإنَّه أَغْفَرُ للوسخ، والغُفْرَانُ والَمغْفِرَةُ من الله هو أَنْ يصون العبد من أَنْ يمسَّه العذاب. قال تعالى: (غُفْرانَكَ رَبَّنا) [البقرة/285]...

وقد يُقال: غَفَرَ لَهُ إذا تجافى عنه في الظَّاهر، وإنْ لم يتجافَ عنه في الباطن، نحو: قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّه) [الجاثية/14]، والاسْتِغْفَارُ: طلب ذلك بالمقال والفعال... وقيل: اغْفِرُوا هذا الأَمرَبِغُفْرَتِهِ، أَيْ: اسروه با يجب أَنْ يُسترَبه»(2) .

وقال ابن منظور: «الغَفْرُ التَّغْطِيَةُ وَالسّتَرْ... وَقَدْ غَفَرَه يَغْفِرُه غَفْراً: سَترَهُ. وَكُلُّ شَیءٍ سَترَتَهُ، فَقَدْ غَفَرْته... والغَفْرُ والمَغْفِرةُ: التَّغْطِيَةُ عَلىَ الذُّنُوبِ والعفوُ عَنْهَا...

واسْتَغْفَرَ اللَّه فِی ذَنْبِهِ وَلِذَنْبِهِ بِمَعْنًى،، فغَفَرَ ذَنْبَهُ له مَغْفِرةً وغَفْراً وغُفْراناً»(3) .

وجاء في (التَّعريفات): «والمغفرة: هي أَنْ يستر القادر القبيح الصَّادر مِّمنْ تحت قدرته، حتَّى إنَّ العبد إنْ سَترَ عيبَ سيدِه مخافةَ عتابِه لا يُقال: غَفَر له»(4) .

وورد هذا الفعل «غَفَرَ» مرَّتین في الخطبة، جاء في المرَّة الأُولى مقترناً بالفاء العاطفة بعد الفعل «عُصيِ»، إذ قال أَمیر المؤمنین (عليه السلام): «عُصيِ فَغَفَر».

وقد تقدَّم أَنَّ الفاء العاطفة تفيد السَّببيَّة إنْ كان المعطوف جملةً(5)، ف «عُصيَ» فعل

ص: 81


1- ينظر: معجم مقاييس اللغة: 771 و772
2- مفردات ألفاظ القرآن: 609
3- لسان العرب 5/ 25
4- التعريفات: 123
5- ينظر: الفعل (عَدَلَ) من الكتاب

ماضٍ مبنيٌّ للمجهول، مبنيٌّ على الفتح، ونائب الفاعل ضمیر مستتر، تقديره (هو) عائد إلى الله - تبارك وتعالى -، و«غَفَرَ» فعل ماضٍ مبنيٌّ للمجهول، مبنيٌّ على الفتح، والفاعل ضمیر مستتر، تقديره (هو) عائد إلى الله - عَزَّ وَجَلَّ -، والجملة الفعليَّة (غَفَرَ) معطوفة على الجملة الفعليَّة(عُصيِ).

فمراد أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) أَنَّ الله - تبارك وتعالى - مع خروج عباده عن طاعته - عَزَّ وَجَلَّ - فهو السَّاتر لذنوبهم، والمتجاوزعن خطاياهم وذنوبهم(1).

يقول الطَّبريّ: «إنَّ الغفران والمغفرة: السِّتر من الله على ذنوب مَنْ غفر له، وصفحه له عن هَتْكِ ستره بها في الدُّنيا والآخرة، وعفوه عن العقوبة عليه»(2) .

فالله - سبحانه وتعالى - غفور لذنوب عباده، أَيْ:

«يسترها، ويتجاوز عنها؛ لأَنَّه إذا سترها، فقد صفح عنها، وعفا... وهو متعلِّق بالمفعول؛ لأَنَّه لا يقع السِّترإلاَّ بمستور يُسْترَ ويُغطَّى، وليست من أَوصاف المبالغة في الذَّات، إنَّما هي من أَوصاف المبالغة في الفعل»(3) .

وقد ختم أَمیر المؤمنین (عليه السلام) خطبته المباركة - في المرَّة الثَّانية - بهذا الفعل، إذ قال (عليه السلام): «فَنَسْتَغْفِرُ رَبَّ كُلِّ مَرْبُوْبٍ لِی وَلَكُمْ».

و«نستغفر» على زنة «استفعل»، ونصَّ العلماء على أَنَّ لِزِنَةِ «استفعل» معاني، منها الطَّلب، وهو أَشهرها(4)، فأَمیر المؤمنین (عليه السلام) يطلب المغفرة من الله - تبارك وتعالى -؛ فهو السَّاتر لذنوب عباده؛ بعفوه - عَزَّوَجَلَّ -، والمتجاوز

ص: 82


1- ينظر: مطالب السؤول: 76، ومصباح المتهجّدين: 34، وكفاية الطالب: 5
2- جامع البيان عن تأويل آي القرآن: 3/ 152
3- اشتقاق أسماء الله: 151
4- ينظر: الفعل (نستعينه) في الكتاب

عن خطاياهم وذنوبهم. و«نستغفر» فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه الضَّمَّة الظَّاهرة على آخره، والفاعل ضمیر مستتر، تقديره «نحن»، عائد إلى أَمیر المؤمنین (عليه السلام).

* * *

عُبِدَ

تدلُّ مادَّة «عبد» في اللُّغة على الخضوع، والتَّذلُّل. فالعبد: الإنسان حرّاً كان أَو رقيقاً، ويُقال: عَبَدَ يَعبُد عِبادةً، ولا يُقال: إلاَّ لِمنْ يَعبُد الله(1).

وقال الجوهريّ: «العَبدُ: المملوك، وجمعه: عَبِيد... وأَمَّا عَبَدَ يَعبُدُ عِبادة فلا يقال إلاَّ لِمنْ يعبد الله. وتَعَبَّدَ تَعبُّداً، أَيْ: تفرَّدَ بالعبادة... واستعبدتُ فلاناً، أَيْ: اتخذته عبداً. وتَعَبَّدَ فانٌ فلاناً، أَيْ: صیرَّه كالعبد له، وإنْ كان حرّاً»(2) .

وقال الرَّاغب: «العُبُودِيَّةُ: إظهار التَّذلُّل، والعِبَادَةُ أَبلغُ منها؛ لأَنَّها غاية التَّذلُّل، ولا يستحقُّها إلاَّ مَنْ له غاية الإفضال، وهو الله تعالى، ولهذا قال: (أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ) [الإسراء/23]... وجمع العَبْدِ الذي هو مُسترَقٌّ: عَبِيد... وجمع العَبْدِ الَّذي هو العَابِدُ عِبَادٌ، فالعَبِيدُ إذا أُضيف إلى الله أَعمُّ من العِبَادِ؛ ولهذا قال:

(وَما أَنَا بِظَاَّمٍ لِلْعَبِيدِ) [ق/29]، فنبَّه أَنَّه لا يظلم مَنْ يختصُّ بِعِبَادَتِهِ، ومَن انتسب إلى غیره من الَّذين تسمَّوا بِعَبْدِ الشمس، وعَبْدِ الاَّت، ونحو ذلك»(3) .

وقال ابن منظور: «العُبودِيَّة الخُضوع والذُّلُّ. والتَّعبيد التَّذليل، يُقال: طريقٌ

ص: 83


1- ينظر: العين: 1/ 95
2- الصحاح في اللغة: 2/ 503
3- مفردات ألفاظ القرآن: 542

مُعَبّدٌ... والتَّعبيد الاستعباد، وهو أَنْ يتَّخذه عبداً، والعبادة الطَّاعة، والتَّعبُّد: التَّنسُّك»(1).

وفرَّق أَبو هلال العسكريّ بین (العبادة) و(الطاعة) بقوله: «إنَّ العبادَة غَايَة الخضوع، وَلا تسْتَحقُّ إِلاَّ بغاية الإنعام؛ ولهذا لا يجوزأَنْ يعبد غیر الله تَعَالَی، وَلا تكون الْعِبَادَة إِلاَّ مَعَ المعرفَة بالمعبود، والطَّاعَة: الفعل الوَاقِع على حسب مَا أَرَاده المريد مَتى كانَ المريد أَعلىَ رُتبَة مِّمن يفعل ذلك، وتكون للخالق والمخلوق، والعبادَة لا تكون إِلاَّ للخالق»(2) .

والمعبود اسمٌ لله - تبارك وتعالى - «باعتبار كون تمام الموجودات مملوكاته بالاستحقاق لا بالاتِّفاق، فحقيقة العبادة انتباه النَّفس، وتذكُّرها لهذا المعنى مع إدمان إعماله في مقام العمل آناً فآناً؛ ولذا خُصَّ اللهُ تعالى بالعبادة وحده لا شريك له، فقال: (وَقَضىَ رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً)(3)»(4).

وتطابقت دلالة الفعل «عبد» في الخطبة مع دلالته اللُّغوية؛ إذ جاء الفعل «عُبِدَ» مرَّةً واحدةً في الخطبة، في مقام تمجيد الله - عَزَّ وَجَلَّ - وتعظيمه؛ ببيان صفاته - تبارك وتعالى -، وقابل فيها أَمیر المؤمنین (عليه السلام) بينه وبین فعل آخر، وهو«شكر» وسيأْتي الكلام على دلالته إنْ شاء - الله تعالى -، فقال (عليه السلام):

«عُبِدَ فَشَكَرَ»، و«عُبِدَ» فعل ماضٍ مبنيٌّ للمجهول مبنيٌّ على الفتح، ونائب الفاعل ضمیر مستتر، تقديره (هو) عائد إلى الله - عَزَّ وَجَلَّ -، وجملة (عُبِدَ) معطوفة على

ص: 84


1- لسان العرب: 3/ 271
2- الفروق اللغوية: 182
3- الإسراء: 23
4- شرح الأسماء الحسنى: 74

جملة (فَغفَر).

* * *

شكَرَ

تدلُّ مادَّة «شَكَرَ» في اللُّغة على الثَّناء على الإحسان(1) ، وذكر الفرَّاء أَنَّ «العرب لا تكاد تقول: شكرتك، وإنَّما تقول: شكرت لك»(2)، قال تعالى: (وَاشْكُرُوا لِوَلا تَكْفُرُونِ)(3)، وهذه هي اللُّغة الفصيحة(4)، أَمَّا شكرتك فهي لغة أَقلُّ فصاحةً(5).

وقال الرَّاغب: «الشُّكْرُ: تصوُّر النِّعمة وإظهارها، قيل: وهو مقلوب عن الكشرْ، أَيْ: الكشف، ويُضادُّه الكفر، وهو: نسيان النِّعمة وسترها»(6) .

وفُرِّق بین (الحمد)و(الشكر)، فقيل: إنَّ الحمد أَعمُّ من الشُّكر، والشُّكريدخل تحته، ولا يدخل الحمد تحت الشُّكر، فقد يوضع الحمد موضع الشُّكر، فيُقال: حمدت الرَّجل على معروفه وإحسانه، ولا يوضع الشُّكر موضع الحمد، فيُقال: شكر الرَّجل على شجاعته. وروي عن ثعلب أَنَّ الحمد يكون عن يد وعن

ص: 85


1- ينظر: معجم مقاييس اللغة: 3/ 207، ولسان العرب: 7/ 107
2- معاني القرآن: 1/ 92
3- البقرة: 152
4- ينظر: إصلاح المنطق: 194
5- ينظر: معاني القرآن (للفرّاء): 1/ 92، وإصلاح المنطق: 194، والزاهر: 1/ 192
6- مفردات ألفاظ القرآن: 461

غیر يد، والشُّكر لا يكون إلاَّ عن يد(1) .

وجاء في (الكلِّيات): «الشُّكر بالضَّمِّ: عرفان الإحسان، ومن الله المجازاة، والثَّناء الجميل»(2) .

والشَّكور من أَسماء الله - تبارك وتعالى -؛ لأَنَّه يرضى من عباده القليل من العبادة(3)، وهو المثيب عباده على أَعمالهم(4)، المجازي على أَقلِّ القليل منها، ولا يضيع لديه - عَزَّ وَجَلَّ - عملُ عاملٍ منهم، فهو شاكر ذلك لهم، أَيْ: مقابل له بالجزاء والثَّواب، فهو الَّذي يشكر اليسیر من الطَّاعة؛ فيثيب عليه الكثیر من الثَّواب، ويعطي الجزيل من النِّعمة(5) .

وهو- عَزَّ وَجَلّ َ- الشَّكور، المكرم، والمنعم لعباده على ما أَبدوه من الأَعمال المرضية له(6)، قال تعالى: (لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ)(7)، فوصفه - تبارك وتعالى - بأَنَّه شاكرمجاز، والمراد أَنَّه يجازي على الطَّاعة جزاء الشَّاكرين على النِّعمة(8)، وإنَّما سمَّى المجازاة على الطَّاعة شكراً، لوجوه: الَأوَّل: أَنَّ اللَّفظ خرج مخرج التَّلطُّف للعبادة؛ مبالغةً في الإحسان إليهم.

ص: 86


1- ينظر: الفروق اللغوية: 35، ودقائق العربية: 43 و35
2- الكلّيات: 217
3- ينظر: الزينة في الكلمات الإسلامية: 2/ 113
4- ينظر: الزاهر: 1/ 192،وغريب القرآن: 117، وتحفة الأريب: 150
5- ينظر: اشتقاق أسماء الله: 138
6- ينظر: شمس العلوم: 2/ 509، والأسماء والصفات: 91
7- فاطر: 30
8- ينظر: الفروق اللغوية: 35

الثَّاني: أَنَّ الشُّكر لمَّا كان مقاباً للإنعام أَو الجزاء عليه؛ سمّى كلّ ما كان جزاء شكراً على سبيل التَّشبيه.

الثَّالث: كأَنَّه - سبحانه - يقول: «أَنا وإنْ كنتُ غنيّاً عن طاعتك، إلاَّ أَنِّي أَجعل لها من الموقع بحيث لو صحَّ أَنْ أَنتفع بها لما ازداد وقعه على ما حصل»(1) .

وشكرَ اللهُ بأَحد معنيين، إمَّا بالثَّواب، وإمَّا بالثَّناء(2).

وورد هذا الفعل «شَكَرَ» مرَّةً واحدةً في الخطبة مطابقاً دلالته اللُّغوية، إذ قال أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) في مقام تمجيد الله - تبارك وتعالى - وتعظيمه(3): «عُبدِ فَشَكَرَ». و«شَكَرَ» فعل ماضٍ مبنيٌّ على الفتح، والفاعل ضمیر مستتر، تقديره (هو) عائد إلى الله عَزَّ وَجَلَّ، وجملة (فَشَكَرَ) معطوفة على الجملة الفعليَّة (عُبِدَ).

* * *

حَكَمَ

تدلُّ مادَّة «حَكَمَ» في اللُّغة على المنع. جاء في (العین): «... الحكمة مرجعها إلى العدل، والعلم، والحلم. ويُقال: أَحكمَتْهُ التَّجارب، إذا كان حكيماً. وأَحْكَمَ فلانٌ عنِّي كذا، أَيْ: مَنَعَه... واسَتحْكَمَ الأَمرُ: وَثُقَ. واحتَكَمَ في ماله: إذا جازَ فيه حُكْمُه... وحَكَّمْنَا فُلاناً أَمرَنا: أَيْ: يحكُمُ بيننا... وَحكَمة اللِّجام: ما أَحاطَ بحَنَكَيْه؛ سُمِّيَ به لأنَّها تمنعه من الجَرْي، وكلُّ شيء مَنَعْتَه من الفَساد فقد حَكَمْتَهُ

ص: 87


1- التفسير الكبير: 4/ 161 و162
2- ينظر: البحر المحيط: 1/ 458، والتعريفات: 112
3- ينظر: مطالب السؤول: 170،وكنز العمّل: 8/ 222

وحَكَّمته وأَحكَمْتَه»(1).

وقال الرَّاغب: «حَكَمَ أَصله: منع منعا لإصلاح، ومنه سمِّيت اللِّجام: حَكَمَة الدَّابَّة، فقيل: حَكَمْتُهُ وحَكَمْتُ الدَّابَّة: مَنَعْتُهَا بالحَكَمَةِ،وأَحْكَمْتُهَا:جعلْتُ لها حَكَمَة... والحُكْم بالشيَّء: أَنْ تقضي بأَنَّه كذا، أَو ليس بكذا، سواء أَلزمت ذلك غیره أَو لم تلزمه... والحِكْمَةُ: إصابة الحق بالعلم والعقل، فالحِكْمَةُ من الله تعالى:

معرفة الأَشياء، وإيجادها على غاية الإحكام، ومن الإنسان: معرفة الموجودات، وفِعْل الخیرات»(2). وجاء في (لسان العرب): «... قيل للحاكم بن النَّاس حاكم، لأَنَّه يمنع الظَّالم من الظُّلم... وقد حكم عليه بالأَمر يَكُمُ حُكماَ وحكومة، وحكم بينهم كذلك»(3) .

وقال الجرجانيّ في معنى (الحكم) اصطلاحاً: «وَضْعُ الشَّیء في موضعه»(4) .

ومن صفات الله - عَزَّ وَجَلَّ - الحَكَم، والحكيم، والحاكم، ومعاني هذه الأَسماء متقاربة، وذكر ابن الأَثیر أَنَّ الحكم، والحكيم هما بمعنى الحاكم، وهو القاضي، فهو فَعِيْل بمعنى فَاعِل، أَو هو الذي يُكِمُ الأَشياء فيُتقنها، فهو فَعِيْل بمعنى مُنفْعِل، فالله - تبارك وتعالى - هو الذي يحكم بین النَّاس بما شرَّعه في كتابه المجيد من الأَحكام والشَّائع التي يتمثَّلها النَّاس، ف «الحاكم عند بعض الأُصوليِّین

ص: 88


1- العين: 1/ 179
2- مفردات ألفاظ القرآن: 248و249
3- لسان العرب: 12/ 140، و ينظر: جمهرة اللغة: 1/ 292، وتهذيب اللغة: 1/ 475،والمحيط في اللغة: 1/ 175
4- التعريفات: 124

والفقهاء هو الله تعالى، والمحكوم عليه هو مَنْ وضع له الخطاب، أَيْ: المخاطَب بالفتح، والمحكوم به هو ما يتعلَّق به الخطاب»(1)، وبهذا المعنى ورد هذا الفعل «حَكَمَ» مرَّةً واحدةً في الخطبة، قابل فيها أَمیر المؤمنین بينه وبین فعل آخر، وهو «عَدَل»، وقد تقدَّم الكلام على دلالته، إذ قال (عليه السلام): «وحَكَمَ فعَدَلَ»، و«حَكَمَ» فعل ماضٍ مبنيٌّ على الفتح، والفاعل ضمیر مستتر، تقديره هو، عائدٌ إلى الله - عَزَّ وَجَلَّ -. وجملة (وحكم) معطوفةً على جملة (فشكر).

* * *

تَكَرَّمَ

الكرم ضدّ اللُّؤم، يُقال: كرُم الرَّجل يكرُم كرماً، فهو كريم(2) .

وقال الأَزهريّ: «الكَرِيمُ: من صفاتِ الله عَزَّ وَجَلَّ وأَسمائه، وَهُوَ الكثیرُالخیرِ الجوادُ المنعمُ المفضِلُ... قَالَ الْفرَّاء: العرَبُ تَجعل الكَريم تَابعا لكُلِّ شَیء نَفَتْ عَنهُ فِعْلاً تنْوي بِهِ الذَّمَّ... والكريم: اسمٌ جامعٌ لكُلِّ مَا يُحمدُ، فَالله كريمٌ، حميدُ الفعال...»(3).

وقال ابن فارس: «الكاف والرَّاء والميم أَصلٌ صحيح له بابان: أَحدهما شَرفٌ في الشيَّء في نفسِه، أو شرفٌ في خُلُق من الأَخاق، يقال رجلٌ كريم، وفرسٌ كريم، ونبات كريم. وأَكرَمَ الرَّجلُ، إذا أَتَى بأَولادٍ كِرَام... وكَرُم السَّحابُ: أَتَى بالغَيث،

ص: 89


1- كشّاف اصطلاحات الفنون: 7/ 144
2- ينظر: العین: 1/ 443. وينظر: جمهرة اللغة: 1/ 443، والصحاح في اللغة: 2/ 83، والمحكم والمحيط الأعظم: 3/ 177، ولسان العرب: 12/ 510، والمصباح المنیر: 8/ 81، والقاموس المحيط: 1/ 1489، وتاج العروس: 1/ 7874
3- تهذيب اللغة3/ 374

والكَرَم في الخُلْق يقال هو الصَّفح عن ذنبِ المُذنب. والأَصل الآخر الكَرْم، وهي القِلادة...»(1).

وقال الرَّاغب: «الكَرَمُ إذا وُصِفَ الله تعالى به فهو اسم لإحسانه وإنعامه المتظاهر، نحو قوله: (فَإِنَّ رَبِّ غَنِيٌّ كَرِيمٌ) [النمل/40]، وإذا وُصِفَ به الإنسان فهو اسم للأَخاق والأَفعال المحمودة الَّتي تظهر منه، ولا يُقال: هو كريم حتَّى يظهر ذلك منه»(2) .

وجاء في (التَّعريفات): «الكريم: مَنْ يوصل النَّفع بلا عوض، فالكريم هو إفادة ما ينبغي لا لغرض؛ فَمَنْ يهب المال لعوض جلباً للنفع، أَو خلاصاً عن الذَّمِّ، فليس بكريم»(3).

والكريم من صفات الله - تعالى - وأَسمائه؛ فهو الَّذي لا ينفد عطاؤه وإحسانه، والكريم: الصَّفوح، والله - عَزَّ وَجَلَّ - هو الكريم الصَّفوح عن ذنوب عباده المؤمنین(4).

وجاء هذا الفعل «تكرَّم» مرَّةً واحدةً في الخطبة، أَورده أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) لتمجيد الله - تبارك وتعالى - وتعظيمه، ببيان صفاته، إذ قال (عليه السلام): «وتكرَّم وتفضَّل». وممَّا تجدر الإشارة إليه هنا أَمران، أَحدهما: أَنَّ الفعل ورد على زنة «فَعَّلَ»، وقد تقدَّم أَنَّ زنة «فَعَّلَ» لها معانٍ متعدِّدة ذكرها

ص: 90


1- معجم مقاييس اللغة 5/ 171و172
2- مفردات ألفاظ القرآن: 707
3- التعريفات: 150 و151
4- ينظر: تأويل مشكل القرآن: 377، ومعجم مقاييس اللغة: 5/ 172

العلماء، وأَشهرها المبالغة والتَّكثیر(1)، والآخر: أَنَّ الفعل «تكرَّم» ورد بلفظ الماضي، وتقدَّم الكلام على ما في فعل الماضي من دلالة النَّفاذ في الأَمر، والفراغ منه. فمراد أَمیرالمؤمنین (عليه السلام): أَنَّ كَرَمَ الله - عَزَّ وَجَلّ َ- كثیر، لا انقطاع له؛ فهو الَّذي لا ينفد عطاؤه وإحسانه، وكرمه - تبارك وتعالى - أَمر نافذٌ، قديم، فهو (عليه السلام) يتحدَّث عن أَمرحاصل نافذ قبل زمن التَّكلُّم(2).

«وتكرَّم» فعل ماضٍ مبنيٌّ على الفتح، والفاعل ضمیر مستتر، تقديره (هو) عائد إلى الله عَزَّوَجَلَّ، وجملة (وتكرَّم) معطوفة على جملة (فعدل).

* * *

تَفَضَّلَ

تدلُّ مادَّة «فضل» في اللُّغة على الزِّيادة. جاء في (العین): «...الفُضالةُ: ما فَضَل من كلِّ شيءٍ. والفَضْلةُ: البقيَّة من كلِّ شيءٍ... والفضيلة: الدرجة والرِّفعة في الفضلِ. والتَفَضُّل: التَطَوّل على غیرك، وقال اللهُ - جَلَّ وعزَّ-: (يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ)(3)معناه: يريد أَنْ يكونَ له الفضلُ عليكم في القَدْر والمنزلة»(4).

وقال ابن فارس «الفاء والضَّاد واللاَم أَصلٌ صحيح، يدلُّ على زيادةٍ في شيء.

من ذلك الفَضْل: الزِّيادة والخیر... ويُقال: فَضَلَ الشيَّءُ يَفْضُل، ورُبّمَا قالوا:

ص: 91


1- ينظر: الفعل (بلّغ) من الكتاب
2- ينظر: مصباح المتهجَّدين: 34، ومنهاج السعادة في مستدرك نهج البلاغة: 2/ 84
3- المؤمنون: 24
4- العين: 2/ 23

فَضِلَ يَفْضُل، وهي نادرة»(1).

وقال الرَّاغب: «الفَضْلُ: الزِّيادة عن الاقتصاد، وذلك ضربان: محمود: كفضل العلم والحلم، ومذموم: كفضل الغضب على ما يجب أَنْ يكون عليه. والفَضْلُ في المحمود أَكثر استعمالاً، والفُضُولُ في المذموم...»(2).

وجاء في (المحيط في اللغة): «... فَضَلَ يَفْضُلُ ورجلٌ مِفضالٌ: كثیرالخَیرْ، ويُقال: فَضِلَ يَفْضِلُ - كقولك: حَسِبَ يحَسِبُ - نادرٌ»(3).

وفرَّق أَبو هال العسكريّ بین (الفَضْل) و(الطَّول) بقوله: «إنَّ الطَّول هُوَ مَا يستطيل بِهِ الإنسان على مَنْ يقصدهُ بِهِ، ولا يكون إِلاَّ من المتبوع إلى التَّابِع، ولا يُقال: بفضل التَّابِع على المتبوع طَول، ويُقال: طَال عَلَيْهِ، وتطوَّل، وطَلَّ عَلَيْهِ: إِذا سَأَلَهُ ذَلِك... قَالَ تَعَالَی: (أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ)(4)، أَي: مَنْ مَعَه فضل يستطيل بِهِ على عشیرته»(5).

وجاء هذا الفعل «تَفَضَّلَ» مرَّةً واحدةً في الخطبة مطابقاً دلالته اللُّغوية، أَورده أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) لتمجيد الله - عَزَّ وَجَلّ - وتعظيمه، ببيان صفاته، إذ قال (عليه السلام): «وتكرَّم وتفضَّل». وما أَشرت إليه في الفعل «تكرَّم» يصدق على هذا الفعل؛ إذ ورد الفعل «تفضَّل» على زنة «فَعَّلَ»، الَّتي ذكر العلماء أَنَّ أَشهر

ص: 92


1- معجم مقاييس اللغة 4/ 450
2- مفردات ألفاظ القرآن: 639
3- المحيط في اللغة: 2/ 19. وينظر: جمهرة اللغة: 2/ 8، وتهذيب اللغة: 4/ 159، ولسان العرب:524/11، والمصباح المنیر: 7/ 216، وتاج العروس: 1/ 7407
4- التوبة: 86
5- الفروق اللغوية: 54

معانيها التَّكثیر، والمبالغة(1)، وهو بلفظ المضيِّ الدَّالِّ

على النَّفاذ في الَأمر(2).

و«تفضَّل» فعل ماضٍ مبنيٌّ على الفتح، والفاعل ضمیرمستتر، تقديره (هو) عائد إلى الله - تبارك وتعالى -، وجملة (وتفضَّل) معطوفة على جملة (وتكرَّم).

* * *

يَزَل

تدلُّ مادَّة «زال - يزال» في اللُّغة على دوام الشيَّء وملازمته. قال الأَزهريّ:

«وَيُقال:زَالَ الشيَّء: إِذا ترك عَن مَكَانه وَلم يبرحْه؛ وَمِنْه قيل: ليلٌ زائل النُّجُوم، إِذا وصف بالطُّول؛ أَي: تلوح نجومه وَلا تغيب... وَيُقال: مَا زالَ يَفعل كَذَا وَكَذَا، وَلا يزَال يَفعَل كَذَا، كَقَوْلِك: مَا بَرِحَ وَمَا فَتِئَ وَمَا انفَكَّ، ومضارِعُه لا يَزال، ولا يُتكلَّمُ بِهِ إِلاَّ بحرفِ نفيٍ»(3).

وقال الرَّاغب: «وقولهم: مَا زَالَ، ولا يزال خُصَّا بالعبارة، وأُجْرِيَا مجرى (كان) في رفع الاسم ونصب الخبر... ومعناهُ معنى ما بَرِحْتُ، وعلى ذلك: (وَلا يَزالُونَ مُختَلِفِینَ) [هود/118]، وقوله: (لا يَزالُ بُنْيانُهمُ) [التوبة/110»](4) .

وجاء في (المحيط في اللُّغة): «وقَوْلُم: ما زالَ فانٌ يَفْعَلُ كذا، ولم يَزَلْ: يُرَادُ به دَوَامُ ذلك. وزالَ الشيَّءُ: تَحرَّكَ عن مَكانِه، ولم يبَرْحْ»(5).

ص: 93


1- ينظر: الفعل (بلّغ) من الكتاب
2- ينظر: الفعل (حمدتُ) من الكتاب
3- تهذيب اللغة: 4/ 377
4- مفردات ألفاظ القرآن: 388
5- المحيط في اللغة: 2/ 305

وقال الفيُّوميّ: «(مَا زَالَ) يفعل كذا و(لا أَزَالُ) أَفْعَلُهُ لا يُتَكَلَّمُ به إلاَّ بحرف النَّفي، والمراد به ملازمة الشيَّء و الحال الدَّائمة، مثل ما بَرِحَ وزناً ومعنىً...»(1) .

وفرَّق أَبو هال العسكريّ بین قولنا: (لم ينفكَّ)، و(لم يرحْ)، و(لم يزلْ) بقوله:«إنَّ قَوْلنَا لم يَنْفَكّ يقتي غیراً لم يَنْفَكّ، وَهُوَ يستعمل في مَا كَانَ الَموْصُوف بِهِ لازِما لشيَء أَو مُقَارناً لَهُ، أَو مشبهاً بذلك على مَا ذكرنَا، وَلم يبرح يَقْتَضيِ مَكَانا لم يبرح مِنْهُ، وَلَيْسَ كَذَلِك لم يزل»(2) .

وجاء هذا الفعل «زال - يزال» مرَّةً واحدةً في الخطبة مطابقاً دلالته اللُّغوية، أَورده أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) لتمجيد الله - عَزَّ وَجَلَّ - وتعظيمه، ببيان صفة من صفاته، وهي القِدَم والدَّوام؛ إذ قال (عليه السلام): «لَم يَزَلْ، ولَنْ يَزُوْلَ، وَلَيْسَ كَمِثْلِهِ شَیءٌ، وَهُوَ قَبْلَ كُلِّ شَیءٍ، وَبَعْدَ كُلِّ شَیءٍ». ومراد أَمیر المؤمنین (عليه السلام): أَنَّ الله - تبارك وتعالى - قديمٌ، دائمٌ لا يزال موجوداً(3) .

و«زال - يزال» من أَخوات «كان»، يُشترَط في عملها أَنْ تُسبق بنفي لفظاً أَو تقديراً، أَو شبه نفي، ولا تستعمل إلاَّ ناقصة(4) ، و«لم يزل» لم: حرف نفي، وجزم، وقلب، و«يزلْ» فعل مضارع ناقص مجزوم، وعلامة جزمه السُّكون، وحُذفت الأَلف قبل الاَّم السَّاكنة، للتخلُّص من التقاء السَّاكنين، وأَصله: «لم يزالْ»، ثُمَّ حُذفت الأَلف فصار: «لم يزلْ»(5)، واسم «زال» محذوف تقديره

«هو»، عائدٌ إلى الله

ص: 94


1- المصباح المنير 4/ 131. وينظر: لسان العرب:11 / 313
2- الفروق اللغوية: 181
3- ينظر: مطالب السؤول: 176، ومصباح المتهجّدين: 33، ونهج السعادة في مستدرك نهج البلاغة:82/2
4- ينظر: شرح ابن عقيل: 1/ 263 و 279
5- ينظر: شرح المفصّل: 9/ 123، وظاهرة الجزم في اللغة العربية (رسالة ماجستير): 276 و 277 ،وظاهرة التخفيف في العربية (دراسة صرفية/ صوتية) (رسالة ماجستير): 156

- تبارك وتعالى -، والخبر محذوف - أَيضاً -، وتقديره «كائناً»، أَو«موجوداً».

* * * *

يَزُوْل

تدلُّ مادَّة «زال - يزول» في اللُّغة على الذَّهاب، والاستحالة، والاضمحلال.

جاء في (العین): «الزَّوال: ذهاب الملك. وزوال الشَّمس كذلك زالت الشَّمس زوالا»(1).

وقال ابن فارس: «الزَّاء والواو والاَّم أَصلٌ واحد يدلُّ على تنحِّي الشيَّءعن مكانه... وزالَ الشيَّء زَوَالاً، وزالت الشَّمس عن كبد السَّماء تَزُولُ، ويُقال: أَزلتُه عن المكان وزوَّلتُه عنه»(2).

وقال الرَّاغب: «زَالَ الشيَّء يَزُولُ زَوَالاً: فَارَقَ طَرِيْقَتَهُ جانحاً عنه، وقيل:أَزَلْتُهُ، وزَوَّلْتُهُ، قال: (اِنَّ اللَّه يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا) [فاطر/41]...

والزَّوَالُ يقال في شيء قد كان ثابتاً قبلُ...»(3) .

وورد هذا الفعل «زال - يزول» مرَّةً واحدةً في الخطبة للدَّلالة على معناه اللُّغوي، أَورده أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) تأكيداً للفعل الَّذي قبله، وهو قوله: «لم يزلْ» إذ قال (عليه السلام): «لَم يَزَلْ، وَلَنْ يَزُوْلَ، وَلَيْسَ كَمِثْلِهِ شَیءٌ، وَهُوَ قَبْلَ كُلِّ شَیءٍ، وَبَعْدَ كُلِّ شَیءٍ».فالله - عَزَّ وَجَلَّ - قديمٌ، دائمٌ، لم يزل موجوداً، مؤكِّداً هذه الصِّفة

ص: 95


1- العين: 2/ 91
2- ينظر: معجم مقاييس اللغة: 3/ 38
3- مفردات ألفاظ القرآن: 387

من صفات الله - تبارك وتعالى - بقوله: «لن يزول» هذا الوجود، ومعلوم أَنَّ «لن» أَداة نفي تفيد التَّأبيد(1)، فالله - عَزَّ وَجَلَّ - باقٍ، ودائمٌ، ولا يزول أَبداً. و«لن» أَداة نفي ونصب، و«يزولَ» فعل مضارع منصوب وعلامة نصبه الفتحة الظَّاهرة على آخره، والفاعل ضمیر مستتر تقديره «هو» عائدٌ إلى الله - تبارك وتعالى -. وجملة (ولن يزول) معطوفة على جملة (لم يزل).

* * *

يُدركُه

تدلُّ مادَّة «دَرَكَ» في اللُّغة على البلوغ، واللِّحاق، والإحاطة، والوصول إلى الشيَّء. جاء في (العین): «الدَّرَكُ: إدراكُ الحاجة والطَّلِبَة... والدَّرَك: أَسفل قعرالشيَّء... والدَّرَكُ: اللَّحق من التَّبعة، والدِّرَاك: اتِّباع الشيَّء بعضه على بعض في كلِّ شيء، يطعنه طعناً دركاً متداركاً، أَيْ: تباعاً واحداً إثر واحد، وكذلك في جري الفرس، ولحاقه الوحش. قال الله تعالى: (حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَميعاً)(2)، أَيْ:

تداركوا، أَدرك آخرُهم أَوَّلَم فاجتمعوا فيها»(3).

وقال ابن دريد: «أَدركتُ الرَّجلَ إدراكاً، إِذا لحقته فَهُوَ مُدْرَك... والدَّرَك أَيْضا: قَعْر الْبِئْر. وقعر كلِّ شَیء دَرَكُه... وَرجل دَرَكُ الطَّريدةِ، إِذا كَانَ لا تفوته طريدة...

وَأَدْركَ الغلامُ والجاريةُ، إِذا بلغا، إدراكاً»(4).

ص: 96


1- ينظر: شرح المفصّل: 7/ 16 و17، ومغني اللبيب: 1/ 221، والفعل المضارع دلالته وعلّة إعرابه وبنائه (رسالة ماجستير): 195
2- الأعراف: 38
3- العين 1/ 34
4- جمهرة اللغة: 1/ 337

وقال الأَزهريّ: «الدَّرك: أَسفل كلِّ شيءٍ ذي عمق كالرَّكية وغيرها...»(1) .

وقال الجوهريّ:«الإدراك: اللُّحوق، يُقال: مشيتُ حتَّى أَدركته... وأَدركتُه ببصري، أَيْ: رأَيته»(2).

وقال الرَّاغب: «وأَدْرَكَ: بلغ أَقى الشيَّء، وأَدْرَكَ الصَّبيُّ: بلغ غاية الصِّبا، وذلك حین البلوغ، قال: (حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ) [يونس/90]، وقوله: (لا تُدْرِكُهُ الأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصارَ) [الأنعام/103]، فمنهم من حمل ذلك على البصر الَّذي هو الجارحة، ومنهم من حمله على البصرة»(3). وجاء في مناجاة الإمام زين العابدين (عليه السلام) المعروفة ب «مناجاة العارفین»: «إلهي قصَرُتِ الأَلسُنُ عن بُلُوغِ ثنائِكَ كما يَليقُ بجَلالِكَ، وعجَزَتِ العُقولُ عن إدراكِ كُنْهِ جَمالِكَ، وانحسرتِ الأَبصارُ دُونَ النَّظرِ إلى سُبُحاتِ وجهِكَ»(4).

وتطابقت دلالة الفعل «يُدركه» في الخطبة مع دلالته اللُّغوية؛ إذ جاء الفعل «يدركه» مرَّةً واحدةً في الخطبة، إذ قال أَمیرالمؤمنین (عليه السلام): «رَبٌّ مُتَفَرِّدٌ بِعِزَّتِهِ، مُتَمَلِّكٌ بِقُوَّتِهِ، مُتَقَدِّسٌ بِعُلُوِّهِ، مُتَكَبرِّ بِسُمُوِّهِ، لَيْسَ يُدْرِكُهُ بَصرَ». وما زال كلامُ أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) في مقام بيان عظمة الله - عَزَّ وَجَلَّ- وتمجيده، فهو- تبارك وتعالى - ليس بيء من الأَشياء، ولا بمثلها، بل هو موجدُ كُلِّ مَنْ يريدُ إدراكه ببصره، وأَنَّى لمخلوق أَنْ يُدرك خالقه؟! وقد ضَلَّت العقول عن كنه

ص: 97


1- تهذيب اللغة: 3/ 341
2- الصحاح في اللغة: 1/ 203
3- مفردات ألفاظ القرآن: 312.وينظر: لسان العرب: 10/ 419، وتاج العروس: 1/ 6688
4- مفاتيح الجنان: 127

معرفته. قال - تعالى -: (لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ)(1) .

وقول أَمیر المؤمنین (عليه السلام): «ليس يدركه بَصرَ» فيه تضمین لقوله الله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ).

و«يدركه» فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه الضَّمَّة الظَّاهرة على آخره، والهاء ضمیر متَّصل مبنيٌّ في محلِّ نصب مفعول به،عائد إلى الله - عَزَّ وَجَلَّ -، و«بَصرَ» فاعل مرفوع، وعلامة رفعه الضَّمَّة الظَّاهرة على آخره.

* * *

يُحِطْ

يُقال:حَاطَهُ يَحوطُهُ حَوْطاً، وَحيطةً، وحياطةً: حفظه، وتعَهَّده وأَحرزه(2).

وقال ابن فارس: «الحَاءُ وَالْوَاوُ وَالطَّاءُ كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ، وَهُوَ الشيَّءُ يُطِيفُ بِالشيَّءِ. فَالَحوْطُ مِنْ حَاطَهُ حَوْطاً»(3). وأَحاطَتِ الخيلُ بفانٍ واحْتاطَتْ به، أَيْ: أَحدقت به(4) .

وقال الرَّاغب: «والإحاطة تقال على وجهین: أَحدهما: في الأَجسام نحو:

أَحَطْتُ بمكان كذا... والثَّاني: في العلم نحو قوله: (أَحاطَ بِكُلِّ شَیءٍ عِلْماً) [الطاق/12]، وقوله عَزَّ وَجَلَّ: (إِنَّ اللّه بِما يَعْمَلُونَ مُحيطٌ) [آل عمران/120]... والإحاطة بالشيَّء علماً هي أَنْ تعلم وجوده وجنسه وقدره وكيفيَّته، وغرضه

ص: 98


1- الأنعام: 103
2- ينظر: الاشتقاق: 1/ 198، ولسان العرب: 9/ 150
3- معجم مقاييس اللغة 2/ 120
4- ينظر: الصحاح 3/ 112، ولسان العرب: 9/ 149

المقصود به وبإيجاده، وما يكون به ومنه، وذلك ليس إلاَّ لله تعالى، وقال عَزَّ وَجَلَّ: (بَلْ كَذَّبُوا بِما لَم يُحيطُوا بِعِلْمِهِ) [يونس: 39]، فنفى ذلك عنهم»(1) . وأَحاط به، أَيْ: علمه من جميع وجوهه، ولم يفته شيء منه(2) .

وفرَّق أَبو هال العسكريّ بین (الإحاطة بالشيَّء) و(العلم به) بقوله: «الفرق بَین الْعَالم بالشيَّء وَالُمحِيط بِهِ أَنَّ أصل الُمحِيط المطيف بالشيَّء من حوله بِماَ هُوَ كالسُّورالدَّائرعَلَيْهِ يمْنَع أَنْ يخرج عنه مَا هُوَ مِنْهُ، وَيدخل فِيهِ مَا لَيْسَ فِيهِ، وَيكون من قبيل الْعلم وقبيل الْقُدْرَة مجَازاً»(3) .

وعرَّف الجرجانيّ (الإحاطة) بأَنَّها: «إدراك الشَّیء بكماله ظاهراً وباطناً»(4) .

وبهذا المعنى جاء هذا الفعل «يُحط» في الخطبة مرَّةً واحدةً، أَورده أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) في مقام بيان عظمة الله - تبارك وتعالى - وتمجيده؛ إذ قال (عليه السلام): «ولم يُحطْ به نَظَرٌ». ومراده (عليه السلام): أَنَّ الله - عَزَّ وَجَلّ - ربٌّ مُتَفرِّدٌ بعزَّتِه، مُتملِّكٌ بقوَّتِه، مُتقدِّس بعلوِّه، مُتكرِّ بسمِّوه؛ بدلالة «ليس يُدركُه بصرٌ، ولم يُحطْ بِهِ نَظَرٌ»؛ ولهذا فهو- تعالى - قويٌّ منيعٌ، بصیرٌ سميعٌ، حليمٌ كريمٌ، رؤوفٌ رحيمٌ، وأَنَّى لمخلوق أَنْ يعلَم وجودَ خالقه - عَزَّ وَجَلَّ -، وجنسَهُ، وقدْرَهُ، وكيَفيّتَهُ، تعالى عماَّ يصفون علوّاً كبیراً.

و«المحيط» صفةٌ من صفات الله - تبارك وتعالى -. قال: (اللُّه الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماَوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّه عَلىَ كُلِّ شَیءٍ

ص: 99


1- مفردات ألفاظ القرآن: 265
2- ينظر: أساس البلاغة: 99،ولسان العرب: 9/ 150
3- الفروق اللغوية: 75
4- التعريفات: 32

قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّه قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَیءٍ عِلْماً)(1) ، أَيْ: أَحاط بكلِّ شيء من الكلِّيَّات والجزئيَّات، لا يعزب عن علمه مثقال ذرَّةٍ في السَّماوات أَو في الأَرض، عالم بجميع الأَشياء، وقادرٌ على الإنشاء بعد الإفناء، فتبارك الله ربُّ العالمین، ولا حول ولا قوَّة إلاَّ بالله المحيط بالأَكوان، العيِّ العظيم الَّذي لا يخرج عن سيطرته شيء(2) .

و«لم يُحطْ » لم: حرف نفي، وجزم، وقلب، و«يُحط» فعل مضارع مجزوم، وعلامة جزمه السُّكون، وحُذِفَت الياء قبل الطَّاء السَّاكنة؛ للتَّخلُّص من التقاء السَّاكنين، وأَصله: «لم يُحيطْ»، ثُمَّ حُذِفَت الياء فصار: «لم يُحطْ »(3)، و«به» الباء حرف جرٍّ، والهاء ضمیر متَّصلٍ مبنيٌّ في محلِّ جرٍّ بحرف الجرِّ، و«نَظَرٌ» فاعل مرفوع، وعلامة رفعه الضَّمَّة الظَّاهرة على آخره. وجملة (ولم يحط به نظر) معطوفة على جملة (ليس يدركه بصر).

* * *

عَجَزَ

تدلُّ مادَّة «عَجَزَ» في اللُّغة على الضَّعف الَّذي هو نقيض القوَّة.يُقال: عَجَزَيَعْجِزُ فَهُوَعاجِزضعيف، وأَعْجَزَني فُانٌ إِذا عَجَزْتُ عَنْ طَلَبِهِ وإِدراكه(4) .

والعجز خلاف الحزم، وفُانٌ عَاجَزَ فُلاناً،إ ِذَا ذَهَبَ فَلَمْ يستطع الوصول إِلَيْهِ(5) .

ص: 100


1- الطلاق:12
2- ينظر: التفسیر الكبیر: 30/ 40 .وينظر: الجامع لأحكام القرآن: 18/ 16، والميزان في تفسیر القرآن: 56/16
3- ينظر: الفعل (زال - يزال) من الكتاب
4- ينظر: العين: 1/ 48
5- ينظر: معجم مقاييس اللغة: 4/ 232

وقال الرَّاغب: «... والعَجْزُ أَصلُهُ التَّأَخُّرُعن الشيَّء، وحصوله عند عَجزِ الأَمرِ، أَيْ:مؤخّره... وصار في التَّعارف اسماً للقصورعن فعل الشيَّء، وهو ضدّ القدرة»(1) .

وجاء هذا الفعل «عجز» في الخطبة مرَّةً واحدةً للدَّلالة على معناه اللُّغوي، أَورده أَمیرُالمؤمنین (عليه السلام) في مقام تمجيد الله - تبارك وتعالى -، بإضافة العجز إلى كُلِّ مَنْ يُريد بيان هيئته، وجاء فيها فعلاً ماضياً مجرَّداً، مبنيّاً على الفتح، إذ قال (عليه السلام): «عَجَزَ فِی وَصْفِهِ مَنْ يَصِفُهُ»، و«في وصفه» جارٌّ ومجرور، والجارُّ والمجرور متعلِّقان بالفعل (عجز)،و«مَن» اسم موصول مبنيٌّ في محلِّ رفع فاعل للفعل «عَجَزَ».

* * *

يَصفُهُ

الوصف: وصفُك الشيَّء بحليته ونعته. وقال ابن فارس: «الواو والصَّاد والفاء: أَصل واحد، هو تحلية الشيَّء. ووَصَفْتُهُ أَصِفُهُ وَصْفاً. والصِّفة: الأَمارة اللَّزمة للشيَّء... يُقال: اتَّصف الشيَّء في عین النَّاظر: احتمل أَنْ يوصف»(2) .

ووَصَفْتُهُ وَصْفاً من باب وَعَدَ نعتُّه بما فيه، ويقال هو مأْخوذ من قولهم: وَصَفَ الثَّوْبُ الجِسْمَ، إذا أَظهر وبینَّ هيئته، ويقال الصِّفة إنَّما هي بالحال المنتقِّلة، والنَّعت بما كان في خَلْقٍ أَو خُلُقٍ مثل العدة من الوعد، والجمع صفات(3) .

ص: 101


1- مفردات ألفاظ القرآن: 547. وينظر: تهذيب اللغة: 1/ 100، والصحاح في اللغة: 1/ 447، والمحيطفي اللغة: 1/ 34، ولسان العرب: 5/ 369، والمصباح المنر: 6/ 48، وتاج العروس: 1/ 3748
2- ينظر:العين: 2/ 54، والمحيط في اللغة: 2/ 235، والصحاح في اللغة: 2/ 281
3- ينظر: المصباح المنیر: 1/ 364. وينظر: مفردات ألفاظ القرآن: 873 ، والعباب الزاخر: 2/ 32 ،ولسان العرب: 5/ 356 ، وتاج العروس 1/ 6161

وورد هذا الفعل «يَصفُهُ» في الخطبة مرَّةً واحدةً موافقاً دلالته اللُّغوية؛ إذ قال أَمیرُالمؤمنین (عليه السلام) في مقام تمجيد الله - تبارك وتعالى -، بإضافة العجزإلى كُلِّ مَنْ يُريد بيان هيئته: «عَجَزَ في وَصْفِهِ مَنْ يَصِفُهُ».

و«يَصِفُهُ» فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه الضَّمَّة الظَّاهرة على آخره، والهاء ضمیر متَّصل مبنيٌّ في محلِّ نصب مفعول به،عائد إلى الله - عَزَّ وَجَلَّ -، والفاعل ضمیر مستتر، تقديره (هو) عائد إلى «مَنْ»،و«يَصفُه» جملة صلة الموصول، لا محلَّ لها من الإعراب.

* * *

ضَلَّ

تدلُّ مادَّة «ضَلَّ» في اللُّغة على الضَّياع، وعدم الهداية، والجوازعن القصد، والهلاك، والخفاء، والغياب، والعدول عن القصد. جاء في (العین): «ضَلَّ يَضِلُّ إذا ضاعَ، يُقال: ضَلَّ يَضِلُّ ويَضَلُّ. ومَنْ قال: يَضِلُّ، قال في الأَمر: اضْلِلْ، ومَنْ قال: يَضَلُّ، قال في الأَمر: اضْلَلْ. وتقول: ضَلَلْتُ مكاني إذا لم تهتَدِ له: وضلَّ اذا جازَ عن القَصْد. وأَضَلَّ بعیرَه إذا أُفْلِتَ فذَهَبَ. ويقال مِنْ ضَلَلْتُ: أَضِلُّ، ومِنْ ضَلِلْتُ أَضَلُّ... ورجلٌ مُضَلَّلٌ، أَيْ: لا يوفَّق لخیر، صاحبُ غَواياتٍ وبَطالاتٍ. وفان صاحب أَضاليلَ، الواحدةُ أُضلُولةٌ، قال: قد تَادَى في أَضاليلِ الهَوَى... والضِّليِّلُ على بناء سِكِّير: الذي لا يُقلِعُ عن الضَّلالة... والضَّالَّةُ من الإبِل: ما يَبقَى بمَضْيَعَةٍ لا يُعرَفُ رَبُّها»(1) .

ص: 102


1- العين:2/ 16

وجاء في (الجمهرة): «والضَّلال ضدّ الْهدى. وضلَّ فِی الْامر ضالا إِذا لم يهتد لَهُ. وضلَّ فِی الأَرْض ضلالا إِذا لم يهتد للسَّبيل... وَذهب فان ضَلَّةً إِذا لم يُدْرَ أَيْنَ ذهب... وضَلَّ الشيَّء إِذا خَفِي وَغَابَ... وضَلَلْتُ الشيَّءَ: أَنسيتُهُ»(1).

وقال ابن فارس: «الضَّاد واللاَّم أَصل صحيح يدلُّ على معنى واحد، وهو ضياع الشيَّء وذهابه في غیر حقّه... وكُلُّ حائر عن القصد ضالٌّ»(2).

وقال الجوهريّ: «ضَلَّ الشيَّءُ ضَاَلاً، أَيْ: ضاع، وهلك... والضَّلالة ضدّ الرَّشاد»(3).

وقال الرَّاغب: «الضَّلالُ: العدولُ عن الطَّريق المستقيم، ويضادُّه الهداية، قال تعالى: (فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها) [الإسراء/ 15]، ويقال الضَّلالُ لكلِّ عدولٍ عن المنهج، عمداً كان أَو سهواً، يسیراً كان أَو كثیراً... والضَّلال... ضربان: ضَلالٌ في العلوم النَّظريَّة، كالضَّلالِ في معرفة الله ووحدانيَّته، ومعرفة النُّبوَّة، ونحوهما المشار إليها بقوله: (وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّه وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً) [النساء/136]. وضَلالٌ في العلوم العمليَّة، كمعرفة الأَحكام الشَّعيَّة الَّتي هي العبادات»(4).

وجاء في (المحيط في اللُّغة): «ضَلَّ الشيَّءُ يَضِلُّ ضَلاَلاً: إذا ضاعَ. وإذا جارَ الرَّجُلُ عن القَصْدِ قيل: ضَلَّ يَضِلُّ ويَضَلُّ... وضَلَّ فانٌ: أَيْ ماتَ وغَيَّبَتْه

ص: 103


1- جمهرة اللغة 1/ 51
2- معجم مقاييس اللغة: 3/ 356
3- الصحاح في اللغة: 1/ 412
4- مفردات ألفاظ القرآن: 509 و510. وينظر: هذيب اللغة: 4/ 137 و138، والقاموس المحيط: 123/3، ولسان العرب: 11/ 390، والمصباح المنر: 5/ 351،وتاج العروس: 1/ 1324

الأَرْضُ. وأَضَلَّه قابِرُوه: دَفَنُوه. ومنه: ضَلَّ الماءُ في اللَّبَنِ: أَيْ خَفِيَ فيه»(1).

وورد هذا الفعل«ضَلَّ»مرَّةً واحدةً في الخطبة للدَّلالة على معناه اللُّغوي،إذ ما زال كلامُ أَمیرالمؤمنین(عليه السلام)في مقام بيان حال مَنْ يُريد أَنْ يصف هيئة الله-تبارك وتعالى-وجلاله،إذ قال(عليه السلام):«وضَلَّ في نَعْتِهِ مَنْ يُعَرِّفُهُ»،فهو جائزعن القصد،عادلٌ عنه،وهو إلى الضَّياع أَقرب منه إلى الهدى(2).

و«ضَلَّ» فعل ماضٍ مبنيٌّ على الفتح، و«في نعته» جارٌّ ومجرور متعلِّقان بالفعل (ضَلَّ)، و«مَن» اسم موصول مبنيٌّ في محلِّ رفع فاعل. وجملة (وضَلَّ في نعته) معطوفة على جملة (عجز في وصفه من يصفه).

* * *

يُعَرِّفُهُ

وأَصلُه مِنْ عَرَفْتُ، أَيْ: أَصَبْتُ عَرْفَهُ: أَيْ: رائِحَته، أَو مِنْ أَصَبْتُ عَرْفَهُ، أَي: خَدَّهُ، يُقال: عَرَفْتُ كذا. قال تعالى: (فَلَماَّ جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا)(3)(4). وعَرَفَهُ يَعْرِفُهُ مَعْرِفَةً وعِرْفاناً وعِرفَةً، والمُعْترَفُ بالشيَّء: الدَّالُّ عليهِ. وعَرَّفَه بِهِ: وَسَمَهُ، وتَعَرَّفَهُ المكان: تأمَّلَهُ(5) .والمعروف: اسمٌ لكلِّ فعل يُعْرَف بالعقل أَو الشرَّع

ص: 104


1- المحيط في اللغة: 2/ 189
2- ينظر: مطالب السؤول: 176، وكفاية الطالب: 56، ونهج السعادة في مستدرك نهج البلاغة: 2/ 84
3- البقرة: 89
4- ينظر: جمهرة اللغة: 1/ 421، وتهذيب اللغة: 1/ 273، والصحاح في اللغة: 1/ 462، والمحيط في اللغة: 1/ 91، ولسان العرب: 9/ 236، والمصباح المنیر: 2/ 53، وتاج العروس: 1/ 6012
5- ينظر: المحيط في اللغة: 1/ 91، والصحاح في اللغة: 1/ 462، ولسان العرب: 9/ 236، والمصباح المنیر: 2/ 35، وتاج العروس: 1/ 6012

حُسْنُهُ، والمنكرما يُنكَرُ بها. قال - تبارك وتعالى -: (يَأْمُرُونَ بِالَمعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الُمنْكَرِ)(1)(2) .

وقال الرَّاغب: «المَعْرِفَةُ والعِرْفَانُ: إدراك الشيَّء بتفكُّر وتدبُّر، وهو أَخصُّ من العلم، ويضادُّه الإنكار، ويُقال: فلان يَعْرِفُ اللهَ، ولا يُقال: يعلم الله متعدِّياً إلى مفعول واحد، لمَّا كان مَعْرِفَةُ البشرِ لله هي بتدبُّر آثاره دون إدراك ذاته، ويُقال:

الله يعلم كذا، ولا يُقال: يَعْرِفُ كذا، لمَّا كانت المَعْرِفَةُ تُسْتَعْمَلُ في العلم القاصرالمُتَوَصَّلِ به بتفكُّر... ويضادُّ المَعْرِفَةُ الإنكار، والعلم الجهل. قال: (يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللِّه ثُمَّ يُنْكِرُونَها) [النحل/ 83»](3).

والعارف في تعارف الفلاسفة والمتكلِّمن: هو المختصُّ بمعرفة الله، ومعرفة ملكوته، وحُسْنِ معاملته تعالى، يُقال: عرَّفه كذا(4). وبهذا المعنى ورد الفعل «يُعَرِّفُهُ» مرَّةً واحدةً في الخطبة؛ إذ قال أَمیرالمؤمنین (عليه السلام): «وَضَلَّ في نعته مَنْ يُعَرِّفُهُ».

و«يُعَرِّفُهُ» فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه الضَّمَّة الظَّاهرة على آخره، والفاعل ضمیر مستتر، تقديره (هو) عائد إلى الموصول «مَنْ»، والهاء ضمیر متّصل مبنيٌّ على الضمِّ في محلِّ نصب مفعول به، عائدٌ إلى الله - عَزَّ وَجَلَّ -، والجملة

«يُعَرِّفُهُ» صلة الموصول، لا محلَّ لها من الإعراب.

* * *

ص: 105


1- آل عمران: 104
2- ينظر: مفردات ألفاظ القرآن: 561، والتعريفات: 179
3- مفردات ألفاظ القرآن: 560 - 561
4- ينظر: مفردات ألفاظ القرآن: 561، والتعريفات: 179

قَرُبَ

تدلُّ مادَّة «قَرُبَ» في اللُّغة على الدُّنوِّ، والوصول إلى الشيَّء، والتَّناول. والقُرْبُ ضدّ البُعْد، والتَّقرُّب: التَّدنّي، والتَّوصُّل إلى الشيَّء، ومنه الاقتراب(1) .

وقال الرَّاغب: «الْقُرْبُ والبعد يتقابلان. يُقال: قَرُبْتُ منه أَقْرُبُ، وقَرَّبْتُهُ أُقَرِّبُهُ قُرْباً وقُرْبَاناً، ويستعمل ذلك في المكان، وفي الزَّمان، وفي النِّسبة، وفي الحَظوة، والرِّعاية، والقدرة. فَمِنَ الأَوَّل، نحو: (وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ) [البقرة: 35]...

وفي الزَّمان، نحو: (اقْترَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهمْ وَهُمْ فِی غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ) [الأنبياء: 1]... وفي النِّسبة، نحو: (وَإِذا حَضرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى) [النساء: 8]... وفي الحَظوة: (وَلا الَملائِكَةُ الُمقَرَّبُونَ) [النساء: 172]... وفي الرِّعاية، نحو: (إِنَّ رَحْمتَ اللَّه قَرِيبٌ مِنَ الُمحْسِنِينَ) [الأعراف :56]... وفي القدرة، نحو: (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْه هِمِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) [ق:16]»(2) .

ويُقال: أَقربت الحامل: دنا ولادُها، وأَقارب الرَّجل: عشیرته الأَدنون، وقارب الشيَّء: داناه، وتقارب الشَّيئان: تدانيا(3).

وقال ابن منظور: «القُرْبُ نقيضُ البُعْدِ. قَرُبَ الشيَّءُ، بِالضَّمِّ، يَقْرُبُ قُرْباً وقُرْباناً وقِرْباناً، أَي: دَنا، فَهُوَ قريبٌ، الْوَاحِدُ وَالاثْنَانِ وَالَهمِيعُ فِی ذَلِكَ سَوَاءٌ»(4) .

وقد ذكر الزَّبيديّ أَنَّ الفعل «قَرُبَ» بضمِّ الرَّاء، يلفظه بعض العرب بكسرالرَّاء على أَساس أَنْ لا فرق بينهما، وإنْ كان بعضهم يُفرِّق بین «قَرُبَ»، و«قَرَبَ»، فإذا

ص: 106


1- ينظر: العين: 1/ 398، وجمهرة اللغة: 1/ 367، وتهذيب اللغة: 3/ 216، والمحيط في اللغة: 1/ 474
2- مفردات ألفاظ القرآن:663-664
3- ينظر: المحكم والمحيط الأعظم: 3/ 48، والمصباح المنير: 7/ 353
4- لسان العرب: 1/ 662

قيل: لا تَقْرَب بفتح الرَّاء، فمعناه: لا تلتبس بالفعل، وإنْ كان بضمِّ الرَّاء، كان معناه: لا تَدْنُ(1) .

وسأُرجئ الكلام على معنى الفعل «قَرُبَ» في الخطبة بعد إتمام المعنى للفعل الآتي: «بَعُدَ»؛ فكلاهما متلازمان، أَوردهما أَمیر المؤمنین (عليه السلام) هكذا: «قَرُبَ فَبَعُدَ، وَبَعُدَ فَقَرُبَ»؛ في مقام تمجيد الله - تبارك وتعالى - وتعظيمه، ببيان صفاته - عَزَّ وَجَلَّ-.

* * *

بَعُدَ

قال الرَّاغب: «البُعْد: ضدّ القرب، وليس لهما حدٌّ محدود، وإنَّما ذلك بحسب اعتبار المكان بغیره، يقال ذلك في المحسوس، وهو الأَكثر، وفي المعقول، نحو قوله تعالى: (ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً) [النساء: 167]... يُقال: بَعُدَ: إذا تباعد، وهو بعيد، (وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمینَ بِبَعِيدٍ) [هود: 83]، وبَعِدَ: مات، والبُعْد أَكثر ما يُقال في الهلاك، نحو: (بَعِدَتْ ثَمُودُ) [هود: 95]... والبَعَدُ والبُعْدُ يُقال فيه وفي ضدِّ القرب»(2).

وقد فرَّق العلماء بین الفعل «بَعُدَ»، والفعل «بَعِدَ». ورد في (تاج العروس):

«والبُعْد: المَوْتُ، والَّذي عَبرَّ بِهِ الأَقدمون أَنَّ البُعْد بمعنَى الهاكِ كماَ فِی الصِّحاح وَغَیره، وَيُقال: إِنَّ الَّذي بمعنَى الهاكِ إِنَّما هُوَ البَعَد، محرَّكةً، وفِعلُها ك (كَرُمَ) (فَرِحَ)، وظَاهِرُه أَنَّ فِعلهما مَعاً من الْبَابَینْ بالمَعنَیين، وَلَيْسَ كذلك؛ فإِنَّ الأَكثرَ

ص: 107


1- ينظر: تاج العروس: 1/ 842
2- مفردات ألفاظ القرآن: 133

على منْع ذلك، والتَّفرقَةِ بَينهماَ، وأَنَّ الْبُعْدَ الَّذي هُوَ خِلاف القُرْب، الفِعل مِنْهُ بالضَّمِّ ك (كَرُمَ)، والبَعَد، محرَّكةً، الَّذِي هُوَ الهَلاك الفِعْل مِنْهُ بَعِدَ بالكَسْر، كفَرِح، ومَنْ جَوَّزَ الاشتراكَ فيهاَ، أَشار إلى أَفصحِيَّة الضَّمِّ فِی خِلافِ القُرْب، وأَفصحيَّة الكسرِ فِی معنَى الهلاكِ... أَنَّ الْعَرَب بَعضهم يَقُول: (بَعِدَ)، وبعضُهم يَقُول:

(بَعُدَ)، مثل (سَحِقَ وسَحُقَ). وَمن النَّاس مَنْ يَقول: (بَعُدَ) فِی الَمكَان، و(بَعِدَ) فِی الهَلاك»(1).

و«بَعُدَ»، مضارعُه «يَبْعُدُ»، ومصدرُه «بُعْداً»، ومعناه ضدّ القرب(2).

بعد أَنْ أَتممْتُ الحديث عن المعنى اللُّغوي للفعلین: «قَرُبَ»، و«بَعُدَ»، آتي إلى معناهما في الخطبة، لكنْ قبل ذلك أَقول: كان للعلماء كلام على مسألة قُرْب العباد من الذَّات الإلهيَّة المقدَّسة، وبُعْدِهم عنها؛ إذ قال الرَّاغب: «... والتَّقَرُّبُ: التَّحدِّي بما يقتي حَظْوَة، وقُرْبُ الله تعالى من العبد: هو بالإفضال عليه، والفيض لا بالمكان؛ ولهذا روي «أَنَّ موسى عليه السلام قال: إلهي أَ قريب أَنت فأُناجيك؟ أَم بعيد فأُناديك؟ فقال: لو قَدَّرَتُ لك البُعْد لما انتهيتَ إليه، ولو قَدَّرَتُ لك القُرْبَ لما اقتدرتَ عليه(3)... وقُرْبُ العبد من الله في الحقيقة: التَّخصُّص بكثیر من الصِّفات الَّتي يصحُّ أَنْ يوصف الله تعالى بها، وإنْ لم يكن وصف الإنسان بها على الحدِّ الذي يوصف تعالى به نحو: الحكمة والعلم والحلم والرَّحمة والغنى، وذلك يكون بإزالة الأَوساخ من الجهل والطَّيش والغضب، والحاجات البدنيَّة بقدرطاقة البشر، وذلك قُربٌ روحانيٌّ لا بَدَنيٌّ، وعلى هذا الْقُرْبِ نبَّه عليه الصَّلاة والسَّلام

ص: 108


1- تاج العروس: 1/ 1131
2- ينظر: مفتاح الفلاح في شرح دعاء الصباح: 49
3- ينظر: المصنّف (لابن أبي شيبة): 1/ 108، والدرّ المنثور: 1/ 470

فيما ذَكَر عن الله تعالى: (من تَقَرَّبَ إليّ شبراً تَقَرَّبْتُ إليه ذراعاً)(1)»(2).

وقال ابن الأَثیر: «المراد بقرب العبد من الله تعالى القُرْبُ بالذِّكروالعمل الصَّالح، لا قُرْب الذَّات والمكان؛ لأَنَّ ذلك من صفات الأَجسام.

والله يتعالى عن ذلك ويتقدَّس، والمراد بقرب الله من العبد، قُرْبُ نعمه وأَلطافه منه، وبرّه وإحسانه إليه، وترادف مننه، وفيض مواهبه عليه»(3).

وقال ما هادي السَّبزواريّ: «والمراد بالبُعْد: البُعْد العقليّ بمقتى البرهان، لا البُعْد الذي قد يجامع الإمكان، ففيه ردٌّ على المشبِّهة الَّذين يقولون بصحَّة رؤيته في الجهة والمكان، دنيا وعقبى؛ لكونه عندهم جسماً - تعالى عن ذلك علوّاً كبیرا -، وعلى الأَشاعرة الَّذين قالوا بصحَّة رؤيته في الآخرة، منزَّهاً عن الجهة والمكان»(4).

وإليه ذهب الطَّبريّ(5)، والطَّبرسّي(6) ، والقرطبيّ(7)من المفسّرِين .

وقال السَّيِّد الشَّهيد محمَّد محمَّد صادق الصَّدر قولاً يتضمَّن نقطتین؛ وذلك في معرض الإجابة عن سؤال افراضيّ، مفادُه: ما معنى الاقراب؟ فقال: «جوابه:أَنَّ له معنين، الأَوَّل: وهو ما عليه إجماع المفسّرِين، ومنهم السَّيِّد الطَّباطبائيّ قدِّس سرُّه، وهو معنى إثباتيّ، بمعنى قصد القربى، أَمَّا في الصَّاة أَو في مطلق الطَّاعة،

ص: 109


1- ينظر: صحيح البخاري: 13/ 384
2- مفردات ألفاظ القرآن: 664 و665
3- النهاية في غريب الحديث والأثر: 4/ 53.وينظر: لسان العرب: 1/ 662
4- شرح دعاء الصباح: 49 -50
5- ينظر: جامع البيان عن تأويل آي القرآن: 30/ 326
6- ينظر: مجمع البيان: 10/ 402
7- ينظر: الجامع لأحكام القرآن: 20/ 128

كما ورد عن النَّبيِّ - صَلىَّ اللهُ عَلِيهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ - أَنَّه قال لأَبي ذرٍّ: لتكن كُلٌّ أَفعالك بنيَّة، أَيْ: بقصد القربى؛ فإنَّ المتورِّع يكمن فيه ذلك دائماً.

الثَّاني: ثبوتيّ، فهو يقتي الاقتراب المعنويّ من الله سبحانه وتعالى، أَو من الكمال المطلق، وهو حصول التَّكامل فعلاً....»(1).

وأَرى أَنَّ دلالة الفعلین «قَرُبَ»، و«بَعُدَ» في الخطبة جاءت موافقة لما ذكره العلماء من معنىً لِقُرْبِ العباد من الذَّات الإلهيَّة المقدَّسة، وبُعْدِهم عنها، ولعلَّ ما يُثبت كلامنا هذا أَمران، أَحدهما: قول أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) نفسه في أَحد أَدعيته المنسوبة إليه(2) ، وهو(دعاء الصَّباح)، إذ قال (عليه السلام): «يا مَنْ قَرُبَ مِنْ خَطَرَاتِ الظُّنونِ، وبَعُدَ عَنْ لَحظَاتِ العُيُوْنِ»(3)، فالمراد من القُرْب هنا: القُرْب المعنويّ، لا المكانيّ؛ لاستحالة ذلك في ذاته المقدَّسة، جلَّت عظمتُه -، قال المجلسيّ في بيان معنى القُرْب في الدُّعاء: «أَيْ: مَنْ كان قريباً من الظُّنون الَّتي تخطر بالقلوب، وفيه إيماء إلى أَنَّ العلم بذاته وصفاته مستحيل، وغاية الأَمر في هذا المقام هو الظَّنُّ، والخطرات جمع خطرة، وهي الخُطور»(4).

وقال المجلسيّ في بيان معنى البُعْد في الدُّعاء: «يلوح منه أَنَّ الله - تعالى - يمكن إدراكه بالعقل، ولا يمكن إبصارُه بالعین، كما هو مذهب المعتزلة، يؤيِّدُه قوله: (لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَار) [الأنعام: 103]، والتَّحقيق أَنَّه لا يمكن أَنْ تحول الأَبصار حول جنابه في مرتبة إطلاقه، وإنْ أَمكن إبصاره في مرتبة التَّمثُّل

ص: 110


1- 7ينظر: منّة المنّان: 1/ 372
2- ينظر: في نسبته: بحار الأنوار: 38/ 151
3- المصدر نفسه: 38/ 150
4- بحار الأنوار: 38/ 153

والتَّنزُّل إلى مراتب الظُّهور، ومدارج البدور»(1) .

وعلى ذلك يكون المعنى العامُّ للدُّعاء الشَّريف - كما يقول السَّيِّد محمَّد كلانتر- هو: «إلهي: أَنت الَّذي قَرُبْتَ بتلك الخواطر الَّتي يحيطها الظَّنُّ لدى المؤمنین الَّذين عمرت قلوبهم بالإيمان، وقُرْبك من تلك القلوب، إنَّما هو أَثر تلك الخطابات الَّتي ترد منك عليها، وقد ملئت تلك القلوب من حبِّك، وآمنت بك إيماناً كاملاً، ويقيناً صادقاً... إلهي: أَنت بَعُدْتَ عن أَنظارالَّذين ليست لهم أَعین البصیرة، وأَمَّا الَّذين لهم تلك العيون، فأَنْتَ قريبٌ منهم،ولستَ بعيداً عنهم»(2).

والأَمر الآخر: قول أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) نفسه في إحدى خطبه؛ إذ قال (عليه السلام) في صفات الله - عَزَّ وَجَلَّ -: «قَرِيْبٌّ مِنَ الأَشْياء غَیرْ مُلَمِسٍ، بَعِيْدٌ مِنْهَا غَیرْمُبَايِنٍ»(3).

فقول (عليه السلام): «قَرِيْبٌّ مِنَ الأَشْياء غَیرْ مُلَامِسٍ» يدلُّ على أَنَّ: «قربه سبحانه من الأَشياء إنّمَا هو قُرْبٌ معنويٌّ؛ لأَنَّه - سبحانه - ليس بجسم (فَإِنِّی قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ)(4)، فَقُرْبُهُ منها بمعنى علمه بها - عَزَّ وَجَلَّ -، وقُرْبُ الله من الأَشياء هو قُرْبٌ أَزليٌّ، لا يُوصَف بالزَّوال، وإنّمَا هو مازم لها أَبداً، وغیر مفارق»(5).

ص: 111


1- بحار الأنوار: 38/ 154
2- مفتاح الفلاح في شرح دعاء الصباح: 48 و50
3- ينظر: شرح نهج البلاغة (ابن أبي الحديد): 10/ 64، ومنهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (للخوئي):85/ 14
4- البقرة: 186
5- أبنية المشتقّات في نهج البلاغة - دراسة دلالية - (رسالة ماجستير): 47

وقوله (عليه السلام): «بَعِيْدٌ مِنْهَا غَیرْ مُبَايِنٍ» يدلُّ على أَنَّ: «بُعْده - عَزَّ وَجَلَّ - عن الأَشياء، إنَّما هو انتفاء اجتماعه معها؛ لأَنَّه ليس بجسم، فلا يطلق عليه البينونة، وذلك كما يصدق على البعيد بالوضع، يصدق على البعيد بالذَّات الذي لا يصحُّ الوضع والأَيْنُ عليه، (فهو مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُم)(1)، من غیر اجتماعه - سبحانه - مع الأَشياء»(2).

ومهما يكن من أَمرٍ، فإنَّ المراد من قول أَمیرالمؤمنین (عليه السلام): «قَرُبَ فَبَعُدَ، وَبَعُدَ فَقَرُبَ» أَنَّه - تبارك وتعالى - مع كمال قربه، بعيدٌ عن تحديدات البشريَّة، ومع كمال بعده، فهو أَقربُ إلينا من حبل الوريد(3).

* * *

يُجِيْبُ

جاء في (تهذيب اللُّغة): «الجوابُ رَدِيدُ الْكَلام، وَالْفِعْل: أَجَابَ يُجيبُ. وَمن أَمْثَال الْعَرَب: أَساءَ سَمْعاً فأَسَاءَ جابةً(4). قَالَ أَبُو الَهيْثَم: جابةٌ اسمٌ يقوم مقَام الْمصدر، وَهُوَ كَقَوْلِهم: أَطعتُهُ طَاعَة... فالإجابة مصدرٌ حقيقيّ، والجابة اسمٌ، وَكَذَلِكَ الَجواب، وَكلاهما يقومان مقَامَ الْمصدر»(5).

وقال الرَّاغب: «وجوابُ الكلام: هو ما يقطع الجوب؛ فيصل من فم القائل

ص: 112


1- الحديد: 4
2- أبنية المشتقّات في نهج البلاغة دراسة دلالية (رسالة ماجستير): 47
3- ينظر: نهج السعادة في مستدرك نهج البلاغة: 2/ 84، وكفاية الطالب: 56
4- ينظر: جمهرة الأمثال: 1/ 25
5- تهذيب اللغة 4/ 57. وينظر: العین: 1/ 493، ومعجم مقاييس اللغة 1/ 491، والمحيط في اللغة: 142/2

إلى سمع المستمع، لكنْ خُصَّ بما يعود من الكلام دون المبتدأ من الخطاب، قال تعالى: (فمَا كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا) [النمل: 56]، والجواب يُقال في مقابلة السُّؤال، والسُّؤال على ضربین:

طلبُ مقال، وجوابه المقال.

وطلبُ نوال، وجوابه النَّوال.

فعلى الأَوَّل: (أَجِيبُوا داعِيَ اللِّه) [الأَحقاف: 31]، وقال: (وَمَنْ لا يُحجبْ داعِيَ اللَّه) [الأحقاف: 32].

وعلى الثَّاني قوله: (قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما) [يونس: 89]، أَيْ: أُعطيتما ما سأَلتما.

والاستجابة قيل: هي الإجابة، وحقيقتها هي التَّحرِّي للجواب والتَّهيؤ له، لكن عُبرِّ به عن الإجابة لقلَّة انفكاكها منها، قال تعالى: (اسْتَجِيبُوا لَّله وَلِلرَّسُولِ) [الأنفال: 24]، وقال: (ادْعُونِ أَسْتَجِبْ لَكُمْ) [غافر: 60]»(1).

وفي أَسماء الله - عَزَّ وَجَلَّ - المجيب، وهو الَّذي يُقابل الدُّعاء والسُّؤال بالعطاء والقبول، وهو اسم فاعل من: أَجابَ يُجيبُ، قال تعالى: (أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَادَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِی)(2) ،أَيْ: فليجيبوني، تقول: أَجابَه عَنْ سُؤَاله، وَقَدْ أَجابَه إِجَابَةً، وَإِجَابًا، وجَواباً، وَجَابَةً، واسْتَجْوَبَه واسْتَجابَه، واسْتَجابَ لَهُ. والاستِجابةُ والإِجابةُ، بِمَعنًى واحد، ويُقال: مَا أَجْوَدَ جَوابَه!، وَهُوَ أَجْوَدُ جَواباً، لا يُقال: مَا أَجْوَبَه، ولا هُوَ أَجْوَبُ مِنْكَ، وَكَذَلِكَ يَقُولُونَ: أَجْوِدْ بِجَوابهِ!، وَلا يُقال: أَجوِب

ص: 113


1- مفردات ألفاظ القرآن: 210
2- البقرة: 186

بِهِ»(1).

وقال الفيُّوميّ: «جَوَابُ الكتاب معروف، وجَوَابُ القول قد يتضمَّن تقريره، نحو: (نَعَمْ) إذا كان جواباً لقوله: (هل كان كذا؟)، أَو نحوه، وقد يتضمَّن إبطاله، والجمع (أَجْوِبَةٌ، وجَوَابَاتٌ)، ولا يسمَّى جواباً إلاَّ بعد طلب، وأَجَابَهُ إِجَابَةً، وأَجَابَ قوله واسْتَجَابَ له، إذا دعاه إلى شيءٍ فأَطاع، وأَجَابَ الله دعاءه: قَبِلَهُ...

وجَابَ الأرض يَجوبُها جَوْبًا:قطعها،و(انْجَابَ) السَّحاب: انكشف»(2) .

وفرَّق أَبو هال العسكريّ بين (الطَّاعة)و(الإجابة) بقوله: «إنَّ الطَّاعة: موافقة الإرادة الحادثة إلى الفعل برغبته، أَو رهبته. والإجابة: موافقة الدَّاعي إلى الفعل من أَجل أَنَّه دَعَا به؛ ولذا يُقال: أَجاب اللهُ فلاناً، ولا يُقال: أَطاعَهُ... والطَّاعة تكون من الأَدنى للأَعى؛ لأَنَّها في موافقة الإرادة الواقعة موقع المسأَلة، ولا تكون إجابةً إلاَّ بأَنْ تُفعل لموافقة الدُّعاء بالأَمر، ومن أَجله»(3) .

وجاء هذا الفعل «يجيبُ» مرَّةً واحدةً في الخطبة، مطابقاً معناه اللُّغويّ، أَورده أَمیرُالمؤمنین (عليه السلام) في مقام تعظيمه لله - عَزَّ وَجَلَّ - وتمجيده، ببيان صفةٍ من صفاته، في أَنَّه - تبارك وتعالى - يقبل دعوة مَنْ يدعوه، إذ قال (عليه السلام):

«وَيُجيْبُ دَعْوَةَ مَنْ يَدْعُوْهُ». وإجابة الدُّعاء من الله - عَزَّوَجَلَّ - لعباده تُعَدُّ وعداً منه - تبارك وتعالى -، وبشارةً للمؤمنين، ويمكن أَنْ تشتمل على الثَّواب الدُّنيويّ، أَو الأُخرويّ، قال - تعالى -: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِ أَسْتَجِبْ لَكُمْ)(4)، وقال:

ص: 114


1- ينظر: لسان العرب: 1/ 283، وتاج العروس: 1/ 367
2- المصباح المنير: 1/ 113
3- الفروق اللغوية: 230
4- غافر: 60

(وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالَحاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ)(1). واستجابة الدُّعاء أَنواع، فقد رُوي عن أَبي سعيد الخدريّ أَنَّه قال: قال رسول الله - صَلىَّ اللهُ عَلِيهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ -: «دعوة المسلم لا تُردُّ إلاَّ لإحدى ثلاث: ما لم يدعُ بإثم، أَو قطيعة رحم، إمَّا أَنْ يُعجَّل له في الدُّنيا، وإمَّا أَنْ يُدَّخَرَ له في الآخرة، وإمَّا أَنْ يُصرْفَ عنه من السُّوء بقدر ما دعا»(2).

و«يُجيبُ» فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه الضَّمَّة الظَّاهرة على آخره، والفاعل ضمیر مستتر، تقديره «هو»، عائد إلى الله - تبارك وتعالى -، و«دعوة» مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الفتحة الظَّاهرة على آخره، وهو مضاف، و«مَنْ» اسم موصول مبنيٌّ في محلِّ جرٍّ بالإضافة، و«يدعوه»: فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه الضَّمَّة المقدَّرة على الواو، والفاعل ضمیرمستتر، تقديره (هو) عائد إلى الله - عَزَّ وَجَلَّ -، وجملة«يدعوه» صلة الموصول لا محلَّ لها من الإعراب.

وممَّا تجدرالإشارة إليه أَنَّ أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) استعمل هذا الفعل «يُجيبُ» بصيغة المضارع؛ لما فيه من الدَّلالة على الحال والاستقبال، والتَّجدُّد والحدوث(3)؛ فصيغة المضارع مناسبة لهذا الفعل؛ فيكون مراد أَمیر المؤمنین (عليه السلام): أَنَّ إجابة الدُّعاء مستمرَّة باستمراروجود الدَّاعي، فما زال هناك داعٍ، فهو - عَزَّ وَجَلَّ - يجيب دعوته، فالإجابة مستمرَّة، ومتجدِّدة باستمرار الدُّعاء وتجدُّده.

* * *

ص: 115


1- الشورى: 26
2- ينظر: الموطأ: 172، وصحيح مسلم: 17/ 52، والترغيب والترهيب: 3/ 285
3- ينظر: الفعل (نستعينه) من الكتاب

يَدْعُوهُ،يُدْعَى

تدلُّ مادَّة «دعا» في اللُّغة على الطَّلب، والرَّغبة، والمسألة، والسَّوق، والجمع.

جاء في (العین): «والادِّعاء في الحرب: الاعتزاء. ومنه التَّداعي، تقول: إليَّ أَنا فلان...

والادِّعاء أَنْ تدَّعي حقًّا لك ولغیرك، يُقال: ادَّعى حقا أَو باطلا. والتَّداعي: أَنْ يدعو القوم بعضهم بعضا... والدَّاعية: صريخ الخيل في الحروب... وقوله - عَزَّ وَجَلَّ - (تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّی)(1)، يُقال: ليس هوالدُّعاء، ولكن دعوتها إيَّاهم:ما تفعل بهم من الأَفاعيل.يعني: نار جهنَّم. ويُقال: تداعى عليهم العدو من كلِّ جانبٍ: أَقبل. وتداعَتِ الحيطانُ إذا انقاضَّتْ وتَفَرَّزَتْ... وفانٌ داعي قومٍ وداعية قومٍ: يدعو إلى بيعتهم دعوة»(2).

وجاء في (الصِّحاح في اللُّغة): «الدَّعْوَةُ إلى الطَّعام بالفتح. يُقال: كنَّا في دَعْوَةِ فلان ومَدْعاةِ فلان، وهو في الأَصل مصدرٌ، يريدون الدُّعَاءَ إلى الطَّعام. والدِّعْوَةُ بالكسر في النَّسب... ودعوت فلانا، أَيْ: صِحْتُ به واسْتَدْعَيْتُهُ، ودَعَوْتُ الله له وعليه دُعاءً»(3).

وقال الرَّاغب: «الدُّعَاء كالنّداء، إلاَّ أَنَّ النِّداء قد يقال بيا، أَو أَيا، ونحو ذلك من غیرأَنْ يضمَّ إليه الاسم، والدُّعَاء لا يكاد يقال إلاَّ إذا كان معه الاسم، نحو: يا فلانُ، وقد يستعمل كُلُّ واحد منهما موضع الآخر. قال تعالى: (كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلا دُعاءً وَنِداءً) [البقرة: 171]، ويستعمل استعمال التَّسمية، نحو:

دَعَوْتُ ابني زيداً، أَيْ: سمَّيته... ودَعَوْتَهُ: إذا سأَلته، وإذا استغثته، قال تعالى:

ص: 116


1- المعارج: 17
2- العين 1/ 132
3- الصحاح في اللغة 1/ 206

(قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ) [البقرة: 68]... والدُّعاءُ إلى الشيَّء: الحثُّ على قصده (قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَّی مِّما يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) [يوسف: 33]... والدَّعْوَى: الادِّعاء، قال: (فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا) [الأعراف: 5]، والدَّعْوَى: الدُّعاء، قال:

وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الَحمْدُ لَّله رَبِّ الْعالِمینَ [يونس: 10]»(1).

ودعوتُ الله أَدْعُوهُ دُعَاءً: ابتهلت إليه بالسُّؤال، ورغبت فيما عنده من الخیر، ودَعَوْتُ زيداً ناديته، وطلبت إقباله، ودَعَا المؤذن النَّاس إلى الصَّلاة؛ فهودَاعِي اللهِ، والجمع، ودَعَوْتُ الولد زيداً وبزيدٍ: سمَّيته بهذا الاسم، والدِّعْوَةُ بالكسرفي النِّسبة، يُقال: دَعَوْتُهُ بابن زيد، وادَّعَيْتُ الشيَّء: تمنَّيته وطلبته لنفي، وتَدَاعَى:

البنيان: تصدَّع من جوانبه، وآذن بالسُّقوط والانهدام، وتَدَاعَى الكثيب من الرمل:

إذا هيل فانهال، وتَدَاعَلى النَّاس على فلان: تألَّبوا عليه، وتَدَاعَوا بالأَلقاب: دعا بعضهم بعضاً بذلك(2). والدُّعاءُ: الرَّغْبَةُ إلى الله تعالى، دَعا دُعاءً ودَعْوَى، وتَدَاعَوْا عليه: تَجمَّعُوا. ودَعاهُ :ساقَهُ. والنبيُّ، صَلىَّ اللهُ عَلِيهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ: داعِي اللهِ، ويُطْلَقُ على المُؤَذِّنِ، وتَداعَى العَدُوُّ: أَقْبَلَ(3).

وقد جاء هذا الفعل «دَعَا» مرَّتین في الخطبة، ورد في المرَّة الأُولى بمعنى العبادة المعروفة، وهو أَنْ يتوجَّه العبد إلى خالقه، ويطلب منه قضاء حاجاته(4)، نحو قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُّر دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْه)(5). أَورده أَمیر

ص: 117


1- مفردات ألفاظ القرآن: 315 و316
2- ينظر: المصباح المنير: 3/ 228
3- ينظر: القاموس المحيط: 3/ 419. وتهذيب اللغة: 1/ 347 و348، ومعجم مقاييس اللغة: 2/ 229، ولسان العرب: 14/ 257، وتاج العروس: 1/ 8381
4- ينظر: مجمع البيان: 6/ 501،وبصائر ذوي التمييز: 2/ 600
5- الزمر: 8

المؤمنین (عليه السلام) لبيان صفة من صفات الله - تبارك وتعالى - وهي المجيب، فهو - عَزَّوَجَلَّ - يجيب دعاء مَنْ يدعوه؛ إذ قال (عليه السلام): «يُجيْبُ دَعْوَةَ مِنْ يَدْعُوهُ»، فمراد أَمیرالمؤمنین (عليه السلام): أَنَّ إجابة الدُّعاء من الله - تبارك وتعالى - لعباده مستمرَّة ومتجدِّدة باستمرار وجود الدَّاعي، فما زال هناك داعٍ، فهو - عَزَّ وَجَلَّ - يجيب دعوته.

والدُّعاء موجَّهٌ إلى السَّميع البصیر، فهو يصدرعن العبد إلى ربه، أَو من رتبة أَدنى إلى رتبة أَعى من رتبة الدَّاعي أَو الطَّالب، فالدُّعاء« هو طلب المراد من الغير؛ شَرطَ أَنْ يكون المطلوب منه فوق الطَّالب في الرُّتبة، ولابدَّ من اعتبار الرتبة ليتميُّزعن السُّؤال، وإلاَّ فالسُّؤال أَيضاً طلب المراد من الغیر»(1).

وفُرِّق بین (الدعاء) و(السؤال) من ناحية الرُّتبة، فهما متساويان من ناحية الطَّلب من الغیر، ولكنَّ وجه الاختاف بينهما هو الرُّتبة؛ فالدُّعاء لا يكون إلاَّ في الطَّلب من الرُّتبة الأَعى من رتبة الطَّلب. أَمَّا السُّؤال فيكون بین شخصين متساويين في الرُّتبة كأَنْ يكون بین الأَخ وأَخيه، والصَّديق وصديقه، والدُّعاء يتطلَّب اسماً يُدعى به(2).

والدُّعاء کما يقول د. حسن منديل: «طقوس روحيَّة؛ ذلك أَنَّه مناجاة بین العبد وربِّه، إذ يجد الإنسان (المتكلِّم - المرسل) ربَّه مع حاجاته في حالة نفسيَّة خاصَّة، حالة ضعف، وبثِّ الهموم، وفتح القلوب، وهي الحالة الطبيعيَّة للإنسان المخلوق المحتاج إلى خالقه، فهو اعراف بالعبوديَّة، وبهذا تكون لغة الدُّعاء خاصَّة بخصوص الوضع النفيّ للإنسان (المرسل)، ونوع (المتلقّي) الخالق، فالعمليَّة

ص: 118


1- شرح الأُصول الخمسة: 485
2- ينظر: أسماء الله الحسنى (ابن القيم): 38، وبصائر ذوي التمييز: 2/ 60

روحيَّة خالصة»(1).

أَمَّا المرَّة الثَّانية التي ورد فيها الفعل «دَعَا» في الخطبة، فقد جاء موافقاً دلالته اللُّغوية، أَورده أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) لبيان موقف من مواقف يوم القيامة، يوم يحشر الله - عَزَّ وَجَلَّ - العباد، ويسوقهم إلى الموقف؛ لإظهار أَعمالهم للخلائق؛ إذ قال (عليه السلام): «يُدْعَى بِحشْرٍ وَنُشُوْرٍ».

و«يُدعى» فعل مضارع مبنيٌّ للمجهول، مرفوع وعلامة رفعه الضَّمَّة المقدَّرة على الأَلف، ونائب الفاعل ضمیر مستتر تقديره (هو) عائد إلى الإنسان، و«بحشر» الباء حرف جرٍّ، و(حشر) اسم مجرور، وعلامة جرِّه الكسرة الظَّاهرة على آخره، و«ونشور» الواو حرف عطف، و(نشور) اسم معطوف مجرور، وعلامة جرِّه الكسرة الظَّاهرة على آخره. وجملة (يُدْعى بحرٍ ونُشُور) معطوفة على جملة (فينشر في قبره).

وبینَّ أَبو هال العسكريّ (الحشر) بقوله: «الحشرهوالجمع مع السَّوق، والشَّاهد قوله تعالى: (وَابْعَثْ فِی الَمدَائِنِ حَاشِرين)(2)، أَيْ: ابعث مَنْ يجمع السحرة ويسوقهم إليك، ومنه يوم الحشر؛ لأَنَّ الخلق يُمعون فيه، ويُساقون إلى الموقف، وقال صاحب المفصَّل: لا يكون الحشر إلاَّ في المكروه، وليس كما قال؛ لأَنَّ الله تعالى يقول: (يَوْمَ نَحشُرُ الْمتَّقِین إلى الرَّحْمنِ وَفْدًا)(3) ...»(4) .

وبینَّ معنى (النُّشور) بقوله: «اسم لظهورالمبعوثین، وظهوراَعمالهم للخلائق،

ص: 119


1- الجانب الروحي في اللغة العربية: 74
2- الشعراء: 36
3- مريم: 85
4- الفروق اللغوية: 117

ومنه قولك: نشرت اسمك، ونشرت فضيلة فلان، إلاَّ أَنَّه قيل: أَنشرَاللهُ الموتى بالأَلف، ونشرت الفضيلة والثَّوب للفرق بین المعنيین»(1).

