شرح نهاية الحکمة

اشارة

سرشناسه : مومن، مهدی، شارح

عنوان و نام پديدآور : شرح نهایه الحکمه/ تالیف محمدحسین طباطبایی؛ شرح و تحقیق محمدمهدی المومن

مشخصات نشر : قم: موسسه المعارف الاسلامیه، 1422ق. = - 1380.

فروست : (موسسه المعارف الاسلامیه 124)

شابک : 964-6289-94-0(دوره) ؛ 964-6289-92-4(ج.1)

وضعیت فهرست نویسی : فهرستنویسی قبلی

يادداشت : عربی

عنوان دیگر : نهایه الحکمه. شرح

موضوع : طباطبایی، محمدحسین، 1360 - 1281. نهایه الحکمه -- نقد و تفسیر

موضوع : فلسفه اسلامی

شناسه افزوده : طباطبایی، محمدحسین، 1360 - 1281. نهایه الحکمه. شرح

شناسه افزوده : بنیاد معارف اسلامی

رده بندی کنگره : BBR1392/ن 903م 85 1380

رده بندی دیویی : 189/1

شماره کتابشناسی ملی : م 80-1814

ص:1

اشارة

مؤمن ، مهدي .

شرح نهاية الحکمة / تأليف محمد حسين طباطبائي ؛ شرح محمدمهدي المؤمن - قم :

مؤسسة المعارف الاسلاميه، 1622 ق.. 1380.

612ص،

عربّي، دوره .

(ج2) 2 - 93 - 6289 - 964 :ISBN

(ج 1) 4 - 92 - 6289 - 964 : ISBN

فهرست نويسي بر اساس اطلاعات فيبا .

1. طباطبايي، محمد حسين، 1281 - 1360. نهاية الحکمة - - نقد و تفسير . 2. فلسفه اسلامي الف . طباطبايي، محمد حسين، 1281 - 1360. نهاية الحکمة . شرح.ب.بنياد معارف اسلامي . ج . عنوان . د. عنوان : نهاية الحکمة ، شرح وم 93ن /1401B

189/1

م ش ان 379ط

کتابخانّه ملي ايران

1816 / 80 م

ولو

هويّة الکتاب : اسم الکتاب : .........

000000... شرح نهاية الحکمة - ج 1 تأليف : ............ ..... العلامة السيّد محمد حسين الطباطبائي شرح : .................

000. محمد مهدي المؤمن

نشر : ............

.... مؤسسة المعارف الإسلامية

الأولي 1622 ه. ق .

المطبعة : .......................................

000000000. عترت

العدد : ...............

و... 1000 نسخة

کافة الحقوق محفوظة ومسجّلة

المؤسسة المعارف الاسلامية قم - ص . ب 768- تلفون 7732009 - فاکس7743701

ص: 2

بسم الله الرحمان الرحيم

ص: 3

ص: 4

المقدمة

الحمد لله ربّ العالمين و أفضل الصلاة وأتمُّ التسليم علي نبَّي الرحمة ومنقذ الأمّة سيّدنا محّمد؛ وعلي آله الطّيبّين الطاهرين سيّما بقيّة الله في الأرضين، واللعن الدائم علي أعدائهم إلي يوم الدين.

اللهمّ وصلّ علي وليَّ أمرک القائم المؤمّل والعدل المنتظر وحفّه بملائکتک

المقرّبين وأيّده بروح القدس يا ربّ العالمين».

لا يخفي علي إخواني من أهل الفضل والکمال أنني کنت شديد الشوق إلي تذييل کتابي شرح بداية الحکمة بخاتمة أو تصديره بمقدّمة تحتوي علي بيان نبذة من حياة المؤلّف قدّس سرّه و مطالب حول الفلسفة والحکمة الإلهيّة لا يستغني عنها طالب الفلسفة والحکمة لا سيما في الأعوام الأولي من دراسته الحوزويّة ، بل أقول جازماً انّه يکون بأمس الحاجة اليها ، ولابدّ له من الإلمام والاحاطة بها، لکن الظروف حالت دون کتابة ما کنت أرمي إليه ، وأعرضت عنها آملاً أن تواتيني الفرصة ويبتسم لي الحظُّ وتکتب لي السّعادة بشرف النيل بهذه الأمنية التي تکلّلت بالنجاح ونفث فيها الرّوح، فدمدمت فيها الحياة بتوفيق من الواجب تبارک و تعالي و تشويق من الاخوة الأفاضل طالبي الحکمة والفلسفة النظريّة وسالکي مدارجها العملية، حيث أنّهم شدّوا علي يدي وأخذوا بساعدي وملؤني شوقاً إلي کتابة شرح علي نهاية الحکمة، وان کنتُ قبل ذلک قد وفَرت جهدي وشحّذتُ همّتي وهممتُ إلي

ص: 5

کتابة شرح وافي علي منظومة السبزواري أعلي الله مقامه الشريف، غير انني نزولاً عند هذه الرغبة وتلبية لنداء اخوةٍ لي في الله تبارک وتعالي واستجابةً لحسن ظنّهم أعرضتُ عن تلک الغاية إلي هذه المنية فالشکر والثناء للواجب تعالي ولاولئک الذين اولوني حسن ظنّهم.

ثم انني لمّا بلغت مناي بحمد الله الواحد الأحد بتأليف هذا الشرح المفّصل المبسوط رأيت أن أصدّره بالمقدّمة التي حالت الظروف دون تدوينها واضافتها في شرح البداية وستأتي عن قريب ان شاء الله تعالي.

ملاحظات لا بأس بها

أولاً: قمت بکتابة هذا الشرح بعد انتهائي من تدريس متن الکتاب والتعليق

عليه أثناء التدريس.

ثانياّ: ما نقلت شيئاً عن جهابذة هذا الفن إلّا وذيّلته باسمه والمصدر الذي

عند نقلت الکلام، وذلک حفظاً للأمانة ورعاية لحقوق الآخرين.

ثالثاً: کلُّ ما نقلته عن جهابذة هذا الفن وأساطينه لم يأتِ إلا من باب الاستشهاد بأقوالهم أو زيادة بيان لرفع ما هو غامض أو لأزيد الطالب سعه في الاطلاع.

رابعاً: بذلت قصاري جهدي لتبسيط المطالب، وکون الشرح وافياً رافعاً لکل غموض غير تارک أمام طالبها وقارئها أي تعقيد وغموض وأتمني أن يکون کما وصفت.

خامساً: ثم ما کان منه صحيحاً مطابقاً للواقع والصواب فخذوه، وما کان مخالفاً لهما فردّوه الي ونبهوني عليه ، وما اشتبه أمره عليکم فذروه في سنبله ، وجلّ من لا يسهو، وخير اخواني من أهدي إليّ عيوبي .

ص: 6

سادساً حاولت في المراحل الأخيرة وفصولها أن أتوخي واراعي الايجاز

ما استطعت بعدما رأيت اطالة وحشواً زائداً في المراحل الأُولي من الکتاب.

سابعا: أضفت الي شرح الکتاب في بداية کل فصل موجزاً ملخصاً لذلک الفصل تحت عنوان «نقرأ في هذا الفصل»، عسي أن يکون عوناً للطّالب والاستاذ .

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين

محمد مهدي المؤمن 23 رمضان عام 1420/ قم المقدّسة

ص: 7

قبسات من حياه الموءلّف(طالب ثراه)

اشارة

إذا کان الانسان في منطق الحکماء والفلاسفة «حيواناً ناطقاً و موجوداً عاقلاً قادراً علي التعقّل والتفکّر في حقائق الأشياء جزئتها وکلّيها واقتصروا علي هذا الجانب من شخصية الإنسان وحقيقته الذاتية حتي قال الشاعر الفارسي :

اي برادر توهمه انديشه اي ما بقي را استخوان وريشه اي ومعناه أيّها الانسان والأخ لست سوي التفکّر والتعقّل، وما عدا ذلک فأنت مجرد عظام وجذور.

أقول: إذا کان الحکماء والفلاسفة الإلهيون صوّروا الانسان هکذا واقتصروا

في بيان حقيقته علي هذا الجانب وهذه الذاتية من ذاتياته ، فإنّ علماء الأخلاق سبروا اغواره و غاصوا في أعماقه ليخرجوا دفائن ذاته وحقيقة سماته ، وذلک أتهم وجدوه في واقع الأمر ذا بعدين متقابلين يشکلان الجانب الأخلاقي فيه و تمام ذاته ، لأنه عاقل متفکر من جهة، وذو غرائز وشهوات من جهة أخري، فالحيوانيّة التي هي جنسه الأخير تمثّل بعده الغرائزي الشهواني ، وبعبارة أخري غرائزه وشهواته تمثّل جهة حيوانيته ، والناطقية التي هي فصله تمثل بعده العقلاني ، وهو في الواقع کما تبّين لا يختلف کثيراً عما اختاره الحکماء، غير أن حاجة الحکيم والفيلسوف تقتصر علي الجانب العقلاني من الانسان فهو مدار بحثهم، بخلاف الأخلاقي فإنّه يبحث عن کلا الجانبين ولا يستغني عن أحد البُعدين، لأن شأنه معرفة مصادر الخير والشرّ ومجاريها ثمّ التمييز بينها، والعمل علي نبذ الشر من جذوره واصوله

ص: 8

ص:9

قبل الاجابة عن هذا السؤال أقول مقدمةً: أن معرفة حياة العظماء والعلماء مسؤولية کلّ من يعيش في کنفهم وتحت ظلّهم الظّليل ويستذوق عذب ماء الحياة ببرکة وجودهم، وعظمة الأمّة رهينة بعظمة مؤسسيها وعلمائها وحکمائها وممهّدي سُبُلها، ولا شک أن عظمة الاسلام تکمن في عظمة صاحب الدعوة والرسالة أعني خاتم الأنبياء والرّسل سيّدنا ومولانا ونبيّنا محمد بن عبد الله صلّي الله عليه و آله ثم يتلوه أهل بيته الأطهار وخلفاؤه الأئمة الأبرار من ذريته عليه وعليهم آلاف التحية والثناء والصلاة والسلام، وبعد ذلک علماء هذه الأمّة وخيارها، فمعرفة عظماء الامة کمال في حد ذاتها، أضف إلي ذلک أن هذه المعرفة وهذا الإلمام خير سبيل لتهذيب النفوس وتزکيتها ونشر الفضائل للتأسّي بها (ولکم في رسول الله اسوة حسنة لمن کان يرجو الله واليوم الآخر وذکر الله کثيراً) .

فالغاية من هذه الأسطر أن أکون قد اضفت الجانب الأخلاقي والحکمة العملية إلي الجانب العلمي العقلاني وإلي الحکمة النظرية، وجمعت بين العقل النظري والعقل العملي، وأکون قد بينت لطالب الحکمة والفلسفة طريق التهذيب والکمال، بايراد السيرة العملية للمؤلف علي نحو الايجاز، فأکون بذلک قد نلت شرفا آخر، وجمعت فضيلة بسط العلم ونشره إلي جانب فضيلة أخري هي بسط الأخلاق والعرفان العمليين ونشرهما، وبهذا يضاف اسمي إلي صحيفة الذين حازوا مرتبة الشرف في نشر الکمالين والفضيلتين واشاعتهما. آمين.

ومَن أفضل مِن هؤلاء الجهابذة والعباقرة وأصحاب الکمالات وجامعي الفضائل ليکونوا اسوة يقتدي بهم سيما في هذه العصور التي طغت فيها المادة والمادّيات حتّي نشبت مخالبها في قلوب الناس ونشرت ظلامها علي النفوس فانبثق عنها اطفاء نور العقول ليعيش العالم جاهلية جهلاء سُمّيت بجاهلية القرن العشرين ويا لها من جاهلية لم يسبق لها نظير من قبل، ورغم ما أحاط بالعالم من

ص: 10

ظلمات وانحطاط في المعنويات والکمالات النفسية وظهور مکاتب مادية سوفسطائية - وان أطلقوا عليها عناوين فلسفية وخُيّل لهم أنها مبرهنة بالجزم واليقين - أقول رغم کل هذه الأباطيل والتلاعب بعقول الناس والأمم، وادّعاء ظهور فلسفات جديدة استفحلت کالسرطان في بواطن الشعوب وجرفت معها إلي الهاوية اعداد هائلة من الناس ، إلا أن الأرض کما أراد باريها جل جلاله لا ولن تخلو من الصالحين الذين أعرضوا عن الدنيا وزخارفها وترکوا الأهل والديار طلباً للعلم والمعرفة والتکامل والتهذيب وليتفقهوا في الدين وينالوا بذلک مرتبة النيابة العامة عن المعصوم عليه أفضل الصلاة وأتمّ التسليم فيکونوا حجةً علي العباد وهو حجة الله عليهم، وهؤلاء الحجج علي العباد حملوا راية هذا الدين وتحمّلوا مسؤولية اصلاح المجتمعات البشرية وقاموا علي مرّ التاريخ بهداية الناس ونشر الفضائل والعلوم والمعارف الإلهية التي وصلتهم من المعصوم عليه أفضل صلوات المصلين ، وعلي رأس هؤلاء النواب بالنيابة العامة والحجّة علي عامة الناس مولانا الامام الخميني قدّس الله نفسه الزکية الذي سيأتي بعض الکلام عن انظاره و آرائه الفلسفية بما يُناسب المقام - إن شاء الله تعالي -

العلّامة في سطور:

لا شک أنّه کان حکيماً الهياً وعالماً ربّانياً اسوة لأهل التقوي واليقين وکان تمثالاً من الزهد وبحراً غنياً من العلم والمعرفة، عدّه البعض من ذخائر الله في الأرض والحق انّه مفخرة قلّ مثيله من مفاخر الاسلام، عاش معرضاً عن الدنيا وزخارفها ولم يأخذ منها إلا ما يتوقف عليه العيش واقتصر علي الضروري منها فانجذب اليه کل قاص سمع به، وذاب فيه کل داين رآه وعاشره، وکان من مصاديق قول مولانا امير المؤمنين عليه أفضل صلوات المصلين في خطبة المتقين وهي الخطبة رقم 193 «فالمتقون فيها هم أهل الفضائل ، منطقُمُ الصَّوابُ ،

ص: 11

ومَلَبسهُمُ الاقتصادُ، ومشيُهُم التواضعُ، غَضُّوا أبصارهم عمّا حرّم الله عليهم ، ووقفوا أسماعهم علي العلم النافع لهم ، نزلت أنفسهم منهم في البلاء کالّتي نزلت في الرّخاء ، ولولا الأجلُ الذي کُتب لهم لم تستقرّ أرواحهم في أجسادهم طرفة عين شوقاً إلي الثواب ، وخوفاً من العقاب ، عظم الخالق في أنفسهم فصغر ما دونه في أعينهم، فهم والجنة کمن قد رآها فهم فيها منعّمون وهم والنار من قد رأها فهم فيها معذّبون ، قلوبهم محزونة، وشرورهم مأمونة وأجسادهم نحيفة، وحاجاتهم خفيفة ، وأنفسهم عفيفة ، صبروا أياما قصيرة أعقبتهم راحة طويلة ... إلي قوله عليه السلام : أرادتهم الدنيا فلم يريدوها، واسرتهم فقدوا أنفسهم منها، أما الليل فصاقون أقدامهم تالين الأجزاء القرآن يرتلوته ترتيلا ... إلي قوله عليه السلام : فهم حانون علي أوساطهم، مفترشون لجباههم وأکفهم ورکبهم واطراف اقدامهم يطلبون إلي الله في فکاک رقابهم، واما النهار فحلماء علماء، أبرار أتقياء ، قد برأهم الخوف بري القداح ، ينظر اليهم الناظر فيحسبهم مرضي وما بالقوم من مرض ... لا يرضون من أعمالهم القليل، ولا يستکثرون الکثير ، فهم لأنفسهم متّهمون، ومن أعمالهم مشفقون ...

فمن علامة أحدهم أنک تري له قوةً في دين ، وحزماً في لين ، وايماناً في يقين، وحرصاً في علماً، وعلمة في حلم و صبراً في شدّة ، وطلباً في حلال ونشاطاً في هُدي ، وتحرِجاً عن طمع، يعمل الاعمال الصالحة وهو علي وجل، يمسي وهمّه الشکر، ويصبح وهمَّه الذکر ... آن استصعبت عليه نفسه فيما تکره لم يعطها سؤّلها فيما تحبّ ، قرّة عينه فيما لا يزول ، وزهادته فيما لا يبقي ، يمزج الحلم بالعلم، والقول بالعمل ، تراه قريباً أمله ، قليلاً زلله، خاشعاً قلبه ، قانعة نفسه، منزوراً أکله ، سهلاً أمره ...... الخير منه مأمول والشرَّ منه مأمون، ان کان في الغافلين کتب في الذاکرين، وان کان في الذاکرين لم يکتب من الغافلين ، يعفو

ص: 12

عمّن ظلمه، ويعطي من حرمة، ويصل من قطعه، بعيداً فحشه، ليّناً قوله، غائباً منکره ، حاضراً معروفة، مقبلاً خيره، مدبراً شرُّه ... لا يحيف علي من يبغض ، ولا يأثم فيمن يحبّ ، يعترف بالحقّ قبل أن يشهد عليه ، ... ان صمت لم يغمّه صمته ، وان ضحک لم يعل صوته، وان بُغي عليه صبر حتي يکون الله هو الذي ينتقم له ، نفسه منه في عناء ، والناس منه في راحة .. الخ». .

هذه مقاطع مختارة من الخطبة الغراء التي يصف فيها المتقين . وهي دليل السالکي طريق التقوي واليقين ، و ميزان يوزن بها أهل التقوي ، وفرقان يفصل بين أهل الآخرة والدنيا ، أو بينهم وبين من خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيّئاً فلم يکونوا من هؤلاء ولا أولئک ، فعسي الله تعالي أن يغفر لهم.

ولقد کان العلامة قدّس سرّه أحد مصاديق هذه الخطبة مستجمعاً لما ورد فيها من الصفات والکمالات شهد له بذلک کل من عرفه أو عاشره وصاحبه قليلاً أو کثيراً ، واذ تجلّت فيه تلک الحقائق، وتصاعدت منه أنوار هذه الفضائل، وصبغته بصبغة ربّانية، أصبح علماً من أعلام الدين، وعارفاً يهدي إلي الحق واليقين ، ومشعاً ونبراساً يضيء الطريق لسالکي سُبُل الکمال، ومصباحاً في سماء حوزاتنا العلمية المبارکة من النجف الأشرف شرف الله قدرها بمولانا أمير المؤمنين عليه أفضل صلوات المصلّين ، وأعاد لها عزها قريبأ عاجلا ، إلي حوزة قم قدّسها الله تحت ظلّ کريمة أهل البيت عليها وعليهم افضل الصلوات وأتم التسليم، حيث عش آل محمد صلي الله عليه و اله وسلم ، فإنه أصبح اسوة لطالبي العلوم الدينية وسالکي طريق التزکية والتهذيب.

نسبه:

وقد رأيت بخطّه الکريم هذا النسب الشريف علي النحو التالي : هو محمد حسين بن محمد بن محمد حسين بن الحاج الآميرزا علي أصغر شيخ الاسلام بن

ص: 13

الآميرزا محمد تقي القاضي بن الآميرزا محمد القاضي بن الأميرزا محمد علي القاضي بن الأميرزا صدر الدين محمد بن الأميرزا يوسف نقيب الأشراف بن الأميرزا صدرالدين محمد بن مجد الدين بن السيّد اسماعيل بن الأمير علي اکبر الشهير بميرشاه بن سراج الدين الأمير عبدالوهاب بن الأمير عبدالغفار بن السيّد عماد الدين أمير الحاج بن فخرالدين حسن بن کمال الدين محمد بن السيّد حسن ابن شهاب الدين علي بن عماد الدين علي بن السيّد أحمد بن السيّد عماد الدين بن أبي المحسن علي الشهاب بن أبي المحسن محمد الشاعر بن أبي عبدالله أحمد الشاعر بن أبي جعفر محمد الأصغر بن أبي عبدالله أحمد بن ابراهيم طباطبا بن اسماعيل الديباج بن ابراهيم الغمر بن الحسن المثني بن الامام الحسن بن علي عليه السلام وابن فاطمة بنت الامام الحسين بن علي عليه السلام .

ألقابه:

الحسني والحسيني والطباطبائي .

فلقّب بالحسني لنسبته عن طريق الأب بالامام الحسن المجتبي عليه السلام ، ولقّب بالحسيني لنسبته عن طريق الام بالامام الحسين عليه السلام ، وقد لقب ب بالطباطبائي النسبته إلي السيّد ابراهيم طباطبا کما صرح بذلک المرحوم السيّد محسن الأمين في کتابه أعيان الشيعة، وابراهيم هذا علي ما جاء في کتاب «معجم الألقاب في معرفة الأسر والألقاب»، هوالجد الأکبر لطائفة بني طبا وبنو طبا طائفة کبيرة من الهاشميين لهم أصالتهم وشرفهم وأمجادهم ومناعة طبعهم وفضلهم وشهرتهم ووضوح نسلهم وأصلهم وهم من سلالة ابراهيم المشهور بطباطبا.

ثمّ أنّه قد وقع الخلاف في سبب توصيف ابراهيم هذا، بلقب طباطبا و تعدّدت الأقوال فذکر أبو نصر البخاري أن سبب ذلک لکنة کانت في لسانّه ينطق القاف طاءاً

ص: 14

وبينما کان والده ذات مرة صحبه إلي السوق وهو صبي وخيّره بين أن يشتري له قباءاً أو قميصاً، فاختار الصبي القباء وقال مرتين «طباطبا» وهو يريد أن يقول «قباقبا» فلقب من حينها بهذا اللقب . وذکره ابن خلّکان في وفيات الأعيان وجعل ذلک وجهاً لتسميته بطباطبا.

وقيل : سبب ذلک انّه رأي النبّي صلي الله عليه و اله وسلم في يقظته أو منامه عند قبره الشريف بالمدينة المنورة فأخبره عن نسبه انّه «طيباً طيباً» وهو في عرف الناس يتم اختصاره بلفظ طباطبا. وليس يؤيد هذا الادعاء شيء من المصادر المعتبرة بهذا الخصوص.

وذهبت طائفة إلي أن وجه تسميته وتوصيفه بذلک يرجع إلي کونه من

شجرتين طبيبتين الحسن والحسين عليهما أفضل الصلاة وأتم التسليم ، وهذا يخالف الواقع حيث أن کثيرا من السادات والعلويين والهاشميين تعود نسبتهم إلي الأمامين الحسنين عليهما آلاف التحية والثناء ولم يلقبوا بذلک.

ومنهم من زعم أن الوجه فيها عائد إلي کونه متّصلاً في شجرته من جهة الأبوين بالإمام أمير المؤمنين عليه أفضل صلوات المصلين، وهذا واضح البطلان أيضاً کسابقه.

نعم، ذکر البيهقي في «لباب الأنساب» نقلاً عن «تهذيب الأنساب» للنيسابوري ان لفظ «طباطبا» أصله نبطيُّ يعني سيد السادات وبما أن ابراهيم کان يقطن في ضواحي مدينة الأنبار العراقية أيام خلافة المهدي العباسي لقبه أهل تلک الضواحي والمناطق بطباطبا لصلابته في الإيمان وجلالة قدره. وحسنه بل أکده السيّد محمد محيط الطباطبائي في مقال نشرته صحيفة ايرانية بهذا الخصوص وهکذا علي الأوسي في کتابه الذي يحقق فيه أسلوب العلامة قدّس سرّه في تفسير الميزان.

ص: 15

مولده ونشأته قدّس سرّه :

کانت ولادته قدّس سرّه بي في التاسع والعشرين من ذي الحجة عام 1321 هق في منزل والده بمدينة تبريز الايرانية الواقعة في شمال غربّ ايران وهي مدينة اشتهرت بحوزاتها العلمية الغنية بالعلماء وأهل الفضل والکمال منذ الايام الاولي من الحکم الصفوي حيث اتخذها الشاه اسماعيل الصفوي مؤسس الدولة الصفوية عاصمة له، کما أنها مهد الشعراء والأبطال والمجاهدين وأحد أهم مراکز شيعة أهل البيت عليهم الصلاة والسلام منذ مئات السنين، کانت ولادة المؤلف قدس سره ونشأته في هذه المدينة في اسرة عريقة اشتهرت بالعلم والفضل والکمال.

فَقَد أمَّه في الخامسة من عمره و فَقَدَ أباه في التاسعة من عمره، ليصبح يتيم

الأبوين ولم يبق إلّا أخ له يسمي محمد حسن الطباطبائي المعروف بالإلهي، وکيف کان فقد قام وصيُّ أبيهما برعايتهما وتکريمهما أحسن تکريم ، ومن ذلک انّه اعتني بتعليمهما وتربّيتهما فأرسلهما إلي الکتاتيب والمدارس القائمة حينذاک، لکي يتعلم القرآن الکريم تلاوة وحفظاً ثم يتعلم أو يحفظ کتباً قيمة من الأشعار و دواوين الشعراء والأخلاق والتاريخ والمباديء العربّية والحساب. والخط وما أشبه ، فاستغرقت سنة أعوام من حياته منذ التاسعة حتي الخامسة عشرة من عمره.

ثمّ التحق بمدرسة الطالبية في مدينة تبريز وتعلّم فيها الأدب العربّي من اللغة والنحو والصرف و المعاني والبيان والبديع والشعر والقريض والنثر والاملاء وما أشبه ذلک من العلوم العربّية ، والعلوم الاسلامية العقلية والنقلية والفقه والأصول واستطاع خلال ثمانية أعوام أن ينهي کلّاً من الکتب التالية، الأمثلة وصرف مير والتصريف والعوامل والانموذج والصمدية والسيوطي والجامي والمغني والمطول واللمعة الدمشقية ومکاسب الشيخ الأنصاري قدّس سرّه ، ومعالم الدين والقوانين ووسائل الشيخ الأعظم قدّس سرّه وکفاية الآخوند قدس سره و الرسالة الکبري وحاشية المولي عبدالله وشرح

ص: 16

الشمسية والاشارات للشيخ الرئيس ابن سينا قدّس سرّه و کشف المراد. وأهل العلم والفضل يعلمون مدي عمق هذا المنهج وما فيه من تعقيد مما يستغرق شطراً کبيراً من عمر

طالبيه ودارسيه وکثيراً ما ينتهي بصاحبه إلي فشل ذريع فيضطرُّ إلي ترک الاستمرار أو البقاء علي حاله من الجهل ، لکن المؤلف قدس سره تکللّت مساعيه بالنجاح وتفوق علي أقرانّه إذ أنهي دراسته لهذا المنهج الشاق المعقد خلال ثمانية أعوام، وهو أن دل علي شيء فخير دليل علي فطنته وذکائه وتوفيقه واجتهاده في طلب العلم. و من لطائف الأمور وأعجبها التي يأتي علي ذکرها المؤلف بنفسه وبخطه الکريم، أنه لم يکن في الأعوام الأربّعة الأولي من حياته الدراسية والحوزوية راغباً في طلب العلم ولهذا لم يتعلم ولم يستوعب شيئاً من دروسه قط وکان شديد الکراهية للتعليم وکاد أن ينقطع عن مواصلة التعليم إلّا أن العناية الإلهية شملته وأحاطت به من کل جانب فتغيرت مشاعره تجاه طلب العلم وحدث له اقبال شديد وقوة استيعاب وادراک جعلته يواصل مسيرته العلمية بجدَّ واجتهاد قل لهما من نظير طيلة سبعة عشر عاماً لم يشعر خلالها بکلل ولا ملل بل کله أمل و سباق مع الزمن وتحد لکلَّ المعوقات التي کانت تحول دون نجاحه واستمراره، حتّي أنهي تعلمه علي هذا المنوال وتفرّغ بعد ذلک للتدريس والتأليف في العلوم العقلية والنقلية .

والمؤلف قدّس سرّه يقول عن نفسه في تلک الفترة ماهذا مضمونه : شعرت شيئاً فشيئاً

بالرغبة في طلب العلم وازدادت هذه الرغبة يوما تلو يوم، وسرعان ما شعرت بأني أعشق طلب العلم وأهواه وأحبه حُبّاً جمّاً لا يوصف حتّي صار يشغل بالي کلّه ويملأ أحاسيسي ومشاعري، فمضيت بعون الله تعالي طيلة سبع عشرة سنة في طلب العلم معرضاً عن جميع ملذات الدُّنيا وزخارفها و ترکت صحبة غير أهل العلم وانکببت علي طلب العلم بکل أحاسيسي ومشاعري واکتفيت في اکلي وشربّي ونومي وسائر حوائج الحياة وضرورياتها بالأقلّ الأدني وروَّضتُ نفسي والبستها

ص: 17

ثوب القناعة والايثار ، فلم يشغلني شيء عن طلب العلم ليلاً أو نهاراً حتّي کنت أقضي بعض الليالي ساهراً إلي طلوع الشمس لا اشتغل بشيء سوي طلب العلم، ولم أحضر درساً إلّا وقد قمت بالتحضيراً له قبل حضوره، تحضيراً يغنيني عن الدرس إلّا لزيادة توکيد واطمئنان .

هجرته إلي النّجف الأشرف :

هاجر المؤلّف قدّس سرّه وأخوه إلي النجف الأشرف ملتحقاً بالحوزة العلمية المبارکة هناک واستقر هناک فترة عشرة أعوام اکتسب فيها علوماً جمّة وحضر دروس الأعلام والجهابذة والعباقرة في مختلف الميادين من العرفان والأخلاق والفقه والأصول والفلسفة والرياضيات وهلم جرا. فتتلمذ علي يد کبار الأساطين والعلماء کالمرحوم آية الله العظمي النائيني والمرحوم آية الله العظمي السيّد أبو الحسن الأصفهاني والمرحوم آية الله العظمي الشيخ محمد حسين الأصفهاني والمرحوم آية الله العظمي السيّد حسين بادکوبه اي والمرحوم آية الله العظمي السيّد أبو القاسم الخوانساري والمرحوم آية الله العظمي حُجت والمرحوم آية الله العظمي الحاج ميرزا علي القاضي الطباطبائي . وکان يلقب هناک بالحسني الحسيني الطباطبائي .

سلوک العلّامة للعرفان :

يقول العلامة قدّس سرّه : عندما کنت في النجف الأشرف مشتغلاً بتحصيل العلوم والمعارف الإلهية التقيت ذات يوم بالمرحوم آية الله العظمي الميرزا علي القاضي الطباطبائي فما کان ان توجه اليَّ بهذه النصيحة وبادرني بهذه الموعظة قائلاً: «ان کنت تريد الدنيا فعليک بصلاة الليل ، وإن کنت تريد الآخرة فعليک بصلاة الليل أيضاً وکان هذا اللقاء المفاجيء غير المرتقب سبباً لإتصالي به والتعرف علي شخصيته الفذة والتعلق به تعلقاً تامّاً حيث انفتحت علَّيَّ أبواب الرحمة وکان منشئاً لخيرات

ص: 18

و برکاتٍ غمرتني وعمّت جميع جوانب حياتي حيث انقطعت إلي نفسي وتزکيتها والتربّية والتهذيب تحت اشرافه واستفدت کثيراً من نفحات قدسه، فسقاني کؤوساً وافية في هذا الطريق لم يراودني الظمأ بعدها.

من ذلک أن العلامةقدّس سرّه تعلم من استاذه هذا طرق التزکية والتهذيب فانقطع کثيراً إلي العبادة لا سيما الاعتکاف بمسجد الکوفة و السّهلة والمداومة علي الذکر وحضور القلب وعدم الغفلة عن وساوس النفس والشيطان، ومجاهدة النفس وأهوائها بترويضها حتي أصبح هو الراکب لها وهي مرکوبته ودابته يقودها آخذأ بلجامها غير منقادٍ لها ولا مرکوب لشهواتها ونزواتها ، فلا يأکل ولا يشربّ ولا ينام الا عن حاجة ولا يغضب و يفرح ولا يکره ولا يحب إلا طبقاً للموازين الشرعية الإلهية فيغضب ويکره ويحب ويفرح لله وهکذا قس علي هذه ما شئت من سلوکياته وأخلاقه وأعماله فإنها أصبحت جميعاً رهينة أوامر الشارع المقدس ونواهيه رغم انّه لم يکن معصومة إذ العصمة منزلة خاصة ومرتبة محصورة لأهلها. وقد صرح قدس سره في بعض مجالسه أن «کلُّ ما عندي انّما هو من برکات و فيوضات المرحوم القاضي الطباطبائي أعلي الله مقامه الشريف»، ومن العجيب أن العلامة و استاذه العارف الکامل السيّد القاضي الطباطبائي قد تساوت فترة حياتهما وطول أعمارهما، حيث عاش کل منهما واحداً وثمانين عاماً. وکان من شدة تعلقه باستاذه انّه لم يستعمل الطيب والعطور طيلة عامين بعد وفاته، وقيل طيلة ثلاثين عاماً بعد وفاته. المؤلف والعلوم العقلية :

صرّح قدّس سرّه في بعض مکتوباته انّه أخذ الفلسفة من استاذه السيّد حسين بادکوبه اي وهو أحد أبرز علماء الفلسفة والحکمة المتعالية، فقرأ عنده منظومة

ص: 19

السبزواري والأسفار الأربّعة والمشاعر وکلاهما للمولي صدر المتألهين قدس سره، ودورة الشفاء للشيخ الرئيس ابن سينا قدس سره کاملة، وکتاب اثولوجيا وتمهيد القواعد لابن ترکه وهو من کتب العرفان ، وکتاب الأخلاق لابن مسکويه.

أضف إلي ذلک انّه تعلم الرياضيات والحساب والهندسة المسطحة والفضائية والجبر الاستدلالي عند المرحوم السيّد أبو القاسم الخوانساري وهو من خبراء هذا الفن.

الفقه والأصول :

حضر خارج الفقه والاصول دورة کاملة عند استاذ الفهقاء والأصوليين صاحب المعقول والمنقول الآية العظمي والفيلسوف الحکيم المرحوم الکمپاني الاصفهاني (قدس الله نفسه الزکية»، کما تلمذ في ذلک علي يد المرحوم آية الله العظمي النائيني (قدس الله نفسه الزکية» لفترات عديدة وسنوات مديدة حتي نال مرتبة الاستنباط وحاز علي اجازة الاجتهاد من هذا العالم النحرير والبحر الزاخر، الذي يعجز المرأ عن کمال وصفه وأداء حقه فقد کان المرحوم النائيني قدس سره من أبرز تلامذة المرحوم الآخوند الخراساني قدّس سرّه بل الأبرز علي نحو التصريح والتحقيق، وهکذا المرحوم الميرزا حسن الشيرازي قدس سره، والمرحوم السيّد محمد الفشارکي قدّس سرّه ، تربّع عرش المرجعية وتقلد زمام امور الطائفة وانحصر به کرسي الزعامة في الحوزات العلمية قاطبة بعد رحيل شيخ الشريعة الأصفهاني قدّس سرّه ، فاختص بهذا المقام وزانت به هذه المراتب فجاء بما لم يسبقه أحد في الفقه والأصول، وزين محافل التدريس ومجالسه بآراء في الفقه والاصول بهرت عقول الطلاب وادهشت عقول العلماء، لا سيما في علم الاصول حيث کان مبتکراً مجدداً، وقد خلّده التاريخ مجدّدا ًمغياًة محبياً بحراً مواجأ لا

ص: 20

ساحل له ومحيطاً لا تبلغ أعماقه، إذ أحدث تحولاً عظيماً في الفقه والأصول علي مذهب أهل البيت عليهم أفضل صلوات المصلين، واسس بنياناً واحدث نمطاً جديداً من الفقه الحکومتي علي أساس من السنة وروايات أهل البيت عليهم آلاف التحية والتسليم ولهذا أطلق عليه في بعض کتب التراجم عنوان مجّدد علم الأصول .

لقد صنّف (اعلي الله مقامه الشريف) أکمل وأفضل وأجمع کتاب وأرتبها في التحليل الاصولي و البرهنة الشرعية والاستدلال العقلي والعقلائي حول نظام الحکم في الاسلام علي مذهب أهل البيت عليهم الصلاة والسلام ليکون دستوراً بديلا ًواسلوباً شرعياً يحّل محّل الأنظمة الفاسدة ويقوم مقام الأجهزة المستبدة الغاشمة ، وسمّاه «تنبيه الامة و تنزيه الملّة». فهو عالم مجّدد مجاهد شارک في ثورة العشرين وکان الساعد الأيمن للمرحوم الآخوند الخراساني قدس سره و في مواجهته وتصدّيه للاستبداد والطغيان الحاکم آنذاک في ايران ، فقد کان مسؤولاً عن کتابة رسائل المرحوم الآخوند و بيانباته الثورية والسياسية ، کما انّه کان أحد أعضاء اللجنة التي تم تشکيلها في الکاظمية بأمر من زعيم الحوزة وعلمائها للتصدي ومواجهة الاستبداد في ايران حينذاک ومحاربّة الاستعمار البريطاني المحتل للأراضي الايرانية.

ثمّ انّه ألف کثيراً في الفقه والاصول ، بَيدَ أنّه امتنع عن طباعتها ونشرها قبل الحرصه علي دقة التعبير والانشاء ولعله لتواضعه وکثرة اهتمامه بتزکية نفسه وتهذيبها وخوفا من الرياء والسمعة والله العالم، وهناک بعض تلاميذه الذين قرروا دروسه وحافظوا علي أفکاره المثيرة منهم المرحوم الکاظمي قدس سره والمرحوم آية الله العظمي السيّد أبو القاسم الخوئي قدس ره في کتاب أسماه «أجود التقريرات» وحقاً انّها أجود التقريرات فهنيئاً للمؤلف الکاتب والمکتوب له وجعل مثواهما الجثّة.

فکان رحمه الله کثير الاهتمام بالعبادة والتهجد و التهذيب والتزکية والمراقبات

ص: 21

الدائمة والمواظبة والاستقامة حتّي انّه کان يحرص بأشد مايمکن علي أن يکون جلّ أهتمام تلاميذه إلي التربّية والتهذيب قبل التعلم ومن ذلک اصراره علي ملازمة صلاة الليل والدوام عليها بنفسه والزام تلاميذه بالالتزام بها وبالنوافل کشرط أساسي لحضور در سه. فعلي يدي هذا الفحل العابد الزاهد المجاهد وعلي عينيه الکريميتين ترعرع ونشأ المؤلّف قدّس سرّه : (واصطنعتک لنفسي ولتُصنع علي عيني )(1)ويکفيه فخراً أنّه نال اجازة الاجتهاد من هذا العبقري المناضل وهو خير دليل علي مکانته العلمية في الفقه والأصول، وهو ثمرة واحدة من ثمار تلکم الجنّة التي کان ساقيها وراعيها وصانعها بطل أبطال ساحة الفقه والاصول، فسلام عليه يوم ولد ويوم مات ويوم يبعث حيّاً

ثم انّ المؤلف قدس سره لم يکتفِ بحضور دروس الفقه لدي الآيتين الکمپاني الاصفهاني والنائيني قدس ره و بل انتهز فرصة تدريس المرحوم آية الله العظمي السيّد أبو الحسن الأصفهاني قدّس سرّه به وتلمّذ شطراً من عمره وعدة من سنيّه علي يديه المبارکتين وهو العالم العامل الفقيه الأصولي المحقق المجاهد الذي لاتسع هذه الوجيزة ولا يوفي هذا المختصر بتعريفه علي وجه التمام والکمال، اذ زهده وکماله وسمو أخلاقه ومناعة طبعه وجلالة قدره ورفعة منزلته وارتباطه الخاص بمولانا صاحب العصر والزمان عجّل الله فرجه الشريف وأرواحنا لتراب مقدمة الفداء وعليه آلاف التحية والثناء وأفضل صلوات المصلين والملائکة المقربّين، وعلوّ شأنه وغزارة علمه وکثرة عبادته وشدة تهجده وتعلقه بالآخرة أمور لا توصف.

والحاصل أن مؤلفنا المترجم له ههنا ، قد نشأ وترعرع، کمل واکتمل في هذه الروضة البهيّة ، وبين هذه الأزهار والرياحين وعلي أيدي هؤلاء الأساطين فهنيئاً له

ص: 22


1- مقتبس من سورة طه : 41و 39.

ولهم والسلام عليه وعليهم يوم ولدوا جميعاً ويوم ماتوا جميعاً ويوم يحشرون وينشرون جميعاً . عودة المؤلف إلي مدينته تبريز:

ذکر المترجم له في ترجمة حياته انّه عاد برفقة أخيه الذي کان يصغره - السيّد محمد حسن الإلهي - إلي مدينة تبريز بعد أن ضاقت بهما الدنيا واشتد بهما العسُر وحلّ بهما الفقر المالي الذي کان يسود العراق لا سيما النجف الأشرف والعتبات المقدسة يومئذ، وهذه الضائقة المالية والعسر الشديد أجبر اهما علي الرحيل من العراق والعودة إلي موطنهما ومسقط رأسهما حيث امتدت هذه الفترة أکثر من عشرة أعوام اضطرا خلالها أن يعملا في حراثة الأرض والفلاحة في البساتين لإمرار معاشهما، وقد اعتبر العلامة قدس سره بيع هذه الفترة من أشد فترات حياته وأتعسها وأشقها علي نفسه، لانشغاله بما لا يريد عما يريد ويهوي وابتعاده عن مجالس العلم والعلماء، وعدها خسارة لا تعوض کانت مبعث ألم نفساني وعذاب روحاني له قدس سره ، وان عاد بعد ذلک إلي مدينة قم المقدسة ومعه أهله وعياله، وما لبث ان شرع بتدريس خارج الفقه والأصول، لکنه بعد فترة لا بأس بها أعرض عن تدريس الفقه والاصول قائلا أن الحوزة العلمية غنية بأساتذة هذين العلمين وهي تموج بدروس الفقه والاصول ، لا حاجة لحوزاتنا إلي دروس أخري ولا إلي اساتذة آخرين في هذين العلمين، وانما المفقود في الحوزة العلمية وما اليه مسيس حاجة الطلاب لا سيما في أيامنا هذه حيث الغزو الفکري والعقائدي والفلسفي الذي يطرق أبوابنا بل حل ضيفا بغيضا واحتل بلادنا بنشب مخالبه في أجسامنا ونشر خيوطه الاجرامية وأفکاره الهدامة في جامعاتنا ومجتمعاتنا العلمية ، حتي أنهم أفسدوا بذلک عقول مثقفينا وشبابنا وطلبة جامعاتنا ومدارسنا محشين رؤوسهم وادمغتهم

ص: 23

بالأفکار الإلحادية والسلوکيات المنحرفة، أقول کانت الحاجة ماسة في تلک الظروف إلي بعض العلوم التي تصلح العقائد و تتصدي لدفع الأوهام والخرافات والسفسطات التي ألقتها وسائل الاعلام الغربّية الکافرة بين ظهرانينا، وأبرز علم يتکفّل بهذا الأمر ويرد المکائد الفکرية إلي أهلها هو الفلسفة والعلوم العقلية من

جهة والتفسير من جهة أخري، ورغم أن التفسير کان متروکاً في حوزاتنا العلمية الزعمهم أنّه لا حاجة اليه بل لا يعد علماً مستقلاً بذاته يستحق البحث والتنقيب، إلّا أن هذه الأعذار لم تکن لتثني المؤلف قدّس سرّه عن مباشرة تدريس کتاب الله الحکيم تحقيقاً و تفسيراً و تنقيباً وبحثاً وتدقيقاً، بل رغم أن باب الشهرة والزعامة الدينية والمرجعية الفقهية کانت مفتوحة أمامه بشطريها، لو کان يباشر تدريس الفقه والأصول ويستمر في التخصّص من أجلهما، إلا أنّه أعرض عن هذا کلّه وعمل بتکليفه لا تأخذه في ذلک لومة لائم، وظّل علي هذا الحال طيلة ثلاثين عاماً قضاها بمدينة قم حتّي واتنه المنيّة وانتقل إلي جوار ربّه الکريم تبارک وتعالي ، بعد أن قضي حياة مليئة بالعبر والعظات والسعادة والحرمان، و قدم إلي المذهب الحق الاثني عشري وإلي حوزاتنا العلمية، بل إلي کافة البشر سيّما أهل العلم والايمان، خدمة ليس لها نظير بقلمه ويده ولسانّه، فکتب وألف وقام بتربّية العلماء والفضلاء، نظرياً من خلال التدريس وعملياً بسلوکه الفذ وعمله الخالص، وکانت وفاته قدس سره با في شهر صفر من عام 1402 هق، المصادف1360/824 هش ، و 1981 ميلادي بمدينة قم المقدسة ودفن في حرم السيّدة فاطمة المعصومة کريمة أهل البيت عليها وعليهم أفضل الصلاة وأتم التسليم، بعد أن أمضي 81 عاماً من عمره الشريف قضي منها ما يربّو علي سبعين عاما بين طلب العلم والتهذيب والتزکية والتعليم والتعلم وتربّية الطلاب والفضلاء والتأليف والتصنيف واعمال البر والخير ، رضوان الله تعالي عليه .

ا

ص: 24

أبرز تلاميذه :

کثر طلاب المؤلف وتلاميذه خلال الأعوام التي قضاها في التدريس والتربّية، وشق علي کتُاب التراجم احصاؤهم فلم أجد کتاباً عن حياة العلامة أو مقالا أو متکلماً محّدثا يدعي احصائهم جميعا بل علي العکس تماماً، ما قرأت شيئا منها ولا سمعت أحد إلا ويصرح بعجزه عن احصائهم علي وجه الدقة والتحقيق وکيف کان فإنا نکتفي بذکر ابرز تلاميذه:

ا- آية الله الشهيد الشيخ علي القدوسي صهره وزوج ابنته نجمة السادات

اع

الطباطبائي.

2 - آية الله الشهيد السيّد محمد الحسيني البهشتي قدّس سرّه

. 3 - آية الله الشهيد الشيخ مرتضي المطهري قدّس سرّه .

4 - آية الله الشهيد الدکتور محمد مفتّح قدس سره .

5 - آية الله الشيخ جعفر السبحاني (حفظه الله).

6 - آية الله الشيخ حسن زاده آملي (حفظه الله).

7- آية الله الشيخ جوادي آملي (حفظه الله).

8- آية الله السيّد محمد حسين الحسيني الطهراني . قدّس سرّه

9- آية الله الشيخ فقيه أحمدي (حفظه الله).

10 - الدکتور واعظ زاده الخراساني (حفظه الله) .

11 - الامام موسي الصدر المفقود أثره (فرج الله عنه) .

12 - آية الله الشيخ ابراهيم الأميني (حفظه الله).

13 - الاستاذ المحقق الشيخ محمد علي الکرامي (حفظه الله ) .

14 - آية الله الشيخ محمد محمدي الجيلاني (حفظه الله).

15 - آية الله العظمي الشيخ ناصر مکارم الشيرازي (دام ظله).

ص: 25

16 - العلامة الاستاذ الشيخ علي التواني (حفظه الله).

17 - آية الله الشيخ أحمدي الميانجي (حفظه الله).

وهؤلاء من مشاهير العلماء والفضلاء في حوزاتنا العلمية سيما حوزة قم

صانّها الله تعالي من الحدثان، لهم مجالس التدريس وتلامذة کثيرون وتأليفات کثيرة في مختلف العلوم والفنون وکان کل واحد منهم نجمة لامعة في سماء الفضيلة والکمال وما زال الأحياء منهم ماضون علي هذا المنوال لا تنقطع فيوضاتهم عن طالبي العلم، يرد شريعتهم مئات من عطاشي المعارف وعشاق الفضائل لينهلوا من عذب فراتهم ويملؤا کؤوسهم فيدفعوا بها ظمأ هم ويسدوا عطشهم، ويغدوا أرواحهم، أضف إلي ذلک أن سعيهم واجتهادهم في سبيل الکمال وبلوغ الفضائل ونيل المعالي علماً وعملاً لم يمنعهم عن خوض الحياة السياسة لإعلاء کلمة الاسلام و تعظيم شأنه، ولهذا فقد سجل کل واحد منهم أروع الأمثلة في النهوض بأعباء الثورة الاسلامية المظفرة وأداء دوره الرسالي في نصرة الدين تحت راية الامام الخميني قدس سره و والاستقامة والصمود في هذا الطريق دون کلل أو ملل، لا تهزّهم العواصف ولا تزعزع همتهم مزاعم المبطلين ومکائد المنافقين قبل انتصار الثورة الاسلامية وبعد انتصارها فرحم الله الأموات منهم وحفظ الله الأحياء تحت ظله الظليل ووفقهم لما فيه خير الدنيا وصلاح الآخرة.

مؤلَّفات العلامة قدس سره :

وهي کثيرة بين المطبوع وغير المطبوع وأهم المطبوع منها:

1- اصول الفلسفة

ذکر المؤلَّف أن غايته من تأليفه هو محاولة جادة للمقارنة بين الفلسفة الاسلامية القديمة والفلسفة الغربّية الحديثة وقال ان ما دعاه إلي هذه المقارنة وکان

ص: 26

دافعاً له إلي هذا القصد عزوف الشباب المثقف في ايران عن الفلسفة الاسلامية وأقبالهم علي الفلسفة الغربّية، وهو مطبوع في خمسة أجزاء ترجم قسما منها إلي العربّية تلميذه الفذ آية الله الشيخ جعفر السبحاني (دام عزّه) و هي تشتمل علي أربّعة عشر مقالا مع مقدمة وتعليقات قيمة لتلميذه الشهيد المطهري قدس سره نا، ذکر العلامة الشيخ آغا بزرک الطهراني قدس سره ب هذا الکتاب في طبقات أعلام الشيعة الجزء الأول الصفحة 156 وعده اثر نافعة وسفراً قيماً.

2- بداية الحکمة

وهو دورة مختصرة جداً في الفلسفة والحکمة ومن الکتب الدرسية في حوزاتنا العلمية وله عدة شروح باللغتين الفارسية والعربّية بعضها مترجم من الفارسية وقد وفقت لکتابة شرح له طبع في جزئين عام 1419 هق .

3- نهاية الحکمة

وهو أيضاً کسابقه عبارة عن دورة مختصرة في الفلسفة الاسلامية قام فيه وفي سابقه باجراء مقارنة عملية وعلمية بين فلسفة الاشراق وفلسفة المشاء وسعي جاهدأ. للتوفيق بينهما وايجاد وجه مشترک يجمع بين الفلسفتين ويقربّ انظار الفريقين وآرائهم، وقد منيت مساعيه بالتوفيق حين أثبت علي أساس الأخذ بالغايات وترک النقاش في المباديء «خذ الغايات ودع المباديء»، أن المذهبين والفريقين. يشترکان في النتيجة والغاية وان اختلفا في المباديء وطرق الوصول، حيث أن الاشراقي عن طريق التهذيب والاشراقات النفسانية يحصل علي نفس ما يحصل عليه المشائي عن طريق الدليل والبرهان، وقد سبقه بذلک المولي صدرا

رضوان الله عليه) في أسفاره.

وکيف کان فهذا الکتاب القيم أصبح منذ أن تمّ تأليفه وطبعه ونشره، من الکتب المدرسية الرسمية في حوزاتنا العلمية. وله بعض الشروح في الفارسية

ص: 27

وتعليقة قيّمة الاستاذنا العلامة الشيخ محمد تقي المصباح (دام ظلّه).

4 - رسالة القوة والفعل

وهي رسالة وافية عن النشاة الآخرة والخلق الجديد.

ه - حاشية الکفاية

وهي تعليقاته وآراؤه الأصولية التي ذيَّل بها کفاية المرحوم الآخوند (أعلي

الله مقامه الشريف) و هي خير دليل علي اجتهاده في هذا الفن ومدي تبحره فيه.

6- بحث حول المرجعية والروحانية . 7- رسالة في الخمر. 8- تعليقة علي بحار الأنوار .

وهي شرح لبعض أجزاء هذا الکتاب الشريف وما جاء فيه من أحاديث أهل البيت عليهم أفضل صلوات المصلين، وهذا الشرح يشمل سبعة أجزاء من البحار في ثمانية وثمانين موضوعا من ثلاثة کتب ، کتاب العقل والجهل وفضل العلم کتاب التوحيد، وکتاب العدل والمشيئة والإرادة والقضاء والقدر والمعاد والموت.

9- تعليقة علي أصول الکافي. 10- مقدمة علي وسائل الشيعة . 11 - الرسائل السبعة.

12 - الرسائل الثلاث «الانسان قبل الدنيا» و«الانسان في الدنيا» و «الانسان

بعد الدنيا» مطبوعة ضمن الرسائل التوحيدية.

13 - الرسائل التوحيدية.

وهي تشتمل علي «رسالة التوحيد» و«رسالة الأسماء» و«رسالة الأفعال»

و «رسالة الوسائط». .

14 - القرآن في الاسلام

او

ص: 28

ويبحث فيه عن أهمية القرآن الکريم وسرّ خلوده واعجازه، والتعريف بالقرآن الکريم وموقعه من الاسلام کما يصرح القرآن نفسه وعلي ضوء آياته لا کما يعتقده المسلمون ويفسّرون آياته طبقاً لمعتقداتهم وآرائهم.

10 - الميزان في تفسير القرآن

وهو من أفضل وأکمل کتب التفاسير وأشهرها جميعاً والمتداول بأيدي المسلمين سيما شيعة أهل بيت العصمة والطهارة عليهم أفضل الصلوات وأتمّ التسليم ، کتبه في عشرين جزءأ يحتوي علي شرح القرآن الکريم من أوله إلي آخره ومن مبدئه إلي منتهاه ، شرع في تأليفه عام 1347 ه ق وکانت خاتمته في ليلة القدر 23 رمضان من سنة 1392 هق.

قال عنه الشهيد مطهري قدس سره : اعتقد اعتقاداً جازماً أن کثيراً من مطالبه ومحتوياته ليست من تأملات ذهنه ورشحات فکره، بل هي من الإلهامات الغيبية التي فاض بها ربّ السماء علي قلب المؤلف ونفسه الزکية . لم تصادفني مشکلة في القضايا والشؤون الاسلامية والمسائل العقائدية الّا وجدت مفتاحها وحلّها في تفسير الميزان .

وقال عنه المرحوم العلامة الشيخ محمد جواد مغنية: اني لم ابارح هذا

الکتاب ولم يفارقني منذ أن وقع بيدي.

وقال عنه المرحوم العلامة المحقق الشيخ آغا بزرک الطهراني قدس سره في کتابه نقباء البشر في القرن الرابع عشر الجزء الثاني صفحه 645 و646 السيّد محمد حسين الطباطبائي التبريزي القمي عالم فاضل ... وصفه وصفا طويلا وأثني عليه وعلي تفسيره الميزان حتّي عدّه دائرة کبيرة للمعارف القرآنية يجمع بحوثاً في الفلسفة والتاريخ وعلم الاجتماع وعلم الدراية ورواية الحديث وما أشبه.

فهو يفسّر القرآن بالقرآن والآيات بالآيات لاعتقاد المؤلّف قدّس سرّه أن القرآن الذي

ص: 29

يصرّح أنّه تبيان لکل شيء في قوله تعالي : (وأنزلنا عليک الکتاب تبياناً؛ لکل شيء)(1) حاشاه أن لا يکون تبيانا لنفسه، وهذا الأسلوب في التفسير مأخوذ من أئمتنا الأطهار الذّين هم عدل القرآن وقرينه في الدنيا والآخرة ، ويجتنب جداً عن تفسير القرآن برأيه أو بالآراء والنظريات الفلسفية والعرفانية وما أشبه کما صنع بعض المفسرين.

وقد ترجمه الاستاذ حجة الاسلام والمسلمين الموسوي الهمداني إلي

الفارسية في أربّعين جزءا، فشکر الله مساعيه.

والحاصل إن من أراد أن يطّلع علي النتاج الفکري والثمرات العلمية للعلامة قدّس سرّه ا ويطّلع أيضاً علي مخزن أسراره و معارفه ويشربّ من عذب مائه ويروي ظمأه من ينبوعه وعين فراته ويطعم فکره وعقله بلذائذ ثمار بستانّه فليداوم علي مطالعة تفسيره هذا ويواظب علي قراءة کل سطر من سطوره وکل حرف من أحرفه الوضاءة وهو البحر الذي لا ساحل له والعين التي لا تنضب ولا تجف ولا تزيده کثرة النزح إلي امتلاءاً وفيضاناً.

16 - الشيعة في الاسلام.

17 - المرأة نصف هيکل المجتمع.

18 - سنن النبيّ صلي الله عليه و اله وسلم .

والحاصل أن سيدنا العلامة قدّس سرّه جمع بين المعقول والمنقول من علوم الحوزة الاسلامية کما جمع بين العلوم الدينية وغيرها وبين علوم الحوزة والجامعات القديمة والمعاصرة الحديثة، جمع بين مختلف العلوم والفنون حتي بلغ درجة التخصُّص فيها وقام بتدريسها لأهلها واشتهر فيها شهرة لا يستهان بها، فکان إلي

ص: 30


1- النحل : 89.

جانب العلوم الحوزوية الدينية التقليدية، خبير بعلم الهيئة والفلک وعلم الجفر وعلم الرّمل - إلمامه بحروف الأبجد واستنتاجاتها واستخراجاتها وآثارها، وهکذا الأبجد الکبير والأبجد الصغير والأبجد الوسيط ومقدار أهمية کل منها وحسابها علي نحو الاجمال والتفصيل ... الخ - وعلم الأعداد وحساب الجمل، والجبر ومقابله والهندسة الفضائية و مسطحها والحساب الاستدلالي، وعلم الرياضيات وعلم معرفة المذاهب والأديان، کما انّه کان شاعراً بديعاً في شعره بارعاً في نظمه وله أشعار وقصائد مشهورة باللغة الفارسية، وکان خطاطاً فتاناً يجيد الرسم والکتابة بخطوط مختلفة وقد تقل عن الحکيم افلاطون «أن الخط هندسة روحانية ، ظهرت بالة جسمانية». .

فکان مصداقاً لقوله تعالي في الآيات التالية :

(يؤتي الحکمة من يشاء ومن يؤت الحکمة فقد أوتي خيراً کثيراً، وما

يذّکُر إلا أولوا الألباب) (1)

(واتقوا الله ويعلّمکمُ الله)(2).

(أن تتقوا الله يجعل لکم فرقاناً)(3)

(وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس)(4)

(من يتّق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب)(5) (الّذين جاهدوا فينا لنهدينّهم سُبُلّنا) (6)

ص: 31


1- البقرة: 269
2- البقرة: 282.
3- الأنفال : 29.
4- الأنعام : 122.
5- الطلاق : 2.
6- العنکبوت : 96.

(انّ الّذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمنُ وُدَّاً) (1)

ومن خصائصه أنه کان شديد التعلق بالقرآن الکريم علما وتلاوة و تأمّلاً وعملا وله في هذا الصدد باع طويل من التأليف والتدريس والتحقيق وکان يؤکّد إننا لا يمکن أن ندّعي بضرس قاطع ونجزم في شيء يخص المنطق القرآني والروائي ، ونقول هذا منطق القرآن وأهل البيت عليه السلام في الموضوع الکذائي، بمجّرد الاستناد إلي آية ورواية أو اثنتين أو ثلاث بل علينا أن نجري فحصاً کاملاً ونقوم باستقراء تام للکتاب والسنة - کتب الحديث - بحثاً عن الآيات والأحاديث التي تحکي عن ذلک الموضوع، ثم نعمل علي تقييد المطلقات بواسطة المقيّدات، وتخصيص العام منها بالخاص الوارد فيها ، ونسخ المنسوخ بالناسخ ، و تبيين المتشابهات بالمبينات، و تجمع القرائن المنفصلة والمتصلة کلها ويُوقّق بينها بالملاحظة وکثرة التدقيق والتحقيق، ثّم إذا بذلنا ما في وسعنا واجتهدنا في ذلک کله وجزمنا بأمر ما نقول علي وجه القطع واليقين أن هذا منطق القرآن والآل الأطهار عليهم آلاف التحية والثناء وهذا ديدنهم ومذهبهم فيما نحن بصدده، وکان يري أن هذا لا يحصل إلا باحاطة ولو سطحية بالقرآن الکريم کله من أوله إلي آخره حفظاً وتلاوةً و تفسيراً و تأويلاً.

وکان يري قدّس سرّه في تفسير الکتاب بالسنة، أن السنة وسائر العلوم التي لها مدخلية في فهم آيات القرآن وبيان معانيها کالعلوم اللغوية وما أشبه ماهي إلّا أسباب و عوامل لشرح الصدر وفتح الأبواب وتمهيد الذهن و تشحيذد والإعداد والاستعداد لمعرفة المراد الجدي للواجب تعالي و ميزه عن المراد الاستعمالي وسائر الشؤون الواردة في هذا المجال، وليست الأحاديث وتلک العلوم بحمل يحمله

ص: 32


1- مريم: 96.

. أحدنا علي منکبه أو ظهره ليحمّله القرآن الکريم فيما بعد ويحمّل القرآن ما لا يحتمل، بل هي في خدمتنا لمعرفة القرآن بالتدبر والتأمّل، ولنکون جميعاً في خدمة القرآن الکريم بمعرفة حقائقه و أسراره.

وکيف کان فقد أعرض عن کل شيء وترک الزعامة الدينية والعلوم التقليدية الحوزوية منکباً بکله علي التفسير حتي صار ضحية القرآن الکريم کما وصفه بذلک المرحوم زعيم الحوزة العلمية في النجف الأشرف وأستاذ الفقهاء والمهجتهدين سماحة آية الله العظمي السيّد أبو القاسم الخوئي (أعلي الله مقامه الرفيع ) علي ما نقل عنه قدس سره في صحيفة جمهوري اسلامي الايرانية عدد الاثنين 1372/9/1 ه. ش.

. به } !لها

اجازاته في الاجتهاد والرواية :

حاز المؤلف العلامة (أعلي الله مقامه الشريف) علي اجازات الاجتهاد

والرواية من عدّة من فحول العلم والرواية من الفقهاء والمحدّثين هم :

1- آية الله العظمي الشيخ محمد حسين النائيني قدّس سرّه .

2 - آية الله الشيخ علي القمي . قدّس سرّه

3 - آية الله المحدث المؤرخ الشيخ عباس القمي . قدّس سرّه

4 - آية الله العظمي السيّد حسين البروجردي و . قدّس سرّه

5 - آية الله العظمي السيّد محمد حجت (الحجة) . قدّس سرّه

6- آية الله ميرزا علي أصغر الملکي با . قدّس سرّه

7- آية الله السيّد حسن الصدر .قدّس سرّه

وغيرهم من الأعلام والمشاهير .

أبرز ملامح العلّامة :

أولاً : حبّه ومودّته وتعظيمه الذي لا يوصف لأهل بيت العصمة والطهارة

ص: 33

سيّما لمولانا وسيّدنا أمير المؤمنين وسيد الوصيين علي بن أبي طالب وسيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء عليهما وعليهم أفضل صلوات المصلين من الأولين والآخرين بعدد نجوم السماء وذرات الفضاء وحبّات التراب والرمال وقطرات مياه البحار والأنهار وعدد ما أحصاه کتاب الله وأحاط به علمه.

وقد سأله ذات مرة بعض تلاميذه عن الحديث المروي عن الإمام جعفر الصادق صلوات الله وسلامه عليه ان «من عرف فاطمة حق معرفتها فقد أدرک ليلة القدر» کما روي في تفسير فرات الکوفي، فأجاب العلامة قدس سره ما المانع أن يتلقي الانسان حقائق بصورة انزالية دفعية، يتلقاها بعالم روحانيته وعصمته ولتعلقه بملکوت العالم يتلقي الآيات طبقا للوقت المناسب واقتضاء المصلحة فيصير تنزيلياً ؟

ثانياً: شدّة التوسل والتمسک بأهل بيت العصمة والطهارة عليهم الصلاة

والسلام

کتب في مقام الردّ علي شبهات الأعداء والمغرضين عندما وجّهوا سهام حقدهم وجهلهم وعنادهم إلي زيارة العتبات المقدسة والتوسل بالعترة الهادية عليهم صلوات الله والملائکة والناس أجمعين : أن زيارة هذه القبور والتوسل بأصحابها ، إلي الله ، ثابتة بالشرع واليقين وان الترغيب في ذلک ودعوة الناس وحضورهم عند هذه المراقد وتمسکهم بهذا الحبل المتين والعروة الوثقي من أشد القربّات إلي الله تبارک وتعالي ولها آثار معنوية روحانية عظيمة لا يدانيها في الأجر والثواب والفوائد الدينية والدنيوية شيء ولا عمل من الأعمال، وليس غرض الزائرين واللائذين والمتمسکين بهذه القبور. إلّا التقربّ إلي الله تبارک وتعالي وامتثال أوامره و تعظيم شعائره، لا يريدون بذلک أن يتخذوا صاحب القبر معبوداً من دون الله تعالي ولا شريکاّ في ملکه وملکوته وسلطانّه وخلقه و أمره کلا ، فإنّ زيارتهم لهذه القبور

ص: 34

تعظيم لشعائر الله تعالي وتقبيلهم للضريح والأضرحة والجدران والأبواب من لوازم محبتّهم لأولياء الله ومودتهم لهم، فکيف للمرء أن يري ويتلو ما صرح به القرآن الکريم من لزوم محبة أهل بيت الرسالة وموضع النبوة في قوله تعالي : (قل لا أسألکم عليه أجراً الّا المودة في القربّي)(1)

ثم لا يعمل بلوازم هذه المودة وهذه المحبة التي جعلها الله تعالي أجرأ لرسالة رسوله الکريم صلي الله عليه و اله وفريضة علي کل مسلم ومسلمة، وأن التوسل بهم وطلب الحوائج منهم لأنهم أبواب رحمة الله ووسائط برکاته وخبراته علي الخلائق(ولو أنهم اذ ظلموا أنفسهم جاؤک فاستغروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله تواباً رحيماً)(2)

ورسول الله حيُّ «من زارني بعد مماتي کمن زارني في حياتي» واذا کان الشهداء أحياء عند ربّهم يرزقون شهداء علينا فالرسول وعترته صلي علي عليه و اله له أحياء بطريق أولي يسمعون کلامنا ويشهدون مقامنا ويردّون سلامنا، وهذا التوسل وطلب الحوائج إلي الله عين التوحيد لا شرک فيه ولا تشوبه شائبه.

ثالثاً : مواظبته الدائمة علي زيارة العترة الطاهرة عليهم آلاف التحية والثناء،

والارتباط المستمر بهم سيما في مواليدهم ووفياتهم، وعلي الخصوص في مصاب سيدة النساء وابنها المظلوم المقتول سيد الشهداء عليهما أفضل الصلاة وأتم التسليم. من ذلک أنّه لما قيل له أن توسعة حرم سيد الشهداء عليه السلام سيؤدي إلي هدم قبور بعض العلماء ومحوها، أجاب قدّس سرّه : لا بأس، فانّ الحرم الشريف لا بد أن يتسع ويتجّدد، إذ لم تتحقق کرامة ولا بلغ أحد مرتبة علمية أو معنوية ولم يصب أحد خيراً إلّا من هذا الحرم الشريف أو بالتوسل بصاحب هذا الحرم الشريف صلوات الله عليه . کان مواظباً علي حضور مجالس سيد الشهداء عليه الصلاة والسلام، لا ينقطع عنها،

ص: 35


1- الشوري: 23.
2- النساء : 64.

وينقل عن السيّد الرقعي ان العلّامة قدّس سرّه کان يواظب علي حضور مجلسهم السنوي الذي يُعقد من 10 - 13 محرم طيلة حياته ويتخذ لنفسه مکاناً متواضعاً من المجلس ، کما کان يقول قدس سره فيه أن اللافتات والأقمشة السوداء المعلقة في المجالس والحسينيات ستشفع لنا عند الله تعالي يوم الحساب . کان قدّس سرّه له شديد الحزن ودائم الکآبة وکثير البکاء والندبة علي مولانا سيد الشهداء صلوات الله وسلامه عليه حتي کان لفرط حزنه وعويله وبکائه لا يتمالک نفسه فترتعد فرائصه ويرتفع أنينه وضجيجه ويعلو صوته الذي کان خفيا في جميع الأحوال.

ثم أنّه لم يعطّل درساً ولا توقف عن مطالعة وکتابة و تأليف و بحث و تحقيق في العلوم والمعارف إلّا في مصابهم أو مواليدهم عليهم أفضل الصلاة وأتم التسليم . وکان من عادته أيضاً حضور مثل هذه المجالس التي کانت تنعقد أسبوعياً أيام الجمعة والتعطيل.

ينقل عن صهره و تلميذه آية الله الشهيد قدوسي أن العلّامة قدّس سرّه کان يواظب علي قراءة زيارة عاشوراء سيما في شهري محرم و صفر دون انقطاع وکان ذا اهتمام خاص بزيارة الجامعة الکبيرة لا يصّده عن المواظبة علي قراءتها شيء ولا يشغله عنها أمر من أمور الدنيا .

اذا ذکر عنده رسول الله صل الله عليه واله أو أحد أهل بيته الکرام عليهم الصلاة والسلام تغير لونه وظهرت علي سيماه آثار التواضع والأدب في المقام وشدة التعظيم والتکريم للائمة الأطهار عليهم أفضل الصلاة والسلام، لا سيما مولاتنا فاطمة الزهراء سيدة النساء عليها آلاف التحية والثناء و مولانا الحّجة المنتظر صاحب العصر والزمان أرواحنا لتراب مقدمه الفداء وعجل الله تعالي فرجه الشريف ، وکان رحمه الله يري للصديقة الطاهرة مقاماً فوق تصور العقول ومدرکات الأفکار ومقاماً

ص: 36

و منزلة ملکوتية لا يُبلغ مداهما ولا تُدرک حقائقهما، وهکذا کان يري ويعتقد هذه المنازل والمقامات لهم جميعاً.

وکان محيطاً بسيرة النبّي صلّي الله عليه و آله الاطهار عليهم الصلاة والسلام ملمّاً بجزئياتها، مهتمّاً غاية الاهتمام بهذه السيرة العملية والعلمية منها، سيرتهم الفعلية والقولية والتقريرية، لاعتقاده الجازم آن سير تهم حجة علينا جميعاً وطريق إلي سعادتنا وکمالنا ورشادنا.

کان رحمه الله مجدّاً مداوماً في زيارة المراقد المشرفة، لا يمنعه عن زيارتها ولا يحوله دون الوصول اليها شغل من مشاغل الدنيا حتّي السُّقم والمرض. فلم يتوقف عن زيارة مولانا الامام الرضا صلوات الله وسلامه عليه في الفترة الأخيرة من عمره الشريف رغم کلّ ما حلّ به من أسقام وما أعياه من شدة المرض والضعف، ولم يکتف بذلک حّتي کان يشقّ صفوف الزائرين ليستلم الضريح المبارک بنفسه هذا في الوقت الذي کان قد نهاه الطبيب عن مثل هذه الأعمال، إلّا أنّه کان يقول قدس سره وهل هناک مکان يلوذ به المرء ليشفي عليله ويروي غليله سوي هذه البقاع ؟! وکانت زيارة السيّدة کريمة أهل البيت فاطمة المعصومة عليهم السلام من أعماله اليومية التي لا تکاد تتقطع حتي في أسوأ الظروف والحالات، خصوصاً في شهر رمضان المبارک حيث کان لا يفطر ولا يفکُّ صيامه إلّا بعد زيارة هذه الکريمة وتقبيل ضريحها المبارک. ثم انّه کان يستعين کثيرا في طلب العلم وحل المسائل والمعضلات العلمية والفلسفية بأرواح أهل بيت العصمة والطهارة عليهم أفضل صلوات المصلين، ويتوسل بهم إلي الله عزوجّل في قضاء کل حوائجه لا سيما حوائجه العلمية، وکان الواجب تبارک وتعالي يفتح له أبواب رحمته ، ويکشف عما خفي عليه وصعب عليه إدراکه من المسائل والقضايا العلمية التي کان قدّس سرّه له بصدد البحث عنها ورفع الغواشي عن مکنون حقائقها.

ص: 37

ولما سُئل الشهيد مطهري قدس سرّه عن سر حبّه الکبير لاستاذه العلامة وشدة تعلّقه بشخصه وتأثره بشخصيته ؟ أجاب لم يکن ذلک لغزارة علمه وعمق فلسفته ولا لأنه أستاذي ، بل لما رأيت منه من شدة تعظيم لمقام أهل بيت العصمة والطهارة صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وعظيم تمسّکه بحبلهم المتين واللوذ بهم واللجوء اليهم .(1)

ص: 38


1- مصادر حياة المؤلف : 1- عمدة الطالب في أنساب آل أبي طالب، للطالبي الحسني. 2- طبقات النسابين، لأبي بکر زيد. 3- سر السلسلة العلوية ، لأبي نصر البخاري . 4 - مقاتل الطالبيين ، لأبي الفرج الأصفهاني . 5- لسان الميزان ، لابن حجر العسقلاني. 6- أعيان الشيعة، للسيد محسن الأمين .قدّس سرّه 7- شهداء الفضيلة، للعلامة الأميني 8- مهرتابان، للعلامة السيّد محمد الحسيني الطهراني تة (بالفارسية). قدّس سرّه 9- رياض الجنة ، للعلامة الزنوزي. 10- جرعه هاي جهانبخش، غلامرضاگلي زواره (بالفارسية). 11- شرح حال علامه طباطبائي ، بقلم العلامة قدس سره (بالفارسية). 12- نامه ها برنامه ها، للعلامة حسن زاده آملي (بالفارسية). 13 -نور وملکوت قرآن، للعلامة الطهراني قدس سره (بالفارسية). 14 - طبقات اعلام الشيعة، لآغا برزک الطهراني .قدّس سرّه . 15- تفسير الميزان للعلامة الطباطبائي قدّس سرّه 16 - ومجموعة مقالات وکلمات للعلماء والأساتذة في الصحف والمجلات والمنتديات .

مقّدمه في الفلسفهو تاريخها

1- يعتقد المؤرخون أن أقدم المجموعات والقضايا الفلسفية الصّرفة أو الغالبة ظهرت في حوالي القرن السادس قبل الميلاد عند حکماء اليونان، ويذکرون أسماء للعلماء والفلاسفة والّذين بدأوا يبحثون عن الوجود وبدء العالم ومنتهاه ، والّذين قدموا تفاسير ونظريات مختلفة متعددة عن ظهور الموجودات وحالاتها.

2- علّلوا ظهور هذه الحرکة الفکرية والطفرة العلمية الفلسفية التي هي أصل کل العلوم وأساس انطلاقها و انفجارها وتطورها ، بوجود أجواء سياسية واجتماعية آمنة مستقرة ونوع من العدالة الاجتماعية الکفيلة بالحريات الفکرية نقضاً وابراماً وطرحاً ومطارحةً، وبحثاً وانتقاداً، التي مهدت بساطاًوثيراً وأرضيةً خصبةً لنمو تلک الأفکار وتطورها.

3- کما أنهم ذکروا في القرن الخامس قبل الميلاد ظهور مفکرين وعلماء وحکماء أنکروا وجود الثوابت والحقائق الثابتة بل منعوا امکان معرفة شيء علي نحو الجزم واليقين وأن کل ما حول الانسان ليس إلّا خيالاً في العقل الانساني ، وان لا شيء يوجد ولا حقيقة توجد وراء الفکر الانساني وخارج نطاق مخيلته وتصوراته الذهنية ، وأطلق علي هؤلاء فيما بعد تسمية تتناسب وشأنهم وهسي السوفسطائيون وسُمّيت فکر تهم هذه بالسفسطة ومذهبهم بالمذهب السوفسطائي . ثم ان هذه التسميات و المصطلحات وان کانت بمعني الحکماء والحکمة والحِکمي، إلّا أنهم استعملوها في غير ما وضعت له بل في ما يناقض المعني الحقيقي الموضع

ص: 39

له، واشتهروا بذلک علي مر القرون والأعصار.

4- حتّي ظهر افلاطون الحکيم اليوناني الشهير الذي لمع اسمه من بين الأسماء حتّي يومنا هذا، متصديا لهؤلاء المغالطين السوفسطائيين مسمّياً بفيلاسوفس أي محب الحکمة والفلسفة ومن هنا ظهرت کلمة الفلسفة وهي المعربّة من فيلاسوفس او غيلاسوفيا التي تقابلاً کلمة السفسطة والسوفسطائي ، نقاب؟ استعمالية لا وضعية وان أصبحتا فيما بعد حقيقة في معانيهما الحديثة لکثرة الاستعمال ، وذلک أنا نجد أن لفظ السفسطة لا يتبادر منها عند الاطلاق إلّا المغالطة خلافاً للفلسفة التي أصبح لا يتبادر منها إلي أذهاننا عند الاطلاق إلّا الحکمة والتعقل السليم من غير حاجة إلي القرينة أصلاً بل أصبح استعمالهما بمعناهما الموضوع لهما يحتاج إلي القرينة ، والأول دليل الحقيقة والثاني دليل المجاز.

5- ثم أتبعه تلميذه ارسطو، الذي لم يأل جهداً في تثبيت دعائم الفلسفة

ومبانيها، و ترتيب اسسها وتنظيمها والعناية ببسط حقائقها ونشرها.

- وعلي خطي استاذه افلاطون مضي العبقري اليوناني ارسطو بادلاً أقصي جهده في هذا السبيل وان خالف الاستاذ حتّي صار لکل منهما مذهب فلسفي خاص، وطريقة خاصة يعالج بها کل ما يتعلق بالوجود المطلق وما يتعلق بالموجود بما هو موجود و نظريات و آراء بعضها علي طرفي نقيض من صاحبه في تفسير العالم والکائنات.

7- لکن ارسطو هذا العبقري العظيم زاد علي استاذه و تقدم عليه في هذا المجال حيث بلغ بالفلسفة ذروتها، وذلک بوضع مقدمة لا غني عن الفلسفة والفيلسوف عنها بل تعتمد الفلسفة اعتمادا تاماً عليها، أعني قواعد لطريقة التفکير والاستدلال سميت بعلم المنطق الذي صار عمدة العلوم العقلية إلي يومنا هذا.

8 - الفلسفة بمعناها الأعم واطلاقها الذي ظهر في تلک الآونة والعصور

ص: 40

اطلاق عام شامل لکافة العلوم والفنون والصناعات الحقيقية کالطب والنجوم وعلم الفلک والهيئة والرياضيات والکيمياء والفيزياء والإلهيات .

9. وهذه العلوم الحقيقية اما علوم نظرية کالطبيعيات والرياضيات والإلهيات، وأما علوم عملية تطبيقية تجريبية ، کالأخلاق، وتدبير المنزل وسياسة المدن.

10 - ثم أن لکل علم من العلوم النظرية أقساماً علي حدة، فمثلا تشتمل الطبيعيات علي علم الحيوان والنبات والمعادن وعلم معرفة الکائنات والأکوان والأفلاک.

11 - وعلم الرياضيات ينقسم إلي الحساب والهندسة والموسيقي والهيئة .

12 - وعلم الإلهيات ينقسم إلي علم ما بعد الطبيعة وهو العلم الذي يبحث عن المباحث الکلية للوجود، والذي يبحث أيضاً عن واجب الوجود ومعرفة الصانع الحکيم والخالق العليم

13 - استمر هذا النشاط العلمي في اليونان بعد ارسطو واستاذه افلاطون،

وحافظ علي هذا التراث العلمي المبتکر المتأثر بالتراث العلمي والحضاري الشرقي في بعض جوانبه ، حافظ عليه اتباع هذين العَلَمين والعبّقرين ، بالبحث والتحقيق والتدريس والتأليف والبسط والنشر، لکنهم لم يؤسّسوا مذهباً جديداً، بل انحصرت جهودهم العلمية واجتهاداتهم الفکرية في اطار ما حدّده العلّمان افلاطون وأرسطو باسم المذهب الاشراقي الأفلاطوني والمذهب المشائي الارسطوئي.

14 - لکن هذه الحال لم تدم في بلاد اليونان مهد العلوم والعلماء والحضارات بل انتقل هذا الصَّرح الشامخ إلي مدينة الاسکندرية القديمة قبل ظهور سيدنا المسيح عليه السلام وقربّ مولده الميمون، حتّي صارت هذه المدينة مرکزاً علمياً هاماً تلتقي فيها حضارة الشرقاً والغربّ وتنبعت منها نور العلم لتملاً العالم شرقاً

ص: 41

وغربّاً حتّي القرن الرابع الميلادي - أي بعد مولد سيدنا المسيح عليه السلام -.

15 - لم تدم هذه النعمة کثيراً، حيث انتشرت المسيحية في القرن الرابع الميلادي، وبدأ القساوسة والرهبان ورجال الدين المسيحي يحاربّون الأفکار العلمية والنظريات الفلسفية ويعدونها امورة منافية للأديان السماوية ورسالات الأنبياء، لأنها تغزو الطبيعة وما ورائها بسلاح العقل الذي لا محّل له من الاعراب في هذه الأمور - علي حّد زعم رجال الکنيسة ورهبانّها - .

16 - في القرن الخامس الميلادي تم اغلاق الجامعات والمدارس والحوزات العلمية في أثينا والاسکندرية وتم تفريق العلماء والفلاسفة والمفکرين فهربّ من هربّ واعتقل من اعتقل وقتل من قتل منهم، وانتهت سيادة العلم وخمد مشعل النور في هذه البلاد وسائر البلاد ولم يجد أهل العلم موطئاً آمناً ولا مرکزاً، مطمئناً يضعون فيه رحلهم ويُروون به ظمئهم ويشفون من غليلهم يمّدون عبره جسور هم.

17 - وهکذا استمرت الأوضاع متردية، والجهل مستفحلاً، والظلام الدامس ناشراً خيوطه البغيضة في أرجاء المعمورة، وکانت الکتب العلمية والرسائل الفلسفية والتراث الذي ترکه الاعلام تنهال عليها التراب وتأکلها الديدان والحشرات بين أرفف المکتبات الخاصة السرية والمتاحف الأثرية والمخابيء والملاجيء والسراديب تحت الأرض وفوقها، حتّي رأت النور مرة اخري ببرکة الاسلام في العهد الأموي وبلغت قمتها في العهد العباسي.

18 - نعم لم يکن بنو أُمية ولا بنو العباس ممن يعتني بشؤون الدين ولا ممن يهتمون بالعلم والمعرفة ونشر الفضيلة والکمال بل قامت حکوماتهم علي القتل والظلم والأضطهاد، وکان عماد أنظمتهم محاربّة الدين وتمزيق الاسلام والمسلمين ، وکان ديدنهم الاطاحة بأئمة العدل والعلماء الصادقين والتنکيل بمن يدخل البيوت من أبوابها، ولمّا وجدواأن تلک الطرق والأساليب القسرية القهرية لم تأت ثمارها

ص: 42

بل أصقلت أهل الحقّ وفضحت أهل الباطل وسلاطين الجور وطغاة الأرض وما زادتهم إلا خيبةً وخسراناً، رأوا في بعض الاعصار والعهود ان يضيفوا إلي جرائمهم جريمة اخري ظاهرها فيه الرحمة وباطنها من قبله العذاب.

أعني أنهم وجدوا في علوم اليونان و فلسفتها سلاحاً جديداً يحاربّون به ائمة الهدي ومصابيح الدجي من أهل بيت رسولنا المکرم صلي الله عليه اله ، وفي الوقت ذاته يغطي تبعاتهم ويسدل علي شيء من جرائمهم.

19 - هذه الحرکة وان جاءت من العدو قاصداً بها العلماء الصادقين والأئمة المحقين الهادين المهديين إلّا أنها أثمرت خلاف ما قُصد منها ، اذ ما قصد لم يقع وما وقع لم يُقصد، مصداقا لقوله تعالي : (عسي أن تکرهوا شيئاً وهو خير لکم)(1) والمثل المعروف «جنت علي نفسها براغش» و«من حفر بئراً لأخيه وقع فيها» وهکذا، ذلک أن هذه الحرکة العدائية أصبحت سلاحاً بيد أهل الحق بحثاً وتحقيقاً وتنميةً وتطويراً وتدقيقاً، يبادرون إلي تخليتها من الزوائد والحواشي وما ليس بحق ، ثم تحليتها بما سقط في أيديهم من الحق الذي سقط من أقلام أولئک وفات أذهانّهم وأنظارهم، وأخيراً يقومون بتجليتها وتصقيلها وربّط القديم بالجديد و استنتاج ما هو اللازم.

20 - ولمّا بدأت الفلسفة تشکل خطراّ علي بعض حکام الجور حينذاک ، وأحس أصحاب المصالح الدنيئة بالخطر يداهم أجوائهم ويطرق أبوابهم، فکروا فيما ينقذهم من ورطتهم هذه فعمدوا إلي وعاظ السلاطين وفقهاء الضلال وعلماء البلاط الحاکم يستنجدونهم ويسألون العون لانقاذهم، ووجد هؤلاء في الاستشهاد بالکتاب والسنة والتوقف عند ظواهرها تارة و تفسير ظواهرها و تأويلها بتأويلات

ص: 43


1- البقرة : 216.

تؤمّن أغراضهم و تقضي بأهدافهم تارة اخري خير وسيلة للتصدي للحکماء والفلاسفة ودفع ما داهمهم من الخطر المحدق بهم من جراء نشر الفلسفة والحکمة الإلهية ، فرموا بالکفر من شاؤا وحاربّوا من حاربّوا وقتلوا من قتلوا، حتي باتت الفلسفة مقرونة بالکفر والزندقة، ومال من يميل اليها ويطلبها من مظانّها ويتعّلمها أو يعلمها القتل والحبس والتشريد. وسمّي هؤلاء بالمتکلمين وما ذهبوا اليه سمّي بعلم الکلام والعقائد الاسلامية.

21 - کان علم الکلام سلاحاً ثالثاً لمواجهة العلماء وأهل الحق، إلّا أن هذا السلاح انقلب علي صاحبه کما ينقلب السحر علي الساحر أحياناً، وکان حاله حال السلاحين السابقين، أعني ان من بين هذه الحرکة العلمية العقائدية ظهرت أفکار اسلامية قيّمة وبرز علماء في الحوزات والجامعات والمراکز العلمية الاسلامية صاروا فيما بعد وبالاً علي سلاطين الجور و فقهاء البلاط والعلماء المرتزقة ، بدقة أفکارهم ونظرياتهم الوضاءة وأنظارهم الرشيدة، فصار علماً الکلام علما قيّماً لمع نجمه في سماء العلوم والمعارف الاسلامية کفيلاً في کثير من الوجوه والجهات بحفظ العقائد والقيم الاسلامية.

22 - بدأنا بظهور الحضارة اليونانية وبروز الفلسفة والفلاسفة في اليونان،

ولکي لا يتصور القاريء العزيز ان هذه الفترة الزمنية لم تسبق بفترة زمنية تتجلي فيها مراتب عالية من العلم والفلسفة، وحتّي لا يظن أحد بأن الحضارة والعلوم والفلسفة منحصرة في مبدئها بهذه الفترة الزمنية وبهذه البقعة المکانية - أعني اليونان القديم - لابد أن نشير هنا ونصح ان هناک حضارات وظهور علوم ومنها الفلسفة والحکمة التي هي أُسُّ العلوم قبل هذه القرون والأعصار مرکزها بلاد فارس والهند وبعض البلاد والبقاع الأخري من هذه المعمورة، ولأنها کانت مسبوقة بحضارات أخري في الشرق والغربّ ذکرنا أن الفلسفة اليونانية قد تأثرت بهذه الحضارات

ص: 44

الفلسفات والعلوم

23 - لکننا لم نقدم شيئاً من تلک العلوم والفلسفات، وبدأنا تأريخ الفلسفة وجعلنا مبدأ ظهورها في هذه المقدمة الوجيزة هي فلسفة اليونان ومنذ القرن الخامس قبل الميلاد لأن المورخين لم يدوّنوا شيئاً من ذلک قبل هذا التاريخ، ولم تجد حسب استقصائنا واستقرائنا شيئاً مدوَّناً مرتباً في کتب التاريخ سوي ما ذکرناه ، نعم نعلم علماً اجمالياً لا يقبل التشکيک أنها مسبوقة بحضارات وفلسفات وصلتنا مشتتة ، ذکر قسماً منها العلامة قدس سره ا في بدايته وقد شرحناها هناک، کما سنتطرق إلي جملة من تلک النظريات والآراء في هذا الکتاب ، وأنت حين تصل إلي کتب الفلسفة المفضلة ستقرأ أکثر وأکثر عن هذه الفلسفات کما في کتب المنظومة للسبزواري قدس سره با والأسفار الأربّعة وغيرهما من کتب الفلسفة للمولي صدر المتألهين وابن سينا وهلمّ جرّا.

24 - بعد التقاء الأفکار الفلسفية لدي المسلمين بالفلسفات اليونانية والهندية واللاتينية والفارسية والسريانية والعبرية وتلاقحها وترجمة کتب هذه الأقوام والطوائف والمذاهب إلي العربّية ، شهدت المراکز العلمية في بلاد المسلمين نطورة ورقي لم يسبق له مثيل في تاريخ تلک البلاد تصديقاً لقوله صلي الله عليه و اله وسلم : « أعلم لناس من جمع علوم الناس إلي علمه» وظهر علماءُ أفذاذ وفلاسفة کبار کالفارابي وابن سينا وغيرهما حققوا هذه الآراء ونقحوها ونظفوها من الشوائب والأوهام، فأخذوا المعقول ونبذوا الموهوم، ثم قاموا بتصقيل المعقول وتجليته و تجديده و تقويمه.

20 - من أبرز الفلاسفة المسلمين ذکرنا ابن سينا و الفارابي ونضيف هنا حجة الاسلام محمد الغزالي الذي کان فقيها ثم متکلّماً ثم عارفاً ثم فيلسوفاً والفخر الرازي أمام المشککين والبغدادي ، و السهروردي مؤسس المدرسة الأشراعية في

ص: 45

الفلسفة الاسلامية علي غرار فلسفة افلاطون امام الاشراقيين اليونان(1)وهکذا خواجه نصيرالدين الطوسي والمير الداماد و تلميذه المولي صدر المتألهين الشيرازي صاحب الأسفار الذي أسس مذهباً جديداً ومدرسة ثالثة وفق فيها بين حکمة المشاء وحکمة الاشراق ونظريات العرفاء سماها بالحکمة المتعالية ، کما تقدم عليهما بعض من نقرأ هنا بعض آرائهم کالمحقق الدواني.

26 - والحاصل أن أول نظام فلسفي في العصر الإسلامي برز إلي منصة الظهور کان في عهد الفارابي وتم علي يديه ، وتکامل هذا النظام في عهد المولي صدر ، وان کان لابن سينا اليد الطولي والفضل الأکبر وحصة الأسد في تنمية هذا النظام وتصقيله وتجديده وتوسيعه.

27 - توقفت مسيرة التأسيس والتجديد والتحديث بوفاة المولي صدرا قدس سره وکل من جاء بعده من فلاسفة المسلمين کان تبعا له في مذهبه ولم يخرج إلي حيث نطاق أوسع، ولا جاء احد بمدرسة فلسفية جديدة تضاهي تلک المدارس الفلسفية الاشراقية والمشائية والحکمة المتعاليه ، بل لقيت الفلسفة في بعض الفترات اجحافاً لا تستحقه من المراکز والحوزات العلمية ، ولا نقصد الاتهام علي نحو الاطلاق اذ کان البعض محّقاً في تصّديه ، لکن حصل الظلم والاجحاف وعاد التکفير والتفسيق لأهل الفلسفة وطالبيها .

28 - واختلف الوضع في بلاد الغربّ حيث عادت اليها سيادة الکنيسة في

حوالي القرن الخامس الميلادي واستمرت طيلة عشرة قرون تقريباً - حوالي ألف عام - حتّي حوالي القرن الخامس عشر الميلادي، واقتضت سلطة الکنيسة اغلاق المراکز العلمية التي تخالف سياستها ومصالحها ومصالح الأنظمة الحاکمة وسلاطين

ص: 46


1- زعم شيخ الاشراق ان افلاطون کان سلوکياً يعتقد بالتزکية وتصفية الباطن والاشراقات النفسانية ولم يُثبت ذلک بالأدلة والبراهين .

الجور، فسميت بالقرون الوسطي.

29 - في أواسط القرن الخامس عشر سقطت سلطة الکنيسة ورجال الدين المسيحي وبدأ بذلک عهد جديد وحدثت بعض التغييرات الجذرية في الفلسفة ونظرتهم اليها، ونتج عن ذلک أولاً : زعزعة عقائد الناس الدينية وحدثت ردة فعل عنيفة تجاه رجال الکنيسة الذين مارسوا الظلم والاضطهاد بأبشع صوره تجاه العلماء والمفکرين، لم يترکوا لأهل الفکر حرية التفکير ولا لأهل البيان حرية التعبير . وثانياً : انّهم مالوا إلي العلوم الطبيعية والتجربّية بغضاً منهم للعلوم العقلية ، والحاصل أنهم شعوباً وعلماء مالوا عن الدين والفلسفة إلي المادة والتجربّة ونعني بذلک سقوط الدين والفلسفة في بلاد الغربّ، و ثالثاً : ظهر الشکّاکون وراج سوق فلسفة التشکيک .

30 دامت هذه الظاهرة طيلة قرنين حتّي ظهر في القرن السابع عشر الميلادي فيلسوف يسمي ديکارت الذي بذل جهداً حثيثاً حتّي استطاع أن يحيي الفلسفة ويخرجها من الجمود والسکون إلي الحرکة باثبات الحقائق وابطال مزاعم الشکاکين الذين شککوا في الحقائق الخارجية بأسرها وأحيوا هذا المذهب الباطل انکارا للحقائق واعتباراً للأشياء أموراً خيالية ليس لها وجود إلّا في اعتبار المعتبر لها وفي ذهن المتصور لها، فهم القائلون باعتبارية الموجودات قاطبة ونفي الحقائق قاطبة وهو السفسطة بعينها التي قال بها الأولون وأحياها هؤلاء الآخرون. ولقب ديکارت بزعيم ومؤسس المذهب الواقعي وبالرغم من مساعيه الطويلة الحثيثة عجز عن الوصول إلي الحقيقة فنفي أن يکون العقل النظري قادراً علي حلُّ مسائل ما وراء الطبيعة جميعاً وان العقل عاجز عن إدراکها الصحيح و ادراک حقائقها فهو وان جاء بفلسفة مقبولة نوعاً ما في تلک الأزمة لإحيائه القيم الأخلاقية حينذاک بيد أنه حطّم وزلزل أُسس الفلسفة الماوراء الطبيعية .

ص: 47

31- واستمرت المسيرة الفلسفية في الغربّ بين قائل بالتشکيک المطلق وقائل بنوع من التشکيک وقائل بالحقيقة المطلقة . وظهرت سفسطات ساقطة رخيصة لا صلة لها بالعلم والعلميات، بل العلوم والمعارف بريئة منها کالقول بأصالة الحس والتجربّة والذي نتج عنه فلسفة أصالة الحس والتجربّة الذي أسسها «ويليام أکامي» وأحياها «جان لاک» و «ديفيد هيوم» و «بارکلي» و هم بريطانيون جميعاً ، وکالقول بأصالة الفرد «اومانيسم» أو القول بأصالة المادة أو فلسفة «ماترياليسم» والقول بأصالة التاريخ «الديالکتيک» وهما من فلسفة کارل مارکس الانجليزي ومن قبله آثار الفلاسفة الماديين الداعين إلي الإلحاد، وما زال العالم متعطشاً إلي الحکمة المتعالية التي هي ختام الفلسفة والحکمة في قمة شموخها، وفيها يکمن السر الذي يبحث عنه عقلاء الغربّ والشرق وفلاسفتها، وفيها الاجابة الوافية عن حقيقة الوجود وما يتعلق بالوجود والموجود وما يبحث عنه الفيلسوف هنا وهناک .

32 - من المؤسف جدّاً ما ذهبت اليه بعض السفسطات الحديثة من تقابل المعارف العلمية والمعارف الفلسفية، حتّي ذهبوا إلي ان العلوم الفلسفية لا تستحق اطلاق العلم عليها ولهذا اطلقوا العلم علي العلوم والمعارف التجريبية فحسب علي نحو الحصر، وجعلوا الأصالة لهذه العلوم لأنها تقابل الفلسفة وليس لها الأصالة والحقيقة، وما يزيد المرء أسفا انتشار هذه الفکرة والتمسک بها في المجامع العلمية علي نحو الحقيقة والثبوت، وهي ما زالت کذلک لدي المثقفين العصريين، بعدما کانت الفلسفة مقارنة للعلم لا اختلاف بينهما في معناها الأعم قبل تخصيصها في العصور المتتالية ببعض العلوم والمعارف وحتّي في حالة التخصيص أيضا هناک تقارن موجود وملازمة بين المصطلحين

32 - أهم المذاهب الفلسفية قبل ظهور الاسلام هي مدرسة أفلاطون مؤسس المذهب الاشراقي و مدرسة أرسطو مؤسس المذهب المشائي، وأما بعد

ص: 48

الاسلام فإن مؤسس الاشراق الاسلامي والفلسفة الاشراقية علي ضوء المباني الاسلامية هو المرحوم الشيخ شهاب الدين السهروردي من فلاسفة القرن السادس الهجري القمري وان کان يتبع في أصول مبانيه مدرسة افلاطون لا يختلف عنها کثيرة، کما أن مؤسس المذهب المشائي في الاسلام والمشاء الاسلامي يعد المرحوم شيخ الرئيس ابن سينا وان کان يتبع أيضا في الأصل مدرسة ارسطو، وظهرت مدرسة جديدة ومسلک ومذهب جديدين في القرن الحادي عشر الهجري القمري هي مدرسة صدر المتألهين قدس سه وسميت بالحکمة المتعالية التي کان لها الحظ الأوفر في القرون الأخيرة في اقبال الحوزات والمراکز العلمية وحل المعضلات العلمية والعقائدية ، وهي خلاصة أربّعة مسالک للمعرفة وکشف حقائق عالم الوجود ونقطة التقاء بين هذه المسالک الأربّعة و ذلک بالجمع بين وجوه الفرق بينها والأخذ بما يصح منها ونبذ ما لا يصح، وهي مسلک الاشراق ومسلک المشاء القديم منها والحديث إضافة إلي مسلک العرفان الذي ظهر في الاسلام و مسلک المتکلمين الاسلاميين ، وهذان المسلکان مختصان بما بعد بسزوغ فجر الاسلام. فطرق الاستدلال قبل الاسلام تقتصر علي الاشراق والمشاء وبعده تزيد لتصبح اشراقاً اسلامياً ومشاء اسلامياً و عرفاناً اسلامياً وکلاماً اسلامياً وحکمة متعالية التي جمعت بينها جميعاً وأضافت اليها ما لابد منه.

34 - هناک فوارق عديدة بين المذهبين الاشراقي والمشائي اهم هذه الفوارق بل الفارق الجوهري بينهما ان الاشراقيين لا يرون للعقل قدرة مستقلة لمعرفة المسائل والقضايا الفلسفية ، وأن العقل عندهم قاصر بوحده عن بلوغ هذه الغايات ، بل لابد أن تضم إلي الاستدلال والتفکر العقلي مجموعة من السلوکيات القلبية والمجاهدات النفسانية حتّي يحصل لنا التوفيق والقدرة علي کشف الحقائق وحل المعضلات العلمية والفلسفية، خلافاً للمسلک المشائي الذي يکتفي بالاستدلال

ص: 49

والبرهان والتفکرات العقلانية المحضة ويري أصحابها ان العقل بوحده کفيل بکشف جميع الحقائق وحل کافة تلک المعضلات.

والحاصل أن فلسفة المشاء تعتمد علي التعقل والتفکر - العقل والبرهان - في حل المسائل وفک معضلات العلوم من غير اعتناء ولا اهتمام بالمذاهب والأديان والوحي السماوي، بينما تعتمد فلسفة الاشراق في بحثها وتحقيقها عن أحوال الموجودات و کشف خواصها وحل معضلات العلوم علي تزکية النفس والروح وذلک انّهم يعتقدون أن طريق التوصل إلي الحقائق يعتمد علي ذلک، اذ الروح الانسانية بمنزلة مرآة تعکس العلوم والمعارف و تدرک الحقائق وکلما کانت المرأة انظف وأصفي وأشد صيقلة وأکثر شفافية کانت القدرة علي جذب الأنوار والحقائق والصور النورية وانعکاسها أکبر ، وان بالتخلص من الموانع والشوائب والذنوب والآثام تزداد النفس تقربّ من منبع الفيض السماوي الإلهي وبالتالي تصبح قابلة لتلقي المعارف الحقة والحقائق المجردة.

36- أول من نسب افلاطون إلي مذهب الاشراق وعدّه مؤسساً لهذا المسلک الفلسفي هو شيخ الإشراق السهروردي في کتابه «حکمة الاشراق»، ولهذا تردد البعض في صحة هذا المدعي حتي أنکره بعض المتأخرين ونفي أن يکون افلاطون قائلا بالاشراق وسالکاً طريق المجاهدة ورياضة النفس والمشاهدات والاشراقات القلبية.

37 - هناک جمع غفير من الفلاسفة المسلمين الذين يتبعون مدرسة المشاء منهم الکندي والفارابي ، وابن سينا و الميرالداماد - استاذ صدر المتألهين - وابن رشد الاندلسي وخواجه نصير الدين الطوسي وممن سلک مذهب الاشراق بعد شيخ الاشراق السهروردي هو قطب الدين الشيرازي الذي يعد من أعاظم هذه المدرسة حقاً.

ص: 50

38 - يعتقد انصار واتباع ومؤسسوا مدرسة العرفان أن الغاية هي الوصول إلي الحقيقة لا مجرد کشف الحقيقة ، وهذه الغاية لا تتحقق إلّا بالتصوف الحقيقي و تصفية الباطن والسلوک إلي الله تعالي ، فلا مجال للاستعانة بالعقل أو الاتکال عليه ولهذا المسلک کثير من الاتباع کالحسين الحلاج وذو النون المصري وأبي يزيد البسطامي والشبلي وخواجه عبدالله الأنصاري ومحي الدين بن العربّي الأندلسي وابن الفارض والمولوي الرومي صاحب المشنوي المعروف.

39 - ويعتقد المتکلمون خلافاً للعُرفاء أن الحقائق لا تنکشف إلّا بالاستدلال العقلي والبرهان والتفکر القائم بالعقل ويختلفون عن المشائين والفلاسفة جميعاّ في مسألة الحسن والقبح، حيث خصها الفلاسفة بالجدليات وأخرجوها عن دائرة البرهان والاستدلال ، بينما هي من أصول الاستدلال عند المتکلمين.

.4 - انقسم المتکلمون إلي اشاعرة ومعتزلة، وکثر الخلاف بين الفريقين حتّي في مسألة الحسن والقبح ، فقالت الأشاعرة أن الحُسن والقبح شرعيان وقالت المعتزلة أنهما عقليان.

41- وجوه الاختلاف بين العارف والفيلسوف والمتکلم أن الفيلسوف لا يحّدد لنفسه هدف معينة ولايؤطر نفسه باطار مذهبي معين أو ديني ، ولا يقيد بحثه و تحقيقه بطريقة معينة ولا سلوک محدود، بل يبدأ عمله مطلق العنان، يبحث عن الحقيقة خارج الحدود والقيود ، خلافاّ للعارف والمتکلم فإنهما يشرعان في البحث والتحقيق مقيدين بقيود دينية ومذهبية، يبحثان عن الحق والحقيقة في تلک الدائرة، فالهدف عندهم محدّد تم تعيينه من قبل.

62 - ويختلف العارف عن الفيلسوف المشائي أيضاً باعتماد الأخير علي البرهان والعقل وامتناع الأول عنه، ورفضه للعقل والبرهان والاستدلال قاطبة. کما يختلف المتکلم عن الفيلسوف الاشراقي أيضاً بجمع الأخير بين الاستدلال

ص: 51

والبرهان والعقل مع الاشراقات النفسانية والرياضات الروحانية ، بينما يقتصر المتکلم علي الأول علي ضوء الکتاب والسنة. ويختلف العارف والمتکلم في اعتماد الأول علي محض الاشراق والثاني علي محض العقل والبرهان

43 - لعلم الکلام مذاهب ثلاثة : مذهب الأشاعرة والمعتزلة والشيعة ، فرئيس الأشاعرة ومؤسس هذا المذهب هو الشيخ أبو الحسن الأشعري، وله أتباع أشهرهم القاضي أبو بکر الباقلاني والغزالي والفخر الرازي والجويني. ومن أشهر متکلمي المعتزلة النظام والجاحظ والعلاف والزمخشري.

کما أن زعيم المتکلمين الشيعة ومؤسس الکلام الشيعي هو هشام بن الحکم - رضوان الله عليه - وأبرز قادة هذه المدرسة هم الشيخ المفيد والسيّد المرتضي و خواجه نصير الدين الطوسي - أعلي الله مقامهم الشريف - .

44 - جمع ابن سينا رحمه الله حکمة المشاء في تصانيف عديدة کالشفاء والنجاة والاشارات والمبدأ والمعاد وعيون الحکمة والتعليقات والمباحثات. کما أن أشهر کتب الاشراق هي حکمة الاشراق للسهروردي. وأشهر کتب العرفان الفتوحات المکية لابن العربّي والمثنوي للمولوي وهو ديوان شعر مفضل باللغة الفارسية و ديوان حافظ بالفارسية أيضاً وکتب أخري عديدة. ويعدُّ شرح التجريد للخواجه نصير الدين الطوسي من أرقي وأکمل الکتب الکلامية علي المذهب الشيعي کما أن کتب الجاحظ والنظام والزمخشري ابرز کتب المتکلمين من المعتزلة وکتب أبو الحسن الأشعري والباقلاني والغزالي والفخر الرازي من أشهر وأبرز کتب الأشاعرة.

45 - أما الحکمة المتعالية التي وضع أُسسها وجمع مسائلها وبني بنيانّها المولي صدرا الشيرازي - المتوفي عام 1050 للهجرة - فهي التي تدور حوله مباحث کتابنا هذا الموسوم بنهاية الحکمة وفي الحقيقة هذا الکتاب خلاصة لأفکار

ص: 52

المولي صدراً قدّس سرّه في أسفاره وسائر تصانيفه مع بحث و تحقيق و تنقيب واضافات من سيدنا العلامة - قدّس الله نفسه الزکية - ، وهذا السلوک أو المسلک الذي سمّاه صاحبه بالحکمة المتعالية اسم علي مسمي فهو حکمة متعالية حقاً، وأبرز ملامحه انّه اشراقي المسلک والطريقة - أعني يبتني علي الاستدلال والمکاشفة معاً - وان اختلف عنه في أصوله و مبانيه و طريقة الاستدلال والتبرهن والاستنتاج وتلاحظ هذا المدعي في کتبه الشهيرة بوضوح، کالأسفار الأربّعة، والعرشية ، والشواهد الربّوبية ، والمبدأ والمعاد وهکذا منظومة السبزواري قدس سره .

46 - الفلسفة والحکمة بمعناها العام أمّا حکمة استدلالية تعتمد علي القياس والبرهان وأما حکمة ذوقية اشراقية تجمع بين حکم العقل والمکاشفات النفسانية وأما حکمة تجريبية تعتمد علي الحس والتجربّة وأما حکمة جدلية تعتمد المشهورات أو المقبولات - علي نحو ما في کتب المنطق -.

67 - اقتصر الحکماء والفلاسفة في استدلالاتهم علي البديهيات الأولية

وقامت مقدمات استدلالهم علي البديهيات دون المشهورات والمقبولات، بخلاف المتکلمين الذين اعتمدوا علي المشهورات في استدلالاتهم ولهذا سمي الکلام حکمة جدلية، وقد نجح خواجه نصير الدين الطوسي (أعلي الله مقامه الشريف) في تنقيح الکلام واخراجه من إطار الحکمة الجدلية وجعله جزءا من الفلسفة الاستدلالية باضفاء صبغة الاستدلال بالبديهيات عليها، وأخرجها من کونها جدلية إلي کونها استدلالية برهانية بمقدمات بديهية ، وهذا يتضح جداً بمراجعة کتابه الشهير (تجريد العقائد).

ومن معايب الحکمة التجربّية أنها عاجزة عن حل جملة کبيرة من المسائل الأساسية المتعلقة بالحياة وهي لبُّ مسائل الوجود أعني مسائل ما وراء الطبيعة والميتافيزيقا کالمسائل المتعلقة بمبدأ الوجود والعالم ومنتهاه ، ومبدأ العلل، وکثيرة

ص: 53

هي المسائل العقلية البحتة، لخروجها من دائرة الحس والتجربّة.

68 - مرت الفلسفة في حوزاتنا العلمية بظروف لا تحسد، حيث أنها لقيت سوء فهم من البعض بلغ حدّ المواجهة الصريحة والتصدي الصارخ بالتحريم والتکفير أو الأعراض والصدود. وعلي النقيض من هؤلاء أفرط أنصار الفلسفة وطلابها بعض الحين في کيفية المواجهة والدفاع عن المسائل والقضايا المتعلقة بالفلسفة بل في الدفاع عن الفلسفة ذاتها، کاد أن يجعل أنظار الفلاسفة أساطير تبلغ حدّ العصمة من الزلل، ويجعل محتويات الکتب الفلسفية حقائق لا تقبل الطعن بل لا يجوز نقدها ونقضها والرد عليها رغم ما فيها من التناقضات والأخطاء الفاحشة أحياناً. ولولا بعض أساتذة الفلسفة في القرن الأخير لضاع أکثر العلوم أهمية وأعظمها مطلباً وأدقها مسائل ، بين افراط المحبين الغالين و تفريط المبغضين القالين ، فلهم الحظ الأوفر والسهم الأکبر في حفظ اللب اللباب من التلف والضياع.

49 - من أبرز الفلاسفة الغربّيين الذين لمع نجمهم في سماء المدارس الغربّية وجامعاتها في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر الميلاديين يمکن تسمية «کانت» وبعض أتباعه من ألمانيا التي اعتبرت حينذاک مهدا للعلوم الفلسفية مثل «فيخته» التلميذ المباشر لکانت، ومثل «شيلينغ» و «هيغل» وسميت فلسفتهم بالمثالية العينية بدأ بتأسيسها «کانت» وأکمل قواعدها وأُصولها حتي جعلها نظاماً فلسفياً متکاملاً يعتمد علي العقل وأحکامه. «آغوست کنت» من فرنسا الذي اشتهر باب علم الاجتماع» مؤسس الفلسفة التجربّية الخاصة التي بلغت حّد الافراط في إنکار کل المفاهيم والمعارف والعلوم والحقائق والقضايا والموجودات الماوراء الطبيعية بل عدها ألفاظا وأهية موهومة، وأنکر کل حکم للعقل، من أشهر أنصار هذا المذهب

يمکن تسمية «راسل» و «وينغنشتاين» و «کارناب». .

يمکن أن نعدّ من هؤلاء الفلاسفة البارزين علي نحو الاجمال والاکتفاء

ص: 54

مقدمة في الفلسفة وتاريخها .. بالاسماء رعاية للاختصار «کيغارد» الدانمارکي و«مارکس» اليهودي الالماني و «هوسرل» و «هايدغر» و «پاسپرس» من المانيا أيضاً و «ويليام جيمز» الأمريکي و «فوغت» و «بوخنر» و «ارنست هکل» و «انجلز» و «فويربّاخ» و «سارتر». .

50 - الفلسفة اسم عام کان يطلق علي العلوم الحقيقة مطلقاً وهي - أعني العلوم الحقيقية غير الاعتبارية وقد سميت بما قبل الطبيعة أو ما وراء الطبيعة والطبيعيات - تنقسم إلي علوم نظرية وعلوم عملية تطبيقية ، والنظرية عبارة عن الرياضيات والإلهيات و الطبيعيات، والعملية عبارة عن علم الاخلاق وعلم تدبير سياسة المدن وعلم تدبير المنزل ومنها علم النفس والاجتماع وما أشبه.

ثم ان الرياضيات عبارة عن الحساب والهندسة والموسيقي والهيئة، والإلهيات تنقسم إلي العلم بالأحکام الکلية للوجود، ومعرفة الصانع الحکيم والواجب تبارک وتعالي ، کماان الطبيعيات تبحث عن الأحکام الکلية للأجسام والمعادن والحيوانات والنباتات والأفلاک.

51 - کانت مباحث الطبيعة أو الطبيعيات تتصدر مباحث الکتب الفلسفية ، تتبعها المباحث الکلية للوجود وهي ما وراء الطبيعة أو الأمور العامة حسب ما ورد في کتب الفلاسفة الاسلاميين وهي من اطلاقات العصر الاسلامي وخصائصه ، حتي تم دمج المباحث الکلية للوجود - الامور العامة - بمباحث معرفة الواجب تعالي - الإلهيات بالمعني الاخص - ، ثم اطلقوا عبارة «الإلهيات بالمعني الاعم» علي مجموع الامور العامة والإلهيات بالمعني الأخص، أعني أن المباحث الکلية للوجود مع مباحث معرفة الواجب تعالي سميت بالالهيات بالمعني الأعم.

52 - کيف يتم تصنيف العلوم من حيث الشرف والمرتبة ، ما هو ملاک الاشرفية بين العلوم ؟ وکيف نعلم أن هذا العلم أشرف مقاماً من ذاک وأعلي مرتبة وأقدم رتبة منه ؟

ص: 55

لا شک أن أشرف العلوم أنفعها للإنسان مطلقاً، وأنفع العلوم ما کان يضمن سعادة أبدية لأهله بحيث يجمع سعادة الدنيا إلي جانب سعادة العقبي ، وبقرّب المرء من الحقائق التي تحيط به والحق المطلق الذي بيده المبدأ والمنتهي وما بينهما.

فقال البعض أن شرف العلم بشرف غايته وما يهدف اليه ، وقيل شرف العلم بشرف مباديه التصورية و التصديقية، وقال غيرهم شرف العلم بشرف موضوعه وهو الحق، فإن الموضوع الذي تتمحور علبه مباحث العلم يعدّ الملاک الأقوم لأشرفية العلم، کما أن الموضوع أفضل ملاک لمعرفة حقيقة العلم وللتمايز بين العلوم.

53 - وقد اتسع نطاق الفلسفة في القرون الوسطي حتّي اطلقت علي بعض العلوم الإعتبارية لا الحقيقية اللغة والأدب والمعاني والبيان. وأما في العصور المتأخرة بسبب تقدم العلوم التجريبية الحية في بلاد الغربّ قام الفلاسفة الماديون بتضييق دائرة الفلسفة حتّي اختصت بما وراء الطبيعة - الفلسفة الأولي - وتم رفضها رفضا قاطعا معتبرين اياها منافية للعلوم لا تستحق إطلاق العلم عليها واختصاص العلم بالحسبات والطبيعيات.

56 - اعتاد العلماء منذ القدم أن يبدأوا تصانيفهم وکتبهم ببيان امور اشتهرت بالرؤوس الثمانية أو المبادي الثمانية هي تعريف العلم وموضوع العلم وهدف العلم وغايته ومنفعة العلم وعناوين مفهرسة من أبواب العلم وفصوله، واسم المؤلف ، ومکانة العلم بالنسبة إلي سائر العلوم والانحاء التعليمية أعني التقسيم والتحليل والتحديد(1)

وقد بحثها المرحوم قطب الدين الشيرازي شارح حکمة الاشراق في کتابه دُرّة التاج لغرّة للباب والميرزا عليرضا في حاشيته علي کتاب الحاشية للمولي

ص: 56


1- راجع شرح منظومة السبزواري .

عبدالله في مقدمة الکتاب مفصلاً، وعلي کل حال لقيت المباديء الثمانية بحثاً بالنقض والابرام في کتب القوم لا حاجة إلي إيرادها هنا فضلاً عن أن ذلک لا يسعنا رعاية للايجاز والاختصار . وقد اقتصروا في الأزمنة الأخيرة علي بيان التعريف والموضوع والغاية وسنمضي علي هذا المنوال ان شاء الله تعالي.

55 - موضوع کل علم کما جاء في کثير من الکتب سيما کتب علم الاصول

والفلسفة «موضوع کل علم ما يُبحث فيه عن عوارضة الذاتية» المراد بالعوارض الذاتية الأحوال والآثار الذاتية بخلاف العوارض الغريبة.

فما هو تعريف الفلسفة وماهو موضوعها وما الغاية منها ؟ الحکمة والفلسفة الإلهية علم يبحث فيه عن أحوال الموجود بما هو هو أو من حيث هو موجود ، اذ الموجود نوعان من الأحکام ، نوع يتعلق به من حيث تکوينه و قالبه الخاص کما أن الخشب من جهة انّه ذو ماهية خاصّة تميّزه عن سائر الموجودات يتمتع بجملة خاصة من الأحکام فله وزن خاص، ودرجة خاصة للاحتراق، لون خاص شکل خاص رائحة خاصة وعشرات بل مئات الأحکام والآثار والأحوال تتعلق بکونه خشباً، ونوع آخر من الأحکام العامة التي لا تتعلق بهذا القالب التکويني الخاص تکون الخشب معلولاًحادثاً ممکناً منشأ أثر فاعلاً منفعلاً وما أشبه من الأحکام التي لا ترتبط بکونه خشب . والحکمة الإلهية تبحث عن القسم الثاني من الأحکام فقط. علم مما تقدم أن موضوع الحکمة الإلهية عبارة عن «الموجود المطلق» . وسيأتي الکلام عن غايتها بالتفصيل في شرح متن الکتاب أن شاء الله تعالي.

06 - موضوع علم الفلسفة - بمعناها العام - هو «الموجود بما هو موجود»

أو «الموجود المطلق» وقيل موضوعها «الوجود» والموجود أفضل لأنّه يناسب القول بأصالة الوجود والقول باصالة الماهية معاً، وأمّا إذا جعلنا الوجود موضوعاً للفلسفة نکون قد حدّدنا لأنفسنا مجالاً خاصاً في الفلسفة وأطرنا أنفسنا ضمن

ص: 57

القائلين بأصالة الوجود مقابل القائلين بأصالة الماهية، هذا أولاً، وثانياًنخرج القائلين بأصالة الماهية من دائرة البحث وکلا الأمرين باطلان، ذلک أن الفيلسوف وطالب الفلسفة ينبغي أن يکونا قبل الخوض في الفلسفة خاليين من کل غاية و فارغين من کل قيد، بل يکونان مطلقي العنان من هذه الجهة، کما أنه بناء علي هذا لا ينبغي لهما أن يخرجا أحدأ قبل بحث آرائه و أنظاره و تفنيدها بالنقض والحل والابرام.

57 - أهم المسائل الفلسفية ورؤوس مباحثها المتعلقة بالموجود المطلق الموجود بما هو موجود - عبارة عن مبحث الوجود والماهية وأصالتهما، ويأتي البحث عن العدم عرضاّ. ثم تقسيمات الوجود إلي الوجود العيني الخارجي والذهني الاعتباري تارة، وإلي الواجب والممکن والممتنع - بالعرض - تارة ثانية ، وإلي الحادث والقديم تارة ثالثة ، وإلي الثابت والمتغير تارة، وأخري إلي الواحد والکثير ، وإلي القوة والفعل تارة سادسة، وأخيراً إلي الجوهر والعرض وهي تقسيمات أولية

اللوجود.

ومنها ما يتعلق بالقوانين الکلية للوجود کمبحث العلية من قبيل لزوم السنخية بين العلة والمعلول وقانون اللزوم والتلازم والضرورة بينهما، ولزوم تقدم العلة علي المعلول بأحد أنواع التقدم الزماني أو الرتبي أو العقلي أو .......

ومنها ما يتعلق بعوالم الوجودالأربّعة کعالم الطبيعة أو الناسوت، وعالم المثال أو الملکوت، وعالم العقول أو الجبروت، وعالم الألوهية أو اللاهوت. ومنها ما يرتبط بعلاقة عالم الطبيعة والناسوت بالعوالم الثلاثة الأخر، کالبحث عن المبدأ والمعاد والحشر والنشر والقيامة والحساب والکتاب.

والحاصل أن الفلسفة لفظ يوناني أصله فيلسوفي بمعني محّت العلم والمعرفة ضد کلمة ميسوسوفي - ميسوسوفيا - بمعني عدّو المعرفة ، وقيل في تعريف الفلسفة

ص: 58

أنها عبارة عن البحث والتحقيق عن حقائق الأشياء وماهياتها بحسب ما في وسع الإنسان وطاقته»، کما جاء في بعض التعاريف أن الفلسفة عبارة عن «صيرورة الانسان عالمة عقلية مضاهية للعالم العيني في صورته وکماله»، وقيل في تعريفها أيضا «الفلسفة عبارة عن مجموعة مسائل مبنية علي أساس من البرهان والقياس العقلي ، التي تبحث عن مطلق الوجود وأحکامه وعوارضه» أي أنها تبحث عن وجود و عدم وجود الأشياء وأحکام مطلق الوجود، لا الأحکام والآثار الخاصة بموضوع واحد أو عدة موضوعات خاصة - راجع أصول الفلسفة للعلامة الطباطبائي قدس سره .

فهذه أشهر ثلاثة تعاريف وردت عن الفلسفة لابد من اتقانّها وفهمها والتوجه

إليها بإمعان .

وقال الشيخ الرئيس ابن سينا قدس سره في الفصل الثاني من الهيات الشفاء «و هو الفلسفة الأولي لأنه العلم بأول الأمور في الوجود، وهو العلة الأولي وأول الأمور في العموم». .

08 - لا بأس أن نوضح هنا أن موضوع الفلسفة بالمعني الأعم هو «مطلق الوجود»، وأما الفلسفة بالمعني الأخص فموضوعها «الموجود المطلق» والموجود بما هو موجود، والفلسفة بالمعني الأخص هو العلم الباحث عن أحوال کلي الوجود أي أحوال الموجود بما هو موجود. ثم أن موضوع الفلسفة الأولي بديهي لا يحتاج إلي تعريف وهو غني عن الإثبات مفهوماً و تحققاً - سواء من جهة أعتباره الذهني أو وجوده الخارجي - کما أن جميع المباديء التصديقية للفلسفة بديهيات أولية غنية عن التعريف والإثبات أيضاً.

59- هناک جملة من الأصول الموضوعة في الفلسفة التي يتم بحثها ان شاء

الله تعالي فما هي الأصول الموضوعة ؟

ص: 59

الأصول الموضوعة لعلم ما عبارة عن الأصول التي يتم إثباتها عادة في علم آخر، وهي تُعدُّ الجسر الذي يربّط بين علمين أو أکثر ، کالإرادة التي هي أصل موضوعي من أُصول علم الأخلاق لأن أثباتها لا يتم إلّا من خلال علم النفس الفلسفي.

60 - والحاصل أن الأديان السماوية والعقائد الدينية هي منبع فيض الأفکار الفلسفية ، وأن أقدم هذه الأفکار انبثقت من بين الأفکار المذهبية والعقائد الدينية ، وهذا لا يتنافي مع حقيقة الفلسفة التي هي دراسة تحقيقية دقيقة لحالات الموجود المطلق وما يتعلّق بالوجود وواجب الوجود وهلم جرّا من واقع العقل المحض بعيداً عن القيود والتعلقات، لأن المراد مما تقدم أن الأديان والمذاهب والمعتقدات السماوية حثت الانسان علي التعقل والتفکّر فيما حوله قاطبة «مطلق الوجود» أو

الوجود المطلق» وأنها اشعلت فيه نور البصيرة وأوقدت فيه نار تدعوه إلي التأمل فيما حوله خالياً عن کلّ رغبة و هوي و قيود و تعلقات خارجية أو داخلية. ملاحظة : أرجو من طالب الفلسفة وقاريء هذا الکتاب بذل عنايته الخاصة بقراءة هذه النقاط الستين بدقة وامعان قبل أن يخوض المتن والشرح، وان يجعل نصب عينيه أهمية هذه المقدمة بذاتها من جهة وارتباطها الوثيق بما سيأتي من مطالب الکتاب من جهة أخري (1)

ص: 60


1- مصادر المقدمة : ا- خلاصة الفلسفة . 2 - تاريخ فلسفة الغربّ . 3 - فلسفة ما بعد الطبيعة . 4 - تاريخ الفلسفة . ه - فلسفة التحقيق 6- المسائل والنظريات الفلسفية 7 - ما هي الفلسفة ؟ 8- تعليم الفلسفة . 9 - دروس الفلسفة .

اعرف هذا الکتاب

أ- هو الکتاب الذي يمثل أحد آثار حياة المؤلف رضي الله ، کتبه بعد قرابة خمسين عاما من التحقيق والتدريس أي في الأعوام الأخيرة من عمره الشريف، ولهذا فقد امتاز بالدقة حتّي أصبح من أفضل ما کتب في هذا المجال، واحتل مکانة علمية مرموقة في حوزاتنا العلمية ضمن المنهج الثابت لهذه الحوزات، منذ أن لاح في الافق نجمه وذاع في العالمين صيته وانتشر في الفلک الدّوار ضياؤه ونوره.

ب - لا شک انّه کتاب عميق بعمق مؤلّفه يتجاوز عمق البحار والمحيطات ، جمع فيه أُمّهات المسائل الفلسفية علي مذاهب الاشراق والمشاء والحکمة المتعالية.

ج - کما يمتاز أيضاّ بالدقة في نقل الآراء والأنظار والمسائل والقضايا، دقة

متناهية الأطراف من غير زيادة أو نقصان مراعياً فيها غاية الاتقان.

د- دأبه في کتابه رعاية الانصاف کما هو دأبه في حياته أجمع، لم يبارح

الانصاف مع خصومه و مخالفيه طرفة عين.

ه - الترم کعادته أن يکون استدلاله في کافة المسائل والمباحث مبتنياً علي أساس البراهين العقلية المسلمة، فهو برهاني محض لا يميل قطّ إلي وجوه الاستحسان أو القياسات الشعرية والخطابية والجدليات وما أشبه.

و - اعتمد في تأليف هذا الکتاب علي أُصول و مباني الحکمة المتعالية . ز - رعي في کتابه هذا غاية الترتيب والتنظيم، حتّي أصبح الطالب والاستاذ

ص: 61

يتلقيان النتائج واحدة تلو الأخري، من أصل المطلب دون حاجة إلي مزيد تکلف وبذل الجهود والعناء

ح - تختلف بعض آرائه هنا عما ورد في کتابه بداية الحکمة، وستجد ان ما

ذکره هنا أکثر نضجاً وعمقاً أحياناً مما ورد هناک .

ط. هناک تنسيق وارتباط وثيق بين مسائل الفلسفة کحلقات السلسلة المترابطة التي لا تقبل الانفکاک هذا من حسن ذوقه ونتيجة النظم والترتيب الذي بذل همته فيه.

ي - أصرَّ رحمه الله علي تلخيص البحث في نهاية کلّ فصل، وقد أحسن

التلخيص والايجاز.

ک - ترک في بيان المطالب التطويل الممل ، کما أعرض أيضا عن الايجاز

المخل؛ بل کان معتدلاً مقتصداً حقاً.

ال - کان رضي الله کعادته موفقاً ايما توفيق في حذف الزوائد والحواشي لا سيما

المسائل التي أکل الدهر عليها وشربّ ولم تعد ذا مکانة علمية تحقيقية لدي الفلاسفة، واکتفي بايراد ما يلزم ايراده وما لم تزل الفلسفة تستمد جذورها وحياتها منه.

م - وقد دأب رحمه الله علي اثبات دعوي قيام الحکمة الإلهية علي اسس

متينة من البرهان العقلي الذي لا يقبل زعزعة ولا طعناً.

ن - کما انّه رضي الله حرص أيضاً علي ايراد جملة من المسائل الحديثة التي تم اثباتها خارج حدود الفلسفة في سائر العلوم، والتي تعد من نتائج الأفکار العصرية المتطورة وتعد ثمارا علمية جديدة علي نحو الأصول الموضوعية.

س - وکيف ما کان حبيبي القاريء، فإن اسطورة الزهد والتقوي والعلم والفلسفة أعني سيدنا العلامة قدس الله روحه ونور الله مرقده الشريف ترکبين

ص: 62

أيدينا سفراً عظيماً جامعاً مانعاً ومائدة فيها ما تشتهيه نفس طالب الفلسفة وما تلده عيناه من نمارق مصفوفة وزرابي مبثوثة ، جعل کل شيء في محله ومصفوفاً متراصّاً منظماً کنظم التالي، ثم سماه النهاية لا قاصدأ أنها نهاية ما يحتاج اليه طالب الفلسفة، ولا أنها نهاية أفکاره وآرائه الفلسفية ولا أن بها تختتم الفلسفة، کلا، بل عني بذلک أن الکتاب هذا يجمع بين دفتيه ويحوي بين جنبيه آخر ما تم التوصّل اليه في عالم الحکمة وآخر ما نطق به الحکماء

فلا ينبغي الإستهانة بمطالب هذا الکتاب ، بل يستحق أن يبذل المرء في

تعلمه غاية الاجتهاد.

ص: 63

ص: 64

الامام اتخميني قدّس سرّه فيلسوفاًو حکيماً

في الذکري المئوية لمولد المصلح الأعظم - في القرن العشرين الميلادي والقرنين الثالث عشر والرابع عشر الهجريين - رأيت أنه لابّد من التبرک بذکره الشريف وذلک بإيراد نبذة ولو يسيره عابرة من حياة هذا البطل الضرغام في ميادين البطولة والجهاد والذود والدفاع عن حرم الدين وبيضة الاسلام، وهذا الفقيه الأصولي الکبير في ساحة العلم ومقام الافتاء وبيان أحکام الشريعة و احيائها والّذبّ عنها وصونها من عبث العابثين وسخافة عقول المتحجرين وبسط خيراتها ونشر برکاتها علي ارجاء المعمورة من مشارقها إلي مغاربّها ومن أقصاها إلي أدناها ، وهذا الفيلسوف والحکيم والعارف الکامل الذي بلغ کمالاً في ساحة المعرفة والتهذيب والجهاد الأکبر واصلاح الذات وجمع الفضائل ، جعلته مصداقاً تاماً بل أتم مصداق وأکمله لقول المعصوم عليه أفضل الصلاة والسلام «من کان من الفقهاء صائناً لنفسه مخالفا لهواه مطيعاً لأمر مولاه فللعوام أن يقلدوه وذلک لا يکون إلّا بعض فقهاء شيعتنا». .

اذن بلغ الامام المصلح أعلي الله مقامه الشريف مرتبة من الکمال والعلم والمعرفة تؤهله لمقاماً النيابة العامة لمولانا الامام الحجّة المنتظر صلوات الله وسلامه عليه، بل صنعت منه شخصية قلّ نظيرها في التاريخ بين العلماء والفقهاء، ليکون أحق الفقهاء بالنيابة العامة وأقربّهم مقاماً وأخصّهم منزلة وزلفي من الولي الأعظم - أرواحنا لتراب مقدمه الفدا - وانما خصصته بالذکر هنا - مع قلة بضاعتي علماً

ص: 65

واحاطة ومعرفة بجميع جوانب حياته وضعف مقدرتي علي بيان تلک الجوانب المشرقة من حياته المليئة بالعجائب والقضائل - أداء لشيء يسير من دينه الذي في عنقي وأعناق العالمين، وارتشافاً لقطرة من هذا النبع الصّافي الذي يحمل معه عين الحياة ، و ايماناً و اعتقاداً منّي بأن ما يکتب عن هذا النائب بالحق توخياً لنشر فضائله وأفکاره وآرائه ومعتقداته إنّما هو نشر للفضيلة ونصرة للدين وتوعية للأجيال و تحقيق الأهداف السامية وهو مما يرضي مولانا بقية الله الأعظم أرواحنا فداه ، بل من أفضل ما يقربّنا اليه زلفي ويشدّ القلوب إليه، لأنه عليه الصلاة والسلام حجة الله عليهم وهم حججه علينا.

ولکن کيف و أنّي يسوغ لنا أن نبرز شيئاً من حياة الامام حکيماً و فيلسوفاً ونحن لا نکاد نعثر علي کتاب للإمام الراحل رضي الله في هذا الخصوص، ورغم کثرة التأليف وجودة التصنيف التي اشتهر بها الامام الراحل رضي الله فإنه لم يکتب ولم يفرد تأليفاً خاصاً يضمّنه آراءه وأنظاره الفلسفية - فقد کتب في الفقه وفصّل وکتب في الاصول و فصّل وکتب في الأخلاق والعرفان والتفسير والحديث وما أشبه - ولهذا فإنني استخلصت هذه الوجيزة الآتية من خلال دراسة اجمالية في کتبه وأقواله عسي أن تکون نافعة لقرائها.

وجد الامام الراحل ضالّته عند العارف الحکيم المرحوم الشيخ محمد علي الشاه آبادي من تلامذة المرحوم الحاج ميرزا هاشم الخوانساري مؤلف کتاب مباني الاصول ، والحاج ميرزا حسن الاشتياني صاحب کتاب حاشية الرسائل والمرحوم ميرزا هاشم الکيلاني فيلسوف عصره والمرحوم ميرزا أبو الحسن جلوه الاصفهاني العارف الشهير والآخوند الخراساني صاحب کفاية الأصول والشريعة الاصفهاني والميرزا محمد تقي الشيرازي أعلي الله مقامهم الشريف جميعاً قدّس سرّه .

تتلمذ الامام الراحل علي يدي هذا العالم العارف الفيلسوف طيلة سبعة أعوام

ص: 66

متوالية فدرس عنده وقرأ علي يديه فصوص الحکمة ومفتاح الغيب ومنازل السائرين، کما أنّه تلمّذ علي يد المرحوم السيّد أبو الحسن القزويني من حکماء عصره وزمانّه . ثّم بدأ بتدريس المنظومة والاسفار في قم المقدسة فترة من الزمان حتّي نما و ترعرع علي يديه وفي ظل مساعيه وجهوده جملة من أساتذه الفلسفة وطلابها کالمرحوم الشهيد مرتضي المطهري و آية الله السيّد عزالدين الزنجاني و آية الله الشيخ جوادي آملي و آية الله الشيخ جعفر السبحاني، وآية الله السيّد محمد الحسيني البهشتي وجملة من علماء الفلسفة وأساتذتها ممن لا يسع هذه الوجيزة ذکر أسماتهم

للامام الخميني الله رحمه الله موقف معتدل تجاه فلسفة اليونان، فهو يقول في کشف الأسرار عن أرسطو «يّعد ارسطو بن نيقو ما خوس من أهالي اساطجرا أحد کبار فلاسفة العالم، وذلک أن التعليمات المنطقية وقواعد علم الميزان التي تعتبر أُسساً لجميع العلوم، رهينة جهود هذا الرجل العظيم وأتعابه، وقد اشتهر بالمعلم الأول لوضعه مباني التعاليم المنطقية ، حتّي أرغم عبقري الزمان شيخ الرئيس ابن سينا الذي انحني يقبّل الأرض تأدّباً أمام تعاليم هذا الرجل العظيم وصرّح قائلاً: لم يقدر أحد حتّي الآن علي توجيه الأشکال علي القواعد المنطقية التي وضع مبانيها ارسطو ، وما زالت آراؤه المتينة لم تطاولها أيدي النقض والابرام.

فقد اعتاد الامام الخميني أن بّر عن ارسطو بالرجل العظيم تارة ، و بالفيلسوف العظيم الشأن تارة أخري وبالحکيم العظيم تارة ثالثة ، کما أنه رحمه الله يعبر عن کتابه «اثولوجيا» بأنه اثر عظيم وکتاب شريف کما في آداب الصلاة صفحة 329 م.

ولم يکن افلاطون أقل حظّاً من صاحبه حيث أنه نال حظّاً وافراً من تمجيد الامام الراحل وثنائه حتّي قال في کشف الأسرار «له آراء متينة قيّمة في باب

ص: 67

الإلهيات قام الشيخ شهاب الدين الحکيم الاشراقي وصدر المتألهين الفيلسوف الاسلامي الشهير يجعل بعضها مبرهنة مدلّلة کقوله بالمثل الأفلاطونية والمثل المعلّقة».

ويقول رحمه الله عن جهود الفلاسفة المسلمين في صحيفة نور الجزء 17 صفحة 250 «مسألة البعثة - المبعث - أحدثت تحولاً علمياً عرفانياً في العالم جعلت من الفلسفات اليونانية الجامدة التي تحققت علي أيدي فلاسفة اليونان وهي قيمة بذاتها، جعلت منها عرفاناً عينياً وشهوداً واقعياً لأربّاب الشهود». وقال في الصفحة 251 أيضاً «لولا القرآن الکريم لبقيت أبواب المعرفة مغلقة إلي الأبد، وأما الفلسفة اليونانية فانّها باب آخر إلي المعرفة تستحق الثناء والتقدير ، لأنها تثبت الأشياء والحقائق عن طريق الاستدلال، لکنها لا تتکفل بحصول المعرفة للانسان». .

وکان رحمه الله شديد التعظيم لابن سينا حيث يقول عنه في کشف الأسرار «شيخ الرئيس أبو علي حسين بن عبدالله بن سينا من أهالي مدينة بخاري ، کان أبوه بلخيّاً، حياته وکيفية تحصيله للعلوم و تأليفاته مشحونة مليئة بأمورٍ عجيبة تحيّر العقول ، فلقد صنف کتاب القانون في السادسة عشرة من عمره کما روي ، ويقول أيضاً: حينما بلغت الرابعة والعشرين من عمري کنت أري نفسي ملمّاً بجميع العلوم وما من علم في العالم إلا وأعلمه. وقيل أنه صنف الإلهيات وطبيعيات الشفاء بمعدل خمسين صفحة في اليوم الواحد، دون أن يراجع في ذلک کتابا قطّ». .

وأيضاً من کلام رحمه الله له في صحيفة نور الجزء 18 صفحة 190 - 191 : «حتّي في المسائل الفلسفية حين تراجعون فلسفة ارسطو التي تعد أفضل الفلسفات قبل الاسلام ستجدون أن بين فلسفة ارسطو والفلسفة التي ظهرت بعد الاسلام ، بينهما ما بين السماء والأرض، رغم کون تلک الفلسفة نافعة جداً، ورغم الاطراء الذي اطراه شيخ الرئيس وما اثناه علي منطق ارسطو في قوله لم يقدر أحد حتّي الآن من ايراد

ص: 68

خدشة فيه أو اضافة شيء عليه ، رغم هذا وذاک فإننا بملاحظةالفلسفتين والمقارنة

بينهما نجد أن بينهما ما بين السماء والأرض». .

وفي کلام رحمه الله عن الحکمة المتعالية يقول في کشف الأسرار ما هذا ترجمته: «ان محمد بن ابراهيم الشيرازي أعظم الفلاسفة الإلهيين ومؤسّس القواعد الإلهية ومجدد حکمة ما بعد الطبيعة، هو أول من بني مسألة المبدأ والمعاد علي أصل عظيم لا يتزعزع، وأثبت المعاد الجسماني بالبرهان العقلي، وأوضح ما لدي الشيخ الرئيس من خلل في مسألة علم الباريء جلّ وعلا، وألف بين الشريعة المطهرة والحکمة الإلهية ، وبعد تحقيق کامل وجدنا أن الأقوال حوله کثيرة کل واحد قال شيئاً في حقه وعن شخصيته وان أقوالهم انما تدل علي قصورهم وعجزهم عن ادراک مطالبه الدقيقة، نعم خوض المطالب العالية المبنية علي أصول کثيرة ومباني متفرقة متشعبة يوجب إساءة الظنّ بأساطين الدين والحکمة، حتّي باتوا يحملون ردود المولي صدرا وطعناته علي الأشاعرة والمعتزلة ، علي أنّها هجوم علي الدين ومشايخ المذهب ، جهلاً منهم بمقاصده ومراداته ».

ولکن الفلسفة والحکمة المتعالية رغم علوّها حتّي علي ما ورد في کتب صدر المتألهين - الحکمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربّعة والشواهد الربّوبية والمشاعر والعرشية ومفاتيح الغيب وسائر رسائله - رغم ذلک فهي معرضة للأخطاء وحاملة بين مسائلها المخاطر العقائدية ولا يمکن الأخذ بها علي علّاتها بل ينبغي خوضها بقدرة النقض والابرام، کما أنها رغم ذلک لا تضمن ايصالاً إلي مقام الکشف والشهود وفي هذا يقول امامنا الراحل رحمه الله في تفسيره علي سورة الحمد حول أهمية الکشف والشهود: «ما تمت البرهنة عليه في الفلسفة المتعالية لا الفلسفات المتعارفة ، فهي تختلف اختلافاً کلياً عما کان يتوصل إليه الأولياء، وذلک انّهم تجاوزوا المنازل العرفانية بالسير والسلوک، وکانوا يشاهدون حقائق هذه المعارف».

ص: 69

فالحقائق البرهانية والمعارف الفلسفية مرحلة من معرفة الحقائق، وهناک مرحلة أعلي منها ألا وهي هبوط هذه المعارف من حيطة العقل و وقوعها علي قلب الإنسان وهو ما يسمي بالشهود.

کان الامام الراحل رحمه الله لالمامه بعلوم متعددة و تخصّصه في مجالات عديدة کالفقه وأصوله والعرفان والکلام والفلسفة والتفسير والحديث والرجال وما أشبه ، يمنح کل علم ما يستحقه من الأهمية ولا ينقص من شأن علم ولا يزيد علماً من الشأن والأهمية علي حساب علم آخر، فکان ينظر إلي العالم الخارجي من حوله کالفلاسفة من نافذة الفلسفة والفقهاء من نافذة علم الفقه وکالعرفاء من نافذة العرفان، بل کان فيلسوفاً عارفاً وعارفاً فقيهاً وفقيهاً أصولياً وأصولياً مفسراً، ويفکر في الفقه کالفقيه المتخصص وفي مجال الاصول کالأصولي المتبحّر وفي مجال الفلسفة والعرفان والکلام کالحکيم المتأله، وکان في السياسة سياسية حکيما، والحاصل أنه جمع الأضداد واجتمعت فيه أوصاف متناقضة حتّي سمّي بجامع الأضداد، وهذا مما لا يتحقق الا للألمعي من العلماء

وکان رحمه الله يري الفلسفة وسيلة لمعرفة حقائق الوجود وليس غاية تنتهي اليه وتقف عنده آمال الفيلسوف ، کما کان له يذم من يکتفي بالنظر إلي العالم بمنظار واحد و تفسير کل ما في العالم من خلال نافذة علم واحد لهذا يقول رحمه الله «کل من تعلم علما جعل کل الکمالات محصورة في دائرة ما أدرکه وتعلمه، فيخال للفقيه أن لا شيء في العالم سوي الفقه، ويظن العارف أن لا شيء في العالم سوي العرفان وهکذا الفيلسوف يتصور أن لا شيء سوي الفلسفة، ويظن المهندس أن لا شيء غير الهندسة ... إلي أن يقول رحمه الله انّه يري ما يعلمه علماً دون سواه، وهذا حجاب کبير لنا جميعاً، هناک حجب کثيرة لکن أغلظها وأشدها هو حجاب العلم هذا، فماکان يفترض ان يهتدي به إلي الصواب صار مانعاً له عن بلوغ الکمال ......الخ.

ص: 70

ويقول أيضاً في آداب الصلاة : «أحد الحجب الکبيرة هو حجاب العجب والأنانية ، وذلک أن يري المتعلم نفسه مستغنياً عن کل شيء بسبب هذا الحجاب ... إلي قوله قدس سره فيقنع أهل التجويد بما عندهم من علم جزئي ويصوره العجب امرة هائلا في أنظارهم دون غيره من العلوم حتي يحسبوا أنفسهم مصداقاً لحملة القرآن، ويُرضي أصحاب الأدب وعلماء اللغة بالصورة الظاهرة بعيداً عن اللب اللباب ، ويصور لهم جميع شؤون القرآن فيما لديهم فحسب ... إلي قول قدس سره حتّي أنه يحبس الفيلسوف والحکيم والعارف في حجاب غليظ من الاصطلاحات والمفاهيم و امثالها، بينما علي من يريد الاستفادة أن يخرق جميع هذه الحجب». .

ويري الامام الخميني رحمه الله - کما في دأب الصلاة - أن لا تعارض بين القرآن

الکريم والفلسفة ، وان موارد التفسير بالرأي يحتمل أن تختص بغير آيات المعارف والعلوم العقلية الموافقة للموازين البرهانية وکذلک الآيات التي تتحدث عن السلوک والاخلاق إذا کان للعقل دخل في تشخيصها ، ولهذا قال له : «يحتمل قوياً أن يختص التفسير بالرأي بآيات الأحکام التي لا دخل للآراء والعقول في معرفتها لکونها تعبدية محضة».

تقدم أن للفلسفة ثلاثة تعاريف شهيرة - راجع المقدمة 57 قولنا والحاصل» - فاعلم أن ثاني هذه التعاريف والذي ورد في کتاب آداب الصلاة للامام الخميني اه بتعريب وترجمة السيّد احمد الفهري - دام عزّه - بهذا النص «هي ضرورة الانسان عالمة عقلية مضاهبة للعالم العيني في صورته وکماله» يمثل اختيار الامام الراحل في معني الفلسفة وحقيقتها، وذلک بناء علي أصالة الوجود و اعتبارية الماهية. لکن التعريف الثالث والأخير لا يختلف کثيراً عن هذا التعريف بل هو توضيح وبيان للثاني ليس إلا فانظر إلي هذا التعريف الأخير وقارن بينه وبين الثاني «الفلسفة عبارة عن مجموعة مسائل مبتنيه علي أساس من البرهان والقياس

ص: 71

العقليين، التي تبحث عن مطلق الوجود وأحکامه وعوارضه». .

الامام الخميني رحمه الله يستدل علي اثبات وجود الباريء جلّ وعلا ببرهان الصديقين لابن سينا - راجع تفسير سورة الحمد - وذلک أن العقل يدرک بحسب الفطرة أن الممکن الذي قد يکون وقد لا يکون يستحيل أن يوجد جزافاً من غير علة واجبة تمنحه نعمة الوجود فالممکن بالذات لابد أن ينتهي إلي الواجب بالذات عقلاً وفطرةً.

وهناک مجموعة من الآراء الفلسفية وبيان للمسائل والقواعد الفلسفية جمعتها من جملة من کتب الامام الراحل رحمه الله سيأتي إيرادها في شرح متن الکتاب کل في محله وحسب مناسبة المطلب ان شاء الله تعالي (1)

ص: 72


1- مصادر - الإمام الخميني فيلسوفاً وحکيماً : 1- آداب الصلاة - للامام الخميني قدّس سرَه . 2- حياة الإمام الخميني برواية الإمام نفسه للسيد أحمد الخميني (بالفارسية). 3- مشايخ الامام الخميني - رضا الاستادي (بالفارسية). 4 - نهضة الامام الخميني - للسيد حميد الروحاني (بالفارسية). 5 - تفسير سورة الحمد - للامام الخميني . قدّس سرّه 6- الامام والحوزة والسياسة - للسيد أحمد الخميني - مجلة الحضور - (بالفارسية). 7- الدفاع عن الفلسفة - رضا داوري (بالفارسية). 8- کشف الأسرار - للامام الخميني. 9- صحيفة النور - للامام الخميني (بالفارسية). 10- قيام الاخباريين ضد الفلسفة - محمد ابراهيم الجناتي (بالفارسية). 11- غلبة الاجتهاد علي الاخبارية - محمد ابراهيم الجناتي (بالفارسية). 12- شرح دعاء السحر - للامام الخميني . 13 - الطلب والارادة للامام الخميني .

خلاصه الکلام

يتلخّص ممّا تقّدم أن للفلسفة والتفکر الفلسفي - في التمدن والحضارة

الاسلامية والعصر الاسلامي المزدهر بالتقدم العلمي والتنمية الفکرية - تاريخاّ عريقاً حافلاً بالأحداث المتناقضة ، من ولادة آراء وأفکار عظيمة زادت العلوم العقلية بهاءاً ونضارة ، ومن عراقيل وعثار قضت علي حياتها ونقصت العيش علي أهلها .

بدأت الفلسفة رحلتها في عصر الحضارة الاسلامية بترجمة کتب اليونان وعلومهم إلي العربّية، ثم أخذت لها مکاناً مرموقاً في المراکز العلمية للمسلمين،

حتّي ظهر فلاسفة مسلمون بآراء جديدة و نظريات متطورة حديثة لم يسبقهم إليها أحد من فلاسفة اليونان أو الصين أو الفرس وما أشبه ، وکان لهم الفضل الأکبر واليد الطولي فّي رقيّ الفلسفة و تطورها بين العلوم ، إبتداءاً من الکندي المعروف بفيلسوف العربّ إلي المعلم الثاني اعني أبي نصر الفارابي ومروراً بالشيخ الرئيس ابن سينا وانتهاء بابن رشد الأندلسي الذي بلغ بفلسفة المشاء قمّتها وأبلغها شأوها و ذروتها، وفي هذه الأثناء ظهرت طريقة جديدة في التفکر الفلسفي أخذت أصولها و استمدت جذورها من الفلسفة الأفلاطونية ثم نسبت نفسها إلي إفلاطون زوراً وبهتاناً وهي المدرسة الأشراقية التي اسّسها السهروردي شيخ الاشراق وظهرت آثار مهمة فيها مثل رشف النصائح للسهروردي ولکن الحرکة الفلسفية في العصر الإسلامي وضعت رحلها عند الحکمة المتعالية التي جادت بها قريحة المولي صدر المتألهين.

کما أن هناک جماعة من علماء الدين أبرزوا عداءاً صارخاً للعلوم الفلسفية

ص: 73

بل للعلوم العقلية مطلقاً وشئوا حربّاً ضارية علي أصحاب هذا العلم - الفلاسفة والحکماء - وألفوا کتباً في هذا الخصوص کالغزالي في کتابه «تهافت الفلاسفة»، وکابن تيمية المخالف للمنطق والقواعد العقلية الثابتة التي لا تقبل النقاش في کتابه

الردّ علي المنطقيين» لکنها محاولات بائت بالفشل الذريع ولم تطق الاستقامة في

وجه العقل السليم وأحکامه وقواعده الثابتة.

وقع خلاف شديد بين الفقهاء والفلاسفة لأسباب عديدة أهمّها عدم احاطة الفقهاء بالمسائل الفلسفية، لکن هذا الخلاف بدأ يرحل ويذبل شيئاً فشيئاً حتي أصبح في العصور المتأخرة أمراً منسياً، بل أخذ الکثير من الفقهاء يدرس الفلسفة ويتقنها ومنهم من جمع بين الفقه والفلسفة فکان فقيها فيلسوفاً له انظاره و آراؤه الفلسفية تماماً کما له آراؤه الفقهية ، وذلک بعد ما تعلّموا الفلسفة وأحاطوا به وعرفوا مسائله، ولا يخفي علي العارف اللبيب أن الفلسفة منذ زمن بعيد أصبحت من المواد الدراسية الضرورية والإلزامية أحياناً في حوزاتنا العلمية ، وبات الفقيه لا يکون فقيهاً إلّا إذا أتقن العلوم العقلية والفلسفة، نعم هذه الحالة کانت ولا تزال مشوبة بنوع من الحذر والتخوف عند فقهائنا، لما تحمله الآراء الفلسفية من أخطار علي عقائد طالبيها وأفکارهم الدينية.

لقد مرت الفلسفة في القرنين العاشر والحادي عشر الهجريين وذلک في عهد الشاه عباس الصفوي بظروف عصيبة للغاية حيث الأوضاع السياسية المتردية والشتات الاجتماعي من القتل والتشريد والانحطاط الفکري والعلمي والثقافي من إحراق للمکتبات العلمية وقتل وتشريد للعلماء وتدمير للمدارس والمراکز العلمية ، کل ذلک علي أيدي الأتراک الغزاة والمغول الجناة الذين تمکنوا من السيطرة علي بلاد المسلمين والفتک بهم ومحو الحضارة الاسلامية والقضاء علي کل ما حصل عليه المسلمون من تقدّم وارتقاء. وبين هذه الاشلاء وهذا الدمار ظهر جماعة

ص: 74

يخجل المرء أن يلقبهم بالفقهاء ولکنهم رغم ذلک نسبوا إلي الفقه ، کانت مهمتهم تضييق الخناق علي الفلاسفة والحکماء، فلم يسلم من شرهم وأذاهم المولي محمد باقر الاسترابادي - الميرداماد - صاحب کتاب القبسات ، ولا المولي صدر المتألهين الشيرازي، ولا المولي نظام الدين الدشتکي صاحب کتاب اثبات الواجب والامالي الفلسفية ولا المولي شمس الدين الکيلاني صاحب کتاب حدوث العالم ولا السيّد أبو القاسم الفندرسکي ولا الشيخ علي الکمره اي الشيرازي، ولا المولي فياض اللاهيجي صاحب کتاب شوارق الالهام ، ولا المولي آقا حسين بن محمد الخوانساري صاحب حاشية شرح الإشارات وإلهيات الشفاء ولا غيرهم من فلاسفة ذلک العصر رغم کثرة عددهم.

ولقد کان لظهور الفکر والمسلک الاخباري بين الشيعة والسنة خطر عظيم يهدد العلوم العقلية، اذ الاخبارية السنية - التي سميت فيما بعد بالوهابية نسبة إلي محييها ومحي معالمها الشيخ محمد بن عبدالوهاب - تعتقد بانحراف الکلاميين والفلاسفة وضلال کتبهم ومعتقداتهم لأنها - علي حد زعمهم - وليدة فکر البشر و خروج عن دائرة الکتاب والسنة النبوية الشريفة وخلاف لظواهر الآيات والأحاديث وکل تخط عن هذه الظواهر کفر و الحاد وضلال، وأما الإخبارية الشيعية - وقد اطلق علي أصحابها الأخباريون - کانوا يرون أيضاً أن لا مجال للعلوم العقلية وکل ماخالف ظواهر الکتاب والسنة وروايات أهل البيت عليهم الصلاة والسلام فهو باطل وضلال، ظهرت هذه الأفکار وهذا المسلک في القرنين الثالث والرابع الهجريين فتصدي لأصحابها کبار علماء المذهب کالمرحوم الشيخ المفيد والسيّد المرتضي والشيخ الطوسي والمحقق الحلي والعلامة الحلي وغيرهم و هزموهم شر هزيمة، ثم ظهر ثانية في القرن الثاني عشر الهجري فتصدي لهم بطل ساحة العقل والبرهان الوحيد البهبهاني الملقب باستاذ الکل وتبعه بعض خيرة

ص: 75

تلامذته مثل المرحوم کاشف الغطاء والمرحوم بحر العلوم والمولي مهدي النراقي أعلي الله مقامهم الشريف، وألحقوا بهم کذلک شر هزيمة ونگسوا رايتهم إلي يومنا هذا، إلا أن الاخبارية السنية تجددت باسم الوهابية وهي مازالت تحاربّ العقل والبرهان ولا تري للعقل أي قدرة علي فهم الشريعة والدين وان الدين لا يدرک إلّا بالحديث النبوي والکتاب الکريم.

في هذه الظروف العصيبة ظهر المولي صدر المتألهين بفلسفة جديدة لم يسبق لها مثيل هي أعظم من الحکمة المطلقة تعتمد في حصول المعرفة علي طرق ثلاثة هي طريق البرهان، وطريق الکشف والاشراق، وأخيرا طريق الوحي السماوي بالاعتماد علي الکتاب والسنة، ورفض الکشف والاشراق إلا إذا کان مستنداً إلي الکتاب والسنة غير مخالف للبرهان اليقيني أيضاً، سماها بالحکمة المتعالية وهي في الحقيقة مزيج متکامل متطور من فلسفة افلاطون و ارسطو وفلوطين وفلسفة المشاء والاشراق والعرفان والکلام والتفسير والحديث.

لکن الظروف العصيبة والأزمة المتصاعدة سرعان ما أجبرته علي اختيار العزلة والانزواء، فقد اعتزل الناس طيلة خمسة عشر عاماً قضاها في قرية جبلية من ضواحي مدينة قم المقدمة تسمي قرية «کهک»، بعيداًعن الحياة الاجتماعية لا شک أنها کانت سبباً هاماً في ابداعات المولي صدرا و فتوحاته الفلسفية.

من أبرز الفلاسفة الذين ظهروا بعد المولي صدرا واتخذوا منهجه و مسلکه وطريقته وهي الحکمة المتعالية محوراً لبحوثهم ودراساتهم الفلسفية بل بات کتابه الأسفار الأربّعة هو المنهج بعينه ، من أشهر هؤلاء الفلاسفة المولي علي النوري الاصفهاني المتوفي عام 1246 هجري والمولي جعفر اللاهيجي والمولي مصطفي القمشه اي و الميرزا محمد رضا الأصفهاني والميرزا حسن النوري والمولي عبدالله الزنوزي التبريزي والحاج المولي هادي السبزواري، والشيخ احمد الاحسائي

ص: 76

مؤسس طريقة الشيخية في القرن الثالث عشر الهجري شارح المشاعر وحکمة العرشية من کتب المولي صدرا، والمولي محسن الفيض الکاشاني وأمّا في القرن الرابع عشر فقد ظهر الميرزا مهدي الاشتباني صاحب کتاب أساس التوحيد ، والسيّد جمال الدين الأسدآبادي - الأفغاني - و المولي محمد فاضل الايرواني والميرزا أبو الحسن الأصفهاني والميرزا محمد طاهر التنکابني والمدرس الزنوزي صاحب بدايع الحکم والميرزا محمد رضا القمشه اي و غيرهم إلي عصرنا الحاضر ، الذين برز من بينهم السيّد أبو الحسن الرفيعي القزويني و محيي الدين القمشه اي صاحب کتاب الحکمة الإلهية والحائري المازندراني والسيّد جلال الدين

الاشتياني.

ص: 77

ص: 78

بسم الله الرحمان الرحيم

کلام بمنزلة المدخل لهذه الصناعة

(1)

الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسّلام علي سيّدنا محمد و آله الطاهرين .

ص: 79


1- أولاً : ينبغي معرفة المفهوم الصحيح لموضوع العلم الذي يتم البحث عنه. وهو من المباديء التصورية لذاک العلم. ثانياً: ينبغي اثبات وجود الموضوع في الخارج. وهو من المباديء التصديقية له. . ولو کان لذاک العلم اصول موضوعة مستقاة ومأخوذة من علم آخر، أو يجب اثباتها فيما بعد فلا بد من ايرادها في المقدمة. وأخيراً لابّد من بيان فائدة العلم وهو في الحقيقة العّلة الغائية لايجاد ذاک العلم. في مقدمة هذا الکتاب أورد المصنف (طابت نفسه) هذه المطالب أعني أنه ذکر ما يفيد کل ما ذکرناه آنفاً، وأدرج هذه النتائج ضمن بيانّه الذي سيأتي بعنوان المدخل لهذه الصناعة. للصناعة حکم المشترک اللفظي ، اذ الصناعة تارة في عرف العلوم مساوق للعلم، لا فرق أن نقول هذا العلم أو هذه الصناعة. وتارة معناها أخص من هذا کما يقال في علم المنطق الصناعات الخمس، فالمنطق بأکمله يعّد صناعة واحدة بلحاظ والبرهان صناعة بالمعني الأخص ، هکذا الفن ، اذ تارة يقال فن المنطق مثلاً، وتارة يقال بمعني خاص فيطلق علي أبعاد علم من العلوم فيقال فنون العلم الفلاني. الحاصل : ان کلمة العلم والصناعة والفن قد تستعمل جميعها مترادفة. و مراد المصنف رضي الله هنا من الصناعة هو علم الفلسفة الأولي أي العلم الکلي. کلمة الفلسفة أيضاً تارة تطلق علي جميع العلوم الحقيقية وکل من أبعادها المتعددة کالعلوم الطبيعية و الرياضيات وغيرهما کانت تسمي تسمية خاصة بها. والفلسفة المقصودة في هذا الکتاب أي الفلسفة الإلهية ما هي إلّا جزء من الفلسفة القديمة التي تسمّي بما بعد الطبيعة أو الفلسفة الإلهية أو العلم الکلي. ثمّ أن الفلاسفة اختلفوا في عدد العلوم النظرية فالمرحوم صدر المتألهين في حاشيته علي کتاب الشفاء لابن سينا يقول: أن القدماء (ويعني من تقدّموا علي ارسطو) کانوا يقسمون العلوم النظرية إلي ثلاثة أنواع هي : الطبيعية والرياضية والإلهية، أما ارسطو فإنّه قسمّها إلي أربّعة، هي الطبيعية وما بعد الطبيعة والرياضية والإلهية. يستفاد من کلام صدر المتألهين أعلي الله مقامه) أن في فلسفة أرسطو کان ما بعد الطبيعة علما مغايرة للعلم الإلهي، وإن العلم الإلهي کان مختصة بمعرفة الله تعالي، وأن ما بعد الطبيعة کان من الکليات التي لا تخص البحث عن الواجب تبارک وتعالي. أمّا ابن سينا فإنّه قسم الفلسفة النظرية إلي أقسام ثلاثة الطبيعية والرياضية والإلهية، وقسّم ما بعد الطبيعة إلي الفلسفة الإلهية، وما نقول به هنا من الفلسفة الإلهية قائم علي نفس التقسيم الذي قدمّه المرحوم ابن سينا، وعليه فالإلهيات بالمعني الأخصّ أيضاً منضمة إلي الفلسفة الاولي و مندرجة تحتها. فالفلسفة التي تقصدها وندرسها هنا تشمل الفلسفة بالمعني الأعم وبالمعني الأخص معاً. في هذه المقدمة يبدأ ببيان الموضوع ما هو ثم يشرع في اثباته وکيف يمکن اثباته. وهل يحتاج الي الاثبات أم لا؟ ونتيجة مقدمته أن موضوع الفلسفة الأولي أو الفلسفة الإلهية هو الموجود بقول مطلق. أمّا مفهوم الموجود فهو من البديهيات الغنية عن التعريف. وأما اثبات الموجود بالمصداق الخارجي أيضاً من البديهيات التي لا تقبل الانکار الّا من قبل السوفسطائيين والشکاکين ، وحتي من أنکره فإنّما توجه انکاره لفظية لا حقيقة، لأنهم بصورة أو بأخري اضطروا إلي اثباته. نقرأ في هذا المدخل : أ- أنّ الفلسفة أعم العلوم، لأن موضوعه أعم الموضوعات، فجميع العلوم في اثبات موضوعاتها تحتاج الي الفلسفة، بينما الفلسفة غنية في ذلک عن جميع العلوم لأن موضوعها - وهو الوجود - بديهي التصور والتصديق. ب - لما کان موضوع الفلسفة هو الوجود، لزم کون محمولات القضايا الفلسفية هي «الموجود»، وهذه المحمولات اما تساوي الوجود أو هي أخص منه، لکنها مع ما يقابلها يساويان الوجود. ج - ان القضايا الفلسفية ترد بطريقة عکس الحمل مثل الواجب موجود والممکن موجود، الوجود يکون واجبأ و يکون ممکناً. د- لا غاية للفلسفة لتکون الفلسفة آلة غائية لها، لأن موضوعها - وهو الوجود - أعم الموضوعات. ه- لما کان موضوع الفلسفة عبارة عن مطلق الوجود، فلم يکن معلولاً لعّلة أخري ، ولهذا فليست البراهين الفلسفية براهين لقية يسلک فيها من العلة إلي المعلول، ولا هي براهين إنية يسلک فيها من المعلول الي العلة ، وانما يستدل فيها عن طريق الملازمات العامة التي يستدل فيها من أحد المتلازمين علي الآخر.

إنّا معاشر الناس أشياءُ موجودةُ جدّاً، ومَعَنا أشياءُ أُخَر موجودةُ ربّما فعلَت

فينا أو انفعلت منّا، کما أنّا نفعل فيها أو ننقعل منها.

هناک هواء نستنشقه، وغذاء نتغدّي به، ومساکن نسکنها، وأرضُ نتقلّب عليها ، وشمسّ نستضيء بضيائها ، وکواکبُ نهتدي بها ، وحيوانُ ، ونباتُ، وغيرهما .

وهناک أُمورُ تصرها، وأُخري نسمعها، وأخري نشمّها ، وأخري تذوقها ،

وأُخري وأُخري.

ص: 80

مقدمة المؤلف

وهناک أمورُ تقصدها أو نهربّ منها، وأشياءُ تحبّها أو بُغضها، وأشياءُ

نرجوها أو نخافها، وأشياءُ تشتهيها طباعُنا أو تتنفّر منها ، و أشياءُ نُريدها لغرض الاستقرار في مکاني أو الانتقال من مکان أو إلي مکان أو الحصول علي لذّةٍ أو الاتّقاء من ألم أو التخلّص من مکرو أو لمآربّ أخري.(1)

يردعليه ،هو:

ص: 81


1- فما دليل هذه الدعاوي ؟ ما ذکره المؤلف قدّس سرّه في هذه الفقرة من وجود أشياء حقيقية حولنا ومن کوننا وجودات و موجودات خارجية حقيقية، ومن إننا نتأثر تارة بها ونؤثر فيها تارة أخري، علي نحو الاجمال والتفصيل، کل هذه من الامور البديهية لدي الناس جميعاً، بل هي من الأوليات التي لا تقبل الانکار، ولهذا نتساءل: فلماذا ذکرها العلامةقدس سره ا بتفاصيلها رغم أن بيانّها تحصيل للحاصل ؟! والجواب أن هناک جماعة کانوا وما زالوا من المفکرين ودعاة الفلسفة لا سيما في الغربّ ممن انکروا هذه الحقائق بل أنکروا کل وجود خارجي مطلقاً رغم بداهتها، وبلغ بهم الأمر حتّي انّهم أنکروا وجود أنفسهم، بل اعتبروا الاشياء کلها مجرد أمور ذهنية وجعلوها وليدة أذهان البشر وافکارهم ليس الا کالفيلسوف الغربّي المعاصر «بولي» والفيلسوف اليوناني القديم «بروتاغوراس»، لکنهم رغم انکارهم التام للحقائق في عالم الخارج واقتصارهم علي وجود الأشياء في عالم الذهن والخيال البشري إلا أنهم لم يقدروا علي انکار وجود فکرهم الذي يقول «أنا أشک في کل شيء» أو «أنکر وأرفض وجود حقائق خارجية» فاضطروا إلي اثبات هذه الفکرة وهذا المدعي. حتي جاء من يقول في مقام الاحتجاج عليهم أن هذه الفکرة إما أن تکون موجودة حقيقة أو أن لا يکون لها وجود حقيقي في الخارج، فعلي الثاني تعد هذه من الأوهام والخياليات وهي مجرد صورة ذهنية أيضاً فلا اعتبار للأوهام والصور الخيالية المحضة ما لم تتحقق في عالم الواقع والخارج، وعلي الأول فهي حقيقة خارجية وکل فکرة حقيقية لا جرم تحتاج الي مفکر في عالم الخارج والواقع حقيقي أيضأ وإذا جاز وجود شيء واحد حقيقة جاز بل وجب وجود أشياء وأشياء في عالم الحقيقة والخارج، لما بين الأشياء والموجودات من ارتباط وثيق لا يقبل الانفکاک ، کحلقات سلسلة واحدة، فاثبات الواحد منها يقتضي بل يستلزم اثبات عشرات بل مئات بل الوف بل ملائين الأشياء لأن بعضها يدل علي بعض والکل يدل علي الصانع الحکيم تبارک وتعالي. ثم جاء ديکارت بهذه المقوله بناء علي اعتراف القوم «أنا أفکر، فأنا موجود» وکانت هذه المقولة ضربّةً عنيفةً علي دماغ هذا المذهب السفسطي الذي نسب أصحابه أنفسهم الي الفلسفة زورا ًوبهتاناً. وسمي هذا المذهب حتي أواخر القرن الثامن عشر بالمذهب المثالي وذلک لقولهم بالمثل الأفلاطونية وان لکل نوع من الأنواع المادية ربّا يسمي بالمثال المجرد يباشر تدبير امور ذلک النوع، وهي أربّاب الأنواع، واطلق فيما بعد علي منکري الحقائق الخارجية مطلقاً، فأصبح الايدئاليسم أو المذهب المثالي اسمأ مرادفا للسفسطة والسوفسطائي مقابل الرياليسم أو المذهب الواقعي الذي يذهب الي اثبات کل الحقائق الخارجية. والحاصل أن هناک من يقول أو کان يقول بأن الحقيقة نسبية ولا حقيقة الا ما في ذهن البشر، فما انتقش علي صفحة ذهني من الأمور يُعدُّ حقيقة بالنسبة لي وما انتقش علي صفحة ذهنک يعد حقيقة بالنسبة لک وهکذا... فلا حقيقة ثابتة في الخارج، ودفعة لاحتمال وجود من يحمل مثل هذا النوع من التفکير بدأ المؤلف قدس سره ن کلامه بهذه البديهيات حتي لا يبقي عذر لمنکري الحقائق سواء من المثاليين أو الشکاکين، وذلک إن انکار المنکرين و تشکيک الشکاکين لا يضر بالحقيقة الثابتة، والحقائق الخارجية امور ثابتة لا يمکن أن تتأثر بانکار منکر ولا بتشکيک شاک ، بل الموجود المطلق الذي عبارة عن موضوع الفلسفة لا يحتاج الي اثبات لکونه من الأوليات التي لا تقبل النقاش وهکذا مفهوم الوجود بديهي غاية في البداهة . . اذن موضوع الفلسفة - الموجود المطلق لا نوع خاص من الوجود - غير قابل للشک والانکار، ولا يشکک في هذه الحقيقة أو ينکرها إلا من کان في قلبه مرض کالمعاند والمکابر أو من في خلايا عقله خلل کالمجنون وصاحب الوسواس . ولمزيد من الاطلاع علي مقولة السوفسطيين القائلين بالانکار أو التشکيک راجع الفصل الثامن من المقالة الأولي من الهيات الشفاء، أو الجزء الأول من الأسفار . تمّ الحديث في الفقرة السابقة عن بداهة موضوع الفلسفة، والکلام هنا عن امکان واحتمال وقوع الخطأ في الفکر البشري سواء في المقدمّات أو في النتائج وسواء فيما کان عقلياً محضاً أو حدسياً أو معتمداً علي الحس والأحاسيس والتجاربّ الحسية ، فالحسي - المحسوس - أو الحدسياً أو العقلي کلها معرضة للخطأ من قبل الانسان لا من جهة هذه الوجودات والحقائق الثابتة بل من جهة قابلية الانسان للخطأ وعدم کونه معصوماً - طبعاً يستثني من هذه القاعدة المعصومون عليهم الصلاة والسلام - فما أکثر الأحکام والقوانين الطبيعية وغير الطبيعية التي توصل اليها الانسان ثبت بطلانّها وکم من نظرية علمية کانت مورد اطمئنان بل يقين عند أهلها، ثم ثبت کونها سراباً وخيالاً باطلاً، فليست معرفتنا بالحقائق صحيحة دائماً ولا مطابقاً للواقع أبداً، فقد نجزم أحيانا بالأشياء علي خلاف ما هي عليه کأن نحسب ما ليس بموجوداً موجودة أو نحسب ما هو موجود ليس بموجود - فنعتبر المعدوم موجوداً والموجوداً معدومة - بالجهل المرکب. هذه الحقيقة التي لا نشک فيها من ضعف قوي الادراک لدي الانسان ووقوع الخطأ في قواه الادراکية - الحدسية والحسية، والعقلية والتجربّية - دفعته لأن يبحث عما يتکفل له تمييز ما هو الحق مما هو باطل وما هو موجود حقا مما هو محض أوهام و تخيلات، کما أن اللغويين والنحويين لصيانة اللسان من الخطأ في البيان انتهوا الي وضع قواعد النحو والصرف والمنطقيين لصيانة الفکر وحفظ الذهن من الخطأ في التفکير عمدوا الي وضع القواعد المنطقية. فسعي واجتهد بفضل الحجة الباطنة معتمداً علي عقله مستنداً اليه حتي توصل الي علم يتکفل ببيان أحوال الموجود بما هو موجود - أي الموجود المطلق - فارغ من جميع الخصائص النوعية والفردية، ألا وهو علم الفلسفة أي العلم الذي يستند في إدراک الحقائق علي البرهان والقياس البرهاني الموصل الي القطع واليقين ، واليقين طريق يهدي إلي الحق أو الطريق الأوحد المنتهي بصاحبه الي الحق. وهذه هي الغاية من علم الفلسفة، والمراد هنا بطبيعة الحال الفلسفة الاولي - أو ما بعد الطبيعة -. أقول: لا شک أن الفلسفة من العلوم المطلوبة بذاتها ولا يقتصر الحاجة اليها والغاية منها علي کونها رافعة للجهل المرکب بالبرهان اليقيني ولا شک أيضاً أن هناک مسائل لا يتکفل بالاجابة عنها سوي الفلسفة بل أن سائر العلوم تحتاج الي هذا العلم، لا شک في هذا، ولکون هذا الأمر بديهية لم يجد العلامة قدس سره ضرورة لذکرها واقتصر علي بيان الجانب الأکثر شيوعا والأشد أهمية، وبهذا يندفع اشکال شيخنا الأستاذ - دام ظله - في تعليقته علي النهاية وإذ قال رحمه الله في بداية الحکمة ما هذا نصه «وغايتد - تمييز الموجودات الحقيقية من غيرها، ومعرفة العلل العالية للوجود، وبالأخص العلة الاولي التي اليها تنتهي سلسلة الموجودات ، واسماؤه الحسني وصفاته العليا، وهو الله عز اسمه». فلا حصر للغاية عنده طاب ثراه. والفلسفة قائمة علي البرهان اليقيني أو القياس البرهاني الذي عده المنطقيون هو الوحيد الموصل للقطع واليقين المطابق للواقع، لا مطلق القطع واليقين - من أمثال الجهل المرکب - من بين انواع القياس الخمسة فلا مجال في الفلسفة الاولي للشعر والخطابة والمغالطة والجدل، لأن القياس البرهاني مصون من الطعن ولا تتطاوله أيدي التبديل والتغيير، عاصم لصاحبه عن الخطأ في النتيجة أن أحسن ترتيب المقدمات، وهي عملية عقلية محضة لا دخل للتجربّة والحس والأحاسيس فيها . فالقياس السليم هو القياس البرهاني والاعتقاد السليم هو الاعتقاد البرهاني. قوله (قّدس الله نفسه) : (ولکن البحث عن الجزئيات) في الفلسفة الاولي محال باطل لأن طريقة الاستدلال بالقياس البرهاني يفيد الکلية أولاً واليقين ثانية والکلية وافادة اليقين في الاستدلال من خصائص هذه الاقسية ، وذلک أن معرفة الأحکام الجزئية للموجود لا تتم علي وجه اليقين إلا بمعرفة الأحکام الکلية للموجود المطلق ، وبمعرفة القاعدة الصحيحة يتم معرفة المصاديق علي وجه الجزم واليقين وأما البحث عن الجزئيات وأحوالها وخصائصها وأحکامها أولا : (خارج عن وسعنا) لکثرتها وکونها غير متناهية بالنسبة لنا. وثانيا : (علي) أي علاوة علي ذلک ان البرهان لا يجري في الجزئي) والجزئي لا يکون کاسبة ولا مکتسبة لأن أحکام الجزئي محدودة لا تسري الي جزئي آخر، فمعرفة حکم أو أحکام جزئي من الجزئيات لا يکشف عن حکم جزئي آخر کما أن معرفة أحکام الجزئيات بالاستقراء التام أمر مستحيل، وبالاستقراء الناقص لا يفيد الجزم بحکم الکلي أو الحکم الکلي، فلا اعتبار للشخصية في العلوم. اذن لا يجري البرهان في الجزئي (بما هو) أي الجزئي (متغير زائل) لأن المصاديق والأفراد والأجزاء الخارجية في حالة من التغيير والتبدل الدائم وحرکة جوهرية مستمرة، لکن الکلي أمر ذهني ثابت لا يطرأ عليه التغيير وان تلفت الأذهان و تغيرت، ونحن في صدد تطبيق الکلي علي مصاديقه وأفراده، ولهذا لزم تحديد أحکام الکلي - أي الموجود المطلق والموجود بما هو موجود - وإذا تم ذلک سهل تمييز الموجود حقيقة عن غيره فلا يمکن للفلسفة أن تميز جميع الحقائق الجزئية بما أنها جزئية بل لابد من تمييزها من خلال تعيين معيار و قانون کلي ينطبق عليها جميعاً فيتم تشخيص الحقائق عن الأوهام. فهي تبحث عن الأحوال الکلية للموجود المطلق بلحاظ عدم اختصاصها بنوع معين من الموجودات أو بماهية خاصة من الماهيات خلاف لسائر العلوم قوله (طاب ثراه) : (ولما کان من المستحيل أن يتصف الموجود) بما هو موجود (بأحوال غير موجودة) بل معدومة لاستحالة وقوع المعدوم وصفاً للموجود عقلا، ولما کان من المستحيل ذلک (انحصرت الأحوال المذکورة) التي يصح البحث عنها في الفلسفة من أحوال الموجود المطلق علي قسمين من الأحوال فقط دون مطلق الأحکام والأحوال ، اذن انحصر الکلام أولأ: (في أحکام تساوي الموجود من حيث هو موجود) فکما أن الوجود موجود فان صفاته وأحواله موجودة أيضا لکن هذه الصفات قد تکون مساوية للوجود من جهة المصداق أعني انّها مساوية للموجود المطلق مصداقا وإن کانت مباينة له من جهة المفهوم کالخارجية المطلقة) أي العينية التي تکون منشأ أثر في الخارج أو في الذهن، فالخارجية المطلقة کون الشيء منشأ أثر مطلقة والخارجية بهذا المعني تساوي الموجودية اذ الموجود اما ذهني أو خارجي ، فالخارجية اذن حکم فلسفي يساوي الموجود المطلق، وليس المراد هنا الخارجية الخاصة التي تقابل الوجود الذهني. (و الوحدة العامة) مقابل الوحدة الخاصة التي لا تشمل إلا الواحد الحقيقي، لکن الوحدة العامة شاملة للواحد الحقيقي والواحد الاعتباري معين مثل أحمد وعلي فان کل واحد منهما واحد حقيقي واما الکلي مثل الرجال والنساء فواحد اعتباري . اذّن يشمل الواحد والکثير إذ الکثير من جهة انّه موجود بعد کثرة واحدة. فالوحدة العامة تساوي الموجود المطلقاً أي ذاک عين هذا، (و) مثل ( الفعلية الکلية) وهي الفعلية التي تشمل کل ما يکون بالفعل وکل ما يکون بالقوة أيضا، لأن القوة وإن عدت بالقوة بالنسبة لما تحمل من استعداد کالنطفة التي تعد بالقوة بالنسبة للإنسان أو النواة بالنسبة للنبات الا ان هذه القوة في قوتها فعلية. فالخارجية والوحدة والفعلية وإن کانت مغايرة للموجودية من جهة المفهوم، لکنها من جهة المصداق مساوية لها، فبينها وبين الموجودية المطلقة تباين مفهوماً و تساو مصداقاً. ثانياً : (أو تکون أحوالاً) للموجود (هي أخص من الموجود المطلق) من جهة المصداق وهي نفس الأمثلة السابقة لکن بمعناها المقيد أو الأخص أو الجزئي لا المطلق العام الکلي فالخارجي والواحد وبالفعل بهذا المعني أخص من الموجود المطلق الذي هو عبارة عن موضوع الفلسفة (لکنها) أي هذه الأحوال الخاصة (وما يقابلها جميعا) أي من حيث المجموع لا الانفراد ( تساوي الموجود المطلق) أي تساوي موضوع الفلسفة فحملها بوحدها علي الموجود المطلق يکون من باب حمل الخاص علي العام، وأما حملها بضميمه ما يقابلها معا يکون من باب حمل الشيء علي نفسه. قوله قدس سره: ( والمجموع من هذه الأبحاث). المراد من هذه العبارة ان البحث عن العوارض الذاتية للموجود المطلق أعني ما لا يحتاج في عروضه علي الموضوع إلي الواسطة في العروض عند المصنف (عليه الرحمة)، وإن کان الذاتي عند الخواجه نصيرالدين الطوسي قدس سره و عبارة عن أن يکون ترتب الموضوع علي المحمول وحمل المحمول علي الموضوع حاصاً بسبب اقتضاء ذات الموضوع وإن کان مفتقرة في ذلک إلي الواسطة في العروض - کما في منطق الاشارات - وکيف کان فان مجموع هذه المسائل التي موضوعها الموجود المطلق ومحمولها يساوي الموضوع بنفسه أو يساويه بضميمة ما يقابله من مفهوم، مجموع ذلک کله (هو الذي نسميه : الفلسفة)، والفلسفة الأولي والعلم الکلي والعلم الأعلي وما بعد الطبيعة وذلک أنه يبحث عن أحوال ما بعد الطبيعة وما وراء الطبيعة أو سمي بذلک کما قيل لأنهم لما رتبوا کتب ارسطو الفلسفية جعلوا القسم الذي يبحث عن الأحوال الکلية للوجود - أي ما نحن بصدد البحث عنه ههنا - متأخرة عن الطبيعيات ، فسميت ما وراء الطبيعة. وقد تبين بما تقدم) أمور هامة : أوّلاً : أن الفلسفة أعّم العلوم جميعاً، لأن موضوعها أعم الموضوعات) خلافاً لسائر العلوم فإن موضوعاتها رغم کليتها الا أن لکل منها موضوعا خاصا ويتناول کل منها موضوعا معينا يمثل جانبا من جوانب الحياة کالنحو الذي يتناول البحث عن أحوال الکلمة والکلام من جهة الاعراب والبناء، والطب الذي يتناول البحث عن جسم الانسان، والحساب - الرياضيات - الذي يتناول البحث عن العدد والهندسة التي تبحث عن المقدار المتصل وعلم الفقه الذي يبحث عن الأحکام الخمسة عن ادلتها والمنطق الذي يختص بالبحث عن المعرف والحجة وهلم جرّاً. فالعلوم جميعا تتوقف عليها) أي علي الفلسفة (في ثبوت موضوعاتها) وذلک أن هذه العلوم لا تتکفل بالبحث عن موضوعاتها نفياً واثباتاً أعني أنها معلومة الموضوع، متعينة موضوعاتها قبل الخوض فيها، ثابتة عند أهلها، موجودة لا تحتاج الي البحث في أصل وجودها، فهي تبحث عن موضوعاتها حالکون موضوعاتها ثابتة الوجود والماهية . اذن لما کانت الفلسفة أعم العلوم موضوعا، ولما کانت المنفعة منها تمييز ما هو موجود - حق - وما ليس بموجود بل موهوم - و باطل - هي التي تتکفل با ثبات موضوعات العلوم جميعا ، فتحکم بثبوت و وجود الموضوع الفلاني وکونه حقيقة، أو بعدم وجود الموضوع الفلاني - أعني نفيه - والحکم عليه بالموهومية، (وأمّا الفلسفة فلا تتوقف في ثبوت موضوعها علي شيء من العلوم لعدم وجود علم أعم منه يشتمل عليه ، هذا أولا، وثانيا لأن موضوع الفلسفة بديهي المعرفة تصور وتصديقا ، فلا يحتاج إلي المعرف في مقام التصور، ولا يحتاج الي الدليل والحجة في مقام التصديق ، لأن الموجودية) والتحقق والواقعية (نفسه) أي نفس موضوع الفلسفة، فاذا وصفنا موضوع الفلسفة بالوجود وحملنا الوجود عليه بقولنا : موضوع الفلسفة موجود أو ثابت أو حقيقة فکأنما حملنا الشيء علي نفسه وقلنا الوجود موجود أو الثابت ثابت ، وحمل الشيء علي نفسه من أبدد البديهيات ، وهذا کله راجع الي بساطة مفهوم الوجود، لأن الذي يقبل التعريف هو المفهوم المرکب - من الجنس والفصل . وأما البسيط فلا يقبل التعريف. أو کما قال الشيخ الرئيس : «لأنه مبدأ أول لکل شيء» أي أن کل شيء في تعريفه يحتاج الي الوجود، ولا شيء خارج الوجود حتي يصح أن يکون معرُفاً له. قوله رضي الله : (وثانية...) الي قوله (کقولنا ان کل موجود فإنه - من حيث هو موجود - ) لا من حيئية اخري لأن الموجودية حيثية عامة خالية من القيود الخاصة بالفرد أو النوع فان کل موجود أيا کان شخصه أو نوعه فإنه من جهة الموجودية (واحد) عام شامل للواحد الحقيقي والاعتباري مع (أو بالفعل) بمعني الفعلية الکلية التي تشمل الفعل والقوة معاّ. قوله رضي الله: (وثانيا ان موضوعها لما کان أعم الأشياء.. الخ). أقول: ظاهر هذه العبارة ان احتياج جميع العلوم الي الفلسفة يرجع إلي کون الفلسفة أعم من کل شيء، والحال أن المراد هو کون احتياج جميع العلوم الي الفلسفة يرجع الي ان مباديء سائر العلوم يتم اثباتها في علم سابق علي تلک العلوم، ولما کان اثبات مباديء تلک العلوم متوقفا علي الفلسفة ، کانت الفلسفة أعلي من تلک العلوم من جهة عدم توقف اثبات مسائلها علي شيء من تلک العلوم و توقف اثبات مسائل تلک العلوم علي مباديء يلزم اثباتها في الفلسفة، فالمراد أنه أعم الأشياء بهذا المعني لا المعني الحقيقي المتعارف. وأمثال هذه المسائل التي يکون فيها المحمول أخص من الموضوع (مع ما يقابلها ) کالقوة والفعل والواحد والکثير والعلة والمعلول حيث نقول أن الموجود أما بالقوة أو بالفعل و أما واحد أو کثير واما علة أو معلول فالفعل والواحد والعلة کلها بالمعني الخاص وتعتبر مع ما يقابلها مساوية للموجود المطلق، (تعود إلي قضايا مرددة المحمول) بل تستي قضايا مرددة المحمول وهي القضايا التي يکون المحمول مرددا بين أمرين أو أکثر بالنسبة الي موضوعه بحيث تتألف هذه القضايا من قضيتين موجبتين جزئيتين أو أکثر فقولنا الموجود أما بالقوة وأما بالفعل کالقول ان بعض الموجود بالقوة وبعضه بالفعل فهي أجزاء من القضايا المنفصلة، فالقوة والفعل والعلية والمعلولية والوحدة والکثرة وان کانت أخص من جهة المصداق من الموجود لأن بعض الموجود علة وبعضه معلول، بعض الموجود بالقوة وبعضه بالفعل ، بعض الموجود واحد وبعضه کثير ، إلا أنها معأ تعادل الموجود و تساويه .

وجميع هذه الأمور التي نشعر بها ، ولعل معها ما لا نشعر بها، ليست بسُديً، لا أنّها موجوده جّداً وثابتةً واقعاً. فلا يقصد شيءُشيئاً إلا لأنّه عينُ خارجّية

ص: 82

و موجودُ واقعيُّ أو منتبه إليه، ليس وهماً سرابيّاً . فلا يسعنا أنّ نرتاب في أنّ هناک وجوداً، ولا أن ننکر الواقعّية مطلقاً، إلّا أن نکابر الحقّ فننکره أو نُبدي الشک فيه ، وإن يکن شيءُ من ذلک فإنما هو في اللفظ فحسب.

فلا يزال الواحد منّا وکذلک کلّ موجوير يعيش بالعلم والشعور، يري نفسه موجودة واقعيا ذا آثار واقعيته. ولا يمّس شيئاً آخر غيره إلّا بما أن له نصيباً من الواقعية .

ص: 83

غير أنّا کما لا نشک في ذلک لا نرتاب أيضاً في أنّا ربّما نخطيء، فنحسب ما ليس بموجود موجوداً أو بالعکس ، کما أن الإنسان الأوّليّ کان يثبت اشياءً ويري آراء ننکرها نحن اليوم ونري ما يناقضها، وأحد النظرين خطّأً لا محالة. وهناک أغلاط نبتلي بها کلّ يوم، فنشبت الوجود لما ليس بموجوبي وننفيه عمّا هو موجودّ حقّاً. ثمّ ينکشف لنا أنّا أخطأنا في ما قضينا به. فمسّت الحاجة إلي البحث عن الأشياء الموجودة وتمييزها بخواصّ الموجوديّة المحصّلة ممّا ليس بموجود، بحثاً نافياً للشک منتجاً لليقين، فإّن هذا النوع من البحث هو الذي يهدينا إلي نفس الأشياء الواقعية بما هي واقعية . وبتعبير آخر: بحثاً نقتصر فيه علي استعمال البرهان، فإنّ القياس البرهانيّ هو المنتج للنتيجة اليقينية من بين الأقيسة ، کما أنّ اليقين هو الاعتقاد الکاشف عن وجه الواقع من بين الاعتقادات.

ص: 84

فإذا بحثنا هذا النوع من البحث أمکننا أن نستنتج به أن کذا موجودً وکذا ليس بموجود، ولکنّ البحث عن الجزئيات خارجُ من وُسعِنا، علي أن البرهان لا يجري في الجزئي بما هو متغير زائل ، ولذلک بعبنه ننعطف في هذا النوع من البحث الي البحث عن حال الموجود علي وجه کُلَّي، فنستعلم به أحوال الموجود المطلق بما انّه کلِّيَّ.

ص: 85

ولمّا کان من المستحيل أن يّتصف الموجود بأحوال غير موجودةٍ، إنحصرت الأحوال المذکورة في أحکام تُساوي الموجود من حيث هو موجودُ، کالخارجيّة المطلقة والوحدة العامة والفعليّة الکلّية المساوية للموجود المطلق، أو تکون أحولاً هي أخصّ من الموجود المطلق، لکنّها وما يقابلها جميعاً تُساوي الموجود المطلق ،

ص: 86

کقولنا: «الموجود إمّا خارجيُّ أو ذهنيُّ» و «الموجود إمّا واحدُ أو کثيرُ» و «الموجود إمّا بالفعل أو بالقوّة» والجميع - کما تري - أمورُ غير خارجة من الموجوديّة المطلقة ، والمجموع من هذه الأبحاث هو الذي نسمّيه : «الفلسفة».

وقد تبيّن بما تقدم : أوّلاً : أنّ الفلسفة أعمُّ العلوم جميعاً، لأنّ موضوعها أعمُّ الموضوعات، وهو

ص: 87

الموجود» الشّامل لکلُّ شيء. فالعلوم جميعاً تتوقّف عليها في ثبوت موضوعاتها. وأمّا الفلسفة فلا تتوقّف في ثبوت موضوعها علي شي من العلوم، فإنّ موضوعها الموجود العام الذي نتصوّره تصوّراً أوليّاً ونصدّق بوجوده کذلک ، لأنّ الموجودية نفسه.

وثانياً: أنّ موضوعها لمّا کان أعَّم الأشياء ولا ثبوتَ لأمرٍ خارج منه کانت المحمولات المثبتة فيها إمّا نفس الموضوع ، کقولنا : «إنّ کلّ موجود فإنّه - من حيث هو موجودّ - واحدُ أو بالفعل» ، فإنّ الواحد وإن غاير الموجود مفهوماً لکنّه عينه

ص: 88

مصداقاً، ولو کان غيرَه کان باطلَ الذات غيرَ ثابتٍ للموجود، کذلک ما بالفعل ؛ وإمّا ليست نفسَ الموضوع، بل هي أخصّ منه، لکنّها ليست غيره ، کقولنا: «إنّ العلّة موجودة» فإنّ العلّة وإن کانت أخصّ من الموجود لکنّ العلّيّة ليست حيثيةً خارجةً من الموجوّديّة العامة، وإلّا لبطلت.

وأمثال هذه المسائل مع ما يقابلها تعود إلي قضايا مردَّدَةِ المحمول تساوي أطراف الترديد فيها الموجودة العامة ، کقولنا: «کلُّ موجود إمّا بالفعل أو

ص: 89

بالقوّة». فأکثر المسائل في الفلسفة جاريةّ علي التقسيم، کتقسيم الموجود إلي واجب وممکن، وتقسيم الممکن إلي جوهر و عرض ، و تقسيم الجوهر إلي مجرّد

ان مسائل کل علم لابدّ من کونها من العوارض الذاتية لذاک العلم، وقد اشترطوا في تعريف الأعراض الذاتية بعدم کونها أخص من الموضوع والمصنف رضي الله له يقبل بهذا التعريف، وهو يقول هنا أننا حين نقول : الموجود واجب أو واجب الوجود موجود، وان کان هذا الواجب الوجود أخص من الموجود المطلق إلا أنه في الحقيقة مع ما يقابله وهو ممکن الوجود يصيران مع مساويين للموجود المطلق ثم يصبحان من الاعراض الذاتية ، فمجموعهما صار عرض واحداً.

وقوله : (فأکثر المسائل في الفلسفة جارية علي التقسيم) لأن المسائل التي يکون فيها المحمول نفس الموضوع لا تزيد عن خمس مسائل في الفلسفة وبقية مسائلها من القسم الثاني وهو ما يکون المحمول فيها أخص من الموضوع لکنها ليست غير الموضوع.

وکون المسائل الفلسفية أکثرها جارية علي التقسيم مبني علي کون الأعراض الذاتية للموضوعات مساوية للموجود والبحث في هذا المجال طويل للغاية من قبيل : ماهي الأعراض الذاتية ؟ ماهي تعريفاتها الحقيقية ؟ لماذا يلزم کون المحمولات من الأعراض الذاتية بالنسبة الي موضوعاتها ؟

والعرض الأخص ليس من الذاتيات لأن العرض الذاتي يراد به الشيء الذي يقتضيه ذات الموضوع واذا کان کذلک لزم وجود المحمول کلما وجد الموضوع ولا يفترقان في حال من الأحوال وکون العرض أخص من الموضوع دليل علي عدم اقتضاء الموضوع لهذا العرض الامکان حصول الموضوع في مکان آخر من غير وجود المحمول (العرض) معه، وحاشية المصنف رضي الله علي الأسفار في أوائل المجلد الأول منه في باب الأعراض الذاتية يذکر ذلک بالتفصيل حاصله کون العرض الذاتي مساوية للموضوع ولو رجعنا إلي العلوم لم نکد نحصل علي علم تکون جميع محمولات مسائله مساوية للموضوع الموضوعه) وهکذا في الفلسفة فإن المسائل التي تتساوي محمولاتها مع الموضوع لا تتعدي المسئلتين وإلا فهناک المئات من المسائل الفلسفية الجزئية التي لا تتساوي فيها محمولات المسائل مع موضوع الفلسفة . کأحکام العلة : العلة الفاعلية والغائية والمادية والصورية ... فإنها لا تتساوي مع الموجود المطلق. وهکذا الوجوب فان انواعه مثل الوجوب بالقياس و بالغير وبالذات وهکذا في الامکان.

فکيف نقول أن هذه المحمولات أعراض ذاتية للموضوع أي الوجود المطلق ؟ والغرض أننا نقبل کون العرض الذاتي مساوية للموضوع، وقد اختار المصنف رضي الله هذا

ص: 90

و مادّيّ ، وتقسيم المجرّد إلي عقل ونفس. وعلي هذا القياس .

الطريق والحل بأن نقول في هذه الموارد التي يکون العرض الذاتي أخص من الموضوع تعتبرها محمولا مع مقابلها وعديلها لا بوحدها.

لکن هذا الوجه لا يغير شيئا من الاشکال وذلک أننا في هذه الحالة ينبغي أن نقول جميع المسائل الفلسفية تقسيمات والحال أن المسائل الفلسفية لا تقتصر علي التقسيمات بل حين نقول أن العلة الفاعلية کذا وکذا ولها خواص کذا لا يعّد هذا تقسيماً، فالبحث عن أحوال العلة الفاعلية وهو من مسائل الفلسفة ليس تقسيما وان کان أصل وجود العلة الفاعلية يعود الي التقسيم بأن العلة اما فاعلية وأمّا غائية.

وهکذا صفات الواجب تعالي فإنها ليست من مسائل التقسيمات نعم نفس الواجب من المسائل التقسيمية مثل الواجب اما واجب وأما ممکن وهکذا کثير من المسائل التي تبحث العلم والقدرة وغيرها مما ليست بالمسائل التقسيمية. هذا اشکال أول وهو ارجاع مسائل الفلسفة الي مسائل مرددة المحمول لا ينفع إلّا في نفس التقسيمات أما في سائر خصوصيات الأقسام فلا ينفع.

قد يقول قدس سره علي کل حال ما يتم اثبانّه ليس الّا وجوداً وحين نقول العّلة الفاعلية لها هذه الخواص يعني هذا أن هذه الخواص موجودة، اذن نحن لا نزال نثبت وجودات لا جرم أنها أقسام للوجود المطلق وإن کان لسان المسألة ليس تقسيماً الّا أنها في الحقيقة نقسيم حين نقول للعلة الفاعلية خصوصية ما گذائية نعني وجود هذا القبيل وهو من أقسام الوجود.

ونجيبه : بأن هذه الحالة موجودة في جميع العلوم لا تختص بالفلسفة کما لو قلنا ترکيب العنصر الفلاني مع العنصر الفلاني يوجد الترکيب الکيمياوي الخاص المعين واذا صح ذلک لزم کون جميع العلوم من قسم الفلسفة وقد قال المرحوم الميرداماد وغيره : أن کل ما هو من الهلية البسيطة فهو من مسائل الفلسفة. أي کل قضية يکون محمولها الوجود فهو من مسائل

الفلسفة.

وهذا باطل يقيناً اذ ما أکثر المسائل الطبيعية والرياضية وغيرهما التي تبحث عن الوجود هل هي من الفلسفة" نعم أن اردتم الفلسفة بمعناها الأعم الشامل لهما فإنها خارجة عن مورد البحث لا تدخل فيما نحن فيه أعني الفلسفة الاولي وما بعد الطبيعة - .

الاشکال الثاني : أن هذه التقسيمات في الموجود، التي تصير مسائل فلسفية هل هي

التقسيمات الأولية فقط. أم أنها تشمل التقسيمات الثانية والثالثة ؟

أعني اننا حين نقسم الموجود الي متقابلين يعدّ من المسائل الفلسفية فقط ؟ أم أن کل قسم من الأقسام أيضا بعد تقسيمها وکل قسم منها أيضا بعد تقسيمها ثالثة ورابعة تعد أيضاً

ص: 91

وثالثاً: أنّ المسائل فيها مسوقة علي طريق عکس الحمل ، فقولنا : «الواجب موجوّد و الممکن موجودُ» في معني : «الوجود يکون واجباً ويکون ممکناً» ، وقولنا : الوجوب إمّا بالذات وإمّا بالغير» معناه : «أنّ الموجود الواجب ينقسم إلي واجب

من المسائل الفلسفية ؟

فان قصد تم التقسيمات الأولية فقط فإنها لا تتجاوز العشر مسائل . الموجود أما واجب أو ممکن والممکن أما جوهر أو عرض والجوهر أما مجرد أو مادي والمجرد اما عقل أو نفس .

فما حکم سائر المسائل الفلسفية حينئير هل هي استدلالية جميعاً؟

وان قلتم بل المراد ما يشمل التقسيمات الثانية والثالثة مثل تقسيم الموجود الي واجب وممکن و تقسيم الممکن الي جوهر و عرض هذا تقسيم ثاني وتقسيم الجوهر الي مجرد ومادي هذا تقسيم ثالث و تقسيم المجرد الي عقل ونفس هذا تقسيم رابع.

قلنا: ان التقسيمات لا تنحصر علي ما في الفلسفة فحسب، بل هناک تقسيمات اخري کقولنا: الموجود اما حي أو ميت وکذلک الموجودات الحية اما حيوانات أو نباتات والحيوان اما من الثدييات أو أنها تبيض وهکذا يمکن تقسيم کل موضوع إلي تقسيمات کثيرة مع أنها لا تعتبر جميعها من المسائل الفلسفية لاختصاص کثير منها بالعلوم الأخري.

فما هو الملاک اذاً؟

والظاهر أن هذا الکلام لا يحل الاشکال بل ينبغي أن نعرف حقيقة الأعراض الذاتية ، ونعرف لماذا يجب کون المحمولات فيها من عوارضها الذاتية (محمولات مسائل تلک الموضوعات ان تکون من عوارضها الذاتية لماذا ؟).

و ثالثاً) يتحصل مما تقدم في الأمر الثاني (أن المسائل فيها) أي في الفلسفة (مسوقة) مبينة (علي طريق خاص يتأخر فيه الموضوع عن المحمول في القضايا الحملية والمقدم عن التالي في القضايا الشرطية وذلک لتسهيل أمر التعليم والتعلم في الفلسفة، يسمي هذا الطريق الخاص ب «عکس الحمل» في المنطق حيث يفترض أن نقول في المسائل الفلسفية وقضاياها «الموجود واجب والموجود ممکن» و «الموجود اما علة أو معلول» وهلم جرا بتقديم الموجود لکونه الموضوع في الفلسفة غير اننا نقول عادة علي العکس من هذا أعني أن المتداول هو «الواجب موجود و الممکن موجود» (فقولنا: «الواجب موجود والممکن موجود» في معني : «الوجود يکون واجبا ويکون ممکن») أي في معني «الموجود واجب أو ممکن»، فهذا کما نجد عکس للحمل المتعارف أو الذي يفترض أن يکون وخلاف له اذ الحمل ينبغي فيه تقديم الموضوع وتأخير المحمول لا العکس .

ص: 92

لذاته وواجب لغيره».

ورابعاً : أن هذا الفنّ لمّا کان أعَّم الفنون موضوعاً ولا يشدَ عن موضوعه و محمولاتها الراجعة إليه شيء من الأشياء، لم يتصوّر هناک غايةُ خارجةُ منه يقصد

ورابعاً أن هذا الفن...) الي قوله رضي الله : (لم يتصور هناک غاية خارجة منه يقصد الفن أجلها) فالمسائل الفلسفية مطلوبة بالذات و راجحة ذاتا وغاية ذاتية ، واما علم الانسان بها فلا يخلو من غاية خارجة من الفلسفة تقصد الفلسفة لأجلها وهي عبارة عن الفوائد المترتبة علي تعليم الفلسفة من معرفة الحقائق عن الأوهام واثبات موضوعات العلوم ومعرفة علل ومباديء الوجود وهکذا فإن جميع القوانين الکلية يتم اثباتها صحة وسقأ في هذا الفن کقانون العلية والمعلولية و بطلان الدور والتسلسل والواحد لا يتعدد والکلي أکبر من جزئه والنقيضان لا يجتمعان والضدان لا يجتمعان ولا ير نفعان وعشرات القوانين الاخري التي لا يخلو علم من العلوم ولا فن من الفنون عن الحاجة اليها. وهذه في الحقيقة فوائد تترتب علي الفلسفة يمکن أن نعد غاية عند طالبي هذا الفن أو عند البعض منهم.

قوله : (لم يتصور غاية خارجة منه يقصد الفن لأجلها ... الخ) يريد المصنف رحمه الله أن لکل علم غاية ولا غاية للفلسفة لانّها غاية العلوم فلا غاية لها نعم کل ما فيها هي فوائد مترتبة عليها وليست غاية لها.

