ملامح الخطاب النقدي في شروح نهج البلاغة

اشارة

رقم الإيداع في دار الكتب والوثائق العراقية 2872 لسنة 2017 مصدر الفهرسة: IQ-KaPLI ara IQ-KaPLI rda رقم تصنيف: BP38.08.A25 2016 المؤلف الشخصی: عبدالله، ستار قاسم.

العنوان: ملامح الخطاب النقدي في شروح نهج البلاغة / بيانات المسؤولیة: تألیف الدکتور ستار قاسم عبدالله، تقدیم السید نبیل قدوری الحسنی.

بيانات الطبعة: الطبعة الأولى.

بيانات النشر: كربلاء: العتبة الحسينية المقدسة - مؤسسة علوم نهج البلاغة. 1438 ه = 2017 م.

الوصف المادي: 280 صفحة.

سلسلة النشر: مؤسسة علوم نهج البلاغة، سلسلة الرسائل الجامعیة، (22).

تبصرة عامة:

تبصرة ببیلوغرافية: الکتاب يتضمن هوامش - لائحة المصادر (الصفحات 255 - 275).

تبصرة محتویات:

موضوع شخصي: الشريف الرضي، محمد بن الحسين بن موسی، 359 - 406 هجریا - نهج البلاغة - شرح.

موضوع شخصي: ابن أبی الحدید، عبد الحمید بن هبة الله بن محمد، 568 - 656 هجریا - شرح نهج البلاغة. نقد.

موضوع شخصي: علی بن أبی طالب (علیه السلام)، الإمام الأول، 23 قبل الهجرة - 40 هجریا - أحادیث.

مصطلح موضوعي: البلاغة العربیة.

مصطلح موضوعي: تحلیل الخطاب (لغة).

مؤلف إضافی: ابن أبی الحدید، عبد الحمید بن هبة الله بن محمد، 568 - 656 هجریا - شرح نهج البلاغة. نقد.

مؤلف إضافی: الحسنی، نبیل قدوری، 1965، مقدم.

مؤلف إضافی: الشریف الرضی، محمد بن الحسین بن موسی، 359 - 406 هجریا - نهج البلاغة - شرح عنوان إضافی: شرح نهج البلاغة، نقد.

عنوان إضافی: نهج البلاغة، نقد.

تمت الفهرسة قبل النشر في مكتبة العتبة الحسينية المقدسة

ص: 1

اشارة

ص: 2

سلسلة الرسائل الجامعية - العراق وحدة علوم اللغة العربية (22)

ملامح

الخطاب النقدي

في شروح نهج البلاغة

تألیف

د. ستار قاسم عبدالله

اصدار

مؤسسة علوم نهج البلاغة

فی العتبة الحسینیة المقدسة

ص: 3

جميع الحقوق محفوظة

للعتبة الحسينية المقدسة

الطبعة الأولى

1438 ه - 2017 م

العراق: كربلاء المقدسة - شارع السدرة

- مجاور مقام علي الكبر (عليه السلام)

مؤسسة علوم نهج البلاغة

هاتف: 07728243600 07815016633

الموقع اللكتروني: www.inahj.org

اليميل: Inahj.org@gmail.com

تنويه:

إن الأفكار والآراء الورادة في هذ الكتاب تعبر عن وجهة نظر كاتبها، ولا تعبر بالظرورة عن وجهة نظر العتبة الحسينية المقدسة

ص: 4

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ((ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ))

صدق الله العلي العظيم

سورة الشورى الآية 23

ص: 5

الإهداء

إلى سيدي ومولاي

عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)

الباحث

ص: 6

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة المؤسسة

الحمد لله على ما أنعم وله الشكر با ألهم والثناء با قدم من عموم نعم أبداها وسبوغ آلاء أسداها والصلاة والسلام على من هم موضع سره، ولجأُ أمره، وعيبة علمه، ومؤمل حكمه، وكهوف كتبه، وجبال دينه محمد وآله الأطهار الأخيار.

أما بعد:

لم يكن مصطلح (الخطاب النقدي) بمنأى عن المتغیرات التي واكبت الحركة الفكرية والثقافية في الدراسات اللغوية سواء على المستوى البحثي في المؤسسات العلمية في العالم العربي أم على مستوى الدراسات في المؤسسات العلمية في المجتمعات الأخرى.

وإن تطور علم اللسانيات وتتابع الرؤى والنظريات وممازجة الثقافات كان له أثره الفعال في إعادة صياغة مفهوم الخطاب ودلالته وتعريفه، وهذه

ص: 7

الدراسة الجامعية المعدة لنيل شهادة الدكتوراه والموسومة ب (ملامح الخطاب النقدي في شروح نهج البلاغة) هي واحدة من تلك الدراسات التي سعت إلى الجمع بین الدلالات التي اكتنزتها المكتبة العربية والإسلامية قديماً وبین تلك الدراسات المعاصرة، للخروج بمادة جديدة حول ملامح الخطاب النقدي الذي اكتنزه شروح نهج البلاغة.

وقد وفق الباحث في اختياره عينة البحث وتنوع حقولها المعرفية بین المعطيات الثقافية والفكرية لمدرسة الاعتزال والتشيع وبین المنهج الأصولي الإخباري الذي اتسمت به الشروحات الأربعة موضع الدراسة ليخلص البحث إلى مجموعة من النتائج الطيبة.

فجزى الله الباحث كل خیر فقد بذل جهده وعلى الله أجره.

السيد نبيل قدوري الحسني رئيس مؤسسة علوم نهج البلاغة

ص: 8

المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمین والصلاة والسلام على اشرف الأنبياء والمرسلین أبي القاسم محمد وآله الطيبین.

في ظل الإهتمام الخاص بالدراسات النصية في المدة المتأخرة، وهذا من خصوصية طبيعة الدرس الأدبي بشكل عام واهتمامه، إذ صار النص محوراً في الدراسات الأدبية؛ وذلك من خلال الاهتمام بالنصوص وتحليل النصوص، والكشف عن طبيعتها، من هنا جاءت محاولتي للكشف عن طبيعة الشراح وقدراتهم النقدية في معالجة النصوص.

لقد تناول الشراح النصوص ذات السمة الإبداعية بلون من ألوان القراءة الخاصة، هذه القراءة الخاصة سواء أكانت قراءة تفسرية كما هو الحال في القرآن الكريم، أم قراءة الشرح للنصوص الأدبية كدواوين الشعراء أو نهج البلاغة، وأن من يقومون بهذه القراءة ينمازون بمجموعة من السمات سواء أكانوا أهل التفسیر أم كانوا من الشراح، فهم أدباء قد مارسوا الأدب أو

ص: 9

علماء لغة، و في بعض الأحيان يضاف إليهم سمات أخرى لكونهم فقهاء أو أهل كلام أو أصحاب معارف أخرى، وهذا يعطي لقراءتهم الصفة الإبداعية في تعاملهم مع النصوص، سواء أكانت منهجيتهم في قراءتهم للنصوص بشكل عام أم البحث الدلالي، كما هو في الرسائل التي تناولت شراح النهج، أو تناولت شرح الدواوين، أو تناولتهم في بحثهم عن القيم الجمالية.

حاولت في بحثي أن أركز على القيم الجمالية في تلك النصوص والتي أشار إليها الشراح محل الدراسة إذ إن هناك طرق في معالجة الشراح للنصوص، وقد تم تناولها من قبل الدارسین الآخرين حتى أنه تفاوتت الدراسات في ذلك، فمنهم من تناول مناهجهم بشكل عام، أو بيان طريقة كشفهم عن البعد الجمالي لتلك النصوص، ومن ثم عن وضع المعايیر ثم تطبيقها على تلك النصوص، هذه المناهج التي يمكن ان تدرس من قبل الباحثین.

وقد وقع اختياري على نهج الباغة نتيجة لمجموعة من الخصائص والسمات التي اتسم بها، فضلاً عن كونه نصا أدبيا ولا شك في كونه كذلك إذ أنه اختيارات أدبية؛ لهذا وصفها الجامع الأول الشريف الرضي كونها نهجا للبلاغة، إذ إن سمتها البلاغية هي المهيمنة، الجانب الثاني هو أن هذا النص فضلاً عن كونه بلاغياً، تضمن مجموعة من القيم الأدبية والدينية والعقائدية والمعرفية؛ فلهذا إمتزج فيه البعدان الديني و المعرفي، وهذا ما أعطى سمة خاصة لشراحه.

المنهج الذي اعتمدته بشكل عام هو المنهج الوصفي كون المنهج الوصفي هو عمل الباحثین، اضطررت في بعض الأحيان أن أعتمد على المعيار، وبذلك

ص: 10

تكون تلك المعایير هي معاير إستقرائية تولدت لدى الباحثین من خلال استقرائهم للنصوص ووصفهم ذلك. ثم ان وصفي لتلك الأمور هو لون من ألوان المعيارية التي تقتضيها خصوصية هذا الموضوع.

إذن يمكن لي القول: إني إعتمدت في بعض الأحيان مناهج أخرى لتتولد لديّ طريقة متكاملة في إعطاء رؤية عن هذه الملامح النقدية، لكن المنهج الأساس هو المنهج الوصفي، إلا أني إخترت أن يكون منهجاً تكاملياً بحسب ما تقتضيه طبيعة المعالجات، فقد أضطر إلى أن أكون معيارياً، وهذا ما فعله بعض الشراح فمثلاً حبيب الله الخوئي كان معيارياً إذ وضع الأسس وحاول أن يجد لها تطبيقاتها، ذلك انه وضع أسس البلاغة في أول كتابه، وكانت بذلك لون من ألوان المعيارية، وكذلك فعل ابن ميثم البحراني، حاولت أن أمزج بین البعد التنظیري لكونه كاشفاً عما أريد الوصول إليه، ثم البحث عن نماذج تطبيقية لذلك، وبهذا أكون قد مزجت بین البعدين التنظیري والتطبيقي بما تقتضيه خصوصية هذا البحث؛ ولهذا انتظم في فصول ومباحث، درست في التمهيد مفهوم الخطاب، ومفهوم الخطاب الأدبي والخطاب النقدي، وبيان مفهوم النص والعلاقة بينه وبین الخطاب.

أما الفصل الأول فكان بعنوان: (مظاهر التناص في شروح نهج البلاغة) وقد درست فيه مفهوم التناص في النقد العربي القديم والمعاصر وكذلك تناول مفهوم التناص في المنظور الغربي هذا على مستوى التنظیر، اما التطبيق فقد درست فيه تناص نهج البلاغة مع القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف ثم هناك التناص الذاتي، بعدها تناولت التناص مع نهج البلاغة

ص: 11

بتفاصيله المثبتة في البحث.

أما الفصل الثاني فكان بعنوان: (مفاهيم نقدية) فتكونت لدي ثلاثة مباحث وعلى النحو الآتي كان المبحث الأول بعنوان: التأويل معياراً نقدياً، أما المبحث الثاني فكان بعنوان قيمة القارئ عند النقاد، ودرس المبحث الثالث: المصطلح النقدي عند الشراح.

وتناول الفصل الثالث: (جماليات اللفظ والمعنى)، وقد انتظم بأربعة مباحث: المبحث الأول التفرد بالمعاني، ورصد المبحث الثاني: تعدد المعاني التي بينها الشراح، وبین المبحث الثالث: تنوع المعاني، أما المبحث الرابع فكان يتحدث عن قيمة المعاني، وختم الفصل بعرض بعض المقارنات بوصفها من آليات كشف المعنى لدى الشراح، ثم ختم البحث بأهم النتائج التي توصل إليها الباحث.

وكوني اخترت نهج البلاغة ميداناً لبحثي، ذلك ان هناك ميداناً لمجال الشراح، ثم ان قراءة الشراح قراءة نقدية والبحث عن ملامحهم النقدية مسألة تكاد تتعذر ولكون هذه الشروح تنماز بلون من ألوان التكرار والاجترار، لهذا حاولت ان أضع اليد على أربعة شروح إذ ان هناك أكثر من (مائة شارح)، وهذا ما يجعل البحث مترهلاً بعيداً عن الهدفية التي تضع القارئ أمام رؤية معينة للملامح التي حاول أن يقترب منها الشراح للكشف عن جماليات النهج ووضع المعایير لذلك؛ فلهذا كان اختياري لنماذج معينة تمثل اتجاهات في معالجة النص، فالإتجاه الاعتزالي حاول أن يقرأ النهج بوصفه عقلانيا وغیر شيعي ومعتزليا, واخترت من الشيعة مثلاً حبيب الله الخوئي؛

ص: 12

لأنه يمثل التيار الشيعي بشكل عام، وكونه يمثل التيار الفقهي الأصولي.

وأخذت ابن ميثم البحراني لكونه يمثل الخط الإخباري، و إخترت التستري ليمثل الخط الأدبي, و تعد هذه النماذج أشبه بالمراجع لغیرها، ومن ثم فوضع اليد عليها إنما هو وضع اليد على كثیرٍ من الشروحات سواء أكانت القديمة أو الحديثة ولابد من التنبيه إلى ان ما رصدته إنما يمثل النموذج لقراءة مستقبلية يمكن ان تكون جامعة لكل المجهودات النقدية التي يمكن ان تكون محل وضع اليد عليها، وقد كنت ابحث عن النموذج فلستُ في مقام الاستقراء التام لكل النصوص، وأرى ان النموذج كافِ في بيان الرؤية.

وأخیراً أقول اني اجتهدت فإن وفقت فذلك بفضل الله وتوفيقه والحمد لله رب العالمین والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبین الطاهرين.

الباحث

ص: 13

ص: 14

التمهيد

مفهوم الخطاب بين القدماء والمحدثين عُدّ الخطاب من اكثر المصطلحات الحديثة استعمالاً في ميادين البحث الادبي خاصة، إلاّ أنّه تشعب وصارت له منافذ عديدة.

وللخطاب مفهومان، المفهوم الاول: اصيل وثابت عرفته العرب وورد في القرآن الكريم، وفي حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وفي المعاجم اللغوية.

اما المفهوم الثاني: فإنه معاصر ذو طبيعة تركيبية يتعدى بها الدلالة اللغوية الى الدلالات الفلسفية، والسياسية والاعلامية.

فالخطاب السياسي ينطوي على الحمولة الفكرية والمضمون الاديولوجي فهو يعبر عن عقيدة هذه الجماعة واختياراتها.

والخطاب الاعلامي اكثر استيعاباً للمضامین بحيث يمكن ان يستوعب كل الخطابات، فيكون الخطاب الاعلامي السياسي، والخطاب الاعلامي الديني.. الخ.

ويقوم مفهوم الخطاب في اللغة سواء العربية ام الاجنبية على التلفظ او القول بین طرفین احدهما مخاطَب والاخر مخاطِب وقد يتحاوران في شكل حديث، فيقال انهما يتخاطبان، فيفهم احدهما الاخر. اما على المستوى اللغوي ف (الخطاب والمخاطبة: مراجعة الكلام، وقد خاطبه بالكلام مخاطبة وخطاباً، وهما يتخاطبان،

ص: 15

وفصل الخطاب: ان يفصل بین الحق والباطل ويميز بین الحكم وضده)(1).

وفي معجم ألفاظ القرآن الكريم (خاطبه مخاطبة، وخطاباً تكلم معه، والخطب الشأن الذي تقع فيه المخاطبة)(2).

والذي يظهر من المعنى اللغوي للخطاب اقتصار مفهومه على اللغة المنطوقة في حالة المحاورة، ويضاف الى ذلك اللغة المكتوبة في حالة المراسلة، وكأن التواصل في مفهوم هذه الكلمة أمر أساس في تحقق معناه.

اما على مستوى المفهوم القرآني فقد ورد لفظ الخطاب تسع مرات، ورد بصيغة خطاب ثلاث مرات في قوله تعالى: «وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ»(3) وقد فسر الزمخشري (538 ه) فصل الخطاب بقوله: انه (البین من الكلام الملخص الذي يتبينه من يخاطب به ولا يلتبس عليه)(4). وهو (الكلام الدال على المقصود بلا إلتباس)(5).

وهذا التفسیر يتضمن عناصر الخطاب من مخاطَب ومخاطِب وخطاب، إلا انه يقف عند حد التفسیر المباشر للفظتي الفصل والخطاب، ولا يبعد تفسیر ابن عربي

ص: 16


1- لسان العرب: ابن منظور: مادة خطب: 1 / 361
2- معجم الفاظ القرآن الكريم: الراغب الاصفهاني تحقيق، صفوان عدنان داوودي، دار القلم، دمشق، الدار الشامية، سورية: 286
3- سورة ص: 20
4- الكشاف: الزمخشري، دار الفكر، بیروت، ط 1، 1977 م: 3 / 365
5- تفسر القرآن: عبدالله شبر، مراجعة: حامد حفني داوود، مطبوعات النجاح القاهرة، ط 2، 1966 م: 428

(638 ه) عن تفسیر الزمخشري وإن كان يحصر دلالته في الشريعة بقوله: (وفصل الخطاب الفصاحة المبينة للأحكام، أي الحكمة النظرية والعملية والشريعة، وفصل الخطاب هو المفصول المبین من الكلام المتعلق بالاحكام)(1). ويتضح من التفسیرات والتعريفات السابقة إن كلمة (الفصل) هي التي أضافت إلى معنى الخطاب بياناً ووضوحاً وقصدية. ويطرح فخر الدين الرازي (606 ه) فكرة مهمة حول المنازل التي يقطعها النطق أو الكلام حتى يصل إلى مرتبة الخطاب فيقول في فصل الخطاب (إعلم إن أقسام هذا العالم ثلاثة اقسام... وثالثها الذي يحصل له إدراك وشعور وتحصل عنده قدرة على تعريف غیره الأصول المعلومة له، وذلك هو الإنسان وقدرته على تعريف الغیر الأحوال المعلومة عنده بالنطق والخطاب، ثم ان الناس مختلفون في مراتب القدرة على التعبیر عما في الضمیر، فمنهم من يتعذر عليهم إيراد الكلام المرتب المنتظم، بل يكون مختلط الكلام مضطرب القول، ومنهم من يتعذر عليهم الرتيب من بعض الوجوه، ومنهم من يكون قادراً على ضبط المعنى والتعبیر عنه إلى أقصى الغايات، وكلما كانت هذه القدرة أقل كانت تلك الآثار أضعف)(2). ثم انه يؤكد هذه الفكرة بقوله: (لأن فصل الخطاب عبارة عن كونه قادراً على التعبیر عن كل ما يخطر بالبال، ويحضر في الخيال بحيث لا يختلط شيء بشيء، وبحيث ينفصل مقام عن مقام)(3). كما ورد في قوله تعالى: ((فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ))(4) كما وردت هذه الصيغة في قوله

ص: 17


1- تفسیر القرآن الكريم: ابن عربي، تحقيق: مصطفى غالب، مج 2، دار الاندلس للنشر والتوزيع، بیروت، ط 2، 1978 م: 349
2- التفسیر الكبیر: الفخر الرازي، دار احياء التراث العربي، بروت، ط 3 26 / 187
3- المصدر نفسه: 26 / 187
4- سورة ص: 43

تعالى: ((رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَاباً))(1) ونلاحظ في سياق ورود لفظ خطاب في الآيات القرآنية الثاث ان الخطاب يقرن دائماً بالقوة، وشدة البأس، وبالحكمة، والعظمة، والجال لله تبارك وتعالى، وبهذا يخرج مفهوم الخطاب عن حدود المفهوم اللغوي ويرتقي به إلى مستوى أرفع شديد اللصوق بمعاني تتفاوت بین العزة (وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ) (وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ) والعظمة الربانية والجلال الإلهي (رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَاَ الرحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَاباً) ويلتقي المفهومان اللغوي والقرآني في التأكيد على الدلالة السامية للخطاب على إعتبار أن فعل الخطاب لا يتم على الوجه الأفضل إلاّ إذا اقترن بالحكمة وكان القصد منه بيان وجه الحق.

والخطاب من الألفاظ المتداولة في أصول الفقه، ويراد به توجيه الكلام نحو الغیر للافهام، إذ تردد في كتب أصول الفقه مصطلحات: دليل الخطاب، وفحوى الخطاب، ومعنى الخطاب, فقد إستعمله بعض الأصوليین استعمالاّ مرادفاً للكلام الذي يعرف في مفهوم اللغویين بانه (كلّ لفظ مستقل بنفسه، مفيد لمعناه، وهو الجمل المستقلة بأنفسها، الغانية عن غیرها، والكلام الواقع على الجمل دون الآحاد، والكام أيضا عبارة عن الألفاظ القائمة برؤوسها المستغنية عن غیرها وهي التي يسميها أهل الصناعة الجمل على اختلاف تراكيبها)(2).

وقد ذهب البعض الى ان دلالة الكلام عند اللغويین العرب (ترتبط بنظم الألفاظ التي ركبت فيما بينها على وفق سياق من التأليف المخصوص الذي

ص: 18


1- سورة النساء: 37
2- الخصائص: ابن جني، تحقيق: محمد علي النجار، مطبعة دار الكتب المصرية، القاهرة، ط 2 1952 م: 1 / 17

إستوفى المراد فاستغنت بنفسها دلالياً)(1). وهذا يدل على إقتراب تعريفات اللغويین القدامى من التعريف الحديث، وفي التفسیر الديني للكلام نجد اتكاءً واضحا على المعنى اللغوي إنطلاقاً إلى تحديد معاني أخرى تضفي دلالات جديدة على مفهوم الخطاب فالامدي ت (631 ه) ينطلق من تعريف لغوي للكلام حین يعرفه بانه (ما تألف من كلمتین يحسن السكوت عليه)(2), ثم يضيف معنى جديداً بقوله: (ان الكلام يطلق على العبارات المفيدة تارة وعلى معانيها القائمة بالنفس اخرى)(3). وأهمية الكلام النفسي تدل على تحميل العرب القدامى مفهوم الخطاب معاني جديدة، والتأكيد على قدرة المفهوم واتساعه لاحتمال هذه الدلالات. يتضح مما سبق ان مفهوم الخطاب إقترن بحقل علم الأصول.

ولم يشهد مفهوم الخطاب إستقراراً؛ وذلك بسبب طرح المصطلح العربي واستبداله بمدلولات غربية وغريبة (وهنا بدأت فيما يخص هذا المفهوم الخطاب تتداخل الانساق الخطابية الحاملة له بما يحول ذلك التداخل إلى نوع من الإقصاء والاستبعاد للشبكة الدلالية الأصلية التي كانت تمثل مفهوم المصطلح واستبدلت بشبكة دلالية تنتمي إلى نسق دلالي مختلف وجرى ترحيل أو إستبعاد للمحتوى الذي نشأ في تضاعيف ثقافة لها شرطها التاريخي وحل محله محتوى آخر له خصائصه الدلالية التي تكونت في ظرف ثقافي آخر)(4).

ص: 19


1- الثقافة العربية الحديثة والمرجعيات المستعارة: عبدالله ابراهيم، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، بیروت، ط 1، 1999 م: 100
2- منتهى السؤل في علم الاصول, الآمدي, الجمعية العلمية الازهرية المرية، (د. ت): 17
3- المصدر نفسه: 17
4- الثقافة العربية الحديثة والمرجعيات المستعارة: 103

لقد تطورت دلالة الخطاب وتوسعت فنجد من يضع شروط المتلقي وذلك (بان يخلق الله تعالى في السامع علماً ضرورياً بثلاثة أمور: بالمتكلم وبأن ما سمعه من كلامه وبمراده من كلامه، فهذه ثلاثة أمور لابد وان تكون معلومة)(1) وهذا القول يكشف عن أهمية المتلقي بالنسبة للخطاب وأهمية إشراكه في إنتاج المعنى.

وهناك من يحدد الخطاب لفظاً ودلالة بالقول إن (الخطاب: اللفظ المتواضع عليه المقصود به إفهام من هو متهيأ لفهمه. إحترز باللفظ عن الحركات والإشارات المبهمة، وبالمواضعة والمتواضع عليه، عن الألفاظ المهملة، وبالمقصود به الافهام عن كلام لم يقصد به إفهام المستمع فانه لا يسمى خطاباً، وبقوله لمن هو متهئ لفهمه عن الكلام لمن لا يفهم كالنائم)(2). إن هذا التعريف يرسم الحدود كاملة لعناصر حلقة الخطاب، و بالوقت نفسه يذكر الشروط الازمة لكل عنصر، فالمخاطب لابد من توفر قصد الإفهام لديه وإيصال الرسالة، ويشترط في الخطاب أن يكون مما تواضع الناس عليه، وأما المخاطَب أو المستمع فلابد أن يكون متهيأ للفهم مستجيباً للخطاب وصاحبه، كما ان الخطاب لا ينحصر في دلالته الظاهرة، بل لابد من اخذ المعنى القائم في النفس بالحسبان.

لقد تطور مفهوم الخطاب عند العرب القدامى ليستوي موضوعاً مستقلاً بل إن العرب (حاولوا أن يطوروا نظرية في النص خدمة لأداء المعنى ودراسته وهذا يعني أنهم قد تجاوزوا المفهوم اللفظي للكلام، والمفهوم الجملي، ليستقر عندهم أن المتكلم في تعبیره عن حاجاته، لا يتكلم بألفاظ، ولا بجمل, ولكن من خلال

ص: 20


1- المستصفى من علم الاصول: الغزالي، دار احياء التراث العربي، لبنان، ط 1، 1997 م: 1 / 229
2- الكليات: الكفوي، القسم الثاني، تحقيق: عدنان درويش، محمد المصري، منشورات وزارة الثقافة، دمشق، 286: 1982

نص، فاتسعت بهذا أمامهم دائرة البحث الدلالي، وانتقلوا من البحث في مفردة أو جملة إلى البحث في خطاب يتم فيه تحميل المفردات والجمل بدلالات يقتضيها مفهوم الخطاب)(1). غیر ان مفهوم الخطاب في النقد العربي الحديث ليس امتداداً وتطويراً للمفهوم العربي القديم، إذ ظلت النواة العربية القديمة للمفهوم محصورة في إطارها دون رعاية أو تطوير، وأستبدل النقاد العرب المحدثون بها المفهوم الغربي، فمفهوم الخطاب (مصطلح واضح الدلالة في الأصول ولا يثیر فيها دلالة وممارسة أي إشكالية، إنما تكمن الإشكالية الأساسية في إجتذابه القسري خارج حقله وشحنه بدلالات غريبة عنه وذلك بتأثیر مباشر من المحمول الدلالي لمصطلح الخطاب (Discouse) الذي تغلغل في ثنايا الشبكة الدلالية لمصطلح الخطاب العربي وقوضه، أو كاد من الداخل، بحجة تحديث دلالة المصطلح من جهة، وما تقتضيه الثقافة الحديثة من جهة أخرى)(2). وتأخذ كلمة خطاب عند المحدثین أبعاداً دلالية أخرى ف (لقد سمى”ستيغر” التعبیر اللغوي الذي يرمي إليه المتكلم ويصححه المستمع فورسماعه مستعيناً بحسه اللغوي خطاباً)(3).

وهناك تعريف آخر للخطاب في نظر المحدثین على أنه (مجموعة من المنطوقات والملفوظات المحكومة بقواعد التكوين والتحويل)(4). يعتمد مصطلح الخطاب

ص: 21


1- اللسانيات والدلالة (الكلمة): منذر عياشي، مركز الانماء الحضاري، حلب، ط 1، 1996 م: 7
2- الثقافة العربية الحديثة والمرجعيات المستعارة: 102
3- فلي ساندريس، نحو نظرية اسلوبية لسانية، ترجمة, خالد محمود جمعة، ط 1،، توزيع دار الفكر بدمشق، 2003 م: 76 - 77
4- مفهوم الخطاب في فلسفة ميشيل فوكور، الزواوي بعومة، المجلس الاعلى للثقافة، القاهرة، 2000 م: 94

على اللغة والمنطوق معا إذ يستلزم وجود احدهما وجود الآخر، إلا ان هذه العلاقة ليست متساوية تماماً، فالمنطوق ليس شرطاً لوجود اللغة، ما دام يمكن استبداله بغیره، لكن اللغة في جميع الأحوال تتكون من منظومة، أو من نسق من المنطوقات الممكنة، كما يعرفها دي سوسیر بوصفها (نظاماً من العلاقات)(1)، ويمكن ان نورد أكثر من وجهة نظر لسانية وأدبية بما له علاقة برسم حدود الخطاب لأن (الخطاب نظام من الملفوظات والتأكيد على المظهر اللفظي للخطاب، ينحدر أصلاً من إشتغال اللسانيین على الكلام بوصفه مظهراً لفظياً خاصاً بالفرد)(2).

والخطاب من وجهة نظربول ريكور هو (الواقعة اللغوية)(3).

اما اللغوي الأمريكي هاريس فيعرف الخطاب بانه: (ملفوظ طویل، أو متتالية من الجمل)(4) ومن ثم فليس هناك من فرق بین المنطوق والمكتوب في وصفه بالخطاب وذلك إذا توفرت فيه شروط يمكن اجمالها ب (الاستدلال والاحتجاج وسرد الأدلة والراهین والحوادث)(5) لأن مفهوم الخطاب (ليس موقعاً تقتحمه الذاتية الخالصة بل هو فضاء لمواقع وانشطة الذوات، انه الموقع بوصفه ساحة

ص: 22


1- دروس في الالسنية العامة، فرنديناند دي سوسیر ترجمة: صالح القرمادي وآخرون، الدار العربية للكتاب، طرابلس، 1985 م: 41
2- حفريات المعرفة: ميشيل فوكو، ترجمة: سالم يفوت، المركز الثقافي العربي، بیروت، 1986 م: 32 - 35
3- ينظر نظرية التاويل، الخطاب وفائض المعنى: بول ريكور، ترجمة: سعيد الغانمي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، ط 1, 2003 م: 34
4- تحليل الخطاب الروائي: د. سعيد يقطین، المركز الثقافي العربي، بروت، ط 1، 1989 م: 17
5- الادب والدلالة: تيز تيفان تودروف، ترجمة: د. محمد نديم خشفة، مركز الانماء الحضاري، حلب، ط 1، 1996 م: 16

للفعل والصراع والرغبة، انه فضاء لانتشار والتوتر والنوازع، مما يجعله مسرحاً لاستثمار واسراتيجية تحدد المنطوق والمكتوب المرئي لا بحثاً عن معنى خفي يظهره التعليق والتأويل، ولا عن قيمة مسكوت عنها إنه سلسلة منظمة متميزة من الحوادث)(1).

والخطاب عند باختین (يعني اللغة المجسدة ذات الشمول والاكتمال, و انه يرتبط بشكل أو بآخر بالكلمة المنطوقة التي تقوم على أساس العلاقات الحوارية سواء داخل أو خارج اللغة من خلال زاوية حوارية، ومن ثم تكون العلاقات الحوارية خارج نطاق علم اللغة، ولكن في الوقت نفسه لا يجوز أن تفصل عن مجال اللغة، أي عن اللغة بوصفها ظاهرة ملموسة ومكتملة، فاللغة تحيا فقط في الاختلاط الحواري بین أولئك الذين يستخدمونها. ان هذه العلاقات الحوارية قائمة على مجال اللغة ولهذا السبب تعین دراسة هذه العلاقات...)(2).

فالخطاب عبارة عن رسالة من مرسل إلى مستقبل لغاية التأثیر عليه من أجل إقناعه بها عن طريق التأثر عليه بوسائل متعددة، وهو عند ميشل فوكو عبارة عن (مجموعة من الأدلة من حيث هي عبارات والتي تنتسب إلى نفس نظام التكون)(3) ويرى أيضاّ أن الخطاب يعني الميدان العام لمجموع المنطوقات أو مجموعة متميزة من العبارات بوصفها تنتمي إلى شبكة خطابية محددة و انه

ص: 23


1- ميشيل فوكو: المعرفة والسلطة، عبد العزيز العبادي، المؤسسة الجامعية للنشر، بیروت، ط 1، 1994 م: 20
2- شعرية دستوفسكي، ميخائيل باختین ترجمة: جميل نصيف التكريتي، مراجعة حياة شرارة، دار تويقال، الدار البيضاء، ط 1، 1986 م: 267
3- حفريات المعرفة، ميشل فوكو: 100

يشكل (شبكة معقدة من العلاقات الاجتماعية والسياسية والثقافية التي تبرز فيها الكيفية التي ينتج فيها الكلام كخطاب ينطوي على الهيمنة والمخاطر في الوقت نفسه)(1) ثم إنه (كل كلام تجاوز الجملة الواحدة سواء كان مكتوباً أو ملفوظاً، غیر ان الاستعمال تجاوز ذلك إلى مفهوم أكثر تحديداً يتصل بما لاحظه الفيلسوف (ه . ب غرايس) من ان للكلام دلالات غیر ملفوظة يدركها المتحدث والسامع دون علاقة معلنة أو واضحة... وقد اتجه البحث فيما يعرف بتحليل الخطاب إلى استنباط القواعد التي تحكم مثل هذه الاستدلالات أو التوقعات الدلالية)(2)، وهنا يشار إلى إرتباط تطور مفهوم الخطاب بالسياق الثقافي والسياسي (في البلدان الغربية الديمقراطية التي تتسم بدرجة عالية من التعقيد في تكوينها الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، إضافة إلى صفة العدالة والحرية التي تشيع فيها وهو ما يستدعي على ما يبدو جهازاً مفاهيمياً ومنهجاً موازياً في التعقيد والدقة لكشف الهيمنة المتوارية تحت السطح ومحاربتها)(3).

إن أغلب إتجاهات تحليل الخطاب السائدة في الغرب تميلُ إلى دراسة المرامي البعيدة للكلام من خلال وسائل متعددة، ولا يمكن فصل الخطاب عن مفهوم اللغة، ولمّا كانت الكلمة من العناصر المهمة في الخطاب يشار بها إلى ما تقوم به اللغة من حيث هي ثوب للأفكار والمبادئ في المجتمع، لذا وجب أن يفصّل هذا الثوب بدقة متناهية حتى يلاءم الأفكار المعبر عنها، وبذلك تصیر اللغة اللسان

ص: 24


1- دليل الناقد الادبي، إضاءة لأكثر من سبعین تيارا ومصطلحا نقديا معاصرا, د. ميجان الرويلي ود. سعيد البازعي, المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ط 4، 2000 م: 89
2- المصدر نفسه: 89
3- دليل الناقد الادبي: 91

المعبر عن المؤسسات الاجتماعية، ولمّا كان الخطاب هو ممارسة قدرة الحديث فان كل منطوق قابل للملاحظة من ناحية أخرى. فالعلاقات الخطابية ترتبط باللغة بشكل أو بآخر من خلال قنوات الاتصال إلا انها (ليست علاقات توجد داخل الخطاب، وهي لا تربط مفاهيمه وألفاظه بعضها ببعض، ولا تقيم بین الجمل بناءً بلاغياً لكن هذا لا يعني أنها علاقات توجد خارج الخطاب ترسم حدوده...

وتلزمه في بعض الأحوال أن يتلفظ ما يشاء ويعبر عنها، انها توجد إذا صح التعبیر عند حدود الخطاب، فهي التي تمنحه الموضوعات التي يتحدث عنها, أو على الأصح هي التي تحدد مجموع الروابط التي على الخطاب ان ينشئها بصورة فعلية، حتى نستطيع الكلام عن هذه الموضوعات أو تلك... فالعلاقات الخطابية، لا تميز اللغة التي يستخدمها الخطاب، وتميز الظروف التي يشیر فيها الخطاب، بل تميز الخطاب ذاته من حيث هو ممارسة)(1)، ووفقاً لثنائية اللغة الكلام السوسیرية التي يتمثل موضوع تحليل الخطاب فيها لدراسة العلاقة بین الذات المتكلمة (الكلام) وعملية إنتاج الجمل (اللغة المنطوقة) أو علاقة الخطاب بالمجموعة الاجتماعية. فالخطاب ليس هو الكلام، إنه واقع وسط بین اللغة والكلام، إنه المنطوق أو الملفوظ اللغوي ويصبح الاستعمال اللغوي من خلال هذا الفهم، ومن هنا تبدو علاقة الخطاب بالمجتمع، إذ ان اللغة استعمال إجتماعي ينتج محدداً إجتماعياً يمكن أن يوصف بانه خطاب.

ص: 25


1- حفريات المعرفة: 44

الخطاب الأدبي يرتبط الخطاب بشكل أو بآخر بالأدب الذي يعد في الأساس مظهراً حيوياً من مظاهر اللغة إذ (يعد الخطاب الأدبي خلق لغة من لغة أي إن صانع الأدب ينطلق من لغة موجودة فيبعث فيها لغة أخرى وليدة هي لغة الأثر، ويعد هذا التعريف حلاً لإشكالية الوجود والعدم فالحدث الأدبي خلق، ولكن الخلق متعذر إذ لا شيء يخلق ولا شيء يفنى وكل موجود متحول فالخطاب الأدبي تحويل لموجود)(1) وهناك علاقة وثيقة بین الأدب بوصفه ممارسة لغوية وجمالية والممارسات الخطابية المختلفة، ثم ان التعرف على الخطاب الأدبي يعني (إستخلاص جملة الشروط والمقاييس التي تجعل من خطاب معین خطاباً أدبياً)(2). أي إستخلاص أدبيته وبنيتها من هذا المنطلق يلقي بنا الخطاب الأدبي في حقل السؤال ويدفعنا إلى البحث عن الظاهرة الأدبية التي تؤسس أدبية الأدب وتجعله خطاباً متميزاً عن القول المألوف وبهذا فان (الخطاب الأدبي نظام إشاري دال وهذا النظام تشكله مكونات الخطاب وعناصره وهي الأصوات والمعجم والركيب والمعنى والتداول، وهو بناء لغوي واللغة فيه متكلمة عن ذاتها، ومتكلمة عن الأشياء خارجها وفق الصورة التي ترى بها الأشياء)(3) وإزاء هذا الكم الهائل من الخطابات (فمن الممكن أن تسمى كل مقاربة تتخذ لها موضوعاً للوصف، وحدة لغوية اكبر من الجملة تحليلاً للخطاب... فهناك تحليل اجتماعي للخطاب، وهناك تحليل نفسي

ص: 26


1- النقد والحداثة: عبد السلام المسدي، دار الطليعة، بیروت، ط 1، 1983 م: 44
2- في مفهوم الخطاب والخطاب الادبي, ابراهيم صحراوي، مجلة الكاتب العربي، تصدر عن الاتحاد العام للكتاب العرب, ع 51 - 52 , (2001 م: 145
3- مفرقة الخطاب للمرجع, دنور الدين السد, مجلة الكاتب العربي, ع. 50 - 51 (172

للخطاب، وهناك تحليل بلاغي للخطاب)(1). ينماز الخطاب الأدبي بسمات متفردة إذ يؤكد الأسلوبيون (ان وظيفة الكلام العادي هي الإبلاغ، وان وظيفة الخطاب الأدبي هي الإبلاغ والإشارة)(2).

وان الخطاب الأدبي لا يرمي إلى وصف (صورة من العالم الواقعي أو التجربة المعيشة فعلاً، وليس الكلام فيه أداة للإبلاغ بقدر ما هو تركيب يستمد شرعيته من بنيته وصياغته)(3).

إن ما يجعل من عمل ما عملاً أدبياُ صار هدف الدراسات النقدية الحديثة ف (ليس العمل الأدبي في حد ذاته هو موضوع الشعرية فما تستنطقه هو خصائص هذا الخطاب النوعي الذي هو الخطاب الأدبي وبعبارة أخرى يعني بتلك الخصائص المجردة التي تصنع فرادة الحدث الأدبي أي الأدبية)(4).

فالخطاب الأدبي يشمل كل الأنماط الأدبية ولهذا تعددت مسميات هذا الخطاب، فقد يكون خطاباً شعرياً أو روائياً أو خاصاً بميادين الفنون التشكيلية والسينمائية والموسيقية، وقد توسع هذا المصطلح حتى شمل الخطابات السياسية والتاريخية والدينية والانثربولوجية الفلسفية بوصف (الخطاب مصطلح لساني يتميز عن النص والكلام والكتابة وغیرها بشموله لكل إنتاج ذهني سواء كان شعراً أو نثراً

ص: 27


1- لسانيات الخطاب مدخل الى انسجام الخطاب، محمد خطابي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء, المغرب, ط 2، 2006 م: 47
2- في اللغة والتفكر, د فؤاد مرعي, كتاب المدى 6, دار المدى للثقافة والنشر, 2002 م: 56
3- في اللغة والتفكر: 62
4- الشعرية. تزتيفان تودوروف، ترجمة: شكري المبخوت ورجاء سلامة: 23

منطوقاً أم مكتوباً فردياً أو جماعياً، ذاتياً أو مؤسساتياً)(1) هذا وقد شهد المجتمع العربي حركة واسعة في محاولة تحديد دلالة الخطاب الأدبي وسماته، وقد عرفت هذه الحركة انتشاراً واسعاً في أوساط النقاد العرب كل يعطي حجته فذهب البعض منهم إلى ان الخطاب (أ تواصلي يهدف إلى توصيل معلومات ومعارف ونقل تجارب للمتلقي، ب تفاعلي على ان الوظيفة التواصلية في اللغة ليست هي كل شيء فهناك وظائف أخرى للخطاب اللغوي أهمها الوظيفة التفاعلية التي تقيم علاقات اجتماعية بین أفراد المجتمع وتحافظ عليه)(2) ومن النقاد من يعرف الخطاب على انه بنية يجب ان يدرس في ذاته ولذاته إذ (ان ما يميز الخطاب هو انقطاع وظيفته المرجعية؛ لأنه لا يرجعنا إلى شيء ولا يبلغنا أمراً خارجياً انما هو يبلغ ذاته وذاته هي المرجع)(3).

وهناك من يرى ان الخطاب (يطلق على شبكة العناصر الألسنية المستخدمة داخل نص من النصوص)(4) في حین ينظر البعض إلى الخطاب (بأنه الصيغة التي نختارها لتوصيل أفكارنا إلى الآخرين، والصيغة التي نتلقى بها أفكارهم إن الخطاب يتجاوز المفهوم الضيق ليدل على ما يصدر من كلام أو إشارة أو إبداع

ص: 28


1- الخطاب النقدي عند ادونيس قراءة الشعر انموذجاً، د. عصام العسل، دار الكتب العلمية، بیروت، ط 1، 2007 م: 10
2- تحليل الخطاب الشعري (اسراتيجية التناص)، د. محمد مفتاح، دار التنوير للطباعة والنشر، ط 1، المركز الثقافي العربي, 1985 م: 160
3- الاسلوب والاسلوبية، عبد السلام المسدي، الدار العربية للكتاب، ط 116: 3
4- بنية الخطاب الشعري، دراسة تشريحية لقصيدة اشجان يمنية، د. عبد الملك مرتاض، دار الحداثة، ط 1، 1986 م: 245

فني)(1) ولذا فإن (الخطاب يدرك بوصفه فعل ذات متوجهة إلى آخر في ظرف معین)(2) لا شك أن الخطاب النقدي جزء من الخطاب الأدبي، والأدب نشاط إنساني، يحاول التعبیر عن علاقة الانسان بمحيطه وكيفية التفاعل معه، وأن وسيلته في ذلك هي اللغة، وهنا يتخذ الأدب شكلاً لغوياً (فالخطاب النقدي يتمثل في كونه نسقاً تكوينياً مهماً واصيلاً في بنيته الثقافية الحديثة وممارسة نوعية تتضافر مع الانساق الادبية والثقافية الاخرى في سعيها لاكتشاف الذات وطموحها في تشكيل صوت ادبي ونقدي خاص ومتميز)(3) ووفقاً لذلك يكون النقد علاقة لغة بلغة فهو (نشاط أدبي ولغوي قبل كل شيء، اما قولنا نشاط ادبي فلكونه يتعامل مع نصوص أدبية ويدور في دائرتها، اما قولنا لغوي فيعني انه يستعمل المواد التي يستعملها النص الادبي)(4) ويمكن تلمس الفرق بین الخطاب الأدبي والخطاب النقدي لكون اللغة الادبية (الإبداعية) لغة موضوعة، اما اللغة النقدية فهي لغة محمولة وفي هذا يقول رولان بارت (اما موضوع النقد فيختلف تماماً فهو ليست العالم ولكنه خطاب، خطاب آخر النقد هو خطاب عن الخطاب، انه لغة أو ميتا لغة)(5)

ص: 29


1- اللغة وسيكولوجية الخطاب، سمیر شريف ستيتة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بیروت، ط 1، 2002 م: 15
2- الخطاب في نهج البلاغة، بنيته وانماطة ومستوياته دراسة تحليلية، الدكتور حسین العمري، دار الكتب العلمية، بیروت، ط 33: 1
3- الخطاب النقدي واشكالية العلاقة بین الذات والاخر، د. شكري عزيز الماضي، مجلة الموقف الثقافي، الكويت العدد 9، 1997 م: 16
4- بنية الخطاب النقدي، د. حسین خمري، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، ط 1، 1999 م: 45
5- المصدر نفسه: 40

فالعلاقة بین النص والنقد هي علاقة إحتواء وتجاوز ولا يعني الاحتواء إعادة كتابة النص الادبي باسلوب جديد وتلخيصه ولكن يجب أن نعيد تشكيل مفاصله المهمة ذات الدلالة، إن النص الادبي والنص النقدي إنتاج لغوي بامتياز خاص لكل منها طبيعته الخاصة وقد (أدى تفاعل الخطاب النقدي مع آفاق الخطاب الثقافي العام الى إنفتاحه على ما كان يدركه الآخرون فيما يتصل بعلاقات إنتاج القوة، وأدوات توزيع السلطة في المجتمع، تلك التي تنعكس عليه بالقدر الذي يشیر إليها فالخطاب النقدي ممارسة إجتماعية في التحليل الاخیر... وبالقدر الذي يرتبط به الخطاب النقدي بعلاقات السلطة وأدوات توزيعها يغدو هو الآخر مظهراً من مظاهر هذه القوة... ويتجلى ذلك حین يتحول الخطاب النقدي الى خطاب آمرِ ناهِ تسلطي في علاقته بأفراد المتلقین الذين يتوجه اليهم بوسائل تحمل معاني بعينها، عن نفسه، وعن النص الأدبي وعن العالم على السواء، ويعني ذلك إن الخطاب النقدي لم يعد خطاباً بريئاً)(1) ولعلّ ما أُشیر اليه في النص السابق يؤكد على أن (الخطاب ليس مجرد وحدة لغوية... وإنما وحدة من وحدات الفعل الانساني والتفاعل والاتصال والمعرفة، وإنه ليس كياناً ثابتاً، جامداً من الكلمات والدوال، وإنما هو حقل فعال من المشاغل التي تكشف عن تنظيم المجتمع ومؤسساته وأبنية القوى وأدوارها المضمنة، ولذلك فان مصدر المادة في تحليل الخطاب يجب أن يكون مرتبطاً بالخطابات الفعلية)(2).

ص: 30


1- افاق العصر: د. جابر عصفور، دار المدى للثقافة والنشر، ط 1، 1997 م: 101
2- المصدر نفسه: 73

النص والخطاب إن المفهوم اللغوي لكلمة نص في لسان العرب في مادة نصص (النص: رفعك الشيء. نص الحديث نصه نصاً، رفعه وكل ما اظهر فقد نص... ويقال نص الحديث الى فلان اي رفعه وكذلك نصصته إليه، ونصت الظبية جيدها رفعته، ووضع على المنصة أي على غاية الفضيحة والشهرة والظهور، والمنصة ما تظهر عليه العروس لترى ونص المتاع نصاً جعل بعضه على بعض)(1).

إنَّ النص الأَدبي خطاب وعليه فان (النص في ابسط مظاهره (كلام) ولأَنه كذلك وجدت العلوم المهتمة بالافراد طريقها إليه، والنص الأدبي يبدعه فرد منغرس في الجماعة ويتجه الى مجموع القراء لذلك تناوله علم الاجتماع بالدرس، وهكذا الى آخر العلوم الانسانية علماً علماً لكل منها طريق تسلكه الى الظاهرة الأدبية فتمتحن مناهجها عليها)(2)، إذ ينطلق صاحب النص من وجهة نظر يرى فيها النص مظهراً كلامياً إحتوته علوم اللسان وتشكل مصدراً للغة لكونه نتاجاً فنياً صادراً عن وعي وإرادة وإختيار. وكلمة (نص TEXTE) عند رولان بارت تعني النسيج ولكن هذا النسيج يكمن خلفه المعنى(3) ثم يقول في موضع اخر (أُحب النص لأنه بالنسبة لي هذا الفضاء اللغوي النادر الذي يغيب فيه كل شجار وتغيب فيه كل مماحكة لفظية وليس النص أبداً حواراً ليس فيه شيء من العلاقة البشرية إنه يؤسس في حضن مخاطر المراوغة والعدوان والمساومة وليس

ص: 31


1- لسان العرب مادة (نص): 7 / 97
2- في مناهج الدراسة الادبية: حسن الواد، دار سراس للنشر، تونس، 1985 م: 37
3- ينظر لذة النص، رولان بارت, ترجمة: فؤاد حسن والحسن سبحات، دار توبقال، الدار البيضاء: 62

فيه تنافس لهجات فردية)(1) على وفق ذلك فالنص مجموعة من الجمل والافكار التي تعالج موضوعاً معيناً وهو الصورة اللفظية للفكرة وانطلاقاً من ذلك نرى أَن (النص ليس مجرد تدوين للحفظ والتسجيل ولكنه يمثل سلطة توجيه وتقنین وتشريع، فالنص الادبي يؤثر في أجيال الأدباء والشباب ويكون أحد مصادر الإلهام في التشريعات والنصوص التاريخية تعبر عن روح الامة وتكشف عن مسارها والنصوص الدينية سلطة تصدر عن الوحي وطاعة الانبياء تعطي شرعية للسلطان ضد معارضيه، كما تشرع للثورة ضد السلطان)(2), ولكل نص مقصدية معينة ف (من النصوص ما لا هدف له سوى إثارة المتعة والاحساس بالجمال، وذلك بتنميق أُسلوبه باختيار الصورة الفنية الجميلة والكلمة الموحية والركيب المبتكر، ولا يخفى ما لهذا النوع من النصوص من دور في تهذيب الاذواق وإيقاظ المشاعر والسمو بالنفوس)(3) وقد قدّم الناقدان عبدالله ابراهيم وصالح هويدي مفهوماً للنص بقولها: (فالنص بئر غزيرة الماء، كلما متح منها نشطت عروقها وتدفقت روافدها، وتجددت مياهها، وهو أمُر يكشف عن الامكانات غیر المحددة من الايحاءات التي تصدر عن النصوص الادبية ويُفضي الى تعدد في امكانات التحليل والاستنطاق)(4) وهناك من يحدد النص على أَنه (ما ينسرب دائماً من بین أصابع

ص: 32


1- لذة النص: 24
2- قراءة النص، الهرمينوطقيا والتأويل، تاليف مشترك بین باحثین، ط 2، الدار البيضاء، قرطبة للطباعة والنشر، 1993 م: 12
3- الاسس العامة لمناهج تعليم اللغة العربية، اعدادها تطويرها تقويمها، رشدي طعيمه, ط 2، دار الفكر العربي: 83
4- تحليل النصوص الادبية، عبالله ابراهيم, س دار الكتاب الجديد المتحدة، بیروت، ط 1، 1998 م: 9

القارئ)(1).

وقد بذل السيميائيون جهوداً متميزة لخدمة النص من منطلق أَن السيميائيات تعرف بأنها (علم يختص بمدارسة السنن طوراً، وبمدارسة جميع الانساق الدالة طوراً آخر... كما حددت جوليا كرستيفا علم النص وعلاقته بإنتاج المعنى متجاوزة الإجراءات الشكلانية للأنساق السيميائية لتهتم بمدارسة الممارسات الدالة)(2)، أما بول ريكور فیرى أن النص (هو كل خطاب مثبت بواسطة الكتابة باعتبار أن الكتابة مؤسسة لاحقة للكلام اريد لها ان تثبته بواسطة الخط فهي ذات علاقة مباشرة بقراءة النص والعلم الذي يدرس النص على وفق هذه المميزات يأخذ إسم التحليل السميولوجي وهو ينطلق من اللسانيات بوصف النص ينتج من خلال اللغة ثم يتجاوزها الى توليد المنتج اللساني... وهذه العملية تسميها كرستيفا «النص المكون»(3) إلّا أنّ (هناك حقيقة معينة تحكم وتؤسس كل ما هو ملفوظ وهي أن اللغة دائما علم، والخطاب دائماً معرفة بالنسبة لمن يتلفظ بالكلام أو ينصت للسلسلة التواصلية, وبما أن المعرفة الأدبية تتموقع هي أيضاً داخل حلقة القول وتستمد منه هدفها وقصديتها فانها تحدد موضوعها (النص) ككلام كأداة قول الحقيقة)(4) والنص الادبي تتحكم فيه عوامل الغياب وتطغى على عناصره ولا

ص: 33


1- نظريات القراءة والتأويل الادبي وقضاياه، د. حسين مصطفى، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 2001 م: 98
2- سيميائية التواصل وفعالية الحوار، احمد يوسف, مؤتمر السيميائيات لجامعة وهران، الجزائر, 2004 م: 16
3- ينظر: النص الغائب تجليات التناص في الشعر العربي، محمد عزام، من منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 2001 م: 4
4- علم النص: جوليا كرستيفا، ترجمة: فريد الزاهي، مراجعة: عبد الجليل ناظم، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، المغرب، 1997 م: 44

حضور الا لعاملین هما القارئ والنص و (هذان العاملان في رأي ريفاتیر يشتركان في صناعة الادبية، فالنص ينتصب أمام القارئ بحضور مغلق، والمطلوب من القارئ أن يوجد العناصر الغائبة عن النص لكي يحقق بها للنص وجوداً طبيعياً, أو قيمة مفهومة والنص يعتمد على هذه الفعالية وبدونها يضيع)(1).

إن العلاقة بین النص والخطاب علاقة وثيقة اذ (يتداخل مفهوم الخطاب والنص تداخلاً كبیراً في الخطاب النقدي الحديث الى حد يصعب احيانا التمييز بينهما)(2) ذلك ان (النص مظهر دلالي يتم فيه انتاج المعنى الذي يتحول الى دلالة حال تشكله في ذهن القارئ بفعل انتظام الادلة واندراجها في علاقات تتابع وتجاور تفضي الى ظهور معنى يتصل بالقراءة واجراءاتها وبالقارئ وامكاناته)(3) فيما الخطاب (مظهر نحوي مركب من وحدات لغوية ملفوظة او مكتوبة، ويخضع لقواعد في تشكله وفي تكوينه الداخلي قابلة للتنميط والتعيین بما يجعله خاضعاً لشروط الجنس الادبي الذي ينتمي اليه، سردياً كان او شعرياً، ومرتهناً بالخصائص النوعية لجنسه، ونجد فيه صدى واضحاً لآثار الزمن والبنى الثقافية)(4). فالخطاب مظهر نحوي و النص مظهر دلالي، والمظهر النحوي يمكن ان يكون منطوقاً او مكتوباً فيما النص مدونة مكتوبة. ويمكن التماس فرق جوهري بین الخطاب

ص: 34


1- تحليل الخطاب في ضوء المناهج النقدية الحديثة، محمد عزام، دراسة في نقد النقد، من منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 2003 م: 230 - 231
2- اللغة الثانية، في اشكالية المنهج والنظرية والمصطلح في الخطاب النقدي العربي الحديث، فاضل ثامر، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، بيروت، ط 1، 1974 م: 75
3- الثقافة العربية الحديثة والمرجعيات المستعارة: 116
4- المصدر نفسه: 116

والنص استناداً الى تعريف جوليا كرستيفا للنص بأنه (جهاز عبر لساني يعيد توزيع نظام اللسان بواسطة الربط بین كلام تواصلي يهدف الى الإخبار المباشر، وبين أنماط عديدة من الملفوظات السابقة عليه او المتزامنة معه، فالنص اذن إنتاجية)(1).

ولهذا التعريف أهمية كبیرة؛ (لأنّه يطعن في كفاية النظر الى هذا السطح، ويبرز ما في النص من شبكات متعالقة، فهي ترى ان النص اكثر من مجرد خطاب او قول، إذ إنه موضوع لعديد من الممارسات السميولوجية التي يعتد بها على أساس إنها ظاهرة عبر لغوية؛ بمعنى إنها مكونة بفضل اللغة، لكنها غیر قابلة للانحصار في مقولاتها)(2). فرق آخر بین الخطاب والنص يتمثل في تحديد الخطاب بسلسلة من الجمل, بينما النص لا يتحدد بهذه السلسلة إذ (لا يقوم النص على المستوى نفسه الذي يقوم عليه مفهوم الجملة أو اللفظ أو التركيب الخ ويجب عد النص بهذا المعنى أن يكون متميزاً من الفقرة ومن وحدة النموذج الكتابي لعدد من الجمل فالنص يمكن أن يتطابق مع الجملة وأَنه يتحدد باستقلاله وبانغلاقه حتى ولو كانت بعض النصوص غیر مغلقة بمعنى ما. وهو يكون نسقاً يجب أن لا يتطابق مع النسق اللساني ولكنه يوضع في علاقة معه إنها علاقة تجاور وتشابه في الوقت نفسه)(3). وقد ذهب بعضهم إلى التمييز بین النص والخطاب بقوله: (إن الخطاب هو السياق الذي يتشكل فيه النص، ولا مرجع للنص سوى الخطاب ولا مرجع للخطاب سوى الأثر الذي يقوم بنوع من تمثيل البنية الثقافية للمرجع فملكية

ص: 35


1- علم النص: 21
2- بلاغة الخطاب وعلم النص: صلاح فضل، مكتبة لبنان، ناشرون الشركة المصرية العالمية للنشر لونجمان، ط 1، 1996 م: 294
3- النص ضمن كتاب العلاماتية وعلم النص: تزتيفان تودروف، ترجمة: منذر عياشي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، بيروت، ط 1، 2004 م: 109 - 110

الأثر تعود الى المؤلف ولا ملكية تلحق بالخطاب والنص، إنّما يندرجان بعلاقات اتصال وتفاعل مع القارئ)(1). ويمكن تبيین الفرق بین النص والخطاب عن طريق علاقتهما بالقارئ (فالخطاب يكون موضوعاً لبحث القارئ، اما النص فهو الذي يكون موضوعاً للقارئ النموذجي الذي يجعل منه حقلاً للتحليل والتأويل غیر المحدود إن الخطاب يتصل بالباحث الواصف، اما النص فيتصل بالقارئ المؤول)(2).

وعليه (لنطلق كلمة نص على كل خطاب ثم تثبيته بواسطة الكتابة وان هذا التثبيت مؤسس للنص ذاته ومقوم له وعلى هذا فمفهوم النص ينطوي على أنّ الرسالة المكتوبة مركبة فهي تضم من جهة مجموعة من الدوال بحدودها المادية من حروف متسلسلة في كلمات وجمل متتاليات، ومن جهة ثانية تضم المدلول بمستوياته المختلفة)(3) والخطاب في نظرية التواصل عبارة عن رسالة بین مرسل ومتلق ينجز بوسائل داخل سياق محدد. يقول صلاح فضل (النص عند جوليا كرستيفا جهاز عبر لغوي يعيد توزيع نظام اللغة، ذلك يكشف العلاقة بین الكلمات التواصلية مشیراً الى بيانات مباشرة، تربطها أنماط مختلفة من الأقوال السالفة عليها والمتزامنة معها)(4) ثم يعقب (والنص بذلك يعد عملية انتاجية تعني امرين:

ص: 36


1- الثقافة العربية الحديثة والمرجعيات المستعارة: 116
2- المصدر نفسه: 116
3- مناهج النقد المعاصر، صلاح فضل, دار افريقيا الشرق المغرب، بيروت، 2002 م: 133
4- المصدرنفسه: 127

أ- علاقة النص باللغة التي يتموقع فيها اذ تصبح من قبل اعادة التوزيع عن طريق التفكيك، واعادة البناء مما يجعله صالحاً لأن يعالج بمقولات منطقية رياضية.

ب- يمثل النص عملية إستبدال من نصوص اخرى عملية تناص ففي فضاء النص تتقاطع أقوال عديدة مأخوذة من نصوص اخرى مما يجعل بعضها يقوم بتحديد البعض الأخر ونقضه)(1).

ونجد من يُداخل بین مفهوم النص ومفهوم الخطاب، واللسانيات من وجهة نظره تعد الجملة اكبر وحدة لغوية يطالها الوصف.

ومن ثم يمكن تلمس الفرق بین الخطاب والنص وذلك من خلال ما (ينطوي عليه استخدام المصطلحین في مجالات الدراسات الادبية على تمييز طفيف بينهما، أقرب الى التمييز بین دلالة الكل التي يشیر اليه الخطاب، ودلالة البعض الذي يشیر اليه النص، لكن التمييز على المستوى الخاص بعلم اللغة الاجتماعي يعتمد على أنواع أخرى من التقليب، أولها ان دلالة (الخطاب اكثر ميلاً الى المنطوق مقابل دلالة النص التي هي اكثر ميلاً الى المكتوب... وثانيها ان دلالة الخطاب تتضمن معنى الطول مقابل إقتران النص بالقصر)(2) والذي يبدو إن الخلط والالتباس بین مفهومي النص والخطاب حاصل في الثقافة الغربية قبل انتقالها الى اللغة العربية بوساطة الترجمة وإن كان يغلب في التقليد الُوربي (إستخدام النص على حین يغلب إستخدام الخطاب في التقليد الإنجلو أمريكي، بيد أن التداخل بین النص

ص: 37


1- مناهج النقد المعاصر: 128
2- آفاق العصر: 63 - 64

والخطاب من حيث هما اصطلاحان محوريان وعلمان لسانيان، مما لم يحسم أمره في الادبيات تستطيع عبارات مثل (خطاب النص)... و (نص الخطاب)... و (النص بنية خطابية) و (الادب خطاب نصي)... وغيرها... تستطيع ان تؤكد التداخل والاشتباك بین هذين المصطلحین)(1) ويلخص محمد العبد أهم الفروق بین النص والخطاب بأن (النص بنية مترابطة في حین أن الخطاب ينبغي النظر إليه على أَنه موقف ينبغي للغة أن تحاول العمل على مطابقته, وعلى هذا فالخطاب أوسع من النص، ومن ثم فان غلبة النص على المكتوب والخطاب على الملفوظ ليس حاسماً فاحدهما يلتبس بالآخر على سبيل التوسع ثم يذكر محمد العبد معياراً يعتمد على الطول والقصر في التفريق بین النص والخطاب إذ ان الخطاب يتميز بالطول في حین ان النص قد يطول وقد يقصر)(2) وبطبيعة الحال فان هذا المعيار لا يمكن اعتماده فالخطاب قد يطول أ و يقصر وبذلك يبقى الأمر نسبياً.

ص: 38


1- النص والخطاب والاتصال، محمد العبد، الاكاديمية الحديثة للكتاب الجامعي، القاهرة، ط 1، 2005 م: 7
2- ينظر: النص والخطاب والاتصال: 12

الفصل الأوّل مظاهر التناص * منطلقات نظرية * التناص مع القرآن الكريم * التناص مع الحديث النبوي الشريف * التناص الذاتي * التناص الأدبي مع نهج البلاغة

ص: 39

ص: 40

الفصل الأوّل: مظاهر التناص

منطلقات نظرية

من المعروف أَن عملية الإبداع في أي مجال لابد أن تعتمد على عمل سابق عليه، والشعر عند النقاد القدامى يعد صناعة لذلك وضعوا شروطاً معينة وقواعد وعلى الذي يروم الوصول الى مرتبة الشاعر عليه أن يلتزم بهذه الشروط، ومنها حفظ اشعار الآخرين واستيعابها واختزانها في الذاكرة ثم نسيانها، وفي عرف هؤلاء النقاد أنً الشاعر الذي لا يعتمد على نتاجات الآخرين لا يعد شاعراً، ذلك ما أشار اليه ابن خلدون بقوله (واجتناب الشعر أولى بمن لم يكن له محفوظ، ثم الامتلاء من الحفظ وشحذ القريحة للنسيج على المنوال يقبل على النظم وبالإكثار منه تستحكم ملكته وترسخ، وربما يقال: إن من شروطه نسيان ذلك المحفوظ لتمحى رسومه الحرفية الظاهرة، إذ هي صادرة عن إستعمالها بعينها فاذا نسيها، وقد تكيفت النفس بها، انتقش الاسلوب فيها كأنّه منوال يؤخذ بالنسج عليه بامثالها من كلمات)(1) وبالرجوع الى الشعر الجاهلي نجد هذا الامر مجسداً بشكل عملي واقرب مصداق على ذلك ما نجده عند امرئ القيس الذي يقول(2):

ص: 41


1- (المقدمة)، ابن خلدون عبد الرحمن بن محمد، دار احياء التراث العربي، بيروت، (د. ت): 574
2- ديوان امرئ القيس، تحقيق: محمد ابو الفضل ابراهيم، دار المعارف، القاهره، 1958 م: 114

عوجاً على الطلل المحيل لعلنا *** نبكي الديار كما بكى ابن خذام (الكامل) إذ إنَ قضية وقوفه على الاطلال هو فيها تابع لمن سبقه، وقد التفت النقاد القدامى الى باب واسع قد شغل حيزاً من الفكر النقدي وهو باب (السرقات الشعرية) وحاولوا التقليل من وطأة هذه التسمية فاطلقوا لفظ (السرقة الممدوحة)، هذا وقد اصبحت الإحاطة بمعرفة اصناف السرقات واقسامها ورتبها شرطاً يجب أن يتحلى به الأديب.