ولعلَّ معترضاً يعترض، فيقول: إنَّ الفعل (يُدعى) آخره أَلف، والخطبة المُوْنِقَة - محلُّ البحث - هي خطبة خالية من حرف الأَلف، والفعل (يُدعى) يقدح بهذا الأَمر، فأَقول: إنَّ الفعل (يُدعى) وإنْ كان آخره الأَلف، إلاَّ أَنَّ هذه الأَلف ليست أَصليَّة، بل هي منقلبة عن الواو، فتقول: دعا، يدعو، دعوةً.

والقول نفسه يُقال مع الفعل (قوَّى) - وسيأْتي الكلام عليه -، إذ قال (عليه السلام): «وقَوَّى بِهِ حُجَّتَهُ»، فالفعل (قوَّى) وإنْ كان آخره أَلفاً، إلاَّ أَنَّ هذه الأَلف ليست أَصليَّة، بل هي منقلبة عن ياء، فتقول: قوى يقوى تقويةً، فوجود هذه الأَلف لا يقدح بالخطبة، كونها خالية من الأَلف.

والقول نفسُهُ يقال مع الفعل (يسعى) وسيأْتي الكلام عليه -، إذ قال (عليه السلام): «يَسْعَى فِی جِسْمِهِ دُوْدُ قَبرْهِ»،فالفعل (يسعى) آخره أَلف، إلاَّ أَنَّ هذه الأَلف ليست أَصليَّة، بل هي منقلبة عن الياء، فتقول: سَعَى يَسْعَى سَعْياً.

والقول نفسُهُ يقال مع الفعل (تولَّی) وسيأْتي الكلام عليه -، إذ قال عليه السلام: «وَتَوَلّ لِفَصْلٍ عِنْدَ رَبٍّ قَدِيْرٍ»، فالفعل(تولَّی) آخره أَلف، إلاَّ أَنَّ هذه الأَلف ليست أَصليَّة، بل هي منقلبة عن الياء، فتقول: تولَّی يتولَّی تولية وتولَّياً.

والقول نفسُهُ يقال مع الفعل (يُسقى) - وسيأْتي الكلام عليه، إذ قال (عليه السلام): «يُسْقَى شُربَة مِنْ حَميْمٍ»، فالفعل (يُسقى) آخره أَلف، إلاَّ أَنَّ هذه الأَلف ليست أَصليَّة، بل هي منقلبة عن الياء، فتقول: سقى يسقي سَقْياً وسِقَايَةً.

* * *

ص: 120


1- المصدر نفسه: 222

یَرزُقُ

تدلُّ مادَّة «رزق» في اللُّغة على العطاء. يُقال: رزق الله يَرزُقُ العباد رزقاً، أَيْ:

اعتمدوا عليه(1) .

وقال ابن فارس: «الرَّاء والزاء والقاف أُصَيْلٌ واحدٌ يدلُّ على عَطاء الوَقت، ثم يحُمَل عليه غیر الموقوت. فالرِّزْق: عَطاء الله - جلَّ ثناؤُه -. ويقال رَزَقه الله رِزْقاً»(2).

والرِّزْقُ: ما يُنْتَفَعُ به والجمع الأَرزاق. والرِّزْقُ: العطاء، ومصدر قولك: رَزَقَهُ الله، وقد يُسَمَّى المطر رَزْقاً، وهو اتِّساعٌ في اللُّغة(3).

وقال الرَّاغب: «الرِّزْقُ يُقال للعطاء الجاري تارةً، دنيويّاً كان أَم أُخرويّاً، وللنَّصيب تارة، ولما يصل إلى الجوف ويُتَغَذَّى به تارةً، يُقال: أَعطى السَّلطان رِزْقَ الجند، ورُزِقْتُ علماً...»(4).

وقال الفيوميّ: «رَزَقَ الله الخلق يَرْزُقُهُمْ، والرِّزق بالكسراسم للمرزوق، والجمع (الأَرْزَاقُ)، مثل: (حمل وأَحمال)، وارْتَزَقَ القوم: أَخذوا أَرْزَاقَهُمْ فهم مُرْتَزِقَة»(5).

وقال الزَّبيديّ: «الرِّزْقُ، بالكَسرْ: مَا يُنْتَفَعُ بِهِ، وقِيلَ: هُوَ مَا يَسُوقُه اللهُ إلى

ص: 121


1- ينظر: العين: 1/ 384، والمحيط في اللغة: 1/ 452
2- معجم مقاييس اللغة: 2/ 319
3- ينظر: الصحاح في اللغة: 1/ 252. وينظر: جمهرة اللغة: 1/ 383
4- مفردات ألفاظ القرآن:351
5- المصباح المنير: 1/ 225

الحَيَوانِ للتَّغَذي، أَيْ: مَا بِهِ قِوامُ الجسمِ ونَماؤه، وعندَ المُعْتَزِلَة: مملوكٌ يَأْكُلُه المُسْتَحِقُ فَا يَكُونُ حَراماً، كالمُرتَزَقِ على صِيغَةِ المَفْعُول... والأَرزاقُ نَوعانِ:

ظاهِرَة للأَبْدانِ، كالأَقْواتِ، وباطِنَةٌ للقُلُوبِ والنُّفوسِ، كالمَعارِف والعُلُوم. وقالَبَعضهم: الرَّزْقُ بالفَتْح: المَصْدَرُالحَقِيقِيُّ، وبالكَسرْالاسْمُ، وَقد رُزِقَ الخَلْقُ رَزْقاً ورِزْقاً، والمَرَّةُ الواحِدَة مِنْهُ بهاءً»(1).

و«الرَّازِقُ» و«الرَّزَّاقُ» في صفة الله - تبارك وتعالى -، فهو - عَزَّ وَجَلّ َ- خالق الرِّزق ومعطيه، والمسبِّب له، ويُقال: للإنسان الذي يصیرسبباً في وصول الرزق، والرَّازقُ لا يقال إلاَّ لله تعالى؛ فهو خالق الأَرزاق، ومعطي الخلائق أَرزاقها، وموصلها إليهم(2). فهو- تبارك وتعالى - المختصُّ بالرِّزق، يرزق ما لا يقدر على ذلك غیره؛ فهو الأَصل في الرِّزق، وغیره إنَّما يرزق بتمكین الله - عَزَّ وَجَلَّ - له؛ لأَنَّ الرِّزق كلَّه من جهة الله - تعالى -.والمخلوق ينقل الرِّزق من يده إلى يد غیره، لا أَنَّه يفعل الرِّزق، والمخلوق إذا رزق غره بمشيئة الله - تعالى - فإنَّما يرزقه لانتفاعه بما يرزق؛ إمَّا لأَجل أَنْ يخرج عن الواجب، وإمَّا لأَجل أَنْ يستحقَّ به ثناءً وحمداً، وإمَّا لوقوعه تحت تأثر الشَّفقة والعطف على المرزوق. فالعبد يرزق، ويطلب العوض، أَمَّا الحقُّ سبحانه، فإنَّ كماله صفة ذاتيَّة له، فلا يستفيد من شيءٍ... فكان الرِّزق الصَّادرعنه لمحض الإحسان. والمخلوق يرزق لو حصل في قلبه إرادة الفعل، وتلك الإرادة من الله - عَزَّ وَجَلَّ -؛ ولذا فا رازق على الحقيقة إلاَّ الله - تبارك وتعالى -، والمرزوق كأَنَّه تحت مِنَّة الرَّازق، ومِنَّة الرَّازق - لله تبارك وتعالى - أَسهل تحمُّاً من مِنَّة المخلوق؛ فكان الله (خیر الرَّازقین).

ص: 122


1- تاج العروس: 1/ 6326
2- ينظر: مفردات ألفاظ القرآن: 351، والنهاية في غريب الحديث والأثر: 2/ 30، ولسان العرب: 115/ 10

ثُمَّ إنَّ المخلوق إذا رزق، فليس ذلك يعني تحقُّق الفائدة ممَّا رزق حتى يُمَكِّنَ الله - عَزَّ وَجَلَّ - المرزوقَ الانتفاع ممَّا رزق، فَرِزْقُ المخلوق لابدَّ من أَنْ يكون مسبوقاً بِرِزْق الله - تعالى -، وملحوقاً به حتَّى يكون الانتفاع، على حین أَنَّ رِزْقَ الجليل القديرلا يحتاج إلى رِزْقِ غیره(1).

وبهذا المعنى ورد هذا الفعل «يرزق» مرَّةً واحدةً في الخطبة؛ إذ قال أَمیر المؤمنين (عليه السلام): «ويَرْزُقُ عَبْدَهُ وَيَجبُوهُ»،والمراد بالرِّزق معناه الأَعمُّ، وهي النِّعم الظَّاهريَّة، كالمأكولات، والمشروبات، والملبوسات، والممتلكات، والمنكوحات، ومن النِّعم الباطنيَّة، كمحبَّة الله - تبارك وتعالى -، وأَوليائه، وأَنبيائه، وتهيُّؤ أَسباب العبادة، والإطاعة، وامتثال أَوامره ونواهيه(2).

وإنَّما استعمل أَمیر المؤمنین (عليه السلام) الفعل «يرزق»، ولم يستعمل فعلاً آخر؛ لما في دلالته من معنى نبيل، وهو إنَّ الرِّزق لا يكون إلاَّ حلالاً، وهذا ما أَشارإليه أَبو هال العسكريّ حین فرَّق بین (الرِّزق) و(الحظ)، إذ قال: «الفرق بین الرِّزق والحظِّ: أَنَّ الرِّزق هو العطاء الجاري في الحكم على الإدرار؛ ولهذا يُقال:

أَرزاق الجند؛ لأَنَّها تجري على إدرار، والحظُّ لا يفيد هذا المعنى، وإنَّما يفيد ارتفاع صاحبه به... قال بعضهم: يجوز أَنْ يجعل الله للعبد حظّاً في شيء، ثُمَّ يقطعه عنه، ويزيله مع حياته وبقائه، ولا يجوز أَنْ يقطع رزقه مع إحيائه... وكلُّ ما خلقه الله تعالى في الأَرض ممَّا يملك، فهو رزق للعباد في الجملة بدلالة قوله تعالى: (خَلَقَ لَكُمْ مَا فِ الأَرْضِ جَميعًا)(3)، وإنْ كان رزقاً لهم في الجملة، فتفصيل قسمته على ما يصح ويجوز من الأَملاك؛ ولا يكون الحرام رزقاً؛ لأَنَّ الرِّزق هو العطاء الجاري في

ص: 123


1- ينظر: التفسير الكبير: 23 / 58 و59
2- ينظر: مفتاح الفلاح في شرح دعاء الصباح: 167
3- البقرة: 29

الحكم، وليس الحرام ممَّا حكم به، وما يفترسه الأَسد رِزْقٌ له بشرط غلبته عليه، كما أَنَّ غنيمة المشركین رِزْقٌ لنا بشرط غلبتنا عليه، والمشرك يملك ما في يده، أَمَّا إذا غلبناه عليه بَطُلَ مِلْكُه له، وصار رِزْقاً لنا، ولا يكون الرِّزق إلاَّ حلالاً، فأَمَّا قولهم رزقٌ حلال، فهو توكيد...»(1).

وأَشار إليه - أَيضاً - حین فرَّق بین (الرِّزق) و(الغذاء)، إذ قال: «الفرق بین الرِّزق والغذاء: أَنَّ الرِّزق اسم لما يملك صاحبه الانتفاع به، فلا يجوز منازعته فيه لكونه حلالاً له، ويجوز أَنْ يكون ما يغتذيه الإنسان حلالاً وحراماً؛ إذ ليس كلُّ ما يغتذيه الإنسان رزقاً له؛ أَلا ترى أَنَّه يجوز أَنْ يغتذي بالسَّقة، وليست السَّرقة رزقاً للسَّارق، ولو كانت رزقاً له لم يُذمَّ عليها وعلى النَّفقة منها، بل كان يحمد على ذلك والله تعالى مدح المؤمنین بإنفاقهم في قوله - تعالى -: (وَمِّما رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ)(2)»(3).

و(يرزق) فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه الضَّمَّة الظَّاهرة على آخره، والفاعل ضمیر مستتر فيه، تقديره (هو) عائد الى الله - عَزَّ وَجَلّ -،و(عبده) مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الفتحة الظَّاهرة على آخره، وهو مضاف، والهاء ضمیر متصل مبني على الضَّمِّ في محل جرٍّ بالإضافة اوجملة (ويرزق عبده) معطوفة على جملة (يجيب دعوة من يدعوه).

* * *

ص: 124


1- الفروق اللغوية: 136 و137
2- البقرة: 3، وتكرّرت في خمس آيات أُخر
3- الفروق اللغوية: 137

يَحْبُوه

تدلُّ مادَّة «يَحبُوه» في اللُّغة على العطاء با مَنٍّ ولا جزاء، والاختصاص، والقرب، واتِّصال الأَشياء، والدنوِّ. جاء في (العین): «الصَّبيُّ يَحبُو قبل أَنْ يَقومَ.

والبعیر يَحبُو إذا عُقِلَ؛ فَيزحَفُ حَبْواً. وحَبَتِ الأَضاع إلى الصُّلْب، وهو اتِّصالهُا.

ويُقال لِلمَسايِلِ إذا اتَّصل بعضُها ببعضٍ: حبا بعضُها إلى بعضٍ. قال: تَحبُو إلىأَصْلابه أَمْعاؤُهُ، أَيْ: تتَّصِل... والحِباءُ: عطاءٌ با مَنٍّ ولا جزاء. حَبَوْتُه أَحْبُوُه حِباءً، ومِنه أُخِذَتِ المحاباةُ»(1).

وقال ابن دريد:«حَبا الصَّبيُّ يحبو حَبْواً، إِذا مَشى على أَربع وَرفع صَدره...

وكلُّ دانٍ حابٍ، وبه سُمِّي حَبِيُّ السَّحاب لدنوِّه من الأُفق وانتصابه فِی القطر.

وحبوتُ الرَّجلَ أَحْبُوهُ حِباءً، إِذا أَعْطيتُه ووصلْتُه، وَهِي الحُبوةُ أَيْضاً. وأَحبَّاءُ الملك: الَّذين يُدنيهم ويحبوهم بمودَّته، ويختصُّهم»(2).

وجاء في (العباب الزَّاخر): «الحَبَأُ: جليس الملك وخاصَّتُه، والجمع أَحبَاءُ، مثل سبب وأَسباب... والتَّركيب يدلُّ على القُرب»(3).

وتطابقت دلالة بناء الفعل «يحبوه» في الخطبة مع دلالة من دلالاته اللُّغوية، وهي «العطاء با مَنٍّ ولا جزاء»؛ إذ جاء هذا الفعل مرَّةً واحدةً في الخطبة، قال فيها أَمیر المؤمنین (عليه السلام): «ويَرْزُقُ عَبْدَهُ وَيَحبُوهُ»، فعَطَف أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) هذا الفعل «يحبوه» على الفعل الَّذي قبله «يرزق»، ومراده (عليه

ص: 125


1- العين: 1/ 237، وينظر: المحيط في اللغة: 1/ 255
2- جمهرة اللغة: 2/ 70.وينظر: الصحاح في اللغة: 1/ 113، والمحكم والمحيط الأعظم: 3/ 332
3- العباب الزاخر: 1/ 9.وينظر: . تهذيب اللغة: 2/ 195، ولسان العرب: 14/ 160، والمصباح المنیر: 275/2، والقاموس المحيط: 1/ 1642، وتاج العروس: 1/ 8337

السلام): أَنَّ الله - عَزَّ وَجَلَّ - هو الرَّازق، أَيْ: المعطي، وهذا العطاء لا يكون إلاَّ حلالاً، وهو في الوقت نفسه يحبو هذا العبد الذي يُعطيه، فهو - تبارك وتعالى - لا يُريد من هذا الرِّزق الحلال المُعطى لا جزاءً ولا شكوراً؛ فهو - عَزَّ وَجَلَّ -الغنيُّ، والعباد جميعاً مفتقرون إليه. قال - تبارك وتعالى -: (يَا أَيُّها النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إلى اللِّه وَاللَّه هُوَ الْغَنِيُّ الَحمِيدُ)(1).

وممَّا تجدرالإشارة إليه أَنَّ أمیرالمؤمنین (عليه السلام) استعمل هذين الفعلین «يرزق، ويحبوه» بصيغة المضارع؛ لما فيه من دلالة على الحدوث والتَّجدُّد(2).

فرزقُ الله - عَزَّ وَجَلَّ - وحَبوتُه لعباده مستمرَّان ومتجدِّدان، ومع ذلك كلِّه لا يوجد منه - تبارك وتعالى - مَنٌّ ولا جزاء.

و«يَحبوهُ» فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه الضَّمَّة المقدَّرة على الواو، والفاعل ضمیر مستتر تقديره «هو»، عائد إلى الله - عَزَّ وَجَلَّ -، والهاء ضمیرمتَّصل مبنيٌّ على الضَّمِّ في محلِّ نصب مفعول به، عائد إلى «عَبْدَهُ»، وجملة (ويحبوه) معطوفة على جملة (ويرزق عبده).

* * *

بَعَثَهُ

تدلُّ مادَّة «بعث» في اللُّغة على التَّوجيه، والإرسال، والإثارة. جاء في (العین):

«البَعْثُ: الإِرسالُ، كَبَعْثِ اللهِ مَنْ في القبور. وَبَعَثْتُ البعیرَ أَرسلتُه وحللت عِقالُه، أَو كان باركاً فَهِجْتُهُ... وبعثته من نومه فانبعث، أَيْ: نَبَّهتُه... ويومُ البَعْثِ: يومُ

ص: 126


1- فاطر: 15
2- ينظر: الفعل «نستعينه» من الكتاب

القيامة... وكلُّ قوم بُعِثوا في أَمرٍ أَو في وَجْه، فهم بَعْثٌ»(1).

والبعث فِی كَلام العَرَب على وَجْهیَنْ. أَحدهمَا: الإِرْسَال كَقَوْله تَعَالَی: (ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم مُّوسَى)(2) ،مَعْنَاهُ: أَرسلنَا. والبَعْث: إثارة بارِكٍ أَو قَاعد، والبَعْث أَيْضاً: الإِحْيَاء من الموت(3).

وجاء في (معجم مقاييس اللُّغة): «الباء والعین والثَّاء أَصلٌ واحد، وهو الإثارة، ويُقال: بعثْتُ النَّاقةَ، إذا أَثَرْتَها»(4).

وبینَّ أَبو هال العسكريّ معنى (البعث) حین فرَّق بین (البعث) و(الإرسال) بقوله: «(الفرق) بین البعث والإرسال أَنه يجوزأَنْ يبْعَث الرَّجل إلى الآخر لحَاجَة يخصُّه دُونك وَدون الَمبْعُوث إِلَيْهِ كَالصَّبِيِّ تبعثه إلى الْمكتب، فَتَقول: بعثته، وَلا تَقول: أَرْسلتهُ؛ لأَنَّ الإِرْسَال لا يكون إِلاَّ برسالة، وَمَا يجْرِي مجْراهَا»(5).

وبینَّ معنى (البعث) - أَيضاً - حین فَرَّق بین (البعث) و(الإنفاذ) بقوله:

«(الْفرق) بَین الْبَعْث والإنفاذ أَنَّ الإنفاذ يكون حملاً وَغیر حمل، والبعث لا يكون حملاً، وَيسْتَعْمل فِی مَا يعقل دون مَا لا يعقل، فَتَقول: بعثت فلاناً بكتابي، وَلا يجوز أَنْ تَقول: بعثت كتابي إِلَيْك، كَماَ تَقول: أَنفذت كتابي إليك، وَتقول: أَنفذت إليك جَميع مَا تحْتَاج إِلَيْهِ، وَلا تَقول فِی ذَلِك: بعثت،وَلَكِنْ تَقول: بعثت إِلَيْك بِجَمِيعِ مَا

ص: 127


1- العين: 1/ 108. وينظر: المحيط في اللغة: 1/ 89
2- الأَعْرَاف: 103
3- ينظر: تهذيب اللغة: 1/ 269.وينظر: لسان العرب: 2/ 116، وتاج العروس: 1/ 1215
4- معجم مقاييس اللغة: 1/ 251
5- الفروق اللغوية: 222

تحْتَاج إِلَيْهِ، فَيكون الَمعْنى: بعثت فلاناً بذلك»(1) .

وبعثه وابتعثه بمعنىً، أَيْ: أَرسله، فانبعثَ. وقولهم: كنتَ في بَعْثِ فلانٍ، أَيْ:

في جيشه الَّذي بُعِثَ معه، وبَعَثْتُ النَّاقةَ: أَثَرْتُا، وبَعَثَ الموتى: نَشَرهُم ليوم الحساب، وانْبَعَثَ في السَّیر، أَيْ: أَسرع(2).

وقال الرَّاغب: «أَصل البَعْث: إثارة الشيَّء وتوجيهه، يُقال: بَعَثْتُهُ فَانْبَعَثَ، ويختلف البعث بحسب اختاف ما عُلِّقَ به، فَبَعَثْتُ البعیرَ: أَثرته وسیرَّته، وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالَموْتى يَبْعَثُهُمُ اللُّه) [الأَنعام: 36]، أَيْ: يخرجهم، ويسیرِّهم إلى القيامة... فالبعث ضربان:

- بشريّ، كبعث البعير، وبعث الإنسان في حاجة.

- وإلهي، وذلك ضربان:

أَحدهما: إيجاد الأَعيان والأَجناس والأَنواع لا عن لَيس، وذلك يختص به البارئ تعالى،ولم يقدر عليه أَحد.

والثَّاني: إحياء الموتى، وقد خصَّ بذلك بعض أَوليائه، كعيسى صلىَّ الله عليه وسلَّم وأَمثاله، ومنه قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ) [الروم: 56]،يعني:

يوم الحشر...»(3) .

وبَعَثُه يَبْعَثُه بَعْثا:أَرْسلهُ وَحده،وبَعَثَ بِهِ:أَرْسلهُ مَعَ غَیره، والبَعِيثُ:الرَّسُول، وبَعَثَ الْجند يَبْعَثُهُم بَعْثا:وجَّههم، وبَعَثه على الشيَّء: حَملَه على فِعْلِهِ، وبَعَثه من

ص: 128


1- الفروق اللغوية: 222
2- ينظر: الصحاح في اللغة: 1/ 47
3- مفردات ألفاظ القرآن:132

نَومه: أَيقظه(1). وبعث الله الرَّسول إلى عباده، وابتعثه، ومحمَّد - صَلىَّ اللهُ عَلِيهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ - رسول خیر مبعوث، ومُبْتَعث(2) .

وذكرأَمیرالمؤمنین (عليه السلام) هذا الفعل «بعثه» لبيان بعثة النَّبيِّ الأَكرم - صلىَّ الله عليه وآله وسلّم -، إذ أَقرَّ أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) قبل هذا الفعل بهذه البعثة المباركة بقوله: «وشَهِدْتُ بِبِعْثَةِ مُحمَّدٍ عَبْدِهِ، ورَسُولِهِ، وَصَفِّيهِ، وحَبِيبهِ، وَخَلِيلِهِ، بَعَثَهُ في خَیرْعصر»، وقد تقدَّم بيان دلالة الفعل «شهدتُ»(3)، الَّذي أَقرَّ فيه أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) بهذه البعثة العظيمة،وجاء بهذا الفعل «بَعَثَهُ» وبعده بفعلین، وهما: «ختم، وقوَّى» لبيانها.

وجاء هذا الفعل «بَعَثَهُ» مرَّةً واحدةً في الخطبة، موافقاً دلالته اللُّغوية، وهي «الإرسال»؛ إذ قال أَمیرالمؤمنین (عليه السلام): «بَعَثَهُ في خَیرْعصرٍ، وفي حِینْ فَترْةٍ وَكُفْرٍ، رَحْمةً لِعَبِيْدِهِ،و َمِنَّةً لِمزِيْدِهِ»، كقول الله - تبارك وتعالى -: (إِذْ بَعثَ فِيهِم مرَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ)(4)، و: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِی الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ)(5).

ومراده (عليه السلام): «بعثه... في حین فرة وكفر» أَنَّه «بعد ستَّة قرون من بعثة المسيح عيسى بن مريم ((عليه السلام)) في فلسطين رسولاً إلى بني إسرائيل، بُعِثَ محمَّد بن عبد الله (صَلىَّ اللهُ عَلِيهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ) في شبه جزيرة العرب، في أُمّ قُراها مكَّة رسولاً إلى النَّاس أَجمعین، حاملاً رسالة الهداية والصَّلاح، خاتما بها

ص: 129


1- ينظر: أساس البلاغة: 25
2- ينظر: المحكم والمحيط الأعظم 1/ 234
3- ينظر: الفعل «شهدت» من الكتاب
4- آل عمران: 164
5- الجمعة: 2

شرائع مَنْ تقدَّم من النَّبين؛ لتكون شريعة البشر، وقانونهم إلى يوم الدِّين»(1) .

وقوله (عليه السلام): «بَعَثَهُ... رَحْمةً لعباده» فيه تضمن لقول الله - عَزَّ وَجَلّ َ-: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمةً لِلْعَالِمينَ) (2).

و«بَعَثَهُ»فعل ماضٍ مبنيٌّ على الفتح، والفاعل ضمیر مستتر، تقديره (هو) عائد إلى الله - تبارك وتعالى -، والهاء ضمیرمتَّصل مبنيٌّ على الضَّمِّ في محلِّ نصب مفعول به، عائد إلى النبيِّ الأَعظم - صَلىَّ اللهُ عَلِيهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ -.

* * *

خَتَمَ

تدلُّ مادَّة «ختم» في اللُّغة على آخرالشيَّء، وعاقبته، وأَقصاه، والاستيثاق، والتَّغطية، والمنع. جاء في (العین): «الخاتَم: ما يوضع على الطِّينة، اسم مثل العالَم، والخِتام: الطِّین الذي يُختَمَ به على كتابٍ. ويُقال: هو الخَتْم يعني: الطِّین الذي يُختَمُ به. وخِتامُ الوادي: أَقصاه. ويقرأُ: (خاتمِهُ مِسْكٌ)، أَيْ: خِتامه، يعني عاقبته ريحُ المسك... وخاتِمة السُّورة: آخرها. وخاتِمُ العمل، وكلّ شيء:آخرهُ»(3).

وجاء في (تهذيب اللُّغة): «خَتَمَ يَختِمُ... الْختَامُ أَنْ تُثَارَالأَرضُ بالبَذْر حَتَّى يَصیرَالْبَذْرُ تحتهَا، ثمَّ يَسْقُونها... يَقُولُونَ: خَتَمُواعَلَيْهِ... قَالَ الفرَّاء: والْخاتِمُ والْختَامُ: متقاربان فِی الَمعْنى، إِلاَّ أَنَّ الْخاتِمَ: الاسْمُ، والخِتَامَ: المَصْدَرُ... وخَتَمَ فلانٌ

ص: 130


1- بداية المعرفة: 146
2- الأنبياء: 107
3- العين: 1/ 317. وينظر: المحيط في اللغة: 1/ 357

القُرْآنَ:إِذا قَرأَهُ إلى آخرِهِ... أَصلُ الخَتْم: التَّغطيةُ، وختْمُ البَذْر: تغطيتُه»(1).

وقال ابن فارس: «الخاء والتَّاء والميم أَصلٌ واحد، وهو بُلوغ آخِرِ الشيَّء، يُقال: خَتَمْتُ العَمَل، وخَتم القارئ السُّورة. فأَمَّا الخَتْم، وهو الطَّبع على الشيَّء، فذلك من الباب أَيضاً؛ لأَنَّ الطَّبْع على الشيَّءِ لا يكون إلاَّ بعد بلوغ آخِرِه...

والنبيُّ صلىَّ الله عليه وسلَّم خاتِمُ الأَنبياء؛ لأَنَّه آخِرُهم. وخِتام كلِّ مشروبٍ:

آخِرُه. قال الله تعالى: (خِتَامُهُ مِسْكٌ) [المطففین 26]، أَيْ: أَنَّ آخرَما يجِدونه منه عند شُربهم إيَّاه رائِحَته المسك»(2).

وخَتَمْتُ القرآنَ: بلغتُ آخرَه. واختتمتُ الشيَّء: نقيض افتتحتُه. وخاتمة الشيَّء: آخره. ومحمَّد - صَلىَّ اللهُ عَلِيهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ - خاتِمُ الأَنبياء - عليهم السلام -(3).

وقال الرَّاغب: «الخَتْمُ والطَّبع يقال على وجهین: مصدر خَتَمْتُ وطبعتُ، وهو تأْثیر الشيَّء كنقش الخاتَم والطَّابَع. والثَّاني: الأَثر الحاصل عن النَّقش، ويُتَجَوَّز بذلك تارةً في الاستيثاق من الشيَّء، والمنع منه اعتباراً بما يحصل من المنع بالختم على الكتب والأَبواب...وتارةً في تحصيل أَثرٍ عن شيء اعتباراً بالنَّقش الحاصل، وتارةً يُعتبرَ منه بلوغُ الآخِرِ، ومنه قيل: ختمتُ القرآن، أَيْ:انتهيتُ إلى آخره... (وَخاتَم النَّبِيِّن) [الأَحزاب: 40]؛ لأَنَّه خَتَمَ النُّبوَّة، أَيْ: تمَّمها بمجيئه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (خِتامُهُ مِسْكٌ) [المطففن: 26]، قيل: ما يختم به، أَيْ: يُطْبَعُ...»(4).

ص: 131


1- تهذيب اللغة 2/ 274
2- معجم مقاييس اللغة 2/ 199
3- ينظر: الصحاح في اللغة: 1/ 163
4- مفردات ألفاظ القرآن: 274 و275

وقال ابن سيده:«معنى خَتم، وطبع فِی اللُّغة وَاحِد، وَهُوَ التَّغطية على الشيَّء والاستيثاق من أَلا يدْخلهُ شَیء... وخَتم الشيَّء يَختمه خَتْماً: بلغ آخِرَه. وخاتِمُ كُلِّ شَیء، وخاتِمته: عاقبتُه وآخِره... وخِتَام القَوم، وخاتِمهم: آخِرهم... وخاتَم الفَرس الأُنْثَى: الحَلْقة الدُّنيا من ظَبْيتيها»(1).

وقد جاء هذا الفعل «ختم» مرَّةً واحدةً في الخطبة مطابقاً دلالته اللُّغوية، أَورده أَمیرُالمؤمنین (عليه السلام) لبيان بعثة النَّبيِّ الأَعظم - صَلىَّ اللهُ عَلِيهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ -، وهو ثاني الأَفعال الَّتي ذكرها في ذلك، إذ قال (عليه السلام): «وَخَتَمَ بِهِ نُبُوَّتَهُ»،ومراده (عليه السلام): أَنَّه - تبارك وتعالى - تمَّمَ بنبوَّة النَّبيِّ الأَكرم محمَّد - صَلىَّ اللهُ عَلِيهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ - النُّبوَّة، والنَّبيُّ الخاتم - صَلىَّ اللهُ عَلِيهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ - هو المُغطِّي على مَنْ كان قبله من الأَنبياء - عليهم السلام -، فخاتم الأَنبياء: جاء آخرَهم، فكَأَنَّه - صَلىَّ اللهُ عَلِيهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ - غطَّى عليهم - عليهم السلام -.

فبنبوَّته - صَلىَّ اللهُ عَلِيهِ وآلِهِ وَسَلَّم َ- خُتمت شرائع مَنْ تقدَّم من الأَنبياء؛ لتكون شريعة البشر، وقانونهم إلى يوم الدين(2) .

وقوله (عليه السلام): «وَخَتَمَ بِهِ نُبُوَّتَه» فيه تضمن لقول الله - عَزَّ وَجَلَّ -:

(وَخاتَمَ النَّبِيِّنَ)(3) ، وإشارة إليه.

و«ختم» فعل ماضٍ مبنيٌّ على الفتح، و«به» الباء حرف جرٍّ، والهاء ضمیرمتَّصل مبنيٌّ في محلِّ جرٍّ بحرف الجرِّ، عائد إلى النَّبيِّ الأَعظم محمَّد - صَلىَّ اللهُ عَلِيهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ -،و«نبوَّتَهُ»:مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الفتحة الظَّاهرة على

ص: 132


1- المحكم والمحيط الأعظم 2/ 325
2- ينظر:بداية المعرفة:146
3- الأحزاب/ 40

آخره، وهو مضاف، والهاء ضمیر متَّصل مبنيٌّ على الضَّمِّ في محلِّ جرٍّ بالإضافة عائد إلى الله - عَزَّ وَجَلَّ -.

* * *

قَوَّى

القوَّة خلاف الضَّعف(1). «والقُوَّةُ: الطَّاقة من الحبل، وجمعها قِوًى. ورجلٌ شديد القُّوى، أَيْ: شديدُ أَسرِ الخَلْقِ... قَوِيَ الضَّعيف قُوَّةً فهو قَوِيٌّ، وتَقَوَّى مثله، وقَوَّيْتُهُ أَنا تَقْوِيَةً، وقاوَيْتُهُ فَقَوَيْتُهُ، أَيْ:غلبتُه»(2) .

وقال الرَّاغب: «القُوَّةُ تستعمل تارة في معنى القدرة، نحو قوله تعالى: (خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ) [البقرة: 63]، وتارة للتهيُّؤ الموجود في الشيَّء، نحو أَنْ يُقال: النَّوى بِالْقُوَّةِ نخْلٌ(3)، أَيْ: متهيِّئٌ ومترشِّحٌ أَنْ يكون منه ذلك. ويستعمل ذلك في البدن تارةً، وفي القلب أُخرى، وفي المعاون من خارج تارةً، وفي القدرة الإلهيَّة تارةً.

ففي البدن، نحو قوله: (وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً) [فصلت: 15]...وفي القلب، نحو قوله: يا يَحيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ [مريم: 12]أَيْ: بقوَّة قلب.وفي المعاون من خارج، نحو قوله: (لَوْ أَنَّ لِی بِكُمْ قُوَّةً) [هود: 80]قيل: معناه: من أَتَقَوَّى به من الجند، وما أَتقوَّى به من المال... وفي القدرة الإلهيَّة، نحو قوله: (إِنَّ اللَّه قَوِيٌّ عَزِيزٌ) [المجادلة: 21]... فعامٌّ فيما اختصَّ الله تعالى به من القدرة، وما جعله للخلق. وقوله: (وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إلى قُوَّتِكُمْ) [هود: 52] فقد ضَمِنَ تعالى أَنْ يعطي كلَّواحد منهم من أَنواع الْقُوَى قَدْرَ ما يستحقُّه... والْقُوَّةُ الَّتي تستعمل للتَّهيُّؤ أَكثر

ص: 133


1- ينظر:العين:1/ 417،والصحاح في اللغة:2/ 102،والمحيط في اللغة:2/ 8
2- الصحاح في اللغة: 2/ 102
3- أي: يمكنه أنْ يصير نخلاً

مَنْ يستعملها الفلاسفة، ويقولونها على وجهین: أَحدهما: أَنْ يُقال لما كان موجوداً ولكن ليس يستعمل، فيُقال: فانٌ كاتبٌ بالقوَّة. أَيْ: معه المعرفة بالكتابة، لكنه ليس يستعمل، والثَّاني: يقال فلانٌ كاتب بالقوَّة، وليس يعنى به أَنَّ معه العلم بالكتابة، ولكن معناه: يمكنه أَنْ يتعَلَّم الكتابة...»(1) .

والقويُّ صفة من صفات الله - عَزَّ وَجَلَّ -. وقد ذكر الزَّجَّاجي أَنَّ القويَّ: ذو القوَّة والأَيد، ويُقال لِمنْ أَطلق شيئاً وقدرعليه: (قد قوي عليه)، ولِمنْ لم يقدرعليه: (قد ضعف عنه)(2) .

وفُرِّق بین (القويِّ)و(القادر) بأَنَّ: «الْقوي هُوَ الَّذِي يقدر عَلى الشيَّء وعَلى مَا هُوَ أَكثر مِنْهُ؛ وَلَهذَا لا يجوز أَنْ يُقَال للَّذي استفرغ قدرته فِی الشيَّء إِنَّه قوي عَلَيْهِ، وَإنَّما يُقَال لَهُ: إنَّه قوي عَلَيْهِ،إِذا كَانَ فِی قدرته فضل لغیره؛ وَلَهذَا قَالَ بَعضهم الْقوي الْقَادِر الْعَظِيم الشَّأْن فِياَ يقدر عَلَيْهِ»(3) .

والفعل «قوَّى» في الخطبة الفعلُ الثَّالث الذي أَورده أَمیرُ المؤمنین (عليه السبام) بعد الفعلین «بعثه» و«ختم» لبيان بعثة النَّبيِّ الأَعظم - صَلىَّ اللهُ عَلِيهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ -، إذ قال (عليه السلام): «وشَهِدْتُ بِبِعْثَةِ مُحمَّدٍ عَبْدِهِ... بَعَثَهُ في خَیرْعَصرْ... خَتَمَ بِهِ نُبُوَّتَهُ، وَقَوَّى بِهِ حُجَّتَهُ».

وورد هذا الفعل «قوَّى» مرَّةً واحدةً في الخطبة، وتطابقت فيها دلالة بنائه

ص: 134


1- مفردات ألفاظ القرآن: 693 و 694. وينظر: تهذيب اللغة: 3/ 293، والمحكم والمحيط الأعظم:70/3، ولسان العرب: 15 / 206، والمصباح المنیر: 8/ 18
2- ينظر: اشتقاق أسماء الله: 149
3- الفروق اللغوية: 1/ 299 ، وينظر: كتاب الأضداد (للسجستاني): 93، وكتاب الأضداد(لابن السكّيت): 167

مع دلالته اللُّغوية، مشیراً فيها أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) إلى فائدة من فوائد بعثة الأَنبياء، وهي تقوية الحجَّة على العباد؛ إذ إنَّ للأَنبياء الإلهیيِّن - فضلاً عن تعريف البشر، وهدايتهم إلى الطَّريق الصَّحيح للتَّكامل الحقيقيّ للإنسان، وتلقِّي الوحي وإبلاغه النَّاس - فوائد وتأْثیرات مهمَّة في مجال تكامل البشر، ومنها تقوية الحجَّة على العباد، يقول - تبارك وتعالى -: (رُسُلاً مُبَشِّرينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلىَ اللِّه حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّه عَزِيزًا حَكِيماً)(1)، فإنَّه - سبحانه وتعالى - بمقتى عدله لا يعذِّب أَو يعاقب حتَّى يتمَّ البيان والحجَّة على العباد؛ وذلك بإرسال الرُّسل والأَنبياء - عليهم السلام-(2).

و«قوَّى» فعل ماضٍ مبنيٌّ على الفتح المقدَّرعلى الأَلف، والفاعل ضميرمستتر تقديره (هو) عائد إلى الله - عَزَّ وَجَلَّ -، و«به» البهاء حرف جرٍّ، والهاء ضمیرمتَّصل مبنيٌّ في محلِّ جرٍّ بحرف الجرِّ، و«حُجَّتَهُ» مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الفتحة الظَّاهرة على آخره، وهو مضاف، و والهاء ضمیر متَّصل مبنيٌّ على الضَّمِّ في محلِّ جرٍّ بالإضافة، وجملة (وقوَّى به حُجَّتَهُ) معطوفة على جملة (وَخَتَمَ بِهِ نُبُوَّتَهُ).

وتقدَّم مع الفعل (يُدعى) أَنَّ هذا الفعل (قوَّى)، وإنْ كان آخره أَلفاً، إلاَّ أَنَّ هذه الأَلف ليست أَصليَّة، بل هي منقلبة عن الياء، فتقول: قوَّى يقوِّي تقويةً، فوجود هذه الأَلف مع الفعل (قوَّى) لا يقدح بالخطبة المُوْنِقَةِ - محلِّ البحث - كونها خاليةً من الأَلف.

* * *

ص: 135


1- النساء: 165
2- ينظر: دروس في العقيدة الإسلامية: 213 و214، ومعارف الإسلام: 35

وَعَظَ

الواو والعین والظَّاء لها دلالة واحدة، يُقال: وَعَظَهُ يَعِظُهُ وَعْظاً وَعِظَةً وَمَوْعِظَةً: ذكَّره بما يلین قلبه من الثَّواب والعقاب؛ فاتَّعظ(1) . جاء في (العین): «العِظَةُ: الموعظة. وَعَظْتُ الرَّجلَ أَعِظُهُ عِظَةً ومَوْعِظَة. واتَّعَظَ: تَقَبَّلَ العِظَةَ، وهو تذكیرُك إيَّاه الخیرَ ونحوَه ممَّا يرقُّ له قلبُهُ»(2) .

والوعظ إمَّا أَنْ يكون بالنُّصح والإرشاد(3)، قال تعالى: (فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِی الَمضَاجِعِ)(4)، أَيْ: وجِّهوا النَّصيحة لهنَّ(5) . وإمَّا بالتَّخويف من عاقبة الُأمور(6)، كقوله - تعالى: (فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِما بَيْن يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ)(7) .

والشَّخص الَّذي يقوم بمهمَّة الوعظ يسمَّى واعظاً(8) ، نحو قوله تعالى: (قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَم تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ)(9) .

ص: 136


1- ينظر: معجم مقاييس اللغة: 6/ 126، والقاموس المحيط: 2/ 400، وتاج العروس: 5/ 266
2- العین: 1/ 133. وينظر: المحيط في اللغة: 1/ 116، ولسان العرب: 7/ 466 ، وتاج العروس:5084/1
3- ينظر: مجمع البحرين: 4:292، ومعجم ألفاظ القرآن: 2/ 863 ، ومعجم الألفاظ والأعلام القرآنية: 579
4- النساء: 34
5- ينظر: مجمع البيان: 3/ 44
6- ينظر: غريب القرآن (للسجستاني): 171، وجامع البيان: 3/ 104، والصحاح في اللغة: 3/ 1181، ومفردات ألفاظ القرآن: 876، ومجمع البيان: 1/ 230، وروح المعاني: 11 / 139
7- البقرة: 166
8- ينظر: المعجم الوسيط: 2/ 1055، ومعجم المعاني: 393، والألفاظ المعرّة عن الكلام في التعبیر لقرآني «دراسة دلالية » (رسالة ماجستير): 95
9- الشعراء: 136

وبهذه الدَّلالة ورد هذا الفعل «وعظ» في الخطبة مرَّةً واحدةً، أَورده أَمیرُ المؤمنين (عليه السلام) في بيان صفات النَّبيِّ الأَكرم - صَلىَّ اللهُ عَلِيهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ - في أَداء وظيفته، وهي النُّبوَّة، إذ قال (عليه السلام): «وَشَهِدْتُ ببِعْثَةِ مُحمَّدٍ عَبْدِهِ... بَعَثَهُ فِی خَیرْعَصرٍ... خَتَمَ بِهِ نُبُوَّتَهُ، وَقَوَّى بِهِ حُجَّتَهُ، فَوَعَظَ وَنَصَحَ».

فإنَّما جاء النَّبيُّ القائد محمَّد - صَلىَّ اللهُ عَلِيهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ - واعظاً ل: «إيقاظ النَّاس من غفلتهم بلطائف البيان، ومحاسن الكلام؛ ليرغبوا بالمعروف(1)، ويزهدوا بالذُّنوب والآثام... حثَّ النَّاس على حسنات الأَفعال، وزجرهم عن قبائحهم بالحسنات والسَّيِّئات الَّتي يعرفونها... وتذكيرهم با ينسون أَو يتناسون... وتليین القلوب... وتوعية للعواطف»(2).

و«وعظ» فعل ماضٍ مبنيٌّ على الفتح، والفاعل ضمیر مستتر، تقديره (هو)، عائد إلى النَّبيّ - صَلىَّ اللهُ عَلِيهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ -. وجملة (فوعظ) معطوفة على جملة (وقوَّى به حجَّته).

وممَّا تجدرالإشارة إليه أَنَّ أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) بعد أَنْ بینَّ بعثةَ النَّبيِّ الأَعظم - صَلىَّ اللهُ عَلِيهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ - ب (بعثه... ختم... قوَّى) شرع في بيان صفاته - صَلىَّ اللهُ عَلِيهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ - في أَداء وظيفته، وهي النُّبوَّة، وكان ممَّا استعان به أَفعال أَربعة، وهي: (وَعَظَ)، و(نَصَحَ)، و(بَلَّغَ)، و(كَدَح).

* * *

نَصحَ

تدلُّ مادَّة (نَصَحَ) في اللُّغة على الجودة، والخلوص بالعمل، والصِّدق،

ص: 137


1- الصواب: في المعروف
2- محمد في القرآن:212

والإحكام، والنُّصح خلاف الغشِّ. جاء في (الصِّحاح في اللُّغة): «نَصحْتُك نُصْحاً ونَصاحَةً... وهو باللام أَفصح. قال الله تعالى: (وَأَنْصَحُ لَكُمْ)(1).والاسم: النَّصيحة. والنَّصيح: النَّاصح. وقوم نُصَحَاء. ورجلٌ ناصحُ الجيب، أَيْ: نقيّ القلب. قال الأَصمعيّ: النَّاصح: الخالص من العسل وغیره، مثل النَّاصع. وكلُّ شيء خَلَصَ فقد نَصَحَ. وانتصح فلان، أَيْ: قبل النَّصيحة... ونصحت الإِبلُ الشربَ تنصحُ نُصوحاً، أَيْ: صَدَقتُهُ. وأَنصحتُها أَنا: أَرويتها. قال: ومنه التَّوبة النَّصوح، وهي الصَّادقة. والنَّصح بالفتح: مصدر قولك نصحتُ الثَّوب: خِطتُهُ:

ويقال منه التَّوبة النَّصوح...»(2).

وقال الرَّاغب:«النُّصحُ: تحرِّي فعلٍ أَو قول فيه صلاح صاحبه. قال تعالى:

(لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحبُّونَ النَّاصِحِينَ) الأعراف/ 79...

وهو من قولهم: نَصَحتُ له الوُدَّ، أَيْ: أَخلصتُه، ونَاصحُ العسلِ: خالصه، أَو من قولهم: نَصَحْتُ الجلدَ: خِطْتُه، والنَّاصح: الخَّيَّاط، والنِّصاح: الخَيْطُ، وقوله:

(تُوبُوا إِلَی اللّه تَوْبَةً نَصُوحًا) التحريم/ 8، فمن أَحد هذين؛ إمَّا الإخاصُ، وإمَّا الإحكام»(3).

وجاء في (أَساس البلاغة): «نصحته ونصحت له نصحاً ونصيحة، وتنصَّحت له... وناصحته مناصحة. وناصح نفسه في التَّوبة إذا أَخلصها. واستنصحته وانتصحته... ومن المجاز هو ناصح الجيب، ونصح الغيب البلاد: جادها ووصل نبتها، وأَرض منصوحة. ونصحت الإبل الرَّيَّ: صدقته... ونصح الخَّيَّاط الثَّوب،

ص: 138


1- الأعراف: 62
2- الصحاح في اللغة: 2/ 211
3- مفردات ألفاظ القرآن: 808

إذا أَنعم خياطته، ولم يترك فيه فتقًا، ولا خللاً؛ شُبِّه ذلك بالنُّصح»(1).

وبهذه الدَّلالة ورد هذا الفعل (نصح) في الخطبة مرَّةً واحدة؛ إذ قال أَمیرالمؤمنین (عليه السلام): «وَشَهِدْتُ بِبِعْثَةِ مُحمَّدٍ... فَوَعَظ وَنَصَحَ».

و(نَصَحَ) هو الفعل الثَّاني الَّذي أَورده أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) لبيان صفات النَّبيِّ - صَلىَّ اللهُ عَلِيهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ - في أَداء وظيفته - النُّبوَّة - إذ قال (عليه السلام): «وَشَهِدْتُ بِبِعْثَةِ مُحمَّدٍ عَبْدِهِ... بَعَثَهُ فِی خَیرْعَصرْ... خَتَمَ بِهِ نُبُوَّتَهُ، وَقَوَّى بِهِ حُجَّتَهُ، فَوَعَظَ وَنَصَحَ...». فجاء هذا الفعل (نَصَحَ) مبيِّناً الفعل قبله (وعظ)، وتقدَّم أَنَّ الوعظ قد يكون بالنُّصح، فجاء - صَلىَّ اللهُ عَلِيهِ وآلِهِ وَسَلَّم َ- واعظاً بالنَّصيحة الحسنة، وكان - صَلىَّ اللهُ عَلِيهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ - مخلصاً في وعظه، وكان وعظه محکماً، ليس فيه خرق ولا ثلمة، ولم يترك فيه - صَلىَّ اللهُ عَلِيهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ - فتقاً، ولا خللاً.

وجاء هذا الفعل مجرَّداً ماضياً مبنيّاً على الفتح، وفاعله ضمیر مستترفيه جوازاً، تقديره هو، عائد إلى - رسول الله - صَلىَّ اللهُ عَلِيهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ - وجملة (ونصح) معطوفة على جملة (فَوَعَظَ).

* * *

كَدَحَ

تدلُّ مادَّة (كدح) في اللُّغة على العمل، والسَّعي الدَّؤوب، والاكتساب بصعوبة

ص: 139


1- أساس البلاغة: 1/ 475.وينظر:العین: 1/ 192، وتهذيب اللغة: 2/ 14، ومعجم مقاييس اللغة: 348/5، والمحيط في اللغة: 1/ 193، والمخصص: 1/ 340، والمحكم والمحيط الأعظم: 1/ 465، ولسان العرب: 2/ 615، والقاموس المحيط: 1/ 238 و312، وتاج العروس: 1/ 1771

ومشقَّة وعناء، وشدَّة الاجتهاد في السَّعي. جاء في (العین): «الكدح: عمل الإٍنسان من الخیر والشرِّ. ويكدح لنفسه. وقوله تعالى: (إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَ رَبِّكَ كَدْحًا)(1) ،أَيْ: ناصب، وكَدْحاً، أَيْ: نصباً... والكدح: دون الكدم بالأَسنان. والكدح بالحَجَر والحافر)(2) .

وقال ابن دريد: «كَدَح الرَّجل يَكْدَحُ كَدْحاً، إذا اكتسب. وكدح لدنياه، وكدح لآخرته. وتكدَّح جلده، إذا تخدَّش. وفي الحديث:«يجيء يوم القيامة وفي وجهه كُدُوح وخدوش»(3) . وحمار مكدَّح، إذا كانت به آثار من عضِّ الفحول»(4) .

وجاء في «معجم مقاييس اللُّغة» : « (كدح). الكاف والدَّال والحاء، أَصلٌ صحيحٌ يَدُلُّ على تأثیرٍ في شيء.يقال كَدَحه وكَدَّحه، إذا خَدَشَه. وحمار مُكدَّح:

قد عضَّضَتْهُ الحُمُر. ومن هذا القياس كَدَح إذا كسب، يَكدَح؛ فهو كادح»(5) .

وبینَّ أَبو هال العسكريّ (الكدح) حین فرَّق بينه وبین (الكسب) بقوله: «إنَّ الكدح الكسب المؤثر في الخال كتأثیر الكدح، الَّذي هو الخدش في الجلد، وقال الله تعالى: (إَنَّك كَادِحٌ إِلَ رَبِّك كَدْحًا فَمُلاقِيهِ)(6) . وهو يرجع إلى شدَّة الاجتهاد في

ص: 140


1- الانشقاق/آية 6
2- العين: 1/ 177. وينظر: تهذيب اللغة: 1/ 470، والمحيط في اللغة: 1/ 172
3- ورد الحديث بألفاظ أُخرى، فقد جاء في سنن الدارقطني 3/ 28: «مَنْ سَأَلَ النَّاسَ وَهُوَ غَنِيُّ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَفِ وَجْهِهِ كُدُوحٌ وَخُدُوشٌ »
4- جمهرة اللغة: 1، 253. وينظر: المخصص: 2/ 85، والمحكم والمحيط الأعظم: 1/ 423، والقاموس المحيط: 1/ 230
5- معجم مقاييس اللغة: 5/ 135
6- الإنشقاق/الآية 6

السَّعي والجمع، وفلان يكدح لدنياه، ويكدح لآخرته، أَيْ: يجتهد لذلك»(1) .

وجاء في(الصِّحاح في اللُّغة):الكدح: العمل، والسَّعي، والخدش، والكسب.يُقال: وهو يكدح في كذا، أَيْ: يَكُدُّ. وقوله تعالى إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَ رَبِّكَ كَدْحًا)(2)، أَيْ: تسعى. وأَصابه شيء؛ فكدح وجهه. وبه كدح وكدوح، أَيْ: خدوش. وقيل:الكدح أَكثرمن الخدش. وهو يكدح لعياله ويكتدح، أَيْ: يكسب لهم،والتَّكديح:التَّخديش... وتكدَّح الجلد: تخدَّش»(3).

وتطابقت دلالة الفعل (كدح) في الخطبة مع دلالته اللُّغوية؛ إذ ورد مرَّةً واحدة، وهوآخرالأَفعال الَّتي جاء بها أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) لبيان صفة من صفات النَّبيِّ الأَكرم (صَلىَّ اللهُ عَلِيهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ) في أَداء وظيفة - النُّبوَّة -، وقابل بينه وبین الفعل (بَلَّغَ)(4)، وتقدَّم الكلام عليه في الفعل (بلغت) من الكتاب، إذ قال (عليه السلام): «وَشَهِدْتُ بِبِعْثَةِ مُحمَّدٍ عَبْدِهِ... بَعَثَهُ فِی خَیرْعَصرْ... خَتَمَ بِهِ نُبُوَّتَهُ، وَقَوَّى بِهِ حُجَّتَهُ، فَوَعَظَ وَنَصَحَ، وبَلَّغَ وكَدَحَ». فقد بلَّغ الرَّسول الأَعظم - صَلىَّ اللهُ عَلِيهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ - رسالة ربِّه بسعي دؤوب، مجتهداً في ذلك كلِّه، مع ما لاقاه من مشقَّة، وعناء، وصعوبة.

و(كدح) فعل ماضٍ مبنيٌّ على الفتح، والفاعل ضمیر مستتر فيه جوازاً، تقديره هو، عائد إلى رسول الله - صَلىَّ اللهُ عَلِيهِ وآلِهِ وَسَلَّم -. وجملة (وكدح) معطوفة على جملة (وبلغ).

ص: 141


1- الفروق اللغوية:64
2- الإنشقاق/الآية 6
3- الصحاح في اللغة: 2/ 10 - 9.وينظر: لسان العرب: 2/ 569، وتاج العروس: 1/ 22/ 11
4- ينظر: الفعل (بلغت) من الكتاب

وَصيْتُكُم

تدلُّ مادَّة (وصي) في اللُّغة على الصِّلة، والوصل، والتَّقدُّم إلى الغیر بما يعمل به مقترناً بوعظ. جاء في (تهذيب اللُّغة): «وصيت الشيَّء ووصلته سواء. وقال ذو الرِّمة:

نَصِی اللَّيلَ بالأَيَّام حتَّى صَلاتنا *** مقاسمة يشَتقُّ أَنصافَها السَّفَرُ(1)

وفلاة - واصية يتَّصل بفاة أُخرى... وقال الأَصمعيّ: وصى الشيَّء يصي: إذا اتَّصل. ووصاه غیره يصيه. وقال اللَّيث: الوصاةُ كالوصيَّة... ويُقال: وصيٌّ بینِّ الوصاية، والفعل أَوصيت ووصيت إيصاءاً وتوصية. والوصيَّة: ما أَوصيت به، وسمِّيت وصيَّةً لاتِّصالها بأَمرالميِّت»(2).

وقال الجوهريّ: «أَوصيت له بشيء، وأَوصيت إليه، إذا جعلته وصيَّك.

والاسم الِوصايةُ والوَصايةُ. وأَوصيتُه، ووصَّيتُه أَيضاً توصية بمعنى. والاسم:الوَصاةُ. وتواصى القومُ،أ َيْ: أَوصى بعضهم بعضاً... ووصَّيتُ الشيَّء بكذا، إذا وصلتُه... وأَرض واصية:متَّصلة النَّبات. وقد وَصَت الأَرضُ إذا اتَّصل نبتُها.

ورُبّمَا قالوا: تواصى النَّبتُ، وإذا اتَّصل. وهو نبت واصٍ»(3).

وجاء في (أَساس البلاغة): «... ووصى النَّبت: اتَّصل وكثر. وأَرض واصية النَّبات. وواصى البلد البلد: وأَصله. وأَوصيت إلى زيد لعمرو بكذا ووصَّيت، وهذا وصيِّي، وهم أَوصيائي، وهذه وصيَّتي ووصاتي، وقبل الوصيُّ وصايته، وهي مصدر الوصيِّ. ومن المجاز: (أُوصيك بتقوى الله) «ووصىَّ بها إبراهيم بنيه»

ص: 142


1- ديوانه: 45
2- الصحاح في اللغة: 2/ 282
3- هذيب اللغة: 4/ 232

ووصيِّك بفلان أَنْ تبرَّه وبأَرضي أَنْ تعمرها. واستوصِ بفان خیراً»(1).

وقال الفيروزآباديّ: «وصى، كَوَعى خسَّ بعد رفعه، واتَّزن بعد خفَّة، واتَّصل، وَوَصل، والأَرضُ وصْياً ووُصيَّا ووَصاءٌ ووَصاءَةٌ اتَّصل نباتها - وأَوصاهُ ووصَّاه توصيةً عَهِدَ إليه. والاسم الوَصاة والوِصاية، والوصيَّةُ، وهو المُوصَی أَيضاً.

والوَصِّی المُوصِ، والمُوصى...»(2).

وبهذا الفعل «وصيتكم» صدَّرأَمیرالمؤمنین (عليه السلام) (عليه السلام) وصيَّته في الخطبة، وورد الفعل فيها موافقاً دلالته اللُّغوية؛ فأَمر المؤمنین (عليه السلام) يريد أَنْ يصل، ويوصل، ويتقدَّم لِمنْ حضر في مجلسه وعظاً مقترناً بالعمل به، وأَيّ وعظٍ هذا يصدرعین سيِّد الواعظین! إذ قال (عليه السلام): «وصَيَتُكُم مَعْشرَ مَنْ حَضرَنِی: بِتَقْوَى رَبِّكُم».

فبعد أَنْ ابتدأَ أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) خطبته بالحمد والثَّناء على الله - تبارك وتعالى - وتنزيهه ببيان صفاته وأَفعاله، شاهداً له بالرُّبوبيَّة، ولمحمَّد - صَلىَّ اللهُ عَلِيهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ - بالرِّسالة، مع بيان صفاته - صَلىَّ اللهُ عَلِيهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ بدأَ بتقديم الوعظ لِمنْ حضره في ذلك المجلس.

و(وصيتكم) فعل ماضٍ مبنيٌّ على السُّكون؛ لاتِّصاله بتاء الفاعل، والتَّاء ضمیر متَّصل في محلِّ رفع فاعل، عائد إلى أَمیرالمؤمنین (عليه السلام)، و(كم) ضمیرمتَّصل مبنيٌّ في محلِّ نصب مفعول به، عائد إلى (معشر من حضرني).

* * *

ص: 143


1- أساس البلاغة: 2/ 19.وينظر: العین: 2/ 48، مفردات ألفاظ القرآن: 873، والمحيط في اللغة: 239/2، ولسان العرب: 15/ 294، وتاج العروس: 1/ 8648
2- القاموس المحيط،/ 485

حَضرَنِ،حَضرَهُ

تدلُّ مادَّة (حضر) في اللُّغة على القرب، والشُّهود (المشاهدة)، والإقامة، وهو نقيض الغَيْبَة. جاء في (العین): «الحَضرَ: خلاف البدو. والحاضرة خلاف البادية؛ لأَنَّ أَهل الحاضرة حروا الأَمصار والدِّيار... والحَضرْةُ: قَرُبَ الشيَّءُ.

تقول: كنت بحضرة الدَّار... وضربته بحضرة فلان، وبمحضره أَحسنُ في هذا.

والحاضر: هم الحيُّ إذا حضروا الدَّار الَّتي بها مجتمعهم، فصار الحاضراسماً جامعاً كالحاجِّ...»(1).

وقال الجوهريّ: «حَضرْةُ الرَّجل: قُرْبُهُ وفِناؤه. والحَضْربلد. بإزاء مسكن. ويُقال:

كلَّمتُهُ بحضرةِ فُلانٍ وبمحضرٍ من فلانٍ، أَيْ: بمشهدٍ منه... والمحَضرَ أَيضاً خاف البدو.

والمَحْضرَ: السِّجلُ. والمحضر: المرجع إلى المياه، وفلان حسن المَحْضرَ، إذا كان ممَّن يذكرالغائب بخیر... وفلان حاضر بموضع كذا، أَيْ: مقيم به. ويُقال: على الماء حاضر، وهؤلاء قوم حُضَّار، إذا حضروا المياه... والحضور: نقيض الغيبة»(2).

وقال الرَّاغب:«الحضَرَ: خلاف البدو، والحَضَارة والحِضَارة: السُّكون بالحضر، كالبَداوة والبِداوة، ثُمَّ جُعِلَ ذلك اسماً لشهادة مكان أَو إنسان أَو غیره، فقال تعالى:

«كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضرَ أَحَدَكُمُ الَموْتُ»البقرة/ 180...وقال تعالى: «مَا عَمِلَتْ مِنْ خَیرْ مُخضرَا» آل عمران/ 30، أَيْ: مشاهَداً معايَناً في حكم الحاضرعنده، وقوله عَزَّوَجَلَّ: «وَاسْأَلْهمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرةَ الْبَحْرِ»الأعراف/ 163، أَيْ:

قربه...»(3).

ص: 144


1- العين: 1/ 188. وينظر: المحيط في اللغة: 1/ 187، والمحكم والمحيط الأعظم: 1/ 452
2- الصحاح في اللغة: 1/ 134
3- مفردات ألفاظ القرآن: 241 و 242

وجاء في (أَساس البلاغة): حضرفلان، وأَحضرته، واستحضرته، وطلبته فأَحضرنيه صاحبه. وهو من حاضري البلد، ومن الحضور. وفعلت كذا وفلان حاضر، وفعلته بحضرته، وبمحضره... وحاضرته: شاهدته. وهو من أَهل الحضر، والحاضرة، والحواضر، وهو حضريٌّ بینِّ الحضارة... ومن المجاز حضرت الصَّلاة. وأَحضرْ ذهنك. وجاءنا ونحن بحضرة الدَّار، وحضرة الماء: بقربهما... وحضرت الأَمر بخیر، إذا رأيت فيه صواباً، وكفيته... وحضر المريض، واحتضر:

حضره الموت»(1).

ويقال في الفعل: حَضرَ الرَّجل حضوراً، وأَحضرهُ غیرهُ. وحكى الفرَّاء حضرِ بالكسر، لغة فيه.يُقال: حَضرِتِ القاضي اليومَ امرأَةٌ. وكلُّهم يقول: يَحضرُ بالضَّمِّ(2).وحَضرَكنَصرَوعَلِمَ حُضُوراً وحَضَارةً ضِدُّ غَابَ، كاحتضروتحضرَّ، ويُعدَّى، يقال حَضرهُ، وتَحضرَّهُ، وأَحْضرَ الشيَّءَ، وأَحْضرَهُ إيَّاهُ(3).

وبهذا المعنى ورد الفعل (حضر) مرَّتین في الخطبة، أَورده أَمیر المؤمنین (عليه السلام) - في المرَّة الأولى - في وصيَّته معرَ مَنْ كان قريباً منه، شاهداً ما يقوله له، إذ قال (عليه السلام):«وَصَيْتُكُمْ مَعْشرَ مَنْ حَضرنِی».

و(حضرني) حَضرَ: فعل ماضٍ مبنيٌّ على الفتح، والفاعل ضمیرمستتر فيه جوازاً تقديره هو، عائد إلى (معشر)، والنُّون للوقاية، لا محلَّ لها من الإعراب، والياء ضمیر متَّصل مبنيٌّ في محلِّ نصب مفعول به، عائد إلى أَمیر المؤمنین (عليه السلام). وجملة (حضرني) صلة الموصول، لا محلَّ لها من الإعراب.

ص: 145


1- أساس البلاغة: 1/ 89
2- ينظر: تهذيب اللغة: 1/ 500،والصحاح في اللغة: 1/ 134، ولسان العرب: 4/ 196
3- ينظر: المخصص: 2/ 477، والقاموس المحيط: 1،386

أَمَّا في المرَّة الثَّانية، فقد جاء به أمیرالمؤمنین (عليه السلام) في مقام بيانه حال الإنسان المحتضَر، وهو يجدُّ في نزع شديد -وسيأْتي الكلام عليه إنْ شاء الله تعالى -؛ فيكون عنده شاهداً قريباً ومقيماً كلّ قريب وبعيد، إذ قال (عليه السلام):

« »ثُمَّ قِيْلَ هُوَ مَوْعُوْكٌ، وَجِسْمُهُ مَنْهُوْكٌ، ثُمَّ جَدَّ فِی نَزْعٍ شَدِيْدٍ، وَحَضرَهُ كَلُّ قَرِيْبٍ وَبَعِيْدٍ».

و«حَضرَهُ» حضر: فعل ماضٍ مبنيٌّ على الفتح، والفاعل (كلّ) مرفوع، وعلامة رفعه الضَّمَّة الظَّاهرة على آخره، والهاء في (حضره) ضمیر متَّصل مبنيٌّ على الضَّمِّ في محلِّ نصب مفعول به. وجملة (وحضره كل قريب وبعيد) معطوفة على جملة (ثم جد في نزع شديد).

* * *

ذكَّرتُكم

تدلُّ مادَّة (ذكر) في اللُّغة على معانٍ، منها: الحفظ، وعدم النِّسيان، والسَّهو.

جاء في (العین): «الذِّكر: الحفظ للشيَّء تذكرةً، وهو مني على ذكر، والذِّكْرُ: جَرْيُ الشيَّء لسانك، تقول: جرى منه ذِكْرٌ»(1).

وقال ابن دريد: «الذِّكر: ضدُّ النِّسيان؛ ذكرتُ الشيَّء أَذكرُه ذِكراً أَو ذُكراً، وهو منِّي على ذِكْرٍ وعلى ذُكْرٍ، والضَّمُّ أَعلى، وذَكَّرتُه ذِكراً حَسناً. وذكَّرتُك الله أَنْ تفعل كذا وكذا كالقسم...»(2).

ص: 146


1- العین: 1/ 437.وينظر: الصحاح في اللغة: 1/ 227، والمحيط في اللغة: 2/ 42، والمحكم والمحيط الأعظم: 3/ 163، ولسان العرب: 4/ 308، وتاج العروس: 1/ 2863 - 2867
2- جمهرة اللغة: 1/ 375

وقال أَبو هلال العسكريّ في الفرق بین (الذكر) و(العلم) إنَّ الذِّكر: «وإنْ كان ضرباً من العلم، فإنَّه لا يسمَّى ذكراً إلاَّ إذا وقع بعد نسيان، وأَكثر ما يكون في العلوم الضَّوريَّة، ولا يوصف الله به؛ لأَنَّه لا يوصف بالنِّسيان، وقال عليّ بن عيسى: الذِّكر يضادُّ السَّهو...»(1).

وقال الرَّاغب: «الذِّكْرُ: تارة يقال، ويراد به هيئة للنَّفس بها يمكن للإنسان أَنْ يحفظ ما يقتنيه من المعرفة، وهو كالحفظ إلاَّ أَنَّ الحفظ يقال اعتباراً بإحرازه، والذِّكْرُ يقال اعتباراً باستحضاره، وتارة يقال لحضور الشيَّء القلب أَو القول؛ ولذلك قيل: الذِكْرُ ذِكْران: ذِكرٌ بالقلب. وذِكرٌ باللِّسان، وكلُّ واحد منها ضربان:

ذِكرٌعن نسيان. وذكرلاعن نسيان، بل عن إدامة الحفظ»(2).

وجاء في (أَساس البلاغة): «ذكرته ذكراً وذكرى. وذكَّرته تذكرة وذكرى «وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الُمؤْمِنیِنَ»(3) .وذكرت الشيَّء وتذكرته، واجعله في على ذكر، أَيْ: لا أَنساه... واستذكر بدراسته، طلب بها الحفظ»(4).

وبهذا المعنى ورد الفعل (ذَكَّرْتُكُم) في الخطبة مرَّةً واحدة، جاء به أَمیر المؤمنین (عليه السلام) في وصيَّته مَنْ كان حاضراً عنده،مُذكِّراً إِيَّاهم بسنَّة النَّبيِّ الأَعظم - صَلىَّ اللهُ عَلِيهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ -، إذ قال (عليه السلام): «وَصَيْتُكُم مَعْشرَ مَنْ حَضرَنِی، وَذَكَّرْتُكُم بِسُنَّةِ نَبِيِّكُم».

وأَحسن أَمیر المؤمنین (عليه السلام) حین استعمل الفعل (ذَكَّرْتُكُم) بصيغة

ص: 147


1- الفروق اللغوية: 241
2- مفردات ألفاظ القرآن: 328
3- الذاريات: الآية 55
4- أساس البلاغة: 1/147

(فَعَّلَ)؛ فَزِنَةُ (فَعَّلَ) لها معانٍ كثیرة، منها المبالغة والتَّكثیر، وهو أَشهرها، ويدلُّ على تكرير الفعل، وكثرة القيام به(1) ، وهو ما يتناسب ومعنى الفعل (ذَكَّرْتُكُم)؛ فإنَّ الذِّكر يحتاج إلى إعادة، وكثرة، ومبالغة. قال الله تعالى: «وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الُمؤْمِنِینَ»(2).

و (ذَكَّرْتُكُم) فعل ماضٍ مبنيٌّ على السُّكون؛ لاتِّصاله بتاء الفاعل، وتاء الفاعل ضمیرمتَّصل مبنيٌّ على الضَّمِّ في محلِّ رفع فاعل،عائد إلى أَمیرالمؤمنین (عليه السلام)، و(كم) ضمیرمتَّصل مبنيٌّ في محلِّ نصب مفعول به، عائد إلى معشر مَنْ كان حاضراً عند أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) في مجلسه. وجملة (ذَكَّرْتُكُم) معطوفة على جملة (وَصَيْتُكُم).

* * *

تُسكِّنُ،سكَنَ

تدلُّ مادَّة (سكن) في اللُّغة على الهدوء، والاستقرار، والثَّبات، والاستئناس، والاطمئنان، وعدم الانتقال والاضطراب والحركة. جاء في (العین): «السُّكون: ذهاب الحركة، أَيْ: سكت، سكنت الرِّيح، وسكن المطر، وسكن الغضب. والسَّكَون: المنزل، وهو المَسْكَنُ أَيضاً. والسَّكينة: الوديعة، والوقار، تقول: وهو وديع وقور ساكن... وسكينة بني إسرائيل: ما في التَّابوت من مواريث الأَنبياء... جعله الله لهم سكينة، لا يفرُّون عنه أَبداً، وتطمئنُّ قلوبهم إليه»(3).

ص: 148


1- ينظر: الفعل (بلغ) من الكتاب
2- الذاريات/ 55
3- العین: 1/ 43. وينظر: جمهرة اللغة: 1/ 478، والمحكم والمحيط الأعظم: 3/ 145، ولسان العرب: 211/12

وسكن الشَّیء سكوناً: استقرَّ، وثبت. وسكَّنَهُ غيرُه تسكيناً(1).

وقال الرَّاغب: «السُّكون: ثبوت الشيَّء بعد تحرُّك، ويستعمل في الاستيطان نحو: سكن فلان مكان كذا، أَيْ: استوطنه... وسُكَّان السَّفينة: ما يُسَكَّنُ به، والسِّكين سمِّي لإزالته حركة المذبوح...»(2).

جاء في (أَساس البلاغة): «سكن المتحرِّك، وأَسكنته وسكَّنته، وتناسبت حركاته وسكناته. وسكنوا الدَّار وسكنوا فيها، وأَسكنتهم الدَّار، وأَسكنتهم فيها، وهم سكن الدَّاروساكنتها وساكنوها وسكَّانها، وهي مسكنهم... ومن المجاز. سكنت نفي بعد الاضطراب... وسكنت إلى فان: استأنست به، ولا تسكن نفسي إلى غیره، ومالي سكن، أَيْ: مَنْ أَسكن إليه من امرأَة ولا حميم، وفلان سكني من النَّاس، ومنه سمِّيت النَّار سكناً كما سمِّيت مؤنسة... وتركتهم على سكناتهم: على أَحوال استقامتهم الَّتي كانواعليها لم ينتقلوا إلى غيرها»(3).

وتطابقت دلالة الفعل (سكن) في الخطبة مع دلالته اللُّغوية؛ إذ جاء الفعل (سكن) أَربع مرَّات في الخطبة. أَورده أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) في المرَّة الأُولى في مقام وصيته مَنْ كان حاضراً عنده، إذ قال (عليه السلام): «وَصَيْتُكُم مَعْشرَ مَنْ حَضرَنِی، وَذَكَّرْتُكُم بِسُنَّةِ نَبِيِّكُم، فَعَلَيْكُم بِرَهْبَةٍ تُسَكِّنُ قُلَوْبَكُمْ».

والفعل (تُسَكِّنُ) على زنه(فَعَّلَ)، ولهذه الصِّيغة معانٍ كثیرة، منها: الجَعْلُ، وهو جَعْلُ مفعولِه على ما هوعليه، نحو: سبحان الَّذي ضوَّء الأَضواء، أَيْ:

ص: 149


1- ينظر: الصحاح في اللغة: 1/ 323، والمحيط في اللغة: 2/ 30
2- مفردات ألفاظ القرآن: 417
3- أساس البلاغة: 1/ 223.وينظر: تهذيب اللغة:3 / 328. والقاموس المحيط: 3/ 335

جعلها أَضواءً(1)؛ فيكون المعنى في الخطبة (تُسَكِّنُ قُلَوْبَكُمْ)، أَيْ: تجعلها ساكنة.

و(تُسَكِّنُ) فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه الضَّمَّة الظَّاهرة على آخره، والفاعل ضمیرمستتر فيه جوازاً، تقديره (هي)، عائد إلى (برهبة)، وقلوبكم:

مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الفتحة الظَّاهرة على آخره، وهو مضاف، و(كم) ضمیر متَّصل مبنيٌّ في محلِّ جرٍ بالإضافة. وجملة (تُسَكِّنُ قُلَوْبَكُمْ) صفة ل (برهبة).

وممَّا تجدر الإشارة إليه أَنَّ (الرَّهبة) في القرآن الكريم جاءت مسندة إلى الصُّدور، وذلك في قوله - عَزَّ وَجَلّ -: «لَانْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِی صُدُورِهِمْ مِنَ اللِّه ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَ يَفْقَهُونَ»(2).وقد حاكى أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) ذلك بإسناد (الرَّهبة) إلى القلوب الَّتي في الصُّدور؛ إذ قال (عليه السلام): «فَعَلَيْكُم بِرَهْبَةٍ تُسَكِّنُ قُلَوْبَكُمْ».

أَمَّا في المرَّة الثَّانية، فأَورد أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) الفعل (سكن) في بيان حال الإنسان المحتضَر- وسيأْتي بيانه إنْ شاء الله تعالى -، إذ قال (عليه السلام): «ثُمَّ قِيْلَ هُوَ مَوْعُوْكٌ، وَجِسْمُهُ مَنْهُوْكٌ، ثُمَّ جَدَّ فِی نَزْعٍ شَدِيْدٍ، وَحَضرَهُ كَلُّ قَرِيْبٍ وَبَعِيْدٍ، فَشَخَصَ بِبَصرَهِ، وَطَمَحَ بِنَظَرِهِ، وَرَشَحَ جَبِيْنُهُ، وَسَكَنَ حَنِيْنُهُ» وهذه استعارة لطيفة استعملها أَمیرالمؤمنین (عليه السلام)، وهو يريد أَنْ يصف حالالإنسان المحتَضر، فهو حین يُختضرَيطمح بنظره، ويرشح جبينه، وتنقطع منه كلُّ حركة واضطراب، حتَّى ذلك الصَّوت الَّذي يصدره في حال الاحتضار، وكنَّى

ص: 150


1- ينظر: شرح الشافية: 1/ 95، وأوزان الفعل ومعانيها: 82
2- الحشر: 13

عنه بالحنین، وهو الصَّوت الَّذي تُصدره النَّاقة في نزاعها إلى ولدها(1) .

و (سكن) فعل ماضٍ مبنيٌّ على الفتح، و(حنينُه) فاعل مرفوع، وعلامة رفعه الضَّمَّة الظَّاهرة على آخره، وهو مضاف، والهاء ضمیر متَّصل مبنيٌّ على الضَّمِّ في محلِّ جرٍ بالإضافة. وجملة (سكن حنينه) معطوفة على (ورشح جبينه).

أَمَّا في المرَّة الثَّالثة والرَّابعة، فأَورده أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) في مقام بيان حال الإنسان المتنعِّم - وسيأْتي الكلام عليه إنْ شاء الله تعالى - في جنَّة الله - عَزَّ وَجَلَّ - وفردوسه؛ إذ قال (عليه السلام): «فَمَنْ زُحزِحَ عَنْ تَعْذِيْبِ رَبِّهِ، سَكَنَ فِی جَنَّتهِ بِقُرْبِهِ، وَخُلِّدَ فِی قُصُوْرٍ مُشَيَّدَةٍ، وَمَلَكَ حُوْرَ عِینْ وَحَفَدَةً، وطِيْفَ عَلَيْهِ بِكُؤْوسٍ، وَسَكَنَ حَظِیرْةَ فِرْدَوْسٍ».

فَمَنْ زُحْزح عن تعذيب ربه، استقرَّ، وثبت، واطمأنَّ، واستأنس بجنَّة الله - عَزَّ وَجَلّ َ- وحظرة فردوسه؛ حيث كانت له سكناً، ووطناً، ومستقراً.

و(سكن في جنَّته بقربه) سكن: فعل ماضٍ مبنيٌّ على الفتح (فعل جواب الشرط)، والفاعل ضمیرمستترفيه جوازاً، تقديره هو، عائد إلى (مَنْ زحزح عن تعذيب ربه)، و(في) حرف جرٍّ، و(جنتَّه) اسم مجرور، وعلامة جرِّه الكسرة الظَّاهرة على آخره، وهو مضاف، والهاء ضمیر متَّصل مبنيٌّ على الكسر في محلِّ جرٍ بالإضافة، والجارُّ والمجرور متعلِّقان بالفعل (سكن)، و(بقربه) الباء حرف جرٍّ،و(قربه) اسم مجرور، وعلامة جرِّه الكسرة الظَّاهرة على آخره، وهو مضاف، والهاء ضمیر متَّصل مبنيٌّ على الكسر في محلِّ جرٍ بالإضافة. وهنا نكتة لطيفةأَشار إليها أَمیر المؤمنین (عليه السلام) بقوله: (بقربه)، وهي إنَّ الجنَّة الحقيقيَّة هي القرب منه - تبارك وتعالى -.

ص: 151


1- ينظر: العين: 1/ 168، الصحاح في اللغة: 1/ 152، ولسان العرب: 13/ 128

و(سكن حظیرة فردوس) سكن: فعل ماضٍ مبنيٌّ على الفتح، والفاعل ضمیرمستتر فيه جوازاً، تقديره هو، عائد إلى (مَنْ زحزح عن تعذيب ربه)، و(حظیرة) مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الفتحة الظَّاهرة على آخره، وهو مضاف، و(فردوس) مضاف إليه مجرور، وعلامة نصبه الفتحة الظَّاهرة على آخره، وهو مضاف، و(فردوس) مضاف إليه مجرور، وعلامة جرِّه الكسرة الظَّاهرة على آخره.

وجملة (وسكن حظیرة فردوس) معطوفة على جملة (وطيف عليه بكؤوس).

* * *

تُذْرِئُ

تدلُّ مادَّة (ذرأ) في اللُّغة على معانٍ كثیرة، منها: النَّفض، والصَّبُّ. فالذَّرو اسم لما ذَرَوْتُه بمنزلة النَّفض، اسم ما تنفُضُه من الثَّمر المتساقط. والذَّرَى: ما أَذْرأتِ العینُ من الدَّمع، أَيْ: صَبَّت، تُذري إذراءاً، وأَذرأتُ الدَّمع: أَذْرَيتُه(1).

وبهذه الدَّلالة ورد هذا الفعل (تذرئ) في الخطبة مرَّةً واحدة؛ إذ قال أَمیر المؤمنین (عليه السلام): «فَعَلَيْكُم بِرَهْبَةٍ تُسَكِّنُ قُلَوْبَكُمْ، وَخَشْيَةٍ تُذْرِئُ دُمُوْعَكُمْ،» أَيْ: عليكم بخشية تصبُّ دموعكم.

و (تذرئ) فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه الضَّمَّة الظَّاهرة على آخره، والفاعل ضمیرمستترفيه جوازاً، تقديره هي، عائد إلى (خشية)، و(دموعكم) مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الفتحة الظَّاهرة على آخره، وهو مضاف، و(كم) ضمیرمتَّصل مبنيٌّ في محلِّ جرٍ بالإضافة.

ص: 152


1- ينظر: العین: 2/ 154، وجمهرة اللغة: 1/ 376، وتهذيب اللغة: 5/ 66، والصحاح في اللغة: 1،244، والمحيط في اللغة: 2/ 394، والقاموس المحيط: 1،9، والعباب الزاخر: 1/ 18، ولسان العرب: 1/ 79، وتاج العروس: 1/ 2858

وممَّا تجدر الإشارة إليه - هنا - أَنَّ أَميرالمؤمنین (عليه السلام) أَراد صَبَّ الدُّموع المرتبط بعلمٍ ومعرفةٍ بالله - تبارك وتعالى -؛ ولذا قال (عليه السلام): «فعليكم...

بخشية تذرئ دموعكم»، ولم يقل: (فعليكم... بخوف يذرىء دموعكم)؛ إذ إنَّ هناك فرقًا بین (الخوف)و(الخَشية)، فالخشية اصطلاحاً: «خوف يشوبه تعظيم، وأَكثر ما يكون ذلك عن علم بما يخُشى منه»(1) . وفرَّق الدُّكتور أَحمد الشّرباصّي بین (الخشية) و(الخوف)بقوله: «وإذا واصلنا قراءتنا في كتب السَّلف فيما يتَّصل بالخوف، وجدنا جملة أَلفاظ متقاربة، وإنْ لم تكن مترادفة، منها الخوف، والخشية، والرَّهبة،... وقد قالوا في التَّفرقة الدَّقيقة بينها: إنَّ الخوف هرب من حلول المكروه عند استشعاره، وهو لعامَّة المؤمنین، وصاحبه يلتجئ إلى الهرب والإمساك، والخشية أَخصُّ من الخوف، وهي للعلماء العارفین بالله المشار إليهم بقوله تعالى: «إِنَّماَ يَخشَى اللَّه مِنْ عِبَادِهِ الْعُلمَاَءُ» (2) وصاحب الخشية يلتجئ إلى الاعتصام بالله، وعلى قدر العلم تكون الخشية»(3).

فالخشية هي خوف من ذات الله سبحانه، لا من عذابه وعقابه، وذهب الرَّازيّ إلى أَنَّ تخصيص (الخشية) بالله - سبحانه وتعالى - إنّمَا كان للعظمة «لأَنَّ الخشية تكون غالباً من عظم المخشي، وإنْ كان الخاشي قويّاً، أَمَّا الخوف، فيكون غالباً من ضعف الخائف، وإنْ كان المخوف أَمراً يسیراً»(4).

وفرَّقت الدُّكتورة عائشة عبد الرَّحمن بین (الخشية)و(الخوف) بقولها: «وتفترق الخشية عن الخوف بأَنَّها تكون عن يقین صادق بعظمة مَن نخشاه... أَمَّا الخوف،

ص: 153


1- مفردات ألفاظ القرآن: 213
2- فاطر: 28
3- موسوعة أخلاق القرآن: 1/ 160
4- التفسير الكبير: 28 / 177

فيجوز أَنْ يحدث عن تسلُّطٍ بالقهروالإرهاب»(1) .

* * *

يُذْهِلُكُمْ

تدلُّ مادَّة (ذهل) في اللُّغة على الترَّك، والسَّلو، والنِّسيان.يقال ذَهَلَ يَذْهَلُ، وذَهِلَ يَذْهَلُ ذهولاً. وذهل عن الأَمر ذهولاً، وقد أَذهله الأَمر، وأَذهله عنه: إذا نسيه، وسلا عنه، وتركه. والذَّهْلُ: تركك الشيَّء: تناساه عن عمد، أَو يشغلك عنه شاغل. وقيل: الذَّهْلُ: السَّلو وطيب النَّفس عن الإلف. والذُّهول: شُغْلٌ يورث حُزناً ونسياناً. قال الله - عَزَّ وَجَلَّ -: «يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَماَّ أرَضَعَتْ»(2) ، أَيْ تسلو عن ولدها، فتتركه لشدَّة القيامة والفزع الَأكبر(3) .

وقد شرع أَمیر المؤمنین (عليه السلام) بهذا الفعل (يُذْهِلُكُمْ) في الخطبة، وبعده أَفعال خمسة في وصف يوم القيامة، وما يجري فيه على الإنسان، فقال (عليه السلام): «فَعَلَيْكُم بِرَهْبَةٍ تُسَكِّنُ قُلَوْبَكُمْ، وَخَشْيَةٍ تُذْرِئُ دُمُوْعَكُمْ، وَتَقِيَّةٍ تُنْجِيْكُمْ، يَوْمَ يُذْهِلُكُمْ»، أَيْ: أَنَّ هذا اليوم يجعل أَنفسكم تسلوعن كلِّ شيء وتتركه، ولا طيب لها في كلِّ إِلْف؛ إذ إنَّها تكون منصرفة بكلِّها لذلك اليوم؛ لشدَّته وفزعه.

وقد ضَمَّن أَمیرالمؤمنین (عليه السام) بقوله: «يوم يذهلكم»قوله - تبارك

ص: 154


1- الإعجاز البياني للقرآن ومسائل ابن الأزرق:209
2- الحج/2
3- ينظر:العین: 1،268،وتهذيب اللغة: 2/ 322،والصحاح في اللغة: 398،ومفردات ألفاظ القرآن: 322، والمحيط في اللغة: 1/ 304، والمحكم والمحيط الأعظم:2 / 189، وأساس البلاغة: 1/ 150، ولسان العرب: 11/ 259،وتاج العروس: 1/ 7078

و تعالى - «يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمّا أَرْضَعَتْ»(1) .

و(يذهلكم) فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه الضَّمَّة الظَّاهرة على آخره، والفاعل ضمیر مستتر فيه جوازاً، تقديره هو، عائد إلى (يوم) ، و(كم) ضمیرمتَّصل مبنيٌّ في محلِّ نصب مفعول به. والجملة (يذهلكم) في محل جر بالإضافة إلى الظَّرف (يوم).

* * *

يُبْلِيْكُم

أَصل مادَّة (يبيلكم) في اللُّغة من البلاء، أَو الابتلاء، وهو إظهار الخیرمن الشرِّ، والعلم والمعرفة بكنه الأَشياء. جاء في (العین) : «... بُليَ الإنسان وابتُلي إذا امتُحِنَ... والباء في الخیر والشرِّ، والله يُبي العبد باءاً حسناً وباءاً سيئاً. وأَبليتُ فلاناً عُذراً، أَيْ: بيَّنتُ فيا بيني وبينه ما لا لوم عليَّ بعده. والبلوى هي البليَّة، والبلوى: التَّجربة، بلوته أَبلوه بلواً)(2) .

وقال الرَّاغب: «...وبلوته: اختبرته كأَنِّ أَخلقتُه من كثرة اختباري له،وقرئ:

«هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ» [يونس/ 30]، أَيْ: تعرف حقيقة ما عملت؛ ولذلك قيل: بلوتُ فلاناً، إذا اختبرته، وسمِّي الغمُّ بلاء من حيث إنَّه يبلي الجسم... وإذا قيل: ابتلى فلان كذا وأَبلاه، فذلك يتضمَّن أَمرين: أَحدهما تعرُّف حاله، والوقوف على ما يُهل من أَمره، والثَّاني ظهور جودته ورداءته، ورُبّمَا قُصد به الأَمران، ورُبَّما يقصد به أَحدهما، فإذا قيل في الله تعالى: بلا كذا وأَبلاه،

ص: 155


1- الحج/2
2- العين: 2/ 190.وينظر: تهذيب اللغة: 5/ 190، والمحيط في اللغة: 2/ 460،والمخصّص: 1/ 343

فليس المراد منه إلاَّ ظهور جودته ورداءته، دون التَّعرُّف لحاله، والوقوف على مايُجهل من أَمره؛ إذ كان الله علاَّم الغيوب، وعلى هذا قوله عَزَّ وَجَلَّ: «وَإِذِ ابْتَلَی إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَّمهُنَّ» [البقرة/ 124]...)(1).

وجاء في (أَساس البلاغة): «وبي فلان: أَصابته بليَّة... وناقة بلو سفر: قد بلاها السَّفر، وأَبلاها. وقولهم: أَبليته عذراً إذا بيَّنته له بياناً لا لوم عليك بعده، حقيقته جعلته بالياً لعذري، أَيْ: خابراً له عالماً بكنهه، وكذلك أَبليته يميناً... ومنه أَبى في الحرب بلاء حسناً إذا ظهر بأْسه حتَّى بلاه النَّاس، وخبروه... وابتليت الأَمر: تعرَّفته»(2).

وجاء في (لسان العرب): «بَلَوْتُ الرَّجلَ أَبْلُوْهُ بَلْواً وبلاءً. وابتليته: اختبرته، وبَلاه يَبلوه بَلْوًا إذا جربَّه واختبره... وقد ابتليتُه فأَبلاني، أَيْ: استخبرته فأَخبرني...

وابتلاه الله يُبلي العبد بلاء حسناً، ويبليه بلاء سيئاً... والجمع بلايا»(3).

وتطابقت دلالة الفعل (يبليكم) في الخطبة مع دلالته اللُّغوية، إذ جاء الفعل (يبليكم) مرَّةً واحدة في الخطبة، وفي معنى إظهار الخیر والشرَّ، وهو ثاني الأَفعال الخمسة الَّتي أَوردها أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) في وصف يوم القيامة، وما يجري فيه على الإنسان، إذ قال(عليه السلام): «وَصَيْتُكُمْ مَعشْرَ مَنْ حَضرَنِی:بِتَقْوَى رَبِّكُمْ، وَذَكَّرْتُكُمْ بِسُنَّةِ نَبِيِّكُمْ، فَعَلَيْكُم بِرَهْبَةٍ تُسَكِّنُ قُلَوْبَكُمْ، وَخَشْيَةٍ تُذْرِئُ دُمُوْعَكُمْ، وَتَقِيَّةٍ تُنْجِيْكُمْ؛ يَوْمَ يُذْهِلُكُمْ وَيُبْلِيْكُمْ».

و (يبليكم) فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه الضَّمَّة المقدرَّة على الياء؛ منع

ص: 156


1- مفردات ألفاظ القرآن: 145 و146
2- أساس البلاغة: 1/ 32
3- لسان العرب: 14/ 83

من ظهورها الثِّقل، والفاعل ضمیر مستتر فيه جوازاً، تقديره هو،عائد إلى (يوم) و(كم) ضمیرمتَّصل مبنيٌّ في محلِّ نصب مفعول به. وجملة (ويبليكم) معطوفةعلى جملة (يذهلكم).

* * *

يفوز

الفوز: هو الظَّفر بالخیر، والنَّجاة من الشرِّ والهلاك. يُقال: فاز بالجنَّة، ونجا من النَّار، وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: «فَلَا تَحسَبَنَّهُمْ بِفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ»(1)، أَيْ: بمنجاة(2) .

وقيل: إنَّ الفوز: ضدّ الهلاك. ويُقال: فازيفوزفوزاً، ثُمَّ كثیر ذلك حتَّى صار كلُّ مَنْ نال خیراً، فقد فاز به يفوز(3). فكلُّ مَنْ أَصاب خیراً، فقد فاز به: أَيْ أَفلح.

والفوز: الظَّفر، وفاز فلان بالجائزة، أَيْ: ظفر بأَيِّ شيء كان(4).

وجاء في (أَساس البلاغة): «طوبى لِمنْ فاز بالثَّواب، وفاز من العقاب، أَيْ:

ظفر ونجا. وهو بمفازة من العذاب، أَيْ: بمنجاة منه... وتقول: تلك الفازة فيها المفازة، أَيْ: المفلحة... وفوَّز المسافر: ركب المفازة، ومى فيها... وخرج لهم سهم فائز: إذا غلب، وفاز بفائزة، أي: بشيء يُسرُّه ويصيب به الفوز، وتقول: فازفلان بفائزة هنيَّة، وأُجيز بجائزة سنيَّة)(5).

