تفسير فاتحة الکتاب

اشارة

تفسير

فاتحة الکتاب

تأليف

العلّامة المفسّر آية الله السيّد حسين البروجردي قدس سره

تحقيق

الشيخ غلام رضا بن علي أکبر مولانا البروجردي

مؤسسة المعارف الاسلامية

ص:1

اشارة

هوية الکتاب: اسم الکتاب : ................. ............ تفسير فاتحة الکتاب .

تأليف : .............. العلّامة المفسّر آية الله السيّد حسين البروجردي ۔ قدس سره

تحقيق : ............... الشيخ غلام رضا بن علي أکبر مولانا البروجردي .

نشر : ...................... مؤسّسة المعارف الإسلامية .

الطبعة : ......................... الأولي 1423 ه. ق.

المطبعة :............ عترت .

العدد : ............ 500 نسخة.

شابک

964-7777-33-7

......................................ISBN

964 - 7777 - 33 .7 ...

جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة المؤسسة المعارف الإسلاميّة

ايران - قم المقدّسة ص . ب37185/768 تلفون 7732009 - فاکس 7743701

E - mail : m_islamic@ayna.com

ص: 2

بسم الله الرحمان لرحيم

ص: 3

ص: 4

ترجمة المؤلف

العالم العامل ، والفاضل الکامل السيّد الجليل آية الله السيّد حسين البروجردي ابن السيّد محمد رضا ، ينتهي نسبه الشريف بستّ وعشرين واسطة إلي العالم الزاهد العابد المجاهد الشهيد زيد بن علي بن الحسين السجّاد عليه السلام .

والده السيّد محمّد رضا هو العالم العامل ، والفاضل الکامل من أکابر عصره وکان مجازاً من المحدّث الخبير ، والفقيه البصير السّيد عبد الله الشبر المتوفي سنة (1242 ه ) ، کما قال المؤلّف في «منظومته الرجالية»:

وابن الرضا الشبر ذو المحامد صّنف مکثراً أجاز والدي

ميلاده لسبع ليال بقين من شوال سنة (1238) کما في حواشي «نخبة المقال» للعّلامة النسّابة وشيخنا المجيز الفهّامة آية الله العظمي المرعشي قدس سره وصّرح به المترجم في منظومته حيث قال :

وابن الرضا مصنّف الکتاب أرشده الله إلي الصواب ومولدي (أخير في شوال) فاختم لي اللهمَّ بالکمال

ولا يخفي أنّ جملة (أخير من شوال) تنطبق من حيث العدد مع (1238) فعلي هذا ترديد صاحب «الأعيان» في ج26 ص 57 في ميلاده بين سنة (1228) و (1238) وقول صاحب «معجم المؤلّفين»: أنّ ميلاده في (1228) ليسا في محلّه،

ص: 5

وهکذا قول العلّامة آية الله المرعشي : إنّ ميلاده کان في رجب سنة (1228) کلّها خلاف ما صرّح به المترجم نفسه ، وخلاف ما قال المرعشي نفسه في مقام آخر کما تقدّم أنّ ميلاده کان لسبع ليال بقين من شوال المکرّم .

مشايخه وأساتذته

تلمذ علي جمع من أکابر علماء عصره في بروجرد ، والنجف الأشرف واستفاض من بحار علومهم إلي أنّ بلغ النهاية وإرتقي من حضيض التقليد إلي درجة سامية من الإجتهاد ، منهم :

ا- العلامة المحقّق الحاج مولي أسد البروجردي الشهير بحجّة الاسلام،

کان من أعاظم فضلاء عصره، ماهراً في الفقه والأصول، مصنّفاً فيهما، قرأ علي صاحب «القوانين» وتزوّج بابنته ورزق منها أولادأ فضلاء، توفي سنة (1271ھ)، ترجمت أحواله بالتفصيل في (تاريخ بروجرد ج2/ 318- 344).

2 - السيّد السند والحبر المعتمد، منبع الأسرار، ومطلع الأنّوار، کشّاف الآيات والأخبار السّيد جعفر الدارابي الکشفي البروجردي، کان من أعاظم علماء الإمامية متبحراً محقّقاًومفسراً مدقّقاً، جامعٍاً بين العلم والايمان، والذوق والعرفان، توفي

سنة (1267ه ) في بروجرد ودفن بها وقبره مزار الخاص والعام.

ترجمته بالتفصيل في (تاريخ بروجرد ج2 /272-306) . قال تلميذه المؤلّف في «منظومته الرجالية» في حرف الجيم : سيدنا الأصفي الجليل جعفر ابن أبي إسحاق المفسّر قد کان بدراً السماء العلم وبعد لمح (غاب نجم العلم) ٣ - العالم الرفيع، ذو الفضل والمقام المنيع ، آية الله الحاج السّيد محمد شفيع

ص: 6

البروجردي، کان في عصره من أکابر المجتهدين في الفروع والأصول، ومن أعاظم الجامعين للمعقول والمنقول، توفي سنة (1280 ه )، ترجمته في (تاريخ بروجرد ج2 /402 - 427) .

4 - العلامة الفقيه الشيخ حسن بن الشيخ جعفر کاشف الغطاء، کان من أجلّاء عصره، توفي بالعراق سنة (1262ه) ، وقد صّرح المترجم في منظومته الرجالية يتتلمذه عليه حيث قال :

وشيخنا ابن الشيخ جعفر حسن منه استفدنا برهةً من الزمن

ه - الفقيه الأصولي المحقّق المدقّق، الشيخ محمد حسين صاحب «الفصول»

توفي سنة (1261ه).

قال المترجم في «منظومته الرجالية»: أخو التقّي قدوة الفحول مصنّف «الفصول» في الأصول

6- رئيس الشيعة المحقّة، وحامي الشريعة الحقّة، إمام الفقهاء والمجتهدين، صاحب «الجواهر» الشيخ محمد حسن الذي انتهت اليه رئاسة المذهب الجعفرية في العرب والعجم، توفي سنة (1266ه)، وقد صّرح المترجم في «منظومته الرجالية» بتعلّمه لديه، حيث قال :

ثم محمد حسن بن الباقر شيخ جليل صاحب «الجواهر» منه استفدنا برهة مما سلف کان وفاته (علا أرض النجف)

کلمات العلماء في حقّه

قال معاصره العلّامة الفقيه الرجالي الحاج السيّد علي أصغر الجابلقي

البروجردي في «الطرائف» ج 1 / 44 ط ، قم:

ص: 7

السّيد حسين بن السيّد البروجردي کان عالماً جليلاً، وفقيهاً نبيلاً، مجتهداً في الأصول والفقه والرجال، بل التفسير، وغيرها من العلوم، في غاية الزهد من أحد تلامذة الوالد، وله منه إجازة له تصنيفات، إلا أنّ ما خرج هو المنظومة في الرجال .

وقال في ج 2 في الخاتمة / 693 في ضمن أسماء المؤلفين في الرجال:

ومنهم: السيّد السند، والرکن المعتمد، المولي المسدد، الأخ الروحاني والمحقق الصمداني، المؤيد بالتأييدات، مجمع الکمالات، ومنبع السعادات السيًّد حسين بن السيّد رضا الحسيني الهاشمي جعل الله الجنّة مثواه .

وهذا السيّد کان فاضلاً جليلاً، وعالماً نبيلاً ورعاً، کثير الاشتغال، متحرزاً عن الاشغال، مرجعاً للطلاب، ومتبوعاً لأولي الألباب، مطاعاً لغالب الأصحاب في بلدة بروجرد، مجتهداً صرفا، مع إطلاعه بالقواعد الرياضية والهيئة، وعلم الحساب وعلم التفسير، وعلوم الآداب جامعاً للفنون و حافظاً للرجال والدراية.

قد تلمذ عند الوالد الأستاذ العلّامة الفقه والأصول والرجال والدراية، فترقي من حضيض التقليد الي مراتب الاستنباط والاجتهاد، فاستجاز من الوالد طاب ثراه، فأجازه اجتهاداً ورواية کما هو دأب المشايخ والأساتيد حفظاً لاتصال الأسانيد وصوناً عن الإرسال والانقطاع.

وقد قرأ عند الفاضل المدقق والفقيه المحقق (1) کثيراً من المسائل الفقهية.

وعند السيّد السديد والعالم الرشيد سيد السادة وقدوة القادة ، بحر العلوم الزاخرة ، ذو الکرامات الباهرة ، المنقطع عن الدنيا الفانية ، المتوجه إلي الديار

الباقية (2)

ص:8


1- لعلّ المراد به المولي حجّة الاسلام الحاج ملّا أسد الله البروجردي
2- الظاهر أنّ المراد به هو السيّد السند والحبر المعتمد السيّد جعفر الکشفي البروجردي.

قال المدرس الميرزا محمد علي في «ريحانة الأدب» ج 1/ 252: ما تعريبه:

«البروجردي»: السيّد حسين بن السيّد رضا، فقيه کامل، عالم عامل، جليل نبيل، محدّث، مفسّر، أصولي رجالي، شاعر ماهر، من أکابر علماء الدين في القرن الثالث عشر، کان في الأصول والرجال من تلامذة الحاج السيّد محمد شفيع الجابلقي، وفي الحديث والتفسير ممّن أخذ عن السيّد جعفر الکشفي الدارابي، وإستفاض الفقه الجعفري من صاحب «الجواهر» والشيخ حسن کاشف الغطاء

وکان في عصره معدوداً من أکابر الفقهاء

ومن تأليفاته: «المستطرفات» في الکني والنسب والألقاب، و«نخبة المقال في علم الرجال» وهي منظومة في ذلک الفنّ الشريف مع وجازة اللفظ وإيجاز العبارات کانت في نهاية الفصاحة حاوية لتراجم جمع کثير من معاريف العلماء الديّنية، مضافا علي تراجم الرواة المشاهير.

وقال العلّامة المحدث الخبير والمؤرّخ البصير الحاج الشيخ عباس القمي رحمة الله عليه في «الفوائد الرضوية» ص 155: الحسين بن محمد رضا الحسيني البروجردي سيد جليل، عالم نبيل، شاعر فاضل مفسر ماهر، له في مدح أمير المؤمنين عليه السلام :

يا اصف المرتضي قد صرتّ في تيه هيهات هيهات ممّا قد تمنّيه هو الذي کان بيت الله مولّده وصاحب البيت أدري بالذي فيه

وفاته

في تاريخ وفاته إختلاف بين سنة (1276) کما ذکر کحّالة في «معجم المؤّلفين» ، وسنة (1277) کما قال المرعشي ، وسنة (1284ه) کما عن دهخدا

ص: 9

في «لغت نامه» ، وقيل في تاريخ وفاته :

بدر سماء العلم والرجال

و(نجم العلم غايب في الحال)

آثاره العلميّة

له آثار علمّية قيّمة ومؤلّفات ثمينة، منها:

1- «نخبة المقال في علم الرجال» منظومة رجالية وأُرجوزة عدّة أبياتها

1313 فرغ منها سنة (1260ه ) وقال في تاريخ وعدد أبياته:

عدّته (زُيَّنً بالغرايب) تاريخه (باسم الإمام الغايب)

(1313) (1260 )

طبعت في سنة (1313) بطهران، وطبع جزء منها مع توضيحات لآية الله

العظمي المرعشي قدس سرًّه سنة (1378) في قم.

ترک الناظم في «منظومته» المجاهيل، وجملة من العلماء المتأخرين، فتممها المولي علي بن عبد الله بن محمد بن محبّ الله بن محمد جعفر القراجه داغي التبريزي المتوفي سنة (1327 ه ) بمنظومة سمّاها «منتهي المقال في تتمة زبدة المقال» ثم شرح الأصل والتتمة بشرح سماه «بهجة الآمال في شرح زبدة المقال ومنتهي الآمال في علم الرجال» في خمس مجلدات، ثلاث منها في شرح منظومة السّيد، ومجلّدان في شرح التتمة وفرغ من الخامس في سنة (1318).

2 - المستطرفات في الکني والألقاب ومصطلحات المجلسي والفيض في

«البحار» و«الوافي» ، طبعت بضميمة «نخبة المقال»..

٣- تفسير سورة الأعلي، قرب 1300 بيت .

4 - تفسير آية النور.

ص: 10

5 - تعليقات علي قواعد استاذه السيد شفيع في الأصول.

6- ديوان شعر.

7- رسالة أصولّية في أنّ الأمر بشيء هل يقتضي النهي عن ضدّه أم لا؟

8- تعليقات تفسيرية علي تفسير البيضاوي.

9- مقياس الدراية في أحکام الولاية.

10 - اللّوامع

11- شرح «خلاصة الحساب» للشيخ بهاء الدين العاملي، کما صرّح به في الصراط المستقيم» عند تعريف علم الحساب وموضوعه، وهل الواحد من الأعداد أو لا، قال: وتمام البحث في هذا الباب يطلب من شرحنا علي «خلاصة الحساب»..

12 - الصراط المستقيم في تفسير الکتاب الکريم.

کلمة حول الصراط المستقيم

قال شيخنا المجيز العلّامة الخبير آية الله الشيخ آغا بزرک الطهراني رحمة الله

عليه في «الذريعة» ج 15/ 35:

الصراط المستقيم» في تفسير الکتاب الکريم للسيد حسين بن رضا

الحسيني الفاطمي العلوي البروجردي خرج منه ثلاث مجلدات ضخمات:

المجلد الأول في المقدمات المهمة التي مهّدها قبل الشروع في التفسير وهي

أربع عشر مقدمة.

والمجلد الثاني تفسير سورة الفاتحة شرع فيه في (15) من ذي القعدة سنة

(1271 ه) وانتهي الي الفرق المغضوب عليهم في مجلد ضخم

والمجلد الثالث في تفسير سورة البقرة، بدأ فيه في جمادي الثانية سنة

ص: 11

(1275 ه) وإنتهي إلي تفسير آية الکرسي ولم يتجاوز عنها .

أولاده

من اخلافه العالم العامل، والفاضل الکامل الحاج السّيد نور الدين، کان بعد

أبيه مورداً لتعظيم الناس وتکريمهم.

قال المحدث الخبير الحاج شيخ عباس القمي في الفوائد الرضوية ص 155: السيّد الزاهد المتقي الصالح الحاج السيد نور الدين بن السيد الجليل، العالم النبيل، المفسّر الماهر السيّد حسين بن محمد رضا الحسيني البروجردي توفي بالمدينة بعد مراجعته من مکة المکرمة.

خلّف السيد نور الدين السيد عبد الحسين النوري، کان عالماً عاملاً، وفاضاً

کاملاً ولد في سنة 128٦ ه وأخذ المباديء في بروجرد ورحل الي النجف للتحميل في الخمس والثلاثين من عمره، وتلمذ علي علماء النجف سيمّا آية الله العظمي الآخوند المولي کاظم الخراساني، وآية الله الکبري السيّد کاظم اليزدي قدس سره هما ثم رجع إلي بلده واشتغل بالتدريس، واستفاد من السراج الوهّاج، والبحر المواج آية الله العظمي البروجردي قدس سره . توفي عصر التاسع من المحرم سنة 1372 ه وخلف أحد عشر ولداً: ثلاثة أبناء وثماني بنات.

من أبنائه السيّد الجليل، والعالم النبيل السيّد محمد حسن النوري البروجردي تلمذ بالنجف علي علمائها الأفاضل واستفاض من بحار علومهم ثّم رجع الي ايران وأقام في طهران واشتغل بالإفاضة وفّقه الله لمراضيه.

والسيّد السند المتولّي المعتمد السيّد محمد النوري الّذي منًّ عليّ بجعل

التفسير في اختياري وطلب منّي تحقيقه وطبعه .

وثالتهم: السيّد الجليل السيّد حسين المهندس النوري وفقّهم الله جميعاً

المرضاته.

ص: 12

تمّت المقدّمة علي يد الحقير الفقير غلام رضا مولانا البروجردي في

جمادي الثانية سنة 1414 ه.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام علي سيّدنا محمد

وآله الطيبين الطاهرين

سورة الفاتحة

السورة في الأصل منقولة من سور المدينة، إلّا أنّها تجمع علي سُور بالسکون، وسورة القرآن علي سور بالفتح ، سميت لإحاطتها بطائفة من القرآن

إحاطة سور المدينة بها ، کذا قيل (1)

لکن لا يخفي أنّ السورة إسم لتلک الطائفة لا للمحيط بها.

فالوجه أنّ يقال : إنها أحاطت بجملة من الحقائق والمعارف واللطائف

إحاطة سور المدينة علي ما فيها بحيث يحفظها ويسترها ويکشف عنها.

أو من السورة التي هي الرتبة ، لترتبها وضعاً شرعياً أو جعلياً أو لترقي القاريء لها فيها أو بها إلي جزيل الثواب وحسن المآب، وتدرج المتخلق بها إلي مدارج القدس ومعارج الأنّس.

هذا کله إذا جعلت واوها أصلية، وإن جعلت مبدلةً من الهمزة فمن السؤر التي هي الفضلة والبقيّة والقطعة من الشيءٍ لأنّها إقتطعت من القرآن

ص: 13


1- قال الزبيدي في «تاج العروس» ج12/ 102ط الکويت : قال المصنف «صاحب القاموس» في «البصائر»: وقيل سميت سورة القرآن تشبيهاً بسور المدينة، لکونها محيطة بآيات وأحکام ، إحاطة السور بالمدينة .

الفوائد نشير إليها ، بل هي حقايق متأصلة ممتازة في أنّفسها مقطع کل منها عما سويها.

السورة في الإصطلاح

وعلي کل حال فالمراد بها شرعاً، لا متشرعاً، ولا عرفاً عاماً علي الأظهر ،

طائفة من القرآن مصدرة فيه بالبسملة أو براءة .

و نقض طرده بصدور السور، فزِيدَ : متصل آخرها فيه بإحديهما، فنقض عکسه بالسورة الأخيرة من القرآن، لعدم إتصالها بغيرها، فزيد: أو غير متصل فيه بشيء منه.

واعترض عليه شيخنا البهائي قدس سره (1)بانتفاض طرده ببعض سورة النمل

وبسورتين فصاعداً.

وقيل : إنها طائفة منه ذات ترجمة أي مسمّاة باسم مخصوص کسورة

الفاتحة وسورة الإخلاص ونحوهما.

و نقض طرده بآية الکرسي وآية السخرة ، ونحوهما .

وأجيب بأنّه مجرد إضافة لم يصل إلي حد التسمية والتغليب .

وفيه منع، نعم، ربما يراد بالترجمة ما يکتب في العنوان من إسم السورة

وعدد آيها اللذين جرت العادة بإثباتهما في المصاحف فيسلم الطرد.

قيل : ولا يظن انتقاض العکس حينئذ بالسورة قبل اعتياد الرسم إذ يکفي

صدق الرسم الآن علي ما قبل الرسم ؟..(2)

ص: 14


1- العروة الوثقي في تفسير الفاتحة للشيخ البهائي ، ص 3 .
2- قال الشيخ بهاء الدين في «العروة الوثقي» : وما يترائي من فساد العکس لعدم صدق الرسم حينئذ علي شيء من السور قبل اعتياد رسم الأمور المذکورة في المصاحف فمما لا يخفي وجه التفصي عنه

وربما يقيد الحّد المذکور بکون أقلها ثلاث آيات . ولعلّه للتنبيه علي خروج البسملة إشارة إلي الکوثر . وبالجملة فشيء مما ذکروه في المقام لا يخلو من شيء.

ومما يرد علي الجميع صدق کل منها علي کل من الضحي، وألم نشرح، وکل من الفيل، ولإيلاف، مع أنّ الأولين کالآخرين سورة واحدة ، کما ورد به الخبر عن أصحاب العصمة والطهارة، فيجري عليهما حکم الوحدة في الصلاة وفي النذر وغيرهما.

ولذا حملوا قول الصادق عليه السلام :

«لا تجمع بين سورتين في رکعة واحدة إلا الضحي و الم نشرح، وألم تر

کيف ، ولايلاف قريش(1)، علي کون الاستثناء منقطعاً أو الحمل علي التقية .

ومع کل ذلک فلا أدّعي إلي تحديدها بحيث يسلم طرداً وعکساً.

وإن کان ولابد فلعل الأولي تعريفه بما يجزي قرائته في المکتوبة بعد

الفاتحة للقادر المختار لولا اشتماله علي العزيمة(2) والقيد الأخير لدفع النقض بالعزائم .

أسماء السورة المبارکة

إعلم أنّ لهذه السورة الشريفة أسماء منيفة :

منها : «الفاتحة» مجرّدة ومضافة إلي الکتاب ، وفاتحة الشيء إسم لأوله

کالخاتمة لآخره.

ص: 15


1- رواه في «الوسائل، ج 2 کتاب الصلاة ب 10، ح 5، عن مجمع البيان ج 10، ص 544.
2- ولکن يبقي إشکال دخول السور الأربعة المذکورة إلا أنّ نقول بوحدة السورتين .

وهي في الأصل إما مصدر بمعني الفتح ک «الکاذبة» في الآية(1) بمعني الکذب ، والباقية في قوله( فهل تري لهم من باقية)(2) بمعني البقاء، والعافاة بمعني المعافاة، والعاقبة بمعني العقب، نقلت إلي أول ما يفتتح به إطلاقاً للمصدر

علي المفعول، لأنّه أوّل المفتوح من الشيء(3)

وإما صفة والتاء للمبالغة کما في راوية وعلّامة سمّيت بها لأنّها کالباعثة علي فتحه، أو للنقل من الوصفية إلي الإسمية کالنطيحة، فإن الصفات إذا لم تذکر معها موصوفاتها تغلب عليها الإسمية فتلحقها التاء لتدلّ علي غلبة الإسمية وعدم احتياجها إلي الموصوف.

وإمّا إسم آلة کالسّامعة والباصرة لأنّها آلة الفتح، وهذا الإحتمال ذکره بعض

الأعلام، ولا يخفي ما فيه وفي جعل ما ذکر من المثالين من الآلة.

وربما يرجّح کونها وصفاًبقلة مجيء المصادر عليها ، بل قد ينکر ذلک رأساً ، ويأول کلما جاء عليها إلي الأوصاف، حتي الکاذبة والباقية في الآيتين وفيه تعسف.

نعم، لا بأس بترجيح الوصفية کما لا بأس بترجيح کون التاء للنقل في المقام

إذا لم يقصد بها المبالغة .

ثم إنها قد تطلق مجردة عن الإضافة، إمّا لکونها علماً بالغلبة کالمضاف إلي الکتاب ، فتلزم اللام، أو إختصاراً لعدم الإلتباس، واللام للمح الوصفية الأصلية

ص: 16


1- سورة الواقعة : 2.
2- سورة الحاقة : 8.
3- قال أبو البقاء الکفوي المتوفي (1094) ه بعد نقل الفاتحة بمعني الفتح : رد بأنّ (فاعلة) في المصادر قليلة ، ولکن الزمخشري في الکشاف قال : الفاعل والفاعلة في المصادر غير عزيزة کالخارج والقاعد والعافية والکاذبة .. الکليات ص 694.

وليکون کالخلف عن الإضافة .

قيل : ونظيره في الإختصار قوله صلي علي عليه واله :

من أراد أنّ يسمع القرآن غضاً طرياً کما أنّزل فليسمع من إبن أم عبد» (1).

أي عبدالله بن مسعود(2)

وقد تطلق بل کثيرا مضافة إلي الکتاب الذي هو مصدر لکتب بمعني خط أو جمع أو ثبت ، وإضافة السورة إليها لامية کيوم الجمعة وعلم التفسير کما صرحوا به وإن کان فيه بعض التأمل .

وکذا إضافة الفاتحة إلي الکتاب لکون المضاف إليه مبايناً للمضاف ، إذ المراد

بالکتاب الکلّ لا المفهوم الصادق علي الکل والبعض حتي الآية کما في يد زيد.

وکان ينبغي من حيث القياس أنّ يصدق علي أول آية بل کلمة أو کلام من

الکتاب ، لکنها جعلت عاما لهذه السورة .

نعم، ربما يجعل الإضافة بمعني من نظرا إلي أنّ کل ما هو جزء من الشيء

ص: 17


1- قال ابن عبدالبر القرطبي المتوفي (463) ه في الاستيعاب في معرفة الأصحاب المطبوع بهامش الإصابة 319/2 : قال رسول الله صلي علي عليه و اله : من أحب أنّ يسمع القرآن غضأ فليسمعه من ابن أم عبد». وبعضهم يرويه : «من أراد أنّ يقرأ القرآن غضأ کما أنّزل فليقرأه علي قراءة إبن أم عبد» وحدث عن سعيد ، عن قاسم، عن وضاح ، عن ابن أبي شيبة ، عن معاوية بن عمرو، عن زائدة ، عن عاصم ، عن زر، عن عبد الله أنّه أتي رسول الله صلي علي عليه و الهان وکان عبد الله يصلي فقال صلي علي عليه و اله: من أحب أنّ يقرأ القرآن غضا کما أنّزل فليقرأه علي قراءة ابن أم عبد». وروي الذهبي المتوفي (748) هد في «سير النبلاء، ج 500/1بإسناده عن النبي صلي علي عليه و اله أنّه قال : « من سره أنّ يقرأ القرآن رطبا کما أنّزل فليقرأ قراءة ابن أم عبد».
2- ابن أم عبد هو عبد الله بن مسعود بن غافل بن حبيب الهذلي ، أبو عبد الرحمن ، من أکابر الصحابة ، وکان من أهل مکة ومن السابقين إلي الإسلام، وأول من جهر بقراءة القرآن بمکة ، کان قصيرا جدا يکاد الجلوس يوارونه ، ويحب الإکثار من الطيب ، روي القوم عنه (848) حديثا، توفي بالمدينة سنة (32) ه عن نحو ستين عاما الأعلام، ج 4/280

فإضافته إليه بمعني من، وکأنّ منشأ التوهم هو الخلط بين الجزء والجزئي، فإن الإضافة في الثاني بمعني من دون الأول، ولذا اشترطوا في الإضافة بمعني من کون المضاف إليه جنساً للمضاف وصادقاً عليه کخاتم فضة.

نعم، ربما يوجه ذلک بأنّ المراد حاصل المعني ، فإنها وان کانت بمعني اللام

لکن مؤادها مؤدي «من» التبعيضية ، أو أنّ الکتاب القرآن يطلق علي البعض کالکل، فالفاتحة جزئي له لا جزء منه ، فتکون الإضافة کخاتم فضة، لکنه لا يخلو من تکلف ، بل قد يقال : إن «من» التبعيضية لا تکون للإضافة أصلاً فتأمل.

وعلي کل حال فإنما سميت بها لأنّه يفتتح بها المصحف، والتعليم، والقراءة

في الصلاة ، بل قيل : إنها أول کل کتاب أنّزل.

والاختصاص المستفاد من قوله تعالي :(ولقد آتيناک سبعاً من المثاني) (1)

محمول علي المجموع لا کل من الآيات ، وقد ورد في الخبر :

أنّه ما نزل کتاب من السماء إلا أوله بسم الله الرحمن الرحيم»(2).

ص:18


1- سورةالحجر:87.
2- البحار : ج 92/ 234، ح 17.

الکتاب التدويني والتکويني

ثم إعلم أنّ الکتاب کتابان: تدويني و تکويني.

فالکتاب التدويني هو هذا القرآن الذي (لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حکيم حميد ) (1)وهو الحاوي لجميع الحقايق الکلية والجزئية ، والمهيمن علي جميع الکتب الإلهية، و(تبيان کل شيء)(2)، وتفصيل کل حقيقة (ولا رطب و يابس إلا في کتاب مبين )(3)

والکتاب التکويني هو تمام عالم الوجود من الدُرّة (4).إلي الذَرّة فجميع العالم بأجزائها المترتبة صعودا ونزولا کتاب واحد کتبه الله تعالي بيده وأحصاه بعلمه وأمسکه بقدرته وجعل فاتحة هذا الکتاب مشيته الکلية، وهو الوجود المطلق والقلم الأعلي ، والاسم الأعظم، والحجاب الأقدم، والتجلي الأول، والنور الذي أشرق من صبح الأزل ، وهو نور نبينا محمد .

ولذا ورد : «أول ما خلق الله نوري (5)، أول ما خلق الله روحي (6) خلق الله

ص: 19


1- سورة فصلت : 42.
2- إقتباس من آية 89 في سورة النحل :( ونزلنا عليک القرآن تبيانا لکل شيء) .
3- سورة الأنّعام: 59.
4- الدرة (بضم الدال المهلة تشديد الراء) العقل في مصطلح العرفاء وتوصف بالبيضاءتارة ويقال : (الدرة البيضاء) والمراد بها العقل الأول
5- بحار الأنّوار : ج 1 / 97، ج 7، عن غوالي اللآلي ، وج 15/ 24، ح 44 وج 22/24،ح 38، وج 57 /170 7ح 117.
6- لم أظفر علي هذا الحديث بعينه ولکن يمکن أنّ يستفاد معناه من أحاديث أخر منها: ما رواه في البحار ج 57 / 193، ح140، عن الکافي ج 440/1 ، عن الصادق عليه السلام قال : قال الله تبارک وتعالي : يا محمد إني خلقتک وعلياً نوراً - يعني روحاً لا بدن - قبل أنّ أخلق سماواتي وأرضي وعرشي و بحري .. الخ» .

المشية بنفسها، ثم خلق الأشياء بالمشية(1)وهو نور محمد وأوصيائه الطيبين ، خلقهم الله تعالي نوراً واحداً قبل الخلق، وجعلهم أعضاداً وأشهاداً وحفظة ورُوّاداً

کما ورد في الدعاء الرجبية» (2)

وعن کتاب «المعراج» للصدوق بالإسناد عن ابن عباس قال : سمعت

رسول الله صلي علي عليه واله؟ يخاطب علياً عليه السلام :

«يا علي إن الله تبارک وتعالي کان ولا شيء معه، فخلقني وخلقک روحين من نور جلاله فکنا أمام عرش رب العالمين ، نسبح الله وتقدسه ونحمده ونهلله، وذلک قبل أنّ يخلق السموات والأرضين» (3)

وفي «رياض الجنان»(4) بإسناده عن جابر الجعفي ، عن أبي جعفرعليه السلام؟ قال :

«يا جابر ! کان الله ولا شيء غيره لا معلوم ولا مجهول، فأول ما إبتدأ من خلق

ص: 20


1- البحار : ج145/4، ح 19 عن توحيد الصدوق وفيه : قال أبو عبدالله عليه السلام : خلق الله المشية قبل الأشياء ثم خلق الاشياء بالمشية». . وفي ح20: «خلق الله المشيئة بنفسها ، ثم خلق الأشياء بالمشيئة».. وقال المجلسي قدس سره و بعد ذکر الحديثين : بيان : هذا الخبر الذي هو من غوامض الأخبار يحتمل وجوها من التأويل :، ثم ذکر خمسة وجوه أعرضنا عن ذکرها للاختصار ومن أراد الإطلاع عليها فليرجع إلي ج 4 / 145.
2- لمفاتيح للقمي : 130.
3- بحار الأنّوار : ج 25 ص 3، ح 5.
4- قال شيخنا العلامة المجيز آقا بزرگ الطهراني قدس سره : «رياض الجنان» فيه أخبار غريبة في المناقب ينقل عنه في البحار، للشيخ المحدث فضل الله بن محمود الفارسي تلميذ الشيخ المتقدم أبي عبدالله جعفر بن محمد بن أحمد بن العباس بن الفاخر العبسي الدوريستي المعاصر للشيخ الطوسي)، ينقل عنه في «فضائل السادات» الذي فرغ منه مؤلفه سنة (1103) ه، ولعله الذي ينقل عنه الکاشفي (المتوفي سنة 910 ه) في جواهر التفسير - الذريعة ج 421/11.

خلقه أنّ خلق محمداً وخلقنا أهل البيت معه من نور عظمته، فأوقفنا أظّله خضراء بين يديه ، حيث لا سماء، ولا أرض، ولا زمان ، ولا مکان ، ولا ليل ، ولا نهار، ولا شمس ، ولا قمر، يفصل نورنا من نور ربنا کشعاع الشمس من الشمس ، نسبح الله ونقدسه، ونحمده ونعبده حق عبادته» (1)

وفي «الکافي» عن محمد بن سنان ، قال : کنت عند أبي جعفر الثاني،

فأجريت إختلاف الشيعة فقال :

يا محمد! إن الله تبارک وتعالي لم يزل متفرداً بوحدانيته، ثم خلق محمداً وعلياً وفاطمة فمکثوا ألف دهر، ثم خلق جميع الأشياء فأشهدهم خلقها وأجري طاعتهم عليها وفوض أمورها إليهم فهم يحلّون ما يشاءون ويحرّمون ما يشاءون ، ولن يشاؤوا إلي أنّ يشاء الله تبارک وتعالي. .

ثم قال : يا محمد! هذه الديانة التي من تقدمها مرق، ومن تخلف عنها محق،

ومن لزمها لحق، خذها إليک يا محمد»(2)

فکما أنّ الکتاب التکويني طبق الکتاب التشريعي ، (فيه تبيان کل شيء)(3)، فکذلک النسبة بين فاتحتهما، ولذا فضّلت الفاتحة علي جميع السور، وخصّت بها الصلاة التي هي إنسان العبادات، لاشتمالها علي العبادة القولية والفعلية، والحالية والبالية، والذکرية والفکرية، وغيرها من الحقائق التي سنشير إليها إن شاء الله .

ولذا قال: «لا صلاة إلا بفاتحة الکتاب»(4)، ولعل من بطونها أنّ لا وصول إلي الله لأحد من الأنّبياء والأولياء، من الأولين والآخرين، ومن الملائکة المقربين ، إلا

ص: 21


1- البحار : ج 25 ص 17، ح 31 عن رياض الجنان .
2- الکافي : ج 1، ب 169 ص 441، ح 5.
3- إقتباس من آية 89 في سورة النحل :(ونزلنا عليک الکتاب تبيانا لکل شيء) .
4- مستدرک الوسائل : ج 4، ص 158، ح 5، رقم : 4365.

بواسطة التوسل بنبينا وآله صلي الله عليهم أجمعين، والإستشفاع بهم(1)، فإنه وذريته فاتحة کتاب الوجود (2)والوسيلة لاهتداء العابد إلي المعبود، والحجر الذي ينفجر منه عيون الفيض والجود.

ومنها : «أم الکتاب» و «أم القرآن». .

فإن أم الشيء في الأصل أصله، وهذه السورة أهل القرآن کلّه ، فإنّها حقيقته الإجمالية التي لم ينبسط بعد في عالم التفصيل وقد سمعت سابقاً أنّ نسبته في القرآن کنسبة خاتم الأنّبياءصلي علي عليه و اله في الأکوان، وکما أنّه دُحيت وانبسطت من سورته

ص: 22


1- أورد المجلسي قدس سره روايات دالة علي ما ذکر، منها ما عن الصادق ال : آتي يهودي النبي صلي علي عليه و اله ، فقام بين يديه يحد النظر إليه ، فقال : يا يهودي ما حاجتک ؟ قال : أنّت أفضل أم موسي بن عمران النبي صلي علي عليه و اله الذي کلمه الله وأنّزل عليه التوراة ، والعصا، وفلق له البحر ، وأظله بالغمام فقال له النبي قال : إنه يکره للعبد أنّ يزکي نفسه ، ولکني أقول : إن آدم لما أصاب الخطيتة کانت توبته أنّ قال : اللهم إني أسئلک بحق محمد و آل محمد لما غفرت لي فغفرها الله له ، وأنّ نوحا لما رکب في السفينة وخاف الغرق قال : اللهم إني أسألک بحق محمد و آل محمد لما أنّجيتني من الغرق فنجاه الله عنه ، وأنّ ابراهيم لما ألقي في النار قال : اللهم إني أسألک بحق محمد و آل محمد لما أتجيتني منها فجعلها الله بردا وسلاما ، وأنّ موسي لما ألقي عصاه وأوجس في نفسه خيفة ، قال : اللهم إني أسألک بحق محمد و آل محمد لما آمنتني ، فقال الله جل جلاله : لا تخف إنک أنّت الأعلي. يا يهودي ! إن موسي لو أدرکني ثم لم يؤمن بي وبنبوتي ما نفعه إيمانه شيئا، ولا نفعته النبوة ، يا يهودي ! ومن ذريتي المهدي إذا خرج نزل عيسي بن مريم ا لنصرته، فيقدمه ويصلي خلفه». البحار: 26، ص 319.
2- کما قال نابغة الدهر وفيلسوف الزمن وفقيه الأمة الشيخ محمد حسين الأصفهاني ني : فاتحة الوجود خاتم الرسل جل عن الثناء ما شئت فقل کل وجود هو من وجوده فکل موجود رهين جوده وعالم الإبداع من ظهوره ونشأة التکوين ظل نوره الأنّوار القدسية لمحمد حسين الأصفهاني قدس سره ، ط مؤسسة الوفاء بيروت 1402ه.

البلدية المکانية وهي أم القري جميع الأراضي والبلدان ، کذلک تفصل وتحصل من سورته القرآنية جميع سور القرآن

وکذا ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام : «أنّ جميع ما في القرآن فهو في فاتحة

الکتاب»(1)

وقد قيل : إن العرب تسمّي کل جامع أمر أو متقدم لأمر إذا کانت له توابع تتبعه أما ، فيقولون : أم الرأسل للجلدة التي تجمع الدماغ، وأم القري لمکة لأنّ الأرض دحيت من تحتها .

وقيل : سميّت لأنّ سور القرآن تتبعها کما يتبع الجيش أمّه وهي الراية .

وقد وقعت تسميتها بأم الکتاب في قوله : ( وإنه في أم الکتاب لدينا لعلي

حکيم ) (2) والضمير للکتاب المبين، وهو أمير المؤمنين علي عليه السلام، کما ورد عن الکاظم عليه السلام في جواب النصراني حيث سئل عن تفسيره في الباطن (3)

ومن اللطايف مطابقتهما في العدد فلاحظ(4)

وفي «المعاني» عن الإمام الصادق عليه السلام في قول الله عزّ وجل : (وإهدنا

الصراط المستقيم ):

ص: 23


1- في ملحقات الإحقاق ج608/7عن «ينابيع المودة» ص 69 وص408، ط إسلامبول ، وفي الدر النظيم»: إعلم أنّ جميع أسرار الکتب السماوية في القرآن ، وجميع ما في القرآن في الفاتحة ، وجميع ما في الفاتحة بالبسملة ، وجميع ما في البسملة في باء البسملة ، وجميع ما في باء البسملة في النقطة التي تحت الباء ، قال الإمام کرم الله وجهه : «أنّا النقطة التي تحت الباء).
2- الزخرف : 4.
3- الکافي : ج 479/1، ح4، کتاب الحجة ، الباب 178.
4- عدد کل من (الکتاب المبين) و( أمير المؤمنين علي) يساوي (587) ولکن بشرط أنّ لا يحسب (1) في المؤمنين کما لا يلفظ بها في التلفظ .

هو أمير المؤمنين ومعرفته ، والدليل علي أنّه أميرالمؤمنين عليه السلام قوله عزّوجل : (وإنه في أمّ الکتاب لدينا لعلي حکيم) وهو أمير المؤمنين عليه السلام في أم الکتاب في قوله: «إهدنا الصراط المستقيم »(1)

وهنا مسلک آخر وهو أنّ هذه السورة لإشتمالها علي الحقائق الکلية المتأصلة التي لا تزول ولا تزال أبداً، فهي بمنزلة اللوح المحفوظ الذي لا يتطرق إليه المحو أصلاً، إذ التغيرات الجزئية لا يظهر أثرها في الکلي، ولذا قال أمير المؤمنين عليه السلام : «أفز من قضاء الله إلي قدره»(2)

قال الله تعالي : ( يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الکتاب ) (3)

والوعيد، لتضمنها تعليم حمده ، والاستغاثة به ، والمقاصد الکلية منحصرة في الثلاثة ، فإنه لما کان التحقق بالسعادة العظمي التي هي المعرفة العيانية للواهب الحق جل ذکره شهودا عينيا في هذه الدار وفي دار القرار متفاوتا حسب تفاوت مراتب أصناف المقربين ودرجات الأبرار ، والاتصاف بالأخلاق الربانية المعبر عنه بالتخلي والتحلي موقوفا علي تمييز مقام العبودية من الربوبية، ثم التوجه نحو من بيده الخير کله بالکلية، وکان الکتاب الکريم کافلا للمتمسک به أنّ ينال من هذه السعادة الحظ الأوفي والشرب الأصفي لزم أنّ ينحصر مقاصدة في الثلاثة المذکورة، فالثناء عليه بما هو أهله يتضمن معرفة الرب جل جلاله بصفات الجلال والإکرام ، مع الإعتراف بأنّ العبد وما هو متقلب فيه قطرة من بحر جوده ويدخل فيه الإيمان بالله تعالي وصفاته وأفعاله، والتعبد بأوامره ونواهيه يتضمن معرفة أنّه عبد مربوب مکلف لابد

ص: 24


1- بحار الأنّوار : ج 12/24، ح 4، کتاب الإمامة ، الباب (24)، عن معاني الأخبار للصدوق :32، ح 3.
2- توحيد الصدوق : 369 ح 8، والبحار ج97/5، ح 24 و ص 114، ح 41 عن التوحيد.
3- سورة الرعد : 39.

له من اللجاء إلي مولاه حسب ما استدعاه بعده أو أدناه ، ولا يخفي تأخره عن الأول، إذ لولا الاعتراف السابق لم يلزم طلب کيفية التوجه.

وذلک لأنّ التعبد في الحقيقة راجع إلي طلب الکمال من مفيضه علي الوجه الذي يؤدي إلي المطلوب ويدخل في الايمان بالنبوات والولايات والملائکة والکتب والعبادات القلبية والقالبية.

والإتيان بالوعد والوعيد يتضمن التنبيه علي السعادة المذکورة، وعلي ما يقابلها من الشقاوة، وإختلاف درجاتهما وهما الکمال المطلوب بالتعبد، والنقصان المهروب عنه بالتجرد، ولولا ذلک لم يتميز الطلب عن التوجه العبثي فبالثلاثة تمت الکفالة ، ومن رضي بها کافلا فطوبي له.

ولبعض أرباب الطريقة مسلک آخر وهو أنّ هذه السورة مشتملة علي مراتب

الربوبية، ومراتب العبودية والأمور الدنيوية والأخروية.

مراتب الربوبية عشرة: أولها : مرتبة الإسم بأنّ الله تعالي له إسم، والثاني :

الذات ، والثالث : الصفات ، فهذه المراتب الثلاثة حاصلة في بسم الله الرحمن الرحيم، والرابع : الثناء، والخامس : الشکر ، وهما حاصلان في الحمد، والسادس : الألوهية بمعني الخالقية ، وهي الحاصلة في الله تعالي، والسابع : الملکية بالمالکية ، وهي حاصلة في مالک، والثامن : الربوبية بالوحدانية في الخالقية، وهي الحاصلة في رب العالمين، والتاسع : المعبودية بالألوهية والوحدانية، وهي حاصله في إياک تعبد، والعاشر : الهداية بالحق والإنعام من الأزل إلي الأبد، وهي حاصله من أهدنا الصراط المستقيم.

وکذلک مراتب العبودية عشرة، أولها: معرفة الله تعالي بهذه المراتب، والثاني : الإقرار بالربوبية لله تعالي ، والثالث : معرفة النفس وخلوها عن مراتب الربوبية بعبودية نفسه ، والرابع : العلم بإحتياجه إلي الله واستغنائه عنه، الخامس :

ص: 25

عبادة الله تعالي علي ما هو أهله بأمره، والسادس : الاستعانة بالله في العبودية للتوفيق والقدرة والتعليم والإخلاص، والسابع : الدعاء بالخضوع والخشوع والمحبة ، فإنه خلق لهذا کما قال الله تعالي : (قل ما يعبؤ بکم ربي لولا دعائکم) (1)والثامن : الطلب بوجدان صفاته ونعمه، وهو المقصد الأعلي والمنية القصوي، والتاسع : الإهتداء عنه ليهتدي به إليه ، وينعم عليه بإرشاد طريق الهداية ، والعاشر: الاستدعاء منه بأنّ يحسن إليه ويديم نعمته عليه ولا يغضب عليه فيرده إلي الضلالة والغواية.

وهذه المراتب کلها حاصلة في إياک نعبد إلي آخر السورة، ومن هنا قال عليه السلام ؟ :

يقول الله تعالي :

قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين فنصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل فإذا قال العبد : الحمد لله رب العالمين ، يقول الله تعالي : حمدني عبدي ، وإذا قال العبد : الرحمن الرحيم ، يقول الله تعالي : أثني علي عبدي ، وإذا قال العبد : مالک يوم الدين ، يقول الله تعالي : مجدني عبدني، وإذا قال العبد : إياک نعبد وإياک نستعين ، يقول الله تعالي : هذه الآية بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل» (2)

و مراتب الأمور الدنيوية أربعة، المِلک، والمُلک، والتصرف فيهما بالمالکية والملکية، ومراتب الأمور الأخروية أربعة : العبادة لله تعالي، والاسترشاد به والاستعانة به في جميع ذلک وحسن الخاتمة بدوام النعمة وعدم الضلالة والنقمة ،

ص: 26


1- الفرقان : 77.
2- المسند لابن حنبل ج 2 / 460، وکنز العمال 7/ 288، ح 18920، وصحيح مسلم ، کتاب الصلاة، باب وجوب قراءة الفاتحة رقم 395، وللحديث بقية في أوله وفي آخره . ورواه الطبرسي في مجمع البيان عن صحيح مسلم ، ورواه الصدوق في العيون ج 1 / 234، ح 59، وفي الأمالي : 147، ح 1 ، ورواه في البحار عنهما ج226/92 ، ح 3 مع اختلاف .

وفاتحة الکتاب مشتملة علي جميع هذه المراتب کلها.

لکنک تري أنّ هذه کلها جعليات لا تخلو من تکلفات، نعم هذه السورة الشريفة مشتمل علي أصول العقائد التي لا يتطرق إليها النسخ أصلاً کما لا يخفي ، ولذا سميت أم الکتاب ، أي أصله الذي لا يتغير أصلاً ، بل هو أحد الوجوه أيضاً في قوله : (منه آيات بينات هن أم الکتاب )(1)

ومنها : «السبع المثاني» بل ظاهر «المجمع» إطلاق کل من الکلمتين

عليها (2)

وإنما سميت بها لأنّها سبع آيات اتفاقاً منا ومن أهل الخلاف، وإن ذهب

بعض هؤلاء إلي عد( أنّعمت عليهم )آية دون البسملة.

نعم، لبعضهم أقوال أخر شاذة جدة : کالقول بکونها ستاً بإسقاط البسملة (3)

وثماني بعدّ (إياک نعبد ) وحدها آية (4) وتسع آيات بعد کل من منه ومن (أنّعمت

ص: 27


1- آل عمران : 7.
2- قال في «مجمع البيان»: من أسمائها: «السبع» سميت بذلک لأنّها سبع آيات لا خلاف في جملتها . و«المثاني» سميت بذلک لأنّها تثني بقرائتها في کل صلاة فرض و نقل . وقيل : لأنّهانزلت مر تين .
3- والقائل به الحسين بن علي بن الوليد الجعفي الحافظ المقري الکوفي ، قرأ القرآن علي حمزة الزيات وأتقنه ، وأخذ الحروف عن أبي عمرو بن العلاء ، ولد سنة (119) هو توفي سنة (203) ه- سير أعلام النبلاء ج 397/9، رقم 129.
4- القائل به هو عمرو بن عبيد بن باب أبو عثمان البصري المعتزلي ، کان من تلامذة الحسن البصري ولکن يکذب عليه ، وهو مطرود الفريقين ، أنّظر : تنقيح ج 335/2 ، رقم 8749،قال ما ملخصه : هو معاند للحق من رؤوس الضلال. وانظر أيضا : ميزان الاعتدال ج 3/ 273، رقم 6404 في ترجمة عمرو بن عبيد : قال : قال أبن معين : لا يکتب حديثه ، وقال النسائي : متروک الحديث ، وقال الدار قطني وغيره : ضعيف .وترجمة الخطيب البغدادي في بغداد ج 186/12 وقال : مات عمر و سنة (143) ه.

عليهم ) آية (1) وسميت مثاني لأنّها تثنّي في رکعتي الصلاة کما روي الصدوق في العيون عن مولانا الصادق عليه السيلام عن أمير المؤمنين عليه السلام ؟ قال :

بسم الله الرحمن الرحيم آية من فاتحة الکتاب ، وهي سبع آيات تمامها بسم الله الرحمن الرحيم، سمعت رسول الله صلي علي عليه و اله يقول : إن الله تبارک وتعالي قال : يا محمد، ولقد آتيناک سبعة من المثاني والقرآن العظيم (2)، فأفرد الإمتنان عليّ بفاتحة الکتاب ، وجعلها بأزاء القرآن العظيم(3)

وفي تفسير العياشي عن الصادق عليه السلام :

«إنما سميت المثاني لأنّها تثني في الرکعتي (4)وفيه : عن أحدهما قال : لأنّ

فاتحة الکتاب يثني فيها القول »(5)

وقيل : إنه مثني من حيث النزول ، فإنها نزلت بمکة مرة وبمدينة أخري . وقيل : مثني باعتبار أنّ نصفها ثناء العبد للرب، ونصفها عطاء الرب للعبد ،

ص: 28


1- قال أبو عبدالله القرطبي محمد بن أحمد الأنّصاري المتوفي (671) ه في تفسيره ج1/ 114 : أجمعت الأمة علي أنّ فاتحة الکتاب سبع آيات إلا ما روي عن حسين الجعفي أنّها ست وهذا شاذ، وإلا ما روي عن عمرو بن عبيد أنّه جعل (اياک نعبد) و آية ، وهي علي عدة ثماني آيات و هذا شاذ ، وقوله تعالي : (لقد آتيناک سبعة من الثاني والقرآن العظيم) الحجر : 87) وقوله تعالي في الحديث القدسي : قسمت الصلاة ... ) يرد هذين القولين . وقال المفسر الجليل السيّد الشهيد آية الله السيّد مصطفي الخميني قدس سره في تفسيره ج 1 / 25: عدد آيها با جماع أهل الفن سبعة إجماعة مرکبة لاختلافهم في البسملة أنّها من السورة أم هي من القرآن أو ليست منها ، و من أخرجها منها إعتبر الآية الأخيرة آيتين : صراط الذين أنّعمت عليهم آية ، وهو غير المغضوب عليهم ولا الضالينه آية أخري
2- سورة الحجر : 87.
3- عيون الأخبار : ج 301/1 ، ح 60، والأمالي :106 ، وعنهما البحار ج 227/92 ، ح 5.
4- تفسير العياشي ج 19/1 ، ح 3، وعنه البحار : ج235/18 ، وج 235/92ح23.
5- تفسير العياشي ج 249/2 ، ح 34، وعنه البحار : ج235/92 ، ح 24.

کما قال : قسمت الصلاة أو فاتحة الکتاب بيني وبين عبدي نصفين (1)إلي آخر مر .

وقيل : إن المثاني من الثناء فإن العبد يثني فيها ربه أو الرب يثني بها . .

وقيل : لأنّ آياتها سبع بعدد أبواب النيران التي هي مطابقة للقوي الخمس الحاسة بإضافة النفس والبدن ، إذا ينفتح بکل منها باب إلي الجحيم، وباب إلي الجنة، والجنة باب ثامن ليس بازائها باب إلي النار، وهو الباب المفتح من العقل ، ولذا صارت أبواب الجنان ثمانية إذ ليس للعقل خروج من طاعة الله، فإن العقل علي ما عرفه الإمام عليه السلام هو ما عبد به الرحمن واکتسب به الجنان (2) وأما النکراء التي هي الشيطنة فهي من جنود الجهل ومن قوي الشيطان .

ص: 29


1- قال الرازي المتوفي (606) ه في مفاتيح الغيب ج 207/19 في ذيل «سبعاً من المثاني» في سورة الحجر : للناس فيه أقوال : الأول قول أکثر المفسرين وهو أنّه فاتحة الکتاب وهي سبع آيات و تسميتها بالمثاني لوجوه : الأول : أنّها تثني في کل صلاة ، والثاني : لأنّها يثني بعدها ما يقرء معها ، الثالث : لأنّها قسمت قسمين لما روي عن النبي صلي علي عليه و اله الا أنّه قال : قال الله سبحانه : قسمت الصلاة بيني وبين عبدي» الحديث مشهور. والرابع : لأنّها قسمان : ثناء ودعاء، وأيضا النصف الأول منها حق الربوبية وهو الثناء، والنصف الثاني حق العبودية وهو الدعاء، والخامس لأنّ کلماتها مثناة ، مثل الرحمن الرحيم ، إياک نعبد وإياک نستعين ، إهدنا الصراط المستقيم ، صراط الذين أنّعمت عليهم
2- معاني الأخبار : 239 ح 1 ، وفي المحاسن : 195 ح 15 وعنهما البحار ج 16/1 ، ح 8ورواه الکليني في الکافي ج 11/1 ، ح 3، ومتن الحديث هکذا: عن بعض أصحابنا رفعه إلي أبي عبد الله عليه السلام علي قال : قلت له : ما العقل ؟ قال : ما عبد به الرحمن واکتسب به الجنان ، قال : قلت : والذي کان في معاوية ؟ قال : تلک النکراء و تلک الشيطنة وهي شبيهة بالعقل وليست بالعقل . وقال المجلسي في بيان الحديث : النکراء : الدهاء والفطنة ، وجودة الرأي وإذا استعمل في مشتهيات جنود الجهل يقال له : الشيطنة ، ولذا فسرهعليه السلام عل بها ، وهذه إما قوة أخري غير العقل أو القوة العقلية ، وإذا استعملت في هذه الأمور الباطلة وکملت في ذلک تسمي بالشيطنة ولا تسمي بالعقل في عرف الشرع.

وروي أنّ جبرئيل علي نبينا وآله وعليه السلام قال للنبي : کنت أخشي العذاب علي أمتک ، فلما نزلت الفاتحة أمنت ، قال صلي علي عليه واله : لم يا جبرئيل ؟ قال : لأنّ الله تعالي قال : (وإن جهنم لموعدهم أجمعين لها سبعة أبواب لکل باب منهم جزء

مقسوم) (1) وآيات الفاتحة سبع ، من قرءها صارت کل آية طبقاً علي باب من أبواب جهنم، فيمر أمتک عليها سالمين.

بل ربما يقال : لهذا أثبت فيها جميع حروف التهجي إلا السبع التي هي أوائل ألفاظ دالة علي نوع مما يعذب به، وهي جهنم، والثبور، والخزي، والشهيق، والزفير، والظلمة ، والفراق.

ويمکن أنّ يقال إن المثاني هي القرآن کما قال الله تعالي :(الله نزّل أحسن

الحديث کتاباً متشابهاً مثاني) (2)لتکرر قراءته أو قصصه ومواعظه أو وجوه .

إعجازه وبلاغته، أو لکونه کتاباً تدوينياً مطابقاً للکتاب التکويني، أو

لإشتماله علي الثناء علي الله بما هو أهله ومستحقه ، فإن غيره لا يطيق الثناء

عليه ، کما قال أکمل المخلوقات وأفضلهم:

سبحانک لا أحصي ثناء عليک أنّت کما أثنيت علي نفسک» (3) فالسبع سبع آيات منها وهي السورة أو سبع سور، وهي الطول سابعها الأنّفال، أو مع التوبة ، فإنهما في حکم سورة واحدة ولذا لم يفصل بينهما بالبسملة.

ثم إنه قد روي في «التوحيد» و«تفسير العياشي» و«القمي» و«فرات»

و«البصائر» عن الأئمة الصادقين عليهم السلام بأسانيد عديدة أنّهم قالوا:

ص: 30


1- سورة الحجر: 44.
2- سورة الزمر : 23.
3- بحار الأنّوار : ج 16 /253، ح 35، و ج 23/71 ، و ج 85 / 170، ح 7، و ج 93 /159، ح 33.

نحن والله السبع المثاني ونحن المثاني التي أعطاها الله نبينا»(1)

والمراد بالسبع في هذه الأخبار إما السورة بناء علي شيء من الوجوه

المتقدمة، ويکون المراد بتلک الأخبار أنّ الله إنما امتنّ بهذه السورة علي النبي صلي الله عليه واله وسلم في مقابلة القرآن العظيم لاشتمالها علي وصف الأئمة عليهم السلام ومدح طريقتهم وذم

أعدائهم(2)

، وإما سبعة من الأئمة عليهم السلام لأنّ أکثر انتشار العلوم منهم ولذا خصهم به ، وإما کلهم فإن أسمائهم سبعة بعد إسقاط المکرر(3)، وعلي هذه الوجوه فالمثاني من الثناء لأنّهم الذين أثني الله تعالي عليهم في کتابه التدويني بل التکويني، أو هم الذين يثنون عليه تعالي حق ثنائه ويعلمون يثنون عليه تعالي حق ثنائه ويعلّمون غيرهم تسبيحه وتهليله، حتي الأنّبياء والملائکة وجميع من دونهم من أهل العالم، کما يستفاد من أخبار مستفيضة بل متواترة(4) أو من التثنية لأنّهم ذوجهتين : جهة عالية لاهوتية وجهة سافلة ناسوتية، أو لثنيهم مع النبي صلي الله عليه واله وسلم أو مع القرآن ، کما أشار إليه الصدوق (5) أو يکون المراد کما هو الأظهر بل أولي من جميع ما مر المعصومون جميعا ، لکون السبع باعتبار تثنيته أربعة عشر ، وهذا العدد الشريف هو عدد قوي يد الله الباسطة، وتجليات أنّوار وجهه النيرة الساطعة، ولذا طابقهما العدد الذي هو الأربعة عشر .

ثم إن اشتهيت أنّ تسمع نمطا آخر من الکلام فاعلم أنّ الله تعالي خلق

ص: 31


1- رواه عن المصادر المذکورة البحار: ج 114/24، ح 1 و114ح 3 و /96ح 22 وفي ج5/25، ح 7.
2- البحار : ج 24/ 115،في ذيل الحديث الأول المنقول عن تفسير علي بن ابراهيم.
3- البحار: ج 24/ 115 في ذيل الحديث ، باب أنّهم صلي علي عليه واله عن السبع المثاني.
4- راجع : البحار: ج 25/ 1، ح 2، عن الاختصاص، وص3، ح 3، عن فضائل الشيخ الصدوق : 7- 8، ص 17، ح 31، عن کمال الدين .
5- البحار : ج 116/24، عن توحيد الصدوق : 150، ح 6.

المشية بنفسها، من غير سبق مادة، ولا هيولي، ولاصورة ولا کم، ولا کيف ، ولا جهة، ثم خلق الاشياء بالمشية .

والمشية مشيتان : إمکانية وکونية ، فبالمشية الإمکانية خلق إمکانات الأشياء بلا مد ولا نهاية ولا تناه، وإن شئت فقل بحدود ونهايات غير متناهية ، فلکل شيء إمکان کل شيء ومن هنا قبل کل شيء فيه معني کل شيء، فتفطن ، واصرف الذهن إلي کثرة لا تتناهي عددا.

وبالمشيّة الکونية خلق الأکوان، وهي عالم الحدود والنهايات والتناهي، ولکل من المشيتين سبعة مراتب هي أسباب الفعل ومقتضياته ومتمماته، بحيث لا يوجد شيء من الموجودات الإمکانية والکونية إلا بها کما في الکافي في خير حريز وإبن مسکان عن أبي عبد الله عليه السلام ؟ قال :

«لا يکون شيء في الأرض ولا في السماء إلا بهذه الخصال السبع : بمشيئة ، وإرادة وقدر، وقضاء، وإذن، وکتاب ، وأجل، فمن زعم أنّه يقدر علي نقض (1) واحدة فقد کفره (2)

وفيه عن زکريا بن عمران عن الکاظم عليه السلام ؟ قال :

«لا يکون شيء في السموات ولا في الأرض إلا بسبع : بقضاء وقدر، وإرادة ،

ومشية وکتاب، وأجل، وإذن، فمن زعم (3)غير هذا فقد کذب علي الله أو ردّ علي الله»(4)

ص: 32


1- في البحار عن المحاسن : علي نقص (بالصاد المهملة).
2- الکافي : ج 3، باب «في أنّه لا يکون شيء في السماء ولا في الأرض إلا سبعة» ح 1.والبحار ج 121/5 ، ح 65، عن المحاسن ص 244.
3- في البحار : فمن قال غير هذا فقد کذب علي الله ...
4- الکافي: ج 3، باب «في أنّه لا يکون شيء» ح 2. والبحار : ج 5 /88، ح 7، عن الخصال ص 350، ح 36.

إلي غير ذلک من الأخبار، والمراد بالمشية المذکورة فيها معناها الخاص، وإن کان الکل يجمعها اسم المشية کما يأتي الکلام فيها وفي تفصيل مراتبها في موضع أليق إن شاء الله ، وحيث إنک قد سمعت أنّ فاتحة الکتاب هي المشية الکلية للکتاب التدويني کما أنّ المشية الکلية هي فاتحة الکتاب للکتاب التمکيني والتکويني وأنّ المشية إمکانية وکونية ، ففاتحة الکتاب هي السبع المثاني والنور الشعشعاني والبشر الأول والثاني ورتبة البيان والمعاني فافهم لحن المقال ولا تکثر السؤال فإن العلم نقطة کثرها الجهال.

ومنها : «الشفاء» و «الشافية» لأنّها شفاء من کل داء فعن العياشي في تفسيره عن النبي صلي الله عليه و اله وسلم :«إنها شفاء(1) من کل داء إلا السام، والسام الموت» (2)

وقضية العموم شموله للأمراض الروحانية والجسمانية ، إذ کما أنّ للأبدان أمراضا يرجع في رفعها وعلاجها إلي أطباء الأبدان ، کذلک للقلوب أمراض وآلام يجب الرجوع في علاجها إلي أطباء النفوس والقلوب المطلعين علي خفايا العيوب والذنوب ، بل الاهتمام بدفع هذا الداء أکثر، فإن بقاءه أضر.

وهذه السورة کما أنّها تدفع الأمراض الجسمانية بالرقية والتعويذ مع الاعتقاد الصحيح والتوسل الصريح، فکذلک تدفع الأمراض الروحانية والأسقام القلبية بالتحقق بحقائقها والتخلق بمراتبها ، إذ به يتحقق العبد في مقام العبودية ويتخلق بالأخلاق القدسية، ويحصل له الإنقطاع إلي الله بالکلية، فيتمکن من محلة الأمن والأمان والاطمئنان، ويندحر عنه جنود الجهل وأعوان الشيطان بزواجر خطاب ،

ص: 33


1- في المصدر : هي شفاء
2- تفسير العياشي: ج 1، ص 3، ح 9.

(إن عبادي ليس لک عليهم سلطان) (1)

ومنها : «الأساس»، لأنّها أصل القرآن وأساسه علي ما مر فيما مر، ولما في مجمع البيان» عن ابن عباس: «إن لکل شيء أساسا وأساس القرآن الفاتحة وأساس الفاتحة بسم الله الرحمن الرحيم» (2). ولأنّها أساس اذ لا صلاة الّا بها (3)

ومنها : «الکافية»، اذ هي تکفي عما سويها، ولا يکفي عنها ما سويها في خصوص الصلوة ، أو مطلقأ علي بعض الوجوه المتقدمة، ويويده النبوي المروي في «المجمع» عن عبادة بن الصامت ، عن النبي أنّه قال : «ام القرآن عوض عن غيرها وليس غيرها عوضأ عنها»(4)

ومنها : «الصلوة» لقول النبي صلي الله عليه و اله و سلم: «قال الله تعالي : قسمت الصلوة بيني

وبين عبد نصفينُّ» إلي آخر ما مر في تسميتها بأمّ الکتاب (5) والمراد بها «الفاتحة» کما يظهر من تمام الخبر، وان احتمل ايضاً ارادة «الصلوة» باعتبار اشتمالها علي الفاتحة» ولان منزلتها في القرآن منزلة الصلوة في العبادات الجامعيتها واشتمالها

ص: 34


1- سورة الحجر: 42.
2- مجمع البيان : ج 1، ص 17، ط صيدا.
3- في تفسير القرطبي113/1 : شکا رجل الي الشعبي وجع الخاصرة ، فقال : عليک بأساس القرآن فاتحة الکتاب ، سمعت ابن عباس يقول : لکل شيء اساس ؛ واساس الدنيا مکة، لأنّها منها دحيت ، واساس السموات عريبا وهي السماء السابعة ، واساس الارض عجيبة وهي الارض السابعة السفلي ، واساس الجنان جنة عدن وهي سرة الجنان عليها أسست الجنة ، واساس النار جهنم وهي الدرکة السابعة السفلي عليها اسست الدرکات ، واساس الخلق آدم ، واساس الانبياء نوح ، و اساس بني اسرائيل يعقوب ، واساس الکتب القرآن ، واساس القرآن الفاتحة واساس الفاتحة بسم الله الرحمن الرحيم، فاذا اعتللت أو شتکيت فعليک بالفاتحة تشفي .
4- مجمع البيان 17/1.
5- في ص 21 من کتب الفريقين

علي ما يشتمل عليه غيرهما.

ومنها : «الکنز» لما روي في العلوي «انّها نزلت من کنز تحت العرش »(1)

ومنها غير ذلک من الأسماء الکثيرة التي قيل باطلاقها عليها ولم نر لها کبعض ما مرّ أثراً في أخبارنا، وان أمکن التقريب فيها ببعض الوجوه کالوافية والشکر والدعاء والتعليم والقرآن العظيم، فانّه مقام الاجمال کما أنّ الفرقان مقام التفصيل والنور والرقية وسورة المناجاة وسورة التفويض وسورة السؤال وسورة الحمد وسورة الحمد الأولي وسورة الحمد القصري بالراء والواو وسورة التمحيص والتخليص وسورة التقسيم لقوله تعالي: «قسمت» الي آخر، وسورة النبي صلي الله عليه و اله وسلم لما سمعت وسورة تعليم المسألة وسورة اميرالمؤمنين لطلب الهداية الي الصراط المستقيم المفسّر بولايته عليه السلام .

ص: 35


1- لم أظفر علي مصدر له - وفي البحار ج85 ص 21 عن تفسير العياشي ج 1 ص 22: قال رسول الله صلي الله عليه و اله وسلم : إن الله تعالي منّ عليّ بفاتحة الکتاب من کنز الجنّة.... الخبر .

عدد آياتها وکلماتها

سيع آيات، وهي مکية أمّا کونها سبع آيات فکأنّه لا خلاف فيه بين من خالفنا فضلاً عما بيننا، ولذا نسب إلي الشذوذ ما يحکي عن الجعفي (1) منهم من عدم عدّ شيء من التسمية، و(صراط الذين أنّعمت عليهم ) آية مستقلة نظراً إلي أنّها ستة، وأشذ منه ما يحکي عن عمرو بن عبيد (2) من کونهما آيتين ذهاباً إلي أنّها ثمانية، وأشد منهما ما عن ثالث من کون ( أنّعمت عليهم) آية ثامنة فالتاسعة ما بعدها إلي غير ذلک من الأقوال الشاذة التي لا ينبغي التعرض لها فضلاً عما لها وما عليها.

نعم، قد طال التشاجر بينهم في أنّها آية أو بعض آية فيها أو في غيرها من

السور، وستسمع تمام الکلام عند التعرض لتفسير البسملة.

وأما کونها مکية فقد حکاها في «المجمع» عن ابن عباس وقتادة(3) وحکي

عن مجاهد (4)کونها مدنية، وعن بعضهم أنّها نزلت مرتين: مرة بمکة ومرة بالمدينة .

روي الفخر الرازي في تفسيره عن الثعلبي (5)بإسناده عن مولانا

ص: 36


1- الجعفي : الحسين بن علي بن الوليد المتوفي (203) ه، تقدمت ترجمته .
2- هو عمرو بن عبيد بن باب البصري المعتزلي المتوفي (143)ه تقدمت ترجمته.
3- هو قتادة بن دعامة بن قتادة بن عزيز أبو الخطاب الدوسي البصري الضرير الأکمه ، کان من المفسرين الحفاظ والرؤساء في العربية ومفردات اللغة وأيام العرب والنسب ، ولد سنة (61) ه ومات بواسط في الطاعون سنة (118) ه- تذکرة الحفاظ : ج 1 /115.
4- هو مجاهد بن جبر ، أبو الحجاج المکي مولي بني مخزوم کان من المفسرين أخذ التفسيرعن ابن عباس ، قرأه عليه ثلاث مرات يقف عند کل آية يسأله : فيم نزلت و کيف کانت ؟ ولد سنة (21) ه و توفي سنة (104) أو قبلها - الأعلام : ج 161/6.
5- هو أحمد بن محمد بن ابراهيم أبو اسحاق الثعلبي النيسابوري ، مفسر من کتبه «الکشف والبيان» يعرف بتفسير الثعلبي ، توفي «27

أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال :

«نزلت فاتحة الکتاب بمکة من کنز تحت العرش»(1) وعنه بإسناده عن عمرو (2)بن شرحبيل أنّه قال :

أول ما نزل من القرآن الحمد لله رب العالمين وذلک أنّ رسول الله صلي الله عليه و اله وسلم ان أسرّ إلي خديجة رضي الله عنها ، فقال : لقد خشيت أنّ يکون خالطني شيء، فقالت: ما ذاک ؟ قال : إني إذا خلوت سمعت النداء : إقرأ، ثم ذهب إلي ورقة (3)بن نوفل واسأله من تلک الواقعة ، فقال له ورقة : إذا أتاک فاثبت له، فأتاه جبرئيل عليه السلام؟ فقال : قل : بسم الله الرحمن الرحيم الحمد الله رب العالمين»(4)

وقد يستدل له أيضاً بالاتفاق علي کون سورة الحجر مکية مع أنّ من آياتها قوله : (ولقد آتيناک سبعاً من المثاني)(5) الآية ... الدالة علي أنّه تعالي آتاه فيما تقدم السبع المثاني المفسر بالفاتحة بالأخبار المستفيضة (6)وغيرها، وبأنّه يبعد أنّ

ص: 37


1- مفاتيح الغيب : ج 1 / 177
2- هو عمرو بن شرحبيل أبو ميسرة الهمداني الکوفي تابعي جليل ، شهد صفين مع أمير المؤمنين عليه السلام، توفي في أيام عبيدالله بن زياد ، وصلي عليه شريح القاضي
3- هو ورقة بن نوفل بن أسد القرشي، حکيم إعتزل الأوثان قبل الإسلام ، توفي سنة (12).
4- مفاتيح الغيب : ج 1 / 177.
5- الحجر : 87.
6- في تفسير الصافي : العياشي عن الصادق عليه السلام أنّه سئل عن هذه الآية فقال : هي سورة الحمد ، و هي سبع ايات منها بسم الله الرحمن الرحيم ، إنما سميت بالمثاني لأنّها يثني في الرکعتين». . وعن أحدهما صلي علي عليه و اله علي أنّه سئل عنها فقال : «فاتحة الکتاب يثني فيها القول».| وکذا في المجالس» عن السجاد عليه السلام ، وفي «المجمع» عن علي عليه السلام وهکذا عن الباقر و الصادق عليه السلام و في الاحتجاج عن اميرالمؤمنين عليه السلام في حديث زادالله محمداً صلي الله عليه و اله وسلم السبع الطول و فاتحه الکتاب و هي السبع المثاني .... الخ .

يقال : إنه صلي الله عليه و اله وسلم أقام بمکة بضع وعشر سنين وصلي هو وأصحابه من دون فاتحة الکتاب مع أنّه ورد عنه صلي الله عليه و اله وسلم : أنّه لا صلاة إلا بها(1)

وأما کلماتها فتسع وعشرون کلمة مع البسملة، وربما يقال بخلاف ذلک علي زيادة أو نقيصة لاختلاف الإعتبارات في عدّ الکلمات، فإنهم لم يعدّوا مثل الواو والفاء والباء وساير الحروف المفردة بل الألف واللام کلمة مستقلة ، مع أنّها کلمات من الحروف، والخطب سهل فيه، وکذا في اختلافهم في اعتبار الحروف وأنّ المعدود منها هل هو الحروف الملفوظة أو المکتوبة أو کل منهما، وإن لم أجد في ذلک کلاماً محرّراً لهم ولا لعلماء الحروف والأعداد .

نعم، ذکر الشهيد الثاني (2) في «الروضة» في شرح قول الشهيد(3)رحمة الله عليه : «فإن لم يحسن يعني المصلي شيئاً من الفاتحة قرء من غيرها بقدرها» قال : أي بقدر الحمد حروفا فإن حروفها مائة وخمسة وخمسين حرفا بالبسملة إلا لمن

قرء (مالک) فإنها يزيد حرفا) (4)

واعترضه جمال المحققين (5) بأنّه إما أنّ يعتبر الحروف الملفوظة أو المکتوبة

فعلي الأول غاية مبلغ الحروف مائة وتسعة وثلاثون حرفا. وذلک علي تقدير الوقف علي الرحيم، والعالمين، ونستعين ، وعدّ المد حرفا، والمشدد حرفين ، وإلا فينقص

.

ص: 38


1- تقدم عن المستدرک : ج 4 / 158، ح 5، عن عوالي اللئالي ج196/1ح2.
2- هو زين الدين بن نور الدين العاملي الشامي المولود سنة (911ھ) واستشهد سنة (966) .
3- هو محمد بن مکي العاملي الفقيه المحقّق المولود سنة (734) واستشهد بالسيف والصلب والرجم والإحراق بدمشق سنة (786ه).
4- شرح اللمعة الدمشقية : کتاب الصلاة، الفصل الثالث.
5- هو محمد جمال المحققين بن الآقا حسين الخوانساري الأصفهاني المتوفي سنة (1121).

منه أيضا، وعلي الثانية أصل الحروف مائة وإثنان وأربعون، وإذا أضيف التشديدات الأربعة عشر فيصير مائة و ستة وخمسون، ولو اعتبر المد أيضا حرفا کما هو الظاهر فيزيد حرفا آخر، وعلي التقادير لا يستقيم ما ذکره الشهيد، اللهم إلا أنّ يقال : إنه إعتبر المکتوبة وأضاف إلي الحروف الأصول التشديدات التي لم يکتب معها الحروف المدغمة دون البواقي، فإنه بعد اعتبار المدغم والمدغم فيه علي حرفين لا جه لاعتبار التشديد معهما حرفا، إذ لا يزيد المدغم والمدغم فيه علي حرفين لو لم ينقصا منه، والتشديدات المذکورة خمسة فيصير المجموع مائة وسبعة وأربعين ، ولو أعتبر المد أيضأ حرفا کما هو الظاهر فيزيد حرفا آخر، وعلي التقادير لا يستقيم ما ذکره الشهيد، اللهم إلا أنّ يقال : إنه إعتبر المکتوبة وأضاف إلي الحروف الأصول التشديدات التي لم يکتب معها الحروف المدغمة دون البواقي، فإنه بعد أعتبار المدغم والمدغم فيه علي حرفين لا وجه لاعتبار التشديد معهما حرفا، إذ لا يزيد المدغم والمدغم فيه علي حرفين لو لم ينقصا منه ، والتشديدات المذکورة خمسة فيصير المجموع مائة وسبعة وأربعين، واعتبر المد أيضا، وکذا اعتبرت همزة الاسم، فإنه لا تترک في الکتابة إلا في خصوص البسملة لکثرة

الاستعمال فاعتبر الأصل ، وکذا الفي (الله ) وکذا (الرحمن) ، فإن القاعدة تقتضي کتبه مثلهما، وإنما شاع ترکهما في خصوصهما، فإنه اعتبر فيهما أيضا الأصل وکذا اللام والهمزة من( الله) فإن الأصل فيه کما قيل أنّ يکتب لِألله لکنهم نقصوا الهمزة الالتباسه بالنفي فصار الله فاستکرهوا اجتماع ثلاث لامات ، فحذفوا إحديها فصار الله ، وإذا اعتبر جميع ما ذکرناه بلغ إلي ما ذکرناه ، لکن إعتبار الحروف المکتوبة بعيد جدا، والظاهر أنّ الاعتبار هنا بالحروف الملفوظة ويحتمل أنّ يکون الشهيد أيضا اعتبر الملفوظة لکن ملفوظة کل کلمة علي تقدير التلفظ بها منفردة بالابتداء بها والوقف عليه ، وهو يوافق ما ذکرناه من اعتبار المکتوبة ، فإن القاعدة في کتابه کل

ص: 39

کلمة هو کتابة ما يتلفظ به منه علي ذلک التقدير إلا أنّه خولف ذلک في بعض المواضع لنکتة، فإذا اعتبر المکتوبة علي القاعدة بتوافي المکتوبة علي ذلک الوجه ضم التشديدات الخمسة وحرف المد يبلغ ما ذکره، لکن اعتبار الملفوظة علي ذلک الوجه أيضا کأنّه بعيد.

أقول : وهذا کلّه کما تري تکلّف في تکلّف، ولا يبعد اختلاف الاعتبارات باختلاف المقامات فيعتبر الملفوظة في باب القراءة، والمکتوبة في نحو

الکتابة.

الاستعاذة

الاستعاذة : استفعال من عاذ يعوذ عوذاً وعياذاً ومعاذاًومعاذةً :

اذا التجأ واستجار به وامتنع ، فالمستعيذ طالب العون والالتجاء الي رحمته وعصمته، بخلاف العائذ فانّه الملتجي ، قيل : ويستعمل بمعني الالتصاق ايضاً، فمعناه حينئذ الصق نفسي بفضل الله ورحمته .

حکم الاستعاذة

ولا خلاف بيننا في استحباب الإستعاذة قبل القراءة بلا فرق بين کون المقروء تمام السورة او بعضها، مفتتحاً بالبسملة أو لا، حتي بعض الآية، وبالجملة کل ما يصدق عليه القرآن، لقوله تعالي : (فاذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم )(1)

وفي «تفسير العياشي» عن الصادق عليه السلام ، قال : سئلته عن التعوذّ من الشيطان

ص: 40


1- سورة النحل : 98.

عند کل سورة نفتحها ؟ قال : نعم، فتعوذّ بالله من الشيطان الرجيم(1)

ويحمل الأمر في الآية عليه ، وإن کان ظاهراً في الوجوب ، بل يمکن أنّ يقال بعد تسليم ذلک في موضعه : ليس الأمر في الآية ظاهرأ فيه لکون المطلوب فيه غيرياً، فلا يتجاوز مطلوبيته مطلوبية ذلک الغير، وهي علي وجه الاستحباب من حيث الذات، وأما العوارض فلا عبرة بها.

ومن جميع ما مر مضافاً إلي الأصل والاستصحاب وعدم مزية المقدمة علي ذيها، يظهر ضعف ما حکاه في «الذکري» عن أبي علي(2) ابن الشيخ رحمة الله عليه من القول بوجوبها في خصوص الصلاة ، لکونه مردوداً بما سمعت ، بل مسبوقاً بالإجماع حسب ما ادعاه والده شيخ الطائفة (3)

مضافاً إلي ما رواه الصدوق (4) قال : کان رسول الله أي أتم الناس صلاة وأوجزهم، کان إذا دخل في صلاته قال : الله أکبر بسم الله الرحمن الرحيم (5)

وما يحکي عن بعض العامة کعطاء (6)بن أبي رباح، والرازي، وداود(7)

ص: 41


1- تفسير العياشي 270/2 ح 68 الحلبي عن ابي عبدالله عليه السلام ؟ قال : سئلته ...الخ - وعنه البحار 54/19.
2- شيخ الطائفة علي الاطلاق هو أبو جعفر محمد بن الحسن بن علي الطوسي تلمذ علي الشيخ المفيد والسيّد المرتضي وغيرهما، وکان فضلاء تلامذته المجتهدون يزيدون علي ثلاثمائة من الخاصة ومن العامة ما لا تحصي . توفي بالنجف الأشرف سنة (460) ه .
3- هو الشيخ الأجل أبو جعفر محمد بن علي ابن بابويه القمي المتوفي بالري سنة (381) ه .
4- هو الشيخ الأجل أبو جعفر محمد بن علي ابن بابويه القمي المتوفي بالري سنة
5- من لا يحضره الفقيه : ج 306/1
6- عطاء بن أبي رباح الفقيه التابعي المولود سنة (27 ه) والمتوفي سنة (114 ه).
7- هو داود بن علي الضاهري الاصبهاني المولود (201) ه والمتوفي ستة(270)ه.

وأصحابه وغيرهم من القول بوجوبها، مطلقاًنظراً إلي ظاهر الآية، بل عن داود

وأصحابه بطلان الصلاة بترکها، وعن ابن سيرين(1) وجوب التعوذ في العمر مرة واحدة نظراًإلي حصول الإمتثال به ، کضعف ما حکاه العلّامة (2) في «المنتهي» عن

محمد بن سيرين من أنّه کان يتعوذ بعد القراءة (3)، بل ربما يحکي عن النخعي(4)و داود الأصفهاني أيضأ، لکونها شرط المطلوبية في ظاهر الآية وهو متقدم علي المشروط.

وفيه أنّ المراد إرادة القراءة فوضعوا الفعل مقام إرادته والتهيؤ له، علي حد قوله :(إذا قمتم إلي الصلاة فاغسلوا وجوهکم )(5) وإذا لقيت العدو فخذ سلاحک، ويعضده تظافر الروايات من الخاصة والعامة علي تقديمه، کالمروي عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلي الله عليه و اله وسلم أنّه کان يقول قبل القراءة : «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم»(6).

بل في تفسير العسکري عليه السلام وغيره ما يدلّ علي تفسير الآية بهذا الوجه أيضاً ، قال : وأما قوله الذي ندبک الله وأمرک به عند قراءة القرآن: أعوذ بالله ،

الخبر بطوله (7).

فلا إشکال في ضعف القول بتأخيره بعد استقرار المذهب منا ومن العامة

ص: 42


1- هو محمد بن سيرين البصري المعبّر المولود سنة (33) ه والمتوفي سنة (110) ه .
2- هو الحسن بن يوسف المعروف بالعلامة الحلي ، المولود سنة (648) ه ، والمتوفي سنة(726) ه .
3- منتهي المطلب ج 1 ص 296.
4- هو ابراهيم بن يزيد النخعي الکوفي ، المولود سنة (46) ه، والمتوفي سنة (96) ه
5- سورة المائدة : 6.
6- نيل الأوطار ، ج 213/2 .
7- التفسير المنسوب إلي الإمام العسکري عليه السلام : ص 18.

علي خلافه (1)، مضافاً إلي ما قيل : من أنّ المقصود من الاستعاذة نفي وسوسة الشيطان عند القراءة ، قال الله تعالي :

(وما أرسلنا من قبلک من رسول ولا نبي إلا إذا تمني ألقي الشيطان في

أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان )(2)

ولذا أمر الله تعالي بتقديمها.

بل ولا في ضعف ما حکاه الرازي قولاً ثالثاً، وهو قرائتها قبل القراءة للخبر، وبعدها للقرآن جمعاً بين الدليلين حسب الإمکان (3)، إذ فيه المنع من التعارض، والأخبار للبيان، وحسن الاحتياط ممنوع في مثل المقام بعد وضوح الحکم، بل قد يؤدّي إلي التشريع لو قصد المشروعية.

محل الاستعاذة في الصلاة

کما أنّه لا إشکال في أنّه في خصوص الصلاة يتعوذ في أول رکعة منها

خاصة، ثم لا يتعوذ في کل رکعة.

ص: 43


1- قال الرازي في «مفاتيح الغيب» ج114/20، في تفسير آية الاستعاذة من سورة النحل : الفاء في قوله تعالي : وفاستعذه للتعقيب ، فظاهر هذه الآية يدل علي أنّ الاستعاذة بعد قراءة القرآن وإليه ذهب جماعة من الصحابة والتابعين ، قالوا: والفائدة فيه أنّه إذا قرأ القرآن استحق به ثوابا عظيما ، فإن لم يأت بالاستعاذة وقعت الوسوسة في قلبه وتحبط بها ثواب القراءة ، أما إذا استعاذ بعد القراءة اندفعت الوساوس وبقي الثواب مصونة عن الاحباط. أما الأکثرون من علماء الصحابة والتابعين فقد اتفقوا علي أنّ الاستعاذة مقدمة علي القراءة وقالوا : معني الآية إذا أردت أنّ تقرأ القرآن فاستعذ ، ونظيره قوله تعالي : وإذا قمتم إلي الصلاة فاغسلوا ... أي إذا أردتم القيام إلي الصلاة .
2- سورة الحج : 52.
3- مفاتيح الغيب : ج 60/1 .

قال في «المنتهي»(1) : وهو مذهب علماءنا وهو قول عطاء والحسن (2) والنخعي والثوري (3)، لأنّ القصد هو التعوذ من الوسوسة، وهو حاصل في أول الرکعة.

ولأنّ الصلاة کالفعل الواحد ، فيکفي الاستعاذة الواحدة کالتوجه .

هذا مضافاً إلي استمرار الطريقة عليه، وکونه المعهود من فعل النبي صلي الله عليه و اله وسلم ؛ والائمة عليهم السلام بعد کون العبادات توقيفية يلزم أخذها من صاحب الشريعة سيما بعد قوله : «صلّوا کما رأيتموني أصلّي»(4) و «خذوا عنّي مناسککم» (5)، مع دلالة بعض الأخبار عليه، وقيام الإجماع به نقلاً بل تحصيلاً، فلا يلتفت إلي ما يحکي عن الشافعي في أحد قوليه وعن ابن سيرين من استحباب التعوذ في کل رکعة، نظراً إلي صدق القراءة في کل منها، وهو علي فرضه يجب الخروج عنه لما سمعت ، مضافاً إلي ما روي من طريق الجمهور عن النبي صلي الله عليه و اله وسلم أنّه کان إذا نهض من الرکعة الثانية استفتح بقراءة الحمد (6).

ثم إنه قد اختلف أهل العلم في کيفيتها وفي أنّ المندوب هل هو الجهر بها أو

الإخفات.

فالمشهور بين الأصحاب بل بين المخالفين أيضاً أنّ صورتها «أعوذ بالله من

الشيطان الرجيم». .

قال في «التذکرة»: وبه قال أبو حنيفة ، والشافعي لأنّه لفظ القرآن .

ص: 44


1- منتهي المطلب : ج 1 /270.
2- هو الحسن بن يسار البصري المولود بالمدينة سنة (21) ه والمتوفي بالبصرة سنة (110).
3- هو سفيان بن سعيد الثوري ، المولود بالکوفة سنة (97) ه والمتوفي بالبصرة سنة (161) ه.
4- صحيح البخاري : ج 111/2، ح 631.
5- السنن الکبري للبيهقي : ج 5 / 125. المستدرک للحاکم : ج 1 /215.
6- المستدرک للحاکم : ج 5 / 125.

وقال الثوري ، وابن سيرين : يزيد بعد ذلک : إن الله هو السميع العليم .

وقال أحمد (1) أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم وقال الحسن (2) بن صالح بن حي: أعوذ بالسميع العليم من الشيطان الرجيم .

واحتجوا بقوله : ( وإما يتر غنک من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع

العليم) (3)

والأخير ليس بداخل في الأمر بالاستعاذة، بل خبر بعده ، وألأمر

قبله (4)

وفي «التيسير»: أنّ المستعمل عند الحذّاق من أهل الأداء في لفظها «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم» دون غيره لموافقه الآية ولما رواه نافع(5)بن جبير بن مطعم ، عن رسول الله صلي الله عليه و اله وسلم أنّه استعاذ بهذا اللفظ بعينه(6)

ص: 44


1- هو أحمد بن محمد بن حنبل أبو عبدالله الشيباني إمام المذهب الحنبلي ، ولد ببغداد سنة(164) ه و توفي سنة (241) ه... الأعلام : ج 1 / 192
2- الحسن بن صالح بن حي الهمداني الثوري الکوفي من زعماء الفرقة البترية من الزيدية ،ولد سنة (100) ه و توفي بالکوفة سنة (168) ه. تهذيب التهذيب : ج 2/ 285.
3- سورة فصلت : 36.
4- تذکرة الفقهاء : ج 1 /114.
5- نافع بن جبير بن مطعم أبو عبدالله التابعي ، و ثقه العجلي وأبو زرعة وابن خراش ، روي عن أبيه ، والزبير بن العوام ، والعباس بن عبد المطلب وعثمان بن أبي العاص ، وعلي بن أبي طالب عليه السلام ، وآخرين، توفي سنة (99) ه، ووالده جبير بن مطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف أبو محمد المدني أسلم قبل حنين أو يوم الفتح، وله ستون حديثا وتوفي بالمدينة سنة (59) ه تهذيب التهذيب : ج 404/10 ، وخلاصة تهذيب الکمال : ج 161/1.
6- التيسير في القراءات السبع لأبي عمرو عثمان بن سعيد المدني ص 17، ط إستانبول، ومارواه عن نافع أخرجه أحمد بن حنبل في «المسند»: ج 4 / 80، والحاکم في «المستدرک» : ج 1 / 235، ولکنه ليس بعين اللفظ ، بل لفظه هکذا: «اللهم إني أعوذ بک من الشيطان الرجيم» .

بل في «شرح الشاطبية» عن ابن مسعود أنّه قرأ علي النبي صلي الله عليه و اله وسلم : أعوذ بالله

السميع العليم، فقال صلي الله عليه و اله وسلم: «قل : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم»(1)

ثم قال : ولا أعلم خلافا بين أهل الأداء في الجهر بها عند افتتاح القرآن وعند الإبتداء برؤوس الأجزاء، وغيرها في مذهب الجماعة إتباعاً للنص واقتداءا بالسنة.

ثم حکي عن نافع (2) أنّه کان يخفيها في جميع القرآن، وعن حمزة (3)أنّه کان يجهر بها في أول أم القرآن خاصة، ويخفيها بعد ذلک في سائر

القرآن.

وفي «التذکرة» يستحب الإسرار بها ولو في الصلاة الجهرية، ثم حکي عن أحد قولي الشافعية الجهر بها في الجهرية تمسّکاً بعمل أبي

هريرة (4)-(5)

ثم قال : وعمل الأئمة عليهم السلام أولي(6)، وظاهره نسبة الإسرار إليهم عليهم السلام .

ص: 46


1- عوالي اللئالي : ج 2/ 47، ح 126.
2- هو نافع بن عبدالرحيم بن أبي نعيم الليثي بالولاء المدني، أحد القراء السبعة المشهورين ، أصله من إصبهان ، إشتهر في المدينة وأقرأ الناس نيفا وسبعين سنة وتوفي بها سنة (169) ه . غاية النهاية : ج 320/ 2 .
3- هو حمزة بن حبيب بن عمارة بن إسماعيل الزيات القاري أحد القراء السبعة ولد سنة (80) ه و توفي بحلوان سنة (156) ه - الأعلام : ج 308/ 2 .
4- أبو هريرة : عبدالرحمن بن صخر الدوسي الصحابي ، ولد سنة (21) قبل الهجرة وقد المدينة وأسلم سنة(7)ه، وروي عن النبي صلي الله عليه و اله وسلم(5374) حديثا نقلها عن أبي هريرة أکثر من (800) رجل ، وولي إمرة المدينة مدة واستعمله عمر علي البحرين ثم عزله ، مات بالمدينة سنة (59) ه.. الأعلام : ج 4 / 80.
5- سنن البيهقي : ج 36/2
6- تذکرة الفقهاء : ج 1 /114.

وفي «مجمع البيان» عن ابن کثير(1)، وعاصم (2)، وأبي عمرو (3): «أعوذ بالله

من الشيطان الرجيم». .

وعن نافع ، وابن عامر(4)، والکسائي (5) زيادة «إن الله هو السميع العليم» .

عن حمزة: «نستعيذ بالله من الشيطان الرجيم». .

وعن أبي حاتم (6)

: «أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم» (7)

وعند العامة أقوال أخر في کيفيتها کقولهم: «اللهم إني أعوذ بک من الشيطان

الرجيم» (8)

و« أعوذ بالله من الشيطان الرجيم إن الله هو السميع العليم» (9) . و«أعوذ بالله العظيم السميع العليم من الشيطان الرجيم» (10)

إلي غير ذلک مما لا طائل تحت حکايته، إذ العبرة بما يستفاد من أخبار أهل

البيت عليهم الصلاة والسلام.

ص: 47


1- هو عبدالله بن کثير الداري المکي أحد القراء السبعة ، ولد بمکة المکرمة سنة (45) ه وتوفي بها سنة (120) ه.- وفيات الأعيان : ج 1 /350.
2- عاصم بن أبي النجود بهدلة الکوفي أحد القراء أسبعة، توفي بالکوفة سنة (127) ه. الأعلام : ج 12/4.
3- أبو عمرو : زبان بن عمار العلاء المازني البصري أحد القراء السبعة ، ولد بمکة المکرمة سنة (70) ه و توفي بالکوفة سنة (154) ه.- الأعلام : ج 3/ 72.
4- الکسائي : علي بن حمزة الکوفي اللغوي النحوي القاري المتوفي (118) ه.
5- هو عبد الله بن عامر بن يزيد أبو عمران الشامي أحد القراء السبعة ، ولي قضاء دمشق في خلافة الوليد بن عبد الملک ، وتوفي بها سنة (189) ه.
6- هو أبو حاتم محمد بن إدريس بن المنذر بن داود الرازي المتوفي (277) ه.
7- مجمع البيان : ج 18/1 .
8- تقدم الحديث عن مسند ابن حنبل ج 4/ 80 ومستدرک الحاکم ج 1 /235.
9- خلاف الشيخ : ج 1 / 325 عن سفيان الثوري وحلية العلماء : ج 83/2 .
10- هذا قول أحمد رواه ابن قدامة في المغني : ج 1 / 554.

فالمشهور في الأخبار بل عند الأصحاب «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم»،

وهو الأوفق بلفظ الآية.

بل ورد ذلک في خطبة عيد الفطر لأميرالمؤمنين (1) وکذا في خطبته لصلاة يوم الجمعة(2) وعيد الأضحي، وأرسل الشهيد في «الذکري» عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلي الله عليه و اله وسلم أنّه کان يقول قبل القراءة :

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم»(3)

وفي «العوالي اللالي» بالإسناد إلي ابن مسعود قال : قرأت علي رسول

الله صلي الله عليه و اله وسلم

فقلت : أعوذ بالله السميع العليم، فقالي لي:

«يا بن أم عبد! قل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، هکذا أقرأنّيه

جبرئيل» (4)

وفي بعض خطب أمير المؤمنين عليه السلام : «أستعيذ بالله من الشيطان الرجيم» (5).

ومثله في معتبرة سماعة(6) عن الصادق عليه السلام بزيادة «إن الله هو السميع

العليم(7).

ص: 48


1- بحار الأنّوار : ج 31/91 ، ح 5، عن المصباح ص 458.
2- البحار: ج 89/ 234 ح 67، عن مصباح المتهجد ص 342.
3- الذکري : ج 1 / 190.
4- عوالي اللآلي ک ج 47/2، ح124 تقدم.
5- الکافي : ج 153/8
6- هو سماعة بن مهران بن عبدالرحمن الحضرمي ، قال المامقاني في «تنقيح المقال» ج 2/ 67: إن في سماعة قولين : أحدهما أنّه واقفي کما صرح به الشيخ وجماعة من فقهاء الأواخر ولکن مع اعترافهم بوقفه عملوا بروايا ته . وثانيهما أنّه اثنا عشري کما قال به النجاشي ووثقه مرتين، ووجد في بعض الکتب أنّه مات سنة (145) ه في حياة الصادق علي
7- تهذيب الشيخ : ج 1 / 177.

وروي العياشي عنه عليه السلام قال :

تقول : أستعيذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم»(1)

ومن هنا يظهر ضعف ما عن بعض العامة من عدم صحة «أستعيذ» نظراً إلي

أنّ المستعيذ طالب العوذ بخلاف العائذ ، وفرق بين الفاعل وطالب الفعل.

وفيه أنّه علي فرض الطلب يکون المطلوب هو الحاصل بالمصدر وطلب الحاصل نفس مباشرة الفعل، إذا الطلب فعلي والقول حکاية حسب ما تسمع، علي أنّ کثيراً من أهل اللغة عدّهما بمعني

قال في القاموس : العود: الإلتجاء کالعياد، والمعاذ، والمعاذة، والتعوذ،

والإستعاذة.

مضافاً إلي ما سمعت عن الصادق وعن جده أمير المؤمنين عليهما الصلاة

والسلام، وقولهما هو الحجة.

وفي بعض الأخبار: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم»(2). وهو المذکور في «الفقيه» (3) و«المقنع» للصدوق (4) و«المقنعة» للمفيد (5) وروي الشهيد الثاني في «شرح النفلية» عن الصادق عليه السلام :

«أستعيذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، أعوذ بالله أنّ يحضرون إن

الله هو السميع العليم»(6)

ص:49


1- تفسير العياشي: ج 2 ص 270 ح 67. .
2- تقدم عن «مجمع البيان»: ج18/1
3- من لا يحضره الفقيه : ج 304/1 .
4- الموسوعة الفقهية ، المقنع للصدوق : ج 1 /53.
5- الموسوعة الفقهية ، المقنعة للمفيد : ج 101/1 .
6- الحدائق : ج 164/8 عن النفلية ص 81.

وفي «قرب الإسناد عن حنان (1)بن سدير قال : صليت خلف أبي عبد الله عليه السلام المغرب، فتعوذ بإجهار: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم وأعوذ بالله أنّ يحضرون(2)

وفي «الذکري»: عن البزنطي (3) عن الصادق عليه السلام :

أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم» (4)

ومثله في رواية الحسن (5)بن راشد عن الصادق عليه السلام وهو المذکور في تفسير

الإمام عليه السلام قال :

وهو القول الذي ندبک الله إليه وأمرک به عند قراءة القرآن»(6) ورواه في دعائم الإسلام (7) عن الصادق عليه السلام ، ولذا ربما يرجح هذا القول علي

ص:50


1- حنان بن سدير الصيرفي ، ثقة ، واقفي روي عن الصادق والکاظم عليه السلام ، کان معمرة ، وروي عنه إبن عمير ، وابن محبوب ، وإسماعيل بن مهران . قال في «التنقيح»: إن في الرجل أقوالا: أحدها أنّه ثقة وهو صريح «الفهرست» ويؤيده رواية الحسن بن محبوب المجمع علي تصحيح ما يصح عنه وغيره من الأجلاء عنه ، وکونه کثير الرواية وسديد الراوي ، ومقبول الرواية. وثانيهما أنّه موثق ... وثالثهما أنّه ضعيف وهو صريح «التنقيح» حيث قال : حنان ضعيف ...تنقيح المقال : ج 381/1.
2- قرب الإسناد : ص 58 - 59 // الوسائل : ج 4 / 800، ح 5، عن قرب الإسناد .
3- هو أحمد بن محمد بن أبي نصر البزنطي الکوفي ، کان من أصحاب الرضا والجواد عليه السلام ، عظيم المنزلة عندهما توفي سنة (221) ه و - طرائف المقال : ج 1 / 279.
4- الوسائل : ج801/4 ، ح 7 عن «الذکري».
5- الحسن بن راشد مول بني العباس کوفي من أصحاب الصادق عليه السلام ، ضعفوه ولکن کتابه معتمد عليه عند العلماء .- تنقيح المقال : ج 1 / 277.
6- تقدم عن تفسير الإمام عليه السلام ص18. ولا يخفي أنّ المصنف نقله بالمعني، وإلا فلفظ الحديث هکذا: «أما قوله الذي ندبک الله إليه وأمرک به عند قراءة القرآن : أعوذ الله السميع العليم من الشيطان الرجيم» .
7- دعائم الاسلام ج 1 ص 159 ح 458 وعنه البحار ج 85 ص 48 ح 42.

سائر الأقوال.

لکن المستفاد من إختلاف هذه الأخبار، بعد ملاحظة إطلاق الآية، وجملة من المعتبرة، وعدم دليل من إجماع أو نص تعيين صيغة خاصة ، جواز الإتيان بکل من هذه الصيغ وغيرها حتي في الصلاة.

وإن کان الأحوط فيها الاقتصار علي الصيغة المروية، بل خصوص المشهور، إلا أنّ الأقوي جواز غيرها أيضا، والنبوي المروي في «العوالي» عامي، ولذا لا يصلح للتقييد مضافا إلي عدم صراحته في التعيين، بل يکفي في مثله الأولوية .

نعم في «شرح النفلية» لثاني الشهيدين أنّ المعني في أعوذ وأستعيذ واحد، قال الجوهري(1) عذت بفلان، واستعذت به : أي لجأت إليه، وفي أستعيذ موافقة اللفظ القرآن، إلا أنّ أعوذ في هذا المقام أدخل في المعني، وأوفق لامتثال الأمر الوارد بقوله: «فاستعذ» لنکتة دقيقة، وهي أنّ السين والتاء شأنّهما الدلالة علي الطلب فوردتا في الأمر، إيذانا بطلب التعوذ فمعني «استعذ» إي أطلب منه أنّ يعيذک فامتثال الأمر أنّ يقول: أعوذ بالله ، أي ألتجيء إليه، لأنّ قائله متعوذ قد عاد والتجأ، وقائل أستعيذ ليس بعائذ، إنما هو طالب العياذ به ، کما تقول : أستخير بالله ، أي أطلب منه الخيرة وأستغفر أي أطلب مغفرته .

لکنهما(2)دخلتا هنا في فعل الأمر بخلاف الاستعاذة، وبذلک يظهر الفرق بين الامتثال بقوله «إستغفر الله»، دون إستعذ بالله ، لأنّ المغفرة إنما تکون من الله فيحسن

ص: 51


1- الجوهري : إسماعيل بن حماد الجوهري أبو نصر کان من أئمة اللغة وخطه پذکر مع خط ابن مقلة ، أشهر کتبه «الصحاح» وهو أول من حاول الطيران ومات في سبيله ، صنع جناحين من خشب وربطهما بحبل وصعد سطح داره ونادي في الناس : لقد صنعت ما لم أسبق غليه وسأطير الساعة ، فازدحم أهل نيسابور ينظرون إليه ، فتأبط الجناحين ونهض بهما، فخانه اختراعه فسقط إلي الأرض قتيلا .. الأعلام : ج 309/1
2- أي السين والتاء.

طلبها، والالتجاء يکون من العبد فلا يحسن طلبه.

ثم اعترض علي کلام الجوهري، وحکي عن جماعة من المحققين ردّه

واعترضه بعض(1) المحققين في تلک النکتة بأنّه اذا کان معني استعذ اطلب منه ما يعيذک فامتثال الأمر بقوله: استعيذ ظاهر، اذ معناه اطلب من الله أنّ يعيذني، وامّا الامتثال بقوله : اعوذ بالله فغير ظاهر، الا أنّ يجعل هذه الجملة مرادأ بها الطلب والدعاء، وأما الإخبار بالالتجاء فلا يتحقق الامتثال به وبالجملة فالقائل بکل من اللفظين أراد طلب الإعانة منه سبحانه ، لکن دلالة اللفظ الثاني عليه ظاهرة لقضية السين والتاء، وأما الأول فمبني علي إرادة الإنشاء لا الإخبار.

وحيث قد عرفت سهولة الخطب في لفظها فلا ينبغي تطويل الکلام فيه، بل المهم في المقام فهم معناها ومؤديها ليتمکن المستعيذ من التحقق بحقيقتها، والوصول إلي کبرياء القدس وحريم حرم الأنّس، وذلک ببيان المراد من المستعيذ والمستعاذ منه والمستعاذ به ، وکيفية الاستعاذة .

فهنا مباحث:

الأول : في المستعيذ وهو وإن کان القاريء نفسه ، لکن لا بنفسه بل بحول الله وقوته وتوفيقه وعصمته، فإنه عبد ذليل لا يملک لنفسه نفعا ولا ضرا، ولا يستطيع خيراً ولا شراًولذا قال مولانا سيد الشهداء روحي له الفداء وعليه آلاف التحية والثناء:

«أم کيف أترجم لک بمقالي وهو منک برز إليک»(2)

ص: 52


1- المراد به کما قال في الهامش هو الشيخ سليمان بن عبدالله بن علي بن عمار الماحوزي من أهل الماحوز (من قري البحرين ) کان من فقهاء عصره ، والمحدثين البارعين ومن الخطباء الشعراء ، ولد سنة (1075) وتوفي سنة (1121) ه، له تصانيف منها «الفرائد النجفية» وفيه الإعتراض .. أعيان الشيعة : ج 35/ 377.
2- بحار الأنّوار: ج225/98 ، ح 3.

وفي دعاء أبي حمزة(1) عن السجاد عليه السلام :

«من أين لي الخير يا رب ولا يوجد إلا من عندک، ومن أين لي النجاة ولا

تستطاع إلا بک» (2)

ولا تتوهم أنّه مجبور في أفعاله وأقواله، أو أنّه مسلوب الإختيار في أفعاله وفيما يخطر بباله ، بل التوفيق من الله والفضل من عنده والأمر کله له : (ما أصابک من حسنة فمن الله وما أصابک من سيئة فمن نفسک ) (3)

وستسمع الکلام في فساد القول بکلا الطرفين، وإن الصحيح هو المنزلة بين

المنزلتين.

ولکن ينبغي أنّ تستحضر في نفسک حال الاستعاذة أنّ الله قد وفقک وألهمک ، وقذف في قلبک إرادة التوجه إليه ، والالتجاء به من عدوه، وأنّت تعلم أنّ حصن الله حصين ، وکهفه حريز متين وأنّ عدوه مترصد لک حتي يختلسک ويختطفک بمکائده ومصائده، فاشکر الله تعالي علي ما ألهمک من التحصن بحصنه قبل أنّ يکون منک طلب، وإن کان نفس هذا الطلب منک بتوفيقه، فيکون الشکر موجباً لمزيد النعمة ودفع النقمة ومستدراً للتوفيقات السيالة الباعثة علي التشمر عن ساق الجد للدخول في باب اللجأ إليه والتوکل عليه، قبل أنّ يسبق إليک نزغات الشيطان، أو يحول بينک وبين الرحمن حجاب الغفلة وسواد العصيان .

قال بعض العارفين : إن الشيطان قاسم أباک وأمک أنّه (لهما لمن

أنّه کان

ص: 53


1- هو ثابت بن دينار المعروف بابي حمزة الثمالي الکوفي ، نقل عن الإمام الرضا عليه السلام يقول : «أبو حمزة لقمان زمانه» . توفي سنة (150) ه.- الأعلام : ج 81/2.
2- البحار : ج 82/98 ، دعاء أبي حمزة الثمالي
3- النساء : 79.

الناصحين ) (1) وقد رأيت ما فعل بهما، وأما أنّت فقد أقسم علي غوايتک کما حکي الله سبحانه عنه (فبعزتک لأغوينهم أجمعين ) (2) فماذا تري يصنع بک، فتشمر عن ساق الخوف والحذر منه ومن کيده وخديعته .

المستعاذ منه

الثاني: المستعاذ منه وهو الشيطان، ووزنه إما فيعال من الشطن وهو البعد، ومنه بئر شطون أي بعيدة القعر، سمي لبعده عن الله ، أو عن رحمته ، أو عن صراطه السوي، أو عن الخير، وإن کان مرجع الجل أو الکل إلي واحد.

أو أنّه علم شخصي أو إسم لکل عات متمّرد من جن أو إنس، ومنه

( شياطين الإنس والجن) (3)

أو فعلان من الشيط أي الإحتراق، والهلاک، والبطلان، لاحتراقه بشهب السماء، أو بشهب قلوب المؤمنين، وهي الأنّوار المحرقة للنيران، أو بنفسه حنقاً وغيظاً، إذا رآي متقرباً يتقرب إلي ربه ، ولأنّه هالک في نفسه باطل في ذاته ، مبطل في دعواه ولمصالحه و مصالح من يتبعه.

وکيف کان ، فلا خلاف بين المسلمين، بل بين کافة المتشرعين، ولو بالشرايع السالفة في وجود الشياطين ، بل عليه إجماع جميع الأنّبياء والأولياء، کما يکشف عنه اتفاق أممهم في جميع الأعصار والأمصار، مضافاً إلي تواتر أخبارهم بتمثله لهم، والأمر بالتعوذ منه، ومکالمته مع غير واحد من الأنّبياء وغير ذلک مما يتعلق

ص: 54


1- إشارة إلي آية 21 من سورة الأعراف وهي : وقاسمهما أنّي لکما لمن الناصحين)
2- سورة ص : 82.
3- الأنّعام : 112.

بوجوده، بل ينبغي أنّ يعد التصديق بوجوده من ضروريات المذهب بل الدين المبين، فيکون منکره خارجاً عن زمرة المسلمين.

هذا کله مع الغض عن الآيات القرآنية کلية الاستعاذة(1)وآيتي النزع بل

آياته (2) کقوله:

(أنّ نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي)(3)

وقوله:

( واتبعوا ما تتلوا الشياطين علي ملک سليمان) (4)

( والشياطين کل بناء وغواص (5) و آخرين مقرنين في الأصفاد ) (6)

(وحفظاً من کل شيطان مارد) (7)

(وما يعدهم الشيطان إلا غروراً) (8)

(إن کيد الشيطان کان ضعيفاً) (9)

(انهم اتخذوا الشياطين أولياء ) (10)

(ولا تتبعوا خطوات الشيطان)(11)

ص: 55


1- سورة النحل : 98.
2- يوسف : 100، الإسراء : 53، الأعراف : 200، فصلت : 36.
3- يوسف : 100.
4- سورة البقرة : 102.
5- سورة ص : 37.
6- سورة ص : 38.
7- سورة الصافات : 7.
8- سورة النساء : 120.
9- سورة النساء : 76.
10- سورة الأعراف : 30.
11- سورة البقرة : 168.

إلي غير ذلک من الآيات الکثيرة بل الأخبار المتواترة التي يقطع المتأمّل فيها بفساد قول من أنّکرها رأساً ، وأولها بالنفوس الشريرة الإنسانية کبعض الزنادقة من أتباع الفلاسفة المحجوبين عن کشف الملکوت(1)کما يقطع المتأمّل في أدلتهم بفسادها إذا غاية ما إستدلوا به أنّها لو کانت موجودة فإن کانت أجسامة غليظة کثيفة الرآها کل سليم الحس ، وتجويز عدم رؤيتها حينئذ سفسطة محضة، کتجويز أنّ

يکون بحضرتنا جبال شاهقة ويحار غامرة لا نراها.

وإن کانت لطيفة لتلاشت وتمزقت بأدني قوة فضلاً من أنّ تقاوم المصادمات

القوية، أو تقدر علي الأعمال الشاقة التي ينسبها إليها مثبتوها.

وأنّ وجودهم مع ما نسب إليهم يرفع الوثوق بالمعجزات لجواز استناد کل

ص: 56


1- قال الرازي : إختلف الناس قديما وحديثاً في ثبوت الجن ونفيه ، فالنقل الظاهر من اکثر الفلاسفة إنکاره، قال أبو علي سيناء في رسالته في حدود الأشياء» : الجن حيوان هوائي متشکل بأشکال مختلفة ، ثم قال : وهذا شرح الإسم. فقوله : هذا شرح الاسم يدل علي أنّ هذا الحد شرح للمراد من هذا اللفظ ، وليس لهذه الحقيقة وجود في الخارج، وأما جمهور أرباب الملل والمصدقين للأنّبياء فقد إعترفوا بوجود الجن ، واعترف به جمع عظيم من قدماء الفلاسفة وأصحاب الروحانيات ويسمونها بالأرواح السفلية . - مفاتيح الغيب : ج 148/30 . وقال إمام الحرمين عبدالملک بن عبدالله الجويني المتوفي سنة (478) ه في کتابه «الشامل» في أصول الدين : إن کثيرا من الفلاسفة وجماهير القدرية وکافة الزنادقة أنّکروا الشياطين والجن رأسا ، ولا يبعد لو أنّکر ذلک من لا يتدبر ولا يتثبت بالشريفة ، وإنما العجب من إنکار القدرية مع نصوص القرآن وتواتر الأخبار واستفاضة الآثار. وقال أبو القاسم الأنّصاري سليمان بن ناصر الفقيه الشافعي المتوفي سنة (512) ه في کتابه شرح الإرشاد» في أصول الدين : قد أنّکرهم معظم المعتزلة ، ودل إنکارهم إياهم علي قلة مبالاتهم ورکاکة دياناتهم ، فليس في إثباتهم مستحيل عقلي وقد دلت نصوص الکتاب والسنة علي إثباتهم ، وحق علي اللبيب المعتصم بحبل الدين أنّ يثبت ما في العقل بجوازه ونص الشرع علي ثبوته .. عن آکام المرجان في إثبات وجود الجان : ص 15، تأليف : بدر الدين محمد الشبلي الحنفي المتوفي (769) ه.

من المعجزات إليهم ، سيّما مع إيحائهم إلي أوليائهم ، وانفتاح باب الکهانة.

وأنّ کثيراً ممن ادعي علم العزائم ومشاهدة الروحانيين بعد أنّ تابوا کذّبوا

أنّفسهم فيما نسبوا إليهم.

وأنّ الآثار المنسوبة إلي الجن والشيطان إذا تأملتها وجدتها راجعة إلي مجرّد الدعوي والکذب، أو إلي تمثل المتخيل وتوهمه موجودة في الخارج، لاستيلاء الوهم أو لقوة النفس وضعفها، أو إلي بعض النفوس الخيّرة أو الشريرة.

وأنّهم لو خالطوا البشر لحصل بينهم بسبب طول المدة وکثرة المخالطة صداقة

أو عداوة موجبة لبعض الآثار من المسار والمضار، وليس فليس.

وأنّ الطريق إلي إثباتها إما الدليل العقلي والمعلوم إنتفاؤه، أو الحسي

والمشاهدة فکذلک.

وأمّا من يدّعي مشاهدتهم فإمّا من الکّذابين المقترحين أو من المرورين والمجانين وغيرهم من المرضي والضعفة الذي يتخيلون أشياء لا حقيقة لها بسبب فساد أمزجتهم.

وأما إثباتها من طريق أخبار الأنّبياء فلا يتم إذ قد عرفت أنّ في إثباتها إبطال

النبوة(1)

فهذه وجوه ستة مشترکة في الضعف ، إذ الجواب عن الأول أنّها أجسام لطيفة مادية أو مثالية هورقلياوية(2)أو أرواح مجردة ، وأما وجوب تلاشيها بأدني قّوة فلا دليل عليه، وقياسها علي بعض الأجسام المخصوصة قاصر عن إثباته، وحسبک في ذلک ملاحظة کونها أجساماً نارية مختارة متمردة ، کما قال :

ص: 57


1- مفاتيح الغيب : ج 1 /76، مع اختلاف في الألفاظ .
2- هورقليا (بضم الهاء وفتح القاف ) مأخوذة من العبري ويقل اصطلاح علي العالم العلوي

(خلقتني من نار وخلقته من طين )(1)

وقال :(والجانّ خلقناه من قبل من نار السموم )(2)

ومن البيّن أنّ النار الجامدة تفعل الأفاعيل العجيبة القوية السريعة مع أنّها

ألطف من الهواء بمراتب بل ألطف من جميع العناصر.

وأما ما يتوهم من إستبعاد تعلق الحياة بالنار مع کونها مفرقة للمزاج غير قابلة لتعلقه بها فمما لا ينبغي الإصغاء إليه، بعد دلالة الآيات والأخبار، وملاحظة حصول الحياة من الحرارة الغريزية، بل ربما يقال : إن کرة النار مملوة من الروحانيات.

وعن الثاني : أنّ المعجزة تفارق السحر في سبقها بالدعوة والتحدي والطلب ، ولا يجري معه السحر لقضية اللطف، وفي کونها بلا آلات وأدوات و مرور زمان يمکن فيه تلک الأعمال بخلاف السحر، فإنه لا يمکن إلا بعد استعمال تلک الأمور ومرور الزمان إلي غير ذلک من الفروق الواضحة عند أهله.

ولذا قال شيخنا البهائي رحمة الله عليه : إنّه لو کان خروج الماء من بين أصابع النبي صلي الله عليه و اله وسلم مع قبض يده وضم أصابعه إلي کفّه کان يحتمل السحر وأما مع بسط الأصابع وتفريجها فلا يحتمل السحر، وذلک واضح عند من له درية في صناعة السحر.

ومن الثالث بالمنع من ذلک وأين يقع تکذيب هؤلاء من تصديق الأنّبياء

والأوصياء والأولياء بعد دلالة کتاب الله حسب ما سمعت.

وعن الرابع : أنّ صدور الکذب عن بعض وتمثل المتخيل عن آخر

يد

ص: 58


1- سورة الأعراف : 12، وسورة ص: 76.
2- سورة الحجر : 27 .

العرض أو مرض لا يقدح في صدق نسبة الآثار الصادرة من الروحانيين إليها.

ولعمري أنّ هؤلاء الذي قصرت أبصارهم بالنظر إلي المحسوسات وأنّکروا ما سوي المشاهدات ، قد أقدموا علي إنکار أکثر العالم، فإن المحسوس المشاهد منه وهو العناصر وما ترکب عنها أقل قليل من أجزاء العالم بل الهواء والنار من جملة العناصر أيضا ليسا بمشاهدين.

ومن الخامس : أنّ عدم التجانس، وعدم المزاحمة في الحوائج واختلافها في کثير من الأمور، واحتجاب کل منهما عن ملاقاة الآخر والإنکشاف له کلما شاء، وغير ذلک من الأمور التي اقتضتها العناية الربانية ، إقتضت سد أبواب الصداقة والعداوة بينهما إلا لبعض العوارض التي لا يقتضي المقام شرحها، نعم، من جملتها ما أوجب تسخيرها لسليمان علي نبينا وآله وعليه السلام ، وصرف نفر من الجن إلي نبينا صلي الله عليه و اله وسلم (1)، وإسلام شيطانه علي

ص: 59


1- إشارة إلي الآية (29) من سورة الأحقاف وهي : ( وإذ صرفنا إليک نفرة من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنّصتوا فلما قضي ولوا إلي قومهم منذرين) . قال الفيض في «الصافي» : سبب نزول هذه الآية أنّ رسول الله صلي علي عليه و اله ان خرج من مکة إلي سوق عکاظة ومعه زيد بن حارثة يدعو الناس إلي الإسلام فلم يجبه أحد ولم يجد أحد يقبله ، ثم رجع إلي مکة فلما بلغ موضع يقال له : وادي مجنة تهجد بالقرآن في جوف الليل فمر به نفر من الجن فلما سمعوا قراءته قال بعضهم لبعض : أنّصتوا ! - يعني أسکتوا - فلما قضي أي فرغ رسول الله صلي الله عليه و اله وسلم من القراءة ولوا إلي قومهم منذرين ... فجاءوا إلي رسول الله صلي الله عليه و اله وسلم ، وأسلموا و آمنوا وعلمهم رسول الله صلي الله عليه و اله وسلم لي شرايع الإسلام، فأنّزل الله عز وجل علي نبيه (قل أوحي إلي أنّه استمع نفر من الجن ... )فحکي الله عز وجل قولهم، وولي عليهم رسول الله صلي الله عليه و اله وسلم منهم وکانوا يعودون إلي رسول الله صلي علي عليه و اله في کل وقت فأمر رسول الله صلي الله عليه و اله وسلم يا أمير المؤمنين عليه السلام أنّ يعلمهم ويفقههم ، فمنهم مؤمنون وکافرون وناصبون و يهود و نصاري و مجوس . ورواه أيضا في نور الثقلين : ج 5 /18، ح30 وص20، ص 32.

يديه، (1)وإيمان هام بن هيم (2)، وإيمان کثير من الجن علي يد أمير المؤمنين عليه السلام (3) ومکالمة الشيطان مع يحيي (4)وعيسي (5) ونوح(6) وغيرهم (7)من الأنّبياء والأولياء علي محمد و آله وعل ، بل مکاشفة کثير من الروحانية السفلية لبعض المؤمنين عليه السلام ، ولأرباب التسخير وغيرهم حسب ما شاهدوها في رياضاتهم الشرعية وغيرها، علي وجه لا ريب فيه ولا شک يعترية.

ومما يظهر الجواب عن السادس أيضاً ، نعم ربما يظهر من بعض (8)أتباع

ص: 60


1- روي مسلم عن ابن مسعود أنّ النبي قال : ما منکم من أحد إلا وکل له قرينه من الجن ، قالوا: وإياک يا رسول الله ؟ قال : وإياي إلا أنّ الله أعانني عليه فأسلم، فلا يامرني إلا بخير .. صحيح مسلم : ج 2162/4، ح 69.
2- هام بن هيم : قصة لقائه الرسول مروية في البحار: ج 83/63 ، ح 39، ورواه ابن حجر في «لسان الميزان»: ج 356/1، عن عمر ، قال : بينا نحن قعود مع النبي علي جبل من جبال تهامة إذ أقبل شيخ وفي يده عصا فسلم علي النبي اي فرد وقال : أنّت من ؟ قال : أنّا هامة بن الهيم بن لاقيس بن ابليس ، قال : وليس بينک وبين ابليس إلا أبوان ؟ قال ک نعم، قال ان فکم أتي لک من الدهر ؟ قال : قد أفنيت الدنيا عمرها غلا قليلاً، ليالي قتل قابيل هابيل کنت أنّا غلام ابن أعوام ، أفهم الکلام وأمر بالآکام، وآمر بإفساد الطعام وقطيعة الأرحام ، فقال رسول الله صلي الله عليه و اله وسلم : بئس عمل الشيخ المتوسم أو الشاب المتلوم ، قال : ذرني من التعذار فإني تائب إلي الله إني کنت مع نوح في مسجده مع من آمن به من قومه فلم أزل أعاتبه علي قومه حتي بکي عليهم وأبکاني ... إلي أنّ قال : فعلمه رسول الله صلي الله عليه و اله وسلم سورة المرسلات ، وعم يتساءلون ، وإذا الشمس کورت ، والمعوذتين وقل هو الله أحد .. الخ.
3- أنّظر البحار: ج 86/18 ، ح 4، وج 168/39 ، ح 9، و ج90/63 ، ح 45 عن عيون المعجزات للشيخ حسين بن عبدالوهاب المعاصر للسيد المرتضي ص 43- 46.
4- أنّظر البحار : ج223/63 ، ح 70 عن مجالس ابن الشيخ : ج348/1، ح 3.
5- ابحار: ج 13 / 239، ح 83 عن مجالس الصدوق ص 171 ح 1.
6- البحار: ج 250/63 ، ح 111 و 112 و 113.
7- أنّظر مکالمة الشيطان مع موسي بن عمران في البحار: ج 63/ 251.
8- المراد به هو الفخر الرازي المتوفي (606) ه في «مفاتيح الغيب» : ج 1 في المقدمةالسادسة من المسألة العاشرة .

الفلاسفة نفي الوسوسة المنسوبة إليه، نظراً إلي ما ثبت لديهم من أنّ المصدر القريب للأفاعيل الحيوانية هو هذه القوي المحرکة المرکوزة في العضلات، بعد انضمام الميل والإرادة التي هي من لوازم حصول العلم بکون ذلک الشيء لذيذاًأو مکروهاً ، وأنّ ذلک الشعور لابد أنّ يکون بخلق الله إبتداءاًأکما عن بعضهم، أو بواسطة مراتب کما عن آخرين، وحينئذ فالکلام في کل من تلک المراتب في أستلزام ما بعده علي الوجه الذي قرر، فترتب کل من هذه المراتب علي ما قبله حتم لازم لزوماً ذاتياً واجباً، ألا تري أنّه ربما يقع صورة الشيء في النفس ابتداءاً من غير إرادة واختيار وصنع، ولا بواسطة الإنتقال من المحسوس إليه، فإذا حصلت وعرف کونه مطلوباً ملائماً مال إليه ، وتحرکت القوي المحرّکة القريبة إلي الطلب فيحصل الفعل بعد هذه المراتب لا محالة، سواء حصل الشيطان أم لم يحصل، فلا يبقي فعل يستند إليه، بل هذه المراتب إن اتفق حصولهما في الطرف النافع فالهام، أو الضار فوسوسة، وهو مجرد التسمية، ومبدء الفعل ما عرفت (1)

وربما يجاب عنه بأنّه حقّ وصدق ولکن قد يکون الإنسان غافلا فيذکره الشيطان ، فيترتب عليه الميل ثم الفعل، فليس من الشيطان إلا ذلک التذکير، وهو المراد بقوله:

(وما کان لي عليکم من سلطان إلا أنّ دعوتکم فاستجبتم لي) (2)

- (3)

أقول: وکأنّ هذا القائل قد غفل أنّ تغافل عن المطاردة الواقعة بين الملائکة والشياطين، فإنّ الإنسان وإن کان فاعلا مختارا في جميع شؤونه، إلا أنّه إذا بدا له أمر من الخيرات أو الشرور، وکان متمکنا من اختيار کل منهما علي الآخر بقصده وإرادته يقع التجاذب والمطاردة بين حزب الله وهُم الملائکة الموکّلون علي يمين

ص: 61


1- مفاتيح الغيب : ج86/1.
2- مفاتيح الغيب : ج 87/1 .
3- سورة ابراهيم : 22.

القلب وهم جنود العقل وبين الشياطين وهم الموکّلون علي يسار القلب وهم جنود الجهل.

وجملة الکلام في المقام مع الإشارة إلي أسباب الوسوسة والإلهام أنّ الإنسان مجبول في بدو خلقته وأصل طبيعته علي حب الکمال، واقتناء الخيرات وإجتناب الشرور، وهو صبغة الله التي لا أحسن منها وفطرة الله التي فطر الناس عليها، وهو المراد بالنبوي:

کل مولود يولد علي فطرة الإسلام وأبواه يهوّدانه وينصّرانه ويمجّسانه(1) -

ثم إن الإنسان لما کان مخلوقاً من العوالم السبعة التي هي الفؤاد، والعقل، والنفس، والطبيعة، والمزاج، والمثال، والأجسام المادية، وکان فيه قبضة من کل هذه العوالم فإنه أنّموذج ما في العالم الکبير، وإليه الإشارة يقول أمير المؤمنين عليه السلام :

أتزعم(2) أنّک جرم صغير وفيک انطوي العالم الأکبر

فله من کل هذه العوالم شوب وأثر وحکم، ومن جملتها عالم النفس التي من جملة قواها الوهم والخيال ، ولما کان الإنسان في هذا العالم بعد کونه مخلوقاً في أحسن تقويم، مردودة إلي أسفل السافلين، وهو هذا العالم الجسماني الظلماني الهيولاني العنصري، ومن هذا العالم يأخذ في الصعود والتدرج إلي أعلي عليين

ص: 62


1- البحار: ج281/3 ، ح 22 عن عوالي اللئالي : ج 1 / 35، ح 18 . ورواه السيّد المرتضي في «أماليه» في الجزء الرابع مرسلا عن أبي هريرة عن النبي صلي الله عليه و اله وسلم. ورواه أبو يعلي في «مسنده» والطبراني في «الکبير» والبيهقي في «السنن» عن الأسود بن سريع واللفظ هکذا: «کل مولود يولد علي الفطرة حتي يعرب عنه لسانه فأبواه يهودانه ..... الخ». . قاله السيوطي في «الجامع الصغير : ج 2/ 94، ورواه البخاري في «الصحيح»: ج 2/ 125، وابن حنبل في «المسند»: ج 2/ 233 و 275 و 282 و 393 و 410و 481 وج 353/3 .
2- في نسخة من الديوان : أتحسب أنّک ..... الخ

وفيه يتأهل لمجاورة أولياء الله المقربين.

فأول ما يفاض عليه في النشأة الرحمة الصغروية والکبروية هي النامية النباتية ، ثم يفاض عليه القّوة البهيمية، فيعرف الأکل والشرب ويلتّذ بهما ويشتاق إليهما، ثم يفاض عليه القوة السبعياً والشهوية الفرجية، فلا يزال مشغوفاً مشتغلاً؟ بتحصيل أسبابها، وقضاء وطره منها، مستعملاً لجميع القوي والحوّاس الظاهرة والباطنة في التنعم بها وتمهيد ما يؤدي إليها، والاحتيال بدفع من يزاحمه فيها من بني نوعه أو غيره، فتصير جنود الجهل والشيطان مستولية علي مملکة البدن، مستعملة لجميع قواها وأدواتها في حظوظها العاجلة ومقاصدها الدائرة الفانية، ثم يدخل عند البلوغ أو قبله سلطان العقل مملکة البدن، علي حين غفلة من أهلها، ويسعي في إصلاحها وتسخير أهلها ويؤيده الله تعالي بألوف من الملائکة مردفين ومسومين ، ويستمد الجهل من الشيطان بألوف من الشياطين فلا يزال يزيّن له العقل طريق الخير والهدي والجهلُ سبيلَ الغي والردي، و تذکرة العقل باليقين الشهودي ، إذ

قد عرفت أنّ الله تعالي خلق الإنسان علي هيکل التوحيد ، فإنه يحب الخير ويبغض الشر مع قطع النظر عن الدواعي الشهوانية والأغراض النفسانية التي هي في الحقيقة أمراض کسبية وأسقام إعتمالية، ويذکره أيضا بالمواعيد الحقة الإلهية، والتخويفات السماوية، وبما هو محسوس مشاهد لکافة الأنّام من فناء اللذات وبقاء الآثام، ولا يزال يؤيَّد بملائکة الله الصافين والحافين عن يمين قلبه بإذن ربه.

وأما الشيطان فلمجانسة النفس الأمارة بالسوء وللجهل وجنوده وأحزابه قد تقرب إليه وأستشرف عليه من کوة الجهل وأيد بجنوده جنود الجهل، فإن له سبعين جنداً، کما أنّ للعقل أيضاً سبعين جندة، فلا يزال يقرب له الهوي، ويزيّن له حب الدنيا، ويأمره بالحوبة، ويسوّف له التوبة، ويرجّح عنده الشهوات العاجلة الفانية علي السعادات الآجلة الباقية کما قال الله سبحانه :( زيّن للناس حب الشهوات من

ص: 63

النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسوّمة والأنّعام والحرث ذلک متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب )(1)

والمزيّن لها هو الشيطان.

وأما قوله :

(إنا جعلنا ما علي الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملاً) (2)

فلا ينافيه إذ جعله زينة للأرض الفانية الظلمانية لا يستلزم جعله زينة للناس، سلّمنا لکن لا محذور في نسبة التزيين إليه أيضاً ، ولو لکونه خالقا لما يترتب علي وجوده إبتلاء العباد واختبارهم، ولذا علّله بقوله : (لنبلوهم ).

وبالجملة فلا يزال التطارد والتدافع بين الحزبين والجنود المتقابلة من الطرفين، کما في «الکافي» عن الصادق عليه السلام قال : «ما من قلب إلا وله أذنان، علي إحديهما ملک مرشد وعلي الأخري شيطان مفتن، هذا يأمره، وهذا يزجره، الشيطان يأمره بالمعاصي والملک يزجره عنها، وذلک قوله الله : (عن اليمين وعن الشمال قعيد ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد)(3)-(4)

قال رسول الله صلي الله عليه و اله وسلم: ما من مؤمن إلا ولقلبه في صدره أذنان : أذن ينفث فيها الملک، وأذن ينفث فيها الوسواس الخناس ، فيؤيد الله المؤمن بالملک ، وهو قول الله : (وأيده بجنود لم تروها )(5)(وأيدهم بروح منه )(6)- (7)

ص: 64


1- آل عمران : 14.
2- الکهف : 7.
3- سورة ق : 17 - 18.
4- أصول الکافي : ج 226/2، ح 1، والبحار: ج 205/63 ، ح 34 وج274/68، ح 30.
5- سورة التوبة : 40.
6- سورة المجادلة : 22
7- البحار: ج 194/63عن تفسير العياشي .

ويعد هذا فأفراد الإنسان من حيث إطاعتهم للرحمن أو الشيطان علي ثلاثة

أصناف:

الصنف الأول : «من سبقت لهم من الله الحسني»(1)وتکشف لديهم عن معايبها الدنيا ، فميزوا اليسري عن اليمن، وهم المتقون «اللذين إذا مسهم طائف من الشيطان تذکروا فإذا هم مبصرون»(2)، فإن التقوي لباس قد أنّزله الله تعالي سترة للسوءة الإمکانية والعورة الهيولانية، کما قال سبحانه :

(يا بني آدم قد أنّزلنا عليکم لباسا يواري سوآتکم وريشاً و لباس التقوي

ذلک خير) (3)

وهؤلاء المتقون باقون علي فطرتهم الأصلية، وصورتهم الإنسانية، فلا يصدر منهم فعلاً قولاً وحالاً وخيالاً وفطرة إلا الخير المحض، فکل إناء بالّذي فيه ينضح:

(والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه)(4).

(الطيبات للطيبين ) (5)

وفي الإنجيل : إن اللسان يتکلم بزوائد القلب فيستولي البياض والنور علي وجه قلبه وينمحي السواد والظلمة بالکلية، ويصير قلب الإنسان مستوي الرحمن وهذا قوله :

(الرحمن علي العرش استوي) (6)

ص: 65


1- إقتباس من آية (101) في سورة الأنّبياء .
2- إقتباس من آية (201) في سورة الأعراف
3- الأعراف : 26.
4- سورة الأعراف : 58.
5- النور: 26.
6- طه : 5.

فإنه في الإنسان الذي هو العالم الصغير مثال للعرش العظيم في العالم الکبير ،

ولذا ورد في الحديث القدسي:

«لن تسعني أرضي ولا سمائي ولکن يسعني قلب عبدي الموُمن»(1)

ولا تحوم الشياطين حول هذه القلوب النورانية الإلهية ( إلا من استرق السمع فأتبعه شهاب مبين) (2) وهذه الشهب شهب نورانية مطفئة للنار، فإن النار لا تنطفي بالنار بل بالنور، ولذا تقول جهئم للمؤمن حين يمر عليها : جز عني سريعاً فإن نورک أطفأ ناري (3)

الصنف الثاني : (نسوا الله فأنّساهم أنّفسهم )(4) وهم الذين اختاروا دواعي الشر علي دواعي الخير، ونصروا جنود الشيطان حتي فارقتهم ملائکة الرحمن، ولم يزالوا کذلک حتي فارقهم نور الإيمان بالکلية، وأستولت الظلمة والقسوة والجفوة والسواد علي قلوبهم حتي إنمحي النور والبياض بالکلية، وانسدّت مشاعر عقولهم

فهم ( في طغيانهم يعمهون) (5)(صم بکم عمي فهم لا يرجعون )(6) ولا يسمعون ولا يفقهون ولا يعقلون، (کلا بل ران علي قلوبهم ما کانوا يکسبون)(7) (کلا

ص: 66


1- البحار : ج 39/58، وفيه : في الحديث القدسي: «لم يسعني سمائي ولا أرضي ووسعني قلب عبدي المؤمن» .
2- سورة الحجر : 18.
3- البحار: ج 8/ 249وفيه : عن النبي صلي الله عليه و اله وسلم ؟ قال : «يقل النار للمؤمنين يوم القيامة : جز يا مؤمن فقد أطفأ نورک لهبي». في ج 258/92 ، ح 52 عن النبي صلي الله عليه و اله وسلم الان : «إذا مر المؤمن علي الصراط طفئت نهب النيران ويقول : جز يا مؤمن فإن نورک قد أطفأ نهبي»
4- سورة الحشر : 19.
5- البقرة : 15. الأنّعام : 110. الأعراف : 189 . يونس: 11. المؤمنون : 75.
6- سورة البقرة : 18.
7- المطففين : 14.

إنهم يومئذ عن ربهم لمحجوبون) (1)، فتغيرت خلقتهم وتبدلّت طبيعتهم ومُسخت حقيقتهم، فهم بين بهيمية وسبعية وشيطانية، فهو متجاذب بين خنزير وکلب وشيطان، فيأمره الأول بأفعال البهائم من عبودية البطن والفرج والحرص علي الأکل والجماع، والثاني بأفعال السباع من الغضب والبغضاء والتوثب علي الناس بأنّواع الأذي ، والثالث : باستنباط الحيلة والمکر والخديعة والتوصل إلي الأغراض الشهوانية والعصبية والشيطنة بأنّواع الحيل والخدع وإنما المطيع لهذه الثلاثة المتبع الشهواتها کالواقف بين أيديها في خدمتها، يأمره الکلب مرة ، والخنزير أخري، وهو مشتر عن ساق الجد للخدمة والإطاعة وامتثال الأمر والنهي، لا يبغي عن خدمتها حولاً ولعمري إنه بئس للظالمين بدلا.

الصنف الثالث : أرباب النفوس اللوامة، وهم الذين يقدمون علي الطاعة مرة وعلي المعصية أخري (مذبذبين بين ذلک ... )(2)و غير مستقرّين علي شيء مما هنالک، وهؤلاء فطرتهم الأصلية بعد باقية، ولذا يلومون أنّفسهم باقتراف السيئات ويستبشرون باقتناص الفضائل والطاعات، والمطاردة بين جنود العقل والجهل باقية دائمة في أراضي صدورهم، وکيفية هذه المطاردة في معرکة القلب المعنوي للإنسان علي ما ذکره بعض أهل العلم، أنّ خاطر الهوي مثلا يبتدأ أولا فيدعوه إلي الشر، فيلحقه خاطر الإيمان فيدعوه إلي الخير، فتنبعث النفس بشهواتها إلي نصرة خاطر الشر فيقوي الشهوة، ويحسّن التمتع والتنعم، فيبعث العقل إلي خاطر العقل ، ويدفع في وجه الشهوة ويقبح فعلها وينسبها إلي الجهل، ويشبّهها بالبهيمية والسبع في تهجمها علي الشر وقلة إکترائها بالعواقب، ويميل النفس إلي نصح

إيم

ص: 67


1- المطففين:15.
2- النساء: 143.

العقل ، فيحمل الشيطان حملة علي العقل ويقوّي داعي الهوي، فيقول : ماهذا الزهد البارد؟ ولم تمنع عن هواک فتؤذي نفسک، وهل تري أحدا من أهل عصرک يخالف هواه أو ترک عزيمته أفتترک ملاذ الدنيا لهم يستمتعون منها وتحجر علي نفسک حتي تبقي محروما مطعونا يضحک عليک أهل الزمان ، تريد أنّ يزيد منصبک علي فلان وفلان وقد فعلوا مثل ما اشتهيت ولم يمتنعوا، ما نري العالم الفلاني ليس يحترز عن مثل ذلک الفعل، ولو کان شرا لا متنع منه ، مع (أنّ الله تواب حکيم) (1) و غفور رحيم )(2) قد فتح لعباده باب التوبة والإنابة ، ووعد علي نفسه الرحمة والعفو والمغفرة، وورد : إن الله يحب المفتن التواب ، فارتکب هذه المعصية، ثم تب إلي الله في يومک أو في آخر يوم من أيام عمرک ليجتمع لک التلذذ باللذات العاجلة الدنيوية والتنعم بالنعم الباقية الأخروية، فحينئذ تميل النفس إلي الشيطان وتقلب إليه، فيحمل الملک حملة علي الشيطان، ويقول: هل هلک إلا من اتبع لذة الحال ونسي العاقبة، أفتقنع بلذة يسيرة وتترک الجنة ونعيمها أبد الآباد، أو تستثقل ألم الصبر عن شهوة ولا تستثقل ألم النار، أنّغتر بغفلة الناس عن أنّفسهم وأتباعهم هواهم ومساعدتهم للشيطان مع أنّ عذاب النار لا يخفف بمعصية غيرک، أتسّوف التوبة ، وتقع في الحوبة ولعل الأجل يدرکک في حال المعصية، أو في النوم، أو في شيء من آناء الليل والنهار، وأنّت غافل عن التوبة مشتغل القلب بالوحشة والدهشة، ألم تسمع الله تعالي يقول:

(وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتي إذا حضر أحدهم الموت قال

إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم کفار أولئک أعتدنا لهم عذاباً أليماً) (3).

ص: 68


1- النور : 10.
2- البقرة : 173، 182، 193، 199، 218، 225.
3- سورة النساء :18.

ألم تر أنّ فرعون لما أدرکه الغرق قال : (آمنت أنّه لا إله إلا الذي آمنت به

بنو اسرائيل وأنّا من المسلمين) (1)

فضرب جبرئيل علي فمه بالوحل وقيل له: (والآن وقد عصيت قبل وکنت من المفسدين) (2) ألم تسمع الله يقول: (فلم يک ينفعهم إيمانهم لمّا رأوا

بأسنا )(3)

أتدفع السيئة العاجلة بالتوبة الآجلة؟ ألم تر أنّ کثيراً ممن تقحم الشهوات واجترح السيئات قد تبدلت فطرتهم وتغيرت خلقتهم، کما أشير إليه بقوله :

( فليغيرنّ خلق الله)(4) فلم يلتفتوا بعد ذلک إلي التوبة، ولم يخطر ببالهم قبح الخطيئة ، فلما صرف الله قلوبهم وعميت أبصارهم فلم يبصروا عيوبهم، فهل کان ذلک التغير إلا من ملازمة الشهوات، وهل تأمن أنّ تکون مثلهم بعد تکرر الفعل الموجب لحصول الملکة، وعند ذلک يميل القلب إلي قول الملک ، فلا يزال يردّد بين الجندين متجاذباً إلي أنّ يغلب علي القلب ما هو أولي به ، فإن کانت الصفات التي في القلب الغالب عليها الصفات الشيطانية غلب الشيطان، ومال القلب إلي حزب من أحزابه معرضاً عن حزب الله وأولياءه ، فيکله الله تعالي إلي نفسه في حال المعصية ، ويفارقه روح الإيمان، کما ورد «ولا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن»(5)

أو مطلقاً. نعوذ بالله من ذلک، فيعود إلي الصنف الثاني ويفارقه العقل الذي به

ص: 69


1- سورة يونس : 90.
2- سورة يونس :91.
3- سورة غافر: 85.
4- النساء: 119.
5- عوالي الليالي : ج 40/1، ح42و ص 167، ح 184 ورواه النوري في «مستدرک الوسائل» کتاب الحدود والتعزيرات ، الباب (1)من أبواب حد السرقة.

يطاع الرحمن ويکتسب الجنان (أولئک الذين طبع الله علي قلوبهم وسمعهم وأبصارهم وأولئک هم الغافلون لا جرم أنّهم في الآخرة هم الخاسرون)(1)

وإن کان الغالب علي القلب الصفات الملکية لم يثق القلب إلي إغواء الشيطان وتحريصه إياه علي العاجلة وتهوينه أمر الآجلة، بل يميل إلي حزب الله وتظهر الطاعة علي جوارحه بموجب ما سبق من القضاء، و«قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن» (2). أي متجاذب بين هذين الحزبين أو يقلبه الله حسب إرادته کما يشاء، فهو کالميت بين يدي الغسال.

ثم إن بعض القلوب عاکف في مقام الترديد بالنسبة إلي جميع الشهوات وبعضها بالقياس إلي بعض الشهوات دون بعض، کالذي يتورع عن بعض الأشياء ولکن إذا تمکن من مال حرام لا يملک نفسه فيه ، أو فيما فيه الکبر والرئاسة والجاه إلي غير ذلک، فإن للجهل جنودأ بعدة جنود العقل وهي سبعون علي ما رواه في أول الکافي عن سماعة بن مهران قال : کنت عند أبي عبدالله عليه السلام ؟ وعنده جماعة من مواليه فجري ذکر العقل والجهل، فقال أبو عبدالله عليهالسلام : «إعرفوا العقل وجنده والجهل وجنده تهتدوا»، قال سماعة : فقلت: جعلت فداک ! لا نعرف إلا ما عرفتنا، فقال أبو عبدالله عليه السلام : إن الله جل ثناؤه خلق العقل وهو أول خلق خلقه من الروحانيين عن

ص: 70


1- سورة النحل : 108 - 109.
2- عوالي اللغالي ک ج 1 / 48، ح 69، وسنن الترمذي کتاب الدعوات في الباب (90) ح 3522 ولفظه : قال صلي الله عليه و آله و سلم : « يا أم سلمة إنه ليس آدمي إلا وقلبه بين أصبعين من أصابع الله». . اختلفوا فيما هو المراد من الحديث ، قال بعض : هو مثل قوله تعالي : والسماوات مطويات بيمينه ه فکما لا يصح أنّ يقال : اليمين في الأية بمعني الجارحة ، کذلک لا يصح أنّ يقال : الأصبع في الحديث مثل أصابعنا ، بل نؤمن بذلک کله ، ولا نحمله علي الحقائق المعلومة عندنا بل يجب حمله علي معان أخري.

يمين العرش من نوره فقال : أقبل! فأقبل، ثم قال له : أدبر ! فأدبر، فقال الله تبارک وتعالي : خلقتک خلقاً عظيماً وکرمتک علي جميع خلقي ، قال : ثم خلق الجهل من البحر الأجاج الظلماني، فقال له: أدبر ! فأدبر، ثم قال له : أقبل ! قلم يقبل، ثم قال له : إستکبرت فلعنه، ثم جعل للعقل خمسة وسبعين جنداً، فلما رآي الجهل ما أکرم الله به العقل وما أعطاء أضمر له العداوة ، فقال الجهل : يا رب! هذا خلق مثلي خلقته وکرمته وقوّيته وأنّا ضده ولا قوة لي به، فأعطني من الجند ما أعطيته ، فقال : نعم، فإن عصيتني بعد ذلک أخرجتک وجندک من رحمتي ، قال : قد رضيت، فاُعطاه

خمسة وسبعين جنداً (1)

أقول : وهذا الخبر لا شتماله علي علوم عزيزة المنال بعيدة عن عقول الرجال لا يناسب شرحه في هذا المقال ، وإنما المراد الإشارة إلي کثرة جنود الجهل وأنّ عالمي الروحانيين متطابقان متساوقان وأنّ بإزاء کل حق باطلاً وفي الخروج عن کل إستقامة إنحرافاً بل إنحرافات غير متناهية، ولذا قال هرمس (2) الهرامسة في دعائه: «اللهم أنّقذِني من بدن الطبيعة إليک علي خط مستقيم ، فإن المعوج لا نهاية له». .

بناءاً علي أحد الوجهين في مفادة ، وإلي الإشارة بقوله تعالي : (وأنّ هذا

صراطي مستقيماً فاتّبعوه ولا تتبعوا السُبُلَ فتفرَق بکم عن سبيله )(3)

فانظر کيف جمع السبل ووحد الصراط و السبيل ولذا خطّ النبيّ صلي الله عليه و اله وسلم

عند

ص: 71


1- الکافي : ج 1 /20، ح 14.
2- المراد به إدريس النبي علي نبينا وآله وعليه السلام ، قيل له بالبونانية : أرميس وعرب بهر مس
3- سورة الأنّعام : 153.

نزوله خطاً مستقيماً علي الأرض وخطوطاً عن أطرافه(1)

وبالجملة جنود الشيطان متکثرة منتشرة في العالم متشمرة لإضلال بني آدم،

فإن الله تعالي جعل له بإزاء کل شيء شيئاً .

ففي النبوي:

«إنّ إبليس قال لربه: يا رب ! قد أهبط آدم وقد علمت أنّه سيکون کتب ورسل، فما کتبهم ورسلهم ، قال : رسلهم الملائکة والنبيون وکتبهم التوراة والإنجيل والزبور والفرقان، قال : فما کتابي ؟ قال : کتابک الوشم، وقرائتک الشعر، ورسلک الکهنة، وطعامک ما لم يذکر اسم الله عليه ، وشرابک کل مسکر، وصدقک الکذب، وبيتک الحمام، ومصائدک النساء، مؤذنک المزمار، ومسجدک الأسواق (2)

فکل ما يصدک عن سبيل الخير أو يأمرک ويقرب لک ويوقعک في نهج الضر والضير، فهو من أعوان الشيطان وجنوده وأحزابه وهو المشار إليه بقوله : ( واستفزز من استطعت منهم بصوتک وأجلب عليهم بخيلک ورجلک وشارکهم في الأموال والأولاد و عدهم وما يعدهم الشيطان إلا غروراً) (3)

وقوله: (وکذلک جعلنا لکل نبي عدواً شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم

إلي بعض زخرف القول غروراً)(4)

وفي «الکافي» عن الباقر عليه السلام : «إن هذا الغضب جمرة من الشيطان توقد في قلب ابن آدم، وإن أحدکم إذا غضب احمرت عيناه وانتفخت أوداجه، ودخل

ص: 72


1- أخرج الحاکم في المستدرک» : ج 318/2 : عن النبي صلي الله عليه و اله وسلم أنّه خط خطا ثم خط عن يمينه وعن شماله خطوطا، ثم قال : هذا سبيل الله ، وهذه السبل علي کل سبيل منها شيطان يدعو إليه وأنّ هذا صراط مستقيما ... الخ.
2- البحار : ج 281/63، ح 173.
3- سورة الإسراء : 64.
4- سورة الأنّعام : 12.

الشيطان فيه ، فإذا خاف أحدکم من نفسه فليلزم الأرض فإن رجز الشيطان ليذهب عنه عن ذلک»(1)

وفي «المتهجد» في العودة التي کتبها أبو الحسن الثاني لابنه عليه السلام الان :

«أمتنع من شياطين الإنس والجن، ومن رجلهم وخيلهم ورکضهم وعطفهم، ورجعتهم، وکيدهم، وشرهم ومن شر الدناهش (2) والحس واللمس واللبسومن عين الجن والإنس، ومن شر کل صورة وخيال، أو بياض أو سواد أو مثال، أو معاه أو غير معاهد، ممن يسکن الهواء والسحاب والظلمات والنور، والظل والحرور، والبر والبحور، والسهل والوعور، والخراب والعمران ، والآکام والآجام، والمغائض (3) والکنايس والنواويس (4) والفلوات والجبانات.. الدعاء (5)

عن الصادق عليه السلام : «إن لإبليس عونة يقال له «تمريح» إذا جاء الليل ملأ ما بين

الخافقين» (6)

وروي أنّ الله تعالي قال لإبليس: «لا أخلق لآدم ذرية إلا ذرأت لک مثلها

فليس أحد من ولد آدم إلا وله شيطان قد قرن به»(7)

وفي تفسير الإمام لال عن النبي صلي الله عليه و اله وسلم:

ص: 73


1- الکافي : ج 304/2 ، وعنه البحار : 265/63، ح 149.
2- المعايض جمع المغيضية وهي الأجمة أي منبت الشجر والقصب .
3- الموجود في المصدر : (اللمس) فقط ، وجعل اللبس في هامش الکتاب بدلا منه
4- النواويس : مقابر النصاري .
5- مصباح المتهجد: 340، وعنه البحار : ج 266/63، ح 151.
6- روضة الکافي : 234 وعنه البحار: ج 263/63 ، ح 145.
7- البحار: ج 306/63.

«تعوذوا بالله من الشيطان الرجيم ، فإن من تعوذ بالله أعاده الله، وتعوذوا من

همزاته ونفخاته ونفثاته ، أتدرون ما هي؟

أما همزاته : فما يلقيه في قلوبکم من بغضنا أهل البيت ، قالوا: يا رسول الله ! وکيف نبغضکم بعد ما عرفنا محلکم من الله ومترلتکم، قال : بأنّ تبغضوا أوليائنا وتحبوا أعدائنا (1)

وأما نفخاته : فهي ما ينفخون به عند الغضب في الإنسان الذي يحملونه علي

هلاکه في دينه ودنياه ، وقد ينفخون في غير حال الغضب بما يهلکون به.

أتدرون ما أشد ما ينفخون به ؟ هو ما ينفخون بأنّ يوهموه أنّ أحداً من هذه

الأمة فاضل علينا، أو عدل لنا أهل البيت (2)

وأما نفثاته : فإن يري أحدکم أنّ شيئاً بعد القرآن أشفي له من ذکرنا أهل البيت ومن الصلاة علينا، وأنّ الله عزّ وجل جعل ذکرنا أهل البيت شفاء للصدور، وجعل الصلوات علينا ماحية للأوزار والذنوب، ومطهرة من العيوب ومضاعفة للحسنات »(3)

تبصرة عرفانية

قد تبين لک من تضاعيف ما تلونا عليک وألقينا إليک أنّ الشيطان شيطان لفعله وصورته وإغوائه وصده عن سبيل الله ، فکل ما يصرفک عن المنهج القويم ويصدک

ص: 74


1- تفسير الإمام عليه السلام: ص 584، ح 347، وعنه البحار: ج 6/27، ح 20.
2- في المصدر : أو عدل لنا أهل البيت ، کلا - والله - بل جعل الله تعالي محمد اً صلي الله عليه و اله وسلم، ثم آل , محمد عليهم السلام فوق جميع هذه الأمة ، کما جعل الله تعالي السماء فوق الأرض ، وکما زاد نور الشمس والقمر علي السهي.
3- تفسير الإمام عليه السلام : ص585، ح 348.