لکنه رضي الله في البداية قال : «و غاية الفلسفة اثبات وجود الواجب ... الخ» وهذا يتعارض مع

قوله هنا بعدم الغاية للفلسفة.

يمکن الجمع بينهما: بکون مراده رضي الله الي من الغاية المذکورة في البداية هو الفوائد المترتبة علي الفلسفة وأن يکون المراد من الغاية هنا عدم کون الفلسفة مقدمة لعلم آخر بل مطلوبيته ذاتية لأن بعض العلوم الية أي أنها آلة ومقدمة لعلم أو علوم أخري کالمنطق الذي هو آلة للفلسفة وعلم الاصول الذي هو آلة لعلم الفقه و مقدمة له. أما الفلسفة فليست الية هکذا فهي ليست مقدمة العلم آخر. هذا وجه الجمع بينهما.

إلّا أننا رغم ذلک لا نستطيع أن نقول : لأن الفلسفة أعم العلوم وموضوعها شامل لکل

شيء ولا شيء وراء الوجود فلا غاية لعلم الفلسفة .

نعم ان دلّ هذا علي شيء فإنه يدل علي أنه ليس لموضوع الفلسفة غاية أما أن نفس

علم الفلسفة لا غابة له بهذا الاستدلال فغير تام ولا هو ثابت.

وبعبارة أخري : نعم سلمنا بکون موضوع الفلسفة الذي هو الموجود المطلق، هو شامل لکل شيء، لکننا لا نقبله ولا نسلم به دليلا علي عدم الغاية لعلم الفلسفة. نعم يدل علي عدم وجود الغاية لموضوع الفلسفة ولکن هل يدل بعدمها لنفس علم الفلسفة فلا. وکذلک

ص: 93

الفنّ لأجلها. فالمعرفة بالفلسفة مقصودةُ لذاتها من غير أن تقصدَ لأجل غيرها و تکونَ آلة للتوصّل بها إلي أمر آخر کالفنون الآلية ، نعم هناک فوائد تترتّب عليها.

وخامساً: أنّ کون موضوعها أعمَّ الأشياء يوجب أن لا يکون معلولاً لشيءِ

خارج منه ، إذ لا خارج هناک، فلا علّة له. فالبراهين المستعملة فيها ليست ببراهين لِمّية . وأمّا برهان الان فقد تحقّق في کتاب البرهان من المنطق أن السلوک من

محصولات الفلسفة لنفترض أن لا غاية لها لأنها من سنخ الوجود - وإن کان فيه تأمل لامکان وجود الغاية الموجود المستقل، نعم لو قسمناها فلا غاية لها حينئذ - وکل هذا لا يدل علي عدم وجود الغاية لعلم الفلسفة، بل له غاية، ولا نريد اثبات الغاية للوجود الخارجي - أي الموضوع مثلا - بل نريد اثباتها للعلم والعلم ليس مساوية للموجود المطلق.

فنقبل ونسلم بعدم کون الفلسفة علما آلية ولکن ليس بهذا الدليل بل بدليل مطلوبيتها

الذاتية کما في سائر العلوم غير الآلية ، فافهم وتأمل.

وخامسا: أن کون موضوعها...) إلي قوله - طاب ثراه - : (فالبراهين المستعملة فيها) أي في الفلسفة ومسائلها (ليست ببراهين لمية) والبرهان اللمي عبارة عن السلوک من العلة الي المعلول والاستدلال علي وجود المعلول بوجود علته کما يستدل علي وجود الحرارة والاحراق بوجود النار ويستدل علي وجود الضياء بوجود الشمس وهذا رغم کونه برهانا يفيد الجزم واليقين إلا انّه غير داخل في اثبات موضوع الفلسفة لکونه لا علة له بل هو معلول لذاته فلا يمکن اثباته ببرهان اللم (واما برهان الإن) فهو علي قسمين: الأول هو السلوک من المعلول الي علته واثبات العلة بواسطة المعلول (فقد تحقق في کتاب البرهان من المنطق الأرسطوئي (ان السلوک من المعلول الي العلة) واثبات العلة بالمعلول کالاستدلال علي وجود المرض مثلا بوجود صفرة الوجه واثبات وجود النار بوجود الحرارة والاحراق، لأن المرض والنار علتان للصفرة والاحراق علي نحو العلة التامة والصفرة والاحراق معلولان لهما لا علي نحو الحصر والملازمة فقد يحصل الاحراق و تحمل الصفرة من سبب غير النار والمرض فهما دليلان ظنيان ولهذا سمي هذا النوع من الدليل ، دليلا، لا برهانة، لأن البرهان خاص بما يفيد القطع واليقين، بينما الدليل أعم منه ومما يفيد الظن وأنت تعلم «ان الظن لا يغني من الحق شيئا، وعليه فان هذا القسم (لا يفيد يقينا).

فلا يبقي للبحث الفلسفي الا برهان الإن) من القسم الثاني (الذي يعتمد فيه علي الملازمات العامة ) لا الخاصة لأن الاعتماد علي الملازمات الخاصة يختص بالبرهان اللتي ولهذا (فيسلک فيد) أي في هذا القسم من برهان الإن (من أحد المتلازمين العامين) لا

ص: 94

المعلول إلي العلّة لا يفيد يقيناً، فلا يبقي للبحث الفلسفي إلّا برهان الان الذي يعتمد فيه علي الملازمات العامة ، فيسلک فيه من أحد المتلازمين العامين إلي الآخر.

الخاصين ان هناک ملازمات خاصة ومتلازمان خاصان لکل واحد منهما علة خاصة، وهناک متلازمان عامان لکليهما علة واحدة کما في ملازمات الوجود - فهو عام شامل لکل أقسام الوجود ومراتبه - فيسلک فيه حينئ من أحد المتلازمين العامين (إلي) الملازم العام (الآخر) مثلا وجوب الواجب تعالي ملازم للوجود يستدل به علي قدمه تبارک وتعالي، ووحدة الوجود ملازم عام للوجود يستدل بها علي فعلية الوجود وهکذا.

قوله : ( وخامسا ، ان کون موضوعها اعم الاشياء يوجب أن لا يکون معلولا لشيء خارج منه ، اذ لا خارج هناک فلا علة له) يريد اثبات ان في الفلسفة لا مکان للبرهان اللمي وهو الوصول من العلة الي المعلول، وان جميع البراهين الواردة في الفلسفة من قبيل البرهان الإني وذلک أن موضوع الفلسفة حين کان الموجود المطلق فلا حاجة له الي علة حيث انّه لو کان له علة لزم کونها موجودة وإذا کانت موجود، فهي الموجود المطلق أذن لا علة للموجود المطلق خارجه فلا يمکن اثبات المسائل الفلسفية عن طريق العلة، لعودة المسائل الفلسفية جميعها إلي الوجود ولا علة خارج الوجود، فإنه لو کان لدينا شيء خاص وکان معلولا الشيء آخر وکنا نتوصل الي العلم بعلته ومن طريق العلم بالعلة کنا نعلم بالمعلول کان يستي

برهانة لميا. اما موضوع الفلسفة فهو الموجود المطلق وجميع الموضوعات ترجع الي الموجود المطلق فلا علة له، فالوجود الذي يدخل فيه حتي الباري تبارک وتعالي لا نتصور له علة ، وعليه فلا مدخلية للبراهين اللمية في المسائل الفلسفية واثباتها، لعل أحد يقول ان البراهين الإنية لا تفيد العلم، فنقول : أن البراهين الإنية علي قسمين اشار اليهما المصنف في الکتاب إشکال هنا تنتهي بصورة مجملة: أولا : قيل في برهان اللم أن الحد الأوسط يجب کونه علة لثبوت الأکبر للأصغر لا لثبوت الأکبر في نفسه، لأننا نريد حمل هذا المحمول علي هذا الموضوع، هذا الحمل يحتاج إلي العلة. أما المحمول في حد ذاته فلا يهمنا أن کان ذا علة أم غير ذي علة ، ملاک کون البرهان لما هو کون الحد الأوسط علة لثبوت الأکبر للأصغر لا لثبوت الأکبر في نفسه.

ثانيا : أنهم حين يطلقون العلة في هذه الموارد، بريدون بها الأعم من العلة الخارجية و العينية حيث انّهم يقولون بالعلية بين المعقولات الثانية أيضا مثلا يقولون : علة حاجة الممکن الي العلة امکانّه أي أن المعلول لانّه ممکن فهو محتاج الي العلة. هذا ليس من قبيل العلية الخارجية، أي ليس بمعني تحقق الامکان في الخارج ثم تأثيره في الحاجة، إذ الحاجة أمر عدمي فنقول ان الامکان وجد في الخارج ثم الإمکان أوجد الحاجة والحاجة

ص: 95

أوجدت ايجاب العلّة «فالماهية امکنت فاحتاجت فأوجدت فوُجِدتُ فأوجدت فوجدته المراحل المذکورة للوجود ومرادهم من هذه العبارة : أن الماهية ممکنة الوجود ولانّها ممکنة فهي تحتاج الي العلّة ولانّها محتاجة الي العلة فهي توجد ولأنها توجد يحصل لها الوجوب ولأنه يحصل لها الوجوب يحصل لها الإيجاد ولانّها توجد يحصل لها الوجوب.

لو أغمضنا عن سائر المراحل واکتفينا بالمرحلة الأولي وهو قولنا: لانّه ممکن فهو محتاج الي العلة، وهذه هي العلّة التامة ونفس هذا الامکان لو وقع حدة أوسط يفيد برهاناً الميا کأن نقول : الانسان: ممکن الوجود وکل ممکن الوجود يحتاج الي العلّة فالإنسان يحتاج الي العلّة. فالحد الأوسط هنا هو الامکان ونسبة الإمکان الي الحاجة الي العلّة کون أحدهما علّة والآخر معلولاَ، وقد يقال ان اصطلاحنا في البرهان اللمي غير هذا المعني بل نقصد کون العلة علة خارجية.

بناء علي هذين المطلبين وما لم نذکره اختصاراً وايجازاً للبحث لا يمکن استنتاج انّه

لما کان الموضوع لا علّة له فالبراهين التي ترد في الفلسفة لا علّة لها أيضاً.

لنفترض أن الوجود الخارجي بذاته لا علة له وکذلک المحمولات لأنها من سنخ الوجود الخارجي ، اما ثبوت المحمول للموضوع قد تکون له علة وسنقول أن هذه العلة أما الوجود أو العدم، فان کان هو الوجود فيصير هو الموجود، لکنها ليست بالموضوع نفسه لأن الموضوع مغاير لهذا مفهومة، نعم حقيقة الوحدة والوجود شيء واحد، لکننا نريد هنا اثبات المفهوم لا المصداق والحقيقة ، وعليه فقد توجد علة الثبودت هذا المفهوم لهذا الموضوع، کما أن الحاجة إلي العلة مفهوماً حين نريد اثباته لشيء يحتاج إلي العلة وعلنه الامکان وهذا البرهان التي ولهذا فان الشيخ رضي الله اعتبر برهان الصديقين برهاناً لمّياً وعبّر عنه بالبرهان اللتي، وقد تحير بعضهم من قول الشيخ الرئيس فقالوا: لا يکون الممکن علّة لوجود الواجب ، ولما کنا نريد اثبات وجود الواجب بطريق الامکان صار البرهان برهاناً انکارية أي برهان الإنکار وليس برهاناً لمّياً، وذلک أن الملحوظ استعمال الانکاراً في البرهان هنا. سر المطلب يکمن في أن المحمول هنا هو الحاجة الي الواجب والحد الأوسط هو الامکان والامکان علّة الاحتياج أذّن بواسطة العلّة وصلنا الي معرفة السعلول وهذا برهان لمّي فالبرهان اللتي جار في الفلسفة أيضاً طبقاً لاصطلاح القوم.

فان قيل : أن البرهان اللّمي لّا يستعمل الّا في العّلة الخارجية. قلنا بناءاً علي هذا يمکن القول بعدم جريان البرهان اللّميّ في بعض مسائل الفلسفة حينئذٍ لا في جميع مسائل الفلسفة إذ قد يجري هذا البرهان في بعضها الآخر حتي علي هذا القول ، مثلاً افعال الواجب معلولة

ص: 96

الصفات الواجب وذاته ، فاذا تم اثبات ذات الواجب ثم اقمنا البرهان علي الفعل من طريق الذات کان البرهان المّياً.

اذن عدم جريان البرهان اللّميّ في جميع مسائل الفلسفة غير صحيح بل يجري فيها

جميعاً علي القول الأول وفي بعضها حتمأ علي القول الثاني

قوله : (ان السلوک من المعلول إلي العلة لا يفيد يقيناً) قال القسم الأول من البرهان الإني وهو المذکور هنا لا يفيد يقينا وهو غير صحيح اذ السلوک من المعلول إلي العلة قد يفيد اليقين وقد لا يفيد، واما عدم افادته لليقين مطلقا فباطل حتما واما افادته لليقين کما في صورة وجود العلة المنحصرة فإن العلم بالمعلول يوجب العلم بالعلّة ، أما لو أحتملنا عدم انحصار العلة فلا يکون العلم بالمعلول موجبة للعلم بالعّلة أي لا يفيد هذا السلوک يقيناً.

ص: 97

ص: 98

المرحلة الأولي

في أحکام الوجود الکليّة

وفيها خمسة فصول

ص: 99

ص: 100

المرحلة الاولی في احکام الوجود الکلیة

الفصل الأوّل في أن الوجود مشترک معنويُّ

في أن الوجود مشترک معنويُّ

الوجود بمفهومه مشترکُ معنويُّ يُحمَل علي ما يحمل عليه بمعنيّ واحدٍ وهو ظاهرّ بالرجوع إلي الذّهن حينما نحمله علي أشياء أو نفيه عن أشياء، کقولنا:

نقرأ في هذا الفصل :

أ- الوجود مشترک معنوي.

ب - لو کان الوجود مشترکاً لفظياً وعند الحمل علي کل ماهية کان بنفس معني تلک الماهية، لم يکن طائل ولا فائدة في الهليات البسيطة لأنها تصبح حينئذ من باب حمل الشيء علي نفسه مثل قولنا الواجب موجود الذي يکون بمعني الواجب واجب.

ج - العلم ببعض الماهيات و الشک في وجودها والشک في بعض آخر من الماهيات

والعلم بوجودها، دليل قاطع علي تغاير الماهية والوجود.

د- لو کان الوجود مشترکة لفظية بين الواجب والممکن - کما ادعي البعض - نسئله هل مفهوم الوجود لدي حمله علي الواجب نفس مفهومه لدي حمله علي الممکن أم لا؟ بل مفهومه هناک نقيض مفهومه هنا؟ فان قال باتحاد المفهومين حصل المطلوب، وإن قال بتناقضهما لزم کون الواجب تعالي معدومة. والقول بالاشتراک اللفظي بين الواجب والممکن نابع من الخلط بين المفهوم والمصداق - مفهوم الوجود ومصاديقه.

لا شک أن مباحث الألفاظ عموماً - ومنها البحث عن مفهوم الوجود ومعناه - تختص بعلوم اللغة و تبحث هناک ولا علاقة ذاتية لها بهذا الکتاب ومحتوياته وانمامست الحاجة الي الاستعانة ببعض ما يتوقف بيان جملة من الأمور والمسائل الفلسفية عليه من المباحث الخاصة باللغة، وعلي سبيل المثال فيما نحن فيه يتوقف مبحث أصالة الوجود علي معرفة مفهوم الوجود أولاً، کما هو مشاع في جميع العلوم تقريبا فانّها عادة لا تستغني عن مباحث الألفاظ - علي نحو الجزئية الموجبة -، کما تحتاج بعض العلوم إلي غيرها من العلوم في بيان جملة من مسائلها أو شيء من أصولها من غير اختصاص بعلم اللغة. فالبحث عن مفهوم الوجود هنا ليس أصيلاً - کما في غيره من المفاهيم -.والبحث هنا عن مفهوم الوجود والموجود وأنهما بمعني واحد لأنهما مشترکان معنويان في مقابل من ادعي أنهما مشترکان لفظيان، والاشتراک اللفظي عبارة عن حکاية اللفظ الواحد للمعاني المتعددة کالعين التي تفيد أکثر من سبعين معني - کما قيل . وأما الاشتراک المعنوي عبارة عن کون اللفظ الواحد حاکيا عن معني واحد، لکنه مشترک بين عدة مصاديق مختلفة أي دال علي وحالي عن عدة مصاديق أو مراتب مختلفة من حقيقة واحدة کالنور الذي وضع لمعني واحد لکنه يفيد مصاديق عديدة ومراتب مشککة من نور الشمس الي نور المصابيح وهکذا حتي نور الشمعة أو دون ذلک فإنها جميعا أنوار مع اختلاف مراتبها ومصاديقها.

اما الفوائد التي تترتب علي کون مفهوم الوجود مفهومة واحدة وکونه مشترکة معنوية فهي:

أولا : لما ثبت أن للفلسفة موضوعة واحدة ، لزم وحدة العلم لوحدة موضوعه، ولوم حينئذ أن ترتکز مسائل هذا العلم حول محور واحد هو الوجود، ولو کان مفهوم الوجود مشترکة لفظية، لکان الموضوع متعددة و تعذر علينا تحديد موضوع واحد لجميع مباحث الفلسفة. |

ثانيا : أن المباحث الآتية مبنية علي هذا المبحث بنحو من الانحاء مثل مبحث أصالة

الوجود، و مباحث حقيقة الوجود بمعني اثبات وحدة حقيقة الوجود بوحدة مفهومه.

ولمعرفة هذا الموضوع واثبات آن مفهوم الوجود مشترک معنوي علينا بموارد استعمال لفظ الوجود هل تتحد المعاني في جميع موارد الاستعمال أم أن المعاني نتعدد بحسب تعدد الموارد ؟ وانت تعلم انّه من قبيل القسم الأول فأحد هذه المعاني وجود بالفعل والآخر وجود بالقوة وأحدها جوهر والآخر عرض وأحدها واجب والآخر ممکن وهلم جرا بتعدد

المصاديق واتحاد المفاهيم، أو اتحاد المفهوم رغم تعدد المصداق.

ص: 101

الإنسان موجود»، و«النبات موجود»، و «الشمس موجودة»، و «إجتماع النقيضين ليس بموجود»، و «إجتماع الضدين ليس بموجود». وقد أجاد صدر المتألّهين قدّس سرّه و ، حيث قال : «إنّ کون مفهوم الوجود مشترکاً بين الماهيّات قريبُ من الأوّليّات»(1)

فمن سخيف القول ما قال بعضهم: «إن الوجود مشترکُ لفظيّ، وهو في کلّ

ص: 102


1- في الأمثلة المتقدمة نلاحظ حمل الوجود - الموجود - علي مصاديق مختلفة وبما أنّ هناک اتحادة بين الوجود و موضوعاته فإن موارد استعمال الوجود اختلفت نفية واثبات في هذه الأمثلة ومع ذلک فان مفهوم الموجود لم يختلف من استعمال الي آخر تعددت المصاديق قوة وضعفا واتحد المفهوم فيها جميعا بالبداهة الأولية .

ماهيّة يُحمل عليها بمعني تلک الماهيّة»(1)

ويرُدُّه لزوم سقوط الفائدة في الهلات البسيطة مطلقاً، کقولنا: «الواجب

موجود» و «الممکن موجود» و «الجوهر موجود»، و «العرض موجود»(2)

ص: 103


1- (ما قال بعضهم) هو أبو الحسن الأشعري وأبو الحسين البصري من متکلمي الأشاعرة وأبناء العامة
2- إذ لو قلنا بذلک لکان لمفهوم الوجود في کل استعمال معنئ خا فيکون عند الحمل علي کل موضوع مستعملا بمعني موضوعه الخاص ولازم ذلک أن لا يکون لقضايا الهلية البسيطة اي معني، فلا معني حينئذ لقولنا: «الانسان انسان» لأنه حمل أولي لا يثبت لنا شيئأ وعليه فلا معني لقولنا: «الانسان موجود» اذا کان بهذا المعني لعدم الفرق حينئ بين قولنا: «الانسان انسان» وقولنا : «الانسان موجود». رغم أن المعني المستفاد من «الانسان موجود» يختلف عن المعني المستفاد من «الانسان انسان» اذ الاول حمل شايع لأنه يريد اثبات الوجود لهذه الماهية أو هذا المفهوم، أما الثاني فمن قبيل الهليات البسيطة. ثانياً : لو کان الوجود مع ما يحمل عليه من الماهية - أعني موضوعه - شيئاً واحداً، لزم العلم بالماهية عند العلم بالوجود ولزم العلم بالوجود عند العلم بالماهية ، والحال أنه ليس کذلک، لأننا قد نعلم بماهية ولا نعلم بوجودها ولا نعرف هل يصح حمل الوجود عليها أم لا؟ کمفهوم النفس أو الاتفاقاً أو الحظ فإنها مفاهيم واضحة لکن لا نعلم هل هي موجودة وقابلة للاتصاف بالوجود أم لا؟ ولو کان مفهوم الوجود عين المفهوم الذي کان يحمل عليه کان يلزم ثبوت مفهوم الوجود کلما ثبت مفهوم الموضوع، فکون الحظ حظاً أو النفس نفسا أو الاتفاق اتفاقأ يعد من البديهيات الاولية مع اننا لا ندري هل هي موجودة أم لا؟! وهکذا بالنسبة إلي الملک والجن نعلم أنهما حقيقتان، لکننا لا نعلم ما هي حقيقتها ولو کان مفهوم الوجود في کل ماهية يحمل عليها بنفس معني تلک الماهية، وکان مفهوم الوجود نفس مفهوم تلک الماهية، لاستحال حمل الوجود عليهما عند جهلنا بماهية الملک والجن . هذه بعض الشواهد علي عدم کون مفهوم الوجود بنفس معني مفهوم الماهية بل شواهد علي مغايرة مفهوم الوجود لمفهوم الماهية - أي المفهوم الذي وقع موضوعا للوجود .. فقوله رضي الله : ويرده) أن هذا خلاف البداهة بدليلين: الأول الزوم سقوط الفائدة في الهليات البسيطة مطلقاً) أولا ماهي الهلية البسيطة ؟ اعلم ان الهلية اما بسيطة أو مرکبة ومعني الهليات البسيطة تلک القضايا التي يکون السؤال فيها بهل الاستفهامية عن اصل وجود الموجود وعن موجودية موجود ما، لا عن شيء من أحواله وأحکامه وخصائصه أصلا، کقولنا: «الواجب موجود» في جواب هل الواجب موجود؟ وهکذا بقية الأمثلة. بخلاف الهليات المرکبة التي يکون السؤال فيها بهل الاستفهامية عن خصائص الموجود وأحواله وأحکامه وهي بطبيعة الحال ترد في رتبة متأخرة عن الهليات البسيطة اذ السؤال عن خصائص الشيء وحالاته وأحکامه لا يتسني الّا بعد السؤال عن اصل وجودّ الشيء وثبوته. وامّا وجه سقوط الفائدة في الهليات البسيطة ما ذکرناه آنفاً من عدم الفرق حينئير بين الهليات البسيطة - الحمل الأولي - وبين الجمل الشايع ولهذا قال الفخر الرازي في المباحث المشرقية : الکان قول القائل: «الجوهر موجود» مثل قوله : «الجوهر جوهر» وبالجملة لا يکون الحمل والوضع ههنا إلا في اللفظ ، ولما لم يکن کذلک علمنا أن الوجود مغاير اللجوهرية). اذ «الجوهر موجود» قضية من الهليات البسيطة والحمل الأولي و الجوهر جوهر» من الحمل الشايع الصناعي واذا اختلط هذا بهذا وانعدم الفرق بين الحمل الأولي والشايع صار لا فائدة من الهلية البسيطة کما تعلم، لعدم افادة لفظ الموجود حينئير معني دا علي وجود الأشياء وبعبارة أخري أن لفظ الموجود حينئير لا يعني الوجود، بل يعني ما برادف ماهية الأشياء، ويفيد معني مرادفا للماهية، فلا تفيد حينئذ الهلية البسيطة، وبعبارة أوضح لا يمکن حينئير الإجابة علي الهلية البسيطة بلفظ «موجود» وعليه فلا فائدة أصلا للهلية البسيطة - لا فائدة للسؤال بهل البسيطة اعني السؤال عن أصل الوجود، الذي يشکل جزءا هاما من المباحث الأصولية - وکذلک السؤال بها خطأ ولغولا جدوي منه. والحاصل أن في هذه القضايا وأمثالها من الهلية البسيطة يکون معني المحمول ومفاده نفس معني الموضوع ومفاده، فيکون مضمون القضية ومفادها حمل الشيء علي نفسه کقولنا : الواجب واجب وهذه القضايا کما تعلم لا تفيد معني جديدة وهوخلاف الهليات البسيطة لأنها لا بد أن تفيد مطلبة جديداً.

علي أنّ من الجائز أن يتردد بين وجود الشيء وعدمه مع العلم بماهيّته

ومعناه ، کقولنا: «هل الاتّفاق موجودُ أو لا؟»(1)

ص: 104


1- (علي أن أي علاوة علي ما تقدم هناک دليل آخر علي بطلان مدعي القوم وسخافته وذلک ان من الجائز أن يتردد) الإنسان (بين وجود الشيء وعدمه مع العلم بماهيته ومعناه) کما لو کان يعرف معني الاتفاق وماهيته لکنه لا يعلم هل الاتفاق موجود أم لا فيقول «هل الاتفاق موجود أو لا؟») ومعني ذلک إننا قد نشک في ماهية الشيء ومعناه - بعد قطعنا وعلمنا بوجوده - کما لوعلمنا بوجود شبح من بعيد لکننا نجهل ماهيته هل هو حيوان أم انسان أم شجر أم حجر أم غيرها، کما اننا قد نعلم ماهية شيء - علي العکس من السابق - نعلم مثلاً ما هو الاتفاق والحظ ، من غير أن نعلم هل هما موجودان حقيقة أم لا، أعني أننا نجهل وجودهما، والحاصل أن هذه الأمور وأمثالها تدل علي مغايرة المعلوم للمشکوک ومغايرة الماهية للوجود، خلافا لدعوي القائل بالاشتراک اللفظي الذي مفاده کون الوجود في کل قضية بمعني نفس الماهية والموضوع الذي يحمل عليه، ودليل علي بطلان هذه المزاعم.

وکذا التردّد في ماهّية الشيء مع الجزم بوجوده ، کقولنا: «هل النفس الإنسانية الموجودة جوهّر أو عرضُ؟» والتردّد في أحد شيئين مع الجزم بالآخر يقضي بمغاير تهما.

ونظيره في السخافة ما نُسب الي بعضهم : «أن مفهوم الوجود مشترک لفظيُّ

بين الواجب والممکن»(1)

ورُدّ بأنّا إمّا أن نقصد بالوجود الذي تحمله علي الواجب معني أو لا، والثاني يوجب التعطيل، وعلي الأّوّل إمّا أن نعني به المعني الذي نعنيه إذا حملناه علي: الممکنات، وإما أن نعني به نقيضه، وعلي الثاني يلزم نفي الوجود عنه عند إثبات الوجود له تعالي عن ذلک، وعلي الأول يثبت المطلوب، وهو کون مفهوم الوجود

مشترکاً معنوياً. (2)

ص: 105


1- ومعناه أن لمفهوم الوجود معنيين ، معني يشمل الممکنات جميعاً وهو المعني المشهور الذي يقابله العدم، ومعني آخر عند حمله علي الواجب ونسبته إليه فوجود الممکن يفيد معني ووجود الواجب يفيد معني آخر خاص به وعليه فالوجود مشترک لفظي بين الممکن والواجب. حملهم علي هذا القول دعوي لزوم التشابه بين الواجب تعالي والممکن أي بين الخالق والمخلوق، أعني انّهم قالوا لو حملنا الوجود في کلا الحملين والحالين علي معني واحد لزم التشبيه وهو باطل قطعة وهذا من سخيف القول أيضاً.
2- دليل سخافة هذا القول وبطلانّه من أوضح الأدلّة علي طريقة النفي والاثبات بما لا مجال للنقاش فيها ولهذا قال قدس سره (ورُدّ) بالبناء للمجهول حفظ للأمانة العلمية وبعيدة عن السرقات العلمية التي هو في غني عنها بل يترفع عنها ، والرد للمرحوم السبزواري في منظومند (بانا اما أن نقصد بالوجود الذي تحمله علي الواجب معني أو لا، والثاني يوجب التعطيل) أي لو قلنا : أن قضية «الواجب موجود» لا معني لها فقد قلنا بما يوجب ويستلزم تعطيل العقل وعجزه عن معرفة الواجب تبارک وتعالي هل موجود أم لا؛ فنجهل وجود الواجب تعالي ، (وعلي الأول) أي لوقلنا بأنا نقصد من الوجود المحمول علي الواجب معنئ وأنا ندرک وجوده جل شأنه وأن قضية «الواجب موجود» لا مفهوم و معني (أما ان نعني به) أي بالوجود المحمول علي الواجب نفس المعني الذي نعنيه اذا حملناه) أي لفظ الوجود علي الممکنات) من غير اختلاف بين معناه في الجملتين «الواجب موجود» و «الممکن موجود» أعني افادته نفس المعني المتعارف و المستعمل للممکنات والذي يقابل العدم (واما ان نعني به) أي بالوجود في جملة «الواجب موجود» (نقيضه) أي نقيض الوجود المتعارف والمقابل للعدم، ونقيض الوجود هو العدم وکيف يمکن إرادة معني العدم من لفظ الوجود؟ (وعلي الثاني) الذي هو إرادة العدم (يلزم نفي الوجود عنه) تبارک وتعالي (عند) أي حالکوننا نريد (اثبات الوجود له ، تعالي عن ذلک) فکيف يمکن أن يقال «الواجب موجود» أي «الواجب معدوم» لأنه خلف وعلي الأولي) وهو إرادة مفهوم الوجود المتعارف في قضية «الواجب موجود» (يثبت المطلوب ... الخ). قوله (طاب ثراه) : (واما ان نعني به نقيضه) لا يخلو من اشکال وذلک أنه لا يستلزم من عدم فهم مفهوم في مورد معين فهم نقيضه، والأفضل أن يقال عند عدم صدق مفهوم في مورد معين لابد من إرادة نقيضه أو ارادة شيء مصداق لنقيضه لکون النقيض قابلا للحمل عليه ، فقولنا : مفهوم الجن ليس کمفهوم الانسان وهو مغاير له لا يستلزم کون مفهوم الجن بمعني اللانسان أي کون مفهومه عدمياً نقرأ في هذا الفصل : أ- اشتراک الموجودات في الوجود حال کونها متمايزة مختلفة فيما بينها، لهو خير دليل علي تغاير الماهية والوجود. واذ کانت الوجودات ذات حقيقة مشترکة واحدة لزم القول بأصالة احدي الجيثيتين اما الوجود واما الماهية. ب- لما کانت ذات الماهية متساوية النسبة الي الوجود والعدم فالأصالة للوجود. ج- موجودية الوجود ذاتية لا تحتاج الي وجود زائد يمنحة الوجود حتي يستلزم التسلسل الباطل، خلافا للماهية التي تکون حيثية ذاتها مغايرة لحيثية وجودها، فتحتاج في موجوديتها إلي وجود زائد يمنحها الوجود. د- قولنا: «الوجود موجود بالذات» لا يستلزم وجوب الممکنات، لأن بالذات تعني أن الوجود في موجوديته لا يحتاج الي الواسطة في العروض، وان کان بحاجة الي الواسطة في الثبوت. ه- کون الماهية موجودة بالعرض، والوجود موجودة بالذات، لا يستلزم کون الموجود مشترکة لفظية، لأن مفهوم الوجود في الحالتين واحد، واما الاختلاف فواقع في المصاديق لا المفهوم، وهذا خلط بين المفهوم والمصداق. و- نرد علي الاشراقيين أن الماهية الاعتبارية التي تزعمون انّها عند امکان انتزاع الوجود منها تصبح أصيلة، ان مجرد الانتزاع وصرف انتزاع مفهوم اعتباري من الماهيه الاعتبارية لا يجعلها اصيلة والا وقع الانقلاب المحال ز. ونرد علي المحقق الدواني القائل بأصالة الوجود في الواجب واصالة الماهية في الماهية ، أن انتساب الممکنات الي الواجب ان کان يسبب عروض حقيقة عينية علي الماهيات الممکنة، فهو الوجود المطلوب، وان لم يحدث تغييرا في الماهيات ورغم ذلک يجعلها تتأصل ، فهو الانقلاب المحال. ويتفرع علي أصالة الوجود 1- أن الوجود اصالة تقييدية في کل حمل ما هوي فکل ما يحمل علي حيثية الماهية انما يکون بواسطة الوجود. 2- الوجود لا يتصف بشيء من أحکام الماهية ، فالوجود مساوق للشخصية . 3- ئيس الوجود جزءا لشيء. - ليست صفات الوجود و محمولاته خارجة عن ذاته. 5- الموجود ينقسم الي الوجود - أي الموجود بالذات - والماهية - أي الموجود بالعرض - 6 - الوجود عارض للماهية. 7- کل ثبوت فرضناه انما يبتني علي نحو من الوجود. 8- الشيئية مساوقة للوجود. و ليس لحقيقة الوجود سبب وراء ذات الوجود والبرهان اللمي غير جار في الفلسفة . 10- حقيقة الوجود عين ترتب الآثار، فلا صورة عقلية الحقيقة الوجود..

والحقّ - کما ذکره بعض المحققّين - أن القول بالإشتراک اللفظيّ من الخلط

بين المفهوم والمصداق، فحکم المغايرة إنما هو للمصداق دون المفهوم.(1)

ص: 106


1- أراد بعض المحققين المرحوم السبزواري وان ورد في الأسفار أيضاً (ان القول بالاشتراک اللفظي من الخلط) أي وقع بسبب الخلط الحاصل للقائل (بين المفهوم والمصداق) فظنوا أن الفرق الموجود بين الواجب والممکن من حيث الوجود نابع من الفرق بين مفهوم الوجود بحسب استعماله للواجب والممکن، بينما هذه المغايرة مصداقية لا مفهومية کضوء الشمس وضوء الشمعة فان الضوء بينهما متحد معني وان اختلف من جهة المصاديق فنور الشمعة لا يقاس بنور الشمس قوة وضعفاً. | والحاصل: انّ صدق مفهوم علي مصداقين لا يستلزم التشابه بين خصائص المصداقين ، فصدق مفهوم الانسان علي العالم والجاهل لا يستلزم تشابه العالم والجاهل في کل شيء حتي الخصائص والأحکام، ولا ربّط لخصائص المصداق بالمفهوم، وقبولنا لوحدة المفهوم لا يستلزم قبولنا لوحدة المصداق أيضأ.

الفصل الثاني في أصالة الوجود واعتباريّة الماهية

الوجود هو الأصيل دون الماهية ، أي إنه هو الحقيقة العينية التي نثبتها

بالضرورة.

إناّ بعد حسم أصل الشکّ والسفسطة وإثبات الأصيل الذي هو واقعيّة

ص: 107

الأشياء، أوّل ما نرجع إلي الأشياء، نجدها مختلفةً متمايزةً مسلوباً بعضُها عن بعضٍ في عين أنّها جميعاً متّحدةً في دفع ما کان يحتمله السوفسطيّ من بطلان الواقعيّة ، فنجد فيها مثلاً إنساناً موجوداً، وفرساًموجوداً، وشجراً موجوداً، وعنصراً موجوداً، وشمساً موجودةً، وهکذا فلها ماهيّاتُ محمولةُ عليها بها يبايِنَ بعضها بعضاً، ووجودُ محمولُ عليها مشترکُ المعني بينها. والماهيّة غير الوجود، لأن المختصَّ غيرُ المشترک وأيضاً الماهية لا تأبي في ذاتها أن يحمل عليها الوجود وأن يسلب عنها ، ولو کانت عين الوجود لم يجز أن تسلب عن نفسها لاستحالة سلب الشيء عن نفسه، فما نجده في الأشياء من حيثّية الماهيّة غير ما نجده فيها من حيثيّة الوجود(1)

ص: 108


1- قيل هذه من المسائل المستحدثة في عصر المولي صدر المتألهين ل وهو ليس کذلک لأننا نجد الحديث عنها في متون کتب بعض من سبقوه تارة علي نحو التصريح و تارة علي نحوالاشارة والکناية فکانوا يبحثون مسألة اصالة الوجود أو الماهية وکل يختار قولا من القولين وان کان الأغلب يذهبون الي اصالة الماهية وکان المشاؤون يقولون عادة بأصالة الوجود کما هو حال بهمينار تلميذ ابن سينا الشهير ، نعم لم تبحث هذه المسئلة علي نحو الاستقلال التام لکن هذا لا يدل علي کونها مستحدثة ، وقيل أن المولي صدرا کان من القائلين بأصالة الماهية خلافة الاستاذه السيّد الداماد ثم قال بأصالة الوجود. والحاصل أن الکلام هنا عن أن مصداق الوجود أولا وبالذات هو الحقائق الخارجية فالوجود هو الذي يملأ متن الخارج ويکون منشأ الآثار المختلفة والوجود هو الذي يوجد حقيقة ومن غير واسطة في الوجود واما الماهية فوجود عرضي وهي مصداق للوجود ثانية وبالعرض ليست منشأ للآثار وهي انما توجد بالوجود وبواسطته لا بنفسها. لکن هذا المدعي رغم کونه من المشاع الذي سلم به کل من جاء من فلاسفة المسلمين بعد المولي صدر المتألهين - إلا الشاذ النادر الذي لا يعبأ بقوله ولا يؤخذ برأيه لقلة بضاعته - يبقي رهين البرهان والدليل محتاجأ اليه ، وقبل الشروع بالاستدلال وجد المصنف ان لا محيص دون ذکر مقدمة تشتمل علي وجوه وفوائد أولها : اثبات مغايرة اصالة الوجود لأصالة الماهية بقوله : (انا بعد حسم أصل الشک والسفسطة) وابطالهما بالتفصيل المتقدم في محله - اعني المدخل - الي قوله : (نجدها ) أي نجد الأشياء الخارجية الواقعية اولا: (مختلفة متمايزة) يقال لکل منها موجود خارجي يختلف عن غيره مسلوبا بعضها عن بعض) فيقال هذا ليس بذاک وذاک ليس بهذا، فندرک معني لکل ماهية غير قابل للحمل علي ماهية اخري کما نقول هذا انسان فهو ليس بشجر وذاک شجر ليس بحيوان وهکذا... نجدها کذلک (في عين) اننا نجد أنها جميعا متحدة) فندرک لها معني عاما قابلا للحمل علي جميع الأشياء ونجدها متحدة (في دفع ما کان يحتمله) ويزعمه (السوفسطي من بطلان الواقعية ) فهناک مفهومان لکل موجود قابلان للحمل عليه احدهما مفهوم خاص بتلک الماهيات - أو الماهية - والثاني مفهوم عام قابل للنسبة الي کل الأشياء الحقيقية، ثم أن المفهوم الذي يقبل النسبة الي جميع الأشياء غير المفهوم الذي يقبل النسبة الي نوع خاص واحد من الموجودات، ولو کانت الحيثيتان أحداهما عين الأخري ، لزم صدق کل منهما عند صدق الأخري - کلما صدق الآخر - و بالعکس، بينما نجد الأمر علي خلاف ذلک فلا عينيه ولا تلازم ، فحيثية الانسان تصدق علي بعض الموجودات مع أن حيثية الشجر لا تصدق عليها، هذه من خصائص سنخ معين من هذه المفاهيم، أما مفهوم الوجود فليس کذلک ، اذ لا مانع أن يصدق علي غيره من الماهيات فمثلا مع وجود الانسان لا يمنع وجود الشجر والحجر وما أشبه ، فوجود ماهية لا والحاصل أن ثبوت الحقائق الواقعية يميزنا عن السوفسطيين وعليه فإننا نجد الأشياء مختلفة من حولنا لکل منها وجه امتياز و اختصاص يميزه عن غيره، و تتباين في الجنس أو النوع أو الفصل أو الأعراض والأحوال والأحکام، کما أننا نجد وجه اشتراک واتحاد بينها جميعا من جهة اخري، فانّها تتساوي في الوجود والموجودية، ولهذا تتم معرفتنا بالاشياء من جهتين جهة الماهية والخصوصية وجهة الوجود والعمومية، ولما کان الأمر المشترک مغايرة للأمر المختص، فالوجود والماهية متغايران مفهومة. و ثبت بذلک تغاير حيثية الوجود وحيثية الماهية، وقابلية حيثية الوجود للحمل علي جميع الأشياء الحقيقة ، أما حيثية الماهية فمختصة للانطباق علي ماهيات خاصة. فيحمل علي کل من الأشياء الحقيقية الخارجية نوعان من المفهوم احداها المفاهيم الماهوية هذا انسان وذاک فرس والثالث حجر والرابع نبات وهي ماهيات خاصة بکل منها، والأخري مفهوم الوجود الذي يعمها جميعا. (والماهية) أي حيثية الماهية (غير) حيثية (الوجود) وذلک أن حيئية الماهية تختص بنوع خاص من الأشياء، فبعض الأشياء انسان وبعضها فرس وبعضها شجر وبعضها جماد وهکذا، فکل ماهية لا تصدق الا علي نوع خاص وفئة خاصة من الحقائق وتحمل عليها، بينما حيثية الوجود مشترکة بين جميع الحقائق وتحمل عليها جميعا ، فکل ما له حقيقة خارجية يوصف بالوجود والموجود (لأن المختص) بنوع خاص وفئة خاصة من الحقائق الخارجية (غير المشترک الذي يحمل علي کل الحقائق بلا استثناء، والمختص هو الماهية والمشترک هو الوجود فهما متغايران هذا الدليل الاول علي ادعاء تغاير حيثية الوجود وحيثية الماهية اما الدليل الثاني فقوله : ( وأيضا) لأن (الماهية لا تأبي في ذاتها أن يحمل عليها الوجود) فتوصف بأنها موجودة و نقول ماهية الانسان موجودة بمعني الانسان موجود وماهية الفرس موجودة کذلک، کما لا تأبي الماهية أيضا أن يسلب عنها) الوجود فتوصف حينئذ بالعدم ونقول ماهية بحر من الزئبق وماهية شريک الباري معدومة أي البحر من الزئبق وشريک الباري معدومان ولهذا قالوا ان الماهية ممکنة بالذات متساوية النسبة الي الوجود والعدم يمنع وجود غيره من الماهيات.

ص: 109

وإذ ليس لکلُ واحدٍ من هذه الأشياء إلا واقعية واحدة ، کانت إحدي هاتين الحيثيّين - أعني الماهية والوجود - بحذاء ما له من الواقعيّة والحقيقة ، وهو المراد بالأصالة، والحيثيّة الأخري اعتباريّةً منتزعةً من الحيثّيّة الأصيلة، تُنسب إليها الواقعيّة بالعرض .(1)

ص: 110


1- المقدمة الثالثة قبل الخوض في أصل مبحث الفصل الثاني قوله : (واذ ليس لکل واحد... الخ) دفع دخل اذ قد يقال هل يمکن أن يکون للشيء الواحد لکل واحد من الأشياء - اکثر من حقيقة واحدة مثلا حقيقتان لتکون الماهية والوجود أصيلتين معا ؟ وکيف يمکن أن يکون للشيء الواحد حقيقتان و واقعيتان؟! ونحن نعلم أن کل شيء خارجي ليس له إلا حقيقة واحدة. فأجاب المؤلف (رحمه الله ) يقول ، ما هو الواقع في متن الخارج بالنسبة لهذه الأشياء شيء واحد ولکل شيء حقيقة واحدة ، نعم هذه الحقيقة يمکن أن يحمل عليها مفهومان وحيثان، لا حقيقتان ومفهومان أي يحمل علي کل منهما مفهوم خاص، فمثلا للانسان حقيقة واحدة في متن الخارج، نفس هذه الحقيقة توصف بالانسان والموجود في آن واحد ويحمل عليها کلا المفهومين ، واذ ليس لکل واحد من هذه الأشياء إلا واقعية واحدة ( کانت احدي هاتين الحيثيتين) وأحد المفهومين (أعني الماهية الحيثية المقيدة الخاصة والوجود) الحيئية المطلقة العامة (بحذاء) وبازاء (ماله) أي ما لکل واحد من هذه الأشياء من الواقعية والحقيقة الخارجية وهذا المعني (هو المراد بالاصالة) فالاصالة تعني کون احدي الحيثيتين حقيقة خارجية (والحيثية الاخري اعتبارية محضة غير مستقلة بذاتها بل (منتزعة من الحيثية الاصيلة) الواقعية الاولي أو وبالذات، و( تنسب الأصالة (اليها) أي الي الأخري الواقعية) ثانية (وبالعرض) و مجازة، فلا يمکن اصالتهما معا، لأنه يستلزم من ذلک المحال ، فليس هناک انسان علي حده و وجود علي حده - اي لکل منهما وجود مستقل عن الآخر - ثم نحمل الوجود علي الانسان مثلا کالبياض والجدار أو العلم والانسان أو المرأة والجمال، حتي يکون المعروض کالجدار مث مقدمة علي الوجود - تقدما رتبية - أو مؤخرة عنه ، حيث يستفاد منه ان هناک شيئين في متن الواقع في آني واحد - ذات ووجود - حتي يرد الاشکال الذي سيأتي في محلة أن شاء الله تعالي، کلا، واذ ليس کذلک فلا يمکن أن يکون في متن الواقع الا شيء واحد، ولو کانا اصيلين معا للزم کون المفروض حقيقة واحدة حقيقتين، ولزم کون الواحد اثنين في آن واحد، وهو محال ، ثم يتعقب هذا، محال آخر وهو أن يکون لکل من الحقيقتين وجود وماهية ، فهي اربّع حقائق والمفروض أنها حقيقة واحدة او حقيقتان، ثم انّه يلزم من ذلک أن يکون لکل من هذه الحقائق الأربّع وجود وماهية ... وهلم جرا، فلا اصالة إلا لأحدهما. حتي هنا ثبت وجود الحقائق الخارجية وأن في کل واحد من هذه الأشياء الحقيقية حيثيتين احداهما الوجود والاخري الماهية ، وان هاتين الحيثيتين مغايرتان، وان أحداهما أصيلة والاخري اعتبارية، فأي الحيثيتين أصيلة و أيتهما اعتبارية ؟ إذ لابد ان تکون احداهما الأصيلة، فاما ان تکون تلک الحقيقة العينية مصداقا للوجود بالذات واما ان تکون مصداق لماهية بالذات، فإن قلنا بأنها مصداق للوجود بالذات کانت الماهيات حاکية عن حدود ذلک الموجود الخاص من غير أن تکون حاکية عن الحقيقة، وان قلنا بأنها مصداق للماهية بالذات ، کانت الحقيقة لتلک الحدود، وأما مفهوم الوجود المحمول عليها مفهوم ذهني حينئذ اعتباري ليس له مصداق حقيقي وبالذات في المتن والخارج، وکل ما في الأمر هو اعتبارنا للوجود في الخارج

ص: 111

وإذ کان کلّ شيء أنّما ينال الواقعية إذا حُمِل عليه الوجود واتّصف به

فالوجود هو الذي يحاذي واقعية الأشياء. وأمّا الماهية فإذ کانت مع الإتصاف بالوجود ذاتَ واقعيّةٍ ومع سلبه باطلة الذات فهي في ذاتها غير أصيلة ، وإنّما تتأصّل بعرض الوجود(1)

ص: 112


1- بعد ما ثبت عدم امکان - اي استحالة - اصالة الوجود والماهية معاً، اذ موضع النزاع عدم امکان حقيقتين عينيتين للأشياء بل ضرورة وحدة الحقيقة فلابد من تحديد الأصيل عن غيره بالدليل والبرهان القاطع، وانت تعلم ان الاصالة للوجود، لکن لماذا ؟ لأن الذي يحمل أصالة وبالذات علي الحقيقة العينية هو مفهوم الوجود، وأما المفاهيم الماهوية فما هي الا أظلالاً للوجود، وهي حاکية عن الحدود الماهوية للوجود، وما هي الا وجودات ذهنية لا وجود لها في متن الخارج بذاتها بل وجودها بالوجود ولهذا قال (طيب الله ثراه) (واذ کان) بالتحقيق والتوکيد (کل شيء انما) للحصر اي لا (ينال الواقعية) الا (اذ محمل عليه الوجود) حم” أولية وبالذات (واتصف) الشيء (به) اي بالوجود وعلي هذا (فالوجود هو الذي يحاذي واقعية الأشياء) ويقع بازاء حقائقها ( وأما الماهية فإذ کانت...) الي قوله : ( وانما تتأصل بعرض الوجود) لا يقصد من هذا الجملة الاخيرة ان الماهية تصير احيلة، فتکون هناک أصالة ذاتية واصالة عرضية ، کلا، وإنما أراد أن الماهية تتصف بالوجود بعرض الوجود وتنال الحقيقة والواقعية - تصير حقيقة عينيه - بعرض الوجود، والحاصل أن الماهية قبل عروض الوجود لها أمر اعتباري محض و مفهوم ذهني خالص، واما بعد عروض الوجود لها واتصافها بالوجود الواقعي في الخارج فهي اصيلة ولکن لا بنحو أولي ذاتي بل بنحو ثانوي عرضين ولکن زعم بعض فلاسفة الغربّ ان الوجود لا قابلية له للحمل علي الأشياء وان ما تو همه من وجود قضايا الهلية البسيطة التي يکون محمولها الموجود، ما هي الّا أوهام لأنها اشکال القضية وان الوجود في الحقيقة ما هو إلّا رابط في القضايا، والحاصل أنّهم أنکروا الوجود المحمولي وزعموا أنّه مجرد وهم ليس إلا، وامّا فلاسفة المسلمين فقد ذکروا للوجود استعمالين أحدهما المعني الربّطي والحرفي في القضايا، والآخر هو المعني الاسمي بصورة محمول و مفهوم نفسي قابل للعمل علي الأشياء مطلقا. فالوجود المحمولي حقيقة ثابتة اذ ان تقسيم الوجود الي الوجود الرابط والوجود الحملي - المحمولي - تقسيم لمفهوم الوجود، ولا علاقة له بالحقائق العينية للوجود، اذ الحقائق العينية للوجود التي تنقسم تارة إلي الوجود المستقل وتارة إلي الوجود الرابط والرابطي شيء آخر غير مفهوم الوجود. والقول بأصالة الوجود هو الذي ذهب اليه فلاسفة المشاء واختاره من بعدهم الحکماء وعلي رأسهم مؤسسها المولي صدر المتألهين (طاب ثراه)، واما فلاسفة الاشراق فإنهم ذهبوا الي العکس من ذلک فقالوا بأصالة الماهية. ولکن ههنا تأملاً وذلک اننا لا ندري هل کان الاشراقبون عند قولهم بأصالة الماهية ، متوجهين الي هذا المعني الذي تسالم عليه القوم في انظارهم، أعني المعني المتعارف لدينا اليوم وفي العصور المتأخرة؟ أم أنّهم کانوا يفسرونها خلافاً للمتعارف لدينا ويرون لها وجهة غير ما نحن عليه اليوم، وذلک أننا نلاحظ أحياناً في کلمات بعض الاشراقيين واقوالهم ما يفيد القول بأصالة الوجود، لعلّ قسماً منهم کان يقول بها خلافاً للمشاع من مذهبهم، فاما هذا واما ذاک ، کما أن المرحوم السيّد الداماد والمرحوم صدر المتألهين «قدس سرهما» - في الشطر الأول من حياته العلمية - کانا من القائلين بأصالة الماهية، وکان الأخير (رحمه الله) شديد الذب عنها کما يصرح، وفي بعض عبارات المرحوم السيّد الداماد (رحمه الله) ما يفيد أيضا القول بأصالة الوجود، والله العالم.

فقد تحصّل : أنّ الوجود أصيلُ والماهيّة اعتباريّاً، کما قال به المشاؤون أي

أن الوجود موجودُ بذاته والماهيّة موجودةُ به (1)

وبذلک يندفع ما أوردَ علي أصالة الوجود من أنّ الوجود لو کان حاصلاً في الأعيان کان موجوداً لأن الحصول هو الوجود، فللوجود وجودّ، وننقل الکلام إليه وهلمُ جرّاً ، فيتسلسل (2)

ص: 113


1- (اي ان الوجود موجود بذاته) من غير واسطة في العروض (و) ان (الماهية موجودة به) أي بالوجود وبواسطة في العروض في الوجود.
2- (وبذلک) أي بما تقدّم من بيان أصالة الوجود والبرهان عليها (يندفع ما اورده) شيخ الاشراق من الاشکال في حکمة الاشراق والتلويحات (علي اصالة الوجود الخ...) هذه الشبهة الأولي وحاصلها اننا لو قلنا بأصالة الوجود الوجود لزم القول بکون الوجود أمرا متحققاً حاصلاً في الخارج، فکان الوجود موجودة، لأن الحصول هو الوجود بعينه، وکيف يمکن أن نقول «الوجود موجود» اذ يدل علي أن للوجود وجود آخر وننقل الکلام اليه - اي الي الوجود الآخر. فنقول : ان لهذا الوجود أيضاً وجوداً ، وعلي القول بأصالة الوجود نقل الکلام إلي الوجود الثاني بأن لهذا الوجود أيضاً وجود ، وهکذا يتسلسل، ولازمه - أي لازم هذا التسلسل - ان يکون لکل وجود وجود آخر الي ما لا نهاية، لکننا لو أخذنا مفهوم الوجود أمرا اعتباريا لانتفي التسلسل وسلمنا من هذه الشبهة، حيث اننا في الأمر الاعتباري لا يواجهنا هذا الاشکال وان حدث التسلسل، اذ الاعتباري متوقف علي اعتبار المعتبر - اعني کلما اعتبر الوجود تحقق الاعتبار - وينقطع الوجود بانقطاع الاعتبار وتوقفه اي بانتفاء المحمول او بانتفاء المعتبر - اي الموضوع -

وجه الإندفاع: أن الوجود موجودُ لکن بذاته لا بوجود زائد - أي إنّ الوجود

عينُ الموجوديّة - بخلاف الماهية التي حيثيةُ ذاتها غير حيثيّةِ وجودها (1)

وأمّا دعوي أنّ الموجود في عُرف اللغة إنّما يطلق علي ما له ذات معروضة

للوجود، ولازمه أنّ الوجود غير موجود؛ فهي علي تقدير صحّتها أمرُ راجع إلي الوضع اللغوي أو غلبة الإستعمال ، والحقائق لا تتبع استعمال الألفاظ، وللوجود۔ کما تقدّم - حقيقةً عينية نفسُها ثابتةُ لنفسها (2)

ص: 114


1- (وجه الاندفاع) حاصله اننا نقول : الوجود موجود بنفس ذاته في حاق الخارج ومتنه، لا بوجود زائير علي نفسه ، فلا يقع محذور التسلسل. بل يبطل ويندفع، بيان ذلک اننا عند تصور الموجود- اعني الحقائق الخارجية - ينسبق الي اذهاننا مفهوم الوجود و مفهوم الماهية معا، فالحقيقة الواحدة - جميع الحقائق - تنقسم في الذهن الي مفهومين ، - الوجود والماهية - أما في الخارج فلا تحقق إلا لأحدهما اعني ان الوجود والماهية يتحدان تماما ويکونان شيئاً واحداً في الخارج لا من قبيل البياض والجدار او العلم والانسان او الجمال والمرأة .
2- (واما دعوي ......الخ) جواب شبهة مبنية علي وجه الاندفاع، وخلاصتها، انکم حين تقولون بتحقق الوجود في الخارج واصالته، هل تحملون عليه کلمة الموجود فتقولون «الوجود موجود» ام لا؟ ولا محيص لکم دون اختيار الأول، وعليه يرد الأشکال التالي : ان الموجود کلمة مشتقة ، والمشتق يدل علي الذات التي ثبت لها المبدأ، والذات المتصفة بالموجود يفترض أنها الوجود، لينبغي ثبوت مبدأ لهذه الذات باعتبار هذا المبدأ و ثبوته لذلک الموصوف تحمل عليه عنوان المشتق، فقولنا «زيدُ ضاربّ» زيد ذات، ومبدأ ضاربّ - اعني الضربّ - تحقق في زيد، فباعتبار ثبوت هذا المبدأ لذات زيد ننتزع عنوان ضاربّ المشتق من الضربّ وتحمله علي زيد، وهکذا في مضروب لابد من تحقق الضربّ في زيد، وباعتبار تحقق مبدأ هذا المضروب الذي هو الضربّ في زيد، ننتزع عنوان المضروب ونحمله علي زيد. والموجود ذات ثبت لها المبدأ أعني مبدأ اشتقاق ذاک المشتق، فلزم ثبوت شيء آخر للوجود حتي نطلق عليه لفظ موجود باعتبار ذاک الشيء. ولهذا قال «قدس سره): (واما دعوي ان) لفظ (الموجود في عرف اللغة يطلق) ويحمل (علي ماله ذات معروضة للوجود) بحيث يکون الموجود محمولاً علي تلک الذات حمل العارض علي المعروض مثل حمل البياض علي الجدار (ولازمه) أي لازم هذا الاطلاق والحمل وکون معروض الموجود ذاتاً عرض لها الوجود (ان الوجود) لکونه فاقدة لذات عرض لها الوجود- معروض الوجود۔ فهو - اعني الوجود۔ (غير موجود) والحاصل : أن لفظ الموجود عند اللغويين يطلق علي ماهية عرض لها الوجود، ولما کان الوجود لا ماهية له حتي يصير معروضاً للموجود فلا يصح القول بأن الوجود موجود وهذه العبارة باطلة فالوجود غير موجود وما ليس بموجود يحتاج في وجوده الي أصيل وهو الماهية فالأصالة لها وليست له. (فهي) أي هذه المقولة اولاً أساس لها من الصحة لأن المستعمل عند اهل اللغة والعرف العام جميعاً خلاف ذلک، اذ يستعمل في غير هذا أيضاً ولا نقبل بهذا الحصر اذ اختلف القوم في نفس المشتق هل هو دال علي ذات ثبت لها المبدأ؟ أم هو أعم منه ومن غيره؟ وهل يجب کون مبدأ الاشتقاق خارجاً عن الذات أم لا؟ نترکها لمحلها. وعلي تقدير صحتها) والتسليم بها، فهذا أمر راجع الي الوضع اللغوي، او غلبة الاستعمال) کما هو معروف عند اهل اللغة بوضع بعض الالفاظ للدلالة علي بعض المعاني والأشياء، او بانتقالها من معني الي آخر او من معني حقيقي إلي معني مجازي بکثرة الاستعمال وغلبته هذه حدود اللغة ، اما تعيين أن هذا المعني اصيل او اعتباري فهو خارج عن حدود اللغة وليس من صلاحيات أهلها قطعاً، وتدخلهم هنا تجاوز عن حدود صلاحياتهم (و) ذلک (أن الحقائق لا تتبع استعمال اللغة و(الالفاظ)، واستعمال اللغة لهذا اللفظ - الموجود فيما له ماهية معروضة للوجود اي عرض لها الوجود، لا يستوجب أبداً حصر استعماله فيما حدده اللغويون بل هذا من خصائص علم الفلسفة حيث يبحث فيها عن الأحکام الکلية للوجود، فلا مانع من اطلاق لفظ الموجود علي الوجود واستعماله بمعناه وللوجود. کما تقدم ما في قوله : «ان الوجود موجود لکن بذاته»، (حقيقة عينية نفسها ثابتة لنفسها من غير حاجة الي من يمنحها الوجود، ولا يسلب منها الوجود والموجودية لأنه نفس الموجودية والتحقق ، ولهذا صح قولنا : «الوجود موجود» سواء کان هذا الاستعمال استعمالا مجازيا او حقيقية مطابقة للغة او غير مطابق لها . والمراد من الموجودية هنا کون الوجود امرأ عينيا متحققة ، کما أن قولنا : الوجود متحقق أيضاً لا نريد منه کون التحقق لشيء خارج عن ذاته ، بل هذا التعبير سببه ضيق القدرة علي الدقة في التعبير اذ الألفاظ لا تفي بالمعاني کيف والالفاظ مادية محدودة والمعاني مجردة مطلقة غير قابلة للتحديد.

ص: 115

قال بهمنيار في التحصيل : «وبالجملة فالوجود حقيقته أنه في الأعيان لا

غير ، وکيف لا يکون في الأعيان ما هذه حقيقته ؟» إنتهي (1)

ويندفع أيضاً ما أشکل عليه بأنّ کونَ الوجود موجودة بذاته يستتبع کون الوجودات الإمکانيّة واجبةً بالذات، لأن کون الوجود موجوداً بذاته يستلزم امتناعَ سلبِهِ عن ذاته ، إذ الشيء لا يسلب عن نفسه، ولا نعني بالواجب بالذات إلّا ما يمتنع عدمه لذاته(2)

ص: 116


1- (قال بهمنيار) وهو من اعيان فلاسفة المشاء بعد الاسلام، في الصفحة 281 من التحصيل : وبالجملة) اي الحاصل مما تقدم ليکون تلخيصا للتفصيل لا تلخيصة للاجمال، الي قوله وکيف لا يکون في الأعيان ما هذه حقيقته) أي ما حقيقته أنه في الأعيان، اذ لو لم يکن في الاعيان ما حقيقته أنه في الأعيان لاستلزم التناقض المحال والتهافت في الأقوال.
2- (ويندفع أيضأ ما أشکل عليه) لم اجد قائلاً لهذا الاشکال وان أورده صاحب الأسفار في الجزء الاول من المبحث ذاته ولعلّه أورده من باب الاحتمال، ومنشأ هذا الاشکال هو الخلط بين قولنا «وجود الواجب تعالي بذاته» وقولنا « الوجود موجود بذاته» أن الباء في الأولي تعني عدم احتياج ذاته تعالي الي الواسطة في الثبوت، وفي الثانية أن الوجود موجود بنحو الاطلاق سواء کان يحتاج الي الواسطة في الثبوت کما هو حال الممکن او لم يکن يحتاج الي تلک الواسطة کما هو حال الواجب تعالي، بيان ذلک وحاصله انا لو قلنا بأن الوجود موجود بذاته ونفسه من غير حاجة الي ما يمنحه الوجود من الخارج - اي من خارج ذاته . ولا حاجة له الي الواسطة في الثبوت - وهو ما توهمة المستشکل - ان هذا القول يقتضي بل يستلزم القول بوجوب الوجود مطلقا، ويستلزم نفي وجود الممکنات او القول بوجوب الممکن وکيف يمکن القول بوجوب الممکن وبين الوجوب والامکان تقابل، وهو في معني ان نقول : الممکن ليس بممکن، فالإشکال أما بنحو نفي الامکان المستلزم لنفي الممکن مطلقا. وهذا لم يشر اليه المؤلف ، او بنحو القول : الممکن ليس بممکن - الذي اشار اليه المؤلف (طاب ثراه)، وکلاهما باطل، أما الأول فلاقتضائه نفي احد مصداقي الوجود الثابت بالوجدان وهو الخلف، وأمّا الثاني فلاقتضائه التهافت والتضاد، لأنه يستلزم. کون وجود الممکنات واجب ولهذا قال : (بأن کون الوجود موجوداً بذاته) أي بلا واسطة في الثبوت وکون وجودها مسبة لذاتها اذ الباء هنا للسببية ( يستتبع کون الوجودات الامکانية) أي الممکنات (واجبة بالذات) ويقتضي أيضاً نفي حصر الواجب في ذات الصانع الحکيم و بطلان هذا اوضح من أخويه ، بيان ذلک : (لأن کون الوجود موجوداً بذاته يستلزم بالملازمة العقلية امتناع سلبه) أي سلب الوجود (عن ذاته) فان امکان سلب الوجود من الشيء يقتضي قابلية اتصافه بتساوي الوجود والعدم واما امتناع سلب الوجود من الموجود يستلزم اتصافه بالوجود، و عدم تساوي نسبته إلي الوجود والعدم، وسلب الموجودية من الوجود بعني سلب الشيء من نفسه (اذ الشيء لا يسلب عن نفسه ولا يصح أن يقال الواجب ليس بواجب او الممکن ليس بممکن او الموجود ليس بموجود وهذه العبارات مفاد القول بأن الوجود موجود بذاته (ولا نعني بالواجب بالذات الا ما يمتنع عدمه لذاته) وما کان کذلک فلا يصح أن يکون ممکناً وهذا يستلزم نفي الإمکان من أساسه، لأنه جعل الوجود منحصراً في الواجب .

وجه الإندفاع: أنّ الملاک في کون الشيء واجباً بالذات ليس هو کون وجوده نفسَ ذاته، بل کون وجوده مقتضي ذاته من غير أن يفتقر إلي غيره، وکلّ وجوير إمکاني فهو في عين أنّه موجودُ في ذاته مفتقرُ إلي غيره مفاضُ منه ، کالمعني الحرفيّ الذي نفسه نفسه، وهو مع ذلک لا يتمّ مفهوماً إلا بالقيام بغيره. وسيجيء مزيد توضيح له في الأبحاث الآتية (1)

ص: 117


1- يندفع هذا الّاشکال بما تقدم اما (وجه الاندفاع) کما جاء في الاسفار: ان هذا کما تقدم خلط بين بائين، باء بذاته في قولنا: «الواجب وجوده بذاته» وباء بذاته في قولنا : الوجود موجود بذاته» اذ الاول بمعني عدم حاجة الواجب في اتصافة بالوجود الي الواسطة في الثبوت بينما الثاني بمعني عدم حاجة الوجود الي الواسطة في العروض، وذلک أن موجودية الوجود في الواجب ليست لکونها عين الوجود، بل لکون الوجود عين اقتضاء ذات الواجب ، فالملاک في الواجب کون الوجود نابعاً من اقتضاء ذات الموجود، وذات الواجب تقتضي الوجود، لا أن ذاته عين الوجود، والفرق بينهما بيّنُ لأن ما کان وجوده وذاته و موجوديته عين الوجود يقتضي حصر الوجود فيه، فينحصر الوجود حينئذ في فرد واحد و مصداق واحد هو الواجب، وهذا المعني توهمه المستشکل، ولو صح لتحقق الاشکال ،ولکن المراد عبارة عن کون الواجب وجوده لاقتضاء ذاته ، من غير حاجة الي علة خارج ذاته ، خلافاً للممکنات التي ليس وجودها الاقتضاء ذاتها بل لعلّة خارجة من ذاتها وان کان موجوديتها عين وجودها ولهذا قال (رحمه الله) : (أن الملاک في کون الشيء واجباً بالذات اليس هو کون وجوده نفس ذاته) وعينها حتي يرد الاشکال (بل وجوده) اي الواجب بالذات تعالي (مقتضي ذاته) يعني أن ذاته علة مقتضيه لوجوده، وهذا التعبير منهن فيه تسامح لأن الذات في الواجب ليس علة لوجوده ، ومن هنا اشکل بعض فلاسفة الغربّ مثل سارتر بانّه يستحيل کون الشيء علة لوجود نفسه ، اذ توهموا من هذه العبارة اننا نقول بوجود نحو من العلية بين الوجود والذات في الواجب تعالي يکون الذات امراً مغايراً مستقلاً عن الوجود و نفس ذاته المقدسة علة لوجود نفسها - لوجودها - (من غير أن يفتقر الي غيرها مطلقا (و) اما کل وجود امکاني فهو في عين أنّه موجود في ذاته) ووجوده تنفس ذاته بمقتضي أصالة الوجود، لکنه (مفتقر الي غيره) وهو الواسطة في العروض وهذا الوجود الامکاني (مفاضُ منه) أي من علة وجوده فلا وجود له مستقل بذاته بل وجوده بغيره (کالمعني الحرفي الذي) في عين آن (نفسه نفسه) ووجوده نفس ذاته (وهو مع ذلک لا يتم مفهوماً) تاماً مفيداً لمعني خاص (الا بالقيام بغيره) وهو المبتدأ والخبر مثلاً، فلا فرق بين الوجودات الامکانية والمعاني الحرفية من هذه الجهة، روسيجي، مزيد توضيح له في الأبحاث الآتية) يعني في الفصل الأول والثاني من المرحلة الرابعة. والحاصل: ان لفظة «بالذات» مشترک لفظي وقولنا: «الشيء موجود بالذات» قد نقصد منه بسبب الذات - وحمل الباء علي معني السببية - اشارة الي نفي الواسطة في الثبوت والتحقق، کما تقول واجب الوجود بالذات، ونقول : الله تعالي موجود بالذات، أي غني عن العلة الموجبة والواسطة والفاعل الموجد، وقد نقصد منه نفي الواسطة في العروض لا نفيها في الثبوت اذ الوجود بعد تحققه اما ان يکون بالذات واما بالغير، کالممکنات، وبعد وجوده تکون الموجودية صفة لنفس الموجود ، وصفاً بحال نفسه لا بحال متعلقه ، فالباء في بالذات هنا نتقابل الباء في بالعرض، ترد لنفي الواسطة في العروض، بخلاف ما إذا تحققت الماهية فان صفة الموجودية تکون بالذات لوجودها، وانما تنسب الموجودية الي الماهية بالعرض، و بالدقة العقلية الفلسفية فان الموجودية تکون صفة للوجود بالأصالة، ونسبتها إلي الماهية وصف بحال متعلقها، لوجود الواسطة في العروض فيها.

قال صدر المتألّهين في الأسفار : «معني وجود الواجب بنفسه أنّه مقتضي ذاته من غير احتياج إلي فاعل و قابل ؛ ومعني تحقق الوجود بنفسه أنّه إذا حصل، إما بذاته کما في الواجب ، أو بفاعلٍ لم يفتقر تحقّقه إلي وجودٍ آخر يقوم به ، بخلاف

ص: 118

غير الوجود. إنتهي(1)

ويندفع عنه أيضاً ما أورد عليه أنّه لو کان الوِجودُ موجوداً بذاته والماهيّةُ موجودةً بغيرها- الذي هو الوجود- کان مفهومُ الوجود مشترکاً بين ما بنفسه وما بغيره، فلم يتمّ مفروض الحجّة من أن الوجود مشترکُ معنويّ بين الموجودات لا الفظيّ.

وجه الإندفاع: أنّ فيه خلطاً بين المفهوم والمصداق، والاختلاف المذکور

مصداقي لا مفهوميّ(2)

ص: 119


1- (قال صدر المتألهين في الأسفار الجزء الأول صفحة 40: (معني وجود الواجب بنفسه) حين نقول الواجب موجود بنفسه أو بذاته (أنه مقتضي ذاته من غير احتياج الي فاعل) من خارج ذاته (و) لا (قابل) من داخل ذاته تعالي لأن فاعلية الفاعل لا تتم الا بقابلية القابل، لعدم کفاية وجود المقتضي بل لزوم عدم المانع أيضاً وضمه اليه ، وحاصله أن الواجب تعالي غني في وجوده عن الواسطة في الثبوت، هذا اذا نسبنا « بنفسه» الي الواجب تعالي، واما معني تحقق الوجود بنفسه) حين نقول : «الوجود متحقق بنفسه» علي نحو الاطلاق لا خصوص فرد من أفراد الوجود و مصداق من مصاديقه، وهو المراد من أصالة الوجود، معني هذا القول (انّه) أي الوجود مطلقا (اذا حصل اما) ان يکون حصوله (بذاته کما في الواجب) تعالي وهو المصداق الغني عن الواسطة في الثبوت، (او) أن يکون حصوله (بفاعل) خارجي الم يفتقرا هذا الوجود المطلق - اي مطلق الوجود في (تحققه الي وجود آخر يقوم هذا الوجود (به) فالموجودية وصف بحال نفس ذاک الوجود لا وصف بحال متعلقه ، ولا يحتاج الوجود في وجوده الي الواسطة في العروض، ولا يحتاج تحقق الوجود الي ضم ضميمة خارجية اليه (بخلاف غير الوجود) اي الماهية . اذ لا ثالث لهما- وذلک أنها لا تتحقق في الخارج ولا تخرج من الوجود الذهني الي الوجود الخارجي الا بضم الوجود اليها، والوجود هو الذي يمنحها الوجود والتحقق ويفيض عليها به، وهما وان اتحدا في الخارج بالحمل الشائع لکنهما متعدد آن متغايران في الوجود الذهني بالحمل الأولي. هذا کلام المولي صدر المتألهين وقد (انتهي کلامه رفع مقامه..
2- اذ لا فرق في مفهوم الوجود وهو المقول بالتشکيک ، وانما الفرق في المصداق وذلک أن المصداق متعدد بمعني ان الموجود. وهو الوجود المتحقق في الخارج . قد يکون عين الوجود والتحقق والثبوت کما في الواجب تعالي، وقد يکون معروض الوجود اي عرض له الوجود - کما في الوجودات الامکانية، وحال الوجود هنا حال سائر الصفات فان صفة القدرة والعلم والبصر والسمع والحياة والارادة والکلام وسائر الصفات الذاتية قد تکون زائدة علي المتصف بها وقد تکون عين ذات المتصف بها وهذا لا يضر کون کل واحدة منها متحدة في المفهوم رغم اختلافها في المصداق.

من بما تقدّم فساد القول بأصالة الماهيّة ، کما نُسِبَ إلي الإشراقيّين فهي

لمة إذا کانت بحيث ينتزع عنها الوجود، وإن کانت في حدّ ذاتها إعتباريّةً

رد المنتزع عنها إعتباريّاً(1)

ويردُّهُ أن صيرورةَ الماهيّة الإعتباريّة بانتزاع مفهوم الوجود الإعتباري أصيلةً

ذات حقيقة عينية ، إٍنقلابُ ضروريّ الإستحالة(2)

ص: 120


1- بعدما انتهي من اثبات الاصالة للوجود بقي الرد علي دعاة اصالة الماهية ونقض ادلتهم بالبرهان القاطع، بيان ذلک أن القائلين بها لا يعتقدون بوجود الماهية مستقلة ولا بأصالة وجودها بل يدعون ان الماهية (اذا کانت بحيث ينتزع عنها مفهوم الوجود) فهي أصيلة مستقلة وان کانت الماهية (في حد ذاتها اعتبارية) فالماهية عندهم في حد نفسها اعتبارية، کما أن الوجود - کما عندهم أيضاً - امر اعتباري ولهذا قال : وکان (الوجود المنتزع عنها) أي عن الماهية (اعتبارياً) أيضاً ، وحاصل هذا الجواب : ان الماهية اصيلة لکن لا مطلقا بل اذا کانت بصورة يمکن انتزاع مفهوم الوجود عنها، وعليه فانّها في حد ذاتها اعتبارية محضة، کما أن الوجود اعتباري أيضاً، فاذا کانت بحيث متي شئنا استطعنا أن ننتزع منها - عنها - مفهوم الوجود الاعتباري - ثم نحمله عليها، تصير حينئذ أصيلة، فالأصيل عندهم هو الماهية بوصف الوحود اي الماهية الموجودة وبفرض کونها موجودة لا مطلق الماهية، وعليه کيف يمکن استناد ملاک الواقعية والحقيقة بهذا الامر الاعتباري حتي وان امکن اتصافها بالوجود وانتزاع الوجود عنها تحت شرائط و عوامل خاصة !!
2- (ويرده) اي هذا الادعاء الذي اورده شيخ الاشراق في حکمة الاشراق وأورده صاحب الأسفار في محله (ان صيرورة الماهية الاعتبارية بانتزاع مفهوم الوجود الاعتباري اصيلة) اي ان زعمکم بأنا حين نتنزع مفهوم الوجود الاعتباري من مفهوم الماهية، تصير الماهية أصيلة و(ذات حقيقة عينية) هذا الزعم باطل لأنه (انقلاب ضروري الاستحالة) اذ ان الماهية علي هذا غير متحققة في ذاتها وهذا المفهوم يصير أصيلاً فجأة من غير أن يحدث شيء جديد في تلک الذات بضم ضميمة اليها ولا بنقصان شيء منها، وهو الانقلاب المعال، وکيف يمکن للشيء الاعتباري الذهني الذي لا حقيقة له في الخارج أن يفيض علي امر آخر نعمة الثبوت والتحقق، اذ الاعتباري الذهني خال من الآثار الخارجية والتحقق والثبوت من آثار الحقائق الخارجية التي إذا انضمت الي غيرها من الامور الاعتبارية منحتها نعمة التحقق والثبوت، والاعتباري فاقد لهذه الآثار مطلقاً وفاقد الشيء لا يجوز له أن يکون معطية، وانضمام اللاشيء الي اللاشيء لا يحقق شيئاً، وضم الصفر الي الصفر لا يحقق رقما ، کما أن ضم المعدوم إلي المعدوم لا يحقق موجوداً، وضم الذهني الي الذهني کذلک لا يحقق امرة خارجية بل ضم آلاف وملايين الاصفار واللاشيئات والمعدومات - الاعدام - والامور الذهنية بعضها إلي بعض لا يمکن ان تحقق رقماً او شيئاً او موجوداً أو أمر خارجياً ، ودعوي القوم أشبه بدعوي من يقول ان انقلاباً حدث في ذات الماهية - الاعتبارية - وأفاض عليها بالاصالة أي قليها من الاعتبارية الي الاصالة من غير علة ولا سبب ولا يقول به احد من الفلاسفة الالهيين.اعتباري

وتبيّن أيضاً فساد القول بأصالة الوجود في الواجب وأصالة الماهيّة في الممکن ، کما قال به الدّواني وقَرَّه بأنّ الوجود علي ما يقتضيه ذوق المتألهين حقيقةُ عينيّةُ شخصيّةُ هي الواجب (تعالي)، وتتأصّل الماهيّات الممکنة بنوع من الانتساب إليه، فإطلاق الموجود عليه (تعالي) بمعني أنّه عين الوجود وعلي الماهيّات الممکنة بمعني أنها منتسبة إلي الوجود الذي هو الواجب (1)

ص: 121


1- وحاصل ما قال به الدواني کما نسب اليه في منظومة السبزواري (بأن الوجود علي ما يقتضيه ذوق المتألهين) وهم المتبحرون في علم الالهيات والمعارف والعرفان، هذا الوجود ذو مفهومين مستقلين تامين أحدهما (حقيقة عينية شخصية خارجية (هي الواجب تعالي) والآخر هو مفهوم الوجود الذي يقع وصفاً للماهيات والممکنات، ويحمل عليها، لکن الماهيات موجوده بهذا المعني لا حقيقة - أي لا بنحو الحقيقة العينية الشخصية ، فهي موجودة بالاصالة لکن لا الاصالة الحقيقية الذاتية (وانما تتأصل الماهيات الممکنة بنوع من الانتساب اليه تبارک وتعالي ، فهناک وجود واجب وهناک وجود ممکن والمفهومان متغايران لان الوجود الأول أصيل بالذات والآخر اصيل بالغير. وحاصله أن لا وجود للماهيات، وانما الوجود في الحقيقة للواجب تعالي وانما ينسب اليها الوجود وتتأصل بسبب الانتساب إلي الوجود (فاطلاق الموجود عليه تعالي ) في قولنا: «الله تعالي أو الواجب تعالي موجود» ليس الا (بمعني انّه) تعالي (عين الوجود ) واطلاق الموجود علي الماهيّات الممکنة) ليس الا بمعني أنها منتسبة إلي الوجود الذي هو الواجب ).

ويرُدُّه أن الانتساب المذکور إن استوجب عرض حقيقةٍ عينيّة علي الماهيّات کانت هي الوجود، إذ ليس للماهيّة المتأصّلة إلّا حيثيّنا الماهيّة والوجود، وإذا لم تضف الأصالة إلي الماهية فهي للوجود، وإن لم يستوجب شيئاً وکانت حال الماهية قبلَ الإنتساب وبعده سواء، کان تأصلها بالانتساب انقلاباً ، وهو محالُ (1)

ص: 122


1- (ويرده) صاحب الاسفار والعلامة هنا (ان الانتساب المذکور...الخ) بيان ذلک أن الماهية التي تزعمون أنها تتأصل في الممکنات بانتسابها إلي الواجب تعالي، ماذا تعنون بهذا الانتساب ؟ هل لأنّه يوجد في هذا الانتساب شيء خاص ام لأنه صرف اعتبار ولحاظ عقلي، فان کان الانتساب يوجد شيئاً خاصاً في الماهيّة ، فلابد هذا الشيء أن يکون هو الوجود، ولازمه أصالة الوجود الذي يفيضه الباري تعالي علي الماهيّة ، وان کان هذا الانتساب لصرف الاعتبار واللحاظ العقلي فما الفرق بين الماهية قبل الانتساب وبعده ، کما يستلزم أيضاً کون الوجود مشترکاً لفظياً يطلق علي موجودية الشيء حقيقة ، تارة، ويطلق علي المنتسب إلي الوجود، تارة أخري. وحاصله : کيف صارت الماهية الاعتبارية أصيلة فجأة؟ قال ليس هنا شيء فجائي وانما تأصّلت بانتسابها الي الوجود الواجب تعالي قلنا أن هذا الانتساب لا يخلو من وجهين اما ان يستوجب عرض حقيقة عينية علي الماهيات وأما ان لا يستوجب شيئاً فان استوجب عرض حقيقة عينية علي الماهيات الممکنة أي استوجب الانتساب واستلزم تحقق حقيقة واحدة عينية في الخارج عارضة للماهية ( کانت ) تلک الحقيقة العينية (هي الوجود) بعينه (اذ ليس للماهية المتأصلة الا حيثيتا الماهية والوجود) ولا ثالث لهما (واذ لم تضف الأصالة الي الماهية) کما هو عندنا وعند المحقق الدواني القائل بأصالة الوجود (فهي) اي الاصالة (للوجود) کما اعترف الخصم بنفسه ، سواء کان الخصم يسمي هذا الانتساب المستلزم لايجاد تغيير في حال الماهية ومنحها الأصالة ، بالوجود. کما ندعوا اليه - او امتنع عن اطلاق اسم الوجود عليه ، فهو نفس الوجود العارض علي الماهية والذي يمنحها التحقق والثبوت وعليه فالاصالة للوجود (وان لم يستوجب) الانتساب المزعوم (شيئاً) من التغيير والتحديث بالزيادة والنقصان (وکانت حال الماهية قبل الانتساب وبعده سواء) فلم يستلزم تحقق شيء واجراء تغيير بالزيادة أو النقصان علي الماهية کان تأصلها) أي الماهية الممکنة (بالانتساب انقلاباً ) کما تقدم في الرد السابق (وهو محال) النفس السبب المتقدم. فالقول بالفصل الذي ذهب اليه الدواني باطل لأن حقيقة الوجود واحدة سواء بالنسبة الي الواجب أو الممکن.

يتفرّع علي أصالة الوجود واعتبارية الماهية(1)

أوِّلاً : أنّ کلَّ ما يُحمل علي حيثيّة الماهيّة فإنّما هو بالوجود، وأنّ الوجود حيثيّةُ تقييديّةُ في کلَّ حملٍ ماهويًّ، لما أنّ الماهيّة في نفسها باطلةُ هالکةُ لا تملک

ص: 123


1- حاصل الفرع الأول : اننا بعدما سلمنا ببطلان الماهية في حد ذاتها وخلوّها حتي من الوجود، وأنها عدم محض ولا تصير موجودة بنفسها إلا باضافة الوجود اليها وحمله عليها ، وان موجودية الماهية وصف بحال متعلقها، وهو الوجود، ماهية الموجود أي الماهية التي وجودها موجود، فلا شيء للماهية من اللوازم، وانما اللوازم المنسوبة اليها تکون للوجود حقيقة وللماهية بتبع وجودها، کما لا يصح حمل شيء علي الماهية أيضاً إلا اذا ثبت لها وجود في وعاء الذهن مثلاً أو وعاء الخارج، أي الوجود الذهني او الخارجي، وما يحمل عليها انما هو محمول علي الوجود - وجودها - اولاً وبالذات ومحمول عليها ثانياً وبالعرض، اي الماهية المقيدة بقيد الوجود، حتي لو لم يذکر القيد صراحة، لضرورته علي کل حال، فقولنا «الانسان خيرُ من الحيوان» ليس حمل الخير - خيژ - علي الانسان حملاً له علي الانسان الاعتباري - الماهية خالية من قيد الوجود - وليس معناه أفضلية الماهية - ماهية الانسان - قبل وجوده مثلاً، صحيح أن الموضوع في هذه القضية هو الانسان والانسان ماهية، لکنها ماهية لا تخلو من الحيثية التقييدية اعني الانسان بما هو موجود لا مطلقاً ، وقد عم المؤلف هذا المطلب حتي بالنسبة الي ذاتيات نفس الماهية ، وحکم بشموله لها بقوله الانسان ناطق» أي الانسان الموجود ناطق لا الماهية الاعتبارية للانسان ، کما جعل (رحمه الله) اللوازم العينية ولوازم الوجود الذهني بل لوازم الوجودين ، من لوازم الوجود في الخارج، والحاصل أن ما ينسب الي الماهية لا يخلو من وجهين: إمّا أن يکون أمراً عرضياً يوجد تارة ولا يوجد تارة اخري مثل الانسان کاتب» فإن الکتابة امر عرضي لا تنسب اليه الا بعد وجوده، فالماهية هنا مقيدة بقيد الوجود اي الانسان الموجود کاتب، واما ان يکون امراً لازماً مثل « النار حارة» فالحرارة عرض والنار جوهر فهما أمران متغايران، وانما نسبت الحرارة إلي النار بقيد الوجود لا مطلقاً ولا يکفي أيضاً مطلق الوجود بل خصوص النار الموجودة في الخارج حارة، وقد يکون اللازم من لوازم الوجود الذهني لا الخارجي مثل الانسان کل» وبما أن الکلي ذهني محض فالانسان الموجود في الذهن - بوجوده الذهني - کلي لا مطلقاً ، وقد يکون المحمول علي الماهية أعم من الموجود الذهني أو الخارجي مثل : الاربّعة زوج» فالاربّعة زوج سواء کانت ذهنية اعتبارية أو خارجية حقيقية ، ويقال لها من لوازم الماهية ، يقول المؤلف و ان الحق هنا مع المحقق الدواني القائل بأن هذا الأخير من لوازم الوجودين .

شيئاً ، فثبوت ذاتها وذاتيا تها لذاتها بواسطة الوجود(1) فالماهيّة وإن کانت إذا اعتبرها العقل من حيث هي لم تکن إلّا هي، لا موجودة ولا معدومة، لکنّ ارتفاع الوجود عنها بحسب هذا الإعتبار - ومعناه أنّ الوجود غير مأخوذ في حدّها لا ينافي حملَه عليها خارجاً عن حدّها عارضاً لها ، فلها ثبوتُ مّا کيفما فرضت (2)

ص: 124


1- قوله : (في کل حمل ماهوي کل حمل يکون فيه موضوع القضية ماهيّة من الماهيات، إذا اريد ثبوت المحمول لذلک الموضوع - الماهية - فلابد من أضافة حيثية تقييدية إليه مثل بما هي موجودة» مثلاً: «الانسان کاتب بما هو موجود» وهکذا.
2- قوله : (فالماهية وان کانت اذا اعتبرها العقل من حيث هي مجردة عن کل شيء وملاحظتها ولحاظها في حد ذاتها بقطع النظر عن اي شيء آخر (لم تکن الا هي) فهي بهذا اللحاظ (لا موجودة ولا معدومة) ولکن بمجرد لحاظ العقل لها تصبح موجودة وأن لم يلاحظ وجودها (لکن ارتفاع الموجود عنها بهذا الاعتبار) اي حين نقول «لا موجودة» بنفي الوجود عنها (ومعناه ان الوجود غير مأخوذ في حدّها) و تعريفها أي حين نتصور الماهية ونلحظ حدودها المفهومية لا نجد فيها الوجود، فان هذا المعني (لا ينافي حمله) أي الوجود (عليها) أي الماهية، بمعني الشيء الذي يکون (خارجة عن حدها) وذاتها، وحدها الماهوي حال کونه (عارضاً لها) فللماهية ثبوت ما في الخارج علي کل حال غاية الأمر انا لا نلاحظ وجودها ولا نشعر به، ولو ثبت کون ذاتها - أي الماهية - وذاتيا تها ذات حيثية تقييدية - اي کون ثبوتها بالوجود، فلوازمها کذلک بطريق أولي (وکذا لوازم ذاتها) بطريق أولي (التي هي لوازم الماهية ... الخ). ولوازم الماهية کما هو عند الحکماء علي نوعين کالزوجية بالنسبة إلي الأربّع او الفردية للثلاث والحرارة للنار، ومثل مفهوم الماهية التي تحمل علي الماهية الخاصة کقولنا الانسان ماهية» مثلاً، فان هذه الماهية لا تقبل الانفکاک عن الانسان، وحمل عنوان الماهية علي الانسان والحيوان والشجر والحجر وغيرها من الأنواع يعدّ من لوازم هذه الأشياء، کل واحد منها ماهية بحد ذاته، لا يمکن سلب الماهية عنه ، نعم يمکن سلبها عن کل واحد منها من جهة أنه عارض لازم للماهية وليس جزءا للذات وجزءاً الذات إما جنس أو فصل - وجنس الاجناس - أو اعلي الأجناس هي المقولات العشر ، ولهذا فلا يصح ادخال لفظ الماهية في تعريف أي شيء لأن لفظ الماهية - او حقيقة الماهية - ليس جنساً ولا فصلاً لشيء من الأشياء ، فلا نقول في جواب ، ما هو الانسان؟ أنه ماهية أو ماهية کذائية کلا بل نقول هو جوهر ذو ابعاد ثلاثة - جسم - نام حساس متحرک بالارادة ناطق، وهو الحد التام، فلا مجال للماهية في حدود الأشياء، وهکذا الوجود، لا مکان له في الحدود والتعريفات، وحمل الماهيات علي الأشياء بالحمل الشايع حمل عرضي لا ذاتي (کمفهوم الماهية العارضة لکل ماهية) فان حملها حمل عرضي وليس حملا ذاتية، لأنها ليست جنسا ولا فصلا للماهيات و ذلک أن مفهوم الماهية من المعقولات الثانية الفلسفية فلا تدخل في حد شيء من الماهيات المنتزعة من الماهيات الخارجية أو الذهنية وحملها علي تلک الماهيات حمل عرضي منطقي - باب ايساغوجي - لا حمل ذاتي منطقي - من باب البرهان - وبعد انتزاع مفهوم الماهية من الماهيات الحقيقية أو الاعتبارية يتم حملها علي تلک الماهيات، بواسطة الوجود ، کما أن حمل العرض علي الأعراض التسعة حمل عرضي أيضا کقولنا «الکيف عرض» و«الکم عرض» وهکذا، مع أنه ليس لها جنس لأنها من الأجناس العالية، وحمل الماهية علي الجواهر والاعراض حمل عرضي أيضاً، فالماهية نصبح أحد أعراض الماهية الخاصة. (بذلک يظهر أن الوجود من لوازم الماهية الخارجة عن ذاتها) واللازم خارج عن الذات قطعاً لعدم کونه ذاتية من ذاتيات الماهية فليس هو جنس للماهيات مطلقاً ولا هو فصل ، واما ملازمة الوجود للماهية فهو من باب ملازمة الحرارة للنار لا يتحقق للماهية ذات الا بالوجود.

وکذا لوازم ذاتها - التي هي لوازم الماهيّة کمفهوم الماهية العارضة لکلّ

ماهيّة ، والزوجيّة العارضة لماهيّة الأربّعة - تثبت لها بالوجود لا لذاتها.

وبذلک يظهر أنّ لازِمَ الماهيّة بحسب الحقيقة لازم الوجودين الخارجيّ

والذهنّي کما ذهب إليه الدّواني.

وکذا لازِمُ الوجود الذهني کالنوعيّة للإنسان، ولازِمُ الوجود الخارجيّ

کالبرودة للثلج ، والمحمولات غير اللازمة کالکتابة للإنسان، کل ّذلک بالوجود.

وبذلک يظهر أن الوجود من لوازم الماهية الخارجة عن ذاتها.

وثانياً : أن الوجود لا يتَّصف بشي ءٍمن أحکام الماهيّة ، کالکلّيّة والجزئيّة ، وکالجنسيّة والنوعيّة والفصليّة والعرضيّة الخاصة والعامة، وکالجوهريّة والکميّة والکيفيّة وسائر المقولات العرضيّة ، فإنّ هذه جميعاً أحکام طارئةُ علي الماهيّة من

ص: 125

جهة صدقها وانطباقها علي شيءٍ کصدق الإنسان وانطباقه علي زيد وعمرو وسائر الأفراد أو من جهة اندراج شي ءٍتحتها کاندراج الأفراد تحت الأنواع والأنواع تحت الأجناس. والوجود الذي هو بذاته الحقيقة العينّية - لا يقبل انطباقاً علي شيءٍ ولا اندراجاً تحت شيء ولا صدقاً ولا حملاً ولا ما يشابه هذه المعاني، نعم مفهوم الوجود يقبل الصدق والإشتراک کسائر المفاهيم(1)

ص: 126


1- (وثانياً: أن الوجود) حقيقة عينية خارجية، ذو آثار خاصة به وهو عين التشخص والتعيّن غير منفک من ذاته ، ولا يحل في الذهن بحقيقته الخارجية بخلاف الماهية التي قد تکون ذهنية وقد تکون خارجية ولکل منهما حکم خاص به و آثار خاصه به ، وعليه في (لا يتصف) الوجود (بشيء من احکام الماهيّة ، کالکلية) فان الکلية او الکلي مفهوم قابل للانطباق علي الکثيرين (والجزئية) المقابل للکلي اذ الجزئي هنا بمعني المفهوم الذي لا يقبل الصدق الا علي فرد واحد ويمتنع فرض صدقه علي کثيرين (وکالجنسية) والجنس مفهوم کلي وأحد الاجزاء الذاتية لمصاديقه بل هو الجزء الأعم من أجزاء الذاتي (والنوعية) والنوع مفهوم کلي يمثل تمام ذاتيات أفراده (والفصلية) والفصل مفهوم کلي يمثل الجزء المساوي من أجزاء ذاتي مصاديقه (والعرضية الخاصة والعرض الخاص مفهوم کلي يمثل صفة خاصة خارجة عن ذاتي مصاديقها (و) العرضية (العامة) والعرض العام مفهوم کلي أيضاً لکنه يمثل وصفاً عاماً خارجاً عن الذات أي عن ذاتي مصاديقها (وکالجوهرية) والجوهر ماهية اذا وجدت وجدت في موضوع لقيامها بنفسها واستقلاليتها، (والکّميّة) الکمُّ واحد من الاعراض التسعة، وهو قسمان: کم متصل کما في الجسم والخط ، وکم منفصل کما في الاعداد، (والکيفية الکيف أيضاً من الاعراض کما انّه قسمان: کيف جسماني وکيف نفساني (وسائر) الأعراض والمقولات العرضية) وهي الأين والملک والجدة والاضافة و متي وان يفعل وان ينفعل، والاعراض مفاهيم کلية وهي ماهيات اذا وجدت وجدت في موضوع، وانما ذکرها عامة بعدما خص الکم والکيف بالذکر قبلها، للاتفاق فيها، والاختلاف في البواقي من جهة المدعي ، و تطلب تفاصيل کل ما ذکرناه من المفاهيم في محله، وکيف کان (فان هذه) الأحکام التي ذکرناها (جميعاً احکام طارئة علي الماهيّة) تتصف بها الماهية، وذلک من احدي جهتين : أمّا (من جهة صدقها وانطباقها) جميعاً (علي شيء، کصدق الانسان وانطباقه علي زيد وعمرو وسائر الأفراد) التي ينطبق عليها مفهوم الانسان، ان الانسان مفهوم کلي قابل للصدق علي کثيرين ، (او من جهة اندراج شيء تحتها) أي من جهة اندراجها جميعاً تحت شيء، إذ المفهوم ينطبق علي المصداق، والمصداق يندرج تحت المفهوم، فبعض هذه الأحکام مفاهيم کلية تنطبق علي الماهيات والأشياء، وبعضها مصاديق تندرج تحت ماهية من الماهيات ولهذا لزم کون الماهية هنا مفهوم کلي کما تجد في الأمثلة الآتية : (کاندراج الأفراد والمصاديق (تحت الانواع الکلية ، فان زيدة وعمروا وامثالهما يندرجون تحت النوع الانساني، وکل ماهية لابد أن تندرج تحت نوعها الخاص، وکاندراج (الأنواع تحت الأجناس القريبة، واندراج الأجناس القريبة تحت المتوسطة والمتوسطة تحت البعيدة وهکذا، فکل مفهوم کلي قابل للانطباق علي مصاديقه الجزئية، کما أن المصاديق تندرج تحت المفاهيم، بينما لا يتصف الوجود بشيء من هذه الأمور والاحکام، وذلک أن الماهيّة بما لها من حضورين، حضور في وعاء الذهن وحضور في وعاء الخارج - اي حضور ذهني وحضور خارجي - فهي تقبل الاتصاف بالکلية والجزئية والعرضية العامة والعرضية الخاصة ، اذ الماهية باعتبار صدقها علي افراد کثيرة تقبل الاتصاف بالکلية - اي تتصف بها فعلا - وباعتبار صدقها علي الفرد الواحد وعلي کل فرد من الأفراد تتصف بالجزئية، وهکذا باعتبار اشتراکها في انواع مختلفة تتصف بالجنسية، وباعتبار اختصاصها بنوع خاص من الانواع تتصف بالفصلية، وباعتبار عروضها لمصاديق جميع انواع جنس واحد تتصف بالعرضية العامة، وباعتبار عروضها لمصاديق نوع خاص من الجنس تتصف بالعرضية الخاصة ، فبعض هذه الأحکام تنطبق علي الأشياء والماهيات وهي تعد مصاديق لها، واما بعضها الآخر مثل الجوهرية والعرضية والکمية والکيفية وسائر الأعراض فانّها لا تنطبق علي الماهية بحضورها الذهني بل بعموم حضورها الذهني والخارجي، فالماهية بحضورها الذهني في جوهريتها جوهر وفي عرضيتها عرض وکذلک بحضورها الخارجي في جوهريتها جوهر وفي عرضيتها عرض وهذا لا يختص بوجودها الذهني ولهذا فان الماهية الخارجية بوجودها العيني صالحة للاندراج تحت عنوان الجوهرية أو العرضية واتصافها بها، لاندراجها تحت ماهية الجوهر أو العرض. ماهية جوهرية او ماهية عرضية -، والحاصل أن الفرد الخارجي اذا أصبح مصداقاً للجوهر او العرض، فإنه يندرج حينئذ تحت نوع جوهري او عرضي، فتتصف تلک الماهية بعنوان جوهري او عرضي رغم کونه فرداً في ظرف الخارج، (و) لکن الوجود - الذي هو بذاته الحقيقة العينية ) الخارجية، فإنّه لا يقبل انطباقاً علي شيء) لأنه ليس مفهوماً کلّيّاً ذهنياً بل ليس له حضور ذهني، والانطباق من شأن الکلي الاعتباري (ولا )يقبل (اندراجاً تحت شيء) لأن المندرج يغاير المندرج فيه، بينما الوجود عين الماهيات والحقائق وکيف يندرج تحت نفسه ؟! ولو قلت أن المفاهيم اعتبارية والوجود حقيقي فما المانع من اندراج هذا تحت تلک، قلت لامانع بل کل موجود يندرج تحت مفهوم لکن الوجود الذي هو الحقيقة العينية کيف يندرج تحت أمر اعتباري، فافهم، ولا يقبل أيضاً (صدقاً) علي شيء والصدق کالانطباق (ولا )يقبل الوجود (حملاً) علي شيء من الأشياء ولا يقبل (ما يشابه هذه المعاني) - والمراد من هذه المعاني قوله الانطباق الاندراج والصدق والحمل - وما شابهها کالاتصاف والاشتمال (نعم مفهوم الوجود يقبل الصدق) علي افراد أو عناوين متعددة کثيرة (و يقبل الاشتراک) المعنوي بين مراتب عديدة (کسائر المفاهيم) الکلية الاعتبارية، إلا أن الحديث هنا ليس عن مفهوم الوجود، بل عن حقيقته الخارجية ، فانتبه.

ص: 127

ومن هنا يظهر أنّ الوجود يساوق الشخصيّة (1)

ومن هنا يظهر أيضاً أنّ الوجود لا مثلَ له، لأنّ مثلَ الشيء ما يشارکه في

الماهيّة النوعيّة ولا ماهيّة نوعيّةً للوجود (2)

ويظهر أيضاً أنّ الوجود لا ضدَّ له لأنّ الضدين - کما سيأتي- أمران وجوديّان متعاقبان علي موضوع واحلي داخلان تحتَ جنسٍ قريبٍ بينهما غاية الخلاف، والوجود لا موضوع له ولا جنس له ولا له خلاف مع شي ءٍ.(3)

ص: 128


1- (ومن هنا يظهر) أوّلاً : (أن الوجود) مصداقاً وبالحمل الشائع (يساوق) ويعادل (الشخصية) فإن الوجود من حيث وجوده الخارجي العيني متشخّص، والشيء مالم يتشخّص لم يوجد والتشخّص يعني عدم القابلية للانطباق علي شيء، وهي حقيقة الوجود الخارجي کما تقدم، والتشخّص هو التعين، واما الوجود بالحمل الأولي - اي مفهوم الموجوده فلا يساوق الشخصية.
2- (ومن هنا يظهر أيضاً) ثانياً : (ان الوجود) بحقيقته الخارجية (لا مثل له) فلا تماثل بين فردين من الوجود تماثلاً تاماً عينياً (لأن مثل الشيء ما) اي هو الذي يشارکه) اي يشارک الشيء (في الماهية النوعية الکلية واندراجهما تحت مفهوم کلي (ولا ماهية نوعية للوجود) کما تقدم فإن النوعية کلية ومثلها لا ينطبق علي الوجود، وما کان منزهلاً عن انطباق الکلي الماهوي عليه فلا يصح التماثل بين افراده کما تعلم.
3- (ويظهر أيضاً) ثالثاً (ان الوجود لاضدّ له) لمزيد من التفاصيل راجع الجزء الأول من الأسفار (لأن الضدين - کما سيأتي سا في الفصل التاسع من المرحلة السابعة ان شاء الله تعالي، يشترط في صدق التضاد بينهما تحقق أربّعة شروط : أوّلا - أنهما (أمران وجوديان) اي فردان من الماهيّة الموجودة فلا تضاد بين الاعدام ولا بين وجودي وعدمي، ثانياً - أنهما متعاقبان) وعارضان (علي موضوع واحد) فلا تضاد بين فردين من ماهية واحدة إذا تعاقبا علي موضوعين مختلفين، ثالثاً : (داخلان تحت جنس قريب) فلا تضاد بين فردين من ماهية واحدة متعاقبين علي موضوع واحد إذا کانا داخلين تحت جنسين مختلفين ، رابعاً – ان بينهما غاية الخلاف) والبعد والعناد، وقد تقدم أن (الوجود) ليس فرداً من الماهية أصلاً و(لا موضوع له) يتعاقب ويحمل عليه (ولا جنس له) لأنّه بسيط غير مرکب من الجنس والفصل (و) أخيراً (لاله) أي ليس له (خلاف مع شيء) اذ لا شيء خارج الوجود حتي يکون ندّاً و شريکاً له يعانده ويخالفه .

وثالثاً : أنّ الوجود لا يکون جزءاً لشيءٍ، لأنّ الجزء الآخر والکلّ المرکّب منهما إن کانا هما الوجود بعينه فلا معني لکون الشيء جزءاً لنفسه، وإن کان أحدهما أو کلاهما غير الوجود کان باطل الذات، إذ لا أصيل غير الوجود، فلا ترکيب(1)

وبهذا البيان يثبت أن الوجود جزء له وتبين أيضاً أن الوجود بسيط في

ذاته .

ورابعاً : أنّ ما يلحق الوجود حقيقةً من الصفات والمحمولات أُمور غيث

خارجةٍ عن ذاته ، إذ لو کانت خارجةً کانت باطلةً(2)

ص: 129


1- (و ثالثاً ) : يتفرع علي أصالة الوجود (ان الوجود) و الحقيقة الخارجية (لا يکون جزءاًالشي) لأنه لا شيئية في الخارج عدا الوجود، ولا شيء خارج الوجود حتي يکون الوجود جزء له هذا أولا، ولأن الوجود بسيط بحقيقته وذاته ثانياً ، وأما ثالثاً : لأنا نسأل أيضاً ما هي حقيقة ذاک الجزء الآخر الذي يشارک الوجود في جزئيته للغير؟ (لأن الجزء الآخر الذي يشاطر الوجود في ترکيب الکل (والکل المرکب منهما) أي من الوجود والجزء الآخر، لايخلوان من وجهين : 1- (ان کانا) اي الجزء الآخر والکل المرکب من الوجود وهذا الجزء الآخر ان کانا (هما الوجود بعينه) کما هو الحق (فلا معني لکون الشيء) اي الوجود باعتباره جزءاً واحداً أو الجزئين معاً (جزءاً لنفسه) فثبت بطلان هذا الوجه، 2- (وان کان أحدهما) أي أحد الجزئين (أو کلاهما غير الوجود) بکون المرکب بجزئيه غير الوجود (کان) هذا المرکب (باطل الذات، اذ لا أصل غير الوجود) واذا کان کل ما في الخارج الوجود (فلا ترکيب) من العدم والوجود فضلا عن العدمين اذن هو بسيط غير مرکب اصلاً.
2- (ورابعاً : أن ما يلحق الوجود حقيقةً لا اعتباراً من الصفات ) کالقوة والفعل والقدم والحدوث والوجوب والامکان وما شابهها (والمحمولات الفلسفية) فهي کما تقدم اما آن تساوي موضوع الفلسفة - اي الوجود - أو أن تکون هي وما يقابلها معاً مساوية لموضوع الفلسفة، وعلي کل حال فالصفات والمحمولات - اعني محمولات المسائل الفلسفية - (غير خارجة عن ذاته) اي عن ذات الوجود، اذ لا شيء خارج الوجود، فکل ما يثبت للوجود الخارجي من صفة أو حمل واقعيين، لا ذهنيين اعتبار بين ، ليس ذلک الوصف أو المحمول خارجاً عن ذات الوجود أعني أنها عين الوجود.

وخامساً : أنّ للموجود من حيث اتّصافه بالوجود نحو انقسام إلي ما بالذات وما بالعرض، فالوجود موجودُ بالذات بمعني أنه عين نفسه، والماهية موجودةُ بالعرض، أي أنّها ليست (متصفةً) بالوجود بالنظر إلي نفس ذاتها وإن کانت موجودةُ بالوجود حقيقةً قبالَ ما ليس بموجوډ بالوجود(1)

ص: 130


1- (وخامساً : ان للموجود من حيث اتصافه بالوجود نحو انقسام) اي علي قسمين: 1- (الي ما بالذات ) اي الوجود الموجود بالذات والموجود المتصف بالوجود بالذات. 2- (وما) أي الوجود الذي يتصف بالوجود لا بالذات بل (بالعرض) وهو الوجود الموجود بالعرض فالوجود موجود بالذات) وهو القسم الأول (بمعني أنه) أي الوجود (عين نفسه) اي عين الموجودية فالصفة عين الموصوف (و) حين نقول (الماهية موجودة بالعرض) وهو القسم الثاني (اي انّها) اي الماهية ليست (متصفة بالوجود بالنظر الي نفس ذاتها) فان ذات الماهية لا اقتضاء فيها وجوداً و عدماً - اي لا تقتضي الوجود ولا العدم - التساوي نسبة الماهيات الامکانية الي الوجود والعدم (وان کانت الماهية (موجودة بالوجود حقيقة) وعياناً (قبال ما ليس بموجود بالوجود) ولم يتصف به أصلاً کالمعدوم. فزرقة السماء عرضية عارضة للسماء أما زرقة الأزرق ذاتية، ودسومة الطعام بالدهن واما دسومة الدهن من نفسه وتلک عارضة اما هذه فذاتية. ملاحظة هامة : تقدم أن الفروع والتفريعات التي نحن بصددها والمبتنية علي أصالة الوجود انما ترجع الي حقيقة الوجود لا مفهومه ، فما معني حقيقة الوجود؟ اعلم أن مصطلح حقيقة الوجود استعمله اهل المعقول - اعني الحکماء والعرفاء - بعدة معاني اولها أن يراد بحقيقة الوجود ذات الواجب تبارک وتعالي سيما عند أهل العرفان ، وقد استعملها أيضاً بعض الفلاسفة منهم صدر المتألهين (ره) واتباعه وحينئذ فيراد بها المرتبة العالية والکاملة للوجود، وهذا المعني يختص بمبحث الالهيات بالمعني الأخص ولا وجه له امه ههنا، وثانيها - أن يراد بها الطبيعة المرسلة للوجود وقد جاء ذلک في کلمات المرحوم السبزواري وغيره، فما هي الطبيعة المرسلة للوجود؟ اعلم أن من الماهيات ما هي ماهيات جنسية سارية بين الماهيات النوعية ، کمفهوم الحيوان الساري في الانسان والبقر والغنم والفرس، والمفهوم الجنسي هو الحالة غير المتأثرة المبهمة - الابهامية - السارية بين الماهيات النوعية - أي بين أنواع من الحيوانات - وهذا السريان، مفهومي، أعني أن جزءا من مفهوم الانسان عبارة عن مفهوم الحيوان، وان مفهوم الحيوان موجود ضمن مفهوم البقر والفرس وغيرهما . ثم بها تشبه حقيقة الوجود بأنها طبيعة مرسلة سارية في الوجودات الخاصة ، کل وجود خاص تسري فيه حقيقة الوجود، فکما ان المفهوم الجنسي يسري بين المفاهيم النوعية سرياناً ذهنياً فکذلک حقيقة الوجود يسري بين حقائق الوجودات الخاصة في عالم الحقيقة وهو السريان العيني ، هذا تعريف تقريبي للطبيعة المرسلة، لکن الحقيقة أن هذا خلط بين أحکام الماهية علي القول بأصالة الماهية وبين احکام الوجود علي القول بأصالته، فما معني قولهم : کل وجود خارجي تسري فيه حقيقة الوجود سرياناً عينياً ؟! وليس هنا محل هذا البحث بل يطلب المزيد من التفاصيل في کتب القوم المطولة، والحاصل أن المراد من حقيقة الوجود: 1- اما وجود الواجب تعالي، 2الوجود کله، 23 - الطبيعة المرسلة للوجود، 4۔ کل وجود عيني خاص، والمراد هنا والمطابق لما أورده المرحوم صدر المتألهين هو المعني الأخير، فالوجودات هويات بسيطة اي کل وجود عيني عبارة عن هوية بسيطة، ومعني البساطة عند الفلاسفة وهو ما يقابل الترکيب ، متعدد علي النحو التالي: ا- البسيط بمعني عدم الترکيب من الصورة والمادة وهو البسيط الخارجي ويقابله المرکب الخارجي، و يقصد عادة عند الفلاسفة، کالاجسام المرکبة من المادة والصورة والاعراض التي لا تترکب منهما، واذا اطلقنا لفظي المادة والصورة بنحو اللابشرط ، يکونان بمعني الجنس والفصل، فلکل ماهية صورة ومادة خارجية وجنس وفصل خارجيين. 2- وقد يراد بالبسيط معني اوسع من هذا، فيقال أن لهذا مثلاً جنساً وفصلاً عقليين ، وان لم توجد مادة وصورة عقليتين ، کما في المعني الأول، اذ قلنا أن الاعراض بسيطة لخلوها من المادة والصورة الخارجيتين، وطبقاً للمعني الثاني - أي ما نحن فيه - تکون الأعراض من المرکبات أيضاً ، لأنها وان لم تترکب في الخارج، الا أن العقل يفترض لها مادة وصورة ، وجنساً وفصلاً، وبهذا يمکن أن نعرف اقسام الاعراض بأجناسها، فنقول عن الکيف، هذا کيف محسوس، والمحسوس هنا بمنزلة الفصل فتصير ماهية مرکبة، فالکيف جنس مشترک بينها، وفصلها المحسوس، وعليه فکل ما في عالم الوجود - عالم الاجسام - من جواهر واعراض، مرکبة جميعاً. 3- وقد يراد بالمرکب ، المرکب من الأجزاء المقدارية من غير لحاظ الجنس والفصل والمادة والصورة، کقولهم الأشياء الخارجية اما ان يکون لها أجزاء خارجية وأما أن لا يکون کذلک، فان کانت من القسم الأول فهي مرکبة والا فهي بسيطة، ولهذا فکل الاجسام مرکبة لأنها ذوات اجزاء مقدارية کالطول، والاعداد مرکبة أيضاً لأنها مرکبة من الوحدات، وهکذا الکم لقبوله التقسيم من جهة ماهيته، لأن ما في العالم امّاکّم او معروض کمّ، فکل ما في عالم الاجسام والطبيعة مرکب أمّا بالذات وأما بالعرض. ولعلّ المراد من قوله : «ان الوجود بسيط في ذاته» في قوله : «ثالثاً» أي في التفريع الثالث هو المعني الأول والله العالم

ص: 131

وسادساً : أنّ الوجود عارضُ للماهية - بمعني أنّ للعقل أن يجرّد الماهيّة عن الوجود، فيعقلها وحدها من غير نظرٍ إلي وجودها، فليس الوجود عينها، ولا جزءاً لها. ومن الدليل علي ذلک جواز سلب الوجود عن الماهية ، و احتياج اتّصافهابه إلي الدليل، وکونها متساوية النسبة في نفسها إلي الوجود والعدم، ولو کان الوجود عينها أو جزءاً لها لما صحّ شيءُ من ذلک(1)

والمغايرة - کما عرفت - عقليّةُ، فلا تنافي إتِّحاد الماهيّة والوجود خارجاً وذهناً، فليس هناک إلّا حقيقة واحدة هي الوجود لمکان أصالته واعتباريّتها ،

ص: 132


1- (وسادساً :...) إلي قوله : (ومن الدليل علي ذلک أن الأدلة علي عروض الوجود للماهية ثلاثة : أولاً (جواز سلب الوجود عن الماهية) بالتحليل العقلي فيتصور العقل الوجود خالية عن الماهية وبالعکس، ثانياً : (و احتياج اتصافها) أي الماهية (به) أي بالوجود (إلي الدليل) وحمل الوجود عليها أيضاً يحتاج الي الدليل ، ثالثاً : (وکونها) أي الماهية ممکنة أي (متساوية النسبة في نفسها) أي بقطع النظر عن العوامل الخارجية متساوية النسبة الي الوجود والعدم) ولو کان الوجود عين الماهية أو جزئها لم يصح سلبه عنها لاستحالة سلب الشيء من نفسه او جزئه ، وکذلک لاستغني في حمله علي نفسه أو حمل أجزائه الذاتية عليه واتصافه بنفسه او بأجزائه الذاتية لاستغني في ذلک کله عن الدليل لأنه ضروري بديهي لا يحتاج الي الواسطة في الثبوت، وأيضاً لکانت نسبة الماهية الي الوجود والعدم غير متساوية بل لزوم کون نسبتها إلي العدم نسبة الامتناع والاستحالة، لأنه نقيض الوجود، فإن کان الوجود عين الماهية أو جزئه لوجب له الوجود وکان العدم له محالاً.

فالماهيّات المختلفة يختلف بها الوجود نحواً من الإختلاف من غير أن يزيد علي الوجود شيءُ: وهذا معني قولهم: «إنّ الماهيّات أنحاء الوجود». وإلي هذا

الإختلاف يؤول ما بين الماهيّات الموجودة من التميّز والبينونة واختلاف الآثار، هو معني قولهم: «إنّ الماهيّات حدود الوجود». فذات کلّ ماهيّةٍ موجودةٍ حدُّ لا يتعدّاه وجودها، ويلزمه سلوبُ بعدد الماهيّات الموجودة الخارجة عنها. فماهيّة الإنسان الموجودة - مثلاً - حدُّ لوجوده ، لا يتعدّاه وجودُه إلي غيره، فهو ليس بفرس وليس بقر وليس بشجر وليس بحجر ، إلي آخر الماهيات الموجودة المباينة للإنسان (1)

ص: 133


1- تقدم أن الاتحاد بين الوجود والماهية في الخارج بالحمل الشائع، بديهي، (و المغايرة کما عرفت - ) في الفرع الأول من هذا الفصل (عقلية) أي باعتبار العقل وفي ظرف الوجود الذهني، وأما المغايرة الاعتبارية الممکنة (فلا تنافي اتحاد الماهية والوجود خارجاً وذهناً) فهما متحدان في الخارج وفي الذهن لکنهما قابلان للانفکاک بالدقة العقلية ، وذلک أن الوجود زائد علي الماهية عقلاً، أي لا يدخل الوجود في حدّ الماهيّة ولا يحمل عليها الوجود بالحمل الأولي، وامّا اتحادهما يعني انتزاع کلا مفهومي الوجود والماهيّة من حقيقة واحدة ، هي مصداق الوجود بالذات و مصداق الماهيّة بالعرض ، (فليس هناک إلا حقيقة واحدة....الخ) واذا کان کذلک فما هذا الاختلاف الذي نجده في الخارج بين الأشياء والموجودات ؟ ردا علي هذا الاشکال قال : (فالماهيات المختلفة يختلف بها الوجود نحواً من الاختلاف) فکل اختلاف نجده بين الموجودات إنما جاء من جهة الماهيات، فهي التي تمايز بين الوجودات، وليس معني حمل الوجود علي الماهية إلّا فصل العقل بين الوجود والماهية وحمله عليها - اي کل هذه العملية عقلية محضة، (من غير أن يزيد علي الوجود شيء) بسبب اختلاف الماهيات الموجودة، وهذا النحو من الاختلاف راجع الي حظ الماهية من الوجود، والمرتبة التي تحظي بها کل ماهية ماهية، (وهذا معني قولهم «ان الماهيات انحاء الوجود») بيان ذلک أننا لو شبهنا الوجود مطلقاً بورقة، فهي لکونها قابلة أن تقص بأشکال مختلفة کالمربّع والمثلث و المستطيل وغيرها، فلو قصّت بتلک الأشکال أو بعضها، لم يضف الي اصلها شيء جديد، وتبقي هي هي وان تم قصها بأشکال مختلفة، لکن ينسب الي کل شکل من تلک الاشکال خاصّية معيّنة، فنقول عن المثلث أن مجموع زواياه يساوي زاويتين قائمتين، ونقول عن المربّع أن مجموع زواياه يساوي أربّع زوايا قائمة وهکذا تقدم لکل منها تعريفأ وحد يناسبه، وبالنتيجة فالأحکام محمولة علي أصل الورقة، ولا تعد تلک الاشکال - من المثلث والمربّع وغيرهما - زيادة شيء علي الورقة واضافة شيء إليه ، بلا فرق بين حقيقتها العينية الورقية، ونلاحظ أن هذه القصاصات حدود عدمية في الحقيقة فالورقة المثلثة تعني عدم وجود مثلث وراء هذه الأضلاع الثلاثة، والمربّعة تعني عدم وجود سطح وراء هذا السطح الخاص المحدود بالأضلاع الأربّعة المتساوية وهکذا.... والامور العدمية لا تضيف شيئاً إلي الوجود، فالوجود الواحد في الخارج ليس الا الوجود، والموجودات الخاصة کل منها نفس الوجود الذي لوحظ فيه قيد عدمي، کالانسان الذي تميزه عن غيره حدوده العدمية بأن تقول ليس بفرس ولا بقر ولا غنم ولا نبات ولا... الخ حتي تتم حدوده الانسانية بعد ما يتم طرد کل ما ليس بإنسان، ومن هذه الحدود العدمية التي للوجودات الخاصة تحصل الماهية ، لکن نفس هذه الماهية الحاکية عن الوجودات الخاصة ، لها أحکام خاصة بها توجب التمييز بين کل ماهية واخري ، وهذا لا يعني ان يکون لحقيقة الوجود انواع مختلفة نظير ما مثلناه من اشکال الورقة الواحدة، والحاصل أن عالم الوجود وحدة من الوجود ولا مغاير للوجود. وسمي المرحوم صدر المتألهين هذه الأنحاء الماهوية تارة بحدود الوجود و تارة بأنحاء الوجود، (و الي هذا الاختلاف الماهوي (يؤوّل ما بين الماهيات الموجودة من التميز والبينونة ) والانفکاک (واختلاف الآثار التي نشاهدها بين الماهيات المختلفة، فالاختلاف بالذات للماهية و تنسب إلي الوجود بالعرض، (وهو، أي نفس ما ذکرناه (معني قولهم : ) أي الفلاسفة لا سيما صدر المتألهين : «ان الماهيات حدود الوجود» ) وقد قدمنا عنه الحديث بالتفصيل، فافهم.

وسابعاً : أنّ ثبوت کلَّ شيءٍ - أيّ نحوٍ من الثبوت فُرِضُ - إنّما هو لوجودٍ هناک خارجيًّ يطرد العدم لذاته . فللتصديقات النفس الأمريّة - التي لا مطابَق لها في خارجٍ ولا في ذهنٍ – مطابقُ ثابت نحواً من الثبوت التبعي بتبع الموجودات

الحقيقيّة .

توضيح ذلک: أن من التصديقات الحقّة ما له مطابَقُ في الخارج، نحو الإنسان موجودُ» و «الانسان کاتبُ». ومنها ما له مطابَقُ في الذهن ، نحو «الإنسان نوعُ» و «الحيوان جنسُ» ومنها ما له مطابقُ يطابقه لکنّه غيرُ موجود في الخارج ولا في الذهن ، کما في قولنا: «عدم العلّة علّة لعدم المعلول» و «العدم باطلُ الذات»، إذ العدم لا تحقّق له في خارج ولا في ذهني، ولا لأحکامه وآثاره . وهذا النوع من

ص: 134

القضايا تعتبر مطابقته لنفس الأمر، فإنّ العقل إذا صدّق کونَ وجود العلّة علّةً لوجود المعلول اضطر الي تصديق انّه ينتفي إذا انتفت علته وهو کون عدمها علّة لعدمه، ولا مصداقُ محقّقُ للعدم في خارجٍ ولا في ذهني، إذ کلّ ما حَلَّ في واحدٍ منهما فله

وجود (1)

ص: 135


1- حاصل الأمر السابع آن فرض أي نحو من الثبوت لأي شيء لابد أن يحصل تحت ظل الوجود، حتي لو افترضنا ثبوت، ما لأمر عدمي فإنه لا يتحقق الا ببرکة الوجود الثابت وبتبع الثبوت والتحقق الثابت للوجود، وأراد بطرح هذا الفرع ان يقوم بحلّ احدي مسائل المعرفة وهي مسألة ملاک صدق القضايا، وحتي يتبين وجه ارتباط المسألتين اليکم هذه المقدمة : القضية الصادقة هي القضية التي تطابق المحکي عنها ، اذ کل قضية حاکية عن شيء و مخبرة عنه، عندما نقيس مفاد هذه القضية مع تلک الحقيقة التي تحکي عنها، فان کانت القضية مطابقة لتلک الحقيقة کانت صادقة والا فهي کاذبة . ثم ان القضايا الموجودة علي عدة اقسام: 1- القضايا الشخصية الخارجية التي مفاد القضية فيها حالي عن أمر عيني خارجي شخصي، فملاک صدق هذه القضايا وکذبها، قياسها الي الخارج مثل «زيد في الدار» و «عمرو نائم». . 2 - القضايا التي يحدث لنا الأشکال عندما نقيسها بمحکياتها: 1- القضايا الحقيقية مثل کل انسان ضاحک بالقوة» فإن التوصل الي معرفة صدقها وکذبها لابد من الاستقراء التام باختبار جميع أفراد الکلي وهو في غاية الصعوبة والاشکال ان لم نقل انّه معال، لعدم اختصاص الاستقراء بالموجودين بل الماضين والحاضرين والقادمين. فملاک صدق مثل هذه القضايا تسهيلاً للأمر عبارة عن مطابقتها لنفس الأمر، ولا يقال انّها مطابقة للخارج، وهو أحد موارد استعمال مصطلح « نفس الأمر» في صدق القضايا الحقيقية . 3- القضايا التي لا مصداق لها في الخارج أصلا، رغم کونها صادقة مثل «الانسان نوع» اي ماهيته ماهية نوعية، أو مثل «الانسان کلي» فمفهوم الانسان کلي ليس له مصداق خارجي، وملاک تشخيصها واثبات صدقها من کذبها کذلک النفس الأمرية . 4 - واما القضايا - المعقولات المنطقية الثانية مثل الانسان ممکن» ومثل «کل ممکن يحتاج الي العلة، فکيف تثبت صدقها وما ملاک صدقها؟ والحال أن الامکان ليس وصفاً عينياً في الخارج بل هو وصف عقلي ذهني وهکذا الاحتياج إلي العلة، فملاک صدقها أيضاً مطابقتها للواقع ونفس الأمر. 5- القضايا التي يکون موضوعها أو محمولها أو کلاهما من المفاهيم العدمية مثل «عدم العلة علة لعدم المعلول»، ما ملاک صدقها وکذبها؟ وهي کذلک قضايا نفس أمرية يثبت صدقها بمطابقتها لنفس الأمر. والحاصل: أن الأحکام الثابتة للأعدام تثبت بتبعية الأحکام الوجودية ، أعني ان اصل القضية اثبات حکم لوجود ما، والحکم هو العلية بين شيئين، فالعقل يقول ويحکم بوجود المعلول ما دامت العلة موجودة، ولازم توقف المعلول في وجوده علي العلة صدق عدم المعلول عند عدم العلة وهو تسامح في التعبير لعدم وجود علية بين العدم والعدم، لا أن يکون عدم العلة شيئا ، ثم يکون علة لعدم المعلول الذي هو شيء آخر، فهذا انعکاس لقاعدة حاجة المعلول الي العلة» فالملازمة في الحقيقة بين وجود العلة ووجود المعلول، وبتبعها يتم التصديق بالقضية الاعتبارية المرکبة من المفاهيم العدمية لأنها لازم تلک القضية، فعود الکلام إلي قضية ثبوتية «وجود العلة علة لوجود المعلول»، ولازمه الذهني «عدم العلة علة لعدم المعلول»، وهذا ثبوت تبعي لا بالأصالة، فمعني نفس الأمر هنا الثبوت التبعي لا الذاتي. (وسابعاً : ان ثبوت کل شيء - ايَّ نحو من الثبوت فرض - ) فثبوت الأشياء مهما کانت وبأي نحو کان الثبوت سواء کان ثبوتاً خارجياً أم ذهنياً ، (انما هو) أي هذا الثبوت يکون بالاصالة (لوجودٍ) آخر (هناک خارجي) عن الماهية، وهذا الوجود الخارجي (يطرد العدم لذاته) او بذاته عن ذاته لأن ذات الوجود يقتضي طرد العدم عن ذاته ، وذلک أن اصالة الوجود تقتضي حصر التحقق والثبوت في الوجود، وهو يقتضي أن يکون کل ما عدا الوجود ثابتة متحققاً ببرکة الوجود وتحت ظله، حتي لو افترضنا ثبوتاً، ما الأمر عدمي فإنه لا يصح ولا يتحقق الا ببرکة ثبوت الوجود وبتبعه (فللتصديقات) وهي القضايا النفس الامرية - التي لا مطابق لها في خارج حتي تقاس اليه ويکون الخارج ملاکاً لصدقها وکذبها (ولا) مطابق الها في ذهن) حتي تقاس الي ذلک الذهني ويکون الذهن ملاکاً لصدقها وکذبها - وان کانت هذه أيضاً نفس أمرية کما تقدم - فراجع وتأمل، فهي قضايا لا محکي لها في خارج ولا في ذهن، مثل «عدم العلة علة لعدم المعلول»، لهذه القضايا (مطابق ثابت) لکن ليس ثبوتها بالاصالة بل يکون لها (نحو اًمن الثبوت التبعي بتبع الموجودات الحقيقية ). قوله : (اذ کل ما حلّ في واحد منهما) أي من الخارج والذهن (فله وجود) اما خارجي ان کان له مطابق خارجي ، او ذهني ان کان له مطابق ذهني.

والذي ينبغي أن يقال بالنظر إلي الأبحاث السابقة أنّ الأصيل هو الوجود الحقيقيّ، وهو الوجود وله کلّ حکم حقيقي. ثمّ لمّا کانت الماهيات ظهوراتِ الوجود للأذهان توسّع العقل توسّعاً إضطراريّاً باعتبار الوجود لها وحمله عليها ،

ص: 136

وصار مفهوم الوجود والثبوت يحمل علي الوجود والماهية وأحکامهما جميماً. ثمّ توسّع العقل توسّعاً إضطراريّاً ثانياً بحمل مطلق الثبوت والتحقّق علي کلّ مفهومٍ يضطر إلي اعتباره بتبع الوجود أو الماهيّة کمفهوم العدم والماهيّة والقوّة والفعل ثمّ التصديق بأحکامها(1)

فالظرف الذي يفرضه العقل لمطلق الثبوت والتحقّق - بهذا المعني الأخير - هو الذي نسمّيه «نفسَ الأمر» ويسع الصوادق من القضايا الدهنيّة والخارجية وما

ص: 137


1- حتي الآن علمنا أن القضايا التي لا مطابق لها في ذهن ولا خارج فملاک صدقها وکذبها نفس آمريتها - مطابقتها للمواقع و نفس الامر-، ولکن لم نعرف ما معني نفس الأمر، فما هو المراد منه ؟ (والذي ينبغي أن يقال) حول نفس الامر (بالنظر الي الابحاث السابقة ....) إلي قوله (ثمّ لما کانت الماهيات ظهورات الوجود للأذهان) فتظهر الوجودات الخارجية الخاصة للأذهان في قالب الماهيات، ولولاها لم يحصل الوجود الذهني، ولم تحضر الأشياء للاذهان وبذلک ينعدم التصور، لما کان الأمر کذلک (توسّع العقل) في نظرته الي الوجود والثبوت والأصح أن يقال وسع العقل دائرة الثبوت والوجود (توسّعاًاضطراريّاً ) لا حقيقياً طبيعياً، وذلک باعتبار الوجود لها) أي للماهيات (وحمله) أي الوجود (عليها اي علي الماهيات (وصار مفهوم الوجود والثبوت يحمل علي الوجود والماهية ) فنقول : الانسان موجود و الحيوان موجود، وکلمه الماهية المنتزعة من الانسان والفرس والبقر وما اشبه توجد بتبع وجود کل من هذه الماهيات، والعقل يعتبرها موجوده ويقول: «الماهية موجودة» (و) هکذا صار يحمل المفهومان علي (احکامهما) الخاصة بکل منهما (جميعاً) فإن القوة والفعل اللذان من شؤون الوجود واحکامه يعتبر العقل لهما وجودة بتبع الوجود وهکذا، (ثمّ توسّع العقل ..... الخ) فيعتبر للامور السابقة احکاماً کأن يقول عن العدم مثلاً العدم يقابل الوجود وعن الماهية أن الوجود يحصل له نحو اختلاف باختلاف الماهيات، وعن القوة والفعل أن کل ما بالقوة فهو مادي ، وکل ما بالفعل أو کل فعلية في المادة مسبوقة بالقوة (ثم) بعد هذا الحمل الذي اعتبره العقل للماهية واحکامها وأحکام الوجود، يبادر الي (التصديق بأحکامها) اي احکام تلک المفاهيم المنتزعة، وذلک أن العقل عند قيامه بتحليل الحقائق الخارجية، يحصل علي مفاهيم جديدة يضطر الي اعتبار نحو من الثبوت والتحقق لها لاحتياجه إليها في مقام بيان الحقائق الخارجية ، وبعد ذلک عليه أن يصدق الأحکام الصادرة منها والمبتنية عليها.

يصدّقه العقل ولا مطابَقَ له في ذهنٍ أو خارج ، غير أنّ الأمور النفس الأمريّة لوازمُ عقليّةُ للماهيّات متقرّرةُ بتقرّرِها. وللکلام تتمّةُ ستمرّ بک إن شاء الله تعالي (1)

ص: 138


1- معني نفس الأمر کما أشار اليه المصنف هو الثبوت التبعي، ثم يذکر قولين في معني نفس الامر، أحدهما القول بأنه عبارة عن عالم العقول کالعقل الفعال ، قالوا کل حقيقة موجودة في عالم الأجسام و المادة فهي ثابتة في عالم العقول ، ويدرکها العقل الفعال، وبعبارة اخري : الصورة العقلية للموجودات المادية موجودة في عالم العقل، فمعني قولنا: کذا مطابق النفس الامر، انّه مطابق لعالم الأمر وهو عالم المجردات والعقول، وهو رحمه الله لم يقبل بهذا القول ، وذلک أن عالم العقل وجود بسيط وعلم حضوري خاص يتصور لعالم العقل والموجود العقلي. والثاني : ما ذهب إليه البعض من أن نفس الامر يعني نفس الشيء، من باب وضع الظاهر موضع الضمير ، فيقال نفس الأمر بدل أن يقال «نفسه» وبدل أن يقال «هذا کذا في نفسه» قالوا: «هذا کذا في نفس الأمر»، بمعني نفس الشيء، وهو مردود عند المؤلف و أيضا بأنه لو صدق في مورد، فلا يصدق في الاعدام، اذ لا نفسية للعدم حتي يقال نفسه ، کيف وهو بطلان محض واختار العلامة الثبوت التبعي ليکون معني نفس الأمر ولعل وجه تسمية الثبوت التبعي بنفس الأمر هو کون نفس الامر بمعني نفس الشيء مع لزوم حمل قوله «من عدم ثبوت العدم» بأن وجوده تبعي، وهو جمع بين الوجه الأول الذي اختاره (طاب ثراه) والوجه الأخير الذي رفضه، لعدم وجود المنافاة بينهما. (فالظرف الذي يفرضه العقل لمطلق الثبوت والتحقق - بهذا المعني الأخير -) وهو الذي قال عنه ؟ : ثم توسّع العقل توسّعاً اضطرارياً ثانياً ...الخ، (هو الذي نسمّيه «نفس الامر» و) هو الظرف الذي يسع الصوأدق...) إلي قوله : (غير أن ما يثير الاهتمام وبه يقوم العقل بتصديق هذه القضايا أن (الامور النفس الامرية ) أعني القسم الثالث من القضايا وهي عبارة عن (لوازم عقلية للماهيات متقرّرة بتقرُّها) وثابتة بثبوتها، فالثبوت والتقرر أولاً وبالذات للماهيّات و ثانياً وبالتبع للوازمها العقلية - اي القضايا النفس الامرية .. (وللکلام تتمة ستمر بک) في الفصل الأوّل من المرحلة الحادية عشرة (ان شاء الله تعالي). فنفس الامر عبارة عن ظرف الثبوت، أعم من الثبوت الحقيقي کثبوت الانسان في الخارج، والثبوت الذهني کثبوت الانسان في الذهن، والثبوت الاعتباري کثبوت مفهوم العدم، فليس يختص هذا الظرف النفس الأمري بالمفاهيم التي يفترض العقل لها نوع اعتبار اضطراري بل شامل لجميع القضايا الخارجية والذهنية ، ولما کان البحث هنا عن المفاهيم التبعية للوجود، فقد جاء نفس الأمر بمعني الظرف الاعتباري للمفاهيم التبعية. وأما الاصطلاح المتداول المعروف اعني الامور النفس الامرية فإنه حکم اللوازم العقلية للماهيات کالکلية والنوعية اللتان من اللوازم العقلية للماهية ، وتثبت بثبوت الماهيات، فهذا الاصطلاح يطلق بلحاظ المظروف لا الظرف، اعني أن نفس الأمر ظرف يحتوي علي الخارج والذهن وحتي الاعتبار وأما الأمور النفس الامرية فهي مظروف لهذا الظرف، خاصة باللوازم العقلية للماهيات والي هذا المعني اشار بقوله: (غير أن الأمور النفس الامرية..الخ).

وقيل : المراد بالأمر عالَمُ الأمر، وهو عقلُ کلِيُّ فيه صور المعقولات جميعاً .

والمراد بمطابقة القضيّة لنفس الأمر مطابقتها لما عنده من الصورة المعقولة (1)

وفيه : أنّ الکلام منقولُ إلي ما عنده من الصورة المعقولة ، وهي صورة معقولة

تقتضي مطابقاً فيما وراءها تُطابِقه(2)

وقيل : المراد بنفس الأمر نفس الشيء ، فهو من وَضع الظاهر موضعَ الضمير ،

فکون العدم - مثلاً - باطلَ الذات في نفس الأمر کونُهُ في نفسه کذلک.

ص: 139


1- (وقيل والقائل يبدو هو المرحوم خواجه نصير الدين الطوسي في کشف المراد ان المراد بالأمر في نفس الامر عالم الأمر) فما هو المراد من عالم الأمر؟ (وهو عقل) اي موجود کلي اثبته الفلاسفة وادعوا حُصُول جميع الحقائق بصورها - جميع حقائق عالم الوجود. لديه (کلي) شامل لجميع حقائق العالم وبعبارة أخري (فيه صور المعقولات جميعاً) والعلم عنده حصولي. (و) أما (المراد بمطابقة القضية لنفس الامر) بهذا المعني الثاني هو (مطابقتها) أي مطابقة تلک القضية الما عنده) أي عند العقل الکلي (من الصورة المعقولة) لجميع الحقائق الوجودية ، فلا تکون القضية صادقة إلا إذا طابقت تلک الصور العقلية، ولا يکون الشيء علماً الا اذا کان مطابقاً لها.
2- (وفيه) أي فيما قاله القوشجي في الصفحة 56 من شرح التجريد اشکال حاصله (ان الکلام منقول الي ما عنده) اي ما عند هذا العقل الکلي (من الصورة المعقولة) لحقائق الوجود (وهي) علي کل حال وکيفما تکون لا تخرج عن کونها (صورة معقولة تقتضي مطابقاً) أي ما تطابقه فيما وراءها) من حقائق عينية لا صور الحقائق حتي تُطابِقه) أي ذلک المطابق ، وأينما کان هذا المطابق فهو الظرف الذي يسمي بنفس الامر . والاشکال وارد لأن مراد القول من العقل الکلي حصول الصور عنده کما هو واضح من تصريحهم ، نعم لو کان مرادهم العلم الحضوري لا ندفع الاشکال إلا أنه کان يعود بالنتيجة الي ما دعا اليه العلامة نا وهو ظرف الحقائق لا ظرف صورها.

وفيه : أنّ ما لا مطابَقَ له في خارجٍ ولا في ذهنٍ لا نفسية له حتّي يطابقه هو

وأحکامه(1)

وثامناً : أنّ الشيئيّة مساوقةُ للوجود، فما لا وجود له لا شيئيةَ له ، فالمعدوم

من حيث هو معدوم ليس بشيءٍ.

و نُسِبَ إلي المعتزلة أنّ للماهيّات الممکنة المعدومة شيئيّةً في العدم، وأنّ بين الوجود و العدم واسطةً يسمّونها «الحال» ؛ وعرَّفوها بصفة الموجود التي ليست موجودةً ولا معدومةً کالضّاحکيّة والکاتبيّة للإنسان، لکنّهم ينفون الواسطة بين النفي والإثبات، فالمنفي هو المحال، والثابت هو الواجب والممکن الموجود والممکن المعدوم، والحال (هي) التي ليست بموجودة ولا معدومة.

وهذه دعاوٍ يدفعها صريح العقل، وهي بالإصطلاح أشبه منها بالنظرات

العلميّة ، فالصفح عن البحث فيها أولي (2)

ص: 140


1- (وفيه: أن مالا مطابق له في خارج ولا في ذهن) کالعدم (لا نفسية له) بمعني لا مطابق له ولا شيئية له (حتي يطابقه هو) اي العدم (وأحکامه) مثل قولنا «عدم العلة، علة لعدم المعلول» فبأي ملاک نعرف صدق هذه القضايا ؟!
2- (وثامناً : أن الشيئية مساوقة للوجود) ظهرت هذه المسألة - کما يقال في القرون الأولي من صدر الاسلام، حين بادر بعض المتکلمين المسلمين الي عرض المباحث العقلية ، رامين بذلک اثبات العقائد الاسلامية طبقا للمباني والأسس والاصول العقلية ، فکانت بداية لظهور علم الکلام في ثوبه العقلاني، واعتمادا علي المعقول بعدما کان حکرا علي المروي والمنقول، وقد وقعوا في اخطاء عديدة من جملتها مسألة علم الله تعالي بالاشياء قبل أن يخلقها، فانّهم قالوا ان الله تعالي عالم بکل الأشياء حتي قبل أن يخلقها اي عالم بالمعدوم، ثم وجدوا عند الفلاسفة أن العلم بالمعدوم محال، إذ لا يجوز العلم باللاشيء، ولو قالوا المعدوم حال کونه معدومة يعد شيئا ، فقد وقعوا في محذور الخلف اذ کيف يکون اللاشيء شيئا والمعدوم موجود وهو محال أيضا، ولهذا قالوا هذا الدي تعلق به علم الله تعالي۔ قبل أن يخلقه - ليس بشيء موجود، ولا بلاشيء، ولا بمعدوم ، فهو علم بشيء، لکن ما هو هذا الشيء وما هي حقيقته ؟ ثم واجهوا مشکلة اخري في خصوص الصفات والأحوال، وذلک أننا حين تقوم باثبات صفة او حالة لشيء ما کصفة الضحک للانسان نجد ان هناک انساناً وهناک ضحکاً ، والانسان موجود أصيل - جوهري - والضحک موجود بالعرض، ولکن ما هي صفة الضاحکية ؟! هل هناک شيء ثالث غير الانسان والضحک له وجود مستقل معهما سواء بالوجود الطولي أو العرضي - يسمي الضاحکية ؟ ، فمن جهة کانوا لا يقدرون علي اثبات وجود مستقل لها، ومن جهة أخري لم يقدروا علي نفيها، لأن القول بکونها من الاعدام يعرضهم لموانع و مشکلات آخري ، فقالوا: إنها صفة ثابتة للانسان غير موجودة وشيء غير موجود، وسموها الاحوال ، وان الضاحکية ليست عدماً محضاًولا موجودة کالجواهر والاعراض بل هي حالة غير موجودة ، فهي کسائر الأحوال ثابتة غير موجودة . وللخروج من هذا المأزق طرحوا هذه المسألة فقالوا: الشيئية غير الموجودية، بمعني أن هناک واسطة وحد وسط بين الوجود والعدم، بعدم المساوقة والمساواة بين الشيئية والوجود، وان الشيئية أعم من الموجودية ، يريدون بها أن الممکنات - علي حد زعمهم - تکون شيئاً حتي عند عدمها وقبل وجودها، فهي معدومة لا بمعني صرف العدم، بل ثابتة قبل أن توجد ، فالثبوت أيضاً عندهم أعم من الوجود، وعلمه تعالي تعلق بالثبوت - اي بالاشياء حال ثبوتها - وعليه فمعني الشيئية والثبوت أعم من الوجود - علي حد زعمهم - ثم ظهر الفلاسفة المسلمون وحکماؤهم وجاؤا بالنظريات والحقائق والحلول الصحيحة ونشروها واثبتوا بطلان هذه المزاعم، کما اثبتوا أن الشيئية والثبوت تساوق الوجود و تساويه ولا فرق بينهما الا في المفهوم اما من حيث المصداق فهي متساوية متحدة الحقيقة، وتعرضوا لهذه المسألة بالنقض والابرام وقدموا الحلول السليمة التامة لعلم الباري جل وعلا بالاشياء قبل أن يخلقها ويوجدها سيأتي بعض ذلک في محله ان شاء الله . فهذا تاريخ بروز هذه المسألة ومنشأ ظهورها. (الشيئية مساوقة للوجود) و مساوية للوجود وعين الوجود من حيث مصاديقهما، ومن جهة صدقهما، فکل شيء من جهة أنه شيء - من جهة شيئيته - موجود، وکل موجود من جهة وجوده - و موجوديته - شيء، فما لا وجود له لا شيئية له وما لا شيئية له لا وجود له . (و نُسب الي المعتزلة) ما حاصله أن المعلومات علي قسمين، 1۔ المعدومات الممکنة ب- المعدومات الممتنعة و (أن للماهيات الممکنه المعدومة شيئية في العدم) اي قبل ان تري الوجود، فهي أشياء غير موجودة، والضاحکية والکاتبية وما شابهها من صفات وأحوال انما هي من هذا القبيل ، والمعدوم الممتنع هو الذي لا شيئية له ولا وجود، (و) نسب اليهم أيضاً (ان بين الوجود والعدم ...) إلي قوله (لکنهم) أي المعتزلة رغم قولهم بوجود واسطة بين الوجود والعدم (ينفون الواسطة بين النفي والاثبات) أي يقولون بأنهما نقيضان اي کل واحد منهما نقيض للآخر وليس بين النقيضين حد وسط و واسطة، فذکر اللازم وأراد الملزوم إذ نفي الواسطة لازم النقيضين، فافهم، (فالمنقي) عندهم (هو) المعدوم (المحال) وجوده والثابت) عندهم (هو الواجب) وجوده، (والممکن الموجود والممکن المعدوم) أيضا من الأمور الثابتة، فالمنفي اخص مطلقاً من المعدوم، والمعدوم أعم مطلقاًمن المنفي، کما أن الثابت أعم مطلقاً من الموجود، والموجود اخص مطلقاً من الثابت، اذ المعدوم شامل للمعدوم المحال والمعدوم الممکن ، والمنفي هو المعدوم المحال فقط ، وأما الثابت فهو يشمل الواجب الوجود والممکن الموجود والممکن المعدوم جميعاً (و) هکذا يشمل (الحال) فإنها (هي) التي ليست موجودة ولا معدومة) أيضاً بل هي شيء ثابت، واما الموجود فلا يشمل إلا الواجب والممکن الموجود، والحاصل أن الأشياء عندهم أما ثابتة او منفية، فالتقسيمة ثنائية لکن لا کما عليه عامة الفلاسفة من التقسيم الي الموجود والمعدوم أو الوجود والعدم، بل الي الثابت والمنفي أو الثبوت والنفي، فتأمل جيداً. (وهذه) المزاعم (دعاوٍ) باطلة واهية لا دليل يعضدها بل (يدفعها صريح) حکم (العقل) والوجدان بأن الشيئية تساوق الوجود بالبداهة والضرورة، وليت شعري کيف يمکن فرض الواسطة بين النقيضين ؟! وکيف يکون المعدوم شيئاً ؟! وکيف يکون التقسيم الثنائي بين المنفي والثابت لا الموجود والمعدوم ؟! بل الأعجب کيف يمکن التفريق بين المنفي والمعدوم وبين الثابت والمعدوم ؟! وشبهات کثيرة ولهذا (هي) أي هذه الدعاوي (بالاصطلاح) المجعول (أنتبه منها بالنظرات) والأراء (العلمية اللائقة بالبحث والتحقيق.

ص: 141

و تاسعاً : أنّ حقيقة الوجود بما هي حقيقةُ الوجود لا سببَ لها وراءها - أي إن هويّتَه العينيّةً التي هي لذاتها أصيلةُ موجودةُ طاردةُ للعدم، لا تتوقُف في تحقّقها علي شيءٍ خارجٍ من هذه الحقيقة - سواءُ کان سبباً تاماً أو ناقصاً، وذلک لمکان أصالتها وبطلان ما وراءها. نعم لا بأس بتوقّف بعض مراتب هذه الحقيقة علي بعض ، کتوقّف الوجود الإمکانّي علي الوجود الواجبيّ و توقّف بعض الممکنات علي بعض.

ومن هنا يظهر أن لا مجري لبرهان اللِمَّ في الفلسفة الإلهية الباحثة عن

أحکام الموجود من حيث هو موجود(1)

ص: 142


1- (تاسعاً : أن حقيقة الوجود بما هي حقيقة الوجود لأسبب لها ورائها) أي وراء حقيقة الوجود. بيان ذلک انّه لا يمکن الادعاء بوجود علة وسبب الحقيقة الوجود الشاملة لجميع الموجودات، ولهذا تصعب الاجابة علي سؤال لماذا وکيف صارت حقيقة الوجود موجودة ؟ إذ لا يحتاج الوجود الي علة في وجوده ، کيف لا وهو شامل للواجب تبارک و تعالي الذي هو علة العلل وعلة الايجاد، ولو احتاج الوجود الي العلة لاحتاج الواجب تعالي الي العلة أيضاً ، فلا علة ولا سبب للوجود المطلق في وجوده ، نعم بين مراتب الوجود والوجودات الخاصة توجد مراتب وعلاقة السببيّة والمسبّبه ، وهکذا بين الواجب تعالي والممکنات مطلقاً . فحقيقة الوجود من جهة أنها حقيقة الوجود اعني من جهة شموليته لمطلق الوجود لا لمرتبة خاصة منه. ولما ثبت أن لا شيء وراء الوجود وان مقابله العدم ليس إلا، ولا مرتبة بينهما، استحال ان يکون له سبب وعلة مطلقة لا في اصل الوجود ولا في دوامه واستمراره وبقاءه . وکيف يکون اللاشيء علة للشيء ؟! (ومن هنا) اي بعد ثبوت عدم العلة للوجود المطلق ( يظهر أن لا مجري لبرهان الکّم في الفلسفة الإلهية .. الخ) لعدم امکان اقامة البرهان اللمي علي الوجود المطلق وذلک أن البرهان اللمي کما تقدم في المدخل عبارة عن اثبات المعلول بواسطة علته، فهو سير من العلة الي المعلول واذ انتفت العلة استحال اقامة البرهان اللمي کما فيما نحن فيه.

وعاشراً : أن حقيقة الوجود حيث کانت عينَ حيثَةِ ترتب الآثار کانت عينً الخارجيّة ، فيمتنع أن تحلّ الذهن فتتبدّل ذهنيّةً لا تترتّب عليها الآثار، لاستلزامه الانقلاب المحال . وأمّا الوجود الذهنيّ الذي سيأتي إثباته إن شاء الله - فهو من حيث کونه يطرد عن نفسه العدم وجودُ خارجيُ مترتّبُ عليه الآثار، وإنّما يُعَدَ ذهنيّاً لا تترتّب عليه الآثار بقياسه إلي المصداق الخارجي تذي بحذاءه.

فقد بان أن حقيقةُ الوجود لا صورة عقليّة لها کالماهيّات الموجودة في الخارج التي لها صورة عقليّة. وبان أيضاً أنّ نسبة مفهوم الوجود إلي الوجودات الخارجية ليست نسبةَ الماهيّة الکلّيّة إلي أفرادها الخارجيّة.

وتبيّن بما تقدّم أيضاً أن المفهوم إنّما تکون ماهية إذا کان لها فردُ خارجيّ

تُقوَّمه و تترتّب عليه آثارها (1)

ص: 143


1- (وعاشراً) آخر الفروع والتفريعات المبنية علي أصالة الوجود (ان حقيقة الوجود حيث کانت عين حيثية ترتب الآثار..الخ) لما نقول الحقيقة العينية للوجود أو حقيقة الوجود العينية ، لا مفهوم الوجود - بل عين الوجود تعني أن مفهوم الوجود ينتزع من حاق ذاته، واتصافه بالموجودية لم يکن بواسطة في العروض، فهل يمکن ان تحصل للوجود الذي هو عين الموجودية ، حيئية تغاير عين الموجودية ؟! أعني ان لازمه آن تعرض له صفة تتنافي مع مقتضي ذاته ؟ ولهذا فالحقيقة العينية للوجود لا يمکن أن تعود يوماً لتفقد الحيثية العينية والخارجية والتحقق ، هذا أولاً، وثانياً : فإننا حين نعلم بشيء علماً حصولياً، نکون قد أدرکنا ماهية ذلک الشيء بواسطة العقل ، والماهية المتصورة بالوجود الذهني ليس لها شيء من خواص الوجود العيني، بل ما هو الا مفهوم للوجود العيني، أي ماهية لا تترتب عليها الآثار الخارجية، لأنها تفقد آثارها حينئذ، فالنار الذهنية لا تحرق وخالية من خواص الاحراق وغيرها من الخواص الخارجية. وهکذا يتم ادراک کنه الأشياء، أعني بوجوداتها الخارجية وامکانية إدراکها الذهني، فهل للعقل أن يدرک کنه الوجود کما يدرک کنه الموجودات ؟؟ کلا لا يمکن ذلک إذ لازمه انصراف الوجود عن حيثيته العينية ولو حصل ذلک لم يکن الوجود وجودة وهذا خُلفُ و انقلاب، أعني لو صح هذا للزم أن يکون للوجود حقيقتان کالموجود حقيقة عينية خارجية لها آثارها الوجودية وحقيقة ذهنية خالية من الآثار الوجودية وما کان خالية من الآثار لا يصح أن يکون موجوداً عينياً ، وکيف يکون ما حقيقته واحدة هي العينية ، ذات حقيقة اخري غير عينية ؟!، وبناءاً عليه فليست لحقيقة الوجود صورة عقلانية ذهنية أي ليست لها ماهية، وانما العقل يدرک کنه الوجود وحقيقته بواسطة المعقولات الثانية، وهي المفاهيم التي يوجدها العقل ويجعلها وسيلة وسبباً للاشارة الي حقيقة الوجود والدلالة عليها. اذن لما کانت حقيقة الوجود عين حيئية ترتب الآثار، إذ حيثية الخارجية والعينية عين حيثية ترتب الآثار طبق النعل بالنعل، لما کانت حقيقة الوجود هکذا، کانت هذه الحقيقة (عين الخارجية) والعينية (فيمتنع) لحقيقة الوجود (ان تحلّ الذهن) و تتصف بالحيثية الذهنية التي هي حيثية عدم ترتب الآثار (فتتبدّل) من حقيقة خارجية الي حقيقة (ذهنية لا تترتب عليها الآثار) ولا يمکن هذا لأنه تبديل للحيثية الخارجية الي الحيثية الذهنية، وذلک (لاستلزامه) أي لاستلزام هذا التبدل (الانقلاب المحال والخلف أيضاً. (واما الوجود الذهني - الذي سيأتي اثباته ان شاء الله تعالي) - في المرحلة الثالثة فلا منافاة بينه وبين ما تقدم من نفي حلول الوجود في الذهن واستحالته ، (فهو) عائد الي الوجود الذهني (من حيث کونه ...الخ) ويندرج عندئذ تحت مقولة الکيف النفساني (مترتب عليه الآثار) الخارجية النفسانية - مثل الحزن والسرور والخوف والعلم وما أشبه (وانما يعد) وجود (ذهنية لا تترتب عليه الآثار) الخارجية (بقياسه الي المصداق الخارجي الذي بحذائه ) فان لمصداقه الخارجي آثارة کالاحراق للنار مثلاً أو الحرارة للشمس والضوء- الاضاءة - اللقمر ليلا، وهي غير موجودة للوجود الذهني. (فقد بان أن حقيقة الوجود لا صورة عقلية لها کالماهيات...الخ) وذلک أن الماهية اعتبارية فليست حيثيتها حيثية ترتب الآثار - کما في الوجود - فلا يمتنع وجودها الذهني بل وجودها الذهني - ومفهومها الذهني - من قبيل المعقولات الأولي الفلسفية کما لا يمتنع وجودها الخارجي. (وبان أيضاً أن نسبة مفهوم الوجود الي الوجودات الخارجية ليست) مثل (نسبة الماهية الکلية إلي أفرادها الخارجية) اذ نسبة الماهية الکلية الي أفرادها نسبة يمکن فيها للعقل ادراک الصورة العقلانية للفرد والمصداق، وبعبارة أخري في مسألة علاقة الفرد والماهية، يدرک العقل صورة الفرد العقلانية ، وليس لحقيقة الوجود - بل لحقائقه - صورة عقلانية قابله للادراک العقلي، فالمسألة سالبة بانتفاء الموضوع، وحقيقة الوجود خارجة بالتخصص مما نحن فيها لا التخصيص. (وتبين بما تقدم أيضاً أن )بعض المفاهيم ماهيات وبعضها ليست کذلک، إذن ليس کل المفاهيم تعد ماهية، بل (المفهوم إنما يکون ماهيّة إذا کان لها) اي للماهية والحق أن يقال «له» حتّي يعود الضمير الي المفهوم لأن الحديث عنه فلا ماهية للمفهوم الّا اذا کان للمفهوم (فرد خارجي تقومه) أي الماهية تقوم ذلک المصداق (و تترتب عليه) أي علي الفرد (آثارها) اي الماهية، ولهذا فان مفهوم الانسان والفرس والبقر والشجر وما شابهها، کلها ماهيات لوجود فرد حقيقي لها في الخارج قوامه بالماهية، بخلاف مفهومي العدم والوجود فانّهما اليسا من الماهيات لعدم وجود فرد حقيقي لهما قائم بالماهية حتي ينعکسا علي صفحة الذهن وفي ظرفه، وليس انطباقهما وصدقهما علي افرادهما من باب صدق الماهيات الکلية علي مصاديقها. اما علم الواجب تعالي بذاته التي في عين الوجود - عين وجوده - لم يأت بواسطة العقل وعن طريقه ولا عبر المفاهيم، بل علمه بذاته تعالي حضوري ، ومن کان ادراکه للاشياء حضوريا وعلمه بها کذلک فقد ادرک حقيقة الوجود وکنهه ، اذ نفس ذات الوجود بتمام ذاته يدرک ذاک المعلوم نقرأ في هذا الفصل : أ- الوجود حقيقة مشککة ذات مراتب عديدة، يرجع مابه الامتياز فيها الي مابه الاشتراک کالنور. ب- من ثمرات التشکيک: ان التمايز بين مراتب الوجود يکون بنفس الوجود. ج - ومن ثمراته : بين مراتب الوجود اطلاق و تقييد بحسب تناسبها الا المرتبة العليا فهي اطلاق محض لا تقييد لها. د- ومن ثمراته : أعلي مراتب الوجود بسيط ، خلافا لما دونه من المراتب فانّها مرکبة من الوجود والعدم، لدخول المعني العدمي في جميع مراتب الوجود ما عدا المرتبة العليا. د- کلما دنت واقتربّت المرتبة من أعلي مراتب الوجود قلت حدودها وقيودها حتي تصل إلي أعلي المراتب الخالية من جميع الحدود والقيود - مطلقة تماما .. و - فالوجود تشکيکي لأن له طرفين شديدة وضعيفة. ز- للوجود نحو تخصص، وله نحو تخصص بالنسبة إلي مراتبة البسيطة المختلفة ، وکذلک له نحو تخصص بعرض الماهيات، فالاول تخصص بالذات والثالث بالعرض، وانما تکون له تلک التخصصات لأنه حقيقة وسيعة منبسطة..

ص: 144

ص: 145

ص: 146

الفصل الثالث في أن الوجود حقيقة مشکّکة

(1)

لا ريب أنّ الهويّات العينيّة الخارجيّة تّتصف بالکثرة تارةً من جهة أنّ هذا إنسان وذاک فرس وذلک شجر ونحو ذلک ، وتارة أن هذا بالفعل وذاک بالقوّة وهذا

ص: 147


1- اعلم أنّ مسألة اصالة الوجود - التي سبق الحديث عنها - وهذه المسألة التي نحن بصدد البحث عنها أهم مسألتين في الحکمة المتعالية ، بل يمکن القول بصراحة ان الحکمة المتعالية متقومة بهما، وهما تشکلان القاعدة الأساسية والعمود الفقري للحکمة المتعالية، لأنهما قوام جميع المسائل، وعليهما تبتني مسائلها وأحکامها، حتي قيل : لو الغينا هاتين المسألتين من فلسفة المولي صدر المتألهين و لم يبق من فلسفته شيء، ولهذا فهما جديرتان ببذل غاية الاهتمام ومعرفة کل ما يتعلق بهما.

واحد وذاک کثير وهذا حادث وذاک قديم وهذا ممکن وذاک واجب وهکذا(1)

وقد ثبت بما أوردناه في الفصل السابق أنّ الکثرة من الجهة الأولي - وهي الکثرة الماهويّة - موجودةُ في الخارج بَعرضِ الوجود، وأنّ الوجود متّصفُ بها بعرضِ الماهية ، لمکان أصالة الوجود و اعتباريّة الماهيّة (2)

ص: 148


1- (لا ريب أن الهويات العينية الخارجية) أي الحقائق الخارجية ( تتصف بالکثرة) وهذا الأمر من الضروريات غير القابلة للنقاش، وما ادعاه الصوفيه والمتصوفة من وحدة الوجود وأن حقيقة الوجود واحدة أو الوجود حقيقة واحدة ليس له شيء من المراتب فهو باطل قطعة، إلا ان هذه الکثرة ومعناها الاختلاف والتمايز بين الحقائق الخارجية و تمتع کل منها بمرتبة خاصة من الوجود، وحظ معين من العينية والواقعية، أقول الا ان هذه الکثرة والتمايز الحاصلة بين الموجودات تقع من جهتين، لأنها تقع (تارة من جهة) ماهياتها - اعني من جهة الاختلاف الماهوي اي بين الماهيات. فيقال : (أن هذا انسان وذاک شجر) وذاک بقر والرابع فرس وهکذا (ونحو ذلک من الأمثلة، فإن ماهية الانسان تختلف عن ماهية الشجر والبقر والفرس، وماهية کل منها تختلف عن ماهية الآخر، ونلاحظ عنده أن هناک تمايز بين الأشياء والحقائق الخارجية من جهة اختلاف ماهيا تها ، وتقع الکثرة (تارة) لا من جهة الماهية بل من جهة الانقسامات الواردة علي ذات الوجود، وبعبارة أخري بسبب بعض الانقسامات الحاصلة لذات الوجود، تحصل لنا أنواع مختلفة من الوجود وهي الکثرة المعنية عندنا، فيقال : ( بأن هذا الوجود أو الموجود بالفعل، وذاک الوجود أو الموجود بالقوة ، وهذا الوجود أو الموجود (واحد، وذاک الوجود أو الوجود (کثير ... الخ).
2- (وقد ثبت بما أوردناه في الفصل السابق، أن الکثرة من الجهة الأولي - وهي الکثرة الماهوية خارجة عن محل البحث هنا لأن البحث عنها قد انتهي بتفاصيله ولأن الماهية والکثرة الماهوية موجودة في الخارج بعرض الوجود) وذلک أن الأصالة للوجود والماهية اعتبارية فلا يقع البحث عنها هنا اذ البحث عن مراتب الوجود والماهية تقابل الوجود مفهوماً و تتحقق به مصداقاً ، فالکثرة الماهوية لا تتحقق الا بعرض الوجود، (و) قد ثبت أيضاً (ان الوجود متصف بها) أي بالکثرة الماهوية (بعرض الماهية) فکل کثرة و تمايز بين الوجودات المختلفة نابع من الکثرة والتمايز بين الماهيات، فمثلا تکون الکثرة والاختلاف والتمايز والمغايرة بين ماهية الانسان وماهيّة الشجر وماهية البقر وماهية الفرس أولاً وبالذات ، ونفس هذه المغايرة تنسب إلي وجود الإنسان ووجود الشجر ووجود البقر ووجود الفرس ثانيا وبالعرض.

وأمّا الکثرة من الجهة الثانية فهي التي تعرض الوجود من جهة الإنقسامات الطارئة عليه نفسَه ، کانقسامه إلي الواجب والممکن وإلي الواحد والکثير وإلي ما بالفعل وما بالقوة ونحو ذلک ، وقد تقدّم في الفصل السابق أن الوجود بسيط وأنّه لا غير له. ويستنتج من ذلک أنّ هذه الکثرة مقومةُ للوجود- بمعني أنّها فيه غير خارجة منه - وإلّا کانت جزءاً منه، ولا جزء للوجود، أو حقيقةً خارجةً منه ولا خارجَ من الوجود(1)

ص: 149


1- (وأما الکثرة) المتحققة في الخارج من الجهة الثانية فهي التي تمثل محور البحث ههنا ، لأنها تعرض الوجود من جهة الانقسامات الطارئة عليه نفسه) لا من جهة الانقسامات الطارئة عليه من خارج ذاته، وهذه الانقسامات والکثرات تنسب إلي الوجود اولاً وبالذات وحقيقة لا عرضاً ولا مجازاً ، فالکثرة والتمايز هنا تقوم الوجود نفسه، ولکل وجود من هذه الوجودات خصائص هي عين الوجود، مقومة له، والوجود قائم بها، لأنها تمام حقيقة الوجود لاجزء حقيقته. (کانقسامه الي...)، (وقد تقدم) من جهة اخري (في الفصل السابق) اي في الفرع الثالث من فروع الفصل الثاني - وهي عشرة فصول - (ويستنتج من ذلک الفرع المتقدم (ان هذه الکثرة) ليست من قبيل الکثرة الماهوية التي تندرج فيها الانواع المختلفة تحت جنس واحد الکون الوجود بسيطاً لا جزء له، ولا من قبيل الکثرة المصداقية التي تعني کثرة أفراد النوع الواحد و تمايزهم الحاصلة من جهة عروض أمر خارج عن حقيقة ذلک النوع علي النوع، لأنه لاشيء خارج الوجود حتي يصح عروضه له وحدوث نوع من الکثرة له، لا هذا ولا ذاک بل (الکثرة مقومة للوجود) لأنها عين ذات الوجود (و بمعني انّها) أي هذه الکثرة المعنية هنا (فيه) أي في الوجود وواقعة في ذاته لا عارضة له کما أنّها (غير خارجة منه) أي من ذات الوجود (وإلا) لو لم يکن کذلک بأن کانت الکثرة من قبيل الکثرة النوعية الماهوية المکونه من جزء مشترک وجزء مختص - اعني الجنس والفصل، لو کانت الکثرة من هذا القبيل ال(کانت الکثرة هذه (جزء منه) أي من الوجود فيکون قوام الوجود به لأن المرکب قوامه بکل أجزائه (و) الحال أنّه (لا جزءاً للوجود) لأن قوامه بتمام ذاته البسيط (أو) عطف علي کانت وحاصله وإلا کانت جزءاً منه (أو) کانت هذه الکثرة الحاصله للوجود (حقيقة خارجة منه) أي من الوجود عارضة للوجود، بواسطه عروض أمر خارج من الوجود، کما ذکرنا قبل قليل من الکثرة الأفرادية والتمايز المصداقي الحاصلة لأفراد نوع واحد بسبب عروض أمر خارج عن حقيقة ذلک النوع، کيف يمکن القول بهذا القبيل من الکثرة (ولا خارج من الوجود)؟ اي مع عدم وجود شيء خارج الوجود يستحيل أن تکون الکثرة الحاصلة للوجود من قبيل الکثرة المصداقية.

فللوجود کثرةُ في نفسِهِ، فهل هناک جهةُ وحدۃٍ ترجع إليها هذه الکثرة من غير أن تبطل بالرجوع، فتکون حقيقةُ الوجود کثير في عين أنّها واحدةً، وواحدةً في عين أنّها کثيرةُ، وبتعبير آخر: حقيقةً مشککةً ذاتَ مراتبَ مختلفةٍ يعود ما به الإمتياز في کلّ مرتبة إلي ما به الإشتراک - کما نُسب إلي الفهلويّين - أو لا جهةَ وحدة فيها ، فيعود الوجود حقائقَ متباينةً بتمام الذات ، يتميز کلّ منها من غيره بتمام ذاته البسيطة لا بالجزء ولا بأمر خارجيًّ - کما نُسب إلي المشّائين ؟(1)

ص: 150


1- (فللوجود) بناءاً علي ما تقدم (کثرة في نفسه) لا من خارجه (فهل هناک) بقطع النظر عن جهة الکثرة التي في الوجود (جهة اخري علي العکس منها هي جهة (وحدة ترجع اليها) أي إلي تلک الجهة الواحدة (هذه الکثرة) بأن يعود ما به الامتياز الي مابه الاشتراک في الموجودات وذلک بأن تکون الکثرة کثرة تشکيکية (من غير أن تبطل الکثرة (بالرجوع الي الوحدة فتکون مقيدة بالوحدة والأصالة للوحدة وليس الکثرة إلا اعتبارا ، بل يکون الأمر علي خلاف هذا (فيکون حقيقة الوجود کثيرة في عين أنها واحدة ...) إلي قوله (- کما نسب الي الفهلويين .) وهم فلاسفة وحکماء فارس، کانوا قبل الاسلام بمئات السنين بل الوف السنين کما يبدو من بعض کتب التاريخ، وکانوا يقطنون مقاطعة خراسان العريقة الشهيرة بسعة حدودها وعظمة رجالها، وکانوا يسلکون مسلک الاشراق، ولم يصلنا عنهم إلا النزر اليسير بنوع من الاجمال، فلا نعلم تفاصيل کثيرة عن مذهبهم ومسلکهم الفلسفي ولم تصلنا کتب مستقلة عن آرائهم ولا حکمة مدونة تمثل أنظارهم بل نقلت عنهم ونسبت اليهم جملة من الآراء والأقوال کما في بعض کتب الشيخ الرئيس وفي الأسفار والمنظومة، ومن جملة ما وصلنا عنهم ما تقدم، ويدل بعض ما وصلنا من أنظارهم أنهم کانوا يتمتعون بمستويّ عالٍ من العلوم العقلية ، و تقدم جدير بالاهتمام في هذا المجال، فإما أن يکون الأمر علي هذا النحو (او) ان (لا) تکون (جهة وحدة فيها...الخ). والحاصل بعد ما ثبت أن للوجود في نفسه نوع کثرة، فلم يبق أمامنا سوي احتمالان احتمال اشراقي قال به الفهلويون - نسب اليهم - کما في المنظومة والاسفار وهو وجود جهة وحدة بين الوجودات المتکثرة المتغايرة، أي جهة اشتراک وجهة اختلاف، وما به الاختلاف يرجع إلي ما به الاشتراک ، والثاني هو الاحتمال المشائي القائل بعدم وجود جهة الاشتراک ، اعني الناغي لجهة الاشتراک بين الوجودات المتکثرة. اعلم أن هناک اقوا" اخري قد تصل الي ثمانية کل منها يختلف عن الآخر حول حقيقة الوجود، اعرض عنها المصنف لکونها خلاف البداهة والضرورة، فمنها ما نسب إلي الصوفية وهو القول بعدم وجود شيء اي لا يوجد في عالم الوجود سوي وجود واحد متشخص هو ذات الواجب تبارک و تعالي ولهذا بدأ المؤلف هذا الفصل بقوله: «لا ريب أن الهويات العينية الخارجية تتصف بالکثرة»، فَفَرضُ عدم وجود الکثرة في الوجود والموجود مخالف للبداهة، إلا إذا حملنا قولهم هذا علي ما قاله صدر المتألهين ي بأن المخلوقات وجودات رابطة بالواجب تعالي غير مستقلة بذاتها حدوثأ وبقاء، فهي من هذه الجهة ليست موجودة ولا تتصف بالوجود في مقابل الواجب تعالي. ومن هذه الأقوال المرفوضة قول المحقق الدواني بأن الوجود مختص بوجود الواجب تعالي ، اما الموجودات فهي کثيرة وهي عبارة عن الماهيات المتکثرة ويقصد أن الماهيات منسوبة إلي الوجود وتتصف الماهيات بالوجود أما حقيقة الوجود فما هي الا ذات الباري تعالي. اذن عنده أن الکثرة للموجود لا للوجود. ومنها قول الأشاعرة بأن الوجود مشترک لفظي ، وقد ثبت بطلانّها جميعاً بما تقدم

الحق أنّها حقيقةُ واحدةُ في عين أنّها کثيرة، لأنّا ننتزع من جميع مراتبها و مصاديقها مفهوم الوجود العامِ الواحدِ البديهيّ ، ومن الممتنع انتزاع مفهوم واحلي من مصاديق کثيرة بما هي کثيرة غير راجعةٍ إلي وحدۃٍ مّا(1)

ص: 151


1- (والحق) الحقيق من بين هذه الأقوال هو ما نسب إلي الفهلويين واختاره المولي صدر المتألهين (طاب ثراه) وهو (آنها) أي حقيقة الوجود (حقيقة واحدة في عين آنها کثيرة) فهاهنا دعويان : دعوي الکثرة في الوجود والموجود وهو بديهي ثابت بالوجدان، ودعوي أن هذه الوجودات أو الموجودات علي کثرتها ذات وحدة من صنف الوحدة المقولة في وحدة الماهيات کالوحدة العددية والماهوية والجنسية والنوعية وما اشبه، بل هي وحدة خاصة بها ، فاذا ثبت أن للموجودات والوجود في عين کثرتها وحدة، علمنا أنها حقيقة واحدة ذات مراتب يرجع فيها ما به الاشتراک إلي ما به الامتياز وما به الامتياز الي ما به الاشتراک وهذا يحتاج الي البرهان وليس من الامور الثابتة بالبداهة، فما دليل هذا المدعي؟ وقد استدل المرحوم العلامة بما اشتهر عند الحکماء وأورده صاحب الأسفار وشارح المنظومة وغيرهما، وحاصله انّه لا شک أن هذه الموجودات الکثيرة علي کثرتها ينتزع منها مفهوم واحد، هو المقول عنها جميعا بالوجود (لأنا ننتزع من جميع مراتبها) اي مراتب حقيقة الوجود (و مصاديقها مفهوم الوجود العام الواحد البديهي) القابل للتصديق والانطباق عليها جميعاً (ومن الممتنع انتزاع مفهوم واحد من مصاديق کثيرة بما هي کثيرة .. الخ) فلابد أن لها جميع جهة اشتراک واتحاد حتي يصح انتزاع مفهوم واحد منها يشترک بينها جميعاً ، اذ لو صح انتزاع مفهوم واحد من عدة أشياء مختلفة ليس بينها جهة اشتراک ووجه اتحاد، لم يبق هناک ملاک لانتزاع المفاهيم، ويحصل الفوضي والمغالطة والسفسطة في انتزاع المفاهيم، فوجه الاشتراک وجهة الاتحاد بينها جميعاً في الوجود لأنها تشترک جميعاً في کونها موجودة أي متصفة بالوجود، فالوجود علي هذا ذات حقيقة واحدة.

ويتبيّن به أنّ الوجود حقيقةُ مشککةُ ذاتُ مراتب مختلفةٍ ، کما مثّلوا له بحقيقة النور علي ما يتلقّاه الفهم الساذج أنّه حقيقةُ واحدةُ ذاتُ مراتب مختلفةٍ في الشدّة والضعف، فهناک نور قويّ ومتوسط وضعيف مثلاً، وليست المرتبة القوية نوراً و شيئاً زائداً علي النّوريّة ، ولا المرتبة الضعيفة تفقد من حقيقة النور شيئاً أو تختلط بالظلمة التي هي عدم النور، بل لا تزيد کل واحدة من مراتبه المختلفة علي حقيقة النور المشترکة شيئاً ، ولا تفقد منها شيئاً ، وإنّما هي النور في مرتبةٍ خاصّةِ بسيطة لم يتألف من أجزاء ولم ينضمّ اليها ضميمة، وتمتاز من غيرها بنفس ذاتها التي هي النورية المشترکة(1)

ص: 152


1- قوله : (کما مثلوا له بحقيقة النور ... الخ) اشارة الي ما وقع من الاختلاف في حقيقة النور قديماً وحديثاً، وذلک أن القدماء کانوا يعتبرون النور عرضاً، وللخروج من مأزق کيفية انتقال الضوء والنور من الشمس الي الاجسام الذي يستلزم انتقال العرض وهو محال، قالوا: أن مواجهة جسم نيّر بالذات يوجب الاستعداد في الجسم ليحلّ فيه عرض مشابُة له. وقال جماعة منهم أن النور جوهر کما هو الثابت في عصرنا هذا في علم الفيزياء، لکن الفيزيائيين لا يطلقون عليه الجوهر، لأن الجوهر ليس أمراً فيزيائياً بل هو مصطلح فلسفي ، لکن الخواص التي اثبتها علماء الفيزياء للنور هي نفس الخواص التي نثبتها للجوهر في الفلسفة، واعلم أيضاً أن تشبيه الوجود بالنور کما صنع المؤلف لا يصح إلا اذا افترضنا النور بسيطاً لما تقدم من بساطة الوجود ويلزم أيضاً ان نتلقي النور تلقياً عادياً ساذجاً کما قال المؤلف ، وألا يکون التشبيه مجازاً قائماً علي نوع من التسامح الواضح، واعتقد ان هذا التشبيه مجرد مجاز علي کل حال للفرق الواضح بين النور والوجود بالدقة العقلية . حقيقة واحدة ذات مراتب مختلفة ...) وکما کان يتلقاه القدماء لا کما يتلقاه العلماء الفيزيائيون وکما وصلت اليه النظريات العلمية من کون النور مرکبة من الذرات المختلفة أو من الأمواج أو انّه عبارة عن ذرات موجية أي لها خاصية الذرة والموج معا، لأن التشبيه علي هذا فيه کثير تسامح وهو لا ينفع إلا علي القول بأصالة الماهية فافهم. (فهناک نور) علي سبيل المثال (قوي) کنور الشمس (و) هناک نور (متوسط ) کنور المصابيح (و) هناک نور (ضعيف) کنور الشمعة ، فهي جميعاً في حقيقتها نور ليس الا (وليست المرتبة القوية نوراً وشيئاً آخر (زائداً علي النورية) اضيفت الي النورية فأحدثت نوراً قوياً (ولا المرتبة الضعيفة...) إلي قوله : (بل لا تزيد کل واحدة من مراتبه المختلفه) أي مراتب النور المختلفة (علي حقيقة النور المشترکة شيئاً) فکل مابه الامتياز يرجع إلي ما به الاشتراک (ولا تفقد منها) أي من حقيقة النورية (شيئاً ) في النور الضعيف لأن کل ما به الاشتراک يرجع إلي ما به الامتياز، إلي قوله : (وتمتاز) کل مرتبة (عن غيرها بنفس ذاتها التي هي النورية المشترکة) في جميع المراتب . فالوجود حقيقة مشککة وسميت مشککة لأن هذه الحقيقة تشکک الانسان فيظن انّها حقائق مختلفة وأن لکل مرتبة منها حقيقة خاصة متغايرة، وأن وجه الامتياز فيها شيء مغاير لوجه اشتراکها. ومثل النور أيضا يمکن الاستعانة بمثال الحرکة فهي أيضاً ذات مراتب مشککة قوة وضعفاً . والحاصل أن الوجود اصيل و بسيط وبين الوجودات انواع من التمايز والتغاير النابع من ذات الوجود کتقدم وجود العلة علي المعلول، وکون بعض الأشياء اقوي من غيرها في الوجود والعکس بالعکس أيضاً، مثلاً وجود العقول اقوي من وجود النفوس ووجود النفوس اقوي من وجود الاجسام وهکذا وبعض الوجودات فعلية وبعضها بالقوة وبعضها واجب وبعضها ممکن فهي مراتب مختلفة للوجود توجد في ذات حقيقة الوجود.

فالنور حقيقةُ واحدة بسيطةُ متکثّرةُ في عين وحدتها، ومتوحّدة في عسين کثرتها، کذلک الوجود حقيقةُ واحدةُ ذا مراتب مختلفة بالشدّةُ والضعف والتقدّم والتأخر والعُلوّ والدّنوّ وغيرها.

ويتفرّع علي ما تقدم أمور:

الأمر الأول : أنّ النتمايز بين مرتبةٍ من مراتب الوجود ومرتبة اخري انما هو بنفس ذاتها البسيطة التي ما به الاشتراک فيها عين ما به الامتياز، ولا ينافيه مع ذلک أن ينسب العقل والتمايز الوجودي الي جهة الکثرة في الوجود دون جهة الوحدة ،

ص: 153

ولا أن ينسب الاشتراک والتنخية إلي جهة الوحدة (1)

والأمر الثاني: أن بين مراتب الوجود اطلاقاً وتقييداً بقياس بعضها الي بعض ، لمکان ما فيها من الاختلاف بالشدة والضعف ونحو ذلک . وذلک أنا إذا فرضنا مرتبتين من الوجود ضعيفةً و شديدةً، وقع بينهما قياس وإضافة بالضرورة، وکان من شأن المرتبة الضعيفة أنها لا تشتمل علي بعضٍ ما للمرتبة الشديدة من الکمال، لکن ليس شيء من الکمال الذي في المرتبة الضعيفة إلّا والمرتبة الشديدة وأجسدة له، فالمرتبة الضعيفة کالمؤلّفة من وجدان وفقدان ، فذاتها مقيّدةُ بعدم بعض ما فسي المرتبة الشديدة من الکمال ، وان شئت فقل : «محدودةُ». وأمّا المرتبة الشديدة فذاتها مطلقةُ غيرُ محدودةٍ بالنسبة الي المرتبة الضعيفة .

واذا فرضنا مرتبةً أُخري فوق الشديدة ، کانت نسبةُ الشديدة الي هذه التي

ص: 154


1- خلاصة هذا الفرع أن کثرة الوجود وان کان يرجع الي وحدته ووحدته ترجع الي کثرته ، فکثرته عين وحدته ووحدته عين کثرته، إلا أن تعدد الاعتبارات في الوجود ملاک لتعدد الاحکام - تعدد اعتبارات الوجود ملاک لتعدد أحکامه ، فالوجود من جهة الکثرة ملاک لتمايز افراده ومن جهة وحدته تشترک جميع الوجودات في حقيقة الوجود، ولهذا قال : (ان التمايز) الحاصل بين مرتبة ... الخ) فحيثية الوحدة عين حيثية الکثرة ، وقد يتصور البعض ان هذا ينافي القول بالتمايز الوجودي ، اذ کيف يمکن تصور جهة امتياز وافتراق بين مراتب الوجود رغم القول بأن کثرته عين وحدته الذي يعني عدم التکثر والامتياز والافتراق ؟! وهذا ينافي ذاک، فأجاب : (ولا ينافيه) أي لا ينافي القول برجوع الکثرة إلي الوحدة و بالعکس، مع ذلک) أي مع کون الوجود ذا مراتب مختلفة متمايزة، لأن الوحدة هنا عبارة عن حقيقة الوجود ولا تنافي بين الحقيقة الخارجية وبين الامر الاعتباري اعني ان ينسب العقل التمايز الوجودي الي جهة الکثرة في الوجود دون جهة الوحدة، وهذا مجرد اعتبار عقلي خلافاً الوحدة الوجود الذي هو أمر حقيقي خارجي، فقد يلحظ العقل جهة وحدة وجهة کثرة في ذات الوجود، ثم ينسب التمايز الوجودي لمرتبة من المراتب عن غيرها، الي جهة الکثرة فحسب ولا ينافيه أيضاً (ان ينسب) العقل (الاشتراک والسنخية) بين مراتب الوجود (الي جهة الوحدة) التي هي عبارة عن حقيقة الوجود، وذلک أن هذا مجرد اعتبار عقلي، وإلا فان کلّ مرتبة من مراتب الوجود بسيطة لا يشوبها في ذاتها شيء زائد علي حقيقة الوجود.

فرضنا فوقها کنسبة التي دونها اليها ، وصارت الشديدة محدودةً بالنسبة الي ما فوقها کما کانت مطلقةً بالنسبة إلي ما دونها. وعلي هذا القياس في المراتب الذاهبة الي فوق حتي تقف في مرتبةُ ليست فوقها مرتبة، فهي المطلقة من غير أن تکون محدودة إلا بأنها لاحدّ لها.(1).

ص: 155


1- حاصل هذا الفرع اننا حين نقيس مرتبتين من مراتب الوجود الشديدة والضعيفة، يحدث بينهما الاطلاق والتقييد وران بين مراتب الوجود إطلاقا وتقييدة) بالمعني الخاص الذي سيأتي لا الاطلاق والتقييد المبحوثان في علم اصول الفقه ، وانما يحصل هذا الاطلاق والتقييد (بقياس بعضها) أي بعض مراتب الوجود (إلي بعض) وانما يحصل الاطلاق والتقييد بينها المکان ما فيها من الاختلاف بالشدة والضعف ونحو ذلک من مراتب الوجود، فالاطلاق والتقييد هنا يتعلقان بالوجود الخارجي للموجودات، فالموجود المطلق غير مقيد بکمالات الموجود المقيد بل له کل ما للضعيف المقيد والمطلق صفة للمرتبة الشديدة بالقياس الي ما هو أضعف منها من المراتب، وأما الموجود المقيد فإنه الموجود المقيد بخصائص ذاتية بالقياس إلي ما فوقه من الموجود، فهو مقيد بخصائصه فاقد لکمالات الموجود الذي فوقه، فهناک موجود مقيد من جميع الجهات اعني مقيد بالنسبة الي کل ما عداه من الموجودات وهناک المقيد بالقياس الي ما فوقه مطلق بالقياس إلي ما دونه وهناک الموجود المطلق من جميع الجهات وبالقياس الي جميع ما عداه ، والحاصل أن هناک اطلاقا و تقييدة في المفاهيم، و تقييد مفهوم عام يعني اضافة مفهوم عام آخر اليه، لتصير حدود المفهوم العام ضيقة ، فيقال في الفقه مثلا الرقبة والرقبة المؤمنة الأولي مطلقة والثانية مقيدة في قولنا اعتق رقبة أو اعتق رقبة مؤمنة، وهکذا في حقيقة الوجود قالوا بنوع من الاطلاق والتقييد لکن لا من سنخ الاطلاق والتقييد الجاريين في المفاهيم - کما هو عند الأصوليين - فنقول أن للمرتبة الأقوي والأعلي من مراتب الوجود دائرة أوسع وحدود أشمل بالقياس الي ما دونها. قوله : ( وذلک... الخ) بيان و توضيح و تفصيل لقوله السابق وحاصله أن هناک شيئا انضم الي هذا الوجود - أو الموجود . مما جعله مقيدة بهذه الحدود ومتأخرة بهذا الاطار الضيق، فما الذي تم انضمامه إلي حقيقة الوجود لکي نتقيد وتتحدد ؟ نعم هي القيود العدمية ، إذ بملاحظة الوجود نري انّه يشمل جميع الوجود مطلقا وليس هذا الاطلاق اطلاق مفهوميا ، فاذا قيدناه بقيود عدمية بأن قلنا مثلا الوجود الذي هناک أو الوجود الذي ليس له تلک الشدة فإنه يتقيد بالقياس مع ما ليس له مثل تلک القيود، فالقيود العدمية هي التي تحدد الوجود وتقيده ، والوجود المقيد عبارة عن نفس حقيقة الوجود بانضمام القيود العدمية إليه، ولکن ليست القيود العدمية هنا بمعني انضمام مفاهيم الي مفاهيم آخري. فالمرتبة الضعيفة کالمؤلفة) اي کالمرتبة المؤلفة (من وجدان) اي وجود والمرکبة من أمر وجودي أو أمور وجودية ، (و) المؤلفة المرکبة من (فقدان) أي عدم ومن أمر عدم أو امور عدمية (فذاتها) أي ذات المرتبة الضعيفة (مقيدة بعدم وجود (بعض ما في المرتبة الشديدة من الکمال) اذ کل امر وجودي يعد کمالا لصاحبه وکل امر علمي اي عدم ما ينبغي أن يکون موجودة يعد نقصا وقيدة ومحدودية لصاحبه، حتي أن اللدغة للحية کمال لها وعدمها نقصان، وقال المؤلفة بمعني کالمرکبة لأن الترکيب اعتباري لحاظي لا حقيقي عيني وذلک أن المرتبة الضعيفة ليست مرکبة من حيثيتين عينيتين ، إذ الفقدان عدم والعدم لا شيء و واللاشيء بطلان محض والباطل المحض لاحقيقة عينية له حتي ينضم الي المرتبة الضعيفة کجزء لها، کما أن حقيقة الوجود بسيطة فلا يقع الترکيب في الوجود، وانما العقل يعتبر الفقدان في مقابل الوجدان والعدم في مقابل الوجود، فيصور للمرتبة الضعيفة ترکيبة من الوجدان والفقدان، وهو مجرد اعتبار عقلي ليس الا ، فلو لاحظنا وجود العلة والمعلول مثلا، نجد أن وجود العلة أشد وأقوي من وجود المعلول قطعة ، واذا قسنا علة تلک العلة - لتصير علتنا في المثال السابق معلولة لغيرها . کانت علة العلة أقوي من تلک العلة ولو لاحظنا تلک العلة الثانية لکانت أقوي بالقياس الي علتنا وهلم جرا، وهکذا حتي نصل إلي علة العلل وهي ذات الواجب جلت قدرته التي هي الکمال المطلق وهي أشد من کل وجود و موجود و من جميع الجهات ولو اخذنا سير نزوليأ من مرتبة ضعيفة إلي أضعف منها ومن مقيدة الي أشد تقييدا وهلم جرا، حتي وصلنا الي أدني مراتب الوجود - وهي الهيولي او المادة الأولي - نجد انّها مقيدة من جميع الجهات وبالقياس الي کل ما عداها، والي هذا المعني اشار في قوله :والأمر بالعکس ممّا ذکر إذا أخذنا مرتبةً ضعيفةً واعتبرناها مقيسةً إلي ما هي أضعف منها وهکذا حتّي ننتهي إلي مرتبةٍ من الکمال والفعليّة ليس لها من الفعليّة الأفعليّة أن لا فعليّةَ لها والأمر بالعکس ممّا ذکر ..... الخ) وهو قوله: (ليس لها أي لتلک المرتبةً الدانية الضعيفة - اي المادة الأولي والهيولي - (من الفعليّة) والحقيقة العينية والثبوت الخارجي (الا فعلية) و ثبوتية وعينية (آن لافعلية) ولا عينية ولا ثبوتية (لها) فليس لها أي حظ من الفعلية و التعين إلا کونها قوة محضة ولا فعلية صرفة. فکلما زادت القيود ضعفت المرتبة الوجودية شدة وقوة، وکلماقلّت القيود ازدادت المرتبة الوجودية شدةً وقوة.

ص: 156

الأمر الثالث : تبيّن من جميع ما مرّ أن للمراتب المرتّبة من الوجود حدوداً غير أعلي المراتب، فإنّها محدود بأنها لاحدَّ لها. وظاهرُ أنّ هذه الحدود الملازمة للسلوب والأعدام والفقدانات التي نثبتها في مراتب الوجود، وهي أصيلة و بسيطة ، إنّما هي من ضيق التعبير، وإلّا فالعدم نقيضُ الوجود ومن المستحيل أن يتخلّل في مراتب نقيضة (1)

وهذا المعني - أعني دخول الأعدام في مراتب الوجود المحدودة وعدم

ص: 157


1- (تبين من جميع ما مر أن للمراتب المترتبة من الوجود حدوداً) ابتداءا من أدني مراتب الوجود اعني الهيولي وصعوداً الي المراتب العليا (غير أعلي المراتب) أعني الذات المقدسة للواجب تعالي، فانّها) أي اعلي المراتب وذاته المقدسة ( محدودة بأنها لاحدّ لها) خلافاً للهيولي التي لا فعلية لها الا عدم الفعلية ، ولکي يکون الشيء - الموجود - انساناًمثلاً يلزم أن لا يکون أشياءاً کثيرة ، اعني أن الحد الوجودي لأي شيء ملازم لعدم أشياء کثيرة ، فبعدد کلّ الماهيات المغايرة للانسان توجد اعدام وسلوب، يجب نفيها عن الانسان بما هو انسان علي سبيل المثال، فوجود الانسان مرکب من جملة حدود وجودية وحدود عدمية، الوجوديات لابد من ثبوتها حتي تتحقق الانسانية للانسان، کما أن العدميات يجب انعدامها حتي تتحقق له الانسانية کذلک ، (و) لکن (ظاهر انّ هذه الحدود والقيود العدمية (الملازمة للسلوب والاعدام والفقدانات) لجملة من الکمالات الموجودة في غيره و(التي نثبتها في مراتب الوجود، وهي) أي تلک الکمالات (أصيلة وبسيطة) بأصالة الوجود وبساطته (انما هي) أي اعتبار هذه الحدود العدمية السلوبية من حدود الشيء وقيوده او حدوداً و قيوداً مطلقاً لم يحصل الا (من ضيق التعبير) والمجاز والتسامح، فما قيل ويقال من أن لکل مرتبة من مراتب الوجود حدودأ عدمية وجودية أي مرکبة من مجموعها، ليس هذا القول إلّا من باب التسامح والمجاز وإلّا فالترکيب حقيقة اما ترکيب من الأجزاء الخارجية للشيء مثل ترکيبها من المادة والصورة، وأما ترکيب من الأجزاء العقلية مثل ترکيبها من الجنس والفصل وأما ترکيب من الأجزاء الوهمية (والا فالعدم نقيض الوجود) فهو باطل محض ولا شيء صرف وليس خارج الوجود إلا الوجود (ومن المستحيل أن يتخلل) العدم (في مراتب نقيضه) أي الوجود، فلا ترکيب حقيقي في هذه المرکبات، فالترکيب الوارد في التعبير بين وجود الشيء والاعدام الملازمة له ترکيب مجازي والتعبير بالترکيب تعبير تسامحي.

دخولها المؤدّي إلي الصرافة - نوعُ من البساطة والترکيب في الوجود، غيرُ البساطة والترکيب المصطلح عليها في موارد أُخري وهو البساطة والترکيب، من جهة

الأجزاء الخارجيّة أو العقليّة أو الوهميّة (1)

الأمر الرابع : أنّ المرتبة کلّما تنزّلت زادت حدودُها وضاق وجودُها، وکلّما عرجت وزادت قرباً من أعلي المراتب قلّت حدودُها واتّسع وجودُها حتّي يبلغ أعلي المراتب، فهي مشتملةُ علي کلُّ کمالٍ وجوديًّ من غير تحديدٍ، ومطلقةُ من غير نهاية.

الأمر الخامس : أنّ للوجود حاشيتَين من حيث الشدّة والضعف ، وهذا ما

ص: 158


1- (وهذا المعني - اعني دخول الاعدام.. الخ) لما ذکرنا من أن أعلي مراتب الوجود خالي من العدم وليس له حد عدم، بل وجود محض و مطلق صرف وکمال مطلق ، وما قلنا أن للمراتب الدانية حدودأ عدمية أي مرکبة من الوجود والعدم بالمسامحة والمجاز ، لذلک وقع نوع خاص من البساطة والترکيب في الوجود، اذ يلزم القول بنوعين من الوجود، رغم ما مر من بساطة الوجود، لکن مع هذه المسامحة يمکن القول بأن الوجود علي وجهين، الوجود البسيط وهو ذات الواجب تعالي الخالي من العدم، اما سائر مراتب الوجود فهي مرکبة من الوجود والعدم، وهذا الترکيب عائد الي المعني التسامحي، فبلحاظ المعني الحقيقي نقول حقيقة الوجود بسيطة في جميع مراتب الوجود، وبالمعني التسامحي نقول أعلي المراتب بسيط، وأما سائر المراتب فهي مرکبة من الوجود والعدم أي مرکبة من الوجود والحدود الوجودية - الحد الوجودي - (وهذا المعني. أعني دخول الاعدام في مراتب...) إلي قوله نوع من البساطة) التامة المطلقة کما في ذات الواجب تعالي، ونوع من الترکيب في الوجود) الشامل لکافة الوجودات الامکانية وجميع المعاليل، فالوجود عليه ينقسم الي الوجود البسيط والصرافة المحضة، والوجود المرکب، وهذه البساطة والترکيب (غير البساطة والترکيب المصطلح عليها) مثلاً (في) الأصول او المنطق او (موارد اخري) حيث ان المراد هناک يختلف عما عليه هنا، اذ المصطلح هناک شيء آخر (وهو البساطة والترکيب من جهة الأجزاء الخارجية) کالجسم المرکب من الماهية والصورة (أو العقلية) کالأعراض المرکبة من المادة والصورة العقليتين ، فهي بسيطة في الخارج غير أن العقل يفترض لها مادة وصورة (أو الوهمية) کالأجزاء المقدارية، اذ يطلق عليها أحياناً الأجزاء الوهمية وهي ترتبط بالکميات والمتکمّمات، إذ ما ليس له کمية ليس له أجزاء مقدارية.

يقضي به القول بکون الوجود حقيقةً مشکّکةً(1)

الأمر السادس : أنّ للوجود بما لحقيقته من السعة والإنبساط تخصص بحقيقته العينيّة البسيطة ، و تخصّصاً بمرتبة من مراتبه المختلفة البسيطة التي يرجع ما به الإمتياز فيها إلي ما به الإشتراک ، وتخصّصاً بالماهيّات المنبعثة عنه المحدَّدة له ؛ ومن المعلوم أنّ التخصّص بأحد الوجهين الأوّلين ممّا يلحقه بالذات، وبالوجه الثالث أمرُ يعرضه بعرض الماهيّات (2)

ص: 159


1- (ان للوجود حاشيتين...الخ) هذا من لوازم مراتب الوجود، اذ بعد اثبات المراتب للوجود لزم انتهاء طرفي وحاشية منه إلي ما لا حد ولا نهاية له وهو وجود الواجب تعالي، هذا من جهة السير التصاعدي، ولزم انتهاء الحاشية والمرتبة الأخري والطرف الآخر منه الي ما لا فعلية له إلّا أنه لا فعليّة له، وهذا من جهة السير التنازلي، وهاتان حاشيتان إحداهما في أعلي المراتب والأخري في أدني مراتب الوجود - وهي الهيولي والمادة الأولي، وهذا معني التشکيک أي کونه ذا حاشيتين بعد ثبوت المراتب له وهو أيضاً (ما يقضي به القول بکون الوجود حقيقةً مشککة ).
2- (ان للوجود بما لحقيقته من السعة والانبساط ... الخ) وقد تطرق الي هذا البحث المرحوم صدر المتألهين بعد اثبات الاصالة للوجود، وعقد له فصلاً تحت عنوان «في ان تخصّص الوجود بماذا؟»، وبيان ذلک يحتاج الي هذه المقدمة وهي أن المباحث الفلسفية منذ أقدم عصور الفلاسفة وظهور المذاهب الفلسفية وقبل أن يظهر مذهب المشائين حتّي العصور الاخيرة الي زمن المولي صدر المتألهين ، کانت تحتوي علي أثر غير بارز من القول بأصالة الماهية، ولهذا کانت الکثير من المسائل الفلسفية مبنية علي أصالة الماهية، وکانت نظرتهم إلي الوجود بمفهومه البديهي العام، ذاهبين الي ان هذا المفهوم العام يتخصّص بقيد - أعني لا بد من ضميمة مفهوم آخر اليه يخصّصه ، وکانوا تارة يعبرون عنه بالتقييد، ويقولون بأن الوجود أما مطلق أو مقيد ، وتارة يعبرون عنه بالتخصيص فيقولون الوجود إما عام أو خاص، وکان مرادهم من الوجود المقيد، مفاد کان الناقصة أي ثبوت شيء لشيء أو ثبوت صفة لذات. کما ان مرادهم من الوجود المطلق هو وجود الشيء وثبوته اعني مفاد الهليّة البسيطة ، فکان القول «الانسان موجود» يعد عندهم وجوداً مطلقاً ، وکان «الإنسان يوجد فيه القيام» مثلاً يعد عندهم وجوداً مقيداً لأنه مفاد کان الناقصة، وکان مرادهم من الوجود العام عبارة عن المفهوم العام للوجود الشامل لجميع الموجودات و مرادهم من الوجود الخاص کان اضافة الوجود الي ماهية خاصة مثلاً «وجود الإنسان» وجود خاص، وکانوا يقولون أيضاً بأن الوجود باضافته الي الماهيات يصير ذا حصص، کما قيل عن الماهية في الکلي الطبيعي أن کل حصة من الماهية موجودة في فرد، فقال بمثل هذا عن مفهوم الوجود، بأن کل حصة من حصص الوجود موجودة في مفهوم خاص، فيظهر مفهوم الحصص من هنا، أعني من اضافة المفهوم العام للوجود الي أية ماهية خاصة، فوجود الإنسان حصة من الوجود المطلق ، اذ الوجود المطلق يشمل کل شيء ووجود الإنسان حصة من ذاک المفهوم، وهذا کله بحث عن المفاهيم ، فمفهوم الوجود عام أو خاص و مفهوم الوجود مطلق ومقيد. ثم أنهم قالوا أن هذا الوجود الخاص الذي هو حصة من الوجود العام جاء تخصصه من اضافة مفهوم الوجود الي ماهية خاصة، فماهية الإنسان متعينه متخصصه بنفسها معزولة عن ماهية الحيوان ، اما مفهوم الوجود فهو علي حد سواء بالنسبة الي الانسان والحيوان ، فاذا اضفناه الي ماهية خاصة، تخصص بها، ونظير هذا الکلام الذي تطرق اليه المتکلمون، والقائلون بأصالة الماهية ، عن مفهوم الوجود، أوردوه عن حقيقة الوجود، وذلک أنهم تصوروا لحقيقة الوجود حقيقة کلية ، وان کل واحد من الوجودات الخاصة مصداق من مصاديق تلک الحقيقة الکلية ، وأن لحقيقة الوجود بما هي أحکاماً ، کما أن للماهية بما هي احکامة ، وهي احکام الماهية بقطع النظر عن الوجود وسائر الأمور، وذکروا الوحدة والبساطة من جملة أحکام حقيقة الوجود، وان للوجودات الخاصة أحکاماً أيضاً، أي لکل وجود خاص حکم خاص به کأن يکون هذا الوجود الخاص علة وذاک الوجود الخاص معلولاً. واذ ثبت أن حقيقة الوجود مطلقة غير مقيدة وعامة غير مخصصة، فَبِمَ يکون تخصصها؟ أما المتکلمون والقائلون بأصالة الماهية يقولون بانتساب الوجود واضافته إلي الماهية - ماهية خاصة - أما علي القول بأصالة الوجود فالمستفاد من کلمات صدر المتألهين و في اسفاره وهکذا المصنف هنا وفي غيره من الکتب أن هناک ثلاثة أقسام من التخصص الحقيقة الوجود: أولا: التخصص الذاتي بأن الحقيقة المطلقة للوجود تخصصها بعين ذاتها، أي ليس تعينها عن سائر الماهيات بشيء غير ذاتها أو خارج عن ذاتها، لعدم کونها مشترکة حتّي تحتاج الي قيد يفصلها عن الماهية. ثانياً : التخصص بالمراتب، وذلک بحسب خصائص کل مرتبة من مراتب الوجود ثالثاً : التخصص باختلاف الماهيات، فالاختلاف بين وجود البقر ووجود الإنسان مثلاً جاء بسبب الاختلاف والتمايز بين ماهيتي البقر والانسان، وهذا الاختلاف ماهوي في الحقيقة، ويختلف الوجود بالاختلاف الماهوي. فقوله : (ان للوجود بما لحقيقته ) إشارة الي الحقيقة الوسيعة للوجود، الشاملة لجميع مراتبه من غير رعاية تخصص ولا لحاظ خاص فيها (من السعة والانبساط تخصّصاً بحقيقته العينية البسيطة) أي أن حقيقتها البسيطة العينية هي الموجبة لتخصصها وهذا التخصّص ملحوظ في مقابل الماهية ، وهذا هو القسم الأول من التخصص، أما القسم الثاني من أقسام التخصص فهو قوله : (و تخصُّصاً بمرتبة من مراتبه المختلفة البسيطة التي يرجع ما به الامتياز فيها الي ما به الاشتراک)، وأما القسم الثالث والأخير من أقسام التخصص فهو قوله : ( وتخصّصاً بالماهيات المنبعثة عنه) أي عن الوجود المحددة له) أي للوجود (ومن المعلوم أن التخصص باحد الوجهين الأولين مما يلحقه بالذات) القسمان الأولان من أقسام التخصص، تخصصان ذاتيان، اذ الحقيقة الوسيعة للوجود متخصصة بنفس ذاتها، وکل مرتبة متخصصة أيضا بنفس تلک المرتبة اي بذات تلک المرتبة وهي أيضا تختص بالذات (و بالوجه الثالث أمر يعرضه بعرض الماهيات) أي لم يحصل تخصص للوجود في القسم الأخير إلا بعرض الماهيات فإن التخصص بالذات والاصالة للماهيات وبالعرض للوجود. والحاصل أن التخصص في کل شيء بذاته، لأنه يمتاز عن غيره بذاته وحقيقته ، وکذلک الوجود فإن تخصصا. يأتي من ذاته وحقيقته التي هي عبارة عن حيثيته الخارجية وبساطته . والمرحلة الثانية أو القسم الثاني من التخصص حاصل من جهة أن کل وجود بقع في مرتبة من مراتب الوجود التي تکون عين ذات ذلک الوجود وبعبارة أخري ان المرتبة التي يقع فيها الوجود تکون عين ذات الوجود لا تقبل الانفکاک عنه ، کالعلة والمعلول فإن لکل واحد مهما مرتبة من الوجود هي عين ذاته لا يمکن أن يستبدل بغيره، فالعلة سابقة أي في مرتبة سابقة من مراتب الوجود، بالنسبة للمرتبة التي وقع فيها المعلول، ويستحيل تبديل مراتبهما بجعل مرتبة المعلول سابقة علي مرتبة العلة مثلاً. والقسم الثالث من التخصص هو تخصص الوجود بواسطة عروض الماهيات وذلک أن لکل شيء ماهية تختلف عن سائر الماهيات وحدود الماهية - اي حدوده الماهوية - تميزه عما سواه نقرأ في هذا الفصل : أ- بما أن العدم بطلان محض، فلا تمايز بين الاعدام . ب. وما قيل من أن اعتبار «عدم العدم» عدمة مضافة ، فهو من جهة يکون نوعا من العدم، ويکون من جهة اخري رافعة للعدم المضاف إليه ، فهو إذن نقيض العدم، وکيف يمکن ان يکون العدم المضاف عدمة في عين کونه نقيضا للعدم؟ ونجيب بأن العدم المضاف من جهة کونه أخص من مطلق العدم، يعد نوعا من العدم، ومن جهة کون العدم المضاف اليه ذا نحو من الثبوت، فإن هذا العدم المضاف رافع لذاک العدم ويکون نقيضأ له، وعلي کل حال فإن العدم المضاف اليه ليس وجودة في الحقيقة، حتي يکون العدم المضاف نقيضه. ج- ان العدم المضاف في عدم العدم، في الحقيقة عدم بالحمل الأولي، ونقيض للعدم بالحمل الشائع الصناعي، فالجهتان مختلفتان.