ص: 157


1- آل عمران: 188
2- ينظر: العین: 2/ 92، وتهذيب اللغة: 4/ 381، والصحاح في اللغة: 2/ 54، والمخصص: 3/ 201، والقاموس المحيط: 2/ 56
3- ينظر: جمهرة اللغة: 1/ 457
4- ينظر: المحيط في اللغة: 2/ 306، ومفردات ألفاظ القرآن: 647- 548
5- أساس البلاغة: 1/ 360

وفرَّق أَبو هلال العسكريّ بین (الفوز) و(النَّجاة) بقوله: «إنَّ النَّجاة هي الخلاص من المكروه، والفوز هو الخلاص من المكروه، والفوز هو الخلاص من المكروه مع الوصول إلى المحبوب؛ ولهذا سمَّى الله - تعالى - المؤمنين فائزين لنجاتهم من النَّار، ونيلهم الجنَّة، ولمَّا كان الفوز نيل المحبوب قيل فاز بطلبته، وقال تعالى: (يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيماً)(1)، أَيْ: أَنال الخر نيلاً كثیراً»(2).

ويعدُّ لفظ (الفوز) من الأَضداد؛ فالمفازة: المنجاة، والمفازة: المهلكة. ومن المهلكة تسميتهم الفلاة: مفازة؛ لأَنَّها مهلكة؛ وإنَّما سمِّيت الفلاة مفازة تفاؤلاً، أَو لأَنَّ راكبها إذا قطعها، وجاوزها، فاز(3).

وتطابقت دلالة الفعل (يفوز) في الخطبة مع دلالته اللُّغوية؛ إذ جاء الفعل (يفوز)، مرَّةً واحدة في الخطبة، وهو ثالث الأَفعال الخمسة الَّتي أَوردها أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) في وصف يوم القيامة، وما يجري فيه على الإنسان، إذ قال (عليه السلام): «وَصَيْتُكُمْ مَعْشرَ مَنْ حَضرَنِی: بِتَقْوَى رَبِّكُمْ، وَذَكَّرْتُكُمْ بِسُنَّةِ نَبِيِّكُمْ، فَعَلَيْكُم... يَوْمَ يُذْهِلُكُمْ ويُبْلِيْكُمْ، يَوْمَ يَفُوْزُ فِيْهِ مَنْ ثَقُلَ وَزْنُ حَسَنَتِهِ، وَخَفَّ وَزْنُ سَيِّئَتِهِ».

و(يفوز) فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه الضَّمَّة الظَّاهرة على آخره، و(فيه) في: حرف جرٍّ، والهاء ضمیر متَّصل مبنيٌّ على الكسر في محلِّ جرٍ بحرف الجرِّ، والجارُّ والمجرور متعلِّقان بالفعل (يفوز)، و(مَنْ) اسم موصول مبني على السُّكون في محلِّ رفع فاعل، و(ثَقُلَ) فعل ماضٍ مبنيٌّ على الفتح، و(وزن)فاعل

ص: 158


1- النساء: 73
2- الفروق اللغوية: 160
3- ينظر: الأضداد (للأنباري): 104 و105، والروض الأنف: 2/ 120، وشرح مقامات الحريري: 3/ 61

مرفوع، وعلامة رفعه الضَّمَّة الظَّاهرة على آخره، وهو مضاف، و(حسنته) مضاف إليه مجرور، وعلامة جرِّه الكسرة الظَّاهرة على آخره، وهو مضاف، والهاء ضمیرمتَّصل مبنيٌّ على الكسر في محلِّ جرٍ بالإضافة. وجملة (ثقل وزن حسنته) صلة الموصول لا محلَّ لها من الإعراب. وجملة (يفوز فيه من ثقل وزن حسنته) في محلجر بالإضافة إلى الظَّرف (يوم).

* * *

ثَقُل

الثِّقل: ضدُّ الخفّ، والثَّقيل: ضدُّ الخفيف: جاء في (أَساس البلاغة): «ثقل الشيَّء ثقلاً، وثقل الحمل على ظهره، وأَثقله الحمل، ورجل مثقل: حمل فوق طاقته. وحملت الدَّابة ثقلها... ولفان ثقل كبیر، أَيْ: متاع وحشم... وأَثقلت الحامل، وامرأَة مثقل. وتثاقل عن الأَمر. واثَّاقل إلى الدُّنيا: أَخلد إليها... ومن المجاز: ثقل سمعي، وثقل عليَّ كلامك، وأَنت ثقيل على جلسائك... وأَثقله المرض... (وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَها)(1)، أَيْ: ما في بطنها من كنوز وأَموات»(2).

وقال الرَّاغب: «الثِّقل والخفَّة متقابلان، فكلُّ ما يترجَّح على ما يوزن به أَو يُقدَّر به، يُقال: هو ثقيل، وأَصله في الأَجسام، ثُمَّ يقال في المعاني، نحو: أَثقلهُ الغُرم والوِزر. قال الله تعالى: «أَمْ تَسْأَلُهمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ» [الطور/ 40]...»(3).

وقد ورد هذا الفعل (ثَقُلَ) مرَّةً واحدة في الخطبة، قابل فيها أَمير المؤمنین (عليه

ص: 159


1- الزلزلة: 2
2- أساس البلاغة: 1/ 47. وينظر: العین: 1/ 394، وجمهرة اللغة: 1/ 206، وتهذيب اللغة: 3/ 202، والمخصص: 1/ 167، والمحكم والمحيط الأعظم: 3/ 38، وتاج العروس: 1/ 6911
3- مفردات ألفاظ القرآن: 173 و 174

السلام) بينه وبین الفعل (خَفَّ) - وسيأْتي الكلام عليه إنْ شاء الله تعالى -، وهورابع الأَفعال الخمسة الَّتي أَوردها أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) في وصف يوم القيامة، وما يجري فيه على الإنسان، إذ قال (عليه السلام): «وَصَيْتُكُمْ مَعْشرَمَنْ حَضرَنِی: بِتَقْوَى رَبِّكُمْ، وَذَكَّرْتُكُمْ بِسُنَّةِ نَبِيِّكُمْ، فَعَلَيْكُم... يَوْمَ يُذْهِلُكُمْ ويُبْلِيْكُمْ، يَوْمَ يَفُوْزُ فِيْهِ مَنْ ثَقُلَ وَزْنُ حَسَنَتِهِ، وَخَفَّ وَزْنُ سَيِّئَتِهِ».

وتقدَّم إعرابه مع الفعل (يفوز).

* * *

خَفَّ

تدلُّ مادَّة (خفَّ) في اللُّغة على القلَّة، والنَّقص. والخفيف: ضدُّ الثَّقيل. جاء في (العین): «الخِفَّة: خِفَّةُ الوزن، وخِفَّةُ الحال. وخِفَّةُ الرَّجل: طيشُه، وخفَّتُه في عمله. والفعل من ذلك كلِّه خَفَّ يَخفُّ خِفَّةً فهو خفيف... وأَخفَّ فلان إذا خَفَتْ حالُه، أَيْ: رقَّ. وأَخفَّ الرَّجل: قلَّ ثقلُه في سفر أَو حضر»(1) .

وخفَّ الشيَّء يَخفُّ خِفَّةً: صار خَفِيْفاً. وخَفَّ القومُ خفوفاً، أَيْ: قلُّوا. وقد خفَّت زحمتهم(2) .

وقال ابن سيده: «الخَفَّةُ والخِفَّةُ: ضدُّ الثِّقل والرُّجوح يكون في الجسم والعقل والعمل، خفَّ يَخفُّ خَفَّاً وخِفَّةً، فهو خفيف وخُفاف: وقيل: الخفيف في الجسم، والخُفاف في التَّوقُّد والذُّكاء، وجمعها خفاف... وشيء خِفٌّ: خفيف... خَفَّ المطر:

ص: 160


1- العین: 1/ 294. جمهرة اللغة: 1/ 30، وتهذيب اللغة: 2/ 405، ومفردات ألفاظ القرآن: 288 و 289، والمخصص: 2/ 465، والعباب الزاخر: 10/ 302، وتاج العروس: 1/ 5813
2- ينظر:الصحاح في اللغة: 1/ 179

نقص...»(1)، وقد ورد هذا الفعل (خفَّ) مرَّةً واحدة في الخطبة، قابل فيها أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) بينه وبین الفعل (ثَقُلَ) وقد تقدَّم الكلام عليه -، وهو خامس الأَفعال الَّتي أَوردها أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) في وصف يوم القيامة، وما يجري فيه على الإنسان، إذ قال (عليه السلام): «وَصَيْتُكُمْ مَعْشرَ مَنْ حَضرَنِی:

بِتَقْوَى رَبِّكُمْ، وَذَكَّرْتُكُمْ بِسُنَّةِ نَبِيِّكُمْ، فَعَلَيْكُم... يَوْمَ يُذْهِلُكُمْ ويُبْلِيْكُمْ، يَوْمَ يَفُوْزُفِيْهِ مَنْ ثَقُلَ وَزْنُ حَسَنَتِهِ، وَخَفَّ وَزْنُ سَيِّئَتِهِ».

فأَمیرالمؤمنین (عليه السلام) قابل بهذين الفعلین (ثقل) و(خفَّ) بین ثِقْلِ الحسناتِ، وَخِفَّةِ السَّيِّئاتِ؛ ليجعله معياراً لمَنْ أَراد الظَّفر بالخیر، وهو الجنَّة، والقرب من الله - تبارك وتعالى -، وهو الجنَّة الحقيقيَّة، والنَّجاة من الشرِّ والهلاك في نار جهنَّم، والبعد عن الله - عَزَّ وَجَلّ - يوم القيامة.

و(خَفَّ) فعل ماضٍ مبنيٌّ على الفتح، و(وزن) فاعل مرفوع، وعلامة رفعه الضَّمَّة الظَّاهرة على آخره، وهو مضاف، و(سيئته) مضاف إليه مجرور، وعلامة جرِّه الكسرة الظَّاهرة على آخره، ومضاف، والهاء ضمیر متَّصل مبنيٌّ على الكسر في محلِّ جرٍ بالإضافة. وجملة (خَفَّ وزن سيئته) معطوفة على جملة (ثقل وزن حسنته).

* * *

ليغتنم

تدلُّ مادَّة (غنم) في اللُّغة على الغاية، أَو الفوز بالشيَّء في غیر مشقَّة(2) ، أَوإفادة شيء لم يملك من قبل(3) ، وقال الجوهريّ: «والمَغْنَم والغنيمة بمعنى، يُقال:

ص: 161


1- المحكم والمحيط الأعظم: 2/ 270
2- ينظر: العين: 1/ 358، والمحيط في اللغة: 1/ 414
3- ينظر: معجم مقاييس اللغة: 4/ 397، وعمدة الحفاظ: 3/ 176

غَنِمَ القومُ غُنْماً بالغمِّ، وغُناماك أَنْ تفعل كذا، أَيْ: غايتك والَّذي تتغنَّمه. وغَنَّمْتُه تغنيماً، إذا نفَّلته. واغْتَنَمَهُ وتَغَنَّمَهُ: عدَّه غنيمةً»(1).

وقال الرَّاغب: «الغَنَمٌ: معروف. قال تعالى: «وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا» [الأنعام/ 146]. والغُنْمُ: إصابتُه والظَّفرُ به، ثُمَّ استُعْمِلَ في كلِّ مظفور به من جهة العِدَى وغيرهم. قال تعالى: «وَاعْلَمُوا أَنَّماَ غَنِمْتُمْ مِنْ شَیءٍ» [الأنفال/ 41]...والمَغْنَمُ: ما يُغْنَمُ، وجمعه مغانم...»(2).

وتطابقت دلالة الفعل (ليغتنم) في الخطبة مع دلالته اللُّغوية؛ إذ جاء هذا الفعل (ليغتنم) مرَّةً واحدة في الخطبة، أَورده أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) في مقام وَعْظِ الإنسان، وإرشاده، وتوجيهه، فبعد أَنْ أَتمَّ أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) وَصْفَ يومِ القيامة، وما يجري فيه على الإنسان، انتقل (عليه السلام) إلى وَعْظِ الإنسان، وتوجيهه في فعلین، أَحدهما: (ولتكن) - وتقدَّم الكلام عليه، والآخ: (ليغتنم)؛ إذ قال (عليه السلام): «وَلْتَكُنْ مَسْأَلَتُكُمْ مَسْأَلَةَ ذُلٍّ وَخُضُوْعٍ، وَشُكْرٍوَخُشُوْعٍ، وَتَوْبَةٍ وَنُزُوْعٍ، وَنَدَمٍ وَرُجُوْعٍ، وَلْيَغْتَنِمْ كُلُّ مُغْتَنِمٍ مُنْكُمْ، صِحَّتَهُ قَبْلَ سُقْمِهِ، وَشَبِيْبَتَهُ قَبْلَ هَرَمِهِ، وَسَعَتَهُ قَبْلَ فَقْرِهِ، وخَلْوَتَهُ قَبْلَ شُغْلِهِ، وَحَضرَهُ قَبْلَ سَفَرِهِ».

فمراد أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) من قوله: (وليغتنم... قبل سفره)، أَيْ: اجعل غايتك الفوز برضا الله - تبارك وتعالى -، والفوز بقربه - عَزَّ وَجَلَّ - بالصِّحة - قبل السُّقم، والشَّبيبة قبل الهرم، وبالسَّعة قبل الفقر، وبالخلوة قبل الشُّغل، وبالحضر قبل السَّفر. ولاشكَّ في أَنَّ الفوز بالقرب من الله - عَزَّ وَجَلَّ

ص: 162


1- الصحاح في اللغة: 2/ 27. وينظر: تهذيب اللغة: 3/ 87، والمحكم والمحيط الأعظم: 2، 437، ولسان العرب: 12 / 445، ولقاموس المحيط: 3/ 226، وتاج العروس: 1/ 7841
2- مفردات ألفاظ القرآن: 615

- وبرضوانه في السُّقم أَكثر مشقَّة منه في الصِّحة، وفي الهرم أَكثرمنه فيالشَّبيبة، وهكذا دواليك.

(ليغتنم) الالَّم لام الأَمر، و(يغتنم) فعل مضارع مجزوم بلام الأَمر، وعلامة جزمه السُّكون، و(كلُّ) فاعل مرفوع، وعلامة رفعه الضَّمَّة الظَّاهرة على آخره، وهو مضاف، و(مغتنم) مضاف إليه مجرور، وعلامة جرِّه الكسرة الظَّاهرةعلى آخره، و(منكم) من: حرف جرٍّ، و(كم) ضمیر متَّصل مبنيٌّ في محلِّ جرٍّ بحرف الجرِّ. وجملة (وليغتنم...) معطوفة على جملة (ولتكن مسألتكم...).

* * *

یكبر

(كَبرُ) في اللُّغة نقيض (صَغُرَ). يُقال: كَبرُ الرَّجلُ ككرُمَ يَكْبرُ كِبرْاً، وكُبرْاً وكَبَّارَةً، فهو كبیر، وكَبرَ الرَّجلُ، أَيْ: أَسَنَّ، والكِبرَ في السِّنِّ(1). وكبرالَأمر، وخطب كبیر، وكبرعليَّ ذلك، إذا شقَّ عليك. وكبرالرَّجل في قدره، وكبر في سنِّه، وشيخ كبیر، وذو كِبر وكُبر، وهو كبر قومه: أَكبرهم في السِّنِّ، أَو في الرِّياسة، أَو في النَّسب(2) .

وقال الرَّاغب: «الكبیر والصَّغیر من الأَسماء المتضايفة الَّتي تقال عند اعتبار بعضها ببعض، فالشيَّء قد يكون صغراً في جنب شيء، وكبرا في جنب غیره،

ص: 163


1- ينظر: العین: 1/ 44، وجمهرة اللغة: 1/ 146، وتهذيب اللغة: 3/ 367 و368، والصحاح في اللغة: 105/2، والمحيط في اللغة: 2/ 48، والمخصص: 1/ 25، والمحكم والمحيط الأعظم: 3/ 171، ولسان العرب: 5/ 125، والمصباح المنیر: 8/ 33،والقاموس المحيط: 1/ 496، وتاج العروس: 1/ 3436 - 3439
2- ينظر: ساس البلاغة: 1/ 398

ويستعملان في الكميَّة المتَّصلة كالأَجسام، وذلك كالكثیروالقليل، وفي الكميَّة المنفصلة كالعدد»(1) .

وورد هذا الفعل (يكبر) مرَّةً واحدة في الخطبة للدَّلالة على الكبر في السِّنِّ، وكان هذا الفعل (يكبر) وبعده أَفعال سبعة، وهي (يهرم، يمرض، يسقم،يمله، يُعرض، يتغرَّ، ينقطع) سببًا في توجيه أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) معشرمَنْ كان حاضراً عنده في مجلسه إلى اغتنام الصِّحة قبل السُّقم، والشَّبيبة قبل الهرم، والسَّعة قبل الفقر، والخلوة قبل الشُّغل، والحضر قبل السَّفر؛ إذ قال (عليه السلام):

«وَلْيَغْتَنِمْ كُلُّ مُغْتَنِمٍ مُنْكُمْ، صِحَّتَهُ قَبْلَ سُقْمِهِ، وَشَبِيْبَتَهُ قَبْلَ هَرَمِهِ، وَسَعَتَهُ قَبْلَ فَقْرِهِ، وخَلْوَتَهُ قَبْلَ شُغْلِهِ، وَحَضرَهُ قَبْلَ سَفَرِهِ، قَبْلَ هُوَ يَكْبرُ وَيَهرَمُ، وَيَمْرُضُ وَيَسْقَمُ، وَيَمَلُّهُ طَبِيْبُهُ، وَيُعْرِضُ عَنْهُ حَبِيْبُهُ، وَيَتَغَیرَّعَقْلُهُ، وَيَنْقَطِعُ عُمُرُهُ».

و(يَكْبرُ) فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه الضَّمَّة الظَّاهرة على آخره، والفاعل ضمیر مستتر فيه جوازاً، تقديره هو، عائد إلى (هو) في قوله (قبل هو يكبر). وجملة (يكبر) في محل رفع خر للمبتدأ (هو).

* * *

يَهْرَمُ

تدلُّ مادَّة (يَهرَمُ) في اللُّغة على أَقى الكبر في السِّنِّ، وبلوغ الغاية فيه، والضَّعف. يُقال: هَرِم هرماً ومهرماً، وهرَّمته السُّنون، وهو ابن هرمة، وابن عجزه: لولد الشَّيخ. وولد لهرمةٍ(2).والَهرَمُ: بلوغ الغاية في السِّنِّ(3). وشيخ هرم

ص: 164


1- مفردات ألفاظ القرآن:696
2- ينظر: العين: 1/ 271
3- ينظر: جمهرة اللغة: 1/ 447

وشيوخ هرمى، وقد هَرِم هرماً، ومن المجاز: خشبٌ هرمي: قديمة يابسة(1).

وهَرِم هرماً من باب تَعِبَ فهو هَرِمٌ كَبرِوضَعُفَ، ويتعدَّى بالهمزة؛ فيُقال:

أَهْرَمَهُ، إذا أَضعفه(2) .والَهرَمُ، محرَّكة، والمَهرَمُ والمَهرَمَةُ أَقضى الكبر، هَرِمَ كفرح، فهو هَرِمٌ(3).

وجاء هذا الفعل (يَهرَمُ) مرَّةً واحدة في الخطبة مطابقاً دلالته اللُّغوية، وهي أَقصى الكبر في السِّنِّ، وبلوغ الغاية فيه، والضَّعف. وهو ثاني الأَفعال الثَّمانية الَّتي أَوردها أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) في توجيهه معشر مَنْ كان عنده في مجلسه إلى اغتنام الصِّحة قبل السُّقم، والشَّبيبة قبل الهرم، والسَّعة قبل الفقر، والخلوة قبل الشُّغل، والحضر قبل السَّفر، إذ قال (عليه السلام): «وَلْيَغْتَنِمْ كُلُّ مُغْتَنِمٍ مُنْكُمْ، صِحَّتَهُ قَبْلَ سُقْمِهِ، وَشَبِيْبَتَهُ قَبْلَ هَرَمِهِ، وَسَعَتَهُ قَبْلَ فَقْرِهِ، وخَلْوَتَهُ قَبْلَ شُغْلِهِ، وَحَضرَهُ قَبْلَ سَفَرِهِ، قَبْلَ هُوَ يَكْبرُ وَيَهرَمُ».

وقد قرن أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) هذا الفعل (يهرم) بالفعل (يكبر)، وواضح أَنَّه (عليه السلام) إنّمَا فعل ذلك؛لأَنَّ أَول أَمرالإنسان يكبر في السِّنِّ، حتَّى يبلغ أَقى الكبر فيه، وصولاً إلى حالة الضَّعف في حالة (يهرم).

و(يهرم) فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه الضَّمَّة الظَّاهرة على آخره، والفاعل ضمیرمستترفيه جوازاً، تقديره هو، عائد إلى (هو) المتقدِّم في قوله: (قبل هويكبرويهرم). وجملة (ويهرم) معطوفة على جمل (يكبر).

ص: 165


1- ينظر: تهذيب اللغة: 2/ 1332، والصحاح في اللغة: 2/ 250، والمحيط في اللغة: 1/ 308، والمخصص 1/ 27، والمحكم والمحيط الأعظم: 2/ 196، وأساس البلاغة: 2/ 1، ولسان العرب: 706/12
2- ينظر: المصباح المنير: 10/ 134
3- ينظر: القاموس المحيط: 3/ 295

يَمرُض تدلُّ مادَّة (يمرض) في اللُّغة على الضَّعف، والنُّقصان، والمرض: ضدّ الصِّحة.

يُقال: مَرِضَ يَمْرَضُ مَرَضاً ومَرْضاً، فهو مريض، ومارض، من باب تعب. وأَصل المرض الضَّعف، وكلُّ ما ضَعُفَ، فقد مَرِض، ومنه قولهم: امرأَة مريضة الأَلحاظ، ومريضة النَّظر، أَيْ: ضعيفة النَّظر، ومَرَّض الرَّجل في كلامه، إذا ضَعَّفه، وريح مريضة إذا ضَعُفَ هبوبُها(1). وأَصل المرض النُّقصان، فيُقال: بدن مريض، أَيْ:

ناقص القوَّة، وقلب مريض: ناقص الدِّين، ومرَّض فان في حاجتي: إذا نقصت حركته فيها(2).والمرض: كلُّ ما خرج به الإنسان عن حدِّ الصِّحة من علَّة، أَو نفاق، أَو تقصر في أَمر، وقد جمعوا مريضاً مَرضَ ومَراضَی(3).

وورد هذا الفعل (يمرض) مرَّةً واحدة في الخطبة للدَّلالة على ضدِّ الصِّحة.

وهو ثالث الأَفعال الثَّمانية الَّتي أَوردها أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) في توجيهه معشر مَنْ كان حاضراً عنده في مجلسه إلى اغتنام الصِّحة قبل السُّقم، والشَّبيبةقبل الهرم، والسَّعة قبل الفقر، والخلوة قبل الشُّغل، والحضر قبل السَّفر؛ إذ قال (عليه السلام): «وَلْيَغْتَنِمْ كُلُّ مُغْتَنِمٍ مُنْكُمْ، صِحَّتَهُ قَبْلَ سُقْمِهِ، وَشَبِيْبَتَهُ قَبْلَ هَرَمِهِ، وَسَعَتَهُ قَبْلَ فَقْرِهِ، وخَلْوَتَهُ قَبْلَ شُغْلِهِ، وَحَضرَهُ قَبْلَ سَفَرِهِ، قَبْلَ هُوَ يَكْبرُ وَيَهرَمُ، وَيَمْرُضُ وَيَسْقُمُ».

و(يمرض) فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه الضَّمَّة الظَّاهرة على آخره،

ص: 166


1- ينظر:العین: 2/ 22، والصحاح في اللغة: 2/ 166، ومفردات ألفاظ القرآن: 765، والمحيط في اللغة: 2/ 198، وأساس البلاغة: 1/ 144، ولسان العرب: 7/ 231، وتاج العروس: 1/ 473ز
2- ينظر:تهذيب اللغة: 4/ 157
3- ينظر: المصباح المنير: 8/ 439

والفاعل ضمیر مستتر فيه جوازاً، تقديره هو، عائد إلى (هو) المتقدِّم من قوله:

(قبل هو يكبر ويهرم). وجملة و(يمرض) معطوفة على جملة (يهرم).

* * *

يَسقُمُ

تدلُّ مادَّة (يَسْقُمُ) في اللُّغة على ملازمة المرض، أَو طوله يُقال: سَقِمَ يَسْقَمُ سَقَماً، وسُقْماً وسقَاماً من باب تعب: طال مرضُه، وسَقُمَ سَقَماً من باب كَرُمَ كرماً فهو سقيم، ويتعدَّى بالهمزة والتَّضعيف. وأَسْقَمَهُ اللهُ إسقاماً فهو مُسْقَمٌ. والسُّقْمُ والسَّقَم لغات، والسَّقيم: المريض الَّذي ثابَتَهُ سَقَمُه، فلم يكد يفارقُه(1) .

وجاء هذا الفعل (يسقم) مرَّةً واحدة في الخطبة مطابقاً دلالته اللُّغوية، وهي ملازمة المرض أَو طوله. وهو رابع الأَفعال الثَّانية الَّتي أَوردها أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) في إرشاده معشرمَنْ كان عنده في مجلسه إلى اغتنام الصِّحة قبل السُّقم، والشَّبيبة قبل الهرم، والسَّعة قبل الفقر، والخلوة قبل الشُّغل، والحضرقبل السَّفر، إذ قال (عليه السلام): «وَلْيَغْتَنِمْ كُلُّ مُغْتَنِمٍ مُنْكُمْ، صِحَّتَهُ قَبْلَ سُقْمِهِ، وَشَبِيْبَتَهُ قَبْلَ هَرَمِهِ، وَسَعَتَهُ قَبْلَ فَقْرِهِ، وخَلْوَتَهُ قَبْلَ شُغْلِهِ، وَحَضرَهُ قَبْلَ سَفَرِهِ، قَبْلَ هُوَ يَكْبرُ وَيَهرَمُ، وَيَمْرَضُ ويَسْقُمُ».

وقد قرن أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) هذا الفعل (يسقم) بالفعل (يمرض)، وواضح أَنَّه (عليه السلام) إنَّا فعل ذلك؛ لأَنَّ المرض بداية ضعف الإنسان أَو

ص: 167


1- ينظر: العین: 1/ 384، وجمهرة اللغة: 1/ 475، وتهذيب اللغة: 3/ 173، والصحاح في اللغة: 321/1، ومفردات القرآن: 415، والمحيط في اللغة: 1/ 451، والمخصص: 1/ 416، 3/ 377، والمحكم والمحيط الأعظم: 3/ 8، وأساس البلاغة: 1/ 22 1 ولسان العرب: 12 / 288، والمصباح المنیر: 4/ 266 ، والقاموس المحيط: 2/ 239 ، وتاج العروس: 1/ 7756

نقصان صحَّته، ثُمَّ تصل به الحال إلى أَنْ يكون هذا المرض ملازماً له، ثابتاً، وهي حالة السُّقْمِ.

و(يسقم) فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه الضَّمَّة الظَّاهرة على آخره، والفاعل ضمیرمستترفيه جوازاً، تقديره هو، عائد إلى(هو) المتقدِّم في قوله: (قبل هو يكبرويهرم). وجملة (يسقم) معطوفة على جملة (ويمرض).

* * *

يَملُّهُ

تدلُّ مادَّة (يملُّه) في اللُّغة على الضَّجر، والتَّبرُّم، واليأْس؛ فيكون الإعراض نتيجته. جاء في (العین): «... طريق مُملٌّ: قد سُلِكَ حتَّى صار مُعْلَماً... والمَلَلُ والمَلالُ: أَنْ تمَلَّ شيئاً، وتُعرض عنه»(1).

ويُقال: مَلِلْتُ الشيَّء بالكسر، ومَلِلْتُ فيه أَيضاً مَلَاً ومَلَّةً ومَلَالَةً، إذا سئِمته.

واستمللتُه كذلك، ورجل مَلٌّ ومَلُولٌ ومَلولَةٌ وذو مَلَّة. وامرأَة مَلولَة، وأَمَلَّهُ وأَمَلَّ عليه، أَيْ: أَسْأَمَهُ(2) . والمَلَلُ والمَلَلةُ والمَلاَلُ: السَّآمةُ، ورجلٌ مَلٌّ، أَيْ: مْملُوْلٌ، أَيْ:

ضَجِرٌ. وجملٌ مُملٌّ: وهو النّضو الَّذي كثرركوبُه حتَّى تُرِكَ لا حِرَاك به، وأُمِلَّ على فلان، أَيْ: شُقَّ عليه(3) . ومَلِلْتُ الشيَّء مَلَّةً: بَرِمْتُ به، وأَمَلَّني وأَمَلَّ عليَّ:أَبرمني(4). والمَلالُ: فتورٌ يَعرِضُ للإنسان من كثرة من مزاولة شيء،فيوجب

ص: 168


1- العین: 2/ 187.وينظر: تهذيب اللغة: 5/ 177، وأساس البلاغة: 1/ 452، وتاج العروس: 7521/1 و 7522
2- ينظر: جمهرة اللغة: 1/ 60، والصحاح في اللغة: 2/ 181
3- ينظر: المحيط في اللغة: 2/ 453
4- ينظر: لسان العرب: 11/ 628

الكلال، والإعراض عنه(1).

وتطابقت دلالة الفعل (يملُّه) في الخطبة مع دلالته اللُّغوية، وهي: الضَّجر، والتَّبرُّم، واليأْس؛ فقد جاء مرَّةً واحدة في الخطبة، وهو خامس الأَفعال الثّمَانية الَّتي أَوردها أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) في توجيهه معشرمَنْ كان عنده في مجلسه إلى اغتنام الصِّحة قبل السُّقم، والشَّبيبة قبل الهرم، والسَّعة قبل الفقر، والخلوة قبل الشُّغل، والحر قبل السَّفر؛ إذ قال (عليه السلام): «وَلْيَغْتَنِمْ كُلُّ مُغْتَنِمٍ مُنْكُمْ، صِحَّتَهُ قَبْلَ سُقْمِهِ، وَشَبِيْبَتَهُ قَبْلَ هَرَمِهِ، وَسَعَتَهُ قَبْلَ فَقْرِهِ، وخَلْوَتَهُ قَبْلَ شُغْلِهِ، وَحَضرَهُ قَبْلَ سَفَرِهِ، قَبْلَ هُوَ يَكْبرُ وَيَهرَمُ، وَيَمْرَضُ ويَسْقُمُ، وَيَمَلُّهُ طَبِيْبُهُ».

فبعد أَنْ يضعف الإنسان، وتنقص صحَّته في حال (يمرض)، ثُمَّ تصل به الحال سوءاً إلى أَنْ يكون المرض ملازماً له، ثابتاً، وهي حال (يسقم)؛ فييأَس منه حينذاك طبيبُه، أَيْ: يتبرَّم، ويضجر، وهي حال (يمله طبيبه).

و(يمله) فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه الضَّمَّة الظَّاهرة على آخره، والهاء ضمیر متَّصل مبنيٌّ على الضَّمِّ في محلِّ نصب مفعول به، عائد إلى (هو) المتقدِّم في قوله: (قبل هو يكبر ويهرم). و(طبيبه) فاعل مرفوع، وعلامة رفعه الضَّمَّة الظَّاهرة على آخره، وهو مضاف، والهاء ضمیر متَّصل مبنيٌّ في محلِّ جرٍ بالإضافة. وجملة (ويمله طبيبه) معطوفة على جملة (ويسقم).

* * *

يُعْرِض

تدلُّ مادَّة (أَعْرَضَ - يُعْرِضُ) في اللُّغة على الصَّدِّ عن الشيَّء، ومجانبته، ونسيانه،

ص: 169


1- ينظر: تاج العروس: 1/ 7520

والحياد عنه. يُقال: أَعْرَضَ عن الشيَّء، أَيْ: جانبه، وعدل عنه، وأَعرضْتُ بوجهي عنه، أَيْ: صَدَدْتُ وَحدْتُ(1) . وأَعرض لُبِّي عن كذا: إذا نسيته(2) . وأَعرض يُعْرِضُ مِنْ أَعرض عن الشيَّء، إذا ولاَّه ظهره(3) .

وبهذا المعنى ورد الفعل (يُعرِضُ) مرَّتین في الخطبة، مرَّة أَورده أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) سادس الأَفعال الثّمَانية الَّتي جاء بها في مقام توجيهه (عليه السلام) معشر مَنْ كان جالساً عنده إلى اغتنام الصِّحة قبل السُّقم، والشَّبيبة قبل الهرم، والسَّعة قبل الفقر، والخلوة قبل الشُّغل، والحضر قبل السَّفر؛ إذ قال (عليه السلام): «وَلْيَغْتَنِمْ كُلُّ مُغْتَنِمٍ مُنْكُمْ، صِحَّتَهُ قَبْلَ سُقْمِهِ، وَشَبِيْبَتَهُ قَبْلَ هَرَمِهِ، وَسَعَتَهُ قَبْلَ فَقْرِهِ، وخَلْوَتَهُ قَبْلَ شُغْلِهِ، وَحَضرَهُ قَبْلَ سَفَرِهِ، قَبْلَ هُوَ يَكْبرُ وَيَهرَمُ، وَيَمْرَضُ ويَسْقُمُ، وَيَمَلُّهُ طَبِيْبُهُ، وَيُعْرِضُ عَنْهُ حَبِيْبُهُ».ومراده (عليه السلام): أَنَّ الإنسان إذا (يمرض ويسقم) و(يمله طبيبه): ييأَس من شفائه، وتتعدَّى هذه الحال إلى المقرَّبین منه؛ ف (يُعرض عنه حبيبه)، أَيْ: يصدُّ عنه، ويجانبه، ويحيد عنه؛ لما يعرفوا من حال ذلك الإنسان السَّقيم من طبيبه؛ فيعرضوا عنه.

و(يعرض) فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه الضَّمَّة الظَّاهرة على آخره، و«عنه» عن: حرف جرٍّ، والهاء ضمیر متَّصل مبنيٌّ على الضَّمِّ في محلِّ جرٍّ بحرف الجرِّ، عائد إلى هو المتقدِّم في قوله: (قبل هو يكبر ويهرم). والجارُّ والمجرورمتعلِّقان بالفعل (يعرض)، و(حبيبه) فاعل مرفوع، وعلامة رفعه الضَّمَّة الظَّاهرة علی آخره، وهو مضاف، والهاء ضمیر متَّصل مبنيٌّ على الضَّمِّ في محلِّ جرٍّ بالإضافة.

وجملة (ويعرض عنه حبيبه) معطوفة على جملة (ويمله طبيبه).

ص: 170


1- ينظر:العين: 1/ 63، والصحاح في اللغة: 3/ 1084 - 1085، ولسان العرب: 7/ 56
2- ينظر: أساس البلاغة: 1/ 306
3- ينظر: لسان العرب: 7/ 156

وممَّا تجدر الإشارة إليه هنا الدِّقة في إيراد الأَفعال بحسب تدرُّج معانيها مع ملاحظة الفروق الدَّقيقة بین فعل وآخر في كلام أَمیرالمؤمنین (عليه السلام)، ويبدو واضحاً هذا الأَمر في التَّدرُّج الحاصل بین هذه الأَفعال الَّتي أَوردها أَمیرالمؤمنین (عليه السلام)، الَّتي كانت سبباً في توجيهه (عليه السلام) معشرمَنْ كان جالسا عنده، وهي ((يكر ويهرم)، و(يمرض ويسقم)، و(يمله طبيبه) ،و (يعرض عنه حبيبه). فبعد أَنْ يكبرالإنسان في السِّنِّ، حتَّى يبلغ أَقصى الكبر فيه (يهرم)، ثُمَّ (يمرض)؛ فتبدأ حالته الصِّحيَّة بالنَّقص والضَّعف، حتَّى تصل إلى أَنَّه (يسقم):

إلى ملازمة المرض له وثبوته، ثُمَّ تصل به الحال إلى أَنَّ طبيبه ييأَس منه، ويتبرَّم، ويضجر، بل تتعدَّاها إلى المقرَّبین منه؛ ف (يُعرض عنه حبيبه)؛ لما علموا من حاله الميؤوس منها من طبيبه. فكان (عليه السلام) يضع لكلِّ معنى لفظاً يصل به إلى حقيقة ذلك المعنى، ومراده.

أَمَّا في المرِّة الثَّانية، فقد أَورده أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) في مقام بيان عذاب الإنسان المذنب يوم القيامة - وسيأْتي بيانه إنْ شاء الله تعالى - بعد أَنْ يرد جهنَّم بكرب وشدَّة، وهو تاسع الأَفعال الأَحد عشرالَّتي أَوردها أَمیر المؤمنین (عليه السلام) لبيان حال ذلك الإنسان، الَّذي ورد جهنَّم، إذ قال (عليه السلام):

«فَظَلَّ يُعذَّبُ فِی جَحِيْمٍ، وَيُسْقَى شُربَةً مِنْ حَميْمٍ، تَشْوِي وَجْهَهُ، وَتَسْلَخُ جِلْدَهُ، يَضْربُهُ زَبِيْنَتُهُ بِمَقْمَعٍ مِنْ حَدِيْدٍ، وَيَعُوْدُ جِلْدِهِ بَعْدَ نُضْجِهِ بِجِلْدٍ جَدِيْدٍ»، فحينذاك يستغيث من ذلك كلِّه، بَيْدَ أَنَّ خَزَنَةَ جهنَّم يحيدون عنه، ويجانبونه، ويصدُّون عنه؛ إذ قال (عليه السلام):«يَسْتَغِيْثُ؛ فَتُعْرِضُ عَنْهُ خَزَنَةُ جَهَنَّمَ»، وتقدَّم(1)أَنَّ العطف بالفاء يفيد التّرَتيب باتِّصال، أَيْ: بلا مهلة، وهو المعبرَّ عنه بالتَّعقيب، وكثیراً ما تقتي - أَيضاً - السَّبب إنْ كان المعطوف جملة، وكذا هي الحال في الخطبة؛إذ قال

ص: 171


1- ينظر: الفعل (عدل) من الكتاب

أَمیرالمؤمنین (عليه السلام): (يَسْتَغِيْثُ؛ فَتُعْرِضُ عَنْهُ خَزَنَةُ جَهَنَّمَ)، ف (يستغيث) - وسيأْتي بيانه إنْ شاء الله تعالى - فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه الضَّمَّة الظَّاهرة على آخره، والفاعل ضمیرمستتر فيه جوازاً، تقديره هو، والفاء عاطفة، و(تعرض) فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه الضَّمَّة الظَّاهرة على آخره، و(عنه) عن: حرف جرٍّ، والهاء ضمیرمتَّصل مبنيٌّ على الضَّمِّ في محلِّ جرٍّ بحرف الجرِّ، والجارُّ والمجرورمتعلِّقان بالفعل (تعرض)،و(خزنة) فاعل مرفوع، وعلامة رفعه الضَّمَّة الظَّاهرة على آخره، وهو مضاف، و(جهنَّم) مضاف إليه مجرور، وعلامة جرِّه الفتحة بدل الكسرة؛ لأَنَّه ممنوع من الصرَّف، والجملة الفعليَّة (تعرض عنه خزنة جهنم) معطوفة على الجملة الفعليَّة (يستغيث).

ومن قَمِینْ القول إنَّ أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) استعمل هذا الفعل (تعرض) بزنة المضارع، وتقدَّم أَنَّ صيغة المضارع تدلُّ على التَّجدُّد(1) ، وهو ما يتناسب وحال الإنسان في ذلك الموقف؛ إذ إنَّه تتكرَّرمنه الاستغاثة، والنُّصرة، والتَّخليص من الشِّدَّة، والنَّقمة، والفكاك من الشَّدائد، والتَّفريج عنه، بَيْدَ أَنَّ خزنة جهنَّم تقابل هذا الطَّلب المتكرِّربإعراض مماثل متكرِّر، فقال (عليه السلام): «يَسْتَغِيْثُ؛ فَتُعْرِضُ عَنْهُ خَزَنَةُ جَهَنَّمَ».

* * *

يَتَغَيَّر

تدلُّ مادَّة (يتغیر) في اللُّغة على التَّحوُّل، والتَّبدُّل، والاختلاف يُقال: تَغَیرَّ الشيَّءُ عن حاله، أَيْ: تحوَّل، وغیرَّه: حَوَّلَهُ، وبَدَّلهُ، كأَنَّه جعل غیر ما كان، وفي

ص: 172


1- ينظر: الفعل (نستعينه) من الكتاب

التَّنزيل العزيز: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّه لَم يَكُ مُغَیرِّا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلىَ قَوْمٍ حَتَّى يُغَیرِّوا مَا بأِنَفْسُهِمْ)(1) ، أَيْ: حتَّى يُبدِّلوا ما ما أَمرهم الله.

والغَیرّْالاسم من التَّغیرُّ، وغیرَّ عليه الأَمرَ: حوَّلَهُ، وتغايرت الأَشياء: اختلفت، والغِيار: البدال، والغِیرَ: تغیرُّ الحال، وانتقالها من الصَّلاح إلى الفساد(2) .

وقال الرَّاغب: «...والتَّغيير يقال على وجهين:

أَحدهما: لتغیير صورة الشيَّء دون ذاته. يُقال: غیرَّتُ داري: إذا بَنَيْتها بناء غیرالَّذي كان.

والثَّاني: لتبديله بغیره. نحو: غیرَّتُ غلامي ودابَّتي: إذا أَبدلتها بغيرهما.نحو:

«إِنَّ اللَّه لَا يُغَیرِّ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَیرِّوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ» [الرعد/11].

والفرق بین غَيْرينِ ومختلفینِ أَنَّ الغيرينِ أَعمُّ، فإنَّ الغَيرينِ قد يكونان متَّفقین في الجوهر بخاف المختلفین، فالجوهران المتُحِّيزانِ هما غَیرْانِ وليسا مختلفین، فكلُّ خلافین غیران،وليس كلُّ غيرين خِلافَینِ)(3) .

وتطابقت دلالة الفعل (يتغر) في الخطبة مع دلالته اللُّغوية، وهي:التَّحوُّل، والتَّبدُّل، والاختلاف؛ فقد جاء مرَّةً واحدة في الخطبة، وهو سابع الأَفعال الثَّمانية الَّتي أَوردها أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) في إرشاده معشر مَنْ كان جالساً عنده إلى اغتنام الصِّحة قبل السُّقم، والشَّبيبة قبل الهرم، والسَّعة قبل الفقر، والخلوة قبل الشُّغل، والحضر قبل السَّفر؛ إذ قال (عليه السلام): «وَلْيَغْتَنِمْ كُلُّ مُغْتَنِمٍ

ص: 173


1- الأنفال:53
2- ينظر: الصحاح في اللغة: 2/ 29، ولسان العرب: 5/ 34، وتاج العروس: 1/ 3325
3- مفردات ألفاظ القرآن: 691

مُنْكُمْ،صِحَّتَهُ قَبْلَ سُقْمِهِ، وَشَبِيْبَتَهُ قَبْلَ هَرَمِهِ، وَسَعَتَهُ قَبْلَ فَقْرِهِ، وخَلْوَتَهُ قَبْلَ شُغْلِهِ، وَحَضرَهُ قَبْلَ سَفَرِهِ، قَبْلَ هُوَ يَكْبرُ وَيَهرَمُ، وَيَمْرَضُ ويَسْقُمُ، وَيَمَلُّهُ طَبِيْبُهُ، وَيُعْرِضُ عَنْهُ حَبِيْبُهُ، وَيَتَغَیرَّعَقْلُهُ».

و(يتغیرَّ) فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه الضَّمَّة الظَّاهرة على آخره، و(عقلُه) فاعل مرفوع، وعلامة رفعه الضَّمَّة الظَّاهرة على آخره، وهو مضاف، والهاء ضمیر متَّصل مبنيٌّ على الضَّمِّ في محلِّ جرٍّ بالإضافة، عائد إلى (هو) المتقدِّم في قوله (قبل هو يكبر ويهرم). وجملة (ويتغرعقله) معطوفة على جملة (ويعرض عنه حبيبه).

* * *

يَنْقَطِعُ

تدلُّ مادَّة (ينقطع) في اللُّغة على النَّفاد، وانتهاء الغاية، والضَّعف، والنَّقص، وذهاب الوقت، والعبور، والإنفصال. يُقال: قَطَعْتُه قَطْعاً ومَقْطَعاً فانقطع، وقطعتُ النَّهر قُطُوعاً. وقُطِعَ بفلان: القطع رجاؤه، ومُنْقَطَعُ كلِّ شيء حيث تنتهي غايتُه. والقِطْعَةُ: طائفةٌ من كلِّ شيء. وانقطع الشيَّء: ذهب وقته، ومنه قولهم: انقطع البردُ والحرُّ. وانقُطِعَ به، فهو مُنْقَطَعٌ به: إذا عجز عن سفره من نفقةٍ ذهبت، أَو قامت عليه راحلتُه، أَو أَتاه أَمرٌ لا يقدر أَنْ يتحرَّك معه. وقيل: هو إذا كان مُسافراً فَأُقْطِعَ به وعَطَبتْ راحلتُه، ونفدَ زادهُ ومالهُ. وتقول العرب: فلان قطيع القيام، أَي: مُنقطِع، إذا أَراد القيام انقطع من ثقل أَو سمنة، ورُبّما كان من شدَّة ضعفه. ومَقْطَعُ الحقِّ: موضع التقاء الحكم فيه، وهو ما يفصل الحقَّ من

ص: 174

الباطل(1) . وقطعت النَّهر: عبرته(2) .

وبهذه الدَّلالة جاء هذا الفعل (ينقطع) في الخطبة مرَّةً واحدة، وهو ثامن الأَفعال الَّتي أَوردها أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) في توجيهه معشرمَنْ كان جالساً عنده إلى اغتنام الصِّحة قبل السُّقم، والشَّبيبة قبل الهرم، والسَّعة قبل الفقر، والخلوة قبل الشُّغل، والحضر قبل السَّفر؛ إذ قال (عليه السلام): «وَلْيَغْتَنِمْ كُلُّ مُغْتَنِمٍ مُنْكُمْ، صِحَّتَهُ قَبْلَ سُقْمِهِ، وَشَبِيْبَتَهُ قَبْلَ هَرَمِهِ، وَسَعَتَهُ قَبْلَ فَقْرِهِ، وخَلْوَتَهُ قَبْلَ شُغْلِهِ، وَحَضرَهُ قَبْلَ سَفَرِهِ، قَبْلَ هُوَ يَكْبرُ وَيَهرَمُ، وَيَمْرَضُ ويَسْقُمُ، وَيَمَلُّهُ طَبِيْبُهُ، وَيُعْرِضُ عَنْهُ حَبِيْبُهُ، وَيَتَغَیرَّ عَقْلُهُ، وَيَنْقَطِعُ عُمُرُهُ».

وقد أَحسن أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) حین استعمل هذا الفعل (ينقطع)؛ إذ إنَّه (عليه السلام) سينتقل - سيعبر- إلى بيان حال الإنسان في بداية الموت (الاحتضار)، فكأَنَّ الإنسان بانقطاع عمره، أَيْ: انتهائه، ونفاده، وذهابه يعرمن حال إلى حال، فهو ينتقل من حال (الحياة) إلى حال (بداية الموت - الاحتضار)، وهذا الفعل بداية الانتقال إلى حال (الاحتضار والموت)، فهو في هذه الحال في عداد الموتى، ومنه نلحظ دقة أَمیر المؤمنین (عليه السلام) في استعماله الأَفعال في الانتقال من فقرة إلى أُخرى في الخطبة بما يتناسب والفقرة اللَّحقة، وهكذا دواليك.

فالفعل (ينقطع) ربط بن قوله (عليه السلام): «وَلْيَغْتَنِمْ كُلُّ مُغْتَنِمٍ مُنْكُمْ، صِحَّتَهُ قَبْلَ سُقْمِهِ، وَشَبِيْبَتَهُ قَبْلَ هَرَمِهِ، وَسَعَتَهُ قَبْلَ فَقْرِهِ، وخَلْوَتَهُ قَبْلَ شُغْلِهِ، وَحَضرَهُ قَبْلَ سَفَرِهِ، قَبْلَ هُوَ يَكْبرُوَيَهرَمُ، وَيَمْرَضُ ويَسْقُمُ، وَيَمَلُّهُ طَبِيْبُهُ، وَيُعْرِضُ عَنْهُ

ص: 175


1- ينظر: العین: 1/ 24، وتهذيب اللغة: 1/ 46، والصحاح في اللغة: 2/ 84 و 85، ومفردات ألفاظ القرآن: 677 و 678 ، والمحيط في اللغة: 1/ 13، والمخصص: 3/ 135، والمحكم والمحيط الأعظم: 52/1و 53 ، ولسان العرب: 8/ 276، وتاج العروس: 1/ 5477
2- ينظر: معجم مقاييس اللغة: 5/ 101، ولسان العرب: 8/ 276

حَبِيْبُهُ»، وقوله (عليه السلام): «ثُمَّ قِيْلَ هُوَ مَوْعُوْكٌ، وَجِسْمُهُ مَنْهُوْكٌ، ثُمَّ جَدَّ فِی نَزْعٍ شَدِيْدٍ، وَحَضرَهُ كُلُّ قَرِيْبٍ وَبَعِيْدٍ، فَشَخَصَ بِبَصرَهِ، وَطَمَحَ بِنَظَرِهِ، وَرَشَحَ جَبِيْنُهُ، وَسَكنَ حَنِيْنُهُ، وَجُذِبَتْ نَفْسُهُ».

و(ينقطع) فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه الضَّمَّة الظَّاهرة على آخره، و(عمره) فاعل مرفوع، وعلامة رفعه الضَّمَّة الظَّاهرة على آخره، وهو مضاف، والهاء ضمیر متَّصل مبنيٌّ على الضَّمِّ في محلِّ جرٍّ بالإضافة. وجملة (وينقطع عمره) معطوفة على جملة (ويتغرَّعقله).

* * *

قِيْلَ

يُقال:قال يقول قولاً ومقالاً، أَيْ: تكلَّم كلاماً خارجاً من اللِّسان(1) ، كما قال تعالى: «قَدْ قَالَها الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَماَ أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)(2).

والقول في (الاصطاح): هو الكلام، ويراد به مجموعة من المعاني تخالج النَّفس الإنسانية، ويعبر عنها بمجموعة من الأَلفاظ والعبارات(3) ، كما في قوله - عَزَّ وَجَلّ َ-: «إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّ نَذَرْتُ لَكَ مَا فِ بَطْنِي مُحرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ»(4).

وقيل في الفرق بينها إنَّ: «إجماع النَّاس على أَنْ يقولوا: القرآن كلام الله،ولا

ص: 176


1- ينظر: تهذيب اللغة: 9/ 302، ولسان العرب: 11/ 572، ومجمع البحرين: 2/ 375
2- الزمر: 50
3- ينظر: معجم ألفاظ القرآن الكريم: 2/ 429، وألفاظ الحياة الثقافية: 325
4- آل عمران: 35

يقولون القرآن: قول الله»(1).

وقال ابن منظورإنَّ: «الكلام ما كان مكتفياً بنفسه، وهو الجملة، والقول: ما لم يكن مكتفياً بنفسه، وهو جزء من الجملة»(2). فهناك علاقة خصوص وعموم.

وإذا كان الفعل المبنيُّ للمجهول ثلاثيّاً معتلَّ العین، نحو: (قال) فإنَّه سُمِعَ في فائه ثلاثة أَوجه، أَولها: إخلاص الكسر، فيُقال: قِيْلَ، والثَّاني: إخلاص الضَّمِّ، فيقال فقُوْلَ، والثَّالث: الإشمام، وهو الإتيان بالفاء بحركة بین الضَّمِّ والكسر، ولا يظهر ذلك إلاَّ في اللَّفظ، ولا يظهر في الخطِّ(3).

وورد هذا الفعل (قيل) مرَّة واحدة في الخطبة، وبعده أَفعال سبعة، وهي (جدَّ، حضره، شخص، طمح، رشح، سكن، جذبت) بینَّ فيها أَمرالمؤمنین (عليه السلام) حال الإنسان المحتضرَ، إذ قال (عليه السلام): «ثُمَّ قِيْلَ هُوَ مَوْعُوْكٌ، وَجِسْمُهُ مَنْهُوْكٌ». والموعوك: الَّذي وعكته الحمَّى والمرض، والَّذي بالغ المرض في انحنائه(4).

و(ثُمَّ): حرف عطف، و (قيل) فعل ماضٍ مبنيٌّ للمجهول، مبنيٌّ على الفتح، و(هو) ضمیر منفصل مبنيٌّ في محلِّ رفع مبتدأ، (موعوك) خبر مرفوع،وعلامة رفعه الضَّمَّة الظَّاهرة على آخره، ومقول القول (هو موعوك) من المبتدأ والخبر في محلِّ رفع نائب فاعل لفعل (قيل). وجملة (ثُمَّ قيل موعوك) معطوفة على جملة (وينقطع عمره).

ص: 177


1- الخصائص: 1/ 18. وينظر: النظام القرآني مقدمة في المنهج اللفظي: 64ومابعدها
2- لسان العرب: 12 / 522
3- ينظر: شرح ابن عقيل: 1/ 502 - 505
4- ينظر: تهذيب اللغة: 4/ 210، والمصباح المنير: 969

جَدَّ

تدلُّ مادَّة (جَدَّ) في اللُّغة على الاجتهاد في العمل، والعظم، والجلال، والقرب، وهو نقيض الهزل. جاء في (العین): «...والجدُّ: نقيض الهزل، وجدَّ فلانٌ في أَمره وسَیرْهِ، أَيْ: انكمش عنه بالحقيقة. والجِدَّةُ: مصدر الجديد... والجُدِّةُ: جدة النَّهر، أَيْ: ما قرب من النَّهر... والمجُادَّةُ: المُحاقَّةُ في الأَمر»(1).

وقال الأَزهريّ: «والجدُّ على وجوه، قال الله تعالى: «وَأَنَّهُ تَعَالَ جَدُّ رَبِّنَا...» قال الفرَّاء... عن مجاهد إنَّه: جدُّ ربِّنا: جلال ربِّنا، وقال بعضهم عظمة ربِّنا، وهما قريبان من السَّواء... والجِدُّ إنّمَا هو الاجتهاد في العمل... وقال اللَّيث: الجِدُّ:

نقيض الهزل. يُقال: جدَّ فلان في أَمره، إذا كان ذا حقيقة ومضاء»(2).

وتطابقت دلالة الفعل (جَدَّ) في الخطبة، مع دلالته اللُّغوية؛ إذ جاء الفعل (جَدَّ) مرَّة واحدة في الخطبة، وهو ثاني الأَفعال الثَّمانية الَّتي أَوردها أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) في بيان حال الإنسان المحتضرَ، وأَراد به أَنْ يصف مرحلةً من مراحل الاحتضار، وهي عملية (النَّزْع)، وحقيقة هذه العمليَّة، وعظمتها، وجلالها، ونَعَتَهَا (عليه السلام) بالشَّديدة، إذ قال (عليه السلام): «ثُمَّ جَدَّ فِی نَزْعٍ شَدِيْد»، فهذا الأَمر(النَّزع) ليس بالهزل، وهو قريب جداً من الإنسان، وإن اعترى الإنسانَ هذا النَّزع، فهو ليس بالهینِّ، وإنما هو أَمرٌ عظيم، جليل، شديد نسأَل الله - تبارك وتعالى - العافية-.

و(ثُمَّ)حرف عطف،و(جَدَّ)فعل ماضٍ مبنيٌّ على الفتح،والفاعل ضمیر

ص: 178


1- العين: 1/ 456
2- تهذيب اللغة: 2/ 430. وينظر: جمهرة اللغة: 1/ 20،ومفردات ألفاظ القرآن: 188، والمحيط في اللغة: 2/ 76،والمخصص: 1/ 256، والمحكم والمحيط الأعظم: 3/ 226،وأساس البلاغة: 1/ 54، ولسان العرب: 3/ 107، والمصباح المنر: 2/ 80-82

مستتر فيه جوازاً، تقديره هو، عائد إلى (هو) المتقدِّم في قوله: (ثم قيل هو موعوك)، و (في) حرف جرٍّ، (نزع) اسم مجرور، وعلامة جرِّه الكسرة الظَّاهرة على آخره، و(شديد) نعت (صفة) مجرورة، وعلامة جرِّها الكسرة الظَّاهرة على آخره.

وجملة (ثم جد في نزع شديد) معطوفة على جملة (وجسمه منهوك).

* * *

شخَصَ

تدلُّ مادَّة (شَخَصَ) في اللُّغة على الارتفاع، وهو ضدُّ الهبوط. جاء في (العین):

«... وشَخَصَ ببصره إلى السَّماء: ارتفع. وشَخَصَت الكلمة في الفم: إذا لم يقدرعلى خفض صوته بها. والشَّخيص: العظيم الشَّخص، ببنَّ الشَّخاصة. وأَشخصتُ هذا عليه، إذا أَعليته عليه»(1).

وقال ابن دريد: «... وشخص الرَّجل ببصره: إذا أَحدَّ النَّظر رافعاً طرفه إلى السَّماء، ولا يكون الشَّاخص إلاَّ كذلك. وشَخَصَ من مكان إلى مكان: إذا سارفي ارتفاع، فإنْ سار في انحدار، فهو هابط، والشُّخوص: ضدُّ الهبوط»(2).

وجاء في (معجم مقاييس اللغة): «الشِّین والخاء والصَّاد واحد يدلُّ على ارتفاع في شيء. من ذلك الشَّخص، وهو سواد الإنسان إذا سما لَكَ من بعد. ثُمَّ يحمل على ذلك، فيُقال: شخص من بلد إلى بلد. وذلك قياسه. ومنه أَيضاً شُخُوص الصبر»(3).

ص: 179


1- العين: 299. وينظر: المخصص: 1/ 69، والمحكم والمحيط الأعظم: 3/ 360
2- جمهرة اللغة: 1/ 317
3- معجم مقاييس اللغة: 3/ 197

وقال الجوهريّ: «... وشَخَصَ بالفتح شخوصاً، أَيْ.يُقال: شَخَصَ بصرَهُ، فهو شاخص، إذا فتح عينيه، وجعل لا يَطرِف»(1).

وعدَّه ابن سيده من أَفعال الموت، وذكره في باب (أَفعال الموت)، إذ قال:

«وقد شَخَصَ يَشْخَصُ شخوصاً، وأَشخصه صاحبه، ومنه شخوص البصر عند الموت»(2).

وقال ابن منظور: «... وشَخَصَ بصرُ فلان فهو شاخص، إذا فتح عينيه، وجعل لا يطرف، وفي حديث ذكر الميِّت إذا شَخَصَ بصره، شخوص البصر:ارتفاع الأَجفان إلى فوق، وتحديد النَّظر وانزعاجه»(3) .

وجاء في (المصباح المنیر): «... وشَخَصَ شخوصاً... ارتفع، وشَخَصَ البصرُ إذا ارتفع، ويتعدَّى بنفسه، فيُقال: شَخَصَ الرَّجلُ بَصرَهُ: إذا فتح عينيه لا يطرف، ورُبَّما يُعدَّى بالباء فقيل: شَخَصَ الرَّجلُ ببره، فهو شاخص»(4).

وقال الزَّبيديّ: «... وشَخَصَ كمنع شخوصاً: ارتفع. ويُقال: شخص بصرُهُ فهو شاخص: إذا فتح عينيه، وجعل لا يطرف، قال الله تعالى: «فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا»(5) شخص الميِّت بصره: رفعه إلى السَّماء فلم يطرف.

وشخص ببصره عند الموت كذلك، وهو مجاز. وأَبصار شاخصة وشواخص...

وقال ابن الأَثیر: شخوص بصر الميِّت: ارتفاع الأَجفان إلى فوق، وتحديد النَّظر

ص: 180


1- الصحاح في اللغة: 1/ 349. وينظر:تهذيب اللغة: 2/ 419
2- المخصص: 1/ 485. وينظر: أساس البلاغة: 1/ 237، وتاج العروس: 1/ 1444
3- لسان العرب: 7/ 45
4- المصباح المنير: 4/ 459
5- الأنبياء: 97

وانزعاجه»(1).

وبهذا المعنى أَورد أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) هذا الفعل (شَخَصَ) مرَّة واحدة في الخطبة، وهو رابع الأَفعال الثَّمانية الَّتي جاء بها أَمیر المؤمنین (عليه السلام) في بيان حال الإنسان المختصرَ؛ إذ قال (عليه السلام): (فشَخَصَ ببصره).

فالإنسان المحتضرَ لا يقوى على شيء سوى أَنَّه يمدُّ بصره ارتفاعاً من شدَّة النَّزْعِ، حتَّى إنَّه لا يستطيع أَنْ يُحرِّكَ بره جانباً إلى مَنْ حَضرَهُ، بل يكتفي برفعه إلى أَعلى من دون أَنْ يطرف. وفيه تضمن لقوله تعالى: «وَاقْترَبَ الْوَعْدُ الْحقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِی غَفْلَةٍ مِنْ هذَا بَلْ كُنّا ظَالِمينَ»(2).

و(فشخص) الفاء حرف عطف، و(شخص) فعل ماضٍ مبنيٌّ على الفتح، والفاعل ضمیرمستترفيه جوازاً، تقديره هو، عائد إلى الإنسان المحتضرَ، (ببصره) الباء حرف جرٍّ، و(بره) اسم مجرور، وعلامة جرِّه الكسرة الظَّاهرة على آخره، وهو مضاف، والهاء ضمیر متَّصل مبنيٌّ على الكسر في محلِّ جرٍّ بالإضافة، والجارُّ والمجرورمتعلِّقان بالفعل (شخص). وجملة (فشخص ببصره) معطوفة على جملة (وحضره كل قريب وبعيد).

* * *

طَمَحَ

الفعل (طمح) من باب (منع)، وله معنيان بحسب تعدِّيه إلى معموله،فإنْ

ص: 181


1- تاج العروس: 1/ 4462
2- الأنبياء: 97

تعدَّى بنفسه، فهو بمعنى (ارتفع)، وإنْ تعدَّى بحرف الجرِّ(الباء)، فهو بمعنى (رمى إلى الشيَّء). جاء في (العین):«طمح الفرس رأْسه، أَيْ: رَفَعَهُ... وطمح ببصره، إذا رمى به إلى الشيَّء»(1).

وقال الأَزهريّ: «طَمَحَ فان ببصره: إذا رمى به إلى الشيَّء، وفرس طامح البصر.. وطمحت بعينيها: إذا رمت ببصرها إلى الرَّجل، وإذا رفعت بصرها يُقال: طَمَحَت... وإذا رميت بشيء في الهواء قلت: طَمَّحتُ به تطميحاً»(2).

وجاء في (معجم مقاييس اللُّغة): «الطَّاء والميم والحاء أَصلٌ واحد يدلُّ على علوٍّ في شيء. يُقال: طمح ببصره إلى الشيَّء: علا. وكلُّ مرتفع طامح. وطمح ببوله: إذا رماه في الهواء»(3).

وقال الفيُّوميّ: «طَمَحَ ببصره نحو الشيَّء يَطْمَحُ بفتحتن طموحاً واستشرف له، وأَصله قولهم: جبل طامح، أَيْ: عالٍ مشرف»(4).

وزاد ابن سيده، فقال: «طَمَحَ ببصره يَطْمَحُ طُموحاً رمى به، يكون في الإنسان، والفرس: مَدَّ بصره إلى الشيَّء: طمح به»(5).

وقد أَورد أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) هذا الفعل (طمح) مرَّة واحدة في الخطبة، واستعمله متعدِّياً بحرف الجرِّ (الباء)، إذ قال (عليه السلام): (طَمَحَ بِنَظَرِهِ)، ومنه تلحظ دقَّة إيراد أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) الأَفعال بحسب ما

ص: 182


1- العين: 1/ 206. وينظر: الصحاح في اللغة: 1/ 430،والقاموس المحيط: 1/ 224
2- تهذيب اللغة: 2/ 67
3- معجم مقاييس اللغة: 3/ 331
4- المصباح المنير: 5/ 436. وينظر: لسان العرب: 2/ 534، وتاج العروس: 1/ 1688
5- المخصص: 1/ 70

يقتضيه المعنى والسِّياق؛ إذ استعمل أَمیرالمؤمنين (عليه السلام) قبل هذاالفعل فعلا يدلُّ على ارتفاع بر الإنسان المحتضرَ، وهو(شخص)، واستعمل بعده هذا الفعل (طمح) متعدِّياً بالباء، ومعناه: أَنَّه رمى إلى الشيَّء، وإنْ كان يدلُّ على الارتفاع من دون حرف الجرِّ الباء - كما ذكر أَصحاب المعجمات -؛ لأَنَّ (شخص) یدلَّ على الإرتفاع، أَمَّا (طمح)، فإنَّه يتناسب والتَّدرُّج الحاصل في حال الإنسان المحتضرَ؛ ف (شخص ببصره)، أَيْ: رفع بصره، ثُمَّ (طمح بنظره)، أَيْ: رمى بنظره إلى مَنْ حضره من قريبٍ وبعيدٍ.

و(طمح) خامس الأَفعال الثَّمانية الَّتي أَوردها أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) في بيان حال الإنسان المحتضرَ.

و(طمح) فعل ماضٍ مبنيٌّ على الفتح، والفاعل ضمیرمستتر فيه جوازاً، تقديره هو، عائد إلى الإنسان المحتضرَ، و(بنظره) الباء حرف جرٍّ، و(نظره) اسم مجرور، وعلامة جرِّه الكسرة الظَّاهرة على آخره، وهو مضاف، والهاء ضمیرمتَّصل مبنيٌّ على الكسر في محلِّ جرٍّ بالإضافة. وجملة (وطمح بنظره) معطوفة على جملة (فشخص ببصره).

* * *

رَشحَ

جاء في (العین): «رشحَ فان رَشْحاً: أَيْ عَرِقَ. والرَّشْحُ: اسم للعرق.

والمِرْشِحَةُ: بطانة تحت لِبْدِ الرَّج لِنَشْفِها العرق... والرَّاشح والرَّواشح: جبال تندى فَرُبّمَا اجتمع في أُصولها ماء قليل، وإنْ كَثُرَ سُمِّي واشاً. وإنْ رأَيته كالعرق

ص: 183

يجري خلال الحجارة، سُمِّي راشِحاً»(1) .

ويُقال: رَشَحَ الماء والعَرَقُ يَرْشَحُ رَشْحاً ورَشَحَاناً، إذا خرج من الإنسان، أَو السِّقاء، أَو القِربة، وكُلُّ جلدٍ راشحٍ بالعرق»(2) .

وقال ابن فارس: «الرَّاء والشِّین والحاء أَصل واحد، وهو النَّدى يبدو من الشيَّء، فالرَّشح: العَرَق. يُقال: رَشَحَ بَدَنُهُ بعَرَقِهِ»(3) .

والرَّشْحُ: تندية الجسد من العرق. والرَّشْحُ: اسمُ ذلك العَرَق(4) .

وتطابقت دلالة هذا الفعل (رشح) في الخطبة مع دلالته اللُّغوية؛ إذ أَورده أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) مرَّة واحدة، وهو سادس الأَفعال الثَّمانية الَّتي جاء بها (عليه السلام) في بيان حال الإنسان المحتضرَ، إذ قال (عليه السلام): (ورَشَحَ جَبِيْنُهُ). وَرَشَحُ جبینِ الإنسان علامةٌ بارزة ومهمَّة من علامات الإنسان المحتضرَ، وهو ما ذكره أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) في حال احتضاره، حین سأَله ولده الإمام الحسن (عليه السلام) عن ذلك أَيْ: رَشَح جبینِ الأَمیر(عليه السلام) - فقال (عليه السلام): أَيْ بنيَّ، إنَّ الإنسان إذا اقرب أَجلُه، عَرَقَ جبينُه(5) .

ص: 184


1- العين: 1/ 186
2- ينظر: جمهرة اللغة: 1/ 259، والصحاح في اللغة: 1/ 254، والمخصص: 3/ 473، والقاموس المحيط: 1/ 210
3- معجم مقاييس اللغة: 2/ 327
4- ينظر: المحيط في اللغة: 1/ 184. وينظر: تهذيب اللغة: 1/ 495، والمحكم والمحيط الأعظم:448/1 ، ولسان العرب: 2/ 449 ، والمصباح المنیر: 3/ 406 ، والقاموس المحيط: 1/ 280 ، وتاج العروس: 1/ 1590
5- بحار الأنوار: 2/ 75

وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «آية المؤمن إذا حضره الموت، بياض وجهه أَشدُّ من بياض لونه، ويرشح عن جبينه، ويسيل من عينيه كهيئة الدُّموع، فيكون ذلك خروج نفسه»(1).

و(رشح) فعل ماضٍ مبنيٌّ على الفتح، و(جبينه) فاعل مرفوع، وعلامة رفعه الضَّمَّة الظَّاهرة على آخره، وهو مضاف، والهاء ضمیر متَّصل مبنيٌّ على الضَّمِّ في محلِّ جرٍّ بالإضافة، عائد إلى الإنسان المحتضرَ. جملة (ورشح جبينه) معطوفة على جملة (وطمح بنظره).

* * *

جُذِبَتْ

تدلُّ مادَّة (جَذَبَ) في اللُّغة على الانتهاء، والانقطاع، والبتر، والمضيِّ، والذَّهاب، والابتعاد. جاء في (العین): «... والجذبَة: البُعد، وفلان مِنَّا جَذَبَةٌ، أَيْ: بعيد»(2) .

ويقال للنَّاقة إذا غرزت، وذهب لبنها: قد جذبت، فهي جاذب. وجَذَبَ فلان حبلَ وصالهِ، وجَذَمَهُ: إذا قطعه(3).

وجاء في (معجم مقاييس اللُّغة): «الجيم والذَّال والباء أَصل واحد يدلُّ علی بتر الشيَّء. يُقال: جذبت الشيَّء أَجذبُه جذباً. وجَذبْتُ المهرعن أُمه إذا فطمتَه، ويقال ناقة جاذب، إذ قلَّ لبنُها... لأَنَّه إذا قلَّ لبنها فكأَنَّها جذبته إلى نفسها»(4).

ص: 185


1- معالم الزلفى في معارف النشأة الأولى والأخرى: 1/ 279
2- العين: 1/ 474
3- ينظر: تهذيب اللغة: 3/ 489
4- معجم مقاييس اللغة: 1/ 393

ويُقال: جذبت المهر عن أُمه، أَيْ: فطمته. والجَذْبُ: انقطاع الرِّيق. وجَذَبَ الشَّهر: مضى عامَّتهُ، وجاذبتُهُ الشيَّء: إذا نازعتُه إيَّاه، والتَّجاذب: التَّنازع، والإنجذاب: سرعة السّیَر(1) .

وقال ابن سيده: «وناقة جاذبة، وجاذب، وجَذُوب: جَذَبَتْ لبنَها من ضرعها، فذهب صاعداً... وقد جَذَبت تَجذِبُ جِذَاباً. وجَذَب الشَّاةَ والفصيل يَجذبُهما جَذْباً: قطعهماعن الرِّضاع... جَذَبَت الأُمُّ وَلدَها تَجذِبُه: فطمته... وجَذَبَ النَّخْلَةَ يَجذِبُها جَذْباً: قَطعَ جذبَا ليأكلَه»(2) .

وجاءت هذه المعاني - أَيْ: الانتهاء، والانقطاع، والبتر، والمضيُّ، والذَّهاب، والابتعاد - مجتمعة في هذا الفعل (جُذِبَتْ نفسه) في الخطبة؛ إذ أَورده أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) مرَّة واحدة، وهو ثامن الأَفعال الثَّانية وآخرها، الَّتي أَوردها أَميرالمؤمنین (عليه السلام) في بيان حال الإنسان المحتضرَ. فبعد أَنْ قيل: إنه موعوك، وجسمه منهوك، وجَدَّ في نزع شديد، وحره كلُّ قريب وبعيد، فيشخص ببصره، ويطمح بنظره، ويرشح جبينُه، ثُمَّ يسكن حنينه، فتكون النَّتيجة النِّهائيَّة أَنْ تنتهي نفسه، وتنقطع، وتُبترَ، وتمضي، وتذهب، وتبتعد عن جسده؛ وقد أَحسن أَمیر المؤمنین (عليه السلام) في اختيارهذا الفعل لبيان هذه المرحلة، وهي المرحلة الأَخیرة من مراحل الإنسان المحتضرَ؛ فبه أَيْ: الفعل - اجتمعت كلُّ هذه المعاني المناسبة وحال ذلك الإنسان في تلك المرحلة.

وقد ورد هذا الفعل في الخطبة مبنيّاً للمجهول، ومعلوم أَنَّ لحذف الفاعل، وإقامة المفعول مقامه، أَغراضاً قسَّمها النَّحويُّون على أَغراض لفظيَّة، ومنها:

ص: 186


1- ينظر: الصحاح في اللغة: 1/ 84
2- المحكم والمحيط الأعظم: 3/ 280 . وينظر: المخصص: 2/ 380، ولسان العرب: 1/ 258، والقاموس المحيط: 1/ 38 ، وتاج العروس: 1/ 34

الإيجازوالاختصار، ورعاية الفاصلة والتقارب بین الفِقَر. ومعنوية، ومنها: العناية بالمفعول به، والتَّكيز على الحدث، والعلم بالفاعل، والجهل به، والتَّنزيه، والتَّحقیروالتَّوهین، والتَّعظيم، والإعمام والشُّمول، وعدم ترتُّب الفائدة من ذِكْر الفاعل(1) .

وإنَّ الغرض اللَّفظي في النُّصوص اللُّغوية الرَّفيعة لا يعدو الغرض الأَول؛ إذ إنَّه يأْتي تابعاً بعد استيفاء تمام حقِّه(2) . وممَّا يجدر ذِكْرُه أَنَّ الغرض من حذف الفاعل قد يختلف باختاف حال المُخْبرِ والمُخْبرَعنه، ومدى العلاقة بينها، أَومقتى الحال الَّتي تجمعهما. وقد يكون لحذف الفاعل وبناء الجملة للمجهول غرض واحد، أَو أكثر من غرض(3) .

ولعلَّ من قمن القول أَن أَمیر المؤمنین (عليه السلام) أَورد هذا الفعل بصيغة المبني للمجهول، فقال (عليه السلام): (جُذِبَتْ) لأَمرين: أَحدهما: صعوبة هذا الحال - جَذْب نَفْسِ الإنسان - وشدَّتها؛ أَيْ: تعظيماً لهذه الحال، فقد ورد في الأَخبار أَن للموت ثلاثة آلاف سكرة، السَّكرة منها أشدُّ من أَلف ضربة بالسَّيف(4) . قال أَبو جعفر الباقر(عليه السلام): «... وإنَّ الكافرلتخرج نفسه سيلاً من شدقه كزبد البعیر، أَو كا تخرج نفس البعیر»(5) .

ص: 187


1- ينظر: شرح المفصل: 7/ 70، وشرح ابن عقيل: 1/ 499، وشرح ابن الناظم: 93، ومعاني النحو:492/2 ، والمبني للمجهول في التعبر القرآني رسالة (ماجستير): 32، والمبني للمجهول في نهج البلاغة(دراسة لغوية) (رسالة ماجستير): 98 - 119
2- ينظر: المبني للمجهول في التعبير القرآني (رسالة ماجستير): 98
3- ينظر: المبني للمجهول في نهج البلاغة (دراسة لغوية) (رسالة ماجستير): 89 و 99
4- ينظر: معالم الزلفى في معارف النشأة الأولى والأُخرى: 1/ 256
5- المصدر نفسه: 1/ 279

وعن الإمام الصَّادق (عليه السلام): «إنَّ الميِّت إذا حضره الموت، أَوْثَقَهُ ملك الموت، ولولا ذلك ما استقرَّ»(1).

وفي رواية أُخرى أَنَّه إذا احترالكافر «دنا منه ملك الموت فيقول: يا عبد الله، أَخذت فكاك رهانك، وأَخذت أَمان براءتك، وتمسَّكت بالعصمة الكبرى في الحياة الدُّنيا؟ فيقول: لا، فيقول: أَبرْ يا عدو الله، بسخط الله عَزَّ وَجَلَّ، وعذابه، والنَّار، أَمَّا الَّذي كنت تحذر فقد نزل بك، ثُمَّ يسلُّ نفسه سلاًّ عنيفاً، ثُمَّ يوكل بروحه ثلاثمائة شيطان، كلُّها تبزق في وجهه، وينادى بروحه، فإذا وضع في قبره، فتح له باب من أَبواب النَّار، فيدخل عليه من فيحها ولهبها»(2).

الآخر: التَّعظيم لملك الموت؛ فقد جاء في هيأَته أَنَّ «الدُّنيا كلّها بن يدي ملك الموت، كالمائدة بین يدي الرَّجل، يمدُّ يده إلى ما يشاء منها فيتناوله ويأكل. ملء الدُّنيا - مشرقها ومغربها وبحرها وكلّ ناحية منها - أَقرب إلى ملك الموت من الرَّجل على مائدة، وإنَّ معه أَعواناً - والله أَعلم بعدَّتهم ليس منهم ملك - أَلا لوأُذن له أَنْ يلتقم سبع السَّاوات والأَرضین السَّبع في لقمة واحدة، لفعل...»(3).

وجاء عن رسول الله صَلىَّ اللهُ عَلِيهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ: «يا أَبا ذر، لمَّا أُسري بي إلى السَّماء، مررت بملك جالس على سريرمن نورعلى رأْسه تاج من نور، إحدى رجليه في المشرق، والأُخرى في المغرب، بین يديه لوح ينظر فيه والدُّنيا كلُّها بین عينيه، والخلق بین ركبتيه، ويده تبلغ المشرق والمغرب، فقلت: يا جبرائيل، مَنْهذا؟ فا رأَيت من ملائكة ربي جلَّ جلالُه أَعظم خلقاً منه! قال: هذا عزرائيل،

ص: 188


1- المصدر نفسه: 1/ 269
2- معالم الزلفى في معارف النشأة الأولى والأُخرى: 1/ 277
3- المصدر نفسه: 1/ 256

ملك الموت...»(1) .

و(جُذبت) جُذِبَ: فعل ماضٍ مبنيٌّ للمجهول، مبنيٌّ على الفتح، والتَّاء: تاء التَّأنيث السَّاكنة ضمیر متَّصل مبنيٌّ على السُّكون لا محلَّ لها من الإعراب، و(نفسه) نائب فاعل مرفوع، وعلامة رفعه الضَّمَّة الظَّاهرة على آخره، وهو مضاف، والهاء ضمیرمبنيٌّ على الضَّمِّ في محلِّ جرٍّ بالإضافة. وجملة (وجذبت نفسه) معطوفة على جملة (وسكن حنينه).

* * *

بَكَتْهُ

تدلُّ مادَّة (بكى) في اللُّغة على البكاء على الميِّت، ورثائه. جاء في (العین): «البكاء مقصور وممدود. بَكَى يَبْكِي، وباكيتُه فبكيتُه، أَيْ: كنت أَبكى منه»(2) .

ويُقال: بكى يبكي بُكاء وبُكى، فهو باكٍ. وأَبكاه: فَعَلَ به ما يُوجب بكاءَه.

وبكَّاه على الميِّت تبكيه: هيَّجه للبكاء. وبكاهُ بُكاء، وبكَّاه: بكى عليه، ورثاه(3).

وقال الجوهريّ: «البكاء يُمدُّ ويقصر، فإذا مددت أَردت الصَّوت الَّذي يكون مع البكاء، وإذا قرت أَردت الدُّموع وخروجها... وبكيتُه وبكيتُ عليه بمعنىً.

قال الأَصمعيّ: بكيت الرَّجل وبكيته بالتَّشديد، كلاهما إذا بكيت عليه. وأَبكيته إذا صنعت ما يبكيه. وباكيتُه فبكيتُهُ، إذا كنت أَبكى منه... واستبكيته وأَبكيتُه بمعنىً.

ص: 189


1- المصدر نفسه: 1/ 256
2- العين: 1/ 453
3- ينظر: تهذيب اللغة: 3/ 418، والمخصص: 3/ 195، والمحكم والمحيط الأعظم: 3/ 205، ولسانالعرب: 14/ 182، والمصباح المنیر: 1/ 358، والقاموس المحيط: 3/ 398

وتباكى: تكلَّف البكاء»(1) .

وقال الزَّمخشريّ: «بكى على الميِّت، وبكاه، وبكى له، وبكي عليه، وبكاه.

وفعلت به ما أبكاه، وبكاه... واستبكيته فبكى، وباكيته فبكيته: كنت أَبكى منه»(2) .

وورد هذا الفعل (بكى) مطابقاً دلالته اللُّغوية مرَّة واحدة في الخطبة، جاء به أَمیرالمؤمینن (عليه السلام) لبيان حال امرأَة ذلك الإنسان المحتضرَ، الَّذي «جُذِبَتْ نفسهُ»؛ إذ قال (عليه السلام):«وجُذِبَتْ نَفْسُه، وَبَكَتهُ عِرْسُهُ». والعِرْس: امرأَة الرَّجل(3) .

و(بكته) فعل ماضٍ مبنيٌّ على الفتح المقدَّرعلى الأَلف؛ منع من ظهور التَّعذُّر، والتَّاء: تاء التَّأنيث السَّاكنة، ضمیر مبنيٌّ على السُّكون، لا محلَّ له من الإعراب، والهاء: ضمیر متَّصل مبنيٌّ على الضَّمِّ في محلِّ نصب مفعول به، عائد إلى (من جذبت نفسه)، وعرسه: فاعل مرفوع، وعلامة رفعه الضَّمَّة الظَّاهرة على آخره، وهو مضاف، والهاء ضمیر متَّصل مبنيٌّ على الضَّمِّ في محلِّ جرٍّ بالإضافة، عائد إلى (من جذبت نفسه). وجملة (وبكته عرسه) معطوفة على جملة (وجذبت نفسه).

* * *

حُفِرَ

ص: 190


1- الصحاح في اللغة: 1/ 358
2- أساس البلاغة: 1/ 30. وينظر: معجم مقاييس اللغة: 1/ 22 6، والمحيط في اللغة: 2/ 69
3- ينظر: العین: 1/ 76، وجمهرة اللغة: 1/ 388، وتهذيب اللغة: 1/ 177، ومعجم مقاييس اللغة: 214/4 و 215 ، والصحاح في اللغة: 1/ 457، والمحيط في اللغة: 1/ 61، ولسان العرب: 6/ 143 ، وتاج العروس: 1/ 4016 و 40017

جاء في (العین): «الحَفِرْةُ: الحُفرة في الأَرض، والحَفَر: اسم المكان الَّذي حُفِرَ كخندق أَو بئر... والبئر إذا كانت فوق قدرها سُمِّيت حَفَراً، وحفیراً، وحفیرة...»(1).

والحَفْرُ: مصدر حفرت الأَرضَ أَحفِرُها حَفْراً. والموضع المحفور: الحفیر، والحُفرة. وما أُخرج من الترُّاب من الشيَّء المحفور: حَفَر(2).

وقال الجوهريّ: «حَفَرْتُ الأَرضَ واحتفرتها. والحُفْرَةُ: واحدة الحُفَر. واستَحْفَرَ النَّهرُ: حال له أَنْ يُخفَر. والحَفَرُ بالتَّحريك: الترُّاب يُستخرج من الحفرة»(3).

وحَفَرَ الشيَّءَ يَخفِرُهُ حَفْراً، واحتفره: نقَّاه، كما يحفرالأَرض بالحديدة. واسم المُحتَفَر: الحُفْرَة والحَفِیرة والحَفُر. والحَفَرُ: البئر الموسعة فوق قدرها. والحَفَر:الترُّاب المخرج من الشيَّء المحفور. والجمع من كلِّ ذلك أَحْفَارٌ، وأَحافر جمع الجمع. والمِحْفَرةُ والمِحْفَرُ والمِحْفَارُ: المسحاة ونحوها ممَّا يُحتَفَرُ به(4) .

وبهذا المعنى أَورد أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) هذا الفعل (حفر) مرَّة واحدة في الخطبة، جاء به (عليه السلام) مبنيّاً للمجهول؛ لبيان ما يحصل على الإنسان الميِّت. فبعد أَنْ (جذبت نفسه)، و(بكته عرسه)، يُبَادَرإلى أَنْ حفیَرَ له حفیرةٌ ليودع فيها.

ص: 191


1- العین: 1/ 213، وينظر: تهذيب اللغة: 2/ 100، والمحيط في اللغة: 1/ 221، والمصباح المنیر: 416/2
2- ينظر: جمهرة اللغة: 1/ 262
3- الصحاح في اللغة: 1/ 137
4- ينظر: المحكم والمحيط الأعظم: 2/ 22، ولسان العرب: 4/ 204، والقاموس المحيط: 1/ 483،وتاج العروس: 1/ 2710 -2713

وتقدم أَنَّ لحذف الفاعل، وإقامة المفعول مقامه أَغراضا قسَّمها النَّحويُّون على أَغراض لفظيَّة، ومعنويَّة(1)، ومن الَأغراض المعنويَّة: التَّركيز على الحدث، والجهل بالفاعل، وكلا هذين الغرضین متحقِّق في قول أَمیرالمؤمنین (عليه السلام): «حُفِرَرَمْسُه»؛ فأَمیرالمؤمنین (عليه السلام) أَراد أَنْ يركِّزعلى وصف حال الإنسان الميِّت فيما يخصُّ حفر الرَّمس له، وحاله في تلك الحفیرة، وفي الوقت نفسه لا يُعْلَمُ مَنْ سيقوم بتلك العمليَّة - أَيْ: عمليَّة الحفر -؛ فالفاعل المجهول، إلاَّ أَنَّ الأَمر متحقِّق لا محالة.

وجدير بالذِّكرأَنَّ أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) ذكر (الرَّمس) حین قال: «حفر رمسه»، وقيل: إنَّ الرَّمس: الترُّاب، ورمس القبر: ما حُثِيَ عليه، وقد رمسناه بالترُّاب، والرَّمس: تراب تحمله الزَّرع فترمس به الآثار، أَيْ: تعفوها. وكلُّ شيء يُنْثَرُعليه الترُّابُ، فهو مرموس(2).

وتَرْمُسُ: تَدفن الآثار كما يُرْمَسُ الميِّت. قيل: إذا كان القبر قدوماً مع الأَرض؛ فهو رمس، أَيْ: مستوياً مع وجه الأَرض. ورمستُ الرَّجل في الأَرض رمساً، أَيْ: دفنتُه، وسوَّيتُ عليه الأَرض(3).

وجاء في (معجم مقاييس اللُّغة): «الرَّاء والميم والسِّین أَصل واحد تدلُّ على تغطية، وستر. فالرَّمس: الترُّاب. والرِّياح الرَّوامس: الَّتي تُثر الرُّاب؛ فتدفن الآثار. ويُقال: رمستُ على فان الخبر؛ إذا كتمته إيَّاه. ورمستُ الرَّجلَ، وأَرمستُه:

ص: 192


1- ينظر: الفعل (جذبت) من الكتاب
2- ينظر: العين: 2/ 63، وتهذيب اللغة: 4/ 284، والمحيط في اللغة: 2/ 261
3- ينظر: تهذيب اللغة: 4/ 284

دفنتُه»(1).

والرَّمس: مصدر رَمَسْتُه أَرْمُسُه رَمْساً: إذا دفنته، وبه سمِّيت الرِّياح الرَّوامس؛ لأَنَّها تَرْمُسُ الآثار، أَيْ: تَدْفِنُهَا، ثُمَّ كثر ذلك في كلامهم، فسمِّي القبر رَمْساً، والجمع أَرماس ورُمُوْس. والرَّمس أَيضاً: تراب القبر، وهو في الأَصل مصدر. والمَرْمَس: موضعُ القبر. وقيل: إذا كان القبرمدموماً مع الأَرض فهو الرَّمس، أَيْ: مستوياً مع وجه الأَرض، فإذا رفع عن وجه الأَرض في السَّماء، فايقال له رَمْس(2).

و(حفر) فعل ماضٍ مبنيٌّ للمجهول، مبنيٌّ على الفتح، و(رمسه) نائب فاعل مرفوع، وعلامة رفعه الضَّمَّة الظَّاهرة على آخره، وهو مضاف، والهاء: ضمیر متَّصل مبنيٌّ على الضَّمِّ في محلِّ جرٍّ بالإضافة، عائد إلى مَنْ (جذبت نفسه). وجملة (وحفر رمسه) معطوفة على جملة (بكته عرسه).

* * *

يَتِمَ

تدلُّ مادًّة (يتم) في اللُّغة على موت الأَب، واخْتُلِفَ في ذلك، فقيل: إنَّ اليتيم في النَّاس مَنْ مات أَبوه، وغیر النَّاس مِنْ قِبَل الأُمِّ، وقيل: الَّذي يموت أَحد والديه.

جاء في (العین): «لا يُقال: يتيم إلاَّ بفقدان الأَب، ويَتِمَ يَتْتَمُ يُتْماً، وأَيتمَه الله»(3).

وقال ابن دريد: «اليُتْمُ: الاسم، واليَتم المصدر، يَتِمَ الصَّبيُّ يَيْتَمُ يَتْماً ويَتَماً، إذا

ص: 193


1- معجم مقاييس اللغة: 2/ 363
2- ينظر: العباب الزاخر: 1/ 119،ولسان العرب: 6/ 101
3- العين: 2/ 142. وينظر: المحيط في اللغة: 2/ 384

صار يتيماً. وأَيتمه الله إيتاماً. واليتيم: الفرد، وبه سمِّي الَّذي يموت أَحد والديه يتيماً، كأَنَّه أُفْرِدَ. واليتيم من النَّاس الَّذي قد مات أَبوه، ومن البهائم: الَّذي قد ماتت أُمُّه»(1) .

وجاء في (المصباح المنیر): «يَتِيم يَيْتَم من بابي تعب وقرب يُتْماً بضمِّ الياء وفتحها، لكن اليُتْم في النَّاس من قبل الأَب، فيُقال: صغیر يتيم، والجمع أَيتام ويَتَامَى، وصغیرة يتيمة، وجمعها يَتَامى، وفي غیر النَّاس من قبل الأُمِّ، وأَيْتَمتِ المرأَةُ أَيتاما؛ فهي مُوتِمٌ، صار أَولادها يتامى»(2) .فاليتيم: هو مَنْ قُطِعَ عن والديه بعد موتها، فصار فرداً، فكأَنَّه أُفْرِد.

وقد أَورد أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) هذا الفعل (يَتِمَ) مرَّةً واحدة في الخطبة لِمنْ مات في النَّاس أَبوه؛ بدلالة قوله (عليه السلام) المتقدِّم «بكته عِرْسُه»، أَيْ:

بكته زوجته - كا ذكرتُ -؛ فأَمر المؤمنین (عليه السلام) أَراد أَنْ يبنِّ حال أَبناء ذلك الميِّت، فالأَبناء مات أَبوهم، وأُفْرِدُوا؛ فأَصبحوا أَيتاماً بعده.

و(يتم) فعل ماضٍ مبنيٌّ على الفتح، و(ولده) فاعل مرفوع، وعلامة رفعه الضَّمَّة الظَّاهرة على آخره، وهو مضاف، والهاء ضمیر متَّصل مبنيٌّ على الضَّمِّ في محلِّ جرٍّ بالإضافة، عائد إلى مَنْ (جُذبت نفسه). وجملة (ويتم ولده) معطوفة على جملة (وحفر رمسه).

* * *

ص: 194


1- جمهرة اللغة: 1/ 196. وينظر: تهذيب اللغة: 5/ 29، ومعجم مقاييس اللغة: 6/ 118، والصحاح في اللغة: 2/ 298
2- المصباح المنير: 1/ 476. وينظر: لسان العرب: 12 / 645، وتاج العروس: 1/ 1513

تَفَرَّقَ

تدلُّ مادَّة (تفرق) في اللُّغة على المباينة. جاء في (العین): «الفَرق: تفريقٌ بین شيئين فرقاً حتَّى يفترقا ويتفرَّقا. وتفارَقَ القومُ وافترقوا، أَيْ: فارق بعضهم بعضاً... والفُرْقة مصدر الافتراق... والفُرقان: كلُّ كتاب أُنزل، به فرق الله بین الحق والباطل».