ومن تصفح كتب القدماء النقدية والأدبية تنبئ عن مصطلحات فيها السرقة ظاهرة مثل (الاخذ، الاجتلاب، الانتحال، والاصطراف) فضلا عن وجود مصطلحات تنفي عنها هذه السرقة ومن هذه المصطلحات (التوليد، الإبتداع، الإستعارة، الإخفاء، تغيیر الغرض التكثيف)(1) فمن هنا يتبین أنّ (التناص موجود في تراثنا، وأن العرب سبقوا الغرب اليه)(2) ولكن العرب كما يبدو عرفوه بصيغة اخرى فهو (فعالية ثقافية وإبداعية ذات أبعاد ومستويات تمس سیرورة الكتابة الأدبية إذا أخذنا بعین الاعتبار التناص كدينامية وإشتغال محايثین لفعل الكتابة والإبداع على السواء)(3) وبالعودة الى تراثنا الشعري القديم نجد من الاشارات

ص: 42


1- ينظر: العمدة في محاسن الشعر وادابه, ابن رشيق القيرواني, تحقيق محمد قرقزان, دار المعرفة, بيروت (باب السرقات): 1 / 7
2- الرواية والتراث السردي (نحو وعي جديد با لتراث) سعيد يقطين، المركز العربي، بيروت، الدار البيضاء، ط 1، 1992 م: 12
3- شعرية النص الروائي (قراءة تناصية في كتاب التجليات, بشير القمري، شركة البيادر للنشر والتوزيع، الرباط، ط 1، 1991 م: 71

المهمة التي تشیر الى هذا الامر اي النسج على منوال الاخرين قول عنترة مجسداً ذلك(1):

هل غادر الشعراء من متردم *** ام هل عرفت الدار بعد توهّم؟ (الكامل) هذا وقد التفتوا الى ما أسموه بتداول المعاني بین الكتاب في كل زمان ومكان فليس (لاحد من اصناف القائلین غنىً عن تناول المعاني ممن تقدمهم... ولولا ان القائل يؤدي ما سمع لما كان في طاقته أن يقول)(2) وفي هذا السبيل يندرج ما طرحه احمد بن ابي طاهر (208 ه) حین عرض لهذه القضية بقوله: (كلام العرب ملتبس بعضه ببعض أواخره من أوائله والمبتدع منه والمخترع قليل اذا تصفحته وامتحنته, والمحترس المتحفظ المطبوع بلاغة وشعراً من المتقدمین والمتأخرين لا يسلم ان يكون كلامه آخذاً من كلام غیره، وان اجتهد في الاحتراس وتخلل طريق الكلام، وباعد في المعنى، واقرب في اللفظ وافلت من شباك التداخل)(3) وليس ببعيد عن ذلك قول الجاحظ (لا يعلم في الارض شاعر تقدم الى تشبيه مصيب وفي معنى غريب عجيب او لفظ شريف كريم أوفي بديع مخترع، الا وكل من جاء من

ص: 43


1- (شرح المعلقات العشر)، الخطيب التبريزي ابو زكريا يحيى بن علي، تحقيق: فخر الدين قباوة، دار الفكر، دمشق، 1997 م: 208
2- كتاب الصناعتين تصنيف ابي هلال الحسن بن سهل بن عبدالله بن سهل العسكري, تح: علي محمد البجاوي, محمد ابو الفضل ابراهيم المكتبة العصرية بيروت: 177
3- حلية المحاضرة في صناعة الشعر، ابو علي محمد بن الحسن بن المظفر الحاتمي، تحقيق: د. جعفر الكتاني، بغداد، 1979 م: 2 / 8

الشعراء بعده او معه اذ هو لم يعد على لفظه فيسرق بعضه او يدعيه باسره فانه لا بدع ان يستعين بالمعنى ويجعل نفسه شريكاً فيه كالمعنى الذي تتنازعه الشعراء فتختلف ألفاظهم وأعاريض اشعارهم ولا يكون واحد منهم احق بذلك المعنى من صاحبه)(1) لعل هذا القول من الاشارات الاكيدة على وجود ظاهرة تداول المعاني بین الناس,، فالتناص ظاهرة انسانية لن تنتهي، فهي حوار مستمر بین الأنا والاخر باشكال مختلفة.

إنّ مفهوم السرقة ليس مفهوماً ادبياً، إذ إن النقد العربي القديم في بعض جوانبه قائم على أساس العصبية سواء في الجانب العقدي الفكري ام المكاني؛ لذا يمكن عد مصطلح السرقات الشعرية ينسجم مع معطيات عصرهم او النسق الثقافي للأمة في تلك المرحلة، إذ كانت هناك مجموعة من العوامل التي تصب في هذا الاتجاه منها مثلاً طبيعة الأطروحة الدينية ودور الدين في إرجاع الأشياء الى أهلها.

ثم ان هناك لوناً من ألوان التوظيف الذي يقوم على أساس التشكيك غالباً, فقد كان العلماء فضلاً عن إمتهانهم لعمل النقد يملكون إهتمامات فكرية قد تكون أدبية أو غیر ذلك، فضلاً عن الموقف السياسي للناقد، وكذلك الولاء القبلي وما كان له من دور كبیر في توجيه الاشياء. هذان الامران اعني الموقف السياسي والولاء القبي لم يستطع النقاد التحرر من قيدهما في معالجة الامور.

فمصطلح السرقة على ما فيه من الضبابية كان لونا من الوان التوظيف الذاتي، فقد تم توظيفه ايديولوجياً للحط من قيمة شاعر او التقليل من إبداعه، وهذه لم

ص: 44


1- الحيوان، الجاحظ, تحقيق وشرح عبد السلام محمد هارون, دار إحياء التراث العربي, بيروت: 3 / 130

تكن الحال الوحيدة، فهناك كثیر من المصطلحات التي وظفت بهذا السبيل مثل مصطلح التأويل اذ كان فيها لون من ألوان المقبولية لإستعمال هذا المصطلح ضمن نسقه، وإني لا أرى مسوغاً لإستعماله إلا كموضوع تأريخي، اما كقيمة أدبية فمصطلح التناص اكثر قدرة على بيان وجه الترابط بین نصوص مختلفة مع حفظ جهات الاختلاف، إذ ان هناك توظيفاً متاطبقاً لنص واحد في سياقات مختلفة فضلاً عن التغیير الحاصل فيه، ولنا في قول الامام علي (عليه السلام):

(لولا أن الكلام يعاد لنفد)(1) دليل على مانتبناه من رأي، لذا أجد اننا بحاجة الى اعادة قراءة المدونة النقدية العربية واعادة النظر في هذا المصطلح (السرقة)؛ لأجل إنصاف الأدباء، ورفع الحيف الذي لحق بهم بسبب ظروف سياسية، أوعصبيات قبلية أوغیر ذلك من ظروف مرتبطة بالنص.

من هنا فمصطلح التناص استعمل كثیراً وحمل معاني مختلفة اذ صار مفهوماً غامضاً في الخطاب الادبي، وقد كان الاعتقاد السائد قبل البنيوية ان النص يقوم على الأنغلاق بحيث تكون له بداية ونهاية ومنغلق على ذاته, كما تميز النص بالأحادية اي ان النص له دلالة محددة والقارئ المثالي هو من يمسك بها، ووفقاً لذلك فان الكاتب هو صاحب النص وله السلطة العليا عليه، ودور القارئ هنا هو الاهتداء الى تلك الدلالة التي تكمن في وعي او لا وعي الكاتب، لذلك اختلفت النظرة الى النص باختلاف المناهج النقدية التي قاربت معناه وصاغت مفهومه.

وقد وضح مفهوم التناص العالم الروسي ميخائيل باختین بكتابه (فلسفة اللغة) (وعني بالتناص الوقوف على حقيقة التفاعل الواقع في النصوص في استعادتها او

ص: 45


1- العمدة في محاسن الشعر وآدابه: 1 / 198

محاكاتها لنصوص او لاجزاء نصوص سابقة عليها والذي افاد منه بعد ذلك العديد من الباحثین)(1) فكان بذلك اول من صاغ نظرية بأتم معنى للكلمة، فالكاتب من وجهة نظر باختین (يتطور في عالم مليء بكلمات الاخرين، فيبحث في خضمها عن طريقه لا يكتفي فكره إلا بالكلمات التي تسكنها أصوات اخرى، ولهذا فكل خطاب يتكون اساساً من خطابات اخرى سابقة ويتقاطع معها بصورة ظاهرة او خفية فلا وجود لخطاب خالٍ من آخر، ويؤكد باختین هذه الحقيقة ويطرح نظرية الحوارية)(2). وهذه النظرية الحوارية والصوت المتعدد تُعد مقدمة أساسية وجذرية لمفهوم التناص الذي تبلور على يد الباحثة جوليا كرستيفا في أبحاث لها عدة كتبتها في عامي 1966 - 1967 وصدرت في مجلتي تيل كيل وكرتيل، واعيد نشرها في كتابيها سيموتيك ونص الرواية فقد عرّفت الناقدة جوليا كرستيفا النص بانه: (جهاز نقل لساني يعيد توزيع نظام اللغة واضحاً الحديث التواصي، وتقصد المعلومات المباشرة في علاقة مع ملفوظات مختلفة سابقة او متزامنة)(3) ويتضمن هذا التعريف عدداً من المفاهيم النظرية التي صاغتها كرستيفا ياتي في مقدمتها (اعتبار النص ممارسة دلالية اي نظام دلالي مميز خاضع لتصنيفة الدلالات حيث تتوالد الدلالة في عملية تستمر مع الوقت نفسه وبحركة واحدة جدل الفاعل (الكاتب) وجدل الاخر (القارئ) والسياق الاجتماعي... كما اعتبرت ان النص

ص: 46


1- الشعر العربي الحديث بنياته وابدالاتها، محمد بنيس، الشعر المعاصر، دار تويقال، المغرب، ط 1: 183 - 184
2- الخطاب الروائي، ميخائيل باختين ترجمة محمد برادة، دار الفكر للدراسات والنشر والتوزيع، القاهرة، باريس، ط 1، 1987 م: 53 - 54
3- آفاق التناصية المفهوم والمنظور, مجموعة من المؤلفين، ترجمة محمد خير البقاعي، الهيأة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1998 م: 37

هو انتاجية وهو الساحة التي يلتقي فيها النص مع قارئه حيث يظل النص يعتمل باستمرار... ثم هناك المعنى الذي على أساسه يجب تصور النص كإنتاج وليس كمنتج تكون الدلالة غیر وافية في تقديم المعنى، فالنص هو فضاء متعدد المعاني يتلاقى فيه عدد من المعاني الممكنة)(1). وقد ظهر مصطلح التناص بوصفه جزءا من الاسس النظرية لنظرية النص عند جوليا كرستيفا واصبح المنطلق الاساس لأية دراسة سيميائية للشعر، فهو ينتمي الى مرحلة ما بعد البنيوية ويعد مفهوماً تفكيكياً, كما ان رولان بارت تحمس لنظرية التناص واعتبر ان التناص هو قدر كل نص مهما كان نوعه، لكن بدايات ظهور هذا المصطلح في أشكاله الأولى سبق من الناحية التأريخية كرستيفا، إذ برزت مقولات عديدة اكدت على انفتاح الدال على آخره منذ سوسیر ونظريته اللغوية، وكان الفيلسوف الالماني نيتشه قد سبقه.

إن الظهور الاول لمفهوم التناص إرتبط بالشكلاني الروسي شكلوفسكي الذي كان أول من أشار اليه في معرض حديثه عن إتصال العمل الفني بغیره من الأعمال الفنية، ثم تحققت النقلة المهمة لهذا المفهوم على يد ميخائيل باختین الذي استعمل مصطلح الحوارية وتعدد الاصوات في كتابه (شعرية دستوفسكي) وقد إستمد هذا المصطلح (قيمته النظرية النقدية وفعاليته الإجرائية من كونه يقع في مجال الشعرية الحديثة في نقطة تقاطع التحليل البنيوي للنصوص والاعمال الادبية بوصفها نظاماً مغلقاً لا يحيل إلاّ على نفسه مع نظام الاحالة والمرجع باعتبار ما هو خارج النص, ولهذا فقد اصبح هذا المفهوم مرتكزاً من مرتكزات المقاربة الشعرية للنصوص الادبية)(2) وقد تحمس رولان بارت لمفهوم التناص، وبرأيه إن البحث عن ينابيع

ص: 47


1- المصدر نفسه: 41
2- التفاعل النصي، التناصية النظرية والمنهج، نهلة الاحمد, كتاب الرياض، العدد 104، يونيو / 2000 م: 87

عمل ما ليس إلا إستجابة لإسطورة النسب (فكل نص يرجعنا بطريقة مختلفة الى بحر لا نهائي هو المكتوب من قبل)(1)، إن ما ميز مفهوم التناص عند بارت هو تركيزه على دور القارئ في عملية التناص من خلال ما يقوم به من إستحضار لمخزونه الثقافي عند قراءة النص مما أدخل القارئ كفاعل في هذه العملية لأن (الأنا التي تقترب من النص هي في الواقع مجموعة متعددة من النصوص الاخرى ذات ثغرات لا نهائية او بالأحرى مفقودة الأصول قد ضاعت مصادرها)(2) وبالنتيجة فإن مفهوم التناص عند بارت يقضي على مفهوم الابوة للنصوص الادبية لان (الانا التي كتبت النص ليست (أنا) حقيقية وانما (أنا) ورقية)(3) اما جیرار جنيت فقد عمل على توسيع مصطلح التناص عندما اعتبر النص نصاً جامعاً يسمح بالكتابة على الكتابة وهو يشمل النص والمقدمات والاستشهادات الّا انه وظف مصطلحاً بديلاً هو التعالي النصي او النصية المتعالية وعرفه بصورة اجمالية بانه (كل ما يجعل النص في علاقة ظاهرة او ضمنية مع نصوص اخرى فهو يتجاوزها اذن ويشمل جميع النصوص وبعض الانواع ذات العلاقة الخاصة بالنصية المتعالية)(4).

اما يوري لوتمان فقد حدد مفهوم التناص من خلال استكناه العلاقات القائمة بین النص والبنى غیر النصية (باعتبارها المدخل الصحيح لتناول موضوع التناص

ص: 48


1- النظرية الادبية المعاصرة، رامان سلدرن، ترجمة: د. جابر عصفور، الهيأة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، 148: 1996
2- افق الخطاب النقدي، دراسات نظرية وقراءات تطبيقية، د. صبري حافظ، دار شرقيات، القاهرة، 1996 م: 58
3- المصدر نفسه: 52
4- افاق التناصية المفهوم والمنظور: 179

من ناحية، ولطرح مفهوم جدلي وحركي للنص، يجعل من العسیر تصور وجوده وفاعليته خارج اطار هذا المفهوم الشامل للتناص)(1). وبذلك فالتناص عنده هو الذي يهب النص قيمته ومعناه لانه يضع النص داخل سياق يساعدنا على فتح مغاليق نظام النص الإشاري، ويمنح ذلك النظام الاشاري وعلاقاته المكونة له معناها الى جانب دوره في تمكین القارئ من طرح مجموعة متعددة من التوقعات والتاثیر في أُفق التوقع عنده.

ويعد مارك انجينوا الذي عمل على اعطاء نظرية التناص مديات واسعة ساهمت في انفتاحها على موضوعات واشكال كثیرة من المتحمسین لهذه النظرية إذ اعتبر (كل نص يتعايش بطريقة من الطرق مع نصوص اخرى وبذا يصبح نصاً في نص نصاً وبذا تنتمي الكلمة الى الجميع لكونها تؤشر على فكرة مبذولة في كل دراسة ثقافية)(2) أما (روبرت شولتر) فانه وازن بین التناص وعلم الاشارات، وعنده ان التناص وتداخل النصوص مصطلح ذو دلالة واحدة وهو قضية حتمية، فالمبدأ العام فيه هو (ان النصوص تشیر الى نصوص اخرى، مثلما الإشارات تشیر الى اشارات اخر وليس الى الأشياء المعنية مباشرة، فالنص المتداخل نص تسرب الى داخل نص اخر ليجسد المدلولات سواء وعى الكاتب بذلك ام لم يعِ)(3).

اما في النقد العربي المعاصر فمصطلح التناص مصطلح جديد لظاهرة ادبية ونقدية قديمة ف (ظاهرة تداخل النصوص هي سمة جوهرية في الثقافة العربية

ص: 49


1- افق الخطاب النقدي: 56
2- في اصول الخطاب النقدي، تودروف, بارت, ايكو، ترجمة: احمد المديني، بغداد، 1986 م: 102
3- في اصول الخطاب النقدي الجديد: 108

حيث تتشكل العوالم الثقافية في ذاكرة الانسان العربي ممتزجة ومتداخلة في تشابك عجيب ومذهل)(1).

فالتأمل في طبيعة الثقافات النقدية العربية القديمة يعطينا صورة واضحة جداً لوجود أصول لفظة (التناص) فيه وقد اقتفى كثیر من الباحثین العرب المعاصرين اثر التناص في الادب القديم واظهروا وجوده تحت مسميات اخرى وباشكال تقترب بمسافة كبیرة من المصطلح الحديث ولما كان مفهوم التناص من المفاهيم الحديثة في الكتابات النقدية العربية, فقد ظهر اعتماداً على طروحات النقاد الغربيين وهنا يشار الى العديد من القضايا التي تطرحها (علاقة النصوص بعضها بالبعض الاخر من جهة، وعلاقتها بالعالم وبالمؤلف الذي يكتبها من جهة اخرى كما يطرح موضوع العناصر الداخلة في عملية تلقينا لأي نص وفهمنا له، وهو موضوع يشیر بالتالي الى اغلوطة استقلالية النص الادبي التي تتبناها بعض المدارس النقدية، والتي انطوت بدورها على تصور إمكانية أن يصبح النص عالماً متكاملاً في ذاته مغلقاً عليها في الوقت نفسه وهي امكانية معدومة إذا ما أدخلنا المجال التناصي في الإعتبار، واذا ما اعتبرناه مجالاً حوارياً في الوقت نفسه)(2)، إن هذا الطرح يجعل هذا المفهوم يتجاوز علاقات التناص التي تتشكل على اساسها النصوص الجدلية بغض النظر عن درجات واشكال هذا التناص الى دور الواقع الخارجي او العلاقة بین العالم والمؤلف الذي يكيف النص في اطار الرؤية التي يقدمها العمل الادبي الى الذات واللغة والعالم في هذا النص، وهو هنا يحاول الرد على اصحاب النظرية

ص: 50


1- ثقافة الاسئلة، مقالات في النقد والنظرية، عبد الله محمد الغذامي, النادي الادبي الثقافي، جدة، ط 2، 1992 م: 119
2- افق الخطاب النقدي: 58

البنيوية التي تعتبر النص بنية مغلقة على ذاتها ومكتفية بنفسها، وهناك من يؤكد (ان موضوع التناص ليس جديداً تماماً في الدراسات النقدية المعاصرة وإن بذوره تعود في الدراسات الشرقية والغربية الى تسميات ومصطلحات اخرى كالاقتباس والتضمین والاستشهاد والقرينة والتشبيه والمجاز والمعنى وما شابه ذلك في النقد العربي القديم فهي مصطلحات او مسائل تدخل ضمن مفهوم التناص وصورته الحديثة)(1). وهناك العديد من العرب المعاصرين الذين تناولوا التناص بالدراسة نظرياً وتطبيقياً، ويعد الناقد محمد مفتاح من الذين عملوا على تطور هذا المفهوم - اعني التناص - فقد حاول ان يعرض مفهوم التناص اعتماداً على طروحات (كرستيفا, وبارت) وفي تعريفه للتناص عرض آراء هؤلاء النقاد وغيرهم، ثم خلص الى تعريف جامع للتناص (هو تعالق الدخول في علاقة مع نص حيث يلتقيان بطرق مختلفة)(2) وكذلك في كتابه (دينامية النص) يعود ليعطٍي التناص تسمية جديدة هي الحوارية، ويحاول ان يستعمل هذا المفهوم في اطار منهج يستمد من البايولوجيا اغلب مصطلحاته ومفاهيمه، وفي كتابه الاخر “ المفاهيم معالم “ الذي حدد فيه ست درجات للتناص مخالفاً بذلك كرستيفا وجيني اللذين حددا ثلاث درجات له، وذلك بعد ان عرف التناص (باعتباره نصوصاً جديدة تحمل مضامین النصوص السابقة وتؤسس مضامن جديدة خاصة بها يستخلصها مؤول بقراءة ابداعية مستكشفة وغیر قائمة على استقراء او استنباط)(3).

ص: 51


1- التناص نظرياً وتطبيقاً، احمد الزعبي، مؤسسة عمان للنشر، 2000 م: 19
2- تحليل الخطاب الشعري، استراتيجية التناص, 1985 م: 121
3- المفاهيم معالم نحو تأويل واقعي، محمد مفتاح، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، بيروت، 1999 م: 41

وقد أُجرح مصطلح جديد للتناص سُمّي النص الغائب اذ (ان النص كدليل لغوي معقد او كلغة معزولة شبكة فيها عدة نصوص فلا نص يوجد خارج النصوص الاخرى او يمكن ان ينفصل من كوكبها وهذه النصوص الاخرى اللانهائية هي ما نسميه بالنص الغائب)(1)، والتناص (يحدث من خلال قوانین ثلاثة وهي الإجترار والامتصاص والحوار، ووضع للنص المتناص مرجعيات عديدة منها الثقافية والاسطورية والتأريخية والكلام اليومي)(2). ويحدد سعيد يقطین تسميات عدة يشتقها من النص والتناص مثل التفاعل النصي التناص الداخلي والخارجي ويحدد نوعین من التناص عاماً وخاصاً، فالتناص العام:

علاقة نصوص الكاتب بعضها ببعض والتفاعل النصي العام والتفاعل النصي الخاص (والتفاعل النصي الخاص يبدو حین يقيم نص ما علاقة مع نص اخر محدد وتبرز هذه العلاقة بينهما على صعيد الجنس والنوع والنمط معاً، التفاعل النصي العام يبرز فيا يقيمه نص ما من علاقات مع نصوص عديدة مع ما بينهما من اختلاف على صعيد الجنس والنوع والنمط)(3).

وتعريفات التناص كما بينها النقاد الحداثويون كثیرة ومتشعبة وكلها تدور حول جوهر التناص الذي يصب في النهاية في كونه تأثر نص بنص اخر، وتعتمد تقنية التناص على الغاء الحدود بین النص والنصوص او الوقائع او الشخصيات التي يضمنها الشاعر نصه الجديد حین تأتي هذه النصوص موظفة ومذابة في

ص: 52


1- حداثة السؤال، محمد بنيس، دار التنوير للطباعة، الدار البيضاء، 1985 م: 59
2- حداثة السؤال: 117
3- انفتاح النص الروائي، النص السياق، سعيد يقطين، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، بيروت، ط 1، 1989 م: 95

النص فتفتح آفاقاً اخرى دينية واسطورية وادبية وتاريخية عدة مما يجعل من النص ملتقى لأكثر من زمن وأكثر من حديث واكثر من دلالة فيصبح النص غنياً حافلاً بالدلالات والمعاني، ف (القصيدة باعتبارها عملاً فنياً تجسد لحظة فردية خاصة وهي في أوج توترها وغناها وهذه اللحظة تتصل على الرغم من تفردها بتيار من اللحظات المتراكمة الاخرى)(1) فالشاعر يتأثر بتراثه وثقافته ويبنى عليها شعره، فالتناص أمرُ لا مفر منه وهو موجود في كل نص شعري اذ (لا فكاك للانسان من شروطه الزمانية والمكانية ومحتوياتها)(2).

ولكن يبقى السؤال كيف نحدد مواطن التناص في نص ما؟، وكيف نعرف ان الشاعر قد استثمر بيتاً هنا او أسطورة هناك؟، والجواب إن تميز إشارات الشاعر وتلميحاته أمر نسبي؛ لأن ذلك يعتمد على معرفة المتلقي ومدى اتساع ثقافته فكل حضور ذهني لدلالة ما ونحن نقرأ نصاً، فان مرده الى التناص وعلينا حينئذ أن نبحث عن مصدر لذلك الصدى في مخزوننا الثقافي الخاص ومنه نتعرف على كيفية إستثمار الشاعر له.

في ضوء ما تقدم جاءت محاولتي لتحديد هذا المفهوم في ضوء مرجعياته، أن أدرسه في شروح نهج البلاغة التي اعتمدتها في بحثي - وان لم يسمه الشراح بهذا الاسم - فقد كانت ظاهرة بارزة دعتني الى أن أفرد لها فصلا كاملا تحت هذا العنوان وعلى النحو الاتي:

ص: 53


1- الدلالة المرئية، دعلي جعفر العلاق، دار الشروق للنشر والتوزيع، ط 1، 2002 م: 52
2- تحليل الخطاب الشعري استراتيجية التناص: 123

المبحث الأول تناص نهج البلاغة مع القرآن الكريم

لقد احتل القرآن الكريم مركزاً مهماً ومكاناً كبیراً في نفوس الادباء؛ وذلك لغنى اياته بمضامین لا تنفد, واسلوبه الفني المعجز، وبلاغته المشرقة حتى عد (في جميع الحالات اساس الحركية الإبداعية في المجتمع العربي الاسلامي وينبوعها ومدارها)(1) فضلاً عن احتوائه على قيم فكرية وتشريعات سامية, ولمّا كان من الثابت إن (علياً بن ابي طالب فذ من افذاذ العقل وهو بذلك قطب الاسلام وموسوعة المعارف العربية فليس من علم إلا وقد وضع أصله او ساهم في وضعه)(2) وعند قراءة خطبه (عليه السلام) نجد ان القرآن كان من اولى المصادر التي وظّفها في نصه؛ وذلك لقربه من القرآن منذ نعومة اظفاره، وحفظه له، واتقان قراءته إذ كان من مناهل ثقافته الأولى فهو (دستور شريعة ومنهاج امة، ويمثل في اللغة العربية تاج ادبها وقاموس لغتها، ومظهر بلاغتها وحضارتها ثم فوق ذلك طاقة خلاقة من الذكر والفكر يجد فيها الذاكرون والمفكرون لمسات سماوية تهتدي لها المشاعر، وتقشعر من روعتها الجلود كلما تدبرت معانيها

ص: 54


1- الشعرية العربية، اودنيس، دار الاداب، بيروت، ط 2، 1989 م: 42
2- الامام علي صوت العدالة الانسانيه، جورج جرداق مطبوعات دار الاندلس, النجف الاشرف، بيروت، لبنان, ط 1, 2010 م: 111

واستشعرت جلالها)(1).

لقد عد القرآن رافداً ومنهلاً للادباء، فاستثمروا طاقاته بما يدعم ويساند تجاربهم الادبية، ومواقفهم الفكرية وتبرز الوظيفة الاساسية للتناص القرآني في تأسيس لغة جديدة مشحونة بطاقات عظيمة تكسب النص رونقاً وثراءاً فنياً ولما كانت (ثقافة الامام هي ثقافة العالم المفرد والقمة العالية بین الجماهیر في كل مقام)(2).

إذ يجد القارئ حضور النص القرآني في نهج البلاغة، اذ كان من المصادر الاولى التي استنطقها الامام، وهنا نحاول الكشف عن مدى حضور القرآن الكريم ومعاني آياته ومفرداته وتراكيبه وجمله؛ لأجل الكشف عن دور النص الديني في تفجیر الطاقات والمواهب الادبية وتكثيف الدلالات والرؤى الابداعية، انطلاقاً من القيمة المعرفية للنص بوصفه نصا يحمل بلاغة وغنى في المعنى واللفظ واشعاعه بالطاقة والايحاء، وذلك من شأنه أن يُسهم في تقوية النص المتناص به وتجلية خباياه واثرائه ومنحه قيمة وفاعلية في نفوس المتلقین، فضلاً عن منحه صفة الديمومة والجمال الادبي، ومن ملامح عبقرية الإمام (عليه السلام) أن نجد (ذلك الذوق الادبي - او الذوق الفني - ملتقياً بسیرته لملتقى الفكر والخيال والعاطفة؛ لانه رضوان الله تعالى عليه كان اديباً بليغاً له نهج من الادب والبلاغة يقتدي به المقتدون، وقسط من الذوق مطبوع يحمده المتذوقون... فهو الحكيم

ص: 55


1- معجم الالفاظ والاعلام القرآنية، ابراهيم محمد اسماعيل، دار الفكر العربي، القاهرة، ط 2، 1966 م: 6
2- عبقرية الإمام علي، عباس محمود العقاد، دار الكتاب اللبناني، بيروت، ط 1، 1974 م: 148

الاديب والخطيب المبین)(1) لذا نجده (عليه السلام)، يحاول خلق عالم الابداع الفني بوساطة الاشتغال باللغة وآليات التصوير الفني الابداعي ليعيد صياغتها وتشكيلها وفقاً لتصور دلالي ولفظي خاص به، وهنا تتبین القدرة البالغة للإمام (عليه السلام) في وضع الالفاظ والتراكيب التعبيرية في مكانها الأمثل داخل النص الادبي، ويندرج التناص مع القرآن الكريم ضمن التناص مع النصوص التراثية الغائبة الذي يعني انفتاح النصوص على خارجها وامتلائها بخطابات شتى سابقة عليها وسمي هذا النوع من التناص ب (التناص الخارجي) الذي يعني (تداخل النص مع الكم الهائل من النصوص التي يمتلئ بها العالم)(2) فيشكل النص اللاحق النص السابق وفق رؤيته وتجربته حتى يصیر احد مكوناته تركيباً ودلالة.

لقد حمل الخطاب القرآني رؤى فكرية ومواقف اجتماعية وعقائدية، وضعت حداً للممارسات الجاهلية السلبية، كما تميز بالنظرة الشمولية والاستدلالات المنطقية والحجج البرهانية المصاغة باسلوب فني بديع، لذلك حطم القرآن الكريم عند نزوله سيادة الخطاب الشعري واضعاً محله خطاباً جديداً حمل الاسلام الى أصقاع الدنيا (وحفظ العربية من الضياع ونشرها في أقطار الأرض)(3) فلا غرابة بعد ذلك أن تعد المرجعية الدينية من الركائز الكبرى التي تستند عليها النصوص اللاحقة؛ لأنها تمثل المعتقد الذي يعتقده الفرد، اذ بفضل الايمان بما جاء به القرآن الكريم كانت هناك حركة التأليف اللغوي والديني والادبي التي

ص: 56


1- عبقرية الامام علي: 12
2- تداخل النصوص في الرواية العربية، حسن حمد حماد، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1997 م: 46
3- العصر الاسلامي، شوقي ضيف، دار المعارف بمصر، ط 10، (د. ت): 31

تزخر بها الحضارة الاسلامية، ودخل هذا الخطاب في ضمائر غیر المسلمين فلا أحد يستطيع الانتقاص من عظمته بل كان الأنبهار بإسلوبه ودقة تراكيبه (واذا كان المسلمون يعتبرون ان صوابية القرآن هي نتيجة محتومة لكون القرآن منزلاً ولا تحتمل التخطئة، فالمسيحيون يعترفون ايضاً بهذه الصوابية ويرجعون اليه للاستشهاد بلغته الصحيحة كلما استعصى عليهم امر من امور اللغة)(1)، ويعني التناص مع القرآن (التفاعل مع مضامينه وأشكاله تركيباً ودلالة وتوظيفها في النصوص الأدبية بواسطة آلية من آليات شتى، ويعد هذا النوع جزءأ مما يسمى بالتفاعل مع التراث الديني بانماطه المتعددة)(2)، مما جعل الإنتهال منه وإستلهام آياته أمراً مهماً, اذ تضمن الخطاب القرآني مواقف اجتماعية وعقائدية ورؤى فكرية تميزت بالشمولية واستدلالات منطقية مصاغة باسلوب أدبي جميل ومع كل ما فيه من هذه الشمولية نجد توجه النقد العربي القديم صوب الإعلاء من قيمة النص الجاهلي، وقد شايعهم في ذلك شعراء العصر الاموي في تقليد هذا النمط الجاهلي وغفلتهم عن النمط القرآني(3)، ولو التفت الادباء الى الحمولات المعرفية والمضامین الفكرية للنص القرآني لوجدوا فيه من الاساليب التي يمكن ان تحتذى وينسج على منوالها كالسرد القصصي وتاريخ الامم الغابرة، وهي من الامور التي تزيد في وفرة الذخیرة المعرفية للشاعر والاديب وبالنتيجة يترقى المبدع وتزداد

ص: 57


1- قصة الانسان، جورج حنا، دار العلم للملايين، بيروت، 1973 م: 79 - 80
2- التناص التراثي في الشعر العربي المعاصر، عصام حفظ الله واصل، دار غيداء للنشر والتوزيع، الاردن، الطبعة الاولى، 2010 م: 77
3- ينظر: الاثر القرآني في نهج البلاغة، دراسة في الشكل والمضمون، د. عباس علي حسين الفحام، مكتبة الروضة الحيديرية للرسائل الجامعية (4)، ط 1، 2010 م، لبنان، بيروت: 17

قدراته الابداعية)(1).

لقد شكل كلام الامام (عليه السلام) وخطبه مرجعية فكرية وتراثاً ضخماً يؤشر الطاقات الابداعية لهذه الامة وظهر ذلك بشكل جلي بامكانياته وقابلياته الفكرية في صوغ شتى المعاني، وكان القرآن الكريم معينه الذي لا ينضب اذ نهل منه شتى المعارف الانسانية(2) اذ كان الامام (عليه السلام) يخلط القرآن بذاته ويحوله الى منهج واقعي يتلاءم وذوق العصر وما يستجد فيه والى ثقافة متحركة لا يبقى داخل الاذهان، ولا في بطون الصحائف، انما تتحول اشكالاً واحداثاً تحول حظ سیر الحياة، فالقرآن لا يمنح كنوزه الا لمن يقبل عليه بهذه الروح، روح المعرفة المنشئة للعمل انه لم يجيء ليكون متاعاً عقلياً، ولا كتاب ادب وفقه، ولا كتاب قصة وتاريخ. وان كان هذا كله من محتوياته انما جاء ليكون منهاج حياة، وهذا ما تدبره الإمام علي (عليه السلام) عن القرآن الكريم فكان معه فكراً وعملاً(3)، فقد اقتفى الصياغة القرآنية وسار على نهجها وذلك من خلال اختيار اللفظة الأقدر على الإحاطة بالمعنى والاكثر إنطباقاً عليه. ولعل العلامة الفارقة التي ميزت كلامه (عليه السلام) هي طريقة استعماله للمفردة القرآنية الاستعمال المبني على اساس الفهم الواعي لّلفظة داخل النص القرآني؛ وذلك بسبب خصوصية الاستعمال اللغوي الخاص للقرآن الكريم ف (أن تكتسب وعياً

ص: 58


1- ينظر: تأريخ النقد الادبي عند العرب من العصر الجاهلي الى القرن الرابع الهجري، طه احمد ابراهيم، دار الحكم، بيروت، لبنان: 107
2- ينظر: اثر القرآن في الادب العربي في القرن الاول الهجري، ابتسام مرهون الصفار، دار الرسالة، ط 1، بغداد، 1974 م: 186
3- ينظر: الفلسفة والاعتزال في نهج البلاغة، قاسم حسين جابر، المؤسسة العالمية للدراسات، بيروت، ط 1، 1987 م: 37

صادقاً وأن تفاضل بین مبدأ التقييد والانتقاء وانطباعك الشخصي الحي وأن تكون لك معايیر ثم تطبقها بمرونة وحكمة ليس بالأمر السهل اليسیر)(1). لقد ابدى الامام قدرة لغوية وبراعة فائقة وذلك من خلال الاتيان بالفاظ قوية الايحاء والتعبیر وواسعة الخيال لينقل الصورة الى المتلقي بأقل الكلمات مع سعة في المعنى وتجلى ذلك واضحاً من خلال التناص مع نصوص تمتلك ثراء معرفياً وخصوبة عالية وفقاً لعملية قصدية واعية تندرج ضمن انتاجية التناص ف (نحن نسمع الكلمات مثلما نسمع صوت الرعد، لكن الكلمات تعكس تلك المظاهر الاخرى لها طبيعة مزدوجة فهي تحيلنا على ما هو كائن وراءها)(2) وهذا ماتبدى جلياً في نص الامام إذ شكل لوحة ابداعية تمتلك قدرة ايحائية، وذلك بالسيطرة على ادوات الفن ومقومات الصياغة ووسائل التعبیر الفني وظهر ذلك واضحاً في دقة استدعائه المرجعيات الثقافية التي منها القرآن الكريم (فلقد كان الاثر الحقيقي المبكر للقرآن في الكلام العربي على لسان علي عليه السلام فما وصلنا من كلامه المجموع من نهج البلاغة يعد من اظهر تجليات الاثر القرآني في الأدب العربي)(3) ومما يؤكد اثر المرجعية القرآنية في اسلوبه إذ (انه سعى جاهداً على تبيین هذه الثقافة في فكر الناس وذلك من خلال تأكيده على ضرورة اعتماد هذه الثقافة في التعامل الادبي وذلك باحلالها محل البناء اللغوي الجاهلي)(4) اذ يظهر على نسيج

ص: 59


1- خمسة مداخل الى النقد الادبي، مقالات معاصرة في النقد، ويبلرس سكوت، ترجمة وتقديم وتعليق: د. عناد غزوان اسماعيل وجعفر صادق الخليلي، دار الرشيد للنشر منشورات وزارة الثقافة والاعلام العراقي، 1981 م: 44
2- اساليب الشعرية العربية المعاصرة، د. صلاح فضل، دار الاداب، بيروت: 5
3- الاثر القرآني في نهج البلاغة: 29
4- المصدر نفسه: 30

النص عند الامام (عليه السلام) انه يستحضر مرجعياته الثقافية ويوظفها في نصه بحيث تبدو جزءاً من نسيجه اللفظي ف (ليس من الضروري بمكان ان تكون انشاءات الكاتب الأسلوبية على صورته من الناحية الظاهرية، لكن من الضروري للكاتب الحقيقي ان يكون العمق الفكري ماثلا في الحركة التحتية للنص)(1) من هنا سنحاول متابعة آليات التناص القرآني التي رصدها الشراح - وإن لم يسموه بذلك - في محاولة منهم للكشف عن مدى حضور النص القرآني الكريم ومعاني آياته ومفرداته وتراكيبه وجمله في نص الامام (عليه السلام) للوصول الى بيان دور النص الديني في تفجیر الطاقات وتكثيف الدلالات، ونقل الرؤى الإبداعية انطلاقاً من قيمة النص القرآني (إذ ان العمدة في الاعجاز اللفظي للقرآن الكريم في ان الفصاحة والجمال فيه مما اعجز الانسان العربي مع ان موضوع مطالبه كان يغاير الكلام المتداول في عصره، متعلقاً بعالم غیر هذا العالم ومع ذلك اصبح مفتتح عهد جديد للادب العربي بل العالمي، وقد تاثر به نهج البلاغة من هذه الناحية ايضاً كسائر الخصائص والصفات، فهو في الحقيقة وليد القرآن الكريم)(2) وفي هذا ندرك ملكات الامام (عليه السلام) في قوة احضار النص القرآني وقدرته على التصرف بالجملة القرآنية واعادة صياغتها طبقاً لموقفه الفنى (فطبيعة علي بن ابي طالب الشعرية كثیراً ما تحلق به في جو الخيال والشعر)(3).

إن التناص القرآني في نهج البلاغة الذي اشار اليه الشراح في تحليلاتهم لنص الامام (عليه السلام) تناول التراكيب والمفردات التي استحضرها الامام وادخلها

ص: 60


1- علي بن ابي طالب سلطة الحق، عزيز السيد جاسم، مؤسسة الزمان: 287
2- في رحاب نهج البلاغة، مرتضى المطهري، العتبة العلوية المقدسة، مكتبة الروضة الحيدرية: 30
3- عصر القرآن: محمد مهدي البصير، مطبعة النعمان، ط 2، بغداد، (د. ت): 34

في نصه مما أضفى مزيداً من الحيوية والقيمة التفاعلية التي اسهمت في إكساب المعنى عمقاً وتفاعاً خلاقاً جعله اكثر فاعلية في نفوس المتلقین ف (لا يكفي ان تكون للمرء مواهب عظيمة وانما ينبغي ان يعرف كيف يديرها)(1)، وهذا ما ظهر واضحاً في تعامل الامام (عليه السلام) مع النص القرآني اذ انه استلهم لغة القرآن وآياته وفحواها، ووظفها في بنية نصه، فأغنته دلالياً من خلال إنفتاحه على ممكنات أدبية، فأثمر هذا الإنفتاح رؤيا ذات دلالات إيحائية عظيمة، والإمام (عليه السلام) في تناصه مع القرآن الكريم حقق نوعین من التناص هما:

1. التناص الإمتصاصي 2. التناص الإشاري التناص الإمتصاصي:

التناص الإمتصاصي (هو أن يستلهم الشاعر مضمون نص سابق او مغزاه او فكرته، ويقوم باعادة صياغة هذا المغزى والمضمون او الفكرة من جديد بعد امتصاصه وتشربه، من دون ان يكون في النص الجديد حضور لفظي واضح او ذكر صريح للنص السابق)(2)، ويعرفه آخر بقوله: (وهو ان يتعامل النص اللاحق مع النصوص الاخرى بوعي حركي متجدد مع الاقرار بالاحرام والتبجيل لتلك النصوص والاعتماد عليها في رسم الهيكلية العامة للنص مع اختلاف في

ص: 61


1- خمسة مداخل للنقد الادبي: 43
2- التناص بين النظرية والتطبيق، شعر البياتي انموذجاً، د. احمد طعمة حلبي، وزارة الثقافة, الهيأة العامة السورية للكتاب، دمشق، 2007 م: 191

التفاصيل)(1) اي ان النص المنتج يتكئ على نصوص سابقة عليه يتميز بالتعالي النصي والكفاءة الادبية (وتتم عملية الامتصاص في حالة اعتماد التشرب والتحوير بین النص اللاحق والنصوص السابقة عليه وبذلك تكون النصوص السابقة هي المواد الخام التي يختار منها النص اللاحق ما يبغى تشكيله منها، وبهذا يتميز النص اللاحق عن النصوص السابقة بخصوصيته ومغايرته لها)(2) والحق ان الامام (عليه السلام) قد عُرِف بدقة الاستعمال القرآني للالفاظ حتى صار اسلوباً مطرداً لديه بسبب فهمه العميق ل (اللفظة القرآنية) داخل النص وتفاعلاتها مع المفردات الاخرى وهذا ما يبدو واضحاً من خلال ما تمثل به من نصوص، اذ يظهر عليها انها تمثلت النسج القرآني خیر تمثل فقد تمكن (عليه السلام) من امتصاص قوله تعالى: ((قُل لَّوْ كُنتُمْ فِی بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَی مَضَاجِعِهِمْ))(3) وتشربه في نصه ليعيد صياغته بقوله عليه السلام (فما ينجو من الموت من خافه ولا يعطي البقاء من احبه)(4) وبهذه العملية التناصية (يستمر النص السابق غیر ممحو ويحيا بدل ان يموت)(5) ونجد الثقافة القرآنية باوضح تجلياتها عند الامام في تناصه مع قوله تعالى: ((فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللهِّ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ

ص: 62


1- التناص في شعر العصر الاموي، د بدران عبد الحسين محمود، دار غيداء للنشر والتوزيع، عمان، ط 1، 2012 م: 48
2- المصدر نفسه: 48
3- سورة آل عمران: 154
4- شرح نهج البلاغة ابن ابي الحديد عز الدين ابو حامد عبدالحميد بن هبة الله المدائني الشهير بابن ابي الحديد، مؤسسة الاعلمي للمطبوعات، بيروت، لبنان: 2 / 462
5- ظاهرة الشعر المعاصر في المغرب، محمد بنيس، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ط 2، 1985 م: 253

الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا))(1) فقد اتكأ الامام على مضمون هذه الاية ليقول: (اوثق سبب اخذت به، سبب بينك و بین الله سبحانه)(2) فعمل الامام (عليه السلام) على تفكيك بنية النص القرآني اللغوية واعادة تشكيلها في بناء جديد وهي صياغة مختلفة لمضمون واحد، ولعل من مظاهر ملكاته (عليه السلام) في قوة احضاره النص القرآني وقدرته على التصرف بالجملة القرآنية واعادة صياغتها ما نلحظه في صوغه لقوله تعالى: ((يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا))(3) في ثوب جديد ليقول: (أعمال العباد في عاجلهم نصب اعينهم في آجلهم)(4) وهنا نلحظ الطاقة الدلالية الهائلة, والمقصدية التي توصل اليها النصان مقصدية واحدة, فقد اصبح النص اللاحق - نص الامام - يدور في فلك النص السابق - القرآن - دون ان يحيد عنه، ونلمس المقدرة العالية عند الامام (عليه السلام) في توظيف المرجعيات الثقافية والمخزون اللغوي وذلك ما تجلى بشكل واضح في استدعائه لقوله تعالى: ((عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا. إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ))(5) وهنا يُظهر الامام عبقريته الفريدة وتكوينه الفكري وقدرته الفنية من خلال استدعاء مرجعياته الثقافية الغائبة ليقول (فهو أمينك المأمون وخازن علمك المخزون)(6) اذ عمل (عليه

ص: 63


1- سورة البقرة: 256
2- شرح نهج البلاغة, لابن ابي الحديد: 16 / 283
3- سورة آل عمران: 30
4- شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد: 18 / 261
5- الجن: 26 - 27
6- منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة, العلامة الميرزا حبيب الله الهاشمي الخوئي (قدس سره,) ضبط وتحقيق علي عاشور, دار إحياء التراث العربي, بيروت, لبنان: 5 / 159

السلام) على شحن مفرداته ونصه بأفكار وفضائل حميدة مستوحاة من النص القرآني الكريم تبین معرفة الإمام بإشراقات وبلاغة القرآن الكريم واعجازه الاسلوبي العظيم؛ لأن (المحتوى الذي حملته ألفاظ الامام (عليه السلام) في نهج البلاغة يستند الى مرتكزات رئيسة مرتبطة ببنية التكوين الفكري لذهنية الامام (عليه السلام) والتي لا يمكن فصلها عن المضمون القرآني بحق)(1).

ثم إن الامام (عليه السلام) تمكن من إمتصاص قوله تعالى: ((مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا. وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا))(2) وأشار اليه بالاوصاف الاربعة (جنيناً وراضعاً ووليداً ويافعاً)(3) وهنا تظهر قدرة الامام (عليه السلام) الادبية والبيانية في استحضار النص القرآني الكريم والتوليد على اصله (فليس للنص وجود خارج صياغته بكل مستوياتها المختلفة)4 وفي نص يحمل من تجليات الجمال الادبي والفني الذي تحققت فيه درجة متقدمة من الادبية إستطاع الامام ان يتكئ على النص القرآني في قوله تعالى: ((وَإِن مِّن شَیْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ))(4) لينسج على غراره قوله (عليه السلام): (حتى اذا بلغ الكتاب اجله والامر مقاديره)(5) اذ يجد الناظر في نص الامام دقة استعمال اللفظ؛ نتيجة الاستخدام المميز والفني للغته اذ امتلك (عليه السلام) لغة فنية جسدت تجربة

ص: 64


1- الاثر القرآني في نهج البلاغة: 250
2- سورة نوح: 13 - 14
3- منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة: 6 / 27
4- البلاغة والاسلوبية، محمد عبد المطلب، مطابع الهيأة المصرية، القاهرة، 1984 م: 311
5- سورة الحجر: 21

متميزة تبغي الوصول الى كمال التعبیر، وهذا ما تحقق عنده اذ فاق اهل عصره في حسن معانيه وتهذيب الفاظه وذلك ماتجلى في المهارات الفنية والمباني الاسلوبية التي تكشف عن موهبته المعبرة الصادقة العميقة التي تحققت فيها غاية الكمال الفني، فمن أمثلة انتقاء المفردات التي تغني النسيج وتزيد في قيمته الفنية نقف عند قوله (عليه السلام) الذي حاول فيه الاتكاء على قوله تعالى: ((قَالَ رَبِّ إِنِّی دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً. فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَاراً))(1) اذ يقول (عليه السلام):

(واستنفرتكم للجهاد فلم تنفروا، واسمعتكم فلم تسمعوا ودعوتكم سراً وجهراً فلم تجيبوا)(2). يكشف هذا النص عن تفاعل الامام (عليه السلام) مع مفردات القرآن الكريم واستثماره لكنوزه المعرفية؛ ذلك انه إستطاع من خلالها ان ينتج دلالات عميقة غنية تمتلئ بمدلولات انسانية عميقة، يلحظ عليها جدة المعنى وجمال العبارة وقوة السبك، هذه المزايا وجدت طريقها الى النص عبر منظومة بلاغية وايقاعية واحدة على طول نهج البلاغة، اذ انتج الامام ابداعاً فنياً رفيع المستوى عد مصدراً ثقافياً متميزاً حمل جملة من الصور المعبرة عن الخصائص العقلية والفكرية والدينية والأدبية.

لقد إستنطق الامام (عليه السلام) النص القرآني في ضوء ما يمتلكه من ادوات معرفية تهيؤه لاعادة انتاج النص بشكل جديد اذ (ان نهج البلاغة من اكثر تجليات القرآن الكريم من الادب العربي، وان كلام الامام عليه السلام فيه من ارقى نماذج

ص: 65


1- سورة نوح: 5 - 6
2- بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة، محمد تقي التستري, مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع، ط, 1, 2011 م: 1 / 445

النصوص البلاغية في التعبیر الفني)(1) لذا عُدَّ نهج البلاغة مظهراً لثقافة واسعة؛ بسبب تنوع معارفه واشتماله على خصائص اسلوبية وجمالية في حدود نظام لغوي خاص يكشف عن تمكن الامام من ناحية اللغة وتطويعها لخدمة متصوراته الذهنية.

ففي محاولة منه لتمثل قوله تعالى: ((لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِی لَشَدِيدٌ))(2) إستطاع (عليه السلام) ان يحور المضمون القرآني ويعيد صياغته بقوله (ان لله في كل نعمة حقاً فمن ادّاه زاده منها، ومن قصر عنه خاطر بزوال النعم)(3) تبدت فاعلية التناص في امتصاص المضمون القرآني وتذويبه في النص فقد استثمر الامام الحمولة المعرفية للنص القرآني في سبيل تمرير رسالته و بالوقت نفسه توجيه المخاطب نحو فعل إنجازي معین، وهو هنا يريد من الانسان ان يشكر الله على ما انعم عليه باخراج ما بذمته من الحقوق المادية، اضافة الى الحقوق المعنوية فيما يتعلق بقضية الجوارح وما عليها من زكاة وهذا التناص لا يعمد فيه الامام الى التعامل مع النص القرآني تعاملاً صريحاً او مباشراً ومع ذلك نلاحظ الحضور المشرق له، اذ استطاع ان يفجر المدلولات القرآنية من خلال إستدعاء مضامينها او أن يستلهم لفظة او لفظتین وتوظيفهما في نصه بشكل ينم عن قدرته الفنية، فقد امتلك الامام ثروة لغوية هائلة وقدرة على التصرف بالتركيب والالفاظ إذ تكشف معطيات متن الامام (عليه السلام) النثري عن استعادته وتشربه لعمل ابداعي تمثل في جزء منه في استيعابه لمضامین النص القرآني ومفرداته وتراكيبه الاعجازية وصوره الايحائية، ومما لا شك فيه انه (عليه السلام) كان يمتلك مخزوناً كبیراً من الثقافة والعلوم والمعارف تمثل ذلك بالنصوص المرجعية المستودعة في

ص: 66


1- الاثر القرآني في نهج البلاغة: 508
2- سورة ابراهيم: 6 - 7
3- بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة: 10 / 210

الذاكرة، فحین نقرأ قوله عليه السلام (وانحيازكم عن حقوقكم)(1) ينقلنا الى قوله تعالى: ((إلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَی فِئَةٍ))(2)، لقد عانى الامام ما عانى من المجتمع المحيط به وهذا القول قد قاله في بعض ايام معركة صفین؛ لما لمسه فيهم من صفات تنم عن تخاذلهم، وقد استعمل الاسلوب الادبي غیر المنفّر (فكنّى عن اللفظ المنفر عدلاً عنه الى لفظ لا تنفیر فيه)(3)؛ ولذا صدق من قال في اسلوبه (اما من حيث الاسلوب فعلي بن ابي طالب ساحر الاداء والادب لا يكون الا باسلوب فالمبنى ملازم للمعنى)(4) ان انفتاح النص على عوالم النصوص المرجعية يغني النص ويدفعه لحالة من التواصل والتشابك مع نصوص عديدة ما يساعد على انتاج دلالات عميقة غنية تمتلئ بمدلولات انسانية.

التناص الإشاري:

ويقصد به: (أن يستحضر الشاعر نصا، ايا كان مصدره أو نوعه... عن طريق الاشارة... وغالبا ما يعتمد هذا النوع من التناص على لفظة واحدة او لفظتین)(5) ففي قول الامام (عليه السلام) (ألستم في مساكن من كان قبلكم اطول اعماراً)(6)، هذا المعنى أخذه من قوله تعالى: ((وَسَكَنتُمْ فِی مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ

ص: 67


1- شرح نهج البلاغة ابن ابي الحديد: 7 / 123
2- سورة الانفال: 16
3- شرح نهج البلاغة ابن ابي الحديد: 7 / 123
4- روائع نهج البلاغة، اختارها ورتبها وقدم لها بدراسة واسعة، جورج جرداق: 27
5- التناص بين النظرية والتطبيق: 181
6- شرح نهج البلاغة ابن ابي الحديد: 7 / 158

لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَال))(1) فقد استعرض الامام ثراء لغته التي يبرز فيها محفوظ ذاكرته من الفاظ وتراكيب وجمل وسياقات قرآنية وهذا ليس بغريب من علي بن ابي طالب (عليه السلام)؛ لأن من (شروط البلاغة التي هي موافقة الكلام لمقتضى الحال لم تجتمع لاديب كما اجتمعت لعلي بن ابي طالب عليه السلام، فانشاؤه مثل أعلى لهذه البلاغة بعد القرآن فهو موجز على وضوح قوي جياش تام الانسجام لما بن الفاظه ومعانيه واغراضه من ائتلاف حُلو الرنة في الاذن موسيقى الوقع)(2)، من هنا نلمس المكانة العالية لنص نهج البلاغة فنلحظ الجمال الاسلوبي المتفرد وذلك من خلال اختيار أصفى العبارات ويظهر ذلك جلياً في اشكال التفنن في الأداء الكلامي عند الامام (عليه السلام)، ففي قوله (واعظم ما هنالك بلية نزل الحميم وتصلية الجحيم)(3) اذ جعل الامام النص القرآني بؤرة مركزية فنية مولدة ينطلق منها؛ وذلك كونه منهلاً عذباً يزود الادباء والمنشئين بالفاظ وتراكيب عجيبة مما جعله يمتح من مظانه وينهل من ينابيعه الثرة فالامام (عليه السلام) في قوله السابق وظف بنية النص القرآني في قوله تعالى: ((وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِینَ الضَّالِّینَ. فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ. وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ))(4)، إذ يشیر الى المصر الذي ينتهي اليه المكذبون المنحرفون عن جادة الصواب، وقد جاء نص الامام متواشجاً مع النسيج القرآني موظفاً التناص الإشاري من اجل بلورة موقفه اتجاه وصف يوم القيامة ويلحظ على النص جمال السياق وحسن النسق وذلك في كلام بلغ من الحسن غايته فالإمام في (كل تجاربه الشخصية منطلقه

ص: 68


1- سورة ابراهيم: 45
2- روائع نهج البلاغة: 28
3- منهاج البراعة في شرح نهج البراعة: 6 / 30
4- سورة الواقعة: 92 - 94

من المفهوم القرآني للحياة والانسان وارتباطه بخالقه)(1) فهو بتناصه مع القرآن الكريم وينابيعه الثرة استطاع ان يلقي الضوء على قيم انسانية رفيعة، فالانسان في هذه الدنيا معرض لمختلف الامتحانات ومنها فتنة المال والاولاد وغيرها من متع الحياة الدنيا وهذا ما لاحظه الامام (عليه السلام) بقوله: (من إستغنى فيها فتن)(2) فقد وظف الامام التناص الاشاري مع قوله تعالى: ((إِنَّماَ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّه عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ))(3)، يشیر التناص السابق إلى انه توظيف بارع وقدرة فائقة في إلتحام النص عند الامام مع النص القرآني في علاقات سياقية منسجمة، فهو ذو عبقرية فريدة، وتكوين فكري، فضلاً عن قدرته الفنية في توظيف المرجعيات الثقافية والمخزون اللغوي على التعبیر والتصوير والإيحاء، ولعل من المصاديق على قولنا السابق قوله (عليه السلام): (غرارة غرور ما فيها فانية فان من عليها)(4)، في هذا النص وظف الامام بعض مرجعياته الثقافية الدينية وذلك بالاتكاء على قوله تعالى: ((كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ. وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ))(5)؛ لأن استحضار النص القرآني واستثماره يعد تأكيدا لعلاقة المشابهة ما بین المضمون في الخطاب القرآني ومضمون نص النهج، فالخطاب القرآني أشار الى زوال كل شيء ولابقاء إلاّ لوجه الله وحده، والامام سار على النهج نفسه ليؤكد هذه الحقيقة الناصعة، فهذه المعاني التي اشار اليها الامام تمثل احساسات ومشاعر مبثوثة في النفوس المؤمنة وليست مظاهر خارجية؛ لأن (قسط علي بن ابي

ص: 69


1- الاثر القرآني في نهج البلاغة: 250
2- منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة: 5 / 284
3- سورة التغابن: 9
4- منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة: 8 / 19
5- سورة الرحمن: 26 - 27

طالب من الذوق الفني او الحس الجمالي لمّا يندر وجوده وذوقه هنا كان المقياس الطبيعي الضابط للطبع الادبي عنده؛ لذا تميز ادب علي (عليه السلام) بالصدق كما تميزت به صياغته، وما الصدق الا ميزة الفن الأولى ومقياس الاسلوب الذي لا يخدع)(1)، ولعل من مظاهر القدرة الفنية عند الامام القدرة المبدعة والصورة الخيالية بوساطة التناص مع مضمون الخطاب القرآني بأجلى صوره بحثاً عن رؤية فكرية واسعة الآفاق، وهي ظاهرة تكررت كثیراً في المتن الادبي للامام (عليه السلام) استطاع من خلالها توظيف الحمولات المعرفية للنص القرآني؛ ليرسم بالتناص صورة تعبر عن طابع المعاناة الحقيقية للوجود الانساني مستمداً بواعث تلك الصورة من حتمية الموت وان لا مفر للانسان منه، ذلك ما اشار اليه (عليه السلام) بقوله: (ايها الناس كل أمرئ لاقٍ ما يفر منه في فراره)(2)، في هذا القول صورة معبرة عن استيعاب الامام للّغة القرآنية وتمثلها في نصوصه لتصبح عاملاً مهماً في اعطاء النص الابداعي ابعاداً عميقة في الرؤية الكلية للوجود، وهنا تحققت الجمالية الابداعية للنص الادبي للامام ضمن عمل فني متكامل أخذت بعض ألفاظه برقاب بعض بحثاً عن رؤية فكرية واسعة الآفاق، وتكشف القراءة المتأنية لقوله (عليه السلام): (وناظرة عمياء, وسامعة صماء, وناطقة بكماء)(3) عن تناصه مع دلالات ورؤى القرآن الكريم وجمالياته الابداعية فهو ناظر الى قوله تعالى: ((صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ)(4) فهذا التوظيف القرآني يكشف عن

ص: 70


1- روائع نهج البلاغة: 28
2- منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة: 9 / 112
3- بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة: 6 / 125
4- سورة البقرة: 18

ذوق مدرب قد اكتسب خبرة واسعة ويبدو ذلك جلياً من خلال الإتيان على جميع جزئيات المعنى المراد تصويره اذ يذهب (عليه السلام) الى افق فكري أعلى من خلال خلقه لمعنى لم يكن موجوداً من قبل؛ وذلك من خلال الوسائل التعبيرية التي تسهم في اتساع فضاءات الدلالة في النص ويتجسد ذلك في اشكال تعبيرية متنوعة تتميز بقوة الاداء وقدرة التأثیر في المتلقي لقد صور الامام (عليه السلام) في ادبه تجربة الحياة الانسانية بخيرها وشرها ف (لا يعد الاثر الادبي جيداً إلاّ إذا هدف الى ما يهدف اليه مجتمعه)(1)، وذلك ما تمثل بخطابه على طول نهج البلاغة فالألفاظ خزين هائل من التجارب البشرية فهي (كالقماقم أُغلقت سداداتها على شحنة من تجارب لا حصر لها اختزنها فيها الانسان على مر العصور)(2) ولعل قوله (عليه السلام): (أحب إليَّ من أن ألقى الله ورسوله يوم القيامة ظالماً لبعض العباد) لا يبعد عن المضمون أعلاه وهو في هذا يتناص مع الخطاب القرآني في قوله تعالى: ((رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَیَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ))(3) وبذلك تحقق التناص الإشاري في كلمة (أحب الي)، فالنصوص القرآنية قادرة على رفد الذاكرة بمعاني ودلالات ومعارف كثیرة، وإن إستلهامها ينتقل بالنص من العقم الى نص ملئ بالتجارب والحقائق، فضلاً عن الى جعل النص منفتحا دلالياً، ذلك إن القرآن الكريم لم ينل اي كتاب ديني او دنيوي سلطة تأثيرية في النفوس مثلما ناله، فهو الذي تحدى العرب أن يأتوا بمثله، وبذلك قضى على الخطاب الشعري السلبي وجاء بخطاب جديد هو الخطاب القرآني الذي نشر الاسلام في كل مكان.

ص: 71


1- في النقد الادبي: شوقي ضيف: 50
2- فنون الادب، تشارلتون، ترجمة زكي نجيب محمود: 36
3- سورة يوسف: 33

المبحث الثاني التناص مع الحديث النبوي الشريف

يعد الحديث النبوي الشريف المصدر الثاني من مصادر التشريع التي يأخذ بها المسلمون في حياتهم ويقرون بما جاء به، ولما كان الامام علي بن ابي طالب (عليه السلام) قد ربَّی في حجر الرسول ونهل العلم من معينه الزاخر و (أما علمه بالحديث فلا يشق له غبار وليس في ذلك ما يستغرب، وقد رافق الامام اطول زمن رافقه فيه مجاهد وصحابي فسمع منه ما سمعه الاخرون وما لم يسمعوه ويقال إن علياً لم يكن يروي من الحديث إلاّ ما سمعه بنفسه من الرسول؛ لأنه كان مطلق الايمان بان كلمة واحدة من حديث النبي لم تفت قلبه)(1)، وقد دأب الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) على توضيح ما في الحديث من فضائل وشمائل وسلوكيات وتشريعات إسلامية كثیرة كانت قد أُجملت ولم تُبین في القرآن؛ لذا شكلّ الحديث النبوي الشريف في المتن الادبي للامام علي (عليه السلام) مادة خصبة ومصدراً أساساً من مصادر ثروته الأدبية، فقد أخذ ينهل من معينه وكثیراً ما كان يستحضر بعض الفاظ الحديث النبوي الشريف موظفاً اسلوبه توظيفاً ادبياً فكان تفاعل الامام مع الحديث الشريف يجسد التناص الديني، ويعبر عن عمق

ص: 72


1- الامام علي صوت العدالة الانسانية: 192

إلمام الامام بمضامن الحديث النبوي الشريف فلم يكن تناص الامام مع الحديث مجرد إيحاءات (بل انه عملية إختراق مقصود للبنية اللغوية القارة في الذهن في شكل إشعاعات دلالية تجعل الماضي الجميل المستعار شعورياً أو لا شعورياً لخلق فضاء مضيء متداخل الدلالة, ولذلك فان الحضور الذهني المشترك بین اشارات النص التي يدركها المتلقي بعد أن يستوعبها المبدع هو الذي يقيم العلاقات وينتج الدلالات ويجعل النص بنية مفتوحة على الماضي وقارة في الحاضر)(1).