عن الصراط المستقيم فإنما هو شيطانک، وإن کان في أصله وحقيقته رحمة لک ونعمة عليک.

ألا تري أنّ کلاً من أدواتک وجوارحک ومشاعرک الظاهرة والباطنة إذا کانت سليمة فهي نعمة ليس لها قيمة، وأنّت تقتدر بقدرتک وإرادتک بعد الاستمداد من فضل الله ورحمته أنّ تکتسب بها الجنان وتطفيء بها النيران، وأنّ تصل بها إلي مجاورة أولياء الرحمن، فلا تنبت حينئذ في أرض نفسک الطيبة إلا الخطرات الإيمانية واللمعات النورانية والنفخات الربانية، فيترشح علي الأعضاء والجوارح من طفاحة (1)الأنّوار القلبية والفيوض الرحمانية.

وإليه الإشارة بقوله في الدعاء الذي يقرء ليلة الجمعة: «اللهم اجعل لي نوراً في قلبي ، ونوراً في قبري، ونوراًبين يدي ، ونوراً تحتي، ونوراً فوقي ، ونوراً في سمعي ، ونوراً في بصري، ونوراً في شعري ، ونوراً في بشري، ونوراً في لحمي ونوراً في دمي ، ونوراً في عظامي»(2)

وأما إذا أمّرتَ علي مملکة البدن النفسَ الأمارة التي هي سفير الشيطان ووزيره فيبتدء بتسخير الآلات والأدوات والأعضاء والمشاعر ثم يسعي في هدم الأرض الأقدس والبيت المقدس وهو بيت الإيمان والعرش الذي هو مستوي الرحمن، وإليه الإشارة بقوله:

(وإذا أردنا أنّ نهلک قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول

فدمرناها تدميراً)(3). والأمر أمر تکويني .

ص: 75


1- الطفاحة - بضم الطاء - ما طفح فوق الإناء کزبد القدر إذا غلا.
2- جمال الاسبوع : ص 133 ، ومصباح المتهجد : ص 187، وعنه البحار : ج 293/89 ، ح 5.
3- سورة الإسراء : 16.

وفي قراءة أمير المؤمنين عليه السلام (1) [أمرنا ]بالتشديد أي جعلناهم أمراء، فلما سخرت النفس قرية البدن وإستخدمت قواها واستعملت مشاعرها ووطأتها سنابک الشيطان وفارقتها ملائکة الرحمن وساسر الأعوان يبقي العقل وحيداًفريداً ضيق الصدر، مجهول القدر ، منبوذ الأمر، فينادي ربه بلسان الخشوع والاستکانة : (ربنا ؛ أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنک وليا واجعل لنا من لّدنک نصيراً) (2)

وهو قوله : (فأخرجنا من کان فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيت

من المسلمين )(3)

فلما فارقه العقل يصير القلب مقلوباً منکوساً ينسدً بابه إلي الملکوت والعليين، وينفتح منه باب إلي سجين ، فينطبع فيه صور الباطل، ولا يخطر بباله شيء من الحق، فإن القلب لادراک الحقائق والمعقولات وانطباعها فيه کالمرآة للمحسوسات، فإذا کان صافياً نقياً من کدورة الشهوات وظلمة الخطيئات حاذي بوجهه جانب الملکوت، فينطبع فيه صور الحقائق المرکوزة في الألواح السماوية والخزائن الغيبية، وأما إذا إنسدّ بابه الأعلي إلي عليين وانفتح له باب أسفل إلي سجين إنطبع فيه صور الأباطيل والانحرافات والعکوس الظلمانية والخيالات

ص: 76


1- سهي المؤلف قدس سره في نسبة هذه القراءة إلي أمير المؤمنين عليه السلام ، فإن القراءة المنسوبة إليه هي بمد الهمزة ، کما قال الطبرسي في «مجمع البيان»: ج 6 / 405، في ذيل الآية ، هذه عبارته : القراءة العامة [أمرنا] بالتخفيف غير ممدود ، وقرأ يعقوب [أمرنا] بالمد ، وهو قراءة علي بن أبي طالب عليه السلام والحسن ، وأبي العالية ، وقتادة ، وجماعة ، وقرأ [أمرنا ]بتشديد الميم ابن عثمان ، وأبو عثمان النهدي ، وأبو جعفر محمد بن علي بخلاف ، وقرأ [أمرنا] بکسر الميم الحسن ، ويحيي بن يعمر .
2- سورة النساء : 75.
3- سورة الذاريات :35-36.

الشهوانية ، فلا ينطبع في مرآة قلبه إلا المکر والخديعة وطلب الشهوات وغيرها مما هو من نسخ الظلمات، فإن القلب سريع التقلب والتحول، ولذا قيل: قد سُمّي القلب قلباً من تقلّبه فاحذر علي القلب من قلب و تحويل

وإليه الإشارة بقوله : ( و نقلّب أفئدتهم و أبصارهم کما لم يؤمنوا به أوّل مرة

ونذرهم في طغيانهم يعمهون) (1)

ومبادي هذه الأحوال إختيار الشرور والمعاصي عند الترديد ، ثم المعاشرة مع الفسّاق والظلمة وأعوان الشياطين، ثم التولّي والتودد لشياطين الإنس والجن کما قال : (إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله ) (2)

وأما قوله : ( إنا جعلنا الشياطين أولياء الذين لا يؤمنون )(3)

فالجعل تکويني بعد الأختيار إذ (لا إکراه في الدين) (4) (أفأنّت تکره الناس حتي يکونوا مؤمنين )(5)،( فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم ) (6) ، (نسوا الله فأنّساهم أنّفسهم ) (7)

فإذا استحکم عقد الولاء بينهم تترلوا في الدرکات إلي مقام الإيحاء:

(وإن الشياطين ليوحون إلي أوليائهم )(8) (وکذلک جعلنا لکل نبي عدواً

شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلي بعض زخرف القول غروراً)(9) .

ص: 77


1- سورة الأنّعام : 110.
2- سورة الأعراف: 30.
3- سورة الأعراف : 27.
4- سورة البقرة : 256.
5- سورة يونس : 99.
6- سورة الصف : 5.
7- سورة الحشر : 19.
8- سورة الأنّعام : 121.
9- سورة الأنّعام : 113.

فيدخلون في حزب الشيطان ويسلب عنهم اسم الإنسان، إذ الإنسان بقلبه لا بقالبه، والشيطان شيطان بمکره وخديعته وتمرده وعصيانه لا بصورته ، هؤلاء هم

الذين:(استحوذ عليهم الشيطان فأنّساهم ذکر الله أولئک حزب الشيطان إلا إن حزب الشيطان هم الخاسرون) (1)

المبحث الثالث: في المستعاذ به، وهو الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم لکل شيء علمأ وصنعاً وتربية ، ولذا علق الاستعاذة باسم الذات المستجمع للصفات الکمالية في الآيات الثلاثة المتقدمة، وفي قوله : (ففروا إلي الله).(2)

إذ بيده ملکوتُ السموات والأرض وهو يجير ولا يجار عليه ، فلا ملجأ ولا

منجي ولا مهرب ولا مناص ولا مفرّ عنه ومن غيره إلا إليه، لکنّ الله تعالي جعل لنفسه أبواباً وسبلاًووسائل وشفعاء، وجعلهم أحسن أسمائه ومظاهر نعوته وصفاته، وأمرنا بأنّ نأتي البيوت من أبوابها، وأنّ نتوصل إلي الغايات بأسبابها فجعل محمد و آل محمد صلي الله عليهم أجمعين أبوابه وأسبابه .

ففي الزيارة الجامعة : «من أراد الله بدأ بکم، ومن وحّده قبل عنکم، ومن

قصده توجه إليکم» (3)

وفيها: «مستجير بکم، زائر لکم، لائذ بقبورکم، مستشفع إلي الله عزّ وجل بکم، متقرب بکم إليه، ومقدمکم إمام طلبتي وحوائجي وإرادتي في کل أحوالي

وأموري»(4).

وعن الصادق عليه السلام ؟ قال : قال رسول الله صلي الله عليه و اله وسلم : يا علي ! والذي بعثني بالنبوة واصطفاني علي جميع البرية، لو أنّ عبدا عبدالله ألف عام ما قبل الله ذلک منه إلا

ص: 78


1- سورة المجادلة : 19.
2- سورة الذاريات: 50.
3- البحار: ج 131/102 ، ح ، وفيه : «و من قصده توجه بکم» .
4- البحار ج 131/102، ح 4، وهذه الجملات متقدمة علي الفقرات المذکورة من قبل

بولايتک وولاية الأئمة من ولدک ، أخبرني بذلک جبرئيل، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليکفر»(1)

وفي تفسير الإمام عليه الصلاة والسلام قال :

قال رسول الله صلي الله عليه و اله وسلم: ألا فاذکروا يا أمة محمد محمدا وآله عند نوائبکم وشدائدکم لينصر الله بهم ملائکتکم علي الشياطين الذي يقصدونکم، فإن کل واحد منکم معه ملک عن يمينه يکتب حسناته، وملک عن يساره يکتب سيئاته، ومعه شيطانان من عند إبليس يغويانه ، فإذا وسوسا في قلبه ذکر الله تعالي وقال : لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلي الله علي محمد وآله، حبس الشيطانان ثم صارا (2)إلي إبليس فشکواه وقالا: قد أعيانا أمره فأمددنا بالمردة ، فلا يزال يمدهما حتي يمدهما بألف مارد فيأتونه فکلما راموه ذکر الله وصلي علي محمد و آله الطيبين لم يجدوا إليه طريقاً ولا منفذاً ، قالوا لإبليس : ليس له غيرک تباشره بجنودک فتغلبه وتغويه، فيقصده إبليس بجنوده ألا فقاتلوه ، فيقاتلهم بإزاء کل شيطان رجيم منهم مائة ألف ملک وهم علي أفراس من نار، بأيديهم سيوف من نار ورماح من نار وقسي ونشاشيب وسکاکين من نار، فلا يزالون يخرجونهم ويقتلونهم بها ويأسرون إبليس فيضعون عليه تلک الأسلحة ، فيقول : يا رب ! وعدک وعدک قد أجلّتني إلي يوم الوقت المعلوم، فيقول الله تعالي لملائکة: وعدته ألا أميته ، ولم أعده أنّ لا أسلّط عليه السلاح والعذاب ، إشتفوا منه ضربا بأسلحتکم فإني لا أميته فيشخنونه بالجراحات، ثم يدعونه، فلا يزال سخين العين علي نفسه وأولاده المقتولين المقتلين ، ولا يندمل شيء من جراحاته إلا بسماعه أصوات المشرکين بکفرهم، فإن بقي هذا المؤمن علي طاعة الله وذکره والصلاة علي محمد

ص: 79


1- البحار : ج 27 / 63، ح 22، و ص 199، ح 66عن کنز الکراجکي ص 185.
2- في البحار : سارا

وآله، بقي إبليس علي تلک الجراحات، وإن زال العبد عن ذلک وانهمک في مخالفة الله عزّوجل ومعاصيه، إندملت جراحات إيليس، ثم قوي علي ذلک العبد حتي يلجمه فيسرج علي ظهره ويرکبه، ثم ينزل عنه، ويرکب ظهره شيطانا من شياطينه، ويقول لأصحابه : أما تذکرون ما أصابنا من شأنّ هذا من الذل وإنقاد لنا الآن حتي صار هذا، ثم قال رسول الله صلي الله عليه و اله وسلم: فإن أردتم أنّ تديموا علي إبليس سخنة عينيه وألم جراحاته، فداوموا علي طاعة الله وذکره والصلاة علي محمد و آله ، وإن زلتم عن ذلک کنتم أسراء فيرکب أقفيتکم بعض مردته» (1)

فيستفاد من الأخبار المتقدمة وغيرها أنّ التوسل والاستشفاع بهم موجب

للنجاة وأنّه لا يمکن الوصول إلي الله تعالي إلا بولايتهم ومحبتهم.

ولذا ورد في الدعاء المهدوية الرجبية علي منشئه ألف صلاة وسلام وتحية :

«أعضاد وأشهاد وحفظة ورواّد» (2)

وفي الزيارة الجامعة انهم الذادة الحماة ((3)

والذادة جمع الذايد من الذود وهو الدفع والحماة جمع الحامي وهو الحافظ، فإنهم عليهم السلام يحفظون شيعتهم ويدفعون عنهم في الدنيا والآخرة أعدائهم من الجن والإنس والشياطين وجزيهم الظالمين ، فإن من توسل بهم يجعلونه في حفظهم وعنايتهم وصيانتهم وحرزهم وکهفهم.

وفي عوذة يوم الخميس: «أعيذ نفسي بقدرة الله، وعزة الله، وعظمة الله ،

وسلطان الله ، وجلال الله ، وکمال الله ، وبجمع الله ، وبرسول الله صلي الله عليه و اله وسلم ولاة أمر الله من

ص: 80


1- التفسير المنسوب إلي الإمام العسکري عليه السلام ط الجديد : 398، ح 270، وعنه البحار :ج 271/98 - 272
2- بحار الأنّوار: ج 393/98، ح 1.
3- البحار: ج 102 / 128، ح 4.

شر ما أخاف وأحذر» (1)

والمراد بقوله : «قدرة الله» مع روافدها إنما هو إذ مقدور مع ما يتبعه، إذ لا تعدد في بحت الذات لا حقيقة ولا مفهوما ولا خارجا ولا إعتبارا ، ولذا قال أمير المؤمنين روحي له الفداء وعليه آلاف التحية والثناء

کمال التوحيد نفي الصفات عنه»(2)

فلا يحمل علي إذ لا مقدور، وذواتهم نفس الفعل، لأنّها المشية الکلّية

والقدرة الإلهية والعزة الربانية والعظمة الصمدانية، کما قالوا:

«نحن أسماء الله الحسني، وأمثاله العليا» (3)

أو أنّهم مظاهر الصفات الفعلية والشؤون الربانية ، والترديد هو إنما هو باعتبار

اختلاف مراتبهم.

وأيضا قد ورد: أنّهم الأعراف الذي لا يعرف الله إلا بسبيل ولايتهم وأنّهم

وجه الله الذي يؤتي منه.

ففي «البصائر» عن الصادق عليه السلام في قوله في( کل شيء هالک إلا وجهه )(4)

قال : «دينه وکان رسول الله صلي الله عليه و اله وسلم لي وأميرالمؤمنين عليه السلام عليه دين الله ووجهه وعينه في عباده ولسانه الذي ينطق به ونحن وجه الله الذي يؤتي منه»(5)

وفي زيارة مولانا أمير المؤمنين عليه السلام : «السلام علي إسم الله الرضي ووجهه المضيء وجنبه العلي...إلي قوله : وأشهد أنّک جنب الله ووجهه الذي يؤتي منه وأنّک سبيل الله ...»(6)

ص: 81


1- البحار: ج 215/90 ، ح 40.
2- نهج البلاغة : الخطبة الأولي .
3- بحار الأنّوار : ج 5/25، ح 7.
4- سورة القصص: 88.
5- أورده الصدوق «التوحيد»: 151، ح 7 وعنه البحار : ج 197/24، ح 23.
6- البحار : ج 306/100 .

وأيضاً قد قال الله تعالي : (ومن يعش عن ذکر الرحمن نقيّض له شيطانا فهو

له قرين وانهم ليصدّونهم عن السبيل ويحسبون أنّهم مهتدون)(1)

والذکر هو النبي کما قال : (ذکرا رسولا يتلوا عليکم آيات الله) (2)

أو الوصي، وهو المراد بالسبيل أيضاً، والترديد باعتبار الجهات والحيثيات

والمراتب وإلا فما أمرنا إلا واحدة.

عباراتنا شتّي وحسنک واحد وکلُّ الي ذاک الجمال يشير

ومن هنا يتّضح وجه ما في الأدعية المعصوميّة تعليما لنا وعبودية لله سبحانه من الإستعاذة بکلمات الله التي هي أسماؤهم الشريفة وحقايقهم الکلية الإلهية کما ورد في تفسير قوله:

(فتلقي آدم من ربه کلمات ) (3)،(وإذا ابتلي إبراهيم ربه بکلمات) (4)

(ما نفدت کلمات الله ) (5) وغير ذلک.

بل بغيرها مما هو بمعناها ، ففي «المتهجد» في الدعاء الخاص عقيب الثامنة

من صلاة الليل:

«أعوذ بنور وجهک الکريم الذي أشرقت له الظلمات وأصلحت عليه أمر

الأولين والآخرين»(6)

وفي عوذة يوم الخميس : «أعيذ نفسي بقدرة الله وعزة الله(7) إلي آخر ما مر.

ص: 82


1- سورة الزخرف :36- 37 .
2- سورة الطلاق : 10- 11.
3- سورة البقرة : 37.
4- سورة البقرة : 124.
5- سورة لقمان : 27.
6- مصباح المتهجد، في نافلة الليل : ص 148، رقم الدعاء : 238 / 34.
7- مصباح المتهجد: ص 490، رقم الدعاء : 577 / 32.

ومثله ما في عقيب الفجر،(1) والکل إشارة إلي وجهه الباقي بعد فناء کل شيء ، کما في الأخبار المفسرة للآية وهو وجهه الذي ملأ نوره کل شيء وهو حيث لا يدرکه شيء(2)، کما في عوذة ليلة الجمعة في المتهجد(3) فالتوجه إليهم توجه إلي الله والاستعاذة بهم إستعاذة بالله، لأنّ الله تعالي جعلهم أبوابه وصراطه ونوره وسبيله، فهم السبيل الأعظم والصراط الأقوم وشهداء دار الفناء، وشفعاء دار البقاء والرحمة الموصولة ، من أراد الله بدأ بهم، ومن قصده توجه إليهم صلوات الله عليهم وعلي أنّوارهم وعلي أرواحهم وعلي أجسادهم وعلي أجسامهم وعلي ظاهرهم وعلي باطنهم وعلي أولهم وعلي آخرهم ورحمة الله وبرکاته .

[المبحث الرابع : في الکشف عن حقيقة الاستعاذة وکيفيتها]

إعلم أنّ لا يمکن أنّ يتحقق العبد في مقام الاستعاذة والالتجاء والإنقطاع إلا

بعد العلم بأمور ثلاثة:

أحدها : أنّ له عدوّاً قوياً قاصدأ له مترصّدأ لإيصال الضرر إليه في نفسه

ودينه وعياله وماله بحيث يعجز العبد عن مقاومته ّ ضرره عن نفسه.

ثانيا: أنّ الملجأ الذي يهرب إليه ويتّوسل به قويّ قاهر قادر علي قهر ذلک

العدوّ وإذلالِه، ودفع شره عنه ، والحيلولة بينه وبينه بحيث لا يمته شره أصلا.

ثالثها: أنّ هذا الملجأ ناصح مشفق بر لطيف رؤوف رحيم، قد وعد علي نفسه أنّ يجيرَ من استجاره وأنّ يعيذ من إستعاذ به، وکلما کانت العلوم المتعلقة بهذه المقاصد الثلاثة أقوي وأصفي وأجلي، کان التحقق بمقام الاستعاذة والالتجاء أتمّ وأدوم وأکمل سيما إذا إنضم إليه العلم بانحصار الملجأ به دون غيره، وهذه العلوم الثلاثة بل الأربعة حاصلة في المقام، وإن کان في شيء منها ضعف فمن الشک في

ص: 83


1- مصباح المتهجد : ص 204، رقم الدعاء : 296/ 34.
2- في المصدر : حيث لا يراه شيء.
3- مصباح المتهجد: ص490،رقم الدعاء : 578/33.

الدين، أو من ضعف اليقين، وإلّا فينبغي أنّ ينتهي هذه العلوم من مرتبة علم اليقين إلي عين اليقين، بل حق اليقين.

أمّا العدوّ القويّ المترصّد فهو الشيطان اللعين بالضرورة من الدين بل بالشهود والعيان واليقين، مضافا إلي الآيات الکثيرة التي نبه الله فيها عباده بعداوة هذا العدو وأمرهم بالتجنب والتحرز عنه کقوله : ( يا بني آدم لا يفتننکم الشيطان کما أخرج أبويکم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوآتهما، إنه يراکم هو

وقبيله من حيث لا ترونهم) (1)

وقوله : (إنّ الشيطان لکم عدو فاتخذوه عدوا ، إنما يدعوا حزبه ليکونوا

من أصحاب السعير) (2)

وقوله : (أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لکم عدوّ ، بئس للظالمين

بدلا)(3)

(ولا يصدنّکم الشيطان ّ لکم عدوّ مبين) (4)

(ألم أعهد إليکم يا بني آدم أنّ لا تعبدوا الشيطان إنّه لکم عدِّو مبين ، وأنّ

اعبدوني هذا صراط مستقيم ) (5)

هذا کلّه مضافا إلي ملاحظة منشأ عداوته لبني آدم وإنه صار مطرودا مدحورا بترک سجدة آدم، فأضمر العداوة له ولذريته حتي أقسم علي إيصال الضرر إليهم في أشرف ما لديهم وهو دينهم الذي هو حياتهم، وبه بقاؤهم ونجاتهم، فقال :

(وفبعزّتک لأغوينهم أجمعين إلّا عبادک منهم المخلصين ) (6)

ص: 84


1- سورة الأعراف : 27 .
2- سورة فاطر: 6.
3- سورة الکهف : 50.
4- سورة الزخرف : 62.
5- سورة يس : 60 - 61.
6- سورة ص : 82- 83.

(وقال ربّ بما أغويتني لأزينّ لهم في الأرض ولأغوينّهم أجمعين) (1)

بل أمره الله تعالي أمرا تهديديا إمهاليا بقوله:

(واستفزز من استطعت منهم بصوتک وأجلب عليهم بخيلک ورجلک

وشارکهم في الأموال والأولاد وعدهم وما يعدهم الشيطان إلّا غرورا)(2)

وذلک لأنّه عبد الله تعالي في الجانّ إثني عشر ألف سنة فلما أهلک الله الجانّ،

شکي إلي الله الوحدة، فعرج به إلي السماء الدنيا فعبد الله تعالي فيها إثني عشر ألف سنة أخري في جملة الملائکة، کما رواه الصدوق في «العلل» و «المجالس» (3)بل في «نهج البلاغة» في خطبة علي أميرالمؤمنين علي أنّه عبد الله تعالي ستة آلاف سنة لا يدري أمن سني الدنيا أم من سني الآخرة (4)

وإن کان المستفاد من بعض الأخبار أنّ عبادته في تلک المدة لم تکن له تعالي بل لطلب زخارف الدنيا، کما قال مولانا أمير المؤمنين عليه السلام الصلاة والسلام في جواب الزنديق علي ما في «الإحتجاج»:

«إنه سجد سجّدةً واحدة أربعة آلاف عام لم يُرِد بها غيرَ زخرف الدنيا،

والتمکين من النظرة»(5)

وکيف کان فالطريق صعب ذو خطر، والعدو قويّ مترصّد لإيصال الضرر، وبعد ذلک لابدّ للعبد من استشعار ضعفه وعجزه عن جلب شيء من المنافع أو دفع شيء من المضار إلا بحول الله وقوته في المقامات العلمية والعملية، وإن کان الأول هو الأصل للثاني، فالإنسان فيه في غاية العجز ولذا کثيرا ما يهلک من حيث لا

بي نهج البلاغة» فنيا أم من سني الاجر ان عبادته في

ص: 85


1- سورة الحجر: 39-40.
2- سورة الإسراء : 64.
3- علل الشرايع : ج 136/1- 137 ، المجالس للصدوق : 209.
4- نهج البلاغة : ج 396/1 ۔ 399 في الخطبة القاصعة .
5- الإحتجاج : ج 1 / 368.

يشعر ولا يلتفت ، فيقع في العقائد الباطلة والشبهات والشکوک والوساوس الشيطانية المفضية به إلي إنکار الحق بل الإلحاد والزندقة وهو بزعمه باقي علي إستقامة الفطرة وحسن السليقة، ولعل الجاهل مغرور باستعمال القواعد الميزانية، مبتهج بإصابته في عقايده ولا يدري أنّ حال من خالفه في هذه العقيدة أو في سائر العقائد إنما هو کحاله في زعمه في حق نفسه وابتهاجه بإصابته، ولعل غيره أولي بالإصابة منه لقوة نظره ونفوذ بصيرته واستقامة سليقته، ولهذا تري أهل العالم بل المتسمين بالعلم منهم مختلفين في العقائد، بل في الأديان، وکل فرقة منهم تزعم النجاة لنفسه ويستدل له في زعمه بالبراهين القطعية مع إعمال القوانين المنطقية ، فکل منهم يدفع الخطاً عن نفسه إلي خصمه مع أنّهما متساويان في کفتي ميزان الإصابة والبطلان، بل ربما يصيب الأعمي رشده ويخطيء البصير قصده، وقد يوفق الغبي للدليل، وينحرف الفطن عن قصد السبيل، بل رأينا کثيرا من العلماء المشهورين بالعلم والمعرفة قد اخطأوا في بعض العقائد طول عمرهم أو بقوا في شبهة واحدة أيام دهرهم، وظنوا الباطل حقا، والکذب صدقا، ثم المستبان بنور الهداية والکشف خلاف ما فهموه ، بل کثيرا ما يقع الرجوع والعدول عن بعض العقائد ويحصل لهم صورة ادراکية مشبه ما کان سابقا في طرف الضد، وحيث إن الأمر کذلک فلا خلاص من هذه الظلمات إلا بإعانة إله الأرض والسموات، فما أشد احتياج الإنسان بالإستعاذة إلي واهب الحکمة والعرفان ومسدد العقول والأذهان، ومن بيده ناصية الإنس والجن من الشيطان، ولذا أمر نبيه بالاستعاذة تعليما للعباد

بقوله : ( وقل رب أعوذ بک من همزات الشياطين) (1)

قيل : وهذه الاستعاذة مطلقة غير مقيدة بحالة مخصوصة .

ص: 86


1- المؤمنون: 97.

وأما قوله تعالي : ( فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله )(1).

فهي إستعاذة مخصوصاً، حيث إن لکلّ أحد، وفي کل حالة ومقام شيطاناً

مخصوصاً يجب الإستعاذة منه.

وأمّا الملجأ والمنجي والمعاذ فهو الله الحي القيوم القادر القاهر المقتدر الذي قد وعد عباده بحفظهم من شر الشيطان، وضرّه ووسوسته بمجرد الدخول في حصن عبوديته، ولذا قال :(إن عبادي ليس لک عليهم سلطان ... ) (2)

وقال بعد الأمر بالاستعاذة به منه : (إنه ليس له سلطان علي الذين آمنوا وعلي ربهم يتوکلون ، إنّما سلطانه علي الذين يتولونه والذين هم به مشرکون) (3)

وفي هذه الآية إنفصام لظهور أرباب العصيان، لدلالتها علي انتفاء الإيمان بمجرد إطاعة الشيطان، وإنه ليس له سلطان إلا علي المشرک بالرحمن، وذلک للأخبار المستفيضة الدالة علي أنّ «من أصغي إلي ناطق فقد عبده فإن کان الناطق ينطق عن الله فقد عبدالله ، وإن کان الناطق ينطق عن الشيطان فقد عبد الشيطان» (4).

و«أنّ من أطاع المخلوق في معصية الخالق فقد عبده أو فقد أشرک» (5)

کما قال الله تعالي : (إتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله) (6)

فعن الصادق عليه السلام : «أما والله ما دعوهم إلي عبادة أنّفسهم، ولو دعوهم إلي عبادة أنّفسهم لما أجابوهم، ولکن أحلّوا لهم حراما، وحرّموا عليهم حلالا،

ص: 87


1- النحل : 98.
2- الاسراء : 68.
3- النحل : 100-99.
4- بحار الأنّوار : ج 264/72، وفيه : وإن کان الناطق عن إبليس فقد عبد إبليس .
5- بحار الأنّوار : ج 94/72 ، عن تفسير علي بن ابراهيم عن الصادق عليه السلام .
6- التوبة : 31.

فعبدوهم من حيث لا يشعرون»(1)

بل يستفاد من قوله تعالي، خطابا للمجرمين الممتازين:(ألم أعهد إليکم يا بني آدم أنّ لا تعبدوا الشيطان إنّه کان لکم عدو مبين ، وأنّ اعبدوني هذا صراط

مستقيم ) (2)

بعد ملاحظة عموم الخطاب لأهل العصيان ، وفقد من يزعم ربوبية الشيطان، لأنّ من أطاع الشيطان، بل من خالف الله تعالي في أمر أو نهي فقد عبد الشيطان،

بقرينة المقابلة، ولذا قال تعالي :(وما يؤمن أکثرهم بالله إلا وهم مشرکون)(3)

وقال سبحانه: (أفرأيت من اتخذ ألهه هواه ... )(4) .

وفي النبوي: «أبغض إله عبد في الأرض، الهوي». .

ولعل هذا هو المشار إليه بقوله صلي الله عليه و اله وسلم : «إن الشرک أخفي في أمتي من دبيب

النملة السوداء علي الصخرة الصماء في الليلة الظلماء»(5).

وحينئذ فحيث تجد نفسک ضعيفة عن مقاومة هذا العدو، إذ الإنسان قد خلق ضعيفا، ولذا ورد في الدعاء: «اللهمّ لا تکلني إلي نفسي طرفة عين أبدا، ولا أقل من ذلک ولا أکثر، فإنک إن تکلني فإن نفسي هالکة أو تعصمها»(6)

ص: 88


1- الکافي : ج 398/2.
2- يس : 61-60.
3- يوسف :160.
4- الجاثية : 23.
5- مضمون الحديث مرويّ بعبارات مختلفة عن النبي صلي الله عليه و اله وسلم والأئمة الطاهرين عليهم اسلام طلب منها : مارواه الطبرسي في مجمع البيان ج 4 ص 359 عن الصادق عليه السلام أنّه سئل عن قول النبي صلي الله عليه و اله وسلم : إن الشرک أخفي من دبيب النمل علي صفوانة سوداء في ليلة ظلماء ...... الخبر ورواه عنه البحار ج 18 ص158.
6- بحار الأنّوار ج 14 ص 387 عن الکافي ج 2 ص 581 إلي : ( ولا اکثر).

فخذ حذرک، وشدد أزرک ، واعرف قدرک، وفوّض أمرک.

فإن التجأت بربک الرؤوف اللطيف، فاعلم أنّ کيد الشيطان هيّن ضعيف، وإنّ احتجبت بحجابه الذي يحتجب به، وتوجهت إلي بابه الذي يؤتي منه، وأنّت من غيره راجع تائب، فقد نلت أقصي المطالب، ومنتهي المأرب.

وإن قصدک الشيطان أتبعه شهاب ثاقب، لأنّک حينئذ قد اعتصمت بذمام الله المنيع الذي لا يطاول ولا يحاول، وهذا الأمام ولايتهم عليهم الصلاة والسلام، ولذا ورد في دعاء الصباح علي ما في «المتهجد»:

أصبحت الهم معتصما بذمامک المنيع، الذي لا يطاول ولا يحاول، من کل غاشم وطارق، من سائر من خلقت وما خلقت من خلقک الصامت والناطق، في جنة من کل مخوف بلباس سابغة، ويأهل بيت نبيک (وفي بعض النسخ) : سابغة ولاء أهل بيت نبيک، محتجبا من کل قاصد لي بأذية بجدار حصين الإخلاص في الإعتراف بحقهم، والتمسک بحبلهم، موقنا أنّ الحق لهم ومعهم وفيهم وبهم، أوالي من والوا وأجانب من جانبوا، فأعذني اللهم بهم من شر ما أتقيه........الدعاء» (1)

ومجمل الإشارة في المقام إلي الاعتصام بذلک الذمام الذي هو ولايتهم عليه السلام أنّ يتأدب بالآداب الشرعية ويستقيم علي الوظائف الدينية، ولا ينحرف عنهم في شيء من الأفعال والأقوال والأحوال والخطرات والنبات والقصود والمقاصد، فإذا فعل ذلک فهو من شيعتهم الذي خلقوا من فاضل طينتهم، وسقوا بماء ولايتهم.

ولذا قال مولانا الرضا عليه التحية والثناء: «شيعتنا المسلّمون لأمرنا،

الآخذون بقولنا، المخالفون لأعدائنا، فمن لم يکن کذلک فليس منا» (2)

ص: 89


1- مصباح الشيخ ص148 وعنه البحار ج 86 ص 148 ح 31.
2- صفات الشيعة للصدوق : ص 164، وعنه بحار الأنّوار : ج 167/68، ح 24.

وقال الصادق عليه السلام : «ليس شيعتنا من قال بلسانه ، وخالفنا في أعمالنا و آثارنا ، ولکن شيعتنا من وافقنا بلسانه وقلبه، وأتبع آثارنا، وعمل بأعمالنا، أولئک شيعتنا» (1)

وفي «إرشاد المفيد» و«الأمالي» و«صفات الشيعة»: أنّ أمير المؤمنين عليه السلام خرج ذات ليلة من المسجد، وکانت ليلة قمراء فأم الجبانة ولحقه جماعة يقفون

أثره، فوقف عليهم، ثم قال : من أنّتم؟

قالوا: شيعتک يا أمير المؤمنين . فتفرس في وجوههم ثم قال : فمالي لا أري عليکم سيماء الشيعة ؟ قالوا: وما سيماء الشيعة يا أمير المؤمنين؟

فقال عليه لسلام : «صُفر الوجوه من السهر، عُمش العيون من البکاء،حُدب الظهر من القيام، خُمص البطون من الصيام، ذُبل الشفاه من الدعاء، عليهم غبرة الخاشعين»(2)

وروي العياشي عن الصادق عليه السلام قال: «نحن أهل بيت الرحمة، وبيت النعمة، وبيت البرکة، ونحن في الأرض بنيان، وشيعتنا عُري الإسلام، وما کانت دعوة ابراهيم إلّا لنا ولشيعتنا، ولقد استثني الله إلي يوم القيامة علي إبليس، فقال : (إن عبادي ليس لک عليهم سلطان)(3) »(4)

وفي رواية أخري: «والله ما أراد الله بهذا إلا الأئمة وشيعتهم» (5)

ص: 90


1- بحار الأنّوار : ج68 /164، ح 13.
2- إرشاد المفيد : ص114، وأمالي الطوسي : ج 219/1 . وعنهما بحارالأنّوار ج150/68-151، ح 4.
3- الحجر : 42.
4- تفسير العياشي : ج 243/2 ، وعنه البحار: ج 68م 35.
5- تفسير الفرات : ص83، وعنه البحار: ج 68 / 57، وفيه : والله ما أراد بها إلا الأئمة وشيعتهم .

فهذا الصنف من الشيعة ليس للشيطان عليهم سلطان ، کيف وهم في ظّل ولايتهم يعيشون، وفي جوار الرحمن يتنعمون، ألا إنّ أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.

وأمّا محبّوهم ومواليهم الذين ليسوا من مخلصي شيعتهم لاقترافهم بعض الخطيئات، وانهماکهم في عاجل اللذات، فلا ريب أنّ الإستعاذة والإلتجاء بهم والإعتصام بحبلهم من شر شياطين الجن والإنس، والنفس الأمارة الشهوانية والبهيمية والسبعية، ومن خيلها ورجلها وفتنتها ووسوستها توبة لهم ورجوع إليهم فيوفقون بها لقلة التربص وحسن التخلص، مع أنّهم عليه السلام قد ضمنوا لشيعتهم ذنوبهم، وأصلحوا لهم عيوبهم.

فعن النبي صلي الله عليه و اله وسلم في تفسير قوله تعالي : (إن إلينا إيابهم ثم إن علينا حسابهم)(1)قال : «إذا کان يوم القيامة ولّينا حسابَ شيعتنا، فمن کان مظلمته فيما بينه وبين الله عزّوجل حکمنا فيها فأجابنا ، ومن کانت مظلمته فيما بينه وبين الناس إستوهبناها فوهبت لنا، ومن کانت مظلمته فيما بينه وبيننا کنا أحق من عفا وصفح» (2)

وعن رضي الدين بن طاوس أنّه قال : سمعت القائم عجل الله فرجه بسر من رأي يدعوا من وراء الحائط وأنّا أسمعه ولا أراه وهو يقول: «اللهم إنّ شيعتنا مناء خلقوا من فاضل طينتنا، وعجنوا بماء ولايتنا اللهم اغفر لهم من الذنوب ما فعلوه اتکالا علي حبنا وولائنا يوم القيامة ، ولا تؤاخذهم بما إقترفوه من السيئات، إکراما لنا، ولا تقاصهم يوم القيامة مقابل أعدائنا، وإن خفّت موازينهم فثقّلِها بفاضل حسناتنا» (3).

ص: 91


1- الغاشية : 25.
2- عيون أخبار الرضاعليه السلام : ج 2/ 57، وعنه البحار: ج 68/98 .
3- بحار الأنّوار: ج 302/53 و 303، وفيه هذه الحکاية بعبارتين مختلفتين .

تنبيه

يمکن إبطال القول بالجبر بصحة الاستعاذة کما استدلّ به، نظرا إلي أنّه اعتراف يکون العبد فاعلا لتلک الإستعاذة، ولو کان الفعل من الله کذب العبد، وإن الله إذا خلق فعلا في العبد إمتنع لکل أحد دفعه، وإذا لم يخلقه إمتنع تحصيله، وإن الإستعانة بالله إنما يحسن إذا لم يکن خالقا للأمور التي يستعاذ منها، ومع کونه خالقا لها يلزم الإستعانة به منه ، فالوسوسة حينئذ ليست فعلا للشيطان فکيف يستعاذ منه.

ولله در ابن (1) الحجاج حيث قال : المجبرون يجادلون بباطل وخلاف ما يجدون في القرآن کلّ مقالته: الإله أضلّني وأراد بي ما کان عنه نهاني أيقول ربک للخلايق آمِنوا جهرا ويجبرهم علي العصيان إن صحّ ذا فتعوذّوا من ربکم وذروا تعوّذَکم من الشيطان

وقال بعض الأجلّاء: إن قريشا کانت في الجاهلية علي الجبر، وقد نزل الکتاب بإيطاله، لکن أحياه بنو أمية، فنسبوا شقاوتهم إلي الله، ولذا قيل : العدل والتوحيد علويّان، والجبر والتشبيه أمويان.

والحق أنّ بطلان القول بالجبر مما يقضي به بعد الکتاب والسنة ضرورة

وجدان الإختبار في کل ما يصدر منا من الأفعال .

مضافا إلي أنّ فيه انهدام أساس الشرايع والسياسات والأحکام، بل المعاد

وما فيه من الثواب والعقاب.

ص: 92


1- هو أبو عبدالله الحسين بن أحمد بن الحجاج الأديب الشاعر الشيعي البغدادي المتوفي(391) ه. - العبر: ج 50/3.

فلا يصغي إلي ما ربما يقال مرة: إنه تعالي عالم بجميع المعلومات، ووقوع

الشيء علي خلاف علمه يقتضي إنقلاب علمه جهلا، وذلک محال والمؤدّي إلي المحال محال.

وأخري أنّ قدرة العبد إن کانت معيّنة لأحد الطرفين فالجبر لازم وإن کانت حاصلة لهما فمع المرجّح إن کان من العبد عاد التقسيم فيه ويتسلسل، أو الله فيلزم عليکم ما ألزمتمونا، ومع عدمه لا يمکن حصول الفعل، مع أنّ الرجحان حينئذ إتفاقي، فيعود الجبر.

إذ الوجهان في غاية الضعف وإن استصعبهما بعض الأعلام، للمنع من کون العلم علة للمعلوم أو مؤثرا فيه بوجه سيّما في العلم الذاتي الذي لا تعلق فيه أصلا ، وقدرة العبد صالحة للطرفين بالضرورة الوجدانية، والإختيار هو المرجّح لأحدهما، والعبد إنما يفعل بالإرادة ويحدثها بنفسها لا بإرادة حادثة قبلها حتي يلزم التسلسل أو الإنتهاء إلي الواجب حسب ما تسمع تمام الکلام في الموضع اللائق به إن شاء الله .

نعم، من بعض أهل التشکيک في مقام الاستعاذة شکوک واهية :

منها : أنّ المطلوب من قولک: «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم»، إنما أنّ يمنع

الله الشيطان من عمل الوسوسة بالنهي والتحذير، أو علي سبيل القهر والجبر.

أما الأول فهو حاصل منه وتحصيله بالطلب محال لأنّه تحصيل للحاصل،

والثاني باطل لأنّه ينافي التکليف الذي دل الدليل علي ثبوته، ولو بالنسبة إلي الشياطين.

ومنها : أنّ الله تعالي إن أراد إصلاح حال العبد فالشيطان غير قادر علي

إغوائه وإلّا فلا يفيد الإعتصام أيضا.

ومنها : أنّ صدور الوسوسة من الشيطان إن کان بواسطة شيطان آخر لزم

ص: 93

التسلسل، وإلا فلم لا يجوز مثله في البشر، ولم اختص الشيطان بالإستعاذة منه .

والجواب من الأول : أنّ المسؤول هو - التوفيق للتحقق في مقام العبودية التي ينکشف معها فساد وساوس الشيطان، ولذا قال سبحانه : (إن عبادي ليس لک

عليهم سلطان)(1)

فإنهم دخلوا في حزب الرحمن، فلا يؤثر فيهم تلک الوساوس، فالمطلوب

هو العصمة الحاصلة بالاعتصام والالتجاء إليه سبحانه .

ومن الثاني : أنّه يريد ذلک إرادة عزمية لا حتمية، ولذا صح عندنا تکليف

الکفار.

ومن الثالث : أنّ المراد بالشيطان هو کل ما يدعو إلي غيره سبحانه من الجن

والإنس، ولذا جعل عبادته في مقابلة عبادته سبحانه في قوله:

(ألم أعهد إليکم يا بني آدم أنّ لا تعبدوا الشيطان إنه لکم عدو مبين ، وأنّ

اعبدوني هذا صراط مستقيم)(2).

مع أنّک لا تکاد تري أحدا يزعم أنّه يعبد الشيطان، لأنّ جميع الأمم يتبرؤون

منه ، فدواعي الشرور من کل موجود منتهية إليه إنتهاءاً فطرياً أو فعلياً.

ص: 94


1- الحجر: 42.
2- يس : 60.

(بسم الله الرحمن الرحيم)

لا خلاف في أنّ البسملة بعض آية في سورة النمل. ولا في أنّ بعضها بعضها في هود، ولا في أنّها ليست بآية ولا بعضها في برائة، إما لأنّها سورة السيف، ونزلت لرفع الأمان، وبسم الله أمان، أو لأنّها مع الأنّفال سورة واحدة ، ولذا عدّتا معا سابعة السبع الطول.

وإنما الخلاف في أنّها جزء من سائر السور أم لا؟

فالشيعة الإمامية علي أنّها جزء من الفاتحة وغيرها من السور ، يجب قرائتها معها، وهو مذهب أهل البيت روحي لهم الفداء وعليهم آلاف التحية والثناء، وتبعهم بعض فقهاء العامة کأحمد، وإسحاق (1)، وأبي ثو(2)وأبي عبيدة (3)، وعطاء والزهري (4)وعبدالله بن المبارک (5)

وهو مذهب ابن عباس، وأهل مکة، وأهل الکوفة کعاصم، والکسائي ،

وغيرهما، سوي حمزة، وغالب أصحاب الشافعي.

وقال بعض الشافعية وحمزة: إنها جزء في الفاتحة فقط دون بقية السور. لکن حکي العلامة في «المنتهي» عن الشافعي : أنّها بعض آية من أول الحمد بلا خلاف، وفي کونها آية من کل سورة قولان :

ص: 95


1- هو إسحاق بن ابراهيم المروزي المعروف بابن راهويه المتوفي سنة (237) ه .
2- هو ابراهيم بن خالد صاحب الشافعي أبو ثور الکلبي المتوفي (240) أو (246) ه .
3- هو أبو عبيدة معمر بن المثني البصري المتوفي (210) ه .
4- هو محمد بن مسلم المدني الزهري المتوفي (124) ه .
5- عبدالله بن المبارک الفقيه المروزي المتوفي (181) ه .

أحدهما: أنّها أية من کل سورة . والآخر: أنّها بعض آية من أول کل سورة وتتم بما بعدها آية .

وعن أبي حنيفة، ومالک (1)، والأوزاعي(2)، وداود (3) : أنّها ليست آية من الفاتحة ولا من غيرها من السور، وهو المشهور بين المتأخرين من الحنفية ، بل من أهل المدينة، والشام والبصرة.

نعم، ذکر البيضاوي(4) أنّ أبا حنيفة لم ينص بشيء، فظُنَّ أنّها ليست من

السورة عنده والظان صاحب (5) الکشاف وأتباعه.

وعن مالک وتالييه (6): يکره أنّ يقرءها في الصلاة ، وربما يجعل محل الخلاف أنّها آية واحدة غير متعلقة بشيء من السور، أو مائة وثلاث عشر آية من مائة وثلاث عشر سورة کالآيات المکررة في بعض السور ، مثل (فبأي آلاء ربکما تکذبان) .

وعلي کل حال، فالذي ينبغي القطع به آنها آية من کل سورة من الفاتحة

وغيرها لإجماع الإمامية ، بل وإجماع أهل البيت عليه السلام من الذي هو الحجة عند المخالف فضلا عن المؤالف لآية التطهير وأخبار الفريقين، وغير ذلک مما حرر في الأصول، والأخبار المستفيضة لو لم تکن متواترة کخبر معاوية(7)بن عمار عن الصادق عليه السلام

ص: 96


1- هو مالک بن أنّس الأصبحي المدني المتوفي (179) ه . - العبر : ج 1 / 272.
2- هو أبو عمرو عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي الفقيد الشامي المتوفي (157) ه. - العبر: ج 1 / 227
3- هو داود بن علي الأصبهاني الظاهري المتوفي (270) ه، تقدم ذکره.
4- البيضاوي : القاضي ناصر الدين عبدالله بن عمر الشافعي المتوفي (685) ه. - سفينةالبحار : ج 1 /435.
5- هو أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري المتوفي (538 )ه.
6- هما الشافعي وأحمد بن محمد بن حنبل .
7- معاوية بن عمار بن أبي معاوية خباب بن عبدالله الکوفي ، کان من ثقات أصحاب الصادق والکاظم عليه السلام .

قال : قلت له : إذا قمت للصلاة اقرأ بسم الله الرحمن الرحيم في فاتحة الکتاب ؟

قال : نعم، قلت: فإذا قرأت فاتحة الکتاب أقرأ بسم الله الرحمن الرحيم مع

السورة ؟ قال : نعم (1)

وصحيح محمد (2) بن مسلم قال : سألت أبا عبدالله عليه السلام عن السبع المثاني

والقرآن العظيم أهي الفاتحة ؟ قال : نعم هي أفضلهن» (3)

وخبر يحيي (4)بن أبي عمران الهمداني قال : کتبت إلي أبي جعفر عليه السلام : جعلت فداک ! ما تقول في رجل ابتدأ يبسم الله الرحمن الرحيم في صلاته في أم الکتاب وحده ، فلما صار إلي غير أم الکتاب من السورة ترکها؟

فقال العياشي : ليس بذلک بأس، فکتب عليه السلام بخطه : يعيدها مرتين علي رغم

أنّفه (5)يعني العياشي -

والمراد إعادة الصلاة لا البسملة والحمل علي ترکها سهوا مع بقاء المحل بعيد

من السياق.

وذکر بعض المحدثين أنّ العياشي إن حمل علي الرجل المشهور صاحب التفسير فينبغي تخصيصه بکون ذلک في أول عمره، فإنه کان من فضلاء العامة ثم استبصر ورجع إلي مذهب الشيعة، فالحمل عليه غير بعيد (6)، ويحتمل غيره.

قلت : لکن الموجود في بعض نسخ الوسائل وغيره «العباسي» بالموحدة

ص: 97


1- وسائل الشيعة : ج746/2، ح 5 عن فروع الکافي: ج 86/1.
2- محمد بن مسلم بن رباح الطحان الکوفي الفقيه الوجية المتوفي (150) ه. رجال النجاشي 323:
3- الوسائل : ج 745/2 عن التهذيب : ج 218/1.
4- يحيي بن أبي عمران الهمداني من أصحاب الرضاعليه السلام و ثقه أرباب الرجال .
5- الوسائل : ج 746/2، ح عن فروع الکافي : ج 86/1.
6- الحمل عليه بعيد جدا لأنّه کان معاصرة للکليني ، وتوفي علي ما في معجم المؤلفين :ج 12 / 30 سنة ( 320) ه، ولعله لم يولد في عصر الإمام الجواد عليه السلام .

والمهملة، وعليه فالمراد بعض العباسيين أو بعض فقهائهم(1)

وعن أميرالمؤمنين روحي له الفداء عليه آلاف التحية والثناء أنّه بلغه أنّ أنّاسا يترعون و (بسم الله الرحمن الرحيم) فقال عليه السلام

: «هي آية من کتاب الله أنّساهم إياها الشيطان» (2)

وفي «العيون» بالإسناد إنه قيل لأمير المؤمنين عليه السلام أخبرنا عن (بسم الله الرحمن الرحيم) أهي من فاتحة الکتاب ؟ فقال : «نعم، فإن رسول الله صلي الله عليه و اله وسلم ان کان يقرؤها ويعدّها آية» (3)

وعن الصادق عليه السلام : «ما لهم قاتلهم الله عمدوا إلي أعظم آية في کتاب الله

فزعموا أنّها بدعة إذا أظهروها ، وهي ( بسم الله الرحمن الرحيم ) (4)

إلي غير ذلک من الأخبار الکثيرة المتستفيضة المعتضدة بالشهرة العظيمة بل

بإجماع الطائفة المحقة.

ومن هنا يظهر أنّ ما دل علي خلافه کصحيحة محمد بن مسلم عن الصادق عليه السلام في الرجل يکون إماما فيستفتح الحمد ولا يقرء ( بسم الله الرحمن الرحيم )، فقال : «لا يضره ولا بأس»(5)

وموثق مسمع (6) ، قال : صليت مع أبي عبد الله عليه سلام ، فقرأ : (بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين )، ثم قرأ السورة التي بعد الحمد ولم يقرأ (بسم

ص: 98


1- الظاهر أنّه هشام بن ابراهيم العباسي الذي قالوا في ترجمته : إنه کان مؤمنا في أول أمره وصار زنديقا في آخره، راجع : معجم رجال الحديث ، رقم 15388.
2- تفسير العياشي: ج 21/1، ح 12.
3- عيون الأخبار : ص 181، وعنه الوسائل : ج747/2، ح 10.
4- مستدرک الوسائل : ج 166/4 ،عن تفسير العياشي : ج 1 /21.
5- الوسائل: ج749/2 ، ح 5 عن التهذيب : ج 1 /153.
6- هو مسمع بن عبد الملک بن مسمع بن مالک أبو سيار کردن الکوفي البصري ، کان من أصحاب الباقر والصادق والکاظم عليه السلام ، و ثقه الشيخ

الله الرحمن الرحيم) ثم قام في الثانية فقرأ الحمد ولم يقرأ (بسم الله الرحمن الرحيم)(1)

وصحيح محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام ، قال : سألته عن الرجل يفتتح القراءة في الصلاة أيقرأ( بسم الله الرحمن الرحيم ) ؟ قال : «نعم، إذا افتتح الصلاة فليقلها في أول ما يفتتح ثم يکفيه ما بعد ذلک» (2)

ينبغي حملها علي التقية أو علي عدم الإجهار بها . أو علي عدم وجوبها في السورة أو کون الصلاة نافلة، أو غيرها، وإن کان الأظهر حملها علي الأول کما يظهر من سباق بعضها، وإلا فيتعين طرحها لندرتها وشذوذها ومخالفتها لما مر کشذوذ ما يحکي عن ابن الجنيد (3)من أنّها في الفاتحة بعضها، وفي غيرها إفتتاح

وبالجملة فأصحابنا کأکثر المخالفين علي عدّها آية من جميع السور، ولذا أثبتوها في المصاحف بخط القرآن مع شدة اهتمامهم بعدم کتابة غيره بخطه، ولذا کتبوا تراجم السورة والأجزاء وأنّصافها والأحزاب ورکوعاتها بالتغير، مضافا إلي الأخبار الکثيرة الواردة من طرق العامة أيضا.

بل حکي شيخنا البهائي عن صريح بعض محدثيهم أنّها تجاوز العشرة (4).

نعم، للقراء تفصيل في البسملة، وهو أنّها تأتي في ثلاثة مواضع : إذا ابتدأ

سورة أو موضعاً منها أو بين السورتين.

ص: 99


1- الوسائل : ج 2/ 748، ح ، عن التهذيب : ج 1 / 218.
2- الوسائل : ج 2 /748، ح ، عن التهذيب : ج 1 /153.
3- ابن الجنيد : محمد بن أحمد بن الجنيد أبو علي الکاتب من أکابر علماء الإمامية ومن أفاضل قدمائهم وأکثرهم علما و فقها وأدبا وتصنيفا ، وثقه النجاشي وروي عنه المفيد ، قيل : توفي بالري سنة (381) ه . سفينة البحار ک ج 666/1 .
4- لم أظفر علي هذه الحکاية عن الشيخ بهاء الدين قدس سره لا في «العروة الوثقي» ولا في الحبل المتين» .

ففي الأول : أجمعوا علي البسملة کما حکاه في «شرح طيبة النشر في القراءات العشر»، نعم، استثنوا منها سورة التوبة، لکونها من الأنّفال کما حکوه عن مولانا أمير المؤمنين عليه السلام ، أو لنزولها بالسيف ورفع الأمان.

وفي الثاني وهو أوساط السور، قالوا: القاري فيه مخيّر بين الإتيان بالبسملة فيه بعد الاستعاذة ، وبين الاقتصار علي الاستعاذة ، وربما يرجح البسملة إذا کان مفتتح الآية شيئاً من أسماء الله تعالي ، والاستعاذة إذا کان إسم الشيطان، وذلک کله في سوي برائة ، فإنه يحتمل التخيير فيها کغيرها، ويحتمل المنع من البسملة.

قلت : أما التخيير فيمکن استفادته من الإطلاقات الآمرة بالإستعاذة من الکتاب والسنة بضميمة ما رواه في «الکافي» عن فرات(1) بسن أحنف عن أبي

جعفر عليه السلام ، قال : سمعته يقول :

أوّل کل کتاب نزل من السماء بسم الله الرحمن الرحيم، فإذا قرأت بسم الله الرحمن الرحيم فلا تبالي أنّ لا تستعيذ، وإذا قرأت بسم الله الرحمن الرحيم سترتک فيما بين السماء والأرض» (2)

وهذا المعني يستفاد من غيره من الأخبار أيضأً تصريحاً وتلويحاً .

مضافاً إلي ما سمعت من أنّ حقيقة الإستعاذة هي الإلتجاء والتفويض والتوکل، والتسمية مشتملة علي تلک المقامات حسب ما تسمع إن شاء الله ، ولذا قال مولانا الرضا عليه آلاف التحية والثناء

«بسم الله يعني اسم نفسي بسمة من سمات الله، وهي العبادة ، قيل : وما

ص: 100


1- فرات بن الأحنف العبد الهلالي أبو محمد ، روي عن السجاد والباقر والصادق عليه السلام ، ضعفه أرباب التراجم وقالوا : يرمي بالغلو.
2- الوسائل : ج 746/2 ، ح 8، عن فروع الکافي : ج 86/1.

السمة؟ قال : العلامة» (1)

بل التحقيق أنّ التسمية والإستعاذة بمنزلة التولي والتبري الذين إذا اجتمعا إفترقا، وإذا افترقا اجتمعا کغيرهما من الألفاظ التي حالها کذلک کالفقراء والمساکين.

إلا أنّه لا يخفي أنّ هذا کله لا يدفع أستحباب الاستعاذة عينة بعد تعلق الأمر

به في ظاهر الکتاب ، وتعليقه علي الشرط المفيد للعموم حسب تحقق الشرط.

مضافاً إلي أنّ البسملة أيضاً من القرآن الذي أمرنا الله سبحانه عند إرادة قرائته بالإستعاذة، وغاية ما يدل عليه خبر فرات مع الغض عن ضعفه ، وقصوره عن تخصيص ظاهر الکتاب إنما هو حصول الغاية التي هي حجب الشيطان وطرده کما هو الظاهر من مساقه، وأين هذا من سقوط الحکم الندبي الثابت بظاهر الآية.

وقد ظهر من جميع ما مر أنّ الأولي هو الجمع بين الإستعاذة والبسملة مطلقاً في مفتتح السور وأوساطها، وأما أوساط سورة برائة فلا وجه الاستثنائها أو الترديد فيها مطلقا ، نعم، قد سمعت أنّ البسملة ليست جزءاً منها وأين هذا من عدم استحباب البسملة أو المنع منها في قراءة بعض آياتها.

وأما في الثالث : وهو البسملة بين السورتين فاختلفوا علي أقوال ثلاثة :

البسملة بينهما، والوصل، أي وصل أخر الأولي بأول الثانية من دون وقف ولا سکت ولا بسملة، والسکت وهو عبارة عن قطع الصوت زمناً دون زمن التوقف عادة من غير تنفس، وقد اختلف عبارتهم في التأدية عنه من حيث طول زمن السکت وقصره.

ص: 101


1- عيون الأخبار : ج 260/1 ، ح 19، وعنه کنز الدقائق : ج42/1 ،ط مؤسسة النشر الإسلامي - قم

قالوا: والمشافهة أصدق حاکم به، وعلي کل حال فأصحاب البسملة قالون(1) وعاصم (2) وابن کثير، وأبو جعفر (3)، والکسائي بغير خلاف من أحد منهم، وکذا الإصفهاني (4)، عن ورش (5)

وأما الوصل فهو المحکي عن حمزة، وأما أصحاب السکت فورش، وأبو

عمرو(6) وابن عامر.

وعن ابن مجاهد (7) کل من الوصل والسکت کما حکاه عنه في «التيسير»،

لکن في «طيبة النشر» عن ابن عامر، وأبي عمرو، ويعقوب (8)وورش من طريق الأزرق (9) الأوجه الثلاثة وهي : السکت، والوصل، والبسملة.

لکن إختار أصحاب الوصل في (وَيلَين) وفي (لا أسِمَين) السکت،

وأصحاب السکت في الاربعة البسملة، لکن الحق ما سمعت أوّلاً فلا داعي للتعرض لنقل کلامهم إلّا الإفصاح عن فساد مرامهم.

ص: 102


1- هو أبو موسي عيسي بن مينا الزهري مولاهم المدني ، صاحب نافع وکان قاريء أهل المدينة توفي سنة (220) ه - العبر ج 1 / 381.
2- هو عاصم بن أبي النجود (بهدلة) الأسدي الکوفي ، أحد القراء السبعة، توفي سنة (127) ه.
3- أبو جعفر المقري: يزيد بن القعقاع المدني أحد العشرة، قرأ علي مولاه عبدالله بن عياش، مات حدود سنة (130) ه. - التمهيد : ج 196/2 .
4- هو محمد بن عبد الرحيم المقريء الأصفهاني ، توفي ببغداد سنة (296) ه.
5- هو عثمان بن سعيد المصري المقريء الملقب ب (ورش) لشدة بياضه ، توفي سنة(197 ه. )، التمهيد : ج203/2.
6- هو : أبو عمرو بن العلاء المازني المقريء البصري واسمه زبان ، کان أحد السبعة، روي عن الإمام الصادق عليه السلام ، توفي سنة (154) ه
7- ابن مجاهد : أحمد بن موسي بن العباس البغدادي المقريء، توفي (324) .
8- هو يعقوب بن اسحاق الحضرمي القاري البصري المتوفي (205) ه.
9- هو أبو يعقوب الأزرق يوسف بن عمرو المدني المصري ، لزم ورشا مدة طويلة ، مات حدود سنة (240) ه

نعم، بقي الإشکال في الفصل بين (الضحي) و (ألم نشرح) و کذا بين (الفيل) و الإيلاف) بالبسملة وعدمها، حيث إنک قد سمعت أنّ الأوليين سورة واحدة کالأخريين، ففي «مجمع البيان» عن أبي بن کعب أنّه لم يفصل بينهما بالبسملة في مصحفه.

وقال الشيخ في «الاستبصار» أنّ هاتين السورتين سورة واحدة عند آل محمد صلي الله عليهم أجمعين، وينبغي أنّ يقرئهما موضعاً واحداً، ولا يفصل بينهما

(بسم الله الرحمن الرحيم) في الفرائض (1).

وفي «الفقه الرضوي» عنه عليه السلام قال:

ولا تقرأ في صلاة الفريض (والضحي)، و(ألم نشرح)، و(ألم تر کيف)، والإيلاف)، لأنّه روي أنّ (والضحي) و(ألم نشرح) سورة واحدة، وکذا (ألم تر کيف)، و(إيلاف) سورة واحدة، إلي أنّ قال : فإذا أردت قراءة بعض هذه السور فاقرأ : (والضحي) و(ألم نشرح) ولا تفصل بينهما، وکذلک (ألم تر کيف) والإيلاف) (2)

لکن المحکي عن العلامة وغيره البسملة بينهما للإثبات في المصاحف، وعدم منافاة ذلک لوحدة السورة کما في سورة النمل، کما أنّه لا ملازمة بين ترکها والوحدة کما في سورة برائة، بل ربما يقال : إن في صحيح زيد (3) الشحام : قال : صلي بنا أبو عبد الله عليه السلام مال فقرأ (والضحي) و(ألم نشرح) في رکعة (4)، دلالة عليه ، إذ لو

ص: 103


1- الاستبصار : ج 317/1 ، في ذيل الحديث الرابع .
2- فقه الرضا: ص9، وعنه مستدرک الوسائل : ج 4 / 164، ح 4384.
3- هو زيد بن محمد بن يونس أبو أسامة الشحام الکوفي ، من أصحاب الباقر والصادق والکاظم عليه السلام ، وثقه النجاشي في رجاله : ص 175.
4- وسائل الشيعة : ج 743/2، الباب 10 من أبواب القراءة في الصلاة ، عن التهذيب : ج 225/1.

ترک عليه السلام البسملة لذکره الراوي أيضاً کما ذکر الجمع، ولذا قيل : إن البسملة أحوط، والأحوط منها ترکهما في الفريضة رأساً ، وتمام الکلام في مقام آخر، وقد سمعت بعض الکلام في المقدمات.

وعلي کل حال فحيث قد ثبت کون البسملة جزءأ من السور، بل آية برأسها، بل ستسمع اشتمالها علي جميع ما في القرآن من الأمور التشريعية والتکوينية مما کان أو يکون فلنشر بعض حقايقها في فصول:

ص: 104

الفصل الاَوّل :الباء

في الباء والبحث فيها مرة في الأحکام اللفظية، وأخري في الحقائق العلمية .

أمّا الأحکام اللفظية فاعلم أنّ الباء من الحروف المفردة المعانية التي لها معني حرفي لا المبانية التي يترکب منها الکلام، ومن حقّها أنّ تفتح فإنهم لما بالغوا في تخفيفها بوضعها في الأصل علي حرف واحد، وکانت مبنّية، والأصل في البناء السکون، وتعذر الابتداء بالساکن بنوها علي الفتح، لأنّه أخفّ الحرکات لکنهم قالوا: إنها لما اختصت من بين الحروف بلزوم الحرفية، والجر المقتضي لزوم کل منهما لمناسبة الکسر مناسبة ضعيفة لاقتضاء الحرفية عدم الحرکة والکسر يناسب العدم لقلته، بل لعدمه في الفعل، واقتضاء الجر موافقة حرکتها لأثرها، فلذلک کسروها، کما کسروا لام الجارّة ، ولام الأمر دفعاً لإلتباسهما بلام الإبتداء، ولذا فتحوا الداخلة علي المضمر سوي ياء المتکلم المکسورة للمناسبة ، إذا الليس مرتفع بجوهر المدخول عليه ، بخلاف الداخلة علي المظهر.

والفرق بالإعراب لا يجدي في المبني وما قدر إعرابه أو وقف عليه ، ولم يعکسوا بأنّ يُجرو الجارة علي الأصل الذي هو الفتح دون الإبتدائية لملاحظة توافق العامل وأثره .

وأمّا الداخلة علي المستغاث فإنما فتحت لتتّميز من المستغاث له مع أنّه في

موضع ضمير أدعوک، فکأنّها داخلة علي المضمر.

ص: 105

وسميت بحروف الجارّة لأنّها وضعت کأخواتها لأنّ تجرّ معني الفعل إلي الإسم ولذا سميت أيضاً حروف الإضافة والحروف المفضية لقضية الإضافة والإفضاء.

ومن هنا قال الزمخشري : حروف الجر کلها تسمي حروف الإضافة لأنّها تضيف معاني الأفعال إلي الأسماء، فإنک إذا قلت مررت بزيد لا يصل معني المرور إلي زيد إلا بواسطة الباء التي هي للتعدية.

ومعانيها وإن کانت کثيرة، بل أنّهاها بعضهم إلي أربعة عشر، وأخر إلي أزيد،

لکن أم معانيها والأصل فيها هي الإلصاق، ولذا قيل : إنه معني لا يفارقها، وبه عُلِلّ اقتصار سيبويه عليه، لکن الحق أنّها معان متغايرة تحمل في کل موضع علي ما هو الأنّسب بها ، وإن کان غير الإلصاق، ولذا اختلفوا في المقام بعد القطع بعدم کونها له في أنّها للمصاحبة أو للإستعانة علي قولين :

فعن البعض الأول وإختاره الزمخشري وأتباعه، ورجّح بأنّ التبرک بإسمه

تعالي أدخل في الأدب من جعله ألة، لتبعية الآلة وابتذالها.

وبأنّ باء المصاحبة في نفسها أکثر استعمالاً من باء الاستعانة، لا سيما في

المعاني وما يجري مجراها.

وبأنّ جعله آلة يشعر بأنّه غير مقصود لذاته .

وبأنّ ابتداء المشرکين باسم آلهتهم کان علي وجه التبرک ، فقصد التبرک أدخل

في الرد عليهم.

وبأنّ باء المصاحبة أدلّ علي ملابسة أجزاء الفعل لإسم الله تعالي من باء

الآلة والاستعانة.

وبأنّ کون اسم الله تعالي آلة للفعل ليس إلا - باعتبار أنّه يتوصل إليه ببرکته،

فقد رجع إلي معني التبرک به فليقل به أولاً.

ص: 106

ويضعف الأوّل بأنّ الإستعانة غير منحصرة في الآلات التي لا يصلح إستناد الفعل إليها لضعفها، وإنّما الوسائط بين الفاعل وفعله بالإستعانة بمعني طلب العون والقوة، ولذا يکون کثيرا بالقوي السديد، والإيواء إلي رکن شديد.

وفي کلام أمير المؤمنين روحي له الفداء في وصيته لابنه الحسن عليه السلام :

«واستعن بالذي خلقک ورزقک» (1)

ولعل ما ذکرناه هو المراد بما قيل من أنّ للآلة جهتين : جهة تبعية وابتذال

وجهة توقف وأحتياج، وهذه الثانية هي الملحوظة في المقام.

والثاني بأنّ مجرّد کثرة الاستعمال علي فرضها إنما يصلح مرجحاً لأحد المعنيين علي فرض تساوي نسبة اللفظ إليهما وعدم رجحان أحدهما في نفسه، ولعل للمانع دعوي رجحان الاستعانة في المقام بالنظر إلي المعني ، بل دعوي الغلبة النوعية المقدمة علي الغلبة الجنسية .

والثالث : بمامر في الأول .

والرابع : بأنّ الاستمداد والاستعانة أقرب إلي التبرک به لاشتماله مضافاً اليه علي ما هو کالحجة والبرهان علي أنّه ينبغي التبرک به لا بغيره، وستعرف أنّه لا مانع من إرادتهما معا في المقام، مع أنّ کون المراد خصوص ردّ المشرکين ممنوع.

والخامس : بالمنع من عدم دلالة باء الاستعانة علي ملابسة جميع أجزاء

الفعل لما هو ظاهر من أنّ الاستعانة في الکل إستعانة في الأجزاء

مع أنّه يمکن أنّ يقال: إن کون الباء للمصاحبة أقرب إلي توهم الشرک

ومقابلة فعل العبد لفعل الله تعالي عن ذلک علواً کبيراً، وباء الاستعانة أدلّ علي

ص: 107


1- في نهج البلاغة : الکتاب (31) و تحف العقول : ص 49: فاعتصم بالذي خلقک ...

التوحيد والتفريد ، کما قال الله تعالي : (ما أصابک من حسنة فمن الله )(1)

وقوله تعالي : (قل کل من عند الله )(2).

وقوله سبحانه علي ما أخبر به عنه رسول الله صلي الله عليه و اله وسلم : «يا ابن آدم ! بمشيتي کنت أنّت الذي تشاء لنفسک ما تشاء، وبإرادتي کنت أنّت الذي تريد لنفسک ما تريد، ويفضل نعمتي عليک قويت علي معصيتي، وبعصمتي وعفوي وعافيتي أدّيت إلي فرائضي، فأنّا أولي بحسناتک منک، وأنّت أولي بذنبک مني» الخبر (3)

والسادس : بأنّ المصاحبة والاستعانة مشترکتان في معني التبرک، إلا أنّک قد

سمعت الفرق بينهما بأنّ الأولي أقرب إلي الشرک ، والثانية أدل علي التوحيد.

ومن جميع ما سمعت يظهر وجوه أخر لترجيح کونها للاستعانة علي ما ذهب إليه کثير من المتأخرين، مضافا إلي إشعاره علي کونه تعالي هو المفيض للقوي والآلات والأدوات التي بها يتمکن العبد ويقتدر علي فعل الطاعات والمعاصي، بل جميع الأفعال، وأنّه هو الملهم الموفق لاختيار الحسنات واجتناب السيئات بعد صلوح الآلات والأدوات للأمرين ومعرفته للنجدين، کما اُشير إليه في الحوقلة لا حول من المعاصي، ولا قوة علي شيء من الطاعات، بل الأفعال إلا باعانة الله تعالي ، وفي بعض الإنتقالات الصلواتّية : بحول الله وقوته أقوم وأقعد، وأنّه تعالي هو القيوم الحق، والفياض المطلق ، فکلّ شيء سواه قام بأمره، کما في الخطبة العلويّة بلا فرق بين الذوات و الصفات والأفعال ، واليه الإشارة بقوله تعالي : (ومِن آياتِه أنّ تَقُوم السماوات والأرض بأمره) (4) وأنّ ذکر الإسم الکريم عند إبتداء الفعل، بل

ص: 108


1- النساء : 89.
2- النساء : 88.
3- عيون أخبار الرضاعليه السلام : ج 144/1 - 145، مع تفاوت في العبارات .
4- الروم : 25.

للتوسّل في الأفعال سيّما الخيرات بالأسماء اللفظّية فضلاً عن الحقيقيّة الّتي هي السُبُل والوسائل والشفعاء عند الله باذنه تعالي وسيلة إلي اتمام الفعل ووقوعه علي الوجه الأکمل الأفضل الأسهل حتي کأنّه لا يتأتّي له ذلک بل لا يوجد أصلاً إلّا بذلک.

وأمّا ما ذکره ثاني الشهيدين في شرح اللمعة : من أنّ کونها للملابسة أدخل في التعظيم، وللإستعانة لتمام الإنقطاع الاشعاره بأنّ الفعل لايتّم بدون إسمه تعالي.

ففيه أنّ المفّضل عليه في الأوّل ليس هو المفضّل في الثاني وإن جمعهما الإستعانة فإنه أحدهما أولا علي وجه الآليّة والابتذال ، وأخيراً علي معني العون والقوة فلا تغفل.

ثم إنّ هذه الوجوه وإن دلّت علي إرادة الإستعانة منها إلّا أنّها لا تمنع من إرادة غيرها أيضاً فانّ المصاحبة علي بعض الوجوه اللائقة بالمقام ملازمة للاستعانة.

وتوهم أنّه من قبيل استعمال اللفظ في المعني الحقيقي والمجازي، أو المشترک في معنييه، وإن کلا منهما غير جايز، بعيد عن الصواب بمراحل، فإنه مع الغض عما في الحکم بعدم الجواز علي بعض الوجوه حسبما قرر في محله لا يخفي أنّ الأصل في معاني الباء وأمها وأسها علي ما يظهر من إشارات کلماتهم هو الإلصاق، وغيره من المعاني راجعة إليه بإضافة بعض الخصوصيات التي يقتضيها خصوص الموارد، فحقيقة الاستعانة هو الإلتصاق والإتصال الحسي أو المعنوي بالمعين أو بالآلة، ومعني المصاحبة هو المعية الوجودية أو الفعلية أو الانفعالية حسية کانت أو معنوية ومرجعها إلي نحو من الإلصاق مغاير للمعني المتقدم .

وللسببية التي هي إلصاق المسبب بسببه لقضية السببية ، إلي غير ذلک من معانيها التي مرجعها إلي الإلصاق، وإن کان إرجاع بعضها إليه لا يخلو من تکلف،

ص: 109

ولذا أشرنا سابقا إلي أنّها معان مختلفة متغايرة.

وأما متعلق الباء ففيه وجوه ثمانية، فإنه إمّا فعل، أو إسم يشبهه وعلي

الوجهين إما عام أو خاص مؤخر عن الظرف أو مقدم عليه.

لکن قد يقال : إن الأولي هو الأوّل وهو الخاص الفعلي المؤخر.

أما الخصوص فلأنّ العام کمطلق إلابتداء يوهم بظاهره قصر الاستعانة علي

ابتداء الفعل فيفوت شمولها لجملته .

أقول : ويؤيده أنّ المناسبة في کل فعل أنّ يقدر ذلک الفعل، فتکون الاستعانة سارية في جميع أجزاء الفعل، علي أنّ القصد وهو العمدة في المقام متوجه نحو التوسل والاستمداد في خصوص ما يباشره من الفعل ولذا ينبغي لکل فاعل أنّ يضمر ما يجعل التسمية مبدءا له، فالداخل يضمر «بسم الله أدخل والخارج يضمر

بسم الله أخرج» والمتکلم يضمر «بسم الله أتکلم»، والقاريء يضمر «بسم الله أقرأ»

وهکذا.

وإنّما حذف المتعلق لدلالة المقام وسياق الکلام عليه.

ويدل عليه أيضاً ما روي في «تفسير الإمام عليه السلام »، وفي «التوحيد» عن مولانا أميرالمؤمنين عليه السلام قال : «بسم الله يعني بهذا الإسم أقرأ أو أعمل هذا العمل» (1)

نعم، في رواية أخري عنه عليه السلام قال : «بسم الله أي أستعين علي أموري کلها

بالله الذي لا تحق العبادة إلا له، المغيث إذا استغيث ،والمجيب إذا دعي» (2)

ولعل المراد التعبير عن معني الباء، أو أنّ الجمع باعتبار الموارد، لبيان خصوص المتعلق، فلا يکون منافيا لما مر، بل فيه دلالة علي کون الباء للاستعانة کما مر.

ص: 110


1- تفسير الصافي : ج 1 في تفسير سورة الفاتحة : ص 50 عن التوحيد ، وتفسير الإمام عليه السلام .
2- نفس المصدر .

نعم هاهنا مقام آخر، وهو أنّ العارف ربما يکون في مقام الانبساط الجمعي فلا يخصص شيئا من الأفعال بالاستعانة فيه وإن کان مشتغلابه ، وقد يکون أيضاً ملتفتا إلي شؤونه الجزئية المتکثرة التي لا تحصي فيجمل الجميع بالذکر باعتبار الجمع، مع أنّه ربما يکون في التخصيص الإيهام بعدم الحاجة إلي الإستعانة في غيره، وإن کان قد يکون لزيادة الاهتمام فيه بالخصوص.

وفي «العيون» و«المعاني» عن الرضا عليه السلام قال : «بسم الله يعني أسم نفسي

بسمة من سمات الله وهي العبادة ، قيل له : ما السمة ؟ قال : العلامة»(1)

وهو مبنيّ علي أنّ الإسم من الوسم بمعني العلامة، يعني أعلم نفسي بعلامة الله وهي العبادة التي جعلها علامة وسمة لعباده بها يمتازون عن غيره، فالمتعلق حينئذ ما يشتق منه.

وأما الفعلية فلأنّها لدلالتها علي التجدد والحدوث أقرب إلي التوسل والتذلل ودوام الانقياد والاستمداد من منبع الفيض والجود وسيلان الاستفاضة من تجليات شمس الوجود.

هذا مضافاً إلي إحتوائه علي رکني الکلام الذين هما المسند والمسند إليه، مع

أنّ إضمار المسند إليه يوجب تعلق الباء بغيره .

ثم إنه قد ذکر ثاني الشهيدين وبعض من تأخّر عنه أنّ الباء إن کانت للملابسة فالظرف مستقرّ حال من ضمير أبتدء الکتاب کما في دخلت عليه بثياب السفر، وإن کانت للاستعانة فالظرف لغو کما في کتبت بالقلم، وفيه نظر، إذ کما يمکن استفادة الاستعانة من الباء في الثاني مع تعلقها بالکتابة ، کذلک يمکن في الثاني استفادة

ص: 111


1- عيون أخبار الرضا عليه السلام: ج 260/1-261 ، ح 19.

التلبس منها مع تعلقها بالدخول، فيحتمل الأمرين کما نبّه عليه نجم الأئمة (1) وغيره.

وأما التأخر فلدلالته علي حصر المستعان به في اسم الله تعالي .

وقد يؤيد أيضاً بأنّه سبحانه لقدمه سابق في الوجود فيستحق اسمه السبق في الذکر مع کونه أدخل في التعظيم وأنّسب بقوله : (إياک نعبد)(2)وأقرب إلي قوله : «ما رأيت شيئاً إلا ورأيت الله قبله» (3)

ولعل الخطب في ذلک کله سهل، سيّما بعد وروده في القرآن علي الوجهين

کقوله تعالي : (بسم الله مجريها) (4)

وقوله : ( إقرأ باسم ربک ) (5) بل قد سمعت ورود الخبرين المتقدمين علي الوجهين .

وقد تبيّن مما ذکرنا أنّ موضع المجرور منصوب علي المفعولية ، وقيل : إنه مرفوع علي تقدير مبتدأ، وهو إبتدائي، أو قرائتي، علي أنّ يکون المقروء ما يلي البسملة، وأما إذا أردتها به فعلي الحکاية.

وأما الحقائق العلمية فاعلم أنّ الباء هي الحجاب الأعظم والباب الأقدم، والنقطة الجوالة، والرحمة السيالة، وباکورة الجنان، ونفس الرحمن، وسر الخليقة ، ومفتاح الحقيقة، والاستقامة علي الطريقة، ومظهر الوجود، وامتياز الشاهد من

ص: 112


1- نجم الأئمة : الشيخ رضي الدين محمد بن الحسن الاسترآبادي النحوي شاره الکافية والشافية ، توفي سنة (686) ه . - سفينة البحار: ج 3/ 373.
2- الفاتحة : 4.
3- مرصاد العباد : ص 305 وفيه : ما نظرت في شيء وقائله محمد بن واسع الزاهد البصري المتوفي سنة (123)ه
4- هود: 41.
5- العلق : 1.

المشهود، والعابد من المعبود، والقاصد من المقصود

فروي الشيخ الجليل البرسي(1) في «مشارق الأنّوار» عن مولانا

أمير المؤمنين روحي وروح العالمين له الفداء وعليه وعلي أخيه وذريته آلاف التحية والثنا أنّه قال : «ظهرت الموجودات من باء بسم الله وأنّا النقطة التي تحت الباء» (2)

وقال عليه السلام: «من الباء ظهر الوجود، ومن النقطة تميّز العابد من المعبود» (3).

وقال عليه السلام : «بالباء عرفه العارفون، وما من شيء إلّا والباء مکتوبة عليه، وهي

الحجاب » (4)

وقال عليه السلامعال کما في «أسرار الصلاة» وغيره: «لو شئت لأوقرت سبعين بعيرا من

تفسير باء بسم الله»(5)

وعن ابن عباس عنه عليه السلام : «آن کل ما في العالم في القرآن وکل ما في القرآن

بأجمعه في فاتحة الکتاب ، وکل ما في الفاتحة في البسملة، وکل ما في البسملة في الباء، وأنّا النقطة تحت الباء» (6)

قال الشيخ الجليل محمد (7)بن أبي جمهور في «المجلي»: إعلم أنّ قائل «أنّا

ص: 113


1- الحافظ الشيخ رجب البرسي ، فاضل، محدث ، شاعر، اديب من علماء الإمامية في أواخر القرن الثامن وفرغ من کتابه «المشارق» سنة (774) ه تقريبا ولا يعتمد المتأخرون علي ما تفرد بنقله
2- مشارق الأنّوار : ص 21 و 38.
3- مشارق الأنّوار : ص 38، وفيه : وبالنقطة تبين العابد عن المعبود .
4- نفس المصدر : ص 38.
5- عوالي التالي : ج102/4 ، ح150. المناقب لابن شهر آشوب : ج 43/2. ورواه في منهج الصادقين : ج 1 / 23 وفيه : سبعين بعيرا في تفسير فاتحة الکتاب .
6- ي شرح توحيد الصدوق للقاضي سعيد القمي ص 32 ما في معناه بتفاوت يسير
7- هو أبو جعفر محمد بن علي بن ابراهيم بن أبي جمهور الأحسائي الهجري المتوفي (960) ه. - الردود والنقود لآية الله المرعشي ص1.

النقطة تحت الباء» هو علي عليه السلام يلا دون غيره من الکُمل، نقله عنه أکابر الصحابة

کسلمان، وأبي ذرّ، وکميل بن زياد، وغيرهم، وأولاده عليه السلام»(1)

ورووا عنه ذلک في الخطبة الطويلة الافتخارية التي قال فيها ما هو أعظم من

هذا، حتي قال فيها:

«أنّا وجه الله ، أنّا جنب الله، أنّا يدالله، أنّا عين الله، أنّا القرآن الناطق، أنّا البرهان الصادق، أنّا اللوح المحفوظ، أنّا القلم الأعلي، أنّا ألم ذلک الکتاب، أنّا کهيعص، أنّا طه، أنّا جاء الحواميم، أنّا طاء الطواسين ، أنّا الممدوح في هل أتي، أنّا النقطة التي تحت الباء» (2)

وروي فيه في موضع آخر: عن النبي صلي الله عليه و اله وسلم أنّه قال : «ظهرت الموجودات من

باء بسم الله الرحمن الرحيم»(3)

وعن أمير المؤمنين عليه السلام قال : «لو شئت لأوقرت سبعين بعيراً من باء بسم الله

الرحمن الرحيم» (4)

قال : وتکلم فيه لابن عباس من أول الليل إلي آخره وقال : يا بن عباس ! لو

طال الليل لطلنالک.

وورد عن الکمّل : بالباء ظهر الوجود، وبالنقطة تميز العابد من المعبود(5). قال شيخنا التقي (6) المجلسي رحمة الله عليه في «روضة المتقين»: في

ص: 114


1- المجلي لابن أبي جمهور الاحسائي : ص 409.
2- راجع مشارق الأنّوار : ص 160- 172، فإنه نقل خطبا عنه عليه السلام في تعريف ذاته .
3- المشارق : ص 21 و 38.
4- عوالي اللئالي : ج 102/4. وفي لطائف المنن : ج 171/1 : لو شئت لأوقرت لکم ثمانين بعيرا من معني الباء
5- مشارق الأنّوار : ص 38 وفيه : وبالنقطة تبين العابد عن المعبود . .
6- هو المولي محمد نقي بن علي المجلسي المولود (1003) ه والمتوفي (1070) ه

المشهور بين الخاصة والعامة عن عبدالله بن عباس أنّه قال : کنت ليلة عند أمير المؤمنين عليه السلاموسألت عن تفسير الحمد، فشرع في تفسير بسم الله وقاله حتي أصبحنا فقلت له : يا أمير المؤمنين طلع الصبح ولم يتم تفسير بسم الله ، فقال عليه السلام : لو أردت بيانها لأوقرت سبعين جملا من تفسيرها(1)

ثم قال المجلسي رحمه الله : وذکر العالم الرباني، والفاضل الصمداني السيّد حيدر الآملي (2) «إنه صلوات الله عليه تکلم علي قدر فهم الخلايق، وإلا فأنّا عبد من عبيده و استفضت من أنّواره صلوات الله عليه قادر علي أکثر من ذلک.

أقول : ومجمل الإشارة إلي بعض اسرار النقطة أنّ الکتاب التدويني طباق ووفاق للکتاب التکويني، وقد قوبل به فما زاد منه ولا نقص بحرف من الحروف، ولذا قد وضع لکل حقيقة من الحقايق ولکل سر من الأسرار، ونور من الأنّوار عبارة من العبارات ، وکلمة من الکلمات وحرف من الحروف.

نعم، لو لم يکن الإذن في إظهاره يقفل باب البيان واللسان والجنان بقفل غيبي ملکوتي لا يهتدي صاحبه إلي مفتاحه سبيلا إلّا بعد حصول الإذن، وإلا فجميع الحقائق والمراتب والعوالم والمقامات المترتبة في السلسلة العرضية والطولية في قوسي الهبوط، والصعود مندرجة متترّلة في کسوة الحروف والألفاظ في کتاب الله المجيد الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تتريل من حکيم حميد ، کما قال عز من قائل:

( نزلنا عليک الکتاب تبيانا لکل شيء)(3)و(ولا ولکن تصديق الذي بين

ص: 115


1- روضة المتقين : ج 313/2 ، باب وصف الصلاة
2- هو السيّد حيدر بن علي حيدر الحسيني الآملي الصوفي کان حيا في سنة (781) ه وفي تلک السنة صنف في تأويل القرآن في سبع مجلدات .. أعلام الشيعة ج 66/3
3- النحل : 89.

يديه و تفصيل کل شيء )(1)و(لا رطب ولا يابس إلا في کتاب مبين) (2)و (وکل شيء أحصيناه في إمام مبين ) (3)

والأخبار في هذا المعني متظافرة متکاثرة، بل متواترة، فبسائط الکلمات

وهي الحروف محتوية علي بسائط العالم وحقائقها.

ولذا قال مولانا الرضا عليه السلام في خبر عمران الصابي: «إعلم أنّ الإبداع والمشية

والإرادة معناها واحد وأسماؤها ثلاثة، وکان أول إبداعه ومشيته وإرادته الحروف التي جعلها أصلا لکل شيء، ودليلا عليکل مدرک، وفاصلا لکل مشکل، وبتلک الحروف تفريق کل شيء من اسم حق أو باطل أو فعل، أو مفعول، أو معني، أو غير معني، وعليها اجتمعت الأمور کلها، ولم يجعل للحروف في إيداعه لها معني غير أنّفسها يتناهي ولا وجود لها، لأنّها مبدعة بالإبداع، والنور في هذا الموضع أول فعل الله الذي هو نور السماوات والأرض، والحروف هي المفعول بذلک الفعل، وهي الحروف التي عليها الکلام والعبارات » (4)

فالحروف باعتبار انبساط النقطة فيها واحتوائها عليها تسمي فعلا، کما عبر به الإمام عليه السلام أولا، وباعتبار تميزها عن النقطة وتحتلها منها تسمي مفعولا کما أشار إليه ثانيا. فعلي هذا فالفعل الذي هو المشية والإرادة والإبداع هو النقطة التي خلقها الله تعالي بنفسها وخلق الحروف بها

کما روي في «الکافي» عن أبي عبدالله عليه السلام ؟ قال : «خلق الله المشيئة بنفسها،

ثم خلق الأشياء بالمشيئة» (5)

ص: 116


1- يوسف : 111.
2- الأنّعام: 59.
3- يس : 12.
4- بحار الأنّوار : ج 314/10 ، عن توحيد الصدوق وعيون الأخبار .
5- بحار الأنّوار : ج 145/4، ح20 عن «التوحيد» للصدوق.

وهذه هي المشيئة التدوينية التي تطابق المشيئة التکوينية ، بل هي هي بعينها، نزلت من جبروت الحقيقة إلي ناسوت الحروف ، فهي مادة المواد، وحقيقة الحقائق، والواحد البسيط في الممکنات والموجودات واسطقس الأسطقسات ومنها ظهرت الموجودات کما في الخبر النبوي المتقدم

وهي القطب الذي تدور رحي الکائنات ، وإليه الإشارة في الخطبة الشقشقية

بقوله : «وإنّه ليعلم أنّ محلي منها محل القطب من الرحي».

أي من الخلافة المطلقة الکلية التکوينية والتشريعية، ولذا عقبه بقوله :

ينحدر عني السيل ولا يرقي إلي الطير» (1) فهي القطب الأعظم والعماد الأقوم، وإليها الإشارة بقوله تعالي :

(وکذلک جعلناکم أمة وسطا لتکونوا شهداء علي الناس ويکون الرسول

عليکم شهيدا) (2)

ولله در من قال :

قد طاشت النقطة في الدائرة ولم تزل في ذاتها حائرة محجوبة الإدراک عنها بها منها لها جارحة ناظرة سمت علي الأسماء حتي لقد قومت الدنيا علي الآخرة

ومما مر ظهر سر ما في الخبر من ظهور الموجودات بها ومنها، فإن المشية

الکلية هي الوجود المطلق المفاض من الوجود الحق، فإن الوجود ثلاثة :

الوجود الحق. والوجود المطلق.

ص: 117


1- نهج البلاغة : الخطبة الثالثة
2- البقرة : 143.

والوجود المقيد .

والأول: هو المجهول المطلق الذي لا سبيل إلي معرفته بوجه من الوجوه، من إسم أو رسم، أو نعت، أو وصف، أو إضافة، أو جهة، أو غير ذلک من السبحات والإضافات، فإن إلي ربک المنتهي، وفي النبوي: «إذا انتهي الکلام إلي الله فأمسکوا»(1)

وعن الباقر عليه السلام: «کل ما ميزتموه بأوهامکم في أدقّ معانيه فهو مخلوق

مثلکم مردود إليکم...» الخبر(2)

والوجود المطلق هو المحبة الکلية، والمشيئة الإلهية، والإبداع الأول والنور

الذي أشرق من صبح الأزل.

إلي غير ذلک من ألقابه الشريفة، وهو المعبر عنه في المقام بالنقطة، وباء بسم

الله، والحجاب الأعظم.

ولذا قال مولانا أمير المؤمنين عليه السلام ؟ : «بالباء عرفه العارفون، وما من شيء إلا

والباء مکتوبة عليه، وهي الحجاب(3)

أمّا إنّ العارفين عرفوه بها فلأنّ المشيئة الکلية لها جهتان :

جهة بسيطة واحدة متوجهة نحو المبدأ الفياض، وله المقام الإقبالي الاستفاضي. وجهاً متعددة بتعدد الموجودات، وله المقام الإدباري الإفاضي، فإن لکل موجود من الموجودات وجها من المشية يعّريالبر عنه بالمشية الجزئية ، وهي ذاته

ص: 118


1- بحار الأنّوار : ج 246/3، ح 22، عن أبي عبدالله الصادق عليه السلام.
2- شرح مسألة العلم لنصير الدين الطوسي : مسألة 15/، ص 43، وجامع الاسرار للسيد حيدر الآملي : ص 142، نقلا عنه ، والقبسات للمحقق الداماد ک ص 343 نقلا عن الطوسي أيضا
3- مشارق أنّوار اليقين : ص 38.

وحقيقته وکنهه الذي يبقي بعد کشف جميع الصفات والسبحات والاعتبارات وهي کنه الذات، وسر الارتباط کما لوحّ النبي صلي الله عليه و اله وسلم إليه الإشارة بقوله في العقل :

«إنه ملک وله رؤوس بعدد الخلائق أجمعين من خلق ومن يخلق إلي يوم

القيامة ، ولکل رأس وجه، ولکل آدمي رأس من رؤوس العقل...» الخبر(1)

فالعارف إذا قرع بابَ المعرفة، وأراد الصعود إلي سُرادق القدس، وحريم حرم الأنّس فليس له سبيل وطريق إلي الصعود إلا من الطريق الذي نزل منه وذلک يکشف سبحات الجلال، والتجرد والانخلاع عن غواشي جهات الأوصاف والأحوال، بشرط اضمحلال الإنانية، وهو المراد بسلب الإشارة في قوله:

«کشف سبحات الجلال من غير إشارة». . وإليه أشار القائل بقوله: بيني وبينک (إنّي) ينازعني فارفع بلطفک (إنّي) من البين

فإذا ارتفعت الإنية واضمحلت الهويّة، ولم تبق سوي المشية الجزئية المتصلة بالکلية، بل المنتهية إليها، بل المتبدلة بها لا بحقيقة التبدّل، بل بمعني أنّه لم يبق سواها، لأنّ الجزئي إذا ألقي جلباب المشخصات و تجرّد عن التقيد بالخصوصيات فهو الکلي بعينه لا من حيث إنه کلي، بل من حيث هو هو، فتجلّي الحق سبحانه له به فيه ، کما قال مولانا علي بن موسي الرضا عليهما آلاف التحبّة والثناء.

بها تجلي صانعها للعقول» (2)وقال الشاعر: إذا رام عاشقها ن ظرة ولم يستطعها فمن لطفها أعارته طرفا رآهابه فکان البصير بها طرفها

ص: 119


1- بحار الأنّوار : ج 99/1، ح 14.
2- البحار ج 4 ص 230 من التوحيد، والعيون .

وأمّا کتابة الباء علي کل شيء فلأنّ شمس المشيئة الکلية أشرقت علي کل

شيء فظهر بها کل شيء، ولولاها لم يظهر شيء.

فکل جميل حسنه من جمالها معار له بل حسن کل مليحة

وهذه الکتابة کتابة تکوينية إمکانية أو کونية بها ظهر کل ما دخل في صقع الإمکان أو الأکوان، وهذه الکتابة أدل علي المعني المراد من مجرد النقش الذي هو من نهايات مراتب الوجود، بل هي عين المکتوب والمکتوب فيه بلا مغايرة أصلا.

ثم اعلم أنّ من القواعد المصونة المکنونة في علم الحروف أنّ لکل کلمة من الکلمات وجها وقلبا ، فوجه الکلمة هو الحرف الأول وقلبها هو الحرف الوسط وعلي هذا المطلب دلالات وإشارات من الکتاب والسنة، ولذا ورد في تفسير

( بسم الله ):الباء بهاء الله ، والسين سناء الله ، والميم مجد الله(1)

وعن الکاظم عليه السلام : «أما حم فهو محمدصلي الله عليه و اله وسلم وهو في کتاب هود الذي أنّزل

عليه ، وهو کتاب منقوص الحروف»(2)

وعن الحجة عجل الله فرجه الشريف في تفسير(کهيعص ): أنّ الکاف إسم کربلاء، والهاء هلاک العترة، والباء يزيد لعنه الله ، والعين عطش الحسين عليه السلام وعترته ، والصاد صبره»(3)

إلي غير ذلک من الأخبار الکثيرة الواردة في تفسير فواتح السور وغيرها، بل

وقع ذلک کثيرا في رموز الحکماء وإشارات العلماء.

قال الشيخ الرئيس ابن سيناء (4)في قصيدته الروحية التي مطلعها:

ص: 120


1- الکافي : ج 114/1، ح1.
2- بحار الأنّوار : ج 87/14 ، ح 2.
3- بحار الأنّوار : ج 377/92 ، ح 8 عن «إکمال الدين»
4- هو الحسين بن عبدالله بن الحسن الفيلسوف الطبيب المتوفي (٤27) ه .

هبطت اليک من المحلّ الأرفع ورقاء ذات تعزّز وتمنع إلي أنّ قال : حتي إذا اتصلت بهاء هبوطها عن ميم مرکزها بذات الأجرع علقت بهاء ثاء الثقيل فأصبحت بين المعالم والطلوع الخضع الأبيات.... ولذا يعبرون عن علم الکيما بعلم الکاف.

وسمعت عن بعض الأعلام : أنّ مجنون ليلي، وزيد المجنون، أو بهلول العاقل لمّا اشتدً عليهما أمر التقنية کتبا إلي بعض الأئمة، ولعله أبو محمد العسکري عليه السلام يسألانه بيان کيفية التخلص من کيد المخالفين، فکتب عليه السلام علي ظهر کتاب مجنون ليلي حرف العين هکذا: (ع) يشير به إلي العشق، وعلي ظهر کتاب زيد المجنون حرف الجيم هکذا :(ج) إشارة إلي الأمر بالجنون، فأظهر الأول الأول والثاني الثاني، فاشتهرا بالأمرين، حتي صارا أعجوبة للأعيان وأضحوکة للصبيان.

وکان رسول الله صلي الله عليه و اله وسلم يقول لابن عباس:

کيف إذا ظلمت العيون العين ؟ فقال له : يا مولاي کلمتني بهذا مرارا ولم أعلم معناه . فقال صلي الله عليه و اله وسلم في جوابه ما حاصله

إنّ العين هو علي بن أبي طالب وعترته:، والعيون هم الذين يعادونه، وصرّح

بأسماء بعضهم(1)

ص: 121


1- في معاني الأخبار : ص 387، ح 21 مسندا عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلي الله عليه و اله : إذا ظلمت العيون العين کان قتل العين علي يد الرابع من العيون فإذا کان ذلک استحق الخاذل له لعنة الله والملائکة والناس أجمعين ، فقيل له : يا رسول الله صلي الله عليه و اله وسلم ! ما العين وما العيون ؟ فقال صلي الله عليه و اله وسلم ان أما العين فأخي علي بن أبي طالب ، وأما العيون فأعداؤه ، رابعهم قاتله ظلما وعدوانا .

إذا عرفت هذا فاعلم أنّ الباء إشارة إلي باب مدينة العلم والحکمة، کما قال

النبي صلي الله عليه و اله وسلم : «أنّا مدينة العلم وعلي بابها»(1)

وفي بعض الأخبار : «أنّا مدينة الحکمة وعلي بابها ، فمن أراد الحکمة فليأتها

من بابها» (2)

وإليه الإشارة بقوله تعالي : ( ولکن البر من اتقي وأتوا البيوت من

أبوابها )(3)

وقوله تعالي : (يوم يقول المنافقون والمنافقات ) (4)

في حب أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام حيث أظهروا الولاية، وأضمروا العداوة ، لذا وصفهم برذيلة النفاق للذين آمنوا بألسنتهم وقلوبهم وعقائدهم

وجوارحهم، (أنّظرونا نقتبس من نورکم )(5) فنسعي معکم بنو الولاية ويشملنا مواهب العناية والهداية (قيل ارجعوا ورائکم)(6) أي إلي الدنيا فإنها هي دار الزراعة والتجارة، وموطن تحصيل المحبة والولاية، ولذا أمروا سخرية واستهزاء بالرجوع إلي الدنيا لالتماس نور الولاية (فضرب بينهم بسور)(7) مدينة العلم والحکمة، وهو حقيقة النبوة التي ما رعوها حق رعايتها، وما أجابوها حق إجابتها، ولهذا السور باب وهو باب مدينة العلم، وهو باب الأبواب وفصل الخطاب، وصاحب المبدأ والمآب، ومن عنده علم الکتاب وهو الذي إليه الإياب، وعليه الحساب، الملقب بأبي تراب، باطنه لمحبيه الرحمة، وظاهره لمبغضيه من قبله العذاب ، ولذا قال النبي صلي الله و آله في تفسير الآية : «أنّا السور وعليّ الباب» (8)

ص: 122


1- بحار الأنّوار : ج 306/40 .
2- البحار : ج 81/69.
3- سورة البقرة : 189.
4- سورة الحديد : 13.
5- سورة الحديد : 13.
6- سورة الحديد : 13.
7- سورة الحديد : 13.
8- بحار الأنّوار : ج 227/7،ح148.

ثم إن مقتضي البابية هو التصرف والوساطة والولاية المطلقة في جميع الأمور التکوينية والتشريعية، وفي جميع الفيوض والظاهرية بحيث لا يصل إلي ذرة من ذرات وجود الشيء من الفيوض الإيجادية والإبقائية، وعدد من الإمدادات الذاتية والصفاتية إلا بولايته ووساطته وإحاطته، وهذا هو الذي أشير إليه في الحديث القدسي علي ما قيل أنّه من تتمة الخبر : «لولاک لما خلقت الأفلاک، ولولا علي لما خلقتک» (1)أي لو لا علي لم يکن لمدينة علمک وحکمتک التي ينتفع بها جميع العالم حتي آدم ومن دونه باب ينتفع به منها.

ولذا قال صلي الله عليه و اله وسلم: «أنّا صاحب اللواء وفي تحتها آدم ومن دونه من الأنّبياء،

وعلي حاملها»(2)

وإلي هذه الإحاطة والوساطة أشار الحجة عجل الله فرجه الشريف في

الدعاء الرجبية بقوله: «أعضاء، وأشهاد، ومناة ، وأزواد، وحفظة ، وروّاد» (3)

وفي «الکافي» عن محمد بن سنان قال : کنت عند أبي جعفر الثاني عليه السلام فأجريت إختلاف الشيعة، فقال عليه السلام : «يا محمد إن الله تبارک وتعالي لم يزل متفردة بوحدانيته ، ثم خلق محمداًوعلياً وفاطمة، فمکثوا ألف دهر، ثم خلق جميع الأشياء فأشهدهم خلقها وأجري طاعتهم عليها، وفوض أمورها إليهم، فهم يحلون ما يشاؤون، ويحرمون ما يشاؤون، ولن يشاؤا إلا أنّ يشاء الله تبارک وتعالي .

ثم قال : يا محمد! هذه الديانة التي من تقدمها مرق ومن تخلف عنها محق،

ومن لزمها لحق خذها إليک يا محمد» (4)

ص: 123


1- في بحار الأنّوار : ج28/15«لولاک لما خلقت الأفلاک» وفي ينابيع المودة : ج 1 /24 «لولاک لما خلقت الأفلاک» ، والجملة الثانية غير مذکورة فيهما.
2- ينابيع المودة : ج 2 / 263، ح 737 و «علي حاملها» غير موجود فيه .
3- مصباح الکفعمي : ص524.
4- بحار الأنّوار : ج19/15 ، ح 29 عن اصول الکافي : ج 441/1.

فالباء إشارة إلي باب مدينة العلم وبيت الحکمة وهو أول بيت وضع للناس،

ومن دخله کان آمناً.

ولذا قال الرضا عليه آلاف التحية والثناء: «إن الله سبحانه وتعالي يقول: لا إله إلا الله حصني فمن دخل حصني وجبت له الجنة ، ثم قال عليه السلام : بشرطها وشروطها وأنّا من شروطها»(1)

وإنما لم يکتف عليه السلام بذکر الشروط من الشرط مع وضوح شمول الجمع للمفرد، للإشارة إلي ترتب المراتب، وصيانة للأدب مع جده رسول الله صلي الله عليه و اله ان فإن الشرط إشارة إلي التصديق بنبوة النبي صلي الله عليه و اله وسلم ، والشرائط إشارة إلي الإيمان بأوصيائه وکافة شريعته ولذا عد نفسه الشريفة من جملة الشروط لا الشرط.

وحيث إن الباء في «بسم الله - الباب الذي هو أمير المؤمنين عليه السلام ،فالسين هو سيد المرسلين صلوات الله عليه وآله أجمعين ، کما قال [يس] علي أنّ الياء للنداء» .

وقال : سبحانه : (سلام علي أل ياسين ) (2)

وذلک لما نتهت عليه في موضع آخر من أنّ السين من الحروف النورانية وهي نظير الألف في الترتيب الأبجدي، والألف إشارة إلي الصادر الأوّل الذي هو مقام الفعل أي المشيئة الکلية، أو المفعول المطلق، أي العقل الکلي، وهو علي الوجهين نور محمد صلي الله عليه و اله وسلم ، وهذا من جهة البساطة والوجه الإقبالي والإستفاضي الجبروتي فيتجلي في عالم الناسوت، وفي الوجه الإدباري الإفاضي بصورة السين التي زيرها مطابق لبيتها تنبيها علي أنّه لا يشغله شان الإستفاضة عن شأنّ الإفاضة، وأنّه في غاية الکمال والاستواء فيهما وأنّه مظهر العدل الذي به قامت السماوات والأرض وهو أمر الله الفعلي الذي اشير إليه بقوله : (ومن آياته أنّ تقوم

ص: 124


1- شرح نهج البلاغة لابن ميثم البحراني : ج 1 / 238 في شرح خطبة (2) .
2- الصافات: 130.

السماء والأرض بأمره) (1)والمراد به نبينا صلي الله عليه و اله وسلم کما ورد في تفسير قوله تعالي : (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربي حقه وينهي عن الفحشاء والمنکر والبغي ) (2).

إن العدل هو النبي صلي الله عليه و اله وسلم ، والإحسان أمير المؤمنين ، والثلاثة الثلاثة أبو

الدواهي وأبو الشرور والملاهي.

ومن ذاق من لذائذ ثمار أسرار الحروف يعلم أنّ بينة (عدل) موافق لبيّنة

(محمد) صلي الله عليه و اله وسلم إذ کل منهما إثنان وثلاثون ومائة. هکذا: بيّنة (عدل) ي ن -ا- ل -ا-م

و5010 301 401وبينة (محمد) ي م - ا -ي - م - ا -ل

14010 14010 30

وأنّ زبر (إحسان) موافق لزير (عليّ) بتشديد الياء ، إذ کل منهما مطابق لعدد

120.

وفي التعبير عن الأول بالبيّنة، وعن الثاني بالزبر مع الإشارة إلي التقديم

والترتيب في قوله تعالي :(بالبينات والزبر) (3) سرّ لطيف :

فإنه صلي الله عليه و اله وسلم مدينة العلم وعلي بابها، والنبيصلي الله عليه و اله وسلم في مقام الإجمال والبطون،

والوصي عليه السلام في مقام التفصيل والظهور، وإليه الإشارة بما تقدم من قوله تعالي :

(فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله

العذاب )ه (4) أي من تقابله وعداوته.

ص: 125


1- الروم:25.
2- النحل : 90.
3- آل عمران : 184، والنحل: 44، وفاطر: 25.
4- سورة الحديد: 13.

ومن هنا يظهر سر ما رواه في «الکافي» عن الصادق عليه السلام قال: «أکتب بسم الله

الرحمن الرحيم، من أجود کتابتک، ولا تمد الباء حتي ترفع السين»(1)

أي لا تعد ولا تبسط ظل حقيقة الولاية ورحمة الفتوة علي سرادق الأکوان في العالمين إلا بعد رفع السين الذي هو مقام النبوة المطلقة وباطن الولاية الکلية ، فإن الولي يشمل من النبي الذي هو رفيع الدرجات، والولي متمم القابليات.

وإليه الإشارة بقوله عليه السلام : «الباء بهاء الله ، والسين سناء الله»(2)

والبهاء هو النور، والسناء الضياء، والضياء أرفع من النور، لأنّ النور يستمد

منه، (هو الذي جعل الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا) (3)

فاعلم أنّه روي الشيخ أبو جعفر ابن بابويه في کتاب التوحيد» بإسناده عن الصادق عليه السلام أنّه سئل عن تفسير (بسم الله الرحمن الرحيم)، فقال : «الباء بهاء الله ، والسين سناء الله ، والميم ملک الله.

قال السائل : الله ، فقال : الألف: آلاء الله علي خلقه والمنعم بولايتنا، واللام

إلزام خلقه ولايتنا..

قال : قلت : فالهاء ؟ قال : هوان لمن خالف محمد و آل محمد، قال : قلت : الرحمن ؟ قال : بجميع العالم ، قال : قلت : الرحيم ؟ قال : بالمؤمنين، وهم شيعة آل محمد خاصة»(4)

أقول: والمراد بهاء الله ، جلاله الذي هو مقام القهر والغلبة والاستيلاء والتمنع، والمراد بسناء الله جماله الذي هو مقام المحبة والمشاهدة والأنّس وکل من

ص: 126


1- الکافي ج 276/2 ، ح 2.
2- الکافي ج 114/1، ح 1.
3- سورة يونس : 5.
4- التوحيد ص 230 وعنه کنز الدقايق ج 1 ص 38.

إليها ، والسناء وإن کان کثيرا ما يطلق في الأخبار علي ما يعم الآخر کالجمال والجلال، لکنهما إذا اجتمعا افترقا، ولما کان قلب الجمال محتويا علي قلب محمد صلي الله عليه و اله وسلم اين دل علي الأنّس والإتلاف بالميم التي هي کمال الأربعة الحاکية عن الشکل المربع المقروت بالاتحاد والائتلاف.

کما أنّ قلب الجلال لاحتوائه علي قلب علي عليه السلام يدل علي القهر والغلبة باللام التي هي کمال الثلاثة الحالية عن الشکل المثلث ، وهو الشکل التفريق والتضاد والعناد

ولله در ابن (1) ابي الحديد المعتزلي حيث قال خطاباً لمولاي ومولي العالمين

أمير المؤمنين روحي له الفداء وعليه آلاف التحية والثناء

صدمت قريشا والرماح شواجر فقطعت من أرحامها ما تشجرا فلولا أنّاة في ابن عمک جعجعت بعضبک أجري من دم القوم أبحرا ولکن سرّ الله شطران فيکما فکنت لتسطو ثم کان ليغفرا

ولحفظ أدب البابية قدم السطوة علي المغفرة ، کما قدم الباء علي السين في البسملة، هذا في القوس الصعودي وبالنسبة إلينا، وأما في القوس النزولي فالنبوة مقدمة علي الولاية بثمانين ألف سنة، فإن النبي صلي الله عليه و اله وسلم ان مظهر جلال القدرة، وکان يطوف حول جلال العظمة، والولي مظهر العظمة وکان يطوف حول جلال القدرة .

کما روي عن النبي صلي الله عليه و اله وسلم ر ما رواه في «البحار» عن جابر بن عبدالله الأنّصاري أنّه سأله عن أول ما خلق الله ؟ فقال صلي الله عليه و اله وسلم : أول ما خلق الله نور بينک يا جابر کان يطوف حول جلال القدرة ثمانين ألف سنة فلمّا وصل إلي جلال العظمة

ص: 127


1- هو عبد الحميد بن محمد بن محمد بن الحسين بن أبي الحديد المدائني توفي ببغداد سنة (655) ه وهو معتزلي و من تصانيفه شرحه علي نهج البلاغة .

خلق فيه نور علي عليه السلام ، فکان نوري يطوف حول جلال العظمة ونور علي يطوف حول جلال القدرة ...» الخبر (1)

وذلک لأنّ القدرة مقدمة علي العظمة، فإنّ أول ما يظهر من القادر هو قدرته التي يصدر بها جميع أفاعيله وآثاره وشؤونه ولذا کانت لها الإستطالة علي کل شيء کما أشير إليه بقوله في دعاء السحر وغيره: «اللهم إني أسئلک من قدرتک بالقدرة التي إستطلت بها علي کل شيء وکل قدرتک مستطيلة». .

وهذه هي الولاية المطلقة التي هي باطن النبوة لا الولاية التي تقابلها، وهي الکلمة التي إنزجر بها العمق الأکبر يعني الإمکان فضلا عن الأکوان، وهي اليد التي في قبضتها السموات والأرض وملکوت کل شيء الآخذة بناصية کل دابة بل کل

شيء.

وأما العظمة فهي مقام الکثرة والظهور، وهي تحت القدرة إذ القدرة مقام الإجمال، والعظمة مقام التفصيل، والقدرة الأصل القديم والعظمة الفرع الکريم، والعظمة م ظهر الإرادة ولذا يعبر عن الأولي بالکاف وعن الثانية بالنون، واستدارته صلي الله عليه و اله وسلم حول جلال القدرة إستدارة ذاتية افتقارية استمدادية استفاضية علي التوالي، وهذه هو القدم الذي أشير إليه في الخطبة العلوية بقوله: و «وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله، استخلصه في القدم علي سائر الأمم علي علم منه، إنفرد عن التشاکل والتماثل من أبناء الجنس، وإنتجبه آمرا وناهيا عنه... الخ» (2)

ولم يزل متحرکا بالحرکة المتوالية السريعة إلي أنّ قطع المنازل الثمانية التي

ص: 128


1- بحار الأنّوار : ج 57 / 117 وج 22/25، ح 38.
2- بحار الأنّوار : ج113/97 ، ح 8.

هي الاستعداد والتمکن من الأسفار الأربعة في الغيب والشهادة ، وهي السفر من الخلق إلي الحق، والسفر في الحق بالحق، والسفر من الحق إلي الخلق ، والسفر في الخلق بالحق ، والمراد بالخلق نفسه لا غيره، وإلا فهو بعد لم ينزل إلي مقام غيره، فهذه الأسفار الأربعة في مرتبتي الغيب والشهادة ثمانية تنتهي بکمال العدد وترقيه إلي ثمانين، ولما کان مقامه صلي الله عليه و اله وسلم حينئذ مقام الربوبية إذ لا مربوب عينا لا ذکرة، رجعت المراتب إلي الأيام الربوبية، إذ (وإنّ يوماً عند ربک کألف سنة مما تعدون)(1)، فلذلک کان صلي الله عليه و اله وسلم يطوف حول جلال القدرة ثمانين ألف سنة، فلمّا خطه سبحانه بمزيد الالطاف ، وتم ميقات هذا الطواف إنتهي إلي أدني درجات حجاب القدرة وهو أعلي مقامات حجاب العظمة، فخلق منه نور علي عليه السلام ، کما قال عليه السلام : «أنّا من محمد کالضوء من الضوء» (2) وقال طلا : «أنّا عبد من عبيد محمد صلي الله عليه و اله وسلم » (3)

فطواف رسول الله صلي الله عليه و اله وسلم و حرکة إدبارية علي خلاف التوالي للإفاضة والتربية وطواف أمير المؤمنين حول جلال القدرة حرکة إقبالية علي التوالي للاستفاضة، فظهرت القدرة بالعظمة وظهرت العظمة بالملک المشار إليه بالميم في و (بسم الله ) ، ولذا کانت أئمتنا صلوات الله عليهم أجمعين شهداء علي الناس ، وکان الرسول صلي الله عليه و اله شهيدا عليهم ، کما قال تعالي فيهم:(وکذلک جعلناکم أمة وسطا لتکونوا شهداء علي الناس ويکون الرسول عليکم شهيدا)(4)

ها

را

:ها ماجد

ص: 129


1- الحج : 47.
2- جملة من کتابه عيه السم ليلا إلي عثمان بن حنيف وفيه : أنّا من رسول الله کالصنو عن الصنو - رقم 45 من الکتب في نهج البلاغة .
3- لم أظفر علي مصدر له .
4- البقرة: 143.

وفي قراءة الأئمة عليهما السلام :(1)

أئمة وسطا

والناس يشمل جميع الأنّام، بل في تفسير الباطن يشمل کافة الموجودات ، وعامة الکائنات، وجميع الذرات من الجمادات والنباتات، والحيوانات، والأمم السالفة مع أنّبيائهم، بل الملائکة المقربين والکروبيين، والملائکة العالين.

وهذه الجملة مع تظافر الأخبار عليها مستفادة أيضا من بعض الآيات کقوله تعالي: (وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالکم) (2)

وقوله : (إن من أمة إلا خلا فيها نذير) (3)

وقوله تعالي : (إذا جئنا من کل أمة بشهيد وجئنا بک علي هؤلاء

شهيدا)(4)

وهذه الشهادة هي الشهادة المستفادة إثباتا لا نفيا من قوله:

(ما أشهد تهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنّفسهم وما کنت متخذ

المضلين عضدا) (5)

ولذا وصفهم الحجة عجل الله فرجه في الدعاء الرجبية بقوله: «أشهاد

وأعضاد».

فرسول الله صلي الله عليه و اله وسلم لا هو الحجة الشاهد المفيض عليهم، وهم المستفيضون منه المستضيئون بنوره المفيضون علي الخلائق

ص: 130


1- لم اأظفر علي هذه القراء نعم في المقام روايات عشر فرت الائمة عليهما السلام راجع تفسير البرهان ج:159/1و ص 160و تفسير نور ثقلين ج 134/1و135.
2- الأنّعام : 38.
3- فاطر: 24.
4- النساء: 41.
5- الکهف:51.

قد سمعت أنّ الباء إشارة إلي مقام مولانا أمير المؤمنين عليه السلام ، فهي الباب، والحجاب ، والمبدأ والمآب، وطريق الصواب، ولب الألباب، والشمس الساطعة من وراء السحاب، ولها شؤون ربانية، وقوي ملکوتية.

فهي للاستعانة لما مر من الخبر الدال علي طوف مولانا أمير المؤمنين روحي له الفداء حول سرادق القدرة التي بها کان ما کان، ووجد الأکوان والأعيان، وهو الإنسان علمه البيان، فهو السبيل الأعظم، والمنهج الأقوم، به يفوز الفائزون ، وينجو الصالحون، ويصل الواصلون، وبه تمت الکلمة، وعظمت النعمة، وائتلفت الفرقة.

وهي للإلصاق لإيصال الفيوض الإلهية إلي الأرواح الملکوتية والأشباح الناسوتية، فيعطي بإذن الله کل ذي حق حقه، ويسوق إلي کل مخلوق رزقه، ولأيصال الخلق إلي الله بحبل ولايته، وعروة وثقي محبته، وجذية إحاطته وتصرفه، فهو حبل الله المتين وجنبه المکين.

قال الله تعالي : ( واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا)(1)

وقال : (وأنّ تقول نفس يا حسرتا علي ما فرطت في جنب الله )(2).

وللمصاحبة مع الله تعالي کما قالواعليهم السلام : «إن قلوبنا أوعية لمشية الله، فإذا

شئنا شاء الله»(3)

وقال عليه السلام: «ظاهري إمامة وباطني غيب لا يدرک».

ولمصاحبته مع الخلق کما قالوا: «إن لنا مع کل ولي لنا أذن سامعة وعين

ناظرة».

ص: 131


1- آل عمران : 103
2- الزمر: 56.
3- غيبة الشيخ الطوسي : ص 160 عن الإمام الحسن العسکري في جواب المفوضة ، وفيه : کذبوا ، بل قلوبنا أوعية لمشيئة الله فإذا شاء شئنا والله يقول : (وما تشاؤون إلا أنّ يشاء الله ) .

وللتعدية إذ به يصل الواصلون ويفوز الفائزون فإنّ کل ذرة من ذرات الوجود لا تصل وصولا فعلية إلي حقيقتها الکمالية الإمکانية إلا بنور الهداية وشرف الولاية ، فتتعدي اللوازم إلي إظهار مستجنات (1)الإمکان في عالم العيان في الأکوان والأعيان.

وللسببية، فإنهم عليهم السلام ما أسباب کينونات العباد، ووجوداتهم، وهدايتهم إلي مصالح المعاش والمعاد، ونزول البرکات الدينية والدنيوية عليهم، کما يستفاد ذلک کله من تضاعيف الأخبار المتواترة الدالة علي بدو أنّوارهم وأرواحهم، وأنّ کل ما سواهم من الذوات والأنّوار والخيرات والسعادات والبرکات إنما خلقت من أشعة أنّوارهم، بهم فتح الله وبهم يختم، وبهم ينزل الغيث ويهم يمسک السماء أنّ تقع علي الأرض إلا بإذنه ، وبهم ينفس الهم ويکشف الضر، وبهم علّمنا الله معالم ديننا وأصلح ما کان فسد من دنيانا.

وفي «التوحيد» عن الصادق عليه السلام قال : «إن الله خلقنا فأحسن خلقنا، وصوّرنا فأحسن صورنا، وجعلنا عينه في عباده ، ولسانه الناطق في خلقه، ويده المبسوطة علي عبادة بالرأفة والرحمة، ووجهه الذي يؤتي منه، وبابه الذي يدل عليه، وخُزاّنه في سمائه وأرضه، بنا أثمرت الأشجار، وأينعت الثمار، وجرت الأنّهار، وبنا نزل غيث السماء، ونبت عشب الأرض، وبعبادتنا عبد الله ، ولولا نحن ما عبدالله»(2)

والأخبار بهذا المضمون کثيرة لا تحصي مذکورة في «البحار» وغيره.

قال مولانا محمد صالح المازندراني طاب ثراه في شرح قوله عليه السلام : «بنا

أثمرت الأشجار»: أي بوجودنا وبرکتنا أو بأمرنا صارت الأشجار مثمرة .

ص: 132


1- مشارق الأنّوار : 167.
2- توحيد الصدوق : ص 140-141 وعنه بحار الأنّوار : ج 197/24 .

أما الأول : فلأنّ وجودهم سبب لبقاء نظام العالم، فلو لم يکن وجودهم لم

يکن عالم ولا نظام ولا أشجار ولا أثمار.

واما الثاني : فلأنّهم المدبّرون في هذا العالم بإذن ربهم.

أقول : ولعل الأولي ترک التقييد بهذا العالم في کلامه الأخير لما ورد من انهم

الحجج لله سبحانه علي خلقه في جميع العوالم التي ورد في بعض الأخبار أنّها ألف ألف عالم علي ما يأتي في تفسير قوله تعالي (رب العالمين ).

وبالجملة فهم المقصود في جميع النشئات والعوالم، ولذا خوطب النبي صلي الله عليه و اله وسلم

بقوله: «لولاک لما خلقت الأفلاک»(1)

وبقوله: «خلقتک لأجلي وخلقت الأشياء لأجلک» .

وقال مولانا أمير المؤمنين عليه السلام في بعض خطبه المذکورة في «نهج البلاغة»: نحن «صنايع الله والخلق بعد صنايع لنا أو صنايع الله لنا» (2). وإن کانت العبارة أيضأ صالحة للإشارة إلي کونهم العلة الفاعلية .

وفي الخبر المذکور في کتاب «الأنّوار» علي ما حکاه في البحار عن مولانا أمير المؤمنين روحي له الفداء : «إنّ نور نبينا محمد صلي الله عليه و اله وسلم بقي الف عام بين يدي الله عزّوجل واقفا يسّبحه ويحمده والحق تبارک وتعالي ينظر إليه ويقول : يا عبدي أنّت المراد والمريد وأنّت خيرتي من خلقي، وعزتي وجلالي لولاک لما خلقت الأفلاک» (3)

ص: 133


1- بحار الأنّوار : ج 28/15 و ج199/57 وفيه «لولاک ما خلقت الأفلاک» من غير اللام .
2- هج البلاغة : الکتاب 28، وفيه : فإنا صنائع ربنا والناس بعد صنائع لنا. وفي البحار ج 35 ص 178 عن الاحتجاج من توقيع الامام عجل الله تعالي فرجه الشريف : وفخر صنايع ربنا والخلق بعد صنائعنا.
3- بحار الأنّوار : ج 15 / 28، وفيه : «لولاک ما خلقت الأفلاک» من غير اللام .

وما ذکرناه من معاني حرف الباء أنّموذج يظهر لک باقي معانيها

وأميرالمؤمنين عليه السلام هو غيب ذلک کله وحقيقته ومبدؤه وأصله ومنشاؤه.

وإليه الإشارة بقوله: «أنّا النقطة تحت الباء» أي غيبها وسرها المستتر المقنع بالسر وحقيقتها المحجوبة في ذاتها المتترلة إلي عالم الناسوت، إذ ليس المراد هو النقطة الواقعة تحت حرف الباء بالمداد والسواد بحيث نميز الباء عن التاء والثاء والياء ، فإنها حدود عرضية وصفات خارجية وعلامات مميزة لا دخل لها في جوهر الذات، بل المراد أنّ الوحدة إما وحدة حقية لا تعرف بکم ولا کيف ولا جهة ولا إضافة ولا ذات ولا وصف ولا نعت ولا حقيقة ولا اعتبار، بل هو الواجب الحق والمجهول المطلق من حيث الذات لا من حيث الآثار، ولذا ينبغي قطع الطمع عن التکلم فيه تعالي الله عما يقول الظالمون علواً کبيراً.

وإمّا وحدة خلقية ولها تجليات ومظاهر في جميع العوالم المترتبة في السلسلة الطولية من الدرة إلي الذَرة ففي عالم الجبروت هي الوحدة وهي المشية الکلية ، ونور محمد وعلي عليه السلام ، وهذه الوحدة لا تزال تترل من عالم إلي عالم حتي تظهر في عالم الحروف الکتبية المنقوشة في الألواح والسطور بالنقطة التي هي أصل کل الحروف.

فإن أوّل ما يقع القلم في اللوح تظهر النقطة ولو قبل الجريان، فتظهر هي بنفسها وتتجلي ساير الحروف بها فهي آية تقنية ناسوتية المشية الکلية الإلهية ، کما قال عليه السلام : «خلق الله المشية بنفسها، ثم خلق الأشياء بالمشية» (1)

ثم اعلم أنّ الحروف تنقسم إلي حروف کتبية ولفظية ونفسية، فالباء مثلاً لها صورة کتبية منقوشة بالأقلام علي الألواح، وصورة لفظية حاصلة من تقطيع الهواء

ص: 134


1- بحار الأنّوار : ج145/4، عن توحيد الصدوق عن الصادق عليه السلام .

الخارجة بالاستنشاق عند مخرج ذلک الحرف المرکب من مادة وصورة فمادته هي الهواء الخارج وصورته اعتماده وتقطيعه عند خصوص مخرجه.

ولا ريب أنّ الباء المعّبر بها عن الباب الأقدم والحجاب الأعظم مخرجها باب الفم وهو الشفه لأنّ الله تعالي اخترعها بالخطاب الفَوَهاني الشفاهي بل لا يمکن التکلم إلا بعد انطباق الفم، لأنّه النور الفاتق لظلمة العدم.

( أو لم ير الذين کفروا (بولاية أمير المؤمنين) أنّ السموات (سموات العقول والمجردات )والأرض (أرض النفوس والماديات) کانتا رتقاً ففتقناهما) (1)بنور المشية الذي هو الفيض الأول، والنور الذي أشرق من صبح الأزل وهو الماء المطهر النافذ في العمق الأکبر ولذا قال :

(وجعلنا من الماء کل شيء حي)(2)

(أو لم يروا أنّا نسوق الماء إلي الأرض الجرز (وهي أرض الإمکان)

فتخرج به زرعاً تأکل منه أنّعامهم وأنّفسهم أفلا يبصرون) (3)

ص: 135


1- الأنّبياء : 30.
2- الأنّبياء : 30.
3- السجدة : 27.

ص: 136

الفصل الثاني :في الإسم

اعلم أنّ الناس إختلفوا في اشتقاق الإسم :

فعن الکوفيين : أنّ أصله (وسم) حذفت الواو وعوّضت عنها همزة الوصل ليقل إعلاله ، إذ بزيادة الهمزة ينجبر النقصان إذ الحذف يوجب مع انعدام خصوصية الحرف نقصان کمية ما ترکبت منه وبالتعويض ينجبر الثاني.

وردّ بأنّ الهمزة لم تعهد داخلة علي ما حذف صدره في کلامهم المطرد فيه تعويض الهاء في الآخر کما في (وعد) إذ لم يقولوا (اعد) بل قالوا (عدة)، کما أنّ المطرد فيما حذف عجزه تعويض الهمزة ، کما في (ابن وأخواتها).

وفيه بعد تسليم اطراد القاعدة في المقامين أنّ قضيتها في المقام (سمة) وقد استعملت أيضاً کما في الخبر عن الرضاعليه السلام في تفسير بسم الله قال «أسم نفسي بسمة من سمات الله»(1)

غاية الأمر أنّه استعمل في المقام علي وجه آخر أيضاً استعمالاً شايعاً ، کما أنّه استعمل بدون العوض أيضاً، إذ ذکروا أنّ من لغاته (سِم وسُم) بالکسر والضم،

کقول رؤبة (2)

ص: 137


1- نور الثقلين ج 11/1 ، ح 31 عن عيون الأخبار .
2- هو رؤبة بن عبدالله بن الحجاج بن رؤبة التميمي من الفصحاء المشهورين ومن مخضرمي الدولتين : الأموية والعباسية، توفي سنة (145) ه الأعلام : ج 62/3.

باسم الذي في کل سورة سِمه أرسل فيها باذلاً يقرمه

وقيل : إنه لا حذف ولا تعويض وإنما قلبت الواو همزة کإعاء وإشاح، ثم کره

استعماله فجعل همزته همزة وصل فوزنه (فعل) لا (إعل).

وعن البصريين : أنّه من( السمو) لأنّه رفعة للمسمي وشعار له ، فأصله (سمو)

بسکون العين مع کسر الفاء أو ضمه لا فتحه، لأنّه لا يجمع حينئذ علي أفعال.

قالوا: وهي من الأسماء العشرة التي حذفت أعجازها لکثرة الاستعمال وهي (إسم و إست وإبن وإبنه وإنم، وإثنان، وإثنتان، وإمرأ، وإمرأة، وأيمن) قسماً فبنيت أوائلها علي السکون، فتوصلوا إلي الابتداء بها بهمزة الوصل حذرة من الابتداء بالسکن المستحيل عند بعضهم المستنکر عند آخرين، وربما استشهدوا بشيوع استعماله في جمعة الأسماء والأسامي.

لکن عن «الصحاح» و«القاموس» أنّ الثاني جمع الجمع وفي تصغيره سُمَي وفي إسناد الفعل الضمير الحاضر سميت، ومجيء شمي کهدي لغة فيه کما أنّشدوا :

والله أسماک سُما مبارکاً آئرک الله به تبارکا

وإن قيل إنّه لا حجة في هذا الأخير لاحتمال أنّه علي لغة من قال (سم)

ونصبه لوقوعه مفعولاً.

وبالجملة قضية التصاريف المتقدمة کونه مأخوذاً من (السمو) إذ لو کان معتَّل الأول کما قال الکوفيون لقالوا في جمعه (أوسام) وفي تصغيره (وسيم) وفي الإسناد

وسمت) وتوهم حصول القلب المکاني فيها بأنّ يقال : أصل (أسماء أوسام).

وهکذا البواقي مع بعده لکونه خلاف الأصل مردود بأنّه غير مطرد في ساير

صيغ الاشتقاق ومن هنا يتجه أنّ الأشبه بقواعد الاشتقاق هو الثاني .

ص: 138

وأما الرضوي (1) المتقدم فکأنّه مبني علي الاشتقاق المعنوي لا الفظي . ثم إن فيه سبع لغات قد نظمها بعضهم بقوله: في الاسم سبعُ لغاتٍ کلها سُمِعت وإنّني قد جمعت الکلَّ مرتجلا إسم بکسر وضم مع سم بهما وفي سما بثلاث حيثما نقلا

ونظمها آخر مقتصراً علي الستّة:

اسم

بفتح أول والکسر مع همزة وحذفها والقصر ثم اعلم أنّ اسم الشيء ما يدل عليه دلالة لا يشارک مسمّاه في مرتبة دلالته شيء، فاللفظ الذي تکثّر معناه يدل علي کل من مسمياته دلالة لا يشارک مسماه غيره في مرتبة تلک الدلالة الجزئية، وذلک لقضية تعدد الوضع، ولا ينافيه دلالته علي مسماه الآخر أيضاً، إذ ذلک أيضاً بوضع وحداني مختص به لا يشارکه فيه غيره.

ولذلک يحصل التردد إذا استعمل اللفظ المشترک من دون قرينة معينّة. ومن هنا قال الأصوليون :

«إن عدم صحة سلب المعني عن المورد دليل علي مجازية اللفظ في غيره بالنسبة إليه، وکذا العکس، ومثل اللفظ المشترک الأوصاف المشترکة التي هي من الأسماء المعنوية، فإن دلالة کل منهما علي موضوعه من حيث عروضه لا يشارکه فيها غيره.

وبالجملة : قد سمعت أنّ الإسم مشتق من (الوسم) الذي هو العلامة اشتقاقاً لفظية أو معنوياً ، فکل ما کان علامةً لشيء من الأشياء، فهو من هذه الحيثية إسمه وذلک مسماه.

ص: 139


1- نور الثقلين : ج 11/1، ح 31 عن عيون الأخبار .

ومن هنا لا غرو أنّ يکونَ کلُ من الفعل والفاعل والمفعول، وکلَّ من الأثر والمؤثر، وکل ُمن العلة والمعلول، وکلُ من اللازم والملزوم إسماً للآخر، فکلُ منها إسم باعتبار ومسمّي باعتبار.

ومن هنا يظهر أنّ أسمائه سبحانه تنقسم إلي أقسام أربعة : ذاتيّة وفعليّة

ومعنوّية ولفظّية.

فالذاتية: هي المعاني التي يعّبر عنها بالذات وعن الذات بها، بل هي الذات حقيقة بلا مغايرة حقيقية أو اعتبارية ، ولذا لا فرق بينها وبين اطلاق المبادي والمشتقات العلم والقدرة والحياة ، فهو علم وعالم، قدرة وقادر، حي وحياة .|

کما قال الصادق عليه السلام : «هو نور لا ظلمة فيه، وحياة لا موت فيه، وعلم لا

جهل فيه، وحق لا باطل فيه»(1)

والفعلية : نفس فعله تعالي المعبر عنها بالإرادة والمشية والإبداع . کما قال الرضا عليه السلام : «إن أسمائها ثلاثة ومعناها واحد» (2) وهذا الإسم أقدم الأسماء وأعظمها، وأکرمها، وأتمها، وأحسنها، وأشرفها .

وهو الإسم العظيم الأعظم، الأجل الأکرم الذي وضعه الله علي النهار فأضاء

وعلي الليل فأظلم(3)

فإنه المشية التي دان لها العالمون ولها انقادت السموات والأرضون (4) . وأما الأسماء المعنوية: فهي الحقائق المخلوقة الجعلية من الکلية والجزئية

ص: 140


1- بحار الأنّوار : ج 70/4 ، ح 16 عن توحيد الصدوق.
2- البحار: ج 50/57 ، ح 27 ، وفيه : واعلم أنّ الإبداع والمشية والإرادة معناها واحد وأسماؤها ثلاثة ...
3- اشارة إلي ما في الدعاء الرجبية الخارجة من الإمام عليه السلام علي يد أبي جعفر محمد بن عثمان بن سعيد ، رواها المجلسي قدس سره في البحار: ج 393/98.
4- اشارة إلي ما في دعاء السمات المروية في البحار : ج 97/90.

والمادية والمجردة، الملکوتية والناسوتية، والبسيطة والمرکبة، والعلوية والسفلية، فإن کلا منها إسم من الأسماء الإلهية ، وهي المشار إليها في دعاء الکميل بقوله : وبأسمائک التي ملأت أرکان کل شيء ، وبنور وجهک الذي أضاء له کل شيء» (1)

وفي دعاء شهر رمضان : «اللهم إني أسألک باسمک الذي دان له کل

شيء»(2)

وبالجملة فکل حقيقة من الحقائق أو ذات من الذوات، أو وصف من الأوصاف ، أو عرض من الأعراض، اسم من أسماء الله ، وأعظمها أعظمها، وأکبرها أکبرها، وکل أسمائه عظيمة کبيرة، کما في دعاء السحر: «اللهم إني أسألک من أسمائک بأکبرها، وکل أسمائک کبيرة» (3)

وذلک لانتسابه إليه.

فشرافة الإسم بشراقة المسمي وعظمته وکبريائه ، فلذلک استأنّف الدعاء بقوله : «اللهم إني أسألک بأسمائک کلها»، حيث أنّها بأجمعها تدل علي العظمة والکبرياء

ومن هنا قيل: إن قوله تعالي : ( والتين والزيتون) أو (والشمس وضحاها) وقوله : (والضحي والليل إذا سجي) وغيرهما مما أقسم الله تعالي به من قليل وجليل وصغير وکبير أنّما هو بمنزلة قوله : «وعزتي وجلالي وکبريائي وقدرتي وجبروتي» إلي غير ذلک من الصفات الجمالية والجلالية، فإن کل شيء من الأشياء مظهر لتلک الصفات الذاتية والفعليّة.

ففي کل شيء له آية تدّل علي أنّه واحد

ص: 141


1- البحار: ج 326/86 .
2- بحار الأنّوار : ج 341/97 .
3- بحار الأنّوار : ج 370/97.

وفي الزيارة يسبح الله بأسمائه جميع خلقه (1). وقال مولانا الرضا عليه السلام : «الإسم صفة لموصوف» (2)

فکل صفة من صفاته الفعلية أو الذاتية إسم من أسمائه ، وکذا مظاهرها،

وآثارها، وأسبابها وعلايقها، ولوازمها، وهي الأسماء التي علمها الله أبانا آدم علي محمد وآله وعليه السلام کما في قوله : (وعلم آدم الأسماء کلها)(3)

فإن الله تعالي خلقه من صفر جميع العالم، وأودع فيه قبضة من جميع

العوالم، فآدم مجمع قوي العالم، کما قال مولانا أميرالمؤمنين عليه السلام :

أتزعم أنّک جرم صغير وفيک انطوي العالم الأکبر

وسيجييء الإشارة إلي هذا في تفسير الآية إن شاء الله تعالي.

وأما الأسماء اللفظية : فهي الألفاظ المؤلفة من الحروف الموضوعة للاقسام الأول لغرض التفهيم والتعليم والتعبير، کما قال أبو الحسن الرضا عليه السلام في خطبة : «فأسماؤه تعبير وصفاته تفهيم»(4)

وهذه في الحقيقة أسماء أسمائه، بل بأزيد من واسطة، فإن المعاني بعضها عنوان للآخر، فالإسم بهذه المعاني کلها غير المسمي، وليس المعبود الحق هذه الأسماء اللفظية الوضعية ، ولا معانيها المرتسمة منها في الأذهان، ولا الحقايق الکلية التي وضعت هذه الألفاظ بإزائها مع قطع النظر عن تحققها في الذهن أو في الخارج، فإن هذه کلها أسماء وصفات ، والمسّمي الحق وراء ذلک کله.

ص: 142


1- بحار الأنّوار : ج 89/ 303، ح 3.
2- البحار : ج 159/4 ، ح 3، عن التوحيد والمعاني والعيون .
3- البقرة: 31.
4- بحار الأنّوار : ج 4 / 228، ح 3، عن «التوحيد» و «العيون» عن أبي الحسن علي بن موسي الرضا عليه السلام وفيه : «فأسماؤه تعبير وافعاله تفهيم».

کما عن مولانا الصادق عليه السلام ؟ قال : «من عبد ربه بالتوهم فقد کفر، ومن عبد الإسم دون المعني فقد کفر((1)، ومن عبد الإسم والمعني فقد أشرک، ومن عبد المعني بإيقاع الأسماء عليه بصفاته التي وصف بها نفسه فعقد عليه قلبه ونطق به لسانه في سر امره وعلانيته فأولئک أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام حقاً». .

وفي خبر آخر: «أولئک هم المؤمنون حقأ» (2)

فالعبادة بالتوهم أنّ يعبد الحقيقة المعقولة المتصورة في الذهن ، فإن من يعبد ما في الأذهان کمن يعبد الأوثان وهم الذي يعبدون ما ينحتونه بأذهانهم والله خلقهم وما يعملون

ولذا قال مولانا الباقر عليه السلام : «کل ما ميزتموه بأوهامکم في أدق معانيه فهو

مخلوق مثلکم، مردود إليکم»(3)

[في أنّ الاسم هل هو عين المسمّي أو غيره ]

ومما ذکرنا يظهر ما هو الحق في المسألة المعروفة وهي أنّ الإسم هل هو

عين المسّمي أو غيره.

وقد طال التشاجر فيه بين المتکلمين ، فجلّ الأشاعرة بل کلّهم علي الأوّل ،

وأصحابنا الإمامية والمعتزلة علي الثاني.

وقد وردت بذلک جملة من الروايات عن الأئمة المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين کقول الصادق عليه السلام في خبر هشام: «والإسم غير المسمي، فمن

ص: 143


1- في البحار : ومن عبد الإسم ولم يعبد المعني فقد کفر» .
2- بحار الأنّوار : ج 166/4 ، ح 7 عن «التوحيد».
3- البحار : ج 292/69 .

عبدالإسم دون المعني فقد کفر ولم يعبد شيئاً ، ومن عبد الإسم والمعني فقد کفر، وعبد اثنين، ومن عبدالمعني دون الإسم فذلک التوحيد، أفهمت يا هشام؟

قال : فقلت : زدني جعلت فداک.

قال : إن الله تعالي تسعة وتسعين اسماً ، فلو کان الإسم هو المسمي لکان کل اسم منها إلهاً، ولکن الله معني يدل عليه بهذه الأسماء، وکلها غيره يا هشام، الخبز إسم للمأکول، والماء اسم للمشروب، والثوب اسم للملبوس، والنار اسم للمحرق»(1)

وغير ذلک من الأخبار وکان هذا الخلاف في زمن الأئمة عليهم السلام باب أيضاً ولذا ورد

السؤال عنه في بعض الأخبار.

ففي «الاحتجاج» عن ابي هاشم الجعفري وقال : کنت عند أبي جعفر الثاني عليه السلام في فسأله رجل، فقال : أخبرني عن الرب تبارک وتعالي أله أسماء وصفات في کتابه ؟ وهل أسماؤه وصفاته هي هو؟ فقال أبو جعفر عليه السلام :

«إن لهذا الکلام وجهين : إن کنت تقول : هي هو أنّه ذو عدد وکثرة، فتعالي الله عن ذلک، وإن کنت تقول : هذه الأسماء والصفات لم تزل فإنّ لم تزل تحتمل معنيين، فإن قلت : لم تزل عنده في علمه وهو يستحقها(2) فنعم، وإن کنت تقول: لم تزل تصويرها (3)

وهجاؤها وتقطيع حروفها، فمعاذ الله أنّ يکون معه شيء غيره، بل کان الله تعالي ذکره ولا خلق، ثم خلقها وسيلة بينه وبين خلقه، يتضرعون إليه ويعبدونه وهي ذکره، وکان الله سبحانه ولا ذکر، والمذکور بالذکر هو الله القديم

ص: 144


1- بحار الأنّوار : ج 157/4 - 158، ح 2، عن «التوحيد» و «الاحتجاج» .
2- في الکافي والتوحيد : وهو مستحقها
3- في البحار نقلاً عن «الاحتجاج» : لم يزل صورها وهجاؤها .

الذي لم يزل، والأسماء والصفات مخلوقات(1)- (2)الخبر.

ثم إن المتأخّرين لمّا رأو شناعة مقالة الأشعرية حيث ذهبوا إلي أنّ الإسم عين المسمي وأنّ العبارة التي يعبر بها عن المسمي تسميته تحيروا في تحرير محل البحث علي نحو يکون حريّاً لهذا التشاجر، فعن بعضهم حمل کلامهم علي ظاهره والحکم بسخافته.

ولذا قال الرازي في تفسيره: «إن هذا البحث يجري مجري العبث» (3)

وقال بعضهم: «إنّ الإسم إن أريد به اللفظ فغير المسمي، لأنّه يتألّف من أصوات مقطّعة غير قارة، ويختلف باختلاف الأمم والأعصار ويتعدد تارة کألفاظ مترادفة ويتحد أخري، والمسمي لا يکون کذلک، وإن أريد به ذات الشيء فهو المسمي ولکنه لم يشتهر بهذا المعني، وإن أريد به الصفة کما هو رأي الشيخ أبي (4)الحسن الأشعري، انقسم انقسام الصفة عنده إلي ما هو نفس المسمي وإلي ما هو غيره، وإلي ما ليس هو نفسه ولا غيره، فإنّ الصفة عنده منها عين الموصوف کالوجود ومنها غيره، وهي ما يمکن مفارقتها کالخلق والرزق، ومنها لا هو ولا غيره، وهي ما يمتنع انفکاکها کالقدرة والعلم.

وعن بعض الصوفية : إنّ الإسم هو الذات المتعيّنة بصفة، فتعين ذاته المقدسة

بصفة العلم اسمه العليم وبصفة القدرة هو القدير .

ص: 145


1- في التوحيد : «والصفات مخلوقة المعاني». وفي الکافي : «والأسماء والصفات مخلوقات والمعاني». .
2- بحار الأنّوار : ج 153/4، ح 1، عن «الاحتجاج». .
3- مفاتيح الغيب : ج 109/1 .
4- أبو الحسن علي بن اسماعيل بن ابي بشر المتکلم البصري ، توفي سنة (324) ه . . العبر : ج 208/2 .

قال القيصري(1) في شرح الفصوص»:

الذات مع صفة معيّنة واعتبار تجلّ من تجلياته تستي بالاسم، فإن الرحمن ذات لها الرحمة، والقهار ذات لها القهر، وهذه الأسماء الملفوظة هي أسماء الأسماء.

ومن هنا يعلم أنّ المراد بأنّ الإسم عين المسمي ما هو»(2)

قلت : وفيه، أنّه إن أراد بالصفة الصفات الذاتية التي لا مغايرة لها مع الذات الأحدية لا حقيقة ولا اعتبارا انتفي التعدّد، وإنّ أراد الفعلية أو الأعم إنتفت العينية .

وفي الکلمة الشعيبية من «الفصوص» أنّ الأسماء الإلهية عين المسّمي من

حيث الوجود وأحدية الذات، وإن کانت غيراً باعتبار کثرتها (3)

وبعض الأعلام جعل النزاع في المقام في أنّ المفهوم من اسم الله مثلا هل هو

عين المفهوم من الله أم لا؟

وعلي کل حال فاستّدل القائلون بالاتحاد بقوله تعالي :

(ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها ... ) (4). وهم إنما عبدوا الذات لا العبارة.

وأيضاً التسمية إنما يکون للذات لا العبارة.

وبقوله : (سبح اسم ربک الأعلي )فإنه أمر بالتسبيح، وهو التنزيه الذي يکون للذات القديم المنزه عن النقصان، لا للعبارة التي هو في حيز الحدوث والإمکان.

ص: 146


1- هو داود بن محمود بن محمد القيصري الرومي ، المتوفي سنة (751) ه
2- شرح فصوص الحکم: ص 13.
3- شرح الفصوص : ص 271.
4- سورة النجم: 23.

وبالبسملة فإن المستعان به هو الله الحي القيوم . وبقوله : ( تبارک اسم ربک ) (1)

وأجيب عن الجميع بأنّ المراد بالإسم في الآيات اللفظ لأنّه کما يجب تنزيه ذاته وصفاته عن النقائص يجب تنزيه الألفاظ الموضوعة لها من الرفث وسوء الأدب.

وبأنّ الإسم فيه مقحم کما في قول لبيد (2) يخاطب ابنتيه وقت وفاته : إلي الحول - ثم اسم السلام عليکما ومن يبک حولاً کاملاً فقد اعتذر

وبأنّ معني قوله (سّبح اسم ربک ) سبّحه، وهي ما يسبّح به ومثله قوله:

(فسبح باسم ربک العظيم) (3)أي سبح ربک باسمه.

وبأنّ من جملة صنوف التعظيم أنّ لا يصرّح بمن يراد تعظيمه، بل يذکر ما يتعلق به الحضرة والجناب کما يقول : السلام علي الحضرة العالية والسدة السنية والجناب الرفيع.

ثم بعد تسليم إطلاق الإسم و إرادة المسمي لا يلزم منه کون أحدهما عين

الآخر، بل کما في سائر المجازات.

واحتج من ذهب إلي المغايرة بقوله: (ولله الأسماء الحسني فادعوه بها )(4)

وبقوله : (وقل ادعوا الله وادعوا الرحمن أياما تدعوا فله الأسماء الحسني) (5)

وبالأخبار الکثيرة التي مرت إلي بعضها الإشارة، سيما مع اشتمالها علي

ص: 147


1- الرحمن : 78.
2- هو لبيد بن ربيعة العامري من مشاهير الشعراء ومن المعمرين ، قيل : توفي في إمرة عثمان بالکوفة ، وقيل : في سنة (41) ه عن مائة وخمسين سنة . - العبر : ج 1 / 50.
3- الواقعة : 74 و96.
4- الأعراف :180.
5- الإسراء :110.

بعض الأدلة القوية کقوله :

إن لله تسعة تسعين اسماً فلو کان الإسم هو المسمي لکان کل اسم منها

الهاً»(1)

وقوله: «الخبز اسم للمأکول» (2)

فإنه إشارة إلي بيان الفرق بين الاتحاد في المفهوم والاتحاد في المصداق، فإن مسمي الخبز مصداق المأکول ، ومفهوم المأکول لا يتصف بما يتصف به مصداقه ، فإن معني المأکول غير مأکول، ومعني المشروب غير مشروب، إنما المأکول والمشروب شيء آخر غير المعنيين، وهما الخبز والماء، فمجرد صدق الأسماء علي الله لا يدل علي اتحادهما في أنّفسهما، ولا علي عينيتها له سبحانه .

وبأنّه لو کان الإسم عين المسمي لصح عن يقال : (عبدت اسم الله) وارزقني اسم الله) و(أکلت اسم الخبز) و (شربت اسم الماء) وهذا مما ينسب قائله إلي الجهل.

وبانه إذا سئل عن إسم شخص يقال في جوابه اللفظ الموضوع له ، ولا يشار

إلي عينه.

هذا حاصل ما ذکروه في المقام مع زيادة تحرير وتحبير.

وقد تبيّن من جميع ما مرّ أنّ الإسم بأي معني من المعاني، وفي کل مرتبة من المراتب غير المسمي في تلک المرتبة، لأنّه قضية التسمية، فإن الواجب تعالي هو الوجود الحق الذي ليس فيه إطلاق، ولا تقييد، ولا عموم، ولا خصوص، ولا مهية أخري غير الوجود، بل إنته مهيته ، ومهيته إنيّته، فجميع الأسماء والصفات بألفاظها ومعانيها ومفاهيمها خارجة عنه مغايرة له، نعم، إنما خلقها الله تعالي ليدعوه بها

ص: 148


1- بحار الأنّوار : ج 4 / 158، ح 2، عن «الاحتجاج»
2- نفس المصدر .

عباده، وإنما المراد بها کلها هو المعبود الحق.

قال الصادق عليه السلام في خبر الزنديق:

«إنه هو الرب وهو المعبود، وهو الله، وليس قولي الله اثبات هذه الحروف: ألف ولام، وهاء لکني أرجع إلي معني هو شيء خالق الأشياء وصانعها، وقعت عليه هذه الحروف وهو المعني يسمي به الله، والرحمن، والرحيم وأشباه ذلک من أسمائه ، وهو المعبود جل جلاله (1)

ثم لا يخفي عليک أنّ ما ذکرناه من المغايرة إنما هو في غير الصفات الذاتية التي هي عينه بلا مغايرة حقيقية أو اعتبارية کالعلم الذاتي والقدرة والحياة والوجود.

فإن هذه الصفات الذاتية عين ذاته تعالي بلا مغايرة أصلاً، حتي أنّه لا فرق بين اتصافه بتلک المبادي أو بما اشتق منه کالعالم والقادر، بل علمه عين قدرته، وقدرته عين علمه، لاتحاد کل منهما مع الذات .

ففي «التوحيد» عن الصادق عليه السلام :

«لم يزل الله جل وعز ربنا والعلم ذاته ولا معلوم، والسمع ذاته ولا مسموع،

والبصر ذاته ولا مبصر، والقدرة ذاته ولا مقدور»(2)

وفيه عن هشام بن سالم قال : دخلت علي أبي عبد الله عليه السلام ، فقال لي:

«أتنعت الله تعالي ؟ قلت: نعم، قال : هات ! فقلت: هو السميع البصير، قال : هذه صفة يشترک فيها المخلوقون ، قلت : وکيف تنعته ؟ فقال : هو نور لا ظلمة فيه ، وحياة لا موت فيه، وعلم لا جهل فيه، وحق لا باطل فيه»(3)

ص: 149


1- بحار الأنّوار : ج 196/10 ، ح 3 عن «التوحيد»
2- بحار الأنّوار : ج 4 /71، ح 18 عن «التوحيد
3- بحار الأنّوار : ج70/4 ، ح 16 عن «التوحيد» .

استبصار

روي ثقة الإسلام في «الکافي» والصدوق في «التوحيد» مسنداً عن الصادق عليه السلام قال: «إن الله تبارک وتعالي خلق أسماً بالحروف غير مصوت (1)وباللفظ غير منطق، وبالشخص غير مجسد، وبالتشبيه غير موصوف ، وباللون غير مصبوغ، منفي عنه الأقطار، مبعد عن الحدود، محجوب عنه حس کل متوهم، مستتر غير مستور، فجعله کلمة تامة علي أربعة أجزاء معا ليس منها واحد قبل الآخر، فأظهر منها ثلاثة أسماء الفاقة الخلق إليها وحجب واحداً منها، وهو الإسم المکنون المخزون، فهذه الأسماء الثلاثة التي ظهرت، فالظاهر هو الله تبارک وتعالي، وسخّر سبحانه لکل إسم من هذه الأسماء أربعة أرکان ، فذلک اثني عشر رکنا، ثم خلق لکل رکن منها ثلاثين اسماً فعلاً منسوباً إليها فهو الرحمن الرحيم، الملک، القدوس، الخالق، الباريء، المصور، الحي القيوم، لا تأخذه سنة ولا نوم، العليم، الخبير، السميع البصير، الحکيم، العزيز، الجبار، المتکبر، العلي العظيم ، المقتدر، القادر، السلام، المؤمن، المهيمن، الباريء(2) المنشيء، البديع، الرفيع ، الجليل، الکريم، الرزاق (3)، المحيي المميت، الباعث، الوارث.