ويوم الفرقان يوم بدر وأُحد، فرق الله بن الحق والباطل»(1) .

والفرق: كلُّ شيئين فصلت بينهما، قد فرقتهما فرقاً، وكلُّ ناحية منها فَرْق وفريق(2) .

وجاء في (معجم مقاييس اللُّغة): «الفاء والرَّاء والقاف أُصَيْل واحد صحيح يدلُّ على تمييز وتزييل بین شيئين. ومن ذلك الفرق: فرق الشَّعْر. يُقال: فرقته فَرَقاً»(3) .

وقال الجوهريّ: «فَرَقْتُ بین الشَّيئينِ أَفْرُقُ فَرْقاً وفُرْقاناً. وفَرَّقت الشيَّء تَفْرِيقاً وتَفْرِقَةً، فانفرق وافرق وتفرَّق... والفُرقان: القرآن، وكلُّ ما فُرِّق به بین الحق والباطل، فهو فُرْقان... والمَفْرَق والمَفْرِقُ: وسط الرأْس، وهو الَّذي يُفْرَقُ فيه الشَّعر، وكذلك مَفْرِقُ الطَّريق ومَفْرَقُهُ، للموضع الَّذي يتشعَّب منه طريقٌ آخر»(4) .

وفارق الشيَّء مُفارقةً، وفراقاً: بَايَنَهُ. والاسم: الفُرقة. وتفارق القوم:فارق

ص: 195


1- العين: 1/ 396. وينظر: المحيط في اللغة: 1/ 473
2- ينظر: جمهرة اللغة: 1/ 434
3- معجم مقاييس اللغة: 4/ 392
4- الصحاح في اللغة: 2/ 41. وينظر: تهذيب اللغة: 3/ 211، ولسان العرب: 1/ 299، والمصباح المنیر: 7، 176 ، والقاموس المحيط: 1، 1183 ، وتاج العروس: 1/ 6539 و 6540

بعضهم بعضاً، وفارق فان امرأَته مفارقةً وفِراقاً: بَايَنَها. والفرق: الفصل بین الشَّيئين، وجمعه: فروق(1).وبمعنى (المباينة) أَورد أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) هذا الفعل (تفرق) مرَّةً واحدة في الخطبة؛ إذ قال(عليه السلام): «وَتَفَرَّقَ عَنْهُ عَدَدُهُ»؛ كناية عن ذهاب جاه الإنسان الميِّت (ومن جذبت نفسه)، فبموته يذهب جميع مَنْ كان مجتمعاً حوله، سواء في ذلك مَنْ يُظْهِرُ الحُبَّ له صِدْقاً، أَو تَملُّقاً؛ فكلُّ شيء انتهى بموت ذلك الإنسان، وَتُرِكَ لما هو أَهمُّ منه، وهو ما جمعه ذلك الإنسان الميِّت، وقد ذكره أَمیر المؤمنین (عليه السلام) بعد هذا الفعل مباشرة، فقال (عليه السلام):

«وقُسِّمَ جَمعُهُ»، وسيأْتي الحديث عنه - إنْ شاء الله تعالى -.و(تفرق) فعل ماضٍ مبنيٌّ على الفتح، و(عنه) عن: حرف جرٍّ، والها: ضمیر متَّصل مبنيٌّ على الضَّمِّ في محلِّ جرًّ بحرف الجرِّ،عائد إلى مَنْ (جذبت نفسه)، والجارُّ والمجرورمتعلِّقان بالفعل (تفرق) و(عدده) فاعل مرفوع، وعلامة رفعه الضَّمَّة الظَّاهرة على آخره، وهو مضاف، والهاء ضمیر متَّصل مبنيٌّ على الضَّمِّ في محلِّ جرٍّ بالإضافة، عائد إلى مَنْ (جذبت نفسه). وجملة (تفرق عنه عدده) معطوفة على جملة (ويتم ولده).

* * *

قُسمَ

تدلُّ مادَّة (قسم) في اللُّغة على التَّجزئة، والتَّشطير، والتَّفريق، والإبعاد، والفرز.

جاء في (العین): «القَسْمُ مصدر قَسَمَ يَقْسِمُ قَسْماً، والقِسْمَةُ مصدر الاقتسام،

ص: 196


1- ينظر: المحكم والمحيط الأعظم: 3/ 47

ويقال أَيضاً: قَسَمَ بينهم قِسْمَةً»(1) .

وقال ابن سيده: «قسم الشيَّ يقسمه قسماً، وقسَّمه: جزَّأَه... وتقسَّموا الشيَّء، واقتسموه، وتقاسموه: قسَّموه بينهم... وقاسمته المال: أَخذت منه قِسْمَكَ، وأَخذ قسمه. وقسيمك: الَّذي يقاسمك أَرضاً أَو داراً أَو مالاً بينك وبينه... وهذا قسيم هذا، أَيْ: شطره... وقسمهم الدهر يقسمهم وقسَّمهم: فرَّقهم قسماً هنا وقسماً هنا. ونوى قسوم: مفرَّقة مبعَّدة»(2).(3).

وجاء في (المصباح المنیر): «قَسَمْتُه قَسْماً من باب ضرب فرزتُه أَجزاءاً فانقسم، والموضع مَقْسِمٌ مثل مسجد، والفاعل قاسم، وقسَّام مبالغة»(4).

وتطابقت دلالة هذا الفعل (قُسِّمَ) في الخطبة مع دلالته اللُّغوية؛ إذ أَورده أَمیر المؤمنین (عليه السلام) مرَّةً واحدة في الخطبة، إذ قال (عليه السام): «وَقُسِّمَ جَمعُهُ».

فيتفرَّق مَنْ كان حول ذلك الميِّت-كما قلتُ -؛ليفكِّروا، ويقتربوا، ويصیروا إلى ماهو أَهمُّ منه، وهو ما جمعه ذلك الإنسان الميِّت - التَّركة -، فيجزِّؤنه، ويشطرونه، ويفرِّقونه، ويفرزونه، ويبعِّدونه عنه بتقاسمهم إيَّاه فيما بينهم.

وقد جاء أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) بهذا الفعل مبنيّاً للمجهول، وتقدَّم أَنَّ لحذف الفاعل، وإقامة المفعول مقامه أَغراضاً لفظيَّة ومعنويَّة(5)، ومن المعنوية:

ص: 197


1- العین: 1/ 383. وينظر: تهذيب اللغة: 3/ 171، والصحاح في اللغة: 2/ 77، والمحيط في اللغة: 451/1
2- المحكم والمحيط الأعظم: 3/ 7
3- وينظر: معجم مقاييس اللغة: 5/ 73، ولسان العرب: 13/ 478، وتاج العروس: 1/ 7885
4- المصباح المنير: 7/ 399
5- ينظر: الفعل (جذبت) من الكتاب

التَّركيزعلى الحدث، وهو ما ابتغاه أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) مع هذا الفعل؛ فأَراد (عليه السلام) أَنْ يبینِّ أَنَّ ما يجمعه ذلك الإنسان الميِّت صائر إلى التَّجزئة، والتَّشطير، والتَّفريق، والفرز، والإبعاد عنه، وواضح أَنَّ الوَرَثَة هم مَنْ يقوم بذلك.

و(قسم) فعل ماضٍ مبنيٌّ للمجهول، مبنيٌّ على الفتح، و(جمعه) نائب فاعل مرفوع، وعلامة رفعه الضَّمَّة الظَّاهرة على آخره، وهو مضاف، والهاء: ضمیر متَّصل مبنيٌّ على الضَّمِّ في محلِّ جرٍّ بالإضافة، عائد إلى (من جذبت نفسه). وجملة (وقستم جمعه) معطوفة على جملة (تفرق عنه عدده).

* * *

ذَهَبَ

تدلُّ مادَّة (ذهب) في اللُّغة على الزَّوال، والمضيِّ، والسَّر، والمرور. جاء في (العين):

«... والذَّهاب والذُّهوب، لغتان، مصدر ذهبت، والمَذْهَب: يكون مصدراً كالذَّهاب، ويكون اساً للموضع، ويكون وقتاً من الزَّمان»(1).والذَّهاب: السَّیر، يُقال: ذَهَبَيَذْهَبُ ذَهاباً وذُهوباً، فهو ذاهِبٌ وذَهوبٌ، وذهب به، وأَذْهَبَهُ: أَزاله(2).

والذّهاب: السّیَر، والمرور، وذهب كمنع يَذْهَبُ ذَهَاباً بالفتح، ويكسرمصدر سماعيٌّ، وذُهوباً بالضَّمِّ قياسيٌّ مستعمل، ومذهباً، فهو ذاهب وذَهوب كصبور:

سار، أَو مَرَّ(3).

ص: 198


1- العين: 1/ 368.وينظر: تهذيب اللغة: 2/ 322، والمحيط في اللغة: 1/ 304 و305
2- ينظر: المحكم والمحيط الأعظم: 2/ 189
3- ينظر:لسان العرب: 1/ 393، وتاج العروس: 1/ 499

وبمعنى الزَّوال، والمضيِّ أَورد أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) هذا الفعل (ذهب) مرَّةً واحدة في الخطبة؛ إذ قال (عليه السلام): «وَذَهَبَ بَصرَهُ وَسَمْعُهُ». وجاء في آخر الأَفعال الَّتي أَوردها (عليه السلام) في بيان حال أَلْصَقِ الأَشياءِ بالإنسان الميِّت بعد موته، وهي: (الزَّوجة، والقر، والولد، والجاه العدد، والجمع - التَّركة -، والبر، والسَّمع)، إذ قال (عليه السلام): «وَبَكَتْهُ عرسُهُ، وَحُفِرَ رَمْسُهُ، وَيَتِمَ وِلْدُهُ، وَتَفَرَّقَ عَنْهُ عَدَدُهُ، وَقُسِّمُ جَمعُهُ، وَذَهَبَ بَصرَهُ وَسَمْعُهُ».

و(ذهب) فعل ماضٍ مبنيٌّ على الفتح، و(بره) فاعل مرفوع، وعلامة رفعه الضَّمَّة الظَّاهرة على آخره، وهو مضاف، والهاء: ضمیر متَّصل مبنيٌّ على الضَّمِّ في محلِّ جرٍّ بالإضافة، عائد إلى (من جذبت نفسه)، و(سمعه) الواو حرف عطف، و(سمعه) اسم معطوف على (بره) مرفوع، وعلامة رفعه الضَّمَّة الظَّاهرة على آخره، وهو مضاف، والهاء: ضمیر متَّصل مبنيٌّ على الضَّمِّ في محلِّ جرٍّ بالإضافة، عائد إلى (من جذبت نفسه). وجملة (وذهب بره وسمعه) معطوفة على جملة (وقسم جمعه).

* * *

غُمِّضَ

تدلُّ مادَّة (غُمِّضَ) في اللُّغة على معانٍ، منها: إغلاق العينن بإطباق الحفنین.

جاء في (العین): «الغَمْضُ: ما تطامن من الأَرض، وجمعه: غُمُوض... والغِماَض:

النَّوم، يُقال: ما ذُقت غُمْضاً، ولا غِمَضاً. وما غَمَّضْتُ ولا أَغْمَضْتُ... والغَمْضَة: التَّغافل عن الأَشياء. ودار غامضة: غیر شارعة. وغَمَضَتْ تَغْمُضُ غُمُوضاً، وأَمرغامض، غَمَضَ غُمُوْضاً. والغامض من الرِّجال: الفاترعن الحملة... والغُموض:

ص: 199

بطون الأَودية»(1) .

وقال الجوهريّ: «الغامض من الأَرض: المطمئنُّ. وقد غَمَضَ المكان بالفتح يَغْمُضُ غُمُوضاً. وكذلك غَمُضَ بالضَّمِّ غُموضَةً وغَمَاضَةً. ومكان غَمْضٌ، والجمع غُمُوض وأغْماَضٌ.... وهو أَشدُّ غوراً. والغامض من الكلام: خلاف الواضح، وقد غَمُضَ غُمُوْضَةً، وغَمَّضْتُهُ أَنا تغميضاً. وتغميض العین: إغماضُها... ويُقال: ما اكتحلت غَماضاً ولا غِماضاً ولا غُمضاً بالضَّمِّ، ولا تغميضاً ولا تَغْمَضاً، أَيْ: ما نِمْتُ، وما اغتمضت عيناي»(2) .

فالغُمَّضُ، والغَماَض، والغِماض، والتَّغماض، والتَّغميض، والإغماض: النَّوم، وأَغْمَضَ طَرْفَهُ عَنِّي وَغَمَّضَهُ: أَغلقه. وأُغْمِضَ الميِّت، وغَمَّضْتَهُ، وغَمَّضَ عليه: أَغلق عينيه(3) . وأَغْمَضْتُ العنَ إغماضاً، وغمَّضْتُها تَغْمِيْضاً:َ طبقتُ الأَجفان(4) .

وتطابقت دلالة الفعل (غُمِّضَ) في الخطبة مع دلالته اللُّغوية؛ إذ أُورد بمعنى (إغاق العین بإغماض الجفنین) مرَّةً واحدة في الخطبة، وهو أَول الأَفعال الَّتي أَوردها أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) في بيان ما يحصل على الإنسان الميِّت في المغتسل بعد موته، فَيُبَاشَ بأَنْ تُغْمَضَ عيناه، إذ قال (عليه السلام): «وغُمِّضَ ومُدِّدَ، وَوُجِّهَ وَجُرِّدَ، وَغُسِّلَ وَنُشِّفَ، وسُجِّيَ وَبُسِطَ لَهُ، وَهُيِّءَ وَنُشِرعَلَيْهِ كَفَنُهُ،

ص: 200


1- العين: 1/ 346
2- الصحاح في اللغة: 2/ 26. وينظر: تهذيب اللغة: 3/ 49، ومعجم مقاييس اللغة: 4/ 217، والمخصص: 3/ 482، والمحكم والمحيط الأعظم: 2/ 401، ولسان العرب: 7/ 199، والقاموس المحيط: 2/ 196، وتاج العروس: 1/ 4687 - 4689
3- ينظر: المحكم والمحيط الأعظم: 2/ 401
4- ينظر: المصباح النير: 7/ 82

وَشُدَّ مِنْهُ ذَقْنُهُ، وَقُمِّصَ وعُمِّمَ، وَلُفَّ».

وقد ورد في (أَحكام الاحتضار) في رسائل الفقهاء العمليَّة أَنَّه يُستحبُّ للميِّت أَنْ تُغمضَ عيناه، ويُطبقَ فوه، ويُشدَّ لحياه(1).

وما قيل في الفعل (جذبت نفسه) يقال هنا مع الفعل (غُمِّض) في بنائه للمجهول، فقد بني للمجهول لأَمرين. أَحدهما: التَّركيزعلى الحدث، وهو استحباب إغماض عَيْنَي الميِّت، وهي حالة تدعو إلى التَّأَمُّل وإنعام النَّظر؛ فالإنسان لا يقوى على أَيِّ شيء، حتَّى إغاق عينيه، ممَّا يدلُّ على عجزه، وانعدام قوَّة تأْثیره على جسده؛ فهو لا يملك ذلك - أَصلاً -.والآخر: أَنَّه لا يُعْلَمُ مَنْ سيغلق عينيه، ولكنَّه سيحدث.

ومن قمین القول إنَّ هذا الفعل ورد على زنة (فُعِّلَ)، وقد تقدَّم أَنَّ لهذه الصِّيغة معاني متعدِّدة، ذكرها العلماء، ومنها: الجَعْلُ(2): وهو جَعْلُ مفعوله على ما هو عليه، نحو: سبحان الَّذي ضوَّء الأَضواء، وكوَّف الكوفة، وبصرَّ البصرة، أَيْ: جعلها أَضواء، وكوفة، وبرة. وهذا المعنى وارد مع الفعل (غُمِّضَ)، أَيْ: جُعِلَ الميِّتُ مُغمضَ العينین.

و(غُمِّض) فعل ماضٍ مبنيٌّ للمجهول، مبنيٌّ على الفتح، ونائب الفاعل ضمير مستتر فيه جوازاً، تقديره، هو، عائد إلى (من جذبت نفسه). وجملة (غُمِّض) معطوفة على جملة (وذهب بره وسمعه).

* * *

ص: 201


1- ينظر: منهاج الصالحن (للخوئي): 72، وموجز الفتاوى المستنبطة (للغروي): 91، ومنهج الصالحين (للسيد الصدر): 67، وأحكام العبادات (للمدرسي): 133، وسبل السام (لليعقوبي): 104
2- ينظر: الفعل (فَرَّدتُه) من الكتاب

مُدِّدَ

تدلُّ مادَّة (مُدِّدَ) في اللُّغة على الجذب، والمطل، والبسط. جاء في (العین):

«المَدُّ:الجذب... ومَدَّ النَّهر، وامتدَّ الحبلُ... والمادة: كلُّ شيء يكون مدداً لغیره... والتَّمدُّد كتمدُّد السِّقاء، وكذلك كلُّ شيء يبقى فيه شبه المَدِّ، والامتداد في الطُّول، وامتدَّ بهم السَّیر، أَيْ: طال»(1) .

وقال ابن فارس: «الميم والدَّال أَصل واحد يدلُّ على جرِّ شيء في طول، واتِّصال شيء بشيء في استطالة»(2) .

والمَدُّ: الجذب، والمَطْلُ، مَدَّهُ يَمُدُّهُ مَدّاً، ومَدَّ بهِ فامتدَّ، ومدَّدَهُ فتمدَّدَ، وتَمدَّدْنَاهُ بيننا مَدَدْناهُ(3) .

وقال الزَّبيديّ: «المدُّ: البَسْطُ. قال اللِّحياني: مدَّ اللهُ الأَرض مدّاً: بسطها وسَوَّاها. وقوله تعالى: «وَإِذَا الْمرْضُ مُدَّتْ»أَيْ: بُسِطَتْ وسُوِّيَتْ... المَدُّ: الجذب، ومَدَدْتُ الشيَّء مَدّاً: جذبتُه، قال ابن القطَّاع. المدُّ: المَطْلُ، وقال المصنِّف في البصائر: أَصلُ المدِّ جرُّ شيء في طول، واتِّصال شيء بيء في استطالة، مَدَّه يَمُدُّهُ مَدّاً، مدَّ به فامتدَّ...»(4) .

وورد هذا الفعل (مُدِّد) مرَّةً واحدة في الخطبة مطابقاً دلالته اللُّغوية، وهو ثاني الأَفعال الَّتي جاء بها أَمیر المؤمنین في بيان ما يحصل على الإنسان الميِّت في

ص: 202


1- العین: 2/ 113. وينظر: جمهرة اللغة: 1/ 35، وتهذيب اللغة: 4/ 443، والصحاح في اللغة: 162/2، والمحيط في اللغة: 2/ 340
2- معجم مقاييس اللغة: 5/ 216
3- ينظر: لسان العرب: 3/ 396
4- تاج العروس: 1/ 2268 و 2269

المغتسل بعد موته، فبعد أَنْ يُبَاشَر بإغماض عينيه، يُجذَب ويُمْطَل ويُبْسَط؛ إذ قال (عليه السلام): «وغُمِّضَ ومُدِّدَ، وَوُجِّهَ وَجُرِّدَ، وَغُسِّلَ وَنُشِّفَ، وسُجِّيَ وَبُسِطَ لَهُ، وَهُيِّءَ وَنُشِدعَلَيْهِ كَفَنُهُ، وَشُدَّ مِنْهُ ذَقْنُهُ، وَقُمِّصَ وعُمِّمَ، وَلُفَّ».

وقد ورد في (أَحكام الاحتضار) في الرَّسائل العمليَّة للفقهاء أَنَّه يُستحبُّ للميِّت بعد أَنْ تُغمض عيناه، ويُطبق فوه، ويُشدَّ لحياه، يُبادَر إلى أَنْ تُمدَّ يداه إلى جانبه، وساقاه(1) .

وما قيل في الفعل (جذبت نفسه) يقال - هنا - مع الفعل (مُدِّدَ) في بنائه للمجهول؛ فقد بني للمجهول لأَمرين. أَحدهما: التَّركيزعلى الحدث، وهو استحباب مدِّ يدَي الميِّت ورجلَيه، والآخر: أَنَّه لا يُعْلَمُ مَنْ سيقوم بذلك، ولكنَّه حاصل لا محالة.

و(مُدِّدَ): فعل ماضٍ مبنيٌّ للمجهول، مبنيٌّ على الفتح، ونائب الفاعل ضمیر مستتر فيه جوازاً، تقديره هو، عائد إلى (من جذبت نفسه). وجملة (مُدِّدَ) معطوفة على جملة (غُمِّضَ).

* * *

وُجِّهَ

جاء في (العین): «الوَجْهُ: مُستقبَل كلِّ شيء. والجهة: النَّحو. يُقال: أَخذت جهة كذا، أَي: نحوه... والوِجْهَةُ: القبلة وشبهها في كلِّ شيء استقبلتَه وأَخذتَ فيه. توجَّهوا إليك، يعني: ولَّوا وجوههم إليك. والتَّوجُّه: الفعل اللازم. والوُجَاهُ

ص: 203


1- ينظر: منهاج الصالحن (للخوئي): 72 و 73، وموجز الفتاوى المستنبطة (للغروي): 91، ومنهج الصالحن (للسيد الصدر): 67، وأحكام العبادات (للمدرسي): 1333، وسبل السام (لليعقوبي): 104

والتُّجَاهُ: ما استقبل شيءٌ شيئاً. تقول: دار فلان تُجاه دار فلان. والمواجهة: استقبالُك الرَّجلَ بكلام، أَو وجه»(1).

ويُقال: دور بني فلان تواجه دور بني فلان، أَيْ: تقابلها، وهي المواجهة، والوِجاه(2).

وقال الزَّمخشريّ: «واجهته مواجهةً ووجاهاً. وداري تجاه داره، وتعدت وجاهك وتجاهك بالضَّمِّ والكسر فيها... وتوجَّهت إليه ووجَّهت... ووجَّهت إليه رسولاً. وتوجَّه جهة كذا ووجهة كذا، وجعلته وجهةً لي... ووُجِّه الأَعمى والمريض والميِّت: جُعِلَ وجهُهُ نحو القبلة»(3).

وبهذا المعنى أَورد أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) هذا الفعل (وُجِّه) مرَّةً واحدة في الخطبة، جاء فيها مبنيّاً للمجهول، على زنة (فُعِّلَ)، وهو ثالث الأَفعال الَّتي أَوردها أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) في بيان ما يحصل على الإنسان الميِّت في المغتسل بعد موته، فبعد أَنْ يُبَاشَر بإغماض عينيه، تُمدُّ يداه ورجلاه، ويُوَجَّه إلى القبلة، إذ قال (عليه السلام): «وغُمِّضَ ومُدِّدَ، وَوُجِّهَ وَجُرِّدَ، وَغُسِّلَ وَنُشِّفَ، وسُجِّيَ وَبُسِطَ لَهُ، وَهُيِّءَ وَنُشِرعَلَيْهِ كَفَنُهُ، وَشُدَّ مِنْهُ ذَقْنُهُ، وَقُمِّصَ وعُمِّمَ، وَلُفَّ».

وقد ورد في (أَحكام الاحتضار) في رسائل الفقهاء العمليَّة أَنَّه يُستحبُّ للميِّت بعد أَنْ تُغمض عيناه، ويُطبق فوه، ويُشدَّ لحياه، وتُدَّ يداه إلى جانبه، ورجلاه، أَنْ

ص: 204


1- العین: 1/ 275. وينظر: تهذيب اللغة: 2/ 348، والصحاح في اللغة: 2/ 268، والمخصص: 1/ 54، والمحكم والمحيط الأعظم: 2/ 226،ولسان العرب: 13/ 487
2- ينظر: جمهرة اللغة: 1/ 250
3- أساس البلاغة: 2/ 11

يُوجَّه إلى القبلة بوضعه بصورة، لو جلس أَضحى وجهه تلقاء القبلة(1).

وما قيل في الفعل (جُذبت نفسه) يقال - ههنا - مع الفعل (وُجِّه) في بنائه للمجهول؛ فقد بُني للمجهول لأَمرين. أَحدهما: التّرَكيز على الحدث، وهو استحباب توجيه الميِّت إلى القبلة، والآخر: أَنَّه لا يُعْلَمُ مَنْ سيقوم بذلك، ولكنَّه سيحدث.

فضاً عن ذلك، فإنَّ الفعل (وُجِّه) ورد على زنة (فُعِّلَ) - كما تقدَّم - وسبق أَنْ قلتُ(2)إنَّ لهذه الصِّيغة معاني متعدِّدة، ذكرها العلماء، ومنها: الجَعْلُ، وهو معنىً واردٌ مع الفعل (وُجِّه)، أَيْ: جُعِلَ الميِّتُ متوجِّهاً إلى القبلة.

و(وُجِّه) فعل ماضٍ مبنيٌّ للمجهول، مبنيٌّ على الفتح، ونائب الفاعل ضمیر مستتر فيه جوازاً تقديره هو، عائد إلى (مَن جذبت نفسه)، وجملة (وُجِّه) معطوفة على جملة (مُدِّدَ).

* * *

جُرِّد

تدلُّ مادَّة (جُرِّد) في اللُّغة على التَّعرية من الشيَّء. جاء في (العین): «الجَرَدُ: فضاء لا نبات فيه، اسم للفضاء، فإذا نعتَّ به قلتَ: أَرض جرداء، ومكان أَجرد، وقد جَرِدَت جَرَداً، وجَرَدها القحط تجريداً. ورجل أَجرد: لا شعرعلى جسده...

والمُجرَّد: الَّذي أَجردهُ النَّاس فتركوه في مكان واحد... وإذا خرجت السُّنبلة من

ص: 205


1- ينظر: منهاج الصالحن (للخوئي): 77،وموجز الفتاوى المستنبطة (للغروي): 96،ومنهج الصالحين (للسيد الصدر): 67،وأحكام العبادات (للمدرسي): 133، وسبل السلام (لليعقوبي): 104
2- ينظر: الفعل فَرَّدته من الكتاب

لفائفها، قيل: تجرَّدت... والجريدة: سعفة رطبة جُرِّد عنها خوصها كما يُقشأُ الورقُ عن القضيب»(1).

وجريدُ النَّخل: الَّذي يُرد عنه الخوص. وكلُّ شيء قشّرَته عن شيء، فقد جرَّدته عنه، وتجرَّد الرَّجل: إذا تعرَّى(2).

وقال ابن فارس: «الجيم والرَّاء والدَّال أَصل واحد، وهو بُدوُّ ظاهرِ الشيَّء حيث لا يستره ساتر. ثُمَّ يحمل عليه غیره ممَّا يشاركه في معناه. يُقال: تجرَّد الرَّجل من ثيابه يتجرَّد تجرُّداً. قال بعض أَهل اللُّغة: الجريد سَعَفُ النخل، والواحدة جريدة؛ سُمِّيت بذلك لأَنَّه قد جُرِدَ عنها خوصها. والأَرض الجَرَد: الفضاء الواسع؛ سُمِّي بذلك لبروزه وظهوره، أَنْ لا يستره شيء»(3).

ويُقال: جَرَد الشيَّء يَردُهُ جَرْداً، وجَرَّدَهُ: قشرَّه. وجَرَد الشيَّء، يَرُدُهُ جَرْداً: نزع عنه الشَّعر، وكذلك جَرَّدَهُ. وقد جَرِدَ، وانجرد. والجَرَد من الأَرض: مالا ينبت. وقد جَرِدَت جَرَداً. وَرَدها القحط. وسنة جارود: مقحطة. ورجل جارود: مشؤوم منه كأَنَّه يُقَشرِّ قومَه، ورجل أَجرد: لا شعر عليه، وخدٌّ أَجرد كذلك، وتجرَّد من ثوبه، وانجرد:تعرَّى(4).

وقال الزَّمخشريّ: «جَرَّده من ثيابه... ومن المجاز: جُرِّد السَّيف من غمده،

ص: 206


1- العین: 1/ 470. وينظر: تهذيب اللغة: 3/ 473، والصحاح في اللغة: 1/ 86، والمحيط في اللغة: 97/2،ولسان العرب: 3/ 115، والمصباح المنیر: 6/ 89،والقاموس المحيط: 1/ 265، وتاج العروس: 1/ 1921 و1922
2- ينظر: جمهرة اللغة: 1/ 216
3- معجم مقاييس اللغة: 1/ 403
4- ينظر: المحكم والمحيط الأعظم: 3/ 263

وسيف مُجرَّد، كقولهم: سيف عريان، ورجل أَجرد: لا شعر على جسده... وضربه بجريدة، أَيْ: سعفة جُرِّدت من الخوص...»(1) .

وتطابقت دلالة الفعل (جُرِّد) في الخطبة مع دلالته اللُّغوية؛ إذ أَورده أَمیر المؤمنین (عليه السلام) مرَّةً واحدة، جاء فيها مبنيّاً للمجهول، وعلى زنة (فُعِّلَ)، وهو رابع الأَفعال الَّتي أَوردها أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) في بيان ما يحصل على الإنسان الميِّت في المغتسل بعد موته، فبعد أَنْ يُبَاشر بإغماض عينيه، وتُدَّ يداه ورجاه، ويُوَجَّه إلى القبلة، يُعمد إلى تجريده من ثيابه، إذ قال (عليه السلام): «وغُمِّضَ ومُدِّدَ، وَوُجِّهَ وَجُرِّدَ، وَغُسِّلَ وَنُشِّفَ، وسُجِّيَ وَبُسِطَ لَهُ، وَهُيِّءَ وَنُشِرعَلَيْهِ كَفَنُهُ، وَشُدَّ مِنْهُ ذَقْنُهُ، وَقُمِّصَ وعُمِّمَ، وَلُفَّ».

وقد ذكر الفقهاء في رسائلهم العمليَّة لتغسيل الميِّت سُنناً مستحبَّة، قبل أَنْ يُوْضَع الميِّت في حال التَّغسيل على مكان مرتفع من سرير أَو دكَّة، وأَنْ يكون تحت الظِّلال، وأَنْ تُدَّ يداه ورجلاه، وأَنْ يوجَّه إلى القبلة، وأَنْ يُنْزَعَ قميصُه من طرف رجليه، وإنْ استلزم فتقه مع إذْنِ الوارثِ فيه(2) .

وما قيل في الفعل (جذبت نفسه) يقال هنا مع الفعل (جُرِّد) في بنائه للمجهول؛ فقد بني للمجهول لأَمرين. أَحدهما: التَّركيز على الحدث، وهو أَنْ يُرَّد الميِّت من ثيابه، والآخر: أَنَّه لا يُعلَمُ مَنْ سيقوم بذلك، ولكنَّه حاصل لا محالة.

وهذا الفعل (جُرِّد) جاء على زنةَ (فُعِّلَ) - كماتقَّدم - ولهذه الصِّيغة معانٍ

ص: 207


1- أساس البلاغة: 1/ 58
2- ينظر: منهاج الصالحن (للخوئي): 77، وموجز الفتاوى المستنبطة (للغروي): 96، ومنهج الصالحين (للسيد الصدر): 70، وسبل السلام (لليعقوبي): 109

ذكرها العلماء، ومنها: الجَعْلُ(1) ، وهو معنىً متحقِّق في الفعل (جُرِّد)، أَيْ: جُعِلَ الميِّتُ مُجرَّداً من ثيابه.

و(جُرِّد) فعل ماضٍ مبنيٌّ على الفتح، ونائب الفاعل ضمیر مستتر فيه جوازاً تقديره هو، عائد إلى (من جذبت نفسه). وجملة (جُرِّد) معطوفة على جملة (وُجِّه).

* * *

غُّسلَ

تدلُّ مادَّة (غُسِّلَ) في اللُّغة على تطهر الشيَّء، وتنقيته. جاء في (معجم مقاييس اللُّغة): «الغین والسِّین واللاَّم أَصل صحيح يدلُّ على تطهیر الشيَّء، وتنقيته»(2).

وقال الجوهريّ: «غَسَلْتُ الشيَّء غَسْلاً بالفتح، يَغْسِلُ، والاسم الغُسْلُ بالضَّمِّ، يُقال: غُسْلٌ وغُسُلٌ. والغِسْلُ بالكسر: ما يُغْسَلُ به الرَّأس خِطْميٍّ وغیره...

واغتسلت بالماء. والغَسُول: الماء الَّذي يُغْتَسَلُ به. وكذلك المُغْتَسَلُ. قال الله تعالى:

(هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرابٌ)(3)والمُغْتَسَلُ أيضاً: الَّذي يُغْتَسَلُ فيه. والمَغْسِلُ، بكسر السِّین وفتحها: مَغْسَلُ الموتى، والجمع: المَغَاسِلُ. والغُسَالة: ما غَسَلْتَ به الشيَّء.

وشيءٌ غسيل ومغسول»(4).

ص: 208


1- ينظر: الفعل (فَرَّدتُه) من الكتاب
2- معجم مقاييس اللغة: 4/ 340. وينظر: العین: 1/ 348، وجمهرة اللغة؛: 1/ 471، والمحيط في اللغة: 1/ 398، والمخصص: 1/ 499
3- ص: 42
4- الصحاح في اللغة: 2/ 19.وينظر: تهذيب اللغة: 3/ 54، والمحكم والمحيط الأعظم: 2/405، ولسان العرب: 11/ 494، والقاموس المحيط: 3/ 141، وتاج العروس: 1/ 7375 - 7377

وورد هذا الفعل (غُسِّلَ) في الخطبة مرَّةً واحدة مطابقاً دلالته اللُّغوية، جاء به أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) مبنياً للمجهول، وعلى زنة (فُعِّل)، وهو خامس الأَفعال الَّتي أَوردها (عليه السلام) في بيان ما يحصل على الإنسان الميِّت في المغتسل بعد موته، فبعد أَنْ تُغمض عيناه، وتُدَّ يداه ورجاه، ويُوجَّه إلى القبلة، ويُرَّد من ثيابه، يتمُّ تغسيله، إذ قال (عليه السلام): «وغُمِّضَ ومُدِّدَ، وَوُجِّهَ وَجُرِّدَ، وَغُسِّلَ وَنُشِّفَ، وسُجِّيَ وَبُسِطَ لَهُ، وَهُيِّءَ وَنُشِرعَلَيْهِ كَفَنُهُ، وَشُدَّ مِنْهُ ذَقْنُهُ، وَقُمِّصَ وعُمِّمَ، وَلُفَّ».

وقد ذكرالفقهاء في رسائلهم العمليَّة في (تغسيل الميِّت) أَنَّه يُغسَّل بثلاثة أَغسال: الأَول: بماء السِّدر، والثَّاني: بماء الكافور، والثَّالث: بماء القراح. ويغسل أَوَّلاً رأْس الميِّت ورقبته، ثُمَّ الجانب الأَيمن منه، ثُمَّ الجانب الأَيسر(1) .

وما قيل في الفعل (جذبت نفسه) يقال - هنا - مع الفعل (غُسِّل) في بنائه للمجهول؛ فقد بني للمجهول لأَمرين: الأَوَّل: التَّركيز على الحدث، وهو أَنْ يُغسَّل الميِّت بثلاثة أَغسال، والثَّاني: أَنَّه لا يُعلَمُ مَنْ سيقوم بذلك، ولكنَّه متحقِّق لا محالة.

وذكرتُ أَنَّ أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) أَورد هذا الفعل على زنة (فُعِّل)، وتقدَّم أَنَّ لصيغة (فُعِّلَ) معاني كثیرة ذكرها العلماء، منها: المبالغة والتَّكثر - وهو أَشهرها -، ويدلُّ على تكرير الفعل، وكثرة القيام به(2)، ومنها: الجَعْلُ(3) ، وكلا

ص: 209


1- ينظر منهاج الصالحین (للخوئي): 73 و 77، وموجز الفتاوى المستنبطة (للغروي): 92 و 96، ومنهج الصالحین (للسيد الصدر): 67 و 68، وأحكام العبادات (للمدرسي): 135، وسبل السام (لليعقوبي): 105 و 106
2- ينظر: الفعل (بلَّغ) من الكتاب
3- ينظر: الفعل (فرَّدتُه) من الكتاب

المعنين متحقِّق في الفعل (غُسِّل)؛ فغُسْلُ الميِّت بثلاثة أَغسال يدلُّ على الكثرة، وهو معنىً تدلُّ عليه صيغة (فُعِّلَ)، فضلاً عن دلالتها على (الجعل)، أَيْ: جُعِلَ بدنُ الميِّتِ طاهراً غیر متنجس.

و(غُسِّل) فعل ماضٍ مبنيٌّ على الفتح، ونائب الفاعل ضمیرمستترفيه جوازاً، تقديره هو، عائد إلى (مَنْ جذبت نفسه)، وجملة (وغسِّلَ) معطوفة على جملة (جُرِّد).

* * *

نُشف

تدلُّ مادَّة (نُشِّفَ) في اللُّغة على ذهاب الماء، واليبس. جاء في (العین):

«النَّشْفُ: دخول الماء في الأَرض. والثَّوب وغیره. نَشِفَت الأَرض الماء، ونَشِفَ الماء في الأَرض، سواء»(1).

وقال ابن فارس: «النُّون والشِّین والفاء: أَصل صحيح يدلُّ على ولوج ندىً في شيء يأْخذه. منه النَّشْفُ: دخول الماء في الثَّوب والأَرض حتَّى يَنْتشْفَاهُ»(2).

ونَشِفَ الثَّوبُ العَرَقَ، بالكسر، ونَشِفَ الحوضُ الماءَ يَنْشَفُهُ نَشْفاً: شربه.

وتَنَشَّفَهُ كذلك. وأَرض نَشِفَةٌ: بَيِّنَةُ النَّشَّفِ، إذا كانت تَنْشَفُ الماء(3).

وقال ابن منظور: «نَشِفَ الماءُ يبس، ونَشِفَتْهُ الأَرضُ نَشْفاً، والاسم النَّشَفُ،

ص: 210


1- العین: 2/ 8.وينظر: جمهرة اللغة: 1/ 489، وتهذيب اللغة: 4/ 110، والمحيط في اللغة: 2/ 172، والمخصص: 2/ 248، والعباب الزاخر: 2/ 21، والمصباح المنیر: 9/ 302
2- معجم مقاييس اللغة: 5/ 343
3- ينظر: الصحاح في اللغة: 2/ 210، والقاموس المحيط: 2/ 432، وتاج العروس: 1/ 6137

ونَشَفَ الماءَ يَنْشِفُهُ نَشْفاً ونَشِفَهُ: أَخذه من غدير أَو غیره بخرقة أَو غيرها»(1).

وبهذا المعنى أَورد أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) هذا الفعل (نشف) مرَّتین في الخطبة. جاء في المرَّة الأُولى مبنيّاً للمجهول، وعلى زنة (فُعِّلَ)، وهو سادس الأَفعال الَّتي أَوردها أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) في بيان ما يحصل على الإنسان الميِّت في المغتسل بعد موته، فبعد أَنْ تُغمض عيناه، وتُمدَّ يداه ورجلاه، ويُوجَّه إلى القبلة، ويجُرَّد من ثيابه، ويُغسَّل بالأَغسال الثَّاثة، بعدها (يُنَشَّف) منها، إذ قال (عليه السلام): «وغُمِّضَ ومُدِّدَ، وَوُجِّهَ وَجُرِّدَ، وَغُسِّلَ وَنُشِّفَ، وسُجِّيَ وَبُسِطَ لَهُ، وَهُيِّءَ وَنُشِرعَلَيْهِ كَفَنُهُ، وَشُدَّ مِنْهُ ذَقْنُهُ، وَقُمِّصَ وعُمِّمَ، وَلُفَّ».

وقد ذكر الفقهاء في رسائلهم العمليَّة في باب (تغسيل الميِّت) بعد أَنْ يُفرغ من تغسيله يُنشَّف بدنُ الميِّت بثوب نظيف أَو نحوه(2).

وما قيل في الفعل (جذبت نفسه) يقال - هنا - مع الفعل (نُشِّف) في بنائه للمجهول؛ فقد بني للمجهول لأَمرين. الأَوَّل: التّرَكيز على الحدث، وهو تنشيف بدن الميِّت بثوب نظيف أَوغیره من الأَغسال الثَّاثة، والثَّاني: أَنَّه لا يُعْلَمُ مَنْ سَيُنَشِّفُ بدنَهُ، إلاِّ أَنَّه أَمرحاصل لا محالة.

وكما ذكرتُ أَنَّ أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) أَورد هذا الفعل على زنة (فُعِّل)، وتقدَّم أَنَّ العلماء ذكروا معاني لهذه الصِّيغة، منها: المبالغة والتَّكثیر(3) ،والجَعْل(4)،

ص: 211


1- لسان العرب: 9/ 329
2- ينظر: منهاج الصالحن (للخوئي): 78، وموجز الفتاوى المستنبطة: 96، ومنهج الصالحن (للسيدالصدر): 71، وسبل السلام (لليعقوبي): 109
3- ينظر: الفعل (بَلَّغ) من الكتاب
4- ينظر: الفعل (فرَّدته) من الكتاب

وكلا المعنين وارد مع الفعل (نُشِّف)؛ فتنشيفُ بدنِ الميِّت من الأَغسال الثّلاثة يدلُّ على الكثرة والمبالغة؛ لِيُجْعَلَ ناشفاً لا ماء فيه، وهو معنىً تدلُّ عليه صيغة (فُعِّل)؛ فضلاً عن دلالتها على (الجعل)، أَيْ: جعل بدن الميِّت ناشفاً من الأَغسال الثَّلاثة، غیر مُبلَّل.

و(نُشِّف) فعل ماضٍ مبنيٌّ للمجهول، مبنيٌّ على الفتح، ونائب الفاعل ضمیرمستتر فيه جوازاً، تقديره هو، عائد إلى (مَنْ جذبت نفسه)، وجملة (ونُشِّف) معطوفة على جملة (وغُسِّلَ).

أَمَّا في المرَّة الثَّانية؛ فقد أَورده أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) في بيان ما يحصل على جسم الإنسان الميِّت في داخل القبر، وهو رابع الأَفعال الخمسة الَّتي أَوردها أَمیرالمؤمنين (عليه السلام) في ذلك، إذ قال (عليه السلام): «فَهُوَ حَشْوُ قَبرْ، وَرَهِيْن قَفْرٍ، يَسْعَى فِی جِسْمِهِ دُوْدُ قَبرْهِ، وَيَسِيْلُ صَدِيْدُهُ مِنْ مِنْخَرِهِ، ويُسْحَقُ بَدَنُهُ وَلْحمُهُ، وَيَنْشفُ دَمُهُ، وَيَرِمُّ عَظْمُهُ».

و(ينشف) فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه الضَّمَّة الظَّاهرة على آخره، و(دمُه) فاعل مرفوع، وعلامة رفعه الضَّمَّة الظَّاهرة على آخره، وهو مضاف، والهاء: ضمیر متَّصل مبنيٌّ على الضَّمِّ في محلِّ جرٍّ بالإضافة، عائد إلى (مَنْ جذبت نفسه). وجملة (وينشف دمه) معطوفة على جملة (ويُسحَقُ بدنُه ولحمُه).

* * *

بُسطَ

تدلُّ مادَّة (البسط) في اللُّغة على النّشَر، وهي نقيض القبض، وهي جَعْلُ الشَّیء مستوياً ممتدّاً. يُقال: بسط الثَّوب والفراش: إذا نشره. والِبسَاطُ: ما يُبْسَطُ(1).

وقال ابن فارس «الباء والسِّین والطَّاء أَصل واحد، وهو امتداد الشيَّء في عرض أَو غیرعرض. فالبِساطُ ما يُبسَطُ. والبَسَاطُ: الأَرض، وهي البسيطة»(2).

وانبسط الشيَّء على الأَرض، والبسيطُ من الأَرض: كالبساط من الثِّياب، والجمع البُسُط. والبِساطُ: ما بُسِطَ، وأَرض بَساط وبسيطة: منبسطة مستوية(3).

وتطابقت دلالة الفعل (بُسِطَ) في الخطبة مع دلالته اللُّغوية؛ إذ جاء هذا الفعل مرَّةً واحدة في الخطبة، وهو ثامن الأَفعال الَّتي أَوردها أَمیر المؤمنین (عليه السلام) في بيان ما يحصل على الإنسان الميِّت في المغتسل بعد موته، فبعد أَنْ تُغمض عيناه، وتُدَّ يداه ورجلاه، يُوجَّه إلى القبلة، ويجُرَّد من ثيابه، ويُغسَّل، ويُنشَّف، ويُرجع به إلى حال السُّكون والرُّكود، فَيبُسَط له كفنه، أَيْ: يُفتح له الكفن، فَيُجعل مستوياً ممتدّاً بعد أَنْ كان معقوداً، إذ قال (عليه السلام): «وغُمِّضَ ومُدِّدَ، وَوُجِّهَ وَجُرِّدَ، وَغُسِّلَ وَنُشِّفَ، وسُجِّيَ وَبُسِطَ لَهُ، وَهُيِّءَ وَنُشِرعَلَيْهِ كَفَنُهُ، وَشُدَّ مِنْهُ ذَقْنُهُ، وَقُمِّصَ وعُمِّمَ، وَلُفَّ».

و(بُسِطَ) فعل ماضٍ مبنيٌّ للمجهول، مبنيٌّ على الفتح، ونائب الفاعل ضمیرمستتر فيه جوازاً، تقديره هو، عائد إلى الكفن، و (له) الام: حرف جرٍّ، والهاء:

ص: 215


1- ينظر: العین: 2/ 56، وتهذيب اللغة: 4/ 258،والصحاح في اللغة: 1/ 43، والمحيط في اللغة: 249/2، والعباب الزاخر: 1/ 232، والمصبح المنر: 1/ 302
2- معجم مقاييس اللغة: 1/ 234
3- ينظر: لسان العرب: 7/ 258، وتاج العروس: 1/ 4773

ضمیر متَّصل مبنيٌّ على الضَّمِّ في محلِّ جرٍّ بحرف الجرِّ، و(له) الجارُّ والمجرورمتعلِّقان بالفعل (بُسِطَ). وجملة (وبُسِطَ له) معطوفة على جملة (وسُجِّي).

* * *

سجَّي

تدلُّ مادَّة (سُجَّي) في اللُّغة على الرُّكود، والسُّكون، وتغطية الشيَّء.جاء في (العین):«السُّجُو: السُّكون. وعن ساجية، أَيْ: فاترة النَّظرة... وليلة ساجية:

ص: 212

ساكنة الرِّيح... ويُقال: سجا البحر، أَيْ: سكنت أَمواجه، وتسجيةُ الميِّت: تغطيته بثوب... (وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى)(1)،أَيْ: أَظلم وركد، كما يُقال: بحرساجٍ، وليل ساجٍ، إذا ركد وظلم، ومعنى ركد: سكن... وتسجية الميِّت: تغطيته بثوب»(2).

وقال ابن فارس: «السِّين والجيم والواو يدلُّ على سكونٍ، وإطباق»(3).

وسَجا البحرُ يَسْجُو سَجْواً: إذا سكنت أَمواجه، وسجا اللَّيل: سكن.

والسَّجْواء: النَّاقة الَّتي تسكن حتَّى تحلب، وليلة ساجية إذا كانت ساكنة الرِّيح(4).

وقال ابن منظور: «وسجا البحر وأَسجى إذا سكن، وسجا اللَّيل وغيره يَسْجُو سُجُوّاً وسَجْواً سكن، وليلة ساجية، إذا كانت ساكنة الرد والرِّيح والسَّحاب...

سَجَّى الميِّت غطَّاه، وسَجَّيتُ الميِّت تسجيةً: إذا مَدَدْتَ عليه ثوباً... والمُتَسجِّي المتُغَطِّي في اللَّيل السَّاجي؛ لأَنَّه يُغطَّى بظلامه وسكونه... سَجَا يَسْجُو سَجْواً، وسُجِّي يُسَجِّي، وأَسْجَى يُسْجِي كلُّه غطَّى شيئاً ما، والتَّسجية: أَنْ يُسَجَّى الميِّت بثوب، أَيْ: يُغطَّى به»(5).

وقد جاء هذا الفعل (سُجِّي) مرَّةً واحدة في الخطبة، وهو سابع الأَفعال الَّتي أَوردها أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) في بيان ما يحصل على الإنسان الميِّت في المغتسل بعد موته، إذ قال (عليه السلام): «وغُمِّضَ ومُدِّدَ، وَوُجِّهَ وَجُرِّدَ، وَغُسِّلَ

ص: 213


1- الضحى: 2
2- العين: 1/ 487.وينظر: تهذيب اللغة: 4/ 30، وأساس البلاغة: 1/ 108
3- معجم مقاييس اللغة: 3/ 106
4- ينظر: المحيط في اللغة: 2/ 128
5- لسان العرب: 14/ 372 و 373

وَنُشِّفَ، وسُجِّيَ وَبُسِطَ لَهُ، وَهُيِّءَ وَنُشِرعَلَيْهِ كَفَنُهُ، وَشُدَّ مِنْهُ ذَقْنُهُ، وَقُمِّصَ وعُمِّمَ، وَلُفَّ».

وكلا المعنين - أَعني: 1 - الرُّكود والسُّكون 2 - تغطية الشيَّء - وارد في الفعل (سُجِّي) في الخطبة؛ فهو إمَّا أَنْ يُرادَ به أَنَّ الميِّت بعد أَنْ تُغمض عيناه، وتُمدَّ يداه ورجلاه، ويُوجَّه إلى القبلة، ويُجرَّد من ثيابه، ويُغسَّل، ويُنَشَّف، ويُرجَع به إلى حال السُّكون والرُّكود، أو أَنَّه يُغطَّى بثوب، أَو قطعة من القماش بعد أَنْ يُغسَّل بالأَغسال الثَّلاثة، ويُنشَّف، بَيْدَ أَنَّ الأَقوى عندي المعنى الأَول، وهو السُّكون والرُّكود، فبعد أَنْ يُغسَّل بدن الميِّت بالأَغسال الثَّاثة، وبعد أَنْ يُقلَّب في ذلك كلِّه يميناً ويساراً في أَثناء الغسل، ويُنشَّف بدنه، يُرجع به إلى حال السُّكون والرُّكود؛ ليكون مسجَّىً، بعد أَنْ يكون قد بُسِطَ له، أَيْ: يُفتح له الكفن بعد أَنْ كان معقوداً، ويُيَّء له، أَيْ: تُرتَّب قطع الكفن الثَّلاث: المئزر، والقميص، والإزار؛ لتُنْشرَعليه، فيكون الكفن مستولياً على جسده كُلِّه.

فضلاً عن ذلك، فإنَّ العلماء - في رسائلهم العمليَّة - في باب (تغسيل الميت) لم يذكروا أَنَّ بدن الميِّت بعد أَنْ يُغسَّل، يُنشَّف، ويُغطَّى بثوب، بل إنَّ الخطوة الأُخرىهي التَّكفن - والله أَعلم -.

وما قيل في الفعل (جذبت نفسه - يقال - هنا - مع الفعل (سُجَّي) في بنائه للمجهول؛ فقد بني للمجهول لأَمرين. أَحدهما: التَّركيز على الحدث، وهوالتَّسجية، والآخر: أَنَّه لا يُعْلَمُ مَنْ سيقوم بهذه العمليَّة، غیر أَنَّها كائنة لا محالة.

و(سُجِّي) فعل ماضٍ مبنيٌّ للمجهول، مبنيٌّ على الفتح، ونائب الفاعل ضمیر مستتر فيه جوازاً، تقديره هو، عائد إلى (مَنْ جذبت نفسه)، وجملة (سُجَّي) معطوفة على جملة (نُشِّف).

ص: 214

نُشرَ،يُنْشرُ

تدلُّ مادَّة (نشر) في اللُّغة على التَّفريق، والبسط، والتَّشعُّب، وهي خاف الطَّيِّ، وتدلُّ - مجازاً - على حياة الأَموات بعد الموت، وبَعْثِهِم من قبورهم للحساب. قال

ص: 217

ابن فارس: «النُّون والشِّین والرَّاء أَصل صحيح يدلُّ على فتح شيء، وتشعُّبه»(1) .

ويقال نَشرَ الشيَّءَ نَرْاً فانتشر بمعنى: فَرَّقه، ونشر علمه: بسطه، والله ينشر رحمته، يبسطها ويمنحها، وتنشرالملائكة أَجنحتها، أَو تُنْشرَ كتب الأَعمال يوم القيامة. وانتشر النَّاس وغيرهم: تفرَّقوا. ونشر الثَّوب والكتاب، وصحف مُنشَّرة.

واستنشره: طلب إليه أَنْ ينشرعليه الثَّوب، قال تعالى: (فَانْتَشِروا فِی الأَرْضِ)(2)، أَي: تفرَّقوا(3) .

ومن المجاز: نشر الله الموتى نشراً، وأَنشرهم، ونشروا نشوراً وانتشروا.

والنُّشور: الحياة بعد الموت. ينشرهم الله انتشاراً(4) . ونشر الله الميِّت وأَنشره لغتان فصيحتان، والميِّت منشور ومُنْشرَ(5)، وفي التَّنزيل: (ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشرَهُ)(6). ونشرالله الموتى نشوراً من باب قعد حَيُوا، ونشرهم الله يتعدَّى ولا يتعدَّى(7). ونشرالله الميِّت يَنْشرُه نَشرْاً ونُشُوراً وأَنشره: أَحياه. فالنُّشور حياة الأَموات بعد الموت،

ص: 218


1- معجم مقاييس اللغة: 5/ 344
2- الجمعة: الآية 10
3- ينظر: العین: 2/ 4، وجمهرة اللغة: 1/ 451، وتهذيب اللغة: 4/ 96، والصحاح في اللغة: 2/ 208، ومفردات ألفاظ القرآن: 805، وأساس البلاغة: 1/ 473، ولسان العرب: 5/ 206، والمصباح المنیر: 495/9،والقاموس المحيط: 2/ 14، وتاج العروس: 1/ 3534، ومعجم الألفاظ والأعام القرآنية: 231/2
4- ينظر: العين: 2/ 4، وأساس البلاغة: 1/ 473
5- ينظر: جمهرة اللغة: 1/ 401
6- عبس: 22
7- ينظر: المصباح المنير: 9/ 294

وبعثهم من قبورهم للحساب(1).

ولعلَّه مأْخوذ من قولهم (النّشَرْ): وهو أَنْ يخرج النَّبت، ثُمَّ يبطء عنه المطر، فييبس، ثُمَّ يصيبه المطر، فينبت بعد اليَبَس(2). فحال الإنسان بعد إحيائه من القبر مماثل لذلك، فيولد الإنسان في الحياة الدُّنيا، ثُمَّ يبدأُ بمراحل عمره بانتقاص، فيصل إلى مرحلة الموت (اليَبَس)، ثُمَّ يصيبه مطر؛ إذ تأْتي دعوة الله إليه بالنُّشور، فيحيا بعد الموت، فينبت بعد اليَبَس.

وجاء هذا الفعل (نشر) مرَّتین في الخطبة، كان في المرَّة الأُولى بمعنى التَّفريق، والبسط، والتَّشعيب، وهو عاشر الأَفعال الَّتي أَوردها أَمیر المؤمنین (عليه السلام) في بيان ما يحصل على الإنسان الميِّت في المغتسل بعد موته، فبعد أَنْ تُغمض عيناه، وتُمدَّ يداه ورجاه، ويُوجَّه إلى القبلة، ويجُرَّد من ثيابه، ويُغسَّل، ويُنِشَّف، ويُرجع به إلى حال السُّكون، ويُفتح له كفنه بعد أَنْ كان معقوداً، وتُرتَّب قطعه الثَّلاث؛ لِتُنشرَعليه، أَيْ تُفرَّق على جسده، وتُشعَّب، وتُبسط؛ حتَّى تكون مستولية على جسده كُلِّه، فالمئزرما بین الشرُّة والرُّكبة، والقميص من المنكبین إلى نصف السَّاق، والإزار يُغطِّي تمام البدن، فقال (عليه السلام): «وغُمِّضَ ومُدِّدَ، وَوُجِّهَ وَجُرِّدَ، وَغُسِّلَ وَنُشِّفَ، وسُجِّيَ وَبُسِطَ لَهُ، وَهُيِّءَ وَنُشِرعَلَيْهِ كَفَنُهُ، وَشُدَّ مِنْهُ ذَقْنُهُ، وَقُمِّصَ وعُمِّمَ، وَلُفَّ).

وما قيل في الفعل (جذبت نفسه) يقال هنا - مع الفعل - (نُشرِ) في بنائه للمجهول؛ فقد بني للمجهول لأَمرين. أَحدهما: التَّركيز على الحدث، وهو بَسْطُ

ص: 219


1- ينظر: تهذيب اللغة: 4/ 96، ومعجم مقاييس اللغة: 5/ 344، ومفردات ألفاظ القرآن: 805، ولسان العرب: 5/ 206، والقاموس المحيط: 2/ 14، وتاج العروس: 1/ 3534
2- ينظر: المحيط في اللغة: 2/ 163

الكفنِ، وتفريقه، وتشعيبه على جسد الميِّت؛ ليكون مستولياً عليه. والآخر: أَنَّه لا بُدَّ من حصول هذه الحال بصرف النَّظر عمَّن سيقوم بها.

و(نُشرِ) فعل ماضٍ مبنيٌّ للمجهول، مبنيٌّ على الفتح، و(عليه) على: حرف جرٍّ، والهاء:ضمیر متَّصل مبنيٌّ على الكسر في محلِّ جرٍّ بحرف الجرِّ، والجارُّ والمجرور متعلِّقان بالفعل (نُشرِ)، و(كفنه) نائب فاعل مرفوع، وعلامة رفعه الضَّمَّة الظَّاهرة على آخره، وهو مضاف، والهاء: ضمیر متَّصل مبنيٌّ على الضَّمِّ في محلِّ جرٍّ بالإضافة، عائد إلى (مَنْ جذبت نفسه). وجملة (ونُشرِ عليه كفنه) معطوفة على جملة (وهُيِّء).

أَمَّا في المرَّة الثَّانية، فكان هذا الفعل (يُنْشرَ) بمعنى حياة الأَموات بعد الموت، وبعثهم من قبورهم للحساب، أَورده أَمیر المؤمنین (عليه السلام) في بيان حال الإنسان في النّشَر، وما بعد الموت، فقال (عليه السلام): «فَيُنْشرَ مِنْ قَبرْهِ حِینْ يُنْفَخَ فِی صُوْرٍ، وَيُدْعَى بِحَشرْ وَنُشُوْرٍ».

ولعلَّ من قمن القول إنَّ هذا الفعل (يُنْشرَ) جاء مبنيّاً للمجهول، وتقدَّم أَنَّ لحذف الفاعل، وإقامة المفعول مقامه معاني لفظيَّة ومعنويَّة ذكرها العلماء(1) ،ومنها: 1 - التّرَكيز على الحدث 2 - التَّعظيم. وكلاهما متحقِّق مع هذا الفعل؛ فأَمیرالمؤمنین (عليه السلام) اَراد أَنْ يركِّز على هذا الحدث، وهو: إحياء الميِّت بعد الموت، وبعثه للحساب، وأَراد في الوقت نفسه أَنْ يُعظِّم هذه العمليَّة، وما يحصل على الإنسان فيها من رعب وخوف وكشف، أَو يُعظِّم مَنْ يقوم بها من الملائكة.

(فَيُنْشرَ) الفاء: حرف عطف، و(يُنْشرَ) فعل مضارع مبنيٌّ للمجهول، مرفوع

ص: 220


1- ينظر: الفعل (جذبت) من الكتاب

وعلامة رفعه الضَّمَّة الظَّاهرة على آخره، ونائب الفاعل ضمیرمستترفيه جوازاً، عائد إلى (مَنْ جذبت نفسه)، و(من): حرف جرٍّ، و(قبره) اسم مجرور، وعلامة جرِّه الكسرة الظَّاهرة على آخره، وهو مضاف، والهاء: ضمیر متَّصل مبنيٌّ على الكسر في محلِّ جرٍّ بالإضافة، (ومن قبره) الجارُّ والمجرور متعلِّقان بالفعل (فُيْنشرَ). وجملة (فينشر من قبره) معطوفة على جملة (ويقيم من قبره)؛ إنْ كانت الفاء حرف عطف (فينشر).

* * *

شدَّ

تدلُّ مادَّة (شُدَّ) في اللُّغة على الإحكام، والقوَّة، والوثاق، والصَّلابة، وهي نقيض الحلِّ واللِّین. جاء في (العین): «الشَّدُّ: الصَّلابة، والقوَّة»(1) .

ويُقال: شَدَّهُ، أَيْ: أَوثقه، يشُدُّهُ ويَشِدُّه أَيضاً. وتقول: شدَّ الله مُلكَهُ وشدَّدَهُ، أَيْ: قوَّاه(2) .

وقال ابن فارس: «الشِّین والدَّال أَصل واحد يدلُّ على قوَّة في الشيَّء، وفروعه ترجع إليه، من ذلك: شدَدْتُ العقد شداً أَشُدُّهُ»(3).

والشَّدُّ: القوَّة. وشَدَّدْتُ فلاناً: قوَّيته، وشَدَّ الشَّء يَشُدُّه ويَشِدُّهُ(4).

ص: 221


1- العين: 1/ 496 و497
2- ينظر: تهذيب اللغة: 4/ 72والصحاح في اللغة: 1/ 349، ولسان العرب: 3/ 232، وتاج العروس: 2054 - 2058
3- معجم مقاييس اللغة: 3/ 139
4- ينظر: المحيط في اللغة: 2/ 150، ومفردات ألفاظ القرآن: 447و 448

والشَّدَّةُ: نقيض اللِّین، وكلُّ ما أُحكم فقد شُدَّ، وتشدَّد هو، وتشادَّ، وشيء شديد: مشتدٌّ قويٌّ(1).

وقال الزَّمخشريّ: «ومن المجاز: شدَّ الله تعالى أَسره، أَيْ: قوَّى إحكام خلقه...

شَدَّ أَزاره خلاف حَلَّ... رجل شديد وشديد القوى. وقوم شداد وأَشدَّاء. وشَدَّ العقدة فاشتدَّت (فَشُدُّوا الْوَثَاقَ)(2)، وشدَّه الله: قوَّاه يشُدُّه، فاشتدَّ، ويُقال: شدَّ الله منك، وهو شديد على قومه، وقد شدَّد عليهم، ومن شدَّد الله تعالى عليه»(3).

وشَدَّ الشيَّءُ يَشِدُّ من باب ضرب قوي؛ فهو شديد، وشَدَدْتُه شدّاً من بابقتل: أَوثقته(4) .

وبهذا المعنى جاء هذا الفعل (شُدَّ) مرَّةً واحدة في الخطبة، وهو حادي عشر الأَفعال الَّتي أَوردها أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) في بيان ما يحصل على الإنسان الميِّت في المغتسل بعد موته، إذ قال (عليه السلام): «وغُمِّضَ ومُدِّدَ، وَوُجِّهَ وَجُرِّدَ، وَغُسِّلَ وَنُشِّفَ، وسُجِّيَ وَبُسِطَ لَهُ، وَهُيِّءَ وَنُشِرعَلَيْهِ كَفَنُهُ، وَشُدَّ مِنْهُ ذَقْنُهُ، وَقُمِّصَ وعُمِّمَ، وَلُفَّ».

وسيأْتي مع الفعل (عُمِّم) أَنَّ الفقهاء ذكروا في رسائلهم العمليَّة في باب (تكفين الميِّت) أَنَّه يُستحبُّ في الكفن إضافة العمامة للرَّجل من قماش يُلَفُّ به رأْسه، ويُعل طرفاه تحت حنكه على صدره، فَيُجعل الطرَّف الأَيمن على الجهة اليسرى

ص: 222


1- ينظر: المحكم والمحيط الأعظم: 3/ 352
2- ينظر: المحكم والمحيط الأعظم: 3/ 352
3- أساس البلاغة: 1/ 7 و1/ 196 و1/ 238
4- ينظر: المصباح المنير: 4/ 461

من صدره، ويُعل الطَّرف الأَيسر على الجهة اليمنى من صدره(1).

وجاء هذا الفعل (شُدّ) في الخطبة مبنيّاً للمجهول؛ للتَّركيزعلى الحدث، وهو شَدُّ الذَّقن بطَرَفَ العمامة، وللجهل بَمَنْ سيقوم بذلك.

و(شُدَّ) فعل ماضٍ مبنيٌّ للمجهول، مبنيٌّ على الفتح، و(منه) من: حرف جرٍّ، والهاء: ضمیر متَّصل مبنيٌّ على الضَّمِّ في محلِّ جرٍّ بحرف الجرِّ، والجارُّ والمجرورمتعلِّقان بالفعل (شُدَّ)، و(ذقنه) نائب فاعل مرفوع، وعلامة رفعه الضَّمَّة الظَّاهرة على آخره، وهو مضاف، والهاء ضمیر متَّصل مبنيٌّ على الضَّمِّ في محلِّ جرٍّ بالإضافة، عائد إلى (مَنْ جذبت نفسه). وجملة (وشُدَّ منه ذقنه) معطوفة على جملة (ونُشرِعليه كفنه).

* * *

قُمِّصَ

قال ابن فارس: «القاف والميم والصَّاد أَصلان: أَحدهما يدلُّ على لُبْسِ شيء والإنشيام فيه، والآخر: على نَزْوِ شيء وحركة.

فالأَول: القميص للإنسان معروف. يُقال: تقمَّصه، إذا لَبِسه، ثُمَّ يُستعار ذلك في كلِّ شيء دخل فيه الإنسان، فيُقال: تقمَّص الإمارة، وتقمَّص الولاية. وجَمعُ القميص أَقمصة، وقُمُص»(2).

ص: 223


1- ينظر: منهاج الصالحن (الخوئي): 78 و 79، وموجز الفتاوى المستنبطة (للغروي): 102، ومنهج الصالحن (للسيد الصدر): 73، وأحكام العبادات (للمدرسي): 137، وسبل السلام (لليعقوبي): 113
2- معجم مقاييس اللغة: 5/ 21. وينظر/:تهذيب اللغة: 3/ 161، والصحاح في اللغة: 2/ 95 ، ومفردات ألفاظ القرآن: 684، ولسان العرب: 7/ 82، وتاج العروس: 1/ 4520

والقميص: معروف، يُذًكَّر ويُؤنَّث. وتقمَّص قميصه: لَبِسَهُ، وقَمَّصَهُ تقميصاً أَلبسه قميصاً، فتقمَّص هو(1).

وجاء هذا الفعل (قُمِّص) مرَّةً واحدة في الخطبة بمعنى (لبس القميص)، وهو ثاني عشرالأَفعال الَّتي أَوردها أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) في بيان ما يحصل على الإنسان الميِّت في المغتسل بعد موته، إذ قال (عليه السلام): «وغُمِّضَ ومُدِّدَ، وَوُجِّهَ وَجُرِّدَ، وَغُسِّلَ وَنُشِّفَ، وسُجِّيَ وَبُسِطَ لَهُ، وَهُيِّءَ وَنُشِرعَلَيْهِ كَفَنُهُ، وَشُدَّ مِنْهُ ذَقْنُهُ، وَقُمِّصَ وعُمِّمَ، وَلُفَّ».

و(قُمِّص) مرحلة من مراحل عمليَّة نَشرِ الكفن على الميِّت واستيلائه عليه، وهي لبس القميص، والقميص هو القطعة الثَّانية من قطع الكفن الثَّلاث، وتكون ما بین المنكبین إلى نصف السَّاق - كما تقدَّم -(2) .

وجاء الفعل (قُمِّص) مبنيّاً للمجهول، وعلى زنة (فُعِّلَ). وبني للمجهول لأَمرين، أَحدهما: التَّركيز على الحدث، وهو لبس القميص من أَجزاء الكفن للميِّت، والآخر: اَنَّه لا يُعلَمُ مَنْ سَيُلْبسه تلك القطعة، إلاَّ أَنَّه أَمرٌ لابُدَّ منه.

أَمَّا مجيئه على زنة (فُعِّل)، فقد ذكر العلماء أَنَّ لهذه الصِّيغة معاني كثیرة(3) ،ومنها: الجَعْلُ، وهو معنىً متحقِّق في الفعل (قُمِّص)، أَيْ: جعل الميت مرتدياً قميصاً، أَيْ: أُلبس قميصاً.

و(قُمِّص) فعل ماضٍ مبنيٌّ للمجهول، مبنيٌّ على الفتح، ونائب الفاعل ضمیر مستتر فيه جوازاً، تقديره هو، عائد إلى (مَنْ جذبت نفسه). وجملة (وقُمِّص)

ص: 224


1- ينظر: المحيط في اللغة: 1/ 447، والمحكم والمحيط الأعظم: 2/ 500، والقاموس المحيط: 2/ 174
2- ينظر: الفعل (يُنشَ) من الكتاب
3- ينظر: الفعل (فرَّدته) من الكتاب

معطوفة على جملة (وشُدَّ منه ذقنه).

* * *

عُمِّم

جاء في (العین):«العمامة: معروفة، والجمع العَمائم، واعتمَّ الرَّجلُ، وهو حسن العِمَّة والاعِتمام»(1).

وقال الجوهريّ: «وعَمَّمْتُهُ: أَلبستُه العِمامة... واعتمَّ بالعمامة، وتَعمَّم بها بمعنى. وفلان حسن العِمَّة، اَيْ: حسن الاعتمام»(2).

وتطابقت دلالة الفعل (عُمِّمِ) في الخطبة مع دلالته اللُّغوية؛ إذ جاء مرَّةً واحدة، وهو ثالث عشر الأَفعال الَّتي أَوردها أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) في بيان ما يحصل على الإنسان الميِّت في المغتسل بعد موته، إذ قال (عليه السلام): «وغُمِّضَ ومُدِّدَ، وَوُجِّهَ وَجُرِّدَ، وَغُسِّلَ وَنُشِّفَ، وسُجِّيَ وَبُسِطَ لَهُ، وَهُيِّءَ وَنُشِرعَلَيْهِ كَفَنُهُ، وَشُدَّ مِنْهُ ذَقْنُهُ وَقُمِّصَ وعُمِّمَ، وَلُفَّ». وقد ذكرالفقهاء في رسائلهم العمليَّة في باب (تكفن الميِّت) أَنَّه يُستحبُّ في الكفن إضافة العمامة للرَّجل من قماش يُلَفُّ به رأْسه، ويُعل طرفاه تحت حنكه على صدره، فَيُجعل الطَّرف الأَيمن على الجهة اليسرى من صدره، ويُعجل الطَّرف الأَيسرعلى الجهة اليمنى من صدره(3).

ص: 225


1- العين: 1/ 13.وينظر: المحيط في اللغة: 1/ 5
2- الصحاح في اللغة: 1/ 497. وينظر: تهذيب اللغة: 1/ 24، ومعجم مقاييس اللغة: 4/ 10 - 14، ولسان العرب: 12/ 423، والقاموس المحيط: 3/ 263، وتاج العروس: 1/ 7830 -7831
3- ينظر: الفعل (قُمِّص) من الكتاب

وما قيل في الفعل (قُمّص) يقال هنا - مع الفعل - (عُمِّم) في بنائه للمجهول، ومجيئه على زنة (فُعِّل)؛ فجاء مبنيّاً للمجهول لأَمرين. أَحدهما: التَّركيزعلى الحدث، وهو تعميم الميِّت (الرَّجل) من القماش الَّذي يُلَفُّ به رأْسه، والآخر:

الجهل بِمَنْ سيقوم بلفِّ تلك العمامة.

أَمَّا مجيئه على زنة (فُعِّلَ)؛ فلأَنَّها تدلُّ على معانٍ كثیرة ذكرها العلماء(1)، ومنها: الجَعْلُ، وهو معنى وارد مع الفعل (عُمِّم)، أَيْ: جعل الميت معمَّاً.

و(عُمِّم) فعل ماضٍ مبنيٌّ للمجهول، مبنيٌّ على الفتح، ونائب الفاعل ضمیرمستتر فيه جوازاً، تقديره هو، عائد إلى (مَنْ جذبت نفسه). وجملة (وعُمِّم) معطوفة على جملة (وقُمِّص).

* * *

لُفَّ

تدلُّ مادَّة (لُفَّ) في اللُّغة على طوي الشيَّء، وجمعه، وضمِّه،وإدراجه، واللَّفُّ ضدُّ النَّشر. يُقال: لَفَّ الشيَّء يَلُفُّه لَفّاً، إذا خلطه وَطَواه(2).

ولَفَّهُ ضدُّ نَشرَهُ، والشيَّء بالشيَّء ضَمَّهُ إليه، ووصَلَه به. واللِّفَافَةُ بالكسر: ما يُلَفُّ على الرِّجل وغيرها، والأَلفاف الأَشجار الملتفَّة، والمِلَفُّ كمِقصّ: لحاف يُلتَفُّ به. ويُقال: تلفَّف الرَّجل بثوبه، والتفَّ به. ومنه لِفَافَةُ الرِّجل، والميِّت يُلَفُّ

ص: 226


1- ينظر: الفعل (فرَّدته) من الكتاب
2- ينظر: العین: 2/ 184 و 185، وجمهرة اللغة: 1/ 58، والصحاح في اللغة: 2/ 145، والمحيط في اللغة: 2/ 450، وأساس البلاغة: 1/ 436

في كفنه لَفّاً، إذا أُدرج فيه إدراجاً(1) .

وقال ابن فارس: «اللام والفاء أَصل صحيح يدلُّ على تلوَّي شيء على شيء. يُقال: لففْتُ الشيَّء بالشيَّء لَفَّاً. ولففتُ عمامتي على رأْسي. ويُقال: جاءَ القومُ ومَنْ لَفَّ لَفَّهم، أَيْ: مَنْ تأَثَّب إليهم، كأَنَّه التفَّ بهم»(2) .

وقال الرَّاغب: «قال تعالى: (فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآَخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا) [الإسراء/ 104] أَيْ: منضماَّ بعضكم إلى بعض. يُقال: لَفَفْتُ الشيَّء لَفًّا وجاءوا ومَنْ لَفَّ لِفَّهُم، أَيْ: مَن انضمَّ إليهم، وقوله: «وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا» [النبأ/ 16] أَيْ: التفَّ بعضها ببعض لكثرة الشَّجر... واللَّفيف من النَّاس: المجتمعون من قبائل شتَّى»(3) .

ويُقال: جاء القوم بلفَّتهم ولِفِّهم ولفيفتهم - أَيْ: بجماعتهم، ولفَّ الشيَّء يلفُّهُ لَفًّا جَمعَهُ، وقد التفَّ الشيَّء: تجمَّع وتكاثف، والتفَّ الشَّجرُ بالمكان: كثر وتضايق(4) .

وجاء هذا الفعل (لُفَّ) مرَّةً واحدة في الخطبة مطابقاً دلالته اللُّغوية، وهورابع عشر الأَفعال الَّتي أَوردها أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) في بيان ما يحصل على الإنسان الميِّت في المغتسل بعد موته، وآخرها، إذ قال (عليه السلام): «وغُمِّضَ ومُدِّدَ، وَوُجِّهَ وَجُرِّدَ، وَغُسِّلَ وَنُشِّفَ، وسُجِّيَ وَبُسِطَ لَهُ، وَهُيِّءَ وَنُشِرعَلَيْهِ كَفَنُهُ، وَشُدَّ مِنْهُ ذَقْنُهُ، وَقُمِّصَ وعُمِّمَ، وَلُفَّ».

ص: 227


1- ينظر: تذيب اللغة: 5/ 171،والقاموس المحيط: 2/ 429
2- معجم مقاييس اللغة: 5/ 166
3- مفردات ألفاظ القرآن: 743
4- ينظر: المخصص: 1/ 268، ولسان العرب: 9/ 317، وتاج العروس: 1/ 6121 و 6122

وقد ذكر الفقهاء في رسائلهم العمليَّة في باب (تكفين الميِّت) أَنَّه يُستحبُّ في الكفن إضافة اللُّفافة فوق الإزار يُلَفُّ بها تمام بدن الميِّت، والأَوْلَ كونها برداً يمانيًّا(1).

وما قيل في الفعل (جذبت نفسه) يقال هنا مع الفعل (لُفَّ) في بنائه للمجهول؛ فقد بني للمجهول لأَمرين. أَحدهما: التَّركيزعلى الحدث، وهو لَفُّ تمام بدن الميِّت بهذه اللُّفافة، والآخر: لا يُعْلَمُ مَنْ سيقوم بهذا اللَّفِّ.

و(لُفَّ) فعل ماضٍ مبنيٌّ للمجهول، مبنيٌّ على الفتح، ونائب الفاعل ضمیرمستتر فيه جوازاً، تقديره، هوعائد إلى (من جذبت نفسه)، و(جملة) (ولُفَّ) معطوفة على جملة (وعُمِّم).

ويبدو لي - والله أعلم - أَنَّ أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) إنَّما ذكرهذه الأَفعال الأَربعة، وهي: شَدُّ الذَّقن، والتَّقميص، والتَّعميم، واللَّفُّ؛ لما في ذلك من صورةتُبینِّ مدى الإحكام في التَّكفین، وفي مناطق مختلفة ورئيسة في جسده من الذَّقن، وأَعلى الرأْس، ووسط الجسم، ولفافة تغطِّي جسده كُلَّه، والحال الضَّعيفة الَّتي يكون فيها الميِّت بتلك الصُّورة، فضلاً عن حال الموت الَّتي هو فيها. وإلاَّ فما الحاجة من ذِكْرِ الفعل (قُمِّصَ) وهو موجود في الفعل (ويُنْرَ عليه كفنُه)؛ فهومن القطع الثَّلاث الَّتي تمَّ نشرها على جسد الميِّت.

* * *

وُدِّعَ

تدلُّ مادَّة (وُدِّع) في اللُّغة على الترَّك، والتَّخلية. جاء في (العین): «يُقال: وَدُعَ

ص: 228


1- ينظر: منهاج الصالحن (للخوئي): 81، وموجز الفتاوى المستنبطة (للغروي): 103،ومنهج الصالحن(للسيد الصدر):73،وأحكام العبادات(للمدرسي):138،وسبل السلام (لليعقوبي): 113

يَوْدُعُ دَعَةً، واتَّدعَ تُدَعَةً.... والتَّوديع: أَنْ تودِّع ثوباً في صوان، أَيْ: في موضع لا تصل إليه ريح، ولا غبار... والوَداع: توديعك أَخاك في المسیر، والوَداع: الترَّك والقِىَ، وهو توديع الفِراق، والمصدر توديع... وقوله تعالى (مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلىَ)(1) ، أَيْ: ماتركك. والمودوع: المُوَدَّع... والوديعة: ما تستودعه غیرَك ليحفظه»(2).

وقال ابن فارس: «الواو والدَّال والعین: أَصل واحد يدلُّ على الترَّك والتَّخلية.

وَدَعَه: تركه، ومنه: دَعْ... ومنه وَدَّعته توديعاً»(3).

والتَّوديع عند الرَّحيل. والاسم: الوَداعُ. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ - (مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ)(4)قال: ما تركك. وتوديع الثَّوب: أَنْ تجعله في صوان يصونه(5).

وقال الفيُّوميّ: «وَدَعْتُهُ أَدَعُهُ وَدْعاً، وأَصل المضارع الكسرُ، ومن ثمَّ حُذِفَت الواو، ثُمَّ فُتح لمكان حرف الحلق... الوَديعة فعيلة بمعنى مفعولة، وأَودعتُ زيداً مالاً دفعته؛ ليكون عنده وديعة، وجمعها ودائع)(6).

وتطابقت دلالة الفعل (وُدِّع) في الخطبة مع دلالته اللُّغوية؛ إذ جاء به أَمیر

ص: 229


1- الضحى: 3
2- العین: 1/ 132. وينظر: تهذيب اللغة: 1/ 353،ومفردات ألفاظ القرآن: 861،والمحكم والمحيط الأعظم: 1/ 320 و321، وأساس البلاغة: 2/ 12، ولسان العرب: 8/ 380،وتاج العروس: 1/5558 - 5592
3- معجم مقاييس اللغة: 6/ 71
4- الضحى: 3
5- ينظر: الصحاح في اللغة: 2/ 271
6- المصباح المنير: 10/ 295

المؤمنین (عليه السلام) مرَّةً واحدة، جاء فيها مبنيّاً للمجهول، إذ قال (عليه السلام): «وغُمِّضَ ومُدِّدَ، وَوُجِّهَ وَجُرِّدَ، وَغُسِّلَ وَنُشِّفَ، وسُجِّيَ وَبُسِطَ لَهُ، وَهُيِّءَ وَنُشِرعَلَيْهِ كَفَنُهُ، وَشُدَّ مِنْهُ ذَقْنُهُ، وَقُمِّصَ وعُمِّمَ، وَلُفَّ وَوُدِّعَ». فَيُترْك ذلك الإنسان الميِّت ويُخلىَّ ليُشَيَّع، بعد أَنْ يكون قد تمَّت جميع الأُمور المتعلِّقة بتجهيزه مِنْ غُسْلٍ وتكفین.

وقد ذكرالفقهاء في رسائلهم العمليَّة في باب (التَّشييع) أَنَّه يُستحبُّ إعلام المؤمنین بموت المؤمین لِتشييعِ جنازتِه، ويُستحبُّ لهم المبادرة إلى ذلك(1).

وقد جاء أَمیر المؤمنین (عليه السلام) بهذا الفعل (ودِّع) مبنيّاً للمجهول؛ للتَّركيز على الحدث، وهو تشييع ذلك الميِّت، هذا أَولاً، وثانياً: للجهل بمَنْ سيكون مشيِّعاً لذلك الميِّت.

و(ودِّع) فعل ماضٍ مبنيٌّ على الفتح، ونائب الفاعل ضمیرمستترفيه جوازاً تقديره هو، عائد إلى (من جذبت نفسه)، وجملة (ووُدِّع) معطوفة على جملة (وَلُفَّ).

* * *

سلِّمَ

تدلُّ مادَّة (سُلِّمَ) في اللُّغة على إلقاء الشيَّء، وتركه، وإيصاله، وتخليصه.

قال الأَزهريّ: «يُقال: فلان مسلم، وفيه قولان: أَحدهما هو المستسلم لأَمرالله، والثَّاني: هو المخلص لله العبادة، ومن قولهم: سَلَّم الشيَّء لفان، أَيْ: خلَّصه،

ص: 230


1- ينظر: منهاج الصالحن (للخوئي): 87، وموجز الفتاوى المستنبطة (للغروي): 103، ومنهج الصالحن (للسيد الصدر): 79، وأحكام العبادات (للمدرسي): 139، وسبل السلام (لليعقوبي): 120

وسَلَّم له الشيَّء، أَيْ: خلَّص له»(1).

والإسلام: الاستسلام لأَمر الله، والانقياد لطاعته. ويقولون: سَلَّمْنا لله ربِّنا، أَيْ: استسلمنا له وأَسلمنا. وأَسلمتُ فلاناً: خذلته، وأَسلمتُ إليه ثوباً، وسَلَّمْتُ له وإليه، وكلُّ تارك لشيء، فهم مُسْلِمٌ له. وأَسَلَم الرَّجلُ بعد جنونه: إذا ترك ما كان عليه من جنون الشَّباب(2).

وورد هذا الفعل (سُلِّمَ) مرَّةً واحدة في الخطبة مطابقاً دلالته اللُّغوية، جاء به أَمیر المؤمنین (عليه السلام) مبنيّاً للمجهول في بيان ما يحصل على الإنسان الميِّت بعد غسله، وتكفينه، وتشييعه، إذ قال (عليه السلام): «وغُمِّضَ ومُدِّدَ، وُجِّهَ وَجُرِّدَ، وَغُسِّلَ وَنُشِّفَ، وسُجِّيَ وَبُسِطَ لَهُ، وَهُيِّءَ وَنُشِرعَلَيْهِ كَفَنُهُ، وَشُدَّ مِنْهُ ذَقْنُهُ، وَقُمِّصَ وعُمِّمَ، وَلُفَّ وَوُدِّعَ وَسُلِّمَ). فيُسَلَّم، أَيْ: يُترك بعد أَنْ يُشَبَّع لِمنْ يَحملُه ليُصىَّ عليه.

ومجيء هذا الفعل (سُلِّمَ) في الخطبة مبنيّاً للمجهول لأَمرين. الأَوَّل: التَّركيزعلى الحدث، وهو تَرْكُ ذلك الإنسان بعد تشييعه لمَنْ يحمله، والثَّاني: الجهل بِمَنْ سيتركه، ويلقيه.

و(سُلِّمَ) فعل ماضٍ مبنيٌّ للمجهول، مبنيٌّ على الفتح، ونائب الفاعل ضمیر مستتر منه جوازاً، تقديره هو، عائد إلى (من جذبت نفسه). وجملة (وسُلِّمَ) معطوفة على جملة (وودِّع).

* * *

ص: 231


1- تهذيب اللغة: 4/ 292
2- ينظر: المحيط في اللغة: 2/ 265.وينظر: العین: 2/ 65، ومعجم مقاييس اللغة: 3/ 68، والصحاح في اللغة: 1/ 327 و 328،ولسان العرب: 12 / 289، والمصباح المنیر: 4/ 306

حُمِلَ

جاء في (العین): «حملَ يَحمِلُ حَملاً وحُملاناً... وتقول: إنِّ لأَحْملُه على أَمر فما يتحمَّل، وأُحَّملُه أَمراً فما يَتحَّمل، وإنَّه لَيحتَمِلُ الصَّنيعة والإحسان، وحَّملْتُ فلاناً فلاناً، وتحَمَّلتُ به عليه في الشَّفاعة والحاجة. وتحاملتُ في الشيَّء: إذا تكلَّفته على مشقَّة، واستحملْتُ فلاناً نفسي، أَيْ: حَّملْتُهُ أُموري وحوائجي... والحَمْلُ: ما في البطن، والحِمْلُ: ما على الظَّهر»(1).

وقال الجوهريّ: «حَملْتُ الشيَّء على ظهري أَحْملُهُ حَملاً... وحَملت المرأَة والشَّجر حَملاً... وقال ابن السِّكِّيت: الحَمْلُ ما كان في بطن أَوعلى رأْس شجرة. والحِمْلُ بالكسر: ما كان على ظهر أَو رأْس... واستحملته، أَيْ: سأَلته أَنْ يحملني. وحمَّلْتُه الرِّسالة، أَيْ: َلَّفته حَملَها....»(2).

وبهذا المعنى أَورد أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) هذا الفعل «حُملَ» مرَّةً واحدة في الخطبة، جاء به مبنيّاً للمجهول؛ إِذ قال (عليه السلام): «وغُمِّضَ ومُدِّدَ، وَوُجِّهَ وَجُرِّدَ، وَغُسِّلَ وَنُشِّفَ، وسُجِّيَ وَبُسِطَ لَهُ، وَهُيِّءَ وَنُشِرعَلَيْهِ كَفَنُهُ، وَشُدَّ مِنْهُ ذَقْنُهُ، وَقُمِّصَ وعُمِّمَ، وَلُفَّ وَوُدِّعَ وَسُلِّمَ،و َحُملَ فَوْقَ سَريْرٍ». فبعد أَنْ يُغسَّل الإنسان الميِّت، ويُكَفَّن، ويُشيَّع، ويُترك لِمنْ يحمله، يُمل فوق سرير؛ ليُصىَّ عليه - بعد ذلك -.

وأَتى أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) بالفعل «حُملَ» مبنيّاً للمجهول؛ للتَّركيز على الحدث، وهو حمْلُ ذلك الميِّتِ، هذا أَولاً، وللجهل بِمَنْ سيحمله ثانياً.

ص: 232


1- العین: 1/ 220.وينظر: جمهرة اللغة: 1/ 294، وتهذيب اللغة: 2/ 128- 130، ومعجم مقاييس اللغة: 2/ 84 و85، والمحيط في اللغة: 1/ 229، ومفردات ألفاظ القرآن: 257 و258، والمحكم والمحيط الأعظم: 2/ 43، ولسان العرب
2- الصحاح في اللغة: 1/ 147

و«حُملَ» فعل ماضٍ مبنيٌّ للمجهول، مبنيٌّ على الفتح، ونائب الفاعل ضمیر مستتر فيه جوازاً، تقديره هو، عائد إِلى «مَنْ جذبت نفسه». وجملة «وحُملَ فوق سرير» معطوفة على جملة

«وسُلِّم».

* * *

هُيِّءَ

تدلُّ مادَّة (هُيِّءَ) في اللُّغة على الأَخْذِ في الشيَّء، وتحضره، وإصلاحه. قال الأَزهريّ: «الهيئة للمتهيِّء في ملبسه، ونحوه، تقول: هَاءَ فانٌ يَهاءُ هيئةً»(1).

يُقال: هِئْتُ للأَمر أَهِيءُ هَيْئَةً، وتَهيَّأْتُ تَهيُّوءاً بمعنى. وهَيَّأَتُ الشيَّء:

أَصلحتُه(2). وهَاءَ يَاءُ هيئةً. والمُهَايَأَةُ: أَمرٌ يتهايَأُ القوم؛ فيتراضَون(3).

وقال ابن منظور: «الهَيئةُ والهِيئَةُ حالُ الشيَّء، وكيفيَّته، ورجل هيِّءٌ حَسَنُ الهيئة... وهَاءَ للأَمر يَاءُ ويَهيءُ ويتهيَّأُ: أَخذ له»(4).

وجاء هذا الفعل (هُيِّء) مرَّةً واحدة في الخطبة مطابقاً دلالته اللُّغوية، وهوتاسع الأَفعال الَّتي أَوردها أَمیر المؤمنین (عليه السلام) في بيان ما يحصل على الإنسان الميِّت في المغتسل بعد موته، فأَوَّل ما يكون أَنْ تُغمض عيناه،وتُمدَّ يداه ورجاه، ويُوجَّه إلى القبلة، ويُّجرد من ثيابه، ويُغسَّل، ويُنشَّف، ويُرجع به إلى حال السُّكون، ويُفتح له كفنه بعد أَنْ كان معقوداً، ثُمَّ (هيِّء)أَيْ: تُرتَّب قطع الكفن الثّلَاث، وهي: الإزار، والقميص، والمئز؛ لِتُنْشرَ عليه بعدها لِيستوليَ على جسد

ص: 216


1- تهذيب اللغة: 2 ، 389
2- ينظر: الصحاح في اللغة: 2/ 261
3- ينظر: العباب الزاخر: 1/ 56 و57
4- لسان العرب: 1/ 188. وينظر: العين: 1/ 285 ومفردات ألفاظ القرآن: 850

الميِّت كُلِّه، إذ قال (عليه السلام): «وغُمِّضَ ومُدِّدَ، وَوُجِّهَ وَجُرِّدَ، وَغُسِّلَ وَنُشِّفَ، وسُجِّيَ وَبُسِطَ لَهُ، وَهُيِّءَ وَنُشِرعَلَيْهِ كَفَنُهُ، وَشُدَّ مِنْهُ ذَقْنُهُ، وَقُمِّصَ وعُمِّمَ، وَلُفَّ».

وجدير بالذِّكرأَنَّ الفقهاء ذكروا في رسائلهم العمليَّة في (التَّكفن) أَنَّه يجب تكفین الميِّت بثلاثة أَثواب. الأَول: المئزر، ويجب أَنْ يكون ساتراً ما بین السرُّة والرُّكبة. والثَّاني: القميص، ويجب أَنْ يكون ساتراً مابین المنكبين إلى نصف السَّاق.

والثَّالث: الإزار: ويجب أَنْ يغطِّي تمام البدن(1) .

وما قيل في الفعل (جذبت نفسه) يقال - هنا - مع الفعل (هُيِّءَ) في بنائه للمجهول؛ فقد بني للمجهول لأَمرين. أَحدهما: التَّركيز على الحدث، وهو ترتيب قطع الكفن الثَّلاث، والآخر: أَنَّ التَّرتيب لهذه القطع حاصل ،وإنْ لم نعرف مَنْ سیرتِّبها.

و(هيِّء) فعل ماضٍ مبنيٌّ على الفتح، ونائب الفاعل ضمیرمستترفيه جوازاً، عائد إلى الكفن، وجملة (وهُيِّءَ) معطوفة على جملة (وبُسِطَ له).

* * *

صلِّي،صلَّتْ

اختلف اللُّغويُّون والمفسرِّون في الأَصل اللُّغوي للصَّلاة على أَقوال. فذهب بعضهم إِلى أَنَّها مشتقَّة من اللُّزوم، فذهب هؤلاء إلى أَنَّ الصَّلاة من أَعظم الفرائض الَّتي أَمر الله بلزومها، والحفاظ عليها؛ لهذا قال الزَّجَّاج: «وأَصل هذا عندي كلّه من اللُّزوم يُقال: صلىَّ وأَصلى واصطلى: إذا لزم»(2) . وذهب الطُّوسّي إلى أَنَّها مأْخوذة من معنى اللُّزوم؛ لأَنَّها من أَعظم ما يلتزم به(3) .