لقد إستوعب الامام (عليه السلام) مضامین ودلالات الحديث النبوي الشريف وطاقاته اللغوية الفنية وإستطاع أن يدمجها في نصه بشكل فني؛ بسبب إحتواء الحديث النبوي على حمولات معرفية وتجارب إنسانية وصور بلاغية ووفرة في المدلولات مما يزيد المتن الادبي للامام تجديداً وغنىً في المضمون, فاستطاع الامام (عليه السلام) إستحضار النص الغائب - أعني الحديث النبوي الشريف - وقام بتحويله واعادة انتاجه في سياق رؤيته الخاصة واستطاع بذلك أن يبني منه موقفاً جديداً، وتتجى فاعلية التناص فيه بوساطة التعبیر عن قيم انسانية رفيعة ترتبط بمدلول النص، وقد اشار الشراح في مواضع معينة الى تناص الامام مع الحديث النبوي الشريف ومن الامثلة على ذلك قول الامام (عليه السلام): (الداعي بلا عمل كالرامي بلا وتر)(2) في هذه الحكمة الرائعة للامام تأكيد على أهمية الافعال اذ لا جدوى من القول ما لم يقرن ذلك بتطبيق عملي يبرهن على القول، فالامام يتكئ على قول الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): (أحمق الناس من

ص: 73


1- ثقافة الاسئلة: 113
2- شرح نهج البلاغة لكمال الدين ميثم بن علي بن ميثم البحراني, المطبعة وفا, ط 1، 1427: 5 / 482

ترك العمل وتمنى عى الله)(1)، فقد عضّد الامام قوله مستنداً عى مرجعية فكرية أصيلة متمثلة بالحديث النبوي الشريف، وهنا حقق الإمام التناص الإمتصاصي وذلك من خلال إعادة الصياغة لمضمون الحديث النبوي الشريف.

ونجد الامام (عليه السلام) يستعمل قدراته الأسلوبية وفنيته التعبيرية فيوظف الحديث النبوي الشريف توظيفاً فنياً بارعاً، وهذا ما تمثل بقوله (عليه السلام): (وأمرك أن تسأله فيعطيك وتسرحمه ليرحمك)(2)، اذ إتكأ الامام (عليه السلام) على الحديث النبوي الشريف الذي يقول: (لا يزيد في العمر إلّا البر ولا يردُّ القدَر إلاّ الدعاء)(3)، وهنا أبدع الامام عن طريق تفجیر الطاقات الدلالية للحديث وإعادة تشكيله من جديد من خلال آلية “ التناص الإمتصاصي “؛ من اجل تعميق الموقف الفكري الذي يدعو اليه عن طريق انفتاحه على عوالم غنية بالدلالات والايحاءات الفكرية، وهنا تظهر براعته في الإفادة من التناص، فهو ياخذ ألفاظ النص الغائب ويعيد تمثلها متخذاً إياها وسيلة لخدمة النص الحاضر، فقد (بسط الامام المعرفة باسلوبه الخاص ومنطقه المعجز سهلاً ممتنعاً)(4)؛ لذا جاء كلامه في أعلى مراتب البيان, وأرقى أساليب الإعجاز, فنجده يرسل المعاني الدقيقة والأجوبة المُسكتة كل ذلك باسلوب مشرق قوي محمل بالحكمة ما ينبئ عن غزارة علمه وصحة تجربته وادراكه لحقائق الاشياء ذلك (إن الامام لم يتكلم في

ص: 74


1- المصدر نفسه, 5 / 482
2- بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة: 8 / 285
3- بحار الانوار، للعلامة محمد باقر المجلسي، تح السيد ابراهيم الميانجي، ط 2، دار احياء التراث العربي، بيروت، 1983 م: 77 / 168
4- ملامح من عبقرية الامام علي, مهدي محبوبة، العتبة العلوية المقدسة, قسم الشؤون الفكرية والثقافية: 27

الفخر أو الشعر وهي ساحات واسعة للخيال والوصف الفصيح ولم يقل ما قاله ليكون مقالاً جميلاً تضرب به الامثال فيبدي بذلك مهارته الفنية في الكلام. كلا اذ لم يكن الكلام هدفاً له بل وسيلة الى أهدافه إنه لم يرد أن يخلق لنا بمقالة أثراً فنياً او يبدي عبقريته الادبية)(1).

لقد تمكن الامام من استثمار آلية التناص الامتصاصي في قوله (عليه السلام):

(قارن أهل الخیر تكن منهم وباين أهل الشر تَبن)(2) فقد تمثل (عليه السلام) قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): (المرء على دين خليله وقرينه)(3) وامتصاصه واعادة تشكيله في نصه، وبهذا أضفى الامام على نصه طاقة تعبيرية ودلالية هائلة، وذلك لما يتصف به الحديث من ثراء ثقافي واسع وقيمة ابداعية متميزة.

لقد انتقى الامام (عليه السلام) المفردات التي تغني النسيج وتزيد في قيمته الفنية؛ لذا جاءت تناصاته حاملة لكثیر من الرؤى الروحية والفكرية والدلالية العميقة. وهذا ما بدا جلياً في تناصاته (عليه السلام) مع الحديث النبوي الشريف واللافت للنظر إن جلّ التناصات مع الحديث النبوي الشريف كانت بطريقة التناص الامتصاصي، هذا إن دلّ على شيء فانما يدلّ على استيعاب الامام (عليه السلام) لمضامین الحديث النبوي؛ وبذلك جاءت مذابة في نصه بشكل يؤشر ثقافته المتميزة في هذا المجال بالإضافة الى ثقافته الموسوعية الاخرى ذلك (إن الكلمة هي مرآة الروح الانسانية ولذلك فإن كل كلمة تتعلق بنفس العالم الذي

ص: 75


1- في رحاب نهج البلاغة: 30
2- بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة: 8 / 33
3- الكافي، الكليني، تح: علي أكبر غفاري, دار الكتب الاسلامية طهران ط 4: 21 / 642

ترتبط به روح صاحبها. فالكلمات تتعلق بعوالم عديدة تكون علامة على ذلك الروح الذي لم ينحصر في عالم واحد، وحيث ان روح الامام لا تتحدد بعالم خاص، بل هو ذلك الانسان الكامل الجامع لجميع المراتب الانسانية والروحية والمعنوية فلا تختص كلماته ايضاً بعالم واحد. ان من مميزات كلام الامام عليه السلام انه ذو ابعاد متعددة وليس ذا بعد واحد)(1).

ففي قول الامام (عليه السلام): (وامحض اخاك النصيحة حسنة كانت او قبيحة)(2). النص يرشد الى اداب جليلة توجب النصح للأخلاّء والأصدقاء ومن يطلبون المشورة، وهذا أدب رفيع، والامام في هذا القول يتكئ على قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): (أعن اخاك ظالماً او مظلوماً فان كان مظلوماً فخذ له بحقه، وان كان ظالماً فخذ له من نفسه)(3)، اذ تفاعل الامام (عليه السلام) مع الحديث النبوي الشريف واستطاع من خلال ذلك أن يبلور موقفه الفكري من خلال استلهام كلمات الحديث النبوي الشريف وتوظيفها في سياق حديثه؛ وذلك عن طريق استعمال اللفظة الموحية (فهي القياس الفني لتقدير قيمة اللفظ)(4) اذ يلحظ على اسلوب الامام انه يتخیر اللفظ الشريف والسبك المتین فيجعلها جزءاً من اسلوبه فكل نص من نصوص الامام يرتبط بسياق معرفي خاص به.

ص: 76


1- في رحاب نهج البلاغة: 28
2- بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة: 8 / 320
3- صحيج البخاري، ابو عبد الله محمد بن اسماعيل بن ابراهيم، ط 1، دار الفكر للطباعة بيروت، 1981 م: 3 / 98
4- الصورة الفنية في المثل القرآني، دراسة نقدية بلاغية، محمد حسين الصغير، دار الرشيد، بغداد، 1981 م: 25

وهو يمثل مضموناً فكرياً وثقافياً كبیراً ورصيد امة باكملها، مما يعطي للنص خصوصيته الابلاغية والاقناعية.

وفي قوله (عليه السلام): (ما اقبح الخضوع عند الحاجة والجفاء عند الغنى)(1) الذي يرشد الى آداب جليلة بان يكون الانسان على وتیرة واحدة من السلوك، وأن لا يخضع سلوكه لظروفه الذاتية؛ لأن ذلك محط ذم وتقريع، والامام في هذا يستثمر مضمون الحديث النبوي الشريف الذي يقول: (ما اقبح الفقر بعد الغنى، واقبح الخطيئة بعد المسكنة، واقبح من ذلك العابد لله ثم يدع عبادته)(2).

لقد حقق الامام في هذا النص التناص الاسلوبي مع قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لأن (الوظيفة التي يحققها التناص الاسلوبي تكمن في محاولته نقل المتلقي الى اجواء النص المستحضر كله بحيث يشعر المتلقي وكانّه أمام هذا النص مباشرة من دون ان يكون هناك وسيط بينهما، وذلك على الرغم من تباعد الزمان والمكان)(3). فنجد في قول الامام السابق (اسس الحياة حيث المجتمع الكامل في اوفى معنى واقصر تعبیر)(4). لقد جمعت كلمات الامام افصح لفظ الى اتم تركيب انها من مفاخر الادب العربي وقد شكلت هذه السمات قيمة فنية لا يمكن للنص ان يستغني عنها دون ان يفقد بعضاً من براعته الفنية إذ (يندمج الشكل بالمعنى اندماج الحرارة بالنار، والضوء بالشمس والهواء بالهواء، فما انت ازاءه الا ما يكون

ص: 77


1- بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة: 8 / 328
2- الكافي 2 / 84
3- التناص بين النظرية والتطبيق، البياتي انموذجاً: 216
4- ملامح من عبقرية الامام علي: 19

المرء قبالة السيل اذ ينحدر، والبحر اذ يموج)(1).

ونستطيع أن نتبین الالفاظ وسحرها وجمالها، فقد استطاع الامام (عليه السلام) بحسه اللطيف ان يؤشر المعالم الجوهرية في شؤون الحياة في محاولة منه للارتفاع بالجمهور الى المثل العليا تمشياً مع روح العصر ومقتضياته واستطاع من خلال ذلك ان يضع دستوراً لحياة عقلية خصبة بينة القسمات والملامح، وذلك في نظم حسن وتأليف مختار يدل على براعة صاحبه وجودته الفنية, اذ يلحظ المتلقي ان الامام (عليه السلام) ينشد الكمال في التعبیر مراعياً في ذلك حجم الظروف الفكرية والثقافية والاجتماعية المحيطة بانتاج النص ولعل خیر ما يجسد ذلك قوله (عليه السلام): (فليعمل العامل منكم في ايام مهله قبل ارهاق أجله وفي فراغه قبل أوان شغله، وفي متنفسه قبل أن يؤخذ بكظمه، وليمهد لنفسه وقدمه، وليتزود من دار ضعنه لدار اقامته)(2). لقد حاول الامام الاشارة الى جملة من المقدمات الاساسية بغية الوصول الى نتائج حتمية إذ إختارالوسائل اللغوية بشكل يتناسب والمضمون الفكري للنص الذي يحمل طابعاً خطابياً بلغ الغاية في الحسن والنهاية في الجودة، والامام في ذلك اخذ قوله من قول الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): (ايها الناس إن لكم معالم فانتهوا الى معالمكم وإن لكم غاية فانتهوا الى غايتكم، إن المؤمن بین مخافتین: بین أجلٍ قد مضى لا يدري ما الله صانع به، واجلٍ قد بقي لا يدري ما الله قاضٍ فيه، فليأخذ العبد من نفسه لنفسه ومن دنياه لآخرته، ومن الشبيبة قبل الهرم ومن الحياة قبل الموت، فوالذي نفس محمد بيده

ص: 78


1- روائع نهج البلاغة: 27
2- شرح نهج البلاغة ابن ابي الحديد: 6 / 413

ما بعد الموت من مستعتب وما بعد الدنيا من دار الا الجنة او النار)(1). تتبدى فاعلية التناص عند الامام في امتصاص قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو من ابدع ما قيل في هذا المعنى، (فكل نمط من أنماط كلامه شاهد له بالملكة الموهوبة في قدرة الوعي وقدرة التعبیر)(2)، لقد حاول الإمام (عليه السلام) في خطابه الوعي بالمشكلات الكبرى التي تهدد كيان الامة وسعى جاهداً لأن يضع الحلول الناجعة لتلك المشكلات وبذلك مثل خطابه أرقى مظهرا فكريا بوصفه نمط الابداع الامثل (فالشيء غیر الطبيعي الخارج عن العرف في اي عمل هو الذي يشد الانتباه اكثر من الاشياء الاخرى)(3) وهذا ما تجسد في خطاب الامام اذ انه يلتمس المعنى المصيب واللفظ المتخیر يقوده في ذلك بصر محكم تُميّز به المعاني والالفاظ بعضها من بعض، في قول يكشف عن سلوكية أخلاقية عالية في الإفصاح عن الحق وفي إجادة وصفه، فهو لايضل الطريق في الوصول الى المعاني الكبار.

لا شك أن توظيف النصوص الدينية يعد أنجع الوسائط الثرية المؤثرة التي تساعد على إظهار قوة النص ومتانته؛ بسبب طبيعة النص الديني وما يمثله من قدسية، وكذلك اهتمام الناس بهذا النص ومحاولة حفظه وتذكره، من هنا نلحظ الوجود الموضوعي والحضور الفاعل للحديث النبوي الشريف في نص الامام (عليه السلام)؛ لما له من قوة بلاغية تظهر تبعاً للمقامات التي يرد فيها

ص: 79


1- الكافي: 2 / 70
2- عبقرية الامام علي: 145
3- بلاغة النور جماليات النص القرآني: نفيد كرماني، ترجمة: محمد احمد منصور، محمد عجاج احمد عبد الغني، معوض محمد سالم يوسف، مراجعة سعيد الغانمي، منشورات الجمل: 147

اذ انه مميز بالإيجاز, وكثافة المعنى، وعمق الدلالة، ففي قوله (عليه السلام): (إن لك من دنياك ما أصلحت به مثواك)(1) قال ابن ابي الحديد (كلامه هنا مأخوذ من كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم: يا ابن ادم ليس لك من مالك الا ما اكلت فأفنيت، او لبست فابليت، او تصدقت فابقيت)(2) فقد اقترب النص في محموله الدلالي من قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في تركيب فني محكم وجمالية فائقة اثرت المحمول الفكري للنص، وقد تم التناص هنا على وفق آلية الامتصاص اذ قام الامام بتذويب النص النبوي الشريف وإعادة صياغته؛ نظراً لاهمية المحمول الفكري للحديث النبوي الشريف، فهو يؤكد على أهمية البذل في سبيل الله، وفي هذا اشاعة لروح التكافل الاجتماعي وهذا المغزى يغوص عميقاً في الوجود الانساني العام ويتبدى في مخزونات المعاني التي يحتوي عليها مضمون النص النبوي الشريف اذ يتبین من النص عمق إلتزامه بمصلحة الجماعة، وذلك من خلال التأكيد على استلهام الاخلاق الاسلامية.

في مقاربة لنص آخر للامام في الحكمة يقول فيه: (من يعط باليد القصیرة يعط باليد الطويلة)(3) والذي يعني به ان من ينفق في سبيل الله شيئاً بسيطاً فان الله سبحانه وتعالى يجزل عليه من العطاء أضعافاً كثیرة مما أنفق ولعل الامام (عليه السلام) اخذ المعنى من قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (اليد العليا خیرٌ من اليد السفلى)(4) وقد قال الشريف الرضي (هذا القول مجاز لانه صلى الله عليه

ص: 80


1- بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة: 8 / 329
2- صحيح مسلم، مسلم بن الحجاج ط 1، دار الفكر بيروت، د. ت، 8 / 211
3- بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة: 13 / 182
4- السنن الكبرى، النسائي تح: عبد الغفار سليمان البغدادي، دار الكتب العلمية بيروت، ط 1، 1991 م: 2 / 117

وآله وسلم اراد باليد العالية يد المعطي وباليد السافلة يد المستعطي ولم يرد على الحقيقة ان هناك عالياً وسافلاً وصاعداً ونازلاً وانما اراد ان المعطي في الرتبة فوق الآخذ؛ لانه المفضل والمحسن والمجمل، وليس هذا في معطي الحق وانما هو في معطي الرفد ومسترفده، وليس المراد انه خیرٌ في الدين بل المراد انه خیر في النفع للسائلين وانما كنى عن هاتین الحالتین باليدين؛ لأن الأغلب أن يكون بهما العطاء والبذل وبهما القبض والأخذ)(1)، ونلاحظ هنا ان الامام (عليه السلام) يلتمس المعنى المصيب واللفظ المتخیر يقوده في ذلك بصر محكم يميز به المعاني والالفاظ بعضها من بعض.

لاحظنا فيما مر بنا من كلام ان الامام (عليه السلام) يتكئ على مرجعيته الدينية المتمثلة بالحديث النبوي الشريف وقد ظهر من خلال البحث انه (عليه السلام) في خطابه يؤكد على حسن بيانه في صياغة الفاظه وكذلك ابتعاده عن الحوشي الغريب وقد كان خطابه (عليه السلام) قد شكل الميادين الحقيقية للتفكیر لدى الانسانية جميعاً فهو يلامس القلب بواقعيته؛ ذلك ان التجربة اللغوية في عالم نهج البلاغة تجربة غنية تتعامل مع اللغة من موقع العالم العارف لا من موقع المتعلم الذي يجهل الفروق الدلالية بین المفردات التي يوظفها في خطابه فقد استثمر الامام الحمولة المعرفية للنص القرآني والحديث النبوي الشريف في سبيل تمرير رسالته الانسانية، وبالوقت نفسه استطاع من خلال ذلك ان يوجه المخاطب نحو فعل انجازي معین من منطلق تسانده المعرفة اللغوية الواسعة والذوق السليم والحس المرهف؛ لذا كان خطابه يحمل مضموناً فكرياً وثقافياً عالياً ف

ص: 81


1- بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة: 13 / 182

(اذا كان النص يعيد توزيع اللغة وهو الفضاء الذي تقع فيه عملية توزيعها فان احدى الطرق التي يتم بها هدم اللغة هي مبادلة النصوص او شذرات النصوص التي وجدت او ما زالت توجد حول النص الذي اندرجت فيه اذ ان كل نص بالضرورة هو نص متداخل نص تتداخل في انحائه نصوص اخرى، في مستويات متغیرة واشكال تتعرفها، ولا تتعرفها على الاطلاق)(1)؛ وبذلك فان المتن الادبي للامام (عليه السلام) ينفتح على القرآن الكريم وعلى الحديث النبوي الشريف، فالابداع لا يمكن ان يعتمد على المبتكر وانما هو ايضاً (انشاء وجود جديد من اشياء سابقة في الوجود)(2)، ومع ذلك يبقى التناص عملاً ابداعياً وليس إتباعياً ومن ثمّ فهو تعبیر عن الذات المنتجة.

ص: 82


1- تداخل النصوص في الرواية العربية، حسن حمد حماد، الهياة المصرية العامة للكتاب, 1997 م: 28
2- ازمة الابداع في الفكر العربي المعاصر، محمد عابد الجابري، مجلة فصول، العدد 3، 1984 م: 25

المبحث الثالث التناص الذاتي

قد يتناص المبدع مع نفسه من خلال نصوصه، كما يستطيع ان يتناص مع نص واحد فقط لمبدع آخر او نصوص اخرى لادباء اخرين، وقد تكون عملية التناص بین جنسین ادبيین او على مستوى جنس ادبي واحد، فالتناص يرتكز على مبدأ الشكل والمضمون ولا يقف عند حدود احدهما، ولكن يؤخذ بنظر الاعتبار ان التناص قد يكون شكلياً لا مضمونياً والعكس صحيح دون التلازم بينهما؛ لأن الاديب في تكوينه المعرفي لا يمكن ان ينفصل عن غیره بل هو عبارة عن تراكمية معرفية ف (كل انسان يعيش داخل مجتمع يكون نصف ما يتلفظ به على الاقل من كلام الاخرين)(1)؛ لذا صار الاديب ومعه النص الادبي عبارة عن بناء متعدد القيم والاصوات اذ تتوارى خلف كل نص ذوات اخرى غیر المبدع من دون حدود او فواصل؛ وبذا يكون النص الجديد هو إجترار لنصوص سابقة لا يتسنى معرفتها الا من ملك الخبرة والمران في هذا المجال وذلك من خلال المداومة على قراءة النصوص عالية الابداع التي تحتوي على القيم الجمالية التي ينبغي ان تتوفر في العمل الادبي ويشترط النقاد التجاوز للنصوص التي يتناص معها النص والاّ لا يُعد العمل الادبي ابداعاً بل يصبح اتباعاً ويقصد بالتناص الذاتي (التفاعل القائم

ص: 83


1- الخطاب الروائي: ميخائيل باختين: 94

على تعالق نصوص المؤلف والشاعر فيما بينهما... وبذلك يصلح التناص ان يكون سمة وصفية للاسلوب)(1) ويكون الناتج الجمالي من امتزاج النصوص المتناصة وذلك من خلال استدعائها من الذاكرة القرائية للمنتج، و تأتي التناصات حاملة للكثیر من الرؤى الروحية والفكرية والدلالية التي تجعل النصوص تنفتح على افاق متعددة من الرؤى والدلالات التي يجدها المنتج من خلال تفجر الطاقات الدلالية للنصوص المخزونة في الذاكرة القرائية التي تنفتح على القيم الابداعية لتلك النصوص المستدعاة.

وهناك عوامل مشتركة تجعل من التناص الذاتي (ظاهرة لا يخلو منها ديوان شاعر او مؤلفات اديب ولعل من ابرز تلك العوامل هي الذاكرة والخيال والشعور والعاطفة)(2). اما خطاب الامام (عليه السلام) فنجد ان هذا النوع من التناص مجسد في خطابه، اذ ان هناك تقارب مضموني بین النصوص، فقد يحدث ان تلتقي النصوص في الجو العام الا انها تختلف، فهناك وحدة في الاسلوب واختلاف في مضمون الخطاب, وقد يحدث تناص اسلوبي احياناً لكن المضمون يختلف تماماً، ولعل هذا ما نجده في اسلوب القرآن الكريم اذ (ان الالحاح على بعض الموضوعات دون غيرها يعود الى الحيز الذي تشغله في ذاكرة المنتج فتكون مرشحة للاستدعاء والتذكر اكثر من غيرها وتتشعب في نصوص كثیرة سواء قصد المنتج ذلك ام لم يقصد)(3) وهذا ما تجلى بشكل لافت للنظر في خطاب الامام علي (عليه السلام)؛ نتيجة لتأثره بنسق الخطاب القرآني اذ ان القرآن الكريم

ص: 84


1- التناص في شعر العصر الاموي: 238
2- التناص في شعر العصر الاموي: 239
3- المصدر نفسه: 239

يعمل على تكرار وحدات تركيبية متشابهة لكن مؤدى القول يختلف من موضع لاخر, فمثلاً ان في ذلك لايات لقوم يتفكرون، ان في ذلك لايات لقوم يعقلون، افلا يؤمنون، افلا يعقلون، هذا التغاير عند الامام يكشف عن تربية قرآنية (اذ كان الاثر الحقيقي المبكر للقرآن الكريم في الكلام العربي على لسان علي عليه السلام فما وصلنا من كلامه المجموع في نهج البلاغة يعد من اظهر تجليات الاثر القرآني في نهج البلاغة)(1)، ولما كان البعد الرسالي هو مقصود القرآن الكريم ومقصود نهج البلاغة، فلا مشاحة من تكرار الكلام اذا كانت هناك غاية من وراء هذا التكرار والبعد الغائي هو الذي حرك الامام، اذ ان هذا التكرار الحاصل لوجود الإختلاف في الظرف الموضوعي لقول النص, مثل هذا الامر يلحظ في البعد الرسالي.

اما الجانب الاخر فهناك فرق بین النص والخطاب، فالنص هو الوحدة الكلامية اما الخطاب فهو النسق الكلي الذي يحكم المنظومة الكلامية، اي قراءة النص ضمن نسقه، لكن بقراءته ضمن الخطاب يختلف المقصد، فالنص هو المكتوب، اما الخطاب فهو المفعل في الخارج على سبيل المثال قول الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): (المسلم من سلم المسلمون من يده ولسانه)(2) في مورد هناك اعتداء واقعي وكان الخطاب موجه الى شخص اساء فنقول له (المسلم من سلم المسلمون...).

انت لم تلتزم وفي مقام عدم وقوع هذا الفعل فالقول رسالة تحذير، اما في مقام

ص: 85


1- الاثر القرآني في نهج البلاغة: 29
2- صحيح البخاري: 1 / 8

رواية الحديث فهو إخبار عن امر واقعي اذ نلحظ ان دلالة النص تغیرت بحسب الخطاب، اذ ان تفعيل النص على مستوى ظرفه الاجتماعي قد أحدث تغیراّ دلالياّ في خاصية الخطاب، فالقرآن الكريم يكرر بعض المقاطع إلا إنّه بالرغم من وحدة النص فإن التبئیر يختلف، ويقصد (بالتبئیر جعل العنصر او المكون بؤرة في اللسانيات التداولية قبل ان ينتقل الى ميدان الرواية والنقد الروائي وبهذا يتم عرض النص عن طريق وسيط وضمن منظور معین او بالاحرى من وجهة نظر معينة ويقوم الراوي بالتعبیر عن هذا النص وقد اطلق جیرار جنيت على هذه الواسطة التي يتم عرض النص عن طريقها ب (التبئیر)(1) وفي ضوء هذه الرؤية قد تكون الموارد متشابهة الا ان منطقة التبئر تختلف ويمكن ان نلحظ هذه القضية بشكل واضح في القصص القرآني كتكرار قصص موسى في القرآن مثلاً، اذ ان منطقة التبئیر هي مرتكز الحدث، واختلافها يغیر النص ومن ثمّ يمكن القول:

انه بالرغم من وحدة اللفظ الا ان النص تغیّر من مكان الى مكان اخر؛ لأن التفعيل الاجتماعي للنص يؤدي الى تغیّر وضع النص، وكذلك التركيز على منطقة التبئیر ومن كل ما سبق نستطيع القول (ان التناص ظاهرة انسانية ولدت مع آدم ولن تنتهي إلاّ بفناء الوجود، فهي حوار مستمر بین الانا وبین الاخر، باشكال مختلفة وطرائق متباينة تخضع لسلطة التراث وذوق العصر، ودينامية العصر الذي تنتمي اليه)(2) وهذا ما سلكه الامام في خطابه اذ عمل على (اثارة القيم الانسانية

ص: 86


1- بنية النص السردي من منظور النقد الادبي، حميد لحميداني، المركز الثقافي العربي للطباعة والنشر, ط 1: 46
2- التناص، دراسة في الخطاب النقدي العربي، سعد ابراهيم عبد المجيد، دار الفراهيدي للنشر والتوزيع، ط 1، 2010 م: 89

المرتبطة بالمجتمعات وسعادتها)(1) وقد تميز بطريقة فنية عالية في طريقة العرض وجودة الأسلوب كما تميز بالحكمة وخصوبة الخيال الذي استطاع من خلاله ان يحقق أعلى نسبة من التحول او الإنحرافات النصية التي تمنح اللغة طاقة إضافية تبعث على الإدهاش ولا غرابة في ذلك، فالامام (عليه السلام) (تلميذ للقرآن الكريم يستوحيه في عرفان اسلامه، وتقرير ايمانه فكانت نظرته الى الخلق والخالق نظرة قرآنية يبتكر ما شاء ابتكار التلميذ عن الأستاذ)(2)، اذ كان القرآن الكريم في مستوى فني بلغ اعلى مراحله وابدع صوره وهوأمر تأثر به الامام (عليه السلام) كثیراً في تعبيراته، ففي قوله (عليه السلام): (فاقبلتم عليَّ إقبال العوذ المطافيل على اولادها)(3). إستعار الامام (عليه السلام من واقعه ما يجسد حالته النفسية ومن عادة العرب أن يستعيروا من بيئتهم صورهم وتشبيهاتهم مناسبين ومقاربین بین المشبه والمشبه به، اذ شبه شوق الناس لبيعته بإبل عطاش معها أطفالها وهي قريبة العهد بالنتاج، كيف تقبل على اولادها وهو نظیر قوله في سابقه: (فتداكو عليّ تداك الإبل الهيم يوم ورودها قد أرسلها راعيها وضلعت مثانيها)(4)، فقد شبه الناس بابل عطاش مخلاة السراب، مطلقة العنان يوم سقيها كيف ترد الماء؟ وهنا تظهر القدرات الفنية عند الإمام (عليه السلام) في إستعمال الصورة، والتي حاول بوساطتها أن يعبر عن علاقة الظاهرة الأدبية بالواقع التاريخي والظرف السياسي الذي عاشه الإمام وقد كان بارعاً في صنع الصور والتشبيهات وجاء في ذلك راصداً

ص: 87


1- ملامح من عبقرية الامام علي: 23
2- عبقرية الامام علي: 42
3- بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة: 9 / 387
4- المصدر نفسه: 9 / 387

للحوادث التاريخية وتبدت فاعلية التناص الذاتي هنا معبرة أدق تعبیر عن مغزى عميق ودلالة واسعة اذ استطاع تعرية الواقع وفضح أساليب الجماعة المحيطة به وما آلوا إليه من ضعف وتشرذم وانهزام. وكان هدفه (عليه السلام) من ذلك التأثیر في الوعي الإجتماعي، اذ ان (وعي المجتمع بهمومه بداية فعل التغیر وعتبة النهوض التي يستغلها كل مبدع)(1)، وقد كان استعمال الامام للتشبيه استعمالا مبدعاً يدل على قدرة عالية للنفاذ الى حقيقة الأشياء، وقد كانت المقومات التناصية تشیر الى ان النصین متناصان في اغلب الوجوه، اذ اكد النص الثاني مقصدية النص الاول وجاءت صور الإمام لتجسد البيئة الطبيعية التي يعيش فيها الإنسان في ذلك الوقت متمثلة بحيواناتها البرية ونلاحظ ان الجمال في نص الإمام يبرر وجوده بشكل لافت للنظر. وفي قوله (عليه السلام): (إنك لم تعرف الحق فتعرف من أتاه ولم تعرف الباطل فتعرف من أتاه)(2).

ان هذا القول من الامام كانت تحتمه ضرورة تاريخية اذ انه عاش في ظروف حتمت عليه ان يقول مثل هذا القول بسبب الظروف السياسية المحيطة بالامام التي اختلفت فيها الامور على بسطاء الناس وقد وصف كلامه بأنه في غاية النفاسة وهو يتناص مع قوله (عليه السلام): (لا تنظروا الى من قال وانظروا الى ما قال)(3)؛ لأن الناس في ذلك الوقت يجعلون الرجال ميزان الحق والباطل، والواقع ان العكس هو الصحيح مما دعا الامام الى ان يؤكد هذا الامر، ولعل في قوله

ص: 88


1- الحداثة في الشعر اليمني المعاصر: عبد المجيد سيف احمد الحسامي، الجمهورية اليمنية، وزارة الثقافة والسياحة، صنعاء، (د. ط)، 2004 م: 144
2- بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة: 9 / 435
3- المصدر نفسه: 9 / 435

(عليه السلام) الاخر فيه إشارة إلى معنى عزل الادب عن منشئه، وهذا الرأي الذي قالت به البنيوية اي موت المؤلف، ومن ثم فان الامام قد سبق اصحاب هذه النظرية فيما قالوه بمدة طويلة. لقد حاول الامام من خلال هذا الخطاب ان يعبر عن مكنونات نفسه وموجات انفعالاته العاطفية تجاه ما يحدث في هذا الواقع، وان ملفوظه الثاني يتواشج دلالياً مع الملفوظ السابق ويؤازره، ويدعم فكرته ويكشف عن تناص مضموني بین النصین وقد كانت منطقة التبئیر في النص قضية الحق وما يتعلق به وكيفية الوصول اليه وقد كرر الامام هذا القول لظروف موضوعية حتمت هذا التكرار، وهنا نلحظ السر في تعالي نص الامام؛ بسبب طاقته الايحائية و لما توافر فيه من سمات ادبية جعلته مدار الحسن والتمييز الادبي.

لقد تمكن الامام (عليه السلام) من تنشيط الذاكرة القرائية فهي (تعد المخزن الذي تجتمع فيه المعارف الذاتية كافة وهي الوثيقة التي تسجل التجارب التي تمر بها حياة الفرد وهي تؤثر عليه في السلوك والاقوال)(1).

والامام يرسم بالتناص السابق صورة تعبر عن طابع المعاناة الحقيقية التي كان يعيشها (عليه السلام) مع المجتمع، فضلاً عن ذلك نلحظ انه (عليه السلام) كان واعياً لدور النصوص في عملية صياغة وانتاج دلالة التناص الذاتي لديه ظل شعاعه الابداعي والخيالي وهّاجاً ومتميزاً بما ادخله من انماط التصرف والابداع الفني والجمالي, من هذا نقول ان التناص (ظاهرة عامة تحكم مجمل البنية الثقافية

ص: 89


1- التناص في شعر العصر الاموي: 239

للخطاب الانساني)(1)، وهذا ما تجلى بشكل واضح عند الامام (عليه السلام) ففي قوله: (الذليل والله من نصرتموه، ومن رمى بكم فقد رمى بأفوق ناصل)(2) هو نظیر قوله عليه السلام: (المغرور والله من غررتموه ومن فاز بكم فقد فاز والله بالسهم الاخيب ومن رمى بكم فقد رمى بأفوق ناصل)(3)، تكشف القراءة المتأنية للنص عن وجود (التناص الاقتباسي الجزئي الذي يقوم على اقتباس بعض المفردات او الكلمات او اشباه الجمل او الجمل غیر التامة؛ لان اي نص او جزء من النص لهو دائم التعرض للنقل الى سياق اخر، في زمن اخر، فكل نص ادبي هو خلاصة تأليف لعدد من الكلمات، والكلمات هذه سابقة للنص في وجودها كما انها قابلة للانتقال الى نص اخر وهي بهذا كله تحمل معها تاريخها القديم والمكتسب)(4).

فالامام (عليه السلام) إستطاع ان يعيد بعض الملفوظات من النص السابق، ليعبر عن ابعاد عناها واهداف توجه اليها ليعمق دلالته في نصه بما يخدم فكرته التي يسعى لها من اجل رسم الصورة الحقيقية للمعنى في ذهن المتلقي وقد كشفت طلائع النص عن اعلى درجات الاستياء عند الامام، والنص يرتكز على هذه القاعدة في استثمار هندسته بین الانا والاخر، بدا كل ذلك من خلال ملمح

ص: 90


1- الاتجاهات الشعرية الحديثة، يوسف محمد جابر، رسالة ماجستير، كلية الاداب، جامعة بغداد، 1995 م: 166
2- بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة: 10 / 437
3- المصدر نفسه: 10 / 328
4- الخطيئة والتكفير من البنيوية الى التشريحية, نظرية وتطبيق، عبدالله الغذامي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب العربي، ط 6، 2006 م: 52 - 53

الاسلوب الذي يقود الى الكشف عن مغزاه, وهنا تتبدى مضنة الابداع وميدان الاقتدار عند الامام (عليه السلام). واللافت للانتباه ان العلاقة ما بین النصین متوافقة ومتشابهة في دلالتها على مضمون واحد وقد تجلت فاعلية التناص بقبول النص الغائب واعادة بنائه بسياق لغوي جديد متكئاً في ذلك على عنصر الاتفاق والتطابق. اما قول الامام (عليه السلام): (انفرجتم عن إبن أبي طالب إنفراج المرأة عن قبلها)(1). الامام (عليه السلام) في معرض الذم لاصحابه وقريب منه قوله (عليه السلام): (وايم الله اني لأظن بكم ان لو حمس الوغى واستحر الموت قد إنفرجتم عن ابن ابي طالب انفراج الرأس)(2)، ان ملفوظ الامام هذا يحيل الى قوله السابق وقد تحقق بین النصین تناص في كلمة (انفراج)، ان هذه النصوص جاءت تعبیر عن الذات المنتجة، وقد كان استعمال الامام للتشبيه استعمالا مبدعاً لّلغة فهو يزود المتلقي بقدرة عالية للنفاذ الى حقيقة الاشياء، ومن خلال فحص شبكة الصور الفنية في نصه (عليه السلام) نلاحظ ابتداءً من الناحية البيانية سيادة اللون التشبيهي على ما عداه من الوجوه في التناصات التي تناولناها آنفاً ومع ما نلاحظه على نسيج النص من انه (عليه السلام) لم يقصد الى الاهتمام بالصفة البيانية والزخرفة اللفظية إذ كان همّه الشاغل أداء معانيه ما امكنه الى ذلك سبيلاً مما جعله يكرر عناصر لغوية بشكل لا شعوري، لتؤدي في النهاية الى تقوية السياق استجابة لحاجة النفس والوجدان باذلاً في سبيل ذلك جهداً ذهنياً وتأملاً فكرياً، فالنص حقل لانتاج الدلالات ومركز يطفح بشحنات شعورية وبوتقة لخلفيات فكرية وفلسفية معاً بحثاً عن معنى يبغى المرسل ايصاله الى المتلقي (فالنص

ص: 91


1- بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة: 10 / 450
2- بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة: 10 / 450

الابداعي الحقيقي هو الذي يتمثل في بنائه النصوص السابقة عليه وتجاوزها طارحاً قوانينه الخاصة التي يعاد توظيف النصوص القديمة من خلالها)(1) سواء أكان توظيفها قصدياً ام عفوياً، ففي قوله عليه السلام: (في تقلب الاحوال علم جواهر الرجال)(2) يلاحظ انه (عليه السلام) يتناص مع قوله السابق: (الولايات مضامیر الرجل)(3) الذي يقصد به: (ان الرجال لا تعرف الا من خلال وضعها على محك التجارب كأن تعطى سلطة او ما شابه ذلك من الامور التي تكشف عن دواخلها)(4) هذا وقد خالف التستري ابن ابي الحديد فقال: (والمراد منه ان في بعض الناس غرائز كامنة لا تظهر الا بالحوادث المتجددة والاحوال المختلفة)(5)، وقد جاءت الحمولة المعرفية للنصین لتعبر عن التجربة الانسانية الشاملة، وتبدى ذلك من خلال المعاني التي يحتويها مضمون النصین، هذا وقد تحقق بین النصین التناص المضموني, ومن ثم فان نصوص الامام (عليه السلام) (تهدف الى غايات محددة سلفاً يتقصدها)(6) وهذا ما تكشف عنه مخزونات المعاني التي يحتويها مضمون النص (وتلك ميزة نادرة ينفرد بها علي عليه السلام بصورة ملموسة...

ص: 92


1- إشكاليات القراءة وآليات التاويل، نصر حامد ابو زيد، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، بيروت، ط 4، 1996 م: 275
2- بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة: 14 / 318
3- المصدر نفسه: 14 / 318
4- المصدر نفسه: 14 / 318
5- المصدر نفسه: 14 / 318
6- استقبال النص عند العرب، د. محمد رضا مبارك، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، لبنان، ط 1، 1999 م: 113

وهو دليل على الفعالية الخارقة لعقل مبدع موهوب)(1) وهذا ملمح اسلوبي واضح نجده على طول النهج ففي قوله (عليه السلام): (العفو زكاة الظفر)(2).

النص يؤكد على قيمة أخلاقية عالية وقد تميز بالتكثيف العالي والايجاز، فهو يقدم خلاصة مركزة لقانون حياتي وهذا من طبيعة النصوص الادبية الابداعية التي تسعى الى خدمة الاغراض والقيم الانسانية النبيلة؛ وبذلك (يتفاوت الكتاب في مستويات الابداع، وتبعاً لذلك تتفاوت النصوص فيما تملكه من طاقة تعبيرية ومن جمالية اسلوبية)(3)، فالنص السابق للامام (عليه السلام) حقق تناصاً ذاتياً مع قوله: (إذا قدرت على عدوك فاجعل العفو عنه شكراً للقدرة عليه)(4). وقد تحقق بین النصین التناص الذاتي المضموني وقد جاء المعنى مكثفاً وفي نهاية الايجاز، فقد حمل نصه ثراءاً ثقافيا واسعاً وقيمة ابداعية متميزة، وهو ما أدى الى (تكثيف المعطى الفني والتعبیر بدقة لغوية مركزة عما كان مضطراً الى شرحه والاسهاب فيه)(5).

هذا وقدإنمازت تعابیر الامام (عليه السلام) السابقة بقلة كلماتها (مما يجعل قيمتها الجمالية تزداد حسناً؛ لان الشيء اذا عزَّ صار أداة ووسيلة لإحداث المفاجأة في نفس المتقبل)(6)؛ وبهذا يتنوع التعبیر وتتنامى فنونه وتتصاعد مستوياته الابداعية

ص: 93


1- علي بن ابي طالب سلطة الحق: 291
2- بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة: 1 / 355
3- علي بن ابي طالب سلطة الحق: 293
4- بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة: 14 / 355
5- لغة الشعر، رجاء عيد، منشأة المعارف في الاسكندرية، 1985 م: 26
6- اصول الشعرية العربية نظرية حازم القرطا جني في تأصيل الخطاب الشعري, الطاهر بو مزبر، الدار البيضاء للعلوم، ناشرون منشورات الاختلاف: 171

حسب إختلاف القدرة على التذوق والتميز، ويبدو ذلك واضحاً من خلال الإستخدام المميز والفني للّغة في بنية النص والعبارة.

في حكمة للامام تميزت بالتكثيف الدلالي الكبیر تشیر الى قيمة اخلاقية وفيها نلحظ دقة استعمال اللفظ، ذلك ما يدلل على الجهد الصياغي المبذول بغية الوصول الى كمال التعبیر فقول الامام (عليه السلام): (أكبر العيب أن تعيب ما فيك مثله)(1). البعد الغائي عند الامام هو الذي دعاه الى ان يعيد القول بصياغة اخرى محققاً بذلك التناص الاشاري مع القول السابق اذ يقول: (من نظر في عيوب الناس فانكرها ثم رضيها لنفسه فذلك الاحمق بعينه)(2).

وهذا يمثل مجهوداً فكرياً ونفسياً كبیراً من قبل الامام (عليه السلام)، فهو يؤكد على علاقة النصوص بمجمل الحياة وبذلك إستطاع أن يلامس فكر المتلقي ووجدانه، فضلاً عن البلاغة العالية في جمل وعبارات النص مما يفضي الى وفرة المعاني التي تضيف للحياة مضامین اخلاقية وانسانية متفردة، فالامام في تناصاته السابقة (يضيف الى المعنى المضمن شذرات تحويرية تتسق مع الحالة والسياق الجديد فيما يشبه تنويعات على الفكرة الاولى)(3) في بنيات النصوص وآلياتها الاسلوبية بمزيد من الايجاز والتكثيف الدلالي.

إن خصائص نص الكتابة عند الامام يجسد الذات الحوارية التي يصیر فيها

ص: 94


1- بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة: 4 / 423
2- المصدر نفسه: 4 / 423
3- لغة الشعر، رجاء عيد: 26

النص تجسيداً لهذه الذات التي تشمل الانا الذي ينفتح على الاخر، اذ كان همّه الانشغال بالقضايا الانسانية الكبرى، (فالنص في نهج البلاغة ليس قطعة بلاغية ذات جمال مجرد، بل هو وظيفة متقنة، انه ثمرة التزاوج الطبيعي بین البلاغة والافكار والذي ترتب عليه انجاب افكار جديدة واستخدامات لغوية وبيانية جديدة)(1).

وفي هذا تتمظهر سمات الخطاب البليغ، وكذلك تتجلى اللغة المناسبة مع مراعاة العلاقات القائمة مع مفردات النسيج اللغوي للادب العلوي، هذا الجهد الصياغي يشكل الارضية التنظيرية لأسس الجمال الادبي، وبذلك تتبدى المهارات الفنية في مباني الاسلوب لدى الامام (عليه السلام) ففي قوله: (من لان عوده كثفت أغصانه)(2). نلاحظ على النص الجهد الصياغي الفني الذي تكشف عنه دلالات الالفاظ والقوة الايحائية المتمثلة في إشعاع المعنى المؤثر ولعلَّ ذلك راجع الى البعد الرسالي الذي ينهض به المتن الادبي للامام، اذ ان ادبية نص الامام مسلمة لاجدال فيها (ومن ذكاء علي المفرد في نهجه انه نوّع البحث والوصف فأحكم في كل موضوع، ولم يقصر جهدهُ العقلي على ناحية واحدة من الموضوعات او من طرق البحث، فهو يتحدث بمنطق الحكيم الخبير عن احوال الدنيا وشؤون الناس، وطبائع الافراد والجماعات... ويضع للمجتمع دساتير وللاخلاق قوانین)(3)، لعل من المصاديق على ذلك قوله (عليه السلام) الذي كرره باسلوب جديد: (ومن

ص: 95


1- علي بن ابي طالب سلطة الحق: 286
2- بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة: 14 / 321
3- الامام علي صوت العادلة الانسانية: 285

تلن حاشيته يستدم من قومه المودة)(1).

فالامام في هذا القول يضع قانوناً أخلاقياً ودستوراً للحياة, بموجبه تستقيم العلاقات بین الافراد والجماعات فقد (التمس الامام علي عليه السلام المعرفة في حكمياته إلتماس الحكيم العارف... المشخص للداء والعارف للدواء)(2)، ففي قوله السابق إيجاز في اللفظ واطناب في المعنى وقد تحقق بین النصین ما يسمى بالتناص الاسلوبي (ولعل الوظيفة الفنية التي يحققها، تكمن في محاولة نقل المتلقي الى اجواء النص المستحضر كلية بحيث يشعر المتلقي وكأنه امام هذا النص مباشرة، من دون أن يكون هناك وسيط بينهما كما يسعى التناص الاسلوبي الى الاستفادة من اللغة السحرية العميقة التي تتميّز بها بعض النصوص)(3). والامام في أقواله السابقة يتطلع الى غاية أخلاقية, وفي هذا تعبیر عن ارتباط الظاهرة الادبية بالواقع الاجتماعي مع عدم إغفال الوظيفة الادبية والمواصفات الجمالية.

إن اللغة شكلت عنصراً مميزاً ذا اثر من خلال عملية التناص وأسهمت إسهاماً ملحوظاً في مجال الابداع الدلالي والمضموني لرسم الصورة الصادقة للمعنى المراد الوصول اليه.

ومن نماذج التناص الذاتي التي رصدها الشراح عند الامام - وان لم يسموها بهذا الاسم - التناص مع الشعر المنسوب له (عليه السلام) وهو عبارة عن حكم منظومة على الرغم مما يبدو من خلاف بین الباحثین والمحققين حول صحة نسبتها

ص: 96


1- ملامح من عبقرية الامام علي: 18
2- المصدر نفسه: 18
3- التناص في شعر البياتي: 216

له، ومع كل ذلك فهذه التناصات تكشف عن البعد الغائي عند الامام اي المهمة الرسالية وهذا ما دعاه إلى أن يكرر بعض الخطابات في ظروف مختلفة وهو بذلك متأثر بالقرآن، اذ ان مهمة القرآن رسالية وكذلك الامام في نهجه ولعل من الامثلة على ذلك قوله (عليه السلام): (اما بعد فان الدنيا قد ادبرت واذنت بوداع)(1).

فالامام (عليه السلام) في هذا النص يشیر الى حتمية انتهاء امر الدنيا ولا بقاء الا لوجهه تعالى، وقد تحقق التناص الاسلوبي لهذا النص مع الشعر المنسوب له الذي يقول فيه:

رأيت الدهر مختلفاً يدور *** فلا حزن يدوم ولا سرور وقد بنت الملوك به قصوراً *** فلابقي الملوك ولا القصور(2) (الوافر) نلاحظ أن الامام قد خلق نوعاً من التوافق والانسجام بین المبنى والمعنى في نصيه السابقين؛ ذلك ان للتناص اثره الدلالي وطاقته الابداعية, ويشیر المستوى التركيبي للتناص السابق الى انه توظيف بارع وقدرة فائقة في التحام نص نهج البلاغة مع النص الشعري في علاقات منسجمة من غیر بعد عن الجمال الفني, وهذا المعنى المتعارف عليه لا احد يجهله، إن الامام (عليه السلام) (كان يمتاز بدقة السبك وحسن الاسلوب واحكام الصنعة وسهولة اللفظ، وجزالة المعنى وبساطة التعبیر والاحاطة بالقصد)(3). وتجب الاشارة هنا الى عبقرية الامام (عليه

ص: 97


1- منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة: 3 / 7
2- ديوان الامام علي (عليه السلام): 67
3- ملامح من عبقرية الامام علي: 114

السلام) وبراعة نظمه في اختيار البنى اللفظية، فالالفاظ عنده ذات سمة وشأن عظيمین فهو يوظف اللغة توظيفاً فنياً ليفصح عما يموج بخاطره ومكنونه؛ لذا جاء نصه حاملا ابعاداً عالية ومنطويا على معانٍ داخلية، وهذه ظاهرة اسلوبية تكررت كثیراً حتى صارت سمة من سمات النص العلوي والملاحظ على الامام (عليه السلام) في تناصاته الذاتية انه يقوم بتفكيك بنيته اللغوية ويعيد تشكيلها في بناء جديد، ففي قوله عليه السلام: (وان عليَّ جنة حصينة، فاذا جاء يومي انفرجت عني واسلمتني لا يطيش السهم ولا يبرأ الكلمُ)(1). فهذا القول حقق تناصاً ذاتياً مع الشعر المنسوب له في ديوانه الذي يقول فيه:

من اي يوميّ من الموت افرّ *** أيوم لم يقدر ام يوم قُدر فيوم لا يقدر لا ارهبهُ *** ويوم قد قدّر لا يقي الحذر(2) (الرجز) وهنا يظهر التناص الامتصاصي الذي هو عبارة عن صياغة مختلفة لمضمون واحد إذ إمتص النص اللاحق افكار وآراء النص السابق ومعانيه وعبرّ عنها، فكانت المقاربة بین النصین كبیرة إذ ان كل نص ما هو (الا امتصاص وتشرب لوفرة من النصوص الاخرى)(3) التي تتميز بالصدق وعمق الفكرة وفنية التعبیر، وفي التناص الذاتي عند الامام (عليه السلام) تصبح كل صورة ملتقى افكار متجانسة اذ اننا امام فعل ذاتي ينماز بالترقي العقلي والعمق في التفكر هذا الذي منح الامام (عليه السلام) أصالته وذاتيته وفرديته ما جعل النص يبدو بناء عفوياً لا ينفصل

ص: 98


1- شرح نهج البلاغة ابن ابي الحديد: 5 / 87
2- ديوان الامام علي (عليه السلام): 54
3- المدخل اللغوي في نقد الشعر، مصطفى السعدي، دار المعارف الاسكندرية، (د. ت): 28

فيه المعنى عن اللفظ بل هما كيان عضوي واحد، وهذا ما يتجسد في التحول العميق في البنى الفكرية والثقافية والبلاغية عند الامام وتفرده عن معاصريه من خلال عباراته المميزة اسلوبياً وفكرياً اذ مثل نتاجه ارقى مظهرا فكريا، ففي قوله (عليه السلام): (ألا وانها ليست بباقية لكم ولا تبقون عليها)(1). جسد الامام في خطابه ما يحقق التواصل بین الناس في نشاطهم المعاشي والحضاري، وطرح ما يتعلق بهذين الامرين، اذ كان (عليه السلام) محيطاً بالمشكلات الكبرى، ويتبین من النص اعلاه انه ملتزم بمصلحة الجماعة اذ كانت قضية ما بعد الموت تشكل الميادين الحقيقية للتفكیر لدى الانسانية جمعاء، وهذا جانب من البعد الرسالي الذي يتغياه الامام في خطابه لذا جاء التناص الامتصاصي للقول السابق واضحاً في الشعر المنسوب له الذي يقول فيه:

ارى الدنيا شؤونا بانطلاقِ *** مشمرةً على قدم وساقِ فلا الدنيا بباقية لحي *** ولا حي على الدنيا بباقِ(2) (الوافر) نلاحظ الحضور المشرق لنص الامام السابق في هذا الشعر، وبهذا يتشابه النصان في الموقف الدلالي اذ تتوقف فاعلية التناص على قابلية منتج النص في استخلاص العبرة واستدعاء المدلولالت المؤثرة في ذات المتلقي والمحفزة لمشاعره، وليس التوقف عند حدود جمع النصوص، ولعل اوضح المصاديق على ذلك تناصات الامام السابقة، فقد جاءت تناصاته (عليه السلام) ذات نظام تركيبي يقع على عاتقه عبء انتاج المعنى وتكثيف الدلالة لتوليد طاقات هائلة وإيجاد

ص: 99


1- منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة: 10 / 139
2- ديوان الامام علي (عليه السلام): 90

شحنات إيحائية عظيمة وامكانات لغوية مدهشة اذ (ان اساس الخطاب في فعالية على بن ابي طالب من الناحية اللغوية، هو اساس نحوي، ذلك لان علياً بن ابي طالب هو واضع النحو العربي في منطقه الاول)(1). وبذا استطاع الامام أن يبلور مبادئ فكرية بهدف تأسيس بنية ثقافية اسلامية تقود التحول الفكري العميق الذي تجسّد في الثورة الفكرية الكبرى الاسلام الحنيف وبذلك كانت الرؤية الفنية والزخم الفكري والتجربة اللغوية عند الامام قد استمدت حضورها من خلال ما كان يدعو اليه من خطاب مؤثر استطاع بوساطته ان يوجه المتلقي نحو فعل انجازي معین، وذلك في حدود نظام لغوي خاص يكشف عن تفرده وعن حسن تمكنه من ناحية اللغة وتطويعها من اجل تحقيق اهدافه الرسالية.

ص: 100


1- علي بن ابي طالب سلطة الحق: 291

المبحث الرابع التناص الادبي مع نهج البلاغة

التناص الادبي (هو تداخل نصوص مختارة قديمة او حديثة شعراً او نثراً بحيث تكون منسجمة وموظفة ودالة قدر الامكان على الفكرة التي يطرحها المنشئ)(1) سواء اكان شاعراً ام ناثراً. فيما يتعلق بالتناص الادبي مع نهج البلاغة، معلوم ما لنهج البلاغة من اثر في الادب العربي بوصفه اول نتاج متأثر باساليب التعبیر القرآني، ومن ثم هو الميسر للفهم الواعي لهذه الاساليب، ومن هنا وجدنا اهتمام الادباء والشعراء بالقرآن الكريم فجاءت (الدعوات المنادية بضرورة ان يلم الاديب او الشاعر بمختلف الثقافات الموجودة في التراث الانساني قديمه وحديثه شرقيه وغربيه من دون تفضيل لاحد هذه الثقافات)(2). ولعل نهج البلاغة من اولى المصادر التراثية التي حظيت باهتمام الادباء والدارسین على مر الاجيال، وذلك ما أشار اليه الشريف الرضي بقوله (كان امیر المؤمنین عليه السلام مشرع

ص: 101


1- التناص سبيلًا الى دراسة النص الشعري، شربل داغر، مجلة فصول الهيأة المصرية العامة الكتاب، المجلد 16، العدد الاول، القاهرة، 1997 م: 127
2- ينظر: الشعر العربي المعاصر قضاياه وظواهره الفنية والمعنوية، عز الدين اسماعيل, دار الثقافة، بيروت، (د. ت): 38

الفصاحة وموردها، ومنشأ البلاغة ومولدها ومنه عليه السلام ظهر مكنونها، وعنه اخذت قوانينها، وعلى امثلته حذا كل قائل خطيب، وبكلامه استعان كل واعظ بليغ، ومع ذلك فقد سبق وقصروا، وتقدمَ وتأخروا...)(1). بعد هذا الاقرار فلا غرابة ان نجد كثیراً من الشعراء والخطباء ينهلون من صور وصياغات ومعاني نهج البلاغة. وذلك في محاولة منهم لبيان مقدرتهم على انتاج ادب يضاهي ادب الفحول شكلاً ومضموناً.

لقد كان الامام (عليه السلام) (اول من عالج فن الخطابة معالجة الاديب واول من اضفى عليها صيغة الانشاء الذي يقتدى به في الاساليب)(2)؛ لهذا اشرأبت اليه الانظار وحاول كل اديب ان ينسج على منوال خطابه، ففي قوله (عليه السلام):

(لكني أسفت اذ أسفوا، وطرت اذ طاروا)(3) فهذا قول يتناص مع قول ابن عباس لما قيل له (ما منع علياً عليه السلام ان يبعثك مكان ابي موسى، فقال ابن عباس منعه من ذلك حائل القدر وقصر المدة ومحنة الابتلاء، اما والله لو بعثني مكانه لاعترضت مدارج نفسه ناقضاً لما ابرم ومبرماً لما نقض، اسفُّ اذا طار وأطیرُ اذا اسفَّ ولكن مضى قدر وبقي أسف)(4) وقد تحقق بین النصین نوعٌ من التناص يسمى التخطيط المقابل وهو ان يقوم نص (على قلب القمة الجدلية في عمل من الاعمال الادبية الموجودة الى عكسها)(5) كما يقوم النص المتناص باظهار القصدية

ص: 102


1- شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد: 1 / 45
2- عبقرية الامام علي: 188
3- بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة: 5 / 126
4- المصدر نفسه: 5 / 126
5- التأثير والتقليد: اولرشيد فايد هنتاين، ترجمة: مصطفى ماهر، مجلد فصول، العدد 3 لسنة 1993 م: 21

التي بوساطتها يظهر الضد وبذلك (فهي تنقل سمات النص التي تخیر القارئ الذي عليه ان يتبناه اتجاهها)(1). ونلاحظ ان نوع العلاقة بین النصین قائم على قانون المخالفة اي اختلاف نتائج المقصدية بین النصین. فاذا ما جئنا الى قول الامام (عليه السلام): (لوددت والله ان معاوية صارفني بكم صرف الدينار بالدرهم فأخذ مني عشرة منكم واعطاني رجلاً منهم)(2)، (قال ابن ابي الحديد اخذ الزبیر لفظه عليه السلام فلما وفد اهل البصرة وفيهم الاحنف تكلم منهم ابو حاضر الاسدي وكان خطيباً جميلاً فقال ابن الزبیر: اسكت، فوالله لوددت ان لي بكل عشرة منكم اهل العراق واحداً من اهل الشام، صرف الدينار بالدرهم)(3).

ان الآلية التناصية التي تربط بین النصین هنا هي طريقة التجاور والتشابه ويعنى بها (مسايرة نص لنص آخر او مشابهته بشكل قصدي او عفوي، شريطة ان لا تقع تلك المسايرة او المشابهة في ظل احكام وقوانین توجيهية للنص... ويلعب الفضاء الزمكاني دوراً كبیراً في انتشار هذه الطريقة، فالعناصر المتجاورة والمتشابهة في نصوص كل عصر تجعل هذا النص ينتمي الى ذلك العصر)(4)، ونلاحظ على النصین اعلاه وجود اتحاد في الفكرة بین النصین فكل من الامام (عليه السلام) والزبیر يشیران الى فكرة واحدة هي تخاذل الجماعة المحيطة بهما مقابل إقدام وبسالة الجهة المعارضة او الخصوم ما دفعهم الى اظهار التذمر والاستياء من هذا

ص: 103


1- اللغة في الادب الحديث: جاكوب كورك، ترجمة: ليون يوسف وعزيز عمانوئيل، بغداد، 1999 م، دار المأمون: 24
2- بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة: 10 / 448
3- شرح نهج البلاغة ابن ابي الحديد: 7 / 75
4- التناص في شعر العصر الاموي: 79

الواقع المعيش. وان قول الامام (عليه السلام) قد استقر في ذاكرة الزبیر وكوّن لديه مرجعية ثقافية شكلت جزءاً من بنيته الثقافية. اذ (ان كل كلمة اياً كانت توقظ دائماً في الذهن صورة)(1)؛ من هنا كان التناص وليد التراكمات الثقافية لدى الانسان، ومن ثمّ فان من اهم الدواعي التي اسهمت في ارساء قواعد التناص الادبي هي الخلفية الثقافية عندها يصبح كل نص ادبي مشروعا معرفيا يحتوي على خزان كبیر للدلالات او هو رسالة معرفية تواصلية، ففي قول الامام (عليه السلام): (اطرح عنك واردات الهموم بحسن الصبر وكرم العزاء)(2)، وصفَ المعتزلي ذلك بقوله (هذا كلام شريف فصيح عظيم النفع والفائدة)(3) فكلام بهذا الوصف جدير بان يتسابق الناس للنسج على غراره وهذا ما فعله عبدالله بن الزبیر اذ اخذ بعض الفاظ قول الامام (عليه السلام) السابق فقال في خطبة لما ورد عليه خبر مقتل مصعب اخيه: (لقد جاءنا من العراق خبر أحزننا وسرنا، جاءنا خبر قتل مصعب، فاما سرورنا؛ فلأن ذلك كان له شهادة، وكان لنا إن شاء الله خیرَهُ، واما الحزن فلوعة يجدها الحميم عند فراق حميمه، ثم يرعوي بعدها ذو الرأي الى حسن الصبر وكرم العزاء)(4)، فقد تحقق بین النصین التناص الاقتباسي الجزئي من خلال اقتباس جملة (حسن الصبر وكرم العزاء)؛ ذلك (ان تعبیر الانسان بواسطة الكلام يتراوح في مضمونه بین مدارين الرقة العاطفية الذاتية والاحاسيس الاجتماعية وهما مداران متصارعان دوماً لان الاحساس كثیراً

ص: 104


1- في اللغة، فندريس، ترجمة عبد الحميد الدواخلي و د. محمد القصاص، مكتبة الانجلو القاهرة، 1950 م: 237
2- شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد: 16 / 282
3- المصدر نفسه: 16 / 282
4- المصدر نفسه: 16 / 282

ما تجذب نسبة التدفق الوجداني وكل مدار يتوق الى الاستبداد بشحن الفكرة المعبر عنها فيؤول الامر الى ضرب من التوازن)(1). هذا الامر يكشف عن طاقة تعبيرية للغة وعن وسيلة ابداعية ومضامین فكرية تقدم حلولاً لرؤية مستقبلية، وذلك ماعالجه الامام في نصوصه الابداعية متمثلاً في فكره الاصلاحي وكان (عليه السلام) في ذلك (يصدر عن رؤية كونية شاملة محاورها ثلاثة موضوعات لا انفصال بينها هي الله والعالم والانسان)(2)، هذه الشحنة المعرفية تعطي للنص خصوصيته الابلاغية والاقناعية إذ (ان معرفتنا مختزنة في الذاكرة على شكل بنيات معطات ممثلة في اوضاع متكررة نستقي منها عند الاحتياج تتلاءم والاوضاع الجديدة التي تواجهنا وعملية المواءمة تتم بواسطة مقول جديد يعتمد على اطار ويستقي منه)(3) ان هذه التناصات تكشف عن اعجاب شديد وانفعال حاد بلغة نهج البلاغة ومضامينه الفكرية العالية؛ لذا جاءت نتاجاتهم حاملة للكثیر من الرؤى الروحية والفكرية والدلالية ولعل من المصاديق على ذلك قول الامام (عليه السلام): (الا انه قد ادبر من الدنيا ما كان مقبلاً واقبل منها ما كان مدبراً وازمع الترحال عباد الله الاخيار، وباعوا قليلاً من الدنيا لا يبقى بكثیر من الاخرة لا يفنى)(4). اشتمل هذا النص على خصائص اسلوبية وجمالية تكشف عن تمكن الامام من ناحية اللغة وتطويعها لاجل تمرير رسالته الانسانية فقد (بسط الامام فلسفته في ايجاز عجيب، وفي تسلسل منطقي بديع تلتقي فيه افعال العقل، وافعال

ص: 105


1- الاسلوبية والنقد الادبي، عبد السلام المسدى، مجلة الثقافة الادبية، العدد 1، ربيع، 1982 م: 35
2- المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري، زكي نجيب محمود، دار الشروق، القاهرة، بيروت (د. ت): 31
3- تحليل الخطاب الشعري, إستيراتيجية التناص: 123
4- بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة: 1 / 214

الاعضاء على صعيد التكامل)(1)؛ وبذلك إستطاعت نصوص الامام ان تبني لها وجوداً فنياً متميزاً إذ اتصفت بمتانة السبك وفخامة الدلالة، ما جعل سليمان بن صرد الخزاعي لما اراد الطلب بدم الحسین (عليه السلام) ان يقول: (ان الدنيا دار قد ادبر منها ما كان معروفاً، واقبل منها ما كان منكراً واصبحت قد تشنأت الى ذوي الالباب وازمع الترحال منها عباد الله الاخيار وباعوا قليلاً من الدنيا لا يبقى بجزيل مثوبة عند الله لا يفنى)(2).