فهذه الاسماء وما کان من الأسماء الحسني حتي تتم ثلاثمائة وستون اسماً،

فهي نسبة لهذه الأسماء الثلاثة.

وهذه الأسماء الثلاثة أسماء (4)وحجب للاسم الواحد المکنون المخزون بهذه الأسماء الثلاثة، وذلک قوله عز وجل :( وقل ادعو الله أو ادعوا الرحمن ، أيا ما

ص: 150


1- في الکافي : « غير متصوت» ، وفي التوحيد «غير منعوت».
2- مکرر ، ولعله من النساخ.
3- في البحار : الرازق .
4- في البحار : وهذه الأسماء الثلاثة أرکان .

تدعوا له الأسماء الحسني) (1)-(2)

أقول: والمراد بهذا الاسم والله أعلم وقد علمه معادن علمه، هو الصادر الأول عن الواجب، وهو الوجود المطلق، والنفس الرحماني، والنور الشعشعاني، والبشر الأول بل الثاني، والسبع المثاني ، ومقام البيان والمعاني ، والغيب الأول، والنور الذي أشرق من صبح الأزل، وفلک الولاية المطلقة والکاف المستديرة علي نفسها ، والمشية الکلية، والمحبة الحقيقية، والحضرة الواحدية، والحقيقة المحمدية، والولاية العلوية، والسر المستتر، والسر المقنع بالسر، ومبدأ الأسماء والصفات، وأول مقام شؤون الذات، والشمس الطالعة في أفق لم يزل، ووجه الله عزّوجلّ، والقديم الأول، إذ الحق تعالي هو القديم المطلق الذي لا ثاني له، وإليه الإشارة في الخطبة الأميرية الغديرية علي منشئها آلاف الثناء والتحية بقوله: «استخلصه الله في القدم علي سائر الأمم، أقامه في سائر عوالمه مقامه في الأداء، إذ کان لا تدرکه الأبصار ولا تحويه خواطر الأفکار» (3)

وهذا الاسم هو قطب الاقطاب، وباب الأبواب، وحقيقة أم الکتاب، ومنه المبدأ، وإليه المآب، وبحر الإمکان والأکوان، والمقامات التي لا تعطيل لها في کل مکان وصاغورة الجنان، وباکورة نفس الرحمان، والانسان الذي علمه البيان وباء البسملة وسر الحوقلة، ومظهر الحمدلة، وحقيقة السمعلة، إلي غير ذلک من الأسماء الشريفة والألقاب المنيفة.

وهذا الاسم بالحروف غير مصوت، لأنّ الصوت من الأعراض الضعيفة والأوصاف السخيفة، وحروف هذا الاسم عالية لامعة، وکلماتها متعالية جامعة

ص: 151


1- الاسراء : 110.
2- بحار الأنّوار: ج 166/4 ، ح 8، عن توحيد الصدوق.
3- بحار الأنّوار : ج 97/ 113، عن مصباح الزائر .

وهي المشار إليها بقول مولانا الرضا عليه السلام وروحي وروح العالمين له الفداء وعليه وعلي آبائه وأبنائه آلاف التحية والثناء في خبر عمران الصابي حيث قال :

واعلم أنّ الإبداع والمشية والإرادة معناها واحد وأسماؤها ثلاثة، وکان أول إبداعه وأرادته ومشيته الحروف التي جعلها أصلاًلکل شيء ودليلاً علي کلَّ مدرک وفاصلاً لکل مشکل، وبتلک الحروف تفريق کل شيء من أسم حق او باطل ، أو فعل أو مفعول، أو معني أو غير معني، وعليها اجتمعت الأمور کلها» (1)

لکن الحروف في هذا الخبر هو الرکن الرابع من هذا الإسم کما ستعرف.

وباللفظ غير منطق، لما سمعت ، بل نطق به الله سبحانه من غير لفظ، يقول

ولا يلفظ ، ويري ولا يلحظ.

ففي «تأويل الآيات» بالإسناد عن أبي حمزة الثمالي عن أبي جعفر عليه السلام قال :

«قال أمير المؤمنين عليه السلام : إن الله تبارک وتعالي أحد واحد تفرد في وحدانيته ، ثم تکلّم بکلمة فصارت نوراً ، ثم خلق من ذلک النور محمداًصلي الله عليه و اله وسلم ، وخلقني وذريتي، ثم تکلّم بکلمة فصارت روحاً فأسکنه الله في ذلک النور، وأسکنه في أبداننا، فنحن روح الله وکلماته، وبنا احتجب من خلقه» (2(2)

وفي «مصباح الأنّوار» أنّه سَئَل العباسُ : کيف کان بدو خلقکم يا رسول الله ؟ فقال: «يا عم ! لما أراد الله تعالي أنّ يخلقنا تکلم بکلمة خلق منها نوراً ، ثم تکلم بکلمة أخري فخلق منها روحا، ثم خلط النور بالروح فخلقني وخلق علياً وفاطمة والحسن والحسين»(3)

وبالشخص غير مجسد لتقدس ذاته عن الاتصاف بعوارض الماديات من

ص: 152


1- بحار الأنّوار : ج 10/314، ح 1.
2- بحار الأنّوار : ج 10/15 ، ح10.
3- بحار الأنّوار: ج 193/57 .

التجسّد والتجسّم والتجزية والتفکيک والتحليل.

وبالتشبيه غير موصوف ، فإنه ليس کمثله شيء بناءً علي أنّ الکاف للتشبيه وليست زائدة ، لأنّ المثل بکسر الميم وسکون المثلثة والمَثَل بالفتحتين عندنا بمعني واحد والمراد به الصفة، فإن صفة الشيء مثله ، بل لا يعرف الشيء إلا بصفته التي هي مثله ، ولله المثل الأعلي في السموات والأرض.

وفي الأدعية : «أسئلک بأسمائک الحسني وأمثالک العليا» . وفي الجامعة الکبيرة : «انهم المثل الأعلي». .

وذلک لأنّهم الآيات التي يستدل بها عليه سبحانه، فهم مثله أي مثل صفته

التي تدل عليه کما قال مولانا أميرالمؤمنين عليه السلام :

صفة استدلال عليه، لا صفة تکشفٍ له»..

فصح بذلک ثبوت المثل واتضح نفي المثل، ولا يستلزم ذلک نفي الذات کما

توهم لأنّ الموصوف لا يصح أنّ يکون صفة لصفته.

وباللون غير مصبوغ لا بالألوان بل بصبغة الله التي هي حکاية فعله ، وتجوهر

أنّوار قدسه «ومن أحسن من الله صبغة» (1)

منفي عنه الأقطار لبساطته المطلقة التي لا أبسط منه في أفق الأکوان

والوجود، فلا يتصف بشيء من الأقطار والحدود.

محجوب عنه حس کل متوهم لأنّه عال متعال من أنّ تناله الأوهام أو تدرکه الأفهام، وذلک لأنّه إنما تحد الأدوات أنّفسها، وتشير الآلات إلي نظائرها، وتوهّم کل متوهم إنما هو من سنخ رتبته لا يجاوز طوره ومقامه، فالمحجوب إنما هو حسّ المتوهم لقصوره في ذاته وانحجابه بنفسه، لا ذلک الاسم، فإنه ظاهر مکشوف باهر

ص: 153


1- سورة البقرة : 138.

معروف، هذا کاحتجاب الشمس عن أعين الخفافيش.

نعم، في تعليق الحکم علي الموصوف إيماء إلي أنّه يمکن إدراکه بنور الفؤاد الذي هو أعلي مشاعر الإنسان ، وذلک لأنّه المشية الجزئية ، والکلية الإلهية ، وذلک، بعد محو الموهوم، وصحو المعلوم، لتنکشف سبحات الجلال من غير إشارة ، إذ مع الإشارة إلي الکشف والمکشوف يکون الحجاب نفس الإشارة ، فانهم الإشارة مع قصور العبارة.

مستتر غيرمستور، فإنّ الاستتار والاحتجاب من المشاعر يکون علي وجوه

ثلاثة : ضعف الشيء في نفسه، وحيلولة الحجاب بينه وبين المدرک، وضعف المدرک وقصوره عن إدراکه والإحاطة عليه، لاضمحلال نوره، وتلاشي ظهوره، بمجرد إشراق شمس وجوده عليه.

بل هاهنا وجه رابع : وذلک أنّ يکون الشيء في نهاية الاستغراق والشمول وفي غاية الإطلاق والعموم بحيث لا يشذ عن ظهوره ذرة من ملکوت السموات والأرض، وقد أحاط بسلطانه وهيمنته وإشراقه وأشعته علي جميع الکائنات من الدرة إلي الذرة فصار ظهوره سبب خفائه.

ولا غرو في ذلک، فإن الأشياء تستبان باضدادها (1) وما عمّ وجوده حتي لا ضد له عسر إدراکه ومثاله کما قيل : نور الشمس المشرق علي الأرض، فإنا نعلم أنّه عرض من الأعراض يحدث في الأرض ويزول عند غيبة الشمس، فلو کانت

ضد را از ضد توان ديد أي فتي

ص: 154


1- قال الرومي: بد نداني تانداني نيک را وقال الشبستري: ظهور جمله اشيا بضد است اگر خورشيد بر يک حال بودي ندانستي کسي کاين پر تو اوست ولي حق را نه مانند ونه ند است شعاع او بيک منوال بودي نبودي هيچ فرق از مغز تا پوست

الشمس دائمة الإشراق لا غروب لها لکنا نظن أنّ لا هيئة في الأجسام إلا ألوآنها وهي السواد والبياض وغيرهما، فإنا لا نشاهد في الأسود إلا السواد، وفي الأبيض إلا البياض وهکذا.

وأما الضوء فلا ندرکه وحده، ولکن لمّا غابت الشمس واظلمت المواضع أدرکنا التفرقة بين الحالتين، فعلمنا أنّ الأجسام کانت قد استضاءت بضوء، وأتصفت بصفة فارقتها عند الغروب، فعرفنا وجود النور بعدمه، وما کنا نطلع عليه لولا عدمه إلا بعسر شديد، وذلک لمشاهدتنا الأجسام متشابهة غير مختلفة في الظلام والنور.

هذا مع أنّ النور أظهر المحسوسات فهو الظاهر بنفسه المظهر لغيره، وقد

خفي أمره بسبب ظهوره لولا طريان ضده.

فالوجود المطلق فضلاً عن الحق حريّ بالاختفاء لفرط ظهوره وشدة

نوره (1)

فجعله بالجعل الإبداعي التکويني کلمة تامة لتمامية المتکلّم به وکماله في

صفتي الجلال والجمال علي أربعة أجزاء فإن للمشية الکلية أربعة مقامات:

الأول : مقام اسم الفاعل ومثاله القايم من زيد فإن زيدأ لمّا ظهر بصفة القيام قيل له : القائم، ففعله قيامه، وهو القائم لکن لا بذاته، ولذا لو قعد لم يکن قائماً ، بل بفعله، فهو اسم الفاعل من حيث هو فاعل، وهو الذي خلقه الله بنفسه وأمسکه بظلّه، فإنه تعالي لا ظل له يمسکه، وهو يمسک الأشياء بأظلّتها، وهو المشار إليه

الظاهر الباطن في ظهوره

ص: 155


1- قال الحکيم المتأله السبزواري : يا من هو أختفي لفرط نوره وقال الشبستري: جهان جمله فروغ نور حق دان حق اندروي زبيدائي است پنهان

في الدعاء الرجبية المهدوية عجل الله فرجه بقوله:

و مقاماتک التي لا تعطيل لها في کل مکان يعرفک بها من عرفک، لا فرق

بينک وبينها إلا أنّهم عبادک وخلقک»(1)

الثاني : مقام الفعل الذي قال الرضا عليه السلام : «أسماؤه ثلاثة ومعناه واحد، وهي

الإبداع والإرادة والمشية ..» (2)

الثالث : مقام المفعول المطلق وهو الوجود المنبسط والظل الممدود .

الرابع : مقام المفعول الأول وهو التعين الأول، والنور الذي أشرق من صبح الأزل، وصبح الأزل هو المشية، وهذا النور هو النور المحمدي صلي الله عليه و اله وسلم وهو أول فايض عن الفعل، ومن أشعته خلق الله سبحانه کل شيء المؤمن من نفس الشعاع، والکافر من عکس الشعاع.

وهذه الأربعة لها معية وحدانية، ليس منها واحد قبل الآخر، وإنما التفکيک والتحليل بينها في التريل الفؤادي ، وإلا فهي واحدة وما أمرنا إلا واحدة (3)وهي المشار إليها بقوله: «خلق الله المشية بنفسها» (4)

فأظهر منها الثلاثة الأخير لفاقة الخلق وحجب منها : الأول، فإنه المکنون

المخزون، حارت دونه الأفکار وکلت عن رؤيته الأبصار.

ثم إنه لما کانت هذه المراتب والمقامات حادثة ما استغنت کل مرتبة منها من أربعة أرکان: الخلق والحياة والرزق والموت، وهي الأرکان الأربعة للعرش الإلهي في الدنيا المشار إليها بقوله : (الله الذي خلقکم ثم رزقکم ثم يميتکم ثم

ص: 156


1- بحار الأنّوار: ج 393/98.
2- بحار الأنّوار : ج 10 /314، ح 1.
3- سورة البقرة : 50.
4- بحار الأنّوار : 145/4، ح20 عن توحيد الصدوق.

يحييکم )(1)

فإن من جملة إطلاقات العرش هو المشية الکلية ، بل هو أول إطلاقانه ،

وأعلي مقاماته، وهي المشار إليها بقوله في الجامعة الکبيرة :

«خلقکم الله تعالي أنّواراً فجعلکم بعرشه محدقين» (2)

وهو العرش الأعظم الذي استوي عليه الرحمن برحمانيته، الجامع للمقامات الأربعة المتقدمة، فإذا اعتبرت الأرکان الأربعة في العوالم الثلاثة کان المجموع اثني عشر.

ثم إن الله تعالي لما نزّلها من علوّ قدسها سمّو مکانها، ومقامها سار بکل مرتبة من تلک المراتب في ثلاثين عالماً، وأظهرها في جميع هذه العوالم، فتّمت کلمته، وعظمت نعمته، وبلغت حجّته، وکملت عطيّته فسار بکلّ منها في عالم الوجود المقيّد، ثمّ في عالم العقل، ثمّ في عالم الروح، ثم في عالم النفس، ثم في عالم الطبيعة، ثم في عالم الهيولي، وهي المادة ثم في عالم الصورة، ثم في عالم المثال، ثم في عالم العناصر الجسمانّية، ثم في عالم الأعراض، ولکلّ منها ثلاث مراتب: الأعلي، والأوسط، والأسفل، فتمام الأدواد والأطوار والمراتب تنتهي الي ثلاثمائة وستّين.

لکن لا يخفي أنّ هذا العدد إنّما هو باعتبار ما عندنا، وإلّا (وإنّ يوماً عند ربک کألف سنة مما تعدون) (3) ولّما کان العرش الأعظم من عالم الربوبية، کان عدد أرکان ثلاثمائة وستون ألفاً کما رواه مولانا أبو محمد العسکري روحي له الفداء وعلي ابنه و آبائه آلاف التحية والثناء في تفسيره ، قال :

ص: 157


1- سورة الروم : 40.
2- الجامعة الکبيرة المروية عن الامام الهادي عليه السلام
3- الحج: 47.

قال رسول الله صلي الله عليه و اله وسلم : إنّ الله لما خلق العرش خلق له ثلاثمائة وستين ألف رکن، وخلق عند کل رکسن ثلاثمائة ألف وستين ألف ملک، لو أذن الله تعالي الأصغرهم فالتقم السموات السبع والأرضين السبع ما کان ذلک بين لهواته إلا کالرملة في المفازة الفضفاضة (1) فقال لهم الله : يا عبادي احتملوا عرشي هذا، فتعاطوه، فلم يطيقوا حمله ولا تحريکه، فخلق الله عزّوجل مع کل واحد منهم واحدة فلم يقدروا أنّ يزعزعوه، فخلق الله مع کل واحد منهم عشرة فلم يقدروا أنّ يحّرکوه فخلق الله بعدد کل واحد منهم مثل جماعتهم فلم يقدروا أنّ يحرّکوه ، فقال الله عزوجّل لجميعهم : خلوه علي أمسکه بقدرتي، فخلّوه فأمسکه الله عزّوجل بقدرته، ثم قال لثمانية منهم: إحملوه أنّتم، فقالوا: يا ربنا لم نطقه نحن وهذا الخلق الکثير والجم الغفير فکيف نطيقه الآن دونهم؟ فقال الله عزّوجل : لأنّي أنّا الله المقرّب للبعيد، والمخفّف للشديد والمسهّل للعسير، أفعل ما أشاء وأحکم ما أريد، أعلّمکم کلماتٍ تقولونها يخفّف بها عليکم، قالوا: وما هي ؟ قال : تقولون : بسم الله الرحمن الرحيم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلي الله علي محمد وآله الطيبين، فقالوها، فحملوه وخفّ علي کواهلهم کشعرة نابتة علي کاهل رجل جلد قوي.

فقال الله عزّوجل لسائر تلک الأملاک : «خلّوا علي هوُلاء الثمانية عرشي ليحملوه وطوفوا أنّتم حوله وسبحوني، ومجدوني ، وقدّسوني، فأنّا الله القادر علي ما رأيتم وعلي کل شيء قدير» (2)

وأمّا بيان أنّ حملة العرش في الدنيا أربعة، وفي يوم القيامة يحمله ثمانية ،

ص: 158


1- الفضفاضة : الواسعة .
2- بحار الأنّوار : ج 27 / 97، ح 60 عن التفسير المنسوب إلي الأمام العسکري عليه السلام .

فسيأتي الإشارة إليه في موضع آخر.

وهذا بيان الخبر علّي ما أفيض

والسلام (1)

علي من برکات أئمة الأنّام عليهم الصلاة

تنبيه نبيه

ربمّا علّل الافتتاح بالاسم في البسملة بکونه مقحما کما مرّ خروجا للکلام من صورة اليمين إلي التيمّن، أو لإجراء الکلام موافقا للعرف وعادات الناس الذين کانوا من عَبَدة الأصنام، حيث إنهم کانوا يقولون باسم اللات والعزي، أو لإستصغاء القلوب عن العلايق، واستخلاص الأسرار من غواشي العوائق، قبل التلفظ باسم الخالق ، کي يحصل التوسّل به بعد التخلي عن الأغيار والتحلي بالأسرار، وصفاء الأنّوار، أو لغرض التوصل إلي التبرّک والاستعانة بذکر اسمه تعالي ، حيث إنّه يحصل بالتلبس بالآلة نحو کتبت بالقلم، ومن البين أنّه بالإسم لا بالذات، ولو قال بالله لأوهم التلبس بالذات، أو لئلا يخص التبرک باسم دون إسم.

فالاستعانة بذکر اسمه يشمل جميع أسمائه، لأنّ إضافة اسم الجنس إلي المعرفة تفيد العموم، يحصل الإستعانة بجميع أسمائه التي منها لفظة (الله) لا بلفظة

(الله) فقط.

أو لأنّ الابتداء باسم الله تعالي أشدّ وفاقا لحديث الابتداء وهو النبوي :

کل أمر ذي بال لا يبدء فيه باسم الله فهو أبتر»(2)

ص: 159


1- وفي بيان الخبر توضيحات أخر مذکورة في مرآة العقول ج 2 ص 38۔ 39 عن المجلسيين الأول والثاني ، وفي شرح الکافي لملا صدرا الشيرازي ص 284.
2- مفاتيح الغيب : ج196/1 .

إلي غير ذلک مما لا يخلو بعضها من تأمل.

لکن الذي ينبغي أنّ يقال في المقام : أنّک قد سمعت أنّ الله سبحانه خلق لنفسه أسماء أظهرها لعباده کي يدعوه بها، فقال عز من قائل: (ولله الأسماء الحسني فادعوه بها ) (1)

وورد في الأخبار المستفيضة عن الأئمة المعصومين صلوات الله عليهم

أجمعين : «نحن أسماء الله الحسني» (2)

وعن أبي جعفر عليه السلام (3) «إنه جعل محمدا وآل محمد الأبواب التي يؤتي

منها». .

وذلک قوله : (ليس البر أنّ تأتوا البيوت من ظهورها ولکن البر من اتقي

واتوا البيوت من أبوابها )(4)

وعن الصادقعليه السلام : «نحن والله الأسماء الحسني التي لا يقبل الله من العباد

عملا إلا بمعرفتنا» (5).

فهم الأسماء الفعلية الأولية الإبداعية الذين جعلهم الله أبوابا لعباده، ووسائل

إلي مرضاته .

وقد قال الله سبحانه : (وأتوا البيوت من أبوابها)(6)

وقال : (وابتغوا إليه الوسيلة )(7)

ص: 160


1- الأعراف : 180.
2- بحار الأنّوار : ج 5/25، ح 7، وفيه : نحن الأسماء الحسني التي لا يقبل الله من العباد عملا إلا بمعرفتنا.
3- بحار الأنّوار : ج 8/ 336، ح 5.
4- البقرة : 189.
5- الکافي : ج 1 /143 - 144.
6- البقرة : 189.
7- المائدة : 35.

وقال : (واعتصموا بحبل الله جميعاً) (1)

وفي کثير من الأدعية : «اللهم إني أسألک باسمک العظيم الأعظم» أو «باسمک

الذي» أو «بأسمائک الحسني وأمثالک العليا». .

وبالجملة قد علّمنا الله سبحانه في مفتتح کتابه الجامع التدويني الذي جعله مصدّقا لما بين يديه من الکتاب ، ومهيمنا عليه کيفية التوسل إليه والتقرب لديه بالاستعانة بأبوابه وحجابه وشفائه ، وهم أسماؤه الحسني ، وأمثاله العليا ، فبهم تاب الله علي من تاب ، وتوجه علي من أنّاب، بعد الدخول من الباب، والوصول إلي الحجاب.

قال الله تعالي : (فتلقي آدم من ربه کلمات) (2). والمراد بها أسماؤهم الشريفة کما في الأخبار الکثيرة.

وفي الجامعة الکبيرة : «من أراد الله بدء بکم ومَنّ وحّده قبل عنکم ومَن

قصده توجه إليکم(3)

فافتتح کتابه باسمهم بل بهم، وعلّمنا الإستعانة بهم، فهم المستعانون بهم لکن بإذن ربّهم، فإنّهم (عباد مکرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون )(4)

وعلي هذا فإضافة الإسم إلي الله لامية لا بيانية ، فإنهم الإسم الله، لا الإسم

الذي هو الله.

ثم إنّ الف الإسم وإن کان للوصل يسقط في الدرج لکنه يثبت في الرسم

ص: 161


1- آل عمران : 103.
2- البقرة : 37.
3- حار الأنّوار : ج 131/102 ، ح 4.
4- الأنّبياء: 26 - 27.

والکتابة کقوله :( فسبح باسم ربک )(1) ( إقرأ باسم ربک)(2) وإنما أسقطوه في البسملة لکثرة الاستعمال.

وعن الخليل (3) التعليل بأنّ الهمزة إنّما أدخلت في بسم الله بسبب تعذر الابتداء بالساکن، وهو السين، فلما دخلت الباء علي الإسم نابت عن الألف، فسقطت في الخط، ولم تسقط من قوله : (إقرأ باسم ربک) لأنّ الباء لا تتوب منه فيه دون البسملة.

وهو کما تري ، قيل : وطولّت الباء عوضا عنه .

وقيل : لأنّها مبدء کتاب الله فابتدؤه بصورة التفخيم تعظيما له، وأطرد ذلک في

بقية السور.

ثم الحذف مختص عند الفراء(4)بالله، وبالباء، فلا تحذف في غيره کاسم

ربک، ولا في غير الباء من حروف الجر نحو ليس اسم کاسم الله.

وعن الأخفش (5)أنّه لا يختص باسم الله بل يجري في غيره کبسم الرحمن

وبسم الخالق.

لکن الجمهور علي خلافه وکذا نقصوا الألف من اسم الله والرحمن مطلقا

سواء کان في البسملة أو لا لکثرتهما في الکلام.

ص: 162


1- الواقعة : 96. الحاقة : 52.
2- العلق: 1.
3- هو الخليل بن أحمد الأزدي البصري العروضي ، توفي سنة (175) ه أو قبلها أو بعدها . -العبر : ج 1 / 268.
4- هو يحيي بن زياد الأسلمي الکوفي النحوي ، توفي سنة (307) د. العبر : ج 1 / 354.
5- هو سعيد بن مسعدة البلخي البصري المعروف بالأخفش الأوسط، توفي سنة (215) ه. الأعلام : ج 3/ 154.

إشارة لأهل البشارة

إعلم أنّ الألف أوّل الحروف ظهورا ووجودا، وله حکم السريان والانبساط في سائر الحروف ، بل قيل مجموع هذه الحروف في سرّ العقل کان ألفا واحدا، وأما في سرّ الروح فهو شکل ضلعين من أضلاع المثلّث متساوي الأضلاع، ضلع قائم، وآخر مبسوط، والقائم ضلع الألف، والمبسوط ضلع الباء، فهما ألفان: ألف قائم والف مبسوط.

علي أنّ الأول حامل الأسرار الوحدة، والثاني کافل لمراتب الکثرة، والأول هو المحبوب المحجوب ، والثاني هو الباب والحجاب، ولذا قالوا : إن الألف يشار به إلي الذات الأحدية.

وذلک لما أفيض عليه من خلع الکرامة ما استحق بها للقيام في عالم الحروف مقامه الأولية المطلقة السارية في جميع الأطوار والأدوار کما في ترتيب أبجد وأيقغ، وابتث، وأهطم، وغيرها من الدوائر السبع ، أو العشر، أو السبعين، ولتجرده من القيود وإضافات النقاط والحرکات.

ولقيوميته المطلقة التي اختص بها من بين الحروف لقيامه بنفسه وقيام غيره

به، ولانفصاله عن الحروف. فلا يتصل بشيء منها إبتداءاً اصلا.

ولا فتقار جميع الحروف إليه افتقارا أوليا کالباء والحاء والواو، أو ثانويا

کالجيم والسين والميم لتمامية الياء به.

وهو أول الحروف وآخرها لانتهائها إليه من حيث البيّنة وظاهرها، کمالا يخفي وباطنها کما سمعت، فهو من جملة الآيات التدوينية في عالم الحروف، وهو الظاهر بنفسه المحتجب بخلقه .

ص: 163

کما قال مولانا أمير المؤمنين عليه السلام : «خلقة الله الخلق حجاب بينه وبينهم»(1)وقال مولانا الصادق عليه السلام الشيءانه المُشَيِيء ونحن الشيء، وهو الخالق ونحن المخلوق، وهو الرب ونحن المربوب ، وهو المعني ونحن أسماؤه، وهو المحتجب ونحن حجبه»(2)

فکان کما قلت شعرا: ففي أزل الآزال قبل الخليقة ت جلي له فيه بسرّ الهوية فلمّا تجلّي نوره بأشعّة ربوبية کانت بنفس المشية بدا ظاهرا للکل بعد احتجابه بکل ففي الأشياء أسرار وحدة

فانهم الإشارة بسر العبارة تغفلها القلوب اللاهية وتعيها أذن واعية.

وربما يقال : إنّ من جملة أسرار افتتاح الکتاب التدويني بالباء واختامه بالسين أنّه کفي بهذا النور اللامع والضياء الساطع والکتاب الجامع، إذ المؤلف من الحرفين کلمة (بس) يقال : بسک، أي حسبک، کما في القاموس» وغيره، فکأنّه يشير فيما أضمر : حسبک من الکونين ما أعطيناک بين الحرفين لتقر به العين.

وإليه أشار الحکيم الغزنوي فيما أنّشده بالفارسية: أول و آخر قرآن زچه با آمد وسين يعني اندر ره دين رهبر تو قرآن بس

ويقال : إن الباء في بسم کشف البقاء لأهل الفناء، والسين کشف سناء القدس

لأهل الأنّس ، والميم کشف الملکوت لأهل النعوت.

وإن الباء برّه للعموم، والسين سرّه للخصوص، والميم ملک الولاية . وروي عن النبي صلي الله عليه و اله وسلم «أنّ الباء بهاؤه، والسين سناؤه، والميم مجده» (3)

وفيهما عن أبي عبدالله الصادق عليه السلام

ص: 164


1- بحار الأنّوار : ج 228/4 ، ح 3 عن التوحيد والعيون . وفيه عن الامام علي بن موسي الرضا علييه السلام .
2- لم أظفر علي مصدر له.
3- الکافي : ج 1 /114، والتوحيد : ص 230 ،

وقيل : إن البهاء بمعني الضياء الذي هو الأصل ، والسناء هو النور و الشعاع

الذي هو الفرع.

وذلک لقضية التقديم والترتيب الوجودي الجاري علي حکمة الاختراع

والابتداع ويؤيده قوله :( يکاد سنا برقه يذهب بالأبصار )(1)

فإن البرق هو حامل النور الذي حملته الکرة الأثيرية بواسطة الشمس،

فالبرق تابع للشمس في الوجود والاقتضاء والتحقق والتذوت..

لکنک قد سمعت سابقا أنّ الباء إشارة إلي الباب الأقدم والحجاب الأعظم، وهو سر الولاية ومقام الحجابة والسقاية ومظهر السر والوقاية، ومجلي العناية والکفاية.

وهو مقام مولانا ومولي العالمين أمير المؤمنين عليه السلام

والسين إشارة إلي السيادة الکبري، والرياسة العظمي، والغاية القصوي والنذير العريان من النذر الأولي وهو سيدنا وسيد العالمين خاتم النبيين صلي الله عليه و آله أجمعين.

ومنه يظهر أنّ تقديم الباء علي السين ليس تقديم شرف وعلو رتبة، بل تقديم

بابية وحجابية.

ولذا قال النبي صلي الله عليه و اله وسلم «أنّا مدينة الحکمة وعلي بابها ، فمن أراد الحکمة

فليأتها من بابها»(2).

وقال الله تعالي : ( واتوا البيوت من أبوابها )(3). وکذلک تقديم السين علي الله تقديم للفعل علي الفاعل، وللجعل علي

ص: 165


1- يونس: 5.
2- الجامع الصغير للسيوطي : ج 1 / 108، حرف الهمزة.
3- البقرة : 189.

الجاعل، وللقمر علي الضياء، ولليهاء علي السنا، بل للضياء علي الشمس.

(وله المثل الأعلي في السموات والأرض وهو العزيز الحکيم )(1)

(ولقد جاءکم رسول من أنّفسکم عزيز عليه ما عنتّم حريص عليکم

بالمؤمنين رؤوف رحيم ) (2)

فافهم اکلام وعلي من يفهمه السلام.

وروي الثعلبي (3)في «العرايس» عن الإمام الهمام کهف الأنّام علي بن موسي ، عن أبيه عن جده جعفر بن محمد عليه الصلاة والسلام، أنّه قال في( بسم الله ): «الباء بقاؤه، والسين أسماؤه، والميم ملکه، قال : فإيمان المؤمن ذکره ببقائه، وخدمة المريد ذکره بأسمائه، واستغناء العارف عن المملکة بالمالک».

قلت : ولعل الخبر إشارة إلي أقسام الوجود الثلاثة .

فبقائه إشارة إلي الوجود الحق الذي هو المجهول المطلق، وهو الأحدية

المحضة، والوحدة الصرفة، والهوية الغيبية، والذات الأزلية.

وأسماؤه إشارة إلي مقام الواحدية، وتجلي الربوبية وظهور الجلال في مرآة الجمال، وتجلي الجمال في قدس الجلال، وهو الوجود المطلق، ومظهر الحق والمشيئة الکلية والمحبة الحقيقية وحجاب الغيب وسر ّ للاريب .

وأما الملک فهو الوجودات المقيّدة ، والمفاعيل المطلقة من المجردات ، والملکوتيات، والناسوتيات، وبالجملة من الدُّرة إلي الذرة، ومن العقل الکلي

ص: 166


1- الروم : 27.
2- التوبة : 128.
3- هو أبو اسحاق احمد بن محمد بن ابراهيم النيسابوري ، المتوفي : (427) ه .

إلي الجهل الکلي.

وفي خبر مولانا أميرالمؤمنين عليه السلام يهودي علي ما رواه في «التوحيد» و«المعاني» قال : «ما من حرف إلا وهو اسم من أسماء الله عزّوجل»(1)

ثم فسر الألف بالله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم، والباء ببقائه بعد فناء

خلقه، والسين بالسميع البصير، والميم بمالک الملک .

وفي خبر آخر مروي عنه في الکتابين وفي «العيون» و «الأمالي» ، قال :

«إن أوّل ما خلق الله عزّوجل ليعرف به خلقه الکتابة حروف

المعجم» (2)

إلي أنّ قال: «الألف آلاء الله والباء بهجة الله والسين سناء الله والميم ملک الله

يوم لا مالک غيره».

فيقول عزّوجل : ولمن الملک اليوم(3)

ثم ينطق أرواح أنّبياءه ورسله وحججه فيقولون : (الله الواحد القهار)(4)فيقول جل جلاله : (اليوم تجزي کل نفس ما کسبت لا ظلم اليوم إن الله سريع الحساب )(5)

ثم إن لبعضهم في الإفتتاح بالباء إشارات أخر مثل ما يقال : إنه ورد أنّ کل ما في الکتب المنزلة فهو مندرج في القرآن، وکل ما في القرآن ففي الفاتحة، وکل ما

ص: 167


1- بحار الأنّوار : ج 320/2 ، ح 4 عن التوحيد والمعاني .
2- البحار : ج 318/2 ، عن المعاني ، والعيون ، والأمالي ، والتوحيد .
3- سورة غافر : 16.
4- سورة غافر : 17.
5- سورة المؤمن : 17.

في الفاتحة ففي البسملة، وکل ما في البسملة ففي الباء(1) المفيدة للإلصاق الدالة علي أنّ المقصود من إرسال الرسل وإنزال الکتب إنما هو القرب والوصال ودوام الاتصال.

بل المقصود من جميع ذلک هو الوصل والإيصال، وهو باطن النبوة وسر

الولاية .

ص: 168


1- قال القاضي سعيد في «شرح التوحيد» ص 132: صدر عن مولانا علي بن أبي طالب علي : أنّ حقائق القرآن مند رجة في الفاتحة ، وجميع معارف الفاتحة في البسملة ، وعلوم البسملة في بانها ، ثم قال : وأنّا النقطة تحت الباء وفي ذيل الکتاب : قال ابن أبي جمهور في المجلي ص409 : القائل هو علي لي دون غيره ، نقله عنه أکابر الصحابة کسلمان وأبي ذر وکميل .... ولصدر المتألهين الشيرازي بيان مفيد في شرح هذا الکلام في الأسفار : ج32/7- 34.

الفصل الثالث في المباحث المتعلقة بلفظة الله

إعلم أنّه کما عجزت العقولُ عن إدراک کن جماله، وانحسرت البصائرُ والأبصارُ دون النظر إلي سُبُحات وجهه وعزّ جلاله، لاحتجابه بأنّوار العظمة والکبرياء وأشعة سرادق البهاء والسناء

کذلک تحيّروا أيضاً في لفظة (الله) کأنّه إنعکس إليه من تلک الأنّوار أشعة بهرت أعين المستبصرين، ولذا تحيّر فيه أفکارُ الناظرين، فاختلفوا فيه أنّه سرياني ، أو عبراني، إسم، أو صفة، مشتقّ، ومم اشتقاقه، أو غير مشتق، علم أو غير علم.

وحاصل الأقوال فيه أربعة :

أحدها : أنّه ليس بعربي ، بل هو معرب، أصله (لاها) بالسريانية ، وقيل بالعبرانية، فعرب بحذف الألف الأخيرة، وإدخال الألف واللام عليه ، ورُدّ بأنّ فيه إثبات العجمة بغير دليل.

مضافا إلي ما ستسمع من الشواهد الدالة علي اشتقاقه من الأخبار وغيرها . ثانيها : أنّه اسم عربي علم غير مشتق، بل مرتجل.

قيل : وعليه الأکثر وهو المحکي عن الخليل - وأتباعه من أکثر الأصوليين

والفقهاء، واختاره الرازي، ونسبه إلي سيبويه(1)أيضاً.

ص: 169


1- سيبويه أبو بشر عمرو بن عثمان البصري، توفي سنة (180) ه - العبر : ج 1 / 278 .

واحتجوا بأنّه لو کان مشتقا لکان معناه کليا لا يمنع نفس مفهومه من وقوع

الشرکة فيه، فلا يفيد کلمة التوحيد التوحيد المحض، ولا الکافر يدخل بها في الإسلام، کما لا يدخل فيه بقولنا : لا إله إلا المعبود أو الملک أو العالم ونحوها بالاتفاق.

ويقوله: (هل تعلم له سميا)(1)

وليس المراد الصفة، وإلا لزم خلاف الواقع للاشتراک في أسماء الصفات

وعدم الحظر في الإطلاق، فالمراد اسم العلم، وليس إلا الله.

وبأنّه يوصف بسائر الأسماء ولا توصف به، ولذا قدّم علي الجميع مع الإجتماع فتقول : الله الرحمن الرحيم العليم الحکيم، کما تقول : زيد العالم الشجاع السخي ولا يجوز العکس فيهما ، ولذا جعلوا في قوله : (إلي صراط العزيز الحميد ، (الله) )(2) علي قراءة الجر عطف بيان للعزيز لا نعتا

وبأنّه سبحانه يوصف بصفات مخصوصة، فلابدّ له من إسم خاصّ يجري عليه تلک الصفات، لأنّ الموصوف إمّا أخص أو مساو للصفة، ولا يصلح له من الأسماء التي يطلق عليه سواه.

وبأنّ کل شيء يتوجه الأذهان إليه ، ويحتاج إلي التعبير عنه قد وضع له إسم توقيفي أو إصطلاحي فکيف يهمل خالق الأشياء ومبدعها ولم يوضع له إسم يجري عليه ما يعزي إليه.

والجواب عن الأول : أنّه يجوز أنّ يکون أصله الوصفية، إلّا أنّه نقل إلي العلمية، وغلب عليه سبحانه کما قيل : إنه لم يطلق علي غيره سبحانه، لا في الجاهلية ولا في الإسلام، فلثبوت اختصاصه به سبحانه وعدم إطلاقه علي غيره

ص: 170


1- مريم : 65.
2- سبأ: 6.

أستفيد من کلمته.

هذا مضافا إلي جواز الاختصاص من نفس المفهوم لا من الغلبة، ککونه المعبود الحق، أو المفزع لجميع الموجودات، أو المحتجب بلوامع الأنّوار عن البصائر والأبصار فلا يکون لعنوانه مصداق غيره سبحانه.

وربما يجاب أيضا بالمعارضة بأنّه لو کان علما لفرد معين من ذلک المفهوم -

لم يکن(قل هو الله أحد )مفيدا للتوحيد، لجواز أنّ يکون لذلک المفهوم فردان أو أکثر في نفس الأمر، ويکون لفظة الجلالة علما لأحدهما، مع أنّهم جعلوا السورة المبارکة من الأدلّة السمعية علي التوحيد.

وردّ بأنّ أول هذه السورة يدل علي الأحدية الذاتية التي هي عدم قبول

القسمة بأنّحائها.

وأما الواحدية بمعني نفي الشريک، فمستفاد من آخر السورة.

وعن الثاني أنّ المراد کماله الذي لا يشارکه فيه غيره، وهو ربوبيته الکبري ورحمته الواسعة کما يومي إليه صدر الآية : (رب السماوات والأرض وما بينهما فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سميا) (1)

ولذا قيل فيه : أي مثلا ونظيرا، وإنما قيل للمثل سمّي لأنّ کل متشابهين

يسمي کلّ منهما سمياً لصاحبه.

وعن الثالث أنّه إنما يدلّ علي نفي الوصفية، لا علي ثبوت العلّمية ، إذ أسماء الأجناس، ولفظ الشيء أيضاً کذلک، وبأنّ الصفات الغالبة تعامل معاملة الأعلام في

کثير من الأحکام.

وبأنّه منقوض بلفظ (هو)، فإنه إسم من أسمائه تعالي يوصف ولا يوصف به . وفي الأخير نظر، إذ مع أنّ الکلام ليس في مثله، لا توصف الضماير، ولا بها .

ص: 171


1- مريم: 65.

وعن الرابع أنّ کثيرا من صفاته التي يتصف بها ذاته تقع علي الذات من حيث

هي، من دون اعتبار مغايرة حقيقية أو اعتبارية ذهنية أو خارجية. انّ مضافا إلي ما قيل : من أنّه مغالطة من باب الاشتباه بين أحکام اللفظ وأحکام المعني، إذ الإتصاف بالأوصاف يوجب المساواة أو الأخصية بالقياس إلي معني الصفة لا وقوع لفظ مخصوص بأزاء الذات.

علي أنّه بعد التسليم لا يلزم کونه علي وجه العلمية، بل يکفي غلبة الوصفية

ومنه يظهر الجواب عن الخامس أيضا.

ثالثها : أنّه علم مشتق غالب.

رابعها : أنّه صفة مشتقة غالبة، قيل : والفرق بينهما أنّ الاشتقاق في الأول

عارضي، وفي الأخير أصلي، إذ اعتبار المعني في التسمية علي ثلاثة أنّواع:

أحدها : أنّ يکون المعني باعثا علي تعيين الإسم خارجا عن الموضوع له،

کأحمر علما لما فيه حمرة.

والثاني: أنّ يکون داخلا في الموضوع له، ومفهومه مرکبّ من ذات ومعني

معين ، کاسم الآلة والزمان والمکان.

والثالث : أنّ يکون داخلا في الموضوع له ، ومفهومه مرکب من ذات مبهمة ومعني معين کقائم، وخالق ، وهذا يسمي صفة ، والأولان من الأسماء يوصفان ، ولا يوصف بهما، عکس الصفة، ولفظ (الله) إن قلنا إنّه صفة لکنه لا يوصف به.

وفيه ، أنّ الصفات المشتقة أيضاً لا يوصف بها إلا مع لمح الوصفية لا

العلمية.

ثم إنّ هذا کلّه علي فرض کون الواضع هو البشر، ولکن الخطب أسهل فيه لو قلنا بأنّه هو الله تعالي في جميع الألفاظ کما يستفاد من بعض الأخبار وعليه جمع من علمائنا الأخيار .

ص: 172

وقد أشار الإمام لا في تفسير قوله : (وعلّم آدم الأسماء کلها )(1) قال : «علّمه أسماءَ کلِّ شيء» (2)

وفي صحف النبي إدريس علي نبينا وآله وعليه السلام: «إن الله أنّزل علي آدم کتابا بالسريانية وقطع الحروف في إحدي وعشرين ورقة، وهو أول کتاب أنّزل الله تعالي في الدينا وأنّزل الله عليه الألسن کلها، فکان فيه ألف ألف لسان لا يفهم فيه أهل لسان من أهل لسان حرفاً واحداً بغير تعليم»(3)

أو في بعض الأسماء التي منها خصوص أسماء الله تعالي، ولذا قيل : إنّها توقيفية لا يجوز إطلاقها إلا بعد الوصول من صاحب الشريعة، کما قال مولانا الرضاعليه السلام : «إن الله تبارک وتعالي قديم، والقدم صفة دلت العاقل علي أنّه لا شيء قبله ولا شيء معه في ديمومته، ثم وصف نفسه تبارک وتعالي بأسماء دعا الخلق إذ خلقهم وتعبدهم وابتلاهم إلي أنّ يدعوه بها ، فسمي نفسه سميعا بصيرا قادرا حيا قيوما» (4)

وسأل محمّد بن سنان أبا الحسن الرضا عليه السلام، هل کان الله عارفا بنفسه قبل أنّ

يخلق الخلق ؟ قال :

و «نعم» إلي أنّ قال : «فليس يحتاج إلي أنّ يُسمّي نفسةَ ولکنّه إختار لنفسه

أسماء لغيره يدعوه بها، لأنّه إذا لم يدع باسمه لم يعرف.

فأوّل ما اختاره لنفسه العليّ العظيم، لأنّه أعلي الأسماء کلها، فمعناه الله،

وإسمه العلي العظيم» (5)

ص: 173


1- البقرة : 31
2- بصائر الدرجات ص 438.
3- بحار الأنّوار : ج 11 / 257، ح 3 عن سعد السعود ص 37.
4- البحار : ج 176/4 ، عن التوحيد والعيون .
5- بحار الأنّوار : ج 88/4 ، عن التوحيد والمعاني والعيون .

تجديد للکلام وعود للمرام

وحيث قد سمعتَ ضعفَ أدلّةِ الفريقين القائلين بالعَلَمية وبالاشتقاق، فاعلم

أنّ الحقّ الذي لا محيصَ عنه هو القول بالاشتقاق لجريان قواعد الإشتقاق فيه علي حسب غيره من الألفاظ المشتقّة التي لا تحتاج إلي تجشّم الإستدلال علي اشتقاقها غير ملاحظة اتحاده مع اصله الذي هو مادته في جوهر الحروف، وحقيقة المعني حسبما تسمع الکلام فيه إن شاء الله تعالي.

وللأخبار الکثيرة الدالة علي ذلک، ففي «الکافي» و«التوحيد» و«الاحتجاج» عن هشام بن الحکم قال : سألت أبا عبد الله عليه السلام عن أسماء الله واشتقاقها ، فقلت : الله ممّا هو مشتق ؟ فقال : «يا هشام ! الله مشتق من إله وإله يقتضي مألوهاً، والاسم غير المسمي، فمن عبدالإسم دون المعني فقد کفر» (1)

وفي «التوحيد» عن أبي جعفر عليه السلام قال :

قال أمير المؤمنين عليه السلام : «معني الله الذي يأله فيه الخلق ويؤله إليه، و«الله» هو

المستور عن درک الأبصار، المحجوب عن الأوهام والخطرات». .

ثم قال أبو جعفرعليه السلام : «الله معناه المعبود الذي أله الخلق عن درک مائيته والإحاطة بکيفيته وتقول العرب : اله الرجل إذا تحير في الشيء، فلم يحط به علما، ووله إذا فزع إلي شيء مما يحذره ويخافه ، فالإله هو المستور عن حواسّ الخلق» إلي أنّ قال: «فمعني قول «الله أحد» أي المعبود الذي يأله الخلق عن إدراکه والإحاطة بکيفية»(2)

وفي تفسير الإمام الهمام عليه وعلي ابنه الحجّة وعلي آبائه الکرام آلاف

ص: 174


1- البحار: ج 4 / 157، ح 2، عن الاحتجاج .
2- بحار الأنّوار: ج 3/ 222 - 223، ح 12، عن التوحيد .

التحية والسلام :

الله هو الذي يتألّه إليه عند الحوائج والشدائد کل مخلوق وعند انقطاع الّرجاء من کل من دونه ، وتقطّعِ الأسباب من جميع من سواه، تقول بسم الله ، أي أستعين علي أموري کلها بالله الذي لا يحق العبادة إلا له، المغيث إذا استغيث ، والمجيب إذا دعي» إلي أنّ قال : «قال جدي أمير المؤمنين عليه السلام : الله أعظم اسم من أسماء الله تعالي ، وهو الاسم الذي لا ينبغي أنّ يسمّي به غير الله، ولن يسمّ به مخلوق» قيل : فما تفسيره؟

قال عليه السلام: «هو الذي يتأله إليه عند الحوائج» (1) إلي آخر ما مر عنه عليه السلام. وفي الخطبة الرضوية : «رب إذ لا مربوب، إله إذ لا مألوه» (2)

ودلالة الأخبار علي الإشتقاق واضحة من حيث التصريح به، والتعبير عن الإسم الشريف بالمعبود، وغيره من المعاني الوصفية ، کالفزع إليه، والتحير فيه ، والعجز من إدراکه.

ويؤيده الوجوه المتقدمة لإثبات الاشتقاق وإبطال العلمية وإن أشرنا إلي

بطلان جملة منها.

وعلي کل حال ، فالقائلون باشتقاقه إختلفوا في المبدأ، فقيل : إنه من الإلهة کالعبادة وزنا ومعني، ويؤيّده قراءةُ مولانا أميرالمؤمنين عليه الصلاة والسلام : (ويذرک وإلهتکَ ) (3) أي عبادتک (4)

ص: 175


1- بحار الأنّوار : ج 232/92، عن التوحيد ص 163
2- البحار: ج 4 /285، عن التوحيد.
3- الأعراف : 132.
4- المختصر في شواذ القرآن : ص 45، لابن خالويه الحسين بن أحمد المتوفي سنة ( 370)أو (371) ه.

ورواه الجمهور عن ابن عباس ، وحکي عنه أنّه قال : «أصل هذا الإسم (إله) علي فعال بمعني مفعول ، لأنّه مألوه أي معبود کقولنا : (إمام) فعال بمعني مفعول لأنّه مؤتم به».

کذا في «الصحاح» ثم أدخلت عليه الألف واللام فصار (ألإله) ثم خفّفت الهمزة بأنّ ألقيت حرکتها علي اللام الساکنة قبلها وحذفت فصار (أللاه)، ثم أجريت الحرکة العارضة مجري الحرکة اللازمة فأدغمت اللام الأولي في الثانية بعد أنّ سکنت حرکتها فقيل : (الله).

قالوا: وليست الألف واللام عوضين عن الهمزة المحذوفة وإلا اجتمعا مع

المعوض عنه في قولهم (ألإله).

ولکن قال الجوهري (1) «سمعت أبا علي (2)

النحوي يقول: إنهما عوض عنها، قال : ويدل علي ذلک استجازتهم لقطع الهمزة الموصولة الداخلة علي لام التعريف في القسم والنداء، وذلک قولهم : أفألله ليفعلن، ويا الله إغفر لي، الأتري أنّه لو کانت غير عوض لم تثبت کما لم تثبت في غير هذا الإسم . قال : ولا يجوز أنّ يکون للزوم الحرف لأنّ ذلک يوجب أنّ تقطع هنرة الذي واللتي قال : ولا يجوز أيضا أنّ يکون لآنّها همزة مفتوحة وإن کانت موصولة ، کما لم يجز في أيم الله وأيمن الله التي هي همزة وصل فإنها مفتوحة.

قال : ولا يجوز أنّ يکون ذلک أيضا لکثرة الاستعمال لأنّ ذلک يوجب أنّ

تقطع الهمزة أيضا في غير هذا مما يکثر استعمالهم له، فعلمنا أنّ ذلک لمعني

ص: 176


1- الجوهري : إسماعيل بن حماد أبو نصر الأديب اللغوي ، إختلفوا في تاريخ وفاته بين (333، 353، 396، 398، و 400) - ريحانة الأدب : ج 1 / 438.
2- أبو علي الفارسي : الحسن بن أحمد بن عبدالغفار النحوي المتوفي (377) ه. - العير :ج 4/3.

أختصّت به ليس في غيرها ولا شيء أولي بذلک المعني من أنّ يکون المعوّض من الحرف المحذوف الذي هو الفاء»(1)انتهي ما حکاه في الصحاح.

وقيل : إنها من الألمانية علي وزن الرهبانية بمعني العبادة أيضا، کما في

الخبر : «إذا وقع العبد في ألمانية الرب...» (2)

أو من ألهت إلي فلان، أي سکنت، فإن النفوس لا تسکن إلا إليه، والعقول لا

تقف إلا لديه، لأنّه المقصود المطلوب (ألا بذکر الله تطمئن القلوب )(3)

أو من أله الرجل يأله إذا تحير في الشيء، لتحير الأوهام من إدراک کنه

جلاله، وذهول الأفهام دون النظر إلي سبحات وجهه.

ولذا ورد النهي عن التفکر في الله، وإليه الإشارة بقوله: «وأنّ إلي ربک

المنتهي(4)

وقول النبي صلي الله عليه و اله وسلم : «إذا انتهي الکلام إلي الله فأمسکوا»(5)ولبعض المتحيرين: قد تحيّرتُ فيک خذ بيدي يا دليلا لمن تحيّر فيکا ويؤيده ما مر عن «التوحيد» عن مولانا أمير المؤمنين عليه السلام معني الله المعبود

ص: 177


1- الصحاح : ج 6 / 2223، باب الهاء ، ط بيروت.
2- قال ابن منظور الافريقي في لسان العرب ج 13 حرف الهاء ، فصل الهمزة : الألهانية ، في حديث وهيَب بن الورد : اذا وقع العبد في ألهانيّة الرب .مهيمنيّة الصدّيقين ، ورهبانّية الأبرار لم يجد أحداً يأخذ بقلبه. وقال ابن حجر في تهذيب التهذيب ج 11 ص 150 رقم 7811: وهيب بن الورد بن ابي الورد القرشي ... کان من العباد المتجر دين لترک الدنيا مات سنة (153) .
3- الرعد : 28.
4- النجم : 42.
5- في بحار الأنّوار: ج 3/ 259، ح وص246، ح 22 عن أبي عبدالله الصادق عليه السلام .

الذي ياله فيه الخلق ويؤله إليه(1)

فقوله: (يأله فيه)، أي يتحيّر فيه ، ويؤله إليه، أي يسکن إليه.

أو من أله الرجل بالکسر فيه کسابقه يأله إذا فزع من أمر نزل به، فالهه بمد الألف وفتح اللام وهمزته للسلب، أي أجاره، فإنه المجير لکل الخلايق من کل المضار وهو الذي بيده (بيده ملکوت کل شيء ، وهو يجير ولا يجار عليه )(2)

أو من أله الفصيل إذا ولع بأمه، لأنّ العباد في البليات يتضرعون إليه، وفي

المهمات يتوکلون عليه ( وإذا مس الناس ضر دعوا ربهم منيبين إليه) (3)

أو من لاه پلوه إذا احتجب لاحتجاب نوره بکمال ظهوره، ولأنّ خلق الله حجاب بينه وبينهم، کما قال مولانا أمير المؤمنين عليه السلام : «والله هو المستور عن درک الأبصار، المحجوب عن الأوهام والخطرات» (4)

أو من لاه بمعني ظهر فهو من الأضداد لظهوره لمخلوقاته .

(سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنّفسهم حتي يتبين لهم أنّه الحق) (5)

أو من لاه بمعني إرتفع لارتفاعه عن مشابهة الممکنات، وعن إحاطة العقول

والإدراک .

أو أنّه علي هذين الوجهين أصله لاه، مصدر لاه پلوه ليها بالکسر ولاها بالفتح، إذا احتجب وارتفع، لاحتجابه عن إدراک البصائر والأبصار، وارتفاعه عما

تدرکه العقول والأفکار (لا تدرکه الأبصار وهو يدرک الأبصار)(6)

ص: 178


1- بحار الأنّوار: ج 3/ 222، ح 12.
2- المؤمنون: 88.
3- الروم : 33.
4- بحار الأنّوار : ج 3/ 222، ح 12، عن التوحيد .
5- فصلت : 53.
6- الأنّعام : 103.

ومما يؤمي إلي ذلک الخبر الآتي في بحث الاشتقاق المروي عن الکاظم عليه السلام قال : «إن الله تبارک وتعالي خلق نور محمد من إختراعه - من نور عظمته وجلاله، وهو نور لاهوتيته الذي تبدّي»(1)من لاه، أي من الهيته.

أو انه من وله إذا تحير وتخبط عقله، وأصله ولاه، فقلبوا الواو همزة الاستثقال الکسرة عليها استثقال الضم في وجوه، فقيل: إلاه، کما قيل: إعاء، وإشاح، وأصلهما وعاء ووشاح.

قيل : ويرده الجمع علي ( آلهة) دون (أولهة)، فإن جمع الکثرة کالتصغير يرد

الأشياء إلي أصولها، کما جمع إعاء وإشاح علي أوعية وأوشحة.

وربما يدفع بانه لما أبدلت الواو همزة في جميع تصاريف (اله) عوملت

معاملة الأصلية.

ويؤيده کلام الجوهري : «أله يأله ألها واصله وله يوله ولها» .

وعلي کل حال فالأقوال في اشتقاقه کثيرة جدّاً، وإن أمکن إرجاع بعضها إلي

بعض.

بل قال في «القاموس» : «أله إلهة وألوهة وألوهية عبد عبادة ، ومنه لفظ الجلالة ، واختلف فيه علي عشرين قولا ذکرتها في المباسيط، وأصحها أنّه علم غير مشتق، أو أصله إله کفعال، بمعني مألوه، وکل ما أتخذ معبودا إله عند متخذه بين الإلاهة بالکسر ، والاهة بالضم، والألمانية کرُهبانية.

وقال في لاه يليه ليها بمعني تستر : أنّه جوز سيبويه اشتقاق لفظ الجلالة

منها » انتهي.

لکن قد سمعتَ أنّ الأظهر الأقوي فيه الاشتقاق للمعتبرة المستفيضة عن أئمة

ص: 179


1- بحار الأنّوار : ج 35 / 28، ح 24، عن کنز الدقائق .

تفسير فاتحة الکتاب

الدين عليهم السلام الذين هم أعلم الخلق بالله ، وبصفاته العليا، وأسمائه الحسني، سيما بعد تحقق شرايط الاشتقاق فيه ، ومناسبة لما اشتق منه مادة وصورة.

نعم، يمکن الإشکال فيها من حيث اختلافها في نفسها لتضمن بعضها اشتقاقه

من وله بمعني فزع، أو من أله بمعني تحر أو عبد أو احتجب ، أو غير ذلک.

لکن مع ذلک لا ينبغي التأمل في أصل الإشتقاق للأخبار التي يستفاد منها کون هذا البحث مطرحا للأنّظار في عصر الأئمة الأطهارعليهم السلام ، بل يمکن دفع الإشکال أيضا بعد إمکان إرجاع الجميع إلي مادة واحدة لو لم يرجع إلي معني واحد.

مضافا إلي إعمال حکم الترجيح بينها حسب ما هو قضية التعارض بعد جواز اشتقاقه عن کل منها، واشتراک الکل في عدم دلالته علي الذات المقدسة من حيث هي لدلالتها علي الشؤون والسبحات التي هي فزع المخلوقين إليه أو تحيرهم فيه أو عبادتهم إلي غير ذلک.

بل ربما يقال بجواز اشتقاق هذه المواد بتلک المعاني عن ذلک الإسم المقدس، سيما علي مذهب بعض أصحاب العربية، بل قطع الشيخ الأحسائي(1)طاب ثراه، حيث قال في «شرح التبصرة» بعد حکاية جملة من الأقوال : «إن هذه الأقوال کماتري، لأنّ إستعمال المشتق ّمن شيء مسبوق باستعمال ذلک الشيء ولا کذلک هذا، بل الحقّ أنّها کلها مشتقة منه وفائضة عنه.

ص: 180


1- تقدم أنّه الشيخ أحمد بن زين الدين بن ابراهيم الاحسائي المتوفي بالمدينة المنورة سنة (1242) ه أو بعدها ، وقيل في تاريخ وفاته : الشيخ أحمد بن زين الدين ذوالعلم والشهود واليقين فوارة النور جليل أمجد بعد (دعاء) رحم الشيخ أحمد ولا يخفي أنّ العلماء في عصره وبعده مختلفون في حقه بين مثن عليه وقادح فيه ، والله تعالي هو العالم .

ولعل ما ذکره قدس سره بالنسبة إلي الإشتقاق المعنوي، وإلا فهو بالنسبة إلي

الإشتقاق اللفظي ضعيف کما لا يخفي .

وعلي کلّ حال فالحقّ جواز اشتقاقه من کل منها، بل الجميع علي فرض التغاير بناء علي عموم المجاز، او استعمال المشترک في أکثر من معني واحد.

ومن هنا ذکر بعض الأجلّة أنّ التحقيق علي ما يظهر من جملة الأخبار هو أنّ في اشتقاق اللفظة المقدسة لوحظ جميع هذه المعاني ليذهب الذهن منه إلي کل مذهب، وهذا من خواص ذلک الاسم الشريف.

ذکر في «مجمع البيان»: «أنّ معني (الله) (الإله) الذي تحق له العبادة، وإنما تحق له العبادة لأنّه قادر علي خلق الأجسام وإحيائها والإنعام عليها بما يستحق به العبادة، وهو تعالي إله للحيوان والجماد، لأنّه قادر علي أنّ ينعم علي کل منهما بما معه يستحق العبادة.

فأما من قال : معني الإله هو المستحق للعبادة فيلزمه أنّ لا يکون إلها في

الأزل، لأنّه لم يفعل الإنعام الذي يستحق به العبادة وهذا خطأ (1)

أقول : والظاهر أنّه أراد أنّ إطلاق الألوهية إنما هو باعتبار القدرة التي هي من صفات الذات ، سواء تعلقت بابتداء الخلق أو بالإنعام علي المخلوق، لکنه لا يخفي أنّ الفرق غير (2) ظاهر بين من تحقّ له العبادة وبين المستحقّ للعبادة، حيث اثبت الأول ونفي الثاني.

اللهم إلا أنّ يقال : إنه باعتبار التعبير بالثاني من الصفات الفعلية وهي الربوبية

ص: 181


1- مجمع البيان ج 1 ص 21.
2- الفرق ظاهر لأنّ الأوّل مَن له الحق سواء طلب حقّه ام لا وأمّا الثاني فهو مَن له الحقّ وطلب حقّه فإنّه من باب الإستفعال .

إذ مربوب، وبالأول من الصفات الذاتية وهي الربوبية إذ لا مربوب .

إلّا أنّ العبارة لا تساعده ، بل لعلّ اقتصاره علي ما ذکره متعلقا للقدرة لتوهّم أنّ غيره غير محتاج في بقائه إلي الفيوض الإلهية والإمدادات الغيبية، وهو غريب جّداً وکون التعرض له علي وجه المثال يرته التفکيک في العبارة.

وما أشبه هذا الکلام بالکلام المحکي عن السيّد المرتضي (1) الدالّ علي أنّ المرکبّات محتاجة في بقائها إلي المدد، والجوهر الفرد والأعراض غير محتاجة إليها، حيث قال ما عبارته المحکية : ويوصف بإله بمعني أنّ العبادة تحق له، وإنما تحق له العبادة لأنّه القادر علي خلق الأجسام وإحيائها والإنعام عليها بالنعم التي يستحق بها العبادة عليها ، وهو تعالي کذلک فيما لم يزل.

ولا يجوز أنّ يکون إلها للأعراض ولا الجوهر الأحد لاستحالة أنّ ينعم عليها بما يستحق به العبادة وإنما هو إله للأجسام الحيوان منها والجماد، لأنّه تعالي قادر علي أنّ ينعم علي کل جسم بما معه يستحق العبادة إلي آخر ما ذکره.

إيراد مقال لدفع إشکال

استشکل بعض الأجلة(2)فيما يعزي إلي الأکثر من اشتقاق هذا الإسم من أنّه بالفتح کعبد وزنا ومعني إلهة کعبادة بأنّ الظاهر من الأخبار بل صريحها

خلافه .

ففي الخطبة الرضوية المذکورة في «توحيد الصدوق» له معني الربوبية إذ لا

ص: 182


1- الشريف المرتضي علي بن الحسين الموسوي نقيب الطالبيين بالعراق ورئيس الإمامية في عصره ، توفي سنة (436) وله (81) سنة . - العبر: ج 186/3 .
2- هو علي ما حکي عن المصنف القاضي سعيد القمي المتوفي (1107 )ه. ذکر الإشکال في أربعينة.

مربوب ، ومعني الإلهية (1)إذلا مألوه، ومعني العالم إذ لا معلوم (2)، ومعني الخالق إذا لا مخلوق (3) وتأويل السمع إذ لا مسموع (4)-(5)

وهو صريح في أنّ المألوه بمعني العابد لا بمعني المعبود، کما في أخواتها . وفي «الکافي» في خبر هشام: «الله مشتق من إله والإله يقتضي مألوها(6)

والإله لما کان بمعني المعبود، والعبادة من الأمور النسبية التي لا بد معها من المنتسبين، فالمعبود يقتضي عابدا، فيکون المألوه بمعني العابد، ويؤيده قوله بعد ذلک : «فمن عبد الإسم دون المعني فقد کفر» (7)

وأجيب بوجوه: أحدها ما ذکره الصدر الأجل الشيرازي من أنّ الإله

مصدر بمعني المفعول أي المألوه وهو الحق.

وقوله : الاله يقتضي مألوها معناه أنّ هذا المفهوم المصدري يقتضي أنّ يکون في الخارج موجود هو ذات المعبود الحقيقي، ليدلّ علي أنّ مفهوم الاسم غير المسمّي، ولذا عقّبه بقوله : والاسم غير المسمّي.

وتبعه في ذلک صهره المحدّثُ الکاشاني واعترض بانّ حاصل المعني حينئذ

هو أنّ المألوه يقتضي مألوها، ومثل هذا الکلام لا يصدر عن مثل الإمام عليه السلام.

ثمّ علي تسليم أنّ المراد بالمألوه في الأوّل الإسم، وفي الثّاني الذّات، فللخصم أنّ يقول : لا نسلم ذلک الاقتضاء، فإن کثيراً من الأسماء المتداولة بين

ص: 183


1- في البحار : وحقيقة الإلهية .
2- في البحار : ولا معلوم
3- في البحار : ولا مخلوق.
4- في البحار : ولا مسموع.
5- بحار الأنّوار : ج 229/4 ، ح 3 عن التوحيد والعيون .
6- بحار الأنّوار : ج 157/4، عن الاحتجاج .
7- بحار الأنّوار : ج 4 / 157، عن الاحتجاج .

تفسير فاتحة الکتاب

الجمهور لا ذات لمسمّاها، ولا تحقّق لمعناها کعنقاء المُغرَب وأمثاله .

وفيه أنّ التّغاير المشار إليه في الجواب من حيث المفهوم والمصداق کافي في انسياق الکلام له، بل الظّاهر من مساق الخبر بيان مغايرة اللّفظ للمعني، وأنّ الأوّل يدلّ علي الثّاني، حيث قال: «فمن عبدالاسم دون المعني فقد کفر، ومن عبد الإسم والمعني فقد عبد اثنين ، ومن عبدالمعني دون الإسم فذلک التوحيد»(1)

ثم استدلّ عليه السلام بان لله تسعة وتسعين إسماً فلو کان الاسم هو المسمّي لکان کلّ اسم منها إلهاً، ولکنّ لله معني يُدَلُ عليه بهذه الأسماء، وکلّها غيره، ثم تمثل لذلک بانّ الخبز اسم للمأکول ، والماء أسم للمشروب، والثّوب اسم للملبوس، والنّار اسم للمحرق.

ومن البيّن أنّ ظاهر صدر الخبر فضلاً عمّا ذيلّه به من الدليل والتّمثيل بيان مغايرة اللفظ للمعني، والاسم للمسمّي، ردّاً عَلي مَن توهّم الاتّحادَ فيهما علي ما مرّت الاشارة إلي الکلام في أصل المسألة.

ومن هنا يضعّف ما ذکره شيخنا البهائي في کشکوله من أنّ أصحاب القلوب علي أنّ الاسم هو الذات مع صفة معيّنة وتجلّي خاص، وهذا الاسم هو الذي وقع فيه التّشاجر أنّه هل هو عين المسمّي أو غيره وليس التّشاجر في مجرّد اللفظ کما

ظنّه المتکلّمون فَسَوَّدُوا قراطيسهم وأفنوا کرابيسهم بما لا يجدي بطائل ولا يفوق العالم به علي الجاهل.

اذ فيه أنّه مخالف لظاهر الخبر وغيره علي ما مرّ بل قد سمعتَ حکايته عن القيصري أيضاً ولقد أجاد الفاضل المازندراني حيث قال في شرح قوله : وإله يقتضي مألوهاً أنّ متحيرّاً مدهوشأ في أمره أو متعبّداً له أو مطمئنّاً بذکره أو معبوداً

ص: 184


1- بحار الانوار : 4/ 157.

وهو الأنّسب بقوله في الاسم غير المسمّي.

ثانيها : ما ذکره صهره المحدّث الفيض رحمه الله من احتمال جعله بفتح الالف وسکون اللّام مصدر آله بالفتح الها بالسّکون بمعني العبادة ، ثمّ قال : إنَّ العبادة يقتضي أنّ يکون في الموجودات ذاتُ معبود، ولا يکفي فيه مجرّد الإسم من دون أنّ يکون له مسمّي.

حکاه عنه تلميذه القاضي سعيد القمي واعترضه أوّلاً بانّه لم يجييء في اللغة أله بفتح الألف وسکون اللام مصدر أله بمعني عبد، وما نقل هو من الصّحاح من قوله اله بالفتح الهَة أي عبد عبادة فائما هي إلهة بکسر الهمزة وفتح اللام مع الألف کما صرّح به شيخنا البهائي وصاحب مجمل اللّغة واکثر أئمّة اللغة نعم إنّما جاء بفتح الألف واسکان اللام مصدر اله بمعني تحيّر.

وثانياً : بانّه لمانع أنّ يمنع ذلک الاقتضاء إن أراد أنّ العبادة أي وقوعها يقتضي

معبود حقيقياً، وإن أراد مطلق المعبود فلا مانع من الإقتضاء ولا يجدي نفعاً .

قلت : يمکن دفع الثاني علي تکلف لکن لا وجه لالتزامه، کما لا وجه التکلف جعله بفتح الهمزة وسکون اللام، ولو علي فرض جوازه لشذوذه ، بل الظّاهر

کونه بکسر الهمزة وفتح اللام بعدها ألف ومنه قراءة مولينا أمير المؤمنين عليه السلام : ويذرک واِلهتَکَ اَي عبادتک حسبما مرَّ فخذفت منها التّاء

ثالثها ما ذکره القاضي الماضي ذکره انه ممّا ألهمني الله معتضداً بالعقل الصّريح والوجدان الصحيح وهو أنّ الاله فعال مشتقّ من أله بالفتح بمعني عُبِدَ علي صيغة المجهول، کوُلع بمعني أولع ، وامثال ذلک کثيرة کما هو غير خاف علي من له تدرب في العلوم الأدبيّة، ولا ريب أنّ صيغة المفعول للفعل الّذي معلومه بمعني مجهول فعل آخر يکون ذلک المفعول بمعني صيغة الفاعل من هذا الفعل الاخر، لأنّ اسم الفاعل بمنزلة الفعل المعلوم واسم المفعول بمنزلة الفعل المجهول، وأيضاً إذا

ص: 185

کان الفعل المعلوم بمعني فعل مجهول متعدّ معلوم ذلک المجهول إلي مفعول واحد فيجيب بالضَّرورة أنّ يکون الفعل المعلوم الأول لازماً، ولا شکّ أنّ اسم الفاعل والمفعول في الأفعال اللّازمة يکونان بمعني واحد ولهذا اکتفوا في تلک الأفعال اللّازمة بواحد من إسمي الفاعل والمفعول حسبما اقتضاء ذلک الفعل ، ففي مثل اليافع والمائت إجتزوا باسم الفاعل، وهو بمعني المفعول حقيقة وفي نحو المشعوف والمنهوم إکتفوا باسم المفعول أنّ ذو الشّعف والنّهمة او الّذي أظهر الشّعف والحرص علي الشّيء، ومن الّدليل علي أنّ اله بمعني عُبد علي صيغة المجهول أنّ مصادرها مقابلة لمصادر عبد بصيغة المعلوم کالألوهية والألوهة والإلهة بضمّ الهمزة في الأوليين وکسرها في الأخيرة وفي قراءة ابن عباس ويذرک وإلهتکَ، اَي الوهيّتک.

وبالجملة علي ما حقّقنا يکون الإله فعالاً بمعني المعبود، وأمّا المألوه فهو

بمعني الذي له الأله فيکون بمعني العابد .

وقال ابن العربي في النصوص : لولا مألوهيّتنا لم يکن إلهاً يعني لولا عابديّتنا لم يکن معبوداً بالفعل، کما أنّه لولا مرزوقيّتنا لم يکن رازقاً بالفعل، إذ الألوهيّة معني نسبّي لا يتحقّق إلّا بالمنتسبين کما مرَّ في الخبر المتقدّم في قوله والإله يقتضي مألوهاً ثم قال فاحتفظ بذلک فانّه من الإلهامات ولم ينل إليه أيدي الطّلبات .

أقول لا يخفي أنّ الاشتقاق من الأفعال المجهولة لکونه علي خلاف الأصل والقياس مقصور علي السَّماع المفقود في مثل المقام، بل الظاهر اختصاصه بالأفعال الّتي تستعمل مجهولاً دائما أو غالباً .

قال في القاموس عُني بالضّم عناية وکرضي قليل فهو به عنٍ، الخ.

علي أنّ إشتقاق الوصفين معاً من مثل هذا الفعل غير معهود کي يکون المفعول من المجهول بمعني الفاعل من المعلوم، سيّما في هذه المادّة الّتي اشتقّوا ما اشتقّوا من معلومها .

ص: 186

وبالجملة لا داعي للالتزام بمثل هذا التکلّف في الجواب بعد وضوح الجواب من الخبرين، إمّا من قوله له معني الألوهيّة إذ لامألوه، فلانّ المراد بالمألوه مَن له الأله کما صرّح به المجلس في البحار (1) بل هذا الفاضل في کلامه المتقدّم

وأما من الخبر الثاني فلما أشرنا إليه في الجواب الأول.

کما أنّه لا داعي لما تکلّفه القيصري في توجيه ما ذکره ابن العربي في الفصوص من أنّ الألوهيّة تطلب المألوه والرّبوبيّة تطلب المربرب حيث قال : إن الشيخ يستعمل المألوه في جميع کتبه ويريد به العالَم واللّغة يقتضي أنّ يطلق علي الحقّ إلّا في بعض معانيه لاشتقاقه من اله إلهةً بمعني العبادة والفزع والالتجاء والثّبات والسکون والتحيّر، ولا ريب أنّ المعبود والمفزع والمسکون إليه هو الحق والمتحيّر والمثبت هو العالَم، ثم قال ويمکن أنّ يستعمل لغة في معان اخر تليق

بالعالم

أقول وبما ذکرنا في توجيه الخبر المتقدم يظهر وجه کلام شيخه بحيث لا حاجة إلي التزام استعمال اللّفظ في المعاني الشّاذة الّتي لا يکاد ينساق إلي الذهن

إلّا بعد نصب القرينة المفقودة في المقام.

تنبيه

ربما يقال إنّ هذا الاسم العظيم هو الاسم الأعظم لاختصاصه بمزايا خواص لا توجد في غيره ، ولتقدمه علي جميع الأسماء الکريمة الواردة في الکتب الإلهيّة وعلي ألسنة الرّسل، ولذا يوصف بالجميع ويقدّم عليها، ولا يوصف شيء منها به.

ولدلالته علي الذّات المستجمع لصفات الکمال بحيث لا يخرج من تحت

ص: 187


1- بحار الأنّوار : 4/ 159 في ذيل ح 2.

حيطته شيء من الصفات الجمالية والجلالية ، ولذا يشار بغيره من الأسماء إلي شيء منها.

ولاشتهاره بلفظه بين جميع الأمم والطّوائف والملل مع اختلاف ألسنتهم

وأديانهم (ولئن سئلتهم من خلق السموات والأرض ليقولّن الله ) (1)

ولتکرّره في کتاب الله المجيد المهيمن علي غيره من الکتب اکثر من غيره من الأسماء حتّي قيل : إن عدده فيه مع ما في البسملة ألفان وثمان مائة وأربع عشر، وليس لغيره من الأسماء هذا العدد في کتاب الله.

ولإناطة التوحيد عليه في کلمتي الشّهادة لا اله الا الله محمَّد رسول الله .

ولانتساب أشرف الأنّام إليه في أشرف أسمائه وهو عبد الله ولذا قدّمه علي

الرّسالة في التّشهّد : وأشهد أنّ محمّداً عبده ورسوله.

ولما يستانس له من بعض الأدعية الدّالة عليه کقوله عليه السلام في دعاء سحر و ايام شهر رمضان اللهم إنّي أسئلک بما تجيبني به حين أسئلک به فاجبني يا الله، وفي بعضها نعم دعوتک يا الله إلي غير ذلک من التّقريبات الّتي لا تحقيق معها لأصل القصد الذي هو أنّ الاسم أعظم هل هو من سنخ الألفاظ ومن عالم الحروف والکلمات کما هو ظاهرُ الأکثر بل صريح غير واحدُ من المحقّقين أو أنّه من عالم المعاني والمراتب الکونيّة کما يظهر من البعض ، بل لعلّه الظّاهر ممّن ينفي الأعظّمية في الأسماء کالطريحي وغيره ولذا قد ينزّل عليه ما ورد من أنّه تعالي خلق إسماً بالحروف غير مصوت(2) ، وباللّفظ غير منطق، وبالشّخص غير مجسّد، وبالتّشبيه غير موصوف، وباللّون غير مصبوغ منفّي عنه الأقطار، مبعّد عنه الحدود،

ص: 188


1- الزمر : 38 .
2- في البحار عن التوحيد : بالحروف غير منعوت .

ومحجوب عنه حسّ کلّ متوهّم، مستتر غير مستور، الخ (1)

وذلک لما قد يقال من أنّ کلَّ ما خلقه الله تعالي فائما هو من أسمائه بما توسّم به من آثار الصّنع ودلائل التّربية وکلّها من حيث انتسابها إلي الله العظيم عظيمة کما إليه الإشارة في بعض الآيات والأخبار والأدعية سيّما في جميع فقرات دعاء سحر شهر رمضان وذلک لأنّ الله سبحانه عظيمُ لا يصدر عن العظيم الّا العظيم فکلّ شيء خلقه الله تعالي وجعله لنفسه إسماً ودليلاً وآية إنما خلقه علي وجه العظمة لا غير، فليس معني الدّعوة بالإسم الأعظم أنّ الإسم علي قسمين أعظم وغير أعظم، بل المراد أنّ دعوة الدّاعي بالاسم تکون علي قسمين : قسم يصرف الداعي هذا الاسم الذي يدعو به علي ما هو عليه من العظمة والجلالة ورتبته من الوجود بل يتحقّق بحقيقته الّتي خلقه الله تعالي عليها ، وقسم يضلّ فيه ولا يهتدي اليه ولا يعرفه علي ما هو عليه من الجلالة والعظمة.

أقول الظّاهر أنّه لا مجال إلي إنکار الإسم الأعظم من حيث اللّفظ لدلالة ظواهر کثير من الأخبار عليه واشتهاره بين الأصحاب، بحيث قد يدّعي قيامُ ضرورة المذهب بل الدّين عليه ، نعم قد سمعت انقسام الأسماء إلي الاقسام الأربعة ، والظاهر اشتمال کلّ منها علي العظيمة وغيرها فمحمّدصلي الله عليه و اله وسلم وأوصيائه الطّيبّون عليه السلام هم أعظم الأسماء الالهية، ولذا ورد أنّهم الأسماء الحسني والأمثال العليا کما في الجامعة الکبيرة وکثير من الأدعية ، ولهذا ينکشف بعض الاستتار عن وجوه بعض الأخبار .

ففي البصائر عن مولينا أبي جعفر عليه السلام قال : إن اسم الله الأعظم علي ثلاثة وتسعين حرفاً وانّما عند آصف منها حرف واحد فتکلّم به فخسف بالأرض ما بينه

ص: 189


1- بحار الأنّوار : 166/4ح 8 عن التوحيد .

وبين سرير بلقيس ، ثمّ تناول السرّير بيده، ثمّ عادت الأرض کما کانت أسرع من طرفة عين ، وعندنا نحن من الإسم إثنان وسبعون حرفاً ، وحرف عندالله إستأثر به في علم الغيب عنده ، ولا حول ولا قوّة إلّا بالله العلي العظيم(1)

وفيه عن الصّادق عليه السلام قال : إن الله عزّوجل جعل إسمه الأعظم علي ثلاثة وسبعين حرفاً فأعطي آدم منها ستة وعشرين حرفاً ، وأعطي نوحاً منها خمسة وعشرين حرفاً، وأعطي منها ابراهيم ثمانية أحرف، وأعطي موسي منها أربعة أحرف، وأعطي عيسي منها حرفين، وکان يُحيي بهما الموتي، ويبري بهما الأکمه والابرص، وأعطي محمّداًصلي الله عليه و اله وسلم اثنين وسبعين حرفا واحتجب حرفا لئلّا يُعلَم ما في نفسه، ويعلم ما في نفس العباد» (2)

وظاهر هذه الأخبار هو الإسم اللفظي، وإن قيل بجواز حمله علي الکوني أيضا، ويدل علي ما ذکرناه مضافا إلي ذلک، الأخبار المختلفة في تعيين الإسم الأعظم.

فعن الصادق عليه السلام قال : «بسم الله الرحمن الرحيم أقرب إلي اسم الله الأعظم من

ناظر العين إلي بياضها»(3)

وعن الرضا عليه السلام: «إنه أقرب إلي الإسم الأعظم من بياض (4) إلي سوادها»(5)

وعن مولانا الباقرعليه السلام : «حدثني أبي عن جده أميرالمؤمنين أنّه قال :

رأيتُ الخضر في المنام قبل بدر بليلة ، فقلت له: علمِّني شيئا أنّتصر به علي

ص: 190


1- بحار الأنّوار: ج210/4عن البصائر
2- بحار الأنّوار : ج 4 / 211، ح 5، عن البصائر .
3- البحار: ج 78/ 371، ح 6.
4- في البحار : من سواد العين إلي بياضها .
5- البحار: ج223/93.

الأعداء، فقال : قل: يا هو يا من لا هو إلا هو، فلما أصبحتُ قصصتُ ذلک علي رسول الله صلي الله عليه و اله وسلم ، فقال : يا علي عُلمِتَ الاسمَ الأعظم فکان علي لساني يوم بدر، وکان يقول ذلک يوم صفين وهو يطارد ، فقال له عمار بن ياسر: يا أمير المؤمنين ما هذه الکنايات ؟ قال : إسم الله الأعظم» الخبر (1)

وفي «المشارق» أنّه لمّا دخل مولانا الصادق عليه السلام داود قاتل المعلّي بن

خنيس فقال :

يا داود! قتلتَ مولائي ووکيلي ، وما کفاک القتل حتي صلبتَه، والله لأدعونّ

عليک فيقتلک الله کما قتلتَه». .

فقال داود: أتهدّدني بدعائک ؟ أدع الله فإذا استجاب لک فادعه عليّ، فخرج

أبو عبد الله عليه السلام مغضبا، فلما جنّ الليل إغتسل واستقبل القبلة ثم قال :

يا ذا يا ذي يا ذوات إرم داود بسهم من سهام قهرک تقلقل به قلبه» ثم قال الغلامه: «أخرج واسمع الصائح»، فجاء الخبر أنّ داود قد هلک، فخر الإمام عليه السلام ساجدا وقال :

«لقد دعوتُ بثلاث کلمات لو قُسِمَت علي أهل الأرض تزلزلت بمن

عليها» (2)

قلت : ولعلّ ذا إشارة إلي الله سبحانه الحاضر القريب الذي لا أقرب منه من حيث حضوره وظهوره وتجلّيه في کل شيء بفعله وصنعه ونوره، وذي إشارة إليه من طريق التنفس التي هي أعظم آية وأقرب لها إليه، إذ ليس شيء أقرب ولا أدلّ من نفس الشيء عليه.

ص: 191


1- بحار الأنّوار: ج 93/ 232، ح 3، عن التوحيد
2- مشارق الأنّوار : ص 92- 93.

تفسير فاتحة الکتاب

والذوات إشارة إليه من طريق جميع الذوات التي هو سبحانه مذوتّها(فأينما

تولّوا فثمّ وجه الله )(1)

وعلي کلّ حال فليکن هذا الإجمال علي ذُکر منک حتي نفصّل الکلام إن شاء الله تعالي في تحقيق الإسم الأعظم ومعني أعظميته وأنّ الإستجابة به مشروطة بشرط أم لا في موضع أليق علي وجه أتم.

نعم، مما ينبغي التعرض له في المقام إختصاص هذا الإسم الشريف وهو

(الله) بمزايا لا توجد في غيرها وقد أشار إلي بعضها بعض المحققين .

منها : أنّ جميع أسماء الحق تنسب إليه، ولا ينسب إلي شيء منها کما نسب سبحانه في قوله : (وله الأسماء الحسني) (2) جميع الأسماء إليه، فکأنّه عنوان ولو في الجملة لغير من الأسماء.

ومنها : أنّه لم يسمّ به أحد من الخلق لا تسمية ولا توصيفاًلقوله : ( هل تعلم

له سمياً) وقد مرّ تمام البحث فيه.

ومنها تعويض الألف واللام فيه من الهمزة المحذوفة عند من يري أنّ أصله

إله کما هو الحق المستفاد من الأخبار المتقدمة، ولم يعوض في غيره أداة التعريف عن المحذوف.

قال في «المجمع» حکاية عن أحد قولي سيبويه أنّ اصله إله فحذفت الفاء التي هي الهمزة وجعلت الألف واللام عوضاً لازماً عنها، بدلالة استجازتهم قطع هذه الهمزة الموصولة الداخلة علي لام التعريف في القسم والنداء نحو قولهم : أفألله لتفعلن، ويا الله اغفر لي ، ولو کانت غير عوض لم تثبت الهمزة في الوصل (3)

ص: 192


1- البقرة : 115.
2- الأعراف: 180.
3- مجمع البيان : ج 1 /19، في تفسير البسملة .

ومنها : أنّهم جمعوا فيه بين أداة التعريف وحرف النداء عند کونه منادياً ، ولم

يرد ذلک في غيره إلا شاذأ في ضرورة الشعر کقوله:

فيا الغلامان اللذان فرّا إيّاکما أنّ تکسبانا شرا(1)

ولذا قيل : إن من قال : إن لفظة الجلالة من الأعلام الواقعة علي سبيل الارتجال من غير أنّ يؤخذ من أصل آخر وأنّ الألف واللام فيه جزء اللفظ لم يرد عليه الإعتراض بنداء ما فيه الألف واللام.

وأما من يقول: بأنّ الألف واللام فيه للتعريف فقد أجابوا عن الاعتراض بأنّ

اللام فيه بمنزلة الأصل، للزومها وکونها عوضا عن الهمزة التي هي فاء.

أو لأنّ النداء فيه أکثر من غيره فخففّت بحذف الوصلة بدخول کلمة (أل) ولم

يخفف بانتزاع اللام لأنّه يفضي إلي تغيّر الإسم وزوال ما قصد به التعظيم

أو لأنّهم کرهوا بأنّ يأتوا باسم مبهم يطلقونه علي الله عز اسمه.

أو لأنّ إطلاق الأسماء عليه توقيفية ولم يرد الإذن بمثل (يا أيها الله)، کي لا

يحصل الفصل بين حرفي التعريف بالإسم المبهم

ومنها : امتناع دخول کلمة أي والهاء للتنبيه عليه مع حرف النداء بخلاف غيره من الأسماء والأوصاف کقوله : ( يا أيها النبي )، ولعله يرجع إلي ما مر، فإن أيّ جُعِلَت وصلة إلي نداء المعرّف باللام نظرا إلي امتناع دخول اللام عليه لتعذر الجمع بين حرفي التعريف، فإنّ حرف النداء لتعريف المنادي .

ولذا قيل في الضابطة : إن مدخول لام التعريف إمّا أنّ يکون علما أو غير علم، فإن کان غير علم فلا يخلو إما أنّ يصحّ نزع اللام منه أو لا، فإن لم يصح نزع

ص: 193


1- لم يسم قائله ولکن استشهد النحويون کالسيوطي والجامي به في باب المنادي . وفي شرح ابن عقيل : إياکما أنّ تعقبانا شر

اللام منه کالصعق والثريا لا يصح نداؤه ، إذ لا ينزع منه اللام، ومعها لا يدخله حرف النداء، فالطريق في ندائه أنّ يؤتي بمن فيقال (يا من هو الصعق)، وإن کان علما يصح نزع اللام منه کالحارث والعباس فقيل : إنه ينادي بنزع اللام ، وقيل : لا يجوز نداؤه لا مع اللام لامتناع الجمع، ولا بدونها لاستلزامه تغيير صورة العلم.

وفيه : أنّه إن کان علما بدونها فلا محذور في حذفها، أو معها فهي کالجزء،

کما لو سمي بمرکب، بل بجملة فعلية کيا تأبط شراء أو إسمية کيا الرجل منطلق .

وأمّا المعرف باللام الذي ليس علما فلا يباشره حرف النداء ولکن يؤتي بأيها أو ذا، أو أيهذا، أو هذا، فيقال : يا أيها الرجل، أو يا ذا الرجل، أو يا أيهذا الرجل، أو يا هذا الرجل.

کأنّهم کرهوا أنّ يجمعوا بين حرفي التعريف وحرف النداء، کما کرهوا حذف اللام فيه ، لما فيه من الانتقال من التعريف الأقوي إلي التعريف الأضعف، فأتوا باسم مبهم مجرد عن حرف التعريف جعلوه المنادي في اللفظ وأجروا عليه حکم المعرّف باللام المقصود بالنداء

ومنها : تعويض الميم المشددة في آخره عن حرف النداء، ولذا لا يجتمعان إلا شاذا وشدد لکونها عوضا عن حرفين، وهذا هو المشهور، وقيل : اصله يا الله أما بخير، فخفّف لکثرة الاستعمال بحذف حرف النداء ومتعلقات الفعل وهمزته.

وهذا أيضا من خواصّ هذا الإسم بل فيه الإشارة إلي کثرة التوسل بهذا الإسم

في الدعوات کي استحق مثل هذا التخفيف.

ومنها : ما قد يقال : إنه قد يسقط الألف واللام أيضا مع إلحاق الميم المشددة

ويقال لاهم .

ص: 194

قال أبو خراش(1)في الشوط الخامس : لا همّ هذا خامس إن تمّا . ومنها اختصاصه بناء القسم، فلا تستعمل التاء مع غيره.

ومنها : إختصاصه بلفظ أيمن الموضوع للقسم، فيقال : أيمن الله ، وکذا سائر لغاته ، وهي ثمان وعشرون لغة، أشار إليها في «القاموس» قال: «وأيمن الله، وأيم الله ، وبکسر أولهما، وأيمن الله بفتح الميم والهمزة وتکسر، وإيم الله بکسر الهمزة والميم ، وقيل : ألفه ألف الوصل، وهَيمُ الله بفتح الهاء، وضم الميم، وأم الله مثلثة الميم، وإم الله بکسر الهمزة وضم الميم وفتحها، ومن الله مثلثة الميم والنون، وم الله مثلثة، وليم الله، وليمن الله : إسم وضع للقسم، والتقدير أيمن الله قسمي»(2) انتهي بعبارته.

ومنها : أنّهم کتبوه بلامين في الخط مع حذف الألف ووصل الهاء، أما کتابته

باللامين فلعله الأصل في مثله کما في اللعب واللمم واللحم ونحوها.

إلا أنّهم کتبوا (الذي) بلام واحدة مع تساويهما في کثرة الدوران ولزوم

التعريف لنقصانه الناشي من بنائه فأدخلوا فيه النقصان في الخط أيضا، فإذا ثني ضعفت مشابهته بالحرف حيث إنه لا يثني فيکتب بلامين.

وعلي هذا فإثبات التشديد في غير الذي علي خلاف القياس ، ولعله علامة لفظية لا للنيابة الخطية، وأما الحذف والإيصال فلکثرة الاستعمال علي انّ الثاني مع فرض الأول علي القياس.

ومنها : أنّه لا يغيّر بتثنية أو جمع أو تصغير أو تکسير .

ص: 195


1- هو أبو خراش خويلد بن مرة ، شاعر فحل من شعراء هذيل ، مخضرم أدرک الجاهليةوالإسلام فأسلم ومات سنة (15) ه في خلافة عمر بن الخطاب ، نهشته أفعي فمات. - الأغاني : ج 205/21 .
2- القاموس المحيط للفيروز آبادي :4/279.

ومنها : أنّه بعد حذف الجار قد يبقي في القسم مجرورا نحو الله - لأفعلن.

بل قيل : قد يحذف مع ذلک أيضا الألف واللام، فيقال : لاه لأفعلن، حکاه أبو

حاتم.

ومنها : تفخيم لامه إذا کان ما قبله مفتوحا أو مضموما.

قال في «شرح طيبة النشر»: «وأما اسم الله تبارک وتعالي فکل القراء علي تفخيمه إذا وقع بعد فتح نحو: قال الله ، وشهد الله ، وکذا إذا ابتدي به نحو: الله لطيف

بعباده (1)، وکذا إذا وقع بعد ضم ، نحو رسل الله (2) ، وإذ قالوا اللهم»(3)

وما حکاه الأهوازي (4) عن السوسي (5) من الترقيق فيه فهو شاذ لا يؤخذ به

ولا يصح تلاوته .

نعم، إختلفوا في ترقيقه وتفخيمه إذا وقع بعد حرف ممال وذلک في موضعين: (نري الله) »(6)(و سيري الله )(7)في رواية السوسي، قالوا: والوجهان صحيحان.

قلت : بل عن أبي البقاء عن بعضهم تفخيم لامه مطلقا ولو بعد الکسر، إلا أنّ

هذا القول مناف لنقل جمع الاتفاق علي أنّه لا يفخم عند الکسر.

قال الرازي: «أطبق القراء علي ترک تغليظ اللام في قوله ( بسم الله ) وفي

ص: 196


1- الشوري : 19.
2- الأنّعام : 124.
3- الأنّفال : 32.
4- الأهوازي : أبو علي الحسن بن علي بن ابراهيم الأستاذ في القراءة وکان بدمشق، توفي سنة (446) ه.- النشر في القراءات العشر : ج 1 / ص 35.
5- السوسي : أبو شعيب صالح بن زياد المتوفي (261) ه . - النشر : ج 1 / 134.
6- البقرة : 55.
7- التوبة :94.

قوله ( الحمد لله )والسبب فيه أنّ الانتقال من الکسرة إلي للام المفخمة ثقيل». ثم حکي عنهم في ضابط التفخيم ما لا يخلو من نظر واضح فلاحظ.

نعم، حکي عنهم أنّ المقصود من هذا التفخيم أمور کالفرق بينه وبين لفظ اللات في الذکر، وأنّ التفخيم مشعر بالتعظيم، وهذه اللفظة تستحق المبالغة فيه، والمرققة تذکر بطرف اللسان، والمغلظة بکله، فأوجب لزيادة القصد والعمل فيه کثرة الثواب، مع أنّ ذکره بکل اللسان يشعر بذکره بکل القلب، فيکون امتثالا لما عن «التوراة»: «يا موسي! أجب ربک بکل ذکر». .

أقول: ولعل الأولي من کل ذلک الاستناد إلي قراءة العرب الذين هم من أهل اللسان، وإن کان لا يعلل عندهم أيضا بشيء يصغي إليه ، فإن ذلک يرجع إلي الحرف وکيفية أدائه، لا إلي جوهره ومادته.

ومن هنا يظهر الجواب عما استشکله الرازي من أنّ نسبة اللام الرقيقة إلي اللام الغليظة کنسبة الدال إلي الطاء ، وکنسبة السين إلي الصاد، وحيث اعتبروا التغاير بين کل من الحرفين فليعتبر أيضا بين هاتين .

ووجه وحدة النسبة علي ما صرح به أنّ الرقيقة کالتاء يؤدي بطرف اللسان

والمغلظة کالطاء بکله. .

وفيه أنّ العمدة ما سمعت من أنّ إمتياز الحروف إنما هو بجواهرها وموادها لا مجرد الاختلاف في المخارج، مع تحقق المغايرة، هذا مع أنّ الإجماع حاصل علي عد الرقيقة والمغلظة حرفة واحدة، وعلي عد الدال والطاء وکذا السين والصاد حرفين ، واعتبار المغايرة مبني علي فرض التغاير المفقود في المقام.

والحق علي ما هو المقرر في محله أنّ لکل حرف من الحروف مخرجاً علي حدة، ولو باعتبار اختلاف کيفية الإعتماد وتحريک العضلات والأعصاب اللسانية وغيرها، علي ما يشهد به الوجدان .

ص: 197

ومنها : ما قيل: من أنّه إذا ألقيت من هذا الإسم الألف بقي (الله)، (لله الأمر من قبل ومن بعد)(1)وإن تُرکت اللامُ الأولي بقيت البقية علي صورة (له)، وله ما في السموات وما في الارض )(2)( وإن تُرکت اللامُ الثانية أيضا بقي الهاء المضمومة من هو، (لا إله إلا هو)(3)والواو زائدة حاصلة من الإشباع، ولذا يسقط في (هما) و(هم) إلي غير ذلک من الخواص التي يختص بها هذا الإسم.

واعلم أنّ أصل هذا الإسم وأسه وأساسه هو الهاء التي تدلّ عليه مجردا عن سائر حروف الإسم ولو مشبعا بالواو ، أو مع سائر الأدوات الجارة، وهي النقطة الجوّالة، والدائرة السيّالة، وعددها خمسة، وهي قوي الباب، وفصل الخطاب ومنه المبدأ، وإليه المآب .

مع أنّ في هذا العدد خصوصيةً في ظهوره في المظاهر، وعدم احتجابه بالسواتر، ولذا سمّاه أرباب الارثماطيقي(4)بالعدد الدائر، فإنه إذا ضُرب في نفسه کان بعينه محفوظا في الحاصل، وکذا إذا ضُرب في الحاصل، أو الحاصل في الحاصل، وهکذا متصاعدا إلي ما لا نهاية له، فتکون الخمسة محفوظة في المال والکعب ، ومال المال ، ومال الکعب، وکعب الکعب، وهکذا، ولذا کنّوا وأشاروا به إلي الواحد البخت الحق الظاهر بصنعه وآثاره في کل شيء کما قال سيد الشهداء عليه السلام: «أنّت الذي تعرّفتَ إليّ في کل شيء فرأيتک ظاهراًفي کل شيء، فأنّت الظاهر لکل شيء» (5)«متي غبت حتي تحتاج إلي دليل يدلّ عليک، ومتي

ص: 198


1- الروم : 4.
2- النساء: 171.
3- البقرة : 163.
4- الارثماطيقي (ARITMETIC) هو علم الحساب النظري .
5- بحار الأنّوار: ج98/ 228

بعدتَ حتي تکون الآثار هي التي توصل إليک»(1)

مع ما فيه من الإشارة إلي کليات الجواهر الخمسة، والعوالم الخمسة الکلية :

وهي : الأزل سبحانه وتعالي.

وعالم السرمد، وهو عالم الرجحان والأمر، والمشية الکلية، والفعل،

والإبداع.

وعالم الجبروت، أي العقول والمعاني المجردة عن المادة والمدّة والصورة

وعالم الملکوت، أي النفوس والصور المجردة البرزخية والجوهرية.

وعالم الملک، أي الأجسام التي أعلاها محدّد الجهات، وهو المساوق في الوجود للزمان والمکان ، بحيث لا يسبق شيء من هذه الثلاثة الآخرين في الغيب والشهادة ، بل لا يفضل شيء منها عن أخويه ولا ينقص عنه.

وإلي الخمسة العبائية (الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا) (2)وهو أول المخمّسات البسيطة، وأول أعداد المربعات النارية، وليس في الأفراد ما يدل علي ترکيب ما هو أوله سواه .

وهذا الحرف هو الإسم الأعظم والنور المعظم، والحرف المقدم عند کثير من أرباب التحقيق، بل هو في الحقيقة اسم الله العظيم جل جلاله، والألف واللام للتعريف، واللام والألف لنفي الغير ، فهو إشارة إلي الهوية المجردة الغيبية الإلهية.

بل قيل : إنه الذکر الجاري علي الدوام في أنّفاس الحيوانات في حرکتها

وسکونها، ونومها ويقظتها، واختيارها واضطرارها.

بل قيل : إنّ الحکماء الإلهيين وضعوا الأرقام التسعة المشهورة التي هي

ص: 199


1- بحار الأنّوار : ج 226/98
2- اقتباس من آية التطهير في سورة الأحزاب (33) .

أصول الأعداد الباقية، وکذا الحروف المفردة التي يحاذي الأعداد التسعة بحساب الجمل بأزاء الأصول التسعة الموجودات وهي (الباري عزّ شأنّه، و(العقل)، و(النفس)، و( الطبيعة) و(الهيولي).

والأربعة الأول لمّا کانت من الفواعل فاعتبارها من حيث ذواتها غير مضافة

إلي ما بعدها، ثم من حيث تأثيرها في معلولاتها يحصل ثمانية ومع الهيولي تسعة وهي أصول الموجودات.

فقالوا: الألف إنما يدلّ بها علي الأحدية الصرفة تعالي شأنّه من غير اعتبار الإضافة، والباء للعقل کذلک ، والجيم للنفس کذلک، والدال للطبيعة کذلک، ثم الهاء للباري تعالي باعتبار إضافتها إلي ما تحتها وهي مرتبة الألوهيّة والواو للعقل کذلک، والزاي للنفس کذلک، والحاء للطبيعة کذلک.

ثم الطاء للهيولي لأنّها في أخيرة المراتب ، وليس لها إلا حيثية واحدة .

وهذه الوجوه وإن کانت في الظاهر مناسبات اعتبارية، إلا أنّها حاکية عن حقايق متأصلة أشرقت عليها بتجلي ظهورها وفاضل نورها، فکانت مرآة لها ودليلا عليها.

نعم في بعض ما في عباراتهم من الإضافة إلي الباري وعدّه من جملة

المراتب وغيرهما بعض المسامحات.

ثم إنه إذا أشبع بعد ضمه وتوجهه إلي مبدأه ظهر بظاهره وباطنه ، وهو ستة عدد قوي الواو الذي هو أيضا من الأعداد الدائرة الکرية التي تظهر بنفسها و بصورتها في جميع مربعاتها ومکعباتها ومضروباتها، وذلک أنّ العدد الدائر ليس بعد الواحد إلا الخمسة والستة، ويقال له الکري أيضا.

وقد اجتمعا في کلمة (هو) وهو الإشارة إلي الهوية الثانية الأحدية . ولذا قال مولانا الباقرعليه السلام في قوله ( قل هو الله أحد) قال :

ص: 200

«قل أي أظهر ما أوحينا إليک ونتأ ناک به بتأليف الحروف التي قرأنّاها لک اليهتدي بها من ألقي السمع وهو شهيد، وهو اسم مشار ومکنّي إلي غائب، فالهاء تنبيه عن معني ثابت، والواو إشارة إلي الغائب عن الحواس، کما أنّ قولک : هذا إشارة إلي الشاهد عند الحواس ، وذلک أنّ الکفار نبّهوا عن آلهتهم بحرف إشارة الشاهد المدرک، فقالوا: هذه آلهتنا المحسوسة المدرکة بالأبصار فأشِر أنّت يا محمد إلي إلهک الذي تدعو إليه، حتي نراه وندرکه، فأنّزل الله تبارک وتعالي (قل هو الله أحد )قالهاء تثبيت للثابت، والواو إشارة إلي الغائب عن درک الأبصار ولمس الحواس». .

ثم إنّه بقواه العددية يساوي قوي حرف النداء الذي يتوصل به إلي نداء البعيد

والقريب فإنه أقرب من کل قريب وأبعد من کل بعيد.

فإذا استنطقته في مقام الانبساط والتفصيل ظهر إسم مولانا أميرالمؤمنين علي عليه السلام فإنه الحجاب والباب وأمّ الکتاب وفصل الخطاب ، فينتهي الأحد عشر بعد بسط الآحاد بالعشرات إلي مائة وعشرة.

بل يستفاد من تضاعيف الأحاديث المأثورة من أهل البيت عليهم السلام أنّه انطوي إسمه الأعظم علي أسمائهم، وعلي ولايتهم، ولذا قال مولانا الصادق عليه السلام ما مر في «توحيد الصدوق» في تفسير لفظة (الله): «إن الألف آلاء الله علي خلقه من النعيم بولايتنا، واللام إلزام الله خلقه علي ولايتنا، والهاء هوان لمن خالف محمّداً و آل محمد صلوات الله عليهم(1)

فهم مظاهر الإسم، بل هو الاسم الأعظم، والنور الاقدم ثم إنک قد سمعت أنّ الألف إشارة إلي الذات الأحدية الحقة، والهاء دالّة علي

ص: 201


1- بحار الأنّوار : ج 231/92، ح 12، عن التوحيد والمعاني .

مرتبة الألوهية التي هي الذات المستجمعة لصفات الکمال والجلال، وهي مدلولة هذا الإسم الشريف فيصير الباقي بعد وضع الطرفين (لا) وفيه إشارة إلي أنّه هو الأول والآخر والظاهر والباطن، وأنّ لا شيء في الوجود بحقيقة الشيئية إلا هو سبحانه ، فکلمة لا إله إلا الله هي تفصيل ما أجمل في هذه اللفظة لدلالتها علي نفي الاعتبار، وإثبات الواحد القهار، وهذا بحسب المعني، بل هي کذلک بحسب اللفظ أيضا، فإن حروف الکلمة هي تکرار حروف اللفظة من غير زيادة .

أيقاظ واستيفاق في تحقيق الاشتقاق

قد مرّ الکلام في اشتقاق لفظ الجلالة، وبقي الکلام في أقسام الإشتقاق، وأحکامه ولا علينا أنّ نشير إلي نبذة يسيرة من القول فيه ، تکون أصلا لما يأتي فنقول : الاشتقاق علي قسمين: لفظي ومعنوي، فاللفظي إقتطاع فرع من أصل يدور في تصاريفه علي حروف ذلک الأصل لولا المقتضي لتغير بعضها بحذف أو نقل أو قلب ، وأقسامه خمسة عشر قسما : فإنه إمّا بزيادة أو بالنقصان أو بهما معا، وکل من الأوّلين، إما في الحرف، أو في الحرکة، أو فيهما معا / فهذه ستّة ويحصل من الثالث تسعة أقسام : لأنّ الزيادة مع النقصان إما أنّ يقعا في الحرکة فقط، أو في الحرف فقط، أو فيهما معا.

فالذي في الحرکة نقصانها مع زيادتها ، نقصانها مع زيادة الحرف ، نقصانها مع

زيادة الحرکة والحرف.

والذي في الحرف نقصانه مع زيادته، نقصانه مع زيادة الحرکة، نقصانه مع

زيادتهما.

والذي فيهما معا نقصانهما مع زيادتهما معا، نقصانهما معا مع زيادة الحرکة،

ص: 202

نقصانهما مع زيادة الحرف.

فهذه تسعة، ومع الستة الأولي خمسة عشر قسما، فتأمّل فإن الخطب فيه سهل کسهولة الخطب فيما اختلفوا فيه من إشتقاق الفعل من المصدر کما عن البصريين أو العکس کما عن الکوفيين.

وإن ذهب الجمهور إلي الأول، نظرا إلي أنّ المصدر جزء من الفعل الذي مدلوله الحدث والزمان، إذ مدلول المصدر هو الحدث خاصة، فيقدم عليه تقدم الجزء علي الکل، فلو اشتقّ المصدر من الفعل لتأخّر عنه، لکنه متقدم عليه فيدور.

وفيه : أنّ التقدم الرتبي المعنوي علي فرضه لا يقضي بالاشتقاق اللفظي، سيما مع کون المعني المصدري من المعاني النسبية الربطية التي لا تحقق لها إلا باستناد الفعل إلي الفاعل.

اللهمّ إلّا أنّ يقال : إنهم لما رأوا المصدر کالأصل المحفوظ بجوهره ومادته مع اعتوار الصور المختلفة عليه باعتبار اختلاف الحرکات والسکنات وزيادة الحروف ونقصانها لتحصيل معان مختلفة بالاعتبارات والجهات.

وإن کان کلها تدور علي ذلک المعني الواحد الساري في الجميع الذي هو بمنزلة الصور المعتورة عليها، فلذا حکموا بکون المصدر هو الأصل من جهة القواعد اللفظية الاشتقاقية التي نظرهم مقصور علي ملاحظتها واعتبارها.

ولذا أخذوا الفاعل من أجزاء الفعل ومتممّاته واعتباراته، وإن کان مقتضي

القواعد المعنوية الحقيقية کون الأصل هو الفاعل، بل هو ولا سواه، بمعني أنّه ليس له ثان في رتبة وجوده وتحققه، وکل من الفعل وغيره من جملة شؤونه وتجلياته وتطوراته التي يکون له، لا في مرتبة الذات، بل في مرتبة الظهور والتجلّي بصفة من صفاته الفعلية.

فأول ما يظهر منه وهو الفعل المعبر عنه بالإبداع والمشية والإرادة ، وهي وإن

ص: 203

کانت أسماؤها مختلفة إلا أنّ معناها واحد، کما نبه عليه مولانا الرضا عليه التحية والثناء في خبر عمران الصابي (1)

ولذا قال الصادق عليه السلام: «خلق الله المشية بنفسها، ثم خلق الأشياء

بالمشية» (2)

فالفعل مقدم علي المصدر الذي هو المفعول المطلق کما في قولک : ضربت ضربا ، فضربا الذي هو المصدر وهو المفعول المطلق قد تحصّل وإنوَجَد من الفعل، لأنّ الموجود بعد الوجود، بل الوجود بعد الإيجاد ، بل الإيجاد بعد أوجد فافهم الکلام حتي تعرف الفرق بين الاشتقاقين الذين أحدهما عکس الآخر.

فلک تصحيح کل من القولين بالاعتبارين ، إلّا أنّه لما کان مدار علمهم ويحثهم

واصطلاحهم علي الألفاظ اللغوية، لا الحقائق المعنوية کان الجدير بهم الاتفاق علي اشتقاق الفعل من المصدر، کما اختاره الجمهور منهم.

ولعل الفرقة الأخري قد آنست من جانب طور الحقايق نارا وبرقا، فرأي أنّ الأمر هکذا بحسب الحقيقة والمعني، ولکن سنا برقه ذهب ببصره وما استشعر أنّ هذا في عالم الحقائق لا الألفاظ التي هي محلّ بحثهم

ومن جميع ما مر ظهر بعض الکلام في الاشتقاق المعنوي أيضا، وإن تنوّع

علي أنّواع شتي کلها ترجع إلي معني واحد عند التحقيق علي بعض الوجوه.

فمنها الاشتقاق العيني المشار إليه في کثير من الأخبار والأدعية المعصومية ، کما في دعاء يوم السبت المروي في «المتهجد»: «أنّت الجبار تعزّزت بجبروتک ، وتجبّرت بعزتک، وتملّکت بسلطانک، وتسلطت بملکک ، وتعظّمت بکبريائک،

ص: 204


1- بحار الأنّوار : ج 10 /314، ح 1 عن التوحيد والعيون
2- البحار : ج145/4 ، ح20، عن التوحيد.

وتشرّفت بمجدک ، وتکرّمت بجودک ، وجُدتَ بکرمک، وقَدَرتَ بعلّوک، وتعاليت بقدرتک»(1)

فإنّ کلاَّ من هذه الصفات الجلالية والجمالية عين الأخري، بل الکل واحد في الحقيقة بلا مغايرة أو تعدد حقيقي أو اعتباري أو ذهني أو خارجي، وهو الذات البحت المجرد عن جميع الاعتبارات والإضافات والشؤون والکثرات.

ولذا قال مولانا أميرالمؤمنين روحنا له الفداء وعليه وعلي نفسه وذريته آلاف التحية والثناء: «وکمال توحيده الإخلاص له، وکمال الإخلاص له نفي الصفات عنه، لشهادة کل صفة أنّها غير الموصوف وشهادة کل موصوف أنّه غير الصفة ، فمن وصف الله سبحانه فقد قرنه، ومن قرنه فقد ثنّاه، ومن ثنّاه فقد جزأّه، ومن جزأه فقد جهله، ومن جهله فقد أشار إليه، ومن أشار إليه فقد حده، ومن حده فقد عدّه» (2)

ثم لو حملنا الدعاء علي ذکر الصفات الفعلية فالأمر فيه ايضا ما مر.

قال الله تعالي : (وما أمرنا إلا واحدة)(3)

ويمکن الحمل علي الاشتقاق الفعلي ، وفايدة استدارة کل منها علي الآخر الإشارة إلي أنّ کلا من تلک الصفات ذاتي وفعلي کانقسام الربوبية إذ لا مربوب وإذ مربوب.

ولعله يحمل علي المعنيين الأخيرين أو الثالث أو کل من الثلاثة قوله عليه السلام في تعقيب صلاة التسبيح علي ما رواه في «المتهجد» : «أسألک باسمک الذي اشتققته من عظمتک وأسألک بعظمتک التي اشتققتها من کبريائک وأسألک بکبريائک التي اشتققتها

ص: 205


1- بحار الأنّوار : ج 149/90 .
2- نهج البلاغة : الخطبة الأولي .
3- القمر : 50.

من کينونيتک، وأسألک بکينونيتک التي اشتققتها من جودک ، وأسألک من جودک الذي اشتققته من عزک ، واسألک بعزّک الذي اشتققته من کرمک» الدعاء (1)

ومنها الاشتقاق الفعلي الإبداعي الذي هو نفس المشيّة الکلية والعناية

الربانية والنفس الرحماني، والنور الشعشعاني.

فعن النبي صلي الله عليه و اله وسلم علي ما رواه في کتاب «المعراج»: «يا علي! إن الله تبارک

وتعالي کان ولا شيء معه، فخلقني وخلقک روحين من نور جلاله»(2)

وفي «رياض الجنان» عن أبي جعفر عليه السلام:

کان الله ولا شيء غيره، لا معلوم ولا مجهول، فأول ما ابتدأ من خَلَق خلقه أنّ خَلَق محمداً و وخلقنا أهلَ البيت معه من نور عظمته» إلي أنّ قال عليه السلام:

يفصل نورنا من نور ربنا کشعاع الشمس من الشمس»(3)

وفي «تأويل الآيات» عن الشيخ الطوسي بالإسناد عن الکاظم عليه السلام قال :

(إن الله تبارک وتعالي خلق نورَ محمد صلي الله عليه و اله وسلم من نور إخترعه من نور عظمته وجلاله، وهو نور لاهوتيته الذي تبدّي وتجلّي لموسي عليه السلام في طور سيناء، فما استقرّ له، ولا أطاق موسي عليه السلام لرؤيته، ولا ثبت له حتي خرّ صعقا مغشيا عليه، وکان ذلک النور نور محمدي صلي الله عليه و اله وسلم ، فلّما أراد أنّ يخلق محمداًمنه قسم ذلک النور شطرين، فخلق من الشطر الأول محمداً ومن الشطر الآخر علي بن أبي طالب عليه السلام، ولم يخلق من ذلک النور غيرهما خلقهما بيده، ونفخ فيهما بنفسه لنفسه، وصورهما علي صوّرتهما، وجعلهما أمناء علي خلقه، وخلفاء علي خليقته، وعينا له عليهم، ولسانا له إليهم، قد استودع فيهما علمه، وعلمهما البيان، واستطلعهما

ص: 206


1- بحار الأنّوار : ج 195/91، عن جمال الأسبوع.
2- کنز الفوائد : ص374، وعنه بحار الأنّوار : ج 3/25 ، ح 5.
3- بحار الأنّوار ج17/25 : عن رياض الجنان .

علي غيبه، وجعل أحدهما نفسه، والآخر روحه، لا يقوم واحد بغير صاحبه، ظاهرهما بشرية، وباطنهما لاهوتية، ظهرا للخلق علي هياکل الناسوتية حتي يطيقوا رؤيتهما.

وهو قوله تعالي ( وللبسنا عليهم ما يلبسون)(1) فهما مقام رب العالمين،

وحجاب خالق الخلائق أجمعين.

بهما فتح بدء الخلق ويهما يختم الملک والمقادير، ثم اقتبس من نور محمد صلي الله عليه و اله وسلم فاطمة ابنته، کما من نور محمدصلي الله عليه و اله وسلم فاطمه ابنته کما اقتبس نوره من نوره ، واقتبس من نور فاطمة وعلي عليه السلام الحسن والحسين کاقتباس المصابيح...» الخبر (2)

وفيه شهادة لما يأتي أيضاً ولذا نقلنا کثيراً منه مع ما فيه من الفوائد الشريفة

والعوائد المنيفة.

ومنها الاشتقاق النفسي المشار إليه بقوله :(وأنّفسنا وأنّفسکم) (3). وقوله صلي الله عليه و اله وسلم : «يا علي أنّت نفسي التي بين جنبي» (4)

وقال مولانا أمير المؤمنين عليه السلام : «أنّا من رسول الله صلي الله عليه و اله وسلم کالضوء من

الضوء» (5)

وفي نهج البلاغة: «أنّا من رسول الله صلي الله عليه و اله وسلم کالصنو من الصنو والذراع من

بالعام

ص: 207


1- الأنّعام: 9.
2- بحار الأنّوار : ج 35/ 28، وفيه بعد «واستطلعهما علي غيبه» : بهما فتح بدء الخلق ... وأما جملة «و جعل أحدهما ... إلي حجاب خالق الخلائق أجمعين» فليست موجودة فيه.
3- آل عمران: 11
4- لم أظفر علي مصدر له بهذه الألفاظ ، نعم في مقتل الحسين علي للخوارزمي : ص 41، علي نفسي» وفي مفتاح النجا للبدخشي ص 43: (علي بن أبي طالب مني کروحي في جسدي».
5- في البحار: ج26/21 : «أنّا من أحمد کالضوء من الضوء» .

العضد (1)

وفي الخبر المتقدم إشارة إليه، بل هو المقصود من الاقتباس المذکور في

ذيله، وإن شبهه باقتباس المصابيح کما شبه اقتباس نور فاطمة عليه السلام من نوره باقتباس نوره من نور الله عزّ وجل، إلا أنّ بين التشبيهين فرقاً بيناً أبعد مما بين السماء والأرض.

(ولله المثل الأعلي في السموات والأرض وهو العزيز الحکيم )(2)

وفي «أمالي الصدوق» عن النبي صلي الله عليه و اله وسلم : «إن الله خلق ماء من تحت العرش»

إلي أنّ قال : «فلم يزل ينتقل ذلک الماء من ظهر إلي ظهر حتي صار إلي عبد المطلب (3) فشقه الله فصار نصفه في أبي عبدالله ونصفه في أبيطالب ، فأنّا من نصف الماء وعلي من النصف الآخر»(4)

وفي «رياض الجنان» عن النبي صلي الله عليه و اله وسلم : «أوّل ما خلق الله نوري ، ففتق منه نور

علي عليه السلام» (5)

إلي غير ذلک من الأخبار الکثيرة التي مرت الإشارة إلي بعضها، وإلي أنّ نور علي عليه السلام خلق بعد نور نبينا محمداً اين بثمانين ألف سنة، وهو في هذه المدة

يطوف حول حجاب العظمة، فلما انتهي في القوس النزولي التفصيلي إلي حجاب القدرة خلق منه نور علي عليه السام حسبما مرة(6)

ومنها : الاشتقاق الفرعي الشعاعي بواسطة أو بوسائط ، کاشتقاق شيعتهم

کرم !م مها إلاه

ص: 208


1- نهج البلاغة : الکتاب 45، کتابه عليه السلام إلي عثمان بن حنيف الأنّصاري .
2- الروم : 27.
3- في البحار : «في عبد المطلب».
4- بحار الأنّوار : ج13/15 .
5- البحار : ج 57/ 170، ح 117.
6- راجع بحار الأنّوار : ج 22/25، ح 38، عن رياض الجنان .

منهم، ولذا قالوا : «شيعتنا منا بدؤوا وإلينا يعودون» (1)

وفي خبر آخر: «وإنما سمّوا شيعة لأنّهم خلقوا من شعاع نورنا» (2)

وفي «الأمالي» عن النبي صلي الله عليه و اله وسلم أنّه قال لعلي عليه السلام: «يا علي! أنّت مني وأنّا منک ، روحک من روحي ، وطينتک من طينتي ، وشيعتک خلقوا من فضل طينتنا، فمن أحبهم فقد أحبنا، ومن أبغضهم فقد أبغضنا» (3)

وفي «بشارة المصطفي» عن النبي صلي الله عليه و اله وسلم في خبر طويل: «يا علي! إن الله عزوجل إختار شيعتک بعلمه لنا من بين الخلق وخلقهم من طينتنا واستودعهم سرنا، والزم قلوبهم معرفة حقنا» (4)

وعن رضي الدين بن طاووس و أنّه قال : «سمعت القائم عجل الله فرجه بسر

من رآي يدعو من وراء الحائط وأنّا أسمعه ولا أراه وهو يقول: : «اللهم إن شيعتنا خلقوا من فاضل طينتنا، وعجنوا بماء ولايتنا اغفر لهم من الذنوب ما فعلوه إتکالا علي حبنا، ولنا يوم القيامة أمورهم، ولا تؤاخذهم بما اقترفوه من السيئات، إکراما لنا ولا تقاصصهم يوم القيامة مقابل أعدائنا، وإن خفت موازينهم فثقلها بفاضل حسناتها» (5)

وفي «رياض الجنان» عن مولانا أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال : «إتقوا فراسة المؤمن فإن ينظر بنور الله»، قيل: يا أميرالمؤمنين ! کيف ينظر بنور الله ؟ قال : «لانا خلقنا من نور الله ، وخلق شيعتنا من شعاع نورنا، فهم أصفياء أبرار أطهار

ص: 209


1- البحار : ج21/25 ، ح 34.
2- بحار الأنّوار ج 25 / 23.
3- بحار الأنّوار : ج7/68 ، ح 1.
4- ) البحار : ج 309/39 ، ح 122.
5- بحار الأنّوار : ج 303/53 ، ح 55.

تفسير فاتحة الکتاب

متوسمون، نورهم يضي علي من سواهم کالبدر في الليلة الظلماء» (1)

وفي «البصائر» عن الصادقين عليه السلام قالا: «إن الله خلق محمداصلي الله عليه و اله وسلم من طينة من جوهرة تحت العرش، وإنه کان لطينته نضح فجبل طينة أميرالمؤمنين من نضح طينة رسول الله صلي الله عليه و اله وسلم ، وکان لطينة أمير المؤمنين علا نضح فجبل طينتنا من فضل طينة أميرالمؤمنين عليه السلام ، وکانت الطينتنا نضح فجبل طينة شيعتنا من نضح طينتنا، فقلوبهم تحن إلينا، وقلوبنا تعطف عليهم تعطف الوالد علي الولد، نحن خير

الهم وهم خير لنا، ورسول الله لنا خير، ونحن له خير(2)

وفيه عن الباقر عليه السلام: «يا جابر ! خلقنا نحن ومحبونا من طينة واحدة بيضاء نقية من أعلي عليين، فخُلِقنا نحن من أعلاها، وخُلِق محبُونا من دونها، فإذا کان يوم القيامة إلتفّت العليا بالسفلي، وإذا کان يوم القيامة ضربنا بأيدينا إلي حُجرة نبينا، وضرب أشياعنا بأيديهم إلي حُجزتنا، فأين تري يصير الله نبيه وذريته؟ وأين تري يصيّر ذريته محبيّها» (3)

وفيه عن محمد بن عيسي، عن أبي الحجاج عن أبي جعفر عليه السلام قال :

«إن الله خلق محمدا وآل محمد صلي الله عليه و اله وسلم من طينة عليين، وخلق قلوبهم من طينة فوق ذلک، وخلق شيعتنا من طينة دون عليين، وخلق قلوبهم من طينة عليين،

فقلوب شيعتنا من أبدان آل محمد »صلي الله عليه و اله وسلم (4)

إلي غير ذلک من الأخبار الکثيرة الدالة علي ذلک، وإن اختلفت في التعبير عنه بالنضح الذي هو الرش من قولهم نضحتُ الثوب بالماء أي رششته به، أو من

ص: 210


1- البحار: ج 21/25، ح 32، عن رياض الجنان
2- بصائر الدرجات : ص 5، وعنه البحار ج 8/25، ح 11.
3- البصائر : ص6، وعنه البحار : ج 11/25 ، ح 16.
4- بصائر الدرجات : ج 148/1، الباب 9، ح 2.

نضحت القربة أي رشحت ومنه «فکل إناء بالذي فيه ينضح».

وبالفضل، والشعاع، والدون ، وغيرها مما يؤل إلي معني واحد، وکلها تعبير

واستعارة عن الحقيقة التي لا يحيط بها الکلام، ولا يجري عليها الأقلام

نعم، ينبغي أنّ يعلم أنّ طينة سائر الأنّبياء والمرسلين والملائکة والمقربين

مشتقة من أنّوارهم في هذه المرتبة

ولذا ورد عن الصادق عليه السلام في تفسير قوله تعالي : ( وإن من شيعته

الإبراهيم »(1)علي ما رواه في تأويل الآيات بالإسناد:

إن الله لما خلق إبراهيم عليه السلام کشف له عن بصره، فرآي أنّوار النبي لا والأئمة ؟ فقال : إلهي ! ما هذه الأنّوار ؟ فقيل له : إنها أنّوار صفوتي من خلقي وخيرتي من بريتي، ثم قال ابراهيم : الهي وسيدي ! أري أنّوارا قد أحدقوا بهم لا يحصي عددهم إلا أنّت، قيل : يا ابراهيم ! هؤلاء شيعتهم، شيعة أمير المؤمنين عا ، قال ابراهيم : اللهم اجعلني من شيعة أميرالمؤمنين ، قال : فأخبر الله تعالي في کتابه فقال : وإن من شيعته لإبراهيمه (2)

وفيه عن النبي صلي الله عليه و اله وسلم : إن الله خلقني وخلق عليا قبل أنّ يخلق آدم بأربعين ألف عام، وخلق نورا فقسمه نصفين ، فخلقني من نصفه، وخلق عليا من النصف الآخر قبل الأشياء کلها، ثم خلق الأشياء کلها فنورها من نوري ونور علي»(3)

وبالجملة المستفاد من الأخبار الکثيرة أنّه قد خلق من شعاع أنّوارهم جميع الأنّوار والأرواح الطيبة من الأنّبياء والمرسلين والملائکة المقربين والعباد

ص: 211


1- الصافات: 83
2- الصافات: 83، والحديث منقول بالمعني و مختصر عن الحديث الذي أورده في البحار : ج 151/36 - 152، ح 131 ، عن الکنز.
3- بحار الأنّوار : ج 345/26، ح 18 ، عن ارشاد القلوب .

الصالحين .

بل الجنة، والرضوان ، والحور، والقصور، والأفلاک، والأملاک ، والشمس

والقمر، والنجوم، بل الأعمال الحسنة والأفعال الصالحة.

ولذا قال الصادق عليه السلام في خبر المفضل بن عمر:

«نحن أصل کل خير، ومن فروعنا کل بر، ومن البر: التوحيد، والصلاة والصيام وکظم الغيظ عن المسييء، ورحمة الفقير، وتعاهد الجار، والإقرار بالفضل لأهله.

وعدونا أصل کلّ شر، ومن فروعهم کل قبيح وفاحشة، فمنهم الکذب والنميمة، والبخل، والقطيعة» إلي أنّ قال : «وکذب من قال: إنه معنا وهو متعلق بفرع غيرنا» (1)

ومنها : الإشتقاق العکسي الظلّي التبعي ، وإن کان إطلاق الاشتقاق عليه لا يخلو من نوع تسامح، وذلک کاشتقاق الظل من الشاخص والظلمة من النور، والحزن من السرور والعدم المضاف من الوجود، والطينة الخبيثة من الطيبة ، والسجين من عليين، فإن الله تعالي کان في أزليته فردا متفردا ليس معه شيء فخلق الأشياء لا من شيء، فأول ما خلقه من الأکوان هو المشية الکونية، خلقها بنفسها وخلق الأشياء بها سعيدها وشقيها طيبها وخبيثها برها وفاجرها، إلّا أنّ المسميات الأوليّات خلقت من سنخ المشية، وهو العبودية التي حقيقتها المعرفة بالله والتقرب

ولذا فسّر مولانا الصادق عليه السلام العبد بقوله : « العين علمه بالله ، والباء : بُعده عن

غيره، والدال : دنُوه منه» (2)

فيتحصّل من العلم الجهل، ومن القرب البعد، وهذا معني فرعيّة الماهية

ص: 212


1- البحار: ج 303/24، ح 47
2- مصباح الشريعة الباب المائة في حقيقة العبودية ، وفيه : الباء بونه عمن سواه .

اللوجود وترتبها عليه، بل وتأخر خلقة الجهل عن العقل کما في الخبر، وکذا تأخر

خلقة الطينة الخبيثة من الطيّبة، بل ترتب کل متأخر علي المتقدم وفرعية له، وذلک

قوله (ومن کل شيء خلقنا زوجين )(1)(هن لباس لکم وأنّتم لباس لهن)(2)

وقول مولانا أميرالمؤمنين عليه السلام في خطبته: «بمضادته بين الأمور عرف أنّ لا

ضد له، وبمقارنته بين الأشياء عرف أنّ لا قرين له» (3)

فالماهية زوج الوجود وظلّه ولباسه وضده، وهي جهة توجه الشيء إلي نفسه، کما أنّ الوجود توجهه إلي ربه ، وهو جهة فقره إلي الله، ويفقره إليه استغني من غيره، قال الله تعالي : ( يا أيها الناس أنّتم الفقراء إلي الله ) (4)

وقال النبي صلي الله عليه و اله وسلم : «الفقر فخري وبه أفتحر علي الأنّبياء»(5)

والماهية جهة إستغنائه الذي صار سببا لفقره وافتقاره، وهذا الفقر هو سواد الوجه في الدارين، لتوجه الوجه معه إلي الظلمة لا إلي النور (الله ولي الذي آمنوا يخرجهم من الظلمات ) (6) ظلمة العدم، وظلمة الجهل، وظلمة الکفر والشرک والعصيان وإلي النور . نور العبودية، وهو نور ولاية مولانا أمير المؤمنين الذي هو المنهج القويم والصراط المستقيم، (والذين کفروا) کفر الجهل أو الجحود أو الشقاق والنفاق أو الشرک أو العصيان (أولياؤهم الطاغوت ).

والإتيان بصيغة الجمع لأنّ الباطل ليس له حد ينتهي إليه، ولذا قال سبحانه :

(وإن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بکم عن سبيله)(7)

ص: 213


1- الذاريات:49.
2- البقرة : 187.
3- نهج البلاغة : الخطبة : 186.
4- فاطر : 15.
5- بحار الأنّوار : ج 30/72 - 49، وجملة «وبه أفتخر علي الأنّبياء غير موجودة فيه» .
6- البقرة : 257.
7- الانعام : 153.

وقال حکاية من العبد الصالح يوسف بن يعقوب علي نبينا وآله وعليهما

السلام : (يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار) (1). و يخرجونهم من النور (2)نور ولاية ولي الحق (إلي الظلمات ) (3)

فالوجود المطلق الذي لا يشوبه ظلمة الماهية والالتفات إلي الإنية، هو الفيض المطلق، وولي الحق وباب الجبروت وحجاب اللاهوت وبحر الرحموت ووجه الحي الذي لا يموت.

والماهية المحضة هي الغاسقة في ظلمة العدم، وهي التي ما شممت رائحة الوجود وبينهما عرض عريض، وطول طويل أبعد مما بين السماء والأرض ، بل مما بين أعلي عليين إلي أسفل سافلين، وينفتح منه باب آخر وهو سر المزج بين الطينتين ، والعقد بين الزوجين، وتقاطع المنطقتين، وتقابل الجوهرين، کما ورد في أخبار الطينة : «وإن الله جمع بين الطينتين: طينة أوليائه وطينة أعدائه، فخلطهما وعرکهما عرک الأديم ومزجها بالمائين» (4)

وستسمع تمام الکلام في موضعه إن شاء الله تعالي .

ص: 214


1- يوسف : 39.
2- البقرة : 257.
3- البقرة : 257.
4- منقول بالمعني عن حديث مبسوط رواه الصدوق بإسناده عن أبي جعفر الباقر بهذا الحديث کتاب العلل وعنه بحار الأنّوار ج 5/ 228 - 233، ح 6.

الفصل الرابع في المباحث المتعلقة بالإسمين العظيمين الکريمين

وهما الرحمن الرحيم المشتقان علي ما قيل من رحم بکسر العين للمبالغة علي وزن نَدمان ونَديم واشتقاق الصفة المشبهة من المتعدي مع لزوم صوغها من اللازم مبنيّ علي ما نصّ عليه غير واحد من أئمة الأدب من أنّ المتعدّي قد يجعل لازما بمنزلة الغرائز، فينقل إلي فعُل بضم العين، ثم يشتق منه الصفة المشبهة.

قالوا: وهذا باب مطِرد في المدح والذم، ولذا قيل في قوله :(رفيع

الدرجات)(1)رفيع درجاته لا رافع للدرجات.

بل ربما يرفع الإشکال عن «الرحيم» مضافا إلي ذلک بنصّ سيبويه علي کونه

صيغة مبالغة من قولهم «هو رحيم فلانا». .

وکيف کان فالرحمة لغة قيل بمعني الرقة والإنعطاف الموجب للتفضل

والإحسان، ومنه الرحم لانعطافها علي ما فيها.

وتستعمل مضافا إليه سبحانه بمعني أيصال الفضائل ودفع المکاره، وبمعني الحياة مطلقا أو الحياة الإيمانية، بمعني المغفرة کقوله: «يا باريء خلقي رحمة لي»(2)-(لا عاصم اليوم من أمر الله الا من رحم )(3)

( فانظر إلي آثار رحمة

ص: 215


1- غافر: 15.
2- بحار الأنّوار : ج 85/ 235 ح 59 عن مصباح الشيخ
3- هود : 43.

الله کيف يحيي الأرض ) (1)

(وما أرسلناک إلا رحمة للعالمين )(2)

(و ألا إنهم قربة لهم سيد خلهم الله في رحمته إن الله غفور رحيم) (3) وربما يقال : إنها قد استعملت في العافية والسلامة في قوله:

( وهل هن ممسکات رحمته)(4)وفي الرزق في قوله : (قل لو أنّتم تملکون خزائن رحمة ربي)(5) بل من «بصائر الکلمات» إنهاء معانيها إلي عشرين معني.

وعن بعضهم : أنّ المعني الحقيقي له هو رقة القلب خاصة، ولذا لما لم يجز إطلاق «الرحمن» علي غيره سبحانه ، بل هو من أسمائه الخاصة إضطربت کلماتهم في إطلاقه علي الله سبحانه، لاستلزامه المجاز بلا حقيقة، ولا يسوغ بمجرد الوضع بل لابد من الاستعمال.

فقيل : إنه غير مشتق ، بل هو من الأسماء الجامدة، وإلا لا تّصل بالمرحوم،

فلا يقال : رحمن بعباده کما يقال : رحيم بعباده .

وقيل : إنه غير عربي، بل عبري کما عن ثعلب(6)، ولذا کانت الجاهلية لا تعرفه کما يستفاد من قوله تعالي : ( وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا

ص: 216


1- الروم : 50.
2- الأنّبياء: 107.
3- التوبة : 99.
4- الزمر: 38.
5- الاسراء : 100.
6- ثعلب : أحمد بن يحيي بن زيد بن سيار الکوفي الشيباني بالولاء، أمام الکوفيين في النحو واللغة ولد سنة (200) في بغداد ومات بها (291) ه، من کتبه في اللغة «الفصيح» مطبوع. الأعلام ج1 /252.

وما الرحمن)(1)

وقوله :(وهم يکفرون بالرحمن )(2)

ومن ثمّ کان مذکورا في التوراة ولذا قيل : إن عبدالله(3)بن سلام أو غيره من اليهود قال : يا رسول الله ! إنک لتقلّ ذکر الرحمن وقد أکثره الله تعالي في التوراة

فنزلت: (قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن ) (4)

لکنه لا ينبغي التأمل في عربيته ولا في اشتقاقه للأصل بمعني الظاهر، وقواعد الاشتقاق، والأخبار الآتية وقولهم: وما الرحمن (5)مثل قول فرعون: (وما رب العالَمين (6)إنکار وتحقير وتعجيب، ومجرد ذکره في التوراة علي فرضه مع أنّه غير ثابت لا يخرجه عن العربية، ولعله في الکتاب المحرف عندهم لا المنزل من عند الله.

هذا مضافا إلي ما قيل من أنّ هذا اللفظ کانت مشهورة في الجاهلية عند

العرب موجودة في أشعارهم کما من الشَنفري (7)

ألا ضربت تلک الفتاة هجينها ألا قضب الرحمنُ ربّي يعينها وقال سلامة (8)بن جندل : «وما يشاَ الرحمن يعقد ويطلق»..

ص: 217


1- الفرقان : 60.
2- الرعد: 30.
3- عبدالله بن سلام الإسرائيلي حليف الأنّصار المتوفي سنة (43) .
4- الإسراء : 110.
5- الفرقان: 60 .
6- الشعراء : 23.
7- هو عمرو بن مالک الشنفري : شاعر جاهلي يماني مات نحو (70) قبل الهجرة - الاعلام : ج5/258.
8- سلامة بن جندل بن عبد عمرو، أبو مالک : شاعر جاهلي من الفرسان من أهل الحجاز، مات سنة (23 قبل الهجرة). - الأعلام : ج 3/ 162.

وعلي ما سمعت فلا ينهض شيء من الوجهين لدفع الإشکال ، کما لا ينهض له ما قيل : من منع اختصاصه بالله سبحانه ، فإنه ليس في محلّه لما صرح به کثير منهم من اختصاصه به ، بل يومي إليه الأمر بالسجود له في قوله : ( وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا)(1) الآية.

ويصرّح به قول الصادق عليه السلام : «الرحمن اسم خاص بصفة عامة، والرحيم اسم

عام بصفة خاصة» (2)

يعني أنّ الرحمن اسم خاص بالله لا يصح إطلاقه علي غيره تعالي لما

ستعرفه.

وأما قول بني حنيفة : مسيلمة (3)رحمن اليمامة، وقول شاعرهم فيه : وأنّت

غيث الوري لا زلت رحمانا .

فقد قيل : إنه من تعتهم وکفرهم فلا يعبأ به سيّما مع وصول المنع من الشرع.

ولذا قال الصدوق في کتاب «التوحيد»: «إنه يقال للرجل رحيم القلب ولا يقال : الرحمن، لأنّ الرحمن يقدر علي کشف البلوي ولا يقدر الرحيم من خلقه علي ذلک، وقد جوز قوم أنّ يقال للرجل: رحمن، وأرادوا به الغاية في الرحمة، وهذا خطأه (4) انتهي.

وفي «مجمع البيان»: «إن الرحمن بمنزلة اسم العلم، من حيث لا يوصف به

إلا الله ، فوجب لذلک تقديمه بخلاف الرحيم، لأنّه يطلق عليه وعلي غيره»(5)

ص: 218


1- الفرقان:60.
2- مجمع البيان : ج 21/1.
3- مسيلمة الکذاب المدعي النبوة المقتول في وقعة اليمامة سنة (12) ه.
4- التوحيد : ص 203، باب أسماء الله تعالي .
5- مجمع البيان : ج21/1 .

ولا ما قيل من أنّ أسماء الله تعالي إنما تؤخذ باعتبار الغايات التي هي أفعال

دون المبادي التي تکون انفعالات (1)

فإنه تسليم للشبهة وإلتزام بإطلاق السبب علي المسبب، بل الحق أنّ يقال : إن الأسماء المشترکة بين الله وبين خلقه بحسب الإطلاق ليس لها اشتراک بينهما بحسب المعني، بأنّ يکون إطلاقه عليهما بمعني واحد، وحقيقة واحدة کي يکون المبدأ مشترکاً معنوياً بينهما، فإن ذلک مستلزم الأحد المحذورين : إمکان الواجب او

وجوب الممکن (تعالي الله عن ذلک علواً کبيراً)، بلا فرق في ذلک بين الصفات الجلالية أو الجمالية الذاتية أو الفعلية، فإن صفات الممکن إنما هي علي سبيل العروض، ومغايرتها للذات واتصافها بها علي وجه الاستعداد والقبول والاستکمال، ولا يجري عليه سبحانه ما هو أجراه علي خلقه، ولذا قال مولانا الرضا عليه السلام في خبر طويل رواه في «التوحيد» و«الاحتجاج» و«العيون»:

: «إن الله تعالي سمي نفسه سميعاً بصيراً، قادراً ، قاهراً، حياً ، قيوماً، ظاهراً، باطناً، لطيفاً، خبيراً ، قوياً ، عزيزاً، حکيماً، عليماً، وما أشبه هذه الأسماء، فلما رأي ذلک من أسمائه الغالون المکذبون وقد سمعونا نتحدث عن الله أنّه لا شيء مثله ، ولا شبه له من الخلق ، قالوا أخبرونا إذ زعمتم أنّه لا مثل لله ولا شبه له کيف شارکتموه في أسمائه الحسني فتسميتم تجميعها ؟ فإن في ذلک دليلا علي أنّکم مثله في حالاته کلها أو في بعضها دون بعض.

قيل : لهم: إنّ الله تبارک وتعالي ألزم العباد أسماء من أسمائه علي اختلاف

المعاني، وذلک کما يجمع الإسم الواحد معنيين مختلفين». .

إلي أنّ قال : «وإنما نسمي الله بالعالم بغير علم حادث علم به الأشياء

ص: 219


1- کما في تفسير روح البيان : ج 8/1.

واستعان به علي حفظ ما يستقبل من أمره والروّية فيما يخلق من خلقه مما لو لم يحضره ذلک العلم ويغيبه کان جاهلاً ضعيفاً ، کما أنّا رأينا علماء الخلق إنما سمّوا بالعلم لعلم حادث ، إذ کانوا قبله جاهلين ، وربما فارقهم العلم فصاروا إلي الجهل، وإنما سمي الله عالماً لأنّه لا يجهل شيئاً ، فقد جمع الخالق والمخلوق اسم العلم واختلف المعني»..

ثم فضل عليه السلام الکلام في غيره من الأسماء المذکورة في صدر الخبر إلي أنّ قال في ذيله: «وهکذا جميع الأسماء وإن کنا لم نسمها کلها فقد تکتفي الاعتبار بما القينا إليک»(1)

وبالجملة فالرحمة إذا اتصف بها الله سبحانه فليست بالمعني الذي يتصف به خلقه، فهي من الله يده المبسوطة علي خلقه بالفيض المقدس، أي الفيض الجاري علي يده ، فإن کانت اليمني وکلتا يديه يمين کما في الخبر(2) فهو الفضل وإلا فالعدل الذي هو الرحمة الرحمانية کما أنّ فضله هو الرحمة الرحيمية.

ولعلّه إلي ما ذکرناه يرجع قول الصدوق عليه السلام : «إن الرحمة هي النعمة لا الرقة،

لأنّها من الله منتفية وإنما سمي رقيق القلب من الناس رحيمة لکثرة ما يوجد الرحمة منه»(3)

قلت : وهو کما تري صريح في أنّ معني الرحمة مطلقاً هو النعمة، لا الرقة حتي باعتبار إطلاقه علي الناس ، واستعمالها في الرقة علي ضرب من المجاز، کما أنّه إليه يرجع ما قيل : إنها فيض الله سبحانه الجاري علي أطوار الموجودات، فإن جري علي مقتضي المشيّة الحتمية فهي الرحمة الواسعة، وإن جري علي مقتضي

ص: 220


1- التوحيد : ص186، باب اسماء الله تعالي ، ح 2.
2- الکافي: ج 126/2، وعنه البحار : ج 195/7، ح 64.
3- التوحيد : باب أسماء الله تعالي : ص 204.

المشية العزمية فهي المکتوبة.

أقول: وستسمع عن قريب تمام البحث في مغايرة المادة التي اشتق منها اسم

الرحمن، وما اشتق منه اسم الرحيم بحسب المعني الملحوظ فيهما.

بقي الکلام في تحقيق هذين القسمين من الرحمة، وإن کان سيأتي إن شاء الله في الآية المتضمنة لهما (رحمتي وسعت کل شيء فسأکتبها للذين يتقون ويؤتون

الزکاة)(1) إلا أنّه لابد في المقام من شرح الإسمين الذين أحدهما إشارة إلي الواسعة وهو الرحمن، والآخر إلي المکتوبة ، وهو الرحيم

وذلک أنّ الله تعالي وهو الفعال لما يريد، علم وشاء وأراد وقدّر وقضي وأمضي أنّ يجري فيض جوده علي حسب قبول الأعيان واختياراتها واستعداداتها من السعادة والشقاوة والخير والشر والنعيم والجحيم والاستقامة والاعوجاج وغير ذلک مما يختاره الشيء حين تشيته وحين ما هو شيء ومن حيث ما هو مختار.

إذ الحق أنّه لا جبر ولا إکراه ولا اضطرار في الشرع التکويني ولا في الکون

التشريعي (لا إکراه في الدين) (2)،(أفأنّت تکره الناس حتي يکونوا

مؤمنين)(3)

أنّزل من السماء سماء الوجود ومنبع الجود، عرش الإمکان والأکوان ، ومستوي الرحمن، ماء، وهو ماء الإفاضة والإيجاد ومادة المواد، ومفيض القابلية

والاستعداد ( فسالت أودية بقدرها)(4) وإنوجدت الأشياء علي حسب قبولها واختيارها، وهذه الرحمة التي هي مقتضي تلک المشية الحتمية يسمي رحمة العدل

ص: 221


1- الأعراف: 156.
2- البقرة : 256.
3- يونس : 99.
4- الرعد:17.

تفسير فاتحة الکتاب

المشار إليها بقوله تعالي : (ورحمتي وسعت کل شيء) (1)فإن کلاً من الخيرات والشرور، والجنان والنيران، والسعادة والشقاوة، يطلق عليها اسم الشيء، بل المبعدون المطرودون عن منبع النور أشد تحققاً في الشيئية من حيث أنّفسها وإنياتها.

ولذا لمّا سئل مولانا أمير المؤمنين عليه السلام عن الشيء أجاب عليه السلام بأنّه کافر

مثلک(2)

سيّما مع مطابقة أعداده للمنکر الذي هو الثاني المطرود المبعّد عن معدن

النور أبو الشرور

ثم إنّ اسم الرحمن هو الظاهر بهذه الرحمة الواسعة والنعمة الجامعة، قد استوي علي عرش الوجود وفتح أبواب خزائن الرحمة والجود، ولذا قال سبحانه:

( إن کل من في السموات والأرض إلا آتي الرحمن عبداً )(3)لإفادة الوجود والفيوض الموجبة للعبودية، وهو القدر المعلوم المشار إليه بقوله : (وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم ) (4)، وهو وإن کان متساوي النسبة إلا أنّ الاختلاف لاختلاف التوابل والأسولة فيعطي من سئله قدر سؤاله، ولو سئلته القوابل علي نسبة واحدة لأعطاهم کذلک.

ولذا قال سبحانه : (سواء للسائلين)(5) ، وقال : (ويسأله من في السموات والأرض ) (6)بألسنة قبولهم واختيارهم واستعدادهم کل يوم، أي أنّ من الآنات،

ص: 222


1- الأعراف:156.
2- لم أظفر علي مصدر له .
3- سورة مريم : 93.
4- الحجر: 21.
5- فصلت : 10.
6- الرحمن : 29.

أو رتبة من المراتب الإمکانية والکونية من الطولية والعرضية هو في شأنّ من شؤون الربوبية برحمته الواسعة ويده الباسطة، فإن له الربوبية إذ لا مربوب، وهذه ربوبية إذ مربوب ، فافهم الکلام وعلي من يفهم السلام.

وأما الرحمة المکتوبة المشار إليها بقوله : (فسأکتبها للذين يتقون ويؤتون

الزکاة والذين هم بآياتنا يؤمنون ) (1)

ثم فسر الآيات بمتابعة : (النبي الأمي الذي يجدونه مکتوباً عندهم في

التوراة والإنجيل )(2) والإيمان بالنور الذي معه وهو مولانا أميرالمؤمنين عليه السلام .

وبقوله تعالي : ( وإذا جاءک الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليکم کتب

ربکم علي نفسه الرحمة أنّه من عمل منکم سو ءً(3)الآية.

وهذه الرحمة هي التي بها يسعد من سعد، ويفوز من يفوز، ويشقي من يشقي وهو العقل الذي به يثيب وبه يعاقب، وبه عبد الرحمن ويکتسب الجنان ، وهي مقتضي المشية العرضية، فإن الله تعالي أحب لعباده الخير ليوصلهم إلي جنات ونهر في مقعد صدق عند مليک مقتدر، بل إنما خلقهم لهذا لا لغيره، ولذا قال :

(ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربک ولذلک خلقهم )(4) وقال :( وما

خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) (5)

والظاهر بهذه الرحمة بل مظهرها هو اسمه تعالي الرحيم، ولذا قال الصادق عليه السلام علي ما رواه في «التوحيد» و«تفسير الإمام»: الرحمن الذي يرحم

ص: 223


1- الأعراف : 156.
2- الأنّعام: 54.
3- الأعراف: 157.
4- هود: 18 - 19.
5- الذاريات : 22.

ببسط الرزق علينا» (1)

وفي تفسير الإمام : «العاطف علي خلقه بالرزق، لا يقطع عنهم مواد رزقه وإن انقطعوا عن طاعته، والرحيم بعباده المؤمنين في تخفيفه عليهم طاعاته، وبعباده الکافرين في الرفق بهم في دعائهم إلي موافقته». .

قال الإمام عليه السلام في معني الرحمن : «ومن رحمته أنّه لما سلب الطفل قوة النهوض والتغذي جعل تلک القوة في أمه ورققها عليه، لتقوم بتربيته وحضانته فإن قسي قلب أم من الأمهات أوجب تربية هذا الطفل علي سائر المؤمنين، ولما سلب بعض الحيوانات قوة التربية لأولادها والقيام بمصالحها جعل تلک القوة في الأولاد لينهض حين تولد وتسير إلي رزقها المسبب لها»..

إلي أنّ قال عليه السلام : و «فأما الرحيم فإن أميرالمؤمنين عليه السلام قال: رحيم بعباده المؤمنين، ومن رحمته أنّه خلق مائة رحمة، وجعل منها رحمة واحدة في الخلق کلهم فبها يترحم الناس، وترحم الوالدة لولدها، وتحنوا الأمهات(2)من الحيوانات علي کل أولادها(3)، فإذا کان يوم القيامة أضاف هذه الرحمة إلي تسعة وتسعين رحمة فيرحم بها أمة محمد صلي الله عليه و اله وسلم ، ثم يشفعهم فيمن يحبون له الشفاعة من أهل الملة حتي أنّ الواحد ليجييء إلي مؤمن من الشيعة فيقول : اشفع لي ، فيقول : وأي حق لک علي ؟ فيقول : سقيتک يوماً ماء فيذکر ذلک له، فيشفع له فيشفع فيه، ويجييء آخر فيقول له : إن لي عليک حقاً فاشفع لي ، فيقول : وما حقک علي ؟ فيقول : استظللت بظل جداري ساعة في يوم حارّ، فيشفع له فيشفع فيه، ولا يزال يشفع حتي يشفع في جيرانه وخلطائه

ص: 224


1- التوحيد : ص 164 ، وعنه البحار : ج 92/ 233.
2- في البحار : و تحنن .
3- في البحار: علي أولادها.

و معارفه فإن المؤمن أکرم علي الله مما يظنون»(1)

وروي في «المجمع» عن النبي صلي الله عليه و اله وسلم ما يقرب منه(2)

ومن جميع ما مر يظهر معني قول مولانا الصادق علي ما رواه في «المجمع» قال : «الرحمن اسم خاص بصفة عامة والرحيم اسم عام بصفة خاصة»(3)

وفي بعض النسخ اللام عوض الباء

وعلي کل حال ، فالمعني أنّ الرحمن اسم خاص بالله سبحانه لا يطلق علي غيره حسب ما مر، وإطلاقه عليه إنما هو باعتبار صفة عامة يعم الخلق جميعأ : البر منهم والفاجر، والباطن منهم والظاهر، لأنّه يشملهم في مقام التکوين بعد التمکين وفي رتبة جريان الماء علي الطين (قل أرأيتم إن إصبح ماؤکم غوراً فمن يأتيکم

بماء معين)(4)

وأنّ الرحيم اسم عام يطلق عليه وعلي غيره، لکن باعتبار تعدد المعني لا اتحاده حسبما سمعت، وإطلاقه عليه سبحانه باعتبار معني خاص يشمل المؤمنين خاصة.

نعم، ربما يقال : إنّ الرحمن هو معطي الرحمة والخير والبرکة والرزق والحياة في الدنيا والرحيم هو معطي النور والکرامة والمغفرة والثواب في الآخرة فخصوا الرحمة الدنيوية فضلاً کانت أو عدلاً باسم الرحمن، والأخروية من الصنفين جميعاً باسم الرحيم .