وذهب أَكثر اللُّغويین والمفسِّرين إلى أَنَّ أَصل الصَّلاة في اللُّغة: الدُّعاء(4)، فكأَنَّ الصَّلاة سمِّيت على هذا ببعض ما تتضمَّنه، أَيْ: بتسمية الكلِّ باسم الجزء، وهي من المجاز المرسل الَّذي علاقته الجزئيَّة(5) .

وذهب عدد من اللُّغويین والمفسِّرين إلى أَنَّ الصَّلاة مشتقَّة من (الصلْوَيْنِ)(6) ،

ص: 233


1- ينظر: منهاج الصالحن (للخوئي) 78، وموجز الفتاوى المستنبطة (للغروي): 100، ومنهج الصالحن (للسيد الصدر): 71، وأحكام العبادات: 145، وسبل السلام (لليعقوبي): 110
2- معاني القرآن وإعرابه: 1/ 251. وينظر: لسان العرب: 14 / 464
3- ينظر: التبيان في تفسير القرآن: 1/ 57
4- ينظر: تأويل مشكل القرآن: 460، والتبيان في تفسر القرآن: 1/ 57، وأحاديث التعبد النبوية في ضوء نظرية الحقول الدلالية (أطروحة دكتوراه):135
5- ينظر: مفردات ألفاظ القرآن: 490
6- ينظر: المصباح المنر: 1/ 271 ، وأحاديث التعبد النبوية في ضوء نظرية الحقول الدلالية (أطروحة دكتوراه): 137

وهو مثنى، مفرده: (الصّلا)، قال ابن دريد: «والصّلا: العظم الَّذي عليه الإليتان، وهو آخر ما يبلى من الإنسان في القبر»(1)، وذكرهؤلاء أَنَّ الصلاة مشتقَّة من الصلوين؛ لأَنَّ المصليِّ يرفعهما في سجوده وركوعه(2).

وذهب عدد من اللُّغويین والمفسِّرين إلى أَنَّ الصَّلاة مشتقَّة من الأَثر واللُّزوم، كالَّذي يلحظ في تسابق الخيل؛ إذ رأَى هؤلاء أَنَّ السَّابق فيها يتلو اللَّاحق، ويضع جحفلته - وهي للفرس كالشَّفة للإنسان - على صلا السَّابق، وبهذا يكون المصليِّ من الخيل الَّذي يتلو سابقه مباشرة(3).

وقيل إنَّها من الصِّلاء، وهو بكسر الصَّاد يقرأُ ممدوداً، وبفتحه يقرأُ الصَّلا مقصوراً، ومعنى الصِّلاء أَو الصَّلا: مقاساة حرِّ النَّار وإيقادها(4) . قال الرَّاغب:

«أَصل الصَّلاة من الصَّلى، قال: ومعنى: صلىَّ الرَّجل، أَيْ: إنَّه ذاد، وأَزال عن نفسه بهذه العبادة الصَّلىَ الَّذي هو نار الله الموقدة، وبناء (صلىّ)،كبناء (مرّض) لإزالة المرض)(5).

وذهب بعضهم إلى أَنَّها مشتقَّة من الصِّلة؛ لأَنَّها تصل الإنسان بخالقه، وتقرِّبُه من رحمته(6).

ص: 234


1- جمهرة اللغة: 3/ 88
2- ينظر: التبيان في تفسير القرآن: 1/ 194
3- ينظر: تهذيب اللغة: 4/ 230، ونظام الغريب في اللغة: 160
4- ينظر: مفردات ألفاظ القرآن: 490
5- ينظر: المصدر نفسه: 491
6- ينظر: روح الدين الإسامي: 21، وأحادي التعبد النبوية في ضوء نظرية الحقول الدلالية (أطروحة دكتوراه): 139

وقيل إنَّها مأْخوذة من كلمة (صَلُوتا) العبريَّة، ومعناها: مكان الصَّلاة(1) .

وقيل إنَّها لفظة بابليَّة، جعلت اسماً لعبادة معيَّنة في شريعة إبراهيم (عليه السلام)، ودخلت العربيَّة منذ هجرة إسماعيل (عليه السلام)(2) .

أَمَّا معنى الصَّلاة اصطلاحاً، فقد ذكر الطُّوسيّ: «أَنَّها في الشرَّع عبارة عن الرُّكوع والسُّجود على وجه مخصوص، وأَركان وأَذكار مخصوصة»(3) .وقال الرَّاغب: «والصَّلاة الَّتي هي العبادة المخصوصة، أَصلها الدُّعاء، وسمِّيت هذهالعبادة بها، كتسمية الشيَّء باسم بعض ما تتضمَّنه»(4) . وقال ابن الَأثیر: «وهي العبادة المخصوصة، وأَصلها في اللُّغة: الدُّعاء، فسمِّيت ببعض أَجزائها، وقيل: إنَّ أَصلها في اللُّغة: التَّعظيم، وسمِّيت العبادة المخصوصة صلاة؛ لما فيها من تعظيم الرَّب تعالى، وقوله في التَّشهُّد: الصَّلوات لله: أَيْ: الأَدعية التي يُراد بها تعظيم الله تعالى، وهو مستحقُّها لا تليق بأَحد سواه»(5) .

وقال الجرجانيّ: إنَّها «أَركان مخصوصة، وأَذكار معلومة بشرائط محصورة في أَوقات مقدَّرة»(6) .

وجاء هذا الفعل (صلىَّ) مرَّتین في الخطبة، أَورده أَمیر المؤمنین (عليه السلام) في المرَّة الأُولى في الصَّلاة على الميِّت؛ إذ قال (عليه السلام): «وغُمِّضَ ومُدِّدَ، وَوُجِّهَ

ص: 235


1- ينظر: فلسفة الصلاة: 28
2- ينظر: المصدر نفسه: 29
3- التبيان في تفسير القرآن: 1/ 57
4- مفردات ألفاظ القرآن: 491
5- النهاية في غريب الحديث والأثر: 3/ 95
6- التعريفات: 175

وَجُرِّدَ، وَغُسِّلَ وَنُشِّفَ، وسُجِّيَ وَبُسِطَ لَهُ، وَهُيِّءَ وَنُشِرعَلَيْهِ كَفَنُهُ، وَشُدَّ مِنْهُ ذَقْنُهُ، وَقُمِّصَ وعُمِّمَ، وَلُفَّ وَوُدِّعَ وَسُلِّمَ، وحُملَ فَوْقَ سَريْرٍ، وَصُليِّ عَلَيْهِ بِتَكْبِیرْ».

وذكر الفقهاء في رسائلهم العمليَّة في باب (الصَّاة على الميِّت) كيفيَّتها، وهي خمس تكبیرات: يُكبرِّ أَوَّلاً، ويتشهَّد الشَّهادتين بأَنْ يقول: أَشهد أَنْ لا إله إلاَّ الله، وأَشهد أَنَّ محمَّداً عبده ورسوله. ويكبرِّ ثانياً، ويُصيِّ على النَّبيِّ صَلىَّ اللهُ عَلِيهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ بأَنْ يقول: اللهمَّ صلِّ على محمَّد وآل محمَّد. ويكرَّ ثالثاً، ويدعو للمؤمنین والمؤمنات بأَنْ يقول: اللهمَّ اغفر للمؤمنین والمؤمنات. ويكبرِّ رابعاً، ويدعوللميِّت بأَنْ يقول: اللهمَّ اغفر لهذا الميِّت، ويكرِّ خامساً، وينصرف(1) .

وجيء بالفعل (صُليِّ) مبنيًّا للمجهول للتَّركيزعلى الحدث، وهو الصَّاة على الميِّت، والجهل بِمَنْ سيصلي على ذلك الميِّت.

و(صُليّ) فعل ماضٍ مبنيٌّ للمجهول، مبنيٌّ على الفتح، ونائب الفاعل ضمیر مستتر فيه جوازاً، و(عليه) على: حرف جرٍّ،والهاء: ضمیر متَّصل مبنيٌّ في محلِّ جرٍّ بحرف الجرِّ، والجارُّ والمجرورمتعلِّقان بالفعل (صُليِّ)، و(بتكبیر) الباء:

حرف جرٍّ، و(تكبیر) اسم مجرور، وعلامة جرِّه الكسرة الظَّاهرة على آخره، والجارُّ والمجرور متعلِّقان بالفعل (صُليِّ). وجملة (وصُيِّ عليه بتكبیر) معطوفة على جملة (وحُملَ فوق سرير).

أَمَّا في المرَّة الثَّانية، فقد أَورد أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) هذا الفعل (صَلَّتْ) في ختام الخطبة في الصَّاة على النَّبيِّ صَلىَّ اللهُ عَلِيهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ؛ إذ قال (عليه السلام): «ذلك قولٌ فَضْلٌ، وحُكْمٌ عَدْلٌ، خیرٌ قَصَصٍ قُصَّ، ووَعْظٍ نُصَّ، تَنْزِيْلٌ

ص: 236


1- ينظر: منهاج الصالحن (للخوئي): 83، وموجز الفتاوى المستنبطة (للغروي): 105، ومنهج الصالحن (للسيد الصدر): 75، وأحكام العبادات (للمدرسي): 14، وسبل السلام (لليعقوبي): 116

مِنْ حَكِيْمٍ حَميْدٍ، نَزَلَ بِهِ رُوْحُ قُدُسٍ مُبِنْین، عَلىَ قَلْبِ نَبِيٍّ مُهْتَدٍ مَكیِنْ، صَلَّتْ عَلَيْهِ رُسُلٌ سَفَرةٌ، مُكَرَّمُوْنَ بَرَرَةٌ».

وجدير بالذِّكر أَنَّ المفسّرِين واللُّغوين فسرَّوا دلالة الصَّلاة من الملائكة على النَّبيِّ صَلىَّ اللهُ عَلِيهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ بالدُّعاء، والاستغفار(1).

و(صَلَّتْ) فعل ماضٍ مبنيٌّ على الفتح، والتَّاء: تاء التَّأنيث، ضمیر متَّصل مبنيٌّ على السُّكون، لا محلَّ له من الإعراب، (وعليه) على: حرف جرٍّ، والهاء: ضمیر متَّصل مبنيٌّ في محلِّ جرٍّ بحرف الجرِّ، والجارُّ والمجرور متعلِّقان بالفعل (صَلَّتْ)، و(رُسُلٌ) فاعل مرفوع، وعلامة رفعه الضَّمَّة الظَّاهرة على آخره، و(سَفَرةٌ) صفة مرفوعة، وعلامة رفعها الضَّمَّة الظَّاهرة على آخرها.

* * *

نُقِلَ

تدلُّ مادَّة (نُقِلَ) في اللُّغة على تحويل الشيَّء من موضع إلى موضع. فالنَّقل:

تحويل الشيَّء إلى موضع. والنُّقْلَةُ: انتقال القوم من موضع إلى موضع. ويُقال: نَقَلَهُ يَنْقُلُهُ نَقْلاً فانتقل. والتَّنقُّل: التَّحوُّل. ونَقَّلَهُ تَنْقِيْلاً، إذا أَكْثَرَ نَقْلَهُ(2) .

وقال ابن فارس: «النُّون والقاف واللاَّم: أَصل صحيح يدلُّ على تحويل شيء من مكان إلى مكان، ثُمَّ يُفَرَّع ذلك. يُقال: نَقَلْتُه أَنْقُلُهُ نَقْلاً. ونَقَلَ الفرسُ قوائمه

ص: 237


1- ينظر: تأويل مشاكل القرآن: 460، ومعاني القرآن (للأخفش): 2/ 246، ومفردات ألفاظ القرآن: 490
2- ينظر: العین: 1/ 40، وتهذيب اللغة: 3/ 225، والصحاح في اللغة:2/ 229، والمحكم والمحيط الأعظم: 3/ 56، ولسان العرب: 11 / 674

نَقْلاً»(1).

وتطابقت دلالة الفعل (نُقِلَ) في الخطبة مع دلالته اللُّغوية؛ إذ جاء به أَمیر المؤمنین (عليه السلام) مرَّةً واحدة، جاء فيها مبنيّاً للمجهول، وهو يصف حال الإنسان بعد أَنْ يُصىَّ عليه صلاة الميِّت؛ فيتحوَّل من دار الدُّنيا إلى ضريح ملحود، فقال (عليه السلام): «ونُقِلَ مِنْ دُوْرٍ مُزَخْرَفَةٍ، وقُصُوْرٍمُشَيَّدَةٍ، وحُجُرٍ مُنَضَّدَةٍ، فَجُعِلَ فِی ضَريْحٍ مَلْحُوْدٍ، وَلْحدٍ ضَيِّقٍ مَرْصُوْصٍ، بِلِبْنٍ مَنْضُوْدٍ، مُسَقَّفٍ بِجُلْمُوْدٍ».

وأَورد أَمیر المؤمنین (عليه السلام) هذا الفعل (نُقِلَ) في الخطبة مبنيّاً للمجهول للَّتركيزعلى حَدَثِ نَقْلِ الإنسانِ من دار الدُّنيا إلى ضريح ملحود، وللجهل بَمنْ سيجعله في ذلك الضَّريح.

و(نُقِلَ) فعل ماضٍ مبنيٌّ للمجهول، مبنيٌّ على الفتح، ونائب الفاعل ضمیرمستتر فيه جوازاً، تقديره هو، عائد إلى (مَنْ جذبت نفسه)، و(من) حرف جرٍّ، و(دور) اسم مجرور، وعلامة جرِّه الكسرة الظَّاهرة على آخره، والجارُّ والمجرورمتعلِّقان بالفعل (نُقِلَ)، و(مُشيَّدة): صفة مجرورة، وعلامة جرِّها الكسرة الظَّاهرةعلى آخرها. وجملة (ونُقِلَ من دور مُشيَّدة) معطوفة على جملة (وصُيَّ عليه بتكبیر).

* * *

جُعِلَ

تدلُّ مادَّة (جُعِلَ) في اللُّغة على التَّصير، والصَّرورة، والصُّنع، والوضع،

ص: 238


1- معجم مقاييس اللغة: 5/ 372

وإلقاء الشيَّء وإنزاله. جاء في (العین): «جَعَلَ جَعْلاً: صَنَعَ صُنْعاً، وجَعَلَ أَعمُّ؛ لأَنَّك تقول: جَعَلَ يأْكل، وجَعَلَ يصنع كذا، ولا تقول: صَنَعَ يأْكُل»(1).

ويُقال: جعلتُ كذا أَجْعَلُهُ ومَجعَلاً. وجَعَلَهُ الله نبيَّاً، أَيْ: صیرَّهُ. والجُعْلُ بالضَّمِّ:

ما جُعل للإنسان من شيء على الشيَّء يفعله، وكذلك الجِعَالَةُ بالكسر والجَعيلة مثلُه. وأَجْعَلْتُ القِدْرَ، أَيْ: أَنزلْتُها بالجِعَال. واجتَعَلَ وجَعَلَ بمعنى(2) .

وقال ابن سيده: «جَعَلَ الشيَّء يَجعَلُهُ جَعْلاً، واجتعله، كلاهما: وَضَعَهُ... وجَعَلَهُ يَجعَلُهُ جَعْلاً: صَنَعَهُ. قال سيبويه: جعلتُ متاعك بعضه فوق بعض: أَلقيتُه... وجَعَلَ الطِّینَ خزفاً، والقبيحَ حسناً: صیرَّه إيَّاه»(3) .

وورد هذا الفعل (جُعِلَ) مطابقاً دلالته اللُّغوية في الخطبة، جاء به أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) مبنيَّاً للمجهول، في بيان حال الميِّت في القبر، فأَوَّل ما يُفْعَلُ به أَنَّه يُعل في ضريح ملحود، أَيْ: يُصرَّ، ويُوضع، ويُنزَل، ويُلقى في ضريح ملحود، فقال (عليه السلام): «فَجُعِلَ فِی ضَريْحٍ مَلْحُوْدٍ، وَلْحدٍ ضَيِّقٍ مَرْصُوْصٍ، بِلِبْنٍ مَنْضُوْدٍ، مُسَقَّفٍ بِجُلْمُوْدٍ».

وجاء أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) بهذا الفعل (جُعِلَ) في الخطبة مبنيّاً للمجهول؛ للتّركيزعلى الحدث، وهو جَعْلُ الإنسانِ الميِّتِ في ضريح ملحود، فضلاً عن الجهل بَمَنْ سيُلحدهُ في ذلك الضَّيح.

و(جُعِلَ) فعل ماضٍ مبنيٌّ للمجهول، مبنيٌّ على الفتح، ونائب الفاعل ضمیر

ص: 239


1- العين: 1/ 52
2- ينظر: تهذيب اللغة: 1/ 113، ومعجم مقاييس اللغة: 1/ 410، والصحاح في اللغة: 1/ 93، ومفردات ألفاظ القرآن: 196 و197، ولسان العرب: 11/ 110
3- المحكم والمحيط الأعظم: 1/ 113

مستتر فيه جوازاً، تقديره هو، عائد إلى (مَنْ جذبت نفسه)، و(في) حرف جرٍّ، و(ضريح) اسم مجرور، وعلامة جرِّه الكسرة الظَّاهرة على آخره، والجار والمجرور متعلِّقان بالفعل (جُعِلَ)، و(ملحود) صفة مجرورة، وعلامة جرِّها الكسرة الظَّاهرة على آخرها، وجملة (فَجُعِلَ في ضرعٍ ملحودٍ) معطوفة على جملة (ونُقِلَ من دور مزخرفة)، وقد تقدَّم أَنَّ العطف بالفاء يفيد التّرَتيب باتِّصال، أَيْ: با مهلة، وهوالمعبرَّعنه بالتَّعقيب، وكثیراً ما يقتي السَّبب إنْ كان المعطوف جملة(1)، وكذا هي الحال في الخطبة مع الفعل (فَجُعِلَ)؛ إذ قال أَمیرالمؤمنین (عليه السلام): «ونُقِلَ مِنْ دُوْرٍ مُزَخْرَفَةٍ... فَجُعِلَ فِی ضَرْیحٍ مَلْحُوْدٍ».

وممَّا تجدر الإشارة إليه أَنَّ الفقهاء ذكروا في رسائلهم العمليَّة أَنَّه يُستحبُّ حَفْرُ القبر قدر قامة، أَو إلى التُّرقوة، وأَنْ يُعل له لحدٌ ممَّا يلي القبلة في الأَرض الصُّلبة بقدرما يمكن الجلوس فيه، وتُسدَّ الفتحة، وفي الرَّخوة يُشَقُّ وسط القبرشبه النَّهر، ويُجعل فيه الميِّت، ويُسقَّف عليه، ثُمَّ يُهال الترُّاب، ويمكن جَعْلُ اللَّحد بطرائق أُخرى، منها: أَنْ تتثنَّى مسافة من قعرالحفیرة، وتُسقَّف، بعد جعل الميِّت على أَرضها، ومنها: أَنْ تُبنى حول الميِّت بعد وضعه على أَرض الحفیرة شبه الغرفة، وتُسقَّف، ويهال الترُّاب على المجال الباقي(2) .

* * *

هِيْلَ

تدلُّ مادَّة (هِيْلَ) في اللُّغة على جريان الشيَّء، ودفعه، وصبِّه، وإرساله. جاء في

ص: 240


1- ينظر: الفعل (عدل) من الكتاب
2- ينظر: منهاج الصالحن (للخوئي): 88 و89، وموجز الفتاوى المستنبطة (للغروي): 110 و111، ومنهج الصالحن (للسيد الصدر): 80، وسبل السام (لليعقوبي): 122

(العین): «الهائل من الرَّمل، لا يثبت مكانه حتَّى ينهال فيسقط، وهِلْتُهُ أُهِيْلُه فهو مَهيل، قال الله عَزَّوَجَلَّ: (وَكَانَتِ الِجبَالُ كَثِيبًا مَهِيلاً)(1)»(2).

وقال ابن فارس: «الهاء والياء واللام كلمة واحدة تدلُّ على دفع شيء يمكن كَيْلُه دفعاً من غیر كيل. وهِلْتُ الطَّعام أَهيلُه هَيْلاً: أَرسلتُه»(3) .

ويُقال: هِلْتُ الدَّقيق في الجراب: صَبَبْتُه من غير كَيْل، وكلُّ شيء أَرسلته إرسالاً، من رمل أَو تراب أَو طعام أَو نحوه، قلت: هِلْتُه أَهِيلُهُ هَيْلاً، فانهال، أَيْ: جرى، وانصبَّ. وتهيَّل: تصبَّبَ. وأَهَلْتُ الدَّقيق لغة في هِلْتُ، فهو مُهالٌ ومهيل(4).

وتطابقت دلالة الفعل(هِيْلَ)في الخطبة مع دلالته اللُّغوية؛إذ جاء مرَّةً واحدة مبنيّاً للمجهول،أَورده أَمیرالمؤمنین(عليه السلام)في بيان ما يجري على الميِّت بعد أَنْ يُعل في قبره،ويُسقَّف عليه،ثُمَّ يُال علية الترُّاب،إذ قال(عليه السلام):

«فَجُعِلَ فِی ضَريْحٍ مَلْحُوْدٍ، وَلْحدٍ ضَيِّقٍ مَرْصُوْصٍ، بِلِبْنٍ مَنْضُوْدٍ، مُسَقَّفٍ بِجُلْمُوْدٍ، وهِيْلَ عَلَيْهِ عَفْرُهُ». والعَفْرُ، أَو العَفَرُ: التُّاب، وقيل:ظاهر الترُّاب(5) .

وذكر الفقهاء في رسائلهم العمليَّة في (الدَّفن) أَنَّ الميِّت بعد أَنَّ يُوضع في قبره،

ص: 241


1- المزمل: 14
2- العين: 1/ 281. وينظر: المحيط في اللغة: 1/ 320
3- معجمم مقاييس اللغة: 6/ 19
4- ينظر: تهذيب اللغة: 2/ 368، والصحاح في اللغة: 2/ 262، ولسان العرب: 11/ 713،وتاج العروس: 1/ 7596
5- ينظر: العین: 1/ 110، ومعجم مقاييس اللغة: 4/ 94، والصحاح في اللغة: 1/ 92، والمحيط في اللغة: 1/ 92، ولسان العرب: 4/ 584، وتاج العروس: 1/ 3212 و3213

ويُسقَّف عليه، يُال عليه التراب(1) .

ومجيء أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) بالفعل مبنيّاً للمجهول؛ للتَّركيزعلى الحدث، وهو هَيْلُ الترُّاب على الميِّت، وللجهل بِمَنْ سيهيل عليه الترُّاب؛ إذ يُستحبُّ أَنْ يهيل عليه الحاضرون الترُّاب بظهورالأَكفِّ غیر ذي الرَّحم(2).

و(هيل) فعل مبنيٌّ للمجهول، مبنيٌّ على الفتح، و(عليه) على: حرف جرٍّ، والهاء: ضمیر متَّصل مبنيٌّ في محلِّ جرٍّ بحرف الجرِّ، والجارُّ والمجرور متعلِّقانب الفعل (هيل)، و(عفره) نائب فاعل مرفوع، وعلامة رفعه الضَّمَّة الظَّاهرة على آخره، وهو مضاف، والهاء: ضمیر متَّصل مبنيٌّ على الضَّمِّ في محلِّ جرٍّ بالإضافة.

وجملة (وهيل عليه عفره) معطوفة على جملة (فجعل في ضريح ملحود).

* * *

حُثِيَ

تدلُّ مادَّة (حُثِيَ) في اللُّغة على ذَرْوِ الشيَّء. يُقال: حَثَى في وجهه الترُّاب يَحثِي حَثْياً(3). وحَثَى الترُّابَ عليه يْحثُوْهُ ويْحثِيهِ حَثْواً وحَثْياً، فَحَثَا الرُّابُ نفسُهُ يَحثُو ويحثي. والحَثَى كالثَّرى: الترُّاب المحثوُّ. وأَرض حَثْواء: كثیرة الترُّاب(4).

وقال ابن فارس: «الحاء والثَّاء والحرف المعتلُّ يدلُّ على ذَرْوِالشيَّء

ص: 242


1- ينظر: منهاج الصالحن (للخوئي): 88، وموجز الفتاوى المستنبطة (للغروي): 111، ومنهج الصالحن (للسيد الصدر): 80، وسبل السلام (لليعقوبي): 122
2- ينظر: المصادر أنفسها: الصفحات أنفسها
3- ينظر: العين: 1/ 231، والمحيط في اللغة: 1/ 246
4- ينظر: تهذيب اللغة: 2/ 175، والمحكم والمحيط الأعظم: 2/ 66، ولسان العرب: 14/ 164، والقاموس المحيط: 2/ 408

الخفيف»(1).

وأَورد أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) هذا الفعل (حُثِيَ) مرَّةً واحدة في الخطبة مبنيَّاً للمجهول؛ لبيان ما يجري على الميِّت بعد أَنْ يُعل في ضريح ملحود، فَيُهال عليه عفره، ويُثى عليه مَدَرُهُ، فقال (عليه السلام): «فَجُعِلَ فِی ضَريْحٍ مَلْحُوْدٍ، وَلْحدٍ ضَيِّقٍ مَرْصُوْصٍ، بِلِبْنٍ مَنْضُوْدٍ، مُسَقَّفٍ بِجُلْمُوْدٍ، وهِيْلَ عَلَيْهِ عَفْرُهُ، وَحُثِيَ عَلَيْهِ مَدَرُهُ».

والمَدَرُ: هو قطع الطِّین اليابس المتماسك، وقيل: الطِّين العلك الَّذي لارمل فيه، وقيل طین متحبِّب(2)؛ ولذا أَحسب أَنَّ المقصود ب (حُثِيَ عليه مَدَرُهُ) أَحد أَمرين.

وهو إمَّا أَنْ يكون طمَّ القبر وتربيعه، وهو ما يكون بالطِّین اليابس المتماسك، والطِّین العلك، وهو ما ذكره الفقهاء في رسائلهم العمليَّة في باب (الدَّفن) بعد أَنْ يُعل الميِّت في قبره، ويسُقَّف عليه، ويُهال عليه الترُّاب، فيُطَمُّ القبر، ويُربَّع(3).

أَو أَنْ يكون المقصود به الطِّین الحاصل بعد رشِّ الماء على القبر بعد أَنْ يُطَمَّ، ويُربَّع؛ إذ ذكر الفقهاء في رسائلهم العمليَّة في باب (الدَّفن) أَنَّه يُستحبُّ بعد طَمِّ القبر، وتربيعه رشُّ الماء دوراً يستقبل القبلة، ويبدأُ من عند الرأْس، فإنْ فضل شيء، صُبَّ على وسطه(4) .

و(حُثِيَ) فعل ماضٍ مبنيٌّ للمجهول، مبنيٌّ على الفتح، و(عليه) على: حرف

ص: 243


1- معجم مقاييس اللغة: 2/ 110
2- ينظر: العين: 2/ 119 /ومعجم مقاييس اللغة: 5/ 245، وتاج العروس: 2/ 119
3- ينظر: منهاج الصالحن (للخوئي): 89، منهج الصالحن (للسيد الصدر): 81، وسبل السلام (لليعقوبي): 122
4- ينظر: المصادرأنفسها: الصفحات أنفسها

جرٍّ، والهاء: ضمیر متَّصل مبنيٌّ على الكسر في محلِّ جرٍّ بحرف الجرِّ، عائد إلى (مَنْ جذبت نفسه)، والجارُّ والمجرور متعلِّقان بالفعل (حُثِي)، و(مَدَرُهُ) نائب فاعل مرفوع، وعلامة رفعه الضَّمَّة الظَّاهرة على آخره، وهو مضاف، والهاء: ضمیرمتَّصل مبنيٌّ على الضَّمِّ في محلِّ جرٍّ بالإضافة، عائد إلى (من جذبت نفسه). وجملة (وحثي عليه مدرُه) معطوفة على جملة (وهيل عليه عفرهُ).

* * *

تحقَّقَ

تدلُّ مادَّة (تحقق) في اللُّغة على إحكام الشيَّء، وإحكام وقوعه، ومعرفة حقيقته، وصحَّة وقوعه، وتصديقه، وثباته، ووجوبه، والوقوف على حقيقته. جاء في (العین):«الحقُّ نقيض الباطل. حَقَّ الشيَّءُ يَحقُّ حَقّاً، أَيْ: وجب وجوباً...

والحقيقة: ما يصرإليه حقُّ الأَمر ووجوبه... والحاقَّة: النَّازلة الَّتي حقَّتْ؛ فلا كاذبة لها»(1).

ويُقال: حَقَقْتُ حِذْرَهُ أُحِقُّهُ، وأَحْقَقْتُه أَيضاً، إذا فعلت ما كان يحذرهُ. ويقال أَيضاً: حَقَقْتُ الرَّجل، وأَحْقَقْتُه، إذا أَثبتُّه، وتحقَّق عنده الخبر، أَيْ: صَحَّ. وحقَّقْتُ قولَهُ وظَنَّهُ تحقيقاً، أَيْ: صَدَّقت، وكلام محقَّقٌ، أَيْ: رصن، وثوب محقَّق، إذا كان محكم النَّسج، وطعنة محقَّقة، أَيْ: لا زيغ فيها وقد نَفَذَتْ. والقيامة سمِّيت حاقَّة؛ لأَنَّها تَحقُّ كلَّ إنسان بعمله من خیر وشرٍّ، وقيل: سمِّيت حاقَّة؛ لأَنَّ فيها حواقَّ الأُمور والثَّواب، وقيل: لأَنَّها تَحقُّ كلَّ محاقٍّ في دين الله بالباطل، أَيْ: كلّ مجادل ومخاصم فتحقُّهُ، أَيْ: تغلبه وتخصمُه، من قولك: حاققته أُحَاقُّه حِقاقاً ومحاقَّةً

ص: 244


1- العين: 1/ 162 و163

فحققته أُحِقُّهُ، أَيْ: غلبته وفلجت عليه(1) .

وقال الزَّمخشريّ: «حقَّ اللهُ الأَمرَحقًّا: أَثبته وأَوجبه... وحققته الأَمروأَحققته: كنت على يقین منه. وحققت الخبر فأَنا أُحِقُّه: وقفتُ على حقيقته. ويقول الرَّجل لأَصحابه إذا بلغهم خبر فلم يستيقنوه: أَنا أُحِقُّ لكم هذا الخبر، أَيْ: أُعلمه لكم، وأَعرف حقيقته... ويوم القيامة تكون حواقُّ الأُمور... وتحقَّقت الأَمر، وعرَّفت حقيقته، ووقفت على حقائق الأُمور. وأَحققت عليه القضاء: أَوجبته. وأَحققت حذره، وحققته إذا فعلت ما كان يحذر...»(2) .

وبهذا المعنى أَورد أَمیرالمؤمنن (عليه السلام) هذا الفعل (تحقَّق) مرَّةً واحدة في الخطبة في بيان حال الإنسان بعد أَنْ يُوضع في قبره، فقال (عليه السلام): «فَجُعِلَ فِی ضَريْحٍ مَلْحُوْدٍ، وَلْحدٍ ضَيِّقٍ مَرْصُوْصٍ، بِلِبْنٍ مَنْضُوْدٍ، مُسَقَّفٍ بِجُلْمُوْدٍ، وهِيْلَ عَلَيْهِ عَفْرُهُ، وَحُثِيَ عَلَيْهِ مَدَرُهُ، فَتَحقَّقَ حِذْرُهُ».ف (تحقَّق حذره) بمعنى: تحقَّق ما يخافه أَو يحذره، أَيْ: أُحكم، وعرفه معرفة حقيقيَّة، وصحَّ وقوعه، وصدَّقه، وثبت ذلك، وكان واجباً، ووقف عى حقيقته.

و(فتحقَّق) الفاء: حرف عطف، و (تحقَّق) فعل ماضٍ مبنيٌّ على الفتح، و(حذره) فاعل مرفوع، وعلامة رفعه الضَّمَّة الظَّاهرة على آخره، وهو مضاف، والهاء: ضمیرمتَّصل مبنيٌّ على الضَّمِّ في محلِّ جرٍّ بالإضافة، عائد إلى (مَنْ جذبت نفسه). وجملة (فتحقق حذره) معطوفة على جملة (وحتى عليه مدرُهُ).

ص: 245


1- ينظر: تهذيب اللغة: 1/ 415 - 418، والصحاح في اللغة: 1/ 138 و139، والمحكم والمحيط الأعظم: 1/ 368 - 371، ولسان العرب: 10 / 49،والمصباح المنیر: 2/ 427، والقاموس المحيط: -1130/1-1131، وتاج العروس: 1/ 6250 - 6258
2- أساس البلاغة: 1/ 93

ولعلَّ في قول أَمیرالمؤمنین (عليه السلام): «فتحقَّق حذره»تضميناً لقوله - تبارك وتعالى -: (وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الَموْتِ بِالَحقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحيدُ)(1).

* * *

نُسيَ

تدلُّ مادَّة (نُسيِ) في اللُّغة على ترك الشيَّء، وإغفاله، والنِّسيان، وهي خلاف الذِّكر الحفظ. جاء في (العین): «نَسيِ فلان شيئاً كان يذكره، وإنَّه لَنَسيِّ، أَيْ: كثیرالنِّسيان، من قوله - جلَّ وعزَّ-: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا)(2). والنَّسيُّ: الشيَّء المَنْسيُّ الَّذي لا يذكر... ونَسِيْتُ الحديث نسياً. ويُقال: أَنْسَيْتُ إنساءً، ونَسِيْتُ أَجود؛ قال الله تعالى: (فَإِنِّي نَسِيتُ الُحوتَ)(3)، ولم يقل: أَنسيتُ...»(4).

وقال ابن فارس: «النُّون والسّیِن والياء أَصان صحيحان: يدلُّ أَحدهما على إغفال الشيَّء، والثَّاني: على ترك شيء. فالأَوَّل نَسِيْتُ الشيَّء، إذا لم تذكره نِسياناً»(5).

وقال الجوهريّ: «والنِّسيان: خلاف الذِّكر والحفظ... وقد نَسِيْتُ الشيَّء نسياناً... وأَنسانيه الله ونسَّانيه تَنْسِيَةً بمعنى. وتناساه: أَرى من نفسه أَنَّه نَسِيَهُ.

ص: 246


1- ق: 19
2- مريم: 64
3- الكهف: 63
4- العین: 2/ 74. وينظر: المحيط في اللغة: 2/ 278، والمصباح المنیر: 9/ 287، والقاموس المحيط: 480/3
5- معجم مقاييس اللغة: 5/ 337

والنِّسيان: الترَّك، قال الله تعالى: (نَسُوا اللَّه فَنَسِيَهُمْ)(1) ،وقال تعالى: (وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ(2)»(3).

وتطابقت دلالة الفعل (نُسيِ) في الخطبة مع دلالة اللُّغوية؛ إذ جاء به أَمیر المؤمنین (عليه السلام) مرَّةً واحدة في بيان حال الإنسان الميِّت بعد أَنْ يُوضع في قبره، فقال (عليه السلام): «فَجُعِلَ فِی ضَريْحٍ مَلْحُوْدٍ، وَلْحدٍ ضَيِّقٍ مَرْصُوْصٍ، بِلِبْنٍ مَنْضُوْدٍ، مُسَقَّفٍ بِجُلْمُوْدٍ، وهِيْلَ عَلَيْهِ عَفْرُهُ، وَحُثِيَ عَلَيْهِ مَدَرُهُ، فَتَحقَّقَ حِذْرُهُ، وَنُسيِ خَبرَهُ).

و(نُسيِ) فعل ماضٍ مبنيٌّ للمجهول، مبنيٌّ على الفتح، و(خبره) نائب فاعل مرفوع، وعلامة رفعه الضَّمَّة الظَّاهرة على آخره، وهو مضاف، والباء: ضمیر متَّصل مبنيٌّ على الضَّمِّ في محلِّ جرٍّ بالإضافة، عائد إلى (من جذبت نفسه)، وجملة (ونُسي خبره) معطوفة على جملة (فتحقَّق حذرهُ).

* * *

رَجَعَ

تدلُّ مادَّة (رجع) في اللُّغة على الرَّدِّ، والعودة، والانصراف. جاء في (العین):

«رجعت رجوعاً ورجعته يستوي فيه اللاَّزم والمجاوز. والرَّجعة المرَّة الواحدة...

ورَجْعُ الجواب: ردُّه. ورَجْعُ الرَّشق من الرَّمي: ما يردُّ عليه. والمرجوعة: جواب الرِّسالة... والارتجاع أَنْ ترتجع شيئاً بعد أَنْ تُعطي... وكلام رجيع: مردود إلى

ص: 247


1- التوبة: 67
2- البقرة: 237
3- الصحاح في اللغة: 2/ 207. وينظر: تهذيب اللغة: 4/ 32، ومفردات ألفاظ القرآن: 803 و 804، ولسان العرب: 15/ 321، وتاج العروس:1 / 8622 و8623

صاحبه»(1).

ويُقال: رَجَعَ يرجَعُ رَجْعاً، ورجوعاً، ورُجْعَى، ورُجْعَاناً، ومَرْجِعاً، ومَرجعَة: انصرف(2).

وأَبان أَبو هال العسكريّ (الرُّجوع) حین فرَّق بينه وبین (الإيَّاب) بقوله: «إنَّ الإيَّاب هو الرُّجوع إلى منتهى القصد. والرُّجوع يكون لذلك ولغیره، أَلا ترى أَنَّه يُقال: رجع إلى بعض الطَّريق، ولا يُقال: آب إلى بعض الطَّريق»(3).

وأَبان (المرجع) حین فرَّق بينه وبین (المصیر) بقوله: «إنَّ المرجع: انقلاب الشيَّء إلى حال قد كان عليها، والمصر انقلاب الشيَّء إلى خلاف الحال الَّتي هو عليها، نحو: مصیر الطِّین خزفاً، ولا يُقال: رجع الطِّین خزفاً؛ لأَنَّه لم يكن قبل خزفاً»(4).

وعرَّف القاضي الجرجانيّ (الرُّجوع) بقوله: «حركة واحدة في سمت واحد، لكن على مسافة حركة هي مثل الأُولى بعينها، بخاف الانعطاف»(5).

وجاء هذا الفعل (رجع) في الخطبة مرَّةً واحدة مطابقاً دلالته اللُّغوية، أَورده أَمیر المؤمنین (عليه السلام) لبيان حال مَنْ كان مع ذلك الميِّت بعد أَنْ يُعل في

ص: 248


1- العین: 1/ 51.وينظر: جمهرة اللغة: 1/ 226، وتهذيب اللغة: 1/ 110، ومعجم مقاييس اللغة: 407/2، والصحاح في اللغة: 1/ 244، ومفردات ألفاظ القرآن: 342 - 345،والمخصص: 1/ 173، وأساس البلاغة: 1/ 160، ولسان العرب: 8/ 114
2- ينظر: المحكم والمحيط الأعظم: 1/ 109
3- الفروق اللغوية: 87
4- التعريفات: 1/ 36
5- المصدر نفسه: 88

ضريح ملحود، ويُهال عليه عفره، ويُحثى عليه مدره، يَرجع عنه وليُّه ونَسِيْبُهُ، إذ قال (عليه السلام): «فَجُعِلَ فِی ضَريْحٍ مَلْحُوْدٍ، وَلْحدٍ ضَيِّقٍ مَرْصُوْصٍ، بِلِبْنٍ مَنْضُوْدٍ، مُسَقَّفٍ بِجُلْمُوْدٍ، وهِيْلَ عَلَيْهِ عَفْرُهُ، وَحُثِيَ عَلَيْهِ مَدَرُهُ، فَتَحقَّقَ حِذْرُهُ، وَنُسيِ خَبرَهُ، وَرَجَعَ عَنْهُ وَلِيُّهُ وَنَسِيْبُهُ). أَيْ: ردَّ، وعاد، وانصرف.

و(رجع) فعل ماضٍ مبنيٌّ على الفتح، و(عنه) عن: حرف جرٍّ، والهاء: ضمیر متَّصل مبنيٌّ على الضَّمِّ في محلِّ جرٍّ بحرف الجرِّ، والجارُّ والمجرورمتعلِّقان بالفعل (رجع)، و(وليه) فاعل مرفوع، وعلامة رفعه الضَّمَّة الظَّاهرة على آخره، وهومضاف، والهاء: ضمیر متَّصل مبنيٌّ على الضَّمِّ في محلِّ جرٍّ بالإضافة، و (نسيبهُ) الواو: حرف عطف، و(نسيبه) اسم معطوف مرفوع، وعلامة رفعه الضَّمَّة الظَّاهرة على آخره، وهو مضاف، والهاء: ضمیر متَّصل مبنيٌّ على الضَّمِّ في محلِّ جرٍّ بالإضافة. وجملة (ورجع عنه وليه ونسيه) معطوفة على جملة (ونُسيِ خبرُه).

* * *

تبدَّل

تدلُّ مادَّة (تبدَّل) في اللُّغة على التَّغير، وتَنحيةِ الشيَّء وجَعْلِ شيءٍ آخر مكانه.

جاء في (العین): «البَدَل: خَلَفٌ من الشيَّء، والتَّبديل: التَّغير. واستبدلت ثوباً مكان ثوب، وأَخاً مكان أَخ، ونحو ذلك المبادلة»(1).

وقال ابن فارس:«الباء والدَّال والاَّم أَصل واحد، وهو قيام الشيَّء مقام الشيَّء الذَّاهب. يُقال: هذا بدلُ الشيَّء وبديلُه. ويقولون: بدَّلت الشيَّء إذا غيَّرته

ص: 249


1- العین: 2/ 120. وينظر:جمهرة اللغة: 1/ 129، وتهذيب اللغة: 4/ 460، والصحاح في اللغة: 35/1، والمحيط في اللغة: 2/ 350، والمخصص: 3/ 26،والقاموس المحيط: 3/ 54

وإنْ لم تأْتِ له ببدل... وأَبدلته، إذا أَتيت له ببدل»(1).

ويُقال:أَبدله بخوفه أَمناً وبدَّله مثله. وبدَّل الشيَّء: غیرَّه. وتبدَّلت الدَّار بأُنسها وحشاً. واستبدلته وبادلته السِّلعة إذا أَعطيته شروى ما أَخذته منه. وتبادلا ثوبيها.وهذا بدل منه، وبديل منه(2).

وقال ابن منظور: «بدلُ الشيَّء: غَیرْهُ... بِدْلُ الشيَّء بَدَلُه وبَديلُه الخَلَف منه والجمع أَبدال... وتبدَّل الشيَّء وتبدَّل به واستبدله واستبدل به كلُه اتَّخذ منه بدلاً. وأَبدلَ الشيَّء من الشيَّء وبدَّله تَخذَهُ منه بدلاً، وأَبدلت الشيَّء بغیره، وبدَّله الله من الخوف أَمناً، وتبديل الشيَّء: تغيره، وإنْ لم تأتِ ببدل، واستبدل الشيَّء بغیره، وتبدَّله به: إذا أَخذه مكانه، والمبادلة التَّبادل. والأَصل في التَّبديل تغيیر الشيَّء عن حاله، والأَصل في الإبدال جعل شيء مكان شيء آخر... يقال أَبدلت الخاتم بالحلقة، إذا نحَّيت هذا وجعلت هذا مكانه، وبدَّلت الخاتم بالحلقة، إذا أَذبته وسوَّيته حلقة، وبدَّلت الحلقة بالخاتم، إذا أَذبتها وجعلتها خاتماً... وحقيقته أَنَّ التَّبديل تغيیرالصُّورة إلى صورة أُخرى»(3).

وقال الفيُّوميّ: «البَدَلُ بفتحتین والبِدْل بالكسر والبديل كلُّها بمعنى...

وأَبدلته بكذا إبدالاً نحَّيت الأَوَّل وجعلت الثَّاني مكانه، وبدَّلت تبديلاً بمعنى غیرَّت صوَّرته تغییراً... وبدَّلت الثَّوب بغیره أَبدله من باب قتل، واستبدلته بغیره بمعناه، وهي المبادلة أَيضاً»(4) .

ص: 250


1- معجم مقاييس اللغة: 1/ 302. وينظر: مفردات ألفاظ القرآن: 111 و112
2- ينظر: أساس البلاغة: 1/ 19
3- لسان العرب: 11/ 48.وينظر: تاج العروس: 1/ 6868 - 6870
4- المصباح المنير:1/ 223

وفرَّق أَبو هال العسكريّ بین (التَّبديل) و(الإبدال) بقوله: «الفرق بین التَّبديل والإبدال. قال الفرَّاء: التَّبديل تغير الشيَّء عن حاله، والإبدال جعل الشيَّء مكان الشيَّء... قيل: هما بمعنى. وقيل: التَّبديل تغیير حال إلى حال آخر، يُقال: بدَّل صورته. والإبدال: رفع الشيَّء بأَنْ يُعل غره مكانه. وقال بعضهم:

التَّبديل هو التَّغیير، يُقال: أَبدلت الشيَّء بالشيَّء، إذا أَبدلت عيناً بعین... وبدَّلت بالتَّشديد: إذا غیرَّت هيئته، والعین واحد، يقولون: بدَّلت جبَّتي قميصاً، أَيْ: جعلتها قميصاً... وقد يكون التَّبديل بأَنْ يُوضع غره موضعه»(1).

وتطابقت دلالة الفعل (تبدَّل) في الخطبة مع دلالته اللُّغوية؛ إذ جاء به أَمیر المؤمنین (عليه السلام) مرَّةً واحدة لبيان حال زوج ذلك الميِّت بعد أَنْ يُوضع في قبره، ويُهال عليه عفره، ويُثى عليه مدره، فَيبدأ بإيجاد بديل عنه، إذ قال (عليه السلام): «فَجُعِلَ فِی ضَريْحٍ مَلْحُوْدٍ، وَلْمدٍ ضَيِّقٍ مَرْصُوْصٍ، بِلِبْنٍ مَنْضُوْدٍ، مُسَقَّفٍ بِجُلْمُوْدٍ، وهِيْلَ عَلَيْهِ عَفْرُهُ، وَحُثِيَ عَلَيْهِ مَدَرُهُ، فَتَحقَّقَ حِذْرُهُ، وَنُسيِ خَبرَهُ، وَرَجَعَ عَنْهُ وَلِيُّهُ وَنَسِيْبُهُ، وَتَبَدَّلَ بِهِ قَرِيْبُهُ وَحَبِيْبُهُ، وَصَفِيُّهُ وَنَدِيْمُهُ»؛ لأَنَّه «حَشْوُ قَبرْ، وَرَهِینْ قَفْرٍ». وتقدَّم أَنَّ العطف بالفاء يفيد التّرَتيب باتِّصال، وكثیراًما يقتي السَّبب إنْ كان المعطوف جملة(2)، كما هي الحال في قوله (عليه السلام):«حَشْوُ قَبْر، وَرَهِيْن قَفْرٍ».

وجدير بالذِّكر أَنَّ زنة (تفعَّل) تدلُّ على معانٍ ذكرها العلماء، منها: (الاتِّخاذ) نحو: توسَّدته، أَيْ: اتَّذته وسادة(3) ، وقال أَمیر المؤمنین (عليه السلام): «وَتَبَدَّلَ بِهِ قَرِيْبُهُ وًحَبِيْبُهُ»، أَيْ: اتَّخذ قريباً وحبيباً بدياً عنه؛ لأَنَّه حشو قبر،ورهین قفر.

ص: 251


1- الفروق اللغوية: 1/ 79
2- ينظر: الفعل (عدل) من الكتاب
3- ينظر: أوزان الفعل ومعانيها: 95، وتصريف الأفعال والمصادر والمشتقات:133

و(تبدَّل) فعل ماضٍ مبنيٌّ على الفتح، و(به) الباء: حرف جرٍّ، والهاء ضمیرمتَّصل مبنيٌّ على الكسر في محلِّ جرٍّ بحرف الجرِّ، والجارُّ والمجرورمتعلِّقان بالفعل (تبدّل)، و(قريبه) فاعل مرفوع، وعلامة رفعه الضَّمَّة الظَّاهرة على آخره، وهو مضاف، والهاء: ضمیر متَّصل مبنيٌّ على في محلِّ جرٍّ بالإضافة، و(حبيبه) الواو:

حرف عطف، و(حبيبه) اسم معطوف مرفوع، وعلامة رفعه الضَّمَّة الظَّاهرة على آخره، وهو مضاف، والهاء: ضمیر متَّصل مبنيٌّ على الضَّمِّ في محلِّ جرٍّ بالإضافة.

وجملة (وتبدل به قريبه وحبيبه) معطوفة على جملة (ورجع عنه وليّه ونسيبه).

ومن قمین القول إنَّ أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) استعمل أَفعالاً ماضية لوصف حال الإنسان منذ بداية احتضاره، وما يجري عليه في الغسل، والتَّكفین، والتَّشييع، والدَّفن، والصَّلاة، وجعله في قبره، ونسيان خبره، ورجوع وليِّه ونسيبه، وتبدُّل زوجه به غیره، وإنْ كانت هذه الأَفعال ستحصل في المستقبل؛ فالإنسان لميُترَ بعدُ، ولكنَّ أَمیر المؤمنین (عليه السلام) جاء بها بلفظ الماضي؛ لما في فعل المضيِّ من دلالة على النَّفاذ في الأَمر، والفراغ منه(1). ويريد أَنْ يقول أَمیر المؤمنین (عليه السلام) إنَّ هذه الأَفعال وإنْ لم تحصل بعد، إلاَّ أَنَّها حاصلة لا محالة، وهي أُمورمفروغ من وقوعها.من هذا نفهم دقَّة استعمال أَمیر المؤمنین (عليه السلام) زمن الأَفعال بما يتناسب ومعانيها؛ إذ قال (عليه السلام): «ثُمَّ قيلَ هُوَ مَوْعُوكٌ وَجِسْمُهُ مَنْهوُكٌ، ثُمَّ جَدَّ في نَزْعٍ شَديدٍ، وَحضرَهُ كُلُّ قَريبٍ وَبَعيدٍ، فَشَخَصَ بِبَصرَهِ، وَطَمَحَ بِنَظَرِهِ، وَرَشَحَ جَبينُهُ، وَسَكَنَ حَنينُهُ، وَجُذِبَتْ نَفْسُهُ، وَبَكَتْهُ عِرْسُهُ، وَحُفِرَ رَمْسُهُ، وَيَتِمَ وُلْدُهُ، وَتَفَرَّقَ عَنْهُ عَدَدُهُ، وَقُسِّمَ جَمعُهُ، وَذَهَبَ بَصرَهُ وَسَمْعُهُ، وَغُمِّضَ ومُدِّدَ، وَوُجِّهَ وَجُرِّدَ، وَغُسِلَ وَنُشِفَ، وَسُجِّيَ وَبُسِطَ لَهُ، وَهُيِّى ءَ وَنُشرَعَلَيْهِ كَفَنُهُ، وَشُدَّ مِنْهُ ذَقَنُهُ، وَقُمِّصَ وَعُمِّمَ، ولُفَّ وَوُدِّعَ وَسُلِّمَ، وَحُملَ فَوْقَ سَرير،

ص: 252


1- ينظر الفعل (حمدتُ) من الكتاب

وَصُيِّ عَلَيْهِ بِتَكْبیرٍ، وَنُقِلَ مِنْ دُورٍ مُزَخْرَفَةٍ، وَقُصُورٍ مُشَيَّدَةٍ، وَحُجُرٍ مُنَضَّدَةٍ، فَجُعِلَ في ضَيحٍ مَلْحُودٍ، وَلْحدٍ ضَيِّقٍ مَرْصوُصٍ، بلِبْنٍ مَنْضُودٍ، مُسَقَّفٍ بِجُلْموُدٍ، وَهيلَ عَلَيْهِ عَفْرُهُ، وَحُثِيَ عَلَيْهِ مَدَرُهُ، فَتَحَقَّقَ حَذَرُهُ، وَنُسيِ خَبرَهُ، وَرَجَعَ عَنْهُ وَلِيُّهُ وَنَسِيْبُهُ، وَتَبَدَّلَ بِهِ قَريبُهُ وَحَبيبُهُ؛ فَهُوَ حَشْوُ قَبرْ، وَرَهینُ قَفْرٍ).

* * *

يسعى

تدلُّ مادّةَ (يسعى) في اللُّغة على القصد، والعمل، والمشي السَّريع، والعَدْوِ، والجدِّ في الأمر. جاء في (العین): «السَّعي: عَدْوٌ ليس بشديد. وكلُّ عمل من خیرأَو شرٍّ، فهو السَّعي. يقولون: السَّعي العمل»(1).

ويُقال: سَعَى يَسْعَى سَعْياً، كرعى: قصد وعمل، ومشى، وعدا، وكذلك إذا عمل، وكسب(2).

وقال الرَّاغب «السَّعي: المشي السَّريع، وهو دون العَدْوِ، ويستعمل للجدِّ في الأَمر خیراً كان أَو شرّاً»(3).

ويُقال: سعى في مشيه: هرول، وسعى إلى الصَّلاة، ذهب إليها على أَيِّ وجه كان، وأَصل السَّعي: التَّرُّف في كلِّ عمل(4).

ص: 253


1- العین: 1/ 127. وينظر:جمهرة اللغة: 1/ 470،ومعجم مقاييس اللغة: 3/ 55، والصحاح في اللغة: 317/1 ،والمحيط في اللغة: 1/ 112، والمحكم والمحيط الأعظم: 1/ 279، والمخصص: 1/ 257
2- ينظر: تهذيب اللغة: 1/ 337، والقاموس المحيط: 3/ 432، وتاج العروس: 1/ 843
3- مفردات ألفاظ القرآن: 411
4- ينظر المصباح المنير: 4/ 246

وجاء هذا الفعل (يسعى) في الخطبة مرَّةً واحدة مطابقاً دلالته اللُّغوية، وهو أَوَّل الأفعال الخمسة الَّتي أَوردها أَمیر المؤمنین (عليه السلام) لبيان ما يجري على جسم الإنسان في داخل القبر، فأَوَّل ما يحصل هو: «يَسْعَى فِی جِسْمِهِ دُوْدُ قَبرْهِ).

و(يسعى) فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه الضَّمَّة المقدَّرة على الأَلف؛ منع من ظهورها التَّعذُّر، و(في): حرف جرٍّ،و(جسمه) اسم مجرور، وعلامة جرِّه الكسرة الظَّاهرة على آخره، وهو مضاف، والهاء ضمیر متَّصل مبنيٌّ على الكسر في محلِّ جرٍّ بالإضافة، والجارُّ والمجرور متعلِّقان بالفعل (يسعى)، و(دود) فاعل مرفوع، وعلامة رفعه الضَّمَّة الظَّاهرة على آخره، وهو مضاف، والهاء: ضمیر متَّصل مبنيٌّ على الكسر في محلِّ جرٍّ بالإضافة.

وتقدَّم مع الفعل (يُدْعَى) أَنَّ هذا الفعل (يسعى)، وإنْ كان آخره أَلفاً، إلاَّ أَنَّ هذه الأَلف ليست أَصلية، بل هي منقلبة عن الياء، فنقول: سعى يَسْعى سعياً؛ فوجود هذه الأَلف مع الفعل (يسعى) لا يقدح بالخطبة المُوْنِقَةِ - محلِّ البحث - كونها خالية من الأَلف.

* * *

يَسيْلُ

تدلُّ مادَّة (يسيل) في اللُّغة على الجريان. قال الأَزهريّ: «السَّيل معروف وجمعهُ سيول، ومسيل الماء وجمعه أَمْسِلَةٌ، وهي مياه الأَمطار إذا سالت... والمَسيل مَفْعِل من سَالَ يَسِيْلُ مَسالاً وسَيْلاً وسَيَلاناً، ويكون المَسِيْلُ أَيضاً: المكان الَّذي يسيل فيه الماء»(1)

ص:254


1- تهذيب اللغة: 4/ 322. وينظر: لسان العرب: 11/ 350، والصباح المنير: 4/ 410

ويُقال:سال الماء والشَّیء سَيْلاً وسَيَلاناً، جرى، وأَسَالَهُ غيرُه، وسَيَّلهُ هو(1).

وبهذا المعنى أَورد أَمیرالمؤمنی(عليه السلام) هذا الفعل (يسيل) مرَّةً واحدة في الخطبة، وهو ثاني الأَفعال الخمسة الَّتي أَوردها (عليه السلام) لبيان ما يجري على جسم الإنسان في داخل القبر، إذ قال (عليه السلام): «يَسْعَى فِی جِسْمِهِ دُوْدُ قَبرْهِ، وَيَسِيْلُ صَدِيْدُهُ مِنْ مَنْخِرِهِ».

والصَّديد: ما يسيل من أَهل النَّار من الدَّمِّ والقيح. وقيل: الدَّمّ المختلط بالقيح في الجرح، يُقال: أَصدَّ الجرح. وقيل: الصَّديد في القرآن: ما سال من أَهل النَّار، وقيل: بل هو الحميم أُغلي حتَّى خَثَر(2). قال الله - تبارك وتعالى -: (مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ)(3).

و(يسيل) فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه الضَّمَّة الظَّاهرة على آخره.

و(صديده) فاعل مرفوع، وعلامة رفعه الضَّمَّة الظَّاهرة على آخره، وهومضاف، والهاء: ضمیر متَّصل مبنيٌّ على الضَّمِّ في محلِّ جرٍّ بالإضافة، و(من): حرف جر، و(منخره) اسم مجرور، وعلامة جرِّه الكسرة الظَّاهرة على آخره، وهومضاف، والهاء: ضمیر متَّصل مبنيٌّ على الكسر في محلِّ جرٍّ بالإضافة، والجارُّ والمجرورمتعلِّقان بالفعل (يسيل) وجمل (ويسيل صديده من منخره) معطوفة على جملة (يسعى في جسمه دود قبره).

* * *

ص: 255


1- ينظر: معجم مقاييس اللغة: 3/ 94، وتاج العروس: 1/ 7197
2- ينظر: تهذيب اللغة: 4/ 179، ولسان العرب: 3/ 245، وتاج العروس: 1/ 2068
3- إبراهيم: 16

يُسحَقُ

تدلُّ مادَّة (يُسْحَقُ) في اللُّغة على شدَّة دقِّ الشيَّء، وتفتيته، وهو الدَّقُّ الرَّقيق والدَّقُّ بعد الدَّقِّ. جاء في (العین): «السَّحْق: دون الدَّقِّ... ويقال للثَّوب البالي:

سَحَقَه البى... والعین تسحق الدَّمع سَحْقاً»(1).

وقال الأَزهريّ: «إنهاك الشيَّء حتَّى يبلغ به إلى حال البى... سَحَقْتُ الشيَّء أَسحَقهُ سَحْقاً، والسَّحْقُ: الثَّوب البالي. ويُقال: سَحَقَه البى فانسحق، ويستعارحتَّى يقال إنَّ العین تسحق الدَّمع سحقاً. وأُسحقَ الشيَّءُ إذا انضمر وانضمَّ.

وأَسْحَقَ الضرَّعُ، إذا ذهب لبنه وبَليَ»(2).

ويُقال: أَسْحَقَ الثَّوبُ: أَيْ: أَخْلَقَ وبَليَ، وسَحَقَ الشيَّء يَسْحَقُهُ سَحْقاً: دقَّه أَشدَّ الدَّقِّ، وقيل: السَّحْق: الدَّقُّ الرَّقيق، وقيل: هو الدَّقُّ بعد الدَّقِّ(3).

وقال الرَّاغب: «السَّحْقُ: تفتيت الشيَّء، ويستعمل في الدَّواء إذا فُتِّتَ، يُقال:

سحقته فانسحق، وفي الثَّوب إذا أَخْلقَ، يُقال: أَسْحَقَ، والسَّحْقُ الثَّوب البالي، ومنه قيل: أَسحْقَ الضرَّع، أَيْ: صار سَحْقاً لذهاب لبنه...»(4).

وتطابقت دلالة الفعل (يُسْحَقُ) في الخطبة مع دلالته اللُّغوية؛ إذ جاء به أَمیر المؤمنین (عليه السلام) مرَّةً واحدة، وهو ثالث الأَفعال الخمسة الَّتي أَوردها

ص: 255


1- العین: 1/ 170.وينظر: تهذيب اللغة: 1/ 448، والمحيط في الغة: 1/ 162،والمخصص: 3/297، ولسان العرب: 1/ 152، والمصباح المنیر: 4/ 175 و176، والقاموس المحيط: 1/ 1153، وتاج العروس: 1/ 6371
2- معجم مقاييس اللغة: 3/ 107
3- ينظر: الصحاح في اللغة: 1/ 306، والمحكم والمحيط الأعظم: 1/ 402
4- مفردات ألفاظ القرآن: 401

(عليه السلام) لبيان ما يجري على جسم الإنسان في داخل القبر، إذ قال (عليه السلام): «يَسْعَى فِی جِسْمِهِ دُوْدُ قَبرْهِ، وَيَسِيْلُ صَدِيْدُهُ مِنْ مَنْخِرِهِ، وَيُسْحَقُ بَدنُهُ وَلْحمُهُ».

و(يُسحقُ) فعل مضارع مبنيٌّ للمجهول، مرفوع وعلامة رفعه الضَّمَّة الظَّاهرة على آخره، و(بدنهُ) نائب فاعل مرفوع، وعلامة رفعه الضَّمَّة الظَّاهرة على آخره، وهو مضاف والهاء: ضمیر متَّصل مبنيٌّ على الضَّمِّ في محلِّ جرٍّ بالإضافة، و(لحمه) الواو: حرف عطف، و(لحمه) اسم معطوف مرفوع، وعلامة رفعه الضَّمَّة الظَّاهرة على آخره، وهو مضاف، والهاء: ضمیر متَّصل مبنيٌّ على الضَّمِّ في محلِّ جرٍّ بالإضافة. وجملة (ويسحق بدنه ولحمه) معطوفة على جملة (ويسيل صديدُه من منخره).

* * *

يَرِمُّ

تدلُّ مادَّة (رَمَّ) في اللُّغة على التَّفتُّت، والبِلىَ، والتَّحْطيم، والنَّخر. جاء في (العین): «رَمَّ العظم: صار رميماً، أَيْ: مُتفَتِّتاً... والرِّمَّةُ: العظام البالية»(1).

ويُقال: رَمَّ العظم: إذا انتشر فصار رميماً، وأَرَمَّت السَّنَةُ النَّاس إرماماً:

حَطَمَتْهُم. ورَمَّ العظم يَرِمُّ رَمّاً ورميماً، إذا نَخَروبَليَ. والرِّمَّة: العظم البالي(2) .

وبهذا المعنى أَورد أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) هذا الفعل (يرمُّ) مرَّةً واحدة

ص: 257


1- ينظر: جمهرة اللغة: 1/ 41، وتهذيب اللغة: 5/ 125 و126، ومعجم مقاييس اللغة: 2/ 311، والصحاح في اللغة: 1/ 271، ومفردات ألفاظ القرآن: 365، ولسان العرب: 12/ 251، وتاج العروس: 1/ 7738 و7739
2- ينظر: الفعل (نستعينه) من الكتاب

في الخطبة، وهو خامس الأَفعال الخمسة التي جاء بها (عليه السلام) لبيان ما يجري على جسم الإنسان في داخل القبر، إذ قال (عليه السلام): «يَسْعَى فِی جِسْمِهِ دُوْدُ قَبرْهِ، وَيَسِيْلُ صَدِيْدُهُ مِنْ مَنْخِرِهِ، وَيُسْحَقُ بَدنُهُ وَلْحمُهُ، وَينْشفُ دَمُهُ، وَيَرِمُّ عَظْمُهُ»، أَيْ: ينخر، ويتحطَّم، ويتفتَّت، ويبلو.

و(يَرِمُّ) فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه الضَّمَّة الظَّاهرة على آخره، و(عظمُه) فاعل مرفوع، وعلامة رفعه الضَّمَّة الظَاهرة على آخره، وهو مضاف، والهاء: ضمیر متَّصل مبنيٌّ على الضَّمِّ في محلِّ جرٍّ بالإضافة. وجملة (ويرم عظمه) معطوفة على جملة (وينشف دمُه).

وجديربالذِّكر أَنَّ أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) استعمل هذه الأَفعال، وهي قوله (يسعى، ويسيل، ويسحق، وينشف، ويرم) في وصف ما يجري على جسم الإنسان في داخل القبر بعد دفنه بصيغة المضارع؛ لما فيه من دلالة على الحال والاستقبال، والتَّجدُّد والحدوث(1) ، فيكون الافعال المضارع مناسباً لهذه الَأفعال؛ فهذه الأَفعال تدلُّ على حركة وتجدُّد وحدوث، فالفعل (يسعى) يدلُّ على المشي السَّريع، والعَدْو، والجدِّ في الأَمر، والفعل (يسيل) يدلُّ على الجريان، والفعل (يسحق) يدلُّ على المشي السّرَيع، والدَّقِّ بعد الدَّقِّ، والفعل (ينشف) يدلُّ على ذهاب الماء واليبس، والفعل (يرمُّ) يدلُّ على التَّفتُّت، والتَّحطيم، والنَّخر، وهذه الأَفعال كلُّها تدلُّ على حركة وتجدُّد وحدوث؛ ولذا أَوردها أَمیر المؤمنین (عليه السلام) بصيغة المضارع الدالِّ على الحركة، والحدوث، والتَّجدُّد.

فضلاً عن ذلك، فإنَّه ورد في الأَخبار أَنَّ الإنسان حین يُجعل في قبره، فإنَّ قبره إمَّا أَنْ يكون روضة من رياض الجنَّة، أَو حفرة من حفر النِّیران، وإذا كان القبر

ص: 258


1- العين: 2/ 170

حفرة من حفر النِّیران - والعَياذ بالله -، فلاشكَّ في أَنَّ الإنسان في تلك الحفرة في عذاب دائم، أَيْ: في حركة دائمة حادَّة ومتجدِّدة، فيكون الفعل المضارع مناسباً لهذه الحركة الدَّائمة.

من ذلك يتبینَّ لنا دقَّة استعمال أَمیرالمؤمنین (عليه السام) للأَلفاظ بما يناسب معانيها، وبدقَّة متناهية في ذلك كلِّه.

* * *

يُقِيْمُ

تدلُّ مادَّة (يقيم) في اللُّغة على الإقامة في المكان، والاستيطان، واللَّبث فيه، واتِّاذه وطناً، والثَّبات فيه. فتقول: أَقمت بالمكان إقامة ومُقاماً(1).وأَقمت في المكان مُقاماً وإقامةً. والمُقام والمُقَامَة: الموضع الَّذي تقيم فيه(2).

وقال الجوهريّ: «... وأَقام بالمكان إقامة. والهاء عوض من عین الفعل؛ لأَنَّ أَصله إقواماً... والمُقامة بالضَّمِّ: الإقامة. والمَقامة بالفتح: المجلس... وأَمَّا المَقام والمُقام، فقد يكون كلُّ واحد منهما بمعنى الإقامة، وقد يكون بمعنى موضع القيام)(3).

وأَقام بالموضع إقامة: اتَّذه وطناً، فهو مقيم. وأَقام بالمكان، أَيْ: لبث فيه.

وأَقام بالمكان، هو بمعنى الثَّبات(4).

ص: 259


1- ينظر: العين: 1/ 416
2- ينظر: تهذيب اللغة: 3/ 289 و290، والمحيط في اللغة: 2/ 7
3- الصحاح في اللغة: 2/ 102
4- ينظر: المحكم والمحيط الأعظم: 3/ 108، ولسان العرب: 12/ 496، والمصباح النیر: 8/ 16، وتاج العروس: 1/ 8768

وبهذا المعنى أَورد أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) هذا الفعل (يقيم) مرَّةً واحدة في الخطبة. فبعد أَنْ وصف (عليه السلام) ما يجري على جسم الإنسان في داخل القبر، قال (عليه السلام): «ويُقِيْمُ فِی قَبرْهِ لِيَوْمِ حَشرْهِ).

ومن قمین القول إنَّ أَمیر المؤمنین (عليه السلام) استعمل صيغة المضارع مع الفعل (يقيم)؛ لما فيه من دلالة على الحدوث والتَّجدُّد(1)، وهو ما يناسب الفعل (يقيم)؛ إذ وصف أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) إقامة ذلك الإنسان في القبر بأَنَّها ليست ثابتة، بل هي مستمرَّة ليوم حشره، وما بعدها (يُنْشرَ)، وهو الفعل الآتي - وسأُبيِّن دلالته إنْ شاء الله تعالى -.

وبینَّ أَبو هلال العسكريّ معنى (الحشر) حین فَرَّق بينه وبین (النشر)، إذ قال إنَّ الحشر: وهو الجمع مع السَّوق، وإنَّما سمِّي يوم الحشر بهذا الاسم؛ لأَنَّ الخلق يُجمَعون فيه، ويُسَاقون إلى الموقف(2).

و(يقيم) فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه الضَّمَّة الظَّاهرة على آخره، والفاعل ضمیرمستتر فيه تقديره (هو)، عائد إلى (مَنْ جذبت نفسه)، و(في) حرف جرٍّ، و(قبره) اسم مجرور، وعلامة جرِّه الكسرة الظَّاهرة على آخره، وهو مضاف، والهاء: ضمیرمتَّصل مبنيٌّ على الكسر في محلِّ جرٍّ بالإضافة، والجارُّ والمجرور متعلِّقان بالفعل (يقيم)، وجملة (ويقيم في قبره) معطوفة على جملة (ويرم عظمه).

* * *

ص: 260


1- ينظر: الفعل (نستعينه) من الكتاب
2- ينظر: الفعل (يدعى) من الكتاب

يُنْفَخُ

جاء في (العین): «تقول: نَفَخْتُهُ فانتفخ. والمِنْفَاخ: ما يَنْفَخ به الإنسان في النَّار وغيرها... والنُّفخة: انتفاخ البطن من طعام ونحوه»(1).

وقال ابن فارس: «النُّون والفاء والحاء: أَصل صحيح يدلُّ على انتفاخ وعلوٍّ. منه انتفخ الشيَّء انتفاخاً. ويُقال: انتفخ النَّهار: علا. ونَفخةُ الرَّبيع: إعشابه؛ لأَنَّ الأَرض تربو فيه وتنتفخ. والمنفوخ: الرَّجل السَّمين»(2).

ويُقال: نفخ فيه، ونفخه أَيضا لغة. والمنفاخ: الَّذي يُنْفَخُ فيه. وانتفخ الشيَّء، وربَّما قالوا: انتفخ النَّهار، أَيْ: علا. والنَّفخاء من الأَرض: ما ارتفع(3).

وقال الرَّاغب: «النَّفخُ: نفخ الرِّيح في الشيَّء. قال تعالى: «يَوْمَ يُنْفَخُ فِی الصُّورِ» [طه/102]، «وَنُفِخَ فِی الصُّورِ» [الكهف/99]... يُقال: انتفخ بطنه، ومنه استعير: انتفخ النَّهار: إذا ارتفع، ونَفْخَةُ الرَّبيع حین أَعْشَبَ، ورجل منفوخ أَيْ:

سمين»(4).

وبهذا المعنى أَورد أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) هذا الفعل (يُنْفَخُ) مرَّةً واحدة في الخطبة؛ إذ قال (عليه السلام): «فَيُنْشرَ مِنْ قَبرْهِ حِینْ يُنْفَخ فِی صُوْرٍ». فالنَّشر:

ص: 261


1- العين: 1/ 336
2- معجم مقاييس اللغة: 5، 366
3- ينظر: جمهرة اللغة: 1/ 336، وتهذيب اللغة: 2/ 499، والصحاح في اللغة: 2/ 232، والمحكم والمحيط الأعظم: 2/ 344، ولسان العرب: 3/ 62، والمصباح المنیر: 9/ 402، وتاج العروس: 1856/1 و1857
4- مفردات ألفاظ القرآن: 816

إحياء الميِّت بعد موته، ومنه قوله - تبارك وتعالى -: (ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشرَهُ)(1)، أَيْ:

أَحياه(2).

فالله - عَزَّ وَجَلَّ - يحيي ذلك الميِّت حین ينفخ في صور، وفي قول أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) تضمین لقوله - تبارك وتعالى -: (وَنُفِخَ فِی الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِی السَّماَوَاتِ وَمَنْ فِی الأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شَاءَ اللَّه ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ)(3).

وقال أَمیر المؤمنین (عليه السلام): (في صور)، ولم يقل: (في الصُّور)؛ لأَنَّ ذلكيفوِّت الفائدة من الخطبة؛ كونها خالية من الأَلف.

وجدير بالذِّكر أَنَّ أَمیر المؤمنین (عليه السلام) جاء بالفعل (يُنفخ) بصيغة المبنيِّ للمجهول، وقد تقدَّم أَنَّ لحذف الفاعل، وإقامة المفعول مقامه معاني ذكرها العلماء(4)، ولعلَّ أَمیر المؤمنین (عليه السلام) إنَّما جاء بهذا الفعل مبنيّاً للمجهول للتَّركيزعلى الحدث، وهو النَّفخ في الصُّور؛ لتحقُّق عمليَّة النّشَر، وهي إحياء الميِّت بعد موته. هذا أَوَّلاً، ولتعظيم هذه العمليَّة، وهي النَّفخ في الصُّور ثانياً؛ وكما عرَّت عنه الآية الكريمة: «وَنُفِخَ فِی الصُّورِفَصَعِقَ مَنْ فِی السَّاَوَاتِ وَمَنْ فِی الْارْضِ إِلَّ مَنْ شَاءَ اللَّه ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ»؛ لهول هذه النَّفخة، وما يتلوها من حالات الحساب والعقاب.

و(يُنفخ) فعل مضارع مبنيٌّ للمجهول، مرفوع وعلامة رفعه الضَّمَّة الظَّاهرة

ص: 262


1- عبس: 22
2- ينظر: الفروق اللغوية: 1/ 189 و190
3- الزمر: 68
4- ينظر: الفعل (جذبت) من الكتاب

على آخره، و(في) حرف جرٍّ، و(صور) اسم مجرور، وعلامة جرِّه الكسرة الظَّاهرة على آخره، والجارُّ والمجرور متعلِّقان بالفعل (ينفخ)، وجملة (ينفخ في صور) في محلِّ جرٍّ بالإضافة إلى (حین) ظرف الزَّمان في قوله (فينشر من قبره، حین يُنْفَخُ في صور).

* * *

بُعْثَرتْ

تدلُّ مادَّة (بعثرت) في اللُّغة على القلب، والتَّبديد، والتَّفرقة، والتَّفتيش، والهدم. فيُقال: بَعْثَرَهُ بَعْثَرَةً: إذا قلب الترُّابَ عنه(1). وبعثر: نظر، وفتَّش، وبعثرالشيَّء: فرَّقه وبدَّده، وقلب بعضه على بعض، واستخرجه، فكشفه وأَثار ما فيه، وبعثر الحوض: هدمه، وجعل أَسفله أَعلاه(2).

وجاء هذا الفعل (بعثرت) مرَّةً واحدة في الخطبة موافقاً دلالته اللُّغوية؛ أَورده أَمیر المؤمنین (عليه السلام) في بيان موقف من مواقف البعث والنُّشور في اليوم الآخر، إذ قال (عليه السلام): «وَيُدْعَى بِحَشرْ وَنُشُوْرٍ، فَثَمَّ بُعْثِرَتْ قُبُوْرٌ». فبعد أَنْ ينفخ في الصُّور، ويدعى بحر ونشور، تبعثر القبور، فينقلب الترُّاب عنها، ويبدَّد ما فيها ويفرَّق، وتهدَّم هذه القبور، ويُفَتَّش عماَّ فيها، وإخراج ما في الأَرض من أَموات لخطوة أُخرى ستأْتي في الفعل القابل، وهو«حُصِّلَتْ سَريْرَةُ صُدُوْرٍ؛» فيُكْشَف عماَّ في صدورهم.

وقول أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) فيه تضمن لقوله - تبارك وتعالى -: (أَفَلاَ

ص: 263


1- ينظر: العين: 1، 159، والصحاح في اللغة: 1/ 47
2- ينظر: لسان العرب: 4/ 72، والقاموس المحيط: 1/ 358، وتاج العروس: 1/ 2530، ومعجم متن اللغة: 1/ 312

يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِ الْقُبُور)(1)، وقوله عَزَّوَجَلَّ: (وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ)(2)، وقد قال أَمیرالمؤمنین (عليه السلام): «فَثَّمَ بُعْثِرَتْ قُبُوْرٌ»، ولم يقل: (بعثرت ما في القبور)؛ لأَنَّ ذلك يفوِّت الفائدة من الخطبة؛ كونها خالية من الأَلف.

وقد اختلفت تأْويات المفسِّرين في دلالة (بعثر) في الآيتین، فعن ابن العباس قيل: قَلْبُ الأَرض، وإخراج ما فيها من أَهلها أَحياء، قال تعالى: (وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَها)(3)، أَو قَلْبُ تراب القبور، وبَعْثُ الموتى الَّذين فيها، أَو إخراج ما في الأَرض من أَموات حيث تنطلق منها الحياة الَّتي كانت مندسَّة فيها(4)، وقيل أَيضاً: إنَّ الأَرض تُخرِجُ ما في بطنها من الذَّهب والفضَّة؛ وذلك من أَشراط السَّاعة أَنْ تُخرِجَ الأَرض أَفاذ كبدها من ذهبها وفضَّتها(5). وكلاهما وارد؛ فيكون المعنى - والله أَعلم - إذا القبور انقلب ترابها، وأُثیر، فأُخرج ما فيها من أَموات(6) ، وكنوز من ذهب وفضَّة(7). وبَعثَرَةُ القبور لا لإخراج الكنوز؛ لَأنَّه يومها لا فائدة فيها، على حین أَنَّ بعثرتها لغاية بُعِثَ مَنْ فيها للحساب، وتزامن بعث الخلائق من قبورها مع إخراج الأَرض كنوزها ذهبها وفضَّتها لیرى النَّاس، ويتذكروا كما كانوا مغرورين بالذَّهب والفضَّة الَّتي أَلهتهم عن آخرتهم، وأَنستهم خالقهم؛ فضلُّوا

ص: 264


1- العاديات: 9
2- الانفطار: 4
3- الزلزلة: 2
4- ينظر: جامع البيان: 30 / 58، والتبيان: 10/ 397، وأنوار التنزيل وأسرار التأويل: 5/ 460، والتبيان في تفسر غريب القرآن: 1، 815، ومن هدي القرآن: 11/ 294
5- ينظر: الجامع لأحكام القرآن: 19/ 244، والتفسير الكبير: 31 / 73، وتقريب القرآن: 18/ 294
6- ينظر: مجاز القرآن (لأبي عبيدة): 2/ 288
7- ينظر: معاني القرآن (للفرَّاء): 3/ 243

الطَّريق لتكون الحسرة أَشدَّ، والنَّدامة أَبلغ؛ فالنُّفوس عنها عازفة، والقلوب من سوء المصیر خائفة(1).

و(بعثرت) فعل ماضٍ مبنيٌّ للمجهول، مبنيٌّ على الفتح، والتَّاء؛ تاء التَّأنيث السَّاكنة، ضمیر متَّصل مبنيٌّ على السُّكون، لا محلَّ لها من الإعراب، و(قبور) نائب فاعل مرفوع، وعلامة رفعه الضَّمَّة الظَّاهرة على آخره. وجملة (فثمَّ بعثرت قبوره) معطوفة على جملة (ويدعى بحر ونشور)، وقد تقدَّم أَنَّ العطف بالفاء يفيد التَّتيب باتِّصال، أَيْ: بلا مهلة، وهو المعبرَّ عنه بالتَّعقيب، وكثیراً ما تقتضي السَّبب إنْ كان المعطوف جملة(2)، وكذا هي الحال في الخطبة؛ إذ حصل (ثَمَّ بعثرت قبور) وما بعده، نتيجة ل (ويدعى بحشر ونشور).

* * *

حُصلت

تدلُّ مادَّة (حُصِّلت) في اللُّغة على الباقي، أو الثَّابت، أَو جمع الشيَّء، وتمييزه، وتبيينه، واستخراجه. جاء في (العین): «حَصَلَ يَصُلُ حُصُولاً: أَيْ: بقي، وثبت، وذهب ما سواه من حساب أَو عمل ونحوه، فهو حاصل. والتَّحصيل: تمييزما يحصل. والاسم: الحصيلة»(3).

وقال ابن فارس: «الحاء والصَّاد واللاَّم أَصل واحد منقاس. وهو جمع الشَّیء؛ ولذلك سمِّيت حوصلة الطَّائرة؛ لأَنَّه يجمع فيها. ويُقال: حَصَّلتُ الشيَّء تحصيلاً.

ص: 265


1- ينظر: ألفاظ القدرة والتمكين في القرآن دراسة دلالية (أطروحة دكتوراه): 566
2- ينظر: الفعل (عدل) من الكتاب
3- العین: 1/ 192. وينظر: تهذيب اللغة: 2/ 12، والمخصص: 2/ 481، والمحكم والمحيط الأعظم: 463/1، والقاموس المحيط: 3/ 76

وزعم ناس من أَهل اللُّغة أَنَّ أَصل التَّحصيل استخراج الذَّهب أَو الفضَّة من الحجرأَومن تراب المعدن، ويقال لفاعله المحُصِّل»(1).

ويُقال: حَصَّلْتُ الشيَّء تحصيلاً. وحَاصِلُ الشيَّءِ ومحصولُه: بقيَّتُهُ. وتَحصيلُ الكلام: ردُّه إلى محصوله. وحَصَل الشيَّء يَحصُلُ حُصُولاً. والحاصل: الباقي، والثَّابت. والتَّحصيل: تمييز ما يَحصُلُ. والاسم: الحصيلة. والتَّحصيل: أَنْ ينزل النَّاسُ كُلٌّ منهم منزلة. والتَّحصيل: إخراج الذَّهب من الفضَّة(2).

وقال الزَّبيديّ: «الحاصل من كلِّ شيء: ما بقي، وثبت، وذهب ما سواه يكون في الحساب والأَعمال ونحوهما... والتَّحصيل: إخراج اللُّب من القشور كإخراج الذَّهب من حجر المعدن، والبرُّ من التِّبن، قال الله تعالى: (وَحُصِّلَ مَا فِی الصُّدُورِ)(3) ، أَيْ: أُظهرما فيها وجِمعَ كإظهار اللُّبِّ من القشر وجمعهِ، أو كإظهار الحاصل من الحساب... وحُصِّل ما في الصُّدور: أَيْ: بُنِّ، وقيل: مُيِّز، وقيل: جُمع... وتحصَّل الشيَّء: تجمَّع وثبت. والمحصول والحاصل والحصيلة: بقيَّة الشيَّء»(4).

وأَورد أَمیر المؤمنین (عليه السلام) هذا الفعل (حُصِّلت) مرَّةً واحدة في الخطبة في مقام إبراز المخفيِّ في الصُّدور يوم القيامة، واستخراجه منها بعد أَنْ كان مستوراً، إذ قال (عليه السلام): «ويُقِيْمُ فِی قَبرْهِ لِيَوْمِ حَشرْهِ، فَيُنْشرَ مِنْ قَبرِهِ حِینْ يُنْفَخُ فِی صُوْرٍ، وَيُدْعَى بِحَشرْ وَنُشُوْرٍ، فَثَّمَ بُعْثِرَتْ قُبُوْرٌ، وَحُصِّلتْ سَريْرَةُ

ص: 266


1- معجم مقاييس اللغة: 2/ 53
2- ينظر: الصحاح في اللغة: 1/ 133، والمحيط في اللغة: 1/ 192، ولسان العرب: 11 / 153، والمصباح المنير: 2/ 398
3- العاديات: 10
4- تاج العروس: 1/ 6979. وينظر: مفردات ألفاظ القرآن: 240

صُدُوْرٍ». إذا جُمعَ ما في الصُّحف، ومُيّز بین خیره وشرِّه(1). فَعِلْمُ الله - تبارك وتعالى - يقود إلى المجازاة على مقادير الأَعمال؛لأَنَّ ذلك أَثر خُبرْهِ بهم(2). وكثیراً ما يكون باطن الإنسان بخلاف ظاهره، أَمَّا يوم القيامة، فتظهر الأَسرار، وتنكشف وتهتك الأَستار، ويبدو ما في البواطن، لقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَوْمَ تُبْىَ السَّرائِر)(3).

وخُصَّ بالذِّكر ما في البواطن حيث أَخر - سبحانه - بتحصيل ما في الصُّدوردون الإشارة إلى ذكر الجوارح؛ لأَنَّ الأَخیرة تابعة لأَعمال القلوب. وقال (عليه السلام):

«وحُصِّلت سريرة صدور» ولم يقل ما في القلوب؛ لأَنَّ القلب مطيَّة الرُّوح، وهو بالطبع محبٌّ لمعرفة الله، إنّمَا المنازع في هذا الباب هو النَّفس، ومحلُّها ما يقرب من الصَّدر(4).

وقول أَمیر المؤمنین (عليه السلام): «وحُصِّلت سريرة صدور» تضمین لقوله - تبارك وتعالى -:

(أَفَلا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِ الْقُبُورِ * وَحُصِّلَ مَا فِی الصُّدُورِ)(5)، بَيْدَ أَنَّ أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) قال: «وحُصِّلت سريرة صدور»؛ لأَنَّه لوقال: «حُصل ما في الصدور» لفاتت الفائدة من الخطبة؛ كونها خالية من الأَلف.

و(حُصِّلت) فعل ماضٍ مبنيٌّ للمجهول، مبنيٌّ على الفتح، والتَّاء: تاء التَّأنيث السَّاكنة، ضمیر متَّصل مبنيٌّ على السُّكون لا محلَّ لها من الإعراب، و(سريرةُ) نائب فاعل، مرفوع وعلامة رفعه الضَّمَّة الظَّاهرة على آخره، وهو مضاف،

ص: 267


1- ينظر: الكشاف: 4/ 781
2- ينظر: المصدر نفسه: 4/ 781
3- الطارق: 19
4- التفسر الكبیر: 32/ 69، وألفاظ القدرة والتمكن في القرآن الكريم (دراسة دلالية) (أُطروحة دكتوراه): 616 و 617
5- العاديات: 10

و(صدور) مضاف إليه مجرور، وعلامة جرِّه الكسرة الظَّاهرة على آخره. وجملة (وحُصِّلت سريرة صدور) معطوفة على جملة (فَثَمَّ بعثرت قبور).

* * *

جِيْءَ

بَینَّ الرَّاغب (المجيء) حین فرَّق بينه وبن (الإتيان) بقوله: «جاء يجيء جيئةً ومَجيْئاً، والمَجِيءُ كالإتيانِ لكنَّ المجيءَ أَعمُّ؛ لأَنَّ الإتيان مجيءٌ بسهولة، والإتيان قد يقال باعتبارالقصد، وإنْ لم يكن منه الحصول، والمجيء يقال اعتباراً بالحصول، ويُقال: جاء في الأَعيان والمعاني، ولما يكون مجيئه بذاته ولأَمره، ولِمنْ قصد مكاناً أَوعملاً أَو زماناً... وجاء بكذا: استحضره، نحو:(لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ) [النُّور: 13...]»(1).

وقال ابن منظور: «المجيء الإتيان جاء جَيْئاً ومَجيْئاً، وحكى سيبويه عن بعض العرب: هو يجيك بحذف الهمزة. وجاء يَي جَيئةً وهو من بناء المرَّة الواحدة، إلاَّأَنَّه وُضِع موضع المصدر مثل الرَّجفة والرَّحمة، والاسم الجِيئة على فِعْلَة بكسر الجيم، وتقول: جئت مجيئاً حسناً»(2).

وورد هذا الفعل مرَّةً واحدة في الخطبة مطابقاً دلالته اللُّغوية؛ إذ قال أَمیر المؤمنین (عليه السلام): «ويُقِيْمُ فِی قَبرْهِ لِيَوْمِ حَشرْهِ، فَيُنْشرَ مِنْ قَبرِهِ حِینْ يُنْفَخُ فِی صُوْرٍ، وَيُدْعَى بِحَشرْ وَنُشُوْرٍ، فَثَّمَ بُعْثِرَتْ قُبُوْرٌ، وَحُصِّلتْ سَريْرَةُ صُدُوْرٍ، وَجِيْءَ بِكُلِّ نَبِيٍّ وَصِدِّيْقٍ، وَشَهِيْدٍ ونَطِيْقٍ». أَيْ: اسْتُحْضِر كلُّ نبي وصِدِّيق، وشهيد ونطيق.

ص: 268


1- مفردات ألفاظ القرآن: 212 و 213
2- لسان العرب: 1/ 51.وينظر: تاج العروس: 1/ 92 و93

وقول أَمیر المؤمنین (عليه السلام): «وجيء بكلِّ نبيٍّ وصِدِّيقٍ، وشهيدٍ ونَطيقٍ» فيه تضمن لقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَشْرقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّنَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضيِ بَيْنَهُمْ بِالَحقِّ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ)(1). وقال أَمیرالمؤمنین (عليه السلام): «وجيء بكلِّ نبيٍّ وصِدِّيقٍ، وشهيدٍ ونَطيقٍ»، ولم يقل: (وجيء بالنَّبين والشُّهداء)؛ لأَنَّ ذلك يفوِّت الفائدة من الخطبة؛ كونها خالية من الأَلف.

و(جيء) فعل ماضٍ مبنيٌّ للمجهول، مبنيٌّ على الفتح، و(بكُلّ) الباء: حرف جرٍّ، و(كُلّ) اسم مجرور، وعلامة جرِّه الكسرة الظَّاهرة على آخره، وهو مضاف، و(نبي) مضاف إليه مجرور، وعلامة جرِّه الكسرة الظَّاهرة على آخره، والجارُّ والجرورمتعلِّقان بالفعل (جيء)، و(وصِدِّيق) الواو: حرف عطف و(صِدِّيق) معطوف مجرور، وعلامة جرِّه الكسرة الظَّاهرة على آخره، وجملة (وجيء بكلِّ نبي وصدِّيق) معطوفة على جملة (وحصِّلت سريرةُ صدور).

* * *

تَوَلَّی

تدلُّ مادَّة (تولَّ) في اللُّغة على معانٍ، منها: الاتِّباع، والقرب، والإعراض، والإدبار، والإنصراف. قال ابن منظور: «وَلِی الشيَّء وتولَّ: أَدبر، وولَّی عنه:

أَعرض عنه، أَو نأَى... والتَّولية تكون انصرافاً... يُقال: وليت وتولَّيت بمعنى واحد... وتولَّ عنه: أَعرض وولَّی هارباً، أَيْ: أَدبر... وقد ولَّی الشيَّء: إذا ذهب هارباً ومدبراً، وتولَّ عنه إذا أَعرض، والتَّولِّ يكون بمعنى الإعراض، ويكون

ص: 269


1- الزمر: 96

بمعنى الاتِّباع»(1)؛ فهو من الَأضداد.

وقد جاء أَمیر المؤمنین (عليه السلام) بهذا الفعل (تولَّ) مرَّةً واحدة في الخطبة بمعنى (الانصراف)؛ إذ قال (عليه السلام) في مقام بيان ما يحصل على الإنسان في موقف من مواقف يوم القيامة بعد أَنْ يُاءَ بكلِّ نبيٍّ وصدِّيق، وشهيد ونطيق:

«وَتَوَلَّی لِفَصْلٍ عِنْدَ رَبٍّ قَدِيْرٍ، بِعَبْدِهِ خَبِیرْ بَصِیرْ). أَيْ: انصرف ذلك الإنسان لفصلٍ عند ربٍّ مقتدر على كلِّ شيء، فضاً عن كونه - تبارك وتعالى - خبیراً بصيراً بعباده، ولعلَّ معترضاً يعرض فيقول: إنَّ الفعل (تولَّی) آخره أَلف، وهذا يقدح بالخطبة كونها خالية من الأَلف، فأَقول: إنَّ هذه الأَلف في الفعل (تولّیَ) ليست أَصليَّة، بل هي منقلبة عن الياء، فتقول: تولّیَ، يتولَّ توليَّاً، وتوليَّةً، فوجودها لا يقدح بخصيصة الخطبة، وهي كونها خالية من الأَلف.

و(تولّیَ) فعل ماضٍ مبنيٌّ على الفتح المقدَّرعلى الأَلف؛ منع من ظهورها االتَّعذُّر، والفاعل ضمیر مستتر تقديره هو، عائد إلى (مَنْ جذبت نفسه)، و(لفصلٍ) اللام حرف جرٍّ، و(فصل)اسم مجرور، وعلامة جرِّه الكسرة الظَّاهرة على آخره، والجارُّ والمجرور متعلِّقان بالفعل (تولّیَ)، (عند): ظرف مكان مبنيٌّ على الفتح، وهو مضاف، و(ربِّ) مضاف إليه مجرور، وعلامة جرِّه الكسرة الظَّاهرة عىآخره، و(قدير) صفة مجرورة، وعلامة جرِّها الكسرة الظَّاهرة على آخرها. وجملة (وتولَّ لفصل عند رب قدير)، معطوفة على جملة (وجيء بكل نبي وصدِّيق،وشهيد ونطيق».