يبدو التناص الاقتباسي الجزئي واضحاً بین النصین اذ تم اقتباس بعض الجمل من نص الامام لما يحمله من مضامین وطاقة ايحائية تمنح العمل الادبي أصالة وخلوداً.

قال التستري (نظیر كلامه عليه السلام كلام ابنه الحسین عليه السلام في خطبة اصحابه بذي حسم قام عليه السلام، فحمد الله واثنى عليه ثم قال لاصحابه:

انه قد نزل من الامر ما ترون وان الدنيا قد تغیرت وتنكرت وادبر معروفها واستمر جذّاء فلم يبق منها الا صبابة كصبابة الاناء وخسيس عيش كالمرعى الوبيل، الا ترون ان الحق لا يعمل به، وان الباطل لا يتناهى عنه، ليرغب المؤمن في لقاء الله محقاً، فاني لاارى الموت الا سعادة، والحياة مع الظالمین الا برما)(3).

وبالنظر للظروف المحيطة بالنص الخطابي اذ يبدو ان ما لاقاه الامام الحسین (عليه السلام) من ظلم وحقد لا يختلف كثیراً عما تعرض له ولاقاه الامام علي (عليه

ص: 106


1- ملامح من عبقرية الامام علي: 25
2- تاريخ الطبري، ابو جعفر محمد بن جرير الطبري، دار احياء التراث العربي، بيروت, لبنان، 2008 م: 3 / 392
3- تاريخ الطبري: 5 / 403

السلام( فنظر الامام الحسین الى الدنيا بعین ابيه وصورها بصورته فكان رافده في تصويرها بالسرعة والفناء مضيفاً اليها خسة العيش ودناءته حین يكون في ايدي الظالمین اللئام وقد جاءت الالفاظ في سياق الخطاب ملائمة للمعنى ومعززة صورته ف (الاختيار يضمن للاديب اللفظ المعبر عن المعنى الذي يريد ايصاله والمقصدية تحقق له ان ينزل ذلك اللفظ المنزل الذي يعينه على الاشعاع بكل ما يملؤه من ظلال وايحاءات ومعان هامشية)(1) هذا ما تحقق في خطاب الامام الحسین (عليه السلام) اذ نلحظ على النص تأثراً واضحاً في خطاب أبيه (عليه السلام) مستلهماً مضامينه موظفاً ألفاظه غیر مكتف بالاحالة اليه او الايحاء اليه ذلك ان (الكلمات ارواح تخزن في داخلها مشاعر واحاسيس وهي بفاعليتها مع غيرها داخل سياق لغوي قادر على منح بعضها دلالات وفاعليات خاصة)(2)، من هنا جاء اقبال الادباء والكتاب والشعراء على محاكاة خطاب الامام (عليه السلام)؛ لما يمتلكه من طاقات إيحائية ومقصديات كبیرة (فقد نظر عبد الحميد كاتب مروان الى قول الامام (عليه السلام) الدنيا دار ممر لا دار مقر والناس فيها رجلان رجل باع نفسه فاوبقها ورجل ابتاع نفسه فاعتقها)(3). إذ إستطاع أن يحققَ التناص الأ سلوبي مع قول الامام (عليه السلام) فقال (الناسُ أصنافُ مختلفون وأطوارُ متباينون، منهم علقُ مظنةِ لا يباع ومنهم غلُ مظنةِ لا يبتاع)(4) فلما قيل

ص: 107


1- فصول في اللغة والنقد: نعمة رحيم العزاوي، المكتبة العصرية، بغداد، ط 1، 2004 م: 180
2- قضايا النقد الادبي والبلاغة: محمد زكي العشماوي، دار الكاتب العربي، مطبعة الوادي، 1967 م: 241
3- بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة: 11 / 425
4- المصدر نفسه: 11 / 425

له ما الذي مكنك من البلاغة فقال (حفظُ كلام الاصلع)(1). ونجد تناصاً اسلوبياً قد تحقق مع قول الامام (عليه السلام) (وعلى أثرِ الماضي ما يمضي الباقي)(2) إذ أخذ هذا اللفظ الوليد بن يزيد حین مات عمه مسلمة، واجتمع بنو أُمية في جنازته فوقف على هشام وقال (إن عقبى من بقي لحوق من مضى، وقد اقفر بعد مسلمة الصيد لمن رمى وإختل الثغر فوهى، وإرتج الطود فهوى، وعلى اثر من سلف ما يمضي من خلف)(3). ونجد مثل ذلك في قول الامام (عليه السلام) (وصار دين أحدكم لعقة على لسانه)(4). اذ وصفهم الامام هنا بضعف الدين ووهن العقيدة, وذلك ما تجلى في سلوكياتهم مع الامام أيام خلافته فقد لاقى ما لاقى من خذلان وعصيان، ولعل ذلك ما أخبر عنه الفرزدق (عندما سأله الامام الحسین حین لقيه قادماً من العراق وسأله عن الناس فقال: فأما قلوبهم فمعك وأما سيوفهم فعليك والدين لعقةٌ على ألسنتهم فاذا امتحنوا قل الديانون)(5).

ومثله لما نزل الحسین كربلاء أقبل عليه اصحابه فقال: (الناس عبيد الدنيا والدين لعقةٌ على ألسنتهم يحوطونه مادرّتْ معايشهم)(6)، نجد أن التناص الذي تحقق بین النصوص الثلاثة هو التناص الأسلوبي، إذ بينت النصوص ضعف الدين وفساد المعتقد، وذلك ما تحقق فعلاً وتحول الى سلوك عملي لدى الجماعة المحيطة

ص: 108


1- المصدر نفسه: 11 / 425 نقلا عن: الكتاب والوزراء للجهشياري: 82 المصدر نفسه: 11 / 319
2- بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة: 11 / 319
3- شرح نهج البلاغة ابن ابي الحديد: 7 / 81
4- بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة: 11 / 357
5- شرح نهج البلاغة ابن ابي الحديد: 7 / 249
6- بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة: 11 / 357. نقلا عن تحف العقول: 245

بالامام علي (عليه السلام) وابنه الحسین (عليه السلام).

فيما ذكر كان الحديث عن التناص النثري مع نهج البلاغة، وقد لوحظ ان النصوص الادبية ارتكزت على نص الإمام وحاولت تفجیر طاقاته الدلالية واختراق بؤرته المركزية من اجل إعادة تشكيله من جديد، وهذا ما ظهر جلياً في النصوص التي اوردناها للتناص التي أشار إليها الشراح وكانت من مقصدياتهم المهمة في هذا المجال، اذ انهم أرادو بذلك أن يشیروا الى تعالي النص في نهج البلاغة وثرائه المضموني؛ ما جعل الادباء يتسابقون للنسج على منواله من اجل تحقيق الادبية لنصوصهم بغية الوصول بها الى رتبة النصوص عالية الابداع.

ومن التناصات الاخرى التي تتدرج تحت عنوان التناص النثري ما يمكن ان نسميه التناص الروائي اي الاحاديث المروية عن الائمة الاطهار عليهم السلام ولما كان الامام (عليه السلام) والائمة من ذريته هم ابناء مدرسة القرآن والسنة النبوية المطهرة، فلا غرابة ان نجد هذا التقارب الأدبي بین نصوصهم، وهو من الملامح البارزة التي أشار اليها الشراح، اذ لا يمكن اهمال دور الثقافة القرآنية التي نجد اصدق تمثيل لها في ثقافة الامام علي (عليه السلام) المتمثلة بنصه العلوي، من هنا نجد الائمة (عليهم السلام) قد تأثروا بهذه الثقافة وفهموا مدلولاتها.

ولعل من الامثلة التطبيقية على التناص الروائي ما نجده عند الامام الكاظم (عليه السلام) انه: (قال لهشام بن الحكم مثل الدنيا مثل ماء البحر كلما شرب منه العطشان ازداد عطشاً حتى يقتله)(1).

يشیر هذا الكلام الشريف الى مذمة الحرص على الدنيا, والامام (عليه السلام)

ص: 109


1- الكافي: 3 / 305

في هذا يتناص مع مضمون قول الامام علي (عليه السلام) الذي يقول فيه (اما بعد فان الدنيا مشغلة عن غيرها ولم يصب صاحبها منها شيئاً الا فتحت له حرصاً عليها)(1) وفي هذا النص تحقق شرف المعنى الذي يكمن (في احراز المنفعة ومع مواقعة الحال)(2). والامام في هذا يتطلع الى غاية اخلاقية، وفيه تعبیر عن علاقة الظاهرة الادبية بالواقع، ما يدل على انفتاح الوعي عند الامام على ممكنات ادبية، وهي ظاهرة نرى اثارها في كل مكان من النهج. ولما كانت حياة الامام غنية بتجارب انسانية كثیرة؛ ذلك ما دفع الادباء الى محاكاة نصه، الذي انماز بجميع القيم المعروفة في الصياغات الادبية فقوله (عليه السلام): (ولن يستغني صاحبها بما نال فيها علما لم يبلغه منها)(3). إذ نجد في كلام الامام الآنف الذكر قوة في سهولة. ولعل هذا من ابدع ما قيل في هذا المعنى وفي معنى قوله (عليه السلام) قال الامام الباقر (عليه السلام): (مثل الحريص على الدنيا كمثل دودة القز كلما ازدادت على نفسها لفاً كان ابعد لها من الخروج)(4). وقد تحقق بین النصین التناص الاسلوبي فضلاً عن البلاغة في النثر التي تعني: (ان يكون اللفظ متناولاً والمعنى مشهوراً والمراد سليماً والامثلة خفيفة المأخذ)(5) وذلك ما بدا واضحاً في آلية بناء النصوص عند الامامین (عليهما السلام) بشكل يتناسب مع معطيات المرحلة الزمنية، وهو قول يكشف عن سلوكية الذات الفاعلة في الخطاب. فاذا ماجئنا الى

ص: 110


1- بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة: 11 / 410
2- العمدة: 1 / 141
3- بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة: 11 / 411
4- الكافي: 3 / 202
5- الامتاع والمؤانسة: 249

قول الامام (عليه السلام): (ان لله في كل نعمة حقاً فمن أدّاه زاده منها، ومن قصر عنه خاطر بزوال النعم)(1). اذ يمثل هذا القول مصداق ما اشرنا اليه فهو يشیر الى امر غاية في الاهمية وله دور في تحقيق التكافل الاجتماعي وذلك من خلال اخراج ما فرض الله من الحقوق في اموال الاغنياء ليسد بها حاجة الفقراء. وفي المعنى نفسه قول الامام الصادق (عليه السلام) لحسن الصحّاف (ما ظاهر الله تعالى على عبد النعم حتى ظاهر عليه مؤونة الناس فمن صبر لهم وقام بشأنهم زاد تعالى في نعمه عليه عندهم ومن لم يصبر لهم ولم يقم بشأنهم ازال الله تعالى تلك النعمة)(2).

وهنا تحقق التناص الاسلوبي بین قولي الامامین (عليهما السلام) - اعني الأمام علي والأمام الصادق - وهو قول يكشف عن أدبية عالية في الافصاح عن الحق، وفيه تاكيد على استلهام الاخلاق الاسلامية, وقد استطاعت هذه الجمل ان توجه الى قيم اخلاقية، ويندرج هذان النصان في اطار ادب المعاملات ف (لن يكون الادب شيئاً اذا لم يَتح لنا أن نفهم الحياة بصورة افضل)(3). لقد عرف الامام (عليه السلام) بالتفاتاته الجميلة وتعبيراته البليغة (وعلى ذلك إشرأبت اليه الأعناق وشخصت له الابصار، فاضحى المرجع الاوحد والسند المسند برجاحة العقل وصواب الرأي وعمق النظر)(4) على مختلف الأصعدة. ويمكن ان نلمس مصداق هذا القول فيما أُثر عن الامام (عليه السلام) من اقوال وخطب لعل منها قوله (عليه السلام):

ص: 111


1- بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة: 12 / 210
2- الكافي: 4 / 37، ح 3
3- نقد النقد: تيزتيفان تودروف، ترجمة: سامي سويدان، مركز الانماء القومي، بيروت، ط 1، 1996 م: 149: 150
4- ملامح من عبقرية الامام علي: 163

(واعلموا ان هذا القرآن هو الناصح الذي لا يغش والهادي الذي لا يضل)(1).

فالامام بهذا يدعو الى التمسك بحبل القرآن الذي يدعو الى الهدى، وهو المعنى الذي اشار اليه الصادق (عليه السلام): (ان هذا القرآن فيه منار الهدى ومصابيح الدجى فليجل جالٍ بصره ويفتح للضياء نظره، فان التفكر حياة قلب البصیر كما يمشي المستنير من الظلمات بالنور)(2) وهذا القول يتناص مع قول الامام (عليه السلام) عن طريق ما يسمى بالتناص المضموني. ويطول بنا المقام لو اردنا تتبع جميع ما جاء من تناص روائي.

لقد درسنا فيما ذكر من مباحث التناص، وبيّنا ان التناص فيها كان على نوعین تناص نهج البلاغة مع القرآن والحديث النبوي الشريف، وتبین لنا ان هاتین المرجعيتین كانتا فاعلتین في تناصات نهج البلاغة، اما النوع الثاني فهو التناص الادبي بأنواعه التي ذكرت.

ص: 112


1- منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة: 10 / 166
2- الكافي: 1 / 28

الفصل الثاني مفاهيم نقدية * المبحث الأول: التآويل معياراً نقدياً * المبحث الثاني: قيمة القارئ * المبحث الثالث: المصطلح النقدي

ص: 113

ص: 114

الفصل الثاني: مفاهيم نقدية

المبحث الاول التأويل معياراً نقدياً

إن التطرق إلى المصطلحات النقدية ومن ضمنها تلك المصطلحات التي تستند إلى أصول أجنبية، يلوح من بينها مصطلح التأويل الذي يتميز بأصالة عربية، ذلك انه نشا في ظلال البحوث المتعلقة بالقرآن الكريم وتفسیره(1)، إذ تشیر المصادر إلى تكرار لفظة (تأويل مصدرا ” في القرآن الكريم سبع عشرة مرة)(2)...

وان المعنى العام للفظة تأويل في جميع الآيات بمعنى التحقيق والتجسيد وجاء في لسان العرب: (أّول الكلام وتأوله دبرّه وقدّره وأولّه وتأولّه فسره، والتأويل والمعنى والتفسیر واحد، والتأويل تفسیر الكلام الذي تختلف معانيه ولا يصح

ص: 115


1- ينظر: ردود الفعل عند التلقي تأويلًا ضمن كتاب المرجعيات في النقد والأدب واللغة مؤتمر النقد الدولي الثالث، المجلد الثاني: 297
2- المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم عبد الباقي محمد فؤاد، ط 2، دار الفكر مادة أول

إلا ببيان غیر. لفظه)(1) (والتأويل من الأول أي الرجوع إلى الأصل، ومنه. الموئل للموضع الذي يرجع إليه، وذلك هو رد الشيء إلى الغاية المرادة منه علماً كان أو فعلاً)(2), والتأويل اصطلاحاً (عبارة عن احتمال يعضده دليل يصیر به أغلب على الظن من المعنى الذي يدل عليه الظاهر، ويشبه ان يكون كل تأويل صرفاً للفظ عن الحقيقة إلى المجاز)(3) وقد عبر احد الباحثین عن هذا التعريف الاصطلاحي بقوله (وأما التأويل في عرف الأصولين المتأخرين من المتفقهة والمتكلمة والمحدثة والمتصوفة ونحوهم، فهو صرف للّفظ عن معناه الراجح إلى المعنى المرجوح لدليل يقترن به)(4).

وذهب آخرون إلى أن التأويل هو (صرف الكلام عن ظاهره إلى معنى يحتمله، ثم ان حمل لدليل فصحيح، وحينئذ يصیر المرجوح نفسه راجحا للدليل، أو لما يظن دليلاً ففاسد أولا شيء فلعب لا تأويل)(5) والتأويل في الشرع: صرف اللفظ عن معناه الظاهر إلى معنى يحتمله إذا كان المحتمل الذي يراه موافقاً للكتاب والسنة، مثل قوله تعالى (يخرج الحيَّ من الميت)(6) ان أراد به إخراج الطیر من

ص: 116


1- لسان العرب: مادة أول
2- مفردات ألفاظ القرآن مادة أول
3- المستصفى من علم الأصول، أبو حامد محمد بن محمد الغزالي، تحقيق: د. محمد سليمان الأشقر، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط 1: 2 / 49
4- التأويل عند الغزالي نظرياً وتطبيقاً، د. عبد الجليل عبد الكريم سالم، مكتبة الثقافة الدينية، بور سعيد، القاهرة، ط 1، 2004 م: 19
5- البحر المحيط في أصول الفقه، الإمام بدر الدين محمد بن بهادر بن عبد الله الزركشي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1: 3 / 26
6- الأنعام: 95

البيضة كان تفسیراً وان أراد به إخراج المؤمن من الكافر أو العالم من الجاهل كان تأويلاً)(1). يعتقد بعض الفلاسفة ان التأويل داخل النص الديني من اجل توضيح الشرع وكسب التأثیر له(2) فهو عند ابن عربي يكون بان تتوفر في الكلمة إمكانية الانحراف بها لأكثر من وجه في حال يتفق مع منطق العقل وبالشكل الذي تسمح به الكلمة في وضعها اللغوي مع الاخذ بالحسبان القرائن الدالة، والتأويل على وفق هذا المنظور عبارة عن إستبدال مفردة بأخرى في ضوء ضوابط ومناهج عقلية تسوغه(3).

ويبحث التأويل (عما هو أول في الشيء، عما هو الأُس والأصل وبذلك يكون التأويل منهجاً يعيد تحليل وتقييم كل المناهج الباحثة عن الأصول)(4) ولكي يكون النص المنتج قابلاً للتأويل لابد من توفر شروط معينة (فما يجعل نصاً هنا قابلاً للتأويل هو تمتعه بالخصائص والإمكانيات التي تكون قادرة على إلغائه، والمقصود بعملية الإلغاء الذاتي: هو قدرة النص أو الشيء نفسه على المشاركة بصیرورة الفهم الشامل، بتمتعه بالشروط الكينونية التي توصله ليدخل في حوار السؤال, ولن يتحقق مثل هذا الانقلاب النوعي إلاّ إذا كان الشيء حاوياً في أصوله على ما

ص: 117


1- كتاب التعريفات: 38
2- ينظر: فصل المقال في تقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال، أبو الوليد محمد بن احمد بن محمد بن رشد الأندلسي المالكي، إشراف: محمد عابد الجابري، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، لبنان، ط 1، 1997
3- ينظر: الخطاب الشعري الصوفي والتأويل: د. رضوان الصادق الوهابي، منشورات زاوية الرباط، ط 1، 2007 م: 53
4- إستراتيجية التسمية في نظام الأنظمة المعرفية: مطاع صفدي، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، د. ت: 225

يتجاوز محدوديته أي ان يكون مساهماً حقاً في إمكانية التأويل وفي إطلاق الفهم...

ان الفهم لا يعني طلب اليقین بل هو الذي يضع كل يقين موضع سؤال)(1) وهناك من يذهب إلى ان التأويل يبحث عن المعاني التي تنماز بالعمق التي تختبئ في النص قصد الوصول إلى ما يريده مبدع النص(2) والتأويل عند عبد القادر. فيدوح (محاولة اكتناه النص، واستكشاف ما بداخله من إضمار أو ما يسمى بإخراج الدلالة على رأي ابن رشد)(3) والتأويل لقاء بین النص وقارئه، وهذا اللقاء يعطي النص معنى بمشاركة الطرفین أي ان التأويل دخول إلى باطن النص(4) وان ما يسهم في تجسيد تعدد المعاني في النص وتفعيل حرية التأويل هو الأقتصاد وهو (نوع من تكثيف الكلام واختزاله دون إخلال وهو سمة جوهرية من سمات الشعرية، ولعله في ظواهره كلها يشیر إلى الدلالة الحاضرة لعنصر الغياب)(5).

لا شك ان هنالك صراعاً في التأويلات والقراءات قائم على أساس المرجعيات الثقافية لكل مدرسة من مدارس التأويل هذا الاختلاف بین أرباب الملل والمذاهب أدى إلى ان كل فريق عندما يجر النص إلى منطقة القراءة يوجهه وفق مشربه الفكري، أي ما يعتقد به من آراء وفلسفات تتناسب ومذهبه الذي يؤمن

ص: 118


1- المصدرنفسه: 224
2- ينظر: سحر الكتابة وفتنة الصورة من الثقافة النصية إلى سلطة اللامرئي: د. مازن عرفة، دار التكوين، دمشق، ط 1، 2007 م: 254
3- نظرية التأويل في الفلسفة العربية الإسلامية: د. عبد القادرفيدوح، الأوائل للنشر والتوزيع، دمشق, ط 1, 2005 م: 150
4- ينظر: محاورات مع النثر العربي: د. مصطفى ناصف، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، 1997 م: 7
5- النص القرآني من الجملة إلى العالم: وليد منير، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، القاهرة، 32: 1997

به(1) وبذلك صار لكل تيار تأويلي (مشروعه الفكري والسياسي الخاص به، فإذا ما انحاز إلى تيار معین فانه انحاز إلى مشروعه؛ ولذلك فان على القارئ ان يُحللُ الأسس الابستمولوجية والتاريخية الخاصة بكل تيار حتى إذا انحاز ينحاز عن بينة, وإذا رفض يرفض عن بينة)(2)؛ ولهذا فقد إتسعت مجالاته إذ (إن التأويل أداة معرفية، وهي أداة يمكن استخدامها لاستقراء الدلالات في موضوعات متعددة قد يكون موضوعها الأشياء، وقد يكون موضوعها أخیراً النصوص اللغوية)(3) وعليه (لم يعد التأويل مقتصراً على النص، بل تجاوزه إلى كل ألوان الوجود الكوني، فما دام كل شيء يدل على غیره، كان هناك مجال لتأويل كل شيء، فهناك تأويل النص وتأويل الجسد وتأويل التاريخ)(4).

وبالنتيجة يكون كل نص مثبت بوساطة الكتابة في مختلف صنوف المعرفة الإنسانية يكون موضوعاً للتأويل(5). وقد أكَّدَ مطاع صفدي مصداقية هذا الاتجاه، إذ يرى ان الممارسة التأويلية تتوجه إلى النص المنتج بنحو العموم، اذ (تذهب ممارسة التأويل كمصطلح تقني إلى النصوص، إلى المنتج المكتوب)(6) ووفقا لهذه الرؤية فان

ص: 119


1- ينظر: التأويل في مختلف المذاهب والآراء: محمد هادي معرفة، المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية، طهران، ط 1، 2006 م: 167
2- التلقي والتأويل مقاربة نسقية: محمد مفتاح، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ط 2، 2001 م: 144
3- النص والسلطة والحقيقة، إرادة المعرفة وإرادة الهيمنة، نصر حامد ابو زيد، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، ط 5، 2006 م: 68
4- مداخل جديدة، للتفسير، غالب حسن، دار الهادي، بيروت، لبنان، ط 1، 2003 م: 224 - 225
5- ينظر: اللغة والتأويل مقاربات في الهرمينوطقيا العربية والتأويل العربي الإسلامي، عمارة ناصر، الدار العربية للعلوم، ناشرون دار الفارابي منشورات الاختلاف: 69
6- إستراتيجية التسمية في نظام الأنظمة المعرفية: 223

كل شيء يدخل تحت طاولة التأويل فانه (لما صارت المجازات والرموز والأقنعة والأساطير والخرافات والأحلام والرؤى والموروثات والتراث الشعبي للأمم والشعوب وغيرها كثیر، كلها بنيات داخله في لغة النص الأدبي أو الفني الحديث فقد صار المعنى فيه محتاجاً التأويل بالضرورة)(1). من هذا يتبین ان التأويل لم يقف عند (اللغة الشعرية اللغة المنزاحة بتعبیر كوهن، وإنما تعداها إلى النثر، والنصوص الحرفية، وشتى مظاهر البنى الإشارية، والملابس، والموضة والملصقات، وبطاقات البريد، ان كل شيء قابل للتأويلات الإفتراضية المنطقية)(2)، ووفقاً لتلك التصورات (صارت التأويلية باختصار هي جوهر ولب نظرية المعرفة في محاولتها وصف فعل القراءة أي قراءة أي ظاهرة تاريخية أو فلسفية أو أدبية أو سياسية أو اقتصادية بوصفها بناء معقداً من العلاقات التي تتضمن عناصر الذات والموضوع والسياق ونسق العلاقات والرسالة)(3). ان ماهية النص ومعناه يعد حفراً في البنية المعرفية للمكتوب، فالنص (ليس خامة، بلا لون، بلا خطوط، بلا ظلال، هناك تناص في أعماقه، عندما تنشئ نصاً يتحرك العمل بین نصوص قد مرت بك، وتحولت جزءاً من تكوينك النفسي، كل كلمة هي حصيلة كلمات تصافقت مع الوجدان وانغمست في حبر الروح انتقشت في اللاشعور)(4).

ثم ان العلماء توصلوا إلى ان موضوع التأويل قد اتسعت مساحته فشمل كل

ص: 120


1- النص القرآني بين التفسير والتأويل: د. السيد احمد عبد الغفار، دار النهضة العربية، بيروت، لبنان، ط 1، 2002 م: 292
2- مداخل جديدة للتفسير: 243
3- ينظر: الخطاب الديني وإشكالية التفسير والتأويل: 227
4- مداخل جديدة للتفسير: 243

ما يتعجب منه العقل أو يتحیر, وبالتالي دخلت الغيبيات والظنيات وما يحتاج إلى التخمین والحدس)(1) وبذلك يكون (التأويل أداة معرفية في كل محاولات الإدراك أما موضوعات تلك الأداة فهي كل ما في الوجود الإنساني مما يحيط به حسه، أو يتأمله خياله، أو قد يكون موضوع أدوات المعرفة التأويلية منصباً على الأفعال أو منصباً على رؤياه في منامه)(2) ولم يتوقف التأويل عند المستوى اللغوي بل تعداه إلى التأويل الفكري وهو ما أدى إلى الاختلاف في التأويل الكاشف عن المعنى وذلك ما أدى إلى الخلاف في فهم المعنى(3) (لان التأويل في بعض معطياته: محاولة للاتفاق مع المختلف فهو مدعاة اتفاق في الوقت الذي كان الباعث عليه الاختلاف مع الآخر أحياناً)(4) ان التأويل بالمعنى الحديث فتح باب الممكن لتعدد القراءات، فهو يختلف عن التأويل بالمعنى القديم (الذي لا يعدو صرف اللفظ عن معناه الحقيقي إلى معناه المجازي التأويل بالمعنى الجديد تحول إلى طريقة في التعامل مع النص والفن واللغة والكون والحياة، فلم يعد محاولة للتغلب على الغموض اللغوي، بل هو محاولة لاثراء الكون)(5) وبذلك صار النص المفتوح دلالياً مسوغاً للتأويل، فهو يفتح الإمكان لكل الاحتمالات وان مناطق العمى التي لا يصل المتلقي إلى بصرها أو خيالها يمكن إضاءتها بالتاويل)(6).

ص: 121


1- الخطاب والتاويل نصر حامد ابو زيد. المركز الثقافي العربي 2000 م: 177
2- علم المعنى الذات، التجربة القراءة: 267
3- ينظر: المصدر نفسه: 279
4- المصدر نفسه: 270
5- مداخل جديدة للتفسير: 236
6- المصدر نفسه: 273

والتفسیر علم يبحث فيه عن أحوال كلام الله المجيد من حيث دلالته على مراده، وينقسم إلى تفسیر، وهو مالا يدرك إلا بالنقل كأسباب النزول والقصص، وهو ما يتعلق بالرواية، والى تأويل، وهو ما يمكن إدراكه بالقواعد العربية وهو ما يتعلق بالدراية(1) وهناك من يذهب إلى ان التفسیر (أعمُّ من التأويل، فالتفسیر بوجه عام هو كشف المعنى، وتلك مهمة التفسیر والتأويل، إلا ان التفسیر أكثر ما يستعمل في الألفاظ، والتأويل في المعاني كتأويل الرؤيا مثلاً ويستعمل التأويل أكثره في الكتب الإلهية أما التفسیر فيستعمل فيها وفي غيرها)(2) إلا ان هناك من يرى تعاقب التفسیر والتأويل على النص (ان التأويل حالة استثنائية عند أهل الاصطلاح تبدأ عندما ينتهي التفسیر)(3) بينما ذهب البعض إلى ان العلاقة بین التأويل والتفسیر هي علاقة عموم وخصوص إذ ان التأويل اعم من التفسیر وما للتفسیر هو للتأويل بعدّه داخلاً فيه؛ ذلك (ان التأويل تفاعل معرفي بین بنية ذهنية وبنية نصية وبنية سياقية مؤطرة لهما، وبنية من النصوص الغائبة والعلوم المرجعية، ولذلك فانه يحتوي التفسیر باعتباره نظراً في الظواهر)(4) وذهب إلى هذاالرأي السيد عبد الأعلى الموسوي السبزواري اذ قال بخصوصية التأويل على حساب التفسیر (فالتأويل اخص من التفسیر بلا إشكال؛ لان التفسیر من فسر،

ص: 122


1- الخطاب الديني وإشكالية التفسير والتأويل: د. عبد القادر أبو عرفة ضمن كتاب التأويل والترجمة مقاربات لآليات الفهم والتفسير، تأليف جماعي، إشراف: إبراهيم احمد، الدار العربية للعلوم، بيروت، لبنان،ط 1، 2009 م: 222
2- تاج العروس من جواهر القاموس محب الدين الزبيدي، تحقيق: علي شيري: 7 / 349
3- الخطاب الديني وإشكالية التفسير والتأويل: 227
4- التأويلية العربية نحو نموذج تساندي في فهم النصوص والخطابات: محمد بازي، الدار العربية للعلوم، بيروت، لبنان، ط 1، 2010 م: 23

وهو والسفر بمعنى واحد أي كشف القناع، ويجعل ذلك ببيان أول مرتبة من مراتب معاني اللفظة بخلاف التأويل فان له مراتب كثیرة، لان للقرآن بطوناً، ولعل المراد منها بعض مراتب التأويل)(1) والى هذا الرأي ذهب بعض الباحثین إذ أكدوا على شمولية التأويل وتعدد وسائله من غیر طريق اللغة كقوة الملاحظة وغيرها من الوسائل الموصلة لذلك(2) من هنا صار (التأويل هو المصطلح الأمثل.

للتعبیر عند عمليات ذهنية على درجة عالية من العمق في مواجهة النصوص والظواهر)(3) ولما كانت غاية المعرفة الوصول إلى اليقین الذي لا يقوم على الظن ولا يمكن ان يقوم على وفق الأمزجة والأهواء، إذ ان القصور في الفهم بقصد أم بغیر قصد قد أدى إلى حالة من الغموض والتشويش في الموروث الثقافي، ذلك ما دعا إلى أن تحول تأويل النص بحسب الميول والاتجاهات الفكرية التي يؤمن بها المؤول فالمرجعية الفكرية للمؤول هي التي تتحكم في الموقف من النص(4).

وبذلك تكون مهمة التأويل والهدف المرجو منه هو الوصول إلى مقاصد النص الحقيقية من خلال الغوص في أعماق النص، وبذلك يختلف عن التفسیر من هذه الجهة)(5) و (أصبح لزاماً عند التعرض للتأويل العربي، ان تتوفر عند المتعرض

ص: 123


1- مواهب الرحمن في تفسير القرآن: استشارات دار التفسير، قم، إيران، ط 2، 2007 م: 83
2- ينظر: مقدمة في الدراسات القرآنية: محمد فاروق النبهان، مطبعة وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، المغرب، 1995 م: 102 - 103
3- إشكاليات القراءة، واليات التأويل: 192
4- ينظر: نظرية التأويل في الفلسفة العربية الإسلامية، د. عبد القادر فيدوح: 21
5- الأفق التداولي: إدريس مقبول، عالم الكتب الحديثة، اربد، الأردن، ط 1، 2001 م: 25

ملكة النقد العلمي المكین وامتلاك زمام اللغة وأوجه البيان)(1).

والهرمينوطيقا التي تعود إلى اللغة اليونانية، وهي تعني التفسیر وتتعلق لغوياً بالإله هرمس رسول الآلهة الاولمب، وإذا بحثنا عن التأويل عند الغرب فاننا نجد جذوره ضاربة في عمق التاريخ، إذ ارتبط مفهوم التأويل بالنصوص المقدسة، كونها عملية تعني بتكوين القواعد المنطقية والبلاغية والكلامية التي تحكم قراءة النص المقدس منذ القرن السادس قبل الميلاد(2) فقد (عُرف التأويل عند الغربيین بمصطلح الهرمينوطيقا (Hermeneutike) أي فن التأويل وفي اشتقاقاتها الأصلية جاء من لفظ (Hermena من هرمس Hermes الآلهة الوسط بین الآلهة والناس، يفسر لهم ويشرح المرمز ويفك الطلاسم ومع أباء الكنيسة كان يعني تفسیر كلمة الله، المعنى باق هو الوساطة وفهم معنى المرمز وتفسیر النص للمؤمنین)(3). ان الهرمينوطيقا تتعامل مع الوسيط الذي هو اللغة في فهم المعنى (لقد ظهر أنَّ الأشياء لا تعطى للمعرفة بشكل مباشر بل انها تتوسط اللغة، إذ ان الوعي لا يقوم باستقبال العالم إلا بما يدركه عنه من تعابیر وأسماء، فالعالم يعطي كخطاب ولئن كان كذلك، فالسؤال المهم يكون ما مدى توافق هذا الخطاب مع أشياء العالم؟. الى اي مدى يعبر خطاب اللغة عن مواضيع المعرفة، إلى أي مدى تستطيع اللغة حمل تمثلات الحقيقة إلى الفهم، وعليه إتضح ان عملاً مطوراً عن نظرية المعرفة ليبحث في هذه

ص: 124


1- النص القرآني بين التفسير والتأويل: د. السيد احمد عبد الغفار: 102
2- ينظر: نظرية الأدب: د. شفيق يوسف البقاعي، منشورات السابع من ابريل، الزاوية، ط 1، 1425 ه: 244
3- الفهم والنص دراسة في المنهج التأويلي عند. شلايماخر ودلتاي, بو مدين بو زيد، منشورات الاختلاف، الجزائر، ط 1، 2008 م: 244

الإشكاليات هو عمل الهرمينوطيقا)(1) ثم ان (الهرمينوطيقا تختلف عن التفسیر الذي يشیر إليه المصطلح (exegesis) على إعتبار ان هذا الأخیر يشیر إلى التفسیر نفسه في تفاصيله الحقيقية, في حین يشیر المصطلح الأول إلى نظرية التفسیر)(2). ان مفهوم الهرمينوطيقا قد تغیرت النظرة إليه في القرنین الثامن عشر والعشرين، إذ يشمل مناهج فهم النصوص الدينية والدنيوية، وقد ظلت الكلمة توحي بمعنى التفسیر الذي يكشف المستور الذي ينأى عن الفهم المألوف والقراءة العادية(3).

وهذا ما يؤكدهُ دايفيد جاسر إذ يقول: (تتعلق الهيرمينوطيقا إذاّ بالتفسیر خاصة فيما له علاقة بتفسیر النصوص المقدسة التي يعتبرها المؤمنون وحياً إلهياً أو كلمة الله)(4). ومن الباحثین من يرى في لفظة الهرمينوطيقا إشارة إلى نظرية التأويل ف (لقد أُعتبرت الهرمينوطيقا منهجاً في القراءة في إطار التفسیر الديني، أو لنقل انها العلم الذي يهتم بقواعد التأويل، تأويل النصوص المقدسة، ثم بعد ذلك اتسع مدلول هذا المصطلح إلى مجالات أرحب وأوسع، فأصبحت تمثل النظرية المنهجية لكل أنواع التأويل)(5) وبالتالي تكون الهرمينوطيقا هي (نظرية التاويل مع الأخذ بنظر الاعتبار المسافة الفاصلة بین دلالة المصطلح على التفسیر أو التأويل، وبین

ص: 125


1- اللغة والتأويل مقاربات في الهيرمينوطيقا الغربية والتأويل العربي الإسلامي: 16
2- إشكاليات القراءة واليات التفسير: 13
3- ينظر: فهم الفهم مدخل الى الهيرمينوطيقا نظرية التأويل من افلاطون إلى جادامير، د. عادل مصطفى، رؤية للنشر والتوزيع، القاهرة، ط 1، 2007 م: 26
4- مقدمة في الهيرمينوطيقا: دايفيد جاسير، ترجمة: وجيه قانصو، الدار العربية للعلوم، بيروت، لبنان، ط 1، 2007 م: 21 - 22
5- هيرمينوطيقا النص الأدبي في الفكر الغربي المعاصر: د. مليكة دحامنيه، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 2008 م: 47

حمل معناه على نظرية التفسیر أو نظرية التأويل)(1).

وقد رأت مجموعة من الباحثین تقارب مصطلح الهيرمينوطيقا مع مصطلح التأويل(2) بينما ذهب البعض إلى ان هذا المصطلح يشیر إلى نوع من العلم الذي يتضمن جملة من القواعد التي يقوم عليها تفسیر النصوص(3) وهناك من يعلل سبب استعمال كلمة (الهيرمينوطيقا) لعدم وجود المقابل العربي الموضوعي مقابل المصطلح الأجنبي (آثرت ان أستعمل بالعربية كلمة أو لفظ هيرمينوطيقا للتعبیر عن كلمة أو مصطلح (Hermeneuti) كي تحتفظ العبارة بكامل شحناتها المعرفية والدلالية والمنهجية المختزنة فيها، ولعدم وجود كلمة في العربية تستوفي معناها، إن كلا من كلمة تأويل وتفسیر، لا تعكس إلا جزءاً من وظائف الهيرمينوطيقا ومهامها وأغراضها التي يبدو انها ما تزال في طور التوسع والتطور بل والتحول أيضاً)(4).

ويعد النص المفتوح الذي يسمح بتعدد القراءات من المسوغات التي تفتح باب التأويلات الممكنة على النص، هذا ما كانت تقول به مدارس النقد الحديثة، فهي ترى ان النص يخفي أشياء ويصمت عنها، ذلك ما يسوغ فك الشفرات

ص: 126


1- المعاصرة القرَانيه, رؤية على ضوء المدرسة الوجودية: جواد علي، ضمن كتاب قراءات معاصرة في النص القرآني: 63
2- المصدر نفسه: 63
3- ينظر: في ماهية اللغة وفلسفة التأويل: د. سعيد توفيق.، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، لبنان، ط 1، 2002 م: 84
4- ينظر: السيماء والتأويل، روبرت شولتر، ترجمة: سعيد الغانمي، المؤسسة العربية للنشر والتوزيع، بيروت، لبنان، ط 1، 1994 م: 37

وإضاءة مناطق الفراغ، وبهذا يخرج القارئ إلى الوجود ويمارس دوره الايجابي تجاه النص، إذ ان المسكوت عنه أو مناطق الفراغ في النص يكون من العوامل المساعدة في تمكین معاني النص من البيان والظهور, وبالتالي تظهر فاعلية القارئ ودوره الايجابي(1) وان عملية مأ الفراغات والبياضات في النص تحتاج (إلى إبداع يقوم به القارئ، وهكذا تتعدد احتمالات تفسیر الفراغات الغامضة)(2) وعلى وفق ذلك فان النص المتعالي يتطلب شخصاً ذا دراية واسعة في المجال الروحي والعقلي الذي ينتمي إليه النص، فهذا النص ليس عرضة لكل قارئ ففيه كثیر من الدلالات والإيحاءات الغامضة(3) فعلى الرغم (من انه ليس من قراءة بريئة تماماً، فان مستويات القراءة تتعدد بتعدد أحوال القرّاء، ويتعدد أحوال القارئ الواحد؛ وذلك بسبب تعدد ذخيرتهم الفنية والفكرية والاديولوجية)(4) وبالتالي فلا وجود لتفسیر أُحادي للنص فهو عرضة لمختلف التفسیرات والقراءات، وذلك حین يتناوب القراء عبى النص الواحد، أو تتعدد قراءة النص الواحد من نفس القارئ، وذلك خاضع للظرف الموضوعي والذاتي للقارئ ومتبنياته الفكرية(5). فدور القارئ ليس متساوياً في تأويل النصوص، فالمعنى يختلف من متلق إلى آخر وحسب المكونات الثقافية ف (حتى تلك العلامات التي تبدو في الظاهر أحادية المعنى أو قا صرة المعنى بالنسبة إلى بعض الأشخاص تصبح ثرية

ص: 127


1- ينظر التلقي والتأويل بيان سلطة القارئ في الأدب: محمد عزام، دار الينابيع، السويد، ستوكهولم، ط 1، 2007 م: 85
2- ينظر: نظرية المعنى في النقد الأدبي: مصطفى ناصف: 167
3- التلقي والتأويل بيان سلطة القارئ: محمد عزام: 42
4- المصدر نفسه: 42
5- ينظر: التلقي والتأويل بيان سلطة القارئ: 45

بالمعاني وقابلة لشتى التأويلات بالنسبة إلى شخص آخر يمتلك دراية موسوعية مختلفة أو أكثر إتساعاً)(1). ووفقاً لتلك التصورات فإن القارئ العادي الذي لم يملك خلفية معرفية يستعين بها للدخول إلى عالم النص وفك شفراته، لا يستطيع ان يؤسس علاقة مع النص بأي شكل من الأشكال(2) وعليه ف (إن تأويلات الشخص ترتبط بمستوى المعارف التي لديه)(3)، ويشار هنا إلى دور نظرية التلقي في هذا الجانب إذ (فتحت المجال أمام الذات المتلقية للدخول في فضاء التحليل وإعادة الاعتبار إلى القارئ احد أبرز عناصر الإرسال أو التخاطب الأدبي)(4).

ولما يحظى به المتلقي من مكانة في النظريات النقدية الحديثة صار محور التأويل إذ (يتصل الجهد التأويلي في محصلته الأخرة بالمتلقي إذ هو هدف الرسالة الرئيسي مع تعدد الأماكن واختلاف الأزمنة)(5). ويحظى القارئ بأهمية خاصة في النظام السيميائي اذ تقع عليه مهمة قراءة الشفرات السيميائية للنص، لكن النظام السيميائي يضع محددات للتأويل فلا تطلق الحرية للمتلقي (وكمؤولین سيميائيين لسنا أحراراً في صنع المعنى، بل أحرار في العثور عليه باتباع الطرق الدلالية والنحوية والتأويلية التي تخرجنا من نطاق كلمات النص، أي إننا لا نستطيع أن

ص: 128


1- التأويل بين السيمائيات والتفكيكية: امبرتو إيكو، ترجمة وتقويم: سعيد بنكراد، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، ط 1، 2000 م: 14
2- ينظر: مرجعيات القراءة والتأويل عند نصر حامد أبو زيد, اليامين بن نومي، دار الأمان ومنشورات الاختلاف، الرباط، الجزائر، ط 1، 2011 م: 222
3- أبعاد التجربة الصوفية: عبد الحق منصف، أفريقيا الشرق، الدار البيضاء، المغرب، ط 2، 2007 م: 17
4- نظرية التلقي أصول وتطبيقات: 33
5- علم المعنى: 290

نضيف أي معنى نشاء على النص، بل إننا نستطيع ان نضيف عليه كل المعاني التي نستطيع ربطها بالنص عن طريق الشفرة التأويلية)(1). وبعد فان التأويل قد اتسعت وتعددت مجالات استخدامه وتوظيفه وصار ضرورة ملحة في الحياة الفكرية المعاصرة وذلك نتيجة تعقد المعرفة واتساع مجالاتها(2).

بعد هذا العرض لوجهات النظر والتعريفات التي قاربت مفهوم التأويل فانني أحاول الاعتماد على تعريف إجرائي ينفعني، ويكون له مدخلية في فهمي، وذلك من خلال اعتماد التأويل معياراً نقدياً، إذ قال البعض ان التأويل هو امتزاج الذات بالنص وغیر ذلك من التعريفات المتأخرة أو كما قال البعض: ان التأويل تفسیر بالرأي هذا التعريف هو الأكثر انسجاماً مع ما أريد الوصول إليه إذ اني أبحث عن التأويل بوصفه يبحث عن مساحة الاختلاف بین الشراح، كون ذلك الاختلاف نابع لا من النص نفسه، وإنما نابع من إجتهاداتهم وامتزاج النص بذواتهم، ثم إعادة إنتاجه وفق رؤى وقبليات وتصورات مسبقة، وكانت هذه التصورات والقبليات هي الحاكمة في ذلك، أي إن النص لم يكن ولم يعد بريئاً، وإنما عاد مؤدلجا ومنسجماً مع رؤية ذلك المؤلف إذ (تمثل العلاقة بین الأدب والايدولوجيا بشكل أشمل بین ما هو جمالي وأدبي وشعري من جهة، وبین ما هو أيدلوجي ومعرفي ورؤيوي: من جهة أخرى من أعقد المشكلات الجمالية التي تواجه علم الجمال والنقد الأدبي على مر العصور)(3).

ص: 129


1- السيمياء والتأويل: 53
2- ينظر: ماهية اللغة وفلسفة التأويل: 9
3- اللغة الثانية في إشكالية المنهج والنظرية والمصطلح في الخطاب النقدي الحديث: 135

وبعد أخذ التأويل كمفهوم إجرائي وليس كمفهوم تنظیري؛ وبذلك أجد إن هنالك مصطلحاً يدخل في مجال تحليل النصوص وإنتاج الدلالة، تفسیر المعطى (عملية الفهم) وتفاوت عملية الفهم وهذه القضية (أي عملية الفهم وتفاوت عملية الفهم) يطلق عليها إجرائياً عند البعض تأويل. ويمكن ان نأخذ التأويل بتعريف إجرائي: وهو عبارة عن التباين بین وجهات نظر شارحي أو شراح النهج على اساس مبانيهم وتصوراتهم واعتقاداتهم وتكون النتيجة (عملية إعادة إنتاج النص أو فهم النص وفق رؤية شخصية) وبهذا فان المساحة التي يختلف فيها التأويل عن التفسیر هو ان التفسیر يتعلق بالبعد الموضوعي، أما التأويل فيتعلق بالبعد الشخصي، فهو مزج النص بالذات ثم إعادة إنتاج النص أي البحث عن روح الإبداع وبذلك يصیر التأويل معياراً نقدياً، ويكون مجال العمل هنا البحث عن مساحة التباين بین الشراح لنص واحد بناءً على اختلافهم في وجهات النظر والمقدمات التي يرتكز كل شارح عليها، وبالنتيجة فان هناك سمات إبداعية تتمثل بامتزاج الأنا بالنص وإعادة إنتاجه بصورة تنسجم وتلك الرؤية التي يحملها ذلك الشارح للنص، وبذلك يتحقق لنا نص جديد لا أستطيع ان انسبه لعلي بن أبي طالب (عليه السلام) مئة في المئة ولا استطيع أن أقول ما له أصل، وإنما أستطيع ان أقول هو نص علي بن أبي طالب (عليه السلام) وفق إنتاج ذلك الشارح، وهذا ما يعطي لهذا النص من خصوصية عن غیره من النصوص، في ضوء ذلك عندما آتي إلى النصوص واعرض تباين وجهات نظر الشراح حول نص واحد أجد اختلافا وتبايناً في وجهات النظر من أين جاء هذا التباين؟ مع العلم ان النص واحد وثابت، هذه المساحة في تباين وجهات النظر حول نص واحد جاءت من الذات التي قامت بإعادة إنتاج النص، وبالنتيجة نجد ان هذا التحكم بالنص قائم على أساس التحكمات القبلية، هذا الشارح تحكم وقال هذا مجاز, وذلك

ص: 130

الشارح قال هذه حقيقة، هذا أسس وقال بجواز حمل اللفظ على أكثر من معنى.

إن إنتاج النص مرتكز أساسي في ذهن الشارح وبذلك يحتاج إلى آليات تنسجم مع ما يريده، وبذلك أجد أن استعمال الآليات في إعادة إنتاج النص لم يكن بريئاً وإنما كان مؤدلجاً وموجهاً وجهه فكرية معينة وفقاً لتصورات مسبقة. ماذا أريد من النص أن يقول لا ماذا قال النص. ولو أراد الشارح ماذا قال النص لذهب إلى الصفة الموضوعية وصار عمله تفسیراً لا تأويلاً، وبذلك يجب اعتماد الآليات التي يقترحها النص، فإذا قال النص بالرجوع الى الخارج فارجع إلى الخارج.

فعندما أتناول نصاً لعلي بن أبي طالب (عليه السلام) يتحدث عن شخصية معينة فقبلياتي الحاكمة هي التي توجه النص وجهة معينة فيتحول النص إلى منتج من قبلي وليس منتج (بكسر الجيم)، إذاً عملية هضم النص وإنتاجه على وفق رؤية تنسجم مع مقدمات وقبليات وما يريده النص، وحتى يتوجه النص هذا التوجه لابد من استعمال آليات، بذلك تكون الآليات بالشكل الآتي لدي قصد مسبق ونص قابل وعندي آليات.

القصد المسبق ماذا ينبغي للنص ان يقول (الأنا) سمة شخصية (حالة تفرد عن الآخر)، الحالة الثانية النص وهو قابلية أو محضُ قابلية اللغة حيادية وهي تتعامل مع الواقع تعاملاً لا حرفياً وإنما تعاماً رمزياً، وبما انه كذلك فلي ان أتحكم بالمنطوق.

ان العلاقة بین المتلقي والنص علاقة جدلية أي انه ينتج ويُنتج، أي تصارع بین اللغة وبین المتلقي، أنا أريد منك ذلك وهي تقول لي شيء، عليَّ ان اخلق مساحة تسمح بها اللغة وقبلياتي تسمح بذلك.

ص: 131

إنتاج الشراح إنما هو جدليات مع معطيات النص من جهة, وتنسجم مع قبليات وتصورات ومرادات المنشئ من جهة أخرى، فعلى المنشئ بناءً على قبلياته الحاكمة أن يعمل على تذويب تلك الفوارق، وعلى إعداد المساحة المقبولة بین إرادة الشارح وبن النص وفق تلك الآليات. ان مساحة الاختلاف بین الشراح واضحة المعالم، تقوم على أساس ان هنالك قبليات وتصورات ومباني ومرتكزات عند كل واحد من الشرح، ولها الحاكمية على إدراكاتهم وتصوراتهم، ومن ثم تجعل من مسار الشارح يختلف عن مسار الأخر، فيتحقق التقاطع بین مساره ومسار الآخر، وبالنتيجة فان لكل واحد منهم تأويل خاص يقوم على أساس خلق علاقة جدلية بن المعطى القبلي وبین النص، وعليه يكون التأويل على وفق التعريف الإجرائي: هو مساحة الاختلاف أو إعادة إنتاج النص وفق رؤية شخصية أي بمعنى آخر دخول الأنا في النص، وهذا يؤكد حالة تميز في النص بناءً على كونه منتجاً شخصياً، وليست قراءة موضوعية للنص، وإن لم يكن متفقاً عليه بشكل عام، فانه على الأقل في موارد متعددة واضحة المعالم يقوى في مساحات ويضعف في مساحات أخرى.

ان مساحة التوتر ومساحة الاختلاف بین شارح وشارح ليست على حد سواء في جميع النقاط بل نجد ان بينهما مساحة توتر قريبة مثلاً الشيعي الإخباري والشيعي الأصولي نجد مساحة التوتر بينهما مختلفه، ولكن مساحة الاختلاف ليست متباينة بدرجة كبیرة كالشارح المعتزلي في مسألة معينة، إذن هناك قضية هي انه تختلف وترتفع هذه المساحة في التباين في وجهات النظر بحسب الموضوع الذي هو محل الشرح من قبل الشارح وهذا يختلف باختلاف مبانيهم ومعتقداتهم وغیر ذلك.

ص: 132

وبالنتيجة فاني أُركز في بحثي بعد ان عرفت التأويل إجرائياً وقلت: انه ذلك الجهد الشخصي المتعلق بإعادة إنتاج النص إنتاجاً ينسجم مع التصورات القبلية للمؤلف وبناءاً على هذا التعريف الإجرائي للتأويل فانني أركز على مساحة التوتر واضحة المعالم عند الشراح أي إنني لا أركز على كل تأويل ممكن أن يكون, وإنما سوف أركز على تلك التي وقع فيها الاختلاف والتباين إلى درجة تكون من الوضوح بمقام يسمح لي أن أتحدث عنها. وأبین كيف إختلفوا، وما هي الآليات التي وظفوها، وكيف وظفت وما هو دور الآليات.

وإني أعتمد التأويل ليس كأصل نظري او موضوعي، وإنما اعتمدُ التأويل معياراً نقدياً في ضوء ذلك يتضح إنني بعد بيان مساحة الاختلاف بین الشراح، وإنهم بهذا العمل أعادوا إنتاج النص إنتاجاً ينسجم مع تصوراتهم، ومن ثم كان له الدور الكبیر في إغناء النص، ولا اقصد إغناء النص بما هو نص، وإنما في إغناء المتلقي باعتبار ان للناقد دوراً هو خلق حالة توسط بین القارئ وبین النص، يعني ذلك أن دور الناقد هو توطئة النص للمتلقي وباعتبار ان كل شارح له سماته قام كل واحد بدوره في هذه التوطئة؛ فلهذا أجد انجذاباً لهذا في هذا الجانب، وانجذاباً لهذا في الجانب الآخر، وذلك يعتمد سمة التميز من هذا الشارح على غیره، وكيف استطاع أن يوظف تلك الإمكانيات في توجيه المعرفة، وهذه قدرة نقدية عالية في التحكم بالنص وبما ينسجم مع رؤاه وبمقدار ذلك التسلح المعرفي الذي عند الشارح يتوجه النص وفق مزاجه ووفق توجهاته وتصوراته.

لما كان التأويل هو إعادة إنتاج النص من القارئ، وكل قراءة إنما هي قراءة مستقلة عن الأخرى، وهي إبداع شخصي، هذا الاتجاه من النقد نجد له ظلالاً عند الشراح، إذ ان هناك من الدراسات إتجهت إلى المفسرين بوصفهم نقاداً،

ص: 133

وبوصف التأويل مساحة عملهم، كذلك ممكن أن يتجه النظر الآن إلى شراح النهج، إذ انهم ليسوا على غرار شراح ديوان من الدواوين الشعرية، إنما هم شراح على نحو التأصيل العقائدي والفكري، وتأسيسا على ما هو موجود في نهج البلاغة، وذلك ما يضطرهم إلى إيجاد آليات يمكن لهم أن يعتمدوا عليها في الكشف عن مدلول النهج، ومن ثم تتأسس لديهم تلك العقائد، لذا كانت هناك إشكاليات ربما محل إختلاف بينهم، تتحكم فيها القبليات الحاكمة الموجودة عند كل شارح من الشراح.

ومن هنا يتضح ان هناك نوع من العلاقة الجدلية بین النص وبین تلك القبليات ينتج عنها ما يسمى بالتأويل.

وبالنتيجة يمكن أن نتبین قيمة ومعاني كل شارح من خلال ما ينتجه من تصورات؛ ولهذا يمكن لي أن ارفع الشارح من النص وأستنتج على أساس القبليات الموجودة عنده، توجهه الفكري دون ذكر اسمه.

نجد عند الشراح ضلالاً للاتجاهات التأويلية في النقد الحديث وذلك على المستوى التنظیري والمستوى التطبيقي فعلى المستوى التنظیري أشار الشراح إلى ما يتعلق بتحويل المجاز إلى حقيقة وغیر ذلك.

أما المستوى التطبيقي فنجد انَّ شراح النهج لم يكونوا على ذوق واحد أو مشرب واحد، وإنما هم على مشارب متعددة وذلك وفقاً لتوجهاتهم الفكرية، فهم قد تعاملوا مع نص النهج بوصفه نصاً دينياً، لذلك كان عليهم ان يتعاملوا معه على انه ثابت ومقدس، وإذا كان الأمر كذلك فكيف يتسنى لهم استخلاص عقائدهم منه؟

ص: 134

على المستوى الظاهري لم يميلوا إلى تفسیر النص وفق المعاني الظاهرة، إنما مالوا إلى التأويل.

المستوى التأويلي له خصوصية، أولاً التأويل على المستوى الأول السیر على دوائر متعاقبة متقاربة تتمركز حول معنى واحد.

أما على مستوى التقاطع، فذلك ما يتعلق بقضية التأصيل العقائدي وغیر ذلك، فهذا المستوى يفتح المساحات عند المتلقي، وذلك ما يتمثل في القبليات الحاكمة عند الشارح التي تعمل بشكل لا واعي في توجيه النص، أي جر النص إلى المتلقي، وهذا ما يخلق حالة التنازع بین الشراح، هذه الشروحات بتقاطعها تكشف عن مدركات ومشارب، وبالنتيجة تكشف عن قابلية النص على تحميله أكثر من دلالة وكونه قيمة عليا، وهنا تظهر قيمة الناقد بوصفه منتجاً للمعنى.

ولعل من الأمثلة التي تؤيد ما ذهبنا إليه قول الإمام (عليه السلام): (ولهم خصائص حق الولاية وفيهم الوصية والوراثة)(1): ان هذا القول يتعلق بمسألة الولاية، وهو من الموضوعات التي وقع فيها الخلاف بین الشراح، فكل شارح يؤوله إعتماداً على قبلياته الحاكمة، وبذلك يحاول جر النص إلى مذهبه وما يؤمن به.

لقد سلط ابن ابي الحديد رؤيته الاعتزالية في تعامله مع هذا النص. فقال في تعليقه عليه: (الولاية الإمرة فأما الإمامية فيقولون: أراد نص النبي صلى الله عليه

ص: 135


1- شرح نهج البلاغة لأبن ابي الحديد: 1 / 110

وآله)(1). وبعد أن عرض رأي الإمامية طرح رأي الفكر الاعتزالي قائلا: (ونحن نقول: لهم خصائص حق ولاية الرسول صلى الله عليه وسلم على الخلق)(2). هذا الرأي كان للقبليات الحاكمة عند المعتزلي دور في توجيه النص وفق هذه الرؤيه، ثم يواصل مناقشة هذا الأمر العقائدي بقوله فيه: (وفيهم الوصية والوراثة، أما الوصية فلا ريب عندنا ان عليا عليه السلام كان وصي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وان خالف في ذلك من هو منسوب عندنا إلى العناد، ولسنا نعني بالوصية النص والخلافة ولكن أموراً أخرى لعلها، إذا لمحت اشرف وأجل)(3). يبدو على النص ان الأمر يتعلق بموضوع التأصيل العقائدي للشارح المعتزلي، لذا نراه في هذه التأويات التي يعرضها. مقارناً بین رأيه الاعتزالي ورأي الإمامية فيقول مبيناً ذلك:

(وأما الوراثة فالإمامية يحملونها على میراث المال والخلافة، ونحن نحملها على وراثة العلم)(4). ان هذا التأويل يعد في باب التأصيل العقائدي، ذلك ما دعاه إلى أن يخرج خارج النص، ويبحث عن آليات أخرى تؤيد مايقول، ولعلنا نستطيع ان نستشف هذه الروح في تعليق ابن أبي الحديد على قول الإمام (عليه السلام) الذي يشیر فيه إلى رجوع الحق إلى أهله فهو يقول في ذلك: (وهذا يقتي أن يكون فيما قبل في غیر أهله, ونحن نتناول ذلك على غیر ما ذكره الإمامية، ونقول انه (عليه السلام) كان أولى بالأمر وأحق لا على وجه النص، بل على وجه الأفضلية

ص: 136


1- شرح نهج البلاغة لأبن ابي الحديد: 1 / 110
2- المصدر نفسه: 1 / 110
3- المصدر نفسه: 1 / 110
4- المصدر نفسه: 1 / 110

فانه أفضل البشر بعد رسول الله (صلى الله عيه وسلم) وأحق بالخلافة من جميع المسلمين، ولكنه ترك حقه لما علمه من المصلحة، وما تفرس فيه هو والمسلمون من اضطراب الإسلام، وانتشار الكلمة، لحسد العرب له، وضغنهم عليه، وجائز لمن كان أولى بشيء فتركه ثم استرجعه ان يقول وقد رجع الأمر إلى أهله)(1) إن هذا التحليل ينم عن تأثره بمرجعياته الفكرية المتمثلة بالفكر الاعتزالي.

وقد خالف الخوئي ابن ابي الحديد فيما ذهب إليه من تأويل في هذا النص فهو يقول: (وفي هذه الجملة تنبيه على ان للولاية خصائص بها يتأهل لها، وشروطاً بها يحصل استحقاقها، وأن تلك الخصائص والشرائط موجودة فيهم ومختصة بهم لا توجد في غيرهم)(2).

وهو بهذا الرأي يذهب بعيداً عما ذهب إليه ابن ابي الحديد في تأويله. فوصف هذا التأويل بالسماجة وذلك في قوله: (وأما ما ذكره الشارح المعتزلي في تفسیر كلامه (عليه السلام) من ان لهم خصائص حق ولاية الرسول على الخلق فتأويل مخالف لظاهر كلامه (عليه السلام) كما لا يخفى ومن العجب انه فسّر الولاية قبل كلامه ذلك بالإمارة، فيكون حاصل معنى الكلام على ما ذكره ان لهم خصائص حق الرسول على الخلق. وأنت خبیر بما فيه أما أولاً: فلأنه إن أراد بإمارة الرسول الرياسة العامة والسلطنة الكلية التي هي معنى الأولى بالتصرف، فتعبیر الولاية بها حينئذ صحيح إلا انه لا داعي إلى ذلك التعبیر إذ دلالة لفظ الولاية على ذلك المعنى أظهر من دلالة الإمارة عليه، وان أراد بها الإمارة على الخلق في الأمور السياسية

ص: 137


1- شرح نهج البلاغة لأبن ابي الحديد: 1 / 111
2- منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة: 2 / 263

ومصالح الحروب فقط فهو كما ترى خلاف ظاهر كلامه (عليه السلام) خصوصاً بملاحظة سابقه ولاحقه الوارد في مقام التمدح وإظهار الفضائل والمناصب الإلهية وأما ثانياً فلأنّا لم نر إلى الآن توصيف النبي (صلى الله عليه وآله) في كلام احد من الأمة ولا إطاق الأمیر عليه (صلى الله عليه وآله وسلم) في القرآن ولا في سنته)(1) بعد عرض هذه الآراء والتحليلات لقول الإمام (عليه السلام) يصرح الخوئي برفضه التام لهذا التأويل المجانب للصواب بقوله (فأي داع إلى تمحل هذا التأويل المشتمل على السماجة والأولى الإعراض عن ذلك والتصدي لبيان خصائص الولاية)(2)، ان هذه الخطبة دار حولها خلاف وجدل كبیر بین الشراح؛ بسبب تباين مبانيهم وتصوراتهم الفكرية ومعتقداتهم.