ص: 160

ص: 161

ص: 162

الفصل الرابع في شطر من أحکام العدم

(1)

قد تقدّم أن العدم لا شيئية له ، فهو محضُ الهلاک والبطلان .

ص: 163


1- لا شک أن هذه المسألة أعني مسألة العدم والبحث عن العدم، مسألة تطفلية ومبحث تطفلي في مباحث الفلسفة والحکمة، وذلک أن موضوعها الوجود بالأصالة والذات، وموضوع کل مسألة ينبغي أن يندرج تحت موضوع العلم، وحين نريد اثبات حکم للعدم يصير العدم موضوعة للمسألة مع أن العدم غير مندرج تحت موضوع الفلسفة - الوجود-، فما الحاجة الي البحث عن العدم ههنا؟ ونرد في مقام الإجابة بأن البحث عن الوجود لا يتم الا بالبحث عن ضده إذ تعرف الاشياء بأضدادها «والضد يکشف حسنه الضد» ، فلا محيص دون البحث عن العدم ولو نطق، وبناء علي هذا طرحوا جملة من المسائل الباحثة عن العدم، منها: ان لا تمايز بين الاعدام، ومن الواضح أنا حين نقول لا شيئية للاعدام، لم نترک مجالاً للسؤال عن امکان التمايز بينها، ولهذا أقام المؤلف برهاناً علي اصل عدم التمايز بين الاعدام، وذلک أن التمايز بين شيئين لا يکون إلا بأحد امور ثلاثة.

ومما يتفرّع عليه أن لا تماير في العدم، إذ التمايز بين شيئين إمّا بتمام الذات

کالنوعين تحت مقولتين أو ببعض الذات النوعين تحت مقولة واحدة أو بما يعرض الذات کالفردين من نوع، ولا ذات للعدم (1)

نعم، ربّما يضاف العدم إلي الوجود، فيحصل له حظُّ من الوجود ويتبعه نوعُ من التمايز ، کعدم البصر الذي هو العمي، والمتميَّز من عدم السمع الذي هو الصَممَ، وکعدم زيد وعدم عمرو المتميَّز أحدُهما من الآخر (2)

ص: 164


1- (قد نقدم) في الفرع الثامن من الفروع المذکورة في الفصل الثاني (أن العدم لا شيئية له..الخ). ومما يتفرع عليه) أي علي القول بأن العدم لا شيئية له ( أن لا تمايز في العدم) هکذا جاء في المنظومة والاسفار، (اذ التمايز بين شيئين) لا يکون إلا بأحد وجود ثلاثة، أولاً : (اما بتمام الذات النوعين تحت مقولتين مختلفتين إذ لا يوجد بينهما وجه اشتراک قط کالإنسان الذي من مقولة الجوهر مع البياض الذي من مقولة الکيف ، أو کالخط الذي من مقولة الکم والخوف الذي من مقولة الکيف النفساني، بينهما تمايز بتمام الذات، ثانياً : (أو) التمايز بينهما ببعض الذات کالنوعين) المندرجن (تحت مقولة واحدة) اللذين يشترکان في الجنس ويجمعهما جنس واحد ويمتازان من جهة الفصل أي لکل منهما فصل خاص به، مثل الإنسان والفرس، والخط والعدد فان الخط من مقولة الکم المتصل أما العدد فمن مقولة الکم المنفصل ومثل السواد والبياض وهلمّ جرّا، ثالثاً : (أو) يکون الامتياز بينهما (بما يعرض الذات) أي بما هو خارج عن ذاتهما عارض لهما (کالفردين من نوع واحد، بحيث يشترکان بتمام الذات ، وإنما امتازا من جهة امور خارجة عن ذاتهما عارضة لذاتهما کالفرس الأبيض والفرس الأسود، وکالجواد الاصيل العربّي والجواد الغربّي، ومثل زيد وعمرو ومثل الرجل والمرأة ومثل العالم والجاهل، (ولا ذات للعدم) إذ لو کان له ذات لکان قابلاً للمتمايز باحد هذه الوجوه الثلاثة
2- بعد ما سلمنا بأن العدم بطلان محض ، فهل يمکن أن نفترض ونتصور مصداقاً للعدم؟ وهل يمکن افتراض مصداق للعدم المطلق، کما هو بالنسبة الي الوجود المطلق ليقابل الوجود المطلق ؟ کلا لا يمکن تصور مصداق للعدم المحض، مادام العالم، عالم الوجود، إذ لازم العدم المحض - لازم افتراض مصداق للعدم المحض - ان ينتفي الوجود مطلقاً ، وهو خلاف الحق والوجدان والبداهة، فلا مصداق للعدم المحض حتي المصداق الفرضي. (نعم) يمکن فرض المصداق لعدم شيء خاص وهو ما يسمي بالعدم المضاف، إذن (ربّما يضاف العدم الي الوجود...الخ) فالعدم يکتسب حظاً من الوجود إذا اضيف الي أمر وجودي کما لو أضيف العدم إلي السمع أو البصر فانّه يکتسب منهما حظاً من الوجود، وهو الوجود الذي يميز في الذهن عدماً عن عدم آخر.

وبهذا الطريق ينسب العقلُ إلي العدم العليّةَ والمعلوليّةَ حذاءَ ما للوجود من ذلک ، فيقال : «عدم العلّة علة لعدم المعلول» حيث يضيف العدم إلي العلّة والمعلول فيتميّز العدمان، ثم يبني عدم المعلول علي عدم العلّة کما کان يتوقف وجود المعلول علي وجود العلّة، وذلک نوعُ من التجوّز ، حقيقته الإشارة إلي ما بين الوجودين من التوقّف (1)

ص: 165


1- فالعدم ببرکة الانتساب والاضافة الي الوجود يحصل علي نوع من الثبوت، فيفرض له نحو ثبوت، ومصداق ثبوتي، مثلاً نفترض لعدم البصر - الذي هو العمي - نحو ثبوت بتبع ثبوته ووجوده، فانا نقول عمرو أعمي - لفقدان البصر - فإن وجود عمرو من جهة فقدانّه لکمال البصر يجعل ويفرض مصداقاً بالعرض لمفهوم العمي، فيحصل العمي علي نحو من الثبوت، بخلاف العدم المطلق الذي لا ثبوت له مطلقاً ويستحيل فرض مصداق له، ثم انّه بعد ما أثبتنا نوع ثبوت للعدم المضاف، يحصل نوع من التمايز بين الاعدام المضافة بتبع هذا الثبوت، فيتميز عدم البصر - أي العمي - عن عدم السمع - أي الصمم -، وهذا التمايز في الحقيقة منسوب الي السمع والبصر اولا وبالذات، وينسب الي العمي والصمم ثانية وبالعرض وهکذا قس علي هذا المثال ما شئت من المصاديق. وبهذا الطريق الذي قدمناه مفصلاً ( ينسب العقل الي العدم العلية والمعلولية) فيه تقديم و تأخير وبعبارة أوضح ينسب العقل العلية والمعلولية الي العدم (حذاء) وازاء (ما للوجود من ذلک) أي بازاء العلية والمعلولية القائمة بين الموجودات، فبعدما فرض نحو ثبوت للاعدام، واعتبر لها شيء من المصاديق، امکن نسبة مثل هذه الأحکام اليها ، فيقال : «عدم العلة علة لعدم المعلول» حيث يضيف) العقل (العدم الي العلة والمعلول) وببرکة هذه الاضافة - أي اضافة العدم الي العلة والمعلول - يحصل ويفرض للعلة والمعلول - أي لعدمهما - نحو ثبوت، وبتبع هذا الثبوت يتميز عدم العلة عن عدم المعلول (فيتميز العدمان، أحدهما عن الآخر (ثم يبني عدم المعلول علي عدم العلة) ويسند عدم المعلول إلي عدم العلة و يقال أن عدم المعلول مستند الي عدم علته وعدم المعلول مبني علي عدم العلة ونابع منه، وتابع له، (کما يتوقف وجود المعلول الي وجود العلة) علي ما في شوارق الالهام (وذلک) أي استناد عدم المعلول الي عدم العلة في الحقيقة (نوع من التجوز، والتسامح (حقيقته) أي حقيقة هذا الإسناد أو التجوز - الذي هو لازم الاسناد - عبارة عن (الاشارة الي ما بين الوجودين) أي وجود العلة ووجود المعلول (من التوقف فنفس التوقف الذي بين وجود العلّة والمعلول، بتوقف وجود المعلول علي وجود العلة، واسناد وجود الأول إلي وجود الثاني، صار منشئاً لحصول عدمهما علي نحو من الثبوت وصح استناد عدم الأول إلي عدم الثاني، وحصل ذلک بتبع وجودهما، فالحکم في الحقيقة لوجودهما وبتبع وجودهما نسب الي عدمهما، مثلاً قولنا: عدم النار سبب لعدم الدخان أو العکس بأن عدم الدخان مستند الي عدم النار و مسبب عنه ، هذا القول في الحقيقة تابع لقولنا: وجود النار علة لوجود الدخان أو وجود الدخان مستند إلي وجود النار و مستند اليه، لأن نسبة العلّيّة والمعلولية الي العدم نسبة مجازية، راجع الاسفار نفس المبحث في الجزء الاول.

ونظير العدمِ المضاف العدمُ المقيد بأيُّ قيدٍ يقيّده کالعدم الذاتي والعدم الزّماني والعدم الأزلي . ففي جميع ذلک يتصورّ مفهوم العدم ويفرض له مصداق علي حدّ سائر المفاهيم، ثم يقيّد المفهوم فيتميزّ المصداق، ثمّ يحکم علي المصداق علي ما له من الثبوت المفروض بما يقتضيه من الحکم، کاعتبار عدم العدم قبالَ العدم، نظير اعتبار العدم المقابل للوجود قبالَ الوجود (1)

ص: 166


1- هناک نوع آخر من التمايز للاعدام - بين الاعدام - يقع بالوصف کالعدم الزماني والعدم الدهري والعدم الذاتي، إذ يکون التشخص فيها بواسطة الأوصاف، لکن بملاحظتها نجد أن المضاف مقدر فيها أيضاً، کالعدم الزماني لشيء ما، لا أن العدم نفسه بواسطة الوصف صار يفترض له مصداق من غير اضافته إلي شيء خاص - فالمصداق الفردي للعدم لا يتم الا للعدم المضاف، وتعدد الجهات، ملاک لتعدد الاحکام، (و نظير العدم المضاف، العدم المقيد) أي العدم المقيد کالعدم المضاف( بأيّ قيد يقيده) فالعدم المقيد بأي نحو من أنحاء القيود وبأي نوع منها (کالعدم الذاتي، والعدم الزماني، والعدم الازلي. ففي جميع ذلک يتصور مفهوم العدم) أولاً، ثم يفرض له) أي للعدم (مصداق) وذلک (علي حد سائر المفاهيم الوجودية التي لها مصاديق خارجية، إلّا أن مصاديق المفاهيم الوجودية ، حقيقية ، مصاديق العدم اعتبارية (ثمّ يقيد المفهوم) فمثلاً حين نتصور مفهوم الإنسان لا يحصل به تمايز بين أفراده کزيد وعمرو وبکر، لکن حين نقول : الإنسان الأبيض ، نکون قد ميزناه عن الإنسان الأسود، وکذلک هنا، فإن العدم الزماني أو الذاتي يحصل لهما نحو تمايز ببرکة الوصف والقيد و تحت ظله (فيتميز المصداق) في کل منها (ثم يحکم علي المصداق علي ما له من الثبوت المفروض) أي ثم نثبت لمصداق العدم احکاماً وبطبيعة الحال تکون أحکاماً فرضية (بما يقتضيه من الحکم، کاعتبار عدم العدم قبال العدم) وهو اشارة الي أمر آخر هو اننا حين نفترض للعدم مصداقاً علي هذا الأساس، وهو بمقايسة وجودين محدودين مقيدين، ونقول أحدهما غير واجد للآخر، فملاکنا في فرض ثبوت للعدم هو وجود آخر يمکن أن يقع مصداقاً لذاک العدم المفروض، أعني مصداقاً بالعرض، أما مصداقاً بالذات فهو العدم الفرضي المنطبق علي وجودها، ولو لم يکن وجود أصلاً لم يمکن فرض مصداق للعدم الخاص، فنتصور عدم زيد مثلا، بهذه الصورة، ونفرض له مصداقاً، ينطبق هذا المصداق علي وجود عمرو بالعرض، وحين نفترض مصداقاً للعدم، يمکننا نفي هذا المصداق، إذ لکل شيء نحو ثبوت يمکن سلب هذا الثبوت منه، مثلاً انتزعنا عدم زيد من وجود عمرو، فقد افترضنا مصداقاً لعدم زيد، أعني أن لنا عدمة في الخارج ينطبق علي وجود عمرو وهو عدم زيد، نسلب هذا العدم بعد ان کنا قد فرضنا له ثبوت، في ظرف نفس الثبوت الذي اثبتناه ، لنا أن نسلب فنقول : سلب العدم وعدم العدم، إذ يمکن تصور سلب لکل شيء أعتباري بما يناسبه، ولکل شيء اعتباري يمکن تصور سلب مناسب له، وبملاحظة هذه الحقيقة تتحقق عندنا قضية عدم العدم عدم، وعدم العدم أيضا نوع من العدم، فهناک نوعان من العدم أو عدمان، أحدهما عدم الوجود والآخر عدم العدم، ثم نقول عدم العدم، موضوع قضيتنا هو عدم العدم المتألف من مضاف ومضاف إليه ، ومعني عدم العدم، سلب العدم، وسلب الشيء نقيضه، کما اننا حين نقول : عدم الوجود معناه سلب الوجود أي نقيض الوجود، کذلک عندما نقول : عدم العدم نعني به سلب العدم الذي هو نقيض العدم، فالعلاقة بين هذين العدمين والنسبة بينهما علاقة التناقض، فالعدم الذي هو موضوع قضيتنا نقيض للعدم لأنه سلب العدم، ومن جهة اخري تحمل العدم علي نفس هذا النقيض فنقول : عدم العدم عدم، ولازم الحمل هو الاتحاد، وينبغي اتحاد الموضوع والمحمول، لو کان الشيء نوعا من جنس ما، لزم اتحاد النوع والجنس، کالانسان الذي هو نوع من الحيوان فيصح حمل الحيوانية علي الإنسان، الوجود الاتحاد بينهما، والحال أن لازم الاضافة . وهو عدم العدم أي سلب العدم. هو التناقض والتقابل، ولا يجتمع المتقابلان لعدم اتحاد بينهما، فالسلب والايجاب لا يمکن أن يتحدا، ولا يقال : السلب إيجاب، أو الايجاب سلب، لأنهما نقيضان، غير إننا نجد عدم العدم، أعني نري حمل العدم علي العدم - رغم کون العدم نقيضا للعدم المضاف اليه - أعني أن هناک اجتماعا بين المتقابلين، فهو سلب للعدم ونفس العدم، فکيف يمکن أن يکون نقيض الشيء من مصاديق ذلک الشيء ؟! وقد أورد العلامة هذه المسألة بما حاصله : اننا قد افترضنا عدماً مضافاً لوجود ما، وافترضنا ثبوتاً لهذا العدم من جهة وجود محدود آخر يمکن أن يقع مصداقاً بالعرض لهذا العدم، هذا مصحَّح الفرض، ثم نسلب الثبوت المفترض للعدم، فنفترض سلبه، وهذا السلب يصبح نقيضا للثبوت الذي افترضناه للعدم، وحملنا العدم علي نفس هذا السلب الذي هو نقيض للعدم المفروض ، فنقول عدّم العدم، عدّم، أو نوع من العدم. والجواب أو الحل، اننا حين نجعل مفهوم العدم محمولاً فنقول عدم العدم، عدم، أو نوع من العدم، فالمحمول هنا مفهوم العدم، وفي قولنا : نوع من العدم، النوعية من العدم من المعاني المنطقية من المعقولات الثانية المنطقية التي تتحقق في الذهن، أما العدم الذي اخذناه موضوع هنا فالمراد منه مصداق العدم، والنقيضان يلحظان من جهة المصداق الخارجي لا المفهوم، فالانسان الخارجي نقيضه الانسان، وحين نقول بسلب الوجود من زيد، نعني به سلب وجوده الخارجي، فالتناقض بين المضاف والمضاف اليه بلحاظ المصداق الخارجي، والاتحاد المفروض بلحاظ المحمول، هو الاتحاد بلحاظ المهفوم الذهني ، فالتقابل مصداقي بينهما والاتحاد مفهومي، ولهذا فإن مصداق عدم العدم يحمل علي مفهوم العدم، وهذا لا ينافي صدق التقابل والتناقض بين العدم الذي في المضاف والعدم الذي في المضاف إليه، کالضدين فانّهما أمران وجوديان بينهما غاية الخلاف في الخارج ومن جهة المصداق، ورغم ذلک نقول الضدان متضايفان، والتضايف في الحقيقة بين مفهوم الضد والضد واما التضاد فهو بين مصداق الضد والضد، فالتصايف بين مفهومي الضدين، والتضاد بين مصداقيهما، کالسواد والبياض. فافهم وتأمل جيداً. وبعد أن افترضنا ثبوتاً للعدم، لنا أن نسلب هذا الثبوت المفروض، أي أن نحکم عليه بعدم العدم، کاعتبار عدم العدم في قبال العدم (نظير اعتبار العدم المقابل للوجود قبال الوجود) فافهم و تأمل. والحاصل أن المفاهيم الوجودية ذوات المصاديق الحقيقية تقيد العدم بأوصاف وجودية ، فتتميز مصاديق العدم، وبملاحظة الثبوت الاعتباري للعدم، تثبت احکاماً مناسبة لمصاديقه ، فيعتبر العقل عدم العدم في مقابل العدم کما يعتبر ويفترض عدم الوجود في مقابل الوجود، فبعد أن افترض نوع ثبوت للعدم، له أن يسلب هذا الثبوت عنه ، ويعبر عن هذا السلب ۔ سلب الثبوت عن العدم - بعدم العدم، کما يسلب الوجود أيضاً ويعبّر عنه بعدم الوجود.

ص: 167

وبذلک يندفع الاشکال في اعتبار عدم العدم بأن العدم المضاف إلي العدم نوعُ من العدم، وهو بما أنّه رافع للعدم المضاف إليه يقابله تقابلَ التناقض، والنوعيّة

ص: 168

والنقابل لا يجتمعان البَتّة (1)

وجه الإندفاع - کما أفاده صدر المتألّهين رحمه الله - أنّ الجهة مختلفة، فعدمُ العدم بما أنّه مفهومُ أخصّ من مطلق العدم مأخوذُ فيه العدم، نوعُ من العدم، وبما أن للعدم المضاف إليه ثبوتاً مفروضاً يرفعه العدم المضاف رفعَ النقيض للنقيض يقابله

العدمُ المضاف(2)

ص: 169


1- (وبذلک) الذي تقدم مفصلاً ( يندفع الاشکال الذي أورده صاحب الاسفار في الجزء الأول (في اعتبار عدم العدم) وجه الاشکال (بأن العدم المضاف إلي العدم نوع من العدم) وهو أن العدم المضاف الي العدم بنفسه يعد نوعا من العدم (وهو) أي العدم المضاف ( بما أنه رافع للعدم المضاف اليه يقابله) فإنه من جهة أخري فإن عدم العدم معناه رفع العدم، وموضوع قضيتنا يرفع العدم ويسلبه ، مقتضي هذا السلب أن يکون بينهما نوع من التناقض، وأن لا يکون بينهما مادة اجتماع ووجه اشتراک يلتقيان عنده ، ومن جهة أخري يرفع عدمُ المضاف إليه حين نقول عدم العدم، فهنا مضاف و مضاف اليه، وعده في قولنا «عدم العدم عدمُ»، فمن جهة اضافة العدم الي العدم وسلب العدم المضاف إليه، نري أن بين المضاف والمضاف اليه تناقضاً و تقابلاً إذ سلب الشيء نقيضه، ومن جهة حمل العدم عليه ينبغي اتحاد المضاف مع العدم في قولنا «عدم العدم، عدم» إذ لا يصح الحمل من غير اتحاد بين المحمول والموضوع والنوعية والتقابل لا يجتمعان البتّة) فهل يصح أن يقال سلب الإنسان نوع من الإنسان ؟! أو سلب الحيوان نوع من الحيوان ؟! کلا لعدم اندراج نقيض تحت نقيض آخر، بينما تقتضي النوعية اندراج النوع تحت جنسه، ومقتضي عدم العدم - بناءاًعلي ما تقدم - ان لا يندرج العدم المضاف تحت المضاف اليه، والحال أننا نقول عدم العدم، عدم، بحمل العدم علي العدم، وذلک أن الشيء اما ان يکون نقيضاً لغيره، أو أن يکون نوعاً منه، وکيف يمکن أن يکون نقيضأ له حال کونه نوعاً من انواعه ؟!
2- (وجه الاندفاع - کما افاده صدر المتألهين رحمه الله - أن الجهة مختلفة) وهي اننا حين نقول عدم العدم عدم نوع من العدم نعني بها قضية منطقية من المعقولات المنطقية الثانية، لأن النوع من المفاهيم المنطقية ، فوجودها ذهني واتصافها ذهني أيضاً ، بخلاف لحاظ التقابل الذي نقول فيه أن عدم العدم سلب العدم ونقيضه فهو باللحاظ الخارجي المصداقي، وليس بلحاظ کونها قضية خارجية بل بلحاظ کونها قضية ذهنية ، فوجه الاندفاع ان الجهة مختلفة ، إذ قولنا عدم العدم نقيض للعدم وسلب له، بلحاظ المصداق الخارجي، و أما قولنا عدم العدم، عدم بلحاظ آخر، (فعدم العدم بما أنه مفهوم أخص من مطلق العدم مأخوذ فيه العدم) فلمّا صار مطلقاً يکون المطلق مأخوذاً وملحوظاً ضمن المقيد ، فهو من هذا اللحاظ (نوع من العدم) أي لنا أن نقول - العدم علي قسمين: عدم للوجود، وعدم اللعدم، فيمح لحاظ مفهوم العدم بلحاظين، لحاظ عدم الوجود ولحاظ عدم العدم، (وبما أن للعدم المضاف اليه ثبوتاً مفروضاً) في الخارج المعبر عنه بعدم العدم بعد سلب الثبوت ( يرفعه العدم المضاف) أي العدم المضاف يرفع الثبوت الذي للعدم المضاف إليه (رفع النقيض للنقيض) أي کما يرفع النقيض نقيضه (يقابله العدم المضاف) أي أن العدم المضاف يقابل العدم المضاف إليه ، . وبينهما علاقة التقابل، فعدم العدم يقابل نفس العدم المضاف اليه - وهو مصداق العدم المفروض ، اما عدم العدم فلا يقابل مفهوم العدم، بل بينهما نسبة الاطلاق والتقييد. والحاصل أن الاشکال هو کون العدم المضاف الي العدم نقيضاً للعدم، حال کونه نوعاً من العدم أيضاً ، ولا تجتمع النوعية والتقابل ، إذ النوعية تقتضي الاندراج - أي اندراج النوع تحت جنس -، والتقابل يقتضي التباين وعدم الاندراج بين الشيئين، ونقيض الشيء لا يکون نوعاً منه، وقولنا : عدم العدم نوع من العدم، معناه أن نقيض العدم نوع من العدم، فما الحل وحاصل الجواب : أن لعدم العدم حيئيتين، حيثية مفهومية، وحيثية مصداقية ، فقولنا: عدم العدم سلب للعدم ونقيضه، بلحاظ المصداق لأن مصاديق المتناقضين لا تجتمع، والمتناقضان لا يجتمعان بلحاظ مصاديقهما، وقولنا عدم العدم، عدمُ، أو نوع من العدم، فإند کذلک بلحاظ المفهوم ، إذ مفهوم العدم نوع من العدم، إذ النوعية من المعقولات المنطقية الثانية و محلها وظرف تحققها الذهن

وبمثل ذلک يندفع ما أُورِد علي قولهم: «المعدوم المطلق لا يخبر عنه»، بأنّ القضية تناقض نفسها، فإنّها تدلّ علي عدم الاخبار عن المعدوم المطلق ، وهذا بعينه خبرُ عنه. ويندفع بأنّ المعدوم المطلق بما أنّه بطلان محضُ في الواقع لا خبرَ عنه ، وبما أن المفهومه ثبوتاً مّا ذهنيّاً يُخبَر عنه بأنّه لا يُخبَر عنه فالجهتان مختلفتان . وبتعبير آخر: المعدوم المطلق بالحمل الشائع لا يخبر عنه، وبالحمل الأوّليّ يُخبَر عنه بأنه لا يُخبَر عنه ((1)

ص: 170


1- (وبمثل ذلک) الذي تقدم ( يندفع ما أورد علي قولهم) أي من الجهة التي تمّ بها حل الاشکال المتقدم، وما لا حظناه من الخلط بين المفهوم والمصداق، ولمزيد من التفصيل راجع الأسفار الجزء الأول نفس الموضوع وشرح التجريد وشرح المنظومة فما أورده الکاتبي في حکمة العين علي قول الفلاسفة بأن (المعدوم المطلق لا يخبر عند) وإشکاله علي ويلزم من صدقها کذبها، أي لو ثبت انّها صادقه فلازم کونها صادقة أن تکون کاذبة فيما أخبرت عنه، إذ کيف يقال المعدوم المطلق لا خبر عنه ، في الوقت الذي تخبرون عن المعدوم المطلق، أليس هذه القضية فيها اخبار عن المعدوم المطلق ؟! فکيف تقولون أنه لا يخبر عنه ؟! (فانّها) أي هذه القضية (نزل) بالدلالة المطابقية أي بالتصريح لا بالتلميح (علي عدم الاخبار عن المعدوم المطلق ، وهذا الاخبار بعينه خبر عنه) و اخبار عن المعدوم المطلق. ويندفع) کما في نفس الجزء من الأسفار (بأن الجهة هنا مختلفة أيضأ کما في سابقتها، وان المعدوم المطلق ذو حيثيتين حيثية المفهوم وحيثية المصداق وذلک بأن المعدوم المطلق بما انّه بطلان محض في الخارج وفي متن الواقع لا خبر عنه....الخ).

وبمثل ما تقدّم أيضاً يندفع الشبهة عن عدة من القضاياتُوهِم التناقضَ ؛ کقولنا: «الجزئيّ جزئيُّ» وهو بعينه کلّيّ يصدق علي کثيرين. وقولنا : «إجتماع النفيضين ممتنعُ» وهو بعينه ممکن موجودُ في الذهن ، وقولنا: «الشيء إمّا ثابتُ في الذهن أو لا ثابت فيه» واللا ثابتُ في الذهن ثابت فيه، لأنّه معقولُ موجودُ بوجود ذهنيّ.

فالجزئيّ جزئيُ بالحمل الأوّليّ ، کلّي ُصادقُ علي کثيرين بالحمل الشائع ؛ وإجتماع النقيضين ممکنُ بالحمل الأوّليّ ، ممتنع ُبالحمل الشائع، واللا ثابتُ في الذهن لا ثابت فيه بالحمل الأوّليُ ، ثابتُ فيه بالحمل الشائع(1)

ص: 171


1- (وبمثل ما تقدم أيضأ يندفع الشبهة) التي ذکرها صدر المتألهين في الجزء الأول من اسفاره في تتمه نفس المبحث (عن عدة من القضايا) الفلسفية التي (توهم التناقض) ونسب التوهم الي المجهولين ولم نعثر عليهم ولعلهم المتکلمون، وهي قضايا لا علاقة لها بمبحث العدم وأحکامه إلا أنها تناسب المقام (کقولنا: الجزئي جزئي) الاشکال ان هذه القضية علي فرض صدقها، فهل کل جزئي جزئي؟ ولو کان الجواب بنعم وان هذه القضية صادقة ، لزم کون الجزئي کلية ، کما نقول کل انسان حيوان ، وکيف يکون الکلي جزئيا ؟ أعني کيف يکون الجزئي في عين جزئيته کلية ، إذ ان الموضوع هنا کلي، بينما قلنا في القضية الأولي «الجزئي جزئي»، ألا يلزم منه التناقض ؟ وکيف الحل لهذا التناقض الالتزامي؟ في قولنا «الجزئي جزئي»، (وهو بعينه کلي يصدق علي کثيرين) فإن موضوع قضيتنا وهو الجزئي ، مفهوم کلي في حد ذاته ، يصدق علي أفراد کثيرين ، وعليه فإن الجزئي جزئي من جهة، لأن کل شيء هوهو، ومن جهة فإن الجزئي بما انّه يمتنع صدقه علي کثيرين ليس جزئياً، لصدقه علي کثيرين ، وذلک أن زيدأ جزئي وعمروة جزئي وبکرا جزئي وهلم جرا، إذن مفهوم الجزئي کلي يصدق علي آلاف بل ملايين بل مليارات الأفراد بل اکثر بمالا يعد ولا يحصي، فالجزئي في عين کونه جزئية يکون کلية وهو التناقض بعينه . (و قولنا: «اجتماع النقيضين ممتنع») هذا من جهة ، وهو من جهة أخري (بعينه ممکن موجود في الذهن) وبعبارة أوضح فاجتماع النقيضين من جهة نقول انّه ممتنع ، ومن جهة اخري نجد انّه بلحاظ کونه مفهومة ذهنية ، موجود في الذهن، وهذا جمع بين الإمکان والامتناع نقول انّه ممتنع الوجود، ونلاحظه موجودة ممکنة في الذهن ، فرغم کون موضوع القضية ممکن يوجد في الذهن ، کيف يصح القول أن اجتماع النقيضين ممتنع ؟! ولولا وجود الموضوع في الذهن لم يصح جعله موضوعأ للقضية وأصدار حکم عليه. (و) أخيرة (قولنا: «الشيء إما ثابت في الذهن أو لا ثابت فيه» ) کيف نجمع بين هذه المقولة (و) بين ما نجده في الواقع من أن (اللاثابت في الذهن) والذي نفينا ثبوته في الذهن هو بعينه (ثابت فيه) أي في الذهن (لأنه معقول موجود بوجود ذهني، فاللانابت له وجود ذهني بلحاظ کونه مفهومة ذهنية، وهو علي ما في القضية المعهودة ليس ثابتا في الذهن، والحاصل أنه ثابت ولا ثابت، ولا ثابت حال کونه ثابتة ، إذ لما تصورنا عدم کونه ذا ثبوت ذهني ، فقد منحناه ثبوت ووجود ذهنية من حيث لا نريد، ويلزم من ذلک التناقض الصريح . جواب الإشکالات الثلاثة وحل هذه التناقضات : (فالجزئي جزئي) يراد منه اتحاد مفهومي الموضوع والمحمول، بمعني أن مفهوم الجزئي ، مفهوم جزئي أي بالحمل الأولي لکنه ( کلي صادق علي کثيرين بالحمل الشايع) ومعناه أن مفهوم الجزئي من مصاديق الکلي لاندراجه تحته. واجتماع التنقيضين مسکن) أي ان مفهوم اجتماع النقيضين ممکن لأنه ملاک للحمل الأولي فهو ممکن (بالحمل الأولي في الذهن، لکن حقيقة اجتماع النقيضين بالوجود الخارجي (ممتنع) لکونه ملاکا (بالحمل الشايع)، فمفهوم اجتماع النقيضين ممکن موجود، ومصداقه أو مصاديقه ممتنعة الوجود في الخارج. (و) قولنا (اللاثابت في الذهن لا ثابت فيد) أي في الذهن فمعناه أن مفهوم اللاثابت في الذهن هو بعينه مفهوم الثابت في الذهن - أي هوهو بعينه - أي لا ثابت فيه (بالحمل الأولي) لکنه - أي اللاثابت في الذهن - ( ثابت فيه) أي في الذهن (بالحمل الشايع) فهو غير ثابت بأفراده و مصاديقه لا بمفهومه الذهني. واعلم ان الحمل الأولي في قوله «الجزئي جزئي بالحمل الأولي» قيد للقضية نفسها، بمعني أن القضية بنفسها حمل اولي . وأما الحمل الأولي في قوله ي «أجتماع النقيضين ممکن بالحمل «ألا ولي» قيد للموضوع لا القضية ومعناه اجتماع النقيضين ممکن بالحمل الأولي، والحمل الأولي في القضية الثالثة قيد القضية أيضأ لا للموضوع واما الحمل الشايع هنا فهو قيد للموضوع، وذلک أن قولنا «بالحمل الأولي» قد يکون قيدا للموضوع وقد يکون قيدا للقضية وملاکه: أن الحمل الأولي يکون قيدا للقضية في القضايا التي يتحد فيها الموضوع والمحمول من حيث المفهوم، ويکون قيدة للموضوع في الموارد التي يختلف فيها الموضوع والمحمول مفهومة. خذ واغنتم. نقرأ في هذا الفصل لما ثبت سابقة أن الوجود مساوق للشخصية والوحدة، امتنع أن يکون للموجود الواحد وجودان، لاستلزامه کثرة الواحد وهو محال . کما انّه يستحيل وجود مثلين من جميع الجهات إذ لازم الاثنينية التمايز، ولازم المثلية عدم التمايز وهو محال أيضا. سواء کان التماثل ووجود المثلين في زمان واحد أو زمانين وبطلانّه في الثاني أوضح. ادلة امتناع اعادة المعدوم : 1- لو جاز اعادة المعدوم بعينه ، لزم تخلل العدم بين الشيء ونفسه وهو محال . 2- لو جاز ذلک، لزم امکان ايجاد المعدوم بعينه ابتداءا من باب «حکم الأمثال فيما يجوز وما لا يجوز واحد»، وهذا معناه امکان ايجاد مثلين في زمان واحد وهو محال . 3- لو جاز ذلک لزم کون المعاد عين المبتدأ وهو محال لأن حيئية الاعادة غير حيثية الابتداء 4- لو جاز ذلک، لا يمکن تحديد العود في عدد معين، إذ کل عود واعادة يکون عين الأول، فتعدد التکرار والاعادة جائز، ولا تمايز أيضا بين الأعداد المعادة، فسيکون العدد الثالث عودة ثالثة و عودة أولا وعودة ثانية وعودة رابعة وهکذا وهلم جرا في البقية لأنها جميعا مثماثلة متحدة عينية ، مع أن تعين العدد من لوازم الوجود المتشخص. وقد توهم بعض المتکلمين لاعتقادهم بالمعاد الجسماني أن المعاد عبارة عن اعادة المعدوم وان الموت اعدام لبني آدم، وقالوا ان امتناع اعادة المعدوم بعينه اما لماهية المعدوم أو للازم الماهية، ولو کان کذلک لزم امتناع وجوده ابتداء أ. واجيب عنه ان الامتناع هنا للوجود لا الماهية ولا لازمها ، هذا أولا، واما ثانيا : فإن المعاد لا يعني اعادة المعدوم بل انتقال من نشأة الي اخري والنشئتان وجوديتان، وليست الأخري ايجاد بعد اعدام .

ص: 172

ص: 173

ص: 174

الفصل الخامس في أنّه لا تکرُّرَ في الوجود

(1)

ص: 175


1- لقد اعتاد الفلاسفة أن يطرحوا هذا المبحث في کبتهم تحت عنوان: «في ان المعدوم لا يُعاد» ويعدّ جزءاً من الأحکام المثبتة للعدم أو المعدوم، وقد استبدل المصنف (رحمه الله) هذا العنوان بآخر کما تلاحظ لکون هذا العنوان الجدير أشد ملائمة للمطالب التي يتناولها الفيلسوف في هذا الباب، ثم أن أصل هذا المطلب يرجع الي ادعاء الفلاسفة أن الشيء إذا انعدم لا يمکن اعادته بعينه، أي لا يمکن اعادة المعدوم بعينه، نعم يمکن ايجاد شيء آخر يشبهه في أکثر خصائصه، ولکن لا يصح أن يقال هذا الوجود عين ذاک المعدوم، وهذا عين ذاک ، وخالفهم في ذلک بعض المتکلمين حيث أجازوا اعادة المعدوم بعينه. ثم أن کثيراً من الفلاسفة صرّحوا في کتبهم بهذا الأمر وهو عدم إمکان اعادة المعدوم واستحالة تکررّه من جديد، واعتبروه أمراً بديهياً في غاية البداهة والضرورة، حتّي أن امام المشکّکين الفخر الرازي - وهو ما لقبه به المرحوم صدر المتألهين لتشکيکه في جميع القواعد الفلسفية ، وألقي الشبهة في کل شيء . أقول اما الفخر الرازي امام المشککين لم يبرح حتي صرّح ببداهة هذا الأمر وعد الشاکّ فيها شاکاً في البديهيات. وإنما حمل جماعة من المتکلمين علي نفي هذا الأمر والقول بخلافه ، أعني القول بامکان اعادة المعدوم، آنهم تصوروا وظنوا أن لازم القول بعدم إمکان إعادة المعدوم هو نفي المعاد ، وان استحالة تکرر المعدوم يستلزم إنکار المعاد و الحشر والنشر الجسمانيين، وذلک أن المعاد الجسماني عبارة عن اعادة المعدوم بعينه، والحق کما سيأتي ان لا علاقة للمعاد بمسألة اعادة المعدوم، وذلک أن الموت ليس عدماً، والميت لا ينعدم، ولا ينعدم الإنسان بالموت بل ينتقل من نشأة الي اخري ومن دار الدنيا إلي دار الآخرة والعقبي وقد وردت في هذا المعني وهذه الحقيقة آيات و روايات يصعب حصرها فلتطلب من مظانّها، إذ حقيقة الإنسان هي روحه وروحه باقية خالدة ستعود الي الجسد من جديد يوم ينفخ في الصور نفخة ثانية. وحتّي يرتفع اللبس و تندفع الشبهة عن المتکلمين بادر الفلاسفة الي البحث عن هذا الأمر، وقد اورد المولي صدر المتألهين من مقدمة في أسفاره حول مسألة اعادة المعدوم وان اعادة المعدوم تعني اعادة الوجود و تکرره، وتکرر الوجود محال، ثم حمل في القول المأثور عن العرفاء وهو انّه «لا تکرار في التجلي» أو «ان الله تعالي لا يتجلّي في صورة مرتين» حمل هذا القول علي معني استحالة تکرر الوجود وهو ما نحن الآن بصدد البحث عنه ، ثم أن العلامة أخذ عنوان هذا الفصل من تلک المقدمة فسمّاه «ان لا تکرّر في الوجود»، واورد مطالب تلک المقدمة بنحو أوضح ممّا هي عليه هناک ، فيقول من بناء اًعلي ما تقدم من قاعدة « الوجود مساوق للتشخُص» لا وجود متشخصاً يحتاج في تشخصّه إلي شيء آخر غيره ، لأن الوجود متشخّصّ بذاته، وإنما الماهيات الکلية هي التي تتشخص في کنف الوجود، وبناء اًعلي هذه القاعدة کلما کان وجود کان تشخُّص، فاذا قلنا ان الموجود وجودان. أحدهما موجود في زمان حتي إذا انتهي هذا الوجود، جاء زمان آخر فظهر وجود جديد لذلک الموجود، مثل زيد موجود في هذا الزمن، ثم ينعدم، وبعد انقضاء هذه الفترة الزمنية يوجد زيد جديد في زمن آخر، وحتي لو افترضنا الوجودين في زمان واحد، لزم کون الموجود ذا وجودين، وهو يستلزم کونه ذا تشخصين، إذ کلما کان الوجود کان الشخص لا يقبلان الانفکاک ، ولو قلنا أن للشيء تشخصين أي انّه شخصان لا شخص واحد، وکونه شخصين اثنين يقتضي کونه موجودين اثنين - أي موجودين بوجودين منفصلين مستقلين - والحال أننا قد افترضناه موجوداً واحداً ذا وجودين، وهو يستلزم التناقض، والحاصل ثبت استحالة کون الموجود الواحد ذا وجودين، بهذا الدليل والبرهان. الدليل الثاني : أنّا لو قلنا أن وجودين اثنين متشابهان من جميع الجهات، لاستلزم من تشابههما من جميع الجهات عدم الامتياز بينهما، ولازم کونهما وجودين أن يکونا متسايرين ولو بواسطة أمر واحد أي يتميزان ولو من جهة واحدة، ولازم تمايزهما کون أحدهما ذا وصف أو خصوصية زائدة عن الآخر وهکذا العکس، ولازم کون کل منهما ذا وصف خاص، عدم کونهما متشابهين من جميع الجهات، ففرض کونهما وجودين متشابهين من جميع الجهات يستلزم التناقض أيضأ، فلا يکون الموجود الواحد ذا وجودين متشابهين من جميع الجهات. هذه مقدمة للفصل الخامس وهو عبارة عن مسألة اعادة المعدوم.

ص: 176

کلّ موجود في الأعيان فإنّ هويته العينّية وجودهُ علي ما تقدّم - من أصالة الوجود - والهويّة العينّية تأبي بذاته الصدق علي کثيرين، وهو التشخصّ، فالشخصيّة للوجود بذاته . فلو فرض لموجوډ وجودان کانت هوّيته العينية الواحدة کثيرةً وهي واحدة ، هذا محال (1)

ص: 177


1- ليس للموجود الواحد اکثر من وجود واحد، وذلک أن (کل موجود في الأعيان) الخارجية ، بناءاً علي أصالة الوجود (فإن هويته العينية عبارة عن وجوده في الخارج (علي ما تقدم) في الفصل الثاني من هذه المرحلة (من أصالة الوجود والهوية العينية تأبي بذاته الصدق علي کثيرين) فالشيء الواحد حقيقةً لا يمکن أن يصدق علي کثيرين، بل لا يقبل الصدق علي شيء، إذ الصدق من أوصاف المفاهيم والهوية العينية نقابل المفهوم، نعم المفهوم يقبل الصدق واما التشخص فلا، (و) عدم القابلية للصدق علي کثيرين وأبائه بذانّه الصدق کذلک (هو التشخص) فالتشخص هو الاباء الذاتي للصدق ولهذا (فالشخصية) والتشخص (للوجود بذاته) والتشخص للوجود ذاتاً ، أي ذاتي للوجود، وحيئية الوجود عين حسينية التشخص، فالتشخص بذاته للوجود، وکل شيء إنما يتشخص بالوجود، وبناءاً علي هذه المقدمة نقول : فلو فرض لموجود وجودان) بأن يکون الموجود متحققاً من جديد ومتکرراًبعد انعدامه، لو فرضنا هذا (کانت هويته العينية الواحدة کثيراً وهي واحدة) أي لازم هذا القول أن تکون الهوية العينية لهذا الواحد أو الهوية العينية الواحدة - کثيراً حال کونه واحداً - حال کونها واحداً- فيکون الشيء الواحد مع حفظ وحدته کثيرة، وهو عبارة عن کون الشيء الواحد حال کونه واحداً أن لا يکون واحداً بل اکثر من شيء، وهو تناقض واجتماع للنقيضين وهذا الاجتماع (محال).

وبمثل البيان يتبيّن استحالة وجود مثلَين من جميع الجهات، لأنّ لازِمَ فرض مثلَين اثنين التمايزُ بينهما بالضرورة، ولازِمَ فرض التماثل من کلَّ جهةٍ عدمُ التمايز بينهما، وفي ذلک أجتماع النقيضين ، هذا محالُ (1)

وبالجملة من الممتنع أن يوجَد موجودُ واحد بأکثر من وجودٍ واحدٍ، سواءُ کان الوجودان - مثلاً - واقعين في زمانٍ واحدٍد من غير تخلّل العدم بينهما أو منفصلين يتخلّل العدم بينهما. فالمحذور - و هو لزوم العينيّة مع فرض الإثنينّية في الصورتين - سواءُ (2)

ص: 178


1- (وبمثل البيان الذي تقدم عن استحالة صدق الهوية العينية علي کثيرين (يتبين استحالة وجود مثلين من جميع الجهات...الخ) وذلک أن التکثر فرع التمايز ، ومع انعدام التمايز يستحيل التکثر والتعدد بل مع عدم الميز يلزم الوحدة المحضة لا الکثرة (ولازم التماثل من کل جهة عدم التمايز بينهما) فيلزم وجود التمايز بينهما وعدم التمايز بينهما في آني وأحدٍ وفي ذلک القول بوجود الميز وعدم وجوده اللازمين للتشخص والصدق علي کثيرين اجتماع النقيضين) و (هذا الاجتماع (محال) بالضرورة.
2- (وبالجملة) يقابله في الجملة ومعني في الجملة کون المسألة اجمالية غير تحقيقية وغير ثابتة علي الدوام کما نقول اجمالاً، أما بالجملة فمعناه التحقيق علي کل حال وهي من القواعد الثابتة (من الممتنع أن يوجد موجود واحد بأکثر من وجود واحد، سواء کان الوجودان - مثلاً - واقعين في زمان واحد من غير تخلل العدم) الزماني (بينهما أو کانا منفصلين) بأن ( يتخلل العدم) الزماني (بينهما، فالمحذور) والفاء هنا للنتيجة، أي النتيجة واحدة علي کل حال، فالمحذور (- وهو لزوم العينية) والتشخص والوحدة (مع فرض الاثنينية في کلا الصور نين) - مع التخلل وعدمه (سواء ) لا فرق بين الصورتين . والحاصل أنه أراد تشبيه مسألة اعادة المعدوم بمسألة اجتماع المثلين وکما أن اجتماع المثلين محال لاقتضائه التناقض بلزوم عدم کون الواحد واحدة رغم وحدته وبعبارة أخري کون الواحد اثنين أو أکثر رغم وحدته، فإنّ اعادة المعدوم محال لنفس السبب والغرضالاثنينية في کلا الصور نين) - مع التخلل وعدمه (سواء ) لا فرق بين الصورتين . والحاصل أنه أراد تشبيه مسألة اعادة المعدوم بمسألة اجتماع المثلين وکما أن اجتماع المثلين محال لاقتضائه التناقض بلزوم عدم کون الواحد واحداً رغم وحدته وبعبارة أخري کون الواحد اثنين أو أکثر رغم وحدته، فإنّ اعادة المعدوم محال لنفس السبب والغرض

والقول ب « أنّ الوجود الثاني متميّزُ من الأوّل بأنّه مسبوقُ بالعدم بعدً الوجود بخلاف الأوّل ، وهذا کافٍ في تصحيح الإثنينيّة ، وغير مضرًّ بالعينّية لأنّه تُميّز بعدم». مردودُ بأنّ العدم بطلانُ محضُ لا کثرةً فيه ولا تميّزَ، وليس فيه ذات متّصفةُ بالعدم يلحقها وجودُ بعد ارتفاع وصفه. فقد تقدم أن ذلک کلّه اعتبارُ عقليُّ بمعونة الوهم الذي يضيف العدم إلي الملکة ، فيتعدد العدم ويتکثّر بتکثّر الملکات. وحقيقة کون الشيء مسبوقَ الوجود بعدمٍ وما ملحوقَ الوجود به - وبالجملة إحاطةُ العدم به من قبلُ ومن بعدُ اختصاصُ وجودِهِ بظرفي من ظروفي الواقع وقصوره عن الإنبساط علي سائر الظروف من الأعيان، لا أنّ للشيء وجوداً واقعّياً في ظرفٍ من ظروفِ الواقع وللعدم تقرّرُ واقع منبسطُ علي سائر الظروف ربّما ورد علي الوجود فدفعه عن مستقرّه واستقرّ هو فيه، فإنّ فيه إعطاء الأصالة للعدم واجتماع النقيضين(1)

ص: 179


1- حاول بعض المتکلمين انکار التشابه بين مسألتي اعادة المعدوم واجتماع المثلين وهو في الواقع نفيُ القاعدة عدم التکرُّر، وذلک هرباً من الوقوع في محذور أهم - علي حدّ زعمهم - وهو لزوم انکار المعاد الجسماني، فحاولوا توجيه ذلک بادّعاء التمايز بين القاعدتين والمسألتين وقالوا: لا مانع من فرض وجودين متشابهين من جميع الجهات رغم کونهما متمايزين في الوقت ذاته ، قالوا: انا نفترض ان وجوداً حصل في ظرف زماني معين ثم انعدم، هذا الوجود الأول مسبوق بعدم زماني، أي لم يکن ثم کان ووجد، لکن عدمه غير مسبوق بالعدم، فوجوده الأول کان موصوفاً بأنه مسبوق بالعدم فقط من غير أن يکون مسبوقاً بعدم، هذا العدم مسبوق بالعدم أيضاً، ثم تمضي فترة زمينة يکون الموجود فيه معدوماً، کما لو کان معدوماً يوم الجمعة، ثم وجد يوم السبت، وانعدم يوم الأحد، ثم عاد للوجود يوم الاثنين، فوجوده يوم الاثنين يختلف عن وجوده يوم السبت، إذ وجوده يوم السبت مسبوق بالعدم فقط، إما وجوده يوم الإثنين مسبوق بالعدم بعد الوجود، فالعدمان مختلفان، أحدهما عدم بعد الوجود والآخر ليس عدماً بعد الوجود، و نقول أن الفرق بين العد مين هو أن العدم الأول لم يکن مسبوقة بالوجود، لکن عدمه الثاني مسبوق بالوجود. وإنما ذهبوا الي هذا القول ليثبتوا أنّه رغم افتراضنا الوجود الواحد وجودين إلّا أننا في الوقت ذاته نجد عينية الوجود و تشخصه ووحدته محفوظة من غير تمايز و اختلاف، اما ما وقع بينهما من التمايز فهو يرجع الي عامل وأمر خارجي، وليس التمايز بذاتهما، إذ الوجود يوم السبت والوجود يوم الأحد، وجود واحد، وما بينهما من التمايز ليس نابعاً من ذاتهما، بل بسبب خارج عن ذاتهما وهو العدمان، فأعدامهما متمايزان مختلفان، إذ الوجود الأول عدمه غير مسبوق بالوجود، لکن الوجود الثاني عدمه مسبوق بوجود آخر، فالتمايز أصالة للأعدام، وإلا فلا فرق بين الوجودين، لأنهما مثلان من جميع الجهات، وبسبب الاختلاف الواقع بين العدمين يحصل تمايز بين الوجودين من غير أن تنثلم عينيتهما. والحاصل أن جواز اعادة المعدوم و تحقق موجود واحد في زمانين، أمر ممکن لا يحول دون وقوعه شيء وذلک أن الوجود الأول يختلف عن الوجود الثاني، فالوجودان متمايزان بعضهما عن بعض، وليس منشأ التمايز بينهما ذاتية هما، أي ليس نابعة من ذواتهما، بل منشأ . التمايز أمر خارجي، فلا منافاة بين تمايز الوجودين وبين عينيتهما وتشخصهما، فالتمايز عائد في الحقيقة الي العدمين أولاً وبالذات ويسري منهما إلي الوجود، فيتعدي العدم ليصل الي الوجود ويفرق ويميز بينهما- أعني بين الوجودين - فهو يميز الوجودين بعضهما عن بعض، فيميز الوجود الثاني عن الوجود الأول رغم کونه عين الوجود الأول، فهما متمايزان الا بالذات حال کونهما متحدين بالذات. واشار الي هذا بقوله ( طيب الله ثراه) : (والقول بأن الوجود الثاني متميز من الأول) والأفضل أن يقول «متميز عن الأول» حتي مع حمل «من» هنا بمعني «عن»، إذ هذا الاستعمال هنا غير مألوف عند أهل اللغة ، وقد أکثر (رحمه الله) من هذا الاستعمال في کتابه ، وهو علي کل حال غير مألوف فانتبه. هذا القول (مردودّ) والجواب عنه واضح بالرجوع إلي ما تقدم في مسألة تمايز الاعدام ، والتأمل فيه ، حيث قلنا أن العدم باطل بذاته هالک لا وجود ولا ثبوت ولا تشخص له ، إلا إذا اضيف إلي الوجود، وحينئذ بسبب ما يحصل له من الاضافة إلي الوجود، يتميز ، وهذا التمايز يکون للوجود بالاصالة وإنما ينسب إلي العدم تجوزاً، فإذا قايسنا عدمين، وقارناً بينهما لا نجد تمايزا بينهما بالأصالة والذات، وإنما يتمايزان من جهة إضافة أحدهما الي وجود ما، فإنه حينئذ يتمايز عن العدم المضاف الي وجود آخر، ثم إنکم افترضتم عدم التمايز بين الوجودين، وان التمايز للعدمين بالأصالة وأولاً وبالذات ، وإنما نسب إلي الوجودين بسبب العدمين لا بذات الوجودين - أي لا باقتضاء الوجودين - وقد أثبتنا کون تميز العدم بسبب الوجود لا العکس، وهذا تمايز وهمي أيضاً، لايصير سبباً لتمايز الوجود حقيقة بواسطة ما ينسب الي العدم، إذ لا ثبوت ولا شيئية للعدم، فکيف يمکن للوجود الحقيقي أن يتمايز بواسطة أمر اعتباري محض ؟؟ وجه المردودية (بأن العدم بطلان محض لاکثرة فيه ولا تميّز ) وکل کثرة و تمايز بلحظ فيهما، إنما تکون بواسطة الوجود لا بذات العدم فالتمايز للوجود أولاً وبالذات وينسب الي العدم ثانية وبالعرض، لکنهم توهموا أن للعدم نوع وجود و تشخص، وان للمعدوم ذاتا متصفة بالعدم، فيتم سلب صفة العدم من تلک الذات - أو نفقد تلک الذات صفة العدم - لتلبس ثوب الوجود و تتصف به في الايجاد الثاني وهکذا الثالث والرابع ...الخ (و) الحال أنه ليس فيه) أي في العدم (ذات متصفة بالعدم يلحقها وجود بعد ارتفاع وصفه) أي وصف العدم، فهو ليس عبارة عن شيء اسمه الذات وشيء آخر اسمه العدم، وقد اتصف الذات بذلک العدم، ثم فقد اتصافه بالعدمية، ليتصف بالوجود (فقد تقدم في الفصل السابق (ان ذلک) أي فرض الثبوت للعدم (کله اعتبار عقلي) محض (بمعونة الوهم الذي يضيف العدم الي الملکة) وذلک أن الوهم يضيف العدم الي آمور وجودية والي ذوات موجودة، فيعتبر العقل أن هذا الموجود معدوم فيتعدد العدم ويتکثر بتکثر الملکات والوجودات فيتصور العقل ويعتبر الموجود معدومة مرة بعد اخري فيتعدد العدم علي هذا الأساس ويتکثر بتکثر الوجودات المعتبرة بالعقل باستعانة من الوهم، وليس للاعتبار حد فلکل معتبر ان يعتبر ما يشاء، إذ فرض المحال ليس بمحال . وحقيقة کون الشيء مسبوق الوجود بعدم، وملحوق الوجود به) أي بعدم (وبالجملة) والحاصل أن (احاطة العدم به ) أي بوجود شيء (من قبل و من بعد) عبارة عن (اختصاص وجوده) أي وجود ذلک الشيء بزمن خاص (و بظرف زماني (من ظروف الواقع و) عبارة أيضا عن (قصوره) أي قصور ذلک الشيء - قصور وجود ذلک الشيء- (عن الانبساط علي سائر الظروف من الأعيان) فلا يسع لسائر الأزمنة وقادر عن بسط حدوده والاشتمال علي سائر الأزمنة فإن وجود شيء في مدة معينة وفترة محدوده ، مثل وجود زبد من عام 1000 ه الي عام 1080 ه، يعني أن وجوده محدود في دائرة هذه الاعوام الثمانين ومختص بها، وليس له انبساط أکبر من هذا الحد المعين ليتسع أکثر من هذه الفترة فلا يشمل قبل هذه الفترة ولا بعدها، (لا أن للشيء) الواحد (وجوداًواقعياً في ظرفٍ )زماني (من ظروف الواقع) وأيضاً (للعدم تقرُّر) و ثبوت (واقع منبسط علي سائر الظروف) فيکون لکل ذات وجود و عدم شامل لسائر الأزمنة (ربّما ورد) هذا العدم (علي الوجود فدفعه عن مستقره) و محلّه الخاص به (واستقرّ هو) أي العدم (فيه) أي في زمان استقراره، (فإن) والفاء للسببية أي السبب أن فيه) أي بناء علي هذا يرد اشکال هام وهو (اعطاء الاصالة) حينئذ (للعدم) وأن له نحو ثبوت (و) هو محال، لأنه (اجتماع النقيضين) إذ العدم والثبوت - الوجود - متناقضان فلا يمکن اجتماعهما في شيء واحد في آن واحد بکيفية واحدة.

ص: 180

ص: 181

والحاصل أن تميُّزُ الوجود الثاني تميز وهميُّ لايوجب تميّزاً حقيقيّاً. ولو

أوجَبَ ذلک أوجَبَ البينونة بين الوجودين وبطلت العينيّة(1)

والقولُ ب «انّه لِمَ لا يجوز أن يوجِد الموجد شيئاً ، ثمّ يعدم وله بشخصه صورةُ علميّةُ عنده أو عند بعض المباديء العالية، ثم يوجد ثانياً علي ما علم، فيستحفظ الوحدة والعينّية بين الوجودين بالصورة العلمية ؟» يدفعُه أنّ الوجود الثاني کيفما فُرِضَ وجودُ بعد وجودٍ، وغيريّته وبينونته للوجود الأول بما أنه بعدَه ضروريُّ، ولا تجتمع العينيّة والغيريّة البتّة (2)

ص: 182


1- (والحاصل) المستفاد (ان تميز الوجود الثاني) عن الوجود الأول بعد العدم (تميزُ وهمُي) يعتبره العقل ليس إلا و(لا يوجب هذا التميز الوهمي ( تميزاً حقيقياً) للوجود الثاني عن الوجود الاول کولو اوجب ذلک) بأن سلمنا وتنزلنا وقبلنا الدعوي بکون التميز الثاني حقيقياً لا اعتبارياً (أوجب البينونة) فإن هذا التميز الحقيقي يوجب الانفکاک والبينونة (بين الوجودين) الاول والثاني (وبطلت العينية) التي زعمها القوم، فلا يکون الوجود. الثاني عين الوجود الأول، والا وقع محذور اجتماع النقيضين أيضاً، فانتبه.
2- (والقول) وهو قول جماعة علي عکس القول الأول وذلک بملاحظة الاتنينية للوجود الأول والوجود الثاني بالذات و تبرير وحدتهما - اتحادهما بسبب عامل خارجي، وحاصله أن لکل منهما ذات و وجود مستقلٍ لکنهما يتحدان بسبب عامل خارجي، فالقول (بأنه لِمَ لا يجوز أن يوجد الموجد شيئاً ، ثم يعدم ... الخ) فأراد هؤلاء نفي القول السابق ونفي القاعدة واثبات المدعي لکن بوجه آخر، وذلک با ثبات اجتماع المثلين أو الوجودين بنحو آخر، إذ حاول أصحاب القول الأول اثبات المدعي بالاعتماد علي العينية وان للوجودين عينية واحدة وإنما التمايز بينهما بسبب أمر خارجي لابذاتهما والأمر الخارجي هو العدم الذي في کل منهما، واما اصحاب هذا القول فانّهم يحاولون اثبات نفس المدعي خلافاً لاولئک بافتراض تعدد الوجودين ، فقالوا: نعم هذا الوجود غير ذاک الوجود أي ان بينهما تمايزاً واثنينية بذاتهما، وإنما عينيتهما حاصلة بسبب أمر خارجي هو الصورة العلمية التي لهما عند ذات الباري تبارک وتعالي علي سبيل المثال في عالم من العوالم، فالوجود الذي وجد في زمان ما صورته العلمية موجودة لدي ذات الواجب جل وعلا، والواجب تعالي يوجد ذاک الموجود بنفسه طبقأ للصور العلمية التي عنده تعالي من ذلک الموجود في زمن آخر، فهو هو ليس إلا، أي نفس تلک الصورة العلمية تنطبق علي هذا الموجود الثاني أيضاً. وبعبارة أُخري : فإن الوجود الأول حين کونه موجوداً ، کانت له صورة علمية لدي الواجب تبارک وتعالي، وتلک الصورة کانت تعکس هذا الموجود بعينه، ثم أن الواجب تعالي طبقا لما لديه من الصورة العلمية لذاک الموجود ، خلق وأوجد موجوداً تنطبق عليه نفس تلک الصورة، وأرادوا بقولهم الوجودان متشابهان من جميع الجهات وان احدهما عين الآخر، أن لهما صورة علمية واحدة عند الواجب تعالي، وإنما يتحدان بسبب تلک الصورة العلميةِ . فلم لا يجوز أن يوجد الموجد وهو الواجب تبارک وتعالي شيئاً ، (ثم يعدم) ذلک الشيء وله) أي لذلک المعدوم (صورة علمية عنده) أي عند الواجب تعالي (أو عند بعض المباديء العالية) کاللوح المحفوظ أو علمه تبارک وتعالي (ثم يوجد ذلک المعدوم (ثانياً علي) نفس (ما علم) قبل إنعدامه وزواله (فيستحفظ الوحدة والعينية بين الوجودين بالصورة العلمية التي عند الواجب تبارک وتعالي. (يدفعه) أي يدفع هذا القول (أن الوجود الثاني... الخ) لأن الوحدة التي في الصورة العلمية صفة حقيقية لتلک الصورة العلمية، فالصورة العلمية واحدة وهي لا تصير سبباً لوحدة متعلقاتها التي تنطبق عليها هذه الصفة للصورة العلمية بالأصالة، ومجرد انطباق هذه الصورة العلمية علي شيئين مختلفين ، لا يکون سبباً لتمايز وجودهما، بأن يتحد وجودهما ، فيصبحان شيئاً واحداً، نعم يمکن فرض ماهية واحدة تطبق علي فردين مثلاً، کالإنسان الذي يصدق علي زيد وعمرو في آني واحد، فهذه صورة علمية عقلية، ولا يستلزم منها وحدة وجود زبد وعمرو، بل لازم ذلک إتحاد ماهيتهما بالوحدة الماهوية التي هي من سنخ الوحدة الکلية، والکلام ليس عن هذا، بل هو في اتحاد وجودين بوجود واحد. والحاصل أن الوجود الثاني کيفما فرض وجود تابع لوجود آخر ولاحق له ، ولما کان کذلک لزم کوند مغايرة له علي کل حال ولما کان مغاير له ، استحال أن يکون نفسه وعينه - ولا يکون هو بعينه - لأن الغيرية والعينية أمران متقابلان والمتقابلان لا يجتمعان.

وهذا الذي تقرّر - من استحالة تکرر الوجود لشيء مع تخلّل العدم - هو المراد بقولهم: «إنّ إعادة المعدوم بعينه ممتنعة». وقد عدّ الشيخ امتناع إعادة المعدوم

ص: 183

بعينه ضروريّاً(1).

وقد أقاموا علي ذلک حججاً هي تنبيهات بناءً علي ضروريّة المسألة :

ومنها : أنّه لو جاز للموجود في زمان أن ينعدم زماناً، ثمّ يوجَد بعينه في زمانٍ آخر، لَزَمَ تخلل العدم بين الشيء ونفسه، وهو محالّ، لاستلزامه وجود الشيء في زمانين بينهما عدمُ متخلّل (2)

ومنها : أنّه لو جازت إعادة الشيء بعينه بعد انعدامه جاز إيجاد ما يماثله من جميع الوجوه ابتداء ، وهو محالّ . أمّا الملازمة : فلأن الشيء المعاد بعينه وما يماثله من جميع الوجوه مثلان، وحکم الأمثال فيما يجوز وفيما لا يجوز واحدُ. فلو جاز إيجاده بعينه ثانياً بنحو الأعادة جاز إيجاد مسئله ابتداءً. وأمّا استحالة اللازم : فلاستلزام اجتماع المثلين في الوجود عدَمَ التميّز بينهما، وهما إثنان متمايزان (3).

ص: 184


1- (وهذا الذي تقرر) بالبرهان السابق (- من استحالة تکرر الوجود لشيء مع تخلل العدم -) وان وجود شيء واحد لا يقبل التکرار، فلا يمکن للشيء الواحد أن يکون ذا وجودين سواء مع تخلّل العدم أي في زمانين مختلفين، أو بدون تخلّله أعني في زمان واحد، هذا هو المراد بقولهم) أي الفلاسفة (ان اعادة المعدوم بعينه ممتنعة) فإن القصد من هذه القاعدة هو استحالة أن يکون للشيء الواحد وجودان في زمانين مختلفين - وحتي في زماني واحد۔ وهذه مسألة غاية في الوضوح لبداهتها (وقد عدّ الشيخ الرئيس المرحوم ابن سينا هذه المسألة وهي (امتناع اعادة المعدوم بعيند ضرورياً) من ضرورات العقل لا تحتاج الي الدليل والبرهان کما في الفصل الخامس من المقالة الأولي من الهيات الشفاء والحاصل أن الحکماء اجمعوا علي امتناع اعادة المعدوم بعينه واستحالة تکرر الوجود الشيء مع تخلل العدم، وتبعهم في ذلک بعض المتکلمين وبعض الکرامية وبعض المعتزلة دون مشايخهم، فإنهم کالأشاعرة في جواز اعادة المعدوم بعينه.
2- بعض الأدلة : قوله (ومنها: ...) إلي قوله (لاستلزامه وجود الشيء في زمانين بينهما عدم متخلّل) الذي يستلزم تقدم الشيء علي نفسه تقدماً زمانياً وهو محال لعدم الفرق بين نقدم الشيء علي نفسه زماناً وتقدمه علي نفسه ذات ، فالتقدم الذاتي والتقدم الزماني للشيء علي نفسه محال وعلي حدّ سواء.
3- وحاصل الدليل الثاني : (ومنها.........الخ) أي من الأدلة (أنه لو جازت اعادة الشيء بعينه بعد انعدامه) هذه المقدمة الأولي (جاز ايجاد ما يماثله من جميع الوجوه ابتداءاً ) وهذه المقدمة الثانية ، (وهو) أي ايجاد ما يماثله الخ... محال)، فما وجه الملازمة بين المقدمتين وبين المطلبين ؟ (اما الملازمة....الخ) وذلک أن المعاد والمماثل مثلان وهناک قاعدة تقول: (حکم الأمثال فيما يجوز وفيما لا يجوز واحد... الخ) فکل ما يجوز لّأحدهما لزم أن يجوز للآخر، وکل ما أستحال لأحدهما لزم أن يستحيل للآخر، والحاصل أنه لو جاز ايجاد المعاد واعادة الشيء بعينه، جاز وامکن ايجاد مماثل الشيء ابتداءاً . لا إعادة – أيضاً، لعدم الفرق بين المعاد والمماثل حينئذ. لعل سالاً يسأل : وما المانع من ذلک کله ؟ أنا لا نمنع الأمرين بل نقول بامکانّهما، فکما يجوز اعادة المعدوم بعينه ، يجوز إيجاد مماثله ، ولا نري وجهاً لاستحالة إيجاد المماثل ولا مانعاً من ذلک، بل ايجاد المماثل إبتداءاً الذي هو لازم جواز اعادة المعدوم ممکن لا يمنع من وقوعه شيء، وإلا فما وجاء استحالة اللازم ؟ الجواب : ( وإما استحالة اللازم: فلاستلزام) جواز ايجاد الممائل و (اجتماع المثلين في الوجود) هذا الأمر يستلزم (عدم التميز بينهما) أي بين المثلين کيف يکونان اثنين مع عدم الميز بينهما، وکيف تجتمع الوحدة والاثنينية في آني واحد، کيف يکونان مثلين متشابهين من جميع الوجوه (وهما إثنان متمايزان) ؟! أليس هذا يستلزم إجتماع النقيضين أي التماثل والتمايز والوحدة والتعدد، والتشابه والاختلاف، بخلاف السابق الذي کان محذوره عبارة عن اجتماع المثلين ؟!

ومنها : أنّ إعادة المعدوم بعينه توجب کون المُعاد هو المبتدأ ، لأنّ فرض العينية يوجب کون المُعاد هو المبتدأ ذاتاً وفي جميع الخصوصّيات المشخصّة حتي الزمان ، فيعود المُعاد مبتدأً وحيثيّة الإعادة عين حيثية الابتداء (1)

ومنها: أنّه لو جازت الإعادة لم يکن عدد العَود بالغ حدّاً معيّناً يقف عليه ، إذ لا فرق بين العودة الُأولي والثانية والثالثة وهکذا إلي ما لا نهاية له. کما لم يکن فرق بين المُعاد و المبتدأ ، و تعيّن العدد من لوازم وجود الشيء المتشخصّ (2)

ص: 185


1- (ومنها.....الخ) وهو أشکال اعادة المعاد مبتدء وکونه هو هو بعينه ، ( فيعود المعاد مبتدءاً ) وبينهما تباين، (و) هکذا تعود (حيثية الإعادة عين حيثية الابتداء) والحال أن الحيثيتين متباينتان، وحيثية الابتداء تقابل حيثية الاعادة.
2- (ومنها...... الخ) وحاصله اننا بناء علي هذا لو وجدنا شيئاً معاداً لا نقدر علي تحديده و تعيين عدده أهو المعاد الأول أو الثاني أو الثالث أو العاشر أو الألف، وهکذا، لکونها متشابهة من جميع الوجوه، والشيء ما لم يتشخص لم يوجد، وکيف يکون متشخصاً، ما هو مبهمّ من جهة العدد؟! (و) الحال ان تعين العدد من لوازم وجود الشيء المتشخص).

وذهب جمعُ من المتکلّمين - نظراً إلي أنّ المَعاد الذي نطقَت به الشرائع الحقة إعادةُ للمعدوم - إلي جواز الإعادة. واستدلّوا عليه بأنه لو امتنَعت إعادة المعدوم بعينه لکان ذلک إما لماهيّته أو لأمر لازم لماهيته ، ولو کان کذلک لم يوجد ابتداءً ، أو الأمرٍ مفارق فيزول الامتناع بزواله (1).

ورُدَّ بأنّ الإمتناع لأمرٍ لازم لوجوده لا لماهيّته(2)

وأما ما نطقَت به الشرائع الحقّة فالحشر والمعاد إنتقالُ من نشأة إلي نشأة

أخري وليس إيجاداً بعد الإعدام.

ص: 186


1- (وذهب جمع غفير بل جمهور (من المتکلمين) کما في الجزء الأول من الأسفار ومنهم التفتازاني ، ذهبوا جميعا الي جواز إعادة المعدوم بعينه وذلک نظرا إلي أن المعاد... الخ)، واستدلوا عليه) أي علي حد زعمهم هذا، (بأنه لو امتنعت اعادة المعدوم بعينه لکان) هذا الامتناع منحصرة في اسباب ثلاثة لا رابع لها و(ذلک) الامتناع اما ان يکون الماهيّته) أي الماهية الممتنع وان ماهيته تقتضي الامتناع، (أو لأمر لازم لماهيّته) هذان سيبان ذاتيان (ولو کان کذلک ) أي لماهيته أو للازم ماهيته (لم يوجد ابتداء) لأن الماهية ولازمها غير قابلة للانفکاک عن الشيء، لکونهما ذا تبين للشيء، (او لأمر مفارق) خارج من ذاته منفک عنه وهو الأمر والسبب الثالث وهو غير ذاتي للشيء، فلو کان سبب امتناع اعادة الشيء أمراً خارجة عن ذات الشيء عارضاً له (فيزول الامتناع) الحاصل للاعادة (بزواله) أي بزوال المانع الخارجي، لأن المانع الخارجي عرضي قابل للزوال
2- (ورُد) هذا المدعي کما في الأسفار (بأن الامتناع الخ...) وحاصله ان حصر الموانع والاسباب التي بها يمتنع اعادة المعدوم، في الأمور والاسباب الثلاثة الآنفة ، باطل وخطاً محض لأن هناک سبباً رابعاً هو کون (الامتناع الأمر لازم لوجوده لا لماهيته) لمزيد من المعلومات انظر شرح التجريد، إذ مع اعادة الشيء، کان الوجود الثاني للمعاد عين وجوده الأول، فالمعاد عين المبتدأ، وکذلک کان المعاد مغايرة للمبتدأ، إذ الوجود الثاني غير الوجود الأول، وهو عبارة عن اجتماع النقيضين، فالوجود الثاني محال فضلا عن الوجودات الاکثر والأعلي، کالثالث والعاشر والألف وهکذا.نقرأ في هذا الفصل : 1- ينقسم الوجود الي المستقل والرابط . 2 - الوجود المستقل يسمي محمولية ونفسية أيضا. 3- الوجود المستقل هو الوجود في نفسه والثاني هو الوجود في غيره . 4- يلزم من صدق القضايا ومطابقتها للخارج أن يکون للربّط ما بازاء خارجي أيضا وهو المسمي بالوجود المرابطين 5- لما کان الوجود الرابط قائمة بالطرفين - بطرفيه - فلو کان طرفاه موجودين ذهنيين، کان ظرف تحقق الوجود الرابط هو الذهن. 6- ولو کان طرفاه موجودين في الخارج، کان ظرف وجود الرابط هو الخارج. 7- تحقق الوجود الرابط ، يوجب نحو اتحاد وجودي بين الطرفين. 8- لا رابط للقضايا الحملية بالحمل الأولي، ولا للهليات البسيطة لأنه لا معني لوجود الرابط و تحقق النسبة بين الشيء ونفسه. 9- لا معنا لتحقق الرابط العدمي، لأن العدم بطلان محض، ولا معني لقيام عدمي بعد مين أو قيامه بوجود و عدم 10- لا رابط للقضايا السالبة إلا باعتبار الذهن . 11- لا ماهية للوجودات الرابطة ، إذ ليس لها مفهوم مستقل ..

المرحلة الثانية

في الوجود المستقلّ والرابط

وفيها ثلاثة فصول

ص: 187

ص: 188

المرحلة الثانیة في الوجود المستقل و الرابط

الفصل الأول في انقسام الوجود إلي المستقل والرابط

(1)

ص: 189


1- هذا التقسيم تارة يکون عن حقيقة الوجود، وتارة أخري عن مفهوم الوجود، أما عن مفهوم الوجود، فإنا حين نقول انّه وجود رابط أو وجود محمولي، في الواقع هو تقسيم منطقي اللمفهوم، وهو ما يقال تارة أنه مفاد کان التامة ، ومفاد کان الناقصة، أو باصطلاح بعض المتکلمين انّه وجود مطلق، أو وجود مقيد ، الوجود المطلق هو مفاد کان التامة، والوجود المقيد مفاد کان الناقصة، وبعبارة أخري: هناک نوعان من القضايا الهلية ، هي الهلية البسيطة والهلية المرکبة ، فإن في الهلية البسيطة يکون المحمول هو الوجود فنقول مثلا «الإنسان موجود»، ونکون قد نسبنا الوجود الي الماهية نفسها ، بمعني أن ماهية الإنسان موجودة ، وتارة لا نقول هو موجود بل نريد اثبات شيء له، کأن نقول «الانسان ضاحک» فانا نريد اثبات الضحک للانسان، وهذه هي الهلية المرکبة، في الهلية المرکبة هناک مفهومان کل منهما يحکي عن شيء خارجي، فالانسان يحکي عن شيء خارجي، والضحک يحکي عن عرض خارجي ثم نتزع من الضحک مفهوماً انتزاعياً مشتقاً يحمل علي الإنسان بحمل هو هو، أو بنحو حمل ذو هو نقول الإنسان له الضحک، أو الإنسان ذو ضح، فالإنسان يحکي الإنسان الخارجي وضحکه حال عن ضحک خارجي، لکن هنا شيئاً آخر حا عن اتحاد المحمول مع الموضوع، أعني ان هذين المفهومين لهما مصداق خارجي برتبطان بأداة ربّط بين المحمول والموضوع بنوع من المفهوم، من غير أن يکون مفهوماً مستقلاً، بل هو مفهوم رابط من قبيل المعاني الحرفية، والاحرف والأفعال المساعدة في اللغة الانجليزية مثل (is) و (has) و (have) وما أشبه ، وقد يقال له وجود رابطي کما هو المتداول عند المتقدمين ، فإذا قلنا هذا الوجود اما رابطي - رابط - أو وجود محمولي ، انما نريد به أن الوجود قد يستعمل في القضية بوجهين، احدهما يدل علي الکون التام، مثل «الإنسان موجود» هذا الوجود وقع محمولاً أي له معني مستقل، ويمکن تصوره مستقلاً وادرا که باستقلال، والآخر هو الوجود الرابط بين مفهومين مستقلين ، وهو الکون الناقص، أو الوجود الرابط ، مثل «کان زيد ضاحکاً»، وقد قال المولي صدر المتألهين (قده) آن اطلاق الوجود علي هذين النوعين من الوجود بنحو من الاشتراک اللفظي أو الاشتراک العرفي، أي أن اطلاق الوجود عليهما لا يراد به الوجود بمعني واحد بل بمعني الوجود الرابط وهو المعني الحرفي، والمعني المحمولي في الهليات البسيطة، فهو ذو معني مستقل، ليس بين المستقل والرابط جهة مشترکاً لأنهما سنخان من المفاهيم، ثم ان المحشين علي کلام صدر المتألهين اختلفوا في توجيه کلام المولي صدرا واصراره هناک علي أن مفهوم الوجود مشترک معنوي لا لفظي ، وادعائه هنا بکونه مشترکاً لفظياً، والحق أنه أراد هناک الوجود المحمولي علي انّه مشترک معنوي ، والبحث عن الاشتراک اللفظي أو المعنوي للوجود محله الوجود المحمولي، واما استعمال الوجود أحيانا بمعني الرابط فهو اصطلاح منطقي خارج عن نطاق المباحث الفلسفية ، والحق مع المرحوم صدر المتألهين أن الاشتراک هنا لفظي. ومما وقع الخلط فيه بين المسائل الفلسفية والمنطقية هو قولهم ان الوجود الذي يقع في الهلية البسيطة بقولنا «الانسان موجود»، حا عن وجود خارجي، فالوجود الخارجي المحکي عن مفهوم «موجود» يکون وجود اًمحمولياً ، والحال أن الاصطلاح لا يناسبه، إذ الحقيقة لا تقع محمولاً، بل ينبغي التعبير عنها بالمستقل أو الوجود النفسي، وقد يستعمل اطلاق محمولي له وهو انّه المحکي عن المحمول الذي يستعمل في الهلية البسيطة ، وذاک الوجود، وجود محمولي في الهلية البسيطة باعتبار أنه مفهوم يقع في المحمول ، قالوا بما انّه يحکي ذاک، فإن وجوده محمولي، وهذا خلط بين الاصطلاح المنطقي والاصطلاح الفلسفي، والطامة أنهم أرادوا باثبات الوجود الرابط في القضية - وهو مفهوم حرفي -، اثبات وجود رابط في الخارج أيضاً ، ونفس هذا المطلب - أعني وجود الرابط في القضية - اعتبرود دليلا علي أن في متن الوجود الخارجي، نوع وجود هو الوجود الرابط وهو خلط بين المصطلحين ، ولو أدرکنا أن الوجود الرابطي المستعمل في القضية عبارة عن شيء آخر ، الانتقي هذا الزعم الباطل وارتفع اللبس، وحتي علي فرض ثبوت الوجود الرابط في الخارج فليس يصح الاستدلال عليه بهذا، ثم أن صدر المتألهين و عبّر عن رابط القضايا، بالرابط ، وعن الوجود الرابطي الخارجي، بالوجود الرابطي، وذلک لدفع وازالة هذا الخلط وإنما حمله علي ذلک توجيهات استاذه المرحوم المير الداماد في کتابه «الافق المبين». . إذن هناک ثلاثة أنواع من الوجودات الرابطية، أحدها الرابط في القضايا، والثاني الوجود الرابطي المصطلح لدي کافة الفلاسفة کوجود الأعراض بالنسبة الي الجواهر، وقد يقال له الوجود الناعت أيضاً وهو الوجود للغير، وأطلق عليه الوجود الرابطي، ويطلق علي الرابط في القضايا بالوجود الرابط بالاصطلاح المنطقي، وهناک وجود رابط بالاصطلاح الفلسفي، هو وجود المعلول بالنسبة الي علته المفيضة، فهناک ثلاثة أنواع من الوجود الرابط أو الرابطي، اطلق علي نوعين منها الوجود الرابط أحدهما الرابط في القضايا والآخر وجود العلة بالنسبة الي المعلول الذي اعتبروه رابطاً ، والثالث هو الوجود الرابطي الذي للغير کوجود الاعراض للجواهر وما أورده المصنّف : هنا بمقتضي المقام ينبغي أن يکون عن حقيقة الوجود، حيث اننا نريد أن نقسم الوجود الخارجي إلي الوجود المستقل والوجود الرابط ، فما المراد من الوجود الرابط ؟ المراد من الوجود الرابط ، الوجود الذي لا استقلالية له بذاته بل متقوم بعلته، ويستثني من ذلک وجود الواجب تبارک وتعالي، لأنه غير معلول لشيء فهو مستقل بتمام الذات والمعني، بل کل الأشياء بالنسبة اليه رابطة من غير أن يکون رابطا بالنسبة الي شيء - سبحانّه و تعالي علواً کبيراً -

ص: 190

ينقسم الموجود إلي ما وجوده في نفسه ونسمّيه : «الوجود المستقلّ والمحموليّ» أو «النفسي»، وما وجوده في غيره ونسمّية : «الوجود الرابط». وذلک أنّ هناک قضايا خارجيّةً تنطبق بموضوعاتها ومحمولاتها علي الخارج، کقولنا :

ص: 191

«زيد قائم» و «الإنسان ضاحک» مثلاً ، وأيضاً مرکّبات تقييديّةً مأخوذة من هذه القضايا ، کقيام زيد وضحک الإنسان، نجد فيها بين أطرافها - من الأمر الذي نسميه نسبه وربّطة - ما لا نجده في الموضوع وحده ولا في المحمول وحده ولا بين الموضوع وغير المحمول ولا بين المحمول وغير الموضوع، فهناک أمر موجود وراءَ الموضوع والمحمول(1)

وليس منفصلَ الات عن الطرفَين بحيث يکون ثالثَهما ومفارقاً لهما کمفارقة أحدهما الآخر، وإلا احتاج إلي رابطٍ يربطه بالموضوع ورابط آخر يربّطه بالمحمول، فکان المفروضُ ثلاثة خمسةً، واحتاج الخمسة إلي أربّعة روابط أخَر وصارت تسعةً وهلمّ جرّاً ، فتسلسل أجزاء القضية أو المرکّب إلي غير النهاية ، وهي محصورة بين حاصَرين، هذا محالُ. فهو إذن موجودُ في الطرفَين قائمُ بهما، بمعني ما ليس بخارج منهما من غير أن يکون عينَهما أو جزء َهما أو عينَ أحدهما أو جزءه، ولا أن ينفصل منهما ؛ والطرفان اللذان وجوده فيهما هما بخلافه. فثبت أنّ من الموجود ما وجوده في نفسه وهو «المستقلّ»، ومنه ما وجوده في غيره وهو

الرابط » (2)

ص: 192


1- قوله . (وذلک) أي الدليل علي هذه التقسيمة الثنائية أو الثلاثية للوجود بهذا الاعتبار ان هناک قضايا خارجية تنطبق بموضوعاتها ومحمولاتها علي الخارج) أي أن الموضوعاتها و محمولاتها مصاديق خارجية. قوله : (کقيام زيد وضحک الإنسان) فانّها تحتوي علي الموضوع والمحمول والمضاف والمضافي إليه ، واضف الي ذلک أنا (نجد فيها) أي في هذه القضايا والمرکبات الخارجية المأخوذة والمنتزعة من القضايا الخارجية، فنجد فيها و(بين أطرافها - من الأمر الذي نسميه نسبةً وربّطاً - ما لا نجده....... الخ) وهذا الأمر الموجود وراء الموضوع والمحمول، مثلاً في قولنا: «زيد قائم» هناک شيء آخر وراء زيد وقائم، وهو ربّط القيام بزيد، قائم بالموضوع وهو زيد وبالقيام وهو المحمول.
2- (و) رغم وجود هذا الرابط مع الموضوع والمحمول وفي کنفهما وبهما نجده اليس منفصل الذات عن الطرفين بحيث يکون شيئاً آخر اجنبياً مستقلاً الي جانبهما ويعد ( ثالثهما ومفارقاً لهما کمفارقة أحدهما) أي أحد الموضوع والمحمول (الآخر) فإن المحمول مستقل عن الموضوع وهکذا العکس لکل منهما وجود بذاته (والا) إذا کان وجود، ثالثا مستقلاً مفارقاً للموضوع والمحمول (احتاج الي رابط يربّطه بالموضوع و رابط آخر يربّطه بالمحمول، فکان المفروض) کونه ( ثلاثة) اعني مکوناً و مؤلفاً من الموضوع والمحمول والرابط ، أصبح بهذا الاعتبار (خمسة) ولو کان کذلک حيث أعتبر الرابط وجوداً مستقلاً، کان الخمسة وهي الموضوع والمحمول والرابط ، و رابط ثاني يربّط بين الرابط الاول و الموضوع ورابط ثالث يربّط بين الأول والمحمول، حصل لدينا خمسة وجودات مستقلة ، وهي بحاجة الي أدوات ربّط تربّط بينها (واحتاج الخمسة الي أربّعة روابط أخُر) تربّط بين الموضوع والرابط الثاني، والموضوع والرابط الثالث - کما تربّط بين المحمول والرابط الثاني والمحمول والرابط الثالث فرأبط ربّط بين الموضوع والربّط الثاني و رابط ربّط بين الموضوع والرابط الثالث و رابط ربّط بين المحمول والرابط الثاني، ورابط ربّط بين المحمول والرابط الثالث، ولما کان الرابط مستقلا فهذه اربّع وجودات مستقلة إلي جانب خمسة کانت من قبل (وصارت) من حيث المجموع (تسعةً، وهلمّ جرّا) إذ تسعة وجودات مستقلة تحتاج إلي سبعة روابط وهکذا يستمر الأمر إلي ما لا نهاية. والحاصل أنا لو افترضنا للرابط مفهوماً مستقلاً صارت لدينا ثلاثة مفاهيم مستقلة هي الإنسان والضاحک والرابط ، والقضية لا تتألف الا من الموضوع والمحمول والرابط بينهما، يکون واسطة بينها، فاذا کان الرابط مفهوماً مستقلاً لا يمکن تأليف قضية منها الا بواسطة رابطين يربّط بين الموضوع والرابط من جهة وبين المحمول والرابط من جهة أخري، ولو کانت الوسائط مفاهيم مستقلة أيضاً، صار المجموع خمسة مفاهيم مستقلة، لا يمکن تأليف القضية منها الا بروابط ووسائط اربّعة ، ولو کانت هذه الوسائط والروابط مستقلة أيضاً کما في الفرض، جري فيها الکلام کما في سابقتها، وهکذا الي ما لا نهاية. تحصل من ذلک أن کل مفهومين لکي تتألف منهما قضية واحدة، لابد من وجود رابط غير مستقل مندک فيهما قائم بهما، يربّط بينهما، وإلا فتحتاج الي روابط إلي ما لا نهاية (فيتسلسل) بذلک (اجزاء القضية أو المرکب الي غير النهاية) ويلزم منه التسلسل في أجزاء القضية، والتسلسل ممتنع محال، بينما يجب أن تکون اجزاء القضية محصورة محدودة ، وکيف لا نهاية لها (وهي) أي اجزاء القضية يجب أن تکون (محصورة بين حاصرين) و محدودة بين حدين حد الابتداء وحد الانتهاء، فإن هذا الادعاء وهو التسلسل في أجزاءالقضية أمر ممتنع (محال).

ص: 193

وقد ظهر ممّا تقدم أنّ معني توسط النسبة بين الطرفَين کونُ وجودِها قائماً

بالطرفين رابطاً بينهما.

ويتفرّع عليه أُمور:

الأوّل : أن الوعاء الذي يتحقّق فيه الوجود الرابط هو الوعاء الذي يتحقّق فيه وجود طرفَيه ، سواءُ کان الوعاء المذکور هو الخارج أو الذهن ؛ وذلک لما في طباع الوجود الرابط من کونه غير خارج من وجود طرفَيه ؛ فوعاء وجود کلّ منهما هو بعينه وعاء وجوده ، فالنسبة الخارجيّة إنّما تتحقّق بين طرفَين خارجييَّن، والنسبة الذهنّية إنّما بين طرفَين ذهنَّيين . والضابط أن وجود الطرفَين مسانخ لوجود النسبة الدائرة بينهما وبالعکس (1)

الثاني: أنّ تحقُّقَ الوجود الرابط بين الطرفين يوجب نحواً من الاتّحاد

ص: 194


1- (ويتفرع عليه) أي علي انقسام الوجود الي المستقل والرابط وان معني توسط النسبة بينهما کون وجودها قائمة بهما رابطة بينهما (أمور): (الأول) وحاصله انّه لو کانت هذه القضية حاکية عن ثبوت أمر ذهني لأمر ذهني آخر، الزم کون الرابط فيها ذهنية أيضا، وان کانت حاکية عن محمول خارجي لموضوع خارجي، فالرابط يحکي عن الرابطة والعلقة الخارجية بينهما، وأما قوله : (والضابط) والقاعدة الکلية ان وجود الطرفين) أي الموضوع والمحمول (مسانخ) ومماثل (لوجود النسبة الدائرة بينهما) أي لوجود الرابط الذي بين الموضوع والمحمول (و) هکذا (بالعکس) فإن وجود النسبة مسانخ أيضاً لوجود طرفيها، أعني أن وجود الرابط مسانخ لوجود الموضوع والمحمول أيضاً ، فالملازمة من الطرفين، بحيث کون الموضوع والمحمول من سنخ الوجود الذهني الذي وعاؤه الذهن يستلزم کون الرابط ذهنياً، وکون الرابط من سنخ الوجود الذهني يستلزم کون الموضوع والمحمول ذهنيين أيضاً ، کما أن کون الموضوع والمحمول من سنخ الوحود الخارجي يستلزم کون الرابط خارجياً، وکون الرابط من سنخ الوجود الخارجي يستلزم کون الموضوع والمحمول خارجيين. فانّهم .

الوجوديّ بينهما ؛ وذلک لِما أنّه متحقّقّ فيهما غيرُ متميّزِ الذّات منهما، ولا خارج منهما . فوحدته الشخصّية تقضي بنحو من الاتّحاد بينهما، سواءُ کان هناک حمل کما في القضايا أو لم يکن کغيرها من المرکبات ؛ فجميع هذه الموارد لا يخلو من ضربٍ من الإتّحاد(1)

الثالث : أنّ القضايا المشتملة علي الحمل الأوّليّ ، کقولنا: «الإنسان إنسان» ، لا رابط فيها إلّا بحسب الاعتبار الذهني فقط. وکذا الهليّات البسيطة، کقولنا: الإنسان موجود»، إذ لا معني لتحقّقِ النسبةِ الرابطةِ بين الشيء ونفسه (2)

ص: 195


1- «الثاني» قوله : (وذلک) دليل وجود نحو من الاتحاد بين الموضوع والمحمول (لما أنه) أي بسبب ان الرابط وجوده غيري لا نفسي (متحقق فيهما) أي في الموضوع والمحمول قائم بهما (غير متميز الذات منهما) أي ليس الرابط خارجاً عن ذات الموضوع والمحمول بل أمر مندک فيهما، فهو وجود واحد متحقق في طرفيه أي ذو وحدة شخصية (فوحدته الشخصية) هذه (تقضي بنحو من الاتحاد بينهما) أي بين الموضوع والمحمول، لاستحالة تحقق الشيء في أمرين مختلفين من جميع الوجوه و منفصلين عن بعضهما بتمام الذات (سواء کان هناک حمل کما في القضايا) مثل «زيد قائم» و «عمرو ضاحک»، (أو لم يکن هناک حمل بين الموضوع والمحمول (کغيرها) اي کغير القضايا من المرکبات الخالية من الحمل مثل «قيام زبد» و «ضحک الإنسان» و «جلوس عمرو».
2- استنتج المصنف من هذه المبحث مطلباً آخر، نبدؤه بهذه المقدمة : وقع الخلاف في عدد أجزاء القضية فقال المنطقيون أن أجزائها ثلاثة أو أربّعة، من غير فرق بين القضايا، وقالت الفلاسفة بالتفصيل حيث قالوا: ان بعض القضايا تتألف من أربّعة أجزاء وبعضها يتألف من ثلاثة، أو بعضها من ثلاثة أجزاء وبعضها من جزئين، من جملة ذلک في الهلية البسيطة ، قالوا أن القضية تتألف من الموضوع والمحمول فقط من دون الرابط بينهما، وقالوا عن القضايا السالبة أن فيها سلب النسبة لا إثبات النسبة السلبية ، وکيف کان فالقضية بما انّها من الأمور المنطقية لا معني لها بدون النسبة ولا يمکن تصورها من دونها، إذ لو جمعنا ألفا بل آلافاً من المفاهيم المستقلة ورتبناها جنباً إلي جنب لا تعطينا قضية منطقية واحدة ، إلا إذا أتينا بالرابط ، فإنه الکفيل بتأليف القضايا من الموضوعات والمحمولات المستقلة ، وان کان الرابط في حد ذاته مجرد إعتبار ذهني ليس إلا. الثالث : أن القضايا المشتملة علي الحمل الأولي) و تدل علي اتحاد الموضوع والمحمول مفهوماً لا نسبة شيء آخر الي الموضوع خارج عن حقيقة الموضوع (کقولنا :) في قضية («الانسان انسان») فانّها قضايا (لا رابط فيها الا بحسب الاعتبار الذهني فقط . (وکذا) الحکم في (الهليات البسيطة) وهي القضايا التي تشير الي اصل تحقق الشيء ووجوده، وتدل عليه، (کقولنا: «الانسان موجود») فانّها من سنخ القضايا التي لا رابط لها او فيها (إذ) طرفا القضية أعني الموضوع والمحمول فيها شيء واحد ولا معني لتحقق النسبة بين الشيء و نفسه). حقيقة وإلا بحسب الاعتبار الذهني يمکن تصور النسبة بين الشيء ونفسه بنحو من الأنحاء.

الرابع : أنّ العدم لا يتحقّق منه رابطُ ، إذ لا شيئّةَ له ولا تميُّزَ فيه. ولازِمُهُ أنّ القضايا الموجبة التي أحد طرفَيها أو کلاهما العدم کقولنا: «زيد معدوم» و «شريک الباريء معدوم» لا عدمَ رابطاً فيها ، إذ لا معني لقيام عدم بعدمَين أو بوجودٍ وعدمٍ ، ولا شيئّة له ولا تميز فيه ، اللهمّ إلّا بحسب الاعتبار الذهنيّ.

ونظيرتها القضايا السالبة ، کقولنا: «ليس الإنسان بحجر»، فلا عدَم رابطاً فيها

إلا بحسب الاعتبار الذهني.

الخامس : أنّ الوجودات الرابطة لا ماهيّةَ لها، لأن الماهيات هي المقولة في جواب ما هو، فهي مستقلّة بالمفهوميّة، والوجودات الرابطة لا مفهوم لها مستقلّاً بالمفهوميّة (1)

ص: 196


1- (الخامس... الخ) وحاصله ان الماهية لا تتحقق إلا لشيء يمکن تصوره مستقلاً لقيامه بنفسه ، ثم السؤال عن ماهيته، وحمل مفهوم حاک عن ماهيته، عليه ، وهذا لا يتم إلا إذا کان للشيء مفهوم مستقل، فالوجودات الرابطة لا ماهية لها.نقرأ في هذا الفصل : 1- ليس اختلاف الوجود الرابط والمستقل اختلاف نوعية بحيث لا يقبل المفهوم غير المستقل التبديل إلي مفهوم مستقل. 2- استقلال او عدم استقلال مفهوم ما، تابع للوجود الذي يکون منشأ انتزاع ذلک المفهوم. 3- وجود الرابط المعلولي قائم بطرف واحد. 4- وجودات النسب والاضافات قائمة بطرفين . 5- ينحصر الوجود المستقل في وجود الواجب - تبارک وتعالي - وما عداه وجودات رابطية ليس الا.

الفصل الثاني في کيفية اختلاف الوجود الرابط والمستقلّ

(1)

ص: 197


1- اعلم أن هناک نوعين من مفاهيم الوجود، أحدهما المفهوم المستقل للوجود، والآخر هو المفهوم غير المستقل - الرابط ، أما المرحوم العلامة فقد أورد ذلک حول حقيقة الوجود بقوله الوجود علي قسمين: الوجود الرابط ، والوجود المستقل، قاصدا أن الوجود العيني علي قسمين أي أن هناک وجوداً خارجيّاً مستقلاً، ووجوداً خارجياً غير مستقل - أو رابط - کالنّسب والاضافات القائم وجودها بطرفي النسبة والأضافة، وبناءاً علي ذلک يطرح سؤالاً حول الاختلاف الواقع بين هذين الوجودين - أو هذين القسمين من الوجود العيني ، هل هو اختلاف نوعي أم لا؟، والمراد من الاختلاف النوعي، کون وجود الرابط مثلاً هي النَّسب والاضافات أو وجود المعلول بالنسبة الي علته المفيضة ؟ ثم أن هذا النوع من الوجود يعد مع الوجودات المستقلة سنخاً واحداً من الوجود؟ ام انّهما مختلفان ؟ أن قلنا بأنهما نوعان مختلفان، لا نستطيع أن نبدل أي وجود رابط بنحو من الانحاء الي وجود مستقل، أو تنظر اليه نظرة استقلالية ، إذ کلما لاحظنا وجود الرابط لزم ادرا که بعنوان الرابط، ولا يقبل التبديل إلي وجود استقلالي، وان کان ذلک بلحاظ العقل واعتباره . واما ان قلنا باتحادهما نوعا ، فللعقل أن ينظر الي کل وجود رابطٍ نظرة استقلالية وقادر علي ادرا که باستقلال، وبناءاً علي ارادة هذا المفهوم الخاص يمکن الاجابة عن هذا السؤال بوجهين : 1أن نقول بأن الوجودات الرابطة لا يمکن لحاظها بصورة مستقلة.2- أو القول بامکان لحاظها مستقلة ، والمرحوم المؤلف أختار القول الثاني، وهو ان کل وجود رابط في الخارج يمکن لحاظه لحاظاً إستقلالياً وادرا که مستقلاً، ويسمّي بتبدل وجود الرابط الي الوجود المستقل، بدليل أن کل وجود معلول في الخارج لاشک إنه رابط بالنسبة الي العلة - علته - لکن هذه الوجودات الرابطة - المعلولة - للعقل أن يدرکها ويلحظها مستقلة عن علتها - عللها - وينتزع منها ماهية، فإن لم يقدر العقل علي لحاظ تلک الوجودات المعلولة باستقلالها عن عللها، وعجز عن لحاظها مستقلة ، بل اضطر الي لحاظها رابطة ، لم ينتزع منها أية ماهية وذلک أن الوجود الرابط لا ماهية له - علي ما تقدم في الفصل السابق - والوجودات المعلولة جميعها وجودات رابطة في الخارج بالنسبة إلي الواجب تبارک وتعالي، فينبغي أن لا يکون لها ماهيات واجاب بما مضمونه وحاصله : نعم آن لاحظناها بعنوان کونها رابطة فلا ماهية لها، لکن العقل قادر علي لحاظها - أي لحاظ کل واحد من هذه الوجودات الرابطة - مستقلة، وان ينتزع منها ماهية ، إذ لا شک اننا نقدر علي لحاظ المعني الحرفي مثلاً، لحاظاً استقلالياً - باستقلال - فحين نقول (من) للابتداء، فإن معناه الابتداء، وهو معني اسمي جعلناه تفسيراً المعني (من)، وهو دال علي اننا لا حظناها مستقلة، وعليه فکما يمکن لحاظ المعاني الحرفية باللحاظ الاستقلالي، کذلک يمکن لحاظ الوجودات الحرفية الرابطة باللحاظ الاستقلالي، وادراکها مستقلة عن عللها وحيئية العلاقة بينها وبين عللها، وذلک أننا حين ندرک الإنسان لا نجد ارتباطأ بالعلة في مفهوم الإنسان، وهو دليل علي امکان ادراک وجود الإنسان مستقلاً عن حيثية ارتباطه بالعلة، إذ وجوده الخارجي عين الربّط بالعلة، وإذا أدرک ذاک الوجود حقيقة ، فانّه يدرک بصورة الربّط بالعلة، کما هو متصور في العلم الحضوري ، فللعقل أن يدرک وجود الرابط بصورة وجود مستقل، وفي هذا اللحاظ ينتزع الماهية من ذاک الوجود المستقل.

هل الإختلاف بين الوجود المستقلّ والرابط إختلافُ نوعي أو لا؟ بمعني أنّ الوجود الرابط وهو ذو معنيً تعلقيًّ هل يجوز أن ينسلخ عن هذا الشأن فيعود معنيً مستقلّاً بتوجيه الالتفات إليه مستقلّاً بعد ما کان ذا معنيً حرفيًّ أولا يجوز ؟(1)

ص: 198


1- (هل الاختلاف بين الوجود المستقل والوجود الرابط اختلاف نوعي ؟) وقد قدمنا أن المؤلف اراد من الوجود المستقل والرابطة الوجود الحقيقي، لا المفهوم الذي تطرق اليه صدر المتألهين ليا ، فالمراد هو الوجود العيني الرابط لا مفهومهما. فهل يجوز للوجود الرابط الذي هو في الحقيقة ذو معني ارتباطي و تعلقي بطرفيه ، أعني الموضوع والمحمول، أن ينسلخ عن هذا الشأن، وهو المعني التعلقي (فيعود معني مستقلاً يمکن لحاظه مستقلاً دون حاجة الي الأول : أن المفهوم في استقلاله بالمفهومية وعدم استقلاله تابع لوجوده الذي ينتزع منه، وليس له من نفسه إلا الإبهام . فحدود الجواهر والأعراض ماهيات ارتباطه بعلته ، وذلک بتوجيه الالتفات إليه) بأفکارنا وعقولنا (مستقلاً) عن علته (بعد ما کان هذا الوجود الرابط (ذا معنيً حرفيًّ) هل يجوز هذا (اولا يجوز؟).

الحقّ هو الثاني، لما سيأتي في أبحاث العلّة والمعلول(1)أن حاجةَ المعلول إلي العلّة مستقرة في ذاته ؛ ولازِمُ ذلک أن يکون عينَ الحاجة وقائم الذات بوجود العلّة لا استقلالَ له دونها بوج؛ ؛ ومقتضي ذلک أن يکون وجود کلّ معلول - سواء کان جوهراًأو عرضاً - موجوداً في نفسه رابطاً بالنظر إلي علّته ، وإن کان بالنظر إلي

نفسه وبمقايسة بعضه إلي بعض جوهراً أو عرضاً موجوداً في نفسه.

فتقرّر أنّ اختلاف الوجود الرابط والمستقلّ ليس اختلافاً نوعيّاً بأن لا يقبل المفهومُ غيرُ المستقلّ الذي ينتزع من الرابط المتبدَّلَ إلي المفهوم المستقلّ المنتزع من المستقلّ (2)

ويتفرع علي ما تقدّم أُمور:

الاوّ:ل انّ المفهوم في استقلاله بالمفهوميّة وعدم استقلاله تابعّ لوجوده الذي ينتزع منه ليس له من نفسه الّا الابهام فحدود الجواهر والأعراض، ماهيّاتّ

ص: 199


1- (والحق هو الثاني) اي عدم الجواز ، فلا يجوز أن ينسلخ عن معناه التعلقي المحض الي معني استقلالي (لما سيأتي في ابحاث العلة والمعلول) في الفصل الخامس من المرحلة الثامنة (أن حاجة المعلول....الخ). والحاصل أن المعلول يفتقر إلي علته افتقاراً ذاتياً ، غير قابل للانفکاک عنها، قائم بها وجوداً واستمراراً، ووجوده وجود ربّطي تعلقي بالنسبة إلي وجود علته، ولهذا فإن جميع الموجودات معلولة للعلة التامة وهي علة العلل أعني الواجب تبارک وتعالي، ووجودها جميعا وجود رابطي بالنسبة إلي خالقها جل وعلا، إلا أن ذلک لا يمنع من امکان تصورها ولحاظها في حد ذاتها لحاظاً استقلالياً من غير التفات إلي علتها عزوجل ويمکن بذلک انتزاع مفهوم مستقل منها.
2- (فتقرر) مما تقدّم (أن اختلاف الوجود الرابط والمستقل ليس اختلافاً نوعياً) إذ لو کان اختلافاً نوعياً ، لکان معناه (بأن لا يقبل المفهوم غير المستقل الذي ينتزع من الرابط...الخ...).

جوهريّةُ وعرضيِّةُ بقياس بعضها إلي بعض وبالنظر إلي أنفسها، وروابط وجوديّةُ بقياسها إلي المبدأ الأوّل (تبارک و تعالي)؛ وهي في أنفسها مع قطع النظر عن وجودها لا مستقلّة ولا رابطة (1).

ص: 200


1- (ويتفرع علي ما تقدم امور :) (الاول) : اننا بعد ما قلنا أن المفهوم المستقل و الرابط المنتزعان من الوجود الرابط ، فيهما قابلية التبدل - أعني تبدل المفهوم الرابط الي مفهوم مستقل بملاحظته استقلالاً، فنفس المفهوم عند لحاظه مطلقاً ، خالياً من خصوصية الاستقلال وخصوصية الربّط، لا يکون هذا المفهوم المطلق - مفهوماً مستقلاً ولا رابطاً ، بل يتوقف علي المصداق الذي انتزعنا منه هذا المفهوم، هل لاحظناه استقلالاً ومستقلاً؟ وعليه فالمفهوم المنتزع منه مفهوم استقلالي، أم لاحظناه - أي ذاک المصداق المنتزع من المفهوم - باعتبار کونه رابطاً؟ والحق کونه رابطاً في الواقع ، فالمفهوم المنتزع منه مفهوم رابط أيضاً، اما بقطع النظر عن هذين المفهومين ، فالمفهوم بنفسه وفي حد ذاته ليس رابطاً ولا مستقلاً، وحين نقول أن الوجود اما مستقل. أو رابط ، نريد أن لدينا مقسمة ذا قسمين، والمقسم فيهما الوجود، فيلحظ المقسم بالنسبة الي اقسامه لا بشرط، إذ لم يلحظ في نفس المقسم حيثية هذا القسم ولا حيئية ذاک القسم، وإنما ينقسم المقسم اليهما بضميمة خصوصية ما، فمثلا للانسان وجود، انتزعنا من هذا الوجود مفهومة، هذا المفهوم تارة يلاحظ بصورة قد استقل العقل في لحاظ ذاک الموجود الخارجي، لأنه لاحظه مستقلاً، فقد انتزعنا منه مفهوماً مستقلاً، ونقول الإنسان جوهر ذو ماهية خاصة ، وان لم نلحظه مستقلاً، فإن المفهوم الوحيد الذي يمکن انتزاعه منه هو مفهوم الرابط لا غير، ولا يمکن انتزاع معني مستقل منه، فالوجود المحمول عليهما يستبع لحاظنا للمصداق الخارجي باعتباره لحاظأ مستقلاً او رابطاً، فإن لاحظنا المصداق مستقلاً، فإن المفهوم المنتزع منه مفهوم مستقل، وأن لا حظنا الوجود بالمعني الحرفي والرابطي، فإن المفهوم المنتزع منه مفهوم رابطي، والا فإن المفهوم في حد ذاته - بقطع النظر عن لحاظنا واعتبارنا۔ لا يکون مستقلاً ولا رابطاً. ان المفهوم في استقلاله بالمفهومية وعدم استقلاله) بالمفهومية (تابع لوجوده الذي ينتزع منه) واما المفهوم في حد ذاته فليس بمستقل في المفهومية ولا غير مستقل فيها، (و) ذلک أن المفهوم (ليس له من نفسه الا الابهام). فلو نظرنا إلي الوجود الذي ينتزع منه المفهوم نظرة استقلالية ، کان المفهوم الذي يحصل منه وينتزع منه مفهوماً مستقلاً، وإذا نظرنا اليه نظرة رابطية - غير استقلالية - کان المفهوم المنتزع منه غير مستقل أيضاً. (فحدود الجواهر والأعراض، ماهيات جوهرية) أي حدود الجواهر ماهيات جوهرية (وعرضية) أي حدود الاعراض ماهيات عرضية ، وکل ماهية سواء جوهرية او عرضية فانّها مستقلة قائمة بنفسها او بغيرها وذلک بقياس بعضها بعض الجواهر الي بعض، وقياس بعض الأعراض الي بعض) فإن لها وجودات استقلالية ينتزع منها مفاهيم استقلالية - مستقلة -، وکذلک بالنظر إلي أنفسها) دون لحاظ رابطيتها (و) لکن نفس هذه الحدود (روابط وجودية) جوهرية أو عرضية بقياسها) أي تلک الوجودات الجوهرية والعرضية، (الي المبدأ الأول (تبارک و تعالي)...........الخ).

الثاني : أنّ من الوجودات الرابطة ما يقوم بطرفي واحډ کوجود المعلول بالقياس إلي علّته، کما أنّ منها ما يقوم بطرفَين کوجودات سائر النسب والإضافات (1)

الثالث : أن نشأة الوجود لا تتضمّن إلّا وجوداً واحداًمستقلاً هو الواجب

(عَزَّ إسمه)، والباقي روابطُ ونسبُ وإضافاتُ (2)

ص: 201


1- (الثاني: أن من الوجودات الرابطة ما يقوم بطرف واحد) کل ما تقدم کان عن الوجود الرابطي القائم بالطرفين ، کالرابط في القضايا، ولکن هناک وجودات رابطية قائمة بطرف واحد، هو وجود المعلول بالنسبة الي علته المفيضة، فالوجود الرابط علي نوعين : الرابط القائم بطرف والقائم بطرفين
2- (الثالث..الخ) بعدما تقدم أن کل وجود معلول، ربّط النسبة الي علته المفيضة، فإن الکون والکائنات بأجمعها عين الربّط بالنسبة الي الواجب تبارک و تعالي ، وإنما هناک وجود واحد ليس ربّطا بالنسبة إلي غيره مطلقاً ، وهو مستقل مطلق، لا يمکن لحاظه باللحاظ الربّطي إذ حقيقته عين الاستقلال، وکل ما عداه - تعالي - رابط بالنسبة اليه نقرأ في هذا الفصل : 1- ينقسم الموجود في نفسه الي الموجود لنفسه والموجود لغيره . 2- والموجود لغيره هو الوجود في نفسه الذي يطرد العدم عن ماهيته ويطرد عدم آخر عن غيره أيضا، کالعلم الذي يطرد العدم عن ماهيته وفي الوقت ذاته يطرد الجهل عن الجاهل أيضا 3- وجودات الأعراض والصور النوعية المنطبعة في المادة ، وجودات في نفسها لکنها الغيرها . أي وجودات نفسيه للغير - به وجود الاعراض من مراتب وجود الجواهر. ۔ لا ماهية الموجودات الناعتية بما انّها وجودات ناعتية، لأنها لا تطرد العدم عن ماهيتها ولا تطرده عن ماهية موضوعاتها. 6- الوجودات الناعتية تطرد العدم عن صفة من صفات موضوعاتها..

ص: 202

الفصل الثالث في إنقسام الوجود في نفسه

إلي ما لنفسه وما لغيره

(1)

ص: 203


1- بعد ما ثبت أن الوجود الخارجي علي قسمين ما في نفسه، وما في غيره، أي الوجود الذي هو عين الربّط ، والوجود المستقل - ثم تقسيم المستقل الي المستقل بالذات الذي يکون عين الاستقلال والمستقل الذي ليس کذلک بل يمکن لحاظه واعتباره مستقلاً -، وبعدما علمنا أن الوجود في غيره أيضاً قابل للّحاظ الاستقلالي، وفي هذا اللّحاظ تنتزع الماهيات من .. الوجودات، والحاصل أن الوجود في نفسه ينقسم إلي ما وجوده لنفسه وما وجوده لغيره، واما الوجود في غيره فلا قسمة له. اعلم أن الوجودات التي تنتزع منها صفة من الأوصاف ثم تُنسب الي شيء ما، تسمي بالوجود للغير، ومن أبرز مصاديقه، وجود الاعراض بالنسبة إلي الجواهر ، کما عند المشائين والاشراقيين جميعاً، وهو أن وجود الأعراض وجود رابطي، بمعني ان کل عرض يتحقق في جوهر ما، يشتق منه مفهوم في قالب الصفة - أي قالب وصفي - تنسب الي الموضوع الذي تحقق فيه ذاک العرض، کانتزاع مفهوم الأبيض من البياض وجعله صفة للجسم المعين فيقال هذا إنسان أبيض. هذا ما أجمعت عليه الفلاسفة من أن وجود الأعراض وجود رابطي، الا أن المشائين ذکروا مصداقاً ثانية للوجود المرابطي، هو الصور الجوهرية المنطبعة في المبدأ، والصور الجوهرية عند المشائين عبارة عن جواهر، فصورة الإنسان جوهر، وصورة النبات جوهر وهکذا، وسيأتي الحديث عنه في باب الماهيات ان شاء الله تعالي، ثم أن هذه الصورة عندهم منطبعة في المبدأ، أي صورة الجسم لا تتحقق إلا ضمن المادة التي تحل فيها، والصورة بدون المادة غير قابلة للتحقق ، عبروا عنه بالانطباع، قالوا هذه الصورة الجوهرية منطبعة في هذه المادة، والصورة النباتية منطبعة في مادة النبات وهکذا... ثم ان هذه الصور بعد تحققها تستي المادة التي انطبعت فيها تلک الصور، صورة أيضاً، فمثلاً، الصورة الحيوانية بعد تحققها ضمن المادة، تکون الصورة الحيوانية بنفسها حيّة - أي لها حياة - والمادة التي انطبعت فيها هذه الصورة تصير حية - توصف بالحياة - أيضاً، فإن هذه الصورة حية وتلک المادة حية - أي موصوفة بالحي -، وفي النبات تکون الصورة نباتيه والجسم ناميا، مع أن المادة وهو الجسم کان قبل حلول الصورة فيه جامداً لا حياة له، هذه الأنواع من الصور المنطبعة في المادة تکون من قبيل الوجودات الرابطة، فبملاحظة تحقق هذه الوجودات من الأعراض والصور المنطبعة في المادة ، نعرف أن في العالم الخارجي، وجودة آخر يمنح الوصف لوجود آخر غيره، بمعني أنه يطرد عنه عدماً، فالجسم مثلاً لم يکن أبيض قبل حلول الصورة في المادة، ولکن بعد حلول الصورة فيها. وهي البياض - اتصف الجسم بالأبيض، وتم طرد عدم الأبيض عنه ، وهکذا سائر الأوصاف بحسب الوصف المنتزع من تلک الصورة، فالوصف تحقق من جهة تحقق البياض في هذا الجسم، وتحقق عرض في هذا الجوهر. ثم ان هذا الوصف الذي ظهر في المادة هل يطرد ماهية العدم من الجسم؟ بمعني أن الجسم لم يکن جسماً من قبل، ولم يکن هناک ما يسمي بماهية الجسم، فلما تحقق البياض في الجسم - للجسم - هل تتحقق ماهية الجسم، وتصير ماهية الجسم موجودة - متصفة بالوجود؟! بينما کانت ماهية الجسم موجودة قبل حلول وصف البياض فيها، وقبل تحققه لها، وکان وجودها الخاص طاردة للعدم عنها ؟! أم أن ماهية وصف الأبيض تطرد العدم عن ماهية البياض ؟ فما شأن صفة الأبيض هنا؟ وما هي الماهية التي توجدها و تحققها؟ الجواب : أنه لا شيء من الماهيات، بل هي مفهوم انتزاعي، تمنح المحل صفة انتزاعية وطردها للعدم إنما هو طرد لوصف انتزاعي معدوم، فاللا أبيض يصير أبيض واللا أبيض ليس بماهية، إذ الجسم هو الماهية ، والنبات هو الماهية، والجسم ماهية جوهرية والنبات ماهية عرضية ، وليس هناک ماهية أخري تسمّي الأسود، بل الأسود وصف انتزاعي. فالوجودات الرابطة أولاً: تسلب العدم عن ماهياتها، فتتصف ماهياتها بالوجود، وتکون موجودة، لکنها لا تسلب عن ماهياتها محالّها ، فماهية المحلّ وجدت بوجودها، والوجود الجوهري هو الذي يسلب العده عن ماهية الجوهر، هذه الأوصاف أيضاً لا تسلب العده عن ماهيات العرض ، فللعرض جوهر ، ووجود العرض هو الطارد للعدم عن ماهية العرض، لکن مع تحقق العرض في الجوهر يوجد وصف انتزاعي، ينسب إلي الموجود أن يوجد ماهية وليس هذا الوصف سوي وصف انتزاعي

ص: 204

ينقسم الموجود في نفسه إلي ما وجوده لنفسه وما وجوده لغيره . والمراد بکون وجود الشيء لغيره أن يکون وجوده في نفسه - وهو الوجود الذي يطرد عن ماهيّتِهِ العدمَ - هو بعينه طاردة للعدم عن شيءٍ آخر، لا لعدم ماهيّة ذلک الشيءٍ الآخر وذاته ، وإلا کانت الموجود واحد ماهيّتان، وهو محال ، بل لعدم زائد علي ماهيته وذاته ، له نوع من المقارنة له کالعلم الذي يطرد بوجوده العدمَ عن ماهيّتة نفسه، وهو بعينه يطرد الجهلَ الذي هو عدمُ مّا عن موضوعه (1)

ص: 205


1- (والمراد بکون وجود الشيء لغيره أن يکون وجوده في نفسه) إذا قلنا الشيء الکذائي وجوده لغيره، معناه أن وجوده في نفسه (- وهو الوجود الذي يطرد عن ماهيّته العدم -) وبالنتيجة في الحقيقة وجوده في نفسه، يلحظ لحاظاً استقلالياً لکنه رغم کون وجوده مستقلاً فإن وجوده لغيره، ثم أن وجوده في نفسه هو بعينه) يکون (طارداً للعدم عن شيء آخر) فمثلاً وجود «الف» يطرد العدم عن ماهية الف، وهو بعينه أي وجود الف بعينه يطرد العدم عن ماهية باء، أي الشيء الآخر لکن (لا) بمعني کونه طارداً (لعدم ماهية ذلک الشيء الآخر وذاته) ليس المراد هذا، (وإلا لو کان المراد هذا المعني (کانت الموجود واحد ماهيتان) هما ماهية هذا وماهية ذاک مثل ماهية الف وماهية باء معاً ، إذ الوجود الواحد علي هذا يکون وجود هذا وأيضاً وجود ذاک في آني واحد (وهو) أي کون الموجود الواحد ذا ماهيتين ماهية هذا وماهية ذاک، المقتضي لکونه ذا وجودين - إذ لابد لکل ماهية من وجود خاص به . أمر (محال) لا يمکن تحققه لاستلزامه اجتماع النقيضين وهو کون الشيء الواحد اثنين حال وحدته وکونه واحدة ولا واحدة، سؤال : لو کان الأمر کذلک، أعني کون الشيء طاردة للعدم عن شيء آخر، لا لعدم ماهية ذلک الشيء الآخر وذاته ، فلم يطرد العدم عن ماهية ذلک الشيء الآخر؟ والجواب : انّه نعم لا لعدم ماهيته وذاته بل لعدم زائر علي ماهيته وذاته) أي ماهية ذلک الشيء الآخر وذاته، وهذا العدم (له نوع من المقارنة له) أي لذلک الشيء الآخر. (کالعلم الذي يطرد بوجوده العدم عن ماهية نفسه) فالعلم يطرد العدم عن ماهيته وذاته ويمنع نفسه الوجود والتحقق (وهو) أي العلم ( يطرد الجهل الذي هو عدمّ ماعن موضوعه) والمراد أن العلم يطرد أيضاً صفة الجهل - وهو من الأوصاف العدمية - عن موضوعه المتصف به.

والحجّة علي تحقّق هذا القسم - أعني الوجود لغيره - وجودات الأعراض،

فإنّ کلّاً منها کما يطرد عن ماهيّة نفسه العدمَ يطرد عن موضوعه عدماً ما زائداً علي ذاته . وکذلک الصور النوعيّة المنطبعة، فإنّ لها نوعَ حصول لموادّها تطرد به عن موادها، لا عدمَ ذاتها، بل نقصاً جوهريّاً تکمل بطرده ، وهو المراد بکون وجود الشيء لغيره وناعتاً (1)

ص: 206


1- (والحجة علي تحقق هذا القسم - أعني الوجود لغيره ) ان الوجود لنفسه واضح کالحيوان والإنسان والبقر فانّها وجودات لنفسها، لا تطرد العدم عن شيء آخر، وان کانت تطرد العدم عن ماهياتها وذواتها، ولکن ما الدليل علي وجود «الوجود للغير» مثل (وجودات الاعراض) فانّها موجودة في الخارج لها خصائص ثلاث هي (فإن کلاُّ منها کما يطرد عن ماهية نفسه العدم) بعد ما يوجد، واضافة الي طرد العدم عن ماهيته فانّه (بطرد عن موضوعه عدماً ما) لکن لا يطرد عدم ماهية الموضوع بل عدماً (زائداًعلي ذاته) هذا اول مصداق الوجودات للغير الذي اتفق عليه المشائون والاشراقيون ، اما المصداق الثاني، الذي قال به المشاؤون وهکذا صدر المتألهين و واتباعه فهو (وکذلک الصور النوعية المنطبعة ، فإن لها نوع حصول الموادها) أي تحصل في المادة وصور الحصول للغير وبواسطة حالها من حصول للمادة تطرد به عن موادها) أي عن مواد الحصول ووجودها (لا عدم ذاتها، إذ عدم المادة طرد بواسطة نفس المادة وحصولها، فلا تطرد عدم ذاتها (بل) تطرد (نقصاً جوهرياً تکمل بطرده) فإن للمادة نقصاً جوهرياً ينطرد عند ظهور الصورة والمادة تکمل وتکتمل بطرد ذلک النقص الجوهري (وهو المراد بکون وجود الشيء لغيره وناعتاً). بأن يکون وجود الشيء بحيث يطرد العدم عن ذاته ، وکذلک يطرد العدم عن غيره، فهذا هو المقصود من الوجود لغيره والناعت للغير. والحاصل أن الدليل علي تحقق هذا القسم من الوجود باختصار: أولاً: ان وجود کل من هذه الأعراض کما يدفع عن ماهيّته العدم ويطرده ، کذلک يطرد عدماً آخر عن موضوعه، هو عدم زائد علي ذاته .ثانياً : وکذلک وجود الصور النوعية المنطبعة في المادة الصورة الحيوانية والصورة النباتية وما أشبه، فإن لها نوع حصول الموادها، وبواسطة هذا الحصول تطرد نوعاً من العدم عن موادها، وهذا العدم عبارة عن نقص جوهري في المادة، تکمل المادة بطرد ذلک النقص ، فالصورة النباتية مثلاً عندما تحلّ في مادة جامدة خالية من النّمو تمنحها النمو وتجعلها نامية، فتصير تلک المادة بما حصل لها من النّمو کاملة.

ويقابله ما کان وجوده طارداً للعدم عن ماهية نفسه فحسب، وهو الموجود

لنفسه، کالأنواع التامّة الجوهريّة کالإنسان والفرس وغيرهما.

فتقرّر أن الوجود في نفسه ينقسم إلي ما وجوده لنفسه وما وجوده لغيره .

وذلک هو المطلوب.

ويتبيّن بما مرّ أنّ وجود الأعراض من شؤون وجود الجواهر التي هي

موضوعاتها ، وکذلک وجود الصور المنطبعة غيرُ مباينٍ لوجود موادّها(1)

ويتبين به أيضا أن المفاهيم المنتزعة عن الوجودات التاعتة التي هي أوصاف

ص: 207


1- (ويتبين بما مرّ) يريد المؤلف ي أن يستنتج مما تقدم المطلب التالي: أن وجود العرض بعد تحققه يطرد عدماً عن موضوعه، ويمنحه وصفاً، وذکر احياناً ان الصور النوعية عند تحققها في المادة تطرد نقصاً جوهرياً من تلک المادة ، فتبين من ذلک أن الأعراض من شؤون الجواهر - أي وجود الجواهر، وان وجودها رابطي بالنسبة الي الجواهر، ولها نوع تعلق بوجود الجوهر، وقد قال به صدر المتألهين کما سيأتي - ان شاء الله تعالي - فأراد المؤلف اثباته هنا، وهو لا يفي باثبات ذلک، فتأمل، (وکذلک وجود الصور المنطبعة غير مباينة لوجود موادها) أراد أنه تبيّن بما مرّ أيضاً أن وجود الصورة المنطبعة غير مباينة بالنسبة للمادة ، وبينهما ضربّ من الاتحاد، وهذا أيضاً إعداد البحث آخر، هو أن ترکيب المادة والصورة ترکيب اتحادي لا ترکيب انضمامي، بينهما رابطة وجودية ، فکانت للموضوع مادة نقص تبدل النقص إلي نوع من الکمال ، فوجوده تکامل ومن ذلک تبيّن أن وجودهما متحد. ثم إننا قد اثبتنا نوعين من الوجود الرابطي في الوجود للغير، أحدهما: وجود الأعراض والثاني وجود الصور المنطبعة في المادة، ثم قال عن الأعراض انّها من شؤون الجواهر وان وجود الصور المنطبعة) في المادة (غير مباين لوجود موادها) التي انطبعت فيها. هذا ماتم اثباته حتي الآن وهو کل ما ذهب إليه المؤلف ب واستنتجة، الا ان فيه نظراً ينکشف بأدني تأمل.

الموضوعاتها ليست بماهيّات لها ولا لموضوعاتها ؛ وذلک لأنّ المفهوم المنترَع عن وجودٍ إنّما يکون ماهيّةً له إذا کان الوجود المنتزَع عنه يطرد عن نفسه العدم والوجود الناعت يطرد العدم لا عن نفس المفهوم المنتزَع عنه، مثلاً وجود السواد في نفسه يطرد العدَم عن نفسي السواد ، فالسواد ماهيّنه ، وأمّا هذا الوجود من حيث جعلِهِ الجسمَ أسودَ فليس يطرد عدماً، لا عن السواد في نفسه ولا عن ماهيّة الجسم المنعوت به، بل عن صفيةٍ يتّصف بها الجسم خارجةٍ عن ذاته (1)

ص: 208


1- (ويتبين به) أي بما مر (أيضاً أن المفاهيم المنتزعة عن الوجودات الناعته...الخ) أن المفاهيم العرضية لا مفهوم العرض، وهي المشتقات المنتزعة من الوجودات کالبياض الذي يشتق منه مفهوم الأبيض بعد حلوله في الجسم حيث يقع الأبيض وصفاً لذاک الجسم، هذا الأبيض يسمي مفهوماً عرضياً، ونفس البياض عرض من الأعراض، هذا الأبيض وهو المفهوم العرضي ليس مفهومأ ماهوياً، إذ الماهيات إما ماهية الجوهر - ماهيات جوهرية - أو ماهية العرض - ماهيات عرضية -، وليس هناک ماهية ثالثة تسمّي ماهية الأبيض - أي الماهية العرضية -، وماهية الجوهر هو الجسم، وماهية العرض هو الأبيض - البياض - مثلاً فإن تلک الماهيات المنتزعة کالابيض ليست بماهيات لنفسها ولا لموضوعاتها. (و) الحاصل أنه ( تبين أيضاً أن المفاهيم المنتزعة عن الوجودات الناعتة) کالقادر والعالم والأبيض والأسود وما اشبه من هذه الأوصاف والمفاهيم المشتقة المنتزعة عن الوجودات الناعته (التي هي المفاهيم المنتزعة هذه (أوصاف لموضوعاتها) ليست بمفاهيم ماهوية أعني أنها ليست بماهيات لها) أي لنفس الوجودات الناعتة التي انتزعت منها (ولا) بماهيات الموضوعاتها) أي موضوعات تلک الوجودات الناعتية ، فمفهوم الأبيض مثلاً المنتزع من وجود البياض ومفهوم العالم المنتزع من وجود العلم وقعت وصفا للجسم ولزيد. وليسا ماهيتين لوجود البياض والعلم، ولا ماهية لوجود الجسم و زيد، وبعبارة أخري لا هما ماهية وجود البياض والعلم اللذان تم اشتقاقهما وانتزاعهما منهما، ولا ماهية وجود الجسم وزيد اللذين وقعا موضوعين لهما، (وذلک) أي وسبب عدم کونهما ماهية وجود البياض والعلم، ولا ماهية وجود الجسم وزيد (لأن المفهوم المنتزع عن وجور) ما (إنما يکون ماهيةً له إذا کان الوجود المنتزع عنه يطرد عن نفسه العدم) وان يکون الوجود المنتزع عنه قادراً علي طرد العدم عن نفس ذلک المفهوم الذي تم انتزاعه منه (والوجود الناعت يطرد العدم) لکن (لا عن نفس المفهوم المنتزع عنه .......الخ).

المرحلة الثالث

في انقسام الوجود الي ذهنيّ وخارجيّ

وفيها: فصل واحد

ص: 209

ص: 210

المرحلة الثالثة في انقسام الوجود الی ذهني و خارجي

فصل في انقسام الوجود إلي ذهنّي وخارجيّ

نقرأ في هذا الفصل :

1- ليس للوجود الذهني للماهيات آثار خارجية . 2- عد بعضهم الوجود الذهني مجرد نوع من نوع إضافة النفس إلي المعلوم الخارجي.

2- وقال بعضهم أن الوجود الذهني عبارة عن حصول شبح من الماهيات في الذهن

تتباين مع الخارج ماهية لکنها حاکية عنه.

4- أنکر بعضهم الوجود الذهني حتي علي نحو المحاکات، وعدوا العلوم اخطاءأ محضة

لکنها منظمة.

5- لا تندرج الماهية الذهنية تحت المقولة التي کانت مندرجة تحتها بوجودها

الخارجي.

6- لا تحمل الآثار الخارجية علي الماهية الذهنية ، إلا أن ذلک المفهوم يصدق عليها

ماهية.

7- الجوهر المعقول جوهر بالحمل الأولي وعرض بالحمل الشايع وهذا ليس بمحال .

8- الجوهر المعقول کيف نفساني بالحمل الشايع وجوهر بالحمل الأولي، ولا تنافي

بينهما.

9- ما يوجد في الذهن من مفاهيم کالحرارة والبرودة والمربّع والمثلث وما أشبه ، هو

الموجود بالحمل الأولي لا الشايع.

10 - الإنسان المعقول من حيث صدقه علي کثيرين، کلي، ومن حيث انّه کيف نفساني

قائم بشخص خاص فهو جزئي.

11- ما يوجد في الذهن عبارة عن المفاهيم لا المصاديق ، والمحال وجود المصاديق فيه

لا المفاهيم.

12- لما کان الوجود الذهني حاکية عن الخارج، فما له وجود ذهني وجب أن يکون له

وجود خارجي.

13- شأن الوجود الذهني ان يکون حاکية عن الخارج دون ترتب آثار الخارج عليه.

14- الموجود الذهني من حيث انّه کيف نفساني له آثاره الخاصة به.

15- ليست الصور العملية الجزئية مادية، وليس هناک انطباع للکبير في الصغير .

16 - ليس الادراک عين الصور والفعل والانفعالات المادية، لکنها - أي الحواس - جميعاً

معدات الإدراک النفس والعقل بالنسبة الي عين الماهيات الخارجية.

17- لو فرضنا وجود شيء، ذاته عين تحققه في الخارج، وعين ترتب آثاره کحقيقة

الوجود، أو ذاته عين البطلان کالعدم المطلق، هذا الشيء ليس له وجود ذهني.

في انقسام الوجود...) هذه المسألة من مسائل الفلسفة الاسلامية لم تذکر في أي من

کتب الفلسفة حتي في کتاب الشفاء لابن سينا، وقد تم طرحها والبحث عنها عند الرد علي بعض المتکلمين القائلين بالثابت والحال، وعندما تعرض لأقوال بعض هؤلاء المتکلمين في الشفاء حول هذا الموضوع قال : إن علة ابتلائهم بهذا القول هو عدم ادراکهم لوجود المفاهيم في الذهن.

أي عدم قبولهم للوجود الذهني، فطرحت هذه المسألة تعقيباً علي هذا القول وللردّ علي اولئک المتکلمين. وأول من بادر الي طرحها و تحقيقها والبحث عنها هو امام المشککين الفخر الرازي في کتابه المباحث المشرقية ثم خواجه نصير الدين الطوسي في کتابه تجريد الاعتقاد، فراجع. ولمزيد من المعلومات يراجع الأسفار وکشف المراد. وممن تبع الشيخ الرئيس في الرد علي هؤلاء القوم تلميذه بهمنيار في کتابه التحصيل.

وسمي الوجود الذهني تارة بالوجود الظلي وتارة بالوجود في الذهن وتارة بالوجود غير

الاصيل.

في المسألة أقوال أربّعة علي ما أورده الشيخ الرئيس ، أولها القول بأن الصورة الذهنية موجودة ومطابقة للخارج أيضاً ، ومتحدة مع الخارج من جهة الماهية، وهو القول الشهير ومذهب الحکماء.

والثاني هو القول بعدم وجود شيء في الذهن مطلقا وانکار الوجود الذهني أصلاً، وأنه

مجرد اضافة من النفس ليس إلا.

والثالث هو القول بالوجود الذهني الحاکي عن الخارج، الا انّه غير مطابق تماما مع

الخارج، فلا يتحد مع الخارج من جهة الماهية.

والرابع هو انّه لا يحکي عن الخارج أصلاً بل ما هو إلا رمز وعلامة تدل علي الخارج.

ص: 211

المعروف من مذهب الحکماء أن لهذه الماهيات الموجودة في الخارج المترتّبة عليها آثارُها وجوداً آخر لا تترتّب عليها فيه آثارها الخارجيّة بعينها، وإن ترتّبت آثارُ أخَر غير آثارها الخارجية. وهذا النحو من الوجود هو الذي نسمّيه :

ص: 212

«الوجودَ الذهنيّ» وهو عِلمُنا

بماهيّات الأشياء(1)

وانکر الوجود الذهني قوم، فذهب بعضهم إلي أن العلم إنما هو نوع إضافة

من النفس إلي المعلوم الخارجي(2)

وذهب بعضهم - و نُسِبَ إلي القدماء - الي أنّ الحاصل في الذهن عند العلم بالأشياء أشباحُها المحاکية لها، کما يحاکي التمثال لِذي التمثال مع مباينتهما

ص: 213


1- (المعروف من مذهب الحکماء أن لهذه الماهيات الموجودة في الخارج المترتبة عليها) أي علي هذه الماهيات (آثارها) أي آثار هذه الماهيات (وجوداً آخر) خبر إنّ، أي أن لهذه الماهيات وجوداً آخر غير وجودها في الخارج و بهذا الوجود الآخر (لا يترتب عليها) أي علي تلک الماهيات (فيه) أي في هذا الوجود الآخر (آثارها) أي آثار الماهيات (الخارجية بعينها) فإن النار مثلاً أثرها الخارجي عبارة عن الاحراق ، ولکن النار الذهنية - أي في الوجود الذهني - لا تترتب عليها تلک الآثار الخارجية التي کانت لها - أعني الاحراق - فالنار الخارجية محرقة والنار الذهنية غير محرقة، وان کانت الماهية الذهنية ذات آثار خاصة بها و( ترتبت عليها في الوجود الذهني (آثار أخر غير آثارها الخارجية) کأن يتخيل الإنسان الحرارة أو الضياء عند تصور النار في الذهن، أو يسيل لعُابه عند تصوره للحوامض ولکن ليس ذلک لکون النار أو الحوامض مثلاً وجودات ذهنية بل من جهة کونها کيفيات نفسانية تحققت في أنفسنا وجرت آثارها في أجسامنا وجوارحنا، فلا يقال لها وجودات ذهنية بهذا اللحاظ بل يقال لها الوجود الذهني بلحاظ عدم ترتب الآثار الخارجية التي کانت لها، بعد تصورها، وان ترتبت عليها آثار أخر غير آثارها الخارجية کإسالة اللعاب من الفم وغيرها وهذا النحو من الوجود هو الذي نسميه الوجود الذهني ، وهو علمنا بماهيات الأشياء).
2- (وانکر الوجود الذهني قوم) وهم علي أقسام، وانما انکروا الوجود الذهني لا مطلقاً بل في الجملة بأنهم أنکروه علي النحو الذي قال به الحکماء وهو في الحقيقة نفي لقول الحکماء ومذهبهم (فذهب بعضهم إلي أن العلم إنما هو نوع إضافة من النفس الي المعلوم الخارجي) بمعني عدم حصول شيء في الذهن وما يحصل لنا من العلم ما هو إلا تحقق نوع من الإضافة عندنا کما بين زيد وعمرو من إضافة بالابوة والبنوة لما بينهما من التقابل والإضافة ، وتصير النفس حينئذ عالمة مثلاً بالشيء الکذائي الذي تم تصوره بواسطة الذهن، والعلم بالشيء هو المعلوم کالأبوة والبنوّة تماماً. وهذا في الواقع انکار حقيقي تام للوجود الذهني. وهو قول الفخر الرازي

ماهيّةً(1)

وقال آخرون بالأشباح مع المباينة وعدم المحاکاة . ففيه خطأُ من النفس غير أنّه خطأُ منظّمُ لا يختلّ به حياةُ الإنسان، کما لو فرض إنسان يري الحمرةَ خضرةً دائماً فيرتّب علي ما يراه خضرةً آثارَ الحمرة دائماً (2)

والبرهان علي ثبوت الوجود الذهنيّ أنّا نتصوّر هذه الأمور الموجودة في الخارج - کالإنسان والفرس مثلاً - علي نعتِ الکلّيّة والصرافة، ونحکم عليها بذلک، ولا نرتاب أن لمتصوَّرِنا هذا ثبوتاً ما في ظرفِ وجداننا، وحَکَمنا عليه بذلک، فهو موجود بوجودٍ مّا؛ وإذ ليس بهذه التعوت موجوداًفي الخارج لأنّه فيه علي نعت الشخصّية والاختلاط فهو موجودُ في ظرفٍ آخر لا تترتّب عليه فيه آثاره الخارجيّة ونسمّيه : «الذهن»(3)

ص: 214


1- (وذهب بعضهم - ونسب الي القدماء - ان الحاصل في الذهن عند العلم بالأشياء أشباحها المحکية لها) فإن الأشباح تحکي عنها بنحو من الحکاية من غير أن تظهر ماهياتها، کالصورة التي تحکي عن الإنسان الخارجي أو الشيء الخارجي، سوي آنها ليست بماهيته کما يحاکي التمثال لذي التمثال) والصورة لذي الصورة (مع مباينتهما ماهيّة).
2- (وقال آخرون) وقيل انّهم جماعة من المتکلمين أنها أشباح غير حاکية فقالوا: (بالاشباح مع المباينة وعدم المحاکاة) أي أنها اشباح مباينة للماهية الخارجية وکذلک لا تحکي عن تلک الماهية اصلاً ولهذا فالأفضل أن يقال أنها رموز وعلامات. (ففيه خطأ من النفس) أي حين يحصل لنا علم بشيء خارجي يتخيل لنا اننا أدرکنا ماهية ذلک الشيء الخارجي، والحال أنه خطأ من النفس لأننا في الحقيقة أدرکنا شيئا يمکن أن يکون رمزاً وعلامة لذلک الشيء الخارجي (غير أنه خطأُ منظم و مرتب (لا تختلّ به حياة الإنسان...الخ) ولهذا لا تختلّ به حياة الإنسان.
3- (والبرهان الأول من البرهانين اللذين أقامهما هنا (علي ثبوت الوجود الذهني) حقيقةً، أن ما يتحقق في الخارج من الأشياء انما يتحقق بوصف الشخصية وبوصف الاختلاط، أعني أن زيداً المتحقق في الخارج زيد شخصي، ولا يوجد في الخارج إنسان کلي إذ الوجود مساوق للتشخص، ثم اضف الي ذلک أن زيداً، المتحقق في الخارج ترافقه مجموعة من الأعراض فهو علي سبيل المثال أبيض اللون أجعد الشعر واسع العينين عريض ما بين المنکبين أزرق الحدقتين نحيف الجسم قصير القامة عالم في الرياضيات صاحب دار کذائي مولود في المدينة الکذائية يعيش في الفترة الکذائية من الزمان والمکان الکذائي وهلمّ جرّا من عشرات بل مئات الأعراض والمشخصات والخصائص الذاتية والعرضية وما أشبه، فهذه الماهية الجوهرية تتحقق مع مجموعة کبيرة من الماهيات العرضية ، إذ لا يوجد في الخارج ماهية صرفة خالية من الأعراض واللوازم الخارجية ، إذن نحن نتصور الشيء بصورته الکلية ، ونتصور له أحکاماً بما انّه کلي وصرف محض، وهذه الأحکام التي يتم إثباتها لهذا الکلي ونتصورها له ونقول صرف الشيء لا يتثني، وصرف الشيء واحد، هي جميعاً أحکام ثبوتية للمدرک، وبما انّه لا يوجد شيء في الخارج بوصف الصرافة والکلية المحضة، علمنا أن هناک ظرفاً آخر تتحقق فيه موضوع هذه القضية، وهذا الظرف هو الذهن. والحاصل (إنا نتصور هذه الامور الموجودة في الخارج کالإنسان والفرس مثلاً علي نعت الکلية والصرافة) أي الأشياء الموجودة في الخارج علي نحو الشخصية ندرکها بصورة الکلي والصرف، واعلم أنّه في البداية عدّ هذا البرهان برهانين علي غرار ما ورد في شرح المنظومة حيث تم ذکر الکلية في موضع والصرافة في موضع آخر بوجه آخر، وقد عدهما هنا وجهة واحدة ، إذن الموجودات في الخارج علي نحو الشخصية والاختلاط ندرکها بنحو الکلية والصرافة (ونحکم عليها) أي علي تلک الأمور الموجودة في الخارج (بذلک) أي بالکلية والصرافة، إذ بعد ادراکنا لها نقول من الإنسان کلي أو صرف (ولا نرتاب ان المتصورنا هذا ثبوتاً ما في ظرف وجداننا وحکمنا عليه بذلک) فإنا ندرک شيئاً نقول إنّه کلي أو صرف، إذن ندرک ثبوت، وهذا الثبوت ليس في الخارج، فلزم کونه في الذهن، ومعني کلامه انا لا نشک أن لما تصورناه صرفية وکلّيّة حيث حکمنا عليه بالصرفية أو الکلية في ظرف وجداننا وحکمنا عليه بالکلية والصرافة (فهو موجود بوجود ما) أي بنحو من الوجود (واذ ليس بهذه النعوت موجوداً في الخارج) حيث لا يوجد شيء في الخارج بهذا الوصف وهو الکلية والصرافة (لأنه) أي الشيء (فيه) أي في الخارج (علي نعت الشخصية والإختلاط) موجود، فأين يوجد هذا الذي أدرکناه بنحو الکلية والصرافة؟ (فهو موجود في ظرف آخر غير الخارج و(لا يترتب عليه فيه) أي في الظرف الآخر. وهو الذهن - (آثاره الخارجية، ونسميه) أي نسمي هذا الظرف الآخر (الذهن .).

وأيضاً نتصوّر أُموراً عدميّةً غيرَ موجودين في الخارج، کالعدم المطلق والمعدوم المطلق واجتماع النقيضين وسائر المجالات، فلها ثبوتُ مّاعندنا لاتّصافها بأحکامٍ ثبوتيّةٍ کتميُّزها من غيرها وحضورها لنا بعد غيبتها عنّا وغير

ص: 215

ذلک ، وإذ ليس هو الثبوت الخارجيّ لأنّها معدومة فيه ففي الذهن (1)

ولا نرتاب أن جميع ما نعقله من سنخ واحير، فالأشياء کما أن لها وجوداً في الخارج ذا آثارٍ خارجيّةٍ ، لها وجودُ في الذهن لا تترتّب عليها فيه تلک الآثار الخارجيّة ، وإن ترتّبت عليها آثار أخَر غير آثارها الخارجيّة الخاصة(2)

ص: 216


1- البرهان الثاني، انا تارة نتصور امورة عدمية ونثبت لها حکماً وجودياً ، وتارة نتصور اموراً عدمية ونسلب منها حکماً، وهذا في الواقع يسمّي سلب الحکم، وحينئذ فلا يلزم وجود موضوع له، أما في الحالة الأولي وهي اثبات حکم وجودي لأمر عدمي، فهو بحاجة إلي موضوع ثابت موجود إذ ثبوت شيء لشيء فرع ثبوت المثبت له، والعدم لا ثبوت له في الخارج، نعلم ان لهذا العدم وجوداً في ظرف الذهن. وأيضاً نتصور أموراً عدمية غير موجودة في الخارج کالعدم المطلق والمعدوم المطلق واجتماع النقيضين وسائر المحالات) کشريک الباري جل وعلا، وان کان هذا مفهوماً ثبوتياً فلها ثبوت ما عندنا) لماذا؟ (لاتصافها بأحکام ثبوتية) فنقول هذا العدم غير ذلک العدم (کتميزها من غيرها) والتميز صفة ثبوتية نثبتها للعدم المضاف (وحضورها لنا بعد غيبتها عنا) فنقول مفهوم العدم حاضر عندنا بعد ما کان غائباً عنا، فإن هذا حکم ثبوتي للعدم (وغير ذلک من الأحکام الثبوتية للعدم (اذ ليس هو الثبوت الخارجي) فهذا الحکم الثبوتي کيف حصل للعدم والعدم غير ثابت في الخارج ولا متحقق فيه ؟ (لأنها معدومة في الخارج) فأين هو العدم إذاً ؟ (ففي الذهن).
2- قد يشکل علي ما تقدم بأن الذي ثبت بهذا البرهان هو وجود الکلي وحصوله للذهن لأنه لا تحقق له في الخارج، وهکذا ثبت به وجود المعدوم في الذهن لعدم تحققه في الخارج، وهذا لا يثبت تحقق المفاهيم الثبوتية في الذهن أيضاً، فزيد مثلاً في الخارج لأن المفاهيم الشخصية خارجية، ولا يثبت بهذا البرهان وجود المفاهيم الشخصية في الذهن، ثم إن هذا البرهان أثبت وجود المفاهيم العدمية في الذهن، ولم يثبت وجود المفاهيم الثبوتية في الذهن، والحال أن الوجود الذهني المقصود بکلامکم هذا، لا يختص بالمفاهيم العدمية والکلية بل قصدتم به مطلق الوجود الذهني الشامل للکلي والجزئي والمفاهيم العدمية والمفاهيم الثبوتية ، فما الجواب ؟ الجواب : انّه لا فرق بين إدراکنا للمفهوم العدمي والمفهوم الثبوتي، إذ ليسا في وعائين مختلفين ، فأينما تحققت المفاهيم العدمية تحققت المفاهيم الثبوتية وظرفهما واحد. ولا نرتاب) هذا دفع دخل الاشکال مقدر تقدم بايجاز (ان جميع ما نعقله من سنخ واحد) سواء کان مفهوماً عدمياً ام مفهوماً وجودياً ، کلاهما يعقلان ويدرکان في ظرف ووعاء واحد، فحين نقول العدم متميز فإن مفهوم التميز ثبوتي، فإن لم يتحقق في الذهن کيف يمکن اثباته لأمر ذهني وهو العدم إذ لا شک أن العدم لا يتصور إلا في الذهن فاثبات التميز له لا يمکن أن يتصور أو يتحقق الا في الذهن والشيء الخارجي لا يثبت للمفهوم الذهني (فالاشياء کما أن لها وجوداً في الخارج ذا آثار خارجية لها) أيضاً (وجود في الذهن لا يترتب عليها فيه) أي في الذهن (تلک الآثار الخارجية، وان ترتبت عليها) أي علي تلک الأشياء (آثار أخر غير آثارها الخارجية الخاصة) وفي الحقيقة تلک الآثار المترتبة عليها في الذهن ليس ترتبها عليها بسبب أنها وجودات ذهنية بل بما أنها وجودات خارجية، وقد قلنا ان تقسيم الموجود الي الوجود الذهني والوجود الخارجي ليس تقسيماً حقيقياً ونفسياً أي ليست الوجودات علي قسمين في الحقيقة ، بل الوجود مساوق للشخصية والخارجية وهذا : التقسيم ، تقسيم اضافي، اذ بعض الوجودات التي هي وجودات خارجية أيضاً عند مقارنتها و مقايستها بالوجودات الخارجية الاخري يمکن أن تکون وجودات ذهنية لتلک المجموعة من الوجودات الخارجية المقابلة لها من جهة عدم ترتب آثار تلک الوجودات علي هذه الوجودات الذهنية والا فانّها أيضاً وجودات خارجية ، کما نقول الموجود إما بالقوة أو بالفعل، اذ کل ما في الخارج فعلي وبالفعل ، وأما کونها بالقوة فهو في مقام مقارنتها وعند مقايستها بالکمال الذي قد يحصل لها فيما بعد، والا فمن جهة إنّها موجودة فهي بالفعل، أو نقول الموجود أما واحد أو کثير، فالوجود مساوق للوحدة لا ينفک عنها ، والمراد ان نفس هذا الوجود حال کونه واحدة نجده ذا قابلية للانقسام إلي اعداد و آحاد ، عند مقارنتها بشيء آخر، مع عدم قابلية الشيء الآخر المقابل له - لهذا الانقسام، فمن هذه الجهة يکون کثيراً

ولو کان هذا الذي نعقله من الأشياء هو عين ما في الخارج، کما يذهب إليه القائل بالاضافة، لم يمکن تعقُّل ما ليس في الخارج کالعدم والمعدوم، ولم يتحقق خطأُ في علمٍ(1)

ص: 217


1- بعد ما اثبت الوجود الذهني و تحقق الصور والمفاهيم في هذا الذهن، شرع هنا في اثبات الدعوي الثالثة وهي دعوي مطابقة هذا الوجود الذهني لذاک الوجود الخارجي المحکي عنه ، وذلک بابطال القولين القائلين بعدم المطابقة الذي يستلزم منه إثبات صحة المطابقة : (ولو کان هذا الذي نعقله من الأشياء) هذا ردّ علي القول الأول القائل بالاضافة والمنکر للوجود الذهني، بأن العلم لو کان إضافة فالاضافة ينبغي أن نتحقق بين شيئين خارجيين، فهناک نفس خارجية وهناک معلوم ينبغي کونه في الخارج حتي تتحقق بينهما الإضافة ويصير علما. وتتحقق هذه الإضافة عند تحقق الطرفين ، ولهذا يلزم وجود معلومنا في الخارج حتي تتحقق الإضافة للنفس به ، وقد ثبت أن الکلي غير موجود في الخارج، فکيف تتحقق الإضافة للنفس به، وهل يمکن أن تضاف النفس إلي العدم ؟ فثبت ان العلم غير الإضافة (ولو کان هذا الذي نعقله من الأشياء، وهو العلم هو عين ما في الخارج، هذا هو القول بالاضافة ، أي بناء علي کون العلم اضافة ، فانا ندرک نفس الشيء الخارجي وإدرا که يعني اضافة النفس اليه ، والقائلون بالاضافة يدعون أن المعلوم عين الشيء الخارجي لا صورته ومفهومه (کما يذهب اليه القائل بالاضافة) ولو کان کذلک لم يمکن تعقل ما ليس في الخارج کالعدم والمعدوم) فکيف نعقلهما؟ ثم انّه ينبغي عدم وقوع الخطأ فيه أبدا، اذ عند وجود العلم لابد من وجود الإضافة إلي شيء خارجي، والعلم عندکم ليس إلا الإضافة والإضافة تتحقق فلا خطا هناک ، إذ الخطأ يحدث عندما لا تکون الصورة العلمية مطابقة للخارج، وقد أنکرتم الصورة العلمية ، ولا شيء لديکم سوي النفس والشيء الخارجي والاضافة المتحققة بينهما (ولم يتحقق خطأ في علم) فبطل هذا القول أيضاً.

ولو کان الموجود في الذهن شبحاً للأمر الخارجي، نسبتُةُ إليه نسبةَ التمثال إلي ذي التمثال، إرتفعت العينيّة من حيث الماهية ولزمت السفسطة، لعَؤد علومنا جهالات ؛ علي أنّ فعليّة الإنتقال من الحاکي إلي المحکيّ تتوقّف علي سبق علم بالمحکيّ، والمفروض توقف العلم بالمحکيّ علي الحکاية (1)

ص: 218


1- أما بطلان القول الثالث : (ولو کان الموجود في الذهن شبحة للأمر الخارجي. نسبته إليه نسبة التمثال الي ذي التمثال ، ارتفعت العينية من حيث الماهية) إذ القول الثالث عبارة عن ان علاقة المفهوم الذهني أو الصورة الذهنية مع الشيء الخارجي علاقة الشبحاً، کالتمثال وذي التمثال، ومعناه اننا لم ندرک ماهية الشيء الخارجي، فلم نعلم بالواقع، وهو السفسطة ، إذ الشکاکون والسوفسطائيون يقولون بعدم امکان العلم بالخارج وهو مطابق لقولکم هذا، وعليه، فلا إتحاد بين المعلوم بالعرض والمعلوم بالذات، وهو الصورة الذهنية من جهة الماهية ، ولا عينية بينهما، ومن ذلک الزمت السفسطة) وذلک العود علومنا جهالات) اذ العلم لا يکون علمة الا اذا طابق الواقع، وإلا صار جهلاً محضاً. (علي) أي بالإضافة الي اشکال آخر يرد علي القول الثالث هو (ان فعلية الانتقال من الحاکي الي المحکي) أي لو کان لدينا حال و محکي عنه واراد الحاکي ان يکون فعلياً عندنا بالنسبة إلي المحکي عنه بأن يرينا شيئاً فإن تلک الفعلية (لا تتوقف علي سبق علم بالمحکي) قبل تصور الحاکي أو رؤيته (والمفروض) عندهم (توقف العلم بالمحکي علي ص: 218 الحکاية) أي أننا لا نعرف المحکي، وانما نعرف الحاکي فقط، ويلزم منه الدور، اذ يتوقف معرفة الحاکي علي معرفة المحکي و توقف معرفة المحکي علي معرفة الحاکي، وهو دور باطل، وعليه فلن يحصل لنا العلم بالحقيقة أصلاً.

ولو کان کلّ علم مخطئاً في الکشف عمّا وراءه لزمت السفسطة وأدّي إلي المناقضة ، فإن کون کلَّ علم مخطئاً يستوجب أيضاً کون هذا العلم بالکلّيِّة مخطئاً فيکذب، فيصدق نقيضه وهو کون بعض العلم مصيباً(1)

فقد تحصل أن للماهيات وجودة ذهنية لا تترتب عليها فيه الآثار کما أن لها وجود خارجي تترتب عليها فيه الآثار. وتبين بذلک إنقسام الموجود إلي خارجي وذهني(2)

ص:219


1- أما بطلان القول الرابع وهو أکثرها بعداً عن الواقع لادعاء أصحابه عدم وجود أي ارتباط بالخارج، وأن ما ندرکه ليس إلّا من قبيل الرموز والعلامات، وانّها مجرد أخطاء مرتبة تحصل لأذهاننا لاصلة لها بمتن الواقع، وردّ المؤلف (نور الله مرقده) : إنه (ولو کان کل علم مخطئاً في الکشف عما وراءه لزمت السفسطة) بل أدي إلي ما هو أدهي من السفسطة أعني ادي الي المناقضة، فإن کون کل علم مخطئاً ، يستوجب أيضاً کون هذا العلم بالکلية مخطئا) وهو قولنا: «کل علم مخطيء» (فيکذب) هذه القضية، وحيث کذبت هذه القضية (فيصدق نقيضة، وهو کون بعض العلم مصيباً ). وحاصله إنا لو نفينا وجود العلاقة بالخارج و نفينا العلم بالواقع، فأما أن تکون هذه القضية صادقة واما کاذبة ، فإن کانت صادقة أعني لم يکن لنا أي طريقة أو طريق للوصول الي الواقع الخارجي - علي ما في القضية -، لزم کذب نفس هذه القضية، بدليل کون هذا علماً أيضاً، وهو نفي الطريق الي الخارج، أي نعلم ان علومنا مجموعة من الأخطاء، وأحد هذه العلوم، قولنا «علم» في القضية السابقة، فلزم کونها کاذبة خاطئة، واذا ثبت خطؤها لزم صدق نقيضها وقضية «کل علمنا خطأ أو کل علومنا خطأ» نقيضها «بعض علمنا حقيقة أو بعض علومنا حقائق»، فإن قلتم النقيض خطأ أيضاً، وقعتم في محذور التناقض والسفسطة .
2- ) (وقد تحصل) بعد بطلان هذه الأقوال الثلاثة أعني الثاني والثالث والرابع، (ان للماهيات وجود ذهنية لا تترتب عليها) أي علي تلک الماهيات (فيه) أي في الذهن (الآثار) الخارجياً (کما أن لها وجودة خارجية تترتب عليها) أي علي تلک الماهيات (فيه) أي في الخارج الآثار الخارجية ..الخ.

وقد تبيّن بما مرّ أُمور:

الأمر الأوّل : أن الماهية الذهنيّة غيرُ داخلةٍ ولا مندرجةٍ تحت المقولة التي کانت داخلةٍ تحتها وهي في الخارج تترتّب عليها آثارها، وإنما لها من المقولة مفهومها فقط ؛ فالإنسان الذهنيّ وإن کان هو الجوهر الجسم الناميّ الحسّاس المتحرّک بالإرادة الناطق، لکنّه ليس ماهيّةً موجودةً لا في موضوع بما أنّه جوهر ، ولا ذا أبعاد ثلاثة بما أنّه جسم ، وهکذا في سائر أجزاء حدّ الإنسان؛ فليس له إلا مفاهيم ما في حده من الأجناس والفصول من غير ترتب الآثار الخارجيّة، ونعني بها الکمالات الأوّليّة والثانويّة ؛ ولا معني للدخول والاندراج تحت مقولة إلّا ترتّب آثارها الخارجيّة، وإلا فلو کان مجرّد انطباق مفهوم المقولة علي شيءٍ کافياً في اندراجه تحتها کانت المقولة نفسُها مندرجةً تحتَ نفسِها لحملها علي نفسُها ، فکانت فرداً لنفسها؛ وهذا معني قولهم: «إن الجوهرُ الذهنيّ جوهرُ بالحمل الأوّليّ لا بالحمل الشائع»(1)

ص: 220


1- شرع المؤلف في بيان الاشکالات الواردة علي الوجود الذهني، ودفعها بالرد عليها، ويکمن الرد علي جميع هذه الشبهات في معرفة حقيقة واحدة وهضم مطلب واحد سيأتي بحثه باسهاب وحاصله الفرق بين الحمل الأولي والحمل الشايع. الأمر الأول : ان الماهية ... الي قوله وهي في الخارج، فالإنسان حين کان في الخارج و بوجوده الخارجي، کان م۔ رجاً تحت ماهية الجوهر، وحين صار ذهنياً، فإن مفهوم الإنسان الذهني ليس مندرجاً تحت المقولة ، بل متحد معه مفهوما ، والمراد من الاندراج کونه مصداقاً خارجياً لمفهوم ما ( تترتب عليها آثارها) فلا تندرج تحت تلک المقولة (وانما لها من المقولة مفهومها فقط، فالانسان الذهني وان کان هو الجوهر الجسم النامي الحساس المتحرک بالارادة الناطق، إلا انّه ليس ماهية موجودة لا في موضوع) الجوهر هو ماهية إذا وجدت وجدت لا في موضوع، والمفهوم الذي في ذهني ليس مما اذا وجد وجد لافي موضوع، إذ لا حاجة لنا بوجوده (بما أنه جوهر ، ولا ذا أبعاد ثلاثة بما أنه جسم) فالجسم کذلک، ولکن لا يلزم أن يکون المفهوم الذهني أيضاً ذا أبعاد ثلاثة (وهکذا في سائر أجزاء حد الإنسان... الي قوله ... کانت المقولة نفسها مندرجة تحت نفسها) اذ المقولة تصدق علي الجوهر، فهل يلزم منه دخول المقولة واندراجها تحت الجوهر؟ بأن نقول الجوهر علي أنواع أحد أنواعه المقولة ، وذلک اننا حين نقول الجوهر مقولة نريد أن مفهومهما واحد (لحملها علي نفسها) وبذلک کانت فردا لنفسها، وهذا معني قولهم:...الخ). والحاصل : أن قولنا الإنسان حيوان ناطق في الذهن نعني به کذلک بالحمل الذاتي الأولي، وقولنا عن زيد أو الإنسان الخارجي أنه إنسان أو حيوان نعني ونريد به ذلک بالحمل الشايع الصناعي، فالحمل الشايع يلازمه ترتب الآثار، وليس کذلک بالنسبة إلي الحمل الشايع. بيان ذلک أنا حين نحمل مفهوماً علي شيء ما، تارة يکون الموضوع والمحمول معاً من المفاهيم، اي انّهما مفهومان، ويسمّي الحمل هنا حملاً أولياً ، ومعناه اتحاد الموضوع والمحمول وانّهما شيء واحد، ومفهوم واحد، وتارة لا يلحظ ذلک الموضوع من جهة المفهوم بل يقع الحمل من جهة کونه أمراً موجوداً، ومصداقاً للمحمول، ويستي الحمل هنا حملا شايعا، فالحمل الأولي هو حمل المفهوم علي المفهوم عند اتحاد المفهومين، والحمل الشايع هو اتحاد المصداقين لا المفهومين. ثم ان اتحاد المفهوم - المفهومين - لا يعني ترتب آثار الوجود الخارجي عليه أو عليهما، فلا دخل لنا بالآثار والوجود الخارجي إذ طبع الحمل الأولي بيان المفهوم فحسب، بمعني أن مفهوم الناطق ومفهوم الحيوان الناطق متحدان لا فرق بينهما قط وهو معني الانسان حيوان ناطق بالحمل الأولي کأنک تقول الإنسان إنسان، والإنسان بشر وکلها حمل أولي سواء اتحد اللفظان والمفهومان کالانسان والإنسان أو اختلف اللفظان واتحد المعنيان والمفهومان فقط کالإنسان والبشر، فهما لفظان مترادفإنه أو اختلف المفهومان من حيث الاجمال والتفصيل، کالإنسان والحيوان الناطق الإنسان حيوان ناطق -

وأمّا تقسيم المنطقتين الأفرادَ إلي ذهنيّةٍ وخارجيّةٍ مبنيُّ علي المسامحة

تسهيلاً للتعليم(1)

ص: 221


1- (واما تقسيم المنطقيين الأفراد الي ذهنية وخارجية فمبني علي المسامحة) فإن نتيجة هذا التقسيم أن المفاهيم الموجودة في الذهن مندرجة عندهم تحت الماهيات الخارجية. قالوا: أن القضية الموجبة اما خارجية وهي التي حکم فيها علي افراد موضوعها الموجودة في الخارج، واما ذهنية وهي التي حکم فيها علي الأفراد الذهنية فقط، وأما حقيقية، وهي التي حکم فيها علي الأفراد النفس الامرية محققةً کانت أو مقدّرة». . اذ قد يقال أن الإنسان الموجود في الذهن هو الفرد الذهني للانسان أي ماهية الإنسان، وهذا تعبير مجازي، وذلک أن الإنسان الموجود في الذهن ليس فرداً ذهنياً للماهية، بل الفرد يصدق حين يصدق الوجود، فاذا کان الوجود مندرجاً تحت مقولة ما، قلنا هو فرد من أفراده، واما بناؤّه علي المسامحة فقد جاء (تسهيلاً للتعليم).

ويندفع بما مرّ إشکال أوردوه علي القول بالوجود الذهنيّ ، وهو أنّ الذاتيات متحفظة علي القول بالوجود الذهنيّ، فإذا تعقلنا الجوهر کان جوهراً نظراً إلي انحفاظ الذاتيّات، وهو بعينه عَرَض، لقيامه بالنفس قيام العرض بموضوعه، فکان جوهراً وعرضاً بعينه ، واستحالته ظاهرة (1)

ص: 222


1- (ويندفع بما مر اشکال أوردوه علي القول بالوجود الذهني) تقدم أن المعتزلة قالت بثبوت الأحوال، أعني انّهم کانوا يعتقدون بوجود اشياء ثابتة أي ليست موجودة ولا معدومة ، حدث ذلک بعد شبهة حدثت لديهم في علم الباري جل وعلا بالموجودات قبل أن يوجدها ويخلقها، والشبهة هي انّه لو لم يکن شيء وکانت الأشياء قبل ايجادها معدومة تماما ولم يکن إلا المعدوم والعدم المطلق، فکيف تعلق علم الباري تعالي بالعالم، أذ العلم بشيء ما۔ هو العالم - وهو غير موجود أعني معدوم تماما ، فکيف يجوز أن يعلم به، ولهذا قالوا ان الشيء قبل ايجاده له نوع من الثبوت، وهذا الثبوت واسطة بين الوجود والعدم، وهو زعم باطل إذ لا واسطة بين النفي والايجاب والوجود والعدم يرفضه العقل السليم والحقائق الثابتة لا سيما أنهما نقيضان ولا واسطة بين النقيضين وإلا بطل التناقض وانتفي، لدفع هذه الشبهة قام الفلاسفة بطرح مبحث الوجود الذهني والخارجي لعلاقته بتلک الشبهة کما هو واضح، بل ان القول بالثبوت الذهني يدفع شبهات عديدة کما في هذا الفصل، ثم أن البعض أوردوا شبهات عديدة علي القول بالوجود الذهني ينبغي دفعها والذب عن المدعي بالبرهان القاطع و نقدم أن الرد عليها يتوقف علي الفرق بين الحمل الأولي والعمل الشايع، وهما مصطلحان ظهرا في عصر الشيخ الرئيس وبرزت تماماً في عصر المولي صدر المتألهين الذي لم يأل جهدا في بسطهما ونشرهما وبيان حقيقتهما، والاشکال الاول الذي أورده علي الوجود الذهني (وهو ان الذاتيات منحفظة علي القول بالوجود الذهني) اي علي القول بالوجود الذهني يلزم کون الذاتيات وهي الماهيات منحفظة في الذهن، واذا کانت نفس الماهية منحفظة وموجودة في الذهن فلابد من وجود خواص الماهية وهي الذاتيات في تلک الماهية التي في الذهن، بأن يکون جنسها في الذهن نفس جنسها في الخارج، وفصلها نفس فصلها ، وبناء عليه (فاذا تعقلنا الجوهر) الخارجي کما لو تصورنا زيداً، وليس المراد من التعقل هنا تعقل مفهوم الجوهر، بل معناه العلم بالجوهر الخارجي (کان جوهراً) أي کان ما تصورناه في اذهاننا جوهرة أيضاً، لماذا؟ (نظرة إلي انحطاط الذاتيات) في تلک الماهية، ومن جهة ثانية نجد أنه (وهو بعينه عرض) والحال أن نفس تلک الصورة الذهنية امر عرضي لأنه علم، والعلم من الکيف النفساني وهو من الأعراض، لماذا هو عرض بعينه القيامه) أي الصورة الذهنية (بالنفس والنفس موضوع لها، وقد تقدم أن العرض إذا وجد، وجد في موضوع أي قيام العرض بموضوعه) ولهذا فکان جوهراً و عرضاً بعينه ، واستحالته) أي استحالة کونه جوهراً لا في موضوع وعرض في موضوع في آني وأحد (ظاهرة) لاشک فيها.

وجه الاندفاع: أنّ المستحيل کون شيءٍ واحدٍ جوهراً وعرضاً معاً بالحمل الشائع، والجوهر المعقول جوهر بالحمل الأوّليّ وعَرَضُ بالحمل الشائع، فلا استحالة(1)

وإشکالُ ثانٍ : وهو أن لازِمَ القول بالوجود الذهنيّ أن يکون الجوهر المعقول جوهراً نظراً إلي انحفاظ الذاتيات، والعلم عندهم من الکيفيّات النفسانية ، فالمعقول من الجوهر مندرجُ تحتَ مقولةِ الجوهر وتحتَ مقولةِ الکيف، وهو محالُ، لأدائه إلي تناقض الذات، لکون المقولات متباينةً بتمام الذات. وکذا إذا تعقَّلنا الکم - مثلاً - کانت الصورة المعقولة مندرجةً تحت مقولتَي الکم والکيف معاً ، وهو محالُ. وکذا إذا تعقَّلنا الکيف المبصر - مثلاً - کان مندرجاً تحتَ نوعَين من مقولة الکيف ، وهما الکيف المحسوس والکيف النفسانيّ (2)

ص: 223


1- (وجه الاندفاع ان المستحيل کون شيء وأحد جوهراً وعرضاً معاً بالحمل الشايع) فلا يکون وجوده الخارجي وجوداً جوهرياً ، ووجودة عرضياً في الوقت ذاته، إلا أن الأمر ليس هکذا بل الصحيح والحق أن (الجوهر المعقول جوهر بالحمل الأولي وعرض بالحمل الشايع، فلا استحالة) حينئذ.
2- (واشکال ثاني، وهو أن لازم القول بالوجود الذهني أن يکون الجوهر المعقول جوهراً نظراً إلي انحفاظ الذاتيات) وقد سبق في الأشکال الأول والعلم عندهم من الکيفيات النفسانية) في الاشکال الأول ذکر العرض من غير تعرض الي نوع خاص منه، وأما هذا الاشکال خاص بنوع خاص منه هو الکيف النفساني وعليه فالمعقول من الجوهر مندرج تحت مقولة الجوهر) لاتحاده مع الجوهر الخارجي من جهة الماهية، ومندرج تحت مقولة الکيف) فلزم أندراج ماهية واحدة تحت مقولتين (وهو محال)، وسبب الإستحالة (لأدائه الي تناقض الذات) أي لأنه يلزم منه وجود تناقض في الذات الواحدة. بيان ذلک : اننا حين نقول مندرجة تحت مقولة ، نريد به آن مفهوم المقولة جزء من ماهية هذا الشيء، وقولنا بورودها واندراجها تحت مقولة ثانية يعني أن تلک المقولة جزء ماهيته ، وهاتان المقولتان متباينتان بتمام الذات لا يجتمعان أبدا، ولازم الوجود الذهني اجتماعهما معا الکون المقولات متباينة بتمام الذات وتباين المقولتين بتمام الذات يستلزم عدم أحدهما عند وجود الآخر، : وبالعکس، ولازم القول بوجود الأول کونه موجودة وغير موجود في آن واحد، وهکذا العکس، وهو تناقض ظاهر. . ثم أن المستشکل وسّع دائرة الأشکال، حيث زعم أن التناقض لا ينحصر في الجوهر والعرض بل في غيرهما قائلاً: (وکذا اذا تعقلنا الکم مثلاً، کانت الصورة المعقولة مندرجة تحت مقولتي الکم) لأنه نفس ماهية الکم التي وجدت في الذهن، فالمعقول المتصور في الذهن هو الکم، ومندرجة تحت مقولة (الکيف معاً) لأن المعقول المتصور في الذهن علم والعلم کيف نفساني، فقد اندرج الشيء الواحد تحت مقولتين الا أنهما نوعان من جنس واحد، (وهو محال) أيضاً لعدم امکان کون النوع الواحد من جنسين، وهذا قوله : (وکذا اذا تعقلنا الکيف المبصر مثلاً) فإن الکيف المبصر من مقولة الکيف وبعد تصوره ذهناً يکون علماً وهو من الکيف أيضاً، لکن الاشکال باقي علي حاله، لأن ذاک کيف مبصر ، والکيف المحسوس المبصر نوع من الکيف والکيف النفساني نوع آخر من الکيف ، والشيء الواحد لا يکون نوعين (کان مندرجة تحت نوعين من مقولة الکيف) أحدهما الکيف المحسوس وهو في الخارج، والآخر الکيف النفساني وهو في الذهن. والجواب عنه کالجواب عن سابقه اذ کيف نفساني بالحمل الشايع و تحمل عليه الخصائص بالحمل الأولي، کما جاء في وجه الاندفاع.

وجه الاندفاع: أنّه کيفُ نفسانيُّ بالحمل الشائع، فهو مندرجُ تحته ؛ وأمّا غيره من المقولات أو أنواعها فمحمولُ عليه بالحمل الأوّليّ ، وليس ذلک من الاندراج في شي.

إشکالُ ثالث: وهو أن لازمَ القول بالوجود الذهنيّ کونُ النفس حارّةً وباردةً معاً، ومربّعاً ومثلّثاً معاً ، إلي غير ذلک من المتقابلات عند تصوّرها هذه الأشياء، إذ لا نعني بالحارّ والبارد والمربّع والمثلّث إلّا ما حصلت له هذه المعاني التي توجد

للغير وتَنعَنه(1)

ص: 224


1- قوله : (أن لا نعني بالحار والبارد... الخ) فما هو الحار؟ هو ما حصلت له ماهية الحرارة ، والبارد ما حصلت له ماهية البرودة والمربّع ما حصلت له ماهية الشکل المربّع وهکذا المثلث وغيرها، وهي من المعاني التي توجد للغير) أي يکون وجودها للغير (و تنعته) أي ولازم ذلک ان تکون تلک المعاني ناعتة لذلک الغير ، فإذا حصلت تلک المعاني الشيء نعتته بذلک النعت.

وجه الاندفاع: أنّ الملاک في کون وجود الشيء لغيره وکونه ناعتاً له هو الحمل الشائع، والذي يوجد في الذهن - من برودة وحرارة ونحوهما - هو کذلک بالحمل الأوّليّ دونَ الشائع (1)

وإشکالُ رابع: وهو أنّ اللازم منه کون شيء واحدٍ کلّيّاً وجزئيّاً معاً وبطلانّه ظاهرُ. بيان الملازمة: أن الإنسان المعقول - مثلاً - من حيث تجويز العقل صدقَه علي کثيرين کليُّ، وهو بعينه من حيث کونه موجوداً قائماً بنفسٍ واحدةٍ شخصيتّةٍ يتميز بها عن غيره جزئيُّ فهو کليُّ وجزئي معاً (2)

ص: 225


1- (وجه الاندفاع: أن الملاک... الخ) أي قولنا وجود الشيء لغيره يحصل فيما اذا کان هناک مفهوم صل عليه بالوجود الشايع بحيث يکون هذا المفهوم هو النساعت له، کالسواد الخارجي الذي يقال أن وجوده للغير، فاننا ننتزع وصف الأسود منه ونحمله علي الجسم بالحمل الشايع بخلاف النفس (والذي يوجد في الذهن) والنفس (من برودة وحرارة ونحوهما هو کذلک) أي برودة وحرارة (بالحمل الأولي دون الشايع) وبعبارة أوضح: الحار عبارة عما تکون فيه وجود الحرارة لا مفهومها، وما في النفس والذهن هو مفهوم الحرارة لا مصداقها.
2- (و اشکال رابع: وهو أن اللازم منه) أي من القول بالوجود الذهني (کون شيء وأحد) والمراد بالشيء هنا المفاهيم الماهوية کالإنسان والبقر والغنم...... الخ (کلياً وجزئياً معاً). بيان الاشکال اننا عند تصور جزئي من الجزئيات، نجد أنه من جهة کونه مطابقاً للخارج، لابد من کونه جزئياً، لکنه بعد حضوره في الذهن يکون قابلاً للإنطباق والصدق علي کثيرين، فهو من جهة انطباقه في النفس علي کثيرين، کلي ، ومن جهة مطابقته للجزئي الخارجي وصدقه عليه ، فهو جزئي ، إذن ثبت انّه جزئي وکلي في آن واحد. وبطلانّه ظاهر) لکن لا علي غرار الإجابات والردود السابقة، ولکن يختلف عن تلک الردود. بيان ذلک: أن المراد من الجزئي المتصور في الذهن ليس المفهوم الجزئي، بل المراد هو أحد مصاديق ماهية موجودة في الخارج بالوجود الشخصي وموجودة في الذهن بالوجود الکلي، ولازمه کون الإنسان جزئياً وکلياً في آن واحد، هذا هو الأشکال، ولا يمکن الاجابة عنه بالحمل الأولي والحمل الشايع لأن الإنسان سواء حملنا عليه الجزئي أو الکلي کان الحمل شائعاً من غير فرق، از مفهوم الإنسان غير مفهوم الجزئي کما انّه غير مفهوم الکلي أيضاً . وبيان الجواب : أن لمفهوم الإنسان الذي في الذهن - الإنسان بوجوده الذهني - حيثيتين، أحداهما: أنه بالقياس بالوجودات الخارجية يصدق علي کثيرين، وهذه حيثية قياسية لعدم تحققها لمفهوم الإنسان ، والثانية : أن ذات الإنسان عبارة عن الحيوان الناطق، فما هو مفهوم الإنسان ؟ وقد عرفنا هاتين الحيثيتين فلما نقول الإنسان حيوان ناطق، فالحمل أولي ، وعندما نقيس مفهوم الإنسان الذهني مع الأشياء الخارجية نجده قابلا للحمل علي کثيرين ، فهو من هذا الحيث کلي، وحمل الکلي عليه يکون بالحمل الشايع. فالحاصل أن لمفهوم الإنسان في الذهن حيثيات ثلاث: 1- حيثية المفهوم بما انّه مفهوم، ومن هذا الحيث لا يحمل عليه شيء لا الکلي ولا الجزئي، فلا يحمل عليه إلا اجناسه وفصوله، وکل ما يحمل عليه من هذا الحيث حمل اولي. وهناک حيثيتان أخريان اشار اليهما المصنف ب وهما: 2- حيثية الوجود النفسي من غير قياس الي غيره، وبهذا اللحاظ والحيث يعد وجوداً شخصية لا يصح اطلاق الکلي عليه لأن الوجود مساوق للشخصية، بل جزئي. 3- حيثية قياسية وعندها يقبل الصدق علي کثيرين ، فالوجود الذهني بهذا الحيث ينطبق علي کثيرين ويطلق عليه الکلي فهو بقطع النظر عن مقارنته بالخارج وبمجرد لحاظه في نفسه، وجوده جزئي شخصي، وبلحاظ مفهومه حيوان ناطق - مثلاً في الإنسان ، وهذه حيئية جديدة ذکرها المؤلف غير الحمل الأولي والشايع.

وجه الاندفاع: أنّ الجهة مختلفةُ، فالإنسان المعقول - مثلاً - من حيث إنّه مَقيس إلي الخارج کلّيُ، ومن حيث إنه کيف نفسانيُّ قائمُ بالنفس غيرُ مَقيس إلي الخارج جزئيُّ.

وإشکالُ خامس : وهو أنّا نتصوّر المحالات الذاتيّة ، کشريک الباري، وسلب الشيء عن نفسه واجتماع النقيضين وارتفاعهما، فلو کانت الأشياء حاصلةً بذواتها

ص: 226

في الذهن استلزم ذلک ثبوتَ المحالات الذاتيّة (1)

وجه الإندفاع: أن الثابت في الذهن إنّما هو مفاهيمها بالحمل الأوّليّ لا مصاديقها بالحمل الشائع. فالمتصوّر من شريک الباريء هو شريک الباريء بالحمل الأوّليّ. وأمّا بالحمل الشائع فهو ممکنُ وکيفُ نفسانيُّ معلولُ للباري مخلوقُ له؟(2)

الأمر الثاني: أن الوجود الذهنيّ لَمّا کان لذاته مَقيساً إلي الخارج کان بذاته حاکياً لما وراءه، فامتنع أن يکون للشيء وجودُ ذهنيُ من دون أن يکون له وجودُ خارجيُّ محقُّقُ کالماهيّات الحقيقيّة المنتزعة من الوجود الخارجيّ، أو مقدَّرً کالمفاهيم غير الماهويّة التي يتعمّلها الذهن بنوعٍ من الاستمداد من معقولاته ،

ص: 227


1- (واشکال خامس: وهو أنا نتصور) في أذهاننا (المحالات الذاتية التي يستحيل وجودها في الخارج لذاتها، فلا ماهية لها في الخارج (کشريک الباري) تبارک و تعالي (وسلب الشيء عن نفسه، واجتماع النقيضين، وارتفاعهما) أي ارتفاع النقيضين (فلو کانت الأشياء) کما تزعمون (حاصلة بذواتها) وماهياتها (في الذهن عند تصورها (استلزم ذلک) أي القول بحصول ذواتها وماهياتها في الذهن (ثبوت المحالات الذاتية في الخارج و ثبوت ماهياتها في الخارج، وهو محال ، فالوجود الذهني محال مثله.
2- (وجه الاندفاع أن الثابت في الذهن) بعد تصور هذه المحالات الذاتية (انما هو مفاهيمها) أي مفاهيم المحالات الذاتية (بالحمل الأولي لا مصاديقها بالحمل الشايع) نعم ان الموجود في الذهن هو اجتماع النقيضين لکن من جهة مفهوم اجتماع النقيضين وما أشبه من سائر المحالات الذاتية، وهو اجتماع النقيضين بالحمل الأولي لا الشايع، فإن مفهوم شريک الباري وسلب الشيء عن نفسه وما أشبه، تحققت للذهن ولا تناقض بين المفاهيم، وانما التناقض يقع بين المصاديق وذلک بسلب مصداق الشيء منه ، واما المفهومان بما انّهما أمران وجوديان فلا تناقض بينهما. إذن فالمتصور من شريک الباري هو شريک الباري بالحمل الأولي) اي تصور مفهوم شريک الباري تبارک و تعالي ، وأما الذي يستحيل وجوده و تحققه وتصوره کفر و شرک، فهو تصور مصداق شريک الباري ولهذا قال بي : (واما بالحمل الشايع) وهو تصور مصداق شريک الباري (فهر) اي تصور هذا المصداق (ممکن) ليس بواجب، وکذلک (کيف نفساني معلول للباري) جل جلاله ، کما أنه - أعني شريک الباري مفهومة - (مخلوق له تبارک وتعالي، وما کان معلولا ومخلوقة استحال کونه شريکة للباري جل وعلا.

فيتصوّر مفهوم العدم. مثلاً - ويقدر له ثبوتاً مّا يحکيه بما تصوّره من المفهوم(1)

وبالجملة شأن الوجود الذهنيّ الحکاية لما وراءه من دون أن تترتّب آثار المحکيّ علي الحاکي. ولا ينافي ذلک ترتُّبَ آثار نفسه الخاصّة به من حيث إنّ له ماهيّة الکيف. وکذا لا ينافيه ما سيأتي أن الصور العلمية مطلقاً مجرّدةُ عن المادّة ، فإنّ ترتُّبَ آثار الکيف النفساني وکذا التجرّد حکمُ الصور العلميّة في نفسها والحکاية ، وعدم ترتُّبِ الآثار حکمها قياساً إلي الخارج، ومن حيث کونها وجوداً ذهنيّاً لماهيّة کذا خارجيّةُ(2)

ويندفع بذلک إشکالُ أوردوه علي القائلين بالوجود الذهني؛ وهو أنا نتصوّر الأرض علي سَعَتها بسهولها و براريها وجبالها وما يحيط بها من السماء بأرجائها البعيدة، والنجوم والکواکب بأبعادها الشاسعة ؛ وحصول هذه المقادير العظيمة في

ص: 228


1- (الأمر الثاني : أن الوجود الذهني لما کان لذاته مقيساً الي الخارج) وان اضافته إلي الخارج ذاتية له نابعة من حاق ذاته، وحيثية ذاته حيثية قياسية ، بمعني أن کل وجود ذهني هو بالضرورة وجود ذهني لشيء ما في الخارج، لما کان الأمر کذلک (کان بذاته) أي الوجود الذهني (حاکياً لما وراءه) وهو الوجود الخارجي (فامتنع أن يکون....) إلي قوله : ( کالماهيات الحقيقية المنتزعة من الوجود الخارجي) فسواءً کان هذا الوجود الخارجي وجوداً حقيقياً واقعياً کالماهيات المنتزعة من الوجود الخارجي (أو) کان هذا الوجود الخارجي (مقدّراً) مفروضاً معتبراً (کالمفاهيم غير الماهوية التي يصنعها و يتعملها الذهن بنوع من الاستمداد من معقولاته) اي المعقولات الذهنية (فيتصور الذهن (مفهوم العدم - مثلاً - ويقدر له) اي المفهوم العدم ( ثبوتاً) ومصداقاً (ما، يحکيه) أي الذهن يحکي المصداق المفروض والمقدر ربّما تصوره) أي بواسطة ما تصوره (من المفهوم والمراد هنا مفهوم العدم.
2- (وبالجملة) عند لحاظنا للصورة العلمية کحقيقة خارجية، من غير قياسها الي مصاديقها - أو مصداقها - فإن هذه الصورة العلمية من الکيف النفساني، المجردة من المادة ولها آثار خاصة، واما اذا لاحظنا الصورة العلمية هذه بالقياس الي مصداقها. فقلنا مثلاً أن هذه الصورة العلمية ، صورة علمية للانسان الخارجي، فإن هذه الصورة غير حاملة لما تحکيه من آثار، نعم تکون حاکية عن تلک الآثار الخارجية .

الذهن - أي إنطباعها في جزءٍ؛ عصبيَّ أو جزءٍ دماغيَّ - من انطباع الکبير في الصغير ، وهو محالُ (1)

ص: 229


1- (ويندفع بذلک اشکال أوردوه...الخ) وکأنها نشأت عن اختلاف وقع بين الفلاسفة حول کيفية تحقق وحصول رؤية الأشياء الخارجية، وقد کان فلاسفة اليونان القديم يعتقدون بأن رؤية الأشياء الخارجية تحصل بانطباع صورها في الذهن، و تنطبع کذلک في العين ، کالصورة التي تنعکس علي المرأة، وبواسطة تلک الصورة المنطبعة ندرک الأشياء. واعتقد بعضهم الآخر أن الرؤية نتحقق بخروج الشعاع لا الانطباع، بمعني أن شعاعاً من العين تسقط علي الشيء المرئي لتتحقق الرؤية لصاحبها، واشتهر أصحاب القول الأول بالانطباعيين، کما اشتهر اصحاب القول الثاني بالشعاعيين. ثم وقع الخلاف بينهم هل الصور المرئية والمدرکة مجردة ام مادية ؟ فکان الفلاسفة يعتقدون بأن الادراکات الحسية مادية ، وحصروا المجرد في الادراکات العقلية، حتي ظهر بطل ساحة الحکمة المتعالية المولي صدر المتألهين فأبطل النظرية واثبت تجرد الادراک مطلقة ، حتي الادراکات المادية ، وسيأتي في المرحلة الحادية عشرة آن شاء الله تعالي. ورد هذا المطلب في باب العلم بهذه المناسبة ، لاثبات تجرد مطلق الادراک حتي الصور الحسية، والبعد الثاني من هذا المطلب يتعلق بالوجود الذهني، وهو أن الوجود الذهني ان کان عبارة عن حضور الشيء بماهيته في الذهن، لزم القول بتحقق المحسوسات بماهياتها المحسوسة في الذهن ، والمرئيات من قسم المحسوسات ، فحين ننظر إلي السماء نري فضاءاً واسعة، ولو اريد انعکاس هذه الماهية في العين ، لزم تحقق صورة مادية کبيرة جداً في العين ، اذ الصورة المادية لا تتحقق إلا في عضو مادي ، سواء کان العضو عيناً أو عبارة عن اعصاب العين أو المخ أو ما أشبه ، فالمهم أن يکون هذا العضو من جسمنا، وانطباع تلک الصورة بکل ما لها من حجم حجيم في عضو من الأعضاء يقتضي کون ذلک العضو بحجم الجسم المرئي ، وهو بديهي الاستحالة لعدم تحققه قطعأ بل استحالة تحققه ، وکيف للصورة الکبيرة أن تنطبع في المحل الصغير بل الصغير جداً قياسا مع بعض الصور، إذن لا تحضر الأشياء الخارجية بماهياتها الخارجية عند شبکية العين مثلاً ، بل المتحقق والحاضر عند الشبکية صورة صغيرة جداً من الشيء المرئي، وهي مختلفة عن الموجود الخارجي المرئي، وعليه فلا يحصل إدراک للشيء الخارجي بعينه، بل يستحيل ذلک. واجيب عن هذا الاشکال : بأن هذا العضو الصغير - أعني العين - قابل للتقسيم الي ما لا نهاية من الأجزاء، ولهذا فإن کل جزء من المرئي الخارجي ينطبع علي جزء من هذا العضو

ص: 230

ومن الواضح أنّ هذه الصور الحاصلة المنطبعة بخصوصيّاتها في محلًّ مادّيًّ مباينةُ للماهيّات الخارجية، فلا مسوّغَ للقول بالوجود الذهنيّ وحضور الماهيّات الخارجيّة بأنفسها في الأذهان(1)

وجه الاندفاع: أنّ ما ذکروه - من الفعل والانفعال المادتين عند حصول العلم بالجزئيات - في محلّه ، لکن هذه الصور المتطبعة ليست هي المعلومة بالذات ، وإنّما

ص: 231


1- (وبذلک يندفع أيضاً اشکال آخر) حاصله أنه من سنخ الأشکال السابق وقريب منه ، وهو أنه بناءاً علي ما تقدم من أن عدم انطباع الأشياء الخارجية بما لها من ماهيات کبيرة، في الأعضاء الصغيرة، دليل علي تجرد الادراک ، فإن قوماً من الفلاسفة أنکروا کون ذلک دليلاً علي تجرد الادراک، بل قدموا طريقة اخري، هي أن الأشياء الخارجية تنطبع في عضو من أجسامنا لکن بالصورة الصغيرة - أو في صورة صغيرة - کتصوير الکاميرا تماما، وتکون النسب والاضافات محفوظة في تلک الصورة، إذن نحن ندرک الشيء في صورته الصغيرة ، وبحسب تجاربّنا نميز الحجم الحقيقي لها فنتصور الشيء أکبر أو أصغر من حجمه الواقعي، وذلک لقلة تجربّة البعض، فلا منافاة بين کون ادراک البصر علي وجه الانطباع. هو ان الاحساس والتخيل علي ما بينه علماء الطبيعة) والمراد بعلم الطبيعة هو علم النفس الفيزيائي ، اذ أثبت علماء الفيزياء إن الاحساس والتخيل يکونان (بحصول صور الاجسام) في الاعضاء (بما لها) أي بما لتلک الاجسام (من النسب والخصوصيات الخارجية) فتلک الاجسام بما لها من النسب والخصوصيات الخارجية تنطبع في (الاعضاء الحساسة) من البدن (وانتقالها، أي تلک الصور الي الدماغ، مع ما لها) اي مع ما لتلک الأعضاء الحساسة من التصرف في تلک (الصور) اذ طبيعة تلک الأعضاء الحساسة کاليد مث تقتضي حصول نوع من الفعل والانفعال والتأثير والتأثر بينها وبين تلک الصور المنطبعة فيها (بحسب طباعها) أي طباع تلک الأعضاء الحساسة الخاصة بها، ثم أن هذه الصور المنطبعة تکون صغيرة جدا (والإنسان ينتقل الي خصوصيات مقاديرها وأبعادها واشکالها بنوع...الخ) بحيث يقيس أجزاء الصور الحاصلة عنده بعضها ببعض فيعرف مقدار حجم کل جزء من تلک الاجزاء (علي ما فصلوه في محله) في علم الطبيعة، ومضي المستشکل في إشکاله قائلا : ومن الواضح أن هذه الصور الحاصلة المنطبعة بخصوصياتها في محل مادي مباينة للماهيات الخارجية) فليست هي الأشياء الخارجية بعينها بل مباينة لها (فلا مسوغ للقول بالوجود الذهني و) هو عبارة عن حضور الماهيات الخارجية بأنفسها في الأذهان) کما يدعي القائلون بالوجود الذهني.

هي أمور مادّيّةُ معدة للنفس تُهيُئُها لحضور الماهيّات الخارجيّة عندها بصور مثاليّةٍ مجرّدةٍ غير مادّيّة بناءً علي ما سيتبيّن من تجرّد العلم مطلقاً ، وقد عرفت أيضاً أن القول بمغايرة الصور عند الحسّ والتخيّل لذوات الصور التي في الخارج لا ينفکّ عن السفسطة (1)

الأمر الثالث : أنّه لمّا کانت الماهيّات الحقيقيّة التي تترتّب عليها آثارها في الخارج هي التي تحلّ الأذهان بدون ترتُّبِ آثارها الخارجيّة ، فلو فرض هناک أمرُ حيثّةُ ذاته عينُ أنّه في الخارج و نفسُ ترتُّب الآثار کنفس الوجود العينيّ وصفاته القائمة به کالقوّة والفعل والوحدة والکثرة ونحوها، کان ممتنع الحصول بنفسها في الذهن؛ وکذا لو فرض أمرُ حيثّةُ ذاته المفروضة حيثيّةً البطلان وفقدان الآثار کالعدم المطلق وما يؤول إليه ، إمتنع حلوله الذهن؟(2)

ص: 232


1- هذا الاشکال مندفع اما (وجه الاندفاع) فهو: (ان ما ذکروه من الفعل والانفعال الماديين عند حصول العلم بالجزئيات) مقبول و(في محله، لکن هذه الصور المنطبعة ليست هي المعلومة بالذات عندنا (وانما هي أمور مادية معدّة للنفس) کما أنها (تهيئوها) أي تهيؤ النفس الحضور الماهيات الخارجية عندها) أي تهيؤ النفس لحضور الماهيات الخارجية مع الصور المثالية المجردة عندها، أي عند النفس (بصور مثالية مجردة غير مادية، بناء علي ما سيتبين من تجرد العلم مطلقاً) حتي في العلم لجزئيات فضلاً عن الکليات التي لا خلاف في تجردها (وقد عرفت أيضاً أن القول بمغايرة الصور عند الحس والتخيل لذوات الصور التي في الخارج لا ينفک عن المغالطة والسفسطة).
2- (الأمر الثالث : أنه لما کانت الماهيات الحقيقية التي تترتب عليها آثارها في الخارج، هي التي تحلّ الأذهان، بدون ترتب من آثارها الخارجية) فإذا أمکن تحقق هذا الأمر بجميع آثاره وخصوصياته صدق عليه الوجود الذهني (فلو فرض هناک أمر حيثية ذاته عين انّه في الخارج) أي حيثيته حيثية خارجية فهذا لو صار في الذهن و تحقق فيه، لم يکن خارجيّاً ، وعليه فلا يمکن ادخال الحيثية الخارجية في الذهن، (و نفس ترتب الآثار کنفس الوجود العيني، وصفاته القائمة به، کالقوة والفعل والوحدة والکثرة ونحوها) بما أنها من شؤون الوجود العيني (کان ممتنع الحصول بنفسها في الذهن) لاستلزام کونه ذهنية خروجه عن ذاته ، وانصراف الشيء عن ذاته محال، (وکذا لو فرض أمر حيثية ذاته المفروضة حيثية

فحقيقةُ الوجود وکلّ ما حيثّيةُ ذاته حيثيّةً الوجود، وکذا العدم المطلق وکلّ ما حيثيةُ ذاته المفروضة حيثيّةُ العدم يمتنع أن يحلّ الذهن حلولَ الماهيات الحقيقيّة . وإلي هذا يرجع معني قولهم: «إن المحالات الذاتية لا صورة صحيحة لها في الأذهان »

وسيأتي إن شاء الله بيان کيفية انتزاع مفهوم الوجود وما يتّصف به والعدم وما

يؤول إليه في مباحث العقل والعاقل والمعقول .

ص: 233

ص: 234

المرحلة الرابعة

في موادّ القضايا

الوجوب والامتناع والإمکان)

وانحصارها في ثلاث

س

والمقصود بالذات فيها بيان انقسام الموجود إلي الواجب والممکن ، والبحث عن خواصّهما، وأمّا البحث عن الممتنع وخواصّه

فمقصودُ بالتّبع وبالقصد الثاني

وفيها: ثمانية فصول

ص: 235

ص: 236

المرحلة الرابعة في مواد القضایا

الفصل الأوّل في أنّ کل مفهوم إمّا واجب

وإمّا ممکن وإمّا ممتنع

نقرأ في هذا الفصل :

1- الوجود بالنسبة الي مفهوم من المفاهيم إما ضروري أم لا، وعلي الثاني فإما أن يکون

العدم ضرورية له أو لا، فالاول واجب والثاني ممتنع والثالث ممکن.

2- موضوع الإمکان هو الماهية، والماهية فاقدة للضرور تين - أعني ليس لها ضرورة

الوجود ولا ضرورة العدم

3- لکل ممکن ماهية أي کل ممکن زوج ترکيبي له ماهية ووجود. 4- الإمکان لازم للماهية ، وإلا کانت الماهية إما واجبة أو ممتنعة وهو محال.

5- يشترط في اخذ مفهوم ما في حد ماهية و تعريفها، أن يقبل الحمل علي تلک الماهية

بالحمل الأولي.

6- الحمل في قولنا «الماهية ممکنة» حمل شايع، أي اتحاد وجودي لا مفهومي.

7- لما کان الامکان قسيمة للواجب ، والواجب عيني بالضرورة، فالإمکان عيني أيضاً ،

لکن ليس بوجود مستقل منحاز.

8- قلنا أنه ليس للممکن وجود مستقل منحاز، وإلّا کان اما واجباً وهو واضح البطلان،

أو ممکنة، ولا ثالث لهما.

9- إمکان الممکن شيء آخر غير الماهية له ثبوت مستقل ، ولما لم تکن الماهية بوحدها کافية لثبوت أمکانّها، وجب أن يکون الغير هو الذي منحها هذا الامکان ، ولزم کون هذا الامکان بالغير ، وسيأتي استحالة الامکان بالغير.

10 - الضرورة أما أزلية أي المحمول - موجود. يکون ضرورية لذات الموضوع، بلا قيد

و شرط وهو منحصر في ذات الواجب تبارک و تعالي.

11- الضرورة الذاتية : کون المحمول ضرورية للموضوع بشرط وجود الموضوع.

12 - الضرورة الوصفية : کون المحمول ضرورية للموضوع من جهة ما للموضوع من

صفة خاصة.

13- الضرورة الوقتية : کون المحمول ضرورية للموضوع من جهة ما أحاط بالموضوع

من وقت زمني خاص، ومرجعه الي الضرورة الوصفية .

14- الفرق بين الإمکان الخاص والامکان العام أن الأول سلب الضرورتين - الوجوب

والعدم - والثاني معناه سلب الضرورة من الطرف المقابل.

15 - الإمکان العام أعم موردة من الامکان الخاص ، لکنهما متباينان مفهومة.

16- قد يستعمل الامکان بمعني سلب الضرورة الذاتية والوصفية والوقتية 17- قد يستعمل الامکان بمعني سلب الضرورة بشرط المحمول .

18- قد يستعمل الامکان بمعني وصف وجودي ويسمي الامکان الاستعدادي.

19 - الامکان الاستعدادي - رغم کونه أمکانة خاصة - لکنه ذو شدة وضعف و قربّ و بعد

بالنسبة الي الفعلية.

20- في الامکان الاستعدادي بعد تحقق الممکن ينعدم المستعد له.

22- قد يستعمل الامکان بمعني الامکان الوقوعي وهو الذي لا يلزم استحالة أو محال

من فرض وقوع الشيء.

22 - الامکان الفقري هو الامکان الذي يستعمل بمعني الوجود الفقري. 23 - لا تختص الجهات الثلاث - الوجوب والإمکان والإمتناع - بالهليات البسيطة، بل

لکل محمول بالنسبة الي موضوعه إحدي هذه الجهات الثلاث.

26 - الکلام في الفلسفة والحکمة عن الهليات البسيطة.

مما بحثه الفلاسفة حول الموجود المطلق، تقسيمهم للموجود المطلق إلي الواجب والممکن، بدأ المؤلف هذا الفصل بمقدمة حول موضوعه و مواد القضايا وهي الواجب

والممکن والممتنع.