* * *

ص: 270


1- لسان العرب: 15/ 414 و 415.وينظر: العین: 2/ 197، وتهذيب اللغة: 5/ 205، ومعجم مقاييس اللغة: 6/ 108، والصحاح في اللغة: 2/ 295، ومفردات ألفاظ القرآن: 886 و 887، والمحبط في اللغة: 468/2، والمصباح المنر: 10/ 451، والقاموس المحيط: 3/ 486

تُضنِيْهِ

تدلُّ مادَّة (تضنيه) في اللُّغة على مرض شديد ملازم. جاء في (العین): «ضَنِيَ الرَّجلُ ضَنىً شديداً إذا كان به مَرَضٌ مخامر، كُلمَّا ظنَّ أَنَّه بَرَأَ نُكِسَ.. وقد أَضناه المرض إضناءً»(1).

ويُقال: ضَنِيَ بالكسر يَضْنَى ضنىً شديداً، وأَضناه المرض، أَيْ: أَدنفه، وأَثقلَهُ، والمضاناة: المعاناة(2) . ونقول: هو بین سفرٍ ينضيه ومرض يضنيه(3)وضَنِيَ ضَنىً من باب تعب مرض مرضاَ ملازماً حتَّى أَشرف على الموت(4).

وبهذا المعنى أَورد أَمیر المؤمنین (عليه السلام) هذا الفعل (تضنيه) مرَّةً واحدة في الخطبة؛ إذ قال (عليه السلام) في بيان ما يحصل لذلك الإنسان، الَّذي انصرف لفصلٍ عند رب قدير، بعبده خبیر بصیر: «فَكَمْ مِنْ زَفْرَةٍ تُضْنِيْهِ».

ولبيان معنى (زفرة) الَّتي جاء بها أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) مع الفعل (تضنيه) في الخطبة أَقول: جاء في (جمهرة اللُّغة): «والزَّفْرُمصدر زَفَر يَزْفِرُ زَفْراً وزَفیراً، إذا ردَّد النفس في جوفه حتَّى تنتفخ ضلوعه»(5).

وقال الأَزهريّ: «الزَّفير من شديد الأَنين وقبيحه»(6) .

ص: 271


1- العین: 2/ 36. وينظر: تهذيب اللغة: 4/ 167، ومعجم مقاييس اللغة: 2/ 292، والمحيط في اللغة: 203/2 ، ولسان العرب: 14/ 486، وتاج العروس: 1/ 8475 و 8476
2- ينظر: الصحاح في اللغة: 1/ 414، والمخصص: 1/ 417، والقاموس المحيط: 3/ 444
3- ینظر: اساس البلاغة: 1/ 279
4- ينظر: المصباح المنير: 5/ 360
5- جمهرة اللغة: 1/ 383
6- تهذيب اللغة: 4/ 358 و 359 . وينظر: الصحاح في اللغة: 1/ 288 ، ومفردات ألفاظ القرآن: 380 ،ولسان العرب: 4/ 324 ، وتاج العروس: 1/ 2891

وجاء في (معجم مقاييس اللُّغة): «الزَّاء والفاء والرَّاء أَصلان: أَحدهما يدلُّ على حِمل، والآخر على صوت من الأَصوات»(1).

وقال ابن سيده: «...يُقال: مَرَّ بكارةٍ فازدفرها، أَيْ: احتملها، قال الفارسيُّ:

اشتقَّ من الزِّفْر وهو الحِمْل زَفَرَهُ يَزْفِرُهُ زَفْراً وازدفره، ابن السِّكِّيت، إنَّه لَمعتلٌّ بحمله، أَيْ: مضطلع بحمله»(2).

وقال الزَّمخشريّ: «رأَيته يزفر زفرة الثَّكلى، وله زفیر، وعلى ظهره زفرمن الأَزفار: حمل ثقيل يزفر منه، وقد زفره يزفره، حَملَهُ»(3).

ومهما يكن من أَمر، فإنَّ معنى (زفرة) في قول أَمیرالمؤمنین (عليه السلام):

«فكم من زفرة تضنيه» يحتمل أَمرين:

أَحدهما: أَنَّه من الزَّفرة، ترديد النَّفس في الجوف حتَّى تنتفخ الضُّلوع؛ فيسبِّب له هذا الأَمر مرضاً شديداً ملازماً له.

والآخر: أَنَّه من الزَّفْر، أَيْ: الحِمْل، فهو معتلٌّ بحمله، أَيْ: مضطلع به، فهذا الحمل المضطلع به يُسبِّب له مرضاً شديداً ملازماً له - أَيضا -.

ومن هذا يتبنَّ لنا دقَّة أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) ولطافته في استعمال اللَّفظة مع اللَّفظة، فضلاً عن الأَلفاظ بمجموعها، فقال (عليه السلام): «زفرة تضنيه».

و(فكم) الفاء حرف عطف، و(كم) الخبريَّة، وتفيد التَّكثیر، لها الصَّدارة في

ص: 272


1- معجم مقاييس اللغة: 3/ 10
2- المخصص: 1/ 155
3- أساس البلاغة: 1/ 198

الكلام، وما بعدها يكون تمييزاً مجروراً، واختُلِف في جرِّه، هل هو بالإضافة، أَو بحرف الجرِّ (مِنْ)(1)، وهو هنا مجرور ب (مِنْ) الظَّاهرة، و(زفرة) اسم مجرور، وعلامة جرِّه الكسرة الظَّاهرة على آخره (تمييز كم الخبريَّة) و(تضنيه) فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه الضَّمَّة المقدَّرة على الياء؛ منع من ظهورها الثِّقل، والفاعل ضمیر مستتر تقديره(هي)، عائدة إلى (زفرة) والهاء: ضمیرمتَّصل مبنيٌّ على الكسرفي محلِّ نصب مفعول به، عائد إلى (مَن جذبت نفسه)، وجملة (تضنيه) صفة ل (زفرة)، وجملة (فكم من زفرة تضنيه) معطوفة على جملة (وتولَّی لفصلٍ عند رب قدير، بعبده خبیر بصیر). وتقدَّم أَنَّ العطف بالفاء يفيد التَّرتيب باتِّصال، وهو المعبرَّ عنه بالتَّعقيب، وكثراً ما تقتضي السَّبب إنْ كان المعطوف جملة(2)، وكذا هي الحال في قول أَمیرالمؤمنین (عليه السلام): «فكم من زفرة تضنيه)؛ فهذه الزَّفرات الَّتي تضني ذلك العبد ناشئة من انصرافه لفصلٍ عند ربٍّ قدير، وبعبده خبیربصیر.

* * *

تُنْضيْهِ

تدلُّ مادَّة (تنضيه) في اللُّغة على الذَّهاب، والخاق، والبِلىَ، والهُزال. قال الجوهريّ: «النِضْوُ بالكسر: البعیر المهزول. والنَّاقة نِضْوةٌ، وقد أَنضَتها الأَسفار؛ فهي مُنْضَاةٌ. وأَنْىَ فلانٌ بعیرَه، أَيْ: هَزَلَهُ، وتَنضَّاهُ أَيضاً... وأَنْضَيْتُ الرَّجل، أَيْ: أَعطيتَه بعیراً مهزولاً... والنِّضْوُ: الثَّوب الخَلِق. وأَنْضْيتُ الثَّوبَ وانتَضَيتُهُ،

ص: 273


1- ينظر: المساعدعلى تسهيل الفوائد وتكميل المقاصد: 2/ 110، وشرح ابن عقيل: 2/ 421،و422
2- ينظر: الفعل (عدل) من الكتاب

أَخلقتُهُ وأَبليتُه»(1).

وقال ابن سيده: «... لام النَّضي واو؛ لأَنَّه لِما عُدِمَ من النَّصل والرِّيش، وكأَنَّه نضى ذلك، فهو من نضوت الشيَّء، إذا أَخرجتُه، وبذلك سُمِّي المهزول نَضْواً؛ لأَنَّه جُرِّد من لحمه»(2).

وقال ابن منظور: «والنَّضْوُ: الثَّوب الخَلِق... ونَضَا الخِضَابُ نَضْواً ونُضُوّاً:

ذهب لونه... ونُضاوةُ الحِنَّاء: ما يبس منه فأُلقي... ما يؤخذ من الخضاب بعدما يُذهب لونه في اليد والشَّعر... والنِّضو بالكسر: البعیر المهزول، وقيل: هو المهزول من جميع الدَّوابِّ... وقد يستعمل في الإنسان... وأَنْضىَ الرَّجُل إذا كانت إبله أَنْضَاء... المُنْضيِ... الرَّجل الذي صار بعیرهُ نِضْواً... ذكر النَّصل بعد النَّضيِّ، قالوا سُمِّي نِضّاً لكثرة البرَي والتَّحت»(3).

وبهذا المعنى أَورد أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) هذا الفعل (تنضيه) مرَّةً واحدة في الخطبة في بيان ما يحصل لذلك الإنسان، الَّذي انرف لفصلٍ عند رب قدير، بعبده خبیر بصیر، إذ قال (عليه السلام): «فَكَمْ مِنْ زَفْرَةٍ تُضْنِيْهِ، وَحَسرْةٍ تًنْضِيْهِ».

ولبيان معنى (حسرة) الَّتي جاء بها أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) مع الفعل (تنضيه) في الخطبة أَقول: جاء في (جمهرة اللُّغة): «وحَسرِ الرَّجلُ يَحسرَحَسرْةً وحَسرَاً، إذ كَمِدَ على الشيَّء الفائت وتلهَّف عليه، وحسَرِت النَّاقة حسوراً، إذ

ص: 274


1- الصحاح في اللغة: 2/ 215
2- المخصص: 1/ 478
3- لسان العرب: 15/ 329. وينظر: تاج العروس: 1/ 8627 و8628

أَعْيَتْ، وأَحتسرُتها أَنا إحساراً، إذا أَتعبتها»(1).

فالحسرة أَشدُّ النَّدم حتَّى يبقى النَّادم كالحسیر من الدَّوابِّ الَّذي لا منفعةفيه(2).

والحسرةُ الغمُّ على ما فات والنَّدم عليه، كأَنَّ قُوى الإنسان تنحسر من فرط الغمِّ، أَو يدركها إعياء من تدارك ما فرط منه(3).

والحَسَرةُ: النَّدم، حَسِر يَحسَر حَسْرةً وحَسَاً، وحُسِر فهو محسور(4).

وببيان معنى (الحسرة) تبدو العلاقة بین الفعل (تنضيه) و(حسرة)؛ وقد أَحسن أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) حین قرن الفعل (تنضيه) بقوله (حسرة)؛ لما بينها من علاقة معنويَّة؛ ف (تنضيه) يدلُّ على الذَّهاب، والخلاق، والبلى، والهزال، وما ذلك إلاَّ ب (الحسرة)، وهي الغمُّ على ما فات، والنَّدم عليه، فكأَنَّ قُوى الإنسان تنحسرمن فرط الغمِّ، أَو يدركها إعياء مِنْ تدارك ما فرط منه، ومنه يتبینَّ لنا دقَّة أَمیرالمؤمنین (عليه السلام)، ولطافته في استعماله اللَّفظة مع اللَّفظة، كما هي الحال في قوله (عليه السلام): «زفرة تضنيه».

و(وحسرة) الواو: حرف عطف، و(حسرة) معطوف على قوله (زفرة) اسم مجرور، وعلامة جرِّه الكسرة الظَّاهرة على آخره،و(تنضيه) فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه الضَّمَّة المقدَّرة على الياء؛ منع من ظهورها الثِّقل، والفاعل ضمیر

ص: 275


1- جمهرة اللغة: 1/ 197. وينظر: معجم مقاييس اللغة: 2/ 48 و49، ولسان العرب: 4/ 187، والقاموس المحيط: 1/ 385، وتاج العروس: 1/ 3687
2- ينظر: تهذيب اللغة: 2/ 82
3- ينظر: / مفردات ألفاظ القرآن: 235
4- ينظر: المحيط في اللغة: 1/ 197

مستتر تقديره هو، عائد على (حسرة)، والهاء ضمیر متَّصل مبنيٌّ على الكسر في محلِّ نصب مفعول به، عائد إلى (من جذبت نفسه).

* * *

يَلْجُمُهُ

جاء في (المحيط في اللُّغة): «اللِّجام للدَّابة: معروف... ولَجمَ بعیرَه. وبه سِمَةُ لَجامٍ: وهو كَيَّةٌ، يُكوى من الجنون من شِدْقَيهِ إلى عَجْبِ الذَّنَبِ من الجانبین. ومن أَمثالهم في حفظ اللسان: (التَّقيُّ مُلْجَمٌ). و(جَاءَ وقد لَفظَ لَمامَهُ) أَيْ: انصرف عنها مجهوداً من الإعياء والعطش... واللُّجْمُ: الهواء والسُّكاك... وموضع ضيِّق مثل العقبة، وهو طريق بن الجبلن. ومَثَلٌ: (عَطَسَتْ به الُّلجَمُ) على وزن صُرد: أَيْ: ذهبت به المنيَّة»(1).

وقال ابن منظور: «الَلجامُ الدَّابة معروف... وفي الحديث مَن سئل عماَّ يَعلمُه فكتَمهُ، أَلجمه الله بلجام من نار يومَ القيامة، قال: المُمْسِكُ عن الكلام مُمثَّلٌ بِمَنْ أَلجم نفسَهُ بلجام، والمراد بالعلم: ما يلزمه تعليمه ويتعینَّ عليه كمَن يرى رجلا حديث عهد بالإسام، ولا يُحسن الصَّلاة، وقد حضر وقتُها، فيقول: علِّموني كيف أُصيِّ، وكَمَنْ جاء مستفتياً في حلال أَو حرام، فإنَّه يلزم في هذا وأَمثاله تعريف الجواب، ومَنْ منعه، استحقَّ الوعيد ومنه الحديث (يَبلُغُ العَرَقُ منهم ما يُلْجِمُهُم)، أَيْ: يصل إلى أَفواههم، فيصر لهم بمنزلة اللِّجام.يمنعهم عن الكلام، يعني: في المحر يوم القيامة... وقد لَفَظَ لَجامَهُ، أَيْ: جاء وهو مجهود من العطش

ص: 276


1- المحيط في اللغة: 2/ 122.وينظر: العین 1/ 483، وتهذيب اللغة: 4/ 18، ومعجم مقاييس اللغة: 189/5، والصحاح في اللغة: 2/ 134، والمخصص: 2/ 37، والمصباح المنر: 8/ 232

والإعياء...»(1).

وبهذا المعنى أَورد أَمیر المؤمنین (عليه السلام) هذا الفعل (يلجمه) مرَّةً واحدة في الخطبة لبيان حال الإنسان في موقف من مواقف حشر يوم القيامة، وهو بین يدي الله - تبارك وتعالى -، وهو - عَزَّ وَجَلَّ - يُسائله عن كلِّ صغیرة وكبیرة، وهو أَعلم بها منه، إذ قال (عليه السلام): «ويُقِيْمُ فِی قَبرْهِ لِيَوْمِ حَرشْهِ، فَيُنْشرَ مِنْ قَبرِهِ حِینْ يُنْفَخُ فِی صُوْرٍ، وَيُدْعَى بِحَشرْ وَنُشُوْرٍ، فَثَّمَ بُعْثِرَتْ قُبُوْرٌ، وَحُصِّلتْ سَريْرَةُصُدُوْرٍ، وَجِيْءَ بِكُلِّ نَبِيٍّ وَصِدِّيْقٍ، وَشَهِيْدٍ ونَطِيْقٍ، وَتَوَلَّ لِفَصْلٍ عِنْدَ رَبٍّ قَدِيْرٍ، بِعَبْدِهِ خَبِیرْ بَصِیرْ، فَكَمْ مِنْ زَفْرَةٍ تُضْنِيْهِ، وَحَشرْةٍ تًنْضِيْهِ، فِی مَوْقِفٍ مَهُوْلٍ عَظِيمٍ، وَمَشْهَدٍ جَلِيْلٍ جَسِيْمٍ، بَینْ يَدَيْ مَلِكٍ كَرِيْمٍ، بِكُلِّ صَغِیرْةٍ وَكَبِیرْةٍ عَلِيْم، فَحِيْنَئِذٍ يَلْجُمُهُعَرَقُهُ». فالموقف عظيم مهول، والمشهد جليل جسيم، كيف لا! والإنسان بین يدي جبار السَّموات والأَرض، وهو- تبارك وتعالى - عليم بكلِّ صغیرة وكبیرة؛ فهذا الموقف يمنع ذلك الإنسان من الكلام أَصلاً، وقد كنَّى أَمیر المؤمنين (عليه السلام) عن هذه الحال بهذه الصُّورة (يُلجمه عرقُهُ)، فيبلغ العرق منه ما يلجمه؛ من شدَّة ذلك الموقف، وهَوْلِهِ، فيصل العرق - عرق الخوف والحياء - إلى فيه؛ فيصیر له بمنزلة اللِّجام، فيمنعه عن الكلام.

و(يلجمه) فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه الضَّمَّة الظَّاهرة على آخره، والهاء ضمیر متَّصل مبنيٌّ على الضَّمِّ في محلِّ نصب مفعول به، عائد إلى (من جذبت نفسه)، و(عرقُه) فاعل مرفوع، وعلامة رفعه الضَّمَّة الظَّاهرة على آخره، والهاء: ضمیر متَّصل مبنيٌّ على الضَّمِّ في محلِّ جرٍّ بالإضافة، عائد إلى (مَنْ جذبت نفسه)، وجملة (يُلجمُهُ) في محلِّ جرٍّ بالإضافة للظَّرف (فحينئذٍ)، وجملة (فحينئذٍ

ص: 277


1- لسان العرب:12 / 534. وينظر: تاج العروس: 1/ 7888

يلجمه عرقه) معطوفة على جملة (وحسرة تنضيه)، وتقدَّم(1)أَنَّ العطف بالفاء يفيد التَّرتيب باتِّصال، وهو التَّعقيب، وكثراً ما تقتي السَّبب إنْ كان المعطوف جملة، وكذا هي الحال في قول أَمیر المؤمنین (عليه السلام): «فحينئذٍ يلجمه عرقه»؛ فهذا العرق الَّذي صار لجاماً لذلك الإنسان ناشئ من (حسرة تنضيه) في موقف مهول عظيم، ومشهد جسيم، بن يدي ملك كريم، بكلِّ صغیرة وكبیرة عليم.

* * *

يَخفِرُهُ

تدلُّ مادَّة (خَفَرَ- يَخفِرُهُ) في اللُّغة على المنع. فخفیر القوم: مُجيْرهُم الَّذي هم في ضمانة ما داموا في بلاده. وخَفَرْتُ الرَّجلَ أَخْفِرُهُ بالكسرخَفْراً، إذا أَجرْتَهُ، وكنت له خفیراً: تمنعه، وكذلك خَفَّرتُهُ تَخفیراً. والخُفْرَةُ: الضَّماَن. والخِفَارَةُ: الذِّمَّة(2).

وبهذه الدَّلالة أَورد أمیرالمؤمنین (عليه السلام) هذا الفعل (يخفره) مرَّةً واحدة في الخطبة في بيان حال ذلك الإنسان الماثل بین يدي الملك الجبار العليم بكلِّ صغیرة وكبیرة، وذلك المشهد الجسيم يجعل ذلك الإنسان عاجزاًعن الكلام، وقد كنَّى أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) عن حال ذلك الإنسان ب (فحينئذٍ يلجمه عرقه)، ثُمَّ أَتبعه بالفعل (يخفره قلقه)، وقد أَحسن أَمیر المؤمنین (عليه السلام) حین شفع الفعل (يلجمه) بهذا الفعل (يخفره)؛ وهو استعمال لطيف دقيق، فيه تدرُّج في المعنى؛ فالفعل الثَّاني يكمِّل معنى الفعل الأَوَّل في بيان صورة

ص: 278


1- ينظر: الفعل (عدل) من الكتاب
2- ينظر: العین: 1/ 320، وجمهرة اللغة: 1/ 309، وتهذيب اللغة: 2/ 482، ومعجم مقاييس اللغة: 163/2، والمحيط في اللغة: 1/ 360، ولسان العرب: 4/ 253، والمصباح المنیر: 3/ 94 ،وتاج العروس: 2780/1 و2781

ذلك الإنسان؛ فالعرق صار لجاماً مانعاً لذلك الإنسان من الكلام؛ فالموقف عظيم مهول، والمشهد جليل جسيم، وذلك الإنسان واقف بین يدي جبارالسَّموات والأَرض، فضلاً عن ذلك فإنَّ هذا الأَمر يجعله قلقاً، فهذا العرق النَّاشئ عن ذلك الموقف المهول الجسيم، والقلق من ذلك كلِّه يمنعانه من الكلام حین يسأَله الله - تبارك وتعالى - على كلِّ صغیرة وكبیرة.

و(ويخفره) الواو: حرف عطف، و(يخفره) فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه الضَّمَّة الظَّاهرة على آخره، والهاء ضمیر متَّصل مبنيٌّ على الضَّمِّ في محلِّ نصب مفعول به، عائد إلى (من جذبت نفسه)، و(قلقه) فاعل مرفوع، وعلامة رفعهالضَّمَّة الظَّاهرة على آخره، والهاء: ضمیر متَّصل مبنيٌّ على الضَّمِّ في محلِّ جرٍّ بالإضافة، عائد إلى (مَن جذبت نفسه)، وجملة (ويخفره قلقه) معطوفة على جملة (ويلجمه عرقه).

* * *

قُوْبِلَ

تدلُّ مادَّة (قُوْبِلَ) في اللُّغة على المواجهة، والمعاينة، وضمِّ اليَّ إلشى شيء آخر، جاء في (العین): «والقُبُل: خلاف الدُّبر... والقُبْل: من إقبالك عى الشيَّء، تقول:

قد أَقبلْتُ قُبْلَكَ، كأَنَّك لا تُريد غیره... وسئل الخليل عن قول العرب: كيف أَنت لو أَقْبَلَ قُبْلُكَ، قال:... إنّمَا هو: كيف أَنت لو استُقْبِلَ وجهُك بما تكره...

تقول: لقيته قِبَلاً أَيْ: مواجهة... وقوله تعالى: (وَحَشَرنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَیءٍ قُبُلاً)(1)أَيْ: قبيلاً قبيلاً ويُقال: عياناً، أَيْ: يُسْتَقْبَلُون كذلك... ومُقَابلةٌ وقُبالةٌ: ما كان

ص: 279


1- الأنعام: 111

مستقبل شيء... وإذا ضممت شيئاً إلى شيء، تقول: قابلته به»(1).

وقال ابن فارس: «القاف والباء واللاَّم أَصل واحد صحيح تدلُّ كَلِمُهُ كُلُّها على مواجهة الشيَّء للشيَّء، ويتفرَّع بعد ذلك. فالقُبُل من كلِّ شيء:خلافُ دُبُره، وذلك أَنَّ مُقْدِمَهُ يُقبل على الشيَّء. والقبيل. ما أَقبلت به المرأَة من غزلها حین تَفْتِلُه، والدَّبر: ما أَدبرت عنه»(2).

وقال الزَّمخشريّ: «ذهب قِبَلَ السّوق. ولِ قِبَلُك حقٌّ، وأَصبتُ هذا من قِبَلِكَ، أَيْ: من جهتك وتلقائك. ولقيتُه قَبَلاً وقُبْلاً وقَبَلاً: مواجهةً وعياناً... ورأَيت بذلك القَبَل شخصاً، وهو ما استقبلك من نشزأَو جبل... وما تصنع لو أَقبل قُبْلُكَ، ولو أَقبل قبلك لسكتَّ، أَيْ: لو اسْتُقْبِلْتَ بما تَكره... وأَقبلت الإناء مجرى الماء، إذا استقبلت به جَرْيَتَهُ»(3).

وتطابقت دلالة الفعل (قوبل) في الخطبة مع دلالته اللُّغوية؛ إذ جاء به أَمیر المؤمنین (عليه السلام) مرَّةً واحدة لبيان ما يحصل على ذلك الإنسان في موقف من مواقف القيامة، حین يحشُر ذلك الإنسان، ويُنشر من قره، ويتولَّ لفصل عند رب قدير، بعبده خبر بصیر، وقد أَلجمه عرقُه، وخَفَرَهُ قَلقهُ، عَبرتُه غیرُ مرحومة، وصَرختُه غیرُ مسموعة، وحُجَّتُهُ غیرُ مقبولة، فخينذاك كا يقول أَمیر المؤمنین (عليه السلام): «وَقُوْبِلَ صحيفته»، أَيْ: إنَّ الله - تبارك وتعالى - يواجه ذلك الإنسان بصحيفته، ويعاينه إيَّاها، وكأَنَّه - عَزَّ وَجَلَّ - يضمُّ ذلك الإنسان إلى

ص: 280


1- العین: 1/ 401. وينر: جمهرة اللغة: 1/ 174، وتهذيب اللغة: 3/ 229 - 231، والصحاح في اللغة: 59/2، والمحيط في اللغة: 1/ 481، والمحكم والمحيط الأعظم: 3/ 60، والمصباح المنیر: 7/ 294، وتاج العروس: 1/ 7422 - 7432
2- معجم مقاييس اللغة: 5/ 42 - 44
3- أساس البلاغة: 1/ 364

صحيفته ضماَّ؛ دلالة على مقابلته إيَّاه بكلِّ ما فيها من صغیرة وكبیرة، ومن سرٍّ وعلن، من لحظة تكليفه إلى آخر لحظة في حياته.

وجدير بالذِّكر أَنَّ أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) لم يقل: «وقابل صحيفته»، بل أَسنده إلى المفعول، فقال: «وقوبل صحيفتُه»؛ لأَمرين: أَحدهما: أَنَّه (عليه السلام) لو قال: (وقابل صحيفته) لفاتت الفائدة من الخطبة، وهي خلوُّها من الألف.

والآخر: أَنَّ دلالة قوله (عليه السلام): «وقوبل صحيفته» تختلف عن دلالة (قابل صحيفته)؛ ففي الأَوَّل يُشعرك الفعل بأَنَّ ذلك الإنسان مجبرعلى مقابلته صحيفته، وليس مخیرَّاً، أَمَّا لو قال: (وقابل صحيفته)، فكأَنَّه مخیرَّ في ذلك، وهو ليس كذلك.

و(قوبل) الواو: حرف عطف، و(قوبل) فعل ماضٍ مبنيٌّ للمجهول مبنيٌّ على الفتح، ونائب الفاعل ضمیر مستتر فيه تقديره هو، عائد إلى (من جذبت نفسه)، و(صحيفتُه) بدل من نائب الفاعل - بدل بعض من كلٍّ - مرفوع، وعلامة رفعه الضَّمَّة الظَّاهرة على آخره، وهو مضاف، والهاء ضمیر متَّصل مبنيٌّ على الضَّمِّ في محلِّ جرٍّ بالإضافة. وجملة (وقوبل صحيفته) معطوفة على جملة (ويخفره قلقه).

* * *

تُبَيَّن

تدلُّ مادَّة (تُبیَنَّ) في اللُّغة على المعرفة، والوضوح، والظُّهور، والتَّأمُّل، والتَّوسُّم، والإنكشاف على نحو الوقوع واللُّزوم. فيُقال: بَانَ الحقُّ يَبِینْ بَيَاناً، فهو بَائِنٌ.

وأَبَانَ يَبِینْ إبَانَةً؛ فهو مبین. ويُقال: بان الشيَّء وأَبان، بمعنى واحد، ويُقال:بان

ص: 281

الشيَّء، وأَبنتُه. ويُقال: بان الشيَّء، وبینَّ، وأَبان واستبان، بمعنى واحد. ويُقال:

تبيَّنتُ الأَمر، أَيْ: تأَمَّلته وتوسَّمته، وقد تبینَّ الأَمر، يكون لازماً وواقعاً(1).

وقال الجوهريّ: «البيان: ما يتبینَّ به الشيَّء من الدَّلالة وغيرها. وبان الشيَّء بياناً: اتَّضح فهو بینِّ... وكذلك أَبان الشيَّء فهو مُبین... وأَبنته أَنا، أَيْ: أَوضحته، واستبان الشيَّء: وضح، واستبنته أَنا: عرفته. وتبینَّ الشيَّء: وضح وظهر وتبيَّنته أَنا... والتَّبيین: الإيضاح. والتَّبين أَيضاً: الوضوح»(2).

والبيِّنة: الدَّلالة الواضحة عقليَّة كانت أَو محسوسة، والبيان: الكشف عن الشيَّء، وهو أَعمُّ من النُّطق؛ لأَنَّ النُّطق مختصٌّ بالإنسان، ويُسمَّى ما بُینِّ به بياناً(3).

وقال الفيُّوميّ: «بان الأَمرُ فهو بینِّ، وجاء بائن على الأَصل، وأَبان إبانة، وبینَّ وتبینَّ واستبان كلُّها بمعنى الوضوح والانكشاف»(4).

وورد هذا الفعل (تُبَینَّ) مرَّةً واحدة في الخطبة مطابقاً دلالته اللُّغوية، وجاء به أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) مبنيّاً للمجهول لبيان ما يحصل على ذلك الإنسان في موقف من مواقف القيامة، حین يُقَابَلُ بصحيفته؛ ف (تُبَینَّ جريرتهُ). والجريرة: هي الجناية، والذَّنب(5). فيكون مراد أَمیرالمؤمنین (عليه السلام)، فظهر، وانكشف،

ص: 282


1- ينظر: تهذيب اللغة: 5/ 219، ولسان العرب: 13/ 62،وتاج العروس: 1/ 7980 و 7981
2- الصحاح في اللغة: 1/ 60
3- ينظر: مفردات ألفاظ القرآن الكريم: 157
4- المصباح المنير: 1/ 425
5- ينظر: العین: 1/ 458، وتهذيب اللغة: 3/ 436 و 4/ 48، ومعجم مقاييس اللغة: 1/ 369، والصحاح في اللغة: 1/ 87، والمحيط في اللغة: 2/ 87، والمخصص: 3/ 466، والمحكم والمحيط الأعظم: 3/ 230، ولسان العرب: 4/ 125، والقاموس المحيط: 1/ 371، وتاج العروس: 1/ 2603 - 2607

وتوضَّح ذنب ذلك الإنسان، وجنايته على نحو الوقوع واللُّزوم، فيعرفها حقَّ المعرفة واليقین.

ومن قمین القول إنَّ أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) لم يُسند هذا الفعل (تبین) وما بعده وهو قوله (عليه السلام): «ونَطَقَ كُّلُّ عُضْوٍ مِنْهُ بِسُوْءِ عَمَلِهِ، فَشَهِدَتْ عَيْنُهُ بِنَظَرِهِ،و َيَدُهُ بِبَطْشِهِ، ورِجْلُهُ بِخَطْوِهِ، وَجِلْدُهُ بِمَسِّهِ، وَفَرْجُهُ بِلَمْسِهِ»إلى - ذلك الإنسان نفسه، بل أَسندها إلى (الجريرة)، و(كل عضو)، و(عينه)؛ لما في ذلك من دلالة على أَنَّ ذلك الإنسان مجیر، وليس مخیرَّاً، فيقلِّبه الحقُّ - تبارك وتعالى - كيفما يشاء، ويحاسبه كيفما يشاء، وهو لا يملك من أَمر نفسه شيئاً، فَيُقَابَل بصحيفته، وتُبَینَّ جريرتهُ، ونطق كلُّ عضو منه، عينه بنظره، ويده ببطشه، ورجله بخطوه، وجسده بمَسِّه، وفرجه بلمسه من دون إرادة منه، بل يسائلها عن سبب نطقها عماَّ ارتكبه، فيأْتي الجواب (أَنْطَقَنَا اللَّه الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَیءٍ) (1).

و(تُبینَّ) فعل مضارع مبنيٌّ للمجهول مرفوع، وعلامة رفعه الضَّمَّة الظَّاهرة على آخره، و(جريرته) نائب فاعل مرفوع، وعلامة رفعه الضَّمَّة الظَّاهرةعلى آخره، وهو مضاف والهاء: ضمیرمتَّصل مبنيٌّ على الضَّمِّ في محلِّ جرٍّ بالإضافة. وجملة (وتبینَّ جريرتهُ) معطوفة على جملة (وقوبل صحيفته).

* * *

ص: 283


1- فصلت: 21

نَطَقَ

تدلُّ مادَّة (نطق) على الكلام، والتَّبين، والتَّوضيح. جاء في (العین): «نَطَقَ النَّاطقُ يَنْطِقُ نُطْقاً ونَطْقاً، وهو مِنْطِيْقٌ بليغ. والكتاب النَّاطق: البَینِّ... وكلام كُلِّ شيء: مَنْطِقُه»(1).

والمَنْطِق: الكلام. وقد نَطَقَ نُطْقاً وأَنْطَقَهُ غیرُه، ونَاطَقهُ واستنطَقَه، أَيْ: كلَّمَهُ.

والمنطيق: البليغ. وقولهم ما له صامت ولا ناطق: فالنَّاطق الحيوان، والصَّامت ما سواه(2).

وقال الرَّاغب: «النُّطقُ في التَّعارف: الأَصوات المقطَّعة الَّتي يُظهرها اللِّسان، وتعيها الأَذان. قال تعالى: (مَا لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ)(3) ولا يكاد يُقال إلاَّ للإنسان، ولا يقال لغیره إلاَّ على سبيل التَّبع، نحو: النَّاطق والصَّامت، فیرُاد بالنَّاطق ما له صوت، وبالصَّامت ما ليس له صوت، ولا يقال للحيوانات ناطق إلاَّ مقيَّداً، وعلى طريق التَّشبيه... وقد يقال النَّاطق لما يدلُّ على شيء، وعلى هذا قيل لحكيم:

ما النَّاطق الصَّامت؟ فقال: الدَّلائل المخبرة والعبر الواعظة. وقوله تعالى: (لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنْطِقُونَ)(4)إشارة إلى أَنَّهم ليسوامن جنس النَّاطق ذوي العقول، وقوله تعالى الَّذِي أَنْطَقَ: (قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّه كُلَّ شَیءٍ)(5) فقد قيل: أَراد الاعتبار،

ص: 284


1- العين: 1/ 287. وينظر: جمهرة اللغة: 2/ 19، والمحيط في اللغة: 8/ 457، والمخصص: 1/ 165
2- ينظر: معجم مقاييس اللغة: 5/ 353، والصحاح في اللغة: 2/ 216، والمحكم والمحيط الأعظم: 18/3، ولسان العرب: 1/ 3 - 4، والمصباح المنیر: 9/ 349، والقاموس المحيط: 3/ 12، وتاج العروس:1 / 6595
3- الصافات: 92
4- الأنبياء: 65
5- فصلت: 21

فمعلوم أَنَّ الأَشياء كلّها ليست تنطق إلاَّ من حيث العبرة... وقوله: (هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالَحقِّ)(1) فإنَّ الكتاب ناطق، لكن نطقه تدركه بالعین، كما أَنَّ الكلام كتاب لكن يدركه السَّمع، وقوله: (وَقَالُوا لُجِلُودِهِمْ لِم شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّه الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَیءٍ)(2)فقد قيل: إنَّ ذلك يكون بالصَّوت المسموع، وقيل:

يكون بالاعتبار، والله أَعلم بما يكون في النَّشأة الآخرة. وقيل: حقيقة النُّطق اللَّفظ الَّذي كالنِّطاق للمعنى في ضمِّه وحصره»(3).

والنَّاطق في الاصطاح: وهو اليَّء الَّذي يستطيع التَّعبیرعن أَفكاره بصوت مرتفع، وهذا لا ينطبق إلاَّ على الإنسان(4).

والنُّطق على أَنواع:

نطق فكريّ: يتمُّ عن طريق كلام النَّفس مع ذاتها من خال تفكيرها بما تقول، وتفكيرها بالأَشياء، فهذا النَّوع مرتبط بالرُّوح.

نطق لفظيّ: يتمُّ عن طريق اللِّسان. يطرح الإنسان بواسطته النَّوع الأَوَّل من النُّطق، وهذا النَّوع مرتبط بالجسم؛ لأَنَّه يتمُّ بواسطة الأَعضاء.

وعلى هذا، فقد ذكر النُّطق نوعان: «فكريّ، ولفظيّ. فالنُّطق اللَّفظي أَمیر جسمانيٌّ محسوس، والنُّطق الفكريُّ أَمر روحانيٌّ معقول؛ وذلك أَنَّ النُّطق اللَّفظي إنَّما هو أَصوات مسموعة لها هجاء، وهذا يظهر من اللِّسان الَّذي هو عضو من

ص: 285


1- الجاثية: 29
2- فصلت: 21
3- مفردات ألفاظ القرآن:811 و 812
4- ينظر: الصحاح في اللغة: 4/ 1559، والمعجم الفلسفي: 2/ 457

الجسد، وتمرُّ إلى المسامع من الأُذن الَّتي هي أَعضاء من أَجساد أُخر.

أَمَّا النُّطق الفكريُّ الَّذي هو أَمر روحانيٌّ معقول، فهو تصوُّرالنَّفس معاني الأَشياء في ذاتها، وروايتها لرسوم المحسوسات في جوهرها، وتميُّزها في فكرتها، وبهذا النُّطق يُخدُّ الإنسان، فيُقال: إنَّه حيٌّ ناطق صائت. فنطق الإنسان وحياته من قبل النَّفس، وموته من قبل الجسد؛ لأَنَّ اسم الإنسان إنَّا هو واقع على النَّفس والجسد جميعاً»(1).

وتطابقت دلالة الفعل (نطق) في الخطبة مع دلالته اللُّغوية؛ إذ جاء به أَمیر المؤمنین (عليه السلام) مرَّةً واحدة لبيان ما يحصل على ذلك الإنسان في موقف من مواقف يوم القيامة، إذ قال (عليه السلام): «وقُوبِلَ صَحِيْفَتُهُ، وَتُبَینّ جَرِيْرَتُهُ، وَنَطَقَ كُلُّ عُضْوٍ مِنْهُ بِسُوْءِ عَمَلِهِ».

و(نطق) فعل ماضٍ مبنيٌّ على الفتح، و(كل) فاعل مرفوع، وعلامة رفعه الضَّمَّة الظَّاهرة على آخره، وهو مضاف، و(عضو) مضاف إليه مجرور، وعلامة جرِّه الكسرة الظَّاهرة على آخره، و(منه)، من: حرف جر، والهاء ضمیر متَّصل مبنيٌّ على الضَّمِّ في محلِّ جرٍّ بحرف الجرِّ، عائد إلى «من جذبت نفسه»، وجملة «ونطق كل عضو منه»، معطوفة على جملة «وتُبینِّ جريرتُه».

* * *

يُهدِّده

تدلُّ مادَّة «يُهدِّده» في اللُغة على الوعيد والتَّخويف، والكسر، والهضم، والهدم.

جاء في (معجم مقاييس اللُّغة): «الهاء والدَّال أَصل صحيح، يدلُّ على كسروهضم

ص: 286


1- رسائل إخوان الصفا: 1/ 391

وهدم»(1).

والتَّهدُّد والتَّهديد والتِّهدادُ من الوعيد والتَّخويف. ويُقال: هدَّدْتُ فلاناً وتَدَّدْتُه: إذا زعزعْتُهُ بالوعيد(2).

وبهذا المعنى أَورد أَمیر المؤمنین (عليه السلام) هذا الفعل (يُدِّده) مرَّةً واحدة في الخطبة، أَسنده فيها إلى المَلكن الموكَّلین بالميِّت حین يُدفن، إذ قال (عليه السلام):

«ويُدِّدُهُ مُنْكَرٌ وَنَكِیرْ» ولاشكَّ في أَنَّ هيأَة منكر ونكیر، وصوتها، وبصرهما، مدعاة إلى التَّخوُّف، والكسر، والهضم؛ ففي رواية عن أَبي عبد الله الصَّادق (عليه السلام)، قال: «يجيء الملكان منكر ونكیر إلى الميِّت حین يُدفن، أَصواتها كالرَّعد القاصف، وأَبصارهما كالبرق الخاطف، يخطَّان الأَرض بأَنيابها، ويطآن في شعورهما...»(3).

وقد أَحسن أَمیر المؤمنین (عليه السلام): حین استعمل هذا الفعل (يهدِّده) بزنة المضارع؛ لما في صيغة المضارع من الدَّلالة على الحدوث والتَّجدُّد والحركة التي تتناسب وحال ذلك الإنسان في تلك اللَّحظة من حال الاضطراب والخوف والقلق، الَّتي تدلُّ جميعها على الحركة، فكانت زنة المضارع مناسبة لتلك الحال.

(ويهدِّده) فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه الضَّمَّة الظَّاهرة على آخره، والهاء: ضمیر متَّصل مبنيٌّ على الضَّمِّ في محلِّ نصب مفعول به، عائد إلى «من جذبن نفسه»، و«منكر» فاعل مرفوع، وعلامة رفعه الضَّمَّة الظَّاهرة على آخره، و«ونكیر»الواو حرف عطف، و(نكیر): اسم معطوف مرفوع، وعلامة رفعه

ص: 287


1- معجم مقاييس اللغة: 6/ 4
2- نظر: العین: 1/ 92، وجمهرة اللغة: 1/ 35، وتهذيب اللغة: 3/ 359، والصحاح في اللغة: 2/ 245، ومفردات ألفاظ القرآن: 834،ولسان العرب: 3/ 432، وتاج العروس: 1/ 2360
3- معالم الزلفى في معارف النشأة الأولى والأخرى: 2/ 38

الضَّمَّة الظَّاهرة على آخره، وجملة «ويهدده منكر ونكیر»معطوفة على جملة «وشهدت عينه بنظره»

* * *

كَشفَ

تدلُّ مادَّة (كشف) في اللُّغة على كَشْفِ الشيَّء، وإظهاره وإبدائه، وتعريفه. جاء في (العین): «الكَشْفُ: رفعُك شيئاً عماَّ يواريه ويغطِّيه، كرفع الغطاء عن الشيَّء»(1) .

وقال ابن دريد: «كشفتُ الشيَّء أَكشِفُه كَشْفاً، پإذا أَظهرتُه وأَبديته. ورجل أَكشف إذا انحر مقدِّم رأْسه من الشَّعر... ورجل أَكشف أَيضاً للَّذي لا تُرس معه... وكشَّفتُ فلاناً عن كذا وكذا، إذا أَكرهتُه على إظهاره»(2) .

وورد هذا الفعل (كشف) مرَّةً واحدة في الخطبة مطابقاً دلالته اللُّغوية؛ إذ قال أَمیرالمؤمنین (عليه السلام): «وَكَشَفَ عَنْهَ بَصِیرْ».

وقد أَحسن أَمیر المؤمنین (عليه السلام) حین أَسند هذا الفعل (كشف) إلى الفاعل (بصیر)؛ لما بينها من علاقة وثيقة في المعنى، إذ يُكْشَفُ عن ذلك الإنسان كُلُّ ما غُطِّي ووُري، أَيْ: يظهر: ويُبدى، ويُعرف؛ لأَنَّ الكاشف بصیر بكلِّ ما فَعَلَهُ. والبصیر هو الَّذي يشاهد الأَشياء ظاهرها وباطنها وخافيها بغیر جارحة،

ص: 288


1- العین: 1/ 428، وينظر: تهذيب اللغة: 3/ 318 و 319، والصحاح في اللغة: 2/ 116، والمحيط في اللغة: 2/ 26
2- جمهرة اللغة: 1/ 489. وينظر: معجم مقاييس اللغة: 5/ 146، والمحكم والمحيط الأعظم: 3/ 136، ولسان العرب: 9/ 300، والقاموس المحيط: 2/ 424، وتاج العروس: 1/ 6095

والبصرعبارة عن الصِّفة الَّتي ينكشف بها كال نعوت المبصرات(1).

فالله - سبحانه وتعالى - بصر لا بحدقة ولا جفن، فهو سبحانه عالم بالمبصرات، فالبصراسم له - تعالى - باعتبار إحاطته بتمام المبصرات دائماً، وهو الحيُّ الَّذي لا آفة به، فهو ممَّنْ يجیب أَنْ يبصرِ المبصرات إذا وجدت، وليس أَحدهما هو الآخر(2)، وذكر الطَّبرسيّ أَنَّ «البصیر بمعنى المبصر؛ لأَنَّه سبحانه وتعالى يبصر من غیر أَنْ يبصره أَحد»(3)، وعدَّه ابن قتيبة من صفات الله الَّتي جاءت على (فعيل)؛ فهوبصیر بمعنى باصر(4).

وهذا شاهد آخر على دقَّة مراعاة أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) اختياراللَّفظة مع اللَّفظة، فضلاً عن الأَلفاظ جميعاً؛ لإيصال المعنى المراد.

و(كشف) فعل ماضٍ مبنيٌّ على الفتح، و(عنه) عن: حرف جرٍّ،والهاء:

ضمیر متَّصل مبنيٌّ على الضَّمِّ في محلِّ جرٍّ بحرف الجرِّ، عائد إلى (من جذبت نفسه)، و(بصر) فاعل مرفوع، وعلامة رفعه الضَّمَّة الظَّاهرة على آخره. وجملة (وكشف عنه بصیر) معطوفة على جملة (ويهِّده منكر ونكیر).

* * *

ص: 289


1- ينظر: لسان العرب: 14/ 64
2- ينظر: شرح الأسماء الحسنى: 34
3- مجمع البيان: 1/ 370 و371
4- ينظر: تفسير غريب القرآن: 165 و17

سلْسلَ

تدلُّ مادَّة (سُلْسِلَ) على اتِّصال الشيَّء بالشيَّء، وانعقاده. قال ابن دريد:

«السِّلْسلَةُّ: اتِّصالُ الشيَّء بالشيَّء. وبه سُمِّيت سِلْسِلَة الحديد. وسلسلة الرَّمل»(1) .

وقال الجوهريّ: «...وشيءٌ مُسَلْسَل: متَّصل بعضه ببعض. ومنه سلسلة الحديد. وسلسلة البرق: ما استطال منه في عَرْض السَّحاب... السَّلاسل: رمل ينعقد بعضه على بعض، وينقاد»(2) .

وبهذا المعنى أَورد أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) هذا الفعل (سُلْسِلَ) مرَّةً واحدة في الخطبة؛ إذ قال (عليه السلام): «وَكَشَفَ عَنْهُ بَصِیرْ، فَسُلْسِلَ جِيْدُهُ، وَغُلَّتْ يَدُهُ، وَسِيْقَ بِسَحْبٍ وَشِدَّةٍ».

فبعد أَنْ أَظهرالبصركلَّ معايب ذلك الإنسان، وكلَّ ما ووري وخفي عن العباد، يؤخذ به إلى جهنَّم، وتقدَّم(3) أَنَّ العطف بالفاء يفيد التَّرتيب باتِّصال، وكثیراً ما يقتي السَّبب إنْ كان المعطوف جملة، ف (سُلْسِلَ) هذا الفعل من جملة (سُلْسِلَ جيده) كان نتيجة لجملة (كشف عنه بصیر).

وبین أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) الكيفيَّة الَّتي يُؤخذ بها ذلك الإنسان المذنب إلى جهنَّم، فبدأَ بهذا الفعل (فسلسل).

وقيل: إنَّ الجيد هو العنق، أَو مقدِّمته(4) ، أَو مُقلَّدُه. و(سُلْسِلَ جيدُه) إنَّما جاء

ص: 290


1- جمهرة اللغة: 1/ 75. وينظر: العين: 2/ 51، والمحيط في اللغة: 2/ 243
2- الصحاح في اللغة: 1/ 325. وينظر: معجم مقاييس اللغة: 3/ 43 ، ولسان العرب: 11 / 342 و 343، والقاموس المحيط: 3/ 113، وتاج العروس: 1/ 7183 و 7184
3- ينظر: الفعل (عدل) من الكتاب
4- ينظر: العین: 1/ 488، وجمهرة اللغة: 1/ 321، وتهذيب اللغة: 4/ 36، ومعجم مقاييس اللغة: 442/1، والصحاح في اللغة: 1/ 110، والمحيط في اللغة: 2/ 131، والمحكم والمحيط الأعظم: 322 /3، ولسان العرب: 3/ 139 ، والمصباح المنیر: 2/ 245 ، وتاج العروس: 1/ 1946

على طريق التَّهكُّم، وسَلْسَلَةُ الجيد فيها دلالة على الإذلال والتَّحقیر بأَنْ يُوضع في عنق ذلك الإنسان المذنب، أَو مقدِّمة عنقه سِلْسِلة، وهو ما يؤدِّيه بناء هذا الفعل للمجهول؛ إذ تقدَّم أَنَّ في حذف الفاعل، وإقامة المفعول مقامه معاني ذكرها العلماء، منها: التَّحقیر(1)، أَو لعلَّ في ذلك كناية عن أَعمال ذلك الإنسان، فيأْتي الإنسان مقلَّدًا عمله؛ فتكون أَعماله في عنقه كالقلادة السِّلْسِلة، وقد جاء في الدُّعاء الموسوم بدعاء الحزين: «... ارحمني يوم آتيك فرداً شاخصاً إليك بصري، - مقلَّداً عملي»(2) .

وقول أَمیر المؤمنین (عليه السلام): «فَسُلْسِلَ جِيدُهُ، وَغُلَّتْ يَدُهُ، وَسِيْقَ بِسَحْبٍ وَشِدَّةٍ» فيه تضمن لقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (خُذُوهُ فَغُلُّوهُ، ثُمَّ الَجحِيمَ صَلُّوهُ)(3) .

وقيل: يتبدَّرُه ملائكة كثیرون، ثُمَّ يجمعون يده إلى عنقه، ويشدُّونه بالأَغلال(4) .

وقيل: يُؤخذ الكافر بعنف وقوَّة من المحشر، فيُغَلّ، ثُمَّ يورد في النَّار(5) .

فَأُوجِزَ في القرآن الكريم في بيان حال ذلك الإنسان (خُذُوهُ فَغُلُّوهُ، ثُمَّ الَجحِيمَ صَلُّوهُ)، وفصَّله أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) بقوله: «فَسُلْسِلَ جِيدُهُ، وَغُلَّتْ يَدُهُ، وَسِيْقَ بِسَحْبٍ وَشِدَّةٍ».

و(سلسل) فعل ماضٍ مبنيٌّ للمجهول، مبنيٌّ على الفتح، و(جيده) نائب فاعل

ص: 291


1- ينظر: الفعل (جذبت) من الكتاب
2- مفاتيح الجنان: 814
3- الحاقة: 30 - 31
4- ينظر: التفسير الكبير: 3/ 114
5- ينظر: تفسير القرآن العظيم: 4/ 416

مرفوع، وعلامة رفعه الضَّمَّة الظَّاهرة على آخره، وهو مضاف، والهاء: ضمیر مَّتصل مبنيٌّ على الضَّمِّ في محلِّ جرٍّ بالإضافة. وجملة (فسلسل جيده) معطوفة على جملة (وكشف عنه بصر).

* * *

غُلَّتْ

تدلُّ مادَّة (غُلَّت) في اللُّغة على تدرُّع الشيَّء، وتوسُّطه، وتخلُّل الشيَّء وثباته.

فالغُلُّ: جامعة تُشَدُّ بها العنق واليد(1). وقال ابن فارس: «الغین واللاَّم أَصل صحيح يدلُّ على تخلُّل شيء، وثبات شيء، كالشيَّء يُغْرَزُ. من ذلك قول العرب: غَلَلْتُ الشيَّء في الشيَّء، إذا أَثبتَّه فيه، كأَنَّه غَرَزْتَهُ»(2).

والغُلُّ بالضَّمِّ: واحد الأَغلال. يقال في رقبته غُلٌّ من حديد، وغَلَلْتُ يده إلى عنقه، وقد غُلَّ فهو مغلول. وغَلَلْتْ الشيَّء في الشيَّء: أَدخلتُه فيه(3).

وقال الرَّاغب: «الغَلَلُ أَصلُه: تدرُّع الشيَّء وتوسُّطه، ومنه: الغلَلُ للماء الجاري بین الشَّجر، وقد يقال له: الغَيلُ، وانغلَّ فيا بین الشَّجر: دخل فيه، فالغُلُّ مختصٌّ بما يُقيَّد به، فيَجعَلُ الأَعضاء وسطه، وجمعه أَغلال، وغُلَّ فلانٌ: قُتّدَ به: قال تعالى: (خُذُوهُ فَغُلُّوهُ) [الحاقَّة/ 30]»(4) .

ص: 292


1- ينظر: العين: 1/ 342، والمحيط في اللغة: 1/ 389
2- معجم مقاييس اللغة: 3/ 302
3- ينظر: الصحاح في اللغة: 2/ 24، والمحيط في اللغة: 1/ 389، والمخصص: 2/ 492، والمحكم والمحيط الأعظم: 2/ 388، ولسان العرب: 11/ 499،والمصباح المنیر: 7/ 67، والقاموس المحيط: 142/2وتاج العروس: 1/ 7382 -7385
4- مفردات ألفاظ القرآن: 610

وجاء هذا الفعل (غُلَّتْ) مرَّةً واحدة في الخطبة مطابقاً دلالته اللُّغوية، وهو ثاني الأَفعال الثَّلاثة الَّتي أَوردها أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) في بيان الكيفيَّة التي يُؤخذ بها ذلك الإنسان المذنب إلى النَّار، إذ قال (عليه السلام): «فَسُلْسِلَ جِيْدُهُ، وغُلَّتْ يَدُهُ، وَسِيْقَ بِسَحْبٍ وَحِدَّة، فَوَرَدَ جَهَنَّمَ بِكَرْبٍ وَشِدَّةٍ». أَيْ: جُعلت الأَغلال في يديه، فهي ثابتة، وكأَنَّها مغروزة فيهما، ولا يمكن في أَيِّ حال من الأَحوال أَنْ يُفلت يديه منها.

و(غُلَّت) فعل ماضٍ مبنيٌّ للمجهول، مبنيٌّ على الفتح، والتَّاء: تاء التَّأنيث السَّاكنة، لا محلَّ لها من الإعراب، و(يَدُه) نائب فاعل مرفوع، وعلامة رفعه الضَّمَّة الظَّاهرة على آخره، والهاء: ضمیر متَّصل مبنيٌّ على الضَّمِّ في محلِّ جرٍّ بالإضافة، عائد إلى (مَنْ جذبت نفسه). وجملة (وغُلَّتّ يدُه) معطوفة على جملة (فَسُلسل جيدُه).

* * *

سيْقَ

تدلُّ مادَّة (سيق) في اللُّغة على حثِّ الشيَّء على المشي على شاقِّه؛ لهذا فهو مخصوص فيما له ساق متحرِّكة؛ لذلك قال ابن فارس: «السِّین والواو والقاف أَصل واحد، وهو حَدْوُ الشَّیء»(1). والسَّوق مشتقَّة من هذا لما يُساق إليها من كلِّ شيء، والجمع أَسواق، والسَّاق للإنسان وغیره، وإنْ سُمِّيت بذلك؛ لأَنَّ الماشي ينساق عليها، والجمع سُوْقٌ. وسَوْقُ الإبل: جَلْبُها. يُقال: سقتُه فانساق(2) .

ص: 293


1- معجم مقاييس اللغة: 3/ 89
2- ينظر: العین: 1/ 406، وجمهرة اللغة: 1/ 476، وتهذيب اللغة: 3/ 250، والصحاح في اللغة: 340/1، والمحيط في اللغة: 1/ 490، والمحكم والمحيط الأعظم: 3/ 89 ، ولسان العرب: 10 / 166، والمصباح المنير: 4/ 382

وتساوقت الإبل، تتابعت(1). والرِّيح تسوق الرِّياح(2).

وجاء هذا الفعل (سيق) مرَّةً واحدة في الخطبة مطابقاً دلالته اللُّغوية، وهو ثالث الأَفعال الثَّلاثة الَّتي أَوردها أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) في بيان الكيفيَّة الَّتي يؤخذ بها ذلك الإنسان المذنب إلى النَّار؛ إذ قال (عليه السلام): «فَسُلْسِلَ جِيْدُهُ، وغُلَّتْ يَدُهُ، وَسِيْقَ بِسَحْبٍ وَحِدَّة، فَوَرَدَ جَهَنَّمَ بِكَرْبٍ وَشِدَّةٍ». فصوَّرأَمیرالمؤمنین (عليه السلام) حال ذلك الإنسان وهو يُساق، أَيْ: يُحثُّ على المشي بسحبٍ وحدَّة، كيف لا؛ وقد سيق ذلك الإنسان إلى جهنَّم، وقد سلسل جيدُه، وغُلَّت يدُه، فلابُدَّ من وجود ممانعة من ذلك الإنسان؛ لخوفه وقلقه، ولكن هيهات، فإنَّه لا محالة وارد جهنَّم، كما يقول أَمیرالمؤمنین (عليه السلام): «فَوَرَدَ جَهَنَّمَ بِكَرْبٍ وَشِدَّةٍ» بعد أَنْ سيق بسحب وحدَّة.

و(سيق) فعل ماضٍ مبنيٌّ للمجهول، مبنيٌّ على الفتح، ونائب الفاعل ضمیرمستتر فيه، يعود إلى (من جذبت نفسه)، و(بسحبٍ) الباء: حرف جرٍّ، و(سحب) اسم مجرور، وعلامة جرِّه الكسرة الظَّاهرة على آخره، والجارُّ والمجرورمتعلِّقان بالفعل (سيق)، و(وحدَّة) الواو: حرف عطف، و(حدَّة) اسم معطوف على (بسحب) مجرور، وعلامة جرِّه الكسرة الظَّاهرة على آخره، وجملة (وسيق بسحب وحدَّة) معطوفة على جملة (وغُلَّت يدهُ).

واللاَّفت للنَّظرأَنَّ أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) جاء بهذه الأَفعال الثَّلاثة (سُلْسِلَ، غُلَّتْ، سيق) في صيغة المبني للمجهول، وتقدَّم أَنَّ لحذف الفاعل،

ص: 294


1- ينظر: المحكم والمحيط الأعظم: 3/ 89،ولسان العرب: 10/ 166
2- ينظر: أساس البلاغة: 1/ 232

وإقامة المفعول مقامه معاني ذكرها العلماء، ومنها: التَّعظيم(1)؛ فكأَنَّ أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) أَراد أَنْ يبینِّ عظمة حال ذلك الإنسان المأْخوذ إلى جهنَّم - بما تحمل من تخويف -، وهو مأْخوذ من ملائكة غلاظ شداد، فيضعون السِّلسلة في عنقه، ويقيِّدون يده، ويسوقونه بسحب وحدَّة، فتكون النَّتيجة أَنَّه يَرِدُ جهنَّم بنفسه، فقال (عليه السلام):«فَوَرَدَ جَهَنَّمَ بِكَرْبٍ وَشِدَّةٍ».

واللَّفت للنَّظرأَيضاً أَنَّ أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) جاء بهذه الأَفعال الثّلَاثة في صيغة المبني للمجهول، فَيُسَلسَلُ جيدُه، وتُقَيَّدُ يَدهُ، ويُساق إلى جهنَّم بسحب وحدَّة، ففي هذه الأَفعال لا يملك ذلك الإنسان من أَمره شيئاً، وهو مجبرعلى فِعْلِ ذلك كلِّه، وليس مخیرَّا. في حین نجد أَنَّ أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) عدل - بعد هذه الأَفعال الثَّاثة مع الفعل (ورد) إلى صيغة المبني للمعلوم، فقال (عليه السلام): «فَوَرَدَ جَهَنَّمَ بِكَرْبٍ وَشِدَّةٍ»؛ وكأَنَّه (عليه السلام) يريد أَنْ يصوِّر ذلك الإنسان في لحظة وروده جهنَّم بأَنَّه داخل فيها رغماً عن أَنفه، وهو أَمرلا محيص منه.

* * *

وَرَدَ

تدلُّ مادَّة (وَرَدَ) في اللُّغة على الإشراف على الشيَّء، وبلوغه، وحضوره، وموافاته من غیر دخول، وقد يحصل دخولٌ فيه. جاء في (العین): «الوِرْدُ: الوقت يوم الوِرْدِ بین الظّمئین... ووَرَدَ الوارِدُ يَرِدُ وروداً. والوِرْدُ أَيضاً اسمٌ من وَرَدَ يَرِدُ يومَ الوِرْدِ. ووَرَدت الطَّیرُ الماءَ، ووَرَدَتْهُ أَورداً»(2).

ص: 295


1- ينظر: الفعل (جذبت) من الكتاب
2- العين: 2 / 124. وينظر: المحيط في اللغة: 2/ 357، والمخصص: 2/ 91، والقاموس المحيط: 1 / 329

ويُقال: إذا بلغت إلى البلد ولم تدخله: قد وردت بلداً كذا وكذا، ووردتُ بلدَ كذا وماء كذا: إذا أَشرف عليه ودخله، أَو لم يدخله(1). ويُقال: وَرَدَ فُلانٌ ورُوداً:

حضر. وأَورده غیرُه، واستورده، أَيْ: أَحضره. والوِرْدُ خلاف الصَّدَر. وتورَّدت الخيلُ البلدةَ، أَيْ: دخلتها قليلاً قليلاً قطعة قطعة(2).

والوِرْدُ: يومُ الحُمَّى إذا وردَتْ، واستعمل في النَّارعلى سبيل الفظاعة. قال تعالى: (فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الَموْرُودُ)(3)(4).

وقال الفيُّوميّ: «وَرَدَ البعیرُ وغیرهُ الماءَ يَرِدُهُ وروداً :بَلَغَهُ، ووافاه من غير دخول، وقد يحصل دخول فيه، والاسم الوِرْدُ بالكسر، وأَوردته الماءَ، فالوِرْدُ خلاف الصَّدَر، والإيراد خلافُ الإصدار، والمَوْرِد مثل مسجد موضع الورود»(5).

وتطابقت دلالة الفعل (ورد) في الخطبة مع دلالته اللُّغوية؛ إذ أَورده أَمیر المؤمنین (عليه السلام) مرَّةً واحدة، جاء فيها مبنيّاً للمعلوم، فقال (عليه السلام):

«فَسُلْسِلَ جِيْدُهُ، وغُلَّتْ يَدُهُ، وَسِيْقَ بِسَحْبٍ وَحِدَّة، فَوَرَدَ جَهَنَّمَ بِكَرْبٍ وَشِدَّةٍ».

والكرب هو الغمُّ، والحزن، والهمُّ الشَّديد الَّذي يأْخذ بالنَّفس. جاء في (العین): «الكرب.. وهو الغمُّ الَّذي يأْخذ بالنَّفس، يقال كَرَبَهُ أَمرٌ، وإنَّه لَمكروب النفس، والكُربة: الاسم»(6).

ص: 296


1- ينظر: تهذيب اللغة: 4/ 473
2- ينظر: الصحاح في اللغة: 2/ 274
3- هود: 98
4- ينظر: مفردات ألفاظ القرآن: 865
5- المصباح المنير: 10/ 306. وينظر:لسان العرب: 3/ 456، وتاج العروس: 1/ 2333-
6- العين: 1/ 440

وقال ابن دريد: «والكرب: الغمُّ، معروف، وكربني الأَمر، أَيْ: بهظني، وكأَنَّ الكرب أَشدُّ من الغمِّ».(1)

وقال الجوهريّ: «الكربة بالضَّمِّ: الغمُّ الَّذي يأْخذ بالنَّفس، وكذلك الكرب. تقول منه: كَرَبَهُ الغمُّ، إذا اشتدَّ عليه»(2) .

وجاء في (المحيط في اللُّغة): «الكَرْبُ والكُرْبَةُ: الغمُّ يأْخذ بالنَّفس، كَرَبَهُ الأَمرُ يَكْرُبْه، وإنَّه لَمكروب»(3) .

أَمَّا (الشِّدَّةُ)، فهي الصُّعوبة، والغلظة، وصعوبة الزَّمن. قال أَبو هلال العسكريّ: «الشِّدَّة في الأَصل هي مبالغة في وصف الشيَّء في صلابة»(4) .

وقال ابن سيده: «الشيَّء الشَّديد الصَّعب الغليظ القويُّ، والشِّدَّة: صعوبة الزَّمن... من مكاره الدَّهر»(5) .

و(فورد) الفاء: حرف عطف، (ورد): فعل ماضٍ مبنيٌّ على الفتح، والفاعل ضمیر مستتر فيه تقديره هو، عائد إلى (من جذبت نفسه) و(جهنم) مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الفتحة الظَّاهرة على آخره، و(بكرب) الباء: حرف جرٍّ،

ص: 297


1- جمهرة اللغة: 1/ 146
2- الصحاح في اللغة: 2/ 111. وينظر: تهذيب اللغة: 3/ 367، ومعجم مقاييس اللغة: 5/ 141، والمخصص: 3/ 192، وأساس البلاغة: 1/ 402، ولسان العرب: 1/ 711، والمصباح المنیر: 8/ 64 ، والقاموس المحيط: 1/ 116، وتاج العروس: 1/ 904 - 908
3- المحيط في اللغة: 2/ 47
4- الفروق اللغوية: 1/ 297
5- المحكم والمحيط الأعظم: 3/ 253 . وينظر: الصحاح في اللغة: 1/ 349 ، والمحيط في اللغة: 2/ 150،وأساس البلاغة: 1/ 238 ، ولسان العرب: 13 / 506

و(كرب) اسم مجرور، وعلامة جرِّه الكسرة الظَّاهرة على آخره، والجارُّ والمجرورمتعلِّقان بالفعل (ورد)، و(وشدَّة) الواو: حرف عطف، و(شدَّة): اسم معطوف مجرور، وعلامة جرِّه الكسرة الظَّاهرة على آخره. وجملة «فورد جهنم بكرب وشدَّة» معطوفة على جملة «وسيق بسحب وحدَّة». واستعمل أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) حرف العطف (الفاء) الَّذي يفيد العطف بترتيب من دون تراخٍ، أَيْ:

باتِّصال؛ ولذا (فورد جهنم) نتيجة السَّوق بسحب وحدَّة، وهذا الورود حاصل من دون أَدنى شكٍّ في ذلك، ومن دون تريُّث، وهذا المعنى أَفاده حرف العطف (الفاء) مع الفعل (ورد).

وقول أَمر المؤمنین (عليه السلام): «فورد جهنم بكرب وشدَّة» فيه تضمین لقوله - تبارك وتعالى -: (فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الَموْرُودُ)(1).

وأَودُّ أَنْ أُشير- هنا - إلى مسأَلتين أَحسبهما مهمَّتين في البحث: وهما: أَوَّلاً: إنَّ أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) استعمل مع هذا الفعل (ورد) لبيان عذاب ذلك الإنسان - المذنب في النَّار كلمة (جهنَّم)، وذكرمع الفعل (يُعذَّب) - وسيأْتي الكلام عليه إنْ شاء الله تعالى - كلمة (جحيم) من أَساء النَّار، إذ قال (عليه السلام): «فَوَرَدَ جَهنَّمَ بكربٍ وشدَّةٍ، فَظَلَّ يُعَذَّبُ في جحيمٍ». ويبدو لي أَنَّ هذا الأَمر لم يكن مصادفة، أَو شيئاً من هذا القبيل؛ بل إنَّ أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) كان قاصداً ذلك كلَّه؛ فقد ذكر المفسرِّون أَنَّ للنَّارأَسماء عامَّة وخاصَّة(2).

فالاسم العامُّ لها (جهنَّم)، وهو ما يناسب ورود ذلك الإنسان المذنب للوهلة الأُولى، ثُمَّ يقاد - بعد ذلك - إلى درجة من درجات النَّار، أَو مكان من أَماكنها،

ص: 298


1- هود: 98
2- ينظر: ألفاظ العقاب الأخروي في القرآن الكريم، دراسة دلالية (رسالة ماجستير): 18 -

وهو (جحيم)، فكما أَنَّ للجنَّة درجات، فللنَّار درجات أَيضاً، فهناك تدرُّج في ذكر النَّارعند أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) في الخطبة با يناسب أَحوال ذلك الإنسان، وتقلباته فيها.

ثانياً: إنَّ أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) جاء بالأَفعال (كشف، سلسل، غُلَّتْ، سيق، ورد) بلفظ الماضي، لما فيه من دلالة على النَّفاذ والثُّبوت(1) ،فكأَنَّ أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) يريد أَنْ يقول: إنَّ هذه الأَفعال نافذة لا محالة، وهذا الأَمر مفروغ منه، فهو (عليه السام) يتحدَّث عن أَحداث أَو أُمورحاصلة قبل زمن التَّكلُّم، بَيْدَ أَنَّه (عليه السلام) جاء بالفعل (يُهدِّدُه) قبل هذه الأَفعال بزنة المضارع؛ لما في المضارع من دلالة على الحدوث، والتَّجدُّد، والحركة تتناسب وحال ذلك الإنسان في تلك اللَّحظة من حالات الاضطراب والقلق والخوف، أَعني:

التَّهديد من منكر ونكیر، الَّتي تدلُّ على الحركة، فكانت زنة المضارع مناسبة لتلك الحال، فأَمیر المؤمنین (عليه السلام) ينتقل من فعل إلى آخر بصيغة تتناسب ومعنى كلِّ فعل من هذه الأَفعال.

* * *

ظَلَّ

جاء في (العین): «ظَلَّ فلانٌ نهارَه صائماً، ولا تقول العرب: ظَلَّ يظَلُّ إلاَّ لكلِّ عمل بالنَّهار، كما لا يقولون: بات يبيت إلاَّ بالليل، ومن العرب مَنْ يحذف لام ظَلِلتُ ونحوها حيث يظهران، فأَمَّا أَهل الحجاز، فيكرون الظَّاء على كسرةاللاَّم الَّتي أُلقِيَتْ، فيقولون: ظِلْنا وظِلْتُم، والمصدر الظُّلُول، والأَمر منه ظَلَّ

ص: 299


1- ينظر: الفعل (حمد) من الكتاب

واظلَلْ)(1) .

وقال ابن فارس: «الظَّاء واللاَّم أَصل واحد، يدلُّ على ستر شيء لشيء، وهوالَّذي يسمَّى الظِّل... فالظِّل: ظِلُّ الإنسان وغیره، ويكون بالغداة والعشيِّ...

ومن الباب قولهم: ظَلَّ يفعل كذا، وذلك إذا فعله نهاراً، وإنَّما قلنا من الباب، لأَنَّ ذلك شيء يخصُّ به النَّهار؛ وذلك لأَنَّ الشيَّء يكون له ظِلٌّ نهاراً»(2) .

وبهذا المعنى ورد هذا الفعل «ظَلَّ» في الخطبة مرَّةً واحدة؛ أَورده أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) لبيان حال ذلك الإنسان الَّذي ورد جهنَّم، وهو أَوَّل الأَفعال الأَحد عشرالَّتي أَوردها أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) في ذلك، إذ قال (عليه السلام): «فَوَرَدَ جَهَنَّمَ بِكَرْبٍ وَشِدَّةٍ، فَظَلَّ يُعَذَّبُ فِی جَحِيْمٍ»، فيكون كلام أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) يحتمل معنين.

أَحدهما: إنَّ ذلك الإنسان المعذَّب مقيم في العذاب، والعذاب مازم له،كأنَّه ظِلٌّ له.

الآخر: أَو إنَّه دائم العذاب؛ بدلالة أَنَّه باقٍ في العذاب، مقيم فيه في النَّهار، وهو كناية عن أَنَّ أَيامه كلّها نهار، ولا يوجد ليل يستريح فيه من ذلك العذاب.

و(فَظَلَّ) الفاء حرف عطف، و(ظَلَّ) فعل ماضٍ ناقص مبنيٌّ على الفتح، واسم (ظَلَّ) ضمیر مستتر تقديره هو، عائد إلى (مَن جذبت نفسه)، و(يُعَذَّبُ) فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه الضَّمَّة الظَّاهرة على آخره، والفاعل ضمیرمستترفيه تقديره هو، عائد إلى (من جذبت نفسه)، و(في) حرف جرٍّ، و(جحيم)

ص: 300


1- العین: 1/ 144. وينظر: تهذيب اللغة: 5/ 36 و 37 ، والصحاح في اللغة: 1/ 437 ، والمحيط في اللغة:386/2 ، ولسان العرب: 11 / 415، والمصباح المنير: 5/ 486
2- معجم مقاييس اللغة: 3/ 360

اسم مجرور، وعلامة جرِّه الكسرة الظَّاهرة على آخره، والجارُّ والمجرور متعلِّقان بالفعل (يُعذَّب)، والجملة الفعليَّة (يُعذَّب في جهنم) في محلِّ نصب خبر(ظَلَّ).

وجملة (فَظَلَّ يعذَّب في جحيم) معطوفة على جملة (فور جهنم بكرب وشدَّة).

* * *

يُعذَّبُ

تدلُّ مادَّة (يُعذَّبُ) في اللُّغة على العقاب، والنَّكال، والإيجاع الشَّديد المستمرِّ.

فيُقال: عذَّبت الرَّجلَ وغیره تعذيباً، والاسم العذاب(1).

وقال أَبو هال العسكريّ حین فرَّق بین (العذاب) وبین (الأَلم): «إنَّ العذاب أَخصُّ من الأَلم؛ وذلك أَنَّ العذاب هو الأَلم المستمرُّ، والأَلم يكون مستمرّاً وغیر مستمرٍّ، أَلا ترى أَنَّ قرصة البعوض أَلم، وليس بعذاب، فإن استمرَّ ذلك قلت:

عذَّبني البعوض اللَّيلة، فكلُّ عذاب أَلم، وليس كلُّ أَلم عذاباً، وأَصل الكلمة الاستمرار»(2) .

وقال الرَّاغب:«والعذاب: هو الايجاع الشَّديد، وقد عذَّبه تعذيباً: أَكثر حبسه في العذاب... واخْتُلِفَ في أَصله، فقال بعضهم: هو من قولهم: عَذَبَ الرَّجُل. إذا ترك المأْكل والنَّوم، فهو عَاذبٌ وعَذوبٌ، فالتَّعذيب في الأَصل هو حَملُ الإنسان أَنْ يَعْذِب، أَيْ: يجوع ويسهر: وقيل: أَصله من العَذْبِ، فعذَّبته، أَيْ: أَزلْتُ عَذْبَ حياته على بناء مَرَّضتهُ، وقذَّيتهُ، وقيل: أَصل التَّعذيب إكثار الضرَّب بعَذَبة السَّوط، أَيْ طرفها: وقد قال بعض أَهل اللُّغة: التَّعذيب هو الضرَّب، وقيل: هو

ص: 301


1- ينظر: جمهرة اللغة: 1/ 131، وأساس البلاغة: 1/ 303
2- الفروق اللغوية: 1/ 354

من قولهم: ماء عَذَبٌ إذا كان فيه قذىً وكَدَرٌ، فيكون عذَّبتهُ، كقولك: كَدَّرتُ عيشَهُ، وزلَّفتُ حياته»(1).

ويُقال:عذَّبته تعذيباً عَاقَبْته، والاسم: العذاب، وأَصله في كلام العرب الضرَّب، ثُمَّ استعمل في كلِّ عقوبة مؤلمة، واستُعير للأُمور الشَّاقَّة. والعذاب:

النَّكال والعقوبة، ويُقال: عذَّبته تعذيباً وعَذَاباً(2).

وتطابقت دلالة الفعل (يُعذَّب) في الخطبة مع دلالته اللُّغوية، وقد جاء مرَّةً واحدة، وهو ثاني الأَفعال الأَحد عشرالَّتي أَوردها أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) لبيان حال ذلك الإنسان الَّذي ورد جهنَّم؛ إذ قال (عليه السلام): «فَظَلَّ يُعَذَّبُ فِی جَحِيْمٍ».

وقد أَحسن أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) في جمعه بین الفعلين (ظلَّ)و(يُعَذَّبُ)؛ فالفعل (ظَلَّ) يدلُّ على الاستمراروالبقاء، والفعل (يُعذَّب) يدلُّ على الأَلم المستمرِّ.

وأَحسن مرة أُخرى حین جاء بهذا الفعل (يعذب) بزنة المضارع؛ الَّتي تدلُّ التَّجدُّد والحدوث، وهو ما يتناسب ومعنى الفعل (يُعَذَّبُ)، الَّذي يدلُّ على الأَلم المستمرِّ.

وتقدَّم إعراب (يُعذَّبُ في جحيم) مع الفعل (ظَلَّ).

* * *

ص: 302


1- مفردات ألفاظ القرآن: 554 و555
2- ينظر: لسان العرب: 1/ 853، والمصباح المنیر: 6/ 47، والقاموس المحيط: 1/ 95،وتاج العروس: 738 - 734/1

يُسقَى،سقِيَ

السُّقيا اسم السَّقي. والسِّقاء: القربة للماء واللَّبن. والاستقاء: الأَخذ من النَّهروالبئر. واسقينا فلاناً نهراً، أَيْ: جعلناه له سُقْياً، وسَقَى وأَسْقَى لغتان، وسَقَى يَسْقي بطنه سَقياً(1). وقال آخرون: بل سقيتُه من سَقْي الشَّفة، وأَسقيته: دللته على الماء(2).

وقال ابن فارس: «السِّین والقاف والحرف المعتلُّ أَصل واحد، وهو إشراب الشيَّء الماء وما أَشبهه. فتقول: سقيته بيدي أَسقيه سَقْيا، وأَسقيتُه إذا جعلت له سِقْياً. والسُّقي: المصدر...»(3).

وقال الرَّاغب: «السَّقْيُ والسُّقْيَا: أَنْ يعطيه ما يشرب، والإسْقاء: أَنْ يجعل له ذلك حتَّى يتناوله كيف شاء. فالإسقاء أَبلغ من السَّقي؛ لأَنَّ الإسقاء هو أَنْ تجعل له ما يُسْقَى منه ويُشرْب...»(4).

وبهذا المعنى ورد هذا الفعل (يُسْقَى) و(سُقِيَ) مرَّتین في الخطبة، وفي كليهما مبنيٌّ للمجهول، جاء في المرَّة الأُولى مضارعاً مبنيّاً للمجهول (يُسْقَى)، وهو ثالث الأَفعال الأَحد عشر، الَّتي أَوردها أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) في بيان حال الإنسان الَّذي ورد جهنَّم؛ إذ قال (عليه السلام): «ويُسْقَى شُربَةً مِنْ حَميْمٍ»، أَيْ: يُسْقَى من شراب أَهل النَّار.

ص: 303


1- ينظر: العين: 1/ 406، والمحيط في اللغة: 1/ 490
2- ينظر: جمهرة اللغة: 1/ 476، وتهذيب اللغة: 3/ 249، والصحاح في اللغة: 1/ 321 و322، والمحكم والمحيط الأعظم: 3/ 78، ولسان العرب: 14/ 39،والقاموس المحيط: 3/ 433
3- معجم مقاييس اللغة: 3/ 64
4- مفردات ألفاظ القرآن: 415

والحميم هو الماء الشَّديد الحرارة، وكذلك الحميمة، يُقال: شربتُ حميمةً، أَيْ: ماءً ساخناً(1) . والحَمَّةُ: العین الحارَّة، يستشفي بها الَأعلاَّء من الَأمراض(2) .

وقالوا عن الغيظ بأَنَّه حميم، وسمَّوا العرق الَّذي يخرج بسبب الحرارة حميماً(3) .

وورد هذا اللفظ في القرآن الكريم إحدى وعشرين مرَّة(4) ، ثماني عشرة مرَّةً في آيات مكيَّة، وثلاث مرَّات في آيات مدنيَّة، وقد جاء دالاً على العقاب الأُخرويّ(5) ، على أَنَّه شراب لَأهل النَّار، وفي - قوله تبارك وتعالى -: (لُهمْ شَرابٌ مِنْ حِميمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ)(6)، ونظائرها كثير.

وقد اتَّفق المفسرِّون - ممَّن اطَّلعت على آرائهم - على أَنَّ المراد من الحميم هو:

الماء الشَّديد المغيُّ، الشَّديد الحرارة، الَّذي يقطِّع الأَمعاء من شدَّة حرارته، حتَّى قيل: إنَّه يغي منذ خَلْقِ السَّموات والأَرض إلى يوم يُسقونَه(7) .

و(يُسقى) فعل مضارع مبنيٌّ للمجهول مرفوع، وعلامة رفعه الضَّمَّة المقدَّرة

ص: 304


1- ينظر: الاشتقاق: 2/ 289، ومعجم مقاييس اللغة: 2/ 18، والصحاح في اللغة: 1/ 148،والمخصص: 9/ 139، ولسان العرب: 12 / 150
2- ينظر: الاشتقاق: 2/ 290، ومعجم مقاييس اللغة: 2/ 18، والصحاح في اللغة: 1/ 148، ومفردات ألفاظ القرآن: 255 ، ولسان العرب: 12 / 150
3- ينظر: غريب القرآن (للسجستاني): 273، ومعجم مقاييس اللغة: 2/ 18، والصحاح في اللغة:148/1، والمسلسل في غريب لغة العرب: 287، ولسان العرب: 12 / 150
4- ينظر: المعجم المفهرس: 219
5- ينظر: ألفاظ العقاب الأُخروي في القرآن الكريم دراسة دلالية (رسالة ماجستير): 99
6- الأَنعام: 70
7- ينظر: تفسر غريب القرآن (لابن قتيبة): 155 ، ومجمع البيان: 2/ 318 ، والجامع لأحكام القرآن: 13/7 ، وروح المعاني: 27 / 99 ، والتشبيهات القرآنية: 116

على الأَلف؛ منع من ظهورها التَّعذُّر، ونائب الفاعل ضمیر مستتر فيه تقديره هو، عائد إلى (مَنْ جذبت نفسه)، و(شربة) مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الفتحة الظَّاهرة على آخره، و(من) حرف جر، و(حميم) اسم مجرور، وعلامة جرِّه الكسرة الظَّاهرة على آخره، والجارُّ والمجرور متعلِّقان بالفعل (يُسْقَى). وجملة (ويُسقى شربة من حميم) معطوفة على جملة (فَظَلَّ يُعَذَّب في جحيم).

وقد يقول قائل: إنَّ هذا الفعل خُتِمَ بالأَلف، وهذا يقدح بالخطبة؛ كونها خالية منه، فأَقول: إنَّ هذا الفعل، وإنْ كان آخره أَلفاً، إلاَّ أَنَّه لا يقدح بالخطبة؛ فهذه الأَلف ليست أَصليَّة؛ بل هي منقلبة عن الياء، فأَنت تقول: سقى يَسْقِي سَقْياً.

وجاء في المرَّة الثَّانية الفعل (سُقِيَ) في الخطبة ماضياً مبنيّاً للمجهول؛ أَورده أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) في بيان حال مَنْ زُحزح عن النَّار، وسكن الجنَّة، وخُلِّد في قصور مشيَّدة، وملك الحور، وطيف عليه بكؤوس «وَسُقِيَ مِنْ تَسْنِيْمٍ» وهو سابع الأَفعال الثَّاثة عشر الَّتي ذكرها أَمیر المؤمنین (عليه السلام) في هذاالمقام.

والتَّسنيم: هو تعظيم الشيَّء، أَو إعاؤه. والسَّنم: مصدر لسَنِمَ البعیرُ سَنَماً، إذاعَظُمَ سنامُه، ومنه اشتقاق السَّنام. ومجدٌ مُسنَّم: عظيم، وكلُّ شيء رفعته، فقد سنَّمته. وسَنَّمه، أَيْ: علاَّه(1).

وورد هذا اللَّفظ في القرآن الكريم في قوله - تبارك وتعالى -: (وَمِزَاجُهُ مِنْ

ص: 304


1- ينظر: جمهرة اللغة: 1/ 481، وتهذيب اللغة: 4/ 302، والصحاح في اللغة: 1/ 334، والمحيط في اللغة: 2/ 68، ولسان العرب: 12 / 306، وتاج العروس: 1/ 7769

تَسْنِيمٍ(1) ، وهو عین في الجنَّة رفيعة القدر(2) . والتَّسنيم عین الماء يجري من علوٍّ إلى أَسفل يتنسَّم عليهم من الغرف، واشتقاقه من السَّنام، وقيل: من تشريف، وسنام البعیر لعلوَّه من بدنه(3) . وتسنيم «عن في الجنَّة، وهو أَشرف شراب في الجنَّة. قال مروق يشربها المقرَّبون صرفاً، ويخرج بها كأْس أَصحاب اليمن فيطيب... وقيل:

هو شراب ينصبُّ عليهم من علوٍّ انصباباً... وقيل هو نهر يجري في الهواء فينصبّ في أَهل الجنَّة بحسب الحاجة»(4) .

وقال الطَّباطبائيّ: «والتَّسنيم... عین في الجنَّة سماَّه الله تسنيماً، وفي لفظه معنى الرَّفع والملء. يُقال: أَواني سنَّمه، أَيْ: رفعه، ومنه سنام الإبل، ويُقال: سنم الإناء، أَيْ: ملاءه»(5) . وقيل إنَّها سُمِّيت بتسنيم؛ لعلوِّ مكانتها، أَولَأنَّها تنبع من مكان مرتفع(6) .

و(سُقِيَ) فعل ماضٍ مبنيٌّ للمجهول، مبنيٌّ على الفتح، ونائب الفاعل ضمیرمستتر فيه تقديره هو، عائد إلى قوله (عليه السلام) (فمن زحزح عن تعذيب ربه)، و(مِنْ): حرف جرٍّ، و(تسنيم) اسم مجرور، وعلامة جرِّه الكسرة الظاهرةعلى

ص: 306


1- المطففين: 27
2- مفردات ألفاظ القرآن: 429
3- ينظر: التبيان في تفسير القرآن: 10 / 291
4- مجمع البيان: 1/ 268 . وينظر: الدر المنثور: 10 / 22 1، وروح المعاني: 8/ 353، وتفسر الأمثل: 37/20
5- تفسیر الميزان: 20 / 133. وينظر: زاد المسیر: 6/ 136، وتفسیر البحر المحيط: 10 / 451، وأنوار التنزيل وأسرار التأويل: 5/ 381، وفي ظال القرآن: 7/ 483 و 488، 489، وتفسر المعراج المنیر: 5141/1، والتفسر الوسيط: 1/ 4467
6- ينظر:المصادر أنفسها:الصفحات أنفسها

آخره، والجارُّ والمجرور متعلِّقان بالفعل (سقي). وجملة (وسقي من حميم) معطوفة على جملة (وتقلَّب في نعيم).

* * *

تشوي

تدلُّ مادَّة «تشوي» في اللُّغة على شدَّة الحرارة، والحرق، والنُّضج. يُقال:

شويت اللَّحم، وشويته لنفسي. والشيَّ: مصدر شويت، والشِّواء: الاسم، واشتوينا لحماً، وانشوى اللَّحم. وشَوَى اللَّحم شيّاً فاشتوى وانشوى، وهو الشِّواء بالكسر والضَّمِّ، وشَوَى يَشوي، فهو شاوٍ، والماء أَسخنه(1) .

وبهذا المعنى ورد هذا الفعل «تشوي» مرَّةً واحدةً في الخطبة، وهو رابع الأَفعالال أَحد عشر، الَّتي جاء بها أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) لبيان حال ذلك الإنسان الَّذي ورد جهنَّم، وأَوَّل الفعلین اللَّذين جاء بها (عليه السلام) لوصف تلك الشُّبة «من حميم»، الَّتي يُسقاها ذلك المُعذَّب، فقال (عليه السلام): «ويُسْقَى شُبَةً مِنْ حَميْمٍ، تَشْوِي وَجْهَهُ، وَتَسْلخُ جِلْدَهُ»، فيكون مراده (عليه السلام) أَنَّه إذا وصلت تلك الشُّبة إلشى وجوههم، أَو قرَّبوها منها؛ ليسقوها، شوت وجوههم، أَيْ: أَحرقَتْهَا وأَنضجتها؛ من شدَّة حرِّها.

وقول أَمیرالمؤمنین (عليه السلام): «تشوي وجهه» فيه تضمن لقوله - تبارك وتعالى -: (وَقُلِ الَحقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمینَ نَارًا أَحَاطَ بِهمْ سُرادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِاَءٍ كَالُمهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ

ص: 307


1- ينظر: العین: 2/ 14، وجمهرة اللغة: 1/ 90 و 91، وتهذيب اللغة: 4/ 130، ومعجم مقاييس اللغة: 175/2 و 176، ومفردات ألفاظ القرآن: 470، والمحيط في اللغة: 2/ 185، والمخصّص: 4/ 61 ، وأساس البلاغة: 1/ 252، ولسان العرب: 14 / 445، والقاموس المحيط: 3/ 439

بِئْسَ الشرَّابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا)(1).

وقال المفسرِّون مبيِّنن كلمة «تشوي الوجوه» في الآية الكريمة: «(يشوي الوجوه) أَيْ: يحرقها من شدَّة حرِّه إذا قربت منه»(2).

وقال الطُّوسيّ: (يشوي الوجوه) أَيْ: ينضجها عند دنوِّه منها، ويحرقها»(3).

وقال في موضع آخر: «فيسقون شربةً من الماء الحارِّ الَّذي بلغ نهايته في الحرارة، فإذا قرَّبوها من وجوههم، شوت وجوههم، فذلك قوله: (يشوي الوجو)»(4).

وجاء في «المحرَّر الوجيز»: ن « (يَشْوِي الْوُجُوهَ) روي في معناه عن النَّبيِّ صَلىَّ اللهُ عَلِيهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ أَنَّه قال: «تُقَرَّب الشُّبة من الكافر، فإذا دنت منه تَكرَّهَها، فإذا دنت أَكثر، شوت وجهه، وسقطت فيها فروة وجهه، وإذا شرب تقطَّعت أَمعاؤه»(5).

وقال الشَّيخ ناصر مكارم الشِّرازيّ: «هناك يشربون من شراب يُجسَّد باطن شراب الدُّنيا، وهو بالنِّسبة للظَّالمین الطُّغاة شراب من دماء قلوب المحرومین، ومثل هذا الشرَّاب يُقدَّم للظَّالمین في ذلك العالم، وهو لا يحرق أَمعاءهم وأَحشاءهم فحسب، بل يكون كالمعدن المذاب الَّذي يشوي الوجوه قبل شربه من شدَّة

ص: 308


1- (الكهف: 29
2- التبيان في تفسير القرآن: 7/ 35
3- مجمع البيان: 6/ 302
4- مجمع البيان: 8/ 274
5- المحرّر الوجيز: 4/ 307، وينظر: جامع البيان: 18/ 14، و23/ 706، وتفسرالبحر المحيط 144/7، وتفسر القرآن العظيم: 4/ 480، وروح المعاني: 9/ 340، وتفسر الميزان 13/ 160، وتبين القرآن: 2/ 121، والتفسر الوسيط: 1/ 2712

حرارته»(1).

و«تشوي» فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه الضَّمَّة المقدَّرة على الياء، منع من ظهورها الثِّقل، والفاعل ضمیر مستتر فيه، تقديره (هي)، عائد إلى (الشُّربة)، والهاء ضمیر متَّصل مبنيٌّ على الضَّمِّ في محلِّ جرٍّ بالإضافة، عائدٍ إلى «مَنْ جذبت نفسه»،وجملة (تشوي الوجوه) صفة ل (شربة) في قوله: «يُسقى شربةً من حميم».

* * *

تَسلَخُ

تدلُّ مادَّة «سلخ» في اللُّغة على الكشط، والنَّزع، والخلع. جاء في «العین»:

«السَّلْخُ: كشط الإهاب عن ذيه، الإهاب نفسه. ومِسْاخُ الحيَّة: قشرها الَّذي يَنْسَلِخ منها... وسَلَخَتِ المرأَة درعها: نزعته»(2).

ويُقال: سَلَخْتُ الشَّاةَ وَغَيرهَا أَسْلَخُهَا سَلْخًا إِذا كَشَطَّتُ عَنْهَا جلدهَا(3).

وسَلَخَ الإهابَ يَسلُخُه، ويَسْلَخُه، سَلْخاً: كشَطَهُ. وسَلخ الحَّرُّ جِلْدَ الإنسانِ، وَسَلَّخَهُ، فَانْسَلَخَ وتَسَلَّخَ. وسَلَخَتِ الَمرْأَةُ عَنْهَا دِرْعَهَا: نَزَعَتْهُ، إذا خَلَعتْهُ(4).