أما البحراني فقد أشارالى صحة ما ورد في الخطبة من اختصاص آل محمد بولاية أمور المسلمين وخلافتهم لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وبيان اختصاص الإمام (عليه السلام) بوراثته وذريته من بعده(3).

ومن التأويلات التي هي محل خلاف بین الشراح القائمة على أساس القبليات الحاكمة لديهم ففي قول الإمام (عليه السلام): (لتعطفن الدنيا علينا بعد شماسها عطف الضروس على ولدها، وتلا عقيب ذلك ((وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِی الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِینَ)))(4) (5) يقول

ص: 138


1- المصدر نفسه: 2 / 264
2- المصدر نفسه: 2 / 264
3- ينظر: شرح نهج البلاغة، البحراني: 1 / 417
4- سورة القصص: 5
5- شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد: 19 / 18

ابن أبي الحديد: (والإمامية تزعم ان ذلك وعد منه بالإمام الغائب الذي يملك الأرض في آخر الزمان، وأصحابنا يقولون: انه وعد بإمام يملك الأرض ويستولي على الممالك ولا يلزم من ذلك انه لابد ان يكون موجوداً وان كان غائباً إلى ان يظهر، بل يكفي في صحة هذا الكلام أن يخلق في آخر الوقت)(1) من هذه القراءة التأويلية نلاحظ ان ابن أبي الحديد عندما يجر النص إلى منطقة القراءة فانه يُخضع تأويلاته بما يتلاءم مع مرجعياته، وبذلك يخرج النص من براءته ويدخله في دائرة الأدلجة بناء على خلفيات ومرجعيات فكرية يؤمن بها؛ (ولهذا تتعدد القراءات بحسب النصوص الإبداعية، وقرائها المختلفي الثقافات والخبرات والأمزجة وعصورها التي كتبت فيها)(2). ولعل نص الإمام (عليه السلام) من المصاديق على ذلك إذ نرى الأختلاف في التأويلات على النص الواحد باختلاف القراء ومستوياتهم الفكرية. ففي النص السابق يطرح ابن أبي الحديد رأياً آخر فضلا عن آرائه السابقة: (وبعض أصحابنا يقول انه إشارة إلى ملك السفاح والمنصور وابن المنصور بعده، فانهم الذين أزالوا ملك بني أمية، وهم بنو هاشم، وبطريقهم عطفت الدنيا على عيني عبد المطلب، وتقول الزيدية: انه لابد أن يملك الأرض فاطمي يتلوه جماعة من الفاطميین على مذهب زيد، وان لم يكن احد منهم الآن موجوداً)(3). ان هذه الآراء تبین على انه لا توجد قراءة بريئة وهوأمرٌ أدى إلى تعدد القراءآت باختلاف القراء، واختلاف مرجعياتهم الفكرية والآديولوجية.

التسري من جانبه بعد ان نقل معنى شموس من صحاح اللغة والذي يقصد

ص: 139


1- المصدر نفسه: 19 / 18
2- التلقي والتأويل بيان سلطة القارئ في الأدب: 39 - 40
3- شرح نهج البلاغة لأبن أبي الحديد: 19 / 18 - 19

به (شمس الفرسُ شموساً وشماسا، أي منع ظهره)(1) يعلق على قول الإمام (عليه السلام) بقوله (قلت الإمامية إنما قالوا انه إشارة إلى الإمام المنتظر، وأما وجوده وغيبته بأدلة أخرى عقلية ونقلية، وقد مر من النقلية قوله (عليه السلام) (لا تخلو الأرض من قائم لله بحجة أما ظاهراً مشهوراً وإما خائفاً مغموراً لئلا تبطل حجج الله وبيناته)(2) وقوله (عليه السلام) (إذا خوى نجم طلع نجم)(3) نقل قول ابن أبي الحديد الذي يبین فيه ان هذا التاويل فيه إشارة إلى ملك السفاح والمنصور, يعلق عليه بقوله (قلت: لابد ان كان ذاك البعض من الأصحاب، وكيف يصح قوله ولم يكن شماس الدنيا على أهل بيته في زمان العباسيين اقل من زمان الأمويین)(4).

نلاحظ من التأويلات السابقة انها مرتبطة بالاديولوجيات ارتباطاً واضحاً لذلك (فلا سبيل إلى إيجاد قراءة موضوعية لأي نص)(5).

ووفقاً لتلك المنطلقات، نجد هذا الاختلاف بین الشراح على نص واحد، وذلك ما نلحظه عند الشارح الخوئي الذي سلط ذوقه النقدي المتأثر بمرجعياته الفكرية على هذا النص، فكان ان قام بتسفيه ما جاء به ابن أبي الحديد من قراءات تأويلية لنص الإمام (عليه السلام) السابق بقوله: (أقول نلفت نظر القراء الكرام إلى الاتفاق على صدور هذه الجملة منه (عليه السلام)، ودلالتها على اعتقاد الإمامية قطعية أيضاً؛ لان التعبیر بلفظه علينا صريح في أهله خصوصاً بقرينة

ص: 140


1- صحاح اللغة: مادة (شمس) 2 / 937
2- بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة: 2 / 387
3- المصدر نفسه: 3 / 335
4- المصدر نفسه: 3 / 374 - 375
5- التلقي والتأويل بيان سلطة القارئ في الأدب: 45

الآية التي تلاها عليه السلام)(1) وبهذا الرأي يكون الخوئي قد اتفق مع التستري وتأويله لهذا النص. ثم أتبع الخوئي تعليقه السابق برد فيه شيء من الاستهجان وعدم المقبولية لما صدر من تأويلات من الشارح المعتزلي يقول (وبشاعة هذه التأويلات التي ذكرها ظاهرة وخصوصاً ما نقله عن بعض أصحابه من انطباق كلامه على ملك السفاح والمنصور العدو القاتل لبني علي (عليه السلام) بلا ترحم وعطف)(2) لقد كانت التأويلات السابقة لدى الشراح مبنية على تصورات واعتقادات. واتجاهات فكرية تتعلق بالعقيدة وما يتصل بها. من تصورات ومباني فكرية، فلذلك وجدنا ان قراءات الشراح وتأويلاتهم تختلف من شارح إلى آخر بناء على قبلياتهم الحاكمة ومبانيهم الفكرية والأيدلوجية. ونجد عند الشراح نوعاً من التأويل الذي يستمد ما يؤيده من خارج النص وذلك بالاعتماد على بعض القرائن الخارجية كالمادة التاريخية التي وردت في إشارات وكلمات الامام علي (عليه السلام) وقراءاته المستقبلية ومنها على سبيل المثال قوله (عليه السلام):

(لكأني أنظر إلى ضليل قد نعق بالشام وفحص براياته في ضواحي كوفان)(3).

في هذا النص نجد اختلافاً بین الشراح في القراءة، فقد ذهب ابن أبي الحديد إلى أن المقصود بالضليل (هو عبد الملك لأن هذه الصفات والإمارات فيه أتم منها في غیره، لأنه قام بالشام حین دعا إلى نفسه وهو معنى نعيقه، وفحص راياته بالكوفة تارة، حین شخص بنفسه إلى العراق، وقتله مصعباً)(4).

ص: 141


1- منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة: 21 / 324
2- منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة: 21 / 324
3- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 7 / 68
4- المصدر نفسه: 7 / 69

أما إبن ميثم فقد وجه النص وجهة أخرى فهو يرى (ان الإمام (عليه السلام) لم يرد شخصاً بعينه كالسفياني أو معاوية بل يحتمل إنه يراد به شخصٌ آخر يظهر بالشام في وقت آخر)(1). ومن المواضع التي اختلف فيها الشراح قول الإمام (عليه السلام): (تلتف القرون بالقرون)(2). ابن ابي الحديد يرى في هذا القول أنه (وعد بظهور دولة أخرى... وهذا كناية عن الدولة العباسية التي ظهرت على دولة بني أمية، والقرون الأجيال من الناس)(3).

أما ابن ميثم فقد وجه هذا القول بانه (عن قليل يلحقه قرن من الناس يجرون، وكنى بالتفاف بعضهم ببعض عن اجتماعهم في بطن الأرض واستعار لهم لفظ الحصد لمشابهتهم الزرع يحصد قائمه ويحطم محصوده فكنى بحصدهم عن موتهم أو قتلهم، بحطم محصودهم عن قتلهم وتفرق أوصالهم في التراب)(4) في هذه التأويلات إعتمد الشراح على خارج النص، وكانت المرجعيات هنا مرجعيات تاريخية. أما البحراني فيؤول قوله (عليه السلام): (وصار جديدها رثا وسمينها غثاً)(5) بقوله: (والسمين والغث يحتمل ان يريد بهما الحقيقة ويحتمل ان يكنى به عن ما كثر من لذاتها وخيراتها وتغیر ذلك بالموت وزواله)(6).

ص: 142


1- شرح نهج البلاغة لابن ميثم: 3 / 21 - 22
2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 7 / 69
3- المصدر نفسه: 7 / 70
4- شرح نهج البلاغة لابن ميثم: 3 / 22
5- المصدر نفسه: 4 / 236
6- المصدر نفسه: 4 / 242

يخالف الخوئي هذا التأويل بقوله (لا وجه لجعل الاحتمال الثاني في مقابل الاحتمال الأول قسيماً له، بل هما كنايتان ولا ينافيها إرادة الحقيقة ثم الظاهر انهما كنايتان عما عليه أهل المحشر من كون أجسادهم شحبة بعد بضّتها وعظامهم وهنة بعد قوتها لشدة ما عاينوه من الأهوال والشدائد)(1).

ان التأويلین السابقين يقومان على أساس مرجعيات بلاغية إذ ان (لكل مجال معرفي أدواته ووسائله التفسرية الخاصة التي لا ينهض التأويل إلا عليها)(2).

وبعد فان الشراح قد وجدوا في نهج البلاغة لغة مكثفة الدلالة ثرية المحتوى قد استخدمت فيها الألفاظ استخداماً ابتكارياً فأوحت بفيض من المعاني والدلالات التي بانت في صياغتها المبتكرة، ولا شك ان لهذا الإبداع الأدبي تأثیراً عظيماً في الوجدان. ولابد من القول ان هذه القراءات التأويلية بمختلف مستوياتها قد أنتجت لنا نصاً جديداً وذلك يعني (ان النص نصان، نص موجود تقوله لغة، ونص غائب يقوله قارئ)(3) يمتلك أدوات معرفية ومرجعيات فكرية متنوعة.

ص: 143


1- منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة: 11 / 171
2- نقد الخطاب الديني: نصر حامد أبو زيد، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، ط 207: 3
3- مقالات في الأسلوبية: 144

المبحث الثاني قيمة القارئ عند الشراح

لقد عرف النقد العربي الحديث والمعاصر مجموعة من المناهج النقدية كالمنهج النفسي، والمنهج البنيوي التكويني، والمنهج الاجتماعي، والمنهج البنيوي اللساني، والمنهج السيميائي، فالنقد في المرحلة المتأخرة اتجه إلى دور القارئ وقيمته وذلك من خلال منهج التلقي أو التقبل الذي يركز على القارئ أثناء تفاعله مع النص قصد تاويله، ان ابرز فكرة جاءت من اجلها نظرية التلقي هي إعطاء القارئ مكاناً متميزاً ضمن العملية الإبداعية، فالنص ليس ذا قيمة ما لم يقرأ وما لم يكن قابلاً لقراءات متعددة مستعصيِاً على أن يستهلك من قراءة واحدة و هو ما حاولتهُ الاتجاهات السابقة على نظرية التلقي إذ كان جهدها ينصبُ على إبراز القيمة للنصوص في ذاتها وما تختزنهُ من جمالية دون الالتفات إلى جهةِ القارئ، فالنص في نظر هؤلاء قائم بذاته غیر منقوص بقراءة، وما القارئ إلا مستهلك باحث عما يفترض انه كائن في هذا النص الذي يكفيه حاجته.

ان التلقي قديم قدم الإبداع الإنساني، إذ وردت كلمة التلقي في القرآن الكريم

ص: 144

في قوله تعالى: ((فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه انه هو التواب الرحيم))(1) وقال تعالى: ((وانك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم))(2). كما أن التراث النقدي العربي يضمر كثیرا من الصور للعديد من الممارسات النقدية، فمفهوم التلقي ممارس بوضوح في النقد العربي القديم بمفاهيمه الحديثة التي أفرزتها نظرية التلقي الألمانية.

إذ ان نقادنا القدامى لم يهملوا دور المتلقي في تلك المعادلة الأدبية ولم يهملوا كذلك الربط بین جماليات الإبداع وجماليات التلقي، ولعل أقدم وثيقة نقدية عربية هي صحيفة بشر بن المعتمرالتي توحي إلى القول بتقريب الشقة بین الخطيب والشاعر (ينبغي للمتكلم ان يعرف أقدار المعاني ويوازن بينها وبین أقدار المستمعين وبین أقدار الحالات، فيجعل لكل طبقة من ذلك كلاماً، ولكل حالة من ذلك مقاماً، حتى يُقسِّمَ أقدار الكلام على أقدار المعاني، وتقسيم أقدار المعاني على أقدار المقامات أو أقدار المستمعين على أقدار تلك الحالات)(3). ان هذه الإشارة المبكرة لمراعاة أقدار المستمعين ومراعاة الأحوال والمقامات وكون المعاني على أقدارها لتؤكد اهتمام القدماء بالسياق اللغوي والسياق الموقعي، ومعنى هذا ان المتلقي كان ماثلاً وقاراً في الفكر البلاغي والنقدي القديم. كذلك أكد النقاد القدامى على ضرورة ان تكون عملية التواصل القائمة بین المبدع والمتلقي مؤسسة على سياق الخصائص المشتركة بينهما (فليس يمنعني من تفسیر كل ما يمر إلاّ إتكالي على معرفتك وليس هذا الكتاب نفعه إلا لمن روى الشعر والكلام وذهب

ص: 145


1- سورة البقرة: 37
2- سورة النمل: 6
3- البيان والتبيين: 1 / 76

مذاهب القوم)(1). من ناحية أخرى ميز النقاد القدامى بین القارئ البسيط الذي ينتمي إلى العامة ذات القدرات العقلية البسيطة المحدودة، والقارئ العارف الذي يتميز بطاقات عقلية وإمكانات معرفية تسعفه على إدراك الغامض والملتبس في بنية النص الفني (على إني تركت تفسیر أشعار كثیرة وشواهد عديدة مما لا يعرفه إلا الراوية النحرير خوف التطويل)(2)، وإن هذا القارئ (العارف) يؤدي دوراً مهمًا في تحقيق أدبية النص وجماليته، وقد تكلم النقاد القدامى عن القارئ الذي يجهد نفسه في تأمل النص وتأويله ووصفوه بأنه من أهل المعرفه (ان هذا الضرب من المعاني كالجوهر في الصدف لا يبرز لك إلاّ ان تشقه ثم ما كل فكر يهتدي إلى وجه الكشف عما اشتمل عليه فما كل واحد يفلح في شق الصدفة ويكون في ذلك من أهل المعرفة)(3). ان نجاح النص الأدبي ليس في ما يحتويه من ظواهر جمالية، بقدر ما يكمن نجاحه في مدى حثه القارئ على التأويل واستخلاص المعنى وبذلك لم يعد النص (مجرد واحة يلقي القارئ بجسده المنهك على عتبتها طلباّ للراحةوالإسترخاء...، ولم يعد القارئ مجرد مستهلك للنص بل أصبح منتمياً له ومشاركاً فيه بصورة أخرى)(4)، هكذا كان على المتلقي ان يسهم في إنتاج النص وفك شفراته وملْ فراغاته بمعان ودلالات تقليدية لم يسبق إليها احد وكلما قلت فراغات العمل الأدبي، وضاقت آفاقه أمام القارئ بحيث لا يجد فرصةً أو مجالاً للمشاركة والإسهام في توليد معانيه صار العمل الأدبي مملاً. وهذه قضية نقدية

ص: 146


1- البخلاء أبو عثمان عمر بن بحر الجاحظ، تح: طه الحاجري، دار المعارف مصر، 1958 م: 243
2- الحيوان: 3 / 263
3- دلائل الإعجاز: 341
4- النص الشعري وآليات القراءة، فوزي عيسى، مكتبة المعارف، الاسكندرية، 1997 م: 9

حسمت عند كثیر من النقاد العرب القدامى الذين أكدوا على ضرورة أن يحافظ الشاعر على المستوى الفني الرفيع لشعره دون مراعاة الأذواق العامة وإفهامها (وعيار الشعر ان يورد على الفهم الثاقب فما قبله واصطفاه فهو وافٍ وما مَجَّهُ.

ونفاه فهو ناقص)(1) ولعل أبا تمام في إجابته المشهورة (لم لا تفهم ما يقال) يشیر إلى قضية المتلقي العارف، كما يؤكد على ان عملية التوصيل لا تتم من طرف واحد وإنما لابد من الطرف الآخر وهو السامع او القارئ الذي عليه ان يشترك بالإيجاب في هذه العملية، لذلك كان النقاد القدامى لا يعتدون بالمتلقي (البليد والبعيد الذهن، ومن لا يسبق خاطره إلى تصور المعنى)(2) فراحوا يؤكدون على (ان فهم العامة ليس شرطاً معتبراً في إظهار الكلام)(3) لذا كان موقفهم سلبياً من انكشاف المعنى في الشعر فراحوا يؤكدون على توفر عنصر التخيل في الشعر.

تفادياً للمباشرة والتقريرية (ومن المركوز في الطبع ان الشيء إذا نيل بعد الطلب له أو الاشتياق إليه ومعاناة الحنین نحوه كان نيله أحلى وبالميزة أولى، فكان موقعه من النفس أجل وألطف)(4). ان التراث النقدي العربي يضمر كثیراً من الصور للممارسات النقدية الحديثة وبها يدرك ان مفهوم التلقي ممارس بوضوح

ص: 147


1- عيار الشعر، محمدبن احمد بن طباطبا العلوي، شرح وتح عباس عبدالساتر، منشورات محمد علي بيضون، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان: 14
2- سر الفصاحة، للامير ابي محمد عبدالله بن محمدبن سعيد بن سنان الخفاجي الحلبي، شرح وتصحيح عبد المتعال الصعيدي، 1969 م: 206
3- المثل السائر، ضياء الدين بن الأثير، تح محمد محي الدين عبد الحميد، المكتبة العصرية، بيروت، 1995 م: 2 / 269
4- أسرار البلاغة، للشيخ الامام عبد القاهر الجرجاني، تح: ه. ريتر، استنبول، مطبعة وزارة المعارف، 1954 م: 118

في النقد العربي القديم بمفاهيمه الحديثة التي أفرزتها نظرية التلقي الألمانية التي ظهرت في أواسط الستينات في إطار مدرسة كونستانس وبرلین الشرقية قبل ظهور التفكيكية ومدارس ما بعد الحداثة على يد كل من فولفانغ ايزر وهانز روبیر.

ياوس. ومنظور هذه النظرية التي تثور على المناهج الخارجية التي ركزت كثیراً على المرجع الواقعي كالنظرية الماركسية او الواقعية الجدلية التي اهتمت كثیراً بالمبدع وحياته وظروفه التاريخية والمناهج النقدية التقليدية التي كانت ينصب اهتمامها على المعنى وتصيده من النص بوصفه جزءا من المعرفة والحقيقة المطلقة, والمناهج البنيوية التي انطوت على النص المغلق وأهملت عنصراً فعالاً في عملية التواصل الأدبي ألا وهو القارئ الذي تهتم به نظرية التلقي الألمانية أي اهتمام.

ترى نظرية التلقي ان أهم شيء في عملية الأدب هو تلك المشاركة الفعالة بین النص الذي ألّفه المبدع والقارئ المتلقي, أي ان الفهم الحقيقي لأدب ينطلق من موقعة القارئ وإعادة الإعتبار له بوصفه هو المرسل إليه والمستقبل للنص ومستهلكه، وهو كذلك القارئ الحقيقي له، ويعني هذا ان العمل الأدبي لا تكتمل حياته وحركته الإبداعية إلا عن طريق القراءة وإعادة الإنتاج من جديد؛ لان المؤلف ما هو إلا قارئ للأعمال السابقة إذ (يعد القارئ محوراً رئيسياً في المفاهيم النظرية والإجرائية في اتجاهات نقد استجابة القارئ أو إتجاهات ما بعد البنيوية كالتفكيكية والتأويلية والسيمولوجية والقراءة والتلقي وشكلت قاعدة القراءة المهمة المركزيه للنقد المتمحور حول القارئ)(1). ان صلة القارئ بالنص تكمن في التنبيه إلى البنية الأسلوبية للنص لأن (القارئ هو الهدف المختار بوعي من طرف المؤلف فالإجراء الأسلوبي مؤلف بطريقة لا يتمكن معها القارئ ان يمر

ص: 148


1- نظرية التلقي أصول وتطبيقات: د. بشرى موسى صالح، ط 1، بغداد، 1999 م: 28

بجانبه ولا ان يقرأه أيضاً دون ان يسوقه إلى ما هو جوهري)(1)، ونظراً للأهمية التي يحتلها القارئ لذا عُدّ (واحدا من العناصر القارة في جوهر العملية الأدبية على نحو مطلق لا يختص به التصور النقدي الحديث)(2) ومن المفاهيم الأخرى فيما يتعلق بنظرية التلقي إدخال مفهوم القارئ النموذجي الذي (يعني مجموع القراءات وليس متوسطها انه أداة لإظهار منبهات النص ما لا اقل ولا أكثر واستخدام مفهوم القارئ النموذجي ليس إلا مرحلة استكشافية من التحليل)(3) وقد قنن التحليل الأسلوبي ما يقوم به القارئ النموذجي من مهام إذ (يجب على القارئ النموذجي من وجهة نظر التحليل الأسلوبي ان يحصرالمعنى وان يسمح بمقاربة مباشرة وسريعة يستحيل إجراؤها بطريقة أخرى)(4) والقارئ النموذجي هو نموذجي في فهمه مقاصد المؤلف جرّاء ما يتحلى به من معرفة موسوعية، ومؤهلات وقدرات تمكنهُ جميعها من فهم النص إذ أن معنى النص ينبني الطريقة نفسها بالنسبة لجميع القراء؛ ولكن الاختلاف في فهم هذا المعنى من قارئ إلى آخر يعود إلى اختلاف العلاقة التي ينشئها هذا القارئ مع النص عن تلك التي ينشئها القارئ الآخر مع النص نفسه فكل قارئ ينفعل انفعالاً خاصاً به مع انه سلك عن سبيل القراءة التي يفرضها النص على جميع القراء والقارئ يعتمد على حدسه وخبرته وثقافته؛ لذا عد القارئ محوراً في نظرية التلقي التي شكلت ثورة في تأريخ الأدب، إذ أعادت الاعتبار له ذلك ان (القارئ ضمن الثالوث المتكون

ص: 149


1- معايير تحليل الأسلوب: ميكائيل ريفاتير، ترجمة وتقويم وتعليقات: د. حميد لحميداني، منشورات دراسات سال: 35
2- نظرية التلقي أصول وتطبيقات: 40
3- معايير تحليل الأسلوب: 41 - 42
4- المصدر نفسه: 46

من المؤلف والعمل والجمهور ليس مجرد عنصر سلبي يقتصر على الانفعال بالأدب بل تعداه إلى تنمية طاقة تساهم في صنع التاريخ)(1) وهذا يتطلب نظرة جديدة للعلاقة بین التاريخ والأدب مما يعني (إلغاء الأحكام المسبقة التي تتميز بها النزعة الموضوعية التاريخية، وتأسيس جمالية الإنتاج والتصوير التقليديه على جمالية الأثر المنتج والتلقي)(2) وهذه العلاقة الحوارية تفرض على مؤرخ الأدب (أن يتحول باستمرار إلى قارئ قبل أن يتمكن من فهم عمل وتحديده تاريخياً)(3).

ان الاحتفال بالقارئ عند رواد نظرية التلقي واكبته نظرة جديدة إلى هذا القارئ، نظرة تهدف إلى تجاوز سلبيته التي راكمتها قرون إهماله، فغدا صاحب فعل جديد يصل إلى حد المشاركة في صنع المعنى؛ لأن (القارئ الذي يتوقف عند مرحلة فهم المعاني اللفظية أي العلامات اللغوية داخل أنساق يحكمها قانون التوحد بین طرفي العلاقة، ليس هو القارئ الذي يتحدث عنه أصحاب نظرية التلقي؛ لأن هذا القارئ لن يكون قادراً على ملء فراغات النص، وقيام القارئ بملء فراغات النص هو جوهر التلقي)(4). وإن مفهوم الفراغ أو الفجوة ارتبط برومان انجاردن الذي رفض في فلسفته الظواهرية ثنائية الواقع والمثال في تحليل المعرفة ورأى ان العمل الفني الأدبي يقع خارج هذه الثنائية، فلا هو معین بصورة نهائية، ولا هو مستقل بذاته، ولكنه (يعتمد على الوعي ويتشكل في هيكل أو بنية مؤطرة

ص: 150


1- جمالية التلقي من اجل تأويل جديد للنص الأدبي: هانس روبرت ياوس، ترجمة: رشيد بنحدو، المشروع القومي للترجمة المجلس الأعلى للثقافة، ط 1، 2004 م: 39 - 40
2- المصدر نفسه: 42
3- المصدر نفسه: 43
4- الخروج من التيه، دراسة في سلطة النص، د. عبد العزيز حمودة، عالم المعرفة، مطابع الوطن, الكويت, 2003 م: 134

تقوم في أجزاء منها على الإبهام الناشئ عما تشتمل عليه من فجوات أوفراغات يتعین على القارئ ملؤها)(1). ان الهيكل أو البنية المؤطرة تتشكل من أربع طبقات للعمل الأدبي هي (أصوات الكلمات، ومعاني الكلمات والاشياء التي يمثلها النص، وأخیراً الجوانب التخطيطية)(2) فإذا كانت الأشياء في الواقع لا تحتمل غیر معنى واحد ومحدود ومعروف فانها على النقيض من ذلك في العمل الأدبي (ينبغي لها ان تحتفظ لنفسها بدرجة من الإبهام)(3) وهذا الإبهام يقوم القارئ بتحديده وهو ما يصطلح عليه التحقق العياني الذي هو (نشاط يقوم به القراء يتعلق باستبعاد العناصر المبهمة أو الفراغات أو الجوانب المؤطرة في النص او بملئها)(4) ان ملء الفراغ يختلف باختلاف قدرات القراء وإمكانياتهم المعرفية (ولكن القراء في ممارستهم عملية التحقق العياني يجدون الفرصة كذلك لأعمال خيالهم، ذلك بان ملء الفراغات بأشياء محددة يتطلب قوة إبداعية يضيف إليها انجاردن المهارة وحدة الذهن كذلك)(5) وبذا نقترب من التفاعلية التي اشتهر بها آيزر وحديثه عن إنتاج المعنى، لاسيما إذا كنا امام قارئ يمتلك خيالا خصباً وذهناً حاداً، ذلك ان ايزر (ينظر إلى معنى النص على انه من إنشاء القارئ ولكن بإرشاد من التوجهات النصية و من ثم فان القراء أحرار في ظاهر الأمر في ان

ص: 151


1- نظرية التلقي روبرت هولب، ترجمة: عز الدين إسماعيل: 136
2- المرايا المقعرة نحو نظرية نقدية عربية: عبد العزيز حمودة, عالم المعرفة, مطابع الوطن, الكويت: 134
3- نظرية التلقي: 63
4- المصدر نفسه: 64
5- المصدر نفسه: 64

يحققوا بطرق مختلفة معاني مختلفة تحقيقاً عيانياً أو في ان يخلقوها خلقاً)(1) وعليه فان ايزر وياوس كليهما ينظران إلى ان المعنى يتحقق نتيجة التفاعل بین القارئ والنص إذ (فهم ياوس التفسیر على انه نشاط القارئ في فهم النص، وكذلك الشأن بالنسبة لايزر الذي ذهب إلى ان المعنى لا يستخرج من النص أو شبكة المفاتيح النصية، بل الأحرى انه يتحقق من خلال التفاعل بین القارئ والنص، والتفسیر عندئذ لا يستلزم استكشاف معنى محدد للنص)(2). في ضوء ما تقدم فإن النص لا يحمل قصداً معيناً، بل ان المعنى يستخرج من النص كشيء ثابت محدد، بقدر ما يكون البحث دليلاً على نفي القصدية إذ ان (موقف أعضاء نادي التلقي من القصدية، يتفق مع ما انشغلوا به من نقل سلطة التفسیر بالكامل إلى القارئ أو فعل القراءة، ففي ظل التحول الجديد لا يصبح لقصد المؤلف أو النص مكان في القراءة التأويلية، ولهذا يتفق أصحاب التلقي في إجماع، باستثناء صوت واحد تقريباً هو صوت هیرش على نفسي القصدية)(3)، و ان نفي القصدية ونقل سلطة التفسیر إلى القارئ مع ما يواكب ذلك من تعدد القراءات للنص الواحد، بل وتعدد قراءات القارئ الواحد للنص الواحد، كل ذلك أسهم في دق جرس خطر الفوضى وهو ما تنبه له رواد النظرية إذ (اشتركوا جميعاً في إدراك مخاطر نظرية التلقي وفي مقدمتها فوضى التفسیر وهكذا حاولوا جميعاً تقديم ضوابط للتفسیر تتمثل عند البعض بالجماعة أو الجماعات المفسرة وأسماه آخرون بأفق التوقعات التي

ص: 152


1- المصدر نفسه: 158
2- المصدر نفسه: 21
3- الخروج من التيه: 132

يجيء بها الفرد إلى النص في بداية فعل القراءة)(1). والعلاقة بین النص والقارئ علاقة وثيقة (فالنص لا يتحقق دلالياً إلاّ بالقراءة التي تحيله إلى حياة وتؤسس له قيمة من خلال التجدد الذي لا يجمد في صيغة ولا يطوّق بمعنى)(2). في ضوء المناهج التأويلية التي تحدثنا عنها والتي وضعت أبوة القارئ ودوره في توجيه النص وفهمه وإعادة بنائه، واكتناه الأبعاد الداخلية له, وهنا يشار إلى المقولات التي قالها الأعلام من الشراح فابن أبي الحديد ذكر انه لابد ان يتسم قارئ النص بسمات معينة أي ان يكون قارئ النهج مزود بمرجعية ثقافية تؤهله للدخول إلى عالم النص في نهج البلاغة بوصفه نصاً متعالياً؛ لهذا فهو ليس عرضة لكل قارئ، وانطلاقاً من هذا الأمر أراد حبيب الله الخوئي ان يطور الملاكات والكفاءات عند القارئ، حتى يكون مزوداً بمؤهلات معرفية فيما يتعلق بمضمون نهج البلاغة وما يحتويه من دلالات عميقة، ولعل مقدمة منهاج البراعة فيها اشارة إلى هذا الجانب بشكل مبطن، وكذلك فعل ابن ميثم البحراني في مقدمة شرحه.

إن إبن أبي الحديد المعتزلي على سعة ثقافته وتمرسه إذ هو عقلية موسوعية وأديب عالي الأدب، فهو من كبار أدباء العرب، ويعد من أصحاب الثقافات الموسوعية فهو المؤرخ والأديب والفيلسوف والمتكلم، لذا نرى عند قراءاته لنهج البلاغة يعطي للقارئ القيمة الكبرى في تحديد نسبة النهج إلى أمیر المؤمنین، يشترط في القارئ توفر مجموعة من المؤهلات التي تمكنه من الدخول إلى عالم نهج البلاغة، ذلك ان نهج البلاغة ليس عرضة لكل قارئ، فهو نص عالِ مكثف فيه كثیر

ص: 153


1- المصدر نفسه: 118
2- القارئ القياسي، القراءة وسلطة القصد والمصطلح والنموذج, مقاربات في التراث النقدي، د. صالح زياد، دار الفارابي، ط 1، 2008 م: 168

من الدلالات ويحتاج إلى التأويل حتى يصل إلى فهم معمق له، وكذلك يمكن الإعتماد على الذوق والدربة الموجودة عند القارئ وإستئناسه بلون من ألوان النسق الخطابي لشخصية معينة يستطيع في ضوئها الدخول إلى عالم النص.

فيما كتب عن نسبة النص إلى أمیر المؤمنین بقطع النظر عن البحث التاريخي وورود الروايات التي تدعم هذا الأمر, يمكن القول ان هذه المسألة تعتمد على الذوق والدرية الموجودة عند القارئ والخبرة الطويلة المتكونة نتيجة المداومة على قراءة النصوص عالية الإبداع التي بموجبها نستطيع ان نحدد نسبة الكتاب إلى صاحبه. يقول ابن أبي الحديد مشیراً إلى ذلك: (إن كثیرا من أرباب الهوى يقولون:

ان كثیراً من نهج البلاغة كلام محدث صنعه قوم من فصحاء الشيعة، وربما عزو بعضه إلى الرضي ابي الحسن وغیره، وهؤلاء قوم أعمت العصبية أعينهم، فضلوا عن النهج الواضح وركبوا بُنيا ت الطريق. ضلالاً وقلة معرفة بأساليب الكلام)(1) والمشكلة هنا كما يوضحها ابن أبي الحديد في القبليات الحاكمة على تلك الذائقة المتعلقة بالعصبية وغیر ذلك من أمور تبعد عن الحقيقة، يشیر الشارح المعتزلي إلى غلط هذا الاعتقاد بقوله (لا يخلو إما ان يكون كل نهج البلاغة مصنوعاً منحولاً أو بعضه، والأول باطل بالضرورة؛ لأنّا نعلم بالتواتر صحة إسناد بعضه إلى أمیر المؤمنین (عليه السلام) وقد نقل المحدثون كلهم أو جلهم والمؤرخون كثیراً منهم، وليسوا من الشيعة. لينسبو إلى غرض في ذلك، والثاني يدل على ما قلناه؛ لأن من قد أنس بالكلام والخطابة وشدا طرفاً من علم البيان، وصار له ذوق في هذا الباب لابد ان يفرق بین الكلام الركيك والفصيح، وبین الفصيح والأفصح، وبین الأصيل والمولد، وإذا وقف على كراس واحد يتضمن كلاماً لجماعة من الخطباء،

ص: 154


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد:. 1 / 303

أو لأثنین منهم فقط، فلابد ان يفرق بین الكلامین، ويميز بین الطريقتین ألا ترى إنا مع معرفتنا بالشعر ونقده، لو تصفحنا ديوان ابي تمام فوجدناه قد كتب في اثنائه قصائد أو قصيدة واحدة لغیره، لعرفنا بالذوق مباينتها لشعر أبي تمام ونفسه وطريقته ومذهبه في القريض)(1). وهنا أشار ابن أبي الحديد إلى واحدة من سمات القارئ النموذجي وهي الموضوعية إذ أشار إلى التخلي عن العصبية.

الصفة الأخرى من صفات القارئ النموذجي عند ابن أبي الحديد البعد المعرفي والأدبي والذوقي أي ان يكون القارئ عارفاً بأساليب الكلام وان يكون لديه ملكة الأنس بالكلام وهي مرحلة عالية من الدربة في تمرسه بكلام شخص معین، ومن مميزات القارئ كذلك ان تكون لديه ذائقة وهي القدرة على تميز الكلام ونسبته إلى قائله دونما معاناة ومكابدة، أي ان القارئ النموذجي لديه القدرة في تمييز كلام الإمام (عليه السلام) من كلام غیره وذلك متحصل من خلال الدربة والممارسة يقول ابن أبي الحديد في معرض دفاعه عن نهج البلاغة: (وأنت إذا تأملت نهج البلاغة وجدته كله ماء واحداً ونفساً واحداً وأسلوباً واحداً كالجسم البسيط الذي ليس بعض من ابعاضه مخالفاً لباقي الابعاض في الماهية وكالقرآن الكريم، أوله كوسطه، وأوسطه كآخره، وكل سورة منه، وكل آية مماثلة في المأخذ والمذهب والفن والطريقة والنظم لباقي الآيات والسور)(2). وهنا يؤسس المعتزلي بعض صفات القارئ النموذجي والتي منها ان تكون لديه القدرة في ان يميز كلام شخص حتى وان لم ينسب هذا الكلام إلى صاحبه، وذكر آليات الكشف عن كل ما يتضمنه النص من دلالات وذلك من خلال بعض المعايیر والقيم النقدية التي

ص: 155


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 1 / 303 - 304
2- المصدر نفسه: 10 / 304

ذكرها منها النفس، والطريقة والمذهب، وكذلك الفصيح والأفصح والأصيل والمولد وغيرها من المعايیر الموضوعية.

الشارح الخوئي من جانبه يضع معايیر لقارئ نهج البلاغة نجد ذلك في تعليقه على قول الإمام (عليه السلام): (فسبحان الله ما اقرب الحي من الميت للحاقه به وأبعد الميت من الحي لإنقطاعه عنه)(1) بقوله: (وهو من أفصح الكلام وأحسنه في تأدية المرام يعرف ذلك من له دراية في صناعة البيان وإحاطة بلطائف فن المعان)(2). إذ يشیر إلى قارئ مثالي يتميز ببعض الخواص الدراية والإحاطة وهما ميزتان عاليتان يفهم منهما علوّ النص؛ لذا اقترح له قارئاً نموذجياً يتكئ على مرجعية ثقافية عالية. و نجد معيارا آخرله في تعليقه على قول الامام (عليه السلام) الذي يقول فيه: (فانه والله الجدُّ لا اللعبُ والحق لا الكذبُ وما هو إلا الموت)(3) إذ بین الشارح السمات الموضوعية في النص بقوله (لا يخفي ما في هذا الكلام من التهويل والتخويف والإنذار بالموت لما فيه على وجازته من وجوه التأكيد وضروب التفخيم البالغة إلى عشرة بعضها لفظية وبعضها معنوية كما هو غیر خفي علی العارف بأسرار البلاغة وبدائعها)(4) وهنا بین الشارح ان المعنى في هذا النص ليس عرضة لكل قارئ، اذ لابد ان يكون القارئ على درجة عالية من الفهم، إذ ان درجة العارف درجة عالية من المعرفة لا ينالها أي شخص، وأي معرفة هذه التي اشترطها، انها المعرفة بأسرار البلاغة وليس هذا فحسب إنما

ص: 156


1- منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة: 8 / 53
2- المصدر نفسه: 8 / 53
3- منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة: 8 / 265
4- المصدر نفسه: 8 / 265

أضاف إليها بدائعها لتكتمل الصورة المنتقاة للقارئ النموذجي لمثل هذا النص المتعالي. هذا وقد ذكر حبيب الله الخوئي إلى انه يستحيل فهم نهج البلاغة وتمنى ان الله يمنحه هذه الموهبة لفهم هذا النص وهو ما عبر عنه بقوله (صار كلامه (عليه السلام) جامعاً للعجب العجاب، منحدراً عنه السيلُ والعباب، بل كان بحراً متلاطم التيار متراكم الزخار فهو أعظم شأناً، وأمتع جانباً، واجلّ قدراً، وابعد قعراً من ان يناله غوص الإفهام، أو يبلغ غوره العقول والأوهام، هيهات هيهات، ضلت العقول، وتاهت الحلوم وحارت الخطباء، وعجزت الأدباء، وكلت العظماء، وعييت البلغاء، وتحیرت الحكماء، وتصاغرت العظماء عن وصف شأن من شانه، أو إدراك فضيلة من فضائله)(1) وفي موضع آخر يعود ليؤكد حقيقة هذا الأمر وهو صعوبة فهم نهج البلاغة، فلابد ان يكون القارئ لهذا النص من نوع القارئ النموذجي، وذلك ما أشار إليه بقوله (ولعمري انه كتاب شرع المناسك للناسك، وشرح المسالك للسالك، وهو خلاص المتورطین في الهلكات، ومناص المتحيرين في الفلوات ملاذ كل بائس فقیر، ومعاذ كل خائف مستجير، مدينة المآرب، وغيبة الطالب، لان ما أودع فيه كلام عليه مسحة من الكلام الإلهي، وفيه عبقة من الكلام النبوي صلى الله عليه وآله وسلم ظاهره أنيق وباطنه عميق، مشتمل على أمر ونهي ووعد ووعيد، وترغيب وترهيب، وجدل ومثل وقصص، لا تفنى عجائبه، ولا تنقي غرائبه، يدل على الجنة طالبها، وينجي من النار هاربها، شفاء من الداء العضال، ونجاة من ظلمة الظلال، دواء لكل عليل، ورواء لكل غليل، وأمل لكل آمل، وبحر ليس له ساحل، وكنز مشحون بأنواع الجواهر والدرر، تفوح من نفحاته المسك الأذفر والعنبر ومع ذلك فقد احتوى من حقائق البلاغة

ص: 157


1- المصدر نفسه: 1 / 11

ودقائق الفصاحة ما لا يبلغ قصدهُ الفكر، وجمع من فنون المعان وشؤون البيان ما لا ينال غوره النظر، وتضمنت من أسرار العربية والنكات الأدبية والمحاسن البديعية ما يعجز عن تقريره لسان البشر)(1) يشیر النص إلى ما احتوى عليه نهج البلاغة من موسوعة معارف مختلفة وهو لهذا نص عصي على الفهم فلابد والحالة هذه من توفر القارئ الملم بموضوعه إذ وصل الأمر مع هذا النهج ان يعترف الشراح بعجزهم عن الوصول إلى غاية مراميه ومقاصده العليا, وذلك ما أشار إليه الخوئي مراراً يقول: (والغرض من ذلك كله ان اشق للإخوان الصالحین تلك الأصداف السجينة وإخرج للسالكين دررها الثمينة وهذا كله مع اعترافي باني قصیر الباع، وقاصر الذراع وليس من يُعد في عداد من يؤسس هذا البنيان، أو يقدر على السباق في ذلك الميدان)(2) إذا كان هذا حال من تصدى لشرح نهج البلاغة وهو يقر بعجزه أمام هذه المهمة الصعبة فكيف حال القارئ العادي؟ لا شك ولا ريب ان الأمر يحتاج إلى أدوات معرفية.

الرضي بوصفه شارحاً للنهج يضع معاییراً ومواصفات لقارئ النهج ذلك ما تجلى في تعليقه على خطبة الإمام (عليه السلام) التي يقول فيها (ذمتي بما أقول رهينة، وأنا به زعيم ان من صرحت له العبر عما بین يديه من المثلات، حجزته التقوى عن تقحم الشبهات، ألا وان بليتكم قد عادت كهيئتها يوم بعث الله نبيه، والذي بعثه بالحق لتبلبلن بلبلة، ولتغربلن غربلة. ولتساطن سوط القدر حتى يعود أسفلكم أعلاكم، وأعلاكم أسفلكم، وليسبقن سابقون كانوا قصروا،

ص: 158


1- منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة: 1 / 13
2- المصدر نفسه: 1 / 16

وليقصرن سباقون كانوا أسفوا)(1) وهنا یبین الرضي ما ينبغي ان يتوفر في القارئ لهذا النص من سمات بقوله: (ان في هذا الكلام الادنى من مواقع الإحسان ما لا تبلغه مواقع الاستحسان وان حظ العجب منه أكثر من حظ العجب به، وفيه مع الحال التي وصفنا زوائد من الفصاحة لا يقوم بها لسان ولا يطلع فجها إنسان، ولا يعرف ما أقول إلا من ضرب في هذه الصناعة بحق، وجرى فيها على عرق)(2)، و أشار الرضي في هذا النص إلى علو رتبة النص في نهج البلاغة، كما بین ان فهمه يتوقف على قارئ ملم بموضوعه عارف بأساليبه وفي ذلك إشارة ضمنية إلى ما يسمى بالقارئ النموذجي أو القارئ الناقد الذي لديه درية وممارسة في معرفة الكلام العالي وتذوقه.

وبعد ان اقرّ بعجزه عن فهم نهج البلاغة يضع شروطاً معينة للقارئ الذي يريد فهم مراد نهج البلاغة إذ يرفع من معايره في تعليقه على خطبة الامام (عليه السلام) التي يقول فيها: (فان تقوى الله مفتاح سداد، وذخیرة معاد، وعتق من كل ملكة، ونجاة من كل هلكة، بها ينجح الطالب، وينجو الهارب، وتنال الرغائب، فاعملوا والعمل يرفع، والتوبة تنفع، والدعاء يسمع، والحال هادئة، والأقلام جارية، وبادروا بالأعمال عمراً ناكساً ومرضاً حابساً أو موتاً خالساً، فان الموت هادم لذاتكم، ومكدّرُ شهواتكم، ومباعدُ طيباتكم، زائر غیرُ محبوب، وقرنُ غیر مغلوب، وواتر غیر مغلوب...)(3). هنا يشیر الخوئي إلى ما تضمنته الخطبة من المعاني العالية وما احتوته من جماليات لا يصل إلى فهم مرادها إلا المصقع

ص: 159


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 1 / 203
2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 1 / 203
3- منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة: 14 / 364

البارع فهو يضع شرطاً للقارئ الذي يريد فهم مراد الإمام في هذا النص الذي لا يمنح كنوزه لكل قارئ، إذ لابد ان يكون قارئ هذا النص من طراز خاص ومواصفات معينة وهو ما سماه (المصقع البارع) حتى يتمكن من سبر غور النص وفهم مضامينه ومراميه العالية، والشارح هنا يريد ان يقول ان نص نهج البلاغة لا يتيسر لكل قارئ فلابد من توفر القارئ المؤهل الذي لديه إمكانيات أدبية ومرجعيات ثقافية مختلفة حتى يتمكن من الدخول الى عالم نهج البلاغة تمثل ذلك بقوله: (اعلم ان هذه الخطبة الشريفة من محاسن خطبه عليه السلام وفيها من نكات البلاغة وفنون البديع ما لا يخفى على المصقع البارع)(1).

ص: 160


1- المصدر نفسه: 1 / 366

المبحث الثالث المصطلح النقدي عند الشراح

إن الوعي بالمصطلح في الثقافة النقدية العربية ضارب بجذوره في القدم وليس وليد النهضة الأدبية والنقدية الحديثة، فلنا في حديث الجاحظ في مطارحاته عن قضية اللفظ والمعنى ما يقرب من ذلك (ومن علم حق المعنى ان يكون الاسم له طبقاً وتلك الحال له وفقاً، ويكون الاسم لا فاضلاً ولا مفضولاً ولا مقصراً ولا مضمناً)(1) ويتعین ها هنا استذكار ما أدركه القدامى عن وعي خالص من ان مفاتيح العلوم مصطلحاتها، بل هي ليست مفاتيح العلوم فحسب، وإنما هي خلاصة البحث في كل عصر ومصر، بوجودها يبدأ الوجود العلني للعلم، وفي تطورها يتلخص تطور العلم(2) وهذا ما تنبه له الجاحظ في مرحلة مبكرة حين أشار إلى ان لكل علم مصطلحاته فلعلم الكلام مصطلحاته وللمتكلمین مصطلحاتهم وللنحاة مصطلحاتهم وللعروضین مصطلحاتهم التي اجتلبوها للتفاهم وجعلوها وسيلتهم للإفهام (ولان كبار المتكلمین ورؤساء النظارين كانوا فوق أكثر الخطباء

ص: 161


1- البيان والتبيين: 1 / 100
2- ينظر: مصطلحات نقدية وبلاغية في كتاب البيان والتبيين للجاحظ الشاهد البوشيخي، منشورات الآفاق الجديدة، بيروت، 1982 م: 13

وابلغ من كثیر من البلغاء وهم تخیروا تلك الألفاظ لتلك المعاني وهم اشتقوا لها من لسان العرب تلك الأسماء)(1) على هذا يمكن القول (ان مفهوم المصطلح النقدي مفهوم إشكالي؛ لان طابعه المتغیر والتشكلات التي يتمظهر فيها يجعل من تحديده مهمة صعبة وبوصفه صیرورة تواصلية، فان العديد من أنماط التواصل تتنازع حوله وتحاول ان تجره إلى حقلها وتوظفه إجرائياً)(2). ومما يؤكد على أهمية المصطلح ودوره في المنظومة الفكرية (ان اللغة العربية قد عبرت قديماً عن المفهوم ذاته بكلمات أخرى تفصح عنها عنوانات كثیر من التصانيف التراثية التي أفردت لهذا الغرض منها مفاتيح العلوم للخوارزمي، ومفتاح العلوم للسكاكي، والتعريفات للجرجاني، وكشاف اصطلاحات الفنون للتهانوي)(3).

ذلك يبین ما للمصطلح من أهمية جعلته يستقطب إهتمام الباحثین على اختلاف مشاربهم، لان (مفاتيح العلوم مصطلحاتها، ومصطلحات العلوم ثمارها القصوى فهي مجمع خصائصها المعرفية، وعنوان ما به تميز كل واحد به عما سواه، وليس من مسلك يتوسل به الإنسان إلى مناطق العلم غیر ألفاظه الاصطلاحية حتى وكأنها تقوم من كل علم مقام جهاز من الدوال ليس مدلولاته إلا محاور العلم ذاته)(4). وقد أكد النقاد العرب القدامى على أهمية المصطلحات في الفعل

ص: 162


1- البيان والتبيين: 1 / 88
2- المرجعيات في النقد والأدب واللغة مؤتمر النقد الدولي الثالث عشر، المجلد الأول، عالم الكتب الحديث: 46
3- إشكالية المصطلح في الخطاب النقدي العربي الجديد، د. يوسف وغليسي، الدار العربية للعلوم، ناشرون منشورات الاختلاف: 24
4- قاموس اللسانيات: عبد السلام المسدي، الدار العربية للكتاب، تونس، 1984 م: 24

المعرفي ف (لابد لأهل كل علم وأهل كل صناعة من ألفاظ يحيطون بها للتعبیر عن مراداتهم وليستحضروا بها معاني كثیرة)(1) ولكل علم من العلوم مصطلحاته التي على أساسها يتم التعامل مع هذا العلم (لأن بین العلم والمصطلح لحاما هو كالتماهي الذي يقوم بین الدال والمدلول من المسلمات الأولى فكل حديث عن الدال منفصلاً عن المدلول، وكل حديث عن المدلول في معزل عما يدلنا عليه، بل كل حديث عن علاقة الدوال بمدلولاتها (انما ينطوي على فصل بین المتلاحمات)(2). وتختلف المرجعيات في تحديد المصطلح من اللغوي إلى اللساني إلى الفلسفي، وان صياغة أي مصطلح تخضع لثوابت معرفية ولنواميس لغوية (فأما الثوابت المعرفية فتتصل بطبيعة العلاقة المعقودة بین كل علم من العلوم ومنظومته الاصطلاحية، وأما النواميس اللغوية فيقتضي تحديد نوعية اللغة التي تتحدث عن قضية المصطلح وما تحقق به من فروق تنعكس على آليات الألفاظ ضمنها)(3) كما ان لكل علم خصوصيات تميزه عن العلم الآخر لذا يسعى المهتمون بقضية المفاهيم إلى الكشف المفهومي الذي (يقيم للمعرفة النوعية سياجها المنطقي بحيث يغدو الجهاز المصطلحي لكل ضرب من العلوم صورة مطابقة لقياساته متى اضطرب نسقها)(4) أو اختل النظام الذي يحكمها ف (إذا لم يتوفر للعلم مصطلحه العلمي الذي يعد مفتاحه فقد هذا العلم مسوغه وتعطلت وظيفته)(5).

ص: 163


1- مصطلحات نقدية وبلاغية في كتاب البيان والتبيين: 13
2- المصطلح النقدي: 11
3- المصدر نفسه: 10
4- المصطلح النقدي: 12
5- المصطلح النقدي في التراث الأدبي العربي، محمد عزام، دار الشروق العربي، بيروت، حلب، د. ت: 6

نتيجة لأهمية المصطلح (بذل السلف جهداً محموداً في وضع المصطلحات وكان الأساس في المصطلح ان يتفق عليه اثنان أو أكثر، وان يستعمل في علم أو فن بعينه ليكون واضح الدلالة مؤدياً المعنى الذي يريده الواصفون، ولم يروا بأساً في ان يضع المؤلف مصطلحه فيتبع أو يهمل)(1)، ان العلاقة بین العلوم والمصطلحات علاقة وثيقة إذ لا يمكن ان تقوم العلوم دون وجود المصطلحات بمختلف الحقول العلمية وانه (ليس كالعلوم جسور تمتد بین الأقوام وحضارتهم، لذلك عدت المصطلحات العلمية سفراء الألسنة بعضها إلى بعض)(2) وقد كان للنقاد والبلاغيين العرب عناية واضحة بالاصطاح العلمي، وقد بدأت بذور هذا الاصطلاح عند الجاحظ ومن تلاه من النقاد والبلاغيین, فهذا قدامة بن جعفر في معرض حديثه عن نقد الشعر يقول (فإني لما كنت آخذا في استنباط معنى لم يسبق إليه من يضع لما يظهر منها ذلك اسماءً اخترعتها وقد فعلت ذلك والأسماء لا منازعة فيها إذا كانت علامات)(3). وهنا يشیر قدامة إلى سبقه في ريادة هذا الميدان المعرفي وعليه فانه (لا تشاح في الألفاظ كما انه لا حرج على من عدَّل عما تقتضيه تلك الأسامي في المسميات إذا أراد الإفصاح عن جهات مشابهاتها كما نقلت إليها)(4) وبذلك أصبح المجال مفتوحاً أمام كل العلماء والاصطلاحيین في ان يضعوا ما شاءوا من المصطلحات العلمية وفقاً لضوابط معينة ومعايیر معلومة يعرفها أصحاب ذلك العلم ف (كل من استخرج علماً أو استنبط شيئاً وأراد ان يضع له اسماً من عنده

ص: 164


1- معجم النقد العربي القديم: د. احمد مطلوب، ط 1، دار الشؤون الثقافة العامة: 27
2- قاموس اللسانيات: 28
3- نقد الشعر ابو الفرج قدامة بن جعفر، تح محمد عبد المنعم خفاجي، دار الكتب بيروت، لبنان: 22
4- منهاج البلغاء وسراج الأدباء، صنعة ابي الحسن حازم القرطاجني، تقديم وتحقيق، محمد الحسن بن الخوجة، دار الغرب الاسلامي: 252

ويواطئ من يخرجه إليه عليه فله ان يفعل، ومن هذا الجنس اخرع النحويون اسماء الحال والزمان والمصدر والتمييز واخرج الخليل لغات العروض فسمي بعض ذلك الطويل وبعضه الهزج وبعضه الرجز)(1).

وهنا يشار إلى ارتباط المصطلح بالوسط لعلَّ من الأدلة على ذلك ما قام به الخليل بن احمد الفراهيدي من وضع مصطلحات علم الأوزان والقوافي الخاص بالشعر العربي فبيت الشعر مستمد من بيت الشعر (بفتح الشین) بل انه لمح عند نقاد القرن الثالث الهجري دوافع اجتماعية وثقافية في تمسكهم بالمصطلح البدوي إذ (ليس هناك ما يشبهه لدى الأمم الأخرى إلا شبهاً عارضاً، ومن هنا كان إيمان الجاحظ بالصلة بین الشعر والعرق ثم بین الشعر والغريزة وكذلك كان تمسك هؤلاء العلماء بالمصطلح البدوي في النقد)(2) من هذا يتبین ان المصطلح وليد البيئة التي نشأ فيها وبها يعرف. وقد وصلت بالقدامى الدقة في وضع المصطلحات إلى حد تأبيهم لمن يخالف في الكتابة المتواضع عليها عند السابقين، فهذا الآمدي يأخذ على قدامة بن جعفر مخالفته ابن المعتز في بعض مصطلحات الفنون البلاغية يقول (فانه وان كان اللقب يصح لموافقته معنى الملقبات وكانت الألقاب غیر محصورة فاني لم أكن أحب له ان يخالف من تقدمه مثل أبي العباس عبدالله بن المعتز وغیره ممن تكلم في هذه الأنواع وألف فيها إذ قد سبقوه إلى التلقيب وكفوه المؤونة)(3) ومن الوظائف التي يضطلع بها المصطلح، انه يؤدي وظيفة اقتصادية

ص: 165


1- البرهان في وجوه الييان, أبو الحسن إسحاق بن إبراهيم بن سليمان بن وهب الكاتب: د. احمد مطلوب، د. خديجة الحديثي بغداد، 1967 م: 158 - 159
2- تاريخ النقد الأدبي عند العرب, د. إحسان عباس، دار الثقافة، بيروت، ط 2، 1978 م: 88
3- الموازنة بين أبي تمام والبحتري الآمدي،، تح: عبد محمد محارب، مكتبة الخانجي، القاهرة: 3 / 117

بالغة الأهمية تمكن من تخزين كم معرفي هائل من وحدات مصطلحية محددة والتعبیر بالحدود اللغوية القليلة عن المفاهيم المعرفية الكثیرة (ولا يخفى ما في هذه العملية من اقتصاد في الجهد واللغة والوقت يجعل من المصطلح سلاحاً لمواجهة الزمن يستهدف التغلب عليه والتحكم فيه)(1). كما تعد اللغة الاصطلاحية لغة عالمية انها ملتقى الثقافات الإنسانية (وهي الجسر الحضاري الذي يربط لغات العالم بعضها ببعض)(2). ولعل من خصوصية المصطلح الذي يتميز عن غیره من المصطلحات في الحقول المعرفية الأخرى اختلافه عن المصطلحات في حقله، كأن يختلف المصطلح النقدي القديم عن المصطلح النقدي الحديث، وحین ينقل المصطلح النقدي الجديد في عزلة عن خلفيته الفكرية والفلسفية، فانه يفرغ من دلالته ويفقد القدرة على ان يحدد معنى إذ ان (القيم المعرفية القادمة مع المصطلح تختلف بل تتعارض أحياناً مع القيم المعرفية التي طورها الفكر الغربي المختلف، وأصبح نشاطنا الفكري ضرباً من العبث أو درساً من الفوضى الثقافية وكلاهما نوع من الترف الفكري الذي لا يتقبله واقعنا الثقافي)(3) ولقد عرف المصطلح بانه: (لفظ موضوعي يؤدي معنى معيناً بوضوح ودقة بحيث لا يقع أي لبس في ذهن القارئ أو السامع وتشيع المصطلحات الضرورية في العلوم الصحيحة، والفلسفة والحقوق حيث يحدد مدلول اللفظة بعناية قصوى)(4) وهو كذلك:

(رمز لغوي (مفرد أو مركب) أحادي الدلالة منزاح عن دلالته المعجمية الأولى،

ص: 166


1- إشكالية المصطلح النقدي: 44
2- المصدر نفسه: 14
3- المرايا المحدبة من البنيوية إلى التفكيكية: د. عبد العزيز حمودة، عالم المعرفة، الكويت: 63
4- معجم الأدب: جبور عبد النور، دار العلم للملايين، ط 1، مارس، 1975 م: 252

يعبر عن مفهوم نقدي محدد وأصبح متفقاً عليه بین أهل هذا الحقل المعرفي أو يرجى منه ذلك)(1). وإذا سلمنا ان المصطلح النقدي كغیره من مصطلحات الفروع المعرفية الأخرى (ييسر البحث، ويرسم المعالم رسماً مختصراً)(2). فانه لا مندوحة عنه في كل دراسة نقدية، فليس من طريق أمام الباحث في أي معرفة من المعارف غیر المصطلحات التي ترتبط بهذه المعرفة، فهي التي توصل الباحث إلى مراده من بحثه. ولما كان النقد الأدبي فرعاً من فروع العلوم الإنسانية، فان البحث في المصطلح النقدي ظل محطة إجماع لا غنى له عنه؛ لانه يكشف أسرار الآليات اللغوية المتحكمة بكل ذلك، وظل أيضاً محطة إجماع في انه من الحقول التي يقتحمها عالم اللغة، وهو جزء من الدراسة المعجمية إذ ان عالم اللسانيات سلم بان استكشاف خصائص الظاهرة اللغوية لا يكتمل إلا بفحص تجلياتها في الخطاب الأدبي الإبداعي منه والنقدي فيسخر اللغوي خبرته عندئذ ليقدم للنقاد ما تيسر من اضاءات(3).

ف (المصطلح إذن غني بالمعرفة المنهجية لانه جزء أساس من آلية الخطاب العلمي وعلميته هذه متأتية من موضوعيته التي تحيد فعل الدلالة والصياغة فيه إلى درجة الشفافية والمطابقة وهي أعلى مستويات الكفاءة التواصلية في فعل اللغة)(4).

ص: 167


1- إشكالية المصطلح في الخطاب النقدي: 24
2- النقد العربي نحو نظرية ثانية: مصطفى ناصف، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، العدد 255، 2000 م: 10
3- ينظر: المصطلح النقدي: 5
4- القارئ القياسي: 99

لقد تعامل الشراح مع رصيد معرفي فيه حضور لافت للذاكرة المصطلحية، وهذا ما سوغ لي أن افرد له مبحثا خاصا، فمن ذلك تعليق الخوئي على خطبة الإمام (عليه السلام) التي يقول فيها: (احمده شكراً لأنعامه وأستعينه على وظائف حقوقه، عزيز الجند، عظيم المجد، واشهد ان محمداً عبده ورسوله، دعا إلى طاعته وقاهر أعداءه، جهاداً عن دينه لا يثنيه عن ذلك اجتماع على تكذيبه والتاس لإطفاء نوره...)(1) يعلق مبيناً الخصائص الجمالية والميزات الأسلوبية في الخطبة (اعلم ان هذه الخطبة الشريفة من أعيان خطبه عليه السلام وناصع كلامه ورايقه وفيها من لطائف البلاغة ومحاسن البديع وسهل التركيب وحسن السبك خالية من التكلف والعقادة ما لا يخفى تكاد تسيل من رقتها وتنحدر انحدار السيل في انسجامها)(2) فقد أشارالشارح إلى جملة من المواصفات الجمالية ووردت في النص مصطلحات نقدية، منها اللطافة وهي تطلق على معاني منها (دقة القوام وقبول الانقسام إلى أجزاء صغیرة جداً وسرعة التأثیر على المتلقي والشفافية)(3) هذه السمة من ملامح تفرد النص في نهج البلاغة عن غیره من النصوص ذلك (ان المفاضلة تعبیر عن افتتان يستبد بالنفس في اللحظة التي هي فيها فيصدر المتلقي حكم الإعجاب)(4). وتعني اللطافة كذلك (الدلالة بالتعريض على التصريح)(5).

ومن المصطلحات الأخرى التي وردت في النص مصطلح الانسجام الذي يعني

ص: 168


1- منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة: 11 / 156
2- المصدر نفسه: 11 / 160
3- الكليات: 4 / 171
4- التفكير النقدي عند العرب: عيسى علي العاكوب، دار الفكر المعاصر، بيروت، لبنان، 2005 م: 32
5- قواعد الشعر: أبو العباس احمد بن يحيى المعروف بثعلب، تحقيق: الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي، القاهرة، 1948 م: 43

(ان يأتي الكلام منحدرا انحدار الماء المنسجم، سهولة سبك، وعذوبة ألفاظ حتى يكون للجملة من المنثور والبيت من الموزون وقع في النفوس وتأثیر في القلوب ما ليس لغیره مع خلوه من البديع، وبعده عن التصنع، وأكثر ما يقع الانسجام غیر مقصود كمثل الكلام الموزون الذي تأتي به الفصاحة في ضمن النثر عفواً)(1).

ان هذه الأوصاف والتعريفات الواردة للمصطلحات تدل على التعالي الفكري لنص نهج البلاغة ف (إذا كان الكلام يفيد الإبانة عن الأغراض القائمة في النفوس التي يمكن التوصل إليها بأنفسها وهي محتاجة إلى ما يعبر عنها فما كان اقرب في تصويرها واظهر في كشفها... وكان مع ذلك احكم في الإبانة عن المراد واشد تحقيقاً في الإيضاح عن الطلب وأعجب في وصفه، وارشق في تصرفه، وأبدع في نظمه كان أولى وأحق بان يكون شريفاً)(2).