ص: 225


1- بحار الأنّوار: ج 240/92 - 257، ح 48 عن التفسير المنسوب إلي الإمام العسکري عليه السلام
2- مجمع البيان : ج 21/1.
3- المجمع : ج 21/1.
4- الملک : 30.

وربما يستدل له بما رواه في «المجمع» عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلي الله عليه و اله وسلم : «إن عيسي بن مريم قال : الرحمن رحمن الدنيا والرحيم رحيم الآخرة»(1)

قلت: وهذه الرواية کأنّها عامية مع أنّ الکلمتين عربيتان .

وعلي کل حال فهو لا يعارض الأخبار المتقدمة الظاهرة في إطلاقهما في کل من الدارين، سيما بعد ما ورد في الدعاء: «يا رحمن الدنيا ورحيمهما، کما في الدعاء الرابع والخمسين من «الصحيفة السجادية» وغيرها.

ولعل المراد بالنبوي المتقدم أنّه الرحمن في الأمور الدنيوية، الرحيم في الأمور الأخروية، فعبر بالأول عن الفضل وبالثاني عن العدل ، مع وقوع کل من الأمرين في الدنيا والآخرة وأنّ يدالله ليست مغلولة في الدنيا ولا في الآخرة، بل يداه مبسوطتان بالعدل والفضل فيهما ينفق کيف يشاء بالمشية الحتمية أو العرفية حسبما سمعت.

ولذا قال مولانا الصادق عليه السلام علي ما رواه في «الکافي» و«التوحيد» و«العياشي» في تفسير البسملة: «إن الباء بهاء الله، والسين سناء الله ، والميم مجد الله». .

وفي رواية «ملک الله والله إله کل شيء الرحمن بجميع خلقه الرحيم

بالمؤمنين خاصة» (2)

وفي «التوحيد» : «الرحمن بجميع العالم والرحيم بالمؤمنين وهم شيعة

آل محمد خاصة» (3)

ص: 226


1- مجمع البيان : ج 21/1
2- التوحيد للصدوق : ص 203، ح 2 و 3، باب معني بسم الله .
3- التوحيد للصدوق : ص 203، ح 3، وفيه : بالمؤمنين خاصة .

قلت: وإليه الإشارة بقوله (وکان بالمؤمنين رحيماً (1)(وان رحمة الله

قريب من المحسنين )(2)

فالعدل يشمل کل العالم في الدنيا والآخرة بلا فرق بين البر والفاجر (وإنّ الله

لا يظلم الناس شيئاً)(3) (إن الله لا يظلم مثقال ذرة) (4)

والفضل يشمل المؤمنين في الدنيا بالتوفيق للصالحات والعصمة عن السيئات وإدرار الرزق، ورفع البلاء، وجميل العطاء، وفي الآخرة بالمغفرة والجنة التي لا يستحقه أحد بعمله.

( قل بفضل الله وبرحمته فبذلک فليفرحوا) (5)

(ولولا فضل الله عليکم ورحمته ما زکي منکم من أحد أبداً ولکن الله

يزکّي من يشاء) (6)

بالمشية العزمية الفضلية بل ورد في تفسير قوله : ( قل إني أخاف إن عصيت

ربي عذاب يوم عظيم من يصرف عنه يومئذ فقد رحمه) (7)

في «المجمع» عن النبي صلي الله عليه و اله وسلم أنّه قال : والذي نفسي بيده ما من الناس أحد يدخل الجنة بعمله، قالوا: ولا أنّت يا رسول الله ؟ قال : ولا أنّا، إلا أنّ يتغمدني الله برحمة منه وفضل»(8).

ص: 227


1- الأحزاب : 43.
2- الأعراف : 56.
3- يونس : 44.
4- النساء : 40.
5- يونس : 58.
6- النور : 21.
7- الأنّعام : 15-16.
8- مجمع البيان : ج 2/ 280، وعنه البحار : ج 11/7.

ويشمل الکافر أيضاً من جهة إدرار الرزق، ودفع البلاء ونحوه، إلا أنّه مع

کونه بتبعية المؤمنين لأنّسهم وإصلاح معاشهم إمهال واستدراج لهم.

(ولا يحسبن الذين کفروا أنّما نملي لهم خير لأنّفسهم إنما نملي لهم

ليزدادوا إثماً ولهم عذاب مهين)(1)

فقد تبيّن مما مرّ أنّ الفرق بين الإسمين باعتبار الشمول والعدل لا الدنيا

والآخرة.

ايراد مقال لدفع إشکال

ربما يورد علي ما ذکرناه من انقسام الرحمة إلي القسمين وأنّ الرحمانية هي العامة الواسعة التي يشترک فيها الموافق والمنافق إشکال حاصله أنّه ورد في الدعاء: «اللهم إنک قلت وقولک الحق :(ورحمتي وسعت کلَ شيء)(2) و وأنّا شيء فلتسعني رحمتک يا أرحم الراحمين» (3)

ومن البيّن أنّ الرّحمة المَسوُلة هي الفضل الذي بيد الله ، يؤتيه من يشاء(قل

بفضل الله وبرحمته فبذلک فليفرحوا) (4)

وهو الرحمة الرحيمية الإيمانية المشار إليها بقوله : (ويختص برحمته من

يشاء) (5) وقوله :(أنّ استغفروا ربکم ثم توبوا إليه يمتّعکم متاعاً حسناً إلي أجل مسمي ويؤت کل ذي فضل فضله ) (6)

ص: 228


1- آل عمران: 178.
2- الأعراف: 156.
3- مصباح المتهجد: ص 250، وعنه البحار: ج 8/90.
4- يونس : 58.
5- البقرة : 105.
6- هود : 3.

وأمّا رحمة العدل فلابد أنّ يجري علي حسب القبول والاستعداد والحکمة

والتربية، ولذا يشترک فيها المؤمن والکافر ، والبر والفاجر.

بل رحمة العدل ليس شيء منها يُسأل أو يُطلب، لأنّ الخوف کل الخوف من عدله تعالي ، ولذا ورد : «إلهي ربّ عامِلنا بفضلک ولا تعامِلنا بعدلک» وفي الدعاء:

کل خوفي من عدلک» وورد في قوله( ويخشون ربهم يخافون سوء

الحساب ) (1)، أنّ المراد هو الاستقصاء والمداقّة فسمّاء سوء الحساب .

وعلي هذا فکيف يستقيم الاستشهاد بالآية سيّما بعد ملاحظة ما سبق،

ومقابلتها بالمکتوبة مع أنّ ظاهرة الاستدلال بعموم الشيء.

وربما يجاب بأنّ الله تعالي حيث إنّه عالم السر والخفيات يعلم مراد السائلين ، ويطلع علي ضمائر الطالبين ، خاطبه الداعي بما عنده مما يعلمه أنّ الله يعلم ما في سره وقلبه ، فکأنّه أراد بقوله : (ورحمتک وسعت کل شيء ) أنّ فضلک شامل، فوسع کلُّ من رضيت دينه ، وأنّا يا إلهي ممن ترضي دينه لإيماني بالتوحيد والنبوة والولاية، وإتياني بما أمرتني به خاضعاً مسلماً، فلتسعني رحمتک، ولا تؤاخذني بالمعاصي الذي اقترفت واغفرها لي.

وحاصله کما صرّح به هذا القائل تخصيص الشيء في الآية وإطلاق الرحمة

الواسعة علي رحمة الفضل.

قلت : ويمکن أنّ يکون الإطلاق في الدعاء علي فرضه، حيث إنّي لا يحضرني موضعه (2)مبنيّاً علي تنزيل ما سوي المرحوم بالرحمة الرحيمية بمنزلة المعدوم، وأنّ الشيء حقيقة هو المرحوم بالرحمة الإيمانية ، وأما المرحوم بالرحمة الرحمانية خاصة فهو لا شيء، کما هو المستفاد من قوله تعالي : (والذين کفروا

ص: 229


1- الرعد:21.
2- تقدم الموضع : مصباح المتهجد ص 250 وعنه البحار : ج8/90 .

أعمالهم کسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماءاً حتي إذا جائه لم يجده شيئاً) (1)

ولذا لمّا سئل مولانا أميرالمؤمنين عليه السلام عن لا شيء أجاب بأنّه سراب .

ومن هنا نفي عنهم الحياة والسمع والبصر في کثير من الآيات کقوله :

(أموات غير أحياء)(2)،(أم تحسب أنّ أکثرهم يسمعون أو يعقلون) (3)

الآية ، وغيرها من الآيات.

فکأنّه إدّعي أنّ رحمتک هي الرحمة الإيمانية، وهي وسعت کل شيء

بالمعني المتقدّم کقوله : (وليُنذِرَ مَن کان حيّاً ويحق القول علي الکافرين)(4)

وأما قوله : «وأنّا شيء» فمعناه بالتوجه إليک ، والسؤال منک ، والإقبال عليک .

علي أنّ هذا النوع من التلطف في السؤال مبنيّ علي ضرب من الإدلال، لا يعرفه أصحاب القيل والقال، ومثله کثير في المناجاة المأثورة عن النبي والآل عليهم صلوات الله الملک المتعال.

تنبيه

ما ذکرناه في اشتقاق الرحمة إنّما هو بحسب الإشتقاق اللفظي، وأمّا من حيث المعنوي الذي قد سمعتَ جملة الکلام فيه فهي مشتقّة من رحم محمد وآل محمد صلي الله عليهم أجمعين ، وذلک أنّهم هم الرحمة الموصولة المشار إليها في الزيارة الجامعة أي الموصولة بفعله سبحانه ، فهم نفس فعله الموصول به سبحانه ، اتصال الفعل بالفاعل، والصنع بالصانع، وشيعتهم موصولون بهم اتصال شعاع

ص: 230


1- النور: 39.
2- النحل: 21.
3- الفرقان:44
4- يس : 70.

الشمس بالشمس، والنور بالمنير، بأنّحاء التجلّيات والإشراقات الواقعة في السلسلة الطولية، وفي عرض تلک السلسلة، وذلک أنّه إن ذکر الخير کانوا أوله وأصلَه ومعدنَه ومأواه ومنتهاه، فطينهُ شيعتهم مشتقةُ من فضل طينتهم، وأفعالُهم من أفعالُهم وأقوالهم من أقوالهم، وأحوالهم من أحوالهم، وإرادتهم من إرادتهم.

فمن أخذ بالمنهج القويم، وسلک الصراط المستقيم، واتبعهم في جميع الافعال والأقوال بلا تخلّف عنهم في أمر من الأمور فقد اقتبس من أنّوارهم، واقتفي علي آثارهم ووصل رحمهم ، ومن خالفهم في الجميع فقد قطع رحمهم ، وبين هذين درجات و مراتب يسير فيها السائرون، ويسلکها السالکون، فأصل هذه الرحم هو الولاية، ومن فروعها کلّ خير وبرّ وإحسان.

ولذا قال الصادق عليه السلام في (والذين يصلون ما أمر الله به أنّ يوصل ) (1) «إنها

نزلت في رحم آل محمد صلي الله عليه و اله وسلم وقد يکون في قرابتک» ثم قال عليه السلام :

فلا تکونن ممّن يقول للشيء : إنه في شيء واحد» (2)وفي تفسير الإمام عليه الصلاة والسلام عن مولانا أمير المؤمنين عليه السلام :

«أنّ الرحمن مشتقّ من الرحمة، سمعتُ رسول الله صلي الله عليه و اله وسلم يقول : قال الله عزّوجلّ: أنّا الرحمن وهي الرحم، شققتُ لها اسماً من اسمي، من وصلها وصلتُه ، ومن قطعها قطعتُه». .

ثم قال علي عليه السلام : «أو تدري ما هذه الرحم التي من وصلها وصله الرحمن، ومن قطعها قطعه الرحمن ؟» فقيل : يا أمير المؤمنين حثّ بهذا کلَّ قوم أنّ يُکرِموا أقربائَهم ويصلوا أرحامَهم، فقال لهم : أحثّهم علي أنّ يصلوا أرحامهم الکافرين،

ص: 231


1- الرعد: 21.
2- بحار : ج 130/74 ، ح 95.

وأنّ يعظّموا من حقره الله وأوجب إحتقاره من الکافرين ؟ قالوا: لا ولکنه حثّهم علي صلة أرحامهم المؤمنين ، قال : فقال : أوجب حقوق أرحامهم لاتصالهم بآبائهم وأمهاتهم، قلت : بلي يا أخا رسول الله ، قال : فآباؤهم وأمهاتهم، إنما غذّوهم في الدنيا ووقوهم مکارهَها وهي نعمة زائلة، ومکروه ينقضي، ورسول ربهم ساقهم إلي نعمة دائمة لا تنقضي، ووقاهم مکروهاً مؤبداًلا يبيد.

فأي النعمتين أعظم؟ قلت: نعمة رسول الله صلي الله عليه و اله وسلم أعظم وأجل وأکبر، قال : فکيف يجوز أنّ يحث علي قضاء حقّ من صغّر الله حقَه، ولا يحثّ علي قضاء من کبّر الله حقه ؟ قلت :لا يجوز ذلک، قال فإذا حقّ رسول الله صلي الله عليه و اله وسلم : أعظم من حق الوالدين، وحق رحمه أيضاً أعظمُ من حقّ رحمهما، فرحم رسول الله صلي الله عليه و اله وسلم أولي بالصلة وأعظم في القطيعة ، فالويل کل الويل لمن قطعها، والويل کل الويل لمن لم يعظم حرمتها، أو ما علمت أنّ حرمةَ رحم رسول الله صلي الله عليه و اله وسلم حرمه الله ؟ وأنّ الله أعظمُ حقاً من کل منعِم سواه ، فإنّ کل منعِم سواه إنما أنّعم حيث قيضه له ذلک ربّه ووفّقه، أما علمتَ ما قال الله تعالي لموسي بن عمران حيث قال : يا موسي أتدري ما بلغت رحمتي إيّاک ؟ فقال موسي عليه السلام : أنّت أرحم بي من أبي وأمي ، فقال الله : يا موسي! إنما رحمتک أمّک تفضل رحمتي، فأنّا الذي رفّقتها عليک، وطيّبُ قلبَها لتترک طيب وستها لتربيتک، ولو لم أفعل ذلک بها لکانت وسائر الناس سواء، يا موسي أتدري أنّ عبداً من عبادي مؤمنا تکون له ذنوب وخطايا تبلغ أعنان السماء فأغفرها له ولا أبالي ، قال: يا رب ! وکيف لا تبالي ؟

قال : لخصلة شريفة تکون في عبدي أحبّها، وهي أنّ يحبّ إخوانه الفقراء المؤمنين، ويتعاهدهم ويساوي نفسه بهم، ولا يتکبر عليهم، وإذا فعل ذلک غفرت له ذنوبه ولا أبالي . ۔

يا موسي إنّ العظمة ردائي، والکبرياء ازاري، فمن نازعني في شيء منهما

ص: 232

عذّبته بناري

يا موسي إنّ من إعظام جلالي إکرامَ عبدي الذي أکله حظاً من الدنيا عبداً من عبادي مؤمنا قصرت يدُه في الدنيا، فإن تکبّر عليه فقد استخفّ بعظيم جلالي .

ثم قال أميرالمؤمنين عليه السلام : إنّ الرحم الذي اشتقها الله من رحمته بقوله : أنّا

الرحمن، هي رحم آل محمد، وإنّ إعظام الله تعالي إعظامَ محمّد صلي الله عليه و اله وسلم ، وإنّ کل مؤمن ومؤمنة من شيعتنا هو من رَحمِ آل محمد، وإن إعظامهم من إعظام محمّد، فالويل لمن استخفّ بشيء من حرمة محمّدصلي الله عليه و اله وسلم وطوبي لمن عظّم حرمته، واکرم رحمه ووصلها ..» (1)الخبر.

وهذا الذي ذکرته شعبة من الصلة وإلا فقد ورد أنّهم أصلُ کل خيرٍ، ومن فروعهم کلُ برّ وعملٍ صالح من الصلاة والصوم والزکاة والحج والصدق والأمانة والتقوي وغير ذلک من العبادات القالبية والقلبية، وأنّ عدوَّهم أصلُ کلِ شّرٍ ومِن فروعهم کلُ شرّ، فمن انقطع منهم وأخذ بفروع أعدائهم قولاً وفعلاً وعملاً فقد انقطع عنهم وقطع رحمهم ولذا قالوا: «کذب من زعم أنّه من شيعتنا وهو آخِذً بفروع غيرنا» (2)

ثم لا يخفي عليک أنّ الرحمة الإيمانية کما أنّها مشتقة منهم ، فکذلک الرحمة الرحمانية فإنهم الرحمة الکلية والمشية الإلهية ، بهم فتح الله وبهم يختم، وبهم ينزل الغيث، وبهم يمسک السماء أنّ تقع علي الأرض إلا بإذنه ، وذلک أنّ الله تعالي فتح بهم کلَّ بر وخير، بل کلَّ خلق وإيجاد وإمکان.

کما رواه جابر بن عبدالله عن النبي صلي الله عليه و اله وسلم علي ما هو المروي في «رياض

الجنان» قال : قلت : يا رسول الله صلي الله عليه و اله وسلم أوّل شيء خلقه الله ما هو؟ فقال :

ص: 233


1- بحار الأنّوار : ج 23 / 266 / 268، عن تفسير الإمام عليه السلام .
2- بحار الأنّوار : ج 303/24 -304، ح 15 عن کنز الفوائد وفيه : کذب من قال : إنه معنا وهو متعلق بفرع غيرنا.

«نور نبيک يا جابر خلقه الله، ثم خلق منه کل خير، ثم أقامه بين يديه في مقام القرب ما شاء الله ثم جعله أقساماً ، فخلق العرش من قسم، والکرسي من قسم، وحملة العرش وخزانة الکرسي من قسم

وأقام القسم الرابع في مقام الحب ما شاء الله ، ثم جعله أقساماً فخلق القلم من

قسم، واللوح من قسم والجنة من قسم

وأقام الرابع في مقام الخوف ما شاء الله ، ثم جعله أجزاء، فخلق الملائکة من جزء، والشمس من جزء، والقمر والکواکب من جزء، وأقام القسم الرابع في مقام الرجاء ما شاء الله ، ثم جعله أجزاء فخلق العقل من جزء، والعلم والحلم من جز، والعصمة والتوفيق من جزء، وأقام القسم الرابع في مقام الحياء ما شاء الله ، ثم نظر إليه بعين الهيبة فرح من ذلک النور قطرات : مائة ألف وأربعة عشرون ألف قطرة، فخلق الله من کل قطرة روح نبي ورسول ، ثم تنقست أرواح الأنّبياء فخلق الله من أنّفاسها أرواح الأولياء والشهداء والصالحين»(1)لخبر بطوله.

فهم الرحمة العامة، والکلمة التامة، ومبدء الإيجاد ومادة المواد، ومعطي

القابلية والاستعداد ، بإذن الوهاب الجواد.

فإنّ المشية الکلية تقوّمت بالحقيقة المحمدية تقوم ظهور، فظهرت وأشرقت أرض الإمکان والأکوان بنورها، وظهرت الأشعة بإشراقها، هي الزيتونة التي يکاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار.

تبصرة

قد تبيّن لک ممّ الرحمن إشارة إلي الرحمة الواسعة السابقة في عالم الناسوت من حيث الظهور والبروز، کتقدّم الشجرة علي الثمرة، وإن کانت الثمرة هي الأصل في

ص: 234


1- بحار الأنّوار : ج 21/25 - 23، ح 37.

الشجرة، وکتقدّم الأنّبياء علي خاتم النبيين صلوات الله عليهم أجمعين مع أنّه کان نبياًوآدم بين الماء والطين.

هذا مضافاً إلي وسعتها وعمومها واختصاصها بالله سبحانه، حيث إنک قد سمعت أنّه لا يجوز إطلاقه علي غيره، ولذا قرنه مع اسم الذات في مقام الدعاء الذي لا ينبغي أنّ يشرک به أحدة في قوله : (قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن )(1)

وإن أمکن أنّ يقال : أنّ ليس المراد ذکر خصوصية للإسمين ، بل التسوية بينهما وبين سائر الأسماء لقوله :(أيّاً ما تدعوا فله الأسماء الحسني)(2)، کما في قوله : (ولله الأسماء الحسني فادعوه بها )(3)

إلّا أنّ الظاهر من الاقتصار عليهما والإقتران مع اسم الذات، بل وضعهما

موضعه في الآية الثانية تقدمهما علي سائر الأسماء.

ولذا ورد في النبوي : «أحب الأسماء إلي الله عبدالله وعبدالرحمن» (4)

وأيضاً ورد في الخبر المشهور: «إن لله تسعة وتسعين أسماً، من أحصاها

دخل الجنة وهي : الله، الإله ، الواحد،..... الرحمن الرحيم ...»(5)

فقدّمه علي غيره من أسماء الصفات مع أنّ الرحمة الرحمانية کالمادة الأولية العامة الخلق، والرحيمية کالصورة الإيمانية ، والأولي في رتبة النبوة، والأخري في مقام الولاية بها تمام النبوة بل إکمال الدين وإتمام النعمة هذا في الظاهر.

ص: 235


1- الإسراء : 110.
2- الإسراء : 110.
3- الأعراف : 180.
4- بحار الأنّوار : ج 93/104، ص93 عن مکارم الأخلاق : ص 252 وفيه: «أحسن الأسماء» وفي نفس المصدر ص 127، ح 2 عن الخصال : ج 171/1 «خير الأسماء» وأيضاً في البحار : ج 104 / 130، ح 21 عن نوادر الراوندي ص 90 «نعم الأسماء»..
5- بحار الأنّوار : ج 186/4، ح 1 عن التوحيد و الخصال .

وأما في الباطن فالأمر علي العکس، فإن الولاية التامة العامة الکاملة للنبي صلي الله عليه و اله وسلم وظهور النبوة بوصيه لأنّه الباب والحجاب ، ولذا قال : (لقد جائکم رسول من أنّفسکم )إلي قوله ( بالمؤمنين رؤوف رحيم)(1)أي بوصيّه الذي هو نفس الإيمان (ومن يکفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين)(2)

وأيضاً قد ورد اسم « الرحمن» في القرآن المجيد بعد تکرره في أوائل السور في البسملة في بضع وأربعين موضعاً ولم يذکر في شيء منها بعد اسم من الأسماء إلا بعد کلمة «الله» أو الضمير الدال عليه ، کما في قوله : (هو الرحمن الرحيم)(3)

فإنه قد وقع رديفاً لکثير من الصفات الفعلية کالغفور، والرب، والرؤوف،

والعزيز، بل لم يأت متصلاً بما يدل علي الذات من الإسم الظاهر والمضمر.

وأيضاً ربما يعلل التقديم مرة باختصاص الأول بالدنيا والأخير بالأخري،

وفيه ما سمعت.

وباختصاص الرحمن بالعرش (الرحمن علي العرش استوي)(4) کالرحيم بالکرسي، ولا ريب في فضل الأول علي الثاني ، وإن کان کل منهما باباً من أبواب الغيوب، إلي غير ذلک من المناسبات التي ينبغي أنّ يقال : إن الصحيحة منها نکات بعد الوقوع.

وأخري بأنّه صار کالعلم لله ، لا من حيث إنه موضوع لذاته تعالي ، بل من حيث إنه لا يوصف به غيره، فهو أليق بلصوق لفظ الجلالة ، وبکونه بمنزلة

ص: 236


1- التوبة : 128.
2- المائدة : 5.
3- البقرة : 163.
4- طه : 5.

الموصوف للرحيم، وبالتوسط بينهما لکونه ذا جهتين.

بل عن بعض المحققين أنّه بدل من لفظ الجلالة، والرحيم صفة له، لا

للجلالة ، إذ حق النعت التقديم علي البدل.

وذکر بعض الأجلّة أنّ الرحمن صفة للجلالة والرحيم صفة الرحمن، مضافاً إلي اختصاص معناه به سبحانه ، وذلک لأنّ معناه المنعم الحقيقي البالغ في الرحمة غايتها، وذلک لا يصدق علي غيره، لأنّ من عداه فهو مستفيض بلطفه وإنعامه ، يريد جزيل ثواب ، أو جميل ثناء، أو إزالة الرقة الناشية من الجنسية ، کمن رأي بعض أبناء جنسه في بلية، فتألّم قلبه ورق له وخلصه منها، طلباً لإزالة ذلک التألم بالتخليص المذکور، أو إزالة حب المال ورذيلة البخل، الذي هو أقبح الخصال، وأشنع الرذائل کمن يفرق أمواله في الناس تکميلاًلنفسه وتخليصاً لها من تلک الرذيلة، فمبالغة الرحمة حيث اختصّت به سبحانه أفادت اختصاص الوصف به.

نعم، ربما يناقش فيه بأنّ ذلک يتصور بأحد وجهين:

أحدها : أنّ يکون الذات المعتبر فيه معيّناً بأنّه المنعم الحقيقي لا من حيث

المفهوم.

والآخَر: أنّ الزيادة المبالغة في الصيغة تستدعي البلوغ إلي الغاية، ويلزم منه أنّ لا يصدق إلّا علي المنعِم الحقيقي البالغ في الرحمة غايتها وهو الله، فيأوّل معناه إلي ذلک وکلاهما فاسدان.

أما الأول، فلأنّه مع تعين الذات يکون اسماً لا صفة، والمفروض خلافه .

وأما الثاني فلأنّ زيادة المبالغة في الصفة لو استدعي البلوغ إلي الغاية لکان العلام لا يصدق إلا عليه سبحانه ، فإنه البالغ إلي غاية العلم، وکذا الکبّار بالتشديد لا يصدق إلّا عليه، لأنّه البالغ إلي غاية العظمة والکبرياء، فإذن معني لفظ الرحمن لا يستدعي أنّ يختص هذا الإسم به سبحانه، ومقتضي القياس صحّة إطلاقه علي کل

ص: 237

تفسير فاتحة الکتاب

من وجد فيه معناه، لکنّه خص الاستعمال عليه تعالي ، فلم يصحّ إطلاقه علي غيره تعالي إتباعاً للاستعمال، کما أوجب حذف عامل سقياً وورعياً اتباعاً له والقياس جواز ذکره.

أقول: وهو مدفوع بأنّ المراد هو الوجه الثاني، لکن الصفات علي قسمين :

صفات ربوبيّة وصفات عبودية، وقد سمعت سابقاً أنّ إطلاق ما يجوز إطلاقه علي الله وعلي خلقه ليس علي سبيل الإشتراک المعنوي، بل إطلاقه علي کل منهما بمعني غير الآخر، کما وقع التصريح به في أخبار أهل البيت عليهم السلام .

فالرحمة التي وضع الرحمن للمتصف بها في الرحمة التي لا يمکن صدورها من غيره کالإبداع والإيجاد وإنشاء الرحمة الواسعة والمشية الکلية، والحقيقة المحمدية ، بل هکذا غيرها من الفيوض الدنيوية والأخروية، فإنّ جميعها منه سبحانه، وهو المنعم بها علي خلقه لا غيره، ولو کان لغيره مدخلية فيها ، فإنما هي علي وجه الوساطة والتبعية والتلقي.

فالرحمة المأخوذة مادةً للرحمن إنما أخذت بهذا المعني، وهيئة المبالغة

الحاصلة بزيادة الألف والنون إنما أفادت عموماً في الخصوص.

ومن هنا يسقط النقض بمثل العلام فإن الاختصاص لم يصل من مجرد

المبالغة، ولذا لا نقول به في الرحيم المأخوذ مادته من مطلق الرحمة.

وفي المقام وجه آخر وهو البناء علي اتحاد المادة فيهما إلا أنّ بناء فعلان من هذه المادة لإفادة المبالغة الخاصة المتقدمة لا مطلق المبالغة التي يُبني لإفادتها ساير الصيغ وبکل من الوجهين يحصل الجمع بين المنع عن إطلاقه إلي غيره تعالي شرعة ولغة وبين ما هو الأظهر الأشهر.

بل إدّعي بعضُ المحققين عليه الإجماع من کونه وصفاً لا علماً ، ولذا وصف به في البسملة وغيرها وأضيف فيما يظهر فيه معني الوصفية کما في الدعاء: «يا

ص: 238

رحمن الدنيا والآخرة» وغير ذلک مما ينافي العلمية.

وأمّا ما ذکره أخيراًمن أنّ عدم صحة الإطلاق إتباع للاستعمال ففيه ما لا يخفي، سيما بعد ورود الشرع بالمنع عنه، ضرورة أنّه لا يکون ذلک إلا باعتبار المعني.

ومما يؤيّد ما ذکرناه من المغايرة بحسب المعني ما ذکره الصدوق في کتاب «التوحيد» حيث قال: أنّه يقال للرجل : رحيم القلب، ولا يقال : الرحمن، لأنّ الرحمن يقدر علي کشف البلوي ولا يقدر الرحيم من خلقه علي ذلک.

قال : وقد جوّز قوم أنّ يقال للرجل: رحمن، وأرادوا به الغاية في الرحمة

وهذا خطأ (1)

أقول : فانظر کيف أخذ الرحمن من الفعل الربوبي الذي يعجز عنه الرحيم من خلقه، وکيف حکم بخطأ من أخذه من الرحمة التي هي مادة الرحيم مع اعتبار المبالغة فيها.

ومن تضاعيف ما مرّ يظهر لک ضعف ما قيل أيضاً من أنّ السبب في أبلغية اسم الرحمن زيادة البناء لأنّها تدل علي زيادة المعني کما في قطع وقطّع، وکبار وکبّار.

فإنّه مبنيّ علي اتحاد المعني الذي أُخِذت منه الصيغتان ، وقد سمعت أنّه قد

أخذ کل منهما من غير ما أخذت منه الأخري.

ثم إن قاعدة دلالة زيادة المباني علي زيادة المعاني قد نقضت بحَذرِ وحاذِر ،

فإن الأول أبلغ کما صرّحوا به ، وأجيب بأنّ الشرط إتّحاد الکلمتين بأنّ يکون کل واحد منهما اسم فاعل أو صفة مشبهة مثلاً، سلمنا لکن القاعدة أغلبية کلية سلّمنا

ص: 239


1- توحيد الصدوق : ص 203، باب أسماء الله تعالي .

لکن أبلغية حَذِر إنما نشأت من إلحاقه بالغرائز کنَهِم وفَطِن، فجاز أنّ يکون حاذر أبلغ لدلالته علي زيادة الحذر بسبب زيادة لفظه، فأبلغية حذر إنّما هو من حيث الثبوت والاستمرار، وأبلغية حاذر من حيث الشدة من غير إفادة الإستمرار، فتأمل، فإن الزيادة منتفية حينئذ بل الحاصل المساوات في جهة الزيادة .

وهذه الوجوه وإن کانت بحذافيرها ساقطة في خصوص المقام علي ما أصّلناه لک سابقاً من اختلاف المادّة معني، إلّا أنّ القاعدة لا بأس بها علي وجه الغلبة لو لم نَدَّعِ الکلية بعد التأمل في قواعد الاشتقاق، وکون الداعي في زيادة الحروف علي المبادي واعتوار الهيئات المختلفة عليها إفادة الخصوصيات الزائدة .

ولذا ربما يستشهد عليها بالکلام الموروث عن العبد الصالح آصف بن برخيا حيث قال : إنّ الأشکال مغناطيس الأرواح، فإنّ الروح في الجسد کالمعني في اللفظ ، کما في العلوي.

ثم إنه قد ظهر مما مرّ کون الرحمن وصفاً، وأنّه تابع لاسم الجلالة معني وإعراباً . وربما يحکي عن جماعة کابن مالک والأعلم وابن هشام کونه علماً بالغلبة، فلا يجوز کونه وصفاً، بل يتعيّن کونه بدلاً من لفظ الجلالة، وبه أسقطوا سؤال الزمخشري وغيره عن سبب تقديم الرحمن مع أنّ عادتهم تقديم غير الأبلغ کقولهم عالم نحرير، وجواد فياض. .

بل استدلّوا أيضاً لذلک بمجيئه کثيراً غير تابع نحو (الرحمن علّم القرآن)(1) (قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن ) (2)(وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن )(3)

ص: 240


1- الرحمن : 1- 2.
2- الإسراء : 110.
3- الفرقان : 60.

وقد طعن غير واحد منهم علي من إستعمله مجرداً من اللام.

قال ابن هشام : وأما قول الزمخشري : وإذا قلت: الله رحمن أتصرفه أم لا.

وقول ابن الحاجب : إنه اختلف في رحمن أي في صرفه فخارج عن کلام العرب من وجهين : لأنّه لم يستعمل صفة ولا مجرداً من أل إلّا في الضرورة.

ثم إنّ منشاً الإختلاف في صرفه وعدمه هو الاختلاف في أنّ شرط تأثير الألف والنون هل هو عدم قبول الوصف للحوق التاء إمّا لأنّه لا مؤنث له أصلاً کلحيان لکبير اللحية، أو لأنّ مؤنثه فعلئ فهو علي الأول ممتنع صرفه لانتفاء رحمانة، وعلي الثاني منصرف لانتفاء رحمي.

وقد تکلم نجم الأئمة وغيره في ترجيح أحد المذهبين علي الآخر بما لا

يعود إلي طايل، فلاحظ.

ختام وتکملة في انتظام الأسماء الثلاثة في البسملة

إعلم أنّ الله سبحانه من حيث ذاته المطلقة لا إسم له ولا رسم، ولا نعت ولا وصف، وهو مقام الأحدية المطلقة والهوية الغيبية، وأما في مقام الواحدية فله صفات ذاتية وفعلية ، والفعلية عدلية وفضلية، ولما کان مقام البسملة هو الوسيلة الکلية والعناية الإلهية والإقبال الکلي والرجوع إلي الفقر الأصلي وکان حقيقة العبد هي نفس الفقر الکلي المحيط به من جميع جهاته، لا جرم ينبغي له الاستعانة والالتجاء إلي الله سبحانه بجميع أسماءه وصفاته وهي وإن کانت غير متناهية ليس الأحد الوقوف علي شيء منها إلا بإلهامه وتعليمه (سبحانک لا علم لنا إلا ما علمتنا) (1)

ص: 241


1- البقرة : 32.

إلا أنّ هذه الأسماء الثلاثة جامعة لجميعها، ولذا بدأ سبحانه في تعليمه لنا بالبسملة التي هي کنز من کنوز الغيبية، بل مفتاح کليّ للخزائن الإلهية بالإسم الدالّ علي الذات المستجمع لجميع الصفات الکمالية من الجمالية والجلالية .

ولذا لا يعرف منه شيء إلا تحير العقول فيه حسب ما يشهد به اشتقاقه الذي مر الکلام فيه، ثم بالصفات الفعلية التي مرجعها بکثرتها إلي القسمين ولذا افتتحت بها السور القرآنية التي هي الحبل الممدود بين السماء والأرض .

بل عن الصادق عليه السلام :

ما نزل کتاب من السماء إلا أوله بسم الله الرحمن الرحيم»(1)

وعن أبي جعفرعليه السلام :

أول کل کتاب نزل من السماء بسم الله الرحمن الرحيم، فإذا قرأت بسم الله الرحمن الرحيم فلا تبالي أنّ لا تستعيذ، وإذا قرأتها سترتک فيما بين السماء والأرض»(2)

بل يظهر من الأخبار أنّ التسمية باسمه سبحانه لا يستأتي للعبد إلا بعد الانسلاخ عن العلاية البشرية والانصباغ بالأنّوار الإلهية، وعبور النفس عن مقاماتها الکلية وانغماسها في البحار الغيبية.

ففي «العلل» عن الصادق عليه السلام في حديث علّة الصلاة :

ثم إن الله عزّوجل قال : يا محمد! إستقبل الحجر الأسود وهو بحيالي وکبّرني بعدد حجبي ، فمن أجل ذلک صار التکبير سبعاً لأنّ الحجب سبعة، وافتتح القراءة عند انقطاع الحجب، فمن أجل ذلک صار الافتتاح سنّة، والحجب مطابقه

ص: 242


1- بحار الأنّوار : ج20/85 ، ح 10، عن تفسير العياشي : ج 1 / 19 ح 5، وفيه : «ما أنّزل الله من السماء کتابة إلا وفاتحته بسم الله .........
2- الکافي : ج 3/ 313، ح 3، وعنه البحار : ج 6/85.

ثلاثا بعدد النور الذي أنّزل علي محمد صلي الله عليه وآله وسلم، فلذلک کان الافتتاح ثلاث مرات، فلأجل ذلک کان التکبير سبعاً والافتتاح ثلاثاً، فلما فرغ من التکبير والافتتاح قال الله عزّ وجل : الآن وصلت إلي فسمّ باسمي، فقال : بسم الله الرحمن الرحيم فمن أجل ذلک جعلت في أول السورة» (1)الخبر.

ثم إنّ لانتظام الأسماء الثلاثة فيها وجوهاً أخر لا بأس بالإشارة إليها: | و منها : أنّ أصول العقائد الإسلامية ومنتهي المقاصد الدينية في التوحيد والنبوة والإمامة المشار إلي جملتها بالأسماء الثلاثة، فإن الأصل الأول وإن کان هو التوحيد إلا أنّ الإقرار به لا يتم ولا يقبل ولا ينفع إلا بالإقرار بالنبوة کما أنّ الإقرار بالنبوة لا يتم إلا بالإقرار بالولاية، فهو الکاشف الأخير عن الأول کما يستفاد ذلک من الأخبار الکثيرة التي تعرّضنا لها في غير المقام، بل کل من التاليين لا يتم ولا يتحقق إلا بسابقه کما في دعاء الحجة عجل الله فرجه الإشارة إليه :

اللهم عرّفني نفسک فإنّک إن لم تعرفني نفسک لم أعرف رسولَک، اللهم عرّفني رسولک فإنک إن لم تعرّفني رسولک لم أعرف حجتّک، اللهم عرّفني حجتک، فإنک إن لم تعرّفني حجتک ضللت عن ديني»(2)

وأما الحکم بطهارة المنکرين للولاية الحقّة وإسلامهم، وإجراء أحکامه عليهم من جواز التناکح وحل الذبائح والتوارث وغيرها، فإنما هي أحکام ظاهرية جعلت وشرعت للترفيق علي الشيعة الإمامية حيث کانوا مختلطين بهم، مقهورين تحت أيديهم معدودين في زمرتهم، بل لم يقم لهم سوق لغلبة أهل الفجور والفسوق، ولذا يسّر الله لهم بإجراء أحکام الإسلام في ظاهر الشريعة مع ثبوت

ص: 243


1- حار الأنّوار : ج 18 / 358، ح 66، باب إثبات المعراج .
2- بحار الأنّوار : ج147/52، ح 7.

الکفر الباطني لهم، بل لعلّهم أشدّ الناس عدواة للذين آمنوا، فإنهم يهود هذه الأمة لمتابعتهم عجلها وسامريها وهما صنما قريش وجبتاها، وطاغوتاها وإفکاها، ولذا عبر عن الولاية بالإيمان وعن عدمها بالکفر في قوله : (ومن يکفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين ) (1)

بل عن الثلاثة بالثلاثة في قوله :(ولکنّ الله حبّب إليکم الإيمان وزيّنه في

قلوبکم وکرّه إليکم الکفر والفسوق والعصيان)(2)

فإکمال الدين وإتمام النعمة إنما هو بالولاية، ولذا ارتدّ الناس بعد النبي صلي الله عليه وآله وسلم أربعة، فرجعوا علي أعقابهم القهقري (أفإن مات أو قتل انقلبتم علي

أعقابکم )(3)

هذا مضافاً إلي أنّ النبي صلي الله عليه وآله وسلم والولي هما الواسطتان في تلّقي الفيوض الإلهية من التشريعية والتکوينية ، کما مرّ غير مرة، فالمستعين بالله والمتوجه إليه لا بدّ له من حفظ المراتب للوصول إلي ماله من المطالب والمآرب، ولذا علّمنا الإستعانة بالله الذي أنّشأ المشية الکلية والحقيقية المحمدية الذي هو الرحمة الرحمانية والرحمة الرحيمية الإيمانية.

ومنها : أنّ للعبد حالات ثلاثة :

الأولي : حاجته إلي الوجود، وهو لم يکن شيئاً مذکوراً ، بل لم يکن شيئاً

أصلاً (أو لا يذکر الانسان أنّا خلقناه من قبل ولم يک شيئاً )(4)

الثانية : حاجته بعد الوجود إلي أسباب البقا.

ص: 244


1- المائدة : 5.
2- الحجرات : 7.
3- آل عمران: 144.
4- مريم : 67.

الثالثة : حاجته في القيامة إلي العفو والمغفرة إذ (لولا فضل الله عليکم

ورحمته ما زکي منکم من أحد أبداً)(1)

وفي الأسماء الثلاثة إشارة إلي هذه المقاصد، فالمستعين المتوسل بها سائل لها طالب إياها، فالله هو: ( الخالق الباريء المصور) (2)، (قل الله خالق کل شيء)(3)

والرحمن هو الذي وسعت رحمته کلَّ شيء ولم يخرج عن تربيته شيء

(وإنِّ ربکم الرحمن ) (4)

والرحيم هو المتعطف علي المؤمنين (نبّيء عبادي أنّي أنّا الغفور

الرحيم )(5)،(وکان بالمؤمنين رحيماً)(6)

ومنها ما قيل من أنّ النبي صلي الله عليه وآله وسلم کان مبعوثاً إلي الناس کافّة، وکان أهل العالم

في زمانه علي أصناف ثلاثة : عبدة الأصنام، واليهود والنصاري.

فالفرقة الأولي کانوا يعرفون من أسمائه سبحانه اسم الجلالة ( ولئن سألتهم

من خلق السموات والأرض ليقولن الله)(7)

ولذا کانوا يقولون(هؤلاء - أي هذه الأصنام - شفعاؤنا عند الله ) (8)والثانية : کانوا يعرفون الرحمن الذي قيل (9)إنّه في لغتهم رَخمن بالخاء

ص: 245


1- النور: 21.
2- الحشر : 24.
3- الرعد: 16.
4- طه : 90.
5- الحجر: 69.
6- الاحزاب : 43.
7- لقمان : 25.
8- يونس : 18.
9- قالة ثعلب والمبرد ، والزجاج .

المعجمة، وقد تقدّم أنّه قد تکرر ذکره في التوراة ، بل عن ابن سلام أنّه قال: يا رسول الله إنک لتقل ذکر الرحمن وقد أکثره الله في التوراة ، فنزلت (قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن) (1)

والثالثة : کانوا مشعوفين بذکر الرحيم الذي قيل : إنه في لغة الإنجيل رهما أو رهيما، وکان جارياً علي ألسنتهم، فلمّا أمر الله سبحانه نبيّه بدعوة تلک الفرق الثلاثة إلي الصراط المستقيم إفتتح کتابه بل کل سورة منه بما يعرفونه من الأسماء وهو الله الرحمن الرحيم، ليستأنّسوا به ولا يتنفرّوا إذ (کلّ حزب بما لديهم فرحون )(2)

ومنها أنّ الأسماء الثلاثة للأصناف الثلاثة الذين هم أهل الحقيقة والطريقة والشريعة، فأصحاب الحقيقة هم المنسوبون إلي الله سبحانه بالوصول إلي مقام الولاية ونيل الهداية ، (هنالک الولاية له الحق)(3) (الله ولي الذين آمنوا )(4)

وأصحاب الطريقة هم السائرون إلي حريم القدس، وحرم الأنّس ، بأقدام

المودة والمحبة، ولذا يدعونه باسم الرحمن (سيجعل لهم الرحمن ودّاً) (5)

وأرباب الشريعة هم أهل الإيمان الذين توسّلوا باسم الرحيم في سلوک

الصراط المستقيم ( وکان بالمؤمنين رحيماً)(6)

ومنها : أنّها إشارة إلي المعبود الحق والصنفين من عبيده اللذين هما المراد

والمريد، کما أشار مولانا الصادق عليه السلام علي ما رواه عنه في «العرايس» قال:

ص: 246


1- الإسراء : 110.
2- الروم : 32.
3- الکهف : 44.
4- البقرة : 257.
5- مريم: 96.
6- الاحزاب : 43.

«إنهما واقعان علي المريدين والمرادين ، فإسم الرحمن للمرادين لاستغراقهم

في أنّوار الحقايق ، والرحيم للمريدين لبقائهم مع أنّفسهم واشتغالهم بالظاهر».

تتمة مهمة في فضائل البسملة المروية عن الأئمةعليه السلام

قد ظهر مما مر أنّ البسملة مشتملة علي أصول الحقائق التي هي الأساس للعقائد الحقة الإسلامية والمناهج المستقيمة الإيمانية التي هي بجملتها من أشعة أنّوار التوحيد والنبوة والولاية حسبما أشير إليها بالأسماء الثلاثة.

بل قد سمعت أنّه قد ورد من طرق الفريقين أنّ فيها جميع ما في القرآن مع

أنّ فيه تفصيل کل شيء (1)

وفي «تفسير القمي» عن عبد الکريم بن عبد الرحيم أنّ کتاب أصحاب اليمين

بسم الله الرحمن الرحيم

وقد مر الخبر عن مولانا الرضا عليه السلام أنّه قال : «بسم الله الرحمن الرحيم أقرب

إلي الإسم الأعظم من بياض العين إلي سوادها» (2)

وإن الصادق عليه السلام قال : «ما نزل کتاب من السماء إلا وأوله بسم الله الرحمن

الرحيم»(3)

وأنّها من السبع المثاني وهي أفضلهن (4)

ص: 247


1- في شرح العيون وعنه مصابيح الأنّوار : ج 1 / 435، وعنها جامع الأخبار والآثار : ج 48/2 ، ح 2.
2- تفسير العياشي: ج21/1 ، ح 13 والعيون : ج 5/2 ، ح 41، وفيه : «من سواد العين إلي بياضها.
3- العياشي : ج 19/1، ح 5، وفيه : «ما انزل الله من السماء کتابا إلا وفاتحته بسم الله الرحمن الرحيم» نور الثقلين ج 6/1 .
4- تهذيب الأحکام ، وعنه تفسير نور الثقلين : ج 8/1، ح 24.

وذلک أنّها هي الکلمة الجامعة المتشعشعة لتجليات أنّوار الجمال، ولذا أمر النبيصلي الله عليه وآله وسلم في خبر المعراج بذکرها بعد رفع الحجب عند هبوب نفحات روح الوصال، علي ما رواه في «العلل» في خبر طويل مرت إليه الإشارة وإلي قوله تعالي : «الآن وصلت إلي فسمّ باسمي»(1)

وفي «المجمع» و «جامع الأخبار» وغيرهما عن النبي صلي الله عليه وآله وسلم قال: «إذا قال المعلّم للصبي قل : بسم الله الرحمن الرحيم، فقال الصبي : بسم الله الرحمن الرحيم کتب الله برائة للصبي وبرائة لأبويه وبرائة للمعلم»(2)

وعن ابن مسعود عنه صلي الله عليه وآله وسلم قال : «من أراد أنّ ينجيه الله من الزبانية التسعة

عشر فليقرء بسم الله الرحمن الرحيم، فإنها تسعة عشر حرفاً ليجعل الله کل حرف منها جنة من واحد منهم» (3)

وروي عن الصادق عليه السلام أنّه قال : «ما لهم قاتلهم الله ، عمدوا إلي أعظم آية في

کتاب الله فزعموا أنّها بدعة إذا أظهروها، وهي بسم الله الرحمن الرحيم»

(4)

وفيه رد علي العامة علي ما مر.

وعن الباقرعليه السلام أنّه قال : «سرقوا أکرم آية من کتاب الله بسم الله الرحمن

الرحيم»(5)

وفي «تفسير القمي» عن الصادق عليه السلام : «إنها أحق ما يجهر به، وهي الآية التي قال الله عزّ وجل وإذا ذکرت ربک في القرآن وحده ولّوا علي أدبارهم

ص: 248


1- بحار الأنّوار: ج 18 / 358/ ح66، باب إثبات المعراج .
2- مجمع البيان : ج 18/1 ، وجامع الأخبار : ص 49 وعنه البحار: ج 257/93 .
3- المجمع : ج 19/1 و جامع الأخبار : ص 49 وعنه البحار: ج 258/92 .
4- تفسير العياشي : ج 21/1 ، ح 16 ، وعنه البحار : ج 21/85.
5- العياشي : ج 19/1 وعنه البحار : ج 20/85 ، ح 10.

تفوراه(1)- (2)

بل في «الخصال» عنه عليه السلام : «إن الإجهار بها في الصلوات واجب» (3). والمراد تأکد

وفي «جامع الأخبار» عن عبدالله بن مسعود عن النبي صلي الله عليه وآله وسلم قال: «من قرأ بسم الله الرحمن الرحيم کتب الله له بکل حرف أربعة آلاف حسنة، ومحي عنه أربعة آلاف سيئة، ورفع له أربعة آلاف درجة» (4)

وفيه عنه صلي الله عليه وآله وسلم: «من قال بسم الله الرحمن الرحيم بني الله في الجنة سبعين ألف قصر من ياقوتة حمراء، في کل قصر سبعون ألف بيت من لؤلؤة بيضاء، في کل بيت سبعون ألف سرير من زبرجد خضراء، فوق کلّ سرير سبعون ألف فراش من سندس وإستبرق، وعليه زوجة من حور العين ، ولها سبعون الف ذؤابة مکللة بالدر واليواقيت مکتوب علي خدها الأيمن : محمد رسول الله، وعلي خدّها الأيسر : علي ّولي الله، علي جبينها : الحسن، وعلي ذقنها : الحسين وعلي شفتيها : بسم الله الرحمن الرحيم

قلت : يا رسول الله ! لمن هذه الکرامة ؟ قال : لمن يقول بالحرمة والتعظيم بسم الله الرحمن الرحيم»(5)

وعنه صلي الله عليه وآله وسلم: «إذا قال العبد عند منامه : بسم الله الرحمن الرحيم، يقول الله : يا

ملائکتي اکتبوا له الحسنات إلي الصباح»(6)

کي

ص: 249


1- الإسراء : 46.
2- تفسير القمي : ص 25، وعنه البحار: ج 85/ص 82، ح 25.
3- الخصال : ص 604، ح 9، وعنه البحار : ج 70/85 ، ح 5. وفيه : الإجهار ببسم الله الرحمن الرحيم في الصلوة واجب .
4- جامع الأخبار : ص 49، وعنه البحار: ج 258/92 ، ح 52.
5- الجامع : ص 49، وعنه البحار: ج 92، ص 258، ح 52، والمستدرک : ج 387/5، ح 20.
6- جامع الأخبار : ص 50، وعنه البحار ج92 /258، وفيه : «اکتبوا نفسه إلي الصباح»

وعنه صلي الله عليه وآله وسلم: «إذ مرّ المؤمن علي الصراط فيقول : بسم الله الرحمن الرحيم

طفئت لهيب النيران، وتقول: جُزيا يا مؤمن فإنّ نورک أطفأ لهبي»(1)

ثم أنّه قد ورد الأمر بالتسمية عند کثير من العبادات وغيرها کالوضوء والغسل والأکل والشرب ودخول المسجد والبيت والخروج منهما والتذکية والاصطياد بل دخول الخلوة وخروجها ، وکل فعل من الأفعال.

حتي ورد عن مولانا الصادق عليه السلام قال : «إذا توضّأ أحدکم أو أکل أو شرب أو

لبس لباسا ينبغي له أنّ يسمّي عليه فإن لم يفعل کان للشيطان فيه شرک»(2)

وعنه عليه السلام : «إن رجلا توضأ وصلّي، فقال له رسول الله صلي الله عليه وآله وسلمأعد وضوئَک وصلاتَک، ففعل وتوضأ وصلّي، فقال له النبي صلي الله عليه وآله وسلم: أعد وضوئَک وصلاتَک، ففعل وتوضأ وصلّي، فقال له النبي صلي الله عليه وسلم : أعد وضوئک وصلاتک، فأتي أمير المؤمنين عليه السلام فشکي إليه ذلک، فقال له: هل سميت حيث توضأت ؟ قال : لا ، قال : سَمِّ علي وضوئک، فسمّي وتوضأ وصلي، فأتي النبي صلي الله عليه وآله وسلم فلم يأمره أنّ يعيد». .

وفي «المحاسن» عن الصادق عليه السلام قال : «إذا أکلت الطعام، فقل بسم الله في أوله وآخره ، فإن العبد إذا سمّي في طعامه قبل أنّ يأکل لم يأکل معه الشيطان، وإذا سمّي بعد ما يأکل وأکل الشيطان معه تقيأ ما کان أکل» (3)

وعنه عليه السلام : «إن الرجل إذا دني من المرأة وجلس مجلسه حضره الشيطان ، فإن هو ذکر اسم الله تنحي الشيطان عنه، وإن فعل ولم يسمّ أدخل الشيطان ذکره فکان العمل منهما جميعا، والنطفة واحدة»(4)

ص: 250


1- الجامع : ص 50، وعنه البحار: ج 258/92.
2- المحاسن للبرقي : ص 433، وعنه البحار : ج373/66.
3- المحاسن : ص 432، وعنه بحار الأنّوار : ج66 / 372.
4- التهذيب : ج407/7، وعنه البحار: ج 202/63 .

وفي معناه أخبار کثيرة.

وفيه عنه عليه السلام أنّه قال له قائل : إني صاحب صيد سبع وأبيت بالليل في الخرابات والمکان الموحش، فقال : «إذا دخلت فقل بسم الله، وادخل برجلک اليمني ، وإذا خرجت فاخرج برجلک اليسري قل : بسم الله فإنک لا تري مکروها إن شاءالله»(1)

وفي «جامع الأخبار» عن النبي صلي الله عليه وسلم أنّه سئل هل يأکل الشيطان مع الإنسان ؟ فقال : «نعم، کل مائدة لم يذکر بسم الله الرحمن الرحيم عليها يأکل الشيطان معهم ويرفع الله البرکة عنها(2)

وفي «الکافي» عن النبي صلي الله عليه وسلم قال : «إذا رکب الرجل الدابة ، فسمّي، ردفه

ملک يحفظه حتي ينزل، وإن رکب ولم يسمّ ردفه شيطان فيقول له : تغن، فإن قال له : لا أحسن، قال له : تمن، فلا يزال يتمني حتي ينزل» (3)

وفيه عن الصادق عليه السلام :

«إن علي ذروة کل جسر شيطانا ، فإذا انتهيت إليه ، فقل : بسم الله ، يرحل

عنک» (4)

إلي غير ذلک من الأخبار الآمرة بها عموما وخصوصا عند کل فعل مما

سمعت، وغيرها من حقير أو خطير، يسير أو کثير.

بل عن مولانا الصادق عليه السلام : «لا تدع بسم الله وإن کان بعده بيت من

الشعر» (5)

ص: 251


1- المحاسن : ص 370، وعنه البحار: ج 248/76، ح 39.
2- جامع الأخبار : ص 50 وعنه البحار : ج 258/92، ح 52.
3- فروع الکافي : ج 6 / 540، وعنه البحار: ج 204/63 .
4- فروع الکافي : ج 4 / 287، وعنه البحار: ج 202/63 .
5- الکافي : ج 2/672، ح 1 ، وعنه الوسائل : ج 494/8 ، ح 1.

وذلک لما عرفت من أنّ ما يدل علي شيء من غير الألفاظ يسمي أثرا وإسما للشيء، بل لعل الأثر أدل علي الشيء من اللفظ الموضوع له، لأنّ دلالته أتم وأظهر، بل هي أشبه بالطبيعة العقلية، ودلالة اللفظ وضعية ، وقد سمعت أنّ الإسم ما يدل عل المسمي.

ثم إن الأثر هو الفعل ، والفعل إمّا مضاف إلي الله تعالي صادر منه، أو إلي العبد

صادر منه.

والصادر من الله هو خلق الأسباب والآلات والأدوات والمشاعر والقوي

والمباديء، وکل ما يحتاج إليه في بقائها من الإضافات والإمدادات وغيرها.

والصادر من العبد هو صرف هذه الأسباب والآلات فإن صرفها فيما خلقت له فهو الطاعة، أو في غيره فهو المعصية، فالأسباب والآلات في الطاعات والمعاصي واحدة.

نعم من جهة صرفها في الطاعات التي هي مرضات الله، يطلق التوفيق الذي هو موافقة إرادة العبد لصرف الأسباب فيما يحبه الله تعالي ويرضاه، ومن جهة صرفها في المعاصي التي هي موجبات سخطه يطلق الخذلان الذي هو ترک العبد وما يشتهيه و تخليته وما يريده.|

وقد قيل : لا تَدَع النفس وهواها ، فإنّ في هواها رداها، وترک النفس وما

تهوي شفاها، وردع النفس عما تهوي هداها وشفاها.

وبالجملة فقول القائل : بسم الله عند کل فعل من الأفعال معناه الاستعانة فيه به سبحانه وبأسمائه الحسني تيمّناً وتبرکا بذکر اسمه الشريف علي الوجه الذي مرت إليه الإشارة من حفظ الحدود مع قصد الاستعانة بما أنّعم وأفاض عليه من الآلات والأدوات المصروفة في إتمام هذا الفعل لفائدة شکر تلک النعم وصرفها فيما خلقت لأجله علي الوجه اللايق بحاله في الکون التشريعي موافقا لمحبّته کي يقع

ص: 252

الفعل علي جهة العبودية تحصيلا لمرضاته سبحانه ، فيظهر عليه أثر العبودية.

ولعله إليه الإشارة بقول مولانا الرضا عليه التحية والثناء في معني البسملة

«أسم نفسي بسمة الله تعالي»(1)

وکأنّه مأخوذ من الوسم الذي يتميز به مواشي السلطان أو السيماء الذي

يتميز به حواشيه.

وهو المشار إليه بقوله تعالي : (صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة)(2)

ويقولي في القصيدة المهدوية شعرا: تري صبغة الرحمن صاغت وجوههم وإنّ صباغ الحب صبغ التجمّل

فالتسمية سمة الطاعة وصبغة العبودية وشکر النعمة وحد المائدة .

ولذا ورد في أخبار کثيرة عن مولانا الصادق عليه السلام : «إنّ حد المائدة أنّ تقول إذا

وُضعِت بسم الله وإذا رُفعِت الحمد لله» (3)

وفي «العدل» عنه عليه السلام قال :

لمّا جاء المرسلون إلي إبراهيم علي نبينا وآله وعليه السلام جاءهم بالعجل فقال : کلوا، فقالوا: لا نأکل حتي تخبرنا بثمنه ، فقال عليه السلام : إذا أکلتم فقولوا: بسم الله ، وإذا فرغتم فقولوا: الحمد لله ، قال : فالتفت جبرئيل إلي أصحابه وکانوا أربعة وجبرئيل رئيسهم، فقال: حق لله أنّ يتخذ هذا خليلا(4)

إلي غير ذلک من الأخبار الکثيرة فإذا توسم العبد بسمة طاعته وستي عند

ص: 253


1- تفسير نور الثقلين : ج 11/1 ، ح 41 عن العيون .
2- البقرة : 138.
3- المحاسن : ص 431، وعنه البحار : ج 66 / 37، ح 9، وفيه: «إذا وضع قيل : بسم الله ، وإذا رفع قيل : الحمد لله».
4- علل الشرايع : ص 23 - 24، وعنه البحار: ج 5/12 .

تفسير فاتحة الکتاب

کل فعل من الأفعال ابتغاء مرضاته، فقد جمع بين التسمية الفعلية والقولية، وأظهر فيه العبودية المحضة التي لا يشارکه فيها الشيطان، لأنّه قد يئس من الإستيلاء بعباد الرحمن بقوله : (إنّ عبادي ليس لک عليهم سلطان) (1)

وأما إذا نسيها فقد شارکه فيه، ثم إن استدرکته العناية الربانية وتدارک التسمية فقد ورد في الأخبار : «إن الشيطان تقيأ ما أکله» کما في الخبر المتقدم المروي عن «المحاسن»(2)

ولعل المراد أنّه يرجع عن المشارکة في ذلک الفعل ، ويعود کله خالصا لله من أوله، إذ الأمور الملکوتية المقيدة بالزمان يتساوي عندها جميع الأزمنة فيتأثر منها الحوادث وإن سبقت في الزمان.

ولذا ورد في العلوي علي ما رواه في «المحاسن»: «من أکل طعاما فليذکر اسم الله عليه فإن نسي ثم ذکر الله بعده تقياً الشيطان ما أکل، واستقبل الرجل طعامه» (3)

لکن المحکي عن «الکافي»،(4) في هذا الخبر «واستقل». .

قال في «البحار»: «وهو الصواب أي وجده قليلا لما قد أکل الشيطان منه فإن ما يتقيأه لا يدخل في طعامه، أو هو علي الحذف والإيصال، أي إستقل في أکل طعامه ، قال : والأول أظهر» (5)

قلت : لکن الرواية الأولي هي أظهر، وعلي الثانية فالثاني ينطبق علي

ص: 254


1- الحجر: 42.
2- المحاسن : ص 432، وعنه البحار: ج66، ص 372.
3- المحاسن : ص 434 وعنه البحار: ج 374/66 ، ح 20.
4- الکافي : ج 293/6
5- البحار :374/66.

ما سمعت.

وعلي کل حال فللّتسمية فضلُ جميل، وثواب جزيل، ولها بل لکل اسم من الأسماء الثلاثة المشتملة عليها عند أهل التصريف والتکسير فوائد عظيمة ومنافع جسيمة سيما مع المداومة عليها والتحقق بحقائقها والتخلق بأخلاقها إلي غير ذلک مما لا ينبغي التعرض لها.

بل روي أنّه لمّا نزلت البسملة اقشعرت منها الجبال (1) وأنّها تسعة عشر حرفا بعدد زبانية النار، من قرأها نجي منها (2)

وفي بعض الکتب عن مولانا الصادق عليه السلام :

«من کانت له حاجة کلية فليکتب في رقعة : بسم الله الرحمن الرحيم من عبده الذليل إلي ربه الجليل( رب إنّي مسني الضرّ وأنّت أرحم الراحمين) وليطرحها في نهر عظيم قائلا: أللهم بمحمد و آله الطيبين الطاهرين وصحبه المرضيين، إقض حاجتي يا أرحم الراحمين. وليذکر حاجته، فإنه تقضي إن شاء الله تعالي».

ولنختم المقام بذکر ما أورده الإمام أبو محمد العسکري عليه السلام في فضل

البسملة ، قال عليه السلام :

قال الصادق عليه السلام : ولربما ترک في افتتاح أمر بعض شيعتنا بسم الله الرحمن الرحيم، فيمتحنه الله بمکروه لينبهه علي شکر الله تعالي والثناء عليه ويمحو عنه

ص: 255


1- في الدر المنثور ج9/1عن أبن مردويه ، والثعلبي ، عن جابر الأنّصاري: «لمانزلت( بسم الله الرحمن الرحيم) هرب الغيم إلي المشرق وسکنت الريح، وهاج البحر ، أصغت البهائم بأذآنها، ورجمت الشياطين من السماء
2- في «مجمع البيان»: ج19/1 : عن ابن مسعود عن النبي صلي الله عليه وسلم : «من أراد أنّ ينجيه الله من الزبانية التسعة عشر فليقرأ بسم الله الرحمن الرحيم ، فإنها تسعة عشر حرفا...». کما تقدّم .

وصمة تقصيره عند ترکه قوله بسم الله ، لقد دخل عبدالله بن يحيي علي أمير المؤمنين عليه السلام وبين يديه کرسي، فأمره بالجلوس ، فجلس عليه فمال به حتي سقط علي رأسه ، فأوضح عن عظم رأسه وسال الدم، فأمر أمير المؤمنين عليه السلام بماء فغسل عنه ذلک الدم، ثم قال : ادن مني ! فدنا منه ، فوضع يده علي موضحته، وقد کان يجد من ألمها ما لا صبر له معه ، ومسح يده عليها وتفل فيها حتي اندمل، وصار کأنّه لم يصبه شيء قط ، ثم قال أمير المؤمنين عليه السلام : يا عبد الله ! الحمد لله الذي جعل تمحيص ذنوب شيعتنا في الدنيا بمحنتهم لتسلم لهم طاعتهم، ويستحقوا عليها ثوابا». ثم ساق الخبر إلي أنّ قال: «فقال عبدالله بن يحيي : يا أمير المؤمنين ! قد أفدتني وعلّمتني فإن رأيتَ أنّ تعرّفني ذنبي الذي امتحنت به في هذا المجلس حتي لا أعود إلي مثله ، قال : ترکک حين جلست أنّ تقول: بسم الله الرحمن الرحيم، فجَعَل الله ذلک بسهوک عما نُدِبتَ إليه تمحيصاً بما أصابک، أما علمتَ أنّ رسول الله صلي الله عليه وسلم حدثني عن الله عزّ وجل أنّه قال : کلّ أمر ذي بال لم يذکر اسم الله فيه فهو أبتر؟

فقلت : بلي بأبي أنّت وأمي لا أترکها بعدها ، قال : إذا تحظي بذلک وتسعد، ثم قال عبد الله بن يحيي: يا أميرالمؤمنين ! ما تفسير بسم الله الرحمن الرحيم ؟ قال : إن العبد إذا أراد أنّ يقرأ ويعمل عملا فيقول : بسم الله الرحمن الرحيم، أي بهذا الإسم أعمل هذا العمل، فکل عمل يعمله يبتدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم فإنه يبارک له فيه.

ثم ساق الخبر إلي أنّ قال : إن رجلا قام إلي أميرالمؤمنين عليه السلام فقال : يا

أمير المؤمنين ! أخبرني عن بسم الله الرحمن الرحيم ما معناه ؟ فقال :

إن قولک : «الله» أعظم الأسماء من أسماء الله تعالي، هو الإسم الذي لا ينبغي

أنّ يستي به غير الله تعالي ولم يتسم به مخلوق .

فقال الرجل : فما تفسير قوله «الله»؟

ص: 256

فقال : هو الذي يتألّه إليه عند الحوائج والشدائد کل مخلوق عند انقطاع

الرجاء من جميع من دونه ويقطع الأسباب من کل من سواه ، وذلک أنّ کل مترأس في هذه الدنيا أو متعظم فيها وإن عظم غناؤه وطغيانه، وکثرت حوائج من دونه إليه ، فإنهم سيحتاجون حوائج لا يقدر عليها هذا المتعظم، وکذلک هذا المتعظم يحتاج حوائج لا يقدر عليها ، فينقطع إلي الله عند ضرورته وحاجته وفاقته حتي إذا کفي همه عاد إلي شرکه ، ألم تسمع الله عز وجل يقول : (قل أرأيتکم إن أتيکم عذاب الله أو أتتکم الساعة أغير الله تدعون إن کنتم صادقين بل إياه تدعون فيکشف ما تدعون إليه إنشاء وتنسون ما تشرکون)(1)فقال الله تعالي لعباده : «يا أيها الفقراء إلي رحمتي إني قد ألزمتکم الحاجة إلي في کل حال، وذلة العبودية في کل وقت، فإليّ فافزعوا في کل أمر تأخذون فيه وترجون تمامه وبلوغ غايته، فإني إن أردت أنّ أعطِيَکُم لم يقدر غيري علي منعکم، وإن أردت منکم لم يقدر غيري علي إعطائکم، فأنّا أحق من سُئِل وأولي من تُضرّع إليه ، فقولوا عند افتتاح کل أمر عظيم أو صغير: بسم الله الرحمن الرحيم، أي أستعين علي هذا الأمر بالله الذي لا تحقّ العبادة لغيره، المغيث إذا استغيث ، والمجيب إذا دعي، الرحمن الذي يرحم ببسط الرزق علينا، الرحيم بنا في أدياننا ودنيانا وآخرتنا، خفف علينا الدين وجعله سهلا خفيفا، وهو يرحمنا بتمييزنا عن أعدائه .

ثم قال : قال رسول الله صلي الله عليه وسلم : من حزنه أمر تعاطاه فقال بسم الله الرحمن الرحيم وهو مخلص لله عزّ وجل يُقبِلُ بقلبه إليه، لم ينفکّ من أحد الشيئين (2) إما بلوغ حاجته الدنياوية ، وإما ما يعد له عنده ويدخّر لديه، وما عند الله خير وأبقي

للمؤمنين» .

ص: 257


1- الأنّعام: 41.
2- في البحار: «عن احدي اثنتين» .

وقال الحسن بن علي عليهم السلام : «قال أمير المؤمنين عليه السلام : إن بسم الله الرحمن

الرحيم آية من فاتحة الکتاب وهي سبع آيات تمامها ببسم الله الرحمن الرحيم».

قال: «سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول : إن الله عزوجل قال لي: يا محمد (ولقد آتيناک سبعا من المثاني والقرآن العظيم) (1) فأفرد الإمتنان علي بفاتحة الکتاب وجعلها بأزاء القرآن العظيم وأنّ فاتحة الکتاب أعظم وأشرف مما في العرش وإن الله تعالي خص بها محمدا وشرفه، ولم يشرک معه فيها أحدا من أنّبيائه ما خلا سليمان علي نبينا وآله وعليه السلام فإنه أعطاه منها بسم الله الرحمن الرحيم، ألا تراه إنه يحکي عن بلقيس حين قالت : (إنّي ألقي إليّ کتاب کريم إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم) (2)

ألا فمن قرأها معتقدا لموالاة محمد وآله الطيبين منقاداً لأمرهم، مؤمنا بظاهرهم وباطنهم أعطاه الله عزّ وجل يکل حرف منها حسنة منها أفضل له من الدنيا وما فيها من أصناف أموالها وخزائنها، ومن استمع قاريا يقرؤها کان له قدر ثلث ما للقاريء، فليستکثر أحدکم من هذا الخير المعرض لکم، فإنه غنيمة فلا يذهبن أوانه فتبقي في قلوبکم الحسرة»(3)

أقول : وهذا الخبر وإن مرت الإشارة إلي جملة منها فيما تقدم إلا أنّا ذکرناه

بتمامه في المقام تنبيها علي الفوائد التي لا تستفاد إلا بتمام الکلام.

ص: 258


1- الحجر: 87.
2- النمل : 29.
3- تفسير الإمام : ص 9-24، وعنه بحار الأنّوار : ج240/92 - 257، ح 48.

الفصل الأول :فيما يتعلّق بالحمد

ثمّ إنّ الله سبحانه وله الحمد والمنّة لمّا علّمنا کيفيةَ التبرک بالاستعانة به والتوسل بأسمائه والانصباغَ بصبغته مع التنبيه علي أنّ جميع النعم الدنيوية والأخروية والتشريعية والتکوينية کلها منه، والأمور کلها بيده، وهو المبتدء بالنعم قبل استحقاقها، والسائق إلي المستحقّين حقوقها، أراد أنّ يحمد نفسه بالثناء عليه علي نعمه الجميلة الجليلة وآلائه الجزيلة النبيلة، تعليماً للعباد، وهدايةً لهم إلي سبيل الرشاد ، فقال : (والحمد لله رب العالمين ) .

الحمد في الأصل مصدر (حمِد) کسمع، حمدا ومحمَداً ومحمدةً بکسر الثالث وفتحه فيهما بمعني الثناء، کحَمِدته عل فعله، والشکر کحمِدته علي نعمه، والرضا کحمِدت بسيرة فلان، والمدح کحمِدت فلانا علي فضله، لکن الغالب عليه في الإستعمال هو المعني الأول، هذه المعاني متغايرة وإن تقاريت، ولذا کان لکلّ منها نقيض غير نقيض الآخر، فالنقيض للحمد الذم، وللشکر الکفر، وللمدح الهجاء والذم أيضا ولعله الأغلب.

وبالجملة فقد عرّفوا الحمدَ بالثناء باللسان علي الجميل الاختياري من نعمة

وغيرها.

فهو أخصّ من المدح الذي هو الثناء علي الجميل المطلق إختيارا کان أو غيره، ولذا قال: مدحتُ زيدا علي حسنِه، دون حمدته ، ويطلقان بالنسبة إلي علمه.

ص: 259

ومن الشکر الذي هو تعظيم المنعم بالاعتراف بالنعم الواصلة إليه باللسان والأرکان والجَنان، إلا أنّ أخصيّته من المدح علي الإطلاق ومن الشکر من وجه، فهو أعمّ من کل الأولين من وجه، لوجوده دونهما في أفعال القلب والجوارح.

وإن اجتمع الکلّ في فعل اللسان وترتب الحمد والمدح علي کل من الفضائل التي هي المزايا الغير المتعدية، والفواضل التي هي المزايا المتعدية، وهي المواهب والعطايا ، إلا أنّ هذا کأنّه مجرد اصطلاح لا يساعده تتبع موارد إطلاقاتها.

ولذا أنّکر بعضهم تقييد الحمد بکون الجميل اختياريا، بل ذکر شيخنا البهائي أنّ هذا التقييد غير موجود في کلام الأکثر، بل أنّکره البعض لقولهم : الصبر يحمد في المواطن کلها، وعاقبة الصبر محمودة، بل في القرآن : (عسي ربک أنّ يبعثک مقاما محمودا) (1)

وفي کلام مولانا أمير المؤمنين عليه السلام : «فعند الصباح يحمد القوم السُري» (2)

فلا داعي للتکلف في تلک الإطلاقات بأنّه استعمل في معني المدح أو الرضا مجازا، أو أنّه من قبيل وصف الشيء بحال متعلقه، أي المقام محمود صاحبه ، والسُري محمود عليه کالصبر.

هذا مضافا إلي تصريح اللغوييّن بعموم معناه.

قال في «الصحاح» : «الحمد أعم من الشکر، وظاهره الإطلاق، ولذا قال :

والمحمد الذي کثرت خصاله المحمودة» (3)

ص: 260


1- الإسراء : 79.
2- نهج البلاغة : الخطبة (160) آخرها . ولا يخفي أنّ هذه الجملة من الأمثال ومعناها : إذا أصبح النائمون وقد رأوا السارين ليلا وصلوا إلي مقاصدهم حمدوا سراهم وندموا علي نوم أنّفسهم. والسُري بضم السين المهملة وفتح الراء : السير ليلا
3- الصحاح : باب الدال ، فصل الحاء، واستشهد بقول الأعشي : إلي الماجد القرم الجواد المحمد.

وفي القاموس» : الحمد : الشکر، والرضا، والجزاء، وقضاء الحق .

وفي «المصباح المنير» للفيومي : حمدته علي شجاعته وإحسانه حمدان

أثنيت عليه.

ومن هنا کان الحمد غير الشکر لأنّه يستعمل لصفة في الشخص وفيه معني التعجب ، ويکون فيه معني التعظيم للممدوح وخضوع المادح، کقول المبتلي : الحمد الله، إذ ليس هناک شيء من نعم الدنيا ويکون في مقابلة إحسان يصل إلي الحامد.

وأما الشکر فلا يکون إلا في مقابلة الصنيع، فلا يقال : شکرته علي شجاعته

ويقال غير ذلک. انتهي.

وبالجملة، الأظهر أنّه موضوع للمعني الأعم من دون أنّ يؤخذ في مفهومه

کونه باللسان أو علي الجميل الاختياري.

أمّا الأول فلثنائه سبحانه علي نفسه، ولقوله : ( وإن من شيء إلا يسبح

بحمده) (1)وغير ذلک.

واحتمال التجوز في اللسان، أو في الحمد، أو تکلف التأويل مما لا ينبغي الإصغاء إليه، وما يقال : من أنّه لما ثبت الاختصاص بالنقل عن الثقات من أرباب اللغات فيحمل أمثال ذلک علي المجاز مردود بما سمعت

وأما الثاني فلشهادة الإطلاق، ونص أهل اللغة، وأصالة الحقيقة، وأولويتها

مع عموم المعني علي المجاز.

نعم، يعض هوُلاء المنکرين للتقييد بالاختياري من الفلاسفة الذين يزعمون أنّ الله تعالي فاعل بالإيجاب والعلّية دون الإرادة فالتزموا بقدم العالم، نظرا إلي أنّ ذات الواجب تعالي إمّا أنّ يستجمع جميع شرائط التأثير في الأزل أو لا؟

ص: 261


1- الإسراء : 44.

فعلي الأول يلزم القدم، ضرورة امتناع تخلف المعلول عن علته العامة .

وعلي الثاني يتوقف وجود الأثر وهو العالم علي شرط حادث، وننقل الکلام إليه حتي يلزم التسلسل الذي قامت القواطع العقلية علي استحالته ، بل استدلوا علي نفي إرادته الحادثة بأدلة ضعيفة واهية، سنشير إن شاء الله تعالي إلي الجواب عنها ، وعن ساير ما استدلوا به للقدم في موضع اليق.

ولعل اختيار الحمد في المقام علي المدح للإشعار بکون محامده اختيارية وبعد الإحسان، إذ المدح علي ما قيل أعم من کون الممدوح به اختياريا أو لا، صدر قبل الإحسان أو بعده.

مضافا إلي ما قيل : إن المدح مذموم، للعلوي : «أحثوا التراب في وجوه

المداحين» (1)

والحمد مأمور به لقوله: «من لم يحمد الناس لم يحمد الله» (2)

وإن کان لا يخلو من تکلف، إذ منشأ الذم فيه بعض الجهات الخارجية

کالاطراء ، ومجاوزة الحد، وشوب النفاق ونحوها.

واما اختياره علي الشکر فلان الشکر إنما هو بأزاء ما وصل من النعم إلي

الشاکر، وأما الحمد فإنما هو بأزاء ما عليه النعم من المحامد.

ولذا ورد : «الحمد لله کما هو أهله ومستحقه»(3). وفي الدعاء: «ولک الحمد بجميع محامدک کلها علي جميع نعمک کلها»(4).

ص: 262


1- بحار الأنّوار : ج 294/73، ح 1 عن أمالي الصدوق : ص 256، وفيه: «احثوا في وجوه المداحين التراب» ، وجعله من مناهي النبي صلي الله عليه وسلم .
2- التفسير الکبير للفخر الرازي : ج 1 / 218.
3- بحار الأنّوار: ج 163/86 ، ح 43.
4- البحار : ج 413/95 .

وکم الفرق بين الثناء عليه سبحانه بما هو أهله ومستحقه مع الأغماض وقطع النظر عن الإنعام علي الحامد أو غيره، أو العدم مطلقا، وبين مجازات نعمه الجميلة الجليلة بألسنة قصيرة وأزمنة يسيرة يحتاج شکر کل زمان منها إلي أزمنة کثيرة.

وعلي هذا فيستوعب الحمد شکر جميع الشاکرين مع الزيادة ، فإن الصفات الذاتية والنعم التي لم يصل بعد إلي أحد من المخلوقين محامد توجب الحمد لا الشکر.

قال مولانا الصادق عليه السلام علي ما رواه «الکافي»: «ما أنّعم الله علي عبد بنعمة

صغرت أو کبرت فقال : الحمد لله إلا أدي شکرها»(1)

وفي دعاء الصحيفة السجادية : «الحمد لله الذي هدانا لحمده، وجعلنا من

أهله لنکون لإحسانه من الشاکرين» (2)

وفي «کشف الغمة» عن الصادق عليه السلام : «إن أبا جعفر فَقَدَ بغلة له ، فقال : لئن ردها الله لأحمدنه بمحامد يرضاها، فما لبث أنّ أتي بها بسرجها ولجامها، فلما استوي عليها وضم عليها ثيابه رفع رأسه إلي السماء فقال: «الحمد لله» فلم يزد، ثم قال : ما ترکت ولا أبقيت ، شيئا جعلت کل أنّواع المحامد الله عزّ وجل، فما من حمد إلا وهو داخل فيما قلت» (3)

وفي «تفسير الإمام» و«الاحتجاج» عن مولانا أمير المؤمنين عليه السلام أنّه سئل عن تفسير «الحمد لله»، فقال: «هو أنّ الله عرّف عباده بعض نعمه عليهم جملا إذ لا يقدرون علي معرفة جميعها بالتفصيل، لأنّها أکثر من أنّ تحصي أو تعرف، فقال

ص: 263


1- الکافي : ج 96/2 ، وعنه البحار: ج32/71 ، ح 9.
2- صحيفة السجادية الجامعة : ص 209، دعائه عليه السلام إذا دخل شهر رمضان
3- کشف الغمة : ج 319/2 ، وعنه البحار: ج 290/46 ، ح 15، وأخرجه ابن طلحة في مطالب السؤول : ص 81، وأبو نعيم في الحلية : ج 3/ 183 بتفاوت.

لهم : قولوا: الحمد لله علي ما أنّعم به علينا» (1)

وعن مولانا الصادق عليه السلام في معني الحمد، قال : «معناه : الشکر لله وهو المنعم

بجميع نعمائه علي خلقه»(2)

وقال عليه السلام : «من حمده بصفاته کما وصف نفسه، فقد حمده، لأنّ الحمد حاء والميم ودال ، فالحاء من الوحدانية والميم من الملک والدال من الديمومة، فمن عرفه بالوحدانية والملک والديمومة فقد عرفه». .

رواهما القاضي سعيد في «أسرار الصلاة» عنه عليه السلام مرسلا ويأتي الأخير بلفظ

آخر عن السلمي عنه عليه السلام

بل ربما يستفاد من بعض الأدلة وفحاوي الأخبار إختصاص الحمد بالله سبحانه بحيث ليس أحد ممن سواه أهلا لأنّ يحمد کما في «المتهجد» في دعاء يوم الجمعة : «اللهمَّ لک الحمد کما تولت الحمد بقدرتک، واستخلصتَ الحمد لنفسک، وجعلتَ الحمد من خاصتک، ورضيت بالحمد من عبادک ، ففتحت بالحمد کتابک، وختمت بالحمد قضائک، ولم يعدل إلي غيرک، ولم يقصر الحمد دونک، فلا مدفع اللحمد عنک، ولا مستقر للحمد إلا عندک ، ولا ينبغي الحمد إلا لک»(3)

ولعل ذلک الاختصاص لدلالة الحمد علي کون المحامد ذاتية أصلية قائمة

بالمحمود بقيمومية المطلقة التي لا يشارکها فيه غيره.

ولذا ورد في الخطبة الأميرية الغديرية : «الحمد لله الذي جعل الحمد من غير حاجة منه إلي حامديه ، طريقا من طرق الاعتراف بلاهوتيته وصمدانيته وربانيته وفردانيته ، وسببا إلي المزيد من رحمته، ومحجة للطالب من فضله، وکمّن في إبطال

ص: 264


1- تفسير الإمام : ص 11.
2- تفسير القمي : ص 29، وعنه البحار : ج 229/92 .
3- مصباح المتهجد : ص 348، وعنه البحار : ج 129/90 - 130.

اللفظ حقيقة الاعتراف له بأنّه المنعم علي کل حمد باللفظ ، وإن عظم»(1)

فجعله طريقا من طرق الاعتراف بالألوهية دليل علي اختصاصه مطلقا أو

علي بعض الوجوه به سبحانه .

والمراد بقوله: «وکمّن في إيطال اللفظ» الإشارة إلي أنّه سبحانه قد أنّزل الحقائق الکلية من الخزائن الغيبية إلي العوالم النازلة الناسوتية بکسوة الألفاظ والحروف الصوريّة ، فسهّل بذلک حمده وذکره علي قاطبة البريّة.

ثم إنّه قد ظهر ممّا مرّ أنّ الحمد من الالفاظ الجامدة الموضوعة، نعم ربّما يقال : إنه مشتق من المدة (بالفتحات) وهي صوت التهاب النار، حيث إن العبد بعد مشاهدة النعماء الغير المتناهية يشتغل في قلبه نيران المحبة، فيستنير بنور معرفته الجنان وينطبق بحمده اللسان.

وإمّا من الحُمادي کحُباري بمعني الغاية والنهاية ، ومنه الخبر: حُماديات

النساء غضّ الطرف» (2)

أي غاياتهن ومنتهي ما يحمد منهم غضّ الطرف عمّا حرّم الله ، وذلک أنّ الحمد منتهي مقصد القاصدين، واجتهاد المجتهدين، سيّما مع توقفه علي معرفة المنعِم بالنعمة، وانبساط يديه بالرحمة.

والحقّ أنّ اشتقاقه منهما تکلّف مستغنيً عنه ، بل لعلّ المعنيين مأخوذان منه علي ضرب من الإشتقاق، وإن کان فيه إشعار بالمعنيين، سيما مع إضافته إلي الله ، کما أنّه مشتقّ بالاشتقاق المعنوي من الصفات الربانية والنعوت الکمالية .

ص: 265


1- مصباح المتهجد : ص 524، وأخرجه المجلسي قدس سره في البحار: ج 97/ 113، عن مصباح الزائر الفصل السابع.
2- الاحتجاج : ج167/1، ط بيروت وعنه البحار: ج151/32 ، وهذه الکلمة من کلام أم سلمة بنت أمية قالتها لعائشة لما أزمعت الخروج إلي البصرة.

کما رواه السلمي في «الحقائق» عن مولانا ومولي الخلائق جعفر بن محمد الصادق عليه الصلاة والسلام أنّه قال : «الحمد ثلاثة أحرف الحاء والميم والدال. فالحاء: من الوحدانية، والميم: من الملک، والدال : من الديمومية، فمن قال : الحمد لله ، فقد وصف الله بالوحدانية والملک والديمومة». .

ولعل الوجه فيه أنّ الحمد التامّ الکامل الذي يفوق جميعَ المحامد ماکان المحمود فيه کاملاً تاماً في جميع الصفات الذاتية والفعلية، والوحدانية إشارة إلي کماله في صفاته الذاتية التي هي عين ذاته تعالي بلا مغايرة حقيقية واعتبارية، وإلا لا نثلمت الوحدانية، فإن کمال التوحيد نفي الصفات عنه بدليل أنّ کل صفة غير الموصوف وکل موصوف غير الصفة.

وأما الصفات الفعلية لم تکن قديمة عين الذات ولا شريکاً له مع الذات، بل حادثة بحدوث الفعل والمفاعيل کانت ملکاً له، فلذا عبر عنها به، وحيث إن فيضه عز وجل في صقع الإمکان والحدوث لا يزال ولم يزل، إذ کل يوم هو في شأنّ، ولا يشغله شأنّ عن شأنّ ، فلذا استحق المحامد الجميلة الجليلة خلود دوام ربوبيته وهو المشار إليه بالديمومية.

تبصرة عرفانية

روي السيّد الجليل اين طاووس في «سعد السعود» نقلاً عن النقاش مسنداً

إلي ابن عباس قال : قال لي علي عليه السلام :

ص: 266

«يا بن عباس ! إذا صليتَ الآخرة، فالحقني إلي الجبانة»، قال : فصلّيت ولحقته، وکانت ليلة مقمرة ، فقال لي: «ما تفسير الألف من الحمد جميعاً ؟» قال : فما علمت حرفاً أجيبه ، قال : فتکلم في تفسيرها ساعة تامة، ثم قال لي: «ما تفسير اللام من الحمد ؟» قال : فقلت : لا أعلم ، قال : فتکلّم في تفسيرها ساعة تامّة، ثم قال : «ما تفسير الحاء من الحمد؟» قال : فقلت، لا أعلم، فتکلّم في تفسيرها ساعة تامة، ثم قال : «ما تفسير الميم من الحمد ؟» فقلت: لا أعلم، فتکلم في تفسيرها ساعة، ثم قال «فما تفسير الدال من الحمد؟ » قلت: لا أدري ، فتکلم فيها إلي أنّ برق عمود الفجر، قال : فقال : «قم يا بن عباس إلي منزلک فتأهّب لفرضک، فقمت وقد وعيت کلما قال، قال : ثم تفکرت فإذا علمي بالقرآن في علم علي عليه السلام کالقرارة في المثعنجر، قال : والقرارة : الغدير، والمثعنجر: البحر(1)

أقول : في «القاموس»: المثعنجر بفتح الجيم وسط البحر، وليس في البحر

ماء يشبهه.

وقول ابن عباس وذَکَر علياً عليه السلام : علمي إلي علمه کالقرارة في المثعنجر، أي

مقيساً إلي علمه کالقرارة موضوعة في جنب المثعنجر، انتهي.

وفيه : القرارة بالضم ما بقي في القدرة، أو ما لزق بأسفلها من مرق أو حطام،

والقرارة مثّلثة الماء البارد الذي يصبّ في القدر.

قلت : فتفسيرها بالغدير ليس علي ما ينبغي، بل التشبيه ليس في محله ولو بالقطرة والذرة، والصواب ترک النسبة ، بل الإنتساب ، فأين التراب وأبو تراب ؟ ولو کانت بينهما نسبة لتکلّم ابن عباس بحرف واحد، أو بکلمة واحدة، مع أنّ ما تکلّم عليه السلام به في تلک الليلة مع ضيق الوقت إنما هو علي قدر فهمه وحسب مقامه ،

ص: 267


1- سعد السعود : ص 284، وعنه البحار: ج 104/92 .

لأنّهم مأمورون بتکلّم الناس علي قدر عقولهم.

ولذا قال ابن عباس : «فقمت وقد وعيت کل ما قال»، وإلا فهو کان قادراً علي استخراج جميع العلوم والمعارف والأحکام المتعلقة بالإمکان والأکوان من الحقائق التکوينية والعلوم التشريعية من کلمة واحدة بل من حرف واحد.

ولذا قال عليه السلام : «لو شئت لأوقرت سبعين بعيرأ من تفسير باء بسم الله».

وفي خبر آخر: «من تفسير فاتحة الکتاب» رواه الشهيد في «أسرار

الصلاة»(1)

وقال أبو جعفر الباقر عليه السلام : «لو وجدت لعلمي الذي آتاني الله حملة لنشرت التوحيد والإسلام والإيمان والدين والشرايع من الصمد، وکيف لي بذلک ولم يجد جدي أميرالمؤمنين عن حملة لعلمه حتي کان يتنفس الصعداء (2) ويقول علي المنبر: «سلوني قبل أنّ تفقدوني» فإن بين الجوانح مني لعلما جما ، هاه هاه ألا لا أجد من يحمله، ألا وإني عليکم من الله الحجة البالغة «فلا تتولوا قوما غضب الله عليهم قد يئسوا من الآخرة کما يئس الکفار من أصحاب القبور»(3)

وبالجملة، فالحروف والکلمات لها مراتب ودرجات وأطوار علوية وسفلية ، مجردة ومادية ، جبروتية وملکوتية وناسوتية، والمدرک منها بالمشاعر الظلمانية المادية الناسوتية هو المترل منها إلي هذا العالم الجسماني بالصور اللفظية والکتبية ، فما يري سواد العين إلا سواد المداد بالألحاظ ولا تسمع الأذن إلا الأصوات والألفاظ، وأنّي لهما الدخول في حريم هذه المعاني والاستقصاء عما لها من المباني من العالي والداني.

ص: 268


1- بحار الأنّوار : ج 103/92عن «أسرار الصلاة».
2- الصعداء - بضم الصادر وفتح العين - التنفس الطويل من أو تعب .
3- بحار الأنّوار: ج225/3، 15. والآية بلا لفظ الغاء في سورة الممتحنة : 24.

وأما العقل الإنساني فقد ابتلي بالتقيد عن التجرد، واحتجب عن مشاهدة الأنّوار الملکوتية بالحجب الناسوتية ، فوقع من القرية في الغربة ، مع أنّ کل شيء لا يدرک ما فوق عالمه، ولا يتجاوز عن معالمه، وکيف يدرک العقل الجزئي الحقائق الکلية إلا بعد الوصل الکلي، بقطع جبل الإنيّة، والتجرد عن العلايق الجسمانية والخروج من هذه القرية الظالم أهلها، وبعد ذلک فمعرفته علي قدر رتبته ودرجته، فإن من عرف قدره لا يتعدّي طوره.

ولذا لو أنّزل الله هذا القرآن علي ما هو عليه من قدس ملکوته وعز جبروته (1)ولذا أتي بما يشار به إلي القريب، تنبيهاً إلي أنّه بعد باق علي علوه ورفعته علي جبل عظيم من الجبال التي هي مظاهر العظمة في هذا العالم الجسماني، أو علي جبلة من جبلات الإنية الواقعة في صقع النفوس ( لرأيته

خاشعاًمتصدعاً من خشية الله) لعدم صبره وتحمله وثباته ، ولذا أنّزله الله تبارک وتعالي يکسوة الألفاظ والحروف التي هي أمثلة وأظلة للحقائق الکلية (وتلک الأمثال نضر بها للناس لعلهم يتفکرون) (2) فيصلون بالألفاظ إلي المعاني، ومن المعاني إلي المباني ومن المباني إلي النور الشعشعاني، أعني معرفة البشر الثاني .

نفحات قدسية

ينقسم الحمد باعتبار الحامد إلي : حقّي، وحقيقي، وخلقي، وإطلاقي. فالحقي من حيث الذات : هو الهوية الغيبية التي ليس لها إسم ولا رسم ولا

ص: 269


1- مقتبس من الآية (21) من سورة الحشر : (لو أنّزلنا هذا القرآن علي جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله )
2- الحشر : 21.

نعت ولا وصف، وبذلک أثني علي ذاته بذاته ، فثناؤه ذاته، وذاته ثناؤه، فامتنع بعزّ قدسه من أنّ تناله الأوهام، أو أنّ تصل إلي معرفته ثواقب العقول والأفهام.

ومن حيث الفعل هو المشية الکلية، وهو الفعل الذي خلقه بنفسه واسکنه في ظله، وهو في صقع الإمکان والأکوان، حقيقة الحقائق ومبدء المباديء، وأصل الأصول، وأسطقسّ الأسطقسّات، فالثناء علي الله تعالي بعد ثنائه علي ذاته لا يکون إلا في مظهر من المظاهر الکونية، فأعلي المظاهر أجلاها وأسناها ثناءاً علي الله.

وحيث إنّ المشيّة الکونية والإمکانية أعلي المظاهر وأول الأوائل في عالم الأکوان والإمکان، کان هذا الحمد أرضي الحمد له، وأفضل الحمد عنده، وأحقّ الحمد لديه، وأحبّ الحمد إليه ، کما في دعاء يوم الإثنين (1)

ثم إنّ الحمد الحقي في مقام الفعل هو بعينه الحمد الحقيقي في مقام الذات ، وإن کان هناک تغاير بحسب الاعتبار، فإنّ ذات المشيّة هو فعل الرب سبحانه وهو إيداعه وإرادته کما أشار إليه مولانا الرضا عليه السلام .

فالحمد الحقيقي ينقسم إيضاً إلي ذاتي هو ما سمعت، وإلي فعلي وهو دوام توجهه وافتقاره وانقطاعه إلي الله سبحانه بالتضرع والسؤال والابتهال والاستمداد التحصيل الاستعداد ، وهو الحمد الذي يصل إليه أوله ، ولا ينقطع آخره، لم يجعل له أمداً، ولا ينفد أبداً، وهو الذي أشار إليه في الدعاء

حمداً دائماً يدوم ما دام سلطانک، ويدوم ما دام وجهک، ويدوم ما دامت جنتک، ويدوم ما دامت نعمتک، ويدوم ما دامت رحمتک، حمداً يصعد ولا ينفد، يبلغک أوله ولا ينقطع آخره ، حمداً سرمداً لا يحصي عدداً ولا ينقطع أبداً» (2)

ص: 270


1- مصباح المتهجد : ص 217، وعنه البحار : ج 174/90 .
2- البلد الأمين ص82. مصباح المتهجد : ص 343، دعاء يوم الجمعة .

کما أنّ الحقيقي الذاتي هو المشار إليه بقوله : «ففتحت بالحمد کتابک(1)

بناء علي أنّ المراد بالکتاب هو الکتاب التکويني أو الإمکاني، وإن کان ابتداء الکتاب التدويني به أيضاً ، وبقوله: «حمداً سعة علمک ومقدار عظمتک وکنه قدرتک ومبلغ مدحک ومداد کلماتک ...» (2)

وأما الحمد الخلقي فيکون أيضاً في مقام الذات وفي مقام الفعل، فالذاتي يشترک فيه جميع العالم من حيث التحقق والوجود، وإن کان بين أفراده من الاختلاف ما لا يحصي ولا يستقصي کاختلاف ذوات الذرات في السلسلة الطولية والعرضية وهو المعبر عنه بالتسبيح الذاتي المشار إليه بقوله (يسبح لله مافي

السموات وما في الأرض ) (3). (وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولکن لا تفقهون تسبيحهم ) (4)

لکن التسبيح المذکور في الآيتين وغيرهما يراد به مضافاً إلي ما ذکر من التسبيح الفطري الذاتي، التسبيح الشعوري الاختياري التکليفي الذي نطقت به الآيات والأخبار حسبما يأتي بيانه إن شاء الله.

ولذا قال سبحانه: (ألم تر أنّ الله يسجد له من في السموات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وکثير من الناس

وکثير حق عليه العذاب )(5)

فإنه نسب السجود إلي غير الناس علي سبيل الکلية وإليهم علي وجه

ص: 271


1- نفس المصدر .
2- بحار الأنّوار : ج 130/90 ، دعاء الجمعة .
3- الجمعة ، والتغابن : 1.
4- الإسراء : 44.
5- الحج : 18.

الجزئية، وهذا هو السجود الاختياري والتکليف الشعوري الإرادي.

وأما التسبيح الفطري الذاتي فيشترک فيه جميع الأشياء والأکوان مما دخل في صقع الإمکان أو في بقعة الوجود حتي أنّ الکافر والمشرک في حال کفره وشرکه موحد لله تعالي مسبح له، ولذا قيل بالفارسية:|

عين إنکار کافر إقرار أست».

وقيل أيضاً:

هر گياهي که از زمين رويد وحده لا شريک له کويد وفي الجامعة الصغيرة»: «يسبح الله بأسمائه کل شيء». .

وذلک لأنّ کل ما دخل في عالم الوجود من الأکوان والأعيان والمجردات والماديات والفلکيات والعنصريات والجمادات والنباتات والحيوانات فهو ينادي بأعلي صوته بل بجميع ألسنة وجوده بأنّي عبد عاجز مصنوع لا أقدر علي شيء ولا أملک لنفسي شيئاً، بل لست بشيء وإن لي رباً قادراً ، عالماً، قيوماً، حياً ، قديماً ، جامعاً لصفات الکمال ونعوت الجلال وإنه شياني بمشيته وأوجدني بقدرته وأفاض عليَّ من رحمته، وأقامني بأمره قيام صدور وظهور، بحيث لو قطع فيضه عني لکنت عدماً محضاً، وهذه المقالة مما جرت عليها ألسنة جميع الذرات والکائنات من جميع جهات وجودها وکينونتها في جميع الأدوار والأکوار والأطوار والأوطار، فقد ملأ الدهر قدسه لا يري فيه نور إلا نوره، ولا يسمع فيها صوت إلا صوته کما في الدعاء

وأما الحمد الخلقي الفعلي فيکون بالجنان وبالأرکان وباللسان ولذا قيل: «إن الثناء للسلطان باللسان ينجيک من سيف السلطان، ويسلمک من آفة الکفران، وشکر الأرکان ينجيک من درکات النيران، ويبلغک إلي أعلي درجات الجنان، والحمد بالجنان يقربک إلي الرحمن ويشرفک بالعرفان.

ص: 272

وأدني درجات حمده في هذا المقام إنفراد اللسان بالثناء عليه من دون

مواثقة الجنان والأرکان، وربما کان مذمومة لأنّه من شعب النفاق.

وأعلاها وأغلاها وأرفعها في هذه المرتبة توافق الثلاثة ، وإن کان الأصل فيها معرفة المحمود، ووقوع عظمته في القلب، فإن الأرکان حتي اللسان بمنزلة الآلات والأدوات للقلب تجري بحکمه ويترشح عليها ما وقع فيه، فکل إناء بالذي فيه ينضح.

ولذا قال روح الله عيسي علي نبينا وآله وعليه السلام: «إن اللسان يتکلم زوائد القلب، فإذا وقعت في القلب عظمة شخص وکماله وجلاله بادرت الأرکان والألسنة إلي تعظيمة والثناء عليه، حتي ربما تقع لها شبة الإضطرار من شدة البدار ، ولذا اضطرت العقول بالاستکانة لديه ونطقت الألسن بالثناء عليه ، بل کل رکن من الأرکان، وکل مشعر من المشاعر لسان من الألسنة بل وکذا الأوصاف والأعراض والأحوال والخيالات والخطرات والنبات والأعمال .

وأما الحمد الإطلاقي فهو العام التام الکامل الشامل لجميع ما ذکرناه وما لم

نذکره، مما لم يثبت في الدفاتر، ولم يجر علي الخواطر.

وإلي ما ذکرناه من مراتب الحمد إشارة بقوله صلي الله عليه وسلم في الدعاء: (الحمد لله کلما حمد الله شيء، وکما يحب الله أنّ يحمد، وکما هو أهله، وکما ينبغي لکرم وجهه وعز جلاله»(1)

فقوله «الحمد لله» إشارة إلي الحمد الإطلاقي العمومي الشامل لجميع المحامد، ولذا قال مولانا الباقر عليه السلام في الخبر المتقدم(2) بعد وجدان البغلة : «الحمد

ص: 273


1- بحار الأنّوار : ج 44/86، في ما يستحب عقيب الصلاة .
2- کشف الغمة : ج 319/2 .

الله» ولم يزد، ثم قال: «ما ترکت ولا أبقيت شيئاً جعلت کل أنّواع المحامد لله

عزّوجل فما، من حمد إلا وهو داخل فيما قلت».

وقوله «کلما حمد الله شيء»، إشارة إلي الحمد الخلقي الشامل لمحامد جميع المخلوق في رتبة المفعول بجميع أدواتهم ومشاعرهم وألسنتهم وأرکانهم ولغاتهم وأحوالهم.

وقوله «وکما يحب الله أنّ يحمد»، إشارة إلي الحمد الخلقي الذاتي أو الحقيقي، فإنهما في رتبة واحدة وإن کانا متغايرين بالاعتبار، وجعله أثراً للمحبة لکونه من آثار المشية التي هي المحبة الکلية الأصلية المشار إليها بقوله:

«کنت کنزاً مخفياً فأحببت أنّ أعرف فخلقت الخلق کي أعرف»(1)

فعبر فيه عن الوجود المطلق الذي هو الواسطة بين الوجود الحق وهو الکنز المخفي أي المجهول المطلق، وبين الوجود المقيد وهو الخلق بالمحبة التي هي جذبة التوحيد ومقام التفريد، والآخذ بناصية کل شيء، فهو راجع إليها رجوع

الفيء (أو لم يروا إلي ما خلق الله من شيء يتقيؤ ظلاله عن اليمين والشمائل سجدة لله وهم داخرون ) (2)

وقوله «وکما هو أهله»: إشارة إلي الحمد الحقيقي الذاتي الحقي الفعلي الذي قد عرفت سابقاً إتحادهما أيضاً من وجه، وإن تغايرا من وجه آخر، فإن فعله سبحانه أهل له، وهو أهل لفعله، وهذا التأهل إنما هو في مقام الفعل لا الذات.

وقوله «وکما ينبغي لکرم وجهه وعز جلاله»، إشارة إلي الحمد الحقي الذاتي

ص: 274


1- الحديث مشهور تارة نسب الي داود النبي عليه السلام وأخري نسب إلي النبي الأعظم صلي الله عليه وسلم ولکن قال السيوطي في الدرر المنثره ص193: لا أصل له ، وقال ابن العربي في الفتوحات ج ص 299: الحديث صحيح عن النبي صلي الله عليه وسلم کشفاً لا نقلاً .2
2- النحل : 48.

في مقام الواحدية لا الأحدية التي هو الغيب المطلق، فله في مقام الواحدية الظهور بالصفات الکمالية من الجمالية والجلالية.

فقوله «لکرم وجهه» إشارة إلي ظهوره بالصفات الکمالية من العلم والقدرة والحياة والقدم وغيرها، «وعز جلاله» إشارة إلي تقدسه عن کل ما يعد في النقصان أو ينتهي إلي رتبة الإمکان.

فانظر کيف أطلق الحمد أولاً بالإطلاق الشمولي الإحاطي، ثم فصّله في مراتبه ودرجاته متدرّجاً من الأدني إلي الأعلي ، کما هو القانون في التوجهات والأسفار والترقيات الواقعة في عالم المواد، وصقع الاستعداد (إليه يصعد الکلم

الطيب والعمل الصالح يرفعه) (1)

ثم بعد تفصيل المراتب في المقامات الأربعة التي هي الأرکان الأربعة لعرش المعرفة والتقديس، وهي التسبيح والتهليل والتحميد والتکبير، فضل بعد الإجمال وأجمل بعد التفصيل فقال : وسبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أکبر علي کل نعمة أنّعم بها علي وعلي کل أحد من خلقه ، ممن کان أو يکون إلي يوم القيامة (2)

ثم اعلم أنّ الثناء الواقع من کل أحد لله سبحانه إنما هو علي حسب مقامه ورتبته وقابليته واستعداده والله سبحانه منزه عن کل ذلک، فإنه قد انتهي المخلوق إلي مثله وألجأه الطلب إلي شکله، وانّي له والثناء علي الله بما هو أهله ومستحقه إلا بمجرد إطلاق القول بذلک والحوالة علي ما هنالک، ولذا ورد في الدعاء:

الحمد لله کما هو أهله ومستحقه». . وقال أشرف الأنّبياء والمرسلين صلي الله عليه وآله وعليهم أجمعين :

سبحانک لا أحصي ثناءً عليک أنّت کما أثنيت علي نفسک» (3)

ص: 275


1- فاطر : 10.
2- بحار الأنّوار : ج /8644.
3- بحار الأنّوار : ج 23/71 .

وذلک لأنّ الخلق وإن بالغ في السعي والاجتهاد وأتي بما في وسعه من القوة والاستعداد، فلا يمکن له الخروج من حدود الإمکان المحفوف بالقصور والنقصان في جميع العوالم من الإمکان والأعيان والأکوان، فمن أين له الإحاطة بکمال

الواجب ( سبحانه و تعالي عما يقولون علواً کبيراً) . فالعجز عن درک الإدراک إدراک والخوض في طلب الإدراک إشراک

ولذا نزّهه عن أوصافهم وتوصيفاتهم في قوله :(سبحان الله عما

يصفون )(1)

ثم استثني توصيف عباده الذين يصفونه بما وصف به نفسه بقوله : (إلا عباد الله المخلصين)(2)وتوصيفهم هو الذي أشار إليه في الآية التالية : (سبحان ربک رب العزة ) الغلبة والکبرياء (عما يصفون وسلام علي المرسلين ) الذين يصفونه بما وصف به نفسه وهو قولهم : ( والحمد لله رب العالمين ) (3)

ورد في النبوي أنّه دعوة أهل الجنة (4) کما في الآية (5)

وفي «الاحتجاج» عنه صلي الله عليه وسلم : «إذا قال العبد الحمد لله أنّعم الله عليه بنعيم الدنيا موصولاً بنعيم الآخرة وهي الکلمة التي يقولها أهل الجنة إذا دخلوها وينقطع الکلام الذي يقولونه في الدنيا ما خلا «الحمد لله» وذلک قوله : (وآخر دعواهم أنّ الحمد الله رب العالمين ) (6)- (7)

ص: 276


1- الصافات : 159.
2- الصافات : 160.
3- الصافات : 180 - 183.
4- تفسير العياشي: ج 1 / 23.
5- يونس: 10.
6- يونس : 10.
7- بحار الأنّوار : ج 9/ 295، ح 5.

وأما حمده سبحانه علي نعمه وآلائه فمع توقفه علي معرفة المنعم موقوف علي العلم التفصيلي بالنعم وأجناسها وأنّواعها وأصنافها ومباديها وأسبابها وغاياتها وافتراقاتها في إيداع فؤاده، وخلق عقله، وروحه ونفسه، وطبيعته ومزاجه، ومثاله وعنصره، وجسمه وجسده ، وأعضاؤه وأخلاطه، وقواه ومشاعره، وظاهره وباطنه ، وسره وعلانيته، وأغذيته الروحانية والجسمانية، وملاحظة مباديها ونزولها من البحر الذي هو تحت العرش بأيدي الملکة الحفظة الکرام، من الذاريات، والحاملات والجاريات، والمُقسِّمات، والمدبِّرات، وغيرها من عمّال الکائنات والمکوّنات ، وعبورها من أطباق السموات إلي أنّ حملتها الرياح، ثم السحاب، ثم الهواء، ثم الأرض، ثم النبات، ثم الحيوانات وماله فيما بين ذلک من الکيموسات والکيلوسات والاستحالات والتنقلات، والإشراقات والإمدادات والإفاضات والقرانات والمقابلات والمزاحمات والمدافعات.

فمن أين للعبد الذليل الضعيف المسکين المستکين أنّ يشکر واحدة من نعمه الکثيرة الجميلة الجزيلة الجليلة التي لاتحصي ولا تستقصي، ولذلک أفرد النعمة في قوله : ( وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ) (1)أي من حيث الشکر عليها من حيث المبادي والأسباب وغيرها مما ذکرناه ومما لم نذکر.

ومن هنا قال مولانا سيد الشهداء صلي الله عليه وعلي الأرواح التي حلت

بفناءه في دعائه يوم عرفة بعد الإشارة إلي جملة من نعمه سبحانه :

«فأي نعمک يا إلهي أحصي عدداً وذکراً ، أم أي عطاياک أقوم بها شکراً ؟ وهي يا رب أکثر من أنّ يحصيها العادّون أو يبلغ علما بها الحافظون، ثم ما صرفتَ ودرأتَ عني، اللهم من الضرّ والضراء أکثر مما ظهر لي من العاقبة

ص: 277


1- يونس : 10.

والسراّء، وأنّا أشهد يا إلهي بحقيقة إيماني، وعقد عزمات يقيني، وخالص صريح توحيدي، وباطن مکنون ضميري، وعلائق مجاري نور بصري، وأسارير صفحة جبيني، وخرق مسارب نفسي، وخذاريف مارن عرنيني، ومسارب صماخ سمعي، وما ضمّت وأطبقت عليه شفتاي، وحرکات لفظ لساني، ومغرز حنک فمي وفکي، ومنابت أضراسي، وبلوغ فارغ حبائل عنقي، ومساغ مأکلي ومشربي، وحمالة أم رأسي، وحمائل حبل وتيني، ما اشتمل عليه تامور صدري ، ونباط حجاب قلبي ، وأفلاذ حواشي کبدي، وما حوته شراسيف أضلاعي ، وحقاق مفاصلي، وأطراف أنّاملي، وقبض عواملي، ولحمي ودمي وشعري وبشري وعصبي وقصبي وعظامي ومخي وعروقي وجميع جوارحي، وما اننسج علي ذلک أيام رضاعي، وما أقلت الأرض مني، ونومي ويقظتي وسکوني وحرکتي، وحرکات رکوعي وسجودي، أنّ لو حاولت واجتهدت مدي الأعصار والأحقاب لو عُمِّرتها أنّ أؤّدي شکر واحدة من أنّعمک ما استطعت ذلک إلا بمنّک الموجب علي شکراً آنفاً جديداً، وثناءاًطارفاً عتيداً، أجل ولو حرصت أنّا والعادّون من أنّامک أنّ نحصي مدي إنعامک سالفه وأنّفه لما حصرناه عدداً ولا أحصيناه أبداً، هيهات آنّي ذلک وأنّت المخبِر عن نفسک في کتابک الناطق والنبأ الصادق : (وإن تعدّوا

نعمة الله لا تحصوها ) (1) -(2)

وإنما ذکرناه بطوله لما فيه من الشهادة بجميع أعضائه وجوارحه وظاهره وباطنه علي قصوره من أداء شکر نعمة واحدة من نعمه سبحانه ، فإذا کان مولانا سيد الشهداء روحي له الفداء عاجزاً عن ذلک ، فما ظنک بغيره؟

ص: 278


1- ابراهيم : 34.
2- بحار الأنّوار : ج 218/98 .

بل غاية المطلوب منّا إنما هو الاعتراف بالعجز والقصور، بل التفاوت في الدرجات واختلاف مراتب الممکنات إنما هو بحسب اختلاف معرفتهم وتصديقهم بالعجز عن ذلک واعترافهم بذلک وهو التحقق بمقام العبودية والإذعان بالعجز عن إحصاء شؤون الربوبية.

درّة بَيضاً في حقيقة اللواء

إعلم أنّ اللواء بالهمزة واللواي واللواية بالياء بدون الهاء ومعها، بمعني العَلَم

بالفتحتين أو العلم الکبير.

وقد تظافرت الأخبار بل تواترت بأنّه أعطي نبينا محمد صلي الله عليه و آله

لواء الحمد وهو حامله.

وفي أکثر الأخبار أنّ حامله مولانا أميرالمؤمين وأنّ آدم ومن دونه من

الأنّبياء والمرسلين تحت هذا اللواء

ولم أر لأحد من العلماء الأعلام رفع الله قدرهم في دار السلام کلاماً في هذا المرام، فلا باس بالإشارة إلي بعض الأخبار في المقام ثم التعرض لبعض المقاصد التي يصل إليها أکثر الأفهام، فإنه ليس کل ما يعلم يقال، ولا کل ما يقال حضر له رجال، ولا کلما حضر له رجال حان له المجال.

ففي «العيون» عن مولانا الرضاعليه السلام قال : «قال رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم : يا علي ! أنّت أول من يدخل الجنة وبيدک لوائي، وهو لواء الحمد، وهو سبعون شقة الشقة منه أوسع من الشمس والقمر» (1)

وفيه عنه صلي الله عليه وآله وسلم : «يا علي! إني سألت ربي فيک خمس خصال فأعطانيها ،

ص: 279


1- العيون : ص 168، وعنه البحار : ج4/8.

أحدها أنّ يجعلک حامل لوائي، وهو لواء الله الأکبر مکتوب عليه المفلحون هم الفائزون بالجنة»(1)الخبر.

وفي «المناقب» عن مقاتل، والضحاک ، وعطاء، وابن عباس في قوله تعالي : (ومنهم) أي من المنافقين (من يستمع إليک )وأنّت تخطب علي منبرک تقول :

إن حامل لواء الحمد يوم القيامة علي بن أبي طالب ( حتي إذا خرجوا من عندک) تفرقوا (قالوا للذين أوتوا العلم ماذا قال آنفاً) علي المنبر استهزاء بذلک کأنّهم لم يسمعوا، ثم قال : وأولئک الذين طبع الله علي قلوبهم ) (2) (3)

وفي «العدل»: «يا علي! أنّت أول من يدخل الجنة، فقلت : يا رسول الله أدخلها قبلک ؟ قال : نعم، لأنّک صاحب لوائي في الآخرة کما أنّک صاحب لوائي في الدنيا وحامل اللواء هو المتقدم ثم قال عليه السلام : يا علي ! کأنّي بک وقد دخلت الجنة وبيدک لوائي وهو لواء الحمد تحته آدم فمن دونه (4)

وفي «تفسير فرات بن إبراهيم» عنه صلي الله عليه وسلم : «إني أعطي يوم القيامة أربعة ألوية فلواء الحمد بيدي، وأدفع لواء التهليل لعلي ، وأوجهه في أول فوج وهم الذين يحاسبون حسابا يسيرا، ويدخلون الجنة بغير حساب عليهم، وأدفع لواء التکبير إلي حمزة، وأوجهه في الفوج الثاني، وأدفع لواء التسبيح إلي جعفر، وأوجّهه في الفوج الثالث، ثم أقيم علي أمتي أشفع لهم ثم أکون أنّا القائد وإبراهيم السائق حتي أدخل أمتي الجنة»(5)

استان

ص: 280


1- العيون : ص 198 ، وعنه البحار : ج4/8.
2- سورة محمد صلي الله عليه وسلم : 16.
3- المناقب : ج 21/2 ،وعنه البحار: ج 213/39.
4- علل الشرائع ص 68 وعنه البحار ج 39 ص 217 ح 9.
5- تفسير فرات ص206 وعنه البحار ج 8 ص 7ح 11.

وفي «الأمالي» بالإسناد : إن رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم : آخا بين المسلمين ثم قال : «يا علي أنّت أخي وأنّت مني بمنزلة هارون من موسي غير أنّه لا نبي بعدي، أما علمت يا علي أنّه أول من يدعي به يوم القيامة يدعي بي، فأقوم عن يمين العرش فأکسئ حلة خضراء من حلل الجنة، ثم يدعي بأبينا إبراهيم فيقوم سماطين عن يمين العرش في ظله فيکسئ حلة خضراء من حلل الجنة، ثم يدعي بالنبيين بعضهم علي اثر بعض، فيقومون (1)سماطين عن يمين العرش في ظله، ويکسون حللاً خضراء من حلل الجنة، ألا وإني أخبرک يا علي إن أمتي أول الأمم يُحاسبون يوم القيامة، ثم أبشرک يا علي إن أول من يدعي يوم القيامة يدعي بک هذا لقرابتک مني ومنزلتک عندي ، فيدفع إليک لوائي وهو لواء الحمد فتسير به بين السماطين ، وإن آدم وجميع من خلق الله يستظلون بظل لوائي يوم القيامة ، وطوله مسيرة ألف سنة، سنانه ياقوتة حمراء، قصبه فضة بيضاء، زجه(2) درة خضراء، له ثلاث ذوائب من نور، ذوابة في المشرق، وذوابة في المغرب، وذوابة في وسط الدنيا ، مکتوب عليها ثلاث أسطر : السطر الأول «بسم الله الرحمن الرحيم»، والآخر «الحمد لله رب العالمين» والثالث

لا إله إلا الله محمد رسول الله»، طول کل سطر مسيرة ألف سنة، وعرضه مسيرة

ألف سنة ، فتسير باللواء والحسن عن يمينک، والحسين عن يسارک حتي تقف بيني وبين إبراهيم في ظل العرش فتسي حلة خضراء من حلل الجنة، ثم ينادي مناد من عند العرش : نعم الأب أبوک إبراهيم، ونعم الأخ أخوک علي ، ألا وإني أبشرک يا علي إنک تدعي إذا دعيت وتکسي إذا کسيت و تحيي إذا حييت (3)

إلي غير ذلک من الأخبار الکثيرة.

ص: 281


1- السماط (بکسر السين المهملة) : الشيء المصطف .
2- الزج (بضم الزاي) : الحديدة التي في أسفل الرمح
3- أمالي الصدوق ص 195 وعنه البحار ج 8 ص 1ح 1.

والإشارة الإجمالية أنّک قد سمعت أنّ الحمد الحقي الفعلي هو الحقيقي الذاتي الذي هو المشية الکلية ، والحقيقية المحمدية ، وإسمه في السماء أحمد، وفي الأرض محمد کما في الخبر يعني أنّ إسمه في سماء الرفعة والوجود والإقبال والإستفاضة هو احمد بزيادة الألف في أوله للإشعار إلي مقام الإقبال وشدة التوجه والتجريد والانغماس في بحر التوحيد ولذا أفاد معني التفضيل فإنه خير مظهر ومظهر أول للمحامد الربانية فظهر به مجده وثنائه، وتجلي فيه قدسه وبهاؤه، تجلي له ربه فأشرق، وطالعه فتلألأ، وألقي في هويته مثاله فأظهر عنه أفعاله.

وفي أرض الإنوجاد والإمکان والإدبار والإفاضة علي غيره هو محمد بزيادة الميمين إشارة إلي المقام المخصوص به صلي الله عليه وسلم دون علي عليه السلام وهو طوافه حول جلال القدرة ثمانين ألف سنة.

کما في خبر جابر الأنّصاري عنه في تفسير قوله تعالي : ( کنتم خير امة اخرجت للناس)(1)، قال صلي الله عليه وسلم : «أول ما خلق الله نور نبيک يا جابر ابتدعه عن نوره وإشتقه من جلال عظمته، فأقبل يطوف بالقدرة حتي وصل إلي جلال العظمة في ثمانين ألف سنة، ثم سجد لله تعظيما، ففتق منه نور علي، فکان نوري محيطا بالعظمة، ونور علي محيطا بالقدرة، ثم خلق العرش واللوح والشمس» (2)الخبر وقد مر الکلام في بيان الخبر فلاحظ.

فنبينا صلي الله عليه وسلم مشتق من الحمد علي الوجهين بالاشتقاق اللفظي والمعنوي ليطابق الظاهر الباطن، بل هو مشتق من إسمه سبحانه الحميد والمحمود بالاشتقاق المعنوي، فهو العزيز الحميد، وهذا محمد.

ص: 282


1- آل عمران : 110.
2- بحار الأنّوار ج 25 ص 22 ح 38.

وفي الخبر: «أنّا المحمود وأنّت محمد شققت لک إسما من إسمي»(1)

وإليه أشار أبو طالب (رضي الله عنه) في قصيدته في مدح النبي صلي الله عليه وآله وسلم :

ألم تر

أنّ الله أرسل عبده ببرهانه والله أعلي وأمجد وشق له من إسمه ليجله فذو العرش محمود وهذا محمّد(2)

فالحمد والثناء کله لله وبالله ومن الله إلا أنّه ليس في مرتبة ذاته الأحدية المجردة الذي ليس له إسم ولا رسم ولا وصف ولا نعت، بل إنما هو في مرتبة فعله، وفعله حادث ليس معه قديمة بالقدم الأزلية سبحانه له القوة القوية والقدم الأزلية ، بل القدم المضاف إلي الفعل إنما هو القدم في عالم الإمکان وفي صقع الوجود المطلق والمشية الکلية والحقيقية المحمدية.

کما في الخطبة الغديرية الأميرية علي ما رواه شيخنا أبو جعفر الطوسي له في «المتهجد» بالإسناد عن مولانا الرضا عليه السلام وفيها: «وأشهد أنّ محمدا عبده ورسوله إستخلصه في القدم علي سائر الأمم...

إلي قوله عليه السلام: «وأنّ الله إختص لنفسه بعد نبيه صلي الله عليه وآله وسلم من بريته خاصة علاهم بتعليته وسما بهم إلي رتبته وجعلهم الدعاة بالحق إليه، والأدلاء بالإرشاد إليه لقرن قرن وزمن زمن.

آنشاهم في القدم قبل کل مذروء ومبروء، أنّوارا أنّطقها بتحميده ، وألهمها شکره وتمجيده، وجعلها الحجج علي کل معترف له بملکة الربوبية وسلطان العبودية وإستنطق بها الخرسان بأنّواع اللغات بخوعا (3)نه بأنّه فاطر الأرضين والسموات وأشهدهم خلق خلقه و ولاهم ما شاء من أمره وجعلهم تراجمة مشيته ،

ص: 283


1- أمالي الصدوق ص 213 وعنه البحار 18 ص 338.
2- بحار الأنّوار ج 16 ص 120 وقيل : الشعر لحسان .
3- البخوع : المبالغة في الإذعان والإقرار .

وألسن إرادته ، عبيدا لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون»(1)

وقد ظهر من هذه الخطبة الشريفة کما في الأخبار المتواترة أنّهم هم الفيض الأول، والنور المشرق من صبح الأزل، وأنّ الله أنّشأهم في القدم قبل کل شيء، و ولاهم أمر کل شيء، فظهر بوجودهم محامده الفعلية الأولية، وبوساطتهم لخلق الخلائق ورزقهم و ساير فيوضهم وتجلياتهم نعمة الجليلة الجميلة التي لا تحصي ولا تستقصي علي جميع خلقه، فاللواء هو العلم الذي يرفعه الأمير للشهرة ولظهور النصرة ولتحقق الإمرة، وحيث أنّه صلي الله عليه وآله وسلم هو الواسطة لجميع الإفاضات الربانية والنعم الإلهية ، بل به ظهر مجده وبناؤه ، وقدسه وفعله، وأمره ومشيته ، فهو الظاهر والمظهر والمظهر، وهو المخصوص بلواء الحمد والثناء والمجد والبهاء والقدس وألسناء والنور والضياء والنعمة والعطاء

وأما إن حامله علي عليه السلام فلأنّه صلي الله عليه وآله وسلم مدينة العلم والحکمة وعلي بابها، وقد

قال الله تعالي : (واتوا البيوت من أبوابها ) (2)

ولذا کان صلي الله عليه وآله وسلم صاحب التريل وعلي عليه السلام صاحب التأويل، فإن المراد بالعلم في خبر المدينة الأعم من التکويني والتشريعي ، فلا يصل شيء من الفيوض إلي أحد من الخلايق إلا بواسطته، والخروج من يده ، لأنّه من حجاب القدرة، وطائف حول حجاب العظمة، ورسول الله صلي الله عليه وآله وسلم من حجاب العظمة، وطائف حول حجاب القدرة، وبالجملة فالولاية المطلقة التامة العامة للنبي ، والحامل لتلک الولاية والمتصدي لإحيائها إنما هو مولانا أمير المؤمنين عليه السلام في جميع العوالم التکوينية والتشريعية .

ص: 284


1- مصباح المتهجد ص524وعنه البحار ج 97 ص 113.
2- البقرة : 189.

ولذا يکون تحتها آدم ومن دونه من الأنّبياء والمرسلين والأوصياء

والصديقين والملائکة المقربين صلي الله علي محمد و آله وعليهم أجمعين.

وهذا لضرب من البيان وإلا فتحتها جميع العالم من الدرة إلي الذرة، ومن أعلي عليين إلي أسفل سافلين، بل جميع ما خلق الله سبحانه من ألف ألف عالم، وألف ألف آدم في جميع الأکوار والأدوار والأوطار والأطوار إلي غير ذلک مما لا يعلمه أحد إلا الله العزيز الجبار ولذا قال صلي الله عليه وآله وسلم في خبر «الأمالي»: «إن آدم وجميع من خلق الله يستظلون بظل لوائي يوم القيامة». .

ومن هنا يظهر أنّ الإختصاص والحمل للواء ليس في خصوص الآخرة، بل في الدنيا أيضاً ولذا قال صلي الله عليه وآله وسلم في الخبر المتقدم عن «العدل»: «إنّک صاحب لوائي في الآخرة کما أنّت صاحب لوائي في الدنيا» (1)

نعم ظهور هذا اللواء أعني الولاية المطلقة إنما يکون في الآخرة يوم تبلي السرائر، هنالک الولاية الله الحق، إذ له الملک وله الحمد، هو المالک لما ملکهم، والقادر علي ما عليه أقدرهم.

وأما إن له سبعين شقّة کل شقّة منه أوسع من الشمس والقمر فهو إشارة إلي کماله وتماميته في عالم الإمکان والأکوان، وأنّه ليس له في هذا العالم قصور ولا نقصان ، فإن السبعة هي العدد الکامل ، والنور الشامل من أول الأفراد إلي ثاني الأزواج، ومن أول الأزواج إلي ثاني الأفراد، وظهور انبساطه وترقيه إنما هو بالترقي إلي العشرات، ولذا يعبر به عن الأعداد الکاملة التي لها الغاية القصوي کقوله

(إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم )(2)

ص: 285


1- العلل ص68 وعنه البحار ج 39 ص 217 ح 9.
2- التوبة : 80.

وللنبوي «إنه ليغان علي قلبي وإني لأستغفر الله في کل يوم سبعين مرة»(1)

مع أنّ تعدد الشقة بإعتبار تعدد العوالم، فإن کل شقة منها محيطة بعالم من العوالم، ولذا تکون أوسع من الشمس والقمر في الإحاطة والضياء والبهاء والنور.

بل في کلام بعض السادة الأعلام : أنّه ورد أنّ له سبعين ألف شقة، لکن الخطب سهل بعد ما علم أنّه يعبر عن الکثرة العددية بهذا العدد وإن لم يکن مقصودا بالخصوص کما يعبّر عنها بعدد الألف أيضا، منه ما في خبر «الأمالي» من أنّ طول کل سطر وعرضه ألف سنة (2)

وکأنّه من سني الربوبية الصغري أو الکبري، (وإنّ يوما عند ربک کألف سنة

مما تعدون) (3)وله کل (يوم کان مقداره خمسين ألف سنة)(4).

بل عرض کل من الأسطر الثلاثة وطولها بقدر عالم الأکوان والإمکان، فإن کل شيء من الموجودات رقمت عليه الأسطر الثلاثة بحيث قد إستوعب جميعه من ظاهره وباطنه وملکه وملکوته، بل لا تزاحم بين الأسطر ولا تدافع فيها فکل سطر منها محيط بکله فکل شيء موسوم بسمة الله.

کما عن الرضا عليه السلام في تفسير البسملة (5)

مظهر الثنائه سبحانه ، بل مظهر له بأفصح لسانه دال بجميع وجوده وجهات ظهوره علي توحيد خلقه وتتريهه من سمات الحدوث والنقصان والإقرار بالبابية الکبري، والوساطة العظمي للنورين الأولين القديمين في عالم الکون والإمکان،

ص: 286


1- کشف التوبة ص 254 وعنه البحار ج 25 ص 204.
2- أمالي الصدوق ص 195 وعنه البحار ج 8 ص 1ح 1.
3- الحج: 47.
4- المعارج: 4.
5- معاني الأخبار ص 3 وعنه البحار ج 92ص 230 .

وهما محمد وعلي (صلوات الله عليهما وآلهما) فإن من لم يقر لهما بهذا المقام لم يخرج من غسق الدم إلي عتبة الوجود، والأخبار بذلک کثيرة ، بل يدل عليه أيضا ما ورد من أنّ أسمائهم مکتوبة علي العرش الذي أظهر إطلاقاته في المقام هو جملة العالم.

نعم لو أطلق في مقابلة غيره أريد منه الخصوصية کما في «الإحتجاج» عن

الصادق عليه السلام وفيه ما يدل علي أصل المقصود أيضا قال : «لما خلق الله العرش کتب علي قوائمه : لا إله إلا الله ، محمد رسول الله ، علي أمير المؤمنين، ولمّا خلق الله الماء کتب علي مجراه لا إله إلا الله، محمد رسول الله، علي أميرالمؤمنين، ولما

خلق الله (عزّوجل) إسرافيل کتب علي جبهته : لا إله إلا الله محمد رسول الله ، علي أمير المؤمنين، ولما خلق الله (عزوجل) جبريل کتب علي جناحيه: لا إله إلا الله ، محمد رسول الله ، علي أميرالمؤمنين، ولما خلق الله (عزّ وجل) السموات کتب علي أکتافها : لا إله إلا الله ، محمد رسول الله ، علي أمير المؤمنين، ولما خلق الله (عزّوجل) الأرضين کتب في أطباقها : لا إله إلا الله ، محمد رسول الله، علي اميرالمؤمنين». .

ثم ذکرعليه السلام الجبال والشمس والقمر، ثم قال : «وهو السواد الذي ترونه في القمر، فإذا قال أحدکم : لا إله إلا الله ، محمد رسول الله ، فليقل : علي أمير المؤمنين ولي الله» الخبر (1)

وهذه السطور والأرقام کلها في هذه اللواء ، بل سائر الأشياء کلها مرقومة بقلم النور من مداد السرور في صحيفة الظهور وقد کتبه مولانا أميرالمؤمنين عليه السلام بإملاء رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم من الله سبحانه حين أشهدهم خلقها وولاهم أمرها کما في

ص: 287


1- الإحتجاج ص 83 وعنه البحار ج 27 ص 1ح 1.

الخطبة الأميرية الغديرية المتقدمة (1)وفي خبر محمد بن سنان وغيره فالتوحيد الذي فطر الله عليه الخلق لا يتم إلا بالإسلام الذي هو رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم وبالإيمان الذي هو مولانا أميرالمؤمنين عل ، ولذا يستنطق الإسلام من بينات إسم محمدصلي الله عليه وآله وسلم (2) والإيمان من بينات إسم علي عليه السلام (3) فلا يقبل التوحيد إلا بالإسلام (إن الدين عند الله الإسلام )(4)(ملة أبيکم إبراهيم هو سميکم المسلمين من قبل ) (5)

ولا يقبل الإسلام إلا بالإيمان (يمنون عليک أنّ أسلموا قل لا تمنوا علي

إسلامکم بل الله يمن عليکم أنّ هديکم للإيمان إن کنتم صادقين)(6)

تنبيه

ربما يقال إن قوله : (الحمد لله) يحتمل الأخبار والأمر والابتداء ولعل المراد بالأخير هو الإنشاء لا مطلقه، فإن الأمر نوع منه، بل إنشاء الحمد کالدعاء، فالأولي أنّ يقال : إنه يحتمل الإنشاء والإخبار.

وعلي کل من الوجهين إما بتقدير القول وما معناه ، کإحمدوا وأشکروا

ونحوهما، أولا، فالإحتمالات أربعة.

فعلي الإنشاء هو إنشاء من الله الحمد ذاته بذاته فيتحد الحامد والمحمود

ص: 288


1- مصباح المتهجد ص 524 وعنه البحار ج 97 ص 113.
2- فإن بينات کل منهما بحسب العدد يساوي (132).
3- لأنّ بينة (علي) بحسب لعدد (102) وهو يساوي کلمة (إيمان).
4- آل عمران : 19.
5- الحج : 78.
6- الحجرات : 17 .

والحمد، وإن کان في مقام الواحدية لعدم إيجابه التغاير أو بفعله فيتغاير الحمد الحامد والمحمود.

ويؤيد الإنشاء علي الوجهين أو علي الوجه الثاني خاصة قول النبي صلي الله عليه وآله وسلم : سبحانک لا أحصي ثناء عليک أنّت کما أثنيت علي نفسک» (1)إشارة إلي ذلک إذ هو مع ظهوره في کون الثناء منه سبحانه ، ظاهر في الإنشاء أيضا، وإن أوجب ذلک تعليم غيره أيضا، فإنه لا يوجب انحصار الفائدة فيه، وعلي فرضه لا يستلزم أنّ يکون الکلام مسوقا علي وجه الأمر.

وعلي الثاني لا بد من إضمار، وأنّسبه علي ما قيل : لفظ القول لإقترانه في مواضع کقوله :(وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا) (2)(وقل الحمد لله سيريکم

آيا ته) (3)(قل الحمد لله وسلام علي عباده) (4)

فالمعني قولوا: الحمد لله. أو أنّه حمد من الله علي لسان عبده کقوله : «سمع الله لمن حوله» .

وعلي الأخبار أخبار منه سبحانه بأنّ المحامد کلها منه، وله ، فهو المختص بها، أو أنّ الأمر له کقوله : ( قل إن الأمر کله الله ) (5) بناء علي ما قيل: من أنّ الحمد بمعني الأمر بل عليه يحمل قوله : (فسبح بحمد ربک) (6)

ولعله بناء علي کون الأمر بمعني الشأنّ، ليشمل جميع الشؤون التکوينية

ص: 289


1- الإقبال ص47 - 57 وعنه البحار ج 97 ص 328 وفيه /لا أحصي الثناء عليک ولو حرصت ، وأنّت کما أثنيت علي نفسک سبحانک وبحمدک.
2- الاسراء : 111.
3- النمل : 93.
4- النمل : 59.
5- آل عمران: 159.
6- النصر : 3.

والتشريعية في العوالم کلها، فيرجع إلي إختصاصه سبحانه بالمحامد کلها لکنه علي إضمار القول لما کان العبد عاجزا عن عد نعمه سبحانه (وإن تعدوا نعمة الله لا

تحصوها)(1)وعن الشکر عليها کما هو أهله ومستحقه، فلذا أجمل القول وعمم، فأثبت جميع المحامد الشامل للمحامد الذاتية والفعلية من الحقية والحقيقة والخلقية له سبحانه، وإلا فإحصاء محامده مما لا يطيقه البشر بل لا يطيق شکر نعمة واحدة من نعمه الکثيرة التي لا تناهي

حسب ما سمعت في کلام مولانا سيد الشهداء روحي وروح العالمين له

الفداء(2)

بل في دعاء سجود الشکر للسيد السجاد عليه السلام : «إلهي لو أنّي منذ بدعت فطرتي من أول الدهر عبدتُک دوام خلود ريوبيتک بکل شعرة في کل طرفة عين سرمد الأبد بحمد الخلايق وشکرهم أجمعين لکنتُه مقصّرا في بلوغ أداء شکر أخفي نعمة من نعمک» (3)

وبالجملة فلکون الغرض إفادة الشمول والعموم أتي بالمصدر المعرّف بلام الجنس، أو الاستغراق ، حسب ما تسمع مرفوعا علي الابتداء ، وخبره الله ليدلّ علي الإستيعاب والإستقصاء مضافا إلي إفادته الدوام والثبات، وعدم تقيّده بواحد من الأزمنة مطلقا، بناء علي عدم ثبوت المحامد الذاتية والفعلية له سبحانه قبل خلق الزمان والمکان ، فإنهما من أنّزل مراتب الأکوان والإمکان.

وهذه الفوائد لا تستفاد من المصدر المنکّر إذ المرفوع منه يدل علي ثبوت الفرد الواحد المنتشر علي البدلية، والمنصوب منه مفعول مطلق لفعل محذوف لا

ص: 290


1- النحل : 18.
2- بحار الأنّوار : ج218/98 دعاء عرفة .
3- البحار : ج 90/94 .

يکاد يستعمل معه کقولک سقياً ورعياً، وهو مع إفادته للفرد لکونه مفعولا مطلقا نوعيا، لا توکيدياً لکون مدلوله معرفا باللام زايدة علي مدلول الفعل، ولا عدديا الإنتفاء ما يدلّ عليه يدلّ علي التجدد والحدوث والتقيد بشيء من الأزمنة خاصة .

ولهذه الجملة لم يأت بالجملة الفعلية أيضا، فإنها تدلّ علي ثبوت حمد خاصّ عن حامد واحد في واحد من الأزمنة، وأين هذا مما سمعتَ من ثبوت المحامد کلها من جميع الحامدين له سبحانه علي سبيل الدوام والاستقرار والثبوت

اشارة الي معني الألف واللام في الحمد

إعلم أنّ الألف واللام في قوله (الحمد لله) يمکن أنّ يکون للإشارة إلي الطبيعة الجنسية فإن هذه الطبيعة لا يستحقه بحقيقة الإستحقاق إلا الله لإختصاصه به، أو لکونه ملکا له، وللحقيقة المتقررة لما مر، وللعهد الذهني ومعناه علي ما قيل الإشارة إلي ما يعرفه کل أحد من أنّ الحمد ما هو.

بل في بعض حواشي «الکشاف»: أنّ تعريف الحقيقة راجع إلي تعريف العهد الذهني کما عليه المحققون نظرا إلي أنّ اللفظ الدال علي الماهية من غير نظر إلي وحدة وکثرة وإستغراق وعدمه وتعين وإيهام ذهنا أو خارجا وإن لم يخل عن أحدها هو المطلق، والدال عليها باعتبار تعينها ذهنا بنفسه علم الجنس ، وبأداة التعريف هو المعرف بتعريف الماهية، والفرق بين ملاحظة التعين ومصاحبة التعين بيّن.

وقولک: أدخل السوق لمن بينک وبينه سوق معهود من هذا القبيل، لأنّ الدالّ علي الحقيقة صالح للإطلاق علي الفرد الخارجي المشتمل عليها معيّنا کان فيه أو لا، وقد جعل قسما براسه وضم النشر بقدر الإمکان أولي.

قلت : لکن لا يخفي أنّ الماهية الملحوظة من حيث تحصّلها في ضمن فرد ما ولو مع عدم التعيين کما هو المعهود في العهد مغايرة للملحوظة من حيث نفسها

ص: 291

مع قطع النظر عن تحققها في ضمن الأفراد أو مع ملاحظة العدم کما هو الملحوظ في القسمين الأولين من الأقسام المتقدمة فضم النشر خير مع الإحصاء لا الضياع وللاستغراق الجنسي أو الخصائصي أو الإفرادي نظرا إلي إختصاصه سبحانه بجميع المحامد وبالحقيقة الملحوظة في ضمنها أو المستجمعة لخصائصها.

وقد حکي حمل اللام علي الإستغراق عن الجمهور بل المشهور ويحتمل الحمل علي کل من الثلاثة وإن کان محط أنّظارهم بل الظاهر من عباراتهم هو الإفرادي ولعل غيره أبلغ وللعهد بإرادة أکمل أفراده وهو حمده تعالي لذاته کما يليق بکماله وينبغي لکرم وجهه وعز جلاله کما في التحميد الذي تقدمت الإشارة إلي مراتبه الأربعة، ولذا قال سيد المرسلين (صلي الله عليه و آله أجمعين): «سبحانک لا أحصي ثناء عليک أنّت کما أثنيت علي نفسک» (1)

ولعل هذا هو الوجه في حمل اللام علي العهد في المقام، کما عن بعض الأعلام لکنه لا يخفي عليک بعد ملاحظة ما مر من أقسام الحمد الحقي والحقيقي والإطلاقي من حيث الذات والفعل بشئونه وأطواره أنّه من حيث الحقيقة والفرد مخصوص به سبحانه فجميع المحامد منه وله، فإن أبيت عن حمل اللام علي جميع معانيها ولو لإرجاعها إلي معني واحد أو لإعتبار مراتب البطون، فإن القرآن ذلول ذو وجوه وله ظهور وبطون، فلا أقل من حملها علي الإستغراق الجنسي الدال علي إستيعاب جميع الأفراد التي تقدمت إليها الإشارة وأما ما في «الکشاف» من أنّه التعريف الجنس ومعناه الإشارة إلي ما يعرفه کل أحد من أنّ الحمد ما هو نحو التعريف في «أرسلها العراک» (2)وإن الإستغراق الذي يتوهمه کثير من الناس وهم

ص: 292


1- بحار الأنّوار : ج 23/71 ح 9.
2- من کلام لبيد العامري ابن ربيعة الشاعر المخضرم المتوفي في أول خلافة معاوية في بيت : وأرسلها العراک ولم يذدها ولم يشفق علي نغص الدخال

منهم(1)انتهي.

ففيه أنّه أولي بالوَهَم لما سمعت ، نعم ذکر المتعرضون لکلامه في توجيهه

وجوها.

منها : أنّه مبني علي مسألة خلق الأعمال، فإن أفعال العباد لما کانت مخلوقة لهم عند المعتزلة الذين هو منهم کانت المحامد کلها راجعة إليهم، فلا يصح إختصاص المحامد کلها به سبحانه ، وفيه : أنّه لا يمنع أنّ تمکين العباد وإقدارهم علي الأعمال التي يستحقون بها الحمد إنما هو منه سبحانه بل لوح إليه في سورة

التغابن حيث قال في قوله : (له الملک وله الحمد) (2)قدم الظرفان ليدل بتقديمهما علي إختصاص الملک والحمد بالله تعالي لأنّهما علي الحقيقة، لأنّه مبدء کل شيء ومبدعه، وأصول النعم وفروعها منه، ثم قال : وأما حمد غيره فاعتداد بأنّ نعمة الله جرت علي يده (3) إنتهي .

وبالجملة فالأفعال وإن کانت منسوبة إلي العبيد من حيث إن لهم الإختيار فيها إلا أنّ جميع ما للعبد من الآلات والأدوات والأعضاء والجوارح والمشاعر والقوي وغيرها کلها فائضة من الله وهو سبحانه يستحق الحمد والشکر علي إفاضتها وإبقائها في کل آن من الآنات بما لا يقوم به أحد من عبيده حسب ما مرت إلي جملة منها الإشارة.

هذا مضافا إلي أنّ البناء علي مسألة خلق الأعمال، کما أنّه يمنع من الحمل علي الاستغراق کذلک يمنع من الحمل علي الجنس فإنه لا يصح حينئذ إختصاص

ص: 293


1- الکشاف ج 1 ص 49ط بيروت دار الفکر
2- التغابن : 1.
3- حاشية الکشاف للسيد الشريف علي بن محمد الجرجاني المتوفي (816) ص 52 رط بيروت دار الفکر

الجنس به سبحانه ، والحمل علي التوسع وأصول النعم مشترک بالنسبة إلي المعنيين .

وقد ذکر في «الکشاف» في قوله لا (والله يحب المحسنين ) (1) أنّ اللام فيه

للجنس فيتناول کل محسن (2)، وفي قوله : ( إن الإنسان لفي خسر) (3) أنّه للجنس مع وجود الإستثناء الدال علي شمول الإفراد.

إلا أنّ يقال : إنه قد أراد بالجنس هنا غير ما أراد به هناک کما قيل، وهو

کما تري.

ومنها أنّ هذه المصادر نائبة مناب الفعل وسادّة مسدّه والأصل فيها النصب والعدول إلي الرفع بجعل الجملة إسمية للدلالة علي الدوام والثبات ، والفعل إنما يدل علي الحقيقة دون الإستغراق فکذا ينوب منابه.

وفيه أنّ النائب عن الفعل إنّما هو المصدر المجرد القائم مقامه إذ هو المؤدي المدلوله، وأما المعرف باللام فلا مانع من إستفادة الإستغراق منه من جهة التعريف الذي هو بمنزلة القرينة، أو من باب تعدد کل من الدال والمدلول.

علي أنّ النيابة إنما هي في جوهر الکلمة لا في جميع مقتضيات الصورة والهيئة وإلا لإمتنع التغاير من حيث الإسمية والفعلية ومقتضياتهما ومع ضرورة التغاير فيها تقول: إنه منها.

ومنها : أنّ الجنس هو المتبادر إلي الفهم الشايع في الإستعمال سيما في

المصادر، وعند خفاء قرائن الإستغراق.

وفيه المنع من التبادر والغلبة سيما في مقام المخاطبة وعند الإمتنان والتعليم والتعظيم والشکر، بل قيل : أي مقام أدل بملاحظة الشمول والاستغراق من مقام

ص: 294


1- آل عمران : 134.
2- الکشاف : ج 1 /464 ط بيروت .
3- العصر: 1.

تخصيص الحمد بالله سبحانه تعظيما له فقرينة الإستغراق فيما نحن فيه کنار علي علم.

ومنها: ما ذکره غياث المحققين (1)من أنّ الحق أنّ سبب الاختيار هو أنّ إختصاص الجنس مستفاد من جوهر الکلام، وهو مستلزم لإختصاص جميع الأفراد به تعالي فلا حاجة في تأدية المقصود الذي هو ثبوت الحمد لله تعالي وإنتفاؤه من غيره إلي أنّ يلاحظ الشمول والإحاطة ويستعان فيه بالأمور الخارجة عن اللفظ (2)

وفيه مع الغضّ عن منع الاستلزام بحيث يتعلق المقصود به لإختلاف المقاصد في ذلک ولو بإعتبار تطرق الإنصراف إلي العموم الجنسي في الجملة دون الإستغراقي، وعن منع الحاجة في إفادة الشمول إلي الإستعانة بالأمور الخارجة أزيد مما تحتاج إليه في إفادة الجنس لإستفادة کل منهما من اللام ولو بمساعدة المقام للقرينة علي المرام.

أنّ الظاهر من کلام الزمخشري کما فهمه غير واحد منه نفي الإستغراق في المقام، وعدم الحمل عليه، وظاهره أنّه من جهة عدم الصلاحية، لا من جهة الحاجة إلي الإستعانة بالأمور الخارجة وعدمها في إفادته أو کونه مجازا محتاجا إلي القرنية ولذا تراه في کثير من الموارد يذکر الوجوه والاحتمالات الظاهرة وغيرها من غير إقتصار منه علي المعاني الحقيقية أو الوجوه الراجحة.

هذا کله بعد تسليم التجوز وعدم الظهور أو ظهور العدم بالنسبة إلي

الإستغراق.

ص: 295


1- المراد به السيّد الشريف الجرجاني المتوفي (816) المتقدم ذکره .
2- حاشية الکشاف للجرجاني ج 1 ص 52.

ومن جميع ما مرّ يظهر النظر بما ذکره التفتازاني وتبعه بعض من تأخر عنه من أنّ اللام للتعريف إجماعا ومعناه التعيين والإشارة ، وهذا ليس في شيء من الإحاطة والشمول الذي هو معني الإستغراق.

قال وهذا معني ما حکي عن بعض النحاة أنّ اللام لا يفيد سوي التعريف والإشارة ، والاسم لا يدل إلا علي مسماه ، فإذا لا يکون ثَمَّت إستغراق، ولذا حصر في «المفصل» فائدة اللام في التعريف في العهد والجنس، ثم ذکر تحقيقا حاصله أنّ إفادة اللام الاستغراق إنما هي لدلالتها علي الماهية من حيث وجودها في ضمن الأفراد وعدم وجدان القرينة البعضية ففي المقام الخطابي يحمل علي العموم والاستغراق إحترازا عن ترجيح أحد المتساويين، ومثله لفظ کل مضافا إلي النکرة ، وفي مقام الاستدلال علي الأقل لأنّه المتيقن ، بل في «کشف معضلات الکشاف»: الدال علي الماهية مع کثرة غير معينة إسم الجمع ومع الکثرة المستوعبة الإسم المستغرق وهو العام عند الأصولي.

قال : ومنه ظهر أنّ الاستغراق ليس من التعريف في شيء، وکفاک إستغراق نحو «لا رجل» و«تمرة خير من جرادة» شاهدا فلا بد معه من إعتبار تعين ذهني أو

خارجي ، فلا يخرج من القسمين أعني تعريف الحقيقة أو العهد الخارجي.

ثم ذکر أنّ إرادة الاستغراق إنما هو علي وجه التجوز حتي عند الأصوليين إلا أنّ هذا التجوز مستمر عند أکثرهم في الجموع المعرفة باللام ، وعند بعضهم في المفرد الجنسي المعرف بها أيضا عند عدم العهد فيهما، لکن الأکثر علي منع الإستمرار.

ومنه يظهر أنّ الإستغراق في المقام أولا وَهَمُ، وثانيا يأبي المقام عنه لأنّ

إختصاص حقيقة الحمد به سبحانه أبلغ من إختصاص أفرادها جمعاً وفرائي .

وفيه أنّ حصر وجه إفادة اللام الإستغراق فيما ذکره غير جيد ، فإنه قد يکون

ص: 296

من جهة الوضع ومن جهة قرينة المقام ودلالتها علي إستيعاب الأفراد و تعليق الحکم علي کل فرد منها، وأين هذا من الحمل علي العموم إذا وقع في کلام الحکم إحترازا عن ترجيح أحد المتساويين المعبر عنه عند الأصوليين بالعموم من جهة الحکمة.

وأما ما ذکره صاحب «الکشف» من حصر معني اللام في تعريف الحقيقة والعهد الخارجي، ففي غاية الغرابة ، کيف وقد جعلوا الأستغراق قسيما لهما بعد إعتبار التعين بالنسبة إلي الأفراد، من أنّک قد سمعت أنّ اللام وضعت للإشارة إلي مدلول مدخولها الذي ربما يکون هي الماهية من حيث تحصلها في ضمن جميع الأفراد، وقد أجمعوا علي أنّ الجمع المحلي باللام يفيد العموم علي وجه الإستغراق إذا لم يکن هناک قرينة علي إرادة الجنس أو العهد، بل قيل : إنه ظاهر، بل حقيقة في العموم الإفرادي ، لا الجمعي، والمجموعي ، حسب ما هو ظاهر من ملاحظة العرف واللغة لقضية التبادر وغيره من أماراة الحقيقة نعم قد يتأمل في کون ذلک هل هو علي وجه تعدد الدال والمدلول أو من جهة أنّ هذا وضع مستقل للهيئة الترکيبية بحيث صار سببا لهجر المعني الذي کان يقتضية الأصل ، وهو کلام آخر محرر في الأصول.

وعلي کل حال فلا ريب في کون الإستغراق من المعاني التي يفيده المعرف باللام کسائر ما يفيده ولو بقرينة المقام من العهد والجنس وغيرهما حسب ما سمعت، فالفصل بينهما ليس بالفصل بل هو قول هزل.

ومرادهم من إطلاق الإستغراق هو التعريف علي هذا الوجه نظير إطلاقهم الجنس والعهد، فيسقط ما ذکره من دعوي أنّ الإستغراق ليس من التعريف في شيء وإرجاعه مع التعين الذهني أو الخارجي إلي أحد القسمين حسبما ذکره من الغرائب، وأغرب منه نسبته إلي الأصوليين کون ذلک في الجموع علي وجه التجوز وحمله علي التجوز من حيث اللغة أو وضع المفردات کما تري .

ص: 297

وأما دعوي کون إختصاص حقيقة الحمد به أبلغ من إختصاص أفرادها.

ففيها أنّک قد سمعت أنّ للحمد مقامات ودرجات کالحمد الحقي والحقيقي والخلقي والإطلاقي وکل ذلک إما في مقام الذات أو الفعل وبعضه إما بالجنان أو بالأرکان أو باللسان أو بالجميع، ومن البين أنّ الأکمل في مقام الثناء إثباته له بجميع مقاماته ودرجاته کما في الدعاء: «الحمد لله کلّما حمد الله شيء، وکما يحب الله أنّ يحمد، وکما هو أهله وکما ينبغي لکرم وجهه وعز جلاله»(1)

فالأول يدل علي الإستيعاب، والثلاث الأخر علي الکيفية

وأما ما ذکره في «الکشف» وغيره من أنّ المستغرق لا يجوز أنّ يختص به تعالي، بل الحمد الحقيقي الکامل الذي يقتضيه إجراء هذه الصفات فاللام للحقيقة ويراد أکمل أنّواعه من باب «ذلک الکتاب» وحاتم الجواد، إشعارا بأنّه هو الحمد الذي يحق أنّ يطلق عليه الحقيقة کأنّه کل الحقيقة.