ص: 237

کلّ مفهومٍ فرضناه ثمّ نَسبنا إليه الوجود، فإمّا أن يکون الوجود ضروريَّ الثبوت له وهو الوجوب، أو يکون ضروريَّ الإنتفاء عنه - وذاک کون العدم ضروريّاً له - وهو الإمتناع، أو لا يکون الوجود ضروريّاً له ولا العدم ضروريّاً له وهو الإمکان. وأمّا احتمال کون الوجود والعدم معاً ضروريَّين له فمندفع بأدني إلتفات. فکلّ مفهوم مفروضٍ إمّا واجب وإمّا ممتنع وإمّا ممکن .(1)

ص: 238


1- (کل مفهوم) وقد اعتاد الفلاسفة ان يعبّروا هکذا «کل ماهية فرضناها ثم نسبناها الي الوجود.. الخ» لکن المصنف عدل عنه إلي القول «کل مفهوم»..الخ، ولا يخفي عدم التساوي بين المفهوم والماهية وان کان بينهما تساوق جزئي، فإن في أذهاننا مفاهيم ليست بماهية کمفهوم الوجود، ومفهوم العدم، والمفاهيم المنطقية، أي المعقولات الثانية مطلقاء سواء کانت منطقية أو فلسفية فانّها ليست بماهيات، مع کونها مفاهيم، کما أن بعض ما في الذهن عبارة عن مفاهيم وماهيات في الوقت ذاته کالمعقولات الأولي - مفهوم الإنسان ، ان أخذنا بتعبير الفلاسفة وهو جعل الماهية في التعريف، فالأمر لا يخلو من وجوه : الاول - اذ الماهية أما أن يجب لها الوجود أو يمتنع عنها أو يمکن لها، ولازم ذلک کون الواجب تعالي ذا ماهية ، إذ واجب الوجود- بناء علي هذا يکون ماهية يجب لها الوجود وهو محال. الثاني - ان ما يثبت له العدم هو الممتنع ، والحال أنهم قالوا لا ماهية للممتنع ، وقد سبق ان المحالات الذاتية لا صورة صحيحة لها أي لا ماهية لها، فانحصرت الماهية في الممکن، فلا يصح أن يقال «کل ماهية فرضناها.. الخ»، ثم ان الماهية ممکنة الوجود دائمة فلا يصح أن يقال عنها «اما أن يکون الوجود ضروري الثبوت لها، أو يکون ضروري الانتفاء منها»، وهکذا الممکن لا يجتمع مع الممتنع، أعني ان الماهية ممکنة فقسمتها الي الواجب والممکن والممتنع واضح البطلان. واجيب بأنّ المفهوم اذا وقع موضوعاً للقضية بالحمل الأولي کان المفهوم بما هو مفهوم موضوعاً ، فقولنا: «الإنسان حيوان ناطق بالحمل الأولي» أو «الإنسان إنسان» فالموضوع والمحمول هنا مفاهيم ومعناه هذا المفهوم عين ذاک المفهوم، اما في الحمل الشايع وان کان الموضوع مفهوماً، لکن لا بما هو مفهوم، بل بما أنه حال عن مصداقه الخارجي، وقد تقدم ان في الحمل الشايع اتحاداً بين مصداق الموضوع و مصداق المحمول في الخارج، وان کان المفهوم مأخوذا في الموضوع لکن لا بما هو مفهوم بل من جهة انّه مرآة للمصداق الخارجي، فالمفهوم بلحاظ المصداق اما واجب أو ممتنع أو ممکن. فاندفع الاشکالان.

وهذه قضية منفصلة حقيقيّة مقتنصة من تقسيمَين دائرَين بين النفي والإثبات بأن يقال : «کلُّ مفهوم مفروض فإمّا أن يکون الوجود ضروريٍّاً له أو لا. وعلي الثاني فإمّا أن يکون العدم ضروريّاً له أو لا. الأوّل هو الواجب ، والثاني هو الممتنع ، والثالث هو الممکن »(1)

ص: 239


1- اعلم ان الوجود ينقسم هنا إلي ثلاثة أو کل مفهوم ينسب إلي الوجود ينقسم إلي ثلاثة أقسام منفصلة حقيقية، ولکي نجعلها في شکل منطقي فلابد من انحلال هذه المنفصلة الحقيقية الي منفصلتين حقيقيتين، لأن الحصر العقلي ما کان دائرة بين النفي والإثبات، وما کان کذلک ثبت عقلاً من غير حاجة الي البرهان والتجربّة، ويکون ثبوته بديهياً . اما اذا صار التقسيم ثلاثياً أو ربّاعياً أو أکثر فإنه يحتاج الي الدليل، فلکي لا يحتاج التقسيم الي الدليل والبرهان نقسمه الي منفصلتين، أعني أننا نقول کل مفهوم نسبناه الي الوجود اما ان يکون الوجود ضرورية له ، وأما أن لا يکون الوجود ضرورية له، وهو حصر عقلي ، ثم ما لم يکن الوجود ضرورياً له ، فإما أن يکون العدم ضرورياً له ، وأمّا أن لا يکون العدم ضرورياً له، من هاتين المنفصلتين الحقيقيتين المتقدمتين اللتين کان الحصر فيهما عقلياً ، وبيّنا بالذات نستنتج أن الموجود علي ثلاثه أقسام أو انواع. . (وهذه قضية منفصلة حقيقية، مقتنصة من تقسيمين) أي لما کان التقسيم ثلاثياً لم يکن بديهياً الا أنه يقتنص من تقسيمين (دائرين بين النفي والاثبات) وکل واحد من ذينک التقسيمين بديهي وذلک بأن يقال کل مفهوم مفروض فإمّا أن يکون الوجود ضرورياً له أولاً) هذا أصل اولي (وعلي الثاني) أي ما ليس الوجود ضرورياً له فإما أن يکون العدم ضرورياً له أولاً) وهذا حصر عقلي أيضاً، والنتيجة أن کل مفهوم نسبناه الي الوجود انقسم ثلاثة وهي الأوّل هو الواجب والثاني هو الممتنع والثالث هو الممکن).

والذي يعطيه التقسيم من تعريف الموادّ الثلاث أنّ وجوبَ الشيء کونُ وجودِهِ ضروريّاً له، وإمتناعَه کونُ عدِمهِ ضروريّاً له، وإمکانَه سلبَ الضرورتَين بالنسبة إليه ؛ فالواجب ما يجب وجوده ، والممتنع ما يجب عدمه، والممکن ما ليس يجب وجوده ولا عدمه.

وهذه جميعاً تعريفات لفظيّة من قبيل شرح الإسم المفيد للتنبيه ، وليست بتعريفات حقيقيّة ، لأنّ الضرورة واللاضرورة من المعاني البيّنة البديهيّة التي ترتسم في النفس إرتساماً أوّلياً تُعرف بنفسها ويُعرف بها غيرها. ولذلک مَن حاول أن يعرّفها تعريفاً حقيقيّاً أتي بتعريفات دوريّةٍ ، کتعريف الممکن ب «ما ليس بممتنع»، وتعريف الواجب ب «ما يلزم من فرض عدمه محال» أو «ما فرض عدمه محال»، و تعريف المحال د «ما يجب أن لا يکون» إلي غير ذلک (1)

ص: 240


1- (وهذه جميعاً تعريفات لفظية) للاقسام الثلاثة من الواجب والممکن والممتنع (من قبيل شرح الاسم المفيد للتنبيه) حيث نقول الإنسان بشرُ، وغضنفر، أسدُ، (وليست بتعريفات حقيقية) بالحد والرسم، ولن تجد لهذه المفاهيم الثلاثة تعريفاً حقيقياً بالحدّ والرسم، لأنها مفاهيم بديهية، ثم أن التعريف الحقيقي يختص بالماهيات، إذ التعريف الحقيقي يترکب ويتألف من الجنس والفصل وهما من خصائص الماهيات، وليس للوجود ماهية، لأنها مفاهيم من قبيل المعقولات الثانية الفلسفية ، أضف الي ذلک أن کل تعريف لها ينتهي - في الحقيقة - الي الدور، لأنها مفاهيم ترتسم في النفس بداهة، وبصورة طبيعية، وکما قال ابن سينا : تکون اولية الارتسام. أو بديهية التصور. ولو أردنا أن نقدم لها تعريفة فأفضل تلک المفاهيم هو مفهوم الوجوب أي الضرورة (لأن الضرورة واللاضرورة) المأخوذة من الضرورة أيضاً (من المعاني البينة البديهية التي ترتسم في النفس ارتساماً أولياً تعرف بنفسها) جعلناها محوراًوعلي ضوئه نعرف غيرها (ويُعرف بها غيرها) أيضا فنقول : الواجب ما کان الوجوب ضرورياً له، والممتنع ما کان الامتناع ضرورة له، والممکن ما لم يکن الوجوب ضرورياً له، ولا العدم، وأنت تلاحظ أن محور هذه التعريفات هو الضرورة. ولبداهة هذه المفاهيم أصبح من الصعب تعريفها تعريفاً حقيقياً اذ قالوا منذ القدم توضيح الواضحات من اشکل المشکلات. ولمزيد من المعرفة في هذا المجال يمکن مراجعة الأسفار الجزء الأول، والهيات الشفاء وشرح التجريد وشرح المنظومة والتحصيل.

والذي يقع البحث عنه في هذا الفن - الباحث عن الموجود بما هو موجودبالقصد الأوّل من هذه الموادّ الثلاث هو الوجوب والإمکان - کما تقدّمت الإشارة إليه -، وهما وصفان ينقسم بهما الموجود من حيث نسبة وجوده إليه انقساماً أوّليّاً .

وبذلک يندفع ما أورد علي کون الإمکان وصفاً ثابتاً للممکن يحاذي الوجوب الذي هو وصف ثابت للواجب، تقريره : أنّ الإمکانَ - کما تَحَصّل من التقسيم السابق - سلبُ ضرورةِ الوجوب وسلبُ ضرورة العدم، فهما سلبان اثنان، وإن عبّر عنهما بنحو قولهم: «سلب الضرورتين»، فکيف يکون صفةً واحدةً ناعتةً للممکن ؟! سلّمنا أنّه يرجع إلي سلبُ الضرورتين ، وأنّه سلبُ واحدُ، لکنّه. کما يظهر من التقسيم - سلبُ تحصيليُّ لا إيجابُ عدوليُّ، فما معني اتّصاف الممکن به في الخارج ولا اتّصافَ إلّا بالعدول ؟ کما اضطرّوا إلي التعبير عن الإمکان بأنّه لا ضرورة الوجود والعدم، وبأنّه استواء نسبة الماهيّة إلي الوجود والعدم عندما شرعوا في بيان خواصّ الإمکان ککونه لا يفارق الماهيّة وکونه علّة للحاجة إلي العلّة، إلي

غير ذلک (1)

ص: 241


1- (وبذلک هذه العبارة غير واضحة هنا، لاستعمال هذه اللفظة عادة فيما يتفرع علي المطلب السابق ، بينما الاشکال الوارد هنا غير مندفع بما تقدم من المطلب حتي يکون استعمال هذا المصطلح - کذلک - في محله، فلا أدري ما المناسبة بذکره هنا وکيفما کان يندفع ما أورد علي کون الامکان وصفة ثابتة للممکن يحاذي الوجوب الذي هو وصف ثابت للواجب) يعني المستشکل بامکان انتزاع وصف من الوجود و نسبته إلي الواجب ، کما اننا عند ما ننسب الوجود الي الله تبارک وتعالي نقول «الله تعالي موجود»، فإن مادة هذه القضية هي الضرورة اذ ثبوت الوجوب للواجب تعالي يکون علي نعت الضرورة - اي بوصف الضرورة، فقد انتزعنا من مادة القضية التي هي الضرورة والوجوب، وصفة هو الواجب، ثم ننسبة الي الموضوع فنقول «الله تعالي واجب الوجود»، يقول المستشکل لا بأس هنا من انتزاع وصف من الضرورة التي هي مادة القضية التي هي هلية بسيطة - وموضوعها لفظ الجلالة ثم نسبتها إلي الموضوع. غير اننا نمنع ذلک بالنسبة الي الممکن ، اذ لا يکون الامکان وصفاً ثابتاً للممکن کما يکون الوجوب وصفاً ثابتاً لذات الواجب - تبارک وتعالي - ( تقريره) أي الأشکال وتوضيحه و بيانّه : (اما الامکان کما تحصل من التقسيم السابق) انّه عبارة عن (سلب ضرورة الوجوب وسلب ضرورة العدم) وعليه (فهما سلبان اثنان، وان عبر عنهما بنحو قولهم: سلب الضرور تين) الظاهر انّه سلب وأحد، لکنه في الحقيقة سلبان إثنان لا واحد (فکيف يکون صفة وأحدة ناعتة للممکن) أي کيف يمکن نسبة صفة وأحدة الي الإنسان، توصف هذه الماهية الإنسانية ؟ (سلمنا) لو سلمنا في توجيه هذا الاشکال أن المراد من الممکن ما يسلب منه الضرورتان، فإن هناک اشکا" أهم هو (انّه) اي الممکن (يرجع الي سلب الضرورتين، وأنه سلب واحد، لکنه يظهر من التقسيم سلب تحصيلي لا ايجاب عدولي) ولما کان سلبة تحصيلية (فما معني إتصاف الممکن به في الخارج ؟) أي کيف يمکن انتزاع عنوان من السلب التحصيلي، وجعله وصفة لهذا الموجود الخارجي، (ولا اتصاف إلا بالعدول) أي والحال أنه لا ينتزع الوصف إلا من الموجبة المعدولة - أي القضية الموجبة المعدولة المحمول، أو القضايا الموجبة غير المعدولة، وقوله «إلا بالعدول» أراد به في مورد النفي لا الاثبات ، لعدم دخل العدول فيه وذلک (کما اضطروا) أي الفلاسفة الي التعبير عن الامکان بأنه لا ضرورة الوجود والعدم، وبأنه) أي الامکان عبارة عن (استواء نسبة الماهية إلي الوجود والعدم) هذه في الحقيقة نوع من الايجاب العدولي، فالضرورة تشبه الحقائم، والاستواء نسبة ثبوتية ينتزع من قضية موجبة معدولة المحمول أي نسبته إلي هذا ليس اکثر من نسبته . الي ذاک ، وهذه الأوصاف کالاستواء مثلاً يمکن انتزاعها من قضية موجبة معدولة المحمول ، وما ذکرتموه سلب تحصيلي، ومقتضي هذه الأوصاف الايجاب العدولي، فلا يمکن انتزاع تعريف للممکن من ذاک التحصيل (عندما شرعوا في بيان خواص الامکان) فإن الفلاسفة لما أرادوا القول بعدم انفصال الإمکان عن الماهية فإنهم عبروا عنه باستواء نسبة الماهية الي الوجود والعدم (ککونه) أي الامکان (لا يفارق الماهية، وکونه) أي الامکان (علّة للحاجة الي العلة) أي أن الامکان علة لاحتياج الممکن الي العلة لاستواء نسبة السکن الي الوجود والعدم (الي غير ذلک) هذا کله توضيح للاشکال اما محور الاشکال ورکيزته فهو أمران ذکرناهما فيما مضي: اولاً: ان الامکان عبارة عن سلبين لا سلب واحد ولا يکون وصفاً واحداً. ثانياً : ان هذا السلب تحصيلي ولا ينتزع وصف من السلب التحصيلي للموضوع.

ص: 242

وجه الاندفاع: أنّ القضية المعدولة المحمول تساوي السالبة المحصّلة عند وجود الموضوع، وقولنا : «ليس بعض الموجود ضروريَّ الوجود ولا العدم» وکذا قولنا: «ليست الماهيّة من حيث هي ضروريّة الوجود ولا العدم» الموضوعُ فيه موجودُ، فيتساوي الإيجاب العدولي والسلب التحصيليّ في الإمکان. ثمّ لهذا السلب نسبةُ إلي الضرورة وإلي موضوعه المسلوب عنه الضر ورتان، يتميّز بها من غيره، فيکون عدماً مضافاً، له حظُّ من الوجود وله ما تترتّب عليه من الآثار، وإن وجده العقلُ أوّلَ ما يجد في صورة السلب التحصيليّ کما يجد العمي - وهو عدمّ مضافُ . کذلک أوّل ما يجده(1)

ص: 243


1- وقد اجاب عن هذا الاشکال المولي صدر المتألهين نه وغيره، وأما المرحوم العلامة فقد قال : (وجه الاندفاع: أن القضية المعدولة المحمول تساوي السالبة المحصلة عند وجود الموضوع) اذا کان للوجود ثبوت فالسلب المحصولي يرجع الي الايجاب العدولي أعني أن للسلب التحصيلي مصداقين أحدهما الانتفاء بانتفاء الموضوع، والثاني الانتفاء بانتفاء المحمول، فلو افترضنا أن له موضوعا لا يکون منتفية بانتفاء الموضوع فيصير کالايجاب العدولي (وقولنا: ليس بعض الموجود ضروري الوجود ولا العدم، وقولنا : ليست الماهية من حيث هي ضرورته الوجود ولا العدم) في هاتين القضيتين (الموضوع فيه موجود في القضية الأولي نجد الموضوع عبارة عن بعض الموجود، والموضوع في القضية الثانية عبارة عن الماهية ، والماهية حين تقع موضوعة للقضية تکون في حکم الايجاب العدولي لأنها مفهوم ثبوتي وعليه (غيتساوي الايجاب العدولي والسلب التحصيلي في الامکان) لهذا يرجع السلب التحصيلي الي الايجاب العدولي (ثم لهذا السلب نسبة الي الضرورة والي موضوعه المسلوب عنه الضرورتان) أي يمکن نسبة هذا السلب الي الضرورة فنقول : الضرورة مطلوبة في القضية الأخيرة وهي «ليست الضرورة موجودة في القضيتين ، ويمکن نسبته الي الموضوع المسلوب عنه الضرورتان وهذا الموضوع هو الماهية المسلوب عنها ضرورة الوجوب وضرورة العدم، يتميز بها من غيره) أي يتميز بواسطة نسبته إلي هذا الموضوع عن سائر الأشياء فسلب الضرورة عن الامکان سلب متميز کسلب ضرورة الوجود عن الإنسان، وسلب ضرورة العدم عنه ، فاذا تميز العدم بهذا صار عدمة مضافة الي العدم الذي له نسبة إلي الوجود، وقد قلنا أن العدم المضاف فقط ذو نسبة إلي الوجود (فيکون عدماً مضافاً، له حظ من الوجود) کما سبق وله ما يترتب عليه من الآثار) تلک الآثار التي للعدم المضاف (وان وجود العقل أول ما يجد في صورة السلب التحصيلي) کما قلنا ليست الضرورة موجودة، لکن بعد ما لا حظنا نسبتها الي موضوع موجود حصلت علي حظ من الوجود (کما يجد العمي وهو عدم مضاف کذلک) اذ العمي في باديء الأمر لا يکون بصرة بصورة السلب التحصيلي لکن ننسب هذا السلب الي الموضوع الذي هو الإنسان فيصبح أمراً عدمياً له حظ من الوجود (اول ما يجده).

ويتفرّع علي ما تقدّم أمور:

الأمر الأوّل: أنّ موضوعَ الإمکان هو الماهيّة ، إذ لا يتصّف الشيء بلا

ضرورة الوجود والعدم إلّا اذا کان في نفسه خِلواً من الوجود والعدم جميعاً وليس إلا الماهيّة من حيث هي ، فکلّ ممکنٍ فهو ذو ماهيّةٍ . وبذلک يظهر معني قولهم : «کلّ ممکنٍ زوجُ ترکيبيُّ، له ماهيّة ووجود»(1)

ص: 244


1- علمنا مما تقدم کيف نحصل علي مفهوم الواجب والممکن، وقد بيّن ذلک بمقدمة هي أن کل مفهوم تحمل عليه الوجود، تحصل لدينا هلية بسيطة ذات موضوع ومحمول ونسبة ، وهذه النسبة بحسب مادة القضية تتصف بالإمکان أو الوجود أو الامتناع مع ملاحظة نسبة القضية ننتزع وصفاً فنقول الشيء الممکن وجوده أو الشيء الواجب وجوده، وفيما نحن فيه حيث يقول (ويتفرع علي ما تقدم أمور: الأمر الأول - ان موضوع الامکان هو الماهية ...الخ) شرع بما يتفرع علي المبحث السابق وهو أن ما يقع موصوفاً للإمکان ليس إلا الماهية ، قلنا أن المصنف ن اعتمد في بحثه علي المفهوم دون الماهية، خلافاً لغيره حيث قال : «ان کل مفهوم فرضناه» والمفهوم أعم من الماهية ، إذ لدي حمل الامکان عليه لابد من کون الموضوع ماهية ، فلا يتصف بالامکان الا الماهية ، ولو کان موضوع القضية غير الماهية لم يتصف بالإمکان ، وغير الماهية شيئان يقعان موضوعاً للقضية هما الوجود والعدم ، فنقول الوجود موجود أو العدم موجود أو الماهية موجودة، ان کان الوجود موضوعاً للقضية أو ما کان الوجود مأخوذة في ذاته ، کان حمل الوجود عليه ضرورياً ، الوجود موجود بالضرورة، ولا تکون الضرورة مادة للقضية، وان کان موضوع الهلية البسيطة هو العدم کان الامتناع مادة للقضية، مثل العدم موجود بالامتناع، أي ليس بموجود بالضرورة، فما الشيء الذي اذا حمل عليه «موجودُ» کانت نسبته الإمکان؟ والجواب : هو ما ليس في ذاته الوجود ولا العدم، وهو الماهية ، إذن ما يتصف بالامکان هو الماهية لا غير، قد يظن البعض أن قولنا «الموجودات الإمکانية» - کما جاء في کلام الفلاسفة لاسيما المولي صدرا - لهو خير شاهد علي اتصاف الوجود بالامکان أحيانا ، ويجيب المرحوم العلامة أن هذا الامکان المحمول علي الوجود يختلف عن الامکان المحمول والمنسوب إلي الماهية ، أعني انّه مشترک لفظي، والامکان الذي نبحثه هنا هسو سلب الضرورتين، وهو لا ينسب إلي الوجود، نقول عن وجود الفقير الامکاني، أي نقول عن الوجود الامکاني، الوجود الذي ذاته عين التعلق والفقر، هذا الامکان المنسوب إلي الوجود يراد به الفقر الوجودي والتعلق الوجودي ، هذا أن عُدّ وصفاً بحال نفس الوجود، ويمکن أن نقول الوجود الامکاني اي الوجود الذي تکون ماهيته ممکنة. قوله : (الأمر الأول : أن موضوع الامکان هو الماهية) فقط لا غير، والدليل علي ذلک : (اذ لا يتصف الشيء بلا ضرورة الوجود والعدم) الامکان هو لا ضرورة الوجود ولا ضرورة العدم - أي سلب الضرورتين - فکيف يمکن لشيء أن يتصف بهذا الوصف، وهو لاضرورة الوجود والعدم (إلا إذا کان في نفسه خلواً) أي خالية من الوجود والعدم جميعاً) إذ لو کان الوجود ذاتية له لم يصح سلب الضرورة الوجود عنه، بل يحمل عليه موجود بالضرورة، لعدم امکان سلب الضروة عنه ، اي ضرورة الوجود، وما کان العدم ذاتية له، لم يصح سلب ضرورة العدم عنه، بل يکون ضرورة السلب لاسلب الضرورة ، فلا يتصف بلا ضرورة الوجود والعدم، أعني الامکان الا ما کان خالية في ذاته عن الوجود والعدم، وهذا لا يتحقق إلا في الماهية من حيث هي أعني بقطع النظر عن الوجود والعدم، وعليه فکل ممکن ذو ماهية، لعدم اتصاف شيء سوي الماهية، بالامکان، (وليس الا الماهية من حيث هي، فکل ممکن فهو ذو ماهية) (وبذلک) أي بما تقدم ( يظهر معني قولهم: «کل ممکن زوج ترکيبي له ماهية ووجود») کل ممکن يتم تحليله الي حيثيتين، حيئية الماهية - أو الحيثية الماهوية - وهي الخالية من ص: 245 الوجود والعدم، وحيثية الوجود، وهي ما يوجد بها الوجود، وهو معني قولهم «کل ممکن زوج ترکيبي له ماهية ووجود»، ولو لم يکن ممکناً، لم يکن ذا ماهية ، کواجب الوجود تبارک و تعالي -

ص: 245

وأمّا إطلاق الممکن علي وجود غير الواجب بالذات وتسميته بالوجود

الإمکانيّ فاصطلاحُ آخر في الإمکان. والوجوب يستعمل فيه الامکان والوجوب بمعني الفقر الذاتي والغني الذاتي، وليس يراد به سلب الضرورتيَن أو استواء النسبة إلي الوجود والعدم، إذ لا يعقل ذلک بالنسبة إلي الوجود .(1)

الأمر الثاني : أنّ الإمکان لازم الماهية ، إذ لو لم يلزمها جاز أن تخلو منه فکانت واجبة أو ممتنعة ، فکانت في نفسها موجودة أو معدومة ، والماهيّة من حيث هي لا موجودة ولا معدومة(2)

ص: 246


1- (وأما اطلاق الممکن علي وجود غير الواجب بالذات) تبارک وتعالي، فقد يطلق الامکان علي الوجودات کقولهم «وجود الممکن» و «الوجود الامکاني»، (و تسميته بالوجود الامکاني فاصطلاح آخر کالمشترک اللفظي اصطلاح آخر في الامکان والوجوب) وبحسب هذا الاستعمال (يستعمل فيه الامکان والوجوب بمعني الفقر الذاتي ، والغني الذاتي) - الغني والفقر الذاتيين - (وليس يراد به) أي بهذا الامکان (سلب الضرورتين، أو استواء النسبة إلي الوجود والعدم) وهو تعبير آخر عن سلب الضرور تين ، دليله: (إذ لا يعقل ذلک) أي لا يعقل استواء نسبة الوجود الي الوجود والعدم، ولا يعقل سلب الضرورتين من الوجود، إذ الوجود موجود بالضرورة (بالنسبة الي الوجود) أي لا يعقل استواء نسبة الوجود والعدم بالنسبة إلي الوجود.
2- (الامر الثاني: أن الامکان لازم الماهية) فلا ماهية من غير امکان، وهذا المطلب علي العکس من سابقه، وذلک إنه تقدم عدم اتصاف شيء بالإمکان، عدا الماهية، ونقول الآن : الماهية لا تتصف بشيء من هذه المواد الثلاث، عدا الإمکان، قلنا هناک : لکل ممکن ماهية ، ونقول هنا: إن کل ماهية ممکنه ، (إذ لو لم يلزمها) أي لو لم يکن الامکان لازمة للماهية جاز آن تخلو) الماهية (منه) أي من الامکان، وإذا کانت الماهية فاقدة للإمکان (فکانت وأجبة) الوجود (أو ممتنعة) الوجود، إذ لو کانت واجبة کان الوجود ذاتية له لا ينفک عنه طرفة عين ، ولو کانت ممتنعة کان العدم ذاتيا له لا ينفک عنه، والحال أن الممکن بذاته خال من الوجود والعدم، وحينئذ (فکانت الماهية (في نفسها موجودة أو معدومة) وهذا لا يکون ماهية ، إذ أن (الماهية من حيث هي لا موجودة ولا معدومة).

والمراد بکونه لازمة لها أن فرضَ الماهيّة من حيث هي يکفي في اتّصافها بالإمکان من غير حاجة إلي أمر زائير دون اللزوم الإصطلاحيّ، وهو کون الملزوم علّةً مقتضيةً لتحقق اللازم ولحوقه به، إذ لا اقتضاءَ في مرتبة الماهية من حيث هي إثباتاً ونفياً (1)

لا يقال : تحقُّقُ سلب الضرورتَين في مرتبة ذات الماهيّة يقضي بکون

الإمکان داخلاً في ذات الشيء، وهو ظاهر الفساد (2)

ص: 247


1- هنا يوضح المؤلف ، المراد من کلمة «لازم» في قوله «ان الامکان لازم الماهية» قائلاً : والمراد بکونه) أي الامکان (لازم الماهية) اننا حين نقول هذا الشيء من لوازم ذاک ، نقصد باللازم عادة کون ذات الشيء الأول علة، واللازم معلو" له، فالمراد من قولنا «الحرارة لازمة للنار» أن النار لازم و علة لوجود الحرارة، وهذا المعني غير مقصود هنا ، إذ لا نريد أن الماهية علة وجود الإمکان، کلا، إذ لا علية ولا معلولية فيما نحن فيه ، بل الماهية عبارة عن اللااقتضاء، لا أنها تقتضي الامکان، بمعني أن العقل عند ملاحظة الماهية بما هي هي - من غير النظر إلي شيء آخر معها. ينتزع مفهوم الامکان منها، لا أن مفهوم الامکان معلول للماهية، ولا بمعني کون الماهية علة ومقتضية للامکان والمراد بکونه) أي الامکان (لازماً لها) أي للماهية (أن فرض الماهية من حيث هي يکفي في اتصافها) أي الماهية (بالامکان ، من غير حاجة الي أمر زائد) هذا هو المراد من اللزوم هنا (دون اللزوم الاصطلاحي، وهو کون الملزوم علة مقتضية لتحقق اللازم وايجاده، فليست الماهية موجودة للإمکان أو الحوقه) أي الامکان (به) أي بالملزوم - وهو الماهية - أي لا يکون بمعني کون الملزوم علة التحقق اللازم، وبعد تحقق اللازم يکون اللازم ملحقاً بالملزوم تابعة له (إذ لا اقتضاء في مرتبة الماهية) أي لااقتضاء الوجود فيها ولا اقتضاء العدم (من حيث هي هي لا (اثباتاً و) لا (نفياً).
2- (لا يقال) اشارة الي ان ما تقدم من انتزاع الامکان من مقام ذات الماهية ، قد يؤدي الي اشکال هو، أن ما کان منتزعاً من مقام ذات شيء ما، کان جزءا من ماهية المنتزع منه ، و يستلزم القول بوجود الاقتضاء في ذاته، بينما اقدتم ان لا اقتضاء في ذات الماهية، لا ثبوتاً ولا نفياً ، إذن لا يقال في مقام الأشکال أن (تحقق سلب الضرورتين في مرتبة ذات الماهية يقضي) أي يقتضي (بکون الامکان داخلا في ذات الشيء) وماهيته، أي قلتم أنا بملاحظة ذات الماهية من حيث هي ننتزع منها مفهوم الامکان وعدم الاقتضاء، ومفهوم سلب الضرور تين منتزع من مقام ذات الماهية ، ومعناه دخول الامکان في ذات الماهية (وهو) أي دخول الامکان في ذات الماهية (ظاهر الفساد والبطلان، لأن مفهوم الامکان خال من کل ضرورة.

فإنّا نقول: إنّما يکون محمول من المحمولات داخلاً في الذات إذا کان الحمل حملاً أوّليّاً ملامکُه الإتّحاد المفهوميّ، دون الحمل الشائع الذي ملاکُه الاتّحاد الوجوديّ، والإمکان وسائر لوازم الماهيّات الحمل بينها وبين الماهيّة من حيث هي حملُ شائعُ لا أوّليّ (1)

الأمر الثالث: أنّ الإمکان موجودُ بوجود موضوعه في الأعيان، وليس اعتباراً عقليّاً محضاً لا صورةَ له في الأعيان کما قال به بعضهم ، ولا أنّه موجود في الخارج بوجودٍ مستقل منحازٍ کما قال به آخرون(2)

ص: 248


1- واجاب بقوله : (فانا نقول) في مقام الرد علي الاشکال (انما يکون محمول من المحمولات داخلاً في الذات اذا کان الحمل أولياً، ملاکه) أي ملاک الحمل الأولي و تحققه الاتحاد المفهومي) هذا من الحمل الأولي (دون الحمل الشايع الذي ملاکه) وملاک تحققه الاتحاد الوجودي) والمصداقي في الخارج (والامکان وسائر لوازم الماهيات) يکون الحمل بينها وبين الماهية، من حيث هي حمل شائع لا أولي) وقد تقدم أن قولنا «الماهية من حيث هي ليست إلا هي» لا يکون منشئاً للإمکان، لأنه حمل اولي، فالماهية من حيث هي ليست إلا هي بالحمل الأولي، ويسلب عنها کلّ شيء بالحمل الأولي، وهکذا ثبوت الماهية لنفسها ضروري ، وسلب الماهية عن نفس الماهية بما أنها نفس الماهية ، ضروري أيضاً، إذن منشاًانتزاع الامکان من الماهية عبارة عن ملاحظة الماهية من جهة کونها أمراً اعتبارياً عقلياً، بحيث يحمل عليها الوجود والعدم بالحمل الشايع، وانّه بعد الحمل هل يکون بالضرورة أم بالامکان ؟!، لا بالحمل الأولي ؟ ، فقولنا «الإنسان ممکن» حمل شايع لا أولي، وذلک لمغايرة الإنسان والامکان.
2- (الأمر الثالث) وهو جدير بالاهتمام لأنه أحدث جدلاً بين المشائين والاشراقيين، في أن الامکان هل يوجد في الخارج أم لا؟ فقد نقل عن المشائين ان الامکان من الأمور العينية الموجودة في الخارج، ورد عليهم الاشراقيون بقوة کما هو الواضح من کتب شيخ الاشراق، الذي قال باعتبارية الامکان لا الحقيقة. والحق أن منشاً الخلاف هو الخلط بين المسائل المنطقية والفلسفية، فالإمکان معقول ثاني فلسفي، عروضه ذهني واتصافه خارجي - أي يعرض في الذهن ويتصف في الخارج - فمن قال باعتبارية الامکان عدّه عروضاً ذهنياً، ومن قال بعينيته وحقيقته ، فقد لاحظه من جهة اتصافه في الخارج، وقد انتبه الي هذا الخلط المولي صدر المتألهين بي وفصل بين القولين، معتبرة النزاع لفظياً، ولمزيد من التفاصيل راجع الأسفار الجزء الاول فالأمر الثالث: ان الامکان موجود في الخارج بوجود عيني حقيقي (بوجود موضوعه في الأعيان) الخارجية لا بوجود مستقل (وليس) الامکان (اعتباراً عقلياً محضاً، لا صورة له في الاعيان)، إذ الاعتباريات العقلية المحضة إما معقولات ثانية منطقية وهي تتعلق بالمفاهيم الذهنية، ولها ثبوت في الذهن، و اما آنها اعتبارات عقلية، بحيث (لا صورة له في الأعيان) الخارجية (کما قال به بعضهم) وهم الاشراقيون ، (ولا أنه موجود في الخارج بوجود مستقل منحاز کما قال به آخرون) هم المشاؤون.

أمّا أنّه موجود في الأعيان بوجود موضوعه فلانّه قسيم في التقسيم للواجب الذي ضرورة وجوده في الأعيان ، فارتفاع الضرورة الذي هو الإمکان هو في الأعيان. وإذ کان موضوعاً في التقسيم المقتضي لاتّصاف المقسم بکلَّ واحلي من الأقسام کان في معني وصفي ثبوتيًّ يتصّف به موضوعه ، فهو معنيَّ عدميُّ له حظُّ من الوجود والماهية متّصفة به في الأعيان. وإذ کانت متّصفةً به في الأعيان فله وجودُ فيها علي حدّ الأعدام المضافة التي هي أوصاف عدميّةُ ناعتةُ لموصوفاتها موجودةُ بوجودها، والآثار المترتّبة عليه في الحقيقة هي ارتفاع آثار الوجوب من صرافة الوجود وبساطة الذات والغني عن الغير وغير ذلک (1)

ص: 249


1- (اما انّه) أي الامکان (موجود في الأعيان بوجود موضوعه) لدينا قولان أحدهما ادعاء وجود الامکان بوجود موضوعه والآخر لا بوجود مستقل، فيريد المؤلف ي اثبات کل من الدعويين بالدليل ، فأما انّه موجود بوجود مستقل (فلأنه) أي الامکان (قسيم في التقسيم للواجب) نقول الوجود اما واجب واما ممکن، فهل الواجب موجود في الخارج حقيقة ، أم أنه أمر اعتباري محض ؟ طبعاً لاشک في وجوده الحقيقي الخارجي، فلزم وجود قسيمه وهو الإمکان، في الخارج أيضاً ، نعم تضاربّت الآراء والأقوال الي ثلاثة : أ- القول بکون الوجوب والامکان کليهما أمرين خارجيين عينيين . ب - والقول باعتباريّتهما معاً، ج- والقول بحقيقة الوجوب في الخارج، واعتبارية الامکان ، الا أن المصنف ما اعتبر القول بحقيقة الوجوب و عينيته امرة مسلمة فارغة منه بل ضرورية ، ثم خرج منه بلازم هو ان لازم کون الوجوب حقيقة عينية کون قسيمه - وهو الامکان - حقيقة أيضاً فقال : (الذي ضرورة وجوده ) أي الواجب (في الأعيان) الخارجية، فالواجب خارجي بالحتم والضرورة فارتفاع الضرورة الذي هو الامکان، هو في الأعيان) أيضاً ، فاذا کان الوجوب ضرورياً لشيء، کان ضرورياً له في الخارج، وان لم يکن له ضرورياً ، لم يکن ضرورياً له في الخارج، فالضرورة وعدمها باللحاظ الخارجي (واذا کان موضوعاً في التقسيم المقتضي لانصاف المقسم لکل وأحد من الأقسام) إذ المقسم يجب أن يتصف بکل من الأقسام، وعليه فالشيء الخارجي يستصف بالوجوب و يتصف بالامکان وحينئذ (کان في معني وصف ثبوتي يتصف به) أي بالامکان موضوعه) أي موضوع الامکان وهو الشيء الخارجي (فهو) أي الامکان (معني عسدمي له حظ من الوجود) لانتزاعه من الايجاب العدولي، ولهذا يصح أن نقول الامکان وصف ثبوتي أي عدمي له حظ من الوجود، يتصف به الشيء الخارجي، والمستفاد من هذا البرهان انتصاف الشيء الخارجي بالامکان ، فيتصف في الخارج، ولا يثبت عروضه في الخارج ، (والماهية متصفة) في الخارج (في الأعيان) الخارجية، (واذ کانت الماهية (متصفة به) أي بالامکان (في الأعيان) الخارجية (فله) أي للامکان (وجود فيها) أي في الأعيان الخارجية ، ولکن لا علي نحو الثبوت والوجود المستقل بل (علي حد الأعدام المضافة التي هي أوصاف عدمية ناعتة لموصوفاتها، موجودة) تلک الاعدام المضافة (بوجودها) أي بوجود موصوفاتها کالعمي الذي هو معني عدمي يعني عدم البصر، ولا يوجد العمي إلا بوجود من اتصف به والآثار المترتبة عليه) هذا دفع دخل مقدر لاحتمال أن يقول قائل بأن الوجود في الخارج لابد من ترتب آثاره الخارجية عليه، والعدم خالي من کل أثر في الخارج، قلنا: أن آثاره الخارجية عبارة عن عدم ترتب آثاره - فأثر البصر هو عدم ترتب أثره، مثلاً اثر البصر هو الاهتداء في الطريق واثر العمي بالعکس عدم الاهتداء، ولولا العمي لما ترتب هذا الأثر السلبي ولما حدث الضلال في الطريق أو التعثر وما أشبه ، وهکذا الآثار المترتبة علي الامکان وهو ارتفاع أثر الوجوب، وأثر الوجوب هو بساطة الذات وهکذا، وفقدان الممکن لهذه الآثار جعله ممکناً.

وقد اتّضح بهذا البيان فساد قول من قال : «إن الإمکان من الاعتبارات العقليّة المحضة التي لا صورة لها في خارج ولا ذهن». وذلک لظهور أن ضرورة وجود الموجود أمر وعاؤه الخارج وله آثار خارجيّةُ وجوديّةُ (1)

ص: 250


1- (وقد اتضح بهذا البيان فساد قول من قال : ان الامکان من الاعتبارات العقلية المحضة التي لا صورة له في خارج ولا في ذهن) ولکنهم من نفي الصورة الذهنية للإمکان لا يريدون نفي نم مفهوم الامکان في الذهن، بل ارادوا نفي ماهية للامکان في الذهن وان ليس الامکان کالماهيات التي توجد في الذهن بالوجود الذهني وفي الخارج بالوجود الخارجي، کما أنه ليس کالمعقولات الثانية المنطقية التي لا تحمل إلا علي الذهنيات، کالإنسان الذهني الکلي، فالشيء الذهني بما هو ذهني لا يتصف بالامکان ولا موجود في الخارج، بل هو محض اعتبار، وهذا القول واضح الفساد والبطلان بدليل : (وذلک لظهور آن ضرورة وجود الموجود أمر وعاؤه الخارج) أي لما کان وجوب الوجود امرأاً خارجياً وعاؤه الخارج (وله) أي اللوجوب (آثار خارجية وجودية) کان کذلک الامکان الذي هو قسيمه - أيضاً، أي امکان وجود الموجود أمر وعاؤه الخارج أيضا وله آثار خارجية وجودية وآثار الامکان هي سلب آثار الوجوب في الخارج.

وکذا قول من قال : «إنّ للإمکان وجوداً في الخارج منحازة مستقلّاً». وذلک الظهور أنّه معنيً عدميُّ واحد مشترک بين الماهيّات ثابتُ بثبوتها في أنفسها، وهو سلب الضرور تَين ، ولا معني لوجود الأعدام بوجود منحاز مستقلّ. علي أنه لو کان موجوداًفي الأعيان بوجود منحاز مستقلَّ کان إمّا واجباً بالذات وهو ضروريُّ البطلان ؛ وإمّا ممکناً وهو خارج عن ثبوت الماهيّة، لا يکفي فيه ثبوتها في نفسها، فکان بالغير، وسيجيء استحالة الإمکان بالغير(1)

ص: 251


1- (وکذا قول من قال» أي حکماء المشاء (ان للامکان وجودة في الخارج منحازاً مستقلاً) هذا القول باطل أيضاً، لأنه لو کان کذلک للزم کونه ذا ماهية ، قالوا، لو کان الإمکان موجوداً في الخارج، کان اما واجب الوجود واما ممکن الوجود واما ممتنع الوجود، وليس الامکان من قسم واجب الوجود، ومن قسم ممتنع الوجود، فانحصر کونه من ممکن الوجود، فصار الامکان ماهية ممکنة الوجود. والقائلون بأن الامکان اعتباري محض قالوا، لو کان ممکناً نقلنا الکلام الي امکانّه هل هو أمر خارجي ام لا؟ فهو ماهية موجودة في الخارج ممکنة أي لها صفة امکانية، أي للامکان امکان، فننقل الکلام الي هذا الامکان ، هل امکانّه واجب الوجود ام ممتنع الوجود؟ وليس أيا منهما، وهکذا يتسلسل. هذه أدلة شيخ الاشراق علي عدم کون الامکان أمرا خارجية لاستلزامه مالا نهاية من إمکان. والدليل علي بطلان هذا المدعي أن للإمکان وجوداً مستقلاً منحازاً في الخارج (وذلک الظهور أنه) أي الامکان (معني عدمي وأحد) ليست للامکان ماهية مستقلة، بل هو صفة تنسب إلي الماهيات، ولو کان وجوداً مستقلاً کان ذا ماهيّة کسائر الماهيات، وکان الامکان کأحد هذه الماهيات، وليس الإمکان ماهية ، ثم الامکان (مشترک بين الماهيات) أي وصف ينسب الي الماهيات، ويعرض لها (ثابت بثبوتها) أي بثبوت تلک الماهيات (في أنفسها وهو) أي الامکان عبارة عن (سلب الضرورتين ، ولا معني لوجود الأعدام بوجود منحاز مستقل )، أضف إلي ما تقدم : (علي انّه) أي الإمکان (لو کان موجوداً في الاعيان بوجود منحاز مستقل، کان اما واجباً بالذات وهو ضروري البطلان) لاقتضائه اجتماع النقيضين وهو محال، وأما کان ممتنعاً بالذات، وهو لا يفترض تحققه في الخارج (واما ممکناً) بالذات وهو خارج عن ثبوت الماهية) فلزم کونه ممکناً، وإذا کان الإمکان کذلک وهو غير داخل في ذات الماهية ، کان لازمة للماهية ، إذ الإمکان يحمل علي الماهية ولو کان ماهية مستقلة منحازة، امتنع حمله علي الماهيات الممکنة فلا يصح أن نقول مثلاً: الإنسان ممکن، لأن الامکان علي هذا ماهية بنفسه والماهية لا تحمل علي الماهية أعني انّها لا تکون وصفاً ذاتياً الماهية أخري، ويکون الإنسان والإمکان الإنسان والبياض، متباينان لأن کلاً منها ماهية في حد ذاتياً، فالإنسان ماهيّة مستقلة والبياض ماهية مستقلة ، والجسم لا يتصف بالبياض إلا بعامل خارجي، ولو کان البياض ذاتياً للإنسان لم يکن للإتصاف به محتاجاً الي عامل خارجي، فهل للإمکان ماهية خارجية مستقلة کالبياض ؟ کلاً لأنه لو کان کذلک لاحتاج الإنسان للاتصاف به الي عامل خارجي وکان وجوده له عرضياً، أعني لکان عارضاً للانسان ، کما في البياض، ولکان خارجاً عن ذات الإنسان کالبياض، وثبت للإنسان بالغير ، فيکون الإمکان بالغير لا بالذات، وهو محال کما سيأتي في محله - إن شاء الله تعالي - (وهو) أي الامکان (خارج عن ثبوت الماهية) فکان کالجسم والبياض، والمراد بالماهية هنا بالحمل الشايع کالانسان الا يکفي فيه) أي في الامکان (ثبوتها) أي ثبوت الماهية (في نفسها) فثبوت الجسم لا يکفي لتحقق البياض فيه ، کذلک ثبوت ماهية الإنسان مثلا لا يکفي التحقق الإمکان فيه ، فکان) ثبوت وصف الامکان لماهية الإنسان (بالغير) وسيأتي استحالته ان شاء الله تعالي

وقد استدلوا علي ذلک بوجوه: أوجَهُها أن الممکن لو لم يکن ممکناً في الأعبان لکان إمّا واجباً فيها أو ممتنعة فيها، فيکون الممکن ضروريّ الوجود أو ضروريّ العدم، هذا محال (1)

ص: 252


1- (وقد استدلوا) أي القائلون بوجوب الامکان في الخارج بوجود مستقل منحاز (علي ذلک) أي علي قولهم ان للإمکان وجودة خارجياً مستقلاً منحازاً (بوجوه) عديدة أهمها وأوجهها) أي أوجه تلک الوجوه (ان الممکن لو لم يکن ممکنا في الأعيان) لزم أن يکون نقيض الممکن، فاذا لم يصدق عليه سلب الضرورة صدقت عليه الضرورة، وحنيئذ فاما ضرورة الوجوب أو ضرورة العدم، فإن کان ضرورة الوجوب کان واجب الوجود، وان کان ضرورة العدم، کان ممتنع الوجود، والحال افترضنا کونه ممکن الوجود الکان اما واجباً فيها) أي واجب الوجود في الأعيان الخارجية (أو ممتنعاً فيها) أي ممتنع الوجود في الأعيان الخارجية (فيکون الممکن) حينئذ (ضروري الوجود او ضروري العدم، وهو محال) وللوقوف علي باقي الوجوه عليک بالاسفار الجزء الأول.

ويردّه: أن الاتّصاف بوصفٍ في الأعيان لا يستلزم تحقُّقَ الوصف فيها

بوجودٍ منحازٍ مستقلَّ، بل يکفي فيه أن يکون موجوداً بوجود موصوفه والإمکان من المعقولات الثانية الفلسفيّة التي عروضها في الذهن والاتّصاف بها في الخارج، وهي موجودة في الخارج بوجود موضوعاتها (1)

وقد تبيّن ممّا تقدّم أن الإمکان معنيً واحدُ مشترکُ کمفهوم الوجود(2) تنبيه : (في أقسام الضرورة)(3)

ص: 253


1- (ويردّه) أي هذا الوجه من الاستدلال (إن الاتصاف بوصف في الاعيان، لا يستلزم تحقق الوصف فيها بوجود منحاز مستقل) فمجرد اتصاف شيء بالامکان في الخارج لا يعني کون الامکان صفة عينية عروضها في الخارج أيضاً (بل يکفي فيه) أي في الاتصاف بوصف (ان يکون الوصف (موجودة بوجود موصوفه) في الخارج والامکان من المعقولات الثانية الفلسفية التي عروضها) أي تلک المعقولات ومنها الامکان يکون في الذهن ، والاتصاف بها) أي بتلک المعقولات الثانية يکون في الخارج، وهي) اي تلک المعقولات الثانية (موجودة في الخارج بوجود موضوعاتها)
2- (وقد تبين مما تقدم أن الامکان الذي يحمل علي الأشياء المختلفة حيث نقول الإنسان ممکن الوجود، والشجر ممکن والنبات ممکن وهکذا... (معني وأحد) فيها جميعاً ، أي معناه في الجميع سلب الضرورتين (مشترک بينها جميعاً (کمفهوم الوجود) الذي هو أيضاً مفهوم وأحد يحمل علي جميع الأشياء بمعني واحد، وهذا معني الإمکان المحمول علي الماهية لا الامکان الذي ذکر مقابل الوجود فهو اصطلاح خاص سيأتي في محله - ان شاءالله تعالي ..
3- تنبيه : (في اقسام الضرورة). في هذين التنبيهين يوضح المصنف معاني الضرورة والامکان، وفي الحقيقة هما من المصطلحات المنطقية ، إلا انّه اشار اليهما هنا لورودهما بعنوان مواد القضايا المقدمة مبحث الواجب والممکن ، قلنا فيما تقدم إننا حينما نقيس مفهوماً إلي الوجود بلحاظ مصداقه فإنّه لا يخلو من حالات ثلاث ، إما أن يکون لها ضرورة الوجود أو ضرورة العدم أو ليس لها شيء من الضرورات وسمي بالامکان، الضرورة التي ترد صفة لمادة القضايا فهي تارة ضرورة أزلية وتارة ضرورة ذاتية وتارة ضرورة وصفية أو وقتية، فالضرورة الأزلية تقع فيما اذا کان الموضوع غنياً عن لحاظ اي مفهوم آخر، حتي عن لحاظ الوجود أي يکون غنياً حتّي عن لحاظ الوجود، وهو فيما اذا کان الموضوع غير ممکن بغير الوجود، بأن يکون توأماً اللوجود، ففرض الموضوع فرض للوجود، ولا شک أنه لا يوجد لهذا الموضوع إلا فرد واحد هو الواجب تبارک وتعالي، فکل قضية يکون موضوعها ذات الواجب تبارک وتعالي ونريد اثبات صفة لهذا الموضوع بلحاظ الذات، أعني نفس تلک الصفات الذاتية، هکذا قضية يکون المحمول فيها للموضوع بالضرورة الأزلية، فإذا قلنا ان الله تبارک وتعالي قادر حي عالم لا يحتاج ثبوت هذه المحمولات لهذا الذات الي لحاظ شيء أبدأ سوي لحاظ الذات نفسه، فقسم من الضرورة، ضرورة ذاتية ، وهي ما يثبت فيها المحمول لذات الموضوع لکن إذا " اتخذنا الموضوع موجودة أي بعد لحاظ الوجود للموضوع، وقد وقع خلاف ههنا بين أهل الرأي والاختصاص، وهو هل معني الضرورة الذاتية لحاظ الموضوع شرط الوجود أم في حال الوجود؟! وبعبارة أخري : هل المحمول ثابت للموضوع بشرط الوجود أم ثابت له مع الوجود؟! قال المحقق الدواني في الضرورة الذاتية إنها عائدة في الحقيقة الي الضرورة الوصفية أعني اننا نثبت المحمول الموضوع بشرط الوجود، فالوجود وصف للموضوع، وليس هذا بقسم مستقل ، والضرورة الذاتية الحقيقية ضرورة أزلية، إما سائر الضرورات الذاتية فإنها تعود إلي الضرورة الوصفية، فإننا حين نقول «کل إنسان حيوان بالضرورة» فإن الحيوانية ثابتة للانسان بالضرورة، ولکن هل الإنسان الموجود حيوان بالضرورة؟ أم إن الإنسان موصوف بالحيوانية وان لم يوجد ؟! يتبين إنه لا يثبت وصف لأي موضوع معدوم ، فلابد من لحاظ الموضوع بشرط الوجود، وذلک يعود الي القول بأن کل إنسان حيوان مادام موجودة، کما نقول «کل کاتب متحرک الاصابع مادام کاتباً » فلابد من أخذ الوصف العنواني في الموضوع، ثم يقول کلا لا نريد أن نقول بأن الضرورة الذاتية ترجع الي الضرورة الوصفية ، وسر ذلک اننا لا نقول الموجود شرط في الموضوع و بل نقول الموضوع في حال الوجود متصف بهذا المحمول بالضرورة، وليس هذا هو الفرق بين الضرورة الذاتية والضرورة الوصفية ، واتضح ضمنا معني الضرورة الوصفية وهي ثبوت حکم الموضوع مادام متصفاً بوصف خاص، ليس الإنسان متحرک الأصابع دائما، فلا ضرورة لتحرک اصابعه دائماً، لکنه مادام کاتباً فأصابعه متحرکة ، مادام وصف الکتابة موجوداً فحرکة الأصابع ضرورية، وهي التي تسمي بالضرورة الوصفية ، وقد يتصف موضوع ما بصفة خاصة بالضرورة في حالة معينة أو في وقت بعينه، کما تنکسف الشمس مثلاً عند حيلولة القمر بينها وبين الأرض، فهذا الانکساف حاصل بالضرورة للشمس في هذا الوقت المعين ، ويسمي بالضرورة الوقتية ، ثم قال ان الضرورة الوقتية ترجع الي الضرورة الوصفية، لأن الشمس المتصفة بحيلولة القمر بينها وبين الأرض تنکسف بالضرورة، فجعل کونها في وقت بعينه وصفاً للموضوع. هذه أقسام الضرورات وستأتي أقسام الامکان ان شاء الله.

ص: 254

تنقسم الضرورة ٍإلي ضرورة أزليّةٍ ، وهي : کونُ المحمول ضروريِّاً للموضوع الذاته من دون أيًّ قيدٍ وشرطٍ حتّي الوجود، وتختصّ بما إذا کانت ذات الموضوع وجوداً قائماً بنفسه بحتاً لا يشوبه عدم ولا تحدّه ماهيّةً ، وهو الوجود الواجبيّ

تعالي و تقدس) فيما يوصف به من صفاته التي هي عين ذاته. وإلي ضرورةٍ ذاتيّةٍ ،

وهي : کونُ المحمول ضرورياً للموضوع لذاته مع الوجود لا بالوجود ؛ کقولنا: «کلّ إنسان حيوان بالضرورة» فالحيوانيّة ذاتيّةُ للإنسان ضروريِّةُ له ما دام موجوداً ومع الوجود، ولولاه لکان باطل الذات، لا إنسان ولا حيوان. وإلي ضرورة وصفي ، وهي : کون المحمول ضرورية للموضوع لوصّفه ، کقولنا: «کلّ کاتبٍ متحرّک الأصابع بالضرورة ما دام کاتباً». وإلي ضرورة وقتي، ومرجعها إلي الضرورةٍ الوَصفيّةٍ بوجهٍ(1)

ص: 255


1- (تنقسم الضرورة الي ضرورة ازلية، وهي کونُ المحمول ضروريّاً للموضوع لذاته) أي ثبوت المحمول للموضوع ثبوتاً ضرورياً بحيث تکون الضرورة ناشئة من ذات الموضوع من دون أي قيد و شرط حتي الوجود) بمعني أنه لا ينبغي جعل الوجود وصفاً زائداًللموضوع، لا أن المحمول ثابت للموضوع وان کان الموضوع معدوماً، فلا يجب لحاظ الوجود وصفاً زائداً علي الموضوع لأن الموضوع هنا ليس إلا الوجود بعينه، لا أن نقول بثبوت الحياة لذات الواجب تبارک وتعالي وان کان الواجب تعالي معدوماً غير موجود، معاذ الله ، فقولنا لا يحتاج الي شرط الوجود لا نريد به ثبوت هذا المعني للموضوع وان کان معدومة، فالمراد من عدم الحاجة أن ذاته المقدسة ماهي إلا الوجود (وتختص الضرورة الأزلية (بما اذا کان ذات الموضوع وجوداً قائماً بنفسه بحتاً لا يشوبه عدم) لأنه لو کان به نقص لانتزع له من ذلک النقص مفهوم عدمي، وما ينتزع منه مفهوم عدمي فهو وجود محدود ذا ماهية ولهذا قال (ولا تحدّه ماهية) فهو خارج عن حدود الماهية لا يتحدّد بالماهية ، لان الماهية منتزعة من حدّ الوجود فاذا کان الوجود أزلياً لا حدود له، لم ينتزع من الماهية ، ولا يشوبه العدم، أي يکون خالياً من کل نقص، وفي الحقيقة هذا الکلام کله بيان لکيفية کون الوجودي وجودة بحتاً ، وذلک أن من لوازم کون الوجودي وجوداً بحتاً، أن يکون خالياً من النقص بمعني عدم کونه مشوبة بالعدم غير محدود، وعليه فلا يکون ذا ماهية حتّي يتحدد بواسطة الماهية، (وهو الوجود الواجبي تعالي و تقدس فيما يوصف به من صفاته التي هي عين ذاته) فثبوت الصفات الذاتية لذات الواجب ثابت بالضرورة الأزلية، هذا قسم من الضرورة الازلية. القسم الثاني: تنقسم الضرورة إلي ضرورة أزلية (والي ضرورة ذاتية، وهي کون المحمول ضرورياً للموضوع لذاته مع الوجود) فالمحمول هنا ثابت بالضرورة لذات الموضوع مع الوجود (لا بالوجود) أي لا بمعني کون الوجود قيداً في الموضوع، أي لا نجعل الوجود وصفاً للموضوع حتي يصير ضرورة وصفية ، إذا قلنا «کل إنسان حيوان مادام موجوداً» فهو ضرورة وصفية اما قولنا «کل إنسان حيوان بالضرورة الذاتية» فإنا نعلم أن ذات الموضوع قبل أن يتصف بالوجود لا يمکن أن يتصف بشيء من الأوصاف، فهو مع الوجود متصف بهذا المحمول بالضرورة الذاتية. والفرق الذي ذکره المصنف بقوله «مع الوجود لا بالوجود» اشارة الي مقولة العلامة الدواني ما حيث ادعي انّه بالوجود ويرجع الي الضرورة الوصفية (کقولنا: کل إنسان حيوان بالضرورة، فالحيوانية ذاتية للإنسان ضرورية له مادام موجوداً ومع الوجود) وقوله «مع الوجود» بيان لقوله «مادام موجوداً»، (ولولاه) أي لو لم يکن الإنسان موجوداً، بأن لم يکن الوجود مع الوجود لکان باطلاً بالذات فلا هو إنسان ولا حيوان فالحيوانية تثبت للإنسان بعد تحقق الوجود للانسان وعند وجوده، لا أن نجعل الوجود شرطاً للانسان حتي يصير ضرورة وصفية ، بل موجود لذات الإنسان مع الوجود أي حال کونه موجودة لا بشرط کونه موجوداً حتي يصير ضرورة شرطية. القسم الثالث من الضرورة: (و) نتنقسم الضرورة إلي (ضرورة وصفية) أيضاً (وهي کون المحمول ضرورياً للموضوع الوصفه) لا لذاته (کقولنا: کل کاتب متحرک الأصابع بالضرورة مادام کا تباً) فما دام وصف الکتابة ثابتة لذات الموضوع يکون وصف تحرک الاصابع ثابتاً له. واخيراً القسم الرابع من الضرورة وهو الذي اشار اليه بقوله (والي ضرورة وقتية ومرجعها الي الضرورة الوصفية) کما تم بيانّه (بوجه) عائد الي الضرورة الوصفية أعني جعل وقت ما صفة للموضوع.

ص: 256

تنبيه آخر: (في أقسام الإمکان)(1)

ص: 257


1- تنبيه آخر: (في أقسام الامکان): هذا التنبيه بيان لمعاني الامکان کما بين أقسام الضرورة، وسيأتي بيان الضرورة بشرط المحمول الذي اعرض المصنف عن ذکر هذا القسم أقسام الامکان : أن ما ذکرناه من اقسام الامکان بمعني سلب الضرورة ليس إلّا قسماً وأحداً من أقسام الإمکان، وللإمکان اصطلاحات اخري بعضها أعم من هذا المعني، وبعضها أخص منه، وبعضها مباين له، أما المعني الأعم للامکان فهو سلب الضرورة من جهة المخالف، فعندما نثبت صفة ومحمولاً الموضوع ما، فإن کانت الصفة موجبة صار المخالف لها سلبا ، وان لم يکن السلب ضرورياً، فبمقدار عدم ضرورة نقيض مفاد القضية تکون القضية ممکنة . وتسمي قضية ممکنة ، سواء کان ثبوت المحمول للموضوع ضرورياً ، أو لم يکن کذلک، فالامکان العام شامل للقضية الضرورياً والقضية الممکنة معا، ويکفي أن لا يکون عدمه ضرورياً ، فاذا قلنا «الواجب تبارک وتعالي موجود» کانت القضية ممکنة بالامکان العام، لابد أن تکون الجهة المخالفة للقضية وهي جهة السلب، ممتنعة، فمفاد هذه القضية الممکنة العامة أعم من کون وجوده واجبأ وکون وجوده ممکنأ، لکن سلبه ليس ضرورية، فقد يکون وجوده ضرورية وقد لا يکون ضرورياً أيضاً، فقولنا «الواجب موجود بالإمکان العام» و «الإنسان موجود بالامکان العام» فکلاهما قضيتان ممکنتان بالامکان العام، فالممکنة العامة لها مصداقان أحدهما: عند کون المحمول ثابتاً للموضوع بالضرورة ، والآخر: عند کون المحمول ثابتاً للموضوع بالامکان الخاص، بحيث لا يکون ضروري الوجود ولا ضروري العدم، هذان اصطلاحان للامکان وهما الامکان العام والامکان الخاص. والقسم الثالث من الامکان هو الامکان الاخص وهو ما لا يکون ضرورياً اصلاًأي خالياً من کل ضرورة سواء الضرورة الازلية أو الذاتية أو الوصفية، بمعني کونه ممکناًفي کافة المراحل. والقسم الرابع من الامکان يسمّي بالامکان الاستقبالي أو الاحتمالي وهو ليس وصفاً بالنفس الامري بل هو وصف بلحاظ حال الشخص کقولنا: أتمطر السماء غداً أم لا؟ فقد تمطر وقد لا تمطر لهذا تقول في الجواب: يمکن أن تمطر السماء غداً، أي يحتمل أن تمطر ويحتمل خلافه، وهذا الامکان الاحتمالي يتناسب مع الامکان الذاتي وهو الوجوب بالغير، أعني لو وجدت علة الأمطار أمطرت السماء والا فلا، فهو واجب بالغير وبحصول علة الأمطار يجب أن تمطر السماء والافلا أي وان انعدمت علة الإمطار کان ممتنعاً بالغير بمعني امتناع نزول المطر بسبب عدم العلة الموجبة له، فاما ان يکون سبب نزول المطر موجوداً في نفس الأمر فالسماء تمطر وجوباً ، وإما أن يکون السبب معدوماً في نفس الامر فلا ينزل المطر حتما وبالضرورة، فهو اما ضروري بالغير أو ممتنع بالغير، وهذا الامکان يختلف عن الامکان الذاتي للقضية ، أي لا اريد القول بأن نزول المطر ممکن ذاتاً ، بمعني عدم الوجوب بالذات وعدم الامتناع بالذات، بل من جهة أنني أجهل وقوع علة هذا الحدث حتي يصبح ضرورياً بالغير، وأجهل عدم وقوع العلة حتي يصبح الحدث ممتنعاً بالغير، من هذه الجهة أقول أن هطول الأمطار ممکن، فهو امکان احتمالي بلحاظ حال المتکلم الجاهل بحال القضية. والقسم الأخير من الامکان هو الامکان المباين في معناه لسائر اقسام الامکان، اذ کل ما ذکرناه من انواع الامکان کان مادة لمادة القضية، وتارة نستعمل الامکان وصفاً لأمرٍ موجود کقولنا عن شيء خارجي انّه ممکن، هذا الامکان يختلف عن سائر أقسامه يري الفلاسفة أن هذا الامکان الذي عبارة عن الامکان الاستعدادي نوع من الکيفية ، أعني انّه مفهوم ما هوي، اذ ما ذکرناه من اقسام الامکان کانت من المعقولات الثانية ولم تکن من الماهيات، أعني أنها لم تکن ذا وجود منحاز في الخارج، اما الامکان الاستعدادي فهو من مقولة الکيف ، وله ماهية هي عرض من الأعراض تتسب الي الشيء، حسب ما يراه الفلاسفة وسيأتي في المقولات في باب الکيف أن الکيفيات عدة أقسام أحدها الاستعداد وهو عبارة عن استعداد موجود حدث لقبول صفة أو حالة أو أمر وجودي آخر، کالنطفة بالنسبة للإنسان فإن لها مراحل مختلفة تنتقل منها وإليها، العلقة ثم المضغة ثم العظام ثم اللحم ثم حلول الروح فيه وکينونته انسان کاملا، فإن النطفة مستعدة لقبول الانسانية غير أنها بعيدة الأمد أما الروح مثلا أقربّ إلي الانسانية من النطفة وأشد استعدادا لقبول الإنسانية ، فالروح ذات امکان استعدادي لتصير انسانة لقربّ موقعها من الانسانية ، بخلاف النطفة فلا يقال أنها ذات امکان استعدادي لتصير انسانة لما بينها وبين الانسانية من مسافة ومراحل لابد من تجاوزها . هذا الامکان الاستعدادي وصف وجودي لدي الحکماء، بمعني أنه ذو کيفية ، ودليله الشدة والضعف، والقربّ والبعد کما تقدم بين النطفة والروح، ومجرد اتصاف الامکان بالقربّ والبعد والشدة والضعف دليل علي انّه أمر وجودي، اذ لو لم يکن موجوداًبل کان صرف الاعتبار لانعدم فيه القربّ والبعد والشدة والضعف ولکان اتصافه بها عبثاً. إذن جعلوا کافة أقسام الإمکان من المعقولات الثانية عدا هذا القسم الذي هو من المعقولات الأولية وماهية من الماهيات من مقولة الکيف.

ص: 258

هذا الذي تقدّم - من معني الإمکان - هو المبحوث عنه في هذه المباحث، وهو إحدي الجهات الثلاث التي لا يخلو عن وأحدة منها شيء من القضايا. وقد کان الإمکان عند العامة يستعمل في سلبِ الضرورة عن الجانب المخالف، ولازِمُه سلبُ الامتناع عن الجانب الموافق. ويصدق في الموجبة فيما إذا کان الجانب الموافق ضروريا ، نحو «الکاتب متحرک الأصابع بالإمکان»، أو مسلوب الضرورة ، نحو «الإنسان متحرک الأصابع بالإمکان». ويصدق في السالبة فيما إذا کان الجانب الموافق ممتنعاً، نحو «ليس الکاتب بساکن الأصابع بالإمکان»، أو مسلوب الضرورة، نحو «ليس الإنسان بساکن الأصابع بالإمکان»(1)

ص: 259


1- (هذا الذي تقدم من معني الامکان) وهو سلب الضرورتين (هو المبحوث عنه في هذه المباحث) وهي مباحث الضرورة والامکان (وهو) أي هذا المعني الذي نقدم (أحدي الجهات الثلاث التي لا يخلو عن واحدة منها شيء من القضابا) فهو صفة نفس أمرية لمادة القضايا ، فلا توجد قضية قط خالية من الوجود والإمتناع والامکان في نفس الامر، من غير ملاحظة حال الشخص ولا أي شيء آخر، فلابد أن تتصف القضية بأحد هذه الأوصاف الثلاثة في نفس الأمر، وهو المستعمل في مقابل الضرورة، أعني أنه لا يستعمل معه ضرورة الوجود ولا ضرورة العدم، لأنه معني في مقابل تلک المعاني، (وقد کان الامکان عند العامة يستعمل في سلب الضرورة عن الجانب المخالف) قبل أن يجعل الفلاسفة والمنطقيون هذا المصطلح السلب ضرورة الوجود والعدم أي الضرورتين ، کان الامکان عند عامة الناس بمعني سلب الضرورة من الجانب المخالف أي الامکان العام، ولازم سلب الضرورة عن الجانب المخالف هو سلب الامتناع عن الجانب الموافق ، فبمجرد عدم امتناع القضية کانت تسمي ممکنه ، سواء کانت ضرورية الوجود أو لم تکن، لهذا الامکان مصاديق أربّعة : اثنان في القضايا الموجبة واثنان في القضايا السالبة واليه اشار بقوله (ويصدق في الموجبة) في موردين : الأول (فيما اذا کان الجانب الموافق ضرورياً، نحو الکاتب متحرک الأصابع) مادام کتاباً بالامکان) ونفس هذه القضية يصح أن نعبر عنها بقولنا «کل کاتب متحرک الاصابع بالامکان العام» هذا أحد مصاديقه ، والثاني : ما کان خالياً عن ضرورة الثبوت وضرورة السلب وهو الذي قال عنه (أو مسلوب الضرورة، نحو الإنسان متحرک الاصابع ) من غير أن نأخذ وصف الکتابة في الإنسان أي من غير لحاظ کونه کاتبا أو غير کاتب، فإن تحرک الاصابع للانسان ثابت (بالامکان العام وهو ما ليس فيه ضرورة الوجود ولا ضرورة العدم، هذا في الموجبات أعني له قسمان في الموجبات أحدهما الامکان الخاص والثاني القضية الضرورية ، أما في السالبة (ويصدق في السالبة) في موردين الأول (فيما اذا کان الجانب الموافق ممتنعاً، نحو ليس الکاتب بساکن الأصابع) فالکاتب يمتنع اجتماعه مع ساکن الاصابع لکن سلبه غير ممتنع (بالامکان اذا کان ثبوت شيء لشيء ممتنعاً، فإن سلبه يکون ضرورية، فهي قضية سالبة مفاد سلبها عبارة عن الضرورة أو مفاد سلبها ضروري أعني ان السلب ضروري لها، وهو من مصاديق الممکنة العامة ويمکن ابدال لفظ الامکان في عبارة المصنف بلفظ الضرورة فنقول «ليس الکاتب بساکن الاصابع بالضرورة»، والمصداق الثاني أو مسلوب الضرورة، نحو ليس الإنسان بساکن الاصابع بالامکان) فسکون الاصابع ليس ثبوته ضرورياً للانسان ولا سلبه

فالإمکان بهذا المعني أعمّ مورداً من الإمکان بالمعني المتقدم - أعني سلبَ الضرورتين - ومن کلَّ من الوجوب والامتناع، لا أنّه أعمُّ مفهوماً، إذ لا جامع مفهوميّ بين الجهات (1)

ص: 260


1- (فالامکان بهذا المعني أعم مورداً من الامکان بالمعني المتقدم) من الأمثلة الأربّعة السالفة تقدم مثالان للممکنة الخاصة ومثالان للضرورية، فالامکان العام يشمل الإمکان الخاص والضرورية ولهذا قال رحمه الله : أعني سلب الضرورتين) وهما ضرورة الوجود تارة وضرورة العدم تارة أُخري، وهي الممکنة الخاصة (ومن) أي أعم موردة من کل من الوجوب والامتناع) ففي ببعض الموارد يشمل الوجوب والامتناع أيضاً ، فالممکنة العامة أعم مورداً، ثم يؤکد المصنف علي أن الممکنة العامة ليست اعم مفهوماً بقوله (لا أنه أعم مفهوماً) بل أعم مورداً فقط، إذ مفهوماه متباينان وذلک أن أحدهما سلب الضرورة عن الجانب المخالف والآخر عبارة عن سلب الضرورتين ، (إذ لا جامع مفهومي بين الجهات والجهات، هي مواد القضايا ، إذ مادة القضية عند لحاظها في نفس الامر تسمّي مادة وعند ما تذکر في الکلام تسمّي جهة القضية، وجهات القضية ليس بينها جامع مفهومي، لأن کل مفهوم منها مفهوم مختص بنفسه، ولهذا لا يکون أحدهما أعم من الآخر، هذا معني الامکان العام لدي عامة الناس.

ثمّ نقله الحکماء إلي خصوص سلب الضرورة من الجانَبين، وسَمّوه: «إمکاناً

خاصاً وخاصيّاً»، وسمّوا ما عند العامة : «إمکاناً عاماً وعاميّاً»(1)

وربّما أُطلق الإمکان وأريد به سلبُ الضرورات الذاتيّة والوصفيّة والوقتيّة ، وهو أخصّ من الإمکان الخاصّ ، ولذا يسمّي: «الإمکان الأخصّ»، نحو «الإنسان کاتبُ بالإمکان»، فالماهيّة الإنسانيّة لا تستوجب الکتابة، لا لذاتها ولا لوصف ولا في وقت مأخوذَين في القضيّة (2)

وربّما أُطلق الإمکان وأُريد به سلب الضرورات جميعاً حتي الضرورة بشرط المحمول ، وهو في الأُمور المستقبلة التي لم يتعيّن فيها إيجاب ولا سلب . فالضرورة مسلوبة عنها حتّي بحسب المحمول إيجاباً وسلباً. وهذا الإعتبار بحسب النظر البسيط العامّي الذي من شأنه الجهل بالحوادث المستقبلة لعدم إحاطته بالعلل والأسباب ، وإلا فلکل أمرٍ مفروضُ بحسب ظرفه إمّا الوجود والوجوب وإما العدم والامتناع (3)

ص: 261


1- (ثم نقله الحکماء) أي نقلوا الإمکان (الي خصوص سلب الضرورة من الجانبين) وهو الاصطلاح الخاص (وسمَّوه امکاناً خاصاً)لأخصية مورده أي لأن مورده أخص (وخاصياً) لأنه امکان خاص بأهل النظر في المعقول، (وسموا ما عند العامة من الامکان (امکاناًعاماً).
2- (وربّما اطلق الامکان واريد به سلب الضرورات) جميعاً سواء الذاتية والوصفية والوقتية، وهو أخص من الامکان الخاص) فلدينا ثلاثة مصطلحات، الإمکان العام والخاص، والأخص، (ولذا يسمّي الامکان الاخص، نحو الإنسان کاتب بالامکان من غير لحاظ أي نحو من الضرورات فيه ، لا الضرورة الأزلية، ولا الذاتية ، ولا الوصفية ولا الوقتية، (فالماهية الانسانية لا تستوجب الکتابة، لا لذاتها، ولا لوصف ، ولا لوقت مأخوذين في القضية). هذا بلحاظ تصور ذات الإنسان من غير قيد أو شرط، وذاته لا تقتضي الکتابة وعليه فالإمکان هنا بالمعني الأخص .
3- (وربّما اطلق الإمکان واريد به سلب الضرورات جميعاً حتّي الضرورة بشرط المحمول) وقد لا تلحظ فيها الضرورة حتّي بشرط المحمول فإنه أن لاحظنا فيها الضرورة بشرط المحمول وثبتت له تلک الصفة فإنها تثبت له بالضرورة، (وهو في الأمور المستقبلة التي لم يتعين فيها إيجاباً ولا سلباً. فالضرورة مسلوبة عنها حتي بحسب المحمول إيجابا وسلبة ، وهذا الاعتبار بحسب النظر البسيط العامي الذي من شأنه الجهل بالحوادث المستقبلة) هل تقع أسبابها وعللها أم لا نقع وهي احتمالية عنده بحسب حاله لا بحسب نفس الأمر وذلک (لعدم احاطته بالعلل والأسباب والا) لو لا حظناه بحسب الواقع ونفس الأمر (فلکل أمر مفروض بحسب ظرفه اما الوجود والوجوب واما العدم والامتناع) وحينئذ فوجوده بالغير، طبعا هذا الإمکان بهذا المعني لا ينفع في القضايا المنطقية ولا المباحث الفلسفية، فينبغي عدم الخلط بينه وبين تلک المباحث.

وربّما أُطلق الإمکان وأُريد به الإمکان الإستعداديّ، وهو وصفُ وجوديُّ من الکيفيّات القائمة بالمادّة ، تقبل به المادة الفعليّات المختلفة. والفرق بينه وبين الإمکان الخاصّ أنّه صفةُ وجوديّةُ تقبل الشدّة والضعف والقُرب والبُعد من الفعليّة ، موضوعه المادّة الموجودة ويبطل منها بوجود المستعدّ؛ بخلاف الإمکان الخاصّ الذي هو معني عقليُّ لا يتّصف بشدّةٍ وضعف ولا قُرب وبُعدٍ ، وموضوعه الماهيّة من حيث هي لا يفارق الماهيّة موجودةً کانت أو معدومةً (1)

ص: 262


1- (وربّما اطلق الإمکان واريد به الإمکان الاستعدادي) هذا ينفع الفيلسوف ولا علاقة له بالمنطق والمنطقي (وهو وصف وجودي من الکيفيات القائمة بالمادة) ولا تجري في المجردات ( تقبل به المادة الفعليات المختلفة) لان به الإمکان الاستعدادي توجد فيه قابلية الفعلية الکذائية والا لولا امکانّها لما تحققت فيه تلک الفعلية ، ( والفرق بينه وبين الإمکان الخاص) الذي إذا أطلق أريد به الإمکان الخاص، بأن نقول هذا الإمکان من الماهيات أي المعقولات الأولي وذاک من المعقولات الثانية، فيفهم أن الفرق بين هذين الامکانين شاسع انّه) أي الإمکان الاستعدادي (صفة وجودية تقبل الشدة والضعف والقربّ والبعد من الفعلية) هذا البيان غير تام لأنه قال فيما تقدم أن الإمکان موجود في الخارج، بمعني أنه صفة وجودية أذن، الأشياء تتصف بالامکان في الخارج، والمراد الإمکان المصطلح لا الاستعدادي ، فکان صفة وجودية أيضاً غير انّه لم يکن وجوداً منحازاً، ومراده هنا من کونه صفة وجودية أن له وجوداً منحازاً، أي أنه ماهية مستقلة ذات وجود الا انّه عَرَضَ موضوعه المادة الموجودة، ويبطل منها بوجود المستعد له) حين نقيس المادة بالنسبة الي فعلية من الفعليات، فإذا تحققت تلک الفعلية، بطل امکانّها، اذ الإمکان هنا يعني قابلية الاستقبال والاستعداد لقبوله، فاذا تحققت الفعلية وحصل الشيء انعدم الاستعداد وانعدمت القابلية ، فاذا صارت النطفة انساناً ذهبت عنها وانعدمت فيها قابلية الانسانية ، اذ مع حصول الفعلية ينعدم الإمکان الاستعدادي ، لکن يبقي الإمکان الذاتي ولا يزول أبداً، فالإنسان أن کان موجوداً کان ممکن الوجود وان کان معدوماً کان ممکن الوجود أيضاً، لا تزول صفة الإمکان من ماهية الإنسان أبدأ (بخلاف الإمکان الخاص الذي هو معني عقلي) وليس من الصفات الوجودية العينية ، ليس له ما بازاء خارجي أي ليس له وجود منحاز في الخارج (لا يتصف) الإمکان الخاص (بشدة ولا ضعف ولا قربّ و بعد) لأن موضوعه حينئذ ليست المادة الخارجية بل موضوعه الماهية ، کل ماهية ممکنة وکل ممکن ذو ماهية وموضوعه الماهية من حيث هي) وهذا الإمکان الخاص (لا يفارق الماهية موجودة کانت أو معدومة).

وربّما أُطلق الإمکان وأُريد به کون الشيء بحيث لا يلزم من فرض وقوعه

محالُ ، ويسمّي: «الإمکان الوقوعيّ»(1)

وربّما أُطلق الإمکان واُريد به ما للوجود المعلوليّ من التعلّق والتقوّم بالوجود العلّيّ، وخاصّة الفقر الذاتي للوجود الإمکانيّ بالنسبة إلي الوجود الواجبيّ (جلّ وعلا)، ويسمي: «الإمکان الفقريّ» و «الوجوديّ» قبال الإمکان الماهويّ(2)

ص: 263


1- (وربّما اطلق الإمکان) وهو الإمکان الوقوعي في مقابل الامتناع الوقوعي (واريد به کون الشيء بحيث لا يلزم من فرض وقوعه محال) فقد يکون صرف ومجرد افتراض الشيء محا لوجود التناقض فيه وهو المحال الذاتي وفي مقابله الإمکان الخاص، وقد يکون ذا إمکان ذاتي أعني عدم الاستحالة من مجرد افتراضه أي غير محال الإفتراض، لکن نلحظ فيه شيئاً يکون منشئاً للمحال، فنفترض تحقق معلول من غير علته، إذ لا تناقض في فرض تحقق المعلول ، کالعنقاء، فإنها غير محال الافتراض وان لم توجد في الحقيقة ، أما لو افترضنا تحقق الشيء الممکن ذاتاً من غير علة أصلاً، فهو محال وقوعي، لاستحالة وقوعه بلا علة لا لاستحالته ذاتاً ، إذن الإمکان الوقوعي هو ما لا يلزم من فرضه محال (واريد به کون الشيء بحيث لا يلزم من فرض وقوعه محال ويسمي الإمکان الوقوعي).
2- (وربّما اطلق الإمکان واريد به ما للوجود المعلولي) کل ما تقدم امکانات تستعمل في الماهية، سواء ماهية الموجود أو ذات الماهية ، ففي الإمکان الاستعدادي ينسب الي ماهية الموجود من جهة کونه موجوداً ومن جهة انّه کان ماهية بنفسه، وفي البواقي کان يقع صفة للماهية، وقد نأخذ الإمکان بمعني الصفة للوجود بما أنه وجود وهو الإمکان الفقري والتعلقي، والوجود علي قسمين وجود مستغن أي غني بالذات ووجود فقير متعلق ربّطي کوجود جميع الممکنات وهذا المعني يختلف أيضاً عن المعاني السابقة، اذ کانت تلک المعاني للإمکان مرتبطة بالماهية اما کانت ماهية بنفسها أو کانت تستعمل بخصوص الماهية وهذا الإمکان مرتبط بالوجود، (من التعلق والتقوّم بالوجود العلي) تعلق المعلول بالعلة يسمي بالامکان الوجودي الفقير التعلقي، (وخاصة الفقر الذاتي) عطف علي التعلق (للوجود الامکاني بالنسبة الي الوجود الواجبي جلّ وعلا) ويقال له الإمکان الفقري أو الإمکان الوجودي في مقابل الإمکان المرتبط بالماهيات وهو الإمکان الماهوي، (ويسمّي الإمکان الفقري والوجودي قبال الإمکان الماهوي).

تنبيهُ آخر:

الجهات الثلاث المذکورة لا تختصّ بالقضايا التي محمولها الوجود، بل تتخلّل واحدةُ منها بين أيُّ محمولٍ مفروضٍ نُسِب إليَّ أي موضوعٍ مفروض، غير أنّ الفلسفة لا تتعرّض منها إلّا بما يتخلّل بين الوجود وعوارضه الذاتيّة لکون موضوعها الموجود بما هو موجود.(1)

ص: 264


1- (تنبيه آخر:) أن الوجوب والإمکان والامتناع کانت حتّي الآن تلحظ بالنسبة وقياساً إلي الوجود، ولحاظ هذه الثلاثة بالنسبة إلي الوجود لا ينبغي أن يتوهم انّها تطرح دائماً بالنسبة الي الوجود، والفيلسوف هو الذي يبحث هذه المواد في خصوص الوجود، وإلاّ فهناک قضايا آخري تبحث مفهوم الوجود بالنسبة الي ماهية ما اما علي نحو الضرورة أو الإمکان ولا يرتبط بالفلسفة ولا بهذا البحث الذي يتطرق الي الواجب والممکن، وقد يبحث في الفلسفة أحيانا لمناسبة ما إلا أنها ليست مباحث فلسفية ، إذ البحث الفلسفي يختص بعلاقة المفاهيم مع الوجود، الذي ينتهي إلي الإمکان أو الوجوب أو الضرورة (الجهات الثلاث المذکورة) من الوجوب والامکان والامتناع (لا تختص بالقضايا التي محمولها الوجود) التي هلياتها بسيطة بل تستعمل في الهليات المرکبة أيضاً (بل تتخلل واحدة منها بين أي محمول مفروض نسب الي أي موضوع مفروض) فالنسبة تتصف بأحدي هذه الصفات (غير أن الفلسفة لا تتعرض منها إلا بما تخلل بين الوجود و عوارضة الذاتية) الفلسفة لا ترتبط إلا بالمواد المقيسة بالوجود الکون موضوعها) أي الفلسفة (الموجود .ما هو موجود)نقرأ في هذا الفصل : 1- تنقسم کل واحدة من الجهات الثلاث الي ما بالذات وما بالغير وما بالقياس الي الغير. 2۔ لا يقع إمکان بالغير لأنه محال، وإلا لو کان الإمکان بالغير ممکنأ ، لزم أن يکون اما واجبة أو ممتنعا أو ممکن بالذات، علي الأول والثاني يستلزم الانقلاب وعلي الثالث لو ارتفع الغير اما ان يبقي الإمکان - رغم ارتفاع الغير - وهو يستلزم اللغوية، وأما زائل - يزول الإمکان - فهو ليس ممکنا بالذات وهما خلاف الفرض. 3- إذن فالوجوه هي: 1- الوجوب بالذات کضرورة الوجود لذات الواجب تبارک وتعالي. 2 - الامتناع بالذات کضرورة العدم لذات المفروض من اجتماع النقيضين . 3- الإمکان بالذات مثل تساوي نسبة الماهية إلي الوجود. 4 - الوجوب بالغير مثل ضرورة وجود المعلول بعلته التامة. 5- الامتناع بالغير مثل ضرورة العدم للممکن بسبب عدم علته . 1- الإمکان بالغير - وهو محال .. 7- الوجوب بالقياس کوجوب العلة في القياس إلي معلوله المستوجب لعدم العلة. 8- الامتناع بالقياس کامتناع وجود العلة التامة في القياس الي عدم معلوله الذي يستدعي عدم العلة. 9- الإمکان بالقياس حالة الشيء بالنسبة الي شيء آخر لا يستدعي وجوده ولا عدمه. 4- الضابط في الوجوب بالقياس أن يکون بين المقيس والمقيس إليه نسبة العلية وکونهما معلولين لعلة واحدة، والضابط في الإمکان بالقياس عدم وجود العلية بينهما، ولا يفترض إلا بين واجبين أو ممتنعين بالذات. - کل واجب بالغير أو ممتنع بالغير ممکن قطعة. - لا توجد علاقة لزومية بين واجبين، لأنه لا توجد بينهما علاقة العلية، ولاهما معلولان لعلة واحدة..

الفصل الثاني في انقسام کلَّ من المواد الثلاث

إلي ما بالذات وما بالغير وما بالقياس إلي الغير، إلّا الإمکان

ص: 265

ينقسم کلُّ من هذه الموادّ الثلاث إلي ما بالذات وما بالغير وما بالقياس إلي

الغير ، إلّا الإمکان، فلا إمکان بالغير(1)

والمراد بما بالذات أن يکون وضع الذات - مع قطع النظر عن جميع ما عداه - کافية في اتصافه ، وبما بالغير أن لا يکفي فيه وضعه کذلک ، بل يتوقّف علي إعطاء الغير واقتضائه ، وبما بالقياس إلي الغير أن يکون الاتّصاف بالنظر إلي الغير علي سبيل استدعائه الأعمَّ من الإقتضاء (2)

فالوجوب بالذات کضرورة الوجود لذات الواجب (تعالي) لذاته بذاته، والوجوب بالغير ، کضرورة وجود الممکن التي تلحقه من ناحية علته التامة ، والامتناع بالذات، کضرورة العدم للمحالات الذاتيّة التي لا تقبل الوجود لذاتها المفروضه ، کاجتماع النقيضين وارتفاعهما وسلب الشيء عن نفسه، والامتناع بالغير، کضرورة عدم الممکن التي تلحقه من ناحية عدم علّته، والإمکان بالذات

ص: 266


1- (فلا امکان بالغير) لأنه قسم محال، فالأقسام المفروضة لمواد القضايا الثلاث، تسعة أقسام، أحدها محال.
2- (والمراد بما بالذات في الوجوب والإمکان والامتناع (أن يکون وضع الذات - مع قطع النظر عن جميع ما عداه - کافية في اتصافه ) أي الذات بالوجوب والإمکان والامتناع، فيتصف الذات بالمواد الثلاث من غير تأثير شيء ولا لحاظه مقيساً الي الغير، والمراد (بما بالغير) في الوجوب والامتناع، دون الإمکان لما تقدم من استحالة الإمکان بالغير (ان لا يکفي فيه) أي في اتصاف الذات بهما (وضعه) رأي وضع الذات (کذلک) من غير لحاظ تأثير شيء خارجي أو لحاظه مقيساً إلي الغير (بل يتوقف) إنصاف الذات بهما علي اعطاء الغير واقتضائه) أي اعطاء العامل الخارجي واقتضائه للوجوب والامتناع، فالعامل الخارجي هو الذي يمنح الذات ضرورة الوجود أو ضرورة العدم، اما نفس الذات فلا يقتضي شيئاً منهما . (و) المراد (بما بالقياس) وهو الذات المتصف بالوجوب والإمکان والامتناع لکن بالقياس الي الغير، أن يکون الاتصاف) بالمواد الثلاث حاصلاً (بالنظر الي الغير) ومقيسة إليه (علي سبيل استدعائه ) الذي هو (الأعم من الاقتضاء) أي سواء کان الغير الذي قيس اليه الذات يستدعي وجود الذات أو کان مقتضياً وعلة للذات أيضاً.

کون الشيء في حدّ ذاته مع قطع النظر عن جميع ما عداه مسلوبةً عنه ضرورةُ الوجود وضرورةُ العدم(1)

وأمّا الإمکان بالغير فممتنع - کما تقدّمت الإشارة اليه .. وذلک لأنّه لو لَحَقَ الشيءَ إمکانُ بالغير من علّةٍ مقتضيةٍ من خارج لکان الشيء في حدّ نفسه مع قطع النظر عمّا عداه إمّا واجباً بالذات أو ممتنعاً بالذات أو ممکناً بالذات، لما تقدم أن القسمة إلي الثلاثة حاصرة. وعلي الأوّلَين يلزم الإنقلاب بلحوق الإمکان له من خارج، وعلي الثالث - أعني کونه ممکناً بالذات - فإمّا أن يکون بحيث لو فرضنا ارتفاع العلّة الخارجة بقي الشيء علي ما کان عليه من الإمکان ، فلا تأثير للغير فيه الاستواء وجوده وعدمه وقد فرض مؤثّراً ، هذا خلف. وإن لم يبق علي إمکانّه لم يکن ممکناً بالذات وقد فرض کذلک، هذا خلفُ (2)

ص: 267


1- (فالوجوب بالذات کضرورة الوجود لذات الواجب تعالي) الذي هو عبارة عن ضرورة الوجود لذات الواجب تعالي الذاته) لاقتضاء ذاته المقدسة، لا کونه وضعاً بحال متعلق الموصوف (بذاته) ومن جهة ذاته المقدسة، لا بعامل خارجي، (و الوجوب بالغير...الخ) والشيء يصير ضرورياً عند تحقق علته التامة لا يتخلف عنها أبداً، فکل موجود ممکن واجب بالغير، والامتناع بالذات کضرورة العدم للمحالات الذاتية ... الخ) وليس للمحالات الذاتية ذات في الحقيقة، نعم يفرض لها ذات کذلک ، والامتناع بالغير....الخ) فالممکن المعدوم عدمه ضروري عند عدم علته، (والإمکان بالذات...الخ) کما هو في جميع الماهيات وقد تقدم.
2- (واما الإمکان بالغير فممتنع) التحقق (کما تقدمت الاشاره اليه) في صدر هذا الفصل، وذلک بدليلين، أولاً: «لأنه لو تحق الشيء) والماهية (امکان بالغير من علة مقتضية) لذلک الشيء وجعله ممکناً (من خارج) ذلک الشيء ليکون ممکنا بالغير، لو صح هذا الکان الشيء في حد نفسه مع قطع النظر عما عداه) من علة مقتضية وما أشبه لا يخلو من حالات ثلاث( اما واجباً بالذات أو ممتنعاً بالذات أو ممکناً بالذات) وذلک (لما تقدم) في الفصل السابق (ان القسمة إلي الثلاثة من واجب و ممتنع وممکن قسمة (حاصرة) بالحصر العقلي ولا يتصور قسم رابع لها، وعلي الأولين) أعني الوجوب بالذات والامتناع بالذات (يلزم الانقلاب بلحوق الإمکان له من خارج)، ومعناه لو قلنا أن الشيء المفروض أما واجب أو ممتنع بالذات، وفي الوقت ذاته صار ممکناً بفعل عامل خارجي، نجيب : ان هذا يستلزم الانقلاب المحال في الذات - في ذات الشيء المفروض -، فيلزم أن يکون الشيء الذي يقتضي بذاته الوجود أو العدم، غير مقتض لهما في الوقت ذاته بفعل عامل خارجي وهذا انقلاب في ذات الشيء (وعلي) أي وبناء اًعلي (الثالث - أعني کونه ممکناً بالذات - فاما أن يکون) الشيء بحيث لو فرضنا ارتفاع العلة الخارجة بقي الشيء) رغم ارتفاع العلة الخارجة (علي ما کان) الشيء (عليه من الإمکان)، فليس لهذا الشيء المفروض سوي امکان واحد، يکون إمکانا بالذات وبالغير في آن واحد، لو کان کذلک ورغم ارتفاع العلة الخارجة بقي الشيء علي ما کان عليه من الإمکان (فلا تأثير للغير فيه) والعلة الخارجة لم تؤثر في الشيء حينئذ، وذلک الاستواء وجوده) أي وجود الغير (وعدمه) بالنسبة إلي الشيء المفروض (وقد فرض) الغير علة خارجة و(مؤثراً) في ذات الشيء، وأنت تعلم أن (هذا خلف) وخلاف للفرض، اذ کيف يجوز للغير أن لا يکون مؤثرة في الشيء وقد فرض کونه مؤثراًفيه ؟! ، وان لم يبق) الشيء علي امکانّه بل أثر الغير فيه بالعکس (لم يکن الشيء حينئذ (ممکناً بالذات، وقد فرض) کونه ممکناً بالذات (کذلک) و (هذا أيضاً(خلف). والحاصل أنه بناءاً علي کون الشيء ممکناً بالذات هناک احتمالان : الإحتمال الأول - ان يکون لذلک الشيء امکان واحد هو الإمکان بالذات وبالغير معاً، ولو کان ذا إمکان واحد لا يخلو أيضاً من احتمالين، أولاً: کونه بحيث يبقي علي امکانّه رغم ارتفاع العلة الخارجة، فلم يؤثر فيه الغير - العلة الخارجة ، لاستواء وجود هذا الغير وعدمه حنيئذ بالنسبة إلي الشيء المفروض وهذا خلف کما تقدم. ثانياً : کونه بحيث لا يبقي علي إمکانّه عند ارتفاع الغير - العلة الخارجة -، لزم کون هذا الشيء غير ممکن بالذات، إذ لو کان ممکناً بالذات لم يؤثر فيه الغير ليخرجه من حد الإمکان الي حد الوجوب أو الامتناع، وقد فرض ممکناً بالذات وهذا خلف أيضاً.

هذا لو کان ما بالذات وما بالغير إمکاناً واحداً هو بالذات وبالغير معاً ، ولو فَرِضَ کونهما إمکانَين إثنين بالذات وبالغير کان لشيء واحدٍ من حيثيّةٍ واحدۃٍ إمکاناتِ لوجودٍ واحدٍ، وهو واضح الفساد کتحقّق وجودَين لشيءٍ واحدٍ).

(1)

ص: 268


1- (وهذا الذي تقدم کلّه ولو کان ما بالذات وما بالغير امکاناً واحداً هو بالذات وبالغير معاً) کما تقدم مفصلاً ، اما الاحتمال الثاني : (ولو کان الشيء المفروض (فرض) کونه ذا امکانين ، و(فرض کونهما) أي الامکانين (امکانين اثنين بالذات وبالغير) معاً (کان لشيء واحد من حيثية واحدة وهي حيثية الإمکان (امکانان لوجود واحد) وشيء واحد وماهية واحدة وهو والوجوب بالقياس إلي الغير کوجوب العلة إذا قيست إلي معلولها بإستدعاء منه، فإنه بوجوده يأبي إلا أن تکون علته موجودة، وکوجوب المعلول إذا قيس إلي علته التامة باقتضا منها، فإنها بوجودها تأبي إلا أن يکون معلولها موجودة ، في حکم اجتماع المثلين (وهو واضح) البطلان و (الفساد، کتحقق وجودين لشيء واحد) فکما أن تحقق وجودين لشيء واحد محال، فإن تحقق امکانين لشيء واحد من جهة واحدة محال بالنسبة لشيء واحد، ولما استحال أن يکون للشيء الواحد وجودان، والإمکان صفة الوجود الشيء، فلا يمکن أن يکون لوجود واحد امکانان.

وأيضاً في فَرض الإمکان بالغير فُرِضَ العلة الخارجة الموجبة للإمکان، وهو في معني ارتفاع النقيضَين، لأنّ الغير الذي يفيد الإمکان الذي هو لا ضرورة الوجود والعدم لا يفيده إلّا برفع العلة الموجبة للوجود ورفع العلّة الموجبة للعدم التي هي عدم العلّة الموجبة للوجود، فإفادتها الإمکانَ لا تَتّم إلّا برفعها وجودَ العلة الموجبة للوجود و عدَمها معاً، وفيه ارتفاع النقيضَين (1)

ص: 269


1- (وأيضاً في فرض الإمکان بالغير) لو أردنا تحقق هذا الإمکان لشيء واحد، (فرض) أي الزم فرض (العلة الخارجة الموجبة للامکان) بحيث توجب الإمکان لذلک الشيء (وهو) أي فرض العلة الخارجة الموجبة للإمکان في فرض الإمکان بالغير وکون الشيء ممکناً بالغير مع فرض العلة الخارجة الموجية لإمکان الشيء (وهو في معني ارتفاع النقيضين) والنقيضان لا يرتفعان کما أنهما لا يجتمعان (لأن الغير ... الخ) إذ لو تحققت العلة التامة لوجود الشيء، کان الشيء واجب بالغير، لا ممکن به ، ولو تحققت العلة التامه لعدم الشيء، کان الشيء ممتنعاً بالغير، لا ممکناً به، فالشيء المفروض لا يکون ممکناً بالغير إلا عند عدم تحقق العلة التامة لوجوده وهکذا العلة التامة لعدمه - أي عند فقد العلتين -، ثم ان العلة التامة لعدم الشيء هي بعينها عدم العلة التامة لوجود الشيء (التي هي عدم العلة الموجبة للوجود، فافادتها) أي العلة الخارجة (الإمکان) اذ العلة الخارجة لا تفيد الإمکان حنيئذ و(لا تتم هذه الافادة للامکان (الا برفعها) أي برفع العلة الخارجة (وجود العلة الموجبة للوجود) أي لوجود الشيء المفروض فترفع العلة التامة لوجود الشيء (و) ترفع (عدمها) أي عدم العلة التامة لوجود نفس الشيء المفروض (معاً) وفي آن واحد فترفع العلة الخارجة شيئين متناقضين - وعلتين کل منهما نقيض الأخري -، (وفيه) في هذا العمل والفرض اشکال (ارتفاع النقيضين) وهو محال .

وکوجوب أحد المتضائفَين إذا قيس إلي وجود الآخر. والضابط فيه أن تکون بين المقدس والمقيس إليه علّيّةُ و معلوليّةُ أو يکونا معلولَي علّةٍ واحدۃٍ، إذ لو لا رابطة العليّة بينهما لم يتوقّف أحدهما علي الآخر فلم يجب عند ثبوت أحدهما ثبوتُ الآخر(1)

والإمتناع بالقياس إلي الغير کامتناع وجود العلّة التامّة إذا قيس إلي عدم المعلول بالاستدعاء، وکامتناع وجود المعلول إذا قيس إلي عدم العلة بالاقتضاء، وکامتناع وجود أحد المتضائفَين إذا قيس إلي عدم الآخر وعدِمِه ، إذا قيس إلي وجود الآخر(2)

والإمکان بالقياس إلي الغير حالُ الشيء إذا قيس إلي ما لا يستدعي وجوده ولا عدمه. والضابط أن لا تکون بينهما علّيةُ و معلوليّةُ، ولا معلوليتهما لو أحدٍ ثالث.

ص: 270


1- (والضابط) والملاک (فيه) في معرفة الوجوب بالقياس الي الغير (ان تکون بين المقيس والمقيس اليه) علاقة (العلية والمعلولية) فيکون أحدهما علة للآخر والآخر معلولاً له (أويکونا معلولي علة واحدة) ثالثة.
2- (والامتناع بالقياس الي الغير، کامتناع وجود العلة التامة إذا قيس) هذا الوجود الي عدم المعلول) فإنه يمتنع وجود العلة التامة عند عدم معلوله وهذا الامتناع يتم (بالاستدعاء) أي آن عدم المعلول يستدعي عدم العلة التامة لوجود الملازمة بينهما (وکامتناع وجود المعلول) بالعکس - عکسة للأول - (إذا قيس) وجود المعلول (الي عدم العلة) فعدم العلة دليل علي عدم المعلول وامتناع تحققه وهذا الإمتناع يحصل (بالاقتضاء) أي أن عدم العلة علة لعدم المعلول ومقتض له، (وکامتناع وجود احد المتضائفين) کالأب والابن أو الأبوة والبنوة ، وکالتحتية والفوقية وما أشبه (إذا قيس الي عدم الآخر) فاذا قيس وجود الابوة الي عدم البنوة أو وجود التحتية الي عدم الفوقية، وقع الامتناع بالقياس ، فهنا يمتنع وجود الأبوة مع عدم البنوة ويمتنع وجود التحتية مع عدم الفوقية، وهکذا العکس أي (و) کامتناع (عدمه) أي عدم احد المتضائفين إذا قيس الي وجود الآخر). فيمتنع عدم البنوة والتحتية مع وجود الأبوة والفوقية، فلا يتحقق أحدهما الا بتحقق الآخر، کما لايمتنع احدهما إلا بامتناع الآخر وعدمه .

ولا إمکانَ بالقياس بين موجودَين، لأن الشيء المقيس إمّا واجبّ بالذات مقيسّ إلي ممکنٍ أو بالعکس وبينهما علّيّة ومعلوليّة ، وإما ممکن مقيسّ إلي ممکن آخر وهما ينتهيان إلي الواجب بالذات(1)

نعم، للواجب بالذات إمکانُ بالقياس إذا قيس إلي واجبٍ آخر مفروضٍ أو

إلي معلولاته مِن خلقه ، حيث ليست بينهما علّيّةُ و معلوليّةُ، ولا هما معلولان لواحدٍ ثالث. ونظيرُ الواجن بالذات المفروضَين ، الممتنعان بالذات إذا قيس أحدهما إلي الآخر أو إلي ما يستلزمه الآخر، وکذا الإمکان بالقياس بين الواجب بالذات والممکن المعدوم، لعدم بعض شرائط وجوده، فإٍنّه معلول انعدام علّته التامّة التي يصير الواجب بالذات علي الفرض جزءاً من أجزائها غير موجب للممکن المفروض ، فللواجب بالذات إمکان بالقياس إليه وبالعکس (2)

ص: 271


1- (ولا امکان بالقياس بين موجودين) فلا علاقة امکانية بالقياس بين أي موجود مع موجود أخر الأن) أي لأننا إذا قسنا بين موجودين وقسنا موجوداً الي موجود آخر تحصل لدينا ثلاث احتمالات : اذ (الشيء المقيس اما واجب بالذات مقيس الي ممکن) بالذات، فأو، اما ان يکون قياساً للواجب بالذات الي الممکن بالذات، (أو بالعکس) ثانياً : واما ان يکون قياساً للممکن بالذات الي الواجب بالذات (و) في کلا الحالتين (بينهما) أي بين المقيس والمقيس اليه - وبين الواجب والممکن - علاقة (علية ومعلولية) فيکون النسبة بينهما نسبة الوجوب بالقياس لا الإمکان بالقياس ، (واما) ثالثا : أن يکون (ممکن مقيس الي ممکن آخر) فهما - أي المقيس والمقيس اليه - علتان لمعلول ثالث (وهما ينتهيان الي الواجب بالذات) اذ کل ما بالعرض لابد ان ينتهي الي ما بالذات، فتکون النسبة بينهما حينئذ - أي بين الواجب وکل من الممکنين نسبة الوجوب بالقياس لا الإمکان کذلک.
2- (وکذا الإمکان بالقياس بين الواجب بالذات والممکن المعدوم ،) الذي عدمه معلول البعض شرائط وجوده) أي لم يوجد وبقي علي عدمه لأن بعض شرائط تحققه لم تتوفر ولم تتحقق والشيء لا يتحقق ما لم تتحقق جميع شرائطه التي هي جميع اجزاء علته التامة ، فاذا قسنا الواجب بالذات مع الممکن المعدوم الذي لم نتم شرائط وجوده و تحققه (فإنه) أي عدمه (معلول انعدام علته التامة التي يصير الواجب ... الخ) فليس بين الواجب بالذات والمعدوم بالعرض علاقة العلية والمعلولية ، فلا تجمعهما علاقة الضرورة بالقياس، ولا علاقة الامتناع بالقياس، فما العلاقة بينهما؟ والجواب : (فللواجب بالذات علاقة (إمکان بالقياس إليه) أي إلي الممکن المعدوم بالعرض (وبالعکس) أي فللممکن بالعرض علاقة امکان بالقياس الي الواجب بالذات

وقد تبيّن بما مر:

أوّلاً : أنّ الواجب بالذات لا يکون واجباً بالغير ولا ممتنعاً بالغير، وکذا الممتنع بالذات لا يکون ممتنعاً بالغير ولا واجباً بالغير. ويتبين به أن کل واجب بالغير فهو ممکن، وکذا کل ممتنع بالغير فهو ممکن(1)

وثانياً : أنّه لو فُرِضَ واجبان بالذات لم تکن بينهما علاقةُ لزوميّةُ ، وذلک لأنها إنّما تتحقّق بين شيئين أحدهما علّةُ للآخر أو هما معلولا علّةٍ ثالثة، ولا سبيل للمعلوليّة إلي واجب بالذات.

ص: 272


1- (ان الواجب بالذات لا يکون واجبة بالغير) لأنه يستلزم کون الواجب بالذات أو صيرورته معلولا للغير ، وهذا ينافي الوجوب الذاتي (ولا يکون (ممتنعاً بالغير) أيضاً لاستلزامه الانقلاب في الذات کما تقدم، (وکذا الممتنع بالذات لا يکون ممتنعة بالغير) لأنه يستلزم الخلف أو اجتماع المثلين ، (و) لا يکون (واجباً بالخير) أيضاً، لاستلزامه حينئذ وقوع الانقلاب في الذات - أي في ذات الممتنع - (ويتبين به ان کل واجب بالغير فهو ممکن، وکذا کل ممتنع بالغير فهو ممکن أيضاً، وإلا لزم کونهما أما واجبين بالذات أو ممتنعين بالذات وهو محال لأنه خلف نقرأ في هذا الفصل : الا ماهية لواجب الوجود، لأن الماهية من لوازم الإمکان والممکن. 2- لو کان للواجب ماهية ، کان وجوده عرضية زائدة علي ماهيته والعرضي يحتاج الي العلة ، فان کانت هذه العلة غيرة، کان منافية للوجوب، وان کانت هي الماهية، لزم تقدم الشيء علي نفسه من باب تقدم العلة علي المعلول. 3- المعلول يتوقف علي علته في الوجود، فيجب تقدم العلة وجودة علي المعلول لا مفهومأ وتصورة. 4 - الواجب لا ماهية له، لکنه شخصي لا کلي، اذ التشخص من خواص الوجود والکلية من لوازم الماهية. 5- يجاب عن الاشکالات جميع بوجهين: أ- اما اخذ المفهوم العام للوجود في جميع هذه الشبهات، وصرف المفهوم العام للوجود، خارج عما نحن فيه، بل الکلام في حقيقة الوجود لا المفهوم العام للوجود. ب- أو فرض حقيقة الوجود عبارة عن طبيعة کلية مشترکة، تحمل علي مصاديقها بالتساوي، بينما الوجود حقيقة مشککة ذو مراتب متعددة..

الفصل الثالث في أنّ واجب الوجود بالذات ماهيّته إنيته

(1)

واجب الوجود بالذات ماهيته إنيّته بمعني أن لا ماهية له وراء وجوده الخاصّ به . والمسألة بيّنة بالعطف علي ما تقدم من أنّ الإمکان لازم الماهيّة ، فکلّ

ص: 273


1- اعلم أن للماهية معني عاماً و معني أعم، أما المعني العام للماهية فعبارة عن ما يرد في جواب «ما هو، ويمثل شيئية الشيء، کما يقال : «الواجب تعالي لا ماهية له»، وأما المعني الأعم الذي يخصنا هنا فهو بمعني الهوية و«ما به الشيء هو هو»، ومن هنا صح القول واجب الوجود بالذات ماهيته انيته». . والمسألة بينة) واضحة جداً (بالعطف علي ما تقدم في الأمر الأول من الفصل الأول من هذه المرحلة - أعني الرابعة -

ماهيّة فهي ممکنة، وينعکس إلي أنّ ما ليس بممکن فلا ماهيّة له، فلا ماهيّة للواجب بالذات وراء وجوده الواجبيّ

وقد أقاموا عليه مع ذلک حججاً(1)

أمتَنُها : أنّه لو کان للواجب بالذات ماهية وراء وجوده الخاصّ به کان وجوده زائداً عليها عَرضيّاً لها، وکلُّ عرضيًّ معلَّلُ، فکان وجوده معلولاً إمّا لماهيّنه أو الغيرها ، والثاني - وهو المعلوليّة للغير - ينافي وجوب الوجود بالذات ، والأوّل- وهو معلوليّنه لماهيّته - يستوجب تقدُّمَ ماهيّته علي وجوده بالوجود، لوجوب تقدّم العلّة علي معلولها بالوجود بالضرورة، فلو کان هذا الوجود المتقدّم عين وجود المتأخّر الزم تقدّم الشيء علي نفسه وهو محالّ، ولو کان غيره لزم أن توجد ماهيّة واحدة بأکثر من وجودٍ واحدٍ، وقد تقدّمت إستحالته . علي أنّا ننقل الکلام إلي الوجود المتقدّم فيتسلسل (2)

ص: 274


1- (وقد أقاموا عليه مع ذلک) أي رغم وضوحه (حجج) لمزيد من الحجج والتفاصيل راجع الهيات الشفاء والتحصيل.
2- (والأول من الاحتمالين (- وهو معلوليته) أي معلولية الواجب بالذات الماهيته) أي الماهية الواجب (يستوجب تقدم ماهيته) أي ماهية الواجب علي وجوده) أي وجود الواجب بالوجود) فيکون تقدم ماهية الواجب تقدمة وجودية علي وجود الواجب ، وذلک لوجوب تقدم العلة علي معلولها بالضرورة) فلا تحقق للمعلول من غير تحقق العلة - علته - فاذا فرضنا- کما نحن فيه - أن وجود الواجب معلول لماهية الواجب، وماهيته علة لوجوده ، وقعنا في محذور نقدم الشيء علي نفسه أو تقدم ماهية الواجب علي وجوده، وهذا التقدم الرتبي وبالوجود لا يخلو من حالين: الأول (فلو کان هذا الوجود) أي الماهية الوجودية المتقدمة (المتقدم عين وجود المتأخر) وان وجود ماهية الواجب الذي يتقدم علي وجود الواجب من باب کونه علة لوجود الواجب يکون معلولاً لماهية الواجب الزم تقدم الشيء علي نفسه، إذ لا يمکن أن يکون الشيء علة ومعلولاً، ومتقدماً ومتأخراً (وهو محال)، اما الثاني (ولو کان هذا الوجود والماهية المتقدمةبالوجود (غيره) أي غير وجود المتأخر، والعلة غير المعلول (لزم أن توجد ماهية واحدة بأکثر من وجود وأحد) و اجتماع وجودين في ماهية واحدة (وقد تقدمت استحالته، علي أي أضف الي ذلک المحذور وتلک الاستحالة اشکالاً هو (انا ننقل الکلام إلي الوجود المتقدم) و نقول أن الوجود المفروض أيضاً زائد علي ماهية الواجب، ومعلول له، والمفروض انّه معلول لماهية الواجب أيضأ، ولزم أن تکون ماهية الواجب موجودة بوجود آخر، وان الوجود الثاني زائد أيضاً علي ماهية الواجب و معلول له، والمفروض ان ماهية الواجب علة لهذا الوجود الزائد علي الماهية وهو معلول لها، فاللازم أن تکون ماهية الواجب موجودة قبل ذلک الوجود بوجود آخر، وهلمّ جرّا فيتسلسل) ولا يکاد ينتهي عند شيء، الذي يستلزم کون الواجب تبارک وتعالي، ذا وجودات لا متناهية وهو ضربّ من الخيال المحال.

واعُترِض عليه : بأنّه لِمَ لا يجوز أن تکون ماهيّته علّةً مقتضيةً لوجوده ، وهي متقدّمةُ عليه تقدّماً بالماهيّة ، کما أن أجزاء الماهيّة علل قوامها وهي متقدّمة عليها تقدّماً بالماهيّة لا بالوجود ؟(1)

ودُفعَ: بأن الضرورة قائمةُ علي توقّف المعلول في نحو وجوده علي وجود علته ، فتقدُّم العلة في نحو ثبوت المعلول غير أنّه أشدّ، فإن کان ثبوت المعلول ثبوتاً خارجيّاً کان تقدُّم العلة عليه في الوجود الخارجيّ، وإن کان ثبوتاً ذهنياً

فکذلک (2)

ص: 275


1- (واعترض عليه) أي علي هذا البرهان، والمعترض هو الفخر الرازي : (بأنه الي قوله : تقدماً بالماهية) لا بالوجود (کما أن أجزاء الماهية) وهما الجنس والفصل (علل) متقدمه و(قوامها) أي مقومة للماهية (وهي) مع ذلک کله (متقدمة عليها) أي علي الماهية ( تقدماً بالماهية لا بالوجود؟) فلم لا يجوز ذلک ؟
2- ودفع) من قبل المرحوم نصير الدين الطوسي : (بأن الضرورة قائمة علي توقف المعلول في نحو وجوده) وکيفية وجوده علي وجود علته) وهذا ثابت بضرورة العقل والوجدان، فتقدم العلة) أي نتيجة ضرورة تقدم العلة علي المعلول - فالفاء للنتيجة - يقتضي تقدم العلة في نحو ثبوت علي المعلول) أي أن العلة متقدمةُ علي المعلول في نفس کيفية ثبوت المعلول ونحو ثبوته (غير أنه) أي إلا أن وجود العلة (أشد) من وجود المعلول وعليه فإن کان ثبوت المعلول ثبوتاً خارجياً کان تقدم العلة عليه) أي علي المعلول (في الوجود الخارجي...الخ) فالتقدم العلي - أعني تقدم العلة علي المعلول تابع لظرف وجودهما والوعاء الذي يتحققان فيه .

وإذ کان وجود الواجب لذاته حقيقيّاً خارجيّاً وکانت له ماهيّةُ هي علّةُ موجبةُ لوجوده کان من الواجب أن تتقدّم ماهيّته عليه في الوجود الخارجيّ لا في الثبوت الماهويّ، فالمحذور علي حاله(1)

حجّةُ أخري : کلّ ماهيّة فإنّ العقل يجوّز بالنظر إلي ذاتها أن تتحقّق لها وراء ما وجد لها من الأفراد أفراد أُخر إلي ما لا نهاية له . فما لم يتحقّق من فرير فلإمتناعه بالغير، إذ لو کان لامتناعه بذاته لم يتحقق منه فرد أصلاً (2)

فإذا فُرِض هذا الذي له ماهية واجباً بالذات کانت ماهيّته کلّيّةً لها وراءَ ما وجد من أفراده في الخارج أفرادُ معدومةُ جائزةُ الوجود بالنظر إلي نفس الماهيّة وإنّما امتنعت بالغير ، ومن المعلوم أن الامتناع بالغير لا يجامع الوجوب بالذات ، وقد تقدّم أنّ کل واجبٍ بالغير وممتنع بالغير فهو ممکن، فإذن الواجب بالذات لا ماهيّة

ص: 276


1- (وإذا کان وجود الواجب لذاته حقيقياًخارجياً) لا اعتبارياً ذهنياً (وکانت له) أي للوجود الواجبي (ماهية هي علة موجبة لوجوده) أي لوجود الواجب (کان من الواجب) واللازم (ان تتقدم ماهيته) أي ماهية الواجب (في الوجود الخارجي) للواجب علي وجود الواجب (لا في الثبوت الماهوي) الذهني (فالمحذور) المتقدم في البرهان باقي (علي حاله) لم يندفع.
2- (حجة اخري) وبرهان آخر علي ان لا ماهية للواجب بالذات هو : ان (کل ماهية فان العقل يجوز بالنظر إلي ذاتها) أي تلک الماهية (ان تتحقق لها وراء) وفوق وأکثر وغير (ما وجد لها من الأفراد في الخارج بالوجود الفعلي والتحقق (أفراد أخر) لم توجد وما زالت معدومة لکنها ممکنة الوجود الي ما لا نهاية له) من أفراد و مصاديق . (فما لم يتحقق من فرد) أي الأفراد التي لم تتحقق ولم تخرج من دائرة الإمکان و العدم الي دائرة الوجوب و الوجود، ومن دائرة القوة الي دائرة الفعلية (فلامتناعه) أي سبب عدم تحققه ووجوده وفعليته راجع الي کونه ممتنعة لا بالذات بل (بالغير) فالغير هو الذي منعه من الفعلية والوجود، دليل ذلک : (اذ لو کان) عدم وجوده و تحققه (لامتناعه بذاته) لا بالغير کان المفروض انّه لم يتحقق منه فرد اصلا اذ الممتنع ذات لا مجال امامه للتحقق والثبوت لا في فرد ولا أکثر، لأن امتناعه الذاتي يعني کون الماهية الکلية لهذا الفرد ممتنعاً عن الوجود والتحقق، والممتنع ذاتاً يأبي الثبوت والتحقق.

له وراءَ وجوده الخاص (1)

واعتُرِضَ عليه : بأنّه لِمَ لا يجوز أن يکون للواجب بالذات حقيقةُ وجوديّةُ غير زائدة علي ذاته بل هو عين ذاته ، ثم العقل يحلّله إلي وجودٍ ومعروضٍ له جزئيًّ شخصيًّ غير کلّيًّ هو ماهيّته ؟(2)

ودُفِعَ : بأنّه مبنيُ علي ما هو الحق من أن التشخّص بالوجود لا غير ، وسيأتي

في مباحث الماهيّة (3)

ص: 277


1- (فاذا فرض) بناءاً علي ما تقدم أن هذا الذي له ماهية) کان (واجباً بالذات) وللواجب بالذات ماهية مثلاً، (کانت ماهيته) أي ماهية الواجب بالذات (کلية) حتماً و (لها) أي لتلک الماهية - کما هو شأن جميع الماهيات - (وراء ما وجد من أفراده في الخارج أفراد معدومة جائزة الوجود بالنظر الي نفس الماهية الممکنة (وانما امتنعت) أي لم تمتنع هذه الأفراد المعدومة من التحقق والوجود إلا (بالغير) لا لأنها أبية للتحقق بذواتها، ولا لأنها تقتضي الامتناع ذاتاً (ومن المعلوم ان ... الخ) فکيف يجوز للشيء الواحد ان يکون ممتنعاً بالغير وواجب بالذات في آني واحد (وقد نقدم في هذا الفصل (ان کل واجب بالغير وممتنع بالغير فهو ممکن بالذات، والممکن بالذات هو القابل لأن يکون واجباً بالغير أو ممتنعاً بالغير (فاذن) فاء النتيجة، الحاصلة من هذه الحقيقة أن الواجب بالذات لا ماهية له وراء وجوده الخاص) وإلا لم يمتنع وجود أفراد اُخر غير الموجود المحقق بالفعل.
2- (واعترض عليه) أي علي هذا البرهان کما في الجزء الاول من الأسفار (بانّه) الضمير للشأن وان فرض ماهية کلية للواجب بالذات لا ينحصر فيما ورد علي لسانکم، بل نقول : الم لا يجوز أن يکون للواجب بالذات حقيقة وجودية) عينية ولبساطة ذات الواجب فإن هذه الحقيقة الوجودية (غير زائدة علي ذاته) أي ذات الواجب تعالي (بل هو الصحيح أن يقول بل هي اشارة الي تلک الحقيقة العينية (عين ذاته) أي عين ذات الواجب بالذات (ثم) يأتي (العقل) و(يحلله) أي يحلل تلک الذات البسيطة (الي) حيثيتين، حيثية (وجود) الواجب وحيئية جزئية شخصية (معروض له) أي وجود الواجب وهذا المعروض (جزئي شخصي غير کلي هو ماهيته) حمل عليها الوجود، وتعتبر هذا المعروض الجزئي ماهية للواجب بالذات ليندفع الاشکال.
3- (ودفع هذا الاعتراض بواسطة المولي صدر المتألهين : (بأنه) أي البرهان السابق (مبني علي ما هو الحق والحقيقة الثابتة (من أن التشخص بالوجود) وللوجود فقط (لا غير ، وسيأتي في مباحث الماهية) أن الماهية کلية لا يمکن أن تکون جزئية متشخصة ذاتاً ، فلا يمکن أن نفرض ماهية جزئية للواجب بالذات، اذ الواجب متشخص وماهيته وحقيقته ، انيته ، والماهية کلية بالذات غير متشخصه فلا يجتمعان

فقد تبيّن بما مرّ، أن الواجب بالذات حقيقةُ وجوديّةُ لا ماهيّةُ لها تحدّها، هي بذاتها واجبة الوجود من دون حاجة إلي انضمام حيثيّة تعليليّةٍ أو تقييديّةٍ، وهي الضرورة الأزليّة. وقد تقدّم في المرحلة الأولي أن الوجود حقيقةُ عينيِّةُ مشکّکةُ ذات مراتب مختلفة ، کل مرتبة من مراتبها تجد الکمال الوجودي الذي لما دونها و تقوّمه و تتقوّم بما فوقها، فاقدةُ بعضَ ما له من الکمال وهو النقص والحاجة، إلّا المرتبة التي هي أعلي المراتب التي تجد کلَّ کمالٍ، ولا تفقد شيئاً منه، و تقوّم بها کلّ مرتبة، ولا تقوّم بشي ءٍوراءَ ذاتها(1)

ص: 278


1- قوله : (حيثية تعليلية) وهي الواسطة في الثبوت (و) حيثية (تقييديّة) وهي الواسطة في العروض (و) بايجاز واختصار (هي) أي الوجود لحقيقة الواجب وذاته تقتضيها (الضرورة الأزلية وليس أمراً حادثاً، فالواجب بالذات حقيقة وجودية محضة. وقد تقدم في الفصل الثالث من المرحلة الأولي أن الوجود حقيقة عينية مشککة) أي (ذات مراتب مختلفة قوة وضعفا وکثرة وقلة (کل مرتبة من مراتبها) أي مراتب هذه الحقيقة العينية المشککة (تجد الکمال الذي لما دونها) مرتبه، فان الشمس لها کل کمال من النور الموجود في المصباح أو الشمعة، ولها کمال زائد من هذه الجهة علي المصباح والشمعة (و) في الوقت ذاته (تقومه) أي المرتبة العالية تقوم الأدني منها (و) کذلک ( تقوم بما فوقها) وبما اقوي منها، لأن المرتبة الدانية من الشيء لا تتحقق الا بالمرتبة الأعلي من الشيء نفسه، فضوء المصباح مقوم لضوء الشمعة ، وضوء المصباح متقوم بضوء الشمس، والمرتبة الأدني من الکمال (فاقدة بعض ما له) أي بعض ما للأعلي (من الکمال، وهو) أي هذا الفقدان عبارة عن (النقص والحاجة) فکل مرتبة ناقصة بالقياس الي ما فوقها من مراتب الکمال، وفقيرة محتاجة اليها ، (الا المرتبة التي هي أعلي المراتب) في الکمال (التي تجد کل کمال) وليس فوقها ذو کمال بل جامعة لکل کمال والکمال المطلق الذي ليس فوقه کمال (و) هذه المرتبة (لا تفقد شيئاً منه) أي من الکمال (و تقوم بها) أي بالمرتبة الأعلي وبأعلي المراتب (کل مرتبه) من مراتب الکمال (ولا تقوم) أعلي مراتب الکمال (بشيء وراء ذاتها) من مراتب الکمال اذ ليس فوقها مرتبة بل هي اعلاها وأقواها، مقومة لکل مرتبة ولا يقومها شيء.

فتنطبق الحقيقة الواجبِّية علي القول بالتشکيک علي المرتبةُ التي هي أعلي المراتب التي ليست وراءها مرتبةُ تحدّها ، ولا في الوجود کمالُ تفقده ، ولا في ذاتها نقص أو عدُم يشوبها، ولا حاجة تقيّدها ؛ وما يلزمها من الصفات السلبيّة مرجَعُها إلي سلب السلب وانتفاء النقص والحاجة وهو الإيجاب (1)

وبذلک يندفع وجوهُ من الاعتراض أوردوها علي القول بنفي الماهية عن

الواجب بالذات.

منها : أنّ حقيقةَ الواجب بالذات لا تساوي حقيقةَ شيءٍ ممّا سواها، لأن حقيقة غيره تقتضي الإمکان وحقيقته تنافيه ، ووجوده يساوي وجود الممکن في أنّه وجود، فحقيقته غيرُ وجوده وإلّا کان وجودُ کلَّ ممکنٍ واجباً(2)

ص: 279


1- قوله : (وما يلزمها من الصفات السلبية) دفع دخل مقدر، اذ لقائل أن يقول إذا کان الأمر کما تزعمون فما حال الصفات السلبية التي تحيط بذات الوجود الواجبي والحقيقة الواجبة ، أليست دالة علي نقص وفقر وحاجة ؟!، فأجاب به آن (مرجعها) أي مرجع هذه الصفات السلبية الملازمة لحقيقة الواجب ووجوده تبارک وتعالي ليس کونها ذاتية للواجب تعالي ولا هو متصف بها علي وجه الحقيقة بل منتزعة من الصفات الثبوتية الوجودية وراجعة (إلي سلب السلب) الذي هو الايجاب (و) کذلک مرجعها الي انتفاء النقص والحاجة) عن الباري جل وعلا، فان سلب ما هو سلبي اصلاًيقتضي أثبات عکسه (وهو) الصفة الثبوتية و (الايجاب) الذي هو عين الغني والکمال.
2- (منها) أي من تلک الاعتراضات (ان حقيقة الواجب) تختلف عن حقيقة کل ما عداه و(لا تساوي حقيقة شيء مما سواه)، دليل هذا المدعي: (لأن حقيقة غيره) أي غير الواجب - تعالي - ( تقتضي الإمکان الخاص (وحقيقته) تبارک و تعالي (تنافيه) أي تنافي الإمکان لأن حقيقته الوجوب الذاتي، (و) ان کان (وجوده) تعالي (يساوي وجود الممکن في أنه) أي في أن وجوده (وجود) أيضاً لکن أعلي مراتب الوجود والکمال الوجودي، وبناءاً علي هذا فحقيقته) أي حقيقة الواجب (غير وجوده) أي غير وجود الواجب ، فحقيقة الواجب ماهيته ، والوجود الواجبي محمول علي ماهيته، (والا) لو لم تکن حقيقة الواجب - أي ماهيته - غير وجوده بل کانا شيئاً واحداً (کان وجود کل ممکن واجباً ) في عين امکانّه فيکون الشيء ممکنة وواجبة وهو محال. بيان ذلک : اننا لو اعتبرنا الواجب وجوداً لا ماهية له، ولا ماهية لوجود الواجب، لزم أن يکون الممکن أيضاً واجباً ويکون وجوده واجب الوجود، لأن الواجب والممکن يشترکان في أنهما وجودان - وان اختلفا من حيث مرتبة الوجود - فإذا کان الواجب وهو أعلي مراتب الوجود لا ماهية له کان الممکن بطريق أولي کذلک وکان الاثنان واجبين وهذا خلف وانقلاب . والاشکال الثاني شبيه بهذا وقريب منه فلاحظ.

ومنها : أنّه لو کان وجود الواجب بالذات مجرّداً عن الماهيّة فحصول هذا الوصف له إن کان لذاته کان وجودُ کلُ ممکنٍ واجباً لاشتراک الوجود، وهو محالُ : وإن کان لغيره لزمت الحاجة إلي الغير ولازِمُهُ الإمکان، وهو خلفُ.

ومنها : أن الواجب بالذات مبدأ للممکنات، فعلي تجرُّدِهِ عن الماهيّة إن کانت مبدئيّتُةُ لذاته لزم أن يکون کلُّ وجوډ کذلک، ولازِمُه کونُ کلّ ممکن علّةً النفسه ولعلِلِه، وهو بيَّنُ الإستحالة ؛ وإن کانت لوجوده مع قيد التجرّد لزم ترکّب المبدأ الأوّل بل عدمه، لکون أحد جزئيّه - وهو التجرّد- عدميّاً ؛ وإن کانت بشرط التجرّد لزم جواز أن يکون کلُّ وجودٍ مبدءاً لکلّ وجود، إلّا أنّ الحکم تخلَّف عنه الفقدان الشرط وهو التجرّد(1).

ص: 280


1- (ومنها أن الواجب بالذات مبدأ للممکنات) وهذا أمر مسلّم لاشک فيه، (فعلي) أي بناءاً علي (تجرده) أي تجرد الواجب بالذات (عن الماهية) لا يخلو الأمر من أوجه ثلاثة الأول: ان کان مبدئيته) أي مبدئية الواجب بالذات حاصل للممکنات (لذاته) أي لذات الواجب ، و ذاته تقتضي أن يکون مبدءاً للممکنات، الزم أن يکون کل وجود) حتي وجود الممکن (کذلک) أي مبدءاً للممکنات، (ولازمه کون کل ممکن علة لنفسه) أولاً، (و) علة (لعلله) ثانياً، (وهو) أي هذا اللازم (بين الاستحالة) اذ کيف يمکن لشيء واحد وممکن أيضاً، أن يکون علة لنفسه وعلة لعلله. الثاني : (وان کانت مبدئية الواجب بالذات للممکنات لا لذات الواجب بل (لوجوده) أي الوجود الواجب (مع قيد التجرد) عن الماهيّة الزم ترکيب المبدأ الأول) وهو الواجب - تعالي - من وجود و تجرّد عن الماهية والترکب محال علي الواجب - تعالي - (بل) لزم (عدمه) أي عدم الواجب تعالي وذلک (لکون أحد جزئيه - وهو التجرد- عدميّاً) اذ التجرد عبارة عن خلوه من الماهية وعدم الماهية، وما کان أحد أجزاءه أو جزئيه عدمياً ، کان کله عدمياً لأن الکل لا يتحقق الا بتمام أجزاءه الثالث : (وان کانت مبدئية الواجب للممکنات لا لذاته ولا لوجوده بل (بشرط التجرد) من الماهية (لزم جواز أن يکون کل وجود) امکاني أو واجبي (مبدءاً لکل وجود) واجبي أو امکاني (الا أن الحکم والحکم المراد هنا هو کون کل وجود مبدءاً لکل وجود (تخلف عنه) أي عن غير الواجب فلم يکن غير الواجب مبدءاً لشيء وذلک : (لفقدان الشرط) في الممکنات والوجودات الإمکانية (وهو) أي وهذا الشرط المفقود عند الممکن هو (التجرد) الذي يتصف به الواجب دون غيره. .

ومنها : أنّ الواجب بذاته إن کان نفس الکون في الأعيان - وهو الکون المطلق - لزم کون کلَّ موجود واجباً ، وإن کان هو الکون مع قيد التجرد عن الماهية الزم ترکّب الواجب، مع أنّه معنيً عدميُّ لا يصلح أن يکون جزءاً للواجب؛ وإن کان هو الکون بشرط التجرّد لم يکن الواجب بالذات واجباً بذاته، وإن کان غير الکون في الأعيان فإن کان بدون الکون لزم أن لا يکون موجوداً، فلا يعقل وجودُ بدون الکون ؛ وإن کان الکون داخلاً لزم الترکّب، والتوالي المتقدّمة کلّها ظاهرة البطلان : وإن کان الکون خارجاً عنه فوجوده خارجُ عن حقيقته وهو المطلوب، إلي غير ذلک من الاعتراضات(1)

ص: 281


1- (ومنها : أن الواجب بذاته ان کان نفس الکون في الأعيان، وعين الثبوت الخارجي (- وهو) أي الثبوت الخارجي والکون في الأعيان يسمي (الکون المطلق ، أيضاً الزم کون موجود) واجباً کان أو ممکنة (واجباً) اذ أن لکل موجود ثبوتاً خارجياً وحقيقة عينية ، واذ قلنا أن الواجب بالذات نفس الکون في الأعيان الخارجية، لزم کون کل ما له ثبوت خارجي ، واجبة، اذ لا فرق في الوجود بين الواجب وغيره . هذا علي الاحتمال الأول وهو کون الواجب بالذات نفس الکون في الأعيان وذا ثبوت خارجي. أما الثاني : (وان کان) الواجب بذاته (هو الکون) في الأعيان وذا ثبوت خارجي (مع قيد التجرد عن الماهية، لزم ترکب الواجب) من الثبوت الخارجي والتجرد عن الماهية (مع أنه) أي التجرد (معني عدمي لا يصلح أن يکون جزءاً للواجب) لأنه يعني فقدان الماهية لأنه يستلزم کون الواجب أمراً عدمياً، اذ ما کان جزؤه عدمياً فهو عدمي ، اضف الي ذلک أن الواجب بسيط الذات لا يقبل الترکب أصلاً. الاحتمال الثالث : (وان کان الواجب بذاته (هو الکون والثبوت في الأعيان والخارج بشرط التجرد) عن الماهية، لا کون التجرد جزءاً من الواجب ، وان کانت النتيجة واحدة وهو عدم تحقق الواجب إلا بالتجرد علي کلا المبنيين، (لم يکن الواجب بالذات) حينئذ (واجباً بذاته) لحاجته الي ما يحقق له الشرط المفروض والحاجة فقر ونقص ولا تجتمع مع الوجوب الذاتي، ويأباه الواجب بالذات، الاحتمال الرابع : (وان کان الواجب بذاته (غير الکون في الأعيان) وکان شيئا مغايرة للثبوت الخارجي - أي لم يکن ذا ثبوت خارجي أو عين الثبوت في الخارج - فلا يخلو من وجهين اثنين، الأول : (فان کان الواجب بذاته (بدون الکون) والثبوت في الخارج وفاقدة له، الزم أن لا يکون الواجب بالذات (موجوداً) في الخارج (فلا يعقل وجود) في الخارج (بدون الکون) والثبوت لأنهما مترادفان، اذ کل موجود کائن و ثابت وکل ثابت وکائن فهو موجود في الخارج. الثاني : (وان کان) أي أن افترضنا (الکون داخلاً) في الواجب وجزءاً منه (لزم الترکب) وهو بسيط الحقيقة والذات (و) عليه فإن جميع (التوالي المتقدمة واللوازم المفروضة من کون التجرد جزءاً أو شرطاً أو الترکب أو الوجود بلا کون وما أشبه (کلها ظاهرة البطلان) والفساد . فلا يمکن تصور الواجب بلا ماهية. الاحتمال الخامس والأخير : (وان کان الکون) والثبوت الخارجي غير داخل فيه ولا جزءاً منه بل کان (خارجاً عنه) حقيقةً (فوجوده) أي الواجب (خارج عن حقيقته) أي عن حقيقة الواجب (و) هذا، أي کون حقيقة الواجب نفس الماهية الخاصة به، والوجود خارج عن حقيقته لازم له (هو المطلوب) الذي نسعي الي اثباته ، وحاصله أن جميع الاحتمالات ووجوه الاحتمالات ثبت بطلانّها وتم ابطالها، ولم يبق إلي الاحتمال الأخير فهو المراد ، وهناک اعتراضات و اشکالات و شبهات اخري ليس هنا محلها بل تطلب في المطولات کالاسفار والمباحث المشرقية للفخر الرازي وما أشبه.

ووجه اندفاعها أنّ المراد بالوجود المأخوذ فيها إمّا المفهوم العام البديهيّ وهو معني عقليُّ اعتباريُّ غير الوجود الواجبيّ الذي هو حقيقة عينيّة خاصةُ بالواجب، وإمّا طبيعة کلّيّةُ مشترکة متواطئة متساويةُ المصاديق، فالوجود العينيّ حقيقة مشکّکة مختلفةُ المراتب ، أعلي مراتبها الوجود الخاص بالواجب بالذات(1)

ص: 282


1- (ووجه اندفاعها) أي هذه الاعتراضات جميعاً (أن المراد بالوجود المأخوذ فيها) أي في هذه الاحتمالات والأوجه لا يخلو من وجهين الأول : (اما المفهوم العام البديهي وهو) أي هذا المعني البديهي العام (معني عقلي اعتباري) وهذا المعني العقلي الاعتباري (غير الوجود الواجبي الذي هو) أي الوجود الواجبي (حقيقة عينية خاصة بالواجب) لا اعتبار عقلي، الثاني : (واما طبيعة کلية مشترکة متواطئة متساوية المصاديق) الاشکال علي هذا الوجه : فالوجود العيني حقيقة مشککة مختلفة المراتب ، أعلي مراتبها الوجود الخاص بالواجب بالذات ) - تبارک و تعالي - فالاعتراضات السابقة غير وارده لأن الکلام هنا عن الوجود الخاص وهو أعلي مراتب الوجود للوجود العيني الذي هو حقيقة مشککة لا مفهوم اعتباري ولا طبيعة کلية مشترکة متواطئة متساوية المصاديق . فافهم وانتبه. والحاصل : انا نسأل هؤلاء القوم، ما تقصدون من الوجود هنا؟ فان کان مرادکم من الوجود، مفهوم الوجود، فهو أمر بديهي شامل لکل الموجودات، وهذا المفهوم - للوجود - أمر ذهني اعتباري، لا يمکن أن يکون عبارة عن حقيقة خارجية للوجود، التي تختص مرتبة منها بالذات الواجبة المقدسة هي أعلي مراتب الوجود، فلا يمکن ذلک حتي يستدل بأن هذا الوجود المشترک بحاجة الي ما به الاختصاص وما به الإتياز هو ماهية واجب الوجود. وان کان مرادکم من الوجود المذکور، هو المصداق والثبوت الخارجي للوجود، بمعني أن هذا الوجود مشترک بين جميع الموجودات علي السوية، فهو زعم باطل أيضاً، إذ لا سوية ولا اشتراک بين أفراد و مصاديق حقيقة الوجود الخارجي، بل مصاديقة مختلفة المراتب مشککة، ومقول فيها بالتشکيک، أعلي مراتبها الوجود الخاص بالواجب بالذات - تبارک وتعالي

وأيضاً التجرّد عن الماهية ليس وصفاً عدميّاً، بل هو في معني نَفي الحد

الذي هو من سلب السلب الراجع إلي الايجاب.

وقد تبيّن أيضاً أنّ ضرورةَ الوجود للواجب بالذات ضرورةً أزليّةُ، لا ذاتيّةُ ولا وصفيّةُ، فإنّ من الضرورة ما هي أزليّةُ، وهي ضرورةُ ثبوت المحمول للموضوع بذاته من دون أيّ قيدٍ وشرطٍ کقولنا: «الواجب موجود بالضرورةُ». ومنها ضرورة ذاتيّةُ، وهي ضرورة ثبوت المحمول لذات الموضوع مع الوجود لا بالوجود، سواء کانت ذاتُ الموضوع علّةً للمحمول ، کقولنا: «کلّ مثلّث فإنّ زواياه الثلاث مساويةُ القائمتَين بالضرورة»، فإنّ ماهيّة المثلّث علّةُ للمساواة إذا کانت موجودةً ؛ أو لم تکن ذاتُ الموضوع عله لثبوت المحمول ، کقولنا: «کلّ إنسانٍ إنسانُ بالضرورة أو حيوان أو ناطق بالضرورة »، فإنّ ضرورة ثبوت الشيء لنفسه بمعني عدم الانفکاک حال الوجود من دون أن تکون الذات عله لنفسه. ومنها ضرورةُ وصفيةُ، وهي ضرورة

سه

.

ص: 283

ثبوت المحمول للموضوع بوصفه مع الوجود لا بالوجود، کقولنا: «کلّ کاتبٍ متحرّکُ الأصابع بالضرورة مادام کاتباً »، وقد تقدّمت الإشارة إليها (1)

ص: 284


1- (وقد تبين أيضاً ضرورة الوجود.. الخ) فالضرورة علي ثلاثة أقسام: الضرورة الأزلية، وهي ما کان ثبوت المحمول للموضوع بلا قيد أو شرط، أي أمراً بديهياً مثل «الله - تعالي - موجود » أو «الله - تعالي - قادر و عالم وغني بالضرورة». . والضرورة الذاتية: (وهي ضرورة ثبوت المحمول لذات الموضوع مع الوجود لا بالوجود) أي في ظرف وجود الموضوع، لا بقيد وجود الموضوع، وهذا علي وجهين أولهما (سواء کانت ذات الموضوع علة للمحمول) أي علة الثبوت المحمول وتحققه ، کما في ماهية المثلث، فإنها علة لتساوي زواياه الثلاث مع زوايتين قائمتين (کقولنا: «کل مثلث فإن زواياه الثلاث مساوية لقائمتين بالضرورة» الذاتية ، ( فإن ماهية المثلث علة للمساواة في هذه القضية بين الزوايا الثلاث مع زوايتين قائمتين - أي 180 درجة - (إذا کانت الماهية موجودة محققة في الخارج، ثانيهما: (أو لم تکن ذات الموضوع علة الثبوت المحمول) و تحققه مثل «الانسان انسان» فان انسان وهو الموضوع، ليس علة لنفسه وهو المحمول - الإنسان - وعلي کلا الوجهين فان ثبوت المحمول للموضوع غير مقيد ولا مشروط بالوجود، وبعبارة أوضح: (فإن ضرورة ثبوت الشيء لنفسه) في حمل الإنسان علي الإنسان أو الحيوان عليه أو الناطق عليه (بمعني عدم الانفکاک حال الوجود من دون أن تکون الذات علة لنفسه) والحاصل أن ضرورة اتصاف الموضوع بالمحمول، غير مرکب من وجود الموضوع وذاته، بل يکفي للاتصاف بالمحمول ثبوت ذات الموضوع وحده، عند وجود الموضوع وحده ، فليس انتصاف الموضوع بالمحمول مقيداً و مشروطاً بوجود الموضوع، حتّي تکون علة اتصاف الموضوع بالمحمول مرکبة من الموضوع نفسه وشرط وجوده . (و) علي العکس من السابق - الضرورة الذاتية - نجد الضرورة الوصفية و(هي ضرورة ثبوت المحمول للموضوع بوصفه) أي الموضوع (مع الوجود لا بالوجود) أي ضرورة ثبوت المحمول للموضوع بشرط اتصاف الموضوع بوصف خاص، وفي حال وجود الموضوع لا بقيد وجود الموضوع، فان ثبوت تحرک أصابع اليد للکاتب عند اتصاف الموضوع الکاتب - بوصف الکتابة، ضروري لا محيص دونه ، ويطلق عليها الضرورة الوصفية، فإنا نري أن الوجود هنا ظرف لتحقق الموضوع ليس إلّا، لا أن انتصاف الموضوع بالمحمول، مرکب من أمرين هما الوصف الخاص والآخر شرط الوجود، بل اتصاف الموضوع بالمحمول ملاکه تحقق الوصف الخاص للموضوع ليس إلا. وقد تقدمت الإشارة إليها في الفصل الأول من هذه المرحلة نقرأ في هذا الفصل : 1- واجب الوجود واجب من جميع الجهات، فلا حالة منتظرة للواجب بالنسبة الي شيء من صفاته الکمالية. 2- ولو کانت فيه جهة إمکانية - أي ليس فيه شيء من الکمال - کان ذاته مرکبة من الوجود والعدم ولازم الترکيب الحاجة ولازم الحاجة الإمکان وقد فرض واجبة. هذا خلف . 3- لا يقاس الوجود بالماهية إذ يمکن لحاظ الماهية بدون الوجود والعدم وعلة کل منهما خلافا للوجود العيني الذي يشترط فيه لحاظ جميع علله وشروطه. 4- لا ينقض الأصل المتقدم وهو الوجوب من جميع الجهات، بالنسب والاضافات المنسوبة والمضافة الي الواجب تبارک وتعالي مثل الخلق والرزق والاحياء والأمانة وما اشبه ، لأنها صفات الفعل والحديث هنا عن صفات الذات. 5- الواجب وجود صرف لا ماهية له، فلا يشوبه العدم والنقصان. 6- الواجب واحد بالصرافة وواحد حقيقي، وکل ما فرضته له ثانية عاد أولا. 7- الواجب بسيط، ليس له جزء عقلي ولا خارجي. 8- منشأ انتزاع الوجود والوجوب واحد، ولازمه وحدة الصفات بالذات. 9- ليس الوجوب خارجاً عن ذات وجود الواجب، بل معناه تأکد الوجود..

الفصل الرابع في أنّ واجب الوجود بالذات واجب الوجود

من جميع الجهات

واجب الوجود بالذات واجب الوجود من جميع الجهات.

قال صدر المتألهين و : «المقصود من هذا أنّ الواجب الوجود ليس فيه جهة

إمکانيةُ، فإنُ کلُ ما يمکن له بالإمکان العام فهو واجبُ له(1)

ص: 285


1- تقدم أن الإمکان الخاص عبارة عن سلب الضرور تين ، وان هناک الإمکان العام الذي يشمل هذا الإمکان - أي سلب الضرورتين - ويشمل أيضاً الوجوب والامتناع، فاذا ثبتت صفة الموجود بالامکان العام، يحصل سلب الضرورة من الجانب الآخر له، أما الموجود نفسه فان ثبوت تلک الصفة له قد يکون بنحو الوجوب ، کالصفات الثبوتية للواجب تعالي، وقد يکون بنحو سلب الامتناع وعدم ثبوت ضرورة ما، کالصفات الثبوتية للممکنات من قبيل «زيد عالم بالإمکان العام» فحدث هنا سلب الإمتناع من جهة ثبوت العلم لزيد، کما انّه سلب للضرورة من الجانب المخالف والطرف المقابل. فکل صفة تثبت للواجب - تعالي - بالامکان العام، تکون ثابتة له وجوباً ، والي هذا أشار بقوله : (قال صدر المتألهين : المقصود من هذا أن الواجب الوجود ليس فيه جهة امکانية ، فان کل ما يمکن له بالامکان العام الذي يشمل سلب الضرور تين والوجوب والامتناع، وسلب الضرورتين هو الإمکان الخاص (فهو واجب له) أي للواجب تعالي

ومن فروع هذه الخاصّة أنّه ليست له حالة منتظرة، فإنّ ذلک أصل يترتّب عليه هذا الحکم. وليس هذا عينه کما زعمه کثير من الناس، فإن ذلک هو الذي يعدُّ من خواصّ الواجب بالذات دون هذا، لاتّصاف المفارقات النوريّة به، إذ لو کانت للمفارق حالةُ منتظرةُ کماليّةُ يمکن حصولها فيه لاستلزم تحقّق الإمکان الاستعداديُ فيه والانفعال عن عالم الحرکة والأوضاع الجرمانيّة، وذلک يوجب تجسمه وتکدرّه مع کونه مجرّداًنوريّاً) ، هذا خلفُ» - إنتهي(1)

ص: 286


1- (ومن فروع هذه الخاصة) أي من الفروع المترتبة علي هذه الخصوصية والخاصية في الواجب - تعالي -: (أنه ليست له) أي للواجب (حالة منتظرة) يمکن للواجب أن يتصف بها، وما زال لم يتصف بها، کلا لا يوجد شيء من هذا القبيل (فان ذلک) أي کون الواجب بالذات واجبا من جميع الجهات (أصل يترتب عليه هذا الحکم) بيان ذلک : أنه لما کان الواجب بالذات واجباً من جميع الجهات، لزم ترتب هذا الحکم عليه وهو عدم وجود حالة منتظرة للواجب تعالي بالاتصاف بکل ما يمکن من صفات الکمال الثبوتية. (وليس هذا الفرع عينه) أي عين الأصل، فان الحکم بعدم وجود حالة منتظرة للواجب مترتب علي الأصل القائل بأن الواجب واجب من جميع الجهات، إذن لا عينية بينهما (کما زعمه کثير من الناس) حيث جعلوا هذا الحکم والفرع عين ذاک الأصل وهو مردود باطل (فان ذلک) الأصل (هو الذي يعد من خواص الواجب بالذات، دون هذا الفرع الذي يعدّ متفرعاً مترتباً علي ذاک الأصل، لأن المجردات التامة أيضاً لا حالة منتظرة لها والاتصاف المفارقات) والمجردات (النورية) التامة (به) أي بالوصف السابق وهو خلوها من حالة منتظرة، دليل ذلک : (إذ لو کانت للمفارق) والمجردات التامة (حالة منتظرة کمالية) لم تتحقق لها و(يمکن حصولها) أي تلک الأوصاف الکمالية (فيه) أي في المفارق والمجرد (لاستلزم تحقق الإمکان الاستعدادي فيه) لأنه يقتضي کون المجرد التام ذا حالة مستعدة لتحقق ذلک الکمال فيه، (و) لاستلزم أيضاً (الانفعال) والتأثر (عن عالم الحرکة) ويکون المجرد متأثراً منفعاً عن عالم الحرکة وبسببه (و) هکذا منفعلاً متأثراً أيضاً من (الأوضاع الجرمانية) الجسمانية (وذلک) الانفعال والتأثر المفروض (يوجب تجسمه) أي تجسم المجرد التام بالضرورة (و) يستلزم أيضاً أو يوجب (تکدره) أي تکدر المجرد التام وظلمائيته، والمفروض انّه مجرد نوراني لاجسم ظلماني (هذا خلف) لأنه خلاف للفرض. وللمزيد راجع الجزء الأول من الاسفار. (انتھي) کلامه رفع مقامه. والحاصل : أن الواجب الوجود واجب من جميع الجهات وکل الصفات، هذا مختص بذات الواجب - تعالي - و يتفرع عليه ان لا حالة منتظرة ولا امکان في الواجب - تعالي - وهذا الفرع ليس من خصائص ذات الواجب - تعالي - لأنه أمر مشترک بين الواجب - تعالي - والمجردات التامة ، اذ هي أيضاً خالية من کل حالة منتظرة وفاقدة لها تماماً ، وإلا لکانت هذه المجردات حاملة لإمکان واستعداد تلک الصفة وذلک الکمال وکانت ذات حالة منتظرة بالنسبة اليها، وما کان کذلک - حاملاً للامکان والاستعداد - وجب کونه مادة مما يستلزم کونه جسماً ظلمانياً لا مجرداً نورانياً. فافهم.

والحجّة فيه : أنّه لو کان للواجب بالذات المنزّه عن الماهيّة بالنسبة إلي صفةٍ

کماليّةٍ من الکمالات الوجوديّة جهةً إمکانيّةُ ، کانت ذاتُهُ في ذاتِهِ فاقدةً لها، مستقرّاً فيها عدمّها، فکانت مرکّبةً من وجودٍ وعدمٍ، ولازمُهُ ترکُّبُ الذات، ولازِمُ الترکّب الحاجة، ولازِمُ الحاجة الإمکان، والمفروض وجوبه، وهذا خلفُ(1)

حجّةُ أُخري : إنِّ ذات الواجب بالذات لو لم تکن کافيةً في وجوب شيءٍ من

ص: 287


1- (والحجة فيه) باختصار لو کان الواجب فاقداً لصفة کمالية مع قدرته علي الاتصاف بها، فکانت ممکنة بالنسبة إلي الواجب لا ضرورية واجبة کان عدم وفقدان تلک الصفة الکمالية مستقراًفي ذات الواجب - تعالي -، وعليه کان الواجب - تعالي ۔ مرکبأ بذاته من مجموعة امور موجودة ومجموعة أمور معدومة مفقودة، والترکيب علامة الحاجة والمرکب محتاج الي غيره والي اجزاءه، والحاجة دليل الإمکان، فالمحتاج ممکن بالذات لا واجب بالذات، وقد فرضناه واجبا ، فلزم کون جميع صفاته الکماليه الثبوتية واجبة له کذاته المقدسة تماماً .

الصفات الکماليّة التي يمکن أن تتّصف بها کانت محتاجةً فيه إلي الغير، وحينئذٍ لو اعتبرنا الذات الواجبة بالذات في نفسها مع قطع النظر عن ذلک الغير وجوداً وعدماً فإن کانت واجبةً مع وجود تلک الصفة لغَت علّية ذلک الغير وقد فُرِضَ علّة، هذا خلفُ ، وإن کانت واجبةً مع عدم تلک الصفة لزم الخلف أيضاً (1)

وأورد عليها أنّ عدم اعتبار العلّة بحسب اعتبار العقل لا ينافي تحقُّقَها في نفس الأمر، کما أنّ اعتبار الماهيّة من حيث هي هي وخلوّها بحسب هذا الاعتبار عن الوجود والعدم والعلة الموجبة لهما لا ينافي اتصافها في الخارج بأحدهما وحصول علّته (2)

ص: 288


1- (حجة اخري) علي أن واجب الوجود بالذات واجب الوجود من جميع الجهات (ان ذات الواجب بالذات لو لم تکن کافية في وجوب شيء من الصفات الکمالية التي يمکن لذاته (ان تتصف بها) أي بتلک الصفات الکمالية (کانت ذات الواجب (محتاجة فيه) أي في الاتصاف بتلک الصفة الکمالية (الي الغير) فيکون شيء آخر مغاير لذات الواجب خارج عن ذاته هو الذي تفضل علي الواجب ومنحه تلک الصفة وذلک الکمال وهذه الحاجة تغاير الغني الذاتي للواجب من جميع الجهات وکماله المطلق (وحينئذٍ) بناءاً علي حاجته الي الغير لا يخلو الواجب بالذات من وجهين، أولاً: (لو اعتبرنا الذات الواجبة بالذات في نفسها - مع قطع - النظر عن ذلک الغير - وجوداً و عدماً ) فتکون ذات الواجب متصفة بتلک الصفة في نفسها و تکون واجبة مع تلک الصفة ، فإنه خلاف للفرض، واليه اشار قائلاً: (فإن کانت ذات الواجب (واجبة مع وجود تلک الصفة ، لغت علية ذلک الغير) الذي کان المفروض أن يکون علة لاتصاف الواجب - تعالي - بتلک الصفة، وهذا خلاف للفرض (وقد فرض) الغير (علة) الاتصافها بتلک الصفة (هذا خلف). الوجه الثاني : (وان کانت ذات الواجب - تعالي - (واجبة مع عدم تلک الصفة، لزم الخلف أيضاً) بيان ذلک : أنه ان کانت ذات الواجب واجبة مع عدم هذه الصفة . فکان عدم هذه الصفة مستنداً إلي ذات الواجب ، وبالضرورة الأزلية، لزم الخلف أيضاً اذ کان المفروض کون ذلک الغير علة ، وعدم هذه الصفة مستند الي عدم ذلک الغير - وهو العلة. لا إلي نفس ذات الواجب. والحاصل أن فرض الغير علة لمنح الواجب بالذات صفة کمالية ينتهي إلي خلفين، فصفاته - تعالي - واجبة له کما أن ذاته واجبة.
2- (وأورد عليها) أي علي الدليل الثاني والحجة الأخري ، کما في الجزء الأول من الاسفار (أن) الوجه الأول من الثاني لا بأس به، فالواجب يتصف بتلک الصفة مع قطع النظر عن وجود و عدم الغير الذي هو العلة ، ولا يقع خلف هنا قطعا لأن مجرد (عدم اعتبار العلة) وعدم لحاظها (بحسب اعتبار العقل) لا يوجب عدم تحقق العلة و (لا ينافي تحققها) أي تحقق العلة في الواقع و(نفس الأمر) فعدم اعتبار العلة لا ينافي اعتبار عدم العلة، فذاک سلب وهذا إيجاب، ومجرد عدم لحاظ وجود العلة لا يعني عدم وجود العلة حقيقة (کما ان اعتبار الماهية من حيث هي هي) أي من جهة کونها ماهية - بقطع النظر عما عداها. (و) لحاظ (خلوها) أي الماهية (بحسب هذا الاعتبار) العقلي، أي خلو الماهية (عن الوجود والعدم والعلة الموجبة لهما) واعتبار الماهية کذلک (لا ينافي اتصافها) أي الماهية (في الخارج بأحدهما) أي الوجود والعدم، (و) لا ينافي أيضاً (حصول علته) والحاصل : اننا حين نلحظ الماهية من جهة کونها ماهية ليس إلا، ونقول انّها حينئذ خالية من الوجود والعدم، وخالية من علة الوجود وعلة العدم، لا يعني هذا أن الماهية في الخارج و نفس الأمر لا موجودة ولا معدومة أيضاً، ولحاظ خلو الماهية من الوجود والعدم وعلتيهما الموجبتين لهما لا ينافي انصاف الماهية في الخارج بالوجود أو العدم، ولا ينافي تحقق علة کل منهما في الخارج، بأن يکون الشيء الکذائي موصوفة بالوجود، والشيء الآخر مثلاً موصوفاً بالعدم حقيقة أي ذاک موجود وهذا معدوم.

ورُد بأنّه قياسُ مع الفارق ، فإنّ حيثّةَ الماهيّة من حيث هي غيرُ حيثّية الواقع ، فمن الجائز أن يعتبرها العقل ويقصر النّظر اليها من حيث هي من دون ملاحظة غيرها من وجوبر وعدم وعلّتهما. وهذا بخلاف الوجود العينيَ ، فإنّ حيثيّة ذاته عين حيثيّة الواقع و متن التحقّق ، فلا يمکن اعتباره بدون اعتبار جميع ما يرتبط به من علّة وشرطٍ(1)

ويمکن تقرير الحجّة بوجهٍ آخر، وهو أن عدم کفاية الذات في وجوب صفةٍ من صفاته الکماليّة يستدعي حاجتّةُ في وجوبها إلي الغير، فهو العلّة الموجبة ،

ص: 289


1- (ورُدّ) في الجزء الأول من الأسفار وحاصله: ان الماهية تقابل الوجود، ولهذا يمکن لحاظها خالية عن الوجود والعدم وما يتعلق بها، خلافاً للوجود الذي يستحيل لحاظه خالياً من علله وشرائطه و متعلقاته لأن الوجود العيني حيثية ذاته عين حيثية الواقع والخارج لا يتصوران منفکين، وهذا يوجب استحالة لحاظه خالياً منها کالماهية.

ولازمه أن يتّصف الواجب بالذات بالوجوب الغيريّ، وقد تقدّمت استحالته (1)

وأُورِد علي أصل المسألة بأنّه منقوضُ بالنِسَبِ والإضافات اللاحقة للذات الواجبيّة من قِبَل أفعاله المتعلّقة بمعلولاته الممکنة الحادثة، فإنّ النِسبَ والإضافات قائمةً بأطرافها تابعةً لها في الإمکان کالخَلق والرزق والإحياء والإماتة وغيرها (2)

ويُندفع بأنّ هذه النسب والإضافات والصفات المأخوذة منها. کما سيأتي

بيانّه - معانٍ منتزعةٍ من مقام الفعل لا من مقام الذات (3)

ص: 290


1- (وقد تقدمت استحالته) أي استحالة اتصاف الواجب بالذات، بالوجوب الغيري، فيکون واجباً بالذات وواجباً بالغير لاستلزامه الانقلاب کما تقدم في الفصل الثاني من المرحلة الاولي.
2- (وأورد علي أصل المسألة) أعني مسألة واجب الوجود بالذات، واجب الوجود من جميع الجهات (بأنه) أي هذا الأصل (منقوض...الخ) وحاصل الاشکال : انّه لو کان الواجب بالذات واجباً من جميع الجهات، لوجب کونه واجباً حتي من جهة النسب والاضافات اللاحقة للذات الواجبية کنسبة الخلق التي بين الخالق والمخلوق ونسبة الرزق التي بين الرازق والمرزوق وما أشبه من الصفات المنسوبة ، وهکذا وجب کونه - تعالي - واجباً حتّي من جهة الاضافات والصفات المنتزعة من هذه النسب کالخالقية والرازقية المنتزعة من صفتي الخلق والرزق، بينما نجد هذه النسب والإضافات خلافاً لما تقدم ممکنة حادثة إذ طرف النسبة فيها - وهي المخلوقات والمرزوقات - حادثة ممکنة، فلم يکن واجباً من هذه الجهات، وهو أدل دليل علي بطلان الأصل فالواجب ليس واجباً من جميع الجهات، فان بعض جهاته غير واجبة له وهي النسب والاضافات.
3- (ويندفع) کما في الأسفار بما حاصله ان هذه النسب والإضافات الحاصلة بين الواجب وافعاله والصفات المنتزعة منها ممکنة حادثة، لکن الواجب بالذات لا يتصف بهذه الصفات حقيقة لأنها متأخرة عن ذاته ، واتصافه بها مجازي، وأما الحقيقة التي منها تتحقق هذه الأوصاف والنسب والاضافات ثابتة في ذات الواجب - تبارک وتعالي - بنحو أعلي واشرف من جهة البساطة التي في وجوده وذاته ، وذاته تقتضي هذه النسب والاضافات والأوصاف ، فهو خالق باقتضاء ذاته، ويخلق ويرزق ويحيي ويميت باقتضاء ذاته ورازق ومحي ومميت باقتضاء ذاته المقدسة - جل وعلا- ثم أن هذه النسب والاضافات خارجة عن مقام الذات بالتخصص وخارجة عن القاعدة بالتخصص لا بالتخصيص والحديث في الأصل المعني عن الصفات والجهات المنتزعة من حاق الذات ومقامها، لا کل صفة وان کان أحد طرفيها ممکن کما في النسب والاضافات.

نعم، لوجود هذه النسب والإضافات إرتباطُ واقعيُّ به (تعالي)، والصفات المأخوذة منها للذات واجبة بوجوبها. فکونه (تعالي) بحيث يَخلُقُ وکونه بحيث يَرزُقُ، إلي غير ذلک ، صفاتُ واجبة ، ومرجَعُها إلي الإضافة الإشراقيّة. وسيأتي

تفصيل القول فيه فيما سيأتي إن شاء الله تعالي (1)

ص: 291


1- (نعم) القول السابق بأنها خارجة عن الأصل بالتخصص وخارجة عن مقام الذات منتزعة منه لا يعني انّها منقطعة تماما لا ارتباط لها حقيقة بذات الواجب - تعالي - کلا فان (لوجود هذه النسب ارتباط واقعي به - تعالي ) ومنشؤها ومنبعها الحقيقي هو ذات الواجب - تعالي - واجد لها جميعا في أعلي مراتبها واشرفها، (والصفات المأخوذة منها) والمنتزعة من تلک النسب والاضافات (للذات واجبة) تلک الصفات (بوجوبها) أي بوجوب ذات الواجب ۔ تعالي - (فکونه - تعالي - بحيث يخلق) باقتضاء الذات لا بفعل الغير وعامل خارجي (و) هکذا (کونه) تعالي (بحيث يرزق) علي الدوام بافتضاء ذاته المقدسة وغيرها من صفات الفعل التي هي حاصلة بمقتضي ذات الواجب (الي غير ذلک، من صفات واجبة) إذ اصل النسب المتعلقة بذاته ، ملاک لانتزاع الصفات الواجبة، فهو رازق وخالق ومحيي ومميت وجوبا بملاک اصل هذه النسب المتقررة الثابتة في ذاته المقدسة، وهي واجبة مثل ما اصلها واجب ، ويتصف بها الواجب حقيقة. (ومرجعها) أي مرجع هذه الصفات الوجوبية التي للواجب - تعالي - (الي الاضافة الاشراقية) التي يکون فيها وجود الاضافة، عين وجود المضاف، لکن بالاضافة الاشراقية الايجادية کما في الأشياء المرتبطة المتعلقة بذات الواجب - تعالي - وتوجد في مرتبة ذاته ، فمرتبة هذه النسب والاضافات عين مرتبة الواجب . بخلاف الاضافة الأشراقية الوجودية حيث يکون فيها المضاف اليه مرتبة غير مرتبة الاضافة مثل مرتبة المعلول الذي هو عين التعلق والاضافة ومرتبة علته التي هي أعلي واشرف منه عد مضاف اليه. وفي مقابل الاضافة الأشراقية هناک إضافة مقولية يکون فيها وجود الاضافة مغايرة الوجود المضاف مثل نسبة المالکية الحاصلة بين المالک والمملوک فوجود النسبة هنا مغايراً الوجود المضاف . أعني المملوک - فافهم. وسيأتي تفصيل ذلک في الفصلين التاسع والعاشر من المرحلة الثانية عشرة والاخيرة.

وقد تبيّن بما مرّ:

أوّلاً : أنّ الوجود الواجبيّ وجودُ صِرفُ لا ماهيّةً له ولا عدَمَ معه ، فله کلُّ

کمالٍ في الوجود(1)

وثانياً : أنّه واحدُ وحدةَ الصرافة، وهي المسماة بالوحدة الحقّة» بمعني أن

کل ما فرضتَهُ ثانياً له امتاز عنه بالضرورة بشيءٍ من الکمال ليس فيه، فترکَّبَت الذات من وجودٍ وعدمٍ، وخرجَت عن محوضة الوجود وصرافته، وقد فُرِض صرفاً ، هذا خلفُ ، فهو في ذاته البحتة بحيث کلّما فرضت له ثانياًعاد أوّلاً. وهذا هو المراد بقولهم: «إنّه واحد لا بالعدد» (2)

وثالثاً : أنّه بسيطُ لا جزءَ له، لا عقلاً ولا خارجاً ، وإلّا خرج عن صرافة

الوجود وقد فرض صرفاً، هذا خلف(3)

ص: 292


1- والا کان ممزوجاً بالحد والماهية، وکانت الحدود مميزة له عن غيره، وهذا هو الترکيب أي لزم کونه مرکباً من الوجود والعدم، وکان حينئذ محتاجاً الي اجزاءه، وکان ممکناً وهوخلف.
2- وحاصله : أن الوحدة الحقة وحدة تکون عين الواحد، لا يتصور لها ثان ولا ثالث، وکل ما فرضته ثانياً له، عاد اليه، اذ لو فرضنا لو ثانياً حقيقة، کان هذا الثاني ممتازاً متميزاً عنه بکمال وبصفة کمالية ، کان الثاني فاقداً لها فيکون الأول فاقدة وواجداً - أي مرکباً من وجود وعدم، والترکيب دليل الحاجة والفقر والحاجة علامة الإمکان لا الوجوب وهذا خلف. فهو إذن واجد لا يتصور له ثان أو ثالث، اذ لا تکرار في صرف الوجود ولا تعدد فيه، لأن فرض التعدد يؤدي الي التناقض، أعني يلزم منه کون المفروض صرفأ غير صرف، وهو مما يستحيل فيه حتّي الفرض، ففرض المحال وان کان غير محال لکنه احياناً يکون نفس الفرض أيضاًمحا لاًومنه هنا.
3- (وثالثاً : انّه) أي الواجب بالذات (بسيط لا جزء له) والأجزاء اما عقلية اعتبارية کالجنس والفصل للاشياء والموجودات جميعاً، أو خارجية حقيقية عينية کالمادة والصورة، وهو لا جزء له أصلا (لا عقلا ) فليس مرکباً من الجنس والفصل (ولا خارجاً) فليس مرکباً من المادة والصورة (والّا) لو کان مرکبة من الجنس والفصل في الذهن والاعتبار، أو کان مرکباً من المادة والصورة - من الوجود والماهية - (خرج) الواجب (عن صرافة الوجود) هذ اخلف.

ورابعاً : أنّ ما انتُزع عنه وجوبُه هو بعينه ما انتُزع عنه وجوده، ولازمُهُ أنّ کلّ صفةٍ من صفاته - وهي جميعاً واجبة - عين الصفة الأخري، وهي جميعاً عين الذات المتعالية.

وخامساً : أنّ الوجوب من شؤون الوجود الواجبيّ کالوحدة غيرُ خارجٍ من ذاتِهِ ، وهو تأکّد الوجود الذي مرجَعُه صراحة مناقضته لمطلق العدم وطردِهِ له، فيمتنع طرق العدم عليه (1)

والوجود الإمکانيّ أيضاً وإن کان مُناقِضاً للعدم مطاردة له، إلّا أنّه لما کان رابطاً بالنسبة إلي علّته التي هي الواجب بالذات بلا واسطة أو معها، وهو قائمُ بها غيرُ مستقلًّ عنها بوجو، لم يکن محکوماً بحکمٍ في نفسه إلا بانضمام علّته إليه ، فهو واجب بإيجاب علّته التي هي الواجبُ بالذات بأبي العدم ويطرده بانضمامها إليه(2)

ص: 293


1- (خامساً :) أولا ما معني الوجوب؟ أن وجوب الواجب ينتزع من وجود الواجب فاذاً ان الوجوب من شؤون الوجود الواجبي وداخل في هذه الشؤون (- کالوحدة - غير خارج من ذاته، أي کما أن الوحدة من الوجود الواجبي فالوجوب أيضاً من شؤونه وکما أن الوحدة - وحده الواجب ذاتية للوجود الواجبي، فإن الوجوب أيضاً ذاتي للوجود الواجبي غير خارج من ذاته ، (وهو) أي الوجوب (تأکد الوجود) وهذا التأکد للوجود هو (الذي مرجعة صراحة مناقضته) أي مناقضة الذات بصراحة المطلق العدم، وطرده) أي الذات (له) أي لمطلق العدم. فالوجوب مؤکد للوجود وعبارة عن تأکيد الوجود، بحيث لا يدخله العدم مطلقاً، فيمتنع) بناءاً علي طرده للعدم مطلقاً (طروّ العدم عليه) أي علي الذات ويستحيل عروض العدم له والا وقعنا في محذور اجتماع النقيضين.
2- لعل قائلاً يقول أن هذه ليست من خصائص الوجود الواجبي ، بل نجدها في الوجودات الامکانية لأنها مناقضة للعدم صراحة، بل کل وجود مناقض مقابل لمطلق العدم، ودفعاً لهذا الدخل و ردّاً علي اشکال مقدر محتمل قال : (والوجود الامکاني أيضاً وان کان مناقضاًللعدم مطاردة له) غير مجتمع معه أصلاً (إلا انّه) أي الوجود الامکاني (لما کان رابطاً بالنسبة الي علته التي هي الواجب بالذات) سواء کان الواجب علّة لهذا الوجود الامکاني الرابط (بلا واسطة أو معها) أي مع الواسطة (وهو) أي الوجود الامکاني (قائم بها) أي بعلته - وهو الواجب بالذات . (غير مستقل هذا الوجود الامکاني (عنها) أي عن علته (بوجه) من الوجوه، فالوجود الامکاني لما کان مطارداً مناقضاً للعدم ووجود رابطاً بالنسبة الي علته غير مستقل عنها بل قائم بها، لما کان کذلک لم يکن هذا الوجود الامکاني (محکوماً بحکم في نفسه إلّا بانضمام علته اليه )فاذا انضمت علته إليه امکن لحاظ حکم له (فهو) أي الوجود الامکاني (واجب) وجوده (با يجاب علته التي هي الواجب بالذات) لا بايجاب ذاته بل بالواجب بالذات (بأبي العدم ويطرده بانضمامها) أي بانضمام علته - وهي الواجب بالذات تعالي - (اليه) أي إلي الوجود الامکاني.

ص: 294

الفصل الخامس الشيء ما لم يجب لم يوجد، وفيه بطلان

القول بالأولوية

قد تقدّم أنّ الماهيّة في مرتبة ذاتها ليست إلّا هي، لا موجودةُ ولا معدومةُ ولا أيُّ شيء آخر، مسلوبةُ عنها ضرورةُ الوجود وضرورة العدم سلباً تحصيليّاً ، وهو «الإمکان»؛ فهي عند العقل متساوية النسبة إلي الوجود والعدم ؛ فلا يرتاب العقل في أنّ تلبُسَها بواحدٍ من الوجود والعدم لا يستند إليها لمکان استواء النسبة ، ولا أنّه يحصل من غير سببٍ، بل يتوقّف علي أمرٍ وراء الماهية يخرجها من حدّ الاستواء ويرجّح لها الوجود أو العدم، وهو «العلّة». وليس ترجيح جانب الوجود بالعلّة إلا بإيجاب الوجود، إذ لولا الإيجاب لم يتعيّن الوجود لها، بل کانت جائزةَ

تقرأ في هذا الفصل :

1- لو أرادت الماهية الخروج عن حد الاستواء - بالنسبة الي الوجود والعدم - وجب وصول کل من الطرفين الي حد الضرورة، فيصل أحد الطرفين إلي المائة والآخر إلي الصفر .

2- لما کان وجوب المعلول من ناحية العلة نفسها، لا يصير سببة موجبة لعلته ، فلا يرد

الاشکال في الواجب تبارک و تعالي.

3- القول بالاولوية باطل، لأنه يستلزم ابطال توقف المعلول علي العلة . 4 - الوجوب الحاصل من ناحية العلة سابق علي وجود المعلول عقلا.

5- الوجوب الحاصل من ناحية العلة بعد الوجود أيضا يکون الوجود ضرورية له - أي

يکون الوجود ضرورية مادام موجودا. وهذا الوجوب هو الضرورة بشرط المحمول.

- کل ماهية موجودة، محفوقة بوجوبين وجوب سابق ووجوب لاحق.

7- کل ماهية معدومة محفوفة بامتناعين سابق ولاحق أيضاً.

ص: 295

الحکمة الطرفين، ولم ينقطع السؤال أنّها لِمَ صارت موجودة مع جواز العدم لها ؟ فلا يتمّ من العلّة إيجاد إلّا بإيجاب الوجود للمعلول قبلَ ذلک (1)

ص: 296


1- (قد تقدم في الفصل الثاني من المرحلة الأولي (ان الماهية - الي قوله - ولا أي شيء آخر) علي هذا الأساس وبهذا الاعتبار واللحاظ تم سلب کل شيء من الماهية بنحو السلب التحصيلي، والآن نقول انّه (مسلوبة عنها) أي عن الماهية (ضرورة الوجود وضرورة العدم سلبا تحصيلياً) وبنحو السلب التحصيلي أيضاً، (و) أن سلب ضرورة الوجود والعدم عن الماهية (هو «الإسکان») وما يسمّي بالامکان، فالإنسان في مرتبة ذاته حيوان ناطق فقط وکل شيء يتصور غير هذا فهو خارج عن مفهوم الإنسان لا يصح حمله عليه بالحمل الأولي - لا يمکن حمل ذلک الشيء علي الإنسان - (فهي) أي الماهية (عند العقل) وباعتباره (متساوية النسبة الي الوجود والعدم) فالإنسان علي هذا الأساس لا موجود ولا معدوم، أي ليست فيه ضرورة الوجود ولا ضرورة العدم (فلا يرتاب) ولا يشک (العقل في ان تلبسها) أي الماهية (بواحد من الوجود والعدم) عند ما نقول الإنسان موجود مثلاً، أو نقول الإنسان معدوم (لا يستند) هذا التّلبُّس بأحد الوصفين (اليها) أي إلي نفس الماهية المکان أستواء النسبة) أي نسبة الماهية في مرتبة ذاتها متساوية بالقياس إلي الوجود والعدم، ولا رجحان الأحد الوصفين علي الآخر، فليس سبب إتصاف الماهية بالوجود حال وجودها وبالعدم حال عدمها مستنداًإلي الماهية نفسها (ولا أنه) أي هذا التلبس بالوجود أو العدم والاتصاف بأحدهما مما يحصل من غير سبب ،..... الخ) وحاصله أن العلة هي التي تکسب الماهية وتفضي عليها ثوبا من الرجحان إلي أحد طرفي الاستواء، والعلة أمر خارج عن حقيقة الماهية ، ولکن کيف يتم ترجيح جانب الوجود علي العدم ؟ (وليس ترجيح جانب الوجود بالعلة) أي بواسطة علة الماهية (إلا بايجاب الوجود) فإن العلة توجب الوجود للماهية وترجح وجودها فتخرجها من حد الاستواء الي حد الوجود (اذ لولا الايجاب) الذي تحدثه وتوجيه العلة التامة (لم يتعين الوجود) ولم يترجح جانب الوجود علي جانب العدم (لها) أي للماهية ولا يکفي مجرد وجود العلة، فلابد أن يصل الوجود الي حد الضرورة والوجوب للماهية ، بواسطة علتها، وإلا بقيت الماهية علي حالها من الاستواء رغم وجود علتها و تحققها (و) لو تم ايجاد الماهية رغم استوائها إلي الوجود والعدم وعدم ضرورة احدهما لها بالعلة (لم ينقطع السؤال والأشکال...الخ. فلا يتم من قبل (العلة ايجاد) للمعلول والماهية (إلا بايجاب الوجود للمعلول) وجعله ضروريا للماهية بعد اخراجها من حد الاستواء الي ترجيح احدهما- أعني الوجود هنا۔ قبل ذلک) أي قبل الوجود، ولو تحققت الماهية ووجدت قبل أن يکتب لها الوجوب من جهة العلة وقبل خروجها من حد الاستواء الي حد الضرورة، لکان هذا التحقق والإيجاب من قبيل الصدفة وهو أمر محال کما سيأتي في محله إن شاء الله تعالي - وهذا معني قولهم : الشيء ما لم يجب لم يوجد ، ونفس الحکم والحال ضروري بالنسبة الي العدم أيضاً وهو معني قولهم الشيء ما لم يمتنع لم يعدم

والقول في علّة العدم وإعطائها الامتناع للمعلول نظير القول في علّة الوجود

وإعطائها الوجوبَ.

فعلّة الوجود لا تتمّ علّةً إلا إذا صارت موجَبَةً، وعلّة العدم لا تتمّ إلّا إذا کانت

بحيث تفيد امتناع معلولها، فالشيء ما لم يجب لم يُوجَد، وما لم يمتنع لم يُعَدم .

وأمّا قول بعضهم: «إنّ وجوبَ وجودِ المعلول يستلزم کون العلّة علي الإطلاق موجَبَةً - بفتح الجيم - غيرَ مختارۃٍ، فيلزم کون الواجب (تعالي) موجباً في فعله غيرَ مختارٍ، وهو محال»(1)

فيدفعه : أنّ هذا الوجوب الذي يتلبس به المعلول وجوبُ غيريُ، ووجوب المعلول منتزَع من وجوده لا يتعدّاه ، ومن الممتنع أن يؤثّر المعلولُ في وجود علّيِهِ وهو مترتَّب عليه ، متأخَّر عَنه قائم به (2)

ص: 297


1- (واما قول بعضهم، وهم المعتزلة (ان وجوب وجود المعلول... الخ) حاصله: ان وجوب وجود المعلول يستلزم کون العلل جميعها موجبة غير مختارة، وهذا الأمر يستوجب تحکماً من المعلول في علته ، وهذا الحکم يُجبر العلة علي اعطاء الوجوب لمعلوله، ولا يستثني من هذه القاعدة علّة واجبة کانت بذاتها ام ممکنة (فيلزم کون الواجب - تعالي - موجباً في فعله) ملزماً مجبراً علي ما يفعل وفاعلاً (غير مختار) لأنه مجبراً علي اعطاء المعلول حظاً من الوجوب ليصير موجوداً (وهو) أي کونه مجبراً وفاعلاً غير مختار (محال).
2- (فيدفعه) وحاصل الجواب : ان وجوب المعلول مأخوذ من وجوده وهو الوجود الذي يجب صدوره و تحققه عند تمام العلة وان هذا الوجوب الذي تلبس به المعلول) قبل وجوده وجوب غيري) جاءه من قبل علته ، ولم يکن في حاق ذاته ، فالعلة هي التي توجب وجود المعلول وتجعل الوجود ضرورية له، لا أنها تفعل ذلک باجبار والزام من المعلول (ووجوب المعلول منتزع من وجوده لا يتعداه) أي لا يتعدي وجوده فوجود المعلول ووجوبه معلولان العلة واحدة ونابعان من مکان واحد (ومن الممتنع) المحال (ان يؤثر المعلول في وجود علته) کيف يمکن ذلک (وهو) أي المعلول (مترتب عليها علي وجود علته (متأخر عنه) أي عن وجود علته (قائم به) أي بوجود علته.

وقد ظهر بما تقدّم بطلان القول بالأولويّة علي أقسامها. توضيحه: أن قوماً من المتکلّمين - زعماً منهم أن القول باتّصاف الممکن بالوجوب في ترجّح أحد جانَبي الوجود والعدم له، يستلزم کون الواجب في مبدئيه للإيجاد فاعلاً و موجباً - بفتح الجيم - (تعالي عن ذلک وتقدّس)، ذهبوا إلي أنّ ترجّح أحد الجانبين له بخروج الماهيّة عن حدّ الإستواء إلي أحد الجانبين بکون الوجود أولئ له أو العدم أولي له من دون أن يبلغَ أحد الجانبين فيخرج به من حدّ الإمکان، فقد ترجّح الموجود من الماهيّات بکون الوجود أولئ له من غير وجوبٍ ، والمعدوم منها بکون العدم أولئ له من غير وجوبٍ(1)

وقد قسّموا الأولويّةً إلي ذاتيةٍ تقتضيها الماهيّة بذاتها أو لا تنفکّ عنها وغير ذاتيّةٍ تفيدها العلّة الخارجة، وکلّ من القسمين إمّا کافيةُ في وقوع المعلول وإما غير کافيةٍ (2)

ونُقِلَ عن بعض القدماء أنّهم اعتبروا أولويّةً الوجود في بعض الموجودات ، وأثرُها أکثرية الوجود أو شدّته وقوتّه أو کونه أقلّ شرطاً للوقوع ؛ واعتبروا أولويّة

ص: 298


1- ومعني الأولوية أن تدنو و نتقربّ الماهية الي أحد جانبي الوجود والعدم ولو قليلاً.
2- فالأولوية اما ذاتية أو غير ذاتية ، والذاتية منها اما تقتضيها ذات الماهية، أو هي خارجة عن الذات ملازمة لها - هذا أن صح اعتبار هذا قسماً من الأولوية الذاتية، لا قيسماً لها - بناءاً علي کونهما قسمين لا ثالث لهما (وکل من القسمين) الذاتية وغير الذاتية (اما کافية في وقوع المعلول واما غير کافية) فالأولوية الذاتية تنقسم الي ذاتية کافية لوقوع المعلول وتحققه ، والأولوية الذاتية غير الکافية لوقوع المعلول وتحققه - أي ناقصة عاجزة.. والأولوية غير الذاتية تنقسم أيضاً الي أولوية کافية لوقوع المعلول و تحققه وأولوية غير کافية لذلک فهي علي هذا أولويات أربّع أوست، اربّع بناء علي کونها قسمين وست بناءاً علي کونها - أي الأولوية - ثلاثة أقسام، أو هي ستة اقسام علي کل حال. فافهم وانتبه.

العدم في بعضٍ آخر، وأثرُها أقليّة الوجود أو ضعفه أو کونه أکثر شرطاً للوقوع (1)

ونُقِلَ عن بعضهم إعتبارها في طرفي العدم بالنسبة إلي طائفةٍ من الموجودات فقط (2)

ونقل عن بعضهم إعتبار أولوية العدم بالنسبة إلي جميع الموجودات الممکنة ،

لکون العدم أسهل وقوعاً (3)

هذه أقوالهم علي اختلافها. وقد بان بما تقدّم فساد القول بالأولويّة من أصله، فإنّ حصول الأولويّة في أحد جانبي الوجود والعدم لا ينقطع به جواز وقوع الطرف الآخر. والسؤال في تعيّن الطرف الأولي مع جواز الطرف الآخر علي حاله ، وإن ذهبت الأولويّات إلي غير النهاية حتي ينتهي إلي ما يتعيّن به الطرف الأولي

ص: 299


1- حاصله : أن المنقول عن بعضهم اعتبار أولوية الوجود في بعض الموجودات وجعل بعض الموجودات أولي بالوجود من بعضها الآخر (وأثرها) أي أثر هذه الأولوية الحاصلة لبعض الموجودات عبارة عن (أکثرية الوجود) أي کون هذا البعض اکثر تعرضاً للوقوع والتحقق والوجود (أو شد ته) أي شدة الوجود، أي أنها اشد تعرضاً للوقوع (وقوته) فاذا وقع هذا القسم من الموجودات کان أشد وأقوي من جهة الوجود فيکون وجوده أقوي وأشد من وجود غيره أو کونه) هذا البعض بسبب أولويته (أقل شرطاً للوقوع) فلا يحتاج الي تحقق شروط کثيرة بل يکفي في تحققه القليل من الشروط، (واعتبروا أولوية العدم في بعض آخر من الأشياء والماهيات وانّها أولي بالعدم من الوجود (وأثرها) أي علامة هذه الاولوية (اقلية الوجود) أي کونها أقل تعرضاً للوقوع واقل احتمالاً للوجود (أو ضعفه) أي ضعف الوجود فيها (أو کونه) أي هذا البعض (اکثر شرطاً للوقوع )أي اکثر حاجة الي الشروط أو تحتاج الي شروط اکثر من أجل التحقق والوقوع، وتحققها يتوقف علي تحقق تلک الشروط. هذا قول.
2- واما القول القول الثاني المنسوب إلي بعض المتکلمين المعتزلة أن الأولوية معتبرة في (طرف العدم بالنسبة إلي طائفة من الموجودات فقط) أي الموجودات الممکنة السيالة کالحرکة والزمان. وغير معتبرة في جانب الوجود اصلاً.
3- والقول الثالث المنسوب إلي بعض المتکلمين المعتزلة الآخرين أن المعتبر هو أولوية العدم وهي المقدمة (بالنسبة الي جميع الموجودات الممکنة لکون العدم أسهل وقوعاً).

وينقطع به جواز الطرف الآخر وهو الوجوب(1)

علي أنّ في القول بالأولويّة إيطالاً لضرورة توقف الماهيّات الممکنة في وجودها وعدمها علي علّةٍ، إذ يجوز عليه أن يقع الجانب المرجوح مع حصول الأولوية للجانب الآخر وحضور علّته التامّة. وقد تقدّم أنّ الجانب المرجوح الواقع يستحيل تحقّق علته حينئنذٍ، فهو في وقوعه لا يتوقّف علي علّة، هذا خلف(2)

ص: 300


1- وإذا بطل أصل القول بالاولوية بطلت جميع فروعه المترتبة عليه (والسؤال) والاشکال (في) کيفية تعيُّن الطرف الأولي) وسبب تعينه (مع) ان (جواز الطراف الآخر) وامکانّه باق علي حاله) فما الجواب ؟ ولو أجبتم بأنه تحصل لها أولوية بعد أولوية (الي غير النهاية حتّي ينتهي به الي ما يتعين به الطرف الأولي وينقطع به) و يمتنع به (جواز) و امکان وقوع (الطرف الآخر) وقع ما نريد (وهو الوجوب) والضرورة المقتضية لوجوده
2- حاصله : لو کانت الأولوية کافية في تحقق المعلول ووقوعه، لزم القول بابطال قاعدة فلسفية هامة وهي ضرورة (توقف الماهيات الممکنة في وجودها وعدمها علي علة) أي توقفها علي عللها وعدم امکان و دامها من غير علة (إذ يجوز عليه) أي علي القول بالأولوية أن يقع الجانب المرجوح مع حصول الأولوية) أي رغم حُصولها اللجانب الآخر، وهو الراجح (وحضور) أي ورغم حضور (علته) أي علة الراجح (التامة) فاذا کانت الأولوية کافية الوقوع أحد الطرفين، کان الطرف المرجوح لا يزال باقية علي امکان الوقوع والتحقق، اذ لم ينقطع جانب المرجوح عن الوقوع والتحقق، ورغم تحقق علة الراجح التامة إلا أن احتمال وقوع المرجوح ما زال باقية علي حاله ، وهذا ضربّ من المحال إذ کيف يمکن بقاء احتمال تحقق المرجوح علي حاله رغم تحقق علة الراجح التامة ؟! إذ اجتماع المتقابلين محال وهذا مصداق إجتماع المتقابلين. (وقد تقدم أن الجانب المرجوح الواقع يستحيل تحقق علته حينئذ) أي حين تحقق علة الجانب الراجح لأنه من قبيل اجتماع المتقابلين وهو محال (فهو) أي الجانب المرجوح، ومراده ان بقاء احتمال وقوع المرجوح علي حاله رغم تحقق علة الراجح المستلزم لامتناع وقوع علة المرجوح - هذا الاحتمال والإمکان بالنسبة الي وقوع الجانب المرجوح رغم هذا کله - يوجب علينا أن نقول أن المرجوح (في وقوعه لا يتوقف علي علة) أصلاً وانّه ممکن التحقق بالصدفة ، وانت تعلم أن (هذا خلف) وخلاف للمفروض من حاجة المعلول في الوقوع إلي علته .

ولهم في ردّ هذه الأقوال وجوهُ أخر أوضحوا بها فسادها، أغمضنا عن

إيرادها بعد ظهور الحال بما تقدم.

وأمّا حديث إستلزام الوجوب الغيريّ- أعني وجوبَ المعلول بالعلّة لکون العلّة موجَبةً - بفتح الجيم - فواضح الفساد کما تقدّم، لأن هذا الوجوب انتزاعُ عقليُ عن وجود المعلول غيرُ زائدٍ علي وجوده، والمعلول بتمام حقيقته أمرُ متفرّعُ علي علّته ، قائم الذات بها، متأخّر عنها ، وما شأنه هذا لا يُعقَل أن يؤثّر في العلّة ويُفعِل فيها(1)

ومن فروع هذه المسألة أنّ القضايا التي جهتها الأولويّة ليست ببرهانيةٍ ، إذ لا

جهة إلّا الضرورة والإمکان، اللهم إلّا أن يرجع المعني إلي نوعٍ من التشکيک(2)

ص: 301


1- تقدم ان جماعة من المعتزلة زعموا أن القول بأن الممکن لکي يحصل له الترجيح بأحد طرفي الوجود والعدم لابد أن يتصف بالوجوب . والشيء ما لم يجب لم يوجد - هذا الأمر - علي حد زعمهم - يستلزم أن يکون الواجب - تعالي - فاعلاً موجباً لا مختاراً وهذا ممتنع محال فلزم انکار هذه القاعدة والقول ببطلان هذا الأصل، واللجوء إلي قاعدة الأولوية ، أما هذا الادعاء من المعتزلة (فواضح الفساد والبطلان (کما تقدم) قبل قليل في صدر هذا الفصل، دليل فساده : (لأن هذا الوجوب) الغيري الذي يتحقق للمعلول من جهة علته فيوجب له الوجود (انتزاع عقلي) و معني و مفهوم عقلي منتزع (عن وجود المعلول غير زائد علي وجوده) أي علي وجود المعلول، لا أنه حقيقة عينية خارجية الي جانب وجود العلة ووجود المعلول - وليس له وجود خارجي إلي جانبهما حتي يؤثر في العلة ويجبرها علي ايجاب المعلول و ايجاده، (و) انت تعلم من جهة اخري ان (المعلول بتمام حقيقته أمر متفرع علي علته) متحقق به (قائم الذات بها) أي بعلته، (متأخر عنها) أي عن علته (وما شأنه هذا) أي التفرع علي علته قائم الذات بعلته متأخر عن علته (لا يعقل أن يؤثر في العلة ويفعل فيها) بلي ولا يجوز لعلته أن تتأثر به وتنفعل به.
2- لا شک أن القضايا البرهانية يشترط في تحققها افادة العلم واليقين، واليقين أيضاً لا يتحقق إلا إذا طابق الواقع، ومعني هذا أن القضايا التي جهتها الأولوية ليست ببرهانية) أي يمتنع اقامة البرهان عليها لأنها قضايا حاکية عن امور اعتبارية لا حقائق عينية وخارجية،( اذ لا جهة) في القضايا (الا) جهة (الضرورة والوجوب، وجهة (الإمکان) وکل موجود إنما يوجد.

الفصل السادس

في حاجة الممکن إلي العلة وأنّ علّة حاجته إلي

العلّة هو الإمکان دون الحدوث

نقرأ في هذا الفصل :

اس علة احتياج الممکن الي العلة هو الإمکان لا الحدوث ، إذ معني الحدوث هو ترتب

ضرورة الوجود علي ضرورة العدم الذي هو مناط الغني لا الفقر والحاجة .

2- يجب لحاظ امکان الماهية حتي يمکن تصور الحاجة الي العلة. 2- والحدوث صفة ، موصوفة عبارة عن ذلک الوجود الخاص والموصوف مقدم علي

الصفة.

4- الوجود مسبوق بالايجاد والايجاد مسبوق بوجوب المعلول ووجوب المعلول مسبوق بايجاب العلة وايجاب العلة مسبوق بحاجة المعلول وحاجة المعلول مسبوقة بامکان المعلول، اذ الوجود والامتناع مناطا الغني.

5- لو کان الحدوث علة لحاجة الممکن إلي الإمکان، کان متقدماً علي نفسه بعدة

مراتب.

6- الموجود الممکن محتاج الي العلة مادام موصوفاً بالوصف الامکاني وان کان قديماً

زمانية .

7- لو کان ملاک المعلولية - والحاجة الي العلة - هو الحدوث الزماني لزم أن لا يکون

الزمان معلولاً ومحتاجاًإلي العلة.

8- فرض الزمان يستلزم فرض ماهية امکانية، لأن الزمان مقدار الحرکة، والحرکة تحتاج الي المتحرک - أي الجسم المادي -، ففرض فترة زمانية يستلزم فرض ماهية امکانية.

9- لو اعتبرنا الزمان أمراً وهمياً وقلنا انّه قديم، کان الحدوث وهمياً أيضاًوارتفع النزاع .

10 - انتزاع الزمان من وجود الواجب محال، اذ انتزاع المتغير بالذات من الذات الثابتة

للواجب يستلزم عروض تغير علي الواجب تبارک وتعالي وهو محال .

11- قد يلحظ العقل نحو ثبوت للعدم ثم يرتب عليه احکاماً.

ص: 302

بامتناعين (1)

وليُعلم أنّ هذا الوجوبُ اللاحق وجوب بالغير، کما أنّ الوجوب السابق کان بالغير، وذلک لمکان إنتزاعه من وجود الماهيّة من حيث اتّصاف الماهيّة به، کما أن الوجوب السابق منتزَعُ منه من حيث انتسابه إلي العلّة الفياضّة له .

ص: 303


1- (ما مر من وجوب الوجود للماهية ...الخ) وحتمية صدور المعلول المنتزع من وجود المعلول لکنه سابق علي وجود المعلول ذهنأ - أي له سبق ذهني علي وجود المعلول - هذا تقدم وانتهي ونريد الآن الإشارة الي وجوب آخر: (وهناک وجوب آخر) ليس سابقاً علي وجود المعلول في الذهن - والوجود الذهني - بل (لاحق) لوجود المعلول متأخر عنه ( يلحق الماهية الموجودة، ويسمّي )هذا الوجوب : ( «الضرورة بشرط المحمول» ) وحاصله: أن کل موجود وجوده واجب وضروري بشرط الوجود - أو بشرط وجوده - والقضية بشرط المحمول هي التي يکون فيها المحمول جزء من الموضوع، ويکون الموضوع مشروطة بالمحمول، وهذا الوجوب متأخر عن الوجود الذي هو جزء الموضوع تأخراً رتبياً ، ولاحق فالماهية الموجودة محفوفة بوجوبين) وجوب سابق علي وجوده ووجوب لاحق الوجوده (والماهية المعدومة) أيضا (محفوفة بامتناعين) امتناع سابق علي عدمه وامتناع لاحق لعدمه ، إذ الماهية لا تمتنع إلا من جهة امتناع علتها، وهذا الامتناع سابق علي عدم الماهية المعدومة، وکل ماهية معدومة ممتنعة الوجود بشرط العدم - والمحمول -، وهو الامتناع اللاحق لعدم الماهية المعدومةنقرأ في هذا الفصل : 1- لما کان الامتناع، کالوجوب، عبارة عن ضرورة العدم، فإن أحکام الوجوب والواجب ترد في الامتناع والممتنع أيضا. 2_ الممکن هو الموصوف الوحيد الذي يوصف بالوجوب والامتناع الغيري. 3- کما يجب وجود علاقة العالية في استلزام الوجودين، يجب ذلک أيضاً في استلزام العدمين وبين العدمين. - کما لا توجد علاقة التلازم بين واجبين بالذات، لاتوجد أيضاً علاقة بين ممتنعين بالذات، ولا بين ممتنع بالذات وممتنع بالغير. 5 - مصداق الممتنع بالذات بالحمل الشايع هو الممتنع المحال بالذات ، وإلا فمفهوم الممتنع بالذات بالحمل الشايع موجود في الذهن. 6- کما أن الملازمة بين ممتنعين بالذات محال - کما ان التلازم بين الممتنعين بالذات محال - فإن التلازم بين الممکن بما انّه ممکن مع الممتنع بالذات أيضاً محال. 7- المراد من الممکن هو الماهية المتساوية النسبة، ووجود المعلول أو عدم المعلول الأول متساوي النسبة بالنسبة الي علة الوجود أو علة العدم. 8- الوجوب والإمکان أمران وجوديان، إذ القضايا الموجهة بهاتين الجهتين مطابقة للخارج تماماً. .

ص: 304

الفصل الثامن في بعض أحکام الممتنع بالذات

لمّا کان الامتناع بالذات هو ضرورةُ العدم بالنظر إلي ذات الشيء المفروضة کان مقابلاً للوجوب بالذات الذي هو ضرورةُ الوجود بالنظر إلي ذات الشيء العينية ؛

يجري فيه من الأحکام ما يقابل أحکام الوجوب الذاتي.

قال في الأسفار - بعد کلامٍ له في أن العقل کما لا يقدر أن يتعقّل حقيقة الواجب بالذات لغاية مَجدِهِ و عدمِ تناهي عظمتِهِ وکبريائِهِ ، کذلک لا يقدر أن يتصوّر

ص: 305

حاجةُ الممکن - أي توقّفه في تلبّسه بالوجود أو العدم- إلي أمرٍ وراءَ ماهيّته ، من الضروريّات الأوليّة التي لا يتوقّف التصديق بها علي أزيد من تصوّر موضوعها و محمولها ، فإنّا إذا تصوّرنا الماهيّة بما أنّها ممکنةُ تستوي نسبتُها إلي الوجود والعدم وتوقَّفَ ترجُّحُ أحد الجانبين لها وتلبُّسُها به علي أمرٍ وراء الماهيّة لم نلبث دون أن نصدّق به، فاتّصاف الممکن بأحد الوصفين - أعني الوجودَ والعدمَ. متوقّفُ علي أمرٍ وراءَ نفسه، ونسمّيه : «العلّة» لا يرتاب فيه عقلُ سليمُ. وأمّا تجويز اتّصافه - وهو ممکنُ مستوي النسبة إلي الطرفين - باحدهما لا لنفسه ولا لامرٍ وراء نفسه فخروج عن الفطرة الإنسانية.

وهل علّة حاجته إلي العلّة هي الإمکان أو الحدوث؟ قال جمعُ من المتکلّمين بالثاني.

والحقّ هو الأوّل ، وبه قالت الحکماء، واستدلّوا عليه بأن الماهيّة باعتبار وجودها ضروريّةً الوجود وباعتبار عدمها ضروريّة العدم ؛ وهاتان ضرورتان بشرط المحمول، والضّرورة مناط الغني عن العلّة والسبب. والحدوث هو کون وجود الشيء بعدَ عدمِهِ ؛ وإن شئت فقل : هو ترتُّبُ إحدَي الضرورتين علي الأُخري ، والضّرورة - کما عرفت - مناط الغني عن السبب، فما لم تعتبر الماهية بإمکانّها لم يرتفع الغني ولم تتحقّق الحاجة، ولا تتحقّق الحاجة إلّا بعلّتها وليس لها إلا الإمکان(1)

ص: 306


1- هل الماهية تحتاج الي العلة لکونها ممکنة أو لکونها حادثة ؟ وهل کونها ممکنة جعلها بحاجة الي العلة الموجدة ، ام لأنها حادثة تحتاج إلي العلة الموجدة ؟ وهل کل حادث بحاجة الي العلة الموجدة أم کل ممکن بحاجة اليها؟ والحق هو الاول ، دليل کون علة حاجة الماهية الي العلة هو امکانّها، أن الماهية من جهة کونها موجودة - ومن جهة وجودها - و مشروطة بالوجود و يعتبر فيها الوجود، کانت موجودة بالضرورة، ووجب لها الوجود، فالوجود ضروري لها ووجودها وأجب من جهة اعتبار الوجود فيها، وهي معدومة بالضرورة والعدم ضروري لها ويمتنع وجودها من جهة انعدامها و اشتراط العدم واعتباره فيها - أي من جهة کونها مشروطة بالعدم -، وهاتان الضرورتان هما الضرورة بشرط المحمول، والضرورة ملاک عدم الحاجة عن العلة ومعيار الاستغناء عنها، فوجود الماهية الموجودة من جهة أنها موجودة وأيضاً عدم الماهية المعدومة من جهة أنها معدومة، لا تحتاج إلي العلة، بل دليل الاستغناء عن العلة، فوجود الماهية الموجودة من جهة أنها موجودة علة وجود الماهية ، وعدم الماهية الموجودة من جهة انّها معدومة، علة لعدم الماهية ، (والضرورة مناط الغني عن العلة والسبب). (و) لکن (الحدوث هو عبارة عن (کون وجود الشيء بعد عدمه) و ترتب وجوده علي عدمه وان شئت فقل :) الحدوث (هو ترتب احدي الضرورتين) أي ضرورة الوجوب (علي الأخري) أي علي ضرورة العدم (والضرورة - کما عرفت ما قبل قليل (مناط) وملاک (الغني عن السبب والعلة، ولو لاحظ العقل حدوث الماهية فقط دون لحاظ امکانّه ، واکتفي بهذا اللحاظ ان الماهية کانت ضرورة العدم - أي العدم کان ضرورية لها -، ثم أصبحت ضرورياً الوجود أي صار الوجود ضرورياً لها، هذا اللعاظ بوحده لا يکفي للحکم علي الماهية انّها بحاجة إلي الغير والعلة في وجودها وعدمها. فما لم تعتبر) ولم تشترط الماهية (بامکانّها لم يرتفع الغني ولم تتحقق الحاجة) أي لم تتحقق حاجة الماهية الي العلة والي الغير ولم يرتفع غناها عن العلة والغير وهو يدل علي ان علة حاجتها الي العلة هو إمکانّها (و) ذلک انّه (لا تتحقق الحاجة) للماهية المعلولة (إلا بعلتها، وليس لها أي للماهية علة (إلا الإمکان) .