ولعل من معاني الانسجام (ان يأتي المتكلم بكلامه على شاكلة معينة دون ان يقصد إلى هذا النوع الأدبي قصداً إنما جاءته الألفاظ طوعاً حتى صار ذلك من طبعه الذاتي وفطرته وغريزته)(3). فيما مر نلاحظ الحضور الفاعل للمصطلح النقدي الذي ينبئ عن الحذاقة الفكرية لشراح النهج، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على الفهم الواقعي والموضوعي للنص, كذلك يشیر إلى ما يتمتع. به المتلقي من بناء معرفي وجمالي يؤهله إلى الولوج في بنية النص، وتأسيساً على هذه المدركات

ص: 169


1- تحرير التحبير في صناعة الشعر والنثر وبيان إعجاز القرآن: لابن أبي الإصبع المصري، تحقيق: د. حفني محمد شرف، القاهرة، 1963 م: 421
2- إعجاز القرآن، ابو بكر محمد بن الطيب الباقلاني, تح السيد صقر, طبع دار المعارف بمصر: 96
3- ينظر: البديع في نقد الشعر: أسامة بن منقذ، تحقيق: د. احمد بدوي، د. حامد عبد المجيد، 1960 م: 121

العميقة جاءت مقاربات الشراح لنهج البلاغة؛ فأنتجت أفكاراً نقدية تعاملت مع النص برؤية موضوعية؛ وبذلك تحقق نوع من التلقي الواعي لهؤلاء الشراح من خلال الفهم الواقعي والموضوعي للنص.

فإذا ما جئنا إلى قول الإمام (عليه السلام): (واعتمدوا وضع التذلل على رؤوسكم)(1) النص العلوي يرشد إلى آداب جليلة، إذ يريد من الناس ان يتواضعوا ويبتعدوا عن الصفات التي لا تليق بذوي البصائر السائرين على الصراط, وقد عبر الخوئي بمجساته النقدية عن إعجابه وانبهاره بالأساليب الأدبية الرقيقة والتقنيات العالية والمبتكرة لصياغة تبهر القارئ؛ ذلك ما دفعه إلى ان يقول: (لا يخفى على أهل الصنعة لطافة هذه العبارة وشرافتها وعظم خطرها)(2). وهنا نجد الحضور اللافت للذاكرة المصطلحية إذ ورد في النص السابق مصطلحان نقديان في كلام لا يتجاوز السطر وهو دلالة على الثراء المضموني، ذلك ان النص توفر على قدرة لغوية عالية وطبيعة فنية عظيمة، أن النقد هنا قائم على التذوق المرهف الذي يفيض على جوهر النص مضموناً وشكلاً، إذ استطاع نص الإمام (عليه السلام) ان يحقق حضوره الفاعل الذي يجسد قوة الصنعة وفرادة القدرة على الصياغة والتركيب.

أما الصنعة (فیراد بها الأسلوب أو الفن وتأتي الصنعة لتدل على القصد إلى أمر معین وإتقانه وفق آليات وخلفيات معرفية تتعلق بهذه الصنعة(3) يشیر الشارح إلى

ص: 170


1- منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة: 11 / 238
2- المصدر نفسه: 11 / 246
3- ينظر: الوساطة بين المتنبي و خصومه: 17

امر غاية في الأهمية، وهو ان نهج البلاغة ليس عرضة لكل قارئ يحتاج إلى قارئ لديه دربة وممارسة في تذوق الكلام وتميز بعضه من بعض، وهو القارئ العارف بغية الوصول إلى غايات النص ومقاصده بهدف إنتاج الدلالة، إذ يستعين هذا القارئ بخبراته ومواهبه ومعرفته للوصول إلى قصدية النص المكتوب بوعي عال ورصانة تعبيرية وأناقة لفظية، هذا وقد (يراد بصنعة الكلام الشعر والنثر)(1).

والأمر عند الشارح ابن أبي الحديد المعتزلي مختلف إذ نجد الحضور المتميز للمصطلح النقدي، فهو أديب يمتلك ثقافة موسوعية فضلاً عن ثقافته الأدبية العالية. ففي تعليقه على احدى خطب الامام (عليه السلام) نلاحظ الحضور المكثف للمصطلح النقدي لديه، إذ سلط ذوقه النقدي وحسه الجمالي في محاولة منه لكشف أسرار النص العلوي وتحليله نسمعه يقول معلقاً (لينظر الناظر إلى ما عليها من البهاء والجلالة والرواء والديباجة)(2). لقد حاول الشارح وصف وتحديد الأداء الجمالي للنص، وهي وجهة نظر تعبر عن الفكر العميق والنظر الدقيق في هذا المنجز الإبداعي، وذلك فيما بينه من سمات أسلوبية تهيمن على مساحة واسعة، وكانت أدوات الشارح في ذلك مصطلحات نقدية استطاع من خلالها بيان سمات التميز في استعمال اللغة وبناء أدبية النص، وهنا يتبدى مصطلح الديباجة من الذاكرة الاصطلاحية لديه، فالديباجة هي النسيج وديباجة الشعر نسيجه (وقال من احتج للنابغة كان أحسنهم ديباجة شعر)(3). وقالوا أيضاً (خیر ديباج الشعر

ص: 171


1- كتاب الصناعتين: 5
2- شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد: 7 / 138
3- طبقات فحول الشعراء: ابن سلام الجمحي، تح: محمود محمد شاكر، ط 2، القاهرة، 1972 م: 1 / 56

ما لم يتفاوت نمطه)(1) هذه الآراء تشیر إلى السمات الأسلوبية التي ينبغي ان تتوفر في الأدب الرفيع وهذا الوصف ليس بعيداً عن نهج البلاغة إذ تحققت فيه درجة متقدمة من الأدبية جعلته محط إعجاب الدارسین من مختلف الثقافات، ولعل من المصاديق الواضحة على ذلك ابن أبي الحديد المعتزلي ففي إحدى مقارباته يقول:

(إعلم ان هذه الخطبة من أعيان خطبه عليه السلام ومن ناصع كلامه وفيها من صناعة البديع الرائعة البريئة من التكلف ما لا يخفى)(2) وهذا يعني (إدراكاً دقيقاً لطبيعة النسيج اللغوي والدلالي للنص)(3) إذ يهتم التحليل هنا بتحديد مجموعة من السمات التي تميز بها أسلوب الإمام (عليه السلام) التي سجلت تواجداً ملحوظاً أسهم في الكشف عن طريقته في استخدام اللغة إذ منح كلماته صفة التأثیر والتعبیر الأصيل في آن واحد, وقد بین الشارح في تعليقه السابق ما يتصف به كلامه (عليه السلام) من خصائص وميزات جعلته محل تفرد وتفوق على غیره من النصوص؛ ذلك كونه نتاجاً فكرياً نادر الجوهر، ففي التعليق السابق للشارح ينفي كل صفة سلبية تخرج النص من طبقة الادب العالي الذي يتميز بغناه الفكري وجودة مبانيه الأسلوبية. وقد ورد في النص مصطلح التكلف ضمن البنية المعرفية للشارح المعتزلي (والمتكلف من الشعر وان كان جيداً محكماً فليس به خفاء على ذوي العلم لتبينهم فيه ما نزل بصاحبه من طول التفكر، وشدة العناء، ورشح الجبین، وكثرة الضرورات وحذف ما بالمعاني حاجة إليه وزيادة ما بالمعاني غنى عنه)(4).

ص: 172


1- المصدر نفسه: 1 / 30
2- شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد: 7 / 79
3- التفكير النقدي عند العرب: 37
4- الشعر والشعراء, ابن قتيبة ابو محمد عبد الله بن مسلم، دار الثقافة بيروت، لبنان، (د ت): 1 / 88

وقد وضح ابن الأثیر الفرق بین المتكلف وغیر المتكلف فقال (أما المتكلف فهو الذي يأتي بالفكرة والروية، وذلك ان ينضى الخاطر في طلبه، والعمل على تتبعه، واقتصاص أثره، وغیر المتكلف يأتي مستريحا من ذلك كله، وهو ان يكون الشاعر في نظم قصيدته، أو الخطيب، أو الكاتب في إنشاء خطبته أو كتابته. فبينا هو كذلك إذ سنح له نوع من هذه الأنواع بالاتفاق لا بالسعي والطلب)(1) وهذا القول الأخیر يتماشى مع كيفية إنتاج النص عند الإمام علي (عليه السلام) إذ تأتيه الألفاظ عفوَ الخاطر حينما يستدعيها. ففي قوله (عليه السلام): (فان الغاية أمامكم وان وراءكم الساعة تحدوكم، تخففوا تلحقوا، فإنما ينتظر بأولكم آخركم)(2) فقد علق ابن ميثم على هذا النص بقوله (لا شك ان هذه الكلمات اليسیرة قد جمعت وجازة الألفاظ وجزالة المعنى)(3). نلاحظ ان الشارح يستخدم مرجعياته الثقافية التي تضم المصطلحات النقدية التي منها الجزالة وهو من المصطلحات التي وقف عنده أكثر من ناقد (وأما الكلام الجزل فهو كلام الخاصة والعلماء والعرب والفصحاء والكتاب والأدباء الذي تقدم وصفه في الشعر والخطابة وليس شيء أعون على جزالة الكلام وخروجه عن تحريف ألفاظ العوام من مجالسة الأدباء ومعاشرة العظماء وحفظ أشعار العرب ومناقلاتهم والمختار من رسائل المولدين الأدباء. ومكاتباتهم)(4). فلكي يكون الكلام جزلًا لابد من توفر ظروف موضوعية تعن المتأدب على الوصول إلى ما يريده من جزالة اللفظ وقد وضع النقاد معایير

ص: 173


1- المثل السائر في ادب الكاتب والشاعر لابن الأثير: 1 / 268
2- شرح نهج البلاغة لأبن ميثم البحراني: 1 / 531
3- المصدر نفسه: 1 / 531
4- البرهان في وجوه البيان: 248

لكي يكون الكلام مقبولاً في أوساط المتأدبین (ولسنا نعني بالجزالة في الكلام ان يكون وحشياً في غاية الغرابة في معانيه والوعورة في ألفاظه، ولا نريد بالرقة ان يكون ركيكاً نازل القدر سفسافا، ولكن المقصود من الجزالة ان يكون مستعملاً في قوارع الوعيد، ومهولات الزجر، وأنواع التهديد، وأما الرقة فانما يراد بها ما كان مستعملاً في الملاطفات واستجلاب المودة والبشارة بالوعد)(1) ويذهب البعض إلى ان الجزالة (تكون بشدة التكالب بین كلمة وما يجاورها وبتقارب أنماط الكلام في الاستعمال)(2).

ان هذه المعاير المذكورة آنفاً هي القواعد الميسرة لاستعمال الألفاظ القريبة من الفهم التي تكون في متناول أيدي المتلقین، ولعل هذا ما نجده عند الشراح في تعليقاتهم على بعض النصوص الواردة في نهج البلاغة ففي قول الإمام (عليه السلام): (التي يقبضها الضياء الباسط لكل شيء، ويبسطها الظلام القابض لكل حي)(3) قارب الخوئي هذا النص بقوله (لا يخفى ما في هاتین القرينتین من بديع النظم...)(4). الذي يعني به الذي يكتب الشعر وقد وضعه ابن الأثیر إزاء الشاعر إذ قال (والناظم لا يعاب إذا لم ينظم هذه الأحرف في شعره، بل يعاب إذا نظمها وجاءت كريهة مستشنعة، وأما الناثر فانه اقرب حالاً من الناظم)(5) وقد كان النص في نهج البلاغة ضمن المعايیر الموضوعية التي وضعها النقاد. ونجد مقاربة

ص: 174


1- الطراز: 115
2- منهاج البلغاء وسراج الأدباء: 225
3- منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة: 9 / 221
4- المصدر نفسه: 9 / 221
5- المثل السائر: 1 / 179

أخرى يشار فيها إلى السمات الاسلوبية والمواصفات الجمالية بالقول: (اعلم ان هذه الخطبة الشريفة المشتملة على كثیر من محاسن البلاغة والبديع من الانسجام وحسن السبك وأنواع الجناس وحسن الاسجاع والقوافي والاشتقاق وغيرها مما يعرفها الناقد البصیر)(1) إذ وردت فالنص مجموعة من المصطلحات النقدية ووضعها تحت مظلة الناقد البصیر و (هو من انصرف الى تمييز الكلام الجيد من الرديء وتحليله، والحكم عليه وقد عده ابن سلام كالصیرفي الذي يعرف جودة الدرهم والدينار، واعطاه منزلة كبیرة)(2) فقد قيل لخلف: ((إذا سمعت انا بالشعر استحسنه فما أبالي ما قلت فيه أنت وأصحابك)) قال (إذا أخذت درهماً فاستحسنته وقال لك الصراف: انه رديء، فهل ينفعك استحسانك إياه)(3). وأكدوا على أن مهمة الناقد ليست بالمهمة السهلة (وليس يعرف حقائق مقادير المعاني، ومحصول حدود لطائف الأمور، إلا حاكم حكيم، ومعتدل الأخلاط عليم، وإلا القوي المنة، الوثيق العقدة، والذي لا يميل مع ما يستميل الجمهور الأعظم والسواد الأكبر)(4) ومن المعايیر الأخرى التي وضعت ان تكون للناقد قدرة عبى التمييز بین أصناف الكلام وان تكون ثقافته اللغوية واسعة.

هذا و يلخص المرزوقي شروط الناقد بقوله (وأما ما غلب على ظنك من ان اختيار الشعر موقوف على الشهوات، إذ كان ما يختاره زيد يجوز أن يزيفه عمر، وان سبيلها سبيل الصور في العيون إلى غیر ذلك مما ذكرته، فليس الأمر كذلك، لأن

ص: 175


1- منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة: 11 / 189 - 190
2- معجم النقد العربي القديم: 67
3- طبقات فحول الشعراء: 1 / 7
4- البيان والتبيين: 1 / 90

من عرف مستور المعنى ومكشوفه ومرفوض اللفظ ومألوفه، ومن البديع الذي لم تقسمه المعارض، ولم تعتسفه الخواطر، ونظر وتبحر، ودار في أساليب الأدب فتخیر، وطالت محاذقته في التذاكر والانبحاث، والتداول والانبعاث، وبان له القليل النائب عن الكثیر، واللحظ الدال على الضمیر، ودرى تراكيب الكلام وأسرارها كما درى تعليق المعاني وأسبابها إلى غیر ذلك مما يكمل الآلة ويشحذ القريحة، نراه لا ينظر إلا بعین البصیرة ولا يسمع إلا بإذن النصفة ولا ينتقد إلا بيد المعدلة، فحكمه الحكم الذي لا يبدل ونقده النقد الذي لا يغیر، واعلم انه يعلم الجيد من يجهل الرديء، والواجب ان تعرف المقابح المتسخطة كما عرفت المحاسن المرتضاة)(1) ان هذا النص على وجازته قد جمع ما يجب ان يتحلى به الناقد البصیر من مؤهلات هي من صميم عمله.

ومن المصطلحات النقدية التي تناولهاالنقاد مصطلح الأسلوب فقد ورد في تعليق الخوئي على قول الإمام (عليه السلام): (والله لدنياكم هذه أهون في عيني من عراق خنزير في يد مجذوم)(2) إذ قال (وقد جاء في هذا الكلام من عجيب التمثيل والتشبيه الموجب لكمال النفرة والإنزجار عن حال الدنيا وما فيها من الحرام بما يقرب من حد الإعجاز في الفصاحة والأسلوب)(3). فالأسلوب الطريقة التي يستخدمها الكاتب وتعني هذه الكلمة أي الأسلوب (طريقة التعبیر عن الفكر بواسطة اللغة)(4) وتختلف الأساليب باختلاف الأغراض والمذاهب إذ (كان

ص: 176


1- شرح ديوان الحماسة: 1 / 14 - 15
2- منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة: 21 / 358
3- المصدر نفسه: 21 / 358
4- الأسلوب والأسلوبية: بيرجيرو، ترجمة: منذر عياشي، مركز الإنماء القومي: 6

القوم يختلفون في ذلك وتتباين فيه أحوالهم فیرق شعر احدهم ويصلب شعر الآخر، ويسهل لفظ احدهم ويتوعر منطق غیره، وإنما ذلك بحسب اختلاف الطبائع وتركيب الخلق، فان سلامة اللفظ يتبع سلامة الطبع ودماثة الكلام بقدر دماثة الخلق)(1).

وعليه فان (الأساليب تتنوع بحسب مسالك الشعراء في كل طريقة من طرائق الشعر، وبحسب تصعيد النفوس فيها إلى حزونة الخشونة أو تصويبها إلى سهولة الرقة أو سلوكها مذهباً وسطاً بین ما لان وخشن من ذلك فالكلام بحسب هذه الأنحاء ثلاثة أساليب)(2). وتتجلى آثار فاعلية الأساليب في إخراج المعاني إذ (الاحتذاء عند الشعراء وأهل العلم بالشعر تقديره وتمييزه ان يتبدى الشاعر في معنى له وغرض، والأسلوب الضرب من النظم والطريقة فيه فيعمد شاعر آخر إلى ذلك الأسلوب فيجيء به في شعره فيشبه بمن قطع من أديمه نعلاً على مثال نعل قد قطعها صاحبها فيقال: قد احتذى على مثاله)(3) ونقف عند رأي لابن أبي الحديد في معرض دفاعه عن نهج البلاغة وصحة نسبته إلى أمیر المؤمنین فهو بعد ان ينقل خطبة لكاتب مشهور هي أحسن ما وجدها لديه يعلق على ذلك بقوله (ليعلم الفرق بین الكلام الأصيل والمولد)(4) إذ ورد في هذا النص القصیر مصطلحان نقديان هما الأصيل والمولد ويقصد بالأصيل (هو ذو الفكر السديد

ص: 177


1- الوساطة بين التنبي وخصومه, ابو الحسن علي بن عبدالعزيز القاضي الجرجاني, تح علي محمد البجاوي ومحمد ابو الفضل ابراهيم, مصر, 1966 م: 17
2- منهاج البلغاء وسراج الأدباء: 354
3- دلائل الإعجاز: 361
4- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 10 / 302

ولا تطلق الأصالة على الكلام إلا إذا كان عريقاً)(1) ثم يذهب ابن ابي الحديد إلى وضع معايیر موضوعية ومواصفات يجب ان تتوفر في الشخص الذي يريد تمييز كلام الإمام (عليه السلام) نجد ذلك في ضوء دفاعه عن نهج البلاغة وصحة نسبته إلى أمیر المؤمنین إذ يقول مبيناً ذلك (لأن من قد انس بالكلام والخطابة وشدا طرفا من علم البيان، وصار له ذوق في هذا الباب لابد أن يفرق بین الكلام الركيك والفصيح، وبین الفصيح والأفصح، وبین الأصيل والمولد وإذا وقف على كراس واحد يتضمن كلاماً لجماعة من الخطباء أو لاثنین منهم فقط فلابد ان يفرق بین الكلامین، ويميز بین الطريقتین، ألا ترى انا مع معرفتنا بالشعر ونقده، لو تصفحنا ديوان أبي تمام فوجدناه قد كتب في أثنائه قصائد أو قصيدة واحدة لغیره، لعرفنا بالذوق مبانيها لشعر أبي تمام ونفسه وطريقته ومذهبه... وأنت إذا تأملت نهج البلاغة وجدته كله ماء واحداً، ونفساً واحداً، وأسلوباً واحداً، كالجسم البسيط الذي بعض من ابعاضه مخالفاً لباقي الابعاض في الماهية، وكالقرآن العزيز أوله كوسطه، وأوسطه كآخره، وكل سورة منه، وكل آية مماثلة في المأخذ والمذهب والفن والطريفة والنظم لباقي الآيات والسور)(2) إن هذا النص قد احتوى على وفرة من المصطلحات منها الركاكة التي تعني (ان يكون المعنى متساوياً واللفظ متداولاً)(3) ومن المصطلحات النقدية التي وردت في النص المذهب ويراد به الطريقة في نظم الشعر وبناء القصيدة (وليس لمتأخر الشعراء ان يخرج عن مذهب المتقدمین في هذه الأقسام فيقف على منزل عامر أو يبكي عند مشيد البنيان؛

ص: 178


1- معجم النقد العربي القديم: 572
2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 10 / 304
3- البديع في نقد الشعر: 164

لان المتقدمین وقفواعلى المنزل الداثر والرسم العافي، أو يرحل على حمار أو بغل ويصفهما؛ لان المتقدمین رحلوا على الناقة. والبعیر... أو يرد على المياه العذاب الجواري، لان المتقدمین وردوا على الاواجن الطوامي، أو يقطع الى الممدوح منابت النرجس والآس والورد، لان المتقدمین جروا على قطع منابت الشيح والقيصوم والحنوة. والعراره)(1) تعني أمثال هذه الأحكام النقدية أن ابن سلام كان ملما بقواعد الصنعه وهذه احدى الفكر النقديه التي تمثل إضافة جديدة في مجال النقد الأدبي. والطريقة هي المذهب أو النهج الذي يسیر عليه الشعراء فهي كالطريق في بعض معانيه، وقد ترددت لفظة الطريقة في الكتب القديمة منها (وليس الشعر عند أهل العلم به إلا حسن التأتي وقرب المأخذ، واختيار الكلام، ووضع الألفاظ مواضعها وان يورد المعنى باللفظ المعتاد فيه المستعمل في مثله، وان تكون الاستعارات والتمثيلات لائقة بما استعيرت له وغیر منافرة)(2). هذا يكشسف ان الأسلوب هو ما يميز الخطاب الأدبي من غیره، وان أدبية النص لا تتحقق من خلال موضوعاته وأفكاره وإنما تتحقق هذه الأدبية في الطريقة التي تتحول فيها هذه الأفكار إلى وقائع جمالية، وهذا لا يتحقق إلا في النص الذي يصدر عن طبع قادر على إدراك سبب استعمال أسلوب تعبیري دون غیره وأثره على زيادة تأثیر المعنى وقوة بلاغته.

ص: 179


1- الشعر والشعراء: 1 / 76
2- الموازنة بين ابي تمام والبحتري: 1 / 40

ص: 180

الفصل الثالث جماليات اللفظ والمعنى * مدخل نظري * المبحث الأول: التفرد بالمعاني * المبحث الثاني: العمق بالمعاني * المبحث الثالث: دقة المعاني * المبحث الرابع: قيمة المعاني

ص: 181

ص: 182

الفصل الثالث: جماليات اللفظ والمعنى

مدخل نظري

إن قضية اللفظ والمعنى من القضايا التي شغلت النقاد والأدباء منذ زمن بعيد، فما من عالم من العلماء القدامى تناول مجال اللغة أو البلاغة أو النقد إلّا والعلاقة بین اللفظ والمعنى كانت إحدى أغراضه ومراميه؛ لأهمية العلاقة بينهما في العلوم اللغوية والبلاغية وما يتصل بهما من المعارف. والقرآن الكريم الذي يعد بحق معجزة الإسلام الخالدة الذي انبثقت منه كل العلوم والمعارف الإسلامية, إذ توسعت بفضله المدارك وتفجرت العلوم الهادفة إلى خدمته؛ لأجل معرفة تشريعاته ومعانيه وأساليبه، لذا عُدَّ القرآن (في تأريخ الثقافة العربية نصاً محورياً)(1). فما من علم إلّا وكان القرآن الكريم المحور الذي يتحرك حوله وبوحي منه، لأجل فهم نصوصه والتعبیر عن حقائقه، فالنحوي ينظر إلى القرآن من جهة ما تضمنه من قواعد النحو ومسائله وأصوله وفروعه وخلافاته، والفقيهُ ينظر إليه من جهة ما تضمنهُ من أمور فقهية كالطهارة والصلاة والزكاة وأحكامها، والبلاغي ينظر إليه من جهة ما تضمنه من أساليب البلاغة كالحقيقة والمجاز والتشبيه والكناية

ص: 183


1- مفهوم النص، نصر حامد أبو زيد، دراسة في علوم القرآن، المركز الثقافي العربي, الدار البيضاء, بيروت: 9

والتورية والاستعارة مع ذلك فاللغويون (لم يكونوا بمعزل عن الثقافة الفلسفية العامة أو المنطق الارسطوطاليسي بوجه خاص ولا أدَّلَّ على ذلك مما قاله لغويو البصرة ونحاتها من العلل والقياس، أو غيرها من موضوعات الأصول في النحو واللغة... أما المتكلمون فقد كانوا رغم ثقافتهم الفلسفية أصحاب اجتهادات وتأثیرات واسعة في اللغة والنحو، وهل كان يمكن للمعتزلة أن يمضوا في تأويل المجاز القرآني دون إستناد إلى أساس لغوي مكین)(1).

ولقد كان لعلمائنا القدامى مرجعيات ثقافية متنوعة، إذ كان العالم منهم على معرفة واسعة باللغة والنحو والبلاغة والتفسیر، فكان من شدة وحدة الثقافة الإسلامية وتنوعها ان خلقت في علمائنا (ميزة الشمول الواعي البادي لدى العالم المسلم والتخصص البصیر بدقائق العلم لدى ذلك العالم)(2).

وقد انعكس التنوع الثقافي للعلماء في كتاباتهم إذ ان الثقافة العربية الإسلامية (لم تكن في يوم من الأيام مستقلة ولا متعالية عن الصراعات السياسية والاجتماعية، بل لقد كانت باستمرار الساحة الرئيسة التي تجري فيها هذه الصراعات)(3).

فكل عالم لغوي أو بلاغي أو متكلم أو أصولي أو ناقد كان ينطلق من أصول مذهبية وفكرية يحاول أن ينتصر لها, وما الصراعات الفكرية بین المعتزلة والأشاعرة

ص: 184


1- الصور الفنية في التراث النقدي والبلاغي، جابر عصفور، المركز الثقافي العربي، بيروت، ط 2, 1992 م: 102 - 103
2- دلالة الألفاظ عند الأصوليين، محمد توفيق محمد سعد الله، مطبعة الأمان، ط 1, 1987 م: 4
3- تكوين العقل العربي، محمد عابد الجابري، دار الطليعة للطباعة والنشر بيروت، لبنان، ط 2, 1985 م: 756

إلا دليل على ذلك، وقد ظهر أثر هذه الصراعات في دراساتهم النحوية والبلاغية.

ولما كان القرآن الكريم هو النص المحوري في الثقافة الإسلامية، فان ثنائية اللفظ والمعنى كانت من المباحث التي تناولتها علوم هذه الثقافة.

لقد أدرك العلماء قوة الترابط بین اللفظ والمعنى, وأدركوا قيمة المعنى في التعبیر ومكانة الألفاظ حین تنضم إلى بعضها لكون (اللفظ الصيغة الخارجية للكلمة وأما المدلول فهو الفكرة التي يستدعيها اللفظ)(1)، ونظرا لأهمية هذا الزوج الاصطلاحي أعني اللفظ والمعنى في الثقافة العربية الإسلامية فقد كان محط اهتمام الباحثین والدارسین على اختلاف بيئاتهم ومعارفهم فتعددت حوله النظريات وتضاربت الآراء واختلفت المناهج والمصطلحات من حقل الى آخر ويمكن القول: إن الترابط الذي تتسم به الثقافة الإسلامية جعل من هذه الثنائية إرثاً مشتركاً بین جميع البيئات المعرفية.

ويعد البلاغيون أصحاب الملاحظات الأولى في هذا المجال، وكان النقاد العرب القدامى على اختلاف اتجاهاتهم قد أدركوا ان الالفاظ تؤدي الدور الأكبر في الصياغة الفنية، (فالنقد القديم توسع في توضيح العلاقة بین الشكل والمحتوى بحيث جعل هذه القضية من ابرز القضايا التي عالجها آنذاك)(2).

فقد أقر الجاحظ بتقديم المبنى على المعنى نجد ذلك بقوله: ((ان حكم المعاني خلاف حكم الألفاظ؛ لان المعاني مبسوطة إلى غیر غاية، وممتدة إلى غیر نهاية،

ص: 185


1- دور الكلمة في اللغة: 56
2- الأصول التراثية في نقد الشعر المعاصر, عدنان حسين قاسم, الدار العربية للنشر والتوزيع, 2000 م: 113

وأسماء المعاني مقصورة معدودة ومحصلة محدودة))(1). ولعله أشار إلى مقصده نفسه في كتاب الحيوان فهو يقول ((المعاني مطروحة في الطريق يعرفها العجمي والعربي والبدوي والقروي والمدني، وإنما الشأن في إقامة الوزن وتخیر اللفظ، وسهولة المخرج، وكثرة الماء، وفي صحة الطبع وجودة السبك، فانما الشعرُ صناعة وضرب من النسج وجنس من التصوير))(2).

والمعاني المطروحة في الطريق هذه إشارة إلى الأفكار العامة التي يفكر بها الناس على إختلاف أجناسهم.

فالجاحظ ربط ظهور المعنى بوضوح الدلالة وصواب أنواع الإشارة وحسن الاختصار، ودقة المدخل (وجميع أصناف الدلالات على المعاني من لفظ وغیر لفظ خمسة أشياء لا تنقص ولا تزيد: أولها اللفظ ثم الإشارة ثم العقد ثم الخط ثم الحال التي تسمى النصبة. والنصبة هي الحال الدالة التي تقوم مقام تلك الأصناف... ولكل واحدة من هذه الخمسة صورة بائنة عن صورة صاحبتها، وحلية مخالفة لحلية أختها)(3). فقد ربط الجاحظ اللفظ بغیره من الدلالات وهو ما أوضحته الإشارة من حركة اليد أو الرأس أو العین والخط وهو ما يعبر به في الكتابة لكونه يقرأ في كل زمان ومكان، كذلك العقد وهو الحساب، أما الحال التي سماها النصبة فهي الحال الناطقة بغیر لفظ والمشیرة بغیر يد، وذلك ظاهر في خلق السموات والأرض، وفي كل صامت وناطق وجامد ونام ومقيم وظاعن

ص: 186


1- البيان والتبين: 1 / 76
2- كتاب الحيوان: 3 / 131 - 132
3- البيان والتبيين: 1 / 76

وزائد وناقص(1).

أما ابن قتيبة فقد ركز على ائتلاف عنصرين من عناصر الشعر: اللفظ والمعنى فقسم الشعر إلى أربعة اضرب:

1- ضرب حسن لفظه وجاد معناه.

2- وضرب منه جاد معناه وقصرت ألفاظه عنه.

3- وضرب منه تأخر معناه وتأخر لفظه 4- ضرب حسن لفظه وحلا فإذا فتشته لم تجد هناك فائدة في المعنى(2) ومن الذين وقفوا إلى جانب الجاحظ بتقديم المبنى على المعنى قدامة بن جعفر إذ يقول في ذلك: (ومما يجب تقديمه وتوطيده قبل ما أريد ان أتكلم به إن المعاني كلها معرضة للشاعر، وله ان يتكلم فيما أحب وآثر من غیر أن يحظر عليه معنى يروم الكلام فيه، إذ كانت المعاني للشعر بمنزلة المادة الموضوعة، والشعر فيها كالصورة وعلى الشاعر إذا شرع في أي معنى كان ان يتوخى البلوغ في التجويد في ذلك إلى الغاية المطلوبة)(3) ومعيار اللفظ عند قدامة (ان يكون سمحاً سهل مخارج الحروف من مواضعها عليه رونق الفصاحة مع الخلو من البشاعة)(4).

ص: 187


1- ينظر: المصدر نفسه: 77 - 78
2- الشعر والشعراء: 1 / 12 - 13 - 14
3- نقد الشعر: 63
4- المصدر نفسه: 74

وبعد أن وضع معيار جماليات اللفظ, قرربعدها مايجب ان يتوفر في المعنى الحسن وذلك ب (ان يكون مواجهاً للغرض المقصود غير عادل عن الأمر المطلوب)(1).

من هذه الآراء تتبدى الخبرة في مجال التذوق الفني والحكم الجمالي، وما يترتب على ذلك من وسائل، وهذه الآراء تشكل قيمة فنية لا يمكن للنص ان يستغني عنها دون أن يفقد بعضاً من براعته وفنيته التعبيرية.

والآمدى ممن أقربتقديم المبنى على المعنى نجد ذلك بقوله: ((وليس الشعر عند أهل العلم إلا حسن التأتي، وقرب المأخذ واختيار الكلام، ووضع الألفاظ في مواضعها، وان يورد المعنى باللفظ المعتاد فيه المستعمل في مثله، وان تكون الاستعارات والتمثيلات لائقة بما استعيرت له وغیر منافرة لمعناه، فان الكلام لا يكتسي البهاء والرونق إلّا اذا كان بهذا الوصف))(2)، وإذا كان الكلام بهذا الوصف، تجسدت فيه أصالة التجربة وعمقها ودقة الفكر وروعة الإبداع البلاغي والبياني، وبهذه المعایير تظهر جمالية النص وقيمته الإبداعية وفرادته على غیره من النصوص. ومن انصار المبنى ابو هلال العسكري نلمح ذلك بقوله: ((وليس الشأن في إيراد المعاني؛ لان المعاني يعرفها العجمي والقروي والبدوي، وانما هو في جودة اللفظ وصفائه وحسنه وبهائه، ونزاهته ونقائه وكثرة طلاوته ومائه، مع صحة السبك والتركيب والخلو من أود النظم والتأليف، وليس يطلب من المعنى إلا ان يكون صواباً ولا يقع من اللفظ بذلك حتى يكون على ما وصفناه من

ص: 188


1- المصدر نفسه: 91
2- الموازنة بين شعر ابي تمام والبحتري: 1 / 423

نعوته التي تقدمت))(1). هذا يكشف عن صفات الخطاب الإبداعي الذي يحقق الجمال في الخلق الفني الأدبي وهو مظهر لثقافة واسعة إستطاعت أن تؤشر العناصر الفنية للنص بدقة واتزان من اجل جعل النص يمتلك طاقة تعبيرية بارعة.

لقد نصر النقاد المبنى على المعنى, غیر ان هناك من رأى ان عناية العرب بالألفاظ لانها خدم للمعاني ذلك (ان العرب كما تعني بألفاظها فتصلحها وتهذبها وتراعيها، وتلاحظ أحكامها بالشعر تارة وبالخطب تارة أخرى والأسجاع التي تلتزمها وتتكلف استمرارها فان المعاني أقوى عندها فإذا رأيت العرب قد أصلحوا ألفاظها وحسنوها فلا ترين ان العناية إذ ذاك انما هي بالألفاظ، بل هي عندنا خدمة منهم للمعاني وتنويه بها وتشريف لها)(2).

هذا وقد وقف البعض على مسافة متساوية بین اللفظ والمعنى، فها عنده سواء في القيمة والتذوق الجمالي، فلا فضل لأحدهما على الآخر، ولعل من أقدم النصوص في ذلك صحيفة بشر بن المعتمر المعتزلي التي يقول فيها ((وأياك والتوعر، فان التوعر يسلمك إلى التعقيد، والتعقيد هو الذي يستهلك معانيك، ويشین ألفاظك، ومن أراغ معنى كريماً فليلتمس له لفظاً كريماً فان حق المعنى الشريف اللفظ الشريف، ومن حقها ان تصونها عما يفسدهما ويهجنهما، وعما تعود من اجله ان تكون أسوء حالاً منك قبل ان تلتمس إظهارها وترتهن بملاينتهما نفسك وقضاء حقهما...))(3).

ص: 189


1- كتاب الصناعتين: 57 - 58
2- الخصائص: 215 - 217
3- البيان والتبين: 1 / 136

وعلى رأي بشر ان أولى المنازل (ان يكون لفظك رشيقاً عذباً، وفخماً سهلاً، ويكون معناك ظاهراً مكشوفاً وقريباً معروفاً...)(1) من هنا يتبین الدور الفاعل للجاحظ في مجال التنظیرات الجمالية إذ شكلت الآراء المبثوثة في مصنفاته مفاتيح مهمة يتم بوساطتها الكشف عن مفهوم الأدبية في النص الأدبي الذي يلحظ ابرز مظاهره في مسالة اللفظ والمعنى التي امتد تأثيرها إلى المعارف الأخرى(2).

الأمر مختلفٌ لدى عبد القاهر الجرجاني الذي تميز بقوته الفكرية واقتداره العلمي المتین وقدرته على التخيل من خلال التذوق الفني المعلل، اذ يبدو على آرائه انه من أنصار الصياغة يقول مؤكداً هذا الأمر: (ان الألفاظ اذا كانت أوعية للمعاني، فانها لا محالة تبع المعاني في مواقعها فإذا وجب لمعنى ان يكون أولاً في النفس، وجب على اللفظ الدال عليه ان يكون مثله أولا في النطق، فاما ان نتصور ان الألفاظ ان تكون في النظم الذي يتواصفه البلغاء فكراً في نظم الألفاظ، وان نحتاج بعد ترتيب المعاني إلى فكر نستأنفه لان تجيء بالألفاظ على نسقها فباطل من الظن ووهم وكيف تكون مفكراً في نظم الألفاظ، وأنت لا تعقل لها أوصافا اذا عرفتها عرفت ان حقها ان تنتظم على وجه كذا)(3) وفي هذا يضع عبد القاهر الجرجاني شروط التلقي الجمالي للخطاب, وفيه نجد الوعي النقدي والبلاغي إضافة إلى الثراء الفكري، ثم ان الجرجاني يطرح تعليلاً لما طرحه من رأي بقوله (معلوم ان سبيل الكلام سبيل التصوير والصياغة، وان سبيل المعنى الذي يعبر

ص: 190


1- المصدر نفسه: 1 / 136
2- ينظر: ادبية النص الصوفي بين الابلاغ النفعي والابداع الفني، د. محمد زايد، عالم الكتب الحديثة، اربد، الاردن، 2011 م: 54
3- دلائل الإعجاز: عبد القاهر الجرجاني, قرأه وعلق عليه محمود محمد شاكر: 52 - 53

عنه سبيل الشيء الذي يقع التصوير فيه كالفضة والذهب يصاغ منهما خاتم أو سوار، فكما ان محالاً اذا أنت أردت النظر في صوغ الخاتم، وفي جودة العمل ورداءته ان تنظر إلى الفضة الحاملة لتلك الصورة أو الذهب الذي وقع فيه ذلك العمل وتلك الصنعة، وكذلك محال اذا أردت ان تعرف مكان الفضل والمزية في الكلام ان تنظر في مجرد معناه)2. ولعل النظريات العلمية المتخصصة بالجوانب اللغوية تشیر إلى هذا المعنى إذ (ان القدرة على الربط بین اللفظ والمعنى هي جوهر اللغة والنظرة العلمية إلى اللغة تبرز العلاقة الوثيقة بین المعنى والتركيب الصوتي الدال عليه)(1).

ولعل من المعايیر النقدية المهمة التي تقاس بها فصاحة اللفظة موقعها في النظم وانسجامها مع نسيج النص الأدبي (وهل تجد أحدا يقول (هذه اللفظة فصيحة إلا وهو يعتبر مكانها من النظم، وحسن ملاءمة معناها لمعاني جاراتها وفضل مؤانستها لأخواتها، وهل قالوا. لفظة متمكنة ومقبولة) وفي خلافه «قلقة ونابيه ومستكرهة «إلا وغرضهم ان يعبروا بالتمكن عن حسن الاتفاق بین هذه وتلك من جهة معناها)(2). والألفاظ هي بمثابة القوالب التي تصب فيها المعاني وقد يحصل أحياناً أن (يسحرنا جمال لفظي لا يستند على ماهية أو رصيد من المعنى الذي يصل إلى حقائق الأشياء)(3). لقد كان هم عبد القاهر الجرجاني في تنظيراته الجمالية منصبا حول الشروط الواجب توفرها لتحليل الخطاب التحليل البياني المفضي إلى طرائق إنتاج هذا الخطاب وكيفية تلقيه في حین كان الجهد النقدى للجاحظ

ص: 191


1- في اللغة والتفكير: 12
2- دلائل الاعجاز: 22
3- نظرية المعنى في النقد الأدبي: مصطفى ناصف: 71

منصباً حول شروط إنتاج النص الأدبي وفق معايیر وقواعد جمالية معيبة(1)؛ ولهذا وصفت القواعد التي اشترطها الجاحظ فيما يتعلق بانتاج الخطاب بانها (بيانية سلطوية قمعية)(2). فمن يخرج عن القواعد التي وضعها الجاحظ لا يعد نصه من الأدب الجميل لإخلاله بشروط إنتاج الخطاب ولما كان (المعنى علاقة متبادلة بین اللفظ والمدلول علاقة تمكن كل واحد منهما من استدعاء الآخر)(3) فالمعنى مرتبط باللفظ ارتباطاً وثيقاً فإذا وجد معنى جميلا فلابد من لفظ حامل لهذا المعنى الذي تجسد بهذه الصورة (واللفظ والمعنى اما ان يتحدا أو يتكثرا، أو يتكثر اللفظ ويتحد المعنى أو بالعكس)(4) فيما مر لاحظنا اهتماما متميزا لدى النقاد بمسألة اللفظ والمعنى، وقد وجدنا هذا الاهتمام لدى شراح نهج البلاغة محط الدراسة اذ حاول النقاد من خلال الكشف عن القيم العليا لنصوص نهج البلاغة فقد وصل بهم الأمر أن وصفوها:

بأنها منتهى البلاغة وقمة الفصاحة ومحل عناية الادباء, وانها وصلت حد الإعجاز بالأسلوب، فهم إنما راموا بذلك الوصول الى هدفین اساسین:

1- اعطاء قيمة للنهج بما هو نهج، واعطاء قيمة للقرآن من خلال إقرار صاحب النهج بعجزه امام القرآن وهو ما هو من الفصاحة والبلاغة (وسمو

ص: 192


1- ينظر: شعرية الخطاب في التراث النقدي والبلاغي، د. عبد الواسع احمد الحميري، الموسوعة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع: 123
2- المصدر نفسه: 122
3- دور الكلمة في اللغة: 65
4- شرح نهج البلاغة، لابن ميثم البحراني: 1 / 22

الروح وجلالها ومن اشراق البيان وجمال الديباجة وعبقرية التصوير والتعبیر)(1).

ولعل اهم ما يلحظ لدى شراح النهج في تعاملهم مع النص التكثيف في العبارة ويمكن القول: ان سمات الملمح النقدي لشراح النهج في مجال اللفظ والمعنى يتمثل في اعطاء تعليل أي بيان الوجه الجمالي الفني مرة للفظ ومرة للمعنى.

من السمات النقدية كذلك الموازنة والمقارنة بین كلامه وكلام غیره، وكذلك الموازنة الداخلية بین نصوصه ونصوص أخرى كالقرآن الكريم مثلاً باعتبار القرآن يحوي من الصور الفنية التي (تروع الخيال بما فيها من تصوير بارع وتسحر الوجدان بما فيها من منطق ساحر وتأخذ بالافئدة بما تحمل من ايقاع جميل)(2). ومن الملامح النقدية كذلك التركيز على مستوى العبارة الادبية وقد تبین من خلال تتبع الملامح النقدية أن هناك وصفا عاما للكلام وهناك وصف خاص إذ تشیر العبارات الموجزة, والجمل الموسومة بالكثافة التي بلغت اعلى مستوياتها من النضج الفني والأداء الجمالي المتميز بالاسلوب المحكم والنظم الدقيق الذي شكل ابرز الملامح الاسلوبية في عبارات شراح النهج وطروحاتهم النقدية, فقد كان هم الشراح محاولة الكشف عن الخطاب الابداعي للامام (عليه السلام) وبيان جمالياته وخواصه الفنية ولما كان (دور اللفظ في التعبیر انما يعتمد على ما يثیره من المعاني في النفس)(3)؛ لهذا كانت مقاربات الشراح لنص الامام

ص: 193


1- الادب الاسلامي، المفهوم والقضية، د. علي صبيح، د. عبد العزيز شرف، د. محمد عبد المنعم خفاجي، دار الاداب، بيروت: 102
2- المصدر نفسه: 78
3- اثر القرآن في تطور النقد العربي الى آخر القرن الرابع الهجري، محمد زغلول سلام، دار المعارف بمصر: 337

(عليه السلام) تتناول الواقع الجمالي الذي يحدثه هذا النص الذي خرق أفق تلقيه بفعل تنوع وغنى فضاء الشخصية الادبية لمبدعها، اذ نجد في نص الامام كثافة الرؤية وعمق التجربة ومن خلال رصد المقاربات النقدية للشراح في قضية اللفظ والمعنى تكونت لديّ المباحث الآتية:

ص: 194

المبحث الاول التفرد بالمعاني

من خلال رصد المقاربات النقدية لنص نهج البلاغه، نجد فيها الاشارة الى تفرد النص بمعانيه وجودة الفاظه ولا عجب في ذلك، اذ ان نهج البلاغة كما أشار الرضي (يتضمن من عجائب البلاغة وغرائب الفصاحة وجواهر العربية وثواقب الكلم الدينية ما لا يوجد مجتمعاً في كلام ولا مجموع الاطراف في كتاب، إذ كان أمیر المؤمنین مشرع الفصاحة وموردها ومنشأ البلاغة ومولدها ومنه ظهر مكنونها وعنه أخذت قوانينها وعلى امثلته حذا كل قائل خطيب وبكلامه استعان كل واعظ بليغ ومع ذلك فقد سبق وقصروا، وتقدم وتأخروا، الا ان كلامه عليه السلام عليه مسحة من العلم الالهي وفيه عبقة من الكلام النبوي)(1).

لقد كان من مقصديات الشراح الكبرى بيان الجماليات والقيم الابداعية لنص الامام (عليه السلام) وبما ان البلاغة في احد معانيها (ايصال المعنى الى القلب في احسن صورة من اللفظ)(2)، وكلما كانت معاني الكلام اكثر ومدلولات الفاظه أتم كان أحسن وذلك ما ظهر في نص للامام يتميز بروعة التصوير الادبي ووضوح المعاني وجلاء الافكار ما جعل ابن ابي الحديد المعتزلي يقف أمامه مقراً بدهشته

ص: 195


1- شرح نهج البلاغة، لابن ابي الحديد: 1 / 45
2- ثلاث رسائل في اعجاز القرآن: 76

وانبهاره ما حداه ان يقول (لو سمع النضر بن كنانة هذا الكلام لقال لقائله ما قاله على بن عباس بن جريح لاسماعيل بن بليل:

قالوا ابو الصقر من شيبان قلتُ لهم *** كلا ولكن لعمري منه شيبان وكم أَب قد علا بابن ذرا شرفا *** كما علا برسول الله عدنان البسيط اذ كان يفخر به على عدنان وقحطان، بل كان يقرُّبه عین ابيه ابراهيم خليل الرحمن، ويقول له: انه لم يعف ما شيدت من معالم التوحيد في جاهلية العرب ما لم تبدعه أنت في جاهلية النبط، بل لو سمع هذا الكلام ارسطو طاليس، القائل بانه تعالى لايعلم الجزئيات، لخشع قلبه، ووقف شعره، واضطرب فكره الا ترى ما عليه من الرواء والمهابة، والعظمة والفخامة، والمتانة والجزالة، مع ما قد أُشرب من الحلاوة والطلاوة واللطف والسلاسة لا ارى كلاماً يشبه هذا الا ان يكون كلام الخالق سبحانه، فان هذا الكلام نبعة من تلك الشجرة وجدول من ذلك البحر، وجذوة من تلك النار وكأنه شرح قوله تعالى: ((وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِی الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِی ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِی كِتَابٍ مُّبِینٍ))(1))(2).

فالقيم النقدية التي بثها الشارح هنا تتعلق بالاثر النفسي الذي يحدثه النص في متلقيه ثم عقد مقارنة بينه وبین غیره من النصوص دالاً على تفوق نص الامام (عليه السلام) على ما قارنه به, اذحقق نص الامام مكاناً عالياً تميز به عن المعاني

ص: 196


1- سورة الانعام: 59
2- شرح نهج البلاغة، لابن ابي الحديد: 7 / 19

الاخرى ف (بامتزاج التلاؤم اللفظي وحسن السياق وصحة البرهان ينتج القول البليغ الرائع حتى يصل الى مرتبة الاعجاز)(1) وهنا يلحظ اثر القرآن الكريم بوصفه من المرجعيات الكبرى في ثقافة الامام (عليه السلام) يقول (عليه السلام):

((عالم السر من ضمائر المضمرين ونجوى المتخافتین، وخواطر رجم الظنون، وعقد عزيمات اليقین، ومسارق إيماض الجفون، وما ضمنتهُ أكنان القلوب، وغيابات الغيوب، وما اصغت لاستراقه مصائخ الاسماع، ومصائف الذَّرِّ، ومشاتي الهوامِّ ورجع الحنین من المولهات، وهمس الاقدام، ومنفسح الثمرة من ولائج غُلف الاكمام، ومنقمع الوحوش من غیران الجبال وأوديتها، ومختبإ البعوض بین سوق الاشجار وألحيتها، ومغرز الاوراق من الافنان، ومحط الامشاج من مسارب الاصلاب، وناشئة الغيوم ومتلاحمها، ودرور قطر السحاب في متراكمها وما تسفي الاعاصیر بذيولها، وتعفو الامطار بسيولها، وعوم بنات الارض في كثبان الرمال، ومستقر ذوات الاجنحة بذرا شناخيب الجبال، وتغريد ذوات المنطق في دياجیر الاوكار، وما أوعبته الاصداف، وحضنت عليه امواج البحار، وما غشيته سدفة ليل، أو ذرَّ عليه شارق نهار، وما اعتقبت عليه أطباق الدياجیر، وسبحات النور، واثر كل خطوة وحسِّ كل حركة، ورجع كلَّ كلمة، وتحريك كل شفة، ومستقر كل نسمة، ومثقال كل ذرَّة، وهماهم كل نفس هامة، وما عليها من ثمر شجرة، او ساقط ورقة، او قرارة نطفة، او نقاعة دم ومضغة، او ناشئة خلق وسلالة، لم يلحقه في ذلك كلفة، ولا اعترضته في حفظ ما ابتدع من خلقه عارضة))(2). وقد أبدى الشارح حبيب الله الخوئي رأيه بهذا النص بقوله (فيه مع جزالة اللفظ وعظم

ص: 197


1- اثر القرآن في تطور النقد العربي: 240
2- شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد: 9 / 4

خطر المعنى وفصاحة العبارة وغزارة الفحوى الاشارة الى اصناف خلقه وانواع بريته وعجائب ربوبيته، وقد احصى (عليه السلام) فيه من خفيات المخلوقات وخبيئات. الموجودات ومكنونات المصنوعات ما لا يوجد في كلام غیره بل لا يقدر عليه سواه، تنبيهاً بذلك على برهان علمه تعالى بها؛ لأن خلقه لها وحفظه وتربيته لكل منها واظهار بدائع الحكمة في كل صفة من اوصافها وحال من احوالها لا يتعقل الا ممن هو عالم بها مدرك لحقائقها كما قال عز من قال ((أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِیرُ))(1))(2) وقد كانت عناية الشارح منصبة حول المبنى, فبعد ان ذكر جماليات النص الادبي عرج على المحتوى وبین الثراء الفكري لهذا النص الحامل لموسوعة المعارف المتمثلة في خلق الله, مبدياً اعجابه بالمبدع ثم أنهى رأيه النقدي بالاشارة الى آية من الذكر الحكيم تكشف المعنى الذي اشار اليه، فالقرآن الكريم مضرب المثل وهو الأسوة الحسنة والنموذج الاعلى الذي تستمد منه الاساليب العربية جماليتها اذ ان كل المبدعین يستلهمون من بلاغته وخصائصه انى تكن مراتبهم ودرجاتهم في الكتابة الادبية.

وفي هذه النصوص (مقنع لمن دق نظره ولطف فهمهُ)(3)، ونتيجة لما يحظى به نص الامام (عليه السلام) من جمال وقيمة أدبية مقارنة بغیره من الكلام ذلك إن (لجمال الاسلوب ووضوحه شأناً كبیراً في تأثیره ووصوله الى قراره النفوس)(4). في إقرار يفجر الدهشة يعلق ابن ابي الحديد على إحدى خطب الامام قائلاً: (ملعاً

ص: 198


1- سورة الملك: 14
2- منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة: 7 / 41
3- عيار الشعر: ص 85
4- جواهر البلاغة في المعاني والبيان: 32

ياظليم والا فالتحوبة)(1).

فقد ضمن الشارح المثلُ (ذلك انه يوجز المعاني الكثیرة لتجربة في الحياة في الفاظ قليلة سهلة التداول سلسة الانسياب على الشفاه غیر ما غلو ولا اسراف في المعنى لأن المعنى والصورة التي يتضمنها المثلُ صورة جماعية ومعنى إنساني في حياة كل فرد عاش البيئة العربية وأحس احساساتها)(2). بعد ذكر المثل واصل المعتزلي اظهار سلطة النص على نفسه بقوله (من اراد ان يعظ ويخوف، ويقرع حصاة القلب، ويعرف الناس قدر الدنيا وتصرفها باهلها، فليأت بمثل هذه الموعظة في مثل هذا الكلام الفصيح والا فليمسك، فان السكوت أستر، والعيُّ خیر من منطق يفضح صاحبه، ومن تأمل هذا الفصل، علم صدق معاوية في قوله فيه (والله ما سن الفصاحة لقريش غیره) وينبغي لو اجتمع فصحاء العرب قاطبة في مجلس وتلى عليهم أن يسجدو له كما سجد الشعراء لقول عدي بن الرقاع: قلمُ اصابَ من الدواة مدادها فلما قيل لهم في ذلك قالوا: انا نعرف مواضع السجود في الشعر، كما تعرفون مواضع السجود في القران)(3). وصدق ابن ابي الحديد في ذلك فلقد كان الامام علي (عليه السلام) بارعاً (في ايجاد علاقات وروابط غیر معهودة بین الالفاظ بل في ايجاد ما يدهش)(4). في هذه الاجواء المفعمة بالدهشة والاستغراب يقف الشارح امام مبدعات الامام (عليه السلام) ليقول فيه: (وانى لأطيل التعجب من رجل يخطب في الحرب بكلام يدل على ان

ص: 199


1- شرح نهج البلاغة ابن ابي الحديد: 11 / 105 - 106
2- اثر القرآن في تطور النقد الادبي: 213 (2) شرح نهج البلاغة ابن ابي الحديد: 11 / 105
3- شرح نهج البلاغة ابن ابي الحديد: 11 / 105
4- اللغة العليا دراسات نقدية في لغة الشعر، احمد محمد المعتوق، المركز الثقافي العربي: 76. (4) شرح نهج البلاغة ابن ابي الحديد: 11 / 105

طبعه مناسب لطباع الاسود والنمور وامثالهما من السباع الضارية، ثم يخطب في ذلك الموقف بعينه اذا اراد الموعظة بكلام يدل على ان طبعه مشاكل لطباع الرهبان لابسي المسوح الذين لم يأكلوا لحماً ولم يريقوا دماً فتارة يكون في صورة “بصطام بن قيس الشيباني”و”عتبة بن الحارث اليربوعي”، “عامر بن الطفيل العامري”، وتارة يكون في صورة “سقراط الحبر اليوناني “ويوحنا المعمدان الاسرائيلي”والمسيح ابن مريم الالهي)(1) لقد جاء هذا الوصف بهذا المستوى من الادهاش والاعجاب نتيجة التأثر ببلاغة الامام (وكون النص يعبر عن التجربة الشعورية التي تنبع من الوجدان والخواطر المفعمة بالقيم في بناء فني يعتمد على وسائل التاثير من الالفاظ العظيمة، والاسلوب البليغ والنظم الدقيق والتصوير المحكم)(2).

ولهذا نرى ان نص الامام (عليه السلام)، قد شكل مناخاً له القدرة على استفزاز الذائقة الجمالية وحثها على التوقف بازاء هذه الظاهرة الجمالية المتميزة، اذ جعل اللغة تعمل اعلى مستوى من الخلق الفني من خلال بنية لفظية يلتقطها من بین خيارات لغوية متوفرة لديه، لعل هذا الامر وغیره دعا الشارح المعتزلي الى هذه الوقفة الطويلة مع هذا النص وهو هنا يذكر ما ينتابه عند تلقيه النص ويضع المبررات الموضوعية لهذا التأثر فهو يقول (واقسم بمن تقسم به الامم كلها، لقد قرأت هذه الخطبة منذ خمسین عاماً والى الان اكثر من الف مرة، ما قرأتها قط الا واحدثت عندي روعة وخوفاً وعظة، واثرت في قلبي وجيبا. وفي أعضائي رعدة، ولا تأملتها إلّا وذكرت الموتى من أهلي واقاربي وارباب ودي، وخيلتُ في نفسي أنى أنا ذلك الشخص الذي وصف (عليه السلام) حاله وكم

ص: 200


1- شرح نهج البلاغة ابن ابي الحديد: 11 / 105
2- الادب الاسلامي: 128

قد قال الواعظون والخطباء والفصحاء في هذا المعنى وكم وقفت على ما قالوه وتكرر وقوفي عليه فلم أجد لشيء منه مثل تأثیر هذا الكلام في نفسي، فاما ان يكون ذلك لعقيدتي في قائله، او كانت نية القائل صالحة ويقينه كان ثابتاً واخلاصه كان محضا خالصاً، فكان تأثر قوله في النفوس اعظم، وسريان موعظته في القلوب ابلغ)(1) ففي هذا الاقرار المسكون بالدهشة؛ لما يحمله النص من سمات اسلوبية حيث (الوضوح ورشاقة الاسلوب وجودة العرض والالمام بما يتطلبه الموضوع من الحقيقة والجمال)(2).

لقد كان الاعجاب بنص الامام نتيجة لفنيته العالية في طريقة العرض وجودة الاسلوب وكذلك لما للمتن الادبي للامام (عليه السلام) من علاقة بالوجود الانساني فهو خطاب موجه نحو كشف الانسان والعالم.

وهذا الكلام يروى ان الامام (عليه السلام) قاله بعد تلاوته سورة (ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر) يقول الامام (عليه السلام): ((سلكو في بطون البرزخ سبيلاً سلطت الارض عليهم فيه، فأكلت من لحومهم، وشربت من دمائهم، فاصبحوا في فجوات قبورهم جماداً لا ينمون، وضماراً لا يوجدون، لا يفزعهم ورود الاهوال، ولا يحزنهم تنكر الاحوال، ولا يحفلون بالرواجف، ولا يأذنون للقواصف، غيباً لا يُنتظرون، وشهوداً لا يحضرون، وانما كانوا جميعاً فتشتتوا، وألاَّفاً فافترقوا.

وما عن طول عهدهم، ولا بعد محلهم، عميت اخبارهم، وصممَّت ديارهم،

ص: 201


1- شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد: 11 / 106
2- دراسات في الفن والجمال: 121

ولكنهم سقوا كأساً بدلتهم بالنطق خرساً، وبالسمع صمماً، وبالحركات سكوناً فكأنهم في ارتجال الصفة صرعى سباتٍ، جیرانٌ لا يتأنَّسون، وأحياءٌ لا يتزاورون، بليت بينهم عرا التعارف، وانقطعت منهم اسباب الاخاء، فكلهم وحيد وهم جميع، وبجانب الهجر وهم أخلاء لا يتعارفون لليل صباحاً، ولا نهار مساء، اي الجديدين ظعنوا فيه كان عليهم سرمداً، شاهدوا من أخطار دارهم افظع مما خافوا، ورأوا من آياتها أعظم مما قدروا، فكلا الغايتین مدَّت لهم الى مباءةٍ فاتت مبالغ الخوف والرجاء، فلو كانوا ينطقون بها لعيوا بصفة ما شاهدوا وما عاينوا، ولئن عميت آثارهم وانقطعت اخبارهم، لقد رجعت فيهم ابصار العبر، وسمعت عنهم اذان العقول، وتكلموا من غیر جهات النطق، فقالوا: كلحت الوجوه النواضر، وخوت الاجسام النواعم، ولبسنا أهدام البلى، وتكاءدنا ضيق المضجع، وتوارثنا الوحشة...))(1).

والمتأمل في نص الامام السابق يجد براعة التصوير وقوة البيان وهذا ما اشار اليه الشارح المعتزلي اذ بین الصفة الابداعية لمضامین النص وقيمته الفنية بوصفه مدار التمييز ومناط الحسن والجودة (وانما يدل حسن الكلام، واحكام صنعته، ورونق الفاظه، وجودة مطالعه، وحسن مقاطعه وبديع مباديه على فضل قائله وفهم منشئه)(2).

لا شك ان الاسلوب التعبیري يشكل معياراً نقدياً على اساسه تتحدد قدرات الاديب وامكانياته الذاتية وذلك ما اعتمده المعتزلي في رصده لنص من نصوص

ص: 202


1- شرح نهج البلاغه لابن ابي الحديد: 11 103 - 104
2- كتاب الصناعتين: 56

الامام (عليه السلام) ليقارن بن فصاحته و فصاحة غیره ثم بيّن أثر القرآن الكريم (بما أفاضه من طرائق التعبیر وحسن صوغ الكلام وبراعة القصد الى الهدف حتى تدخل الى القلوب والعقول والاحاسيس دخول المأنوس به المرغوب فيه)(1) وهذا من عظمة التعبیر وجمال التصوير وروعة التأثیر ما دعا المعتزلي الى ان يقول: (انظر الى الفصاحة كيف تعطي هذا الرجل قيادها وتملكه زمامها واعجب لهذه الالفاظ المنصوبة، يتلو بعضها بعضاً كيف تاتيه وتطاوعه سلسة سهلة تتدفق من غیر تعسف ولا تكلف حتى أنتهى الى آخر الفصل فقال: (يوماً واحداً ولا التقي بهم ابداً) وانت وغیرك من الفصحاء اذا شرعوا في كتاب او خطبة، جاءت القرائن والفواصل تارة مرفوعة وتارة مجرورة، وتارة منصوبة، فاذا ارادوا قسرها بأعراب واحد ظهر منها في التكلف أثر بین وعلاقة واضحة)(2). فقد بین الشارح القيم الجمالية والخصائص الاسلوبية والمزايا التعبيرية ليظهر بشكل جلي براعة الامام (عليه السلام) وفنيته العالية من خلال الباسه الالفاظ ثياباً جميلة واحالتها الى مادة صالحة للاستمتاع الفني بما وفره لها من سمات الجال الذي يستميل الناس في لین ولطف, بعد ذلك بین الشارح ان مرجعيات الفصاحة البادية على نص الامام (عليه السلام) هي من تجليات القرآن الكريم في ثقافته (عليه السلام) اذ ان (اسلوب القرآن نمط فريد من البلاغة والروعة وسمو الروح وجلالها، ومن اشراق البيان وعبقرية التصوير والتعبیر)(3).

ذلك مابينه الشارح المعتزلي بقوله: (وهذا الصنف من البيان أحد أنواع

ص: 203


1- الادب الاسلامي: 117
2- شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد: 15 / 301
3- الادب الاسلامي: 102

الإعجاز في القرآن الكريم ذكره عبد القاهر الجرجاني، قال أنظر الى سورة النساء وبعدها سورة المائدة الاولى منصوبة الفواصل، والثانية ليس فيها منصوب اصلاً ولو مزجت احدى السورتين بالاخرى لم يمتزجا، وظهر أثر التركيب والتأليف ثم ان فواصل كل واحدة منهما تنساق سياقة بمقتضى السياق الطبيعي لا الصناعة التكليفية)(1) بعد ذلك يتناول الشارح بعض المعايیر النقدية مبينا بعض السمات الاسلوبية في نسيج نص الامام (عليه السلام) اذ يقول: (ثم انظر الى الصفات والموصوفات في هذا الفصل كيف قال ولداً كادحاً) و (عاملاً ناصحاً) و (سيفا قاطعاً) و (ركناً دافعاً) ولو قال (ولدا كادحاً) و (عاملاً ناصحاً) وكذلك ما بعده لما كان صواباً)(2) وهذا مظهر من مظاهر النسج الذي يشف عن وضوح المعنى وجلاء الفكرة (فقيمة الشكل البلاغي ليست معطاة في الكلمات التي يتكون منها اذ انها تتوقف على الهامش القائم بین هذه الكلمات وما يتلقاه القاريء منها في ذهنه متجاوزاً لها في الآن ذاته، إنها عملية تسام وتجاوز دائم للشيء المكتوب)(3).