وقال الزَّمخشريّ: «سَلَخَ الشَّاة، وكشط مساخها: إهابها... ومن المجاز سلخنا

ص: 309


1- تفسير الأمثل: 13/ 160
2- العین، وينظر: تهذيب اللغة: 2/ 442، ومعجم مقاييس اللغة: 3/ 71، والصحاح في اللغة: 1/ 325، والمحيط في اللغة: 1/ 348، والمخصّص: 1/ 350، ولسان العرب: 3/ 24، والمصباح المنیر: 4/ 288، والقاموس المحيط: 1/ 246، وتاج العروس: 1/ 1815 و1816
3- جمهرة اللغة 1/ 315
4- المحكم والمحيط الأعظم 2/ 300

الشَّهر، وانسلخ الشَّهر... وسلخ الله النَّهارمن اللَّيل، وانسلخ منه. وسلختُ عنها درعها»(1).

وبهذا المعنى ورد هذا الفعل «تَسْلَخُ» مرَّةً واحدةً في الخطبة، وهو خامس الأَفعال الأَحد عشر، الَّتي جاء بها أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) لبيان حال ذلك الإنسان الَّذي ورد جهنَّم، وثاني الفعلین اللَّذين جاء بهما (عليه السلام) لوصف تلك الشُّربة «من حميم»، الَّتي يُسقاها ذلك المعذَّب، فقال (عليه السلام):

«ويُسقى شُربَةً مِنْ حَميْمٍ، تَشْوِي وَجْهَهُ، وتَسْلخُ جِلْدَهُ».

فبعد أَنْ أَحرقت تلك الشُّبة وجه ذلك الإنسان المعذَّب في جهنَّم، وأَنضجته من شدَّة حرِّها، «تسلخُ جلدَهُ»، أَيْ: تكشط جلده، وتخلعه، وتنزعه - والعَياذ بالله -.

فهذان الفعلان «تشوي» و«تسلخ» يبيِّنان أَثرهذه الشُّبة «من حميم» في وجه ذلك المُسقَى حین يُقرِّبها ليشربها، فبادئ ذي بدء تشوي وجهه، ثُمَّ تكشط جلده، وتنزعه، وتخلعه.

ويبدو أَنَّ دخول ذلك الإنسان جهنَّم - والعياذ بالله -، وبقاءه مُعذَّباً فيها يجعله يعاني فيها من عذاب آخر- فضلاً عن الخوف، والشِّدَّة، والسَّحب بقوَّة، والنَّار- وهو العطش الشَّديد؛ فيطلب الماء، فيُسقى، ولكن من أَيِّ شيء؟ من شربة من حميم، وهذا الحميم، فضاً عن كونه يُقطِّع أَمعاءه وأَحشاءه، فإنَّه حین يقرِّبه ليشرب منه، يشوي وجهه، ويسلخ جلده.

و«وتسلخ» الواو: حرف عطف، و«تسلخ» فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه الضَّمَّة الظَّاهرة على آخره، والفاعل ضمیر مستتر فيه يعود إلى «شربة» من قوله:

ص: 310


1- أساس البلاغة 1/ 224

«ويُسقى شُبَةً من حميمٍ»، و«جلدَهُ» مفعول به منصوب، وعلى نصبه الفتحة الظَّاهرة على آخره، وهو مضاف، والهاء: ضمیر متَّصل مبنيٌّ على الضَّمِّ في محلِّ جرٍّ بالإضافة، عائد إلى «مَنْ جذبت نفسه»، وجملة «وتَسْلخُ جلدَهُ» معطوفة على جملة «تشْوي وجهَهُ».

* * *

يَضرِبُهُ

يُقال: ضربتُ الخضَم ضَرباً إذا حَصَلَ الضرَّبُ. والموج يضرب بعضه بعضاً.

والضَّريبةُ: ما ضَربْتَهُ بالسَّيفِ. والضَّريبُ: الصَّقيعُ كأَنَّ السَّماء ضربت به الأَرض.

ورجلٌ مضراب: شديد الضرَّب(1).

وقال ابن فارس: «الضَّاد والرَّاء والباء أَصلٌ واحدٌ، ثم يُستعار، ويُحمل عليه.

من ذلك ضَربْتُ ضَرباً، إِذا أَوقعت بغیرك ضَرباً. ويُستعار منه، ويُشبَّه به...»(2).

وتطابقت دلالة هذا الفعل «يضربه» في الخطبة مع دلالته اللُّغوية؛ إذ أَورده أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) مرَّةً واحدةً، وهو سادس الأَفعال الأَحد عشرالَّتي جاء بها أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) لبيان حال ذلك الإنسان الَّذي ورد جهنَّم، إذ قال (عليه السلام): «فَظَلَّ يُعَذَّبُ في جَحِيْمٍ، ويُسْقَى شُربَةً من حَميْمٍ، تَشْوِي وَجْهَهُ، وَتَسْلَخُ جِلْدَهُ، يَضْربُهُ زَبِيْنَتُهُ بمَقْمَعٍ مِنْ حَدِيْدٍ»، أَيْ: يضربه ملك شديدغليظ بعمودٍ من نارٍ أَو خشبة.

ص: 311


1- ينظر: العین: 2/ 20، وجمهرة اللغة: 1/ 137، والصحاح في اللغة: 1/ 406، والمحيط في اللغة: 196/2، وأساس البلاغة: 1/ 274، والمصباح المنیر: 5/ 325، وتاج العروس: 1/ 683
2- معجم مقاييس اللغة 3 / 311

وهنا أَودُّ أَنْ أُبيِّن معنى كلمتين ارتبطتا بالفعل «يَضرِبُه»، وهما:

أَوَّلاً: «زَبِيْنَتُهُ»، إذ جاء في (تهذيب اللُّغة): «وَقَالَ قَتَادَة: الزَّبانيةُ: الشرَّط فِی كَلام الْعَرَب. وَقَالَ الزَّجَّاج: الزَّبانِيَة الغِلاظ الشِّداد، واحدهم زِبْنِيَةٌ، وهم هَؤُلاءِ الملائكةُ الَّذين قَالَ الله: (وَالِحجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاَظٌ)(1)، وهم الزَّبانية»(2).

وقال الجوهريّ: «الزَبْنُ: الدَّفعُ... والزَّبانِيَة عند العرب: الشرُط، وسمِّي بذلك بعضُ الملائكة لدفعهم أَهلَ النَّار إليها. قال الأَخفش: واحدهم زَبانيٌّ، وقال بعضهم: زابِنٌ، وقال بعضهم: زِبْنِيَةٌ»(3).

وقول أَمیر المؤمنین (عليه السلام): «يَضْربُهُ زَبِيْنَتُهُ» فيه تضمن لقوله - تبارك وتعالى -:(فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ * سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ)(4).

وجدير بالذكر أَنَّ أَمیر المؤمنین (عليه السلام) قال: «زَبِيْنَتُهُ» وهو مفرد الزَّبانية، ولم يقل: «زَابِنٌ»، أَو«زَبانيٌّ» مع أَنَّهما مفردا الزَّبانية؛ لأَنَّ ذلك يُفوِّت الفائدة من إنشاء الخطبة، وهي خلوُّها من الأَلف، فضاً عن عدم قوله (عليه السلام): الزَّبانية؛ للعلَّة نفسها.

ثانياً: «مَقْمَع»، إذ جاء في «العین»: «قمع: قَمَعْتُ فُلاناً فانْقَمَعَ، أَيْ: ذَلَّلْتُه فذَلَّ، واخْتَبَأَ فَرَقاً... والمِقْمَعة: خشبةٌ يُضربُ بها الإنسان على رأْسه، والجمع

ص: 312


1- التحرِيم: 6
2- تهذيب اللغة 4 /369
3- الصحاح في اللغة 1/ 282، وينظر: معجم مقاييس اللغة: 3/ 33، والقاموس المحيط: 3/ 331، وتاج العروس: 1/ 56
4- العلق: 17 و18

المَقامِعُ»(1).

وقال ابن دريد: «وقَمَعْتُ الرَّجلَ أَقمَعُهُ قَمْعاً، إِذا ضربتُ رأْسَه، فانقمع، أَيْ: فَذَلَّ. وكلُّ مَا ضربتَ بِهِ الرَّأْس فَهُوَ مِقْمَعَةٌ، وَالجْمع مَقامع»(2).

وقال الأَزهريّ: «والمِقْمَعَةُ: شبه الجِرزَة من الحديدِ والعَمَد يُرب بهَا الرَّأْسُ، وَجَعهَا المقامع. قَالَ الله تَعَالَ: (وَلَهمْ مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيد)(3)وَهِي الجِرزَة من الَحدِيد»(4).

وقال ابن سيده: «والمِقْمَع والمِقْمَعَة، كِلَاهُما: مَا قُمِعَ بِهِ. والمَقامِع: الجِرزَة وأَعمدة الَحدِيد»(5).

وقال الزَّمخشريّ: «قمع خصمه: قهره، وأَذلَّه فانقمع وتقمَّع... وقمَّعته بالمقمع والمقمعة وبالمقامع، وهي الجرزة»(6).

وقال الفيروزآباديّ: «المِقْمَعَةُ، كمكْنَسَةٍ: العَمُودُ من حَدِيدٍ، أَو كالمِحْجَنِ يُضرْبُ به رأْسُ الفيلِ، وخَشَبَةٌ يُضربُ بها الإِنْسانُ على رأْسِه، ج: مَقَامِعُ، وقَمَعَهُ، كمنَعَه: ضَربَهُ بها، وقَهرَهُ، وذَلّلَه، كأَقْمَعَهُ»(7).

ص: 313


1- العين: 1/ 42
2- جمهرة اللغة 2/ 82. وينظر: الصحاح في اللغة: 2/ 95،والمحيط في اللغة: 1/ 26
3- الحَجّ: 21
4- تهذيب اللغة 1/ 85. وينظر: معجم مقاييس اللغة: 5/ 22، ولسان العرب: 8/ 294، وتاج العروس: 1/ 5500 - 5502
5- المحكم والمحيط الأعظم 1/ 88
6- أساس البلاغة 1/ 39
7- القاموس المحيط: 2/ 318

فالمِقْمَع كالمحجن، أَو المقمعة كمكنسة: شبه الجِرْزَة، أَو خشبة، أَوعمود من حديدٍ يُضرب بها رأْس الإنسان، وجمعها المَقَامع، قال تعالى: (وَلَهمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ)(1).تقول: قمعْتُ فلاناً فانقمع، أَيْ: ذلَّلتُهُ فَذَلَّ، أَو قهرتُه فانقهر.

فيكون العذاب عذابین، عذاباً مادِّياً من الضرَّب على الرأْس بمقمعٍ من حديد، وعذاباً معنويّاً، وهو الإذلال والقهر من جرَّاء ذلك الرَّب على الرأْس.

وقال المفسرِّون في بيان معنى المقامع في قوله - تبارك وتعالى -: (وَلَهمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ)(2): «روى أَبو سعيد الخدريّ قال: قال رسول الله صَلىَّ اللهُ عَلِيهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ في قوله (وَلَهمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ): لو وضع مقمع من حديد في الأَرض، ثُمَّ اجتمع عليه الثَّقلان ما أَقلُّوه من الأَرض»(3).

وقد أَحسن أَمیر المؤمنین (عليه السلام) - وهو استعمال قرآني - حين قرن حمل هذا «المقمع» ب «زبنيته» وهو الملك الشَّديد الغليظ، ولو لم يكن هذا الملك بهذه الصِّفة، لما تمكَّن مِنْ حَملِ هذا المقمع، الَّذي وصف بقول رسول الله صَلىَّ اللهُ عَلِيهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ: لو «اجتمع عليه الثَّقلان ما أَقلُّوه من الأَرض». هذا أَوَّلاً.

وثانياً: من خلال قول رسول الله صَلىَّ اللهُ عَلِيهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ نفهم مقدارالعذاب، الَّذي يُعَذَّبُهُ ذلك الإنسان، ولنتصوَّر: أَنْ يُضرَب إنسان بهذا المقمع على رأْسه - والعَياذُ بالله - ماذا يكون حاله؟!

ص: 314


1- الحج: 21
2- الحج: 21
3- مجمع البيان: 7/ 123. وينظر: معالم التنزيل: 5/ 375، وتفسیر البحر المحيط: 8/ 210، والتفسیر الصافي: 4/ 380، وروح المعاني: 13/ 34، وتفسیر نور الثقلین: 6/ 14، وتفسر الآصفي: 3/ 96، وتفسر الميزان: 4/ 190، وتفسیرالأمثل: 10/ 312

وقول أَمیر المؤمنین (عليه السلام): «بمقمع من حديد» فيه تضمن لقوله - عَزَّ وَجَلّ َ-: (وَلَحمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ)(1)، بَيْدَ أَنَّ أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) لم يقل «مقامع»، بل قال: «مقمع»؛ لأَنَّ «مقامع» يفوِّت الفائدة من الخطبة، وهي خلوُّها من الأَلف.

و«ويضربه» الواو: حرف عطف، و«يضربه» فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه الضَّمَّة الظَّاهرة على آخره، والهاء ضمیر متَّصل مبنيٌّ في محلِّ نصب مفعول به، عائد الى «مَنْ جذبت نفسه»، و«زبينته» فاعل مرفوع، وعلامة رفعه الضمّة الظاهرة على آخره، وهو مضاف، والهاء ضمیر متَّصل مبنيٌّ على الضَّمِّ في محلِّ جرٍّ بالإضافة، عائد الى «مَنْ جذبت نفسه»، و«من»:حرف جرٍّ، و«حديدٍ» اسم مجرور، وعلامة جرِّه الكسرة الظَّاهرة على آخره، والجارُّ والمجرور متعلِّقان بالفعل «يضربه».وجملة (ويَضْربُهُ زَبِيْنَتُهُ بمَقْمَعٍ مِنْ حَديدٍ) معطوفة على جملة (وَتَسْلَخُ جِلْدَهُ).

* * *

يَعُودُ

تدلُّ مادَّة «يعود» في اللُّغة على تكرار الشيَّء، والرُّجوع إلى الأَمر الأَوَّل. جاء في «العین»: «العَوْدُ: تثنيةُ الأَمرِ عَوْداً بَعْدَ بَدْءٍ، بدأَ ثُمَّ عاد... والعَادَةُ: الدُّرْبَةُ في الشيَّء، وهو أَنْ يتادى في الأَمر حتَّى يصیرَ له سجيَّة. ويقال للرَّجُل المواظب في الأَمر: مُعاوِد»(2).

ص: 315


1- الحج: 21
2- العين: 1/ 130. وينظر: المحيط في اللغة: 1/ 115

والعَوْد: مصدرعَاد يعود عَوْداً، أَيْ: رَجَعَ، وَمِنْه قَوْلهم: رَجَعَ فلانٌ عَوْدَه على بَدْئه. ويُقال: عاد إليهِ يَعودُ عَوْدَةً وعَوْداً: رَجَعَ والمُعاوَدَةُ: الرُّجوعُ إلى الأَمر الأَوَّل. يُقال: الشُّجاع مُعاوِدٌ؛ لأَنَّه لا يملُّ المراس. وعاوَدَتْهُ الحُمَّى. وعَاوَدَهُبالمسأَلةِ، أَيْ: سأَله مرَّةً بعد أُخرى(1).

وورد هذا الفعل «يعود» مرَّةً واحدةً في الخطبة مطابقاً دلالته اللُّغوية، وهوسابع الأَفعال الأَحد عشر، الَّتي أَوردها أَمیر المؤمنین (عليه السلام) لبيان حال ذلك الإنسان المعذَّب الَّذي ورد جهنَّم؛ إذ قال (عليه السلام): ««فَظَلَّ يُعَذَّبُ فِی جَحِيْمٍ، ويُسْقَى شُربَةً مِنْ حَميْمٍ، تَشْوِي وَجْهَهُ، وَتَسْلَخُ جِلْدَهُ، يَضْربُهُ زَبِيْنَتُهُ بمَقْمَعٍ مِنْ حَديدٍ، ويَعُوْدُ جِلدُهُ بَعدَ نُضْجِهِ بِجِلْدٍ جَدِيْدٍ». أَيْ: أَنَّ عمليَّةَ سَلْخِ جلدِ ذلك الإنسان متكرِّرة، وكلَّا انسلخ جلده، ونضج جلد جديد، سُلِخَ مرَّةً أُخرى، وهكذا دواليك - والعَياذ بالله -.

وقول أَمیرالمؤمنین (عليه السلام): «ويَعُودُ جِلدُهُ بَعدَ نُضْجِهِ بِجِلدٍ جَدِيدٍ» فيه تضمن لقوله - تبارك وتعالى -: (كُلَّاَ نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرهَا)(2). وغیر خافٍ على اللَّبيب أَنَّه (عليه السلام) لواستعمل قوله تعالى:

(كُلَّماَ نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرهَا)، لكان قد فوَّت الفائدة من إيراد الخطبة، وهي خلوُّها من الأَلف.

و«يعود» فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه الضَّمَّة الظَّاهرة على آخره، و«جلده» فاعل مرفوع، وعلامة رفعه الضَّمَّة الظَّاهرة على آخره، والهاء ضمیر

ص: 316


1- ينظر: جمهرة اللغة: 1/ 357، وتهذيب اللغة: 1/ 348 و350، ومعجم مقاييس اللغة: 4/148، والصحاح في اللغة: 2/ 44، والمحكم والمحيط الأعظم: 1/ 317، ولسان العرب: 3/ 315، والمصباح المنیر: 6/ 425، والقاموس المحيط: 1/ 302، وتاج العروس: 1/ 2144 - 2153
2- النساء: 56

متَّصل مبنيٌّ على الضَّمِّ في محلِّ جرٍّ بالإضافة، عائدٍ الى «مَن جذبت نفسه»، و«بعَد» ظرف زمان مبنيٌّ على الفتح، وهو مضاف، و«نضجه» مضاف إليه مجرور، وعلامة جرِّه الكسرة الظَّاهرة على آخره، وهو مضاف، والهاء ضمیر متَّصل مبنيٌّ علی الضَّمِّ في محلِّ جرٍّ بالإضافة، عائدٌ الى «جلده»، والظَّرف متعلِّق بالفعل «يعود»، و«من» حرف جرٍّ، و«جديدٍ» اسم مجرور، وعلامة جرِّه الكسرة الظَّاهرة على آخره، والجارُّ والمجرور متعلِّقان بالفعل «يعود». وجملة «ويَعُودُ جِلدُهُ بَعدَ نُضْجِهِ بِجِلدٍ جَدِيدٍ» معطوفة على جملة«يَضْربُهُ زَبِيْنَتُهُ بمَقْمَعٍ مِنْ حَديدٍ».

* * *

يَستَغِيْثُ

تدلُّ مادَّة «يستغيث» في اللُّغة على طلب الفرج، والعون، والنّصُرة، والتَّخليص من الشِّدَّة والنَّقمة. جاء في (تهذيب اللُّغة): «والغياثُ: مَا أَغاثكَ الله بِهِ، وَيَقُول الْوَاقِع فِی بَلِيَّةٍ: أَغِثني: أَيْ: فرِّج عَنِّي، وَتقول: ضُربَ فانٌ فَغوَّثَ تَغْوِيْثاً: أَيْ: قَالَ: وَاغَوْثَاهُ... وَيُقال: اسْتَغثْتُ فلاناً فَماَ كَانَ لي عِنْده مَغُوثَةٌ وَلا غَوْثٌ»(1).

وقال ابن فارس: «الغین والواو والثَّاء كلمةٌ واحدة، وهي الغوث من الإغاثة، وهي الإغاثة والنُّرة عند الشِّدَّة»(2).

ويُقال: غوَّثَ الرَّجلُ: قال واغوثاهُ. والاسم الغَوْثُ والغُوَاثُ والغَوَاثُ.

واستغاثني فلانٌ فأَغَثْتُهُ إغَاثَةً وَمَغُوثَةً(3).

ص: 317


1- تهذيب اللغة 3/ 95. وينظر:العين: 1/ 361
2- معجم مقاييس اللغة 4/ 322
3- ينظر: الصحاح تاج اللغة وصحاح 2/ 27، والمخصص: 1/ 174، والقاموس المحيط: 1/ 162

والغَوْثُ يُقال في النُّصرة. واستغثته: طلبت الغوث، فأَغاثني من الغوث، وغَوَّثتُ من الغَوْث(1). ومن الإغاثة بمعنى الإغاثة أَغِثْنا(2).

والاستغاثة: طلب الغوث، وهو التَّخليص من الشِّدَّة والنَّقمة، والعون على الفكاك من الشَّدائد، وَيَقُول المضطَّرُّ الواقِعُ فِی بَلِيَّة: أَغِثْنِي، أَيْ: فَرِّجْ عَنِّي(3).

وتطابقت دلالة الفعل «يستغيث» في الخطبة مع دلالته اللُّغوية؛ إذ جاء به أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) مرَّةً واحدةً، وهو ثامن الأَفعال الأَحد عشر، الَّتي أَوردها (عليه السلام) لبيان حال ذلك الإنسان الَّذي ورد جهنَّم، إذ قال (عليه السلام):

«فَظَلَّ يُعَذَّبُ في جَحِيْمٍ، ويُسْقَى شُربَةً مِنْ حَميْمٍ، تَشْوِي وجْهَهُ، وَتَسْلَخُ جِلْدَهُ، يَضْربُهُ زَبِيْنَتُهُ بمَقْمَعٍ مِنْ حَديدٍ، ويَعُودُ جِلدُهُ بَعدَ نُضْجِهِ بِجِلدٍ جَدِيدٍ، يَسْتغيثُ فَتُعرضُ عَنهُ خَزَنَةُ جَهنَّمَ». أَيْ: أَنَّ ذلك الإنسان المعذَّب نتيجة وروده جهنَّم، وعذابه فيها من شرب الحميم، وشَوْي الوجهِ، وسَلْخِ الجلد، والضرَّب بعمودٍ من نار، يطلب العون، والنُّصرة، والفرج، والتَّخليص من هذه الشَّدائد والنَّقمات، غیر أَنَّ الجواب يأْتي في الفعل بعده «فَتُعْرِضُ عَنْهُ خَزَنَةُ جَهِنَّمَ».

و«يستغيث» فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه الضَّمَّة الظَّاهرةعلى آخره، والفاعل ضمیرمستتر فيه، تقديره(هو)،عائد الى«مَن جذبت نفسه».

* * *

ص: 317


1- ينظر: مفردات ألفاظ القرآن الكريم: 617
2- ينظر: لسان العرب: 2/ 175
3- تاج العروس 1/ 1286

يَستَصرِخُ

تدلُّ مادَّة «يستصرخ» في اللُّغة على الإغاثة. جاء في «العین»: «الصَّرخةُ:

صيحة شديدة عند فزعةٍ أَو مصيبة. والصَّيخُ: الَّذي يأْتي قوماً يستغيث بهم عند غارةٍ، أَو ينعي لهم ميتاً. والمُسْتَصْرخُ: المستغيث. والمُصرْخُ: المغيث. والاصْطِراخُ: التَّصارُخ»(1).

وقال الجوهريّ: «الصرُّاخُ: الصَّوت. تقول: صَرخ صَرخَةً واصْطَرَخَ، بمعنىً.

والتّصَرَّخُ: تكلُّف الصرُّاخِ... والمُسْتَصْرخُ: المُسْتغيث. تقول منه: اسْتَصْرخَني فأَصْرخْته. والصَّيخُ: صوت المستصرِخِ»(2).

والصَّرخة:الصَّيحة الشَّدِيدَة عِنْد الفَزع. وَقيل: هُوَ الصَّوْت الشَّديد مَا كَانَ، صَرخَ يَصرْخُ صُراخاً، واصطرخ الْقَوْم، وتصارخوا، واستصرخوا: اسْتَغَاثُوا(3).

وصَرخَ يَصرْخُ من باب قتل صُراخًا، فهو صَارِخٌ وصَريخٌ إذا صاح، وصَرخَ فهو صَارِخٌ، إذا استغاث، واسْتَصْرخْتُهُ فَأَصْرخَنِي، استغثتُ به فأَغاثني، فهو صَريخٌ، أَيْ: مُغيث(4).

وبهذا المعنى جاء أَمیر المؤمنین (عليه السلام) بالفعل«يستصرخ» في الخطبة مرَّةً واحدةً، وهو عاشر الأَفعال الأَحد عشر، الَّتي أَوردها أَمیر المؤمنین (عليه السلام) لبيان حال ذلك الإنسان المعذَّب، الَّذي ورد جهنَّم، إذ قال (عليه السلام): «فَظَلَّ

ص: 319


1- العين: 1/ 304. وينظر:جمهرة اللغة: 1/ 307، والمحيط في اللغة: 1/ 346، والمخصّص: 1/ 174
2- الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية (1/ 426. وينظر: تهذيب اللغة: 2/ 433
3- ينظر: المحكم والمحيط الأعظم 2/ 294
4- ينظر: المصباح المنیر 5/ 194. وينظر: معجم مقاييس اللغة: 3/ 273، وأساس البلاغة: 1/ 259، ولسان العرب: 3/ 33، وتاج العروس: 1/ 1824 و1825

يُعَذَّبُ في جحيمٍ، ويُسْقَى شُربَةً من حميمٍ، تَشْوِي وَجْهَهُ، وَتَسْلَخُ جِلْدَهُ، يَضْربُهُ زَبِيْنَتُهُ بمَقْمَعٍ مِنْ حَديدٍ، ويَعُودُ جِلدُهُ بَعدَ نُضْجِهِ بِجِلدٍ جَدِيدٍ، يَسْتغيثُ فَتُعْرِضُ عَنْهُ خَزَنَةُ جَهنَّمَ، وَيَسْتَصْرخ».

وقد نصَّ العلماء على أَنَّ لصيغة «استفعل» الَّتي جاء على زنتها الفعل «يستصرخ» معاني، منها الطَّلب، وهو أَشهرها(1)، فذلك الإنسان المعذَّب يطلب الإغاثة من هذه العذابات والنَّقات المتقدِّمة.

و«يستصرخ» فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه الضَّمَّة الظَّاهرة على آخره، والفاعل ضمیر مستتر فيه، تقديره (هو)، عائد الى «مَن جذبت نفسه»، وجملة «ويستصرخ» معطوفة على جملة «فَتُعرضُ عَنهُ خَزَنَةُ جَهنَّمَ».

* * *

يَلْبَثُ

تدلُّ مادَّة «يلبث» في اللُّغة على الإقامة بالمكان مع الملازمة له. فاللَّبْث: المُكْثُ، ولَبِثَ لَبْثاً(2). ولَبِثَ بالمكانِ يَلْبَثُ لَبْثاً ولَبَثاً ولُبَاثاً ولَبَثاناً، وهو لابِثٌ(3). وقال ابن فارس: (اللام والباء والثَّاء حرف يدلُّ على تمكُّث.يُقال: لَبِثَ

ص: 320


1- ينظر: الفعل (نستعينه) من الكتاب
2- ينظر: العین: 2 / 162، وتهذيب اللغة: 5/ 95، والصحاح في اللغة: 2/ 131، والمحيط في اللغة: 412/2، والمخصّص: 2/ 478، وأساس البلاغة: 1/ 416، ولسان العرب: 2/ 181، والمصباح المنیر: 206/8، والقاموس المحيط: 1/ 164، وتاج العروس: 1/ 1298
3- ينظر: جمهرة اللغة: 1/ 104

بالمكان: أَقام. قال الله تعالى: (لَم يَلْبَثُوا إلاَّ سَاعَةً مِنْ نَهارٍ)(1)...)(2).

وقال الرَّاغب:«لَبِثَ بالمكان:أَقام به ملازماً له»(3).

وورد هذا الفعل «يلبث» مطابقاً دلالته اللُّغوية؛ إذ جاء به أَمیر المؤمنین (عليه السلام) مرَّةً واحدةً، وهو حادي عشر الأَفعال الأَحد عشر، الَّتي أَوردها أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) لبيان حال ذلك الإنسان المعذَّب الَّذي ورد جهنَّم، إذ قال (عليه السلام): «فَظَلَّ يُعَذَّبُ في جحيمٍ، ويُسْقَى شُربَةً من حميمٍ، تَشوي وجْهَهُ، وَتَسْلَخُ جِلْدَهُ، يَضْربُهُ زَبِيْنَتُهُ بمَقْمَعٍ مِنْ حَديدٍ، ويَعُودُ جِلدُهُ بَعدَ نُضْجِهِ بِجِلدٍ جَدِيدٍ،،يَسْتغيثُ فَتُعرضُ عَنهُ خَزَنَةُ جَهنَّمَ، ويسْتَصْرخُ فَيَلْبثُ حُقْبَةً بِنَدَمٍ». فيلبث ذلك الإنسان المعذَّب، الَّذي طلب الاستغاثة، والعون، والنُّصرة، والخلاص من العذابات والنَّقمات، إلاَّ أَنَّ خزنة جهنَّم تعرض عنه، فيلبث مستغيثاً مدَّة من الزَّمن لم يُسمِّها أَمیر المؤمنین (عليه السلام)، وهو بذلك يضمِّن قوله - تبارك وتعالى -: (لابِثِینَ فِيهَا أَحْقَابًا)(4).ولعلَّ من نافلة القول أَنَّ أَمیر المؤمنین (عليه السلام) لم يقل:«أَحقاباً»، بل قال: «حقبة»؛ لكي لا تفوت الفائدة من إيراد خطبته (عليه السلام)، وهي خلوُّها من الألف.

واختلف اللُّغويُّون في تحديد «الحقبة» من الزَّمن. إذ قال الأَزهريّ: «... الحِقْبة:زمانٌ من الدَّهْر لا وَقت لَهُ، والحُقُب: ثَمَنُون سنة والجمع أَحقابٌ.... الحُقُب

ص: 321


1- يونس: 45، والأحقاف: 35
2- معجم مقاييس اللغة: 5/ 184
3- مفردات ألفاظ القرآن: 733 و734
4- النبأ: 23

السِّنون، واحدتها حِقْبة، والحُقُب: ثَمَانُون سنة»(1).

وقال ابن فارس: «الحاء والقاف والباء أَصلٌ واحد، وهو يدلُّ على الحَبْس...

فأَمَّا الزَّمان فهو حِقْبَة والجمع حِقَب. والحُقْبُ ثمانون عاماً، والجمع أَحقاب؛ وذلك لما يجتمع فيه من السِّنين والشُّهورِ»(2).

وقال الجوهريّ: «الحُقُب بالضَّمِّ: ثَماَنُون سنة. ويُقَالَ أَكثر من ذلك، والجمع حِقَابٌ، والحِقْبَةُ بالكسر: واحدة الحِقَب وهي السِّنونَ. والحُقُبُ: الدَّهر.

والأَحقاب: الدُّهور، ومنه قوله تعالى: (أوَ أَمْضيِ حُقُباً)(3)»(4) .

وقال ابن منظور: «والحِقْبةُ مِنَ الدَّهر: مُدَّةٌ لا وَقْتَ لَها. والحِقْبةُ بِالْكَسرْ:السَّنةُ، وَالَجمْعُ حِقَبٌ وحُقُوبٌ كحِلْيةٍ وحُليٍّ. والحُقْبُ: ثَماَنُونَ سَنةً، وَقِيلَ أَكثرُ مِنْ ذَلِكَ؛ وَجَمعُ الحُقْبِ حِقابٌ، مِثْلُ قُفٍّ وقِفافٍ، وَحَكَى الأَزهريّ فِی الَجمْعِ أَحْقَاباً. والحُقْبُ: الدَّهرُ، والأَحْقابُ: الدُّهُور؛ وَقِيلَ: الحُقُبُ السَّنةُ، عَنْ ثَعْلَبٍ.

وَمِنْهُمْ مَنْ خَصَّصَ بِهِ لُغَةَ قَيْسٍ خاصَّة»(5).

و«فيلبث» الفاء: حرف عطف، و«يلبث» فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه الضَّمَّة الظَّاهرة على آخره، والفاعل ضمیر مستتر فيه، تقديره (هو)، عائد الى «مَن جذبت نفسه»، و«حقبةً» مفعول فيه ظرف زمان مبنيٌّ منصوب، وعلامة نصبه الفتحة الظَّاهرة على آخره، و«بندمٍ» الباء: حرف جرٍّ، و«ندمٍ» اسم مجرور، وعلامة

ص: 322


1- تهذيب اللغة: 1/ 463
2- معجم مقاييس اللغة: 2/ 71
3- الكهف: 60
4- الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية1/ 139
5- لسان العرب 1/ 324.وينظر: تاج العروس: 1/ 424

جرِّه الكسرة الظَّاهرة على آخره، والجارُّ والمجرور متعلِّقان بالفعل «يلبث». وجملة «فيلبث حقبةً بندمٍ» معطوفة على جملة «ويستصرخ».

ومن قمین القول إنَّ أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) أَورد الأَفعال: «يُعذَّبُ، يُسقى، تشوي، تَسْلَخُ، يضربه، يَعُودُ، يستغيث، يستصرخ، يلبث» بلفظ المضارع؛ لما فيه من دلالة على الحركة والتَّجدُّد، وعدم الثُّبوت(1)، وهو ما يناسب معاني هذه الأَفعال، فذلك الإنسان الَّذي ورد جهنَّم «يُعذَّبُ»، أَيْ: أَنَّ عملية العذاب مستمرَّة، ومتجدِّدة، وذلك الإنسان في حال عذاب دائم، وفي حال عذابه الدَّائم «يُسقى» من شراب أَهل النَّار، فإذا وصلت تلك الشّبة من الحميم الى وجهه، أَو قرَّبها منه؛ لِيُسقى «تشوي» وجهه، أَيْ: تحرق وجهه، وينضج، فهذه الحال مستمرَّة بدلالة أَنَّ جلده يكشط، وينزع، ويخلع «تسلخ جلده»، و«يضربه» ملك شديد غليظ بعمود من نارأَو خشبة، وهذا الضرب مستمر؛ ولذا قال «يضربه» بلفظ المضارع، و«يعود جلده بعد نضجه بجلد جديد»، فعملية سلخ جلد ذلك الإنسان متكرِّرة، وكلَّا انسلخ جلده، ونضج جلد جديد، سُلِخَ مرَّةً أُخرى، وهكذا دواليك، وهو ما تؤدِّيه زنة الفعل المضارع الدَّالَّة على التَّجدُّد والتَّكرار، ف «يستغيث»، أَيْ: يطلب الفرج، والعون، والنُّرة، والتَّخليص من تلك الشَّدائد والنَّفحات مرَّةً بعد أُخرى، ف «تُعرض عنه خزنة جهنَّم»، ويطلب الاستغاثة مراراًوتكراراً، بَيْدَ أَنَّه «يلبث»، أَيْ: يقيم حقبة بندمٍ على كُلِّ ما فعل، وهذا اللَّبث مستمرٌّمدَّة من الزَّمن؛ ولذا جاء به بلفظ المضارع. فهذه الأَفعال«يُعذَّبُ، يُسقى، تشوي، تَسْلَخُ، يضربه، يَعُودُ، يستغيث، يستصرخ، يلبث» جاءت كُلُّها بلفظ المضارع مناسبةً لمعانيها.

* * *

ص: 323


1- ينظر: الفعل (نستعينه) من الكتاب

نَعُوذُ،عُذْتُ

تدلُّ مادَّة «نعوذ» أَو«عُذت» في اللُّغة على اللُّجوء إلى الآخر، والاعتصام به، والتعلُّق به. قال ابن دريد: «عُذْتُ بالشيَّء أَعُوذُ عَوْذاً وعِياذاً، إِذا لجأْت إِلَيْهِ...

وَيُقال: عَوَّذَ فُلانٌ فلانًا، إِذا رقَّاه كَأَنَّهُ أَلَجأَهُ إلى الرُّقية الَّتِي يَعوذ بهَا من الشرِّوَمِّما يخَاف»(1).

ويُقال: عَاذَ فان بربِّه يَعُوْذُ عَوْذاً إِذا لَأَ إِلَيْهِ واعتصم بِهِ، وعاذ وتَعوَّذَ واسْتَعَاذَ بِمَعْنى. والعَوْذَةُ والمَعَاذَةُ: الرُّقية يرقى بهَا الإِنْسَان من فزع أَو جُنُون؛ لأَنَّهُ يُعاذُ بهَا، وَقد عَوَّذَه، والعَوَذُ: مَا عِيذَ بِهِ من شجر وَغیَره. والعَوَذُ بالتَّحريك: الملجأُ.

يُقال: فلانٌ عَوَذٌ لك، أَيْ: ملجأٌ، والمَعَاذُ: المصدر والزَّمان والمكان، أَيْ: قد لجأْتُ إلى ملجأ ولُذْتُ بماذٍ، والله - عَزَّ وَجَلّ َ- مَعَاذُ مَنْ عَاذَ به، وهو عِيَاذِي، أَيْ:

ملجئي(2).

وقال الجوهريّ: «عُذْتُ بفلانٍ واسْتَعَذْتُ به، أَيْ: لجأْتُ إليه. وهو عياذي، أَيْ ملجئي. وأَعذتُ غیري به وعَوَّذْتُه به معنى. وقولهم معاذَ الله، أَيْ: أَعوذُ بالله مَعاذاً»(3).

وقال الرَّاغب: «العَوْذُ: الالتجاء إلى الغیر والتَّعلُّق به. يُقال: عَاذَ فلانٌ بفلان... والْعُوذَةُ: ما يُعَاذُ به من الشيَّء، ومنه قيل للتَّميمة والرُّقية: عُوذَةٌ،

ص: 324


1- جمهرة اللغة 1/ 378. وينظر: العین: 1/ 133، والمحيط في اللغة: 1/ 116، وأساس البلاغة: 325/1
2- ينظر: تهذيب اللغة: 1/ 357، و المحكم والمحيط الأعظم: 1/ 323، وتاج العروس: 1/ 2406 - 2410
3- الصحاح في اللغة: 2/ 4.وينظر: المخصّص: 3/ 100، ولسان العرب: 3/ 498، والقاموس المحيط: 340/1

وعَوَّذَهُ: إذا وقاه»(1).

وجاء في تعريف «الاستعاذة» أَنَّها: «حالة نفسيَّة، قوامها الخشية من الخطر، والثِّقة بِمَنْ يُستعاذ به، وهي إلى ذلك ممارسة عمليَّة بابتغاء مرضاة مَنْ نستعيذ به»(2).

وبهذا المعنى ورد هذا الفعل مرَّتین في الخطبة، جاء به أَمیر المؤمنین (عليه السلام) في المرَّة الأُوْلى مضارعاً بصيغة الجمع -أَيْ: أَنَّه مبدوء بالنُّون في أَوَّله، ومسند إلى جماعة المتكلِّمین - مع أَنَّ المتكلِّم واحد، إذ قال (عليه السلام): «فَظَلَّ يُعَذَّبُ في جحيمٍ، ويُسْقَى شُربَةً من حميمٍ، تَشْوِي وَجْهَهُ، وَتَسْلَخُ جِلْدَهُ، يَضْربُهُ زَبِيْنَتُهُ بمَقْمَعٍ مِنْ حَدِيْدٍ، وَيَعُوْدُ جِلْدُهُ بَعْدَ نُضْجِهِ بِجِلْدٍ جَدِيدٍ،يَسْتَغِيْثُ فَتُعْرِضُ عَنْهُ خَزَنَةُ جَهَنَّمَ، وَيَسْتَصْرخُ فَيَلْبَثُ حُقْبَةً بِنَدَمٍ، نَعُوْذُ بِرَبٍّ قَدِيْرٍ، مِنْ شَّی كُلِّ مَصِیرْ».

وأَحسب أَنَّ أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) إنَّما جاء بالفعل بصيغة الجمع «نعوذ» لسببين:

الأَوَّل: إنَّ هذا الفعل بصيغة الجمع يتناسب ومعناه؛ تعظياً لهذا الأَمرمن طلب اللِّجوء الى الله، والاعتصام به، والتعلُّق به.

الثَّاني: ليتناسب ومعاني الأَفعال السَّابقة «يُعذَّب... يلبث»؛ وليتناسب وحال ذلك الإنسان في تلك الأَفعال من وروده جهنَّم إلى عذابه فيها بأَنواع العذاب، ولبثه حقبةً من الزَّمن بندم.

ص: 325


1- مفردات ألفاظ القرآن: 594 و595
2- من هدي القرآن: 18/ 457

وأَحسب أَنَّه (عليه السلام) جاء بالفعل «نعوذ» بلفظ المضارع؛ ليتناسب والأَفعال السَّابقة «يُعذَّب... يلبث»؛ كونها أَفعالاً مضارعة، ف «يُعذَّب... يلبث» كلُّها أَفعال متكرِّرة، وعذابات متكرِّرة ومتجدِّدة، ولابدَّ من أَنَّها تحتاج الى اعتصام بالله متكرِّر، ولجأ وتعلُّقٍ متكرِّرين - بطبيعة الحال -.

وجدير بالذِّكر- أَيضاً - أَنَّه (عليه السلام) استعمل مع هذا الفعل «نعوذ» اسماً من أَسماء الله الحسنى، وهو«قدير»؛ ليتناسب وحال ذلك الإنسان في تلك النَّقمات والشَّدائد، فإنَّه يحتاج إلى ربٍّ قديرٍ؛ لكي يُخلِّصه من كُلِّ شدَّة ونقمة بانت في تلك الأَفعال «ظلَّ... يلبث».

و«نعوذ» فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه الضَّمَّة الظَّاهرة على آخره، والفاعل ضمیر مستتر فيه وجوباً، تقديره (نحن)، عائد إلى أَمیرالمؤمنین (عليه السلام)، و«بربّ» الباء: حرف جرٍّ، و«ربّ» اسم مجرور، وعلامة جرِّه الكسرة الظَّاهرة على آخره، والجارُّ والمجرور متعلِّقان بالفعل «نعوذ»، و«قدير» صفة ل «ربّ» مجرورة وعلامة جرِّها الكسرة الظَّاهرة على آخرها.

أَمَّا في المرَّة الثَّانية، فقد جاء به أَيْ: بالفعل أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) بلفظ الماضي «عُذْتُ»، خاتماً به الخطبة، إذ قال (عليه السلام): «عُذْتُ بِرَبٍّ رَحِيْمٍ، مِنْ شَّر كُلِّ رَجِيْمٍ».

واللاَّفت للنَّظر- مع هذا الفعل «عُذْتُ» - أَمران: -

الأَوَّل: إنَّ أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) جاء به بلفظ الماضي؛ لما في المضيِّ من دلالة على الثُّبوت والنَّفاذ(1)، وهو ما يناسب حال أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) في نهاية خطبته، وكذا حال أَيِّ إنسان في نهاية حياته، أَيْ: أَنَّه من الثَّابت عوذي

ص: 326


1- ينظر: الفعل (حمدت) من الكتاب

ولجأي واعتصامي بالله - عَزَّ وَجَلَّ - في نهاية أُموري كلِّها.

الثَّاني: إنَّ أَمیر المؤمنین (عليه السلام) استعمل مع الفعل «عُذْتُ» اسماً من أَسماء الله الحسنى، وهو«رحيم»؛ مجانسةً مع ما بعده من ذكرالشَّيطان الرَّجيم، إذ قال (عليه السلام): «عُذْتُ بِرَبٍّ رَحِيْمٍ، مِنْ شَّر كُلِّ رجيمٍ»، هذا أَوَّلاً؛ وثانياً:

لأَنَّ الإنسان، أَيّ إنسان، سواء أَكان صالحاً أَم طالحاً يحتاج إلى رحمة الله - عَزَّ وَجَلَّ -، وبها ينجو كلُّ إنسان، ويحيا حياةً طيِّبةً.

و«عُذْتُ» فعل ماضٍ مبنيٌّ على السُّكون؛ لاتِّصاله بضمیر رفع متحرِّك (التَّاء)، والتَّاء: ضمیر متَّصل مبنيٌّ في محلِّ رفع فاعل، عائد إلى أَمیر المؤمنین (عليه السلام)، و«برب»الباء: حرف جرٍّ، و«ربّ» اسم مجرور، وعلامة جرِّه الكسرة الظَّاهرة على آخره، والجارُّ والمجرور متعلِّقان بالفعل «عذت»،و«رحيم» صفة ل «ربّ» مجرورة، وعلامة جرِّها الكسرة الظَّاهرة على آخرها.

* * *

نَسألُهُ

تدلُّ مادَّة «نسأله» في اللُّغة على الطَّلب، وفَقْرِ السَّائلِ. جاء في «العین»: «سَأَلَ يَسْأَلُ سُؤَالاً ومَسْأَلةً. والعَرَبُ قاطبةً تحذفُ همزةَ سَلْ، فإذا وُصِلَتْ بفاءٍ أَو واوٍ هُمزَتْ، كقولك: فاسأَل، واسأَل. وجَمعُ المَسْأَلَة: مسائِل، فإذا حذفوا الهمزة، قالوا:

مَسَلة. والفقر يُسمَّى: سائلاً»(1).

وقال الجوهريّ: «السُؤْلُ: ما يسأَلُه الإنسان... وسأَلتُه الشيَّء وسأَلتُه عن

ص: 327


1- العین: 2/ 73. وينظر: تهذيب اللغة: 4/ 320، والمحيط في اللغة: 2/ 276، وأساس البلاغة: 206/1

الشيَّء سؤالاً ومَسْأَلَةً... وقد تُخفَّفُ همزته فيُقال: سالَ يَسَالُ... والأَمر منه سَلْ بحركة الحرف الثَّاني من المستقبَل، ومن الأَوَّل: اسْأَلْ. ورَجُلٌ سُؤَلَةٌ: كثیرُ السُّؤال. وتَساءَلوا، أَيْ: سَأَلَ بعضهم بعضاً. وأَسْأَلْتُهُ سُوْلَتَهُ ومَسْأَلَتَهُ، أَيْ: قضيتُ حاجته»(1).

ويُقال: سأَلت الله العافية طلبتُها سُؤالاً ومَسْأَلَةً، وجمعها مسائل بالهمز، وسأَلته عن كذا استعملتُه(2).

وتطابقت دلالة الفعل «نسأله» في الخطبة مع دلالته اللُّغوية؛ إذ أَورده أَمیر المؤمنین (عليه السلام) مرَّةً واحدةً، يسأَل بها الله - تبارك وتعالى - التَّجاوزعن الذُّنوب ومحوها، وتَرْك العقابِ عليها، إذ قال (عليه السلام): «نَعُوْذُ بِرَبٍّ قَدِيْرٍ، مِنْ شَّر كُلِّ مَصِیرْ، وَنَسْأَلُهُ عَفْوَ مَنْ رَضِی عَنْهُ».

ويبدو أَنَّ أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) استعمل الفعل «نسأله» بزنة المضارع لتناسب هذه الصيغة، الَّتي تدلُّ على الحركة والتَّجدُّد مع معنى الفعل نفسه، فالسَّائل يحتاج الى تكرار سؤله وطلبه؛ لكي تُحقَّقَ الإجابة.

واستعمل أَمیر المؤمنین (عليه السلام) الفعل «نسأله» بصيغة الجمع؛ ليتناسب ومعنى الفعل نفسه، تعظياً للمطلوب، والمطلوب منه، مع أَنَّ المتكلِّم - الطالب - واحد.

و«نسأله» فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه الضَّمَّة الظَّاهرة على آخره، والفاعل ضمیرمستتر فيه، تقديره (هو)، يعود الى أَمیرالمؤمنین (عليه السلام)،

ص: 328


1- الصحاح في اللغة: 1/ 298. وينظر: القاموس المحيط: 3/ 108
2- ينظر: معجم مقاييس اللغة: 3/ 95، ولسان العرب: 11/ 318، والمصباح المنیر: 4/ 387، وتاج العروس: 1/ 7150 و7151

والهاء ضمیر متَّصل مبنيٌّ في محلِّ نصب مفعول به أَوَّل، و«عَفْوَ» مفعول به ثانٍ منصوب، وعلامة نصبه الفتحة الظَّاهرة على آخر، وهو مضاف، و«مَنْ» اسم موصول مبنيٌّ على السُّكون في محلِّ جرٍّ بالإضافة. وجملة «وَنَسْأَلُهُ عَفْوَمَنْ رَضِی عَنْهُ» معطوفة على جملة «نَعوذُ بربٍّ قَديرٍ، مِنْ شَّی كُلِّ مصیرٍ».

* * *

رَضيَ

مادَّة «رضي» في اللُّغة نقيض السُّخط. جاء في «العین»: يقال في لغة: رَجُلٌ مَرْضُوٌ عنه؛ لأَنَّ الرِّضا في الأَصل من بنات الواو، وشاهِدُه الرِّضْوانْ، وهو اسم موضوعٌ من الرِّضا، قال تعالى: (إِلاَّ ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللّه)(1).والرِّضا، مقصورٌ، والمُراضاةُ من اثنَینْ»(2).

وقال ابن فارس: «الرّاء والضَّاد والحرف المعتلُّ أَصلٌ واحد يدلُّ على خلاف السُّخْط. تقول رضِی يَرْضَی رِضىً. وهو راضٍ»(3).

والرِّضْوانُ: الرِّضا، وكذلك الرُّضْوانُ بالضَّمِّ. والمَرْضَاة مثله. ورَضِيْتُ الشيَّء وارْتَضَيْتُهُ فهو مَرْضِّی، وقد قالوا: مَرْضُوٌّ فجاءوا به على الأَصلِ والقياسِ.

ورَضيتُ عنه رِضاً مقصورٌ، وهو مصدرٌ محضٌ، والاسم الرِّضاءُ ممدود... ويُقال:

رَضيتُ به صاحباً. ورُبَّما قالوا: رَضيتُ عليه، بمعنى رَضيتُ به وعنه. وأَرْضَيْتُهُ عنِّي ورَضَّيْتُهُ بالتَّشديد أَيضاً، فَرَضِی. وتَرَضَّيْتُهُ: أَرْضَيْتُهُ بعد جهدٍ. واسْترَضَيْتُهُ

ص: 329


1- الحديد: 27
2- العين: 2/ 25.وينظر: المحيط في اللغة: 2/ 203
3- معجم مقاييس اللغة: 2/ 330

فأَرْضاني(1).

وقال الرَّاغب: «رَضِی يَرْضَ رِضًا، فهو مَرْضِّی ومَرْضُوٌّ. ورِضَا العبد عن الله: أَنْ لا يكره ما يجري به قضاؤه، ورِضَا الله عن العبد هو أَنْ يراه مؤتَمراً لأَمره، ومنتهيًا عن نهيه، قال الله تعالى: (رَضِی اللَّه عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ)(2)»(3).

وبهذا المعنى أَورد أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) هذا الفعل «رضي» مرَّةً واحدةً في الخطبة، إذ قال (عليه السلام): «وَنَسْأَلُهُ عَفْوَ مَنْ رَضِی عَنْهُ».

ولعلَّ في كلام ابن الأَثیر الآتي، الَّذي نقله ابن منظور في (لسان العرب) تبييناً لسبب بدء أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) بالمعافاة ثُمَّ بالرِّضا؛ إذ قال: «إِنَّماَ ابتدأَ بالمُعافاة مِنَ الْعُقُوبَةِ؛ لأَنَّها مِنْ صِفَاتِ الأَفعال كالإِماتة والإِحياء والرِّضَا، والسَّخَطُ مِنْ صِفَاتِ الْقَلْبِ، وصفاتُ الأَفعال أَدْنى مرتبةً مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ، فبدأَ بالأَدْنى مُتَرقِّياً إِلَ الأَعلى...»(4) .

و«رضي» فعل ماضٍ مبنيٌّ على الفتح، والفاعل ضمیر مستتر فيه، عائدٌ الى الله - تبارك وتعالى -، و«عنه» عن: حرف جرٍّ، والهاء ضمیرمتَّصل مبنيٌّ على الضَّمِّ في محلِّ جرٍّ بحرف الجرِّ، والجارُّ والمجرور متعلِّقان بالفعل «رضي». وجملة «رضي عنه» صلة الموصول لا محلَّ لها من الإعراب.

* * *

ص: 330


1- ينظر: الصحاح في اللغة: 1/ 257
2- المائدة: 119
3- مفردات ألفاظ القرآن: 356
4- ينظر:

قَبِلَ

جاء في (العین): «والقَبول: أَنْ تقبل العفو والعافية... والتَّقبُّل: القَبول، يُقال: تقبَّل الله منك عملك، وتقبَّلتُ فلاناً من فلان بقبولٍ حَسَنٍ»(1).

ويُقال: قبل الشيَّء قُبُولاً وقَبُولاً، وتقبَّله، كلاهما: أَخذه. وقبل الهبة، وقَبِلَ منه النُّصح. وقبل الله من عبده التَّوبة، وهو الَّذي يقبل التَّوبة عن عباده(2) .

وبهذا المعنى أَورد أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) هذا الفعل «قبل»مرَّةً واحدةً في الخطبة؛ إذ قال (عليه السلام): «وَنَسْألُهُ عَفْوَ مَنْ رَضِی عَنْهُ، وَمَغْفَرةَ مَنْ قَبِلَ مِنْهُ؛» لأَنَّ الله - تبارك وتعالى -«وَلِّی مَسْأَلَتِي، وَمُنْجِحُ طَلِبَتِي».

و«مغفرة» معطوف على قوله: «عفو» منصوب، وعلامة نصبه الفتحة الظَّاهرة على آخره، وهو مضاف، و«مَنْ» اسم موصول مبنيٌّ على السُّكون في محلِّ جرٍّ بالإضافة، و«قَبِلَ» فعل ماضٍ مبنيٌّ على الفتح، والفاعل ضمیر مستتر، تقديره (هو) عائد إلى الله - عَزَّ وَجَلَّ -، و«مِنْه» من: حرف جرٍّ، والهاء ضميرمتَّصل مبنيٌّ على الضمّ في محلّ جرٍّ بحرف الجرِّ، والجارُّ والمجرورمتعلِّقان بالفعل (قَبِلَ)، وجملة «قبل منه» جملة صلة الموصول، لا محلَّ لها من الإعراب.

وجديربالذِّكرأَنَّ أَبا هالٍ العسكريّ فرَّق بین (العفو)، و(العافية)، و(المعافاة) بقوله: «قيل: الأَوَّل هوالتَّجاوزعن الذُّنوب ومحوها. الثَّاني: دفاع الله - سبحانه - الأَسقام والبلايا عن العبد. وهو اسم من عافاه الله وأَعفاه، وُضِعَ موضع المصدر.

الثَّالث: أَنْ يعافيك الله عن النَّاس ويعافيهم عنك، أَيْ: يغنيك عنهم ويغنيهم

ص: 331


1- العين: 1/ 402. وينظر: تهذيب اللغة: 3/ 229 و230، والمحيط في اللغة: 1/ 481 و482
2- ينظر: المحكم والمحيط الأعظم: 3/ 60 و61، وأساس البلاغة: 1/ 364

عنك، ويصرف أَذاهم عنك وأَذاك عنهم»(1) .

وفرَّق بین (العفو)، و(المغفرة) بقوله: إنَّ (العفو: ترك العقاب على الذَّنب، والمغفرة: تغطية الذَّنب بإيجاب المثوبة؛ ولذلك كثرت المغفرة من صفات الله تعالى دون صفات العباد، فلا يُقال: أَستغفرالسُّلطان كما يُقال: أَستغفر الله. وقيل: العفو: إسقاط العذاب. والمغفرة أَنْ يسترعليك بعد ذلك جرمه صوناً له عن عذاب الخزي والفضيحة؛ فلإنَّ الخلاص من عذاب النَّار إنَّما يطلب إذا حصلعقيبه الخلاص من عذاب الفضيحة. فالعفو: إسقاط العذاب الجسانيّ. والمغفرة:

إسقاط العذاب الروحانيّ)(2).

* * *

زُحْزِحَ

تدلُّ مادَّة «زحزح» في اللُّغة على البعد، والتَّنحية، والدَّفع، والجذب في عجلة، والسَّوق الشَّديد. جاء في (تهذيب اللُّغة): «قَالَ الله جلَّ وعزَّ: (فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الَجنَّةَ)(3)، قَالَ بَعضهم :زُحزح، أَيْ: نُحِّي وبُعِّد، فَقَالَ بَعضهم: هَذَا مُكَرَّر من بَاب المعتلِّ. وَأَصله من زاح يزِيح إِذا تأَخَّر... وَمِنْه يُقال: زاحت عِلَّته وأَزحتها. وَقيل: هُوَ مَأْخُوذ من الزَّوْح، وَهُوَ السَّوْق الشَّديد. وَكَذَلِكَ الذَّوْح.

وَقَالَ ابْن دُرَيْد يُقَال زحَّه يَزحُّه إِذا دَفعه، وَكَذَلِكَ زَحْزَحه»(4).

ص: 332


1- الفروق اللغوية: 1/ 363
2- المصدر نفسه: 1/ 363
3- آل عِمرَان: 185
4- تهذيب اللغة 1/ 430. وينظر: جمهرة اللغة: 1/ 68، وأساس البلاغة: 1/ 159

ويُقال: زحزحته عن كذا، أَيْ: باعدته منه، فتزحزح، أَيْ: تنحَّى. وتقول: هو بِزِحْزَحٍ عن ذاك، أَيْ: بِبُعْدٍ منه(1).

وقال ابن منظور: «قال اللَّه تعالى: (مَنْ(2)زُحْزِحَ عَنِ النَّارِوَأُدْخِلَ الْجنَّةَ فَقَدْ فازَ)(3) ، أَيْ: نُحِّيَ وبُعِّدَ. وزَحَّ الشيءَ يَزُحُّه زَحّاً: جَذَبَهُ فِی عَجَلَة. وزَحَّه يَزُحُّه زَحّاً، وزَحْزَحه فتَزَحْزَحَ: دَفَعه ونَحَّاه عَنْ مَوْضِعِهِ فَتَنَحَّى وباعَدَه مِنْهُ... وَيُقال: هُوَ بِزَحْزَحٍ عَنْ ذَلِكَ، أَيْ: ببُعْدٍ مِنْهُ... قَالَ بَعْضُهُمْ هَذَا مكرَّر مِنْ بَابِ الُمعْتَلِّ، وأَصله مِنْ زاحَ يَزيحُ إِذا تأَخَّر... وَمِنْهُ يُقال: زاحتْ عِلَّتُهُ وأَزَحْتُها، وَقِيلَ: هُوَ مأْخوذ مَنْ الزَّوْحِ، وَهُوَ السَّوْقُ الشَّدِيدُ، وَكَذَلِكَ الذَّوْحُ»(4).

و«زُحْزِحَ» على زنة «فُعْلِلَ». وقد اختُلِفَ في وزن هذه الكلمة وأَمثالها من مثل «زلزل» و«دمدم» وغيرهما ممَّا كان فاء الكلمة ولامها الأُولى من جنسٍ واحد، وعین الكلمة ولامها الثَّانية من جنس واحد، فَنُسِبَ للخليل رأْيان، أَوَّلها: أَنَّ وزنها هو «فَعْفَع»، وثانيهما: هو إنَّ وزنها «فَعْفَل»، أَمَّا سيبويه، فیرى أَنَّ وزنها «فعَّل»(5)، وذهب الكوفيِّون، ومنهم الفرَّاء إلشى أَنَّ وزنها «فَعْلَل»(6) . ورأَى الدُّكتورإبراهيم السَّامرائيّ (أَنَّ بناء هذا الفعل الرُّباعي يتمُّ من ضمِّ ثنائيٍّ مؤلَّف من حرفین صحيحین إلى مثله. فالثُّنائي في (زَلْزَلَ) هو(زَلْ). وإضافة الثُّنائي الى مثله

ص: 333


1- ينظر: الصحاح في اللغة: 1/ 284
2- الصواب: (فَمَنْ)
3- آل عِمرَان: 185
4- لسان العرب: 2/ 468.وينظر: معجم مقاييس اللغة: 3/ 4، وتاج العروس: 1/ 1613
5- ينظر: الدرس الصرفي عند الفرّاء: 151
6- ينظر: الخصائص: 2/ 52، والإنصاف في مسائل الخاف: 2/ 793 - 794، واللباب في علل البناء والإعراب: 2/ 223، والدرس الرفي عند الفرّاء: 151

تؤدِّي إلى معنى القوَّة والزِّيادة والمبالغة، وهذا هوالأَصل في تسميته عند الصرفيِّین الأَقدمین ب (المضعَّف)؛ وذلك أَنَّ التَّضعيف عندهم يؤذن بهذه المبالغة المتحصَّلة من ضمِّ الثُّنائي إلى مثله»(1). فصيغة «فَعْلَل» تدلُّ على القوَّة، والزِّيادة، والمبالغة، وهو ما يتناسب ودلالة الكلمة «زحزح»؛ فهي تدلُّ على البعد، والتَّنحية، والدَّفع، والجذب في عجلة، والسَّوق الشَّديد، فكلُّ هذه المعاني تدلُّ على القوَّة، والزِّيادة، والمبالغة.

وبهذا المعنى أَورد أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) الفعل «زحزح»مرَّةً واحدةً في الخطبة، إذ قال (عليه السلام): «فَمَنْ زُحْزِحَ عنْ تَعذِيبِ رَبِّهِ، سَكَنَ فِی جَنَّتِهِ بِقُرْبِهِ، وَخُلِّدَ فِی قُصُوْرٍ مُشَيَّدَةٍ، وَمَلَكَ حُوْرَعِینْ وَحَفَدَةً، وَطِيْفَ عَلَيْهِ بِكُؤوْسٍ، وَسَكَنَ حَضِیرْةَ فِرْدَوْسٍ، وَتَقَلَّبَ فِی نَعِيْمٍ، وَسُقِيَ منْ تَسْنيمٍ، وَشَربَ منْ عَین سَلْسَبِيْلٍ، مَمزُوْجَةٍ بِزَنْجَبِيْلٍ، مَختُوْمَةً بِمِسْكٍ وَعَبِیرْ، مُسْتَدِيْمٌ لِلْحُبُوْرِ، مُسْتشْعِرٌ لِلْسرُوْرِ، يَشرْبُ منْ خُمورٍ، فِی رَوْضٍ مُغْدِفٍ، لَيْسَ يُصَدَّعُ مِنْ شُربِهِ وَليْسَ يَنْزِفُ»، أَيْ:

فَمَنْ بُعِّدَ وَنُحِّي، وَدُفِعَ عن العذاب، ويكون هذا كلُّه في عجلة، ويُساقُ سوقاً شديداً لهول الموقف، وهو الخلاص من النَّار، سكن في جنَّته بقربه، وخُلِّد في قصور مشيَّدة... وليس ينزف.

وتقدَّم أَنَّ لحذف الفاعل، وإقامة المفعول مقامه أَغراضاً لفظيَّة، ومعنويَّة(2) ، ومنها: التَّركيز على الحدث، فمن بین الأَغراض المهمَّة الَّتي يُذف من أَجلها الفاعل هو كون الحدث ذا أَهمِّيَّة كبیرة في المعنى الَّذي يقصد إليه المتكلَّم بيانه، فراه يعمد إلى إزالة ما يستجلب انتباه السَّامع، ويحيد بذهنه عن التَّوجُّه والتَّركيزفي الحدث الَّذي يشكِّل المحور في قصد المتكلِّم، وهو ما عمد إليه أَمیرالمؤمنین

ص: 334


1- الفعل زمانه وأبنيته: 195
2- ينظر: الفعل (جُذِبَتْ) من الكتاب

(عليه السلام) في قوله: «فمن زحزح عن تعذيب ربّه»؛ فواضح مدى صعوبة الموقف والحدث الَّذي يودُّ أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) بيانه، وهو البعد والتَّنحية عن عذاب الله، برف النَّظرعن المُزَحْزَح، أَيّاً كان هو، سيِّداً، عبداً، شريفاً، وضيعاً، غنيِّاً، فقیراً، عالماً، جاهلاً، رجلاً، امرأَةً، صغیراً، كبیراً، كائناً مَنْ كان، فإنَّه إنْ زُحزح عن تعذيب ربِّه، فقد فاز بالسَّكن في الجنَّة، إلخ.

وقول أَمیر المؤمنین (عليه السلام): «فمن زحزح عن تعذيب ربّه» فيه تضمن لقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الَجنَّةَ فَقَدْ فَازَ)(1)، ولم يقل أَمیرالمؤمنین (عليه السلام): «زحزح عن النار»؛ لفوات الفائدة من الخطبة، وهي خلوُّها من الأَلف. و«فَمَنْ» الفاء عاطفة، و «مَنْ» اسم شرط مبنيٌّ على السُّكون في محلِّ رفع مبتدأ، و «زحزح» فعل ماضٍ مبنيٌّ للمجهول، مبنيٌّ على الفتح (فعل الشرط)، ونائب الفاعل ضمیرمستترتقديره (هو) عائد الى قوله «مَنْ»، و«عن» حرف جرٍّ، و«تعذيب»: اسم مجرور، وعلامة جرِّه الكسرة الظَّاهرة على آخره، وهومضاف، و«ربّه» مضاف إليه مجرور، وعلامة جرِّه الكسرة الظَّاهرة على آخره، وهو مضاف، والهاء: ضمیر متَّصل مبنيٌّ في محلِّ جرٍّ بالإضافة، والجارُّ والمجرور متعلِّقان بالفعل «زحزح»، وجملة فعل الشرط وجوابه - زُحزحَ عن تعذيب ربِّه، سكن في جنَّته بقربه - في محلِّ رفع خبر المبتدأ «مَنْ».

* * *

ص: 335


1- آل عمران: 185

خُلِّدَ

تدلُّ مادَّة «خلد» في اللُّغة على طول المدَّة، والثَّبات على حالة واحدة، والبقاء في المكان أَبداً، ودوام البقاء، والإقامة في المكان والملازمة. جاء في (العین): «الخُلْدُ: من أَسماء الجنان، والخُلود: البقاء فيها، وهم فيها خالدون ومخلَّدون»(1).

وقال الأَزهريّ: «الخلُودُ: البقاءُ فِی دارٍ لا يُرَجُ مِنْهَا، والفِعْلُ: خَلَدَ يَخلُد... وأَهْلُ الجَنَّة خالِدُون مُخلَّدُون آخِر الأَبَدِ، وأَخْلَدَ الله أَهلَ الْنَّة إخاداً، والْخلْدُ:

اسمٌ من أَسماء الِجنَان»(2).

وقال الجوهريّ: «الخُلْدُ: دوامُ البقاء. تقول: خَلَدَ الرَّجلُ يخلُدُ خُلُوْداً. وأَخلَدَهُ اللهُ وخَلَّدَه تَخلِيْداً... وأَخْلَدَ بالمكان: أَقام فيه. وأَخلد الرَّجلُ بصاحبه: لَزِمَهُ»(3).

وقال الرَّاغب: «الخُلُود: هو تبرِّي الشيَّء من اعتراض الفساد، وبقاؤه على الحالة الَّتي هوعليها، وكلُّ ما يتباطأُ عنه التَّغیيرُ والفساد تصفه العرب بالخلود، كقولهم للأَثافي: خوالد؛ وذلك لطول مُكْثِها لا لدوام بقائها. يُقال: خَلَدَ يَخلُدُ خُلُوداً، قال تعالى: (لَعَلَّكُمْ تَخلُدُونَ) [الشعراء/ 129]... والخُلودُ في الجنَّة: بقاء الأَشياء على الحالة الَّتي عليها من غیر اعراض الفساد عليها، قال تعالى: (أُولئِكَ أَصْحابُ الَجنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) [البقرة/82»](4).

ص: 336


1- العين: 1/ 315
2- تهذيب اللغة 2/ 467. وينظر: جمهرة اللغة: 1/ 303، ومعجم مقاييس اللغة: 2/ 167، والمحيط في اللغة: 1/ 355، والمخصّص: 1/ 26 و2/ 477 و488، و 3/ 471، ولسان العرب: 3/ 164، والمصباح المنیر: 3/ 109، وتاج العروس: 1/ 1792
3- الصحاح في اللغة 1/ 181
4- فردات ألفاظ القرآن: 291 و292

وقال ابن سيده: «خَلَد يَخلُد خُلْدا وخُلوداً: بَقى وَأقَام. وَدَار الخُلْد: الآخِرَة، لبَقَاء أَهلهَا. وَقد أَخْلد الله أهلهَا فِيهَا، وخَلَّدهم... وخَلَد بِالَمكَانِ يَخلُدُ خُلُوداً، وأَخْلَدَ أَقَامَ... والمُخَلَّد من الرِّجَال: الَّذِي أَسنَّ وَلم يَشِبْ، كأَنَّه مُخلَّد لذَلِك»(1).

وقال الزَّمخشريّ: «خلد بالمكان وأَخلدَ: أَطالَ به الإقامةَ... وخلدَ في السِّجنِ، وخلدَ في النَّعيمِ: بقي فيه أَبداً خلوداً وخلداً. وخلَّدَهُ اللهُ وأَخلَدَهُ. ومن المجاز:

فلانٌ مخلَّدٌ: للَّذي أَبطأَ عنه الشَّيبُ، والَّذي لا تسقط لهُ سِنٌّ؛ لإخاده على حالته الأُولى وثباته عليها»(2).

وبهذا المعنى أَورد أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) هذا الفعل «خُلِّدَ» مرَّةً واحدةً في الخطبة، مبنيّاً للمجهول، وعلى زنة «فُعِّلَ»،وهو ثاني الأَفعال الثَّلاثة عشرالَّتي ذكرها أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) واصفاً مَنْ زُحزحَ عن تعذيب ربِّه بأَنَّه يسكن في جنَّته بقربه: «وَخُلِّدَ في قُصُوْرٍ مُشَيَّدَةٍ».

وقد أَحسنَ أَمیر المؤمنین (عليه السلام) حین استعمل الفعل «خُلِّدَ» على زنة «فُعِّلَ»، الَّتي تدلُّ على الكثیر(3)، وهو ما يتناسب ودلالة اللَّفظة على الخلود والبقاء. أَمَّا استعماله (عليه السلام) الفعل مبنيّاً للمجهول؛ فإنَّه (عليه السلام) يريد أَنْ يُركِّز على الحدث، وهو استقرار«مَنْ زُحْزِحَ عنْ تَعذِيبِ رَبِّهِ» في جنَّته بقربه، والبقاء والثَّبات فيها، بصرف النَّظرعن الباقي والثَّابت فيها.

و«خُلِّدَ» فعل ماضٍ مبنيٌّ للمجهول، مبنيٌّ على الفتح، ونائب الفاعل ضمیر

ص: 337


1- المحكم والمحيط الأعظم 2/ 319
2- أساس البلاغة 1/ 121
3- ينظر: الفعل (فَرَّدتُه) من الكتاب

مستتر فيه تقديره (هو) عائد الى «مَنْ زُحْزِحَ عنْ تَعذِيبِ رَبِّهِ»، و«في» حرف جرٍّ، و«قصور»: اسم مجرور، وعلامة جرِّه الكسرة الظَّاهرة على آخره، والجارُّ والمجرور متعلِّقان بالفعل «خُلِّدَ»، و

«مُشيَّدة» صفة مجرورة، وعلامة جرِّها الكسرة الظَّاهرة على آخرها، وجملة «وَخُلِّدَ في قُصُورٍ مُشَيَّدةٍ» معطوفة على جملة «سَكَنَ في جَنَّتِهِ بِقُرْبِهِ».

* * *

طِيْفَ

تدلُّ مادَّة «طيف» في اللُّغة على دوران الشيَّء، والحفِّ والإحاطة به، والاستدارة عليه، والحوم حوله. جاء في (العین):

«والطَّوَفان: مَصْدَر طافَ يَطُوفُ. فأَمَّا طاف بالبيت يطوف فالمصدر: طَوَافٌ. وأَطاف بهذا الأَمرِ، أَيْ: أَحاط به، فهو مُطِيْفٌ...

والطَّائفُ الَّذي بالغور سُمِّي به الحائط الَّذي بَنَوا حولها في الجاهليَّة، حصَّنُوها به»(1).

وقال ابن فارس: «الطَّاء والواو والفاء أَصلٌ واحدٌ صحيحٌ يدلُّ على دَوَران الشيَّء على الشيَّء، وأَنْ يَحفَّ به. ثُمَّ يُحمَل عليه»(2).

وقال الرَّاغب: «الطَّوْفُ: المشيُ حولَ الشيَّءِ، ومنه: الطَّائِفُ لِمنْ يدورحولالبيوت حافظاً. يُقال: طَافَ به يَطُوفُ. قال تعالى: (يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ) [الواقعة/17]، قال: (فلَا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهما) [البقرة/ 158]، ومنه اسْتُعيرالطَّائِفُ من الجنِّ، والخيال، والحادثة وغيرها. قال: (إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ

ص: 338


1- العين 2/ 107. وينظر: المحيط في اللغة: 2/ 331
2- معجم مقاييس اللغة 3/ 338

الشَّيْطانِ) [الأعراف/ 201]، وهو الَّذي يدور على الإنسان من الشَّيطان يريد اقتناصه... وهو خَيالُ الشيَّء وصورته المترائي له في المنام أو اليقظة. ومنه قيل للخيال: طَيْفٌ. قال تعالى: (فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ) [القلم/ 19...]»(1).

وقال ابن منظور: «وأَطَافَ: اسْتدار وَجَاءَ مِنْ نواحِيه. وأَطَاف فُانٌ بالأَمر إِذَا أَحاط بِهِ، وَفِی التَّنزِيلِ: (يُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ)(2). وَقِيلَ: طافَ بِهِ حامَ حَوْله... وطَافَ حَوْلَ الشيَّءِ يَطُوفُ طَوْفاً وطَوَفَاناً، وتَطَوَّفَ واسْتَطَافَ كلُّه بِمَعْنًى. وَرَجُلٌ طَافٌ: كَثِیرُ الطَّواف. وتَطَوَّفَ الرَّجلُ أَيْ: طافَ، وطَوَّفَ، أَيْ:

أَكثر الطَّوافَ، وطَافَ بِالْبَيْتِ وأَطَافَ عَلَيْهِ: دارَ حَوْله»(3).

وبهذا المعنى أَورد أَمیر المؤمنین (عليه السلام) هذا الفعل «طيفَ»مرَّةً واحدةً في الخطبة، وهو رابع الأَفعال الثَّلاثة عشرالَّتي ذكرها أَمیر المؤمنین (عليه السلام)؛ واصفاً مَنْ زُحزحَ عن تعذيب ربِّه

«سَكَنَ فِی جَنَّتِهِ بِقُرْبِهِ، وَخُلِّدَ في قُصُورٍ مُشَيَّدةٍ، ومَلَكَ حُورَعِینْ وَحَفَدَةً، وَطِيْفَ عَليهِ بِكُؤوسٍ».

وقول أَمیرالمؤمنین(عليه السلام) «وَطِيْفَ عَليهِ بِكُؤوسٍ» فيه تضمن لقوله - تبارك وتعالى -: (وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ)(4)، واستعمل أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) الفعل

«طيف» بصيغة المبنيِّ للمجهول، ولم يقل «يُطَاف»؛ لفوات الفائدة من الخطبة، وهي خلوُّها من الألف.

وفيه تضمن لقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخلَّدُونَ * بِأَكْوَابٍ

ص: 339


1- مفردات ألفاظ القرآن:531
2- الإنسان: 15
3- لسان العرب 9/ 225. وينظر: تاج العروس: 1/ 600
4- الإنسان: 15

وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِینٍ)(1)،ولم يقل (عليه السلام): (يطوف... من معین)، وقال: «وَطِيْفَ عَليهِ بِكُؤوسٍ»؛ لخلوِّ هذه الجملة من الأَلف، وكثرة الأَلفات في قوله - عَزَّ وَجَلَّ - (يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخلَّدُونَ * بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِینٍ)، وهو ما يفوِّت الفائدة من الخطبة، وهي خلوُّها من الألف.

وجاء أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) بالفعل «طيف» مبنيّاً للمجهول للتَّركيزعلى الحدث، وهو الحفُّ حول ذلك الشَّخص «مَنْ زُحْزِحَ عنْ تَعذِيبِ رَبِّهِ» وبكؤوسٍ، برف النَّظر عمَّن يُطاف عليه بها.

و«طيف» فعل ماضٍ مبنيٌّ للمجهول، مبنيٌّ على الفتح، ونائب الفاعل ضمیر مستترفيه تقديره (هو) عائد الى «مَنْ زُحْزِحَ عنْ تَعذِيبِ رَبِّهِ»، و«عليه» على:

حرف جرٍّ، والهاء: ضمیر متَّصل مبنيٌّ في محلّ جرٍّ بحرف الجرِّ، والجارُّ والمجرور متعلِّقان بالفعل «طيف»، و«بكؤوس»الباء: حرف جرٍّ، و«كؤوس»: اسم مجرور، وعلامة جرِّه الكسرة الظَّاهرة على آخره ،والجارُّوالمجرورمتعلِّقان بالفعل «طيف»، وجملة

«وَطِيْفَ عَليهِ بِكُؤوسٍ» معطوفة على جملة «ومَلَكَ حُورَعِینْ وَحَفَدَةً».

* * *

تَقَلَّبَ

تدلُّ مادَّة «تقلّب» في اللُّغة على ردِّ الشيَّء من جهة إلى جهة أُخرى، وتصريفه من وجه الى وجه، وتحويله من جهة الى أُخرى، جاء في (العین): «والقَلْبُ: تحويلك الشيَّء عن وجهه... وقَلَبْتُهُ فانقَلَبَ، وقَلَّبْتُه فَتَقلَّبَ. وقَلَبْتُ فلاناً عن وجهه، أَيْ:

ص: 340


1- الواقعة: 17 - 18

صرفتُه»(1).

فالقَلْبُ: ردُّ الشيَّء من جهة إلى جهة(2). وقلبت الشيَّء فانقلب، والمُنقَلب يكون مكاناً، ويكون مصدراً، وقلَّبتُه بيدي تقليباً. وتقلَّب الشيَّء ظهراً لبطن، كالحيَّة تتقلَّب على الرَّمضاء(3).

وقال الرَّاغب: «قَلْبُ الشيَّء: تصريفه وصرفه عن وجه إلى وجه، كقلب الثَّوب، وقلب الإنسان، أَيْ: صرفه عن طريقته... وقَلْبُ الإِنْسان قيل: سمِّي به لكثرة تَقَلُّبِهِ... وتَقْلِيبُ الشيَّء: تغيیره من حال إلى حال»(4).

والْقلب: تَحويل الشيَّء عَن وَجهه. قلبه يقلبه قلباً، وقلب الشيَّء، وَقَلَّبه: حوَّله ظهراً لبطن. وتقلَّب فِی الأُمُور، وَفِی البِلاد: تصرَّفَ فِيهَا كَيفَ شَاءَ، وَرجلٌ قلب:

يتقلَّب كَيفَ يَشَاء، وقلب الخبز ونحوه يقلبه قلباً: إذا نضج ظاهره، فحوَّله لينضج باطنه. والانقاب الى الله - عَزَّ وَجَلَّ -: المصیر إليه والتَّحوُّل(5).

وتطابقت دلالة الفعل «تقلَّب» في الخطبة مع دلالته اللُّغوية؛ إذ جاء به أَمیرُ المؤمنین (عليه السلام) مرَّةً واحدةً على زنة «تفعَّلَ»، وهو سادس الأَفعال الثَّلاثة عشرالَّتي ذكرها أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) واصفاً مَنْ زُحزحَ عن تعذيب ربِّه، إذ قال (عليه السلام):

«فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ تَعذِيْبِ رَبِّهِ، سَكَنَ فِی جَنَّتِهِ بِقُرْبِهِ، وَخُلِّدَ في قُصُورٍ مُشَيَّدةٍ، ومَلَكَ حُوْرَعِینْ وَحَفَدَةً، وَطِيْفَ عَليهِ بِكُؤوسٍ، وَسَكَنَ

ص: 341


1- العين 1/ 402
2- ينظر: معجم مقاييس اللغة: 5/ 13
3- ينظر: الصحاح في اللغة: 2/ 90
4- مفردات ألفاظ القرآن: 681
5- ينظر: المحكم والمحيط الأعظم: 3/ 59، وأساس البلاغة: 1/ 387

حَضِیرْةَ فِرْدوسٍ، وَتَقَلَّبَ فِی نَعِيْمٍ» .

وتدلُّ صيغة «تفَعَّلَ» على معانٍ ذكرها العلماء(1) ، ومنها الصَّیرورة، وهي: «صیرورة الفاعل أَصل الفعل، نحو: تأيَّمت المرأَةُ: صارت أَيِّماً»(2) د.وهوالمعنى الَّذي أَراده أَمیرُ المؤمنین (عليه السلام) في قوله: «وَتَقَلَّبَ في نَعِيْمٍ»، أَيْ: صار في نعيم.

و«تقلَّب» فعل ماضٍ مبنيٌّ على الفتح، والفاعل ضمیرمستتر فيه، تقديره (هو) عائدٌ إلى «مَنْ زُحزحَ عن تعذيب ربّه»، و«في»:حرف جرٍّ، و«نعيمٍ»، اسم مجرور، وعلامة جرِّه الكسرة الظَّاهرة على آخره، والجارُّ والمجرورمتعلِّقان بالفعل (تقلّب)، وجملة (وتقلّب في نعيمٍ) معطوفة على جملة (وسكن في حظرة فردوس).

* * *

شرِبَ،يْشرَبُ

جاء في (جمهرة اللُّغة): «وَالشرُّبُ مصدر شَربَ الرَّجل شُرباً. وَالشرَّبُ: الْقَوْم يشربون شَارِبٌ وَشَربٌ... وَالشرِّبُ: الَحظُّ من المَاء... والشَّربَةُ من الدَّوَاء وَغَیره:

الجُرْعَةُ... وَالشرَّابُ: مَا شُربَ من مَاء وغَیره»(3) .

وقال الجوهريّ: «شَربَ الماءَ وغره شُرباً وشَرباً وشِرباً... الشرَّبُ بالفتح

ص: 342


1- ينظر: الكتاب: 4/ 66، والمقتضب: 1/ 78، وشرح المفصّل: 7/ 158، وارتشاف الرب: 1/ 82، وعمدة الرف: 36 و 37، وتصريف الأفعال والمصادر والمشتقّات: 133، وأوزان الفعل ومعانيها: 94 ، والتطبيق الرفي: 37
2- أوزان الفعل ومعانيها: 99. وينظر: تصريف الأفعال والمصادر والمشتقّات: 134
3- جمهرة اللغة: 1/ 135

مصدرٌ، وبالخفض والرَّفع اسمانِ من شَربت. والتَّشرْابُ: الشرُّبُ. والشَّربَةُ منالماء: ما يُشرْبُ مرَّةً. والشَّربَةُ أَيضاً: المَرَّةُ الواحدة من الشرب. والشرِّبُ بالكسر: الحظُّ من الماء... والشرَّبُ: جمع شارب، ثُمَّجيُمعُ الشرَّبُ على شُروبٍ... والمِشْربَةُ بالكسر: إناء يُشرْبُ فيه. والمَشْربَةُ بالفتح: الغُرْفَةُ»(1).

وبهذا المعنى أَورد أَمیر المؤمنین (عليه السلام) هذا الفعل «شرب» و«يشرب» في الخطبة في ضمن الأَفعال الثّلَاثة عشر، الَّتي جاء بها (عليه السلام) في مقام جزاء مَنْ زُحزحَ عن تعذيب ربِّه، إذ قال (عليه السلام): «فَمَنْ زُحْزِحَ عنْ تَعذِيبِ رَبِّهِ، سَكَنَ في جَنَّتِهِ بِقُرْبِهِ، وَخُلِّدَ في قُصُورٍ مُشَيَّدةٍ، ومَلَكَ حُورَ عِینْ وَحَفَدَةً، وَطِيْفَ عَليهِ بِكُؤوسٍ، وسَكیَنَ حَضیرَةَ فِرْدوسٍ، وَتَقَلَّبَ في نَعِيْمٍ، وَسُقِيَ منْ تَسْنيمٍ، وَشَربَ منْ عَینٍ سَلْسَبيلٍ، مَمزوجَةٍ بِزَنْجَبيلٍ، مَمتُومَةً بِمِسْكٍ وَعَبیرٍ، مُسْتديمٌ للحُبُورِ، مُسْتشْعِرٌ للرُورِ، يَشرْبُ منْ خُمورٍ، في رَوْضٍ مُغْدِفٍ».

و«شرب» فعل ماضٍ مبنيٌّ على الفتح، والفاعل ضمير مستتر فيه جوازاً، تقديره (هو) عائدٌ إلى «مَنْ زُحزحَ عن تعذيب ربّه»، و

«من»: حرف جرٍّ، و«عینٍ»، اسم مجرور، وعلامة جرِّه الكسرة الظَّاهرة على آخره، والجارُّ والمجرورمتعلِّقان بالفعل «شرب»، و«سلسبيل» صفة مجرورة، وعلامة جرِّها الكسرة الظَّاهرة على آخرها.

وجملة (وشرب من عنٍ سلسبيل) معطوفة على جملة (وسُقي من تسنيم).

و«يشرب» فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه الضَّمَّة الظَّاهرة على آخره، والفاعل ضمیر مستتر فيه جوازاً تقديره (هي)، عائد إلى «مَنْ زُحزحَ عن تعذيب ربّه»، و«من»: حرف جرٍّ، و«خمورٍ»،اسم مجرور، وعلامة جرِّه الكسرة الظَّاهرة

ص: 343


1- الصحاح في اللغة 1/ 350. وينظر: تهذيب اللغة: 4/ 101، ومعجم مقاييس اللغة: 3/ 208، ومفردات ألفاظ القرآن: 448، والمخصّص: 2/ 373، وأساس البلاغة: 1/ 238، ولسان العرب: 487/1، والمصباح المنیر: 4/ 472، وتاج العروس: 1/ 611 - 619

على آخره، والجارُّ والمجرور متعلِّقان بالفعل «يشرب».

* * *

يُصدَّعُ

جاء في (العین): «والصَّدْعُ: شقٌّ في شيء له صلابة... وصَدَعْتُ الفلاةَ: قطعتُ وسطَ جوزِها. والنَّهْرُ تَصْدَعُ في وسطه فتشقُّه شقّاً... والصَّدْعُ: نبات الأَرض لأَنَّه يصدع الأَرض، والأَرض تتصدَّعُ عنه. والصَّديعُ: انصداع الصُّبح... والصُّداع: وَجَعُ الرَّأس. صُدِّع الرَّجلُ تصديعاً»(1) .

والصَّدْعُ: الشَّقُّ فِی الشيَّءِ الصُّلْبِ كالزُّجاجةِ والحائِطِ وَغَيْرهِما وَجَمعُهُ صُدُوعٌ.

وصَدَعَ الشيَّءَ يَصْدَعُهُ صَدْعاً وصَدَّعَه فانْصَدَعَ وتَصَدَّعَ: شَقّه بِنِصْفَینْ، وَقَوْلُهُ عَزَّوَجَلَّ: (يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ)(2)، أَصلها يَتَصَدَّعُون فَقَلَبَ التَّاءَ صَادًا، وأُدغمت فِی الصَّادِ(3) .

وقال الرَّاغب: «الصَّدْعُ: الشَّقُّ في الأَجسام الصُّلبة كالزُّجاج والحديد ونحوهما.

يُقال: صَدَعْتُهُ فَانْصَدَعَ، وصَدَّعْتُهُ فَتَصَدَّعَ، قال تعالى: (يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ) [الروم/ 43]، وعنه استُعير: صَدَعَ الأَمرَ، أَيْ: فَصَلَهُ، قال: (فَاصْدَعْ بِا تُؤْمَرُ) [الحجر/ 94]، وكذا استُعير منه الصُّدَاعُ، وهو شبه الاشتقاق في الرَّأْس من الوجع. قال:

(لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ) [الواقعة/ 19]...»(4) .

ص: 344


1- العین 1/ 67. وينظر: جمهرة اللغة: 1/ 348، وتهذيب اللغة: 1/ 157، والصحاح في اللغة: 1/ 382،والمحيط في اللغة: 1/ 53، والمصباح المنیر: 5/ 177، والقاموس المحيط: 2/ 294
2- الروم: 43
3- ينظر: معجم مقاييس اللغة:3/ 263، ولسان العرب 8/ 194، وتاج العروس: 1/ 5362 - 5365
4- مفردات ألفاظ القرآن: 478

وتطابقت دلالة الفعل «يُصدّع» في الخطبة مع دلالته اللُّغوية؛ إذ جاء به أَمیرُ المؤمنین (عليه السلام) مرَّةً واحدةً، وهو حادي عشرالأَفعال الثَّلاثة عشرالَّتي أَوردها أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) لوصف مقام مَنْ زُحزحَ عن تعذيب ربِّه، وما يلقاه من كرامة الله - تبارك وتعالى -له، إذ قال (عليه السلام): «فَمَنْ زُحْزِحَ عنْ تَعذِيبِ رَبِّهِ، سَكَنَ في جَنَّتِهِ بِقُرْبِهِ، وَخُلِّدَ في قُصُورٍ مُشَيَّدةٍ، ومَلَكَ حُورَعِینْ وَحَفَدَةً، وَطِيْفَ عَليهِ بِكُؤوسٍ، وسَكَنَ حَضیرَةَ فِرْدوسٍ، وَتَقَلَّبَ في نَعِيْمٍ، وَسُقِيَ منْ تَسْنيمٍ، وَشَربَ منْ عَینٍ سَلْسَبيلٍ، مَمزوجَةٍ بِزَنْجَبيلٍ، مَختُومَةً بِمِسْكٍ وَعَبیرٍ، مُسْتديمٌ للحُبُورِ، مُسْتشْعِرٌ للسرُورِ، يَشرْبُ منْ خُمورٍ، في رَوْضٍ مُغْدِفٍ، ليسَ يُصَدَّعُ من شُربِهِ»، أَيْ: لا يلحقه الصُّداع، من: أَيِّ: بسبب شرابها.

و«ليس» فعل ماضٍ ناقص جامد، واسمها ضمر مستتر فيها جوازاً، تقديره (هو) عائدٌ إلى «مَنْ زُحزحَ»، و«يُصدَّعُ»، فعل مضارع مبنيٌّ للمجهول مرفوع، وعلامة رفعه الضَّمَّة الظَّاهرة على آخره، ونائب الفاعل ضمیر مستتر فيه جوازاً تقديره (هو)، عائد إلى«مَنْ زُحزح»، وجملة «يُصدَّعُ» في محلِّ نصب خر«ليس» و

«من»: حرف جرٍّ، و«شربه»، اسم مجرور، وعلامة جرِّه الكسرة الظَّاهرة على آخره، والهاء ضمیر متَّصل مبنيٌّ على الضَّمِّ في محلِّ جرٍّ بالإضافة، عائد إلى «روض مغدف»، والجارُّ والمجرور متعلِّقان بالفعل «يُصدَّعُ».

* * *

يَنْزِفُ

تدلُّ مادَّة «ينزف» في اللُّغة على نفاد الشيَّء، وانقطاعه، وذهابه، وفنائه. جاء في (العین): «نُزِفَ دَمُ فلان فهو نزيف ومنزوف، أَيْ: انقطع عنه... والسَّكْرانُ نَزيفٌ، أَيْ: منزوفٌ عَقْلُه. والنَّزْفُ: نَزْحُ الماءِ من البئر أو النَّهر شيئاً بعد شيء. والفعل:

ص: 345

يَنْزِفُ، والقليل منه: نَزْفَةٌ. وأَنْزَفَ القَوْمُ: نُزِفَ ماءُ بئرِهم... ويُقال للرَّجل الَّذي عَطِشَ حتى يَبِسَتْ عُرُوقُه وجفَّ لسانُه: نَزيفٌ»(1).

والنَّزْفُ: مصدر نُزِفَ الرَّجُلُ دَمَهُ يُنْزَف نَزْفاً، إِذا سَالَ حَتَّى يُفْرِط فَهُوَ منزوف ونَزيف. والنَّزيف: السَّكْرَان أَيْضاً، وَهُوَ المُنْزَفُ. وَفِی التَّنْزِيل: (لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَاوَلا يُنْزِفُونَ)(2)، أَيْ: لا يَسكرون، وأَنزفتُ الشيَّءَ، إِذا أَفنيته(3).

وقال ابن فارس: «النُّونُ وَالزَّاءُ وَالْفَّاءُ أَصْلٌ يَدُلُّ عَلىَ نَفَادِ شَیءٍ وَانْقِطَاعٍ.

وَنُزِفَ دَمُهُ: خَرَجَ كُلُّهُ. وَالسَّكْرَانُ نَزِيفٌ، أَيْ نُزِفَ عَقْلُهُ... وَأَنْزَفُوا: ذَهَبَ مَاءُ بِئْرِهِمْ. وَأَنْزَفُوا: انْقَطَعَ شَرابُهمْ. قَالَ اللَّه سُبْحَانَهُ: (لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنْزِفُونَ»(4).