حجّةُ أُخري : الحدوث. وهو کون الوجود مسبوقاً بالعدم - صفةُ الوجود الخاص، فهو مسبوقُ بوجود المعلول لتقدم الموصوف علي الصفة، والوجود مسبوقُ بايجاد العلّة، والايجاد مسبوقُ بوجوب المعلول، ووجوبه مسبوقُ بايجاب العلّة - علي ما تقدم، وإيجاب العلة مسبوق بحاجة المعلول، وحاجة المعلول مسبوقة بإمکانّه ، إذ لو لم يکن ممکناً لکان إمّا واجباً وإمّا ممتنعاً ، والوجوب والامتناع مناطُ الغني عن العلّة ؛ فلو کان الحدوث علّةً للحاجة والعلّةُ متقدّمةً علي معلولها بالضرورة لکان متقدّماً علي نفسه بمراتب، وهو محال . فالعلّة هي الإمکان، إذ لا يسبقها ممّا يصلح للعلّية غيره، والحاجة تدور معه

ص: 307

وجوداً وعدماً (1)

ص: 308


1- (حجة اخري :) علي أن علّة حاجة الممکن الي العلة هو الإمکان لا الحدوث ان (الحدوث. وهو کون الوجود مسبوقاً بالعدم -) وهو الوجود بعد العدم (صفة الوجود الخاص) وهو الوجود بعد العدم لا صفة لکلّ وجود مطلقاً بل للوجود المقيد بکونه حادثاً، أي لم يکن ثم کان (فهو) أي الحدوث (مسبوق بوجود المعلول) والمعلول بوجوده متقدم علي الحدوث لأن الحدوث صفة عارضة لوجود المعلول فهو متأخر عنه، والوجود متقدم عليه وذلک التقدم الموصوف علي الصفة) وأن کان هذا التقدم علي نحو الاعتبار العقلي لا الحقيقة الخارجية، والوجود) أي وجود المعلول (مسبوق بايجاد العلة) ومتأخر عن إيجاد العلة ، لأن المعلول لا يتحقق إلا بايجاد علته له، ووجود المعلول متوقف علي ايجاد العلة ولهذا فهو متأخر عنه، (والايجاد) أي ايجاد العلة متأخر عن وجوب المعلول و(مسبوق بوجوب المعلول) لما ثبت من الأصل «الشيء ما لم يجب لم يوجد»، ولا فائدة من وجود العلة اذ لم يبلغ الشيء في وجوده حدّ الوجود، (ووجوبه) أي وجوب المعلول متأخر عن إيجاب العلة و(مسبوق بايجاب العلة) کل ذلک بناءاً (- علي ما تقدم -) في الفصل السابق. واما الجديد: (وايجاب العلة) متأخر عن حاجة المعلول و(مسبوق بحاجة المعلول) الحاجة المعلول الي علته فإن العلة تمنحه الوجوب، فحاجة المعلول دعا العلة الي اعطائه الوجوب، (وحاجة المعلول) الي العلة متأخر عن امکان المعلول و(مسبوقة بإمکانّه) أي بامکان المعلول (اذ لو لم يکن المعلول (ممکنة لکان) المعلول (إما واجباً واما ممتنعاً) ولا رابع لها، وهذا لا يجتمع مع حاجتها الي الغير وکونها معلولة للغير، (و) ذلک أن (الوجوب والامتناع مناط) وملاک وعلامة (الغني عن العلة) لان الوجوب ضرورة الوجود، والامتناع ضرورة العدم، والضروري غني عن العلة، لأن الضرورة ملاک الغني. يستفاد من کل ما سبق أن حدوث المعلول متأخر عن حاجته الي العلة بخمس مراتب وذلک، 1۔ ان حدوث المعلول متأخر عن وجوده، فوجوده متقدم علي حدوثه وحدوثه مسبوق بوجوده، 2- ووجود المعلول متأخر عن ايجاد علته له، فالايجاد متقدم علي الوجود، والوجود مسبوق بالايجاد، 3- والايجاد متأخر عن وجوب المعلول، فوجوب المعلول متقدم علي ايجاد العلة ، وايجاد العلة مسبوق بوجوب المعلول، 4- والوجوب متأخر عن ايجاب العلة ، فالايجاب متقدم علي الوجوب، ووجوب المعلول مسبوق بايجاب العلة ، 5- وايجاب العلة متأخر عن حاجة المعلول، فالحاجة الي العلة متقدمة علي ايجاب العلة، وايجاب العلة متأخر عنها، 1- وحاجة المعلول متأخرة عن امکانّه، فإمکانّه متقدم علي حاجته، وحاجته مسبوقة بامکانّه ، ولو لاحظت تجد ان حدوث المعلول جاء في الرقم بينما حاجة المعلول جاءت في الرقم (6) وبينهما اربّع مراحل ورتب، فالامکان اقربّ الي الحاجة، اذ الحاجة متقدمة علي الحدوث بخمس مراحل و مراتب ، والحدوث متأخر عنها کذلک، فلا يمکن أن يکون المتأخر بکل هذه المراحل علة للمتقدم عليه بنفس هذه المراحل، بينما نجد الإمکان في نفس مرتبة الحاجة بل متقدم عليها بمرتبة واحدة وهذا شأن العلة ليس إلّا. وعليه (فلو کان الحدوث علة ...الخ).

والحجّة تنفي کون الحدوث ممّا يتوقّف عليه الحاجة بجيع أحتمالاته من کون الحدوث علّةً وحده، وکون العلّة هي الإمکان والحدوث جميعاً، وکون الحدوث علّةً والإمکان شرطاً، وکون الإمکان علّةً والحدوث شرطاً أو عدم الحدوث مانعاً (1)

وقد استدلّوا علي نفي علّيّة الإمکان وحده للحاجة بأنّه لو کانت علّةُ الحاجة إلي العلّة هي الإمکان من دون الحدوث جاز أن يوجد القديم الزمانيّ، وهو الذي لا يسبقه عدمُ زمانيُّ، وهو محالُّ، فإنّه لدوام وجوده لا سبيل للعدم إليه حتّي يحتاج في رفعه إلي علّةٍ تفيض عليه الوجودَ، فدوام الوجود يغنيه عن العلّة(2)

ص: 309


1- (والحجة) السابقة (تنفي) جميع الاحتمالات التي يمکن تصورها لتوقف حاجة علي الحدوث وهي خمس احتمالات مفروضة.
2- (وقد استدلوا) أي هؤلاء المتکلمون - من المعتزلة - علي عدم کون الإمکان لوحده کافياً ليکون علة حاجة الممکن الي العلة ، وان الإمکان يحتاج لذلک أن ينضم اليه الحدوث حتي يتم بهما معاً علة حاجة الممکن الي العلة : ( بأنه) الضمير للشأن الو کانت العلة هي الإمکان وحده (جاز أن يوجد) المعلول الموصوف بوصف (القديم الزماني و المراد بالقديم الزماني هو الذي لا يسبقه عدم زماني) بل کان منذ الأزل موجوداً، لم يکن معدوماً في فترة ولا زمان (وهو) أي جواز أن يوجود معلول في عين معلوليته يکون موصوفاً بالعدم الزماني أمر (محال، فإنه) أي القديم الزماني الدوام وجوده) وازليته (لا سبيل للعدم إليه) إذ لا يجتمع القديم مع العدم - أي لا يکون القديم موصوفاً بالعدم مطلقاً - (حتّي يحتاج) هذا القديم (في رفعه) أي في رفع هذا العدم (الي علة تفيض عليه الوجود)، ولهذا (فدوام الوجود) وعدم سبق العدم عليه ولا سبيل للعدم اليه ( يغنيه عن العلة) وهذا لا يتصور إلا في الواجب بالذات ، وأما الممکن والمعلول فيستحيل أن يکون قديماً زمانياً يقتضي اجتماع المتناقضين ولو افتراضاً وتصوراً ، فلا يکفي الإمکان وحده ليکون علة حاجة الممکن الي العلة، بل لابد من انضمام الحدوث اليه.

ويدفعه : أنّ موضوع الحاجة هو الماهيّة بما أنّها ممکنة دون الماهيّة بما أنها موجودة والماهيّة بوصف الإمکان محفوظةُ مع الوجود الدائم کما أنّها محفوظة مع غيره؛ فالماهيّة القديمة الوجود تحتاج إلي العلة بما هي ممکنةُ، کالماهيّة الحادثة الوجود، والوجود الدّائم مفاضُ عليها کالوجود الحادث، وأمّا الماهيّة الموجودة بما أنّها موجودة فلها الضرورة بشرط المحمول، والضرورة مناط الغني عن العلّة بمعني أنّ الموجودة بما أنّها موجودة لا تحتاج إلي موجوديّةٍ أخري تُطرَأ عليها. علي أن مرادهم من الحدوث الذي اشترطوه في الحاجة الحدوث الزماني الذي هو کون الوجود مسبوقاً بعدمٍ زمانيًّ. فما ذکروه منتقَض بنفس الزمان ، إذ لا معني لکون الزمان مسبوقاً بعدمٍ زمانيًّ، مضافاً إلي أنّ إثبات الزمان قبلَ کلَّ ماهّيةٍ إمکانيّةٍ إثباتُ للحرکة الراسمة للزمان ، وفيه إثباتُ متحرّکٍ تقوم به الحرکة، وفيه إثباتُ الجسم المتحرّک والمادّة والصورة. فکلّما فُرِضَ وجودُ لماهيّةٍ ممکنةٍ کانت قبله قطعةُ زمانٍ ، وکلما فرضت قطعةُ زمانٍ کانت عندها ماهيّةً ممکنةُ، فالزمان لا يسبقه عدمُ زمانيُّ(1)

ص: 310


1- ويدفعه) أي يدفع استدلال المتکلمين (ان موضوع الحاجة الي العلة (هو الماهية) فالماهية هي الموضوع والحاجة هي المحمول، لکن لا الماهية مطلقاً بل (بما انّها ممکنة دون الماهية بما أنها موجودة)، والماهية الموجودة دائماً والموصوفة بالدوام غير المسبوقة بالعدم ممکنة رغم وجودها الدائم ولا تختلف في ذلک مع الماهية الموصوفة بالوجود المنقطع والحادث ، اذ الماهية لا تنفک عن الإمکان وهکذا العکس، (و) أنت تعلم أن (الماهية بوصف الإمکان محفوظة مع الوجود الدائم) والإمکان من اللوازم الذاتية للماهية، فمهما کانت الماهية المفروضة کانت ممکنة (کما أنها) أي الماهية بوصف الإمکان (محفوظة مع غيره) أي مع غير الوجود الدائم أيضاً.. الخ. واما الماهية الموجودة بما انّها موجودة) وبما انّها موصوفة بالوجود لا تعد موضوعاً الحاجة الممکن الي العلة، اذ الماهية الموجودة بما انّها موجودة (فلها) أي لهذه الماهية بوصف الوجود (الضرورة بشرط المحمول، والضرورة مناط الغني عن العلة، بمعني أن) الماهية الموجودة بما انّها موجودة لا تحتاج إلي موجودية تطرأ عليها) بل يکفيها وجود واحد للتحقق ومع الوجود الأول لا معني للحاجة إلي وجود آخر أو بعبارة أخري فإنها مع الوجودية الأولي لا حاجة لها في الوقوع الي وجودية ثانية ، إذ لا يجوز للموجود الواحد إلا وجود واحد. (علي أن) الحکماء اضافوا إلي هذا الرد والجواب الحلّي، جواباً تقضياً أيضاً ولم يکتفوا بالاجابة الحلّيّة قائلين أن (مرادهم) أي مراد المتکلمين هنا (من الحدوث الذي اشترطوه في الحاجة) سواء علي نحو الانضمام إلي الإمکان أو علي حد الاستقلال أو ما أشبه من الاقسام الخمسة المتقدمة، هو (الحدوث الزماني) لا الذاتي، بل الزماني (الذي هو کون الوجود) أي عبارة عن کون الوجود (مسبوقاً بعدم زماني، فما ذکروه) من الحدث الزماني (منتقض) مرفوض مردود (بنفس الزمان.. الخ) بيان ذلک : انا لو افترضنا زيداً مثلاً حادثاً زمانياً ، يعني هذا أن هناک زماناً سابقاً علي وجود زيد - أي لم يکن في ذلک الزمان وحدث بعد ذلک - فلو کان الزمان حادثاً زمانياً أيضاً وجب القول بوجود زمان خال من الزمان، وان هناک زماناً لم يکن فيه زمان ولم يتحقق فيه الزمان، لأن مقتضي کون الشيء حادث زمانية أن لا يکون ثم يتحقق ويکون، وهذا محال. فليس الزمان حادثاً زمانياً. فافهم. (مضافاً الي ان اثبات الزمان قبل کل ماهية امکانية) والقول بأن قبل کل ماهية امکانية لابد من زمان لم تکن فيه الماهية موجودة، ثم وجدت، واثبات الزمان قبل کل ماهية امکانية يستلزم وجود حرکة قبل کل ماهية امکانية راسمة لذلک الزمان وهذا (اثبات للحرکة الراسمة للزمان) إذ الزمان لا يتصور من غير الحرکة لأن منشأ تحقق الزمان ووقوعه هو الحرکة ليس إلا، والحرکة هي التي علي أثرها يتحقق الزمان ، کما أن السکون خال من الزمان ، واذ لا حرکة فلا زمان (وفيه) أي في اثبات الحرکة ولازمه (اثباتُ متحرک تقوم به الحرکة، وفيه) أي في اثبات المتحرک ولازمه (اثبات الجسم المتحرک و )أيضاً لازم الجسمية اثبات (المادة والصورة) اللتان هما ذاتيتان لکل جسم مقومتان له، ولا حرکة الا في الاجسام، والجسم مادة وصورة . (فکلما فرض وجود لماهية ممکنة کانت قبله) أي قبل وجود تلک الماهية (قطعة زمان) لم يکن فيها ذلک الوجود وکانت الماهية فيها معدومة، (و) أيضاً کلما فرضت قطعة زمان کانت عندها) بل فيها (ماهية ممکنة) قطعة ليتحقق الزمان بواسطة حرکة تلک الماهية الممکنة، وان تکون قطعة أخري من الزمان قبل تلک الماهية الممکنة، عندها ماهية ممکنة أخري يتحقق بحرکتها الزمان، وان تکون قطعاً ثالثة وماهية ودفع ذلک بأن من الجائز أن لا يطابق المعني المنتزه المصداق المنتزع منه ثالثة وقطعة رابعة وماهية رابعة وهلم جرا، وعليه فليس الزمان مسبوقاً بالعدم الزماني فالزمان لا يسبقه عدم زماني) فلا يکون الزمان حادثاً.

ص: 311

وأجاب بعضهم عن النقض بأنّ الزمان أمرُ اعتباريّ وهميُّ لا بأس بنسبة

القِدم اليه ، إذ لا حقيقة له وراءَ الوهم(1)

وفيه : أنّه هَدم لما بَنَوه من إسناد حاجة الممکن إلي حدوثه الزمانيّ، إذ

الحادث والقديم عليه واحد (2)

وأجاب آخرون بأنّ الزمان منتزَع عن وجود الواجب (تعالي)، فهو من صُقعِ

المبدأ (تعالي)، لا بأس بقدمه(3)

ورُدَّ بأن الزمان متغيّرّ بالذات وانتزاعه من ذات الواجب بالذات مستلزمُ

التطرّق التغيّر علي ذاته (تعالي و تقدّس).

ودفع ذلک بأنّ من الجائرأن لا يطاق المعني المنتزعُ المصداقَ المنتزَعَ منه

ص: 312


1- (واجاب بعضهم عن النقض) الذي أورده الحکماء علي دعواهم، طبعاً دون أن يردوا علي الجواب الحلي (بأن الزمان أمر اعتباري وهمي) لا حقيقي عيني، و (لا بأس) حينئذ (بنسبة القدم اليه) واعتباره قديماً(اذ لا حقيقة له) أي للزمان (وراء الوهم) والخيال، وانما القوة الواهمة والقوة المتخيلة هي التي تفرض و نتوهم و تتخيل مع کل شيء زماناً
2- (وفيه : أنه) أي هذا الجواب والکلام بأن الزمان أمر وهمي اعتباري (هدم) وابادة الما بنوه من اسناد حاجة الممکن الي حدوثه الزماني) کيف يمکن لأمر وهمي اعتباري أن يسند اليه أمر حقيقي عيني کحاجة الممکن الي العلة - إلا إذا افترضتم هذه الحاجة أمراً اعتبارياً أيضاً، وهو واضح البطلان يرده الوجدان بأدني تأمل (اذ الحادث والقديم عليه) أي بناءاً علي هذا (واحد) لا فرق بينهما، والفرق بينهما راجع الي أمر وهمي، فالحادث موجود مسبوق بالعدم في زمان ما، والقديم ليس مسبوقاً بذلک بل أزلي أبدي، والزمان أمر وهمي، والأمر الوهمي لا يکون منشئاً لفرق حقيقي، فالحادث والقديم لا فرق بينهما فيکون الحادث قديماً أيضاً ، وهذا مما لا يقول به أحد. فالزمان ليس أمرا وهمية بل حقيقة منتزعة من حرکة المتحرک
3- (واجاب آخرون :) عن هذا الرد بأن الزمان، وان کان أمراً حقيقياً لا وهمية إلا أنه (منتزع عن وجود الواجب تعالي) وليس لها مصداق و ما بازاء خارجي (فهو) أي الزمان (من صقع المبدأ تعالي سا وذاته ، وهذا لا بأس بقدمه) کصفات الواجب - تعالي - التي هي عين ذاته المقدسة.

من کلّ جهة ، فيباينه.

وفيه : أنّ تجويز مباينة المفهوم المنتزَعِ للمنتزَع منه سفسطةُ ، إذ لو جازت مباينة

المفهوم للمصداق لانّهدم بنيان التصديق العلمي من أصله.(1)

تنبيه:

قد تقدّم في مباحث العدم أن العدم بطلانُ محض لا شيئيّةَ له ولا تمايُزَ فيه ، غير أنّ العقل ربّما يضيفه إلي الوجود، فيحصل له ثبوتُ ما ذهنيُّ وحظُّ ما من الوجود، فيتميّز بذلک عدمُ من عدم، کعدم البصر المتميَّز من عدم السمع وعدم الإنسان المتميز من عدم الفرس ، فيرتب العقل عليه ما يراه من الأحکام الضروريّة ، ومرجَعُها بالحقيقة تثبيّت ما يحاذيها من أحکام الوجود.

ومن هذا القبيل حکم العقل بحاجة الماهيّة الممکنة في تلبسها بالعدم إلي علّةٍ هي عدمُ علّةٍ الوجود. فالعقل إذا تصوّر الماهيّة من حيث هي الخالية من التحصّل واللاتحصّل، ثمّ قاسَ إليها الوجود والعدم، وَجَد بالضرورة أنّ تحصُّلَها بالوجود متوقّفُ علّةٍ علةٍ موجودةٍ ، ويستتبعه أنّ علّة وجودها لو لم توجد لم توجد الماهيّة المعلولة، فيتمّ الحکم بأنّ الماهيّة الممکنة لإمکانّها تحتاج في اتّصافها بشيءٍ من الوجود والعدم إلي مرجّح يرجّحُ ذلک، ومرج الوجود وجودُ العلّة ومرجّحُ العدم عدمُها، أي لو انتفت العلّة الموجِدة لم توجد الماهيّة المعلولة وحقيقته أنّ وجودَ الماهيّة الممکنه متوقّفُ علي وجود علّتها.

ص: 313


1- (اذ لو جازت مباينة المفهوم للمصداق لا نهدم بنيان) وأساس (التصديق العلمي من اصله) ولما تحقق عندنا تصديق علمي أصلا بيان ذلک : أن المفاهيم الذهنية هي وسائطنا للارتباط بالعالم الخارجي وهذه المفاهيم عاجزة عن ربّطنا بالخارج إلا إذا کانت مطابقة للواقع وللمصاديق الخارجية ولو جاز أن تکون المفاهيم مباينة مخالفة لمصاديقها الخارجية لانسد علينا باب العلم ولم يتحقق لدينا تصديق علمي لاحتمال کونها جميعاً مخالفة للواقع الخارجي.

ص: 314

عنه بما هو ؟» البيت ولم ينضمّ إليها إلّا هيئات عَرَضيّة(1)

فإنّه يقال : فيه خلطُ بين الأنواع الحقيقيّة التي هي مرکّبات حقيقيّة تحصل من ترکّبها هويّةُ واحدةُ وراء الأجزاء، لها آثار وراء آثار الأجزاء کالعناصر والمواليد ، وبين المرکبات الاعتبارية التي لا يحصل من ترکيب أجزائها أمرُ وراء الإجزاء ولا أثر وراء آثارها کالسيف والبيت من الأمور الصناعيّة وغيرها.

وبالجملة المرکّبات الاعتباريّة لا يحصل منها أمرُ وراء نفس الأجزاء،

والمرکّب من جوهرٍ وعرض لا جوهر ولا عرضُ، فلا ماهيّة له حتّي يقع في جواب ما هو، کلّ ذلک لتباين المقولات بتمام ذواتها البسيطة، فلا يتکّون من أکثر من واحدة منها ماهيّة (2).

ص: 315


1- قوله : (فکثيراً ما يوجد الشيء..الخ) وهو تعليل لعدم التسليم بالأصل القائل «الجوهر لا يقومه إلّا جوهر»، وحاصل الکلام : يرد الجواب في السؤال عن ذلک الجسم بما هو»، أنّه جوهر ، (ثم ينضم اليه) أي الي ذلک الشيء الموجود شيء من الأعراض والاوصاف فإذا انضم اليه ذلک کأن السؤال قد تغير (ويتغير به) أي بذلک الانضمام (جواب السؤال عنه) أي عن ذلک الشيء الموجود، والجواب عن نفس ذلک الموجود بعد انضمام عرض إليه سيختلف عن الجواب قبل الانضمام، وان کان السؤال واحدا لم يتغير ، اذ کان السؤال عنه (د « ما هو ؟») أيضاً، فمثلاً اذا سُئلنا عن الحديد قلنا انّه جوهر جامد، (فإذا صنع منه السيف...الخ) وسئل عنه بما هو؟ لا يکفي ولا يصح أن نجيب بأنّه جوهر جامد بل يجب أضافة تلک الأعراض الداخلة في حد السيف، في جوابنا ، (وکالطين والحجر ..... الخ) فإننا عند السؤال عن کل واحد منهما بمفرده، بما هو؟ نجيب جوهر کذا، ولکن بعد انضمامهما علي هيئة الدار نقول: «هو بيت»، ولا نقول طين وحجر أو جوهر کذا وجوهر کذا، (ولم ينضم اليها) والصحيح: اليهما، أي الي الطين والحجر (إلا هيئات عرضية خاصة، فوجب أخذ هذه الهيئات العرضية في جواب البيت مع أنها هيئات عرضية ، والبيت جوهر، فأصبح مقوم الجوهر عرضياً.
2- قد خلط المستشکل بين المرکبات الحقيقة - الأنواع الحقيقية ، وبين المرکبات الأعتبارية ، والفرق بينهما أن المرکبات الحقيقية (تحصل من ترکبها هوية واحدة لا تقبل التجزئة وحقيقة واحدة لا تقبل الانفصام قائمة بذاتها، وتحصل ماهية واحدة وراء الأجزاء) هذه الهوية

متعلّقُ الذات بعلّته ، متقوَّمُ بها، لا استقلال له دونها، لا ينسلخ عن هذه الشأن. کما سيجيء بيانّه إن شاء الله - فحاله في الحاجة إلي العلّة حدوثاً وبقاءً واحدُ، والحاجة ملازمة له (1)

والفرق بين الحجّتَين أنّ الأُولي تثبت المطلوب من طريق الإمکان الماهويّ - بمعني استواء نسبة الماهيّة إلي الوجود والعدم-، والثانية من طريق الإمکان الوجوديّ - بمعني الفقر الوجوديّ المتقوّم بغني العلّة - (2)

ص: 316


1- (الهوية العينية والواقع الخارجي الکل شيء هي وجوده) أي وجود ذلک الشيء (الخاص) أي الوجود الخاص للشيء، (والماهيّة اعتبارية منتزعة منه) أي من الوجود الخاص بالشيء (کما تقدم) في الفصل السابق (بيانّه -). (و) من جهة اخري (وجود الممکن المعلول وجود رابط متعلق الذات بعلته) لا ينفک عنها لأنه (متقوم بها، لا استقلال له) أي للمعلول (دونها) أي دون العلة وهو علي هذه الحالة دائماً (لا ينسلخ عن هذه الشأن) وهذه الشؤون هي التعلق والربّط والتقوم بالعلة وعدم الاستقلاليه (فحاله) أي حال المعلول (في الحاجة الي العلة حدوثاً وبقاءاًواحد) لا يختلف (والحاجة الي العلة (ملازمة له) أي لذات المعلول.
2- (والفرق بين الحجتين الأولي والثانية (ان) الحجة (الاولي تثبت المطلوب) أي کون الممکن محتاجاً الي العلة بقاءاً وحدوثاً معاً (من طريق الإمکان الماهوي - بمعني) أي الذي معناه (استواء نسبة الماهية إلي الوجود والعدم- ، و )أما الحجة الثانية فإنها تثبت المطلوب من طريق الإمکان الوجودي . بمعني) أي الذي معناه (الفقر الوجودي المتقوم بغني العلة)نقرأ في هذا الفصل : لما کان الإمکان وهو لازم الماهية، لازمة للممکن أيضا ، فالممکن يحتاج الي العلة حدوثة وبقاء. 2- لما کان وجود الممکن عين الفقر والحاجة ، احتاج الي العلة بقاء أيضاً.

الفصل السابع

الممکن محتاج إلي العلّة بقاءً کما أنّه محتاج إليها حدوثاً

وذلک لأنّ علّةَ حاجتِهِ إلي العلّة هي إمکانّه اللازم لماهيّنه - کما تقدّم بيانّه - والماهيّة محفوظةُ معه بقاءً، کما أنّها محفوظةُ معه حدوثاً ، فله حاجة إلي العلّة الفيّاضة لوجوده حدوثاً وبقاءً، وهو المطلوب(1)

حجّةُ أُخري : الهويّة العينيّة لکلّ شيءٍ هي وجودُهُ الخاصّ به، والماهيّة اعتباريّةُ منتزعةُ منه - کما تقدّم بيانّه -، ووجودُ الممکن المعلول وجودّ رابطُ

.

ص: 317


1- لما کان ملاک الحاجة الي العلة هو الإمکان وحده، والماهيّة الممکنة ، فإن هذه الماهية موجودة مع الممکن في حال الحدوث وفي حال البقاء علي حد سواء، فالحاجة الي العلة ثابتة للماهية علي کل حال، إذن علة حاجة الممکن الي العلة هو امکان الممکن، والإمکان لازم للماهيّة ، والماهيّة محفوظة موجودة مع الممکن بقاء ، کما انّها محفوظة معه حدوثاً ، فللممکن حاجة ماسة إلي علته الفياضة التي تفيض عليه الوجود حدوثاًوبقاءاً . أن علّة حاجة المعلول إلي العلة في الإمکان، والإمکان صفة ملازمة لماهية المعلول غير منفکة عنها، ثم ان الماهية کما تکون محفوظة عند الحدوث تکون محفوظة أيضاً عند البقاء، فالماهية لا تنفک عن المعلول ، وعليه فالإمکان أيضاً الذي هو علّة حاجة الممکن الي العلة ، لا يکاد ينفک من المعلول، فالمعلول أيضاً يحتاج الي علّة تمنحه الوجود و تفيض به عليه سواء کان عند الحدوث أو عند البقاء - أي علي کل حال ..

الممتنع بالذات بما هو ممتنع بالذات لغاية نقصِهِ و محوضِة بطلانّه ولا شيئيّهِ -:

وکما تحقّق أن الواجب بالذات لا يکون واجباً بغيره، فکذلک الممتنع بالذات لا يکون ممتنعاً بغيره بمثل ذلک البيان، وکما لا يکون لشيءٍ واحدٍ وجوبان بذاته وبغيره، أو بذاته فقط، أو بغيره فقط ، فلا يکون الأمرٍ واحدٍ امتناعان کذلک(1)

فإذن قد استبان أنّ الموصوف بما بالغير من الوجوب والامتناع ممکنُ بالذات.(2)

وما يستلزم الممتنع بالذات فهو ممتنعُّ لا محالة من جهتةٍبها يستلزم الممتنع ، وإن کانت له جهةُ أُخري إمکانيِّةُ، لکن ليس الإستلزام للممتنع إلّا من الجهة الإمتناعية : مثلاً کون الجسم غير متناهي الأبعاد يستلزم ممتنعاً بالذات، هو کون المحصورٍ غير محصورٍ، الذي مرجعه إلي کونُ الشيء غير نفسه مع أنّه عينُ نفسه، فأحدهما محالُ بالذات والآخر محالُ بالغير، فلا محالة يکون ممکناً باعتبار غير اعتبار علاقته مع الممتنع بالذات، علي قياس ما علمت في استلزام الشيء للواجب بالذات، فإنّه ليس من جهة ماهيّنه الإمکانيّة بل من جهة وجوب وجوده الإمکانيّ(3)

ص: 318


1- حاصل هذا الکلام: 1- ان الممتنع الذاتي واحکامه نقابل الواجب الذاتي وأحکامه. 2- کما لا يمکن تصور الواجب بالذات لعظمته لا يمکن أيضاً تعقل و تصور الممتنع بالذات لنهاية نقصانّه. 3- کما أن الشيء الواحد لا يمکن أن يکون موصوفاً بوجوبين ذاتي وغيري، ولا يکون لشيء واحد وجوبان بذاته وبغيره، أو وجوبان ذاتيان، أو وجوبان غيريان، فکذلک لا يمکن لشيء واحد ان يتصف بامتناعين ذاتيين - بالذات -، ولا بامتناعين غيربّين - بالغير - ولا بامتناعين مختلفين احدهما ذاتي والآخر غيري - بالذات وبالغير
2- (فاذن قد استبان) مما تقدم أيضاً( ان الموصوف بما بالغير) أي ما يکون وجوده بالغير سواء من الوجوب والامتناع) انما هذا الموصوف (ممکن بالذات) في الحقيقة، وان الممکن بالذات هو الذي يتصف بالوجود بالغير والامتناع بالغير.
3- (وما يستلزم الممتنع بالذات) فيکون من لوازم الممتنع بالذات وهو ممتنع بالغير، (فهو) أي هذا الممتنع بالغير الذي استلزمه الممتنع بالذات (ممتنع) أيضاً إلا محاله، إلا أن ملازمة الممتنع الغيري للممتنع الذاتي حاصل (من جهة) امتناعية (بها) أي موجودة بالممتنع الغيري وفيه (يستلزم الممتنع) بالذات هذه احدي جهتي الامتناع بالغير وهي الجهة الامتناعية ، (وان کانت له) أي للممتنع الغيري - بالغير - (جهة) امتناعية (اخري) هي جهة (امکانية) ومع جهة الإمکان اثنتان وليست واحدة (لکن ليس الاستلزام للممتنع) بالغير بالممتنع بالذات (إلا من الجهة الامتناعية) التي في الممتنع، (مثلاً) يبرهن علي مدعاه بمثال أصبح دليلا في الطبيعيات علي بطلان الأبعاد غير المتناهية ، فإن (کون الجسم غير متناهي الأبعاد) مثلاً لو رسمنا خطين بزاوية ستين درجة وأخذنا نمدهما إلي ما لا نهاية ليکونا ضلعين لمثلث، فإذا أردنا تکميل هذا المثلث برسم زاويته الثالثة بين ذلکما الخطين اللامتناهيين - اذ للجسم أن يکون غير متناهي الأبعاد والأضلاع المثلث ان تکون غير متناهية الابعاد - واجهنا ممتنعاً بالذات وذلک أن ترسيم الضلع الثالث يجعل الجسم - المثلث - محدوداً متناهياً محصوراًفي هذه الحدود، وهو (يستلزم ممتنعة بالذات، هو) أي هذا الامتناع هو (کون) الجسم المحصور) المحدود المتناهي کالمثلث بعد ترسيم ضلعه الثالث (غير محصور) ولا متناهيا إذ يمتد ضلعاه إلي ما لا نهاية - حسب الفرض - فالضلع الثالث يجب أن يمتد کذلک إلي مالا نهاية وإلا لم يتحقق المثلث حينئذ فهو ضلع غير محصوراً رغم کونه محصوراً قبل هذا، وهو الذي مرجعه إلي کون الشيء) کالضلع الثالث للمثلث (غير نفسه) لکونه محصوراً وغير محصور في آن واحد (مع أنه) أي الشيء کالضلع الثالث يجب أن يکون (عين نفسه) بل هو عين نفسه، وهذا محال (فأحدهما) أي المحصور وغير المحصور وکون الشيء محصوراً وغير محصور (محال) ممتنع (بالذات) وهذا الممتنع بالذات يستلزم ممتنعاً آخر وهو کون أبعاد الجسم - کالمثلث - مثلاً غير محصورة ولا متناهية، في عين کونها محصورة متناهية ، (و) هذا (الآخر) الملزوم (محال و ممتنع لا بالذات بل (بالغير) وهو کون أبعاد الجسم غير محصورة ولا متناهية، (فلا محالة) هذا الممتنع بالغير (يکون ممکنة) لکن (باعتبار) آخر (غير اعتبار علاقته مع الممتنع بالذات) ومن جهة اخري غير جهة علاقته بالممتنع بالذات علي قياس) وعلي غرار ما علمت في استلزامه الشيء الممکن مطلقاً (للواجب بالذات) فقد علمت أن الشيء (ليس من جهة ماهيته الامکانية) وذاته، ليس من هذه الجهة يستلزم الواجب بالذات (بل من جهة وجوب وجوده الامکاني) أي من جهة کون وجوده الامکاني واجبا، يستلزم ذلک، فالإنسان من جهة ماهيته وذاته الامکانية لا يستلزم الواجب بالذات، بل من جهة انّه يتحقق في ظرف خاص، وهذا الوجود والتحقق متوقف علي الوجوب، وليس له وجوب بالذات ، فيحتاج الي من يفيض عليه هذا الوجود، وهذا الغير لابد ان يکون واجبأ بالذات، والا احتاج الي غيره أيضا والحاصل لابد ان ينتهي الي واجب بالذات فياض يفيض عليه الوجود فالإنسان بل أي ممکن من هذه الجهة يستلزم الواجب بالذات، وعدم تناهي أبعاد الجسم أيضاً لا يستلزم الممتنع بالذات من جهة ماهيته الخاصة فالماهية بما هي لا تتعلق بشيء ولا تستلزم شيئاً، بل يستلزم ممتنعة بالذات من جهة کونه معدوماً، وکون المعدوم معلولاً الممتنع بالذات

ص: 319

وبالجملة فکما أن الاستلزام في الوجود بين الشيئين لابدَّ له من علاقة علّية و معلولية بين المتلازمين، فکذلک الاستلزام في العدم والامتناع بين شيئين لا ينفکّ عن تعلّقٍ إرتباطيَّ بينهما(1)

وکما أنّ الواجبين لو فرضنا لم يکونا متلازمين بل متصاحبين بحسب البخت والاتّفاق ، کذلک التلازم الإصطلاحيّ لا يکون بين ممتنعين بالذات، بل بين ممتنع بالذات وممتنعٍ بالغير، وهو لا محالة ممکن بالذات کما مرّ(2)

وبهذا يفرق الشرطيّ اللزوميّ عن الشرطي الإتفاقيّ، فإنّ الأوّل يحکم فيه بصدق التالي و ضعاً ورفعاً علي تقدير صدق المقدّم وضعاً ورفعاً لعلاقةٍ ذاتيةٍ بينهما .

ص: 320


1- (وبالجملة) فکما أنه ليس بين شيئين علاقة الملازمة، إلا إذا کان بين وجودهما علاقة عليّة و معلولية بکون وجود أحدهما علّة وجود الآخر معلولاً له (فکذلک) بين عدم شيئين وامتناعهما لا توجد علاقة الملازمة إلا إذا کان، بين عدميهما- أو عدمهما ۔ علقة وارتباط ، فيکون عدم أحدهما علة لعدم الآخر
2- (وکما أن الواجبين) بالذات (لو فرضنا) لهما وجوداً معاً بأن يکون واجب آخر بالذات الي جانب الواجب بالذات - تبارک وتعالي - (لم يکونا) أي الواجبان بالذات (متلازمين) ولا يکون بينهما علاقة الملازمة (بل) يکونان (متصاحبين) ومجتمعين في الوجود (بحسب البخت و) الصدفة (والاتفاق، کذلک التلازم الاصطلاحي) الذي يقتضي وجود علاقة وارتباط علي و معلولي بين المتلازمين (لا يکون) ولا يتحقق (بين امتنعين بالذات) إذا صح أن نفرض لهما وجوداً وتم ذلک ولو تحققا معاً (بل) هذا التلازم لا يکون الا (بين ممتنع بالذات وممتنع بالغير، وهو) أي الممتنع بالغير (لا محالة ممکن بالذات کما مر) واما سبب انحصار هذا التلازم العلي وهذه العلاقة العلية والمعلولية بين الممتنع بالذات والممتنع بالغير، فهو کالتلازم بين الواجب بالذات والواجب بالغير وکل ما تقدم هناک برد هنا، وذلک أن الممتنع بالغير في امتناعه يحتاج الي علّة تمنعه وهذه العلة هي الغير وهذا الغير ان کان ممتنعاً أيضاً بالغير احتاج الي علة هي الغير تفيض عليه الامتناع وهکذا حتّي ينتهي عند ممتنع بالذات ، فالممتنع بالغير يستلزم الممتنع بالذات وملازم له لأنه علتد المفيضة عليه بالامتناع.

والثاني يحکم فيه کذلک من غير علاقةٍ لزوميّةٍ ، بل بمجرّدِ الموافاة الإتفاقيّة بين المقدّم والتالي(1)

فما فشئ عند عامة الجدليتين في أثناء المناظرة عند فرض أمر مستحيل ليتوصل به إلي استحالة أمرٍ من الأمور بالبيان الخلفي أو الإستقاميّ أن يقال : «إنّ مفروضک مستحيلُ، فجاز أن يستلزم نقيض ما ادّعيتُ استلزامَهُ إيّاه، لکون المحالُ قد يلزم منه محال آخر»؛ واضح الفساد ، فإنّ المحال لا يستلزم أي محالٍ کان ، بل محالاً إذا قدّر وجودهما يکون بينهما تعلّقُ سببيُّ ومسببّيُّ» انتهي(2)

ص: 321


1- (و بهذا الذي تقدم ( يفرّق الشرطي اللزومي) أي القضية الشرطية اللزومية (عن الشرطي الاتفاقي) أي القضية الشرطية الاتفاقية، فإنا في القضية الشرطية اللزومية نحکم برفع ووضع التالي بحسب وضع ورفع المقدم وأن صدق التالي رفعاً ووضعاً متوقف علي صدق المقدم رفعاً ووضعاً کما نقول «ان کانت الشمس طالعة فالنهار موجود»، وقد حکمنا بذلک العلاقة ذاتية) لزومية (بينهما) أي بين المقدم والتالي. (و) أما (الثاني) أي القضية الشرطية الاتفاقية يحکم فيها کذلک أيضاً أي نحکم فيها برفع التالي ووضعه بحسب رفع المقدم ووضعه، وان صدق التالي فيها رفعاً ووضعاً تابع لصدق المقدم فيها رفعاً ووضعاً، لکن لم يأت هذا الحکم بسبب وجود علاقة لزومية ذاتية بين المقدم والتالي، کلا (بل بمجرد الموافاة الاتفاقية) والصدفة (بين المقدم والتالي) خلافاً للقضية الشرطية اللزومية
2- (فما فشئ) واشتهر (عند عامة الجدليين) من المعتزلة والأشاعرة والمتکلمين عموماً إلا من خرج منهم بالدليل (في أثناء المناظرة) مع خصومهم (عند فرض أمر مستحيل) وعندما يستدل المناظر، وعندما يفترض المستدل أمراً مستحيلاً (ليتوصل به الي استحالة أمر من الامور) وانّه يمکن التوصل من أمر مستحيل الي استحالة أمر آخر، لأن المحال قد يستلزم محا آخر، وذلک بالبيان الخلفي) أي القياس الخلفي وهو القياس الاستثنائي (أو) بالبيان الاستقامي) أي القياس الاستقامي الذي هو القياس الاقتراني ، لکنهم غفلوا أو جهلوا ان هذا الأصل غير جار الا إذا کان بين الأمرين المستحيلين علاقة السببية والمسببية، ولا جريان له في مطلق المحالين، بل المحالين بهذا القيد اللزومي، لکنهم زعموا أمکان الانتقال من محال إلي محال آخر مطلقاً ، أو لا أقل انّهم حملوا الأصل علي هذا الإطلاق، ثم اتخذوه ذريعة ووسيلة لابطال البراهين الصادقة ورد الادلة القاطعة فمثلاً حين يقال لو کانت ابعاد الجسم غير متناهية ، لزم کون المحصور غير محصور - وقد تقدم مفصلاً - أن کون المحصور غير محصور محال، فليست أبعاد الجسم غير متناهية بل هي متناهية وإلا وقعنا في المحذور السابق ، و بعبارة أخري يقول المستدل يستحيل وجود جسم غير متناء بين الحاصر ين ، لينتقل من هذا المستحيل الي اثبات مستحيل آخر هو استحالة الابعاد غير المتناهية ، هذا الاستدلال صحيح صادق الصدق العلاقه و تحققها بين الأمرين المستحيلين، لکن الجدلي من أجل أن يبطل هذه النتيجة يتمسک بما توهمه من وجود التلازم بين کل محالين مطلقاً ، وامکان التوصل من أي محال الي أي محال آخر وان لم توجد بينهما علاقة السببية والمسببية ، هذا الجدلي يسعي جاهدا أن يستفيد من القضية السابقة وهي - استحالة وجود الجسم غير المتناهي بين الحاصرين - لاثبات خلاف ما توصل إليه الحکماء من استحالة وجود البعد غير المتناهي والابعاد غير المتناهية، لأنه نتوصل من استحالة تلک القضية إلي نقيض تلک القضية وهو محال أيضا ، فتوصلوا من استحالتها إلي استحالة نقيضها وهو «جواز الابعاد غير المتناهية»، وهذا يخدش استدلالکم للتوصل من استحالة القضية الاولي الي اثبات استحالة الثانية حيث أمکن التوصل الي اثبات نقيضها وبذلک ثبت فساد استدلالکم ولهذا يمکن أن يقال : «ان مفروضک) کالذي في القضية الأولي «أستحالة وجود الجسم غير المتناهي بين الحاصرين» (مستحيل) ولکنه لا يثبت مدعاکم باستحالة وجود الأبعاد غير المتناهية ، اذ بناء علي امکان التوصل من أي محال الي أي مجال قد يثبت خلاف القضية الثانية (فجاز) بذلک الإمکان أن يستلزم المحال الأول (نقيض ما ادعيت استلزامه اياه) وما ادعيت استلزامه هو استحالة وجود الأبعاد غير المتناهية، ونقيضه : «جواز الابعاد غير المتناهية»، وذلک لکون المحال قد يلزم منه) أي (محال آخر) سواء کانت بين المحال الأول والثاني علاقة ام لم تکن علاقة أصلاً، ولکن هذا الذي ادعاه الجدلي من امکان التوصل من محال الي محال آخر مطلقاً (واضح الفساد) والبطلان، فقوله : «واضح الفساد» جواب وخبر «ما» في صدر المطلب حيث قال «فما فشي»، اذ «ما» هناک مبتدأ و «واضح الفساد» هنا خبره.

فإن قيل : الممتنع بالذات ليس إلّا ما يفترضه العقل ويخبر عنه بأنّه ممتنع

بالذات ، فما معني عدم قدرته علي تعقّله ؟(1)

قيل : إنّ المراد بذلک أن لا حقيقةَ عينيّةً له حتّي يتعلّق به علم، حتّي أنّ الذي

ص: 322


1- (فإن قيل) في مقام الأشکال أن (الممتنع بالذات ليس إلا ما يفترضه العقل) ويتصوره ويخبر عنه بأنه ممتنع بالذات) والعقل لا يصدر حکماً علي شيء إلا بعد تصوره (فما معني) قولکم هذا وما معني (عدم قدرته) أي العقل علي تعقله ؟) أي علي تعقل الممتنع بالذات، اليس هذا تناقضاً بيّناً ؟!

نفرضه ممتنعاً بالذات ونحکم عليه بذلک ممتنعُ بالذات بالحمل الأوليّ محکومُ عليه بالامتناع ، وصورةُ علمية ممکنة موجودةُ بالحمل الشائع(1)

وهذا نظير ما يقال :- في دفع التناقض المترائي في قولنا : «المعدوم المطلق لا يخبر عنه»، حيث يدلّ علي نفي الأخبار عن المعدوم المطلق ، وهو بعينه إخبارُ عنه - إنّ نفي الأخبار عن المعدوم المطلق بالحمل الشائع، إذ لا شيئيّةَ له حتّي يُخبَر عنه بشيءٍ، وهذا بعينه إخبارُ عن المعدوم المطلق بالحمل الأولي الذي هو موجودُ ممکنُ ذهنيُّ (2)

ص: 323


1- (وقيل : في مقام الرد (ان المراد بذلک) أي بعدم قدرة العقل علي تعقله وتصوره (أن لا حقيقة عينية له حتّي يتعلق به) أي بالممتنع بالذات (علم) فليس الممتنع بالذات الا العدم المحض وليس له أي حظٍّ من الوجود ولا ذات له ولا ماهيّة له حتّي تکون له صورة عقلية ، فلا يتعلق به علم، إذ العلم يحتاج الي معلوم ينطبق عليه وهذا لا يکون إلا بکون المعلوم ذا ماهيّة ، (حتّي ان الذي نفرضه) بعقولنا (ممتنعاً بالذات ونحکم عليه بذلک) أي بالامتناع الذاتي (ممتنع بالذات بالحمل الأولي) و(محکوم عليه بالامتناع) بالحمل الأولي الذاتي (و) لکنه (صورة علمية ممکنة موجودة حقيقة في أذهاننا (بالحمل الشايع).
2- (وهذا الرد أو الکلام الذي قيل للرد علي شبهة المتکلمين (نظير ما يقال :) وقد قاله صاحب الاسفار : (في دفع التناقض) وشبهة المعدوم المطلق (المترائي في قولنا: «المعدوم المطلق لا يخبر عنه») وان هذه القضية تنفي و تنقض نفسها بنفسها (حيث يدل علي نفي الاخبار عن المعدوم المطلق) قال المستشکل هناک کيف تصح هذه القضية وهذا الکلام (وهو) أي هذا القول (بعينه أخبار عنه) أي عن المعدوم المطلق ، فکيف التوفيق بين القولين - أعني بين القول السابق وبين لازمه؟! قلنا هناک في مقام الرد: (ان نفي الأخبار عن المعدوم المطلق) في القول الأول صحيح بالعمل الشايع) و تم بلحاظ هذا الحمل (إذ لا شيئية له) أي للمعدوم المطلق (حتّي يخبر عنه) أي عن المعدوم المطلق (بشيء) فلا مصداق له في الخارج حتي يتم الاخبار عنه ، والمصداق المفروض ليس شيئاً حقيقةً حتّي يخبر عنه، وهذا المطلب والقول (بعينه) وبنفسه (اخبار عن المعدوم المطلق بالحمل الأولي) فالمعدوم المطلق بالحمل الأولي أي بمفهومه (الذي هو موجود ممکن ذهني) متصور في الذهن .

وإن قيل : إنّ الذي ذُکر - من أنّ الممتنعين بالذات ليس بينهما إلّا الصحابة الاتّفاقيّة - ممنوعُ لأن المعاني التي يثبت العقل امتناعَها علي الواجب بالذات - کالشريک والماهيّة والترکيب وغير ذلک - يجب أن تکون صفات له ممتنعةً عليه بالذات، إذ لو کانت ممتنعةً بالغير کانت ممکنة له بالذات. کما تقدّم -. ولا صفةَ إمکانيّةً فيه (تعالي)، لما بيّن أنّ الواجب الوجود بالذات واجب الوجود من جميع الجهات(1)

ثمّ الحجج القائمة علي نفي هذه الصفات الممتنعة - علي ما أُشير إليه في أول الکتاب - براهينُ إنّيةُ تسلک من طريق الملازمات العامة. فللنتائج - وهي امتناع هذه الصفات - علاقةُ لزوميّة مع المقدّمات ، فهي جميعاً معلولةُ لما وراءها ممتنعةُ بغيرها، وقد بيّن أنّها ممتنعة بذاتها ، هذا خلفُ (2)

ص: 324


1- (وان قيل) في مقام الأشکال (ان الذي ذکر) قبل قليل في هذا الفصل (من ان الممتنعين بالذات ليس بينهما إلا الصحابة الاتفاقية ) وانّه ليس بينهما التلازم الاصطلاحي، هذا المذکور سابقاً (ممنوع، لأن المعاني والمفاهيم التي يثبت العقل امتناعها علي الواجب بالذات) تبارک وتعالي، وهي الصفات السلبية للواجب - تعالي - (کالشريک والماهية والترکيب وغير ذلک من العجز والضعف والحد وما أشبه ممتنعة بالذات، مع أن بينها نوع تلازم، فالقول بعدم جود علاقة التلازم بين الممتنعين بالذات باطل، فهذه الصفات السلبية يجب أن تکون صفات له) تعالي (ممتنعة عليه بالذات) وهي ممتنعة بالذات قطعاً (إذ لو کانت ممتنعة بالغير کانت ممکنةً له) تعالي (بالذات - کما تقدم -) في کلام صدر المتألهين يا ان الامتناع بالغير لا يجتمع إلا مع الإمکان بالذات» ولا يجتمع مع الواجب بالذات، فمال الممتنع بالغير الي الممکن بالذات ليس إلا، (و) انت تعلم ان لا صفة امکانية فيه تعالي....الخ) إذن هذه الصفات السلبية رغم کونها ممتنعة له تعالي بالذات إلا أن بينها علاقة التلازم.
2- (ثم) من جهة اخري نعلم أن (الحجج القائمة علي نفي هذه الصفات السلبية (الممتنعة) علي الواجب - تعالي - (علي ما أشير إليه في الامر الخامس من (أول الکتاب) و مقدمته ، هي حجج وبراهين إنيّة تسلک من طريق الملازمات العامة) بين مواد القضايا، وهذا دليل علي وجود التلازم بين هذه الممتنعات بالذات (فللنتائج - وهي امتناع هذه الصفات - علاقة لزومية مع المقدمات) مثلاً من طريق الملازمة بين الإمکان والماهيّة، وأن الماهيّة تلازم الإمکان وهکذا العکس، نثبت أن لا ماهية للواجب - تعالي - (فهي جميعة) أي الصفات السلبية بالذات (معلولة لما ورائها) من علّة، وامتناعها جميعاً بسبب تلک العلة و(ممتنعة بغيرها) أيضاً، لأنکم زعمتم أن العلاقة اللزومية غير حاصلة بين الممتنعين بالذات، فالمفروض أن تکون هذه الصفات السلبية ممتنعة بالغير لا بالذات - بناءاً علي مزاعمکم - وقد بين) وبينتم (آنها) أي هذه الصفات (ممتنعة بذاتها) في صدر هذا الفصل و(هذا خلف) أي النتيجة التي توصلنا اليها هنا بعد التحقيق والاستدلال خلاف لما زعمتم، حيث انکم ادعيتم امتناعها بالذات وقد ثبت علي مبناکم بعد التحقيق انّها ممتنعة بالغير، فاما ان تعترفوا بهذا التهافت في کلامکم واما ان تقرّوا لنا بأن بينها علاقة لزومية ومن ثم الإقرار بأن بين کل ممتنعين بالذات علاقة لزومية وتعميم الحکم علي جميع الممتنعات بالذات، ونفي الصحابة الاتفاقية

اجيب عنه : بأنّ الصفات الممتنعة التي تتفيها البراهين الإنّيّة عن الواجب بالذات مرجعُها جميعاً إلي نفي الوجوب الذاتي الذي هو عين الواجب بالذات، فهي واحدة بحسب المصداق المفروض لها وإن تکثّرت مفهوماً، کما أنّ الصفات الثبوتيّة التي للواجب بالذات هي عين الوجود البحت الواجبيّ مصداقاً وإن کانت متکثّرةً مفهوماً(1)

ص: 325


1- (واجيب عنه) أي عن الاشکال السابق إننا لا نعترف بذاک ولا تقر لکم بهذا بل أردنا من نفي علاقة التلازم بين الممتنعين بالذات فيما إذا کان لکل منهما مصداق ذهني اعتباري خاص به، ولم نقصد مطلق الممتنعين، وهذا القيد - أعني أن يکون لکل من الممتنعين مصداق - لم يتحقق في الصفات السلبية المعنية هنا، فلا يرد الأشکال، وجوابنا يکون (بأن الصفات السلبية (الممتنعة التي تنفيها البراهين الانية) عن طريق الحکم بالتلازم بينها (عن الواجب بالذات) تبارک وتعالي - ليس لکل واحدة منها ما بازاء اعتباري فرضي، بل ما با زائها ومصداقها الفرضي الذهني شيء واحد، وعودها جميعا الي شيء واحد وهو نفي الوجوب الذاتي (مرجعها جميعاً الي) شيء واحد هو (نفي الوجوب الذاتي) لهذه الصفات ، حيث أن هذا الوجوب (الذي هو عين الواجب بالذات) منفي عنها، فعودها جميعاً الي صفة سلبية واحدة وتلک الصفة هي الوجوب الذاتي الذي هو عين الواجب بالذات، فإذا قلنا الواجب بالذات - تعالي - ليس جسماً أوليس مرکباً أو ليس ماهيّة ، نريد انّه - تعالي - ليس بغير واجب الذي مفاده و مفهومه انّه واجب ، (فهي واحدة بحسب المصداق المفروض لها، وان تکثرت مفهوماً) وکانت مفاهيم عديدة مختلفة لفظاً ومعنيً، لکنها واحدة مصداقاً ، (کما ان الصفات الثبوتية) کالبساطة والتجرد التام والوحدة والقوة والعلم وما أشبه (التي) ثابتة للواجب بالذات، هي) أي الصفات الثبوتية (عين الوجود البحت الواجبي مصداقاً) فهي واحدة لأن مرجعها وعودها إلي شيء واحد هو انّها واجبة بالذات وعين الوجود الواجبي المحض ومصاديقه، فاذا قلنا انّه تعالي بسيط أو مجرد تام أو واحد أو عالم أو قوي مثلاً ، نريد أنه تعالي واجب بالذات، (وان کانت هذه الصفات الثبوتية ، کالصفات السلبية أيضاً (متکثرة مفهوماً) لها مفاهيم و معاني متعددة بل ومتعددة لفظاً أيضاً

فعدم الانفکاک بين هذه الصفات والسلوک البرهاني من بعضها إلي بعض، المکان وحدتها بحسب المصداق المفروض ، وإن کان في صورة التلازم بينهما بحسب المفهوم؛ کما أن الأمر في الصفات الثبوتيّة کذلک ، ويعبر عنه بأنّ الصفات الذاتيّة کالوجوب الذّاتيّ مثلاً بالذات وباقتضاءٍمن الذات، ولا اقتضاءَ ولا علّيّة بين الشيء ونفسه. وهذا معني ما قيل: «إنّ الدليل علي وجود الحقّ المبدِع إنّما يکون بنحو من البيان الشبيه بالبرهان اللمّيّ»(1)

ص: 326


1- وإذا وجدنا تلازماً في هذا النوع من البراهين الانية، والانتقال من ملازم الي ملازم آخر، ووجدنا تلازماً بين هذه الصفات الممتنعة بالذات، فإن ذلک لا يضر بالأصل القائل بين الممتنعين علاقة المصاحبة الإتفاقية لا اللزومية، لأن هذه الصفات جميعها واحدة ومرجعها ومالها إلي أمر واحد وواحدة مصداقاً لا مفهوماً، وملاک التلازم بينها وحدة مصداقها، وإذا ثبت وجوب الذات والصفات للواجب - تعالي -، ثبت امتناع فقدان الذات والصفات. (فعدم الانفکاک بين هذه الصفات والسلوک البرهاني من بعضها إلي بعض) أي التلازم بين الصفات السلبية للواجب تعالي، واثبات بعضها بواسطة البعض الآخر، لم يأت إلا المکان وحدتها) أي وحدة هذه الصفات (بحسب المصداق المفروض، وان کان أو کانت هذه الوحدة في المصداق الفرضي (في صورة التلازم بينهما) أي بين الممتنعين بالذات (بحسب المفهوم) وبين الممتنعين بالذات تلازم بحسب المفهوم لا المصداق، کما أن الأمر المتقدم بتفاصيله (في الصفات الثبوتية کذلک، ويعبر عنه بأن الصفات الذاتية کالوجوب الذاتي مثلاً بالذات) أي بسبب الذات (وباقتضاء من الذات، بينما الصفات الذاتية عين ذات الواجب (ولا اقتضاء ولا علية بين الشيء) أي الواجب تعالي (و نفسه) أي صفاته الذاتية التي عين ذاته ، وهذا الذي تقدم (معني ما قيل وقائله صدر المتألهين في الاسفار حيث قال : ( «ان الدليل علي وجود الحق المبدع) والمبدأ الأول للوجود و- وهو الواجب - تعالي - (انما يکون بنحو من البيان الشبيه بالبرهان اللمي) الذي يسلک فيه من العلة الي المعلول ، واذ لا علّة للواجب - تعالي - فلا يمکن اثبات الواجب - تعالي - بالبرهان اللمي، وانما شبيه بالبرهان اللمي وليس برهاناً لمُيّاً لأن العلة کأنها واسطة في اثبات المعلول.

فامتناع الماهيّة التي سلکنا إلي بيانّه من طريق امتناع الإمکان عليه (تعالي) مثلاّ، هو وامتناع الإمکان جميعاً يرجعان إلي بطلان الوجوب الذاتّي الممتنع عليه (تعالي)، وقد استحضره العقل بعرض الوجوب الذاتي المنتع عن عين الذات(1)

واعلم أنّه کما تمتنع الملازمة بين ممتنعين بالذات کذلک يمتنع استلزام الممکن لممتنع بالذات، فإنّ جوازَ تحقُّق الملزوم الممکن مع امتناع اللازم بالذات ، وقد فُرِضت بينهما ملازمةُ، يستلزم تحقُّقَ الملزوم مع عدم اللازم، وفيه نفي

ص: 327


1- (فامتناع الماهيّة) علي الواجب بالذات عندما نقول لا ماهيّة للواجب بالذات لأنها من لوازم الإمکان و(التي سلکنا الي بيانّه) أي بيان هذا الامتناع، (من طريق امتناع الإمکان عليه - تعالي - مثلاً، هو) أي هذا الامتناع - أعني امتناع الماهيّة - (وامتناع الإمکان) کلاهما جميعاً يرجعان الي شيء واحد وحقيقة واحدة هي (بطلان الوجوب الذاتي الممتنع عليه - تعالي ) فقولنا بامتناع الماهية علي الواجب بالذات - تعالي - يرجع الي استحالة أن لا يکون الواجب - تعالي - واجبة بالذات ، وقولنا بامتناع الإمکان علي الواجب - تعالي - يرجع الي استحالة أن لا يکون الواجب - تعالي - واجباً بالذات أيضاً، وکلاهما يرجعان الي نفي وبطلان الوجوب الذاتي الممتنع عليه - تعالي -، وقد استحضره) و تصوره (العقل بعرض الوجوب الذاتي المنتزع عن عين الذات) وهو إذن عين الذات أيضاً ، فينفي عن الذات الواجبة کل صفة منافية للوجوب الذاتي. وإذ لا إنفکاک ولا کثرة في الواقع ونفس الأمر بالنسبة إلي صفات الواجب - تعالي - مطلقاً، لا في الصفات الثبوتية ولا في الصفات السلبية، فلا تلازم بين المصاديق المفروضة للصفات السلبية ، والمصاديق العينية للصفات الثبوتية، حيث ان الصفات السلبية ليس لها سوي مصداق فرضي واحد، کما أن الصفات الثبوتية ليس لها سوي مصداق عيني واحد، وان کانت له مفاهيم کثيرة منتزعة منه بحسب التحليل الذهني العقلي الاعتباري، ويعتبر ويري العقل بين تلک المفاهيم علاقة لزومية، ورغم ذلک فإن کلا الامتناعين يرجعان إلي شيء واحد.

الملازمة، هذا خلفُ (1)

وقد أورد عليه : بأنّ عدمَ المعلول الأوّل وهو ممکنُ، يستلزم عدم الواجب بالذات وهو ممتنعُ بالذات. فمن الجائز أن يستلزم الممکن ممتنعاً بالذات، کما أن من الجائز عکسَ ذلک ، کاستلزام عدم الواجب عدمَ المعلول الأوّل (2)

ص: 328


1- (واعلم أنه ..... الخ) لو استلزم الممکن الذاتي ممتنعاً ذاتياً، فالممکن بحکم امکانّه يجوز وقوعه و تحققه ، ولو وقع الممکن - الملزوم - ولم يقع لازمه - الممتنع ، لم يکن بينهما تلازم من جهة الوجود والعدم، ولو کانت بينهما علاقة الملازمة، لزم من وقوع أحدهما وقوع الآخر وتحققه ، ومع وقوع اللازم وتحققه يجب وقوع الملزوم بالضرورة، مع أننا نري وقوع الممکن وحده دون وقوع ملزومه - حسب المفروض - أعني الممتنع ، إذن رغم وقوع الممکن لم يقع الممتنع، بل لو وقع الممتنع لانتفي کونه ممتنعاً بالذات، فلا ملازمة بين الممکن الذاتي والممتنع الذاتي ، (فکما امتنع تحقق الملازمة بين ممتنعين بالذات) واستحال ذلک، وانّه لا ملازمة بين ممتنع بالذات مع ممتنع آخر بالذات (کذلک يمتنع استلزام الممکن) بالذات الممتنع بالذات، إذ لو وقعت الملازمة علي هذا النحو بينهما لوقع الخلف (فإن جواز تحقق الملزوم مع امتناع اللازم بالذات) إذ الممکن بالذات هو الملزوم، والممتنع هو اللازم في الفرض المذکور هنا وعدم تحقق احدهما مع تحقق الآخر، إنفکاک لا ملازمة، (وقد فرضت بينهما ملازمة) هذا الفرض وذاک الانفکاک (يستلزم تحقق الملزوم مع عدم تحقق (اللازم، وفيه إشکال (نفي الملازمة) بين الممکن بالذات والممتنع بالذات (وهذا) النفي للملازمة بينهما (خلف) وخلاف الفرض السابق القائل بالتلازم بينهما.
2- (وقد أورد عليه) کما في الأسفار وشرح المنظومة أورد المرحوم الطوسي علي ان الممکن لا يستلزم الممتنع بالذات بأن المعلول الأول ممکن وجوداً وعدماً، فعدمه يستلزم عدم الواجب بالذات، وهذا الأمر - أعني الملازمة - ممتنع ذاتاً ، أن عدم المعلول يستلزم عدم العلة، وهو مبني علي قاعدة استحالة انفکاک العلة والمعلول - علي ما سيأتي في باب العلة أن شاء الله تعالي - وإذا ارتفع أحدهما ارتفع الآخر، فارتفاع المعلول الممکن ملازم لارتفاع العلة الممتنعة بالذات للامتناع الذاتي الذي في رفع الواجب الذاتي، أي لأن ارتفاع الواجب الذاتي ممتنع ذاتأ - فلا يمکن ان يکون الممکن مستلزماً لممتنع بالذات. إذن أورد المحقق الطوسي به (بأن عدم المعلول الأول) ينقض هذا الکلام، وذلک أن عدم المعلول الأول (وهو )أمر (ممکن، يستلزم عدم الواجب بالذات وهو) أي عدم الواجب بالذات أمر (ممتنع) فاذا انعدم المعلول الأول ، وجب انعدام علته التامة وهو الواجب بالذات - تعالي - فالمقدم في هذه القضية الشرطية ممکن والتالي فيها ممتنع بالذات (فمن الجائز أن يستلزم الممکن ممتنعاً بالذات، ولا مانع من وقوع ذلک وإلا فما المانع من ذلک ؟ بل لم يتوقف الأمر عند هذا الحد بل يتجاوزه : ( کما أن من الجائز عکس ذلک) و امکان أن يکون الممتنع بالذات مستلزماً للممکن، فالممتنع بالذات قد يستلزم ممکناً(کاستلزام عدم الواجب) بالذات (عدم المعلول الأول) ولا مانع من ذلک کله

ويدفعه : أنّ المراد بالممکن هو الماهيّة المتساوية النسبة إلي جانَبي الوجود والعدم. ومن المعلوم أنّه لا ارتباطَ لذاتها بشيءٍ وراء ذاتها الثابتة لذاتها بالحمل الأوّلي، فماهية المعلول الأوّل لا ارتباطَ بينها وبين الواجب بالذات(1)

نعم، وجودها مرتبطّ بوجودهِ واجبُ بوجوبه، وعدمُها مرتبطّ عقلاً بعدمه ممتنعُ بامتناع عدمه، وليس شيءُ منهما ممکناً بمعني المتساوي النسبة إلي الوجود

والعدم (2)

ص: 329


1- (ويدفعه : أن المراد بالممکن) في قولنا الممکن لا يستلزم ممتنعاً بالذات( هو الماهيّة المتساوية النسبة الي جانبي الوجود والعدم، ومن المعلوم انّه لا ارتباط لذاتها) أي لذات الماهية (بشيء وراء ذاتها الثابتة لذاتها بالحمل الأولي، وهو المراد بقولهم ان الماهية في مرتبة ذاتها ليست الا هي لا موجودة ولا معدومة ولا ملازمة لشيء ما (فماهية المعلول الأول) بناءاً علي هذا (لا ارتباط بينها وبين الواجب بالذات) وما ذکرتموه من إن عدم المعلول الأول يستلزم عدم الواجب بالذات، لا ينافي قولنا الممکن لا يستلزم ممتنعاً بالذات وذلک لما تقدم من أن مرادنا بالممکن هو الماهية المتساوية الطرفين والنسبة الي الوجود والعدم، ومن الضروري أن الماهيّة من حيث هي هي لا ارتباط ولا تعلق لها بشيء، إذ الماهيّة بالحمل الأولي هي الماهيّة بماهي هي ليست الا هي، وعليه فلا ملازمة بينها وبين شيء أصلاً ومنها الممتنع بالذات فلا علاقة بينها وبينه قط، والا وقع المحذور السابق وما جاء في الاشکال لا يمثل امکان الماهيّة من حيث هي هي بل امکانّه الوجودي.
2- (نعم وجودها) أي الماهيّة (مرتبط بوجوده) أي بوجود الواجب بالذات وهکذا (واجب) وجود الماهيّة (بوجوبه) أي بوجوب الواجب بالذات، واما الماهيّة نفسها فغير مرتبطة ولا متعلقة بشيء لا بالوجود ولا بالعدم، فوجود المعلول الأول واجب بالغير مستلزم للواجب بالذات، لأن ما بالغير لابد أن ينتهي الي ما بالذات، (وعدمها) أي المعلول الأول - الماهية - أيضا (مرتبط عقلاً) لا حقيقة لأن المعدوم لا عينية ولا حقيقة له وانما يحصل باعتبار العقل وافتراضه (بعدمه) أي بعدم الواجب بالذات - تبارک وتعالي - وهکذا عدم الماهية (ممتنع بامتناع عدمه) أي عدم الواجب بالذات - تعالي -، فالماهية تکتسب عدمها أيضاًمن عدم الواجب بالذات وتکتسب امتناع عدمها أيضا بامتناع عدم الواجب - تعالي - واستحالة أن يکون الواجب بالذات معدوماً حنيئذ يستلزم استحالة کون المعلول الأول - الماهيّة - معدوماً . فوجود المعلول الأول يستلزم وجود الواجب بالذات، وعدمه يستلزم الممتنع بالذات، ولکنه لا يعني ان الممکن يستلزم الواجب بالذات أو الممتنع بالذات وجوداً أو عدماً ، اذ (ليس شيء منهما) أي من وجود المعلول الأول وعدمه (ممکناً بمعني استواء النسبة الي الوجود والعدم) اذ الإمکان بهذا المعني وصف للماهية لا للوجود والعدم

وأمّا عدُّهم وجودَ الممکن ممکناً ، فالإمکان فيه بمعني الفقر والتعلّق الذاتيّ لوجود الماهيّة بوجود العلّة ، دون الإمکان بمعني استواء النسبة إلي الوجود والعدم، ففي الإشکال مغالطةُ بوضع الإمکان الوجوديّ موضعَ الإمکان الماهويّ (1)

خاتمة: قد اتّضح من الأبحاث السابقة أنّ الوجوب والإمکان والامتناع کيفيات للبيب في القضايا، لا تخلو عن واحدٍ منها قضية : وأنّ الوجوب والإمکان أمران وجودّيان ، لمطابقة القضايا الموجّهة بهما بما أنّها موجّهة بهما للخارج مطابقة تامّةً (2)

ص: 330


1- (واما عدّهم) أي الفلاسفة وهو دفع دخل مقدر حاصله انا نجد الحکماء احياناً يوصفون الوجود بالممکن کقولهم الوجود الامکاني وجود ممکن ؟! (وجود الممکن ممکناً) کما في بعض أقوالهم (فالإمکان فيه) وفي امثاله (بمعني الفقر والتعلق الذاتي لوجود الماهيّة بوجود العلة) هذا هو مراد الفلاسفة من قولهم الوجود الامکاني وجود ممکن وأمثاله، وليس کما تزعمون، فالحديث عن الإمکان بمعني الفقر الذاتي (دون الإمکان بمعني استواء النسبة الي الوجود والعدم) والحاصل أنا نتحدث عن ممکن و امکان تتساوي نسبته إلي الوجود والعدم خالي من کل اقتضاء، وهو الماهية الممکنة، بينما انتم تتحدثون عن ممکن فيه الإمکان بمعني الفقر الذاتي والتعلق الذاتي الي الوجود (ففي الاشکال الذي أوردوه علينا (مغالطة) واضحة (بوضع الإمکان الوجودي) ذات التعلق والفقر الذاتيين (موضع الإمکان الماهوي) الخالي من کل اقتضاء وتعلق.
2- (قد اتضح من الأبحاث السابقة أن الوجوب والإمکان والامتناع کيفيات للنسب في القضايا) بيان ذلک: حين نقول زيد جالس بالامکان، فإن بين الجلوس - المحمول في القضية . وبين زيد - الموضوع فيها - نسبة حقيقية لا توجد بين غيرهما - أي بين أحدهما وغير الآخر، ثم ان هذه النسبة لها کيف خاص وکيفية خاصة هي الإمکان التي تسمّي بجهة القضية أيضاً، فالنسب الثلاث کيفيات للقضايا - أي لنسب القضايا وللنسب التي في القضايا و تسمي القضية موجهة حينئذ.(و) قد اتضح أيضاً أن الوجوب والإمکان، وحدهما (أمران وجوديان) ومعني ذلک وجودهما في الخارج، فکما نجد في القضية السابقة أن کيفية النسبة بين القيام وزيد - أي بين المحمول وموضوعه - هو الإمکان، کذلک نري أن القيام ممکن أيضاً لزيد في الخارج وهکذا في القضايا الوجوبية، فإن الوجوب في القضية وجوب حقيقي خارجي لنسبة القضية فهو واجب لمحموله في الخارج کما کان الکيف واجباً في القضية ، کما في قولنا: «الخالق - تعالي - أو الواجب - تعالي - موجود بالوجوب» وقس عليهما ما شئت، المطابقة القضايا الموجهة بهما.. الخ) بما أنها موجهة بهما - أي بالوجوب والإمکان - مطابقة للخارج مطابقة تامة.

فهما موجودان في الخارج لکن بوجود موضوعهما، لا بوجو منحاز مستقلًّ، فهما من الشؤون الوجوديّة الموجودة لمطلق الموجود کالوحدة والکثرة والحدوث والقدم وسائر المعاني الفلسفيّة المبحوث عنها في الفلسفة، بمعني کون الاتّصاف بها في الخارج وعرضها في الذهن، وهي المسماة ب «المعقولات الثانية الفلسفيّة». وأما الامتناع فهو أمرُ عدميُّ(1)

هذا کلّه بالنظر إلي اعتبار العقل الماهيات والمفاهيمَ موضوعات للأحکام .

وأمّا بالنظر إلي کون الوجود العينيّ هو الموضوع لها بالحقيقة لأصالته ، فالوجوبُ نهايةُ شدّةِ الوجود الملازم لقيامه بذاته واستقلاله بنفسه، والإمکان فَقرُهُ في نفسه وتعلُّقه بغيره بحيث لا يستقلّ عنه بذاته ، کما في وجود الماهيّات الممکنة، فهما

ص: 331


1- المعقولات الثانية الفلسفية عبارة عن المفاهيم والمعاني الفلسفية التي يکون الاتصاف بها في الخارج علي نحو الحقيقة والتحقق، ويکون عروضها في ظرف الذهن ، فعروض الإمکان يکون في ظرف الذهن واما انصاف زيد بالقيام بنحو الإمکان فهو واقع في ظرف الخارج، فالإمکان والوجوب کالحدوث والقدم وغيرهما من الشؤون الوجودية للموجود المطلق الذي عد موضوعاًللفلسفة عند جميع الفلاسفة.

شانان قائمان بالوجود غير خارجين عنه(1)

ص: 332


1- (هذا کله) الذي تقدم کان حديثاً عن الوجوب والإمکان والامتناع بمعني کيفيات النسبة بين القضايا، وتحدثنا عن المفهوم هل واجب أم ممکن أم ممتنع ؟ ولهذا کان الکلام کله بالنظر إلي اعتبار العقل الماهيات والمفاهيم موضوعات للاحکام) هذا بالنظر إلي جهة المفاهيم (واما بالنظر إلي کون الوجود العيني هو الموضوع لها) أي للأحکام (بالحقيقة الاصالته) أي لاصالة الوجود العيني وان الوجود العيني هو الموضوع الحقيقي للأحکام، لا المفاهيم، فالوجوب... إلي قوله : فهما) أي الوجوب والإمکان بعد اعتبار الوجود موضوعاً للاحکام حقيقة وکون الوجوب والإمکان وصفين للوجود العيني لا للمفهوم فإن الوجوب والإمکان حينئذ (شانان قائمان بالوجود غير خارجين عنه) أي عن حد الوجودنقرأ في هذا الفصل : الماهية بالحمل الأولي لا موجودة ولا غير موجودة، وان کانت بحسب الحمل الشايع اما موجودة أو معدومة. ما حکم علي الوجود والعدم، جار علي سائر المعاني والمفاهيم المتقابلة أيضا، التي تعتبر في حکم النقيضين، وهو أنها خارجة من مرتبة الذات، بل حتي لوازم الذات فإنها لا تحمل علي الذات بالحمل الأولي.

المعامل الخامسة

في الماهيّة وأحکامها

وفيها سبعة فصول:

ص: 333

ص: 334

المرحلة الخامسة في الماهیة و احکامها

الفصل الأوّل في أن الماهيّة في حدّ ذاتها لا موجودة

ولا لا موجودة (1)

الماهيّة ، وهي : «ما يقال في جواب ما هو ؟»، لما کانت - من حيث هي

ص: 335


1- ذکروا للماهية معنيين «ما به الشيء هو هو» و«ما يقال في جواب: «ما هو» والأول معني أعم من الثاني مطلقاً، والبحث هنا عن المعني الثاني ، ثم أن المفاهيم الماهوية کالإنسان والشجر لا يحمل عليها بالحمل الأولي إلا نفسها، فاذا قلنا مثلاً «الإنسان ما هو؟» کان الجواب عبارة عن ماهية الإنسان ليس إلا، وماهيّته عبارة عن جنسه وفصله القريبين . والماهيّة بالحمل الأولي - أي بقطع النظر عما سواها وبما هي هي - وبما أنها ماهيّة ليس الوجود عين ذاتها ولا جزءا من ذاتها وهکذا العدم ليس عينها ولا جزء ذاتها، وإلا لو کان أحدهما عينها أو جزءها لاستحال انفکاکها عنهما، لأن ذلک أنفکاک للشيء عن نفسه، نعم الماهية بالحمل الأولي غير قابلة للإتصاف بالوجود أو اللاوجود، وان کانت بالحمل الشايع اما موصوفة بالوجود أو اللاوجود، لأنها اما موجودة في الخارج وأما معدومة. والحاصل أن الإنسان بلحاظ ذاته لا موجود ولا لا موجود، إذ الوجود والعدم لا يمثلان . الجنس والفصل معاً للإنسان حتّي يکونا عينه - عين ذاته - ولا يمثلان أحدهما ليکون ذلک الممثل لأحدهما جزءاً من الإنسان، بل هما خارجان عن ذات الإنسان عارضان لها؛ فمفهوم الوجود ومفهوم العدم لم يؤخذ اولم يدخلا في مفهوم الإنسان، لا بنحو العينية ولا بنحو الجزئية ، وان کانت الماهية بالحمل الشايع أما موجوده وأما معدومه.

وبالنظر إلي ذاتها في حد ذاتها - لا تأبي أن تتّصف بأنّها موجودةُ أو معدومةُ کانت في حدّ ذاتها لا موجودة ولا لا موجودة، بمعني أنّ الموجود واللاموجود ليس شيء منهما مأخوذة في حدّ ذاتها بأن يکون عينَها أو جزءَها، وإن کانت لا تخلو عن الاتّصاف بأحدهما في نفس الأمر بنحو الاتّصاف بصفةٍ خارجيةٍ عن الذات.

وبعبارة أُخرئ : الماهيّة بحسب الحمل الأوّليّ ليست بموجودةٍ ولا لا موجودة، وإن کانت بحسب الحمل الشائع إما موجودة وإما لا موجودة. وهذا هو المراد بقولهم: «إنّ إرتفاع الوجود والعدم عن الماهيّة من حيث هي من إرتفاع النقيضين عن المرتبة ، وليس ذلک بمستحيٍل، وإنّما المستحيلٍ ارتفاعهما عن الواقع مطلقاً وبجميع مراتبه». يعنُون به أن نقيض الوجود المأخوذ في حدّ الذات ليس هو العدم المأخوذ في حدّ الذات، بل عدم الوجود المأخوذ في حدُّ الذات بأن يکون حدُّ الذات، هو المرتبة - قيدة للوجود لا للعدم، أي رفع المقلي دون الرفعُ المقيُّدِ (1)

ص: 336


1- (وهذا هو المراد) دفع دخل لشبهة مقدرة هي ان عبارة «ليست الماهيّة من حيث هي بموجودة ولا لا موجودة»، صريحة في سلب الوجود والعدم عن الماهية وهذا يستلزم ارتفاع النقيضين وهو محال ، فقال المرحوم العلامة أن المراد من هذه العبارة أن ارتفاع الوجود والعدم عن مرتبة ذات الماهية ومن حيث هي إنما هو ارتفاع لهما - للنقيضين - عن مرتبة ذات الماهية فقط، لا ارتفاع لهما عن جميع المراتب، وارتفاعهما عن مرتبة واحدة لا يقتضي إرتفاع النقيضين، ولا يستلزم محالاً قط، بل المحال هو الثاني - أعني ارتفاعهما عن جميع المراتب مطلقأ - أي عن الواقع مطلقأ وبجميع مراتبه ، فإن رفع الطبيعة إنما يکون برفع جميع الأفراد. فالحکماء (يعنون به ...... الخ) أي يعنون ويقصدون بنقيض الوجود الملحوظ في حد الذات، عدم الوجود في حدّ الذات، لا العدم في حدّ الذات، وحد الذات الذي في مرتبة الوجود قيد للوجود لا للماهية، فنقيض الوجود في مرتبة الماهية عبارة عن رفع المقيد - أي رفع الوجود نفسه - لا الرفع المقيد - وهو العدم في مرتبة الماهية والحاصل أن نقيض کل شيء سلبه - أي سلب ذلک الشيء - فإذا لوحظ وجود الماهيّة مقيداً، کان نقيضه سلب نفس الوجود المقيد، أي عدم ذلک الوجود المقيد، لا العدم المقيد ، فنقيض قولنا: «الماهية من حيث هي موجودة» عبارة عن : «ليست الماهيّة من حيث هي بموجودة» لا: «الماهية من حيث هي معدومة» لأن العدم هنا مقيدة بمرتبة الذات، وانما النقيض ينبغي أن يکون مبيناً السلب وعدم ذلک الوجود المقيد. فقولنا: «ليست الماهية من حيث هي موجودة» و«ليست الماهية من حيث هي معدومة» ليس من قبيل ارتفاع النقيضين، لعدم تحقق التناقض بينهما، إذ کل منهما لا تعد نقيضاً للاخري. وهنا جمع بين جوابين بجواب واحد، حيث تفي إستحالة ارتفاع النقيضين عن مرتبة الواقع، وحيث انّه جعل الوجود الذي ينفي عن الماهية بما هي هي في قولنا: «ليست الماهية من حيث هي موجودة»، جعله الوجود المقيد بکونه في مرتبة ذات الماهية، لا مطلق الوجود، ونقيضه هو رفع ذلک الوجود المقيد، فهو رفع للمقيد لا الرفع المقيد . لا رفع مقيد - والمسلوب عن الماهية هو الوجود المقيد والعدم المقيد لا عدم الوجود المقيد. واعرض عن ذکر الجواب الثالث لعله لما فيه من إشکال واضح فافهم. وانما جمع بين الجواب الأول والثاني وأوردهما معاً، لأنه لما قال (وليس ذلک بمستحيل وانما المستحيل ارتفاعهما عن الواقع مطلقاً) جعل تفکيکة في المحال واستثناءاً في القاعدة الفعلية اذ لقائل حينئذ أن يقول هل القواعد العقلية تقبل الاستثناء ؟! فأتي بالجواب الثاني اليدفع هذا التوهم وينفي الاستحالة من أساسها، وانّه لم يتحقق ارتفاع للنقيضين هنا، وذلک أن نقيض الوجود في مرتبة الماهية - المسلوب عنها - ليس هو العدم في مرتبة الماهية، بل نقيضه في مرتبة الماهية هو اللاوجود في تلک المرتبة ، وذلک «أن نقيض کل شيء رفعه» ولا يتم الرفع ولا يتحقق التناقض الا برفع جميع القيود. .

ء

ولذا قالوا: «إذا سُئلَ عن الماهيّة من حيث هي بطرفَي النقيضين، کان من الواجب أن يجاب بسلب الطرفين مع تقديم السلب عن الحيثية حتّي يفيد سلب المقيَّدِ دون السلب المقيَّد. فإذا سُئلَ : هل الماهيّة من حيث هي موجودة أو ليست موجودة ؟ فالجواب : ليست الماهيّة من حيث هي بموجودة ولا لا موجودة، ليفيد أنّ شيئاً من الوجود والعدم غير مأخوذٍ في حدّ ذات الماهية»(1)

ص: 337


1- (ولذا قالوا : إذا سئل عن الماهية من حيث هي بطرفي النقيض، قائلاً: هل الماهيّة من حيث هي موجودة أم لا موجودة ؟ أي هل الوجود والعدم عين الماهيّة ، أم جزء الماهيّة أم لا هذا ولا ذاک ؟ فلکي يکون الجواب صحيحاً مطابقاً للواقع والسؤال (کان من الواجب أن يجاب بسلب الطرفين مع تقديم السلب علي الحيثية) فيجب تقديم أداة السلب علي القيد المتأخر عن الماهيّة واللاحق لها - أعني من حيث هي هي - فتقدم الأداة علي عبارة «من حيث هي هي» فيقال : «ليست الماهيّة من حيث هي موجودة ولا لا موجودة»، فتم سلب طرفي النقيض من الماهيّة - في الجواب -، و تقديم السلب علي الحيثية، ليعود قيد الحيثية الي متعلق السلب لا السلب نفسه ، و ( حتّي يفيد سلب المقيد) وحتّي تفيد القضية سلب ما هو مقيد (دون السلب المقيد) فأداة السلب مقيدة بقيد «هي هي»، فالذي حصل هو الرفع المقيد، والرفع المقيد ليس نقيضاً للمقيد ، بل نقيضه هو رفع المقيد ، ومن أجل الحصول علي رفع المقيد ، يجب تقديم أداة السلب - أعني ليس - علي الموضوع، ليبقي اطلاق السلب علي حاله، ولو أخرنا أداة السلب - اعني ليس - لم نحصل علي هذه النتيجة ولم يتحقق جواب السؤال. فإذا سئل : هل الماهيّة من حيث هي موجودة أو ليست بموجودة ؟) و مراد السائل : أي من الوجود واللاوجود المقيد بقيد المرتبة يکون عين مرتبة الماهيّة ؟ فلابد للجواب أن يطابق السؤال و مراد السائل، ولهذا فالجواب :) المطابق لمراد السائل هنا : (ليست الماهيّة من حيث هي موجودة ولا لا موجودة والا لو أخرنا اداة السلب لم نحصل علي النتيجة المطلوبة ، وما يتم رفعه حينئذ بالسلب المقيد هو الوجود واللاوجود المطلق لا المقيد بمرتبة الماهية ، ويجب رفعه هو الثاني دون الأول، لأنه مراد السائل، وانما تم سلب الوجود المقيد والعدم المقيد وهما ليسا متناقضين (ليفيد أن شيئاً من الوجود والعدم غير مأخوذ في حد ذات الماهيّة).

ونظيرُ الوجود والعدم في خروجهما عن الماهيّة من حيث هي سائرُ المعاني المتقابلة التي في قوّة النقيضين، حتّي ما عدُّوه من لوازم الماهيّات، فليست الماهيّة من حيث هي لا واحدةً ولا کثيرةً ولا کليّةً ولا جزئيّةً ولا غير ذلک من المتقابلات ، وليست الأربّعة من حيث هي زوجاً ولا فرداً((1)

ص: 338


1- (و نظير الوجود والعدم في خروجهما ..... الخ) فإن الماهيّة - کما جاء في تعليقة صدر المتألهين ا - ليست من جهة نفسها أو باعتبار حدّها شيئاً آخر غير نفسها ومقومات نفسها ، من وحدة وکثرة أو وجود و عدم أو عموم أو خصوص أو شيء من طرفي المتناقضين، مع أنها متصفة بأحد الطرفين في الواقع، وسلب الاتصاف بشيء من حيثية لا ينافي الاتصاف من حيثية أخري، کما أن الإنسان ليس من حيث هو أبيض کا تباً ولا من حيث هو عالم متحرکاً مع انّه کاتب وعالم، ولمزيد من التفاصيل راجع تعليقة المرحوم صدر المتألهين علي فسائر المعاني المتقابلة کالوحدة والکثرة، والکلية والجزئية، والعموم و الخصوص وما أشبه ، حکمها حکم ما تقدم و يقال عنها ما قيل عن سلب الوجود والعدم عن مرتبة ذات الماهيّة، وهکذا لوازم الماهيّة ، فإن مرتبة لوازم الماهيّة من حيث انّها لوازم الماهيّة تختلف عن مرتبة ملزوماتها والملزوم - کالاربّعة من حيث هي أربّعة - له مرتبة وراء مرتبة لازمه کالزوجية، فالاربّعة بما انّها أربّعة - مثلاً - ليست إلّا أربّعة لا هي زوج ولا هي لا زوج، وان کانت زوجاً لاتصافها بذلک نقرأ في هذا الفصل : 1- إذا اعتبرت الماهيّة بشرط شيء، فإنها تؤخذ في هذا الاعتبار مع خصوصياتها المقارنة لها، وتصدق حينئذ علي الماهيّة مع مقارناتها، أي هي ومقارناتها مجتمعة ومع جميع خصائصها. 2- وإذا اعتبرت الماهية بشرط لا، فإنها تؤخذ وحدها، أما غير مقيسة بشيء أصلاً وهو المراد في مباحث الماهية ، واما مقيسة الي شيء بحيث کل ما فرض مقارناً کان خارجاً عن الذات زائداً عليها، فتصير الماهيّة موضوعاً للمقارن ولا تحمل عليه. 3- وإذا اعتبرت لا بشرط ، أخذت خلية من کل قيد أو شرط ولا قياس الي الغير. 4 - الماهية بالاعتبار الأول تسمي «مخلوطة»، وبالاعتبار الثاني «مجردة» وبالاعتبار الثالث (( مطلقة). 5- مقسم الاقسام الثلاث المتقدمة هو الکلي الطبيعي والماهية ويسمّي «لا بشرط : مقسمي». 6- الماهيّة موجودة في الخارج بوجود افرادها، وکثيرة في الخارج بکثرة أفرادها لکنها بوصف الکلية موجود واحد في ظرف الذهن.

ص: 339

الفصل الثاني في اعتبارات الماهيّة

للماهية بالنسبة إلي ما يقارنها من الخصوصيّات اعتبارات ثلاث، وهي:

أخذُها بشرط شيء، وأخذُها بشرط لا، وأخذُها لا بشرط والقسمة حاصرة .

أمّا الأوّل : فأن تؤخذ الماهيّة مقارنةً لما يلحق بها من الخصوصّيات ، فتصدق علي المجموع، کأخذ ماهيّة الإنسان بشرط کونها مع خصوصّيات زيد فتصدق

عليه.

وأمّا الثاني : فأن تؤخذ وحدها، وهذا علي وجهين : (أحدهما) أن يقصر

ص: 340

ص: 341

النظر في ذاتها مع قطع النظر عمّا عداها ، وهذا هو المراد من «بشرط لا» في مباحث الماهيّة . (والآخر) أن تؤخذ وحدها بحيث لو قارنها أيُّ مقارنٍ مفروضٍ کان زائداً عليها غيرَ داخل فيها، فتکون موضوعةً للمقارن المفروض غير محمولة عليد (1)

وأمّا الثالث : فأن لا يشترط معها شيء من المقارنة واللامقارنة، بل تؤخذ

مطلقة من غير تقييد بنفي أو إثبات.

وتسمّي الماهيّة بشرط شيء «مخلوطةً»، والبشرط لا «مجرّدةً»، واللابشرط

«مطلقةً».

والمقسَم للأقسام الثلاث الماهية ، وهي الکليّ الطبيعيّ، وتسمّي «اللابشرط

المقسمّي»، وهي موجودةُ في الخارج لوجود بعض أقسامها فيه کالمخلوطة (2)

ص: 342


1- ( واما الثاني : اعلم أن للماهية بشرط لا اصطلاحين هما، أولاً: ما يستعمل في مقابل المطلقة والمخلوطة ومعناه تجريد الماهية عما عداها مطلقاً، والثاني : ما يستعمل في مورد المادة مقابل الجنس و معناه أخذ الماهية تامة (بحيث لو قارنها) وانضم اليها (أي مقارن مفروض کان زائدأ عليها) أي علي الماهيّة (غير داخل فيها، فتکون الماهيّة (موضوعاً للمقارن المفروض) وتکون موضوعاً لذلک المقارن المفروض الزائد علي الماهيّة ، فالمقارن يحمل علي الماهيّة و تکون الماهيّة موضوعاً والمقارن محمولاً له، (غير محمولة عليه) وبما أن الماهية لوحظت بشرط لا فهي لا تحمل علي مقارناتها المفروضة.
2- (والمقسم للاقسام الثلاث) أي بشرط شيء وبشرط لا ولا بشرط و«المخلوطة» و «المجردة» و«المطلقة» مقسمها هو الماهية، (وهي) أي الماهيّة عبارة عن (الکلي الطبيعي) فالمقسم متحد مع القسم، ويتحقق المقسم في نفس ظرف تحقق القسم فالماهية الخالية من کل قيد حتّي قيد الاطلاق هي المقسم للاقسام الثلاث، وهذا المقسم هو الکلي الطبيعي، والکلي الطبيعي عبارة عن الماهية التي تعرض لها الکلية في الذهن - أو تقع معروضة للکلية في الذهن . و تتصف بالشخصية في الخارج (وتسمي) هذه الماهيّة أو هذا المقسم «اللابشرط المقسمي» وهي) أي الماهيّة اللابشرط المقسمي الکلي الطبيعي - (موجودة في الخارج الوجود بعض اقسامها فيه) أي في الخارج (کا) الماهيّة (المخلوطة) وذلک لاتحاد المقسم مع اقسامه ووجوده ضمن اقسامه فإن تحقق بعض مصاديقه واقسامه يستلزم تحقق المقسم في الخارج، کالاسم والفعل والحرف فإنها أقسام للکلمة إذا تحقق احدها تحقق المقسم وهو الکلمة لاتحاد المقسم مع اقسامه ووجوده ضمن أقسامه

والموجود من الکلّيّ في کلُّ فري غيرُ الموجود منه في فردٍ آخر بالعدد . ولو کان الموجود منه في الأفراد الخارجيّة واحداً بالعدد کان الواحد کثيراً بعينه، وهو محالُ ، وکان الواحد متّصفاً بصفاتٍ متقابلةٍ ، وهو محالُ. وهذا معني قولهم: «إنّ نسبة الماهيّة إلي أفرادها کنسبة الآباء الکثيرين إلي أولادهم، لاکنسبة الأب الواحد إلي أولاده الکثيرين». فالماهية کثيرة في الخارج بکثرة أفرادها ، نعم هي بوصف الکلّية والاشتراک واحدةُ في الذهن - کما سيأتي(1)

ص: 343


1- (والموجود من الکلي) في الخارج - والماهية الموجودة في الخارج - هل في الخارج واحد بالعدد کما ادعي الرجل الهمداني - الشهير الذي التقاء الشيخ الرئيس ابن سينا في مدينة همدان - ولم يُعرف اسمه، أو کثير بالعدد کما قال الشيخ الرئيس، فذهب المولف إلي الثاني واختار قول ابن سينا قائلاً: (في کل فرد غير الموجود منه) أي من الکلي (في فرد آخر بالعدد) فالماهيّة الموجودة في الخارج ضمن فرد من جهة العدد -، غير الماهيّة الموجودة في فرد آخر - وضمن فرد آخر -، والماهية متکثرة بعدد الأفراد الموجودة في الخارج، فلکل فرد من أفراد الإنسان ماهيّة انسانية في الخارج، وبعدد أفراد الشجر هناک ماهيات نباتية في الخارج. ولهذا فإن اتصاف الماهيّة بالوحدة هنا بلحاظ الوجود ويعبر عنها بالوحدة العددية والشخصية، لا بلحاظ المفهوم المعبر عنها بالوحدة النوعية ، اذ لا ينافي وحدة المفهوم تکرر المفهوم في ذهن واحد أو أذهان عديدة . ولو کان الموجود منه) أي من الکلي الطبيعي - الماهيّة - (في الافراد الخارجية واحداً بالعدد) کما زعم الرجل الهمداني (کان الواحد کثيراً بعينه) و معناه ان يفرض موجود واحد بالعدد في الأفراد المتکثرة وينتهي هذا الفرض الي عودة الواحد کثيراً، اذ لا يوجد فرد من أفراد الإنسان أو غيره من الماهيات - الکلية - خالية من الماهيّة الانسانية، وکثرة افراد الإنسان مثلاً، يقتضي تکثر الماهيّة المتحققة ضمن هذه الأفراد، وبما أن للافراد صفات متقابلة ، وافترضنا الماهية واحدة بالعدد، کانت الماهية ذات صفات متقابلة، واتصاف الماهيّة بصفات متقابلة بديهي البطلان وبعبارة أخري : لما کانت ماهية الإنسان عين أفرادها، بل متحقق ضمن کل فرد من أفراده - بناءاً علي ما تقدم من وحدة المقسم مع أقسامه ووجوده ضمن أفراده أو بعض افراده - کانت الماهية کثيرة - متکثرة ، وفي الوقت ذاته افترضنا الماهيّة الانسانية ذات وحدة شخصية، فهي متکثرة وواحدة في آن واحد، (وهو محال)، فلا يوجد الکلّي الطبيعي في الخارج بوجود واحد، بل له وجودات متعددة بعدد أفراد الکلي، والکلي الذي يتحقق ضمن فرد خاص غير الکلي الذي يتحقق ضمن أفراد أخري وهي مغايرة أفرادية، لا مغايرة نوعية، إذ لعلها تتحد في النوع لکنها تتغاير فيما بينها بماهياتها المتعددة المختلفة. (وهذا )بعينه (معني قولهم :) أي الحکماء بل ابن سينا علي وجه الخصوص («ان نسبة الماهية الي افرادها کنسبة الآباء الکثيرين إلي أولادهم) فالآباء من جهة المفهوم - أي مفهوم الابوة - ذو وحدة نوعية، واما الماهية بالنسبة الي أفرادها و مصاديقها الخارجية أي من جهة المصداق کنسبة الآباء الکثيرين مثل عشرة آباء بالنسبة الي أولادهم العشرة أي لکل أبن أب واحد ولکل أب ابن واحد، (لا کنسبة الاب الواحد الي أولاده الکثيرين»، علي حد زعم الرجل الهمداني (فالماهية کثيرة في الخارج بکثرة أفرادها ، نعم هي) أي الماهية من جهة المفهوم لا المصداق العيني أي (بوصف الکلية والاشتراک) بين أفراد کثيرين کما هو حال کل المفاهيم (واحدة) موجودة (في الذهن) بوجود واحد نوعي.

ص: 344

الفصل الثالث في الکلّيّ والجزئي

(1)

نقرأ في هذا الفصل :

1- الکلية من خواص الذهن، تعرض للماهية الموجودة في الذهن . 2- الجزئية والشخصية من خواص الوجود الخارجي للماهية ولوازمه.

3- الماهية الموجودة في الذهن، شخصية جزئية من حيث وجودها، والکلام في الماهية

الذهنية من حيث عدم ترتب الآثار الخارجية عليها ، فإنها من هذه الجهة کلية .

4- تتميز الماهيات اما بتمام الذات کنوعين من مقولتين، حيث أنهما يشترکان في أمر عرضي، وأما ببعض الذات، حيث يشترکان ببعض الذات أيضا ، وإذا کان الاشتراک بتمام الذات کان وجه الامتياز بعرض مفارق.

5- ان الامتياز غير التشخص ولا ينبغي الخلط بينهما، فإن الامتياز يحصل من ضم

ماهية الي ماهية اخري، والتشخص لا يحصل الا بالوجود.

- الامتياز غيري أي لا يحصل إلا بالقياس مع الغير، بينما التشخص نفسي.

7 - الأعراض المشخصة والمقولات التسعة بأجمعها أو خصوص ثلاثة منها - بناء علي

القول الآخر، عبارة عن امارات وعلامات التشخص ومن لوازمه لا سبب التشخص.

8- جزئية المعلوم المحسوس الذهني أيضا ليست من جهة کونه مفهومة، بل من جهة

الاتصال الحسي بالخارج

9- جزئية الصورة الخيالية باعتبار ارتباطها بالصورة المحسوسة.

ص: 345


1- الکلي والجزئي من المعقولات الثانية المنطقية وهما وصفان للمفهوم، اذ المفهوم يقبل الانصاف بالکلية تارة وبالجزئية تارة أخري، ولهذا فإن المفهوم بمعناه العام الشامل للادراکات الحسية والخيالية وصف بالکلية والجزئية، وهذا الاتصاف يکون باعتبار عروض الوصف للماهية في الذهن ، إتصافاً کلياً لانطباق الماهية حينئذ علي جميع أفرادها ومصاديقها الخارجية، ويکون اتصاف الماهية باعتبار التشخص وعدم قبول الانطباق علي کثيرين، اتصافاً جزئياً ، فتوصف الماهية المخلوطة، بالجزئية. ولهذا فقد جعل المنطقيون المفهوم مقسمة للکلي والجزئي.

لا ريب أنّ الماهيّة الکثيرة الأفراد تصدق علي کلُّ واحدٍ من أفرادها و تحمل عليه ، بمعني أن الماهيّة التي في الذهن کلّما ورد فيه فردُ من أفرادها وعَرَضَ عليها اتّحدَث معه وکانت هي هو، وهذه الخاصة هي المسمّاة بالکلّيّة ، وهي المراد باشتراک الأفراد في الماهيّة. فالعقل لا يمتنع من تجويز صدق الماهيّة علي کثيرين بالنظر إلي نفسها، سواء کانت ذات أفرادٍ کثيرين في الخارج أم لا(1)

فالکلّيّة خاصةُ ذهنيّةُ تعرض الماهيّة في الذهن ، إذ الوجود الخارجيّ العينيّ مساوقُ للشخصيّة ، مانعُ عن الإشتراک. فالکلّيّة من لوازم الوجود الذهنيّ للماهيّة کما أنّ الجزئيّة والشخصيّة من لوازم الوجود الخارجيّ.

فما قيل: «إنّ الکلّيّة والجزئيّة في نحو الإدراک بمعني أنّ الحسّ لقوّة إدراکه

ينال الشيءَ نيلاً کاملاً بحيث يمتاز عمّا سواه مطلقاً ويتشخّص ، والعقل لضَعف إدراکه يناله نتلاًهيَّناً يتردّد ما ناله بين أُمور ويقبل الإٍنطباق علي کثيرين، کالشبح المرئيّ من بعدٍ بحيث لا يتميّز کلَّ التميّز، فيتردّد بين أن يکون - مثلاً - هو زيد أو عمراً أو خشبةً منصوبةً أو غير ذلک، وليس إلا واحداً من المحتملات، وکالدرهم الممسوح المردّد بين الدراهم المختلفة وليس إلّا واحداً منها»(2)

ص: 346


1- (لا ريب أن الماهية .. الخ) حاصله أن الماهية التي قابلة في الذهن للانطباق علي کثيرين والحمل عليها جميعاً، تمتاز بخاصية هامة هي الکلية والاشتراک، سواء کانت له أفراد في الخارج أم لا، وهذا الحمل يکون حملاً ذاتياً أولياً بحيث ينطبق الکلي علي أفراده انطباقاً تاماً لدرجة الاتحاد الذاتي حتي تکون هي أي الماهيّة الکلية هو أي الفرد الخارجي مثلاً لو تصورنا زيداً - وهو فرد من أفراد الإنسان الکلي - و قسناه بماهية الإنسان، نجد أنهما متحدان تماما ، ويکون زيد هو الإنسان، کما يکون الإنسان زيداً أيضاً.
2- الکلام عن أحکام الماهية، ومن هذه الأحکام اتصاف الماهية بوصف الکلّية في الذهن، و بوصف الجزئية في الخارج، فهي کلي ذهني وجزئي خارجي، أو کلية ذهنية وجزئية خارجية، ثم أن الکلي والجزئي قد يعدّان قسمين للمفهوم، إذ نقول في المنطق : المفهوم أن امتنع فرض صدقه علي کثيرين فجزئي وإلا فکلّي ، فالمقسم جينئذ هو المفهوم والمفهوم ظرفه الذهن، وذلک أن المفهوم الذهني يقبل القسمة الي الکلّية والجزئية کما هو عند المنطقيين ، وليس هذا غرضاً أساسياً لدي الفيلسوف وانما يتناول البحث عن الکلي والجزئي عرضاً لا أصالةً، لکونهما وصفين للماهية، فالبحث عنهما في الفلسفة يتم بعرض مبحث الماهيّة لا بالأصالة، لأن الماهية تنقسم الي الکلّية والجزئيّة - کما تقدم -، فليس معني الجزئيّة هنا صدق معني و مفهوم وصورة ذهنية علي مصداق وشيء خارجي خاص، بل معني الجزئية هنا والمراد منها سلب الکلّية ، لا الصدق علي الشيء الخاص - أو علي شيء خاص - وبعبارة أخري فإن الجزئية هنا مرادفة للشخصية ، وذلک أن الماهية اما ان تکون شخص أو تکون کلا- فهي اما شخص وشخصياً أو کلاً وکلّية . قالوا في تعريف الکلي انّه ما يصدق أو ما يقبل الصدق علي کثيرين، أو ما يجوز عقلاً فرض صدقه علي کثيرين، أو ما لا يستحيل عقلاً فرض صدقه علي کثيرين، أو ما يقبل الانطباق علي کثيرين، ولا يراد به حنيئذ الانطباق الخارجي العيني، بل المراد من الانطباق والحمل والصدق هو الانطباق الذهني، فإنا حين نري شيئاً - کنيد. مثلاً، ندرکه بحواسنا الخارجية ، اي ندرک عنه صورة حسية ، فنحفظ صورته الخيالية في أذهاننا ومخيلاتنا، ثم اننا بواسطة تلک الصورة الحسية الخيالية أو بضميمة صور اخري نحصل علي مفهوم کلي هو الإنسان قابل للانطباق علي أفراد کثيرين، وبعد الحصول علي مفهوم الإنسان مثلا - کما في المثال ، نجد ان من خلال ادراک أي فرد من أفراد هذه الماهية نحصل علي نفس مفهوم الانسان، لما جرّدنا زيداً فصار انساناً - أي حصلنا من خلال تجريده بالتصور الذهني علي مفهوم الانسان، أليس کذلک ؟ - فلو جرّدنا عمرواً أو بکراً أو أي فردٍ آخر من أفراد الانسان سنحصل علي مفهوم الانسان، وهکذا جميع الأفراد والمصاديق التي يمکن أن تکون ذا ماهية ، بعد تجريدها والتقاط صورة عقلية منها، نجد أن هذه الصورة العقلية نفس تلک الصورة العقلية المستفادة من فرد آخر من أفراد تلک الماهية. ولو تعقلنا هذا المفهوم و تصورناه بوجهٍ آخر من الوجوه وطريقة أخري عدا طريقة التجريد وغير طريق تعقل الأفراد الکثيرين، کأن نتعقل ذلک المفهوم الکلّي بوجه ما، فان العقل عند لحاظه لذلک المفهوم، يحکم بعدم استحالة کونه ذا مصاديق کثيرة عينية خارجية ، - أي يحکم بجواز أن توجد له مصاديق خارجية عديدة ، سواء کان ذا مصداق واحد بالفعل في متن الخارج، أو کانت له مصاديق کثيرة وکثيرة جداً، أو لم تکن له مصاديق خارجية أصلاً، اذ من شأن هذا المفهوم أنه لو کان له مصداق بالفعل و تعقلنا ذلک المصداق الحصلنا علي هذا المفهوم الکلي بعينه، ثم إذا تعقلنا بقية المصاديق وادرکناها بصورها العقلية نجد أن هذه الصورة العقلية تکون عين تلک الصورة العقلية التي استفدناها من تعقل المصداق الأول، فالانسانية المستفادة من زيد مثلاً، نفس الانسانية المستفادة من عمرو وبکر وغيرهما من أفراد الانسان، وهذا ما قد تعريفا للکلي، والماهيِّة الکلية تکون بمعني انا لو فرضنا أي مصداق لها فإن هذه الماهية تکون قابلة للصدق والانطباق والحمل علي ذلک المصداق، والماهيّة لا تتصف بالکلّية الا في ظرف الذهن، فالماهيّة الذهنية قابلة للانطباق علي کثيرين، ثم أنا نريد أن نأخذ هذه الماهيّة في الخارج، بناءاً علي أصالة الماهية القائلة بأن الأصل في الخارج للماهيّة، أو بناءاً علي أصالة الوجود القائلة بأن الأصل في الخارج اللوجود وان الماهيّة اعتبارية محضة في الخارج ومتن الواقع، فإذا تعقلنا ماهيّة الانسان واعتبرناها في الخارج بأن قلنا مثلاً هناک حيثيه في زيد هي حيثية الانسانية موجوداً بعرض الوجود لا بنفسها، إذ الکلّي الطبيعي للانسان موجود بتبع وجود الفرد وضمن أفراده ومصاديقه، عند اعتبارنا لوجود الماهية في الخارج، فقدت هذه الماهية وصفها الکلي، وخرجت من کونها أمراً کلياً خرجت عن دائرة الکلية ، أو بناءاً علي أصالة الوجود، لما تحققت الماهية في الخارج، فقدت قابليتها للصدق علي الکثيرين، لأنها تتشخص حينئذ وتصير أمراً جزئياً، وتتعين بالعينية التي لا تقبل الصدق علي أحد أو علي شيء، فلا صدقية ولا انطباقية هناک ولا حملية حينئذ، تمتنع عليها کل تلک الأوصاف بعد نشخصها وتعينها، وهو الجزئي الذي يراد به في الفلسفة «ما لا يصدق علي کثيرين سلباً تحصيلياً»، لا ما يصدق علي شيء واحد فلا يصدق علي الشيء لانتفاء موضوع الصدق فيه، لا أنه يصدق علي الواحد. فالجزئية هنا تساوق الشخصية. ولهذا فإن العلامة ي عطف الشخصية علي الجزئية في قوله : ( کما أن الجزئية والشخصية من لوازم الوجود الخارجي) ليعرف ان المراد بالجزئية هنا ليس ما يصدق علي فرد واحد بل المراد منه التشخص الذي فصّلنا الحديث عنه وبينهما فرق واضح، فلفظ الشخصية هنا تفسير وتبيان للجزئية . يورد المصنف ا هنا تفسيراً فاسداً أورده البعض للکلية والجزئية الکلية و بيان حقيقتهما، حاصل هذا الکلام قوله : (فما قيل: «ان الکلية والجزئية ........الخ) فإنهم ادعوا أن الکلية والجزئية تتعلق وترتبط بکيفية الادراک ، بمعني أن الحس لادراکه القوي - لکونه مدرکاً قوياً - ينال الشيء الخارجي نيلاً کاملاً ويعکس جميع خصائصه الجزئية حتّي يتميز عن غيره تميزاً تاماً و يتشخص بوجود خاص، وهذا بخلاف العقل الذي لضعف ادرا که لا ينال الشيء الخارجي ولا يعکسه بجميع خصائصه وامتيازاته الجزئية ، بل يدرکه مبهماً بحيث تکون صورته الإدراکية مرددة بين عدة اشياء، وذلک الشيء المدرک قابل للانطباق علي کثيرين، فالإدراک العقلي حينئذ کالشبح الذي يترائي للانسان من بعيد ولا يمکن ادراک خصائصه وجزئياته بوضوح، بحيث يتشخص و يتميز عن غيره بالتمام والکمال ، فيتردد بين أکثر من شيء واحد ولعله يتردد بين اشياء کثيرة جداً ، فيحتمل أن يکون هذا أو ذاک أو شيء ثالث، فالصور العقلية الکلية عندهم عبارة عن صور جزئية مبهمة، والادراک الکلي أو الجزئي في الحقيقة راجع الي نوع الصور، فإن کانت حسية کانت جزئية وان کانت عقلية کانت کلية «فالکلية والجزئية في نحو الإدراک» و نتبع کيفية الادراک، فإن کانت تلک الصور مدرکة بالعقل کانت کلّيّة وان کانت مدرکة بالحواس کانت جزئية واما الأعيان الخارجية فلا توصف بالکلية والجزئية لعدم کونها قسماً ولخروجها من المقسم، اذ المقسم هو المفهوم والاعيان الخارجية حقائق وذوات ومصاديق وماهيات خارجية. وحاصل قولهم هذا أن الکلية والجزئية لا تتعلّق بکيفية ونحو وجود الماهيّة، بل تتعلق بنحو ادراک المدرک لها ، فالقوه العاقلة تدرک الأشياء بنحو کلّي لأنها ضعيفة علي الادراک غير قادرة علي تمييز الأشياء بخصائصها، علي عکس القوة الحسية والإدراکات الحسية فإنها القوتها تدرک کل شيء بخصائصه ومميزاته. (فما قيل أن الکلية والجزئية في نحو الادراک بمعني ان الحس القوة ادرا که..الخ) يشير المؤلف هنا إلي التفسير الذي ورد للکلية، وما ذکره هنا في الحقيقة عبارة عما ذهب اليه منکروا المفاهيم الکلية ، ومثل هذا المذهب مشاع عند فلاسفة الغربّ وهو أنهم انکروا وجود المفاهيم الکلية مطلقاً ، قالوا: أن المفهوم الکلي في الحقيقة لا وجود له وما هو الا الادراک المبهم للجزئيات، وذلک أنا ندرک الاشياء العينية الخارجية بنوعين من الادراک، فإما أن ندرکها بصورة واضحة بينه مشخصه فهو الادراک الجزئي، وإمّا أن ندرکها بصورة مبهمة اي غير واضحة الملامح والمشخصات ، لفقدانّها لمشخصاتها - أعني ندرکها خالية من مميزاتها و مشخصاتها الفردية - فهو ادراک کلي والمدرک يسمي کلياًّ حينئذٍ، وهو التفسير الذي اکد عليه الفيلسوف الغربّي هيوم، وعلي هذا فان الادراک الکلي او ادراکاً الکلي ليس ادراکا مستقلاً قائماً بذاته، لأننا حين نري وننظر الي شيء معين بطريقة مباشرة تمکّننا من تمييزه و تشخيصه بعينه لا تکون صورته قابلة للانطباق علي غير صاحبها ولا علي اکثر منه، وهو ادراک معين واضح بين، ثم اننا حين نعرض عن الشيء تبقي صورته في أذهاننا ومخيلاتنا وتبدأ تلک الصورة بالابهام شيئاً فشيئاً مع مرور الزمان حتي لا يبقي منها سوي نوع من الشبح لتلک الحقيقة الخارجية العينية ويبلغ الابهام درجة تجعل الصورة قابلة للانطباق علي ما يشابه صاحبها الحقيقي بنوع من الشبه ويقبل الانطباق عليه ، حتي يشک الانسان احياناً في تطبيقها علي صاحبها الأصلي، ويخطيء فيطبقها علي غيره ممن يشبههم، وسبب ذلک کله وقوع الإبهام في ادراکنا الذي يتبعه ويترتب عليه وقوع الابهام في المدرک، ويزداد الابهام في الادراک وبتبعه في المدرک حتي يري تلک الصورة قابلة للانطباق علي اشياء کثيرة جداً عدا صاحبها الحقيقي، وتکون حينئذ ادراکاً کلياً، والمدرک يسمي کلياً، وعليه فان ادراک الکلي هو ادراک للجزئي بعينه لکن بصورة مبهمة، أي ادراک مبهم للجزئي قد تحصل منه ادراک کلي وادراک للکلي، وليس ادراکا مستقلاً بوجود مستقل منحاز، والحاصل أن الفرق بين الکلي والجزئي في کيفية الادراک ونحوه ، فاذا کان الادراک متميزاً معيناًکان المدرک جزئياًوتحقق الجزئي وهو الأصل، واذا کان الادراک جزئياً وتحقق الجزئي وهو الأصل، واذا کان الادراک مبهماً خالياً من التعينات والتشخصات کان المدرک کلياً وتحقق الکلي بتبع ادراک الجزئي کذلک.

ص: 347

ص: 348

ص: 349

فاسد اٍذکان الامر کذلک لم يکن مصداق الماهية في الحقيقة الّاواحداً

من الافرادولکذبت القضايا الکلّيّه،الکلية،کقولنا:«کل ممکنٍ فله علّةُ

و«کلُّ أربعة زوجُ»و«کلُّ کثيرٍ فإنّه مؤلَّف من آحاد»، والضرورة تدفعه. فالحقّ أن الکلّيّة والجزئيّة لازمتان لوجودِ الماهيّات ؛ فالکلية لوجودها الذهنيّ و الجزئيّة لوجودها الخارجيّ(1)

ص: 350


1- وهو قول (فاسد) لورود اشکالين عليه : الأول : انّه لو کانت کذلک والکلية والجزئية تتبعان نحو الادراک - أدراکنا- لا الماهيّة ذاتها، لزم کون الماهية منحصرةً في فرد واحد ، وان لا يکون لها إلّا فرد واحد دائماً وأبداً ، وبالتالي فإن تصوراتنا العقلية هي التي تدرک اللاهية علي نحو الکلية، وقابلةً للانطباق علي کثيرين لا ان هناک ماهيّة کذلک في الواقع، وانت تعلم أن هذا باطل، اذ الماهيّة قد تکون ذات أفراد کثيرين حقيقةً أو قابلة للانطباق علي کثيرين کذلک، وليست القضايا الکلية کاذبة - کما هو المفروض من کلام القوم - ثانياً : مقتضي هذا القول انتفاء القضايا الکليّة من الأساس، ونفي وجودها اصلاً، اذ انحصرت افراد الماهية - بناءاً علي زعمهم - في فرد واحد، والمفروض في القضايا الکلية فرض صدقها علي کثيرين (کقولنا: «کل ممکن فله علة» و«کل أربّعة زوج» و «کل کثير فانّه مؤلف من آحاد» ) کل هذه وامثالها آلاف القضايا الکلية القابلة للصدق علي کثيرين تدل علي نفي هذا القول بل (والضرورة تدفعه) أي تدفع القول السابق، وتثبت أولاً وجود القضايا الکلّية، وتثبت ثانياً صدق تلک القضايا ومطابقتها للواقع ونفس الامر. (فالحق) أن القول السابق بديهي البطلان بالضرورة والوجدان بل الکلّية لازمة الوجود الذهني للماهيات، کما أن الجزئية لازمة للوجود الخارجي لها - لوجودها الخارجي - فافهم واغتنم.

وکذا ما قيل: «إنّ الماهيّة الموجودة في الذهن جزئيّةُ شخصيّةُ ، کالماهيّة الموجودة في الخارج، فإنّها موجودةُ في ذهنٍ خاصًّ قائمةُ بنفسٍ جزئيّة. فالماهيّة الإنسانيّة الموجودة في ذهن زيد. مثلاً - غيرُ الماهيّة الإنسانيّة الموجودةُ في ذهن عمرو، والموجودة منها في ذهن زيد اليوم غيرُ الموجودةُ في ذهنه بالأمس ، وهکذا(1)

فاسدُ، فإن الماهيّة المعقولة من الحيثيّة المذکورة - أعني کونَها قائمةً بنفسٍ جزئيّةٍ ناعتةً لها، وکذا کونَها کيفيّةً من الکيفيّات النفسانية وکمالاً لها- هي من الموجودات الخارجيّة الخارجة من بحثنا، وکلامنا في الماهية بوجودها الذهني الذي لا تترتب عليها فيه آثارها الخارجية ، وهي من هذه الجهة لا تأبي الصدقَ علي کثيرين (2)

ثمّ إنّ الأشياء المشترکة في معنيً کليًّ يتميّز بعضها من بعض بأحد أُمور ثلاثة، فإنّها إن اشترکَت في عَرَضيًّ خارج من الذات فقط تميّزَت بتمام الذات ، کالنوعين من مقولتَين من المقولات العرضية المشترکَين في العرضية ، وإن اشترکَت

ص: 351


1- (وکذا ما قيل :) وحاصله ان الماهيّة الموجودة في الذهن کالماهيّة الموجودة في الخارج جزئيّة، لأنها موجودة بوجود خاص في ذهن خاص وقائمة بنفس متشخصة، ولا شک أن الموضوع والمحل من لوازم التشخص، إذ ما کان له موضوع و محل يحل فيه کان جزئياً بالتأکيد، فلا يوجد شيء اسمه الکلي والوجود الکلي والماهيّة الکليّة ، بل الأشياء کلها جزئية ، وليست الکلية من لوازم الوجود الذهني للماهيّة ، فلا ماهيّة کلّيّة أصلاً.
2- هذا القول (فاسد) أيضاً لأن الماهيّة بلحاظ کونها موجوداً قائماً بالنفس وکمالاً للنفس، تکون جزئيّة متشخصة لا تقبل الانطباق علي کئيرين، لأنها حينئذ (من الموجودات الخارجية، الخارجة من) مدار (بحثنا و لکن (کلامنا في الماهيّة) ليس بوجودها الخارجي بل (بوجودها الذهني.... الخ) فإنها بهذا اللحاظ حقيقة کلية ذهنية (لا تأبي الصدق علي کثيرين)، فالکلية من لوازم الوجود الذهني للماهية ، وما عداه أوهام فاسدة

في ذاتِيًّ فإن کان في بعض الذات، ولا محالة هو الجنس، تميّزَت ببعض آخر وهو الفصل، کالانسان والفرس المشترکَين في الحيوانية المتميّزَين بالنُطق و الصهيل ؛ وإن کان في تمام الذات تميّزَت بعرضيًّ مفارقٍ، إذ لو کان لازماً لم يخل عنه فردُ، فلازم النوع لازمُ لجميع أفراده(1)

ص: 352


1- بماذا يحصل التشخص والجزئية للماهية ؟ هناک أقوال عديدة في هذا الخصوص، والمشهور عند الفلاسفة أن التشخص يکون بالعوارض المشخصة، قلنا قبل قليل أن التمايز قد يحصل بالعوارض المشخصة، التمايز مفهوم اضافي نسبي، للفصل بين شيئين، لا يتحقق بمجرد فرد واحد، بل لابد من وجود فردين نقيس کلاً منهما بالآخر لنميز کلاً منهما عن صاحبه، فقد يکونان کليين بينهما وجه تمايز أو اکثر من وجه، کما بين کلي الانسان وکلي الفرس، أما التشخص فهو أمر نفسي ذاتي لا نسبي اضافي، ولهذا لا يحتاج في تحققه الي فرد آخر أو أکثر، بل الشيء يمکن أن يتشخص بل يتشخص بالتحقيق في قرارة نفسه دون حاجة الي وجود غيره.| قيل التمايز يحصل بالمادة ، وقيل يحصل بالزمان ، وقيل يحصل بالمکان، وقيل يحصل بمجموع العوارض، کل هذا في الحقيقة مبني علي أصالة الماهية او لا اقل من أن فيها شائبة من أصالة الماهية ، ولهذا عجز أصحابها عن تقديم إجابة صحيحة تامة ، اذ العوارض المشخصة عبارة عن الماهية، ولازم ذلک أن الماهية لا تتشخص الا بواسطة ماهيات اخري ، فان ماهية الانسان - بناءاً علي هذه الأقوال – لا تتشخص إلّا بعوارض هي في الحقيقة ماهيات ايضاً فمثلاً الإنسان عندهم لا يتشخص إلا بالبياض والانسان ماهية کما أن البياض ماهية أيضاًفلزم لکي يتشخص الإنسان أن تضم إليه مجموعة من العوارض الماهوية ، إذ لا تتعين ولا تتشخص ماهية الإنسان إلا أن تضم إليه ماهية البياض وماهية الطول وماهية الزمان وماهية المکان وهلم جرا، وانت تعلم أن الماهية کلّية أيضاً، وکيف يمکن لکلّي آن بشخص کلّياً، والکلّي بل الماهيات الکلّية جميعاً بحاجة الي ما يشخصها ، وفاقد الشيء لا يکون معطياً، وضم آلاف الأصفار بجنب البعض لا يؤلف رقماً وضم الکلّي الي الکلّي کضم الحجر الي الإنسان، ولهذا فالقائلون بأصالة الماهية عجزوا عن تقديم اجابة صحيحة لسبب التشخص وعلة التشخص في الماهيات. حتي جاء الفارابي وقطع النزاع ونقل أنه أول من أتي بهذا الجواب القاطع، ألا وهو القول بأن التشخص بالوجود، والشيء - أي مطلق الماهية - ما لم يتشخص لم يوجد وما لم يوجد لا يتشخص، فالوجود متشخص بنفسه والماهية متشخصة بالوجود، وهو کما يبدو عند المحققين منشاً القول بأصالة الوجود ومنطلقه ومن هنا غرست نواة هذا القول وظهرت جذوره، فالماهية اعتبارية بناءاًعلي هذا. (ثم أن الاشياء المشترکة ...الخ) اعلم أن المشائين ذکروا ثلاثة وجوه للتمييز بين ماهيتين، الأول : أن يکون التمييز بتمام الذات، والثاني: أن يکون التمييز بينهما بجزء الذات، والثالث: أن يکون التمييز بالعوارض الخارجة عن الذات . اما الأول يکون بين ماهيتين مشترکتين في أمر عرضي من العوارض الخارجة عن الذات کالنوعين من مقولتين من المقولات العرضية المشترکين في العرضية، مثل مقولة کم مع مقولة کيف فانّهما نوعان من مقولتين مختلفتين لکنهما مشترکتان في العرضية لأنهما من عوارض الجوهر، فالتمايز بينها بتمام الذات عدم وجود أي قدر مشترک ذاتي بينهما، متمايزان عن بعضهما بتمام الذات لا يجمع بينهما سوي أنهما نوعان من مقولتين عرضيتين کالعدد من الکم المنفصل والوجل من الکيف النفساني، وأيضا الزمن من الکم المتصل واللون من الکيف المحسوس، نعم تشترک جميعا في المفهوم المنتزع من مقولة الکم ومقولة الکيف، وهو مفهوم العرضية المأخوذ من صقع ذات المقولات العرضية. والثاني يکون بين ماهيتين مشترکتين في بعض الذات وهو الجنس، - أي يشترکان في الجنس -، فالتمايز بينهما بالبعض الآخر وهو الفصل. والثالث يکون بين ماهيتين مشترکتين بتمام الذات، مثل زيد وعمرو، والفرس الاسود مع الأبيض مثلاً، فالتمايز بينهما يکون بالأعراض المفارقة کالطول والقصر والسواد والبياض والعلم والجهل والکبر والصغر وما شابهها، وليس التمايز هنا بعرضي لازم للماهية. اذ لو کان التمايز عرضاً (لازماً لم يخل عنه فرد) وکان العرضي اللازم ملازماًلجميع افراد الماهية، ولازم الشيء لا يکون ملاکاً لتمييز بعضه عن بعض، ولازم بنوع لازم لجميع افراده لا يفارقها ابداً، ولهذا فلا يکون مميزاً لأفراده بعضها عن بعض والا استلزم ان يرجع ما به الاشتراک إلي ما به الامتياز وهو هنا باطل .

وزاد بعضهم علي هذه الأقسام الثلاثة قسماً رابعاً، وهو: التميّزُ بالتمام والنقص والشدّة والضعف في نفس الطبيعة المشترکة، وهو التشکيک. والحقّ أنّ الماهيّة بما أنّها هي لا تقبل التشکيک ، وإنما التشکيک في الوجود.

هذا کلّه في الکلّيّة، وأنّها خاصة ذهنّية للماهيّة . وأمّا الجزئيّة وهي امتناعُ الشرکة في الشيء، وتسکّي: «الشخصيّة»، فالحقّ أنّها بالوجود کما ذهب إليه

ص: 353

الفارابّي رحمه الله وتبعه صدر المتألّهين رحمه الله . قال في الأسفار : «والحقّ أنّ تشخّص الشيء - بمعني کونه ممتنع الشرکة فيه بحسب نفس تصوره - إنّما يکون بأمرٍ زائدٍ علي الماهيّة مانعٍ بحسب ذاته من تصوّر الاشتراک فيه. فالمشخّص للشيء - بمعني ما به يصير ممتنع الّاشتراک فيه - لا يکون بالحقيقة إلا نفس وجود ذلک الشيء ، کما ذهب إليه المعلّم الثاني، فإن کلُّ وجودٍ متشخّصُ بنفسه ذات ، وإذا قطع النظر عن نحو الوجود الخاصّ للشيء فالعقل لا يأبي عن تجويز الإشتراک فيه وإن ضُمَّ إليه ألفُ مخصَّص، فإنّ الإمتياز في الواقع غير التشخّص، إذ الأوّل للشيء بالقياس إلي المشارکات في أمرٍ عامّ، والثاني باعتباره في نفسه حتّي أنّه لو لم يکن له مشارک لا يحتاج إلي مميّز زائدٍ مع أنّ له تشخّصاً في نفسه (1)

ص: 354


1- (هذا کله في الکليّة.. الخ) ما تقدم کله من أحکام الماهية الکلية (واما الحديث هنا الجزئية وهي عبارة عن (امتناع الشرکة في الشيء) فالجزئية الخارجية للماهيّة ليست للماهية نفسها بل هذه الجزئيّة لوجود الماهيّة، ولهذا يمتنع فيها الشرکة، أي الفرد الخارجي يلحظ بجميع خصوصياته الذاتية والعرضية ، الکلية والجزئيّة فلا يشترک بين اثنين بل هو واحد علي الحقيقة (و) هذه الجزئيّة (تسمي «الشخصيّة ») اذ الشيء ما لم يتشخص لم يوجد ، فالحق أنها) أي الماهيّة الجزئيّة ليست بالماهيّة بل (بالوجود) الخارجي، قيامها بالوجود وقوامها بالوجود، ولولاه لکانت الماهيّة کلّيّة أبداٌ، فلا تعين ولا تشخص ولا جزئيّة إلا بالوجود العيني الخارجي، فالشيء مالم يتشخص لم يوجد وما لم يوجد لا يکون - أو لم يکن - جزئيّة ، نعم قد تنسب الجزئياً إلي الماهيّة المتلبّسه بالوجود. قال في الاسفار: «والحق أن تشخّص الشيء - بمعني کونه ممتنع الشرکة فيه بحسب نفس تصوره ) أي تصور الشيء، فالتشخص بهذا المعني الذي لا يقبل الشرکة والتعدد (انما يکون بأمر زائد علي الماهيّة) وهذا الامر (مانع بحسب ذاته من تصور الاشتراک فيه) أي في الشيء، اذ الاشياء کلية قابلة للاشتراک أولا وبالذات، لکنها بحسب العوارض الخارجية تصير جزئية متشخصه. تبين الي هنا أن ذات الشيء يقتضي الشرکة ولا يقبل التشخص والتعين الا بالعوارض، فما هذا الأمر الخارجي الذي يشخص الشيء ويعينه؟ (فالمشخص للشيء - بمعني ما به يصير) الشيء (ممتنع الاشتراک فيه) وبه يختص ويتعين (لا يکون بالحقيقة الا نفس وجود ذلک الشيء، کما ذهب إليه المعلم الثاني) لقب ابو نصر الفارابي ، کما أن المعلم الأول لقب ارسطو الحکيم. قوله : (وان ضُمّ إليه الف مخص) ومعناه لو أننا جردنا الماهيّة عن الوجود ولاحظناها بوحدها فقلنا مثلاً الإنسان الأبيض، فإن قيد الابيض وان ضيق دائرة في الإنسان، الا انّه مازال مشترکاً بين الملايين من الناس، ولو اضفنا الي البياض قيداً آخر مثل الإنسان الأبيض العربّي، فاننا ضيقنا الدائرة أيضاً لکنه مازال مشترکاً بين الملايين، ولو أضفنا قيداً آخر بأن قلنا الإنسان الأبيض العربّي العالم، خرج الجاهل لکنه مازال مشترکة ولم يتعين ولو أضفنا قيد الفقه فقلنا انسان أبيض عربّي عالم فقيه ، واضفنا مئات وآلاف القيود الاخري فقلنا انسان ابيض عربّي عالم فقيه عراقي حلّي کبير طويل و... هلم جرا، بقي الإنسان کلّياً قابلاً للانطباق علي کثيرين، قد يتخصص المفهوم والماهية إلا أن الکلية محفوظة علي حالها، وهذا هو التميز لا التشخص ولهذا قالوا: التميز غير (التشخص، اذ الأول) أعني الامتياز يحصل للشيء بالقياس الي المشارکات في أمر عام) فالامتياز وصف يتصف به الشيء العام إذا قيس بما يشارکه في ذلک العموم، کما تقدم في مثال الإنسان الأبيض العربّي العالم الفقيه ...الخ، هذه القيود ميزت فرد من أفراد الإنسان عن فرد آخر مثل زيد عن عمرو، المشارکتهما في الانسانية وهي صفة عامة، وکلما قيس فرد من أفراد ماهيّة کلّية عامة إلي فرد آخر من نفس الماهية يشارکه في المعني العام تم التمييز بينهما بهذه القيود والأوصاف. والثاني وهو التشخص (باعتباره) أي الشيء (في نفسه) ليس المميز له عن غيره زائداً عليه خارجاً عن ذاته، بل متشخص متميز عن غيره بذاته ، إذ التشخص يحصل للماهية في نفسها لا بالقياس مع غيرها (حتّي إنه لو لم يکن له مشارک) في الحقيقة وفي متن الخارج (لا يحتاج) في تشخصّه وتعينه (الي مميز زائد) علي ذاته، فلو لم يوجد في عالم الوجود إلا فرد واحد وشيء واحد لو فرضنا ذلک - کما في الواجب تعالي قبل أن يخلق أو يوجد شيئاً قط - فإن هذا الشيء لا يتصف بالتميز حينئذ لعدم وجود ما يقاس إليه من جنسه أو نوعه ، ليتميز عنه بالقيود والخصائص، (مع أن له) أي لنفس هذا الشيء الذي لا يوجد معه شيء في عالم الوجود ( تشخصأ في نفسه) و يتصف بالتشخص.

ولا يبعد أن يکون التميّز يوجب للشيء استعداد التشخّص ، فإنّ النوع الماديّ المنتشر ما لم تکن المادّة متخصّصة الإستعداد لواحدٍ منه لا يفيض وجوده عن المبدأ الأعلي»، إنتهي(1)

ص: 355


1- (ولا يبعد أن يکون التميز والقيود والصفات التي تميز الشيء عن غيره بالقياس الي ما يشارکه في النوعية أو الجنسية ، (يوجب) أيضاً (للشيء استعداد التشخص ، فإن النوع المادي المنتشر) بين کثيرين والقابل للصدق عليهم جميعاً (ما لم تکن المادة متخصصة الاستعداد) أي ما لم يکن استعداد تحقق فرد خاص من ذلک النوع في تلک المادة (لواحد منه) من النوع المادي (لا يفيض وجوده) أي وجود ذلک الفرد الخاص (عن المبدأ الأول (الا علي») تبارک وتعالي فالنطفة ان لم تحمل استعداد فرد خاص من الإنسان - مثل زيد - لا تصير متشخصة متعينة، وانما هي وجوه وقيود الامتياز التي صارت وسيلة للفيض الالهي علي النطفة المستعدة لتکون زبداً مثلاً. (انتهي کلام المعلم الأول الفارابي، رفع مقامه.

ويتبيّن به:

أوّلاً : أنّ الأعراض المشخَّصة التي أسندوا التشخّص إليها. وهي عامّة الأعراض کما هو ظاهر کلام بعضهم، وخصوص الوضع متي وأين کما صرّح به بعض آخر، وخصوص الزمان کما قال به آخرون - وکذا ماقيل: «إنه المادة» أمارات للتشخّص ومن لوازمه (1)

وثانياً : أنّ قول بعضهم : «إنّ المشخَّص للشيء هو فاعله القريب المفيض لوجوده»، وکذا قول بعضهم: «إنّ المشخّص هو فاعل الکلّ وهو الواجب (تعالي) الفياض لکلّ وجود»، وکذا قول بعضهم: «إنّ تشخّص العرض بموضوعه» لا يخلو عن استقامةً. غير أنّه من الإسناد إلي السبب البعيد، والسبب القريب الذي يستند إليه التشخّص هو نفس وجود الشيء، إذ الوجود العينّي للشيء بما هو وجودُ عينيَّ يمتنع وقوعُ الشرکة فيه، فهو المتشخّص بذاته ، والماهيّة متشخّصة به، وللفاعل أو الموضوع دخلُ في التشخّص من جهة أنّهما من علَلِ الوجود، لکنّ أقربّ الأسباب

ص: 356


1- (أولاً :) زعم البعض ان عامة الأعراض وهي المقولات التسعة بأکملها، هي المشخصة للشيء والمعينة له، وزعم آخرون أن الشيء لا يتشخص إلا بثلاثة من هذه المقولات هي الوضع - أي نسبة الأجزاء بعضها ببعض، ونسبتها من حيث المجموع الي الخارج -، ومتي۔ أي نسبة الشيء الي الزمان -، وأين - أي نسبة الشيء الي المکان. وزعم البعض أن التشخص لا يتم إلا بالزمان ، وزعم بعضهم - کما قيل - ان الشخص بالمادة ليس إلا. ولکنهم اخطأوا جميعاً حيث خلطوا بين سبب التشخص الحقيقي والمشخص، وبين امارات وعلامات التشخص، فإن هذه الأمور علامات للتشخص والمشخص هو الوجود.

هو وجود نفس الشيء ، کما عرفت(1)

وثالثاً: أنّ جزئيّة المعلوم المحسوس ليست من قبل نفسه بما أنّه مفهومُ ذهنيُّ، بل من قِبَل الإتّصال الحسّي بالخارج وعلمِ الإنسان بأنّه نوعُ تأثُّر له من العين الخارجيُ، وکذا جزئيّة الصورة الخياليّة من قبل الاتّصال بالحسّ ، کما إذا أحضر صورةً خياليّةً مخزونةً عنده من جهة الحسّ أو رکّب ممّا عنده من الصور الحسّيّة المخزونة صورةً فردٍ خياليًّ، فافهم (2)

ص: 357


1- (ثانياً :) زعم قوم (ان المشخص للشيء هو فاعله القريب المفيض لوجوده) کالبناء الذي بنا المنزل بيديه والعامل الذي صنع السيف بيده، وزعم قوم (ان المشخص هو فاعل الکل) وهو الواجب تبارک وتعالي، وزعم قوم (ان تشخص العرض بموضوعه) هذه الأقوال والمزاعم کلها خالية من الصحة، إلا أن جميعها (لا يخلو من استقامة) ونوع صحة (غير أنّه) أي التشخص فيها جميعاً من الاسناد الي السبب البعيد... الخ). وللفاعل) أي العلة الفاعلية القريبة أو العلة الفاعلية الفياضة - أي فاعل الکل - (أو الموضوع) أي موضوع العرض (دخل في التشخص من جهة انّهما من علي الوجود...الخ).
2- تقدم أن الکلية خاصة ومن خواص الذهن التي تعرض للماهية، ونقول هنا (ان جزئية) صور (المعلوم الحسي (المحسوس، ليست من قبل نفسه) أي ليست من ناحية الصورة الحسية من جهة أنه مفهوم ذهني، إذ المفهوم الذهني من حيث هو هو کلي، (بل) جزئية المعلوم المحسوس الخارجي (من قبل الإتصال الحسي) بالحواس الخمس، ومن قبل (علم الإنسان بأنه) أي هذا الاتصال بالخارج الذي حصل من جهة اتصال الحواس الخمس بالحقائق الخارجية وعلم الإنسان من خلال هذا الاحتکاک والاتصال أنه (نوع تأثر له من العين خارجي) والوجود الخارجي، فاتصال اليد مثلا بشيء خاص کالحرير أو اتصال اللسان بالعسل أو اتصال العين بزيد في الخارج يدل علي حصول نوع تأثر للانسان من الموجود العيني الخارجي، (کذا جزئية الصورة الخيالية) لا تتحقق إلا (من قبل الاتصال) أي اتصال الصورة الخيالية (بالحس) کأن يحصل له اتصال حتي فيري شيئاً معيناً - مثلاً - ويحتفظ بصورته في مخيلته ثم يحضرها عنده - في ذهنه - متي شاء (أو رکب) وألف (مما عنده من الصور الخيالية المخزونة صورة) أي يؤلف منها (صورة فرد خيالي) خاص، وبواسطة التأليف والترکيب بين الصور الخيالية المخزونة عنده وفي ذاکرته وحافظته يحصل علي صورة جزئية معلومة، کأن يقوم بتخيل صورة مؤلفة من رأس الأسد وجسم الإنسان وجناح الطير وقرون الثور وهکذا، فإن هذه الصورة لکونها مؤلفة من صور تحية جزئية ، تکون حسية أيضاً وتکون جزئية بلحاظ ارتباطها بالخارج وکونها مؤلفة من صور حسية ، ولهذا فالعلم الخيالي متوقف علي العلم الحسي، والصور الخيالية مجردة لا مادة لها لکن لها عوارض المادة الحجم، والصور العلمية والخيالية البسيطة أو الصور الخيالية المرکبة انما تتصف بالجزئية لاتصالها بالخارج، فالأصل فيها الکلية والشياع وانما تصير جزئية بعد ارتباطها بالواقع والخارج.

ص: 358

الفصل الرابع في الذّائيّ والعرضيّ

(1)

نقرأ في هذا الفصل :

1- المفاهيم الذاتية هي التي بارتفاعها ترتفع الماهية - أي بعدمها تنعدم

2 - العرضي علي شطرين : اما محمول بالضميمة ، وهي لا تحمل علي الموضوع الا بضم

ضميمة اليها. وأما الخارج المحمول، وهي الغنية عن الانضمام والضميمة .

3 - الذاتي ضروري لذي الذاتي من باب ضرورة ثبوت الشيء نفسه . 4 - الذاتي لا سبب له سوي سبب الذات، فالذاتي لا يعلل. 5- الذاتي متقدم علي الذات وتقدمه بالتجوهر.

- کون الجنس والفصل جزئين للذات - بحسب کلامهم - حاصل باعتبار الجزئية في

حد الماهية وإلا فهما عين الماهية.

7- لا تقدم لأجزاء الذات علي الذات .

8- وان لوحظ تقدم فانّه من جهة ان الاجزاء من غير اعتبار الترکب متقدمة لکنها مع

اعتبار الترکب ولحاظه فلا معني لتقدمها، بل هي عين الذات.

ص: 359


1- بعد ما بحث الکلي والجزئي شرع هنا في بيان تقسيم للمفاهيم الکلية، ولهذا يقول في هذا الفصل إن المفاهيم المحمولة علي الأشياء قد تؤخذ في حد الشيء. وحدود تلک الأشياء التي حملت عليها - الذي حملت عليه، لتکون جزءا لماهية ذلک الشيء، وقد لا تؤخذ في حد الشيء - وحدود الأشياء -، فلا تکون جزءاً لماهية ذلک الشيء، فان کان الشيء - أعني المحمول - جزءاً لماهية شيء آخر - أعني متعلق المحمول والمحمول عليه ، أو کان نفس ماهية الشيء، کانت علامة جزئيته أو عينيته سلب تلک الماهية بسلب محموله وانعدامها بانعدامه، فإن مفهوم الانسان - مثلاً - ماهية يدل علي تمام الحقيقة المشترکة بين جميع بني آدم من زيد وعمرو وبکر وعلي واحمد وأشباههم، اذ المفاهيم المأخوذة في تعريف الانسان جزء لحقيقة الانسان وماهيته أو هي عين ذاته وحقيقته وماهيته، لأن الانسانية تزول و تنعدم عن أفراده بمجرد زوال وانعدام تلک المفاهيم أو بعضها، ولا تصدق عليها حينئذ ماهية الانسان - والماهية الانسانية - وتسمّي هذه المفاهيم مفاهيم ذاتية علي نحو ما ورد في الذاتي من باب ايساغوجي في المنطق، وأما المفاهيم التي لا تزول ماهية الشيء المحمول عليه - أي متعلق الحمل - بمجرد زوالها ولا تنعدم بمجرد انعدامها فانّها تسمي بالمفاهيم العرضية. تنقسم الذاتيات إلي الجنس والفصل - کما في علم المنطق -، وهکذا مفهوم النوع من الذاتيات، وکل ما عدا هذه الثلاثة من المفاهيم يُعدّ مفهوماً عرضياً ، والعرضيات علي قسمين: 1- العرض العام 2 - العرض الخاص، فالأول لا يختص بماهية واحدة خاصّة علي العکس من الثاني، لهذين القسمين من المفاهيم تقسيم آخر غير العرض الخاص والعرض العام، وهو أن ما يحمل علي الشيء من المفاهيم العرضية قد يدل علي انضمام شيء الي الماهية لولاه لما أمکن انتزاع هذا المفهوم من تلک الماهية، وحمله عليها، وقد لا يکون الأمر کذلک بل العقل بوحده ينتزع ذلک المفهوم من تلک الماهية - ومن ذلک الشيء الموضوع - من غير حاجة الي ضم ضميمة خارجية إليه، والقسم الأول من المفاهيم - أعني المنتزعة من الموضوع بضم ضميمة تسمّي المحمول بالضميمة ، کمفهوم الأسود المحمول علي الجسم وهو ليس ذاتياً له، وذلک أنا لو سلبنا هذا الوصف - السواد - من الجسم وزال عنه ، بقي الجسم علي حاله ولم تنعدم حقيقته ، لکن يبقي بعرض آخر کالبياض، ومفهوم السواد أو الأسود - لا ينتزع من الجسم إلا بعد اضافة عرض الي جوهر الجسم وضمه إليه ، بأن يکون - مثلاً - قد انضم السواد الي جوهر الجسم، فحينئذ يمکن انتزاع مفهوم الأسود منه ، وهذا المفهوم - اعني مفهوم الاسود - محمول علي الشيء وهو الجوهر، ونقول: الجسم أسود، لکنه کما قلنا لا يحمل علي الجسم إلا بضم مفهوم خاص الي جوهر الجسم بخلاف مفهوم الممکن الذي حين ننتزعة من ماهيّة ما، فإنه ليس جنساً للشيء ولا فصلاً له - مثلاً - ليس الممکن جنسا ولا فصلاً للإنسان، إلا أننا لصحة حمل مفهوم الممکن علي الإنسان ولامکان حمله عليه ، لا نفتقر الي ضم شيء الي الانسان، بل العقل هو الذي ينتزع هذا المفهوم - أعني مفهوم الممکن - من نفس ماهية الانسان ويحمله عليها، ويسمي هذا القسم الخارج المحمول، أعني المحمول الذي يحمل علي الشيء وهو خارج عن ماهية الشيء من غير حاجة الي ضم ضميمة الي تلک الماهية . والحاصل أن المشهور عند الفلاسفة أن العرض المحمول بالضميمة له وجود مغاير الوجود الجوهر مستقل منحاز عنه، يجب ضمه إليه حتي يمکن انتزاع مفهوم عرضي منه - أعني من الجوهر -، وجاء المرحوم صدر المتألهين ليبطل هذه النظرية والفرضية والمقولة وأثبت کون العرض من مراتب وجود الجوهر وان بينهما نوع اتحاد، فلا حاجة الي ضم ضميمة الي الجوهر ليصح ويمکن انتزاع مفهوم عرضي منه، بل يتم الانتزاع بلحاظ مرتبة من مراتب وجود الجوهر ليس إلّا، وعليه فلا داعي لوجود مصطلح تحت عنوان المحمول بالضميمة، من باب السلب الموضوعي وانّه سالبة بانتفاء الموضوع. قوله : (وعلة مادية بالنسبة الي المجموع منه ومن المقارن) يعني أن التراب - مثلاً - جزء من الانسان وعلته المادية، والمادة جزء من الکل، فهي علة مادية بالنسبة إلي الکل، اما بالنسبة الي الجزء الآخر - أعني الصورة - ليست المادة علة للصورة، بل هي مادة للصورة فقط ، فإذا قسنا المادة الي الصورة نقول المادة ، واذا قسناها إلي المجموع المرکب من المادة والصورة نقول ، العلة المادية، کما اننا إذا قسنا الصورة الي المادة قلنا الصورة، واذا قسناها الي المجموع المرکب من المادة والصُّورية نقول العلة الطورية. اعلم أن الذاتي علي قسمين أحدهما الذاتي في کتاب البرهان، والثاني هو الذاتي في کتاب ايساغوجي الذي خصّص المؤلف هذا الفصل للبحث عنه، أما الأول فهو أعم من الثاني الا انّه لا علاقة له بما نحن بصدد البحث عنه وليس هو محل بحثنا ههنا، وليس الذاتي وصفاً للجواهر والعرضي وصفاً للأعراض، بل للأعراض انواع و اجناس وفصول أي لها ذاتيات وعرضيات

ص: 360

المفاهيم المعتبرة في الماهيّات - وهي التي تؤخذ في حدودِها وترتفع الماهيّات بارتفاعها - تُسمّي: «ذاتيّات». وما سوي ذلک ممّا يحمل عليها - وهي خارجةُ من الحدود کالکاتب من الإنسان والماشي من الحيوان - تُسمّي «عَرضيّات»(1)

والعَرضيّ قسمان ، فإنه إن توقّف انتزاعُهُ وحملُهُ علي انضمام ، کتوقُّفِ انتزاعِ الحارُ وحملِهِ علي الجسم علي انضمام الحرارة إليه، سُمُّيَ: «محمولاً بالضميمة» ؛ وإن لم يتوقّف علي انضمام شيءٍ إلي الموضوع، سُمَّيَ: «الخارجَ المحمول» کالعالي والسافل(2)

ص: 361


1- المفاهيم الذاتية مثل الحيوان والناطق وهما جنس وفصل بالنسبة للانسان أو الحيوان والصاهل للفرس أو الحساس والمتحرک بالارادة بالنسبة للحيوان، والجسم والنامي بالنسبة للنبات ، والجسم والسائل بالنسبة الي الماء - أو السائل والشفاف - وهکذا.
2- (والعرضي قسمان) الأول المحمول بالضميمة والثاني الخارج المحمول، فالأول يطلق علي تلک المفاهيم العرضية التي ليس لمباديها ما بازاء خارجي وليس لها وجود مستقل في الخارج، لأنها تنتزع من الأشياء بواسطة التحليل الذهني وقياس بعضها إلي بعض، ثم تحمل علي منشأ انتزاعها، والثاني يطلق علي تلک المفاهيم العرضية التي لمباديها ما بازاء خارجي مستقل - خلافاً للقسم الأول - وتعرض الموضوعاتها في الخارج. (فإنه) أي العرضي (أن توقف انتزاعه من الموضوع (وحمله علي الموضوع، (علي انضمام) أي توقف ذلک علي انضمام ضميمة ، والمراد هنا المفاهيم العرضية (کتوقف انتزاع) مفهوم (الحار) من الجسم و توقف (حمله علي الجسم، أي وتوقف حمل مفهوم الحار (علي الجسم، علي انضمام الحرارة إليه) أي الي الموضوع - الجسم - هذا القسم (سمّي محمولاً بالضميمة) أي بضميمة شيء الي موضوعه، فالجسم الذي لم تنضم إليه الحرارة ولم تعرض له الحرارة، لا يمکن انتزاع مفهوم الحار منه، (وان لم يتوقف) انتزاع المفهوم العرضي من الموضوع وحمله علي الموضوع (علي إنضمام شيء الي الموضوع سمّي الخارج المحمول کالعالي أي کانتزاع مفهوم العالي - وهو مفهوم عرضي - من السقف الذي لا يحتاج الي ضم ضميمة الي السقف ولا يتوقف علي ضم ضميمة إليه (والسافل) أي کانتزاع مفهوم السافل - وهو مفهوم عرضي - من الأرض، بغير ان يتوقف علي ضم ضميمة الي الارض. (هذا هو المشهور)عند الحکماء والفلاسفة في القسم الأول أعني المحمول بالضميمة وهو مبني علي اعتقادهم بأن الاعراض وجوداً مستقلاً عن وجود الجواهر، وان وجود العرض منضم الي وجود الجوهر لا من مراتبه، (وقد تقدم أن العرض من مراتب الجوهر) وليس مستقلاً عنه، وبناءاً علي هذا لا يکون وجود العرض خارجاً عن وجود الجوهر ولا مستقلاً عنه، حتّي ينضم المفهوم العرضي إلي الموضوع - والجوهر - ويصير المفهوم العرضي المأخوذ منه محمولاً بالضميمة، وعليه فلا يصح استعمال اصطلاح المحمول بالضميمة هنا، وينتفي هذا القسم

هذا هو المشهور، وقد تقدّم أنّ العرض من مراتب وجود الجوهر.

ويتميّز الذاتيّ من غير الذاتيّ بخواصّه التي هي لوازمُ ذاتيَّتِهِ ، وهي کونُه ضروريَّ الثبوت لذي الذاتيّ لضروريّة ثبوت الشيء لنفسه، وکونُهُ غنيّاً عن السبب ، فالسبب الموجِد لِذي الذاتيّ هو السبب الموجِد للذاتيّ لمکان العينيّة ، وکونُهُ متقدّماً علي ذي الذاتيّ تقدّماً بالتجوهر، کما سيجيء إن شاء الله»(1)

ص: 362


1- (ويتميز الذاتي في غير الذاتي بخواصه) الثلاث (التي هي علامات الذاتية ولکونه ذاتياً ، لأنها من (لوازم ذاتيته وهي) أي هذه الخواص الثلاث أولاً : (کونه) أي کون الذاتي (ضروري الثبوت لذي الذاتي) فالذاتية ثابتة لذي الذاتي بالبداهة فالحيوانية والناطقية . علي سبيل المثال - من لوازم إنسانية الإنسان و ثابتة للإنسان بالبداهة، و ذلک الضرورة ثبوت الشيء لنفسه) فالحيوانية والناطقية هما الإنسان في الحقيقة بعد التحليل الذهني، والشيء ثابت بنفسه بالضرورة، الثاني : (کونه) أي ثبوت الذاتي لذي الذاتي في الخارج و نفس الامر (غنياً عن السبب، فالسبب الموجد لذي الذاتي) وما يوجد الشيء (هو) نفس (السبب الموجد للذاتي) مع ذي الذاتي المکان العينية) التي بين ذي الذاتي وذاتياته، وکون أحدهما عين الآخر، فنفس علّة وجود الشيء، يخلق معه جميع لوازمه الذاتية بنفس السبب وبنفس الايجاد، للعينية التي بين الذاتي وذاتياته و عدم امکان الفصل بينهما، وإلا لم تکن ذاتيات له وهو خلاف الفرض، فالإنسان والحيوانية والناطقية تتم جميعاً بجعل واحد وتوجد بايجاد واحد. ثالثاً : (وکونه) أي الذاتي (متقدماً علي ذي الذاتي تقدماً بالتجوهر) والتقدم بالتجوهر عبارة عن تقدم أجزاء الماهيّة بالتحليل الذهني والتصور العقلي علي الماهية نفسها، مثل تقدم الجوهر، الجسم، النامي، الحساس، المتحرک بالارادة ، الناطق وهي أجزاء الإنسان علي الإنسان نفسه. وهو تقدم في مرتبة الذهن (کما سيجيء) في الفقرة القادمة من کون الکل في الخارج عين الجزء، وکون الجزء کذلک عين الکل وليس هناک نقدم لأحدهما علي الآخر، بل يوجدان بايجاد واحد ولا يوجد الکل إلا في ضمن أجزاءه ولا يتحقق إلا بتحقق جميع أجزاءه الخارجية ، والحاصل أن ثبوت المفاهيم الذاتية للموضوع - والماهية - لا يحتاج الي دليل، لأن ثبوت ذاتيات الشيء للشيء في حکم ثبوت الشيء لنفسه

وقد ظهر ممّا تقدّم أن الحمل بين الذات وبين أجزائه الذاتيّة حمل أوّليُّ .

وبه يندفع الإشکال في تقدم أجزاء الماهيّة عليها بأنّ مجموع الأجزاء عين

الکل ، فتقدم المجموع علي الکل تقدُّمُ الشيء علي نفسِهِ ، وهو محال.

وذلک أنّ الذاتيّ، سواءُ کان أعمّ وهو الجنس أو أخصّ وهو الفصل، عينُ

الذات ، والحملُ بينهما أوّليُّ، وإنّما سُمَّي: «جزء اً» لوقوعه جزءاً من الحدّ.

علي أنّ إشکالَ تقدّم الأجزاء علي الکلّ مدفوعُ بأنّ التقدّم للأجزاء بالأسر

علي الکلّ، وبين الاعتبارين تغايرُ(1)

ص: 363


1- (وقد ظهر مما نتقدم) ان الاشکال المحتمل علي قولنا الأخير: «کونه متقدماً علي ذي الذاتي تقدماً بالتجوهر» بأن يقال الأجزاء نفس الکل والکل نفس اجزاءه وتوجد جميعاً بوجود واحد لا يتصور بين الکل واجزاءه تقدم أصلاً، فکيف التوفيق بين الأمرين - أي بين ادعاءکم وبين الواقع ؟ هذا الاشکال مردود والجواب : (ان الحمل بين الذات وبين أجزاءه الذاتية حمل أولي) والذاتي واجزاءه الذاتية شيء واحد، فالذاتي عين الذات (وبه) أي بهذا الکلام والجواب ( يندفع الاشکال المحتمل، (في تقدم أجزاء الماهية) کالحيوانية والناطقية عليها) أي علي الماهية نفسها - أي الإنسان هنا- حيث ورد في التقدم بالتجوهر، أما الاشکال فهو: (بأن مجموع الاجزاء) مثل الحيوان والناطق - في المثال السابق - (عين الکل) ولهذا (فتقدم المجموع) أي الحيوان والناطق - في المثال - علي الکل) وهو الإنسان (تقدم الشيء علي نفسه، وهو محال) إذ الشيء لا يتقدم علي نفسه قط. والجواب يتلخص في التالي أولاً: (وذلک أن الذاتي...الخ) وان تسمية الذاتيات بأجزاء الذات لم يکن إلا باعتبار کون الذاتيات أجزاء الحد والتعريف، فقولنا الذاتي جزء الماهية معناه انّه جزء حد الماهية وتعريفه التام، أي جزء مفهومي بالتحليل العقلي والاعتبار الذهني. و ثانياً : (علي ان أشکال تقدم الاجزاء علي الکل مدفوع، أيضاً، (بأن التقدم للأجزاء بالأسر علي الکل) فلا مانع أن يقال اجزاء الشيء تتقدم علي الکل إذ الاجزاء بما هي لا بلحاظ اجتماعها ومع قطع النظر عن حيثية اجتماعها متقدمة علي الکل، والکل عبارة عن مجموع الأشياء بشرط الاجتماع، فهذان اعتباران (وبين الاعتبارين تغاير) أن المقدم حينئذ غير المؤخر. والحاصل أن التقدم حاصل للأجزاء من غير وصف المجموع، علي الماهيّة مع وصف المجموع، والاجزاء متقدمة - غير مجتمعة. علي الماهيّة - بقيد الاجتماع، وبين الأجزاء مع حيثية الاجتماع، والأجزاء من دون حيثية الاجتماع، فرق واضح، وهذا الفرق يمنع تحقق «تقدم الشيء علي نفسه » إذ المتقدم مع وصف المجموع متقدم والمتأخر من غير وصف الاجتماع متأخر. فلا يحصل تناقض بين الأمرين.

ص: 364

الفصل الخامس في الجنس والفصل والنوع وبعض ما يلحق بذلک

نقرأ في هذا الفصل :

االماهية التامة التي لها آثار حقيقية خاصة تستي «نوعاً».

2- للنوع جزءان، الجزء الذي له انواع تشترک في الجنسية وتختلف في النوعية يُسمي

«جنساً»، والجزء المختص بالنوع الواحد يسمي «فصلاً». .

- اذا لوحظ الجنس بشرط لا من کل مقارن بحيث لا يحمل عليها مفردة ولا مجتمعة ، کان هذا المفهوم «مادة» بالنسبة لمقارناته وکان علة مادية بالنسبة لها بالمجموع - مجتمعة -.

4- لو أخذنا مفهوم الجنس - کالحيوان - ملحوظاً بنحو مشاع کانت الماهية ناقصة غير

محصلة.

5- الماهية غير المحصلة تحتاج الي ما يحصلها وهو الفصل. والفصل بهذا الاعتبار

يکون جنسأ للنوع ويسمي المحصل «فصلاً؟» .

6- يتقوم الجنس بالفصل طبعاً بالتحليل العقلي لا الحقيقي الخارجي، وإلا فهما متحدان

وجودة في ظرف الخارج.

7- الجزء الجنسي لا يکون علة لوجود الجزء الفصلي لاستلزامه کون الواحد کثيراً.

8- تخصص الجنس من شؤونه الوجودية ، وهذا الوجود حاصل من ناحية علته وهو

الفصل، فالفصل هو الموجب للتخصص والتخصص، لا أنها تحققت بدونه.

9- ولا مانع من أن تکون فصول متعددة علة لماهية واحدة جنسية، لضعف وحدة هذه

الماهية.

10- تحصل الفصل بالجنس عبارة عن التحصل العقلي وبالاعتبار الذهني. 11 - الجنس هو النوع مبهماً والفصل هو النوع محص2 والنوع ماهية تامة . 12 - الجنس والفصل بينهما نسبة العرض العام والعرض الخاص، ويحملان علي النوع.

13 - يستحيل تحقق اجناس متعددة في ماهية نوعية واحدة في مرتبة واحدة، ولا بأس

بتحققها طولاً، کما يستحيل وجود فصول متعددة لماهية نوعية واحدة في مرتبة واحدة.

14 - الجنس والمادة واحدة متحدة ذاتاً و مختلفتان بالاعتبار. فالمادة اذا لوحظت لا

بشرط کانت جنسأ، والجنس إذا لوحظ بشرط لا کان مادة .

15. الصورة والفصل متحدة ذاتاً ، مختلفتان بالاعتبار، اذا لوحظ الفصل بشرط لا کان

صورة واذا لوحظت الصورة لا بشرط کانت فصلاً.

16. العقل هو الذي يعتبر ويلحظ بعض وجوه الاشتراک والاختلاف بين الأعراض البسيطة، يعتبر المشترکات اجناسة والمختصات فصولاً ويأخذها بشرط لا ويعتبرها مادة

وصوراًعقليه - أو مواد وصورة عقليه

ص: 365

الماهيّة التامّة التي لها آثار خاصة حقيقية تسمّي من حيث هي کذلک «نوعاً» کالإنسان والفرس والغنم. وقد بُيَّنَ في المنطق أنّ من المعاني الذاتيّة للأنواع الواقعة في حدودها ما يشترک فيه أکثر من نوعٍ واحدٍکالحيوان الذي يشترک فيه الإنسان والفرس وغيرهما، کما أن منها ما يختص بنوع واحډ کالناطق المختصّ بالإنسان، ويسمّي الجزءُ المشترک فيه «جنس» والجزء المختصّ «فصلاً». .

وينقسم الجنس والفصل إلي قريب وبعي ؛ وأيضاً ينقسم الجنس والنوع إلي

عالٍ ومتوسطٍ وسافلٍ ، کلّ ذلک مبيَّن في محلّه(1)

ص: 366


1- هذا الفصل يختص بمحث الکليات الخمس من علم المنطق وتطلب تفاصيله في کتب المنطق کالحاشية والمنطق المظفر ومنطق منظومة السبزواري والشفاء وما أشبه ، وانما طرحه الفلاسفة في کتبهم لشدة الحاجة اليه. ثم انّه بدأ الفصل بتعريف الجنس والنوع والفصل وبعض أحکامها، ثم قسم الجنس والفصل الي قريب وبعيد، ثم قسم الجنس والنوع الي عال ومتوسط وسافل، ثم ذکر الفرق بين الجنس والمادة ، وأيضاً ذکر الفرق بين الفصل والصورة . ثم ذکر قيام الجنس وتقوّمه بالفصل. اذا اشترکت انواع مختلفة في جنس واحد، بحيث يطلق عليها جميع جنس واحد، کان الجنس بالنسبة إليها قريباً کالانسان والفرس والبقر والحمار فإنها جميعاً تشترک في الحيوانية، والحيوان جنسها القريب، ولو کان الأمر عکس ذلک أعني لم تشترک جميعا في جنس واحد، فهو جنس بعيد بالنسبة إليها، کالإنسان الذي جنسه القريب حيوان واما جنسه البعيد کالجسم فيطلق علي أنواع اخري ليست من الحيوان وهي تشارک الإنسان في الحيوانية فإن الحجر والشجر أيضاً تشارک الإنسان في الجسمية ولکن تفارقانّه في الحيوانية، فالجسم جنس بعيد للإنسان والفرس والبقر وما أشبه من الحيوانات. کما أن الفصل القريب هو الفصل الذي يميز کل نوع عن نظيره الذي يشارکه في الجنس القريب کالناطق بالنسبة الي الإنسان والصاهل للفرس والخائر للبقر والحافر للحمار وما أشبه فإنها فصول قريبة تميز کل نوع عن مشابهه وشريکه، وأما الفصل البعيد فإنه الذي يميز النوع عن نظيره الذي يشارکه في الجنس البعيد کالحساس بالنسبة إلي الإنسان والنامي بالنسبة الي الفرس وهکذا. اما الجنس العالي - أو جنس الاجناس - الذي تنتهي اليه جميع الأجناس فيکون تحته اجناس مختلفة وليس فوقه جنس قط کالجوهر، والجنس المتوسط فهو الذي تحته جنس أو اجناس وفوقه أيضاً جنس أو اجناس کالجسم والنامي، والجنس السافل الذي فوقه اجناس وليس تحته جنس أصلاً بل کل ما تحته عبارة عن نوع أو انواع والنوع العالي هو الذي ليس فوقه نوع بل هو أعلي الأنواع، والمتوسط هو الذي فوقه نوع أو أنواع وتحته نوع أو أنواع، والنوع السافل - او نوع الانواع الذي ليس تحته نوع أصلا، بل هو منتهي الأنواع. والحاصل أن لکل ماهية آثار خاصة وعلامات تدل عليها کالبرودة للثلج والحرارة للنار، والاضاءة للنور وما أشبه ، أنها آثار ثابتة ملازمة لها لا تکاد تفارقها، والماهية بلحاظ ما لها من آثار خاصة بها أو أثر خاص بها تسمي نوعاً وتصنف ضمن نوعاً خاصاً، وبعبارة أدق، الماهية بحسب ما لها من أثر تشکل نوعا خاصا بها. والجنس عبارة عن مجموعة معاني ومفاهيم ذاتية تقع في عدة أنواع الحيوان الذي يشترک فيه انواع عديدة کالانسان والفرس والحمار وما أشبه، وما لا يوجد إلا في نوع واحد کالناطق - والنطق - يسمّي فصلاً، وعلي کل حال فإن الناطق والحساس فصلان - قريب و بعيد - بالنسبة الي الانسان، کما أن الجوهر والجسم النامي والحيوان اجناس - عالية ومتوسطة وسافلة - بالنسبة إلي الانسان وغيره من أنواع الحيوان.

ثمّ إنّا إذا أخذنا معني الحيوان الموجود في أکثر من نوع واحد مثلآً ، وعقلناه بأنّه الجوهر الجسم الناميّ الحسّاس المتحرک بالإرادة ، جاز أن نعقله وحده بحيث يکون کلُّ ما يقارنه من المعاني کالناطق ، زائداً عليه خارجاً من ذاته، ويکون ما عَقَلناه من المعني مغايراًللمجموع منه ومن المقارن ، غيرَ محمولٍ عليه ، کما أنّه غيرُ محمولٍ علي المقارن. فالمفهوم المعقول من الحيوان غيرُ مفهوم الحيوان الناطق وغيرُ مفهوم الناطق ؛ کان المعني المعقول علي هذا الوجه مادّةً بالنسبة إلي المعني الزائد المقارن ، وعلّه مادّيةً بالنسبة إلي المجموع منه ومن المقارن. وجاز أن نعقله مقيساً إلي عدّة من الأنواع التي تشترک فيه ، کأن نعقل معني الحيوان المذکور آنفاً -

ص: 367

مثلاً - بأنّه الحيوان الذي هو إمّا إنسان وإمّا فرس وإمّا غنم وإمّا غير ذلک من أنواع الحيوان، فيکون المعني المعقول علي هذا النحو ماهيّةً ناقصةً غيرَ محصّلةٍ حتّي ينضمّ إليها الفصلُ المختصُّ بأحد تلک الأنواع فيحصّلها ماهيّةً تامّةً فتکون ذلک النوع بعينه ، کأن ينضمّ فصل الإنسان مثلاً - وهو الناطق - إلي الحيوان، فسيکون الحيوان هو الناطق بعينه ، وهو نوع الإنسان ؛ ويسمّي الذاتيّ المشترک فيه المأخوذ بهذا الإعتبار «جنساً» والذي يحصّله «فصلاً (1)

ص: 368


1- لما ثبت أن في النوع مفهوماً مشترکاً يسمّي الجنس، فإنّ هذا الجنس اذا لوحظ بشرط لا أي لحاظه وحده خالياً من کل مقارن -کالحيوان -، غير قابل للحمل علي المقارن وحده ، کالناطق، ولا الحمل علي المجموع من الحيوان - مثلاً - ومقارنه - أي الناطق -، والمجموع من الحيوان والناطق هو الإنسان، فلحاظ الحيوان بشرط لا أي الحيوان الذي لا يقبل الحمل علي الناطق وحده، ولا الحيوان وحده ، ولا المجموع منهما أي الانسان، اذ بشرط لا معناه بشرط لا عن کل شيء عن نفسه وعن مقارناته وعن مجموعهما مطلقاً. وهذا مقابل الماهية لا بشرط ، فإذا لاحظنا و اخذنا معني الحيوان الموجود في اکثر من نوع واحد مثلاً، وعقلناه) أي معني الحيوان (بأنه) اي الحيوان هو (الجوهر الجسم النامي الحساس المتحرک بالارادة) أي اذا لاحظنا الحيوان بشرط لا (جاز أن نعقله) أي الحيوان علي نحوين أحدهما : أن نعقله وحده بحيث يکون کل ما يقارنه) من المعاني والمفاهيم (کالناطق ، زائداً) زائداًمفعول به و متعلق بقوله «تعقله» ومعناه : جاز أن نعقله زائدة (عليه خارجاً من ذاته) أي زائداً علي الحيوان خارجاًمن ذات الحيوان بأن نتصور الحيوان ماهية تامة کاملة - أي ماهية معينه غير مبهمة - ولا مرددة بين أنواع واشياء - (و يکون ما عقلناه) حينئذ (من المعني) أيا کان - کالناطق هنا - يکون (مغايراً للمجموع منه) أي من الحيوان نفسه (ومن المقارن) الذي هو الإنسان في المثال ، وايضاً (غير محمول) الحيوان (عليه) أي علي هذا المجموع، فلا يحمل الحيوان علي الانسان إذا لوحظ الحيوان بشرط لا، بل لا يحمل علي الحيوان وحده ولا علي الناطق وحده أيضأ کما تقدم : (کما انّه غير محمول) أي الحيوان بشرط لا (علي المقارن) وحده وهو الناطق هنا، (فالمفهوم المعقول من الحيوان) بشرط لا (غير مفهوم الحيوان الناطق وغير مفهوم الناطق) و(کان) المفهوم والمعني المعقول علي هذا الوجه مادة) قوله «مادة» جواب وخبر کان فالمعني - أي معني الحيوان - بشرط لا مادة (بالنسبة إلي المعني الزائد المقارن) فالمعني الملحوظ هکذا والمتصور بشرط لا مادة بالنسبة إلي المعني الزائد المنظم الي الحيوان والمقارن له، کالناطق هنا، فالحيوان هنا مادة للناطق. (و) کان - الحيوان هنا - المعني الملحوظ بشرط لا (علة مادية بالنسبة الي المجموع منه) أي من الحيوان - المعني الملحوظ بشرط لا- (ومن المقارن) أي الناطق ، اذ الحيوان بشرط لا حينئذ علة مادية بالنسبة الي الحيوان الناطق الذي مجموعهما - الانسان - والنتيجة انّه علة مادية للانسان. اذن فالحيوان بشرط لا مادة للناطق وحده ، وعلة مادية للانسان. (و) الثاني (جاز أن نعقله) بنحو آخر - أي لا بشرط . وذلک اذا عقلناه (مقيساً الي عدة من الأنواع التي تشترک فيه ، کأن نعقل معني الحيوان المذکور آنفاً - مثلاً) أي جوهراً جسماً نامياً حساساً متحرکاً بالارادة (بأنه) أي الحيوان لا بشرط هو (الحيوان الذي هو إما انسان وأما فرس واما غنم واما غير ذلک من أنواع الحيوان...الخ). والحاصل أن الماهية بهذا اللحاظ تکون ناقصة غير تامة مبهمة غير معينه تتحصل وتتعين بالفصول، والحيوان بهذا المعني يکون جنسياً للانسان، ويسمّي المحصَّل والمعيَّن له فصلاً. والحاصل أن المعاني الذاتية المشترکة بين عدة فصول يمکن لحاظها بشرط لا بحيث لا تنطبق ولا تحمل علي شيء مطلقاً فتکون مادة للمقارن وعلة مادية للمجموع، کما يمکن لحاظها لا بشرط بحيث تنطبق و تحمل علي المقارن فيقال الناطق حيوان، وعلي المجموع فيقال الإنسان حيوان أيضاً وکيف کان فالحيوان بهذا اللحاظ والاعتبار جنس للمجموع تتحصل بالفصل، فالجنس والمادة واحدة بالذات، وانما تختلف بحسب اختلاف اعتبارهما ولحاظهما، فالحيوان - مثلاً - مادة إذا لوحظ بشرط لا، وجنس إذا لوحظ لا بشرط. وبهذا يتبين الفرق بين المادة والجنس

والاعتباران المذکوران الجاريان في الجزء المشترک - أعني أخذَهُ بشرط لا، ولا بشرط - يجريان في الجزء المختصّ. فيکون بالإعتبار الأوّل صورةً للجزء الآخر المقارن، وعلّةً صوريّةً للمجموع، ولا يحمل علي شيءٍ منها؛ وبالاعتبار الثاني فصلاً يحصَّل الجنس ويتمَّم النوع َويحمل عليه حملاً أوّليّاً(1).

ص: 369


1- واما الفرق بين الفصل والصورة - أو الصورة والفصل ، فهو أن المعني الذاتي المختص بنوع واحد کالمعني الذاتي المشترک بين انواع يمکن لحاظه واعتباره بنحوين ووجهين واعتبارين ولحاظين، فکما أن الجزء المشترک وهو الحيوان مثلاًکان يمکن لحاظه بين الأنواع المختلفة - الحيوانية - بلحاظين وسمّي بکل لحاظ باسم خاص، کذلک الجزء المختص کالناطق قابل للاعتبار بلحاظين، فإن لوحظ بشرط لا، کان غير قابل للحمل علي النوع، ولا يصح حينئذ أن يقال الإنسان ناطق، إذن لا يحمل علي الناطق وحده ولا عليه وعلي مقارنه اي الحيوان مثلاً، وان لوحظ لا بشرط کان قابلاً للحمل علي النوع، ومحصَّلاً له ومکمّلاً لنوعية النوع: (فيکون) الجزء المختص - کالناطق - (بالاعتبار الأول) - اي بشرط لا صورة للجزء الآخر المقارن) وهو «الحيوان (و) يکون نفس هذا الجزء المختص - کالناطق - (علة صورية للمجموع) المتألف من الحيوان والناطق أعني الإنسان إذ مجموع الحيوان الناطق هو الإنسان، (ولا يحمل علي شيء منها) إذ لا يحمل علي الحيوان وحده - وهو المقارن للناطق ، ولا يحمل علي مجموع الحيوان والناطق وهو الانسان، (و) أما (بالاعتبار الثاني) أعني تعقل الجزء المختص - کالناطق - لا بشرط يسمّي (فصلاً) وهو حينئذ ( يحصل الجنس) ويعينه ويکمله في صورة ماهية غير مرددة بين أنواع، ويتمم النوع، ويحمل) أي الفصل والجزء المختص - کالناطق - (عليه) أي علي النوع (حملاً أولياً) ذاتياً. فالحاصل أن الجزء المختص إذا اعتبر بشرط لا کان صورة أو علة صورية ، وإذا اعتبر لا بشرط کان فصلاً، فلا فرق بين الفصل والصورة إلا بنحو الاعتبار

فقد تحصّل أن الجزءَ الأعمّ في الماهيّات. وهو الجنس - متقوّمّ بالجزء

الأخصّ الذي هو الفصل بحسب التحليل العقليّ(1)

قال في الأسفار في کيفية تقوّم الجنس بالفصل : «هذا التقويم ليس بحسب الخارج، لاتّحادهما في الوجود، والمتّحدان في ظرف لا يمکن تقوّم أحدهما بالاخر وجوداً ، بل بحسب تحليل العقل الماهيّةَ النوعيةَ إلي جزئَين عقليَّين و حکمِهِ؛ بعلّيّة أحدهما للآخر، ضرورةَ احتياج اجزاء ماهيّةٍ واحدةٍ بعضها إلي بعض ، والمحتاج إليه والعلّة لا يکون إلا الجزء الفصليّ لاستحالة أن يکون الجزء الجنسيّ

ص: 370


1- قال بحسب التحليل العقلي لأن الجنس والفصل بحسب الواقع الخارجي متحدان تماماً لا يقبلان الانفکاک، فهما شيء واحد حقيقة لا شيئان، وانما يفصل بينهما بالتحليل العقلي، وقوام احدهما بالآخر براد به في مقام الذهن لا في متن الخارج، وذلک أن ماهية الانسان مثلاً تتألف من جزء مشترک هو الحيوان وجزء مختص هو الناطق، بالتصوير العقلي والتصور الذهني إذ يري الذهن أن الحيوان مبهم، والميهم لا يمکن أن يوجد في الخارج بابهامه فلابد أن ينضم إليه شيء وجزء خاص يميزه عما يشارکه في ذلک الجنس من الأنواع المختلفة - کالفرس والحمار والبقر - وهذا الجزء الخاص - کما تقدم -يسمّي فصلاً، ومن غير أن يتحصل الشيء في مقام الثبوت الماهوي لا يکون ماهية نوعية تامة، وهذا کله من فعل العقل ولم يحصل إلا بالتحليل العقلي.

علّةً لوجود الجزء الفصليّ، وإلّا لکانت الفصول المتقابلة لازمة له، فيکون الشيءُ الواحد مختلفاً متقابلاً ، هذا ممتنع . فبقي أن يکون الجزء الفصلي علّةً لوجود الجزء الجنسيّ، ويکون مقسَّماً للطبيعة الجنسيّة المطلقة وعلّةً للقدر الذي هو حصّة النوع وجزءاً للمجموع الحاصل منه وممّا يتميّز به عن غيره» ، إنتهي(1)

ص: 371


1- (هذا التقويم ليس بحسب الخارج، لاتحادهما) أي الجنس والفصل في الوجود) الخارجي، والمتحدان في ظرف سواء کان اتحادهما في ظرف الوجود أو الذهن أو کليهما (لا يمکن تقوم أحدهما بالآخر بالوجود) لأنهما موجودان بوجود واحد، إذ يستلزم تقوم الشيء بنفسه وبما أن قوام الشيء بعلته فيکون الشيء علة نفسه المستلزم لتقدم الشيء علي نفسه، وکلها محالات، (بل) قوام الجنس بالفصل يتصور في ظرف الذهن و بحسب تحليل العقل) و تفکيکه (الماهية النوعية) کالإنسان إلي جزئين عقليين) الحيوان والناطق، (و) بحسب (حکمه) أي حکم العقل (بعلية أحدهما) کالفصل (للآخر) کالجنس، وقوام الجنس بالفصل، (ضرورة) أي لضرورة وهو بيان لعلة قوام أحدهما بالآخر فهو لضرورة (إحتياج أجزاء ماهية واحدة) کالحيوان والناطق = الإنسان، فيحتاج کل من الحيوان والناطق بعضها الي بعض) وإلا لم تتألف من اجتماعها ماهية واحدة. (والا) لو کان الجزء الجنسي علة للجزء الفصلي لکان علة لجميع الفصول القابلة للمقارنة مع ذلک الجنس (لکانت الفصول المتقابلة) المتعددة ملازمة لذلک الجنس (ولازمة له) وعليه فيکون الشيء الواحد) کالحيوان (مختلفاًمتقابلاً) فيکون الحيوان انساناً وفرساً وبقراً وغنماً وحماراً ......الخ في آني واحد وباعتبار واحد وفي موضوع واحد، و(هذا ممتنع) محال. وبعبارة أخري لو اعتبرنا الجنس علة للفصل ولتحصله و تشخصه وتعينه يلزم أن يرافق الجنس الواحد ويلازمه فصول مختلفة متعددة . لان الجنس بحسب الفرض علة للفصول المختلفة، بل المتقابلة ، ولهذا يلزم أن يکون الجنس الواحد ملازماً لفصول متقابلة کأن يکون الحيوان ملازماً للنطق والصهيل والحافر والبهيمية والخائر وما أشبه ، ويتصف بها جميعا في آن واحد، وهو محال إذ لا يمکن کون حيوان واحد متصفاً بالناطق والصاهل والناهق والحافر والخائر وما أشبه فيکون ناطقاً وناهقاً وصاهلاً وخائراً، وحافراً ....... الخ وبعبارة أوضح يکون انساناً وحماراً و فرساً وبقراً وغنماً ......الخ. (فبقي أن يکون الجزء الفصلي علة لوجود الجزء الجنسي ، ويکون) الجزء الفصلي أيضاً (مقسّماً للطبيعة الجنسية المطلقة) الي حيوان وناطق مثلاً، ويکون الفصل أيضاً (علة للقدر الذي هو حصة النوع) فيکون الفصل علة للجنس وبالنتيجة للنوع (و) يکون (جزءاً للمجموع الحاصل منه) أي من الجنس (ومما يتميز به) الجنس عن غيره من الأنواع، فالحصة الحيوانية - بناءاً علي علية الفصل - المختصة بالإنسان تختلف عن حصة الحيوان المختصة بالفرس والبقر والغنم والحمار، ولا يتحقق حينئذ المحذور السابق من إنصاف الجنس الواحد بأنواع متقابلة، بل يقوم الفصل بحسب التحليل العقلي بتفکيک و تحليل الجنس الي أنواع مختلفة و تخصص کل حصة بنوع خاص، وبعبارة أوضح: أن الناطق - علي سبيل المثال - يقسم الحيوان الي حيوان ناطق وحيوان غير ناطق، فيکون علة لحضة من الحيوان وهي المتحققة في ضمن الانسان، ويکون جزءاً للانسان وهو مجموع الحيوان والناطق

فإن قيل : إنّ الفصل إن کان علّةً لمطلق الجنس لم يکن مقسَّماً له، وإن کان علّةًللحصّة التي في نوعه وهو المختصّ به فلابد أن يفرض التخصّص أوّلاً حتّي يکون الفصلُ علّةً له، لکنّه إذا تخصص دَخَلَ في الوجود واستغني بذلک عن العلّة(1)

ص: 372


1- (فإن قيل :) کما جاء في الجزء الثاني من الأسفار، للاشکال علي القول بعلية الفصل و معلولية الجنس - وقيام الجنس بالفصل - ان ذلک لا يخلو من وجهين أما أن يکون الفصل حينئذ علة لمطلق الجنس أو علة لحصة خاصة منه : (ان الفصل ان کان علة لمطلق الجنس) وقواماً لمطلق الجنس لا لحصة خاصة منه (لم يکن الفصل (مقسماً له) أي للجنس لأنه محصَّل حينئذ لتمام الجنس، ومکمل له ومتمم الشيء ومحصله لا يقسّم الشيء، وذلک أن الجنس - علي هذا۔ ملازم للفصل الخاص لا ينفک عنه ، وملازم الشيء و محققه يستحيل أن يقسمه الي حصص متقابلة . وان کان الفصل (علة للحصة) الخاصة (التي في نوعه) أي نوع ذلک الجنس (وهو) الفصل (المختص به) أي بذلک النوع (فلابد أن يفرض التخصص) للجنس ويتشخص ويتعين الجنس (أولاً) ثم يصير الفصل علة لتلک الحصة الخاصة - النوع الخاص - منه (حتي يکون الفصل علة له) لذلک النوع - ولتلک الحصة الخاصة - (لکنه إذا تخصص الجنس وصار حصة خاصة - نوعاً خاصاً - (دخل في الوجود، واستغني بذلک) أي بدخوله حيز الوجود وعالم الوجود (عن العلة) فلا حاجة الي الفصل ليخصصه ويشخصه إذ التخصص عين الوجود والشيء ما لم يتشخص لم يوجد، وبالوجود تخصص الأشياء. والحاصل إنه اذا قلنا أن الفصل علة لحصة خاصة من الجنس ، لزم تحقق التقسيم أولاً للجنس بواسطة أمر آخر، فيکون شيء آخر مقسماً للجنس الي حصص معينة، ثم يأتي الفصل ليکون علة لکل حصة من تلک الحصص، لکنه اذا تخصص وانقسم الي الحصص بشيء آخر، استغني عن العلة والحصص بعد تحققها لا تحتاج الي علة يخصصها ، إذ تخصصت بالوجود.

قيل : إنّ الخصوصيّة التي بها يصير الجنسُ المبهم حصّةً خاصّةً بالنوع من شؤون تحصّله الوجوديّ الجائي إليه من ناحية علّته التي هي الفصل والعلّة متقدّمة بالوجود علي معلولها، فالتخصّص حاصلُ بالفصل، وبه يقسّم الجنس الفاقد له في نفسه. ولا ضيرَفي علّيّة فصولٍ متعدّدةٍ لماهيّة واحدۃٍ جنسيّة لضَعف وحدتها(1)

فإن قيل : التحصّل الذي يدخل به الجنس في الوجود هو تحصُّله، بالوجود الفرديّ، فما لم يتلبّس بالوجود الخارجيّ لم يتمّ ولم يکن له شيء من الشؤون الوجوديّة، فما معني عدَّ الفصل علّةً له ؟(2)

ص: 373


1- (قيل) في مقام الرد ان التحصل الذي حصل للجنس لم يأت إلا من ناحية عملته - أي الفصل - وهذا التحصل کان مفقوداً قبل هذه العلة، فالجنس قبل التحصّل بالعلة عام مبهم وکلي مطلق، وانما تحصّل بالفصل، فقبل إنضمام الفصل إليه کان مبهماً في الذهن، وکان ماهية ناقصة مرددة بين أنواع متعددة ، فيصير ماهية تامة نوعية بعد انضمام الفصل إليه، وبما أن العلة متقدمة علي المعلول وجوداً ، فالفصل متقدم علي التحصل وجوداً ، ولا تحصل للجنس قبل مجيء الفصل، والفصل لا يحصّل الجنس کله، وليس علة لمطلق الجنس ، حتي يرد اشکال : کيف يکون محصل الشيء مقسماً له ؟! بل تحصل حصة خاصة ملازمة للعلة - الفصل - وبمجرد مجيء العلة تحصل تلک الحصة من الجنس کالنار التي تلازمها الحرارة وهي علة للحرارة، فالفصل يحصل الجنس و يقسمه في آني واحد، ومعني هذا انّه يمنحه تحصلاً بعدد الاقسام التي انقسم اليها الجنس أي بعدد الانواع المندرجة تحته بعد التحصيل، والحاصل : انا نختار الشق الثاني الوارد في الاشکال وتعتبر الفصل علة لحصة خاصة من الجنس، وانّه العلة المفيضة علي الجنس بالوجود والتحقق في متن الخارج في عين انّه يخصصه ويعينه ايضاً بنوع خاص وحصة معينة، فما کان علة لوجود الجنس کان علة التخصّصة، وما کان محصلاً له هو المعين والمقسم له أيضاً في الوقت ذاته وهو الفصل، ولا ثالث في البين ليکون محصلاً للجنس وجاعلاً اياه مستغنيلاً عن العلة - أي الفصل - فان قيل : الجنس ماهية واحدة والفصول متعددة، فکيف تکون الماهية الواحدة معلولة العلل متعددة ؟ قلنا: (ولا ضير) ولا اشکال (في علّية فصول متعددة لماهية واحدة جنسية) وذلک الضعف وحدتها) فان الماهية الجنسية ضعيفة لأنها وحدة ابهامية.
2- حاصل الاشکال الثاني أن التحصل للجنس حقيقةً هو بالوجود، وهو الذي يحصَّل الجنسن، ولولا وجود الجنس في ضمن فرد من أفراده أو جميع أفراده لم يتم له التحصّل، فالماهية الجنسية ما لم توجد في ضمن أفرادها لم تتحصّل، واذا تحققت و تحصلت بالوجود الخارجي الفردي، بطل حاجتها الي فصل يحصّلها لأنه تحصيل للحاصل حينئذ، ولا يتحقق الکلي إلا في ضمن أفراده .

قيل : المراد بتحصّله بالفصل ثبوتُه التعقليّ وکينونته ماهيّةً تامّةً نوعيّةً، والذي يکتسبه بالوجود الفرديّ هو تحقُّقُ الماهيّة التامّة تحقّقاً تترتّب عليه الآثار الخارجيّة . فالذي يفيده الفصل هو تحصّل الماهيّة المبهمة الجنسيّة وصيرورتها ماهيّةً نوعيّةً تامّةً، والذي يفيده الوجود الفرديّ هو تحصّل الماهيّة التامة وصيرورتها حقيقةً خارجيّةً تترتب عليها الآثار (1)

فتبين بما مر:

أولا ً: أنّ الجنس هو النوع مبهماً، والفصل هو النوع محصّلآً، والنوع هو

الماهيّة التامّة من غير نظر إلي إبهام أو تحصّل (2)

ص: 374


1- (قيل) في مقام الرد ان التحل علي ضربّين: التحصُّل في مرتبة الماهية والتحصّل في مرتبة الوجود والتشخّص و ( المراد بتحصّله) أي الجنس (بالفصل ثبوته) أي الجنس (التعقلي) والذهني (وکينونته.الخ) فالفصل يحصّل في مرتبة الماهية، وما يحصّله الفصل هو التحصّل في مرتبة الماهيّة، وما يمنحه الوجود الفردي و يکسبه هو التحصّل الوجودي والخارجي للماهية ، وبين التحصّلين بون شاسع إذ الأول محله وظرفه الذهن والاعتبار العقلي والثاني محله وظرف وجوده الخارج، ولکل منهما آثار خاصة به لا يمکن لحاظهما بلحاظ واحد، ولکل تحصل أحکامه فلا يصح الحکم علي التحصلين بحکم واحد، فالفصل يکسب الجنس تحصلاً ماهوياً ظرفه الذهن، بينما الوجود الفردي يکسبه تحصلاً عينياً خارجياً ظرفه الخارج والواقع الخارجي، فلا يمکن الخلط بينهما بل يلزم الفصل بينهما واعطاء کل ذي حق حقه
2- واذا شئت فقل : النوع اذا لوحظ مبهمة فهو جنس ، واذا لوحظ محصلاً فهو فصل، واذا لوحظ بشرط لا من الابهام والتحصل فهو نوع، وما تقدم من أن النسبة في الخارج بين الجنس والنوع أو الفصل والنوع، هي نسبة العينية ، إذ کل واحد منهما عين الآخر ولا ينفک أحدهما عن الآخر، کما أن الجنس والنوع أو الفصل والنوع جزء الماهية في تعريف الماهية وحدها، وکل حمل بينهما فهو حمل أولي ذاتي، فالإنسان حيوان معناه الانسان بتمامه وکماله حيوان والإنسان ناطق يعني انّه بتمامه وکما له ناطق.

و ثانياً : أنّ کلاً من الجنس والفصل محمولُ علي النوع حملاً أوّليّاً ، وأمّا النسبة بين الجنس والفصل أنفسهما فالجنس عرضُ عام للفصل والفصل خاصّةُ للجنس ، والحمل بينهما حملُ شائع(1)

وثالثاً : أنّ من الممتنع تحقُق أکثر من جنس واحدٍ في مرتبة واحدة في ماهية نوعيّة واحدة، وکذا تحقُّق أکثر من فصلٍ واحدٍ في مرتبة واحدة في ماهيّة نوعيّة واحدة، لاستلزامه کونَ الواحد بعينه کثيراً ، وهو محال (2)

ص: 375


1- تقدم أن الجنس والفصل متحدان مع النوع اتحاداً مفهومياً، ولهذا فإنهما يحملان عليه حملاً أولياً. ويقول المصنف هنا أن المراد من عروض الجنس للفصل وعروض الفصل علي الجنس هو العروض الذهني دون العروض الخارجي إذ التفکيک بينهما لا يصح إلا في ظرف الذهن و بالتحليل العقلي، وهما يحملان علي النوع بالحمل الذاتي الاولي، بينما يحمل أحدهما علي الآخر بالحمل الشايع الصناعي، فانا حين نقول الانسان حيوان او الانسان ناطق کان حمل الحيوان والناطق علي الانسان في المثالين حملاً مفهومياً لأن کلا منهما عين الآخر، ولکن حين نقول الحيوان ناطق او الناطق حيوان فإن الأمر مختلف تماما اذ في المثال الأول حمل الفصل علي الجنس حملاًشايعاً لأن الناطق عرض خاص للحيوان فقد يعرض الذهن الناطق للحيوان ، بينما في المثال الثاني نلاحظ أن الحيوان عرض عام للناطق لأنه يشمله ويشمل غيره من الفصول - کالفرس والبقر والغنم......الخ، وهذا العروض أيضاً ذهني، والحمل الشايع عبارة عن حمل المصاديق دون المفاهيم، فإنا إذا قلنا «بعض الحيوان ناطق» کانت الحيوانية والعرضية متحد تين وجوداً، يعني اتحدت مصاديق الحيوان الخارجية مع مصاديق الناطق کذلک ، وان اختلفت المفاهيم، وکان مفهوم الحيوان مثلاً مغايرةاً لمفهوم الناطق وبالعکس. فکل من الجنس والفصل خارج عن حد الآخر زائد عليه.
2- (وثالثاً : إن من الممتنع تحقق أکثر من جنس واحد في مرتبة واحدة) کالمرتبة القريبة أو البعيدة (في ماهية نوعية واحدة) مثل ماهية الإنسان، ففي المرتبة القريبة مثلاً ليس للإنسان جنس سوي الحيوان، کما أنه لا جنس له في المرتبة البعيدة إلا الجوهر، وفي المرتبة المتوسطة أو الوسطي أحد الأجناس المتوسطة وهو الجسم، ولا يمکن أن يکون للانسان مثلاً في المرتبة القريبة جنسان أو اکثر کأن يکون جنسه القريب من الحيوان والنامي، وهکذا في سائر المراتب ولا يجتمع في المرتبة الواحدة أکثر من جنس واحد. (وکذا) من الممتنع (تحقق أکثر من فصل واحد في مرتبة واحدة في ماهية نوعية واحدة) کأن يکون للإنسان في مرتبته القريبة فصلان أحدهما الناطق والآخر الصاهل. لماذا يمتنع تحقق أکثر من فصل واحد وجنس واحد في مرتبة واحدة في ماهية نوعية واحدة ؟؟ (لإستلزامه) لأن جواز ذلک يستلزم (کون الواحد بعينه کثيراً) وذلک بأن يکون الإنسان حيواناً وشيئاً آخر، أو يکون ناطقاً وصاهلآً أو ناهقاً مثلاً في آنٍ واحد (وهو) أي کون الواحد بعينه کثيراً (محال).

ورابعاً: أنّ الجنس والمادّة متّحدان ذاتاً ومختلفان اعتباراً ، فالمادّة إذا أُخذت لا بشرط کانت «جنساً»، والجنس إذا أُخذ بشرط لا کان «مادّة». وکذلک الفصل والصورة متّحدان ذاتاً ومختلفان اعتباراً ، فالفصل بشرط لاصورة ، کما أنّ الصورةُ لا بشرطِ فصلُ(1)

ص: 376


1- اعلم أن الفرق بين مفهوم الجنس و مفهوم المادة والامتياز بينهما يکون باعتبار اللابشرط وبشرط لا، غير أنه قد يؤخذ مفهوم الحيوان بعنوان کونه جنساً - وبما أنه جنس -، وقد يؤخذ بعنوان أنه حاير عن المادة ، اذ حين يکون حاکياً عن المادة، يکون مأخوذاً و معتبراً بشرط لا، وعلامة ذلک عدم جواز حمله علي الکل، اذ عند الحمل علي الماهية الخارجية المرکبة من المادة والصورة، لما کان المفهوم حاکياً عن المادة امتنع کونه حاکياً عن الکل أيضاً، خلافاً للاعتبار الجنسي الذي هو مفهوم مبهم مساوق للنوعية، أعني أن المفهوم الجنسي هو النوع بعينه، ويقبل الحمل علي النوع حملاً أولياً ، فهو اعتبار لا بشرطي، اذا أخذنا الحيوان لا بشرط، أي بعنوان انّه مفهوم ناقص مبهم، فهو مفهوم الجنس ، ولو أخذ علي أنه مفهوم تام - کل ما يقارنه مغاير له ، فهو اعتبار بشرطلا حا عن المادة، ومثل هذا الاعتبار تماماً، جار في الفصل والصورة، إذ أن الماهية النوعية تتألف من جزئين أحدهما المفهوم الجنسي الذي يکون جزءاً مشترکاً بين جميع الماهيات، والآخر المفهوم الفصلي المختص بماهية واحدة لا توجد في غيرها، ثم إن هذا المفهوم يشبه مفهوم الناطق في الانسان، يمکن فرضه بوجهين: أحدهما بنفس المعني الذي ذکرناه في الجنس ، وهو فرضه بعنوان کونه ماهية ناقصة يجب ضمها الي مفهوم عام حتي يؤلفا ماهية واحدة، وهو الاعتبار اللابشرطي، ويسمّي هذا الاعتبار فصلاً، ونفس هذا المفهوم قد يکون حاکياً عن الجزء الخارجي للماهيّة، وهو الصورة، لوکانت ماهيّة من الماهيات مرکبة في الخارج من المادة والصورة، کالانسان المرکب من الجسم والروح، يمکن اعتبار الناطق حاکياً عن الجزء الخارجي المضاف الي المادة ، - أعني النفس الإنسانية ، والماهية بهذا الاعتبار تکون بشرط لا، إذ ليس النفس عبارة عن الجسم، بل هي أيضاً ليست عبارة عن الانسان المؤلف من الجسم والروح، هذا هو الاعتبار بشرط لا، فإذا کان هذا المفهوم حاکياً عن الصورة الخارجية فهو اعتبار ولحاظ بشرط لا، واما اذا لاحظناه علي أنه جزء من مفهوم الانسان - الذي أحد جزئية الحيوان الذي يتشخص بواسطة مفهوم الناطق - هذا الاعتبار لا بشرطي، ويسمي المفهوم فصلاً بهذا اللحاظ والاعتبار، والحاصل أنه يمکن لحاظ أجزاء الماهية بوجهين: أحدهما بعنوان جزئين تحليليين لمفهوم واحد، فالمفهوم التام المتعين يمکن تحليله وتفکيکه الي حيثيتين: حيثية الابهام المشترک بين هذه الماهية وسائر الماهيات، والحيثية الخاصة بالمفهوم ذاته، وکلاهما اعتبار لا بشرطي، ويحمل کل منهما علي نفس المفهوم بالحمل الأولي، فنفس مفهوم الانسان حين يُلحظ مبهماً يکون حيواناً، ونفس الحيوان المبهم حين يتم لحاظه متعيناً - أعني حين يتعين في الخارج - يکون انساناً ، وهو حينئذ يصير جنساً وناطقه الفصل، ولو جعلنا الحيوان حاکياً عن الجزء الخارجي للانسان، وجعلنا الناطق حاکياً عن الجزء الخارجي الآخر له، واتخذناه جزءاً آخر للانسان، کان المفهومان بشرط لا، لا يُعمل أي منهما علي الانسان بالحمل الأولي. فالجنس والمادة متحدان جنساً ومختلفان اعتباراً ، اذ يختلفان ويفترقان لمجرداعتبارهما بشرط لا ولا بشرط.

وهذا في الجواهر الماديّة المرکّبة ظاهرُ، فإنّ المادّة والصورة موجودتان فيها خارجاً ، فيؤخذ منهما معني المادّة والصورة، ثمّ يؤخذان لا بشرطٍ ، فيکونان جنساً وفصلاً (1)

وأمّا الأعراض فهي بسائط خارجيّة غيرُ مرکبة من مادّۃٍ وصورةٍ، فما به

ص: 377


1- (وهذا الأمر المذکور آنفاً (في الجواهر المادية المرکبة) من المادة والصورة (ظاهر) کيف يکون ظاهراً فيها؟: (فان المادة والصورة التي تترکب منهما الجواهر المادية (موجودتان فيها) أي في الجواهر المادية (خارجاً) لا ذهناً، وهما جزءان خارجيان للجواهر المادية ، (فيؤخذ منهما) أي الذهن يأخذ من المادة والصورة الخارجيتين (معني المادة والصورة) و مفهومهما (ثم) بعد أن أخذ منهما معناهما (يؤخذان) بالتحليل الذهني، أي الذهن يأخذهما لا بشرط) ومطلقاً عن کل تقييد (فيکونان) أي المادة والصورة (جنساً وفصلاً)، ثم أن الجواهر المادية کالإنسان والفرس والغنم والبقر وماشابهها لأنها أمور خارجية والمادة والصورة توجدان فيها في متن الخارج بوجود واحد، ولهذا فإن الحيوانية مثلاً توجد للإنسان في الخارج وتکون منشأ آثر بکون الانسان متحرکاً - منشأ الحرکات الحيوانية -، إذ الحيوانية مبدأ الحرکات الحيوانية .

الإشتراک فيها عين ما به الامتياز ، لکنّ العقل يجد فيها مشترکات ومختصّات فيعتبرها أجناساً وفصولاً لها ثمّ يعتبرها بشرط لا، فتعود موادَّ وصوراًعقليّة لها. والأمر في الجواهر المجرّدة أيضاً علي هذه الوتيرة (1)

ص: 378


1- فتعدد الجنس والفصل - أو المادة والصورة - واعتباراتهما، في المرکبات المادية، أمر ظاهر لا ريب فيه (وأما الأعراض فهي بسائط) أي أمور بسيطة (غير مرکبة من مادة وصورة) ولهذا فلا وضوح لما تقدم فيها، والأمر هنا غير واضح بل يحتاج الي بعض البيان: (فما به الاشتراک فيها) أي الأعراض والمقولات التسعة العرضية (عين ما به الامتياز) فيها بمعني اننا مثلاً في العدد خمسة وهو من الکم المنفصل لانجد ان هناک شيئاً مستقلاً يسمّي بالعدد وشيئاً آخر يسمّي بالخمسة وقد عرض الثاني للأول وحمل عليه لکي نعتبر العدد مثلاً جنساً والخمسة فصلاً له ، فهما في الخارج شيء واحد، وهکذا في الخط أو الزمان اللذان من الکم المتصل فالخط الکذائي والزمان الکذائي وصفه عين ذاته، وهکذا في الکيف المحسوس کالألوان والکيف النفساني وسائر المقولات العرضية التسعة، لأنها بسيطة غير مرکبة (لکن العقل يجد فيها) أي في هذه الأعراض (مشترکات و مختصات) بالتحليل العقلي لا بحسب الواقع الخارجي (فيعتبرها) أي العقل يعتبر المشترکات (أجناس ) لتلک الأعراض (و) يعتبر المختصات (فصولاً لها) فهي بهذا الاعتبار واللحاظ العقلي فصول وأجناس (ثم يعتبرها) أي يعتبر و يلحظ تلک الأعراض مرة ثانية لکن هذه المرة (بشرط لا) من أي شيء (فتعود) تلک المشترکات بهذا الاعتبار الثاني (مواد و) تلک المختصات (صوراً عقلية لها) أي لتلک الأعراض. والحاصل أنا إذا اعتبرنا زماناً معيناً وساعة من الزمان مثلاً، فهو من الکم المتصل غير القار، فالکم ليس امراً مغايراً للمتصل - والاتصال - في ظرف الخارج وان کانا کذلک باعتبار العقل وتحليله، ولما کان الکم والاتصال هنا شيئاً واحداً استحال جعل الکم مثلا ًجنساً والاتصال فصلاً له ، إذن ليس الأمر هکذا بل الذهن يعتبر الکم وجهاً مشترکاً وما به الاشتراک، بالنسبة له و يعتبر المتصل وجهة مختصة له - ما به الامتياز - بالنسبة للکم ليميزه عن غيره من انواع الکم وأقسامه ، ثم يعتبر الکم جنسا والمتصل فصلاً له، ثم يعود ليلحظ هذا الجنس والفصل باعتبار آخر أي بشرط لا فتسمي مادة وصورة وهلمّ جرّا. (والأمر في الجواهر المجردة) أي العقول والنفوس المجردة (ايضاً علي هذه الوتيرة) التي في الأعراض، لأنها بسيطة ايضاً کالاعراض، خالية من جنس وفصل خارجيين ، وانما العقل يعتبر لها ما به الاشتراک ليکون جنساً لها وما به الامتياز ليکون فصلا لها ، واذا اعتبرها بشرط لا عادت المشترکات مواد والمختصات صوراً لها.