ففيه أنّه يمکنه أيضا إختيار الاستغراق ، بناء علي تنزيل ماعدا محامده سبحانه منزلة العدم، إذ لا يعبؤ بمحامد غيره بالقياس إلي محامده ، فلا فرق بين المعنيين في صلاحيتهما لتأويل يصح معه الإختصاص

نعم ربما يقال : إن الوهم الذي رده صاحب «الکشاف» هو کون الإستغراق معني تعريف الجنس لا کونه مستفادا من المعرف باللام بمعونة المقام، ولذا حمل في غير مقام من الکشاف والمعرف بلام الجنس علي الشمول والإحاطة.

بل في بعض حواشي «الکشاف» إستنباط القول من ذلک حيث قال: أنّه

توهم کثير من الناس أنّ معني تعريف الجنس هو الإستغراق

قال : ويبطله أنّ الإستغراق قد يتحقق في النفي والإثبات وليس معه تعريف

ص: 298


1- بحار الأنّوار : ج 44/86 ح 54.

أصلاً کما في «لا رجل وتمرة خير من جرادة» .

أقول: وهذا بمعزل عما يستفاد من ظاهر العبارة علي ما فهمه الناظرون في کلامه علي أنّ تعريف الجنس بالاستغراق لم نعرفه من أحد فضلاً من أنّ يعزي إلي توهم کثير من الناس.

وکأنّه إنما دعاهم إلي توهم القول والنسبة مجرد تصحيح العبارة وهو کما

تري.

وأما الخلط بين الاستغراق وتعريفه فقد مرت الإشارة إليه.

نعم، عن الزرکشي(1)يشبه أنّ يکون مراد الزمخشري أنّ المطلوب من العبد إنشاء الحمد لا الإخبار به، وحينئذ يستحيل کونها للاستغراق إذ لا يمکن للعبد أنّ ينشيء جميع المحامد منه، ومن غيره بخلاف کونها للجنس وفيه نظر.

ص: 299


1- الزرکشي : محمد بن عبدالله بن بهادر الفقيه الأصولي المحدث الشافعي المتوفي (794) ه - حسن المحاضرة : ج 1 / 248.

ص: 300

الفصل الثالي :فيما يتعلق بقوله تعالي (لله )

قد أسلفنا بعض ما يتعلّق بهذا الإسم الأعظم والجامع المقدم

وتقول الآن : إنما نسب الحمد إليه دون سائر الأسماء لأنّه سبحانه حسب ما سمعت لا يمکن الإحاطة بذاته ولا بحقايق صفاته حيث إنه لا يحيط به الأفهام ولا درکه خواطر الظنون والأوهام.

کما قال مولانا أميرالمؤمنين عليه السلام : «الطريق مسدود والطلب مردود».

وأما من حيث ظهوره في الظاهر بشؤونه وأفعاله فله الأسماء الحسني وإن کانت مختلفة من حيث العموم والشمول بحسب المظاهر، وقد مر أنّ عموم الظهور يستلزم خصوص الإسم وحيث إن أول ظهوره وأشمله وأعمه إنما هو بالألوهية کان هذا الإسم هو المقدم الجامع لجميع الأسماء والصفات وقد وسع وملأ جميع فضاء الإمکان والأعيان والأکوان، وشيء من الأسماء ليس له هذه الإحاطة والعموم، فليس له هذا الاختصاص من حيث المفهوم، ولذا نسب الحمد إليه دون غيره من الأسماء للإشعار علي ثبوت الحمد له واختصاصه به بالألوهية الجامعة لجميع الصفات والأسماء من القدس والإضافة والخلق في عالمي الإمکان والأکوان لما ستعرف من أنّ الحق مجعولية الإمکان خلق الله المشية الإمکانية بنفسها وخلق الإمکانات بها ، فحمده قد ملأ ووسع جميع فضاء الإمکان، فما بقي في الإمکان ولا في الأکوان فضاء ولا مکان إلا وقد ملأ حمده من جميع الجهات والاعتبارات کما وسعه ألوهيته.

ص: 301

وهو قوله: «قد ملأ الدهر قدسه وأحاط بکل شيء علمه، وکما أنّه أعلم

الأسماء وأشملها فهو أعلاها وأولها»(1)

فالحمد الذي علقه عليه أعلي المحامد وأولها، ولذا نبه علي اختصاصه به باللام المفيدة له إفادة أولية أصلية، فإنه الأصل في معانيها المتکثرة التي أنّهاها بعضهم إلي نيف وعشرين معني وهو المراد بها في المقام، لکنه ينبغي أنّ يعلم أنّ المراد بالاختصاص هو الربط الملحوظ بين الشيئين علي الوجه المعتبر في النسبة وهذا قد يکون بالاستحقاق نحو: الحمد لله، والملک لله ، والعزة لله، وويل للمطففين ، ونحوها، قيل : وهو المراد بها حيث وقعت بين معني وذات، وقد يکون بالملک نحو: «لک يا إلهي وحدانية العدد»(2) علي ما في الصحيفة السجادية ، أي إنها ملک له سبحانه ، فهي من جملة خلقه، لا أنّه يتصف بها في ذاته.

ومثله : (له ما في السموات وما في الأرض) (3)وهذا هو الملکية الحقيقية الأصلية وأما الفرعية الظلية فکقولک: هذا المال لزيد، وله علي عشرة دراهم، فإنها ملکية شرعية إعتبرها الشارع الحکيم في صقع الناسوت بين بني آدم بأسباب جعلية شرعية حفظة للنظام ولطفة علي الأنّام، مع أنّهم لا يملکون لأنّفسهم شيئاً ، هو المالک لما ملکهم والقادر علي ما عليه أقدرهم.

وقد يکون بمجرد الاختصاص وإن لم يبلغ الملکية الاعتبارية أيضاً نحو

الجل للفرس، والحصير للمسجد، والمنبر للخطيب.

وقوله :( فإن کان له إخوة) (4) وقوله : (وجعل لکم من أنّفسکم

ص: 302


1- بحار الأنّوار : ج255/93 ، ح 1.
2- الصحيفة السجادية : الدعاء 25 ، أولها : أللهم إني أخلصت بانقطاعي إليک .
3- طه: 6.
4- النساء: 11.

أزواجاً) (1)

وربما يعدّ هذا الأخير من شبه التمليک، لکن الوجه ما سمعت من رجوع الجميع إلي معني الاختصاص الذي يختلف وجوهه باعتبار الموارد ووجوه النسب التي بين الشيئين.

ولذا قسمه بعض الأعلام ثلاثة أقسام: ۔

إختصاص السافل بالعالي علي وجه الملک، نحو: (له الملک وله الحمد)(2) والعکس نحو: (رب العالمين ) (3)، (ومالک يوم الدين )(4) إذ الإضافة فيهما بتقدير اللام، والعالي وإن کان لا يلتفت إلي السافل إلا أنّ السافل من جهة استعداده منه ولواذه به والتجائه إليه ظهر به فليس له حقيقة إلا ظهور العالي به وتعريفه له بنفسه ، کما قال مولانا أمير المؤمنين عليه السلام : «يها تجلّي صانعها للعقول» (5) فيکون للعالي أيضا اختصاص به من حيث الإفاضة والإمداد والإبقاء وأختصاص بعض المتباينين بالبينونة الاعتزالية بالآخر، وذلک من جهة التناسب الواقع بينهما في صقع الاعتبار والافتقار .

وعلي کل حال، فحقيقة الاختصاص وتمامه إنما هو اختصاص السافل بالعالي لأنّه اختصاص من جميع الوجوه وبکل الاعتبارات، فإن السافل کله للعالي علي الاطلاق ، وهو رب الأرباب، إذ منه ذاته ووجوده وصفاته وآثاره وأفعاله.

و استعداده في کل ذلک لأنّه قائم بأمر الله بالقيام الصدوري کما قال مولانا

ص: 303


1- النحل : 72، الشوري : 11.
2- التغابن : 1.
3- فاتحة الکتاب : 2.
4- فاتحة الکتاب : 4.
5- بحار الأنّوار : ج 4 / 230، ح ٣ وص254، ح 8.

أميرالمؤمنين عليه السلام : «کل شيء سواک قام بأمرک» .

وإليه الإشارة بقوله تعالي : (ومن آياته أنّ تقوم السماء والأرض

بأمره ) (1)

ثم إن الأصل في کل کلمة علي حرف واحد کالواو، والفاء ، والسين، واللام، وغيرها هو الفتح، لأنّ الحرف الواحد لا حظ له في الإعراب بل يقع مبتدأ في الکلام ولا يبتدء بساکن، فاختير له الفتح، لأنّه أخفّ الحرکات، والأنّسب الابتداء بالأخف، فنقول : جاء زيد و عمروُ أو فَعمرو، وسَيخرج زيد.

وقد خرج من هذه القاعدة الباء الجارة التي مضي الکلام فيها، واللام الجازمة في «ليفعل» فرقاً بينها وبين لام التوکيد ، واللام الجارة في مثل المقام فرقاً بين لام الملک ولام التوکيد، فإذا قلت: إن المال لِهذا- أي في ملکه - وأنّ المال لَهذا أي هو هو.

وإنما قيِّدناه بمثل المقام لأنّها إذا دخلت علي المضمر ردّت إلي الأصل وهو

الفتح، فنقول : له ولک ولنا، لارتفاع اللبس التغاير ضمير الجر للرفع.

نعم، کسروها مع ياء المتکلم لأنّ هذا الياء لا يکون قبلها مکسوراً بلا فرق

بين الإسم والفعل والحرف ، نحو: غلامي وضربني ولي.

ولذا لمّا کان الجر لا يدخل الفعل زادوا قبل الياء نون الوقاية ، وقاية للفعل

من کسر آخره.

...

[القراءة]

بقي الکلام فيما يتعلق بقرائه الآية الشريفة، وقد ادّعي في «المجمع» وغيره

إجماع القرّاء علي ضم الدال من و(الحمد ) وکسر اللام من( الله ).

ص: 304


1- الروم : 25.

قال : «وروي في الشواذ بکسر الدال واللام، ويضم الدال واللام، ويفتح الدال وکسر اللام، وأجمعوا علي کسر الباء من رب، وروي عن زيد (1)بن علي نصب الباء، ويحمل علي أنّه بين جوازه لا أنّه قراءة»(2)

وحکي في «الکشاف» القراءة بالکسرتين عن الحسن البصري،(3)

وبالضمتين عن ابراهيم (ع) بن أبي عبلة للاتباع فيهما، قال : والذي جسرهما علي ذلک، والاتباع إنما يکون في کلمة واحدة کقولهم: منحدر الجبل ويغيره تنّزلُ الکلمتين منزلة کلمة واحدة لکثرة استعمالها مقترنتين، وجعلَ الأفضلَ قراءة ابراهيم حيث جعلَ الحرکةَ البنائية تابعةً للإعرابية التي هي أقوي بخلاف قراءة الحسن(4)

لکنه لا يخفي أنّ هذه القرائات کلها مشترکة في الشذوذ، فلا يجوز القراءة بشيء منها في الصلاة وغيرها، وکذا نصب الرب المحکي عن زيد بن علي عليه السلام

وإن أمکن توجيهه بالنصب علي المدح أو بما دل عليه (الحمد لله ) کأنّه قيل «نحمد الله ربَّ العالمين»(5)

ثم إنه قد ذکر بعض العامة في کتاب أورد فيه ضبط رسوم الکلمات أنّ (لله ) کتب بلامين، والقياس يوجب أنّ يکون بثلاث لامات، وکذا کل کلمة يجتمع

فيها ثلاث لامات حذف منها واحدة نحو: (والليل إذا يغشي ).

أقول: وفيما ذکره من المثال ما لا يخفي، ولعل الأولي رسمه بلام واحدة

المکان التشديد کما لا يخفي.

ص: 305


1- هو: زيد بن علي بن الحسين بن علي عليه السلام المعروف يزيد الشهيد ، استشهد بالکوفة سنة (120)ه کما في إرشاد المفيد ص 286 أوسنة (123)ه. - کما في الأعلام : ج 98/3 .
2- مجمع البيان : ج 21/1
3- الحسن البصري المتوفي (110) ه
4- ابراهيم بن أبي عبلة شمر بن يقظان الدمشقي توفي بفلسطين سنة (152) ه. الثقات لابن حبان : ج 11/4 .
5- الکشاف : ج 51/1- 52.

ص: 306

الفصل الثالث :في معني کلمة (ربّ )

إعلم أنّ الربّ في الأصل إما مصدر من ربّه يريه رباً بمعني التربية، بل يقال : إنّ التربيّة کان في الأصل مضاعفاً خفّف بتبديل الباء الثاني باء کما في التمطي والتظني، فإن أصلهما التمطط والتظنن، ويستعمل أيضاً بمعني الإصلاح، والجمع والزيادة واللزوم، والإقامة والتطبب ، والملک، کما يظهر من «القاموس»، فالوصف به حينئذ للمبالغة علي حد قولک: زيد صوم، وعمرو عدل.

وأما إسم من قولک : رب يرب فهو رب کبَّرٍ من بر يبر وأصله بار. وإما صفة مشبهة منه کنّم ينمّ فهو نمّ ، قيل : والمصدر حينئذ الربابة.

لکن في «القاموس» الرب باللام لا يطلق لغير الله عزّ وجل، وقد يخفف والاسم الربابة بالکسر والربوبية بالضم، وعِلم ربوبي بالفتح نسبة إلي الرب علي غير قياس، وربّ کل شيء مالکه ومستحقه أو صاحبه ، والجمع أرباب وربوب والرباني المتأله العارف بالله عزّ وجل.

وفي «توحيد الصدوق»: الرب المالک وکل من ملک شيئاً فهو ربّه، ومنه قوله عزّ وجل : و (إرجع إلي ربک )(1)أي إلي سيدک ومليکک، وقال قائل يوم حنين : لئن

ص: 307


1- يوسف : 50.

پربني رجل من قريش أحب إلي من أنّ يريني رجل من هوازن(1) يريد يملکني ويصير لي رباً ومالکاً، ولا يقال لمخلوق : الرب بالألف واللام، لأنّ الألف واللام دالتان علي العموم، وإنما يقال للمخلوق : ربّ کذا، فيعرف بالإضافة لأنّه لا يملک غيره(2)

وظاهر هما کصريح بعض المفسرين هو الثالث، أي کونه صفة مشبهة بعد نقل المشتق منه إلي فعل اللازم، جعلا له بمنزلة الغرايز کما سبق في اشتقاق الرحمن والإضافة معنوية من قبيل کريم البلد لانتفاء عامل النصب فلا إشکال في وصف المعرفة به.

وفي «الکشاف» ترجيح المصدرية علي الوصفية وعُلّل بأبلغيته وسلامته عن

تکلف جعل المتعدي لازماً (3)

وفيه : منع کونه تکلفة بعد اطراده في باب المدح والذم کما صرح به

السکاکي(4) في «المفتاح». .

بل الزمخشري أيضاً في «الفايق» عند ذکر فقير ورفيع فالترجيح بالأبلغية حجة عليه مضافاً إلي أنّ التربية من الصفات الفعلية التي ينبغي حمله عليه سبحانه

ص: 308


1- هو صفوان بن أمية بن خلف الجمحي أسلم بعد الفتح ومات بمکة سنة (41) ه، هرب يوم الفتح ، ثم رجع إلي النبي صلي الله عليه وآله وسلم وشهد معه حنينة وهو کافر وصار من المؤلفة القلوب، أعطاه الرسول صلي الله عليه وآله وسلم من غنائم حنين حين أسلم، ولما هرب المسلمون يوم حنين في أول القتال استبشر أبو سفيان وقال : غلبت والله هوازني ، إذن لا يردهم إلا البحر، فرد عليه صفوان قائلا : بفيک الکثکث - دقاق الحجارة -، لأنّ پر بني رجل من قريش... ال
2- کتاب التوحيد : باب أسماء الله تعالي ، ص 203، ط قم، مؤسسة المدرسين.
3- في الکشاف ج 52/1: ويجوز أنّ يکون وصفة بالمصدر للمبالغة کما وصف بالعدل ، انتهي ، وليس فيه ترجيح ولا علة ترجيح، ما حکاه المصنف قدس سره عنه لم أظفر عليه في الکشاف.
4- السکاکي : يوسف بن أبي بکر المتوفي (666) ه. - الأعلام : ج 3/ 160.

بذو هو في ملکه لا هو هو في ذاته وبالمبالغة علي الوجه الثاني ينثلم تنزيهه سبحانه ولذا يستفاد من ظاهر الأکثر کصريح بعضهم ترجيح الوصفية ، ويؤيده ما في الدعاء : «يا ربّ کل شيء وصانعه»(1)

وعلي کل حال فهو يطلق علي السيّد المطاع، وحمل عليه قوله (وأذکرني

عند ربک ) (2)

بل عن ابن عباس حمل قوله (رب العالمين )عليه، لکنه غير جيّد، إذ

السيّد لا يضاف إلي غير ذوي العقول، فلا يقال : فلا يقال : سيد السموات والأرض کما يقال : رب السموات والأرض، وحمل العالمين علي ذوي العقول لذلک تکلف في تکلف ، مع أنّ المقام تأبي عنه لوجوه لا تخفي، نعم المعني المستفاد من السيادة مقصود في المقام علي وجه أبلغ مما يستفاد من المعاني الآتية.

وعلي المربي الذي يبلغ بالشيء إلي کماله شيئاً فشيئاً بالتدريج وعليه حمله في «التيسير» بل يحمل عليه قول فرعون لموسي عليه السلام : ( ألم نربک فينا وليداً) (3) بناءاً علي ما مر من التخفيف بتبديل الباء ياءاً . ولا بأس بإرادته في المقام علي الوجه الذي يليق بعزّ جلاله من کون التربية له من جميع الوجوه، وعلي وجه القيومية المطلقة لا لغرض ولا لعوض يعود إليه حسب ما يأتي

وعلي المالک کما يقال : ربّ الدار وربّ الغنم. وعلي الصاحب ، تقول : زيد رب عمرو أي صاحبه ، ويطلق عليه سبحانه کما

العلاقافلا

ص: 309


1- دعاء الجوشن الکبير ، الفصل (94) .
2- يوسف : 42.
3- الشعراء : 18.

ورد في الدعاء: «اللهم أنّت رب الصاحب في السفر»(1)

وعلي المدبر، ومنه ربّاني الأمة لمدبّر أمور دينهم والمصلح من رب القيعة (2)- أي أصلحها - والجامع من التربب بمعني الاجتماع والثابت من ربّ بالمکان أي ثبت ، والدائم من أريّت السحابة أي أدامت. .

وهذه المعاني وإن صحّ إطلاقها علي الله سبحانه علي وجه الأصالة والذاتية والقيّوميّة المطلقة التي لا تليق بغيره سبحانه ، إذ کل شيء سواه قام بأمره، إلّا أنّ أمّ المعاني في هذا الباب وأصلها وأساسها بل جامعها الذي يرجع جميعها إليه إنما هو التربية، وهو تبليغ الشيء إلي کماله أو حال أحسن من حاله، وبالجملة إلي کماله الحقيقي أو الإضافي شيئاً فشيئاً.

وهذا المعني سار في جميع المعاني المتقدمة کما يظهر بأدني تأمّل، فالربّ إن کان مربياً أو مصلحاً ومفيضاً للظاهر والباطن من کل الجهات وفي جميع الأحوال، فهو الرب علي الإطلاق الذي هو المنعم الحقيقي أو من بعض الجهات دون بعض، وذلک لا يکون إلا بعض وسائط الفيض، فإن الله جعل لکل شيء سبباً، وأبي الله أنّ يجري الأمور إلا بأسبابها.

ولذا ورد: «من لم يشکر الناس لم يشکر الله» (3) .

لکنه لابد من حفظ الحدود کي لا ينقلب الشکر شرکاً بمجرد التغيير ولو

بالتقديم والتأخير .

کما في رواية العياشي عن الصادق لا في قوله : (ما يؤمن أکثرهم بالله إلا

ص: 310


1- بحار الأنّوار : ج 112/10 ، ح 1.
2- القيعة - بکسر القاف - المستوي من الأرض.
3- في البحار ج 44/71، ح 47: «من لم يشکر المنعم من المخلوقين لم يشکر الله عز».

وهم مشرکون) (1) قال : هو الرجل يقول: لولا فلان لهلکت، ولولا فلان الأصابني (2) کذا وکذا، ولو لا فلان أضاع عيالي، أتري أنّه قد جعل الله شريکاً في ملکه يرزقه ويدفع عنه». .

قيل : فيقول : لولا أنّ من الله ، عليّ بفلان لهلکت . قال عليه السلام: «نعم، لا بأس بهذا»(3)

فالرب من بعض الجهات من الوسائط لا المبدأ، إذ لو کان من هذه الجهة رباً لذاته ومفيضاً لا بواسطة غيره لکان رباً علي الإطلاق بالذات من کل الجهات، وهذا خلف، وهذا معني إطلاقه علي العبيد حيث أطلق کقوله تعالي : (أذکرني عند ربک)(4)

ولذا لا يطلق حينئذ إلا مضافاً لأنّ المخلوق ليس رباً مطلقاً بل واسطة لتربية بعض الأشياء من بعض الجهات في بعض الأحوال، فأضيف إلي مرباه أو بعض جهاته الملابسة له لکفاية أدني الملابسة في الإضافة.

ومنه يظهر أنّ المضاف المطلق علي المخلوق غير المطلق علي الخالق سواء أضيف حينئذ إلي العام نحو رب الناس ، ورب العالمين، ورب کل شيء، أو الخاص نحو ربي وربک وربه، فإن المعنيين متغايران من دون جامع حقيقي بينهما وإن کان من حيث بعض الاعتبارات حسب ما هو المقرر في سائر الأسماء المشترکة بحسب الظاهر بين الخلق والخالق کالعالم والقادر والحي وغيرها.

وأما مطلق المعرّف باللام فلا يطلق إلا علي الله سبحانه کما صرّح به

ص: 311


1- يوسف : 106.
2- في تفسير العياشي : ط طهران العلمية الإسلامية : «لأصبت کذا وکذا ...» .
3- في تفسير العياشي: لولا أنّ الله من علي بفلان لهلکت .
4- يوسف : 42.

الصدوق والفيروز آبادي(1) وغيرهما لما عرفت من أنّ المستفاد من لام الجنس أو الاستغراق کونه ربّاً لکلّ شيء من کلّ وجه في کل حال، وهذا لا يکون إلا الملک الحق جلّت عظمته.

وإن أمکن المناقشة في المعرف بلام الجنس فضلاً من الدالة علي العهد کقولک في جواب من ربّ هذه الدار ؟ : زيد الرب، إلا أنّ الخطب فيه سهل، لأنّ اللام عوض عن المضاف إليه ، والمعني زيد رب الدار.

وأما المنوّن بتنوين التمکن فلا يستعمل کالمعرف إلا علي الحي القيوم

وبتنوين النکرة والعوض عن المضاف إليه يجوز إطلاقه علي المخلوق.

أما الطرفان فلما مر، وأما الوسط فانّ تنکيره يدلّ علي انتشار الأفراد وتکثرها والأرباب المتکثرة لا يمکن کون کل واحد منها رباً مطلقاًومبدأً أولياً لجميع الفيوض.

فلابد من حملها علي الوسائط الجزئية للفيوض الجزئية أو علي مجرد الدعوي الباطلة التي دليل بطلانها معها، ولذا أبطل العبد الصالح يوسف بن يعقوب علي نبينا وآله وعليهما السلام مقالتهم بقوله : (يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون

خير أم الله الواحد القهار)(2)فإنهم إذا کانوا أرباباً متکثّرين فلا يصلح شيء منهم للربوبية، إذ الربت من کان رباً حقاً ومطلقاً ، وتعدّدهم دليل علي تقيّدهم فليس شيء منهم مطلقاً في الربوبية، وقد سمعت أنّ عدم مطلقيتهم فيها ملزوم لعدم حقيقتهم وتأصّلهم في الفيوض التي هي أمداد التربية، ولذا عقبه بقوله (ما تعبدون من دون

ص: 312


1- الفيروز آبادي : محمد بن يعقوب الشيرازي اللغوي ، توفي سنة (818) ه. - بغية الوعاة : ص 117.
2- يوسف : 39.

الله إلا أسماءً سمّيتموها أنّتم وآباؤکم ) (1)

وهذه مناقضة لطيفة لإبطال آراء المشرکين وهو نظير الاستدلال للتوحيد بقوله عز من قائل: (وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد فإياي فارهبون)(2)وهو دليل رقيق لطيف جدّاً علي نوعي التوحيد بل أنّواعه لمن تأمله.

ثم إنه يؤيّد ما ذکرناه من معني الربوبية ، بل وإرجاع معانيها إلي ما سمعت ما

رواه مولانا العسکري عليه وعلي ابنه الحجة وعلي آبائه آلاف الثناء والتحية في تفسيره.

وفي «الاحتجاج» أيضاً عن السجاد أنّ رجلاً أتي أميرالمؤمنين عليه السلام فقال :

أخبرني عن قوله عزّ وجل : (الحمد لله رب العالمين )ما تفسيره؟ فقال:

الحمد لله هو أنّ عرّف الله عباده بعض نعمه عليهم جملاً، إذ لا يقدرون علي معرفة جميعها بالتفصيل، لأنّها أکثر من أنّ تحصي أنّ تعرف، فقال لهم : قولوا الحمد الله علي ما أنّعم به علينا ربّ العالمين، يعني مالک العالمين ، وهم الجماعات من کلّ المخلوق من الجمادات والحيوانات، فأما الحيوانات فهو يقلّبها في قدرته، ويغذّيها من رزقه، ويحوطها بکنفه، ويدبّر کلاً منها بمصلحته.

وأمّا الجمادات فهو يمسکها بقدرته يمسک ما اتصل منها أنّ يتهافت، ويمسک المتهافت منها أنّ يتلاصق، ويمسک السماء أنّ تقع علي الأرض إلّا بإذنه ، ويمسک الأرض أنّ تنخسف إلا بأمره، إنه بعباده رؤوف رحيم.

قال عليه السلام: و«ربّ العالمين» مالکهم وخالقهم وسائق أرزاقهم من حيث يعلمون ومن حيث لا يعلمون، فالرزق مقسوم، وهو يأتي إبن آدم علي أيّ سيرة سارها من

ص: 313


1- يوسف : 40.
2- النحل: 51.

الدنيا ليس تقوي متق بزائده، ولا فجور فاجر بناقصه، وبينه وبينه ستر(1) وهو

طالبه ، ولو أنّ أحدکم يتربص (2)رزقه لطلبه رزقه کما يطلبه الموت.

قال أمير المؤمنين عليه السلام : «فقال الله لهم : قولوا الحمد لله علي ما أنّعم به علينا

وذکرنا به من خير في کتب الأولين من قبل أنّ نکون». .

ففي هذا إيجاب علي محمد و آله محمد بما فضله وفضلهم وعلي شيعتهم أنّ

يشکروه بما فضلهم به علي غيرهم.

وذلک أنّ رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم قال : لما بعث الله تعالي موسي بن عمران واصطفاه نجية، وفلق البحر فنجي بني إسرائيل، وأعطاه التوراة والألواح رأي مکانه من ربه عزوجل فقال : يا رب لقد أکرمتني بکرامة لم تکرم بها أحداً قبلي، فقال الله عزوجل: يا موسي! أما علمت أنّ محمّداً أفضل عندي من جميع ملائکتي وجميع خلقي ؟ قال موسي: يا ربت فإن کان محمد صلي الله عليه وآله وسلم أفضل عندک من جميع خلقک فهل في إلي الأنّبياء أکرم من آلي ؟ قال الله عز وجل : يا موسي! أما علمت أنّ فضل آل محمد علي جميع آل النبيين کفضل محمد علي جميع المرسلين ؟ فقال : يا رب فإن کان آل محمد عندک کذلک، فهل في صحابة الأنّبياء أکرم من صحابتي؟ قال الله عزوجل: يا موسي! أما علمت أنّ فضل صحابة محمّد علي جميع صحابة المرسلين کفضل آل محمد علي جميع آل النبيين، وکفضل محمّد علي جميع المرسلين ؟ فقال موسي: يا رب ! فإن کان محمد وآله وصحبه کما وصفت فهل في أمم الأنّبياء أفضل عندک من أمتي ظلت عليهم الغمام وأنّزلتَ عليهم المنّ والسلوي وفلقت لهم البحر؟ فقال الله : يا موسي! أما علمتَ أنّ فضل أمّة محمد علي جميع

ص: 314


1- في التفسير : شبر .
2- في البحار: يفر من رزقه .

الأمم کفضلي علي جميع خلقي؟ قال موسي: يا ربّ ليتَني کنتُ أراهم، فأوحي الله إليه : يا موسي ! إنّک لن تراهم فليس هذا أوان ظهورهم، ولکن سوف تراهم في

الجنة (1)جنات عدن والفردوس بحضرة محمد في نعمتها يتقّلبون، وفي خيراتها يتبجحون، أفتحب أنّ أسمعک کلامهم؟ فقال : نعم يا إلهي قال : قم بين يدي واشدد مئزرک قيام العبد الذليل بين يدي السيّد الملک الجليل.

ففعل ذلک موسي فنادي ربنا : يا أمة محمد! فأجابوه کلهم وهم في أصلاب آبائهم وأرحام أمهاتهم : لبيک اللهم لبيک إن الحمد والنعمة والملک لک لا شريک لک لبيک.

قال : فجعل الله تلک الإجابة منهم شعار الحج، ثم نادي ربنا عز وجل: يا أمنة محمد! إن قضائي عليکم، إن رحمتي سبقت غضبي، وعفوي سبق عقابي ، فقد استجبت لکم من قبل أنّ تدعوني وأعطيتکم من قبل أنّ تسألوني ، من لقيني منکم بشهادة أنّ إله إلا الله وحده لا شريک له وأنّ محمداً عبده ورسوله صادق في أقواله، محق في أفعاله، وأنّ علي بن أبي طالب أخوه ووصيه من بعده ووليه يلتزم طاعته کما يلتزم طاعة محمد وأنّ أولادهم المصطفين الأخيار المطهرين الميامين العجائب (2)آيات الله، ودلائل حجج الله من بعدهما أولياؤه، أدخله (3) جنتي وإن

کان ذنوبه مثل زبد البحر.

قال : فلمّا بعث الله نبينا محمداً صلي الله عليه وسلم قال: يا محمد! وما کنت بجانب الطور إذ نادينا أمتک بهذه الکرامة ، ثم قال عزّ وجل لمحمد صلي الله عليه وآله وسلم : قل الحمد لله رب العالمين علي ما اختصصتنا به من هذه الفضيلة .

ص: 315


1- في البحار : «سوف تراهم في الجنان جنات عدن»
2- في البحار : «بعجائب»..
3- أدخلته جنتي .

وقال لأمته: قولوا أنّتم: الحمد لله رب العالمين علي ما اختصنا به من هذه

الفضائل»(1)

تبصرة

ربما يقال : إن الرب هو الاسم الأعظم نظراً إلي اختصاصه من بين الأسماء بجواز إطلاق مقلوبه علي الله سبحانه ، إذ «البر» أيضا من أسماء الحسني (إنه هو البَّر الرحيم ) (2).

وکأنّه مع ملاحظة الاختلاف في التخفيف والتشديد أيضاً بالنسبة إلي

الحرفين.

بل ربما يحکي ذلک عن الخضر النبي علي نبينا وآله وعليه السلام مؤيداً بإشراق أشعة أنّوار التوحيد منه في البداية والنهاية کما في الآيتين (ألست بربکم

قالوا بلي)(3) (أنّ إلي ربک المنتهي )(4) ويجعله في الأولي إقراراً بالتوحيد بمنزلة لا إله إلا الله، ولذا ذکر کلمتي الرحمن والرحيم في الفاتحة بعد هذا الإسم، وفي البسملة بعد لفظة الجلالة تنبيهاً علي أنّه بمنزلته.

وبأنّه أوقع في القرآن کثيراً حتي أنّه لم يذکر بعد لفظة الجلالة شيء من

الأسماء بکثرته(5)وهو مذکور في أربع وتسعين من السور.

ص: 316


1- تفسير الإمام العسکري عليه السلام : ص 11 - 12. عيون الأخبار : ص156 - 158 ، وعنهما بحارالأنّوار: ج 26، ص 274 - 277، ح 17.
2- الطور : 28.
3- الأعراف: 172.
4- النجم : 2.
5- هذا الإسم الشريف ذکر في القرآن (نحو 969) مرة.

وبأنّه هو المذکور عند الأمر بالدعاء (أدعوا ربکم تضرعاً وخفية)(1)

(وقال ربکم ادعوني أستجب لکم) (2)وعند البشارة بالاستجابة کقوله: (فاستجاب لهم ربهم )(3)بعد تکرر الرب خمس مرات في الحوائج المسؤولة في الآيات المتقدمة.

وبأنّه مختص من بين الأسماء بإضافته إلي أقسام المضمرات من الغائب والحاضر والمتکلم بأنّواعها کقوله : (وليدع ربّه)(4) (وأذنت لربّها وحقّت ) (5)

(واعبد ربّک)(6) (إرجعي إلي ربّک)(7)(إن ربّکم الله)(8) (إنّ ربّي لطيف)(9)(الله ربّنا)(10)وإلي أنّواع المظهرات من عمومها وخصوصها ک(ربّ السموات والأرض وما بينهما)(11)

(فوربّ السماء والأرض) (12)(هو ربّ العرش الکريم)(13)،(فلا أقسم بربّ المشارق والمغارب ) (14) (ربّ المشرقين

ص: 317


1- الأعراف : 55.
2- غافر : 66.
3- آل عمران : 195.
4- غافر: 26.
5- الانشقاق : 5.
6- الحجر: 99.
7- الفجر: 28.
8- يونس : 3.
9- يوسف : 100.
10- الشوري : 15.
11- مريم : 65.
12- الذاريات: 23 .
13- المؤمنون : 116.
14- المعارج: 40.

وربّ المغربين)(1)، (ربّ المشرق والمغرب )(2)(رب الناس) (3)، (ربّ الفلق )(4)و(ربّ هذه البلدة )(5) و(ربّ هذا البيت) (6) (فبأي آلاء ربکما تکذبان)(7).

وبالجملة فلعموم ربوبيته وظهور تربيته في جميع الأشياء أضيف إليها خصوصاً کما سمعت وعموماً کقوله : (رب العالمين ) و(رب کل شيء)(8)فهو منتهي مطلب الحاجات، وعنده نيل الطلبات، ومفتاح الکرامات، ووسيلة الحنايات.

ولذا توسل المتوسلون بل الأنّبياء والمرسلون به سبحانه من جهة ظهورة وتجليه بشأنّ الربوبية الجامعة لجميع صفات الفعل بل الذات حسب ما تعرف إن شاء الله .

فدعاه أبونا آدم علي نبينا وآله وعليه السلام لتوبته: (ربنا ظلمنا

أنّفسنا) (9)

والنبي نوح عليه السلام بقوله( رب اغفر لي ولوالدي) (10) و(رب لا تذر علي

الأرض)(11)

ص: 318


1- الرحمن : 17.
2- الشعراء : 28.
3- الناس : 1.
4- الفلق: 1.
5- النمل : 91.
6- قريش : 3.
7- سورة الرحمن .
8- الأنّعام : 164.
9- الأعراف : 23
10- نوح: 28.
11- نوح :26.

وخليل الرحمن بقوله : (رب أرني کيف تحي الموتي) (1)

ويوسف الصديق بقوله : (رب قد آتيتني من الملک ) (2)

والنبي شعيب بقوله: (ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق) (3).

و موسي الکليم بقوله :(رب اشرح لي صدري)(4)

وسليمان بن داود بقوله : (رب اغفر لي وهب لي ملکاً)(5) و(رب

أوزعني أنّ أشکر)(6)

(أيوب إذ نادي ربه)(7)وزکريا النبي علا بقوله : رب إني وهن العظم منيه (8).والمسيح النوراني بقوله: (ربنا أنّزل علينا مائدة من السماء) (9).

ونبينا خاتم النبيين صلي الله عليه و آله أجمعين بقوله : (وأطعنا غفرانک ربنا

وإليک المصير)(10)

«والراسخون في العلم» وهم الأئمة عليهک السلام (يقولون آمنا به کل من عند

ربنا)(11)

ص: 319


1- البقرة : 26.
2- يوسف : 101.
3- الأعراف: 89.
4- طه : 25.
5- ص : 35.
6- النمل : 19.
7- الأنّبياء : 83.
8- مريم: 4.
9- المائدة : 114.
10- البقرة : 285.
11- آل عمران : 7.

وقد خوطب النبي صلي الله عليه وآله وسلم في ولاية أمير المؤمنين والمعصومين من ذريته

بقوله : (بلغ ما أنّزل إليک من ربک)(1) في علي.

ويقوله: (فلا وربک لا يؤمنون حتي يحکموک فيما) (2)، إلي قوله :

(يسلموا تسليما) (3)أي لأمير المؤمنين علا.

ومولانا سيد الشهداء حين بلغ أشده وبلغ أربعين سنة قال : (رب أوزعني

أنّ أشکر) (4)

و مولانا القائم عجل الله فرجه کان مکتوباً علي عضده الأيمن حين ولادته

(وتمت کلمة ربک صدقا وعدلاً )(5)

وأصحاب الکهف إذ أووا إلي الکهف فقالوا:( ربنا آتنا من لدنک

رحمة ) (6)

والحواريون إذ قالوا: (ربنا آمنا بما أنّزلت) (7)

والصحابة بقولهم: (ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا) (8)لولاية

أمير المؤمنين وأولاده الطيبين.

والتابعون بقولهم:(ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان) ((9).

ص: 320


1- المائدة :67.
2- النساء : 65.
3- النساء: 65.
4- الأحقاف : 15.
5- الأنّعام : 115.
6- الکهف : 10.
7- آل عمران: 53
8- آل عمران : 8.
9- الحشر: 10.

وأسية امرأة فرعون إذ قالت: (رب ابن لي عندک بيتاً في الجنة) (1)

وبلقيس ملکة سبأ قالت : (رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله

رب العالمين )(2)

ومريم إذ قالت: (رب أنّ يکون لي ولد)(3)

وحملة العرش: (ربنا وسعت کل شيء رحمة)(4)

والآباء: (ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين ) (5)

والأولاد : (رب ارحمهما کما ربياني صغيراً)(6)

وأهل الجنة : (ربنا أتمم لنا نورنا) (7) (وفي وسقاهم ربهم شراباً طهوراً)(8)

وأهل النار : (ربنا أخرجنا منها)(9) (ربنا غلبت علينا شقوتنا )(10)

(ربناأبصرنا وسمعنا) (11)

وإبليس اللعين : (رب أنّظرني إلي يوم يبعثون)(12).

وأتباع الجبت والطاغوت: (ربنا إنا أطعنا ساداتنا وکبرائنا فأضلونا

ص: 321


1- التحريم: 11.
2- النمل : 44.
3- آل عمران : 47.
4- غافر: 7.
5- الفرقان: 74.
6- الإسراء : 24.
7- التحريم: 8.
8- الإنسان: 21.
9- المؤمنون : 107.
10- المؤمنون: 106.
11- السجدة : 12.
12- الحجر: 36.

السبيلا) (1) (ربنا آتهم من العذاب والعنهم لعناً کبيراً(2)

وبالجملة فجميع الفيوض التي تصل من الله إلي عبده إنما تصل من جهة التربية والإفاضة والتکميل، وقد سمعت أنّه سبحانه من حيث ذاته هو المجهول المطلق، وليس للخلق طريق إلي معرفته إلا من حيث ظهوره في المظاهر الفعلية ، وتجليه في المجالي الأسمائية، وهذا هو السر في تعدد أسمائه (قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسني) (3)

فمن حيث ظهور فعله بصفة الخلق خالق، وبصفة الرزق رازق، وبصفة الرحمة الواسعة والمکتوبة هو الرحمن الرحيم، ومن حيث ربوبيته لخلقه يسمي بالرب، وهذه الربوبية جامعة الأرکان العرش الأربعة وهي الخلق، والرزق، والأحياء، والإماتة المشار إليها في الآية الکريمة : (الله الذي خلقکم ثم رزقکم ثم يميتکم ثم يحييکم) (4) .

فالربوبية بشمولها جامعة لجميع الفيوض الواصلة إلي الخلق حين الخلقة وبعدها في الوجود والبقاء وأسباب المعاش والمعاد للأبرار والفجار (کلانمّد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربک وما کان عطاء ربک محظوراً) (5) إذ لا بخل في المبداً الفياض ، وبه يسعد السعيد وبه يشقي الشقي (قل کلّ من عند الله ) (6)

(والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نکداً) (7)

ص: 322


1- الأحزاب : 67.
2- الأحزاب :68.
3- الإسراء : 110.
4- الروم : 40.
5- الاسراء : 20.
6- النساء : 78.
7- الأعراف: 58.

کقطرة الماء في الأصداف درّ وفي بطن الأفاعي صار سماً

نعم له سبحانه نوع من الإفاضات القدسية والإمدادات الإيمانية الغيبية، وهو الفضل الذي بيده يؤتيه من يشاء ، «إن لربکم في أيام دھرکم نفحات ألا فتعرّضوا الها» (1)

فانظر کيف جعله من شؤون الربوبية وأضافه إلي الأيام الدهرية التي هي وعاء للنفوس القدسية والعقول الجبروتية دون الأزمنة التي هي وعاء للأجسام الغاسقة الناسوتية، والنفوس المنهمکة في الشهوات الجسمانية، فهو سبحانه قد تجلي في خلقه لخلقه بخلقه، بها تجلي صانعها للعقول، بحيث قد ملأ العمق الأکبر

بشؤون ربوبيته کما قال الإمام عليه السلام : «لا يري في نور إلا نورک ولا يسمع فيها صوت إلا صوتک» (2) فظهر لکل شيء بصفة ربوبيته، ولذا علق المعرفة بإسم الرب دون غيره من الأسماء في قوله : «من عرف نفسه فقد عرف ربه»(3) و«أعرفکم بنفسه أعرفکم بربه»، فکلّ من طلب منه حاجة من حوائج الدنيا والآخرة، أو انتجع منه فائدة فلابد أنّ يدعوه بهذا الإسم الذي هو رب نوع المطالب والمقاصد، وحل

طلسم العوائد والفوائد، بل في دعائه بإسم الربوبية إذعان له بحقيقة العبودية التي هي جوهرة کنهها الربوبية کما في الخبر (4)الذي تأتي إلي تحقيق معناه الإشارة، ولذا جعلوه مفتاحاً لحوائجهم، تحقيقاً لعبوديتهم وتصديقاً بربوبيته، وتوصلاً بما هو کالمفتاح للکنوز الغيبية، والخزائن الإلهية، وکالطالع للمواليد القدسية والنفحات الملکوتية ، بل أضيف في المقام إلي «العالمين» المحلي بالألف واللام المفيدة للعموم

ص: 323


1- بحار الأنّوار : ج 71، ص 221، وج10، ص 95، ح 10.
2- البحار : ج 204/90، ح 34دعاءليلة الخميس.
3- البحار : ج 2 / 32، ح 22.
4- مصباح الشريعة : الباب الأول في العبودية .

تنبيهاً علي ظهور ربوبيته وسريان فيض تربيته في جميع الإمکان والأکوان من الدُرّة إلي الذَأرّة، وعقّبه بإسمي الرحمن والرحيم إشعار بأنّ إتمام النعمة إنما هو بصفتي الرحمة، وهذه الجملة الاستدلال علي استحقاقه لجميع المحامد التي سمعت الکلام في عمومها وإحاطتها.

إحقاق وإزهاق

کما أنّ الرب حسبما سمعت إمّا مطلق لا يطلق إلا عليه سبحانه ، أو مقيد يطلق علي غيره إيضاً، کذلک ينقسم إلي حقيقي وواسطي ، وبعبارة أخري إما أصلي أو ظلي آلي، والحقيقي الأصلي هو الله سبحانه سواء اعتبر مطلقاً أو مقيداً، لا من حيث التقيد والقصور في نفسه ، بل من حيث التعبير وملاحظة المورد، فهو الرب الحقيقي لکل شيء من کل وجه، ولذا قال : رب العالمين ورب کل شيء (1)ورب السموات والأرض وما بينهما الرحمن(2)

وقال مولانا أمير المؤمنين عليه السلام : «توحّد بالربوبية وخص نفسه بالوحدانية» (3) فهو الرب الحق ، والرب المطلق، ولذلک تنقطع عنده الوسائط، وتضمحل الکثرات ، ويستند الکل إليه، لأنّه معطي القابليات ومفيض الاستعدادات، ومسبب الاسباب ، ورب الأرباب.

وإلي هذا أشار کليم الله علي نبينا وآله وعليه السلام بعد قول فرعون: ( فمن

ربکما يا موسي قال ربنا الذي أعطي کل شيء خلقه ثم هدي) (4)

ص: 324


1- الأنّعام: 164.
2- مريم : 65.
3- بحار الأنّوار : ج 270/4 ، ح 15.
4- طه : 50.

يعني أعطاه وجوده واستعداده وقابليته، ثم سبّب الأسباب لوصوله إلي مراتب الکمال للتحقق بحقيقة الإقبال، وأمّا اختلاف المربربات من أصناف الکائنات فإنما هو مستند إلي اختلافهم في اختياراتهم وقبولهم في بقعة التکوين وصقع التشريع بعد أنّ بيّن لهم سبيل الخير والشر، وأمرهم في الموقفين بارتکاب الخيرات واجتناب الشرور(ليهلک من هلک عن بينة ويحيي من حي عن بينة )(1)

وأما ما ربما يقال من إستناد الاختلاف إلي مراتب الاستعدادات وإمکانات الأشياء في أنّفسها بالذات وعدم تعلق الجعل بالإمکان لکونه من الأمور الاعتبارية ففساده واضح عندنا بعد القول بالتوحيد ونفي الشريک، إذ کان الله ولم يکن معه شيء، وهو أمکن الإمکان حيث لا إمکان، کما انه کون الأکوان حيث لا کون فتقسم المشيئة إلي مکانيّة وکونيّة وهي بقسميها خلقها الله بنفسها وخلق بها الإمکان والأکوان والإمکانات بعد تسليم کونها أعدامة المقيدة وإن تمايزت من حيث القيود أو التقيدات إلا أنّها معتبرة حينئذ باعتبارات وجودية.

فما قيل من أنّ إمکان الألف مثلا مغاير لإمکان الواو، لاعتبار الاستقامة في الأول، والاعوجاج في الثاني، ولو أنّ الکاتب کتبهما علي غير هذا الوجه فکأنّه لم يکتبهما لأنّ ما بالذات لا يتخلف بل الذات لا تتبدل .

ففيه : أنّ هذا الاختلاف المستند إلي الإمکان بل نفس الإمکان إن کان مجعولا من الله سبحانه ولم يکن قبل ذلک شيئاً أصلاً فهو المطلوب، وإلا فلابد أنّ يکون ثابتاً في القدم تعالي الله عن ذلک علواً کبيراً.

وهذا هو القول بالأعيان الثابتة الذي أسس عليه بناء القول بوحدة الوجود

ص: 325


1- الأنّفال : 42.

وتشعّبت منه أنّواع الزندقة والجحود، قال قائلهم وهو عبدالرحمن الجامي (1) أعيان همه شيشه هاي گوناگون بود کافتاد بر او پرتو انوار وجود هر شيشه که بود سرخ يا زرد وکبود خورشيد در آن آينه آن رنگ نمود

بل أفرط بعضهم في القول وقال : إن الماهيات کما هي غير مجعولة فکذلک

الوجودات واتصاف الماهيات بها.

قال المحدّث الفيض فيما سماه «الکلمات المکنونة» بعد أنّ ذکر أنّ الماهيات ليست بجعل جاعل ، وکذلک الوجود، قال: «يل تأثيره في الماهية باعتبار الوجود ، بمعني أنّه يجعلها متّصفة بالوجود، لا بمعني أنّه يجعل أتصانها موجوداً متحققاً في الخارج، فإنّ الصباغ مثلاً إذا صبغ ثوباً فإنه لا يجعل الثوب ثوباً ولا الصبغ صبغاً، بل يجعل الثوب متصفا بالصبغ في الخارج، لا أنّ يجعل اتصافه به موجوداً في الخارج.

فليست الماهيات في أنّفسها مجعولة ولا وجوداتها في أنّفسها أيضاًمجعولة ، بل الماهيات في کونها موجودة مجعولة، والوجودات من حيث تعيناتها وخصوصياتها مجعولة، وذلک لأنّ الإمکان إنما يتعلّق بالوجود من حيث التعين والتخصص، لا من حيث الحقيقة والذات، فإنه واجب من هذه الحيثية، فالوجود وجود أزلاً وأبداً، والماهية ماهية أزلاً وأبداً، غير موجودة ولا معدومة أزلاً وأبداً .

وليست هي في منزلة بين الوجود والعدم، بل إنما وجوداتها بالعرض وتبعية

الوجود لا بالذات، ولهذا لا يسمي وجوداً بل ثبوتاً.

ومن هنا يعلم أنّ الماهيات عين الوجود والحقيقة وإن کانت غيره بالاعتبار

إلي آخر ما ذکره.

ص: 326


1- هو عبد الرحمن بن أحمد الجامي الشيرازي توفي سنة (898) ه.

فوا عجباً کيف أحتمل الوجود البحت الواجب جميع الوجودات وجميع الماهيات، بل وجميع الاتصافات بحيث لم يخرج شيء من هذه الثلاثة من العدم إلي الوجود بل الکل عين الوجود البسيط المجرد (تعالي الله عن ذلک وعما يقولون علواً کبيراً).

ومع اتحاد الجميع فمن أين حصل التغاير في هذا البين، وما شؤون الربوبية ؟ وما حدود الخلق ؟ وکيف تنزيه الخالق بعد اتحاده مع الخلق، بل الکثافات والقاذورات، وأنّت تعلم أنّ الصباغ لم يؤثّر في خلق الثوب ولا في خلق الصبغ، وقد أوجد الانصباغ واتصاف الثوب بالصبغ ولو بالتسبيب، فإذا کان الله تعالي لم يوجد شيئاً من الماهيات ولا من الوجودات، بل ولا شيئاً من اتصاف الماهية بالوجود، فکيف يکون خالقاً موجداً مبدعاً فرداً واحداً قديماً متفرداً في أزليته منزهاً عما يجوز علي خلقه.

وبالجملة القول بوحدة الوجود ينثلم معه جميع أساس التوحيد بل الشرايع کافة، ولهذا ظهر منهم القول بالحلول والاتحاد وانقطاع العذاب وغيرها من المقالات التي سنفصل الکلام في تحريرها وإبطالها في موضع أليق إن شاء الله تعالي.

وإن کان بطلانها غنياً عن ذلک، فإنها لا تعمي الأبصار ولکن تعمي القلوب

التي في الصدور (ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور) (1)

تتميم نفعه عميم

إعلم أنّ الربوبية من الرب مطلقاً أو مقيداً لها درجات ومقامات يجمعها

ص: 327


1- النور : 40.

أمران:

أحدهما : الربوبية إذ لا مربوب لا ذکراً ولا عيناً ولا ظهوراً وهي الذات البحت القديم الذي لا إسم له ولا رسم، ولا وصف ولا نعت، ولا عبارة ، ولا إشارة ، الطريق مسدود والطلب مردود.

وربما يذکر بعده قسم آخر وهو دليل تلک الربوبية وصفتها و آيتها، أي العين التي تستدل بها عليها، وهي لا ذکر ولا عين ولا ظهور للمربوبية فيها بوجه من الوجوه لأنّها وجه الله ودليله، فلو کانت فيها کثرة لعرفنا الله بالکثرة، لأنّ معرفة الوجه عين معرفة ذي الوجه، وهو معني قول أمير المؤمنين عليه السلام : «يا من دل علي ذاته بذاته» (1)

قلت : وهذه الربوبية إما عين الأولي أو غيرها، فعلي الأول لا تعدد، وعلي الثاني ليست إذ لا مربوب علي ذلک الوجه ، مع أنّه إذا لم يکن للمربوبين فيها ذکر ولا عين ولا ظهور، فکيف تکون دليلا لهم (تعالي الله عن ذلک ).

وأما قوله: «يا من دل علي ذاته بذاته»، فکل من الذات المدلول عليها والذات الدالة هي الذات البحت، لکن الدلالة هي ما خلق من وصفه لخلقه بذواتهم في الخطاب الفهواني.

کما قال مولانا أميرالمؤمنين عليه السلام : «يها تجلي صانعها للعقول»(2)

أو بآياته وأمثاله في الآفاق وفي أنّفسهم أو بما أشرق علي خلقه من صفة وحدته التي يستدلون بها علي وحدانيته، أو أنّ المدلول عليها هي الذات البحت أيضا والدلالة هي معانيه، أي معاني أفعاله المشار إليها في خبر جابر بقوله : يا جابر

ص: 328


1- بحار الأنّوار : ج 87/ 339، ح 19.
2- بحار الأنّوار : ج 230/4 ، ح 3.

أو تدري ما المعرفة ؟ المعرفة إثبات التوحيد أولاً ثم معرفة المعاني ثانياً، ثم معرفة الأبواب ثالثاً إلي أنّ قال : وأما المعاني فنحن معانيه صلوات الله عليهم (1).

أو أنّ المدلول عليها هي المعاني عليهم السلام ، والدلالة هي العلامات والمقامات التي لا تعطيل لها في کل مکان يعرفه بها من عرفه ، وإن أبيت من إطلاق الذات عليهم فلاحظ قول مولانا أميرالمؤمنين عليه السلام في خبر الأعرابي حيث سئله عن النفس إلي أنّ قال عليه السلام في النفس اللاهوتية الملکية : «إنها قوة لاهوتية، وجوهرة بسيطة حية بالذات، أصلها العقل منه بدأت، وعنه وعت، وإليه دلت وأشارت، وعودتها إليه إذ کملت وشابهته ، ومنه بدأت الموجودات، وإليها تعود بالکمال، فهي ذات الله العليا ،

وشجرة طوبي ، وسدرة المنتهي، وجنة المأوي (2)

وأيضاً في الخبر المشهور في الألسنة وإن لم يحضرني موضعه الآن : «لا

تسبوا عليا فإن ذاته ممسوس أو ممسوس بذات الله»(3)

ثانيهما: الربوبية إذ مربوب ذکراً أو عيناً وظهوراً ، وهذه الربوبية بهذا القيد

من صفات الفعل ، کما أنّ الأولي من صفات الذات.

إذا عرفت هذا فاعلم أنّه قد ورد في خطبة مولانا أميرالمؤمنين عليه السلام وکذا في خطبة مولانا الرضا عليه السلام : «له معني الربوبية إذ لا مربوب» (4)والظرف إما قيد للربوبية وإما ظرف للثبوت الذي تعلق به الجار ويؤيده قوله عليه السلام بعد ذلک : «وله حقيقة الالهية إذ لا مألوه ومعني العالم إذ لا معلوم، ومعني الخالق ولا مخلوق، وتأويل السمع ولا مسموع، ليس مذ خلق استحق معني الخالقية، ولا بإحداثه البرايا استفاد

ص: 329


1- بحار الأنّوار : ج 13/26- 14ح 2.
2- لم أظفر علي مصدره
3- بحار الأنّوار : ج 39 / 313، «مناقب آل أبي طالب» ج 3/ 221.
4- بحار الأنّوار : ج 4 / 285، ح 17، عن «التوحيد».

معني البارئية ، کيف ولا تغيّبه مذ، ولا تدنيه قد، ولا يحجبه لعل، ولا يوقته متي، ولا يشتمله حين، ولا تقارنه مع، إنما تحدّ الأدوات أنّفسها، وتشير الآلة إلي نظائرها (1)

وعلي الأول ينقسم الربوبية إلي قسمين ومعناه الإشارة إلي ثبوت معني الربوبية له سبحانه بالمعني الأول بمعني أنّه ربّ بهذا المعني، فربوبيته نفس ذاته تعالي بلا مغايرة بينهما، بوجه من الوجوه، فهو حينئذ من الصفات الذاتية التي لا حاجة في اتصافه بها إلي غيره، ومرجعها إلي العلم والقدرة وسائر الصفات الذاتية .

وأما الربوبية بالمعني الثاني بمراتيه ودرجاته فهي ثابتة له سبحانه في ملکه ،

لا في ذاته .

فاللام للتمليک فهو يملک الرب والتربية والربوبية کلّها بغير المعني الأول في ملکه وخلقه، وهم الأبواب الذين أمر الله تعالي بمعرفتهم وولايتهم والتمسک بحبلهم، فإن الله تعالي جعلهم أبواباً الفيوضه وأعضاداً لبريته، وأشهاداً علي خليقته وهم المقامات والعلامات التي لا تعطيل لها في کل مکان، يعرفهم به من عرفه، وهم السبيل الأعظم، والصراط الأقوم، وشهداء دار الفناء، وشفعاء دار البقاء.

فالربوبيّة المطلقة المقترنة بالمربوب ولو ذکر حادثة في عالم الإمکان وهي المشية الکلية، وأمر الله الفعلي الذي به قامت السموات والأرض قياماً صدورياً رکنياً.

فمن عرفهم فقد عرف الله ، ومن أنّکرهم فقد أنّکر الله ، ومن اعتصم بهم فقد

اعتصم بالله .

وفي الزيارة : «من أراد الله بدأ بکم، ومن وحّده قبل عنکم، ومن قصده توجه

ص: 330


1- بحار الأنّوار : ج 4 / 229، ح 3، عن «التوحيد» و «العيون» .

إليکم» (1)

وذلک أنّ الله تعالي جعلهم وسائط فيضه، ومرآة أنّوار جلاله وجماله،

وأشهدهم خلق خلقه.

بل يستفاد من بعض الأخبار والخطب المأثورة عنهم عليه السلام أنّه سبحانه فوّض إليهم جميع شؤون الربوبية في الخلق والرزق والإحياء والإماتة، لکن لا تفويض تشريک، ولا عزلة وتخيير ، ولا تفويض توکيل، کما يفوّض أحدنا أموره إلي وکيله، فيتصرف في أموره بعد إذن الموکل بقوته بالاستقلال، فإن هذه المعاني للتفويض کلها کفر وزندقة.

وهذا معني قول مولانا الصادق عليه السلام علي ما رواه شيخنا المجلسي : «من

قال نحن خالقون بأمر الله فقد کفر»(2)

فإن المراد نفي الاستقلال والاستبداد الذي يکون لوکيل بعد إذن الموکل، إذ ليس لهم توهم هذه الاستقلال و الإنية( بل عباد مکرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون) (3) إلي قوله تعالي : (ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلک نجزيه جهنم کذلک نجزي الظالمين)(4)

بل المراد بالتفويض الذي نقول به هو تفويض الوساطة والآلية والإشراق والعبودية کما قال تعالي حکاية عن عيسي علا : (إني أخلق لکم من الطين کهيئة الطير فأنّفخ فيه فيکون طيراً بإذن الله ) (5)

ص: 331


1- الجامعة الکبيرة.
2- لم أظفر علي مصدره بعد التفحص في البحار .
3- الأنّبياء : 26 - 27.
4- الأنّبياء: 29.
5- آل عمران : 49.

وبالجملة الأخبار الدالّة علي تفويض الأمور التکوينية والتشريعية إليهما عليهم السلام کثيرة جداً بالغة حدّ التواتر لمن تتبعها في مظانها، لکن ينبغي حملها علي وجهها الذي أريد منها، وهو أنّ جميع الآثار من الخلق والرزق وغيرهما منه سبحانه، إلا أنّه لما جرت عادته سبحانه بأنّ يکون له وسائط لإفاضته التکوينية کما أنّ له وسائط لإفاضته التشريعية مع عدم قابلية الداني لتلقّي الفيض إلا بالوسائط، فهم کالمرآة المحاذي لشمس وجود الحق قد تجلي لها ربها فأشرقت، وطالعها فتلألأت، وألقي في هويتها مثاله فأظهر عنها أفعاله.

ولذا قال من قال : ف علوا فعال الرب إلا أنّهم بشر فضاع علي الغلاة الفارق جعلوا الذي قد کان نفس نبيهم هو نفس خالقهم تعالي الخالق لا عذر للنصاب والغالي له عذر لبعض ذوي العقول موافق کفرت به الفئتان لکن ليستا شرعاً(1)فإن النصب کفر خارق لا ينسب الإسلام للغالي له فإن ادّعي الإسلام فهو منافق لو شاء تعطيظ لأفلاک السماء ماعاقه عن مثل ذلک عائق وبکسقه القلم الذي في جبهة الاشهاد يکتب مؤمن أو فاسق

ساووا کتاب الله إلا أنّه هو صامت وهم الکتاب الناطق

وقال ابن أبي الحديد في قصيدته البائية :

تَقيَّلتَ (2) أفعالَ الربوبية التي عذرتُ بها مَن شکّ أنّک مربوب وبالجملة ، فلهم الربوبيّة الفعلية ، بل هم نفس الربوبية في مقام الفعل ، لکونهم

ص: 332


1- الشرع - بکسر الشين -: المثل .
2- تقيل : قال في «المنجد»: تقيل أباه : أشبهه .

نفس المشية أو محالها، کما عن الحجة عجل الله فرجه : «إن قلوبنا أوعية لمشية الله فإذا شاء الله شئنا وما تشاؤون إلا أنّ يشاء الله »(1)

وفي مقام الفعل يتحد الوصف والموصوف، فانهم.

ولذا ورد أنّ رسول الله وأميرالمؤمنين عليه السلام أبوا هذه الأمة، وأنّ الأب هو الرب

الأصغر (2)

وورد في تفسير قوله تعالي : (وأشرقت الأرض بنور ربها) (3) عن مولانا الصادق عليه السلام قال : «رب الأرض إمام الأرض . قيل : فإذا خرج يکون ماذا؟ قال : إذا يستغني الناس عن ضوء الشمس والقمر ويجتزؤون بنور الإمام» (4)

ومثله في «إرشاد المفيد» و«غيبة الشيخ» و«الدعائم» و«إکمال الدين»

وغيرها.

بل في الزيارة الجامعة تبينا لمعني الآية وخطابا للأئمة عليهم السلام : «وأشرقت الأرض بنورکم» وذلک لأنّهم الخلفاء فيها ، وفيهم ورد قوله تعالي : (وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحت ليستخلفنهم في الأرض کما استخلف الذين من قبلهم) (5)

أو لأنّهم مالکها کما ورد : «أنّ الأرض کلها للإمام عليه السلام »

فعن أبي جعفر عليه السلام قال: «قال رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم : خلق الله آدم وأقطعه الدنيا قطيعة، فما کان لآدم لا فهو لرسول الله صلي الله عليه وآله وسلم ، وما کان لرسول الله صلي الله عليه وآله وسلم فهو للأئمة

ص: 333


1- بحار الأنّوار : ج 25 / 337، ح 16، عن غيبة الطوسي : ص159، والآية في سورة الدهر :
2- بحار الأنّوار : ج 9/36، 11، 14، 255.
3- الزمر: 69.
4- البحار: ج 326/7 ، ح 1 ، عن «تفسير القمي» : ص 581.
5- النور: 55.

من آل محمد عليهم السلام » (1)

وقال مولانا الصادق عليه السلام في خبر أبي سيار: «إن الأرض کلها لنا فما أخرج

الله منها من شيء فهو لنا» (2)

وعنه عن کتاب أمير المؤمنين : «أنّا وأهل بيتي الذي أورثنا الله الأرض ونحن

المتقون والأرض کلها لنا» (3)

وقال لأبي بصير: «أما علمتَ أنّ الدنيا والآخرة للإمام عليه السلام يضعها حيث

يشاء، ويدفعها إلي من يشاء، جايز له ذلک من الله»(4)

وعنه عليه السلام : «إن الدنيا ((5)وما فيها الله تبارک وتعالي ولرسوله ولنا»(6)

ولذا حکموا بأنّ ما في أيدي مخالفيهم من الأرض غصب حرام عليهم

التصرف فيه ، بل في بعض الأخبار حرمة مشيهم علي الأرض وشربهم الماء.

أو لأنّهم المتصرفون فيها بإذن ربهم حيث جعلهم الله وسائط فيوضه وخزان

رحمته.

ولذا روي القمي في قوله : صراط الله الذي له ما في السموات وما في

الأرض (7). قال : «يعني عليا - إنه - جعله خازنه علي ما في السموات وما في الأرض من شيء وائتمنه عليه»(8)

ص: 334


1- الکافي : ج 409/1، ح 7.
2- الکافي: ج 408/1 ، ح 3.
3- الکافي : ج 407/1 ، ح 1، باب أنّ الأرض کلها للإمام عليه السلام .
4- الکافي : ج 408/1 و 409 ، ح 4.
5- في المصدر : الدنيا وما فيها وليس فيه کلمة إن
6- الکافي: ج 408/1 ، ح 1.
7- الشوري : 56.
8- تفسير القمي ص 606وعنه البحار ج 35 /367 ح10.

عود إلي الحقيق بطرز أنّيق

إعلم أنّ الربوبية إن اعتبرت من صفات الذات فهي فيها حقيقة وذاتا و اعتبارا ووجودا ومفهوما وخارجا وواقعا، وإلا فمع فرض التغاير ولو اعتبارا تنثلم الوحدة ، وکذا الحال في سائر الصفات الذاتية من العلم والوجود والقدرة والسمع والبصر وغيرها.

ولذا قال مولانا الصادق عليه السلام : «کان الله (1)بنا عز وجل والعلم ذاته ولا معلوم والقدرة ذاته ولا مقدور، والسمع ذاته ولا مسموع، والبصر ذاته ولا مبصر»(2) الخبر.

علي حد ما سمعت من خطبهم عليه السلام له معني الربوبية إذ لا مربوب وحقيقة الإلهية إذ لا مألوه ومعني العالم ولا معلوم ومعني الخالق ولا مخلوق و تأويل السمع ولا مسموع» (3).

ومرجع الجميع إلي إثبات وجود هو علم، هو قدرة ، هو حياة ، هو ربوبية، إلي غير ذلک حسب ما يأتي بيانه في مقامه، ولذلک کان کمال التوحيد نفي الصفات، لأنّ الاقتران دليل الحدوث والتعدد والتجزئة والافتقار ، وهذه الربوبية هي التي جيب تنزليهم عنها.

کما ورد عنهم: «نژلونا عن الربوبية وارفعوا عنا حظوظ البشرية، فإئا عنها مبعدون، وعما يجوز عليکم منزهون، ثم قولوا في حقنا ما استطعتم فإن البحر لا ينزف، وسر الغيب لا يعرف، وکلمة الله لا توصف، ومَن قال لِمَ ويِمَ ومَمَّ فقد

ص: 335


1- في المصدر : «لم يزل الله عزّ وجل ربنا والعالم ذاته ...)
2- الکافي : ج 1 / 107، ح 1، باب صفات الذات .
3- بحار الأنّوار : ج 4 / 229، ح 3.

کفر» (1)

وفي الخطبة النورانية : «لا تدعونا أربابا وقولوا فينا ما شئتم، ففينا هلک من

هلک، وينا نجي من نجي» (2)

وعنهم عليهم السلام : «إجعلوا لنا ربّاً نوُب إليه ثم قولوا فينا ما استطعتم ولن تبلغواء

فإنه لم يخرج منا إليکم إلا ألف غير معطوفة» (3)

وإن اعتبرت من صفات الفعل فمن البين أنّ صفات الفعل حادثة ليست في

مرتبة الذات في القدم.

ولذا قال الصادق عليه السلام لما قيل له : لم يزل الله مريدا: «إن المريد لا يکون إلا

المراد معه، بل لم يزل الله عالما قادرا ثم أراد»(4)

وقال مولانا الرضا عليه السلام : «إن المشية والإرادة من صفات الأفعال، فمن زعم أنّ

الله لم يزل شائياً مريدا فليس بموحد» (5)

وهو سر تقييد الربوبية له سبحانه بقوله : إذ لا مربوب ، فإن الربوبية إذ مربوب

علما أو عينا أو وجودا لها صفة الاقتران مع المربوب ، والاقتران دليل الحدوث.

ص: 336


1- في مشارق الأنّوار : ص69: «نزهونا عن الربوبية وارفعوا عنا حظوظ البشرية ، يعني الحظوظ التي تجوز عليکم فلا يقاس بنا أحد من الناس ، فإنا نحن الأسرار الإلهية المودعة في الهياکل البشرية، والکلمة الربانية الناطقة في الأجساد الترابية ، وقولوا بعد ذلک ما استطعتم فإن البحر لا ينزف ....
2- مشارق أنّوار اليقين : ص 162.
3- في «بصائر الدرجات» ص 149 بإسناده عن کامل التمار ، قال : کنت عند أبي عبدالله عل ذات يوم ، فقال لي : «يا کامل ! إجعل لنا ربا نؤب إليه وقولوا فينا ما شئتم ... إلي أنّ قال : وعسي أنّ نقول : ما خرج إليکم من علمنا إلا ألف غير معطوفة». .
4- بحار الأنّوار : ج 4 / 144، عن «التوحيد»
5- في البحار: ج 4 / 145 عن «التوحيد»، عن الرضا عليه السلام ، قال : «المشية من صفات الأفعال ، فمن زعم أنّ الله لم يزل مريدا شائيا فليس بموحد»..

ولأنّها نفس المشية التي قال الإمام عليه السلام انها محدثة (1) وأنّ الله تعالي خلقها

بنفسها وخلق الاشياء بها (2)

ولأنّها لو کانت في مرتبة الذات لا عتورتها حالتان: ربوبية اذ مربوب

وربوبية إذ لا مربوب ، فيکون ذاته محلا للحوادث (تعالي الله عن ذلک).

وإن کانتا قديمتين تعددت القدماء، فإذا ثبت حدوثها فلا تخلو إما أنّ تکون

من الأمور الاعتبارية التي ليس لها تحقق ولا تحصل في الخارج إلا مجرد الفرض والاعتبار، کما هو الشأنّ في الأمور الاعتبارية، أو أنّها من الأمور المتأصلة في الوجود المتحصلة في الشهود الخاضعة لحضرة المعبود، لا سبيل إلي الأول إذ النسبة تقتضي تحقق النسبتين معها في صقع عالمها، ومجرد الفرض والاعتبار فرع الفارض والمعتبر، وتعالي الحق عن ذلک - لأنّه لا يهمّ ولا يفکّر ولا يضمر ولا يروّي ، بل فعله ايجاده لا من شيء، وإنما الفعل منه إحدائه وإبداعه فلا يجري عليه ما هو أجراه علي خلقه.

مع أنّ المربربات من أنّواع الکائنات منتسبون إلي الربوبية، منها نشأت،

وإليها انتسبت.

فإذا کانت الربوبية أمرا اعتبارياً فالمربوب أولي وأحري بالاعتبارية.

فإن قلت إنّ المربوبية من جملة الکائنات لا ريب في تذوّتها وتجوهرها وتحققها في الأعيان وإن کان ذلک بقومية الحق سبحانه، وأمّا الربوبيّة فهي من المعاني المصدرية النسبية التي لا تحقق لها بنفسها ولو بقيوميّته تعالي، لعدم تأهلها لذلک، فإنها في أصل الجعل مجعولة علي وجه الارتباط والتعلق، ألا تري أنّ

ص: 337


1- بحار الأنّوار : ج 4 / 144.
2- البحار : ج 145/4 .

الضرب لا تحصل له في الأعيان إلا بعد وجود المضروب وتعلقه به ووصوله من الضارب إليه ، فمع فرض عدم وجود المضروب ولو في حال تحقق الضرب کيف يتصور وجوده في الأعيان؟

نعم يمکن تصوره في الأذهان لکنه خلاف المقصود.

قلت : هذا تمثيل بأفعالنا الناقصة القاصرة لإيداع الخلاق المتعالي وقد قال

سبحانه : (فلا تضربوا لله الأمثال إن الله يعلم وأنّتم لا تعلمون )(1)

ومن البيّن أنّ إيداع المبدع ليس أثرا ارتباطيا واصلا منه إلي موجود آخر غيره، وإلّا لزم قدم المتعلق شخصا أو نوعا، وهذا إنکار للإبداع، فالفعل المتعدي منّا صدور الأثر عن الفاعل ووقوعه علي المفعول، وفعله سبحانه هو إحداثه لا غير، وليس لفعله ارتباط به أصلا، إلا ارتباط الصنع بالصانع علي وجه الإبداع في ملکه ولا بالمفعول لانتفاء أثر الوقوع بفقد المتعلق.

فلابد من أنّ يکون فعله أول إبداعه ولذا قال مولانا الرضا عليه السلام في خبر

عمران : «إعلم أنّ الإبداع والمشية والإرادة معناها واحد وأسماؤها ثلاثة» (2)

ومن البيّن أنّه لا يجوز اتصافه بالفعل والإرادة والمشية بمعانيها المعروفة التي

يتصف بها المخلوق، لأنّها بتلک المعاني عن الکيفيات النفسانية، ومن الأعراض القائمة بالمحل، والضرورة قضت باستحالة اتصافه سبحانه بمثل هذه المعاني، فلا يمکن اعتبارها أعراضا قائمة به لذلک، ولا بغيره لسبقها علي غيرها.

فلا بد أنّ تکون موجودة بإيجاده قائمة يقيوميّته واسطة في إيصال الفيض

منه إلي غيره .

ص: 338


1- النحل : 74.
2- بحار الأنّوار : ج 10 /314، عن «التوحيد» و«العيون»

وبالجملة فالربوبية في هذا الموضع هو الرب المخلوق والعبد المرزوق وهو الفعل الذي خلقه بنفسه، وأقامه في ظله، والتعبير عنه بالمعني المصدري النسبي سهل الاندفاع، وإن شئت فعبر عنه بالمعني الوصفي لکونه مصدرا لفعل الحق، بل هو المفعول المطلق لکنه لابد من حفظ الحدود ولحظ القيود، بأنّ يعلم عدم تأصل الوجود لتقومه بفعل الحق المعبود، فهو عبد ذليل خاضع خاشع منقاد الله سبحانه ، بل عباد مکرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون.

وإنما نال ما نال من القرب والکرامة بحقيقة العبودية التي أرکانها ثلاثة :

فالعين علمه بالله (1)لأنّه نفس العلم الفعلي المخلوق الواقع علي المعلوم المشار إليه بقوله : فلما خلق الأشياء وقع العلم منه علي المعلوم، والسمع علي المسموع، والبصر علي المبصر (2)

والباء : بونه عن الخلق وانقطاعه عنهم، لعلمه بأنّهم لا يملکون له نفعا ولا ضرا، ويأنّهم فقراء محتاجون أذلاء، فکيف يسأل محتاج محتاجا، وأنّي يفزع معدوم إلي معدوم.

وبينونة العالي سيما الواقف(3) علي التطنجين، والناظر في المشرقين عن السافل بينونة صفة وافتقار، لا بينونة عزلة وانقطاع، فإن له قوسي الإقبال والإدبار، وصفتي الاستفاضة والإفاضة.

ص: 339


1- إشارة إلي ما نقل عن الإمام الصادق عليه السلام کما في «شرح الزيارة الجامعة»: ج308/1 : قال الصادق عليه السلامفي تفسير قوله تعالي : ( وإن کنتم في ريب مما نزلنا علي عبدنا ): «العين علمه بالله ، والباء بونه من الخلق ، والدال دنوه من الخالق بلا إشارة ولا کيف) 9.. ونقل أيضاً في مصباح الشريعة باب 100 في حقيقة العبودية
2- بحار الأنّوار : ج 4 /71، عن التوحيد وفيه : فلما أحدث الأشياء وکان المعلوم وقع العلم منه علي المعلوم ...
3- المراد به أمير المؤمنين عليه السلام کما نقل عنه في مشارق أنّوار اليقين» في خطبة سماها الطتنجية ، لما فيه : «أنّا الواقف علي طتنجين أنّا الناظر إلي المغربين والمشرقين».

والدال دنوه من الخالق لأنّه باب حطة الوجود، وأول عابد للمعبود ( قل إن کان للرحمن ولد فأنّا أول العابدين)(1)، وهذه الأرکان قد أشار إليها الصادق عليه السلام(2)

وبالجملة فلما کمل الميزان وتمت الأرکان وتحقق في مقام العبودية ظهر بصفة الربوبية ، کما قال مولانا الصادق عليه السلام : «العبودية جوهرة کنهها الربوبية، فما فقد من العبودية وجد في الربوبية، وما خفي عن الربوبية أصيب في العبودية ، قال الله عز وجل : (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنّفسهم حتي يتبين لهم أنّه الحق أو لم يکف بربک أنّه علي کل شيء شهيد )(3)- (4) أي موجود في غيبتک وفي حضرتک.

فالعبد إذا تمکن في مقام العبودية وانقطع نظره عن نفسه ودام توجهه إلي ربه

اضمحلت ماهيته وإنته، ولذا قيل: بيني وبينک إني ينازعني فادفع بلطفک إني من البين

وقد يقال : إن المشية هي الوجود المطلق الذي لا ماهية له أصلا لانقطاع نظره عن نفسه، فليس إلا ظهور الرب به ومن ثم ظهر بصفة الربوبية إذ مربوب کما ورد في الخبر القدسي:

عبدي إني أقول للشيء کن فيکون، أطعني تکن مثلي تقول للشيء کن

فيکون»(5)

ص: 340


1- الزخرف: 81.
2- تقدم نقله عن شرح الزيارة للشيخ أحمد الاحسائي : ج 1، ص308، ومصباح الشريعة : باب 100.
3- فصلت : 53.
4- مصباح الشريعة : باب (100) في العبودية .
5- شرح توحيد الصدوق : ج316/1في شرح الحديث السابع عشر لقاضي سعيد القمي المتوفي (11071) ه.

نفحات غيوبية في أنّ العبودية جوهرة کنهها الربوبية

قد سمعت في الخبر المتقدم المروي في «مصباح الشريعة» عن مولانا الصادق عليه السلام : «إن العبودية جوهرة کنهها الربوبية»(1)إلي آخر ما مر وحيث قد استصعب فهمه علي الأفهام تصدّي لبيانه جمع من علمائنا الأعلام رفع الله قدرهم في دار السلام

ولا بأس بالتعرض لما ذکروه مع ذکر ما من الله علي هذا الفقير الذي لهم من

جملة الخدام.

فمنها ما ذکره المجلسي الثاني حيث سئل عن معني الخبر قال : «إن هذا الخبر مأخوذ من مصباح الشريعة وقد وصل إلينا بروايه شقيق البلخي الذي هو من صوفية العامة مع اشتماله علي جملة من النقل المعلوم انتفائها عن الأئمة المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين .

وعلي تقدير صحة الخبر لعل المراد أنّ العبودية والربوبية متقابلان فيعرف کل منهما بمقابله، کما قيل: تُعرَفُ الأشياء بأضدادها»، ولذا فشر الخبر المشهور: «من عرف نفسه فقد عرف ربه»(2) بما يؤول إليه وذلک أنّ من عرف نفسه بالفقر والقصور والحاجة والنقصان وصفات الإمکان فقد عرف ربه بالغني والکمال والتقدس عن سمة الحدوث والتغير وصفات الإمکان، وکذلک من عرف نفسه بالدنائة والخسة، فقد عرف ربه بالعلو والرفعة، ومن عرف نفسه بالجهل والعلم الخارج عن الذات فقد عرف ربه بالعلم الذي هو عين الذات، إلي غير ذلک.

ص: 341


1- مصباح الشريعة : باب (100).
2- کلام مشهور رواه الفريقان عن نبينا صلي الله عليه وآله وعن علي عليه السلام ، وعن عيسي المسيح عليه السلام ، وعن بعض الحکماء

والحاصل إن العبودية يعرف کنهها من معرفة الربوبية، فما فقد في العبودية من صفات القدس والکمال کوجوب الوجود والتجرد والاستغناء المطلق والعلم الذاتي إلي غير ذلک من الکمالات التي لا حظ للمکن فيها، وجد في الربوبية وما

خفي عن الناس من صفات الربوبية وجد في العبودية، يعني يعرف من إضافة الصفات إلي العبودية ، أنّ الله سبحانه بريء منها.

ثم قال : وللخبر معان بعيدة عن الأذهان، ولذلک ترکنا التعرض لها».

أقول: أما القدح في سند الرواية بل الکتاب فهو وإن کان في موضعه إلا أنّه لا يخلو من نوع اعتبار، ولذا ذکر السيّد علي بن طاووس في کتاب «أمان الأخطار» قال: «ويصحب المسافر معه کتاب مصباح الشريعة ومفتاح الحقيقة عن الصادق عليه السلام ، فإنه کتاب لطيف شريف في التعرض بالتسليک إلي الله جل جلاله والإقبال عليه، والظفر بالأسرار التي اشتملت عليه.

وأما ما ذکره من أنّ راويه شقيق البلخي فالوجه فيه ما أشار إليه في أول البحار» من أنّ الشيخ روي في مجالسه بعض أخباره هکذا: أخبرنا جماعة عن أبي المفضل الشيباني بإسناده عن شقيق البلخي عمن أخبره من أهل العلم.

قال وهذا يدل علي أنّه کان عند الشيخ قدس سره وفي عصره وکان يأخذ منه ولکن لا يثق به کل الوثوق، ولم يثبت عنده کونه مرويا عن الصادق عليه السلام وأنّ سنده ينتهي إلي الصوفية، ولذا اشتمل علي کثير من اصطلاحاتهم وعلي الرواية عن مشايخهم، ومن يعتمدون عليه في رواياتهم»(1) انتهي.

أقول: وإني لم أظفر بمثل هذا السند في «أمالي» الشيخ المنسوب إلي إينه بعد الفحص البليغ إلا أنّه کفي بشيخنا المجلسي عطر الله مرقده ناقلا بصيرا وناقدا

ص: 342


1- بحار الأنّوار : ج 32/1

خبيرا.

نعم، ما ذکره جيد بعد ملاحظة الأسلوب والحکاية عن بعض مشايخهم وغير

ذلک، لکنه لا يمنع من الاعتبار في الجملة سيما بعد شهادة السيّد له بما سمعت.

وأما ما ذکره في معني الخبر فبعيد جدا خصوصا بعد التعبير بالکنه، وتفريع

الوجدان والفقدان عليه.

ولعل فيما أشار إليه من المعاني البعيدة عن الأذهان کفاية وبلاغا لو وجد

مساغا للبيان.

ومنها ما ذکره الفاضل المحقق القمي صاحب «القوانين» قدس سره حيث سئل عن ذلک، فأجاب قدس سره عنه بقوله: «إن العبودية يحتمل کونه مصدرا من صفة الذات بمعني کون الشخص عبدا أو صيرورة الشخص عبدا، ويمکن أنّ يکون مصدرا لصفة الفعل مثل عابد، وحينئذ فالمراد کون الشخص عابدا، أو صيرورته عابدا متعبدا أو مطيعا.

والربوبية تحتمل المعاني الثلاثة، فالمعني أنّ ماهية العبودية وحقيقة إطاعة العبد وانقياده لمولاه جوهرة ، يعني خصلة نفيسة عزيزة، تشبيها لها بالجواهر العالية الثمينة، کنهها يعني ذاتها وجوهرها وما به قوامها الربوبية، يعني التشبة بالرب والتخلص بأخلاقه في جميع صفاته وأفعاله حتي في الخلق والإيجاد، لا بمعني

خلق الأجسام بل بمعني إحياء النفوس وإيلادها بالتعليم والإرشاد (ومن أحياها فکأنّما أحيا الناس جميعا)(1) أو المراد صيرورته ريا لقواه البهيمية، ومالکا لها، ومسلطا عليها بالرياضات والمجاهدات، فإذا فعل ذلک فيصل له حقيقة العبودية يعني لا يحصل حقيقة العبودية إلا مع حصول حقيقة الربوبية بأحد المعنيين اللذين

ص: 343


1- المائدة : 32.

هما التشبة بالرب في صفاته والتريب علي قوتيه الشهرية والغضبية، فما فقد من العبودية بعد التدبر والتفکر في حقيقتها والفحص عن أرکانها ومقدماتها وأجزائها بأنّ لم يبلغ إليه فطنته ولم تصل إليه معرفته وجد في الربوبية، فإن معرفة حقيقة العبودية محولة علي معرفة حقيقة الربوبية بأحد المعنيين ، فبعد الإطلاع عليها يعثر حينئذ علي ما فقده من العبودية ويطلع عليه ويصيرا خبيرا علي ما فقده من شرايطها وأطوارها.

وما خفي عن الربوبية وأشکل عليک الإحاطة بمقامها بأحد المعنيين أصيب العلم به في مرحلة العبودية بأنّ تعبد وتطيع بقدر علمک ، کما قال عليه السلام : «من عمل بما يعلم ورثه الله علم ما لم يعلم» (1)

فحاصل الکلام أنّ کنه العبودية هو المشي علي طريقة الربوبية، ولو کان علي وجه المشابهة فما وصل إليه عقلک في استدراک طريقة الربوبية، فالعمل عليه هو نفس العبادة، والمشي عليه هو المشي علي طريقة العبودية ، وما لم يصل إليه عقلک من طريقة الربوبية فعليک بالعمل فيما عرفته من العبودية فإنه يوصلک إلي ما لم تعرفة من الربوبية التي هي کنهه وأصله فتصير بعد ذلک کاملا في العبودية واصلا إلي کنهها وهو المشي علي طريقة الربوبية بأحد المعنيين.

ثم ذکر أنّ المراد من الاستشهاد بالآية الاستدلال بقوله : (أو لم يکف بربک أنّه علي کل شيء شهيد ) (2) علي أنّه سبحانه موجود في غيبتک وحضرتک، يعني أنّ حقيقة العبودية وکنهه هو التشبه بالرب، والتخلق بأخلاقه، أو التربب علي القوتين کي يحصل بذلک التجرد وقطع العلائق وصرف النظر عما سوي الله والانقطاع إليه بشراشره .

ص: 344


1- بحار الأنّوار : ج 128/40.
2- فصلت : 53.

ووجه کون حقيقة العبودية ذلک ولزوم بلوغ العبد في العبادة إلي هذه المرتبة أنّه تعالي شهيد علي کل شيء وموجود ورقيب في حال حضورک مع الله ، وحال غيبتک وغفلتک منه، يعني إذا کان الله مع العبد بهذه المثابة من القرب والحضور فلابد للعبد أنّ يسلک في عبادته هذا المسلک الذي هو التشبه بالرب والتسلک علي القوتين.

ولذلک قال عليه السلام بعد ذلک : «وتفسير العبودية بذل الکلية وسبب ذلک منع النفس عما تهوي وحملها علي ما تکره ومفتاح ذلک ترک الراحة وحب العزلة وطريقة الافتقار إلي الله عزّ وجل، قال رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم : أعبد الله کأنّک تراه ، فإن لم تکن تراه فإنه يراک»(1)

أقول : هو رحمة الله وإن أجاد فيما أفاد لکنه لم يأت بتمام المراد، فالتحقيق أنّ يقال : إن المراد بالربوبية هو الربوبية إذ مربوب التي هي من مراتب الفعل حسب ما مرت إليه الإشارة.

وبالعبودية هي القيام بجميع وظائف الانقياد والطاعة في جميع نشأت الوجود بحيث لا يحصل له الفتور في شيء من العبادات القلبية والقالبية ، بل ولا في شيء من التوجهات الإقبالية العلمية والعملية علي ما هو مقتضي الولاية الکلية ولاستقامة في الطريقة الإلهية إلي أنّ يتحقق في مقام الولاية التي هي الإحاطة والتصرف في الملک والملکوت بإذن الله بعد إجابة نداء : «عبدي أطعني فکن مثلي»(2)حيث إنه قد وصل حينئذ إلي درجة المحبة وصار محبوبا لله سبحانه «فإذا

ص: 345


1- مصباح الشريعة : باب (100).
2- لم أظفر بهذه العبارة علي الحديث ، نعم قد مر مضمونه عن شرح التوحيد للقاضي سعيد القمي: ج 1، ص316 هکذا: « يا ابن آدم ! أطعني أجعلک مثلي ، إذا قلت لشيء: کن، فيکون».

أحبه کان سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، إن دعاه أجابه، وإن سأله أعطاه(1)، بل قد يمزج بالمحبة لحمه ودمه فضلا عن قلبه وفؤاده إلي أنّ يغيب عن نفسه، ويذهل عن حسه فضلا عن غيره فيکون کما قيل :

جنوني فيک لا يخفي وناري فيک لا تخبو

فأنّت السمع والأبصار والأرکان والقلب

وحينئذ فيضمحلّ من إنانيته، ويحيي حياة طيبة بالتوجه إلي ربه، ويصير قلبه وعاء لمشيته، ومحلا لإرادته ، فيفعل بإرادته ما يشاء في التکوين، ولا يشاء إلا ما يشاء الله رب العالمين.

وهذا هو تجلي الرب له بصفة الربوبية المشار إليه في العلوي «تجلي لها ريها

فأشرقت، وطالعها فتلألأت وألقي في هويتها مثاله فأظهر منها أفعاله (2)

وهذا المقام الذي هو نهاية قوس الإمکان إنما يحصل بالتحقق في مقام العبودية التي کنهها الربوبية إذ مربوب في عالم الملک والملکوت حسبما سمعت، وهو الفقر الکلي الإقبالي الذاتي الذي إفتخر به سيد الأنّبياء صلي الله عليه وآله وسلم حيث قال : «الفقر فخري وبه أفتخر علي الأنّبياء من قبلي» (3)

ومن ثم اشتقت العبودية من الحروف الثلاثة التي مر تفسيرها في کلام مولانا

الصادق عليه السلام، بل إنما ذکر ذلک التفسير في ذيل الکلام المتقدم (4)

ومن هنا يظهر وجه أولوية إطلاق العبد علي النبي صلي الله عليه وآله وسلم في قوله : ( وإنه لما

ص: 346


1- إشارة إلي الحديث القدسي المروي في «محاسن البرقي» : ص 291 عن النبي صلي الله عليه وآله وسلم و قال : قال الله : ما تحبب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه ، وإنه ليتحبب إلي بالنافلة حتي أحبه ، فإذا أحببته کنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ولسانه الذي ينطق به ، يده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها ، إذا دعاني أجبته وإذا سألني أعطيته» .
2- البحار : ج. 165/40 .
3- بحار الأنّوار : ج 69، ص 30 و 49.
4- مصباح الشريعة : باب (100).

قام عبدالله ) (1) وتقديمه علي الرسالة التي هي أشرف من کل شرف في الشهادة العامة «وأشهد أنّ محمدا عبده ورسوله». .

بل وأولوية إطلاقه عليه أيضا کما يظهر من أخبار بدو کينونتهم (2) ومن قوله تعالي : (قل إن کان للرحمن ولد فأنّا أول العابدين)(3) علي أحد الوجوه في الآية.

وبالجملة قد ظهر من تضاعيف ما مر أنّ مطلق العبودية لها عرض عريض أعلاه العبودية المطلقة، وحينئذ فما فقد من العبودية في شيء من المراتب النازلة من التشبه بالمبادي العالية والاتصاف بالحقائق الملکوتية وجد في الربوبية لأنّ المفقود من الأعدام الإمکانية والنقصانات الخلقية التي ينجبر بالإتصاف بالأخلاق الإلهية و التشبه بالمبادي العالية القدسية.

وما خفي من الربوبية لغلبة أحکام الإمکان وظهور النقصان والخسران في الميزان أصيب في العبودية المطلقة بعد التحقق بحقيقتها حسب ما سمعت، ولهذا استشهد الصادق عليه السلام بعد ذلک قوله: (سنريهم آياتنا ) (4) إلي آخر الآية التي أشير في أولها إلي مطلق العبودية الحاصلة بالنظر إلي آياته الآفاقية والأنّفسية وفي آخرها إلي العبودية المطلقة التي لا تحصل إلا بعد التحقق بالفناء الأصلي والشهود الکلي.

هذا ما أدي إليه النظر السقيم (والله يهدي من يشاء إلي صراط

مستقيم ) (5)

ص: 347


1- سورة الجن : 19.
2- راجع بحار الأنّوار : ج 1/15- 26.
3- الزخرف: 81.
4- فصلت : 53.
5- البقرة : 213.

إشارة إلي ما يسمونه بربّ النوع

إعلم أنّه قد ذهب جم غفير من الحکماء الإلهيين والعرفاء الربانيين کأفلاطون ومن يحذو حذوه من المتألهين وصاحب حکمة الإشراق و «المطارحات» وغيرهما، وصدر المتألهين في کتبه، وغيرهم من أهل الإشراق إلي أنّ لکل نوع من الأفلاک والکواکب وبسايط العناصر ومرکباتها ربأ في عالم القدس، وهو عقل مدبر لذلک النوع، وله عناية به وتربية له، لکونه واسطة له في إيصال الفيوض إليه حتي يوصله إلي کماله النوعي أو الشخصي، ولذلک يسمونه رب النوع، ورب الصنم، ورب الطلسم.

وربما يحکي ذلک عن هرمس(1) وأغثاذيمون(2)وجميع حکماء الفرس

فإنهم کانوا أشد مبالغة في أرباب الطلسمات وقد سموه أردي بهشت.

وربما يحکي عن معلم الفلاسفة أرسطاطاليس ولعله في کتاب «أثولوجيا»

المنسوب إليه المترجم بمعرفة الربوبية.

فإنه أشار إليه في مواضع من هذا الکتاب کقوله: إن في الإنسان الجسماني الإنسان النفساني، والإنسان العقلي، ولست أعني أنّه هما لکني أعني به أنّه متصل بهما، وأنّه منه لهما، وذلک أنّه يفعل بعض أفاعيل الإنسان العقلي وبعض أفاعيل الإنسان النفساني، وذلک أنّ في الإنسان الجسماني کلتا الکلمتين أعني النفسانية والعقلية، إلا أنّهما فيه قليلة ضعيفة نزرة، لأنّه صنم للصنم فقد بان أنّ الإنسان الأول حساس إلا أنّه بنوع أعلي وأفضل من الحس الکائن في الإنسان

ص: 348


1- هو إدريس النبي عليه السلام ، ولد في مصر وإسمه بالعبراني خنوخ .- تاريخ الحکماء للقفطي:ص 7.
2- أغثاديمون المصري ، کان أحد الأنّبياء اليونانيين قبل هرمس.

السفلي، وأنّ الإنسان السفلي إنما ينال الحس من الإنسان الکاين في العالم الأعلي العقلي.

وقال في موضع آخر: إن الباريء الأول أبدع جميع الأشياء بغير رويّة ولا فکرة، فأبدع العالم الأعلي ، وفيه جميع الصور تامة کاملة من غير روية لأنّه أبدعها بأنّه فقط لا بصفة أخري غير الإنية، ثم أبدع هذا العالم الحسي وصيره صنما لذلک العالم.

فإن کان هذا قلنا: إنه لما أبدع الفرس وغيره من الحيوان لم يبدع ليکون هنا، لکنه أبدعه ليکون في العالم التام الأعلي الکامل، وأنّه أبدع جميع صور الحيوان وصيرها هنالک بنوع أعلي وأشرف وأکرم وأفضل، ثم أتبع ذلک الخلق هذا الخلق إلي غير ذلک من عباراته المکررة في «أثولوجيا» حيث إنه صرح بثبوت الإنسان العقلي، والفرس العقلي، والنباتات، والحبوب، والحيوانات العقلية، بل السموات العلي العقلية، والأرضين السفلي الحية الشاعرة وساير الصور الحية المدرکة المجردة الإلهية، ويجعلها وسائط للفيوض النازلة إلي هذه الأجسام السفلية الناسوتية ومربية لها.

لکن الشيخ الرئيس في کتبه بل وسائر المشائين لما لم يسلکوا مسلکهم ولم يشربوا مشربهم، لم يذهبوا مذهبهم بل بالغوا في الرد والإنکار عليهم بل کذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله.

ولذا طفق (1)الشيخ الرئيس يقدح علي أفلاطون وسقراط قدحا عظيما وکأنّه لم ينظر إلي ما ذکره المعلم الأول في «أثولوجيا» أو أنّه لم ينسبه إليه بل إلي أفلاطون، کما قيل لکنه بعيد جدا لأنّه يحکي عن أفلاطون کثيرا، کما في شرح

ص: 349


1- طفق : ابتدأ وأخذ.

النفس وغيره فلاحظ، بل في أوّله التصريح بنسبته إليه.

وعلي کل حال فکلام هذا الفيلسوف العظيم في هذا الکتاب يشير إلي شيئين أحدهما إثبات عالم المثال والمقادير المجردة والهورقليا، وأنّ في ذلک العالم جميع ما في هذا العالم من الفلکيات والعنصريات والمواليد بأجناسها وأنّواعها وأصنافها علي وجه أشرف وألطف وأعلي وأبهي وأصفي وهذا هو الذي أشير إليه في الأخبار بمدينة جابلسا وجايلقا، وجنة أبينا آدم، وهما الجنتان المدهامتان اللتان تظهران في آخر الزمان.

ولعل هذا هو المراد بالمُثُل الأفلاطونية التي يحکي عنه القول بها، حيث ذهب إلي أنّ بين عالمي المحسوس والمعقول واسطة تسمي عالم المثل وهو برزخ بين العالمين من حيث التجرد والتعلق وفيه لکل موجود من الموجودات مثال قائم بذاته معلق لا في مادة، وربما يظهر للحس بمعونة مظهر کالمرأة والخيال والماء وغيرها من الأجسام الصيقلية.

والآخر أنّ الأشياء کلها وإن کانت صدرت وأفيضت من المصانع الحق والمبدع المطلق إلا أنّ بعضها صدرت منه بلا واسطة وبعضها بالواسطة، وهذه الأشياء المحسوسة من جميع ما في هذا العالم لها وسائط عالية ومباديء متعالية تتلقي بواسطتها الفيوض الإلهية والأنّوار الربانية، وللنفس الإنسانية خاصية الإحاطة والاستيلاء والإطلاع علي تلک المباديء وإن لم يشاهدها بالعين الحاسة

الناسوتية.

قال : والدليل علي صدق ما قلناه قيدارس الصانع فإنّه لما أراد أنّ يعمل صنم المشتري لم يره في شيء من المحسوسات، ولم يلق بصره إلي شيء يشبه به لکنه ترقي توهمه فوق الأشياء المحسوسة فصور المشتري بصورة حسنة جميلة فوق کل حسن وجمال من الصور الحسنة، فلو أنّ المشتري أراد أنّ يتصور بصورة من

ص: 350

الصور لتقع تحت أبصارنا لما تقبل إلا الصورة التي عملها قيدارس الصانع.

وکيف کان فقد إستدلّوا لإثبات أرباب الأنّواع بوجوه : أحدها: أنّ لکلّ نوع

من أنّواع النباتات والحيوانات والمعادن أفاعيل خاصة به لا يشارکه فيها غيره، بل ربما تکون تلک الآثار والخواص مختلفة باختلاف القوايل وسائر المشخصات، وصدور تلک الأفاعيل من القوي الطبيعية التي لا شعور لها أصلا ممتنعة جدا، کيف ولو تأمل المتأمل لم يجد فيها شيئا من الاختلاف والنقصان والتخلف بوجه من الوجوه، فحفظ الآثار وصدورها علي طريقة مستمرة مستقرة دليل علي أنّ لکل نوع من تلک الأنّواع ريا ملکوتيا عالما شاعرا مفيضا علي الأشخاص الجزئية التي تحت نوعها ممدالها بأنّواع الإمدادات والافاضات والخيرات، حافظا لها من الزيادة والنقصان حسب ما يقتضيه نوعه بعد ملاحظة المشخصات الفاعليّة والقابلية .

ثانيها : أنّ الأفراد التي تحت نوع واحد من الأنّواع من اختلافها بحسب المشخصات الفردية بحيث لا يکاد يوجد فيها فردان متفقان في جميع الخصوصيات والمشخصات متفقة في حد عرضي محفوظ عن الزيادة والنقصان ولو مع اعتبار الطواري والعوارض والمقتضيات الخارجة مثلا لأشخاص الإنسان حد من الطول والعرض واللون والقوة والإدراک والفهم وسائر الکمالات، وکل شخص من أشخاصه متردد بين طرفي حدود نوعه وليس لهذه الحدود حافظ سوي رب النوع، فهو حافظ الکمالات ومصدرها وممدها.

ولذا قيل : إن هؤلاء يتعجبون ممن يقول: إن الألوان العجيبة في ريش من رياش الطواويس إنما کان لاختلاف أمزجة تلک الريشة من غير قانون مضبوط ورب نوع حافظ.

وسبب التعجب انّک تري تلک الألوان مترتبة علي مناسبات صناعية ومشاکلات تعمدية لا اتفاقية مع توافق المتقابلين منها في المقادير والألوان

ص: 351

والاشکال وحصول شکل واحد متناسب من ملاحظة المجموع

ولذا قال مولانا أميرالمؤمنين عليه السلام في الخطبة الطاووسية : « ومن أعجبها خلقاً

الطاووس الذي أقامه في أحکم تعديل، ونضد ألوانه في أحسن تنضيد» (1)

إلي آخر ما ذکره في «نهج البلاغة». .

فلاحظ بل هذه الهيئات العجيبة عندهم ظلال لإشراقات نورية ونسب معنوية في تلک الأرباب النورية، کما أنّ الصور والروائح والطعوم والأشکال والمقادير والقوي وغيرها کلها منسوبة إلي تلک الأرباب، ولعله لذلک قال خاتم الحکماء والمحققين في «التجريد» : «والمصورة عندي باطلة لاستحالة صدور هذه الأفعال المحکمة المرکبة من قوة بسيطة ليس لها شعور أصلاه (2)

بل قيل : إن الغزالي (3)الغ في ذلک حتي أبطل القوي مطلقا، وادعي أنّ الأفعال المنسوبة إلي القوي صادرة عن ملائکة مولة بهذه الأفعال تفعلها بالشعور والاختيار (4)

نعم ذکر العلامة الحلي في شرح «حکمة العين»(5) أنّ المصورة تفيد

التخليق والتشکيل والقوي العاملة والأعراض الخاصة.

ثم قال : وعندنا أنّ استناد التصوير إلي الله تعالي ابتداء من غير توسل هذه

ص: 352


1- نهج البلاغة : ص 520، ط فيض
2- تجريد الاعتقاد للخواجة نصير الدين الطوسي في المسألة الثانية عشرة، في القوي النباتية
3- هو أبو حامد محمد بن محمد بن محمد الغزالي الطوسي المتوفي (500) ه.
4- شرح تجريد الاعتقاد للقوشجي : ص 207.
5- مصنف «حکمة العين» هو نجم الدين علي بن عمر القزويني المعروف بدبيران ، توفي سنة (678) وکان من أساتذة العلامة الحلي، والعلامة قدس سره أول من شرح «حکمة العين » وسماء إيضاح المقاصد .

القوة، فإنه من المستحيل إستناد هذه الآثار العجيبة المختلفة الدالة علي حکمة تؤثرها إلي قوة تفعل من غير توسط إرادة وشعور.

وقال : في کتابه الموسوم به «الأسرار الخفية» : «إن المولدة هي التي تفصل

جزءا من فضل الهضم الأخير ويودعه قوة من جنسه.

قالوا: ومن شأنّها تخليق البزر وتطبيعه وإفادة أجزائه هيأت تناسبها مما يصلح لمبدئية شخص آخر من نوعه، وهذا مما يجزم ببطلانه ، فإن القوي الطبيعية يستحيل أنّ يصدر منها آثار مختلفة.

ثالثها : ما قيل من أنّ هرمس وسقراط وأفلاطون وأغثاديمون وغيرهم من الحکماء المتألهين بل قاطبة الإشراقيين وإن لم يذکروا الحجة علي إثبات أرباب الأنّواع إلا أنّهم قد ادعوا فيها المشاهدة الحقة المتکررة المتبينة علي رياضاتهم ومجاهداتهم وخلعهم أبدانهم في إرصادهم الروحانية ومعارجهم النورانية، کما أشار إليه المعلم الأول في کلامه المذکور في «أثولوجيا» حيث قال: إني ربما خلوت بنفسي إلي آخر ما ذکره، وفي کلمة المحکي من قيدارس الصانع کما سمعت، وعلي هذا فليس لنا أنّ نناظرهم، کما أنّ المشائين لا يناظرون بطلميوس وأبرخس(1) وأضرابهما، حتي أنّ أرسطو عول علي إرصاد بايل.

وإذا اعتبر رصد شخص أو أشخاص معدودة من أصحاب الأرصاد الجسمانية في الأمور الفلکية حتي تبعهم من تلاهم، وبنوا عليه علوما کالهيئة والنجوم فکيف لا يعتبر قول أساطين الحکمة والتاله في أمور شاهدوها بإرصادهم الروحانية في خلواتهم ورياضاتهم، بل هذا أولي، وليس للمشائين دليل علي حصر

ص: 353


1- کان من حکماء الکلدانيين وماهرا في الرياضيات سيما الأرصاد والنجوم واعتمد عليه بطلميوس اليوناني وذکره کثيرا في «المجسطي».

العقول في عشرة أو عشرين، بل العقول کما بينه شيخ الإشراق(1)يحصل منها مبلغ کثير علي الترتيب الطولي، ويحصل من تلک الطبقة علي نسب بينها طبقة أخري عرضية تجري مجري الفروع يحصل من الفروع الأجسام الفلکية والعنصرية من البسائط والمرکبات.

رابعها : أنّ أرباب الطلسمات إذا بالغوا في التجريد والتفريد والرياضة والانخلاع عن الشواغل الجسمانية والاتصال بالمجرات النوارنية يحصل لهم قوة الاقتدار علي تسخير أرباب النوع فينفذ عليها أمرهم ويجري فيها مشيتهم ولذا تري أو تسمع أنّ بعضهم رفع الطاعون عن بعض البلاد وحبسه منهم ما دام حکم الطلسم باقيا، وبعضهم حبس البقّ عن أرض معينة، وقد صنع بعضهم قدحة مملوءة ماء يشرب منه العساکر العظام فلا ينقص منه شيء، وبعضهم حوضا علي باب النوبة من رخام أسود ولا ينقص علي الدهر، وجميع أهل المدينة يشربون منه ولا ينقص ماؤه، وإنما صنع لهم ذلک لبُعدهم عن النيل، وقربهم من البحر المالح

والمعروف في الألسنة عن شيخنا البهائي ا أنّه حبس الطاعون عن

إصبهان.

وسمعت عن بعض الثقات أنّ الميرفندرسکي(2) حبس البقّ عن حجرته التي کان مقيما فيها بأصبهان، حتي أنّ بعض الأعاظم أراد امتحان ذلک فوضع فيها الحلاوات من العسل وغيره فلم يقربه البقّ أصلا.

ص: 354


1- هو شهاب الدين أبو حفص السهروردي ، قتل بقلعة حلب في أواخر سنة (586) وله من العمر نحو (36) سنة ، وله تصانيف منها «حکمة الإشراق» . - معجم المؤلفين : ج 7، ص 310.
2- هو أبو القاسم الميرفندرسکي الفيلسوف المتأله المتوفي سنة (1050) ه .

وقد ذکر الفاضل الجلدکي (1) في کتاب «البرهان في علم الميزان» أنّ من طلاسم جلب المنافع ما في دير الزرازير بالروم، فإنّه صنع قبة هائلة وحولها محيط کبير بجدران قائمة، ووضع علي رأس القبة زرزور(2)له جسم مختلط تحت کل من أرجله صفة زيتونة وهو ماسک لها بأظفاره، ثم رکبّه علي أعلي القبة في وقت رصده وطالع إختاره ، فکلّما ينقضي العام، ويأتي مثل ذلک اليوم الذي کان في نصب هذا الطلسم تأتي الزرازير من أقطار الدنيا من غامض علم الله تعالي بعدد لا يحصي لکثرته، وکل طائر منها في منقاره زيتونة سوداء، وفي رجله زيتونتان، فيلقي الثلاث زيتونات علي رأس الطلسم الذي في أعلي القبة، فيجتمع من ذلک الزيتون في ذلک اليوم الواحد في ذلک المحيط شيء کثير فيعصرونه زيتا، ويأکلون منه من العام العام في تلک الأماکن التي ليس بها شيء من شجر الزيتون أصلا لقوة البرد هنالک ، فليت شعري من أين تنقل تلک الزرازير ذلک الزيتون الذي تحمله لذلک الطلسم، وليت شعري ما السبب المسخر لها والمحرک لأنّ تفعل ذلک ، وليت شعري هل هن زرازير ؟ أم أرواح روحانية متطورة علي صفاتها؟ وهل ينقلون ذلک الزيتون من محظور أو مباح؟ وربما أقامت الزرازير تنقل الزيتون إلي ذلک اليوم من اليوم إلي مدة سبعة أيام». .

إلي أنّ قال : ومن جلب المنافع أيضا ما هو مشاهد إلي الآن في ساحل مدينة

يافا (3)من اجتماع الأسماک من جميع أنّواعها إلي طلسم موضوع لهم هنالک.

ومن العجب أنّ الجُهّال يظنون أنّ السمک يحجّون إلي ذلک المکان من العام

ص: 355


1- هو أيد مر بن علي بن أيد مر الجلدکي عز الدين کان من علماء الکيمياء، توفي بالقاهرة سنة (743) أو (750) أو (762) . - معجم المؤلفين : ج 3، ص28.
2- الزرزور - بضم الزائين -: طائر أکبر من العصفور .
3- مدينة في قرب بحر الروم - المسمي مديترانة بالفارسي -

الي العام، ولا يصيدون منها شيئا، وإنما کان الناس يصيدون منها الأسماک فيأکلون ويملحون منها ما يکفيهم من الحول إلي الحول.

إلي غير ذلک من الطلاسم الکثيرة التي منها دُثر ومضي وتعطلت منافعها، ومنها باق إلي الآن مثل طلسم العقارب وطلسم الحيات في مدينة حمص، وهما باقيتان إلي الآن، فالعقارب لا تؤذي ولا الحيات في اقليم حمص من الجانب الشرقي من النهر أبدا، وأما في الجانب الغربي فهي قاتلة.

وکان بمدينة حمص طلسم للنمل في قبة منيعة ففتحها جاهل من الجُهّال ووجد في صدرها صفّة مبنيةً، ومن فوقها مکان مربع، ومن فوقه طبق من فضة، وفيه نمل من ذهب صغار، ومن فوقها نملة من فضة، وعليها أخري من ذهب ، فلما رفع الطبق من مکانه تسلط النمل علي الناس في مدينة حمص.

وفي إقليم الهرمل طلاسم عظيمة باقية وکذلک الأهرامات والبراني من إقليم

مصر وغير ذلک في کثير من الأقاليم.

وأما طلاسم الکنوز والموانع فإنها من العجائب التي لا يکاد أنّ يصدق الأخبار عنها إلا من له نظر و عقل وجنان فافهم ذلک، وتعجب مما صنع الرحمن» انتهي.

إلي غير ذلک مما لا يکاد يحصي، ولعلّ وقوع نوعه من المقطوعات، وذلک

إنما هو بتسخير ربّ هذا النوع والحکم عليه بما يريد.

بل ولعلّ من هذا الباب الإطّلاع علي الأعمال العجيبة والصنايع الدقيقة التي

ربّما يُعدّ في السحر وخوارق العادات وکذا الاستشراف علي العلوم والمعارف .

ولذا يحکي عن هرمس: أنّه کان يقول : إن ذاتا روحانية ألقت إلي المعارف

فقلت لها: من أنّت ؟ فقال : أنّا طباعک التام.

لکنک لا يخفي عليک أنّ ما ذکرناه في هذا البحث إنما هو مع الجري علي

ص: 356

مقاصد القوم، فإنّه لما کانوا مختلطين مع أوساخ الدهرية والطباعية زعموا أنّ الأفاعيل الصادرة عن العناصر والمعادن والنباتات منسوبة إلي قوي طبيعية صادرة عنها من دون شعور و اختيار وإرادة ، بل لم يثبتوا الشعور والإرادة إلّا للحيوان من حيث إنّه حيوان، أي حسّاس متحرک بالإرادة

وأما من حيث کونه جسما أو ناميا فلم يثبتوا له الإرادة بل زعموا أنّ أفعاله طبيعية، ولذا وقعوا في مثل المصورة في حيث وبيص، حيث إنّ القوة البسيطة العديمة الشعور کيف يمکن أنّ يصدر عنها أفعال مختلفة وأشکال وتخاطبط متناسبة فالتجأوا في خصوص المصورة أو في مطلق القوي حسب ما سمعت إلي إثبات الملائکة.

والذي يظهر من التأمّل التامّ في الکتاب العزيز وکلمات أهل البيت عليهم السلام أنّ

کل شيء دخل في صقع الوجود فله نحو من الشعور.

ولذا قيل : إنّ الوجود کله شعور واختيار وإرادة وتمييز وفهم وحياة، فهذه الصفات ثابتة لکل شيء من الأشياء علي حسب رتبتها في الوجود فما کان قريبا بالمبدء کانت فيه هذه الأوصاف أقوي وأظهر وأشد کالإنسان الکامل الذي هو خليفة الرحمن وما کان بعيدا عنه کانت في أضعف وأخفي کالحرکات والألوان سائر الأعراض والجمادات والأفاعيل الصادرة عنها إنما تصدر بالشعور والإرادة أيضاً ولذا نطقت الشريعة الحقّة بتسبيح الأشياء کلها من الدرة إلي الذرة ، کما قال الله

سبحانه :(يسبح لله ما في السموات وما في الأرض ) (1).

وقال: ( تسبّح له السموات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا

يسبح بحمده ولکن لا تفقهون تسبيحهم)(2)

ص: 357


1- الجمعة : 1
2- الإسراء: 44.

وقال : (ألم تر أنّ الله يسجد له مَن في السموات ومن في الأرض والشمس

والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وکثير من الناس...)(1)

وقال : (وألم تر أنّ الله يسبّح له مَن في السموات والأرض والطير صافّات

کل قد علم صلاته و تسبيحه )(2)

وقال :( يا جبال أوبي معه والطير)(3)

وورد في موضعين من القرآن شهادة الأدوات والجوارح کالأيدي والأرجل ( وقالوا لجلودهم لم شهد تهم علينا قالوا أنّطقنا الله الذي أنّطق کل شيء) (4)

ولذا قال شيخنا المجلسي علي ما حکاه عن بعضهم في الآية الثالثة : «إن هذه الأية تدل علي أنّ العالم کلّه في مقام الشهود والعبادة إلا کلّ مخلوق له قوة التفکر، وليس إلا النفوس الناطقة الإنسانية والحيوانية خاصة من حيث أعيان أنّفسهم، لا من حيث هياکلهم، فإنّ هياکلهم کساير العالم في التسبيح له والسجود، فأعضاء البدن کلّها مسبّحة ناطقة، ألا تراها تشهد علي النفوس المسخّرة لها يوم القيامة من الجلود والأيدي والأرجل والألسنة والسمع والبصر وجميع القوي.

ثم قال المجلسي قدس سره: والنفوس والأرواح أيضا لها جهتان : فمن جهة مسخرة منقادة لربها في جميع ما أراد منها، ومن جهة أخري عاصية مخالفة لربها بل من هذه الجهة أيضاً مسخرة ساجدة خاضعة لإرادة ربها حيث أقدرها علي ما أرادت ودالة علي وجود صانعها الذي جعلها مختارة مريدة قادرة علي الإتيان بما أرادت، فهي من هذه الجهة أيضاً مسبحة لربها ذاکرة له دالة عليه، منادية بلسان حالها من جهة إمکانها وحدوثها وافتقارها بأنّ لي ربا جعلني مريدا مختارا لحکمته

ص: 358


1- الحج : 18.
2- النور: 41.
3- سبأ : 10.
4- فصلت : 21.

وکماله وعنايته الأزلية، کما قال بعض العارفين: «عين إنکار منکر إقرار أست».

ثم قال : والکلام في هذا المقام دقيق، لا يمکن إجراء اکثر من ذلک منه علي الأقلام ويصعب درکها علي الأفهام، وقد أومأت إلي شيء منه في شرح کتاب توحيد «الکافي»(1)

قلت : وبعد ثبوت هذه المقدمة لا ريب أنّه قد جرت عادته بأنّ لا يصل الفيض إلي الأدني إلا بواسطة الأعلي، ولا إلي الماديات إلا بواسطة المجردات ، حسب ما هو مشروح في موضعه، وأنّ الله تعالي ملائکة موکلة بمصالح العالم وأموره، أشرفهم أربعة موکلة علي الأرکان الأربعة العرشية، وهي الخلق والرزق والأحياء والإماتة، وملائکة أخر موکلة علي الأملاک والعناصر والکواکب والسحاب والرياح والأشجار والنباتات والحيوانات وأفراد الإنسان وألحاظهم وألفاظهم وحرکتهم وسکونهم وفکرهم ونظرهم وقواهم وعلي القوي الطبيعية من الجاذبة والدافعة والممسکة والهاضمة والمولدة والمصورة وغيرها.

ومنهم الملکان الخلاقان يخلقان في الأرحام ما يشاء الله ويشکلانه ويصورانه ويکتبان عليه ما يشاء الله من الرزق والحياة والعمر والشکل والسعادة والشقاوة إلي غير ذلک.

ومنهم الملائکة الموکلّة بقطر الأمطار وإنزالها وبلوغها إلي مواقعها، فإنه ينزل

مع کل قطرة من المطر ملک لا يصعد أبدا.

ومنهم الملائکة المشار إليها بقوله : (الصّافات صفاً فالّزاجرات زجراً فالتاليات ذکراً) (2) وبقوله في سورة الذاريات : (وفالمقسّمات أمراً)((3)حيث

ص: 359


1- بحار النوار ج168/60ط طهران دار الکتب الاسلاميّه
2- الصفات : 1 - 2 - 3.
3- الذاريات : 4.

فتره مولانا أميرالمؤمنين عليه السلام في خبر ابن الکوا بالملائکة (1)

وقوله تعالي : (والمرسلات عرفا)(2)الآيات، وبقوله : ( والنازعات غرقا) (3) إلي قوله : (فالمدبرات أمرا)(4) المفسّرة بالملائکة، تدبر أمر العباد من السنة إلي السنة، کما عن مولانا أميرالمؤمنين عليه السلام (5) أو بالملائکة الأربع الموکّلة الحاملة لعرش التکوين أو بالأفلاک التي يقع فيها أمر الله فيجري بها القضاء في الدنيا ، کما رواه علي بن ابراهيم(6)

إلي غير ذلک من الملائکة التي لا تحصي ولا تستقصي( وما يعلم جنود

ربک إلا هو وما هي إلا ذکري للبشر) (7)

وفي الصحيفة السجادية»: «والذين علي أرجائها إذا نزل الأمر بتمام وعدک ، وخُزاّنِ المطر، وزواجر السحاب ، والذي بصوت زجره يَسمَعُ زَجَل

الرعُود (8)، وإذا سبّحت به حفيفة (9) السحاب إلتمَعَت(10)صواعق البروق، ومُشيّعِي الثلج والبرد، والهابطين مع قطر المطر إذا نزل، والقُوّامِ علي خزائنِ الرياح، والموکّلين بالجبال فلا تزول، والذين عَرَّفتهَم مثاقيلَ المياه وکيلَ ما تحويه لواعجُ الأمطار وعوالجها ورُسلِک من الملائکة إلي الأرض بمکروهِ ما ينزل من

ص: 360


1- احتجاج الطبرسي : ص 386.
2- المرسلات : 4.
3- النازعات : 1.
4- النازعات : 5.
5- نور الثقلين : ج 5، ص 498، ح 13، عن مجمع البيان .
6- نفس المصدر : ج 5، ص 498، ح 13 عن علي بن ابراهيم
7- المدثر : 31.
8- الزجل : الصوت العالي
9- حفيفة السحاب : دوّيه .
10- إلتمعت : أضائت.

البلاء، ومحبوبِ الرخاء والسَفَرة الکرام البررة، والحفظة الکرام الکاتبين(1)الدعاء.

ثم إن استناد الشؤون الإلهية والفيوض الربانية إلي هذه الملائکة الذين هم مسخّرة بأمر الله تعالي لا يقدح في التوحيد، بل لعله لا يتم الآية بعد ملاحظة اختلاف المراتب و تفاوت الدرجات، وبطلان الطفرة، وعموم الفيض، کما أنّه لا يقدح فيه ما أشرنا إليه مرارا من وساطة نبينا وآله المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين لجميع الخلق في الفيوض التکوينية والتشريعية، وأنّه لا يصل إلي شيء من ذرات العالم شيء من الفيوض إلا بحجابتهم ووساطتهم وبابيتهم، مع أنّ الفيوض کلها منه سبحانه ، بل يصح أنّ يقال : إنه لا مؤثر في الوجود إلا الله، له الخلق والأمر تبارک الله رب العالمين.

ولذا نسب قبض الأرواح مرة إليه سبحانه : (الله يستوفي الأنّفس حين

مو تها)(2)

ومرّة إلي ملک الموت: (قل يتوفاکم ملک الموت الذي وُکّل بکم) (3)

وأخري إلي الرسل الذين هم أعوان ملک الموت من الملائکة (حتي إذا جائتهم رسلنا يتوفّونهم ) (4) الآية و(توفّتهم رسلنا)(5)، (تتوفّاهم الملائکة طيبّين )(6)(تتوفّاهم الملائکة ظالمي أنّفسهم )(7)

ص: 361


1- الصحيفة السجادية : دعائه عليه السلام في الصلاة علي حملة العرش وکل ملک مقرب . رقم(12).
2- الزمر : 42.
3- السجدة : 11.
4- الأعراف : 37.
5- الأنّعام : 61.
6- النحل : 32.
7- النحل : 28.

وقال مولانا اميرالمؤمنين عليه السلام في خبر الزنديق الذي إذعي التناقض في

القرآن علي ما رواه في «الاحتجاج»:

«إن الله تعالي أجل وأعظم من أنّ يتولّي ذلک بنفسه، وفعل رسله وملائکته فعله، لأنّهم بأمره يعملون، فاصطفي جل ذکره من الملائکة رسلا وسفرة بينه وبين خلقه ، وهم الذي قال الله فيهم : (الله يصطفي من الملائکة رسلا ومن الناس )(1)

فمن کان من أهل الطاعة تولت قبض روحه ملائکة الرحمة، ومن کان من أهل المعصية تولت قبض روحه ملائکة النقمة، ولملک الموت أعوان من ملائکة الرحمة والنقمة يصدرون عن أمره، وفعلهم فعله، وکل ما يؤتونه منسوب إليه ، فإذا فعلهم فعل ملک الموت، وفعل ملک الموت فعل الله، لأنّه يتوفي الأنّفس علي يد من يشاء ويعطي ويمنع ويثيب ويعاقب علي يد من يشاء، فإن فعل أمنائه فعله، کما

قال : (وما تشاؤون إلا أنّ يشاء الله ) (2)- (3).

فهؤلاء الملائکة المسخرون المدبرون بأمره المتصرفون في صقع التقدير بملکة التسخير هم الذي سماهم هؤلاء الفلاسفة بأرباب الأنّواع، فإن رجع الخلاف إلي مجرد التسمية فالأمر سهل، وإلا فينبغي إنکار الملائکة نظرا إلي استناد تلک الأفاعيل إلي قوي طبيعية غير شاعرة، کما صدر عن بعض متأخري الفلاسفة المتشبثين بأذيال أوساخ الدهرية والطباعية .

ولعل من أمعن النظر في کلمات قدماء الفلاسفة يعلم أنّه لا خلاف بينهم في ذلک، بل هم موافقون للشريعة الحقة في إثبات هذه الأنّوار المجردة الفلکية والأرضية المسماة بالملائکة، وستسمع إن شاء الله تمام الکلام في المقام في ذکر

ص: 362


1- الحج : 75.
2- الإنسان : 30.
3- الاحتجاج : ج 1، ص 367، طقم وعن بعضهم أنّها الأشباح المثالية المقدارية الموجودة في عالم المثال الذي هو المتوسط بين عالم المفارقات وعالم الماديات، وحمله الصدر الأجل الشيرازي علي أنّ لکل نوع من الأنّواع الجسمانية فردا کاملا في عالم الإبداع، وأنّه هو الأصل والمبدأ لسائر أفراد النوع وهي فروعه ومعاليله وآثاره، وذلک الفرد لتمامه وکماله لا يفتقر إلي محل، بخلاف هذه التشخصات التي هي لضعفها ونقصها مفتقرة إلي المادة وعوارضها، ولذا جاز اختلاف أفراده حقيقة واحدة في القيام بالمادة وعدمه لاختلافها کمالا ونقصا .

قصة نبينا آدم عليه الصلاة والسلام.

ومما يظهر النظر في کثير مما أسلفنا منهم من الکلام والله ولي الفضل

والإنعام.

وأما المذهب المحکي عن أفلاطون فقد اختلفوا في تأويل کلامه، وبيان

مرامه علي أقوال کثيرة.

فعن الفارابي الملقب عندهم بالمعلم الثاني في مقالته المسماة بالجمع بين الرأيين : أنّ مراده من المثل هي الصور العلمية القائمة بذاته تعالي علما حصوليا لأنّها باقية غير دائرة ولا متغيرة وإن تغيرت وزالت الأشخاص الزمانية والمکانية .

وعن شيخهم الرئيس أنّ المراد منها وجود الطبايع النوعية في الخارج أي الکلي الطبيعي للأشخاص وهو الماهية لا بشرط شيء، فحکموا بوجود الماهيات المجردة عن العوارض في الخارج بناءا علي وجودها بعين وجود أشخاصها، مع عوارضها ولواحقها المادية وجودا متکثرا في العين، متوحدا في الحد والنوع.

وعن شيخ الإشراق أنّها عبارة عن سلسلة الأنّوار العقلية الغير المترتبة في العلية النازلة في آخر مراتب العقول فيصدر منها أنّواع الأجسام البسيطة فلکية کانت أو عنصرية والمرکبة حيوانية کانت أو نباتية أو جمادية.

ص: 363

إلي غير ذلک من الاحتمالات التي لا داعي للتعرض لها بعد وضوح ضعفها علي أنّ نسبة تلک المطالب السخيفة إلي ذلک القائل رجم بالغيب واتهام بالعيب فإن الصور العلمية منفية عندنا، بل عند معشر الموحدين، وترتب العقول غير ثابت وأدلتهم ضعيفة، کعدم ثبوت الفرد الکامل من النوع بنفسه.

نعم، قد قررنا في موضعه أنّ الذوات والماهيات والذاتيات، بل کل ما کان له نحو من الامتياز کلها مجعولة مخلوقة لله سبحانه في صقع الإمکان أو الأکوان، غير مفتقرة في تحققها إلي شيء من المشخصات الفردية، ويترتب عليها في صقع وجودها جملة من الأحکام والآثار والخواص وهي المعبر عنها بالأمور الواقعية والقضايا النفس الأمرية وبحسبها يعتبر الصدق والکذب.

ولعل کلام الشيخ الرئيس لا يأبي عن حمله علي هذا، کما أنّ کلام أفلاطون يمکن حمله علي إرادة عالم المثال الذي هو البرزخ بين المحسوس والمعقول، ولذا سموه بالمثل الأفلاطونية». .

وکيف کان فالخطب فيه سهل، إذ المهم إنما هو تحقيق الحقائق لا تعيين المقاصد، مع أنّ ما ذکرناه علي وجه الاحتمال لا التسجيل (والله يقول الحق وهو يهدي السبيل ).

ص: 364

الفصل الرابع:في البحث عن قوله تعالي ( العالمين)

وهو جمع عالَم بالفتح من العلَم بالفتحتين بمعني العلامة، ولذا سميت به الراية إسم لما يعلم به کالطابع والقالب والخاتم بفتح العين فيها لما يطبع أو يقلب أو يختم .

ولذا قال الراغب : «فاعَل کثيرا ما يجيء إسماً للآلة التي يفعل بها الشيء کما سمعتَ لکنه غلب هنا في الأجناس التي يعلم بها الصانع تعالي، لا في الأفراد ولا فيما يعلم به غيره، ولذا لا يقال : عالم زيد وعمرو، وإنما يقال : عالم الأفلاک وعالم الأرواح، وعالم الملکوت والجبروت والناسوت، بل ولا يطلق باعتبار ما يعلم به غيره تعالي ومن العِلم بالکسر، ولعلّه لا يأبي عنه إطلاق کثير عنهم، لو لم يکن ظاهرا أو صريحا فيه، بل الأصل فيهما واحد.

نعم، ربما يقال : إنّه جمع لا واحد له من لفظه کالقوم والرهط . وعن أبي البقاء أنّه إسم موضوع للجمع ولا واحد له في اللفظ .

وعن الزجاج (1)أنّه لا واحد لعالم من لفظه لأنّه لما جمع أشياء مختلفة فإن

جعل له مفرد صار جمعا لأشياء متفقة.

وفيه : أنّه لا وجه للقول بکونه جمعا بعد جريان حکم المفرد عليه، وأما

ص: 365


1- الزجاج : أبو اسحاق ابراهيم بن السري النحوي ، توفي سنة (319) ه .

بحسب المعني فهو الجميع لا الأفراد المجتمعة.

مع أنّ الظاهر أنّ إفادة الکلية مستندة إلي حذف المتعلق الذي هو المضاف إليه علي وجه الظهور، لا الوضع فغلب إستعماله مطلقا علي ما سوي الله، ومضافا إلي شيء من کليات العوالم فيما أضيف إليه ، کما أنّ الغالب کون المضاف إليه جنسا من أجناس ذوي العلم أو من أجناس ما سوي الله ، فيقال : عالم الجبروت، وعالم العقول وعالم النفوس، وهکذا.

وأما أفراد الجنس فقيل : إنه لا يجوز إطلاقه عليها، فلا يقال : عالم زيد وعمرو، ولذا أورد عليه بأنّه إذا لم يطلق علي شيء من أفراد الجنس المسمي به فإذا عرف باللام إمتنع استغراقه لأفراد جنس واحد، فإن اللفظ المفرد إنما يستغرق أفرادا يطلق علي کل واحد منها وکذا إذا جمع وعزف لم يتناول إلا الأجناس التي يطلق عليها دون أفرادها.

وأجيب بأنّ العالم لما کان مطلقا علي الجنس بأسره نزل منزلة الجمع ، ومن ثم قيل : هو جمع لا واحد له من لفظه ، فکما أنّ الجمع إذا عرف استغرق آحاد مفرده وإن لم يکن صادقا عليها کقوله :( والله يحب المحسنين) (1)أي کل محسن ، ويقال : لا أشتري العبيد أي کل واحد منهم، کذلک العالم إذا عرف يشمل أفراد الجنس المسمي به.

وفيه تأمل، فإن شمول العالم الأفراد الجنس ليس کشمول الجمع لمفرداته،

بل کشمول الکل لأجزائه .

ولذا ربما قيل : بشمول العالمين لکليات العوالم، لا لأجزائها، فالفرق بينه وبين العالم دلالته علي استغراق الأجناس، دون العالم الدال علي جنس واحد منها ،

ص: 366


1- آل عمران :134.

متعين بالتعريف أو منتشر بالتنکير، ويمکن تأييده بما في تفسير الإمام عليه الصلاة والسلام قال عليه السلام(رب العالمين) يعني مالک العالمين وهم الجماعة وفي بعض النسخ الجماعات من کل مخلوق من الجمادات والحيوانات(1)إلي آخر ما مر في تفسير الرب.

ولعلّ الخطب فيه سهل فإنّ تربية الکل مشتمل علي تربية جميع الأجزاء والجزئيات، والبحث في صدق العالَم من العالمين علي کل فرد من الأجناس هين جدّاً، نعم لو کان المراد بالعالم مجموع ما سوي الله کان مع العالمين متحدا في المصداق حينئذ.

ولذا قيل : إن العالم والعالمين کغرفة وعرقات، فإن عرفات جمع بحسب الصيغة واللفظ لا بحسب المعني والحقيقة إذ لم يستعمل إلا علما، ولم يوجد له واحد، وعرفة ليس واحد عرفات، لأنّ مدلولهما واحد، إذ ليس ثَمَّة أماکن متعددة کل منها عرفة حتي يقال : إنها جمعت علي عرفات ، فالعالم إذا أريد به المجموع من حيث المجموع فليس هناک غيره شيء من الأفراد حتي يجمع علي العالمين، فهو جمع لفظا لا معني.

وفي القاموس»: العالم الخلق کله أو ما حواه بطن الفلک ولا يجمع فاعل

بالواو والنون غيره، وغير ياسَم(2)

وربما يقال : إن العالم إسم لذوي العلم من الملائکة والثقلين وتناوله لغيرهم

علي سبيل الاستتباع، ولعله من باب استعمال الفاعل بالفتح في معني الفاعل بالکسر ، لکنه غير معهود، بل غير صحيح سيما مع أنّ المفتوح لم يستعمل إلا في

ص: 367


1- تفسير الإمام العسکري عليه السلام : ص 11.
2- يقال : الياسمون والياسمين : نبات زهره طيب الرائحة .

الآلة، فالأظهر گونه عند هذا القائل أيضا إسم آلة لما يعلم به الصانع، لکن لا لمطلقه بل لجنس واحد منه، وهو ذو العلم.

وربما يقال : علي أحد الوجهين المذکورين أنّ المراد به أفراد الإنسان، فإن کل واحد منهم عالم من حيث اشتماله علي کل ما في العالم الکبير من العقول النفوس والأرواح والظلال وقوي الأفلاک والعناصر والمعادن والنباتات والحيوان بل روي بعض أهل العلم عن مولانا الصادق عليه السلام أنّه قال : «العالم عالمان، عالم کبير، وهو الفلک وما فيه ، وعالم صغير وهو الإنسان». .

وقال : «سمي کل إنسان عالما لأنّ فيه جواهر العالم الأکبر من الأخلاط الأربعة لأنّ لحمه کالأرض وعظامه کالجبال ودمه في العروق کالمياه في الأنّهار، ونفسه کالريح وشعره کالنبات وفيه من الملک العقل، ومن البهائم الشهوة، فصار عالما يعلم به وحدانيته کما يعلم بالعالم الکبير» (1)

قلت : والذي ينبغي أنّ يقال في المقام : أنّ العالم حسب ما سمعت له إطلاقات عديدة، فيطلق علي مجموع ما سوي الله، وعلي خصوص ذوي العقول منهم، وعلي کل ما يعلم به الصانع، وعلي خصوص جنس من المخلوق، بلا فرق بين الأجناس العالية المنطقية کعالم الأجسام، والسافلة کعالم الحيوان، والإنسان، وعلي کل فرد من أفراد الإنسان، لکونه مما يعلم به الصانع، أو لاشتماله علي جميع ما في العالم الکبير وعلي کل جزئي من جزئيات عالم الأکوان بلا فرق بين الأجزاء

ص: 368


1- لم أظفر علي مصدره ولکن في الاختصاص» : ص 142 روي عن العالم عليه السلام مايقرب منه ، قال : «خلق الله عالمين متصلين : فعالم علوي، وعالم سفلي، ورکب العالمين جميعا في ابن آدم وخلقه کرويا مدو را فخلق الله رأس ابن آدم کقبة الفلک ، وشعره کعدد النجوم ، وعينيه کالشمس والقمر، ومنخريه کالشمال والجنوب وأذنيه کالمشرق والمغرب، وجعل المحه کالبرق، وکلامه کالرعد، ومشيه کسير الکواکب .. الخ» وسيأتي تمامه في المتن إن شاء الله .

الروحانية والجسمانية وهذه الإطلاقات وإن کانت جارية في العالم، فلا يستوعب جميع المخلوق علي بعض الوجوه، إلا أنّ العالمين يستوعب جميع الأفراد من جميع الأجناس، وبالجملة جميع ما سوي الله بالشمول الجمعي أو المجموعي أو الأفرادي، فيحمل عليه ما لم يقم قرينة علي خلافه، فلا يصغي حينئذ إلي ما ربما يقال : من أنّ العالمين أيضا له إطلاقات فيطلق علي الإنس والجن کقوله (ليکون للعالمين نذيرا) (1)وعلي الإنس کقوله : (بارکنا فيها للعالمين ) (2) وعلي أهل

الکتاب کقوله : (ومن کفر فإن الله غني عن العالمين )، علي خصوص المؤمنين کقوله :

( ولکن الله ذو فضل علي العالمين )، وعلي المنافقين :( أو ليس الله بأعلم بما في صدور العالمين) ، وعلي أهل کل قرن من القرون: (وأنّي فضلتکم علي العالمين )، وعلي مجموع السموات والأرض وما بينهما کما في قوله : (قال فرعون وما رب العالمين قال رب السموات والأرض وما بينهما) ، وعلي کل ما سوي الله کما في آية الحمد.

إذ فيه : أنّ الظاهر إرادة المعني الأخير منه في سائر الموارد أيضاً، و اختصاص المورد لا يقتضي باختصاص المعني بعد صلاحية الإطلاق في الجميع، ومساعدة الوضع في توافق العالمين.

قد سمعت التصريح في الخبر المتقدم عن مولانا الصادق عليه السلام بانقسام العالم إلي العالم الصغير والکبير، وقد وقع التلويح به في أخبار أخر أيضا، کما روي عنه عليه السلام أنّ الصورة الإنسانية هي أکبر حجة لله علي خلقه، وهي الکتاب الذي کتبه بيده ، وهي الهيکل الذي بناه بحکمته، وهي مجموع صور العالمين، وهي المختصر

ص: 369


1- الفرقان : 1.
2- الأنّبياء: 71.

من العلوم في اللوح المحفوظ، وهي الشاهد علي کل غائب ، وهي الحجة علي کل جاحد، وهي الطريق المستقيم إلي کل خبر، وهي الصراط الممدود بين الجنة والنار(1)

وفي الأشعار المنسوبة إلي مولانا اميرالمؤمنين عليه السلام :

دوائک فيک وما تشعر ودائک منک ولا تبصر وتحسب أنّک جرم صغير وفيک انطوي العالم الأکبر وأنّت الکتاب المبين الذي بأحرفه يظهر المضمر

فلا حاجة لک في خارج تخبر عنک بما تنظر

وإليه الإشارة في التفسير الباطن بقوله :( فلا أقسم بمواقع النجوم) ((2)، فإن الإنسان مطرح لأشعة الأنّوار القدسية، وبقوله : ( وعلم آدم الأسماء کلها)(3) أي جعله مظهرا لجميع الأسماء الإلهية، والتجليات الربانية ولذا اختصّ من بين الموجودات بالخلافة الإلهية في العوالم الکلية ، فإن نسخة وجود آدم موافقة لما في العالم وأنّموذج له، ولذا يقال : إن الإنسان عالم صغير والعالم إنسان کبير، وربما يقال بالعکس علي بعض الوجوه، فقد اندرج في الإنسان علي وجه الإجمال والاختصار کليات ما في العوالم کلها، فإنه قد تنزل منها وأنّصبغ بصبغها.

ففي الشخص الإنساني نشأة إجمالية قرآنية، وفي الإنسان الکبير نشأة

تفصيلية فرقانية.

کما رواه صاحب کتاب «الاختصاص» قال العالم : خلق الله عالمين : فعالم علوي وعالم سفلي، ورکب العالمين جميعا في ابن آدم وخلقه کرويا مدورا، فخلق

ص: 370


1- شرح الأسماء الحسني : ج 12/1 .
2- الواقعة : 75.
3- البقرة: 31.

الله رأس اين آدم کقبة الفلک، وشعره کعدد النجوم، وعينيه کالشمس والقمرء ومنخريه کالشمال والجنوب، وأذنيه کالمشرق والمغرب، وجعل لمحه کالبرق، وکلامه کالرعد، ومشيه کسير الکواکب، وقعوده کشرفها، وغفوه(1)کهبوطها، وموته کاحتراقها، وخلق في ظهره أربعة وعشرين فقرة کعدد ساعات الليل والنهار، وخلق له ثلاثين معي کعدد الهلال ثلاثين يوما، وخلق له اثني عشر وصلا کعدد السنة إثني عشر شهرا، وخلق له ثلاثمائة وستين عرقا کعدد السنة ثلاثمائة وستين يوما، وخلق له سبعمائة عصبة واثني عشر عضوا، وهو مقدار (2) ما يقيم الجنين في بطن أمه، وعجنه من مياة أربعة : فخلق المالح في عينيه ، فهما لا يذوبان في الحر، ولا يجمدان في البرد، وخلق المر في أذنيه لکيلا تقربهما الهوام، وخلق المني في

ظهره لکيلا يعتريه الفساد وخلق العذب في لسانه ليجد طعم الطعام والشراب ،

وخلقه بنفس وجسد وروح، فروحه التي لا تفارقه إلا بفراق الدنيا، ونفسه التي يري بها الأحلام وجسمه هو الذي ييلي ويرجع إلي التراب (3).

وذکر بعض أرباب التحقيق في بيان هذا التطبيق أنّ نظير الأفلاک طبقات أعضائه التسعة المتناضدة المصلح کل عال لسافله من المخ والعظم والعصب واللحم والدم والأوردة والشرائين والجلد والشعر والظفر.

ونظير الاقسام الاثني عشر المسماة بالبروج الثقب الاثني عشر التي نصفها في اليمين الجنوبي ونصفها في الشمال الشمالي، وهي ثقبتان في کل من العين والأذن والأنّف والثدي والفرج مع الفم والسرة.

ونظير السيارات الأعضاء الرئيسية السبعة وهي الدماغ والقلب والکبد

ص: 371


1- الغفو : النومة الخفيفة.
2- «و هو مقدار ما يقيم» أي الإثنا عشر ، فإن أکثر الحمل إثنا عشر شهرا علي الأشهر .
3- بحار الأنّوار : ج 253/61 - 254، ح ، عن «الاختصاص» : ص142.

والطحال والرئة والکلية والأنّثيان، أو الأعضاء الآلية وهي اليد والرجل والعين والأذن واللسان والبطن والفرج.

ونظائر روحانيات الکواکب السبعة الفعالة القوي السبعة المدرکة، فالحواس الظاهرة کالمتحيرة، والعاقلة کالشمس ، والناطقة کالقمر، إذ الناطقة مستفيدة للنور من العائلة، ولذلک عدد حروف النطق کعدد منازل القمر.

وکما أنّ لکل من الخمسة المتحيّرة بيتين لکلّ من الحواس الخمس مجريان،

فللذوق الفم والفرج، وللمس اليدان، والباقي ظاهر.

وکما أنّ لکل من الشمس والقمر بيتا واحدا، فللعاقلة بيت واحد هو وسط الدماغ کوسط الأفلاک للشمس، وللناطقة اللسان، ونظير الجوزهرين الصحة والسقم حيث لا يدرک ذاتهما بل أثرهما ولذلک غلب آثارهما في الدماغ والقلب کاثار الجوزهرين في الشمس والقمر بالکسوف والخسوف. ولذلک يسري صحتهما وسقمهما في سائر الأعضاء سريان حال الشمس والقمر في سائر الکواکب ، ونظير الأرکان الأخلاط.

ثم البدن کالأرض، والعظام کالجبال، والبطن کالبحر، والعروق کالأنّهار ، والمخ کالمعدن، والشعر کالنبات، والقداّم کالمشرق، والخلف کالمغرب، واليمين کالجنوب، والشمال کالشمال، والأنّفاس کالرياح، والصوت کالرعدّ والبکاء کالمطر، والفم کظلمة الليل، والنوم کالموت، واليقظة کالحياة، والصبي کالربيع، والشباب کالصيف، والکهولة کالخريف، والشيخوخة کالشتاء، والحرکة کدوران الکواکب، والحضور کالطلوع، والغيبة کالغروب، واستقامة أموره کاستقامة الکواکب، والتوقف کالوقوف، والندامة کالرجوع، والجاه والرفعة کالشرف، والأوج وعکسه کالهبوط، والنفس الإنسانية کالملِک، والجسد کالمدينة، والقوي کالعسکر، والملائکة والأعضاء کالرعايا والخدم، والحواس الظاهرة کاصحاب الأخبار

ص: 372

المنصوبة في کل ناحية معينة من المملکة لا تصال خبر مخصوص لامشارک له.

ثم القوي الخمس الباطنة للنفس الناطقة ثلاثة منها کالندماء والحجاب والخواص المطلعة علي أسرار الملک وهي المتخيلة في مقدم الدماغ، والمفکرة في وسطه، والحافظة في آخره.

والرابعة وهي الناطقة کالترجمان المعبر عما في ضمير الملک. والخامسة وهي العاقلة الوزير المدبر لأمر المملکة وسياسة الرعية .

وهذه القوي متفاوتة في إتمام أمر الملک، فالمتخيّلة تأخذ صور المحسوسات من الحواس الظاهرة ويسلّمها للمفکّرة التي يتصرّف فيها ويميّز بين الحق والباطل ويسلّمها إلي الحافظة ليأخذ منها الذاکرة، ويظهرها الناطقة بعبارة توافق إرادة النفس لتستعملها العاقلة في أعمالها المذکورة.

إلي غير ذلک من وجوه المطابقة والموافقة، لکنها مع ابتنائها علي بعض

المناسبات کما تري لا يخلو جملة منها من بعض التکلف.

والذي ينبغي أنّ يقال في المراد بهذا التطبيق مع عدم المنع عما ذکر، سيما مع ورود بعض النصوص به : أنّ الإنسان وإن کان من حيث حقيقته ونورانيته وملکوته سابقا علي الأشياء کلها في رتبة الوجود إلا أنّه في عالم الناسوت متأخّر عنها جميعا، إذا الحقائق الملکوتية يتأخر عنها في الناسوت ما کان مقدما منها في الملکوت کتأخّر ظهور الثمرة عن کينونة الشجرة مع أنّها الأصل والمادة للشجرة، وتأخر خاتم الأنّبياء صلي الله عليه وآله وسلم

عن سائرهم مع أنّه کان نبيا و آدم بين الماء والطين ، بل آدم ومن دونه تحت لوائه ، وکلهم خلقوا من أشعة نوره، وفاضل ظهوره، وتأخر إفاضة الأرواح عن خلق الأبدان مع أنّ الله تعالي خلق الأرواح قبل الأبدان بأربعة آلاف عام أو سبعين ألف عام، فلما خلق الله سبحانه کليّات العوالم مبتداً بالأعلي الأصفي الألطف الأشرف إلي أنّ انتهي الأمر إلي الأسفل الأکثف خلق الإنسان في أنّزل

ص: 373

مراتب الوجود وآخرها، ولذا (خلق السموات والأرض في ستة أيام)(1)أي سموات العقول والأرواح وغيرها من المجردات التي لا تعلق لها بمادة أو بمدة ، وأرض النفوس والأجسام وغيرها من الماديات التي هي کالقشور والأکمام والکثافات، فلما تمت الأدوار وعادت الأکوار وکملت الأنّوار واستخبت الأسرار بدأ خلق الإنسان من طين، ثم جعل نسله من ماء مهين في قرار مکين، وحيث إن أول السنة يوم السبت المتعلق برسول الله صلي الله عليه وآله وسلم ان لکنه أول ما خلق الله فکان خلق الإنسان في يوم الجمعة لکونه مجمعا للعوالم الکلية، ولذا سمي به.

وإليه الإشارة بقول مولانا الصادق عليه السلام علي ما رواه في «الکافي» قال : «إن الله عزوجل لما أراد أنّ يخلق آدم علي نبينا وآله وعليه السلام بعث جبرئيل في أول ساعة من يوم الجمعة فقبض بيمينه قبضة من السماء السابعة إلي السماء الدنيا وأخذ منکل سماء تربة، وقبض قبضة أخري من الأرض السابعة العليا إلي الأرض السابعة القصوي فأمر الله کلمته فأمسک القبضة الأولي بيمينه والقبضة الأخري بشماله» (2) الخبر.

وذلک أنّ الله تعالي خلق ألف ألف عالم وألف ألف آدم، ونحن في آخر

العوالم وآخر الآدميين، فأول ساعة من يوم الجمعة إشارة إلي أول آخر مراتب العوالم بأجمعها، وهو يوم جمع فيه مراتب الوجود الکلية من عالم المشية والعقل والنفس والروح والمثال والطبيعة والعنصر، فبدأ خلقه من الطين الذي هو مجمع القابليات، ومحل الاستعدادات، ومطرح أشعة التجليات والإشراقات، ثم أفيض عليه من القوي والأنّوار مبتدأ من الأخت الذي هو القوي النباتية ثم الحيوانية

ص: 374


1- الأعراف : 54.
2- بحار الأنّوار : ج 87/67 ، ح10، عن «الکافي»: ج5/2.

وهکذا إلي أنّ ينتهي إلي الناطقة القدسية والکلية الإلهية، عکس القوس الأولي هبوطا وصعودا، فالإنسان قد اجتمعت فيه قوي المعادن والنباتات والحيوانات والملائکة، بل قوي بساط العالم من العناصر الأربعة، والأفلاک السبعة التي لکل منها روحانية خاصة، وکوکبها محل القلب منها، فإن الشمس ينبوع القوة الحيوانية ، والقمر ينبوع القوة الطبيعية، وزحل ينبوع القوة الماسکة، والمشتري ينبوع القوة النامية، وعطارد ينبوع القوة الفکرية والذکرية، والمرّيخ ينبوع القوة الغضبية ، والزهرة ينبوع القوة الشهرية، ولذلک يکون عطارد والمريح والزهرة في المواليد أدلّة علي أخلاق صاحبها وصناعته.

کما ذکر معلم الأحکام بطلميوس في کلمة من کلماته ، وربما تساعده

التجارب الأحکامية في زائجة المواليد.

نعم، ذکر بعض مشايخنا عطر الله مرقده أنّ روحانية القوة العلمية في فلک المشتري، والخيالية في فلک الزهرة، والفکرية في عطارد، والوهمية في المريخ، والتعقلية في زحل، والحياة في فلک القمر، والوجود الثاني من الشمس ، فقبض من کل هذه الأفلاک قبضة، ومن محدد الجهات قبضة خلق منها قلبه، ومن الکرسي قبضة خلق منها صدره، حکاه من بعض العارفين ثم قال : وأنّا أکتب هذا فيما کتبت حيث أقر به قلبي استنادا إلي اعتبارات منها قطعية ومنها ظنية متاخمة للعلم، والمستند ما يشير إليه الأخبار.

قلت : ولست بصدد ترجيح أحد القولين علي الآخر، لکن المقصود المشترک بينهما کون الإنسان مجمعا لقواها وروحانيتها مطرحا لأشعة نجومها، ولذا سماه الله تعالي في باطن قوله : ( فلا أقسم بمواقع النجوم وإنه لقسم لو تعلمون عظيم) (1)

ص: 375


1- الواقعة : 75.

ومنه انکشف السر عن قول مولانا سيد الشهداء روحي له الفداء :

«يا من استوي برحمانيته علي العرش، فصار العرش غيبا في رحمانيته کما کانت العوالم غيبا في عرشه، محقت الآثار بالآثار، ومحوت الأغيار بمحيطات الأفلاک الأنّوار (1)

فالمراد بالعرش في المقام هو قلب المؤمن الذي صارت العوالم غيبا فيه

واستوي عليه الرحمن برحمانيته

ولذا ورد:

لا يسعني أرضي ولا سمائي ولکن يسعني قلب عبدي المؤمن» (2)

فکما أنّ القلب عرش للعالم الصغير فکذلک العرش العظيم قلب للإنسان الکبير، وإدراک الإنسان لکل من العوالم والمراتب إنما هو بواسطة ما خمر فيه من القبضة المأخوذة من ذلک العالم.

فالعوالم متطابقة متوافقة، وتلک القبضات کالجداول والأنّهار المتصلة بالبحر،

وکالکوي والشبابيک التي يدخل منها الضوء في البيت.

مظاهر الإنسان ناسوتي جسماني عنصري، وفي بدنه العنصري بدن مثالي برزخي، وله سبيل آخر إلي عالم المثال المسمي بعالم الهورقليا وبالخيال المنفصل والمراد بالسبيل هو الخيال المتصل الذي يحصل به الإطلاع علي المقادير المجردة عن المواد العنصرية، ولذا يسمي بالخيال المقيد ، کما أنّ عالم المثال يسمي بالخيال المطلق، وعند تحقق النوم وانقطاع توجه النفس عن التصرف في هذا البدن ، ينفتح الباب بينها وبين هذا العالم، فيشاهد ما فيها من الحقائق المتجلية التي يعبر عنها

ص: 376


1- بحار الأنّوار: ج 227/98 ، عن «الاقبال»: ص 350.
2- بحار الأنّوار: ج55 /39.