بعد ذلك اتجه الشارح الى مقصدية كبرى من بین مقاصده الاخرى, فبعد ان أنهى تقييماته الجمالية وبيان عللها اتجه نحو مبدع النص الامام (عليه السلام) ليشیر الى فرادته في معظم الميادين اذ الفصاحة والشجاعة والحكمة وغیر ذلك يقول المعتزلي: (فسبحان من منح هذا الرجل هذه المزايا النفسية والخصائص الشريفة ان يكون غلام من ابناء عرب مكة، ينشأ بن اهله ولم يخالط الحكماء، وخرج اعرف بالحكمة ودقائق العلوم الالهية من افلاطون وارسطو ولم يعاشر

ص: 204


1- شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد: 15 / 301
2- شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد: 15 / 301
3- بلاغة الخطاب وعلم النص: 71

ارباب الحكم الخلقية والاداب النفسانية، لان قريشاً لم يكن احد منهم مشهورا بمثل ذلك، وخرج اعرف بهذا الباب من سقراط، ولم يرب بین الشجعان، وخرج اشجع من كل بشر مشى على الارض، قيل لخلف الاحمر ايهما اشجع عنبسة وبسطام أم علي بن ابي طالب (عليه السلام) فقال: انما يذكر عنبسة وبسطام مع البشر، لا مع من يرتفع عن هذه الطبقة فقيل له: فعلى كل حال: قال: والله لو صاح في وجوههما لماتا قبل ان يحمل عليهما، وخرج افصح من سحبان وقيس، ولم تكن قريش بافصح العرب، كان غيرها افصح منها... وخرج ازهد الناس في الدنيا واعظمهم... ولا غرو فمن كان محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) مربيه ومخرجه، والعناية الالهية تمده وترفده ان يكون منه ما كان)(1). وهنا بین الشارح قيمة النص من خلال قيمة مبدعه الامام علي (عليه السلام).

لعل التعليق السابق حول اسلوب الامام (عليه السلام) يذكر بتعليق الشيخ عبد القاهر الجرجاني حول الاية القرآنية ((وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ))(2) اذ يعلق الشيخ عبد القاهر عليها بقوله (انك لم تجد ما وجدت من المزية الظاهرة والفضيلة القاهرة الا لأمر يرجع الى ارتباط هذه الكلم بعضها ببعض وان لم يعرض لها الحسن والشرف الا من حيث لاقت الاولى بالثانية والثالثة بالرابعة وهكذا، الى ان تستقر بها الى آخرها وان الفضل تناتج ما بينها، وحصل من مجموعها، ان شككت فتأمل: هل ترى لفظة منها بحيث لو اخذت من بین اخواتها من الاية قل ((ابلعي)) واعتبرها وحدها من غیر ان تنظر الى ما قبلها وما

ص: 205


1- شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد: 15 / 301 - 302
2- سورة هود: 44

بعدها، وكذلك. فاعتبر بسائر ما يليها، وكيف بالشك في ذلك، ومعلوم ان مبدأ العظمة في ان نوديت الارض ثم امرت، ثم ان كان النداء (بيا) دون (اي)، نحو يا ايها الارض)) ثم اضافة الماء الى الكاف دون ان يقال ابلعي الماء ثم اتبع نداء الارض وأمرها بما هو من شأنها، نداء السماء وأمرها كذلك بما يخصها، ثم أن قيل وغيض الماء فجاء الفعل على صيغة فُعل الدالة على انه لم يغض الا بأمر آمر وقدرة قادر، ثم تأكيد ذلك وتقريره بقوله تعالى ((واستوت على الجوديّ)) ثم اضمار السفينة قبل الذكر كما هو شرط الفخامة والدلالة على عظم الشأن لشيء من هذه الخصائص التي تملؤك بالاعجاز روعة وتحضرك عند تصورها هيبة تحيط بالنفس من أقطارها تعلقاً باللفظ من حيث هو صوت مسموع وحروف تتوالى في النطق أم كل ذلك لما بین معاني الألفاظ من الاتساق العجيب)(1) وعلى هذا الاساس يبدو ان الجرجاني يرى ان الصياغة الفنية انعكاس للمعنى وهو الذي يتحكم فيها، وهنا يرتبط الشكل بالمحتوى ارتباطاً وثيقاً ويمتزجان امتزاجاً كاملاً (واذا علا الكلام في نفسه كان له من الوقع في القلوب والتمكن في النفوس ما يذهل ويبهج... ويستميل نحوه الاسماع ويورثُ الاريحية والعزة... وله مسالك في النفوس لطيفة ومداخل الى القلوب دفيقة)(2) لعل هذا ما كانت تحوم حوله عبارات المیرزا حبيب الله الخوئي في رصده لنص الامام علي (عليه السلام) بقوله (اعلم ان هذا الفصل من الخطبة متضمن لمباحث شريفة الهية، ومعارف نفيسة ربانية ومسائل عويصة حكمية، ومطالب عليه عقلية لم يوجد مثلها في زبر الاولین

ص: 206


1- دلائل الاعجاز: 45 - 46
2- جولة في بلاغة العرب وآدابهم، د. ربيعة ابي فاضل، دار الجيل، بيروت: 166

والاخرين، ولم يسمع بنظيرها عقول الحكماء السابقين واللاحقین)(1).

لقد جاءت مقاربة الخوئي لنص الامام فقد تميز بكثافة الرؤية وعمق التجربة اذ عرض افكاره وقناعاته الحاملة للحق المطلق و كان همه الانشغال بالقضايا الكبرى وهذا ما جسده بقوله (الحمد لله الدال على وجوده بخلقه، وبمحدث خلقه على اوليته وباشتبهاهم على ان لاشبيه له لاتستمله المشاعر، ولاتحجبه المساتر، لافتراق الصانع والمصنوع، والحاد والمحدود، والرب والمربوب، الاحد بلا تاويل عدد، والخالق لا بمعنى حركة ونصب والسميع لا بأداة والبصیر لا بتفريق الة بان من الاشياء بالقهر لها والقدرة عليها وبانت الاشياء منه بالخضوع له، والرجوع اليه, من وصفه فقد حدّه, ومن حدّه فقد عده، ومن عده فقد ابطل ازله، ومن قال كيف فقد استوصفه، ومن قال اين فقد حيزه، عالم اذ لا معلوم، ورب اذ لا مربوب، وقادر اذ لا مقدور)(2) ومدار الخطبة حول توحيد الله وتنزيهه عما لا يليق به من الاجسام والاعراض، وهنا تتجلى البلاغة والبيان الكامل في ابهى صورة، ذلك أن اللغة ترجمان القلوب وحديث النفوس وهي الى ذلك الأداة التي تعبر عما تحتوي عليه الضمائر من الافكار والخواطر.

في مقاربة من الشارح الخوئي لأحد خطب الامام (عليه السلام)، بين الشارح ان الامام جاء بجمالية ادبية تحظى بنصيب عالٍ من التجويد الفني والبلاغي الذي هو دون الاعجاز الالهي الذي يشكل القمة يقول في ذلك (اعلم ان هذه الخطبة الشريفة من اعيان خطبه (عليه السلام) وناصع كلامه ورايقه وفيها من

ص: 207


1- منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة: 9 / 158
2- منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة: 11 / 152

لطائف البلاغة ومحاسن البديع وسهل التركيب وحسن السبك خالية من التكلف والعقادة ما لا يخفى، تكاد تسيل من رقتها وتنحدر انحدار الماء في انسجامها)(1) وفي ذلك اشارة الى تماسك الخطبة في المعنى والموضوع وفي اللفظ والنظم والروعة الفنية، ثم بین الشارح العلة الجمالية لهذا النص بقوله: (كيف وخطيبها سلام الله عليه وآله قطب البلاغة الذي عليه مدارها، واليه ايرادها واصدارها، ان ذكرت الرقة فهو سوق رقيقها، او الجزالة فهو صفيح عقيقها)(2) وهذا توصيف لمن (يعرف سر الكلام وغامض الحكمة وخفي القياس وصحيح البرهان)(3). وهذا من البيان الادبي الجميل.

و في كتاب عد من محاسن الكتب فقد احتوى على عبارات مميزة أسلوبياً اذ اختار الوسائل اللغوية على نحو يناسب حجم الظروف الفكرية والثقافية والاجتماعية وفيه تظهر براعة الامام (عليه السلام) في مقارعة الخصوم بالحجة البالغة والبرهان الساطع، ولذا قيل فيه (ان كلامه هذا فوق كلام البشر وفوق ما تحوم حوله العبارة، عليه مسحة من العلم الالهي، ولعمري انه يجري مجرى التنزيلات الساوية لما اشتمل عليه من أمر الخلافة الحقة، ونشأت الحجج الالهية، واراه موج برز من محيط عظيم او نور سطع من عالم الامر الحكيم لا يتفوه به الا من اصطنعه الله تعالى لنفسه، ولا يقدر على الاتيان به الا قائل انا لامراء الكلام وفينا نشبت عروقه وعلينا تهدلت غصونه، ولا يليق هذا الادعاء الا لنبي او وصي نبي، ولا يصدر نحو هذه الكلمة العليا الا من قلب هو عيبة اسرار الله جل

ص: 208


1- منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة: 11 / 160
2- المصدر نفسه: 11 / 160
3- الامتاع والموانسة: 84

شأنه)(1).

ان هذه القيمة قد شكلت مرتكزاً اساسياً في كثیر من نصوص نهج البلاغة وكونت خزاناً زاخراً بالدلالات والاشارات إذ أشار إلى جمال اللفظ ودقة مبناه وصدق تصويره وحسن تحريره للمعنى ما جعله يحظى بنصيب من التجويد الفني والبلاغي العاليین.

وفي خطبة له (عليه السلام) في تمجيد الله ووصف ملائكته جاءت بمضامین فكرية عالية يظهر فيها الامام (عليه السلام) غاية الفصاحة والقدرة على حوك الكلام والبصر باقدار الالفاظ والمعاني، ماجعل المعتزلي يقف متأملاً في الفاظها ومعانيها فوجد البهاء والرونق والفصاحة ليقر ان كلامه (عليه السلام) يتمتع بفنية راقية يبدو ذلك من خال الافصاح عن قوة معانيه وفرادتها ومع كل ذلك فهناك اثر نفسي يتركه النص في المتلقي بالاضافة لما تحتويه من قيم جمالية وخصائص اسلوبية ومزايا تعبيرية متفردة، ومنه نلمس المكانة العالية لنص الامام (عليه السلام) اذ يظهر على قدر كاف من الجمال ودرجة عالية من البناء الفني الذي تجلى في المبنى والمعنى وذلك مابينه المعتزلي بقوله: (هذا موضع المثل (في كل شجرة نار، واستمجد المرخ والعقار) الخطب الوعظية الحسان كثیرة، ولكن هذا حديث يأكل الاحاديث محاسن أصناف المغنين جمةً *** وما قصبات السبق إلاّ لمعبد من اراد ان يتعلم الفصاحة والبلاغة، ويعرف فضل الكلام بعضه على بعض

ص: 209


1- منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة: 19 / 96

فليتأمل هذه الخطبة، فان نسبتها الى كل فصيح من الكلام عدا كلام الله ورسوله نسبة الكواكب الفلكية الى الحجارة المظلمة الارضية، ثم لينظر الناظر الى ما عليها من البهاء والجلالة والرواء، والديباجة وما تحدثه من الروعة والرهبة والمخافة والخشية، حتى لو تليت على زنديق ملحد مصمم على اعتقاد نفي البعث والنشور لهدّت قواه، وارعبت قلبه واضعفت على نفسه وزلزلت اعتقاده)(1). في هذا النص بین الشارح سلطة النص على المتلقي والآثار النفسية التي يتركها عليه فضلا عن المعايیر والقيم الجمالية والأسلوبية في النص، ولما كان وراء هذا النص أمیر البيان عليَّ (عليه السلام) ذكر الشارح بعض ما تفرد به من سمات (فجزى الله قائلها عن الاسلام افضل الجزاء ما جزى به ولياً من اوليائه، فما ابلغ نصرته له تارة بيده وسيفه وتارة بلسانه ونطقه، وتارة بقلبه وفكره! ان قيل جهاد وحرب فهو سيد المجاهدين والمحاربین وان قيل: فقه وتفسیر فهو رئيس الفقهاء والمفسرين وان قيل: عدل وتوحيد فهو امام اهل العدل والموحدين)(2) وفي هذا إشارة الى موسوعة معارف الامام (عليه السلام) وتكامله الروحي والجسدي.

لا يخفى إمتياز النص العلوي بطوابع اسلوبية خاصة كالعناية بنقاء اللفظ ووضوح المقاصد ونبل المعنى، ما جعله محط عناية الدارسین في سبيل بيان القيم الجمالية القارة فيه، ولما كان لابد للنص الجيد من أن يحمل مغزى أنسانياً عميقاً، ذلك ما دعا المعتزلي الى ان يقف امام نص يمثل مجهوداً فكرياً ونفسياً كبیراً، فوصفه بقوله (كلام شريف وجيز بالغ في معناه، والفصل كله نادر لا نظیر له)(3).

ص: 210


1- شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد: 7 / 138
2- المصدر نفسه: 7 / 139
3- المصدر نفسه: 13 / 69

فاضفى على النص صفات الجلال والجمال والتفرد التي هي من طبيعة الخطاب عند الامام (عليه السلام) فلفظه شريف وسبكه متین في اعلى ذروة البلاغة والحكمة، ولما كان النص يزداد غنى بمضمونه المكثف، وهذا ما تبدى في قول الامام (عليه السلام): (قيمة كل أمرئ ما يحسنه)(1). قال الشريف الرضي معلقاً على هذه الكلمة (وهذه الكلمة التي لا تصاب لها قيمة ولا توزن بها حكمة ولا تقرن اليها كلمة)(2) هذا الغنى المعرفي والتكثيف الدلالي دفع الجاحظ الى القول (فلو لم نقف من هذا الكتاب الا على هذه الكلمة لوجدناها فاضلة على الكفاية، وغیر مقصرة عن الغاية، واحسن الكلام ما كان قليله يغنيك عن كثیره، ومعناه في ظاهر لفظه، وكان الله عز وجل قد ألبسهُ من الجلالة، وغشاه من نور الحكمة على حسن نية صاحبه، وتقوى قائله، فاذا كان المعنى شريفاً واللفظ بليغاً، وكان صحيح الطبع بعيداعن الاستكراه، ومنزهاً عن الاختلال مصوناً من التكلف، صنع في القلوب صنع الغيث في التربة الكريمة، ومتى فضلت الكلمة على هذه الشريطة، ونفذت من قائلها على هذه الصفة، اصحبها الله من التوفيق ومنحها من التأييد ما لا يتمنع معه من ان تعيها عقول الجبابرة ولا يذهل عن فهمها معه عقول الجهلة)(3) (ويروى عن الخصال مسنداً عن الشعبي قال: (تكلم علي (عليه السلام) تسع كلمات إرتجلهن ارتجالاً فقأت عيون البلاغة وأيتمن جواهر الحكمة، وقطعن

ص: 211


1- منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة: 17 / 141
2- المصدر نفسه: 17 / 141
3- البيان والتبيين: 1 / 83

جميع الأنام عن اللحاق بواحدة منهن، ثلاث منهن في المناجاة وثلاث منهن في الحكمة وثلاث منهن في الادب... واما اللائي في الحكمة فقال) قيمة كل امرئ ما يحسنه، وما هلك امرؤ عرف قدره)(1).

ص: 212


1- هج الصباغة في شرح نهج البلاغة: 7 / 279 نقلا عن الخصال: 2 / 420

المبحث الثاني العمق في المعاني

من الملامح النقدية التي رصدها الشراح بيان العمق في المعاني، والمعنى العميق هو الذي يذهب بالمتلقي بعيداً في دلالة معنوية عالية ومؤثرة ويصور في النص معاني كثیرة، ولا ياتي بهذا المعنى العميق الا من أوتي قدرة عقلية وخيالية عالية، والامام علي (عليه السلام) لا يخرج عن دائرة هذا التوصيف، و ميزة العمق في المعاني (مدارها على الافهام البليغ والبيان المكشوف والاحتجاج الواضح)(1).

ذلك أن الكلام على قدر قائله، وعلى وفق هذه الرؤية جاء رصد الخوئي لاحدى خطب الامام (عليه السلام) التي يرى فيها ان سر الجمال الادبي مرتبط بالمبنى والمعنى وذلك مابينه بقوله (اعلم ان هذه الخطبة الشريفة كما قاله السيد الرضي مشتملة على مطالب نفيسة ومباحث شريفة من العلم الالهي مع تضمنها للفصاحة والبلاغة وانسجام العبارات وحسن الاسلوب وبديع النظم، ولعمري انها فصل من كلامه في ارجائه مجال المقال واسع، ولسان البيان صادع، وثاقب المطالب لامع، ومجد المدايح طالع، ومراح الامتداح جامع)(2) ثم أتبع ذلك ببيان

ص: 213


1- الامتاع والمؤانسة: 72
2- منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة: 11 / 51

مااشتملت عليه الخطبة من مضمون فكري استطاع من خلاله ان يلامس الوجدان الانساني (فهو لمن تمسك بهداه نافع، ولمن تعلق بعراه رافع، فياله من فضل كؤوس لذة للشاربين ودروس مضمونه مفرحة للكرام الكاتبین يعظم المحققین قدر وقعه ويعم الموقعین شمول نفعه، كيف لا والموصوف به الحق الاول رب العالمین وديان الدين وخالق السموات والارضین إله الخلق اجمعین)(1).

كذلك بین الشارح بعض القيم النقديه المهمة التي تشیر الى قوة بيانه وحسن رأيه ونفاذ بصيرته وقوة حجته وهو يعلل عمق نصوص الامام بقوله (والواصف جامع علوم الاولین والاخرين، خليفة الله في الارضین معلم الملائكة والنبيین أمیر المؤمنین الذي بحار علومه ومآثره لا ينال قعرها بغوص الافهام وجبال فضائله ومفاخره لا يرقى قلالها بطیر العقول والاوهام)(2) فالشارح لم يكتف بالتأمل والاعجاب واظهار مواطن الجمال بل راح يبحث عن العلة الجمالية، لعل هذه القضية هي الظاهرة المهيمنة على معظم آراء الشراح.

لقد عرف عن العرب أن البيان يهزهم وتملكهم بلاغة القول؛ ذلك لان اللغة ترجمان القلوب وحديث النفوس والأداة المعبرة عما تنطوي عليها الضمائر من الافكار والخواطر ولما كان نص الامام قد انماز ب (غنى المعرفة ولطف الذوق وصفاء الرؤيا ودقة الملاحظة)(3) وإن للنصوص الادبية رسالة تنقلها الى القراء, ففي مقاربة من الشارح الخوئي التي حاول ان يحقق فيها لحظة مواجهة معرفيه

ص: 214


1- المصدر نفسه: 11 / 52
2- منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة: 11 / 52
3- جولة في بلاغة العرب وآدابهم: 14

مع نص قد احتوى على (نمط من الكلام يجمع صفتي الفخامة والعذوبة وهما على انفراد في نعوتهما كالمتضادين، لان العذوبة نتاج السهولة والجزالة والمتانة في الكلام تعالجان نوعاً من الوعورة)(1) يقول الخوئي مشیراً لبعض معالم نص الامام (عليه السلام): (اعلم ان هذا الكلام على غاية وجازته جامع لجميع صفات العارف الكامل ولكيفية سلوكه، ولمآل أمره، ولعمري انه لا يوجد كلام أوجز من هذا الكلام في اداء المعنى وهو في الحقيقة قطب دائرة العرفان وعليه مدارها، وفي الايجاز الذي هو فن نفيس من علم البلاغة تالي كلام الملك الرحمن مثل قوله تعالى ((خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِینَ))(2) الجامع لمكارم الاخلاق، الجامع للزهد كله ((لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ))(3))(4).

ومدار الامر كله عاى كلام الامام (عليه السلام) من المختار في باب الخطب وهو قوله (قد أحيا عقله وأمات نفسه، حتى دق جليله، ولطف غليظه وبرق له لامع كثیر الرق فأبان له الطريق، وسلك به السبيل وتدافعته الابواب الى باب السلامة، ودار الإفاضة وثبتت رجلاه بطمأنينة بدنه في قرار الامن والراحة، بما استعمل قلبه وارضى ربه)(5) اذ يثیر الامام بهذه الالفاظ. استدعاءات وجدانية باتجاه الزهد في الدنيا وترك ملاذها الحسية، وتعويد النفوس عليها ولقد قال

ص: 215


1- ثلاث رسائل في اعجاز القرآن: 26
2- الاعراف: 199
3- سورة الحديد: 23
4- منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة: 12 / 181
5- المصدر نفسه: 14 / 181

ذلك كله بايجاز بليغ دال على المعنى المراد بابلغ دلالة ذلك (أن اجناس الكلام مختلفة، ومراتبها في نسبة التبيان متفاوتة ودرجاتها في البلاغة متباينة غیر متساوية، فمنها البليغ الرصین الجزل، ومنها الفصيح القريب السهل... وهذه اقسام الكلام الفاضل المحمود)(1).

في مقاربة لحكمة من حكم الامام تبین العلة الجمالية في استخدام ادوات البلاغة (وقد جاء في هذا الكلام من عجيب التمثيل والتشبيه الموجب لكمال النفرة والانزجار عن حلال الدنيا وما فيها من الحرام بما يقرب من حد الاعجاز في الفصاحة والاسلوب)(2). تجسد هذا بقوله (عليه السلام): (والله لدنياكم هذه أهون عندي من عراق خنزير في يد مجذوم)(3). في هذه الحكمة تظهر قوة البيان ورصانة الاسلوب الادبي، وقد تضمن النص جواً انفعالياً ومن تأمل ذلك وجد أنها الملامح الاسلوبية التي تشیر الى (من تبحر في كلام العرب، وعرف اساليبه الواسعة)(4).

ان نص الامام (عليه السلام) نص خصب منفتح على الحياة والوجود ولقد تجلى ذلك في ثورته الفكرية التي تناولت الاوضاع الاجتماعية في الاخلاق والسياسة والعادات والتقاليد وغيرها من الشؤون، وهذا ما يجده الدارس لنصه (عليه السلام) إذ يضع يده على موسوعة معارف، بدا ذلك واضحاً في احدى

ص: 216


1- ثلاث رسائل في اعجاز القرآن: 26
2- منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة: 21 / 358
3- المصدر نفسه: 21 / 358
4- ثلاث رسائل في اعجاز القرآن: 46

وصايا الامام (عليه السلام): (فقد أتى في هذه الوصية بإمور يدل بعضها على كمال رأفته بالناس والآخر على نهاية بصارته في البأس، وقد جمع عليه السلام فيها بین الأضداد وألف بین الاشتات ولو تأمل فيها متأمل وفكر فيها متفكر علم ان عليها مسحة من العلم الالهي وفيها عبقة من الكلام النبوي... فانظر في فقرات هذه الوصية افتتحها بتقوى الله واختتمها بالكف عن القتال قبل الإعذار والدعاء ووسط فيها قوله (فسر على بركة الله) وصدّر فيها بالأوامر وأردفها بالنواهي ولعمري أن محاسنها فوق أن تحوم حولها العبارة وانما هي تدرك ولا توصف)(1) اذ تناول الشارح اسلوبية الخطبة وبین بعض جمالياتها معللاً ثراءها المضموني وغناها المعرفي.

(قال من وصية له (عليه السلام) لمعقل بن قيس الرياحي... وكلامه هذا هو المختار الثاني عشر من باب كتبه ورسائله ووصاياه اتق الله الذي لابد لك من لقائه ولا منتهى لك دونه ولا تقاتلن الا من قاتلك، وسرالبردين، وغور بالناس، ورفه في السیر، ولا تسر في أول الليل، فان الله جعله سكناً وقدّره مقاماً لا ظعناً، فأرح فيه بدنك، وروح ظهرك، فاذا وقفت حین ينبطح السحر، أو حین ينفجر الفجر فسر على بركة الله، فاذا لقيت العدو وقفت من اصحابك وسطاً ولا تدن من القوم دنوَّ من يريد ان ينشب الحرب، ولا تباعد منهم تباعد من يهاب البأس حتى يأتيك أمري، ولا يحملنكم شنآنهم على قتالهم قبل دعائهم والاعذار اليهم)(2).

ص: 217


1- منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة: 18 / 75 - 76
2- المصدر نفسه: 18 / 72

لقد كانت مواطن الجمال على مستوى الشكل مجسدة في الصورة البيانية بوصفها قيمة مهيمنة في النص ولما كانت (حقيقة البيان اخراج المعنى في احسن الصور الموضحة له، وإيصاله الى فهم المخاطب بأقرب الطرق وأسهلها)(1). من هذا الباب يرصد الخوئي احدى خطب الامام مؤكدا سر الجمال الادبي فيها بما تضمنته من محاسن البيان فضلا عن المعنى الذي احتوته هذه الصور الجميلة (اعلم ان هذه الخطبة الشريفة المشتملة على كثیر من محاسن البلاغة والبديع من الانسجام وحسن السبك وانواع من الجناس وحسن الاسجاع والقوافي والاشتقاق ونسبة الاشتقاق وغيرها مسوقة للترغيب الى التقوى والترهيب من الدنيا)(2). اذ حاول الشارح الانتقال الى رحاب النص وتأمله لبيان القيم الجماليه الثاوية فيه يقول الامام (عليه السلام): (الحمد لله الفاشي في الخلق حمده والغالب جنده)(3). فقد كانت الخطبة متماسكة وقد لوحظ فيها وجود مستوى من المعنى يتميز عن تلك المستويات المعهودة في خطابات الناس العاديین. إذذهب الامام (عليه السلام) فيها الى أُفق فكري متميز.

في نص للامام (عليه السلام) بلغ الغاية في الجودة والنهاية في الحسن لما توافر عليه من فصاحة اللفظ وجودة الرصف الذي يدل على براعة صاحبه في نماذجه الادبية حيث البلاغة. التامة والبيان الكامل اذ قيل فيها: انها فوق كلام المخلوق (كلامه في التحريض على القتال والحث على الجهاد وفضل المجاهدين وفي ذم القاعدين ذكر في عدة مواضع من النهج كلها كاف شاف لفظاً ومعنى

ص: 218


1- جولة في بلاغة العرب وآدابهم: 194
2- منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة: 11 / 189 - 190
3- المصدر نفسه: 11 / 186

على حد لا يأتي لأحد ان ينسج المعاني بالالفاظ بذلك المنوال ومن تأملها حق التأمل درى انها فوق كلام المخلوق)(1) لعل هذا المعنى هو الذي اشار اليه نظام الدين الجيلاني في ديباجة شرحه لنهج البلاغة الذي سماه (انوار الفصاحة واسرار البراعة) (ولما كان كتاب نهج البلاغة محتوياً على مختار كلام الامام الهمام... في جميع الفنون من خطب وكتب ومواعظ وآداب البلغاء والعلماء، ومتضمناً من عجائب البلاغة وغرائب الفصاحة وبدائع الصنائع بحيث يعده العلماء تحت كلام الخالق وفوق كلام المخلوقین... فان هذا الكتاب دستور الغرائب وفهرس العجائب، ولا يعرف ذلك الا من تسنم شواهق البلاغة بحق، جرى في ميدان الفصاحة اشواطاً على عرق... فان هذا الكتاب ميدان وللفصحاء والبلغاء فيه جولان... فهو كثیر العلم عظيم الاسم جليل الشأن، واضح البرهان، لا يعرف على وجه الارض بعد الكتاب الالهي كتاب اشرف منه واعظم ولا انفس منه واتم)(2) وهذا النص يبین قيمة نهج البلاغة المعرفية وما يحتويه من كنوز ثمينة تستحق التأمل لادراك مواطن الجمال التي لا تخفى على بصائر النقاد.

قال الامام علي (عليه السلام): (والله مستأديكم شكره، ومورثكم امره وممهلكم في مضمار ممدود لتتنازعوا، فشدواعُقد المآزر، واطووا فضول الخواصر، لا تجتمع عزيمة ووليمة ما انقض النوم لعزائم اليوم وأمحي الظلم لتذاكیر الهمم)(3).

وفي موقف تأثري وفي محاولة لبيان التفوق الادبي للنص وذلك من خلال بيان الخصوصية الفنية والجمالية فيه من خلال توظيف الالفاظ توظيفاً حسناً وهو ما

ص: 219


1- منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة: 16 / 163
2- بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة: 43 نقلا عن: انوار الفصاحة واسرار البلاغة
3- منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة: 16 / 162

اشار اليه الرضي بقوله (لو كان هذا كلام يأخذ بالاعناق الى الزهد في الدنيا ويضطر الى عمل الاخرة لكان هذا الكلام، وكفى به قاطعاً لعلائق الامال وقادحاً زناد الاتعاظ والازدجار ومن اعجبه قوله عليه السلام ((ألا وان اليوم المضار وغدا السباق، والسبقة الجنة والغاية النار)) فخالف بین اللفظین لأختلاف المعنيبن ولم يقل والغاية النار))؛ لان الغاية قد ينتهي اليها من لا يسره الانتهاء اليها، ومن يسره ذلك فصلح أن يعبر بها عن الامرين معاً، فهي في هذا الموضع كالمصیر والمآل قال الله تعالى: ((قُلْ تَمَتَّعُواْ فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَی النَّارِ))(1) ولا يجوز في هذا الموضع ان يقال: فان سبقتكم الى النار): فتامل ذلك فباطنه عجيب وغوره بعيد لطيف وكذلك اكثر كلامه عليه السلام)(2) التفت الرضي هنا الى جمال السياق وحسن النسق (فالنص طائفة من الامكانيات، وقد يحسن ان نرجح بعض هذه الامكانيات على بعض من اجل ان نتبین مدى قربها أو بعدها عن السياق الكلي للنص)(3) وهذا ما يجعل النص اكثر جمالًا وأعلى قيمة من الوجهة الفنية.

قال الامام علي (عليه السلام) من خطبة له في الحث على التزود للاخرة:

(أما بعد، فان الدنيا قد أدبرت وآذنت بوداع، وان الاخرة قد اقبلت وأشرفت باطلاع، الا وان اليوم المضمار وغداً السباق، والسبقة الجنة والغاية النار...)(4) وقد علق ابن ميثم على هذا الفصل بقوله (قد اشتمل هذا الفصل على استدراجات لطيفة الانفعالات عن اوامر الله وزواجره، واذا تاملت اسلوب كلامه عليه السلام وراعيت ما فيه من فخامة الالفاظ وجزالة المعاني المطابقه للبراهین العقلية

ص: 220


1- سورة ابراهيم: 3
2- شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد: 2 / 321
3- نظرية المعنى في النقد الادبي: 170
4- شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد: 1 / 320

وحسن الاستعارات والتشبيهات، ومواقعها وصحة ترتيب اجزائه ووضع كل مع ما يناسبه وجدته لا يصدر الا عن علم لدني وفيض رباني وأمكنك حينئذ التفريق بن كلامه وكلام غیره والتميز بينهما بسهولة)(1) وقد بین الامام (عليه السلام) في هذا النص الحياة الانسانية بخيرها وشرها ووضع لنا نظرية واضحة المعالم في بنية فنية واضحة القسمات والمعالم فهذا من ابدع ما قيل في هذا المعنى ف (لو ان كلاماً أذيب به صخر أو أطفئ به جمر أو عوفي به مريض... لكان كلامه الذي يعود سامعيه على السجود ويجري في القلوب مجرى الماء في العود الفاظه أنوار ومعانيه ثمار)(2) ففي محاولة لمقاربة عناصر الجمال في النص ومكان الروعة فيه سلط الشريف الرضي ذوقه النقدي ليبین تفوق نص الامام (عليه السلام) وعلوه وامتيازه فهو يقول ((واذا تأمل المتأمل قوله عليه السلام (ومن أبصر بها بصرته) وجد تحته من المعنى العجيب، والغرض البعيد ما لا يبلغ غايته ولا يدرك غوره؛ لاسيما اذا قرن اليه قوله: ومن ابصر اليها اعمته فانه يجد الفرق بین ابصر بها وابصر اليها واضحاً نیراً وعجيباً باهراً))(3). لقد استطاع الامام (عليه السلام) انتاج نص أدبي متميز تتدفق فيه اللغة تدفقاً سلساً يكشف عن الخصوصية الفنية والجمالية لنصه.

قال الامام (عليه السلام) في صفة الدنيا (ما أصف من دار أولها عناء، وآخرها فناء في حلالها حساب وفي حرامها عقاب، من استغنى فيها فتن، ومن افتقر فيها حزن ومن ساعاها فاتته، ومن قعد عنها واتته، ومن ابصر بها بصرته ومن ابصر اليها أعمته)(4). استطاع الامام (عليه السلام) في هذا النص أن يوظف الالفاظ

ص: 221


1- شرح نهج البلاغة لابن ميثم البحراني: 2 / 71
2- بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة: 12 / 74
3- بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة: 12 / 74
4- شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد: 6 / 337

توظيفاً فنياً اذ نلحظ تعامله مع اللغة من موقع العالم العارف الذي يدرك الفروق الدلالية بین الكلمات، من هنا جاءت البلاغة العالية والابداع الفني المتميز، (فاذا كان الكلام الوارد على الفهم... مصفى من كدر العي مقوماً من أود الخطأ واللحن، سالماً من جور التأليف موزوناً بميزان الصواب لفظا ومعنى وتركيباً اتسعت طرقه، ولطفت موالجه، فقبله الفهم وارتاح له، وانس به)(1). لعل هذا المضمون هو ما أشار اليه المعتزلي في رصده لنص من نصوص الامام (عليه السلام)، ليبین قيمة الالفاظ وما تحمله من دلالات عميقة بقوله: (لفظ شريف فصيح ومعنى صادق فيه عظة بالغة)(2) وهذا التعليق حول قول الامام (عليه السلام): (فالمال لا يبقى لك ولا تبقى له)(3). فقد اشتمل كلام الامام (عليه السلام) على خصائص اسلوبية جمالية في حدود نظام لغوي خاص يكشف عن حسن تمكنه من ناحية اللغة وتسخيرها لخدمة متصوراته الذهنية.

لقد تميز الامام بقدرة تعبيرية استطاع من خلالها أن يرسم رؤيته الشاملة للكون والانسان من اجل اثارة وعلي الناس، ومخاطبة عقولهم وضمائرهم بشكل يكشف عن توجهه الفكري ورؤيته للعالم الذي يسعى لتغیره، وهذا ما منح قوله قوة من خلال انفتاحه على جملة ممكنات أدبية (وقد تضمن مع ذلك حسن النظم وعذوبة الالفاظ وصحة الدلالة وصدق التمثيل)(4) وذلك في نماذج قد استحضرت لتؤدي غرضاً فنياً او فكرياً.

ص: 222


1- عيار الشعر: 20
2- شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد: 15 / 262
3- المصدر نفسه: 15 / 262
4- جولة في بلاغة العرب وآدابهم: 174

المبحث الثالث دقة المعاني

وجد الشراح في مقارباتهم وجود مستوى من المعاني يتميز عن تلك المستويات المعهودة في نصوص اخرى، من هنا جاءت دقة المعاني عند الامام (عليه السلام)، ولما كان القرآن الكريم يحمل من كنوز المعاني اللطيفة واسرارها العجيبة ونهج البلاغة دون كلام الخالق وفوق كلام المخلوق، اذ تميز بالتفوق والمتانة في فصاحة لفظه، وفي بلاغة معناه. ونجد فيه اختيار اللفظ ودقة المعنى، وهذا ما تدبره الشراح واشاروا اليه في مواطن عديدة من النهج.

وقد التفت الشارح الخوئي الى هذه القضية في بنية نص الامام ليبین جزالة الالفاظ وجلالة المعاني وحسن السبك والانسجام بشكل جعل النص غاية في الدقة والفن من خلال بيان دور الكلمة اذا حسُن استخدامها في اشعاع المعنى المؤثر، وقد صدر حكمه الجمالي بكلمة لا يخفى. ليبین ان الامر في تأكيد ذلك باعلى مستويات التأكيد, وكأنه واضح للعيان فهو يقول (لا يخفى ما في تخصيص الامن بالجناح والخوف بالقوادم، لان الجناح محل الامن والساكن تحته مصون من الأذى ونيل المكروه متحصن بحصن السلامة ألا ترى ان الطائر يحصن فرخه

ص: 223

بجناحه حفظاً له من المكاره والالام، واما القوادم وهي مقاديم الريش فلا ريب ان الراكب عليها في معرض خطر عظيم وسقوط قريب)(1) اذ حاول الشارح ان يمس عناصر الجمال في النص ومكان الروعة فيه، بعد ذلك ينقل تعليق الشارح البحراني على النص نفسه (انما خص الامن بالجناح؛ لان الجناح محل التغیر بسرعة فنبه به على سرعة تغيراتها، وانما خص الخوف بالقوادم من الجناح، لان القوادم هي رأس الجناح وهي الاصل في سرعة حركته وتغیره، وهو في مساق ذمها والتخويف منها، فحسن ذلك التخصيص، ومراده انه وان حصل فيها أمن وهي في محل التغیر السريع والخوف اليه اسرع لتخصيصه بالقوادم)(2).

ويرجح الخوئي رأيه، والامر الاقرب كما يبدو في رأي الشارح البحراني لما هو معروف بكون الجناح محل السرعة والتغيیر. في مقاربة للشارح الخوئي يرصد فيها نص الامام (عليه السلام) الذي يقول: (والذي نصرهم وهم قليل لا ينتصرون)(3). بین الشارح أن العلة الجمالية في النص من جهة الاسلوب اذ ان (نسبة الاسلوب الى المعاني نسبة النظم الى الالفاظ؛ لان الاسلوب يحصل عن كيفية الاطراد من اوصاف جهة من جهات القول وكيفية الاطراد من اوصاف جهة الى جهة فكان بمنزلة النظم للالفاظ الذي هو صورة كيفية الاستمرار في الالفاظ والعبارات والهيئة الحاصلة عن كيفية النقل من بعضها الى بعض وما يعتمد فيها من ضروب الوضع وانحاء الترتيب)(4). وهذا ما بينه الشارح الخوئي واشار اليه

ص: 224


1- منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة: 8 / 18
2- المصدر نفسه: 8 / 18 - 19
3- منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة: 8 / 286
4- منهاج البلغاء وسراج الادباء: 363

بقوله: (لا يخفى ما لهذه الجملة من حسن الخطابة حيث أورد المسند اليه موصولاً لزيادة التقرير اعني تقرير الغرض المسوق له الكلام وهو الحث على التوكل على الله والاعتماد عليه ومزيد الثقة به، ثم اكد ذلك المعنى بالجملة الحالية واتيان المسند اليه يجري مجرى المثل السائر، والمراد ان من نصرهم في حال قلتهم وعدم تمكنهم من انتقام الاعداء ومنعهم في حال ضعفهم وعدم قدرتهم على الامتناع من سيف المعاندين حى لا يموت فهو اولى في حال كثرتهم بالحفظ والحماية والاعزاز والنصرة)(1) وهنا يرتبط الشكل بالمحتوى ارتباطاً وثيقاً ويمتزجان امتزاجاً كاملاً.

يقول الخوئي معلقاً على قول الامام (عليه السلام): (لا ينال امرؤ من غضارتها رغباً الا ارهقته من نوائبها تعباً)(2) (اراد انه لا يبلغ احد من طيب عيشها وسعتها ونعمتها رغبته وارادته الا حملته واغشته من نوائبها ومصائبها التعب والمشقة... لا يخفى ما في. إتيان ينال بصيغة المضارع، وارهقته بصيغة الماضي من النكتة اللطيفة، وهي الإشارة الى ان نيل الرغبة من غضارتها أمر متوقع مشكوك وارهاق التعب من نوائبها أمر محقق ثابت)(3) وحسن تصدير ذلك بكلمة لا يخفى.

وفي نص بلغ من حسن اللفظ والمعنى مبلغاً اخذ بمجامع القلوب، وهي براعة نرى آثارها في كل مكان من النهج، فقد اختار للمعنى اللفظ المناسب الكاشف عن غرضه اذ (ان الكلام دليل على الحالة العقلية للمتكلم)(4). يقول الامام علي

ص: 225


1- منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة: 8 / 286
2- المصدر نفسه: 8 / 18
3- المصدر نفسه: 8 / 18
4- دور الكلمة في اللغة: 20

(عليه السلام): (انتفعوا ببيان الله، واتعظوا بمواعظ الله، واقبلوا نصيحة الله)(1).

اذ يرى الخوئي ان دقة المعنى تكمن في تكرار لفظ الجلالة وما يحققه من دلالات موحية (والاتيان بلفظ الجلالة والتصريح باسمه سبحانه في جميع الجملات مع اقتضاء ظاهر المقام للاتيان بالضمر لإيهام الإستلذاذ ولإدخال الروع في ضمیر المخاطبین وتقوية المهابة وتقوية داعي المأمورين لامتثال المأمور به)(2). وفي هذا المقام بین الشارح الاثر النفسي الذي يحدثه تكرار لفظ الجلالة في سياق النص ما جعله يتشح بجمال السياق وحسن النسق، لعل هذا ما اراده الجاحظ بضرورة مطابقة الكلام لمقتضى الحال وذلك حین يقول (حق المعنى ان يكون الاسم له طبقاً وتلك الحال له وفقاً)(3).

وسلط الخوئي مرة أخرى عينه النقدية على نص الامام (عليه السلام) ليلحظ جمالية تعبیر الامام عن المدركات الحسية فلا يجد انفصالاً بین المعنى وطريقة التعبیر عنه اذ يقول: (لا يخفى ما في هذه الفقرة من الرقة والسلاسة واللطافة من حيث اللفظ والعبارة، حيث تضمنت سياقة الاعداد مع مراعاة التطبيق والازدواج وملاحظة الاسجاع)(4). ذلك ماتجسد في قول الامام (عليه السلام):

(فانظر الى الشمس والقمر والنبات والشجر والماء والحجر واختلاف هذا الليل والنهار وتفجر هذه البحار وكثرة هذه الجبال وطول هذه القلال وتفرق هذه

ص: 226


1- منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة: 10 / 184
2- المصدر نفسه: 10 / 184
3- الحيوان: 2 / 90
4- منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة: 11 / 21

اللغات والالسن المختلفات)(1). وقد اختلف الشراح في تفسیر مضمون هذا النص(2)، ولا غرابة في هذا الاختلاف فقد انمازت (كلمات الامام امیر المؤنین عليه السلام... بميزتین تعرف بهما هما البلاغة والشمول، ويكفي كل واحدة من هاتین الميزتین فخراً لكلام الامام وشرفاً)(3).

لا يخفى (ان الاسلوب يشتمل البناء العام للنص الادبي وان دراسته تقتضي الوقوف عند ترابط الجمل وترابط الفقر والفكر منذ البداية حتى النهاية)(4) وقد تنبه الخوئي الى هذا الامر فلاحظ وجود مستوى من المعنى يتميز بكونه اكثر جمالاً وقيمة من الوجهة الفنية وذلك من خلال بيان ما في اسلوب الامام من جمال وروعة وهذا ما أشار اليه بقوله: (لا يخفى ما في نسبة الطعن الى العيون والحز الى الحلوق والدق على المناخر من حسن الخطابة وصياغة البلاغة)(5). تمثل ذلك بقول الامام (عليه السلام) (... طعناً في عيونكم وحزاً في حلوقكم ودقاً في مناخركم)(6). اذ يظهر على سطح النص امكانيات الامام (عليه السلام) الهائلة على قول ما يمكن ان يقال مما تقتضيه الاحداث والمواقف المختلفة، (فلا يكفي ان يعرف المبدع ما يجب عليه ان يقوله بل عليه ايضاً ان يعرف كيف يقوله وهذا

ص: 227


1- المصدر نفسه: 11 / 21
2- ينظر: المصدر نفسه: 11 / 21
3- في رحاب نهج البلاغة: 18
4- مقدمة في النقد الادبي, الدكتور علي جواد الطاهر، المؤسسة العربية للدراسات والنشر: 322
5- منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة: 11 / 243
6- المصدر نفسه: 11 / 238

يسهم كثیراً في جعل الكلام يظهر ذا طابع معین)(1).

ان علم الله سبحانه وتعالى بكل ما يحيط بالكون هو مما لا يخفى على كل ذي لب وهو ما عبر عنه الامام (عليه السلام) بلفظ بديع ومعنى رائع بقوله: (ويعلم ما يمضي وما مضى)(2). اشار الخوئي الى فرادة هذا النص ذلك ان الامام (عليه السلام) له فضيلة السبق الى كل معنى طريف ولذا قيل: (لا يخفى ما في هذه القرينة من حسن الاشتقاق وتقديم يمضي على مضى لاقتضاء السجع والقافية مضافة الى ما فيه من نكتة لطيفه وهي الاشارة الى ان علمه بالمستقبل كعلمه بالماضي)(3). فتخیر الكلمات والتعبیر على المستوى التركيبي له جماليته الخاصة من خلال استخدام أعلى ما توافر من مستويات الاداء اللغوي.

في محاولة لاستنطاق النص للكشف عن مراميه من خلال تتبع ما فيه من قيم جمالية وخصائص اسلوبية يرصد الخوئي قول الامام (عليه السلام): (قبل بلوغ الغاية ما تعلمون)(4) ليبین العلة الجمالية في النص بقوله: (وفي اتيان المسند اليه بالموصول وابهامه من التهويل والتفخيم ما لا يخفى)(5) مثل قوله سبحانه:

((فغشيهم من اليم ما غشيهم))(6).

ص: 228


1- الخطابة، ارسطوطاليس, الترجمة العربية القديمة, حققه وعلق عليه عبد الرحمن بدوي, دار القلم بيروت، لبنان: 193
2- منها ج البراعة في شرح نهج البلاغة: 11 / 208
3- المصدر نفسه: 11 / 208
4- منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة: 11 / 164
5- منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة: 11 / 164
6- سورة طه: 78

ثم علل هذ الابهام بقوله (لان ذكر النبي مبهما ثم مفسراً أوقع في النفوس)(1) في محاولة لتلمس القيم الجمالية والخصائص الاسلوبية المتمثلة باختيار اصفى العبارات قصد الوصول الى ادق المعاني اذ ان نهج البلاغة حاوٍ لكنوز المعاني اللطيفة واسرارها العجيبة فبعد تأمل قوله (عليه السلام): (وان تستعينوا عليها بالله وتستعينوا بها على الله)(2) بین الخوئي الامكانيات الجمالية في النص وتجلياتها المظهرية بقوله: (لا يخفى ما في هذه القرينة من حسن المقابلة، والمراد بالاستعانة عليها بالله ان يطلب منه سبحانه التوفيق والإعانة على تحمل مشاق التكاليف الشرعية، وبالاستعانة بها على الله الاستعانة بها للوصول الى قرب الحق وجواره وساحل عزته وجلاله)(3).

والشريف الرضي الذي عرف بحسن قراءته للنصوص الادبية واجادة تلقيها انطلاقاً من حسه النقدي المتميز في سبر غور النص لبيان ما يمتلكه من كثافة في المعنى واختصار في الكلمات يقول معلقاً على قول الامام (عليه السلام):

(لسان العاقل وراء قلبه وقلب الاحمق وراء لسانه)(4): (وهذا من المعاني العجيبة الشريفة)(5) فعلى الرغم من التكثيف العالي والايجاز غیر المخل في هذه العبارة فقد اعطت دلالات كبیرة كيف لا وقائلها قيل في كلامه (قبس من نور الكلام

ص: 229


1- منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة: 11 / 165
2- المصدر نفسه: 11 / 211
3- منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة: 11 / 211
4- المصدر نفسه: 21 / 81
5- المصدر نفسه: 21 / 81

الالهي وشمس تضيء بفصاحة المنطق النبوي)(1) وتلك مسلمة لاجدال فيها، ذلك ان الامام (عليه السلام) كان لا يجد من يحول بينه وبن الوصول الى المعاني الكبار فيما يروم التعبیر عنه في مختلف شؤون الحياة وهذا ما نراه واضحاً على طول النهج حيث انتخاب الكلمة الملائمة وحسن ملائمتها للمعنى، هذا وغیره جعل لنهج البلاغة صفة الكمال اللغوي الذي من مصاديقه التفوق الادبي والتاثر الجمالي.

في احدى مقاربات الرضي لنص من نصوص الامام (عليه السلام) يقول فيها:

(وهذا من محاسن الاستخراج ولطائف الاستنباط). وهو نقديمس المضمون، هذا التكثيف الدلالي يقوي المعنى ويعضده. قال الامام علي (عليه السلام) فيما حكاه عنه ابو جعفر محمد الباقر (عليه السلام): (كان لي في الارض أمانان من عذاب الله وقد رفع احدهما فدونكم الاخر فتمسكوا به أما الامان الاول فهو رسول الله صلى الله عليه واله وسلم واما الامان الثاني فالاستغفار)(2) قال الله تعالى: ((وما كان الله ليعذبهم وانت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون))(3).

ومن المقاربات التي قصد فيها الوصول الى مقاصد المبدع وغاياته من خلال إبراز القيم الجمالية والخصائص الاسلوبية للخطابة اذ كان (اسلوب الخطابة في هذا العصر يساوق الطبع ويوائم السليقة... مع وضوح اللفظ وسهولة الاسلوب، والانسجام التام في بناء الكلمات... والبعد عن التكلف، والايجاز في موضع

ص: 230


1- بلوغ الارب في معرفة احوال العرب، محمد شكري الالوسي، شرح وتصحيح وضبط محمد بهجت الاثري: 3 / 180
2- منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة: 21 / 150
3- سورة الأنفال: 33

الايجاز، والاطناب فيما يستدعي الاطناب والاكثار)(1). لعل ذلك ما اشار اليه ابن ابي الحديد في مقاربته اذ حاول تحليل النص والإشارة الى بنيته الفكرية عن طريق المزاوجة بن اللفظ والمعنى في اسلوب أدبي حقق مستوى من النضج الفني والاداء الجمالي العالي فهو يقول: (هذا باب من الخطابة شريف ذلك لانه أناط بكل واحدة من اللفظات لفظة تناسبها وتلاؤهما لو نيطت بغيرها لما انطبقت عليها ولا استقرت في قرارها، الا تراه قال (أمنا لمن علقه (فالامن مرتب على الاعتلاق، وكذلك في سائر الفقر كالسلم المرتب على الدخول والبرهان المرتب على الكلام، والشاهد المرتب على الخصام، والنور المرتب على الاستضاءة... الى آخرها، الا ترى انه لو قال: «وبرهاناً لمن دخله، ونوراً لمن خاصم عنه، وشاهداً لمن استضاء به «لكان قد قرن باللفظة ما لا يناسبها، فكان قد خرج عن قانون الخطابة، ودخل في عيب ظاهر)(2) فقد بین الشارح العلة الجمالية بسبب هذا الاتساق والتضام في انضمام كل لفظة الى اختها ووضوح المعنى ف (الكلام اذا لم يجعل المعنى واضحاً فانه لا يؤدي وظيفته الخاصة وكذلك ينبغي ان لا يكون وضيعاً ولا فوق مكانه الموضوع مناسباً له... والاسماء والافعال المناسبة هي التي تجعل الاسلوب واضحاً)(3).

لقد حاول ابن ابي الحديد بيان جماليات الاسلوب التعبیري للامام عليه السلام الذي يشكل معياراً على اساسه تتحدد قدرات المبدع وامكانياته في التعامل مع الادوات الجمالية المطروحة بین يديه (ولكن ليس لكل أحد هذه القوة الفائضة

ص: 231


1- الادب الاسلامي: 137
2- شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد: 7 / 118
3- الخطابة: 196

وهذه الخصوصية الناهضة، وهذا الاستبصار الحسن، وهذا الطبع الوقاد...

والقريحة الصافية، والاستنابة والتأمل؛ لان هذه القوة إلهية)(1).

يقول الامام (عليه السلام) من خطبة في وصف الاسلام: (الحمد لله الذي شرع الاسلام فسهَّل شرائعه لمن ورده، وعزَّ اركانه على من غلبه، فجعله أمناً لمن علقه، وسلما لمن دخله، وبرهانا لمن تكلم به، وشاهداً لمن خاصم عنه، ونوراً لمن استضاء به، وفهما لمن عقل، ولباً لمن تدبر وآية لمن توسم، وثقة لمن توكل، وراحة لمن فوض وجنة لمن صبر، فهو ابلغ المناهج، واوضح الولائج، مشرف المنار، مشرق الجواد، مضئ المصابيح، كريم المضمار، رفيع الغاية، جامع الحلبة، متنافس السبقة، شريف الفرسان، التصدق منهاجه، والصالحات مناره، والموت غايته، والدنيا مضماره، والقيامة حلبته، والجنة سبقته)(2).

تتجلى جماليات الاسلوب في بلاغته وذلك من خلال بيان اشكال التفنن في الاداء الكلامي والامام علي (عليه السلام) قد (طوَّر اللغة العربية فأفاض عليها من الفصاحة والبلاغة ومن التعابیر الشائقة والاصطلاحات الفريده، والاستعارات العميقه ما لم يؤت لأحد)(3). لعل هذا ما اشار اليه البحراني في تعليقه على قوله (عليه السلام): (فاتقى عبد ربه ونصح نفسه وقدم توبته وغلب شهوته)(4). يقول البحراني: (أوامر وردت بلفظ الماضي خالية عن العطف وهي

ص: 232


1- الامتاع والمؤانسة: 78
2- شرح نهج البلاغة، لابن ابي الحديد: 7 / 117 - 118
3- ملامح من عبقرية الامام علي: 133
4- شرح نهج البلاغة لابن ميثم البحراني: 2 / 221

بلاغة تريك المعنى في احسن صورة)(1).

يتبدى على النص الاسلوب المحكم والنظم الدقيق لعباراته إذ (لا يكون الكلام بليغاً... حتى يعرى من العيب ويتضمن الجزالة والسهولة وجودة الصنعة)(2) و لما كان الامام (عليه السلام) معروفاً بحرصه على اداء معانيه بكل من أوتي من قوة الحدس البلاغي وتقوية السياق وهذا ما يلاحظه القاريء على نسيج النص على طول النهج الذي تبرز فيه بشكل جلي وعي الذات المتكلمة وإمكانياتها الأدبية وقدراتها في التعبیر الذي يضم المضمون الراقي والشكل المتميز، فلذلك تتعمق الصورة الادبية وتلطف بفضل براعة النسيج المحكم ولعل هذه الخصيصة هي الظاهرة المهيمنة على نسيج النص عند الامام (عليه السلام).

في معرض الاشارة الى اسلوب الامام المتفرد يعلق الشريف الرضي على قوله (عليه السلام) (فان الغاية امامكم وان ورائكم الساعة تحدوكم تخففوا تلحقوا، فانما ينتظر بأولكم اخركم)(3)، يقول الرضي: (ان هذا الكلام لو وزن بعد كلام الله سبحانه وبعد كلام رسول الله بكل كلام لمال به راجحاً وبرز عليه سابقاً)(4) فاما قوله عليه السلام (تخففوا تلحقوا فما سمع كلام اقل منه مسموعاً ولا اكثر محصولاً وما ابعد غورها من كلمة وانفع نطقها من حكمة)(5) ففي نص الامام

ص: 233


1- المصدر نفسه: 2 / 221
2- كتاب الصناعتين: 42
3- شرح نهج البلاغة لابن ميثم البحراني: 1 / 531
4- المصدر نفسه: 1 / 531
5- المصدر نفسه: 1 / 531

(عليه السلام) هذا نرى انه يبحث عن الشكل المناسب لحمل المضمون الفكري استجابة لحاجة النفس والوجدان وهذا من مضنة الابداع وميدان الاقتدار على الصياغة الادبية. فقد صنع الامام اسلوباً مبتكراً لنفسه فيه اثارة وتحفيز على الفهم ومعاودة القراءة انطلاقاً مما تخبئه اللغة في مستواها العميق فلا عجب ان يسمى رب الفصاحة والبلاغة اذ تميز ب (اسلوبه الخاص وسموه الممتنع واعجازه الفريد واستقلاله بوضع اسس بلاغية أدبية لم يعهدها عصره)(1).

وقد التفت الشارح البحراني الى ما تمتاز به لغة الامام (عليه السلام) من خصائص وسمات اسلوبية متفردة فقال معلقاً على قوله (عليه السلام): (لا شك ان هذه الكلمات اليسیرة قد جمعت وجازة الالفاظ وجزالة المعنى المشتمل على الموعظة الحسنة والحكمة البالغة)(2) اذ ازداد النص غنىّ من خلال مضمونه المكثف المضغوط المعنى وهذه المعايیر النقدية (كافية لخلق عمل جمالي مميز)(3).

وهذا ماتجسد في خطاب الامام (عليه السلام)

ص: 234


1- ملامح من عبقرية الامام علي: 121
2- شرح نهج البلاغة لابن ميثم، 1 / 531
3- اللغة العليا: 29

المبحث الرابع قيمة المعاني

لقد عُرف الامام ببيانه الرائع وقدمه الراسخة في البلاغة، وذلك لا ستيعابه الدقيق لبيان القرآن ومرمى تعبیره فضلاً عن تمثله البيان النبوي, (اما البيان، فقد وصل على سابقه بلا حقه، فضمَّ روائع البيان الجاهلي الصافي المتحد بالفطرة السليمة اتحاداً مباشراً الى البيان الاسلامي الصافي المهذب المتحد بالفطرة السليمة والمنطق القوي... فكان له من بلاغة الجاهلية ومن سحر البيان النبوي)(1). ففي جهد نقدي متميز تنوعت فيه مقاييس المفاضلة، بسبب اختلاف القدرة على التذوق والتمييز، وهنا يبدو الجهد الذي تتولد فيه ملاحظات تنصب على دقة استخدام اللفظ للوصول الى كمال التعبیر نجد ذلك في تعليق على قول الامام (عليه السلام): (غرارة غرور مافيها فانية فان مافيها)(2) يبدي ا لشارح رأيه بقوله: (لا يخفى ما في هاتین القرينتین من حسن الاشتقاق وجزالة المعنى، فان القرينة الاولى تنبيه على خسة الدنيا وحقارتها، وعلى ان ما فيها تدليس وتلبيس وغرور وباطل بمنزلة امرأة شوهاء هتماء زخرفت من ظاهر والبست انواع الحلي

ص: 235


1- الامام علي صوت العدالة الانسانية: 282
2- منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة: 8 / 19

والحلل تدليساً...، فاغتربها وافتتن من رأى حسن ظاهرها غافلاً عن قبح باطنها، والقرينة الثانية تذكره لكونها مع هذه الخسة والحقارة في معرض الفناء والزوال والأزوف والانتقال وكذلك الراغبون فيها والخاطبون لها)(1) كما قال عز من قائل (كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والاكرام)(2).

إذ يعد القرآن الكريم مرب المثل والأسوة الحسنة والأنموذج الأعلى الذي تستمد منه الأساليب العربية جماليتها فكل المبدعین يستلهمون من بلاغته وفصاحته أنىّ تكن ميزاتهم.

ففي هذه المقاربة النقدية يرصد الناقد قيمة المعنى وما أبرز فيه من ثوب الالفاظ فهو هنا ينظر الى ميزات اللفظ والمعنى والاسلوب الذي صيغت فيه هذه العبارات التي تنتمي لمن فاق اهل عصره في حسن معانيه وتهذيب الفاظه، ومن ثم فان الجمال الادبي يبرر وجوده بنفسه فيما يلحظ فيه من لغة فنية تكشف الاستخدام المتميز للغة من خلال القول الموجز بالاضافة الى الصدق وعمق الفكرة وفنية التعبیر اذ (ان شروط البلاغة، التي هي موافقة الكلام لمقتضى الحال لم تجتمع لأديب عربي، كما اجتمعت لعلي ابن ابي طالب فانشاؤه أعلى مثل لهذه البلاغة، بعد القرآن فهو موجز على وضوح قوي جياش، تام الانسجام لما بین الفاظه ومعانيه وأغراضه من ائتلاف، حلو الرنة في الاذن موسيقيى الوقع)(3).

ان المتلقي يرتبط بجو النص ثم ينفتح عليه بشكل يساعده على تصوره

ص: 236


1- المصدر نفسه: 8 / 19
2- سورة الرحمن: 26 - 27
3- الامام علي صوت العدالة الانسانية: 294

تصوراً شاملاً ليقبل على قراءته وذلك من خلال الاقتراب من مستوياته الفنية وقيمته الجمالية ولعل هذا ما اقره الخوئي في رصده لنص الامام (عليه السلام):

(فسبحان الله ما اقرب الحي من الميت للحاقه به وابعد الميت من الحي لإنقطاعه عنه)(1). يعلق عليه بقوله (وهو من افصح الكلام واحسنه في تأدية المرام يعرف ذلك من له دراية في صناعة البيان وإحاطة بلطائف المعاني)(2). اذ شخص الشارح الخصائص الفنية التي تميز بها قول الامام (عليه السلام) كاشفاً عن جمالها البياني ودقة المعاني اذ ان (للنصوص كافة قوانین توجهها وجهة أدبية ويسعى المنظرون...

للكشف عنها)(3).

لقد عرف الامام (عليه السلام) بسلطته (على اللغة قل ان يتمتع بمثلها اي كاتب عربي آخر فهو شديد القدرة على التعبیر حتى انه يسخّر الالفاظ فصارت تاتيه طوعاً لا كرها)(4). وان القيم الفنية قد تكشف عنها دلالات الالفاظ واهميتها والقوة الايجابية التي تمتلكها ويحصل هذا في حال توفر الصدق الفني والانسجام بین المباني اللفظية والمعاني ومصداق ذلك قول الامام (عليه السلام): (وتخبطهم بباعها)(5). فقد بین الشارح ان الجمالية تكمن ب (التعبیر بالباع دون اليد لكونه

ص: 237


1- منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة: 8 / 53
2- المصدر نفسه: 8 / 53
3- مفاهيم الشعرية دراسة مقارنه في الاصول والمنهج والمفاهيم، حسن ناظم، المركز الثقافي العربي، ط 1، 1994 م: 8
4- ادبية النص الصوفي بين الابلاغ النفعي والابداع الفني: 230
5- منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة: 7 / 244

ابلغ في افادة قوة الخبط)(1). وهنا بین بلاغة استخدام اللفظ في سبيل دقة المعاني وهذه الخصيصة المتفردة تبین (الاسلوب البليغ والنظم الدقيق الذي يتخذ القرآن مثله الاعلى)(2)؛ وذلك لأنسجام مبانيه وبعده عن الصناعة اللغوية الغامضة ويتجلى فيه اهم خصائص الخطاب المؤثر والبليغ، وخصائص اللغة المناسبة من خلال مراعاة العلاقات القائمة بین مفردات النسيج اللغوي للأدب.

في مقاربة لنص اتسم بانتقاء المفردات التي تغني النسيج وتزيد في قيمه الفنية اذ ان (اللغة هي بالحرف الواحد مادة الاديب وكل عمل أدبي هو مجرد انتقاء من لغة معينة)(3). وهذا ماتدبره الخوئي في تعليقه على قول الامام (عليه السلام) (وستنبئك ابنتك بتظافر أمتك على هضمها)(4). فقد بین القيمة الجمالية والفنية في بنية النص بقوله: (لا يخفى ما في هذه العبارة من حسن البيان مع بديع الايجاز فان التظافر بمادته التي هي الظفر هو الفوز على المطلوب...)(5) فالنص بمضمونه يحتوي على طاقة تعبيرية بارعة لما احتوى عليه من تكثيف في العبارة وهذا من معايیر الجمال الادبي، لان خصوبة المشاعر والافكار تكمن في العناصر الفنية وطريقة طرحها في السياق الادبي وعليه فان (عزل الادب عن التأثیرات الاجتماعية والفكرية المباشرة امر غیر ممكن)(6).

ص: 238


1- منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة: 7 / 244
2- الادب الاسلامي: 7
3- نظرية الادب: 223
4- منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة: 13 / 18
5- المصدر نفسه: 13 / 18
6- نظرية الادب: 224

فعلى اساس هذا المعيار يجب ان يحاكم النص الادبي بغية الوقوف على معناه الحقيقي من خلال التحليل الجمالي القائم على ادراك العناصر الفنية المثبتة فيه.