وقال الجوهريّ: «نَزَفْتُ ماءَ البئر نَزْفاً، نزحتُه كلَّه. ونَزَفَتْ هي، يتعدَّى ولا يتعدَّى. ونُزِفَتْ أَيضاً، على ما لم يسمَّ فاعلُه. والنُّزْفَةُ بالضَّمِّ: القليل من الماء أَو الشرَّاب مثل الغرفة، والجمع نُزَفٌ. ويُقال: نَزَفَهُ الدَّمُ، إذا خرج منه دمٌ كثیرحتَّى يَضْعُف، فهو نَزيفٌ، ومَنزوفٌ... ونُزِفَ الرَّجل في الخصومة، إذا انقطعتْ حُجَّتُه.

ويُقال: أَنْزَفَ القومُ، إذا انقطع شرابهُم»(5).

ص: 346


1- العین: 2/ 89. وينظر: تهذيب اللغة: 4/ 368، ومفردات ألفاظ القرآن: 798 و 799، والمحيط في اللغة: 2/ 301، ولسان العرب: 9/ 325، والمصباح المنیر: 9/ 246، وتاج العروس: 1/6132 و6133
2- الواقعة: 19
3- ينظر: جمهرة اللغة: 1/ 457
4- معجم مقاييس اللغة 5/ 333
5- الصحاح في اللغة: 2/ 203. وينظر: القاموس المحيط: 2/ 431

وورد هذا الفعل «ينزف» مرَّةً واحدةً مطابقاً دلالته اللُّغوية؛ وهو آخرالأَفعال الثَّلاثة عشرالَّتي جاء بها أَمیر المؤمنین (عليه السلام) في مقام وصف مَنْ زُحزحَ عن تعذيب ربِّه، وتنعَّم برضاه - تبارك وتعالى -، إذ قال (عليه السلام): «فَمَنْ زُحْزِحَ عنْ تَعذِيبِ رَبِّهِ، سَكَنَ في جَنَّتِهِ بِقُرْبِهِ، وَخُلِّدَ في قُصُورٍ مُشَيَّدةٍ، ومَلَكَ حُورَعِینْ وَحَفَدَةً، وَطِيْفَ عَليهِ بِكُؤوسٍ، وسَكَنَ حَضیرَةَ فِرْدوسٍ، وَتَقَلَّبَ في نَعِيْمٍ، وَسُقِيَ منْ تَسْنيمٍ، وَشَربَ منْ عَنٍ سَلْسَبيلٍ، مَمزوجَةٍ بِزَنْجَبيلٍ، مَختُومَةًبِمِسْكٍ وَعَبیرٍ، مُسْتديمٌ للحُبُورِ، مُسْتشْعِرٌ للرُورِ، يَشرْبُ منْ خُمورٍ، في رَوْضٍ مُغْدِفٍ، ليسَ يُصَدَّعُ من شُربِهِ وَليسَ يَنْزِفُ». أَيْ: لا يَذْهَبُ عقلُهُ بالسُّكر بسبب شرابه «من خمور»، مع أَنَّ هذا الشرُّب «من خمور» يُذْهِبُ بالعقل في دار الدُّنيا، غیر أَنَّه في الآخرة يختلف تماماً عنها في الدُّنيا، فهو يلتذُّ بشرابه منها، بَيْدَ أَنَّه لا يلحقه صداع من شرابه منها، ولا تُذْهِبُ بعقله. وقوله (عليه السلام): «ليس يَصدَّع» لبيان نفي الرَّرعن الأَجسام، وقوله (عليه السلام): «ليس ينزف» لبيان نفي الضررعن العقول.

و«ليس» فعل ماضٍ ناقص جامد، واسمها ضمیر مستتر فيها جوازاً، تقديره (هو) عائدٌ إلى «مَنْ زُحزحَ»، و«ينزف»، فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه الضَّمَّة الظَّاهرة على آخره، والفاعل ضمیرمستتر فيه جوازاً تقديره (هو)، عائد «مَنْ زُحزح»، وجملة «ينزف» في محلِّ نصب خر«ليس»، وجملة «ليس ينزف» معطوفة على جملة «ليس يُصدَّعُ».

وقول أَمیر المؤمنین (عليه السلام): «ليس يَصدَّع، وليس ينزف» فيه تضمین لقوله - تبارك وتعالى -: (لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنْزِفُونَ)(1)، ولم يقل أَمیرالمؤمنین (عليه السلام): «لا يَصدَّع فيها ولا ينزف»؛ لفوات الفائدة من الخطبة، وهي

ص: 347


1- الواقعة: 19

خلوُّها من الألف.

وقال المفسرِّون - ممَّن اطَّلعتُ على آرائهم -: إنَّ معنى قوله - عَزَّ وَجَلَّ -:

(لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنْزِفُونَ)، أَيْ: لا يلحقهم الصُّداع من شرابها، ولا تذهب عقولهم بالسُّكر(1).

* * *

خِشی

يتدلُّ مادَّة «خشي» في اللُّغة على الخوف، والذُّعر والفزع. جاء في (العین):

«الخَشْيَةُ: الخوف، والفعل: خَشيِ يَخشَى. ويُقال: وهذا المكان أَخْشَى من ذاك... أَيْ: أَفزعه»(2).

وتقول: خَشِيتُ الشَّیءَ أَخشاه خَشيةً، فَهُوَ مَخشِّی وَأَنا خاشٍ(3).

وقال ابن فارس: «الخاء والشِّین والحرف المعتلُّ يدلُّ على خوفٍ وذُعرٍ، ثُمَّ يُحمَل عليه المجاز، فالخشية: الخوف»(4).

وجاء في (المحيط في اللُّغة): «الخَشْيَةُ: الخَوْف، خَشيِ يَخشَى خَشْيَةً وخَشْياً

ص: 348


1- ينظر: التبيان في تفسر القرآن: 9/ 480، ومعالم التنزيل: 8/ 10، ومجمع البيان: 9/ 326، وتفسرالبحر المحيطك 10/ 205، وتفسر القرآن العظيم: 7/ 13، وأنوار التنزيل وأسرار التأويل: 5/ 360، والدرّ المنثور: 9/ 384، وتفسر الصافي: 6/ 119، وتفسر روح المعاني: 20/ 213،وتفسیر الميزان: 65/19، وتفسر الوسيط: 1/ 406، وتفسیر الأمثل: 17/ 453 و454
2- العين 1/ 328. وينظر: تهذيب اللغة: 3/ 3
3- ينظر: جمهرة اللغة 2/ 92، والصحاح في اللغة: 1/ 173،والمخصّص: 3/ 431، والمصباح المنیر: 56/2
4- معجم مقاييس اللغة: 2/ 148

وخِشْياناً ومَخشَاةً. وهذا المكانُ أَخْشى من ذاك. وامْرَأَةٌ خَشْيَانَةٌ: تَشى كُلَّ شَیءٍ.

وما حَملْتُه على ذاك إِلاَّ خِشيْ فلانٍ: أَيْ مَخافَتَه»(1).

وهكذا ترى أَنَّ معنى (الخشية) قريب جدّاً من معنى (الخوف)، ولكنْ هناك فرقٌ بينها؛ إذ فرَّق أَبو هال العسكريّ بينها بقوله: «الْفرق بَن الْخوْف والخشية أَنَّ الْخوْف يتَعَلَّق بالمكروه وَبترْك الَمكْرُوه، تَقول: خفت زيداً، كَماَ قَالَ تَعَالَ:

(يَخافُونَ رَبَّهمْ مِنْ فَوْقِهِمْ)(2)، وَتقول: خفت الَمرَض، كَماَ قَالَ سُبْحَانَهُ: (وَيَخافُونَ سُوءَ الِحسَابِ)(3)، والخشية تتَعَلَّق بمنزل الَمكْرُوه، وَلا يُسمَّى الَخوْف من نفس الَمكْرُوه خشيَة»(4).

وذهب الرَّازيّ الى أَنَّ تخصيص (الخشية) بالله - سبحانه - إنَّما كان للعظمة؛ «لأَنَّ الخشية تكون غالباً من عِظَمِ المخشيِّ وإنْ كان الخاشي قويّاً، أَمَّا الخوف، فيكون غالباً من ضعف الخائف وإنْ كان المخوف أَمراً يسیراً»(5).

وفرَّقت الدُّكتورة عائشة عبدالرحمن بین (الخشية)و(الخوف) بقولها: «وتفترق الخشية عن الخوف، بأَنَّها تكون عین يقين صادق بعظمة مَنْ نخشاه... أَمَّا الخوف، فيجوز أَنْ يحدث عن تسلُّط بالقهر والإرهاب»(6).

وقال الدُّكتور أَحمد الشّرباصيّ: «وإن واصلنا قراءاتنا في كتب السَّلف فيما

ص: 349


1- المحيط في اللغة 1 / 368. وينظر: المحكم والمحيط الأعظم: 2/ 351، ولسان العرب: 14/ 228
2- النحل: 50
3- الرعد: 21
4- الفروق اللغوية: 194
5- التفسير الكبير: 28/ 177
6- الإعجاز البياني للقرآن ومسائل ابن الأزرق: 209

يتَّصلُّ بالخوف، وجدنا جملة أَلفاظ متقاربة، وإنْ لم تكن مترادفة، ومنها: الخوف، والخشية، والرَّهبة،.... وقد قالوا في التَّفرقة الدَّقيقة بينها: إنَّ الخوف هَرَبٌ من حلول المكروه عند استشعاره، وهو لعامَّة المؤمنین، وصاحبه يلتجئ إلى الهرب والإمساك، والخشية أَخصُّ من الخوف، وهي للعلماء العارفین بالله المشارإليهم بقوله تعالى: (إِنَّماَ يَخشَى اللَّه مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَماَءُ)(1) وصاحب الخشية يلتجئ إلى الاعتصام بالله، وعلى قدر العلم تكون الخشية»(2).

إذن، فالخشية هي خوف من ذات الله سبحانه، لا من عذابه وعقابه؛ بدلالة قوله - تعالى -: (وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّه بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخشَوْنَ رَبَّهمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الِحسَابِ)(3)؛ إذ جاء لفظ (الخشية) مقترناً بلفظ (الخوف) في سياق واحد، وارتبط لفظ

(الخشية) بوصف خوف المؤمنین من ربِّم، في حین أسند لفظ

(الخوف) إلى سوء الحساب، وفي هذا تخصيص واضح للفظ

(الخشية).

وبهذا المعنى أَورد أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) هذا الفعل (خشي) مرَّةً واحدةً في الخطبة، مقترناً بالله - تبارك وتعالى -، إذ قال(عليه السلام): «هذهِ مسألةُ مَنْ خَشيِ رَبَّهُ»، وهو بهذا يبنِّ كلامه المتقدِّم في سؤاله من الله - عَزَّ وَجَلَّ - العفو، والمغفرة، والرِّضا؛ إذ قال(عليه السلام): «ونسألُه عَفْوَ مَنْ رَضِی عَنهُ وَمغْفِرَةَ مَنْ قَبِلَ مِنْهُ».

ولعلَّ أَمیر المؤمنین (عليه السلام) إنَّا قال: «هذه مسألة من خشي ربّه»، ولم يقل: «من خاف»؛ لسببين:

ص: 350


1- فاطر: 28
2- موسوعة أخلاق القرآن: 1/ 160
3- الرعد: 21

الأَوَّل: أَنَّه (عليه السلام) يريد أَنْ يرقى بخوف الإنسان المؤمن إلى مرتبة الخوف مع التَّعظيم، فخشيته ممَّا تقدَّم خشية العلماء العارفین بحقائق الأُمور؛ ولذا هم لا يقربون الذَّنب لمعرفتهم به، وبسبب معرفتهم عاقبة المقترف له. وقد تبینَّ ممَّا تقدَّم الفرق بین (الخوف) و(الخشية).

الثَّاني: أَنَّه (عليه السلام) لو قال: «خاف» لفوَّت الفائدة من الخطبة، وهي خلوُّها من الألف.

و«خشي» فعل ماضٍ مبنيٌّ على الفتح، والفاعل ضمیر مستتر جوازاً عائد إلى «مَنْ» المتقدِّم، و«ربَّه» مفعول به منصوب وعلامة نصبه الفتحة الظَّاهرةعلى آخره، وهو مضاف، والهاء ضمیر متَّصل مبنيٌّ على الضَّمِّ في محلِّ جرٍّ بالإضافة عائد إلى «مَنْ»، وجملة (خشي ربّه) صلة الموصول لا محلَّ لها من الإعراب.

* * *

حَذَّرَ

تدلُّ مادَّة «حذّر» في اللُّغة على التَّحرُّز، والتَّيقُّظ، والتَّأهُّب، والإعداد للشيَّء، والتَّخويف من الشيَّء، والإبعاد عنه. فالحَذَرُ مصدر قولك: حَذِرْتُ أَحْذَرُ حَذَراً، فأَنا حاذِرٌ وحَذِرٌ(1) . وحَذِر يَذَرُ حَذَراً، حَاذَرَ يَخاذِرُ حِذَارَاً ومَحاذَرةً(2).

والَحاءُ وَالذَّالُ وَالرَّاءُ أَصْلٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ مِنَ التَّحَرُّزِوَالتَّيَقُّظ(3). والحَذَرُ والحِذْرُ:

التَحَرُّزُ. وقد حَذِرْتُ الشيَّءَ أَحذَرُهُ حَذَراً. ورجَلٌ حَذِرٌ وحَذُرٌ: مُتَيَقِّظٌ مُتَحَرِّزٌ،

ص: 351


1- ينظر: العين 1/ 210،وتهذيب اللغة: 2/ 86، والمحيط في اللغة: 1/ 217
2- ينظر: جمهرة اللغة 1/ 255
3- ينظر: معجم مقاييس اللغة 2/ 29

والجمع حَذِرون وحَذارى وحَذُرونَ. والتَّحذيرُ: التَّخويفُ، والحِذَارُ: المُحاذَرَةُ(1).

والحَذَر: احتراز من مخيف، يُقال: حَذِرَ حَذَراً، وحَذِرْتُه، قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَحذَرُ الآخِرَة)(2)(3). وحَذِرته حَذَراً، وَرجل حَذِرٌ، وحَذُرُ، وحَاذُورٌ، وحَاذُوْرَةٌ: شَدِيد الحذَر، وحاذِرٌ: متأَهِّب مُعَدٌّ. وحَذَّرتُهُ الأَمرَ وحَذَّرْتُهُ مِنْهُ، وَأَنا حذِيرُك مِنْهُ، أَيْ: مُحذِّرُك، والإحْذارُ: الإِنْذَارُ(4) . وحَذِرَ حَذَرًا من باب تَعِبَ، واحْتَذَرَ واحْترَزَ كُلُّها بمعنى استعدَّ، وتأهَّبَ، فهو حَاذِرٌ وحَذِرٌ، والاسم منه الحِذْرُ، وحَذِرَ الشيَّءَ، إذا خافَهُ، فالشيَّءُ مَخذُورٌ، أَيْ: مَخوفٌ، وحَذَّرْتُهُ الشيَّءَ بالتَّثقيل(5).

وبهذا المعنى أَورد أَمیر المؤمنین (عليه السلام) هذا الفعل «حَذَّرَ»مرَّةً واحدةً في الخطبة، مبنيّاً للمجهول، على زنة «فَعِّلَ»، معطوفاً على الفعل قبله «خي» المتقدِّم؛ إذ قال (عليه السلام) مبيِّناً سؤاله مِنَ الله - عَزَّ وَجَلَّ - العفو والمغفرة والرِّضا: «هذهِ مسأَلةُ مَنْ خَشيِ رَبَّهُ، وَحَذَّرَ نَفسَهُ»، أَيْ: تحرَّز، وتيقَّظ، وتأَهَّب، وأَعدَّ نفسه، وخوَّفها، وأَبعدها عن كُلِّ ما تقدَّم من أَلوان العذاب، والذُّلِّ، والهوان.

وجدير بالذِّكر أَنَّ أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) جاء بالفعل «حَذَّرَ»بالتَّثقيلعى زنة «فَعَّلَ»،وتقدَّم(6) أَنَّ لزنة «فَعَّلَ» معاني كثیرة ذكرها العلماء، منها المبالغة،

ص: 352


1- ينظر: الصحاح في اللغة 1/ 120
2- الزمر: 9
3- ينظر: مفردات ألفاظ القرآن: 223
4- ينظر: المخصص: 3/ 8، والمحكم والمحيط الأعظم: 2/ 14
5- ينظر: أساس البلاغة: 1/ 80، والمصباح المنیر: 2/ 316، والتنبيه أدواته وأساليبه دراسة نحوية دلالية (رسالة ماجستير): 114 و115، والتحذير في القرآن الكريم دراسة في مستويات اللغة (رسالة ماجستير): 5 - 7
6- ينظر: الفعل (بَلَّغَ) من الكتاب

والتَّكثیر - وهو أَشهرها -، ويدلُّ على تكرير الفعل، وكثرة القيام به، فالتَّحذير الصَّادر عن أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) لا لمرَّة واحدة، بل هو متكرِّر، بل ومبالغ فيه؛ حتَّى يخلِّص نفسه من المرور بكُلِّ ما تقدَّم من أَلوان العذاب.

و«حَذَّرَ» فعل ماضٍ مبنيٌّ على الفتح، والفاعل ضمیر مستتر جوازاً، تقديره (هو) عائد الى «مَنْ» المتقدّم، و«نفسه» مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الفتحة الظَّاهرة على آخره، وهو مضاف، والهاء ضمیر متَّصل مبنيٌّ على الضَّمِّ في محلِّ جرٍّ بالإضافة، عائدٌ إلى «مَنْ» المتقدّم، وجملة «وحَذَّرَ نَفسَهُ» معطوفة على جملة «خَشيِ رَبَّهُ».

* * *

جَحَدَ

تدلُّ مادَّة «جحد» في اللُّغة على الإنكار مع العلم، والضِّيق، والشُّحِّ، والنَّكد، وهي خلاف الإقرار. جاء في (العین): «الجُحُود: ضدُّ الإقرار كالإنكار والمعرفة.

والجَحْدُ: من الضِّيق والشُّحِّ. ورجُلٌ جَحْدٌ: قليلُ الخیر»(1).

ويُقال: جَحَدَ الرَّجلُ يَجحَدُ جُحُودًا إِذا أَنكر مَا عَلَيْهِ من حقٍّ. وعامٌ جَحِدٌ: قَلِيل الَمطَر. وَرجُلٌ جَحِدٌ: فَقیرٌ. والجَحَدُ: الْقلَّةُ من كلِّ شَیء(2).

والجُحودُ: الإنكار مع العلم. يُقال: جَحَدَهُ حقَّهُ وبحقّهِ، جَحْداً وجُحُوداً.

والجَحْدُ أَيضاً: قلَّةُ الخیر، وكذلك الجُحْدُ بالضَّمِّ. والجَحَدُ مثله. وجَحِدَ الرَّجل

ص: 353


1- العین: 1/ 180. وينظر: تهذيب اللغة: 1/ 480، والمحيط في اللغة: 1/ 177، وأساس البلاغة: 53/1 و 54
2- ينظر: جمهرة اللغة: 1/ 210، ومعجم مقاييس اللغة: 1/ 381

بالكسر جَحَداً، فهو جَحِدٌ، إذا كان ضيِّقاً قليل الخیر. وأَجْحَدَ مثلُه. وعامٌ جَحِدٌ: قليل المطر. وجَحِدَ النَّبتُ: إذا قلَّ ولم يَطُلْ(1).

وقال الرَّاغب: «الُجحُود: نفي ما في القلب إثباته، وإثبات ما في القلب نفيه»(2). ويُقال: أَرْضٌ جَحْدَةٌ، يابسة لا خر فِيهَا، وَقد جَحِدَتْ، وجَحِدَ النَّبَات، قَلَّ ونَكِدَ(3).

وتطابقت دلالة الفعل «جحد» في الخطبة مع دلالته اللُّغوية، وقد جاء به أَمیرُ المؤمنین (عليه السلام) مرَّةً واحدةً، والفعل بعده «سوَّلت»لبيان أَنَّ سبب العقوبة الَّتي ذكرها فيما مرَّ من الخطبة يكون بسبب فعلین، الأَوَّل منها هو«جحد منشئه»، إذ قال (عليه السلام): «وَتِلْكَ عُقُوْبَةُ مَنْ جَحَدَ مُنْشِئَهُ»، أَيْ: أَنكر منشئه مع العلم به، ولم يُقرَّ له بالعبوديَّة، وممَّا لاشكَّ فيه أَنَّ المنكر العالم بصحَّة أَنَّ الله - عَزَّ وَجَلَّ - مُنشئه قليل الخیر، بل عديمه. وقد مرَّ في بيان المعنى اللُّغوي للفعل «جحد» أَنَّ من معانيه الضِّيق، والشُّحِّ، والنَّكد، وأَيُّ ضيقٍ، وشُحٍّ، ونَكَدٍ أَكبرمن أَنْ ينكر الإنسان مُنشئَهُ - تبارك وتعالى -.

و«جحد» فعل ماضٍ مبنيٌّ على الفتح، والفاعل ضمیر مستترجوازاً، تقديره (هو) عائد الى «مَنْ» المتقدِّم في قوله «وتلكَ عُقُوبَةُ مَنْ»، و«منشئه» مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الفتحة الظَّاهرة على آخره، وهو مضاف، والهاء ضمیر

ص: 354


1- ينظر: الصحاح في اللغة: 1/ 80، والمخصّص: 2/ 98 و320، ولسان العرب: 3/ 106، والقاموس المحيط: 1/ 264، وتاج العروس: 1/ 1914
2- مفردات ألفاظ القرآن: 187. وينظر: تفسر غريب القرآن (لابن قتيبة): 27 و28، وإصاح المنطق: 50، وكشّاف اصطلاحات الفنون: 1/ 273، وألفاظ العقيدة والشريعة في نهج البلاغة دراسة ومعجم (رسالة ماجستير): 112
3- ينظر: المحكم والمحيط الأعظم: 1/ 432

متَّصل مبنيٌّ على الضَّمِّ في محلِّ جرٍّ بالإضافة، عائدٌ إلى «مَنْ»المتقدِّم، وجملة «جَحَدَ مُنْشِئَهُ» صلة الموصول لا محلَّ لها من الإعراب.

* * *

سوَّلَتْ

تدلُّ مادَّة «سَوَّلَتْ» في اللُّغة على تسهيل الشيَّء، وتزيينه، وتحسينه، وتحبيبه، وهي اسرخاءٌ في شيء، وتدلُّ على الغواية. فيُقال: سَوَّلَتْ لفلانٍ نفسُهُ أَمراً، وسَوَّلَ لَهُ الشَّيطان، أَيْ: زيَّنَ، وأَراهُ إيَّاهُ(1). «والسِّن والواو والاَّم أَصل يدلُّ على اسرخاء في شيء»(2).

وقال الرَّاغب: «والتَّسْوِيلُ: تزيین النَّفس لما تَحرِصُ عليه، وتصويرالقبيح منه بصورة الحسن، قال: (بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً) [يوسف/ 18]، (الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهمْ) [محمد/ 25»](3).

ويُقال: سَوَّلَ له الشَّيطان ونفسُه أَمراً، أَيْ: سَهَّلَ له، وزيَّن، وهذا من تسويلات الشَّيطان(4).وسَوَّلَت له نفسُه كذا: زيَّنتُه، وسَوَّلَ له الشَّيطانُ: أَغواه.

والتَّسويل تحسین الشيَّء، وتزيينه، وتحبيبه إلى الإنسان؛ ليفعله، أَو يقوله(5).

ص: 355


1- ينظر: العین: 2/ 72، وتهذيب اللغة: 4/ 320، والصحاح في اللغة: 1/ 341، والمحيط في اللغة: 275/2
2- معجم مقاييس اللغة: 3/ 90
3- مفردات ألفاظ القرآن: 437
4- ينظر: أساس البلاغة: 1/ 432
5- ينظر: لسان العرب: 11/ 350، والقاموس المحيط: 3/ 115

وورد هذا الفعل «سَوَّلَت» مرَّةً واحدةً في الخطبة مطابقاً دلالته اللُّغوية؛ وهو الفعل الثَّاني الَّذي بینَّ أَمرالمؤمنین (عليه السلام) من خلاله، والفعل قبله «جحد» سبب العقوبة الَّتي ذكرها (عليه السلام) فيما مرَّ من الخطبة، إذ قال (عليه السلام): «وتلكَ عُقُوبَةُ مَنْ جَحَدَ مُنْشِئَهُ، وسَوَّلَتْ لَهُ نَفْسُهُ مَعْصِيَةَ مُبْتَدِئِهِ»، أَيْ:

أَنَّ نفسه سهَّلت له معصية مبتدئه، وزيَّنتها، وحسَّنتها، وحبَّبتها؛ ليكون مستحقَّاً بذلك كُلِّه ما مرَّ من أَلوان العذاب.

و«سَوَّلَت» فعل ماضٍ مبنيٌّ على الفتح، والتَّاء: تاء التَّأْنيث السَّاكنة لا محلَّ لها من الإعراب، و«لَهُ» اللاَّم: حرف جرٍّ، والهاء: ضمیرمتَّصل مبنيٌّ في محلِّ جرٍّبحرف الجرِّ، والجارُّوالمجرورمتعلِّقان بالفعل «سَوَّلَت»، و«نفسُه» فاعل مرفوع، وعلامة رفعه الضَّمَّة الظَّاهرة على آخره، وهو مضاف، والهاء ضمیر متَّصل مبنيٌّ على الضَّمِّ في محلِّ جرٍّ بالإضافة، عائد إلى «مَنْ» المتقدِّم، و«معصيةَ» مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الفتحة الظَّاهرة على آخره، وهو مضاف، و«مُبْتَدِئِهِ» مضاف إليه مجرور، وعلامة جرِّه الكسرة الظَّاهرة على آخره، وهو مضاف، والهاء: ضمیر متَّصل مبنيٌّ في محلِّ جرٍّ بالإضافة، وجملة «وسَوَّلَت له نفسُهُ مَعصيَةَ مُبْتَدِئِهِ»معطوفة على جملة «جَحَدَ مُنْشِئَهُ».

* * *

قُصَّ

تدلُّ مادَّة «قُصَّ» في اللُّغة على تتبُّع الأَثر، واقتفائه، وحفظه، وإيراده، والإخبار عنه. يُقال: قصصت أَثره، وقصصته: اتبعته قصصاً، قال الله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ)(1). واقتصصته وتقصَّصته، وخرجت في أَثر فلان قصصاً، قال الله -

ص: 356


1- القصص: 11

تبارك وتعالى -: (فَارْتَدَّا عَىَ آثَارِهِما قَصَصًا)(1). وقصَّ عليه الحديث والرُّؤيا، واقتصَّه. وتقصَّصتُ كلام فلان، وله قصَّة عجيبة، وقصص حسن(2).

وقال الأَزهريّ: «...والقاصُّ الَّذِي يَأْتِيه بالقصَّة مِن فُصِّهَا يُقال: قَصصتُ الشيَّء إِذا تَتَبعتُ أثَرَه شَيْئا بعد شَیء. وَمِنْه قَوْله: (وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ)(3)، أَيْ:

اتَّبعِي أَثرَهُ. وَقَوله: (فَارْتَدَّا عَىَ ءَاثَارِهِما قَصَصًا)(4) ، أَيْ: رَجعا مِنَ الطَّرِيق الَّذِي سَلكاه، فيقصَّان الأَثر... أَصل القَصِّ: اتِّباع الْاثر، يُقال: خرج فلانٌ قَصَصاً فِی إِثْر فلانٍ وقصّاً. وَذَلِكَ إِذا اقتَصَّ أَثَره، وَقيل: للقاصِّ يَقُصُّ القَصص لاتِّباعه خَبراً بعد خبرٍ وسوقهِ الْكَلام سَوقاً. وَقَالَ أَبُو زيد: تَقَصَّصْتُ كَلام فلان، أَيْ: حفظته»(5).

ويُقال: قَصَّ أَثرَه، أَيْ: تتبَّعه. والقِصَّةُ: الأَمرُ والحديثُ. وقد اقْتَصَصْتُ الحديث: رويته على وجهه. وقد قَصَّ عليه الخبرَ قَصَصاً. والاسمُ أَيضاً القَصَصُ بالفتح، وُضِعَ مَوضعَ المصدر حتَّى صار أَغلبَ عليه. والقِصَصُ، بكسر القاف:

جمع القِصَّة الَّتي تُكْتَبُ(6).

والقصَّة: الْخبرَ، وَهُوَ الْقَصَص. وقصَّ عليَّ خبرْهُ يقصُّه قصَّاً، وقصصاً: أَوردهُ.

ص: 357


1- الكهف: 64
2- ينظر: العین: 1/ 368، وجمهرة اللغة: 1/ 48، ومعجم مقاييس اللغة: 5/ 7 و8، ومفردات ألفاظ القرآن: 671و672، والمحيط في اللغة: 1/ 428، والمخصّص: 2/ 486، وأساس البلاغة: 1/ 381، والقاموس المحيط: 2/ 172، وتاج العروس : 1/ 4506 - 4512
3- القصص: 11
4- الكهف: 64
5- تهذيب اللغة: 3/ 118
6- ينظر: الصحاح في اللغة: 2/ 81، ولسان العرب: 7/ 73

والقصص: الْخبرَ المقصوص. وتقصَّص كَلامه: حَفِظَه. وتقصَّصَ الْخبرَ: تتبَّعه.

وقصَّ آثَارهم يقصُّها قصَّاً، وقصصاً، وتقصَّصها: تتبَّعها بِاللَّيْلِ، وَقيل: هُوَ تتبُّع الأَثر في أَيِّ وَقت كَانَ(1).

وفُرِّق بین (القصص)، و(الحديث) بأَنّ َ«القَصَص مَا كَانَ طَويلاً من الأَحَادِيث متحدَّثاً بِهِ عَن سلف، وَمِنْه قَوْله تَعَالَ: (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ)(2)وَقَالَ: (نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ)(3)وَيُقَال لله قاصٌّ؛ لَأنَّ الْوَصْف بذلك قد صَارعلما لِمنْ يتَّخذ الْقَصَص صناعَة، وأَصل القَصِّ فِی الْعَرَبيَّة اتِّباع الشيَّء بالشيَّء، وَمِنْه قَوْله تَعَالَ: (وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ)(4) وَسُمِّيَ الَخبرَالطَّوِيل قصصاً؛ لأَنَّ بعضه يتَّبع بَعْضًا حَتَّى يطول، وَإِذا استطال السَّامع الحَدِيث: قَالَ هَذَا قصَص، والَحدِيث يكون عَمَّن سلف، وَعَمَّن حضر، وَيكون طَويلاً وقصیراً، وَيجوزأَنْ يُقال: الْقَصَص هُوَ الْخبرَعَن الأُمُورالَّتِي يَتْلُو بَعْضهَا بَعْضًا، والَحدِيث يكون عَن ذَلِك وَعَن غَیره، والقصُّ قطع يستطيل وَيتبع بعضه بَعْضًا، مثل قصِّ الثَّوْب بالمقصِّ، وقصِّ الْنَاح وَمَا أَشبه ذَلِك، وَهَذِه قصَّة الرَّجل يَعْنِي الْخبرَعَن مَجمُوع أَمره وَسمِّيت قصَّةٌ؛ لأَنَّها يتبع بَعْضهَا بَعْضًا حَتَّى تحتوي على جَميع أَمره»(5).

وبهذا المعنى أَورد أَمیر المؤمنین (عليه السلام) هذا الفعل «قُصَّ»مرَّةً واحدةً في الخطبة، جاء به مبنيّاً للمجهول، وهو أَوَّل الأَفعال الثَّلاثة الَّتي أَوردها (عليه السلام) في وصف القرآن الكريم؛ إذ قال (عليه السلام): «ذَلِكَ قَوْلٌ فَصْلٌ

ص: 358


1- ينظر: المحكم والمحيط الأعظم: 2/ 466، ولسان العرب: 7/ 73
2- يوسف: 3
3- هود: 120
4- القصص: 11
5- لسان العرب: 7/ 73

وَحُكْمٌ عَدْلٌ، خَیرْ قَصَصٍ قُصَّ»؛ إشارةً إلى أَنَّ القرآن الكريم - وهو ما ضمَّنه في حديثه - أَحسن القصص، وفيه تضمن لقوله - تبارك وتعالى -: (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ)(1).

فمراد أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) أَنَّ ما ذكره من حال الإنسان في النَّعيم والعذاب موجود في أَحسن القصص، وهو القرآن الكريم.

و«قُصَّ» فعل ماضٍ مبنيٌّ للمجهول، مبنيٌّ على الفتح، ونائب الفاعل ضمیر مستتر فيه جوازاً تقديره (هو)، عائدٌ إلى «خیر». وجملة

«قُصَّ» صفةٌ ل «قصص».

* * *

نُصَّ

تدلُّ مادَّة «نُصَّ» في اللُّغة على رَفْعٍ، وارتفاع، وانتهاء في الشيَّء. فيُقال: نَصَصْتُ الحديث إلشى فلان نصّاً، أَيْ: رفعته، ونَصُّ كُلِّ شيءٍ:منتهاه(2).

وقال الأَزهريّ: «النَّصُّ: أَصلُه منتَهى الأَشْيَاء ومبلغُ أَقصاها، وَمِنْه قيل: نَصَصْتُ الرَّجلَ: إِذا استقصيْتَ مسأَلتَه عَن الشيَّءِ حَتَّى يسْتَخْرج كلَّ مَا عندَه، وَكَذَلِكَ النَّصُّ فِی السَّیرْ إنَّما هُوَ أَقىَ مَا تَقدر عَلَيْهِ الدابَّة»(3).

وتطابقت دلالة الفعل «نُصَّ» في الخطبة مع دلالته اللُّغوية، وهو ثاني الأَفعال الثَّلاثة، الَّتي جاء بها أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) في وصف القرآن الكريم، إذ

ص: 359


1- يوسف: 3
2- ينظر: العين: 2/ 31، والمحيط في اللغة: 2/ 211، والمصباح المنير: 9/ 84
3- تهذيب اللغة: 4/ 183، وينظر:معجم مقاييس اللغة: 5/ 285، والصحاح في اللغة: 2/ 212، ولسان العرب: 7/ 97، والقاموس المحيط: 2/ 178، وتاج العروس: 1/ 4544 و4545

أَورده (عليه السلام) مرَّةً واحدةً مبنيّاً للمجهول، فقال (عليه السلام): «ذَلِكَ قَوْلٌ فَصْلٌ وَحُكْمٌ عَدْلٌ، خَیرْ قَصَصٍ قُصَّ، وَوَعْظٍ نُصَّ».

و«نُصَّ» فعل ماضٍ مبنيٌّ للمجهول، مبنيٌّ على الفتح، ونائب الفاعل ضمیر مستتر فيه جوازاً تقديره (هو)، عائدٌ إلى «وَعْظٍ». وجملة «نُصَّ» صفةٌ ل «وَعْظٍ».

* * *

نَزَلَ

تدلُّ مادَّة «نَزَلَ» في اللُّغة على الهبوط، والوقوع، والحلول، والانحدار. يُقال: نَزَلَ فلانٌ عن الدَّابَّة، أَو من عُلْوٍ إلى سُفْلٍ، والنَّزْلَة: المرَّةُ الواحدةُ(1).

وقال ابن فارس: «النُّونُ وَالزَّاءُ وَالاَّمُ كَلِمَةٌ صَحِيحَةٌ تَدُلُّ عَلىَ هُبُوطِ شَیءٍ وَوُقُوعِهِ. وَنَزَلَ عَنْ دَابَّتِهِ نُزُولاً. وَنَزَلَ الَمطَرُ مِنَ السَّماَءِ نُزُولاً»(2).

ويُقال: استُنْزِلَ فلانٌ، أَيْ: حُطَّ عن مرتبته. والمَنْزَلُ بفتح الميم والزَّاي: النُّزُول: وهو الُحلُولُ، تقول: نَزَلتُ نُزُولً ومَنْزَلً ومَنْزِلً، والنَّزيلُ: الضَيفُ، والنُّزُول:

الُحلُولُ، وَقَدْ نَزَلَهم، ونَزَلَ عَلَيْهِمْ ونَزَلَ بِهمْ، يَنْزل نُزُولً ومَنْزَلً ومَنْزِلً. ونَزَلَ من علوٍّ إلى سُفْلٍ: انحدر(3).

وقال الرَّاغب: «النُّزُولُ في الأَصل هو انحِطَاطٌ من عُلْوٍّ. يُقال: نَزَلَ عن دابَّته، ونَزَلَ في مكان كذا: حَطَّ رَحْلَهُ فيه، وأَنْزَلَهُ غیرُهُ... وأَمَّا التَّنَزُّلُ فهو كالنُّزُولِ به، يُقال: نَزَلَ المَلَكُ بكذا، وتَنَزَّلَ، ولا يُقال: نَزَلَ الله بكذا ولا تَنَزَّلَ، قال: (نَزَلَ بِهِ

ص: 360


1- ينظر: العين: 2/ 78، وتهذيب اللغة: 4/ 363 و364، والمحيط في اللغة: 2/ 298
2- مقاييس اللغة: 5/ 333
3- ينظر: الصحاح في اللغة: 2/ 203 و204، ولسان العرب: 11/ 656، والمصباح المنير: 9/ 251

الرُّوحُ الأَمِینُ) [الشعراء/ 193] وقال: (تَنَزَّلُ الَملائِكَةُ) [القدر/ 4]، (وَما نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ) [مريم/ 64]...»(1).

وفرَّق أَبو هال العسكريّ بین (الإنزال) و(التنزيل) بقوله: «الإنزال: دفعيٌّ، والتَّنزيل: للتَّدريج. قلتُ: ويدلُّك عليه قوله تعالى: (نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحقِّ مُصَدِّقًا لِما بَینْ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التّوْرَاةَ وَالإِنْيجلَ)(2)حيثُ خَصَّ القرآن بالتنزيل لنزوله منجّماً، والكتابین بالإنزال لنزولها دفعة. وأَمَّا قوله تعالى: (الْحمْدُ لِله الّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ)(3)فالمراد هناك مطلقاً من غیراعتبار التَّنجيم، وكذا قوله تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِی لَيْلَةِ الْقَدْرِ)(4)، فإنَّ المراد إنزاله إلى سماء الدُّنيا، ثُمَّ تنزيله منجَّمًا على النبيِّ صَلىَّ اللهُ عَلِيْهِ وآلِهِ في ثاث وعشرين كما وردت به الرِّوايات)(5).

وورد هذا الفعل «نزل» مرَّةً واحدةً في الخطبة مطابقاً دلالته اللُّغوية؛ وهو ثالث الأَفعال الثَّاثة الَّتي أَوردها أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) في وصف القرآن الكريم، إذ قال (عليه السلام): «ذَلِكَ قَوْلٌ فَصْلٌ وَحُكْمٌ عَدْلٌ، خَیرْ قَصَصٍ قُصَّ، وَوَعْظٍ نُصَّ، تَنْزِيْلٌ مِنْ حَكِيْمٍ حَميْدٍ، نَزَلَ بِهِ رُوْحُ قُدُسٍ مُبِینْ، عَلىَ قَلْبِ نَبِيٍّ مُهْتَدٍ مَكِینْ».

وقوله (عليه السلام): «نَزَلَ بِهِ رُوْحُ قُدُسٍ مُبِینْ» فيه تضمن لقوله - تبارك

ص: 361


1- مفردات ألفاظ القرآن: 799 و800
2- آل عمران: 3
3- الكهف: 1
4- القدر: 1
5- الفروق اللغوية: 79

وتعالى-:(نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِینُ)(1) ،ولا يخفى على اللَّبيب أَنَّ أَمیرالمؤمنین(عليه السلام)لم يقل:«نزل به الرُّوح الأَمین»؛لفوات الفائدة من الخطبة،وهي خلوُّها من الألف.

و«نزل»فعل ماضٍ مبنيٌّ على الفتح،و«به»الباء:حرف جرٍّ،والهاء:ضمیر متَّصل مبنيٌّ على الكسر في محلِّ جرٍّ بحرف الجرِّ،والجارُّ والمجرورمتعلِّقان بالفعل«نزل»،و«روحُ»فاعل مرفوع،وعلامة رفعه الضَّمَّة الظَّاهرة على آخره،وهو مضاف،و«قدسٍ»مضاف إليه مجرور،وعلامة جرِّه الكسرة الظَّاهرة على آخره،و«مبینٍ»صفة ل«قدس»مجرورة وعلامة جرِّها الكسرة الظَّاهرة على آخرها.

* * *

فلْيَتَضرَّع

تدلُّ مادًّة «يتضرّع» في اللُّغة على الاستكانة، والضَّعف، والتَّخشُّع، والذُّلُّ، والخضوع. جاء في (العین): أَضرعته، أَيْ: أَذللته. وضَرعَ، أَيْ: ضَعُفَ، وقوم ضَرعٌ... والتضرَّعُ والتَّضُّرعُ: التَّذلُّل. ضَرعَ يَضرْعُ، أَيْ: خضع للمسأَلة. وتضرَّع: تذلَّل، وكذلك التّضَرُّع إلى الله: التخشُّع. وقومٌ ضَرعَةٌ، أَيْ: مُتخشِّعُون من الضَّعف»(2).

ويُقال: ضَرعَ الرَّجلُ يَضرْع ضَرعاً وضَراعةً، إِذا استكان وذَلَّ، فَهُوَ ضارع بِینِّ

ص: 362


1- الشعراء:193
2- العین: 1/ 62 و63. وينظر: تهذيب اللغة: 1/ 147، والصحاح في اللغة: 1/ 409، والمحيط في اللغة: 1/ 48، ولسان العرب: 8/ 122، والمصباح المنیر: 5/ 334، والقاموس المحيط: 2/ 300، وتاج العروس: 1/ 402 و403

الضَّراعة. وَتَضرَّعَ: أَظهرَ الضَّراعة(1).

وقال ابن فارس: «الضَّادُ وَالرَّاءُ وَالْعَینْ أَصْلٌ صَحِيحٌ يَدُلُّ عَلىَ لِینٍ فِی الشيَّءِ. مِنْ ذَلِكَ ضَرعَ الرَّجُلُ ضَراعَةً، إِذَا ذَلَّ. وَرَجُلٌ ضَرعٌ. ضَعِيف»(2).

ويُقال: ضَرع إِلَيْهِ، يَضرْع ضَرعاً وضَراعَةً، فَهُوَ ضارِعٌ، من قومٍ ضَرعَة وضُروع، وتَضرَّع، كِلاَهما: تذلُّلٌ وتخشُّعٌ. وأَضرعتْهُ إِلَيْهِ الَحاجة. وخدٌّ ضارِعٌ، وجنبٌ ضَارِعٌ: مُتخشِّعٌ(3).

وبهذا المعنى أَورد أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) هذا الفعل «فليتضرّع» مرَّةًواحدةً في الخطبة، وهو أَحد الأَفعال الَّتي ختم بها أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) خطبته، فقال (عليه السلام): «فَلْيَتَضرَّعْ مُتَضَّرعُكُمْ». ففي نهاية الأَمرلابُدَّ من التَّذلُّل، والتَّخشُّع، وإظهار الضَّعف، والضَّاعة، وشدَّة الفقر إلى الله - تبارك وتعالى - والحاجة إليه، بل المبالغة في ذلك؛ فإنَّه لا ملجأَ من الله إلاَّ إليه، ولا يمكن لأَيِّ مخلوق أَنْ يستغني عنه، وفي أَيِّ حالٍ من الأَحوال، يقول الله - عَزَّ وَجَلّ َ-: (يَا أَيُّها النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَی اللِّه وَاللَّه هُوَ الْغَنِيُّ الَحمِيدُ)(4)، فَمَنْ أَراد أَنْ يخلِّص نفسه من عذاب جهنَّم، وأَنْ يدخل الجنَّة، فعليه أَنْ يتذلَّل لله - تبارك وتعالى - ويتخشَّع له، ويُظهر الحاجة، والفاقة إليه.

وجدير بالذِّكر أَنَّ أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) أَورد هذا الفعل «فَلْيَتَضرَّعْ» على زنة «تفعَّلَ»، الَّتي تدلُّ على معانٍ، منها: الإظهار، والمبالغة، والتَّكلُّف، وهو: «حمل

ص: 363


1- ينظر: جمهرة اللغة: 1/ 409، ومفردات ألفاظ القرآن: 506
2- ينظر: المحكم والمحيط الأعظم: 1/ 143
3- ينظر: المحكم والمحيط الأعظم: 1/ 143
4- فاطر: 15

النفس على أَمرٍ فيه مشقَّة، نحو: تحلَّم، أَيْ: تكلَّف الحلم»(1)، وهو ما أَراده أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) بأَنْ يتكلَّف المتضرِّع، ويبالغ بإظهار الاستكانة، والتَّخشُّع، والضَّعف، والذُّلِّ، والخضوع لله - عَزَّ وَجَلَّ -، وقد أَكَّد (عليه السلام) هذا الأَمر بأَنْ قرن الفعل ب «لام الأَمر» للتَّأْكيد والمبالغة فيه.

و«فَلْيَتَضرَّعْ» الفاء استئنافيَّة، والاَّم: لام الأَمر، و«يَتَضرَّعْ» فعل مضارع مجزوم بلام الأَمر، وعلامة جزمه السُّكون، و«متضرّعكم» فاعل مرفوع، وعلامة رفعه الضَّمَّة الظَّاهرة على آخره، وهو مضاف، و«كُمْ»: ضمیر متَّصل مبنيٌّ في محلِّ جرٍّ بالإضافة.

* * *

لِيَبْتَهِلْ

تدلُّ مادَّة «يبتهل» في اللُّغة على الدُّعاء بجدٍّ واجتهاد، والتَّضرُّع، والإخلاص في الدُّعاء، والتَّسبيح لله - عَزَّ وَجَلَّ -، والذِّكر له، والدُّعاء مع إصرار وإلحاح.

فيُقال: ابتهل إلى الله في الدُّعاء، أَيْ: جَدَّ واجتهد(2).والمُبْتَهِل: المُسبِّح الذَّاكر لله، وقيل: الدَّاعي(3).

وقال ابن منظور: «وابْتَهَلَ فِی الدُّعَاءِ إِذا اجْتَهَدَ. ومُبْتَهِاً أَيْ: مُجتَهِداً فِی الدُّعَاءِ.

والابْتِهَال: التّضَرُّع. والابْتِهَال: الاجْتِهَادُ فِی الدُّعَاءِ وإِخْلاصُه لَّله عَزَّوَجَلَّ...

ص: 364


1- أوزان الفعل ومعانيها: 64.وينظر: الكتاب: 2/ 240، والمقتضب: 1/ 78، والمفتاح في المصرف: 50، والمفصّل: 279، وشرح المفصّل: 7/ 158، والإيضاح في شرح المفصّل: 2/ 121، وتصريف الفعل: 70
2- ينظر: العين: 1/ 272، والمحيط في اللغة: 1/ 309
3- ينظر: تهذيب اللغة: 2/ 336

والابْتِهَالُ أَنْ تَمدَّ يَدَيْكَ جَميعًا، وأَصله التَّضرَّع وَالُمبَالَغَةُ فِی السُّؤَالِ»(1) .

وأَصل «الابتهال» اللَّعن من «البُهَلَة»، ف «البَهْلُ: اللَّعنُ. يُقال: عليه بهلَةُ الله وبُهلَتُهُ، أَيْ: لعنة الله. وناقةٌ باهِلٌ: لا صرارعليها»(2) .

وأَصله: الترَّك والإهمال، والتَّحلية من قولهم: بَلت النَّاقَة، إذا تركتها بلا صرار أَيْ: لم تَصرُّ من أَخْلاقِ النَّاقِة شَيْئاً قيل: أَبْهلَها. وأَبْهلَ الرَّاعي إبِلَه: تَرَكَها من الحَلب، واسْتَبْهَلَها فَصِيْلُها: انْتَزَعَ أَصِّرتَها لِيَرضعَها(3) .

وقال ابن منظور: «وأَبْهلَ الرَّجلَ: تَرَكه. وَيُقال: بَهلْتُهُ وأَبْهلْتُهُ إِذا خَلَّيْتَه وإِرادتَه. وأَبْهلَ النَّاقةَ: أَهْملَها»(4) ، ثُمَّ كثُراستعماله في الدُّعاء والمسأَلة إذا كان مع إصراروإلحاح(5) .

وبهذا المعنى أَورد أَمیر المؤمنین (عليه السلام) هذا الفعل «ولِيَبْتَهِلْ» مرَّةً واحدةًفي الخطبة، وهو أَحد الأَفعال الَّتي ختم بها أَمیرالمؤمنین (عليه السلام) خطبته، فقال (عليه السلام): «فَلْيَتضَرَّعْ مُتَضَّرعُكُمْ، ولِيَبْتَهِلْ مُبْتَهِلُكُمْ». أَيْ: ليدعُ مبتهلُكم بجدٍّ واجتهاد، ويخلص في دعائه، مُسبِّحاً لله - عَزَّ وَجَلَّ -، ذاكراً له، ولابُدَّ من أَنْ يكون ذلك الدُّعاء مع إصرار وإلحاح، وقد جاءت لام الأَمرالَّتي قرنها أَمیر

ص: 365


1- لسان العرب: 11 / 71. وينظر: معجم مقاييس اللغة: 1/ 288، والصحاح في اللغة: 1/ 56، والمخصّص: 3/ 166، وتاج العروس: 1/ 8699
2- الصحاح في اللغة: 1/ 56. وينظر: تهذيب اللغة: 2/ 336
3- ينظر: المحيط في اللغة: 1/ 309
4- لسان العرب: 11 / 71
5- ينظر: جامع البيان: 6/ 474، وتفسر البحر المحيط: 3/ 261، ومجمع البيان: 2/ 277، والتفسر الكبر: 4/ 242، وأنوار التنزيل وأسرار التأويل: 1/ 355، والدرّ المنثور: 2/ 354، وروح المعاني: 73/3، وتفسر الميزان: 3/ 125، وتفر الأمثل: 2/ 524، والتفسر الوسيط: 1/ 631

المؤمنین (عليه السلام) بالفعل «لِيَبْتَهِلْ» دالَّةً على ذلك.

و«لِيَبْتَهِلْ» الاَّم: لام الأمر، و«يَبْتَهِلْ» فعل مضارع مجزوم بام الأَمر، وعلامة جزمه السُّكون، و«مبتهلُكم» فاعل مرفوع، وعلامة رفعه الضَّمَّة الظَّاهرة على آخره، وهو مضاف، و«كُمْ»: ضمیر متَّصل مبنيٌّ في محلِّ جرٍّ بالإضافة. وجملة «ولِيَبْتَهِلْ مُبْتَهِلُكُمْ»معطوفة على جملة «فَلْيَتَضرَّعْ مُتَضَّرعُكُمْ».

* * *

ص: 366

المصادر والمراجع

- القرآن الكريم.

1 . أبنية الأفعال دراسة لغوية قرآنية: د. نجاة عبدالعظيم الكوفي، دارالثقافة للنشر والتوزيع، القاهرة، 1989 م.

2 . أبنية الأفعال في دعاء الصباح دراسة ومعجم: د. أحمد عاشور جعاز، مكتبة الحوراء، بغداد، 2010 م.

3 . أبو عثمان المازني ومذاهبه في الصرف والنحو: رشيد عبدالرحمن العبيدي، مطبعة سلمان الأعظمي، بغداد، 1969 م.

4 . أحكام العبادات: السيد محمّد تقي المدرّسي الحسينی، دار محبي الحسین، ط 4، 2003 م.

5 . أدب الكاتب، عبد الله بن مسلم بن قتيبة (ت 276ه)، تحقيق: محمّد محيي الدين عبدالحميد، ط 4، مطبعة السعادة، مصر،1963 م .

6 . ارتشاف الضرب من لسان العرب، أثیر الدين أبو عبدالله محمّد بن يوسف أبو حيّان الأندلسي (ت745ه)، تحقيق وتعليق: د. أحمد النماَّس، ط 1، مطبعة المدني، القاهرة، 1998 م.

7 . أساس البلاغة، أبو القاسم محمود بن عمرو بن أحمد، الزمخشري جارالله (ت 538 ه)، تحقيق: محمّد باسل عيون السود، دار الكتب العلمية - بیروت، ط 1، 1419 ه 1998 م.

8 . أسرار العربية: أبو البركات الأنباري (ت 577 ه)، تحقيق: محمد بهجة البيطار،

ص: 367

دمشق، 1957 م.

9 . أسماء الله الحسنى: حسنين محمّد مخلوف، دار المعارف، 1976 م.

10 . الأسماء والصفات: أبو بكر أحمد بن الحسین بن علي البيهقي (ت 458 ه)، تحقيق: محمد زاهد الكوثري الحنفي، مطبعة السعادة، (د. ت).

11 . إشتقاق أسماء الله: أبو القاسم عبدالرحمن بن إسحاق الزجّاجي (ت 340 ه)، تحقيق: عبدالحسین المبارك، مؤسسة الرسالة، ط 2، 1986 م.

12 . الاشتقاق: عبدالله أمين، ط 1، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، 1956 م.

13 . إصلاح الخلل في الجمل للزجّاجي: عبدالله بن السيد البطليوسي (ت 521 ه)، تحقيق وتعليق: د. حمزة عبدالله النشرتي، ط 1، دار المريخ، الرياض، 1979 م.

14 . إصلاح المنطق: ابن السكيت، أبو يوسف يعقوب بن إسحاق (ت 244 ه)، تحقيق: أحمد محمد شاكر وعبدالسلام هارون، ط 3، 1979 م.

15 . الأضداد: أبو بكر محمد بن الأنباري (ت 650 ه)، تحقيق: أوغست هفنز، طبع بیروت، 1913 م.

16 . الإعجاز البياني للقرآن ومسائل ابن الأزرق: د. عائشة عبدالرحمن، دار المعارف، القاهرة، 1971 م.

17 . ألفاظ الحياة الثقافية في مؤلفات أبي حيان التوحيدي: د. طيبة صالح الشذر، مطابع الإهرام التجارية، القاهرة، 1989 م.

18 . الأمثل في تفسیر كتاب الله المنزل: ناصر مكارم الشیرازي، مؤسسة البعثة، مؤسسة البعثة للطباعة والنشر والتوزيع، ط 1، 1993 م.

19 . الإنصاف في مسائل الخاف بین النحویين البصريین والكوفيین: عبدالرحمن بین محمد أبو البركات الأنباري (ت 577 ه)،تحقيق: محيي الدين عبد الحميد، ط2، مطبعة حجازي بالقاهرة، 1953 م.

20 . أنوار التنزيل وأسرار التأويل: ناصر أبو سعيد عبدالله بن عمر بن محمد الشیرازي

ص: 368

البيضاوي (ت 791)، دار الفكر - بیروت، 1996 م.

21 . أوزان الفعل ومعانيها: د. هاشم طه شلاش، مطبعة الآداب، النجف الأشرف، 1971 م.

22 . أوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك، عبد الله بن يوسف بن هشام الأنصاري (ت 761 ه)، تحقيق: محمد محيي الدين عبدالحميد، دار الندوة الجديدة، بیروت، لبنان، 1980 م.

23 . الإيضاح في شرح المفصل: أبو عمروعثمان بن عمر بن الحاجب (ت 646 ه)، تحقيق: د. موسى بناي العليي، مطبعة العاني، بغداد 1982 م.

24 . الإيضاح في علل النحو: أبو القاسم الزجّاجي، تحقيق: مازن المبارك، نشر مكتبة دارالعروبة بالقاهرة، مطبعة المدني 1959 م.

25 . بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار: محمّد باقر المجلسي (ت 1111 ه)، تحقيق وتعليق لفيف من العلاء، راجعه وقدّم له: محمود درياب النجفي، دارالثقافة، بیروت، ط 1 ، 2001 م.

26 . البحر المحيط في التفسیر: أبو حيان الأندلي، تحقيق: صدقي محمد جميل، دار الفكر، بیروت 1420 ه.

27 . بداية المعرفة منهجية حديثة في علم الكلام: الشيخ حسن مكي العامي، دار المغرب للطباعة والنشر، بغداد / البتاوين، (د. ت).

28 . بصائرذوي التمييزفي لطائف الكتاب العزيز، مجد الدين أبو طاهر محمّد بن يعقوب الفيروزآبادي (ت 817 ه)، الجزء الثالث بتحقيق: محمّد علي النجار، مطابع شركة الإعلانات الشرقية، القاهرة، 1968 م. والجزء الخامس بتحقيق عبدالعليم الطحاوي، مطابع الإهرام التجارية القاهرة، 1970 م.

29 . تاج العروس من جواهر القاموس: محمد مرتضى الحسيني الزبيدي، تحقيق: مصطفى حجازي ود. حسن نصار، الكويت 1393- 1394 ه.

ص: 369

30 . تاريخ آداب العرب: مصطفى صادق الرافعي، ط 2، مطبعة الاستقامة، 1940 م.

31 . تاريخ آداب اللغة العربية: كارل بروكلمان، نقله الى العربية رمضان عبد التواب، راجع الترجمة سيد يعقوب بكر، ط 2، دار المعارف، (د. ت).

32 . تأويل مشكل القرآن: أبو محمّد عبد الله بن مسلم بن قتيبة (ت 276 ه)، شرحه ونشره: السيد أحمد صقر، دار التراث، ط 2، 1973 م.

33 . التبيان في تفسیر القرآن: أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي (ت 460 ه)، تحقيق: أحمدحبيب قصیر العاملين مطبعة مكبة الإعام الإسلامي، ط 1 ، 1989 م.

34 . التحرير والتنوير (تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسیرالكتاب المجيد): محمّد الطاهر بن محمّد بن محمّد الطاهر بن عاشور التونسي (ت 1393 ه)، الدار التونسية للنشر- تونس، 1984 ه.

35 . تحفة الأريب بما في القرآن من الغريب: أثیر الدين أبو حيّان الأندلي (ت 745 ه)، تحقيق: د. أحمد مطلوب، ود. خديجة الحديثي، مطبعة العاني، بغداد، ط 1 ، 1977 م.

36 . الترغيب والترهيب من الحديث الشريف: زكي الدين عبدالعظيم بن عبد القوي المنذري (ت 656 ه)، ضبط أحاديثه وعلّق عليه: مصطفى محمّد عارة، الدار المصرية، 1987 م.

37 . تسهيل الفوائد وتكميل المقاصد: جمال الدين محمّد بن عبد الله بن مالك الأندلسي (ت 672 ه)، حقّقه وقدّم له: محمّد كامل بركات، دار الكتاب العربي للطباعة والنشر، القاهرة، 1967 م.

38 . التشبيهات القرآنية والبيئة العربية: واجدة مجيد الأطرقجي، الجمهورية العراقية، وزارة الثقافة والفنون، دار الحرية للطباعة، بغداد، 1978 م.

39 . تصريف الأفعال والمصادر والمشتقات: د. صالح سليم الفاخري، مكتبة ومطبعة الإشعاع، مصر 1996 م.

40 . تصريف الفعل: أمين علي السيد، مكتبة الشباب، مطبعة عاطف، (د. ت).

ص: 370

41 . التطبيق الصرفي: الدكتورعبده الراجحي، دار النهضة العربية للطباعة والنشر، بيروت، 1973 ، ن

42 . التطوّراللغوي التاريخي: د. إبراهيم السامرائي، معهد البحوث والدراسات العربية، 1966 م.

43 . التعبیرالقرآني، الدكتور فاضل صالح السامرائي، دار الكتب للطباعة والنشر، جامعة الموصل، 1989 م.

44 . التعريفات: أبو الحسن علي بن محمد بن علي المعروف بالسيد الشريف الجرجاني (ت 816ه)، دارالشؤون الثقافية العامة، وزارة الثقافة والإعام، (د. ت).

45 . تفسیرالآصفي: المولى محمد محسن الفيض الكاشاني (ت 1091ه)، حققه مركزالابحاث والدراسات الاسلامية، قم، (د - ت).

46 . تفسیرالصافي للفيض الكاشاني ت 1091 ه، الطبعة الثانية 1416ه، مؤسسة الهادي، قم المقدّسة - إيران.

47 . تفسیرالقرآن العظيم: أبو الفداء إسماعيل بن كثير القرشي الدمشقي (ت 744 ه)، دار المعرفة، بیروت، 1992 م.

48 . التفسیرالكبیرالمسمى (مفاتيح الغيب): أبوعبد الله محمد بن عمر الرازي (606 ه)، دارالكتب العلمية، طهران، (د - ت).

49 . التفسیرالوسيط للقرآن الكريم: د. محمد سيد طنطاوي، مطبعة السعادة، ط 2، 1974 م.

50 . تفسیر نور الثقلين للشيخ الحويزي ت 1112 ه، تحقيق: السيد هاشم الرسولي المحلاتي، ط 4 ، 1412 همؤسسة إسماعيليان للطباعة والنشر، قم.

51 . تقريب القرآن إلى الأذهان: السيد محمد الحسيني الشیرازي، مؤسسة الوفاء، بیروت، ط 1، 1400 ه.

52 . تهذيب اللغة: محمّد بن أحمد بن الأزهري الهروي، أبو منصور(ت 370 ه)، تحقيق:

ص: 371

محمّد عوض مرعب، دار إحياء التراث العربي - بیروت، ط 1، 2001 م.

53 . جامع البيان في تأويل القرآن: محمّد بن جرير بن يزيد بن كثیر بن غالب الآمي، أبو جعفرالطبري (ت 310 ه)، تحقيق: أحمد محمّد شاكر، مؤسسة الرسالة، ط 1، 1420 ه 2000 م.

54 . الجامع لأحكام القرآن: أبو عبدالله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي (ت 671 ه)، دار الكتب المصرية، دارالكتاب العربي للطباعة والنشر، القاهرة، 1967 م.

55 .الجانب الروحي في اللغة العربية: الدكتور حسن منديل العكيي، مطبعة المغرب، بغداد، 2004.

56 . الجمل في النحو: أبو القاسم الزجّاجي، تحقيق وتقديم: د. علي توفيق الحمد، مؤسسةالرسالة، بیروت، ط 4 ، 1988 م.

57 . جمهرة اللغة: ابن دريد، أبو بكر محمد بن الحسن الأزدي (ت 321 ه)، دار صادر، بیروت - لبنان، ط 1، 1345 ه.

58 . حاشية الخضري على ابن عقيل: محمّد بن مصطفى الخضري الدمياطي (ت 1287 ه)، دار إحياء الكتب العربية، مطبعة البابي الحلبي مصر، (د. ت).

59 . حاشية الصبان على شرح الأشموني عبى ألفية ابن مالك: أحمد بن محمّد بن علي الصبان (ت 1206 ه)، دار إحياء الكتب العربية، عيسى البابي الحلبي، (د. ت).

60 . الخصائص: أبو الفتح عثمان بن جني (ت 392 ه)، حقّقه: محمد علي النجار، دار الكتاب العربي، بیروت لبنان، (د. ت).

61 . الدر المنثورفي التأويل بالمأثور: جلال الدين السيوطي (ت 911 ه)، مطبعة الفتح، جدة، ط 1، 1945 م.

62 . الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، غانم قدوري، مطبعة الخلود، بغداد، 1986 م.

63 . دروس في العقيدة الإسامية: الأُستاذ محمد تقي مصباح اليزدي، المشرق للثقافة والنشر،

ص: 372

ط1 ، 2006 م.

64 . دستورالعلماء: القاضي عبد النبي بن عبد الرسول الأحمد، مؤسسة الأعلمي، بيروت لبنان، ط 2، 1975 م.

65 . دقائق العربية: أمين آل ناصرالدين، بيروت، 1953 م.

66 . ديوان الأدب: أبو إبراهيم إسحاق بن إبراهيم الفارابي (ت350 ه)، تحقيق د. أحمد مختارعمر، القاهرة، 1974 - 1975 م.

67 . رسالة التوحيد: محمد عبده، تحقيق: محمد عمارة، المركز المصري العربي، ط 3 ، 1989 م.

68 . رسائل إخوان الصفا وخلان الوفا: تصحيح خیر الدين الزركشي، المطبعة العربية، بمصر، 1928 م.

69 . روائع البيان في خطاب الإمام (الجوانب البلاغية واللغوية في بيان أمیرالمؤمنین علي بین أبي طالب (ع)): د. رمضان عبدالهادي، ط 1، دار إحياء التراث العربي، بیروت لبنان، 2002 م.

70 . روح الدين الإسامي: عفيف عبدالفتاح طبارة، دار العلم للملایين، بیروت، ط 16،(د. ت).

71 . روح المعاني في تفسیرالقرآن العظيم والسبع المثاني: أبو الفضل شهاب الدين الآلوسي البغدادي (ت 1270 ه)، إدارة الطباعة المنيرية، مصر، ط 2،(د، ت).

72 . الروض الآنف في شرح السیرة النبوية: الإمام المحدث عبد الرحمن السهيل (ت 581 ه)، تحقيق عبد الرحمن الوكيل، دار النصر للطباعة، (د - ت).

73 . زاد المسیر في علم التفسیر: أبو الفرج جمال الدين عبدالرحمن بن علي بن محمد بن الجوزي البغدادي (ت 597 ه)، المكتب الإسامي للطباعة والنشر، دمشق، ط 1، 1968 م.

74 . الزاهر في معاني كلمات الناس: محمد بن القاسم بن محمد بن بشار، أبو بكر الأنباري

ص: 373

(ت 328 ه)، المحقق: د.حاتم صالح الضامن، دار الرشيد، 1979 م.

75 . الزينة في الكلمات الإسامية: أبو حاتم أحمد بن حمدان الرازي (ت 322 ه)، عارضه بأُصوله وعلّق عليه: حسین بن فيض الله الهمداني، مطبعة الرسالة، مصر، 1958 م.

76 . سبل السلام: الشيخ محمد اليعقوبي، مؤسسة البديل، ط2، بيروت / لبنان، 2010.

77 . السراج المنیر في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير: شمس الدين، محمّد بن أحمد الخطيب الشربيني الشافعي (ت 977 ه)، مطبعة بولاق (الأميرية) القاهرة، 1285 ه.

78 . سنن الدارقطني، أبو الحسن علي بن عمر بن أحمد بن مهدي بن مسعود بن النعمان بن دينار البغدادي الدارقطني (ت 385 ه)، حققه وضبط نصه وعلق عليه: شعيب الارنؤوط، حسن عبد المنعم شلبي، عبد اللطيف حرز الله، أحمد برهوم، مؤسسة الرسالة، بیروت – لبنان، ط 1 ، 1424 ه - 2004 م.

79 . شذا العرف في فن الصرف: الشيخ أحمد الحملاوي، مطبعة دار الكتب المصرية، 1927 م.

80 . شرح ابن الناظم على ألفية ابن مالك: بدر الدين بن محمد بن محمد بن مالك (ت 686 ه)، صححه ونقّحه محمد بن سليم اللبابيدي، مطبعة القديس جارجيوس، بیروت، 1313 ه.

81 . شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك: ابن عقيل (ت 769 ه)، تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد، ط 20، مكتبة در التراث القاهرة، 1980 م.

82 . شرح الأسماء الحسنى: السيد حسین الهمذاني الدورآبادي (ت 1343 ه)، مطبقة بوزد حمهري مصطفوي، ط 1، (د. ت).

83 . شرح الأشموني على ألفية ابن مالك، (المسمّى نهج السالك إلى ألفية ابن مالك): نور الدين علي بن محمّد الأُشْمُوني الشافعي (ت 929 ه)، تحقيق: محمّد محيي الدين عبدالحميد، ط 3، مكتبة النهضة المصرية، 1955 م.

ص: 374

84 . شرح المفصل: موفق الدين يعيش بن علي بن يعيش النحوي (ت 643 ه)، عالم الكتب، بیروت، (د. ت).

85 . شرح شافية ابن الحاجب: محمّد بن الحسن رضي الدين الإستراباذيّ (ت 686 ه)، تحقيق: محمّد نور الحسن ومحمّد الزفزاف ومحمّد محيي الدين عبدالحميد، مطبعة حجازي بالقاهرة، 1929 م.

86 . شرح شذور الذهب في معرفة كلام العرب: عبد الله بن يوسف بن هشام الأنصاري (ت 761 ه)، تحقيق: محمّد محيي الدين عبدالحميد، ط 1، القاهرة، 1965 م.

87 .شرح مقامات الحريري:

88 .شمس العلوم ودواء كلام العرب من الكلوم: نشوان بن سعيد الحميري، مطبعة البابي الحلبي وأولاده، (د. ت).

89 .شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، دار الكتاب العربي، ط 1، بغداد، 2005 م.

90 .الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية: أبو نصر إساعيل بن حماد الجوهري الفارابي (ت 393 ه)، تحقيق: أحمد عبد الغفورعطار، دارالعلم للملایين - بیروت، ط 4، 1407 ه 1987 م.

91 . صحيح مسلم: مسلم بن الحجّاج بن مسلم القشیري النيسابوري (ت 261 ه) بشرح النووي: محيي الدين أبي زكريا يحيى بن شرف النووي، (ت 676 ه)، تحقيق وإشراف: عبدالله أحمد أبو زينة، مطابع الشعب، القاهرة، (د. ت).

92 .الصرف الوافي: دراسة وصفية تطبيقية في الصرف وبعض المسائل الصوتية: الدكتور هادي نهر، مطبعة التعليم العالي، الموصل، 1989 م.

93 . العباب الزاخر واللباب الفاخر: رضي الدين الحسن بن محمد بن الحسن بن حيدرالعدوي العمري القرشي الصغاني الحنفي (ت 650 ه)،

94 .عمدة الحفّاظ في تفسیر أشرف الألفاظ: أبو العباس شهاب الدين أحمد بن يوسف

ص: 375

الشافعي الحلبي، تحقيق: محمود محمد السيد الزعيم، ط 1، دار السيد، استانبول 1987 م.

95 . عمدة الصرف: كمال إبراهيم، ط 2، مطبعة الزهراء، بغداد، 1957 م.

96 . العین: أبو عبد الرحمن الخليل بن أحمد بن عمرو بن تميم الفراهيدي البصري (ت 170 ه)، تحقيق: د مهدي المخزومي، د إبراهيم السامرائي، دارومكتبة الهلال، (د، ت).

97 .غريب القرآن المسمى (نزهة القلوب): أبو بكر محمد بن عزيز السجستاني (ت 330 ه)، دار الرائد العربي، بیروت - لبنان، ط 3 ،1982 م.

98 .فتح القدير الجامع بین فني الرواية والدراية من علم التفسیر: محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 ه)، عالم الكتب، (د، ت).

99 .الفروق اللغوية: أبو هلال العسكري (ت نحو395 ه)، ط 1، دار الآفاق الجديدة، بیروت، 1973 م.

100 .الفعل زمانه وأبنيته: د. إبراهيم السامرائي، مطبعة العاني، بغداد، 1966 م.

101 .فلسفة الصلاة:

102 .في ظلال القرآن: سيد قطب، دار الشروق، بيروت، ط 11، 1405 ه،1985 م.

103 .القاموس المحيط، مجد الدين أبو طاهر محمّد بن يعقوب الفيروزآبادي (ت 817 ه)، تحقيق: مكتب تحقيق التراث في مؤسسة الرسالة. بإشراف: محمّد نعيم العرقسُوسي، مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر والتوزيع، بیروت - لبنان، ط 8، 1426 ه 2005 م.

104 .كتاب الأضداد: محمد بن يعقوب بن السكيت، ضمن (ثلاثة كتب في الأضداد)، نشرها الدكتور أوغست هفنر، المطبعة الكاثوليكية، بیروت ، 1912 م.

105 .كتاب الذريعة إلى تصانيف الشيعة: لآغا بزرك الطهراني (ت 1389 ه)، ط 3، دار الأضواء بيروت، 1403 ه.

106 .الكتاب: أبو بشر عمرو بن عثمان بن قنبر سيبويه (ت180ه)، تحقيق: عبد السلام

ص: 376

محمد هارون، ط 3، عالم الكتب، 1983 م.

107 .كشّاف اصطلاحات الفنون: محمّد بن علي بن علي التهانوي (ت 1158 ه)، تحقيق: د. لطفي عبدالبديع، الهيئة العامّة للكتاب، القاهرة، 1977 م.

108 . الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل: لأبي القاسم الزمخشري، تحقيق: محمد عبد السام شاهين، 1995 م.

109 . كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد: نصیر الدين محمد بن الحسن الطوسي (ت 672 ه)، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بیروت، ط 1، 1979 م.

110 .الكشف عن وجوه القراءات السبع وعللها وحججها: أبو محمد مكي بن أبي طالب القيسي، تحقيق: د. محيي الدين رمضان، مؤسسة الرسالة، ط 2، 1981 م.

111 .كفاية الطالب:

112 .كنز العماّل في سن الأقوال والأفعال: علاء الدين علي المتقي الهندي، مؤسّسة الرسالة بیروت، 1978 م.

113 .اللباب في علل البناء والإعراب: أبو البقاء عبد الله بن الحسن العكبري (ت 616 ه)، الجزء الأوّل تحقيق: غازي مختار طليمات، والجزء الثاني تحقيق: الدكتورعبد الإله النبهان، ط 1، دار الفكر المعاصر، بیروت لبنان، 1995 م.

114 .لسان العرب: محمد بن مكرم بن منظور (ت 711 ه)، دار صادر - بیروت، 1968 م.

115 .مجاز القرآن: معمّر بن المثنى أبو عبيدة، عارضه بأُصوله وعلّق عليه: د. محمّد فؤاد سزكين، ط 2، دار الفكر، 1970 م.

116 . مجمع البحرين: الشيخ فخرالدين الطريحي (ت 1085ه)، تحقيق: السيد أحمد الحسيني،ط 2، 1988 م.

117 . مجمع البيان في تفسر القرآن: أبوعلي الفضل بن الحسین الطبرسي (ت 548 ه)، عني بطبعه: أحمد عارف الزين، مطبعة العرفان، صيدا، سوريا، 1333 - 1356 ه.

ص: 377

118 . محاضرات في علم الصرف: د. علي جابر المنصوري، وعلاء الدين الخفاجي، مطبعة التعليم العالي، الموصل، بيت الحكمة، 1989 م.

119 . المحرر الوجيز في تفسیر كتاب الله العزيز: أبو محمد عبد الحق بن غالب بن عبدالرحمن بن عطية المحاربي، دار الفكر، بیروت، (د، ت).

120 . المحكم والمحيط الأعظم في اللغة: علي بن إساعيل بن سيده (ت 458 ه)، تحقيق عبدالستار أحمد فراج، ط 1، مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر، 1968 م.

121 . محمّد في القرآن: السيد رضا الصدر، مطبعة قدس، ط 2 ،2000 م.

122 . محيط المحيط: بطرس البستاني، بيروت،1867 م.

123 . المحيط في اللغة: الصاحب بن عباد، تحقيق: الشيخ محمد حسن آل ياسین، دار الحريةللطباعة - بغداد، 1398 ه 1978.

124 . المخصّص، أبو الحسن علي بن إسماعيل بن سِيدَه المرسي (ت 458 ه)، تحقيق: خليل إبراهم جفال، دار إحياء التراث العربي - بیروت، ط 1،1417ه 1996 م.

125 . المدخل إلى علوم نهج البلاغة: د. محسن باقر الموسوي، دار العلوم، بیروت، لبنان، ط 1، 2002 م.

126 . المساعد على تسهيل الفوائد: بهاء الدين بن عبد الرحمن بن عبد الله بن عقيل (ت 769 ه)، تحقيق وتعليق: د. محمد كامل بركات، دار الفكر بدمشق، 1980 م.

127 . مُشكِل إعراب القرآن: مكّي بن أبي طالب القيسي، تحقيق: د. حاتم صالح الضامن، منشورات وزارة الثقافة والإعلام، الجمهورية العراقية، 1975 م.

128 . مصادر نهج البلاغة وأسانيده:عبد الزهراء الحسین الخطيب، مؤسسة الأعلمي، ط 2، 1975م، بیروت.

129 . المصباح المنیر في غريب الشرح الكبیر: أحمد بن محمّد بن علي الفيومي (ت نحو770 ه)، المكتبة العلمية - بیروت، (د، ت).

ص: 378

130 . المصباح: الشيخ تقي الدين إبراهيم بن علي العاملي الكفعمي (ت 900 ه)، صححه وأشرف عليه فضيلة الشيخ حسین الأعلمي، منشورات مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بیروت، لبنان، ط 2 ، 2003 م.

131 . المصنّف في الأحاديث والآثار: عبدالله بن محمّد المعروف ب (أبن أبي شيبة) (ت 235 ه)، تقديم: كمال يوسف الحوت، مكتبة العلوم والحكمة، المدينة المنوّرة، (د. ت).

132 . مطالب السؤول: ابن طلحة الشافعي، طبع حجري قديم، (د. ت).

133 . معارف الإسلام: إعداد ونشر جمعية المعارف الإسامية الثقافية، بیروت لبنان، ط 8، 2009 م.

134 . معالم التنزيل في تفسیر القرآن: محيي السُنةّ، أبو محمّد الحسین بن مسعود بن محمّدبن الفراء البغوي الشافعي (ت 510ه)، تحقيق: عبد الرزاق المهدي، دار إحياء التراث العربي - بیروت، ط 1 ، 1420 ه.

135 . معالم الزلفي في معارف النشأة الأوُلى والأخُرى: العلامة المحدّث السيد هاشم البحراني (ت 1107 ه)، تحقيق: مؤسسة إحياء الكتب الإسامية، ط 1، قم، جمهورية إيران الإسامية، 2003 م.

136 . معاني الأبنية في العربية: د. فاضل السامرائي، ط 1، 1981م.

137 . معاني القرآن وإعرابه: إبراهيم بن السري الزجّاج (ت 311 ه)، تحقيق: عبد الجليل عبده شلبي، منشورات المكتبة العصرية، بیروت، (د. ت).

138 .معاني القرآن: أبو زكريا الفرّاء (ت 207 ه)، عالم الكتب، بيروت، ط 3، 1980 م.

139 .معاني القرآن: سعيد بن مسعدة الأخفش الأوسط (ت 215ه)، تحقيق: د. عبد الأمير الورد، عالم الكتب، بیروت، ط 1، 1985م.

140 . معجم الأفعال الجامدة: أساء أبو بكرمحمد، دار الكتب العلمية، بیروت، ط 1، 1993.

141 . معجم الألفاظ والأعام القرآنية: محمد بن إساعيل بن إبراهيم، دار الفكر العربي،

ص: 379

ط 2، القاهرة (د. ت).

142 . معجم ألفاظ القرآن الكريم: الهيأة المصرية العامّة للتأليف والنشر، ط 2 ، 1970 م.

143 .المعجم الفلسفي: د. جميل صليب، دار الكتاب اللبناني، بيروت، ط 1، 1971 م.

144 .المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم: محمد فؤاد عبدالباقي، مطبعة دار الكتب المصري، 1364 ه 1945 م.

145 .المعجم الوسيط: مجمع اللغة العربية بالقاهرة (إبراهيم مصطفى / أحمد الزيات / حامد عبد القادر / محمّد النجار)، الناشر: دار الدعوة، (د، ت).

146 .معجم مقاييس اللغة: أبو الحسین أحمد بن فارس بن زكريا، تحقيق: عبد السلام محمد هارون، الناشر: دارالفكر، 1399 ه- 1979 م.

147 .معجم المعاني للمتوارد والنقيض من أسماء وأفعال وأدوات وتعابیر، نجيب اسكندر، طبع بمطبعة الزمان، بغداد 1971 م.

148 . مغني اللبيب عن كتب الأعاريب، عبدالله بن يوسف بن هشام الأنصاري (ت 761 ه)، دارإحياء الكتب العربية، مطبعة البابي الحلبي وأولاده، مصر، (د. ت).

149 .مفاتيح الجنان: الشيخ عبّاس القمّي، دار إحياء التراث العربي، بیروت، ط 1، 2001 م.

159 .مفاتيح الغيب، أو التفسیر الكبیر: أبو عبد الله محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسین التيمي الرازي الملقب بفخر الدين الرازي خطيب الري (ت 606 ه)، دار إحياء التراث العربي - بیروت، ط3 - 1420 ه.

151 . مفتاح الفلاح في شرح دعاء الصباح، السيد محمّد كلانتر، دار النشر، الإسلام، مطبعة محمّد، إيران، ط 2، (د. ت).

152 . المفتاح في الصرف: عبد القاهرالجرجاني (ت 471ه)،تحقيق: علي توفيق الحمد، ط 1، مؤسسة الرسالة، دار الأمل، 1987 م.

153 . مفردات ألفاظ القرآن: أبو القاسم الحسن بن محمّد الراغب الأصفهاني

ص: 380

(ت 502 ه)، المحقق: صفوان عدنان الداودي، دار القلم – دمشق، ط 1 ، 2000 م.

154 . المفصّل في علم العربية: أبو القاسم محمود بن عمرو الزمخشري (ت 538 ه)، ط 2، دارالجيل، بیروت، (د. ت).

155 . المقتضب: أبو العباس المبرد، تحقيق: محمد عبد الخالق عظيمة، عالم الكتب بیروت، (د. ت).

156 . الممتع في التصريف: عليّ بن مؤمن بن عصفور (ت 669ه)، تحقيق: فخرالدين قباوة، ط 3، منشورات دار الآفاق الجديدة، بیروت، 1978 م.

157 . من هدي القرآن: السيد محمد تقي المدرسي، ط 1، دار الهدى، 1986 م.

158 . مناقب آل ابي طالب: ابن شهر آشوب، مكتبة مصطفوي، المطبعة العلمية، قم، (د. ت).

159 . المنصف: شرح الإمام أبي الفتح عثمان ابن جني (ت 392ه) لكتاب التصريف لأبي عثمان المازني النحوي البصري (ت 248ه)، تحقيق: إبراهيم مصطفى وعبد الله أمين، ط 1، شركة ومكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر، 1373 ه.

160 . منهاج البراعة شرح نهج البلاغة: قطب الدين سعيد بن هبة الله الراوندي (ت 573 ه)، تحقيق: السيد عبداللطيف الكوهمكري، نشر: مكتبة آية الله المشرعي العامة - قم، 1406 ه.

161 . منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة: العلامة المحقق السيد حبيب الله الخوئي (ت 1324 ه)، ضبط وتحقيق علي عاشور، دار إحياء التراث العربي، بيروت / لبنان، ط 1 ، 2003 م.

162 . منهاج الصالحین: السيد أبو القاسم الخوئي، مطبعة الديواني، بغداد، ط 29، (د - ت).

163 . منهج الصالحین: السيد محمّد الصدر، مؤسسة العطارالثقافية، النجف الأشرف، (د. ت).

ص: 381

تنبطة: الشيخ مرزا علي الغروي، دار المحجّة البيضاء، بیروت لبنان، ط 3 ، 1997 م.

165 . موسوعة أخلاق القرآن: د. أحمد الشرباصي، دار الرائد العربي، بیروت، لبنان، ط 1، 1981 م.

166 . موطّأ مالك: مالك بن أنس أبو عبدالله الأصبحي (ت 179ه)، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي، مصر(د. ت).

167 . الميزان في تفسیر القرآن: العلامة السيد محمد حسین الطباطبائي (ت 1412 ه)، منشورات مؤسسة الأعلمي للمطبوعات - بیروت - لبنان - ط 3، 1973 م.

168 . نظام الغريب في اللغة: عيسى بن إبراهيم بن محمد الربعي الحمیري (ت 480 ه)، تحقيق: محمد بن علي الأكوع، دار المأمون للتراث، دمشق، ط 1، 1980 م.

169 . النظام القرآني مقدّمة في المنهج اللفظي:

170 . النهاية في غريب الحديث والأثر: مجد الدين أبو السعادات المبارك بن محمد بن الأثیر (ت 606 ه)، تحقيق: أحمد الزواوي، ومحمود الطناحي، مطبعة البابي الحلبي مصر(د . ط) 1963 م.

171 . همع الهوامع في شرح جمع الجوامع: جال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي (ت 911 ه)، تحقيق: د. عبدالعال سالم مكرم، الكويت ،1975 - 1982 م.

272 .

173 . الرسائل والأطاريح الجامعية:

174 . أبنية المشتقّات في نهج البلاغة (دراسة دلالية): ميثاق علي عبد الزهرة الصيمري، رسالة ماجستير، جامعة البصرة / كلية الآداب، 2003 م.

175 . أحاديث التعبّد النبويّة في ضوء نظرية الحقول الدلالية: أحمد عاشور جعاز، أُطروحة دكتوراه، جامعة بغداد / كلية الآداب، 2008 م.

176 . الإدغام في العربية: فاطمة حمزة الراضي، رسالة ماجستير، جامعة بغداد / كلية

ص: 382

الآداب، 1988 م.

177 . الالتفات في القرآن الكريم: صدام حسین الدليمي، أطروحة دكتوراه، جامعة بغداد / كلية الآداب، 2004 م.

178 . ألفاظ العقاب الأُخروي في القرآن الكريم (دراسة دلالية): أحمد عاشور جعاز، رسالة ماجستير، الجامعة المستنصرية / كلية التربية، 1998 م.

179 . ألفاظ العقيدة والشريعة في نهج البلاغة، دراسة ومعجم: فضيلة عبوسي محسن، ماجستير، كلية التربية، جامعة الكوفة، 1998 م.

180 . ألفاظ القدرة والتمكین في القرآن الكريم دراسة دلالية: ياسین أحمد حسین عيسى، أُطروحة دكتوراه، جامعة بغداد / كلية الآداب،2000م.

181 .الألفاظ المعبرّة عن الكلام في التعبیرالقرآني(دراسة دلالية): نبراس حسین مهاوش،رسالة ماجستير،جامعة بغداد/كلية التربية للبنات، 2005 م.

182 . التحذير في القرآن الكريم دراسة في مستويات اللغة: علاء ناجي جاسم المولى الموسوي، رسالة ماجستير، جامعة بابل / كلية التربية، 2003 م.

183 . التنبيه أدواته وأساليبه دراسة نحوية دلالية: عبد الحميد حمودي، رسالة ماجستير، جامعة بغداد / كلية الآداب، 2005 م.

184 . الدرس الصرفي عند الفرّاء:أمجد محمد حسن عبد الرحيم العميدي، رسالة ماجستير، جامعة بغداد / كلية التربية (ابن رشد)، 2001.

185 . ظاهرة التخفيف في العربية (دراسة صرفية / صوتية): عبد الله محمد زين بن شهاب، رسالة ماجستير، جامعة الكوفة / كلية الآداب، 1998 م.

186 . ظاهرة الجزم في اللغة العربية: عبد الكاظم داخل عبد الكريم، رسالة ماجستير، جامعة بغداد / كلية الآداب، 1983 م.

187 . العلّة الصرفية وموقعها من الدرس اللغوي الحديث: عبدالكريم محمود علي القيي، أُطروحة دكتوراه، جامعة بغداد / كلية الآداب، 2001 م.

ص: 383

188 . الفعل المضارع دلالته وعلّة إعرابه وبنائه: عبد المجيد كاظم رشيد، رسالة ماجستير، كلية الآداب، جامعة بغداد، 1990 م.

189 . المبني للمجهول في التعبیر القرآني: هاتف بريهي شياع، رسالة ماجستير، جامعةالكوفة / كلية الآداب، 1997 م.

190 . المبني للمجهول في نهج البلاغة (دراسة لغوية): فراس عبد الكاظم حسن، رسالة ماجستير، جامعة بابل / كلية التربية، 2003 م.

ص: 384

المحتويات

مقدمة المؤسسة...7 المُقدِّمَةُ...9 1.تسمية الخطبة...14 2.سند الخطبة ونسبتها إلى أَمير المؤمنين(عليه السلام)...15 3.تصوُّر أَوَّلي عامٌّ لدلالة أَفعال الخطبة...18 4.نصُّ الخطبة المونقة:..22 حَمدْتُ،حَمدْتُهُ...27 عَظُمَتْ...30 سَبَغَتْ...31 سَبَقَتْ...32 تَمَّتْ...33 نَفَذَتْ...34 بَلَغَتْ،بَلَّغَ...35 عَدَلتْ،عَدَل...38 تُنْجِيْهِ،تُنْجِيْكُم...40 يَشْغَلُ...43 نَسْتَعِيْنُهُ...43 نَسْتَرشِدُهُ...46 نَسْتَهْدِيْه...48

ص: 385

نُؤْمِنُ...50 نَتَوَكَّلُ...52 شَهِدْتُ،شَهِدْتُ،فَشَهِدَتْ...54 فَرَّدْتُهُ...56 وَحَّدْتُهُ...58 لَيْسَ...61 يَكُنْ،وَلْتَكُنْ...63 جَلَّ...65 تَنَزَّهَ...67 عَلِمَ...68 سَتَر...71 بَطَنَ...72 خَبَر...73 مَلَكَ...75 قَهَرَ...77 عُصِی...79 غَفَر،نَسْتَغْفِرُ...80 عُبِدَ...83 شَكَرَ...85 حَكَمَ...87 تَكَرَّمَ...89 تَفَضَّلَ...91

ص: 386

يَزَل...93 يَزُوْل...95 يُدركُه...96 يُحطْ...98 عَجَزَ...100 يَصِفُهُ...101 ضلَّ...201 يُعَرِّفُهُ...104 قَرُبَ...106 بَعُدَ...107 يُحيْبُ...112 يَدْعُوهُ،يُدْعَى...116 يَرْزُقُ...121 يَحبُوه...125 بَعَثَهُ...126 خَتَمَ...130 قَوَّى...133 وَعَظَ...136 نَصَحَ...137 كَدَحَ...139 وَصَيْتُكُم...142 حَضَرنِی،حَضَرهُ...144

ص: 387

ذكَّرتُكم...146 تُسَكِّنُ،سَكَنَ...148 تُذْرِئُ...152 يُذْهِلُكُمْ...154 يُبْلِيْكُم...155 يفوز...157 ثَقُل...159 خَفَّ...160 ليغتنم...161 يكبر...163 يَحرَمُ...164 يَسْقُمُ...167 يَمَلُّهُ...168 يُعْرِضُ...169 يَتَغَيَّر...172 ينَقطَعِ.ُ..174 قِيْلَ...176 جَدَّ...178 شَخَصَ...179 طَمَحَ...181 رَشَحَ...183 جُذِبَتْ...185

ص: 388

بَكَتْهُ...189 حُفِرَ...190 يَتِمَ...193 تَفَرَّقَ...195 قُسِّمَ...196 ذَهَبَ... 198 غُمِّضَ...199 مُدِّدَ...202 وُجِّهَ...203 جُرِّد...205 غُسِّلَ...208 نُشِّف...210 سُجَّي...212 بُسِطَ...215 هُيِّءَ...216 نُشِر،يُنْشَر...217 شُدَّ...221 قُمِّصَ...223 عُمِّم...225 لُفَّ...226 وُدِّعَ...228 سُلِّمَ...230

ص: 389

حُملَ...232 صُلِّی،صَلَّتْ...233 نُقِلَ...237 جُعِلَ...238 هِيْلَ...240 حُثِيَ...242 تحقَّقَ...244 نُسِی...246 رَجَعَ...247 تبدَّل...249 يسعى...253 يَسِيْلُ...254 يُسْحَقُ...256 يَرِمُّ...257 يُقِيْمُ...259 يُنْفَخُ...261 بُعْثَرتْ...263 حُصِّلت...265 جِيْءَ...268 تَوَلَّ...269 تُضْنِيْهِ...271 تُنْضِيْهِ...273

ص: 390

يَلْجُمُهُ...276 يَفِرُهُ...278 قُوْبِلَ...279 تُبَيَّن...281 نَطَقَ...284 والنُّطق على أَنواع:...285 يُهدِّده...286 كَشَفَ...288 سُلْسِلَ...290 غُلَّتْ...292 سِيْقَ...293 وَرَدَ...295 ظَلَّ...299 يُعذَّبُ...301 يُسْقَى،سُقِيَ...303 تشوي...307 تَسْلَخُ...309 يَضْرُبهُ...311 يَعُودُ...315 يَسْتَغِيْثُ...317 يَسْتَصْرخُ...319

ص: 391

يَلْبَثُ...320 نَعُوذُ،عُذْتُ...324 نَسألُهُ...327 رَضِی...329 قَبِلَ...331 زُحْزِحَ...332 خُلِّدَ...336 طيِفْ.َ..338 تَقَلَّبَ...340 شَربَ،يَشْربُ...342 يُصَدَّعُ...344 يَنْزِفُ...345 خَشِی...348 حَذَّرَ...351 جَحَدَ...353 سَوَّلَتْ...355 قُصَّ...356 نُصَّ...359 نَزَلَ...360 فلْيَتَضَّرع...362 لِيَبْتَهِلْ...364 المصادر والمراجع...367

ص: 392

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.