بالرؤيا الصادقة وبالمبشّرات، أو من التجليات الفاسدة التي يختلقها بواسطة الوهم المعبرة عنها بأضغاث الأحلام

وله أيضا باب متصل إلي عالم النفوس بأقسامها الأربعة الآتية وإلي العقول

بأقسامها، فإن للعقل رؤوسا بعدد الخلائق، کما ورد في الخبر: «ولکل آدمي رأس من رؤوس العقل» (1)

وهذا الباب قد ينسد فيعرض الجنون الذي هو ستر العقل بحجاب الغفلة، أو

المعصية أو الأمور البدنية، وغلبة الأخلاط الغير طبيعية.

ومع انفتاحه قد يتسع فيکمل العقول ويتم الأحلام فيصير القلب مجتمعا

والمدينة حصينة، والصدور أمينة والأحلام وزينة.

وهذا إذا انفتح الباب ونعق الغراب، وازيل ريشه لکينونة العقاب، ووضع الله يده علي رؤوس أولي الألباب بظهور ولي الله الذي عليه الحساب وإليه الإياب. ولذا قال مولانا الباقر علي علي ما رواه في «الکافي»: «إذا قام قائمنا وضع الله يده علي رؤوس العباد فجمع بها عقولهم وکملت به أحلامهم» (2)

وله أيضا باب إلي عالم المشية يسمي بالفؤاد واب الاستعداد ومادة المواد، ومجمع الأضداد، وغاية المراد، وأقصي البلاد من أرض السواد و فاقد الأنّداد، وهو المشية الجزئية والکلية الإلهية به يشاهد بعين اليقين، ويصل إلي حق اليقين، وهو المعبر عنه بالوجود الأول، والوجود المطلق أي بالنسبة إلي الشخص، وإلا فهو مقيّد

ص: 377


1- بحار الأنّوار : ج 1 /99، عن «علل الشرايع، عن علي بن أبي طالب عليه السلام أنّه قال: «إن النبي صلي الله عليه وآله وسلم سئل مما خلق الله عزّ وجل العقل ؟ قال : خلقة ملک له رؤوس بعدد الخلائق من خلق ومن يخلق إلي يوم القيامة ولکل رأس وجه ، ولکل آدمي رأس من رؤوس العقل وإسم ذلک الإنسان علي وجه ذلک الرأس مکتوب ... الخ».
2- بحار الأنّوار : ج328/52

ينتهي إلي المطلق، کما أنّ المشية الجزئية تنتهي إلي الکلية التي هو العقل .

ثم إنک إذا تتبعت أنّحاء الموجودات وتطور الکائنات وجدتَ في کل نوع من أنّواعها أو جنس من أجناسها صفة غالبة يختص بها، بحيث کانّه صار مظهرا لها من بين سائر الموجودات، ولذا لا يکاد يفقدها فرد من أفراده

وأما الإنسان فهو الجامع لجميع هذه الصفات والأطوار بحسب القبول والاستعداد ، ولذا يتصف بها أفراده علي وجه الجمعية أو التوارد أو الاختصاص الناشي من الفعل لا الذات لبقاء قبول غيرها، بل فعلية غيرها في غيره من الأفراد، ولذا تري فيه خاصية الملائکة من الطاعة والحياة ، بل التقوي والانتعاش والتغذي بالعبادة، والخاصية الکلية لجميع الحيوانات من جلب المنفعة ودفع المضرة إما قهرا وغلبة کالسباع، وهم الملوک والجبابرة والفراعنة، الذي يسعون في الأرض علوا وفسادا، أو تملقا کالکلاب والهرّة، أو حيلة کالعنکبوت والثعلب، ففيهم الزاهد العابد کالملائکة، والطاغي المتمرد کالشياطين والخناس في صدور الناس کالوسواس، والشجاع القوي المتهوّر کالأسد، والمتکبر المتنمر کالنمر، والجبان کالأرنب ، والسخي کالديک، والبخيل کالکلب، والمتسلح کالقنفذ، والهارب کالطير، والفخور کالطاووس، والسارق الموذي کالفأرة، والوحشي کالنمر، والأنّيس کالحمام، والحقير کالحمار، والصانع المهندس کالنحل، والسليم کالغنم، والحمول کالبقر، والحقود کالجمل، والحريص کالخنزير، والجامع الذخار کالنمل، والشموس کالبغل، والمبارک کالطوطي ، والشوم کالبوم، إلي غير ذلک من الصفات الظاهرة في مظاهر الموجودات المجتمعة في المؤخر الجامع الذي هو الإنسان، ولذا کان مظهرا في کينونته للمقدم الجامع الذي هو إسم الله، لاحتوائه علي جميع النشآت والتجليات، وقابليته للتعرض لقاطبة النفحات، وتوسطه بين العوالم الخمس الکلية التي يعبر عنها بالحضرات، لا علي الوجه الذي فسرها الصوفية من أنّ أولها حضرة

ص: 378

الغيب المطلق، وعالمها عالم الأعيان الثابتة في الحضرة العلمية، لا بتنائه علي رأيهم الفاسد الکاسد من وحدة الوجود، والغيب المطلق مما لا إسم له ولا رسم، والحضرة العلمية ليس فيها شيء، والأعيان الثابتة غير ثابتة عندنا، بل معها ينثلم التوحيد.

بل علي الوجه المستفاد من طريق أهل البيت عليهم الصلاة والسلام، وهو أنّ الحضرة الأولي هي الحضرة المشية، وهو الغيب المطلق وعالمها عالم الجبروت والرحموت، وتقابلها عالم الشهادة المطلقة المعبر عنها بعالم الملک والناسوت، وحضرة الغيب المضاف.

وهي تنقسم إلي ما يکون أقرب إلي الغيب المطلق، وعالمها عالم العقول

والنفوس، والأرواح الملکوتية المجردة من التعلقات الذاتية بالمواد الناسوتية.

وإلي ما يکون أقرب إلي الشهادة، وعالمها عالم المثال، وهو المقادير

المجردة عن المواد حسب ما يأتي إليه الإشارة .

وأما الخامسة فهي الحضرة الجامعة للحضرات الأربعة المذکورة، وعالمها عالم الإنسان الجامع لجميع العوالم، وما فيها حسب ما سمعت إشارة إلي تعدد العوالم، وقد استفاضت الأخبار بل تواترت بتعدد العوالم وتکثرها وترتبها في السلسلة الطولية والعرضية، بل يستفاد من بعضها أنّ هذا العالم الجسماني المحاط بالجسم الأعظم المسمي بمحدد الجهات بما فيه من اليسائط والمرکبات، وما تعلق به من الأرواح والقوي عالم من تلک العوالم الکثيرة التي أنّهاها بعض الأخبار إلي ألف ألف عالم، کما أنّ أبانا أبا البشر وذريته آدم من أولئک الآدمين الألف ألف.

ففي «الخصال» و«التوحيد» عن جابر بن يزيد ، قال : سألت أبا جعفر عليه السلام عن قول الله عزّ وجل:( أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد)(1)

فقال :

ص: 379


1- سورة ق : 15.

«يا جابر؛ تأويل ذلک أنّ الله عزّ وجل إذا أفني هذا الخلق وهذا العالم، وأسکن أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار جدد الله (1)عزوجل عالماً غير هذا العالم، وجدّد خلقا(2)من غير فحولة ولا إناث ، يعبدونه ويوحدونه ، وخلق لهم أرضا غير هذه الأرض تحملهم، وسماء غير هذه السماء تظلهم، لعلک تري أنّ الله عزّ وجل إنما خلق هذا العالم الواحد، وتري أنّ الله عزّ وجل لم يخلق بشرا غيرکم، بلي والله ! لقد خلق الله تعالي ألف ألف عالم، وألف ألف آدم، أنّت في آخر تلک العوالم وأولئک الآدمييّن»(3)

وفي «الخصال» و «منتخب البصائر» عن الصادق عليه السلام قال : «إن الله عزّ وجل اثني عشر ألف عالم، کل عالم منهم أکبر من سبع سماوات وسبع أرضين ما يري عالم منهم أنّ الله عزّوجل عالما غيرهم وأنّا الحجة عليهم»(4)

ولعل اختلاف العدد فيهما منزل علي ملاحظة کليات العوالم وجزئياتها، وکذا في غيرهما من أخبار الباب، مع ظهور الحمل في بعضها علي خصوص السلسلة الطولية أو العرضية أو العموم.

فإن أخبار هذا الباب مختلفة جدا، فمنها ما سمعت من الألف ألف، والاثني عشر ألف، ومنها ما روي عن ابن عباس عن رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم و أنّه قال : «إن من وراء قاف سبع بحار وکل بحر خمسمائة عام، ومن وراء ذلک سبع أرضين يضيء نورها لأهلها، ومن وراء ذلک سبعون ألف أمة خلقوا علي أمثال الطير، وهو وفرخه في الهواء لا يفترون عن تسبيحه واحدة، ومن وراء ذلک سبعون ألف أمة خلقوا من

ص: 380


1- في بعض النسخ : «أوجد الله» .
2- في الخصال : «وجدد عالما» .
3- الخصال : ج 652/2 ، ح 54، طقم مؤسسة النشر الإسلامي 1414 و«التوحيد» : ص 277 ، باب 38، ح 2.
4- الخصال : ج 2/ 639، ح 14.

ريح، طعامهم ريح وشرابهم ريح، وثيابهم من يح، وآنيتهم من ريح، ودوابهم من ريح، لا تستقرّ حوافر دواّبهم إلي الأرض إلي قيام الساعة، أعينهم في صدورهم، ينام أحدهم نومة واحدة ، ينتبه ورزقه عند رأسه، ومن وراء ذلک ظل العرش، وفي ظل العرش سبعون ألف أمّة ما يعلمون أنّ الله خلق آدم ولا ولد آدم، ولا إبليس ولا ولد إبليس ، وهو قوله تعالي : ( ويخلق ما لا تعلمون) (1)- (2)

ومنها ما رواه في «الکافي» عن ابن عباس ، قال : سئل أميرالمؤمنين عليه السلام عن الخلق ، فقال : «خلق الله ألفا ومائتين في البر، وألفا ومائتين في البحر، وأجناس من بني آدم سبعون جنسا، والناس ولد آدم ما خلا يأجوج ومأجوج» (3)

ومنها ما رواه في «البصائر» عن مولانا أبي لحسن عليه السلام قال : «إن الله خلف هذا النطاق زيرجدة خضراء، فمن خضرتها (4) اخضرت السماء، قيل (5) وما النطاق ؟ قال : الحجاب، ولله وراء ذلک سبعون ألف عالم، أکثر من عدد الإنس والجن ، کلهم يلعن فلانا وفلانا» (6)

ومنها أخبار القباب، ففي «الکافي» عن أبي حمزة، قال : قال أبو جعفر عليه السلام ليلة وأنّا عنده ونظر إلي السماء : يا أبا حمزة! هذه قبة أبينا آدم، وإن الله عزّوجل سواها تسعة وثلاثين قبة فيها خلق الله ما عصوا الله طرفة عين»(7)

وفيه، عن عجلان أبي صالح، قال : دخل رجل (8) علي أبي عبدالله عليه السلام فقال

ص: 381


1- النحل : 8.
2- بحار الأنّوار : ج 348/57 ، ح 44.
3- بحار الأنّوار : ج 6 / 314، عن «الکافي» .
4- في البحار : « منها اخضرت السماء». .
5- في البحار : قلت - والقائل هو الراوي عبيد الله بن عبدالله الدهقان -.
6- بحار الأنّوار: ج 91/58، ح 10، عن «منتخب البصائر». .
7- بحار الأنّوار : ج 57 / 335، عن روضة الکافي ، ح 300.
8- في بحار الأنّوار : عن عجلان أبي صالح قال : سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قبة آدم فقلت له : هذه قبة آدم ؟...

له : جعلت فداک ! هذه قبة آدم؟ قال: نعم، ولله قباب کثيرة، ألا إن خلف مغربکم (1)هذا تسعة وثلاثين مغريا أرضا بيضاء مملوة خلقا يستضيئون بنورنا لم يعصو الله عزّوجل طرفة عين، لا يدرون أخلق الله آدم أم لم يخلقه، يتبرؤون من فلان وفلان» (2)

وفي «البصائر» عن الصادق عليه السلام : «إن من وراء عين شمسکم هذه أربعين عين شمس فيها خلق کثير ، وإن من وراء قمرکم أربعين قمرا فيها خلق کثير لا يدرون أنّ الله خلق آدم أم لم يخلقه... الخ» (3)

وفيه عن أبي جعفر الباقر عليه السلام أنّه يقول: «إن من وراء شمسکم هذه أربعين عين شمس، ما بين شمس إلي شمس اربعون عاما فيها خلق کثير ما يعلمون أنّ الله عزوجل خلق آدم أو لم يخلقه، وإن من وراء قمرکم هذا أربعين قمرا، ما بين قمر إلي قمر مسيرة أربعين يوما فيها خلق کثير ما يعلمون أنّ الله عزّوجل خلق آدم أو لم يخلقه... الخ» (4)

وفي خبر السحابة المروي بطرق عديدة عن سلمان رضي الله عنه.. إلي أنّ

قال : وقمنا ندور في قاف ، فسألت مولاي أمير المؤمنين عل مما وراء قاف ، فقال :

ما ورائه(5) أربعون دنيا، کل دنيا مثل هذه الدنيا أربعين مرة» .

فقلنا : کيف علمک بذلک ؟

ص: 382


1- في البحار : «أما إن خلق مغربکم ...» .
2- بحار الأنّوار : ج 27 / 45، ح ، عن «البصائر» ص 145.
3- بحار الأنّوار : ج 329/57 ، عن «البصائر».
4- بحار الأنّوار : ج 27 / 45، عن «البصائر» ص145.
5- في «نفس الرحمن في فضائل سلمان»: قال عليه السلام: «ورائه ما لا يصل إليکم علمه» ، فقلنا : تعلم ذلک يا أمير المؤمنين عليه السلام فقال : «علمي بما ورائه کعلمي بحال هذه الدنيا وما فيها ... الخ».

فقال عليه السلام : کعلمي بهذه الدنيا ومن فيها وبطرق السماوات والأرضين»(1)

وعن ابن عباس عن أميرالمؤمنين عليه السلام أنّه قال : إن من وراء هذه الآفاق عالماً لا يصل إليه أحد غيري، وأنّا المحيط بما وراء، وعلمي به کعلمي بدنياکم هذه، وأنّا الحفيظ الشهيد عليها، ولو أردت أنّ أجوب الدنيا بأسرها والسموات السبع والأرضين في أقل من طرفة عين لفعلت، لما عندي من الإسم الأعظم ... الخ»(2)

فقبة أبينا آدم هي محدد الجهات المحيط بجميع أجسام هذا العالم، ولکونه بحرکته بجميع أجسام هذه العالم، ولکونه بحرکته الدورية وعاء للزمان عبر عنه بقية الزمان علي بعض الوجوه في دعاء السمات، حيث قال : وبمجدک الذي ظهر الموسي بن عمران علي قبة الزمان (3)بناءا علي قرائته بالزاي المعجمة -.

وإنما قلنا : علي بعض الوجوه لأنّ فيها وجوها أخر علي هذه القراءة، إذ قد فسرت بالمساجد وبيوت الأنّبياء، وبيت المقدس، وبالقبة التي بناها موسي وهارون علي التيه بأمره تعالي فکان معبدا لهم.

قيل : وقد تکرر ذکر هذه القبة في التوراة.

وفي تفسير القمي عن الصادق عليه السلام في حديث ابراهيم علي نبينا وآله وعليه السلام أنّه لما بلغ إسماعيل مبلغ الرجال أمر الله ابراهيم أنّ بيني البيت، فقال : يا رب في أي بقعة ؟ قال : في البقعة التي أنّزلت علي آدم القبة فأضاء لها الحرم فلم تزل القبة التي أنّزلها علي آدم قائمة حتي کان أيام الطوفان، أيام نوح، فلما غرقت

ص: 383


1- نفس الرحمن للنوري : ص 471 - 476، ورواه البحراني في «مدينة المعاجز» عن «منهج التحقيق».
2- بحار الأنّوار : ج336/57، ح26.
3- مصباح المتهجد - البلد الأمين : ص 91، جمال الأسبوع: ص 323، وعنهما البحار: ج 90،ص 96.

الدنيا رفع الله تلک القبة وغرقت الدنيا إلا موضع البيت فسميت البيت العتيق (1)

ومنها خبر الخيام المروي في «البصائر» عن أبي بصير قال : کنت عند أبي عبد الله عليه السلام ، فرکض برجله الأرض فإذا بحر فيه سفن من فضة، فرکب ورکبت معه حتي انتهي إلي موضع في خيام من فضة، فدخلها، ثم خرج، فقال:

رأيت الخيمة التي دخلتها أو لا؟» فقلت : نعم ، قال : «تلک خيمة رسول الله عليه السلام ، والأخري خيمة أميرالمؤمنين عليه السلام ، والثالثة خيمة فاطمة عليهم السلام ، والرابعة خيمة خديجة، والخامسة خيمة الحسن عليه السلام ، والسادسة خيمة الحسين عليه السلام ، والسابعة خيمة علي بن الحسين عليه السلام والثامنة خيمة أبي عليه السلام والتاسعة : «خيمتي وليس أحد منا يموت إلا وله خيمة يسکن فيها» (2)

وفي «البصائر» خبر طويل في إراثة أبي جعفر عليه السلام جابرا ملکوت الأرض، وفيه : فقال لي: «هل تدري أين أنّت ؟»، قلت: لا، قال: «أنّت واقف علي عين الحياة التي شرب منها الخضر »عليه السلام ، وخرجنا من ذلک العالم إلي عالم آخر، فسلکنا فيه فرأينا کهيئة عالمنا في بنائه ومساکنه وأهله، ثم خرجنا إلي عالم ثالث کهيئة الأول والثاني حتي وردنا خمسة عوالم، قال : ثم قال عليه السلام: «هذه ملکوت الأرض ولم يرها إبراهيم، وإنما رأي ملکوت السموات، وهي إثنا عشر عالما، کل عالم کهيئة ما رأيت، کلّما مضي منا إمام سکن أحد هذه العوالم حتي يکون آخرهم القائم في عالمنا الذي نحن ساکنوه»(3) الخبر.

وفيه : إنّ عالم المدينة - وأراد به نفسه - يقطع اثني عشر شمسا واثني عشر

ص: 384


1- بحار الأنّوار : ج 99/12 ، 6، عن تفسير القمي» : ص 51 - 53.
2- بصائر الدرجات : ص 119، وعنه «البحار»: ج245/6 ، ح 75، وج 47: ص 91، ح 97،و 328/57..
3- البصائر : ص ، وعنه «بحار الأنّوار»: ج 57 / 327 - 328.

قمرا، واثني عشر مشرقا واثني عشر مغريا واثني عشر برا واثني عشر بحرا واثني عشر عالما...»(1) الخبر.

ومنها ما رواه ابن طاووس في کتاب «النجوم» قال : إن رجلا أتي علي بن الحسين عليه السلام وعنده أصحابه فقال له : من الرجل ؟ قال : أنّا منجم قائف عراف، فنظر إليه ثم قال : هل أدلک علي رجل قد مرّ منذ دخلت علينا في أربعة آلاف عالم؟ قال : من هو؟ قال عليه السلام: أما الرجل فلا اذکره، ولکن إن شئت أخبرتک بما أکلت وادخرت في بيتک ، قال : نبئني ، قال : أکلت في هذا اليوم حيسا (2)، وأما في بيتک فعشرون دينارا، منها ثلاثة دنانير وازنة، فقال له الرجل : أشهد أنّک الحجة العُظمي والمثل الأعلي وکلمة التقوي، فقال له : وأنّت صدّيق إمتحن الله قلبک بالإيمان فأثبت (3)

وفي «البصائر» ما يقرب منه، إلا أنّ فيه : هل أدلک علي رجل قد مر مذا دخلت علينا في أربعة عشر عالما، کل عالم أکبر من الدنيا ثلاث مرات لم يتحرک من مکانه (4)

تنبيه

لا يخفي عليک أنّ المقصود الأصلي في المقام من نقل الأخبار المتقدمة إنما

ص: 385


1- بصائر الدرجات : ص401، ح16، مع تفاوت يسير .
2- الحيس : بفتح الحاء المهملة وسکون الياء -: طعام مرکب من تمر وسمن، وسويق . وفي «البحار» : (الجبن) بالجيم والباء الموحدة
3- فرج المهموم في معرفة الحلال والحرام من النجوم : ص 111، ط النجف ، وعنه «بحارالأنّوار : ج 42/46 ، ح 40.
4- بصائر الدرجات : ج400/8 - 401، ح 13.

هو التنبيه علي کثرة العوالم وتعددها ووسعتها، وجميع ما سمعت في الأخبار المتقدمة إنما هو فيما وراء هذه العالم الجسماني الناسوتي وأما هذا العالم بما في من الأرواح القدسية والإنسية والأجسام الفلکية العنصرية البسيطة والمرکبة والمواليد الثلاثة فلا يخفي عليک ما فيه من الوسعة، ولعلک تسمع فيما يأتي في الآيات المتعلقة بخلق السموات والأرض کلاما مشبعا في ذلک، وکفاک للدلالة علي السعة المکانية ملاحظة خبر زينب العطارة المروي عن النبي صلي الله عليه وآله وسلم المستغني الشهرته عن الذکر (1)

وغيره من الأخبار الکثيرة التي منها ما روي عن مولانا السجاد عليه السلام أنّ الله ملکا يقال له: حزقيل، له ثمانية عشر ألف جناح ما بين الجناح إلي الجناح خمسمائة عام فخطر له خاطر: هل فوق العرش شيء فزاد الله مثلها أجنحة أخري فکانت له ست وثلاثون ألف جناح ما بين الجناح والجناح خمسمائة عام، ثم أوحي الله إليه : أيها الملک طر! فطار مقدار عشرين ألف عام لم ينل رأسه قائمة من قوائم العرش، ثم ضاعف الله له في الجناح والقوة وأمره أنّ يطير فطار مقدار ثلاثين ألف عام لم ينل أيضا، فأوحي الله : أيها الملک ! لو طرت إلي نفخ الصور مع أجنحتک وقوتک لم تبلغ إلي ساق عرشي، فقال الملک : سبحان ربي الأعلي، فقال النبي صلي الله عليه وآله وسلم: إجعلوها في سجودکم» (2) ويدل علي السعة الزمانية أيضا أخبار کثيرة.

إزهاق وإحقاق

من المذاهب السخيفة المحکية عن بعض أوساخ الفلاسفة أنّ العالم واحد،

ص: 386


1- الکافي : ج 153/8، و «التوحيد»: ص 199، وعنهما «البحار»: ج 83/60 - 85،ح10.
2- تفسير نور الثقلين : ج 5 / 554، ح 13 ، عن «روضة الواعظين»

وهو المحاط بمحدّب محدد الجهات، واستدلّوا له بوجوه:

الأوّل : أنّه لو وجد عالم آخر کان شکله الطبيعي الکُرةً، فيلزم وقوعُ الخلاء

بين الکرتين.

وتوهّم أنّه لا خلاء ولا ملا مدفوعُ بکونه محصوراً بين الحاصرين، فالبعد

الذي هو المکان حاصل.

الثاني : لو وجد عالمان في کل منهما نارُ وأرضُ لزم أنّ يکون للأجسام المتّفقة الطبيعةِأحياز مختلفة، وهو باطل، لأنّ طبعها يقتضي جوازَ الإتصال، فإذا اتّصلت في أحد المکانين کان ذلک المکان طبيعية لها، فلا يکون الآخر طبيعيّاً وإلاّ لکان لجسم واحد مکانان طبيعيّان، وهذا خلف.

الثالث : أنّه قد ثبت عندهم أنّ فوق محدّد الجهات لا خلاء ولا ملا، فلو کان

هناک عالم آخر لکان ملا، وهذا خلف .

ولا يخفي عليک ضعف هذه الوجوه، أمّا الأوّل فلانّه يجوز أنّ لا يکون کُروياً، ومجردّ کون الطبيعي ذلک لا يقضي بالمنع، إذ مع تسليمه ربما يَمُنَع عنه المانعُ فيشکَّل علي غيره قسراً.

مع أنّه مبنيّ علي امتناع الخلاء، والکلام فيه مشهور، مضافاًإلي أنّه يجوز أنّ

يکون بين الکرتين أجسامُ اُخر بحيث يکون ذلک البعد مکاناً طبيعيّاً لها مع فرض کرةٍ محيطة علي جميع الکرات المتماتة بنقطة أوّلاً، وأنّ يکون هذا العالم بجملته مرکوزاً في ثخن فلک آخر کالتدوير في ثخن الحامل فلا يلزم الخلاء

وأما الثاني فلجواز أنّ يکون في ذلک العالم أجسام أخر مخالفة لأجزاء هذا العالم جنساً ونوعاً وطبيعة ودعوي إنحصار الأجسام أو الجواهر أو الموجودات الممکنة فيما ذکروه شخصاً أو جنساً أوّل الکلام، مضافاً إلي ضعف ما تمسکوا به في امتناع استحقاق الجسم مکانين .

ص: 387

وأمّا الثالث فللمنع من ثبوته لضعف ما تمسکوا به مضافاً الي بعض ما مرّ في

الجواب عن الأوّل.

وبالجملة فبمثل هذه الوجوه لا ينبغي انکار عالم آخر غير هذا العالم المحسوس المشاهد، کما أنّه لا ينبغي نفيه بمجرد الإستبعاد کما فعله معلّم الفلاسفة أرسطاطاليس حيث إنه أبطل القول بالمثل الأفلاطونية ولم يُبَرهِن عليه إلّا أنّ قال : يلزم أنّ يکون في الخارج أملاک سوي هذه الأفلاک، وعناصر سوي هذه العناصر، وحرکات وسکونات، إلي غير ذلک.

وهذا کما تري مجرّد استبعاد لا ينفي به المحتمل بعد شهادة جمّ غفير من أرباب المشاهدات والمکاشفات بوجوده بل بمشاهدته، سيّما بعد ما سمعت من الأخبار الکثيرة الدالّة علي تعدد العوالم، وأنّ هذه القبة واحدة من قباب کثيرة، وأنّ فوق العرش الذي يسمّونه محدّد الجهات عوالم کثيرة ومخلوقات لا تحصي من الکروبيين والحجب والسرادقات وغير ذلک مما تظافرت به الروايات.

بل الظاهر من کثير الأخبار أنّ جميع ذلک من أجزاء هذا العالم، وهناک عوالم

آخر.

ولذا قال مولانا الصادق عليه السلام فيما رواه في التوحيد والخصال : لعلّک تري أنّ الله عزّوجل إنّما خلق هذا العالم الواحد، أو تري أنّ الله تعالي لم يخلق بشراً غيرکم، بلي والله لقد خلق الله ألف ألف عالم وألف ألف آدم، وأنّت في آخر تلک العوالم واُولئک الآدميين (1)

وفيما رواه في الخصال ومنتخب البصائر: أنّ الله عزّوجلّ إثني عشر ألف عالم

إلي آخر ما مرّ (2)

ص: 388


1- التوحيد ص 200 - الخصال ص 180 وعنهما بحار الأنّوار : ج 321/57 ح 3.
2- الخصال ص 172 وعنه بحار الأنّوار ج 320/57 ح 2.

وفي تفسير القمي عن ابن عبّاس قال : إن الله عزّوجلّ خلق، ثلاثمائة عالم ويضعة عشر عالماً خلف قاف - وخلف البحار السبعة، لم يعصوا الله طرفة عين قطّ ، ولم يعرفوا آدم ولا ولده، کل عالم منهم يزيد عن ثلاثمائة وثلاثة عشر مثل آدم وما ولد، فذلک قوله : «إلّا أنّ يشاء الله رب العالمين(1)»- (2)

إلي غير ذلک من الأخبار الکثيرة التي مضت إلي بعضها الإشارة.

وحمل هذه العوالم علي العوالم الکلية الروحانية، وانحصار الجسماني فيما ذکروه بعيد، بل المتأمل في أخبار الباب يقطع بخلافه، فمن ليس من أهل التصديق والإقرار فلا ينبغي له البدار إلي الإنکار، سيما بعد تظافر الشواهد بل الأدلة علي المذهب المختار.

نمط آخر في تعدد عالم الأکوان

قد سمعت في خبر الخصال(3) والبصائر، وغيرهما من الأخبار المتقدّمة بأنّ الإمام عليه السلام هو الحجّة علي جميع تلک العوالم ، بل المستفاد من الأخبار المستفيضة أنّ له الولاية المطلقة في جميع العوالم الکلية والجزئية في الأمور التکوينية والتشريعيّة، لأنّه الحجاب والباب في المبدأ والمآب وهو المراد بقول الحجّة عجّل الله فرجه : «أشهاد وأعضاد» (4)

ص: 389


1- التکوير : 29.
2- تفسير القمي ص 715 وعنه بحار الأنّوار ج 57/322ح 4.
3- الخصال : 172.
4- مفاتيح الجنان ص 130 ط طهران 1391 نقلا عن الشيخ أنّه صدر من الناحية المقدسة علي يد الشيخ الکبير أبي جعفر محمد بن عثمان هذا التوقيع الشريف : اقرأ في کل يوم من أيام رجب ....

مشيراً إلي فحوي قوله تعالي :

(ما أشهَد تُهم خلقَ الّسماوات والأرض ولا خلقَ أنّفسهم وما کنتُ متخذ

المضلّين عضداً) (1)

وقد سمعتَ خبر ابن سنان، والخطبة الغديريّة الأميرية، وغيرهما فيما تقدّم، فهم المشيّة التي خلقها الله بنفسها، وخلق الأشياء بها (2)کما أشار مولينا أمير المؤمنين عليه السلام في الخطبة التي رواها السيّد الرضي رضي الله عنه في نهج البلاغة : فإنا صنائع ربنّا والنّاس بعد صنايع لنا» (3)واللام للصلة وإن أفاد العلية أيضاً ، ولذا قال مولينا الحجّة عجّل الله فرجه علي ما رواه في الاحتجاج عنه عليه السلام : «ونحن صنائع ربنا والخلق بعد صنائعنا»(4)

فقد استفيد منه قسمان من العليّة ، وأمّا الآخران فبوجوه قد مرت إلي بعضها

الاشارة ، فالمشية هي آدم الأوّل.

وفي بعض خطب أمير المؤمنين عليه السلام الإشارة إليه ، بل التصريح، ومن صلبه ذلک الألف ألف آدم، والألف ألف عالم، ولذا قال سبحانه :( وما أرسلناک إلّا رحمةً للعالمين) (5)

فإنّه هو الرحمة الکلية والمشيّة الإلهيّة التي خُلِقت العوالم بجملتها من أشعّة نوره، وظهرت بفاضل ظهوره، بل الأنّبياء عليهم السلام خلقوا کافّة من رشحات ناسوته وطفحات رحموته، ولذا ورد في الخبر الّذي رواه في البحار عن أبي الحسن

ص: 390


1- الکهف : 51.
2- بحار الأنّوار ج 4 ص 145 عن توحيد الصدوق ، و مجمع النورين ص 125.
3- منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة ج 104/19 .
4- غيبة الشيخ ص 184 - 185 - الاحتجاج ص 253.
5- سورة الأنّبياء : 107.

البکري(1) استاذ الّشهيد الثاني في کتاب الأنّوار عن مولينا أميرالمؤمنين عليه السلام أنّ نور نبينا صلي الله عليه وآله وسلم بعد ما سبح الله في الإثني عشر حجاباً وفي العشرين بحراً حسب ما فصّل في الخبر، قال : فلمّا خرج من آخر الأبحر قال الله تعالي : يا حبيبي ويا سيد رسلي ويا أول مخلوقاتي، ويا آخر رسلي أنّت الشفيع يوم المحشر، فخرّ النور ساجداً ثم قام فقطرت منه قطرات کان عددها مائة ألف وأربعة وعشرين ألف قطرة فخلق الله تعالي من کلّ قطرة من نوره نبيّاً من الأنّبياء ، فلما تکاملت الأنّوار صارت تطوف حول نور محمد صلي الله عليه وآله وسلم کما تطوف الحاجّ حول بيت الله الحرام... الخبر بطوله (2) والأخبار بهذا المعني کثيرة، ولذا قال شيخنا المجلسي في أول البحار: إنه قد ثبت بالأخبار المستفيضة أنّهم عليه السلام الوسائل بين الحق والخلق في افاضة جميع الرحمات والعلوم والکمالات علي جميع الخلق، فکلما يکون التوسل بهم والإذعان بفضلهم أکثر کان فيضان الکمالات من الله تعالي اکثر، انتهي (3)

فهو صلي الله عليه وآله وسلم وأوصيائه عليهم السلام هم الواسطة في إيصال الفيوض الإلهية علي جميع مَن سواهم في جميع العوالم المتناهية الامکانية ، بلا فرق بين إفراد العالم وجمعه،

ص: 391


1- البکري أبو الحسن أحمد بن عبدالله البکري ولکنه ليس من أساتذه الشهيد الثاني ، بل هو من العلماء الأمامية المتقدمين ولتشيعه صار متهما بالکذب وانتسابه إلي المذاهب الفاسدة وکتابه «الانوار» في مولد النبي المختار کما ترجمه شيخنا المجيز آقا بزرگ الطهراني قدس سه في سبعة أجزاء کما ذکره کشف الظنون وجعله العلامة المجلسي مع کتابيه الأخرين : مقتل أمير المؤمنين عليه السلام ووفاة فاطمة الزهراء سلام الله عليها» من مآخذ البحار عند ذکر کتب الخاصة و نسب الثلاثة الي أبي الحسن البکري المصري الذي قرأ عليه الشهيد الثاني بمصر وتوفي بها سنة (953) ولکن نسبة الکتب الثلاثة الي ذلک المصري سهو بل هي من مصنفات البکري المتقدم وصرح به ابن تيميه المتوفي (728) في کتابه منهاج السنة ، راجع الذريعة ج 409/2-410رقم1638.
2- بحار الأنّوار ج 57/ 198۔200، ح 145.
3- بحار الأنّوار : ج 103/1.

الشموله للکلّ علي الوجهين شمول الکلّ لأجزائه أو الکلّي لجزئيّاته.

فاذا اعتبر العالم مفرداً علي الإطلاق غير مضاف ولا مقيّداً بشييء دخل فيه جميع ما سوي الله، وإذا اعتبر متعدداً ، اثنين فصاعداً فلابّد من فصل ذاتّي او عرضيّ مقسّم للجامع. فيقال : إنّه إثنان عالَم الغيب والشهادة ، أو الظاهر والباطن، أو الأمر والخلق، أو العقل والمعقول، أو الوجود المطلق والمقيّد ، أو المادّي والمجرد، أو البسيط والمرکّب، لکن لا يخفي عليک أنّ التجرد والبساطة لا ينافيان الترکيب في رتبة الإمکان ولو من المادة والصورة، فإنّ کلّ ممکن زوج ترکيبيّ حتي العقل، بل المشية أيضاً وإن اضمهلّت فيهما سيّما الثاني جهة الماهية التي توجب الترکيب في کلّ ممکن، بل المراد التجرد عن المادة العنصريّة والمدة الزمانيّة.

فما ربما يحکي عن شيخنا المجلسي في أوّل البحار من الحکم بکفر من قال : باثبات مجرّد غير الله تعالي ليس في محلّه علي الإطلاق بل لعلّه لانزاع فيه أصلاً علي أنّ عبارة المجلسي ليست صريحة في ذلک، بل لعلّها ظاهرة في خلافه حيث قال : المعني السادس مما يطلق عليه العقل ما ذهب إليه الفلاسفة وأثبتوه بزعمهم من جوهر مجرد قديم لا تعلّق له بالمادّة ذاتاً ولا فعلاً، والقول به کما ذکروه مستلزم لإنکار کثير من ضروريّات الدين من حدوث العالم وغيره، وبعض المنتحلين منهم للاسلام أثبتوا عقولاً حادثة وهي أيضاً علي ما أثبتوها مستلزمة الإنکار کثير من الأصول المقررة الاسلامية مع أنّه لا يظهر من الأخبار وجود مجرد

سوي الله ... إلي أنّ قال:

فلو قال أحد بجوهر مجرّد لا يقول بقدمه ولا بتوقّف تأثير الواجب في

الممکنات عليه، ولا بتأثيره في خلق الله الأشياء ويسمّيه العقل ويجعل بعض الأخبار الواردة في العقل منطبقاً عليه فيمکنه أنّ يقول : إن إقباله عبارة عن توجّهه

ص: 392

إلي المبدأ، وإدباره عبارة عن توجّهه الي النفوس لإشراقه عليها. انتهي(1)

وظاهره عدم الثبوت لا ثبوت العدم فضلاً عن التکفير باثباته.

وأمّا العوالم الثلاثة فالوجود الحقّ والوجود المطلق الذي هو الفعل والارادة والمشيّة، والوجود المقيد الذي ما دونه من عالم الخلق، والي هذه الثلاثة الاشارة بقوله في الحديث القدسي : «کنت کنزاً مخفيّاً فأحببت أنّ أعرف فخلقت الخلق کي أعرف»(2) فالکنز المخفي هو غيب الغيوب والمجهول المطلق لا إسم له ولا رسم، الطريق مسدود، والطلب مردود، وجوده إثباته، ودليله آياته، والمحبة الکلية هي عالم المشيّة أوّل من قرع باب الإمکان وأشرف علي أفق الاکوان، والثالث المخلوق الذي هو في رتبة المفعول.

واذا اعتبرت الثلاثة في رتبة الإمکان فهي جبروت المشية بالصفات الفعلية، وملکوت المجردات ، وناسوت المادّيات العنصريّة، والمدة الزمانية، أو في رتبة المفعول فهي العقول المجرّدة من المادّة ذاتاً وفعلاً، والنفوس المجردّة ذاتاً لا فعلاً، والأجسام الغاسغة في ظلمة الهيولي أو أنّها الأرواح الشاملة للعقول والنفوس والأبدان والمثال الذي هو برزخ کلّي بينهما، بل العوالم الثلاثة سارية في العمق الأکبر طولاً وعرضاً کلّاً وبعضاً، حيث إن له بکلّ الإعتبار جهتين وبينهما برزخ لا يبغيان .

والعوالم الأربعة هي اللاهوت الذي لا ينبغي فيه إلّا السکوت خضوعاً للحيّ الّذي لا يموت، والجبروت هو عالم الإبداع والعقل، والملکوت والناسوت، وفي

ص: 393


1- بحار الأنّوار ج 1/ص 101 - 103.
2- حديث مشهور نقل عن داود النبي صلي الله عليه وآله وسلم ونقله بعضهم عن رسول الله وال عن ربه . قال ابن عربي في الفتوحات ج 392/2 : ورد في الحديث الصحيح کشف الغير الثابت نقلاً عن رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم عن ربّه قال : «کنت کنزاً ...

رتبة الإمکان بل الأکوان هي الرحموت والجبروت وتالياه، فالرحموت عالَم المشية لانّها الرّحمة الّتي وسعت کلّ شيء. والجبروت بهذا الاعتبار هو عالم العقول، کما أنّ المراد بالملکوت النفوس.

أو أنّها هي الأرکان الأربعة لعرش الرحمة والکرامة الّذي إستوي عليه الرحمن برحمانيّته، وهي المشار اليها بقوله تعالي : (الله الذي خلقکم ثمّ رزقکم

ثم يُميتکم ثم يحيکم ) (1) وحملتها الملائکة الأربعة، ومن الأنّبياء أولوالعزم الأربعة عليهم السلام ، وأمّا خامسهم وهو نبيّنا صلي الله عليه وآله وسلم فهو الّشاهد المُهيمن عليهم وعلي جميع أهل العالَم، «فکيف إذا جئنا من کلّ أمّة بشهيد وجئنا بک علي هؤلاء شهيداً» (2) ولذا جعل کتابه مصدّقاً لما بين يديه من الکتاب ومهيمناً عليه، وباقيات العوالم الجزئيّة في ثخن العمق الأکبر الذي هو الحامل المحرک لها حول مرکز العالم کثيرة جدّاً.

کالطبائع الأربعة الّتي هي حرارة الکون المتکونّة من حرکة بحر الوجود ومن دوام دورانه علي نفسه علي خلاف التوالي دوران فناء وتصرم وانقضاء، وعلي أمر ربه بالتوالي دوران تجدّد واستفاضة وبقاء

وبرودته الذاتية اللازمة لإمکانه وافتقاره فإن البرودة طبيعة الموت.

ورطوبته الحاصلة من جعله قابلاً مستعدّاً بعد أنّ لم يکن شيئاً أصلاً، فإنّه سبحانه هو معطي القابليات والاستعدادات، فأعطي کلّ شيء خلقه ثمّ هدي الي ما يحصل به الفعليّة والکمال.

ويبوسته الحافظة للعطايا المفاضة عليه، وهذه الطبايع الأربعة سارية في

ص: 394


1- الروم : 40.
2- النساء : 41.

جميع أجزاء الکون. والکون متقدّم بها قيام تحقّق، ولذا قيل مشيراً الي ذلک والي ما تقدم من أنّ لکلّ شيء ملکاً وملکوتاً وبرزخاً بينهما : «إنّ کلّ شيء مثلّث الکيان مربع الکيفيّة ، وهذا هو الحقّ في تفسير العبارة الّتي قضيّة کليتّها سريان حکمها في کل شيء، لا ما قيل : من أنّ المقصود المواليد الثلاثة والأرکان الأربعة التي هي العناصر الأربعة.

وأمّا الأربعة المحسوسة الملموسة فهي من أشعّة ظهورها الساطعة في عالم الناسوت علي وجه يقتضيه المظهر، وحيث إنّ ثنتين منها فاعلتان، والأخريين منفعلتان، حصلت من اجتماع کلّ مع کلّ الأصول والأربعة التي هي الأمکان والعناصر والأسطقسّات، کلّ باعتبار، ومن ترکّبها وازدواجها المواليد الثلاثة بأنّواعها وأصنافها وجزئياتها وخواتها وآثارها ما يترتّب عليها، وکالنفوس الأربعة المذکورة في خبر کميل والأعرابي عن مؤلينا أميرالمؤمنين عليه الصلاة والسلام (1)

وحيث إن بيانها وتحقيق مراتبها يفضي إلي التطويل اقتصرنا فيها کغيرها من العوالم السابقة واللاحقة علي نوع الإشارة روما للإختصار وحذراً من التکرار، فإنّک ستسمع الکلام في کلّ منها إن شاء الله تعالي في الموضع اللائق به.

والعوالم الخمسة هي الأربعة الکونيّة المتقدّمة بعد عالم الأزل، وإن کانت حضرة التنزيه تأبي من عده في عداد خلقه، (لقد کفر الذين قالوا إنّ الله ثالث ثلاثة ) (2)، إلّا أنّ بينونته عن خلقه بينونة صفة لا بينونة عزلة، داخل في الأشياء لا کولوج شيء في شيء، وخارج لا کخروج شيء من شيء ، ( وما يکون من نجوي

ص: 395


1- رواه المجلسي قدس سره في البحار ج 61 ص 84-85 عن بعض کتب الصوفيّة ، ولکن قال : هذه الاصطلاحات لم تکد توجد في الأخبار المعتبرة .
2- المائده : 73.

ثلاثة إلّا هو رابعهم ولا خمسة إلّا وهو سادسهم ، ولا أدني من ذلک ولا اکثر الا هو معهم )(1)

الي غير ذلک من العوالم الکلية والجزئية التي لا يمکن احصائها واستقصائها ، ولذا عبر عنها، العالم عليه السلام بألف الف عالم، مشيراً الي نوع الکثرة والزيادة، وإلا فلعلها علي فرض کونها متناهية اکثر من ذلک بکثير، بل العوالم المندرجة تحت عالَم الإمکان لا تحدّ بحدّ ولا تعدّ بعدّ، إذ لا نهاية لکلّ جزئيّ من جزئياته، فسبحان الله ذي الملک والملکوت، سبحان الله ذي العزّ والجبروت، سبحان الحيّ الذي لا يموت.

تذييل وتکميل

قال البيضاوي : إنّ في قوله تعالي : (ربّ العالمين ) دليلاً علي أنّ الممکنات کما هي مفتقرة إلي المحدث حال حدوثها فهي مفتقرة إلي المبقي حال بقائها بناء علي ما ذکر سابقاً أنّ معني التربية تبليغ الشيء الي کما له شيئاً فشيئاً، وبيّته شيخنا البهائي في حواشيه بأنّ الصفة المشبهة دالّة علي الثبوت والاستمرار فتر بيتها الّتي هي تبليغها علي التدريج حد کما لها مستمرة ثابتة له تعالي، ومن جملة ذلک إبقائها إلي الأمد الذي يقتضيه حالها بل هو من أعظم افراد التربية التي يقضية مقام التمدّح.

واعترض صدر المحققين علي البيضاوي بأنّه ليس فيه دليل علي ذلک إذا

الشيء التدريجي لما کان حصوله علي هذا الوجه فجميع زمان وجوده هو بعينه زمان حدوثه، فالنامي مثلاً زمان نموه من أول نشوه إلي منتهي کماله المقداري هو

ص: 396


1- المجادلة : 7.

زمان حدوث مقداره الحاصل له شيئاً فشيئاً وکفعل الصلوة فان زمانه من لَدُن أوّل تکبيرة الإفتتاح إلي آخر تسليم الإختتام کلّه وقت الحدوث لا وقت البقاء

نعم فيه دليل علي أنّ العالم تدريجيّ الحصول متدرّج في التکوّن بناءً علي أنّ جواهر هذا العالم والصور الطَّبيعيّة للأجرام السَّماويّة والأسطقسيّة کلّها تدريجيّة الکون سيّالة الحصول غير قارّة الوجود کالحرکة القطعيّة ومقدارها من الزَّمان .(1)

قلت أمّادلالة علي حدوث العالم بجميع أحزائه جزئياته بمعني إفتقاره إلي القيّوم المبدع فممّا لاخفاء فيها غير أنّ معني الحادث يختلف باختلاف أجزائه لتبعيّته للحوادث فحدوث عالم الملک من الأجسام الفلکيّة والعنصريّة أعني من المحدّد الأعلي إلي الأرض السّابعة السّفلي حدوث زمانّي أي حدثت مصاحبة مُساوقة له من دون تقدّم لأحدهما علي الآخر فائهما کفَرَسي رِهان ورضيعي لبان، بل هما کذلک مع المکان فالثلاثة متساوقة في الوجود وحدوث عالم الملکوت، أي الأرواح المجردة دهريّ بنحو ما مرَّفي الزَّمان وحدوث عالم الجبروت .

أعني الفعل والإبداع سرمديّ والکلّ حادث ذاتّي، وإن کان الثّاني قديماً زمانياً لسبقه علي الزّمان بل الزمان الَّذي ليس له أوّل ولا آخر زمانيّ بالنّسبة إلي عالم الدّهر کحلقة ملقاةٍ في فلاة فيّ وکذلک الثالث قديم دهريّ والنّسبة ما سمعت ، و توهّم أنّ العالم کلّه بجميع أجزائه حادث زمانّي أي مسبوق بالزّمان نظراً إلي انّه الظّاهر من الأدلّة الشّرعيّة والمتحصّل مِن مذهب المتشرّعة ممّا يقضي ببطلانه ضرورة الوجدان، فإن من جملة أجزاء العالم هو الزمان، وکيف يتعقّل کونه مسبوقاً بعدم زماني ضرورة أنّه يلزم من فرض عدمه تحقق وجوده، بل کيف يتصوّر حدوث السّرادقات الدَّهريّة والسّرمديّة في الزَّمان مَسبوقة به، مع أنّه لا يصحّ

ص: 397


1- تفسير صدر المتألهين ج 81/1- 82.

نسبتها إلي الزّمان أصلاً ألا تري أنّ الإعداد والنسب المقداريّة الّتي بينها بل جميع لوازمها کزوجيّة الإثنين وکونه نصف الأربعة مثلاً من جملة المحدثات، ومن أجزاء العالم مع أنّه لا يصحّ نسبتها إلي الزَّمان أصلاً بأنّ يقال إنَّما خلقت منذ ألف سنة أو أزيد أو أقلّ.

وتوهّم کونها من الأمور الاعتباريّة الّتي لا وجود لها في الخارج کما تري، الضرورة أنّ لا تمايز في الأعدام وسيجييء تمام الکلام عند قوله تعالي :( بديع السموات والأرض) (1) وقوله : ( إنّ في خلق السموات والأرض )، الآية (2)

وأمّا دلالتها علي إفتقار الممکنات إلي المبقي فالإنصاف أنّه لا دلالة في الآية عليه بوجه فإنّ الظّاهر من التّربية حسب ما صرَّحوا به تبليغُ الشّيء إلي کماله ، والتّبليغ إلي الکمال إنَّما هو بافاضة المفقود لا بإبقاء الموجود، إلّا أنّ يقال إنَّ الإبقاء أيضاً من الأوّل، لأنّ البقاء في الآن الثاني غير موجود في الآن الأوّل، أو أنّ التّربية لا تکون إلّا حال البقاء فتوقّف عليه فتأمَّل، فإنّه لا يستفاد من افتقاره إلي المربيّ افتقاره إلي المبقي إذ لعلَّ للشيء بقاء بعد وجوده نعم الحق أنّ مسألة الحاجة إلي المبني أوضح من أنّ يستدل عليه بمثل هذه الظّواهر، بل الامکان الذاتي الذي لا ينفک منه أصلاً دليل الافتقار، وبعد ثبوت الحاجة به أو بوجو آخر تدلّ الآية علي أنّه سبحانه هو المنعم بالإبقاء لا غيره.

وممّا مرّ يظهر النَّظر أيضاً فيما ذکره الشّيخ البهائي عطَّر الله مرقده مضافاً إلي ما قيل مِن أنّ توجيهه لا يوافق مذهب البيضاوي، إذ مختاره کون الرّبّ مصدراً لا وصفاً فتأمَّل .

ص: 398


1- البقرة : 117.
2- البقرة : 164.

وأمّا ما ذکره الصّدر الأجل ففيه أوّلاً أنّ ما ذکره من المناقشة کانّه مبنيّ علي ما صرَّح به أخيراً من کون الموجودات کافة تدريجيّة الحصول، وعلي هذا فلا معني لِلتّربية إلّا إلأفاضة السّيالة التّجديدية الّتي هي الإبقاء الطروّ الفناء بعدمها

تربية الجماد مثلاً بدوام إفاضة الوجود عليه حيث إن وجوده وکينونته من حيث المادة والصورة سيال متصرم غير قارة - الذات، وعلي هذا فما ذکره من المناقشة کانه تحقيق لمعني التربية واثبات لها.

وثانياً : انّ ما ذکره من دلالة الآية علي کون العالم تدريجيّ الحصول غريبُ جدّاً إذ مدلول الآية کونه سبحانه مربية للعالم، موصلاً اله إلي کماله، وأمّا إن هذا الإيصال هل هو مجرد الإبقاء أو باعطاء الکمالات المفقودة أو بتجدّد الأمثال بالإيجاد بعد الفناء أو بسيلان الفيض الموجب للصّوغ بعد الکسر حسيما تسمع في موضعه إن شاء الله ، فلا دلالة فيها علي شيء منها بوجه من الوجوه ومن أين يستفاد منها کون العالم بجميع أجزائه الجوهريّة سيالة الحصول غير قارّة الوجود کالحرکة المتّصلة، بل الإنصاف أنّ فيها دلالة علي ثبوتها وتقرّرها وبقائها کي يصحّ نسبة التّربية الظّاهرة في تکميل الشييء بعد ثبوته وتقرّره إليه سبحانه .

وصل

لمّا نبّه سبحانه علي إختصاص جميع أفراد الحمد وأنّواعه من جميع خلقه بالسنة ذواتهم وصفاتهم ووجوداتهم واستعداداتهم وقابليّاتهم في جميع شؤوناتهم وظهوراتهم وتطوراتهم وتجليّاتهم ومراتبهم به سبحانه بحيث لا يشارکه فيه غيره ووصف نفسه بما هو کالبرهان علي ذلک من کونه مربَّياً لجميع ذوات الوجود من الغيب والشهود بل لجميع العوالم الکلّية والجزئية من الدُّرة إلي الذَّرّة حسب ما

ص: 399

سمعتَ عقّبه بذکر وصفٍ ثانٍ وثالثٍ ورابع تفصيلاً لما أجمل أوّلاً من ذکر التّربية وبياناً لأرکانها ومقوماتها وسريان حکمها ولو علي وجه الاقتضاء لولا المانع من المحل في جميع العوالم والنشئات بالنسبة إلي جميع الأشياء والمکونات ولذا قيل : إنّ الثلاثة وصف للأوّل لا الله وعلي کلّ حال فقد نبّه سبحانه بالتفّصيل بعد الإجمال علي ما هو کالاستدلال فقال : الرحمن الرحيم مالک يوم الدين.

أمّا الإسمان الکريمان فقد مرَّ بعض القول فيهما وفائدة التکرير زيادة التقرير وايقاع الحکم في الضمير، سيّما مع ذکر المنعَم عليهم في الأخير، مع ما فيه من الإشعار علي أنّ من فقد شيئاً من النعم فليس ذلک لقصور الکرم، لأنّ رحمته وسعت کلَّ شيء علي حسب قابليته واستعداده وقبوله، فتربيته عامة تامة شاملة لجميع الأکوان في کينوناتهم واختياراتهم وشؤونهم التکوينية والتّشريعيّة في الدنيا والآخرة علي مقتضي العدل والفضل، ولذلک کان أهل الحمد ومستحقَّه بحقيقة الحمد کما ينبغي لکرم وجهه وعزّ جلاله ويجميع تطوراته بألسنة خَلقه حسب ما سمعتَ من أقسام الحمد، فتقديم مثل هذا التحميد کالتمهيد للتّمجيد باستحقاقه الاختصاصه بالعبادة له والاستعانة به دون غيره من خلقه.

وهذا أولي ممّا قيل في وجه التکرير: أنّ في الأوّل ذکر الإلهيّة فوصل بذکر النعم الّتي بما يستحقّ العبادة، وهنا ذکر الحمد، فوصله بذکر ما يستحقّ به الحمد والشکر علي النّعم فتأمّل.

نعم ربّما يقال في وجه إجراء هذه الأوصاف بعد ذکر اسم الذّات الجامع الصفات الکمال انَّ الّذي يحمده النّاس ويعظّمونه إنما يکون حمده وتعظيمه لاحد أمور أربعة إمّا لکونه کاملاً في ذاته وصفاته، وإن لم يکن منه احسان إليهم، وإما لکونه محسناً إليهم ومُنعماً عليهم، وإمّا لأنّهم يرجون لطفَه واحسانَه في الاستقبال ، وإمّا يخافون قهره وکمال قدرته وسطوته وهذه هي الجهات الموجبة للحمد

ص: 400

والتّعظيم فکأنّه تعالي يقول أيّها الناس ان کنتم تحمدون وتعظّمون للکمال الذّاتي والصّفاتي فاحمدوني فانّي أنّا الله، وان کان للإحسان والتربية والانعام، فأنّا ربّ العالمين، وإن کان للرّجاء والطّمع في المستقبل، فأنّا الرَّحمن الرَّحيم، وإن کان للخوف عن کمال القدرة والسَّطوة فأنّا مالک يوم الدّين.

وقد يقال إنّ وصفه سبحانه بقسمي الرّحمة للدّلالة علي أنَّه سبحانه متفضّل بالايجاد والتربية مختار فيهما ليس يصدر عنه شيء لا يجاب بالذّات کما هو رأي الفلاسفة أو وجوب عليه قضية لسوابق الأعمال حتي يستحق به الحمد کما هو رأي المعتزلة القائلين بوجوب ايصال الثواب إلي العباد في مقابل سوابق أعمال الخير التي صدرت عنهم ، فانّ کلاَّ من المذهبين يقتضي عدم استحقاقه الحمد علي تلک الأمور لکونها لازمة لذاته أو واجبة عليه فليس مختاراً متفضّلاً بها بخلاف الأشاعرة فانهم لا يوجبون صدور تلک الآثار عنه، فصدورها عنه ليس إلا علي سبيل التفضّل والرحمة علي العباد.

أقول ومراده انّ تعقيب الحمد الّذي هو الثّناء علي الجميل الاختياري بالتربية وقسمي الرحمة دليل علي صدورها عنه تعالي لا علي وجه اللّزوم والوجوب کما عليه الفلاسفة والمعتزلة بل علي وجه الإختيار کما هو مختار الأشاعرة.

وفيه نظر أمّا أوّلا فلان مذهب الحکماء في کونه شبحانه فاعلاً بالعناية وإن کان باطلا في نفسه لتفسيرهم العناية بالعلم بالوجه الأحسن الأکمل في کلَّ شيء فمرجعه إلي العلم الَّذي هو ذاته کما صرَّحوا به فيلزمه فاعلاً بالايجاب لکون ذاته علّة تامّة لمعلوماته ، فهو غير فاقد لما قدمه، ضرورة استحالة انفکاک المعلول عن علّته التّامة إلّا أنّهّم لا ينکرون التّفضّل والجود منه، وإن انکروا الغرض والغاية، ولذا فسّروا الجود بإفادة ما ينبغي لا لعوض حق المدح والثناء والتخلّص من الذَّم إلّا أنّه لا يخفي أنَّ عدَم قصد التمدح والتخلص غير لازم لعدم استحقاقه فانّ الإستحقاق

ص: 401

إنّما هو علي فعل الحسن من حيث هو حسن وإن لم يقصد به التمدّح والتخّلص عن المذمّة.

بل ربما يقال إنّ مذهبهم في الايجاب يؤکّد التفضّل فانّهم يوافقون الملّيّين علي أنّه تعالي إن شاء فعل وان شاء لم يفعل، إلّا أنّهم يقولون الفعل الّذي هو خير لازم لذاته الذي هو خيرُ محض لانّه الجواد الحقّ والفياض المطلق فيستحيل أنّفکاکه عنها فمقدّم الشّرطيّة الأولي واجب صدقه فقد شاء وفعل ومقدّم الشّرطيّة الثابته ممتنع الصّدق لاستحالة النقص عليه تعالي، وصدق الشرطية لا يقتضي صدق الطَّرفين ولا صدق إحديهما، إلا أنّ يدّعي أنّ الاختيار المأخوذ في تعريف الحمد هو الإختيار بمعني جواز الفعل والترک وهو ممنوع، بل سمعت کون الحمد أعمّ من کلَّ ذلک وان ما أخذوه قيداًفي تعريفه من کونه الثناء علي الجميل الإختياري إنما هو في اطلاق البعض وأمّا الأکثر فلا يوجد هذا التقييد في کلامهم کما نبّه عليه شيخنا البهائي قال : بل انکره بعضهم مستشهدا بقولهم عند الصباح يحمد القوم السّري، وفي قولهم : عاقبة الصبّر محمودة، ويکفي في ذلک قوله : (عسي أنّ يبعثک ربّک مقاماً محموداً)(1)، ثمّ قال : وحينئذٍ يستغني عن بعض التکلّفات.

ثمّ بعد تسليم التقيّد لا يخفي في کون أفعاله سبحانه علي مذهبهم إختياريّاً

حسب ما سمعتَ.

ولذا عدّ الصدر الأجل الشّيرازي وغيره من أفاخم الطّائفة الفاعل بالعناية من أقسام الفاعل بالاختيار ضرورة انّهم لم يقصدوا صرف العلّية الّتي ليس معها إدراک وعلم وإرادة وقدرة أصلاً فانّهم يثبتون هذه الصفات له سبحانه علي الوجه الأجلّ الأفضل الأکمل، وقضية ذلک ثبوت الاختيار له في فعله ولو علي الوجه الّذي

ص: 402


1- الإسراء : 79.

سمعت ، هذا کلّه مضافاً إلي ما سمعت من عدم اختصاص الحمد باللّسان فضلاً عن

کونه إختياريّاً لشموله للحمد الذّاتي والفعلي وغير ذلک من الأقسام في جميع النّشات وشؤون الوجودات الثلاثة.

وأمّا ثانياً فلان ما أورده علي المعتزلة غير وارد عليهم، فانّهم لم يقولوا إنّ جميع ما يصدر عنه سبحانه من النّعم والأحسان وکلّ ما يفاض عنه من الکرم والإمتنان واجبة عليه حتي لا يوصف بالنّسبة إلي شيء منها بالتّفضّل کي يستحقّ به المدح والثّناء کيف وهو سبحانه مبتدء بالنعم قبل استحقاقها، بل إنّما ذهبوا إلي وجوب بعض الأشياء عليه بعض الألطاف المقرّبة بالطّاعات والباعثة علي فعل العبادات .

وتوهّم أنّهم کالإماميّة عَطَّر الله مراقِدَهم قالوا بوجوب الأصلح عليه سبحانه ،

ومن البيّن أنّ کلّ فرد من أفراد الإحسان لحسن بحال لوجوبه لا يکون متفضّلاً کي يستحقّ الحمد عليه مدفوع بأنّ هذا تقوّل عليهم وجهل بمذهبهم حيث ما صرّح به محقّقوهم

ولذا قال في التّجريد: والأصلح قد يجب عليه تعالي، والشّارح لمّالم يتفطّن بما يقتضيه لفظة قد التّقليليّة إعترض بمالا يرد عليه، ولذا نبّه عليه الورع الأردبيلي وشيخنا البهائي وغيرهما، سلّمنا کون القضيّة عندهم کلّية بالنّسبة إلي الإمدادات الوجوديّة والکماليّة بعد الايجاد لکن الإيجاد غير واجب عليه عندهم، کما صرّحوا به وبه يستحقّ الثّناء عليه بل علي جميع الفيوض الواصلة منه بعد الايجاد لترتّبه عليه.

هذا مضافاً إلي أنّ وجوب الأصلح عليه لا ينافي إستحقاق الثّناء بفعله، إذ لا يخرج الفعل بوجوبه عن کونه اختياريّاً ، ولذا لم يقيّدوا الجميل في تعريف الحمد بعدم الوجوب بل بکونه إختياريّاً، وليت شعري کيف يستحقّ تعالي الحمد علي

ص: 403

صفاته التي يستحيل إنفکاکها منه مع انّه غير مختار فيها ولا موصوف بالتفضل بها ولا يستّحق الحمد علي أفعاله الجميلة الإختياريّة بمجرّد القول بکونها واجبة عليه.

ايراد کلام لنقض ابرام

قد سمعت وجه اختصاص الرحمن به سبحانه وانّه لا يجوز اطلاقه علي غيره وإن جاز اطلاق الزحمة کقوله : (وجعل بينکم مودَّة ورحمة )(1)

وقوله :

(وهو أرحم الّراحمين) (2) وقولهم : ( إرحَم تُرحَم)(3)و «انّ الله قسم جزء ًمن الرّحمة بين خلقه به يتراحمون ويتعاطفون(4). إلي غير ذلک من الإطلاقات الکثيرة الظاهرة في کونها علي وجه الحقيقة بل لعلها مقطوعة نعم ذکر بعض الأعلام في المقام أنّ إطلاق التحمة علي غيره مجاز رأساً واستدلّ بوجوه:

الأوّل : انّ الجود إفادة ما ينبغي لالعوض وکلّ أحد غير الله لا يعطي شيئاً إلّا ليأخذ عوضاً، لأنّ الأعراض والأغراض بعضها جسمانية وبعضها حسيّة وبعضها خياليّة وبعضها عقليّة ، فالأوّل کمن أعطي ديناراً ليأخذ ثوباً ، والثاني کمن يعطي المال تطلب الخدمة والإعانة، والثالث کمن يعطيه لطلب الثناء الجميل، والرّابع من يعطيه لطلب التواب الجزيل، أو لإزالة حب الدّنيا من قلبه، وهذه الأقسام کلها أعراض ، فيکون ذلک الإعطاء بالحقيقة معاوضة ومعاملة، ولا يکون جوداً ولا هبة ،

ص: 404


1- الروم: 21.
2- يوسف: 66.
3- بحار الأنّوار : ج 100/4ح 48.
4- لم أظفر علي مصدره ولکن قريب منه ما روي عن أمير المؤمنين عليه السلام : «من رحمته أنّه خلق مائة رحمة جعل منها رحمة واحدة في الخلق کلهم فسبها يترحم الناس ....» البحار ج 4 / 183 وج 44/8 وج 250/92 .

وأمّا الحقّ تعالي فهو لمّا کان کاملاً في ذاته وصفاته فيستحيل أنّ يُعطِيَ شيئاً ليستفيد به کمالاً وهو الجواد المطلق والراحم الحقّ، وهذا إنّما يتمّ علي مذهب أهل الحقّ القائلين بأنّه تعالي تامّ الفاعلية بحسب ذاته وصفاته، لا يعتريه قصد زائد، ولا الفعله غاية سوي ذاته، وکان صدور الأشياء منه علي سبيل العناية والفيض دون القصد والروّية .

الثّاني : أنّ کلّ ما سويه ممکن الوجود بحسب مهيّنه والممکن مفتقر في وجوده إلي إيجاد الواجب إيّاه ابتداءً إذ إمکان الشيء علّة احتياجه إلي المؤثّر الواجب وکل رحمة تصدر عن غير الله فهي إنّما دخلت في الوجود بايجاد الله، لا بايجاد غير الله إذ ليس لغيره صفة الإيجاد بل إما شأنّ غيره الاعداد والتّخصيص في الإستناد فيکون الراحم في الحقيقة هو الله.

الثالث : إنّ فلاناً يعطي الحنطة مثلاً ولکن لا يقع الإنتفاع بها ما لم يحصل المعدة الهاضمة للطَّعام، والشّهوة الرّاغبة إلي أکله، والقوي النّاهضة لذلک، والآلات المعدّة لنقله وطحنه وعجنه وطبخه وغير ذلک، وما يتوقّف عليها من الخشب والحديد والَّنجار والحدّاد والأرض الّتي يقومون عليه، والهواء الّذي يتنفَّسون به، والفلک الَّذي يُحدّدُ جهات أمکنتهم وأزمنتهم، والکواکب الّتي تنوّر في اللّيل والنَّهار بحرکاتها اکنافهم ويسخّن أطرافَهم وتنضج حبوبهم واثمارهم الّتي يتغذِّون بها إلي غير ذلک من الآلات والمعدّات والملائکة الموکّلة بذلک ووسائط فيوضهم فما لم يخلق - الله هذه الأشياء لم يحصل الانتفاع بتلک الحنطة فخالق تلک الحنطة والممکن لنا من الانتفاع بحفظ هذه الأسباب حتي يحصل الانتفاع هو الرّاحم

أقول لا يخفي عليک ضعف هذه الوجوه، وعدم مطابقتها للمدّعي راساً ، إذا المدّعي کما صرّح به کون إطلاق الرّحمة علي غيره سبحانه مجازاً وأين هذا من إثبات أنّ الفيوض کلّها من الله ابتداء وأصالة وإن جرت علي أيدي الخلق من حيث

ص: 405

التوسّط وقيوميّة الحقّ.

علي أنّ هذا لا إختصاص له بالرّحمة بل يجري في جميع الأفعال الإختياريّة الّتي تصدر من العبيد بحسب الظّاهر حسب ما يؤمي إليه، دليله الثّاني، وفي خصوص الخيرات علي بعض الوجوه وکان مراده وإن لم يساعده عنوانه بيان قيومية الحقّ سبحانه، وأنّ الکلّ منه وبيده، هو المالک لما ملکهم، والقادر علي ما عليه أقدرهم، لکن في بعض ما ذکره بعض المناقشات وان اشتمل أيضاً علي بعض الفوائد ولذا حکيناه بطوله.

وامّا انّ أفعال العباد هل هو منهم علي وجه الإستقلال أو من الله کذلک أو منهما علي وجه التبعيّة أو الألية أو القيّوميّة أو الإشراق والافاضة أو غير ذلک فلا يناسب المقام بسط الکلام فيه فارتقبه في موضعه إن شاء الله .

ص: 406

القّراء

إعلم أنّ في قوله : (مالک يوم الدّين ) قراءتان مشهورتان وقراءات اُخر شاذّة ، فالمحکي عن عاصم، والکسائي وخلف، ويعقوب الحضرمي (مالک) بالألف مجروراً ، والباقون من القّراء( مِلک) من دون الألف مجروراً، والمحکيّ عن الأعمش بالألف منصوباً علي المدح أو الحال ، وعن شاذ آخر مالک بالرّفع منوّناً، وعن ثالث به مضافاً علي أنّه فيهما خبر مبتداء محذوف، وعن رابع ملک بلفظ الفعل فما بعده منصوبُ به ، فهو جملة خبّرية منصوبة المحلّ بالحاليّة، وإن قال أبو حيّان لا محلّ لها من الإعراب، وعن خامس وسادس مضافاً مرفوعاً ومنصوباً علي الخبريّة، او النداء والاضافة فيهما بمعني اللّام کما عن أبي حيّان لا بمعني في کما عن بعضهم، وعن سابع وهو ربيعة بن نزار ملک فصار مجروراً مخفّفاً بتسکين اللّام کما يقال : فَخِذ وفَخذَ فهذه تسع قراءات، سبعة منها شاذة ساقطة بالشّذوذ مع الجهل بقائل الجلّ.

أمّا الأوليان فهما المشهورتان إلّا أنّ لهم وجوهاً في ترجيح کلّ منهما علي الأُخري، فممّا يرجّح به الأولي أنّ المالک أعمّ شمولاً وأکثر إحاطة لإضافته إلي المّلک والمّلک بالضّم والکسر، فيقال : مالک المّلک ومالک الملک، ولا يضاف الملک إلّا إلي الثّاني، والمالک يضاف إلي کلّ شيء فيقال : مالک الطّير والدّواب والعبيد والإماء والملک لا يضاف إلا إلي الثقلين، والمالک يضاف إلي الذات والفعل فيقال مالک المِلک ومالک التّصرف، والملک لا يضاف إلّا إلي الذات، وأنّ المالک أقوي سلطنةً من الملک من حيث التملک إذ المملوک لا يملک لنفسه الخروج من الملکيّة بخلاف الرّعيّة والملک ينفذ أمره ونهيه دون ساير التّصرفات بخلاف المالک، وأنّ

ص: 407

المُلک بالضّم قد يکون بالتغلّب وغير الاستحقاق بخلاف المِلک بالکسر، وان المملوک لا يقدر علي شيء وهو کَلَّ علي موليه بخلاف الرّعيّة ، فلهم التّصرف في أمورهم فسلطنة المالک أقوي، لأنّه مالک الرّقبة والملِک ملّک الرّعيّة ورحمته أوسع إذ لا يختار الملک إلّا القويّ الصحيح المنتفع به، ولذا قيل : إنّ المالک نافع والملک طامع ، وان المنساق من المالک هو الرحمة والعناية ومن الملک هو الهيبة والسياسة، والمرجوّ المناسب للمقام الموعود لکافّة الأنّام يوم القيمة هو الأوّل، وأنّ زيادة الحروف مع ايجابه فضل الثّواب إذ يُعطَي القاري بکلّ حرفي عشرُ حسنات، تدلّ علي زيادة المعاني ايضاً وانّه الأوفق بقوله تعالي : ( يوم لا تملِک نفسُ لنفس شيئاً

والأمر يومئذ الله ) (1) فانّ اختصاصه سبحانه بالأمر بعد نفي المالکية من غيره يشعر بانّ المراد بالأمر الملک واثبات الملک له في هذا اليوم هو المقصود بقوله : مالک يوم الدّين وانّ الملِک يملک من بعض الوجوه مع قهر وسياسة، والمالک يملک علي کلّ حال وبعد الموت له الولاء، وأنّ الحقّ سبحانه يُمدح بکونه مالک الملک بضم الميم في قوله : (قل اللّهمّ مالک الملک )(2)ولم يُمدح بکونه مَلِک المِلک بالکسر، وحيث إنّ المُلک بالضّم أشرف فالمالک أولي ، فانّ المُلک بالضّم کما قيل وإن کان يرجع مَعَ المِلک بالکسر إلي أصل واحد وهو الربط والشد کقولهم: مَلَکتُ العجين اَي شددتُه وقوله : مَلکتُ بِها کَفّي فأنّهرتُ فتقها (3)أي شددتُ بالطّعنة کفّي لکنّ المراد به نسبة مَن قام به ومن تعلّق به ، وإن شئت قلت صفة قائمة بذاته متعلّقة بالغير تعلّق التّصرف التّام المقتضي إستغناء المتصرّف و افتقار المتصرّف فيه، ولهذا لا

ص: 408


1- الإنفطار : 19.
2- آل عمران: 26.
3- قائله قيس بن الحطيم الأوسي، ومصراعه الآخر: پري قائم من دونها مما ورائها لسان العرب في مادة نهر .

يصحّ علي الإطلاق إلّا الله تعالي وهو أخصّ من الملک بالکسر لأنّه تعلّق الاستيلاء مع ضبط وتمکّن من التّصرف في الموضوع اللّغوي، وزيادة کونه حقّاً في الشرَّع من غير نظر إلي استغناء وافتقار لکنّهما في الاطلاق قد لا يتصادقان من الطّرفين إذا بينهما العموم من وجه فينفکّ کلّ منهما عن الأخري لکنّ المالکيّة سبب لإطلاق التّصرف والملکيّة ليست کذلک.

وممّا يرجّح به الأُخري أنّ المالک مندرج في إسم الرّبّ فانّه أحد معانيه کما

سمعتَ والقرآن ورد بسرّ الاعجاز والايجاز فقضيّة نفي التکرار تعيين المِلک، علي أنّ الکشف التّام أفاد أنّ لا تکرار في الوجود أصلاً، وأنّ هذه الصّفة أمدح إذ لا يکون إلّا مع التعظيم والإحتواء علي الجمع الکثير من الأشياء، ولذا قيل : انّ کلّ ملک مالک، وليس کلّ مالک ملکاً وإنّما قال تعالي : (مالک الملک ) (1) لأنّه يملک ملوک الدّنيا وما ملکوا فملکهم له يوليه فيها من يشاء منهم، وأمّا يوم الدّين فالملک يومئذٍ لله ، وانّ الله سبحانه وصف نفسه في خاتمة الکتاب بعد وصفه بالرّبوبيّة فقال : ربّ النّاس مِلک الناس ، فناسب أنّ يکون وصفه في فاتحة الکتاب جارياً علي هذا المنوال لمطابقة الفاتحة وکشف کلّ منهما عن الآخر وأنّ قضية قوله : (لمن الملک اليوم لله) (2) وقوله : (الملک يومئذٍ لله)(3) انّه الملک ولذا يقال أنّه ملک بيّن الملک بضمّ الميم ومالک بيّن المِلک بکسر الميم وفتحها وضمّ الميم فيه لغة شاذة فتکررّ اثبات الملک بالضمّ له في الآيتين وفي قوله : (له ملک السموات والأرض) (4) في آيات کثيرة يؤيد قراءة المِلک مع تکرر وصفه به ايضاً في قوله تعالي :(فتعالي الله

ص: 409


1- آل عمران : 26.
2- غافر: 16.
3- الحج : 56.
4- الفرقان : 2.

المِلک الحقّ) (1)و(المَلِک القدّوس ) (2) و( ملک النّاس)(3)

وإنّ الأسماء المستقلّة لها تقدّم علي الأسماء المضافة وإسم الملک ورد مستقلاً بخلاف المالک ويؤيّد التقدّم مضافاً إلي البساطة أنّ الأسماء المضافة، «کفالق الإصباح» و«مخرج الحي من الميت» وذي الملک والملکوت وغيرها لم تنقل في الأسماء التّسع والتّسعين الّتي من أحصيها دخل الجنّة وأنّه قد ورد في بعض الأدعية النبويّة : لک الحمد لا اله إلا أنّت ربّ کلّ شيء ومليکه، ولم يرد ومالکه وهذا السيّاق مناسب لسياق الأسماء المذکورة في أوّل الفاتحة وانّ الملک قراءة أهل الحرمين الذين هم أدري بما انزل في الحرم.

وأنّ المِلک من الأسماء المذکورة في خبر الإحصاء دون المالک، وانّ الملِک لمّا کان أقدر علي ما يريد من متصرّفاته من المالک کان نسبة الجزاء إليه أنّسب وأولي، وأنّه أنّسب بالإضافة إلي يوم الدَّين کما يقال : ملک المصر، وأنّ هذه القراءة غنية عن توجيه وصف المعرفة بما ظاهره التنکير، وإضافة اسم الفاعل إلي الظّرف لإجرائه مجري المفعول به توسّعاً إذا المراد مالک الأمور کلّها في ذلک اليوم، وسوّغ وصف المعرفة به وارادة معني المضي تنزيلاً لمحقّق الوقوع منزلة ما وقع أو ارادة الاستمرار الثبوتي، وأمّا قراءة ملک فغنيّة عن التوجيه لأنّها من قبيل کريم البلد.

هذا قصاري ما قيل في ترجيح کلّ من القراءتين علي الأخري لکنّه لا يخفي عليک إشتراک الجميع في الضعف ان الوجوه اللّفظية کما تري في القصور ومرجع الوجوه المعنّوية من الطّرفين إلي التّرجيح في المعاني المضافة إلينا تعالي الله عن ذلک.

ص: 410


1- طه :114.
2- الحشر: 23.
3- الناس: 2.

وقد سمعتَ فيما أسلفناه أنّ الأسماء المشترکة لا تطلق علي الله وعلي خلقه بمعني واحد من باب الاشتراک المعنوي ، وليس إطلاقه علي خلقه من باب السنخية والفرع والظلّ وغير ذلک بل المغايرة بين الوصفين کالمغايرة بين الذّاتين فله معني المالکيّة إذ لا مملوک والملکيّة إذ لا ملک وبهذا الاعتبار يکونان من صفات الذّات بمعني اتّحادهما للّذات بلا مغايرة حقيقية أو اعتبارية أو خارجيّة کرجوع الصفات الذاتية إلي الوجود الحق البحت المجرد وله معني المالکية والملکية في فعله بمعني له الخلق والأمر فبيده ناصية کلَّ شيء وحکمه نافذ في کل شيء وبقيّوميّته قامت الأشياء کلّها فمالکيه عامة تامّة ولا تتمّ إلّا بالملکيّة، وملکيّة تامّة عامّة ولا تتمّ إلّا بالمالکيّة ، وأين هذا من معني المالکية في المخلوق إذ ليس إلّا أمراً جزئياً ارتباطيّاً اعتباريّاً شرعيّاً قد اعتبر الشّارع بين العباد لرفع حوائجهم وإصلاح حالهم في أمر المعاش والمعاد، مع أنّه هو المالک لما ملّکهم والقادر علي ما عليه أقدرهم، وکذا معني الملکيّة فيه استيلاء لغلبية أو جعليّة شرعيّة لو قيل بشمولها لمثل الإمامة ويؤمي إلي احتواء کلّ من الملکية والمالکية في حقه تعالي علي الآخر قوله : (قل اللّهم مالک الملک )(1)فاضاف المالک إلي مبدء الآخر وإليه الإشارة بلام التمليک في قوله : (له ملک السموات واَلأرض ) (2)، (وانّ لنا للآخرة والأولي)(3)

ثم لو سلّمنا إختلاف المعنيين في قوله تعالي، ورجحان أحدهما علي الآخر في نفسه لکن لا يخفي أنّ ذلک لا يقضي بتعّين الرّاجح في المقام إذ لا خلاف في کونهما إسمين لله وقد وردا معاً في الکتاب العزيز ، فالتّعيين بالمرجّح من قبيل اثبات اللّغة بالقياس، سيما بعد ورود القراءة بکلَّ منهما وَ وُروُدِ الرّخصة بل الأمر عن

ص: 411


1- آل عمران :26.
2- الحديد: 2 و 5.
3- الليل : 13.

موالينا الأئمّة الأنّام عليهم الصلوة والسَّلام بالقراءة کما يقرء النّاس(1)، وأنّه لا يحاجّ بالقرآن اليوم(2)

ثمّ أنّه يمکن ترجيح قراءة مالِک بما في تفسير الإمام عليه السلام قال : مالک يوم الذين أي قادر علي إقامة يوم الدّين وهو يَوم الحساب قادرُ علي تقديمه عن وقته وتأخيره بعد وقته وهو المالک أيضاً في يوم الدَّين وهو يقضي بالحقّ لا يملک الحکم والقضاء في ذلک اليوم من يظلم ويجورکما يجور في الدّنيا من يملک الاحکام (3)

نظراً إلي التّعبير في الموضعين بالمطلوب مضافاً إلي إرجاع لک الأحکام إليه ومنه يظهر وجه آخر للتّرجيح فانّ مالکيّته مطلقة بالنّسبة إلي کلّ شيء حتّي ملک الاحکام ونفوذ الأمر والنهي المستفاد من الملک.

هذا مضافاً إلي ما رواه في المجمع عن العياشي عن الصّادق عليه السلام في فضل الفاتحة إلي أنّ قال : ومالک يوم الدّين قال جبرئيل ما قالها مسلم قطّ إلّا صدّقها الله وأهل سماواته(4)

وفي العيون وتفسير الإمام عليه الصّلوة والسلام عن النّبي صلي الله عليه وآله وسلم في فضلها إلي أنّ قال : فاذا قال مالک يوم الدين قال الله : اُشهدکم کما إعترف بأنّي أنّا مالِک (5) يوم الدّين الأسهلنَّ يوم الحساب حسابَه ولأفضل حسناته ولأتجاوزنّعن

فات

ص: 412


1- بصائر الدرجات ص 193 وعنه البحار : ج 88/92 .
2- حار الأنّوار : ج 245/2عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال لابن عباس لما بعثه للاحتجاج علي الخوارج : لا تخاصمهم بالقرآن فان القرآن حمال ذو وجوه.
3- بحار الأنّوار : ج250/92عن تفسير الامام.
4- تفسير العياشي: ج 1 / 22.
5- في البحار عن تفسير الامام والأمالي والعيون : اعترف عبدي آني مالک يوم الدين .

سيّناته ((1).

وفي تفسير المالک بالملک إشارةً إلي ما ذکرناه من رجوعهما إلي معني واحدٍ في حقّه تعالي، ولعلّه لذا ولما ذکرناه من جواز القراءة في زمان الغيبة بکلّ ما قرء النّاس قرء مولينا الصّادق عليه السلام إرشادة وتعليماً لشيعته بالقراءة الأخري أيضاً کما في «المجمع» عنه عليه السلام أنّه کان يقرء مَلِک يوم الدَّين وإن کان في التّعبير بلفظة کان الإشعار بالإستمرار(2)

وفي الصّافي عن العيّاشي أنّه قرئه الصّادق عليه السلام ما لا يحصي (3)

وفيه أيضاً دليل علي الوجهين، فالعمدة ما سمعت من الإذن لنا خصوصاً في المقام، وعموماً في القراءة بما يقرء الناس، لا ما قيل من دعوي تواتر القراءات السّبعة لعدم تحقّق التواتر بشرائطه الّتي منها بلوغ العدد في جميع الطبقات بالنّسبة إلي شيء منها سيّما بعد ما ذکره بعض العامّة، وهو کذلک من أنّ منشأ اختلاف القراء السّبعة إختلاف المصاحف العثمانية الغير المعربة.

ثمّ لا يخفي أنّ الرّسم في کثير من المصاحف القديمة بل في کلّها ترک الألف في کثير من الکلمات کأصخب والشّيطين، والصّعقة، والکِتب، ومالک أيضاً من الکلمات الّتي يکتب في الرسم ملک فلعل هذا هو الوجه في الاختلاف، بل رأيت کتابة من بعض العامّة الّفه في ضبط الرّسوم قال مِلک کتب بغير أَلِف، ولا يجوز أنّ يکتب باثباتها لان في اثباتها يؤدّي إلي مخالفة مَن قرء بغير ألف ومخالفة مصحف الإمام ومراده الثالث . قال : ومخالفة الإمام لا يجوز بوجه ما، ولهذا وجب مراعاة

ص: 413


1- تفسير الامام ص 27 - امالي الصدوق ص 105 - العيون ج 1 /300 وعنها البحار :ج 226/92 .
2- مجمع البيان ج 31/1 عن تفسير العياشي : ج 1 /22 ح 21.
3- تفسير الصافي ج 1 /71 عن تفسير العياشي ج 22/1 ح 22.

حروف الإمام، لأنّ في کلّ حرف فائدة تزول بتغيير ذلک ألا تري إلي قوله : (يَقض بالحقّ) (1) کتب بغير ياء، ولو کتب بالياء لبطل قراءة من قرء بالصّاد، وکذلک قوله : (غيابت الجبّ) (2) کتب بالتّاء من غير اَلف إذ لو کتب الألف بطل قراءة من قرء غيابة علي الواحدة، ولو کتب بالهاء بطل قراءة من قرء بالجمع.

أقول : وهو کما تري مبنيّ علي ملاحظة الوجوه الإعتباريّة والرّسوم الغير المعتبرة من دون استناد کلّ من الرّسوم والقراءات إلي ما يصلح الإعتماد عليه، وعلي فرض انتهاء الجميع إلي النّبي صلي الله عليه وآله وسلم فالواسطة بينهم وبينها ما ذکروه في کتبهم ممّن لا يخفي حاله وعدده، ومع ذلک فلعلّ الأولي ترجيح قراءة مالک لما سمعتَ نعم ربما يقال : إن الأولي القراءة بکل منهما في رکعة، وتقديم المدّ في الأولي لزيادته نظراً إلي تطويل الأُولي علي الثانية فتأمّل

تَنبيه

اعلم أنّ لليوم إطلاقات أحدها: مجرّد الوقت والزّمان طويلاً کان أو قصيراً حتي الآن کقوله : (کلّ يوم هو في شأنّ) (3) فانّ شئوون الرّبوبيّة دائمة مستمّرة سيّالة کاستمرار الزمان وسيلانه ففي کلّ آن له شأنّ بل شؤون وقوله : (آتوا حقّه يوم حصاده) (4) أي وقته (ومَن يولّهم يومئذٍ دُبُره) ((5)، ولمسجد أسّس علي

ص: 414


1- غافر: 20.
2- سورة يوسف : 10 - 15.
3- الرحمن : 29.
4- الأنّعام : 141.
5- الانفال :16.

التّقوي من أوّل يوم )،(1) (فاليوم نتجيّک ببدنک)(2)(يوم يأتي بعض آيات ربّک لا ينفع نَفساً إيمانهم لم تکن أَمنت من قبل)(3)قل يوم الفتح (لا ينفع الّذين کفروا إيمانهم )(4) والسّلام عليّ يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيّا) (5) (يوم ظعنکم ويوم إقامتکم ) (6) إلي غير ذلک من الموارد الکثيرة الواردة في القرآن وفي کلام أهل اللّسان کقوله : فيوم علينا ويوم لنا.

بل ربما يقال : إنّ اليوم في الأصل موضوع لمطلق الوقت والزّمان، وأمّا ما کان بعده ليلة أو بعد اللّيل فهو المخصوص باسم النَّهار، ولذا عدل إليه في قوله:

(و آية لهم اللّيل نسلخ منه النّهار (7)

ومن هنا يظهر أنّه في اکثر إطلاقاته في الکتاب محمولُ عليه حتّي في مثل

قوله : (يوم يحمي عليها في نار جهنم ) (8)و( يوم يتذکّر الانسان ما سعي)(9)و( يوم ينظر المرء ما قدّمت يداه) (10)، ( وانذرهم يوم الحسرة )(11) و (يوم نقول الجهنّم ) (12) إلي غير ذلک ممّا أريد فيه التنبيه علي خصوص الفعل ولو بذکر وقته لا

ص: 415


1- التوبة:108.
2- يونس : 92.
3- الأنّعام :158.
4- السجدة : 29.
5- مريم : 33.
6- النحل : 80.
7- يس : 37.
8- التوبة : 35.
9- النازعات: 35.
10- النبأ : 40.
11- مريم: 39.
12- ق : 30.

الإشارة إلي مجموع الوقت المشتمل علي غيره من الشّدائد أيضاًکما هو أحد الإحتمالين في هذه الآيات أيضاً، نعم ينبغي تعميم الوقت والزّمان بحيث يشمل الوعاء الدَّهري والسّرمديّ أيضاً.

ثانيها : مرادف النّهار والمقابل للّيل المحدود شرعاً بطلوع الفجر الثّاني إلي ذهاب الحمرة المشرقيّة علي الأظهر الأشهر وإلي غيبوبة قرص الشمس عند بعض، وعرفاً عامّاً أو خاصّاً عند المنّجمين بل قيل عند أهل فارس والروّم أيضاً من طلوع الشّمس إلي غروبها بل ذکر أبو ريحان (1)

أنّ هذا التّحديد بتعارف من النّاس قاطبة فيما بينهم واتفاق من جمهورهم لا يتنازعون فيه إلا أنّ بعض علماء الفقه في الإسلام حدّ أوّل النّهار بطلوع الفجر وآخره بغروب الشّمس تسوية منه بينه وبين مدّة الصّوم، ثمّ إستدلّ لإثبات مذهب المنجّمين بوجوه مرجعها إلي أنّه مقتضي الحساب والقواعد النجّوميّة لکنّه لا إشکال في استقرار عرف الشرع علي کونه من الفجر الثاني ، وعليه ينزل يوم الصّوم ويوم الإعتکاف، ويوم التّراوح، بل إدّعي المجلسي وغيره إستقرار العرف العامّ عليه ايضاً قال : وانّما إستقرار العرف العامّ والخاصّ علي جعل أوّل النّهار الفجر وأوّل اللّيل الغروب لأنّ النّاس لمّا کانوا في اللّيل فارغين عن أعمالهم الضروريّة للظلمة المانعة فاغتنموا شيئاً من الضّياء الحرکتهم وتوجّههم إلي أعمالهم الدّينيّة والدّنيويّة وفي اللّيل بالعکس لانّهم لمّا کلّوا وملّوا من حرکات النّهار وأعماله اغتنموا شيئاً من الظلمة لترکهم ذلک فلذلک اختلف الأمر في أوّل النّهار وآخره.

وبالجملة فالعمدة إستقرار الشّرع عليه وتبعية العرف له حتّي ظنّ استقرار

ص: 416


1- هو ابو الريحان محمد بن أحمد البيروني الخوارزمي الحکيم الرياضي الطبيب الأديب ولدسنة(362)وتوفي سنة (440)ه- معجم المؤلفين ج241/8 .

العرف العامّ عليه أيضاًبحيث يحمل عليه الإطلاق في مثل النذر، وشبهه، وفي الإجارة، وغيرها علي تأمّل في بعضها بالنَّسبة إلي بعض الأعمال الّتي يقضي العرف والعادة استقراراً او غلبةً بوقوعه في النّهار النجّومي.

ثالثها : مجموع اللّيل والنهار وهذا الاطلاق شايع عند المنجّمين بل قال العلّامة الشيرازي : أنّه يراد به اليوم بليلته حيث أطلق وينقسم عندهم إلي حقيقي ووسطي فالحقيقيّ هو الزمان المتخلل بين مفارقة مرکز الشّمس نصف عظيمة يُتوهَّم ثابتاً کاحد نصفي دائرة الأفق أو أحد نصفي دائرة نصف النّهار وبين عوده إلي ذلک الموضع بعد دورة تامّة بالحرکة الأولي وهي دورة تامّة للمعدّل مع قوس تقطعها الشمس بحرکتها الخاصة إلي أنّ تعود إلي موضعها الأوّل والتّرديد في نصف العظيمة بين الدائرتين إنّما هو للإختلاف في تعيين المبدأ، مع اتحاد الجميع في المقدار فإنّ کلّ واحدٍ من العظام أفق بالقوة بل أفق حقيقيّ لمسکن من المساکن، فمبدء اليوم بليلته عند العرب غروب الشمس من افق البلد إلي غروبها من الغد لأنّ مبادي شهورهم من الهلال ورؤيته بعد الغروب غالبا ، أو لأنّ الظّلمة أصل في الرتبة مقدم بالطّبع ولذا قدمه في قوله : ( وجعل الظّلمات والنور) (1) والنّور طار عليه، والابتداء بالأصل المقدم بالطبع أولي، ولذا جرت عادتهم بتقديم الليالي علي الأيّام إذا نسبوها إلي الأسماء الأسابيع أو عدد أيّام الشّهور.

وعند الرومّ والفرس ومن وافقهم طلوع الشّمس من افق المشرق إلي طلوعها

منه بالغد إذ شهورهم حسابية غير متعلّق بشييء من الکواکب فرجّحوا النّور علي الظّلمة تفضيلاً للوجود علي العدم.

وأمّا المنجّمون وأهل الحساب سيمّا المغاربة وأهل الأوساط فاليوم بليلته

ص: 417


1- الأنّعام: 1.

عندهم من مواقاة الشّمس دائرة نصف النَّهار إلي موافاتها إياّه في نهار الغد، فَجَعلوا المبدأ النّصف الظاهر من الدّائرة وبنوا عليه حسابهم في زيجاتهم وتقاويمهم، وذلک الوجوه يظهر لمن مارس حسابهم وانس بصناعتهم، نعم أثر بعضهم النصف الخفيّ للبداية فجعلوا المبدأ نصف اللّيل، فصار حاصل الأقوال في تعيين المبدأ أربعة، وأمّا الوسطي فهو مقدار دورة من المعدل مع مطالع قوس تَقطَعه الشَّمس بالسيّر الوسطي، ولا جل الاختلاف بين الحرکة الوسطية والحرکة التقويمية يختلف الأيام بالمعنيين اختلافاً يسيراً يحسّ به بعد اجتماعه في أيّام کثيرة حسب ما فضل في موضعه، ولا يهمّنا التّعرض له في المقام، نعم ينبغي أنّ يعلم أنّ هذا المعني لليوم وهو إطلاقه علي مجموع الليل والنهار أي دورة واحدة للشمس من دون إعتبار خصوص وضع من الأوضاع من طلوع و غروب في المبدأ من المعاني العرفيّة المشهورة يبني عليها کثير من اطلاقاتهم بل لعلّه المنساق منها إذا لم يقابل بها اللّيالي سيما إذا کانت بصيغة الجمع أو التثنية، وهذا المعني مع کونه مصرّحاً به في کلام جمع من الأساطين يبني عليه والمواعيد، والاجال العرفية ، بل الشرعية أيضاً .

معترضة استطراديّة في مسألة فقهية

قد ورد في أخبار أهل البيت عليهم السلام إطلاق الأيّام وقد أنّيط بها کثير من الأحکام کخيار الحيوان المحدود بثلثة أيام، وخيار التّأخير، وقصد إقامة عشرة ايّام ، واقامة الثلثين من دون قصد، وأيّام العدد، والاستبراء، وأجل الدين، والسّلَم ومدّة الإجارة، إلي غير ذلک.

والأظهر في جميع ذلک تلفيق المنکسر والابتداء من حين السّبب إلي تمام العدد ولو مع التّلفيق فيدخل اللّيالي في مفهوم الأيام إسماً وحکماً، فلو اشتري

ص: 418

الحيَوان في ظهر الخميس کان آخر زمان الخيار ظهر يوم الأحد فإنّه ثلاث دورات للشّمس والکلّ اثنان وسبعون ساعة، ومثله البحث في أيام الإقامة والترديد والعدد وغيرها من الآجال المحدودة بالأيّام.

نعم ذکر شيخنا العلّامة في جواهر الکلام عند التعرّض لمسقطات (1)اذ مفهومه أنّ العقد علي الخيار إنّ لم تمض ، فالمنکسر في النّهار واللّيل حينئذٍ داخلان في حکم البقاء علي الخيار إلي حصول الغاية، لا في مفهوم الأيّام المنافي للغة والشّرع والعرف، کدعوي صدق اليوم علي الملفّق من يوم آخر أو من اللّيل المنافية للثلاثة أيضاً، وحينئذٍ فالخيار في الزيادة علي الأيّام الثّلثة مستفاد من دليل الخيار بالتقريب الّذي ذکرناه، ثم قال : فتأمّل جيّداً فانّه دقيق نافع في کثير من المقامات فإنّي لم أجد من تنبه له، مع أنّه بالتأمّل في المقام وغيره يمکن القطع به لمن رزقه الله تعالي اعتدال الذَّهن(2)

أقول : وفيه مع الغضَّ عما يلزمه بل قد صرّح به في المثال من کون مدّة

ص: 419


1- خيار الحيوان الّتي منها انقضاء الثلاثة أنّ الظّاهر دخول اللّيلتين المتوسطتين في الحکم دون الإسم، إذ ليس اليوم لغةً وشرعاً وعرفاً إلّا البياض المقابل الليل بل الظاهر دخول المنکسر من اليوم کذلک أيضاً فاذا وقع العقد مثلاً ظهر يوم الخميس فالخيار متّصل إلي أنّ يتحقّق مصداق مضّي ثلاثة أيّام، ولا يکون ذلک إلا بانتهاء يوم الأحد وهو غروب الشمس منه، ولو وقع في أول ليلة الخميس مثلاً فالخيار فيه إلي مضيّ الثلاثة فتدخل الليلة في الحکم لا في اسم اليوم، بل هذا کاد أنّ يکون صريح قول الصادق عليه السلام في صحيح ابن رئاب فإذا مضت ثلاثة أيّام فقد وجب الشراء بحار الأنّوار : ج 103/ 109 باب الخيار ح 2 عن قرب الإسناد ص 78 والوسائل الباب الثالث من أبواب الخيار ح 9.
2- جواهر الکلام ج 23 / 30 کتاب التجارة في خيار الحيوان .

الخيار ثلاثة أيّام ونصف أنّ جميع ما ذکره رحمة الله عليه مبنييّ علي فرض عدم دخول اللّيالي في مفهوم الأيّام بوجه بناءً علي أنّ اليوم مرادف للنّهار، وقد سمعت أنّ له اطلاقاً آخر شائعاً في العرف والشّرع وهو إستعماله في مقدار مجموع اللّيل والنّهار من الزّمان، ولا يُهمّني بين کون ذلک من باب الاشتراک أو المجاز، وإن کان قد يظهر من بعض الأعاظم دعوي الغلبة والانصراف بل التبادر بالنسبة إلي ما ذکرناه ، وبالجملة فالظّاهر أنّ المعني المستعمل فيه في مثل قوله صاحب الحيوان بالخيار، في ثلاثة أيّام هو المقدار المجموع.

ولذا قال بعض الأفاضل : إن دخول اللّيالي إنّما هو علي التّحقيق لأنّه الأصل في التحديد والظّاهر دخول اللّيلتين اصالة فتدخل الثالثة وإلا اختلف معني الأحاد في استعمال واحد(1)انتهي وإن اعترض عليه في الجواهر بما لا يرد عليه فإن الالحاق في الحکم مع عدم شمول الإسم ممّا لا يساعده دليل سوي الإجماع الّذي يقضي علي انّهم قالوا بدخول الأخيره کالمتوسطتين، إذ ليس المراد به مجرد ظهور الاتّفاق أو تحقّقه حتّي يقال : إنّ الفرض وقوع الخلاف، علي أنّ المسألة غير مذکورة في کلام الأکثر رأساً فکيف يدّعي الوفاق، بل المراد ما هو الحجة عند الفرقة المحقّة من مسلک الحدس وغيره بل ربما يظهر ما ذکرناه من فحاوي بعض الأخبار أيضاً بل في بعضها عبر عنها باللّيالي تغليباً.

ومن الغريب ما وقع لشيخنا في الجواهر في بحث استبراء البايع الأمة الموطوئة حيث وقع في عبارة جملة من الأصحاب التّعبير عن مدّة الاستبراء بخمسة وأربعين يوما، وفي جلّ الأخبار بل کلها التعبير بالليالي، ومع ذلک فقد حکي عن شرح استاده أنّه تدخل في الخمسة وأربعين يوماً الليالي المتوسّطة دون

ص: 420


1- الجواهر : ج 23 / 30.

الاولي والاخرة والمنکسر لا يحسب يوماً مستقلاً ويقوّي احتسابه بالاکمال ثمّ قال وهو جيّد (1)

اذ فيه مضافاً إلي مامرّ ان الحکم في خصوص المقام معلّق في صريح الأخبار باللّيالي فإلقاء الطّرفين إعتباراً بالأيّام علي الوجه الّذي ذکره في خيار الحيوان لا وجه له، مع أنّ قضيّة ما سمعتَ منه فيمامرّ عدم احتساب المنکسر بالاکمال، بل عدم احتسابه رأساً تکميلاً للعدة من الأيّام التّامة حسب ما ذکره، ثم إن اللّيلة الأولي الّتي ذکرها لم أرلها وجهاً ، وکذا قضية ذلک الإجتزاء بثلثة وأربعين ليلة باسقاط اللّيلتين بعد احراز اليومين وهو کما تري، سيّما بعد ملاحظة نصوص الباب .

وممّا يؤمي إلي ما ذکرناه ما ذکره کثير من الفقهاء في تحديد أقلّ الحيض من أنّ اللّيالي داخلة، بل عن التذکرة أنّه لا خلاف فيه بين فقهاء أهل البيت وإنّ قيل إن معقد الإجماع فيه، وفي المنتهي : ليس خصوص دخلو الليالي.

وقال المحقّق (2)الثّاني في جامع المقاصد: لا ريب أنّ اللّيالي معتبرة في

الأيّام إمّا لکونها داخلة في مُسمّاها أو تغليباً قال : وقد صرّح بدخولها في بعض الأخبار من طرق العامّة(3)وفي عبارة بعض (4)الأصحاب وادّعي المصنّف الإجماع علي ذلک في المنتهي(5)-(6)

ص: 421


1- الجواهر : ج 198/24- 199.
2- هو الشيخ الجليل أبو الحسن علي بن الحسين العاملي الکرکي المولود سنة 868والمتوفي سنة (940) ه.
3- سنن النسائي ج182/1 .
4- المعتبر ج 202/1 وفيه : قال أبو علي ابن الجنيد في المختصر : أقله ثلاثة أيام بلياليها .
5- المنتهي ج 1 / 97
6- جامع المقاصد : ج 287/1 .

ومثله من الوجهين للدّخول عن الرّوض وغيره، بل يمکن استظهاره من بعض الأخبار والفتاوي في حکم من سافر إلي أربعة فراسخ فصاعدا حيث أرادوا باليوم ما يشمل اللّيلة، وفي بعض أخبار ناوي الإقامة عشرة أيّام ذکر العشر بدون التّاء مع حذف التّمييز، ومع کلّ ذلک فلتّأمّل في هذا مسألة مجال واسع وتمام الکلام في الفقه.

ورابعها اليوم الملکوتي ويعبّر عنه باليوم الرّبوبي إقتباساً من قوله تعالي :

( وإنّ يوماً عند ربّک کألف سنة ممّا تعدّون) (1)

خامسها : اليوم الجَبَروتي المعبَّر عنه بالأيام الإلهيّة المشار إليها بقوله :

( تعرج الملائکة والرّوح إليه في يوم کان مقداره خمسين ألف سنة)(2)

والتّعبير بالرّبوبي والإلهي إنما هو لمجرّد الإشارة والتّمييز، وإلّا فمِن الواضِح أنّه عند ربّک لا صباح ومساء، وحديث الزمان منقطع هناک رأساً بل لا ذکر الزّمان في عالم الدّهر الذّي هو وراء النفّوس والعقول فضلاً عن السرّمد فما ظنکّ بالازل جلّت عظمته.

وهذان اليومان في القرآن لعلّهما إشارتان إلي الوعائين المتقدّمين علي الزّمان فإن الأزل غير داخل في الأوعية رأساً بل هو عين الذّات ، بلا مغايرة حقيقية أو اعتباريّة ، وهو عين الابد فأوليّته عين آخريتّه، وآخريّته عين أوّليّته ، وهما عين الذّات بلا مغايرة أصلا، وإلا لزم التّعدد المحال مضافاً إلي استلزامه لما هو المستحيل أيضاً من الظّرفيّة والشّمول والإحاطة والإفتقار فأوّليّته وسبقه علي الأشياء ليست بالزّمان ولا بالامتداد الموهوم کما ربما يختلقه بعض الأوهام ولا

ص: 422


1- سورة الحج : 47.
2- المعارج:4.

بالرّتبة ولا بالأوليّة الدّهريّة والسّرمديّة، بل أوّليّة حقّيّة ذاتيّة قيّوميّة، لا يحيط بها الأفهام ولا يعبّر عنها الکلام، وأمّا الأوعية الثّلثة الواقعة في حيز الإمکان فأعلاها الترمد، وهو ظرف للمشية ليس قبله شيء من الممکنات ولا من الکائنات، وذلک بالنسبة إلي المشية الإمکانية والکونية وما لهما من الوعاء فافهم، وليس للسرمد نهاية في نفسه إلا بالنسبة إلي غيره، وبه فارق الدهر والزمان لانتهائهما إلي الغير، واما لا تناهيها فلعدم انتهائها إلي شيء وعدم تعلّقها بشييء فليس لها حدّ تقف عنده ، ألا تري أنّ کل شيء من الأشياء يجوز أنّ يلبس في إمکانه کلّ صورة من الصّور في السّلسلة الطّوليّة والعرضيّة بلا نهاية ، فيجوز أنّ يکون عقلاً أو نفساً أو طبيعة أو کلّياً أو جزئياً وخيراً وشرّاً، وأرضاً وسماءً وزيداً وعمرواً، وشجراً وحجراً إلي غير ذلک من جزئيّات العالم الّتي لا يمکن إحصاؤها واستقصاؤها مع قياس کميّاتها وکيفيّاتها وأمکنتها وحدودها وأوضاعها واجالها المتساوية نسبة کلّها إليها، فليس شيء أقرب إليها من شيء، ولا شيء أبعد منها من شيء، وإليها الإشارة بقول مولينا الصادق عليه السلامفي تفسير قوله :(الرّحمن علي العرش استوي)(1)إستوي من کلّ شيء فليس شيء أقرب إليه من شيء (2)

وفي خبر آخر: إستوي من کل شيء فليس شيء أقرب إليه من شيء لم يبعد

منه بعيد ولم يقرب منه قريب، استوي من کلّ شيء (3)

فالآن الواحد من السرمد يطوي المتعدّد مع تباين أمکنتها وأوقاتها وحدودها من دون إنتلام وحدته ، ولا طروّ تکثّر في إنبساطه لا حقيقة ولا معني ولا صورة وأوسطها الدّهر، وهو وعاء وظرف للمجرّدات من المادّة العنصرية والمدّة الزّمانية ،

ص: 423


1- طه : 5.
2- بحار الأنّوار : ج 336/3ح 45- 46 عن التوحيد و تفسير القمي .
3- البحار: ج 3/ 337 ح 47 عن التوحيد .

سواءُ کان تجرّده عن المادّة بحسب الذّات والفعل کالعقول، أو بحسب الذّات خاصّة کالنّفوس التي لا يتمّ أفعالها إلا بواسطة الأجسام، علي حسب اختلاف مراتبها ودرجاتها في التّعلق والتّجرد والمعاني المعقولة والمهيّات الکليّة والاعداد والنّسب العددّية الّتي بينها کلّها من حوادث هذا العالم فليس لها حدوث زماني، لأنّ الزّمان کلّه في رتبة الدّهر، کنقطة محدودة والحوادث التهرية ليس لها حدود زمانيّة ولذا لا يصحّ أنّ يقال إن زوجيّة الأربع مثلاً، أو سلسلة الأعداد، أو کون عدد نصف آخر، وثلث ثالث، وربع رابع مثلا کم لها من السنين أو متي حدثت، واين مکانها وإلي أين تنتقل، ومتي تفني.

وبالجملة لما کان الزّمان والمکان متساوقين للأجسام فلا يقال شيء منهما

علي المعاني المعقولة بنفي ولا إثبات.

وتوهّم أنّ هذه المعاني من الأمور الإعتباريّة الّتي ليس لها وجود متأصّل عينيّ فليست من الموجودات ولا من الحوادث حتي يقال أنّ لها ظرفاً ووعاء وان وقتها الدهر.

مدفوع بأنّه إن أريد بکونها من الامور الاعتبارية فليست من الموجودات المتاصّلة الخارجية المتحيّزة الّتي هي الأجسام أو مع لواحقها وعوارضها فمسلّم، لکن التّفريع في غير موضعه، لعدم انحصار الموجودات فيها، وإن أريد أنّها ليست موجودة أصلاً بل إنّما هي باعتبار المعتبر وفرضِ الفارض ففيه منع واضح، کيف ولکلّ من هذه المعاني والنسب واقعُ متأصّل قد يطابقه القضيّة وقد يخالفها، ومن أين يتطرّق الصّدق والکذب في القضايا الّتي ليست للتسب الحکميّة الّتي فيها تحقّق سوي مجرّد الفرض والاعتبار، وما أشبه هذا التوهم بهذيانات أوساخ الفلاسفة وحمقاء المتکلّمين من العامة العمياء الّذين ينکرون نصف العالم بل اکثر واکثر وأکثر.

ص: 424

ولذا حصروا الموجودات في الأشياء المحسوسة بالحواّس الظّاهرية وانکر کثير من المنتسبين إلي الفلسفة الموجودات الواقعية المسماة عندهم بالموجود الذهني ، بل المتکلّمون کافّة انکروا بعد الواجب ما سوي المتحيّز والأعراض القائمة

قال في المواقف وشرحه: الموجود اي في الخارج (اذ لا يثبتون الوجود الذّهني) إمّا لا يکون له أوّل وهو القديم، او يکون له أول وهو الحادث، والحادث إما متحيّز بالذّات أو حالّ في المتحيّز بالذّات، أو لا متحيّزولا حالّ فيه، فالمتحيز هو الجوهر، ونعني به المشار اليه إشارة حسية بأنّه هنا أو هناک، والحالّ في المتحيّز هو العرض، وما ليس متحيزاً ولا حالّاً فيه لم يثبت وجوده عندنا.

ومنهم مَن قنع بهذا القدر، ومنهم مَن جزم بامتناعه لوجهين : أحدهما أنّه لو وجد لشارکه في هذا الوصف الذي هو عدم التحيز وعدم الحلول في المتحيّز، ولابد من أنّ يمايزه بغيره فيلزم الترکّب في الباري من المشترک والمميّز وهو محال.

والثّاني : أنّ هذا الوصف أخصّ صفات الباري فإنّ مَن سئل عنه لا يجاب إلّا به ، ولو شارکه فيه غيره لشارکه أيضاً في الحقيقة، فيلزم إمّا قدم الحادث أو حدوث القديم ، ثمّ أجاب عن الوجهين بجواز الإشتراک في عارض ثبوتي وبالمنع من کونه أخصّ صفاته.

اذا عرفت هذا فاعلم أنّ هذين القسمين من الأيّام أعني الأيّام الرّبوبيّة والأيّام الإلهيّة يمکن أنّ يکونا إشارتين إلي الوعاء الدهري والسرّمدي وحينئذٍ فالتّحديد بألف سنة أو بخمسين ألف سنة ليس علي وجهه، بل المراد به مجرّد الإشعار علي الکثرة والتقريب علي الأفهام کتقريب الکثرة بالشبعين في قوله : (إن تستغفر لهم سبعين مرّة فلن يغفر الله لهم)(1)، ويمکن أنّ يکونا إشارتين إلي الزّمان

ص: 425


1- التوبة : 80.

الّذي هو قبل خلق الأفلاک والزّمان الّذي بعد فنائها ، کما في الآيتين (1)

وقد حمل بعض الأعلام(2)

السّتّة الأيّام الّذي خلق الله فيها السّموات والارض (3)علي هذه الأيام، وعليه حَمَل ما في الأخبار من اختزال السّتة الأيّام من

أيّام السنة (4) مؤيّدا بما ورد من أنّ رباط يوم في سبيل الله خير من عبادة الرّجل في أهله سنة ثلثمائة وستين يوماً کلّ يوم ألف سنة وانّ صلوة المغرب هي السّاعة الّتي تاب الله عزّوجلّ فيها علي آدم وکان بين ما أکل من الشّجرة وبين ما تاب الله عليه ثلثمائُة سنة من أيّام الدنيا ، بل عن الطبري في تاريخه : إن حمل تلک الأيام السّتة علي الأيّام الرّبانيّة أمر مقررّ بَين أهل الإسلام (5)إلي غير ذلک من الشّواهد الّتي تسمع إن شاء الله تمام الکلام فيها وفي تحقيق المرام عند تفسير الآية ولعلّه لا تمانع بين الوجهين فانّ الجنّة الّتي خرجت منها أبونا آدم من عالم المثال الّذي هو في الاقليم الثّامن وليس في أفق الزّمان ، ولذا کان يوم أيامه کألف سنة من هذا العالم، وکذلک عالم الآخرة من عالم الملکوت وليس من عالم الزّمان ولذا يحشر فيه جميع الأزمنة.

ومن البيّن أنّ الزّمان لا يمکن أنّ يحشر فيه زمان آخر، وقد ورد أنّه يحشر الأزمنة بما فيها من الأفعال وتشهد للعباد، وفي خطبة مولينا أمير المؤمنين عليه السلام المذکورة في نهج البلاغة : وأنّه سبحانه يعود بعد فناء الدنيا وحده لا شيء معه کما

ص: 426


1- الحج : 47 - والمعارج: 4.
2- هو العلامة المجلسي قدس سره کما في البحار ج 218/57 .
3- الأعراف : 54 وغيرها.
4- إشارة إلي ما رواه الکليني في الکافي کتاب الصوم پ 7ح 3 عن الصادق عليه السلام أنّه قال : إن الله تبارک وتعالي خلق الدنيا في ستة أيّام ، ثم إختزلها عن أيام السنة ، فالسنة ثلثمائة واربعة وخمسون يوما ....
5- بحار الأنّوار: ج 215/57 الي ص 223.

کان قبل ابتدائها کذلک يکون بعد فنائها بلا وقت ولا مکان ولا حين ولا زمان عدمت عند ذلک الاجال والأوقات وزالت السّنون والساعات.(1) الخطبة.

وفي تفسير الامام عليه السلام : إن اللّيالي والأيّام والشهور شهوده له أو عليه إلي أنّ قال : ويحشر اللّيالي والأيّام ويستشهد البقاع والشهور علي أعمال العباد فمن عمل صالحة شهدت له جوارحه وبقاعه وشهوره واعوامه وساعاته وأيّامه وليالي الجمعَ وساعاتها وأيّامها فيسعد بذلک سعادة الأبد إلي أنّ قال :

وينادي منادٍ يا رجب ويا شعبان ويا شهر رمضان کيف عمل هذا العبد فيکم وکيف کانت طاعته لله عزوجل ؟ فيقول رجب وشعبان وشهر رمضان : يا ربنا ما تزودّ ما إلّا إستعانة علي طاعتک فقال : للملئکة الموکلين بهذه الشّهور ماذا تقولون في هذه الشّهادة لهذا العبد ؟ فيقولون: يا ربّنا صدق رجب وشعبان وشهر رمضان، الخبر بطوله (2)

فالمستفاد منه ومن غيره بل من بعض الآيات ايضا کقوله : ( قل إنّ الأوّلين والآخرين لمجموعون إلي ميقات يوم معلوم) علي تقريب لا يخفي أنّه يحشر الزّمان في المحشر بجميع ما فيه من أفعال العباد وأعمالهم فلو کان يوم الحشر أيضاً زمانيّاً لم يمکن ذلک لعدم کون الژمان ظرفاًلمثله بل جميع الزّمان في جنب الدهر کنقطة محدودة وقد استفيد من الخبر أيضاً أنّه ليس المراد من حشر الرمان وشهادته شهادة الملائکة الموکلّة به علي العاملين فيه حسب ما هو صريح الخبر.

وأمّا کيفيّة امتداد عالم الآخر في المحشر، وفي الجنة والنار فلا تدرکه عقولنا بحقيقته، وعلي فرض کونه من سنخ هذا الامتداد المحسوس في هذا العالم لعل المراد بحشر الزّمان فيه معني آخر، أو أنّه علي کيفيّة أُخري لا تدرکه

ص: 427


1- نهج البلاغة الخطبة (186).
2- بحار الأنّوار : ج 315/7 - 316 ح 11 عن تفسير الامام عليه السلام .

عقولنا والله العالم.

سادسها : الحوادث الزّمانيّة بل مطلق الشّؤن الرّبانيّة، فإن کلّاً من الحوادث والشّئون يوم من الأيّام ومنه أيام العرب لوقائعها أو حروبها، وفسّرت في قوله :

(وذکّرهم بأيام الله )(1)بنعم الله وشئون ريوبيّته کنعمة إنجائهم من آل فرعون، وقبول توبتهم، وتظليل الغمام، وإنزال المنّ والسّلوي، إلي غير ذلک وينقمه الّتي إنتقمها الله من الأمم السالفة فيکون أيّام الله کناية عن عقوباته الّتي نزلت بمن مضي في الأيام الخالية .

وفسرّها مولينا الباقر عليه السلام بيوم يقوم القائم ، ويوم الکّرة، ويوم القيامة.

ومولينا الصادق عليه السلام : بنعم الله والآنه (2) وعن مولينا أبي الحسن الثالث عليه السلام في معني قول رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم تعاد والأيّام فتعاديکم انّ السّبت اسم محمّد صلي الله عليه وآله وسلم ، والأحد أميرالمؤمنين، والاثنين الحسن والحسين، والثلثا علي بن الحسين ومحمّد بن علي وجعفر بن محمد، والأربعاء موسي بن جعفر وعليّ بن موسي ومحمّد بن علي وأنّا، والخميس ابني الحسن، والجمعة ابن ابني، واليه تجتمع عصابة الحقّ، وهو الذي يملأها قسطاً وعدلاً کما ملئت ظلماً وجوراً فهذا معني الأيّام فلا تعادوهم في الدنيا فيعادوکم في الاخرة(3)

ولعلّ ذلک لکونهم من الشّئون الجليلة الإلهيّة بناءً علي اطلاق الأيّام عليها سواء کان من الحوادث الزّمانيّة أو من الإبداعيّات الملکوتيّة لکنّهم عليه السلام لما کانوا اول الشّؤون وأعلاها وأقدمها أختصّوا باسم الأيّام علي الإطلاق.

ص: 428


1- سورة ابراهيم : 5.
2- تفسير العياشي : ج 1 / 222ح 2.
3- بحار الأنّوار : ج 24 / 238.

فصل :الدين

إعلم أنّ الدّين هو الحساب وقيل : هو الجزاء، ومنه قولهم : کما تَدين تُدان ،

الأوّل بالفتح للفاعل والثّاني بالضّم للمفعول أي کما تجزي تجزي.

قال أخو عبد قيس:

واعلَم وأيقن أنّ ملکک زائل واعلم بانّک ما تَدين تُدان

بل عن النّبيّ : البرّ لا يُبلي والذّنب لا يُنسي(1) والتيان لا يفني فکن کما شئت

کما تَدين تُدان (2)

وقيل غير ذلک من المعاني الّتي يستعمل فيها في خصوص الموارد بل أنّهيها في القاموس إلي بضع وعشرين قال : الذين بالکسر الجزاء، وقد دِنتُه بالکسر دَينا ويکسر ، والإسلام، وقد دِنت به بالکسر ، والعادة ، والعبادة، والمواظب من الأمطار، واللّين منها والطّاعة کالّدِينة بالهاء فيهما، والذّل ، والداء والحساب، والقهر، والغلية ، والاستعلاء، والسلطان، والملک، والحکم، والسّيرة، والتدبير ، والتّوحيد، واسمُ الجميع ما يُتعبّد الله عزّوجلّ به، والملّة، والورع، والمعصية، والاکراه ، ومن الأمطار ما تعاهد موضعاً وصار ذلک له عادة، والحال، والقضاء

لکنّها مع رجوع بعضها إلي بعض آخر لا يصلح إرادة کلّها في المقام وان

ص: 429


1- بحار الأنّوار : ج 100/10 .
2- البحار: ج 353/13

امکن ذلک علي تکلّف فالجزاء کقوله: إنا لمدينون وکما تدين تُدان ، ولعلّ إرادته في المقام أنّسب من غيره من المعاني کما قال:(اليوم تجزون ما کنتم تعملون)(1)

(اليوم تجزي کلّ نفس بما کسبت )(2)

والجزاء بعد الحساب فهو يشمله، والحساب للجزاء فيدلّ عليه، ولذا فسره مولينا العسکري عليه السلام في تفسيره بيوم الحساب قال : ويوم الّدين هو يوم الحساب (3) ورواه في «المجمع» عن أبي جعفر عليه السلام .

ومنه يظهر أنّه لا داعي إلي تکلّف غيره من المعاني ، وان کانت المناسبة الّتي بينه وبين کثير منها کافية في التّسمية ، فإنّه يوم جزاء الاسلام بتقدير المضاف، وکذا لو أخذ بمعني العبادة ، أو الطّاعة، أو الملّة، والتّوحيد، أو أنّه يوم أصحاب التوحيد، أو يوم ظهور الوحدانية له تعالي وبطلان الشرک بتبري الّذين اتّبعوا من الّذين اتُّبِعوا فإنّهم وما يعبدون من دون الله حسب جهنّم» فهو يوم ذلّة المشرکين بل المجرمين،

(ولو تري إذا المجرمون ناکسوا رؤسهم عند ربّهم ) (4)، آه ويوم القهر والغلبة بمعني الفاعل والمفعول، ويوم ظهور السّلطنة و العلو والملک والحکم وسيرة العدل والتدّبير لله ربّ العالمين، ولأوليائه القوامين بأمره العاملين بارادته.

ثمّ انک إذا اعتبرت معاني اليوم ومعاني الّدين علي وجه الظهور والبطون، أو عموم المجاز أو الحقيقه بعد الحقيقه، أو استعمال اللفظ في المعنيين الحقيقيّين، أو المعني الحقيقي والمجازي علي فرض جوازهما يظهر لک معان کثيرة وشئون غفيرة للرّبوبيّة.

ص: 430


1- الجاثية : 28
2- غافر: 17.
3- مجمع البيان : ج 1 / 24.
4- السجده : 12.

واعلم أنّه علي قراءة ملک تکون الإضافة معنوية موجبة لتعريف المضاف کي يصحّ توصيف المعرفة الّتي هو الله به لأنّ الصّفة المشبهة لا تعمل النّصب حتي تکون مضافة إلي المفعول به لاشتقاقها من اللازم، وإضافتها اللّفظية منحصرة في اضافتها إلي فاعلها فالاضافة في ملک يوم الدين مثل کريم البلد حقيقيّة يکسب التّعريف .

وأمّا تجويز سيبويه هو رحيم فلانا وجليس زيداً، فقد قيل إنّه نصّ علي أنّ

الأوّل من ابنية المبالغة، وحکمه حکم اسم الفاعل حينئذٍ، والثّاني بمعني مجالس وإلّا لم يکن متعدّياً.

واحتمال کون ملک في المقام من أبنية المبالغة نظراً إلي کونه متعدّياً ، مع أنّهم صرّحوا بلزوم إشتقاق الصّفة من الفعل اللّازم مدفوع بما مرّ من تصريحهم بتقدير اللّزوم فيه وفي نظائره في باب المدح والذم بنقل الفعل إلي القرائن بل قيل : إنّ تقدير اللّزوم في المتعدي کثير في کلامهم کقولهم يعطي ويمنع أو يفعل الإعطاء والمنع، من غير اعتبار أنّه من يعطيه وما يعطيه.

وأمّا علي قرئة مالک فقد أجيب عن اشکال وقوعه صفة للمعرفة بوجهين :

أحدهما تجريده عن معني الحدوث والتجدد بمعني أنّ له الملک في هذا اليوم علي وجه الثّبوت والدّوام والاستمرار فلا يکون مشابهاً لفعل في التّجدد والحدوث، نعم ربما يقال لا مانع من عمله حينئني أيضاً ويستشهد له بقوله : (جاعل اللّيل سکناً والشّمس والقمر حسباناً(1)بنصب الشمس والقمر عطفاً علي محلّ اللّيل مع قصد الاستمرار من اسم الفاعل کما عطف علي محلّه في قوله:

هل أنّت باعثُ دينارٍ لحاجتنا أو عبدً ربٍّ أخاعون بن محراق

بنصب عبد ، وقد يُجاب بان الإستمرار يحتوي علي الأزمنة الماضية والآتية

ص: 431


1- الأنّعام : 96 علي قراءة (جاعل) لا القراءة الموسومة إنها (جعل) .

والحال، فتارة يعتبر جانب الماضي فتجعل الإضافة حقيقيّة، وتارة جانب الآتي والحال فتجعل لفظية، والتعويل علي القرائن والمقامات

وتوهّم منافاةِ التّقييد بيوم الدّين للإستمرار نظراً إلي صراحته في الإستقبال مدفوعُ بأنّ المراد الثّبوت والاستمرار من غير إعتبار حدوث في أحد الأزمنة ، ومثل هذا المعني لا يمتنع أنّ يعتبر بالنّسبة إلي يوم الدّين کأنّه قيل هو ثابت المالکيّة في ذلک اليوم.

وربما يقال : إن الإستمرار في مالک يوم الدّين ثبوتّي، وفي جاعل اللّيل تجدّدّي، لتعاقب أفراده فکان الثّاني عاملاً وإضافته لفظيّة لو رود المضارع بمعناه دون الأوّل، والثّاني أنّه بمعني الماضي تنزيلاً لما تحقّق وقوعه ولو في زمان من الأزمنة منزلة الواقع، ومثله کثير في القرآن، وأمّا اضافته إلي الظّرف مع عدم کونه فاعلاً ولا الوصف عاملاً فعلي الإتساع والتّجوز عند الأکثر فاجري الظّرف مجري المفعول به حيث لا يقدّر معه في، بل ينصب نصبه ويضاف إليه علي حسبه.

وفيه : مع أنّه التزام بکونه حينئذٍ عاملآً أنّه مشتمل علي تکلّف لاداعي إليه، وهو جعل إسم الفاعل بمعني الماضي لتکون الأضافة معنوية ثمّ جعل الماضي بمعني المستقبل، وهو کما تري.

مع أنّ هذا کلّه بناءً علي الجري علي طريقة القوم وإلّا فلا يخفي أنّ الأزمنة کلّها منقطعة في حقّه سبحانه إذ ليس عند ربّک صباح ولا مساء ُفجميع الأزمنة عند فعله بل عند ملکوته کنقطة محدودة وإنّما يتوارد الأزمنة بحدودها واطوارها واکوارها علينا في هذا العالم النّاسوت.

ومن هنا يظهر أنّ الأظهر في الجواب هو الوجه الأوّل لضعف الثّاني کضعف ما قيل أيضاً في الجواب من کونه بدلاً ليحصل التخلّص من تلک التکلّفات، نظراً إلي ما هو المختار عند المحقّقين من النّحويّين من جواز إبدال النکرة الغير

ص: 432

الموصوفة من المعرفة، إذ فيه أنّ البدل هو التّابع المقصود بالحکم بلا واسطة ومن البيّن أنّ المقصود في المقام إثبات الحمد لله باعتبار هذه الصفات لا أنّه ثابت للوصف الأخير فالله هو المقصود بالحکم وهو المتبوع لا التّابع.

ثمّ انّه يستفاد من تفسير الامام عليه السلام جواز کون الإضافة إلي الظّرف وإلي المفعول قال عليه السلام : مالک يوم الدين أي قادرُ علي إقامة يوم الدّين وهو يوم الحساب، قادرُ علي تقديمه عن وقته وتأخيره بعد وقته وهو المالک أيضاً في يوم الدين فهو يقضي بالحقِّ لا يملک الحکم والقضاء في ذلک اليوم من يظلم ويجور کما قد يجور في الدنيا من يملک الأحکام، قال وقال أمير المؤمنين عليه السلام يوم الدين هو يوم الحساب (1)

أسماء القيامة

إعلم أنّ للقيمة أسماء کثيرة باعتبار الشّؤون الواقعة في ذلک اليوم، وقد ضبطها بعضهم بواحد ومائة يستفاد أکثرها بالتلويح کيوم النشور، ويوم الفراق، ويوم القضاء، ويوم الزّلفة، ويوم الکرة، وغيرها المصرَّح به منها في الکتاب العزيز أربع وثلثون منها المجرد من لفظة اليوم، وهي أحد عشر إسماً الساعة، والحاقة والطّامة، والأزقة، والغاشية، والقارعة، والرّاجفة، والرّادفة، والواقعة، والخافضة ، والرّافعة، ومنها المقترنة بها بالإضافة والتوصيف کاليوم الآخر، ويوم الآزفة، ويوم التّلاق، ويوم تبلي السرائر، ويوم التغابن ، ويوم التّناد، ويوم الجمع، ويوم الحسرة ، ويوم الحساب، واليوم الحقّ، ويوم الخروج، ويوم الخلود، ويوم عبوس قمطرير، ويوم عظيم، ويوم عسير، ويوم الفصل، ويوم القيمة، ويوم معلوم، ويوم مجموع له

ص: 433


1- بحار الأنّوار : ج250/92 عن تفسير الامام عليه السلام .

النّاس، ويوم مشهود، ويوم الوعيد، ويوم الموعود، ويوم الدّين الَّذي قد سمعت وجه تسمية به بمعانيه، لکنّه خصّه باضافة المالک أو الملک إليه مع ثبوت الوصفين له في جميع العوالم والنشأت بکلّ الاعتبارات لإفادة تعظيم ذلک اليوم، فانّ الإنتساب إلي العظيم تنبيه علي التّعظيم، ولأنّ الملک والملک الحاصلان في هذا العالم ربّما ينتسبان إلي غيره إنتساباً ثانوياً بواسطة أو بوسائط مجعولاً من قِبَله الانتفاع الخلق بهما کما قال سبحانه : (يؤتي ملکه من يشاء)(1) (تؤتي الملک من تشاء وتنزع الملک ممّن تشاء ) (2)(وجعلکم ملوکاً)(3)

وقال : (أنّا خلقنا لهم ممّا عملت أيدينا أنّعاماً فهم لها مالکون) (4)

وذلک لاحتياجهم في أمر معاشهم ومعادهم ونظام أمورهم إلي هذه الأمور الاعتبارية ، والارتباطات الّتي لا حقيقة لها سوي جعله مع أنّه هو المالک لما ملکهم وهو المالک لهم بل شتّان بين الملکية المجعولة لنا في أموالنا وأرقّاتنا لفائدة الانتفاعنا بها وبالتّصرف فيها في الحيوة الدّنيا وبين الملکيّة الّتي له سبحانه فيما انشائه وقدّره وقضاه وأمضاه وخلقه وصوّره ورزقه وأتقن خلقه، وأفاض عمليه الإفاضات السّيالة الدائمة اللّا يزالّية الغير المنقطعة، بحيث لو انقطع عنها فيضه لکان عدماً محضاً بحتاً، وأمّا في يوم القيمة تنقطع تلک العلائق وترتفع تلک الإعتبارات لعدم الحاجة إليها بل لعدم الانتفاع بها فإن الأشياء المملوکة في هذه الدّنيا من سنخ هذا العالم، فيحصل الإنتفاع بها في هذه الدّار دون الدار الآخرة کما لا يحصل الانتفاع لأهل هذا العالم بدم الحيض وإن کانوا ينتفعون بها في عالم الأرحام، وکمالا يحصل للملک الانتفاع بالأغذية الجسمانية النّاسوتيّة ، ولذا لا يکون المِلک

ص: 434


1- البقرة : 245.
2- آل عمران:26 .
3- المائدة : 20.
4- يس : 71.

والملک مجعولاً لهم يوم القيمة، فيکون الأمر والملک کلّه لله کما کان في الدّنيا إلّا أنّه في الدُّنيا ربما ينصرف النّظر إلي بعض الاعتبارات والجعليات الظّليّة فيتوهّمها من الحقائق المتحصّلة المتأصّلة کما قال فرعون: (اليس لي ملک مصر وهذه الأنّهار تجري من تحتي أفلا تبصرون)(1)

وفي مصباح الشريعة : يقول ابن آدم : ملکي ملکي ومالي مالي، يا مسکين

اين کنت حيث کان الملک ولم تکن، وهل لک إلا ما أکلت فانيت. الخ (2)

وأمّا في الاخرة فينکشف الغطاء من البصائر والابصار وينجلي لهم حقائق الأسرار کما قال سبحانه: (3)لقد کنت في غفلة من هذا (فکشفنا عنک غطاءک فبصرک اليوم حديد)(4) فيري الملک کلّه لله کما يحکي سبحانه عن السائلين والمجيبين في ذلک اليوم وهم الأئمة عليهم السلام کما في الخبر لمن الملک اليوم الله الواحد القّهار (5)-(6)

ولانّ بالرّبوبيّة المطلقة الکليّة التامّة العامّة المشار إليها بقوله : ربّ العالمين سيّما بعد تعقيبه بذکر الرحمتين اللّتين هما العدل والفضل اللّذين يتمّ ويکمل بهما الرّبوبيّة قد ثبت له سبحانه جميع الشّئون الَّتي منها المُلک والمِلک في عالم التربية الّتي هو عالم التّرقّي والکسب وظهور الأمور وحيث کانت الاشارة فيها خفية علي ثبوت تلک الشؤون بل الشؤون الّتي يناسبها يوم الجزاء في ذلک اليوم أظهرها وأکَّدها بقوله : مالک يوم الدّين .

ص: 435


1- الزخرف: 55.
2- بحار الانوار ج 71 ص 356 ح 17 عن مصباح الشريعة الباب(37)عن الصادق عليه السلام عن النبي صلي الله عليه وآله وسلم.
3- عن الصادق عللا عن النبي لا .
4- ق : 22.
5- غافر : 16.
6- نور الثقلين ج 514/4عن التوحيد.

ثمّ أنّ هذا کلّه علي فرض اختصاص يوم الدّين بيوم القيامة والا فالأظهر شموله لجميع النّشأت والعوالم بجميع معاني الدّين عن الاسلام والجزاء والحساب والحکم وغيرها فإنّ شئون الرّبوبيّة لا تعطيل لها في شيء من المراتب والأمکنة والنّشأت والعوالم غاية الأمر أنّه في کلّ عالم بحسبه فالدّين يعني الاسلام ثابت في جميع العوالم وهو مالکه ومعطيه وممدّه والمجزي عليه، وبمعني الجزاء ثابت في الدّنيا وفي البرزخ ايضاً غاية الأمر أنّ الجزاء الّذي هو في الدّنيا من سنخ الأمتعة الدّنيويّة کما يقال للکفّار: (اذهبتم طيّباتکم في حيوتکم الدّنيا واستمتعتم بها)(1) وأيضاً من سنخ الإمدادات والإفاضات والتّوفيق والخذلان وغيرها، بل في کلّ أنّ يحصل لکلّ موجود من الموجودات في کلّ عالم من العوالم کسر وصوغ فينکسر ويتلاشي من حيث إنيته ويصاغ صيغة علي حسب رتبته ودرجته ونيّته وشاکلته ومنه يتحصّل معني الحساب أيضاً.

ولذا قيل : إنّ معني سرعة الحساب إنّ الله سبحانه يحاسب العيد في الدّنيا في کلّ أنّ ولحظة ويجزيه علي عمله، وفي کلّ حرکة وسکون ويکافي طاعاته بالتّوفيقات ومعاصيه بالخذلانات، فالخير يجرّ الخير والشرّ يدعوا إلي الشرَّ، ومن حاسب نفسه في الدّنيا عرف هذا المعني کما قال عليه السلام : «حاسبوا أنّفسکم قبل أنّ

تُحاسَبُوا وزِنُوها قبل أنّ تُوزَنُوا» (2)

تبصرة

قد سمعت أنّ مالک يوم الدين بجميع معانيه في جميع العوالم هو الله سبحانه لا شريک له في ذلک ولا معين ولا ظهير له في شيء منه فليس له شريک في الملک

ص: 436


1- الأحقاف: 20.
2- بحار الأنّوار: ج 70/ 73ح 36 عن محاسبة النفس .

ولا له وليُّ من الذّل إلّا أنّه بعزته قد اتّخذ لنفسه أولياء من خلقه وجعلهم أمناء وحججه علي برّيته وهم محمّد وآل محمّد عليهم الصلاة والسّلام فولاهم أمر خلقه في جميع الشؤون التي مرجعها إلي الفعل ، فانّهم أمر الله الفعلي الذي بهم قامت السّموات والأرض قياماً صُدورياً وقياماً رکينا، فاليهم إياب الخلق وعليهم حسابهم کما في الزّيارة الجامعة بل في الأخبار المستفيضة بل المتواترة في تفسير الآية وفي کونهم قسيم الجنّة والنّار وفي باب الشّفاعة وغير ذلک، ولا غرو في التفويض السَّيلاني بالنّسبة إليهم، فإنّ هذا ثابتّ في حقّ شيعتهم أيضاً کما روي في مشکاة الأنّوار عن مولانا الباقرعليه السلام إنّ المؤمن ليفوّض الله إليه يوم القيمة فيضعُ ما شاء فسأله جابر الجعفي عنه من کتاب الله فقال قوله : (لهم ما يشاؤن ولدينا مزيد) فمشية الله مفوّضة إليه والمزيد من الله ما لا يحصي.

ثمّ قال يا جابر ولا تَستَعِن بعدونا في حاجة، ولا تَستطعمه ولا تسأله شرية ماء انّه ليخلّد في النّار فيمرّ به المؤمن ، فيقول : يا مؤمن ألستُ فعلت بک کذا وکذا؟ فيستحيي منه فيستنقذه من النّار، وإنّما سمّي المؤمن مؤمناً لأنّه يؤمن علي الله فيجيز الله أمانه(1)

فالدّين إن کان بمعني الحساب عليهم وکذا بمعني الجزاء لقضيّته القسمة بل في الزّيارة الرجبيّة : أنّا سائلکم وأملکم فيما إليکم التفويض، وعليکم التّعويض فبکم يجبر المهيض ويشفي المريض.

ومن کلام مولانا أميرالمؤمنين قبل موته «غداً ترون ايّامي وتُکشَفَ لَکُم من

سرائري»(2)

ص: 437


1- بحار الأنّوار: ج 42/8 ح 36 عن محاسن البرقي ص 185.
2- بحار الأنّوار : ج 207/42 ح 11 عن الکافي ج 1 ص300.

إياک نعبد

فصل

ثمّ انه لما ثبت لنفسه علي لسان عَنده الرّبوبيّة والرحمة والملک بحيث لا يشارکه في شيء منها غيره بل قد انحصر اسباب الخوف والرّجاء فيه سبحانه بحيث ليس للعبد مطمع في غيره ولاله خوف إلا منه مع اطباق العقول علي ضرورة وجوب شکر المنعم وعبادته سيما بعد کون المعاد إليه والجزاء من لديه المشعرين بامره وطلبه وايجابه التفت من مقام الغيبة والحکاية إلي مشهدِ الحضور والعناية فصار ما هو الثّابت بالبرهان مشاهداً بالعيان فتعرض لنفحات القدس وتمکّن علي سرير الأنّس وتحلّي بحلية العبادة وتخلّي عن الإستعانة بغيره في الفوز بالسّعادة ، فقال بلسان عبيده تعليماً لهم علي وجه الاخبار والإنشاء إيّاک نعبده واياک نستعين .

وهذه هي الآية المتوسطة بين الرب وبين عبده فان أوّل السّورة تحميد وتمجيد ومدحة لله سحبانه وآخرها دعاء ورغبة ورهبة وفي هذه الآية بيان انتساب العبد إلي ربه و افتخاره به وافتقاره إليه ولذا جعلها واسطة بين تمجيده باتم الصّفات ودعائه لاعظم المهمّات بل بين الإفاضة والإستفاضة.

اللّغة والقراءةبحث نحوي في ايّاک

إختلفوا في إيّاک وأخواتِه من الضّمائر المنصوبة المنفصلة هل الضّمير منه إيّا

ص: 438

خاصّة ؟ أو الضّمايم المتصلة به من الهاء والکاف والياء وغيرها؟ أو المجموع من حيث المجموع، أو الجميع بمعني کلّ منهما علي أقوال.

فالجمهور علي أنّ إيّا اسمّ للمضمر المنصوب ، ولواحقه حروف للخطاب وغيره أُکّدِ بها الضَّمير لا محلّ لها من الاعراب کما لا محلّ للکاف وأخواته في قولک : ذلک ذلکما ذلکم، وقولک: أرايتک أرايتکما أرايتکم بمعني طلب الإخبار عن علم.

حيث إنّه لو کان الکاف مفعولاً لزم الجمع بين ضميري الفاعل والمفعول في غير أفعال القلوب، ولکان قولک أرابتک زيدأ ما شانه بمعني آرايت نفسک زيداً ما شانه ، فيلزم أنّ يکون معدّي إلي ثلاثة مفاعيل، مع عدم إستقامة المعني أيضاً، وهذا مذهب الأفضل والمحکي عن البصريين بل عن الکوفيين أيضاً.

وعن الزّجاج وغيره أنّ إيّا اسمُ للمضمر المنصوب، إلّا أنّه ظاهر يُضاف إلي سائر المضمرات فتقول : إيّاه ضربت، وإيّاک أکرمت، واياي أعطيتَ، فموضع إيّا النّصب بالفعل، وموضع الضّمائم الخفض بالاضافة إلا أنّه لا يضاف إلي غيرها إلّا شاذّ اً کما حکي الخليل عن العرب : إذا بلغ الرّجل السّتين فإيّاه وأيّا الشّوات أي فليحذر من النّسوة الشاّبة.

وردّ بأنّ إيّا ليس بظاهر بل مضمر لتغيّر ذاته وامتناع ثباته في حال الرفع

والجر والظاهر يتوارد عليه الحرکات في آخره من غير أنّ يتغير بنفسه.

وفيه المنع من تغيّره في ذاته لان المتغير هو اللّواحق مع إمکان أنّ يکونَ

النوع من الضّمير، وهو المنصوب خاصّة.

فالأولي في الجواب أنّ يقال : إنّ إيّا إذا کان إسماً للمضمر فهو يفيد إفادته فإضافته إليه تکرير أو تأکيد غير مستفاد من اللفظ ، وبهذا يبطل أيضاً ما يحکي عن بعضهم إن إيا اسم مضمرُ نائب مناب الضّمير ولعلّه يرجع إلي مامرّ وإن قيل: إنّ

ص: 439

سيبويه إنّما عدل إليه نظراًإلي أنّ الضّمير لا يضاف سيّما مع کونه أعرف المعارف.

وربّما يقال : إنّه إسم مشتقّ من أوي يأوي، وأصله عند هذا القابل إزيا علي وزن فعلي فقُلبت الواوياءَ وأدغمت في الياء الاجتماعهما وسبقة أولهما بالسکون.

وربّما يقال : إنّه اسم ظاهر لازم لإضافة مثل سبحان، وعن إبن در ستويه انّه

متوسط بين الظاهر والمضمر کاسم الإشارة.

وعن المبرّد أنّه اسم مبهم أضيف إلي ما بعده کاضافة کلّ وبعض، وعن سيبويه والأخفش واکثر المتأخرين أنّ الضمّير هو إيّاه واللّواحق لمجرّد الدلالة علي الغيبة والخطاب والتکلّم والافراد والجمع وغير ذلک.

وعن بعضهم أنّ کلّ واحدة من الصيغ الّتي هي إيّاه وايّاهما إيّاهم إلي إيّاي ايّانا صيغة مستقلّة، والضمّير هو مجموع الکلمة، ولا داعي إلي جعله بعضها بعد الإستفادة من الکلّ، سيّما مع عدم مرجّح للبعض علي الکلّ وعلي بعض آخر.

وربما يقال : إنّ إيّا اسم بمعني النفس الّتي تضاف إلي الأشخاص والأعيان

فمعني إيّاک نعبد نفسک نعبد کما قال تعالي : (تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسک ) (1) إلي غير ذلک من الأقوال الضّعيفة التي لم تتعرّض لادلَّتها لضعفها جّدا ولعل الأقوي وإن خالف المشهور بينهم في الجملة إذ لا بأس به ان الضّماير هي الهاء والياء وما اشتقّ منها للمثّني والجمع هو بعينها الضّماير المتّصلة المنصوبة في قولک اکرمته واکرمهما، الخ.

واکرمتک واکرمتکما واکرمتني واکرمتنا وبالجملة هذه الضّماير المتّصلة المنصوبة هي بعينها الضمّائر المنفصلة المنصوبة غاية الأمر أنّها لما کانت ممّا لا يبتدي بها توصّلوا إلي الابتداء بها بلفظ أيّا ولذا سمّاه الکوفيّون عماداً لما يأتي

ص: 440


1- المائدة : 116.

بعدها من اللّواحق، ولعلّه أيضاً مراد من سمّاه سُلَّم اللَّسان حيث إنّه سبب التمکّن اللّسان من التّلفظ بها عند ارادة تقديمها علي الفعل أو تأخيرها عن ارادة الإستثناء والتفکيک بين حالتي الاتصال والإنفصال بالاعمال والإهمال لا يخلو عن شوب الإشکال، وعلي کلّ حال فيتوصل بالعماد إلي التکلّم بهذه الضّماير عند ارادة تقديمها علي الفعل کما في المقام أو الفصل بالإستثناء نحو ما اردث إلّا إيّاک أو العطف نحو ذکرتک وإيّاه أو التکرار نحو: ادعوک واياک أو لضرورة الشعر.

وممّا يؤيَّد ما ذکرناه ما ذکره الجوهري حيث قال : إنّه اسم مبهم ويتّصل به جميع المضمرات المتصلة للنّصب نحو: إيّاي وإيّاک وإيّاه وإيّانا، وجعلت الکاف والياء والهاء بياناً عن المقصود لِيُعلَم المخاطب من الغايب، ولا موضع لها من الإعراب ، فهي کالکاف في ذلک وأرايتک وکالألف والنون الّتي في أنّت، فيکون ايّا

الإسمَ وما بعدها للخطاب(1)

وفي القاموس ما يقرب منه وصرح فيه بانّ إيّا بالکسر والفتح، وأنّ همزته تبدل هاء وتارة واوا خفيه ست لغات، وقد قُرِء في المقام بأربعة منها، وهي ما سوي الواو مکسورةً ومفتوحةً لکنّ الثلاثة غير الأولي من الشوّاد.

وقريء بکسر النّون في الفعلين (اي نعبد ونستعين قيل : وهي لغة بني تميم فإنهم يکسرون حرفَ المضارعة سوي الياء إذا لم ينضم ما بعدها، فإن انضمّ ما بعدها کتقوم لم تکسر لثقل الإنتقال عن الکسر إلي الضمّ

وفي الکشّافُ قرء ابن حبيش (2)نستعين بکسر النّون.

ص: 441


1- الصحاح ج 6 / باب الألف اللينة .
2- هو عبد الرحمن بن محمد بن عبدالله بن حبيش الأنّدلسي المقريء ولد سنة (504) وتوقي سنة (584) .. غاية النهاية ج 1 / 378.

قلت : ذکر الشّيخ الّرضي (1)رضي الله عنه أنّ کسر حروف المضارعة إلا الياء لغة غير الحجازين إذا کان الماضي مکسور العين ويکسرون الياء أيضأ إذا کان ما بعدها ياء أُخري.

قوله نعبد إمّا من العبادة ، أو من العبوديّة، فانّ الأتي منهما مضموم العين، وإن کان الماضي من الأوّل بالفتح، ومن الثاني بالضّم، فصاحب العبادة عابد مطيع، وصاحب العبودّية عبد منقاد.

والعبادة أنّ تفعل ما يرضيه الله، والعبودّية أنّ ترضي بما يفعله الله ، وأصل الباب هو الذّلّة والانقياد تقول: طريقُ مُعَبَّد : أي مذلّل بکثرة الوطي، والمعبّد علي ما في القاموس من الأضداد يطلق علي المذلَّل وعلي المکرّم، وذلک لأنّ ذلّة العبوديّة توجب الفوزَ بالکرامة والسَّلامة والاقامة في دار المقامة ، وهذه العبوديّة هي الّتي إفتخر بها نبينا خاتم الأنّبياء صلي الله عليه وآله وسلم سائر الأنّبياء في قوله: «الفقر فخري وبه أفتخر علي سائر الأنّبياء» (2) اذ المراد به هو الافتقار والانقطاع الکلّي إلي الله تعالي . وبالجملة کلّ من العبادة والعبوديّة علي فرض تغايرهما تصلح لاشتقاق الفعل منه، ولذا أثني الله تعالي علي الأنّبياء والملائکة في قوله : (بل عبادُ مکرمون) (3)، (لا يستکبرون عن عبادته )(4)، (واذکر عبادنا ابراهيم واسحق ويعقوب) (5) (کانوا لنا عابدين) (6)

ص: 442


1- هو محمد بن الحسن رضي الدين الإسترابادي شارح الکافية والشافية لابن الحاجب توفي سنة (686) ه.- معجم المؤلفين ج 9/ 183.
2- بحار الأنّوار : ج30/69 وليس فيه : (علي سائر الأنّبياء).
3- الانبياء :26.
4- الأعراف : 206.
5- ص : 45.
6- الانبياء : 73.

وشرّف المؤمنين بانتسابهم إلي عبودتيّه وکرّمهم وفضّلهم بقوله : ( يا عبادي الّذين اسرفوا)(1) (يا عباد لا خوف عليکم )(2)، (إنّ عبادي ليس لک عليهم سلطان)(3)

ووصفهم بأحسن الحلية في قوله : (التّائبون العابدون)(4)

والعبوديّة أصل للعبادة ولذا قال سبحانه : (لن يستنکف المسيح أنّ يکون عبداً الله ولا الملائکة المقربون ومن يستنکف عن عبادته ويستکبر) (5) آه تنبيهاً علي أنّ العبودية تقتضي العبادة والإستنکاف عنها استنکاف عن الأولي.

ثم إنّ العبوديّة وإنّ قيل انّها تجييء في اللغة لمعان خمسة : الّذلّة والمقهورية کقوله : (ان عَبَّدتَ بني اسرائيل )(6)اي ذَ لَّلتهم وقهرتهم، والتکليف بالأمر والنّهي کقولک تعبّد فلاناً أي کلَّفه بالأمر والنّهي، وشدّة نسبح الثّوب وقوّته من قولهم: ثوب ذو عَبَدة إذا کان في غاية الصّفائة وقوّة، وتحمل العناء من قولک : بعير مُعَبّد إذا کان مُطلَيّاً بالقطران، والانکسار والخضوع عن قولهم طريق مُعَبّد.

إلّا أنّ الحقّ رجوعها إلي ما سمعت وإن کان بين کلّ منها وبين العبوديّة المضافة إلينا من المناسبة مالا يخفي، وکذا سائر مستعملاتها ممّا سوي الخمسة، بل وکذا معاني العبادة الّتي قيل هي التّوحيد في قوله : ( واعبدوا الله ولا تشرکوا به شيئاً )(7)والدّعاء في قوله : (إنّ الّذين يستکبرون عن

ص: 443


1- الزمر: 53.
2- الزخرف : 68.
3- الحجر: 42.
4- التوبة : 112.
5- الانبياء: 172.
6- الشعراء : 22.
7- النساء : 36.

عبادتي )(1)والطّاعة في قوله : ( ألم أعهَد إليکم يا بني آدم أنّ لا تعبدوا الشّيطان إنّه لکم عدّو مبين وأنّ اعبدوني) (2)

ولذا قال مولينا عليه السلام : من أصغي إلي ناطق فقد عبده فان کان النّاطق ينطق عن

الله فقد عبدالله وان کان الناطق ينطق عن الشّيطان فقد عبد الشّيطان (3)

والکرامة في قول حاتم الطّائي أري المال عند الباخلين مُعَبّداً (4) أي

مکرَّماً.

ويؤيّده ما سمعت من القاموس :

والتجريد في قول الأعشي يَجُوبُ البوادي کالبعير المعبَّد أي المجرّد بل قد

يحکي عن ابن السّکيت إنّ العبادة هي التّجرد.

ومناسبة المعاني الخمسة للمطلوب واضحة أمّا التوحيد فلانّ أوّل الدّين معرفته وکمال معرفته توحيده (5) وأمّا الدعاء فلقول الصّادق عليه السلام أنّه العبادة ، وحقيقة العبادة وأفضل العبادة(6)

وذلک لما فيه من الانقطاع الکلّي إلي الله، والاعتراف حالا وبالاً وقالاً

ص: 444


1- غافر: 60.
2- يس : 60 - 61.
3- في البحار: ج 239/26 ح 1 عن العيون ص168 عن الامام الرضا عليه السلام عن آبائه الکرام عليه السلام ، عن النبي صلي الله عليه وآله وسلم أنّه قال : من أصغي الي ناطق فقد عبده ... إلي أنّ قال : وان کان الناطق عن ابليس فقد عبد ابليس . هو حاتم بن عبدالله بن سعد الطائي القحطاني، شاعر ، فارس ، جواد جاهلي مات (46) قبل الهجرة.
4- في تاج العروس ج 7ط الکويت : تقول:ألا بقي ع ليک فإنني أري المال عند الممسکين معبِّداً
5- نهج البلاغة أوائل الخطبة الأولي.
6- بحار الأنّوار: ج298/93 وفيه : هي والله العبادة ، هي والله العبادة ....