ان القارئ لنهج البلاغة يدرك (ان مواضيع النهج متنوعة تماماً كمواضيع القرآن فقد تكلم الامام عن الله وصفاته وعن النبوة واليوم الاخر ونهجه في اثبات وجود الله تعالى عین منهج القران هو الاعتماد على منطق الحس والعقل وما فيه من صنعة وقصد وحكمة وتدبیر يشمل ويعم جميع الكائنات من الذرة الى اعظم المجرات)(1). وهذا ما وفر لنص الامام (عليه السلام) امكانية جمالية لا حدود لتجلياتها المظهرية من متانة التركيب وقوة الحجة وصدق التعبیر وقوة الايجاز وغيرها من صفات الجلال والكمال, وقد شكلت هذه السمات مرتكزاً اساسياً في نصوص نهج البلاغة اذ (ان اسلوب علي توفر فيه صراحة المعنى، وبلاغة الاداء وسلامة الذوق الفني)(2). وهذا ما لمسه الشراح في مقارباتهم لنصوصه، فقد رصد الشريف الرضي بوصفه احد الشراح نص الامام (عليه السلام): (اما بعد فان المرء يسره درك ما لم يكن ليفوته ويسوؤه فوت ما لم يكن ليدركه، فليكن سرورك بما نلت من آخرتك وليكن أسفك على ما فاتك منها، وما نلت من دنياك فلا تكثر فيه فرحا، وما فاتك منها فلا تأسى عليه جزعاً، وليكن همك فيما بعد الموت)(3). يقول الرضي مبيناً قيمة المعنى في النص بقوله (ما انتفعت بكلام بعد كلام رسول الله كانتفاعي بهذا الكلام)(4). فقد تضمن نص الامام (عليه السلام)

ص: 239


1- في ظلال نهج البلاغة: 1 / 9
2- الامام علي صوت العدالة الانسانية: 295
3- منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة: 18 / 291
4- منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة: 18 / 291

قيماً فنية وجمالية وانسانية لأجلها إستحق الحكم عليه من خلال ما يملكه من فاعلية في الاسلوب الادبي، حيث وفرة المعنى الذي يضيف للحياة دلالات أخلاقية وانسانية عالية، فالنص في نهج البلاغة (يتمتع بسلطة فائقة محكمة نادرة، تحيل القارئ والسامع الى نموذج العلاقة بین الافكار وبین تجسداتها في النص)(1).

يسلط ابن ابي الحديد ذوقه النقدي ورؤيته الجمالية على نص الامام (عليه السلام) القائل فيه: (هذا من مواطن الصبر)(2) يقول فيه (كلام عالٍ جدا يدل على يقین عظيم وعرفان تام)(3). إذ ان معيار النظم والحكم الجمالي منصب على المعنى (ان متأمل اللغة في كتاب نهج البلاغة يشعر في مواضع متعددة بالخلق الذي مارسه علي بن ابي طالب عليه السلام ضمن سلطته على النص في دأبه الواضح على خلق مناخات جمالية)(4). وتمتد هذه الرؤية على المتن الادبي للامام (عليه السلام) باجمعه فهو (يحتفظ دائماً بتلك الطبيعة العليا من متانة النظم وروعة التأليف وجودة السبك)(5).

ويختلف الادباء في علاقتهم بالوسط الزماني والمكاني فمنهم من يتصل بهذا الوسط اشد الاتصال ومنهم من ينفصل عنه تمام الانفصال(6). وقد كان الامام

ص: 240


1- علي ابن ابي طالب سلطة الحق: 285
2- شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد: 9 / 140
3- المصدر نفسه: 9 / 140
4- المستويات الجمالية في نهج البلاغة: 280
5- الادب الاسلامي، ص 89
6- ينظر في الادب والنقد: 59

علي (عليه السلام) في تعامله مع الوسط الذي يعيش فيه متصلاً به ادق اتصال اذ تعكس اثاره البيئة التي يعيش فيها بكل تفاصيلها اذ (ان أدب الأديب ثمرة لشجرة كبیرة تضرب بجذورها في الحياة الانسانية)(1). ففي نص الامام (عليه السلام) الذي يقول فيه: (اطرح عنك واردات الهموم بحسن الصبر وكرم العزاء)(2). النص العلوي يعالج بعض القضايا الاجتماعية المهمة التي تتعلق بالصحة النفسية، لذا وصف المعتزلي هذا النص بقوله (كلام شريف فصيح عظيم النفع والفائدة)(3). لقد كان الحكم الجمالي منصباً حول المبنى والمعنى في النص اي انه يعني بالالفاظ من حيث نعوتها الذاتية فضلاً عن القيمة المعنوية للنص لما يحتويه من مضمون فكري ف (كلما تعاظم شأن الاسلوب وقيمته ازدادت القوى الداخلية التي تنطوي عليها الكلمة المفردة)(4).

في اقرار يفجر الدهشة يتلقى ابن ابي الحديد نص الامام (عليه السلام) الذي يقول فيه: (ما اكثر العبر واقل الاعتبار)(5) اذ ابدى الشارح استشعاراته الجمالية بقوله (ما اوجز هذه الكلمة وما اعظم فائدتها)(6) وجاء تعليقه بكلام موجز بلغ الغاية في التكثيف معبراً عن الحالة الشعورية في تلقيه للنص مشیراً الى خواصه الفنية

ص: 241


1- في النقد الادبي: 69
2- شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد: 15 / 282
3- المصدر نفسه 15 / 282
4- الافكار والاسلوب، دراسة الفن الروائي ولغته، تأليف أف تشترين، ترجمة د حياة شرارة، وزارة الثقافة والفنون، الجمهورية العراقية، دار الحرية للطباعة، 1978 م: 54
5- شرح نهج البلاغة، لابن ابي الحديد، 19 / 121
6- المصدر نفسه، 9 / 121

والنوعية) وقد جاءت العبارات على نحو من الجمال المتميز بالصياغة الفنية، و جاء كلام الامام عذباً طرياً لانه يبتدع له المعاني والحكم اللطيفة والدقيقة فيرسلها الى المخاطب باعذب قوام لغوي ذلك ان (النص ينطق احياناً فيسكتنا ووجوده يغني عن. اشارة ويثري احساسنا ويلفنا بدوامة سحر آسر)(1). وبصدد التحليل لتعبیر جمالي للامام (عليه السلام) يحمل روح الدلالة على الافكار والعادات والوظائف والمقاصد العليا الثاوية في النص، اذ صهر الامام فكرته في اسلوب يعمق الاثر العاطفي في المتلقي ويثیر كوامن فكره نلمح هذا بقوله (فالموت في حياتكم مقهورين والحياة في موتكم قاهرين)(2) وقد التفت ابن ميثم الى الخاصية الاسلوبية و الجمالية في النص وقد عبر عنها بقوله (من لطائف الكلام ومحاسنه وهو جذب الى القتال بأبلغ ما يكون من البلاغة...)(3) فدلالة النص تجسدت في صميم الوظيفة الجمالية فانتهت الى وظيفة اتصالية ابلاغية فعلت فعلها في المتلقي وقد توفرت في هذا النص كغیره من نصوص الامام وظيفتا (الاباغ النفعي والابداع الفني)(4).

وفي نص آخر للامام محكم البناء مشع بالمعاني؛ لما يمتلكه من قدرة تعبيرية عالية وترز على سطح النص رصانة الاسلوب ودقته يقول الامام (عليه السلام):

ص: 242


1- المنفى والملكوت، كلمات في الشعر والنقد، جلال الخياط، مطابع دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، ط 1، 1989 م: 5
2- شرح نهج البلاغة، لابن ميثم البحراني، 2 / 182
3- المصدر نفسه، 2 / 182
4- ادبية النص الصوفي بين الابلاغ النفعي والابداع الفني: 235

(شهد على ذلك العقل اذا خرج من أسر الهوى وسلم من علائق الدنيا)(1). يعلق ابن ميثم على هذا النص بقوله (ان القول في غاية الشرف؛ وذلك ان الشاهد بما ذكره في هذا الكتاب مما عدده ليس إلا صرف العقل المبرأ عن خطر الوسواس المطلق من اسر الهوى)(2). ان هذه المقاربة اتجهت صوب المعنى العميق. بقي أن نقول إن واحدة من آليات الكشف عن المعنى هي إقامة المقارنات بین نهج البلاغة ونصوص أخرى لخطباء آخرين.

ومن هذه المقارنات يتبین ان كلام الإمام (عليه السلام) من مقام رفيع ويحمل ثراءاً ثقافياً واسعاً وقيمة إبداعية متميزة أسلوبياً، ويتبین كذلك من هذه المقارنات ان نهج البلاغة كلام يتجاوز حدود الكلام الطبيعي ليصل إلى مراتب لا يمكن تصورها، إذ ان المنظومة الكلامية للإمام (عليه السلام) متفردة كونها أرقى مظهراً فكرياً ذلك ما دفع الشراح إلى اكتناه النص العلوي والكشف عن جمالياته من خلال المعايیر والقيم الجمالية النقدية التي خلصوا إليها، ولعل عقد المقارنات واحدة من تلك المعايیر التي اعتمدوها، وعند مقارنة هذا النص بغیره من النصوص يكشف ان حقيقة أمیر المؤمنین حقيقة فوق تصوراتنا، فما ورد من حقائق ممكن ان يكون فوق مستوياتنا الإدراكية, ولكن هل يشهد لهذا الواقع أمر معین في نصوصه؟ الجواب نعم. فمن خلال مقارنة ما ورد من نصوص مع غیره على سبيل المثال ابن نباته المصري وهو من الخطباء المشهورين وهو (الفائز بقصبات السبق من الخطباء، وللناس غرام عظيم بخطبه وكلامه هذا الخطيب المتأخر الذي

ص: 243


1- شرح نهج البلاغة، لابن ميثم البحراني، 4 / 411
2- المصدر نفسه: 4 / 411

وقع الإجماع على خطابته، وان مواعظه هي الغاية التي ليس بعدها غاية)(1). ففي خطبة أبن نباته التي يقول فيها: (أيها الناس تجهزوا فقد ضرب فيكم بوق الرحيل، وابرزوا فقد قربت لكم نوق التحويل، ودعوا التمسك بخدع الأباطيل والركون إلى التسويف والتعليل، فقد سمعتم ما كرر الله عليكم من قصص أبناء القرى، وما وعظكم به من مصارع من سلف من الورى، مما لا يعترض ذوي البصائر فيه شك ولا مرى...، وانتم معرضون عنه إعراضكم عما يختلق ويفترى، حتى كأن ما تعلمون أضغاث أحلام الكرى، وأيدي المنايا قد قصمت من أعماركم أوثق العرى...)(2) حاول ابن أبي الحديد بيان السمات الأسلوبية لهذه الخطبة، وهذا الأمر ينبئ عن الفهم والاستجابة لتأثیر النص، وذلك عن طريق تحكيم الذوق، وهنا نلحظ وجود مفاضلة بین المعاني عن طريق نقد ينظر إلى الجزئيات ذلك (ان النص هو المجال الحقيقي الذي تنعكس فيه الملامح الأسلوبية للكاتب)(3).

وذلك ما أشار إليه ابن أبي الحديد بقوله (فلينظر الناظر هذا الكلام وما عليه من اثر التوليد، أولاً بالنسبة إلى ذلك الكلام العربي المحض، ثم لينظر فيما عليه من الكسل والرخاوة والفتور والبادة...)(4) هذا الأمر يكشف عن الذائقة الأسلوبية لدى ابن أبي الحديد، كما يكشف عن قدرته على مجارات النص عن طريق حاسة التذوق التي وصلت إلى درجة الملكة فتحكمت فيه واستطاع بذلك أن يميز بین نص وآخر، في سبيل هذه الغاية راح الشارح يعدد مواطن الضعف ليظهر من

ص: 244


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 7/ 144 - 145
2- شرح نهج البلاغة لأبن أبي الحديد: 7 / 145
3- النص والأسلوبية بين النظرية والتطبيق: دراسة عدنان، ابن ذريل، منشورات اتحاد الكتاب العرب، 2000 م: 13
4- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 7 / 145

خلال ذائقته المدربة على تحسس مواطن الجمال تفوق نص الإمام (عليه السلام) واستناداً إلى هذه الذائقة عاب ابن أبي الحديد بعض سجعات ابن نباته (ثم المح هذه الفقر والسجعات التي أولها (القرى) ثم (المرا...) ثم (ويفترى) ثم الكرى، إلى قوله «عبرة لمن يرى «هل ترى تحت هذا الكلام معنى لطيفاً أو مقصداً رشيقاً أو هل نجد للفظ نفسه لفظاً جزلاً فصيحاً أو عذباً معسولاً وإنما هي ألفاظ قد ضمّ بعضها إلى بعض والطائل تحتها قليل جداً)(1).

فقد استطاع ابن أبي الحديد تدوين الملاحظات والمعايیر التقويمية التي تمكن من خلالها تفكيك العناصر الفنية للنص بحساسيته النقدية وأدواته التي خبرها بدقة، إذ بین ان هذا النص لا يمكن ان يكون من ماء واحد ونفس واحد، وبین من خلال إقامة المقارنة بین نصوص النهج ونصوص أخرى كالنص السابق لابن نباته، تكشف المقارنة ان هذه النصوص أي نصوص الإمام (عليه السلام) تصل إلى مرتبة الإعجاز؛ وذلك ما عبر عنه ابن أبي الحديد بقوله (فليتأمل أهل المعرفة بعلم الفصاحة والبيان هذا الكلام بعین الإنصاف، يعلموا ان سطراً واحداً من كلام نهج البلاغة) يساوي ألف سطر منه، بل يزيد ويربى على ذلك)(2) والأمر هنا من باب المجاملة، والواقع فوق هذا بكثیر، كانت محاكمة النص هنا على أساس الاستحقاق الفني الجوهري الذي يتضمنه إذ حاول الشارح الانتقال إلى رحاب النص وتأمله للوقوف في محراب المعنى الحقيقي وبذلك استطاع ان يبین خواص الخطاب الفنية والنوعية. جانب آخر عند ان ابي الحديد من خال كشفه وعلى اعتبار انه ناقد وخبیر وصاحب دربة وصاحب ذوق في كلام أمیر المؤمنین (عليه السلام) وغیره من كلام العرب، ففي مجال خطب الجهاد وازن بین خطب

ص: 245


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 7 / 145
2- المصدر نفسه: 7 / 145

الإمام (عليه السلام) وخطبة أبن نباته التي يقول فيها (أيها الناس إلى كم تسمعون الذكر فلا تعون، والى كم تقرعون بالزجر فلا تقتلعون كأن أسماعكم تمج ودائع الوعظ، وكأن قلوبكم بها استكبار عن الحفظ، وعدوكم يعمل في دياركم عمله، ويبلغ بتخلفكم عن جهاده أمله وصرح بهم الشيطان إلى باطله فاجابوه، وندبكم الرحمن إلى حقه فخالفتموه...)(1).

وانظر كلام أمیر المؤمنین (عليه السلام) فانك تجده مشتقاً من ألفاظه، ومقتضباً من معانيه ومذاهبه ومحذواً به حذوه، ومسلوكاً به في منهاجه، فهو وان لم يكن نظیراً ولا نداً، يصلح ان يقال انه ليس بعده كلام أفصح منه ولا أجزل، ولا أعلى ولا أفصح ولا أنبل، إلا ان يكون كلام ابن عمه صلى الله عليه وآله وسلم.

بعد هذا يبین أهمية القارئ الناقد أو القارئ النموذجي وهذاالشأن يتطابق مع ما نادت به نظرية التلقي. ذلك ما أشار إليه ابن أبي الحديد بقوله (وهذا أمر لا يعلمه إلا من ثبت له قدم راسخة في علم هذه الصناعة، وليس كل الناس يصلح لانتقاد الجوهر، بل ولا لأنتقاد الذهب ولكل صناعة أهل، ولكل عمل رجال)(2) وهنا يشیر إلى قضية غاية في الأهمية وهي التأكيد على أهمية المعرفة التامة والثقافة الموسوعية لمن يتصدى لدراسة الأدب المتعالي كأدب الإمام (عليه السلام) وهو ما تحقق في ابن أبي الحديد، نلمس هذه الموهبة الفذة من خلال تعامله مع نص أمیر المؤمنین اذ نجده يقف عند كلمة أو اقتباس يقوم به ابن نباته فيفضح هذا الاقتباس، ويؤكد انه فاضح للخطبة مع علو شأنها ومع عظمتها الا ان هذا السطر في كلمات ابن نباته الذي أخذه من علي ابن ابي طالب (عليه السلام) الذي يختلف شكلاً وجودة وهذا يشیر إلى قضيتین مهمتین، القضية الأولى إقامة المقارنة بین نص الإمام (عليه السلام) وغیره من نصوص عالية الإبداع وبيان تفوق نص الإمام

ص: 246


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 2 / 313
2- المصدر نفسه: 2 / 315

(عليه السلام) عليها. والجانب الثاني يكشف عن القارئ الناقد الذي لديه ذوق، القارئ الذي لديه قدرة في فهم كلام الآخرين فمن خلال هذه الدرية والممارسة في كلام أمیر المؤمنین (عليه السلام) ان يجد عبارة من كلامه تصيح بن الخطبة صياحاً، أي ان القضية لا لبس فيها فهي واضحة كوضوح الشمس، وهنا يعلق ابن أبي الحديد على قول الإمام (عليه السلام) (ما غزى قوم في عقر دارهم إلا ذلوا) كيف تصيح بین الخطبة صياحاً)(1) وهنا يشار إلى نقطة مهمة جداً وهي ان لكل ناقد ولكل أديب مشربه، ولكل خطيب طريقته وفي ذلك إلماعة إلى السمات الأسلوبية ذلك (ان الأسلوب هو طريق الكتابة لكاتب من الكتاب وطريق في الكتابة لعصر من العصور وطريق في الكتابة لجنس من الاجناس)(2)، أو هو بحسب ريفاتیر (كل شكل ثابت فردي ذي مقصدية أدبية)(3) وبالتالي فقد عبر ابن أبي الحديد عن الانبهار الجمالي بالنص إذ عايشه معايشة جمالية، وبین تفوقه الأدبي وبذلك بین ان الإفهام متباينة والهمم متفاوتة وأهداف الخطاب مختلفة، ان ابن أبي الحديد في مقارنته بین خطبة أبن نباته وكلام أمیر المؤمنین (عليه السلام) بوصفه نمط الإبداع الأمثل يشیر إلى هذا التمايز بین كلام وكلام، في مقام المقارنة بین ان هذه العبارة من كلام أمیر المؤمنین جملت الخطبة (ولعمر الله لقد جملت الخطبة وحسنتها وزانتها وما مثلها إلا كآية من الكتاب العزيز يتمثل بها في رسالة أو خطبة، فانها تكون كاللؤلؤة المضيئة تزهر وتنیر، وتقوم بنفسها وتكتسي الرسالة بها رونقاً وتكتسي بها ديباجة)(4). من خلال هذه المقارنة بین لنا ابن أبي الحديد ان من ضمن آلياته النقدية التي اعتمدها مع نهج البلاغة، وهي إقامة المقارنات بین

ص: 247


1- المصدر نفسه: 2 / 316
2- الأسلوبية وتحليل الخطاب: د. منذر عياشي، مركز الإنماء الحضاري، ط 1، 2002 م: 33
3- معايير تحليل الأسلوب: 5
4- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 2 / 316

كلام أمیر المؤمنین وغیره من الأدباء وهذه المقارنات لا تقتصر على أيهم له المزية والفضل، بل يتعدى ذلك إلى بيان أوجه التباين الأسلوبي بین خطيب وخطيب أي التأكيد على أهمية الاسلوب. الغرض الآخر من عقد المقارنات هو الارتقاء بكلام أمیر المؤمنین (عليه السلام) بحيث يجعل منه مسايراً ومقارباً لكلام الله سبحانه وتعالى، وبالتالي بین ان كلام أمیر المؤمنین (عليه السلام) دون كلام الخالق وفوق كلام المخلوق وهو يطرح هذه القضية بنحو التسليم، ولعل من اقرب المصاديق على ذلك تعليقه على خطبة ابن نباته التي يقول فيها (إلا وان الجهاد كنز الله وفرالله منه أقسامكم وحرز طهَّر الله به أجسامكم...)(1) يشیر ابن أبي الحديد إلى هبوط المستوى الفني لهذه الخطبة وذلك ما عبر عنه بقوله: (فلينظر الناظر في هذا الكلام، وان كان قد أخذ من صناعة البديع بنصيب إلا انه في حضيض الأرض، وكلام أمیر المؤمنین في أوج السماء)(2) وذلك فيما يحمله من سمات أسلوبية مميزة تجمع فصيح اللفظ والتفنن في التعبیر من خلال التصوير الأدبي الرائع والتعبیر الفني الجميل, وبذلك يتحقق الصدق الفني والانسجام بین المباني اللفظية والمعاني (ولا يمكن ان تتوفر تلك الخصوصية لقوة النص لشخص غیر علي ابن أبي طالب عليه السلام الذي انطوت شخصيته على علوم وفنون وقدرات عظيمة تتلاقح فيما بينها)(3) لقد كانت تلك المقارنات واحدة من اهم اليات الكشف عن المعنى لدى ابن ابي الحديد المعتزلي.

ص: 248


1- شرح نهج البلاغة لأبن ابي الحديد: 2 / 135
2- المصدر نفسه: 2 / 316
3- علي بن ابي طالب سلطة الحق: 291

الخاتمة

في نهاية هذا البحث فقد سجل الباحث مجموعة من النتائج أفرزتها هذه الدراسة يمكن إجمالها بما يأتي:

1- وجد الباحث سمة التفرد عند الشراح في رؤيتهم النقدية، فقد إتضح مما تقدم ان هناك معالجات على مستوى خاص، ومعالجات على مستوى عام.

2- توظيف الأسس والقدرات المعرفية لدى الشراح محل الدراسة بكونهم إنمازوا عن غيرهم بمنظوماتهم المعرفية ومن ثم أعطتهم هذه الخصوصية في طريقة المعالجة وكشف البعد الجمالي في نصوص نهج البلاغة.

3- إنهم تعاملوا مع النص على انه نص مقدس، فضلاً عن كونه نصاً أدبياً، وكانوا على دائرة الحذر في التعامل معه، إذ هو ليس كبقية النصوص الأدبية.

4- إن هناك سمات تفاوت بین الشراح في مستوى المعالجة بحسب الخلفيات المعرفية لديهم.

5- إن هناك معالجات على المستويات النقدية، إذ إني أبحث عن سمة التميز لديهم أي السمة التي تعطيهم خصوصية، لذا اخترت النموذج فلست في مقام الإستقراء التام للنصوص والنموذج كافٍ في بيان الرؤية.

6- كنت أبحث عن سمة التميز فليس كل معالجة تعطيهم سمة نقدية، كنت في

ص: 249

مقام بيان ملامحهم النقدية فلست في مقام استقراء نتاجهم النقدي، بل كنت أبحث عن السمات التي تولدت من خلال خلفياتهم المعرفية ورؤيتهم للنص، ومن ثم إنتاج رؤية جمالية؛ ذلك إن نهج البلاغة حرك النقاد ففيه لون من ألوان الإبداع البلاغي أو الأبعاد الجمالية المتميزة التي حاول الشراح بوصفهم نقاداً أن يبرزوها من خلال عملهم، وإن لم يكن عملهم الأول.

7- إن محل معالجاتهم النقدية لم تكن هي العمدة والأساس بل كانت في معرض حديثهم، ومن ثم كانت محاولة تلمسها واكتشافها إنما هو جهد وعناء من الباحث؛ لأنها كانت تعرض لهم عرضاً 8- اكتشف الباحث ان هناك سمة تميز بها كل شارح من الشراح، وان لم أشر خلال البحث إلى تميز كل شارح عن غیره من الشراح، وإنما بدا ذلك من خلال المعالجات الكثیرة لكل شارح والاستشهاد بالنصوص التي كانت كاشفة عن تميز هذا الشارح عن غیره في هذا المجال.

9- هناك تناص كبیر مع القرآن الكريم ومع النصوص الأدبية، الشراح لم يششروا إلى كون هذا تناصاً وإنما الباحث أطلق عليه ذلك بوصفه منسجماً مع الرؤية النقدية المعاصرة, وأنا لست في معرض الحديث عن المصطلح, فالمصطلح متأخر اذ أني أشیر الى عملية المعالجة, ولكنه من باب الإجراء, استعملت المصطلح بوصفه إجراءاً عملياً ممكن أن يوضح لي المطالب وفق التلقي المعاصر, فالتحليل من الشارح والإ صطلاح من عندي.

10- وجد الباحث مايسمى اليوم بالقراءات المعاصره عند الشراح بالرغم من عدم تصريحهم باسم هذه العناوين على سبيل المثال يشیر المعتزلي في أول شرحه

ص: 250

الى قيمة القارئ النموذجي في فهم النص والكشف عن واقعية هذا النص وانتمائه الى صاحبه. كذلك فيما يتعلق بالمصطلح اذ أن أهم سمة للنقاد هي أن تكون لديهم آليات وواحدة من أهم الآليات هي وجود المصطلح؛ لهذا نجد لديهم مساحة كبیرة من المصطلحات النقدية، وكان البحث قد عالج تلك المصطلحات وكشف عنها للقارئ، حتى تتبین سمة التميز لديهم.

11- على مستوى اللفظ والمعنى، وجد الباحث انهم أثناء عملهم لم يتعاملوا على أساس نمطي في قضية اللفظ والمعنى, بل حاول ان يبین طبيعة تفاعلهم النفسي مع اللفظ والمعنى الوارد في نهج البلاغة، وبيان القيم الجمالية في اللفظ والمعنى، وكيف انهم ذكروا تفرد تلك المعاني، وامتيازها، وخصوصيتها، فكان الفصل الثالث قد رصد جهودهم الكاشفة عن تفرد تلك المعاني ودقتها، فأنا من خلال تقصي هذه المسألة والبحث عنها في بطون الكتب التي كانت موضوعاً لدراستي وجدت الأشارات تنحى هذه المناحي أوتشیر هذه الأشارات فيما يتعلق بالمعاني والألفاظ وهذا يكشف عن رؤيتهم النقدية للنص وثقافتهم الموسوعية.

12- لما كان الشراح في مقام بيان ودفع الشبهة، إذ ان هناك شبهة مقدرة في الأذهان تقوم على أساس ان نهج البلاغة ليس لعلي بن أبي طالب (عليه السلام) أو غیر ذلك من القضايا التي تثبت فضيلته.

13- هناك إشكاليتان مقدرتان في أذهان الشراح؛ لهذا كان الشراح في معرض الدفاع عنها بطرائق متعددة منها:

أ- الموازنات الأسلوبية إذ نجد هذا الأمر قد تركز عند الشارح المعتزلي في مقام

ص: 251

دفع شبهة كون نهج البلاغة ليس لعلي بن أبي طالب (عليه السلام)، ففي سبيل ذلك أقام المعتزلي مقارنات نموذجية مع خطب لبلغاء أشیر لهم بالبنان وكانوا محل رفعة في الأدب العربي واستطاع ان يكشف من خلال تلك الموازنات سمة التميز لدى نهج البلاغة، وتفرده عن غیره من أساليب الكلام التي ممكن ان تكون حجة على إثبات ان نهج البلاغة إنما ينسب إلى علي بن أبي طالب (عليه السلام) وبذلك اثبت المعتزلي نسبة نهج البلاغة إلى علي بن أبي طالب (عليه السلام) من خلال تلك الموازنات.

ب- أما غیره من الشراح من الشيعة نجد ان موازناتهم تقوم على أساس إثبات أفضلية علي بن أبي طالب (عليه السلام) على غیره ومن ثم تفرد كلام علي بن أبي طالب (عليه السلام) وفضله على غیره واثبات ولايته.

إذن هناك مدخلية في قراءاتهم ومن ثم الكشف عن جماليات نهج البلاغة في ضوء الرؤية العقائدية، وهذا ما يعطي سمة التميز بكونه يبن اثر البعد العقائدي في العمل الأدبي واكتشاف قيم جمالية في ضوء تلك الرؤية العقائدية.

لابد من التنويه الى ان البحث وجد ان مساحة ابن أبي الحديد المعتزلي في البحث كانت أوسع من غیره لأسباب منها: ان ابن أبي الحديد كان همه الكبیر دفع الشبهة التي تزعم ان نهج البلاغة ليس لعلي بن أبي طالب (عليه السلام) هذا الهم دفعه إلى إفراغ الجهد في سبيل بيان القيم الجمالية لنهج البلاغة؛ لذا تنوعت المعالجات عنده، ثم انه كان قريباً من عصر النقد، وكان تأكيده على النقد، بوصفه ناقداً وأديباً ولغوياً أكثر من غیره من الشراح؛ لذا كان اهتمامه بالأدب يختلف عن غیره من الشراح، إذ كانت البلاغة والأدب صفة ذاتية، وكانت جزء من منظومته الفكرية من هنا جاء تميزه عليهم.

ص: 252

المصادر والمراجع

ص: 253

ص: 254

المصادر والمراجع

القرآن الكريم * أبعاد التجربة الصوفية، عبد الحق منصف، افريقيا الشرق، الدار البيضاء، المغرب، ط 2، 2007 م.

* اثر القرآن في الأدب العربي في القرن الأول الهجري، ابتسام مرهون الصفار، دار الرسالة، ط 1، بغداد، 1974 م.

* اثر القرآن في تطور النقد العربي إلى آخر القرن الرابع الهجري، محمد زغلول سلام، دار المعارف، مصر، (د - ت).

* الأثر القرآني في نهج البلاغة، دراسة في الشكل والمضمون، د. عباس علي حسین الفحام، مكتبة الروضة الحيدرية، الرسائل الجامعية 4، بیروت، لبنان، ط 1، 1430 ه، 2010 م.

* الأدب الإسلامي المفهوم والقضية، تأليف الدكتور علي صبيح، ود. عبد العزيز شرف، ود. محمد عبد المنعم خفاجي، دار الجيل، بیروت، ط 1، 1992 م * الأدب والدلالة، تيزتيفان تودروف، ترجمة محمد نديم خشفة، مركز الإنماء الحضاري، حلب، ط 1، 1996 م.

* أدبية النص الصوفي بین الإبلاغ النفعي والإبداع الفني، د. محمد زايد، عالم الكتب الحديثة، اربد، الأردن، 2011 م.

* أساليب الشعرية العربية المعاصرة، د. صلاح فضل، دار الآداب، بیروت، ط 1، . 1995 م

ص: 255

* اسراتيجية التسمية في نظام الأنظمة المعرفية، مطاع صفدي، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، د. ت.

* استقبال النص عند العرب، د. محمد رضا مبارك المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بیروت، لبنان، ط 1، 1999 م.

* الاسس العامة لمناهج تعليم اللغة العربية، اعدادها تطويرها تقويمها، رشدي طعيمة، دار الفكر العربي، ط 1.

* الأسلوب والأسلوبية، عبد السلام المسدي، الدار العربية للكتاب، ط 3. دت * الاسلوب والاسلوبية بيروجيرو، ترجمة: منذر عياشي، مركز الانماء القومي.

* إشكاليات القراءة، وآليات التأويل، نصر حامد أبو زيد، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، بیروت، ط 4، 1996 م.

* اشكالية المصطلح في الخطاب النقدي العربي الجديد، د. يوسف وغليسي، الدار العربية للعلوم، ناشرون منشورات الاختلاف.

* الاصول، دراسة ابستيمولوجية للفكر اللغوي عند العرب، النحو، فقه اللغة، البلاغة، د. تمام حسان، عالم الكتب، 2000 م.

* الأصول التراثية في نقد الشعر المعاصر في مصر، دراسة في أصالة التراث النقدي عند العرب، عدنان حسین قاسم، طرابلس الغرب، ط 1، 1981 م.

* أصول الشعرية العربية نظرية حازم القرطاجني في تأصيل الخطاب الشعري، الطاهر بمزبر، الدار العربية للعلوم، ناشرون، منشورات الاختلاف، ط 2007، 1 م

ص: 256

* اعجاز القران، ابو بكر محمد بن الطيب الباقلاني، تح :السيد صقر، طبع دارالمعارف، مصر.

* آفاق التناصية المفهوم والمنظور، مجموعة من المؤلفین، ترجمة، محمد خیر البقاعي، الهيأة العامة للكتاب، القاهرة، 1998 م.

* آفاق العصر، د. جابر عصفور، دار المدى للثقافة والنشر، ط 1، 1997 م.

* الأفق التداولي، إدريس مقبول، عالم الكتب الحديثة، اربد، الأردن، ط 1، 2001 م.

* أفق الخطاب النقدي دراسات نظرية وقراءات تطبيقية، د. صبري حافظ، دار شرفيات، القاهرة، 1996 م.

* الأفكار والأسلوب دراسة الفن الروائي ولغته، تأليف أف. تشيترين، ترجمة:

د. حياة شرارة، وزارة الثقافة والفنون، الجمهورية العراقية، دار الحرية للطباعة، 1978 م * الإمام علي صوت العدالة الإنسانية، جورج جرداق، مطبوعات، دار الأندلس، النجف الأشرف، بیروت، لبنان، ط 1، 2010 م * الامتاع والمؤانسة، تأليف أبي حيان التوحيدي، اعتنى به وعلق عليه، محمد الفاضلي، دار الجيل، ط 1، . 2009 م * انفتاح النص الروائي، النص السياق، سعيد يقطین، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، بیروت، ط 1، 1989 م.

* بحار الأنوار، العلامة محمد باقر المجلسي، تح: السيد ابراهيم الميانجي، ط 2، دار إحياء التراث العربي، بیروت، 1983 م.

ص: 257

* البحر المحيط في أصول الفقه، الإمام بدر الدين محمد بن بهادر بن عبد الله الزركشي، دار الكتب العلمية، بشروت، ط 1 * البخلاء، أبو عثمان عمر بن بحر الجاحظ، تح: طه الحاجري، دار المعارف، مصر، 1958 م.

* البديع في نقد الشعر، اسامة بن منقذ، تح: د. احمد بدوي والدكتور حامد عبد المجيد، 1960 م.

* البرهان في وجوه البيان، ابو الحسن اسحاق بن ابراهيم بن سليمان بن وهب الكاتب ،تح د. احمد مطلوب، الدكتور خديجة الحديثي، بغداد، 1967 م.

* بلاغة الخطاب وعلم النص، د. صلاح فضل، مكتبة لبنان ناشرون، الشركة المصرية العالمية للنشر، لونجمان، ط 1، 1996 م.

* بلاغة النور جماليات النص القرآني، نفيد كرماني، ترجمة: محمد احمد منصور، محمد حجاج، احمد عبد النبي معوض، محمد سالم يوسف، كامران جورج، مراجعة سعيد الغانمي، منشورات الجمل، ط 1، . 2008 م * البلاغة والأسلوبية، محمد عبد المطلب، مطابع الهيأة المصرية، القاهرة، 1984 م.

* بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب، لمحمود شكري الآلوسي، شرح وتصحيح وضبط محمد بهجت الأثري، مصر، 1443 * بنية الخطاب الشعري، دراسة تشريحية لقصيدة اشجان يمنية، د. عبد الملك مرتاض، دار الحداثة، ط 1، 1986 م.

* بنية الخطاب النقدي، د. حسین خمري، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، ط 1، 1999 م.

ص: 258

* بنية النص السردي من منظور النقد الأدبي، حميد لحميداني، المركز الثقافي العربي، بيروت، 2000 م.

* بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة، العلامه المحقق الحاج الشيخ محمد تقي التستري، مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع، ط 1، 2011 م.

* البيان والتبيین، الجاحظ، تحقيق وشرح: عبد السلام محمد هارون، مكتبة الخانجي، مصر، ط 4، . 1975 م * تاج العروس من جواهر القاموس، محب الدين الزبيدي، تح: علي شیري، دار الفكر بیروت، 1994 م، * تاريخ النقد الادبي عند العرب، د. احسان عباس، دار الثقافة، بیروت، ط 2، 1978 م.

* تاريخ النقد الأدبي عند العرب من العصر الجاهلي إلى القرن الرابع الهجري، طه احمد إبراهيم، دار الحكمة، بیروت، لبنان.

* التأويل بین السيميائيات والتفكيكية، امبرتو ايكو، ترجمة وتقديم: سعيد بنكراد.، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، 2000 م.

* التأويل عند الغزالي نظرياً وتطبيقاً، د. عبد الجليل عبد الكريم سالم، مكتبة الثقافة الدينية بور سعيد، القاهرة، ط 1، 2004 م * التأويل في مختلف المذاهب والآراء، محمد هادي معرفة، المجمع العالمي للتقريب بین المذاهب الإسلامية، طهران، ط 1، 2006 م.

* التأويلية العربية نحو نموذج تساندي في فهم النصوص والخطابات، محمد بازي، الدار العربية للعلوم، بیروت، لبنان، ط 1، 2010 م.

ص: 259

* تحرير التحيیر في صناعة الشعر والنثر وبيان اعجاز القرآن، ابن ابي الاصبع المصري، تح: حفني محمد شرف، القاهرة، 1963 م.

* تحليل الخطاب الروائي، د. سعيد يقطین، المركز الثقافي العربي، بیروت، ط 1، 1989 م.

* تحليل الخطاب الشعري إسراتيجية التناص، د. محمد مفتاح، دار التنوير للطباعة والنشر، المركز الثقافي العربي، ط 1، 1985 م.

* تحليل الخطاب في ضوء المناهج النقدية الحديثة، دراسة في نقد النقد، محمد عزام، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق 2003 م.

* تحليل النصوص الأدبية، عبدالله ابراهيم، دار الكتاب الجديد المتحدة، بیروت، ط 1، 1998 م.

* تداخل النصوص في الرواية العربية، حسن محمد حماد، الهيأة المصرية العامة للكتاب، 1997 م.

* التفاعل النصي التناصية النظرية والمنهج، نهلة الأحمد، كتاب الرياض، العدد 104، يونيو، 2000 م.

* تفسیر القرآن، عبدالله شبر، مراجعة: حامد حفني داوود، مطبوعات النجاح، القاهرة، ط 1، 1966 م.

* تفسیر القرآن الكريم، ابن عربي، تح: د. مصطفى غالب، دار الاندلس للنشر والتوزيع، بیروت، ط 2، 1978 م.

* التفسير الكبير، الفخر الرازي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط 3، . 2001 م

ص: 260

* التفكیر النقدي عند العرب، د. عيسى علي العاكوب، دار الفكر المعاصر، بيروت، 2005 م.

* تكوين العقل العربي، محمد عابد الجابري، دار الطليعة للطباعة والنشر، بیروت، لبنان، ط 2، 1985.

* التلقي والتأويل، مقاربة نسقية، محمد مفتاح، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ط 2، 2001 م.

* التلقي والتأويل بيان سلطة القارئ في الادب، محمد عزام، دار الينابيع، السويد، ستوكهولم، ط 1، 2007 م.

* التناص بین النظرية والتطبيق، شعر البياتي انموذجا، د. احمد طعمة حلبي، مطابع الهيأة العامة السورية للكتاب، دمشق، 2007 م.

* التناص التراثي في الشعر العربي المعاصر، احمد العواضي أنموذجاً، عصام حفظ الله واصل، عمان، دار غيداء للنشر والتوزيع، ط 1، 2011 م.

* التناص دراسة في الخطاب النقدي العربي، سعد إبراهيم عبد المجيد، دار الفراهيدي للنشر والتوزيع، ط 1، 2010 م.

* التناص في شعر العصر الأموي، د. بدران عبد الحسن محمود، دار غيداء للنشر والتوزيع، عمان، ط 1، 2012 م.

* التناص نظرياً وتطبيقاً، احمد الزعبي، مؤسسة عمان للنشر، 2000 م.

* ثقافة الأسئلة، مقالات في النقد والنظرية، عبدالله محمد الغذامي، النادي الأدبي الثقافي، جدة، ط 2، 1992 م.

ص: 261

* الثقافة العربية الحديثة والمرجعيات المستعارة، عبدالله إبراهيم، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، بیروت، ط 1، 1999 م.

* ثلاث رسائل في إعجاز القران، للرماني والخطابي وعبد القاهر الجرجاني في الدراسات القرآنية والنقد الأدبي، محمد خلف الله احمد، د. محمد زعلول سلام، ط 5، دار المعارف * جمالية التلقي من اجل تاويل جديد للنص الادبي، هانس روبرت ياوس، ترجمة:

رشيد بنحدو، المشروع القومي للترجمة، المجلس الاعلى للثقافة، ط 1، 2004 م.

* جواهر البلاغة في المعاني والبيان والبديع، احمد الهاشمي، إشراف صدقي محمد جميل، مؤسسة الصادق للطباعة والنشر، طهران.

* جولة في بلاغة العرب وآدابهم، د. ربيعة أبي فاضل، دار الجيل، بیروت، ط 1، . 1988 م * حداثة السؤال، محمد بنيس، دار التنوير للطباعة، الدار البيضاء، 1985 م.

* الحداثة في الشعر اليمني المعاصر، عبد الحميد سيف احمد الحسامي، الجمهورية اليمنية، وزارة الثقافة والسياحة، صنعاء، 2004 م.

* حفريات المعرفة، ميشيل فوكو، ترجمة: سالم يفوت، المركز الثقافي العربي، بیروت، 1986 م.

* حلية المحاضرة في صناعة الشعر، الحاتمي، أبو علي محمد ابن الحسن ابن المظفر، تح: الدكتور جعفر الكناني، بغداد، 1979 م.

* الحيوان، الجاحظ، تح: عبد السلام محمد هارون، دار إحياء التراث العربي، بیروت، ط 3، . 1969 م

ص: 262

* الخروج من التيه، دراسة في سلطة النص، عبد العزيز حموده، عالم المعرفة، مطابع الوطن، الكويت، 2001 م * الخصائص ابن جني، تح: محمد علي النجار، مطبعة، دار الكتب المصرية القاهرة، ط 2، 1952 م.

* الخطاب الروائي، ميخائيل باختن، ترجمة: محمد برادة، دار الفكر للدراسات والنشر والتوزيع، القاهرة باريس، ط 1، 1987 م.

* الخطاب الشعري الصوفي والتأويل، د. رضوان الصادق الوهابي، منشورات زاوية الرباط، ط 1، 2007 م.

* الخطاب في نهج البلاغة، بنيته وأنماطه ومستوياته، دراسة تحليلية، د. حسین العمري، دار الكتب العلمية، بیروت، لبنان، ط 1.

* الخطاب النقدي عند ادونيس، قراءة الشعر أنموذجاً، الدكتور عصام العسل، دار الكتب العلمية، بیروت، لبنان، ط 1، 2007 م.

الخطاب والتأويل، نصر حامد أبو زيد، المركز الثقافي العربي، 2000 م.

* الخطيئة والتكفیر من البنيوية إلى التشريحية النظرية والتطبيق، عبدالله الغذامي، المركز القومي الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، ط 6، 2006 م.

* خمسة مداخل إلى النقد الأدبي، مقالات معاصرة في النقد، ويلبرس سكوت، ترجمة وتقديم وتعليق: د. عناد غزوان إسماعيل وجعفر صادق الخليلي، دار الرشيد للنشر، منشورات وزارة الثقافة والإعلام، العراق، 1981 م.

* دراسات في الفن والجمال، القيم الجمالية، دكتوره راوية عبد المنعم عباس، كلية الآداب، جامعة الإسكندرية، دار المعرفة الجامعة، 1987 م

ص: 263

* دلائل الإعجاز، عبد القاهر الجرجاني، قرأه وعلق عليه: محمود محمد شاكر، مكتبة الجانجي، القاهرة * دلالة الألفاظ عند الأصوليین، محمود توفيق ومحمد سعد الله، مطبعة الأمان، ط 1 1987 م.

* الدلالة المرئية، د. علي جعفر العلاق، دار الشروق للنشر والتوزيع، 2002 م.

* دليل الناقد الأدبي، ميجان الرويلي وسعيد البازعي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ط 4، 2000 م.

* دور الكلمة في اللغة، ستيفن اولمان، ترجمه وقدم له: الدكتور كمال احمد، أستاذ كلية العلوم، الناشر مكتبة الشباب.

* ديوان الامام علي امیر المؤمنین (عليه السلام)، مصحح ومنقح على الرواية الصحيحة.

* ديوان امرئ القيس، تح: محمد أبو الفضل إبراهيم، دار المعارف، القاهرة.

* روائع نهج البلاغة، اختارها ورتبها وقدم لها بدراسة وافيه، جورج جرداق.

* الرواية والتراث السردي (من اجل وعي جديد بالتراث)، سعيد يقطین، المركز الثقافي العربي، بیروت، الدار البيضاء، ط 1، 1992.

* سر الفصاحة، الأمیر ابو محمد عيد الله بن محمد بن سعيد بن سنان الخفاجي الحلبي، شرح وتصحيح عبد المتعال الصعيدي، مكتبة ومطبعة محمد علي صبيح، القاهرة.

ص: 264

* سحر الكتابة وفتنة الصورة من الثقافة النصية إلى سلطة اللامرئي، د. مازن عرفة، ط 1، دار التكوين، دمشق، 2007 م.

* سر الفصاحة، الأمر ابو محمد عيد الله بن محمد بن سعيد بن سنان الخفاجي الحلبي، شرح وتصحيح عبد المتعال الصعيدي، مكتبة ومطبعة محمد علي صبيح، القاهرة.

* السنن الكبرى، النسائي، دار الكتب العلمية، بیروت، تح: عبدالغفار سليمان البغدادي، ط 1، 1991 م.

* السيمياء والتأويل، روبرت شولتر، ترجمة: سعيد الغانمي، المؤسسة العربية للنشر والتوزيع، بیروت، لبنان، ط 1، 1994 م.

* سيميائية التواصل وفعالية الحوار، احمد يوسف، مؤتمر السيميائيات لجامعة وهران، الجزائر، 2004 م.

* شرح المعلقات العشر، الخطيب التبريزي أبو زكريا يحيى بن علي، تح: فخر الدين قباوة، دار الفكر، دمشق، ط 1، 1997 م.

* شرح نهج البلاغة، لعز الدين أبي حامد عبد الحميد بن هبة الله المدائني الشهير بابن أبي الحديد المعتزلي، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بیروت، لبنان.

* شرح نهج البلاغة، كمال الدين ميثم بن علي بن ميثم البحراني، المطبعة وفا، ط 1، 1427 ه.

* الشعر العربي الحديث بنياته وابدالاتها، محمد بنيس، الشعر المعاصر، دار توبقال، المغرب، ط 1.

ص: 265

* الشعر العربي المعاصر قضاياه وظواهره الفنية والمعنوية، عز الدين اسماعيل دار الثقافة، بیروت، د. ت.

* الشعر والشعراء ابن قتيبة أبو محمد عبدالله بن مسلم تحقيق احمد محمد شاكر، ط 2، القاهره، 1966 م.

* الشعرية، تزتيفان تودروف، ترجمة شكري المبخوت ورجاء سلامة.

* شعرية الخطاب في التراث النقدي والبلاغي، د. عبد الواسع احمد الحمیري، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، ط 1، . 2005 م * الشعرية العربية، أدونيس، دار الآداب، بيروت، ط 1، 1989 م.

* شعرية دستوفسكي ميخائيل باختین، ترجمة: جميل نصيف التكريتي، مراجعة حياة شرارة، دار توبقال، الدار البضاء، ط 1، 1986 م.

* شعرية النص الروائي (قراءة تناصية في كتاب التجليات)، بشیر القمري، شركة البيادر للنشر والتوزيع، الرباط، ط 1، 1991 م.

* صحيح البخاري، ابو عبدالله محمد بن اسماعيل بن ابراهيم، ط 1، دار الفكر للطباعة، بیروت، 1991 م.

* صحيح مسلم، مسلم بن الحجاج، ط 1، دار الفكر، بيروت، لبنان.

* الصورة الفنية في التراث النقدي والبلاغي، جابر عصفور، المركز الثقافي العربي، بیروت، ط 2، 1992 م * الصورة الفنية في المثل القرآني، دراسة نقدية بلاغية، محمد حسین الصغیر، دار الرشيد، بغداد، 1981 م.

ص: 266

* طبقات فحول الشعراء، ابن سلام الجمحي، تح: محمود محمد شاكر، ط 2، القاهرة، 1972 م.

* الطراز المتضمن لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الأعجاز، يحيى بن حمزة بن علي بن ابراهيم العلوي، مصر.

* ظاهرة الشعر المعاصر في المغرب، محمد بنيس، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ط 2، 1985 م.

* عبقرية الإمام علي، عباس محمود العقاد، دار الكتاب اللبناني، بیروت، ط 1، 1974 م.

* العصر الإسلامي، شوقي ضيف دار المعارف، مصر.

* عصر القرآن، محمد مهدي البصير، مطبعة النعماني، ط 2، بغداد، د. ت.

* العلاماتية وعلم النص، تزتيفان تودروف، ترجمة: منذر عياشي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، بیروت، ط 1، 2004 م.

* علم المعنى (الذات، التجربة، القراءة)، د. رحمن غركان، دار الرائي للدراسات والترجمة والنشر، دمشق، ط 1، 2008 م.

* علم النص، جوليا كريستيفا، ترجمة فريد الزاهي، مراجعة: عبد الجليل ناظم، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، المغرب، ط 2، 1997 م.

* العمدة في محاسن الشعر وآدابه، ابن رشيق القیرواني، تح: محمد قرقزان، دار المعرفة، بیروت، ط 1، 1998 م.

* عيار الشعر، محمد ابو احمد بن طباطبا العلوي، شرح وتحقيق: عباس عبد الساتر، منشورات محمد علي بيضون، دار الكتب العلمية، بیروت، لبنان.

ص: 267

* دروس في الألسنية العامة، فرنديد ديسوسیر، ترجمة صالح القرمادي وآخرون، الدار العربية للكتاب، طرابلس، 1985 م.

* فصل المقال في تقرير ما بین الشريعة والحكمة من الاتصال، ابو الوليد محمد بن احمد بن محمد بن رشد الأندلسي المالكي، إشراف محمد عابد الجابري، مركز دراسات الوحدة العربية، بیروت، لبنان، ط 1، 1997 م.

* فصول في اللغة والنقد، نعمة رحيم العزاوي المكتبة العصرية، بغداد، ط 1، 2004 م.

* الفلسفة والاعتزال في نهج البلاغة، قاسم حبيب جابر، المؤسسة العالمية للدراسات، بیروت، لبنان، ط 1، 1987 م.

* فلي ساندريس نحو نظرية أسلوبية لسانية، ترجمة: محمود جمعة، توزيع دار الفكر دمشق، ط 1، 2003 م.

* فنون الأدب، تشارلتون، ترجمة زكي نجيب محمود، 1945 م.

* فهم الفهم مدخل إلى الهرمينوطيقا نظرية التأويل من افلاطون إلى جادامیر، د.

عادل مصطفى، داررؤية للنشر والتوزيع، القاهرة، ط 1، 2007 م.

* الفهم والنص، دراسة في المنهج التأويلي عند شلايماخر ودلتاي، بو مدين بو زيد، منشورات الاختلاف، الجزائر، ط 1، 2008 م.

* في أصول الخطاب النقدي، تودوروف، ترجمة: احمد المديني، بغداد، 1986 م.

ص: 268

* في ظلال نهج البلاغة، محاولة لفهم جديد، شرح محمد جواد مغنية، دار العلم للملاين، بیروت، ط 1، 1972 م.

* في اللغة، جورج فندريس، ترجمة: عبد الحميد الدواخلي والدكتور محمد القصاص، مكتبة الانجلو المصرية، القاهرة، 1950 م.

* في اللغة والتفكیر، د. فؤاد مرعي، كتاب المدى، دار المدى للثقافة والنشر، 2002 م.

* في ماهية اللغة وفلسفة التأويل، د. سعيد توفيق مجد، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، لبنان، ط 1، 2002 م.

* في مناهج الدراسة الأدبية، حسين الواد، دار سراس للنشر، تونس، 1985 م.

* القارئ القياسي، القراءة وسلطة القصد والمصطلح والنموذج مقاربات في التراث النقدي، الدكتور صالح زياد، دار الفارابي، ط 1، 2008 م.

* قاموس اللسانيات، عبد السلام المسدي، الدار العربية للكتاب، تونس، 1984 م.

* قراءات معاصرة في النص القرآني، مجموعة مؤلفین، مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي، بیروت، ط 1، 2008 م.

* قصة الإنسان، جورج حنا، دار العلم للملايين، بيروت، 1973.

* قضايا النقد الأدبي والبلاغة، محمد زكي العشماوي، دار الكاتب العربي، مطبعة الوادي، 1967 م.

* قواعد الشعر ابو العباس احمد بن يحيى المعروف بثعلب، تح : محمد عبد المنعم خفاجي، القاهرة، 1948 م.

ص: 269

* الكافي، الكليني، تح علي أكبر غفاري طهران، دار الكتب الأسلامية، ط 4 * كتاب الصناعتین تصنيف أبي هلال الحسن ابن عبدالله ابن سهل العسكري، تح : علي محمد البيجاوي، محمد ابو الفضل إبراهيم، المكتبة العصرية، بیروت.

* الكشاف، الزمخشري، دار الفكر، بيروت، ط 1، 1977 م.

* الكليات، الكفوي، القسم الثاني، تح: عدنان درويش، محمد المصري، منشورات وزارة الثقافة، دمشق، 1982 م.

* لذة النص رولان بارت، ترجمة: فؤاد حسن والحسن سبحات، دار توبقال، الدار البيضاء.

* لسان العرب، لأبي الفضل جمال الدين بن منظور، دار صادر، بيروت، 1979 م.

* لسانيات الخطاب، مدخل إلى انسجام الخطاب، محمد خطابي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، ط 3، 2006 م.

* اللسانيات والدلالة (الكلمة)، منذر عياشي، مركز الإنماء الحضاري، حلب، ط 1، 1996 م.

* اللغة الثانية، في إشكالية المنهج والنظرية والمصطلح في الخطاب النقدي العربي الحديث، فاضل ثامر، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، بیروت، ط 1، 1994 م.

* لغة الشعر، رجاء عيد، منشأة المعارف، الإسكندرية، 1985 م.

* اللغة العليا، دراسات نقدية في لغة الشعر، د. احمد محمد المعتوق، المركز الثقافي العربي، الدار البضاء، ط 1، . 2006 م.

ص: 270

* اللغة في الأدب الحديث، جاكوب كورك، ترجمة: ليون يوسف وعزيز عمانؤيل، دار المأمون، بغداد 1989 م.

* اللغة والتأويل، مقاربات في الهرمينوطيقا العربية والتأويل العربي الإسلامي، عمارة ناصر، الدار العربية للعلوم، ناشرون، دار الفارابي، منشورات الاختلاف.

* اللغة وسايكولوجية الخطاب، سمير شريف ستيتة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بیروت، ط 1، 2002 م.

* المثل السائر في ادب الكاتب والشاعر، ضياء الدين ابن الاثیر، تح: محمد محيي الدين عبد الحميد، الناشر المكتبة العصرية، بیروت، 1995 م * محاورات مع النثر العربي، د. مصطفى ناصف، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، 1997 م.

* مداخل جديدة للتفسير، غالب حسن، دار الهادي، بيروت، لبنان، ط 1، 2003 م.

* المدخل اللغوي في نقد الشعر، مصطفى السعدني، دار المعارف، الإسكندرية، د. ت.

* المرايا المحدبة من البنيوية الى التفكيكية، د. عبد العزيز حمودة، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، مطابع الوطن * المرايا المقعرة نحو نظرية نقدية عربية، عبد العزيز حمودة، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، مطابع الوطن، 2001 م.

* مرجعيات القراءة والتأويل عند نصر حامد أبو زيد، ايليامین بن نومي، دار الأمان ومنشورات الاختلاف، الرباط، الجزائر، ط 1، 2000 م.

ص: 271

* المرجعيات في النقد والأدب واللغة، مؤتمر النقد الدولي الثالث عشر، مجلد 2، عالم الكتب الحديث، 2010 م.

* المستصفى من علم الأصول، أبو حامد محمد بن محمد الغزالي، تح : د. محمد سليمان الأشقر، مؤسسة الرسالة، بیروت، ط 1، * المستويات الجمالية في نهج البلاغة، دراسة في شعرية النثر، نوفل هلال أبو رغيف، سلسلة الفكر العراقي الجديد، بغداد، ط 1، 2000 م.

* مصطلحات نقدية وبلاغية في كتاب البيان والتبيین للجاحظ، الشاهد ال بو شيخي، منشورات الافاق الجديدة، بیروت، 1982 م.

* المصطلح النقدي، عبد السلام المسدي، مؤسسة عبد الكريم عبدالله للنشر والتوزيع، تونس، 1994 م.

* المصطلح النقدي في التراث الادبي العربي، محمد عزام، بيروت، د. ت.

* معايیر تحليل الأسلوب، ميخائيل ريفاتیر، ترجمة: وتقديم وتعليقات الدكتور حميد لحميداني، منشورات دراسات سال * معجم الادب، جبور عبد النور، دار العلم للملايين، ط 1، مارس، 1975 م.

* معجم ألفاظ القرآن الكريم، العلامة الراغب الأصفهاني، تح: صفوان عدنان داوودي، دار القلم، دمشق، الدار الشامية، سورية.

* معجم الألفاظ والأعلام القرآنية، إبراهيم محمد إسماعيل، دار الفكر العربي، القاهرة، ط 2، 1996 م.

ص: 272

* المعجم المفهرس لألفاظ القران الكريم، عبد الباقي محمد فؤاد، دار الفكر العربي، ط 2 * معجم النقد العربي القديم، د. احمد مطلوب، دار الشؤون الثقافية العامة، ط 1 * المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري، زكي نجيب .محمود، دار الشروق القاهرة، بيروت، د. ت.

* مفاهيم الشعرية دراسة مقارنة في الأصول والمنهج والمفاهيم، حسن ناظم، المركز الثقافي العربي، ط 1، 1994.

* المفاهيم معالم نحو تأويل واقعي، محمد مفتاح، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، بیروت، 1999 م.

* مفهوم الخطاب في فلسفة ميشيل فوكو، الزواوي بعومة، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2000 م.

* مفهوم النص، دراسة في علوم القرآن، نصر حامد ابو زيد، المركز الثقافي العربي.

* المقدمة، عبد الرحمن بن محمد بن خلدون، دار إحياء التراث العربي، بيروت * مقدمة في الدراسات القرآنية، محمد فاروق النبهان، مطبعة وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، المغرب، 1995 م.

* مقدمة في النقد الأدبي، د. علي جواد الطاهر، المؤسسة العربية للدراسات والنشر.

* مقدمة في الهرمينوطيقا، دايفيد جاسبر، ترجمة وجيه قانصو، الدار العربية للعلوم، بيروت، لبنان، ط 1، 2007 م.

ص: 273

* ملامح من عبقرية الإمام علي، مهدي محبوبة العتبة العلوية المقدسة، قسم الشؤون الفكرية والثقافية.

* مناهج النقد المعاصر، صلاح فضل، دار أفريقيا الشرق، المغرب، بیروت، 2003 م.

* منتهى السؤل في علم الأصول، الجمعية العلمية الأزهرية المصرية، د. ت.

* المنفى والملكوت، كلمات في الشعر والنقد، جلال الخياط، شركة المعرفة، مطابع دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، ط 1، 1989.

* منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة، العلامة المیرزا حبيب الله الهاشمي الخوئي قدس سره، ضبط وتحقيق علي عاشور، دار إحياء التراث العربي، بیروت، لبنان.

* منهاج البلغاء وسراج الأدباء، وضعه أبي الحسن حازم القرطاجي، تقديم وتحقيق: محمد الحسن ابن الخوجة، دار الغرب الإسلامي، ط 2 * الموازنة بین ابي تمام والبحتري، تح: عبد محمد محارب، مكتبة الخانجي، القاهرة، 1990 م.

* مواهب الرحمن في تفسیر القرآن، السيد عبد الأعلى الموسوي السبزواري، انتشارات دار التفسیر، قم، إيران، ط 2، 2007 م.

* ميشيل فوكو المعرفة والسلطة، عبد العزيز العبادي، المؤسسة الجامعية للنشر، بیروت، ط 1994، 1 م.

* النص الشعري واليات القراءة، فوزي عيسى، الإسكندرية، مصر، مكتبة المعارف، 1997 م.

ص: 274

* النص الغائب تجليات التناص في الشعر العربي، محمد عزام، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 2001 م.

* النص القرآني بین التفسیر والتأويل، د. السيد احمد عبد الغفار، دار النهضة العربية، بیروت، لبنان، ط 1، 2002 م.

* النص والخطاب والاتصال، محمد العبد، الأكاديمية الحديثة للكتاب الجامعي، القاهرة، ط 1، 2005 م.

* النص والسلطة والحقيقة، إرادة المعرفة وإرادة الهيمنة، نصر حامد أبو زيد، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، ط 5، 2006 م.

* نظريات القراءة والتأويل الأدبي وقضاياه، د. حسین مصطفى، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 2001 م.

* نظرية الأدب، د. شفيق يوسف البقاعي، منشورات السابع من ابريل الزاوية، ط 1، 1425 ه.

* نظرية الأدب، رينيه ويلك، واوستين وارين، ترجمة: محي الدين صبحي، مراجعة: حسام الخطيب، المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية، مطبعة خالد الطرسي، 1972.

* النظرية الأدبية المعاصرة، رامان سليدرن، ترجمة: د. جابر عصفور الهيأة العامة لقصور الثقافة، 1996 م.

* نظرية التأويل، الخطاب وفائض المعنى، بول ريكور، ترجمة، سعيد الغانمي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، ط 1: 2003 م.

ص: 275

* نظرية التأويل في الفلسفة العربية الإسلامية، د. عبد القادر فيدوح، الأوائل للنشر والتوزيع، ط 1، دمشق، 2005 م.

* نظرية التلقي، روبرت هولب، ترجمة: عز الدين اسماعيل، المكتبة الاكاديمية.

* نظرية المعنى، د. مصطفى ناصف، دار الاندلس، بيروت.

* نظرية المعنى عند حازم. القرطاجني، د. فاطمة عبدالله، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ط 1، 2003 م.

* نقد الشعر أبو الفرج قدامة ابن جعفر، تح: محمد عبد المنعم خفاجي، دار الكتب، بیروت، لبنان، د. ت.

* النقد العربي نحو نظرية ثانية، مصطفى ناصف، سلسلة. عالم المعرفه، الكويت، العد 255، 2000 م.

* نقد النقد، تودروف، ترجمة: سامي سويدان، مركز الإنماء القومي، بیروت، ط 1، 1996 م.

* النقد والحداثة، عبد السلام المسدي، دار الطليعة، بيروت، ط 1، 1983 م.

* هرمينوطيقا النص الأدبي في الفكر الغربي المعاصر، د. مليكة دحامينة، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 2008 م.

* الوساطة بین المتنبي وخصومه، ابو الحسن علي بن عبد العزيز القاضي الجرجاني، تحقيق علي محمد البجاوي ومحمد ابو الفضل ابراهيم، مصر 1966 م

ص: 276

المجلات والدوريات * ازمة الابداع في الفكر العربي المعاصر، محمد عابد الجابري، مجلة فصول، العدد 3 - 1984.

* الاسلوبية والنقد الادبي، عبدالسلسام المسدي، مجلة الثقافة العربية، العدد 1 - 1982.

* التأثر والتقليد، أولرشيد هنتاين، ترجمة، مصطفى ماهر، مجلة فصول، العدد 3 - 1993.

* التناص سبيلا الى دراسة النص الشعري، شربل داغر، مجلة فصول، الهيأة المصرية العامة للكتاب، المجلد 16، العدد الاول، القاهرة، 1997.

* الخطاب النقدي واشكالية العلاقة بین الذات والاخر، د. شكري عزيز الماضي، مجلة الموقف الثقافي، العدد 9، 1997 م.

* في مفهوم الخطاب والخطاب الادبي، ابراهيم صحراوي، مجلة الكاتب العربي، تصدر عن الاتحاد العام للكتاب العرب، العدد 51 - 52، 2001 م.

* مفارقة الخطاب للمرجع، د. نور الدين السد، مجلة الكاتب العربي، اتحاد الكتاب العرب، العدد: 50 - 51.

ص: 277

ص: 278

المحتويات

مقدمة المؤسسة...7 المقدم...9 التمهيد...15 الفصل الأوّل: مظاهر التناص منطلقات نظرية...41 المبحث الأول : ناص نهج البلاغة مع القرآن الكريم...54 المبحث الثاني: التناص مع الحديث النبوي الشريف...72 المبحث الثالث: التناص الذاتي...83 المبحث الرابع: التناص الادبي مع نهج البلاغة...101 الفصل الثاني: مفاهيم نقدية المبحث الاول: التأويل معياراً نقدياً...115 المبحث الثاني: قيمة القارئ عند الشراح...144 المبحث الثالث: المصطلح النقدي عند الشراح...161

ص: 279

الفصل الثالث: جماليات اللفظ والمعنى مدخل نظري...183 المبحث الاول: التفرد بالمعاني...195 المبحث الثاني: العمق في المعاني...213 المبحث الثالث: دقة المعاني...223 المبحث الرابع: قيمة المعاني...235 الخاتمة...251 المصادر والمراجع...255

ص: 280

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.