الفصل السادس في بعض ما يرجع إلي الفصل

تقرأ في هذا الفصل :

- معاني الفصل : أ- الفصل المنطقي وهو عبارة عن أخص وأعرف اللوازم العارضة

للنوع.

ب- الفصل الاشتقاقي وهو المقوم الحقيقي للنوع والمحصل للجنس وهو مبدأ الفصل

المنطقي.

2- تمام حقيقة النوع هي فصله القريب - والأخير - فبقاء النوع ببقاء فصله الأخير.

3- لا يندرج الفصل تحت الجنس، فلا يرد الجنس في حد الفصل.

4 - ولو اندرج الفصل تحت الجنس احتاج الي فصل آخر يقومه وهکذا يتسلسل.

5- کما إنه إذا اندرج تحت الجنس لزم إمکان حمل الجنس علي الفصل

حملاً اولياً ، بينما تقدم أن الجنس عرض عام للفصل والفصل عرض خاص له، والحمل بينهما شايع صناعي.

6- ان المفاهيم تختلف أحکامها بحسب اعتباراتها المختلفة.

7- تقدم أن الوجود في نفسه هو الذي يمکن انتزاع الماهية منه، ولا ينتزع منه شيء

باعتبار وجوده لغيره، وان کان وجوده الغيري عين وجوده في نفسه.

8- فالفصل مفهوم اضافي، يلحظ بالنسبة إلي الجنس، ووجوده للجنس لا لنفسه. ولهذا

فلا يمکن انتزاع ماهية منه بهذا اللحاظ.

- وليس الفصل مندرجة تحت مقولة الجوهر، کاندراج النوع تحتها، کلا ليس من قبيل اندراج النوع تحت مقولة الجوهر، بل هو من قبيل اندراج الملزوم تحت لازمه الخارج عن حد الملزوم وماهيته.

10 - اذا اخذت الصورة بشرط لا عن المادة، لا يتحقق الحمل الأولي بينهما، وإلا لو أمکن الحمل الأولي واندرجت الصورة تحت الجنس، لزم کون الصورة نوعاً، إذ لا يحمل الجنس بالحمل الأولي سوي علي النوع، ويدخل في حده، وکون الصورة نوعاً خلف

للفرض.

11- بين المادة والصورة حمل شائع صناعي، بناء اًعلي القول بالترکيب الاتحادي

بينهما لا الانضمامي.

12- وباعتبار کون الصورة، تمام ماهية النوع يمکن أن يقال فصول الجواهر جواهر، ولا

يعني ان الجوهر داخل في حد هذه الفصول ومحمول عليها بالحمل الأولي.

13- ليس الفصل مرکباًمن الجنس والفضل، کما أن الصور المادية التي في المادة ليست

مرکبة من المادة والصورة، وهي بسيطة حتي في العقل .

14- أن النفس المجردة باعتبار کونها فصلا لنوعها حيثيتها حيثية الوجود الناعتي التي لا ماهية لها، واما باعتبار وجودها لنفسها التي تمثل تمام حقيقة النوع، يصدق عليها الجوهر وليست صورة حنيئذ.

يبادر المؤلف هنا إلي بيان نبذة من أحکام الفصل، فيشرع ببيان تقسيم للفصل من خلال ما يتعلق به من مصطلحات، وعليه قم الفصل الي حقيقي و منطقي، والأول عبارة عن الحقيقة التي تميز الماهية عن سائر المشترکات ويتمم الماهية ويکملها، إلا أن هذه الحقيقة مبهمة في العادة، وذلک لعدم وجود الفاظ تفي بالغرض وتؤدي المراد والمعني غالباً ، ولهذا نراهم أحياناً يستعملون أحد الأعراض الخاصة بالماهية مکان الفصل، وهذه الخاصة التي تعرف الماهية وتدل علي الفصل الحقيقي تسمي الفصل المنطقي أو الفصل المشهوري، وفرقوا في بعض المصطلحات بين الفصل المشهوري والفصل المنطقي ، قالوا الفصل المنطقي عبارة عن مفهوم الفصل مثل الکلي المنطقي الذي هو مفهوم الکلي، والخاصة التي تستعمل استعمال الفصل الحقيقي وبديلةً عنه دالةً عليه معرَّفةً له، تسمّي الفصل المشهوري، والحاصل أن المراد هنا من الفصل المنطقي هو المفهوم العرضي الذي يکون من سنخ الخاصة ومعرفة للفصل الحقيقي ، مثلاً أن ما يميز الانسان حقيقة عن جميع الأنواع المشارکة له في جنس الحيوان، عبارة عن النفس الإنسانية، لکن ما الفرق بين هذه النفس مع سائر النفوس ؟ وما وجه الفرق حقيقة بينهما ؟ فإنه سؤال وأمر يصعب الاجابة عليه حقيقة ، ولهذا بادروا إلي اختيار کلمة الناطق، وهو سواء کان بمعني المتکلم أو بمعني مدرک الکليات يعد من خواص النفس، فالتکلم هو إيجاد الصوت، والصوت من الکيفيات المسموعة، اما ايجاد الصوت فهو من مقولة «أن يفعل»، وهو ايجاد الفاعل الشيء بالتدريج، کما أن ادراک الکليات عند مشهور الفلاسفة کيف نفساني ومن الأعراض، والمفاهيم المنتزعة منها ان کانت مشتقة فيها، فهي عرضية غير داخلة في ذات الماهية وحقيقته ، فاختاروا الناطق ليکون معرَّفاً للفصل الحقيقي، فالمفاهيم التي تعرَّف علي أنها فصول تکون معرفات للفصل لا الفصل الحقيقي .

قوله : «و يسمّي فصلاً اشتقاقية».

أطلقوا علي مبدأ النطق تسمية الفصل الاشتقاقي لأن الناطق بوحده - أعني بحمل «هُو هُو» - لا يحمل علي الانسان، بل ينبغي أن يشتق منه ما يقبل الحمل علي الإنسان، فلما قلنا مبدأ الناطقية هي النفس، والنفس لا تقبل الحمل علي الإنسان، ولا يصح حملها عليه، لأنها

جزء من الانسان، لزم أن نشتق شيئاً أعني مفهوماً مشتقاً من النفس ثم حمله علي الانسان بحمل «ذُو هُو»، لا بحمل «هو هو»، فنقول : «ذو النفس» فصل للانسان، وبما أنه يمتنع اشتقاق المفهوم من النفس، لکن يمکن حمله بنحو حمل «ذو هو»، فنقول : کونه ذا نفس ناطقة، والنفس فصل حقيقي، وذا نفس ناطقة يحمل علي الانسان بحمل «ذو هو» وهو حمل اشتقاقي، ولهذا سمّي فصلاً اشتقاقية ، إذ النفس لا تقبل الحمل علي الإنسان وليس الانسان نفساً بل هو ذو نفس ، وهکذا في کل ما يشبه هذا المثال مما لا يقبل الحمل علي

المحمول والموضوع بنفسه ، بل يحتاج في صحة الحمل الي مبدأ اشتقاقي.

ص: 379

ص: 380

يستعمل لفظ الفصل في کلماتهم في معنيين:

أحدهما: أخصُّ اللوازم التي تعرض النوع وأغرفُها ، وهو إنمّا يعدّ فصلاً ويوضع في الحدود موضعَ الفصول الحقيقيّة لصعوبة الحصول علي الفصول الحقيقيّة التي تقوّم الأنواع أو لعدم وجود اسمٍ دالَّ عليها بالمطابقة في اللغة، کالناطق المأخوذ فصلاً للإنسان، فإنّ المراد بالنطق إمّا التکلم وهو بوجه من الکيفيات المسموعة وأما ادراک الکلّيّات وهو عندهم من الکيفيات النفسانيّة، والکيفية کيفما کانت من الأعراض، والأعراض لا تقوم الجواهر، ويسمي: «فصلاً منطقيّاً »(1)

والثاني : ما يقوّم النوع ويحصّل الجسَ حقيقةً، وهو مبدأ الفصل المنطقيّ ،

ص: 381


1- (أحدهما) أي أحد معيني الفصل وهو الفصل المنطقي غير المشهوري - في مقابل الفصل المنطقي المشهوري - وهو عبارة عن (أخص اللوازم) وأخص لوازم الماهية (التي تعرض النوع و أعرفها) أي اعرف اللوازم التي تعرض للنوع (وهو) أي الفصل المنطقي (انما بعد فص ويوضع في الحدود، والتعريفات الحدية (موضع الحدود الحقيقية .. الخ) وإنما لا تقوم الجواهر بالأعراض لأن الفصل الحقيقي يجب أن يکون جوهراً مقوّماً للنوع والنوع جوهر مادي والجوهر مقوم للعرض لا العکس، اذ الجوهر ماهية ان وجدت وجدت في نفسها ، والعرض ماهية ان وجدت وجدت لا في نفسها بل في غيرها وهذا الغير هو الجوهر ولا ثالث لهما. وأني للعرض أن يکون محصَّلاً لجنسه ومقوماً لنوعه وهما جوهران ؟! فالنطق من أخص اللوازم لماهية الانسان ليس الا.

ککون الإنسان ذا نفسٍ ناطقةٍ فصلاً للنوع الإنسانيّ، ويسمّي : «فصلاً إشتقاقيّاً »(1)

ثمّ إنّ الفصل الأخير تمام ُحقيقةِ النوع، لأنّه محصَّل الجنس الذي يحصَّله ويتمَّمه نوعاً . فما اُخذ في أجناسه وفصوله الأخر علي وجه الإبهام مأخوذُ فيه علي وجه التحصيل (2)

ص: 382


1- (والثاني هو الفصل المشتق وانما سمّي مشتقاً لأنه مبدأ اشتقاق تلفصل المنطقي ولهذا فإن الفصل الاشتقاقي لا يحمل علي النوع بالحمل الماهوي بل بالحمل الإشتقاقي (ککون الإنسان ذا نفس ناطقة) لا کون الإنسان هو الناطق بعينه (فصلا للنوع الإنساني، وإنما هذا فصل حقيقي للانسان - للنوع الانساني - ومنه يشتق الفصل المشهوري فيقال : الإنسان ناطق بمعني أن کلاً منهما عين الآخر، لأنه عبارة عن حقيقة خارجية، مقومة لحقيقة الإنسان، والمشتق أمر اعتباري ، فهذا مقوم حقيقي وفصل حقيقي، وصار مبدأ إشتقاق للفصل المشهوري الاعتباري ، اذ کل أمر اعتباري له منشأ انتزاع واشتقاق حقيقي، إذ کل ما بالعرض لابد أن ينتهي الي ما بالذات.
2- يقول : أن الفصل الأخير تمام حقيقة النوع، اذ الفصل مأخوذ من الصورة ، وقد تقدم أن الجنس والفصل يؤخذان من المادة والصورة، يؤخذ الجنس من المادة والفصل من الصورة ، ولهذا فقد اشتهر عند الفلاسفة أن «شيئية الشيء بصورته لا بمادته» ولما کان الفصل حاکياً عن الصورة کان من الصواب أن نقول : تمام حقيقة الشيء فصله، أو شيئية الشيء بفصله الأخير، ولا مانع من هذا القول مادام الفصل حاکياًعن جزء النوع الذي هو قوام النوع، والعلة في إيراده لهذا المطلب هنا وجود إشکال حول الإنسان حيث نقول : الانسان حيوان ناطق، فإن ماهيّة الانسان تتألف من جنسه وفصله ، وهما الحيوان والناطق ، والحيوان غرف بأنه جوهر ذو أبعادٍ ثلاثةٍ نام حساسُ متحرکُ بالارادة ، فلو أردنا أن نبيّن الحد التام للانسان وجب أن نبدأ من الجنس الأعلي أي أن نقول : جوهر ذو أبعا ثلاثة نام حساس متحرک بالارادة ناطق، فالجسمية - التي هي جوهر ذو أبعاد ثلاثة - مأخوذة في ماهية الانسان وحقيقته، ومقتضي هذا الحد کون الجسمية ملازمة للانسان، ثم أن النفس تبقي وان تفتت الجسد و تلاشي ، اذ حقيقته نفسه ، فهذا الانسان في الحقيقة باق في نشأة اخري هي البرزخ رغم أنه فقد الجسمية و تخلي عنها وتحرر من قيودها المادية ، فهل يصح أن يقال عن هذا الانسان الذي في عالم البرزخ - أعني نفس الانسان التي هي تمام حقيقة الانسان - بأنه : جسم - جوهر - ذو أبعاد ثلاثة نام حساس متحرک بالارادة ؟ وکيف لنا أن نقول الانسان مرکب من الجنس والفصل اللذين هما المادة والصورة، ومادة الشيء جسمه وصورته نفسه ، ثم نقول انّه باق علي تمام حقيقته رغم انسلاخه من أحد جزئيه وفقدانّه له ؟ أعني ان الانسان کيف يبقي علي انسانيته بعد تلاشي جسده ومادته وقد جعلنا مادته جزءا من ماهيته وذاته وحقيقته، والکل يکفي في انعدامه وزواله، زوال أحد أجزائه ، والذاتي يکفي في عدم تحققه، تخلف أحد ذاتياته، اذ الذاتي لا يتخلف عن الذات، فکيف يمکن للذاتي أن يتحقق رغم تخلف أحد ذاتيا ته ؟! والحاصل إنا لا نستطيع أن ننفي کون الروح والنفس هي الانسان ولو بعد فناء الجسد وزواله ، کما لا نستطيع أيضاً أن نجري عليها حد الإنسان بعد انسلاخها من الجسد المادي، إذ لا يصح أن نقول عن الروح والنفس في النشأة الأخري وعالم البرزخ أنها جوهر - جسم - نام حساس متحرک بالارادة، فما الحل والجواب لهذا الاشکال ؟! وأجاب عنه المرحوم صدر المتألهين في أسفاره حيث جعل الفصل تمام حقيقة الماهية النوعية، ولما بقيت الناطقية علي حالها، والنفس الإنسانية کانت ناطقة ، کانت الانسانية باقية علي حالها لم يطرأ عليها تغيير ولا تبديل ، إذ النفس الناطقة ناطقة مدرکة للکليات وهو الفصل الذي تقوم به انسانية الإنسان، وهذا ما أورده المرحوم العلامة واعتمده ههنا. والحق أن هذا الجواب غير واف بالردّ علي الاشکال وغير دافع للشبهة بل غير رافع لها بعد أن استقرت، وهذا الأمر يظهر بأدني تأمل فيما أوردناه مبسوطاً مفصلاً ، بل ينبغي البحث والتحقيق عن الاجابة الصحيحة والحل السليم الذي لا تشوبه الشبهات ولا تودي به الآفات ، وليس ههنا محل هذا التحقيق، وان زعم بعض مشايخنا سلمهم الله انّها شبهة مستقرة لا طريق للاجابة عنها والرد عليها، ثم أنه رغم ذلک فقد بادر الي الاجابة عنها بما لا يفي بالغرض ولا يسلم من الأشکال، والله العالم. إعلم أن لکل مرتبة ومرحلة من مراتب النوع فصلاً، تمثل نوعية ذلک النوع فالصورة الإمتدادية وقابلية الإمتداد في الجهات الثلاث فصل للجسم الطبيعي، والنمو فصل للجسم النباتي ، والحساسية والتحرک بالارادة فصل للحيوان، والفصل الأخير أي القريب للانسان هو الناطق والإنسان نوع الأنواع وأعلي الأنواع جامع لکل کمال مما في الانواع التي دونه، وفصله الأخير بسيط جامع لکل الفصول التي قبله، والنوع الانساني هو أکمل الأنواع، لنفس السبب ، فالنوع الانساني جامع لکل جنس ونوع و فصل قبله - في المرتبة التي دونه - لأن فصله البسيط لبساطته جامع لکل جنس ونوع وفصل قبله، فالفصل القريب (تمام حقيقة النوع، لأنه) أي الفصل الأخير (محصَّل الجنس الذي يحصَّله و يتمّمه) أي يحصل الجنس و يتممه (نوعاً) تاماً کاملاً (فما أخذ في أجناسه) أي اجناس ذلک الجنس (وفصوله الأخر علي وجه الابهام) کل الأجناس والفصول المأخوذه في حد الإنسان - عدا الفصل الأخير - انما تؤخذ بنحو الابهام والقدر المشترک وبالمعني الأعم فالجوهر والجسم - وهما جنسان للإنسان - وهکذا النمو والحساس والتحرک بالارادة - وهي فصول بعيدة للإنسان - حين نقول الإنسان جوهر جسم نام حساس متحرک بالارادة ، هذه الأجناس والفصول البعيدة کلها أخذت في تعريف الإنسان بنحو الابهام والعموم من غير اختصاص بالإنسان المادي، بل اخذت في حد الإنسان بما هو انسان الذي يشمل الإنسان المجرد والإنسان المادي معاً وهي جميعاً تجتمع في الفصل القريب بنحو الابهام والعموم أيضاً، فما أخذ في أجناسه وفصوله الأخر والبعيدة علي وجه الابهام (مأخوذ فيه) أي في الفصل الأخير والقريب - کالناطق هنا۔ (علي وجه التحصيل) والتخصيص، فما يؤلف الفصل الحقيقي للنوع يکون بنحو التحصيل والتعيين لا الإبهام والاشتراک فالناطق مثلاً حقيقة محصلة تقوم به إنسانية الإنسان بينما في الأجناس والفصول البعيدة ليس الأمر علي هذا الوجه بل تؤخذ بوجه الابهام والاشتراک ، فالإنسان جوهر بما هو انسان لا بخصوص کونه انساناً مادياً أو انساناً مجرداً، کلّا فانّه جوهر مطلقاً سواء کان إنساناً مادياً أو جوهراًمجرداً، وهو جسم أکان جسماً مادياً أو کان جسماًمثالياً وهو نام أکان نمواً مادياً أو معنوياً وهو حساس أعم من کونه حسّاساً بالحس المادي والحواس الخمس وکونه حساسا بالعلم الحضوري بالمحسوسات وهکذا.

ص: 383

شرح نهاية الحکمة ويتفرّع عليه أن نوعيّةَ النوع محفوظةُ بالفصل، ولو تبدَّلَت بعض أجناسه ،

ولذا لو تجرّدتُ صورَتُه التي هي الفصل بشرط لا- عن المادّة - التي هي الجنس بشرط لا. في المرکّبات المادّية ، کالإنسان تتجرّد نفسُهُ فتفارِقُ البدن ، کانت حقيقةُ النوع محفوظةً بالصورة(1).

ص: 384


1- (ويتفرع عليه) أي علي المطلب السابق (أن نوعية النوع محفوظةً بالفصل) لا بشيء آخر (ولو تبدلت بعض أجناسه) أي بعض أجناس النوع، بأن صار الجوهر المادي جوهراً مجرداً ، أو الجسم المادي الطبيعي جسماً مثالياً ، فإن هذا التغير والتبدل في الاجناس - بعض الاجناس - لا يضر بنوعية النوع، والمراد الأجناس البعيدة دون القريبة ، لأن النوع يزول ويتبدل بتبدل جنسه القريب ، (ولذا لو تجردت صورته) أي صورة النوع (- التي هي) أي تلک الصورة هي (الفصل بشرط لا) لو تجردت هذه الصورة النوعية (- عن المادة التي هي الجنس لا بشرط في المرکبات المادية) فصارت صورة مجردة وکان النوع حنيئذ نوع مجرداً (کالإنسان تتجرد نفسه) و تنتقل من عالم المادة الي عالم التجرد المثالي (فتفارق) نفسه (البدن) و تحلّ في جسم مثالي برزخي (کانت حقيقة النوع محفوظة بالصورة) ولا يضرّ بها تبدل بعض أجناسه البعيدة.

ثمّ إنّ الفصل غيرُ مندرجٍ تحت جنسه الذي يحصّله – بمعني أنّ الجنس غيرُ . مأخوذ في حدّه أخذَ الجنس في النوع - ففصول الجواهر ليست بجواهر . وذلک لأنّه لو اندرج تحت جنسِهِ إفتقر إلي فصل يقوّمه، وننقل الکلام إلي فصله، ويتسلسل بترتّب فصولٍ غير متناهيةٍ، وتحقَّقَ أنواعُ غيرُ متناهيةٍ في کلَّ فصلٍ، ويتکرّر الجنس بعدد الفصول ، وصريح العقل يدفعه(1)

ص: 385


1- انت تعلم أن الجنس العالي الجوهر جنس بعيد للانسان، والجسم أيضاً جنس بعيد له يندرج تحت جنس الجوهر ولکن الفصل سواء کان بعيداً أو قريباً (غير مندرج تحت جنسه الذي يحصّله) أي الجنس الذي يحصله الفصل لعدم وجود السنخية بينهما، وانما يندرج الشيء تحت ما يجمع بينهما السنخ الواحد - أي المتحدان في السنخية يمکن اندراج أحدهما تحت الآخر، ومعني عدم إندراج الفصل مطلقاً تحت الجنس مطلقاً أن الجنس يؤخذ في حد النوع فنقول: الإنسان حيوان مثلاً، لکنه لا يؤخذ في حد الفصل، فلا يقال الناطق حيوان ، ولهذا (ففصول) الماهيات الجوهرية وفصول (الجواهر، ليست بجواهر) أي لا يحمل عليها الجوهر حملاً أولياً ، فالفصل أمر بسيط لا يترکب من جنس وفصل حتي يکون جنس الفصل الجوهري جوهراًمحمولاً عليه بالحمل الأولي ولکن لا ينافي ذلک حمل الجوهر عليه بالحمل الشايع، وکذا حمل المقولات العرضية علي فصول الأعراض - کما جاء في الجزء الثاني من الأسفار - وهو مراد الشيخ الرئيس في الشفاء حيث قال: «ويجب أن يعلم أن الذي يقال من أن فصول الجوهر جوهر وفصول الکيف کيف ، معني ذلک أن فصول الجوهر يلزم أن تکون جوهراً، وفصول الکيف يلزم أن تکون کيفاً، لا أن فصول الجوهر يؤخذ في ماهيتها حدّ الجوهر علي أنها جواهر في أنفسها، وفصول الکيف يؤخذ في ماهيتها حد الکيفية علي أنه کيفية». . فلا يحمل عليها الجوهر بالحمل الأولي، فالناطق ليس جوهراًبالحمل الأولي. اما الدليل الاول علي المدعي: (وذلک لأنه) أي الفصل (لو آندرج تحت جنسه افتقر الي فصل يقومه) أي لو کان الفصل ماهية نوعية مندرجة تحت جنس تلک الماهية بحيث يؤخذ ذلک الجنس في حد ذلک الفصل کما يُؤخذ في حد النوع فلو کان فصل الجوهر جوهرا لزم أن يکون الفصل ماهية مرکبة من جنس وفصل، وکان جنسه الجوهر و(افتقر) ذلک الفصل (الي فصل آخر (يقوّمه) ويميزه عما يشارکه من وجوه الاشتراک في ذلک الجنس (وننقل الکلام الي فصله) فيحتاج الي جنس آخر وفصل آخر (ويتسلسل) هذا الأمر، وافتقار کل فصل الي جنس وفصل (بترتب فصول غير متناهية في کل فصل) ويکون أنواع غير متناهية في کل فصل (ويتکرر الجنس بعدد الفصول) فيکون لکل فصل جنس وفصل (وصريح العقل يدفعه).

علي أنّ النسبة بين الجنس والفصل تنقلب إلي العينيّة ، ويکون الحمل بينهما حملاً أوّلياً، ويبطل کون الجنس عرضاً عامّاً للفصل، والفصلُ خاصّةً للجنس(1)

ولا ينافي ذلک وقوع الحمل بين الجنس وفصله المقسَّم، کقولنا: «کلّ ناطق حيوان» و «بعض الحيوان ناطق»، لأنه حمل شائع بين الخاصة والعرض العام - کما تقدّمت الإشارة إليه ، والذي نفيناه هو الحمل الأوّليّ، فالجوهر مثلاً صادق علي فصوله المقسَّمة له من غير أن تندرج تحته ، فيکون جزءاً من ماهيّتها (2)

فإن قلت : ما تقدّم من عدم دخولِ فصلّ النوع تحت جنسِهِ ينافي قولهم - في تقسيم الجوهر علي العقل والنفس والهيولي والصورة الجسميّة والجسم - بکسون الصورة الجسميّة والنفس نوعَين من الجوهر، ولازم کون الشيء نوعاً من مقولةٍ اندراجُهُ ودخولُهُ تحتها. ومن المعلوم أن الصورة الجسمية هي فصل الجسم مأخوذاً بشرط لا، ففي کونه نوعاً من الجوهر دخولُ الفصل الجوهريّ تحت جنس الجوهر وأخذُ الجوهر في حدّه. ونظير البيان جارٍ في عدَّهم النفسَ نوعاً من الجوهر، علي انّهم بينوا بالبرهان أنّ النفس الإنسانية جوهرّ مجرّدّ باقٍ بعد مفارقة البدن، والنفس

ص: 386


1- الدليل الثاني : لما تقدم من أن النسبة بين الجنس والفصل أن الجنس عرض عام للفصل، والفصل عرض خاص للجنس، ولو اندرج الفصل تحت جنسه تنقلب النسبة بينهما الي العينية فيکون الجنس عين الفصل وبالعکس وهذا خلاف الفرض.
2- (ولا ينافي ذلک) أي ما تقدم من عدم کون الفصل ماهية نوعية مندرجة تحت الجنس - تحت جنسه - لا ينافي وقوع الحمل بين الجنس وفصله المقسَّم) له - أي لذلک الجنس - وانما نفينا وقوع الحمل الأولي بينهما، وما هو حاصل هنا حمل شايع صناعي بين المصاديق الخارجية ولا مانع من تحققه ، فلا منافاة بين القول السابق وما تحقق هنا.

الناطقة صورةُ الإنسان، وهي بعينها مأخوذة لا بشرط فصلُ للماهيّة الإنسانيّة (1)

قلتُ : يختلف حکم المفاهيم باختلاف الاعتبار العقلي الذي يطرؤُها، وقد تقدم في بحث الوجود لنفسه ولغيره أن الوجود في نفسه هو الذي يُنتزع عنه ماهيّةُ الشيءٍ. وأمّا اعتبار وجوده لشيء فلا يُنتزع عنه ماهيّة، وإن کان وجوده لغيره عين وجودهُ في نفسه . والفصل مفهوم مضافُ إلي الجنس، حيثيّهُ أنّه مميَّزُ ذاتيُّ للنوع وجوده للجنس، فلا ماهيّةَ له من حيث إنّه فصل. وهذا معني قولهم : «إنّ لازِمَ کون الجنس عرضاً عامّاً للفصل والفصل خاصّةً له أن ليست فصول الجواهر جواهرَ

ص: 387


1- (فان قلت) في مقام الاشکال : (ما تقدم من عدم دخول فصل النوع تحت جنسه ينافي قولهم) في تقسيم الجوهر الي خمسة أقسام (بکون الصورة الجسمية) وهي القابلية للأبعاد الثلاثة فصلاً للجسم، (و) کون (النفس) الناطقة، وهي الفصل بشرط لا فصلاً للماهية الإنسانية و(نوعين من الجوهر) بکون الأول فصلاً للجسم والثاني فصلا للماهية الإنسانية ، (ولازم کون الشيء نوعاً) کما في الصورة الجسمية والنفس، ولازم کون الشيء نوعاً (من مقولتي) من المقولات (اندراجه ودخوله تحتها) أي تحت نفس تلک المقولة، فالصورة الجسمية والنفس يندرجان تحت مقولة الجوهر، وهذا يکفي لبطلان القول السابق بل يجوز للفصل ان يندرج تحت جنسه. والحاصل أن الصورة الجسمية والنفس نوعان من الجوهر مندرجان تحته، فلا مانع أن تکون بعض الفصول الجوهرية جوهرة بالحمل الأولي. بيان ذلک بالتفصيل : (ومن المعلوم أن الصورة الجسمية هي فصل الجسم) لکن (مأخوذاً) و معتبراً (بشرط لا، ففي کونه) أي الصورة الجسمية (نوعاً من الجوهر دخول الفصل الجوهري تحت جنس الجوهر) أي لازم کون الصورة الجسمية نوعاً من الجوهر، إندراج فصل الماهية الجوهرية تحت جنس الجوهر وأيضاً لازم ذلک (أخذ الجوهر في حدّه) وتعريفه ، ونظير هذا البيان الذي تقدم في الصورة الجسمية ، بيان آخر (جار في عدهم النفس) الناطقة (نوعاً من الجوهر، علي أنهم) واضافة الي انّهم ( بينوا) هذه الحقيقة والمدعي واثبتوه (بالبرهان علي حد زعمهم، وذلک أن النفس الإنسانية جوهر مجرد باقي بعد مفارقة البدن) ولا تزول کما تزول سائر الصور، لأنها ماهية تامة تحتاج الي جنس وفصل وجنسها .الجوهر، فثبت اندراجها تحت مقولة الجوهر ، (و) من جهة أخري فإن (النفس) الانسانية الناطقة صورة الانسان، وهي بعينها مأخوذة لا بشرط) أي لو اخذت لا بشرط فهي (فصل للماهية الانسانية).

بمعني کونها مندرجةً تحت معني الجواهر اندراجَ الأنواع تحتَ جنسها، بل کاندراج الملزومات تحت لازِمها الذي لا يدخل في ماهيّتها»(1)

ص: 388


1- (قلت) في مقام الرد: ان للفصول اعتبارات ثلاثة : اعتبارها لا بشرط الماهية واعتبارها بشرط لا عن الماهية، بالاعتبار الأول کون الفصول الجوهرية فصولاً وبالاعتبار الثاني کونها صوراً، وأما بالاعتبار الثالث فالصور الجوهرية تمام حقيقة الشيء، ثم انّه يختلف حکم المفاهيم باختلاف الاعتبار العقلي الذي يطرؤها، وقد تقدم في بحث الوجود لنفسه ولغيره) في الفصل الثالث من المرحلة الثانية (أن الوجود في نفسه هو الذي ينتزع عنه ماهية الشيء) وان ماهية الشيء لا ينتزع إلا من الوجود في نفسه لذلک الشيء، ولا ينتزع من وجوده الغيري : ( واما اعتبار وجوده) غيرياً أي (الشيء) آخر (فلا ينتزع عنه ماهية ، وان کان وجوده الغيره عين وجوده في نفسه) وقد تقدم أن وجود الاعراض وجود رابطي أي وجودها غيري لا نفسي ولهذا فلا يمکن انتزاع ماهية منها، لأن الماهية لا تنتزع إلا من الوجود لنفسه ، نعم يمکن ان تکون الأعراض مبدأ انتزاع للماهية ، ( والفصل مفهوم مضاف الي الجنس، حيثية أنه مميز ذاتي للنوع، وجوده) ليس لنفسه بل( للجنس) بل جميع الفصول وجودها للأجناس فلا ماهية له) أي للشيء (من حيث انّه فصل) ولهذا فإن وجودها ليس مبدءاً لانتزاع الماهيات، والحاصل أنه بعد ما ثبت أن الفصول لاماهية لها وجودات للغير لا لنفسها فيندفع الاشکال الذي يقول بناءاً علي کونها جواهر يلزم اندراجها تحت مقولة الجنس – جنسها - وتحتاج ايضا الي فصل آخر، کما تقدم في الفصول السابقة، وان کانت اعراضاً لزم کون الجوهر متقوماًبالعرض. (وهذا معني قولهم) أي الحکماء: («ان لازم کون الجنس عرضاً عاماً للفصل، والفصل خاصة له) أي للجنس کما تقدم أن للفصل حقيقة غير حقيقة الجنس و(ان ليست فصول الجواهر جواهر» بمعني کونها مندرجة تحت معني الاجناس ومفهومها کاندراج الانواع تحت اجناسها ، کلا، أي : ( کونها مندرجة تحت معني الجواهر اندراج) أي کاندراج (الانواع تحت جنسها، بل کاندراج الملزومات تحت لازمها الذي لا يدخل في ماهيتها) وحاصله : أن ما يقال من کون الفصل عرضاً خاصاً للجنس وکون الجنس عرضاً عاماً للفصل معناه أن للفصل حقيقة غير حقيقة الجنس ولو کان الفصل مندرجاً تحت الجنس کان من سنخ مقولة الجنس وکان الحمل بينهما أولياً، واطلاق لفظ الجوهر علي الفصل من باب اطلاق اللازم علي الملزوم واندراج الملزوم تحت اللازم، کأن نقول «الله تعالي واجب» أو «الاربّعة زوج» فإن لفظ الجلالة - تعالي - والأربّعة ملزومات والواجب والزوجية - الزوج لازم لهما، فقد قمنا بدرج لفظ الجلالة والاربّعة تحت لازمهما، واطلاقنا لازم کل منهما عليه . فأطلقنا اللازم علي الملزوم - واللازم لا يدخل تحت ماهية الملزوم بل خارج عنها زائد عليها . فمفهوم الفصل مفهوم ناعتي ، وحيثيته التمييز الذاتي للنوع، ولهذا فلا ماهية تامة له حتي يعد نوعاً من الجوهر، ويحمل عليه حملاً أولياً، ولما تبين هذا فقد اندفع الاشکال ولکن التهافت والتناقض واضح في کلام العلامة (قدس سره ) بين صدر الکلام وذيله، حيث صرح بأن ملاک کون النفس من انواع الجواهر، کون الوجود في نفسه هذا في صدر کلامه، واما في ذيله فقد جعل ملاک ذلک کون وجودها لنفسها، فانتبه.

وأمّا الصورة من حيث إنّها صورةُ مقوّمةُ للمادّة فحيث کانت بشرط لا بالنسبة إلي المادّة لم يکن بينهما حملُ أوّليّ فلا إندراج لها تحت الجنس ، وإلّا کانت نوعاً بينه وبين الجنس عينيّةً وحمل أوّليّ، هذا خلف. وإن کان بينها وبين المادّة حمل شائعُ بناءاً علي الترکيب الإتّحاديّ بين المادّة والصورة(1)

نعم، لمّا کانت الصورة تمام ماهيّة التنوع کما عرّفوها بأنها ما به الشيء هو هو

ص: 389


1- تقدم أن لا ماهية للفصل لأن وجوده لغيره لا لنفسه ولهذا فلا يندرج تحت جنسه، فما حکم الصورة المقومة للمادة هل تندرج تحت جنسها أم لا؟ وهل يحمل الجوهر عليها وينسب اليها ام لا، وهل يصح أن يقال الصورة جوهر أم لا؟ والجواب أن للصورة اعتبارات مختلفة، لکل اعتبار منها حکم خاص به علي النحو التالي: (وأما الصورة من حيث آنها صورة مقومة للمادة فحيث کانت هذه الصورة ( بشرط لا بالنسبة إلي المادة لم يکن بينهما) أي بين الصورة والمادة (حمل أولي) فلا تحمل الصورة علي الجنس بالحمل الأولي، فلا اندراج لها) أي للصورة (تحت الجنس) اذ لا يحمل کذلک إلا المعاني المعتبرة بشرط لا، والجنس هو المادة لا بشرط، وکيف يجوز للمعتبر لا بشرط أن يأخذ حکم المعتبر بشرط لا (والا) لو کانت الصورة مندرجة تحت جنسها (کانت الصورة (نوعاً ) وأنت تعلم أن (بينه) أي بين النوع (وبين الجنس عينية) إذ النوع - کالانسان - عين الجنس - کالحيوان -، والجنس أي الحيوان عين النوع الإنسان - وبينهما (حمل أولي)، ومن الواضح ان (هذا) أي کون الصورة عين الجنس، وکون الحمل بينهما حملاً أولياً، (خلف) أي خلاف للفرض، وذلک أن المفروض اعتبار الصورة بشرط لا، ولا يتحقق الحمل إلا إذا اعتبرت لا بشرط، وبعبارة أوضح: ان المفروض هو اعتبار الصورة مقومة للمادة وبشرط لا عن المادة، والعينية بينها - علي اعتبار کونها نوعاً - وبين الجنس خلاف للمفروض من کون النسبة بين الفصل - أي الصورة لا بشرط ، والجنس - وهي المادة لا بشرط - هي العرض الخاص والعرض العام إذ الثاني عرض عام للأول والأول عرض خاص للثاني، فلا عينية ولا اتحاد مفهوماً بينهما .

بالفعل، کانت فصول الجواهر جواهر، لأنّها عينُ حقيقةِ النوع وفعليِّتةِ، لکن لا يستوجب ذلک دخولَها تحتَ جنسِ الجوهر بحيث يکون الجوهر مأخوذاً في حدّها بينه وبينها حملُ أوّليُّ(1)

فتبيّن بما تقدّم، أنّ الفصول بما أنّها فصولُ بسائطُ غيرُ مرکّبةٍ من الجنس والفصل، ممحّضةُ في أنّها مميّيزات ذاتيّة ، وکذلک الصور المادّيّة التي هي في ذاتها مادّيةُ موجودةُ للمادة بسائطُ في الخارج غيرُ مرکّبةٍ من المادّة والصورة، وبسائطُ في العقل غيرُ مرکّبةٍ من الجنس والفصل ؛ وإلّا کانت الواحدة منها أنواعاً متسلسلةً

ص: 390


1- وعدم تحقق الحمل الأولي بينهما لا ينافي أن يکون بين الصورة والمادة حمل شائع واتحاد وجودي في الخارج، ووجودهما فيه بوجود واحد (بناءاً علي الترکيب الاتحادي بين المادة والصورة) فإنهما موجودان في الخارج بوجود واحد، غير قابلين للإنفکاک في ظرف الواقع الخارجي، وما تقوم من الإنفکاک والاعتبار بينهما إنما هو بالتحليل العقلي، وفي ظرف الذهن والوجود الذهني، واما علي القول الثاني، وهو الترکيب الإنضمامي - بمعني ان لکل منهما وجود مستقلاً منحازاً منضماً إلي صاحبه في الخارج -، فلا يقع الحمل بينهما مطلقاً ، لا بالحمل الشايع ولا بالحمل الأولي. حتي هنا ذکرنا حکم اطلاق الجوهر علي الفصول باعتبارين، الأول : باعتبار کون الفصول الجوهرية فصولاً، وذلک باعتبارها لا بشرط الماهية. والثاني : باعتبار کون الفصول صوراًوهو إعتبارها بشرط لا عن الماهية. أما الوجه والحکم الثالث أو وجه ذلک بالاعتبار الثالث فهو ما أشار إليه (قدس سره) بقوله : (نعم) بناء علي الاعتبار الثالث وهو کون الصورة تمام ماهية النوع ولما کانت الصورة بناءاً علي هذا الاعتبار. ( تمام ماهية النوع) و تمام حقيقته ، ومحصلة لفعليته: (کما عرفوها) أي الصورة بأنها ما به الشيء هو هو بالفعل) ولا تتحقق الماهية إلا بها، ولما کانت جميع الأجناس والفصول منطوية فيها (کانت فصول الجواهر جواهر، لأنها) أي الصورة (عين حقيقة النوع وفعليته) أي عين فعلية النوع...... الخ. فإطلاق الجوهر علي الفصول وحمل الجوهر علي الفصل لا يستوجب العينية بين المفهومين أيضاً، بل يکفي کون العينية بين الوجودات الخارجية والمصاديق، وبالحمل الشايع دون الحمل الأولي. والحاصل أن الفصل ليس من أقسام الجوهر، وعد الفصل من الجواهر الخمسة أمر مجازي.

کما تقدّمت الإشارة إليها(1)

وأمّا النفس المجرّدة فهي باعتبار أنّها فصلُ للنوع حيّثيتُها حيثيّة الوجود الناعتيّ وقد عرفت أن لا ماهيّة للوجود الناعتي ، وأمّا من حيث تجرُّدها في ذاتها فإنّ تجرّدَها مصحّحُ وجودها لنفسها، کما أنّها موجودةُ في نفسها، وهي تمام حقيقة النوع، فيصدق عليه الجوهر، فتکون هي النوع الجوهري الذي کانت جزءاً صوريّاً له، وليست بصورة، ولا ينافيه کون وجودها للمادّة أيضاً. فإنّ هذا التعلّق إنّما هو في مقام الفعل دون الذات، فهي مادّية في فعلها لا في ذاتها(2)

ص: 391


1- (فتبين بما تقدم أن الفصول بما أنها فصول) أي بالاعتبار الأول وهو اعتبارها لا بشرط بسائط غير مرکبة من الجنس والفصل) بل بهذا الاعتبار (ممضة) وخالصة (في أنها) او في کونها (مميزات ذاتية) للنوع، فالفصول لا بشرط ليست سوي مميزات وخصائص ذاتية للنوع وکذلک الصور) وهي الفصول بشرط لا حکمها حکم الفصول بالاعتبار الأول - لا بشرط - وأن الصور المادية التي هي في ذاتها مادية) ومتعلقاً بالمادة (موجودة للمادة بسائط في الخارج... الخ) فهذه الصور المادية بسيطة مطلقاً أي في الخارج وفي العقل والذهن، لأنها لو کانت مرکبة منهما، افتقر الفصل الي فصل آخر لأنه مرکب من جنس و فصل، والفصل الثالث کذلک وهلمّ جرّا يتسلسل إلي ما لا نهاية وقد تقدمت الإشارة إليها في هذا الفصل.
2- (واما النفس المجردة) بعد أن ذکرنا اعتبارات الصورة الجسمية فالنفس المجردة ايضاً لها ثلاثة اعتبارات کما للصورة الجسمية (فهي) أي النفس المجردة (باعتبار أنها فصل للنوع) الانساني وهو الاعتبار الأول، من هذا الحيث أو بهذا الاعتبار (حيثيتها) أي حيثية النفس المجردة (حيثية الوجود الناعتي : وقد عرفت ان لا ماهية للوجود الناعتي) فالنفس المجردة لا ماهية لها من هذا الحيث وبهذا الاعتبار، ولا تندرج تحت ماهية الجنس (واما من حيث تجردها) أي النفس المجردة (في ذاتها) وبالاعتبار الثاني أي کونها بشرط لا (فان تجردها مصحَّح ُوجودها لنفسها، کما أنها موجودة في نفسها) أيضاً (وهي) من جهة اخري (تمام حقيقة النوع، فيصدق عليه الجوهر)، إذ الجوهر يصدق علي تمام حقيقة النوع، (فتکون) النفس المجردة (هي النوع الجوهري الذي کانت النفس (جزءاً صورياً له) أي لذلک النوع الجوهري (وليست) النفس حينئ (بصورة) لذلک النوع الجوهري : فإن النفس بهذا الاعتبار تمام حقيقة النوع، ولبساطتها واجدة لجميع الأجناس والفصول السابقة عليها ومنها الجوهر، فاطلاق الجوهر عليه اطلاق حقيقي، وعليه يطلق علي الفصل الانساني - مثلاً - انّه جوهر من باب أنه خارج اللازم، فالذي صار الآن نوعاً جوهرياً بالاعتبار الأول، کان جزءاً صورياً للنوع الجوهري بالاعتبار الثالث. وهنا دفع دخل حاصله : لو کانت النفس وجودها للغير - أي للمادة - فما معني وجودها لنفسها، وکيف يکون لها وجود تفسي؟! (فإن هذا التعلق) للنفس بالمادة لا ينافي کونها جزءاً صورياً للنوع الجوهري لا صورةً له، ولا منافاة بين الاعتبارين إذ من جهة تجردها فإن وجودها لنفسها، و ومن جهة تعلقها بالمادة کون وجودها بالغير - أي بالمادة - فاعتباره بالغير، وذلک أن هذا التعلق إنما هو في مقام الفعل) فالنفس متعلقة بالمادة فعلآً(دون الذات) ومجردة ذاتاً ، (فهي مادية في فعلها لا في ذاتها).

هذا علي القول بکون النفس المجرّدة روحانيّةَ الحدوث والبقاء کما عليه المشّاؤون. وأمّا علي القول بکونها جسمانيّةً الحدوث روحانيّةً البقاء فهي تتجرّد في ذاتها أوّلاً، وهي بعدُ متعلّقة بالمائة فعلاً ثمّ تتجرّد عنها في فعلها أيضاً بمفارقة

البدن (1)

ص: 392


1- (هذا) الذي نقدم عن النفس المجردة من أحکام واعتبارات انما هو (علي القول بکون النفس المجردة) حادثة اولا، لا قديمة - کما زعم افلاطون - بل و(روحانية الحدوث والبقاء) واستقلالها عن المادة والجسم تماماً - حدوثاً، وبقاءاً (کما عليه المشاؤون) من القائلين بحدوث النفس لا بقدمها مثل ارسطو، (وأما علي القول) الثاني والفئة الثانية من القائلين بحدوث النفس (بکونها جسمانية الحدوث) ومادية الحدوث أي حدوثها مقارن لحدوث المادة وبسبب حدوث المادة وفقيرة محتاجة الي المادة في حدوثها، لکنها (روحانية البقاء) مستغنية في بقائها عن المادة والجسم - کما قال المرحوم صدر المتألهين (ع)، (فهي) أي النفس المجردة ( تتجرد في ذاتها أولا) أن للنفس حين الحدوث اعتبار واحد فقط هو الفصلية، لأن وجودها حيں الحدوث للمادة لا لنفسها لأن حدوثها بحدوث البدن، فلا استقلالية لها حتي تکون منشاً لانتزاع الماهية (وهي) أي النفس (بعد متعلقة بالمادة فعلاً) أي انّها بعد الحدوث متعلقة بالمادة فعلاً فقط وتتجرد ذاتاً عن المادة، (ثم تتجرد عنها) أي عن المادة (في فعلها أيضاً بمفارقة البدن) أي أن النفس بعد مفارقتها للجسم والبدن المادي - أي بعدم الموت - تتجرد حتي في فعلها، بعد ما کانت مجردة في ذاتها فقط، وهي حينئذ مستقلة منحازة ومنشأ للماهية لکنها صورة لا فصل. ولهذا فلا يرد النقض والاشکال علي القاعدة المتقدمة.

الفصل السابع في بعض أحکام النوع

النوع هو الماهيّة التامة التي لها في الوجود آثار خاصّة. وينقسم إلي ما لا

اجعه

نقرأ في هذا الفصل :

1- أن النوع ماهية تامة ذوآثار خارجية خاصة، وهو علي قسمين :

أ- النوع الحقيقي ، الذي لا يتوقف في ترتب آثاره عليه، الا علي الوجود الفردي -

المصداقي - الخارجي.

ب- النوع الاضافي، الذي يتوقف في ترتب آثاره علي ضم فصل أو فصول اليه ، وحينئذ

فهو جنس لما دونه من أنواع، وان کان لتمامية ماهيته نوعاً مرکباً من جنس وفصل.

2- توجد الماهية النوعية في الخارج بوجود واحد، وهو وجود النوع، اذ الحمل بين کل

جزء من الأجزاء وبين النوع، حمل أولي.

واما بالاعتبار الذهني بين أجزاء الماهية - الجنس والفصل - فالنسبة هي التغاير بالابهام

والتحصيل، فکل منهما عرضي للآخر.

3- يختلف المرکب الحقيقي عن غيره، بأن الأجزاء في المرکب الحقيقي تفقد آثارها،

ويتحقق منها شيء ثالث ذو آثار خاصة به، ولهذا فالترکيب بين المادة والصورة ترکيب اتحادي لا انضمامي.

4- الماهيات النوعية بعضها کثير الأفراد، وبعضها الآخر ينحصر في فرد واحد، کالعقل المجرد بالذات والفعل. إذ الکثرة اما تمام ذات الماهية أو بعضها أو خارج عنها لازم لها أو خارج عنها مفارق لها، فعلي الاحتمالات الثلاثة الأولي يستحيل تحقق الفرد، لأن الفرد لا يتحقق إلا اذا کان کثيراً، والکثير مؤلف من آحاد، فالفرد لا يتحقق رغم أن المفروض کونه کثير الأفراد والمصاديق.

واما علي الاحتمال الأخير وهو کون الکثرة بسبب عرض مفارق للنوع، يلزم کونه ممکنة، وحامل هذا الامکان مادة، فيجب کون هذا النوع مادة، فکل نوع کثير الأفراد ، مادي، وکل نوع غير مادي - أي مجرد - ليس غير الأفراد بل له فرد واحد فحسب.

ص: 393

يتوقّف في ترتب آثاره عليه إلا علي الوجود الخارجي الذي يشخصّه فرداً کالإنسان - مثلاً - ويسمّي : «النوع الحقيقي»، وإلي ما يتوقّف في ترتّب آثاره عليه علي لحوق فصلٍ أو فصول به، فيکون جنساً بالنسبة إلي أنواع دونه ، وإن کان نوعاً بالنظر إلي تمام ماهينه ، کالأنواع العالية والمتوسطة، کالجسم الذي هو نوع من الجوهر عالٍ ثمّ هو جنس للأنواع النباتيّة والجماديّة ، والحيوانِ الذي هو نوعُ متوسّطُ من الجوهر وجنسُ للإنسان وسائر الأنواع الحيوانيّة، ويسمّي: «النوع الإضافيّ»(1)

ثمّ إنّ الماهيّة النوعيّة توجد أجزاؤها في الخارج بوجودٍ هو وجود النوع، لأن الحمل بين کلُّ منها وبين النوع حملُّ أوّليُّ، والنوع موجودُ بوجودٍ واحدٍ : وأمّا

ص: 394


1- قوله (قدس سره ): (کالانسان - مثلاً ) اذ لا يحتاج في ترتب آثاره الخارجية عليه الا علي الوجود الخارجي الفردي ، ولا يکون منشأ اثر الا بتحقق مصاديقه في الخارج. ويؤخذ النوع لا بشرط ، مبهمة، (فيکون جنساً) ووجهاً مشترکاً (بالنسبة إلي انواع دونه ، وان کان نوعاً مختصاً بماهية محصّصة (بالنظر الي تمام ماهيته) واعتباره بشرط لا. قوله (قده) : ( کالجسم الذي هو نوع من الجوهر عالي) اذا لو حظ بشرط لا أي ماهية تامة، (ثم) في الوقت ذاته (هو) أي الجسم (جنس للأنواع النباتية والجمادية) أن لوحظ لا بشرط أي قيس الي ما دونه من الانواع المندرجة تحته فالجسم رغم کونه نوعاً من الجواهر، لا يکون منشأ ترتب اثر إلا بانضمام فصل اليه کالنفس النباتية ليکون شجرة أو الصورة الحيوانية ليکون جسماً حيوانياً، والا قبل لحوق الفصل بالأنواع التي تحته کالحيوان والنبات، کان جنساً ، هذا بالنسبة الي الجسم الذي هو نوع عال من الجوهر، (و) هکذا الحيوان ...الخ) اذا أخذ ولوحظ بشرط لا وماهية تامة فانّه (نوع متوسط من الجوهر، وجنس للانسان وسائر الانواع الحيوانية) اذا لوحظ لا بشرط، فيحتاج في ترتب أثره عليه الي لحوق فصل أو غيره اليه کالناطق وکيف کان فإن لحوق الفصل الواحد بالنسبة إلي الجنس القريب ، کالناطق بالنسبة الي الحيوان، واما لحوق الفصول العديدة بالنسبة الي الأجناس البعيدة والمتوسطة فإنه کالفصل النباتي والحيواني والانساني بالنسبة إلي الجوهر الذي هو جنس متوسط، والي الجسم الذي هو جنس بعيد. ويسمي :) هذا القسم : ( «النوع الاضافي») کما يسمي القسم الأول بالنوع الحقيقي .

في الذهن فبينها تغايرُ بالإبهام والتحصل، ولذلک کان کلُ من الجنس والفصل عرضياًللآخر کما تقدّم(1)

ص: 395


1- (ثم أن الماهية النوعيه توجد أجزاؤها في الخارج من اجناس وفصول (بوجود واحد، هو وجود النوع) وکما ان الاجزاء تتعدد في الذهن، تتعدد في الخارج أيضاً، لا بوجودات متعددة منحازة علي حده، بل بوجود واحد. والوجود الواحد يمکن أن يکون منشئاً لمفاهيم مختلفة، بلحاظ ما يعرض له من اعتبارات مختلفة (لأن الحمل بين کل منها) أي من الأجزاء وبين النوع، حمل أولي و) من جهة أخري فإن (النوع موجود بوجود واحد) في الخارج، وعليه فالجنس والفصل المتحدان مع النوع مفهوماً، يوجدان في الخارج بوجود واحد، وبعبارة أخري : الحمل بين أجزاء الماهية والنوع مثل «الانسان حيوان» أو «الانسان ناطق» حمل اولي ، فإذا کان مفهومان متحدين معنئ ، کانا متحدين وجود بطريق أولي، ولما کان النوع موجود بوجود واحد، کانت المفاهيم المتحدة معه - کالجنس والفصل - موجودة أيضاً بوجود واحد، (واما في الذهن فبينها) أي بين الأجزاء ( تغاير بالابهام والتحصل) فإن الجنس مبهم والفصل محصّل، وحيث الابهام غير حيث التحصل. هذا القول الذي ذهب إليه المصنف ( قدس سره ) من (وجود اجزاء الماهية النوعية في الخارج بوجود واحد، هو وجود النوع، وان اجزاء الماهية کما انّها متعددة ماهية في الذهن، متعددة ايضاً من جهة الماهيّة في الخارج، وان اتحدت وجود هذا أحد أقوال أربّعة ، وقد سبق اليه المرحوم السبزواري في شرحه علي منظومته ، وتبعه المرحوم العلامة هنا. أمّا بقية الأقوال فإنها قول شيخ الإشراق السهروردي، بأن أجزاء الماهية - الجنس والفصل – متعددة في الخارج ماهيةً ووجوداً، کما هي متعددة في الذهن کذلک، والقول المنسوب الي المولي صدر المتألهين، بأن اجزاء الماهية متعددة في الذهن ماهيةً ووجوداً ، اما في الخارج فلا شيء سوي الوجود، والقول الأخير، ان اجزاء الماهية وان تعددت في الذهن ماهيةً ووجوداً، إلا أنها متحدة في الخارج ماهيةً فقط. وفيما اختاره المصنف (قدس سره ) : من أن الجنس والفصل لا يوجدان في الخارج إلا بوجود واحد، هو وجود الماهية النوعية ، إشکالاً، لأنه مبني علي القول بأصالة الماهية، واما علي مختار المصنف ومبناه في القول بأصالة الوجود، فإنه غير تمام، ولهذا کان علي المؤلف (رحمه الله) أما أن يعرض عن قوله بأصالة الوجود الي القول بأصالة الماهية - وانت تعلم ما في هذا القول من توالي فساد لا يمکن السکوت عليها -، وأما أن يعرض عن مختاره هنا ويلجأ إلي قول يناسب مبناه هناک. ومن هنا فإن الأنسب بل الحق هو ما ذهب اليه المولي صدر المتألهين (قدس سره). فافهم.

ومن هنا ما ذکروا أنّه لابد في المرکّبات الحقيقية - وهي الأنواع المادّية - أن يکون بين أجزائها فقرُ وحاجةُ من بعضها إلي بعض حتّي ترتبط وتتّحد حقيقة واحدة. وقد عدّوا المسألة ضروريّة.

ويمتاز المرکّب الحقيقيّ من غيره بالوحدة الحقيقيّة . وذلک بأن يحصل من تألف الأجزاء أمرُ آخر وراءها له أثرَ جديدُ خاص وراءَ آثار الأجزاء، لا مثل المرکّبات الاعتباريّة التي لا أثر لها وراء آثار الأجزاء، کالعسکر المرکّب من أفراد ، والبيت المرکّب من اللبن والجصّ وغيرها(1)

ومن هنا يترجّح القول بأنّ الترکيب بين المادّة والصورة ترکيبُ إتحاديُ لا

إنضماميُ- کما سيأتي إن شاء الله (2)

ص: 396


1- (ويمتاز المرکب الحقيقي من غيره) أي من المرکب الاعتباري (بالوحدة الحقيقية) خلاف للمرکب الاعتباري فإن الوحدة فيه اعتبارية (وذلک) بيان لوجه أمتياز المرکب الحقيقي عن غيره، أو بيان لوجه الوحدة الحقيقية : (بأن يحصل من تألف الأجزاء) مجتمعة منضمة بعضها الي بعض (أمر آخر وراءها) أي وراء الأجزاء وخلافاً لها (له) أي للمرکب بعد ترکيبه وانضمام اجزاءه بعضها إلي بعض (أثر جديد خاص) غير آثار الأجزاء منفردة و(وراء آثار الأجزاء) هذا معني الوحدة الحقيقية کالماء المرکب من الهيدروجين والاکسيجين فان للماء أثراً وفائدة خاصة تختلف عن أثر الهيدروجين وحده واثر الاکسجين وحده وقبل الترکيب وله فوائد تختلف عن فوائدهما منفردة. قوله (رحمه الله) : (کالعسکر المرکب من افراد) مثلاً الجيش المؤلف من مائة الف جندي ان کان کل واحد منهم قادراً علي مواجهة جندي واحد من الخصم، کان أثره مواجهة جيش مؤلف من مائة الف جندي ، وليس وراء هذا الأثر الذي يرجع في الحقيقة الي أثر الاجزاء منفردة، أثر آخر ، وهکذا البيت المرکب من اللبن والجص وغيرها من المرکبات الاعتبارية إذ الوحدة فيها بعد الترکيب والتأليف لا تزيد علي قبلها شيئاً ولا تأتي بأثر جديد، والترکيب فيها موزع علي الأجزاء منفردة ولهذا فالترکيب ليس حقيقياً حتي يذوب المرکب في الأجزاء والجزء في المرکب.
2- (ومن هنا) حيث کان الترکيب بين أجزاء الماهية ترکيباً حقيقياً لأن أجزائها موجودة بوجود واحد، والوحدة بينها وحدة حقيقية لحاجة بعضها إلي بعض (يترجح القول بأن الترکيب بين المادة والصورة ترکيب انتحادي) حقيقي (لا انضمامي - کما سيأتي إن شاء الله ) تعالي في الفصل الرابع عشر من المرحلة الثامنة.

ثمّ إن الماهيّات النوعيّة منها ما هو کثيرُ الأفراد کالأنواع التي لها تعلُّقَ ما بالمادّة ، کالعنصر، وکالإنسان. ومنها ما هو منحصرُ في فردٍ، کالنوع المجرّد عن المادّة ذاتاً وفعلاً وهو العقل. وذلک أنّ الکثرة إمّا أن تکون تمام ذات الماهيّة النوعيّة أو بعضَها أو خارجةً منها لازمةً أو مفارقةً؛ وعلي التقادير الثلاثة الأوَل يمتنع أن يتحقّق لها فرد، إذ کلّ ما فرض فرداً لها وجب کونه کثيراً ، وکلّ کثير مؤلَّفُ من آحاد، وکلُ واحدٍ مفروض يجب أن يکون کثيراً، وکلّ کثيرٍ فإنّه مؤلَّف من آحاد وهکذا، فيذهب الأمر إلي غير النهاية ، ولا ينتهي إلي واحي، فلا يتحقق الواحد، فلا يتحقّق لها فرد، وقد فرض کثيرَ الأفراد، وهذا خلفُ؛ وعلي التقدير الرابع ، کسانت الکثرة بَعرَضٍ مفارق يعَرَضٍ النوع تتحقّق بانضمامه إليه وعدم انضمامه الکثرةُ ، وکلُّ عرضٍ مفارقٍ يتوقّف عرضُهُ علي سبق إمکان حامله المادّة، فيکون النوع مادّياً بالضرورة. فکلّ نوعٍ کثيرُ الأفراد فهو مادّيُّ، وينعکس بعکسِ النقيض إلي أنّ کلّ نوعٍ مجرّدٍفهو منحصرُ في فردٍ، وهو المطلوب(1)

وانما

ص: 397


1- (ثم ان الماهيات النوعية) علي قسمين : ( منها ما هو کثير الافراد کالانواع التي لها تعلق ما بالمادة) سواء کانت مادية محضة أعني مادية ذاتاً وفعلاً و متعلقة بها في مقام الذات والفعل معاً (کالعنصر) وقد توصل العلم الحديث الي مئات من هذه العناصر، أو کانت مادية في مقام الفعل ومجردة في مقام الذات (کالإنسان، وهو عبارة عن الصور المنطبعة في النفس الإنسانية فهي متعلقة بالمادة في مقام الفعل، وکالأعراض المتحققة في المادة، هذا القسم الأول، ومنها ما هو منحصر في فرد واحد (کالنوع المجرد عن المادة ذاتاً وفعلاً وهو العقل). (وذلک) أي الدليل علي حصر الماهيات النوعية المجردة في فرد واحد، وان النوع المجرد منحصر في ذلک الفرد: (ان الکثرة) اذا تحققت في نوع ما لا يخلو من احتمالات أربّعة ، الاول: اما ان تکون هذه الکثرة (تمام ذات الماهية النوعية)، الثاني : (أو) أن تکون هذه الکثرة (بعضها) أي بعض ذات الماهية النوعية، الثالث : (أو) ان تکون الکثرة (خارجة منها) أي من الماهية النوعية الأزمة) للماهية، الرابع : (أو) ان تکون الکثرة خارجة من الماهية وعرضاً (مفارقةً) للماهية ، ولا خامس لهذه الاحتمالات ، اما الاحتمالات الثلاثة الأوّل باطلة : (وعلي التقادير الثلاثة الأوّل يمتنع أن يتحقق لها فرداً) أي لو کانت الکثرة تمام ذات الماهية أو بعضها او عرضة لازمة لها، يمتنع ويستحيل تحقق فرد لتلک الماهية ، لماذا ؟ إذ کل ما فرض فرد لها) أي للماهية (وجب کونه کثيراً) لأننا سلمنا أن الماهية التي ينتمي إليها هذا الفرد اما ان تکون الکثرة ذاتية لها، أو عرضا لازماً لذاتها، (و) من جهة اخري نجد أن (کل کثير فإنه مؤلف من آحاد) فما فرض فرداً للماهية کان کثيراً مؤلفاً من عدة آحاد وهکذا کل فرد - واحد- مفروض يجب کونه کثيراً، لما تقدم من أن الفرد أو الواحد ينتمي الي ماهية، الکثرة اما ذاتي لها أو لازم ذاتها أو بعض ذاتها، وهذا الکثير يتألف من آحاد (فيذهب الأمر) علي هذا النحو ليتسلسل (إلي) ما لا نهاية وغير النهاية، ولا ينتهي هذا الأمر المتسلسل (الي واحد) يتوقف عنده ، واذا لم ينته هذا المسلسل الي فرد واحد يتوقف عنده ، (فلا يتحقق الواحد) واذا لم يتحقق الواحد (فلا يتحقق لها) أي لتلک الماهية (فرد) اصلا (وقد فرض) أي فرضت تلک الماهية ( کثير الأفراد) لها افراد عديدون (وهذا) أي عدم تحقق فرد لها اصلا (خلف) أي خلاف الفرض الذي تقدم من کون الماهية المفروضة لها أفراد کثيرون في الوجود (و) أما علي التقدير الرابع والأخير - أي کون الکثرة عرضاً مفارقاًللماهية النوعية -، (کانت الکثرة بعرض مفارق يعرض النوع) والماهية حينئذ تتحقق بانضمامه) أي بانضمام العرض المفارق - وهو الکثرة هنا - (إليه) أي الي النوع (وعدم انضمامه إليه (الکثرة) الکثرة فاعل فعل متقدم هو «تتحقق» أي الکثرة تتحقق للنوع والماهية النوعية بانضمام هذا العرض المفارق الي النوع، ولا تتحقق بعدم انضمامه إليه، وکل عرض مفارق يتوقف عرضه) وعروضه للنوع (علي سبق امکاني، حامله المادة) أي عروض کل عرض مفارق للنوع منوط بالامکان السابق الذي تحمله المادة في طياتها - وهو الامکان الاستعدادي - ولولا هذا الامکان والاستعداد في الماهية النوعية لقبول العرض - أياً کان -، لا يتحقق عروض عرض مفارق لماهية نوعية قط، اذ لا يتحقق شيء لشيء الا اذا کان المعروض له قابلاً ومستعداً لقبول العرض بمادته المستعدة والقابلة لکل امکان، فلوتم ذلک وقلنا ان الکثرة النوعية منوطة بعرض مفارق ذا مادة مستعدة لقبول العارض صح الأمر وانتهي، ولهذا (فيکون النوع مادياً بالضرورة) وعليه (فکل نوع کثير الأفراد فهو مادي ، وينعکس هذا القول - أو القضية - (بعکس النقيض الي القضية التالية : (ان کل نوع مجرد فهو منحصر في فرد) و بواسطة اثبات الکثرة للنوع المادي واختصاصها به، وکون المادي نقيضاً للمجرد يتم تأليف قضية عکس النقيض الکفيلة باثبات حصر النوع المجرد في فرد واحد وهو المطلوب).

ص: 398

المرحلة السادسة

في المقولات العشر

وهي الأجناس العالية التي إليها

تنتهي الماهيات بالتحليل

وفيها واحد وعشرون فصلاً

ص: 399

ص: 400

المرحلة السادسة في المقولات العشر

الفصل الأوّل : في المقولات وعددها

في المقولات وعددها (1)

نقرأ في هذا الفصل :

1- للممکن ماهية ، وهذه الماهية اما مشترکة فهي الجنس، واما مختصة فهي الفصل.

2- تنتهي الاجناس عند جنس أعلي لاستحالة تسلسلها الي ما لا نهاية المستلزم لترکب ذات الممکن من أجزاء غير متناهية ، ولازمه عدم امکان تعقل الماهية بتمام ذواتها وذاتيانّها .

3- اذا أخذ الجنس بشرط لا فهو مادة خارجية والمواد محدودة، فسلسلة الأجناس

محدودة أيضاً. وتسمي الأجناس العالية مقولات.

4 - يظهر من هذه المقدمات: أولا: أن المقولات بسيطة لا ترکب لها من جنس وفصل، لأنها أجناس عالية . ثانيا : المقولات متباينة بتمام الذات ، اذ ليس لها جنس مشترک. ثالثا : الماهية الواحدة لا تندرج تحت أکثر من مقولة واحدة، لأنها متباينة بتمام الذات .

فاذا صدقت مقولتان أو أکثر علي مفهوم واحد، کان المفهوم غير مندرج تحت أي مقولة من المقولات، کالمفاهيم القابلة للصدق علي الواجب والممکن معا، لأن الواجب لا ماهية له، فلا يندرج هذا المفهوم تحت ماهية أصلاً.

رابعاً : الماهيات البسيطة - کالفصول الجوهرية - وکالنوع المفرد النقطة والآن والسکون -

خارجة عن المقولات، اذ ليس فيها لأنها لا ماهية لها.

خامساً : الواجب والممتنع خارجة من تحت المقولات غير مندرجة فيها لأنها لا ماهية

5- عدد المقولات استقرائي لا برهاني، أما المفاهيم الماهوية أو مفاهيم الماهية - ما يرد في جواب ما هو-، والشيئية - الموجودية -، والعرضية - أي القيام بالغير، والهيئة والحال - أي القيام بالغير وفي الغير -، والنسبية - أي الموجود في الغير -، لا ماهية لها، بل تنتزع من نحو وجود الاشياء

6- وعن ابن سهلان أن المقولات أربّع : الجوهر والکم والکيف والنسبة.

7- ذهب شيخ الاشراق الي أن المقولات خمس: الجوهر والکم والکيف والنسبة والحرکة .

ص: 401


1- کلمة المقول عند الفلاسفة والمنطقيين تعني المحمول، وانما سميت بالمقولات لأنها أعم المحمولات التي تحمل علي الأشياء - الموضوعات -، ولا يحمل عليها شيء حملاً ذاتياً ، فالمقولة هي ما يحمل علي الأشياء حملاًذاتياً ولا يحمل عليها شيء حملاً ذاتياً، يعتقد الفلاسفة أن الماهيات الممکنة التي تتحقق في هذا العالم لها محمولات عامة هي أعلي الأجناس في الممکنات وليس فوقها جنس، ولو کان فوقها جنس لحمل عليها شيء بنحو الحمل الذاتي - حملاًذاتياً -، فالمقولات هي أعلي أجناس الممکنات ، هذا بالنسبة الي مفهوم المقولات ثبوتاً . ما الدليل علي وجود الأجناس العالية اثباتاً - في مقام الاثبات ؟ فالدليل والبرهان الذي أقامه المصنفة علي وجود الأجناس العالية يشتمل علي مقدمات، أولا : اننا نلاحظ وجود ماهيات نوعية ، وذلک لما تقدم من أن لکل ممکن ماهية تستوي نسبتها إلي الوجود والعدم، و ثانياً : قد ثبت أيضاً أن بين الماهيات مشترکات ذاتية تشترک فيها جميعاً ، إلا ماتم استثناؤه من الماهيات کما سيأتي ان شاء الله تعالي -، فإن بين ماهية الانسان مثلاً وماهية الفرس مشترکاً ذاتياً هو الحيوان، کما أن لکل من الماهيتين أموراً مختصة بکل منهما کالناطق المختص بالانسان والصاهل المختص بالفرس وهما من خصائصهما الذاتية، ثم أن نفس هذه المشترکات الذاتية عند ملاحظتها نجد أن بينها مشترکات ذاتية أخري ايضاً، فالحيوان والشجر يشترکان ذاتاً في الجسمية، والجسمية مشترکة بين الحيوان والشجر، ولهذا فقد يکون للشيء الواحد اجناس متعددة، وقد نقدم الأجناس تصاعدية، هناک الجنس العالي والمتوسط والداني، فهل هناک أجناس تنتهي عندها جميع الأجناس و تقف عندها الاجناس في سيرها التصاعدي، أم أنها لا تقف عند حدٍّ بل تتصاعد الي ما لا نهاية ، وان لکل جنس جنساً فوقه إلي غير النهاية؟ بناءاً علي القول بانتهائها عند حدّ معين ووجود أجناس تنتهي عندها سائر الأجناس أي ليس فوقها جنس أصلاً، بناءاً علي هذا يثبت وجود المقولات لأن هذه الأجناس العالية مقولات أي أنها أعلي الأجناس، وأما علي الثاني ينبغي عدم انتهائها عند حد بل تصاعدها إلي غير النهاية، وهو محال کما في البرهان الذي أقامه سيدنا العلامة ، لاستلزامه التسلسل والوقوع في هذا المحذور المحال، وجه الاستحالة اننا حينئذ نحتاج الي ادراک مفاهيم کثيرة الي غير النهاية ، اذ ادراک الماهية ادراکاً صحيحاً يتوقف علي ادراک أجناسه وفصوله جميعاً ، ثم أن الأنواع التي تتألف في الخارج من المادة والصورة تؤخذ أجناسها من المادة کما ان فصولها تؤخذ من الصورة، فلو صح أن يکون لماهية ما أجناس الي غير النهاية، وجب أن تکون لها مواد الي غير النهاية ، فالماهية الموجودة في الخارج يجب أن تکون ذات أجزاء إلي غير النهاية بحيث تتحقق و توجد کل مادة علي مادة أخري ، وسيأتي بطلان هذا القول ، إذ سيأتي ان شاء الله تعالي في محله أن العلل المادية متناهية ويستحيل أن تکون العلل المادية للشيء متصاعدة إلي ما لا نهاية، فان العلة المقومة للشيء المادي الخارجي وهي المادة والصورة، متناهية، وعليه يلزم کون الأجناس المنتزعة من هذه المواد متناهية قطعاً ، والمراد أنه لا توجد مواد غير متناهية هنا بالفعل، ونعني بذلک أن الجسم لم يتألف من مواد غير متناهية، لا أنه لم يتألف من مواد قبلية سابقة ، مثلاً حين يتبخّر الماء عند درجة الغليان وتتبدل حقيقته من السائلة إلي الحقيقة الغازية، فإن الماء يکون مادة للبخار القادم، والبخار مادة لشيء آخر، وذلک الآخر مادة لشيء ثالث، والثالث مادة الشيء رابع وهکذا الرابع الخامس ، والخامس السادس، وهلم جرا. کل ذلک علي سبيل المثال ، لکن السؤال هنا الشيء الذي نقول ليست له مواد غير متناهية ، هل المقصود أن ليس له مواد وقع فيها العديد من التغير والتبدل قبل ان يتوقف عند هذه الحالة ؟ أم المقصود أن ليس له مادة غير متناهية في الوقت الراهن و بالفعل ؟ ان قلنا انّه لم يوجد من جراء تبدل مواد غير متناهية، وأن هذه المادة لم يحدث فيها تغيير الي غير النهاية قبل انتهائها وبلوغها إلي هذه المرتبة ، فقد خرج مما نحن فيه ، ولا يقول به أحد من الفلاسفة أيضاً، لرفضهم جميعاً لهذا المعني، واعتقادهم بأن الحوادث - والامور الحادثة وکل حادث - غير متناهية حتي من جهة الأبتداء، فما يثبت هناک عبارة عن عدم وجود مواد غير متناهية بالفعل، فالمواد التي توجد في الموجود. أيا کان - عبارة عن مادةً وصورة ، کالهيولي والصورة النوعية التي تحققت فيها، ولو سمينا الصور المتوسطة بعد انضمام الهيولي اليها ماده لا تصير غير متناهية أيضاً ، بل يجب کون المادة الموجودة حالياً وبالفعل في هذا الجسم الخارجي وفي هذا النوع من انواع الجسم، يجب کون هذه المادة الفعلية والصورة المتحققة فيها غير متناهية ، اما المواد السابقة التي وقع فيها التغيير فلا تدل علي عدم تناهيها.

ص: 402

لا ريب أنّ للموجود الممکن ماهيّة هي ذاته التي تستوي نسبتها إلي الوجود والعدم، وهي ما يقال في جواب (ما هو ؟)؛ وأنّ في هذه الماهيّات مشترکاتي و مختصّاتٍ - أعني الأجناس والفصول - وأنّ في الأجناس ما هو أعمّ وما هو أخصّ، أي إنّها قد تترتّب متصاعدةً من أخصّ إلي أعمّ، فلا محالة تنتهي السلسلة إلي جنسٍ لا جنسَ فوقَها لاستحالة ذهابها إلي غير النهاية المستلزم لترکّب ذات

ص: 403

الممکن من أجزاءٍ غير متناهية ، فلا يمکن تعقُّل شيء من هذه الماهيّات بتمام ذاتيّاتها، علي أنّ هذه الأجناس باعتبار أخذها بشرط لا موادُّ خارجيّةُّ أو عقليّةُّ والمادّة من علل القوام، وهي متناهية - کما سيأتي إن شاء الله تعالي -(1)

فتحصّل أن هناک أجناساً عاليةً ليس فوقها جنس، وهي المسمّاة

به «المقولات» (2)

ص: 404


1- المقدمة الأولي : (لا ريب أنّ للموجود الممکن ماهيّة هذه الماهية (هي ذاته) أي ذات الشيء (التي تستوي نسبتها) أي نسبة تلک الذات، (الي الوجود والعدم، (و) تلک النسبة هي ما يقال في جواب (ما هو ؟) ،، أما المقدمة الثانية : (وأن في هذه الماهيات مشترکات و مختصات - أعني الأجناس والفصول - و) اعلم ايضاً (أن في الأجناس ما هو أعمّ وما هو أخصّ...الخ) أي يتصاعد الجنس من الجنس السافل الي الجنس العالي ، وکلما ازداد الجنس علوّاً ازداد تعميماً وابهاماً، وکلما کان أعلي کان أعم لشموله لمصاديق أکثر وعدد أکبر من الأفراد، فالجسم والحيوان جنسان للانسان، إلا أن الجسم أعم وأشمل من الحيوان، والثاني أخص من الأول، إذا اتضح هذا کله وبعد حفظ المقدمتين نستنتج : (فلا محالة تنتهي السلسلة الي جنس لا جنس فوقها) لماذا لابد من انتهاء هذه السلسلة ؟ الاستحالة ذهابها) أي تلک السلسلة (الي غير النهاية) من الأجناس، اما وجه الاستحالة فهو کون هذا التسلسل کغيره ، من التسلسل (المستلزم لترکب ذات الممکن من أجزاء غير متناهية) فالتسلسل يستلزم کون الماهية الواحدة مرکبة مؤلفة من أجزاء کثيرة جدا لا تکاد تنتهي عند حدٍّ معين (فلا يمکن تعقل شيء من هذه الماهيات بتمام ذاتياتها) وذلک أن أذهاننا وعقولنا عاجزة عن ادراک اللامتناهي ، اذا علمت هذا (علي) أي أضف اليه (أن هذه الأجناس باعتبار أخذها بشرط لا) هي في الحقيقة أما (موادّ خارجية) اذا کان المرکب خارجياً، (أو) مواد (عقلية) اذا کانت الماهية بسيطة کالأعراض والعقول (والمادة من علل القوام) في الأشياء، اذ العلة اما خارجية عن الأشياء، او داخلية وجزء من الشيء، والمادة من القسم الثاني الذي تکون العلة فيه داخلة في وجود الشيء وجزءاً مقومة للشيء، (وهي) أي هذه العلل المقومة للذات وللماهية متناهية ، کما سيأتي ان شاء الله تعالي ) في الفصل الخامس عشر من المرحلة الثامنة في باب العلل، فالمواد متناهية ولما کانت هذه المواد هي الأجناس لا بشرط، تحصّل أن الأجناس ايضاً متناهية .
2- (فتحصل أن هناک ...الخ) والمقولات عشر احداها جوهر قائم بالذات، والبواقي اعراض قائمة بالجوهر، مثل الأين والمتي والوضع والجدة والکيف والکم والاضافة وان يفعل وان ينفعل.

ومن هنا يظهر:

أوّلاً : أنّ المقولات بسائط غيرُ مرکّبة من جنسٍ وفصلٍ، وإلّا کان هناک

جنسُ أعلي منها، هذا خلفُ (1)

وثانياً : أنها متباينةُ بتمام ذواتها البسيطة، وإلّا کان بينها مشترک ذاتيُّ وهو

الجنس، فکان فوقها جنس، هذا خلفُ (2)

وثالثاً : أن الماهية الواحدة لا تندرج تحتَ أکثر من مقولتر واحدةٍ ، فلا يکون شيءُ واحدُ جوهراً وکمّاً معاً، ولا کمّاً وکيفاً معاً ، وهکذا. ويتفرّع عليه أنّ کلّ معني يوجد في أکثر من مقولةٍ واحدۃٍ فهو غيرُ داخل تحتَ المقولة ، إذ لو دخل تحت ما يصدق عليه لکان مجنَّساً بجنسَين متبايَنين أو أجناس متباينة، وهو محال. ومثله ما يصدق من المفاهيم علي الواجب والممکن جميعا، وقد تقدمت الإشارة إلي ذلک(3)

ص: 405


1- (اولاً... الخ) لأن المقولات ان کانت مرکبة کانت ذات جنس وفصل، ولزم کون الجنس فوقها وقد أثبتنا وسلمنا بأنها أعلي الأجناس ليس فوقها جنس، ولهذا فإن فرض کونها ذوات أجناس ومرکبة من جنس وفصل، فرض خلف ومخالف لما تم فرضه والتسليم به.
2- (وثانياً.. الخ)، فلو کان تميزها ببعض الذات أو بملازم خارج من الذات لوقع المحذور اذ لو کان تميزها بعض الذات لزم أن يکون بينها جنس مشترک، وقد أثبتنا أنها بسيطة غير مرکبة حتي يکون الجنس جزءاً مشترکاً بينها، وأنت تعلم أنه بناءاً علي ذلک يحصل محذور وقوع الجنس فوقها و(هذا خلف) لما تقدم من کون المقولات أعلي الأجناس ليس فوقها جنس.
3- (وثالثاً ...الخ) وحاصله أن ماهية الانسان مثلاً، جنسه الحيوان، وجنسه المتوسط النامي، وجنسه العالي الجوهر، کل هذه الاجناس من مقولة واحدة هي الجوهر لا يدخل فيها مقولة عرضية، وليس بينها کيف ولا کم ولا غيرهما، وإلا لزم ادغام مقولتين في مقولة واحدة ، حال کونهما متباينتين بتمام الذات، وما ليس بينهما وجه اشتراک وجنس مشترک لا يمکن ان يتم ادغامهما في بعضهما، وقس علي ماهية الإنسان سائر الماهيات (اذ لو دخل تحت ما يصدق عليه لکان مجنّساً بجنسين متباينين) کالحرکة فإنها تندرج تحت مقولة الأين ومقولة الکم، لوجود نوعين من الحرکة هما الحرکة الکمية والحرکة الأينية المکانية ، ولو کانت الحرکة نوعاً من الکم ونوعة من الأيسن لکانت ذات جنسين ولهذا قال : (لکان) هذا المعني الموجود في أکثر من مقولة واحدة - کالحرکة - (مجنساً) هذا المعني (بجنسين متباينين وأجناس متباينة، وهو) أي تجنّسه بجنسين متباينين (محال) فصدق هذه المفاهيم علي الحرکة صدق عرضي لأنها متحدة وجوداً، والحمل بينها حمل شايع، والصدق يختلف عن الإندراج، اذ الاندراج عبارة عن وقوع نوع تحت جنس ما، والحرکة وان صدق عليها مفهوم المقولة، غير أن هذا الصدق ليس صدقاً ماهوياً، وصدق هذه المفاهيم علي الحرکة إنما هو صدق عرضي کما تقدم (ومثله) أي مثل ما تقدم من عدم اندراج الماهية الواحدة تحت اکثر من مقولة واحدة (ما يصدق) أيضاً (من المفاهيم علي الواجب) بالذات (والممکن) بالذات (جميعاً)، فلو وجدنا مفهوماً قابلاً للاندراج تحت الواجبات و قابلاً للاندراج أيضاً تحت الممکنات علمنا أنه ليس من الماهيات المندرجة تحت المقولات، لکون الواجب تعالي بالذات، منزهاً من الماهيات، وهو في الحقيقة لا يعد قابلا للاندراج بل قابل للصدق علي هذا وذاک وانطباق کل من الواجب والممکن عليه ، فالمناط آن کل مفهوم قابل للإنطباق والصدق علي اکثر من مقولة، أي قابل لصدق وانطباق اکثر من مقولة عليه، لا يندرج تحت أي من المقولات لعدم کونه مفهوماً ماهوياً ، وهکذا کل مفهوم قابل للدخول تحت الواجبات والممکنات لا بعد مفهوماً ماهوياً قابلاً للاندراج تحت أي من المقولات. وقد تقدمت الاشارة الي ذلک في المرحلة الرابعة، من خلوّ الواجب من الماهية و تنزهه عن الماهيات وعليه فکل ما يحمل علي الواجب لا يعد من سنخ الماهيات. .

ورابعاً : أنّ الماهيّات البسيطة کالفصول الجوهرّية - مثلاً - وکالنوع المفرد. إن

کان - خارجةُ عن المقولات، وقد تقدّم في مرحلة الماهيّة(1)

ص: 406


1- (ورابعاً .. الخ): حين قلنا المقولة جنس لما يندرج تحتها، فإنا أردنا أن ما يندرج تحت مقولة، لا يخلو مفهومه من قابلية التحليل الي جنس وفصل، وإلا لم تکن المقولة جنساً له اذ حين نقول الانسان جسم، فإنه يعني قابلية مفهوم الانسان للتحليل الي أجناس وفصول، أحد تلک الأجناس هو الجسم، فلابد من کون المفهوم مرکباً ، فلو أتينا بالماهيات البسيطة کالفصول الجوهرية وکالنوع المفرد. اذا وجد هذا الأخير - فإنها خارجة غير مندرجة تحت المقولات. قوله : (کالنوع المفرد - ان کان ا لأنهم اختلفوا فقال طائفة منهم بوجود النوع المفرد ومثلوا له بالنقطة والآن والسکون، وقد جاء في الهندسة الحديث عن الجسم التعليمي وهو الحجم الذي يعد بنفسه مفهوما من عوارضة السطح، والخط من عوارض السطح، والنقطة من عوارض الخط، فالحجم کم متصل، والسطح نوع من الکم، مندرج تحته، والخط نوع من الکم، مندرج تحته ، واما النقطة فانّها نوع مفرد لا جنس لها لبساطتها وعدم ترکبها، وهکذا الزمان فإنه کمُّ غير قارُّ واما الآن الواقع بين زمانين ، فانّه هنا کالنقطة في نهاية الخط، طرف للزمان، لا يقبل القسمة والترکيب، أي ليس له جنس ولا فصل لأنه نوع مفرد لا يندرج تحت مقولة أصلاً. ومنهم من أنکر الوجود الخارجي الحقيقي للنوع المفرد. والحاصل: أن الذين ذهبوا إلي کون المقولات عشرة، قالوا بضرورة اندراج کل ماهية مرکبة من جنس و فصل تحت احدي هذه المقولات، لا اندراجها تحتها مطلقاً (وقد تقدم في مرحلة الماهيات) في الفصل السادس من المرحلة الخامسة.

وخامساً: أنّ الواجب والممتنع خارجان عن المقولات، إذ لا ماهيّةَ لهما،

والمقولات ماهيّات جنسيّة .

ثمّ إنّ جمهور المشّائين علي أنّ المقولات عشر، وهي الجوهر والکم

والکيف والوضع والأين والمتي والجدة والإضافة وأن يفعل وأن ينفعل(1)

والمعوَّل فيما ذکروه علي الإستقراء، ولم يقم برهانُ علي أن ليس فوقها مقولةُ هي أعمُ من الجميع أو أعم من البعض . وأمّا مفهوم الماهيّة و الشيء والموجود وأمثالها الصادقة علي العشر جميعاً ، ومفهوم العرض والهيئة والحال الصادقة علي التسع غير الجوهر، والهيئة النسبيّة الصادقة علي السبع الأخيرة المسمّاة بالأعراض التسبيّة ، فهي مفاهيم عامّة منتزعةُ من نحو وجودها خارجةُ من سنخ الماهيّة . فماهّية الشيء هو ذاته المقول عليه في جواب ما هو، ولا هويّة إلّا للشيء الموجود، وشيئيّة الشيء موجودُ، فلا شيئيّةَ لما ليس بموجودٍ، وعرضيّةُ الشيء

ص: 407


1- (ثم أن جمهور المشائين) ذهبوا تبعاً لأرسطو مؤسس المقولات علي أنها عشر، ولم يسبقه الي هذا القول أحد کما يبدو، وان أنکر ذلک شيخ الاشراق وادعي أنه لغيره، ولمزيد من الاطلاع راجع الجزء الاول من منطق ارسطو، ومنطق الشفاء لابن سينا، والجزء الرابع من الأسفار، والجزء الأول من المباحث المشرقية، وشرح المنظومة للسبزواري.

کون وجودِهِ قائماً بالغير، وقريبُ منه کونه هيئةً وحالاً ؛ ونسبيّة الشيء کونُ وجوده في غيره غير خارجٍ من وجود الغير. فهذه مفاهيم منتزعةُ من نحو الوجود محمولةُ علي أکثر من مقولةٍ وأحدةٍ ، فليست من المقولات کما تقدّم(1)

ص: 408


1- قوله : (ولم يقم برهان..الخ) وان أقام الشيخ الرئيس برهاناً ضعيفاً علي کونها محصورة في هذا العدد، کما ذکر المرحوم صدر المتألهين، ولم يعتمده الشيخ نفسه، حيث صرح في طبيعيات الشفاء أن لا نصر علي کونها عشراً. واما الاستقراء التام منه معذور او محال، والناقص منه لا يؤدي إلي القطع. قوله : ( واما مفهوم الماهية) وهو کون ما يقال في جواب ما هو؟ فإنه معني انتزاعي، وليس ذاتي الشيء ما يقال في جواب ما هو، والماهية حکاية عن الماهيات، ليس فيها ماهية يظهر بعد التحليل الماهوي، فمفهوم الماهية ليس جزءاًلذات الماهية (والشيء) والشيئية (والموجود) والموجودية، فانّها وان کانت جميعاً عناوين عامة إلا أنها لا تعد جنس الأجناس. لأن هذه - مفهوم الماهية والشيء والموجود - وما بعدها من المفاهيم العرض والهيئة والحال وما شابهها، فإنها لا تعد مقولات مستقلةُ، لأنها منتزعة من نحو الوجود - من نحو وجودها -، إذ العرض هو ما کان وجوده في الموضوع، فلزم لحاظ حال وجوده، بينما لا يصح لحاظ حال الوجود في الماهية، فليست مفاهيم مقولية أعلي من المقولات العرضية ، راجع شوارق الالهام للمرحوم اللاهيجي. (والهيئة النسبية) وهي سبع مقولات أخذت النسبة فيها لأنها مقولات نسبية فالأين هيئة حاصلة من نسبة الشيء الي المکان، والمتي هيئة حاصلة من نسبة الشيء الي الزمان ، وهکذا البواقي، ثم ان هذه الهيئة النسبية رغم صدقها علي سبع مقولات عرضية إلا أنها لا تعد مقولة، بل هي معنيً عام عرضي صادق علي تسعة أجناس. (فماهية الشيء هو ذاته المقول.....الخ) فالماهية هي الشيء بعينه، ولا يصح القول بأن الشيء جزء لنفسه (ولا هوية إلا للشيء الموجود) فتمام حقيقة الشيء هو الماهية إلا أنه ماهيّة جزء لنفسها ، وشيئية الشيء موجود...الخ) الشيئية تساوق الوجود، وما ساوق الوجود وکان من حيث المصداق نفس الوجود، لا يمکن أخذه في ماهية الشيء، اذ الماهية لا تؤخذ من الوجود والعدم، فالشيئية مفهوم وجودي وماهوي، (وعرضية الشيء) ومفهوم العرض ليس مقولة ل(کون وجوده) أي العرض (قائماً بالغير) وان العرض صفة للوجود لا يمکن جعله ماهية (وقريب منه) أي من العرض (کونه) أي الشيء (هيئة وحالاً) لأن مفهوم العرض والهيئة والحال قريبة من بعض، ونسبية الشيء) حيث عدّها شيخ الاشراق مقولة مستقلة تامة، وجعل سبعة منها مقولات نسبية، ولکن لا يمکن عدّها مقولة خلافاً للاشراقيين ، اذ نسبية الشيء (کون وجوده) أي الشيء (في غيره) أي کون وجود الشيء وجوداً رابطاً(غير خارج من وجود الغير) لأنه وجود حرفي رابطي (فهذه المفاهيم مفاهيم منتزعة من نحو الوجود... الخ) ليست مقولات (کما تقدم) قبل أسطر.

وعن بعضهم: «أنّ المقولات أربع، بإرجاع المقولات النسبيّة إلي مقولة

واحدة ، فهي الجوهر والکم والکيف والنسبة»(1)

ويدفعه ما تقدّم (من) أنّ النسبة مفهومُ غيرُ ماهويًّ منتزعُ من نحو الوجود، ولو کفي مجرّد عموم المفهوم في جَعلِهِ مقولةً فليُرَدُّ المقولات إلي مقولتين : «الجوهر والعرض»، لصِدق مفهوم العرض علي غير الجوهر من المقولات، بل إلي مقولةٍواحدةٍ هي الماهيّة أو الشيء(2)

وعن شيخ الإشراق : «أنّ المقولات خمس، الجوهر والکم والکيف والنسبة

والحرکة»..

ويردُ عليه ما يردُ علي سابقه مضافاً إلي أن الحرکة أيضاًمفهومُ منتزعُ من نحو الوجود، وهو الوجود السيّال غير القار الثابت، فلا مساغ لدخولها في المقولات.

ص: 409


1- (وعن بعضهم) قيل هو عمرو بن سهلان الساوجي أحد الحکماء راجع شرح المنظومة وله کتاب «البصائر النصيرية». .
2- (ويدفعه) أي يدفع ما زعمه ابن سهلان (ما تقدم) قبل أسطر (من) بيانية (أن النسبة مفهوم غير ماهوي.. الخ) فلو صح عدّ النسبة مقولة واحدة، وجعل السبعة واحدة، فلم لا نعدّ العرض کله مقولة واحدة، لتکون المقولات محصورة في اثنتين: الجوهر والعرض، ولهذا قال : (ولو کفي مجرد عموم المفهوم في جعله مقولة...الخ) کما قال شيخ الاشراق والمرحوم السيّد الداماد في القبسات، (بل) ترد المقولات العشر الي مقولة واحدة هي الماهية أو الشيء).

ص: 410

الفصل الثاني في تعريف الجوهر

نقرأ في هذا الفصل :

(1)وأنّه جنس لما

تحته من الماهيّات (2)

ص: 411


1- الماهية التي اذا وجدت في الخارج وجدت لافي موضوع مستغني عنها، وهي ماهية الجوهر. 2- والماهية التي اذا وجدت في الخارج وجدت في موضوع مستغني عنها، وهي المقولات العرضية التسع. فالماهية علي قسمين. 3- خرج الواجب تعالي ، بقيد الماهية، وبقيد الوجود في الخارج، خرج الجوهر والعرض بالحمل الأولي الذهني المفهومي. 4- وجاء بقيد الإستغناء للاشارة الي تعريف الموضوع مطلقا ، وانّه قائم بنفسه وذو وجود منحاز لنفسه، وليس هذا القيد لادخال الصور الجوهرية في تعريف الجوهر، لأنها ماهيات بسيطة لا تندرج تحت الماهيات لا تحت ماهية الجوهر ولا غيرها، إذ لا جنس لها. 5 - من أنکر وجود الجواهر فهو قائل بجوهرية الأعراض. - وما استدل به علي جنسية الجوهر لما تحته بکون «الاعراض محتاجة الي موضوع مستغن بذاته عن موضوع آخر، لاستلزامه التسلسل المحال» فإن مفاده لزوم وجود موضوع يسمي الجوهر، لکنه لا يفيد کون هذا المفهوم الجوهري جنسين لما يندرج تحته من الماهيات، لجواز القول بأن الجوهر مفهوم انتزاعي من نحو وجود الموضوع. 7- ولو صح هذا الاستدلال بأن مفهوم الجوهر - أي الوجود لا في موضوع لصدقه علي الماهيات المتکثرة الجوهرية عد جنسا لتلک الماهيات ، لو صح هذا وجاز، لصح وجاز القول بأن المفهوم العرضي - أي الوجود في الموضوع - جنس أيضا للمقولات التسع العرضية ، والحال أنها أجناس عالية ليس فوقها شيء. 8- لما کان الجوهر بمعني الوجود لا في موضوع والعرض بمعني الوجود في موضوع، لم يصح کون الشيء الواحد جوهرة وعرضا في آني واحد.
2- انما بدأ البحث عن الجوهر قبل العرض خلافاً للفخر الرازي في مباحثه المشرقية، والمولي صدر المتألهين في أسفاره، لتوقف وجود العرض علي وجود الجوهر، وتقدم الجوهر علي العرض تقدماً طبيعياً، وقد سبقه بذلک المرحوم الطوسي ، راجع شرح التجريد للقوشجي. ثم انّه يتطرق في هذا الفصل الي المسائل التالية اوّلاً : تقسيم الماهية الي الجوهر والعرض، الثاني : تعريف الجوهر، الثالث : اثبات وجود الجوهر والعرض في الخارج، رابعاً : اثبات کون الجوهر جنسية . اعلم أن الموضوع في قوله : «اذا وجدت في الخارج وجدت في موضوع» أو وجدت لا في موضوع»، هذا المصطلح - اعني الموضوع - له اطلاقات عديدة في علمي الفلسفة والمنطق ، فالموضوع المنطقي - أي المستعمل في المنطق يراد به ما يقابل المحمول، وليس هو المعني المراد هنا ، کما أن «الموضوع» يستعمل في الفلسفة نفسها لمعاني مختلفة ، منها استعماله في مقابل المحل - وهو ما يحل فيه الشيء أي مکان حلول الأشياء - أکان الحال محتاج الي هذا المحل أم لا، يشترطون في الموضوع أن يکون بحيث لا يحتاج المحل الي الحال، أي لا يکون الموضوع محتاجاً الي الحال، کلون الفاکهة أو القماش أو أي شيء آخر، فإن هذا اللون الحال في الفاکهة أو القماش أو غيرهما، لا يدل علي حاجة الفاکهة أو القماش إليه، فإن الموضوع - وهو الشيء الملؤَّن مطلقاً مستغن عن اللون الحال فيه، اذ ماهية الشيء ماهيّة جوهرية، لم يؤخذ في ماهيته حيثية الکيف والکيفية لأنها ماهية تامة ، وليس قوام الشيء - والجسم - باللون، فالموضوع مستغن عما يحلّ فيه أي عن محله ، بخلاف الجوهر فإنه لا يحتاج الي موضوع مستغن عنه، فليس وجوده للغير، بينما کان وجود العرض للغير لا للنفس.

تنقسم الماهيّة انقساماً أوّلياً إلي الماهيّة التي إذا وجدَت في الخارج وجدَث لا في موضوعٍ مستغنٍ عنها وهي ماهيّة الجوهر، وإلي الماهيّة التي إذا وجدَت في الخارج وجدَت في موضوع مستغني عنها وهي المقولات التسع العرضيّة .

فالجوهر ماهيّة إذا وجدت في الخارج وجدَت لا في موضوع مستغني عنها،

وهذا تعريفُ بوصفٍ لازم للوجود من غير أن يکون حدّاً مؤلّفاً من الجنس والفصل، إذ لا معني لذلک في جنس عالٍ ، کما أنّ تعريف العرض بالماهيّة التي إذا وجدَت في الخارج وجدَت في موضوعٍ مستغنٍ عنها، تعريفُ بوصف لازمٍ لوجود المقولات التسع العرضيّة وليس من الحدّ في شي (1)

ص: 412


1- (وهذا تعريف بوصف لازم للوجود) والماهيّة، لا تعريف بالذاتيات ولهذا قال في المنظومة الفريدة الأولي في رسم الجوهر» فعبر عنه بالرسم لا بالحد، اذ الحد يجب کونه مؤلفاً من الجنس والفصل، ولا يکون الحد تاماً حتي يکون مؤلفاً من الجنس القريب والفصل القريب، فالتعريف هنا ليس حدّيا علي الاطلاق. ان قلت ولِمَ لَم يعرفه بالحد قلنا : (اذ لا معني لذلک) أي للتعريف بالحد التام أو الحد مطلقاً (في جنس عالي) اذ تقدم أنّ الجوهر من الأجناس العالية فکيف يتوقع أنّ يُعرّف بالحد المؤلف من الجنس والفصل والجنس العالي لا جنس له فوقه حتي يقع معرَّفاً له، کما أن تعريف العرض...الخ) ليس تعريفاً حدياً لنفس السبب الذي تقدم في الجوهر.

والتعريف تعريفُ جامعُ مانعُ ، وإن لم يکن حدّاً ، فقولنا : «ماهيّة» يشمل عامة الماهيّات ويخرج به الواجب بالذات حيث کان وجوداً، صرفاً لا ماهيّة له ؛ و تقييد الماهيّة بقولنا: «إذا وجدَت في الخارج»، للدلالة علي أنّ التعريف لماهيّة الجوهر الذي هو جوهر بالحمل الشائع، إذ لو لم يتحقّق المفهوم بالوجود الخارجيّ لم يکن ماهيّةً حقيقيّةً لها آثارها الحقيقيةّ ، ويخرج بذلک الجواهر الذهنية التي هي جواهر بالحمل الأوّليّ عن التعريف، فإنّ صدقَ المفهوم علي نفسه حملُ أوّليُّ لا يوجب اندراج المفهوم تحت نفسه ؛ وتقييد الموضوع ب« کونه مستغنياً عنها»، للإشارة إلي تعريف الموضوع بصفته اللازمة له، وهو أن يکون قائماً بنفسه- أي موجوداً لنفسه - فالجوهر موجود لا في موضوع - أي ليس وجوده لغيره کالأعراض، بل لنفسه (1)

.

ص: 413


1- (و) لکن هذا التعريف) رغم کونه بالرسم لا بالحد فهو (تعريف جامع مانع لا يضرّ شيئاً بالمحدود ولا ينقص من حقيقته شيئاً (وان لم يکن هذا التعريف (حداً) تاماً ولا ناقصاً. (ويخرج بذلک الجواهر الذهنية ...الخ) سواء کانت عبارة عن مفهوم الجوهر الذي لا يتحقق إلا في ظرف الذهن، أو المصاديق الذهنية للجوهر مثل الانسان والشجر والحجر ، فإن ماهيتها عند تصورها تکون موجودة في موضوع هو الذهن الذي تصورها ، فالمعرف هنا هو الإنسان بالحمل الشايع لا بالحمل الأولي الذي هو في الحقيقة مفهوم ذهني صرف، وانما : الماهية للموجود الخارجي والمصداق العيني، (فان صدق المفهوم علي نفسه) وحمله علي نفسه (حمل أولي) کما في تصور المفاهيم جميعاً وهذا الحمل الأولي الذهني الا يوجب اندراج المفهوم تحت نفسه) لأن مجرد صدق المفهوم علي نفسه لا يستلزم کونه نوعاً من الماهية ومندرج تحت هذه الماهية نفسها - أي اندراج المفهوم تحت نفسه -

وأمّا ما قيل : إنّ التقييد بالاستغناء لادخال الصور الجوهريّة الحالة في المادّة في التعريف، فإنّها وإن وجدَت في الموضوع، لکنّ موضوعها غير مستغنٍ عنها ، بل مفتقرةً اليها (1)

ففيه : أنّ الحق أنّ الصور الجوهريّة ماهيّات بسيطة غير مندرجةٍ تحت مقولة

الجوهر، ولا مجنّسة بجنس - کما تقدّمت الإشارة إليه في مرحلة الماهيّة -

ووجود القسمين - أعني الجوهر والعرض - في الخارج ضروريُّ في الجملة ، فمن أنکر وجود الجوهر فقد قال بجوهريّة الأعراض من حيث لا يشعر. ومن الأعراض ما لا ريب في عرضيّته کالأعراض النسبيّة(2)

ص: 414


1- (واما ما قيل :) وقائله الآملي في درر الفوائد، ما مضمونه لا عينه ولفظه بالتمام والکمال : (ان التقييد بالاستغناء) حيث قالوا «مستغن»، جاء هنا خلافاً لأصل التقييد از الأصل في القيد أن يضيق دائرة الشيء وهو هنا لم يأت للتضييق بل (لادخال الصور الجوهرية الحالة في المادة، في التعريف) وانت تعلم أن هذا توسعة لدائرة المعرَّف لا تضييق لأنه أدخل شيئاً لا أخرج منها شيئاً وهو معني التوسعة وهو خلاف الأصل في القيود وخلاف طبيعة القيود.
2- (فمن أنکر وجود الجوهر) وشکک في وجوده کما فعل فلاسفة الغربّ وعلي رأسهم بارکلي، قالوا ان المدرکات اعراض ليس الا، ولا توجد جواهر حتي يتم إدراکها ولا دليل علي وجودها، هؤلاء أرادوا انکار الجوهر ومن فعل ذلک فقد أثبت تسعة جواهر بدل جوهر واحد، إذ (قال) هذا المنکر (بجوهرية الأعراض التسعة لکن (من حيث لا يشعر) وبهذه النتيجة التي أراد انکارها من أساسها، وذلک أن الأعراض لا تقوم إلا بغيرها- وهو الجوهر - فاذا انکرنا الجوهر لزم کون هذه الأعراض جواهر حتي تقوم وتوجد في الخارج ولازم ذلک کونها جواهر بأجمعها وهو ما لا يقول به المنکر نفسه، أو لزم انکار وجود الأعراض ايضاً وهو محال وأقبح من سابقه، وذلک أن الشيء الخارجي أما قائم موجود بنفسه أو بتبع غيره ولا ثالث لهما، (ومن الاعراض ما هو مشتبه في وجوده ومشکوک فيه کالکيف والکم حيث يروي الشيخ الرئيس عن بعض قدماء الفلاسفة انّهما جوهران، ولکن من الأعراض أيضا (مالا ريب في عرضيّته کالأعراض النسبية) التي لا شک في عرضيتها ، والحق أن الأمر ليس کذلک وانما الکيفيات النفسانية والجسمانية هي التي لا ريب في عرضيّتها، فتأمل جيداً.

والجوهر جنسُ لما يصدق عليه من الماهيات النوعية ، مقوُمُ لها، مأخوذُ في حدودها، لأنّ کون الماهيات العرضيّة مفتقرةً في وجودها الخارجيّ إلي موضوع مستغني عنها يستلزم وجود ماهيّة هي في ذاتها موضوعة لها مستغنٍةُ عنها، وإلّا ذهبت سلسلة الافتقار إلي غير النهاية ، فلم تتقرر ماهية ، وهو ظاهر(1)

وأمّا ما استُدِلّ به علي جنسيّة الجوهر لما تحته بأنّ کون وجود الجوهر لا في موضوع وصفُ واحدُ مشترکُ بين الماهيّات الجوهريّة، حاصلُ لها علي وجه اللزوم مع قطع النظر عن الأُمور الخارجة، فلو لم يکن الجوهر جنساًلها، بل کان

لازمَ وجودها وهي ماهيات متباينة بتمام الذات ، لزم انتزاعُ مفهومٍ واحدٍ من مصاديق کثيرة متباينة بما هي کذلک، وهو محال. فبين هذه الماهيّات الکثيرة المتباينة جامعُ ماهويُّ واحدُ لازِمُةُ الوجودّي کونُ وجودها لا في الموضوع(2)

ص: 415


1- (والجوهر جنس لما يصدق عليه من الماهيات النوعية مقوم لها مأخوذ في حدودها) کما عليه الأکثرون وقد خالفهم الفخر الرازي، لأن الجوهر جنس عال لتلک الماهيات النوعية ، دليل ذلک : (لأن کون الماهيات العرضية مفتقرة في وجودها الخارجي الي موضوع مستغن عنها) هذا بديهي ان وجودات الاعراض الموجودة في الخارج تفتقر الي موضوعات تقوم بها لذلک ( يستلزم حاجتها وفقرها الي موضوع (وجود ماهية هي في ذاتها موضوعة لها) فوجب کونها ماهية قائمة بنفسها (مستغنية) تلک الماهية (عنها) عن الماهيات العرضية في وجودها (وإلا لو لم تنته (سلسلة الافتقار) عند جوهر وماهية قائمة بنفسها، ذهبت هذه السلسلة (الي غير النهاية) وصارت لا متناهية ، ولو تحقق ذلک التسلسل المحال بطل کل شيء ولم يثبت حجر علي حجر، ولم يتحقق موجود خارجي عيني قط، وحينئذ (فلم تتقرر ماهية) اصلاً (وهو) أي بطلان عدم نقرر الماهية - أو الماهيات - (ظاهر) ليس شيء أظهر منه وبرهانّه الوجدان، بل الظاهر أيضاً خلافه وهو ثبوت الماهية و نقررها بالوجدان
2- (واما ما استدل به) والمستدل هو صدر المتألهين في الجزء الرابع من أسفاره (علي جنسية الجوهر لما تحته بأن ...... الخ) فان هذا الذي تقدم من کون الموضوع لا في موضوع عبارة عن وصف مشترک بين الماهيات الجوهرية (حاصل لها علي وجه اللزوم) لا يمکن سلب هذا المفهوم من هذه الماهيات، أعني أنه لا يمکن سلب هذا المفهوم عن الماهيات الجوهرية ، إذ لا توجد ماهية جوهرية علي غير هذا الوصف ، اذ کلها موجودة لا في موضوع (مع قطع النظر عن الأُمور الخارجة) من الماهية، فهي ليست من اللوازم الخارجة من ذات الماهية، فإن هذه المفاهيم تصدق عليها بغضّ النظر عن العوامل الخارجية (فلو لم يکن الجوهر جنساً لها) ولم نعد هذا المفهوم جنساً (بل کان) هذا الجوهر والمفهوم (لازم وجودها) أي وجود الماهيات الجوهرية فقط ، (وهي ماهيات متباينة بتمام الذات) فلو لم يکن الجوهر جنساً رغم ذلک (لزم انتزاع مفهوم واحد من مصاديق کثيرة متباينة بما هي) أي المصاديق الکثيرة (کذلک) أي بما هي کثيرة، وکيف کان لو لم نعدّ هذا المفهوم داخلاً في ذات الماهية - ونعدّه مفهوماً انتزاعياً - فإن هذا المفهوم الانتزاعي يستحيل تحققه من أشياء کثيرة بما هي کثيرة، فنعلم أن هناک جهة ذاتية مشترکة بينها، وهذا المفهوم انما يحکي عن تلک الجهة المشترکة فيها. (فبين هذه الماهيات الکثيرة المتباينة جامع ماهوي واحد) مشترک بينها جميعاً لازم وجود هذا الجامع المشترک کونه لا في موضوع، وهذا ما اخترناه وذهبنا إليه وقلنا بوجود ماهية جنسية مشترکة بينها، لازم وجودها أنها لا في موضوع، فکان تعريف الجوهر بلازم الوجود، حيث قلنا: الجوهر ماهية إذا وجدت وجدت لا في موضوع، ولقد جعلنا التعريف خاصة من خاصيات الوجود وخصائصه ، فإذا لاحظنا وجود ماهيات متباينة - کما فيما نحن فيه -، لها خاصية وجودية مشترکة، نعلم أن هذه الماهيات لها جهة اشتراک ينتزع منها هذا المفهوم عند وجودها والمفهوم المنتزع حينئذ منها هو کون وجودها لا في موضوع، وهو کافي لاثبات أن الجهة المشترکة الماهوية هي الجنس الذي نطلق عليه «الجوهر» ونعرفه علي هذا النحو.

ففيه : أنّ الوصف المذکور، معني منتزعُ من سنخِ وجود هذه الماهيّات الجوهريّة لا من الماهيّات، کما أنّ کون الوجود في الموضوع - وهو وصفُ واحدُ لازمُ للمقولات التسع العرضيِة -، معنيً واحدُ منتزعُ من سنخ وجود الأعراض جميعاً، فلو استلزم کون الوصفُ المنتزع من الجواهر معني واحداً جامعاً ماهويّاً واحداً في الماهيّات الجوهريّة لاستلزم کون الوصف المنتزع من المقولات العرضيّة معنيً واحداً جامعاً ماهويّاً واحداً في المقولات العرضيّة هو جنس لها ، وانتهت الماهيّات إلي مقولَتين هما الجوهر والعرض(1)

ص: 416


1- (ففيه) رد علي الأشکال المتقدم : (ان الوصف المذکور معنئ منتزع من سنخ وجود هذه الماهيات) الوصف المشترک هو کون وجوده لا في موضوع، هذا الوصف المذکور المشترک تم انتزاعه من حيئية الوجود۔ کون وجوده لا في الموضوع - لا من الماهيات، ويجري نفس هذا الکلام في الأعراض: (کما أن کون الوجود في الموضوع - وهو) أي هذا الکون العرضي وصف واحد لازم للمقولات التسع العرضية - ) کلّها، هل لکم أن تقولوا هناک ان لمفهوم العرض - وللأعراض بأجمعها ، جهة ما هوية مشترکة، يحکي عنها مفهوم العرض، ستجيبون بالنفي حتما، وعليه فنقول : ان هذا الأمر لا يدل علي کون مفهوم الوجود جنس ، (کما أن کون الوجود في الموضوع - وهو وصف .... الخ ) هذا الوجود في الموضوع عبارة عن (معنيً منتزع من سنخ وجود الأعراض جميعاً) وجود الأعراض في الموضوع من الضروريات (فلو استلزم کون الوصف المنتزع من الجواهر معنيً واحداًجامعاً ماهوياً واحداً) «معنيً واحداً خبر للکون في قوله : «فلو استلزم کون»، «جامعاً ماهوياً واحداً» مفعول لقوله: «استلزم...»، وحاصله : أن الوصف المنتزع من الجواهر معني واحدة، هذا الکون» للوصف المنتزع معنيً واحداً، لو کان مستلزماً لوجود جامع ماهوي واحد بين الجواهر، الاستلزم الأمر المزبور (کون الوصف المنتزع من المقولات العرضية معنيً واحداً جامعاً ماهوياً واحداً في المقولات العرضية) أيضاً طبق النعل بالنعل ، والحاصل أنه لو کان هنا هکذا، لکان هناک هکذا أيضاً، لضرورة وجود ذلک في الأعراض أيضاً، لأن معني الکون في الموضوع مشترک بين الأعراض أيضاً، فاللازم کون جميع الأعراض - والمقولات العرضية - ذات جامع ماهوي مشترک ، وهذا الجامع الماهوي المشترک (هو جنس لها) أي لتلک المقولات العرضية ، (و) لو قلنا بمثل هذا لنتج عنه خطأ جسيم و(انتهت) جسميع (الماهيات الي مقولتين هما الجوهر والعرض) فثبت بطلان هذا الدليل لأنکم لا تلتزمون بکون الجامع جنساً للأعراض، ولا بما ينتهي إليه ذلک من انتهاء الماهيات الي مقولتين.

فالمعوَّل في إثبات جنسية الجوهر لما تحته من الماهيّات علي ما تقدّم من

أنّ افتقار العرض إلي موضوع يقوم به يستلزم ماهية قائمة بنفسها(1)

ص: 417


1- وماذا نصنع بعد بطلان الدليل ؟ (فالمعوَّل) بناء علي ما تقدم من کون احتياج العرض وافتقاره الي موضوع قائم به ، يستلزم کون ماهية قائمة بالنفس، فالحاجة الي جوهر تکون حيثيته الذاتية هي القيام بالنفس ، فالمعول والمناط (في اثبات جنسية الجوهر ) أي في اثبات کون الجوهر جنساً (لما تحته من الماهيات) بناءاً علي ما تقدم من البرهان الذي تم ابطاله (من) بيانية للبرهان ولا «ما» في قوله «ما تقدم» وهي ما موصولة قصد بها البرهان المزبور، فالمعول في ذلک بناءاً علي ما تقدم من أن افتقار العرض الي موضوع يقوم العرض (به) أي بذلک الموضوع يستلزم) کون العرض (ماهية قائمة بنفسها) بيان ذلک : هذا دفع دخل حاصله، ان ادعاءکم بأن الأعراض لحاجتها الي موضوع حيثيته أنّه مستغن عن الموضوع، وهذا هو جنس لها، فلم لا تقولون بذلک في الأعراض، اعني أن تقولوا: للاعراض بأجمعها خصوصية أنها محتاجة الي موضوع بذواتها - احتياجها إليه ذاتي -، فيجيب المؤلف : بما حاصله : أن قولنا بحاجة الأعراض الي موضوع - لکون وجودها للغير - انما هو معنيً سلبيُّ، والمعني السلبي لا يقع جامعاً ماهوياً للماهيّات، لضرورة کون هذا الجامع معنيً اثباتياً، فالحيثية التي ندرکها في الأعراض - من حاجتها الي الموضوع - ليس وجودها لنفسه بل لغيره، وهو معنيً سلبي لا يصح جعله جامعاً ماهوياً، وقد اشار الي هذا المعني في حاشيته علي کتابه - في حاشية الکتاب ..

ويتفرّع علي ما تقدّم أنّ الشيء الواحد لا يکون جوهراًوعرضياً معاً ، و ناهيک في ذلک أنّ الجوهر وجوده لا في موضوع، والعرض وجوده في موضوع، والوصفان لا يجتمعان في شيءٍ واحدٍ بالبداهة(1)

ص: 418


1- وحاصله : أن النوع الواحد لا يمکن اندراجه تحت مقولتين ، فلا يمکن أن يقال عن الشيء الواحد، هذا جوهر وعرض في آني واحد، (و ناهيک في) اثبات (ذلک) يکفيک في البرهان الذي يثبت ذلک واوضح دليل عليه أنه لو کان الشيء الواحد جوهراً و عرضاً في آن واحد لکان وجوده في موضوع - لاقتضاء ذات الجوهر ذلک -، ولکان وجوده لا في موضوع أيضا. لاقتضاء ذات العرض ذلک ، ولازم هذا القول اجتماع النقيضين، لأن اجتماع الجوهرية والعرضية في شيء واحد وفي آني واحد، اجتماع للنقيضين وهو محال .

الفصل الثالث في أقسام الجوهر الأوّلية

نقرأ في هذا الفصل :

1- الجوهر علي قسمين: أ- ما يکون في محل - الصورة المادية . ب- ما لا يکون في

محل.

2- الجوهر الذي لا في محل: أ- اما ان يکون محلا لغيره - هيولي .. ب. واما ان لا

يکون محلا لشيء.

3- الجوهر الذي ليس محلا لشيء: أ- اما مرکب من الهيولي والصورة - الجسم . ب۔

أو غير مرکب منهما.

4- الجوهر الذي لم يکن مرکبة من الهيولي والصورة : أ- اما ان يتأثر بالجسم - النفس -

ب- واما ان لا يتأثر به - فهو العقل.

5- يرد علي التقسيم السابق للجوهر: أ- انّه ليس عقليا لامکان أن يکون الجوهر المادي مرکبة من مادة وصورة ليستا بجسم. ب. تقدم أن الصورة المادية الجوهرية بسيطة ، ولهذا فهي ليست من مقولة الجوهر، وأن صدق عليها الجوهر.

6- اما المرحوم صدر المتألهين فقد قام بالتقسيم التالي للجوهر في کتابه الاسفار:

الجوهر: أ. اما قابل للأبعاد الثلاثة - جسم -. ب- او لا يقبل الأبعاد الثلاثة.

الجوهر الذي لا يقبل الأبعاد الثلاثة : أ- إما جزء من الجسم. ب - أو ليس جزءاً منه.

الجوهر الذي يعد جزء من الجسم : أ- أما أن يکون الجسم بالنسبة له جزءا بالفعل -

الصورة .. ب. واما ان يکون بالنسبة اليه بالقوة - المادة -

الجوهر الذي لا يعد جزءاً من الجسم: أ- اما ان يتصرف في الجسم مباشرة - النفس -

ب. واما أن لا يتصرف فيه مباشرة - العقل -

7- هذا التقسيم أفضل من سابقه، وجه الأفضلية أنه لم يجعل «الموجود في محل»،

محصورة في الصورة المادية، لشموله الصور الادراکية الحالة في النفوس أيضاً.

8- لکن المصنف ي يري فيه ايضاً أنه لم يقم علي اساس الحصر العقلي . اذ بناءاً علي

قول المشهور ليست الصور الادراکية من الجواهر، بل هي کيفيات نفسانية - من الکيف النفساني -، فلا معني ولا حاجة لمحاولة ادخالها في أقسام الجوهر.

ص: 419

قالوا : إنّ الجوهر إمّا أن يکون في محلَّ، أو لا يکون فيه ؛ والکائن في المحل هو «الصورة الماديّة»، وغير الکائن فيه إمّا أن يکون محلّاً لشيءٍ يقوم به أو لا يکون، والأوّل هو «الهيولي»، والثاني لا يخلو إمّا أن يکون مرکّباً من الهيولي والصورة أو لا يکون، والأوّل هو «الجسم»، والثاني إمّا أن يکون ذا علاقة إنفعالية بالجسم بوجه أو لا يکون، والأول هو «التفس» والثاني هو «العقل». فأقسام الجوهر الأوّليّة خمسة ، هي : الصورة المادّيّة والهيولي والجسم والنفس والعقل (1)

وليس التقسيم عقليّاً دائراً بين النفي والإثبات، فإنّ الجوهر المرکّب من الجوهر الحالّ والجوهر المحلّ ليس ينحصر بحسب الإحتمال العقليّ في الجسم،

ص: 420


1- لقد درج الحکماء علي أن الأقسام الأولية للجوهر خمسة، وأنه ينقسم بحسب التقسيم الأولي إلي خمسة أقسام، ولکي يبرّروا و يبيّنوا وجه حصره الي هذه الأقسام، قالوا بأن الجوهر لا يخلو من حالات : أما أن يتحقق في محل أو لا محل له، فالأوّل هو الصورة المادية ، فهي عند المشائين جوهر يتحقق في الهيولي. والثاني أما أن يکون محلاً لشيء آخر، أو لا يکون کذلک، فالأول هو الهيولي ، والثاني - الذي ليس حالا في غيره ولا هو محل لغيره -، فهو اما مرکب من الهيولي والصورة واما بسيط، فالأول هو الجسم، والثاني اما أن تکون له علاقة انفعالية مع الجسم، أو لا، فالأوّل هو النفس والثاني هو العقل ، والعقل - اذن - جوهر لا يحلّ في شيء ولا محلّ لجوهر آخر ولا مرکب من جوهرين ولا ينفعل بالجسم، فالجوهر منحصر في خمسة أقسام أولية طبعاً، وهو مذهب و مختار المشائين الذين ذهبوا الي أن الجوهر خمسة أقسام، واما القسم السادس هو الهيولي والسابع هو الصورة. وهو علي خلاف مختار الاشراقيين النافين للهيولي الذي يترتب عليه عدم عدا الصورة قسما من الجوهر، بل يعتبرونه الجسم فالجواهر عندهم علي ثلاثة أقسام أوّلية الجوهر العقلاني، والجوهر النفساني، والجوهر الجسماني، وذهبوا أيضاً إلي وجود جواهر تقع بين مرتبة العقل ومرتبة المادة - أي لها خواص المادة وان کانت مجردة ذاتاً - هي الصور المثالية، ولمزيد الاطلاع علي رأي المشائين يمکن الرجوع الي الفصل الأول من المقالة الثانية من الهيات الشفاء ، و تعليقة المولي صدر المتألهين علي الشفاء لکن المرحوم العلامة له رأي ثالث ويورد اشکالات علي مزاعم الفريقين - المشائين والاشراقيين....

فمن الجائز أن يکون في الوجود جوهر ُمادّيُّ مرکّبُ من المادّة وصورةٍ غير الصورة الجسميّة ، لکنّهم قصروا النوع المادّيّ الأوّل في الجسم تعويلآًعلي استقرائهم(1)

علي أنّک قد عرفت أنّ الصورة الجوهريّة ليست مندرجةً تحت مقولة

الجوهر، وإن صدَقَ عليها الجوهر صدقَ الخارج اللازم (2)

قال في الأسفار بعد الإشارة إلي التقسيم المذکور: «والأجود في هذا التقسيم أن يقال : الجوهر إن کان قابلاً للأبعاد الثلاثة فهو الجسم، وإلا فإن کان جزءاً منه هو به بالفعل سواء کان في جنسه أو في نوعه فصورةُ إمّا إمتداديّة أو طبيعيّة، أو جزء هو به بالقوّة فمادّة ، وإن لم يکن جزءاً منه فإن کان متصرّفاً فيه بالمباشرة فنفسُ ،

ص: 421


1- وأجاب العلامة : (وليس التقسيم عقلياً ..الخ) لماذا لا يکون الحصر عقلياً هناء والجواب : (فإن الجوهر المرکب... الخ) لو فرضنا وجود جوهر مرکب من جوهر حالٍّ وجوهر محلّ عدا الهيولي والصورة لم نلتفت بالنظرة الأولي الي ما فيه من اشکال عقلي ، الا أن يثبت خلاف ذلک وبطلانّه في عالم الخارج والواقع، إذ الحصر العقلي عبارة عن تحقق النفي والاثبات بمجرد لحاظ المفهومين، فمجرد لحاظ المفهومين عقلآً يحقق لنا دوران الأمر فيهما بين النفي والاثبات، ولهذا قالوا: الجوهر اما مرکب واما بسيط . غير مرکب ، ولو کان مرکباً نزم کونه محصوراً بين الهيولي والصورة عقلاً، فإنّ العقل بوحده لا يتکفل باثبات هذا المدعي - وهو حصر المرکب بين الهيولي والصورة -، فالجوهر المرکب من جوهر حال وجوهر محلّ، لا ينحصر عقلاً في الجسم، لاحتمال العقل وجود ترکيب آخر- نوعٍ آخر من الترکيب - غير الترکيب الحاصل بين المادة والصورة الجسمانية ، هذا اشکال
2- واما الاشکال الثاني : (علي) أي علاوة علي، أو أضف الي هذا الاشکال، اشکالاً آخر هو: (انک قد عرفت) في الفصل الثاني من هذه المرحلة (ان الصورة الجوهرية) ما ذکر هنا من الجوهر الحال في المحل کان عبارة عن الصورة المادية وهو القسم الأول، فان هذه الصورة الجوهرية (ليست مندرجة تحت مقولة الجوهر) فإذا کان هذا الجوهر جنس للأقسام، لم يصحّ کونه جنساً للصورة، لما تقدم من أن الصورة الجوهرية لا جنس لها أصلاً (وان صدق عليها) أي علي الصورة الجوهرية (الجوهر، صدق الخارج اللازم، وهو الصدق بالحمل الشايع لا الأولي، فالصدق عرضي لا ذاتي، اذ أنه يصدق عليه صدق المفهوم الخارج من الذات، اللازم للذات، مثل صدق الممکن علي الممکنات، فإنه مفهوم خارج الماهية - بل خارج من الماهيات جميعاً ، لازم لجميع الماهيات.

وإلّا فعقلُ» (1)

ثمّ قال مشيراًإلي وجه جودة هذا التقسيم: «وذلک لما سيظهر من تضاعيف ما حقّقناه من کون الجوهر النفسانيّ الإنسانيّ مادّةً للصورة الإدراکيّة التي يتحصّل بها جوهراً آخر کماليّاً بالفعل من الأنواع المحصّلة التي يکون لها نحو آخر من

ص: 422


1- (قال) المرحوم صدر المتألهين (في) الجزء الرابع من (الاسفار...الخ). (والا فان کان) الجوهر (جزء منه) أي من الجسم، وکان بخصوصية أنه (هو) أي الجسم (به) أي بهذا الجزء - وهو الجوهر - ( بالفعل) فإن کان الجوهر جزءاً للجسم مع خصوصية کون فعلية الجسم به، وکان قوام فعلية الجسم بهذا الجوهر، وکان الجسم بواسطة هذا الجوهر فعلياً (سواء کان) هذا الجزء الجوهري (في جنسه) أي في جنس الجسم (أو في نوعه) أي في نوع الجسم (فصورة) فاذا صار هذا الجوهر جزءاً من الجسم مقومأ له - جزءأ مقوماً للجسم - ويصدق عليه الجوهر حينئذ، سواء کان في صورة الجنس أو في صورة شيء آخر فهو صورة ، فسواء کان نوعاً من الجوهر بحيث يکون الجنس جوهراً له، أو کان الجنس صادقاً عليه، فاذا صار جزءاً من الجسم بحيث يتقوم به الجسم ويصدق عليه الجوهر، أکان بصورة الجنس أو غيره فصورة. ثم أن هذه الصورة (اما امتدادية) أي جسمانية (أو طبيعية) أي صورة نوعية وصور نوعية ، کالصورة النباتية والحقيقية ، کل هذه الصور تدخل في التعريف، فهي الصورة التي جزء من الجسم لا تتم فعلية الجسم إلا به، (أو جزء) جوهري (هو) أي الجسم (به) أي بواسطته ، يعني بواسطة هذا الجوهر يکون (بالقوة) حاملا لقوة الجسم (فمادة) وهيولي ، (وان لم يکن) الجوهر (جزءاً منه) أي من الجسم (فإن کان متصرفاً فيه) أي في الجسم (بالمباشرة فنفس ، والا) ان لم يکن متصرف فيه (فعقل ). والحاصل: أن الجوهر اما قابل للأبعاد الثلاثة، أو لا. فإن کان قابلاً للأبعاد الثلاثة فهو جسم. وان لم يکن قابلاً لها، فإما أن يکون جزءاً من الجسم أو لا يکون جزءاً منه. فإن کان جزءاً منه فهو اما جزءاً مقوم له بالفعل - في جنسه أو في نوعه - فصورة اما امتدادية أو طبيعية . وإما جزء مقوم للجسم بالقوة - أي قوة الجسم به لا فعليته - فمادة و هيولي. وان لم يکن - الجوهر - جزءاً من الجسم، فإما أن يکون متصرفاً في الجسم مباشرة بلاواسطة، أو لا يکون متصرف فيه کذلک، فالأول نفس والثاني عقل . خذ واغتنم .

الوجود غير الوجود الطبيعيّ الذي لهذه الأنواع المحصّلة الطبيعيّة» - إنتهي(1)

ص: 423


1- قوله : (وذلک لما سيظهر من خلال (تضاعيف) وتصفّح (ما حققناه) والتصفّح فيما حققناه من مطالب (من) بيانية لقوله «ما» في «ما حققناه»، من کون الجوهر النفساني الإنساني مادة للصورة الادراکية) فالتقسيم الذي تقدم وجعل ما کان مادة وصورة منحصراً في الجسم، لا يتلائم ولا يتمشّي مع المبني الثابت في خصوص النفس، وذلک أن المبني في النفس کونها مادة للصورة الادراکية، لأن التقسيم يستلزم کون هذه الصورة مادية - جسماً سه والحقيقة خلاف ذلک لأنها ليست جسماً ، فمن کون الجوهر الإنساني النفساني هذا مادة اللصورة الادراکية (التي يتحصل بها جوهراً آخر کمالياً بالفعل) يقول المولي صدر المتألهين ليس الانسان هو النوع الأخير ، بل بواسطة اکتساب صور ادراکية خاصة يصير ذا أنواع، ولهذا يحشر کل فوج من الناس بصورة خاصة يوم القيامة، ويصيرون انواع مختلفة، لأن الصور الإدراکية المکتسبة عبارة عن صورة جديدة حلت في النفس ودخلت عليها وزادتها کمالا وفعلية جديدة، فالنفس مادة بالنسبة الي تلک الصورة الإدراکية التي تنضم الي النفس و نصير نوعاً آخر جديدة ، فالنفس مادة للصورة الإدراکية التي بواسطة تلک الصورة تبلغ صورة جوهرية کمالية أخري، والنفس مستعدة وذات استعداد لإنضمام تلک الصورة الإدراکية اليها، واذا التحقت بها وانضمت اليها تلک الصورة، اکتسبت تحصلاً وکمالاً جديدين و فعلية حديدة، إذاً بعد انضمام تلک الصورة الي النفس يتحصل للنفس بها أي بواسطة تلک الصوره جوهر آخر کمالياً بالفعل، (من الانواع المحصلة التامة ، فتصير جوهرا آخر من الانواع التامة و تکون نوعاً تاماً جديداً (التي يکون لها) أي لتلک الأنواع (نحو آخر من الوجود) غير الوجود الطبيعي الذي لهذه الأنواع المحصّلة الطبيعية» فتکتسب نوعاً وجودياً آخر غير الأنواع التي نعرفها في هذا العالم - لأن الأنواع المعروفة هنا عبارة عن کون کل موجود من الموجودات الجسمانية ذا نوع خاص من الأنواع، فالنفس بواسطة تلک الصور تکتسب نوع آخر غير هذه الأنواع المعروفة لدينا، والحاصل أن الفرق بين هذا التقسيم و سابقه أن الجوهر المرکب من الحال والمحل في التقسيم الأول کان منحصراً في الجسم، وبناءاً علي ما حققناه من کون النفس مادة للصورة الادراکية، يجب کون النفس جسماً لأنکم قلتم أن ما کان مرکبة من المادة والصورة فهو جسم، وقد ثبت کون النفس مادة اللصورة الادراکية، فوجب کون النفس جسماً أيضاً، وليس کذلک. فالأفضل أن نبدأ بالجسم، وتقول: الجسم ما له قابلية الأبعاد الثلاثة، وغيره ينقسم الي عدة أقسام : اما جزءاً من الجسم فهو اما مادة أو صورة، او خارج من الجسم فهو اما متعلق بالجسم فهو النفس واما غير متعلق بالجسم فهو العقل. لکن المصنف سيورد نفس الاشکالين السابقين اللذين وردا علي التقسيم السابق - أعني التقسيم المشائي -، سيور دهما ههنا، باضافة اشکال ثالث.

وما يَرِدُ علي التقسيم السابق يَرِدُ علي هذا التقسيم أيضاً ، علي أنّ عطف الصور الطبيعيّة - وهي متأخّرة عن نوعيّة الجسم - علي الصورة الامتداديّة، لا يلائم

کون الإنقسام أوّليّاً(1)

وکيف کان فالذي يهمّنا هاهنا أن نبحث عن حقيقة الجسم و جزئَية - المادة

والصورة الجسمّية -، وأمّا النفس فاستيفاء البحث عنها في علم النفس ، وستنکشف حقيقتها بعض الانکشاف في مرحلتَي القوّة والفعل ، والعاقل والمعقول، وأمّا العقل فيقع الکلام في حقيقته في الإلهيّات بالمعني الأخصّ ، وستنکشف بعض الانکشاف في مرحلتي القوّة والفعل ، والعاقل والمعقول إن شاء الله تعالي (2)

ص: 424


1- قوله : (علي) أي علاوة علي الاشکالين السابقين يرد هنا اشکال ثالث، هو (أن) المولي صدر المتألهين قد (عطف الصور الطبيعية علي الصورة الامتدادية ، بينما نجد في الحقيقة أن الصور الطبيعية متأخرة عن نوعية الجسم، وعطف الصور الطبيعية المتأخرة عن نوعية الحسم، علي الصور الامتدادية ، والحال أن تقسيمنا أولي ، وهذا التقسيم ثانوي (لا يلائم کون الانقسام أولياً) ومن شروط التقسيم الأولي شموليته لجميع الأقسام، ولکن يبدو بالنظر الدقيق عدم ورود هذا الاشکال علي صدر المتألهين ، فتأمل
2- قوله : (في مرحلتي القوة والفعل) في المرحلة التاسعة، وفي مرحلة (العاقل والمعقول) في المرحلة الحادية عشرة، (وأما الکلام عن العقل فيقع الکلام في حقيقته في مبحث الإلهيات بالمعني الأخص) وذلک عندما يتم البحث عن أفعال الواجب و مخلوقاته - تبارک وتعالي -، وعند الحديث عن الصادر الأول، کما يتم البحث عن العقل أيضاً في مبحث القوة والفعل والعاقل والمعقول لکن ضمناً وبالمناسبة لا باستقلال .

الفصل الرابع في ماهيّة الجسم

نقرأ في هذا الفصل :

أ. وجود الجسم أمر بديهي ، وفي حقيقة الجسم سبعة أقوال :

1- جمهور المتکلمين: أن الجسم مرکب من أجزاء ذات وضع لا نقبل التجزءة والتقسيم،

وهي الأجزاء - متناهية ، غير قابلة للتقسيم الخارجي، ولا الوهمي، ولا العقلي.

2 - النظام، أن الجسم مرکب من أجزاء ذات وضع - بالوصف السابق -، إلا أنها غير

متناهية.

3- ديمقراطيس: أن الجسم مرکب من أجزاء بالفعل، متناهية ، صغيرة، صلبة، غير قابلة

للتقسيم الخارجي فقط ، . فهي قابلة للتقسيم الوهمي والعقلي.

4- الشهرستاني : أن الجسم متصل واحد کما نلاحظه بحواسنا، يقبل القسمة إلي أجزاءاً

متناهية.

5- افلاطون: أن الجسم جوهر بسيط هو الاتصال والامتداد الجوهري، يقبل القسمة

خارجاً ، و وهماً، وعقلاً.

- شيخ الاشراق : أن الجسم مرکب من جوهر و عرض، هما الجسم الطبيعي . أي

الجوهر -، والجسم التعليمي- أي العرض.

7- ارسطو والأساطين - أي الکبار والعظماء من حکماء المسلمين: أن الجسم مرکب من جوهرين هما: المادة الأولي، والإتصال الجوهري، يقبل القسمة إلي أجزاء غير متناهية في الخارج ثم في الوهم، اذا عجز الخارج واستحال، ثم في العقل اذا عجز الوهم.

ب- ويرد عليها جميعاً:

اما القول الأول ففيه ، أولاً: أنه لو کان للأجزاء حجم، کانت قابلة للتقسيم العقلي وإن امتنع تقسيمها في الخارج والوهم، ولو لم تکن ذات حجم استحال حصول الحجم من اجتماعها.

ثانياً : لو فرضنا وقوع جزء بين جزئين، فإما أن يحول دون وقوع الإتصال بين الجزئين ،

فهو - أي الجزء الحائل - ذو طرفين وکان قابلاً للقسمة.

وأما أن لا يمنع الاتّصال بينهما، فوجوده وعدمه سيان، هذا أولا، وثانياً : يلزم منه عدم

ص: 425

وقوع أي شيء مانعاً عن شيء آخر، أعني عدم وقوع شيء قط حائلاً دون اتصال شيئين آخرين، وعدم الحيلولة دون اتصال شيئين، وهو ضروري البطلان.

وثالثاً: لو فرضنا وجود جزء ثالث في محل تلاقي الجزئين، فإما أن يحيط بهما بتمامه أو بعضه، فيلزم کونه ذا جزئين وقابلاً للتقسيم، وإما أن يحيط بأحدهما کذلک دون الآخر، فلم يقع حينئذ في محل التلاقي بينهما، وهو خلف، وإما أن يحيط بتمامه أو بعضه، جزءاً وقسماً من کل منهما - جزءاً من هذا وجزء من ذاک ، فهو قابل حينئذ للتقسيم بنفسه وبجزئيه.

ج- ويرد علي القول الثاني : 1- اذا کان الجزء ذا حجم، کان قابلاً للقسمة.

2- لو کانت الاجزاء التي لها حجم غير متناهية ، لکان هناک جسم ذو حجم غير متناو ،

وهو بديهي البطلان.

د- و يرد علي القول الثالث:

1- ان جميع الأجزاء الصغيرة الصلبة ذات اتصال جوهري، وذات حجم، فهي أجسام،

الا أن الأجسام المحسوسة تتألف من هذه الأجسام الأولية.

2- هذا القول لا ينفي الهيولي، ولا ينفي ترکب الجسم منه ومن الصورة، وعوده الي

اثبات الصورة الجسميّة للأجزاء الأولية.

ه- وأما القول الرابع: فيلزم منه وقوف القسمة العقلية وانتهاء التقسيم العقلي عند حدٍّ،

وهو باطل قطعاً.

و - ويرد علي القسم الخامس :

1- أن الجسم يحتوي علي الهيولي أيضاً، فهو ليس ببسيط .

2- ان الاتصال الجوهري لا يدرک بالحواس، وما يدرک بالحواس ليس بالاتصال

الجوهري.

ز- ويرد علي القول السادس:

1- أن الجسم جوهر، والعرض - وهو الجسم التعليمي من الکم المتصل - لا يکون مقوماً

للجوهر.

2- ويلزم منه أيضاً تربّ و تألف ماهية حقيقية واحدة من مقولتين متباينتين - هما

الجوهر والکم - وهو ممنوع. .

3. وأن الجسم التعليمي بما أنه عرض من الأعراض فهو يحتاج الي موضوع قابل للجسم التعليمي - وهو الطول والعرض والعمق المعين المحدود -، أي يکون ذا جسم طبيعي فالجسم مرکب من المادة والصورة الجسمية الطبيعية، لا الجسميّة التعليمية .

س - ويرد علي القول السابع : أن الجسم مرکب من المادة والصورة، هذا أمر سليم، لکن لا يدل علي کون هذا الإتّصال کما هو المحسوس بعينه ، وأنه کالإتصال المحسوس، الاحتمال وقوع الخطأ في الحسّ، وقد ثبت في العلوم التجربّية وجود فواصل کثيرة بين أجزء الجسم.

فقول ارسطو هذا لا ينطبق إلّا علي الأجزاء النووية الأولية - والذرية الأولية التي هي عبارة عن مباديء تکوّن الأجسام، والجسم بهذا المعني عبارة عن أصل موضوعي مأخوذ من العلوم التجربّية.

ع- لو سلمنا بأن الأجزاء الأولية للمادة ، في الحقيقة عبارة عن تراکم ذرات الطاقة وعبارة عن ذرات الطاقة المتراکمة، لزم عد الطاقة في سلسلة الأجناس بعد الجوهر وقبل

الجسم، ولو لم يکن للطاقة حجم، استحال تحقق جسم ذو حجم من تراکم ذراتها.

ص: 426

لا ريب في وجود الجسم بمعني الجوهر الذي يمکن أن يفرض فيه ثلاثة خطوط متقاطعة علي زوايا قوائم، وإن لم تکن موجودةً فيه بالفعل کما في الکرة

والأسطوانة (1)

ص: 427


1- اعلم انّه يبدأ الفصل الرابع بتعريف الجسم، ثم يعقبه با ثبات وجود الجسم، ويثلنه بأقوال أبرز الحکماء والفلاسفة حول حقيقة الجسم، ويختمه بالرد علي تلک الأقوال. اما تعريف الجسم فهو کما في الکتاب : جوهر يمکن أن تفرض فيه أبعاد ثلاثة والمراد من فرض الأبعاد، امکان فرض ثلاثة خطوط متقاطعة في هذا الجوهر بحيث يحصل من تقاطعها زوايا قائمة، وانت تعلم أننا نستطيع أن نرسم خطين متقاطعين علي السطح بحيث يحصل من تقاطعهما أربّع زوايا قوائم، فرسم خط عمودي علي خط افقي علي سطح مستوي يُحدث لدينا أربّع زوايا قائمة، يمکن تصور خطوط متقاطعة کثيرة جداً، بل يمکن أن نتصور خطوطاً متقاطعة الي غير النهاية وعددة غير متنا ةٍمنها ، لکن لا يمکن أن نحصل علي زوايا قائمة الا بين خطين متقاطعين منها، خط عمودي مستقيم مستوٍ تماماً علي خط افقي مستوي الاستقامة تماماً، وأما سائر الخطوط المتقاطعة المتمايلة يميناً أو شمالاً ولو بمقدار شعرة أو رأس إبرة ، فانّها لا تحدث لنا زوايا قائمة أصلاً. نعم يمکن الحصول علي زوايا قوائم من تقاطع اکثر من خطين، وذلک في الجسم - أي الجوهر الذي له طول و عرض وعمق معين -، والحاصل : أن الجسم عبارة عن الجوهر الذي يمکن فرض ثلاثة خطوط متقاطعة فيه، ينتج من تقاطعها عدة زوايا قوائم وانما قالت: «الذي يمکن أن يفرض فيه» اشارة الي أن بعض الاجسام و الجواهر فاقدة لهذه الأبعاد بالفعل، فالمکعب مثلاً له ثلاثة أبعاد بالفعل، ولهذا نلاحظ الخطوط المتقاطعة فيه بالفعل، بينما الکرة مثلاً فاقدة للخطوط المتقاطعة مع أنها جوهر جسم، ولو أمکن فرض خطوط متقاطعة عليها فلا تکون ثلاثة خطوط، وهکذا الاسطوانة فإنها فاقدة للخطوط الفعلية والابعاد الفعلية لکنها قابلة لحصول تلک الابعاد بالقوة وذلک بقطعها نصفين فانّها حينئذ تصير قابلة لرسم الزوايا عليها بعد ما صارت مسطحة کروية أو اسطوانية.

فحواسّنا التي تنتهي إليها علومنا وإن لم يکن فيها ما ينال الموجود الجوهريّ وإنّما تدرِک أحوالَ الأجسام وأوصافَها العرضية ، لکنّ أنواع التجربّات تهدينا هدايةً قاطعةً إلي أنّ ما بين السطوح والنهايات من الأجسام مملوءَةُ في الجملة غيرُ خاليةً عن جوهرً ذي امتداد في جهاته الثلاث(1)

والذي يجده الحسّ من هذا الجوهر الممتد في جهاته الثلاث يجده متّصلآً واحداً يقبل القسمة إلي أجزاء بالفعل، لا مجموعاً من أجزاء بالفعل ذوات فواصل . هذا بحسب الحسّ ، وأمّا بحسب الحقيقة فاختلفوا فيه علي أقوال(2)

ص: 428


1- فهل يوجد جوهر يمکن أن يفرض فيه ثلاثة خطوط متقاطعة علي زوايا قوائم ؟! والجواب : نعم لا ريب في وجود مثل هذا الجوهر الذي يسمي جسماً (فحواسنا التي تنتهي اليه علومنا وان لم يکن فيها ما) أي حسُّ (ينال الموجود الجوهري)، ولا قدرة علي ادراک الموجود الجوهري بعينه ، فليس لنا حاسّة قادرة علي ادراک الجوهر (وأنما تدرک) حواسُّنا (أحوالَ الأجسام) من کيف وأين ومتي وأشباهها (وأوصافها العرضية) من حجم ولون وشکل وما أشبه (لکن انواع التجربّات) العينية والمشاهدات المادية (تهدينا هداية قاطعة الي أن ما بين السطوح) المحيطة بالاجسام (والنهايات التي علي الأطراف (من الاجسام) ليست خالية - اذ بين طرفي السطوح والنهايات لا توجد مساحات فارغة -، بل بينها مساحات (مملوءة في الجملة) لا علي التحقيق إذ قد يکون بينها شيء من الهواء وقد تکون صلبة وقد تکون سائلة وقد تکون غازية، فهي مملوءة في الجملة لا بالجملة ولا علي نحو التحقيق والتدقيق العقلي ، اذا قطعت أو کسرت وجد أن بداخلها شيء فهي (غير خالية عن جوهر ...الخ).
2- (والذي يجده الحسّ من هذا الجوهر الممتدّ في جهاته الثلاث) ويدرکه ويشعر به إنما ( يجده متصّلاً واحداً) وقطعة واحدة متّصلة، والحاصل أن حواسنا بمساعدة الأعراض التي تدرکها وبواسطة التجاربّ التي تجربّها علي هذه الجواهر تدرک بأنها موجودات متصلة فعندما نلمس سطحها نجدها متّصلة ، مثلا عندما نلمس سطح طاولة نجده وحدة متصلة لا يکاد يتخللها اللاشيء أو شيء خارج عن حقيقتها، وهذا اللمس لا يختلف سواء کان باللامسة أو الباصرة أو غيرهما من الحواس الظاهرية، فهل الأجسام في الحقيقة وحدة متّصلة کما ندرکها بحواسنا، أم أن الأمر علي خلاف هذا الظاهر ؟! وأن حواسنا تخطيء في ادراکاتها للاجسام؟ لاسيما بعد ما عرفنا أن حواسنا معرضة للخطأ في الادراک، وأنها قد تخطيء أحياناً لا سيما في هذا المورد، مما حمل الفلاسفة علي البحث والتحقيق، للاجابة عن هذا السؤال وحلّ هذا المعضل، بتقديم إجابات مختلفة لتصبح الأقوال في هذا الخصوص متعددة بلغت أهمها سبعة أقوال، وهذا ما أشار إليه المصنف قائلاً: (واما بحسب الحقيقة) وأنه هل الاجسام في حقيقتها متّصلة واحدة کما نجدها في الظاهر ؟؟ (فاختلفوا فيه) أي في الجسم (علي أقوال) سبعة، والقول الأول لجمهور المتکلمين وهو القول بالجوهر الفرد ، کما في الأسفار الجزء الخامس، والمباحث المنشر فيه الجزء الثاني وشرح المنظومة صفحة 209 ولمزيد من التفصيل والإطلاع علي هذه الأقوال وأصحابها راجع مقالات الاسلاميين الجزء الثاني، وايضاح المقاصد، وشرح المقاصد الجزء الأول، وشرح التجريد، وکشف المراد، والأسفار الجزء الخامس، وشرح المنظومة، والمباحث المشرقية.

أحدها : أنّه مرکّبُ من أجزاءٍ ذوات أوضاعٍ لا تتجزّئ ولا تنقسم أصلاً لا

خارجاً ولا وهماً ولا عقلاً، وهي متناهية، وهو مذهب جمهور المتکلّمين.

الثاني : أنّه مرکّبُ کما في القول الأوّل، غيرَ أنّ الأجزاء غير متناهيةٍ ، ونُسِبَ

إلي النظّام.

الثالث : أنّه مرکّبُ من أجزاءٍ بالفعل متناهيةٍ صِغارٍ صُلبة لا تقبل القسمة الخارجيّة لِصِغَرها وصلابتها، ولکن تقبل القسمةً الوهميّة والعقليّة ، ونُسِبَ

إلي ذيمقراطيس.

الرابع : أنّه متّصلّ واحدُ کما في الحسّ ويقبل القسمةَ إلي أجزاءٍ متناهيةٍ ،

ونُسِبَ إلي الشهرستاني.

الخامس: أنّه جوهرُ بسيطُ هو الإتّصال والإمتداد الجوهريّ الذي يقبل

ص: 429

القسمةَ خارجاً ووهماً وعقلاً، ونُسِبَ إلي أفلاطون الإلهيّ(1)

السادس : أنّه مرکّبُ من جوهر وعرض، وهما الجوهر والجسميّة التعليميّة

التي هي إمتدادُ کمّيُّ في الجهات الثلاث، ونُسِبَ إلي شيخ الإشراق (2)

السابع : أنّه جوهوُ مرکّبُ من جوهرين: (أحدهما) المادة التي هي قوه کل فعلية. والثاني) الإتّصال الجوهريّ الذي هو صورتها . والصورة اتّصالُ وامتدادُ الجوهريُّ يقبل القسمةً إلي أجزاير غير متناهةٍ بمعني لا يقف ، فإنّ اختلاف العرضَين

يقسمه، وکذا الآلة القطّاعة تقسمه بالقطع، حتّي إذا أعيَت لِصِغَر الجزء أو صلابته أخَذَ الوهمَ في التقسيم، حتّي إذا عجز عنه لنهاية صِغَر الجزء أخَذَ العقلُ في تقسيمه

ص: 430


1- (الخامس: أنه) أي الجسم عبارة عن (جوهر بسيط هو بعينه (الإتصال والامتداد الجوهري) لا أن هذا الإتحاد والاتّصال الجوهري، صورة لهيولي ، بل الجسم هو الإتصال الجوهري بعينه (الذي يقبل القسمة...الخ) مطلقاً يقبل القسمة رغم کونه بسيطاً ، لأنه متّصل وممتدّ جوهري وهذا القول المنسوب إلي أفلاطون ومن تبعه وحذي حذوه کالسهروردي في حکمة الاشراق وقال به المرحوم الخواجة نصير الدين الطوسي في کشف المراد.
2- (السادس : اند) أي الجسم (مرکب من جوهر و عرض، وهما) عبارة عن (الجوهر) وهو الجسم الطبيعي (والجسميّة التعليميّة ... الخ) اذ العرض عندما يعرض للجوهر يجعله جسماً - فالجسم يتحقق من عروض الأعراض للجواهر وحلولها فيها وحاصله : أن الأجسام الخارجية مرکبة من جوهر هو الاتصال الجوهري - وقد قال به افلاطون أيضاً، ويعدّه أرسطو وشيعته صورة - باضافة عرض هو الجسم التعليمي - أي الحجم - فالاجسام الخارجية مرکبة من جوهرية خاصة - هي الاتصال الجوهري - ومن المقدار والجسم التعليمي الذي هو الحجم، ولم يستعمل مصطلح الجسم التعليمي في هذا الکتاب إلا بمعني الحجم، والمقدار من الجسم التعليمي أعم لأنه يشمل السطح والخط أيضاً ، فالجسم عنده مرکب من جوهر - هو إتّصال جوهري - ومن عرض - أي حجم -، راجع صفحة 14 من التلويحات. ثم ان المادة في استعمال شيخ الإشراقيين يختلف عما هو في استعمال ارسطو، اذ مراد الشيخ هي المادة بمعني الجوهر الأولي الذي تعرض له الأعراض والجواهر الأخري، ومراد ارسطو منها المادة بمعني القوة المحضة وبينهما تباين بيّن و فرق شاسع.

علي نحوٍ کلّيٍّ بأنّه کلّما قُسَّم إلي أجزاء کان الجزءُ الجديد ذا حجمٍ له جانبُ غير جانبٍ يقبل القسمةَ من غير أن يقف، فورود القسمة لا يعدم الجسمَ، وهو قول أرسطو والأساطين من حکماء الإسلام (1)

ص: 431


1- (السابع : انّه جوهر مرکب من جوهرين.. الخ) أحدهما : الهيولي ، (و الثاني: الإتّصال الجوهري.. الخ) قال الإتّصال الجوهري ليعلم أنه ليس کمية عرضية ولا کما عرضية ، اذ حقيقة الکمية هي الاتصال، والکم المتّصل معناه المقدار المتصل بعضه ببعض، هذا الإتصال عرضي، خلافاً لشيخ الإشراق الذي ادعي ان هذا الاتّصال العرضي جزء من الجوهر الجسماني، لکن أصحاب هذا القول يؤکدون علي الاتّصال الجوهري ، وان الصورة الجسمية وان کانت حقيقتها الإتّصال إلّا أنها جوهر هو الاتّصال، لا أنها عرض وکم متّصل، (والصورة اتّصال وإمتداد جوهري قيا القسمة الي أجزاء غير متناهية) لا بمعني وجود الأجزاء المتناهية بالفعل، بل (بمعني لا يقف)، وبمعني قابلية التقسيم الي غير النهاية. وکيف يمکن تقسيم الجسم هذا إلي ما لا نهاية من أجزاء ؟ هذا التقسيم يتحقق بصور مختلفة : قد يکون للجسم مثلاً جزءان حسيان يتميز بالألوان کما لو صبغنا قضيباً بلونين نصفه أحمر ونصفه أخضر، فإن عروض عرضين مختلفين يقسّم الجسم القضيبي الي قسمين، وقد يحصل هذا التقسيم بکسر القضيب وقطعه بالآلات القطّاعة الي أجزاء عديدة، حتي ينتهي القطع فيه بالآلات المادية عند حد لا يتعداه ، ويتوقف حيث لا يمکنها التقطيع الي أکثر من ذلک، فيأتي الدور للقوة الواهمة ليقطّعه ويقسّمه الي أجزاء وهميّة ينتهي فيها التقطيع والتجزئة عند حدّ معين لا يتعداه ، ويأتي أخيراً الدور للقوة العاقلة لتقطّع وتقسّم القضيب الي أجزاء عقليه لا حدود لها ولا نهاية فيها، إذ يحکم العقل بامکان التقسيم بالغاً ما بلغ : (فإن اختلاف العرضين يقسمه) کما في ورود لونين علي القضيب (وکذا الآلة القطاعة) المادية ( نقسّمه) أي الجسم (بالقطع) المادي الحي (حتي اذا أعيت) وعجزت القوة والآلة القطاعة عن التقطيع (لصغر الجزء أو صلابته أخذ الوهم.........الخ) فالعقل أخيرا يتصور تصوراً کلياً ويحکم حکماً عاماً ويجعل قاعدة ثابتة (بأنه کلّما قُسّم) الجسم (الي أجزاء) مهما صغرت وصلبت (کان الجزء الجديد ذا حجم) قطعاً وإلا خرج من کونه جسماً وهو خلفُ، وکل ما صدق عليه أنه جسم فهو ذو حجم واله جانب) وطرف (غير جانبٍ) وغير طرف، أي له طرفان مثلا الجانب الأيمن منه والجانب الأيسر وکلما کان له طرفان يختلف کل منهما عن الآخر حتي يقبل الاتصاف باليسار واليمين أو ما أشبه من الأعراض فهو (يقبل القسمة الي غير النهاية (من غير أن يقف) التقسيم عند حدٍّ أبداً (فورود القسمة لا يُعدم الجسم) بل تصنع منه أجساماً أصغر وأصغر وتجعل الجسم أجزاءاً وأجزاءاً غير متناهية بحسب التقسيم العقلي. وفي الجزء الخامس من الأسفار قول ثامن منسوب الي بعض مشايخ المعتزلة، وهو أن الجسم مؤلف من محض الأعراض من الألوان والطعوم والروائح وغير ذلک، فراجع هناک.

هذا ما بلغنا من أقوالهم في ماهيّة الجوهر المسمّي بالجسم. وفي کلّ منها

وجهُ أو وجوهُ من الضعف نشير إليها بما تيسّر.

أما القول الأول المنسوب إلي المتکلّمين، وهو : أنّ الجسم مرکّبُ من أجزاء لا تتجزّئ أصلاً، تمرُّ الآلةُ القطّاعة علي فواصل الأجزاء، وهي متناهية تقبل الإشارة الحسيّة .

ففيه : أنّ الجزء المفروض إن کان ذا حجم کان له جانبُ غير جانبٍ بالضرورة، فيجري فيه الإنقسام العقليّ وإن لم يمکن تقسيمه خارجاً ولا وهماً النهاية صِغَره، وإن لم يکن له حجمُ امتنع أن يحصل من اجتماعه مع غيره جسمُ ذو

حجمٍ .

وأيضاً لنفرض جزءاً لا يتجزّي بين جزئين کذلک ، فإن کان يَحجُزُ عن مُماسّة الطرفين انقسم، فإنّ کلاً من الطرفين يلقي منه غيرَ ما يلقاه الآخر، وإن لم يَحجز عن مماسّتهما إستوي وجود الوسط وعدمه. مثلُهُ کلُّ وسطٍ مفروضٍ، فلم يحجب شيء شيئاً ، وهو ضروريُّ البطلان(1)

ص: 432


1- (ففيه : أن هذه الأجزاء أما أن تکون ذا حجم، أو لا تکون ذا حجم، أن قلتم أن هذا الجوهر الفرد والجزء الذي لا يتجزأ - لا حجم له أصلاً، امتنع حصول جسم ذو حجم من اجتماعه ، فاجتماع ملايين الأصفار لا يؤلف رقماً، واجتماع الملايين من اللاشيء لا يؤلف شيئاً، ولو جمعناً ملايين النقاط لم نحصل علي خط، ولو جمعناً الملايين من الآنات لم نحصل علي زمان أصلاً، وان قلتم ان لهذه الأجزاء ولهذا الجوهر الفرد حجماً، لزم کونه ممتدّاً في الجهات الثلاث، الطول والعرض والعمق، وبناءاًعلي ذلک يمکن أن يقطّع تقطيعاً عقلياً، إذ کل ما کان ذا طول نم يمتنع العقل من تصور أجزاءاً له الي غير النهاية، وعليه فإن الجزء المفروض) والجوهر الفرد والجزء الذي لا يتجزأ (ان کان ذا حجم، کان له جانب غيرُ جانب) وطرفان هذا الطرف غير الطرف الآخر، مثلاً هذا طرفة الأيمن وذاک طرفه الأيسر، وکل ما وأيضاً لنفرض جزءاً لا يتجزئ فوق جزئين کذلک وعلي ملتقاهما ، فإن لقي بکله أو ببعضه کل کليهما تجرئ، وإن لقي بکله کل أحدهما فقط فليس علي الملتقي وقد فرض عليه ، وإن لقي بکله أو ببعضه من کل منهما شيئاً انقسم وانقسما کان ذا حجم فهو ممتدّ في الطول والعرض والعمق، اذ کل ما له حجم يکون ذا سطحين جانبيين ، فلو تصورناه مکعباً وجب أن يکون ذا ستة سطوح جانبية ، ولو تصورناه شکلاً اسطوانياً لزم أن يکون ذا قاعدتين وسطح جانبي، ويمکن الأشارة الحسية إليها جميعاً ، ولا يخلو جسم من هذه الأطراف والجوانب (فيجري فيه) أي في هذا الجزء والجسم (الانقسام العقلي) والتجزءة والتقسيم العقليين، وان لم يکن هذا الجزء الذي لا يتجزأ (له حجم، امتنع) واستحال (ان يحصل من اجتماعه مع غيره) مما لا حجم له، والجزء الذي لا يتجزأ أيضاً، لا مطلق الغير، بل الغير الذي لا حجم له أيضاً، إذ اجتماع الملايين مما لا حجم لها لا يؤلف شيئاً ذا حجم کما تقدم و (جسم ذو حجم)، هذا هو الدليل الأول علي بطلان هذا القول. و(أيضاً) فإن هناک دليلاً ثانياً علي بطلان القول الأول واستحالة الجزء الذي لا يتجزأ، وحاصله: (لنفرض) وجود جزئين لا يتجزءان متحاذيين بصورة أفقية وغير متلاصقين ولنفرض( جزءاً لا يتجزأ) ثالثاً ، غير الجزئين الأفقيين ، واقعاً (بين جزئين کذلک) أي بين ذلکما الجزئين الأفقيين اللذين لا يتجزءان، فيقع الثالث بينهما، بحيث لا يفصل بينه وبينهما شيء، أي يتصل بهما (فإن کان هذا الجزء الثالث الواقع بينهما ( يحجز) ويحول (عن مماسة الطرفين) والجانبين والجزئين المتحاذيين ، فيحول دون إتصالهما الحسي، (انقسم) جواب الشرط، أي الجزء الثالث انقسم وتجزأ، وقد فرض کونه جزء لا يتجزأ، (فان کلا من الطرفين) والجزئين اللذين لا يتجزءان والجوهرين الفردين، (يلقي منه) أي يتصل بالجزء الثالث و الجوهر الفرد الثالث (غير ما يلقي منه الآخر وغير ما (يلقاه الآخر) فهذا يتصل به من جهة والآخر من جهة اخري ، وکلما کان کذلک کان قابلاً للانقسام بل کان منقسماً فعلاً، وان قلتم هذا الثالث (لم يحجز عن مماستهما) ولم يحل دون اتصالهما، (استوي وجود الوسط وعدمه) فما قيمة هذا الثالث إذا لم يکن له أثر قط، ولم يمنع من اتصال الطرفين ؟! ومهما کثرت الأوساط والوسائط فإنها لا تکون حاجبة حائلة، ولو کان کذلک کان وجود الوسائط وعدمها علي حد سواء، فکما ان الجزء الواحد لا يحجب بين شيئين أو أشياء فإن عدة أجزاء لو اجتمعت لم تحجب أيضاً بين طرفين أو أطراف عديدة ، (ومثله) في استواء الوجود و عدمه ( کل وسط مفروض) ولو کان الأمر کذلک و تم تعميمه علي کل وسط ، عمت المفسدة، والنتيجة الباطلة (فلم يحجب شيء شيئاً وهو أمر ضروري البطلان ) ونتيجة بديهية البطلان والاستحالة .

ص: 433

جميعاً (1)

وقد أوردوا مي بطلاں فجرء الذي لا يتجزّي وجوهاً من البراهين، وهي

کثيرة مذکورة في کتبهم(2)

ص: 434


1- (و أيضاً) برهان ثالث علي استحالة الجزء الذي لا يتجزأ، (لنفرض) جزئين لا يتجزءان متحاذيين متلاصقين لا يفصل بينهما شيء، ولنفرض (جزءاً) ثالثاً (لا يتجزي) واقعاً (فوق جزئين کذلک) أي فوق الجزئين اللذين لا يتجزءان، وواقعاً (علي ملتقاهما) وموضع التصاقهما واتصالهما، (فإن لقي) أي الثالث (بکله أو ببعضه کل کليهما) بحيث يتصل کله بکلهما، أو جزؤه مع کل أحدهما، وجزؤه الآخر مع کل الآخر - جزؤه بکل أحدهما وجزؤه الثاني بکل الآخر، لا فرق بين الصورتين ، اذ حاصل کليهما کون هذا الثالث ذا جزئين ، أحد جزئيه متصل بالأول، وجزؤه الآخر متصل بالثاني، ولهذا فإن حاصل کليهما أنه (تجري) وحکم عليه بالتجزي، إذ ثبت أن له جزئين، وقد زعمتم أنه جزء لا يتجزأ، هذا ، وان لقي) الثالث والمتّصل بالطرفين الآخرين (بکله کل أحدهما فقط، فليس) الثالث واقعاً علي الملتقي) وموضع الاتصال، بل هو واقع علي واحد منهما (وقد فرض) الثالث واقعاً (عليه) أي علي الملتقي وموضع الاتصال، وإلا لکانت نسبته اليهما علي السوية، بين هذا وذاک ، أو فوق کليهما تماما، (وان لقي بکله أو ببعضه من کل منهما شيئاً) وهو احتمال ثالث، فلقي بکلّه بعضا من کل واحد منهما- بأن اتّصل بکله ببعض الأيمن وببعض الأيسر، فکان متصلا بالطرف الأيمن والأيسر بکله، أو تقي ببعضه بعض الطرف الأيمن وببعضه الآخر بعض الطرف الأيسر، لو کان کذلک (انقسم هذا الثالث (وانقسما) الطرفان الأيمن والأيسر (جميعاً)، بيان ذلک أنه لو لقي الثالث بکله کل الطرف الأيمن وکل الطرف الأيسر، کان منقسمأ متجزءاً لوحده ، اذ لازم هذا القول کون أحد جزئيه ملتقياً متّصلاً بالأيمن، و جزئه الثاني متّصلاً بالأيسر، ولا يثبت قابلية الطرفين والجزئين الآخرين للانقسام أيضاً، ولو لقي الثالث بکلّه جزءاً من الأيمن وجزء من الأيسر ثبت قابليتهما للإنقسام وقابليته أيضاً للإنقسام لأنه لا يمکن أن يلاقي شيئاً من هذا وشيئاً من ذاک إلا إذا کان متجزء منقسماً في نفسه، کما أنه لو لقي ببعضه بعض کل واحد منهما، بأن اتصل بعضه بهذا الأيمن وبعضه الآخر بالأيسر ، فإنه منقسم متجزيء لا محالة وهما منقسمان أيضاً.
2- لمزيد من المعرفة راجع التحصيل، والمباحث المشرقية الجزء الثاني، والفن الأول من الهيات الشفاء لإبن سينا والجزء الخامس من الأسفار، وشرح المنظومة ، وکشف المراد، کما أن المرحوم الشهيد السيّد محمد باقر الصدر (أعلي الله مقامه) قد أورد في کتابه فلسفتنا وجها آخر وبرهانا غير ما ذکر ههنا لاستحالة الجزء الذي لا يتجزي.

وأمّا القول الثاني المنسوب إلي النظّام، وهو أن الجسم مرکّبُ من أجزاء لا

تتجزّئ غير متناهية.

فيرد عليه ما يرد علي القول الأوّل، مضافاً إلي أنّ عدمَ تناهي الأجزاء علي تقدير کونها ذواتِ حجم يوجب کونَ الجسمِ المتکوّنِ من اجتماعها غيرَ متناهي الحجم بالضرورة، والضرورة تدفعه(1)

وأمّا القول الثالث المنسوب إلي ديمقراطيس ، وهو أنّ الجسم مرکّبُ من

أجزاءٍ صغارٍ صُلبةٍ لا تتجزّئ خارجاً، وإن جاز أن تتجزّي وهماً وعقلاً.

ففيه: أنّ هذه الأجزاء لا محالة جواهرُ ذوات حجمٍ، فتکون أجساماً ذواتِ اتّصالٍ جوهريًّ تتألّف منها الأجسام المحسوسة، فالذي يثبته هذا القول أنّ هاهنا أجسامة أولية هي مباديء هذه الأجسام المحسوسة، علي أن هذا القول لا يتبيّن به نفي الهيولي وإبطالُ ترکُّبِ الجسم منها ومن الصورة الجسمية ، وسيأتي إثباتها في الفصل التالي ، فيؤول إلي إثبات الصورة الجسمية للأجسام الأوليّة التي هي مباديء هذه الأجسام المحسوسة ، وإليها تنتهي بالتجزئة(2)

ص: 435


1- (فيرد عليه ما يرد علي القول الأوّل) طبق النعل بالنعل، فالإشکالات الثلاثة هناک تعاد وتجري هنا، (مضافاً إلي) إشکال رابع هو (أن عدم تناهي الأجزء علي تقدير کونها) أي الأجزاء التي لا تتجزأ (ذوات حجم، إذ قلنا في الرد علي القول الأول أن هذه الأجزاء أما أن تکون ذوات حجم، وأما أن لا تکون کذلک، وهذا الأشکال الرابع هنا يرد علي قول النظام بناء علي إحتمال کونها ذوات حجم، لا علي الاحتمال الثاني، لأنه حينئذ- أي عدم تناهي الأجزاء علي تقدير کونها ذوات حجم، (يوجب کون الجسم المتکون من اجتماعها) أي من اجتماع الأجزاء التي لها حجم (غير متناهي الحجم بالضرورة) وبالتأکيد، فکيف يجوز هذا (والضرورة تدفعه) أي الضرورة تدفع کون المحجوم غير متنا، وأن الجسم الذي له حجم يکون متناهية محدودة بالضرورة والبداهة.
2- (ففيه : أن لهذا القول وجهين وجانبين لم يتم التفکيک بينهما، إذ له جانب ووجه علمي وجانب و وجه فلسفي، أما الجانب والوجه الفلسفي فالمراد منه: أن العقل لوحده ، بقطع النظر عن التجاربّ الخارجية يري ويتأمل هل يوجد اشکال في هذا الفرض أم لا؟ وهل هناک اشکال عقلي علي القول أم لا؟ هذه الذرات الصغيرة هل قابلة للترکب من المادة والصورة أم لا؟ ان قلتم أنها غير مرکبة ألزمناکم الدليل والبرهان، وان قلتم أنها مرکبة منهما، فلا فرق مهما بين قولکم وقول الحکيم ارسطو، ولا مزيد فرق بين القولين، لأنه قال بعدم وجود الفواصل بينها وانتم تقولون بوجودها، وهو حينئذ لا يرتبط بالجانب الفلسفي للمسألة بل اثبات الحقانية والأحقية والصحة لهذا القول أو ذاک أمر راجع إلي العلوم التجربّية. ففيه أن (هذه الأجزاء لا محالة جواهر) قائمة بذواتها لا في موضوع (ذوات حجم، فتکون أجساماً ) هذا الإشکال يرد علي ديمقراطيس إذا کان يريد بهذا القول أن يعرف الجسم ويحده و يبين حقيقته، لأنا نقول : هل هذه الأجزاء أجسام أم لا؟ بطبيعة الحال و بالضرورة أجسام، لأن الجسم جوهر ذو أبعاد ثلاثة وهذه الأجزاء الصغار الصلبة المفروضة هنا جواهر ذوات أبعاد ثلاثة، فيصدق عليها حد الجسم، فلا وجه لقولکم کل جسم مرکب من أجزاء صغار، بعدما ثبت کون هذه الأجسام الصغار أجساماً أيضاً، أما إذا أراد بهذا القول أن الاجسام المتعارفة مرکبة من هذه الأجزاء الصغار - أي من أجزاء صغار - کالأجسام الکبيرة والمحسوسة، فلا يرد عليه هذا الإشکال ، وإذا کانت هذه الأجزاء أجساماً - کما هي کذلک - (ذوات اتّصال جوهري تتألف منها) أي من هذه الأجزاء الصغار (الأجسام الکبيرة المحسوسة، فالذي يثبته هذا القول أن هاهنا أجسامة أولية هي مبادي به هذه الأجسام المحسوسة) ولا يختلف عن سائر الأقوال الا في کون الأجسام الکبيرة مؤلفة من أجزاء صغيرة، لکنها لا تنفي کون هذه الأجزاء أجساما ، ولا يصح القول بأن کل جسم مؤلف من أجزاء صغار بالضرورة ، إذ هذه الأجزاء أجساماً مع أنکم لا تقولون بترکبها لقولکم ببساطتها، (علي) أي أضف إليه (أن هذا القول لا يتبين به نفي الهيولي وابطال ترکب الجسم منها) أي من الهيولي والمادة (ومن الصورة الجسميّة) فانکم لو أردتم نفي ترکب الجسم من المادة والصورة بهذا القول، فقد أخطأتم، اذ ربّما يکون کل منها مرکباً من المادة والصورة ، وسيأتي اثباتها) أي اثبات ترکب کل جسم مهما صغر من المادة والصورة في الفصل التالي، فيؤول) وينتهي الأمر (الي اثبات الصورة الجسمية للأجسام الأولية والأجزاء الصغيرة الصلبة التي هي مباديء هذه الأجسام المحسوسة) فإنها جميعاً تتألف من الهيولي والصورة وإليها) أي الي الصورة الجسمية (تنتهي )تلک الأجزاء (بالتجزئة) فکل جسم مرکب و قابل للإنقسام والتجزءة.

وأمّا القول الرابع المنسوب إلي الشهرستاني، وهو کونُ الجسم متّصلاً واحداً

کما في الحسّ يقبل القسمةً إلي أجزاء متناهيةٍ.

ففيه : أنّ لازِمَه وقوفُ القسمةِ العقليّةِ ، وهو ضروريُّ البطلان .

ص: 436

وأمّا القول الخامس المنسوب إلي أفلاطون، وهو کونُ الجسم جوهراًبسيطاً

وهو الاتّصال الجوهريّ القابل للقسمة إلي غير النهاية.

ففيه : منعُ کونِ الجسم بسيطاً ، لما سيوافيک من إثبات الهيولي للجسم، علي أنّ في کون الاتّصال الجوهريّ الذي للجسم هو ما يناله الحش من الأجسام المحسوسة کلاماً سيأتي إن شاء الله (1)

وأمّا القول السادس المنسوب إلي شيخ الإشراق ، وهو : کونُ الجسم مرکباً من جوهر وعرض، وهما المادّة والجسم التعليميّ الذي هو من أنواع الکمّ المتّصل.

ففيه: أوّلاً : أن لا معني لتقويم العرض للجوهر مع ما فيه مِن تألّفِ ماهيّة

حقيقيّة من مقولتيَن، وهما الجوهر والکم، والمقولات متباينةُ بتمام الذات (2)

وثانياً : أنّ الکم عرضُ محتاجُ إلي الموضوع حيثما کان، فهذا الإمتداد المقداريّ الذي يتعيّن به طولُ الجسم وعرضُه وعمقُه کمُّ محتاجُ إلي موضوعٍ يحلّ فيه، ولولا أنّ في موضوعه إتّصالاً مّا يقبل أن يوصف بالتعيّن لم يعرضه ولم يحلّ فيه، فلو أخذنا مقداراً من شمعة وسوّيناها کرةً ثمّ أُسطوانيّاً ثم مخروطاً ثم مکعّباً وهکذا، وجدنا الأشکال متغيّرةً متبدّلةً، وللشمعة اتّصالُ باقٍ محفوظُ في الأشکال

ص: 437


1- (ففيه : منع کون...الخ) بعد ثبوت هذا الأمر في الفصل الخامس إن شاء الله تعالي - (علي أن أي أضف إليه أن (في کون الاتّصال الجوهري...الخ) أي هناک اشکالُ و بحثُ في دعوي کون الجسم جوهراًمتصلاً کما نراه بحواسنا، إذ العلم والتجربّة أثبتت عدم الاتّصال الجوهري في الأجسام وأن أجزاءه منفصلة وبينها فواصل، وهو اشکال غير وارد علي الجهة الفلسفية والوجه الفلسفي من قول افلاطون وانما وارد علي جهته العلمية، لأن هذا الأمر لا يتعلق بالفلسفة الاولي، إذ کل جسم وجوهر ممتدّ له أبعاد ثلاثة مهما کان فهو قابل للإنقسام الي غير النهاية ، فهو ذو إتصال جوهري والحقيقة الجسمية عبارة عن الإتصال الجوهري.
2- (ففيه : أولاً: أن هذا القول يقتضي قيام الجوهر بالعرض وتقويم الأول بالثاني و(لا معني التقويم العرض للجوهر) لضرورة کون ماهية الجوهر تامة حتي يعرض لها ماهية العرض - وماهية عرضية -، (مع ما فيه) أي في هذا القول (من تألف.. الخ).

المختلفة المتبدّلة . فهناک اتّصالان : اتّصالُ مبهمُ غير متعيّنٍ في نفسه، لولاه لم يکن شمعةً واتّصالُ وامتدادُ متعيّنُ لو بطل لم يبطل به جسم الشمعة. والأوّل هو صورة الجسم، والثاني عرضُ يعرض الجسم، والانقسام يعرض الجسم من حيث عَرَضه هذا، وأمّا من حيث اتّصاله الذاتيّ المبهم فله إمکانُ أن يفرض فيه أبعاد ثلاثة(1)

قال الشيخ في الشفاء : «فالجسميّة بالحقيقة صورةُ الإتّصال القابل لما قلناه من فرض الأبعاد الثلاثة، وهذا المعني غير المقدار وغير الجسميّة التعليميّة ، فإنّ هذا الجسم من حيث له هذه الصورة لا يخالف جسماً آخر بأنّه أکبر أو أصغر، ولا يناسبه بأنه مساوٍ أو معدود به أو عادُّ له أو مشارک أو مباينُ، وإنّما ذلک له من حيث هو مقدَّر، ومن حيث جزء منه يعدّه وهذا الاعتبار غير الجسميّة التي

ص: 438


1- (وثانياً : أن الکم عرض محتاج .. الخ)، (فهذا الامتداد المقداري) وهذا الجسم التعليمي الذي تزعمون (الذي يتعين به طول الجسم وعرضه وعمقه کم محتاج إلي موضوع) لأن الکم من الأعراض، يحتاج الي موضوع (يحلّ فيه) فهل لهذا الموضوع إتّصال وبعد أم لا؟ نعم له اتصال : (ولولا أن في موضوعه اتّصالاً ما يقبل أن يوصف بالتعين) لولم يکن للموضوع هنا اتصال قابل للتعين (لم يعرضه) هذا العرض (ولم يحلّ فيه) کما في المجردات حيث لا يعرضها العرض، لعدم امکان اتّصافه بکميّة معينة ومتعينة، (فلو أخذنا مقداراً من شمعة) علي سبيل المثال، (وسويناها کرة) أي علي صورة کرة دائرية و بشکل دائري، ثم جعلناها في شکل اسطوانة ثم بشکل مخروطي ثم في شکل مکعب (وهکذا) بأشکال وصور مختلفة کالمثلث والمربّع والمستطيل وغيرها، (وجدنا الأشکال التي ذکرناها (متغيرة متبدلة) فتبدلت الکرة - في المثال - اسطوانة ، والاسطوانة مخروطاً وهکذا (و) هناک (للشمعة اتّصالُ) آخر (باقٍ) ثابت (محفوظ في الأشکال المختلفة المتبدلة) غير قابل للتبدل والتغير، وبقي الجوهر علي حاله رغم اختلاف اشکاله وأحجامه، (فهناک اتصالان : اتصال مبهم غير متعين في نفسه ... الخ) فالاتصال الأول مقوم للشمعة، والثاني مقوم لشکل الشمعة لا لجسم الشمعة وأصل وجودها، (والأول هو صورة الجسم، والثاني عرض يعرض الجسم، والانقسام يعرض الجسم من حيث عرضه هذا) وهو من حيث کميته المتعينة ، (وأما من حيث اتصاله الذاتي المبهم) فلا يعرضه الانقسام، (فله امکان أن يفرض فيه أبعاد ثلاثة).

ذکرناها»، إنتهي(1)

وبالجملة فأخذُ الإمتداد الکمّيّ العرضيّ في ماهيّة الجوهر - علي ما فيه من الفساد - خلطُ بين الاتصال الجوهري والامتداد العرضيّ الذي هو الجسم التعليميّ (2)

ص: 439


1- (قال الشيخ في) الفصل الثاني من المقالة الثانية من الهيات (الشفاء: فالجسمية بالحقيقة) وحقيقة الجسميّة: (صورة الإتصال القابل لما قلناه) والصورة القابلة لهذه الکمية (من فرض الأبعاد الثلاثة) الطول والعرض والعمق، وهذا المعني) للجسميّة (غير المقدار، وغير الجسمية التعليمية) أيضاً، وبين المقدار والجسم التعليمي عموم و خصوص مطلق، إذ المقدار أعم مطلقة من الجسم التعليمي - أي الحجم - لشمولة للحجم والسطح والخط ، (فإنّ هذا الجسم من حيث له هذه الصورة لا يخالف جسماً آخر) في أصل الجسمية ، وکلاهما جسم، وانما خلافهما واختلافهما في عوارض الذات (بأنه اکبر) من ذاک الجسم (أو أصغر) منه، وفي شکل کل منهما، وکون أحدهما کروياً مثلاً، والآخر اسطوانياً وهکذا، (ولا يناسبه) أي ويختلفان في کون هذا الجسم يناسب ذاک أو لا يناسبه لأن الاجسام تختلف من حيث المقدار، والمقادير في الأجسام بينها نسبة (بأنه) أي هذا الجسم (مساوٍ) للآخر من حيث الکمية والمقدار أو غير مساو له، فإذا لم يکونا متساويين، وکانا غير متساويين، کان أحدهما عادّاً للآخر، کما أن الجسم الذي يزن طنّاً، عادُّ للجسم الذي يزن طنين ، أي له وزن يوجد في الآخر من الوزن ما يعادله مرتين، والجسم الذي يزن طنّاً، عادُّ للذي يزن عشرة أطنان، أي له من الوزن ما يعادله في الآخر عشر مرات، والي هذا المعني أشار بقوله (أو معدود به أو عادّ له) أي الأثقل معدود بالأخ والأخ عادُّ للأنتقل، (مشارک أو مباين) فالجسم بما هو جسم خالي من المساواة والمعدودية والعادية والمشارکة والمباينة لغيره، ليس فيه شيء من هذه الأعراض بذاته ، لأنها نسب خاصة بالأعراض - والکميات -، (وانما ذلک له) أي للجسم (من حيث هو مقدر) ومن جهة أن للجسم مقدار، (ومن حيث أنه أي هذا الجسم الأخف وزناً - مثلاً - (جزء منه) أي من الأثقل ( يعده) أي يعد الأثقل ، والأطول معدود بالأقصر طولا، والأقصر عادُّ للأطول، لأن الأقصر والأخف يتکرران عدة مرات، والأطول والأثقل يتجزءان عدة مرات، ومن هذه الجهات وبهذه الاعتبارات تقوم وتتحقق النسبة بينهما، وهذا الاعتبار) وهذه الاعتبارات جميعاً (غير اعتبار الجسمية التي ذکرناها) الاختصاص هذا الاعتبار - وهذه الاعتبارات - بالکمية والمقدار من الأعراض، بينما حيئية الجسمية عبارة عن حيئية قابلية الأبعاد الثلاثة، فالجسم التعليمي يختلف عن الجسم الطبيعي.
2- (وبالجملة والتحقيق لا في الجملة والترديد (فأخذ الامتداد الکمي العرضي في ماهية الجوهر) وحقيقته وحدّه التام علي ما فيه) وبالاضافة الي ما فيه من الفسادا علي ما حققناه قبل قليل، فهذا الأخذ وادخاله في حقيقة الجوهر وحده (خلط) أيضاً (بين الإتّصال الجوهري) الذي هو الجسم الطبيعي، وبين (الامتداد العرضي الذي هو الجسم التعليمي).

وأمّا القول السابع المنسوب إلي أرسطو، وهو ترکُّبّ الجسم من الهيولي والصورة الجسميّة ، وهي الاتّصال الجوهريّ علي ما عند الحس ، وهو کون الشيء بحيث يمکن أن يفرض فيه امتدادات ثلاثة متقاطعة علي قوائم تقبل القسمة إلي أجزاء غير متناهية. أمّا الهيولي فسيجيء إثباتها، وأمّا الصورة الجسميّة التي هي الإتصال فقد تقدّم توضيحه(1)

ففيه : أنّ کون الجسم مرکّباً من مادّةٍ واتّصالٍ جوهريّ يقبل القسمةَ إلي غير النهاية، لا غبارَ عليه، لکن لا حجّة تدلّ علي کون الجسم في اتّصاله کما هو عليه عند الحسّ، فخطأ الحس غير مأمون.

وقد اکتشف علماء الطبيعية أخيراًبعد تجارت دقيقةٍ فنّيةٍ أن الأجسام مؤلّفة من أجزاء ذَرّية لا تخلو من جرم، بينها من الفواصل أضعافُ ما لأجرامها من

ص: 440


1- (وهو ترکب الجسم من الهيولي المادة الأولي (والصورة الجسميّة) أي الإتّصال الجوهريا (وهي الاتّصال الجوهري علي ما عند الحس) وکما تدرکه حواسنا، فإنه في الحقيقة لا يختلف عما في الظاهر، لکن له نوع ترکيب غير محسوس بالحواس الظاهرية، (بحيث يمکن أن يفرض فيه) أي في الجسم (امتدادات ثلاثة متقاطعة علي قوائم) مثلما نجده موجود متصلا ليس له أجزاء بالفعل، لکن يمکن فرض و تصور ثلاثة خطوط متقاطعة فيه علي زوايا قوائم، ويحصل من تقاطعها زوايا قوائم وتقبل القسمة إلي أجزاء غير متناهية) وهي من لوازم الجسم، والعمدة في قوله علي ما عند الحس» حيث سيأتي اشکال العلامة (قده) علي هذا المقطع، هذه خواص الصورة الجسمية بأنها ممتدة قابلة للقسمة الي مالا نهاية، (واما الهيولي فسيجيء اثباتها) في الفصل القادم، (وأما الصورة الجسمية التي هي الإتصال الجوهري ، وهو غير الجسم التعليمي، (فقد تقدم توضيحه) عند الرد علي قول شيخ الاشراقيين في هذا الفصل، والحاصل أن هناک صورة جوهرية، وهيولي - المادة الأولي التي هي قوة محضة سيأتي اثباتها، ومن ترکيبهما يحصل الجسم.

الإمتداد ، فلينطبق هذا القول علي ما اکتشفوه من الأجسام الذَرّية التي هي مباديء تکوُّن الأجسام المحسوسة، وليکن وجود الجسم بهذا المعني أصلاً موضوعاً لنا(1)

نعم، لو سلّم ما يقال : «إنّ المادّة - يعنون بها الأجسام الذَرّية الأوَل - قابلة التبّدل إلي الطاقة وإنها مجموعة من ذَرّات الطاقة المتراکمة»، کان من الواجب في البحث الحِکَمّي أخذُ الطاقة نوعاً عالياً مترتّباً علي الجوهر قبل الجسم ثمّ ترتيب الأبحاث المتفرّقة علي ما يناسب هذا الوضع ، فليتأمّل(2)

ص: 441


1- ما الدليل علي وقوع الخطأ في الحس، ووقوع الحواس في الخطأ ؟! دليله : (وقد اکتشف علماء الطبيعة أخيرة...الخ) فکل جسم مؤلف من ذرات صغيرة جداً ذات جرم - ولها أجرام - في الجملة ، (بينها) أي بين هذه الاجزاء الذرية (من الفواصل أضعاف ما الأجرامها من الامتداد) والفواصل التي بين الاجرام کثيراً جداً تصل الي أضعاف الاجرام نفسها وأحجامها هذا ما ثبت أخيراً بالعلم والتجربّة، نعم (فلينطبق هذا القول الذي ادعاه ارسطو الحکيم (علي) أصغر جزءاً تم اثباته في الطبيعة، کالبروتون مثلاً، علي فرض کونه جزءاً لا فاصلة فيه أبداً، وهو ما اکتشفوه) أخيراً (من الأجسام الذرية) في علم الفيزياء، التي هي أي تلک الأجسام الذريه (مباديء تکون الأجسام المحسوسة) ومنشأ ظهور هذه الاجسام المحسوسة، (وليکن وجود الجسم بهذا المعني أصلاً موضوعاً لنا) مأخوذاً من علم الفيزياء، حتي اذا ثبت خلافه أخذنا بما ثبت من جديد، إذ ليس من شأن الفلسفة البحث عن المصاديق، بل الفيلسوف يبحث عن الأحکام الکلية للوجود والموجود، والحاصل أن الجسم يجب أن يکون ممتدّاً متصلاً - أي لا خلأ ولا فواصل فيه -، ولا شأن له بالمصداق أهذا أم ذاک ، ولهذا لا مانع أن نجعل المصداق عبارة عن البروتون في الوقت الراهن مادام العلماء في الفيزياء اثبتوا کونه بهذا الوصف الذي قالت به الفلاسفة
2- (نعم لو سلم ما يقال في الفيزياء : (أن المادة - يعنون بها الأجسام الذرية الأول) وهي الذرات الأولية للجسم التي لا خلا فيها ولا فواصل بينها کالبروتون (قابلة التبدل) أي قابلة للتبدل (الي الطاقة، وانّها) أي المادة الفيزيائية عبارة عن مجموعة من ذرات الطاقة المتراکمة) لو سلمنا بهذا و أخذناه محققاً وقلنا أن هذه الاجسام الذرية مرکبة أيضاً من الطاقات، مما يثبت وجود شيء اسمه الطاقة ليس بمادة بل تحصل المادة من تراکمها و ترکيبها (کان من الواجب في البحث الحِکَمي) حينئذ (أخذ الطاقة نوعاً عالياً .... الخ) لا المادة، وجعل الطاقة مکان المادة (مترتباً علي الجوهر) أي نقول الجنس العالي هو الجوهر والقسم الأول من الجوهر هو الطاقة (قبل الجسم، والجسم قسم ثانوي لا نوع عالي، (ثم ترتيب الأبحاث المتفرقة) التي جرت حتي الآن عن المادة (علي ما يناسب هذا الوضع) الجديد، وهو اعتبار الطاقة جنسياً عالياً، واجراء البحث عنها، (فليتأمل) لعله اشارة الي أن الجسم ذو حجم والحجم لا يتحقق من اللاحجم - کما نقدم -، فلا محالة تکون الطاقة ذات حجم وعليه فهي جوهر ذو أبعاد ثلاثة، فيصدق عليها تعريف الجسم الفلسفي ولا حاجة إلي اعتبار نوع آخر.

ص: 442

الفصل الخامس في ماهية المادّة وإثبات وجودها

نقرأ في هذا الفصل :

1- الجسم من حيث انّه جوهر قابل للإمتداد في الجهات الثلاث، أمر بالفعل. 2- الجسم من جهة قبوله للکمالات الأولية والثانوية، أمر بالقوة.

3- حيثية الفعل والوجدان غير حيثية القوة والفقدان، فالجسم مرکب من المادة - الهيولي -

والصورة الجسمية - أي الاتصال الجوهري

4- الأشکال الأول : لا يقال : لا ريب أن الصور والأعراض الحادثة اللاحقة بالاجسام تحتاج الي امکان استعدادي في الجسم لقبولها، فلا مانع أن نقول : هذا القبول الاستعدادي عرض موجود في الجسم - أي الاتّصال الجوهري -، ولا يحتاج الي جوهر ذاته القوة والقبول، ولا حاجة له الي استعداد وقبول جوهري.

5- فإنه يقال في الجواب : مغايرة الجسم - بما أنه اتّصال جوهري - مع کل من الصور النوعية، توجب استحالة کون الجسم موضوعاً للقبول والاستعداد لتلک الصور، اذ هذا القبول والاستعداد منسوب إلي الهيولي، ونسبة کل استعداد خاص و متعين الي الهيولي، کنسبة کل امتداد مقداري معين - الجسم التعليمي - بالاتصال الجوهري والصورة الجسميّة .

1- کما يقال أيضاً: لو کان الجسم موضوعاً للقوة والاستعداد ، والجسميّة محتاجة الي قوة واستعداد ، لزم کون الجسم حاملاً لقوته استعداده، وهو يستلزم التقدم الزماني للجسم علي نفسه، وتقدم الشيء علي نفسه محال.

7- الإشکال الثاني : وأما ما قيل: من أن «القبول والاستعداد» مفهوم عرضي ، فلا يکون

جوهراًحقيقياً.

8- الجواب ، فيدفعه : ان هذه العرضية لغوية لفظية ومن وجهة نظر اللغوي واللفظي، وبعد

ما ثبت جوهرية المادة بالبرهان القاطع ، اندفع الاشکال بنفسه.

9- الاشکال الثالث: أن الاستعداد والقوة تزول عند تحقق المستعدله ، وإذا زال جزء

الجسم لزم زوال الجسم کله، وهو خلاف الضرورة.

10 - الجواب : تعين استعداد خاص في المادة، عرض يحصل في المادة، وتزول هذه القوة المتعينه والاستعداد الخاص مع تحقق المستعد له ، فتبقي المادة بقوتها المحضة

واطلاقها.

11 - الاشکال الرابع : لا يقال : الحجة منقوضة بالنفس الإنسانية، فإنها بسيطة مجردة من المادة ذات ، وهي بالفعل، ولها آثار بالقوة، فلها قوة الکمالات و حالات کالارادات والتصورات . وهي کيفيات نفسانية وأعراض - من غير أن تکون هيولي ومادة.

12 - الجواب، فإنه يقال : النفس ليست مجردةً تامة ذاتاً، وفعلاً، بل هي متعلقة بالمادة فعلاً، فهي من جهة التجرد بالفعل، ولها الفعلية من حيث تجردها، ولها القوة من حيث تعلقها بالمادة.

13- الاشکال الخامس : لا يقال : الحجة - أعني السلوک الي اثبات المادة بمغايرة القوة والفعل - بالنفس الإنسانية من جهة أخري، وهي أن النفس الإنسانية العقلية مادة للمعقولات المجردة، وهي مجردة کلما تعقلت معقولاً صارت هي هو.

14 - الجواب، فانا نقول : خروج النفس المجردة من القوة الي الفعل باتحادها بعقل بعد

عقل ليس من باب الحرکة المعروفة التي هي کمال أول لما بالقوة من حيث انّه بالقوة.

10 - الاشکال السادس: لا يقال : الحجة منقوضة بنفس المادة ، فانّها جوهر موجود بالفعل، وهي من هذا الحيث لزم کونها ذات صورة بالفعل، ومن حيث أنها ذاتا قوة الاشياء وقبولها، لزم کونها ذات مادة، ونحن ننقل الکلام الي تلک المادة، وهلمّ جرّا، فيتسلسل، فکون الشيء ذا قوة وفعلية لا يستلزم ترکبه.

16- الجواب، لأنه يقال : أن المادة تستلزم القوة والفعل، لکن فعليتها عين قوتها، وقوتها

عين فعليتها.

17 - الاشکال السابع : لا يقال : الحجة منقوضة بأن العقل مجرد، مؤثر فيما دونه، متأثر

مما فوقه، فيلزم کونه ذا مادة وصورة، حتي يکون متأثراً ومؤثراً.

18 - الجواب، فإنه يقال : أن الانفعال والقبول في العقل ليس إلا مجرد وجوده الفائض عليه ، من غير حاجة الي سبق قوة واستعداد تقر به الي الفعلية ، وانما العقل يعتبر ماهية للعقل المجرد قابلا للوجود والعدم، ويسمي تلبسه بالوجود قبولاً وانفعالاً، فهذا القبول والإنفعال غير الاستعداد و القوة السابقة، بل هو بمعني آفاضة الوجود، فالعقل يفعل بعين ما يقبل وينفعل به.

کان الأفضل أن يقدم الحديث عن ماهية المادة علي الحديث عن اثبات وجودها بحسب عنوان الفصل، إلّا أنه ي جمع بينهما في کلام واحد وبيان واحد رعايةً للايجاز والاختصار .

واعلم أن للمادة معنئً عرفيا وهو کون شيء منشاً لشيء آخر، أعني أن شيئاً مادياً يکون منشئاً لشيء مادي آخر، لکن مصطلح المادة في الفلسفة تستعمل في الاجسام من جهة کون الاجسام قابلة للتبدل الي أجسام أخري ، کتبدّل التراب الي النبات ، والنطفة الي الانسان وهکذا...، فالموجود الذي وجوده فعلي - وبالفعل - إذا قيس الي الموجود الذي هو بالقوة بالنسبة اليه، وسيوجد ويکون بالفعل من خلال تبدّل الأول وتحوله، ذاک الموجود الأول - الذي هو بالفعل - يکون ويستي مادة بالنسبة الي هذا الثاني، الذي هو بالقوة ، فالتراب - في المثال السابق - مادة للنبات ، والنطفة مادة للإنسان وهکذا.....، والمادة أما قريبة أو بعيدة أو متوسطة، فمثلاً التراب مادة لکل شيء لکنها مادة بعيدة کالجوهر الذي هو جنس بعيد للإنسان، والنبات مادة متوسطة للإنسان وهکذا الحيوان، أما النطفة فإنها مادة قريبة وبقول أدق فإن النطفة أيضاً مادة متوسطة للانسان و مطلق الحيوان، والمادة القريبة للإنسان قد تکون المضغة کما أن المادة القريبة للنبات هي النواة.

ثم أن هذا المفهوم، مفهوم قياسي واضافي - أي انّه مفهوم ذو الاضافة ، لأنه لا يصدق

ولا يحقق المطلوب إلا إذا قيس بغيره، - أعني إذا قيس شيء بشيء

ص: 443

ص: 444

لا ريب أنّ الجسم في أنّه جوهرُ يمکن أن يفرض فيه الامتدادات الثلاثة أمرُ بالفعل، وفي أنّه يمکن أن يوجد فيه کمالات أُخر أوّليّة مسمّاةُ بالصورة النوعيّة التي تکمَّل جوهرَه، وکمالاتُ ثانيةُ من الأعراض الخارجة عن جوهره، أمرُ بالقوة . وحيثيّة الفعل غير حيثية القوة، لما أنّ الفعل لا يتم إلا بالوجدان، والقوة تلاِزمُ الفقدان . فالذي يقبل من ذاته هذه الکمالات الأولي والثانية الممکنة فيه و يتحدّ بها ، أمر غير صورته الاتصالية التي هو بها بالفعل، فإن الاتّصال الجوهريّ - من حيث هو - إتّصال جوهري لا غير ؛ وأما حيثيّة قوّة الکمالات اللاحقة وإمکانّها فأمرَ خارجُ عن الاتّصال المذکور مغايرُ له، فللجسم وراء اتصاله الجوهريّ جزءُ آخر حيثيةُ ذاتِهِ حيثيّة قبول الصور والأعراض اللاحقه، وهو الجزء المسمّي ب «الهيولي والمادّة(1)

ص: 445


1- (لا ريب أن الجسم...الخ) وهذه الحيثية التي يعبر عنها بالاتّصال الجوهري فعلية في جميع الأجسام، فالاتّصال الجوهري عبارة عن إمکان فرض امتدادات ثلاثة علي زوايا قوائم فهذا تعريف للاتّصال الجوهري بعرضه الخاص، واما من جهة أُخري : ( و) لا ريب أيضاً (في أنه يمکن أن يوجد فيه کمالات أُخر أولية مسماة بالصورة النوعية) فالأجسام لها قابلية قبول الکمالات الأخري غير الکمالات الأولية التي فيها بالفعل، والاّتصال الجوهري وان کان کما بذاته فعلياً بالنسبة للاجسام، إلّا أنها مستعدة أيضاً لقبول کمالات أخري کالصور النوعية التي تکمل جوهره) فالصورة النوعية مکملة للصورة الجسمية ، (و) أيضا لها استعداد قبول (کمالات ثانية من الأعراض) من بيانية أي الکمالات التي هي الأعراض (الخارجة عن جوهره)، والجسم من هذا الحيث (أمر بالقوة) خلافاً للحيث السابق الذي کان بالفعل. فالذي) في الجسم، والشيء الذي يقبل من ذاته هذه الکمالات الأولي و...الخ) أي غير الاتّصال الجوهري (التي هو) أي الجسم (بها) أي بالصورة الاتصالية (بالفعل) فالجسم بالاضافة الي الصورة الاتّصالية الفعلية ، بداخله شيء آخر يقبل صور الکمالات، لماذا ؟ (فإن الاتصال الجوهري.. الخ) فلا قابلية ولا استعداد له لقبول أشياء أخري.

فتبين أنّ الجسم جوهرُ مرکُبُ من جزئين جوهريَّين : المادّة التي إنيّتها قبول الصور المتعلَّقة نوعَ تعلقًّ بالجسم والأعراض المتعلَّقة بها، والصورة الجسميّة ؛ وأن المادّة جوهرُ قابل للصور والأعراض الجسمانيّة ، وأنّ الامتداد الجوهري صورةُ لها(1)

لا يقال : لا ريب أنّ الصور والأعراض الحادثة اللاحقة بالأجسام يسبقها إمکان في المحلّ واستعدادُ و تهيّوُ فيه کلّها، وکلما قربّ الممکن من الوقوع زاد الاستعداد اختصاصاً واشتدّ حتّي إذا صار استعداداً تاماً وجد الممکن بإفاضةٍ من الفاعل. فما المانع من إسناد القبول إلي الجسم - أعني الاتّصال الجوهريّ- بواسطة قيام الاستعداد به عروضاً من غير حاجةٍ إلي استعداد و قبول جوهري نثبتها جزءاً

ص: 446


1- قوله (قده): «المادة التي انيتها قبول الصور .. الخ» أي ماهيتها أو حيثيتها وحقيقتها قبول الصور، ولکن المعني: المادة التي يُسند اليها قبول الصور (المتعلقة نوع تعلق بالجسم، و) قبول (الأعراض المتعلقة بها) أي بتلک الصور أو المتعلقة بالمادة نفسها، فتبين أن الجوهر مرکب من المادة (و) من (الصورة الجسميّة)، هذا أولاً، کما تبين أيضاً في الفقرة الماضية (أن المادة) تعريفها أنها (جوهر قابل للصور والأعراض الجسمانية) وهو تعريف بالعرض الخاص، (و) قد تبين أيضاً تعريف الصورة الجسميّة وهي عبارة عن الامتداد الجوهري وتبين أيضاً: (أن الامتداد الجوهري) وهو الصورة الجسميّة ، (صورة لها) أي أن الصورة الجسمية صورة للمادة.

للجسم؟ علي أنّ القبول والاستعداد مفهومُ عَرَضيُّ قائم بالغير، فلا يصلح أن يکون

حقيقةً جوهريّةً. علي أنّ من الضروري أن الإستعداد يَبطُل مع تحقَقِ المستعدّ له ،

فلو کان هناک هيولي - هي إستعدادُ وقبولُ جوهريُّ وجزءُ للجسم - لبطُلَت بتحقُّقِ الممکن المستعدّ له، وبطل الجسم ببطلان جزئه وانعدم بانعدامه، وهو خلاف الضرورة(1)

ص: 447


1- هناک اشکالات عديدة أوردها علي البرهان السابق ويسمّي ببرهان القوة والفعل، ذکر العلامة (قده) هنا سبعة منها- وهي أهمها - وقد أحسن الرّد عليها والاجابة عنها وهي کالتالي: الأشکال الأول : تفاصيله في الجزء الخامس من الأسفار، (لا يقال : لا ريب أن الصور والأعراض.. الخ) وحاصله: انا لا نختلف معکم في أن الجسم يقبل صورة وأعراضاً جديدة، ومن أجل حصول هذه الأعراض والصور يحتاج الجسم إلي استعداد خاص يناسب و يلائم کل عرض وصورة علي حده، وإلا عرضته تلک الصور بأجمعها دفعة واحدة وهو محال، کما انا لا نختلف معکم في کون هذه الاستعدادات ذات ضعف وشدة، أي بعضها أقربّ وبعضها أبعد ولها مراتب تشکيکية، لکن نختلف معکم في وجود جوهر آخر في الجسم حيثيته حيثية القوة والاستعداد، يقبل الصور النوعية والأعراض، وما المانع من کون الجسم بذاته لما له من فعلية واتصال جوهري يحصل علي استعدادات خاصة، ثم بواسطة تلک الاستعدادات الخاصة يقبل صورة خاصة وأعراضة خاصة، فعروض هذه الصور للجسم مسبوق باستعدادات خاصة تحصل للجسم بما أنه اتصال جوهري، وهو ما ذهب إليه افلاطون. قوله (قده) : (وکلما قربّ الممکن من الوقوع زاد الاستعداد اختصاصاً) لأن الاستعداد عام وسيع ، کلما قربّ من الوقوع زاد تشخصاً، فالنطفة مثلاً لها استعدادات منها أن تصير علقة ، ومنها أن تفسد و تعود تراباً أو ديدن، اذن بعدما تنقلب النطفة علقة تفقد شيئاً من تلک الاستعدادات أيضاً، وأصبح فيها استعداد أن تصير مضغة أو تعود تراباً ، والمضغة لها استعداد أن تصير جنيناً أو تعود تراب ، والجنين قريب جداً ليصير انساناً ، فکلما قربّ وقوع الإنسان - وهو الممکن -، زاد الاستعداد الذي في الجسم اختصاصا بالإنسانية (واشتد) هذا الاستعداد حتي إذا صار) الممکن - وهو الجنين في المثال - (استعداداً تاماً ) ليس معه قوة أصلاً، وصار فعلاً محضاً، (وجد الممکن) لکن لا بنفسه بل (بافاضة من الفاعل الموجب - تبارک وتعالي -، ليس هذا موضع النزاع، وتحرير محل النزاع يبدأ من هنا، فإنا لا نختلف معکم فيما مضي، وانما نقول: (فما المانع من اسناد القبول الي الجسم) ؟! وذلک بواسطة قيام لجسم (عروضاً) بأن يحل هذا الاستعداد في الجسم علي شکل عرض من الأعراض، ليعرف أن هذا الجسم قابل ليتحول إلي أي شيء، ويکفي هذا الاستعداد العرضي للجسم لقبول الصور النوعية من غير حاجة الي ... الخ). علي أن القبول...الخ) أي أضف الي الاشکال الأول هذا الاشکال، وهو أن قابلية واستعداد قبول الشيء - والأشياء - أمر عرضي قائم بغيره ، وانتم تريدون اثبات وجود جوهر يکون هو القبول بعينه ، (فلا يصلح) القبول والاستعداد (أن يکون حقيقة جوهرية).(علي أن من الضروري أن ...... الخ) أي أضف اليهما اشکالا ثالثاً ، فاذا جاءت الفعلية بطلت القوة ، هذا في الأمور العقلية ، کما أن في الامور الشرعية الاعتبارية اذا جاء الماء بطل التيمم.