بالعبوديّة والإفتقار الکلّي إلي الغنّي المطلق والقيّوم الحقّ الّذي هو منتهي مطلب الحاجات ومن عنده نيل الطلبات ولذا قال سبحانه : (قل ما يعبؤبکم ربّي لولا دعاؤکم) (1) وذلک لأنّه حقيقة العبادة الّتي خلق العباد لأجلها.

وأمّا الطاعة فلانّها من مقتضيات التّوحيد ومراتبه، ولذا يعدّ المخالف فيها

مشرکاً کما في قوله:

(وما يؤمن اکثرهم بالله إلّا وهم مشرکون) (2) وإن ورد في الخبر: انه شرک

طاعة وليس شرک عبادة (3)

فانّه بالنظر إلي إطلاقها الخاصّ الّذي هو للعامّة لا للعام الّذي هو للخاصّة فالتّوحيد بداية مراتب الطّاعة، والطّاعة نهاية مرتب التّوحيد، والعبادة بکلّ من المعنيين تتضمّن الآخر، وأمّا الکرامة فهو الافتخار النّاشي من الإفتخار المشار اليه بقوله صلي الله عليه وآله وسلم «الفقر فخري وبه افتخر علي سائر الأنّبياء» لتحقّقه في مقام العبوديّة و استقامته في طريق الجنّة حتي أقتله بالرّبوبيّة والألوهيّة مخلصاً صادقاً في جميع افعاله وأقواله وأحواله وخطراته ونياته وظاهره وباطنه وسرّه وعلانيته فهو آدم الأوّل الأقدم، والسيّد المعظم المکّرم ولقد کرّم الله نبيه، وذرۀيتّه بفضل کرامته، بأنّ منَّ عليهم باشراق أشعة أنّوار طاعته وعبادته فقال : (ولقد کرّمنا بني آدمه)(4)الآية فاذا أخلص الطّاعة الله ومحّض العبادة له تجرّد عن الإضافات والعلائق الجسمانيّة والعوائق الهيولانية والغواسق الظّلمانية فيتحقّق في مقام العبوديّة ويجني من ثمار الرّبوبيّة ويتمکّن علي بساط الأنّس المستمرّ في مقعد صدق

ص: 445


1- الفرقان : 77.
2- سورة يوسف:106.
3- تفسير القمي ج 358/1 باسناده عن أبي جعفر عليه السلام .
4- الاسراء : 70.

عند مليک مقتدر.

ثم انّه يستفاد من تفسير الإمام عليه السلام أنّ الکلام علي تقدير القول حيث قال : قال الله تعالي : قولوا يا أيّها الخلق المُنعم عليهم إيّاک نعبد أيّها المنعم علينا ونطيعُک مخلصين مع التذلّل والخضوع بلارياء ولا سمعة، وإياک نستعين منک نسئل المعونة علي طاعتک لنؤديّها کما أمرتَ ونتّقي من دنيانا ما نهيتَ عنه، ونعتصم من الشّيطان الرّجيم من سائر مَردَةِ الجن والانس من المضلّين ومن المؤذين الظّالمين بعصمتک (1)

نقل وافادة في تحقيق العبادة

قيل هي سياسة النفس علي تحمّل المشاق في الطّاعة، ورد بان للملائکة عبادة ليست فيها شيء من المشقة لکونها علي مقتضي کينوناتهم المجردة المحضة ولذا وردّ أنّ غذائهم التّسبيح بل وکذا غيرهم من الّذين يتبهّجون بالعبادة ويتنعّمون بها وبانّه قد يصدق علي طاعة الابن لأبيه والعبد لسيّده والأجير للمستأجر ونحوها ، وقيل : إنّها الطّاعة للمعبود وهو مشتمل علي دور ظاهر مضافاً إلي انتفاضه طرداً با طاعة کلّ مطيع لکل مُطاع وعکسا بعبادة الکفّار للأصنام الّتي ليس لها أمر ولا نهي بل لا يتحقّق الإمتثال بالنسبة إليها.

ويمکن دفع الأول بأنّ التّعريف لفظيّ أريد به مجرّد تصوّر المعني، والثّاني بعدم صدق المعبود علي کلّ مطاع والشّاهد العرف، والثّالث : بأنّ المعبود حقيقة عند عبادة الأصنام هو الشيطان، ولذا قابله بعبادة الرّحمن في قوله : (ألم أعهد اليکم يا بني آدم أنّ لا تعبدوا الشيطان إنّه لکم عدّو مبين وأنّ اعبدوني هذا

ص: 446


1- تفسير الامام العسکري عليه السلامص 18.

صراطُ مستقيم )(1)إلاّ أنّ يقال إنّه لا يمنع من إطلاقه علي غيره أيضاً.

وقيل : إنّها الخضوع بأعلي مراتب الخضوع مع التعظّيم بأعلي مراتب التّعظيم، ولا يستحّق ذلک إلّابأصول النّعم وأعظمها من الوجود والحيوة والأرزاق والإمدادات الجسمانية والروحانية مما لا يقدر عليه أحدُ إلّا الله ، ولذلک أُختصّ سبحانه بأنّ يُعبدُ دون غيره، فلا يستحقّ بعضنا علي بعض العبادة وإن استحقّ عليه الشّکر والطّاعة.

وهذا التّعريف ذکره اکثر المحقّقين کالطّبرسي والبهائي والصدر الشّيرازي وغيرهم إلّا أنّه يخرج عنه کثير من أفراد العبادة ممّا ليس في أعلي مراتب الخضوع والتّعظيم، سواء اعتبر التّفضيل علي الإطلاق أو بالاضافة في کلّ أحد بالنَّسبة إلي حدّه ومقامه ودرجته.

اللّهم إلّا أنّ يقال : إنّ الطاعة بأنّواعها وإن کانت مشتملة علي الخضوع والتّعظيم إلاّ أنّ نوعاً منها مفضّل علي غيره من الأنّواع وهو ما کان علي وجه العبوديّة للاله الحقّ أو الباطل ممّا يّتخذونه آلهة فإنّ هؤلاء وإن لم يکونوا آلهة في الحقيقة، ولذا لا تحق لها العبادة لکن اللّغة بل العرف لا تأبي عن إطلاق العبادة علي تعظيم عبدة الأصنام لاکهتها.

وعلي کلّ حال فالأمر سهلُ هيّن في التعاريف اللّفظية الّتي هي مجرّد القشور، ولا يحتوي علي شيء من النّور، وإنّما الخطب في تحقيق حقيقة العبادة بل في التّحقق بها ، ولذا قيل : إنّها خلوص النَّفس عن رقّ کلّ حظّ من الحظوظ الدّنيوية والأخرويّة ليعبدالله للحقّ لا للحظّ.

وَالَحقّ أنّ هذا أکمل مراتبها وأرفع درجاتها فلا ترفع التسمية عن غيرها ،

ص: 447


1- يس : 60.

ولذا قال مولانا أميرالمؤمنين عليه السلام : ما عبدتک خَوفاً من نارک ولا طمعاً في جنّتک بل وجدتک أهلاً للعبادة فعبدتک(1) ، حيث أنّ ظاهره صدقها علي الأولين أيضاً وان اختصّ لا بالثّالث.

وأظهر منه ما روي عن مولانا الصادق عليه السلام قال : العباد ثلاثة قوم عبدوا الله خوفاً فتلک عبادة العبيد وقوم عبدوا الله طمعاً فتلک عبادة الأجراء، وقوم عبدوا الله حبّاً فتلک عبادة الأحرار(2)

وأمّا أرکان العبادة وحدودها الموجبة للتّحقّق بحقيقتها فهي ما أشار إليه مولانا الصادق عليه السلام في خبر عنوان البصري علي ما رواه شيخنا المجلس في البحار قال عليه السلام : ليس العلم بالتّعلّم إنّما هو نور يقع في قلب مَن يريد الله تبارک وتعالي أنّ يهديه فان أردت العلم فاطلب أولا في نفسک حقيقة العبوديّة واطلب العلم باستعماله واستفهم الله يفهمک قال : قلت : فما حقيقة العبودية؟ قال : ثلاثة أشياء أنّ لا يري العبد لنفسه ممّا خوّله الله ملکاً، لأنّ العبيد لا يکون لهم ملک يَرَونَ المال مال الله يضعونه حيث أمرهم الله به، ولا يدير العبد لنفسه تدبيراً، وجملة إشتغاله فيما أمره الله به ونهاه عنه، فاذا لم ير العبد لنفسه فيما خوّله الله ملکاً هان عليه الإنفاق فيما أمره الله تعالي أنّ ينفق فيه ، وإذا فوّض العبد تدبير نفسه علي مدبَّره هان عليه مصائب الدَّنيا، واذا اشتغل العبد بما أمره الله تعالي ونهاه لا يتفرّغ منهما إلي المراء والمباهاة مع الناس، فاذا اکرم الله العبد بهذه الثلاثة هان عليه الدنيا وابليس والخلق، ولا يطلب الدّنيا تکاثراً وتفاخراً، ولا يطلب ما عند الناس عزّاً وعلوّاً، ولا يَدَع أيّامه باطلاً فهذا أوّل درجة التّقي (3) الخبر فهذه الأمور الثّلثة التي ذکرها عليه السلام منازل

ص: 448


1- شرح غرر ودرر للخوانساري ج580/2 ، شرح التوحيد للقاضي سعيد القمي ج 1/ 733.
2- الکافي ج 2/ 84 وعنه البحار : ج 70 / 255ح 12.
3- بحار الأنّوار : ج 1 / 224 -226ح 17.

ومراحل يقطعها النُّساک والثلاّک في التوصل إلي حقيقة العبودّية لله سبحانه توصّلا مبنياً تحقيقياً وهي مترتبة متدّرجة من الأدني إلي الأعلي فأولها أنّ لا يري العبد لنفسه ملکاًممّا خوله الله تعالي من الوجود والبقاء والادراکات والارادات والآلات والادوات والأفعال والأعمال والأقوال والأموال وغيرها ممّا يُنسب إليه ولو بالنّسبة الجعلّية أو يضاف إليه بالاضافات الإعتباريّة، وبالجملة يري کلّ شيء منه سبحانه وفي قبضته وارادته کما قال مولينا الرضا عليه السلام هو المالک لما ملکهم والقادر علي ما عليه أقدرهم، وبعد کشف السّبحات وسقوط الاضافات ينفتح باب الفؤاد ويبشّر بنيل السّداد وينتهي إلي المقام الثاني ويري نفسه في قبضته فالأرض جميعا قبضته وسموات العقول مطوّيات بيمينه، فيري ذاته وحقيقته فايضاً من الله قائماً بفعله سبحانه قيام صدور، ولذا لا يدبر لنفسه شيئاً إذا لأمر کلّه لله، وهُوَ عبد مملوک لا يقدر علي شيء وهُوَکلُّ علي مولاه لا يستطيع لنفسه نفعا ولا ضرّاً ولا يملک موتاً ولا حيوة ولانشوراً ، فاذا لم يهمه أمر نفسه وشئون ذاته في صقع التمکين والتکوين ومقام الاستعداد وسائر شؤنه في عالم الملک وعرصة التضادّ، وشمّر من ساق الجدّ والاجتهاد لطاعة ربّ العباد فيجعل جملة اشتغاله فيما أمره الله به ونهاه عنه، ويصرف کلّ نعمة من النّعم الّتي أنّعم الله بها عليه من القوي الباطنة والظّاهرة والآلات والأدوات والأموال وغيرها من الإضافات فيما خلق لأجله، وهو حقيقة الشکر الّذي يجب للمنعم الحقيقي علي العبيد.

ولذا قال غير واحد من المحقّقين : إنّ العبادة ضرب من الشکر، بل هو أعلاه وأغلاه، فيري العبد حينئذٍ جميع نعمة من الله فيصرفه فيما أمره به، لأنّ الله تعالي إستخلفه فيه کما قال : (وأنّفقوا ممّا جعلکم مستخلفين فيه)(1)وروي العيّاشي

ص: 449


1- الحديد: 7.

عن مولينا الصادق عليه السلام : قال أتري الله أعطي مَن أعطي من کرامته عليه، ومَنَع من مَنَع من هواني به عليه، لا ولکنّ المال مال الله يضعه عند الرَّجل ودائع ، وجوَّز لهم أنّ يأکلوا قصداً، ويشربوا قصداً، ويعودوا بما سوي ذلک علي فقراء المؤمنين، ويلتوابه شعثهم، فمَن فعل ذلک کان يأکل حلالاً ويشرب حلالاً ويرکب وينکح حلالاً، ومن عدا ذلک کان عليه حراماً ثم قال : (لا تسرفوا إنّه لا يحبّ المسرفين ) (1)

اتري الله إئتَمن رجلاً علي مال خوّل له أنّ يشتري فرساً بعشرة آلاف درهم ويجزيه فرس بعشرين درهماً ويشتري جارية بألف دينار ويجزيه بعشرين دينارا وقال : ولا تسرفوا إنّه لا يحبّ المسرفين(2)

وبالجملة إذا تحقّق العبد في مقام العبوديّة حسب ما ذکره عليه السلام هانت عليه جميع الطّاعات القلبيّة والقالبيّة والماليّة وهانت عليه جميع الآلام والمصائب لأنّه حينئذٍ کالميّت بين يدي الغسّال وليس له نظرُ إلّا إلي العزيز المتعال، فاندکَّت جَبَل إنيّته وَاضمَحلّت إرادته في إرادته، فلا يشاء إلّا ما أراد الله، لصيرورة قلبه وعاءً المشيّة الله ، فيکون سَمعُه الّذي يسمع به وبصره الَّذي يبصر به، ولسانه الّذي ينطق به

کما في الحديث القدسي (3)

إعلم أنّ الإلتفاتَ من الغيبة إلي الخطاب من جملة فنون البلاغة الّتي يتفنّن بها مصانع البلغاء، وذلک لأنّه لما کانت الدّنيا دارَ التّعب والکلال والنّصب والملال وتطّور الأحوال، فمِن عادة الفصحأ التفنّن في الکلام، والعدول من طرز إلي طرز، ومن نمط إلي نمط، تنشيطاً للسّامع ، وتنبيهاً للغافل والذّاهل .

فمنه العدول عن کلّ من الخطاب والغيبة والتکلّم إلي الآخر، وهذا أحسن من

ص: 450


1- الأعراف: 31.
2- بحار الأنّوار : ج 305/75ح 6 عن تفسير العياشي ج 13/2 .
3- البحار: ج 22/70 ح 21 عن محاسن البرقي ص 291.

الجري علي نمط واحد، واللّزوم لمسلک متکرّر، ومع ذلک فربما يختصّ مواقع الإلتفات بزوائد فوائد من النکات، فان الألفاظ اشکال وأشباح، والأشباح مغناطيس الأرواح، ولذا ورد عن مولينا أميرالمؤمنين : انّ الرّوح في الجسد کالمعني في اللّفظ، فکل طور من أطوار المباني مصيدة وشبکة لفنّ من فنون المعاني وقد ذکر الموافقون للنّظر في أنّوار التنزيل واسرار التّأويل للإلتفات من الغيبة إلي الخطاب في المقام وجوهاً من الکلام لعلّ کلّها بعض المقصود من کلام الملک العلّام، مثل ما قيل من أنّ القراءة ينبغي أنّ تکون صادرة عن قلب حاضر وتأمّل وافر، بحيث يجد القاري عند الشّروع فيها محرّکاً للإقبال إلي المنعم الحقيقي الّذي أنّطق لسانه بتحميده، ووفّقه للقيام بتمجيده، ثمّ کلّما مجّده بصفة من صفاته العليا وسمّاه باسم من أسمائه الحسني قوي ذلک المحرّک وازداد، حتّي إذا انتهي إلي مالکيّة الأمر يوم المعاد، تباهي في القوة والإشتداد و آل الأمر بالضّرورة إلي دفع الحجاب ، والاقبال عليه بالخطاب، وان المقام مقام عظيم وخطب جسيم يدهش فيه الإنسان، ويتلجلج فيه اللسان، فيتغيّر الکلام، ويخرج عن الأسلوب والنظام وهو کما تري فان الکلام کلام الملک العلّام وان من أول السوّرة إلي هذا المقام تعداداً لصفاته الّتي لا يليق عدها في الحضور بل الأنّسب طريق الغيبة بلا ريبة لأنّ الثناء في الغيبة أولي منه في الحضور لکن العبادة والاستعانة ينبغي إظهارها للمعبود دون غيره.

وإنّ في الإلتفات إشعاراً بأنّ العبادة السّالمة عن القصور ما يکون العابد حين الإشتغال مستغرقة في بحر الحضور يشاهده بنور العلم والعرفان ويخاطبه بالجنان واللسان.

وانّ حقّ الکلام أنّ يجري من أول الأمر علي طريق الخطاب لأنّه تعالي حاضر لا يغيب بل هو أقرب من کلّ قريب، لکنّه جري علي طريق الغيبة رعاية

ص: 451

القانون الأدب الّذي هو دأب السالکين، ومنهاج العارفين، وطريقة العاشقين کما

قيل:

بأدب در طريق عشق که هست ط رق العشق کلّها آداب در پس پرده رمزها است بسي فاسئلوهن من وراء حجاب

فبعد رعاية الأدب تقرب إليه واقترب، وتمکّن في بساط الحضور واستنار

باظهار العبوديّة من معدن النّور.

وأنّ العابد لما حقّر عبادته النّاقصة القاصرة والبائرة وأراد ترويجاً لکساده و اصلاحاً لفساده أنّ يمزج عبادته بعبادة جميع العابدين من الأنّبياء والمرسلين والملائکة المقرّبين ويعرض الکل دفعةً واحدة علي حريم قدس ربّ العالمين رَجاءَ أنّ يصير الإنضمام سبباً لقبول التمام بفضل ذي الجود والانعام ، فلذا أتي في الفعل بنون المتکلّم مع الغير، ليندرج عبادته في عبادتهم، وتصير مقبولة ببرکتهم، فساق الکلام علي النّمط اللايق بحالهم، والأسلوب المناسب لمقامهم الَّذي هو الحضور والخطاب لحضرة المعبود لارتقائهم عن عالم الغيبة إلي مقام الشّهود لو قال إيّاه نعبد لکان کالإزراء بشأنّهم، والافضاء عن علو مکانهم، وانّ من لزم جادّة الأدب والإنکسار ورأي نفسه بعيداً عن ساحة القرب لکمال الإحتقار فهو الحقيق بان تدرکه الرحمة وتناله النعمة فيتخطي علي بساط الاقتراب فأيزاًبعزّ الحضور وسعادة الخطاب.

وانّ لِآيات القرآن المجيد سيما ما کان مشتملاً علي التّحميد والتمجيد لشاناً عجيباً وأثراً غريباً في الإيصال إلي مقام القرب والکمال فيستأهل بعد رفع الحجاب للتّشرّف بمقام الحضور حتّي أنّ العبد باجرائه هذا القدر منه علي لسانه ونقشه علي صفحة جنانه يخرج من الظلّمة إلي النّور ومن الغياب إلي الحضور فکيف لو لازم وظائف الأذکار وداوم علي تلاوته آناء الليل وأطراف النّهار فحينئذٍ يرتفع الحجب

ص: 452

من البين ويصل من الأثر إلي العين کما روي عن الإمام الهمام کشّاف الحقايق جعفر بن محمّد الصّادق عليه السلام لقد تجلّي الله لعباده في کلامه ولکن لا يبصرون.

وروي عنه عليه السلام : أنّه کان يصلّي في بعض الأيام فخر مغشياً عليه في أثناء الصلاة فسئل عن ذلک فقال : ما زلت اردد آية من کتاب الله حتّي سمعتها من قائلها(1)

قال بعض أصحاب القلوب أنّ الآية کانت هذه الآية بل ذکر شيخنا البهائي پي الخبر هکذا ما زلت أردد هذه الآية الخ ثم حکي عن بعض العارفين : أنّ لسان جعفر الصادق عليه السلام کان في ذلک الوقت کشجرة الطور عند قول إني أنّا الله ثمّ قال : وما أحسن قول الشّيخ الشّبستري (2) بالفارسيّة نظماً :

روا باشد أنّا الله از درختي چرا نبود روا از نيک بختي(3)

قلت: أمّا التّشبيه فالأظهر فيه التّعکيس لکن مع حفظ الحدود للأمن عن التّلبيس ، وأمّا قول الشّبستري ففيه إيماء إلي وحدة الوجود، وتضييع الحدود، وعدم تميّز العابد عن المعبود، ولعلّه إشارة إلي تصحيح قول من قال أنّا الله، وليس في جبتي سوي الله، وغيرها من المزخرفات الباطلة والتُّرهَّات العاطلة وبين المقامين بون بعيد لا يخفي علي من له قلب أو القي الشمع وهو شهيد ((4)

وانّه قد تُقرّر في العلوم الإلهية أنّ شدّة الإدراک وتأکّد الصّورة العلمية في الوضوح والإنارة وقوّة الشّوق إلي المدرک ورسوخه يوجبان حضور المعلوم، ولذا

ص: 453


1- کنز الدقائق ج 1 / 60 وفيه : مازلت أردد الآية حتّي سمعتها من المتکلم بها
2- هو الشيخ محمود بن عبدالکريم الشبستري المتوفي (720) ه وکان عمره (33) سنة .
3- مفتاح الفلاح ص 777.
4- قال العلامة الخواجوئي في تعليقه علي المفتاح : قوله : چرا نبود روا از نيک بختي لانّه يکون من مقولة قول فرعون «أنّا ربکم الأعلي» بل يکون أقبح منه ، لأنّ هذا يمکن تأويله بأنّ المراد بالرب هنا ملک مصر في قوله «إرجع الي ربک » في سورة يوسف : 50، وبالأعلي انه أعلي شأنّاً من سائر الملوک ، بخلاف کلمة أنّا الله ، فإنّه علم الذات الواجب الوجود .. الخ .

قيل : إنّ المشاهدة والرؤية ثمرة اليقين ، فلمّا ذکر الله سبحانه ووصفه بصفات کمالية ونعوت جلاليّة وجماليّة وخصائص إلهيّة من کونه حقيقاً بالحمد، ربّاً للعالمين، مُوجداً للکلّ نعمة عليهم بالنّعم کلَّها جليلها ودقيقها دنيويّها وأخرويّها ظاهرها وباطنها، مالکا لأمورهم يوم الجزاء واللقاء تميز بها ذاته عن سائر الذّوات، وتنوّر القلب بأنّوار معرفة هذه الصفات، وانفتحت عين البصيرة بتلاوة هذه الآيات فينتقل من الغياب إلي الخطاب قائلا يا من هو بالحمد حقيق، وبهذه الصّفات الکمالية يليق، نخصّک بالعبادة والاستکانة، ونطلب منک السداد والإعانة.

وأنّ العباد أراد بذلک أنّ ينخرط في سلک أرباب الشّهود والحضور، ويجبر ما في عبادته من القصّور وَالفتور، نظراً إلي أنّ مَن تشبه بقوم کاد أنّ يکون منهم، وأنّه لا حجاب بين المملوک والمالک إلا حجاب ملک نفس المملوک ، فاذا عبر عن حجاب ملک النفس وصل إلي مشاهدة مالک النفس.

کما ورد في تفسير قوله تعالي:( فتوبوا إلي بارئکم فاقتلوا أنّفسکم)(1)

عن مولينا جعفر بن محمد الصادق عليه السلام : انّ التّوبة هي قتل النّفس، وناجي بعض الأنّبياء ربّه کيف الوصول إليک؟ فخوطب دع نفسک. .

وللنّفس صفات أربع کلّها حجب لها ظلمانيّة ونورانيّة، وهي کونها أمّارة

(ان النّفس لأمّارة بالسّوء) (2)لوّامة (فلا أقسم بالنّفس اللّواّمة )(3)وملهمة

و(نفس وما سوّيها فألهمها فجورها و تقويها )(4)ومطمئنّة : (يا أيتها النّفس المطمئنة إرجعي) (5) فأمر العبد المملوک بأنّ يذکر المالک بالصفات الأربع الّتي هي

ص: 454


1- سورة البقرة : 54.
2- سورة يوسف: 53.
3- القيامة : 2.
4- الشمس: 7.
5- الفجر: 28.

الإلهيّة والرّبوبيّة والرّحمانيّة والرّحيميّة، فيعبر بجذبات مدح الإلهيّة وشکر الرّبوبيّة وتمجيد الرحيميّة عن حجب مهالک الصُّفات الأربع للنّفس فيتخلّص من ظلمات ليلة نفسه بطلوع صبح صادق مالکية يوم الّدين في( يوم لا تملک نفس لنفس شيئاً والأمر يومئذٍلله )(1)فيذکره بفضله ورحمته إنجازا لوعده کما قال :( فاذکروني

اذکرکم)(2) ويشرّفه بخطاب يا أيّتها النّفس المطمئنّة ثمّ يجذبه عن غيبة نفسه إلي شهود مالکية فيقول له: (ارجعي إلي ربّک )فيشاهد جَمال المالک، ويهيم في بيداء فيافي تلک المسالک، ويناديه نداء عبد ذليلٍ خاضع خاشع کما قرء بعضهم مالک يوم الدّين بالنّصب علي النّداء

وانّه لما کان الحمد إظهارَ صفات الکمال لا يتفاوت بالنظر إلي غيبة المحمود وحضوره، بل هو مع ملاحظة الغيبة أدخل وأتمّ وکانت العبادة لا يليق بها الغائب ، وإنّما يستحقها من هو حاضر لا يغيب کما حکي سبحانه عن الخليل علي نبيّنا وآله

وعليه السلام (فلمّا أقَلَ قال لا أحبّ الأفلين) (3)، لا جرم عَبَّر سبحانه عن الحمد واظهار الکمال بطريق الغيبة وعنها بطريق الخطاب إعطاءّ لکلّ منهما ما يليق به علي النّمط المستطاب.

وأنّه لما لم يکن في ذکر صفات الکمال مزيد کلفة بخلاف العبادة الّتي فيها من الکلفة والمشقّة مالا يخفي ، ومن عادة المحب أنّ لا يُحِسَّ بالمشاقّ في حضور المحبوب بل يتحملّ منها في الحضور مع غاية الابتهاج والسّرور مالا يتحمّل جزء منها حال الغفلة والغيبة، ولذا قرن سبحانه العبادة بما يشعر بحضوره ونظره إلي العابد تدارکاً وإنجباراً لِما فيها من الکلفة والمشّقة کما قال مولينا الصّادق عليه السلام

ص: 455


1- الانفطار : 19.
2- البقرة : 152.
3- الانعام : 76.

ما رواه في مجمع البيان في تفسير قوله تعالي: (يا أيّها الذّين آمنوا کتب عليکم

الصّيام) و (1) لَذَّة ما في النداء أزال ما في العبادة من التّعب والعناء (2)

فحينئذ يأتي بها العابد مع غاية البهجة والسّرور لما أشرق علي قلبه من أنّوار

قدس الشّهود والحضور.

وأنّ مقام الحمد والثناء مقام البّعد عن ساحة الکبرياء فانّه کما قيل : إظهار صفات الکمال علي الغير فمادام للأغيار وجود في نظر السّالک فهو يواجههم باظهار مزايا المحبوب، وأمّا إذا زال الحجاب من البين ووصل من الأثر إلي العين، وانکشف له غطاء الخفاء عن وجه قوله : أنّا جليس من ذکرني (3)،( فأينما تولّوا فثمّ وجه الله) (4) فينخرق الأستار، ويضمحلّ الأقدار وينکشف الأسرار، فلا جرم ينعطف عنان لسانه إلي جنابه ويصير کلامه منحصراً في خطابه .

ومثل ما قلت مضافاً إلي بعض ما سبق من أنّ في سوق الکلام علي الغيبة في مقام الحمد والثناء، وعلي الخطاب في مقام اظهار العبودية وطلب الإستعانة إشعارة بأنّ العبد وإن بالغ في الثّناء علي ربّه حتّي لو مجّده بکلامه المنزل عن عزّ جلاله ، فهو بعد ذلک قاصر عن ذلک، بعيد عمّا هنالک، أين التّراب وثناء ربّ الأرباب وکمال التنزيه عن الکمال، وکمال التوحيد نفي الصّفات، والله أکبر من أنّ يوصف، فما دامَ العبد في مقام الحمد فهو بَعدُ بعيد، غايب عن ساحة الکبرياء

وأمّا العبادة فينبغي أنّ تکون مع کمال التّوجّه والإقبال إلي حضرة ذي العزّ والجلال، ولذا ورد «أنّ الصلوة معراج المؤمن»(5)، و «المصلّي مناج

ص: 456


1- البقرة : 183.
2- مجمع البيان ج 271/1.
3- خاتمة مفتاح الفلاح ص 776.
4- البقرة : 115.
5- مستدرک سفينة البحار ج 6 ص 333.

رَبَّه»(1)و «انّه لا يقبل منها إلّا ما أقبلت عليه بقلبک»(2)و «انّ من الصّلوة ما يقبل نصفه وثلثه وربعه»(3)، وذلک علي حسب التّوجّه والاقبال ولذا علَّمنا الله تعالي وأَدَّبنا بالإنتقال والإياب إلي حالة الحضور و الخطاب عند عبادة ربّ الأرباب، وانّ حمده سبحانه ينبغي أنّ يکون بما حمد به نفسه لتنزهه عن وصف الواصفين ونعت الناعتين، سبحان الله عمّا يصفون إلا عباد الله المخلصين الّذين لا يصفونه إلا بما وصف به نفسه، ولذا قال بعد ذلک مُثنياً علي المرسلين الّذين يصفونه بما وصف به نفسه، وسلام علي المرسلين والحمد لله ربّ العالمين ، ومن هذا قال سيد الکونين وختم المصطفَين سبحانک لا أحصي ثناءً عليک کما أثنيت علي نفسک فالحمد ثناء من المحمود علي نفسه والعبادة تذلّل وخضوع من العابد للمعبود.

وانّ من أوّل السّورة إلي هذه الآية بيان لمراتب الوجود التکويني الّذي يُقال له الشرع الکوني، ومن هذه الآية إلي أخر السورة بيان لمراتب الوجود التشريعي الذي يقال له الکون الشرعي، ولا ريب أنّ الأختيار في الأوّل جبلّي فطري، وفي الثّاني إرادي و شعوري ظهوريّ قد قام به کون التشريع في هذا العالم الّذي مادام المکلّف فيه ناظراً إليه فهو غائب من الأوّل، والأوّل غائب عنه، وإن لم يکن الحجاب عنه إلّا التطورات الوجودّية الثّابتة النّاشية في هذا العالم، وإن فيه تعليماً له التحقيق مسلک التّوحيد والخروج عن ربقة التّقليد والتّحقّق بحقيقة العبادة والفوز بشهود المعبود الّذي هو تمام السعادة وذلک أنّ الله سبحانه لم يخلق الجنّ والانس إلّا للعبادة الّتي لابدّ فيها من معرفة المعبود کي يستقيم التوجه إليه بعين الشّهود والسّبيل العاري عن شوب التقليد إلي معرفة المعبود للعامة إنّما هو ملاحظة الآيات

ص: 457


1- عوالي اللئالي ج 4 ص 39.
2- بحار الأنّوار : ج 84 / 237.
3- عوالي اللئالي ج 411/1ح 78.

الافاقيّة والأنّفسيّة ولذا قال : (سنريهم آياتنا في الأفاق وفي أنّفسهم)(1)، الآية

(وفي الأرض آياتُ للموقنين ، وفي انفسکم) (2).

وقال صلي الله عليه وآله وسلم : من عرف نفسه(3) وأعرفکم بنفسه (4)إلي غير ذلک.

فالعابد الدّاعي لمّا أراد التّوجّه إليه بالعبادة والدّعاء الذي هو مخّها وحقيقتها، نظر بقلبه إلي العالَم بجميع أجزائه وجزئيّاته فراي فيه اثار الألوهيّة ومراتب الرّبوبيّة، والرّحمة الکلّية التّامّةَ العامةَ الواسعة، والخاصّة المکتوبة المقتضي کُلُّ ذلک نظراً إلي العدل واتمام الدّورة لانشاء التشاء الآخرة، فلما انتقل من البرهان إلي العيان تحول من الغياب إلي الخطاب، فالتّمجيد الّذي من أوّل السّورة إلي هُنا کانّه اليس حمداً للثّابت بل إثباتاً للمحمود

وهذه الوجوه وان اشتمل بعضها علي ضعف أو تکرار، إلّا أنّه لا بأس بالالتفات إليها للتّأدب بآداب العبوديّة بين يدي الله سبحانه وان کانت بمراحل عمّا هو المقصود بالذّات من الالتفات .

في سرّ تقدم المفعول

إنّما قُدّم المفعول، وحقّه التّأخير لتقدّمه في الوجود، وللإشعار علي الّتعظيم، ولزيادة الإهتمام النّاشي عن شدّة إقتضاء الکلام السّابق الخطاب حسبما سمعتَ، ولشدّة العناية به في ذکره، والاستمداد به ولو في إظهار عبادته وطلب إعانته ، وللدلالة علي حصر المعبود والمستعان به حقيقة فيه سبحانه ولذا حکي عن إين

ص: 458


1- فصلت : 53.
2- الذاريات: 20 - 21.
3- عوالي اللئالي ج 102/4 ح149.
4- معارج اليقين للسبزواري ص 35ح 12.

عبّاس أنّ معناه نعبدک لا نعبد غيرک(1)

وما يقال من منع دلالة التقديم علي الحصر وإنّما غاية ما يدلّ عليه هو الإختصاص ولذا عبّربه في الکشّاف هنا بدل الحصر، والحصر هنا لم يستفد منه، بل من خصوص المادّة وهي العبادة والاستعانة.

ففيه أنّ الظّاهر إتّحاد مفاد العبارتين حسب ما صرّحوا به، والفارق قد فرّق بينهما بما لا يصلح إلّا للفرق بين الحصر والاختصاص المفاد بلامه لا الاختصاص المرادف للقصر، ولذا قيل لا يضرّ في ترادفهما إشتراک الاختصاص بين الحصر والاختصاص المفاد بلامه کما لا يمنع من إفادة التقديم الحصر عدم إفادته له في مواضع، لأنّ الحکم علي الغلبة لا الاطّراد، والإطّراد بمعونة القرينة أو ما لم يکن قرينة علي الخلاف.

نعم قال بعض المحققّين : إنّ في خطابنا له تعالي بانّ خضوعنا التام واستعانتنا منحصران فيه جلّ شأنّه و تکرارنا ذلک في کلّ يوم وليلة مراراً عديدة مع خضوعنا الکامل لأهل الدينا من الملوک والوزراء ومن يخدوا حذوهم واستعانتنا في حوائجنا وَاستِمدادِنا في نجاحها منهم جرئة عظيمةُ توجب مزيد الخذلان وعظيم الحِرمان لولا أنّ تدارکنا رحمته الکاملة وعنايته الشاملة، روي عن مالک بن دينار أنّه کان يقول لولا أنّي مأمور بقراءة هذه الآية من الله تعالي ما قرأتها قطّ لآئّي کاذب فيها، ثمّ حکي عن بعض الفضلاء: انّ في العدول في فعل العبادة والاستعانة من الأفراد إلي الجمع نکتة هي التحرز عن الوقوع في الکذب إذ يمکن في الجمع أنّ يقصد تغليب الأصفياء الخلصاء من الأولياء المقرّبين علي غيرهم بخلاف صيغة المفرد فانّه لا يتأتّي فيه ذلک.

ص: 459


1- تفسير روح المعاني ج1/ 87.

قلت : الخضوع لغير الله والإستمداد منه والاستعانة به وصرف الحوائج إليه إن کان بأمر الله وعلي القدر المحدود منه، من حيث الکميّة والکيفيّة وسائر المشّخصات الوجوديّة فلا ريب في کونه عبادة مطلوبةً مرغوبةً عند الشّارع کطاعة الولد للوالدين، والعبد للسيّد، والمتعلم للمعلّم، والصّغير الکبير، بل المؤمن مطلقاً کلّ ذلک في غير معصية الله ، بل لکونه مأمورة بذلک في الشّريعة، بل ربّما يرجّح ويقدّم بعض أفرادها لما فيه من الخصوصّيات علي بعض العبادات البدنيّة المحضة من المندوبات، بل ربما يجب أو يندب تعظيم الظَّلَمَة والوزراء والسَّلاطين بل المخالفين والکافرين حفظاً للدَّين أو علي بعض المؤمنين وللتقية الّتي هي من دين سيّد المرسلين بل ويندبُ شکر من حصل أو وصل بواسطته شيء من النّعم الإلهيّة ، فإنّ مَن لم يشکر النّاس لم يشکر الله ، ولعن الله قاطعي سبيل المعروف بترک الشکر، فضلاً عن الکفران، لکنّ المسلک وَعرُ صعبُ دقيق.

ولذا قال مولينا الصادق عليه السلام في تفسير قوله : (وما يؤمن اکثرهم بالله إلّا وهم مشرکون) (1) انّه هو الّرجل يقول : لولا فلان لهلکت، ولولا فلان لا صبت کذا وکذا، ولولا فلان أضاع عيالي، ألا تري أنّه قد جعل الله شريکاً في ملکه يرزقه ويدفع عَنه قيل : فيقول : لولا أنّ مَنَّ الله عليّ بفلان لهلکت قال : نعم لا بأس بهذ(2).

وبالجملة مراعاة الصّدق في المقام تقتضي حفظ حدود العبوديّة والقيام بوظائفها ، وأمّا إذا لم يکن بأمر الله فربما يکون مثل هذا الخطاب نفاقاً بل شرکاً في الطّاعة لو لم يکن في العبادة بل قد ورد: من أصغي إلي ناطق فقد عبده (3)

ص: 460


1- سورة يوسف : 106.
2- تفسير نور الثقلين ج 476/2 عن تفسير العياشي بتفاوت يسير .
3- بحار الأنّوار : ج26/ 239 ج 1 عن العيون ص168.

ولذا ينبغي قبل الدّخول في الصّلوة تطهير القلب بالتّصميم علي إخلاص الطّاعة والعبادة له دون غيره، لئلا يخاطب بخطاب المنافق والمستهزء کما أنّه ينبغي الحضور التّام عِندَ تلاوة هذه الآية بحصر النفس علي کمال الإقبال والتوجه إلي جناب رب الأرباب کيلا يخاطب غيره ممّا يخطر بباله بهذا الخطاب، ولذا قيل بالفارسية:

إيّاک نعبد بر زبان دل در خ يال اين و آن کفر است اگر خواني يکي شرک است اگر کوئي دو تا

ولأنّ في تقديم المعبود تنبيهاً للعابد کيلا يتکاسل في شرائط العبادة، ويقبل علي آدابها بحسن الرعاية تحصيلاً للسَّعادة، مع ما في ملاحظة من تخفيف التکّليف بل الإستغراق التام في حضرة القدس، وحريم حرم الأنّس، بحيث لا ذکر معه لغيره حتّي لنفسه، إلّا من جهة إرتباطه وانتسابه من حيث العبوديّة والافتقار إليه سبحانه ، ولذا فضّل ما حکي الله عن حبيبه صلي الله عليه وآله وسلم حين قال(لا تحزن إن الله معنا) (1) علي ما حَکاهُ عن کليمه حيث قال : (إنّ معي ربّي ) (2) مع ما في الآية الأولي من الانتساب إلي الإسم الأعظم المقدّم الجامع، والإتيان بضمير الجمع المشعر برياسته الکليّة وبابيه المطلقة، وهيمنته علي مَن سواه.

فالنظر في «ايّاک نعبد» من المعبود إلي العبادة بحيث لا يري العبادة إلّا ويري الله قبلها، وفي نعبدک من العبادة الي المعبود، فمن کان نظره الي المعبود فقد فاز بالسعادة، ومن کان نظره الي العبادة فقد احتجب عن المعبود بالعبادة، فإن العبادة من أعظم الحجب النورانيّة الّتي بين العابد والمعبود، کما ورد: «ان لله سبعين ألف

ص: 461


1- سورة التوبة : 40.
2- سورة الشعراء :62.

حجاب من نور وظلمة، لو کشفها لأحرقت سُبحات وجهه ما انتهي اليه بصره(1)

فالحجب غير منحصرة في الظلمانية الهيولانيّة الغاسفة، بل منها حجاب العلم، وحجاب المعرفة، وحجاب المحبة، وحجاب العبادة، وکلها من سبحات حجاب الذات الذي هو أعظم الحجب کما قيل:

فقلت وما أذنبتُ قالَت مجيبة وجودُک ذنبُ لا يُقاس به ذنب

فلابدّ أنّ يکون النظر عند کل شأنّ من شؤون العبوديّة أو الربوبيّة إلي المبدأ

الأعلي الذي هو المقصد الأسني.

ولذا قيل : من کان نظره في في وقت النعمة إلي المنعم لا الي النعمة کان نظره عند البلاء الي المبلي لا الي البلاء، فيکون جميع حالاته فريقاً ملاحظة الحقّ، متوجّهاً إلي الحبيب المطلق، وهذه أعلي درجات السعادة ، ومعه يحصل الأنّس بالله والفرار عمّا سواه فيتحقق بحقيقة الزهد المجتمعة في کلمتين من القرآن :(لکيلا تأسوا علي ما فاتکم ولا تفرحوا بما آتاکم)(2)

ولأنّ في تقديم المعبود الحقّ إقناطاًکليّاً لا بليس وغيره ممّا يُعبد من دون الله من وقوع عبادته لغيره تعالي استقلالاً أو تشريکاً، سيّما مع إشعاره من أجل الخطاب بکون العابد شاهدة لتجليات أنّوار القدس، متمکّناً في حريم حرم الانس، متحصّناً من أحزاب مَردَةِ أتباع الشيطان بحصينة(إنّ عبادي ليس لک عليهم سلطان ) (3)، وهذا بخلاف ما لو أطلق العبادة، ثم يذکر المعبود.

ولأنّ فيه إشعاراً بالتوسّل اليه والإستعانة باسمه في عبادته، فکأنّ الجملة

الثانية من حيث المقال حکايةً للأولي باعتبار الحال.

ص: 462


1- بحار الأنّوار : ج45/55 باب 5.
2- الحديد : 23.
3- الحجر : 43.

استکشاف واستعانة عن حقيقة الإستعانة

الإستعانة إستفعال من العون بمعني الظهير، يقال : إستَعَنتُه

، وبه فأعانني وقواّني، والاسم العَون والمعانة والمَعوَنَة کمقولة، والمَعوَنَة کمکحلة.

ثم إنّ المعونة إمّا کونيّة وإمّا شرعيّة، وکلّ منها إمّا ضرورية او غير ضروريّة ، فأقسامها أربعة : الکونيّة الضروريّة، وهي الّتي لا يتحقّق التکوين بدونها من الوجود والماهيّة، وحدود القابليّة والهندسة التکوينيّة وغيرها ممّا أشير اليها اجمالاً

يقوله عليه السلام (1) : لا يکون شيء في الأرض ولا في السماء إلّا بعلم فمشيّة ، وإرادة ، وقدرة ، وقضاء وايضاً، حسب ما نفصّل الکلام فيها في موضعها (إن شاء الله).

وطلب هذه المعونة إنما هو بلسان القبول والإستعداد المفاض عليه حين الإعطاء لا قبله، إذ ليس له قبل ذلک ذکر في شيء من العوالم، وهو سبحانه مُشَيّيء الأشياء لا من شيء، ومُغطِي الاستعدادات والقابليّات، ومُفيض التقرّرات والکينونات

(الّذي أعطي کلّ شيء خلقه ثمّ هديه )(2)والمبتديء بالنعم قبل استحقاقها.

فالسؤال في قوله (سواء للسائلين) (3) وغيره ممّا ورد في الآيات والأخبار

محمول علي السؤال الجعلي الإبداعي الأولي الّذي حين العطاء وحين القبول.

وأمّا القول بالأعيان الثابتة، وأنّ الماهيات في أنّفسها غير مجعولة، وأنّ لها

إستعدادات وقابليّات ذاتيّة غير مفاضة بالجعل الإبداعي، وهي الموجبة لاختلاف قبولها ومراتبها فمّما يأبئ عنه القول بالتوحيد وتمجيده سبحانه بالتفريد، لاستلزامه تعدّدً القدماء، إذ ليست أعداماً محضة، ضرورة عدم التمايز فيها، ولا واسطة بين

ص: 463


1- الکافي ج 1 / 148- 152 فيه أحاديث کثيرة في هذا الباب .
2- سورة طه : 50.
3- سورة فصلت : 10.

الوجود والعدم، لبطلانها في نفسها، مع أنّ أصحاب الأعيان يصّرحون بنفيها فلم يقولوا به من جهتها، وظاهر أکثر المعروفين بالعلم والمعرفة وإن کان إثبات الأعيان، إلّا أنّ العقل القاطع يأبي عن متابعتهم بعد قيام صريح البرهان، فإنّ الحقّ

حقُّ بالتصديق والإذعان.

هذا کلّه بالنسبة إلي بد والتکوين، وأمّا في الإمدادات السيّاله والفيوض المتّصلة ففيها مضافاً إلي ما مرّ من السؤال نظراً إلي القول بتجدّد الأمثال سؤال آخر استعدادي متأخّر عن الکينونة المتقدّمة وباقترانه بالإجابة يتحصّل التقرّر والبقاء،

(وتري الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مرّ السحاب) (1)

وقد ينضمّ اليهما سؤال ثالث يظهر أوّلاً في الجنان، ثمّ يتجلّي بآثاره وبأشعّة

أنّواره علي الأرکان واللّسان.

وأمّا الکينونة الغير الضرورية فهي ما لا يتوقّف عليه الوجود والبقاء من النعم الّتي توجب الوسعة في المعيشة، وسؤالها علي الوجهين الأولين وقد يقترنان بالثالث.

وأمّا الشرعّية الضرورية فهي التي مرجعها إلي أسباب التمکين من الفعل بحيث لا يتأتّي الفعل بدونه کعلم المکلف وقدرته في نفسه ، والتمکّن من الآلات والأدوات الّتي لا يتوصّل إلي الفعل بدونها فيقبح التکليف مع انتفائها عندنا، وإن جاز عند الأشاعرة القائلين بجواز التکليف بما لايطاق وطلب المحال بل الطلب المحال وإن لم يقولوا بوقوعه.

وسؤالها مرّة ذاتي جبلي فطريّ، من حيث أنّ في کينونة الانسان الشوق الي الکمال والابتهاج بالإقبال، والسرور بالتشرّف بمقام الإمتثال الذي به الفوز والنجاة

ص: 464


1- سورة النحل : 88.

والخروج عن حضيض البهيمية إلي أوج ذروة الوصال.

وأخري ظاهري مقائي علي اللسان کقوله :(ربّنا ولا تحمّلنا ما لا طاقة

لنا به)(1)

وأمّا الشرّعية الغير الضروريّة أي التي يمکن الفعل بدونها، ولذا لا يتوقف صحّة التکليف عليها، لکن يتيسّر به الفعل ويسهل کمُقِرّبات الطاعة ومُبّعِدات المعصية، والمرُغبّات الّتي توجب الحثّ علي الفعل من الوعد والوعيد ونحوها ممّا

لا يؤدي إلي الإلجاء والإضطرار، وهذا في الجملة حسب ما تأتي الإشارة إليه هو المسمي عندهم باللطف، وقد أطبقت الفرقة المحقّة الأماميّة علي وجوبه علي الله، بمعني أنّه سبحانه کتبه علي نفسه، ولا يتجاوز عنه في تشريعه وتکليفه علي خلقه، ووافقهم في ذلک المعتزلة، وبه يُثبتون وجوبَ بعثِ الأنّبياء ونصبِ الأوصياء وإرسالِ الرسل وإنزال الکتب، وما تکرر فيها من الوعد بالثواب والوعيد بالعقاب وعدم خلوّ الأرض من حجّة، وغير ذلک من المباحث المهمّة نظراً إلي أنّ ترک اللّطف يوجب نقض غرض المکلّف (بکسر اللام)، فإنه إذا علم أنّ المکلف (بفتح اللام) لا يطيع إلّا باللّطف، فلو کلّفه من دونه کان ناقضاً لغرضه، ونقض الغرض عليه سبحانه محال.

وتوهُّم أنّ أفعاله تعالي غير معلّلة بالأغراض کما زعمته الأشاعرة نظراً إلي أنّ الغرض هو السبب الباعث للفاعل علي الفعل فهو المحرّک الأوّل للفاعل، وبه يصير الفاعل فاعلاً لذلک الفعل، ولذلک قيل : إن العلّة الغائية علّة فاعلة لفاعليّة الفاعل ومن البيّن أنّه سبحانه أجلّ أنّ ينفعل من شيء أو يستکمل بشييء فلا يکون معلّلاً بغرض، وأيضاً کل من يفعل لغرض فوجود ذلک الغرض بالنسبة إليه أولي من

ص: 465


1- سورة البقرة : 289.

عدمه، فلو کان لفعله تعالي فرض لزم کونه سبحانه مستکملاً بغيره وهو ذلک الغرض.

مدفوعُ بأنّه إنّما يلزم الإستکمال اذا کان الغرض عائداً إلي الفاعل: وأمّا

عوده إلي غيره فلا يلزم ذلک.

فان قلت : إنّ نفع غيره إن کان أولي بالنسبة إليه تعالي من عدمه عاد المحذور، وإلا لم يصلح أنّ يکون غرضاً له، فالفاعل الّذي يفعل فعلاً لغرض غيره

لابدّ أنّ يکون له في تحصيل ذلک الفعل غرض عائد.

قلت : نختار الأوّل ونقول: إن إيصال النفع الي غيره أولي من عدمه لا بالنسبة الي ذاته حتّي يکون في ذاته مستکملاً بغيره، بل بالنسبة إلي فعله الّذي هو في رتبة الإمکان وصُقع الحدوث، فإن فعل الکامل يلزم أنّ يکون علي أکمل الوجوه وأتمّها، والضرورة قضت بقبح العبث في أفعال الحکيم.

وبالجملة فالفرق واضح بين الغرض المستلزم للاستکمال أو لإظهار الکمال،

وبين الغاية اللازمة في أفعال الکامل ، والأول نقص والثاني کمال، لأنّ کمال الفعل إنما هو باعتبار اشتماله علي الحکم والمصالح والأغراض النافعة.

وأيضاً الفعل إذا لو حظ في ذاته مرّة مشتملاً علي جهات الحسن ووجوه المنافع العائدة إلي المستحقين، وأخري عارية عنها، بل مشتملة علي مفاسد لا تعدّ ولا تحصي، فالضرورة القطعيّة قاضية بترجيح الأوّل علي الثاني و ترجيح المرجوع علي الراجح قبيح عقلاً و شرعاً.

نعم لا ينبغي التکلّم بمثل هذا الکلام مع الأشاعرة الذين يکابرون الضرورة

وينکرون الحسن والقبح العقليين ويقتحمون في أغلاط لا يليق التکلم معهم فيما فالأولي الإقتصار في جوابهم علي ما ذکرناه أوّلاً وإن عميت قلوبهم من إدراکه أيضاً حيث لم يفرقوا بين الذات والفعل وجعلوا جملةً من الصفات الفعلية قديماً

ص: 466

ثابتاً للذات ، بل التزموا باثبات قدماء سبعة أو ثمانيه ، إلي غير ذلک من الشنايع الّتي خرجوا بها من الدين المبين، بل اعتزلوا بها عن شريعة سيّد المرسلين، ولذا قيل : إنّهم يلزمهم خلاف العقل لما سمعت والنقل لتعليق الأحکام في الکتاب والسنّة علي العلل والمصالح والأغراض کقوله تعالي : ( وما خلقت الجنّ والإنس إلّا ليعبدون) (1)(ولذلک خلقهم )(2)،(ليذوق وبال أمر) (3) ، (ليهلک من هلک عن بينّة )(4)(ليعلم الله من يخافه بالغيب ) (5)

(لئلّا يکون للّناس علي الله حجّة بعد الرسل) (6) إلي غير ذلک من الآيات، بل الأخبار الّتي لا تحصي ولا تستقصي.

بل ربما يُدعّي عليه الإجماع بمعني الإتّفاق أيضاً، فإنّ المعتزلة ومن يحذ وحذوهم قائلون به، والأشاعرة ومن تابعهم قائلون بالقياس الفقهي، وهو فرع العلّة والغرض لما صرّحوا به من لزوم کون العلّة باعثة وغرضاً للشارع من شرع الحکم في الأصل لا مجرّد أمارة ومظنّة فيلزمهم إمّا بطلان القياس أو هذا الأصل.

ولعلّه لذا حکي في شرح المواقف عن الفقهاء جواز کون الأفعال معلّلة وان

لم يجب، مع أنّ قضية دليلهم حسب ما سمعت عدم الجواز.

وبالجملة فبطلان مقالهم أوضح من أنّ يستدلّ عليه بمثل هذه الوجوه الّتي

ربما يوهم تطرق بعض المناقشات إليها.

وحيث قد سمعت فساد أوهام الأشاعرة فقد صح إتصافه سبحانه بالإعانة

ص: 467


1- الذاريات: 56.
2- سورة هود : 119
3- المائدة : 95.
4- الانفال : 62.
5- المائدة : 94.
6- النساء : 165.

وأنّه هو المعين لخلقه في الأمور التکوينيّة والتشريعيّة بالإعانة الضرورية وغيرها ومنه الإستعانة في جميع الفيوض والإمدادات الابتدائيّة والإستعداديّة والاستحقاقيّة،( و کلّاًنمدّ هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربّک وما کان عطاء ربّک محظوراً) (1)

ولذا حذف مفعول الفعل الذي هو متعلّق الاستعانة تنبيهاً علي عمومه وشيوعه للجميع ، نظراً إلي أنّ حذف المتعلّق يدل علي العموم الذي من أظهر مصاديقه في المقام وأهمّها من بين المهام طلب المعونة في أداء العبادة.

ولعلّه لذا فتره الإمام عليه السلام بقوله : منک نسأل المعونة علي طاعتک لنؤدّيها کما أمرتَ ، ونتّقي من دنيانا ما نهيت عنه، وتعتصم من الشيطان الرّجيم ومن ساير مردة الجنّ والإنس من المضلّين ومن المؤذين الظالمين بعصمتک... إلي أنّ قال: قال رسول الله : قال الله عزّوجلّ : قولوا: (وإيّاک نستعين)علي طاعتک وعبادتک وعلي دفع شرور أعدائک وردّ مکائدهم، والمقام علي ما أمرتنابه(2)

فلا تتوهّم منه ومن بعض المفسّرين الّذين فسّرده بالإستعانة في العبادة کما يحکي عن ابن عبّاس أيضاً حصره فيها (3) فإنّ القرآن ذلول ذو وجوه فاحملوه علي أحسن الوجوه.

نعم ربما يقال : باشتقاقها من العين ، إمّا بمعني الناظرة فکما أنّ مطلب أصحاب الرسوم طلب المعونة لعبادة المعبود کذلک مقصد أرباب المکاشفات وحقائق العلوم طلب النور المتجلي علي قلوبهم للتحقّق بمقام المعاينة والشهود،

ص: 468


1- الإسراء : 20.
2- التفسير المنسوب إلي الامام العسکري عليه السلام ص 18.
3- في تفسير البصائر ج الفاتحة ص 128: (وإياک نستعين ) فيه قولان : قال ابن عباس : اي إيّاک نستعين علي طاعتک وعلي امورنا کلّها.

وهو الفوز بمقام الإحسان، فإنّ کلّ عابد ليس بمحسن في عبادته بل الإحسان أنّ تعبد الله کأنّک تراه(1)، فمعني الإستعانة طلب المعاينة من قولهم: لا أطلب أثرا بعد عين أي بعد معاينة.

وإمّا بمعني النابعة ، فکأنّه يطلب جريان ينابيع الحکمة والمعرفة في قلبه ومن

قلبه علي لسانه.

لکنّ الإشتقاق منه علي الوجهين مع بعده في نفسه ومخالفته لما في تفسير

الإمام عليه السلام موجب للإختصاص في الفائدة الذي لا داعي اليه في المقام.

بقي الکلام في أمور: أحدها في الجمع بين العبادة والاستعانة، وتقديم الأولي علي الثانية، وذلک أنّه لما نسب جميع الشّئون حتّي التربية وإفاضة الرحمة إليه سبحانه إلي أنّ تمکّن في مقام الاستغراق في بحر الشهود والتشرّف بمخاطبة الرّب المعبود أقّر علي نفسه بالعبوديّة، وأضاف إليها فعل العبادة الّتي هي التربية الحقيقيّة، وحقيقة الرحمة الرحيميّة ، ثمّ لمّا أوهم هذا أنّ له استقلالاً في ذلک ، أو أنّ له إنانيّة هنالک، فينثلم به أساس التوحيد، وينمحق به ما أسّسه أوّلاً من التمجيد والتفريد سلب من نفسه الحول والقّوة وأضاف إلي ريّه الإمداد والمعونة علي وجه الطلب والسؤال الذي هو وظيفة العبوديّة إزالةً لغبار الشرک في الأفعال من أوهام الأغيار، وإرجاعة لجميع الفيوض والإمدادات الي الله الواحد القهار.

فالعبادة وان کانت هي المقصودة بالّذات من العباد ولذا قدمها، إلّا أنّها لا تتمّ إلّا بمعونة الحقّ وإمداده و افاضته، لا بحول العبد وقوته، فإنّه لا حول من المعاصي، ولا قّوة علي شيء من الطاعات إلّا بمعرفة الله وتوفيقه ، فقرنها بالاستعانة.

ولذا ربما قيل : إن الجملة الثانية حاليّة والواو للحال، إشعاراً علي کون العبادة

ص: 469


1- نور الثقلين ج 1 /553 ح 579 عن النبي صلي الله عليه وآله وسلم

في حال الإستعانة، فالإستعانة بل الإعانة أيضاً مقدمة علي العبادة رتبةً وإن أخّرها لفظاً ، نظراً إلي ما سمعت.

مضافاً إلي أنّ العبادة مطلوب الله من العباد، والإستعانة مطلوبهم منه، فناسب

أنّ يقدّم مطلوبه علي مطلوبهم.

وأنّ إقتران العبادة بالإستعانة للجمع بين ما يتقرّب به العباد الي ربّهم وبين ما يطلبونه ويحتاجون اليه من جهة، وتقديم العبادة علي الإستعانة کتقديم الوسيلة علي طلب الحاجة رجاء الاجابة کما نته سبحانه علي ذلک بقوله :(ابتغوا إليه

الوسيله)(1)

مضافاً إلي أنّ المعبود بالحق هو الذات البَخت المجرّد عن جميع الاضافات والأوصاف المشار اليه بالأحدية المطلقة، بل بالهويّة الغيبيّة، والمستعان به هو المتجلّي بصفة الإعانة الّتي هي من صفات الفعل، فالعبادة توحيد ذاتي والاستعانة توحيد فعلي ، بل العبادة إذعان بالتوحيد، والإستعانة تصديق بالولاية التي هي باطن النبوّة، فإن صفات الفعل کلها حادثة، عندنا، وستسمع (إن شاء الله تعالي) مزيد بيان لهذا الکلام .

هذا کلّه مضافاً إلي ما قيل من توافق الفواصل کلها في متلّو الحرف الأخير، سواء کانت البسملة آية منها أولا، وإنّهما وان کانا فعلين للعبد إلا أنّ العبادة من مدلولات الإسم المقدس الذي معناه المعبود بالحق فکانت أحري بالقرب منه، بل بالتقديم کما أنّ ذلک الإسم هو المقدّم الجامع، وأنّ العبادة أنّسب بذکر الجزاء، کما أنّ الاستعانة ألصق بطلب الهداية.

وأنّ زيادة الإهتمام بشأنّ العبادة وإظهارها تقتضي تقديمها علي الاستعانة

ص: 470


1- المائدة : 35.

الّتي متعلّقها حسب ما سمعت أعمّ من العبادة وغيرها، وهي في نفسها وان کانت عبادة أيضاً إلّا أنّها لعموم متعلّقها ربما کانت مشوبة ببعض الحظوظ النفسيّة والفيوض الدنيويّة.

وأنّ مبدأ الإسلام الحثّ علي العبادة والتحريص عليها علي وجه الإخلاص ونفي الشرک، وأما التخصيص بالإستعانة فإنّما يحصل بعد الرسوخ التام في الدين فکانت أحري بالتأخير.

وبالجملة الجملة الأولي للتخلّص من الشّرک الظاهر، والثانية للتخلّص من الشرک الخفّي، وأنّ الأولي اشارة الي التحلّي بحلية العبادة الّتي هي أصل الفضائل، والثانية تنبيه علي التخلي عن الالتفات إلي النفس والي غيره تعالي، بل عن الانانية التي هي أم ّالرذائل.

وتقديم الأوّل لکونه الغاية المقصودة ولإعانته علي الثاني ، والإشعار علي أنّه ينبغي الکون علي الفطرة الأولية الأصلية التي يکون المقصود منها حفظ الصحّة لا رفع المرض فتأمّل.

وفي علل فضل بن شاذان عن مولينا الرضا عليه السلام ، قال : ( اياک نعبد ) رغبةً وتقرّباً الي الله وإخلاصاًس بالعمل له دون غيره، (و إيّاک نستعين) إستزادة من برّه وتوفيقه وعبادته وإستدامةً لما أنّعم عليه ونصره(1)

ثمّ إعلم أنّ في هذا الآية الشريفة تحقيقاً للمنزلة بين المنزلتين، وإثباتاً للأمر بين الأمرين حيث أبطل بقوله : ( إياک نعبد ) مذهب الجبرية الذين ينسبون الأفعال کلّها إلي الله ويقولون : لا مؤثّر ولا فاعل في الوجود إلّا الله، لقوله تعالي : (هل من خالق غير الله) به(2) وقول النبي صلي الله عليه وآله وسلم : «ما شاء الله کان، وما لم يشأ لم

ليلي

ص: 471


1- من لا يحضره الفقيه ج 1 ص 203 -214ضمن ح 927 - العيون ج ص 107.
2- فاطر: 3.

يکن»(1)، حتّي أنّ بعضهم کجهم بن صفوان (2)وغيره لا يفرّقون بين حرکة المرتعش وغيره، ولا بين سکون الزمن وغيره، ويقولون : إنّ جميع الخيرات والشرور من ناحية القدر، ولا قدرة للعبد في شيء منها ، بل هو مجرد الآلة يفعل بارادة حادثة فيه من الله تعالي فهو المريد وهو الفاعل.

فأبطل مقالتهم : بنسبة العبادة الّتي هي الخضوع والتذلّل إلي العبد ، کما أبطل مقالة المفوّضة الذين يعزلون الله عن خلقه وعن ملکه ، بطلب المعونة منه ، فإنّه يدلّ علي افتقار العبد في عبادتهم وفي سائر حوائجهم ومهمّاتهم الي معونته وتوفيقه وإمداده.

بل في قوله : ( إياک نستعين) إشارة الي بطلان المذهبين معاً لدلالته علي أنّ الطلب من العبد والمعونة من الله ، فتحقّق أنّ لا جبر ولا تفويض، بل أمر بين الأمرين.

ثمّ إنّ التفويض إما في التشريعيّات وإمّا في التکوينيات وبالأولي يبطل الأوّل

وبالثانية الثاني.

ثم إن بعض الجبرية لما رأوا فساد مذهبهم وشناعة مقالتهم قسموا الجبر الي

أقسام أربعة:

الجبر الجزئي ، وجبر التيقّن، وجبر التخلق، وجبر التحقّق، فنفوا الأوّل لما فيه من إيطال التکاليف والشرايع کافّة، ومخالفة الحسّ والضرورة، وأثبتوا الثلاثة ، مفسّرين لها بتوحيد الأفعال والصفات، وبمرتبة البقاء بعد الفناء کما قيل :

وکلّ الذي شاهدتُه فعلُ واحدٍ بمفردة لکن بحجب الأکنّة

ص: 472


1- بحار الأنّوار ج 109/10ح1 و 73 ص 394 ح 10.
2- جهم بن صفوان : أبو محرز السمرقندي رأس الجهمية قتل بأمر نصر بن سيار سنة(128) ه - الأعلام ج 138/2 .

وفي الحديث القدسي: لا يزال العبد يتقرب إلي بالنوافل حتّي أحبّه، فاذا

أحببته کنت سمعه الذي يسمع به وبصره الّذي يبصربه (1)

قلت : وهو حقّ بالنسبة الي انکار الأوّل، وأمّا إثبات الثلاثة فعلي تفصيل يأتي اليه الإشاره کما يأتي تمام الکلام إن شاء الله تعالي في مسألة الجبر والقدر في موضع أليق، وإنما المقصود في المقام الإشارة إلي دلالة الآية.

ثانيها : في ايثار الجمع علي ضمير الوحدة في الفعلين، بل وفي الثالث

المتعقب لهما في سؤال الهداية.

وذلک إمّا باعتبار الحفظة الکرام الکاتبين، والمعقّبات الّذي من خلفه ومن بين يديه (2)وغير ذلک من الملائکة الموکّلين بحفظه وبحفظ أعماله وأفعاله وأعضائه وجوارحه وقواه ومشاعره، وقبضات وجوده والمأمورين بايصال الفيوض والإمدادات إليه من جميع الجهات في کل العوالم في جميع المراتب والوسائط.

وإمّا باعتبار جميع الأجزاء والجزئيات، وقبضات الوجود الّتي ترکّب منها المعجمون الإنساني الذي هو نسخة مختصرة من مجموع العالم الکبير لانطوائه فيه بجميع أجزاءه من الدُرّة الي الدرّة، فإنّ فيه من کلّ شييء شيئاً ، ففيه رأس من المشيّة المعبّر عنه بالمشية الجزئيّة ، وفيه قبضة من العقل، وقبضة من النفس، وقبضة من الطبيعة، وقبضة من المزاج ، وقبضة من عالم المثال ، وقبضة من الأفلاک السبعة، وقبضة من العناصر الأربعة، وقبضة من المواليد الثلاثة حسب ما نفصّل کلاُّ منها في موضعه إن شاء الله ، وکلّ شيء من الأشياء شاعر بنفسه مسبّح لربّه، لائذ في فناء الفنا إلي باب قدس الجود والبقاء، ولذا قال سبحانه:

ص: 473


1- اصول الکافي کتاب الإيمان والکفر باب من أذي المسلمين واحتقرهم ح 7 و 8- بحارالأنّوار ج22/67 .
2- اقتباس من الآية (11) من سورة الرعد .

(يسبّح لله ما في السماوات وما في الأرض) (1)

وقال سبحانه : ( تسبّح له السماوات الّسبع والأرض ومن فيهنّ وإن شيء

إلا يسبّح بحمده )(2)

وذلک لما قرّر في محلّه من أنّ الوجود الإمکاني يساوق الشعور، والشعور التذلّل والاستکانة، حتي أنّ الکافر بجميع أجزائه مسبّح لله تعالي في جميع العوالم المرتبّة إلا بقلبه ولسانه أحياناً في مقام الشعور الانساني ولذا في دعاء الرکوع: خشع لک سمعي و بصري وشعري وبصري ولحمي ودمي ومخّي وعصبي وعظامي» (3)

وفي دعاء عرفة المتقدّم ذکر بعضه ما سمعت .

واما باعتبار التمهيد لعموم الدعاء، حيث إنّه لمّا مجّد الله ووصفه بصفاته الحسني، وأظهر له العبوديّة أراد أنّ يسأله الهداية الّتي هي الجامعة لخير الدنيا والآخرة عتم المسألة لأنّه أقرب إلي الإجابة، مع ما ورد من أنّه مَن دعا لأخيه بظهر الغيب نودي من العرش : ولک مائة ألف ضعف مثله (4)ولذا عمّهم في اظهار والعبوديّة تمهيداً لسؤال الهداية للکافّة فنسب کل من يعبد الله الي العبادة ثمّ طلب لهم الهداية.

وإما باعتبار الوسائط المترتبة بين المشية الکلية وبين العابد، وذلک أنّ العبادة والمعونة من جملة الفيوض الواصلة الي العبد، وقد تقرّر في محلّه أنّ الفيض لا يصل الّي السافل إلّا بواسطة العالي ويابيّنه وحجابيّته وأنّ الباب الأقدم والحجاب

ص: 474


1- الجمعة : 1 والتغابن : 1.
2- الاسراء : 44.
3- بحار الأنّوار : ج 111/85 .
4- بحار الأنّوار: ج 384/93 ح 8.

الأعظم هو الحقيقة المحمديّة وعترته المعصومون صلوات الله عليهم أجمعين، فالعبادة والاستعانة لمّا کانت بالتوجه الي المبدأ الأوّل بالتوسّل إلي المبادي العالية والاستشفاع بهم وبالاستفاضة من تلک المبادي والاشراق عليه منها، فسيلان فيض العبودية والاستکانة للاستفاضة في جميع السلسلة عبادة للجميع وهو المفروض باب الأحدية جبرة للنقصان، واستدعاء للقبول والإحسان وهذا الاعتبار الذي لوحنا إليه يتکثر به الواحد الذي هو المشية الکلية والوجود المطلق والفيض الإنبساطي ويتحد به المتکتر الذي هو الوجودات الجزئيّة المقيّدة الواقعة في صقع المفعول برجوع الکل إليه، وخضوع الجمع لديه.

والي هذا المعني أشار رأس الجالوت أعلم علماء اليهود حيث سأل عن مولينا الرضا عليه التحية والثناء وقال : يا رئيس المسلمين ما الواحد المتکثر، وما المتکثّر المتوحد، وما الجاري المنجمد، وما الناقص الزائد، فأجاب عليه السلام يا اين أبيه أيّ شيء تقول وممّن تقول، ومّمن تقول، وبمن تقول ؟ بينا أنّت أنّت صرنا نحن نحن، وهذا جواب موجز .. الخبر (1)

وهذا الخبر وإن لم أظفر به في أصول أصحابنا الإعلام إلّا أنّه حکاه بعض السادة الکرام رفع الله قدره في دار السلام ومجمل الاشارة الي مفاده أنّ رأس الجالوت لما اقتبس من أنّوار النبوة والولاية بالإطّلاع علي الصحف السابقة، أو من تجليات أنّوار الامام إنقسام ما في الکون إلي الوجود المطلق الذي هو الفعل والمشيّة الکلية والوجود المقيد الذي هو المفعول والمشيّة الجزئيّة ، وقد تبيّن عنده أنّه لا يصل الفيض الي السافل إلا بواسطة العالي ، فلذا سأل عن الواحد المتکثّر وهو الوجود المطلق المنبسط، فوحدته في نفسه وتکثره بانبساطه وفيضانه ، ومن

ص: 475


1- مستدرک سفينة البحار : ج 10 / ص 258.

المتکثر المتوحد وهو المفعول أي عالم الخلق بجملته لتکثّره في نفسه وانتهائه في سيره وتوجهه إلي الله إلي الباب الأعظم الذي هو الوجود المطلق.

وممّا أشرنا إليه يظهر أنّ الأول هو الجاري السيّال المنبسط في نفسه المنجمد المقيد باعتبار محلّه ومتعلّقه، وأنّ الثاني هو الناقص في نفسه الزائد باعتبار الإنتهاء الي مبدئه بالإقبال والاستکمال، فأجابه الإمام عليه السلام مخاطباًله بابن أبيه خطاب مدح لأنّهم، إذ قد يسمّي به من لا يليق به أنّ ينسب الي أبيه الناسوتي لرفعته عنه اشعاراً بأنّه ينبغي انتسابه إلي الآباء الروحانية النورانية، ولعل المقام منه، تعجّباً من دقّة مسئلته، وغموض حکمته.

وقد يسمّي به من ينفي عن أبيه عهداً وسقاحاً ، کزياد بن أبيه (1)

ثمّ عظّم المسألة بالسؤال عنها وعمّن قالها ، ولمن قالها، ويمن قالها، وکشف له عن حقيقة الأمر، وبين له أنّه في مقام المشية حيث ذکر له : انّک حيث انت أنّت توجهت إلي مقام المشار إليه بقوله : أنّا وأنّت بعد قطع جميع العلائق فحينئذ صرنا نحن نحن الرجوع المقيّد الي المطلق، والجزء الي الکل، والسافل الي العالي والموجود الي الوجود ، فافهم الکلام وعلي من فهمه السلام.

وإمّا لأنّ العبادة لا تقبل إلا من أهل الولاية وأصحاب الولاية الذين تقبل منهم طاعتهم وعبادتهم إذا کان في عبادتهم قصور وفتور کما هو الغالب الدائم، فالظاهر من الأخبار أنّه ينجبر ذلک النقصان بفاضل حسنات الإمام عليه السلام وذلک عند عرض اعمال العباد عليهم عليهم السلام .

ولذا ورد عنهم عليهم السلام في الزيارة الرجبية علي ما في «المتهجّد»: أنّا سائلکم

ص: 476


1- زياد بن أبيه ولد بالطائف ، کان مع أميرالمؤمنين عليه السلام في مشاهده ومع الحسن عليه السلام الي زمان صلحه ثم لحق معاوية، وهلک بالکوفة سنة (53) - سفينة البحار ج 3/ 577.

وآملکم إليکم التفويض، وعليکم التعويض، فبکم يجبر المهيض ويشفي المريض (1)

وفيما سمعه السيّد ابن طاوس عن الحجة عجّل الله فرجه في الناحية المقّدسة : أللهّم إنّ شيعتنا خلقِوا من فاضل طينتنا وعجنوا بماء ولايتنا، اللهمّ اغفر لهم من الذنوب ما فعلوه إتکالا علي حبّنا، ووَلنّا يوم القيامة أمورهم، ولا تؤاخذهم بما اقترفوه من السيّات إکراماً لنا ولا تقاصصهم (2) يوم القيامة مقابل أعدائنا، وإن خفت موازينهم فتقّلهم بفاضل حسناتنا(3)

وإمّا حکاية منه سبحانه عن کافّة عبيده، فکأنّه قال : يا عبادي قولوا: إيّاک

نعبد.

ويؤيّده ما في تفسير الامام عليه السلام حيث قال : قال الله تعالي : قولوا يا أيّها الخلق المنعَم عليهم : إيّاک نعبد أيّها المنعم علينا، ونطيعک مخلصين مع التذلل والخضوع بلا رياء ولا شمعة، وإياک نستعين منک نسئل المعونة علي طاعتک (4)

وحکاه في المجمع عن الکسائي ، قال : تقديره قولوا: إيّاک نعبد، ولهذا کما قال الله : (ولو تري إذ المجرمون ناکسوا رؤوسهم عند ربهم ربّنا أبصرنا وسمعنا)(5) اي يقولون: ربّنا، وقال :( والملائکة يدخلون عليهم من کلّ باب سلام عليکم) (6) ، أي يقولون : سلام(7)

ص: 477


1- مصباح المتهجد ص756 الزيارة الرجبيّة .
2- في البحار : ولا تقاصّهم.
3- بحار الأنّوار : ج 303/53 .
4- تفسير الامام عليه السلام ص 18 وعنه کنز الدقائق ج 1 / 64.
5- السجدة : 2.
6- الرعد : 23.
7- مجمع البيان ج 1 / 27.

وإمّا لما ذکره القوم من أنّ المقصود الإشعار بحقارة نفسه من عرض العبادة منفرداً وطلب الإعانة مستقّلاً من دون الانضمام والدخول في جملة جماعة يشارکون في عرض العبادة علي باب العظمة والکبرياء ، کما هو الدأب عند عرض الهدايا علي الملوک ورفع الحوائج اليهم.

وأنّ في خطابنا له عزّ وعلا بأنّ خضوعنا التامّ واستعانتنا في المهامّ منحصران فيه سبحانه مع خضوعنا الکامل لأهل الدنيا من الملوک والوزراء ومن يحذو حذوهم جرأة عظيمة وجسارة جسيمة، فقصد بايثار ضمير الجمع تغليب الأصفياء الخلّص علي غيرهم کي يحترز بذلک عن الکذب الظاهر والتهور الشنيع .

وأنّ هنا مسألة فقهية وهي أنّ من باع أمتعة مختلفة صفقةً واحدة فخرج بعضها معيباً فللمشتري أنّ يقبل الجميع أو يرة الجميع، وليس له التبغض، فکأنّ العابد أراد أنّ يحتال لقبول عبادته الناقصة بأنّ أدرجها في عبادات غيره من الأولياء والمقربين، وعرض الجميع صفقة واحدة علي حضرة ذي الجود والإفضال فهو عزّ شأنّه أجل من أنّ يرد المعيب ويقبل الصحيح ، کيف وقد نهي عبيده عن تبعيض الصفقة.

وأنّه يمکن إرادة التفخيم والتعظم، إذا المقام وإن إستدعي الذلّه والانکسار تحقيقاً للعبوديّة، إلّا أنّ فيه إشعاراً بانّه لا فخر للعبد إلّا في عبوديته ، ولذا قيل : کفي لي فخراً أنّ أکون لک عبداً ، فينبغي الإفتخار لعبوديتّه، فکأنّ مَن يعبده، ويعظّمه ويجلّله بيتدأ أوّلاً بتعظيم نفسه بتحقّقه في مقام العبوديّة.

وأنّه لو کان العبد قال : إيّاک أعبد لکان يشمّ منه رائحة الاستقلال الذي ربما يؤدّي إلي العجب وتعظيم العبادة فأدرج نفسه في زمرة العابدين من الملائکة والجن والإنس إشعار بانه واحد من جملتهم، کي يکون أقرب إلي التواضع والأنّکسار.

وذکر ابن العربي في الفتوحات: أنّ العارف ينظر الي تفصيل عوالمه، وان

ص: 478

الصلاة قد عمّ حکمها جميع حالاته ظاهراً وباطناً لم ينفرد بذلک جزء عن آخر، فإنه يقف بکلّه، ويرکع کذلک، ويسجد کذلک، ويجلس کذلک، فجميع عالمه علي عبادة ربّه، طالباً منه المعونة علي عبادته، فجاء بنون الجمع في الفعلين، فعلم من الحقّ سبحانه لما قيّده بالنون أنّه يريد منه أنّ يعبده بکليّته، ويستعين به بکليّته ، ومتي لم يکن المصلّي بهذه المثابة من جمع عالَمه علي عبادة ربّه کان کاذباً في قرائته ، فإن الله ينظر اليه فيراه ملتفتاًفي صلاته أو مشغولاً بخاطره وقلبه في دکّانه وتجارته، وهو مع هذا يقول: نعبد ، يقول الله له کذبتَ في کنايتک بجمعيتّک علي عبادتي، ألم تلتفت يبصرک إلي غير قبلتک، ألم تصغ بسمعک الي حديث الحاضرين تسمع ما يقولون. ألم تَمش بقلبک وفکرک في سوقک، فأين صدقک في قولک : نعبد ، فيحضر العارف هذا کلّه في خواطره فيستحق أنّ يقول : إيّاک نعبد لئلّا يقال له کذبت، فلابدّ أنّ يجتمع من هذه تلاوته علي عبادة ربه حتّي يقول الحقّ له : صدقت في جمعيتک علي عبادتک وطلب معونتي. : ثمّ قال : روينا في هذا الباب من بعض المعلّمين من الصالحين أنّ شاباً صغيراً کان عليه القرآن فرآه مصفرّ اللون فسأل عن حاله ، فقيل له : إنّه يقوم الليل بالقرآن کلّه، فقال له: يا ولدي أخبرتُ أنّک تقوم الليل بالقرآن کلّه ؟ فقال : هو ما قيل لک، فقال: يا ولدي اذا کان في هذه الليلة فاحضرني في قبلتک واقرأ القرآن عليّ في صلاتک ولا تغفل عنّي، فقال الشابّ : نعم ، فلمّا أصبح، قال له : هل فعلت ما أمرتُک به ؟ قال : نعم يا استاذ ، قال : وهل ختمت القرآن البارحة ؟ قال : لا ما قدرتُ علي اکثر من نصف القرآن ، قال : يا ولدي هذا أحسن، إذا کان هذه الليلة فاجعل من الصحابة أمامک الذين سمعوا القرآن من رسول الله صلي الله عليه وآله وسلمواقرأ عليه واحذرو احذر، فإنّهم سمعوه من رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم فلا تزل في تلاوتک ، فلمّا أصبح سأله الاستاذ عن ليلته ، فقال : ما قدرتُ علي اکثر من ربع القرآن ، فقال : يا ولدي أتلُ هذه الليلة علي

ص: 479

رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم الّذي عليه نزل القران ، واعرف بين يدي من تتلوه، فقال : نعم، فلمّا أصبح، قال : يا استاذ ما قدرتُ طول ليلتي علي اکثر من جزء من القرآن أو ما يقاربه ، فقال : يا ولدي إذا کان هذه الليلة فلتکن تقرأ القرآن بين يدي جبرئيل الّذي نزل به علي قلب محمد صلي الله عليه وآله وسلم واحذر واعرف من تقرأ عليه فلمّا أصبح قال : يا استاذ ما قدرت علي اکثر من کذا وذکر سوراًقليلة من القرآن ، قال : يا ولدي إذا کان هذه الليلة تُب الي الله وتأهب، واعلم أنّ المصلّي يناجي ربّه ، وأنّک واقف بين يديه تتلو عليه کلامه فانظر حظّک من القرآن وحظه وتدبّر ما تقرأ . فليس المراد جمع الحروف ولا تأليفها، ولا حکاية الأقوال، وإنّما المراد بالقراءة التدبّر لمعاني ما تتلوه، فلاتک جاهلا، فلمّا أصبح إنتظر الأستاذ الشاب فلم يجيء إليه، فبعث من يسئل من شانه ، فقيل له : إنّه أصبح مريضاً يعاد، فجاء إليه الأستاذ فلمّا أبصره الشابّ بکي وقال : يا استاذ جزاک الله عني خيراً، ما عرفت أنّي کاذب إلّا البارحة، لما قمت الي مصلّاي واحضرت الحق وانا بين يديه أتلو عليه کتابه ، فلمّا استفحت الفاتحة ووصلت الي قوله : إيّاک نعبد ، نظرت الي نفسي فلم أرها تصدق في قولها فاستحييتُ أنّ أقول بين يديه إيّاک نعبد وهو يعلم أنّي اکذب في مقالتي، فاني رأيت نفسي لاهية بخواطرها عن عبادته ، فبقيت أردّد القراءة من أوّل الفاتحة إلي قوله مالک يوم الدين ولا أقدر أنّ أقول إياک نعبد، فإنّه ما خلصت لي ، فبقيت أستحيي أنّ اکذب بين يديه فيمنعني ، فما رکعت حتي طلع الفجر وقد رصّت کبدي، وما أنّا إلّا راحلي اليه علي حالة لا أرضاها من نفسي . فما انقضت ثالثة حتي مات الشابّ فلمّا دفن أتي الأستاذ الي قبره فسأل عن حاله فسمع صوت الشابّ من قبره وهو يقول : يا استاذ أنّا حي عند حي لم يحاسبني بشيء، فرجع الأستاذ إلي بيته، ولزم فراشه مريضاً ممّا أثّر فيه حال الفتي فلحق به، فمن قرأ إيّاک نعبد علي قراءة الشاب فقد قرأ (1)

ص: 480


1- الفتوحات المکية ج 1 ص 4250 عن أبي بکر المقري محمد بن خلف المعدي الاشبيلي المتوفي (589) ه.

ثالثها : في تکرير الضمير ، والوجه فيه علي ما قيل إمّا التأکيد کما يقال : الدار بين زيد وبين عمرو، مع جواز الإقتصار بأحدهما، بأنّ يقال : الدار بين زيد وعمرو، ومنه تکرار لا النافية في قوله تعالي : (لا الظلمات ولا النور ولا الظلّ ولا الحرور )(1)وما يستوي الأحياء (ولا الأموات) (2)، وتکرير بين في قول عدي بن زيد(3)

وجاعُل الشمس مصراًلا خفاء به بين النهار وبين الليل قد فصلا

وردّه في المجمع بأنّ التکرير إنّما يکون إذا لم يکن محمولاً علي فعل ثان،

وإيّاک الثاني في الآية محمول علي نستعين ومفعول به فکيف يکون تأکيداً (4)

ويمکن الجواب بأنّ المراد معني التأکيد وهو التنصيص علي التخصيص بالاستعانة، ولو اکتفي بمجرد العطف من دون تکرير الضمير ربما أوهم أنّه قد يستعين بغيره ولا يخصه بالاستعانة کما يخصه بالعبادة.

علي أنّ نفي الشرک في الاستعانة أبلغ في نفي الشرک في العبادة ، فمع إفادته

فائدة جديدة في الثانية يؤکّد الأولي أيضاً.

وإمّا التنصيص علي حصول التقرّب بکلّ من الفعلين ، فإنّه لو اقتصر علي واحد منهما ربما توهّم متوّهم أنّه لا يحصل التقرب إلا بهما معا، مضافاًإلي ما فيه من الإشعار بمراعات النکات المتقدّمة لضمير الجمع وغيره في کلّ من الفعلين لا فيهما معا.

ص: 481


1- فاطر: 21.
2- فاطر: 22.
3- هو عدي بن زيد بن حماد التميمي الشاعر الجاهلي من أهل الحيرة مات سنة (30) قبل الهجرة - معجم المؤلفين ج 6 ص 274.
4- مجمع البيان ج 26/1.

ولعلّه أيضأ مراد من عبّر عنه بالتأکيد ممثلاً له بقوله تعالي : (کي نسبّحک

کثيراً ونذکرک کثيراً)(1)

وإمّا الاستلذاد بطول الخطاب مع المحبوب ويسط الکلام عنده کما في قول موسي علي نبينا وآله وعليه السلام :(هي عصاي أتوّکأ عليها وأهشّ بها علي غنمي ) (2) الآية.

وإمّا لأنّ الواو للحال ، والجملة حالية، أي نعبدک مستعينين بک، فلو ترک

التکرار لغات المقصود.

وإمّا لأنّ متعلّق الإشارة في اياک نعبد ليس بمتعلّق الإشارة في وإيّاک نستعين ، نظراً إلي أنّ الأوّل اشارة الي الأمر الذي ثبت استحقاقة للعبادة عند العابد ، وصار منتهي مدي مقصده ووجهته بحسب علمه أو شهوده، أو إعتقاده المتحصّل من موادّ الظنون والتخيّلات المنته عليها من قبل، ومتعلّق الإشارة في الثاني ليس من حيث کونه معبوداً فقط، بل من حيث إن له صلاحية أنّ يعين مَن يعبده فيما لا يستقلّ به العابد إذا طلب الإعانة منه، کذا ذکره الشيخ القونوي(3)في تفسير الفاتحة.

وفيه مضافاً إلي ابتناءه علي تخيل المعبود وتوهّمه الذي ينبغي تنزيهه عنه بل لا يتمّ التوحيد إلا بذلک، اذ من يعبد المتوهَّم فهو مشرک أو کافر، أنَّ قيد الإطلاق، والحيثيّات والقيود مسلوبّة هناک.

وما أشار إليه بحيثّية صلاحية الإعانة ليس من الذات في شيء، بل إنّما هو

ص: 482


1- طه : 33.
2- طه : 18.
3- هو محمد بن إسحاق صدر الدين الصوفي الرومي القونوي المتوفي سنة (672) ه- معجم المؤلفين ج 9 ص 43.

في صقع الفعل حسب ما أشرنا إليه سابقاً. (ختام للمقام)

قال في مجمع البيان: قد أخطأ من استدلّ بهذه الآية علي أنّ القدرة مع الفعل ، من حيث إنّ القدرة لو کانت متقدّمة لما کان الطلب المعونة وجه، لأنّ الرغبة الي الله في طلب المعونة علي وجهين :

أحدهما أنّ يسأل الله تعالي من الطاقة وما يقوي دواعيه ويسهّل الفعل عليه ما ليس بحاصل ، ومتي لطف له بأنّ يعلمه أنّ له في فعله الثواب العظيم زاد ذلک في نشاطه ورغبته.

والثاني أنّ يطلب بقاء کونه قادراً علي طاعاته المستقبلة، بأنّ يجدّد له القدرة حالاً بعد حال عند من لا يقول ببقائها، وأنّ لا يفعل ما يضادها وينفيها عند من قال ببقائها(1)

أقول: هذا إشارة الي المسألة المعروفة بين المتکلّمين، ومجمل الاشارة اليها في المقام مع تحقيق ما لأصل المرام، هو أنّهم في أنّ القدرة علي الفعل هل هي معه فيمتنع قبله فضلاً عن تعلّقها به، أو أنّها قبله ويتعلّق به حنيئذ، فيستحيل تعلّقها به حال حدوثه، فالأشاعرة علي الأول نظرة إلي أنّ قبل الفعل لا يمکن الفعل، بل يمتنع وجوده فيه والاّ فلنفرض وجوده فيه فالحالة السابقة ليست کذلک، بل هي حال الفعل.

ولأنّها عرض لا يبقي زمانين فلو کان قبله لانعدم حاله ، ولزم وجود المقدور

بدون القدرة.

ولأنّه يلزم من فرض وقوع الفعل قبل وقوعه حيث إنّه ممکن ويلزم اجتماع

النقيضين : وجود الفعل وعدمه.

ص: 483


1- مجمع البيان ج 26/1 .

وهذه کلّها کغيرها من حججهم بل کأصل المذهب واهية جدا، لضعف الأوّل بأنّ الممتنع حصول الفعل في زمان بشرط کونه قبل الفعل، وأمّا وجوده في زمان عدمه لا بأنّ يجتمع فيه الوجود والعدم بل بأنّ يکون مکان العدم الوجود فلا محذور فيه أصلا، وأما النقض بالقدرة القديمة فمع عدم الحاجة إليه غير صحيح عندنا إذا الحق کون القدرة عين ذاته بدون مغايرة حقيقية ولا اعتبارية فليس فيها تعلّق ولا مطابقة ولا غير ذلک من صفات الإمکان والحدوث.

ولضعف الثاني أيضاًبالمنع من عدم بقاء العرض زمانين، وأدلّتهم علي ذلک

واهية جدّاً کما قرّر في محلّه.

وبعد ذلک فربما يجاب أيضاً بعد التسليم بتأثير القدرة المتقدّمة في الفعل المتأخّر ومنع إعتبار المقارنة، سلّمنا لکن يجوز حدوث مثلها بناءً علي القول بتجدّد الأمثال علي سبيل الاستمرار الي حال الفعل.

وتوهّم أنّ وجود المقدور حينئذ إمّا بالقدرة الزائلة فيعود المحذور، أو الحاصلة وهو المطلوب، مدفوع بانه بالحاصلة لکتها حاصلة من الزائلة علي سبيل الکسر والصوغ فهي هي وهي غيرها.

علي أنّه لا نزاع في لزوم القدرة حال الفعل، وإنّما البحث في جوازها قبله والعدم، فبطلت الشرطيّة، فإنّ استناد الفعل الي اللاحقه لا يخرج السابقة من کونها قدرة لکفاية التأهّل والصلوح في ذلک، وإن لم يکن هناک فعليّة.

وأمّا النقض بالقدرة القديمة فلا يصح عندنا کما في السابق، إذ صفاته ليست بأعراض، ومن الغريب الاعتذار عن ذلک بأنّ الکلام في المعاني لا في اطلاق الألفاظ.

وأمّا ضعف الدليل الثالث فيظهر ممّا سمعت في ضعف الأوّل. وأما المعتزلة فإنّهم وافقوا الأماميّة في اثبات القدرة قبل الفعل، واستدلّوا أوّلاً

ص: 484

بانّها لو لم تکن قبل الفعل لما کان الکافر مکلّفاً بالإيمان حال الکفر.

وأجيب بأنّ الکافر مکلّف في الحال بايقاع الإيمان في ثاني الحال،

وبالجملة فزمان التکليف غير زمان الفعل، والحاجة الي القدرة في الثاني.

ويجوز أنّ لا يکون مقدوراً في الزمان الأول الّذي هو زمان التکليف خاصّة، کالمکلّف في ليالي شهر رمضان بايقاع الصوم في نهاره، فإنّ إيقاع الصوم النهاري غير مقدور في الليل، مع أنّ المحقّقين من الفقهاء قالوا بجواز تعلّق الوجوب قبل زمان الأداء، ولذا قالوا بوجوب الغسل علي الجنب قبل الفجر.

وفيه أنّ من التکاليف ما يکون زمان أدائه مستوعباً لجميع أزمنة التکليف کالإيمان فيلزم من ذلک أنّ لا يکون مکلّفاً بالإيمان في جميع أزمنة کفره، فحال تعلّق التکليف بالإيمان مع ترکه إن کان مکلّفاً به ثبت المطلوب وإلّا بطل بالاجماع.

وتوهّم أنّه يکفي في تعلّق التکليف به حصول القدرة عليه حال الفعل ، فالقدر اللازم أنّ يکون المکلّف به مقدوراًفي زمان وجوده، وأمّا کون القدرة مجامعة للتکليف فلا.

مدفوع بانّه علي هذا لو مات کافر علي کفره ولم يؤمن يلزم منه أنّ لا يکون الإيمان مقدوراً له، لأنّ القدرة مع وجود الفعل ولم يقع منه، فيلزم أنّ يکون ذلک الکافر مکلفاً بشييء لم يکن مقدوراً له، وهو وقوع التکليف بما لا يطاق، إلّا أنّک تعلم أنّ الالتزام بهذا ونحوه ليس ببدع من الأشاعرة الذين ينکرون الحسيّات، ويردون العقول ويخالفون الشرايع .

ولذا أجاب في المواقف عن أصل الدليل بجواز التکليف بالمحال. بل التزم

بجواز التکليف بخلق الجواهر والأعراض ممّا ليس مقدوراً له.

وحکي العلّامة الحلّي في أنّوار الملکوت عن الرازي الإعتراض عليه بأنّ

ص: 485

لزوم تکليف مالا يطاق وارد علي المعتزلة، لأنّ المکلّف حال حصول القدرة علي الايمان أعني حال الکفر بزعمهم لا يمکنه الفعل أعني الإيمان لاستحالة الجمع بين المتقابلين، وهما الإيمان والکفر، وحال حصول الفعل أعني الإيمان لا قدرة عليه لوجوبه.

ثم أجاب عنه الفاضل بأنّ القدرة علي الفعل ليست بأنّ يوجد الفعل أوّل زمان وجودها بل بأنّ يوجده ثاني الحال، وحينئذ لا يکون قول المعترض: إنّه لا يمکنه لافعل يعني الايمان حال الکفر صادقة وحال الکفر يتعلّق بمکنته لا بالفعل .

قلت : والأوضح في الجواب أنّ يقال : ببقاء القدرة في کلّ من الحالين، أمّا حال الکفر فلا قدرة علي تبديل الکفر بالإيمان قبل أنّ يستمرّ عليه الکفر، فالتعبير بحال الکفر إنّما هو لعدم الايمان، ومعه هو حال الايمان فلا يجتمع المتقابلان وأمّا حال الايمان فلقدرة علي ازالته وتبديله بالإرتداد في کل حال من احوال استمراره.

وثانياً بان المراد من القدرة هي القوة الّتي هي مبدء الأفعال المختلفة بحيث لو انضمّ اليها إرادة أحد الضدّين عمل ذلک الضد وتحقّق في الوجود، ولو بمزاولة الآلات ومباشرة الافعال ، وهذا المعني وجوده قبل الفعل ضروري لکلّ أحد، ولعلّ انکاره أشبه بانکار الضروريات.

ولذا ربما يحمل القدرة التي ينکر الأشعري تقدّمها علي الفعل علي معني آخر وهو القوة المستجمعة لشرائط التأثير بأجمعها ولا شکّ أنّها لا تتعلّق بالضدين والّا لزم اجتماعهما في الوجود، بل هي بالنسبة الي کلّ مقدور غيرها بالنسبة إلي المقدور الأخر، لاختلاف الشرائط المعتبرة في تحقّق المقدورات، اذ لخصوص کل مقدور شروط خاصّة لا يتعديّها بجملتها.

ومن هنا نقل عن الأشعري استحالة تحقّق القدرة بالضدّين بناءً علي المعني

ص: 486

الثاني من القدرة، والمعتزلة أرادوا الأوّل، نعم اعترض عليه في المواقف بأنّ القدرة الحادثة ليست مؤثرة عند الأشعري فکيف يصح أنّ يقال : إنّه أراد بالقدرة القوّة المستجمعة لشرائط التأثير.

وفيه أنّ المراد بالقوّة المستجمعة لشرائط التأثير القوّة المستوفية لجميع

الشرائط إلّا عدم هذه القدرة القديمة المانعة من فعليّة تأثيرها ووقوعه، وليس المراد به فعلية التأثير، بل الصلاحية المشروطة بشرائط من جملتها عدم تأثير القدرة القديمة، وهو ليس بمتحقّق، فلا يتحقّق التأثير لعدم شرطها.

مع إنّ ربما يقال : إنّه في الکلام إستثنائاً، والقرينة عليه أنّه بصدد توجيه مذهب الأشعري القائل بعدم تأثير القدرة الحادثة المانيّة القدرة القديمة، بناء علي جعل الشرط شاملاً لعدم المانع.

ومع کلّ ذلک فلعلّ النزاع مرتفع بأسره، بل لعلّ الضرورة قاضية علي بطلان

مقالتهم علي فرض مخالفتهم.

وأمّا استدلالهم بالآية فضعيف جدّاً ، إذ لا إشعار في طلب المعونة علي کون القدرة مع الفعل، بل يمکن أنّ يقال : إن فيها دلالة علي تقدّم القدرة علي الفعل، وکونها من العبد، خلافاً للأشعري في المسئلتين ، نظراً إلي أنّ في طلب المعونة دعوي ضرب من الاستطاعة والاستقلال ، کما في قول ذي القرنين: (ما مکنّي فيه ربّي خير فأعينوني بقوّة اجعل بينکم وبينهم ردماً) (1) فکأنّه يقول : إنّک قد أعطيتني قوّة أقتدر بها علي تحصيل مقاصدي ومآربي في الدنيا والآخرة لکنّي غير مستغن عن لطفک ومعونتک وإمدادک وابقاء قوّتک.

هذا مضافاً إلي أنّه نسب طلب المعونة الي نفسه فهو فعل منه، والمطلوب

حصول المعونة قبل المستعان فيه لاقتران الإجابة بالسؤال.

ص: 487


1- الکهف : 95.

ص: 488

اهدنا الصراط المستقيم

وصل وحيث إنّه سبحانه علّمنا بعد تمجيده وثنائه ودعائه بأحسن صفاته وأعظم أسمائه أنّ نقوله بالعبودية، ونطلب منه المعونة إعترافا له بمراتب التوحيد، وعروجا علي معارج التحميد والتمجيد أراد أنّ يقرن الإجابة بالسؤال والجود بالإنضال والجمال بالجلال، تحقيقاً للتحقق بحقيقة العبّودية التي کنهها الربوبيّة ، وتنبيهاً علي أنّ تمام العناية هو الإستقامة في مرتبة الولاية، فجمع بين السؤال والإجابة، إنجازاً للوعد وتعليماً للعبد، فاستجاب طلب طالب المعونة، بأنّ وفقه الطلب الهداية، وعبّر بالصراط المستقيم من مقام الولاية، تنبيهاً علي أنّ النهاية معيار البداية ، فقال في أوّل النصف الّذي لعبده، ولعبدي ما سأل، أي الولي المطلق، أو الداعي، او الأوّل الأوّل، والثاني الثاني : (وإهدِنا الصِراطَ المستقيمَ) تفصيلاً التوحيد بعد الإجمال، وتنبيهاً علي أنّ الوليّ المطلق صلوات الله عليه وآله مظهر أشعة أنّوار الجلال والجمال، فإنهم عليه السلام مقاماته، وعلاماته الّتي لا تعليل لها في کل مکان يعرفه بهم مَن عرفه ، کما في الدعاء المهدويّة الرجبّية عليه وعلي آبائه آلاف الثناء والتحيّة.

القراءة

اختلفوا في قراءة الصراط کيف وقع في القرآن أعني معرّفاً باللام، أو غير

ص: 489

معرّف بها منکراً او مضافاً إلي الظاهر أو الضمير کما وقع في موضعين في هذه السورة، وفي قوله : ( صراط عليّ ) (1)علي الوجهين (2)، (وصراط الله ) (3)

وان هذا صراطي مستقيما (4) علي أقوال :

أحدها عن قنبله(5)، عن ابن کثير(6) علي خلاف، وعن رويس (7)عن

يعقوب (8)بلا خلاف بالسين ، علي الأصل حسب ما تسمع.

ثانيها ما عن البعض من القراءة بالزاي الخالصة.

ثالثها قرأته الباقين بالصاد کيفما وقع، إلّا أنّ خلفاً (9) عن حمزة (10)يشمّها

الزاي.

وأمّا خلّاد(11)فقد اختلف عنه ، فروي عنه بعضهم الإشمام في الأول من

الفاتحة فقط.

وآخر له الإشمام في الأوّل والثاني منها فحسب .

ص: 490


1- الحجر: 41.
2- المراد بالوجهين : إضافة صراط الي علي، وعدمها .
3- الشوري :53.
4- الأنّعام : 153.
5- هو محمد بن عبدالرحمن المخزومي مولاهم المکي المعروف بقنبل قاريء أهل مکة المکرمة توفي سنة (291) ه عن (96) سنة - العبر ج 95/2.
6- ابن کثير : هو عبد الله بن عمرو بن عبدالله المتوفي (120) ه العبر ج 1 ص 152.
7- ژويس : محمّد بن متوکل اللؤلؤي البصري المتوفي سنة (238) ه
8- هو يعقوب بن اسحاق بن زيد البصري المتوفي (205).
9- هو خلف بن هشام البغدادي المتوفي سنة (229).
10- هو حمزة بن حبيب التيمي الکوفي الزيات أحد القراء السبعة توفي (156) ه العبر ج 1ص 226.
11- هو خلّاد بن خالد الصيرفي الکوفي قاريء الکوفة، توفي سنة (220) ه - العبر ج 1ص 379.

وثالث : بالمعرّف باللّام فقط أينما وقع . ورابع : عدم الإشمام مطلقاً.

قالوا: والأصل فيه السين من قولهم: سرط الطعام، اذا ابتلعه، ومسرّط الطعام الممرّه ، واليسير طواط للفالموذج، والسرواط بالکسر للأکول، وسرَطة کهُمَزة : سريع الابتلاع، في المثل : الأخذ سُرَّيطي والقضاء ضُرَّيطي، بالّضمتين، ثم المشدّدتين المفتوحتين، أو بالکسرات، وفيهما لغات أخر، أي يأخذ الدَين فيبلعه، فاذا طولب للقضاء أضرط به، قال في القاموس : السراط بالکسر السبيل أو الطريق الواضح،

لأنّ الذاهب فيه يغيب غيبة الطعام المسرّط.

والصاد أعلي المضارعة والسين الاصل. وقول من قال بالزاي المخلصة خطّأ خطأ.

قلت : ولعلّ الإقتصار علي الأوّل أولي، ولذا قيل: إنّ الصراط، والسبيل ، والطريق، والسرب، والشعب للمطلق، والمنهج، والمنهاج، والمرصد، والمرصاد، والشارع والجادة، واللقم، والحجة للواضح، وعلل التسمية مضافاً إلي ما ذکره بوجه آخر، وهو أنّ السايلة تسرط الطريق أي تبتلعه بقطعه ، فهم يسترطون السبيل، أو هي تسترطهم، کما يقال : أکلته المفازة إذا أضمرته وأهلکته، وأکل المفازة إذا قطعها، بل يجري الوجهان في اللقم والملتقم، والمراد بالمضارعة الّتي عللّ بها علو الصاد مع الأصل السين مطابقتها للطاء في الاستعلاء والاطباق مع مناسبتها للسين التي هي الأصل في الهمس واتحاد المخرج.

المضافاً الي کراهتهم للجمع بين السين الموصوفة بالسکون والتسفل والرخاوة والهمس والانفتاح والطاء المتصفة بأضداد تلک الصفات من الغلظة والاستعلاء والشدة والجهر والأطباق، ولذا ربما إطرد بعضهم ذلک في مثل يبسط وسيطر، بل في کل کلمة اجتمعتا فيها، ورام بعضهم زيادات المجانسة فضارع الصاد الزايي

ص: 491

ومعني المضارعة أنّ تشرب الصاد شيئاً من صوت الزاي فتصير بين بين ، اي تصير حرفاً مخرجه بين مخرج الصاد ومخرج الزاي کيلا يذهب ما يختصّ بکل منهما بالکليّة .

بل أبدلها بعضهم بالزاي الخالصة، بل في «عين المعاني» أنّ هذه الحروف

الثلاثة يتبدلّ کلّ منهما من غيرها ، فيقال في سقر : صقر وزقر.

وأنّ الصاد لغة قريش ، والسين لبني قيس ، والزاي لبني عُذرة .

ولعلّه لهذا قال في الکشاف : إن فصحاهنّ إخلاص الصاد، وهي لغة قريش وذلک أنّ قريشاً فصحاء العرب، مع أنّ المکتوب في المصاحف، بل المأثور في أخبار أهل البيت عليهم السلام إنّما هو الصاد.

ولعلّ في إنتقال بداية الصراط من حضيض التسفّل والرخاوة الي أوج قوّة الاستعلاء التي للصاد اشارة الي أنّ إتصال الضعيف بالقوي وسلوکه في الصراط المستقيم للتوصل إليه موجب لقوته وخروجه من حضيض ضعفه وطبيعته إلي أوج شرف القدس والتشرف.

دراية في معني الهداية

إعلم أنّ الهدي والهداية ضد الضلال والضلالة، ويستعمل في اللغة لازماً بمعني الإهتداء والرشد کقوله : ( وإنّا أو إيّاکم لعلي هُدي أو في ضلال مبين )(1) ومتعدّياًبمعني الإراثة أو الإيصال ، فيقابله الإضلال، ويعدي بنفسه، وباللام، وبالي، والفعل کضرب.

قال في القاموس : الهدي بضمّ الهاء وفتح الدال : الرشاد والدلالة، هداه هُديً

ص: 492


1- سبأ: 24.

وهدياً وهدايةً وهدية بکسرهما: أرشده، فتهدّئ، واهتدئ.

والمستفاد منه کغيره إتحاد الهدي والهداية معني اذا استُعملا متعدّيين، لکن قد يفرّق بينهما باختصاص الأوّل بارائه طريق الدين خاصّة دون الثاني فإنه يعمّ ارائه کل طريق، مضافاً إلي أنّه لا يستعمل الا متعدّياً دون الهدي فإنّه قد يستعمل الازمة أيضاً.

والحقِّ أنّه لا اختصاص لشييء منهما بشييء بشهادة اللغة والعرف تصريحاً واستعمالاً، ولاتّحاد المادّة، والغلبة غير معلومة لو لم تکن معلومة العدم، کما أنّه لا اختصاص لهما بل لا اختصاص لمشتقّاتها أيضاً بالدلالة الموصلة أو بالإيصال إلي المطلوب، ولا بالدلالة علي ما يوصل ، وإن ذهب الي کل فريق، بل فصّل ثالث أو رابع بأنّها إن تعدّت بنفسها کانت بمعني الإيصال ولا يسند حينئذ إلّا إلي الله کقوله : (إهدنا الصراط المستقيم)

(والذين جاهدوا فينا لنهديّنهم سبلنا) (1) وإن تعدّت باللام أو إلي کانت بمعني ارائة الطريق، فکما يسند حينئذ إلي الله تعالي پسند أيضاً إلي القرآن وإلي النبي صلي الله عليه وآله وسلم ، کقوله تعالي : (إنّ هذا القرآن يهدي للتّي هي أقوم )(2)، إنّک لا تهدي من أجبت (3)

وفيه : أنّه لا يختصّ المعني باختصاص المورد، سيّما بعد الاشتراک في المادّة، ومَنعِ الغلبة الموجبة للنقل، ولذا قيل: إن أصله أنّ يعدي باللّام، أو إلي فعومِل في تعدّيه بنفسه معاملة لفظة (إختار)في قوله:(واختار موسي قومه سبعين رجلاً)(4)

ص: 493


1- العنکبوت: 69.
2- الإسراء : 9.
3- القصص :56.
4- الأعراف :155.

نعم صّرح بعضهم بأنّه مأخوذ في أصله اللطف في الدلالة، ولذا اشتقّوا منه الهديَّة لدلالتها علي الوصُلة بين المُهدي والمهدي اليه بلطف، مع ما فيها من الحثّ علي الإسعاف بالمطلوب الذي هو زيادة المحبة والألفة أو غيرها.

بل هکذا هو ادي الوحش لأوّل جماعة يتقدمها فيتبعها الوحش فتدّلها علي

الکلاء والماء.

وأمّا الّدلالة الخالية عن لطف کقوله : ( فاهد وهم الي صراط الجحيم)(1)

فإنّها علي حدّ (فبشّره بعذاب اليم )(2) تنزيلاً للتضادّ منزلة التناسب، وإن احتمل بعض الأجلّة وروده علي حقيقته من غير تهکّم، نظراً إلي أنّهم لما قطعوا بأنّ لا منزل لهم سوي الجحيم ولابد لهم منها، فاللطف بهم أنّ يعرفوا طريقها ليسهل عليهم الوصول اليها استخلاصاً من تعب الطريق.

لکنه هيّن جدّاً فإنّ تعب الطريق راحة لهم بالنسبة إلي ما ينزلونه من العذاب

والمضيق.

وبالجملة فأصل الباب هو الدلالة بلطف ، وقيل : إنّه الميل، ولذا يقال :

التهادي للمشي المتمايل، والهديّة تميل القلوب الي المحبة ، يقال : تهادوا تحابّوا

ثمّ إنّه بعد ذلک يستعمل في الکتاب العزيز وغيره بمعني التوفيق کقوله تعالي :

(بل الله يمن عليکم أنّ هذيکم للايمان) (3)

وقال الشاعر: فلا تعجلنّ هَداک المليک فإنّ لکلّ مقام مقالاً

ص: 494


1- الصافات: 23.
2- لقمان : 7.
3- الحجرات : 87.

والدلالة والارشاد کقوله : (إنّ علينا للهدي) (1)

والنجاة والفوز کقوله : (لو هدانا الله لهديناکم) (2).

والجزاء والثواب کقوله : (إنّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربّهم

بايمانهم تجري من تحتهم الأنّهار في جنات النعيم) (3)

والحکم والتسمية (أتريدون أنّ تهدوا من أضلّ الله) (4) يعني أنّ تسمّوا

مهتدياً مَن سماه الله ضاّلاً وحکم عليه بذلک.

والدعوة کقوله : (ولکلّ قوم هاد) (5) أي داع .

والبيان کقوله : (وأمّا ثمود فهد يناهم )(6)ي بينّا لهم، وإن کان الحقّ

رجوعهما إلي الثاني.

والغلبة بالحجّة کقوله في محاجّة ابراهيم لعدّو الله : (والله لا يهدي القوم

الظالمين )(7)

والإصلاح کقوله:(إنّ الله لا يهدي کيد الخائنين) (8)

والإلهام کقوله : ( والّذي قدّر فهدي) (9)

والتقديم کقوله :( وفاهد وهم الي صراط الجحيم ) (10)

ص: 495


1- الليل : 12.
2- ابراهيم : 21.
3- سورة يونس : 9.
4- النساء : 88.
5- الرعد : 7.
6- فصلت : 17.
7- البقرة : 258.
8- يوسف : 52.
9- الأعلي : 3.
10- الصافات: 23.

وخلق الهداية في العبد: (يهدي من يشاء )(1)

والإثبات والدوام علي الهداية : ( إهدنا الصراط المستقيم) (2)

وکثير من هذه المعاني وإن أمکن إرجاعه إلي غيره بل هو راجع اليه لکن الخطب فيه سهل، إنّما الکلام في جواز نسبتها بمعانيها کلّاً او بعضاً إلي الله سبحانه والعدم، فالأشاعرة نسبوها اليه سبحانه بناء علي أصلهم الباطل من نفي الحسن والقبح العقليّين، وعدم قبح شيء عليه تعالي وجواز الجبر والتکليف بالمحال سبحانه عمّا يقول الظالمون علوّاً کبيراً.

وأمّا علي مذهب العدليّة واصولهم فنسبتها بکثير من معانيها إليه جائزة، بل في الجملة واجبة، إذ من جملتها اللطف الذي أطبقت العدليّة علي وجوبه في الجملة، وإن لم يقولوا بوجوب جميع الألطاف، بل القدر الواجب منه ما لا يمکن حصول الغرض من التکليف إلّا به، فهذا القدر منه يشمل المطيع والعاصي، والسعيد والشقي، وأمّا الهداية المختصة بالصلحاء دون الأشقياء کقوله تعالي : ويضل من يشاء ويهدي من يشاء به(3)فالمراد بها اللطف الخاصّ الّذي لا يوجب وجوده الإلجاء والجبر ولا عدمه نقض الغرض، وذلک لأنّه لما کان العباد مختلفين في إرادتهم وشئونهم، واختباراتهم بعد ثبوت الاختيار لهم، فإنه(لا اکراه في الدين قد تبين الرشد من الغيّ) (4) (ليهلک من هلک عن بيّنة ويحيي من حيّ عن بيّنة ) (5)، (ولا يزالون مختلفين إلّا من رحم ربّک

ص: 496


1- يونس : 25.
2- الفاتحة : 6.
3- فاطر: 8.
4- البقرة : 256.
5- الانفال : 42.

ولذلک خلقهم ) (1)

فاذا عمّهم اللطف المقرّب إلي الطاعة المبعّد عن المعصية فليس للّناس علي الله حجّة بعده، لکنّه قد يخصّ من يعلم أنّه يطيع باختياره لمجرّد اللّطف السابق ببعض الألطاف الذي ليس بواجب عليه کي يوجب زيادة تقريبه إلي الطاعة لما يعلم من نيته بامتثال ما يرد عليه من الأوامر وإن لم يتفّضل عليه بهذا القسم من اللطف ، کما أنّه يوکل مَن يعلم منه المعصية باختياره وإرادته إلي ماهيّاً له من اللطف الذي معه إتمام الحجّة وإبلاغ المعذرة من دون أنّ يتفضّل عليه بالقسم الآخر من اللطف .

ولذا ربما يمثّل لذلک بمولي له عبدان، أحدهما سلس القياد، طيّب السريرة، جميل السيرة، مطيع لمولاه، والأخر عاص معاند خبيث الباطن کثير المخالفة المولاه ولکنّهما مشترکان في القدرة علي کلّ من الفعل والترک، من دون أنّ يکون هناک شيء يوجب شيئاً من الطرفين علي أحد العبدين علي وجه الإلجاء والإضطرار، ثمّ إنّ المولي أمرهما بأمر من أوامره، وقدّم اليهما الوعد والوعيد، ثمّ تلطّف في الخلوة الي الذي هو أحب إليه عن الآخر لحسن سيرته وطيب سريرته بالرفق والرأفة، والعطّية الخاصّة الموجبة لمزيد رغبته في الإمتثال، ولم يفعل ذلک بالنسبة إلي الآخر، فامتثل الأول وخالف الآخر، فأحسن الي المطيع لعمله، ووفي له بوعده، وأدّب العاصي وزجره لمخالفته، فلا ريب أنّ مثل هذا المولي موصوف بالعدل والفضل، ولا ينسب إليه شيء من الظلم والقبح.

فإن قلت : ما السبب في هذا اللطف الخاصّ بالنسبة إلي العبد الأوّل، وما

المرجّح الّذي خصه به مع أنّ العاصي کان أولي به.

قلت : إنّ هذا تفضّل من الله، والله يختصّ برحمته من يشاء، والمفروض أنّ

ص: 497


1- هود: 118.

منع الأوّل منه لا يوجب خروجه الي زمرة العاصين، والتفضّل علي الثاني به لا يوجب دخوله في فرقة المطيعين. علي أنّ ههنا بابا آخر من العلم، وهو الأصل في المقام، وذلک أنّ الله تعالي أنّعم علي کلّ فريق من المطيعين والعُصاة ما أنّعم علي الآخر، إلا أنّه يوجب نجاة الفرقة الأولي باطاعتهم واختيارهم موافقة المولي وامتثاله کما أنّه بعينه يوجب هلاک العاصين بمخالفتهم ، ولذا قيل:

أري الإحسان عند الحر ديناً وعند النذل منقصة وذمّاً کقطر الماء في الأصداف درّ وفي جوف الأفاعي صار سمّاً

وقال سبحانه : (يضلّ به کثيراً ويهدي به کثيراً) (1)

(وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين الّا

خساراً)(2)

وورد في زيارة مولينا اميرالمؤمنين عليه السلام (3)، بل في زيارة مولينا الحجّة الخلف

أيضاً عجّل الله فرجه : أنّه نعمة الله علي الأبرار ونقمته علي الفجّار .

ولهذا الکلام شرح تسمعه فيما يأتي إن شاء الله تعالي.

نعم ذکر الفاضل القمي رحمة الله عليه جواباً من الشبهة المتقّدمة حکاية عن غيره بأنّ وجه استحقاقه ذلک اللطف هو طيب نفس ذلک وحسن نيته في الطاعة، ووجه منع الآخر خبث ذاته والتزامه طريقة المخالفة.

ثم أورد سؤالا آخر، وهو أنّ السبب إذا کان مقتضي الذات، والذات هي الداعية الي الامتثال وان لم يکن هذا اللطف الخاص أيضاً ، فيرجع الکلام إلي أنّ

ص: 498


1- البقرة : 26.
2- الاسراء : 82.
3- بحار النوار 305/100عن الشيخ المفيد قدّس سرّه

سبب اختلاف العباد في افعالهم هو اختلاف قابليّاتهم، لکن يعود البحث في القابليّة حينئذ، فيقال : إنّ سبب افاضة القابليّة ما هو، ومُفيضها مَن هو؟

والجواب عنه کالجواب عن إفاضة الوجودات علي الماهيّات واختلافها فإنّه تعالي خلق الذوات علي ما هي عليها في علمه، لا أنّه ذوت الّذوات، ثم أوجدها فإن ماهية الأربعة من حيث هي أربعة يقتضي الزوجيّة والترکّيب من الآحاد الأربعة، بخلاف الخمسة، وکذا الجسم ماهية بحيث وجد في الخارج فهو قائم بنفسه بخلاف اللون، فلو خلق الله الأربعة خمسة او الجسم عرضاً فقد خلق الخمسة والعرض لا أنّه جعل الأربعة خمسة والجسم عرضاً، وبالجملة فمراتب الأعداد ممّا لابدّ منها في نفس الأمر، وکلّ منهما غير الآخر، وکلّ منها في مرتبته يقتضي وجوداً خاصّاً لا يتداخل مع الآخر، وکذلک سائر الماهيات من الحيوانات والنباتات، فإن ماهية الانسان علي ما هي عليه غير ماهية الکلب علي ما هي عليه، فلو خلق الکلب انساناً فقد خلق الإنسان لا اله جعل الکلب انساناً ، فهو من فيض الشامل أفاض علي مرتبة ما هو أهل لها، ومنه يظهر القابليّة ، اذ القابلية تابعة للموادّ، وباختلاف المواد والماهيّات اختلفت القابليّات وبالجملة لا يمکن جعل ماهيّة الکلب انسانا کمالا يمکن جعل ماهية الزوج فرداً، والاربعة خمسة، وکذا قابليتها لا لعدم شمول قدرة الله ، بل لعدم مقدورية ذلک وامتناعه انتهي.

وفيه : أنّه مبنيّ علي القول بالاعيان الثابتة الّتي قلّ من سلم من القول باثباتها اللغفلة عن مفاسدها لا يکاد يمکن الجمع بين التوحيد وبين الالتزام بها ، فإنّه لو کان للاشياء ثبوت وتفرّد في أنّفسها بحيث يمتاز بعضها من بعض لم تکن أعداماً محضة، اذ من البيّن أنّه لا تمايز في الأعدام، فقوله رحمه الله : إنّه تعالي خلق الذوات علي ما هي عليها في علمه.

فيه أولاً أنّ الهويّة الّتي خلق عليها الأشياء إن کانت حادثة فقبل خلقها

ص: 499

وتعلّق الوجود بها لم تکن شيئاً أصلاً، فمن أين إختلاف الذوات في أنّفسها بعد القول بحدوث کلّ من الإختلاف والذوات والأنّفس، وبعد الإقرار بانّه کان الله ولم يکن معه شيء حتي المفاهيم والاعتبارات والتفردات والامتيازات الواقعية.

وان کانت قديمة غير متعلقة للخلق ، کما هو ظاهر کلامه بل لعلّه صريحه لزم

تعدد القدماء

فان قلت: إنّها من الأمور الإعتبارية الّتي لا تحصّل ولا تحقّق لها في الخارج، وأما الأمور الحقيقية التي هي الموجودات العينّية فکلّها حادثة ولا کلام لنا فيها.

قلت : إن أردت بکونها من الأمور الاعتباريّة أنّ ليس لها تحصّل ووجود إلّا بفرض الفارض واعتبار المعتبر فممنوع کونها کذلک ، کيف وهي أمور واقعية متقررة يتحقق بالنسبة إليها الصدق والکذب ، کما نبه عليه بقوله : وبالجملة مراتب الأعداد مما لابد منها في نفس الأمر وکلّ منها غير الآخر .... إلي قوله : وکذلک سائر الماهيات من الحيوانات والنباتات ...الخ.

علي أنّها حينئذ ليست صالحة لأنّ تکون منشاً لاختلاف الماهيات والاستعدادات وساير الذاتيات والعوارض مع أنّ سياق الجواب استناد الجميع إليها .

وإنّ أردت بها أنّها ليست من الموجودات العينية الخارجية ولکن الموجودات الإمکانية غير منحصرة فيها، فإنّ المفاهيم والمعاني والنفوس وقواها ليست من الموجودات العينية الزمانية.

وما أشبه القول بعدم وجودها بعد الالتزام بثبوتها وتقرّرها وتمايزها في

أنّفسها بقول الأشاعرة المثبتين للحال، وهي الواسطة بين الوجود والعدم

وثانياً أنّ جعل علمه سبحانه ظرفاً لها ليس علي ما ينبغي، فإنّ علمه سبحانه ليس بحصول الصورة، ولا الصورة الحاصلة، ولا غيرها من الاضافات

ص: 500

والأعراض والتعلّقات، وذلک لأنّ علمه الذاتي عين ذاته سبحانه بلا مغايرة حقيقية أو إعتباريّة، فکما يمتنع تعلّق ذاته سبحانه بغيره فکذا علمه لأنّه هو، بل ليس الشييء من الممکنات ذکر في حضرة الذات، وإن کان سبحانه عالماً بها في إمکاناتها وحدودها، حيث لا يخفي عليه شيء منها في رتبة الأحدية والواحديّة .

ثم إنّه حکي عن العارف الرومي أبياتاً يخالف ما ذکره، قوله بالفارسيّة : آنچنان دلها که بُدشان ما ومن نعتشان شد بَل أشد قسوةً جاده آن دل عطاي بي دلي است دارد او را قابليّت شرط نيست بلکه شرط قابليّت داد او است داد لُبّ و قابليّت هست پوست نيست از أسباب تصريف خدا است نيستها را قابليّت از کجا است قابلي گر شرط فعلي حق بُدي هيچ معدومي بهستي نامدي

إلي آخر ما حکاه ، ثمّ اعترض عليه ... إلي أنّ قال :

وأمّا ثانياً فتمسّکُه بقبول المعدومات الوجود لا يلائم مقصوده، فإنّ المراد بقابلية المعدوم للوجود هو کونه ممکناً فإنّ بعض المعدومات ممتنع وجوده کاجتماع التنقيضين.

وأمّا قبوله للنّوع الخاصّ من الوجود فلا غائلة فيه أيضاً، إذا المعدوم إذا کان قابلاً للوجود بسبب الإمکان المطلق، فيمکن أنّ يکون قابلا لنوع خاصّ من الوجود بسبب الإمکان المخصوص.

وأمّا ما توهّمه بعض المحّشين في هذا المقام في توجيه کلامه من أنّ ذلک لأجل أنّ ثبوت شيء لشييء فرع ثبوت المثبت له، والقابليّة أمر وجودي فلابد أنّ لا يثبت للمعدوم

ففيه مَنع کوي القابلية من الموجودات العينيّة، ومنع لزوم کون المثبت له من

جملتها ، بل الوجود العلمي کاف في إثبات شيء له .

ص: 501

أقول: وفيه مضافاً الي مامر، أنّ الأظهر کما حُقّق في محلّه کون الإمکان مجعولاً، والقول بکونه من الأمور الاعتباريّة مدفوع بما سمعتَ من الترديد فيه بين المعنيين، فأوّل ما خلق الله سبحانه هو المشية الإمکانيّة ، خلقها الله بنفسها، وخلق إمکانات الأشياء بها. فلکلّ شيء إمکانات غير متناهية باعتبار المشخّصات الوجودّية من الذاتيّة والعرضيّة، بعد أنّ لم يکن شيئاً أصلاً، حتي الإمکان الذي ذهب الجمهور الي عدم کونه مجعولاً ، بل أمراً اعتبارياً غير متأصّل في الوجود.

وبالجملة لا ريب في إمتياز الإمکان من کل من الوجوب والإمتناع بحسب المفهوم، وبحسب نفس الأمر، والإمتياز دليل الوجود ، اذ لا تمايز في الأعدام فلو لم يکن مجعولاً لکان متقرّراً في ذاته ، ثابتاً في نفسه.

ثمّ أنّ المفاهيم المعدومة الّتي أشار اليها، إن أراد کونها معدومة من حيث المفهوم فمن أين التحصّل والتعدّد کي يستقيم التعبير عنها بصيغة الجمع، أو من حيث المصداق فمسلّم، لکنّ المفاهيم أيضاً من جملة الموجودات الحادثة، ولها وجودات واقعيّة في نفس الأمر، وظرف وجودها الدهر لا الزمان ، ولذا لا يصح أنّ يقال : إنّها منذکم سنة حدثت، فإن الحوادث الکائنة في صُقع الدهر وأفق السرمد لا نسبة لها إلي الزمان والزمانيات المتجددة المتصرّمة أصلاً، وکذلک مراتب الأعداد فإنِّها مترتبّة متمايزة والعدم المحض کيف يکون کذلک، بل کيف يکون قابلاً لشييء دون شيء، بل کيف يصحّ أنّ يشار اليه، أو يحکم عليه أو يخبر عنه بالإثبات والنفي.

ومن هنا يظهر المناقشة في قوله : يمکن أنّ يکون قابلاً لنوع خاصّ من

الوجود.

وأمّا ما أورد بعض المحشين ففيه أوّلاً أنّ منع کون القابليّة من الموجودات العينية مسلّم بناء علي تفسير الوجود العيني بالخارجي الذي يکون منشأًّ للأثار

ص: 502

ولکنّ الکلام في نفي الوجود الإمکاني، علي أنّه يمکن المناقشة في ذلک أيضاً ، فإنّ الوجود العيني في کلّ عالم من العوالم إنّما هو بحسبه، وکذلک يختلف الآثار باختلاف العوالم الّتي هي ظرف للتأثير وترتّب الأحکام، فانتفاء بعض الآثار في بعض العوالم لا يدلّ علي انتفاء المنشأيّة مطلقا، سيّما مع تبدّل الآثار.

وثانياً أنّ المراد بالوجود العلمي الذي أضافها الي الماهيّات والقابليات إن کان هو العلم الذاتي فلا ذکر للأشياء فيه أصلاً، أو العلم الفعلي عند من يقول بثبوته فهو بجميع متعلقاته عندهم حادث سرمدي أو دھري أو زماني بحسب اختلاف المتعلق من حيث القرب والبعد.

وکأنّ القول بالصور العلميّة مبنّي علي مذهب أفلاطون في اثبات الصور المفارقة والمُثل العقلّية الّتي يقال لها ربّ النوع علي ما أشرنا اليه آنفا، أو علي مذهب المعتزلة القائلين بثبوت المعدومات الممکنة قبل وجودها، بناءً علي أنّ علم الباري عندهم بثبوت صور هذه الممکنات في الأزل، أو علي مذهب الصوفية، بل لعله المتعين، لأنّهم القائلون بالصور العلميّة في مقابل المعتزلة القائلين بالصور العينيّة، لکنّ المذاهب الثلاثة مع فساد بعضها مطلقا، وکلّها علي بعض الوجوه، مشترکه في عدم افادة مطلوبه بأنّ هذه الصور إن کانت قديمة غير مسبوقة بالجعل والحدوث لزم تعدّد القدماء، وإن کانت حادثة في الإمکان وان لم يدخل في صقع الاکوان لزم الجعل والحدوث وإفاضة القابلية وحدوث العلم علي زعمهم.

نعم ذکرت الصوفيّة أنّ أسمائه الّتي هي عين ذاته في المتجلّية بصور العالم

فالعالَم مظهر ذاته وأسمائه وصفاته ، وعلمه بها نفس علمه بالعالم.

ولذا أجابوا عمّا ربّما يورد من أنّه کيف يکون ذاته تعالي وعلمه الذي هو عين ذاته محلّاً للأمور المتکثّرة مع عدم انثلام الوحدة الحقّة الحقيقيّة الّتي لا أبسط منها في الوجود، بأنّه إنّما يلزم ذلک إذا کانت تلک الأمور المتکثّرة غيره تعالي کما

ص: 503

هو عند المحجوبين عن الحقّ، أما إذا کانت عينه من حيث الوجود والحقيقة، وغيره باعتبار التعيّن والتقيّد فلا يلزم ذلک، بل قالوا : إنّه ليس حالاًّ ولا محّلاً، بل شيء واحد ظهر بالمحليّة تارة وبالحاليّة أخري.

ولا أظنّ الفاضل المتقدّم يوافقهم في مقالتهم الّتي هي کفر صريح، وهي

القول بوحدة الوجود المبتني علي اثبات الأعيان الثابتة والصور العلميّة.

وبالجملة فالقول بکلّ منها مخالف لضرورة مذهب الإماميّة، ولعلّه رحمه الله أطلق القول باثبات الصور العلميّة سيّما علي وجه التمايز وترتب بعض اللوازم والآثار غفلةً عن حقيقة الحال وعمّا يرد عليه من الإشکال.

اشارة إلي مراتب الهداية

إعلم أنّ إسم الهادي من جملة اسماء الله الحسني الّتي أمرنا بدعائه سبحانه بها ، بل من الأسماء التسع والتسعين التي من أحصاها وتحقّق بمراتب مباديها وجبت له الجنّة فهو فيها في الدنيا ولا يخرج منها في الآخرة الّتي تنکشف فيها الضماير، وتُبلَي السرائر.

والهادي يطلق علي الله سبحانه (وان الله لهاد الذين آمنوا الي صراط مستقيم)(1)اي آمنوا برسول الله صلي الله عليه وآله وسلم إلي ولاية مولينا أميرالمؤمنين عليه السلام ، أو آمنوا بالولاية وذلک نفس الهداية.

وعلي رسول اللهصلي الله عليه وآله وسلم کما في قوله : ( وإنک لتهدي إلي صراط مستقيم )(2)

ص: 504


1- الحج: 54.
2- الشوري : 52.

وفي الخطبة العلوية التطنجية : إبتعثه هادياً مهدياً لا حُلا(1)طلسميّاً(2) -(3)

وعلي مولينا أمير المؤمنين عليه السلام کما في قوله تعالي: (ولکلّ قوم هادٍ)(4)

فقد ورد مستفيضاً : أنّه نزل : علي لکلّ قوم هاد،(5) وما أحسن مَن قال :

إنّما انت منذر لعباد وعليّ لکلّ قوم هاد وفي الإحتجاج عن مولينا اميرالمؤمنين عليه السلام في خبر الزنديق أنّ الهداية هي الولاية کما قال الله تعالي : (من يتولّ الله ورسوله والذين آمنوا، فإنّ حزب الله هم الغالبون)(6) وقال عليه السلام : والذين آمنوا في هذا الموضع هم المؤتمنون علي الخلائق من الحجج والأوصياء في عصر بعد عصر .(7)

فان الله تعالي هو الهادي بمحمد وإليه ومحمد صلي الله عليه وآله وسلمهو الهادي بعليّ وإليه ،

(وإنّک لتهدي الي صراط مستقيم صراط الله الذي له ما في السماوات وما في

الأرض )(8)وهو مولينا أميرالمؤمنين عليه السلام کما في الخبر .(9)

ص: 505


1- لحلاحل (بضم الحاء الأولي وکسر الثانية) هو الرئيس في القوم
2- قيل : انه مرکبّ من الطل بمعني الأثر، والاسم اي اثر الاسم ، وقيل : هو يوناني ومعناه عقدلا ينحلّ ، وقيل : هو مقلوب مسلّط.
3- شرح الخطبة للسيد محمد کاظم الرشتي ج 1 ص 473.
4- الرعد : 7.
5- لم أظفر علي حديث واحد دالٍّ علي نزوله هکذا: (وعلي لکلِّ قوم هاد) نعم توجد روايات في کتب التفاسير والاحاديث بأنّ المراد بالهادي في الآية الکريمة أمير المؤمنين والائمة المعصومين من ولده ما راجع بحار الأنّوار ج35/400 الي ص 407.
6- المائدة : 56.
7- الاحتجاج ص248 ط بيروت ، الأعلمي
8- شوري : 52- 53.
9- في البحار ج 35 ص 370 عن بصائر الدرجات ص 21- 22 عن أبي جعفر الباقر عليه السلام أنّه قال : وأما قوله :(وإنّک لتهدي الي صراط مستقيم) إنّک لتأمر بولاية علي وتدعو اليها وهو علي صراط مستقيم . وفي المصدر : وهو الصراط المستقيم .

وعليّ هو الهادي إلي الله والي رسوله، (قل هذه سبيلي أدعو الي الله علي بصيرة أنّا ومن اتبعني )(1)

ولقد قلت: فالأمر متحّد والإسم مختلف والنکر مفترق والعرف مؤتلف الوحدة الحقّ أهلُ الحقّ متّحدُ لکثرةِ الغيّ أهلُ الغي مختلفُ فمستقيم الحدود واحد أبدا ولا تکثّر إلّا حين ينحرف بأنّ هذا صراطي مفرداً وکذا بالنهي عن سبل التفريق بنکشف

وهذا إشارة إلي قوله تعالي : ( وانّ هذا صراطي مستقيماً فاتّبعوه ولا تتبّعوا السبل فتفرّق بکم عن سبيله )(2)فإنّه أمر باتّباع الصراط الذي هو السبيل کما أشار إليه أخيراً بصورة الأفراد، ونهي عن متابعة السبل التي يستلزم تکثّرها البطلان وعدم الإصابة .

ولذا ورد أنّه لمّا نزلت نکت رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم بيده خطّاً مستقيماً ثم نکت من طرفيه خطوطاً کثيرة يلزمها من الإتصال بالأول الاعوجاج المستلزم للانحراف وعدم الإصابة وبعد المسافة، ولذا قيل : أقصر الخطوط الخطّ المستقيم، وعرفوه بأنّه أقصر الخطوط الواصلة بين الطرفين.

ثم انّ الهداية لها إعتبارات وأقدار في عالم الأنّوار والأکدار بحسب الأطوار

والادوار والاکوار :

فمنها الهداية التکوينية السارية في جميع ذرات العالَم علي الوجه الأم لا يشذّ عن حکمه شيء من العمق الأکبر وهو سر الحقيقة ومفتاح الطريقة، وبحر

ص: 506


1- يوسف : 108.
2- الأنّعام : 153.

القدر الذي من غرق فيه فقد کفر، وإليه الاشارة بقول اميرالمؤمنين عليه السلام حيث سئل عنه : بحر عميق فلا تلجوه، طريق مظلم فلا تسلکوه، سر الله فلا تتکلّفوه(1)

وهو المشار اليه بقوله تعالي : (الذي قدّر فهديه) (2) وبقوله : وربنّا الذي أعطي کلّ شيء خلقه ثمّ هدي) (3)

وهذه الهداية کانت في أرض الإمکان قبل خلق الاکوان والأزمان، وهي الأرض الجرز الّتي ساق الله اليه ماء الوجود الّذي أخرج الله به زرعاً تأکل منه أنّعامهم وأنّفسهم، (بضم الفاء أو بفتحها)، فإنّ البدن مرکب الروح، وهو أنّفَس من البدن، والقلب أنّفس من القالب، ورسول الله أنّفس من سائر الخلق، ولذا قرأ

الإمام البر بفتح الفاء في قوله تعالي : (لقد جاءکم رسول من أنّفسکم) و (4)

وهي الهداية المکتوبة علي جميع ذرّات الکائنات من المجرّدات والماديّات، السعداء والأشقياء في الذّر الأوّل، فاهتدوا أوّلاً الي قبول الوجود وهو الإيجاد بالاختيار والشعور، ثمّ إلي قبول الإستعادات والقابليات والشؤون الصلوحيّة الاختياريّة.

وإنّما کان هذا بعد عرض جميع مراتب الکون علي کلّ شيء فاختار کل شيء شيئاً، فخلقهم کما کانوا لعلمهم بما کانوا أي تکّونوا واختاروا في رتبة الإنوجاد والقبول لأنّفسهم، فلا جبر في الإيجاد والتکوين، ولا إکراه في الدين، وعند ذلک تميزّت الماهيّات واختلفت الإستعدادات.

ومنها الهداية التشريعيّة الأوليّة في عالم الأرواح والأظلّة والأعيان قبل خلق

رقم 287 .

ص: 507


1- نهج البلاغة باب المختار من حکم أمير المؤمنين عليه السلام رقم287.
2- الأعلي : 3.
3- طه : 50.
4- التوبة : 128.

الأبدان والأکوان في أفق الأزمان، والمتحمل لأعباء هذه الهداية والرسالة هو رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم والأئمة الطاهرون عليهم السلام في عالم الإنبساط والتجرّد والوحدة، واليه الاشارة بقوله : کنت نبيّاً و آدم بين الماء والطين (1)

وفي أخبار کثيرة: أنّ أنّوارهم سبّحت فسبّحت بتعليمهم وإرشادهم جميع

الأشياء حتي الأنّبياء والمرسلين والملائکة المقرّبين (2)

وفي رياض الجنان في خبر طويل عن الباقر عليه السلام إلي أنّ قال: فنحن أوّل خلق الله وأوّل خلق عبدالله وسبحه، ونحن سبب الخلق وسبب تسبيحهم وعبادتهم من الملائکة والآدميّين ... الخبر (3)

وفي العلل في خبر طويل عن الصادق عليه السلام يذکر فيه : أنّ مولينا أميرالمؤمنين عليه السلام قسيم الجنّة والنار... إلي أنّ قال : يا مفضّل أما علمتَ أنّ الله تبارک وتعالي بعث رسول الله وهو روح الي الانبياء عليهم السلام وهم أرواح قبل خَلق الخلق بألفي عام، قلت: بلي، قال : أما علمت أنّه دعاهم إلي توحيد الله وطاعته، واتباع أمره، ووعدهم الجنة علي ذلک، وأوعد من خالف ما أجابوا إليه ... الخبر(4)

وإنّما عبّرنا عنه بالتشريعي الأوّلي، بالنظر إلي الثانوي في هذا العالم الناسوتي، وإلّا فهي ثانوية في عالم الرقائق والذرّات فهدي الله الذين آمنوا (بولاية أمير المؤمنين عليه السلام ) (لما اختلفوا فيه من الحقّ باذنه )(5)

(أُولئک کتب في قلوبهم الإيمان وأيّدهم بروح منه) (6)

ص: 508


1- سنن الترمذي ج 5 ص 585 - بحار الانوار ج 16ص 402.
2- کنز الفوائد ص 461 وعنه البحار ج 24 ص 88 ح 3.
3- بحار الأنّوار ج 25 ص 20 ح 31.
4- بحار الأنّوار ج 15 ص 14 ح 17 عن علل الشرايع ص 65.
5- البقرة : 213.
6- المجادلة : 22.

وهذه القلوب المکتوب عليها الإيمان من الناس هي المعبّر عنها في کلام أهل البيت عليه السلام بورق الآس، علي ما في الأخبار کما في ثواب الأعمال بالاسناد عن سهل بن سعد الأنّصاري قال : سألت رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم عن قول الله عز وجل:

(ما کنت بجانب الطور) (1) قال : کتب الله عزّوجلّ کتاباً قبل أنّ يخلق الخلق بألفي عام في ورق آس أنّبتها ثم وضعها علي العرش، ثمّ نادي يا أمّة محمّد إنّ رحمتي سبقت غضبي أعطيتکم قبل أنّ تسألوني ، وغفرت لکم قبل أنّ تستغفروا فمن لقيني منکم يشهد أنّ لا إله إلا أنّا، ومحمد عبدي ورسولي أدخلته الجنّة

برحمتي(2)

وفي تأويل الآيات عن الشيخ أبي جعفر الطوسي بالإسناد عن الصادق عليه السلام أنّه سُئِل عن قوله تعالي :(وما کنت بجانب الطور اذنا دينا)(3) قال : کتاب کتبه الله عزّوجلّ قبل أنّ يخلق الخلق بألفي عام في ورقة آس فوضعها علي العرش، قلت: يا سيّدي وما في ذلک الکتاب ؟ قال : في الکتاب مکتوب: يا شيعة آل محمّد أعطيتکم قبل أنّ تسئلوني وغفرت لکم قبل أنّ تعصوني، وعفوت عنکم قبل أنّ تذنبوا، من جائني بالولاية أسکنته جنّتي برحمتي (4)

إعلم أنّ الآس شجر معروف کثير بأرض فارس في الجانب الغربي منه، وخضرته دائمة ينمو حتي يکون شجرة عظيماً ، ويسمّي بالفارسية «مورده له زهر بيضاء طيبة الرائحة، وثمره سوداء، طعمها مرکّب من حلاوة وعفوصة وقليل مرارة کذا ذکره سديد الکاذروني في شرح الموجز

ص: 509


1- القصص : 46.
2- بحار الأنّوار ج12/3 ح 24.
3- القصص : 46.
4- کنز الفوائد ص 210 والبحار ج 266/24 عن تفسير الفرات بتفاوت يسير .

وذلک أنّ هذه الهداية في عالَم الأرواح، بل في صقع الأظّلة والأشباح خضرة نضرة، دائمة بالديمومة الدهريّة التي هي نقطة محدودة في عالم السرمد، ومنبت هذه الشجرة أرض فارس التي هي مادة المواد ومجمع التضادّ لکمال الإستعداد والتهيّؤ لنيل المراد، ولذا لو کان الإيمان منوطاً بالثريا لتناوله رجال من فارس(1)کما ورد عنهم عليهم السلام في تفسير قوله تعالي : ووآخرين منهم(2) لما يلحقوا

ومنها : نصب الدلائل واقامة الحجج وإراءة الطريق الموصل الي الحقّ في هذا العالم الجسماني الظلماني الذي امتزج فيه الحقّ بالباطل، والصدق بالکذب لانّه ملتقي الأبخرة الصاعدة من سجين، والرشحات النافلة من علتين، فهو مجمع البحرين وملتقي التَطَنجَين ، والمنزلة بين المنزلتين، والبرزخ بين العين والغين.

ولذا خلق الانسان فيه من نطفة امشاج، وانحرفت طبيعته عن الإعتدال الحقيقي في المزاج، وإن کان هو أقرب الي الاعتدال من سائر الأزواج، ولذا خصّ بمزايا بين البرايا ، ومن هنا قالوا: إنّ عطاياهم لا تحملها إلّا قطاياهم.

وتلک الدلائل المنصوبة المعبّر عنها باراءة الطريق منصوبة أوّلاً في عالَم الأفئدة الّتي هي من رؤس المشيّة، ثمّ في عالم العقول، ثمّ النفوس، ثمّ الطبايع، ثمّ الرقائق، ثمّ المثال، ثمّ في العالم الجسماني الظلماني الهيولاني، فظهرت تلک الدلائل في الأنّفس، وفي جميع الآفاق من العلويّة والسفليّة والمجرّدة، والماديّة ،

ص: 510


1- في مسند ابن حنبل ج 15 ص 218 ح67- 80: لو کان الدين عند الثريا لذهب من فارس أو أبناء فارس حتي يتناوله وفي ص96 من نفس المصدر ح 7937: لو کان العلم بالثرياء لتناولته أنّاس من ابناء فارس . وفي سنن الترمذي ج 5 ص 386 ما يقرب منه. وفي مجمع البيان ج 10 ص284 : روي عن النبي صلي الله عليه وآله وسلم قرأ هذه الآية فقيل له : من هؤلاء ؟ فوضع يده علي کتف سلمان وقال : لو کان الايمان في الثريا لنالته رجال من هؤلاء
2- سورة الجمعة : 4.

والبسيطة والمرکبّة من جميع جهاتها وأحوالها وأطوارها وشئونها ومباديها ونهاياتها، وعللها ، وأسبابها ، ولوازمها، فبهم ملأت سماءک وأرضک حتي ظهر أنّ لا إله إلا أنّت .

وفي الدعاء:أسألک بأسمائک الّتي ملأت أرکان کلّ شيء(1)

فإنّ هذه الأسماء أسماء فعليّة، قامت بها الأشياء قيام صدور وظهور وتحقّق، والفعل أول شيء دلالة علي الفاعل، بل أدل عليه من غيره (هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه ) (2)

وقال الامام عليه السلام : بصُنع الله يستدلّ عليه (3)

بل لکل حقيقة من الحقايق آيات بيّنات في الکتاب التدويني، وبيانات واضحات مطابقات في الکتاب التکويني أنّ علي کلّ حقّ حقيقةً، وعلي کلّ صواب نوراً ، فما وافق کتاب الله فخذوه، وما خالفه فذروه

وتلک الآيات ظاهرة لأهلها، واضحة الدلالات للمتأمل فيها، ولا يتدکّر بها إلّا أرباب الألباب والعقول الذين هديهم الله لمتابعة عترة الرسول صلي الله عليه وآله وسلم (إنّ في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات الأُولي الألباب ) (4)

وفي سورة البقرة: (إنّ في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلک الّتي تجري في البحر ...) إلي قوله تعالي : (لآيات لقوم يعقلون )(5) وقال تعالي : (ومن أعرض عن ذکري فإنّ له معيشة ضنکاً ونحشره يوم القيامة أعمي،

ص: 511


1- دعاء کميل.
2- لقمان : 11.
3- تحف العقول ص 43- روضة الواعظين ج 1 ص20.
4- آل عمران : 190.
5- البقرة: 164.

قال ربّ لِمَ حشرتني أعمي وقد کنت بصيراً قال کذلک أتتک آياتنا فنسيتها وکذلک اليوم سي 4(1)

وذلک للإعراض والإغفال ولذا قال تعالي :(وکأيّن من آية في السماوات

والأرض يمرّون عليها وهم عنها معرضون) (2)

وبالجملة من تأمّل في جزئيّات الحوادث الکائنة في الآفاق وفي الأنّفس يعلم أنّ کل حقيقة من الحقائق لها ظهورات وتجليات وبيانات وتحقّقات في کلّ عالم من العوالم المترتبة النازلة، سواء کانت تلک الحقيقة من علوم التوحيد والمبدأ والمعاد، أو مقامات النفس ومنازل السائرين.

وقد جعل الله تعالي عقل الإنسان کمرآة مجلوة منصوبة شطر الحقّ بحيث ينطبع فيه لو خلّي وطبعه اذا لم يکن مشوباً بثوب الأکدار، والتعلّق بالأغيار جميع الحقايق علي ما هي عليها في مراتبها.

وبعد ذلک کلّه فقد بعث الله تعالي رسلاً مبشرّين ومنذرين لئلّا يکون للناس علي الله حجّة بعد الرسل، والرسل شاملة للأنّبياء والأوصياء وخلفائهم ونواّبهم الخاصّة والعامّة.

وبالجملة يندرج فيها القري المبارکة والقري الظاهرة الّتي يسير الناس فيها ليالي وأيّاماً آمنين إلي تلک القري المبارکة، فإنّ الجميع رسل من قِبَله، ينطقون عنه، ويبلّغون معارفه وأحکامه، ويبثّون في الناس حلاله وحرامه، حتي أنّه ورد أنّ المسکين رسول الله إليکم فانظروا کيف تعاملون مع رسوله (3)

ص: 512


1- طه : 124 - 126.
2- يوسف : 105.
3- في نهج البلاغة تحت الرقم304 من قسم الحکم : إن المسکين رسول الله فمن منعه فقد منع الله ، ومن أعطاه فقد أعطي الله.

فکلّ من تلک الاشارات والدلائل هداية ورشاد لقوم، وغيّ وضلالة

الآخرين ، يضل به کثيراً ويهدي به کثيراً.

ولذا ورد في شأنّ مولانا اميرالمؤمنين عليه السلام ، وکذا في الحجّة الخلف عجّل الله

فرجه نعمة الله للأبرار، ونقمته علي الفجار(1)

إعلم أنّ الأصل في الهداية بهذا المعني هو الدلالة علي الخيرات والمصالح الّتي يتوصّل بها إلي النعيم المقيم ويحصل بها الفوز العظيم والثواب الجيم، کقوله تعالي : ( إنّ هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم) کو(2)

ويطلق علي سبيل التهکم أو الإنسلاخ عن خصوص المتعلّق، أو لعلاقة المضادّة، أو لأنّ المعني مطلق الدلالة والإراثة، أو لخصوص ما يطلبه طالبه ويرومه قاصده، أو التغليب في بعض ما تسمع علي الدلالة علي المعاطب والمهالک، کقوله تعالي : (فاهد و هم الي صراط الجحيم)

(3)(وهديناه النجدين)(4) (انا هديناه السبيل إمّا شاکراً وإما کفوراً) (5)

والسبيل(6) وان کان مولينا أميرالمؤمنين عليه السلام لکنه هو الهادي أيضاً ، فهو الذي هدي الناس بهدايته وأرشدهم إلي ولايته في جميع العوالم والمواقف والمراتب ، فدلّ علي ذاته بذاته ، ولم يرشدهم إلّا علي رضوان الله وکرامته، إلّا أنّ من قبل ذلک فقد إهتدي بصفة القبول والاجابة، ومن خالفه ضلّ وخاب بارشاده لصفة الردّ

ص: 513


1- بحار الأنّوار : ج305/100.
2- الإسراء : 9.
3- الصاقات : 23.
4- البلد: 10.
5- الإنسان : 3.
6- في البحار : ج 26 /17 مسنداً عن الصادق عليه السلام في تفسير قوله تعالي : (يا ليتني اتخدت مع الرسول سبيلاً) الفرقان (27) قال : يعني علي بن أبي طالب عليه السلام .

والمخالفة.

فالهداية قد ظهرت في هذا العالم بصفة التکليف الذي هو نور إلهي سار في کينونات جميع الخلايق سريان الروح في الجسد، وبه يصل المسافرون والسالکون الي منازلهم الحقيقّية وأوطانهم الأصليّة، الّتي حبّها من الإيمان، وبغضها من الکفر، بتيسير الأعمال والأقوال، وتسهيل الارادات والأفعال، والوصول الي المسبّبات واللوازم

ومنها : التوفيق للوصول إلي سواء الطريق المعبر عنه في بعض العبارات بالايصال إلي المطلوب. کما قال تعالي : (إنّک لا تهدي من احببت ولکن الله يهدي من يشاء) (1)

وهذا المعني وإن کان عامّاً شاملاً للمعاني الآتية إلا أنّ المقصود به في المقام هو المعني العامّ الشامل لجميع مراتب الايمان ودرجاته، وبالجملة المراد مطلق الهداية لا الهداية المطلقة.

ومنها : الزيادة في کلّ مرتبة من مراتب الايمان واليقين في کل حال من الأحوال، وفي ولاية الأئمّة الطاهرين صلوات الله عليهم أجمعين، فإنّ السالک لا يزال کلما يتدرج الي مرتبة من المراتب يلوح له بعض الأنّوار، ويکشف له عن بعض الأسرار، وکل نور يلوح له في درجة من الدرجات يکون أشد اشراقاً من السابق، فإن الله تعالي سبعين الف حجاب من نور وظلمة لو کشفها لا حرقت سبحات وجهه ما انتهي اليه بصره (2)

فلعل السالک المتغرق يزعم أنّه قد حصّل المُنية وليس وراء عُبّادان قرية مع

أنّه ليس لهذه المنازل غاية ولا نهاية .

ص: 514


1- القصص : 56.
2- بحار الأنّوار : ج 58/ 39.