فإنّه يقال : مغايرة الجسم - بما أنّه اتصالُ جوهري لا غير - مع کلًّ من الصور النوعيّة تأبي أن يکون موضوعاً للقبول والإستعداد لها ، بل يحتاج إلي أمر آخر لا يأبي أن يتّحد مع کلَّ من الصور اللاحقة، فيکون في ذاته قابلاً لکل منها وتکون الاستعدادات الخاصّة التي تتوسّط بينه وبين الصور الممکنة أنحاء تعيّنات القبول الذي له في ذاته ، فنسبةُ الاستعدادات المتفرقة المتعيّنة إلي الإستعداد المبهم الذي للمادّة في ذاتها نسبةً الأجسام التعليمية والامتدادات المقداريّة التي هي تعيّنات للامتداد والاتصال الجوهري إلي الاتّصال الجوهريّ. ولو کان الجسم - بما أنه اتّصال جوهريّ - هو الموضوع للاستعداد و الجسم من الحوادث التي يسبقها إمکان ، لکان حاملاً للإمکان نفسه، فکان متقدّماً علي نفسه بالزمان.(1)

ص: 448


1- جواب الاشکال : (فانّه يقال : مغايرة الجسم...الخ) وحاصله : أن الحيثية الفعلية التي للاجسام هي الصورة الجسمانية - أي الاتصال الجوهري -، والصور العارضة لها مختلفة کالصور النباتية والجمادية والحيوانية وما أشبه ، فإنّ کلاً من هذه الصور، نوع من الجوهر، نفس الاتّصال الجوهري أيضاً نوع من أنواع الجوهر، وهذه الأنواع متباينة فيما بينها، وکل ما کان ماهية تامة، من جهة کونه ماهية تامة يکون مبايناً لماهية تامة أخري، فلا معني القبول ماهيةً تامةُ، ماهي تام أخري، إذ کل ماهية تامة تکون في مرتبة الفعلية، ولا يمکن قبول أحدهما للآخر - أي قبول شيء لشيء، إلّا إذا کانت حيثيته حيئية الفعلية والقوة المحضة. وبعبارة أوضح: تکون حيثيته حيثية القبول الصرف وصرف القبول، فإن العقيق مثلاً لا يمکن أن يقبل الياقوت أو الحديد، لأن کلاً منهما ماهية تامة حيثيتهما حيئية الفعل لا القبول، ولا يمکن أن تتحد ماهيتان فعليتان، وتقدم ان حيثية القوة حيثية الفقدان وأن حيئية الفعلية حيئية الوجدان، هذا أحد الجوابين، وأما الجواب الثاني : أنه لو کان للجسم حيثية القبول - أي أن الجسم من جهة کونه اتصالاً جوهرياً ، لو کان ذا حيثية القوة أيضاً - وسيأتي - ان شاء الله تعالي - إن الجسم من الحوادث، والحوادث الجسمانية مسبوقاً بالمادة والمدة ، فلا تتحقق ظاهرة ولا حادث جسماني إلا إذا کان مسبوقاً بمادة تقبله ، وکان مسبوقاً بزمان وفترة زمانية توفر له استعداد قبول ذلک الحادث الجسماني، فوجب أن تکون مسبوقاً بمادة توفرت فيه شروط استعداد قبول الجسم وظهوره وحدوثه، ليصير جسماً، ويکون کذلک مسبوقاً بفترة زمنية تؤهله للقبول والاستعداد ، ولو کان الجسم بنفسه حاملاً للاستعداد ، الزم کون الاستعدادات التي تحدث وتظهر بالنسبة الي الحوادث، في الجسم نفسه، وإذن وجب ان تکون استعدادات جميع الحوادث في العالم موجودة متوفرة في الجسم، رغم حاجة الجسم - کما تقدم الي استعداد خاص به، فوجب کون استعداد وجوده أيضاً موجوداً في نفسه، مما يستلزم ويستوجب تقدم الجسم علي نفسه تقدماً زمانياً ، وهذا بخلاف ما أثبتناه من وجود استعداد الجسمية في الهيولي، إذ الهيولي هي التي تقبل الصورة الجسمية ، واما ادعاؤکم بأن الجسم يحمل في ذاته حيثية القوة، فهو باطل لاستلزامه أن يکون حاملاً القوته، لأن الجسم من الحوادث وهو مسبوق بقوة، وقوته فيه، وهو محال. ملاحظة : ويرد علي الجواب الأول الذي قدمه العلامة : أن الجواب صحيح بناءاً علي اصالة الماهية، حيث يستحيل اتحاد الماهيتين التامتين ، واما بناء علي أصالة الوجود - الذي هو مذهب العلامة - فلا يصح الجواب، إذ حينئذ تتحد الماهيتان بلحاظ الوجود، وليس الکلام عن اتحاد الماهية ، وليس ملاک الاتحاد هو القوة والفعل بل الاتحاد في الوجود، ولا مانع من اتحاد ماهيتين في الوجود، خذ واغتنم. قوله : ( مغايرة الجسم - بما أنه اتّصال جوهري لا غير - فان الجسم بما أنه اتّصال جوهري لا غير ماهية مغايرة لجميع الماهيات الأخري من الصورة الترابية أو النباتية أو الجمادية وما أشبه ، فهي مغايرة (مع کل من الصور النوعية) ولهذا فإن هذه المغايرة الثابتة الماهية الجسم (تأبي أن يکون الجسم (موضوعاً) ومحلاً( اللقبول والاستعداد لها) أي لتلک الصور النوعية ، فلا معني لقبول أحداهما للأخري. قوله (قدس سره ): ( وتکون الاستعدادات الخاصة التي تتوسط بينه) أي بين الجسم (وبين الصور) النوعية (الممکنة، أنحاء تعينات القبول) فکل من هذه الاستعدادات نحو من الجوهر الذي هو عين القبول ، فهو قبول محض يحتاج الي عرض يحل فيه ليصير شيئاً خاصاً ويتعين ، (فنسبة الاستعدادات المتفرقة المتعينة) بالفعل (الي الاستعداد المبهم) وبالقوة المحضة (الذي للمادة والهيولي (في ذاتها) بقطع النظر عن لحاظها مع غيرها، تلک النسبة هي (نسبة الاجسام) أي کنسبة الأجسام - منصوب بنزع الخافض - (التعليمية ، والامتدادات المقدارية...الخ) کنسبة الأجسام التعليمية والامتدادات المقدارية.. إلي الاتصال الجوهري. هذا جواب. أما الجواب الثاني : (ولو کان الجسم بما أنه اتصال جوهري - هو الموضوع للاستعداد...الخ) وقد أوردناه مفصلاً.

ص: 449

وأمّا ما قيل : إنّ المفهومَ من القبول معنيً عَرَضيُّ قائمُ بالغير، فلا معني للقول

بکون المادّة قبولاً بذاته وهو کون القبول جوهراً.

فيدفعه : أنّ البحث حقيقيُّ، والمتّبَعُ في الأبحاث الحقيقيّة البرهانُ دون

الألفاظ بمفاهيمها اللغوية ومعانيها العرفية(1)

وأمّا حديث بطلان الاستعداد بفعليّة تحقُّق المستَعدّ له المقويّ عليه ، فلا ضَيرَ فيه ، فإنّ المادّة هي في ذاتها قوّةُ کلَّ شيءٍ من غير تعيُّن شيءٍمنها ، وتعيُّن هذه القوّة المستتبع لتعيُّن المقويّ عليه عَرَض موضوعه المادّة، وبفعليّة الممکن المقويّ عليه تبطل القوّة المتينة والاستعداد الخاص، والمادّة علي ما هي عليه من کونها قوّة علي الصّور الممکنة (2)

ص: 450


1- (فيدفعه : آن البحث حقيقي، وليس بحثاً لفظياً ، (والمتبع في الأبحاث الحقيقية ...الخ)
2- (وأما حديث بطلان الاستعداد بفعلية تحقق المستعَدّ له) أعني (المقوي عليه (فلا ضير فيه) ولا ريب فيه ، (فإن المادة هي في ذاتها قوة کل شيء) فهي تحمل قوة مطلقة، وما يزول عبارة عن الاستعداد الخاص الذي يعدّ أمراً عرضياً ، (من غير تعين شيء منها) بعينه ، فإنها تحمل بذاتها قوة مطلقة لکل شيء لکن لا علي وجه التعين ، (و تعين هذه القوة المستتبع لتعين المقويّ عليه) يجب أن نحدّد القوة التي نريد تحققها، حتي يتبعه تحديد وتعين المستعدلة والمقوي عليه ، وهذا التحديد والتعين (عرض موضوعه المادة، وبفعلية الممکن المقوي عليه) بعد تحقق المستعدله المقوي عليه ، ( تبطل القوة المتعينة والاستعداد الخاص) واما الاستعداد العام والقوة المطلقة (و) هي (المادة الأولي والهيولي ، فهي باقية محفوظة علي ما هي عليه، من) بيانية ، بيان لوجه بقائها وذلک من (کونها قوة) مطلقة علي الصور الممکنة).

وبالجملة : إنّ کان مراد المستشکل بقوله: «إن الاستعداد يبطل بفعلية الممکن المستعد له» هو مطلق الإستعداد الذي للمادة فممنوع، وإن کان مراده هو الاستعداد الخاص الذي هو عرضُ قائمُ بالمادّة فمسلّم، لکن بطلانّه لا يوجب بطلان المادّة .

لا يقال : الحجّة - أعني السلوک إلي إثبات المادّة بمغايرة القوّة والفعل - منقوضةً بالنفس الإنسانيّة ، فإنّها بسيطةُ مجرّدةُ من المادّة ولها آثار بالقوّة کسنوح الإرادات والتصوّرات وغير ذلک، فهي أمرُ بالفعل في ذاتها المجرّدة وبالقوّة من حيث کمالاتها الثانية . فإذا جاز کونها علي بساطتها بالفعل و بالقوّة معاً فليجز في الجسم أن يکون متّصفاً بالفعليّة والقوّة من غير أن يکون مرکّباً من المادّة والصورة .

فإنّه يقال : النفس ليست مجرّدةً تامّةً ذاتاً وفعلاً، بل هي متعلّقةُ بالمادّة فعلاً

فلها الفعليّة من حيث تجرّدها والقوة من حيث تعلّقها بالمادّة(1)

ص: 451


1- (لا يقال : الحجة) إشارة الي الدليل والبرهان الذي ذکره (قدس سره ) في صدر هذا الفصل، والذي أشار اليه هنا بقوله: (- أعني السلوک الي اثبات المادة بمغايرة القوة والفعل ) حيث قال في السطر الرابع من بداية هذا الفصل - ص 126- «وحيثية الفعل غير حيثية القوة»، هذه الحجة (منقوضة بالنفس الإنسانية، فإنها) أي النفس (بسيطة مجردة من المادة في ذاتها وان تعلقت بها في أفعالها، (ولها) أي للنفس رغم تجردها (آثار بالقوة) قد تصير بالفعل، (کسنوح) وعروض (الإرادات) لأنها من الکيفيات النفسانية ، (و) مثل (التصورات، وغير ذلک من الأمور النفسانية التي تفتقدها النفس الإنسانية في بداية أمرها ثم تحصل عليها کلما تقدمت نحو الکمال، (فهي) أي النفس (أمر بالفعل في ذاتها المجردة..الخ) فللنفس حيثيتان، وبناء علي هذا فالنفس مرکبة من حي بالفعل وحيث بالقوة، (فاذا جاز کونها) أي النفس علي بساطتها) و رغم عدم ترکبها (بالفعل و بالقوة معاً) فلماذا لا يجوز ذلک في الجسم، رغم اشتراک النفس والجسم في تعدد الحيثيات حينئذ ؟! فإذا جاز فيها ذلک (فليجز في الجسم) أيضا.. إلخ. راجع تعليقة المولي صدر المتألهين علي حکمة الاشراق. (فإنه يقال )في مقام الرد أن (النفس ليست مجردة تاماً ذاتاً وفعلاً) بحيث لا تعلق ولا ارتباط لها بالمادة أصلاً، ولو کانت مجردة تامة، کانت خالية لحيثية القوة، بل کانت بالفعل من جميع الجهات، لکنها متعلقة بالجسم محتاجة في أفعالها الي البدن (فلها) أي للنفس الفعلية من حيث تجردها) لأن المجرد التام بالفعل من جميع الجهات، وليس له إلّا حيثية الفعلية ، (و) اما (القوة) التي في النفس فهي من حيث تعلقها) أي النفس (بالمادة) وبعبارة اخري : فإن الحامل الحقيقي للقوة والکمالات التي تکون بالقوة، هي المادة والجسم. .

لا يقال : الحجّة منقوضة بالنفس الإنسانية من جهةٍ أخري، وهو أنّهم ذکروا۔ وهو الحقّ. أنّ النفس الإنسانيّة العقليّة مادّةً للمعقولات المجرّدة ، و هي مجردّة کلما تعقّلت معقولاً صارت هي هو.

فإنّا تقول : خروج النفس المجرّدة من القوّة إلي الفعل باتّحادها بعقل بعدً عقلٍ ليس من باب الحرکة المعروفة التي هي کمالُ أوّلُ أما بالقوّة من حيث إنّه بالقوّة ، والّا استلزم قوّةً واستعداداً وتغيّراً وزماناً ، وکلّ ذلک ينافي التجرّدَ الذي هو الفعليّة التامّة العارية من القوّة .

بل المرادُ بکون النفس مادّةً للصور المعقولة إشتدادُ وجودِها المجرّد من غير تغيّر وزمان باتّحادها بالمرتبة العقلية التي فوق مرتبة وجودها بإضافة المرتبة العالية ، وهي الشرط في إفاضة المرتبة التي هي فوق ما فوقها.

وبالجملة مادّيّةُ النفس للصور المجرّدة المعقولة غيرُ المادية بالمعني الذي في عالم الأجسام نوعاً ، وناهيک في ذلک عدم وجود خواصّ المادّة الجسمانيّة هناک (1)

ص: 452


1- (لا يقال : الحجة) المتقدمة (منقوضية بالنفس الإنسانية ....الخ) المراد بالنفس الإنسانية هنا هي النفس العقلانية أي المرتبة العقلانية من النفس، فإنها مادة للمعقولات المجردة، لأن للنفس عدة قوي مختلفة ، فمن جهة کونها عقلاً هيولانياً ، تکون مادة للمعقولات. بيان ذلک : أن الموتي صدر المتألهين يدعي أن النفس الإنسانية مادة بالنسبة الي الصور العقلية التي تتحقّق فيها، وأنها تتحد مع تلک الصور ، وهذا مبني أولاً: علي أن النفس تتکامل بواسطة الصور العقلية ، ثانياً : أن الصور العقلية جواهر مجرّدة، ثالثاً : اتحاد العاقل والمعقول، وهي المباني التي يتمسک بها صدر المتألهين (ب)، فالنفس جوهر، والصور العقلية جواهر مجردة تامة، والنفس تتحد مع الصور العقلية ، کيف يحصل هذا الاتحاد رغم کون النفس جوهراً مجرداً، وکون الصور العقلية جواهر مجردة أيضاً ؟! قال قدس سره : ان هذه النفس مادة بالنسبة الي تلک الصور المجردة ، و تتحد معها، کما تتحد الصورة والمادة ، فاتحادها بتلک الصور نوع من أنواع اتحاد المادة والصورة، وجه الاشکال : انکم حين تزعمون أن النفس مادة للصور العقلية، يجب أن تلتزموا بکون النفس قابلة التحققها، وفيها استعداد حدوثها و تحققها، قبل أن تتحقق فيها و تحدث لها، أي النفس بالقوة بالنسبة اليها، ثم أن للنفس فعلية أيضاً من حيث ذاتها، فللنفس حيثيتان ، حيئية الذات التي هي الفعلية للجسم، وحيثية إمکانّها لقبول تلک الصور والاتحاد معها، فالنفس يجب أن تکون مرکبة ، وهو اشکال علي صدر المتألهين (قدس سره ) ومن تبعه في قوله هذا. بينما يري افلاطون ومن تبعه وشيخ الاشراقيين في کتابه حکمة الاشراق، أن النفس تشاهد المجردات ولا تتحد بها، لأن المجرد قادر علي ادراک المجرد، والصور العقلية مجردة کالنفس، فالنفس تشاهدها وتدرکها، لکن لا تتحد بها، لامتناع الاتحاد الجوهري عندهم، وعليه فلا يرد الاشکال المتقدم (فإنا نقول : خروج النفس المجردة من القوة الي الفعل....الخ) والحاصل : ان اصطلاح المادة هنا يختلف عن المادة في سائر الاستعمالات، وأريد بالمادة هنا غير ما أريد هناک ، بيان ذلک: أن النفس حين نقول أنها مجردة، نريد أنها لا تتعلق بزمان، ولا تحقق لحرکة الزمان والسير الزماني في النفس ، والحق أن النفس حقيقة مجردة تتحد مع صورة مجردة أخري، لکن لا في الزمان ولا بالتدريج الذي يقتضي التعلق بالزمان وهو من آثار الزمان ، کلا، بل وجود النفس وحقيقتها يقتضي کونها متحدة غير منفکة عن تلک الصور، وأنها بنفسها شرط لإفاضة المفيض الوهاب تلک الصور العقلية للنفس، فلا مجال هنا للقوة والامکان والامکان الاستعدادي وما أشبه من خصائص الاجسام، واستعمال لفظ المادة هنا استعمال مجازي واستعارة ليس إلّا، يراد منها أن النفس فاقدة لصورة يفيضها الواجب تبارک و تعالي عليها، وبناء علي اتحاد العاقل والمعقول تتحد النفس و تلک الصورة. (خروج النفس المجردة من القوة الي الفعل باتحادها) أي النفس (بعقل) أي بصورة عقلية( بعد عقل) أي بعد صورة عقلية ، هذا الخروج (ليس من باب الحرکة) الزمانية (المعروفة) وهي التي عرفها ارسطو بأنها (کمال أول لما بالقوة من حيث انّه بالقوة) وسيأتي بيان هذا التعريف في محله مفصلا، وحاصله أن ما کان من لوازم الذات للشيء کان کمالاً أولاً له، کالناطقية للإنسان، فلو کان الشيء بالقوة من حيث انّه بالقوة، أي له قوي امکانية، فإنها من جهة کونها ذا قوي إمکانية ، - لا من جهة أنها ذا فعلية ، نجد أن من لوازم هذه القوة - کونها ذات قوة - أن يکون أول کمال يعرض له، وهو مقدمة لسائر الکمالات وطريق إليها، هذا الکمال يعد حرکة ، فالحرکة وهي سير الشيء نحو الکمال ، هي الکمال الأول ووصوله کمال ثانٍ، من جهة أنه بالقوة، والحاصل أن الموجود بالقوة من جهة أنه بالقوة، تعد الحرکة کمالاً أولاً له، والنفس التي تتحد مع العقل - أي الصورة العقلية -، لا يصدق عليها أنها خروج من القوة الي الفعل وأنها کمال أول لما بالقوة، (وإلا لو کانت کذلک - أي خروجاً من القوة الي الفعل -، (استلزم قوة واستعداداً و تغيراً وزماناً) للنفس، (وکل ذلک من القوة والاستعداد والتغير والزمان - الحرکة -، (ينافي التجرد الذي هو الفعلية التامة العارية من القوة والاستعداد والتغير والزمان، فليس هذا هو المراد من قولنا : النفس مادة للصورة العقلية ، فما المراد من قولنا هذا؟ (بل المراد بکون النفس مادة للصورة المعقولة، اشتداد وجودها المجرد) وکمال وجودها المجرد (من غير) أن يحدث فيها( تغير وزمان)، وانما يحصل الاشتداد في وجودها (با تحادها) أي النفس ( بالمرتبة العقلية التي فوق مرتبة وجودها) والنفس الفاقدة لمرتبة عقلية توجدها - و تحصل عليها - آناً ودفعة واحدة، وذلک (بإضافة المرتبة العالية وهي) أي النفس شرط لهذه الإفاضة ليس الّا. (وبالجملة) والتحقيق لا الإجمال والترديد (مادّية النفس) التي ذکرها صدر المتألهين (قدس سره ) (للصور المجردة المعقولة) أي الصور العقلية (غير المادية )التي ورد ذکرها ( بالمعني الذي في عالم الاجسام) وقد اختلفت المادية في الموضعين (نوعاً) أي اختلافهما نوعي والمغايرة بين المعنيين مغايرة نوعية ، (وناهيک) أي يکفيک دليلاً (في) اثبات (ذلک) المدعي وهو المغايرة النوعية بين الاستعمالين (عدم وجود خواص المادة الجسمانية هناک) أي في النفس، إذ النفس مجردة، والمادة غير مجردة لها خواص المادة ، فاستعمال المادة في قولنا النفس مادة الصور العقلية المجردة ، غير استعمال المادة في عالم الاجسام. ولا يفي هذا الجواب بالغرض، فالتحقيق يقتضي العودة الي الجواب الذي أورده المصنف (قدس سره ) عن الاشکال السابق ولا محيص دون الرجوع اليه هنا ايضأ، ولا يمکن التماس الاجابة هنا إلّا به . .

لا يقال : الحجة منقوضة بنفس المادة ، فإنها في نفسها جوهر موجود بالفعل

ص: 453

ولها قوّةُ قبول الأشياء، فيلزم ترکّبها من صورةٍ تکون بها بالفعل ومادّةٍ تکون بها بالقوّة ، ونقل الکلام إلي مادّة المادة وهلمّ جرّاً فيتسلسل ، وبذلک يتبيّن أنّ الاشتمال علي القوّة و الفعل لا يستلزم ترکّباً في الجسم.

لأنّه يقال - کما أجاب عنه الشيخ : إنّ المادّةً متضمّنةُ للقوة والفعل، لکنُ قوّتَها عين فعليّنها وفعليتها عينُ قوُّتها، فهي في ذاتها محضُ قوّةِ الأشياء، لا فعليّة

ص: 454

لها إلّا فعليّة أنّها قوّةُ الأشياء(1)

لا يقال : الحجّة منقوضةُ بالعقل ، فإنِه مؤثِرُ فيما دونه، متأثِرُ عمِا فوقه، ففيه جهتا فعلٍ و انفعالٍ ، فيلزم علي قولکم ترکبه من مادة وصورة حتّي يفعل بالصورة

وينفعل بالمائة.

فإنّه يقال : إنّ الانفعال والقبول هناک غير الانفعال والقبول المبحوث عنه في

الأجسام، فانفعالُ العقل وقبوله الوجودً ممّا فوقه ليس إلّا مجرّد وجوده الفائض عليه، من غير سبقِ قوة واستعدادٍ يقرّب موضوعه من الفعليّة، وإنّما العقل يفرض للعقل ماهيّة يعتبرها قابلةً للوجود والعدم، فيعتبر تلبُّسَها بالوجود قبولاً وانفعالاً،

ص: 455


1- (لا يقال : الحجّة) السابقة (منقوضة بنفس المادة) وذلک انکم ذکرتم أن ما کان ذا حيثية القوة وحيثية الفعل -، فهو لا يخلو من مادة ولابد من کونه مرکباً، ولو صحّ هذا لکانت المادة - والهيولي - مرکبة أيضاً، ولو صحّ الترکيب فيها، لزم وجود مادة أخري لهذه المادة - وهيولي لهذه الهيولي -، بيان نقض الحجة بالمادة قوله : (فإنها) فالفاء للتفريع أو التفسير ، والضمير راجع الي المادة (في نفسها جوهر موجود بالفعل) لأنها مجردة وکل مجرد بالفعل من جميع الجهات، ليس فيها حية قوة مطلقاً، وهکذا (لها قوة قبول الاشياء ) وعليه (فيلزم ترکبها) أي المادة (من صورة تکون المادة الأولي (بها) أي بتلک الصورة ، ( بالفعل) ومن (مادة) أخري (تکون، الهيوني - و الماده الاولي ۔ (بها) أي بتلک المادة الثانية (بالقوة) لأن ملاک الفعلية هو الصورة، وملاک القوة هي المادة - والهيولي -، (وننقل الکلام إلي مادة المادة) و نقول أن المادة الثانية أيضاً تحتاج إلي صورة تکون بها بالفعل ، ومادة ثالثة تکون بها بالقوة ، فتترکب منهما، والمادة الثالثة أيضاً مرکبة، من صورة ومادة رابعة، وهکذا الرابعة والخامسة (وهلم جرّا، فيتسلسل) تسلسلاً باطلاً محالاً لا يقف عند حد، (وبذلک) التسلسل المحال ( يتبين أن...الخ). تجد الاشکال وجوابه في تعليقة صدر المتألهين من علي حکمة الاشراق، اضافة الي الجزء الخامس من الأسفار، والمباحث المشرقية للفخر الرازي الجزء الثاني. (لأنه يقال - کيا أجاب عنه الشيخ -) الرئيس في الهيات الشفاء في الجزء الذي يحتوي علي المقالة الثانية في الفصل الرابع من تلک المقالة، والحاصل : لأن فعلية المادة الأولي - والهيولي - عين قوتها وقوتها عين فعليتها، ولهذا فلا حاجة للمادة الي قوة أخري، وتلک الي ثالثة وهلم جرا، کلا ، بل هي عين القوة وفعليتها عين قوتها.

فالقبول کالانفعال مشترکُ بين المعنيين، والذي يستلزم الترکِب هو القبول بمعني الاستعداد والقوّة السابقة، دون القبول بمعني فيضان الوجود، فالعقل يفعل بعين ما يقبل وينفعل به(1)

ص: 456


1- (لا يقال : الحجة منقوضة بالعقل) وان للعقول المجردة حيئيتين أيضاً (فإنه) أي العقل المجرد (مؤثر فيما دونه) لأنه بالنسبة الي ما دونه فاعل ، و(متأثر) منفعل (عما فوقه) لأنه قابل بالنسبة إلي ما فوقه، فيأخذ الوجود مما فوقه، ويمنحه لما دونه، هذا في العقول المتوسطة، کما أن العقل الأول يأخذ الوجود من الواجب تبارک وتعالي، ويمنحه العقول المتوسطة فهو قابل من جهة وفاعل من جهة، ومنفعل متأثر من حيث فاعل متأثر من حيث آخر، (ففيه) أي العقل المجرد (جهتا فعل و انفعال) و تأثير و تأثر (فيلزم .. الخ). (فانّه يقال : ان الانفعال والقبول هناک ...الخ) وحاصله أن القبول مشترک لفظي، وذلک أنه قد يکون بمعني الانفعال الخارجي وهو فقدان کمال ثم الحصول عليه ، وقد يکون بمعني عين الوجود، لا حصول بعد فقدان، وحدوث بعد عدم، لأن العقول بسيطة، وهي فعلية محضة، واعطاء الوجود للعقل الأول هو العقل الأول، لا أنه شيء لم يوجد بعد ثم الواجب تعالي يمنحه الوجود، فالوجود هنا هو الإيجاد، وعين الايجاد ليس الا ، والقبول عين الوجود. والقبول هنا بمعني مطلق الإنصاف، وموضوع هذا الاتصاف هو الماهية الاعتبارية ، وذلک أن العقل يعتبر الماهية التي تستوي نسبتها إلي الوجود والعدم، ثم الواجب يمنحها الوجود، وهي تقبل هذا الوجود۔ فاعلية الفاعل وقابلية القابل -، فالقبول هناک غير القبول المستعمل في الماديات. قوله قدس سره : ( فانفعال العقل وقبوله الوجود مما فوقه ليس الا مجرد وجوده الفائض عليه) من الواجب تبارک وتعالي ، فوجوده وقبوله شيء واحد، والعقل يقبل الوجود أي يتحقق ويوجد (من غير سبق قوة واستعداد) في العقل المجرد (يقربّ موضوعه من الفعلية) کما هو الحال في الماديات ، کلا، (وانما العقل الإنساني، علي الحصر والتحقيق (يفرض) و يعتبر اللعقل) المجرد التام (ماهية يعتبرها) عقلنا يعتبر تلک الماهية المفروضة (قابلة للوجود والعدم) و تستوي نسبة تلک الماهية المعتبرة المفروضة إلي الوجود والعدم بحسب الاعتبار العقلي فيعتبر) عقلنا ( تلبسها) أي تلبس الماهية المفروضة ( بالوجود قبولا وانفعالا) والحقيقة ليست کذلک، وکيف کان (فالقبول کالانفعال مشترک بين معنيين) أحدهما في باب الأجسام ومعناه الامکان الاستعدادي ، والثاني في باب العقول وهو أمر اعتباري محض، بأن يفرض العقل صفة لماهية مفروضة، فوصف مفروض معتبر لماهية مفروضة معتبرة. (فالعقل) وجود بسيط (يفعل بعين ما يقبل وينفعل به) فهو فاعل فيما دونه وقابل لفيض الوجود مما فوقه.

الفصل السادس في أنّ المادة لا تفارق الجسميّة والجسميّة

لا تفارق المادّة أي أنّ کلّ واحدة

منهما لا تفارق صاحبتها

نقرأ في هذا الفصل :

1- لأن المادة لا فعلية لها بالذات، فلابد لکي توجد، من اتحادها بالصورة التي هي

فعلية محضة ، اذ الوجود مساوق للفعلية .

2- لما کانت المادة متقومة بالصورة ، کانت الصورة شريکة العلة للمادة ، وان لم تکن علة

تامة لها.

3- ليست الصورة علة تامة للمادة، لأن المعلول يزول بزوال علته التامة، والصورة

متغيرة زائلة، ثم أن توالي الصور يقتضي وجود أکثر من علة تامة للمعلول وهو محال.

4- الاشکال الأول : أن المادة واحد بالعدد، وصورة ما - الصورة المبهمة - واحد بالعموم، والواحد بالعدد أقوي وجوداً من الواحد بالعموم، فلا يقع الأقوي معلولاً للاضعف کما لا يقع الاضعف وجوداً علة للأقوي.

5- الجواب : صحيح أن المادة واحد بالعدد ، الا أن وحدتها ضعيفة مبهمة، بينما الصورة شريکة علة قوية وجوداً، لأن تلک العلة أمر مفارق مجرد، وهذه الصورة أيضاً قوية وجوداً ، لأنها مستظهرة بوحدة هذا الأمر المجرد

6- الصورة الکلية والمطلقة متقدمة علي المادة، لأنها شريکة العلة، نعم کل الصور

الخاصة والمتعينة، متأخرة عن المادة، لأن المادة محل و موضوع تحققها.

7- الجسم - الجوهر القابل للأبعاد الثلاثة ، طبيعة نوعية تامة ، وهذا الجوهر أما غني عن المادة ذات ، وهو يستلزم عدم امکان حلول الجسم في المادة ، اذ الحلول عين الحاجة والفقر، وهو خلاف الضرورة. واما أنه فقير الي المادة وهو المطلوب

8- بما أن الصورة الجسميّة لا تخلو من عوارض وحالات، وهذه العوارض تتوقف علي وجود الامکان والاستعداد في موضوعها - وهو الجسم -، فلا محالة للجسم مادة حاملة لهذه القوة وهذا الاستعداد، فلا يمکن انفکاک الجسم عن المادة .

9-و الاشکال الثاني : أن الجسم غني عن المادة بالذات، وانما يحتاج إليها عرضاً بسبب

العوامل الخارجية.

10 - الجواب: لو کان الأمر کما ادعاه المستشکل، وکان وجود الجسم لنفسه بالذات، وانما يحل في المادة بسبب عوامل خارجية المقتضي لکون الجسم وجوده لغيره، لاستلزم ذلک الوقوع في محذور سلب الذاتي عن ذاته وهو محال.

11- استحالة انفکاک الصورة المادية عن المادة، لا ريب فيها، ولکن مادامت الحرکة موجودة، والقوة لازمة ، فاذا صار الجوهر المادي مجرداًتاماً، وفعلية تامة ، فلا تلازم بينهما ، ولا استحالة للانفکاک حينئذ.

12- بناءاً علي قول الشيخ الرئيس في الشفاء والمولي صدرا في الأسفار، لا تؤخذ ولا تدخل «المادة» في حد الجسم وتعريفه، وإلا لکان وجود المادة للجسم واضح الثبوت، والحال أننا نقوم باثبات ذلک بالدليل والبرهان.

13 - القول السابق - أعني عدم أخذ المادة في حد الجسم، وحاجة وجود المادة للجسم

الي اثبات بالدليل، لا ينافي إتحاد المادة والصورة وجوداً.

16- لو تجردت بعض الأنواع المادية عن المادة، لوقع انقلاب في الماهية، لأن المادة

من لوازم وجود الأنواع المادية، لا من لوازم الماهية .

ص: 457

أمّا أنّ المادة لا تتعّري عن الصورة فلانّها في ذاتها وجوهرها قوّةُ الأشياء، لا نصيب لها من الفعلية إلّا فعليّة أنّها لا فعليّة لها، ومن الضروريُ أنّ الوجود يلازم الفعليّة المقابلة للقوّة. فهي - أعني المادّة - في وجودها مفتقرة إلي موجوډ فعليًّ محصَّلِ الوجود تتّحد به فتحصَّل بتحطله ، وهو المسمّي «صورةً». .

وأيضاً لو وُجِدَت المادّة مجرّدةً عن الصّورة لکانت لها فعليّةً في وجودهاء

و هي قوّة الأشياء محضاً ، وفيه اجتماع المتنافيين في ذاتٍ واحدةٍ ، وهو محالُ .

ثمّ إن المادّة لما کانت متقوّمةَ الوجود بوجود الصورة فللصورة جهة الفاعليّة بالنسبة إليها، غير أنّها ليست تامُةَ الفاعليّة لتبدُّلِ الصُّوَرِ عليها، والمعلول الواحد لا تکون له إلّا علّةُ واحدةُ، فللمادُة فاعلُ أعلي وجوداً من المادّة والمادّيّات، يفعل المادّة ويحفظ وجودَها باتّحاد صورةٍ عليها بعد صورةٍ، فالصورة شريکةُ العلّة

ص: 458

للمادّة(1)

لا يقال : المادّة - علي ما قالوا واحدةُ بالعدد، وصورةُ ما واحدةُ بالعموم، والواحد، بالعدد أقوي وجوداًمن الواحد بالعموم، فلازمُ عليّة صورۃٍ مّا للمادّة کونُ ما هو أقوي وجوداً معلولاً للأضعف وجوداً، وهو محالُ (2)

ص: 459


1- اعلم ان العلية قد تکون بمعني ما يکون موجداً لغيره، وهو بمعني العلة الفاعلية الالهية ، المبحوث عنها في مباحث الالهيات، وهو- أي هذا المعني للعلية -، منحصر في المجردات ، لأن إفاضة الوجود لا تکون إلّا من المجردات، وقد تکون - وتستعمل - بمعني الفاعل، لکن أعم من الفاعل الإلهي والفاعل الطبيعي، کما تنسب الأشياء الي مؤثراتها الطبيعية مثل النار أحرقت الخشبة، والدواء شفي المريض، والماء روي العطشان، فهذه أيضاً نوع من العلية ، وقد ترد العلية بمعني مطلق التوقف، إذ المتوقف معلول للمتوقف عليه ، سواء کان المتوقف عليه شرطاً وجودياً أو عدمياً أو معدّاً وما أشبه ، نعم لا يراد من العلية هنا هذا المعني الأخير ، بل المراد الفاعل الطبيعي من المعني الثاني ، وهو کون الصورة مؤثرة في وجود المادة و تحققها، راجع التحصيل لبهمنيار. قوله ( قدس سره ): (فللمادة فاعل أعلي وجوداً من المادة والماديات) اشارة الي العلة التامة التي تتعلق بها جميع الفواعل، وهذه العلة أعلي وجودة من المادة والماديات وفوقها جميعاً، وعلة العلل هنا هو الباري جل جلاله وسائر العلل العالية هي المجردات المستمدة وجودها من الواجب عزوجل والفائضة به لغيرها، فالواجب تبارک وتعالي والمجردات باذنه، فواعل حقيقية ، ثم أن هذا الفاعل الحقيقي قد يتحقق بلاواسطة من المجرد، أعني أن الفاعل الأخير للمادة والماديات أما أن تکون فاعليته فيها بلاواسطة، أو تکون فاعليته للشيء وايجاده له بواسطة امر مادي، فان الصور مثلاً تتحقق من العقل الفعال - بناءاً علي کونه العلة الأخيرة - بلاواسطة، والهيولي - المادة الاولي - تتحقق من العقل الفعال لکن بواسطة الصور النوعية ، وهذا الفاعل المجرد - سواء کان الواجب جل وعلا أو غيره من المجردات باذنه -، (يفعل) ويوجد (المادة ، و) لا يکتفي بوجودها وايجادها الأولي بل (يحفظ وجودها) أي المادة (باتحاد صورة عليها بعد صورة) أو بايجاد صورة عليها بعد صورة (فالصورة) إلي جانب الفاعل المجرد (شريکة العلة للمادة) کما قال بهمنيار تلميذ الشيخ الرئيس.
2- (لا يقال :) راجع الشفاء قسم الالهيات، (المادة - علي ما قالوا) والقائل الشيخ الرئيس (واحدة بالعدد، وصورة ما، واحدة بالعموم....الخ) وحاصله : أن الهيولي واحدة بالعدد - وحدتها شخصية -، أي لا يزول شخصها أصلاً، بل باقية بشخصها وعينها، وليست وحدتها نوعية - کما هو الحال في الصورة - حتي تزول وتحلّ محلها مادة أخري وثالثة ورابعة وهکذا، بينما الصور غير محفوظة بل تتعاقب و تتوالي علي المادة، فإن الصور باقية بنوعها لا بشخصها - بأشخاصها -، ولهذا فإن وحدتها وحدة نوعية ، وقد تکون وحدتها جنسية - کما في بعض الصور -، حيث يذهب نوع من الصورة ويحلّ محله نوع آخر من الصور، أو يزول جنس من الصورة ويحل محله جنس آخر منها، فالوحدة في الصور أما نوعياً أو جنسية ، والوحدة النوعية هنا أو الجنسية صارت علة - کما تزعمون - للواحد الشخصي، ثم ان المعلول الواحد يحتاج الي علة واحدة ولا يصدر من أکثر من علة واحدة تامة ، إذ الواحد لا يصدر إلّا عن الواحد، وهکذا سيأتي - ان شاء الله تعالي - ان الواحد لا يصدر منه الا الواحد أيضاً، فهذه المادة من أي واحد تصدر، إذا کانت الصور علة للمادة، والصورة متعددة شخصاً، فأي واحدة منها يکون علة للمادة ؟! إذ المادة واحدة شخصاً والواحد الشخصي لا يصدر إلا من الواحد الشخصي، ولا محيص دون أن نقولوا انّها وان کانت متعددة شخص، إلا أنها واحدة نوعاً أو جنساً ، والواحد هناک - أي المادة الواحدة -، صادرة من وحدة نوعية من الصور، ولا مانع من ذلک، ونجيب حينئذ أن الوحدة النوعية أو الجنسية أضعف من الوحدة الشخصية ، ويستحيل أن يکون (ما هو أقوي وجود معلولاً للاضعف وجود).

فإنّه يقال : إن المادة وإن کانت واحدةً بالعدد لکن وحدتها مبهمة ضعيفة ، الإبهام وجودها وکونها محضَ القوّة ، ووحدةُ الصورة - وهي شريکةُ العلّة التي هي المفارق - مستظهرةُ بوحدة المفارق . فمَثَلُ إبقاء المفارق وحفظ المادّة بصورة ما مَثَلُ السقف يحفظ من الإنهدام بتضب دعامةٍ بعدَ دعامةٍ(1).

ص: 460


1- (فانّه يقال : أن المادة...الخ) وحاصله: أن المادة وحدتها مبهمة کالوحدة الجنسية ، إذ لا فعلية للمادة أصلاً، وهي قوة محضة، بينما الوحدة مساوقة للفعلية، وکل موجود واحد بالفعل، وهذه المرتبة من الوحدة التي في المادة لا تتنافي مع الکثرة والتعدد، وليست هذه الوحدة أقوي من الوحدة الجنسية أو النوعية ، (و) أما (وحدة الصورة - وهي شريکة العلة التي هي) أي هذه العلة المجردة (المفارق -) للماديات وهي التي تشارکها الصورة ، (مستظهرة) أي أن وحدة الصورة وان کانت وحدة جنسية إلّا أنها مستظهرة ومدعومة مسندة بوحدة (المفارق) وسند الوحدة الجنسية عبارة عن وحدة شخصية مفارقة قوية جداً في الوجود وهي وحدة الفاعل المفيض. (فمثل ابقاء المفارق) للمادة رغم توالي الصور و تعقبها و تغيرها وتبدلها (و) هکذا مَثَلُ (حفظ المادة )والهيولي (بصورة ما) نوعية أو جنسية مبهمة تتوالي علي المادة، (مَثَلُ السقف ) في المنزل والبناء (يحفظ من الانّهدام بنصب دعامة) واسطوانة (بعد) سقوط و انّهدام (دعامة) واسطوانة وهلم جرا.

وسيأتي في مباحث الحرکة الجوهرية إن شاء الله ما ينکشف به حقيقة الحال

في کثرة هذه الصور المتعاقبة علي المادّة (1)

وقد تبيّن بما تقدّم أنّ کلَّ فعلية وتحصُّلٍ تعرض المادّةَ فإنّما هي بفعليّة الصورة، لِما أنّ تحصُّلَها بتحصُّلِ لصورة، وأنّ الصورة شريکة العلّة للمادّة ، وأنّ الصورة متقدّمةُ علي المادّة وجوداً وإن کانت المادّة متقدّمةً عليها زماناً(2)

وأمّا أنّ الصورة الجسميّة لا تتعرّئ عن المادّة فلأن الجسم أيّا ما کان لا يخلو عن عوارض مفارقة تتوارد عليه من أقسام الحرکات والکم والکيف والأين والوضع وغيرها ، وکذلک الصور النوعية المتعاقبة عليه، وهي جميعاً تتوقف علي إمکانٍ واستعدادٍ سابقٍ لا حاملَ له إلّا المادّة ، فلا جسمَ إلّا في مادّة(3)

وأيضاً الجسم بما أنّه جوهرُ قابلُ للأبعاد الثلاثة طبيعةُ نوعيّةُ تامّةُ واحدةُ

ص: 461


1- ما تقدم مبني علي مذهب المشائين (و) لکن (سيأتي..الخ) أن عالم المادة بأکمله حرکة واحدة، واما هذه الصور المتعددة فإنها حدود حرکة واحدة، وشؤونها، فهذه الصورة المتحرکة الواحدة تحفظ المادة، ولا وجه حينئذ للاشکال السابق بناءاً علي الحرکة الجوهرية - في الفصل الثامن من المرحلة التاسعة -، لأنه لا کثرة حينئذ حتي يکون للاشکال وجه.
2- قوله قدس سره : (ان الصورة متقدمة علي المادة وجوداً) لأنها علة للمادة والعلة متقدمة علي معلولها، (وان کانت المادة متقدمة عليها) أي علي الصورة بالقوة لا الصورة الفعلية ، فالمادة متقدمة (زماناً ) علي الصور التي لها استعداد الحصول عليها - أي علي تلک الصور -، ولم تتحقق فيها بعد، أي ما زالت في حالة انتظار لتحققها، واما الصور المتحققه بها المادة فانّها فعلية متحدة بالمادة لا تقدم للمادة زمان عليها، والحاصل أن المادة متقدمة علي الصور القادمة وکل واحدة واحدة من الصور، لا مطلق الصور. فافهم . انتهي البرهان الأول علي حاجة الجسم إلي المادة.
3- قوله قدس سره : (وهي جميعاً) أي العوارض المفارقة والصور النوعية بأجمعها (تتوقف علي امکان و...الخ).

وإن کانت تحته أنواع، وليس کمفهوم الجوهر الذي ليس له إلّا أن يکون ماهيّةً جنسيّةً ، لا حکمَ له إلّا حکم أنواعه المندرجة تحته. فإذا کان طبيعةً نوعيّةً فهو بطبيعته و في ذاته إمّا أن يکون غنيّاً عن المادّة غيرَ مفتقرٍ إليها أو مفتقراً إليها، فإن کان غنيّاً بذاته استحال أن يحلّ المادّة، لأنّ الحلول عين الافتقار ، لا لکِنّا نجدبعض الأجسام حالّاً في المادّة، فليس بغنيًّ عنها ، وإن کان مفتقراً إليها بذاته، ثبت الافتقار، وهو الحلول في کلّ الجسم(1)

لا يقال : لِمَ لا يجوز أن يکون غنيّاً عنها بحسب ذاته و تعرضه المقارنة في بعض الأفراد لسبب خارجٍ عن الذات کعروض الأعراض المفارقة للطبائع

ص: 462


1- (وأيضاً) البرهان الثاني علي حاجة الجسم الي المادة : اعلم أن (الجسم بما أنه جوهر قابل للأبعاد الثلاثة) هذا الجسم بنفسه (طبيعة نوعية تامة واحدة) وهو حال کل ماهية ذي أبعاد ثلاثة، وله أيضاً مادة وصورة خارجيتين، فهو ماهية تامة ، اذن ماهيته الخارجية عبارة عن المادة والصورة، مادته الهيولي، وصورته الصورة الجسمية ، ومن الجهة العقلية أيضاً ذو جنس وفصل - جوهر ذو أبعاد ثلاثة -، فهو ماهية تامة من الجهتين الخارجية والعقلية ، والحق أن الجسم ماهية فرضية لا ماهية تامة لأنه لو کان ماهية تامة لاستغني في وجوده و تحصله و تشخّصه عن الصور نوعية ، (وان کانت تحته) أي تحت هذا الجوهر التام (أنواع) کالشجر والحجر والبنات والحيوان والانسان، إلّا أنه نوع في حد نفسه، (وليس) مفهوم الجنس مفهوماً جنسياً ، بل هو نوع بذاته ، فليس الجسم (کمفهوم الجوهر الذي ليس له إلا أن يکون ماهية جنسية ولا حکم له..الخ) وليس للجنس ماهية مستقلة ، بل هو تابع لأنواعه ، فالجنس محکوم بنفس أحکام الانواع التي يندرج ذلک الجنس تحتها ويوجد في ضمنها، لو کان مفهوم الجسم جنساً لم يکن ماهية فلا حکم له، لکنه نوع (فإذا کان الجسم (طبيعة نوعية) وماهية تامة (فهو) أي الجسم (بطبيعته) بلحاظ الماهية (وفي ذاته) بلحاظ الوجود لا يخلو من حالين : (أما أن يکون غنيّاً عن المادة ...الخ) اذ الحلول هو الحاجة والفقر، وما يحلّ في شيء فهو فقير بذاته محتاج الي محله، وإما أن يکون محتاجاً مفتقراً الي المادة في وجوده ، (الکنا نجد بعض الاجسام حالاً في المادة) وهو خير دليل علي حاجته اليها (فليس) الجسم (بغني عنها) أي عن المادة، (و) عليه (ان کان الجسم (مفتقراًاليها أي) إلي المادة بذاته) فقد( ثبت الافتقار) وهذا الافتقار الذي (هو الحلول) ثبت (في کل جسم).

النوعيّة ؟ (1)

لأنّه يقال : مقارنة الجسم للمادّة - کما أُشير إليه - بحلوله فيها. وبعبارة أُخري : بصيرورةُ وجودِهِ للمادة ناعتاً لها، فمعني عروض الافتقار له بسببٍ خارج بعد غناه عنها في ذاته صيرورة وجوده لغيره بعد ما کان لنفسه ، وهو محالُ بالضرورة.

واعلم أنّ المسألة وإن عُقِدَت في تجرُّد الصورة الجسميّة لکنّ الدليلَ يجري

في کلّ صورة في إمکانّها أن تلحقها کمالاتُ طارئةُ(2)

وسيأتي في بحث الحرکة الجوهرية أن الجوهر المادي متحرّک في صورها حتّي يتخلّص إلي فعليّةٍ محضير لا قوّةَ معها، وذلک باللُبس بعد اللُبس، لا بالخلع واللُبس، فبناءً عليه تکون استحالة تجرُّد الصورة المادّيّة عن المادّة مقيدّةً بالحرکة دون ما إذا تمّت الحرکة وبلغت الغاية(3)

ص: 463


1- قوله قدس سره : (کعروض الأعراض المفارقة للطبائع النوعية ؟) وهي - أي الطبائع النوعية - غير محتاجة الي الأعراض المفارقة بذاتها.
2- (لکن الدليل) الذي أقيم هنا علي عدم تجرد الصورة الجسميّة من الهيولي والمادة فإنه لا يختص بالصورة الجسميّة - والاتّصال الجوهري -، بل ( يجري) هذا الدليل (في کل صورة) امکانية (في أمکانّها...الخ) کالصور النوعية - المنطبعة في المادة
3- (وسيأتي في بحث الحرکة الجوهرية ...الخ) أن الجوهر الجسماني في حرکة دائمة وتغير مستمر، وهو باستمرار يکسب فعليات جديدة بصورة اللُبس بعد اللبس، وهو أن يکون واجداً لکمال ثم يزداد ليکسب کمالاًأکثر وآخر، لا بصورة الخلع واللبس کما هو مذهب أرسطو في نظرية الکون والفساد المستلزم لفقدان شيء وصورة نوعية، واکتساب شيء وصورة أخري، والجوهر - علي الحرکة الجوهرية - لا يفقد شيئاً في حرکته الاشتدادية نحو اکتساب المزيد من الکمالات، وهکذا يستمر الجوهر في حرکته وسيره حتي يبلغ مرحلة الفعلية المحضة الخالية من کل قوة، ويکتسب حينئذ کل کمال ممکن له، فيصير مجرداً الخلوه من کل قوة، وهناک تنتهي الحرکة ويتوقف المسير ، وبه ينتهي امکان اکتساب کمال جديد، لانتهائه الي الذروة وبلوغه الغاية، ولهذا تعدّ هذه المرحلة مرحلة استغناء الجوهر عن المادة ، اذ المادة کانت ضرورية لحمل قوة الکمالات الممکنة ، وإذ لا کمال يکتسبه الجوهر ويحصل عليه فلا حاجة الي المادة، فالصور المادية انما تحتاج الي القوة والمادة مادامت متحرکة، واما بعد تجردها وحصول کل ما يمکن من الکمال فلا حاجة لها الي القوة والمادة . قوله قدس سره : ( متحرک في صورها) أي صور الحرکة الجوهرية والصور النوعية ، من الصورة الترابية إلي الصورة النباتية ، ومن الصورة النباتية الي الصورة الحيوانية، ومن الصورة الحيوانية .. الخ، ثوب جديد فوق الثوب القديم، لا خلع القديم ولبس الجديد.

ويتأيّد ذلک بما ذکره الشيخ وصدر المتألّهين (من) أنّ المادّة غيرُ داخلةٍ في حدّ الجسم دخولَ الأجناس في حدود أنواعها. فماهيّة الجسم - وهي الجوهر القابل للأبعاد الثلاثة - لاخبرَ فيها عن المادّة التي هي الجوهر الذي فيه قوّةُ الأشياء، لکن الجسمَ مثلاً مأخوذُ في حدّ الجسم النامي والجسم النامي مأخو في حد الحيوان والحيوان مأخوة في حد الإنسان.

وقد بينّه صدر المتألّهين بأنّها لو کانت داخلة في ماهيّة الجسم لکانت بينّة الثبوت له علي ما هو خاصة الذاتيّ، لا نشکّ في ثبوتها للجسم في باديء النظر ، ثمّ نثبتها له بالبرهان، ولا برهانَ علي ذاتيًّ.

ولا منافاة بين القول بخروجها عن ماهيّة الجسم والقول بإتّحادها مع الصّورة الجسميّة علي ما هو لازمُ إجتماع ما بالقوّة مع ما بالفعل، لأنّ الاتحاد المدّعي إنّما هو في الوجود لا في الماهيّة.

ولازِمُ ذلک أن لو تجرَّدَ بعض الأنواع المادّيّة عن المادّة لم يلزم انقلابُ بتغيُّرِ

الحدّ، وأنّ المادّة من لوازم وجوده لا جزء ماهيّنه(1)

ص: 464


1- (ويتأيد) ويتأکد ذلک بما ذکره صدر المتألهين قدس سره في الجزء الخامس من الأسفار ويستند ويستشهد بکلام للشيخ الرئيس في الهيات الشفاء نهاية الفصل الثاني من المقالة الثانية ومحصل کلام المولي صدر المتألهين ( قدس سره ) وخلاصته: أن المادة هل هي مقومة لماهية الجسم، وان الجواهر الجسمانية هل قوام ماهيتها بالمادة ؟ أم أن المادة والهيولي لازمة الوجودها المادي؟ بمعني أن هذه الماهية لا توجد من غيرها ومن دونها، ومن الواضح جداً أن شيئية الشيء بصورته لا بمادته ، فمقوم حقيقة الشيء صورته وفعليته لا مادته وقوته واما ما استند اليه صدر المتألهين واستشهد به علي دعواه من کلام للشيخ الرئيس فحاصله : أننا لا نأخذ المادة في حد النوع وتعريفه، ولا نقول من الإنسان جوهر مادة - هيولي - نام حساس متحرک بالإرادة ناطق، إذ لا يصح ادخال لفظ المادة في الحد التام للانواع، والحاصل من ذلک کله ان المادة ليست جزءاً لماهية الشيء، بل هي من لوازم الأشياء والأنواع ولازم بالضميمة. والعلامة قد استشهد بالقولين السابقين لکي يثبت ويبرهن ويؤيد الدعوي السابقة، وذلک أن لازم ما جاء في قول الشيخ والمولي من استلزام الحرکة الجوهرية، انتهاء الصور الجوهرية عند التجرد وبلوغها مرتبة التجرد عن المادة، وبلوغها مرتبة التجرد يستلزم عدم کون المادة جزء لقوام ماهيأتها، إذ لو کانت جزءا من حقيقتها وجب انتفاء الکل عند انتفاء جزئه أو بعض أجزائه ، فلا يمکن أن تکون حقائق الصور الجوهرية متقومة بالمادة، بل تبقي علي نفس حقيقتها حتي عند بلوغ الغاية والتجرد. والحاصل أن عدم کون المادة بينّة الثبوت للجسم، دليل علي عدم کونها ذاتياً من ذاتيات الجسم لعدم حاجة الذاتي الي برهان يثبته و الذاتي يحمل علي الشيء حملاً أولياً . وفيه نظر . ولازم ذلک) أي من المطلب الأخير نستنتج شاهدا ودليلاً يؤکد المدعي الأصلي وهو أن لو تجرد بعض الأنواع المادية) في حرکتها الجوهرية (عن المادة) وذلک بعد بلوغها مرحلة الفعلية المحضة کما تقدم، (لم يلزم من استغنائها عن المادة (انقلاب) في الأنواع المادية والماهيات (بتغير الحد) فتتغير مثلاً ماهية الإنسان من الحيوان الناطق الي الحيوان الصاهل، بل رغم تجردها تبقي بنفس الحقيقة والماهية ، وأن تغير حده، لأن المادة لم تدخل في حد الماهية أصلا بل کانت مجرد ضميمة لازمة لها ، فلا يلزم من عدمها انقلاب في تلک الماهية الکاملة المجردة، نعم لو کانت في حدها لوقع الانقلاب..

ص: 465

ص: 466

الفصل السابع في إثبات الصُّورُ النوعية وهي الطور الجوهريّةُ

المنوَّعةُ لجوهر الجسم المطلق

نقرأ في هذا الفصل :

1- لا شک في وجود الاختلاف في خواص الأجسام، وهذه الآثار الخاصة ملازمة للأجسام غير منفکة عنها، وهذه الصور العنصرية المعدنية والنباتية والحيوانية وما أشبه ، التي لا تنفک عن الجسم، هي من مقومات الجسم، والجسم الجوهر، ومقوم الجوهر جوهر قطعاً ، فلزم کون الصور العنصرية جواهر.

2 - القول بأن الهيئات العرضية مقومة أحياناً للجوهر، وتحصل من انضمام الاعراض الي الجواهر، ماهيات جديدة - کالسيف والبيت ، هذا القول خلط بين المرکبات والأنواع الحقيقية التي لها أثر وراء آثار أجزائها، مع المرکبات الاعتبارية التي لا أثر لها وراء آثار أجزائها، والکلام هنا في المرکبات الحقيقية .

3- المرکب من الجوهر والعرض ليست له ماهية جوهرية أو عرضية ، لأن المقولات

متباينات بتمام الذات.

4- لا تنافي بين جوهرية الصور النوعية مع عدم إندراج فصول الجواهر تحت جنس الجوهر - الصور النوعية هي الفصول مأخوذة لا بشرط، لأن جنس الجوهر يحمل علي فصول الجواهر بالحمل الشايع لا الذاتي، - فلا تدخل في حدودها -، ولهذا فالصور النوعية مقومات للأنواع وعارضة للجنس .

5- اختصاص بعض الآثار الخاصة بالاجسام، يحتاج الي مخصص، وليس هذا

المخصص، هو الجسمية المشترکة، أو المادة المشترکة التي هي محض القبول والانفعال، او الموجود المفارق الذي تستوي نسبته إلي جميع الأجسام.

- هذه الآثار الخاصة للجسم ليست ناشئة من أثر خاص أيضاً. غير ما ذکر في البند الخامس -، لأنا نقل الکلام الي ذلک الأثر الخاص السابق، بأنه محتاج الي المخصص أيضأ، فيلزم الدور أو التسلسل.

7- يمکن أن نقول هذه الآثار الخاصة بالجسم تستند الي ذات جوهر ذلک الجسم، فهو مقوم لذلک الجسم، ولهذا لزم کونه جوهرة، ولما کان أخص من الجسم، کان منوعاً للجسم.

8- لا يلزم من القول السابق - وهو القول بوجود آثار خاصة للفرد -، ضرورة وجود

صور شخصية مقومة للنوع أيضاً، وذلک أن العوارض أو: لازمة للتشخص، والتشخص بالوجود. و ثانيا : الطبيعة النوعية المتحققة في الفرد، تقتضي و تشتمل علي مجموعة کبيرة من العوارض الکمية والکيفية والوضعية وغيرها، واما تحقق هذه العوارض کالکيف والکم والوضع الخاص في الفرد، يحصل بواسطة الأسباب والعلل الخارجية، من غير حدوث تغيير في نوعه.

خاتمة : 1- الصورة النوعية من جهة أنها مقومة للجسم - المؤلف من المادة والصورة - فإنها علة فاعلية له، ومتقدمة عليه. 2- الصور الجسمية شريکة العلة للمادة الأولي. 3فالوجود أولا وبالذات للصورة النوعية، وبوجودها تتحقق الصورة الجسمية ثم فعلية الهيولي. 4- اذا زالت الصورة النوعية ، تبطل الجسمية الملازمة لها، وتحدث جسمية جديدة مع الصورة النوعية الثانية.

-

-

الصور النوعية عباره عن الصور لجوهرية التي تنوع جوهر الجسم المطلق، وتجعله

في شکل انواع مختلفة، عند حدونها في الجسم المطلق ، حيث أن الجسم المطلق ذو معني عام، يصير نوعا خاصة من الجسم، عند انضمام الصور النوعية اليه وحلولها فيه، العمدة في العنوان وما تدور رحي الفصل والبحث حوله هنا هو الصور الجوهرية ، فالدعوي عبارة عن عروض الصور الجوهرية للجسم، وأن الصور العارضة للجسم جوهرية لا عرضية - وجواهر

لا أعراض -، هذا هو الدعوي، واما البرهان والدليل فهو:

ص: 467

إنّا نجد في الأجسام اختلافاً من حيث صدق مفاهيم عليها هي بينّةُ الثبوت لها ممتنعةُ الانفکاک عنها ، فإنّا لا نقدر أن نتصوّر جسماً دون أن نتصوّره مثلاً عنصراً أو مرکّباً معدنياً أو شجراً أو حيواناً وهکذا، وتلبُّس الجسم بهذه المفاهيم علي هذا النحو أمارةُ کونها من مقوماته ؛ ولما کان کلُّ منها أخصّ من الجسم فهي مقوَّمة الجوهر ذاته ، فيحصل بانضمام کلًّ منها إليه نوعُ منه ، ولا يقوّم الجوهرَ إلّا جوهرُ ، فهي صور جوهريّة منوَّعة(1)

ص: 468


1- أولاً: (انا نجد في الأجسام) اختلافات کثيرة من حيث اعراضها کاللون والشکل والزمان والمکان وما أشبه، ونجد فيها أيضاً (اختلافاً من حيث صدق مفاهيم عليها) أي علي الاجسام (هي) أي تلک المفاهيم ذاتية للأجسام، لا عرضية ، ولهذا فإن الاختلاف فيها ذاتي ، ومن حيث ذواتها، لا أعراضها، بدليلين : أولا- أن هذه المفاهيم (بينة الثبوت) وواضحة الثبوت و بديهية الوجود (لها) أي لتلک الأجسام، وثانية - أنها (ممتنعة الانفکاک) والانفصال (عنها) فلا يمکن سلب هذه المفاهيم عنها، بيان ذلک أن لهذه الأجسام مفاهيم ذاتية مختلفة : فإنا لا نقدر أن نتصور...الخ) ولا يمکن تصور جسم فارغ من جميع هذه العناصر والمفاهيم، (و تلبس الجسم بهذه المفاهيم) وصدقها عليه وحلولها فيه (علي هذا النحو...الخ) قد ثبت أن لکل نوع من الأنواع الخاصة مفهوماً حاکياً عن مقوم خاص هو جزء ماهية الجسم وأنها ذاتية له. (و) أما کون هذه المفاهيم فصولاً حاکية عن الصورة، وليست أجناس فلانّه : (لما کان کل منها أخصّ من الجسم والجسميّة ، فلا يقال هذه المفاهيم أجناس، والجسم فصل لها، لاستلزامه کون الفصل أعم من الجنس، ولما کان کل من هذه المفاهيم الخاصة الذاتية أخص من الجسم (فهي مقومة لجوهر ذاته) أي ذات الجسم، والمفهوم الذاتي الأخص من الذاتي الآخر يکون مقوماً (فيحصل بانضمام کل منها) أي من تلک المفاهيم الخاصة (اليه) أي إلي المفهوم العام وهو الجسم - أو الجسميّة -، (نوع مند) أي من الجوهر ، وهو عبارة عن ماهية تامة، فهو مفهوم فصلي - وهي مفاهيم فصلية -، يحکي عن صورة الشيء. (و) أما کونها جواهر لا أعراضاً فلأنه : (لا يقوم الجوهر إلّا جوهر) واذا تم ذلک کله فقد أثبتنا أموراً ثلاثة أولاً : کون هذه المفاهيم (صور) لأنها فصول أخص من الجنس وليست أجناساً، ثانياً : (جوهرية) لأن مقوم الجوهر لا يکون إلّا جوهراً، ثالثاً : (منؤَّعة) لأنها مقومة للنوع. راجع الجزء الخامس من الاسفار، وشرح الهداية الاثيرية صفحة 65. و تحقيقاً لمطالب هذا الفصل يمکن الرجوع الي الجزء الخامس من الأسفار وشرح صدر المتألهين للهداية الاثيرية ، و تعليقته علي شرح حکمة الاشراق، والجزء الثاني من شرح الاشارات والتحصيل والمطارحات. والحقيقة والماهية المرکبة (لها آثار) خاصة بها (وراء آثار الأجزاء) منفردة، وآثار غير تلک الآثار، تدل علي أنه مرکب حقيقي، (کالعناصر) وهي عبارة عن موجودات بسيطة غير مرکبة ، وهي أصل المرکبات، لأن المرکب لابد من أن يتألف من أمرين - و شيئين - بسيطين أو أکثر، لضرورة عودة کل مرکب إلي مادة بسيطة، والبسائط في عالم الأجسام تسمي العناصر ، ويطلق علي کل بسيط أنه عنصر، وقد کان القدماء يعتقدون أن العناصر أربّعة : هي الماء والتراب والهواء والنار، وقد ثبت بطلان هذه النظرية بعد ما اکتشف علماء الطبيعة في العصر الأخير أن هذه الأربّعة ليست عناصر ، بل هي مرکبات، وان العناصر کثيرة قبل مائة وأربّعة، وقيل : (ربّما يربّو علي ذلک، ثم اکتشفوا أن هذه العناصر أيضاً تتألف من ذرات مختلفة، ولعل العلوم الطبيعية في تقدمها المستمر تکشف اللثام عن حقائق أخري غير ما هي عليه الآن، وکيف کان فإنا نأخذها بعين الاعتبار کأصول موضوعة ليس من شأن الفلسفة خوض غمارها، بل الأخذ بها بقدر الحاجة اليها للتمثيل والتقريب، وعلي أية حال فإنها تسمي البسائط الأولي ، کان القدماء يعتقدون أن الصور المعدنية کالأحجار الکريمة والفلزات مرکبة من تلک العناصر. يتضح مما تقدم أن استعمال العناصر بمعني المرکبات - وجعل العنصر مثالا للمرکب - استعمال مجازي علي کلا القولين - قول القدماء وقول المتأخرين والمعاصرين -، وفي هذا التعبير والتشبيه نحو تسامح من جهة أن للعناصر هوية حقيقية وآثار حقيقية عدا الجسمية ، أو من جهة ترکيبها من الهيولي والصورة، وإلا فانّها مجردة بسيطة علي کلا القولين. (والمواليد) تطلق في الاصطلاح علي النباتات والحيوانات والإنسان ، فإنها تترکب أيضاً لکن ليس ترکبها من العناصر فقط بل من المرکبات والعناصر، أي قد يکون فيها عدة أنواع من العناصر أو المرکبات المعدنية، وتحل فيها الصورة النباتية من حيث المجموع فتصير نبات ، أو الصورة الحيوانية فتصير حيواناً، أو الصورة الانسانية فتصير إنساناً ، بيان ذلک : إنا تأکل النبات أو الحيوان فيصير جزءاً من أجسامنا، أي يصير النبات أو الحيوان ، إنساناً ، ويأکل الحيوان النبات فيصير النبات جزءاً منه ، أي تبدل النبات حيواناً ، وهکذا، وقد يشربّ الماء أو يستنشق فيصير جزء منه ، وهکذا فإن الحديد والفوسفور والکالسيوم والمعادن الاخري الموجودة في الحيوان والنبات والانسان، کلها في حال من التغير والتبدل المستمر ، هذه التغيرات التي تحدث للمرکبات والمواليد قيل انّها من قبيل الاجتماع والتفرق ومن آثارهما علي ما سيأتي في محله مفصلاً - ان شاء الله تعالي - قوله قدس سره: (کالسيف والبيت) فإنهما مثالان لا يناسبان المقام لأنهما مرکبان ترکيبا اعتبارياً ، إذ مجموع البيت مجموع أجزاءه ليس له شيء زائد علي الطين والحجر، ليس له أثراً جديد علي آثار أجزائه ، ومجموع آثاره عين مجموع آثار أجزائه، لا هوية جديدة له خارج اجزائه وورائها ولا أثر جديد کذلک، وهکذا السيف فإن حدته ليس اثراً جديداً اضيف الي الحديد، بل الأثر الجديد لعرض الحدة وجوهر الحديد، ليس إلا، (من الأمور الصناعية وغيرها) أي غير الصناعية کالفوج المرکب من مجموعة من الأفراد في الجيش قوامه کذا وکذا، فإن الفوج أو اللواء أو الفرقة ليس لها هوية إلا هوية أفرادها ولا أثر سوي أثرهم. (والمرکب من جوهر وعرض) کالسيف الذي هو مجموع جوهر و عرض لا يصدق عليه أنه شيء واحد حقيقة لأنه ذو ماهيتين، ماهية جوهرية وماهية عرضية ، ولهذا فإن مجموع السيف (لا جوهر ولا عرض) لعدم کونه ماهية حقيقية (فلا ماهية له) أي لهذا المرکب الاعتباري، (حتي يقع في جواب ما هو) لأن السؤال عن المرکب الإعتباري کالسيف والبيت، في الحقيقة سؤال عن ماهيتين مختلفتين أو أکثر، يتألف منها المرکب، (کل ذلک) من عدم جواز ترکب ماهية من جوهرين أو عرضين أو جوهر و عرض (لتباين المقولات) الجوهرية والعرضية (بتمام ذواتها) فالجواهر يباين بعضها بعضأ وهکذا الأعراض يباين بعضها بعضا، والجواهر تباين الأعراض، (البسيطة) و البساطة دليل تباينها بتمام الذات، لأن البسيط ينفرد في کل شيء ليس فيه وجه اشتراک مع غيره مطلقا، ولو لم تکن متباينة لم تکن بسيطة، والجوهر والعرض مقولتان متباينتان بتمام الذات لبساطتهما، فلا يحل أحدهما في الآخر، وإلا کانا مرکبين والمرکبان قد لا يکونان متباينين بتمام الذات، (فلا يتکون من أکثر من واحدة منها) أي من هذه المقولات (ماهية ) کأن يتکون من جوهرين أو أکثر أو عرضين أو أکثر أو جوهر و عرض أو ج

الفصل السابع / في إثبات الصور النوعية

لا يقال : لا نسلم أن الجوهر لا يقومه إلا جوهر، فکثيرا ما يوجد الشيء ويقال عليه الجوهر في جواب «ما هو ؟» ثم ينضم إليه شيء من الأعراض ويتغير به جواب السؤال عنه بما هو ؟» کالحديد الذي هو جوهر ، فإذا صنع منه السيف بضم هيئات عرضية إليه وشئل عنه بما هو ؟» کان الجواب عنه غير الجواب عنه وهو حديد ، وکالطين والحجر وهما جوهران ، فإذا بني منهما بناء وقع في جواب السؤال

واهر وأعراض أو جواهر وعرض أو جوهر وأعراض

وهکذا.

ص: 469

ص: 470

ص: 471

ولا يقال : کون الصور النوعيّة جواهرَ ينافي قولهم: «إنّ فصول الجواهر غير

مندرجة تحت جنس الجوهر». .

فإنّه يقال : قد تقدّم البحث عنه في مرحلة الماهية واتّضح به أنّ معني جوهريّة فصول الجواهر - وهي الصّور النوعيّة مأخوذةً بشرط لا- أنّ جنس الجوهر صادقُ عليها صدقَ العرض العام علي الخاصّة، فهي مقوماتُ للأنواع عارضةُ علي الجنس(1)

ص: 472


1- (ولا يقال : کون الصور النوعية جواهر) - کما يقولون في هذا الفصل - هذا الادعاء (ينافي قولهم) في موضع آخر: («ان فصول الجواهر غير مندرجة تحت جنس الجوهر») حيث قالوا: أن فصل الجوهر لا يندرج تحت جنس الجوهر، ويقولون هنا ان الصورة جوهر لأنه مقوم الجوهر، ومعناه اندراجه تحت جنس الجوهر، وهذه الصورة هي الفصل بعينه التي إذا أخذت بشرط لا کانت صورة، فإذا قلنا الصورة جوهر - کما هو حالهم هنا -، کان المفهوم الفصلي المنتزع منها جوهرة أيضا، وقد تقدم قولهم أن فصل الجوهر ليس بجوهر. (فإنه يقال : قد تقدم البحث عنه في مرحلة الماهية) في الفصل السادس من المرحلة الخامسة، (واتضح )هناک (ان معني جوهرية فصول الجواهر ...الخ) فصول الجواهر جوهر بمعني حمل الجوهر عليها حملاً شايعاً ، لکن الفصل والجنس عرضان بقياس أحدهما الي الآخر، وبالنسبة الي بعضهما البعض، الفصل عرض خاص للجنس ، والجنس عرض عام للفصل، فجنس الجوهر صادق علي الصور النوعية ، لکن لا الصدق الذاتي وإلا کان جنساًلها، بل صادق عليها (صدق العرض العام علي الخاصّة (فهي) أي الصور النوعية (مقومات اللانواع) لأنها من ذاتيا تها وجزء ماهيا تھا ، (عارضة علي الجنس).

حجّةُ أخري : إنّا نجد الأجسام مختلفةً بحسب الآثار القائمة بها من العوارض اللازمة والمفارقة. واختصاص کلّ من هذه المختلفات الآثار بما اختصِ به من الآثار ليس إلّا لمخصَّصٍ بالضرورة. ومن المحال أن يکون المخصّص هو الجسميّة المشترکة لاشتراکها بين جميع الأجسام، ولا المادة المشترکة لأن شأنها القبول والاستعداد دون الفعل والاقتضاء، ولا موجود مفارق لاستواء نِسبته إلي جميع الأجسام. ويمتنع أن يکون المخصص هو بعض الأعراض اللاحقة بأن يتخصص أثرُ بأثرٍ سابقٍ ، فإنّا ننقل الکلام إلي الأثر السابق فيتسلسل أو يدور أو ينتهي إلي أمرٍ غيرِ خارجٍ عن جوهر الجسم الذي عنده الأثر، والأوّلان محالان، فيبقي الثالث - وهو استناد الآثار إلي أمرٍ غير خارجٍ من جوهر الجسم - فيکون مقوّماً له، ومقوّم الجوهر جوهر . وإذ کان هذا المقوّم الجوهريّ أخصّ من الجسم المطلق فهو صورة جوهريّة منوّعة له. ففي الأجسام علي اختلافها صور نوعيّة جوهريّة هي مبادٍ للآثار المختلفة باختلاف الأنواع(1)

ص: 473


1- (إنا نجد الاجسام مختلفة بحسب الآثار القائمة...الخ) کل قسم من الأجسام لها نوع من الآثار والعوارض الخاصة بها، قد يکون أثراً لعرض لازم وقد يکون أثراً لعرض مفارق، کاللون فإنه من العوارض اللازمة للانسان، والطول والحجم فإنهما من عوارضه المفارقة ، وکيف کان فإن لکل قسم من الأجسام نوعاً خاصاً من الآثار، کالنمو الخاص بالحيوان والنبات دون غيرهما، وهذه الآثار الخاصة لم تأت إلا من جهة مخصص قطعاً، فما هو هذا المخصص الذي منح کل قسم، قسماً خاصاً والأمر دائر بين الجسميّة، أو الهيولي، أو موجود مفارق، أو بعض الأعراض اللاحقة، أو أمر غير خارج عن جوهر الجسم. أما الجسميّة فإنها مشترکة في جميع الأجسام وآثارها فيها جميعاً ، وأما الهيولي فلأن شأنها القبول والاستعداد فقط، وأحداث آثار في الأجسام أمر اقتضائي فعلي و تأثيري، واما الموجود المفارق والمجرد عن المادة کالعقل المجرد، أو الواجب - تبارک وتعالي -، فإن الموجود المفارق ليس علة للتخصص الذي نحن بصدده هنا، إذ المجرد بما أنه مجرد تأثيره في الأشياء علي حدٍ سواء لا يختلف من جسم الي جسم ولا من شيء إلي شيء، وأما الأعراض بأن يکون الجسم ذا عرض، وقع هذا العرض سبباً وعل؛ لوجود عرض آخر وحدوثه، فعلة هذه العوارض عرض سابق (بأن يتخصص أثر) عرضي (بأثر) عرضي (سابق) وعرض سابق لعرض لاحق (فإنا نورد الأشکال و(نقل الکلام) أي ما الذي کان علّة وسبباً ومنشئاً لهذا الأثر وهذا الأمر العرضي السابق، وننقل الاشکال والسؤال الي الأثر السابق) ولو ذکرتم لنا أثرا وعرضاً سابقاً نقلنا اليه الکلام وهلم جرا، (فيتسلسل) تسلسلاً باطلاً (أو يدور) و يؤدي الي الدور وذلک أن قلتم مثلاً منشاً هذا الأثر السابق هو الاثر اللاحق ومنشاً اللاحق هو السابق، فهو دور، أو تجعلونه دوراً مضمراً بتوسط ثالث أو رابع بينهما، أو ينتهي الي أمر...الخ) وهو المراد، (و) ذلک أنهما أي (الأولان) وهما الدور والتسلسل (محالان، فيبقي الثالث.. الخ) وهو المطلوب.

لا يقال : إن في أفراد کل نوع من الأنواع الجسمانية أثاراً مختصة وعوارض مشخصة، لا يوجد ما هو عند فردٍ منها عند غيره من الأفراد، ويجري فيها ما سبقتموه من الحجة، فهلّا اثبتم بعد الصوراً التي سميتموها صوراً نوعية صورة شخصية مقومة لماهية النوع.

لأنه يقال : الأعراض المسماة «عوارض مشخّصة» لوازم التشخّص وليست

بمشخَّصة، وإنّما التشخّص بالوجود. کما تقدّم في مرحلة الماهية - وتشخّص الأعراض بتشخّص موضوعاتها ، إذ لا معني لعموم العرض القائم بالموضوع

ص: 474

المشخّص والأعراض الفعليّة اللاحقة بالفرد مبدؤها الطبيعة النوعيّة التي في الفرد تقتضي من الکم والکيف والوضع وغيرها عرضة عريضاً . ثمّ الأسباب والشرائط الخارجيّة الاتفاقيّة تخصّص ما تقتضيه الطبيعة النوعيّة ، وبتغير تلک الأسباب و الشرائط ينتقل الفرد من عارض يتلبس به إلي آخر من نوعه أو جنسه(1)

خاتمةُ للفصل

لمّا کانت الصّورة النوعيّة مقوّمةً لمادّتها الثانية التي هي الجسم المؤلَّف من المادّة والصّورة الجسميّة ، کانت علّةً فاعليّةً للجسم متقدّمةً عليه کما أنّ الصورة الجسميّة شريکةُ العلّة للمادّة الأولي (2)

ويتفرع عليه :

أوّلاً : أنّ الوجودَ أوّلاً للصورة النوعيّة وبوجودها توجد الصورة الجسميّة ثمّ

الهيولي بوجودها الفعليّ(3)

ص: 475


1- (اذ لا معني لعموم العرض القائم بالموضوع المشخّص) أي لا معني لأن يکون عرض خاص مقتضياً لعرض عام، ثم هذه الاعراض الفعلية الموجودة في الأشياء والأفراد، مبدؤها الطبيعة النوعية، والطبيعة النوعية تقتضي الکم والکيف والوضع في عرض عريض، أي لا تقتضي کمّاً أو کيفاً أو وضعاً خاصاً ، بل في طيف واسع ومجال عام، (ثم الاسباب والشرائط الخارجية..الخ) الطبيعة النوعية مثلاً تقتضي لوناً بين السواد والبياض، أما اللون الأسمر فإنه يتشخص بواسطة عوارض خاصة وأسباب خارجية (وبتغير تلک الاسباب و ...الخ).
2- (لما کانت الصورة النوعية مقومة لمادتها الثانية) التي هي الهيولي باضافة الصورة الجسميّة ، مقابل المادة الأولي التي هي الهيولي وحدها.
3- فالصورة النوعية متقدمة علي الصورة الجسميّة تقدماً رتبياً ، ولأنها تمثل العلية لها فان (بوجودها توجد الصورة الجسميّة) لأنها معلولة لها، وتقدم الصورة الجسمية علي الهيولي نقدم رتبي أيضاً، فتوجد (الهيولي بوجودها الفعلي) الخارجي الحقيقي ، بواسطة الصورة الجسمية ، وقبل الصورة الجسميّة لا يمکن أن يکون لها وجود فعلي البتة ، فهي حينئذ قوة محضة.

وثانياً : أنّ الصّور النوعيّة لا تحفظ الجسميّة إلي بدل ، بل توجد بوجودها الجسميّة ، ثمّ إذا تبدّلت إلي صورةٍ أُخرئ تخالفها نوعاً بطل بطلانّها الجسمُ، ثمّ حدثت جسميّة أُخرئ بحدوث الصورة التالية (1)

ص: 476


1- قلنا ان الصور النوعية تحفظ الهيولي الي بدل ، أي أن الصورة المائية مثلاً تحفظ الهيولي ، فاذا زالت الصورة المائية جاءت الصورة البخارية والغازية لتحفظ نفس الهيولي، وکأن کل صورة تسلمها الي بديلتها، وهي تنتقل بينها، خلافاً للصورة الجسميّة ، فان (الصور النوعية الاتحفظ) الصور (الجسميّة إلي بدل) بمعني بقاء الصور الجسمية بشخصها محفوظة بالعلل المتناوبة کما هو الحال بين الصور النوعية والهيولي ، بل توجد بوجودها) أي بوجود الصور النوعية الجسمية) فاذا تبدلت الصورة النوعية زالت الصورة الجسمية أيضاً ، (ثم) إذا جاءت صورة جديدة نوعية (حدثت) صورة (جسميّة أخري جديدة (بحدوث الصورة) النوعية أو الجسميّة (التالية). وفي الخاتمة وتفريعيها اشکالات بينّة الثبوت. انتهي البحث عن الجواهر وسيأتي الکلام ان شاء الله تعالي عن النفس والعقل في محل آخر.

الفصل الثامن في الکم وهو من المقولات العرضية

قد تقدم أنّ العرض ماهيّةُ إذا وجدَت في الأعيان وجدَت في موضوع مستغنٍ عنه ، وأنّ العرضيّة کعرض عام لتسع من المقولات هي أجناس عالية لا جنس فوقها، ولذا کان ما عُرَّف به کلّ واحدةٍ منها تعريفاً بالخاصّة لا حدّاً حقيقيّاً ذا جنسٍ وفصلٍ (1)

وقد عَرَّف الشيخان – الفارابيّ وابن سينا - الکمَّ ب «أنّه العرض الذي بذاته يمکن أن يوجد فيه شيء واحد يعده». وهو أحسن ما أُورد له من التعريف (2)

ص: 477


1- و تقدم أيضاً في الفصل الثاني من هذه المرحلة (أن) وصف (العرضية ، کعرض عام) أي انما توصف المقولات بأنها عرضية أو أعراض، لأن العرضية هذه کعرض عام التسع من المقولات) فليست العرضية جنساً لها، والمقولات عشر إحداها جوهر تم البحث عنها في الفصول السابقة، والبواقي عرضية ، وانما قال قدس سره کعرض عام ولم يقل عرض عام لعدم ثبوت عرضيتها بالتحقيق فاکتفي بالتشبيه، وهذه الأعراض التسعة (هي أجناس عالية ...الخ) و تعريفها لا يکون الا بالخاصة لانتفاء وجود جنس لها، وکيف يکون لها جنس وهي أجناس عالية لا جنس فوقها ؟! فلا يوجد تعريف لهذه المقولات بالحد التام أو الناقص ، وإنما تعريفها بالخاصة والرسم، ليس إلا.
2- (أنه العرض الذي بذاته) بهذا القيد خرج کل ما کان قابلاً للعدّ والتقسيم لا بذاته بل بواسطة الکم والکمية، وکل الاشياء قابلة للعد والقسمة بالکم والکمية، کالطاقة من القماش فانّها جوهر لا عادّ لها بالذات، لأن العاد بالذات لطولها وليس لجوهرها وذاتها، فإن عاد هذه الطاقة من القماش ، هو المتر الواحد مثلاً، من ذلک القماش، أي لو کرّنا متراً واحداً منه عشرين مرة صار الطاقة کلها، فالطاقة رغم کونها جوهراً ، ذات عابر لا بالذات، بل بعرض طولها، لکننا في الوقت ذاته ننسب العاد الي الطاقة من القماش عرضاً . وبالعرض - هذا ما عرفه المعلم الثاني في الجزء الأول من منطقياته، والشيخ الرئيس في الهيات الشفا

وأمّا تعريفه ب « أنّه العرض الذي يقبل القسمة لذاته»، فقد أُورد عليه بأنّه تعريف بالأخصّ ، لاختصاص قبول القسمة بالکمّ المتّصل، وأمّا المنفصل فهو ذو أجزاء بالفعل (1)

وکذا تعريفه ب «أنّه العرض الذي يقبل المساواة» فقد ورد عليه بأنّه تعريف

دوريُّ، لأن المساواة في الاتحاد في الکم(2)

وکيف کان، فما تشتمل عليه هذه التعاريف خواص ثلاثةُ للکمّ، وهي العدّ

والانقسام والمساواة.

ص: 478


1- (وأما تعريفه) أي الکم الذي قدمه جماعة من الحکماء والفلاسفة علي ما نسب اليهم في شرح التجريد للقوشجي، والقطب الرازي والميبدي (بأنه العرض الذي يقبل القسمة لذاته» ، فقد أورد عليه) کما في المباحث المشرقية (بأنه تعريف بالأخص...الخ) وهذا التعريف لا يشمل إلا الکم المتصل دون المنفصل، بينما کان يفترض في التعريف أن يشمل مطلق أفراد الکم لا بعضه دون بعضه، (وأما الکم (المنفصل) وهو الجزء الثاني من الکم المطلق (فهو) لا يندرج تحت هذا التعريف لأنه (ذو أجزاء بالفعل) ليس فيه شيء بالقوة، وکل ما فيه بالفعل، وما کانت أجزاؤه فعلية ، لا معني لأن يقال بأنه «يقبل القسمة»، إذ القبول من شؤون القوة لا الفعل.
2- (وکذا تعريفه) الذي قال به الشيخ الرئيس (بدر أنه العرض الذي يقبل المساواة»، فقد أورد عليه) من قبل شيخ الاشراقيين (بانّه) أي هذا التعريف (دوريُّ) لأننا أخذنا المساواة في تعريف الکم، فتوقفت معرفة الکم علي معرفة المساواة ، وقد ذکروا في محله أن المساواة هي الاتحاد في الکمية، فتوقفت معرفة المساواة علي معرفة الکم (لأن المساواة في الاتّحاد في الکم) وهذا دور صريح لتوقف معرفة کل واحد منهما علي معرفة الآخر. نقرأ في هذا الفصل : 1- الکم المتصل : هو الذي يمکن أن يفرض فيه أجزاء بينها حد مشترک. 2 - الحد المشترک عند المؤلف (قدس سره)الحد المشترک هو الذي يمکن أن يجعل بداية لجزء ونهاية ، إذا انضم الي أحدهما کان منه. 3- الکم المتصل يقبل القسمة إلي ما لا نهاية. 4- الکم المنفصل مخالف للمتصل وهو العدد فقط. 5- الکم المتصل القار: أجزاؤه مجتمعة موجودة بالفعل . 6 - الکم المتصل غير القار: کالزمان، أجزاؤه المفروضة بالقوة لا بالفعل. 7- اقسام المتصل القار: أ- الجسم التعليمي - الحجم - ب - السطح - الطول والعرض - ج - الخط - طول .. 8- الجسم الطبيعي موجود فالحجم والسطح والخط موجودة أيضاً. - کل مرتبة من مراتب العدد الخاصة تباين المراتب الأخري، لأن لکل مرتبة خواصها التي لا توجد في غيرها. 10 - الزمان نوع واحد ، وان کانت معروضاته أنواعاً مختلفة من الحرکات الجوهرية والعرضية . 11 - يوجد عاد مشترک - هو الزمان - بين جميع أفراد الحرکات المختلفة. 13 - الأجسام التعليمية المختلفة التي لا عاد مشترکة لها - کالکرة والمخروط والمکعب - تعد أنواعاً متباينة. 13 - السطوح کالمستوي، والمحدب والمقعر والخطوط غير المنتظمة ليست انواعة، بل مرکبة من أنواع شتي.

الفصل التاسع في انقسامات الکم

ينقسم الکم انقساماً أوّلياً إلي المتّصل والمنفصل(1)

ص: 479


1- (ينقسم الکم انقساماًاولياً) لا نهائياً، لأن لها أقساماً أخري وانقسامات أُخري باعتبارات أخري غير ما نحن فيه الآن. ولمزيد من المعرفة حول مطالب هذا الفصل يمکن الاستعانة بکشف المراد والجزء الرابع من الاسفار، ومنطق الشفاء والجزء الأول من المباحث المشرقية، والتحصيل والمطارحات .

والمتّصل هو : الکم الذي يمکن أن يفرض فيه أجزاء تتلاقي علي حدود مشترکة. والحدّ المشترک هو : الذي يمکن أن يجعل بدايةً الجزء، کما يمکن أن يجعل نهايةً لآخر، کالخطّ إذا فُرِضَ انقسامه إلي ثلاثة أجزاء، فإن القسم المتوسّط يمکن أن يجعل بدايةً لکلًّ من الجانبين ونهايةً له، فيکون القسمان قسماً واحداً والخطّ ذا قسمَين (1)

وغرف المتصل – أيضا – بما يقبل الانقسام إلي غير النهاية .

والمنفصل خلاف المتصل وهو: العدد الحاصل بين تکرر الواحد، فإنه منقسم إلي أجزاء بالفعل، وليس بينها ح مشترک، فإن الخمسة مثلا إذا قسم إلي

ص: 480


1- (و) الکم (المتصل) علي ما عرفه مشهور الحکماء، (هو الکم الذي... الخ). (والحد المشترک هو )الذي عرفه المصنف (قده) في المتن، وهو يمثل رأيه الشخصي قدس سره، بينما الظاهر من کلام القوم أن الحد المشترک عندهم شيء آخر غير ماهية الشيء المنقسم بيان ذلک : لو قسمنا خطاً إلي ثلاثة خطوط ، فإن کل واحد من هذه الخطوط الثلاثة يشترک مع الخط المجاور له في نقطة واحده ، ويلتقي معه عندها، فالنقطة التي بينها حد مشترک لها، والنقطة مغايرة في حقيقتها للخط، لا أن جزءاً من نفس الخط يقع حداً مشترکاً بين أجزاء الخط - کما جاء في تعريف المصنف ( قدس سره)، إذ الخطان يتحدان ماهيةً، والنقطتان مغايرتان ماهيةً ، فيصح وقوعها حداً مشترکاً، ولا يصح وقوعه کذلک ، إذ الخط جزءاً لحقيقة الخط، والنقطة ليست کذلک، کما أن الحد المشترک في السطح عبارة عن الخط الذي يرسم عليه ، فيقسمه الي أجزاء، فيقع نهاية للنصف الأيمن - مثلاً -، وبداية للنصف الأيسر من السطح، إذا لوحظ من الجهة اليمني مثلاً، ولو جعلنا اللحاظ من الجهة اليسري - مثلاً -، کان الامر علي العکس، فما يکون نهاية الجزء وبداية لجزء آخر، يکون حداً مشترکاً بين الأجزاء إذا کان مغايراًفي حقيقته الحقيقة الأجزاء وحقيقة المتجزيء - المنقسم -، وکيف کان فالسطح حسد مشترک بين الاجسام لإمکان فرض سطح بين الجسمين، يکون مقسّماً للجسم وحدّاً بين أجزاءه، والخط حد مشترک بين السطحين، والنقطة حد مشترک بين الخطين .

إثنين وثلاثة فإن کان بينهما حدُّ مشترکُ من الأجزاء کانت أربّعة أو من خارج کانت ستّة (1)

ص: 481


1- (و) الکم (المنفصل) تعريفه (خلاف المتصل) و تعرف الاشياء بأضدادها (وهو) منحصر في فرد و مصداق واحد هو (العدد). وهل هناک اختلاف في مصاديق العدد بين الفلاسفة والرياضيين ؟ نعم، إذ العدد يبدأ في علم الرياضيات من الواحد، بل من الصفر، واما في الفلسفة فإنه يبدأ من الرقم اثنين (الحاصل من تکرر الواحد) وتکثره لا من الصفر أو الواحد، لأنهم يعدون الواحد مبدءا للعدد لا العدد ذاته، والواحد فرد لا کثرة فيه، بينما العدد لا يکون إلا متکثراً، (فإنه) أي العدد (منقسم الي أجزاء بالفعل) يعني أن کل جزء منه قد تکرر فصار عدداً آخر، وبتکررها تتألف، أي تتألف الأرقام من تکرر الأرقام، فالارقام الکبيرة هي الارقام الصغيرة متکررة ، وخاصية الکم المنفصل أنه منقسم الي أجزاء بالفعل کالعدد (وليس بينها) أي بين أحادها وأجزائها (حد مشترک) يکون مغايراً لحقيقتها وابتداءاً لجزء وانتهاء لجزء خر، فإن الخمسة مثلاً إذا قسم الي اثنين وثلاثة) لا يصح جعل و اعتبار أي منها حداً مشترکاً لها ، إذ المشترک ما يصح انضمامه إلي أحد الجزئين فيصير معه جزءاً واحداً - بناءاً علي تعريف المصنف قدس سره وخلافاً للمشهور ، لو اعتبرنا العدد - الواحد - الأوسط حداً مشترکاً، وجب امکان انضمامه الي هذا الجزء أو ذاک ، فاذا انضم اليه صار واحداً ، فواحد هناک وواحد هنا ، وهذا الواحد، ثلاثة فأربّعة، إذن يکون العدد الأربّعة أجزاء، بينما العدد خمسة له خمسة أجزاء لا أربّعة، هذا أن اعتبرنا الواحد من داخل العدد (فإن کان بينهما) أي بين الاثنين والثلاثة (حدُّ مشترک) فأما أن يکون( من الأجزاء) مأخوذاً منها، فالعدد المنقسم يکون أربّعة، و(کانت) الخمسة (أربّعة) لأنا أخذنا من الخمسة واحدة يکون حداً مشترکاً بين الاثنين والثلاثة فلزم کونه أربّعة کما صار العددان اما واحدة و ثلاثة إذا کان الواحد المأخوذ حداً مشترکاً، مأخوذاً من الاثنين، أو کان العددان اثنان واثنان إذا کان العدد واحد المأخوذ حداً مشترکاً، مأخوذاً من الثلاثة، وعلي کل حال فانا وقعنا في محذور الخلف وهو اعتبار العدد المنقسم أربّعة بعد ما کان المفروض هو العدد خمسة وأما إذا کان العدد - الواحد۔ المفروض حداً مشترکاً، ليس من العدد نفسه بل جيء به من الخارج وجعل ضميمة اليه، کالخمسة الذي قسمناه الي اثنين وثلاثة ، فان الخمسة مثلاً إذا قسم الي اثنين وثلاثة ، واعتبرنا عدداً واحداً يکون حداً مشترکاً بين العدد اثنين والعدد ثلاثة، فان کان بينهما، أي بين الاثنين والثلاثة حد مشترک جيء به من الخارج هو الواحد الخارجي المفروض أنه (من خارج) العدد خمسة، وليس جزء منه (کانت )الخمسة (ستة) وقد فرضناها خمسة وهو خلف أيضاً ، وذلک أنا أضفنا إلي الخمسة واحداًخارجياً، جعلها ستة، اثنان وثلاثة باضافة واحد خارجي قد ينضم الي الاثنين فيکون جزء منه أو الثلاثة فيکون جزءاً منها وعلي الأول يکون الأمر علي هذا النحو: اثنان باضافة الواحد باضافة الثلاثة تساوي ستة، وعلي الثاني يکون : اثنان باضافة ثلاثة باضافة الواحد تساوي ستة. فلا حد مشترک للعدد والکم المنفصل.

والمتّصل ينقسم إلي قسمين : قارًّ و غير قارًّ. والقارُ هو: الثابت المجتمع الأجزاء بالفعل کالسطح. وغير القار هو : الذي لا تجتمع أجزاؤه المفروضة بالفعل کالزمان ، فإنّ کلّ جزء منه بالفعل قوّةُ للجزء التالي ، فلا يجتمعان بالفعل، إذ فعليّة الشيء لا تجامِعُ قوّتَه(1)

والقارّ ينقسم إلي الجسم التعليمي وهو : القابل للإنقسام في جهاته الثلاث :

العرض والطول والعمق، والسطح وهو: القابل للإنقسام في الجهنين : العرض والطول، والخطّ وهو: القابل للإنقسام في جهة واحدة.

والکم المنفصل - وهو العدد موجودُ في الخارج بالضرورة. والکم المتّصل

غير القارّ - وهو الزّمان ، سيأتي إثبات وجوده في مباحث القوّة والفعل (2)

وأمّا الکم المتّصل القارّ، فالجسم التعليمي والسطح موجودان في الخارج، لأنّ هناک أجساماً طبيعيّةً منفصلاً بعضها عن بعض متعيّنةً متناهيّةً، ولازمُ تعيّنها الجسم التعليميّ ، ولازمُ تناهيها السطح.

ص: 482


1- (وغير القار) من الکم المتّصل هو الذي لا تجتمع أجزاؤه المفروضة) اجتماعاً (بالفعل) وفي آن واحد معاً، بل وجود الجزء اللاحق يستلزم فناء وانعدام وزوال الجزء السابق، (کالزمان) و دليل کونه کماً غير قاير هو : (فإن کل جزء.. الخ) ولا فعلية للقوة
2- (والکم المنفصل - وهو العدد) منحصراً (موجود في الخارج بالضرورة وجه ضرورة وجوده في الخارج، هو ضرورة اتّصاف الأشياء الخارجية بالاعداد المختلفة، ولما کان العدد وصفاً للشيء الخارجي بالضرورة، کان موجوداً في الخارج بالضرورة ، (والکم المتصل غير القار - وهو الزمان ، سيأتي اثبات وجوده) الخارجي (في مباحث القوة والفعل) من الفصل الحادي عشر من المرحلة التاسعة - ان شاء الله تعالي .. .

وأمّا الخطّ ، فهو موجودُ في الخارج إن ثبتت أجسامُ لها سطوحُ متقاطعةُ

کالمکعّب والمخروط والهِرَم ونحوها.

ثمّ إنّ کلَّ مرتبةٍ من مراتب العدد غير المتناهية نوعُ خاصُّ منه مباين

السائرها، لاختصاصها بخواصًّ عدديّةٍ لا تتعدّاها إلي غيرها(1)

والزّمان نوعُ واحدُ وإن کان معروضه أنواع الحرکات الجوهريّة و العرضيّة لمِا

أن بين أفرادها عادّاً مشترکاً.

والأجسام التعليميّة التي لا عادَّ مشترکاً بينها کالکرة والمخروط والمکعب ونحوها أنواعُ متباينةُ، وکذا السطوح التي لا عادَّ مشترکاً بينها کالسطح المستوي وأقسام السطوح المحدّبة والمقعّرة، وکذا الخطوط التي لا عادَّ مشترکاً بينها - إن کانت موجودةً بالخطّ المستقيم وأنواع الأقواس . وأمّا الأجسام والسطوح والخطوط غير المنتظمة ، فليست بأنواع ، بل مرکّبة من أنواع شتّي.

ص: 483


1- (ثم أن کل مرتبة من مراتب العدد...الخ) إلي قوله (لاختصاصها) أي الأعداد أو مراتب العدد (بخواص...الخ) وأقل ما لها من أثر خاص آنها تنقسم الي وحدات خاصة - وعدد خاص من الوحدات -، بحيث لا ينقسم غيرها الي ذلک العدد الخاص من الوحدات، وکل عدد ينقسم الي وحدات خاصة لا ينقسم اليها غيره من الاعداد، بل غيره اما ان ينقسم الي وحدات أقل أو أکثر مما انقسم اليه ذلک العدد نقرأ في هذا الفصل : 1- المساواة والمفاوتة والانقسام الخارجي أو الوهميّ، ووجود العادّ، جميعها من أحکام الکم. الأحکام الأخري للکم: الأول: أ- أن الکم المنفصل - العدد - يوجد في الماديات والمجردات معاً. ب - المتصل غير القار - کالزمان - لا يوجد إلّا في الماديات. ج - المتّصل القار لا يوجد إلّا في الماديات ، إلّا عند القائلين بعالم المثال، فإنهم يثبتونه للمثاليات أيضاً. الثاني : أ- لا تضاد بين الأعداد ، إذ ليس بينها غاية الخلاف. ب. الکم المتصل مطلقاً لا تضاد فيه. ج- الجسم والسطح والخط لاتضاد بينها أيضاً ، لعدم وجود موضوع واحد لها، وليس بينها غاية الخلاف. الثالث: يتصور التشکيک في الکم بالزيادة والنقصان، لا بالشدة والضعف، من غير اختلاف بين الحجم والسطح والخط. الرابع : براهين - المسامته والتطبيق والسلّمي - تدل علي تناهي الابعاد. الخامس : الخلا محال، لاستلزامه قيام البعد بلا معروض. السادس: العدد غير متناو - أي لا يقفي -، ولا يمکن فرض کل أو مجموع أو نسبة کسرية کالنصف والثلث والربّع لغير المتناهي..

ص: 484

الفصل العاشر في أحکام مختلفة للکم

قد تقدّمت الإشارة إلي أنّ من خواصّ الکم المساواة والمفاوتة، ومنها الانقسام خارجاً کما في العدد أو وهماً کما في غيره، ومنها وجود عادّ منه يعدّه . وهناک أحکام أخر أوردوها:

أحدها : أنّ الکم المنفصل - وهو العدد - يوجد في المادّيات والمجرّدات جميعاً. وأما المتّصل غير القارّ منه - وهو الزمان - فلا يوجد إلّا في المادّيات، وأمّا

ص: 485

المتّصل القارّ - وهو الجسم التعليميّ والسطح والخطّ فلا يوجد في المجرّدات إلّا عند من يثبت عالَماً مقداريّاً مجرّداً له آثار المادّة دون نفس المادّة(1)

الثاني: أنّ العدد لا تضادّ فيه، لأنّ من شروط التضادّ غاية الخلاف بين المتضادّين، وليست بين عددين غاية الخلاف، إذ کل مرتبتَين مفروضتَين من العدد فإن الأکثر منهما يزيد بعداً من الأقل باضافة واحدٍ عليه(2)

وأمّا الإحتجاج عليه : بأنّ کلّ مرتبة من العدد متقوّم بما هو دونه، والضدّ لا

ص: 486


1- (وأما المتصل غير القار منه - وهو الزمان - فلا يوجد إلّا في الماديات) لأن معروض الزمان وموضوعه هو الحرکة، والحرکة من لوازم الماديات، فلا حرکة إلّا بوجود المادة ولا مادة إلا ومعها حرکة، بخلاف المجردات فإنها مجردة عن المادة ولوازمها التي هي الحرکة الملازمة للزمان، والمجردات فعلية محضة، والفعلي المحض لا حرکة فيه فلا زمان له ولا يتعلق بالزمان بل مفارق له ولکل لوازم المادة، (وأمّا المتّصل القار) من الکم (وهو الجسم التعليمي والسطح والخط ، فلا يوجد في المجردات، إلا عند من يثبت عالماً، مقدارياً مجرداً...الخ) ويسمّي عالم البرزخ، وعالم المثال، وعالم الصور المعلّقة، وعالم الأشباح المجردة وهو العالم الذي دعا اليه الاشراقيون وأقاموا الحجج علي اثباته ووافقهم المولي صدر المتألهين ( قدس سره) في حکمته المتعالية ، وان خالفهم في ذلک حکماء المشاء وسيأتي البحث عنه ان شاء الله تعالي في محله، وتفاصيله في الجزء الرابع من الأسفار والأول من المباحث المشرقية.
2- (الثاني : أن العدد لاتضاد فيه ..الخ) لأن الضدين أمران وجوديان غير متضائفين، يعرضان الموضوع واحد بالتعاقب، ويدخلان في جنس قريب وبينهما غاية الخلاف (وليست بين العددين غاية الخلاف) علي نحو ما في المتضادين، بحيث لا يمکن تصور أو فرض عدد ليس فيه اختلاف أکثر مع ذلک العدد، إذ غاية الخلاف تعني عدم امکان تصور فرد للشيء اکثر خلافاً لصاحبه، وأما في العدد فکل عددين نفرضهما يمکن تصور عدد آخر أشد خلافاً لهما، فلا يوجد بين الأعداد غاية الخلاف (إذ کل مرتبتين مفروضتين من العدد) کالعدد خمسة والمليون (فإن الاکثر) والاکبر منهما وهو المليون هنا (يزيد بعداً من الأقل) أي الخمسة (باضافة واحد عليه) أي علي الأکبر، فالمليون و واحد أشدّ بعداً وخلافاً مع الخمسة من العدد مليون وهکذا قس عليه ما شئت ، فليس بين العدد خمسة والمليون - مثلاً ، غاية الخلاف، فلا يمکن فرض عددين بينهما غاية الخلاف

يتقوّم بالضدّ(1)

ففيه : أنّ المرتبة من العدد لو ترکّبت ممّا دونها من المراتب کانت المراتب التي تحتها في جواز تقويمها علي السواء، کالعشرة - مثلاً - يجوز فرض ترکبها من تسعة وواحدة، وثمانية وإثنين، وسبعة وثلاثة، وستّة وأربّعة، وخمسة وخمسة ، وتعيُّن بعضها للجزئيّة ترجُّحُ بلا مرجَّح، وهو محالُ. وقول الرياضيّين : «إنّ العشرة مجموع الثمانية والاثنين»، معناه مساواة مرتبةٍ من العدد لمرتبتَين، لاکونُ المرتبة - وهي نوعُ واحدُ - عين المرتبتين - وهما نوعان إثنان - (2)

ونظير الکلام يجري في الکمّ المّتصل مطلقاً (3)

ص: 487


1- (واما الاحتجاج عليه) أي علي أن العدد لا تضاد فيه بما احتج به الفخر الرازي في الجزء الأول من المباحث المشرقية (بأن کل مرتبة من العدد...الخ) ولو کان بينهما التضاد وکانا متضادين لما تقوم أحدهما بالآخر، لأن وجود أحد الضدين - والمتضادين - يقتضي عدم الآخر، لا وجوده ، بينما العدد ليس کذلک.
2- (ففيه) کما قال حکيم سبزوار (أن المرتبة من العدد) لو کانت مرکبة مما دونها من المراتب کانت متقومة بها، ولکن لا توجد مرتبة من العدد مرکبة من المراتب التي دونها، بل لا يمکن ترکبها کذلک لأن المرتبة من العدد (لو ترکبت مما دونها من المراتب ، کانت المراتب التي تحتها) أي تحت تلک المرتبة المرکبة (في جواز) و امکان ( تقويمها) لتلک المرتبة العالية المرکبة منها علي السواء...الخ) بحيث لا يتقدم أحداها علي البواقي لتکون هي المقوم لها دون غيرها. ان قلت وما المانع أن يکون لها أکثر من مقوم فکانت المراتب جميعها مقومة لها. قلنا هذا کاجتماع عدة علل تامة لتقويم معلول واحد، وهو بديهي الاستحالة، إذ المعلول الواحد ليس له سوي علة تامة واحدة، ولا يصدر المعلول الواحد الا من علة تامة واحدة.
3- (ونظير) هذا الکلام الذي تقدّم عن العدد ( يجري في الکم المتصل مطلقاً) فلا حجم يضاد حجماً آخر ولا سطح يضاد سطحاً آخر، ولا خط يضاد خطاً آخر، إذ ليس بين الاحجام والسطوح والخطوط غاية الخلاف، بل ما من حجم عند القياس بغيره إلا وللأکبر منهما حجم اکبر منه يزيد بعدا واختلافاً عن الأصغر ، وهکذا الخط والسطح واعلم ان الجسم التعليمي هو الحجم بعينه ، وأن الجسم الطبيعي موضوع للحجم، والحجم موضوع للسطح، والسطح موضوع للخط .

وکذا لا يضادّ الجسم التعليمي سطحاً ولا خطّاً، ولا سطحُ خطّاً، إذ لا

موضوع واحداً هناک يتعاقبان عليه ولا يتصور هناک غايةُ الخلاف.

الثالث: أنّ الکم لا يوجد فيه التشکيک بالشدّة والضعف، وهو ضروريُّ أو قريبُ منه، نعم يوجد فيه التشکيک بالزيادة والنقص کأن يکون خطُّ أزيد من خطٍ في الطول إذا قيس إليه وجوداً، لا في أن له ماهيّة الخط ، وکذا السطح يزيد وينقص من سطح آخر من نوعه، وکذا الجسم التعليميّ(1)

الرابع : قالوا: «إنّ الأبعاد متناهية»، واستدلّوا عليه بوجوه، من أوضَحِها أنّا ، نفرض خطّاً غيرَ متناةٍ وکرةً خرج من مرکزها خطُّ موازٍ لذلک الخطّ غير المتناهي،

فإذا تحرّکت الکرة تلاقي الخطان بمصادرة اُقليدس ، فصار الخطّ الخارج من المرکز مسامتاً للخطّ غير المتناهي المفروض بعد ما کان موازياً له. ففي الخطّ غير المتناهي نقطة بالضرورة هي أوّلُ نُقَطِ المسامتة، لکن ذلک محالُ، إذ لا يمکن أن يفرض علي الخط نقطة مسامتة إلّا وفوقَها نقطةُ يسامتها الخطّ قبلها.

وقد اُقيم علي استحالة وجود بُعدٍ غير متناةٍ براهينُ أُخر کبرهان التطبيق

ص: 488


1- (الثالث : أن الکم لا يوجد فيه التشکيک بالشدة والضعف ، وهو ضروري لا يحتاج الي نظر و برهان (أو قريب منه يمکن التصديق به بأدني تأمل ونظر، لضرورة عدم صحة القول بأن هذا السطح أشدّ من ذاک، أو هذا الخط أضعف من ذاک الخط ، (نعم يوجد فيه التشکيک ...الخ) فالتشکيک من النوع الآخر يوجد في وجود الخطين المقيس أحدهما بالآخر (لافي أن له) أي للخط الأطول (ماهية الخط) وذلک أن لا طريق للتشکيک في الماهية ، لاستلزامه الانقلاب وقد ثبت في محله أن التشکيک أولاً وبالذات ليس إلا في الوجود، وأنه انما ينسب الي الماهية ثانية وبالعرض، والحاصل : لا تشکيک في مفهوم الخط وماهيته بالزيادة والنقصان، وانما يحصل ذلک عند وجود الخط ، حيث يکون وجود خط خارجي - الوجود الخارجي لخط - أطول من وجود خط خارجي آخر- أطول من الوجود الخارجي لخطّ آخر ..

والبرهان السلّميّ وغير ذلک (1)

ص: 489


1- (الرابع : قالوا) وهم اکثر الحکماء والمتکلمين کما جاء في کشف المراد، (ان الأبعاد متناهية) ذکروا براهين التناهي الأبعاد کلها من قبيل البراهين الرياضية، منها ما هو مشترک بينه وبين مبحث التسلسل، ومنها ما هو مختص بمحث تناهي الأبعاد، وقد أورد المصنف قدس سره هنا ثلاثة براهين اثنان منها مشترک هما البرهان السلّميّ، والآخر برهان التطبيق، وسيأتي البحث عنهما في مبحث التسلسل ان شاء الله تعالي، وأما الذي اعتمده هنا فهو برهان المسامتة القائم علي مقدمات أهمها مصادرة اقليدس التي تعني أن الخطين المتوازيين لا يلتقيان، لا يتقاطعان وان امتدا إلي غير النهاية ، وإذا تقاطعا عن التوازي - أي خرجا عن التوازي بأن مال أحدهما قليلاً أو کلاهما لا بالتساوي - تقاطعا والتقيا عند نقطة لا محالة. وعلي هذا الأساس الموضوعي الثابت في الهندسة قالوا ان البعد غير المتناهي محال ، ولو کان للعالم بُعدُ غير متناةٍلاستلزم المحال، بيان ذلک : لو أننا تصورنا جسماً کروياً وافترضنا فيه خطاًيمثل محور الجسم، ثم نمدّه من طرفيه بحيث يقسم الجسم الکروي الي نصفين ، ثم لو فرضنا امتداد هذا الخط من جهتين بحيث يخرج عن حدود ذلک الجسم الکروي متجاوزاً لقطرية ، فهو خط موازٍ لذلک الخط غير المتناهي الذي کان يشق الجسم الي نصفين وکان خطاً غير متناهٍ - وبعبارة أُخري فإن هناک خطة مفروضاً لا يتناهي، يمتد من جهة ليشق الجسم الکروي الي نصفين، ثم يمتد ليخرج عن حد قطري الدائرة «الجسم الکروي»، ليوازي ذلک الخط اللامتناهي، فقد نتصور الخط الممتد موازياً للخط اللامتناهي ، وقد نتصوره غير مواز له، أي يمکن تصور ذلک الخط الممتد موازياً وغير مواز لذلک الخط اللامتناهي، فبناء علي تصوره موازياً له کما في الکتاب المسمي ببرهان المسامتة، تکون الکرة جسماً يمکن تحريکه بصورة موازياً مسامتة ويمکن تحريکه أيضاً بصورة أخري ايميل محور الکرة في جهة الخط العلوي اللامتناهي، ويسمي هذا الخط مسامتاً، بمعني أنه يميل الي الخط الآخر من جهة من الجهات، وحينئذ أي بعد ما وقع خلل للخط الموازي بسبب حرکة الجسم الکروي حيث صار الخط الممتد مسامتاً لا موازياً ، أي صار مائلاً إلي جهة من المحور والخط اللامتناهي، فإنه يتعين حينئذ تلافي الخطين المتناهي واللامتناهي أي تلاقي الخط الممتد بالخط المتناهي، وکلما زادت المسامته وزاد الميل أبطأ الخطان في التلاقي ، والحاصل أن الحرکة الدائرية الدحرجية للکرة تسبب حدوث نقطة التقاء علي الجسم الکروي يلتقي عندها الخطان لا محالة ، مادام الخطان موازيين فلا يمکن أن يلتقيا ، واما اذا خرجا من التوازي الي المسامتة صار التقاؤهما ممکناً بل ضرورياً لکن تختلف نقطة الالتقاء وزمن الالتقاء بحسب شدة المسامتة وضعفها، وکلما زاد الانحراف والميلان في أحدهما قلّ زمن الالتقاء واقتربّت نقطة الالتقاء وهکذا، حتي يتم التقاؤّهما عمودياً ، بوقوع الخط العالي عمودياً علي الخط السافل ، فاذا صار هذا المحور من الکرة عمودية علي ذلک الخط ، حصل أقصر فاصل بين مرکز الکرة وهذا الخط العمودي المائل، وهذا الخط الموصل بين مرکز الکرة والخط الأعلي بعد أقصر مسافة يمکن الاتصال والالتقاء عندها، وهو خط مستقيم يوصل بينهما عند نقطة التقاطع، لا نعني بالحرکة الدورانية والدائرية، الحرکة حول المحور، بل تعني التحرک الي هذه الجهة أو تلک، مع حدوث أول حرکة في الکرة، نفرض نقطة علي الخط الأعلي، بحيث لو تم امتدادها، ستلتقي به هناک وتقطعه، وکلما زادت الحرکة الکروية في ميلانّها واقتربّت من الحالة العمودية، قصرت مسافة هذه النقاط بنقطة المحاذاة ، فيرسم أول نقطة علي الخط اللامتناهي، تستي أول نقطة المسامتة، حتي تصل الي ما دون هذه النقطة وآخرها وهي المحاذاة، هذا إذا فرضنا الخط موازياً، ويمکن أن نتصور المسألة بصورة أخري وذلک بأن نفرض محور الکرة عمودياً علي الخط الأعلي، ونتحرک من الجهة الأخري، فإذا تجاوز نقطة المحاذاة نکون قد تجاوزنا اول نقطة المسامتة، وبهذا اللحاظ يسمي ببرهان الموازاة. والحاصل أن الأمر دائر بين أن نفرض محور الکرة عمودياً علي الخط الأعلي، أو تفرضه موازياً منذ البدء يسير نحو العمودية ، فإن کان عمودياً ، کانت اول نقطة المسامتة بجانب نقطة المحاذاة ، حينما يکون عمودياً تکون نقطة التقاطع هي نقطة المحاذاة، وتکون أول نقطة المسامتة هي التي بعد نقطة المحاذاة، و تتقدم هذه النقاط حتي تصل مکانا لو تم تحريکها وتقديمها قليلاً، يصير المحور موازية للخط الأعلي، فينفصل هذا الخط العمودي عن الخط الأعلي ولا يکون بينهما تقاطع، ثم اننا عند السير بالخط من العمود الي التوازي ، فإن آخر نقطة يمکن لهذا الخط أن يلتقي عندها ويقطعها، تکون آخر نقطة المسامتة. ولو عکسنا الأمر فأردنا أن نسير من التوازي الي العمودية، تصير هنا أول نقطة للمسامتة، فالخط الذي يتم ارتسامه علي ذلک الخط المفروض اللامتناهي، يکون أول نقطة المسامتة من جهة وهي عندما نفرص محور الکرة موازياً للخط اللامتناهي، وأما إذا فرضنا المحور عمودياً من الأول، تکون تلک النقطة آخر نقطة المسامتة، فهنا برهانان المسامتة والموازة لکل منهما اعتبار خاص به هنا وان کان عودهما الي برهان واحد، وأکتفي المرحوم العلامة (قدس سره ) هنا بذکر برهان المسامتة، واما في شرح المنظومة تجد کلا البرهانين ولو قيل : الانحتاج الي النقطة الأولي، وليست هناک نقطة اولي لأن الخط غير متنا، ولا حاجة لنا بها. أجاب المصنف (قدس سره) بضرورة وجود هذه النقطة بدليل أن هذه الحرکة امر حادث ، عند فرض الکرة ساکنة لم تکن هناک حرکة، ولا خط ولا مسامتة، لکن عند احداث الحرکة حصل شيء جديد هو الخط المائل وهي مسبوقة بالعدم قطعاً ، فالنقطة المفروضة فوق الخط الأعلي يقطع تلک النقطة ويلتقي بها اذا استمر المحور، فلابد من وجود نقطة أولي ، ولا مانع من القول بوجود نقطة معينة علي الخط اللامتناهي، تمتد الي ما لا نهاية ، اذ ليس هذا القول مبطلاً للبعد اللامتناهي. حاصل البرهان: أنه لو کان هناک بعد لا متنا ، کان من الممکن أن تفرض خطاً موازياً لهذا البعد اللامتناهي علي کرة بحيث يکون محورها، فخط لا يتناهي في موازاته علي سطح الکرة فرضنا خطاً آخر محوراً للکرة، والمسافة التي بين الخط المحوري والخط الأعلي يحسب طبقاً لقطر الکرة ويکون نصف قطرها. فإذا کان قطرها مرة واحدة کانت المسافة بينهما نصف المتراً الواحداً وهکذا، فمقتضي کون الحرکة حادثة - في الکرة - وکون الحرکة ذات مبدأ، أن ترتسم نقطة معينة علي الخط اللامتناهي ، بعنوان أنها مبدأ المسامتة، ومقتضي اللاتناهي في الخط، عدم وجود مبدأ المسامتة له، ففرض البعد اللامتناهي محال، أي يستلزم هذا المجال ، وعليه فالخط الأعلي ليس خطاً لا متناهية، لمزيد من التفصيل يرجع الي الجزء الرابع من الاسفار وکشف المراد.

ص: 490

الخامس : أنّ الخلاء- ولازِمُهُ قيام البُعد بنفسه من دون معروضٍ يقوم به -

محالُ، وسيأتي الکلام فيه في بحث الأين.

السادس : أنّ العدد ليس بمتناهٍ، ومعناه أنّه لا توجد مرتبة من العدد إلّا ويمکن فَرضُ ما يزيد عليها ، وکذا فَرضُ ما يزيد علي الزائد، ولا تقف السلسلة حتي تنقطع بانقطاع الاعتبار، ويسمي غير المتناهي «اللايقفي»، ولا يوجد من السلسلة دائماً بالفعل إلّا مقدارُ متناهٍ، وما يزيد عليه فهو في القوّة . وأمّا ذهاب السلسلة بالفعل إلي غير النهاية علي نحو العدول دون السلب التحصيلي فغير معقول، فلا کلَّ ولا مجموعَ لغير المتناهي بهذا المعني، ولا تحقُّقَ فيه لشيءٍ من النسب الکسريّة کالنصف والثلث والربّع ، وإلّا عاد متناهياً (1)

ص: 491


1- (ويسمّي غير المتناهي «اللايقفي») في مقابل غير المتناهي الحقيقي الذي يجب أن يکون غير متنا بالفعل هذا باعتبار الفرض العقلي (و) لکن، (لا يوجد في متن الخارج (من) هذه السلسلة اللامتناهية عق (دائماً بالفعل إلا مقدار متناهٍ) من الاعداد والمراتب العددية واما ذهاب السلسلة بالفعل إلي غير النهاية علي نحو العدول) أي نحمل غير النهاية علي العدد بصورة الحمل العدولي، فنقول : هذا العدد غير متناو (دون السلب التحصيلي) إذ ما أوردناه کان من باب السلب التحصيلي، حيث قلنا «لا تقف السلسلة»، «لا تتناهي سلسلة العدد» فإنا لم نفرض عددا موجودة بالضرورة، ولهذا فلا إشکال علي ما أوردناه، لعدم استلزامه وجود الموضوع، وانما الإشکال فيه يرد بناءاً علي الإيجاب العدولي بأن نقول : هذا العدد غير متنا»، إذ يستلزم وجود العدد اللامتناهي في الخارج، وهو ليس کذلک، فحمل غير المتناهي علي العدد، بنحو الايجاب العدولي باطل غير صحيح، خلافاً لحمله عليه بنحو السلب التحصيلي وإلا فحمله عليه بنحو آخر - وهو الايجاب العدولي (فغير معقول) إذ لا کلَّ ولا مجموع لغير المتناهي بالمعني الحقيقي، بينما من لوازم العدد أن يکون له نسب کسريه فإنا نجد خلاف ذلک في الأعداد غير المتناهية (ولا تحقق فيه) أي في غير المتناهي الشيء من النسب الکسرية.. الخ) وإلا لو کان له نسب کسرية ، لزم کونه ذا مبدأ وذا منتهي، وما کان کذلک کان متناهياً إذ لا کسر إلا للمتناهي. لمزيد من المعلومات حول مطالب هذا الفصل يمکن مراجعة الجزء الرابع من الاسفار والجزء الأول من المباحث المشرقية، وشرح المنظومة، وکشف المراد، ومنطق والهيات الشفاء، والمطارحات نقرأ في هذا الفصل : 1- الکيف عرض لا يقبل القسمة ولا النسبة ذاتأ . 2- الواجب والجوهر والکم والمقولات السبعة النسبية خرجت بالتعريف السابق . 3- الکيفيات أربّعة أقسام: الکيف المحسوس والنفساني والمختص بالکم والکيف الاستعدادي وهو تقسيم استقرائي.

ص: 492

الفصل الحادي عشر : في الکيف وانقسامه الأوّليّ

عرَّفُوه ب «أنّه عَرَضُ لا يقبل القسمةَ ولا النسبة لذاته» فيخرج ب «العرض» الواجب لذاته والجوهر ، وبقيد «عدم قبول القسمة» الکم، وبقيد «عدم قبول النسبة» المقولات السبع النسبيّة ، ويدخل بقيد «لذاته» ما تعرضه قسمةُ أو نسبةُ بالعرض.(1)

قال صدر المتألّهين : «المقولات لَمّا کانت أجناساً عاليةً ليس فوقها جنسُ، لم يمکن أن يورد لها حدّ، ولذلک کان ما يورد لها من التعريفات رسوماً ناقصةً يکتفي فيها بذکر الخواصّ لإفادة التمييز، ولم يظفر في الکيف بخاصّةٍ لازمةٍ شاملةٍ إلّا المرکّب من العرضيّة والمغايرة للکمّ والأعراض النسبيّة ، فعُرَّف بما محصّله : (أنّه عرضُ يغاير الکم والأعراض النسبّية). لکن هذا التعريف تعريفُ للشيء بما يساويه في المعرفة والجهالة، لأنّ الأجناس العالية ليس بعضها أجلي من البعض ، ولو جاز

ص: 493


1- وقد اورد صدر المتألهين ( قدس سره) سبعة اشکالات علي هذا التعريف نسبها إلي الفخر الرازي وهو التعريف الذي ذکره الفخر الرازي نفسه في المحصل. قوله قدس سره: (فيخرج بالعرض الواجب لذاته) إذ لا ماهية له حتي يکون جوهراً أو عرضاً. قوله قدس سره: (ويدخل بقيد لذاته «الخ») کالبياض أو بياض الدفتر، وسوادر الفحم مثلاً، فهما من الاعراض القابلة للقسمة لکن لا بذاتيهما بل بعرض الکم لعروضها للکم، إذ ينقسم الکم ولما کانت هذه من الأمور التي تتحد مع الکم، فإنها تنقسم بانقسامه ، ولولا هذا القيد لخرج الکيف من تعريفه ولم يشمله هذا التعريف ، إذ لا ينقسم لذاته بل بتبع الکيف وبعرضه ، ويمکن نسبة الکيف الي الزمان والمکان نسبة عرضية.

ذلک لجاز مثله في سائر المقولات، بل ذلک أولي، لأنّ الأُمور النسبيّة لا تعرف إلّا بعد معروضاتها التي هي الکيفيّات، فعدلوا عن ذکر کلّ من الکم والأعراض النسبيّة إلي ذکر الخاصّة التي هي أجلي» - إنتهي ملخّصاً(1)

وينقسم الکيف إنقساماً أوّلياً إلي أربّعة أقسام کلّيّة هي: الکيفيّات المحسوسة، والنفسانيّة ، والمختصّة بالکميّات ، والاستعداديّة. وتعويلهم في حصرها في الأربّعة علي الإستقراء(2)

ص: 494


1- قوله قدس سره: (رسوماً ناقصة) إذ الرسم التام لا يتم إلّا بذکر الجنس ولا جنس هنا وان لم يؤخذ الجنس في التعريف کان رسماً ناقصاً، ولما لم يکن تعريفه بجنس لعدم وجود جنس له، ولا بخاصة الازمة أي عرض خاص ملازم شامل اکتفوا في تعريفه بهذا التعريف المرکب من هذه الامور الثلاثة. (لأن الأجناس العالية ليس بعضها أجلي من البعض الآخر ، إذ لو کان بعضها أجلي لجعل أصلاً، ولقيل الثاني هو الذي ليس بهذا، وهکذا، فکان تعريفاً له ولغيره، لکنها في مستوي واحد من المعرفة ، (ولو جاز ذلک) أي تعريف الکيف بأنه ما ليس بکم، (لجاز مثله) أيضاً (في سائر المقولات) بأن نقول في تعريف الجوهر مثلاً أنه ما ليس بعرض، ونقول الکم أيضاً ما ليس بجوهر ولا کيف ولا نسبة ، بل ذلک) أي جواز هذا النوع من التعريف في سائر المقولات (أولي) من جوازه في الکيف، (لأن الأمور النسبية) والمقولات النسبية (لا تعرف الا بعد معروضاتها) ومن جملة معروضاتها الکيف (التي هي الکيفيات) والکميات لعدم حصرها في الکيفيات، وتعريفهم الکيف بأنه ما ليس بکم ولا المقولات النسبية ، تعريف بالمساوي ، (فعدلوا عن ذکر کل من الحکم والاعراض النسبية) بنفي خواص تلک المقولات عن هذه المقولة ليکون التعريف أجلي، وبدل أن يقولوا الکيف عرض يغاير الکم والاعراض النسبية ، قالوا: «الکم عرض لا يقبل القسمة ولا النسبة» ليکون تعريفاً بخواص الکم والمقولات النسبية لا بأنفسها، ذلک أن القسمة من خواص الکم والنسبة من خواص المقولات النسبية السبعة، وهذه الخواص أعرف من المقولات ذاتها.
2- (وينقسم الکيف) بحسب الاستقراء لا الدليل والبرهان، بل جعل المقولات عشرة امر استقرائي أيضاً لا برهاني قطعي. (والنفسانية) کالفرح والحزن والغضب والانبساط وما أشبه. (والمختصة بالکميات) کالمساواة بين کمين، والمساواة مفهوم ينسب اليهما، ومفهوم عرضي - نوع من الکيفيات - ومعروض هذه الکيفية هي الکمية - وصفة للکمية -، فالمساواة کيفية مختصة بالکمية، (و) منها: الکيفيات (الاستعدادية). راجع المحصل للرازي والجزء الرابع من الأسفار، وشرح المنظومة نقرأ في هذا الفصل : 1- من خواص الکيف المحسوس أنه يجعل الغير شبيهة له، کالحرارة والسواد . 2 - الکيف المحسوس ينقسم الي : أ- المبصرات - أو الکيف المبصر - کالألوان والنور. ب- المسموعات - أو الکيف المسموع - کالصوت الذي يحدث من قرع شيء أو قلعه الذي يوجب التموج في الهواء ج - المدونات - أو الکيف المذوق -. د- المشمومات - أو الکيف المشموم - ه الملموسات - أو الکيف الملموس --.

الفصل الثاني عشر : في الکيفيّات المحسوسة

ومن خاصّتها أن فعلها بطريق التشبيه - أي جَعلِ الغير شبيهاً بنفسها کما

تجعل الحرارةُ مجاورَها حارّاً، وکما يلقي السواد مثلاً شبکه - أي مثاله - علي العين. والکيفيّات المحسوسة تنقسم إلي المبصرات، والمسموعات، والمذوقات، والمشمومات، والملموسات.

والمبصرات : منها الألوان، فالمشهور أنها کيفيّاتُ عينيه موجودةُ في خارج الحسّ ؛ وأنّ البسيط منها البياض والسواد، وباقي الألوان حاصلةُ من ترکّبهما أقساماً من الترکيب.

وقيل : «الألوان البسيطة التي هي الأصول خمسةُ: السواد، والبياض،

والحُمرَةُ، والصُفرَةُ، والخُضرَةُ، وباقي الألوان مرکّبُ منها». .

وقيل: «اللون کيفيّةُ خياليَةُ لا وجودَ لها وراء الحش، کالهالة وقوس قزح

ص: 495

وغيرهما، وهي حاصلة من أنواع اختلاط الهواء بالأجسام المُشِفّة أو انعکاس منها»(1)

ومن المبصرات النّور، وهو غنيُّ عن التعريف ، وربّما يُعرَّف بأنه الظاهر بذاته المظهِر لغيره» وينبغي أن يراد به إظهارُهُ الأجسامَ للبصر، ولو أُطلِقَ الإظهار

ص: 496


1- (والمبصرات) علي قسمين : (منها الألوان اختلفوا في الألوان من وجوه اولا : هل الألوان موجودة في الخارج حقيقة أم لا؟ بل هي مجموعة أفعال وانفعالات خارجية تقتضي ايجاد الألوان في ادراکاتنا ومخيلاتنا، هذه النظرية الثانية هي السائدة اليوم عند علماء الفيزياء، والأولي کانت مشهورة لدي القدماء ولهذا قال ( قدس سره): (فالمشهور أنها کيفيات عينية حقيقية موجودة حقيقة (في خارج الحس)، وفي مقابله کان من القدماء من يقول بالنظرية الثانية ولکنها لم تکن عندهم بدرجة الشهرة، ولأصحاب النظريتين کلام طويل مبسوط في بيان نظرهم والاستدلال عليه وهم من علماء الطبيعة والفيزياء، يطلب في علم الفيزياء في محله ، والحاصل أکتفي المؤلف بذکر ما هو مشهور لدي الفلاسفة الطبيعيين من القدماء والمتأخرين ، بوجود هذه الألوان في متن الخارج لکنها قد تظهر إذا انعکس عليها النور، ولا تظهر للعيان - لا تنعکس علي العين - إذا لم ينعکس عليها النور. ثانياً : هل الأنواع والأقسام المتعددة المختلفة من الألوان التي نراها عادة، موجودة بأنواعها المتباينة في متن الخارج، أم ليس بشيء منه موجود في الخارج، أم أن الموجود منها بعضها وإذا کان البعض فأي الالوان هو الموجود حقيقة ؟ أما وجود الکل فلم يقل به أحد وليس عليه دليل ولم يؤيده الوجدان أو التجربّة، وهکذا نفي الوجود عن الکل، فلم يبق إلا الأخير وهو البعض ولقد اختلفوا في هذا البعض ماهو؟ فقيل أنه البياض والسواد وهو مختار المصنف ( قدس سره) حيث قال : (وأن البسيط منها) الذي ليس بمرکب هو (البياض والسواد) واکتفي المصنف قدس سره بذکر أشهر القولين وثانيهما القول بالخمسة. قوله ( قدس سره): (کالهالة) التي تحيط بالبدر، (وقوس قزح) لا وجود لها في الخارج حقيقة لعدم حصولها عندما تکون السماء صافية، فإنها (حاصلة من أنواع) وکيفيات (اختلاط الهواء بالأجسام المشفة) الشفافة، لکن علماء الفيزياء والطبيعة المعاصرين أثنوا بطلان هذه المقولة، وأنها عباره عن انعکاس نور الشمس وانفعالها وتجزئتها عند اصطدامها بالذرات الشفافة من الماء المتصاعدة مع الهواء - أي البخار الذي يتصاعد مع الهواء - وإليه أشار بقوله : أو انعکاس منها) أي من هذه الأجسام المشفة والاجزاء الهوائية.

کان ذلک خاصّة للوجود. وکيف کان، فالمعروف من مذهبهم: «أنّه کيفية مبصرةُ توجد في الأجسام النيّرة بذاتها أو في الجسم الذي يقابل نيّراًمن غير أن ينتقل من النيّر الي المستنير»، ويقابلةَ الظلمة مقابلة العدم للملکة. وقيل : إنّ النّور جوهرُ جسمانيُ». وقيل : «أنّه ظهور اللون»(1)

والمسموعات : هي الأصوات، والصوت کيفيّةُ حاصلةُ من قَرعِ عنيف أو قَلعٍ عنيفٍ مستتبعُ لتموُّج الهواء الحامل للأصوات ، فإذا بلغ التموُّجُ الهواءَ المجاورَ الصماخ الأذُن أحس الصوت. وليس الصوت هو التموج، ولا نفس القَلع والقَرع. وليس الصوت المحسوس خيالآً في الحسّ معدوماً في خارج الحسّ.

ص: 497


1- قوله (قدس سره ): (ولو أطلق الاظهار) في قولهم: «المظهر لغيره»، (کان ذلک) الاظهار المطلق خاصة للوجود) لا يجوز لغيره مطلقاً، لأن الوجود هو المظهر للماهيات دون غيره، ولو أطلقنا الاظهار تساوي النور مع الوجود فکان بمعناه وهو خلاف الفرض ، فوجب کون النور مظهراً لغيره من الاجسام للبصر فقط، فالمعروف من مذهبهم) أي القدماء من علماء الطبيعة : (انّه) أي النور (کيفية مبصرة) أي حسية ( توجد في الأجسام بذاتها) أي النور من الاعراض القائمة بالجواهر (أو) توجد هذه الکيفية وهي - النور - (في الجسم الذي يقابل نيرة) أي موجوداً نيراً (من غير أن ينتقل) النور (من) الجسم (النير) کالشمس مثلاً التي وقع نورها وضوؤها علي جسم مقابل لها، فإن نورها لا ينتقل منها الي الجسم (المستنير) بحيث ينفصل عنها ويصير جزءاً من الجسم المستنير، إذ النور عندهم عرض وانتقال العرض من موضوعه إلي غيره ومن محله الي محل آخر محال، بل الجسم المستنير عند محاذاته ومقابلته للجسم المنير بالذات يصير مستعداً لتلقي مشابه ذلک النور فيه، (ويقابله) مقابل النور (الظلمة) وليست الظلمة اذن من الاعراض وليست من الکيفيات بل مفهوم انتزاعي يحصل من عدم النور فيما يصلح أن يکون نيراً. وهو قول المشائين ، وأما الاشراقيون فقد اختاروا تقابل السلب والايجاب ، وأما المتکلمون فعندهم انّه تقابل التضاد. (وقيل :) قائله بعض الطبيعيين من القدماء (أن النور جوهر جسماني) ينتقل بنفسه وشخصه، وينفصل عن الشمس والجسم المنير - النير بالذات - حقيقة ، وجوهر قائم بذاته وهو قول الفيزيائيين في العصر الحاضر، (وقيل : «انّه ظهور اللون» أي الموجود في الخارج هو اللون، نسمية نوراً عند ظهوره، وليس النور سوي اللون .

والمذوقات : هي الطعوم المدرَکة بالذائقة ، وقد عدّوا بسائطها تسعة، وهي: الحَرافة ، والملاحة، والمرارة، والدسومة، والحلاوة، والتفه، والعفوصة، والقبض ، والحموضة ، وما عدا هذه الطعوم طعومُ مرکّبةُ منها(1)

والمشمومات : أنواع الروائح المحسوسة بالشامة ، وليس لأنواع الروائح التي ندرکها أسماء عندنا نعرفها بها إلّا من جهة إضافتنا لها إلي موضوعاتها، کما نقول: «رائحة المسک» و«رائحة الورد» أو من جهة موافقتها للطبع و مخالفتها له، کما نقول : «رائحة طيّبة» و«رائحة منتنة»، أو من جهة نسبتها إلي الطعم کما تقول : رائحة حلوة» و«رائحة حامضة». وهذا کلّه دليل ضَعفِ الإنسان في شامته، کما

ذکره الشيخ.

والملموسات أنواع الکيفيّات المحسوسة بحسّ اللمس ، وقد عدّوا بسائطها إثني عشر نوعاً هي : الحرارة، والبرودة، والرطوبة، واليبوسة ، واللطافة، والکثافة ، واللزوجة، والهشاشة، والجِفاف، والبِلّة، والثِقل، والخفّة، وقد ألحَقَ بها بعضَهم الخشونة ، والملاسة، والصلابة ، واللين، والمعروف أنّها مرکّبة .

ص: 498


1- (وهي الحرافة) الحرارة التي في الفلفل، (والتقد) وهو الذي نسميه في اللهجة الدارجة الشعبية بالماسح الذي يحتاج الي الملح، فإنه نوع من المذوقات، (والعفوصة) الطعم الذي يؤثر علي اللسان فيقبضه مثل ما يحصل من کثرة أکل التين ، (والقبض) الطعم الذي يؤثر علي نفس الفم فيقبضه مثل الذي يحصل عند أکل الفواکه غير الناضجة. الزيادة التحقيق راجع الجزء الرابع من الاسفار، والجزء الأول من المباحث المشرقية ، منطق الشفاء وطبيعياته ، وحکمة الاشراق وکشف المراد ودرر الفوائد للأملي.

الفصل الثالث عشر : في الکيفيّات المختصة بالکميّات

تقرأ في هذا الفصل :

1- الکيف المختص بالکم علي ثلاثة أقسام بالاستقراء ، الشکل والزاوية ، ما ليس بشکل ولا زاوية ، کالإستدارة والاستقامة للخط والسطح والحجم، والأخير هو الزوجية والفردية والتربّيع والتجذير.

2- الشکل : هو الهيئة الحاصلة للکم من أحاطة حدّ أو حدود عليه ، وهي الاحاطة

التامة.

3- الزاوية : هي الهيئة الحاصلة من احاطة حدين أو حدود متلاقية في حد واحد

بالاحاطة غير التامة.

4- لا يدخل في مفهوم الاستقامة والاستدارة مفهوم قبول الانقسام، فليست الإستقامة

والاستدارة من الکميات - من أقسام الکم -

5- لما کان بقاء الخط المستقيم مع زوال إستقامته أمراً محالاً، فالاستقامة أما فصل له أو

لازم فصله.

6- وبناءاً علي البند السابق فالإستقامة تغاير الاستدارة - والمستقيم يغاير المستدير ،

وهما نوعان متباينان.

7- السطح المستوي أيضا يغاير السطح غير المستوي ويباينه نوعاً .

8- الحجم والمقعر والمحدب من السطوح تباين غير المستوي نوعاً .

- لا تضاد بين المستقيم والمستدير لعدم تعاقبهما علي موضوع واحد، وعدم غاية

الخلاف.

10- ولا تضاد أيضاً بين الخط والسطح، ولا بين السطح والحجم، ولا بين السطوج

والحجوم - الاحجام -

11- لا تشکيک بين المستقيم والمستدير . 12 - الزوجية والفردية لا يقبلان الانقسام بذاتيهما، وهما في الحقيقة صفة الانقسام .

13- الزوجية هي الانقسام بمتساويين، والفردية هي عدم الانقسام بهما، وهکذا التربّيع

والتجذير والتکعيب.

14- لا تضاد بين أحوال العدد لعدم تعاقبها علي موضوع واحد. 10 - لا تشکيک بين الاحوال بالشدة والضعف والزيادة والنقصان.

19- توجد الکيفيات المختصة بالکميات المتصلة في الماديات والمجردات المثالية .

ص: 499

وهي الکيفيّات العارضة للجسم بواسطة کمينه ، فيتّصف بها الکمّ أوّلاً ثمّ

الجسم لکمّيته ، کالإستدارة في الخطّ، والزوجيّة في العدد(1)

وهي ثلاثة أقسام بالاستقراء: (الأوّل) الشکل والزاوية. (الثاني) ما ليس بشکل وزاوية، مثل الاستدارة والاستقامة من الکيفيّات العارضة للخط والسطح والجسم التعليمي. (الثالث) الکيفيّات العارضة للعدد، مثل الزوجيّة والفردّية والتربّيع والتجذير وغير ذلک (2)

والحَقَ بعضُهم بالثلاثة الخلقةَ، ومرادهم بها مجموع اللون والشکل. ويدفعه

ص: 500


1- (وهي الکيفيات العارضة للجسم بواسطة کمّيته) فهي عندهم تعرض الکم وبواسطته تعرض الجسم أي تعرض کم الجسم أوّلاً وبواسطة ذلک تعرض الجسم، فليست عارضة النفس الجسم مباشرة، وهو إشارة ضمنية الي إمکان عروض العرض لعرض آخر، إذ الکم عرض کالکيف ويشترکان في العرضية، وبواسطة العرض الثاني ينسب الي الجوهر. وهو موضع خلاف إذ يعتقد البعض إستحالة عروض العرض لعرض آخر، وإنه لا يعرض إلا للجوهر مباشرة، وإنّما أطلق علي هذه الکيفيات بأنها مختصة بالکم والکميات، لا لما ذکر بل لأن موضوعهما - أي الکيفيات والکميات - واحد هو الجوهر لکنها متلازمة، بأنها لا توجد إلا في الجوهر الذي له کم، ولما کان الجسم متصف بهذه الکميات فإنه يقبل هذه الکيفيات. قوله قدس سره: ( کالاستدراة) أي الانحناء في الخط) فالخط لما کان منحنياً مستديراً کان الجسم المتصف به منحنياً أيضاً بتبعه، (و) مثل (الزوجية في العدد) فإن المتصف بالزوجية هو العدد أولاً وبالذات ، وأما الجسم الذي يعرض له العدد، فإنه يتصف بها بواسطة هذا العدد وبعرضه، بيان ذلک اننا حين نقول : زوج من القلم، فإن الزوجية أولاً صفة لعدد القلم لا للقلم نفسه، ولعدد القلمين لا لهما، وبواسطة هذا العدد المتصف بالزوجية يتصف القلم بالزوجية ايضاً
2- التربّيع والتجذير کيفيتان متضادتان، إذ التربّيع عبارة عن ضربّ العدد اثنين في نفسه ، وعکسه التجذير فإنه عبارة عن تقسيم العدد الي نصفين، فتربّيع العدد إثنين يکون العدد أربّعة ، و تجذير العدد أربّعة هو العدد إثنين .

أنّها ليست لها وحدةُ حقيقيّةُ ذاتُ ماهيّةٍ حقيقيّةٍ ، بل هي من المرکّبات الإعتباريّة ، ولو کانت ذات ماهيّة کان من الواجب أن تندرج تحت الکيفيّات المبصرة والکيفيّات المختصة بالکميّات ، وهما جنسان متباينان، وذلک محالُ(1)

أمّا القسم الأوّل :

فالشکل هيئةُ حاصلةُ للکمُ من إحاطة حدّ أو حدود به إحاطةً تامّةً، کشکل الدائرة التي يحيط بها خطُّ واحد، وشکل المثلّث والمربّع وکثير الأضلاع التي تحيط بها حدُود، والکرة التي يحيط بها سطحُ واحد، والمخروط والأسطوانة والمکعّب التي تحيط بها سطوحُ فوقَ الواحد (2)

ص: 501


1- (وألحق بعضهم) کالمولي صدر المتألهين في الجزء الرابع من الأسفار والفخر الرازي والشيخ ابن سينا و خواجه نصير الدين الطوسي (الخلقة) وهي ترکيب الشکل واللون وبعبارة أخري: (ومرادهم بها مجموع اللون والشکل ) ، ولا يقبل به العلامة (قدس سره) بدعوي أن المجموع المرکب من ماهيتين لا يؤلف ماهية ثالثة مستقلة ، إذ لا يمکن تأليف ماهية من جنسين متباينين کالشکل واللون، بيان ذلک: أن الشکل کيفية مخصوصة بالکمية، وجنس اللون کيفية مبصرة - وکيف مبصر ، ولا توجد ماهية ثالثة من ترکيب جنسين متباينين، نعم (بل هي من المرکبات الاعتبارية) ليس إلا، ولو کانت ذات ماهية مستقلة (کان من الواجب أن تندرج تحت الکيفيات المبصرة) المحسوسة من جهة أن لها لوناً (و) تندرج تحت (الکيفيات المختصة بالکميات من جهة أن لها شکلاً (وهما) أي الکيفيات المبصرة والکيفيات المختصة بالکم (جنسان متباينان، وذلک) أي اندراج ماهية واحدة تحت جنسين متباينين محال).
2- وبعبارة أخري : ان کان الجسم محاطاً بحد تام أو حدود تامة. بحيث تحيط به من جميع الجهات، فإن المفهوم الذي ينتزع منه يسمي مفهوم الشکل، هل هناک جسم ذو حد واحد فقط ، نعم (کشکل الدائرة) والکرة التي يحيط بها خط واحد)، وقد يکون الجسم محاطة بسطحين اثنين کالمخروط الذي له قاعدة وسطح جانبي واحد، فهما حدان تحيطان به ، وقد يکون الجسم محاطاً بحدود ثلاثة کالاسطوانة التي لها قاعدتان وسطح جانبي واحد، وقد يکون محاطاً بستة حدود و سطوح کالمکعب الذي له سطوح ستة، والهرم له أربّعة حدود، قاعدته مثلث وسطح جانبي هذه حدود أربّعة.

والشکل من الکيفيّات لصِدق حدّ الکيف عليه ، وليس هو السطح أو الجسم، ولا الحدود المحيطة به، ولا المجموعَ، بل الهيئة الحاصلة من سطح أو جسم أحاط به حدودّ خاصّةُ(1)

والزاوية هي الهيئة الحاصلة من إحاطة حدّين أو حدود متلاقية في حدُّ إحاطةً غيرَ تامّةٍ ، کالزاويةِ المسطَّحة من إحاطة خطَّين متلاقيَين في نقطةٍ ، والزاويةِ المجسَّمة الحاصلة من إحاطة سطح المخروط المنتهي إلي نقطة الرأس، وزاوية المکعَّب المحيط بها سطوح ثلاثة(2).

والکلام في کون الزاوية کيفاً لا کمّاً ، نظير ما مرّ من الکلام في کون الشکل

من مقولة الکيف (3)

وجوّز الشيخ کون الهيئة الحاصلة من إحاطة السطحين - من المکعَّب مثلاً۔

ص: 502


1- (والشکل من الکيفيات لصدق حد الکيف عليه ،) والکيف تقدم أنه عرض لا يقبل القسمة ولا النسبة ذاتاً ، وعلي سبيل المثال فإن شکل المثلث ومفهوم المثلث لا يقبل القسمة إذ لا يصح أن نقول المثلث مثلاً، مؤلف من عدة مثلثات، ولا نسبة فيه أيضاً فهو من الکيف وليس الشکل (هو السطح أو الجسم) لأن الجسم باق ويبقي رغم تغيير شکله، مثلاً الطين قد يصنع منه شکل مربّع أو مثلث أو اسطوانّه أو دائرة وهکذا، فالطين باق رغم ما حلّ فيه من التغيير، (ولا الحدود المحيطة به) إذ الحد غير المحدود (بل) الشکل هو (الهيئة الحاصلة من سطح) احاطت به حدود خاصة أو حد خاص کالدائرة (أو الجسم) والحجم الذي (أحاط) به حد وسطح واحد خاص کالکرة، أو (حدود) و سطوح (خاصة) کسائر الاشکال .
2- الزاوية المرسومة علي الورق مثلاً أو علي أي شيء آخر تسمي زاوية مسطحة لأن لها بعدين فقط يلتقي فيها خطان في نقطة واحدة، وأما الزاوية المجسمة فهي التي تبحث في الهندسة التجسمية وهي التي تتجسم في المکعب أي زاوية لها ثلاثة أبعاد أي تحيط بها ثلاثة حدود لأنها تحصل من تلاقي ثلاثة أسطح، وهکذا من احاطة سطح المخروط بأن يحيط سطح واحد فتحصل الزاوية، وليس في رأس المخروط غدا سطح واحد قد احاط به، ورغم ذلک تحصل منه زاوية مجسمة.
3- من صدق حد الکيف علي الشکل، وهکذا صدقه علي الزاوية .

المتلاقيَين في خطَّ زاويةً، لانطباق خواصّ الزاوية عليها(1)

وأمّا القسم الثاني :

فالاستقامة في الخطّ ، وتُقابِلُها الاستدارةُ من مقولة الکيف دون الکمّ، وبينهما

تخالفُ نوعيُّ (2)

أمّا أنّهما من مقولة الکيف، فلانّا نعقل مفهومَي الاستقامة والاستدارة ، وهما مفهومان ضروريّان، ولا نجد فيهما معني قبول الانقسام وإن کانا لا يفارقان ذلک وجوداً لعروضهما للکمّ، ولو کان قبولُ الانقسام جزءاً من حدَّيهما أو من أعرَفِ خواصهما لم يخل عنه تعقّلهما(3).

ص: 503


1- (وجوز الشيخ الرئيس في الفصل الثاني من المقالة السادسة من الفن الثاني من منطق الشفاء (کون الهيئة الحاصلة.... الي قوله : زاويةً) و زاويه خبر کان في قوله «کون الهيئة .. الخ» وحاصله: ان الزاوية عبارة عن الهيئة - الحاصلة من السطحين المتلاقيين في خط واحد، خلافاً لما تقدم من کونها الهيئة الحاصلة من سطحين في نقطة واحدة، فالخط الحاصل من تلاقي السطحين يسمي زاوية عند الشيخ قدس سره.
2- تقدم أن الکيفيات المختصة بالکميات علي ثلاثة أقسام، القسم الأول : الکيفيات المختصة بالکميات المتصلة کالشکل والزاوية ، والقسم الثاني : الکيفيات المختصة بالکميات المتصلة غير الشکل والزاوية من سائر الکيفيات وليس لها تسمية معينة بل أحکام وصفات تعرض الکم المتصل، فإن الموضوع يتصف بها، لا أن هناک کمية بالفعل أو تعرض لها هذه الأوصاف أو صفة أخري، إذ هذا المصطلح العرضي أعني والعارض غير العرض والجوهر المعروفين، ومثاله الاستقامة والاستدارة (فالاستقامة في الخط.. الخ). فهما نوعان مختلفان إذا انتفي احدهما انتفي موضوعه بانتفائه، لأن الشيء ينتفي بانتفاء نوعه، ثم يتحقق نوع آخر مکانّه ، والاختلاف في النوع اختلاف ذاتي لأنهما ماهيتان تامتان
3- (وان کانا لا يفارقان ذلک) أي لا يفارقان قبول الإنقسام والنسبة، (وجوداً) ولکن عدم الانفکاک الوجودي لا يدل بالضرورة علي أخذ قبول الانقسام في مفهوم الشيء، فالأجسام لا تخلو من نوع من الأعراض، کالمکان مثلاً إذ لا نکاد نري جسماً خارجياً لا في مکان ، الا أن لزوم کونه في المکان لا يستلزم کون القبول جزءاً من ماهية الجسم، وعدم انفکاکهما في الخارج وجوداً لا يدل علي جزئية القبول للماهية ، وبعبارة أخري : الاستقامة والاستدارة لا ينفکان عن قبول النسبة والقسمة في الخارج - وجود ، لا ماهيةً، ولا يلزم من عدم الانفکاک الوجودي أن يکون الشيء الذي لا ينفک جزءاً من تلک الماهية، کالإنسان الخارجي الموجود الذي لا يخلو من لون، مع أن اللون ليس جزءاً من ماهية الإنسان (العروضهما للکم) ومختصة بالکميات فلا تنفک عنها.

وأمّا کونهما نوعين متخالفَين متباينيَن، فلا نّهما لو کانا نوعاً واحداً کان ما يوجد فيهما من التخالف عَرَضيّاً غيرَ جزءٍ للذات ولا لازماً لها، فکان من الجائز عند العقل أن يزول وَصفُ الاستقامة عن الخطّ المستقيم ويبقي أصلُ الخط ثمّ يوصف بالإستدارة، لکنّ ذلک محالُ، لأنّ الخطًّ نهايةُ السطح کما أنّ السطحَ نهايةُ الجسم، ولا يمکن أن يتغيّر حال النهاية إلّا بعدَ تغيُّر حالِ ذي النهاية، فلو لم يتغيّر حالُ السطح في انبساطِهِ وتمدُّدِهِ لم يتغيّر حالُ الخطّ في استقامتِهِ ، ولو لم يتغيّر حالُ الجسم في انبساطِهِ وتمدُّدِهِ لم يتغيّر حالُ السطح في ذلک، والجسم التعليمي يبطل بذلک ويوجد غيره ، وکذا السطح الذي هو نهايته ، وکذا الخطّ الذي هو نهايته ، فإذا بطل المعروض ووجد معروض آخر بالعدد کان العارض أيضاً کذلک. فإذا امتنع بقاء المستقيم من الخطّ مع زوال استقامته عُلِمَ منه أنّ الاستقامة إمّا فصله أو

لازم فصله ، فالمستقيم يغاير المستدير في نوعيّنه ، وکذا السطح المستوي وغيره،

وأيضاً غيره لما يخالفه، وکذا الأجسام التعليميّة لما يخالفها(1)

ص: 504


1- (ولا يمکن أن يتغير حال النهاية) أي السطح (إلا بعد تغير حال ذي النهاية) وهو الجسم، بحيث ان کان الجسم مکعباً يصير مخروطاًمثلاً أو اسطوانة وما أشبه، ولا تتغير نهاية السطح - التي هي الخط - إلا بعد تغيير السطح نفسه - أي ذي النهاية -، (والجسم التعليمي يبطل بذلک) فاذا تغيرت حدوده کان شيئا آخر ولم يبق علي حاله ، کما لو تغير المکتب فصار مخروطأ، فقد زال المکعب حينئذ ولم يبق له أثر ولهذا (يوجد غيره) يوجد المخروط مکان المکعب مثلا، (وکذا) يبطل (السطح، ويزول، (الذي هو) أي السطح (نهايته) أي نهاية الجسم التعليمي، لما زال المکعب زال وبطل سطحه الجانبي وقاعدته ، (وکذا) يبطل ويزول الخط الذي هو نهايته) أي نهاية السطح، وذلک بزوال السطح وبطلانّه (فإذا بطل المعروض) الذي هو الخط مثلاً، زال وبطل العارض وهو صفة الاستقامة بتبع زوال الخط، إذن فاذا بطل المعروض (ووجد معروض آخر بالعدد) بالعدد قيد للآخر، ومعناه أنه وجد حينئذ معروض آخر يختلف عن المعروض الأول من جهة العدد والوجود الشخصي حيث تکون آخريته بالعدد (کان العارض أيضاً کذلک) فإذا تغير شخصه تغير عارضه ، وعليه يختلف هذا العارض عن ذاک العارض، وليس هذا بذاک، فبطل وانعدم وزال الموضوع (فإذا امتنع بقاء المستقيم.. الخ) إذا تغيرت الفصول تغيرت الأنواع لأنها انواع متفاوتة متباينة (فالمستقيم) نوعاً ( يغاير المستدير) نوعاً (وفي نوعيته) قدم حتي الآن مثالين هما الاستقامة والاستدارة کانتا نوعين من الکيفيات للخط ، عارضان عليه ، لأنه من الکميات المتصلة ، واعلم أن هذا الامر لا يختص بالخط وصفاته ، بل يجري في صفات السطح والجسم التعليمي، إذ السطح ينقسم الي السطح المستوي والسطح المنحني، والسطح المنحني ينقسم الي المقعر کالسطح الداخلي للقدر، والمحدب کالسطح الخارجي للقدر، فإنها تتغاير وتختلف نوعاً وذاتاً - اختلافها نوعي ذاتي -، (وکذا) يجري ما جري في الخط وصفاته من الاستدارة والاستقامة في (السطح المستوي وغيره) أي المنحني، (و) يجري ذلک کلّه (أيضاً) في غيره..... الخ) أي السطح غير المستوي بينها اختلاف نوعي لأنها اما مقعّر أو محدّب، وبين المقعر والمحدب أيضاً اختلاف نوعي، وکل نوع من أنواع غير المستوي يختلف أيضاً مع مخالفه اختلافاً نوعياً ، وهکذا في الجسم التعليمي، فالکرة والمکعب نوعان مختلفان لا أنهما نوع واحد - وجسم تعليمي واحد يتشکل تارة بهذا الصورة وتارة بتلک.

ويتفرّع علي ما تقدّم:

أوّلاً : أن لا تضادَّ بين المستقيم والمستدير، لعَدَم التعاقب علي موضوعٍ واحدٍ ولعَدَم غايةِ الخلاف، وکذا ما بين الخطَّ والسطح، وکذا ما بين السطح والجسم التعليمي، وکذا ما بين السطوع أنفسها وبين الأجسام التعليميّة أنفسها.

وثانياً : أن لا اشتدادَ و تضعُّفَ بين المستقيم والمستدير، إذ من الواجب في التشکيک أن يشمل الشديدُ علي الضعيف وزيادة، وقد تبيّن أنّ المستقيم لا يتضمّن المستديرَ وبالعکس (1)

وأمّا القسم الثالث :

ص: 505


1- لا يقال إذا اشتد الخط المستقيم - مثلاً، صار خطاً مستديراً، أو بالعکس، فلا نسبة بينهما ولا تشکيک بالشدة والضعف ، إذ ليس بين الخط والمنحني نسبة، ولا يشتمل أحدهما علي الآخر، ولا يصح أن نقول مثلاً الخط المستقيم في کونه خطاً ، أشدّ من الخط المنحني، ولا العکس، فلا المستقيم يتضمن المستدير ولا المستدير يتضمن المستقيم

فالزوجيّة والفرديّة العارضتان للعدد، وکذا التربّيع والتجذير والتکعيب وما يناظرها. وهي من الکيفيّات دون الکم، لصدقِ حدّ الکيف عليها، وهو ظاهرُ بالنظر إلي أنّ کلّ مرتبةٍ من مراتب العدد نوعُ منه مستقلُّ في نوعيّنه مباينُ لغيره يشارک سائر المراتب في الإنقسام، وکون الانقسام بمتساويين وعدم کونه کذلک نعتُ للإنقسام غيرُ قابل في نفسه للانقسام وغيرُ نسبيًّ في نفسه ، فليس بکمًّ، ولا بواحدٍ من الأعراض النسبيّة ، فليس شيءُ من الزوجيّة والفرديّة إلّا کيفاً عارضاً للکمّ(1)

ص: 506


1- (وکذا التربّيع) ضربّ الشيء في نفسه يکون مربّع الشيء ومربّع العدد، (والتجذير) الجذر الثاني (والتکعيب) الجذر الثالث (وما يناظرها) کالتخميس والتسديس وسائر صفات الاعداد، فانّها جميعاً (من الکيفيات دون الکم...الخ) وفي قوله قدس سره: ( وکون الانقسام بمتساويين وعدم کونه ...الخ) دفع دخل مقدر، إذ لعل أحداً يتوهم أن مفهوم الزوجية عبارة عن قبول القسمة، وقبول القسمة جزء من مفهوم الزوجية، ولازم ذلک کونها من الکميات لا الکيفيات ، ولهذا نقول نعم اصل الانقسام وقبوله يوجد في جميع الکميات ، وکل عدد فإنه من جهة انّه عدو، لا ينفک عن قبول النسبة، ولکن حين نقول الزوج هو العدد الذي يقبل الانقسام الي متساويين أو بمتساويين، فانا لا نعني به انقسام الزوجية، بل المراد هو أن العدد يقبل الانقسام بذلک ، وأن قبول الانقسام للعدد ومن صفاته لا للزوجية ، مثلا العدد أربّعة زوج قابل للقسمة إلي اثنين واثنين، و تقسيمها إلي ذلک لا يعني ان زوجية الأربّعة - وصفة الزوجية للأربّعة - هي التي انقسمت إلي نصفين متساويين، بل العدد نفسه انقسم اليهما، وبعد ما کان العدد ذا وحدات أربّع ، صار الآن - بعد التقسيم - لکل واحد من الجزئين والقسمين الثنائيين وحدتان ثنتان، ويطلق علي کل من العددين - اثنين واثنين- صفة الزوجية، فصفة الزوجية للعدد لا للزوجية التي هي صفة العدد وهي مفهوم بسيط اذ ليس زوجية العشرة مثلا ضعفي زوجية الأربّعة، أو خمسة أضعاف زوجية الاثنين، بل الزوجية في العدد الکبير وانقساماته الصغيرة واحدة لا تقبل الشدة والضعف. اذن وکون الانقسام بمتساويين) کما تقدم مفصلاً (وعدم کونه) أي الانقسام (کذلک) أي بمتساويين، هذا الکون وعدم الکون (نعت للانقسام) نفسه ، فيکون کل قسم مساوياً للقسم الآخر، وعدم کونه مساوياً له، هذه الصفة ليست إنقساماً بذاتها بل صفة للانقسام، واما الکمية فانّها عين قبول الانقسام، وأما کونه منقسماً بمتساو بين أولا، حيث يکون زوجاً علي الأول وفردا علي الثاني ، فهذا نعت للانقسام، والانقسام بنفسه (غير قابل في نفسه للإنقسام) لا يمکن تقسيم صفة الزوجية، إذ الزوجية في الاربّعة ليست ضعف الزوجية في الاثنين - مثلاً -، فالزوجية والفردية ليستا کماً ولا کميتين، بل صفتان للکم والکميات ، (و) کون الإنقسام بمتساويين وعدم کونه کذلک (غير نسبي في نفسه لا توجد نسبية في ماهيتها، فخرجت المقولات السبع ، (فليس بکم ولا بواحد.. الخ).

ونظير البيان يجري في سائر أحوال الأعداد من التربّيع والتجذير وغير ذلک .

وبالتأمّل فيما تقدّم يظهر :

أوّلاً : أن لا تضادُّ بين هذه الأحوال العدديّة، إذ لا موضوعَ مشترکاً بين

الزوجيّة والفرديّة تتعاقبان عليه علي ما هو شرط التضادّ.

وثانياً: أن لا تشکيکَ بالشدّة والضعف، ولا بالزيادة والنقيصة في هذه الأحوال العددّية . فکما لا يتبدل تقوّسُ واستدارةُ إلي تقوّس وإستدارةٍ أُخري إلّا مع بطلان موضوعه و وجود موضوعٍ آخر غيره بالعدد، کذلک لا تتبدّل زوجيّة - مثلاً - إلي زوجة زوج الزوج إلا مع بطلان موضوعه الذي هو المعدود و وجود موضوع آخر غيره بالعدد. وفي ذلک بطلا الزوجية التي هي عَرَضُ ووجودُ زوجيّةٍ أخري بالعدد، وليس ذلک من التشکيک في شيءٍ(1)

ص: 507


1- (فکما لا يتبدل تقوس واستدارة..الخ) وقد تقدم في هذا الفصل أن القوس لا يحصل إلا بعد تغير السطح، ولا يتغير السطح إلا بعد تغير الحجم، وعند تغير الحجم وزواله ، يزول السطح المختص بذلک الحجم، وإذا زال السطح زال خطه، وبزوال حجمه - الخارجي - يزول موضوع الاستدارة الجديدة، فليست هذه المرتبة من الاستدارة أشد من تلک المرتبة (کذلک لا تتبدّل زوجية ...الخ) مثلا العدد إثنين الموصوف بالزوجية، لو أردنا تغيير هذه الزوجية ، وتحقيق زوجية اخري محلها - کزوجية الأربّعة مثلاً، فان هذا التغيير لا يحصل إلا بعد تغيير العدد اثنين -، واذا صار الاثنان أربّعة، لم تکن زوجية الإثنين هي التي انقلبت الي زوجية الأربّعة، وأنما العدد اثنان انقلب الي العدد أربّعة، وبعد زوال العدد اثنين حلّ محله العدد أربّعة وحصلنا علي زوجية جديدة ليست هي نفس زوجية الأربّعة وليست هذه من قبيل الشدة والضعف ، الإثنان زوج والأربّعة زوج الزوج، (ولا تتبدل زوجية) الزوج (- مثلاً - الي زوجية زوج الزوج إلا مع بطلان موضوعه وهو المعدود (ووجود موضوع آخر غيره بالعدد) والمحقق يکون مغايراً للموضوع الأول بالعدد والشخص (وفي ذلک بطلان الزوجية.... الخ) أي إذا کان المحقق مغايراً للموضوع الأول، لزم کون الزوجية الأولي أيضاً باطلة زائلة بزوال موضوعها وموصوفها ومعروضها، وليس ذلک من التشکيک في شيء) إذ التشکيک هو بقاء الموضوع بعينه بإضافة وزيادة شيء عليه کالنور والأنور، والسواد والأشد سواداً . راجع الجزء الرابع من الأسفار، والمباحث المشرقية ، وشوارق الالهام، وشرح التجريد للقوشجي، ومنطق الشفاء.

وثالثاً : يعلم - بالتذکّر لما تقدّم - أنّ الکيفيّات المختصّة بالکميّات توجد في

المادّيّات والمجرّدات المثاليّة جميعاً بناءً علي تجرُّد المثال .

ص: 508

الفصل الرابع عشر : في الکيفيات الاستعداديّة

وتسمّي أيضاً القوّة واللاقوة

والمعني الجامع بينها الذي هو بمنزلة النوع من مطلق الکيف وبمنزلة الجنس لأنواعها الخاصّة بها - أنّها استعدادُ شديدُ جسمانيُّ نحو أمرٍ خارجٍ بمعني أنّه الذي يترجّح به حدوثُ أمرٍ من خارج

ولها نوعان: (أحدهما) الاستعداد الشديد علي أن ينفعل ، کالممراضيّة

واللين. و(الثاني) الاستعداد الشديد علي أن لا ينفعل ، کالمصحاحيّة والصلابة.

وألحَقَ بعضهم بالنوعين نوعاً ثالثاً ، وهو الاستعداد الشّديد نحوَ الفعل،

نقرأ في هذا الفصل :

1- الکيف الاستعدادي ، هو الاستعداد الجسماني الشديد لأمر خارجي، وينقسم الي

نوعين هما : أن ينفعل وأن لا ينفعل.

2 - القدرة علي الفعل ليس من نوع الکيف الاستعدادي، إذ کل طبيعة تأتي بأفعلها من تلقاء نفسها، من غير حاجة إلي قوة زائدة علي ذاتها، وعلي فرض اضافة قوة الي الذات، فإن تلک الذات قابلة لها لا فاعلة لها، ولو کانت الذات والقوة طبيعة ثالثة - جديدة - معاً، فإن هذه الطبيعة ستأتي بفعلها - وأفعالها تلقائياً وطبيعياً، من غير حاجة الي قوة زائدة عليها أيضاً.

3- ولو فرضنا وجود استعداد للفاعلية، فإن هذا الاستعداد هو في الحقيقة استعداد

الانفعال للفاعلية، وانما يسمي إستعداد الفاعليه بالعرض لا بالذات.

4- وقد اعتبر بعضهم الاستعداد إضافة، وعده بعضهم کيفاً ذات إضافة کالقدرة والارادة

والعلم

ص: 509

کالمصارعيّة(1)

ص: 510


1- يعتقد الفلاسفة أنه ما من فعلية تتحقق في هذا العالم، إلا وهي صادرة من أمر مجرد يسمي عقلاً فعالاً، مثلاً انا نجد أن الصورة النباتية الخاصة تتحقق في مادة خاصة، والصورة الحيوانية الخاصة تتحقق في مادة خاصة أيضاً غير التي تحققت فيها الصورة النباتية، ولابد من صدور هذه الصور جميعاً من أمر مجرد و موجود مفارق يسمي واهب الصور، ثم أنا نسأل کيف تحصل هذه الصورة بهذه الکيفية الخاصة في هذا الزمان الخاص والمکان الخاص ؟! لا يخرج من نطفة الانسان مثلاً، إلّا الانسان ولا من نطفة الفرس سوي الفرس، ولا ينعکس الأمر قط، فلا يوجد مثال واحد علي مر القرون والأعصار انعکست فيه الصورة في تحققها، فما هو المرجح الذي يحقق هذه الصورة لهذه المادة دون غيرها؟ ذهب المتکلمون الي أن الأمر بيد الله تبارک وتعالي وبمشيئته وارادته واختياره وليس لغيره دخل قط البته، وأنه تعالي ، فاعل مختار، وباختياره يتم الترجيح وليس وراء اختياره شيء، ولو شاء أن يهب الصخرة صورة إنسانية فلا مانع ولا محذور من ذلک. بينما ذهب الفلاسفة الي أبعد من ذلک وأدق من هذا المذهب الکلامي، فاختاروا واعتقدوا بوجود نظام تکويني خاص تتعلق به ارادة الواجب جل وعلا فتجعله کذا أو کذا ، وليس الأمر جزافاً ، ولا تتعلق إرادته تعالي بالشيء جزافاً ومن غير سبب واقتضاء وارتفاع الموانع وحصول الشرائط الملائمة لوجوده وايجاده، وهذا الذي تتعلق به إرادة الواجب عزوجل لتحقق لمادة صورة خاصة، هو الاستعداد الخاص الحاصل لتلک المادة، هذا بالنسبة الي لزوم وجود موجود مجرد يفي بالغرض، بل هناک أيضاً عوامل طبيعية وأسباب مادية لها دخل مباشر في تعيين هذه الصورة الخاصة دون غيرها، فتوجد بين الوجود المجرد وتحقق الظواهر والصور ، مجموعة أسباب وعوامل مادية تقع واسطة للفيض والتحقق ، ولهذا توصل الفلاسفة الي ضرورة وجود عامل خاص في الشيء ذاته يکون سبباً في ترجيح ظاهرة وصورة خاصة علي غيرها و تعيينها من بين الصور المختلفة الکثيرة، وهو الاستعداد الخاص الموجود في بعض الاجسام و المسمّي باللين ، وأما الاستعداد الخاص الذي لا يسهل تقبل الأشياء ويقاوم العوامل الخارجية فهو المسمّي بالصعب ، هذان نوعان من الکيفيات قد أجمع عليهما الفلاسفة وهما الاستعداد الشديد للانفعال والتأثر، والاستعداد الشديد للمقاومة وعدم الانفعال والتأثر. فهل هناک قسم ثالث يکون استعداداً شديداً للفعل والفاعلية والتأثر؟ عدا القسمين السابقين اللذين کانا استعدادا شديداً الانفعال ؟ فالقسمان الأولان اختصا باللاانفعال والانفعال، والقسم الثالث يختص بالفعل بناءاً علي ثبوته زعم بعض الفلاسفة وجود هذا القسم الثالث، وقد ناقشهم فيه المرحوم ابن سينا والمرحوم صدر المتألهين بتبع ابن سينا، وفندا ادلتهم ببراهين ساطعة . قوله قدس سره: ( کالممراضية) وهي کيفية تقتضي سهولة قبول الأمراض أو المرض، ويقابله في المعني لفظ المصحاحية التي هي کيفية تقتضي صعوبة قبول المرض. وألحق بعضهم، وهم المشهور کما في الجزء الرابع من الاسفار. (کالمصارعية) التي هي استعداد شديد خاص في هذا الشخص المصارع - مثلاً -، للغلبة علي الخصم، فإن الاستعداد للغلبة علي الخصم فعل، يوجد في المصارع استعداد هذا الفعل وهو المصارعية لکي يصرع الخصم ويتغلب عليه ، فهو نوع من الاستعداد الشديد.

وردّه الشيخ وتبعه صدر المتألّهين ، قال في الأسفار : «إنّه لا خلافَ في أنّ القوة علي الإنفعال والقوّة علي المقاومة داخلنان تحت هذا النوع. وأمّا أنّ القوّة علي الفعل هل هي داخلة تحت هذا النوع؟ فالمشهور أنّها منه والشيخ أخرجها منه ، وهو الحق، کما سيظهر لک وجهه . فإذا أُريد تلخيص معنيً جامعٍ للقسمين دون الأمر الثالث، فيقال : إنّه کيفيّةُ بها يترجّح أحد جانِبي القبول واللاقبول لقابلها.

وأمّا بيان أنّ القوّة علي الفعل لا تصلح أن تکون داخلةً تحت هذا النوع - کما

ذهب اليه الشيخ - فيحتاج أوّلاً إلي أن نعرف أصلاً کليّاً، وهو: أنّ جهات الفعل دائماً تکون من لوازم الذات، لأنّ کلّ ذات لها حقيقة ، فلها اقتضاءُ أثرٍ إذا خُلّيَت وطَبعها ولم يکن مانعُ تفعل ذلک الأثر، فلا تحتاج في فعلها إلي قوّةٍ زائدةٍ عليها ، وإذا فرض إضافةُ قوّةٍأخرئ لها لم تکن تلک الذات بالقياس إليها فاعلةً لها بل قابلة إيّاها، وإذا اعتبرت الذات والقوّة معاً کان المجموع شيئاً آخر، إن کان له فعلُ کان فعلُهُ لازماً من غير تراخي استعداد له لحصول ذلک الفعل ؛ ولو فرض ذلک الاستعداد للفاعليّةِ له کان يلزمه أوّلاً قوّة إنفعالية لحصول ما يتمّ به کونه فاعلاً، فذلک الاستعداد المفروض لم يکن بالحقيقة لفاعلينه، بل لانفعاله، فليس للفاعلية استعداد، بل للمنفعليّة أولاً وبالذات وللفاعليّة بالعرض(1)

ص: 511


1- قوله قدس سره: (فيحتاج أولا إلي أن نعرف أصلاً کلياً) بعد مقدمة لما نرمي اليه من عدم کون القوة علي الفعل داخلة تحت هذا النوع، بيان هذه المقدمة (وهو :) أي الأصل الکلي هو (أن جهات الفعل أي شأن الفاعلية والشؤون الفاعلية - شؤون الفاعلية - (دائماً تکون من لوازم الذاتٍ) بالنسبة الي الفاعل - من لوازم ذات الفاعل -، (لأن کل ذاتي) فرضناها فإن (لها حقيقة) ذات لوازم (فلها) أي لتلک الذات الفاعلية (اقتضاء أثر اذا خُليّت) تلک الذات (وطبعها، ولم يکن مانع تفعل) تلک الذات الفاعلية (ذلک الأثر) الذي هو مقتضي ذاتها وطبيعتها، (فلا تحتاج) تلک الذات الفاعلية ذات الفاعل - (في فعلها الي قوة زائدة عليها) ففرض کون ذات الفاعل مقتضية لهذا الفعل والأثر، يساوي عدم الحاجة في أداء ذلک الفعل الي قوة زائدة علي ذات الفاعل ولا استعداد کذلک، (وإذا فرض اضافة قوة) وذات (أخري لها) أي لتلک الذات المفروضة (لم تکن تلک الذات بالقياس إليها) أي إلي هذه الذات الأولي (فاعلة لها) أي لهذه الذات، فما هي نسبة الفاعل - وذات الفاعل - الي هذه القوّة ؟ انّها عبارة عن الانفعال لا الايجاد والفعل (بل قابلة إياها) منفعلة بها، فالذات الفاعلية قابلة لتلک القوة منفعلة بها، (وإذا اعتبرت الذات والقوة معاً) لتکونا فاعلاً فاعلة - لتلک الذات معاً (کان المجموع شيئاً آخر) لا تلک الذات الخالية من القوة فالفاعل في الحقيقة عبارة عن مجموعهما لا الذات وحدها أو الفاعل هو القوة المضافة والذات موضوع لها، وعلي کل حال فالفاعل هو المجموع ولا يحتاج الي الاستعداد لأن خاصية هذا المجموع هو التأثير والمؤثر (ان کان له) أي لهذا المجموع الذي صار شيئاً آخر (فعل کان فعله لازماً) وصدور الفعل من المجموع لازم حينئذ من غير تراخي) و تدريج (استعداد له) بحيث يحصل له الاستعداد تدريجاً ، کلا بل بمجرد رفع الموانع يصدر منه الفعل، بناءاً علي قبول کون الفاعل هو المجموع، الحصول ذلک الفعل، ولو فرض ذلک الاستعداد للفاعلية له) واحتياجه الي استعداد للفاعلية، لو فرضنا ذلک کان يلزمه) أي ذات الفاعل (أولاً) أن تکون له (قوة انفعالية لحصول ما يتم به کونه فاعلاً) أي لحصول متمم فاعلية الفاعل، لو فرضنا أن الفاعل عبارة عن ذات الانسان باضافة العلم، الزم کون النفس مستعدة للعلم - وذات استعداد له - ونسبتها إلي العلم الحاصل لها نسبة الانفعال، أي تقبل العلم - مثلاً - (فذلک الاستعداد المفروض لم يکن بالحقيقة لفاعليته) هذا الاستعداد الذي عنده لقبول هذا العرض أو الصورة، ليس لفاعليته (بل لانفعاله) أي لقبول هذه الکيفية الانفعالية وليس لکونه فاعلاً (فليس للفاعلية استعداد) لأن القوة لما حدثت وتحققت يصير المجموع فاعلا والفاعلية لاتحتاج الي الاستعداد، (بل) هذا الاستعداد اللمنفعلية أولا وبالذات........الخ)، نعم بما أنه کان واسطة ليکون فاعلاً فان ذاک الاستعداد الذي کان للانفعال اولاًوبالذات ، يمکن أن ينسب اليه بأنه استعداد للفاعلية لا غير ، فالنفس في المثال السابق لها استعداد قبول العلم، فاذا وقع منها قبول العلم، تحت فاعليتها ولا حاجة إلي الاستعداد للفاعلية.

ص: 512

فثبت مما بيّنا بالبرهان أنّ لا قوة ولا استعداد بالذات لکون الشيء فاعلاً، بل انما القوّة والاستعداد للإنفعال ولصيرورة الشيء قابلاً لشيء بعد أن لم يکن . انتهي .

وأمّا نفس الاستعداد ، فقد قيل : «إنّها من المضاف ، إذ لا يعقل إلّا بين شيئين مستعد و مستعد له ، فلا يکون نوعاً من الکيف» ويظهر من بعضهم أنّه کيفُ يلزمه إضافة ، کالعلم الذي هو من الکيفيات النفسانيّة وتلزمه الإضافة بين موضوعه و متعلّقه - أعني العالم والمعلوم- وکالقدرة والإرادة(1)

ص: 513


1- (وأما نفس) لفظ (الاستعداد) ومفهومه، الذي ورد في التعريف وعدّ جنساً في التعريف لهذه الکيفيات، هو الاستعداد الخاص وليس مطلق الاستعداد کيفاً استعدادياً، وأما نفس الاستعداد مطلقاً من غير تقييد بشيء (فقد قيل: «إنها من المضاف) اي ان الاستعداد مفهوم اضافي، اضافة بين المتعة والمستعدّ له، کالاخوة والابوة بين الاخوين وبين الأب وابنه ، والنسبة بين ذات المستعدّ وذات المستعدّ له مفهوم اضافي يسمي الاستعداد، (فلا يکون) الاستعداد (نوعاً من الکيف) لأنه کما تقدم لا يقبل القسمة ولا النسبة، بينما الاستعداد هو النسبة بعينها. (ويظهر من بعضهم )من خلال أقوالهم (أنه) أي الاستعداد (کيف يلزمه اضافة) کيفية ذات اضافة أو کيف ذا اضافة ، (کالعلم الذي هو من الکيفيات النفسانية.. الخ). للزيادة والتحقيق راجع الجزء الرابع من الأسفار والمباحث المشرقية منطق الشفاء والهيات الشفاء.

ص: 514

الفصل الخامس عشر : في الکيفيّات النفسانيّة

نقرأ في هذا الفصل :

1- الکيف النفساني الراسخ في النفس يسمي ملکة، وغير الراسخ منه يسمي حالا. 2 - الکيف النفساني الراسخ - الملکة - وغير الراسخ - الحال، مغايران نوعأ ووجود. 3- الإرادة والکراهة مغايرتان للشهوة والنفرة ، کما ان الارادة تختلف عن الشوق الأکيد.

4- فمباديء الفعل الارادي فينا هي العلم والشوق والارادة والقوة العاملة المحرکة،

والحيوان کالانسان في أفعاله الارادية.

5- ان المبدأ الفاعلي لأفعال الانسان الارادية بما أنها کمالاتها الثانية هو الانسان بما أنه

فاعل علمي، والعلم متمم لفاعليته.

6- النفس نتصور کما، ثم تصدق بکماليته ، ثم بعد الصورة العلمية الحاصلة للنفس يحصل الشوق، ومن بعد الشوق تحصل الارادة ، ثم تقوم القوة العاملة باداء الفعل وانيان العمل.

7- حتي الفعل الجبري الذي لا مدخلية للعلم فيه، يعد فعلاً ارادياً، لأن الارادة من لوازم

العلم.

8- القدرة حالة في الحيوان، يستطيع بواسطتها الاتيان بالأفعال متي ما شاء، وترک الفعل

متي ما شاء، ويقابلها العجز

9- المراد هنا من العلم هو العلم الحصولي القائم بالنفس.

10 - العلم الحضوري هو عبارة عن وجود المعلوم عند العالم، والوجود ليس جوهرة ولا

عرض.

11- قد يقال : اذا کان العالم بالعلم الحضوري واجبا، فهو ليس بجوهراً ولا عرض.

12- وان کان العالم بالعلم الحضوري جوهر نفس أو جوهر عقل، اتحد معه العلم،

فالعلم الحضوري يصير جوهراً أيضاً.

13 - العلوم الحصولية موجودة عند المفارقات - حاضرة عندها لأنها من معاليل

المفارقات.

14- علمنا بالمعلوم بالذات حضوري.

ص: 515

الکيفيّة النفسانيّة، وهي - کما قال الشيخ : ما لا يتعلّق بالأجسام علي الجملة ، إن لم تکن راسخسميت «حالاً» وإن کانت راسخةً؛ سمّيت «ملکةً» ؛ وإذ کانت النسبة بين الحال والملکة نسبةَ الضَعف والشدّة وهم يعدّون المرتبتيَن من الضَعف والشدّة نوعين مختلفين ، کان لازُمُه عَدَّ الحال مغايراً للملکة نوعاً

ووجوداً (1)

10 - الخُلق ملکة نفسانية تصدر منها أفعال مناسبة بکل سهولة ومن غير تأمل .

16 - أُصول الأخلاق ثلاثة بناء علي القوي الثلاث هي الشهرية والغضبية والعقل .

17- ملکة الشهوة لها حدود ثلاثة : حدّ الافراط و يسمي شرهاً، وحدّ الاعتدال ويُسمّي

عفّة، وحدّ التفريط ويسمي خموداً.

18 - الحدود الثلاثة - أعني الافراط والعفة والتفريط لملکة الغضب هي: التهور

والشجاعة والجبن.

19 - الحدود الثلاثة في ملکة العقل - والملکة العقلانية - هي : الجربّزة والحکمة والغباوة.

20 - الهيئة الحاصلة من مجموع الملکات في حدودها الثلاثة هي: الظلم والعدالة

والانظلام.

21- لا خُلق في المفارقات، لأنها لا تملک عقلاً عملياً، ولا استکمالاً ارادياً 22 - اللذة عبارة عن إدراک الملائم، والالم عبارة عن إدراک المنافر.

23 - اللذة والألم أما حسيان أو عقليان أو خياليان.

24 - اللذة وجودية والالم عدمي، وتقابلهما تقابل الملکة والعدم، وليس التقابل بينهما

بالتضاد، والا لزم وجود الآخر عند عدم أحدهما.

25- لا يقال الألم شر وأمر عدمي، ومن جهة فإنه ادراک ، ولا يکون الإدراک الا وجودياً . لأنا نقول : الالم من حيث کونه شراً وعدمياً، فإنه عدمي حتي عند حضوره في

الذهن، وأما حيئية وجوده الادراکي فأمر آخر.

ص: 516


1- (الکيفية النفسانية : وهي - کما قال الشيخ الرئيس في منطق الشفاء (مالا يتعلق بالاجسام) من الکيفيات، خلافا للأقسام الثلاثة التي تقدمت في الفصل السابق وکانت تتعلق بالجسم. وإذ کانت النسبة بين الحال والملکة نسبة الضعف والشدة..الخ) بيان ذلک : کما أن الدرجة الوجودية للحال تتفاوت مع الدرجة الوجودية للملکة - لأن وجود الحال أضعف من وجود الملکة -، فإن الماهية النوعية للحال أيضأ مغايرة للماهية النوعية للملکة.

والکيفيّات النفسانيّة کثيرةُ، وإنّما أوردوا منها في هذا الباب بعض ما يهمّ

البحث عنه

فمنها : الإرادة ، قال في الأسفار : «يشبه أن يکون معناها واضحاً عند العقل غيرَ ملتبسٍ بغيرها، إلّا أنّه يعسر التعبير عنها بما يفيد تصوّرها بالحقيقة. وهي تُغايِرُ الشهوةَ، کما أنّ مقابلها - وهو الکراهة - يغايِرُ النفرةَ؛ ولذا قد يريد الإنسان ما لا بيشتهيه کشربّ دواءٍ کريهٍ ينفعه، وقد يشتهي ما لا يريده کأکل طعامٍ الذيذٍ يضرّه» ، إنتهي.

وبمثلِ البيان يظهر أنّ الإرادة غيرُ الشوق المؤکَّد الذي عرّفها به بعضهم .

وملخَّص القول الذي يظهر به أمرُ الإرادة التي يتوقّف عليها فعلُ الفاعل المختار - هو: أنّ مقتضي الأصول العقلية أنّ کلَّ نوع من الأنواع الجوهريّة مبدأ فاعليُّ للأفعال التي يُنسب إليه صدورها، وهي کمالات ثانية للنوع، فالنفس الإنسانيّة - التي هي صورة جوهريّة مجرّدة متعلّقةُ الفعل بالمادّة - علّةُ فاعليّةُ للأفعال الصادرة عن الإنسان لکنّها مبدأ علميُّ لا يصدر عنها إلّا ما ميّزته من کمالاًلها الثانية من غيره، ولذا تحتاج قبل الفعل إلي تصوّر الفعل والتصديق بکونه کمالاً لها ، فإن کان التصديق ضروريّاً أو ملکةً راسخةً، قضَت بکون الفعل کمالاً ولم تأخذ بالتروّي ، کالمتکلّم الذي يتلفّظ بالحرف بعد الحرف من غير تروًّ، ولو تروّي في بعضها لتبلَّدَ وتلکّأ وانقطع عن الکلام، وإن لم يکن ضروريّاً مقضيّاً به تو سّلت إلي التروّي والفحص عن المرجّحات، فإن ظفرَت بما يقضي بکون الفعل کمالاً قضَت به . ثمّ يتبع هذه الصورة العلميّة علي ما قبل - الشوق إلي الفعل لما أنّه کمالُ ثانٍ معلولٍ لها، ثمّ تتبع الشوقَ الإرادةُ، وهي - وإن کانت لا تعبيرَ عنها يفيد تصوُّرَ حقيقتها لکن - يشهد لوجودها بعد الشوق ما نجده ممن يريد الفعلَ وهو عاجزُ عنه ولا يعلم بعجزه، فلا يستطيع الفعل وقد أراده ، ثمّ تتبع الإرادةَ القوّةُ العاملة المحرّکة

ص: 517

للعضلات، فتحرّک العضلات، وهو الفعل(1)

ص: 518


1- (وملخص القول..الخ) أن للفعل الإرادي مباديء أربّعة ، مبدءان علميان، ومبدءان غير علميين، فاما العلميان فهما التصور والتصديق، واما غير العلميين فهما الارادة وتحريک العضلات نحو الفعل، بعد تحقق هذه المباديء يمکن صدور الفعل الإرادي من الانسان، کالأکل والشربّ والنوم وما أشبه ، والمبدأ الثالث هو الإرادة التي تتبع الشوق، بيان ذلک : أنا بعد تصور فعل والتصديق بأن فيه کما لاًلنا، فإن کان التصديق بذلک الکمال ضرورية لنا موجوداً راسخاً في أنفسنا، کانت مباديء الإرادة ضرورية للنفس، کالتصديق البديهي بالخوف والخطر ولزوم الهروب عند مواجهة حيوان مفترس، فإن مباديء إرادة الهروب موجودة في النفس بالضرورة، وان کان العکس أي کان التصديق بذلک الکمال نظرية لا يحصل إلا بإعمال الفکر والنظر، لم تکن مباديء الارادة ضرورياً عند النفس. فالفواعل غير العلمية لا تحتاج في صدور الفعل منها الي تصور و تصديق وارادة وشوق وما اشبه، واما الفواعل العلمية لابد أن تعرف أفعالها أولا، أي تعرف أن هذا الفعل يقع في مسير کمالها وتکاملها - والکمال هنا عبارة عن کل أمر وجودي من شأنه أن يوجد لهذا الفاعل - فتتصور أفعالها ثم تصدق بها، ثم يحصل شوق في النفس نحو هذا الکمال - والفعل -، وليس الشوق أمراً اختيارياً بل يحصل للفاعل بمجرد تصديقه بکون الفعل کما له ، إذن لا يحتاج الشوق الي إرادة لحصوله، کما لا يحتاج الي شوق آخر أيضاً، کأن يشتاق - مثلاً - للشوق إلي الفعل ، ثم تحصل الإرادة لدي الفاعل لإنجاز الفعل ، ثم تتفاعل وتنفعل قواه العاملة بتحريک عضلاته وجوارحه نحو القيام بالفعل، ويصدر منه الفعل. واعلم أن هذا کله يختص بالفاعل المختار ذو النفس الإنسانية لا مطلق الفواعل، بل من الفواعل ما لا يحتاج الي طيّ هذه المراحل أصلاً لانجاز أفعاله، کما في الواجب تعالي والمجردات. (هو: أن مقتضي الأصول العقلية) الثابتة من قبيل قانون العليه والمعلولية، وضرورة تقدم العلة علي معلولها، وقانون السببية والمسببية وما شابهها : (أن کل نوع من الأنواع) والحق ان بعض الأنواع (الجوهرية) لا کلها لاختصاص ذلک بالأنواع المادية المرتبطة بالمادة کالأنواع الجسمانية أو النفسانية المتعلقة بالمادة، والا فالمجردات التامة أيضاً أنواع جوهرية ليست أفعالها کمالات ثانية لها، (مبدأ فاعلي للأفعال التي ينسب اليه... الخ). قوله قدس سره : (وهي) أي الارادة (وان کانت لا تعبير عنها) بحد أو رسم و تعريف ( يفيد تصور حقيقتها) و معرفة ذاتها الکن- يشهد لوجودها) أي الإرادة (بعد الشوق ما نجده ممن يريد الفعل وهو عاجز عنه) أن الارادة غير الشوق لوجودها بعد الشوق، وأنها غير الفعل لأن الإنسان قد يريد فعلاً وهو عاجز عنه (ولا يعلم بعجزه عنه (فلا يستطيع إنيان (الفعل، وقد أراده) ولو کان الفعل عين الإرادة لما حجز شيء صدور الفعل حال حصول الإرادة، بل وقع الفعل بمجرد الارادة النفسية، وهو ليس کذلک ، وثمة دليل آخر علي عدم کون الإرادة هي الفعل بعينه هو قوله قدس سره: (ثم تتبع الارادة القوة العاملة.. الخ).

فمباديء الفعل الإراديّ فينا هي العلم والشوق والإرادة والقوّة العاملة المحرّکة. هذا ما نجده من أنفسنا في أفعالنا الإراديّة. وإمعان النظر في حال سائر الحيوان يعطي أنّها کالإنسان في أفعالها الإراديّة.

فظهر بذلک :

أوّلًا: أنّ المبدأ الفاعليّ لأفعال الإنسان الإرادية بما أنّها کمالاتها الثانية هو الإنسان بما أنّه فاعلُ علميُّ، والعلم متمّم لفاعليّته، يتمّيز به الکمال من غيره، ويتبعه الشوقُ من غير توقّفٍ علي شوقٍ آخر أو إرادة ، وتتبعه الإرادةُ بالضرورة من غير توقف علي إرادة أخري وإلا لتسلسلت الإرادات. فقد الإرادة علّةً فاعليّةً للفعل في غير محلّه. وإنّما الإرادة والشوق الذي قبلها من لوازم العلم المتمم لفاعليّة الفاعل (1)

وثانياً : أنّ أفعال الإنسان - ممّا للعلم دخلُ في صدوره لا تخلو من إرادة الفاعل حتّي الفعل الجبريّ، وسيأتي في البحث عن أقسام الفاعل ما ينفع في المقام (2)

وثالثاً : أنّ الملاک في اختياريّة الفعل تَساوي نسبة الإنسان إلي الفعل والترک ،

وإن کان بالنظر إليه- وهو تامُّ الفاعليّة - ضروريَّ الفعل (3)

ص: 519


1- إذن ثبت أن العلم متمم لفاعلية الفاعل - الانسان - (فعة الارادة علة فاعلية للفعل) کما يستفاد من قول ابن سينا في التعليقات، (في غير محله).
2- (وثانياً: أن افعال الانسان) الاختيارية (- مما للعلم دخل في صدوره - ) کالتي تقدم الحديث عنها المحتاجة الي تصور ثم تصديق بکمالها للنفس، فإنها جميعاً ولا تخلو من ارادة الفاعل...الخ)، راجع الفصل السابع من المرحلة الثامنة.
3- (وثالثاً : أن الملاک في اختيارية الفعل) عبارة عن ( تساوي نسبة الإنسان وحده من غير ومن لحاظ العلم والشوق والإرادة الي الفعل والترک ، وان کان الانسان وحده (بالنظر اليه) أي الي الفعل الاختياري (- وهو تام الفاعلية -) بأن لاحظنا الإنسان تام الفاعلية بتحقق المباديء العلمية وغير العلمية فيه ، فنسبة الفعل الاختياري اليه في هذه الصورة وبهذا اللحاظ (ضروري الفعل) إذن فکونه غير ضروري وغير مختار انما يحصل بلحاظ ذات الفاعل مع قطع النظر عن متممات الفاعلية.

ومن الکيفيّات النفسانيّة القدرة ، وهي حالة في الحيوان ، بها يصحّ أن يصدر

عنه الفعل إذا شاء ولا يصدر عنه إذا لم يشأ . ويقابلها العج(1)

وأمّا القدرة المنسوبة إلي الواجب (تعالي) فإذ کان الواجب الوجود بالذات واجب الوجود من جميع الجهات فهي مبدئينّه الفعليّة بذاته لکلّ شيءٍ ، وإذ کانت عين الذات فلا ماهيّة لها، بل هي صرف الوجود(2)

الکيفيات النفسانية - علي ما قيل - العلم. والمراد به العلم الحصولي الذهني من حيث قيامه بالنفس قيام العرض بموضوعه، الصدق حد الکيف عليه. وأما العلم الحضوري فهو حضور المعلوم بوجوده الخارجي عند العالم، والوجود

ص: 520


1- (ومن الکيفيات النفسانية القدرة وهي) عند الفلاسفة (حالة في الحيوان ..الخ) واما المتکلمون فقد ذکروا لها تعريفاً آخر، راجع الجزء الرابع من الاسفار. والقدرة هي ثاني أهم الکيفيات النفسانية ، وتختلف عن القوة بأن القوة تختص بالجسمانيات، اما القدرة فهي تختص بالموجود الذي له شعور وادراک، کالحيوان والانسان والموجودات التي هي أعلي من الانسان، وهي بخلاف قدرة الواجب تبارک وتعالي التي سيأتي البحث عنها في صفات الواجب عزّ وجل.
2- (فاذ کان الواجب الوجود بالذات واجب الوجود من جميع الجهات) کما سيأتي ان شاء الله تعالي في محله، وليست فيه تعالي جهة امکانية اصلاً، (فهي) أي القدرة بالنسبة إلي الواجب تبارک و تعالي (مبدئيته ) تبارک و تعالي ( الفعلية) لا الإمکانية (بذاته) المقدسة (لکل شيء) لأنه خالق کل شيء (وإذ کانت القدرة في الواجب تعالي کسائر صفاته المقدسة (عين الذات) المقدسة لا زائدة علي الذات المقدسة، (فلا ماهية لها) فلا يقال أنها کيف أو جوهر أو عرض بل هي) أي القدرة (صرف الوجود).

ليس بجوهر ولا عرض(1)

والعلم الذي هو من الکيف مختصُ بذوات الأنفس. وأمّا المفارقات فقد تقدّم أن علومها حضوريّةُ غير حصوليّةٍ، غير أنّ العلوم الحصوليّة التي في معاليلها حاضرةُ عندها وإن کانت هي أيضاً بما أنها من صُنعِها حاضرةً عندها(2)

ص: 521


1- (ومن الکيفيات النفسانية . علي ما قيل -) کالمحقق الطوسي في شرح التجريد، والفخر الرازي في الجزء الأول من المباحث المشرقية وغيرهما من المحققين ، ولکن هناک من خالفهم بأنه ليس من الکيفيات النفسانية القائمة بالنفس، (وأما العلم الحضوري فهو حضور المعلوم..الخ) وهو ليس بعرض فليس من الکيفيات النفسانية والعلم الحضوري يحصل للإنسان واما المجردات التامة والواجب تبارک و تعالي فإن علمهم حضوري بحت. إعلم أن العلم عين ذات العالم بمعني أن هناک ذات العالم وهناک معلوم، وقد يکون المعلوم معلوماً بالذات وقد يکون معلومأ بالعرض، ففي العلم الحصولي هناک ذات العالم و معلوم بالذات ومعلوم بالعرض، والمعلوم بالذات يسمّي علماً- بيان ذلک أن الصورة الحاصلة للذهن والصورة الذهنية للشيء، هي التي نتعرف علي الموجود الخارجي بواسطتهما، فان الشيء الخارجي معلوم بالعرض ، وأما الصورة الذهنية المعلومة بالذات فإنها کيف نفساني و تسمّي علماً ، والأمر يختلف في العلم الحضوري، حيث لا يوجد فيه ما يتوسط بين العلم والمعلوم وصورة حاکية عن المعلوم ، کلا ليس الأمر علي هذا النحو ، فليس هناک معلوم بالذات ومعلوم بالعرض، بل هو المعلوم بالذات الحاضر عند ذات المعلوم، بل قد يکون العالم والمعلوم في العلم الحضوري واحدة کالعلم بالنفس، أي کعلم النفس بالنفس، فالنفس هي العالمة وهي المعلومة وهي العلم، فالعلم الحضوري يتحد بذات العالم بل هذا عين ذاک ، ثم أنه لو کان ذات العالم جوهرة نفسانياً کان العلم عين النفس وکان جوهرة نفسانياً، وان کان العالم بالعلم الحضوري مجردة تامة وجوهرة عقلانية الذي علمه عين ذاته ، کان العلم جوهراً عقلانياً، وان کان العالم هو الواجب تبارک وتعالي، فالعلم لا جوهر ولا عرض، لأن علمه عين ذاته، وذاته المقدسة لا ماهية لها بل وجود محض وصرف الوجود، فالعلم الحضوري من حيث کونه عين ذات العالم يتبع ذات العالم أن کانت جوهراً نفسانياً فالعلم جوهر نفساني وان کانت جوهراًمفارقاً فجوهر مفارق، وان کانت وجود الواجب - تعالي - فواجب. واعلم أن العلم الحضوري هو حضور المعلوم عند العالم بنفس ذواتها وأعيانّها الخارجية
2- قوله قدس سره: ( واما المفارقات فقد تقدم) في بداية الحکمة، او اشارة الي ما سيأتي ان شاء الله تعالي في الفصل الأول من المرحلة الحادية عشرة، (إن علومها) أي المفارقات (حضورية) محضة (غير حصولية، غير أن العلوم الحصولية التي في معاليلها) النفس من معاليل المفارقات الحاضرة بذواتها عند المفارقات، وهکذا العلوم الحصولية التي في هذه النفوس والقائمة بالنفوس وهي الکيفيات النفسانية للنفوس (حاضرة) أيضاً (عندها) أي عند المفارقات والمجردات التامة وان کانت تلک الکيفيات النفسانية (هي أيضاً بما أنها من صنعها) أي من صنع النفوس (حاضرة عندها) أي عند النفوس فعلم النفس بالکيفيات النفسانية علم حضوري أيضاً. والحاصل أن الواجب تعالي وهکذا المفارقات کلها عالمة بالنفس والاعتباريات النفسانية علماً حضورياً، والنفس و اعتباريا تها جميعاً حاضرة بذواتها عند الواجب تعالي والمفارقات، والعالم بالشيء عالم بلوازمه و مستلزماته ، والمحيط بالذات محيط بلوازم الذات والمفاهيم الاعتبارية القائمة بالذات.

ومن هذا الباب الخُلق ، وهو الملکة النفسانيّة التي تصدر عنها الأفعال بسهولةٍ من غير رَويَّةٍ. ولا يسمّي خُلقاً إلّا إذا کان عقلاً عمليّاً هو مبدأ الأفعال الإراديّة ، وليس هو القدرة علي الفعل، لأنّ نسبة القدرة إلي الفعل والترک متساويةُ ولا نسبةَ للخُلق إلّا إلي الفعل. وليس المراد به هو الفعل، وإن کان ربّما يطلق عليه ، لأنّه الأمر الراسخ الذي يبتني عليه الفعل(1)

وللخُلقِ إنشعابات کثيرةُ تکاد لا تحصي الشُّعَبُ الحاصلة منها ، لکنّ أصول الأخلاق الإنسانيّة نظراً إلي القُوي الباعثة للإنسان نحو الفعل ثلاثةُ، وهي: قُوي الشهوة الباعثة له إلي جذب الخير والنافع الذي يلائمه، وقُوي الغضب الباعثة له إلي دفع الشرّ والضارّ، والعقل الذي يهديه إلي الخير والسعادة ويزجره عن الشرّ والشقاء (2)

ص: 522


1- (ولا يسمي خلقاً الا إذا کان عقلاً عملياً) ، والمراد من العقل العملي هنا (هو) کونه (مبدأ الأفعال الارادية ، وليس) الخلق (هو القدرة علي الفعل) لأن صاحب القدرة ان شاء فعل وان شاء ترک، و(لأن نسبة القدرة..الخ) وهکذا (ليس المراد به) أي الخلق (هو الفعل ...) فإن قيام الفعل بالنفس قيام صذوري، وقيام الملکة - الخلق - بالنفس قيام حلولي
2- إعلم أن النافع يطلق علي ما کان سبباً للخير کالدواء الذي سبب لخير الإنسان، وان الضار يطلق علي ما کان سببا للشر کالسم الذي سبب للهلاک، فکلّ نافع يؤدي الي خير الانسان وکل ضار يؤدي الي الشر للانسان، والمراد هنا مطلق الضار والنافع والخير والشر ظاهرياً کانا أو واقعياً ، ولعل المراد هو الضار والنافع والخير والشر حقيقة وواقعاًوهو أولي بالخلق.

فالملکة العاملة في المشتهيات إن لازمَتِ الاعتدال بفعل ما ينبغي کما ينبغي سُمّيت: «عفّة»، وإن انحرفت إلي حدّ الإفراط سُمّيت : «شَرَهاً»، وإن نزلت إلي التفريط سمّيت : «خُموداً». .

وکذلک الملکة المرتبطة بالغضب لها اعتدالّ تسمّي: «شجاعة»، وطرفا إفراط

يسمّي: «تهوّراً»، و تفريط يسمّي : «جُنيناً». .

وکذلک الملکة الحاکمة في الخير والشر والنافع والضارّ إن لازمت وسط الاعتدال فاشتغلَتّ بما ينبغي کما ينبغي سمّيت «حکمةً»، وإن خرجت إلي حدّ الإفراط سُمّيت : «جُزبُزَةً» أو إلي حدّ التفريط سُمّيت : «غباوة». .

والهيئة الحاصلة من اجتماع الملکات الثلاث التي نِسبَتُها إليها نسبةَ المزاج إلي الممتزج وأثرُها إعطاء کلُّ ذي حقَّ من القوي حقَّهُ. إذا اعتدلَت سُمّيت : «عدالةً»، وإن خرجَت إلي حدّ الإفراط سُمّيت : «ظلماً » أو إلي حدّ التفريط سُمّيت: « إنظلاماً». .

ووسط الاعتدال من هذه الملکات التي هي الأصول وما يتفرّع عليها من الفروع «فضيلة ممدوحة»، والطرفان - أعني طرفَي الإفراط والتفريط - «رذيلةُ مذمومةُ». والبحث عن هذه الفضائل والرذائل موکولُ إلي غير هذه الصناعة.

وقد ظهر ممّا تقدّم :

أوّلاً : أنّ الخُلق إنّما يوجد في العالم الإنساني وغيره من ذوات الأنفس التي تستکمل بالأفعال الإراديّة علي ما يناسب کمال وجوده، فلا خُلقَ في المفارقات ،

إذ لا عقل عمليّاً ولا استکمال إراديّاً فيها اولاً : أن الخلق انما يوجد في العالم الانساني وغيره من ذوات الأنفس) کالجن (التي

تستکمل، وتصل إلي الکمال (بالأفعال الارداية .. الخ)، التي تصدر منها..(1)

ص: 523


1- (وقد ظهر مما تقدم):

وثانياً: أنّ کلّاً من هذه الأخلاق التي هي من الکيفيات النفسانيّة بما أنها ملکةُ راسخةُ تُقابِلها حالُ من تلک الکيفيّة کالشهوة والغضب والخوف والفزع والحزن والهمُ والخجل والفرح والسرور والغم وغير ذلک. والبحث عن أسبابها الطبيعيِّة في الطب ، وعن إصلاحها وتدبيرها بحيث يلائم السعادة الإنسانيّة في صناعة الأخلاق(1)

ومن الکيفيّات النفسانيّة اللذّةُوالألَم، واللذّة علي ما عرّفوها إدراک الملائم بما أنّه ملائم، والألم إدراک المنافي بما أنّه مناف . فهما من الکيف بما أنّهما من سنخ الإدراک. وينقسمان بانقسام الإدراک فمنهما حسيُّ وخياليُّ وعقليُّ ؛ فاللذّة الحسيّة کإدراک النفس الحلاوةَ من طريق الذوقِ والرائحةً الطيّبة من طريق الشمّ؛ واللذّةُ الخياليّة إدراکها الصورةً الخياليّةَ من بعض الملذّات الحسيّة ؛ واللذّة العقليّة إدراکها بعضَ ما نالَته من الکمالات الحقّة العقليّة، واللذّة العقليّة أشدّ اللذائذ وأقواها التجرّدِها وثباتها والألم الحسيّ والخياليّ والعقليّ علي خلاف اللذة في کلّ من هذه الأبواب (2)

ص: 524


1- قوله ( قدس سره): (والبحث عن أسبابها الطبيعية) أي أسباب هذه الکيفيات النفسانية الراسخة منها وغير الراسخة - والملکة منها والحال - البحث عن أسبابها الطبيعية يرد (في) علم (الطب) الجسماني لعلاقة کل مزاج من الأمزجة الطبيعية في الانسان بأخلاقه، وتأثير حالاته الجسمانية في حالاته النفسانية زيادة ونقصاناً وتطلب تفاصيله في علم الطب الجسماني وهکذا علم الطب النفساني - الحديث - الذي ينظر الي کل الصفات النفسانية نظرة مادية تجربّية ويحللها بالأدوات المادية منها الأقراص والأدوية وبعض الارشادات العملية ، خلافاً للطب النفساني القديم الذي هو صناعة الأخلاق وعلمه وينظر الي کل تلک الحالات والملکات والصفات النفسانية نظرة معنوية يبحث عن أسبابها، وعلاجها الذي يصلحها.
2- (ومن الکيفيات النفسانية اللذّة والألم، واللذّة علي ما عرّفوها) ومنهم الشيخ الرئيس في الهيات الشفاء، والقوشجي في شرحه للتجريد، أنها (ادراک الملائم للنفس (بما أنه ملائم) للنفس ومن هذا الحيث لا من حيث آخر أو مطلقاً، فالادراک عندهم هو اللذة، بينما عرفها غيرهم بأنها : «کيفية حاصلة من إدراک الملائم بما أنه ملائم»، وهکذا في الألم اما آنها ادراک المنافي بما أنه مناف، أو کيفية حاصلة من إدراک الملائم بما أنه ملائم. (واللذة العقلية أشدّ اللذائذ وأقواها) في النفس، لسببين، أولاً : التجردها) لأن العقل مجرد فادراکاته اکثر لذة من غيرها، (و) ثانياً : ( ثباتها) أي لأن المعقولات ثابتة لا تفني لأنها مجردة ، ولهذا فان لذائذها دائمة وشديدة، بخلاف اللذائذ الحسية التي لذائذها تتوقف علي تعلق الحواس بالمدرکات، ومادام هذا الارتباط موجوداً بينها کانت اللذائذ موجودة، ومع انقطاعها وانفصامها تنقطع اللذة، هذا وجه أفضليتها علي المدرکات الحسية، واما وجه أفضيلتها علي المدرکات والصور الخيالية، فلأن الصور الخيالية قابلة للضعف والشدة والزوال بخلاف الصور العقلية، ولعل المراد أن المدرکات العقلية التي هي من سنخ الأمور العقلانية غير الحاصلة إلا بالعقل هي أشد لذة من المدرکات الحسية النابعة من إرتباط الحواس بالحسبات والخيال أيضاً بالحسيات، فإن الحسيات لکونها مادية لا ترقي درجة المعقولات کالعلوم والمفاهيم النظرية، والمعقولات أيضاً بعضها أشد لذة من بعض ، وليست جميعا في درجة واحدة من اللذة ، وهذا المعني أفضل من سابقه وان کان الجمع أولي بمعني اعتبار المعني الأول من جهة وحمله علي حيث، والثاني من جهة أخري وحمله علي حيث آخر، وبالعکس فإن الألم الحسي أشد وأکثر من الألم الخيالي والعقلي ، بالتفسيرين السابقين - أي علي العکس - أو بأحدهما. والذي تفيده أقوال المشائين لمعني لذه العقل وکونه أشدّ يفيد المعني الثاني وهو ان القوة العاقلة لدي الانسان - وهي أعلي القوي وأشرفها - لا تلتذّ إلا بادراک المعقولات وهي أقوي اللذائذ وأشدها ولهذا نقل الشيخ الرئيس في رسالته المعراجية حديثاً عن رسول الله صلي الله عليه واله وسلم مخاطباً أمير المؤمنين عليه السلام : «يا علي اذا غَنّي الناس أنفسهم في تکثير العبادات والخيرات، فأنت عنَّ نفسک في ادراک المعقولات حتي تسبقهم»، وان کان هذا المعني يستلزم حصر مباديء الإدراک في هذه الثلاثة، وقد يرد عليه حينئذ أن الادراک الاشراقي الذي لا يخضع لهذه المباديء الثلاثة أشد لذة من الإدراک العقلي، أو يستلزم نفي الادراک الاشراقي الشهودي، وهو باطل بالضرورة والوجدان .

واللذّة علي أي حالٍ وجوديّةُ، والألم عدميُّ يقابلها تقابُلَ العدم والملکة.

لا يقال : لا ريب في أنّ الألم شرُّبالذات، وإذ کان هو إدراک المنافي بما أنّه مناف کان أمراً وجوديّاً ، لأنّ الإدراک أمرُ وجوديُّ، وبهذا ينفسخ قولهم: «إنّ الشرّ

ص: 525

عدم لا غير»(1)

لأنه يقال : وجودُ کلَّ شيءٍ هو نفس ذلک الشيء ذهنيّاً کان أو خارجيّاً . فحضور أيّ أمرٍ عدميًّ عند المدرک هو نفسُ ذلک الأمر العدميّ لاتّحاد الوجود والماهيّة والعلم والمعلوم، فالألم الموجود في ظرف الإدراک مصداق للألم، وهو بعينه الألم العدمي الذي هو شرُّ بالذات (2)

تنبيهُ: ما مرّ من القول في الکيف وأحکامه وخواصّه هو المأثور من الحکماء المتقدّمين. وللمتأخّرين من علماء الطبيعة خوضُ عميقُ فيما عَدَّه المتقدمون من الکيف، عثروا فيه علي أحکامٍ وآثارٍ جمّةٍ ينبغي للباحث المتدّبر أن يراجعها ويراعي جانبها في البحث.

ص: 526


1- (لا ريب أن الألم شر بالذات) مقابل الألم الذي هو شر بالعرض، أي في ظاهره لذيذ نافع کالعسل والتفاح المسموم فإنه شر بالعرض لا بالذات، وکل شرّ بالذات هنا أمر وجودي ، بينما عند المشهور ان کل شرّ بالذات فهو عدمي، والعدمي شرّ بالذات مطلقاً، فالألم شرُّ بالذات ، فهو - أعني الألم - أمرُ عدميُّ
2- (لأنه يقال) في الجواب (وجود کل شيء هو نفس الشيء) ان کان وجوداً ذهنياً موجوداًفي الذهن (ذهنياً کان، أو خارجياً) بوجوده الخارجي، (فحضور) أي امر وجودي عند المدرک هو نفس ذلک الأمر الوجودي بعينه ، وحضور (أي أمر عدمي عند المدرک هو) أي هذا الحضور (نفس ذلک الأمر العدمي، لاتحاد الوجود.. الخ). وللتحقيق في مطالب هذا الفصل ينبغي مراجعة الجزء الرابع من الأسفار، والجزء الأول من المباحث المشرقية، و تجريد الاعتقاد، وشوارق الالهام، وکشف المراد، وشرح المنظومة وغيرها.

الفصل السادس عشر : في الإضافة

وفيه أبحاث: البحث الأوّل : [ في معني نسبية المقولات]

تقرأ في هذا الفصل :

1- الأوّل: أن معني النسبية في الأعراض النسبية کون هذه المقولات هيئات قائمة بموضوعاتها، من النسب التي في موضوعاتها، لا کون المقولات عين تلک النسب، لأن النسبة وجود رابطي غير مستقل لا تنتزع منها الماهية.

2- فالنسبة ليست مقولة ولا داخلة تحت شيء من المقولات.

3- الثاني : الإضافة هيئة حاصلة من نسبة شيء إلي شيء آخر، بحيث يکون للثاني

أيضاً نسبة الي الأول کالاخوة والبنوة .

4- النسبة في مقولة الاضافة متکررة، والفرق بين الاضافة و مطلق النسبة في التکرر

وعدمه.

5- ثالثاً : الإضافة موجودة في الخارج لکن لا بوجود مستقل منحاز بل بوجود

موضوعها.

- قال صدر المتألهين في الاسفار: وجود السماء وجود جوهري إذا ما لوحظ في

نفسه، وإذا لوحظ مقيساً الي الارض بحيث تنتزع منه الفوقية ، کان وجودها اضافياً.

7- يمکن أن تکون هذه إمارة علي عدم کون الوجود الإضافي وجودة خارجياً

وماهوياً، بل هو من المعقولات الثانية الفلسفية .

8- رابعاً : المضافان متکافئان وجوداً و عدماً وقوة وفعلاً وحتي عموماً وخصوصاً.

- اشکال : نعلم أن في أجزاء الزمان تقدماً و تأخراً، ونعلم أيضاً أن أحد طرفي الاضافة معدوم دائماً ، کما أن المعلوم أيضاً قد لا يکون متحققاً بعد، رغم تحقق العلم به - وجود العلم قبل وجود المعلوم -، فما وجه التکافؤ بين المضافين ؟!

10 - الجواب : لکن معية الأجزاء الزمانية - وأجزاء الزمان - ليست آنية، بل معيتها في

الوجود الوحداني تدريجي، فهما متکافئان من هذه الجهة.

11 - الإضافة عارض يعرض جميع المقولات حتي نفسها کالأقربّ والأبعد، العارضان

للقربّ والبعد.

12 - الخامس : الإضافة تنقسم من جهة الي: 1- متشاکلة الأطراف مثل القريب والقريب

والاخ والاخ 2- مختلفة الأطراف کالأب والابن والعالي والسافل.

13- تنقسم الإضافة من جهة أخري الي: 1- الاضافة الخارجية کالأب والابن. 2

الاضافة الذهنية کالکلي والفرد، والأعم والأخص.

ص: 527

قد عرفت أنّ سبعاً من المقولات أعراض نسبيّةُ، وهي : الإضافة والأين والمتي والوضع والجِدَة وأن يفعل وأن ينفعل ، ومعني نسبيّتها أنّها هيئات قائمةُ بموضوعاتها من نِسَبٍ موجودةٍ فيها، لا أنّ هذه المقولات عين تلک النِسَب الوجوديّة ، وذلک أنّک عرفت في بحث الوجود الرابط والمستقلّ أنّ النسبة رابطة موجودة في غيرها لا استقلالَ لها أصلاً لا يُحمَل علي شيء ولا يُحمَل عليها شيءُ، فلا ماهيّةُ لها، لأن الماهيّة ما يقال علي الشيء في جواب (ما هو ؟)، والمقولات ماهيّات جنسية ، فلا تکون النسبة مقولةً ولا داخلةً تحت مقولةٍ (1)

ص: 528


1- ومعني نسبيتها أنها هيئات قائمة بموضوعاتها) ففي کل من هذه المقولات نسبة تحصل منها هيئة (من نسب موجودة فيها) عند قياس النسبة بذات الشيء، هذه الهيئة الحاصلة من هذه النسبة تعدّ مقولة خاصة ، فيصدق عليها جميعاً عنوان الهيئة ، کصدق مفهوم عرضي علي مصداقه ، والحاصل أن النسبة مأخوذة في هذه الهيئات وملحوظة فيها (لا أن هذه المقولات عين تلک النسب الوجودية) وليس النسبة جنساً أعلي لهذه الهيئات (وذلک أنک) يا شيخ الاشراقيين عرفت في بحث الوجود الرابط والمستقل) في الفصل الأول من هذه المرحلة أن النسبة) مصداق و(رابطة موجودة في غيرها ..... الخ) فهي مصداق الوجود الرابط ، (لا) ذات لها حتي تحمل علي شيء) حم ذاتية ، وليست من المفاهيم الذاتية حتي يحمل عليها شيء حملاً ذاتياً ، ولهذا لا يحمل عليها شيء) حملاً ذاتياً (فلا ماهية لها) حتي تحمل علي شيء أو يحمل عليها شيء (لأن الماهيّة ما يقال) ويحمل علي الشيء في جواب «ما هو؟»، والمقولات) کلها (ماهيات جنسية) عالية ليس فوقها جنس (فلا تکون النسبة مقولة) لتکون جنساً أعلي لهذه الأجناس (ولا داخلة تحت مقولة) من المقولات، بل هي أمر وجودي بمعني وجود الرابط ، فليست النسبة جنساً أعلي لهذه المقولات العرضية السبع وهو الدليل الأول.

علي أنّ النسبة في بعض هذه المقولات متکرّرةُ متکثّرةُ، ولا معني لتکرُّرِ الماهيّة ، کمقولة الإضافة التي يجب فيها تکررّ النسبة، ومقولة الوضع التي فيها نسبة بعض أجزاء الشيء إلي بعض ونسبة المجموع إلي الخارج، وربّما قامت علي نِسَبٍ کثيرةٍ جدّاً.

فتبيّن أنّ المقولة النسبية هي هيئة حاصلةُ للشيء من نسبة کذا وکذا قائمةُ به . البحث الثاني: [في تعريف الإضافة]

أنّ الإضافة هيئة حاصلةُ من نسبة الشيء إلي شيء آخر منسوب إلي الشيء الأوّل المنسوب إليه کهيئة الإضافة التي في الأخ، فإنّ فيها نسبة الأخ بالأخوّة إلي أخيه المنسوبِ إلي هذا الأخ المنسوب إليه بالأُخوّة.

[الفرق بينها وبين مطلق النسبة]

فالنسبة التي في مقولة الإضافة متکرّرة، وهو الفرق بين ما فيها من النسبة

وبين مطلق النسبة، فإنّ وجود مطلق النسبة واحدُ قائمُ بالطرفين مطلقاً ، بخلاف الحال في مقولة الإضافة، فإنّ النسبة فيها متکرّرة ، لکلًّ من المضافين نسبةُ غير ما في الآخر، غير أنّهما متلازمان لا تنفکّان في ذهن ولا خارج.

وما أوردناه من تعريف الإضافة ليس بحدًّ منطقيًّ - کما تقدّمت الإشارة إليه في نظائره -، بل رسمُ إن کان أعرف من المعرَّف. ولعل المعقول من لفظ «الإضافة» مشقعة ببعض ما له من الأمثلة أعرف عند العقل ممّا أوردناه من الرسم، فلا کثير جدون في إطالة البحث عن قيوده نقضاً وإبرام ، وکذا في سائر ما أوردوه لها من

التعاريف.

[و الفرق بين المضاف الحقيقيّ والمشهوريّ]

ثمّ إنّه ربّما يُطلق المضاف ويراد به نفس المقولة ويسمّي عندهم ب«المضاف الحقيقيّ»، وربّما يُطلق ويراد به موضوع المقولة، وربّما يطلق ويراد به الموضوع

ص: 529

والعرض جميعاً ويسمّي «المضاف المشهوري»، فإنّ العامّة تري أن المضاف إلي الابن - مثلاً - هو الإنسان المتلبّس بالبنوّة ، والحال أن التعلق من الجانبين إنّما هو للإضافة نفسها بالحقيقة.

البحث الثالث: [في أنّ الإضافة موجودة في الخارج]

الإضافة موجودةُ في الخارج والحسّ يؤيّد ذلک، لوقوعها علي أنواع من الإضافات الخارجيّة التي لها آثار عينيّة لا يُرتاب فيها، کإضافة الأب والإبن، والعلوّ والسفل، والقُربّ والبُعد، وغير ذلک.

وأمّا نحو وجودها، فالعقل ينتزع من الموضوعين الواجدين للنسبة المتکرّرة المتلازمة وصفاً ناعتاً لهما انتزاعاً من غير ضمَّ ضميمةٍ، فهي موجودةُ بوجود موضوعها من دون أن يکون بإزائه وجودُ منحاز ُمستقلُّ(1)

ص: 530


1- (واما نحو وجودها) أي الاضافة في الخارج علي النحو التالي: (فالعقل ينتزع من الموضوعين الموجودين معاً و(الواجدين للنسبة المتکررة المتلازمة) بحيث يمکن نسبة هذا إلي ذاک بنفس ما ينسب ذاک الي هذا - إليه -، والعقل ينتزع من هذه الهيئة والحالة (وصفاً ناعتاً لهما) أي ينتزع من الموضوعين ما يکون وصفاً ناعتاً لهما، ولکن من غير ضم ضميمة) إليهما، أي ليس هذا الوصف من قبيل المحمول بالضميمة - وقد عرفتم أن المحمول بالضميمة عبارة عن المفهوم الذي يحمل علي الشيء بشرط ضم ضميمة الي ذلک الشيءالموضوع، مثل الأبيض فإنه مفهوم لا يحمل علي الجسم إلا إذا أضيف البياض الي الجسم وإلا بوحده لا يحمل عليه، فإن مفهوم الابيض محمول بالضميمة، إي مفهوم عرضي لا يحمل علي شيء الا بضم عرض الي الجوهر هو البياض. فمن أي نوع يکون حمل هذه المفاهيم العرضية او هذا المفهوم العرضي، أعني الاضافة ؟ أنها تحمل علي نحو خارج المحمول أي خارج عن ذات الشيء محمول عليها، فإن نسبة الاخ والاخ نسبة متکررة متلازمة، أحدهما ملازم للآخر، وانما انتزع العقل هذه النسبة من فلان وفلان ونسبها إليهما من غير ضم ضميمة إليهما يصحّح هذه النسبة وهذا الحمل، (فهي) أي الأخوة مثلاً أو الاضافة مطلقاً (موجودة بوجود موضوعها) فلان، أو فلان وفلان (من دون أن يکون بازائه) أي بازاء الموضوع (وجود منحاز مستقل) ضم اليه حتي يصدق انّه أخ لفلان مثلاً.

قال في الأسفار - بعدَ کلام له في هذا المعني -: «وبالجملة إنّ المضاف - بما هو مضاف بسيط، ليس له وجودُ في الخارج مستقلُّ مفردُ، بل وجوده أن يکون لاحقاً بأشياءَ کونُها بحيث يکون لها مقايسةُ إلي غيرها، فوجود السماء في ذاتها وجود الجواهر ، ووجودها بحيث إذا قيس إلي الأرض عُقِلت الفوقيّة وجودُ الإضافات» - إنتهي(1)

البحث الرابع : [ في بعض أحکام الإضافة]

من أحکام الإضافة أنّ المضافين متکافئان وجوداً وعدماً، وقوّةً وفعلاً، فإذا کان أحدهما موجوداًکان الآخر موجوداً، وکذا في جانب العدم، وإذا کان أحدهما بالقوة فالآخر بالقوّة ، وکذا في جانب الفعل.

واعتُرِض عليه : بأنّه منقوضُ بالتقدّم والتأخّر في أجزاء الزمان، فإنّ المتقدّم والمتأخر منها مضافان مع أن وجود أحدهما يلازم عدمَ الآخر. ومنقوضُ أيضاً بعِلمِنا ببعض الأُمور المستقبلة، فالعلم موجودُ في الحال والمعلوم معدومُ لم يوجد بعدُ مع أنّ العلم والمعلوم من المضافين(2)

ص: 531


1- (بل وجوده) أي وجود المضاف في الخارج (أن يکون) المضاف (لاحقاً بأشياءَ کونها) أي وجود تلک الأشياء التي لاحقته (بحيث يکون لها) أي لتلک الأشياء. (مقايسة) ونسبة (الي غيرها) مثال ذلک: (فوجود السماء) فوقنا (في حد ذاتها من غير قياس ولحاظ إضافة وجود الجواهر) أي وجود جوهري ليس إضافة ولا إضافياً ، (و) أما (وجودها) أي السماء بحيث إذا قيس) هذا الوجود (الي الأرض عقلت الفوقية) أي انتزع العقل مفهوم الفوقيه من هذا القياس ونسبه الي السماء، وانتزع مفهوم التحتية من نفس القياس أو بالعکس، ثم نسبه إلي الأرض، ثم أن هذا الوجود أعني وجود الأرض والسماء بحيث اذا قيس الي وجود الآخر عقلت التحتية والفوقية ، هذا الوجود هو وجود الاضافات) راجع الجزء الرابع من الاسفار.
2- (واعترض عليه) أي علي القول بتکافؤ المضافين في کل شيء: (بأنه) کيف يتکافؤ المضافان وجوداً وعدماً فلا يوجد أحدهما من دون الآخر بل يوجدان معاً، و لايعدم أحدهما دون الآخر، بل يعدمان معاً، وهکذا ان کان أحدهما بالقوة فالآخر کذلک لا محالة أو بالفعل فکذلک هذا کله منقوض بالتقدم والتأخر في أجزاء الزمان) کالأمس واليوم أو الصباح والمساء (فإن المتقدم والمتأخر منها) أي من أجزاء الزمان (مضافان) الأمس يضاف الي اليوم والصباح يضاف الي المساء، أي بينهما نسبة إضافية (مع أن وجود أحدهما) کاليوم أو المساء فإنه (پلازم عدم الآخر) أي عدم الأمس والصباح، وإلا لو اجتمعا لصدق تحقق الأمس واليوم معاً أو الصباح والمساء معاً وهو محال، لأن وجود اليوم يلازم زوال الأمس وهکذا وجود المساء يلازم زوال الصباح. هذا نقض. والنقض الثاني الوارد عليه : (ومنقوض أيضاً بعلمنا بعض الأمور المستقبلية) کعلمنا بيوم القيامة (فالعلم موجود.. الخ).

وأجيب : أمّا عن أول النقضَين : فبأنّ معيّةَ أجزاء الزّمان ليست آنيّةً بأن يکون الجزءان موجودَين في آنٍ واحدٍ، بل معيّنهما إتّصالُهما في الوجود الوُحدانيّ التدريجيّ الذي معيّتهما فيه عين التقدّم والتأخر فيه ، کما أنّ وحدة العدد عين کثرته(1)

وأمّا عن النقض الثاني : فبأنّ الإضافة إنّما هي بين العلم وبين الصورة الحاضرة من المعلوم عند العالم، وهو المعلوم بالذات دون المعلوم بالعرض الذي هو عين خارجيُّ، والأمور المستقبلة حاضرةُ بصورتها المعلومة بالذات عند العالِم وإن کانت غائبةً بعينها الخارجيّة المعلومة بالعرض، علي أنّ الحقّ أنّ العلم عين

ص: 532


1- (فبأن معية أجزاء الزمان ليست آنية) تجتمع معاً (بأن يکون الجزءان موجودين في آن واحد) بحيث يلتقي الزمانان - أي جزءا الزمان - عند نقطة مشترکة، فيکون الأمس يصل الي نقطة هي نهايته الزمانية ثم يبدأ اليوم عند هذه النقطة . والآن -، هذه الآن نقطة انتهاء الأمس و شروع اليوم، لا نقطة إلتقاء للأمس واليوم و اجتماع بينهما، ليس الأمر بهذا النحو (بل معيتهما) أي معية جزئي الزمان عبارة عن (اتصالهما في الوجود الوحداني) يجتمعان في هذا الوجود الواحد (التدريجي) يذهب بعضه ليحل محله غيره (الذي معيتهما) واجتماعهما (فيه) في هذا الوجود الوحداني التدريجي (عين التقدم والتأخر فيه) أي في الزمان فلازم الاجتماع هنا التفرق، إذ الاجتماع الزماني عين التفرق، واجتماع أجزاء الزمان عين تفرقها، کما أنّ وحدة العدد عين کثرته) کالعدد عشرة المتکون من عشر وحدات في عين کونه کثيراً - أي ذا عشر وحدات - فهو واحد، وکثرته عين وحدته ، کما أن وحدته عين کثرته. ووحدة أجزاء الزمان بلحاظ المجموع والکل، وکثرتها بلحاظ کل جزء جزء منها.

المعلوم، کما سيأتي في مرحلة العاقل والمعقول(1)

وکما يتکافؤ المضافان وجوداً وعدماً وقوّةً وفعلاً، کذلک يتکافئان عموماً وخصوصاً ، فالأُبوّةُ العامّة تُضايِف البنوة العامة، والأُبوّةُ الشخصيّة تُضايِف البُنوةَ الشخصيّة .

ومن خواصّ الإضافة أنّها تعرض جميع المقولات حتّي نفسها، ففي الجوهر کالأب والابن، وفي الکمّ المتّصل کالعظيم والصغير، وفي الکم المنفصل کالکثير والقليل، وفي الکيف کالأحرّ والأبرد ، وفي الاضافة کالأقربّ والأبعد، وفي الأين کالعالي والسافل ، وفي المتن کالأقدم والأحدث، وفي الوضع کالأشدّ انتصاباً وانحناء، وفي الجِدَة کالأکسئ والأعرئ، وفي أن يفعل کالأقطع والأصرم، وفي أن ينفعل کالأشدّ تسخّناً والأضعف.

البحث الخامس : تنقسم الإضافة إلي متشاکلةِ الأطراف، وهي التي لا اختلافَ بين أطرافها

ص: 533


1- (وأما الجواب عن النقض الثاني : فبأن الإضافة .. الخ) وحاصله: أن قولنا: نعلم بالقيامة مثلاً وأنها ستأتي حتماً، معناه في الحقيقة أن المعلوم هنا هي الصورة الذهنية التي لدينا من المستقبل - القيامة ، وهي المعلوم بالذات حقيقة، والإضافة بين العلم وهذا المعلوم الذهني - الصورة الذهنية -، وهما متکافئان، بحيث لا يوجد أحدهما إلا بوجود الآخر ولا يعلم إلا بعدمه ومتلازمان في الوجود والعدم، وانما هي غائبة - أي الصور المستقبلة ويوم القيامة غائبة - عنا بأعيانّها الخارجية أو قل ان أعيانّها الخارجية المعلومة بالعرض وبتبع تلک الصور الذهنية ، هي الغائبة، وإلا فالصور المستقبلة موجودة لدينا وهو المطلوب. فالحاصل أن الاضافة هنا بين العلم وبين الصورة الحاضرة من المعلوم عند العالم، أي الإضافة بين العلم والمعلوم بالذات لا المعلوم بالعرض الذي هو عين خارجي، والأمور المستقبلة من هذا القبيل، أعني أن صورها الذهنية موجودة لدي العالم بها، وان لم تکن الأحداث بأعيانّها موجودة عنده . الزيادة الاطلاع يمکن مراجعة الکتب السابقة التي ذکرناها في الفصول الماضية ، بالاضافة الي تعليقات الشيخ.

کالقريب والقريب والأخ والأخ والجار والجار ؛ ومختلفةِ الأطراف کالأب والابن، والعالي والسافل .

وتنقسم أيضاً إلي ما هو خارجيُ، کالأب والابن، وما هو ذهنيُّ کالکلّيّ

والفرد والأعمّ والأخصّ.

ص: 534

وفيه أبحاث : البحث الأول : [ في تعريف الأين] الأين هيئة حاصلةُ للجسم من نسبته إلي المکان . والمکان بما له من الصفات المعروفة عندنا بديهيُّ الثبوت، فهو الذي يصحّ أن

نقرأ في هذا الفصل :

1- الأول: الأين هو الهيئة الحاصلة من نسبة الشيء الجسم - الي المکان .

2- خصائص المکان: أ- انّه الذي ينتقل الجسم منه واليه. ب - يسکن فيه الجسم. ج - ذو وضع - يقبل الاشارة الحسيّة . د- له حد معين کالنصف والثلث. ه لا يجتمع فيه جسمان أو أکثر - لا يقبل أکثر من جسم واحد..

- في المکان خمسة أقوال: 1- انّه جسم، فهو جوهر. 2- صورة الجسم فهو جوهر أيضاً. 3- سطح يقبل ويلاقي الجسم المتمکن حاوياً کان أو محوياً. 4- السطح الباطن اللحاوي المماس للسطح الظاهر وهو قول ارسطو والفارابي وابن سينا. 5- بعد مجرد يساوي أقطار الجسم. ذهب إليه افلاطون و الرواقيون والمحقق الطوسي والمولي صدر المتألهين. 1وهناک من انکر المکان من أصله.

4 - المکان غير الوضع الامکان تغيير الجسم في المکان من غير حدوث تغيير في جوهره

ووضعه وسائر أعراضه.

5- الإمارة السابقة لا تنطبق علي الهيولي والصورة کترک المکان وطلبه مع الحرکة.

. لا يمکن نسبة المرکب الي المکان، خلافا للهيولي والصورة.

7- لازم القول بسطحية المکان کون الطائر الساکن في الجو والسمکة الساکنة في الماء

متحرکين، رغم سکونهما، لأن السطح الحاوي لهما - وهو المکان - في تغير مستمر.

8- الثاني : الأين هو الهيئة الحاصلة من النسبة لا نفس النسبة

9 - الثالث : الأين ينقسم الي : حقيقي وغير حقيقي، والأين هنا بمعناه العرفي.

10- وينقسم من جهة أخري الي الجنسي والنوعي والشخصي.

ص: 535

ينتقل الجسم عنه وإليه، وأن يسکن فيه، وأن يکون ذا وضع - أي مشاراً إليه بأنّه هنا أو هناک، وأن يکون مقدّراً له نصف وثلث وربّع، وأن يکون بحيث يمتنع حصول جسمين في واحد منه. قال صدر المتألّهين قدس سره : «هذه أربّع أمارات تصالح عليها المتنازعون لئلا يکون النزاع لفظيّاً». .

وقد اختلفوا في حقيقته علي أقوال خمسة: (أحدها) أنّه هيولي الجسم. و (الثاني) أنّه الصورة، و(الثالث) أنّه سطحُ من جسم يلاقي المتمکّن، سواء کان حاوياً أو محويّاً له. و(الرابع) أنّه السطح الباطن من الحاوي المماسُ للسطح الظاهر من المحوي، وهو قول المعلّم الأوّل وتبعه الشيخان الفارابيّ وابن سينا. و(الخامس) أنّه بُعدُ يساوي أقطار الجسم المتمکّن، فيکون بُعداً جوهريّاً مجرّداً عن المادّة ، وهو قول أفلاطون و الرواقيين، واختاره المحقّق الطوسي قدس سره وصدر المتألّهين. فهذه أقوال خمسة. (سادسها) قولُ بعضهم بإنکار المکان(1)

وإذ کانت الأمارات الأربّع المذکورة آنفاً بديهيّةً لا يُرتاب فيها، فعلي المنکرين أن يرجعوه إلي مقولة الوضع، فغيرها من الجوهر وسائر الأعراض لا ينطبق عليه ألبتّةَ. لکن يرد عليه : أنّ الجسم ربّما ينتقل من مکان إلي مکان مع عدم التغيّر في جوهره وسائر أعراضه غير الأين وربّما يعرضه التغيّر فيه مع عدم

ص: 536


1- والثالث: أنه سطح من جسم يلاقي المتمکن) ويباشره بالملامسة وکل سطح فهو که والکم من الأعراض، فالمکان علي هذا القول عرض ، (سواء کان السطح (حاوياً له) أي لذلک الشيء المتمکن، کالسطح الداخلي للإناء الحاوي للماء الذي بداخله، والماء هو المحوي ، والسطح الحاوي - سطح الإناء - ملاقي وملامس لسطح المحوي - وهو الماء -، (أو کان) السطح (محوا له) أي للشيء المتمکن فيه والحال بداخله، کالرأس والعمامة التي فوقه وتحيط به، فالرأس لا يحوي العمامة بل علي العکسر العمامة حاوياً للرأس والرأس محوي ملاق ملامس مباشرة للعمامة. الرابع أنه) أي المکان هو السطح الباطن من الحاوي المماس للسطح الظاهر من المحوي) کالسطح الداخلي للحوض المماس للسطح الخارجي للماء الذي فيه .

الانتقال، فالمکان غير الجميع حتي الوضع(1)

والقول بأنّه الهيولي أو الصورة لا تنطبق عليه الأمارات السابقة، فإنّ المکان يطلب بالحرکة ويُترک بالحرکة، والهيولي وکذا الصورة لا تُطلبان بالحرکة ولا ترکان بالحرکة، وأيضاً المرکب يُنسب إلي الهيولي فيقال : «باب خشبيّ» أو « من حديد» ولا يُنسب إلي المکان (2).

فالمعتمد هو القول بالسطح أو البعد الجوهريّ المجرّد عن المادّة. وللفريقَين

إحتجاجات ومشاجرات طويلة مذکورة في المطوّلات(3)

ومن أقوي ما يورد علي القول بالسطح أنّ لازِمَهُ کون الشيء ساکناً ومتحرّکاً في زمانٍ واحدٍ، فالطير الواقف في الهواء والسمک الواقف في الماء عند ما يجري

ص: 537


1- (وإذ کانت الأمارات الأربّع المذکورة آنفاً بديهيّة لا يرتاب فيها، ولا يمکن بذلک إنکار المکان بوجو من الوجوه، وليس لأحد أن ينکر المکان بعد أماراته البديهية الظاهرة (فعلي المنکرين أن يرجعوه) أي المکان (الي مقولة الوضع) حتي يخلصوا من السفسطة. لکن يرد عليه) أي علي إرجاع الأين الي مقولة الوضع وعدّهما مقولة واحدة والأصل فيهما الوضع : (ان الجسم ربّما ينتقل من مکان إلي مکان آخر (مع عدم) وقوع (التغير في جوهره وسائر أعراضه، غير الأين) فالتغير لا يحصل إلا في الأبن وأما جوهر الجسم وأعراضه حتي الوضع، باقية علي حالها، وربّما يعرضه) أي الجسم (التغير فيه) أي في جوهر الجسم وسائر أعراضه (مع عدم الانتقال من مکان إلي مکان آخر، فالمکان غير الجميع) أي غير الجوهر وسائر الأعراض (حتي الوضع).
2- (فإن المکان يطلب بالحرکة...الخ) فالجسم حين يتحرک في المکان يترک مکاناً ويطلب مکان آخر يصل إليه ويحلّ فيه (و) أما (الهيولي وکذا الصورة لا حرکة فيهما و(لا تطلبان بالحرکة ولا تترکان بالحرکة) أي لا تترکان المکان بالحرکة ولا تطلبان مکاناً آخر بالحرکة بعد ترکها للمکان الأول : والجسم في حرکته التي تختلف عن الحرکة المکانية لا يترک هيولاً أو صورةً لتطلب هيولي وصورةً أخري.
3- (فالمعتمد) والقوي من الأقوال الخمسة (هو القول الثالث والرابع وهو القول بالسطح، أو) القول الخامس، وهو القول بالبعد الجوهري المجرد عن المادة) وإن کانت هذه الأقوال أيضاً لا تخلو من نقاش وإشکال، وأهم هذه الثلاثة قول أرسطو و افلاطون فانتبه .

الهواء والماء عليهما يجب أن يکونا متحرّکين لتبدّل السطح المحيط بهما من الهواء والماء وهما ساکنان بالضرورة. وأيضاً المکان متصف بالفراغ والإمتلاء، وذلک نعتَ البعد لا نعت السطح.

ومن أقوي ما يورد علي القول بالبُعد الجوهريّ المجرّد أن لازِمَهُ تداخُلُ المقدارين، وهو محال ، فإنّ فيه حلول الجسم بمقداره الشخصيَّ الذّاهب في الأقطار الثلاثة في المکان الذي هو مقدارُ شخصيّ يساويه ، ورجوعُهما مقداراً شخصيّاً واحداً ولا ريب في امتناعه. اللهم إلّا أن يمنع ذلک بأنّ من الجائز أن يکون المانع هو الهيولي مع المقدار أو الصورة مع المقدار أو هما معه(1)

البحث الثاني: [في محلّ الکلام]

قد عرفت أنّ الأين هيئة حاصلةُ للشيء من نسبته إلي المکان. والکلام في

کونه هيئة حاصلةً من النسبة، لا نفس وجود النسبة، نظير ما تقدّم في الإضافة .

البحث الثالث: [في أقسام الأين]

ص: 538


1- (أن لازمه تداخل المقدارين) المقدار الجسمي والمقدار المکاني (وهو محال) أما وجه الاستحالة (فإن فيه) أي في هذا القول (حلول الجسم بمقداره الشخصي) المتعين (الذاهب) والممتد (في الأقطار الثلاثة والجهات الثلاث من الطول والعرض والعمق، (في المکان الذي هو مقدار شخصي) متعين أيضاً و(يساويه) أي يساوي حجم الجسم، (ورجوعهما) أي و رجوع الجسم والمکان بعد حلول أحدهما في الآخر (مقداراً شخصياً واحداً) أي يصيران مقداراً شخصياً واحداً، (ولا ريب في امتناعه) أي امتناع هذا الحلول واتحاد المقدارين المعينين. (اللهم إلا أن يمنع ذلک) التداخل والحلول والاتحاد فلا يکون التداخل ممتنعاً بأن من الجائز أن يکون المانع من حلول کل واحد من المقدارين الشخصيين في الآخر، و تداخل الأبعاض، (هو الهيولي مع المقدار، أو الصورة مع المقدار أوهما معاً) أي الصورة والهيولي معاً، فالمانع من تداخل الأبعاد هو الهيولي و مقداره، أو الصورة و مقدارها الهيولي والصورة معاً وأما إذا انتفي وجود الهيولي والصورة لشيء فإن ذلک الشيء لا يزاحم ما له هيولي وصورة، ولا استحالة لتداخلهما وما نحن فيه من هذا القبيل.

الفصل السابع عشر : في الأين .

قد يقسم الأين إلي أوّلٍ حقيقيًّ وثانٍ غير حقيقيًّ، فالأوّل کون الشيء في مکانّه الخاصّ به الذي لا يسعه فيه غيره معه ککون الماء في الکوز، والثاني نظير قولنا : «فلانُ في البيت»، فليس البيت مشغولاً به وحده، بل يسعه وغيره ، وأبعد منه کونه في الدار ثمّ في البلد وهکذا. والتقسيم غيرُ حقيقيًّ، والمقسَمُ هو الأين بحسب توسُع العرف العام(1)

ويقربّ منه تقسيمُهُ إلي أينٍ جنسيًّ وهو الکون في المکان، وأينٍ نوعيُّ کالکون في الهواء، وأينٍ شخصيًّ ککون هذا الشخص في هذا الوقت في مکانّه الحقيقيّ(2)

ص: 539


1- (قد يقسّم الأين الي قسمين أيضاً(أولٍ) أو (حقيقي، وثانٍ) أو غير حقيقي (فالأول کون الشيء بل الأين هيئة حاصلة من .......الخ، وليس هو الکون في المکان ، (في مکانّه الخاص الذي لا يسع فيه) أي في ذلک المکان (غيره معه) بحيث يکون قد ملأ المکان بالتمام والکمال (ککون الماء في الکوز) اذا کان الکوز مملواً من الماء ليس فيه مکان لغير الماء علي الإطلاق، وحينئذ يکون السطح الداخلي للکوز مماساً للسطح الخارجي للماء (و) نفس هذا التقسيم للأين إلي حقيقي وغير حقيقي، (غير حقيقي) أيضاً (والتقسيم) المذکور هنا (غير حقيقي) وذلک أن القسم الثاني والأين الثاني - غير الحقيقي -، خارج عن مقولة الأين، واطلاق الأين عليه لا يخلو من مجاز ومسامحة، (و) لهذا فقد اعتبرنا (المقسم) لهذين القسمين (هو الأين) لا بمعناه الفلسفي الحقيقي المقتضي للدقة العقلية بل (بحسب توسّع العرف العام في مفهوم الأين
2- (ويقربّ منه) أي من التقسيم السابق ( تقسيمه) أي تقسيم الأين (الي أين جنسيًّ) عام (وهو الکون في المکان) عموماً في قبالة ما ليس له مکان کالمجردات والمکان هنا جنس فالاين جنسي (وأين نوعي) لا يوجد الا في نوع خاصٍ من الأمکنة (کالکون في الهواء) أو الماء .

ص: 540

الفصل الثامن عشر : في المتي

وهو الهيئة الحاصلة للشيء من نسبته إلي الزمان .

سيأتي إنّ شاء الله أنّ لکلَّ حرکةٍ بما لها من الوجود السيّال التدريجيّ مقداراً غيرَ قارًّ يخصّها ويغاير ما لغيرها من الإمتداد غير القاز، فلکلَّ حرکةٍ خاصّةٍ واحدةٍ بالعدد زمانُ خاصُّ واحدُ بالعدد، غير أنّ بعض هذه الأزمنة يقبل الإنطباق علي بعض، والزمان العامُ المستمرّ الذي نقدّر به الحرکات زمانُ الحرکة اليوميّة المأخوذُ مقياساً تقيس به الأزمنة والحرکات، فيتعيّن به نِسَبُ بعضها إلي بعض بالتقدّم والتاخّر والطول والقصر، وللحوادث بحسب ما لها من النسبة إلي الزمان هيئة

نقرأ في هذا الفصل :

- متي هيئة حاصلة من نسبة الشيء الي الزمان .

2- کل حرکة - واحدة - لها زمان خاص بها، والازمنة تقبل الانطباق علي بعضها،

والزمان العام الذي يعد ملاکاً ومقياساً للأزمنة جميعاً فهو زمن الليل والنهار.

3- تنقسم متي إلي حقيقي وغير حقيقي.

4- تختلف المتي والأين في امکان اجتماع أمور کثيرة في المتي - الزمان - خلافاً للأين -

المکان - کما تقدم

5- تقع الحوادث التدريجية في طول الزمان ، واما الحوادث الآنية کالوصل والفصل

والتماس فإنها تقع في طرف الزمان.

6- تنسب المتي الي الحرکة بالذات والي المتحرک بالعرض، ولکن بناءاً علي الحرکة

الجوسرية فإن الحرکة والمتحرک شيء واحد.

7- تنقسم المتي الي الانقسامات التي تنقسم اليها المقولات التي تقع هي فيها .

ص: 541

حاصلةُ لها هي المتي(1)

ويقربّ الکلام في المني من الکلام في الأين ، فهناک متي يخصّ الحرکة لا يسع معها غيرها وهو المتي الأوّل الحقيقيّ، ومنه ما يعمها وغيرها ککون هذه الحرکة الواقعة في ساعة کذا، أو في يوم کذا، أو في شهر کذا، أو في سنة کذا، أو في قرن کذا، وهکذا.

ص: 542


1- (سيأتي ان شاء الله تعالي، في الفصل الحادي عشر من المرحلة التاسعة، (أن لکل حرکة بمالها ..... الخ) وحاصله : أنا سنثبت في المرحلة التاسعة في باب الحرکة أن لکل مو جود زماناً خاصاً يوجد في ظرفه وحيطته الوجودية الخاصة به، لأن حقيقة الزمان عبارة من الکمية غير القارة وهي کم غير قار، فالزمان عرض خاص بموضوعه، وزمان کل شيء بعد من وجوده ، ليس ظرفاً مستقلاً عن الشيء في الخارج - غير مستقل عن وجود متعلقه -، وما کان بعدة من أبعاد وجود الشيء فهو لا يستقل عنه، وهذه الأقوال مبنية علي الحرکة الجوهرية ، ولما کانت الاجسام متحرکة متغيرة في جوهرها، حدث فيها بسبب حرکتها الجوهرية بعد غير قار، وهذا البعد کم من الکميات ، وعليه فلا حقيقة ولا صحة لکون الزمان ظرفة تقع فيه الأشياء، کل في زمان خاص به، ولهذا فان لکل شيء زماناً خاصاً به لا يسري الي غيره، کما أن طول کل جسم که خاص به لا يسري الي غيره، وهکذا عرضه وعمقه وسائر أوصافه الخاصة به، إلا أننا نقيس هذه الکميات بعضها ببعض، فنقول طول هذا الرجل يساوي طول ذاک ، وهذه الشجرة أطول من تلک وهلم جرا، أو نقول طول هذا العمود ثلاثون مترا، ومعناه أنا قد اعتبرنا مقدارة من هذا العمود، هو المتر الواحد منه، وجعلناه عادّاً نعدّ به العمود بأکمله، تقول العمود يعادل المتر الواحد ثلاثين مرة، وهکذا في سائر الأقيسة والمقادير کالفرسخ والمتر المربّع والمتر المکعب والسانتمتير والکيلومتر وهکذا الاعداد وجميع الکميات. اذا عرفت هذا فإنا نختار قطعة من الزمان معينة مشخصة معلومة عند العرف العام أو الخاص بحسب مقتضي الأمر، وهنا. وفيما نحن فيه - نختار تلک القطعة المعلومة عند العرف العام ثم نجعلها مقياسأ لمعرفة طول سائر الأزمنة - وذلک أن الزمان امتداد طولي أيضاً - وهذه القطعة الزمنية هي طول الليل والنهار الذي يعادل الآن بحسب الاعتبار أربّعاً وعشرين ساعة کل ساعة ستين دقيقة وکل دقيقة مؤلفة من ستين ثانية، وهي أجزاء هذا الواحد العاد للأزمنة، وهذه الفترة عبارة عن دورة کاملة للأرض حول نفسها.

والفرق بين الأين والمتي في هذا الباب أنّ الزّمان الخاصّ الواحد يشترک فيه

کثيرون بانطباقها عليه ، بخلاف الأين الخاصّ الواحد فلا يسع إلّا جسماًواحداً .

وينقسم المتي نوعَ انقسام بانقسام الحوادث الزمانيّة ، فمنها ما هو تدريجيّ الوجود ينطبق علي الزمان نفسه، ومنها ما هو آني الوجود ينتسب إلي طرف الزمان کالوصولات والمماسّات والانفصالات(1)

ص: 543


1- (وينقسم المتي نوع انقسام بانقسام الحوادث الزمانية...الخ) وحاصله: ان ما ينسب الي الزمان - وله نسبة زمانية - علي قسمين، القسم الأول، عبارة عن الحوادث التدريجية المنسوبة إلي الزمان - وفيها نسبة زمانية ، وهي تنطبق علي الزمان حقيقة، لأنها تدريجية ممتدة والزمان أيضاً تدريجي ممتد، فهي ذوات أزمنة حقيقية تنطبق عليها، والقسم الثاني : عبارة عن الحوادث الدفعية الآنية التي لها نوع تعلق بالزمان ونسبة اليه، فأنها تنسب إلي الزمان نوع انتساب ، ويمکن القول بأنها وقعت في الزمان الخاص بها، رغم أن هذه الحوادث الآنية ليست امورة تدريجية ممتدة ، بيان ذلک: أنا نفرض أجزاء للزمان ، کل جزء من الزمان فرضناه مستقلاً منحازاً عن غيره من الأجزاء، فإنه ينتهي عند نقطة معينة ، کالصباح الذي لا يمکن فرضه الا بفرض نقطة يفصل بينه وبين المساء هي نقطة التقائهما، قبلها صباح وبعدها مساء، ثم أن هذه النقطة نهاية جزء من الزمان وبداية جزء آخر منه، فهو طرف الزمان وليس بزمان لأنه ليس تدريجياً ممتداً، تسمّي هذه النقطة «آناً»، وهي الآن بالمعني الفلسفي لا العرفي الدال علي جزء صغير من الزمان، فالآن عبارة عما ينتهي اليه الجزء من الزمان، والحوادث الآنية الدفعية هي الحوادث المنطبقة علي هذا الآن الذي ينتهي اليه الجزء من الزمان، لا أنها تنطبق علي جزء من الزمان، بل تنطبق علي تلک النقطة وهي «الآن»، علي سبيل المثال لو اصطدمت سيارة بأخري فان الاصطدام يحدث اتصالاً بين السيارتين، أو قل الاتصال بينهما أحدث الاصطدام بينهما، وهذا الاتصال لم يقع في الزمان، نعم الحرکة قبل الاتصال وقعت في الزمان بل هي عين الزمان، اما نقطة الاتصال ولحظة الاتصال وقعت في الآن - أي في طرف الزمان وما ينتهي اليه الزمان ، هذا بالنسبة إلي الاتصال، ونفس الأمر يصدق في الانفصال، إذ الجسمان المتلاصقان عند نقطة انفصالهما عن بعض، لا يکون ذلک واقعة في الزمان بل نقطة الانطلاق والانفصال تقع في طرف الزمان وهو الآن، الذي ينتهي اليه الزمان ، والنتيجة أن الحوادث الاتصالية - الوصولات -، والانفصاليه - الانفصالات - والمماسية - المماسات ، والمماسات هي الحوادث الاتصالية لکن تختلف عنها بأن التماس يحصل بين سطحين وخطين، والاتصال يقع بين نقطتين، فإن هذه الحوادث کلها تقع في طرف الزمان لا في الزمان ، وبما أن منتهي اليه الزمان وطرفه منتزع من الزمان وهذه منسوبة إلي هذا الآن - طرف الزمان - فإنه يصح نسبتها إلي الزمان أيضا، وما صحت نسبته إلي الزمان ، کان من المتي وصدق عليه المتي، لأن المتي علي ما تقدم - هيئة حاصلة للشيء من نسبته إلي الزمان ، وهذه الحوادث حصلت لها نسبة الي الزمان، مع أنها لم تقع في نفس الزمان بل وقعت في طرفه. وفيه إشکال فتأمل

وينقسم أيضاً - کما قيل - إلي ما بالذات وما بالعرض، فما بالذات متئ الحرکات المنطبقة علي الزمان بذاتها، وما بالعرض متي المتحرّکات المنطبقة عليه بواسطة حرکاتها، وأمّا بحسب جوهر ذاتها فلا مبنُّي لها. وهذا مبني علي منع الحرکة الجوهريّة، وأما علي القول بها - کما سيأتي إن شاء الله - فلا فرق بين الحرکة والمتحرّک في ذلک(1)

وينقسم أيضاً بانقسام المقولات الواقعة فيها الحرکات (2)

ص: 544


1- هذا التقسيم مبني علي نفي الحرکة الجوهرية وانکارها، وهو أن الشيء الذي ينسب اليه متي ، إما أن يکون ذا زمان بذاته ، وإما أن يکون الزمان في الحقيقة لأحد عوارضه لا لنفسه، مثلا لو قلنا هذا الجسم موجود في هذا الصباح، فإن الذي ينطبق علي الزمان هنا هو الحرکة، وليس للجسم زمان في حد ذاته اذا لو حظ خالياً من الحرکة ، إذ الزمان في الحقيقة للحرکة وانما ينسب إلي الجسم ثانياً وبالعرض، وهکذا فإن متي حين يُنسب إلي شيء - جسم -، فإنه في الحقيقة منسوب الي حرکة هذا الجسم وللحرکة بالأصالة، وانما ينسب الي الجسم بالعرض لا بالأصالة، ولهذا قسموا المتي الي ما بالذات وما بالعرض، وأن المتي بالذات للحرکة والمتي بالعرض المتحرک، واما علي القول الحق وهو القول بالحرکة الجوهرية فليس هناک ما بالذات وما بالعرض لعدم الفرق بين الحرکة والمتحرک.
2- (وينقسم) المتي (أيضاً بانقسام المقولات الواقعة فيها الحرکات المستلزمة للتغيرات الکيف والکم والوضع والأين ، وقيل أيضاً أن ينفعل، فأينما وقعت الحرکة لازمها الزمان وهي تلازمه، ولازمان لما لا حرکة له، وما کان ملازماً للزمان کان ملازمة للمتي ولا يخلو منه تقرأ في هذا الفصل : 1- الوضع هيئة حاصلة من نسبة أجزاء الشيء بالبعض الآخر، ونسبة المجموع بالخارج. 2- ينقسم الوضع الي ما بالطبع وما لا بالطبع، وبالفعل و بالقوة. 3- قيل يوجد في الوضع التضاد والتشکيک بالشدة والضعف کالاستلقاء والانبطاح والانحناء والانحناء الأشد والأکثر. 4 - غاية الخلاف لا تصور لها في الوضع. 5- تنبيه : للوضع معنيان آخران: أ- القابلية للإشارة الحسية ، فکل جسم وجسماني يقبل الوضع کالنقطة خلافا للوحدة. ب - قابلية کم للاشارة الحسية. 6- لکن الخط والسطح والحجم إذا لو حظت بعيدة عن تعلقها بالمادة الجسمانية فإنها لا تقبل الاشارة الحسية ، إلا بلحاظ صورتها الخيالية، حيث تتعلق بها اشارة خيالية. 7- للصور العقلية اشارة مسانخة لها - أي اشارة عقلية.

الفصل التاسع عشر : في الواضع

الوضع هو الهيئة الحاصلة للشيء من نسبة بعض أجزائه إلي بعض والمجموع

إلي الخارج کهيئة القيام والقعود والاستلقاء والانبطاح(1)

ص: 545


1- (الوضع هو الهيئة الحاصلة للشيء من نسبة بعض أجزائه الي بعض) کالقيام والقعود والاستلقاء والانبطاح، فإن الانسان مثلا، في کل حالة من هذه الحالات تختلف نسبة بعض أجزائه الي بعض، مثلاً الرأس في حال القيام وضعه وجهته الفوقيه بالنسبة إلي سائر اعضائه وهي بالعکس بالنسبة إليه، وأما إذا قعد ومد رجليه مثلاً فإنهما لا يکونان تحتاً بالنسبة إلي الرأس، وإذا استلقي علي ظهره فإن الفوقية للرأس والتحتية لسائر أجزائه بالقياس الي الرأس تتفي جميعاً، فلا فوقية هنا ولا تحتية ، وهکذا حال الإنبطاح علي بطنه فان بطنه يصير تحتاًوظهره فوق بعکس الاستلقاء، وعلي کل حال فإنه في کلّ حالة من الاحوال تکون لأجزائه أوضاع خاصة عندما يقاس بعضها إلي بعض، و تتغير هذه الأوضاع بتغير الأحوال، (والمجموع الي الخارج، فإن لها من حيث المجموع أيضاً وضعاً خاصاً بالقياس مع الخارج وما حولها من الموجودات الخارجية.

وينقسم الوضع إلي ما بالطبع وما لا بالطبع . أمّا الذي بالطبع فکاستقرار الشجرة علي أصلها وساقها، والذي لا بالطبع فکحال ساکنِ البيت من البيت . وينقسم إلي ما بالفعل وما بالقوّة(1).

قيل : الوضع ممّا يقع فيه التضادّ والشدة والضعف. أما التضادّ فمثل کون الإنسان رأسُةُ إلي السماء ورِجلاه إلي الأرض مضادّاًلوضعه إذا کان معکوساً ، والوضعان معنيان وجوديّان متعاقبان علي موضوع واحدٍ من غير أن يجتمعا فيه وبينهما غاية الخلاف، وکذا الحال في الإستلقاء والانبطاح، وأمّا الشدة فکالأشدّ انتصاباً أو الأکثر انحناءً(2)

ص: 546


1- (وينقسم) الوضع أيضاً الي ما بالفعل وما بالقوّة). الوضع بالفعل عبارة عن ملاحظة أعضاء الشيء بالفعل من جهة ما لها من الترتيب بالنسبة اليها والي الخارج، کالشخص الذي في السيارة والقلم الذي علي الطاولة، وأما الوضع بالقوة فهو عبارة عن عدم کون الکل والمجموع الذي نريد قياسه الي غيره وما هو خارج عنه ذا وجود بالفعل - وغير موجود في الخارج -، بل وجوده بالقوة الصرفة، کالوحئ - صخرة التحي - فإن لها قطبا و محورا يدور حوله الرحي، ثم يمکن أن ترسم دائرة حول هذا القطب ثم ترسم دائرة أخري علي مسافة أبعد، من الأولي وهکذا ترسم دوائر واحدة تلو أخري حتي تصل الي محيط الرحي۔ صخرة الرحي.، الموجود بالفعل هو الدائرة المحيطة بالرحي وهي محيطها، وأما الدوائر المفروضة بين القطب والمحيط فإن بعضها قريب أو أقربّ إلي القطب و بعضها بعيد أو أبعد، فإن هذه المسافات البعيدة والقريبة الحاصلة من وضع خاص من الدائرة، تعد وضعاً بالقوة لعدم وجود دائرة بالفعل بين القطب والمحيط، وبما أن وجود هذه الدوائر بالقوة، فإن الوضع الذي ينسب اليها بالقوة أيضاً، وکيف کان فإن کون الوضع بالقوة تابع لموضوعه کالدائرة في المثال السابق فإنها موضوع للوضع ولما کانت الدوائر البينية مفروضة بالقوة، کان الوضع بالقوة أيضاً.
2- (قيل) راجع الجزء الرابع من الاسفار والتحصيل والجزء الأول من المباحث المشرقية وغيرهم کثيرون من الحکماء: (الوضع مما يقع فيه) أوّلاً : (التضاد) و ثانياً : (الشدة والضعف، أما التضاد ....الخ) وأما وجه التضاد بينهما: (والوضعان) کون الانسان رأسه الي السماء، وکونه معکوساً عبارة عن أنهما (معنيان) ومفهومان (وجوديان متعاقبان علي موضوع واحد) يکون تارة بهذا الوضع الطبيعي وتارة بذلک الوضع المعکوس، (من غير أن يجتمعا فيه) أي في ذلک الوضع (وبينهما غاية الخلاف) أي بين الوضعين - الطبيعي والمعکوس -، غاية الخلاف، وهذه اوصاف المتضادين وهي : کون الضدين أمرين حقيقيين وجوديين متعاقبين علي موضوع واحد من غير أن يجتمعا فيه. واما الشدة فکا)المنتصب و(الأشدّ انتصاباً، أو کالمنحني و(الاکثر انحناءاً).

وفي تصوير غاية الخلاف في الوضع خفاءُ، فليتأمّل . تنبيهُ : اللوضع معنيان آخران غير المعني المقولي.

(أحدهما) کون الشيء قابلاً للإشارة الحسيّة. والإشارة- کما نُقِلَ عن الشفاء - تعيينُ الجهة التي تخصّ الشيء من جهات هذا العالم ، وعليه فکل جسم وجسماني يقبل الوضع بهذا المعني، فالنقطة ذات وضع بخلاف الوحدة(1)

وثانيهما) معني أخصّ من الأوّل، وهو کون الکم قابلا للإشارة الحسيّة

بحيث يقال : أين هو من الجهات ؟ وأين بعض أجزائه المتصلة به من بعض ؟

لکن نُوقش فيه : بأنّ الخط والسطح، بل الجسم التعليميّ لا أينَ لها لولا تعلّقها بالمادّة الجسمانيّة ، فلا يکفي مجرّد الإتّصال الکمي في إيجاب قبول الإشارة الحسيّة حتي يقارن المادّة. نعم للصورة الخيالية المجردّة من الکم إشارة خياليّة وکذا للصورة العقليّة إشارة تسانخها(2)

ص: 547


1- (فالنقطة) علي هذا المعني العام غير المعني المقولي تکون (ذات وضع خاص بها بالقياس الي هذا العالم وجهاته، (بخلاف الوحدة) ومفهوم الواحد فإنهما لا يختصان بالجسم بل الواحد والوحدة يجريان حتي في المجردات کأن نقول العقل الأول واحد، فليس لهذا المفهوم وضع بهذا المعني، فلا يصح الاشارة اليه، نعم تصح الإشارة الي متعلق الوحدة وموضوعها کالکتاب الواحد والکرة الواحدة.
2- (وهو کون الکم) أي هذا المعني يخص الکميات، فلا يشتمل علي النقطة، (بحيث يقال : أين هو من الجهات؟ وا يعقبه سؤال آخر هو (أين بعض أجزائه المتصلة به من بعض؟) ولا يصح الاکتفاء بالسؤال الأول دون الثاني، ولا بأحدهما دون الآخر، وإلا انتفي الغرض وعاد الي المعني الأول - العام - تماماً. لکن نوقش فيه... الخ) لا يمکن الاشارة الحسية الي الخط والسطح وحتي الجسم التعليمي - الحجم -، وذلک إذ (لا أين لها لولا تعلقها بالمادة الجسمانية) والجسم الطبيعي فالإشارة في الحقيقة إلي المادة الجسمانية وليس الي الخط والسطح والحجم (فلا يکفي مجرد) فرض شيء من الاتصال الکمي) کالخط وأشباهه (في إيجاب قبول الاشارة الحية) ولا نقع الاشارة الحسية عليها - أي الکميات المجردة - (حتي يقارن المادة) فإذا حل الاتصال الکمي المفروض في الجسم والمادة، وصار مقارناً لهما أوجب قبول الاشارة الحسية بعرض تلک المادة لا بالذات (نعم للصورة الخيالية المجردة من الکم اشارة خيالية) کما لو فرضنا جسمين أحدهما يقع فوقاً بالقياس إلي صاحبه ولهما أجزاء، نلاحظ أجزاء کل منهما بالقياس الي جهة الجسم بالنسبة إلي صاحبه، فأجزاء کل واحد منهما بلحاظ تلک الجهة تتعلق ببعضها نوع تعلق و تحصل بينها نوع ارتباط و نسبة بالقياس الي جهة کل واحد من الجسمين، هذه الاشارة خيالية وليست حتية، (وکذا للصورة العقلية) کتصور مفهوم المربّع أو المستطيل الذي يختلف کل ضلع من أضلاعهما عن الضلع الآخر، نعم لهذه الصور الشارة) عقلية (تسانخها). وهذا کله ليس من الاشارات الحسية وخارج عن محل البحث نقرأ في هذا الفصل : 1- الجدة هيئة حاصلة من احاطة شيء بشيء آخر، بحيث ينتقل المحيط بانتقال المحاط. 2- هذه الاحاطة أما تامة أو ناقصة، وطبيعية أو غير طبيعية کإحاطة جلد الحيوان بالحيوان، والتقمص والتنقل. 3- قال صدر المتألهين بجواز تصوير الجدة الحقيقية والملک الحقيقي في مثل القوي النفسانية للنفس فإن النفس تملک قواها حقيقة. - قال العلامة (قدس سره ) الحق أن في مثل «القوي للنفس» الملحوظ فيه حيثيتها الوجودية ، لا المعني المقولي، والملک الاعتباري أيضاً في الحقيقة اعتبار من الملک الحقيقي وليس من مقولة الاضافة .

ص: 548

الفصل العشرون : في الجِدَه

وتسمّي أيضاً «الملک» وهي: الهيئة الحاصلةُ من إحاطة شيءٍ بشيءٍ؛ بحيث ينتقل المحيط بانتقال المحاط . والموضوع هو المحاط ، فالإحاطة التامّة کإحاطة إهاب الحيوان به، والإحاطة الناقصة کما في التقمص والتنّعل والتختّم ونحو ذلک(1)

وتنقسم إلي جدةٍ طبيعيّةٍ کما في المثال الأول ، وغير طبيعيّةٍ کما في غيره من

الأمثلة.

قال في الأسفار : «وقد يعبّر عن الملک بمقولة (له) ؛ فمنه طبيعيُّ ککون القوي للنفس، ومنه اعتبارُ خارجيُّ تکون الفرس لزيد. ففي الحقيقة الملک يخالف هذا

ص: 549


1- والاحاطة اما تامة تشمل المحاط کلّه أو ناقصة لا تحيط إلا قسماً وجزءاً منه قلّ أو کثر (فالاحاطة التامة کإحاطة إهاب الحيوان به) أي أحاطة جلد الحيوان بالحيوان فإنها احاطة تامة .

الإصطلاح، فإنّ هذا من مقولة المضاف لا غير» - إنتهي (1)

والحقّ أنّ الملک الحقيقيّ الذي في مثل کون القوي للنفس حيثيّةُ وجوديّةُ هي قيام وجود شيءٍ بشيءٍ؛ بحيث يختّص به فيتصرّف فيه کيف شاء، فليس معنيً مقوليّاً ، والملک الإعتباري الذي في مثل کون الفرس لزيد إعتبار للملک الحقيقيّ دون مقولة الإضافة، وسنشير إن شاء الله إلي هذا البحث في مرحلة العاقل والمعقول(2)

ص: 550


1- (فمنه طبيعي) ليس اصطناعياً ولا جعلياً بل تابع لطبيعة الشيء وطباعه، (ککون القوي) النفسانية (للنفس) فإن هذه القوي للنفس بالطبيعة والتکوين لا بالجعل والاعتبار (ومنه اعتبار خارجي تکون الفرس لزيد) فإن الفرس بجعل الشارع واعتبار العرف صار ملکاً لزيد والا فلا ملکية حقيقية بين الأشياء المستقلة والجواهر القائمة بذاتها، فلا يملک جوهر جوهراً حقيقة ،( ففي الحقيقة الملک) والجدة بالمعني المصطلح في هذا الفصل والمخصص له هذا البحث (يخالف هذا الاصطلاح) المستعمل هنا بمعني - له -، هذا من مقولة أخري غير تلک المقولة ، ( فإن هذا) الذي جئنا علي ذکره عرضاً ومثلنا له بالقوي للنفس والفرس لزيد من مقولة) الاضافة و(المضاف، لا غير).
2- (والحق أن) القسم الأول ملک حقيقي و(حيثية وجودية) حقيقية خارجية وليس مفهوماً اعتبارياً وليس معني مقوليّاً.

الفصل الحادي العشرون : في مقولتي أن يفعل وأن ينفعل

في مقولتي أن يفعل وأن ينفعل(1)

أما الأوّل فهو هيئة غيرُ قارّة حاصلة في الشيء المؤثّر من تأثيره ما دام

يؤثّر ، کتسخين المسخّن ما دام يسخّن و تبريد المبرَّد ما دام يبرّد (2)

ص: 551


1- نقرأ في هذا الفصل : 1- أن يفعل هيئة غير قارة حاصلةُ للمؤثر من تأثير المؤثَّراً مادام موثراً . 2- أن ينفعل هيئة حاصلة للمتأثر من تأثير المتأثر مادام متأثراً. 3- من خواص هاتين المقولتين أنها تعرض للمقولات الأخري مثل الکيف والکم والوضع، کالتسخين والتسخن والتبريد والتبرد. 4- لمعروض هاتين المقولتين نوع حرکة و تدريج. 5- وجود مقولة ما من حيث انّه تدريجي يحصل منه أمر تدريجي آخر، أو يتحصل من أمر تدريجي آخر، فهو من هذا الحيث من مقولة أن يفعل وان ينفعل. 1- اشکال : ليس التأثير والتأثر أمرين موجودين زائدين علي ذات المؤثر والمتأثر، إذ حينئذ يحتاج التأثير التدريجي الي تأثير آخر يوجده للفاعل بالتدريج - تدريجاً -، وننقل الکلام الي التأثير الثاني والثالت و.... وهو يستلزم التسلسل، ونفس الکلام يجري في التأثر والقبول. 7- جواب: يرد الإشکال بناء علي القول بأن التأثير والتأثر أمران وجوديان - موجودان - منحازان مستقلان، لکنهما مجعولان بتبع جعل متبوعهما، لا ينحازان عن وجود موضوعهما. 8- الدليل علي وجود هاتين المقولتين، صدق مفهومهما علي الاعيان الخارجية في القضية الخارجية. 9- هذا الدليل قد لا يثبت سوي عدم کون المقولتين ذهنيتين محضتين، لکنه لا ينفي کونهما من المعقول الثاني الفلسفي.
2- (أما الأول) أي الفعل - أو أن يفعل - (فهو هيئة غير قارة) کالمتي، (حاصلة في الشيء و المؤثر) وهو الفاعل الطبيعي (من تأثيرها في ذلک الشيء المتأثر به (مادام يؤثر) فيه ، تدريجأاً في الزمان.

وامّا الثاني فهو هيئة غيرُ قارة حاصلةُ في المتأثَّر ما دام يتأثّر، کتسخُّن

المتسخَّن ما دام يتسخّن و تبرُّد المتبرَّد ما دام يتبرّد(1)

ومن خاصّة هاتين المقولتين : (أوّلاً): کما يظهر من الأمثلة أنّهما تعرضان غيرهما من المقولات کالکيف والکم والوضع وغيرها. و(ثانيا) : أن معروضَهما. من حيث هو معروضُ لا يخلو عن حرکة، ولذا عُبّر عنهما بلفظ «أن يفعل» و «أن ينفعل» الظاهرين في الحرکة والتدرّج، دون الفعل والإنفعال اللذَين ربّما يُستعملان في التأثير والتأثر الدفعيّ غير التدريجيّ. وبالجملة المقولتان هيأتان عارضتان

المعروضهما من جملة ما له من الحرکة (2)

قال في الأسفار : «واعلم أنّ وجودَ کلًّ منهما في الخارج ليس عبارة عن نفس السلوک إلي مرتبة ، فإنّه بعينه معني الحرکة، ولا أيضاً وجودُ کلَّ منهما وجودَ المقولات التي يقع بها التحريک والتحرّک ، کالکيف مثل السواد، والکم مثل مقدار الجسم النامي، أو الوضع کالجلوس والانتصاب، ولا غير ذلک. بل وجودهما عبارة عن وجود شي من هذه المقولات ما دام يؤثّر أو يتأثَّر ، فوجود السواد أو السخونة مثلاً من حيث إنّه سواد من باب مقولة الکيف، ووجودُ کلَّ منهما من حيث کونه تدريجيّاً يحصل منه تدريجيُّ آخر أو يحصل من تدريجي آخر هو من مقولة أن أن

ص: 552


1- وعلي عکس أن يفعل يکون أن ينفعل ، وهما متلازمان لا يخلو وجود أحدهما عن وجود الآخر.
2- (دون الفعل والانفعال اللذين ربّما يستعملان في التأثير والتأثر الدفعي غير التدريجي) اللذان هما من خصائص المجردات، وليس هذا المعني مراد ولا مبحوثاً عنه هنا، الاختصاصه بالتأثر والتأثير الماديين والجسميين فقط، سيما أن المبحوث عنه هنا حرکة ومتحرک وهما من خصائص الماديات، ولا دخل لهما في المجردات. ..

يفعل أو أن ينفعل(1)

وأمّا نفس سلوکه التدريجيّ - أي خروجه من القوّة إلي الفعل - سواء کان في جانب الفاعل أو في جانب المنفعل، فهو عين الحرکة لا غير، فقد ثبت نحو وجودهما في الخارج وعرضيتّهما» - إنتهي.

وأمّا الإشکال في وجود المقولتَين بأنّ تأثير المؤثَّر يمتنع أن يکون وصفاً ثبوتيّاً زائداً علي ذات المؤثر، وإلّا افتقر إلي تأثير آخر في ذلک التأثير، وننقل الکلام إليه ، فيتسلسل ذاهبة إلي غير النهاية ، وهو محصور بين حاصرَين : المؤثر

والمتأثّر (2)

ص: 553


1- (واعلم أن وجود کل منهما) أي التأثير والتأثر أو أن يفعل وأن ينفعل (في الخارج، ليس عبارة عن نفس السلوک الي مرتبة) بل السلوک الي مرتبة هو حرکة بذاته لا يندرج تحت مقولة (فإنه) أي السلوک والحرکة التحرک-، (بعينه معني الحرکة) وهي التغيير التدريجي ، ولا أيضاًوجود کل منهما وجود المقولات التي يقع بها...الخ) الحرکة الکمية کالجسم النامي الذي ينمو بالتدريج، أو الوضع کالشخص الجالس الذي ينتصب بالتدريج أو القائم الذي يجلس بالتدريج أو القائم الذي يجلس بالتدريج وهکذا، هذه التغييرات التي حصلت في الکيف فصار الرمادي أسود بالتدريج مثلاً، أو في الوضع حيث انتصب الجالس بالتدريج، أو في الکم حيث نما النبات تدريجاً، کل هذه التغييرات إنما وقعت في الکيف والکم والوضع وليس شيء من هذه الثلاثة أن ينفعل ولا أن يفعل، (ولا غير ذلک) حتي في سائر الأمور التي يقع فيها التغيير التدريجي غير هذه المقولات الثلاث ، فإنها ليست ان يفعل ولا أن ينفعل فوجود السواد أو السخونة...الخ)...( و وجود کلّ منهما) أي السواد والسخونة (من حيث کونه تدريجياً مقيداً بأن (يحصل منه) أي من السواد أو السخونة، أمر (تدريجي آخر) کتغيير السواد الي الزرقة ، فإنه من مقولة أن يفعل، (أو يحصل) هو (من) أمر (تدريجي آخر) تغيير الماء البارد الي الساخن بفعل الحرارة . حرارة النار، فإنه من مقولة أن ينفعل.
2- (واما الاشکال) الذي أورده الفخر الرازي (في وجود المقولتين) في الحقيقة والخارج وذلک انکم تدعون أن مقولة أن يفعل أمر وجودي وعرض يتحقق في الخارج بتحقق موضوعه ، وأن ذات الفاعل جوهر ذو أعراض، يتحقق علي هذه الأعراض عرض آخر هو أن يفعل ، فلزم وجود أمر ثبوتي في الخارج زائد علي ذات المؤثر وهو محال. واما الاشکال في وجود المقولتين وثبوتهما في الخارج : (بأن تأثير المؤثر يمتنع أن يکون وصفاً ثبوتياً زائداً علي ذات المؤثر) وهو محال وجوده في الخارج، (والّا) لو کان أمراً ثبوتياً (افتقر إلي تأثير آخر) وفاعل آخر يوجده ويحققه، إذ أنه تدريجي غير قار أوجده الفاعل تدريجاً ، ولما کان کذلک لزم وجود نسبة أخري بين الفاعل وفعله التدريجي، ويحصل من هذه النسبة والعلاقة هيئة مع أن يفعل آخر غير الأول، ويجري الکلام نفسه في أن يفعل الثاني (وننقل الکلام إليه) والي الثالث والرابع و ...هکذا (فيتسلسل.. الخ)، وحاصل الکلام انا لو فرضنا کون «أن يفعل» بنفسه أمرة وجودياً افتقر وأحتاج الي فاعل و تأثير آخر. والتأثير يحتاج إلي المؤثر والمؤثر هو الفاعل - هذا التأثير الآخر يجري في ذلک التأثير الأول ويوجده، ثم ان هذا التأثير الآخر يحتاج إلي تأثير ثالث يجري في ذلک التأثير الثاني ويوجده - ولا تأثير بلافاعل فالحاجة الي الفاعل والتأثير، في کل ذلک معأ لا إلي أحدهما دون الآخر لتوقف التأثير علي المؤثر والمؤثر هو الفاعل -، وکيف کان فالتأثير الثالث يفتقر الي تأثير ومؤثر رابع والرابع الي خامس وهکذا لا ينتهي، فتتحقق سلسلة غير متناهية من التأثيرات والمؤثرات - أي من أن يفعل ، وحتي علي فرض جواز هذا التسلسل اللامتناهي وأنه واقع في طول الزمان، فلا اشکال فيه - حتي بناء علي هذا الجواز - لا يرتفع الأشکال السابق کيف لا (وهو) أي هذا التسلسل واقع (بين حاصرين) أي امرين محصورين، فالتسلسل محصور بمحصورين، هما: (المؤثر والمتأثر) مؤثر واحد ومتأثر واحد، وليت شعري کيف وأني لکم أن تزعموا تحقق ماهيات غير متناهية بين مؤثر واحد و متأثر واحد، وهو باطل قطعاً.

ويجري نظير الإشکال في زيادة تأثّر المتأثر علي ذات المتأثّر، فلو کان قبول الأثر زائداً علي ذات القابل احتاج إلي قبول آخر، وننقل الکلام إليه، فيتسلسل، وهو محصور بين حاصرين، فالتأثير والتأثّر - سواء کانا دفعيَّين أو تدريجيَّين - وصفان عدميّان غيرُ موجودين في الخارج .(1)

ص: 554


1- (ويجري نظير الاشکال المتقدم في مقولة أن ينفعل أيضاًوحاصله : لو قلتم بوقوع هيئة وحصولها للمنفعل من خلال التأثر التدريجي، وأن هذه الهيئة أمر وجودي وبعبارة أخري لو قلتم أن «أن ينفعل» عبارة عن ماهية حقيقية وعرض زائد علي ذات المتأثر - وهو الجوهر - وقع الاشکال السابق والمحذور المتقدم الذي تقدم في «أن يفعل»، فانا نسأل: هذه الهيئة حين تحصل للشيء هل تحصل له تدريجأ أم دفعة وآناً ؟ لا محالة انکم تجيبون أنها تحصل بالتدريج، ونقول حصولها تدريجي أيضاً، وعليه فهي تحتاج الي انفعال آخر لقبول هذه الهيئة، ومن هذا الانفعال الثاني تحصل هيئة أخري تسمي أن يفعل آخر، وننقل الکلام الي أن ينفعل الجديد وهکذا الي غير النهاية.(فالتأثير والتأثر - سواء کانا دفعيين) وهو خارج عن محل البحث والنزاع (أو) کانا تدريجيين، الذي هو محل البحث والنزاع، کيف کان فإنهما (وصفان) للمؤثر أو المتأثر لکنهما (عدميان) أي (غير موجودين في الخارج). لا أنهما بمعني العدم في مقابل الوجود وهو العدم المطلق ، إذ لهما وجود ذهني البته.

فيدفعه أنّه إنّما يتمّ فيما کان الأثر الثبوتيّ المفروض موجوداً بوجوير منحاز،

يحتاج إلي تأثير مُنحازٍ جديدٍ يخصّه. وأمّا لو کان ثابتة بثبوت أمرٍ آخر فهو مجعول بعين الجعل المتعلّق بمتبوعه، والتأثير والتأثر التدريجيّان موجودان بعين إيجاد الکيف کالسواد في المسود والمتسوَّد، ولا دليل علي وجود الشيء أقوي من صدق مفهومه علي عينٍ خارجيًّ في قضيّةٍ خارجيّةٍ(1)

ص: 555


1- (فيدفعه) کما جاء في الجزء الرابع من الأسفار (أنه) أي هذا الاشکال المتقدم (انما يتم) في صورة واحدة، وهي (فيما اذا کان الأثر الثبوتي المفروض) سواء کان «أن يفعل» أو کان أن ينفعل»، هذا الأثر (کان موجوداً بوجود منحاز) ولهذا فإنه يحتاج الي تأثير منحاز) أن کان هذا الوجود المنحاز فاعلاً احتاج الي فاعل، وان کان انفعالاً احتاج الي انفعال آخر جديد يخصه) تأثير جديد خاص بأن يفعل ليوجد هذه الهيئة، (واما لو کان) «أن يفعل» أو أن ينفعل» (ثابتاً بثبوت أمر آخر) بحيث لا يکون له ثبوت منحاز، فلا يحتاج الي جاعل منحاز، (فهو) في هذه الصورة (مجعول بعين الجعل المتعلق بمتبوعه) وبنفس ذلک الجعل يوجد التابع والمتبوع والهيئة توجد حينئذ دفعة واحدة مع ذلک التأثير، أعني أن الفاعل الذي يوجد الحرارة يوجد «أن ينفعل» المنسوب اليها أيضا بنفس ايجاد الحرارة، لا بايجاد آخر، وقبول الحرارة لا يفتقر الي انفعال جديد ، (و) لکن ليس الأمر کذلک بل (التأثير والتأثر التدريجيان موجودان بعين ايجاد الکيف) نفس الجعل الذي تعلق بالکيف تعلق «بأن يفعل» أو «أن ينفعل» المنسوب اليه، (کالسواد) الذي هو من مقولة الکيف (في المسوَّد) الذي يوجد السواد ، (والمتسود) الذي هو من مقولة أن ينفعل ويعني صيرورة الشيء أسود، نفس الجعل الذي تعلق بعين وجود السواد، تعلق أيضاً بعين وجود المتسود لا يحتاج الي جعلين، وجود واحد يتحقق به أمران وجوديان هما التسويد والتسود - أي المسود والمتسود -، فجعل السواد والتسويد والتسود جعل واحد هو في الحقيقة عبارة عن جعل السواد. وأما انکم انکرتم وجود هاتين المقولتين في الخارج بدليل عدم وجود دليل علي وجودهما الخارجي فإنه مرفوض کيف لا ولا دليل علي وجود الشيء) في الخارج مطلقاً (أقوي من صدق

ص: 556

المرحلة السابعة

في الواحد والکثير

وفيها: تسعة فصول

ص: 557

ص: 558

المرحلة السابعة في الواحد و الکثیر

الفصل الأول في أنّ مفهوم الوحدة والکثرة

بديهيُّ غنيُّ عن التعريف

ينقسم الموجود إلي الواحد والکثير ، فکلُّ موجود إمّا واحدُ وإمّا کثيرُ . والحقّ أنّ الوحدة والکثرة من المفاهيم العامُةِ الضرريّةِ التصّور المستغنيةِ عن

نقرأ في هذا الفصل : 1- الموجود اما واحد واما کثير، ولا تخلو تعاريف هذين المفهومين من الدور. 2 - الواحد هو الذي لا يقبل التقسيم من جهة أنه لا يقبل التقسيم 2- الکثير هو الذي يقبل الانقسام من جهة أنه يقبل الأنقسام.

4- تنبيه : قال الفلاسفة : الوحدة تساوق الوجود، وحتي الکثير فإنه من جهة وجوده

واحد لا يتعدد، ولهذا فالعدد يعرض الکثرات.

5- اما توهم ان قول الفلاسفة بمساوقة الوحدة للوجود ينا في تقسيم الموجود الي واحد

وکثير.

6- فإنه يندفع بأن الواحد قد يلاحظ في نفسه من غير قياس الي غيره - أعني من غير

قياس بعض مصاديقه إلي البعض الآخر من مصاديقه ومن غير قياس مصاديقه بعضها إلي بعض، کل موجود من هذا الجيث واحد، والوحدة تشمل جميع مصاديقه.

7- وقد يلاحظ الواحد لا في نفسه، بل بقياس بعض مصاديقه الي بعض ، کقياس الواحد

الي المائة، وکل موجود من هذا الحيث لا يشمل جميع الوجودات.

8- واما توهم أنه لو کان مفهوم الوحدة وجودة خارجية، لکان ذا وحدة وهلمّ جرّا

فيتلمسلسل.

9- فإنه يندفع بأن وحدة الوحدة عين ذات الوحدة، کما أن وجود الوجود ذاتي للوجود

والوجود وجود بذاته .

10 - يمکن القول أن مفهوم الوحدة لو کان مفهوم ماهوياً منتزعاًمن حدود الوجود، فلا

ينبغي حمله علي الواجب.

ص: 559

التعريف کالوجوب والإمکان، ولذا کان ما عرّفوهما به من التعريف لا يخلو من دور، وتعريف الشيء بنفسه ، کتعريف الواحد بأنه الذي لا ينقسم من الجهة التي يقال إنه واحد»، ففيه أخذُ الإنقسام الذي هو الکثرة في تعريف الواحد مضافاً إلي کونه تعريفا للواحد بالواحد ؛ ثم تعريف الکثير به «آنه المجتمع من الوحدات»، وفيه أخذُ الوحدة في تعريف الکثير وقد کانت الکثرة مأخوذةً في حدّ الواحد، وهو الدور ؛ مضافاً إلي کونه تعريفاً للکثير بالمجتمع وهو الکثير بعينه.

فالحق أن تعريفَهما بما عُرَّفا به تعريفُ لفظيُّ يراد به التنبيه علي معناهما وتمييزه من بين المعاني المخزونة عند النفس. فالواحد هو : «الذي لا ينقسم من حيث إنه لا ينقسم»، والتقييد بالحيثية ليندرج فيه الواحد غير الحقيقيّ الذي ينقسم من بعض الوجوه، والکثير هو: «الذي ينقسم من حيث إنّه ينقسم».

فقد تحصّل أنّ الموجود ينقسم إلي الواحد والکثير، وهما معنيان متباينان

تبايُنَ أحد القسمين للآخر.

تنبيهُ :

قالوا: «إنّ الوحدةَ تساوق الوجود»، فکلُّ موجوډ فهو واحدُ من جهة أنّه موجودُ، حتّي أنّ الکثرة الموجودة - من حيث هي موجودة - کثرةُ واحدةُ، کما يشهد بذلک عَرض العدد لها والعدد مؤلَّف من آحاد، يقال : کثرة واحدة وکثرتان وکثرات ثلاث، وعشرة واحدة و عشرتان وعشرات ثلاث، وهکذا.

وربّما يتوهّم أن انقسام الموجود إلي الواحد والکثير ينافي کون الواحد مساوقة للموجود، وذلک أن الکثير من حيث هو کثيرُ - موجودُ لمکان الانقسام المذکور، والکثير من حيث هو کثير - ليس بواح، ينتج أنّ بعض الموجود ليس

ص: 560

بواحد، وهو يناقض قولهم: «کلُّ موجودٍ فهو واحدُ(1)

ويدفعه : أنّ للواحد اعتبارين : إعتبارهُ في نفسه من غير قياسِ بعض مصاديقه إلي بعض، فيساوق الموجود، ويعمُ مصاديقه من واحد وکثير ، واعتباره بقياس بعض مصاديقه إلي بعض ، فهناک مصاديق لا يوجد فيها من معني عدم الانقسام ما يوجد في مصاديق آخر، کالعشرة التي لا يوجد فيها من معني عدم الإنقسام ما يوجد في الواحد وإن کان فيها ذلک إذا قيس إلي العشرات. فالکثير الذي ليس بالواحد هو المقيس من حيث هو مقيس ، والذي يقابله هو الواحد بالاعتبار الثاني ، وأما الواحد بالاعتبار الأوّل فهو يعمّ الواحد والکثير القسيمين جميعاً . ونظير ذلک انقسام مطلق الموجود إلي ما بالقوّة وما بالفعل مع مساوقة ما بالفعل لمطلق الموجود، وانقسام الوجود إلي ذهنيًّ وخارجيًّ تترتّب عليه الآثار مع مساوقة الخارجيّ المترتّب عليه الآثار المطلق الوجود. فکلّ ذلک من الاختلافات التشکيکيّة التي لحقيقة الوجود المشکّکة؟(2)

ص: 561


1- (وربّما يتوهم) کما في الجزء الثاني من الاسفار (أن انقسام الموجود.. الخ) وحاصله: ألم تقولوا «الوحدة تساوق الوجود»؟ فکيف يمکن الجمع بين هذه المقولة المعروفة المشهورة ، وقولکم بانقسام الموجود الي الواحد والکثير، وذلک أن هذا الانقسام يستلزم کون بعض أنواع الموجود کثيراً وهو يناقض قول الفلاسفة «کل موجود فهو واحد»، بل اما ان يرفعوا أيديهم عن هذه المقولة کأن يقولوا «کل موجود فهو اما واحد أو کثير» واما ان يرفعوا أيديهم عن المقولة السابقة فيقولوا مثلاً: «الموجود لا ينقسم إلي الواحد والکثير بل الموجود واحد صرف» ليتمکن القائل من الجمع بين «کل موجود فهو واحد» وضده الذي هو: «الموجود يقبل الانقسام الي الواحد والکثير»..
2- وحاصله: ان الواحد باعتباره في نفسه يساوق الموجود، ولهذا فان الواحد علي هذا الاعتبار يشمل مصاديق الموجود جميعاً ، ومصاديق الموجود بعضها واحد وبعضها کثير، فلا يرد اشکال عليه من هذه الجهة. وأما باعتباره الثاني توجد مصاديق ليس فيها معني عدم الانقسام الموجود في المصاديق الأخري، مثل کلمة «العشرة» فإن معني عدم الانقسام الموجود في الواحد غير موجود في العشرة، وان کانت العشرة لا تخلو في نفسها من مفهوم عدم الانقسام، لو قسنا العشرة بالعشرات کان المقيس هو الکثير الذي ليس بواحد. فالمقيس هو العشرات - ، و يقابل الکثير مفهوم الواحد بالاعتبار الثاني وهو قياس العشرة الي العشرات ، اما الواحد باعتباره الأول - في نفسه - يشمل الواحد والکثير معاً، وهما قسمان له، وکل منهما قسيم الآخر وهو مقسم لهما نقرأ في هذا الفصل : 1- الواحد الحقيقي هو الذي يتصف بالوحدة ذاتاً من غير واسطة في العروض کالإنساز الواحد. 2- الواحد غير الحقيقي : لا يتصف بالوحدة إلا مع الواسطة في العروض، کالانسان والفرس المتحدين في الحيوانية، فالوحدة بينهما وقعت بواسطة الحيوانية لا بنفسهما. 3- عين الوحدة واحد حقيقي وعين الوحدة، وهي صرف الشيء، ونفس صرف الشيء الذي لا يتثني ولا يتکرر، فالوحدة الحقة والوحدة و الواحد هنا کلها واحد. 4- المتصفة بالوحدة هي الواحد الحقيقي التي ليست بذاتها عين الوحدة ، بل ذات منصفة بالوحدة الانسان الواحد، وهي الوحدة غير الحقة. 5 - الواحد بالخصوص هو الواحد غير الحقة الذي له وحدة عددية، ويحصل من تکررّه العدد مثل زيد واحد. - الواحد بالعموم هو الواحد غير الحقة الذي لا وحدة عددية له کالنوع الواحد، والجنس الواحد. 7- الواحد بالخصوص: أ- اما ان لا ينقسم بطبيعته ، أو ينقسم کذلک. ب- والذي لا ينقسم إما أن يکون نفس مفهوم الوحدة وعدم الانقسام، أو غير ذلک. ج - والذي غير مفهوم الوحدة وعدم الانقسام أما وضعي کالنقطة الواحدة، وأما غير وضعي، کالمفارق د. والمفارق اما متعلق بالمادة کالنفس، وأما غير متعلق بها کالعقل. ه الثاني الذي يقبل القسمة والانقسام بطبيعته أما أن يقبل الانقسام بالذات کالمقدار الواحد، واما أن يقبله بالعرض الجسم الطبيعي. 8- الواحد بالعموم : أ- أما واحد بالعموم المفهومي وأما واحد بالعموم السعي. ب- الواحد بالعموم المفهومي اما واحد نوعي کالانسان واما واحد جنسي کالحيوان، واما واحد عرضي کالماشيء والضاحک. ج- و الواحد بمعني السعة الوجودية کالوجود المنبسط - الواحد غير الحقيقي له أسماء بحسب جهة الوحدة والاتحاد، التماثل للنوعي، والتجانس للجنسي، والتشابه للکيفي، والتساوي للکتي، والتوازي والتطابق للوضعي.

ونظير هذا التوهّم ما ربّما يُتوهّم أنّ الوحدة من المعاني الانتزاعيّة العقليّة ، ولو کانت حقيقةً خارجيّةً لکانت لها وحدةُ ولوحدتها وحدةُ وهلمّ جرّاً فيتسلسل .

ويدفعه : أنّ وحدتها عين ذاتها، فهي واحدة بذاتها، نظير ما تقدّم في

الوجود، أنّه موجود بذاته من غير حاجةٍ إلي وجودٍ زائدٍ علي ذاته .

ص: 562

الفصل الثاني في أقسام الواحد

ص: 563

الواحد إمّا حقيقيُّ وإما غير حقيقيُّ والحقيقيّ ما اتّصف بالوحدة لذاته من غير واسطةٍ في العروض، کالإنسان الواحد، وغير الحقيقي بخلافه، کالإنسان والفرس المتّحدين في الحيوان وينتهي لا محالة إلي واحدٍ حقيقيًّ(1)

والواحد الحقيقيّ إمّا ذاتُ هي عين الوحدة، وإما ذاتُ متّصفةُ بالوحدة . والأوّل هو صوف الشيء الذي لا يتثنّي ولا يتکرّر ، وتسمّي وحدته: «وحدة حقّة»، والواحد والوحدة هناک شيء واحد و الثاني الإنسان الواحد»(2)

والواحد بالوحدة غير الحقّة إمّا واحدُ بالخصوص وإمّا واحد بالعموم. والأوّل هو الواحد بالعدد الذي يفعل بتکرره العدد، والثاني کالنوع الواحد والجنس الواحد . والواحد بالخصوص إمّا أن لا ينقسم من حيث طبيعته المعروضة للوحدة أيضاً کما لا ينقسم من حيث صفة وحدته أو ينقسم. والأوّل إمّا نفس مفهوم الوحدة وعدم الإنقسام، وإمّا غيره؛ وغيره إمّا وضعيّ کالنقطة الواحدة، وإمّا غيرُ وضعيًّ کالمفارق وهو إمّا متعلّق بالمادّة بوجه ، کالنفس المتعلّقة بالمادّة في فعلها ، وإمّا غير متعلّق بها أصلاً کالعقل. والثاني وهو الذي يقبل الانقسام بحسب طبيعته المعروضة للوحدة إمّا أن يقبله بالذات کالمقدار الواحد، وإمّا أن يقبله بالعرض الجسم الطبيعيّ الواحد

ص: 564


1- (وغير الحقيقي بخلافه) أي بخلاف الواحد الحقيقي إذ اتصافه بالوحدة يکون بالعرض لا بالذات ويحتاج الي واسطة في العروض. . وينتهي) غير الحقيقي (لا محالة إلي واحد حقيقي) لأن کل ما بالعرض لابد وأن ينتهي الي ما بالذات، فالإنسان والفرس في مثال المؤلف قدس سره يتحدان في الجنسية الا اذا کانت وحدتهما بجنس واحد حقيقي - تکون الوحدة صفة لذاته ..
2- (والثاني د «الإنسان الواحد») فالانسان ماهية واحدة، لکن لا يستحيل وجود ماهية أخري بجانب ماهية الإنسان کماهية الفرس والبقر والشجر وهکذا، فالإنسان ذات منصفة بالوحدة ، لا عينية بينه وبين وصفه بالواحد، بل الوصف عارض له.

من جهة مقداره(1)

والواحد بالعموم إمّا واحدُ بالعموم المفهومي ، وإمّا واحدُ بالعموم بمعني السعة الوجوديّة. والأوّل إمّا واحدُ نوعيُ کالإنسان، وامّا واحدُ جنسيّ کالحيوان، وإمّا واحدُ عرضيّ کالماشي والضاحک. والواحد بالعموم بمعني السعة الوجوديّة کالوجود المنبسط (2)

ص: 565


1- (و الواحد بالخصوص اما أن لا ينقسم من حيث طبيعته المعروضة للوحدة أيضاً) لا من حيث طبيعة الوحدة ، فإن طبيعة الوحدة هي عدم الانقسام، بل المراد هنا عدم الانقسام أيضا في الذات المتصفة بالوحدة (کما لا ينقسم الواحد بالخصوص بل مطلق الواحد (من حيث صفة وحدته) قلنا أن طبيعة الوحدة هي عدم الانقسام، والوحدة هي عدم القابلية للانقسام وعدم الانقسام، وکيف کان فإن الواحد قد يکون غير قابل للانقسام بذاته، مع قطع النظر عن صفة الوحدة، (أو ينقسم الواحد بذاته ويتصف بنوع کثرة بلحاظ الانقسام المتقدم، وان اتصف بالوحدة من جهة أخري، (والأول) الذي لا يقبل الانقسام بذاته (اما نفس مفهوم الوحدة وعدم الانقسام) إذا اعتبرنا الوحدة من الأعراض ، اما الکثيرة فإنها من المقولات - من الکم المنفصل - الوحدة في الحقيقة ليست من المقولات والأعراض -، وقد يقال الوحدة عرض و نوع مستقل لا جنس له وعليه فکما أن العدد ماهية فالوحدة أيضاًماهية ، لکن ليس جزءاً من شيء - أي لا جنس لها -، وهذه الماهية تکون نفس الوحدة وعدم الانقسام، (واما غيره) بقطع النظر عن عنوان الوحدة، ومفهوم الوحدة، وصفة الوحدة، بل ما يتصف بالوحدة فإنه لا ينقسم بذاته - بقطع النظر عن نفس عنوان الوحدة -، (وغيره اما وضعي) قابل للاشارة الحسية (کالنقطة الواحدة) تتصف بالوحدة عنوانا وذاتاً ، (وأما غير وضعي) لا يقبل الاشارة الحسية (کالمفارق) الذي ليس مادية ولا يتحقق في الماديات، (وهو) أي المفارق والمجرد اما متعلق بالمادة بوجه من الوجوه (کالنفس المتعلقة.. الخ). والثاني وهو الذات المتصفة بالوحدة الذي يقبل الانقسام بحسب طبيعته المعروضة للوحدة) علاوة علي عنوان الوحدة ومع قطع النظر عن عنوان الوحدة ينقسم بنفسه أيضاً ، هذا الثاني أيضا ينقسم (اما أن يقبله) أي يقبل الانقسام (بالذات) وهو الکم (کالمقدار الواحد) والکمية الواحدة، (واما ان يقبله) أي الانقسام (بالعرض، کالجسم الطبيعي الواحد من جهة مقداره) وکميته لا بذاته
2- (والواحد بالعموم امّا واحدُ بالعموم المفهومي) المستعمل في المفاهيم، أي المفاهيم التي لها مصاديق کثيرة، (واما واحد بالعموم بمعني السعة الوجودية) المستعمل في الوجودات، أي الوجودات التي تقع تحتها وجودات کثيرة في المراتب التانية . (والواحد بالعموم بمعني السعة الوجودية کالوجود المنبسط) حيث يقال ان الوجود الصادر من الواجب تبارک و تعالي وجود واحد يطل بظلاله علي کل الوجودات و يبسط فيضه عليها جميعاً ، وهو من المصطلحات العرفانية التي يعتمد عليه العرفاء أکثر من الفلاسفة، بل لا شأن للفلسفة بها إلا عرضاً راجع شرح المنظومة

والواحد غير الحقيقيّ وهو ما اتّصف بالوحدة بعَرضِ غيره لاتّحاده به نوعاً من الاتّحاد کزيد وعمرو المتّحدين في الإنسان، والإنسان والفرس المتّحدين في الحيوان. ويختلف أسماء الواحد غير الحقيقي باختلاف جهة الوحدة ، فالاتّحاد في معني النوع يسمّي: «تماثلاً»، وفي معني الجنس «تجانساً »، وفي الکيف «تشابهاً»، وفي الکم «تساوياً»، وفي الوضع «توازياً» و«تطابقاً». .

ووجودُ کلًّ من الأقسام المذکورة ظاهرُ، وکذا کونُ الوحدة واقعةً علي

أقسامها وقوعَ المشکّک علي مصاديقه بالاختلاف. کذا قرّروا(1)

ص: 566


1- (وکذا) أي ظاهر (کون الوحدة واقعة علي أقسامها وقوعَ المشکَّک علي مصاديقه..الخ) الواحد و مفهوم الوحدة تشکيکي، إذ الواحد الحقيقي اولي بالاتّصاف بالوحدة من غيره، والوحدة الحقة أولي بذلک من غير الحقة...الخ.

الفصل الثالث في أنّ من لوازم الوحدة الهوهويّة

ومن لوازم الکثرة الغيريّة

نقرأ في هذا الفصل :

1- الهوهوية من عوارض الوحدة .

2 - الغيرية من عوارض الکثرة.

3- يصح الحمل بين کل مفهومين مختلفين بينهما وجه اتحاد واشتراک ، ولا ينقض

بأجزاء الخط والمقدار وقولنا هذا النصف عين النصف الآخر.

- قال صدر المتألهين : مادام المقدار لم يقبل الانقسام الخارجي أو الذهني، فلا کثرة له

واذا انقسم فلا وحدة له، فلا يتحقق حمل أصلاً.

5 - يجب اجتماع الوحدة والغيرية في الحمل.

6- الحمل علي قسمين: أ- الحمل الذاتي الأولي وله أربّعة أقسام :

1- اتحاد الموضوع والمحمول مفهومي واختلافهما اعتباري کالاختلاف في الاجمال

والتفصيل : «الانسان حيوان ناطق». .

2- اختلافهما في الابهام و غيره مثل: «الإنسان حيوان».

3- اختلافهما في التحصيل وغيره مثل: «الإنسان ناطق».

4۔ اختلافهما لدفع توهم المغايرة مثل : «الانسان انسان» .

ب- الحمل الشايع الصناعي وهو عبارة عن اتحاد الموضوع والمحمول وجوداً

واختلافهما مفهوماً مثل: «زيدُ انسانُ». .

7- لا يتحقق حمل بين مختلفين نفسيين، لاستحالة تحقق ماهيتين بوجود واحد نفسي،

إلا إذا کان وجود احدهما نفسياً والآخر نعتياً.

8- قال المنطقيون: المعتبر في عقد الوضع هو الذات، وحتي الوصف المأخوذ له عنوان

مشير الي الذات.

9- والمعتبر عندهم في عقد الحمل هو الوصف.

10 - الحکيم يستعمل حمل الحقيقة والرقيقة وهو مبني علي اتحاد الموضوع والمحمول

في أصل الوجود واختلافهما بالکمال والنقص.

ص: 567

من عوارض الوحدةِ الهوهويّةُ (1) کما أن من عوارض الکثرة الغيرية.

والمراد بالهوهويّة الاتّحاد من جهةٍ مّا مع الاختلاف من جهةٍ مّا، ولازِمُ ذلک صحّة الحمل بين کلّ مختلفَين بينهما اتّحادُ مّا، وإن أختص الحمل بحسب التعارف ببعض أقسام الاتّحاد (2)

واعتُرِض عليه : بأنّ لازِمُ عموم صحّة الحمل في کلّ اتحادٍ مّا من مختلفَين هو صحّة الحمل في الواحد المتصّل المقداريّ الذي له أجزاءُ کثيرةُ بالقوّة موجودةُ بوجود واحد بالفعل، بأن يحمل بعض أجزائه علي بعض وبعض أجزائه علي الکلّ و بالعکس، فيقال: «هذا النصف من الذّراع هو النّصف الآخر، وهذا النصف هو الکل أو کلّه هو نصفه»، وبطلانّه ضروريُّ(3)

والجواب - کما أفاده صدر المتألهين قدس سره: أنّ المتصّل الوُاحدانيّ ما لم ينقسم بواحدٍ من أنحاء القسمة خارجاً أو ذهناً لم تتحقّق فيه کثرةُ أصلاً، فلم يتحقّق شرط الحملُ الذي هو وحدةُ ما مع کثرةٍ ما، فلم يتحقق حملُ؛ وإذا انقسم بأحد أنحاء القسمة بطلَت هويّته الواحدة وانعدم الاتصال الذي هو جهةُ وحدتِةِ ، فلم يتحقّق

ص: 568


1- (الهوهوية) أي «هو هو» وتحصل الهوهوية بين أمرين لا بين شيء واحد، حيث يقال «هو هو» کما نقول «هذا ذاک» أي هذا عين ذاک ، فهو هو أي هو عين هو - هذا عين هذ
2- (وان اختص الحمل بحسب التعارف والمتعارف (ببعض أقسام الاتحاد) لا بکل أقسامه ، لکن قد يحصل الحمل خلافاً للمتعارف و يجري في اقسام غير مألوفة من الاتحاد الحقيقة والرقيقة - وهما نوعان من الحمل يجريان بين المراتب العالية والدانية للوجود-، فإنهما حملان غير متعارفين
3- (واعترض عليه) في الجزء الثاني من الاسفار (بأن لازم عموم صحة الحمل في کل اتحاد ما...الخ) علي ما تقدم في هذا الفصل، لازم هذا التعميم السابق (هو صحّة الحمل في الواحد...الخ) وهو الذي له کمية ما، له أجزاء بالقوة موجودة بوجود واحد بالفعل، فإن بين هذه الاجزاء اختلافاً ما، ومتحدة أيضاًلأنها موجودة بوجود واحد، فلازم القول السابق صحة حمل بعض أجزاء هذا الکم المقداري علي بعض، بينما لا يصح ذلک قطعاً، ولو وقع الحمل کان باطلاً بالضرورة.

شرط الحمل الذي هو کثرةُ ما مع وحدةٍ ما ، فلم يتحقّق حملُ(1)

فقد تبيّن أنّ بين کلّ مختلفَين من وجةٍ متّحدَين من وجهٍ؛ حملاً إذا جامع الاتّحاد ُالاختلافَ، لکن التعارف العاميّ - کما أشرنا إليه. خصّ الحمل علي موردَين من الاتّحاد مع الاختلاف:

(أحدهما ): أن يتّحدَ الموضوع والمحمول مفهوماً، مع اختلافهما بنوع من الاعتبار ، کالاختلاف بالإجمال والتفصيل في قولنا: «الإنسان حيوان ناطق»، فإنّ الحد عين المحدود مفهوماً وإنّما يختلفان بالإجمال والتفصيل، والاختلاف بالإيهام وغيره في قولنا: «الإنسان حيوان»، فإن الجنس هو النوع مُنهماً، والإختلاف بالتحصيل وغيره في قولنا: «الإنسان ناطق»، فإنّ الفصل هو النوع محصّلاً- کما مرّ في مباحث الماهيّة ، وکالاختلاف بفرض الشيء مسلوبة عن نفسَهُ فيغاير نفسُهُ نفسَهُ ثمّ يحمل علي نفسه لدفع توهّم المغايرة فيقال مثلاً: «الإنسان إنسان». ولمّا کان هذا الحمل ربّما يعتبر في الوجود العينيّ کان الأصوب أن يُعرَّف باتّحاد

ص: 569


1- (والجواب - کما افاده صدر المتألهينا راجع الجزء الثاني من الاسفار، وحاصله : أن المتصل المقداري الوحداني أما أن لا ينقسم بنحو من أنحاء القسمة الذهنية أو القسمة الخارجية، وأما أن ينقسم بأحد أنحاء القسمة، فإذا لم ينقسم بواحد من أنحاء القسمة لم تتحقق فيه کثرة أصلاً، وعليه فلم يتحقق شرط الحمل الذي هو عبارة عن اتحاد ما مع کثرة ما، فليس فيه جهة کثرة وما ليس فيه جهة کثرة لا معني لأن يکون له جهة اشتراک واتحاد، بل هو واحد تام وصرف، وإذا کان ينقسم بأحد أنحاء القسمة بطلب هويته وماهيتة الواحدة وعدم الاتصال الذي هو جهة وحدته ، فلم يتحقق أيضاً شرط آخر من شروط الحمل التي لا يتم ولا يصح الحمل الا بها، والشرط المنتفي هنا هو کثرة ما مع وحدة ما وهو عکس الأول واذا انتفي وبطل الشرط انتفي وبطل المشروط ، فلم يتحقق حمل في کلا الحالين، وهو ما يجري في الواحد المتصل المقداري الذي له أجزاء کثيرة کلّها بالقوة، ولا يوجد منها بالفعل إلّا جزء واحد، فوجوده الفعلي الخارجي بوجود جزءه الفعلي ، فإنه لا يصح فيه حمل بعض أجزائه علي البعض الآخر لنفس السبب المتقدم، فتدبر

الموضوع والمحمول ذات ، ويسمي هذا الحمل : «حملاً أوّليّاً ذاتياً »(1)

وثانيهما : أن يختلفا مفهوماً ويتّحدا وجوداً کما في قولنا: «زيدُ إنسان» ، وقولنا: «القطن أبيض»، وقولنا : «الضاحک متعجّب». ويسمّي هذا الحمل: «حملاً شائعاً صناعيّاً». .

وهاهنا نکتةُ يجب التنبيه عليها، وهي : أنّه قد تقدّم في المباحث السابقة أنّ الوجود ينقسم إلي ما في نفسه وما في غيره، وينقسم أيضاً إلي ما لنفسه وما لغيره وهو الوجود النعتيّ ، وتقدّم أيضاً امتناع أن توجد ماهيتّان بوجودٍ واحدٍ نفسيًّ بأن يطرد وجودُ واحدُ العدمَ عن نفس ماهيتيَن متباينتين ، وهو وحدة الکثير المستحيلة عقلاً.

ومن هنا يتبّين أنّ الحمل - الذي هو اتّحاد المختلفَين بوجةٍ - لا يتحقّق في وجود المختلفَين النفسيّ، وإنّما يتحقّق في الوجود النعتيّ بأن يکون أحد المختلفَين ناعتاً بوجوده للآخر والآخر منعوتاً به. وبعبارة أخري : أحد المختلفيَن هو الذات بوجوده النفسيّ، والآخر هو الوصف بوجوده النّفسيّ، واتّحادهما في الوجود النعتيّ

ص: 570


1- (فقد تبين) مما تقدم أن کل شيئين يختلفان من وجه و يتحدان من وجه يقع بينهما حمل، أي يحمل أحدهما علي الآخر، لکن لا مطلقاً أعني لا مطلق الاتحاد والاختلاف بل (اذا جامع الاتحاد الاختلاف) بأن يکون هذا الاختلاف في شيء واحد بينهما، فيکون هذا يخالف صاحبه في نفس ما يخالفه صاحبه ، ويتحد مع صاحبه في نفس ما يتحد معه صاحبه، سواء کان الاتحاد والاختلاف - أي جهة الاتحاد وجهة الاختلاف في المفهوم أو الوجود أو في قسم ثالث لا هذا ولا ذاک علي ما سيأتي ان شاء الله تعالي، (لکن التعارف العامي - کما أشرنا اليه ) في بداية هذا الفصل بقولنا: «وان اختص الحمل بحسب التعارف ببعض أقسام الاتحاد»، وهو المتعارف عند عامة الناس، (خص الحمل علي موردين من) وجوه (الاتحاد والاختلاف) لا مطلقا، وان کانت هناک أقسام من الحمل الصحيح لکن ليس عند العرف العام بل عند العرف الخاص، فالمتعارف هو الحمل الشايع لا الحمل الأولي. (کان الأصوب) بناءاً علي هذا (أن يُعرّف) هذا الحمل (باتحاد الموضوع والمحمول ذاتاً ) لا مفهوماً کما تقدم، ويبدل لفظ المفهوم بلفظ المفهوم.

الذي يعطيه الوصف للذات. وهذا معني قول المنطقتين : «إنّ القضية تنحلّ إلي عَقدَينِ : عَقد الوضع، ولا يعتبر فيه إلّا الذات، وما فيه من الوصف عنوانُ مشيرُإلي الذات فحسب، وعَقد الحمل، والمعتبر فيه الوصف فقط»(1)

وهاهنا نوعُ ثالثُ من الحمل، يستعمله الحکيم، مسمّي بحمل الحقيقة والرقيقة، مبنيُّ علي اتّحادِ الموضوع والمحمول في أصل لوجود واختلافهما بالکمال والنقص ، يفيد وجودَ الناقص في الکامل بنحوٍ أعلي وأشرف واشتمالَ المرتبة العالية من الوجود علي کمال ما دونها من المراتب.

ص: 571


1- (ومن هنا يتبين أن الحمل...الخ) فلا يتحد وجودان نفسيان لأن کل وجود مستقل قائم بنفسه - نفسي -، لا يتحد مع وجود آخر مثله، ولا يحصل هذا الاتحاد إلّا بين وجودين أحدهما نفسي مستقل قائم بذاته، والآخر وجود ناعتي وصفي للغير قائم بغيره وان کان وجوده نفسيا لکن يکون وجوده لغيره، فيکون وجوداً رابطياً ، فأحد المختلفين يکون هو الذات بوجوده النفسي، والآخر هو الوصف بوجوده النفسي، وانما يتحدان في الوجود النعتي الذي يعطيه الوصف للذات، فالوجود النعتي في عين کونه وجوداًنفسياً يعطي الوجود الآخر - موضوعه - وصفاً ونعتاً ، يکون هذا الوصف جهة الاتحاد بين الناعت والمنعوت والموضوع والمحمول - الوجود الذاتي والوجود الناعتي - وهذا ما أراده المنطقيون من قولهم : إن القضية تنحلُّ الي عقدين، عقد الوضع، ولا يعتبر (فيه) أي في عقد الوضع (إلا الذات، و) اما (ما) نجده (فيه) أي في عقد الوضع (من الوصف) أي اذا وجدنا أن موضوع القضية في عقد الوضع هو الوصف، فإن الوصف (عنوان مشير الي الذات فحسب) الوصف بما هو وصف لا يکون موضوعاً للقضية بل من جهة کونه عنواناً دالاً الي الذات يرد في القضية، (و) اما عقد الحمل، والمعتبر فيه الوصف فقط دون الذات، وسبب ما تقدم إشتراط صحة الحمل بکون أحدهما وجود ناعتياً للآخر. واعلم أن هذا کلّه في الحمل الشائع الصناعي لا ما نحن فيه من الحمل الذاتي الأولي، فتأمل.

ص: 572

الفصل الرابع في انقسام الحمل إلي هو هو وذي هو

ينقسم الحمل إلي حمل هو هو وحمل ذي هو .

والأول : ما يثبت فيه المحمول للموضوع بلا توقّفٍ علي اعتبار أمرٍ زائدٍ،

کقولنا: «الإنسان ضاحک»، ويسمي أيضا «حمل المواطاة». والثاني : أن يتوقّف ثبوت المحمول للموضوع علي اعتبار أمرٍ زائدٍ کتقدير ذي أو الاشتقاق، کقولنا:

زيد عدلُ» أي ذو عدل، أو «عادلُ»..

نقرأ في هذا الفصل :

1۔ الحمل الذي لا يعتبر فيه أمر زائد في حمل المحمول علي الموضوع يسمي: حمّل

هوهو وحمل المواطاة کالانسان ضاحک.

2 - الحمل الذي يعتبر في الحمل أمر زائد يسمّي حمل ذو هو وحمل الاشتقاق، مثل

زيد عادل» أي «ذو عدل». .

3- الحمل البتيّ عبارة عن الحمل الذي لموضوعه أفراد في الخارج بالفعل مثل الإنسان

کاتب .

- الحمل غير البتي هو الذي أفراد الموضوع مقدرون معدومون ، مثل : «المعدوم المطلق

لا يخبر عنه».

5- الحمل البسيط الذي يکون وجود الموضوع محمول القضية فيه ويسمي هلية بسيطة،

مثل : «الانسان موجود».

6- الحمل المرکب الذي يکون محمول القضية فيه غير الموضوع - وجود الموضوع.،

مثل : «الانسان شاعر» ويسمي هلية مرکبة.

7- لا تنقض القاعدة الفرعية مع طرح قضايا بسيطة، لأن القاعدة الفرعية تخص القضايا

والهليات المرکبة .

ص: 573

وينقسم أيضاً إلي بتّيًّ وغير بتّيًّ. والأوّل : ما کان لموضوعه أفراد محققّة يصدق عليها بعنوانّه ، کقولنا: «الإنسان کاتب» و «الکاتب متحرک الأصابع» . والثاني : ما کان الموضوعه أفراد مقدّرة غيرُ محقّقة ، کقولنا: «المعدوم المطلق لا يخبر عنه »، وقولنا : «إجتماع النقيضَين محالُ». .

وينقسم أيضاً إلي بسيط ومرکبّ ويسمّيان «الهليّة البسيطة» و «الهليّة المرکّبة». والهليّة البسيطة ما کان المحمول فيها وجود الموضوع ، کقولنا: «الإنسان موجود». والهليّة المرکّبة ما کان المحمول فيها أثراً من آثاره وعرضيّاً من عرضاته ، کقولنا: «الانسان ضاحک»، فهي تدلّ علي ثبوت شيءٍ لشيءٍ بخلاف الهلية البسيطة حيث تدلّ علي ثبوت الشيء.

وبذلک يندفع ما أورده بعضهم علي کلية قاعدة الفرعية القائلة: «إنّ ثبوت شيءٍ لشيءٍ فرعُ ثبوت المثبت له»، بانتفاضه بمثل قولنا: «الماهيّة موجودة»، حيث إن ّثبوت الوجود للماهيّة - بناءً علي ما تقتضيه قاعدة الفرعية - فرعُ ثبوت الماهية ، ونقل الکلام إلي ثبوتها فهو فرعُ ثبوتها قبل، وهلمُ جرّاً، فيتسلسل(1)

والجواب - علي ما تحصّل : أن القضية هليّة بسيطة ، والهلية البسيطة إنّما تدلّ

ص: 574


1- (وبذلک) الذي تقدم من تقسيم الحمل إلي الهلية البسيطة والهلية المرکبة (يندفع ما أورده بعضهم) مصدر المتألهين في الجزء الأول من الأسفار، من اشکال (علي کلية قاعدة الفرعية) فالاشکال ليس علي أصل القاعدة بل علي کليتها وشموليتها وان کان ذلک بالنتيجة بعد اشکا" علي أصل القاعدة لأن القواعد العقلية لا تقبل التخصيص بل عامة شاملة، والاشکال علي هذه الجهة من القاعدة، اشکال علي أصلها، والاشکال أن کلية هذه القاعدة منقوضة مردودة بمثل قولنا: «الماهية موجودة» وهي هليّة بسيطة (حيث أن ثبوت الوجود للماهية ...الخ) نريد اثبات الوجود للماهيّة والقاعدة العقلية الفرعية تقول ثبوت شيء لشيء متوقف علي ثبوت المثبت له، فوجب کون الماهية ثابتة موجودة قبل أن يثبت لها الوجود، ثم ننقل الکلام في هذا الوجود الثاني بأن ثبوته للماهية فرع ثبوت الماهية (وهلم جرّا فيتسلسل، إلي غير النهاية

علي ثبوت الشيء لا علي ثبوت شي لشي حتّي تقتضي وجوداً للماهية قبلَ وجودها، هذا(1)

وأمّا ما أجاب به بعضهم عن الإشکال - بتبديل الفرعيّة من الاستلزام، وأن الحقّ أنّ ثبوتَ شيءٍ لشيءٍ مستلزمُ لثبوت المثبت له ولو بنفس هذا الثبوت، وثبوتَ الوجود للماهيّة مستلزمُ لثبوت الماهيّة بنفس هذا الثبوت فهو تسليمُ للإشکال (2)

وأسوأ حالاً منه قول بعضهم : «إنّ القاعدة مخصَّصة بثبوت الوجود للماهية»،

هذا(3)۔

ص: 575


1- والجواب) الذي قدمه صدر المتألهين بعد ايراده للإشکال ، وبناءاً (- علي ما تحصل .) في البيانات السابقة أنه ليس من قبيل ثبوت شيء لشيء حتي يتوقف ثبوته علي ثبوت المثبت له قبله، فهو خارج عن المطلب وعن هذه القاعدة بالتخصص لا التخصيص، وذلک (أن القضية السابقة «الماهية موجودة»، (هلية بسيطة، والهلية البسيطة إنما تدل علي ثبوت الشيء...الخ).
2- (وأما ما أجاب به بعضهم) وهو المحقق الدواني في حاشية شرح التجريد للقوشجي (عن الإشکال) السابق بانتفاض القاعدة الفرعية بالقضية القائلة : «الماهية موجودة» (بتبديل) کلمة الفرعية في القاعدة (من) کلمة (الاستلزام) فنقول: «ان ثبوت شيء لشيء مستلزم لثبوت المثبت له» لا فرع لثبوت المثبت له، (ولو بنفس هذا الثبوت) وان کان بنفس الثبوت الذي في القضية «الماهية موجودة فيکفي کون الموضوع له ثابتة بأي نحو من الثبوت، ويرد علي هذا الجواب، أنه تسليم للإشکال لا رد عليه أو دفع له، وجه التسليم أن المحقق الدواني لما بدلّ لفظ الفرعية بالاستلزام يکون قد سلم بأن الإشکال علي القاعدة الاصلية الفرعية وارد وإلا لم يفتقر الي ادخال تغيير عليها واصلاح لها.
3- (وأسوأ حالاً منه) أي من جواب المحقق الدواني (قول بعضهم) وهو الفخر الرازي : (ان القاعدة مخصَّصة) أي دخل عليها التخصيص في خصوص هذا المورد (بثبوت الوجود للماهية) بالضرورة، فقد خرج قولهم «الماهية موجودة من هذه القاعدة، ووجه الأسوئية غفلتة عن الضروري القائل بأن القواعد العقلية لا تخصص وإلا فقدت کليتها وانتفي کونها قاعدة عقلية .

ص: 576

الفصل الخامس في الغيريّة وأقسامها

قد تقدّم أنّ من عوارض الکثرةِ الغيريّةُ ، وتنقسم الغيريّة إلي ذاتيّة وغيّر ذاتية .

فالغيريّة الذاتيّة، هي: أن يدفع أحدُ شيئين الآخرَ بذاته، فلا يجتمعان

الذاتيهما، کالمغايرة بين الوجود والعدم، و تسمّي «تقابلاً»..

وقد عرّفوا التقابلَ به «أنّه امتناع اجتماع شيئَين في محلًّ واحد من جهة واحدة في زمان واحد» ونسبة امتناع الاجتماع إلي شيئين للدلالة علي کونه

تقرأ في هذا الفصل :

1- الغيرية الذاتية أو التقابل هي التي لا يجتمع فيها طرفا التقابل ذاتاً في محل واحد من

جهة واحدة في زمان واحد.

2- يراد بالمحل هنا مطلق الموضوع، ولهذا يدخل السلب والايجاب في التعريف رغم

ان موضوعهما القضية.

3- تعريف الضدين لا ينقض بمسألة امتناع اجتماع نقيض اللازم کعدم الزوجية، ولا بمسألة امتناع اجتماع المثلين المشترکين ذاتا والممتنع اجتماعهما لامتناع تکرر الوجود،

الخروجها من التعريف تخصصاً.

4 - الغيرية غير الذاتية أو الخلاف هي التي لا يجتمع فيها طرفا التقابل لأمر خارج من

الذات کالحلاوة في السکر والسواد في الفحم.

- في التقابل أما أن يکون أحد الطرفين عدم الآخر، أولا يکون کذلک.

- إذا کان أحد المتقابلين ملازمة لعدم الآخر فإما أن يکون هناک موضوع قابل کالبصر

والعمئ فهو تقابل العدم والملکة.

7- وان لم يکن هناک موضوع قابل فهو التناقض. وان لم يکن أحد المتقابلين عدماً للآخر بل کانا أمرين وجوديين -، فاما ان لا يعقل أحدهما الا مع الآخر وبالقياس إليه کالعلو والسفل، فهو التضايف، أولا فهو تقابل التضاد .

ص: 577

والمراد بالمحلّ الواحد مطلَقُ الموضوع، ولو بحسب فرض العقل، حتّي يشمل تقابُلَ الإيجاب والسلب، حيث إنّ متن القضية کالموضوع لهما؛ و تقييد التعريف ب«جهةٍ واحدةٍ» لإخراج ما اجتمع منهما في شيء واحډ من جهتَين ، ککون زيد أباً لعمرو وابناً لبکر ؛ والتقييد بوحدة الزمان»، ليشمل ما کان من التقابل زمانيّاً ، فليس عَرضُ الضدّين لموضوعٍ واحدٍفي زمانين مختلفَين ناقضاً للتعريف(1)

ص: 578


1- قوله قدس سره: ( ونسبة امتناع الاجتماع الي شيئين) دفع دخل اذ لقائل أن يقول: في تعريف الغيرة الذاتية ذکرتم: «ان يدفع أحد شيئين الآخر بذاته» فجئتم بقيد الذات حتي لا يدخل الدفع ان کان السبب خارجي وبفعل فاعل خارجي، بينما في تعريف التقابل الذي يعدّ مقسماً للغيرية الذاتية والغيرية الذاتية تقع قسماً من أقسامه لم تذکروا الذات کشرط للتقابل بل اکتفيتم بد أنه امتناع اجتماع شيئين.. الخ» والحال أن الذاتية لو کانت شرطاً في القسم کانت بطريق أولي شرطاً في المقسم، فما هو الجواب ؟ والجواب : أن نسبة امتناع الاجتماع الي شيئين في محل واحد من جهة واحدة الخ...، ذکرت نسبة الامتناع (اللدلالة علي کونه) أي الامتناع الذاتيهما) وهو يکفي عن التصريح بکون امتناع الاجتماع ذاتية لوجود القرينة ، والمراد بالمحل الواحد) الذي جاء في تعريف التقابل ليس المحل الحقيقي فحسب إذ لا يختص به، بل يکفي (مطلق الموضوع، ولو بحسب فرض العقل) ومن الموضوع المفروض عقلاً ما يشمل تقابل السلب والايجاب ، فإن من اقسام التقابل هو التقابل بالسلب والايجاب وهو تقابل التناقض أو التقابل بالتناقض، وهو عبارة عن امتناع اجتماع وجود الشيء وعدمه في موضوع واحد، فهل هذا الموضوع الذي لا يجتمعان فيه هنا، يجب کونه موضوعاً حقيقياً، حتي ينسب الوجود والعدم إليه ، أم لا يجب ذلک، بل يکفي لهما مطلق الموضوع، وهکذا حين نقول هاتان قضيتان متناقضتان ، فهل نريد أنهما لا تجتمعان في محل واحد و موضوع واحد حقيقي ؟ ام يکفي عدم اجتماعهما في مطلق الموضوع؟ والحق أنه يکفي في صدق التقابل بالتناقض عدم إمکان اجتماعهما في مطلق الموضوع (ولو بحسب فرض العقل، حتي يشمل تقابل الايجاب والسلب) فإن العقل هنا يفرض موضوعاًيمتنع اجتماعهما فيه، ولما کان يشترط انطباق أجزاء الحالّ علي أجزاء المحل عند الفلاسفة ، مثلاً حين نقول الجسم أبيض والبياض حال في الجسم، وَجَبَ کون کل جزء من البياض منطبقاً علي کل جزء من الجسم، والبياض حال والجسم محل له، فهل يصح هذا المعني أيضاً في السلب والايجاب، أعني حين نقول السلب والايجاب محلهما القضية، هل نعني به أن کل جزء من السلب أو الايجاب ينطبق علي القضية ؟ کلا ليس هذا مراداً هنا لأن السلب لا موضوع ولا محمول وهکذا الايجاب ، وانما نعني بکون القضية محلاً لهما هنا غير ما يعنيه الفيلسوف في المصطلح الفلسفي الخاص، بل کل ما يمکن نسبة شيء اليه ونسبة صفة ثبوتية أو سلبية إليه ولو کان بفرض العقل واعتباره المحض (حيث أن متن القضية کالموضوع لهما) أي للسلب والايجاب.

ولا ينتقض التعريف بالمثلَين الممتنع اجتماعهما عقلاً، لأن أحد المثلَين لا يدفع الآخرَ بذاته التي هي الماهيّة النوعيّة المشترکة بينهما، وإنّما يمتنع اجتماعهما لاستحالة تکرُّرِ الوجود الواحد. کما تقدّم في مباحث الوجود - ولا ينتقض أيضاً بنقيض اللازم وعين الملزوم، فإنّ نقيض اللازم إنّما يعاند عينَ الملزوم لمعاندته اللازمَ الذي هو نقيضه، فامتناع اجتماعه مع الملزوم بعرضِ نقيضه، لا لذاته(1)

ص: 579


1- (ولا ينتقض التعريف السابق - الثاني - (بالمثلين الممتنع اجتماعهما عقلاً،..... الخ) وحاصل النقض الأول : أن التقابل تقدم أنه عبارة عن عدم امکان اجتماع شيئين ذاتاً في موضوع واحد من جهة واحدة في زمان واحد، ولکن هناک أشياء لا يمکن اجتماعها بالذات - يمتنع اجتماعها ذاتاً -، وفي الوقت ذاته لا ينطبق عليها التعريف السابق ولا يصدق عليها، إذ قد يمتنع اجتماع شيئين من غير أن يکونا في محل واحد کاجتماع المثلين الذي لا محل له أصلاً، فلو فرضنا وجوداً سنجد أنه يمتنع وجود مثلي له بجميع خصوصياته وخصائصه - الوصفية والزمنية والمکانية ومشخصاته -، فلم يوجدا في موضوع واحد لامتناع وجود المثل، ورغم ذلک امتنع اجتماعهما، فامتنع اجتماعهما لا في موضوع واحد، اما وجه عدم انتقاض التعريف بالمثلين الممتنع اجتماعهما عقلاً لا خارجاً - ولا في موضوع -: (لأن أحد المثلين...الخ) لأننا قد اشترطنا أن يدفع کل واحد منهما الآخر ذات)، بينما ليس الأمر کذلک في المثلين ، وذات المثلين ماهيتهما، والماهية لاتقتضي دفع الآخر وعدمه، بل الماهية لا اقتضاء فيها أصلاً وجوداً و عدماً الاستواء نسبتها إلي الوجود والعدم، لا تقتضي وجود هذا ولا عدمه، کما أن ماهية الانسان لا اقتضاء فيها لوجود زيد مثلاً ولا عدمه، ولا وجود عمرو، ولا عدمه، وتقدم أن يکون الدفع بين المتقابلين ذاتية ، کل يدفع صاحبه بذاته وباقتضاء ذاتاً، والمثلان ذاتهما ماهيتهما ولا اقتضاء للماهية مطلقاً، فلا تقابل بين المثلين، وليسا بمتقابلين ، (وانما يمتنع اجتماعهما) أي المثلين (لاستحالة تکرر الوجود الواحد) لا من جهة ماهيتهما بل من جهة وجودهما. ولا يتنقض أيضاً بنقيض اللازم وعين الملزوم) بأنهما لا يجتمعان - يمتنع اجتماعهما -، رغم أنه لا تقابل بينهما، لماذا لا يتنقض التعريف هنا أيضاً ؟ الجواب : (فإن نقيض اللازم) وعين الملزوم، بيان ذلک: أي أن هذه المعاندة ليست في الحقيقة وبالذات بين اللازم وهو الأربّعة مثلاً، وعين الملزوم وهو الفردية، بل المعاندة ذاتاً وبالذات بين الزوجية وعدم الزوجية، وانما تنسب إلي الأربّعة ثانياً وبالعرض، فالتقابل في الحقيقة بين صفتي الزوجية و عدمها وليس بين الاربّعة - نقيض اللازم - والفردية التي هي الملزوم (فامتناع اجتماعه) أي نقيض اللازم (مع الملزوم بعرض نقيضه) والمفروض امتناع اجتماعهما ذاتاً لا عرضاً ، اذ ذات الأربّعة لا تدفع عدم الزوجية، بل الزوجية هي التي تدفع عدم الزوجية ذات)، (لا لذاته).

والغيريّة غير الذاتيّة أن يکون الشيئان لا يجتمعان لأسباب أُخر غير ذاتيهما ، کافتراق الحلاوة والسواد في السکر والفحم، وتسمّي «خلافاً». ويسمّي أيضاً

الغير» بحسب التشخّص والعدد(1)

والتقابل ينقسم إلي أربّعة أقسام، وهي: تقابل التناقض، وتقابل العدم والملکة ، و تقابل التضايف ، وتقابل التضادّ. والأصوب في ضبط الأقسام أن يقال : إن المتقابلين إمّا أن يکون أحدهما عدماً للآخر أو لا، وعلي الأوّل إمّا أن يکون

ص: 580


1- (کالحلاوة والسواد في السکر والفحم) فإن الحلاوة بذاتها لا تقتضي عدم السواد، والسواد أيضا لا يقتضي بذاته عدم الحلاوة، ولهذا فقد يجتمع السواد والحلاوة وقد لا يجتمعان ، کالتمر الأسود الحلو الذي اجتمع فيه السواد والحلاوة بخلاف السکر، وأما عدم اجتماع السواد والحلاوة في السکر راجع الي علة خارجية لا علاقة له بذات الحلاوة ولا السواد ، فالغيرية التي بين الحلاوة والسواد في السکر بحيث لا يجتمعان فيه نابع من سبب غير ذات الحلاوة والسواد ، کما أن الحلاوة والسواد لا يجتمعان في الفحم أيضاً لا بسبب ذاتهما بل لأمر خارجي، (وتسمّي) هذه الغيرية («خلافاً» ) أي بينهما تخالف لا تقابل، (ويسمّي أيضاً الغير») أي السواد مثلاً غير الحلاوة لکن لا بحسب الذات بل (بحسب) الوجود (والتشخص) فتشخص السواد غير تشخص الحلاوة (و) الغير بحسب (العدد) هذا واحد وذاک واحد و مغاير تهما عددي لا ذاتي، وضمير «بسمّي» هنا يعود الي «خلافاً» لا إلي الغيرية غير الذاتية ، ومعناه أن الخلاف الذي بين الحلاوة والسواد - پستي «الغير» أيضاً.

هناک موضوعُ قابلُ کالبصر والعمي فهو تقابلُ العدم والملکة ، أو لا يکون کالإيجاب والسلب وهو تقابُلُ التناقض ، وعلي الثاني - وهو کونهما وجوديين - فإمّا أن لا يعقل أحدهما إلّا مع الآخر وبالقياس إليه العلو والسفل وهو تقابُلُ التضايف، أو لا وهو تقابُلُ التضاد»(1)

ص: 581


1- وحاصل التقسيم : ان التقابل اما بين الوجود والعدم، واما بين الوجودين، أن کان التقابل بين الوجود والعدم، فإما أن يحتاج عدمه الي الموضوع القابل ام لا يحتاج، ان کان لا يحتاج إلي القابل يسمي سلباً وايجاباً - السلب والايجاب - والتناقض، وأن احتاج الي الموضوع القابل سمي العدم والملکة ، واما اذا کان التقابل بين الوجودين، فأما أن يکون تعقل أحدهما متوقفاً علي الآخر، فهو المتضائفان، وأن لم يتوقف تعقل أحدهما علي الآخر، سمي المتضادين

ص: 582

الفصل السادس في تقابل التناقض

(1)

تقرأ في هذا الفصل :

1- التناقض بين القضايا مثل : «زيد أبيض، وليس زيد بأبيض».

2 - التناقض في المفردات مثل : «الإنسان، واللاانسان».

3- يعود تقابل التناقض الي الايجاب والسلب.

4- التناقض بين الإنسان واللاانسان من طرفين - من الطرفين - لا من طرف واحد.

5- انما يتناقض الانسان واللاانسان اذا ما اعتبرنا فيهما الوجود والعدم

6- تقابل التناقض يرتبط با يجاب وسلب القضايا اولا وبالذات ، وانما ينسب إلي الوجود والعدم ثانية وبالعرض، لأن العقل ينتزع أولا مفهوم الوجود والعدم بصورة المعني الحرفي من القضايا.

7- انما يتحقق تقابل التناقض اما في الذهن أو في اللفظ ، مجاز، ولا يتحقق في الخارج، لأن احد طرفيه عدمي، نعم في الملکة والعدم فإن العدم المضاف له حظ من الوجود.

8- لا يخلو شيء في العالم من وقوعه تحت أحد طرفي التناقض.

9- يمتنع صدق او کذب النقيضين معا، لأنهما قضيتان منفصلتان حقيقيتان .

10 - الشک في أصل التناقض يستوجب الشک في کل علم، لأن العلم بصدق قضية

يتوقف علي العلم بکذب نقيضها، والشک في أصل التناقض يوجب الشک في کذب نقيض

کل قضية علمية ، والشک في کذب النقيض، يستلزم الشک في صدق أصل القضية.

ص: 583


1- لعل أرسطوا أوّل من بادر إلي طرح مسائل مفصلة حول مبحث المتقابلات، وذلک في کتابه المسمي ب «المقولات»، وهو أول کتاب صنفه في علم المنطق ، قال في الکتاب المزبور أنّ التقابل علي أربّعة أقسام - وأنه يتحقق بوجوه أربّعة - هي التضايف، والتضاد، والعدم والملکة، والتقابل بالسلب والايجاب ، وتبعه في ذلک المشاؤون من فلاسفة المسلمين في کتاب قاطيفورياس - أي المقولات المنطقية ، بينما قام المرحوم صدر المتألهين بطرح هذا المبحث في مرحلة خاصة سماها: مرحلة الکثرة والوحدة - أو الوحدة والکثرة - حيث قسم الکثير هناک إلي المتقابل وغير المتقابل، فعد المتقابلات من أقسام وجود الکثير، ولعل شيخ الاشراق هو أول من بادر إلي ذلک مستبقاً فيه صدر المتألهين ، حيث يقول: «من لواحق الوحدة الهو هو، کما أنّ من لواحق الکثرة الغيرية» ثمّ يبدأ بمبحث المتقابلات . ولکن يرد علي طريقة شيخ الاشراق وصدر المتألهين أن عد المتقابلات من أقسام الکثير لا يصح إلا إذا کانت المتقابلات بأجمعها اموراً وجودية ، بينما نجد أن قسمين من المتقابلات يقع العدم في أحد طرفيها، هما العدم والملکة، فان أحد طرفيه عدم الملکة الأخري، ولا يوجد العدم في الخارج، لا يقال العدم أحد مصاديق الکثير، وهکذا في التناقض فان أحد طرفيه العدم، ولو أعرضنا عن العدم واکتفينا بطرف الوجود صار من مصاديق الواحد لا الکثير، والتقابل لا يجري إلا في الکثير فليس هذا البحث من المباحث الفلسفية المستقلة . ولو دققنا لعرفنا انّه لا يمکن اعتبار الماهية مقسماً للمتقابلات، أو بعضها موجود، ولا ماهية للوجود کما أنّ العدم ليس له ماهية، وکذلک لا يمکن اعتبار الوجود مقسمة لها، لأن أحد أقسام کل واحد من هذه المتقابلات هو العدم الذي يقابل الوجود. يبقي المفهوم يصلح ليکون مقسماً لها بأن نقول : المفهومان اما متقابلان وانّما غير متقابلين، وانما يصح ذلک بلحاظ صدق المفهوم علي المصداق، لا بما انّه مفهوم، إذ المفهوم بما انّه مفهوم لا تقابل فيه، اذن لا يجتمع المتقابلان بلحاظ مصاديقهما - مصداقهما -، فلا يجتمعان في مصداق واحد، سواء کان مصداقة حقيقياً أو فرضياً اعتبارياً مثل مفهوم الاسود والطويل، فانّهما يجتمعان في مصداق واحد - لا يمتنع اجتماعهما فيه -، وقد لا يقبل بعض المفاهيم الحمل علي مصداق واحد مثل قولنا : المتقابلان لا يجتمعان ذاتاً في موضوع واحد، لا يصدقان علي شيء واحد.

وهو تقابل الإيجاب والسلب ، کقولنا: «زيد أبيض ، وليس زيد بأبيض»، أو ما هو في معني الإيجاب والسلب من المفردات، که «الإنسان و اللاإنسان» و «العمي واللاعمي» و «المعدوم واللامعدوم(1)

والنقيضان لا يصدقان معاً ولا يکذبان معاً. وإن شئت فقل : لا يجتمعان ولا

ص: 584


1- اعلم أن التناقض أولاً وبالذات لا يجري الا في القضايا کقولنا: «زپد أبيض ، وليس زيد بأبيض»، واما جريانّه في المفردات لعودها إلي السلب والايجاب في القضية، والا فلا تناقض بين المفردات بذواتها، کالانسان واللاانسان، فهو في معني الإنسان موجود، وليس الانسان بموجود، ومن القرائن التي تدل علي أن نسبة التناقض الي القضايا هي الأصل والاساس عند المصنف (قدس سره) قوله : ( والنقيضان لا يصدقان معاً ولا يکذبان معاً) فالصدق والکذب لا يجريان الا في القضايا .

يرتفعان. فمالُ تقابُلُ التناقض إلي قضيّةٍ منفصلةٍ حقيقيّةٍ هي قولنا: «إمّا أن يصدق الإيجاب وإمّا أن يصدق السلب»..

فالتناقض في الحقيقية بين الإيجاب والسلب. ولا ينافي ذلک تحقُّقَ التناقض بين المفردات. فکلّ مفهوم أخذناه في نفسه ثمّ أضفنا إليه معني النفي ، کالإنسان واللاإنسان ، والفرس واللافرس ، تحقَّقَ التناقض بين المفهومين . وذلک أنّا إذا أخذنا مفهومَين متناقضيَن - کالإنسان واللاإنسان - لم نَرتَب أنّ التقابل قائمُ بالمفهومَين علي حدّ سواء، فالإنسان يطرد بذاته اللاإنسان، کما أنّ اللاإنسان يطرد بذاته الإنسان. وضروريُّ أنّه لو لم يعتبر الثبوت والوجود في جانب الانسان لم يطارد اللاإنسانَ ولم يناقضه، فالإنسان واللاإنسان إنّما يتناقضان لأنّهما في معني وجود الإنسان وعدم الإنسان ، ولا يتمّ ذلک إلّا باعتبار قيام الوجود بالإنسان وکذا العدم، فالإنسان واللاإنسان إنّما يتناقضان لانحلالهما إلي الهليّتَين البسيطتَين، وهما قضيّتا الإنسان موجود» و«ليس الإنسان بموجود».

ونظير الکلام يجري في المتناقضيَن: «قيام زيد»، و«لا قيام زيد»، فهما في معني وجود القيام لزيد وعدم القيام لزيد، وهما ينحلّان إلي هليّيَن مرکّبتَين، هما قولنا: «زيد قائم»، وقولنا: «ليس زيد بقائم»، فتقابُلُ التناقض بالحقيقة بين الإيجاب والسلب، وإن شئت فقل : بين الوجود والعدم، غير أنّه سيأتي في مباحث العاقل والمعقول - إن شاء الله تعالي- أن العقل إنّما ينال مفهومَ الوجود أوّلاً معنيً حرفيّاً في القضايا ثمّ يسبک منه المعني الإسمي بتبديله منه وأخذه مستقلّاً بعد ما کان رابطاً ، ويصوّر للعدم نظير ما جري عليه في الوجود. فتقابّلُ التناقض بين الإيجاب والسلب أوّلاً وبالذات ، وبين غيرهما بعرضِهما(1)

ص: 585


1- قوله قدس سره: (فتقابل التناقض بالحقيقة بين الايجاب والسلب) في القضايا ولا يوجد سلب وايجاب إلا في القضايا، ولا توجد قضية إلّا متصفة بالسالبة أو الموجبة وملازمة للسلب أو الايجاب، ولا تناقض من غير السلب والايجاب فلا تناقض إلا في القضايا، (وان شئت فقل :) التناقض في الحقيقة بين الوجود والعدم) والحاصل إنا إذا لاحظنا التناقض في القضايا کان التناقض في الحقيقة بين السلب والايجاب . سلب القضية وايجابها-، وأن لا حظناه في المفرد المنتزع من تلک القضية - من القضية مطلقاً. کان التناقض بين الوجود والعدم. قوله (قدس سره): (ان العقل انما ينال مفهوم الوجود أولاً معنيً حرفياً في القضايا) أنا نأخذ مفهوم الوجود اولاً من رابط القضايا وهو معني حرفي بعد أن نظرنا اليه نظرة استقلالية (ثم يسبک منه) أي من هذا المعني الحرفي (المعني الاسمي) فيجعل المعني الحرفي في قالب المعني الاسمي وذلک( بتبديله منه) أي بتبديل مفهوم الوجود من المعني الحرفي الي المعني الاسمي (وأخذه) أي المعني الحرفي (مستقلاً بعد ما کان رابطاً، ويصور) ويفرض اللعدم) أيضا (نظير ما جري عليه) أي علي المعني الحرفي (في الوجود) أي يفرض «ليس» أولاً في القضية ، ثم يبدله الي معني اسمي مستقل ، (فتقابل التناقض...الخ).

فما في بعض العبارات من نسبة التناقض إلي القضايا ، کما في عبارة التجريد: «إنّ تقابلَ السلب والإيجاب راجعُ إلي القول والعقد» ، إنتهي -، أُريد به السلب والإيجاب من حيث الاضافة إلي مضمون القضيّة بعينه. وقد ظهر أيضاً أن قولهم: «نقيض کلَّ شيءٍ رفعُهُ» ، أُريد فيه بالرفع الطردُ الذاتيّ، فالإيجاب والسلب يطّرد کلُّ منهما بالذات ما يقابله(1)

ص: 586


1- (فما في بعض العبارات من نسبة التناقض الي القضايا ، - کما في عبارة التجريد: «ان تقابل السلب والايجاب راجع الي القول والعقد) أي القضية، هذا القول لصاحب التجريد (اريد به السلب والإيجاب من حيث الاضافة الي مضمون القضية) نفس الموضوع والمحمول مثل زيد قائم يتحقق في القضية السالبه والموجبة علي حد سواء، نقول «زيد قائم، ليس زيد بقائم» اصل القضية هي «زيد قائم»، ولا تناقض فيها، فاذا جعلناها موجبة وسالبة في أن واحد تحقق التناقض فيها، فالتناقض في الحقيقة للايجاب والسلب المتعلقين بالقضية. (وقد ظهر أيضاً أن قولهم: «نقيض کل شيء رفعه» ، أُريد فيه بالرفع الطرد الذاتي) أي يطرد کل من النقيضين النقيض الآخر ذاتاً، والطرد اعم من النفي ، إذ الايجاب يطرد السلب کما يطرد السلبُ الايجابَ ، فيصح أن نقول الايجاب نقيض السلب، والسلب نقيض الايجاب الطرد کل منهما للآخر طرداً ذاتياً ، (فالإيجاب والسلب يطرد کل منهما بالذات ما يقابله) أي صاحبه ، فالسلب والنقض حاصل من الطرفين لا من طرف واحد، وکل من السلب والايجاب يناقض صاحبه بالذات. (واما تفسير من فسّر الرفع) في العبارة السابقة : «نقيض کل شيء رفعه» (بالنفي والسلب) کما في شرح حکمة الاشراق (فصرح بأن... الخ) يجب سلب اللاانسان حتي يصير نقيضاً ، اما الانسان فهو لازم النقيض، اللا لا انسان لا يتحقق في الخارج الا بمصداقه إذ نفي النفي ايجاب، ولازم هذا التفسير لمعني الرفع کون التناقض بين الشيئين من طرف واحد، بينما التقابل لا يکون الا من الطرفين، هذا يطرد ذاک وذاک يطرد هذا، واما طرد واحد منهما للآخر دون العکس فلا يحقق تناقضاً و تقابلاً، والتقابل لا يصح إلا هکذا ومعناه بين من لفظه علي وزن تفاعل.

وأمّا تفسير من فَسَّر الرفع بالنفي والسلب فَصَرَّح بأنّ نقيضَ الإنسان هو

اللاإنسان، ونقيضَ اللاإنسان اللا لا إنسان، وأمّا الإنسان فهو لازم النقيض وليس بنقيض، فلازمُ تفسيرِهِ و کونُ تقابُلِ التناقض من جانبٍ واحدٍ دائماً، وهو ضروريُّ البطلان.

ومن أحکام تقابُلِ التناقض أن تقابُلَ النقيضين إنّما يتحقّق في الذهن أو في اللفظ بنوعٍ من المجاز ، لأنّ التقابل نسبةُ قائمةُ بطرفَين، وأحد الطرفَين في المتناقضَين هو العدم، والعدم اعتبارُ عقليُّ لا مصداقَ له في الخارج. وهذا بخلاف تقابل العدم والملکة ، فإنّ العدم فيه - کما سيأتي إن شاء الله - عدم مضاف إلي أمي موجودٍ، فله حظُّ من الوجود، فالتقابل فيه قائم في الحقيقة بطرفيَن موجودَين .

ومن أحکام هذا التقابل امتناع الواسطة بين المتقابلَين به، فلا يخلو شيءُ من الأشياء عن صدق أحد النقيضَين ، فکلّ أمرٍ مفروضٍ إمّا هو زيد مثلاً أو ليس بزيد ، وإمّا هو أبيض أو ليس بأبيض، وهکذا، فکلّ نقيضَين مفروضَين يعمّان جميع الأشياء.

ومن أحکام هذا التقابل أن النقيضين لا يصدقان معاً ولا يکذبان معاً ، علي سبيل القضيّة المنفصلة الحقيقّية - کما تقدّمت الإشارة إليه . وهي قولنا: «إمّا أن

ص: 587

يصدق الإيجاب أو يصدق السلب». وهي قضّيةُ بديهيّةُ أوليّةُ يتوقّف عليها صدقُ کل ّقضية مفروضة، ضروريّةً کانت أو نظريّةً. فليس يصدق قولنا: «الأربّعة زوجّ»، مثلاً، إلّا إذا کذب قولنا: «ليست الأربّعة بزوج». وليس يصدق قولنا: «العالم حادث »، إلّا إذا کذب قولنا: «ليس العالم بحادث». ولذا سميت قضّية امتناع اجتماع النقيضين وارتفاعهما ب«أولي الأوائل».(1)

ولذا کان الشکّ في صدق هذه المنفصلة الحقيقية مزيلآً للعلم بکلّ قضية مفروضة، إذ لا يتحقّق العلم بصدق قضيّة إلّا إذا عُلِم بکذب نقيضها ، والشکّ في هذه المنفصلة الحقيقية يوجب الشکّ في کذب النقيض، ولازمُهُ الشکّ في صدق النقيض الآخر، ففي الشکّ فيها هلاکُ العلم کلَّهِ وفسادُهُ من أصله، وهو أمرُ تدفعه الفطرة الإنسانيّة، وما يدعيه السوفسطيّ من الشکّ دعويً لا تتعدّي طَورَ اللفظِ البتّةَ وسيأتي تفصيل القول فيه.

ص: 588


1- في جميع انواع التقابل يکون المتقابلان أمرين خارجيين ويقع التقابل في الحقيقة بين امرين خارجيين، وهذا الأمر واضح في التضاد والتضايف لأنهما أمران وجوديان ، فالمتضادان أمران خارجيان، والمتضايفان کذلک والتضاد بينهما خارجي أيضاً، وحتي في العدم والملکة ، إذ العدم المقابل للملکة له حظ من الوجود لأنه عدم مضاف، الا السلب والايجاب التناقض -، فإن موضوعهما ذهني ووقوعهما. کذلک ذهني، اعني انّه لا سلب في الخارج قطعاً ، فالتقابل يعرض النقيضين في الذهن - والتناقض يقع في الذهن لأنه صفة أمرين احدهما ذهني - ليس لأحد النقيضين مصداق خارجي ، وقد يقع تقابل التناقض في اللفظ أي بين لفظين وهو مجازي لعدم وقوع التقابل بين الألفاظ حقيقة .

الفصل السابع في تقابل العدم والملکة

ويسمّي أيضاً «تقابُل العدم والقنية»، وهما أمرُ وجوديُّ عارضُ لموضوع من شأنه أن يتّصف به، وعدم ذلک الأمر الوجوديّ في ذلک الموضوع، کالبَصَر والعَمي الذي هو فَقد البَصَر من موضوع من شأنه أن يکون بصيراً(1)

ولا يختلف الحال في تحقّق هذا التقابل بين أن يؤخذ موضوع الملکة هو الطبيعة الشخصيّة أو الطبيعة النوعيّة أو الجنسيّة ، فإنّ الطبيعة الجنسيّة وکذا النوعيّة موضوعان لوصف الفرد ، کما أن الفرد موضوع له ؛ فعدم البصر في العقربّ - کما قيل - عَمي وعدمُ ملکة، لکون جنسه - وهو الحيوان - من شأنه أن يکون بصيراً وإن لم تتصف به طبيعة العقربّ النوعية ؛ وکذا المرودة وعدم التحاء الإنسان قبلَ أوان البلوغ عدم ملکه، لکون الطبيعة النوعية التي للإنسان من شأنها ذلک، وإن کان صنف غير البالغ لا يتّصف به، ويسمّي تقابُل العدم والملکة بهذا الإطلاق «حقيقيّاً »(2)

نقرأ في هذا الفصل :

قد يکون موضوع الملکة ، الطبيعة الشخصية، أو الطبيعة النوعية أو الطبيعة الجنسية .

2 - الطبيعة النوعية والجنسية قد تقعان موضوعة لوصف الفرد. 3- الطبيعة الفردية قد تقع موضوعا لوصف الجنس أو النوع.

4 - قيد بعضهم العدم في «العدم والملکة» بأن يکون في حين الملکة ووقتها أي «العدم

والملکة المشهوري».

ص: 589


1- وحاصله أن هذا التقابل فيه موضوع مفروض وأمر وجودي عارض لهذا الموضوع، فان لم يعرضه وکان من شأنه أن يعرضه، أي کان الموضوع من شأنه قبول ذلک العرض الفاقد له، کان عدماً وملکة کالبصر والعمي، لا فقد البصر مطلقاً بل فقد من الموضوع الذي من شأنه البصر
2- لا مانع من کون موضوع العدم والملکة هو الجنس کأن نقول : حيوان بصير، أو النوع کان نقول : انسان بصير، فإن الطبيعة الجنسية) کالحيوان بالنسبة للانسان - لزيد .. (وکذا) الطبيعة النوعية مثل الانسان بالنسبة الي زيد (موضوعان لوصف الفرد) أي کل وصف يتصف به الفرد فإنه يسري الي جنسه ونوعه قطعاً ، فلو وصف زيد بالبصر، وصف کذلک جنسيه ونوعه قطعاً ، نقول : زيد بصير ، وحيوان بصير و انسان بصير، إذن يتصف الجنس والنوع بکل ما يتصف به الفرد، وقد تتصف طبيعته الجنسية بما يتصف به الفرد رغم عدم اتصاف طبيعته النوعية بذلک کعدم البصر في العقربّ، فان العقربّ ليس من شأن طبيعته النوعية أن يکون بصيراً، إلّا أن البصر من طبيعته الجنسية.

وربّما قُيّد بالوقت باشتراط أن يکون العدم في وقت الملکة، ويسمّي التقابل حينئذٍ بالمشهوريّ»، وعليه فمرودة الإنسان قبلَ أواني البلوغ ليست من عدم الملکة في شيءٍ ، وکذا فَقدُ العقربّ للبصر ليس بعمي(1)

وهو أشبه بالإصطلاح ، فلا يضرّ خروج الموارد التي يکون الموضوع فيها هو الجنس أو النوع من تقابل العدم والملکة مع عدم دخولها في التقابلات الثلاثة الباقية ، وأقسام التقابل منحصرةُ في الأربّعة(2)

ص: 590


1- (وربّما قيَّد) التقابل بالعدم والملکة (بالوقت) وهو تعريف جديد له، بيان ذلک : (باشتراط أن يکون العدم) لا مطلقاً بل (في وقت الملکة) أي في نفس الوقت الذي فيه شأنية الملکة والا لا يصدق عليه ذلک، وعليه فمرودة الانسان...الخ) إذ المرودة جاءت في وقت غير وقت الملکة بل لابد أن يکون بعد البلوغ واما قبله فليس تقابلاً بالعدم والملکة وهکذا العقربّ فانّه حين کونه عقربّاً بنوعه ليس من شأنه أن يکون بصيراً.
2- (وهو) أي جعل هذا القيد (أشبه بالاصطلاح) کأنهم وضعوا مصطلحاً جديداً لمعني العدم والملکة (فلا يضّر خروج الموارد) جواب اشکال حيث يقول المستشکل: طبقاًلهذا المصطلح المشهوري نجد تقابلاً بين العقربّ وسائر الحيوانات أو بين الأمرد والانسان الملتحي، فان لم يکن هذا التقابل من العدم والملکة، فمن أي اقسام التقابل هو؟ وقد علمنا أنها محصورة في الاربّعة ؟! وان لم يندرج تحت سائر الانواع الثلاثة لزم اندراجه تحت العدم والملکة بالضرورة لعدم وجود غيره، فانّه تقابل حقيقي وان کان بناءاًعلي هذا الاصطلاح ليس من تقابل العدم والملکة ، فلا يضر خروجها منه بناء علي هذا المصطلح غير الحقيقي ، وفيه أنه أولاً: لا دليل علي الحصر في الأربّعة، وثانياً : لو سلمنا بالحصر فلعله من التقابل بالعرض.

الفصل الثامن

في تقابل التضايف(1)

المتضايفان - کما تحصّل من التقسيم - أمران وجوديّان لا يعقل أحدهما إلّا مع تعقل الآخر، فهما علي نسبةٍ متکرّرةٍ لا يعقل أحدهما إلّا مع تعقّل الآخر المعقول به، ولذلک يمتنع اجتماعهما في شي من جهة واحدة، لاستحالة دَوَران النسبة بين الشيء ونفسه (2)

ص: 591


1- نقرأ في هذا الفصل : 1- يستحيل اجتماع المتضائفين في الشيء الواحد من جهة واحدة، لاستحالة دوران النسبة بين الشيء ونفسه. 2 - اشکال : مطلق التقابل من أقسام التضايف، فکيف يصح کون التضايف من أقسام التقابل، أليس هذا جعلاً للشيء من اقسام نفسه؟! 3- والجواب : أن مفهوم التقابل يعني التقابل بالحمل الأولي بعد قسماً من أقسام التضايف ومن مصاديقه، وأما المقسم هنا فهو التقابل بالحمل الشائع الصناعي. - المتضائفان متکافئان وجوداً وعدماً وقوة وفعلاً. 5- الستضائفان متلازمان في الخارج والذهن لتکافؤهما وجوداً و عدماً .
2- (المتضايفان - کما تحصل من التقسيم في الفصل الخامس من هذه المرحلة، أنهما (امران وجوديان لا يعقل أحدهما الا مع تعقل الآخر، فهما) أي المتضايفان (علي نسبة متکررة) لأنهما عبارة عن اضافتين، وفي کل اضافة هناک نسبة متکررة ، الاضافة قائمة بشيئين بينهما نسبة متکررة، اذن فالمتضايفان مبتنيان علي نسبة متکررة ولهذا السبب (لا يعقل أحدهما إلا مع تعقل الآخر المعقول به) أي الآخر الذي لا يعقل أيضاً إلا بالأول، فکل واحد منهما يعقل بواسطة الآخر وبسببه ، ( ولذلک) أي لأنهما مبنيان علي وجود نسبة متکررة بين شيئين (يمتنع اجتماعهما في شيء، وأحد من جهة واحدة) لأنه نسبة التکرر بين الشيئين وليس بين الشيء ونفسه نسبة - أي ليس في الشيء الواحد نسبة الي نفسه -، (لاستحالة دوران النسبة بين الشيء ونفسه) وبانتفاء النسبة تنتفي الإضافة، ولا متضايفين بإضافة - أي مع انتفاء الاضافة بنتفي وجود المتضايفين-.

وقد أُوردَ علي کون التضايف أحدَ أقسام التقابل الأربّعة بأنّ مطلق التقابل من أقسام التضايف، إذ المتقابلان بما هما متقابلان متضايفان، فيکون عدّ التضايف من أقسام التقابل من قبيل جَعلِ الشيء قسماً لقِسمِهِ(1)

وأُجيب عنه : بأنّ مفهوم التقابل من مصاديق التضايف ، و مصداق التضايف من أقسام التقابل و مصاديقه ، فالقسم من التضايف هو مفهوم التقابل والقسيم له هو مصداقه ، وکثيراً مّا يکون المفهوم الذهنيّ فرداً المقابله کمفهوم الجزئيّ الذي هو فردُ للکلي و مقابلُ له باعتبارين ، فلا إشکال(2)

ص: 592


1- (وقد أورد) أي أشکل علي کون التضايف أحد أقسام التقابل الأربّعة) وصيغة الاشکال هي : (بأن مطلق التقابل) الذي يفترض کونه مقسماً للتضايف، هو في الحقيقة (من أقسام التضايف) وعليه فالتضايف مقسم للتقابل، فکيف جعلتم التضايف من أقسام التقابل ؟؟ وجعلتم التقابل مقسماً له؟ بيان ذلک : أن المتقابلين هما الأمران اللذان أحدهما مقابل للآخر الذي هو مقابل له، وهذا هو التضايف ، إذ المتقابلان بما هما متقابلان) أي بملاحظة مفهوم المتقابل - والتقابل - هما (متضايفان) في الحقيقة، (فيکون) حينئذ ( عدّ التضايف من أقسام التقابل من قبيل جعل الشيء قسمة لقسمه) أو قسماً لمقسمه ويبدو هذا أصح ، وأما ما ورد في بعض النسخ من عبارة «قسيماً لقسمه» فلا يتلائم مع المراد والمفهوم
2- (وأُجيب عنه: بأن مفهوم التقابل من مصاديق التضايف) فالتضايف قد يعرض للمفاهيم، وهو عند ما تکون الاضافة ذهنية، وقد تنسب للاشياء الخارجية والمصاديق العينية ، إذا کانت الاضافة خارجية - بناءاً علي کونها خارجية -، وعليه يکون أحد أقسام التقابل هو التضايف الذهني، فمن جملة مصاديق التضايف الذهني هو التضايف الحاصل بين مفهوم المتقابل مع المتقابل، مفهوم التقابل يکون من مصاديق التضايف، والذي يعدّ من أقسام التقابل هو مصداق التضايف الذي يکون من مصاديق المتقابلين، أي من أقسام المتقابلين بالحمل الشايع (و مصداق التضايف من أقسام التقابل و مصاديقه ، فالقسم من التضايف) أي والذي من أقسام التضايف (هو مفهوم التقابل ، والقسيم له) والصحيح أن نقول «والقسم له» أي القسم من التقابل (هو مصداقه) أي مصداق التضايف، اذن مصداق التضايف قسم من التقابل، (وکثيراً ما يکون المفهوم الذهني فرداً لمقابله ، کمفهوم الجزئي الذي هو فرد للکلي ومقابل له) في وقت واحد لأنه صار جزئياً وکلياً لا باعتبار واحد ولا من جهة واحدة بل (باعتبارين) ومن جهتين ، وليس الجزئي کلياً ، لکن يحمل الکلي علي الجزئي لوجود اعتبارين و لحاظين هنا، بأن نقول المفهوم اما کلي واما جزئي بعنوان قسمين من المفاهيم، ثم يشرف الذهن بتصوراته وتصديقاته، وکل من مفهومي «الکلي» و «الجزئي»، مفهوم کلي في نفسي، فمفهوم الجزئي کلي، وحمل الکلي علي الجزئي جاء باعتبار ثانوي آخر، والاعتبارات الذهنية المختلفة ليست علي مستوي واحد وفي عرض واحد حتي يتعارض بعضها مع بعض، هذا بخلاف قولنا المفهوم اما جزئي واما کلي، ففي هذا المورد لا يصح أن نقول والجزئي کلي، مثلاً والکلي جزئي، بهذا الاعتبار لا يصح، واما بالاعتبار السابق فلا مانع منه لأن الجزئي حينئذ جزئي بالحمل الأولي، وإذا جعلناه ولا حظناه مصداقاً لمفهوم آخر يقابله کان الجزئي حينئذ بالعمل الشايع.

الفصل الثامن / في تقابل التضايف ...

من أحکام التضايف أنّ المتضايفين متکافئان وجوداً و عدماً وقوّة وفعلاً ، فإذا کان أحدهما موجوداً فالآخر موجودُ بالضرورة، وإذا کان أحدهما معدوماً فالآخر معدوم بالضرورة، وإذا کان أحدهما بالقوّة أو بالفعل فالآخر کذلک بالضرورة. ولازِم ذلک أنّهما مَعانُ، لا يتقدّم أحدهما علي الآخر، لا ذهناً ولا خارج

ص: 593

ص: 594

في تقابل التضاد

تقرأ في هذا الفصل :

1- عرف القدماء المتضادين بأنهما أمران وجوديان غير متضائفين لا يجتمعان في محل

واحد في زمان واحد من جهة واحدة، ولم يشترطوا غاية الخلاف.

2- وعرفهما المشاؤون بأنهما أمران وجوديان غير متضائفين متعاقبان علي موضوع

واحد داخلان تحت جنس قريب، بينهما غاية الخلاف.

3- ليس التضاد عبارة عن محض انعزال ماهية عن أخري ، بل هو لا يقع الا اذا کان کل

من الطرفين طارداً ماهيةً للطرف الآخر، لا يجتمع معه وجوداً.

4- لا يرد المحل في تعريف المتضادين، ويؤخذ فيه الموضوع الواحد، لعدم وقوع

التضاد في الجواهر.

5- فصل کل من الضدين طارد للآخر، لأن تمام نوعية النوع بالفصل، وهو لا يحصل إلا

في النوعين المندرجين تحت جنس قريب.

- فصل النوع السافل غير طارد لفصل النوع الاضافي المتوسط .

7- قد تجتمع الأجناس العالية کالکم والکيف، وهکذا الأجناس المتوسطة، وحتي

الأنواع الأخيرة، في محل واحد، إذ کانت تحت مقولتين مستقلتين.

8- فالتضاد لا يقع إلا بين النوعين الأخيرين الواقعين تحت الجنس القريب کالسواد

والبياض من الکيف المبصر.

- اشترطوا غاية الخلاف لوجود نسب بين المتضادين يمکن عدها من أحد الطرفين ،

فيمتنع بذلک وقوع التضاد حقيقة.

10- ليس بين الجواهر غاية الخلاف، فلا يقع فيها التضاد.

11- لا يقع التضاد إلا بين طرفين.

12- اذا کانت للشيء الواحد أضداد کثيرة، فالأمر لا يخلو من وجهين : أ- ان تکون

ضديتها له من جهة واحدة، فالضد الحقيقي له هو هذه الجهة الواحدة لا غير.

ب- أن تکون ضديتها له من جهات عديدة ، فليس هذا الشيء بسيطاًوواحداً في

الحقيقة ، بل له جهات متعددة کثيرة، وعليه فلکل جهة من هذه الجهات ضد واحد فقط.

13 - من أحکام المتضادين ان يتعاقبا علي موضوع واحد، أکان لها وسائط أو لم يکن ،

فلا يخلو الموضوع منهما أصلاً، ولا يعني ذلک کون المتضادين عارضين لموضوع حتماً، بل

لا ينفکان عن موضوعهما.

14- ومن أحکام التضاد أيضاً أن يکون الموضوع فيه واحداً بالخصوص، لامتناع وقوع

التضاد بين الموضوعين - أي بين فردين ، کما هو الحال في الواحد بالعموم - أي الجنس

والنوع

ص: 595

قد عرفت أنّ المتحصَّل من التقسيم السابق أنّ المتضادّين أمران وجودّيان غير متضائفين لا يجتمعان في محلًّ في زمانٍ واحدٍ من جهير واحدة. والمنقول عن القدماء أنّهم اکتفوا في تعريف التضادّ علي هذا المقدار ، ولذلک جوّزوا وقوع التضاد بين الجواهر، وأن يزيد أطراف التضادّ علي إثنين (1)

لکنّ المشّائين أضافوا إلي ما يتحصّل من التقسيم قيوداً أُخر، فرسّموا المتضادّين ب«آنّهما أمران وجودّيان غير متضائَقين متعاقبان علي موضوعٍ واحدٍداخلان تحت جنس قريب بينهما غاية الخلاف». ولذلک ينحصر التضادُ

عندهم في نوعيَن أخيرَين من الأعراض داخلَين تحت جنسٍ قريبٍ بينهما غاية الخلاف، ويمتنع وقوع التضادّ بين أزيد من طرفين(2).

ص: 596


1- (أن المتضادين أمران وجوديان غير متضائفين) أي يمکن تعقل أحدهما من غير تعقل الآخر بخلاف المتضائفين اللذين لا يمکن تعقل أحدهما إلا بتعقل الآخر، ولازم تقابل المتضادين انّهما (لا يجتمعان في محلٍ واحدٍ في زمانٍ واحد من جهةٍ واحدةٍ. (ولذلک) أي لأنهم اکتفوا في تعريف المتضادين بعدم اجتماعهما في محلٍ واحدٍ (جوزوا) أي القدماء من الفلاسفة (وقوع التضاد بين الجواهر) والمحل أعم من الموضوع الذي يقبل حلول الجوهر والعرض، لا مکان فرض محل للجواهر، ولهذا فلا يمتنع عندهم وقوع التضاد بين جوهرين ، (وان يزيد أطراف التضاد علي اثنين) أي وأجازوا ان يزيد أطراف التضاد علي طرفين، بل يجوز وقوعه بين عدة أطراف، لعدم اشتراطهم غاية الخلاف في تحقق التضاد، الاکتفائهم بعدم الاجتماع، فالبياض ضد السواد وضد الخضرة والحمرة، والحمرة ضد السواد والخضرة وکل منها ضد البواقي، وکانوا يعدون جميع الألوان من الاضداد
2- (فرسّموا) ولم يقل فعرّفوا لأن المتضاد بن ليسا بماهية ، والتضاد عنوان انتزاعي ، فلا يُعرّف بالحد لعدم امکان تقديم تعريف حقيقي له، لخلوه من الجنس والفصل، والتعريف لا يکون حقيقياً بالحد إلّا فيما کان له جنس وفصل. : زاد المشاؤون علي تعريف القدماء أنهما أولاً : (متعاقبان علي موضوع واحد، ثانياً : (داخلان تحت جنس قريب) فلا تضاد بين الأنواع المتوسطة، والاجناس العالية، ثالثاً : (بينهما) أي المتضادين (غاية الخلاف) فلا يتحقق التضاد بين أکثر من شيئين اثنين . (ولذلک أي لوجود هذه القيود الثلاثة وزيادتها ۔ اضافتها - (ينحصر التضاد عندهم في نوعين أخيرين من الاعراض) ولا يعني أن کل نوعين أخيرين من الاعراض فلابد ان يقع بينهما التضاد ، کلا، بل معناه إمکان وقوع ذلک، لامکان عدم وقوع التضاد بين بعض النوعين الأخيرين من الأعراض، (داخلين تحت جنس قريب بينهما غاية الخلاف، ويمتنع وقوع التضاد بين أزيد من طرفين) والضدان لا ثالث لهما.

بيان ذلک: أنّ کلَّ ماهية من الماهيّات بل کلّ مفهوم من المفاهيم منعزلُ بذاته عن غيره من أيَّ مفهومٍ مفروضٍ، وليس ذلک من التضادَّ في شيءٍ وإن کان يصدق عليه سلب غيره؛ وکذا کلُّ نوع تام بوجوده الخارجيّ وآثاره الخارجيّة مباين لغير من الأنواع التامّة بماله ولآثاره من الوجود الخارجيّ، لا يتصادقان - بمعني أن يطرد الوجودُ الخاصّ به الطاردُ؛ لعدمِهِ عدمَ نوعٍ آخر بعينه . فليس ذلک من التقابل والتضادّ في شيءٍ. وإنما التضادّ - وهو التقابل بين أمرين وجودَّين - أن يکون کلُّ من الأمرين طارداً بماهينه الأمرَ الآخر، ناظراًإليه، آبيا للاجتماع معه وجوداً(1)

ص: 597


1- (بيان ذلک) الذي ذهب اليه المشاؤون : (ان کل ماهية من الماهيات بل کلي مفهوم من المفاهيم منعزل بذاته عن غيره من أي مفهوم فرض) هل التضاد هو صرف انعزال شيء عن شيء، وهل مباينة شيء لشيء يعدّ تضادّاً لو کان کذلک لأمکن وقوع التضاد بين کل الأشياء، إذ کل ماهية بل کل مفهوم منعزل بذاته عن غيره ومباين مغاير له، وليس ذلک) أي مطلق التباين والانعزال لأي شيء عن أي شيء ليس (من التضاد في شيء، وان کان يصدق عليه) أي علي أي مفهوم وأي شيء (سلب غيره) عنه، ولکن مجرد عدم کون هذا عين ذاک لا يحقق تضادة بينهما، هذا بالنسبة الي المفاهيم والماهيات، (وکذا بالنسبة إلي الموجودات الخارجية، فإن (کل نوع تام بوجوده الخارجي وآثاره الخارجية مباين لغيره من الأنواع التامة) فکل نوع خارجي بياين غيره من الأنواع الخارجية، کالتضاد الذي بين الإنسان مع الشجر والحجر والبقر والغنم وما أشبه ، وهذا أيضاً ليس من التضاد في شيء ، إذن الموجودان الخارجيان (لا يتصادقان) أي لا يصدق أحدهما علي الآخر، التصادق بين المفهومين عبارة عن صدقهما علي مصداق واحد- واجتماعهما فيه -، ولکن تصادق وجودين علي مصداق واحد معناه أن أحد الوجودين - الموجودين -، حين يتحقق، فهو کما يطرد العدم حينئذ عن ماهيته وجب أن يطرد عدماً آخر عن ماهية غيره، حتي يصح انّهما متصادقان، ويتحقق بينهما التصادق والاجتماع، ولکن لا تصادق بين الوجودين أصلاً (بمعني أن يطرد الوجود الخاص به الطارد لعدمه عدم نوع آخر بعينه) فالتصادق لا يتحقق إلّا بطرد الوجود الواحد العدمين، عدمه وعدم غيره، وليس هذا يتحقق في الأنواع الخارجية ، وإلا وقع التضاد بين کل الأنواع الخارجية وطرد کل منهما العدم عن نفسه وغيره وهو محال، فليس ذلک) المدعي من طرد عدمين بوجود واحد من التقابل في شيء) إذن هناک قيود أخري لازمة الإضافة إلي تعريف التضاد ليتحقق معني التضاد حقيقةً، (وانما التضاد-، وهو التقابل بين أمرين وجودين - أن يکون کل...الخ).

ولازِمُ ذلک أوّلاً : أن يکون هناک أمرُ ثالثُ يوجدان له ويتّحدان به، والأمر الذي يوجد له الأمر الوجوديّ ويتّحد به، هو مطلق الموضوع الأعمّ من محلّ الجوهر وموضوع العرض، لکنّ الجواهر لا يقع فيها تضادّ - کما سيجيء. فالمتعيّن أن يکونا عرضَين ذَوَي موضوع واحد.(1)

وثانياً : أن يکون النوعان بما أنّ لکلًّ منهما نظراًإلي الآخر متطاردَين کلُّ منهما يطرد الآخرَ بفصله الذي هو تمام نوعيّنه . والفصل لا يطرد الفصلَ إلّا إذا کانا جميعاً مقسمَين لجنس واح، أي أن يکون النوعان داخلَين تحت جنس واحد قريب ، فافهم ذلک (2)

ص: 598


1- (ولازم ذلک) أي لازم قولنا يجتمعان - الوجودان يجتمعان - ورود اشکالين (اولاً : ان يکون هناک أمر ثالث..الخ) يجتمعان في هذا الثالث - الموجود الثالث -، أولاً يجتمعان فيه، ثم أن هذا الأمر الثالث قد يکون محلاً لجوهرين أو موضوعاً لعرضين، ويکون الأمران المتضادان - أي الجواهران - وجودين رابطين وجودهما للغير بالنسبة الي ذلک الموجود والأمر الثالث.
2- (وثانياً :) تقدم أن الماهيتين ينبغي أن يکونا بحيث يأبي عن الآخر ويطرده، وهذا الاباء والطرد يجب أن يکون مستنداً الي فصله الذي به قوامه وتحصله و تشخصه ، فيکون (النوعان بما ان لکل منهما نظراً إلي الآخر متطاردين کل منهما يطرد الآخر بفصله الذي هو تمام نوعيته ...الخ).

ولا يرد عليه : أنّ الفصلَ، لکونه جزء الماهيّة، غير مستقلًّ في الحکم، والحکم للنوع. لأنّ الفصل عين النوع محصّلاً، فحکمه حکم النوع بعينه : "علي أنّ الأجناس العالية من المقولات العشر لا يقع بينها تضادّ، لان الأکثر من واحد منها يجتمع في محلًّ واحدٍ، کالکمّ والکيف وسائر الأعراض مجتمع في جوهر واحد جسمانيَّ، وکذا بعض الأجناس المتوسطة الواقعة تحت بعضها مع بعضِ واقع تحت آخر، وکذا الأنواع الأخيرة المندرجة تحت بعضها مع بعض الأنواع الأخيرة المندرجة تحت بعض آخر. فالتضادّ إنّما يقع بالاستقراء في نوعَين واقعَين تحت جنسٍ قريبٍ من المقولات العرضّية ، کالسواد والبياض المعدودَين من الکيفيّات المبصرة عندهم، وکالتهورَ والجبن من الکيفيّات النفسانيّة(1)

ص: 599


1- (ولا يرد عليه : أن الفصل لکونه..الخ) فالحکم في الحقيقة يجب نسبته إلي النوع لعدم کون الفصل ماهية تامة، ليس هذا الاشکال واردة علي القول «ثانية»، (لأن الفصل...الخ)، ولا فرق بين نسبة الحکم الي النوع أو الفصل. فالماهيتان يطرد بعضهما بعضاً بفصلهما (علي) أي أضف اليه (أن الأجناس العالية من المقولات العشر ...الخ). (و) کذا لا يقع تضاد بين بعض الأجناس المتوسطة الواقعة تحت بعضها مع بعض واقع تحت البعض الآخر، فإن بعض النوع من هذه الأجناس العالية مع نوع آخر من جنس آخر - من الأجناس العالية - نجتمع، کالنوع من الکم مع نوع من الکيف فانّهما يجتمعان ، وکذا) يقع الاجتماع بين الأنواع الأخيرة المندرجة تحت بعضها مع بعض الأنواع الأخيرة المندرجة تحت بعض آخر) النوع الأخير من هذه المقولة تجتمع مع النوع الأخير من تلک المقولة، کالخط الذي هو نوع أخير من الکم المتصل، أو الخط المستقيم - مثلاً - فإنه النوع الأخير من الکم المتصل، يجتمع الخط المستقيم مع الکيف کاللون، إذن حتي الأنواع الاخيره من جنسين عاليين يمکن اجتماعهما فلا تضاد بينهما. ولا تضاد بين کل ما تقدم، (فالتضاد انما يقع في الحقيقة و(بالاستقراء في نوعين) فقط لا ثالث لهما وهو في (نوعين واقعين ... الخ) هذا کله لتوجيه و تبرير ما صنعه المشاؤون من اضافة القيود الثلاثة إلي تعريف القدماء وأنت تعلم أن الاستقراء دليل وجداني، وعدم الوجدان لا يدل علي عدم الوجود. فانّهم وتأمل.

وأمّا اعتبار غاية الخلاف بين المتضادين فإنّهم حَکَموا بالتضادّ بين اُموړٍ، ثمّ عَثَروا بأمورٍ متوسطةٍ بين المتضاديّن نسبيّةٍ، کالسواد والبياض المتضادَّين ، وبينهما من الألوان الصفرة والحمرة والخضرة ، وهي بالنسبة إلي السواد من البياض وبالنسبة الي البياض من السواد ، وکالتهوّر والجبن المتوسط بينهما الشجاعة، فاعَتبَروا أن يکون الضدّ في غاية الخلاف ونهاية البعد من ضدّه. وهذا هو الموجب لتفيهم التضادّ بين الجواهر، فإنّ الأنواع الجوهريّة لا يوجد فيها ما هو نسبيُّ مقيسُ إلي طرفين ، ولا نوعان متطرّفان بينهما غاية الخلاف(1) ومن أحکام التضادّ أنّه لا يقع بين أزيد من طرفَين لأنه تقابُلُ ، والتقابل نسبةُ ولا تتحقّق نسبةُ واحدةُ بين أزيد من طرفين. وهذا حکمُ عامُّ لجميع أقسام التقابل .

قال في الأسفار : «ومن أحکام التضادُ- علي ما ذکرناه من اعتبار غاية التباعد- أن ضدَّ الواحد واحدُ، لأن الضدَّ علي هذا الاعتبار هو الذي يلزم من

ص: 600


1- (ثم عثروا بأمور متوسطة بين المتضادين) هذه الأمور کانت (نسبية) أي بالنسبة الي احد المتضادين يصدق عليها مفهوم وبالنسبة الي الآخر يصدق عليه مفهوم آخر، مثلا اللون الأصفر، أسود بالنسبة إلي البياض، وابيض بالنسبة الي السواد- أي اذا قيس اليهما-، (کالسواد والبياض) المتضادين (المعدودين من الکيفيات المبصرة عندهم) أي عند القدماء، فإن بينهما انواع متوسطة من الالوان الصفرة والحمرة والخضرة وما أشبه، فإنها تعد بياض اذا قيست مع السواد، وتعد سوادا إذا قيست مع البياض، (وکالتهور والجبن من الکيفيات النفسانية) فإنهما يعدان کذلک، فتعد الشجاعة بالقياس إلي التهور جبناً، وبالقياس الي الجبن تهوراً، فاعتبروا أن يکون الضد في غاية الخلاف) حتي لا يمکن تصور حالات وسطية بين المتضادين (و نهاية البعد من ضده) إذا تم هذا (وهذا) الذي قلناه من لزوم غاية الخلاف بين المتضادين (هو الموجب لنفيهم التضاد بين الجواهر) فأنکر المشاؤون هذا التضاد، إذ ليس بين الأنواع الجوهرية غاية الخلاف، لعدم وجود مراتب نسبيه متوسطة بينها، فلا يوجد نوع بين الإنسان والفرس مثلاً يعد بالنسبة والقياس الي هذا شيئاً وبالقياس الي الآخر شيئاً آخر، وهکذا في جميع الأنواع الجوهرية لا توجد حدود متوسطة ليتحقق بنفيها غاية الخلاف بينها.

وجودِهِ عدم الضدّ الآخر؛ فإذا کان الشيء وحدانيّاً وله أضداد، فإمّا أن تکون مخالفتها مع ذلک الشيء من جهةٍ واحدةٍ أو من جهات کثيرة ، فإن کانت مخالفتها له من جهةٍ واحدةٍ فالمضادّ لذلک الشيء بالحقيقة شيءُ واحدُ وضدُّواحدُّ وقد فُرِضَ أضداداً ، وإن کانت المخالفة بينها وبينه من جهات عديدة فليس الشيء ذا حقيقةٍ بسيطةٍ ، بل هو کالإنسان الذي يضادّ الحارّ من حيث هو بارد، ويضادّ البارد من حيث هو حارّ ، ويضادّ کثيراً من الأشياء لاشتماله علي أضدادها. فالتضادّ الحقيقيّ إنّما هو بين الحرارة والبرودة والسواد والبياض، ولکلَّ واحدٍ من الطرفين ضدُّ واحد. وأمّا الحارّ والبارد فالتضادّ بينهما بالعرض» إنتهي(1)

ص: 601


1- (لأن الضد علي هذا الاعتبار) أي علي اعتبار غاية الخلاف ونهاية التباعد بين الضدين (هو الذي يلزم من وجوده) أي وجود أحد الضدين (عدم الضد الآخر) ثم يستدل بطريقة أخري لحصر الضدين والتضاد بين طرفين بقوله: (فاذا کان الشيء وحدانياً) أي واحداً حقيقة (و) رغم وحدانيته (له اضداد) کثيرة أو له ضدان کأن يکون الباء والجيم - مثلاً -، ضدين للألف فاما أن تکون مخالفتها) أي تلک الأضداد أو الضدان - کالباء والجيم هنا۔ (مع ذلک الشيء) أي مع الالف مثلًا (من جهة واحدة أو من جهتين أو من (جهات کثيرة، فإن کانت مخالفتها له من جهة واحدة) يتبين أن بين هذه الأضداد الکثيرة جهة مشترکة هي الضد لهذا الطرف۔ أعني الألف في المثال ، (فالمضاد لذلک الشيء بالحقيقة شيء واحد وضد واحد) لا أشياء ولا أضداد عديدة وهذا الشيء الواحد هو جهة الاشتراک ، (وقد فرض) الطرف الآخر - المقابل - (أضداداً) لا ضداًواحداً ، وان کانت المخالفة بينها وبينه من جهات عديدة) بأن يکون کل منها مخالفاً له من جهة خاصة، (فليس الشيء الأول والطرف الأول المضاد لها (ذا حقيقة بسيطة) لأنه حينئذ ذو جهات، وما تعددت جهاته لا يکون واحداً حقيقياً ، بل هو) أي هذا الشيء حينئذ يصير (کالإنسان الذي هو شيء واحد لکنه يضاد) أشياء اًکثيرة لأنه ليس بسيطاً من جميع الجهات، له أعراض وحالات عديدة تضاده من جهات عديدة، فإنه يضاد (الحار) اذا کان جسمه بارداً (من حيث هو بارد، و يضاد البارد) إذا کان جسمه حاراً (من حيث هو حار) فالإنسان ذو حيثيات کثيرة يضاد الاشياء الکثيرة من خلال تلک الحيثيات. ولکل واحد من الطرفين ضد واحد) الحار ضده البارد والسواد ضده البياض والرطوبة ضدها اليبوسة فقط وهکذا، (واما) ذات (الحار) کالانسان أو الجسم الحار(و) ذات (البارد)کالانسان أو الجسم البارد (فالتضاد بينهما بالعرض) لا بالذات .

ومن أحکامه أنّ المتضادَّين متعاقبان علي الموضوع لاعتبار غاية الخلاف بينهما، سواءُ کانت بينهما واسطة أو وسائط هي بالقياس إلي کلُ من الجانبين من الجانب الآخر، وأثَرهُ أن لا يخلو الموضوع منهما معاً، سواء تعاو را عليه واحداً بعد واحد أو کان أحد الضدّين لازماً لوجوده کالبياض الثلج و السواد للقارّ(1)

ومن أحکامه أنّ الموضوع الذي يتعاقبان عليه يجب أن يکون واحداً بالخصوص لا واحداً بالعموم، إذ لا يمتنع وجود ضدّين في مو عين وإن کانا متحدين بالنوع أو الجنس (2)

ص: 602


1- (ومن احکامه...الخ) ، (سواء اًکانت بينهما واسطة أو وسائط) من المراتب فقد تکون بينهما مرتبة أو مراتب کأن تفرض مراتب أو مرتبة بين السواد والبياض مثلا. لأنهما عندهم أصل سائر الألوان ، فإنا لو قسنا کل لون من الالوان الي السواد والبياض تکون له نسبة إلي السواد غير نسبته الي البياض - وقد تقدم بيانّه -، هذه الأضداد لا يخلو من مجموعها موضوع من المجموعات، إذن سواء کانت بينهما واسطة أو وسائط أو لم تکن بينهما کذلک. سواء أ تعاورا عليه) أي علي الموضوع (واحدة بعد واحد) بأن يذهب أحدهما ليحل محله الضد الآخر ويتبدل کل منهما إلي الآخر في الخارج، أو کان أحد الضدين..الخ)
2- وحاصله: أن الضدين انما لا يجتمعان في موضوع شخصي اما في الواحد بالعموم أي الموضوع الکلي کالجنس والنوع الانسان والحيوان -، فانّه لا يمتنع اجتماعهما، لإمکان کون بعض افراد الانسان أو الحيوان أبيض وبعضه أسود وهکذا نقرأ في هذه الخاتمة: 1- التقابل الحاصل بين الواحد والکثير ، ليس من أقسام التقابلات المصطلحة، إذ قوام التقابل بتطارد الطرفين ذات ، وليس الواحد والکثير من هذا القبيل. 2- الکثير من حيث وجوده واحد، فالکثير من مصاديق الواحد، لأن ما به الاختلاف وما به الاتحاد للواحد والکثير، أمر واحد، وهو من آثار تشکيک الوجود والتشکيک في الوجود، لا التقابل. 3- يمکن القول بأن الوحدة مفهوم تشکيکي، والکثير احدي مراتبه. 4- المرتبة العالية في التشکيک أقوي وجودة وأشد من المرتبة الدانية . 5- بما أن أحد طرفي التناقض، والملکة والعدم، أمر عدمي، فلا ينطبقان علي الواحد والکثير، هذا من جهة، ومن جهة اخري فان التکافؤ بين المتضائفين وجوداً وعدماً، وقوّة وفعلاً، لا ينطبق علي الواحد والکثير، فلا ينطبق تقابل التضائف عليهما، وايضاً فان شرط غاية الخلاف في المتضادين لا يصدق علي الواحد والکثير، ولما لم يصدق عليهما شيء من اقسام التقابل ، لزم عدم وقوع التقابل بين الواحد والکثير .

خاتمةُ

اختلفوا في التمانع الذي بين الواحد والکثير، حيثُ لا يجتمعان في شيء واحدٍ من جهة واحدةٍ أهو من التقابل بالذات أم لا؟ وعلي الأوّل أهو أحد أقسام التقابل الأربّعة أم قسمُ خامسُ غير الأقسام الأربّعة المذکورة ؟ وعلي الأوّل أهو من تقابل التضايف أم من تقابل التضادّ؟ ولکل من الاحتمالات المذکورة قائلُ علي ما فُصَّل في المطوّلات(1)

ص: 603


1- (أهو) أي هذا التمانع الذي بين الواحد والکثير هل (من) قسم التقابل بالذات؟) أي الواحد بما أنه واحد يقابل الکثير بما أنه کثير، هکذا العکس، أعني الکثير بما أنه کثير يقابل الواحد ؟ هل التقابل بينهما ذاتي ؟ (أم لا؟) ليس التقابل ذاتياً بينهما علي الثاني - أي القول بعدم کونه تقابلاً ذاتياً - نکون قد تخلصنا من النقاش، (و) أما (علي الأول) وهو کون التقابل بينهما ذاتية (أهو) أي هذا التقابل (أحد أقسام التقابل الأربّعة)؟ (أم) انّه (قسم خامس... الخ)، فإن اخترنا کونه قسماً خامساً لزمنا الدليل لاثبات القسم الخامس أولاً، والدليل أيضاً لکون هذا التقابل من مصاديقه وأقسامه، (و) أما (علي الأول) بأن نقول هو من الأقسام الأربّعة أهو من تقابل التضايف أم من تقابل التضاد؟ ولکل من الاحتمالات المذکورة، قائل علي ما فصل في المطولات) کالمباحث المشرقية في جزئه الأول، والتحصيل، والجزء الثاني من الاسفار وإلهيات الشفاء

والحقّ أنّه ليس من التقابل المصطلح في شيء، لأنّ قوام التقابل المصطلح بالغيريّة الذاتيّة التي هي تَطَارُدُ الشيئين المتقابلين وتدافُعُهما بذاتيهما، ومن المستحيل أن يرجع الاختلاف والتمانع الذاتيّ إلي الاتّحاد والتآلف، والواحد والکثير ليسا کذلک ، إذ الواحد والکثير قسمان ينقسم إليهما الموجود من حيث هو موجود، وقد تقدّم أنّ الوحدة مساوقةُ للوجود، فکلُّ موجودٍ- من حيث هو موجود- واحدُ، کما أنّ کلَّ واحدٍ من حيث هو واحد موجودُ. فالواحد والکثير کلّ منهما مصداق الواحد أي إنّ ما به الاختلاف بين الواحد والکثير راجعُ إلي ما به الاتّحاد - وهذا شأن التشکيک دون التقابل (1)

فالوحدة والکثرة من شؤون تشکيک الوجود؛ ينقسم الوجود بذلک إلي الواحد والکثير مع مساوقة الواحد للموجود المطلق، کما ينقسم إلي الوجود

ص: 604


1- (ومن المستحيل أن يرجع الاختلاف والتمانع الذاتي الذي هو في المقابلات الي الاتحاد والتألق) الذي في الکثرة والوحدة - أي بينهما-، (و الواحد والکثير ليسا کذلک) أي ليس بينهما تمانع ذاتي ، (إذ الواحد والکثير قسمان ينقسم اليهما الموجود من حيث هو موجود) إذ الموجود ينقسم الي الواحد والکثير - وليس هذا دليلاً علي عدم التقابل بين الواحد والکثير ، بل هو مقدمة للدليل، فانتبه -، (وقد تقدم )في الفصل الأول من هذه المرحلة (أن الوحدة مساوقة للوجود) وهي المقدمة الثانية للدليل القادم والنتيجة الآتية ان شاء الله تعالي، إذن ينقسم الموجود الي الواحد والکثير من جهة، والوحدة مساوقة للوجود من جهة اخري (فالواحد والکثير) بعد ملاحظة المقدمتين السابقتين يکون( کل منهما مصداق الواحد) لأنهما مصداق الوجود والوجود مساوق للواحد، فهما من مصاديق الواحد، (وهذا شأن التشکيک دون التقابل ). وفيه ان التشکيک بين مفهومي الواحد والکثير ، أعني ان مفهوم الواحد تشکيکي، صدقه علي بعض أفراده أشد من صدقه علي البعض الآخر هذا التشکيک انما يتم اذا کانت الکثرة من مراتب الوحدة، وليس الأمر کذلک .

الخارجيّ والذهنيّ مع مساوقة الخارجيّ لمطلق الوجود، وينقسم إلي ما بالفعل وما بالقوّة مع مساوقة ما بالفعل لمطلق الوجود.

علي أنّ واحداً من أقسام التقابل الأربّعة بما لها من الخواصّ لا يقبل الانطباق علي الواحد والکثير ، فإنّ النقيضَين والعدم والملکة أحد المتقابلين فيهما عدم للآخر، والواحد و الکثير وجوديان ، والمتضايفان متکافئان وجوداً و عدماً وقوّة و فعلاً ، وليس الواحد والکثير علي هذه الصفة ، والمتضادّان بينهما غاية الخلاف، ولا کذلک الواحد والکثير ، فإنّ کلَّ کثيرٍ عدديًّ قوبل به الواحد العدديّ، فإنّ هناک ما هو أکثر منه وأبعد من الواحد لعدم تناهي العدد، فليس بين الواحد والکثير شيءُ من التقابلات الأربّعة، والقسمة حاصرةُ، فلا تقابُلَ بينهما أصلاً.

ص: 605

ص: 606

المقدّمة ..........

قبسات من حياة المؤلف (طاب ثراه) .........

العلامة في سطور ............

نسبه ...................

ألقابه .............

مولده ونشأته...............

هجرته إلي التجف الأشرف ....

سلوک العلامة للعرفان ........

المؤلف والعلوم العقلية ........

الفقه والأصول ...............

عودة المؤلف إلي مدينته تبريز ..........

أبرز تلاميذه .........................

مؤلفات العلامة..............

اجازاته في الاجتهاد والرواية ...........

أبرز ملامح العلامة ...........

مقدمة في الفلسفة وتاريخها ..................

ص: 607

....... شرم نهاية الحکمة

اعرف هذا الکتاب ....

الامام الخميني با فيلسوف و حکيما.........

خلاصة الکلام .............................

کلام بمنزلة المدخل لهذه الصناعة ...........

المرحلة الأولي

في أحکام الوجود الکلية الفصل الأول : في أن الوجود مشترک معنوي ............. الفصل الثاني: في أصالة الوجود واعتبارية الماهية ..........................

الفصل الثالث: في أن الوجود حقيقة مشککة .......................

الفصل الرابع : في شطر من أحکام العدم ............

الفصل الخامس: في أنه لا تکژر في الوجود ..........

.........................

و

المرحلة الثانية

في الوجود المستقل والرابط الفصل الأول : في انقسام الوجود إلي المستقل والرابط .....

الفصل الثاني : في کيفية اختلاف الوجود الرابط والمستقل ...................

الفصل الثالث : في انقسام الوجود في نفسه إلي ما لنفسه وما لغيره ..............203

189..............

المرحلة الثالثة

في انقسام الوجود الي ذهني و خارجي

فصل: في انقسام الوجود إلي ذهني و خارجي ...............

211 ....

ص: 608

محتويات الکتاب .

المرحلة الرابعة

في مواد القضايا الفصل الأول : في أن کل مفهوم اما واجب وإما ممکن وإما ممتنع ...............

الفصل الثاني : في انقسام کل من المواد الثلاث إلي ما بالذات وما بالغير

وما بالقياس إلي الغير، إلا الإمکان...................

الفصل الثالث : في أن واجب الوجود بالذات ماهيته إنينه .....................

الفصل الرابع : في أن واجب الوجود بالذات واجب الوجود من جميع الجهات ..... 285

الفصل الخامس : الشيء ما لم يجب لم يوجد ، وفيه بطلان القول بالأولوية .......290

الفصل السادس : في حاجة الممکن إلي العلة وأن علة حاجته إلي العلة

هو الإمکان دون الحدوث ...........

الفصل السابع : الممکن محتاج إلي العلة بقاء کما أنه محتاج إليها حدوثا .........310

الفصل الثامن : في بعض أحکام الممتنع بالذات ...............

المرحلة الخامسة

في الماهية وأحکامها الفصل الأول : في أن الماهية في حد ذاتها لا موجودة ولا لا موجودة ...........

الفصل الثاني : في إعتبارات الماهية ...........................................................................361

الفصل الثالث : في الکلي والجزئي ...........

الفصل الرابع : في الذاتي والعرضي .....

الفصل الخامس : في الجنس والفصل والنوع و بعض ما يلحق بذلک ............. 360

الفصل السادس : في بعض ما يرجع إلي الفصل ............................. 379 الفصل السابع : في بعض أحکام النوع

ص: 609

المرحلة السادسة

في المقولات العشر

الفصل الأول : في المقولات وعددها ..........

الفصل الثاني : في تعريف الجوهر وأنه جنس لما تحته من الماهيات ............11

الفصل الثالث : في أقسام الجوهر الأولية ..................................419 الفصل الرابع : في ماهية الجسم .................................................. 435

الفصل الخامس: في ماهية المادة وإثبات وجودها ..........................

الفصل السادس : في أن المادة لا تفارق الجسمية والجسمية لا تفارق

المادة أي أن کل واحدة منهما لا تفارق صاحبتها ..................... 457

الفصل السابع : في إثبات الصور النوعية وهي الصور الجوهرية المنوعة

الجوهر الجسم المطلق .....................

خاتمة للفصل ................

الفصل الثامن : في الکم وهو من المقولات العرضية....... الفصل التاسع: في انقسامات الکم ......................

الفصل العاشر: في أحکام مختلفة للکم.................................... 685 الفصل الحادي عشر: في الکيف وانقسامه الأولي ...........................493

الفصل الثاني عشر: في الکيفيات المحسوسة .............................. 495

الفصل الثالث عشر: في الکيفيات المختصة بالکميات ....................... 99

الفصل الرابع عشر: في الکيفيات الاستعدادية وتسمي أيضا القوة واللاقوة ......509 الفصل الخامس عشر: في الکيفيات النفسانية ............ ............ 15ه

الفصل السادس عشر: في الإضافة ............

ص: 610

محتويات الکتاب . الفصل السابع عشر: في الأين .........

الفصل الثامن عشر: في المتن..........

الفصل التاسع عشر: في الوضع.........

الفصل العشرون: في الجدة............

الفصل الحادي والعشرون: في مقولتي أن يفعل وأن ينفعل .

.

المرحلة السابعة

في الواحد والکثير الفصل الأول في أن مفهوم الوحدة والکثرة بديهي غني عن التعريف ............559

الفصل الثاني : في أقسام الواحد ..........

الفصل الثالث: في أن من لوازم الوحدة الهوهوية ومن لوازم الکثرة الغيرية .......597

الفصل الرابع : في انقسام الحمل إلي هو هو وذي هو ...........

الفصل الخامس: في الغيرية وأقسامها ...................

الفصل السادس: في تقابل التناقض..................

الفصل السابع : في تقابل العدم والملکة .........

الفصل الثامن: في تقابل التضايف ......

الفصل التاسع : في تقابل التضاد ........ خاتمة.............

ص: 611

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
هَلْ یَسْتَوِی الَّذِینَ یَعْلَمُونَ وَالَّذِینَ لَا یَعْلَمُونَ
الزمر: 9

عنوان المکتب المرکزي
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.