کما ورد في الخبر القدسي : کلّما رفعت لهم علماً وضعت لهم حلماً وليس

لمحبتّي غاية ولا نهاية(1)

ولعلّ الي ما ذکرناه الاشارة بما حکي الله سبحانه عن خليله: (فلمّا جنّ عليه الليل رأي کوکباً) (2)الآيات، إذ وقع نظره أوّلاً الي الکوکب، ثم انجلي له القمر، ثم انکشفت له الشمس، ثم انتقل عليه السلام من ملاحظة زوال کل منها وتغيرها إلي التنزيه المطلق والتوجه الي المعبود الحقّ بقوله : (إنّي وجّهت وجهي للذي فطر السماوات والارض )(3)فلا يزال المؤمنون يترددون وينتقلون في هذه الدرجات التي هي منازل القدس ومراحل الانس، وقد أشير في الکتاب العزيز إلي زيادة الايمان والهداية بقوله تعالي : (والذين اهتدوا زادهم هدي وآتاهم تقويهم)(4)

(ويزيد الله الذين اهتدوا هدي) (5)وقوله تعالي : (واذا تليت عليهم آياته زادتهم ايماناً) (6)

وقوله تعالي في أصحاب الکهف: (إنّهم فتية آمنوا بربّهم وزدناهم

هدي) (7)

في الکافي عن مولينا الصادق عليه السلام قال : للايمان حالات و درجات وطبقات ومنازل، فمنه التام المنتهي تمامه، ومنه الناقص البيّن نقصانه، ومنه الراجح الزائد

ص: 515


1- في الجواهر السنية ص 151 عن ارشاد القلوب عن النبي صلي الله عليه وآله وسلمو عن الله سبحانه أنّه قال : يا محمّد ليس لمحبتي غاية ولا نهاية ، کل ما رفعت لهم عملا وضعت لهم علما
2- الانعام : 76.
3- الانعام : 79.
4- محمّد صلي الله عليه وآله وسلم: 17.
5- مريم: 76.
6- الانفال : 2.
7- الکهف : 13.

رجحانه ..... الخبر(1).

ومنها : الهداية في طريق الوصول الي مقامات القدس وحظاير الأنّس بالانخلاع عن العلايق الجسمانية والعوائق الناسوتية الهيولانية ثمّ الاستغراق في ملاحظة أسرار الکمال، ومطالعة أنّوار الجمال ، باضمحلال الإنية، واستيلاء حکم الوجود علي مقتضيات الماهيّة، فيصير السالک حنيئذ في طريق المحبّة والوداد فتقر عينه بنيل المقصود والمراد، فاذا أحبّه کان سمعه الذي يسمع به وبصره الّذي يسمع به ويده الّتي يبطش بها، إن دعاه أجابه ، وانّ ناداه لتاء (2)

وکيف لا يجيبه ولم يبق له إرادة ولا اختيار، ومن دون أنّ يصل إلي حدّ

الإضطرار، بل صار قلبه وعاءً لمشيّته ومحلاً لإرادته ومخزناً لمحبّته.

وهذه الهداية هي الجذية الربانيّة ، والعناية الإلهيّة ، ذلک هدي الله يهدي به من يشاء، وممن شاء لهم ذلک الأنّبياء، ولذا وصفهم بعد ذکرهم بقوله : (اولئک الذين هدي الله فبهديهم إقتده)ا (3)

وقال خليل الرحمن :(الي ذاهب الي ربّه سيهدين) (4)

وقال تعالي في نبيّه الأفضل الأکمل :(ووجدک ضالّاً فهدي) (5)، أي هدي العالم حتّي الأنّبياء إلي ولايتک وولاية وصّيک، أو هداک الي ما تحققت عليه في

ص: 516


1- الکافي ج 2 ص 42 وعنه بحار الأنّوار : ج 23/69 ح 6.
2- نقل بالمعني من حديث قدسي رواه الشيخ الحر العاملي في الجواهر السنّة ص 101 نصّه : ما يتقرّب إليّ عبد من عبادي بشيء أحبّ إلي مما افترضته عليه ، وإنّه يتقرّب إلي بالنوافل حتي أحبّه ، فاذا أحبّبتُه کنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ولسان الذي ينطق به ... الخ .
3- الأنّعام: 40.
4- الصافات : 99.
5- الضحي : 7.

کينونتک

ولذا ورد في النبوي :

والله لولا الله ما اهتدينا ولا تصدّقنا ولا صلّينا(1)

وفي العبارة بشارة لأهل الإشارة.

وبالجملة فالهداية بهذا المعني هي قصوي الدرجة الايمانية والمرتبة الإحسانيّة الحاصلة بعد العبادة التامّة العامّة الجهاديّة المشار اليها بالمعيّة الإحسانيّة في قوله تعالي :( والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإنّ الله لمع المحسنين ) (2)

وهم الذين سبقت لهم من الله الحسني، المعبر عنهم عند القوم بالمجذوب

السالک.

ولذا قيل : جذبة من جذبات الربّ توازي عبادة الثقلين.

وستسمع إن شاء الله تعالي بياناً وافياً في أنّ هذه الهداية لم تحصل لأحد من الأنّبياء إلّا بالاعتصام بحبل ولاية محمّد و آله الطاهرين الذين هم الصراط المستقيم، وفقنا الله وايّاکم الاعتصام بحبلهم بلطفه العميم وفضله الجسيم، إنه هو البر الرحيم، ذلک فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.

کلام في المقام لبعض الاعلام

قال في المجلي: في الهداية أقوال: أحدها قول أهل الظاهر، فإنّهم قالوا:

مقوا

ص: 517


1- في البحار ج 199/20 : عن البراء بن عازب ، قال : کان رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم ينقل معنا التراب يوم الأحزاب ، وقد واري التراب بياض بطنه وهو يقول : لاهُمّ لولا أنّت لما اهتدينا ولا تصدّقنا ولا صلّينا وفي صحيح البخاري ج 5 ص 139 وص .14: اللهمّ لولا انت ما اهتدينا وفي رواية : والله لولا الله ما أهدينا.
2- العنکبوت :69.

هداية الله للانسان علي اربعة أوجه:

الأول : الهداية العامّة لکل مکلف، وهي العقل، والفطنة، وإزاحة العلّة

ونصب الأدلّة.

الثاني : الهداية الحاصلة للإنسان بدعائه إياه علي ألسنة الأنّبياء والأولياء

وإنزال الکتب والشرايع والإنذار والترهيبات والترغيبات.

الثالث : اللطف الخاصّ الذي يختصّ به من سلک طريق السعادة الأخروية

المشار اليه بقوله تعالي : (والذين اهتدوا زادهم هدي) (1)

الرابع : الهداية في الآخرة الي طريق الجنة للثواب : (سيهديهم ويصلح بالهم ويُدخلهم الجنّة ) (2)

وفي هذا الوجه نسبوا الهداية الي الجنة والثواب إلي الآخرة، وهو خارج من الاصول، لأنّ دخول الجنّة عند بعض ليس إلّا بالايمان، وعند الآخرين بالايمان مع الأعمال الصالحة، وعلي التقديرين إذا حصلا وجب دخول الجنّة بلا خلاف، فلا يحتاج صاحبها الي ارشاد و هداية اليها، وإن لم يحصلا فلا هداية له ولا جنة ولا ثواب، فلا تصلح نسبة الهداية إلي الآخرة لآنها دار الجزء الادار العمل فيکون (سَيَهديهم ويُصلح بالَهم ... )بسبب ذلک لانّ السين فيه للاستعمال لا للاستقبال .

ثانيها : قول أهل الباطن فالهداية عندهم ثلاثة أقسام: هداية العامّ، وهداية الخاصّ، وهداية الأخصّ ، فهداية العام بالاسلام والإيمان ، وهداية الخاصّ بالإيقان والإحسان، وهداية الأخصّ بالکشف والمشاهدة من حيث العيان.

وقالوا: الهداية علي قدر التقوي فلمّا کانت ثلاثة أقسام فکانت الهداية أيضاً

ص: 518


1- محمد صلي الله عليه وآله وسلم : 17.
2- محمد صلي الله عليه وآله وسلم : 5.

کذلک، فتقوي العام عن الشرک والکفر، وتقوي الخاص عن الذنب والعصيان، وتقوي الأخصّ عن ملاحظة غير الرحمن، وهذا طريق أهل السلف.

ثالثها : قول المتأخرين فالهداية الحقيقية هي الهداية من الکثرة إلي الوحدة ، ومن التفرقة الي الجمعية، ومن الشرک إلي التوحيد، ومن الشک الي اليقين، ومن الرياء إلي الإخلاص، ومن الوجودات المقيدة إلي الوجود المطلق، ومن مشاهدة الخلق إلي مشاهدته الحق..... وکلها موقوفة علي التقوي الّتي أدناها الإتّقاء عن المحرمات، وأعلاها الإتّقاء عن رؤية وجود الغير مطلقا.

قلت : ما حکاه في الهداية الأخروية فلا ريب أنّها بعينها الهداية الدنيوية الّتي توجب الفوز بالجنة، بل هي الجنّة الظاهرة في الدنيا بالصورة المثالية، ولذا قال الامام عليه السلام : الدنيا في الآخرة، والآخرة محيطة بالدنيا والدنيا رسم الآخرة، والآخرة رسم الدنيا ..... الخبر(1)

وبالجملة، فلا وجه لتخصيص الهداية بالهداية الأخروية إلي الجنّة، کما نبّه عليه، ولا بأس في حمل السين علي الاستقبال باعتبار ما بقي من الأعمار، أو باعتبار مراتب القرب التي لا تعد ولا تحصي.

وامّا کون السين للاستعمال فلم أفهم له معني واضحاً.

وما حکاه أخيراً عن المتأخرين، فلعله من القائلين الذين ينبغي التبرّي منهم

ومن کلماتهم، وإن کان للکلمات المحکية في المقام محامل صحيحة .

ايراد ودفع

ربما يستشکل في حمل الهداية في الآية علي بعض المعاني المتقدّمة

ص: 519


1- لم أظفر علي مصدر له .

کالإرشاد والإعلام وإراثة الطريق بأنّ طلبها علي المسلمين والمؤمنين تحصيل للحاصل، وتوصيل للواصل، سيّما مع تفسير الصراط المستقيم بالإسلام والإيمان کما ورد في بعض الأخبار.

بل ويسري الأشکال أيضاً بناءً علي تفسيره بالولاية کما في أکثر الأخبار، فإنّ المؤمنين الذين يدعون الله بهذا الدعاء في الصلوات کلّها کلّهم من أهل الولاية ، ويمکن الجواب بوجوه:

أحدها : أنّ التالي لهذه الآية والداعي بها إن کان من أهل المرتبة الدانية فالمسئول هو المرتبة العالية التي بعدها، أو العالية علي الإطلاق، وإن کان واجداً للمرتبة العالية والدرجة القصوي فالمسئول هو الثبات عليها.

ويويّده ما في تفسير الإمام عليه السلام حيث فسّر الآية بقوله: أدِم لنا توفيقک الّذي به

أطعناک فيما مضي من أيامناء حتي نطيعک کذلک في مستقبل أعمارنا(1)

وفسّره مولينا أمير المؤمنين عليه السلام بقوله : ثبتنا علي ما روي عنه.

بل لعله الظاهر أيضاً من قول مولينا الصادق عليه السلام في تفسير الآية علي ما حکاه الإمام عليه السلام في تفسير الآية قال : أرشدنا الصراط المستقيم، أرشدنا للزوم الطريق المؤدّي الي محبتک، والمبلغ جنتک، والمانع من أنّ نتبع أهوائنا فنعطب، أو تأخذ بآرائنا فنهلک (2)

وروي في البصائر وغيره أنّه وقع شيء من القرآن في عهد الثاني إلي أهل الروم فأرسلوا وَفدا من النصاري الي المدينة لإشکالات زعموا ورودها منها ما يتعلّق بهذه الآية وهو أنّ طلب الهداية والرشاد دعاء مَن ليس علي الطريق القويم

ص: 520


1- کنز الدقائق ج 1 ص 70.
2- کنز الدقائق ج 1 ص 72 عن شرح الآيات الباهرة .

والنهج المستقيم، فإن لم تکونوا أنّتم علي سبيل الرشاد فما لکم وإرشاد العباد؟

وحيث عجز الثاني عن الجواب سأل عنه مولانا أميرالمؤمنين عليه السلام فأجاب بأنّ معني إهدنا ثبتنا، فقالت النصاري : إذا کان الداعي علي الصراط المستقيم فما الحاجة الي طلب الثبات؟

فقال أمير المؤمنين عليه السلام : إن لکل حقّ باطلاً ، ولکلّ قائم مائلاً، ولکل ثابت ذائلاً، فإذا لم يحصل الهداية المطلوبة الّتي هي الثبات لم تنفع الأولي التي هي مجرّد الرشاد(1)

قلت : ولعلّه إلي هذا يشير أيضاً ما قيل في تفسير الثبات: بأنّ الله تعالي قد هدي الخلقَ کلهم إلا أنّ الإنسان قد يزلّ وترد عليه الخواطر الفاسدة ، فيحسن أنّ يسأل الله تعالي أنّ يُثَبّتِه علي دينه ويديمه عليه، ويعطيه زيادات الهدي الّتي هي أحد أسباب الثبات علي الدين کما تقول لمن يأکل : کُل أي أدم الأکل.

ثانيها : أنّ الهداية هي لقوله تعالي : (يهديهم ربّهم بإيمانهم) (2) فالمعني أرشدنا إلي طريق الجنة ثوابة لنا، ولذا قالوا بعد دخولها : (الحمد لله الذي هدينا لهذا )(3)

وهو کما تري سيّما بعد ما سمعت عن صاحب المجلي

ثالثها : أنّ المسؤل هو الزيادة مطلقاً، اذ ليس لفيوض الحقّ وهداياته نهاية

ولا غاية، ولذا قال : (وزدناهم هُدي) (4)

رابعها : أنّه يجوز تعلّق السؤال بالأمر الحاصل إذا کانت فيه فائدة کقوله :

ص: 521


1- لم أظفر علي مصدره .
2- يونس : 9.
3- الأعراف: 43.
4- الکهف : 13.

(قال ربّ احکم بالحق )(1) ودعاء ابراهيم خليل الرحمن : (ولا تُخزني يوم يبعثون) (2)، وقوله :( ولا تحمّلنا ما لا طاقة لنا به)(3)

والفائدة في المقام إظهار الذلّة والاستکانة والعبوديّة الّتي هي أفضل أنّواع

العبادة ، کما ورد: انّ الدعاء مخّ العبادة وأصلها وافضلها(4)

بل في التنزيل : (لا يعبؤ بکم ربّي لولا دعائکم) (5) (ادعوني استجب لکم انّ الذين يستکبرون عن عبادتي سيدخلون جهنّم داخرين)(6)

(هذا کما أنّ الله وملائکته يصلّون علي النبيّ) (7)، وقد أمرنا بسؤال

الصلوات عليه، وإنما الفائدة فيه حصول الإنتساب وتأکّد الإرتباط بيننا وبينه صلي الله عليه وآله وسلم النيل الشفاعة الکلية والرحمة الإلهيّة.

خامسها: ما هو الحقّ في المقام، وإن لم ينبّه عليه أحد من الأعلام ويساعده الأخبار المأثورة عن أهل البيت ، وهو أنّ يکون الطلب متعلّقاً بالهداية ومقتضياتها ولوازمها وآثارها الّتي من جملتها سريانها في القلب والقالب وعلي جميع الأعضاء والجوارح والثبات عليها في جميع الأحوال والأهوال والإستمرار عليها في جميع الخطرات التي تخطر بالبال، وفي جميع الأفعال واستزادتها مع کلّ ذلک من کلّ أحد في کلّ حال، اذ لا نهاية لها باعتبار الفيوض الإلهية اللايزالية فإنها من الأنّوار اللامعة الّتي تلوح آثارها علي هياکل التوحيد .

ص: 522


1- الأنّبياء: 112.
2- الشعراء : 87.
3- البقرة : 286.
4- البحار: ج 93 ص300.
5- الفرقان : 77.
6- غافر: 60.
7- الاحزاب : 56.

فيکون المسئول جميع أنّواع الهداية لجميع الناس، وجميع مراتب الاسلام والإيمان والإحسان الذي فسّره جبرئيل عليه السلام بأنّ تعبد الله کأنّک تراه، فان لم تکن تراه فإنه يراک (1)

ولذا فسّرت الهداية في المقام بالإراثة الّتي لا يراد بها مجرّد الإعلام، بل

الرؤية القلبيّة الفؤاديّة ، کما قال سبحانه : (ما کذب الفؤاد ما رأي)(2)

وقال مولينا أميرالمؤمنين عليه السلام حيث سئله ذعلب : هل رأيت ربّک ؟ أفأعبد مالا أري ؟ وقال عليه السلام : لم تره العيون بمشاهدة العيان، ولکن تراه القلوب بحقايق الإيمان (3)

ولعلّه المراد بما رواه الکاشفي في جواهره عن مولينا الإمام جعفر الصادق عليه السلام في تفسيره: أنّ إهدنا بمعني أرنا، ثم قال عليه السلام : إن کل فرقة يطلبون الهداية علي حسب أحوالهم، فهداية التائبين بالإنابة، والعارفين بالمعرفة ، والمخلصين بدقائق حقايق الإخلاص، والمحبّين باستعلام أعلام المحبّة ، والمريدين بطلب طريق السلوک والإنقطاع، والأولياء بالإنخلاع عن رؤية الوسائط ومشاهدة الروابط ، کيلا يُحجَبوا بروية العبادة عن المعبود، وبالاشتغال بوظائف الطريق من المقصود .. الخبر.

کشف ايماني بتعليم ربّاني

«إهدِنا» دعاء وسؤال للعبد من الله سبحانه علي وجه الذلّة والمسکنة بتلقينه

ص: 523


1- في تفسير نور الثقلين ج 1 ص 553 رواه عن النبي صلي الله عليه وآله وسلم .
2- النجم: 11.
3- بحار الأنّوار : ج 304/4 وج 10 ص 118.

وتعليمه سبحانه فضلاً منه علي عباده ، ولذا ورد في الخبر: «قسمت الصلوة بيني وبين عبدي نصفين، فنصفها لي ونصفها لعبدي ...الي أنّ قال : فاذا قال: (إهدنا الصراط المستقيم) الي آخره، قال : هذا لعبدي ولعبدي ما سأل»(1)فعلّمنا في هذا التلقين کيفيّة الدعاء المقترن بما يوجب الإجابة من الأمور الّتي ينبغي للّداعي مراعاته، وهي کثيرة راجعة إلي الداعي أو المسألة أو کيفية الدعاء، أو زمانه ومکانه وغير ذلک ممّا تسمع تفصيل الکلام فيه في موضع آخر إن شاء الله تعالي.

لکنّ الذي ينبغي التنبيه عليه في المقام، إستفادتاً من کلام الملک العلّام،

وجوه :

منها : الابتداء بالإستعانة به سبحانه والتيمّن باسمه الشريف وذکره بأسمائه الحسني الّتي أمرنا أنّ ندعوه بها مع تحميده وتمجيده وثنائه قبل دعائه، والتنبيه علي الهيئّه الکبري وربوبيّته المطلقة، وأنّه المنّان علي عباده بالرحمة الرحمانية والرحيمية، وبديه مقاليد الأمور کلّها.

ولذا قال مولينا الصادق عليه السلام : إن في کتاب أميرالمؤمنين صلوات الله عليه : أنّ

المدحة قبل المسألة، فإذا دعوت الله عزّ وجلّ فمَجِده(2)

وقال الصادق عليه السلام : إنّما هي المدحة، ثمّ الثناء ، ثمّ الإقرار بالذنب، ثم

المسألة (3)

وقال لعثمان بن المغيرة : إذا أردت أنّ تدعو فمجّد الله عزّوجلّ، واحمده ،

وسبّحه، وهلّله، واثن عليه ، وصلّ علي محمّد النبي وآله، ثمّ صَل تُعطَ (4)

ص: 524


1- عيون الأخبار ج 1 ص 301 وعنه کنز الدقائق ج 1 ص 85.
2- بحار الأنّوار : ج 315/93 .
3- البحار: ج 318/93
4- البحار: ج 314/93 عن مکارم الأخلاق .

وقال عليه السلام لعيص : اذا طلب أحدکم الحاجة فليثنِ علي ربّه، وليحمده ، وليمجّده، فانّ الرّجل اذا طلب الحاجة من السلطان هيّاً له من الکلام أحسن ما يقدر عليه ، فاذا طلبتم الحاجة فمجدو الله العزيز الجبار، وامدحوه، واثنوا عليه.... إلي أنّ قال عليه السلام: إن رجلاً دخل المسجد، فصلّي رکعتين ، ثمّ سأل الله عزّوجلّ، فقال رسول اللهصلي الله عليه وآله وسلم: أعجل العبد ربه، وجاء آخر فصلي رکعتين، ثم أثني علي الله عزوجل، وصلّي علي النبي ، صلي الله عليه وآله وسلم فقال رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم: سَل تُعطَ (1)الي غير ذلک من الأخبار الکثيرة.

ومنها : التعميم في الدعاء فإنّه أقرب له إلي الإجابة کما في النبوي(2) ولذا

عدل في الضمير المتصل بالفعل من المفرد إلي الجمع تعميماً للدعاء وتوسلاًالي الإجابة، مضافاً إلي الوجوه المتقدمة في العدول في «نعبد ونستعين». .

مع أنّه قد ورد أنّه سبحانه أوحي الي بعض انبيائه عليه السلام : أُدعني بلسان لم تعصني به ، فقال : يا ربّ کيف أدعوک بلسان لم أعصک به، وما هو إلّا لسان واحد ولم أزل أعصيک به ؟ فقال الله سبحانه : أدعني بلسان غيرک فإنک لم تعصني به(3)

فمن فوائد العموم في الدعاء أنّه في حق الغير مقرون بالاجابة فکذا في حق الداعي لقضيّة عدم تبعض الصفقه ، فلانّه يأبي عنه کرم الکريم ما هکذا الظّن به، ولا هو المعروف من فضله.

ومنها: الدعاء لإخوان المؤمنين بظهر الغيب لإرادتهم من ضمير الجمع المتصل بالفعل ، وذلک أنّه وسيلة لإجابة الدعاء في حقّهم وفي حقّه لمامّر، وللتفضل عليه بمثل ما يدعو لجميعهم، أو بأضعافه.

ص: 525


1- بحار الأنّوار: ج 315/93 عن مکارم الاخ لاق
2- البحار: ج 93/ 313 عن النبي صلي الله عليه وآله وسلم قال : إذا دعا أحد فليعم فإنه أوجب للدعاء
3- لبحار: ج342/93 : روي أنّ الله سبحانه اوحي الي موسي : ادعئي عن السان غير ...

فقد روي عن مولينا الباقرعليه السلام : أسرع الدعاء نجحاً للإجابة دعاء الأخ لأخيه

بظهر الغيب (1)

وعن مولينا الصادق ؟ قال : قال رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم: ما من مؤمن دعا للمؤمنين والمومنات إلّا ردّ الله عزّوجلّ عليه مثل الذي دعا لهم به من کل مؤمن ومؤمنة معني من أول الدهر او هو آت إلي يوم القيامة، إن العبد ليؤمر به الي النار يوم القيامة فيشحب ، فيقول المؤمنون والمؤمنات : يا ربّ هذا الذي کان يدعو لنا فشفّعنا فيه ، فشقهم الله عزّوجلّ فيه فينجو (2)

وعن ابراهيم بن هاشم ، قال : رأيت عبد الله بن جندب في الموقف فلم أر موقفا کان أحسن من موقفه ، فما زال مادّاً يديه إلي الّسماء ودموعه تسيل علي خديه حتي تبلغ الأرض، فلمّا صدر الناس قلت له : يا أبا محمّد ما رأيت موقفاً قط أحسن من موقفک، قال: والله ما دعوت إلا لإخواني، وذلک أنّ أبا الحسن موسي عليه السلام أخبرني : أنّ من دعا لأخيه بظهر الغيب نودي من العرش: ولک مائة ألف ضعف، فکرهت أنّ أدَعَ مائة ألف ضعف مضمونة لواحدة لا أدري تستجاب أم لا(3)

وفي عُدّة الداعي عن معاوية بن عمّار، عن الّصادق عليه السلام : من دعا لأخيه في ظهر الغيب نادي ملک مَن السماء الدنيا : يا عبدالله لک مائة ألف ضعف مما دعوت، وناداه ملک من السماء الثانية يا عبد الله ولک ماتا ألف ضعف مما دعوت، وناداه ملک من السماء الثالثة : يا عبد الله ولک ثلاثمائة ألف ضعف ممّا دعوت، وناداه ملک من السماء الرابعة : يا عبد الله ولک أربعمائة ألف ضعف ممّا دعوت، وناداه ملک من السماء الخامسة : يا عبد الله ولک خمسمائة الف ضعف ممّا دعوت، وناداه ملک من

ص: 526


1- بحار الأنّوار : ج 60/76و ج 387/93 .
2- البحار: ج 384/93 عن أمالي الطوسي ج 2/ 95 بتفاوت يسير .
3- بحار الأنّوار : ج 384/93 - 385 عن أمالي الصدوق ص 273 .

السماء السادسة : يا عبد الله ولک ستمائة الف ضعف مما دعوت، وناداه ملک من السماء السابعة : يا عبد الله ولک سبعمائة ألف ضعف ممّا دعوت

ثم يناديه الله تبارک وتعالي : أنّا الغني الّذي لا افتقر يا عبد الله لک ألف ألف

ضعف ممّا دعوت. الخبر(1)

ومنها : الإلحاح في الدعاء، فإنّ هذا الدعاء يتکرّر في الصلوات اليوميّة ،

مراّت مديدة، والإلحاح من أسباب الإجابة.

عن مولانا أبي جعفر عليه السلام أنّه قال : والله لا يلغ عبد مؤمن علي الله عزّوجلّ إلّا

استجاب له(2)

ومنها : الإقبال علي الدعاء.

قال الصادق عليه السلام : إن الله لا يستجيب دعاء بظهر قلب ساو، فاذا دعوتَ فأقبِل

بقلبک ثم استيقن الإجابة(3)

واستفادة هذا من تقديم الخطاب وتکريره المنافي لحالة الغياب، اذ عند الخطاب يفتح الباب وينکشف الحجاب، ويتوجه العبد بکليّتة الي ربّ الأرباب، فيقبل الثناء ويجيب الدعاء.

ومنها : اشتمال الدعاء علي الاستشفاء والتوسل بمحمد وآله الأطهار عليهم السلام فإنه

يوجب الإجابة.

ولذا قال مولينا الصادق عليه السلام : من کانت له الي الله عزوجل حاجة فليبداً بالصلاة علي محمّد وآله ثم يسئل حاجته ثم يختم بالصلوة علي محمد وآل محمد، فإن الله عزّوجلّ أکرم من أنّ يقبل الطرفين ويدع الوسط، اذ کانت الصلاة

ص: 527


1- بحار الأنّوار : ج 387/93 ح 19 عن دعوات الراوندي
2- الکافي ج 475/2 - بحار الأنّوار: ج 374/93 عن عدّة الداعي .
3- البحار : ج 305/93 عن عدة الداعي ص 103.

علي محمّد لا تُحجَب عنه(1)

وستسمع أنّ المراد بالصراط المستقيم هو ولاية مولينا أميرالمؤمنين عليه السلام فطلب الهداية إليه إستشفاع بهم، وتوسل الي الله تعالي بولايتهم، وکما أنّه دعاء الاستفاضة جميع المؤمنين بهم کذلک دعاء لهم بإفاضة ربّ العالمين من فيوضه علي المؤمنين أجمعين بسبب ولاية أهل البيت وفجتهم صلوات الله عليهم.

وهو حقيقة الصلوات المأمور بها، فإنّه من الصلة، أو الوصل، واختتام الدعاء

ينبغي أنّ يکون بالصلوات عليهم حتي يکون الختام مسکاً وفي ذلک فليتنافس المتنافسون. .

وممّا مرّ يظهر وجه العدول من الضمير المفرد الي الجمع.

مضافاً الي أنّ الأرض لا يخلو أبدأ من حجّة ووليّ ممّن يستجاب له، ولا

يردّدعائه ، فإذا عمّ الدعاء أستجيب لغيره أيضاً ممّن لا يحقّ له ذلک.

مع أنّه إذا کان الداعي هو العالي فينبغي أنّ يقترن بالداني اقتراناً إفاضية ومعيّة اشراقيّة، وإذا کان الداعي هو الداني فلابدّ له من معيّة استفاضيّة استشفاعية.

ومن هنا يظهر أيضاً معني ما روي أنّ الله عزّوجلّ حمّل رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم ذنوب

شيعتنا، ثم غفرها له بقوله : (وليغفر لک الله ما تقدم من ذنبک وما تأخّر)(2) - (3)

ص: 528


1- بحار الأنّوار: ج 316/93.
2- الفتح : 2.
3- کنز الدقائق ج 12 ص 269 عن تأويل الآيات الباهرة ح 591 عن محمد بن سعيد المروزي قال : قلت لرجل : أذنب محمد صلي الله عليه وآله وسلم قطّ ؟ قال : لا ، قلت : فقول الله تعالي : «ليغفر لک الله ما تقدم من ذنبک وما تأخّر» ما معناه ؟ قال : إن الله سبحانه حمّل محمّداًصلي الله عليه وآله وسلم ذنوب شيعة علي عليه السلام ثمّ غفر له ما تقدّم منها وما تأخر.

ارشاد وهداية في تفسير الصراط

الصراط في الأصل مطلق الطريق، أو الطريق الواضح، أو خصوص المتّسع منه ، من سرّطه إذا إبتلعه ، سمّي به لانّه يسرط المارة، أي يبتلعها، وهو کالطريق والسبيل في التذکير والتأنّيث ، إذ قد يُذکّر صفة کلّ منهما باعتبار اللفظ، وقد تؤنّث باعتبار المعني ، کذا قيل، لکنّه لا يخلو من تأمّل، إذ الظاهر من کلام أهل اللغة والاستعمالات العرفية أنّ الصراط لا يؤنث ، والطريق قد يونّث، والسبيل قد تذکّر.

ويفرّق بحسب المعني بينها بأنّ الطريق ما يطرقه طارق، والسبيل ما کان

مُعتاد السلوک والصراط کالسبيل إلا أنّه يستقيم غالباً .

والخطب سهل بعد وضوح استعمال کل منها موضع الآخر، إنّما الکلام في

المقصود بالصراط المستقيم في المقام.

فقيل : إنّه کتاب الله تعالي ، بل في «المجمع» إنّه المرويّ عن النبي صلي الله عليه وآله وسلم وعن

أميرالمؤمنين عليه السلام (1) ولذا فسره به إبن مسعود

وقيل : إنه الإسلام، وهو المحکي عن جابر وابن عبّاس، ولعلّه المراد

بالمحکي عن محمد بن الحنفية من أنّه دين الله الذي لا يقبل عن العباد غيره.

وقيل : إنّه النبي والأئمّة القائمون مقامه صلوات الله عليهم أجمعين، وهو

المروي في أخبار کثيرة.

روي الشيخ الصدوق في معاني الأخبار عن المفضّل، قال : سئلت أبا عبدالله عليه السلام عن الصراط فقال : هو الطريق الي معرفة الله عزّوجلّ، وهما صراطان : صراط في الدنيا، وصراط في الآخرة، فاما الصراط الذي في الدنيا فهو الإمام

ص: 529


1- مجمع البيان : ج 31/1 .

المفروض (1)الطاعة، من عرفه في الدنيا واقتدي بهداه مر علي الّصراط الذي هو جسر جهنّم في الآخرة، ومن لم يعرفه في الدنيا زلت قدمه عن الصراط في الآخرة فتردي في نار جهنّم.(2)

وفي تفسير مولينا الامام العسکري عليه السلام : الصراط المستقيم صراطان : صراط في الدنيا وصراط في الآخرة، فأما الصراط المستقيم في الدنيا فهو ما قصر من الغلو، وارتفع عن التقصير واستقام فلم يعدل الي شيء من الباطل، وأما في الآخرة فهو طريق المؤمن إلي الجنّة الذي هو مستقيم، لا يعدلون من الجنّة الي النار، ولا الي غير النار سوي الجنّة (3)

وفي الأمالي بالاسناد عن النبي صلي الله عليه وآله وسلم، قال : اذا کان يوم القيامة، ونصب الصراط علي جهنّم، لم يجز عليه إلّا من کان معه جواز فيه ولاية علي بن أبي طالب عليه السلام ، وذلک قوله تعالي : (وقفوهم انّهم مسؤولون) (4) يعني عن ولاية علي ابن أبي طالب عليه السلام (5)

وفي الخصال عن الصادق عليه السلام عن مولينا أميرالمؤمنين عليه السلام : أنّ للجنة ثمانية أبواب : باب يدخل منه النبّيون والصدّيقون ، وباب يدخل منه الشهداء والصالحون، وخمسة أبواب يدخل منه شيعتنا ومحبّونا، فلا أزال واقفاً علي الصراط أدعو وأقول: ربّ سلّم شيعتي ومحبّي وأنّصاري ومن تولاني في دار الدنيا، فإذا النداء من بطنان العرش : قد أجيبت دعوتک ، وشُفّعتَ في شيعتک، ويُشَفَّع کلّ رجل من شيعتي

ص: 530


1- في المصدر : المفترض الطاعة.
2- کنز الدقائق ج 1 ص 69 عن معاني الأخبار ص 28 ح 1.
3- کنز الدقائق ج 1 /70 - نور الثقلين : ج 1 / 22.
4- الصافات : 24.
5- نور الثقلين : ج 4 /401 عن أمالي الشيخ الطائفة .

ومن تولّاني، ونصرني وحارب من حاربني بفعل أو قول في سبعين ألفاً من جيرانه وأقربائه ، وباب يدخل منه ساير المسلمين ممن يشهد أنّ لا إله إلا الله ، ولم يکن في قلبه مثقال ذرة من بغضنا أهل البيت(1): وفي الأمالي عن الصادق عليه السلام قال : الناس يمرون علي الصراط طبقات، والصراط أدقّ من الشعر وأحدّ من السيف ، فمنهم من يمرّ مثل البرق، ومنهم من يمرّ مثل عَدوِ الفرس ، ومنهم من يمرّ حَبواً ، ومنهم من يمرّ مشياً، ومنهم من يمرّ متعلقاً قد تأخذ النار منه شيئاً وتترک شيئاً(2)

وفي تفسير فرات: ان رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم أتاه جبرئيل ، فقال : أبشرّک يا محمد بما تجوز علي الصراط ؟ قال : قلت : بلي ، قال : تجوز بنور الله ، ويجوز عليّ بنورک ، ونور من نور الله ، وتجوز أمّتک بنور عليّ، ونور علي من نورک، (من لم يجعل الله له نوراً فما له من نور)(3)- (4)

وفي المعاني وعقائد الصدوق ، وتأويل الآيات وغيرها عن النبي صلي الله عليه وآله وسلم: يا عليّ اذا کان يوم القيامة أقعد أنّا وأنّت وجبرئيل علي الصراط، فلم يجز أحد إلا من کان معه کتاب فيه برائة بولايتک (5) وفي الکنز عن النبي صلي الله عليه وآله وسلم

: اذ کان يوم القيامة أمر الله مالکاً أنّ يسعرّ النيران السبع، ويأمر رضوان أنّ يزخرف الجنان الثمان، ويقول : يا ميکائيل مدّ الصراط علي متن جهنّم ويقول : يا جبرئيل انصب ميزان العدل تحت العرش، ويقول : يا

ص: 531


1- الخصال ص 408 باب الثمانية ح6.
2- بحار الأنّوار: ج64/8- 65 عن أمالي الصدوق ص 107.
3- سورة النور : 40.
4- البحار : ج69/8 عن تفسير الفرات ص 104.
5- البحار : ج 66/8 عن المعاني ص 14.

محمّد قرب أمّتک للحساب، ثم يأمر الله أنّ يعقد علي الصراط سبع قناطر طول کلّ قنطرة سبعة عشر ألف فرسخ، وعلي کلّ قنطرة سبعون الف ملک، يسئلون هذه الأمّة رجالهم ونسامهم في القنطرة الأولي عن ولاية أمير المؤمنين عليه السلام وحب أهل بيت محمدصلي الله عليه وآله وسلم ، فمن أتي به جاز القنطرة الأولي، کالبرق الخاطف، ومن لم يحب اهل بيته سقط علي أم رأسه في قعر جهنّم ولو کان معه من أعمال البرز عمل سبعين صدّيقاً(1)

وروي في المناقب عن الصادقين عليهم السلام في (اهدنا الصراط المستقيم) ، قالا: دين الله الذي نزل به جبرئيل علي محمدصلي الله عليه وآله وسلم، (صراط الذين أنّعمت عليهم )، فهديتَهم بالإسلام بولاية علي بن ابي طالب، ولم تغضب عليهم ولم يضلّوا، فالمغضوب عليهم اليهود والنصاري والشکّاک الذين لا يعرفون إمامة أميرالمؤمنين عليه السلام والضالّين عن أمامة علي بن أبي طالب عليه السلام

وفيه عن تفسير وکيع ، عن ابن عباس في قوله تعالي :(اهدنا الصراط

المستقيم )، قال : قولوا معاشر العباد : أرشدنا إلي حبّ النبي وأهل بيته عليهم السلام .

وعن تفسير الثعلبي ، وابن شاهين عن بريدة في هذه الآية قال : صراط محمد

وآله (2)

وفي کشف الغمّة مما أخرجه المحدّث الحنبلي في هذه الآية، قال بريدة

صاحب رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم: هو صراط محمد و آله(3)

وفي المناقب عن التهذيب والمصباح في دعاء الغدير : وأشهد أنّ الأمام

الهادي الرشيد أمير المؤمنين الذي ذکرته في کتابک.

ص: 532


1- بحار الأنّوار : ج 341/7 ح 12، عن الکنز.
2- بحار الأنّوار : ج 16/24 عن المناقب ج 3/ 73.
3- البحار: ج 24 /17 عن کشف الغمة ص 91.

فقلت : (وإنّه في أمّ الکتاب لدينا لعليّ حکيم) (1): إنّ أمّ الکتاب الفاتحة،يعني ان فيها ذکره عليه السلام .(2)

وفيه بالاسناد عن النبي صلي الله عليه وآله وسلم: لکل شيء جواز، وجواز الصراط حبّ علي بن

أبي طالب عليه اسلام (3) : وفي المعاني عن السّجادعليه السلام قال : نحن أبواب الله، ونحن صراطه المستقيم، ونحن عيبة علمه، وموضع سره وقال : ليس بين الله وبين حجّته حجاب، ولا لله

دون حجته سرّ(4)

وفي خبر معرفتهم بالنورانية : محمّد خاتم النبيين، وأنّا خاتم الوصييّن، محمّد صاحب الدعوة، وأنّا صاحب السيف والسطوة، محمد النبي الکريم، وأنّا الصراط المستقيم (5)

وفي فضائل الشيعة عن النبي صلي الله عليه وآله وسلم: أثبتکم قدماً علي الصراط أشدّکم حبّاً

لأهل بيتي(6)

وفيه : عن النبي صلي الله عليه وآله وسلم أنّه قال : يا علي ما ثبت حبک في قلب إمري مؤمن

فزلّت به قدم علي الصراط إلّا ثبت له قدم حتي أدخله الله بحبّک الجنّة (7).

ص: 533


1- الزخرف : 4.
2- المناقب ج 107/3.
3- بحار الأنّوار : ج 202/39 عن المناقب ج 1 ص 346.
4- معاني الأخبار: ص 14 وعنه البحار: ج 12/4 مع تقديم وتأخير في بعض الجملات .
5- بحار الأنّوار : ج 26 / 4 و 5 وفيه : صار محمّد خاتم النبيين وصرت أنّا خاتم الوصيين . وأنّا النبأ العظيم الذي هم فيه مختلفون ، ولا أحد إختلف الا في ولايتي ، وصار محمد صاحب الدعوة ، وصرت أنّا صاحب السيف ..الخ.
6- بحار الأنّوار : ج 69/8 عن فضائل الشيعة للصدوق.
7- البحار: ج 8/ 69 عن الفضائل .

وفي البصائر عن الصادق عليه السلام في قوله تعالي : (هذا صراط عليّ

مستقيم )(1)قال : هو والله عليّ، هو والله عليّ الصراط والميزان (2)

وفي المناقب عن مولينا الصادق عن أبيه، عن جده عليهم السلام قال : قال يوم الثاني الرسول الله صلي الله عليه وآله وسلم : إنک لا تزال تقول لعليّ: أنّت منّي بمنزلة هارون من موسي، فقد ذکر الله هارون في أم القري ولم يذکر عليّاً.

فقال صلي الله عليه وآله وسلم : يا غليظ يا جاهل أما سمعت يقول : (صراط عليّ مستقيم )(3).

وفيه وفي الطرائف عن قتادة، قال : سمعت الحسن البصري يقرأ هذا الحرف : (هذا صراط عليّ مستقيم) ، قلت: ما معناه ؟ قال : هذا طريق علي بن أبي طالب، ودينه طريق دين مستقيم فاتبّعوه وتمسکّوا به فإنّه واضح لاعوج فيه(4)

وفيه عن تفسير مقاتل عن ابن عباس في قوله تعالي : ( يوم لا يخزي الله النبيّ) (5): لا يعذّب الله محمّداًوالذين آمنوا معه، لا يعذّب علي بن ابي طالب وفاطمة، والحسن، والحسين، وحمزة، وجعفراً ، نورهم يسعي، يُضيء علي الصراط لعلي وفاطمة مثل الدنيا سبعين مرة، فيسعي نورهم بين أيديهم ويسعي من أيمانهم وهم يتبعونها، فيمضي أهل بيت محمّد و آله زمرة علي الصراط مثل البرق الخاطف، ثمّ قوم مثل الريح، ثمّ قوم مثل عدو الفرس، ثمّ يمضي قوم مثل المشي، ثمّ قوم مثل الحبو، ثم قدم مثل الزحف، ويجعله الله علي المؤمنين عريضاً ، وعلي

ص: 534


1- الحجر: 41.
2- روي العياشي في ج 2 ص242 ح 15 مثله مع تفاوت يسير.
3- المناقب لابن شهر آشوب ج 3/ 107 وفي ذيل الحديث قال المؤلف : وقريء مثله في رواية جابر
4- المناقب ج 3/ 107 عن أبي بکر الشيرازي في کتابه بالاسناد عن شعبة ، عن قتادة
5- التحريم: 8.

المذنبين دقيقاً (1)

والتعرض للأخبار العاميّة من الصحابة والتابعين في مثل المقام وغيره إنّما هو للتمسک به علي الخصم الّذي هو المخالف المعاند، فإنّ الفضل ما شهدت به الأعداء.

وعلي کلّ حالّ فتمام الکلام في المقام بذکر فوائد :

إحديها إعلم أنّ الأرواح الانسانيّة والنفوس الملکوتيّة لمّا خلقها الله في أحسن تقويم، وذلک قبل خلق الزمان والزمانيات حيث لا أين، ولا متي، لتقدّم عالم الدهر بجملته علي عالم الزمان الذي هو وعاء الأجسام والجسمانيّات ، نزعت تلک الأرواح الي دعوي الربوبية والاستغناء والقيوميّة المطلقة، فخوطبت بنداء(اهبطوا منها جميعاً) (2) اي مجتمعين حال الهبوط، وذلک لمرورها علي جميع العوالم المترتبّة المتنزّلة وتعلّقها بشيء من تلک العوالم فلها من کلّ عالَم من العوالم فيضة مخالفة في الکينونة والاقتضاء لغيرها، ولذا قال : (بعضکم لبعض عدوّ) (3) الاستدامة التجاذب والتمانع والتدافع بينها، لکونه في هذا العالم معترک القوي النورانيّة العقليّة ، والشهوات النفسيّة، والشيطانيّة الوهميّة ، والحيوانيّة البهيميّة ، والظلمانيّة الجسميّة ، وله في أرض عالم الناسوت مستقرّ حال العمر، ومتاع إلي حين الأجل.

واليه الاشارة بقول الشيخ ابن سينا في شعره: هَبِطَت إليک من المحل الأرفع وَرقاءُ ذات تعزز وتمنّع قيل : إنّه سُئِل أفلاطون عن سبب هبوط الأرواح، فقال : إنّها احترقت رياشُها

ص: 235


1- تفسير البرهان ج 4 / 357 عن المناقب لابن شهر آشوب
2- البقرة : 38
3- البقرة : 36.

لبعض الأوهام الرديّة فسقطت إلي هذا العالم، فلمّا إرتاشت(1)صعدت .

والي الإشارة بقوله تعالي : ( فإمّا يأتينّکم منّي هدي فمن تبع هداي فلا

خوف عليهم ولا هم يحزنون)(2)

فدعي الناس الي إتّباع هداه ليخرجهم من الظلمات إلي النور باذن ربّهم إلي

صراط العزيز الحميد.

فللإنسان في هذه النشأة الدنيويّة انتقالات رتبيّة، وترقيّات نفسيّة ،

واستفاضات نوريّة عقليّة (إليه يصعد الکلم الطيّب والعمل الصالح يرفعه) (3)

فلا تزال النفوس الانسانية تسير في المراتب النفسانيّة متدرّجة في الأطوار بعد الأطوار، مستعدّة لإشراق أشعّة الأنّوار، (يخلقکم في بطون أُمّهاتکم خلقاً من بعد خلق في ظلمات ثلاث) (4)

ظلمة البلادة البهيمية ، والجمودة الجسمية ، والانحرافات النفسانيّة .

وهذه الانتقالات ليست بحرکات جوهريّة، وتبدلات ذاتيّة وانتقالات طبيعيّة اشتداديّة، کما ذهب إليه بعض الأعلام، نظراً إلي القول يثبوت الحرکة في مقولة الجوهر، بل ربما ينسب اليه القول بتبدل کلّ من الجواهر الي غيره، حتي تبدلّ الهيولي صورة، والصورة جسماً ، والجسم نفساً، والنفس عقلاً.

وظنّي أنّه ينبغي تنزيهه عن هذه النسبة، بل ربما يأبي عنه کلامه حيث ذکر في بيان هذه الحرکة: أنّ أوّل نشأة الانسان بحسب جسميته وقالبه قوة إستعداديّة ، ثم صورة طبيعيّة شأنّها حفظ المزاج للترکيب، ثم صورة مغذّية لمادّة بدنيّة، ثمّ

ص: 536


1- إرتاش : أصاب خيرة وصلحت حاله .
2- البقرة : 38.
3- فاطر : 10.
4- الزمر: 6.

صورة حيوانيّة يدرک المحسوسات ويتحرّک بالإرادة ، وهذا آخر درجات الصور الحسية.

وأوّل درجات الصور العقليّة قوّة تسمّي عند الحکماء بالعقل المنفعل، ثم تنتقل من صورة الي صورة حتّي تتّصل بالعالم العقلي، ويلحق بالملأ الأعلي إن ساعده التوفيق، أو يحشر مع الشياطين والحشرات في عالم الظلمات إن ولّاه الطبع والشيطان وقارنه الخذلان.

وربما يقال : إنّه لمّا اثبت التعقّل وإدراک المعقولات، وأنّکر وجود العقل، فلابدّ له من أنّ يحکم علي النفس بالوصول إلي هذه الرتبة، فمراده بصيرورتها عقلا أنّها تعقل الأشياء، لا أنّها تنقلب عقلاً عنده، لأنّه لا يثبت العقل .

وفيه : أنّ النفس مادّتها التأييدات العقليّة، وهي اشراقات من العقل ، محلّها منه محلّ الإشراق من الشمس، والنور من المنير، والضوء من السراج، فکما لا يکون الإشراق شمساً، ولا الضوء سراجاً، ولو بالترقي والإشتداد في جوهره ونوعه کذلک لا تکون النفس بترقيها عقلاً، وإنّما غاية ما يحصل لها من الترقّي هو الوصول الي أقصي مراتب النفس التي هي دون أفق العقل، کما أنّ مراتب الجسم دون افق النفس، فکما لا يکون الجسم نفساً کذلک لا تکون النفس عقلاً، نعم يحصل لکل منهما الترقي والتنزّل في مراتب عرض رتبته.

وإنکار وجود العقل ضعيف بالأدلّة السمعية والعقلية الدالّة علي وجوده ،

ولعلّنا نشير اليها في موضع أليق إن شاء الله تعالي.

وعلي کلّ حال فللنفس انتقالات وترقيات في عرض المراتب والدرجات،

او في طولها أيضاً ، فينتقل من حال الي حال، ومن درجة الي درجة، فجميع الناس سائرون في هذه النشأة الدنيوية بأقدام أعمالهم وعلومهم، طائرون بجناحي العلم والعمل.

ص: 537

وهم في سيرهم إمّا واصلون الي ربّهم، أي إلي مرضاته ومحلّ قربه وکرامته ، فيرون ما تشتهيه الأنّفس وتلّذ الأعين، لسيرهم في الطريق الّذي أمِروا بسلوکه ، لأنّهم تخفّفوا فلحقوا، وصاروا من عباده الذين هم بالبداء إليه يسارعون، وهم المتّقون الذين هم في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليک مقتدر.

وإمّا واقفون للعطالة والبطالة، أو لترددهم في سيرهم بين الصعود والهبوط،

ومثاله ما کان لبني اسرائيل في التيه حيث لبثوا أربعين سنة في ستّة فراسخ.

وما ذکرناه ليس مبنيّاً علي القول بالإحباط والتکفير، وإن قلنا بهما علي

بعض الوجوه الصحيحة.

وأمّا غير الفريقين السابقين فهم الراجعون ، ناکسوا رؤسهم عند ربهم الانتکاس أعمالهم بترک العمل أو فساده، فهم السائرون علي غير الطريق المستقيم لايزيدهم سيرهم إلّا بُعداً (کلّا بل وان علي قلوبهم ما کانوا يکسبون ، کلا إنهم عن ربّهم يومئذ لمحجوبون)(1)

ثانيها : اعلم أنّ للانسان قوّتين هما له کجناحين يطير بهما:

قوة نظرية علميّة، وقوة عمليّة، فإنّ له قوة الإدراک وقوّة التحريک، ولکل

منهما شُعبَتان : العقل النظري، والعقل العملي، والشهوة، والغضب.

الأوّل مبدء التأثر عن المبادي العالية لقبول الصور العلميّة . والثانية مبدء تحريک البدن في الأفعال الجزئية بالرويّة. والثالثة مبدء جلب الملائم، والرابعة مبدء رفع غير الملائم علي وجه الغلبة .

فإن کانت الأولي قاهرة غالبة علي غيرها يحصل انتظام الامور الانسانية في الحال والمال، ويحصل الوفاق والتسالم بين القوي الأربعة، ويدخلن في السلم

ص: 538


1- سورة المطففين : 14 - 15.

کافة، ولا يتّبعن خطوات الشيطان، فينزل الله السکينة، وتکون المدينة حصينة فيحصل من تهذيب العاقلة الحکمة، ومن تهذيب الغضبّية الجرأة والشجاعة، ومن تهذيب الشهرية العفة، ومن رعاية الاعتدال في جميع القوي العدالة .

وليعلم أيضاً أنّ هذه الأربعة بمنزلة الأوساط ولکلّ وسط طرفا إفراط

و تفريط.

اليمين والشمال مضلّة والطريق الوسطي هي الجادّة کما أثر عن أمير المؤمنين

عليه صلوات الله (1)

ولمّا کان أجناس الفضائل أربعة کانت أجناس الرذائل ثمانية. فضدّ الحکمة في طرف الإفراط الجريزة مأخوذة من جزبَرَ اي ذهب او انقبض او سقط، أو إنها معرّبة کريزة أي الخدّاع الخبيث کما في القاموس (2)وعلي کل حال يحصل من هذا الإفراط أخلاق ردّية کالمکر والخداع والشيطنة والوسوسة، وسوء الظّن، والتهمة، والغدر.

وفي طرف التفريط البلادة والبلاهة الّتي لا يستقل معها إلي شيء لفرط الخمود والجمود، وقلة فطانته لدقائق الأمور فينشأ منها الحماقة والغفلة والانخداع والحيرة والسفاهة.

وضد العقة في طرف الإفراط الفجور الّذي لا يبالي معه صاحبه من السرقة

وأکل الحرام والزنا، وسائر الفواحش.

وفي طرف التفريط الخمول من خمل اذا سقط فإنّ الخامل الساقط الذي لا

نباهة له.

وضد الجرأة في طرف الافراط التهورّ الذي لا يبالي معه صاحبه من الوقوع

ص: 539


1- نهج البلاغة الخطبة (16).
2- باب الزاي فصل الجيم.

في المهالک، فيقدم علي ما ينبغي الحذر منه.

وفي طرف التفريط الجبن الذي تسکن معه النفس عن دفاع الضارّ، وجلب

الضروري، ويکون معه الکسالة والبطالة.

ومن عدّ العدالة فضيلة رابعة خارجة عن مجموع الثلاثة قال : إنّ ضدّها في

طرف الإفراط الظلم بالتصرّف في حقوق الناس وأموالهم بغير حقّ.

وفي طرف التفريط الإنظلام أي قبول الظلم وتمکين الظالم من الظلم عليه

وانقياده له فيما يريده من التعدّي فيما يتعلّق به.

لکن ربما يقال : إنّ للعدالة مع ملاحظة ما لا ينفکّ عنه من لازمه طرفاً واحداً وهو الجور والظلم، ويشمل جميع ذمائم الصفات ولا يختصّ بالتصرّف في حقوق الناس وأموالهم بدون جهة شرعيّة، لأنّ العدالة بهذا المعني عبارة عن ضبط العقل العملي تحت إشارة العقل النظري، فهو جامع للکمالات بأسرها، والظلم الذي هو مقابلها جامع للنقائص بأسرها، اذ حقيقة الظلم وضع الشيء في غير موضعه، وهو يتناول جميع الذمائم ومنها الإنظلام فإنه تمکين الظالم في ظلمه وهو أيضاً ظلم.

وفيه أنّ الغرض ضبط المعاني وأطراف الأوساط والتعبير فيها بالألفاظ الدالة عليها، ولا ريب أنّ للعداله طرفين يعبر عنهما بلفظين، وتکلّف التعبير عنهما بلفظ واحد أو إرجاعهما إلي جامع واحد ولو بالتلازم قليل الجدوي ، والکلام في العدالة بالمعني الخاصّ الذي يقابله الظلم بالمعني الخاصّ، وأمّا العدالة بالمعني العام الشامل لجميع الأوساط کما هو الحقّ فهو امتزاج القوي وتسالمها وانقيادها تحت العاقلة بحيث يرتفع بينها التنازع.

ثالثها : أنّ الحقيقة الواحدة ربما تظهر في العوالم المتعدّدة علي صور متکثرة مختلفة غاية الاختلاف حتي في الجوهريّة والعرضية، فإنّ الجواهر القائمة بنفسها في الخارج المستغنية عن غيرها فيه باعتبار وجودها في الذهن أعراض قائمة به

ص: 540

حسب ما ذکره الحکماء المشّاؤن، وان کان لا يخلو من شيء، لکنّه لا يقدح في أصل القاعدة.

فالعلم مثلاً يظهر في الدنيا علي المشاعر بصورة عرضيّة قائمة بها، وفي النوم الذي هو المثال المنفصل يظهر بصورة اللّبن کما في الخبر: وفي الآخرة بصورة النور والحياة .

والظلم الذي هو من عوارض الأفعال والأقوال في هذه النشأة ظلمات يوم

القيامة.

ومن يتفکّه بغيبه أخيه المسلم فإنّما يأکل لحم أخيه ميتاً.

(إنّ الذين يأکلون أموال اليتامي ظلماً إنما يأکلون في بطونهم ناراً) (1)

ومن يشرب من آنية الذهب والفضة فإنما يجرجر في بطنه نار جهنّم،

والجرجرة (2) الصّب.

وذلک أنّ کل حقيقة محفوظة بنفسها في جميع العوالم، لکنّها تختلف ظهوراً

وخفاء، وحقيقة ومثالاً باعتبار العوالم، ففي الدنيا بصورة الجواهر والأعراض الکائنة فيها، وفي الآخرة، وهي اليوم الذي فيه بلئ السرائر وتکشف الضمائر، يظهر کل شيء بحقيقته الّتي هو عليها من دون مثال وحکاية، فيظهر نور الإيمان والولاية بحقيقته النورانية ولذا قال تعالي : (يوم تري المؤمنين والمؤمنات يسعي نورهم بين أيديهم وبأيمانهم )(3)

وهو النور المشار اليه بقوله : (الله وليّ الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات

ص: 541


1- النساء : 10.
2- اشارة الي ما في مجازات النبوية ص90 قال النبي صلي الله عليه وآله وسلم للشارب في آنية الذهب والفضة : إنّما يجرجر في بطنه نار جهنم». وعنه البحار: ج531/66.
3- الحديد : 12.

الي النور)(1)

ولذا (يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا ) .

في الدنيا «انظرونا» اي انظروا إلينا «نقتبس من نورکم»، علي سبيل الإستضائة والإستشراق، « قيل إرجعوا ورائکم» يعني الي الدنيا (فالتمسوا نوراً)(2)

فإنّ هناک يکتسب النور، وهذا يوم الظهور، فالدنيا عمل ولا جزاء والآخرة جزاء ولا عمل، بل الدنيا هي أرض المحشر والطبقة الأولي من جهنّم وهي سجن المؤمن وناره، (إن منکم إلّا واردها) (3) ولذا يقول المؤمنون يوم القيامة : جزناها، وهي نارخامدة، والحمّي حظّ المؤمن من فيح جهنّم، والتکاليف الدنيويّة هي النار المؤججّة في عالم الذرّات فمن دخلها کانت عليه برداً وسلاماً.

وسوء الخلق هو الذي يوجب ضغطة القبر، بل هو هي بعينها، بل البدن الدنيوي قبر متصل لصاحبه قبل القبر المنفصل، ولذا جعلت من بيانيّة في قوله تعالي : (کما يئس الکفّار من أصحاب القبور)(4) وقال : وما انت بمسمع من في القبوره (5)، واليه الاشارة بقول مولينا اميرالمؤمنين عليه السلام . وفي الجهل قبل الموت موتّ لأهله وأبدانهم قبل القبور قبور وکلّ امرء ثم يحييَ بالعلم ميّتً وليس له حتي النشورِ نشورً(6)

وبالجملة صاحب الخلق الشيء تري صدره ضيّقاً حرجاً وهو لا يزال في

ص: 542


1- البقرة : 257.
2- الحديد : 13.
3- سورة مريم : 71.
4- الممتحنة : 13.
5- فاطر: 22.
6- الديوان المنسوب إلي أمير المؤمنين عليه السلام.

ضيق وضَنک من العيش، وهو ضمة القبر له في الدنيا وفي البرزخ أيضاً.

ولذا لمّا مات سعد بن معاذ (1) وشيعه سبعون الف ملک، وکان رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم في تشييعه بلا حذاء ولا رداء تأسيّاً بالملائکة، ولحده رسول الله وسوي عليه اللبن بيده الشريفة، فقالت أم سعد يا سعد هنيئا لک الجنّة ، فقال رسول الله له : يا أمّ سعد مه لا تجزمي علي ربّک، إنّ سعداً قد أصابته ضمّة، إنّه کان في خلقه مع أهله سوءً(2)

وبعد ذلک کلّه ينکشف سر قوله :(وإن جهنم لمحيطة بالکافرين (3)

وقوله : ( وما تجزون الا ما کنتم تعملون)(4)وقوله : (يومئذٍ يصدر الناس اشتاتاً ليروا أعمالهم فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرّة شرّاً يره ) (5)

فتح للباب وکشف الحجاب

إن تقصد والرشدَ لدين قويم فالتزموا صراطه المستقيم من جاء بالحبّ له في الوري فقد أتي الله بقلبٍ سليم

اعلم أنّ مقتضي الألوهية أنّ يعرّف الله تعالي نفسه لعباده حتي يعرفوه واذا عرفوه عبدوه ، کما ورد في أخبار مستفيضة، ومقتضي الربوبيّة أنّ يسوق اليهم ما يمدّ وجودهم وبقائهم وتنقلهم وتحولّهم في کل عالم من العوالم، الأرواح،

ص: 543


1- سعد بن معاذ الصحابي الأنّصاري کان سيد الأوس توفي سنة (5) ه بعد غزوة الأحزاب بسهم أصابه في تلک الغزوة - العبر ج 1 ص 7.
2- بحار الأنّوار : ج 297/73.
3- العنکبوت : 54.
4- الصافات : 39.
5- الزلزال : 6-7-8.

والأشباح، والأصلاب، والأرحام إلي البرزخ والحشر ثم الي الجنة أو النار.

وقضيّة الإمکان أنّ الإنسان في کل العوالم يحتاج إلي جملة من الإمدادات والفيوضات بحسب أجزائه وأعضائه ومشاعره وقواه، ولا تصل تلک الفيوضات إلا من الله سبحانه، وحيث إنه تعالي أبي أنّ يجري الأمور إلا أسبابها، ومنها الطريق الموصل للإفاضات الي العبد وهذا الطريق هو صراط الله الي عبده، فکل من کان واسطة لإيصال شيء من الفيوض هو صراط منه سبحانه، لکن الصراط الأتم الأتوم هو النبي الرسول الأعظم عليه السلام ، وأميرالمؤمنين ، وذرّيته الطيّبون صلوات الله عليهم أجمعين، فإنهم (صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الارض) (1)علي أحد الوجهين من کون الوصف والضمير للصراط علي وجه التحمل والوساطة لا الشرکة والاستقلال.

ولذا عقبه بقوله : (ألا إلي الله تصير الامرء) (2) ولا ينافيه قوله : وإن الينا ايا بهم ) أي أياب هذا الخلق (ثم إنّ علينا حسابهم ) (3) بعد حفظ الحدود، وأفاض عليهم من رحمته، وقامت بهم غيرهم قياماً إفاضياً اشراقياً کالإشراقات الساطعة من المرأة المجوّلة الموضوعة شطر الشمس ، بل کالشعاع الذي هو أثر فعل الشمس في إنبساطه، وتجلّيه وفيضاته علي الأشياء

نعم انهم عليه السلام الصراط المستقيم من الحق الي الخلق في جميع الشؤون الفائضة منه سبحانه إلي الخزائن الغيبّية النازلة إلي الخلق أجمعين ومن هنا يقال : إنهم العلّة في خلق الأشياء فإن المستفاد من الأخبار المأثورة أنّ الله تعالي خلق من نور محمد وآله صلي الله عليه وآله وسلم أنّوار جميع الأنّبياء والملائکة والجنة والعرش والکرسي،

ص: 544


1- الشوري : 03.
2- الشوري : 53.
3- الغاشية : 26.

ايراد کلام لدفع أوهام والحجب والسماوات والأرضين .

قال شيخنا المجلسي في رسالة إعتقاداته : إعلموا أنّ الله تعالي کرّم نبيّه محمداً صلي الله عليه وآله وسلم وأهل بيته سلام الله عليهم أجمعين وفضلهم علي جميع خلقه، وجعلهم معادنَ رحمته وعلمه وحکمته، فهم المقصودون في إيجاد عالم الوجود، المخصوصون بالشفاعة الکبري والمقام المحمود، ومعني الشفاعة وسائط فيوض الله تعالي في هذه النشأة والنشأة الآخرة ، إذهم القابلون للفيوض الإلهية، ويتطفّلهم تفيض الرحمة علي سائر الموجودات.

وهذه هي الحکمة في لزوم الصلوات عليهم، والتوسل بهم في کلّ حاجة،

لأنّه اذا صلّي عليهم لا يرد، لأنّ المبدأ فيّاض، والمحلّ قابل ، ببرکتهم تفيض علي الداعي بل علي جميع الخلق. إلي أنّ قال : فکذالک سائر الفيوض والکمالات هم وسائط بين ربهم وبين سائر الموجودات، فکل وجود يبتدأ بهم، ثم ينقسم علي سائر الخلق ، ففي الصلاة عليهم استجلاب الرحمة الي معدنها.

فقد صرّح في أوائل البحار بمثل ذلک، وأنّه قد ثبت في الأخبار کونهم علة غائية لجميع المخلوقات، وأنّه لولا هم لما خلق الله الأفلاک وغيرها ... إلي أنّ قال : فالحاصل أنّه قد ثبت بالأخبار المستفيضة أنّهم عليه السلام الوسائل بين الخلق وبين الحقّ في افاضة جميع الرحمات والعلوم والکمالات....

ايراد کلام لدفع اوهام

وکانّي بصائل يصول ويقول هذه کلها من مقالات الغالين المنحرفين عن الدين المبين، الهالکين في مولينا اميرالمؤمنين عليه السلام کما قال : قد هلک فيّ رجلان

ص: 545

محبّ غالٍ ومبغض قالٍ(1)

وذلک لأنّ هذه کلها شؤون الربوبية وخواص الألوهية، وکيف يُنسَب تدبير نظام العالم إلي المستحدث من النّسم، والموجود بعد العدم، الذي ليس له حظّ من القدم، وهل هذا إلا الشرک في خلّاق العالم، وأوّل القول بالتفويض الّذي اطبق علي عناده کافّة الأمم.

والاخبار الدالّة علي اثبات بعض هذه الشؤون لهم يجب إطراحها أو تاويلها الشذوذها في نفسها، وضعف أسانيد اکثرها، ومخالفتها للأخبار الصحيحة الصّريحة المعتبرة، بل للآيات المحکمة القرآنية.

کقوله: (هل من خالق غير الله يرزقکم من السماء والأرض لا اله الا هو

فائي تؤفکون) (2)

وقوله : (هذا خلق الله فاروني ما ذا خلق الذين من دونه)(3). وقوله : (الله يرزقها وايّاکم)(4)

وقوله :(الله الذي خلقکم ثمّ رزقکم ثمّ يميتکم ثمّ يحييکم هل من

شرکائکم من يفعل من ذلکم من شيء سبحانه و تعالي عمّا يشرکون)(5)

وقوله : (قل الله خالق کلّ شيء ) (6) وقوله : (ما خلق الله السموات

ص: 546


1- في بحار الأنّوار : ج 285/25 عن المناقب ج 1 ص 227: يهلک فيّ إثنان : محبّ غالي ، ومبغض قالي
2- فاطر: 3.
3- لقمان : 11.
4- العنکبوت: 60.
5- الروم: 40.
6- الرعد: 16.

والأرض وما بينهما الّا بالحقّ وأجل مسمّي)(1) وقوله : (ان الله هو الرزاق ذو القوّة المتين ) (2)

وما يدّعونه هؤلاء من أنّ هذه الشؤون منهم لما کانت باذنه سبحانه فکانّها

وقعت منه فلا تنافيه الآيات.

مدفوع بصريح قول مولينا الصادق عليه السلام : إن من زعم أنّا خالقون بأمر الله فقد

کفر(3)

بل ذکر الصدوق وفاقاً لشيخه ابن الوليد(4) أنّ أوّل مرتبة الغلوّ نفي السهو

عن النبي والأئمة عليه السلام .

وذهب الشيخ المفيد والسيّد المرتضي والعلّامة وغيرهم من أجلّة الإماميّة

إلي بطلان القول بسبق خلق الأرواح علي الأبدان .

مع أنّ القول باستناد تلک الشؤون إليهم ووساطتهم لها من بدو العالم لا يتمّ الّا علي القول بالسبق ضرورة حدوث أبدانهم الشريفة في آخر الزمان، فکيف تکون أرواحهم الشريفة مخلوقة قبل ذلک، مدبّرة متصرّفة باذن الله ولذا انکروا عالم الذّر، حتّي قال المفيد في شرح إعتقادات الصدوق: إن القول به من مذاهب أصحاب التناسخ، ومنهم من دخلت الشبهة علي حشوية الشيعة فتوهّموا أنّ الذوات الفعالة المأمورة المتهيّة کانت مخلوقة في الذرة وتتعارف و تعقل و تفهم وتنطق ثمّ خلق الله لها أجساداً بعد ذلک فرکبها فيها، ولو کان ذلک کذلک لکنّا نعرف نحن ما کنّا عليه

ص: 547


1- الروم : 8.
2- الذاريات: 58.
3- لم أظفر علي مصدره ولکن في البحار ج 343/25 ، عن اعتقادات الصدوق أنّا أرباب فنحن منه براء، ومَن زعم أنّ إلينا الخلق وعلينا الرزق فنحن براء منه .
4- هو محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد ، ثقة، ثقة ، عين ، عارف بالرجال له کتب ، روي 71 رواية. وکان من شيوخ الصدوق المتوفي (381)ه..

واذا ذکرناه به ذکرناه .

إلي آخر ما ذکره حسبما تسمع حکايته عند قوله : ( وإذا أخذ ربّک من

بني آدم من ظهورهم ذرّيتهم)(1)

والجواب عن ذلک وعن القدح فيما ينسب اليهم من علم الغيب وغيره من

غرائب الأحوال وعجائب الأفعال أنّ هيهنا مقامين لتقرير الإشکال :

أحدهما أنّ هذه المراتب والشؤون بجميع معانيها أو علي الوجوه المرادة منها ليست من المراتب الإمکانية التي أمکن انصاف أحد من المخلوقين بها بل کلّها من الشؤون الإلهية التي تفرد بها خالق الملک والملکوت ومشارکة غيره تعالي له فيها شرک صريح مردود بحکم العقول والأثر المنقول.

وثانيهما أنّها مراتب إمکانية ممکنة في حقّ الممکنات إلّا أنّه لا دليل علي ثبوتها للائمة عليه السلام ، والأخبار الدالّة عليه أحادُ ليست بحجّة مطلقاً سلّمنا لکن حجّيتها مقصورة علي الفروع لا مثل هذه المسائل التي من الأصول أو من فروع الأصول دون الفروع، سلّمنا لکنها فاقدة لشرائط الحجية من صحّة السند وقوّة الدلالة والاستناد بالعمل وغيرها أو واجدة لموانعها کمخالفة الکتاب ووجود المعارض الأقوي ، وإعراض الاصحاب عن العمل بها.

امّا المقام الأوّل فالکلام فيه طويل عريض وحاصله أنّ هذه الشؤون والأحوال بل کلّ فعل من الأفعال إذا نسب إليهم أو غيرهم علي وجه الإستقلال بان يکون الفعل منهم بحولهم وقوّتهم من دون إفاضة وتأثير من الله تعالي أصلاً، أو مع إبتدائية إنشائية لا مستمرّة متجدّدة سيّالة أو من الله وعبده علي سبيل إشتراک کلّ منهما للآخر علي وجه الثابت له، فهذه الوجوه الثلثة کلّها کفر صريح مخالفة للع

ص: 548


1- الأعراف : 172.

ايراد کلام لدفع أوهام

الصحّيح، ونحن برآء من الذين يدينون الله بها ويعتقدونها في حقّ أحد من المخلوق.

وعليه يُحمَل الاخبار الدالّة علي شرک القائل بالتفويض کالمرويّ في الاحتجاج عن أبي الحسن الرضاعليه السلام مَن زعم أنّ الله يفعل أفعالنا ثمّ يعذّبنا عليها فقد قال بالجبر، ومَن زعم أنّ الله فوّض أمر الخلايق والرزق إلي حججه عليهم السلام فقد قال بالتفويض، والقائل بالجبر کافر، والقائل بالتفويض مشرک (1)

بل الحقّ أنّ القول باستغناء الباقي في بقائه عن المؤثّر وأنّ الموجد للشيء مُبق له بنفس الايجاد من دون إفاضة متجدّدة مستمرّة راجع إلي الوجوه المتقدمة الموجبة للشرک وانتلام التوحيد، وإن ذهب إليه بعض علماء الاسلام، بل ربما مال إليه بعض مشايخنا العظام، غفلة عن حقيقة الحال، ونحن لا نقول بثبوت شيء من تلک الشؤون علي شيء من هذه الوجوه، بل المراد أنّهم عبيد مربوبون محتاجون مفتقرون، بحيث قد فاق فقرهم علي فقر العالمين لأنّ الخلق کلهم عيال لهم ولذا قال مولينا رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم: الفقر فخري وبه أفتخر علي الأنّبياء قبلي (2)

لکن الله تعالي قد إصطفاهم وفضّلهم علي جميع الخلق أجمعين واختارهم

علي علم علي العالمين ، فجعلهم أبوابه وشبله وحملة فيضه، وترجمان وحيه.

وبالجملة التوسط في الفيوض التکوينية والتشريعيةً غير مستنکر في الشريعة بل ربّما توجبه الحکمة الربانية، وعليه جرت السنّة الالهيّة في التشريع ، فأرسل أنّبياء وجعل لهم أوصياء وخلفاء، وجعل بين الناس وبين القري المبارکة قري ظاهرة في کينونات الأشياء أيضاً فخلق لکلّ شيء شيئاً فأضاء بالشمس، وأنّار

ص: 549


1- بحار الأنّوار : ج 328/25 ۔ 329 عن عيون أخبار الرضاعليه السلام ص 70.
2- عوالي اللألي ج39/1ح 38.

بالقمر، وسخّن بالنار، وبرة بالماء، ووکلّ بکلّ شيء ملائکة يحفظونه بأمر الله ، بل وکلّ بالشئون الأربعة الّتي هي أرکان عرش التکوين الملائکة الأربعة المقربين ، کما ورد في کثير من الأخبار والأدعية ، ووکلّ بخلق المولود وتصويره ملکين خلّاقين يقتحمان رحم المرئة، فيقولان يا رب نخلقه ذکراً أم أنّثي، سعيداً ام شقياً، مليحاً أم قبيحاً، ووکلّ بالامانة وقبض الأرواح ملئکة هم أعوان للملک الجليل عزرائيل باذن الرب الجليل ، ولذا نسب القبض والتوفّي في صريح القرآن إليه وإلي کلّ منهما، وقد أجاب مولينا أمير المؤمنين عليه السلام عن الزنديق المدعي للتناقض في أي من القرآن کقوله : (قل يتوفيکم ملک الموت الذي وکلّ بکم )(1)(الله يتوفّي الأنّفس حين موتها ) (2)، (الذين تتوفيهم الملئکة) (3)حيث انّه تعالي يجعل الفعل مرّة لنفسه، ومرّة لملک الموت، ومرة للملئکة بقوله عليه السلام: أنّ الله أجلّ وأعظم من أنّ يتولي ذلک بنفسه وفعلُ رسله وملئکة فعله لانهم بامره يعملون فاصطفي جلّ ذکره من الملائکة رسة وتقرة بينه وبين خلقه وهم الذين قال الله فيهم: (الله يصطفي من الملئکة رسلاً ومن الناس ) (4)فمن کان من اهل الطاعة تولت قبض روحه ملئکة الرحمة، ومن کان من أهل المعصية تولّت قبض روحه ملائکة النعّمة.

ولملک الموت أعوان من ملائکة الرحمة والنقمة يصدرون عن أمره، وفعلهم فعله، وکل ما ياتونه منسوبّ اليه ، واذا کان فعلهم فعلُ ملکِ الموت، وفعلَ ملکِ الموت فعلَ الله لآنّه يتوفّي الأنّفس علي يد مَن يشاء ويعطي ويمنع ويثيب ، ويعاقب علي يَدَمن يشاء وإنّ فعلَ أمنائه فعله کما قال تعالي : ( وما تشاؤن الّا أنّ يشاء

ص: 550


1- السجدة : 14.
2- الزمر: 42.
3- النحل : 28 .
4- الحج: 75.

الله و (1)-(2) إلي أنّ قال عليه السلام .

واما ما أراک من الخطاب بالانفراد مرّة وبالجمع اخري، من صفة الباري جلّ ذکره فان الله علي ما وصف به نفسه بالانفراد والوحدانية هو النور الازلي القديم الذي ليس کمثله شيء لا يتغير ، ويحکم ما يشاء ويختار ولا معقّب لحکمه، ولا راد القضائه، ولا ما خلق زاد في ملکه وعزّة ولا نقص منه عالم يخلقه، وانّما اراد بالخلق اظهار قدرته وابداء سلطانه، وتبين براهين حکمته، فخلق ما شاء کما شاء، وأجري فعلَ بعض الاشياء علي ايدي من اصطفي من أمنائه ، وکان فعلُهم فعلَه، وأمرهم امرهُم کما قال : (من يطع الرسول فقد اطاع الله )(3)

وجعل السماء والأرض وعاء لمن شاء من خلقه ليميّز الخبيث من الطّيب،

مع سابق علمه بالفريقين من أهلها، وليجعل ذلک مثالاً لاوليائه وأُمنائه، وعرّف الخليقة فضلَ منزلة أوليائه، وفرض عليهم من طاعتهم مثل الذي فرضه منها لنفسه، وألزمهم الحجة بأنّ خاطبهم خطاباً يدلّ علي إنفراده وتوحده ويأنّ له أولياء تجري أفعالهم وأحکامهم مجري فعله ، فهم العباد المکرمون الذين لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون، وهم الذين ادهم بروح منه، وعرف الخلق اقتدارهم علي علم الغيب، بقوله : (وعالم الغيب فلا يظهر علي غيبه أحدة الأمن ارتضي من رسول) (4) وهم النعيم الذي يُسئل العباد عنه، لان الله أنّعم بهم علي من اتّبعهم من

اوليائهم.

قال السائل : مَن هؤلاء الحجج ؟ قال علي: هم رسول الله صلي الله عليه وآله وسلمومن حلّ

ص: 551


1- الانسان: 30 - التکوير : 29.
2- بحار الأنّوار: ج108/93 - 109 عن الاحتجاج .
3- النساء : 80.
4- الجن: 26.

محلّه من أصفيائه الله الذين قرنهم الله بنفسه وبرسوله، وفرض علي العباد من طاعتهم مثلَ الذي فرض عليهم منها لنفسه وهم ولاة الأمر الذين قال الله فيهم : (اطيعوا الله واطيعوا الرسول واولي الامر منکم) (1)، وقال فيهم:( ولو ردّوه إلي الرسول وإلي اولي الامر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ) (2)

قال السائل ما ذاک الأمر؟ قال علي عليه السلام: الّذي به تنزّل الملئکة في الليلة الّتي يفرق فيها کلّ امر حکيم من خلق ورزق، واجل وعمل وحيوة وموت، وعلم غيب السموات والأرض، والمعجزات التي لا ينبغي الالله واصفيائه والسفرة بينه وبين خلقه ، وهم وجه الله الذي قال : (فاينما تولّوا فثمّ وجه الله)(3)

هم بقيّة الله يعني المهدي الذي يأتي عند انقضاء هذه النظرة، فيملأ الأرض

قسطا وعدلا کما ملئت جوراً وظلماً.

ومن آياته الغيبة والاکتتام عند عموم الطغيان وحلول الإنتقام، ولو کان هذا

الأمر الذي عرفتک نبأه للنبي صلي الله عليه وآله وسلم دون غيره لکان الخطاب يدلّ علي فعل ماض غير دائم لا مستقبل ، ولقال نُزّلت الملئکة وفُرّق کلُّ أمر حکيم، ولم يقل : تنَزَّل الملئکة ويفرق کلّ أمر حکيم، الخبر بطوله (4)

وانما زيّنا المقام بنقل کثير منه لاشتماله علي فوائد مهمّة في المقام وغيره کالبيّنة علي أنّ ضمائر الجمع في کثير من آيات القرآن لاقتران أوليائه بنفسه في تلک الشؤون مع کونه سبحانه علي توحده وانفراده.

ولذا قال مولينا المجلسي بعد ذکر ما ورد في تفسير قوله تعالي :( وانّ الينا

ص: 552


1- النساء: 59.
2- النساء : 83.
3- البقرة : 115.
4- بحار الأنّوار : ج 93 باب ردّ التناقض في القرآن ص 98 - 119.

ايابهم ثمّ ان علينا حسابهم ) (1) من الأخبار الّدالة علي أنّ المراد بضمير الجمع هو النبي والائمة عليه السلام : هذا تاويل ظاهر شايع في کلام العرب جار في کثير من الآيات إذ عادة السلاطين والأمراء جارية بأنّ ينسبوا ما يقع من خدمهم بأمرهم إلي أنّفسهم مجازا، بل أکثر الآيات التي وردت بصيغة الجمع وضميره کذلک کما لا يخفي علي المتتبع . انتهي کلامه زيد مقامه (2)

وکالتصريح بأنّهم علي وُلاة الأمر حسب ما فسّربه الآيتين(3)بانّ صرّح بانّ ذلک الأمر الذي هم ولاته هو من جملة الأمور التکوينية من خلق ورزق واجل وعمل إلي آخر ما ذکره.

بل فسرّ بهما الأمر في قوله: (کلّ امر حکيم امراً من عندنا )(4) والعمل في

قوله :(وهم بامره يعملون) (5)کما اليه الإشارة في الخطبة الأميرية الغديرية.

وبالجملة المتوسط في مثل تلک الشؤون علي الوجه الذي سمعتَ ليس غلوّاً فيهم، ولا اثباتاً للصفات الربوبيّة المطلقة الالهية لهم، وقد قال مولينا أميرالمؤمنين عليه السلام ما يحکي عن بعض الأصول: نحن اسرار الله المودَعة في الهياکل البشرية، يا سلمان نزّلونا عن الربوبيّة وادفعوا عنا حظوظ البشريّة، فأنا عنها مبعدون، ومما يجوز عليکم منزّهون، ثمّ قولوا فينا ما استطعتم فإنّ البحر لا ينزف، وسرّ الغيب لا يعرف، وکلمة الله لا توصف، ومن قال هناک لِمَ وبِمَ وممّ فقد

ص: 553


1- الغاشية : 25.
2- ج268/24 و من الأخبار الدالّة ما رواه الکليني في الکافي ج 8/162 ح167عن الکاظم عليه السلام : إلينا اياب هذا الخلق وعلينا حسابهم ..
3- المراد بهما آية (59) و آية (83) من النساء
4- الدخان : 4 - 5.
5- الأنّبياء: 27.

کفر (1)

وقال مولينا الصادق عليه السلام ما رواه في البصائر وغيره : اجعلوا لنا ريا ئؤب إليه وقولوا فينا ما شئتم ولن تبلغوا فقال له السائل نقول ما شئنا قال عليه السلام وعسي أنّ نقول : والله ما خرج اليکم من علمنا إلا الف غير معطوفة.

قال المجلسي : ألف غير معطوفة أي نصف حرف کناية عن نهاية القلّة فان

الألف بالخطّ الکوفي نصفه مستقيم ونصفه معطوف هکذا «ل» وقيل : أي الف ليس بعده شيء، وقيل : ألف ليس قبله صَفراي باب واحد ثم قال : والأول هو الصَّواب والمسموع من أولي الألباب(2)

قلت : وقد ذکر السيّد السند في شرح الخطبة قال : وقد روي الکليني في الکافي ما معناه أنّه قيل للصادق عليه السلام : إن ما علّمه النبي عليّاً من الأبواب التي ينفتح من کلّ باب ألف باب هل ظهرت لشيعتکم کلّها؟ قال : ما ظهر منها باب أو بابان، قال فما ظهر من فضلکم لشيعتکم إلّا باب أو بابان؟ قال: وما عسي أنّ يظهر

الکم، والله ما ظهر لکم من فضلنا إلّا ألف غير معطوفه (3)

ثم قال : إن المعاني والدلالات کلّها انّما تحصل بالحروف وتأليفها

ص: 554


1- مشارق الأنّوار ص 69۔ 70 مثله بتفاوت.
2- بحار الأنّوار : ج 283/25مع تفاوت يسير عن بصائر الدرجات ص149.
3- ذکر المصنف هذا الحديث بالمعني ونحن نذکره هنا بالنص تيمناً وتبرکاً ، ففي الکافي 1/ 297 عن يونس بن رباط قال : «دخلت أنّا وکامل التمار علي ابي عبدالله عليه السلام فقال له کامل : جعلت فداک حديث رواه فلان فقال : أذکره ، فقال : حدثني أنّ النبي صلي الله عليه وآله وسلم حدث علياً عليه السلام بألف باب يوم توقي رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم کل باب يفتح الف باب فذلک ألف ألف باب ، فقال : لقد کان ذلک ، قلت : جعلت فداک ، فظهر ذلک لشيعتکم ومواليکم ؟ فقال : يا کامل باب أو بابان ؟ فقلت : جعلت فداک ، فما يروي من فضلکم من الف الف باب الا باب أو بابان ؟ قال : فقال : وما عسيتم أنّ ترووا من فضلنا ما تروون من فضلنا الا ألفا غير معطوفة

وترتيبها علي نظم معيّن ، والحروف تحصل من إنعطاف الألف اللّينية إلي الأطوار والأحوال الثمانية والعشرين فقبل انعطاف الالف لم تظهر الحروف، فضلا عن ظهور المعاني المختلفة المتعدّدة الغير المتناهية فالالف الغير المعطوفة من حيث هي ليس فيها شيء أصلا من المعاني الّتي تظهر بالحروف.

أقول : ولعلّ التعبير حينئذ بالالف الغير المعطوفة إشارة إلي عدم ظهور شيء من حقايقهم ومعاني ذواتهم، ومعرفة کينوناتهم، ومراتبهم عند الله تعالي لأحد من شيعتهم، فضلاً عن غيرهم.

وفي حديث معرفتهم بالنورانية : إن المؤمن الممتحن هو الذي لا يَردُ من أمرنا اليه شيء إلا شرح صدره ولم يشک ولم يرتدد(1) إعلم يا اباذر انا عبدالله عزّوجلّ وخليفته علي عباده لا تجعلونا أرباباً وقولوا ما شئتم في فضلنا فإنکم لا تبلغون کنه ما فينا ولا نهايته فان الله عزّوجلّ قد أعطانا اکبر وأعظم عمّا يصفه واصفکم أو يخطر علي قلب أحدکم فإذا عرفتمونا هکذا فأنّتم المؤمنون (2)

وفي الاحتجاج وتفسير الامام عن مولينا اميرالمؤمنين عليه السلام : لا تجاوزوابنا العبودية ثم قولوا ما شئتم ولن ثعلوا واياکم والغلو کغلو النصاري فاني بريء من الغالين (3)

وفيه اشارة إلي معني الغلو المنهي عنه فيهم، وانه ما قيل فيهم من الصفات الإمکانية التي تساوق العبوديّة فليس غلوّاً في شيء، ولذا بين الغلّو بتشبيهه بغلو النصاري القائلين بالحلول والاتّحاد والتثليث وإضافة النبوّة إلي البنوّة، وذلک القصوراً أنّظارهم وضيق صدورهم عن ملاحظة ما من الله تعالي علي أوليائه من

ص: 555


1- وفي البحار : ولم يرتدد .
2- بحار الأنّوار : ج2/26 عن والده .
3- البحار: ج 25 / 274ح 20 عن تفسير الامام عليه السلام ص 18 والاحتجاج للطبرسي ص 242.

التّصرف في الملک والملکوت مع أنّ الأمر کله بيده سبحانه وحده لا شريک له حسب ما سمعت

ومن هنا يعلم أنّ الأخبار الناهية عن الغلو محمولة علي المعاني الثلاثة المتقدمة کما هو معلوم من حال عبد الله بن سبا(1) اوّل الغلاة المذکور حاله في الرجال.

وفي بصائر الدرجات وکتاب الدلائل للحميري عن اسماعيل بن عبد العزيز قال : قال لي ابو عبدالله عليه السلام : يا اسماعيل ضع لي للمتوضّا ماء قال : فقمت فوضعت له فدخل فقلت في نفسي: أنّا أقول فيه کذا وکذا ويدخل المتوضا ويتوضّا.

قال فلم يلبث أنّ خرج. فقال : يا اسمعيل لا ترفع البناء فوق طاقته فينهدم إجعلونا مخلوقين وقولوا فينا ما شئتم ولن تبلغوا، فقال إسمعيل وکنت أقول إنّه هو وأقول وأقول(2)

أقول : قيل : المراد انّه الربّ تعالي الله عن ذلک، وأقول أي لم أرجع بعد عن

هذا القول، أو المعني کنت مصّراً علي هذا القول.

وفي حديث الأربعمائة عن مولينا اميرالمؤمنين عليه السلام : إيّاکم والغلوّ فينا فإنّا

عباد مربوبون وقولوا في فضلنا ما شئتم (3)

بل يستفاد من تتبّع مذاهب الغلاة حسب ما نشير اليها في تفسير غير المغضوب عليهم : أنّ مساق الأخبار الرادة عليهم ما سمعت من الحلول والاتحاد

ص: 556


1- قال المحدّث القمي قدس سرّه في سفينة البحار ج 6 ص 98: عبدالله بن سبأ غال ملعون إستهواه الشيطان وکان يأتيه ويلقي في ژوعه ما اعتقده من الباطل فکان يدعي النبوة وأنّ أمير المؤمنين عليه السلام هو الله تعالي فحبسه اميرالمؤمنين ع واستتابه فلم يتب فأحرقه بالنار .
2- بحار الأنّوار : ج279/25 ح 22 عن بصائر الدرجات ص 64.
3- الخصال : ج 2/ 37 وعنه البحار : ج 270/25

والألوهية والنبوة وغيرها ممّا يأتي اليه الاشارة ولذا شبه مولينا أبو محمد العسکري عليه السلام

علي ما في تفسيره وفي الاحتجاج بما يحکي عن قصورهم حيث قال راوية عن جده الرضا عليه السلام أنّهم کانوا کطّلاب ملک من ملوک الدنيا ينتجعون فضله، ويأملون نائله، ويرجون التقيّؤ بظّله، والانتعاش بمعروفه، والانقلاب إلي أهلهم بجزيل عطائه الذي يعينهم علي طلب الدنيا، وينقذهم من التعرّض لدنّي المکاسب وجنس المطالب، فبيناهم يسئلون عن طريق الملک ليترصدوه وقد وجّهوا الرغبة نحوه وتعلقت قلوبهم برؤيته، اذ قيل سيطلع عليکم في جيوشه ومراکبه وخيله ورجله ، فاذا رأيتموه فأعطو من التعظيم حقّه، ومن الإقرار بالمملکة واجبه ، واياکم أنّ تسموا باسمه غيره، او تعظّموا سواه کتعظيمه فتکونوا قد بختم الملک حقه وأرزيتم عليه، واستحققتم بذلک منه عظيم عقوبته فقالوا نحن کذلک فاعلون جهدنا وطاقتنا فما لبثوا أنّ طلع عليهم بعض عبيد الملک في خيل قد ضمّها إليه سيّده ورجل قد جعلهم في جملته، وأحوال قد حباه بها، فنظر هؤلاء وهم للملک طالبون واستکثروا ما رأوه بهذا العبد من نعم سيده، ورفعوه عن أنّ يکون من هو المنعم عليه بما وجدوا معه عبداً ، فأقبلوا يحيونه تحية الملک، ويسمّونه باسمه، ويجحدون أنّ يکون فوقه ملک، أوله مالک.

فأقبل عليهم العبد المنعَم عليه وسائر جنوده بالزجر والنهي عن ذلک والبرائة

مما يسمّونه به، ويخبرونهم بأنّ الملک هو الذي أنّعم عليه بهذا واختصّه به.

وأنّ قولکم ما تقولون يوجب عليکم سخط الملک وعذابه ويفوتکم کلّ ما املتموه من جهته واقبل هؤلاء القوم يکذبونهم ويزدري عليهم قولهم فما ذاک کذلک حتي غضب عليهم الملک لما وجد هؤلاء قد ساووا به عبده وأزروا عليه في مملکته وبخسوه حقّ تعظيمه نحشرهم أجمعين إلي حبسه، ووکلّ بهم مَن يسومهم سوء العذاب ، فکذلک هؤلاء وجدوا أميرالمؤمنين عليه السلام عبداًأکرمه الله ليبيّن فضلَه ويُقيم

ص: 557

حجتهَ فصغّروا عندهم خالقَهم أنّ يکون جعل عليّاً له عبداً وکبّروا عليّاً من أنّ يکون الله تعالي له رباً فسمُّوا بغير اسمه فنهاهم هو وأتباعه من أهل ملّته وشيعته وقالوا لهم يا هؤلاء إنّ عليّاً وولده عباد مکرَمون مخلوقون مدبَّرون لا يقدرون إلّا ما أقدرهم عليه الله رب العالمين، ولا يملکون إلا ما ملّکهم الله، ولا يملکون موتاً ولا حيوةً ولا نشوراً ولا قبضاً ولا بسطاً ولا حرکة ولا سکوناً إلّا ما أقدرهم عليه وطوّقهم وأنّ ربهم وخالقهم يجلّ عن صفات المحدثين ويتعالي عن نعوت المخلوقين ، وأنّ من اتّخذهم أو واحداً منهم أرباباً من دون الله فهو من الکافرين، وقد ضلّوا سواء السبيل، فأبي القوم إلّا جماها، وامتدّوا في طغيانهم يعمهون، فبطلت أمانيّهم وخابت مطالبهم، وبقوا في العذاب الأليم(1)

وبالجملة أنّ کون الشؤون المذکورة علي الوجه المتقدم من المراتب الإمکانية الّتي يجب تنزيه الواجب عنها ويمکن إتّصاف بعض الممکنات بها ممّا لا ريب فيه ولا شبهة يعتريه ولعلّ تطويل الکلام فيه من الاشتغال بالواضحات.

وما أحسن ما ذکره شيخ فلاسفة الاسلام من انّه کلّ ما لم يقم علي امتناعه

صحيح البرهان فذروه في بقعة الامکان.

وامّا المقام الثاني فلعلّ الخطب فيه سهل بعد التدبّر في الآيات المفسرّة عن أهل البيت عليهم السلام إن لم تکن علي قلوب أقفالها وکذا بملاحظة الأخبار المتواترة المذکورة في مواضع شتّي بل يستفاد ذلک ايضاً من بعض الخطب والأدعية والزيارات المأثورة عنهم عليهم السلام .

ففي الخطبة الأميرية الغديرية : وأشهد أنّ محمّداً عبده ورسولُه، استخلصه

ص: 558


1- بحار الأنّوار : ج 277/25 - 278 عن احتجاج الطبرسي ص 242 وتفسير الامام عليه السلام ص 18 - 21.

في القدم علي سائر الأمم علي علم منه به انفرد عن التشاکل والتماثل من ابناء الجنس انتجبه و آمرة وناهيا عنه، أقامه في ساير عالمه في الاداء مقامه إلي قوله :

واختصّه من تکرمته بما لم يلحقه فيه أحد من بريّته، فهو اهل ذلک لخاصته وخلته، اذ لا يختص من يشوبه التغيير ولا يخالل(1)من يلحقه التظنين، وان الله إختص لنفسه من بعد نبيّه صلي الله عليه وآله وسلم خاصّة علّاهم بتعليته، وسمابهم إلي رتبته، وجعلهم الدُعاءَ بالحق إليه، والأدلاّء بالارشاد عليه، لقرن قرن، وزمن زمن، أنّشأهم في القدم قبل کلّ مذروء ومبروء، أنّواراً أنّطقها بتحميده، وألهمها بشکره وتمجيده ، وجعلها الحجج علي کلّ معترف له بملکة الربوبيّة وسلطان العبودية ، واستنطق بها الخرسان بأنّواع اللغات بخوعاً(2)له بانّه فاطر الأرضين والسموات، وأشهدهم خلقَ خلقِه، وولاهم ما شاء من أمره، وجعلهم تراجِمَ مشيّة، وألسنَ إرادته ، وعبيداً لا يسبقونه بالقول وهم بامره يعملون.

الخطبة رواها الشيخ أبو جعفر الطوسي بالاسناد في متهجّده وفيها وجوه من الدلالة لا تخفي علي من تأمّلها وروي ايضاً التوقيع الخارج من الناحية المقدسة المشتمل علي قوله : ومقامک الّتي لا تفصيل لها في کلّ مکان يعرفک بها من عرفک،

لا فرق بينک وبينها إلّا أنّهم عبادک وخلقک فتتهاورتقها بيدک بدؤها منک ووجودها اليک أعضاء وأشهاد ومُناة وأزواد وحفظة ورّواد فبهم ملات سماءک وارضک حتّي

ظهران لا اله الا انت(3). الدعاء.

وستمسع تمام الکلام في تفسير هذه الکلمات الشريفة النورانية عند تفسير قوله تعالي : (ما أشهد تهم خلق السموات والأرض ولا خلق أنّفسهم وما کنت

ص: 559


1- يخالله : يصادقه ويتّخذه خليلاً.
2- بخع له بخوعة: أقر له إقرار المذعن .
3- بحار الأنّوار : ج 392/98 - 393.

متّخذ المضلّين عضدا)(1)

وفي الکافي في باب نوادر التوحيد عن مولينا الصادق عليه السلام قال : إنّ الله خلقنا فأحسن خلقنا، وصوّرنا فأحسن صُورَنا، وجعلنا عينَه في عباده ، ولسانه الناطق في خلقه، ويده المبسوطة علي عباده بالرأفة والرحمة، ووجههَ الذي يؤتي منه، وبابه الّذي يدلّ عليه، وخزانته في أرضه، بنا أثمرت الأشجار، وأينعت الثمار، وجرت الأنّهار، وبنا ينزل غيث السماء، ونبت عشب الأرض، وبعبادتنا عبدالله ولولا نحن ما عبدالله (2)

وفيه في باب مولد النبي صلي الله عليه وآله وسلم بالاسناد عن محمد بن سنان قال : کنت عند ابي جعفر الثاني عليه السلام فأجريت اختلاف الشيعة فقال يا محمّدإن الله تبارک وتعالي لم يزل متفرّداً بوحدانيته ثم خلق محمّداً وعليّاً وفاطمة، فمکثوا ألف دهر، ثمّ خلق جميع الأشياء فأشهدهم خلقها وأجري طاعتهم عليها، وفوّض أمورها إليهم، فهم يُحلّون ما يشاؤن ، ويحرّمون ما يشاؤن ، ولن يشاؤا إلا أنّ يشاء الله تبارک وتعالي ثمّ قال يا محمد هذه الديانة التي من تقدّمها مرق، ومن تخلّف عنها محق، ومن لزمها لحق، خذها إليک يا محمّد(3)

ومثله في الإختصاص عنه عليه السلام (4) .

وفي الخرائج عن مولينا الصادق عليه السلام انه قال لداود الرقّي يا داود لولا إسمي

وروحي لما اطردت الانهار ولا اينعت الثمار ولا اخضرت الاشجار(5)

ص: 560


1- الکهف : 51.
2- بحار الأنّوار : ج 197/24 ح 24 - وج 25 ص 5ح 7.
3- أصول الکافي ج 1 ص 440 و 441 وعنه البحار ج 25 ص 340 ح 24.
4- الاختصاص ص 327 وعنه البحار ج 25 ص 339.
5- بحار الأنّوار : ج 100/47 ح 120.

وقد مرّ في مواضع من هذا التفسير بعض الأخبار الدالّة علي هذا المرام،

وسيأتي جملة مقنعة منها أيضا فيما يأتي من الکلام، فان تطويل الکلام بذکر الأخبار يُخرجنا عمّا نحن بصدده من الإيجاز والاختصار.

والإنصاف أنّ مَن کان مأنّوسا مطلعاً علي الاثار المأثورة في هذه الشريعة الحقّة النبويّة المصطفوية علي صادعها ألف صلوة وسلام وتحيّة يحصل له العلم اليقيّني البرهاني بل الشهود العياني أولا باستحقاق مولينا أميرالمؤمنين وذرّيته الطيبين صلوات الله عليهم أجمعين للخلافة الحقة والوصاية المطلقة الاتصالية ، وثانياً بثبوت تلک الفضائل والمقامات والمراتب التي رتبهم الله تعالي فيها حسب ما وقع التصريح بها في الأخبار المتواترة التي تصدّي لجمعها علمنائنا الأعلام رفع الله أقدارهم في دار السلام وکفاک في ذلک التدبر في الزيارة الجامعة الکبيرة فانّها بحرالانوار، ومخزن کنوز الاسرار، وهو الکتاب الناطق بمفاخر الأئمة الأطهار.

والمناقشة بضعف السند أو الدلالة في هذه الأخبار ضعيفةً جدّاً بعد تتبّعها والإطّلاع بها وقوة دلالتها وتکرّرها في الأصول وتلقّيها بالقبول عن کثير من الفحول، وموافقتها لحکم الأفئدة والقبول.

ومن التعجب أنّ کثيراً من أسئل الله العافية من الابتلاء بهم يتلقّي الزيارة الجامعة وغيرها من الزيارات والأدعية والأخبار المشتملة علي غرائب أحوالهم عليه السلام علي وجه التسليم والقبول ثمّ اذا سمعوا منک شيئاً من فضائلهم سلقوک بألسنة حداد، وقالوا: هذا غلق وإلحاد، وأعجب منه أنّي رأيت غير مرة بعض الشعراء قد انشد القصائد الغراء في مدح بعض العلماء الأجلاء، وذکر فيها أنّ القدر نافذ باذنک والقضاءها وبأمرک وغيره مما يساوق هذا المعني فقرأها عليهم في محضرهم فسکتو عنه بل اَطروا في الثناء عليه، وأحضروا الجوائز بين يديه، وإذا سمعوه في حق مولينا أميرالمؤمنين عليه السلام زعموا العالي غالياً والقالي موالياً فبادروا

ص: 561

في الإنکار عليک أو هَمُّو وحسبوا أنّ لا تکون فِتنَة فعموا وصمّوا، وممّا يحضرني الآن من الأشعار التي أنّشدوها في مدح هؤلاء الفضلاء هذا:

دست تو رازق است وضمير تو غيب دان

بي دعوي خدائي ولاف پيمبري فان قلت: إنّ الوساطة والبابية في مثل الشؤون المتقدمة وان کانت ثابتة لهم للأخبار وغيرها الا أنّ ذلک لا يسمّي خلقاً ورزقاً ، ولا فاعله خالقاً ورازقاً ضرورةَ عدم استقلاله في شيء من ذلک، ومن البين إعتبار الإستقلال والتأصّل في مفهوم اللفظين وغيرهما يأبي عن صدقه علي غيره سبحانه .

قلت : مع الغضّ عن رجوع ذلک إلي الوضع اللفظي الذي لا ينبغي البحث فيه لا ريب في إطلاق الخلق والرزق في حقّ غيره سبحانه في الآيات وغيرها کخلق المسيح، والسامري، والملکين الخلّاقين، وحسبک في ذلک ملاحظة التفضيل المثبت للشرکة في قوله : (فتبارک الله أحسن الخالقين) (1) سيّما بعد ما ورد في تفسيره عن مولينا الرضا عليه السلام أنّه سُئل أو غير الخالق الجليل خالق ؟ فقال : إنّ الله تعالي قال : أحسن الخالقين، وقد أخبر أنّ في عباده خالقين وغير خالقين، منهم عيسي بن مريم خلق لهم من الطّين کهيئة الطير باذن الله ، والسامريّ خلق لهم عجلاً

جسداً له خوا(2)

بل روي النعماني عن مولينا الصادق عليه السلام أنّه سئل اميرالمؤمنين عن متشابه الخلق فقال : هو علي ثلاثة أوجه: فمنه خلق الإختراع کقوله : (خلق السموات والأرض) (3)

ص: 562


1- المؤمنون : 14.
2- بحار الأنّوار : ج 4 /147- 148.
3- الأعراف : 53، يونس : 3، هود : 57، الحديد : 4.

وخلق الاستحالة کقوله : (يخلقکم في بطون امّهاتکم خلقاً من بعد

خلق) (1)، وقوله :(خلقکم من تراب ثمّ من نطفة)(2)

وخلق التقدير کقول الله تعالي لنبيّه عيسي علي نبينا وآله وعليه السلام :

(وإذ تخلق من الطّين کهيئة الطّير) (3)-(4)

وقد سمعت أنّ نسبة الخالقيّة وغيرها الله سبحانه والي عباده المکرمين وملائکته المقربين علي وجوه مختلفة، وإن کانت من جهاتٍ اخري غير مذکورة في الخبر فإنّ المراد الإشارة إلي نوع الإختلاف، ومن هنا وغيره ممّا مرّ يظهر الجواب عن الاستدلال بالآيات الدالّة علي نسبة الخالقية اليه سبحانه دون غيره، فإنّ فعل عبيده فعله، لأنّهم عباد مکرمون لا يسبقونه بالقول وهم بامره يعملون، کما أجاب به مولينا أمير المؤمنين في خبر سؤال الزنديق المتقدم ذکره.

بل لمّا اندکت جبل انيّاتهم من أشعّة تجليّات العظمة والجلال ، وأشرقت علي حقايقهم القدسيّة في مقام الوصال عند انتهاء قوس الاقبال أنّوار الکمال والجمال کانت قلوبهم أوعيّة لمشية الله التي هي أصل صفات الأفعال.

ولذا روي في الخرائج عن مولينا القائم المهدي عجّل الله فرجه وسهّل مخرجه وأوسع منهجه أنّه سئل عن المفوضة فقال : کذبوا بل قلوبنا أوعية لمشية الله عزّوجلّ فاذا شاء شئنا. ثمّ تلا قوله تعالي :( وما تشاؤون الّا ان يشاء الله) (5) (6)

ص: 563


1- الزمر: 6.
2- غافر: 67.
3- المائدة : 110.
4- بحار الأنّوار : ج 60/ 333 عن النعماني .
5- الدهر : 30.
6- بحار الأنّوار : ج 25/ 337 عن غيبة الطوسي ص160.

فتدّبر في اشتمال هذا الخبر علي نوعي التفويض اللذين أحدهما شرک والآخر ايمان، حسب مامرّ بيانه کي يظهر لک الجواب عمّا في السؤال أيضاً من قول مولينا الصادق لا : من زعم أنّا خالقون.

وأمّا عدّ نفي السهو عنهم عليهم السلام غلوّاً فليس ببدع منهم بعد ما اشتهر من القميّين بل وبعض أئمّة الرجال أيضاً کابن الغضايري، وغيره من نسبة الراوي إلي الغلق والإرتفاع بمجرّد رواية بعض الأخبار الدالّة علي ثبوت بعض المراتب والفضائل للتبي والأئمة من ، ولذا طعنوا في کثير من الرواة بذلک، بل رموا به کثيراً من خواصّ أصحابهم وثقاتهم وبطانتهم کمحمد بن سنان، والمعلي بن الخنيس ، والمفضل بن عمر، ونصر بن صباح، وغيرهم من الاجلّة والمشايخ اللذين قل من سلم مَن الطعن بذلک، وبغيره من المفاسد الذينهم منزهون منه کما نبّه عليه المحقق البهبهاني في تعليقاته الرجاليّة بل قال : إنّه نسب ابن طاووس، والخواجه نصير الدين ، وابن فهد، والشهيد الثاني ، وشيخنا البهائي وجدّي العلّامة التقي المجلسي وغيرهم من الأجلّة إلي التصوف، وغير خفي أنّ ضرر التصّوف إنّما هو فساد الإعتقاد من القول بالحلول، أو الوحدة في الوجود، والاتحاد أو فساد الأعمال کالأعمال المخالفة للشرع التي يرتکبها کثير من المتصّوفة في مقام الرياضة أو العبادة، وغير خفّي علي المطّلعين علي أحوال هؤلاء الأجلة أنّهم منزّهون عن کلا الفسادين قطعاً، ونسب جدي العالم الرباني محمد صالح المازندراني وغيره من الأجلة إلي القول باشتراک اللفظ، والمحمدون الثلثة کابن الوليد إلي القول بتجويز السهر علي النبي صلي الله عليه وآله وسلم.

ونسب الصدوق بل وابن الوليد منکر السهو إلي الغلو، وبالجملة أکثر الاجلّة

ليسوا بخالصين عن أمثال ما اشرنا اليه.

أقول ولله درّه قدس سرّه حيث شمر عن ساق الجدّ والاجتهاد لدفع المطاعن

ص: 564

الّتي قد حوابها في کثير من رواة الأخبار واصحاب الأئمّة الأطهار، حتّي أنّه أصلح کثيراً من الجراحات الواقعة عليهم من مطاعن الشيخ الحسين بن عبدالله الغضايري الذي قيل لا يکاد يسلم جليل من قدحه وجرحه، وغيره من المشايخ سيّما القميين اللذين لا ينبغي أنّ يقال فيهم بل کذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله، وذلک لأنّه کان ناشياً من شدّة ورعهم وإحتياطهم في الدين وإن کان ذلک سبباً للقدح في أخبار عديدة مستمراً الي مدّة مديدة سيّما مع تنويع الأخبار إلي أقسام الأربعة، وغيرها من الإصطلاحات الجديدة، وبالجملة الظاهر أنّ منشأ کلّ ذلک عدم استقرار المذهب وإختلاط أهله مع العامّة العمياء خذلهم الله ، وشدّة التقنية، وعموم البلية وتشتت المؤمنين في البلاد، وظهور الفساد من أهل العناد، واختلاط الأخبار، وعدم اجتماع الاثار الواردة في کل باب من الأبواب، وقصور کثير من الأنّظار، وعدم تفرغهم للتدّبر في الآيات والأخبار .

ولذا صدرت من بعضهم جملة من المذاهب الفاسدة الّتي ربما قامت الضرورة علي عنادها في مثل هذه الأزمنة، کما نبه عليه الشيخ سليمان(1)صاحب «المعراج» وغيره من الأجلة فإن العلامة حکي في «الخلاصة» عن الشيخ أبي جعفر الطوسي و انه کان يذهب إلي مذاهب الوعيدية ، وهو وشيخه المفيد إلي أنّه تعالي لا يقدر علي غير مقدور العبد کما هو مذهب الجبائي (2)السيّد المرتضي إلي مذهب البهشميّة من أنّ إرادته تعالي عرض لا في محلّ.

ص: 565


1- هو الشيخ سليمان بن عبدالله بن علي البحراني المتوفي (1121) ه وکتابه معراج أهل الکمال الي معرفة الرجال شرح لفهرست شيخ الطائفة لم يتم بل خرج منه حرف الألف والباء والتاء فقط - الذريعة ج 21 ص 228.
2- هو عبد السلام بن محمد بن عبد الوهاب أبو هاشم الجبائي من شيوخ المعتزلة توفي سنة (321) ه- معجم المؤلفين ج 5 ص 230.

والشيخ الجليل ابو سهل اسماعيل النوبختي (1)إلي جواز اللذة العقلية عليه سبحانه ، وانّ مهيته تعالي معلومة کوجوده، وماهيته الوجود المعلوم، وأنّ المخالفين يخرجون من النار ولا يدخلون الجنة.

ومحمد بن ابي عبدالله الاسدي(2)إلي الجبر والتشبيه، والصدوق، وشيخه ابن الوليد ، والطبرسي في مجمع البيان إلي جواز السهو علي النبي صلي الله عليه وآله وسلم وغير ذلک ممّا يطول به الکلام.

ومن ذلک ما مرّ في السؤال من إنکار عالم الذراّت، بل إنکار سبق خلق الأرواح علي الأبدان کما ذهب إليه الشيخ المفيد والسيّد المرتضي وغيرهما، لکن المتتبع المطلع علي أخبار الأئمة الأطهار يعلم أنّ إثباتهما کان من ضروريات مذهب الأئمة الطاهرين صلوات الله عليهم اجمعين.

ولذا قال شيخنا المجلسي بعد نقل جملة منها في جامعة بحار الأنّوار وحکاية هذا القول عنهم أنّ طرح هذه الأخبار بأمثال تلک الدلائل الضعيفة والوجوه السخيفة جرئة علي الله وعلي أئمة الدين، ولو تأمّلت فيما يدعوهم إلي ذلک من دلائلهم وما يرد عليها من الاعتراضات الواردة فعرفت أنّ بأمثالها لا يمکن الإجتراء علي طرح خبر واحد فکيف يمکن طرح تلک الأخبار الکثيرة الموافقة لظاهر الآية الکريمة بها وبأمثالها (3) انتهي.

علي أنّ الشيخ المفيد مع غاية مبالغته في إنکار الأمرين لمّا لاحظ صحّة

ص: 566


1- هو اسماعيل بن علي بن إسحاق أبو سهل النوبختي المتکلم الامامي البغدادي المعاصر لأبي القاسم الحسين بن روح السفير الإمام عليه أفضل الصلاة والسلام.
2- هو محمد بن أبي عبدالله جعفر بن محمد بن عون الأسدي الرازي الأمامي الثقة ، روي عنه الکليني المتوفي (329) ه کثيراً.
3- بحار الأنّوار : ج 5/ 267.

أخبار الباب وقوة دلالتها ألجائه ذلک إلي أنّ قال : والصحيح من حديث الأشباح الرواية التي جاءت عن الثقات بان آدم عليه السلام راي علي العرش أشباحة فسئل الله تعالي عنها، فأوحي اليه آنها اشباحاً رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم واميرالمؤمنين والحسن والحسين وفاطمة صلوات الله عليهم، وأغَلَمه أنّ لولا الأشباح التي رأها ما خلقه ، ولا خلق سماءً ولا أرضا.

والوجه فيما أظهره الله تعالي من الأشباح والصّور لآدم أنّ دله علي تعظيمهم وتجبيلهم، وجعل ذلک اجلالاً لهم، ومقدمة لما يفترضه من طاعتهم ودليلاً علي أنّ مصالح الدين والدنيا لا تتم الّا بهم، ولم يکونوا في تلک الحال صوراً مجيبة، ولا أرواحاً ناطقة لکنها کانت علي مثل صورهم في البشريّة يدلّ علي ما يکونون عليه في المستقبل في الهيئة والنور الّذي جعله عليهم يدلّ علي نور الدين بهم وضياء الحق بحُجَجِهِم، وقد روي أنّ أسماءهم کانت مکتوبة اذ ذاک علي العرش وأنّ آدم عليه السلام لما تاب إلي الله عزّوجلّ وناجاه بقبول توبته سئله بحقّهم عليه ومحلّهم عنده فأجابه.

وهذا غير منکر في العقول ولا مضادّ للشرع المنقول وقد رواه الصالحون

الثقات المأمونون وسلّم لروايته طائفة الحق ولا طريق إلي انکاره.(1)انتهي.

فانظر کيف إضطرّه صحّة الخبر إلي حمله علي ما يقطع بفساده من له أدني إطلّاع باخبار الباب، وليت شعري ما المانع من حمل هذه الأخبار علي ظواهرها ؟ وما الصارف عنها إلي مثل هذه المحامل ، ولعلّ هذا کلّه ناش عن الإستيناس باصول غير مؤسسة کلامية عامية، ولذا ليس عندهم للإمام فضل علي غيره من الأنّام إلّا في قليل من العلوم المتعلّقة بالاحکام، ويتحاشون عن إثبات ما تقتضيه العصمة

ص: 567


1- بحار الأنّوار : ج 262/5 .

والولاية في الأُمور التشريعية، فضلاً فتبعهم من ليس منهم غفلة عن حقيقة الحال، حتّي أنّکروا کونَ النبيين والأئمّة عليهم السلام حجّة لله علي جميع ما خلق، مع أنّهم بهم فتح الله ويهم يختم، ويهم ينزل الغيث ، وبهم يمسک السماء أنّ تقع علي الأرض إلا باذنه، طأطأ کلّ شريف لشرفهم، وبخع کلّ متکبّر لفضلهم، وذلّ کلّ شيء لهم، وأشرقت الأرض بنورهم ، وفاز الفائزون بولايتهم، وقد أخذ الله ميثاقَ ولايتهم علي جميع الأنّبياء والأوصياء والشهداء والصديقين والصالحين، والملائکة المقربين ، والخليل لما عهدوا منه الوفاء ألبسوه حلّة الاصطفاء، وروح القدس في الجنان الصاقورة ذاق من حدائقهم الباکورة، وبهم ابتلي من ابتلي من الأولين والآخرين، ونجي من نجي وهلک من هلک، ما من مولود يولد ولا أحد يموت ويبعث إلا بحضورهم وبابيتهم ووساطتهم وهم الحجج علي العوالم لاثين عشر ألف عالم کلّ عالم اکبر من السموات والأرض أو الألف ألف عالم وألف ألف أدم، ولا يکون الحجّة علي قوم إلّا من يعلّمهم ويشهدهم، فهم يد الله الباسطة، وقدرته القاهرة، ومشيّته النّاظرة، وعينه الناظرة.

ولذا قال الصادق عليه السلام لليمني الذي حضر مجلسه: إن عالم المدينة يسير في

ساعة من النهار مسير ألف الف سنة حتي يقطع الف عالم مثل عالمکم هذا(1)

وقال أبو جعفرعليه السلام الميسر الذي قال : قمت ببابه فخرجت جارية خماسيّة فوضعت يدي علي رأسها فناداني عليه السلام من أقصي الدار : ادخل لا أباً لک لو کانت هذه الجدر تحجب أبصارنا کما تحجب أبصارکم لکنّا نحن وأنّتم سواء(2)

وفي الآثار الجعفرية روحي له الفداء : الدنيا ممثلة للامام کفلقة الجوزة في يد

ص: 568


1- في البحار ج 228/55 عن البصائر : يسير في ساعة من النهار مسيرة الشمس سنة حتي يقطع اثني عشر الف عالم مثل عالمکم هذا ...
2- البحار: ج46 / 258.

أحدکم (1)

وعنه عليه السلام يا مفضل إنّ العالم منا يعلم کلّ شيء حتي تقلّب جناح الطير في الهواء ومن انکر من ذلک شيئاً فقد کفر بالله من فوق عرشه واوجب لأوليائه الجهل، وهم حلماء علماء ابرار اتقياء يا مفضل من زعم أنّ الإمام من آل محمد صلي الله عليه وآله وسلم يعزب عنه شيء في السموات والأرض من الأمر المحتوم فقد کفر بما أنّزل الله علي محمد صلي الله عليه وآله وسلم .

وفي البحار عن نوادر الحکمة عن الصادق عليه السلام أنّه قال : يا حمران إن الدنيا عند الامام والسموات والأرضون إلّا هکذا، وأشار بيده إلي راحته، يعرف ظاهرها وباطنها وداخلها وخارجها ورَطبَها ويابِسَها (2)

وفيه عن أبي بصير قال کنت عند أبي عبدالله عليه السلام فدخل عليه المفضّل بن عمر فقال : مسألة يا بن رسول الله قال : سَل يا مفضل ، قال : ما منتهي علم العالم ؟ قال : قد سئلتَ جسيما ولقد سئلت عظيماً ما السماء الدنيا في السماء الثانية الا کحلقة درع ملقاة في أرض فلاة ، وکذلک کل سماء أخري، وکذلک السماء السابعة عند الظلمة، ولا الظلمة عند النور، ولا ذلک کله في الهواء ولا الأرضون بعضها في بعض، ولا مثل ذلک کله في علم العالم يعني الأمام إلّا مثل مدّمن خَردَلٍ دققتَه دقاً ثم ضربته بالماء حتّي إذا اختلط وَرَخا (3)أخذتَ منه لعقةً بأصبعک ولا علم العالمِ في علم الله تعالي إلّا مثل مُدٍّمن خرَدَل دققتَه دقاً ثم ضربته بالماء حتي إذا اختلط

ص: 569


1- البحار : ج 368/25عن البصائر ص 121.
2- بحار الأنّوار : ج 385/25 ح 42 وفيه بعد ذکر الحديث : بيان : (إن الدنيا) : إن نافية ، أوحرف النفي ساقط ، أو مقدّر، أو إلّا زائدة .
3- رخا اللبن : صار له رغوة أي الزَيدَ.

ورغا انتهزت منه براس ايرة نهزة (1)

إلي غير ذلک من الاخبار الکثيرة الّتي لتسمع الکلام فيها عند تفسير قوله تعالي : (وما کان الله ليطلعکم علي الغيب ولکنّ الله يجتبي من رسله من يشاء )(2)

وکان مولينا أميرالمؤمنين عليه السلام يقول غير مرّة علي ما رواه المخالف والمؤالف :

سلوني قبل أنّ تفقدوني فأنّا بطرق السماء اعلم مني بطرق الارض (3)

قد علّم بعضَ أصحابه علم البلايا والمنايا ، وقصة رشيد الهجَريَ وحبيب بن مظاهر، وميثم التّمار مشهورة مذکورة في کتب الرجال وغيرها، وإرائتهم ملکوت السموات والارضين لأبي بصير وغيره مشهور مستفيض.

وانکار غرائب أحوال سلمان مما لا يليق باهل الإيمان فاذا عرفت أحوال أصحابهم فما ظنّک بهم فإنّهم نور الله المخزون، وسرّ الله المکنون، وامره بين الکاف والنون، خلقهم الله تعالي نورا فجعلهم محدقين بعرش العظمة والجلالة حتّي منّ الله تعالي علينا بهم فجعلهم في بيوت من ابدانهم الناسوتيّة وهياکلهم البشرية کما قالوا نحن اسرار الله المودعة في الهياکل البشرية فهم من الله والکل منهم کما في الخبر وخلق المشية بنفسها ثم خلق الاشياء بالمشية، وهم صنايع الله، والخلق بعد صنايع لهم، أو صنايعهم علي اختلاف الخبر، فإن الأوّل مرويّ عن مولينا اميرالمؤمنين عليه السلام مذکور في نهج البلاغة (4) والثاني عن الحجّة المنتظر عجل الله فرجه کما نقله في

ص: 570


1- بحار الأنّوار : ج 385/25 ح 43 - والإنتهاز : الأخذ بالسرعة .
2- آل عمران: 179.
3- ينابيع المودة ص66 ط اسلامبول وعنه ملحقات الإحقاق ج 7 ص618.
4- نهج البلاغة : الرسالة (28) وعنه البحار ج 33 ص 58ح 398.

الاحتجاج(1)

اشهدهم الله خلق الأشياء، وأجري طاعتهم عليها، فميتّهم إذا مات لم يَمُت، بل هم أحياء عند ربّهم يُرزقون، وغايبهم اذا غاب لم يغب، بلهم للاشياء مشاهدون ، فلا يعزب عنهم شيء في الأرض ولا في السماء بإذن خالقهم وبارئهم.

فلا ينبغي الإصغاء الي ما يقال : من انه لا علم لهم بما غاب عنهم وبما استقبل من احوالهم وأحوال غيرهم نظرة إلي أنّه تعالي : (عالم الغيب فلا يظهر علي غيبه احدا الّا من ارتضي من رسول وما کان الله ليطلعکم علي الغيب ولکنّ الله يجتبي من رسله من يشاء ).

اذ مع الغضّ عن الإستثناء في الأوّل والإستدراک في الثاني لا يخفي أنّ علمهم ليس علماً بالغيب بل هو تعلّم من ذي علم کما أجاب به مولينا أميرالمؤمنين عليه السلام من اعترضه بمثل ذلک علي ما في نهج البلاغة (2)

علي أنّه لا ينکر ولا يدافع علمهم بالکتاب الذي فيه تفصيل کلّ شيء ممّا کان أو يکون إلي يوم القيمة من الأمور التکوينية والتشريعية والجزئيّة والکليّة ، کما في الآيات الکثيرة والأخبار المستفيضة بل المتواترة.

إلا أنّ بعض من لم يطّلع علي غرائب أحوالهم قاس حالَهم بحالِهم، ولذا قال السيّد المرتضي في کتابه «تنزيه الانبياء» معترضاً علي نفسه بما حاصله أنّه ما العذر في خروج مولانا سيّد الشهداء روحي له الفداء من مکةَ باهلهِ وعياله إلي الکوفة والمستولي عليها أعدائه وکيف خالف ظنّه ظّن جميع نصحائه في الخروج ؟ وابن عباس يشير بالعدول عن الخروج ويقطع علي العطب فيه، وابن عمر لمّا ودّعه

ص: 571


1- بحار الأنّوار: ج 53 / 178 ح 9 عن الاحتجاج .
2- نهج البلاغة ج 1 ص 245 وعنه البحار ج26 ص 103ح 6.

يقول له : أستودعک من قتيل، ثمّ کيف لم يبايع يزيد حقناً لدمه ودماء من معه من أهله وشيعته ومواليه ؟ ولم القَي بيده إلي التهلکة؟ الي آخر ما ذکره.

ثمّ أجاب بما حاصله أنّ الإمام متي غلب علي ظنّه أنّه يَصل إلي حقّه والقيام بما فوّض اليه بضرب من الفعل، وجب عليه ذلک، وان کان فيه ضرب من المشقة يتحمل مثلها ، وسيّدنا ابو عبدالله عليه السلام لم يسر إلي الکوفة إلّا بعد توثّق من القوم وعهود وعقود، وبالجملة اسباب الظفر بالاعداء کانت لائحة، وانّ الاتّفاق السييء هو الذي عکس الأمر وقلبه حتّي تمّ فيه ماتمّ...الي أنّ قال :

وليس يمتنع أنّ يکون عليه السلام في تلک الحال مجّوزاً أنّ يفييء اليه قوم ممّن بايعه وعاهده، ثمّ قعد عنه ويحملهم ما يرون من صبره واستسلامه وقلة ناصره علي الرجوع إلي الحقِّ ديناً او حميّة فقد فعل ذلک تفر منهم حتّي قُتِلوا بين يديه شهداء ومثل هذا يطمع فيه ويُتوقَّع في أحوال الشدّة.

فأمّا الجمع بين فعله وفعل أخيه الحسن فواضح صحيح، لأنّ أخاه سلّم کفَاً للفتنة وخوفاً علي نفسه وأهله وشيعته وإحساسا بالغَدر من أصحابه والحسين عليه السلام لمّا قوي في ظنّه النصرة ممّن کاتبه ووثق له، وراي من أسباب قوّة نصّار الحقّ وضعف نصّار الباطل ما وجب معه عليه الطلب والخروج، فلمّا إنعکس ذلک وظهر أمارات الغّدر وسوء الاتّفاق رام الرجوع، والمکافّة والتسليم کما فعل أخوه فمُنِع من ذلک، وحيل بينه وبينه، فالحالان متفّقان إلّا أنّ التسليم والمکافة عند ظهور أسباب الخوف لم يقبلا منه عليه السلام (1)

انتهي ملخصاً فانظر إلي هذا الجليل الذي لا يجوز عنده إلّا العمل علي العلم الانسداد باب الظن عنده للمجتهد کيف فتح باب العمل بالظنّ للإمام عليه السلام سيّما مثل

ص: 572


1- تلخيص الشافي ج 4 ص 182 مع التلخيص - تنزيه الأنّبياء ص 177 - 178 .

هذا الظّن الذي أطبق علي خلافه جميعُ نُصحائِه وهم مُصيبون، ثمّ کيف إلتزم بإصابة إبن عباس وعبدالله بن عمرو غيرهما في ظنونهم، وخطاء الإمام عليه السلام في ظنّه، ثمّ کيف إعتمدعليه السلام علي مثل هذا الظّن، ومتي رام الرجوع والتسليم فلم يُقبَل منه فوا عجباه کيف لم يکن عليه السلام عالماً بما يجري عليه من الّرزايا والبلايا وقد أخبر الله تعالي نبيّه في آياتٍ کثيرة من القرآن تأويلاً وتنزيلاً بما يجري عليه کقوله :

(کهيعص ، ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا)(1) (واذا الموءودة سئلت) (2) (وصّينا الانسان بوالديه)(3) (فلمّا کتب عليهم القتال)(4)،( يا ايّتها النفس المطمئنّة) (5)، (الذين اخرجوا من ديارهم) (6)،(فنظر نظرة في النجوم )(7) (وفديناه بذبح عظيم ) (8) (فتلقّي آدم من ربّه) (9)

إلي غير ذلک من الآيات الّتي لا يخفي علي مَن لا حَظَ الأخبارَ المأثورة في تفسيرها وتأويلها، أنّ الله تعالي أخبر ساير الأنّبياء ايضاً بذلک، وقد أخبر رسولُ الله و اميرالمؤمنين وفاطمة الزهراء، والسبط المسموم، والشهيد المظلوم، صلي الله عليهم أجمعين کلّهم بذلک في أخبار کثيرة متفردة بالتصانيف إلي دعاء الثالث من شعبان: بکته السماء ومن فيها والأرض ومن عليها ولمّا يطأ لا بتيها(10)وهو تأويل

ص: 573


1- الاسراء : 33.
2- التکوير: 8.
3- الأحقاف : 15
4- البقرة : 246.
5- الفجر: 27.
6- الحج : 40.
7- الصافات : 88.
8- الصافات : 107.
9- البقرة : 37.
10- مصباح المتهجد :ص758.

قوله : ( وما بکت عليهم السّماء الارض)(1) من باب مفهوم المخالفة.

فهل کان عليه السلام العياذ بالله جاهلاً بجميع تلک الآيات والأخبار الّتي قرع الأسماع، وملأ الأصقاع، حتّي أخبروا عليهم السلام الکفرةً الفجرة الذين يقتلونهم ويظلمونهم بذلک، إلي غير ذلک، ممّا لا يحتمل المقام ذکرها، ولا ذکر اسباب الشهادة واسرارها من نيل الشفاعة، وحفظ الدين ، وکشف الکفر عن العالمين، ولا إستقصاء الإعتراضات الواردة علي عبارة السيّد «ره» وان صدر عن بعض المتأخّرين ايضاً ما يقرب منه.

فإن الفاضل القمي في باب ترک الإستفصال من قوانينه تمسّک باصالة

عدم علم الإمام فلاحظ (2)

وشيخنا الفقيه صاحب جواهر الکلام إستشکل في باب تحديد الکّر بالوزن والمساحة وعدم انطباقهما معاً بل نقصان الوزن عن المساحة بالمذهب المشهور دائمة بانه لا داعي إلي هذا التقدير المختلف بعد علمه بنقص الوزن عن المساحة دائما مع القدرة علي ضابط بغير ذلک منطبقٍ عليه.

ثمّ اجاب عنه بأنّ دعوي علم النبّي عليه السلام والأئمة عليه السلام بذلک ممنوعة ولا غضاضة لأنّ علمهم بل ليس کعلم الخالق عزّوجلّ فقد يکون قدّروه بأذهانهم الشريفة وأجري الله الحکم عليه (3)

أقول: ولنا علي جواهر الکلام حواشي وتعليقات ذکرت في هذا الموضع منها : قوله : ولا غضاضة، آه، بل فيه غضاضة وأي غضاضة لأنّه لو أنّکر علم الثبي والائمة عليهم السلام بالنسبة إلي التکوينيات فلا سبيل إلي إنکاره في التشريعيّات يتعلّق بها

ص: 574


1- الدخان : 29.
2- قوانين الاصول الباب الثالث في العموم و الخصوص ص226.
3- الجواهر ج 1 ص 182.

من الموضوعات سيّما بعد شهادة الله تعالي له بقوله :( وما ينطق عن الهوي أنّ هو الا وحي يوحي) (1)وقوله : (ان اتّبع الا ما يوحي إلي) (2)، ولا ريب أنّ الکر وإنّ کان الموضوعات لکنّه يناط به کثير من الأحکام بل لعلّه من الموضوعات الشرعيّة من حيث التّحديد، وبالجملة دعوي جهل النّبي والائمة عليه السلام بالکّر الحقيقي أو بتفاوت التقريبين لعلّه إقرار بجهلهم بالشرع المبين أو تقوّلهم علي الله تعالي بالخرص والتخمين، وقد قال الله تعالي : ( ولو تقول علينا بعض الأقاويل لاخذنا منه باليمين ثمّ لقطعنا منه الوتين) (3) ولعمري إنّ مثل شيخنا الشارح لا ينبغي أنّ يُنسب اليه مثل هذا التقريب الذي هو أقرب إلي التبعيد، فکيف إلي النبي صلي الله عليه وآله وسلم والأئمة عليه السلام الّذينهم مهابط الوحي وخزّان العلم فکيف يقدّرون بأذهانهم الشريفة مثل هذا التقدير ، وکيف يقع إجراء الحکم عليه من اللّطيف الخبير.

هذا کلّه مع الغضّ عن علمهم بالقرآن الذي فيه کلّ شيء (4)من الحلال والحرام ممّا يحتاج اليه الامّة إلي يوم القيام بل جميع الحوادث والکينونات ولو من غير الأحکام لقوله : (ما فرّطنا في الکتاب من شيء )، ( ونزّلنا عليک الکتاب تبياناً لکلّ شيء )(5) (ولا رطب ولا يابس الّا في کتاب مبين ) (6)

وعن الباقر عليه السلام أنّ الله لم يدع شيئاً يحتاج إليه الأمّة إلا أنّزله في کتابه وبيتّه

ص: 575


1- النجم : 3.
2- الأنّعام : 50.
3- الحاقة: 44.
4- الأنّعام : 38
5- النحل : 89.
6- الانعام : 59.

الرسوله صلي الله عليه وآله وسلم(1)

وعن الصادق عليه السلامما من أمر يختلف فيه اثنان وله أصل في کتاب الله ولکن لا

تبلغه عقول الرجال (2)

وعنه عليه السلام أنّ الله انزل في القرآن تبيان کلّ شيء حتّي والله ما ترک الله شيئاً

يحتاج إليه العباد حتّي لا يستطيع عبد يقول لو کان هذا أُنزل في القرآن (3)

إلي غير ذلک من الأخبار المتواترة الدالّة علي علمهم بما کان وما هو کائن إلي يوم القيامة، وبخبر السماء ويخبر الارض، وخبر الجنّة والنّار، وان ذلک کلّه بتعليم من الله فلا ينافي ذلک ظاهر قوله : ( وما کان الله ليطلعکم علي الغيب ولکن الله يجتبي من رسله من يشاء) (4)وقوله : (عالم الغيب فلا يظهر علي غيبه احداً الّا من ارتضي من رسول)(5) فانّ النّبي والائمّة عليه السلام هم المستثنون في الآيتين ، بل هو المرتضي وهم المجتبون کما يؤمي اليه بعض الأخبار. و مضافاًإلي أنّ لنا طرقاً أخري إلي إثبات علمهم عليه السلام بجميع الأُمور التکوينيّة والتشريعيّة العموم ولايتهم في الأمرين وبرزخيتهّم الکبري في البين، مع کونهم الأشهاد في خلق الأرض والسموات والأعضاد لباري الکاينات إلي غير ذلک مما قصرت عن نيل ادراکه اکثر الأفهام فالأولي أنّ نقبض عنان الکلام کيلا تتحرک سلسله جحود الِلّئام وعلي الله التوکّل وبه الاعتصام

(نصيحة): إعلم يا أخي وحبيبي أنّه لم يَسعنا في المقام إقامة الحجُّة علي

ص: 576


1- الکافي ج 1 ص 59ح2.
2- الکافي ج 1 ص 60ح6.
3- الکافي ج 1 ص 59 ح 1.
4- آل عمران: 179.
5- الجن : 27.

غرائب أحوالهم عليهم السلام علي وجه الإستقصاء لتوقّفها علي مقدمات کثيرة، واثبات أمور لا يهّمنا البحث عنها في المقام، ولعلّنا نشير إلي جملة وافية منها في مواضع من هذا التفسير، فإنّ حصل لک التصديق التفصيلي أو الاجمالي بها أوشيء منها فکن لله من الشاکرين، والا فإياک ثمّ إيّاک أنّ تبادر إلي الإنکار والتکذيب لما بلغک عنهم أو نسب اليهم فتکون من الهالکين.

قال مولينا الصادق عليه السلام : لا تکذبوا بحديث أتاکم احد فإنکم لا تدرون لعله

من الحق فتکذبوا الله فوق عرشه(1)

وعن أبي الحسن عليه السلام أنّه کتب في رسالة کتبها الي علي بن سويد النسائي : ولا تقل لما بلغک عنّا أو نسب إلينا : هذا باطل ، وان کنت تعرف خلافه فإنک لا تدري لم قلنا، وعلي أيّ وجه وصفة(2)

بل روي الصدوق «في العلل» بالاسناد عن أحدهما عليهم السلام : لا تکذبوا بحديث آتاکم مرجئّي ولا قدريّ ولا خارجيّ نسبه الينا، فإنّکم لا تدرون لعلّه شيء من

الحق فتکذّبوا الله عزوجلّ فوق عرشه (3)

إلي غير ذلک من الاخبار الّدالّة علي وجوب التسليم لهم والرد اليهم، وانّ الکلمة لتنصرف علي سبعين وجهاً من کتها المخرج، فانّهم لا يعدّون الرجل من شيعتهم حتّي يُلحَن له فيعرف اللحن، وانّ حديث آل محمّد صعب مستصعب لا يحتمله الّآ ملک مقرب أو نبيّ مرسل أو عبد إمتحن الله قلبه للايمان (4)

فإنّ من الملائکة مقرّبين وغير مقرّبين ، ومن الأنّبياء مرسلين وغير مرسلين،

ص: 577


1- بحار الأنّوار : ج 186/2 ح 10 عن بصائر الدرجات .
2- البحار: ج186/2 ح 11 عن البصائر
3- بحار الأنّوار : ج 2 / 187 - 188 عن علل الشرايع .
4- البحار: ج 189/2 ح 21 عن البصائر .

ومن المؤمنين ممتحنين وغير ممتحنين، فعرض ولايتهم علي الملائکة فلم يقرّبه الا المقرّبون، وعرض علي الأنّبياء فلم يقرّبه إلا المرسلون، وعرض علي المؤمنين فلم

يقرّبه الّا الممتحنون(1)

بل من أخبارهم وأحوالهم ما لا يحتمله ملک مقرّب ولا نبيّ مرسل ولا مؤمن

إمتحن الله قلبه للايمان، قيل فمن يحتمله قال عليه السلامنحن نحتمله(2)

وفي خبر آخر: مَن شئنا (3)

ولذا کان لأخبارِهم وأسرارهم مراتب مختلفة : منها، ما لا يحتمله غيرهم،

ومنها ما يحتمله بعض الانبياء عليه السلام أو بعض الملائکة أو خواص شيعتهم، وفي کلّ من هذه الأقسام عرض عريض وذلک لاختلاف الهويّات والمهيّات في الکينونات والإقتضاءات والقابليات والإستعدادات، وکلّ أحد لا يدرک فوق رتبته، ولا يتجاوز ادراکه عن قوس کماله، إلّا علي سبيل الاشراق والتجلي والإفاضة من العالي إلي السافل بحسب إختلاف القابل في الصقالة والکدورة والقرب والبعد والتّهيؤ للقبول والعدم وزيادة الحجب وقلّتها وغلظتها ورقّتها ونورها وظلمتها إلي غير ذلک من الاسباب والمعدّات والموانع الّتي ربما تفضي إلي الإنکار البخت، ولله درّ من قال بالفارسية: از همه محروم تر خُفّاش بود کو عدوي آفتاب فاش بود

فإن کنتَ من اهل الحکمة الّتي هي معرفة الامام عليه السلام کما في بعض الکتب المعتبرة فقد أوتيت خيراً کثيراً، والا فأسلم تسلم فإنّ الاسلام مشتقّ من التسليم بل الإيمان مشروط به (فلا وربک لا يؤمنون حتّي يحکّموک فيما شجر بينهم - في

ص: 578


1- في البحار: ج 2/ 190ح 22 ما يقرب منه
2- البحار: ج 2 ص 193 ح 36عن البصائر .
3- البحار : ج 2 / 192 ح 34.

ولي الامر - ثمّ لا يجدوا في انفسهم حرجاً ممّا قضيت ويسلّموا تسليماً (1)

واعلم أنّ ما اشرنا اليه في هذا الباب وغيره من الأبواب من رتبة الإمام وأحواله وشؤونه فکلّه مأخوذ من أخبارهم وآثارهم، مقتَبس من أنّوارهم، ومع ذلک فهو من مکنون أسرارهم فإن افتريته فعليّ إجرامي وعلي مَن يفهم کلامي سلامي.

عود إلي الکلام لاتمام المرام :

قد سمعتَ أنّ الأئمّةَ المعصومين صلوات الله عليهم اجمعين صراط الله سبحانه إلي عبيدِه في جميع نِعمَهِ وفيوضِه التکوينيّة والتشريعيّة، فاعلم أنّهم علم الصراطُ المستقيم لکافّة الخلق کلّهم إلي الله سبحانه إلي مرضاتِه ومحبّيهِ ورحمتهِ ونعمتهِ ومشيّتهِ، فإنّ الخلق سائرون متوجّهون بأقدام أعمالهم القلبيّة والقالبيّة بل طائرون مسرعون بأجنحتهم الروحانيّة الإيمانية من حضيض أبدان طبايعهم العنصريّة المکنّي عنها بأرض الموقف إلي فَضاءِ عالم القدس وحريمِ حرم الأنّس ودارِ الاقامة ومنزلِ الکرامة وانّما يتمّ سيرهم في سفرهم هذا بالاستقامة في أمور:

احدها القيام بأوامر الله ونواهيه، وسائر وظايفه الشرعية من فعل ما أمر به ولو بالامر الاستحبابي وترک ما نهي عنه ولو بالنهي التنزيهي، والاستدامة علي ذلک في جميع الحالات والأوقات ما لم يوجب شيء منها سقوطً التکليف لتعذّر أو تعسّر أو تبدّل حال أو انقلاب موضوع، أو غير ذلک ممّا يوجب إختلاف الحکم، وبالجملة يکون بين يدي الله سبحانه کالعبدِ المطيع المنتظر لصدور الأمر من مولاه کي ببادر إلي قبوله وامتثاله، حسب وسعه وطاقته في إيقاعه علي أحسن وجوهه

ص: 579


1- النساء : 65.

واکملها من حيث إشتماله علي جميع المتممات والمکمّلات، واقترانه بالنية الصّحيحة الحاوية لملاحظة جميع الغايات الّتي ربما يرجّح العمل اليسير معها علي أضعافه بدونها، فإنّ لکلّ امريء ما نوئ وإنّما الأعمال بالنيّات.

ولذا قال رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم المولينا أمير المؤمنين عليه السلام يا عليّ إذا تقرّب الناس إلي الله بأنّواع العمل فتقرَّب إليه بأنّواع النيّة تسبقهم ولذا تري الأولياء بل الأنّبياء موافقين لغيرهم في الأعمال الظاهرة وإن کان ما بين أعمالهم من حيث إيجابها للتقرب والعدم بونّ بعيد أبعد ممّا بين السماء والأرض.

بل تعلم أنّ أصحاب رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم کانوا يصلون خلفه کلّهم صلوةً واحدةً متوافقة في الأقوال والأفعال الظاهرة الّتي هي جسم الصلوة وناسوتها وإن لم تکن صلوتهم متوافقة في کيفيّة القبول وکّمية الأجر والثواب التابعين للحضور والإقبال والتوجه والإخلاص والمعرفة الّتي هي روح العبادة ولتها وحقيقتها وأصلها.

بل لا يکاد تتوافق صلوة إثنين منهم لضرورة إختلافهم في أحوالهم

وأخلاقهم ونيّاتهم وعقايدهم وضمائرهم إلي غير ذلک.

بل لعلّ صلوة واحد من أصحابه صلي الله عليه وآله وسلم مثل مولينا أمير المؤمنين عليه السلام حقيقة الإيمان ومحضّه وخالصهُ وکمالُه ، وصلوة بعض المنافقين الذين يصلّون خلفه وأحزابهم الشياطين حقيقة الکفر والشرک والنفاق، فإنّ سجودهم کان لأضناهم الحقيقية الّتي کانت بين يديهم أو الظاهرة التي کانت بين رجليهم کما في الصک الذي کتبه الثاني الي واليه وقد أراها إبنه لابنِه عليهم جميعاً لعنة الله والملائکة والنّاس أجمعين.

ثانيها : صدور هذا الإمتثال لاعلي وجه الکلفة والمشقة والإنزجار الّتي ربما توجب بُغضَ عبادة الله والاستراحة في ترکها، والاستبدال عنها بغيرها، وطلب الإذن والرخصة في القعود عنها ، والتّعلل في ترکها بکلّ علّة ، والتوصل للفرار منها

ص: 580

بکل حيلة

بل علي وجه المحبّة والاشتياق واللّذة والبهجة والسرور فإنّ العبادة قوّة قلوب العارفين، وقرّة أعين الصالحين، ولذة نفوس المشتاقين، وغاية آمال المجتهدين الذين دأبهم الإرتياح اليه والحنين، وديدنهم الزفرة والأنّين ، فإنّ عباده هم الذين بالبدار اليه يُسارعون وبابَه علي الدوام يطرقون، وايّاه في الليل والنهار يعبدون، فصفي الله لهم المشارب، وبلّغهم المأرب، وأنّجح لهم المطالب وملأ لهم ضمائرَهم من حبّه ، فيه إلي لذيذ مناجاته وصلوا، ومنه أقصي مقاصدهم حصّلوا.

ثالثها : ولاية أولياء الله الذين هم ولاةُ الأمر، وسّاط الخلق إلي الخالق، ولذا قرن الله طاعتَهم بطاعته وولايتهم بولايته، ومحبّتَهم بمحبّته فقال : ( قل إن کنتم تحبّون الله فاتّبعوني يحببکم الله)(1) و (ومن يطع الرسول فقد اطاع الله)(2).

وقال النبي صلي الله عليه وآله وسلم: من کنت مولاه فعليّ مولاه(3)

فيجب معرفتهم، والإقرار بجملتهم، والموالاة لأوليائهم، والمعادات

الاعدائهم، والاقتداء بهديهم، والالتزام بطاعتهم التي هي بعينها طاعة الله .

ولذا قال عليه السلام في الجامعة الکبيرة : من أطاعکم فقد أطاع الله ، ومن عصاکم فقد عصي الله ، ومن أحبکم فقد أحب الله ، ومَن أبغضکم فقد أبغض الله ، ومن إعتصم بکم فقد إعتصم بالله .

وفي الکافي والتوحيد عن الصادق عليه السلام في قوله تعالي : (فلمّا أسفونا انتقمنا منهم ) (4): قال : إنّ الله تعالي لا ياسف کأسفنا لکنّه خلق أولياء لنفسه يأسفون

ص: 581


1- آل عمران : 31.
2- النساء : 80.
3- بحار الأنّوار : ج 126/37 .
4- الزخرف: 55.

ويرضون، وهم مخلوقون مربوبون، فقد جعل رضيهم رضئ نفسه ، وسخطهم سخط نفسه (1)

اذ بولايتهم تقبل الطاعة المفترضة، ولهم المودّة الواجبة.

ولذا ورد عن مولينا أبي جعفر عليه السلام في خبر بناء الاسلام علي الخمسة التي هي الصلوة والزکاة والحجّ والصوم والولاية إلي أنّ قال عليه السلام: دُروة الأمر وسنامه ومفتاحه وباب الأنّبياء، ورضي الرحمن الطاعة للامام بعد معرفته أنّ الله عزوجلّ يقول : (من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولي فما ارسلناک عليهم حفيظاً) (2)

أما لو أنّ رجلاً قام ليله وصام نهاره وتصدّق بجميع ماله، وحجّ جميع دهره، ولم يعرف ولاية ولّي الله فيواليه ويکون جميع أعماله بدلالته اليه ما کان له علي الله حقّ في ثوابه، ولا کان من أهل الإيمان(3)

بل ورد مثله من طرق العامة فعن ابن مردويه في کتابه بالاسناد عن

النبي صلي الله عليه وآله وسلم: يا علي لو أنّ عبداً عبدالله مثل ما قام نوح في قومه، وکان له مثل جبل أحد ذهباً فأنّفقه في سبيل الله ومُدّ في عمره حتي حجّ ألف عام علي قدميه ثمّ قُتل بين الصفا والمروة مظلوماً ثمّ لم يوالک يا علي لم يشمّ رائحة الجّنة ولم يدخلها (4)

وفي المناقب عن تاريخ النسائي وشرف المصطفي واللفظ له عنه : لو أنّ عبدة عبدالله تعالي بين الرکن والمقام ألف عام ثمّ ألف عام ولم يکن يحبّنا اهل البيت لاکبّه الله علي منخره في النار (5).

ص: 582


1- نور الثقلين : ج 608/4 عن التوحيد والکافي .
2- النساء:80.
3- بحار الأنّوار : ج 23 /294 عن تفسير العياشي ج 1 ص 254.
4- نابيع المودة ج 3 ص 293 ح 845 ورواه ابن شهر آشوب في المناقب ج 3 ص 198 عن ابن مردويه،
5- المناقب ج 3ص 198 عن تاريخ النسائي وشرف المصطفي .

وعن الفردوس والرسالة القوامية عنه صلي الله عليه وآله وسلم: حبّ علي بن ابي طالب يأکل

الذنوب کما يأکل النار الحطب (1)

ثمّ إنّ هذا الأمر الثالث وإن عددناه واحداً من تلک الأمور إلّا أنّه جامع الجملتها محتو علي حدودها ومقاماتها وذلک أنّ مقتضي القوام بولاية النبي والائمّة عليهم السلام هو حفظ جميع الحدود والأحکام الشرعيّة من التکليفيّة والوضعيّة والإقامة عليها وامتثالها بالاشتغال بما يرضاه الله والإجتناب عمّا يشخطه بل عما لا يرضاه لينحصر فيه فعله في الوجوب والاستحباب لا الإباحة وذلک کلّه بحسب جميع نشأة وجوده وکونه من الأفعال والأقوال والأحوال والنسيات والخطرات والاعتقادات.

ولذا قال مولينا اميرالمؤمنين عليه السلام في حديث معرفته بالنورانيّة : أنّ إقامة الصلوة إقامة ولايتي فمن أقام ولايتي فقد أقام الصلوة، وإقامة ولايتي صعب مستصعب لا يحتمله الأ ملک مقرب أو نبي مرسل أو مؤمن إمتحن الله قلبه للايمان فالملک إذا لم يکن مقوية لا يحتمله، والنّبيّ إذا لم يکن مُرسلاً لم يَحتمِله، والمؤمن إذا لم يکن مُمتَحَناً لم يحتمله (2)

فصورةُ ولايتهِم ومحبّتهم وطاعتِهم هو الطريقُ المستقيمُ إلي اللهِ، وذلک هُديَ

الله يهَدِي به مَن يشاء.

وهذا الصراط لا يَقطَعه في هذه الّدنيا بسهولة إلّا محمّدً وأهلُ بيته الطاهرون وشيعتهُ المنتجبون، ولو من الأنّبياء والمرسلين ، والملائکة المقرّبين، فإنّهم يَقطَعونها بفضلِ عصمتهم وولايتِهم وعنايتِهم برفقٍ وسهولةٍ.

ص: 583


1- ينابيع المودة ج 2 ص 246عن الفردوس ج 2 ص226 ح 2544.
2- بحار الأنّوار : ج 2/26 ح 1.

قال عليه السلام في خبر النورانيّة بعد ما سمعت يا سلمان تصديقُ ذلک قولهُ تعالي في کتابه العزيز: (استَعِينوا بالصبر والّصلوة وانّها لکبيرة إلّا علي الخاشعين)(1)

فالصبرُ رَسولُ الله صلي الله عليه وآله وسلم والصلوة إقامةُ ولايتي فمنها قال الله تعالي : وإنّها لکبيرةُ ولم يقل : وإنّهُما لکبيرة لأنّ الولاية کبير حَملُها إلّا علي الخاشِعين، والخاشعون هُم الشيعة المستبصرون (2)

ثمّ إنّ مَن تأمّل في الأخبار الکثيرة الدالّة علي العوالم الکثيرة الّتي منها الأربعون عالماً، والاثني عشر ألف عالم، أو الألف ألف عالم، والألف ألف آدم، وعلي کَؤنِهم حجّةً علي جميع تلک العوالم وان الله قد أخَذَ مِيثاقَ ولايتِهم علي جميعِ الذراّت والکائنات والموجودات إلي غير ذلک من الأخبار المختلفة الواردة في الموارد المتفرقة : أنّه لم يَعصِ الله تعالي أحدُ من أوّل الدهر إلي آخره، بل في جميعِ العوالِم والنشآت إلّا بالإنحراف عن ولايتهم ومحبّتهم، ولم يطعه أحدُ من جميع ما سمعتَ إلّا بذلک، هنالک الولاية الله الحق.

ولو أردنا إستقصاء الأخبار بذلک في هذا المقام لطال بنا الکلام، غير أنّي أذکر حديثاً واحداً في هذا الباب مع حوالِة الباقي إلي ساير المواضع من هذا الکتاب.

في «البحار» عن أبي حمزة الثمالي انّه دخل عبد الله بن عمر علي مولينا زين العابدين روحي له الفداء وعليه وعلي آبائه وأولاده آلاف التحيّة والثِّناء وقال : يا عليّ بن الحسين أنّتَ الذي تقول : إنّ يونس بن مَتّي إنّما لقي من الحوتِ ما لقي لأنّه عرضت عليه ولاييُ جدّي فتوقّف قال عليه السلام : بلي ثکلتک امّک قال فأرني أنّتَ ذلک إن کنتَ من الصادقين قال : فأمر بشَدِّ عينيه بعصابة وعينيّ بعصابة ثمّ أمر بعد ساعة

ص: 584


1- البقرة : 45.
2- البحار: ج 2/26 ح 1.

بفتح أعيننا فإذاً نحن علي شاطيء البحر تضرب أمواجه، فقال ابن عمر: يا سيّدي دمي في رَقَبتک الله الله في نفسي فقال عليه السلام : هِيه وأراه إن کنت من الصادقين ثمّ قال عليه السلام أيّتها الحوت قال : فاطلع الحوتُ من البحرِ مثل الجبلِ العظيم، وهي تقول : لبيّک يا وليّ الله فقال : مَن أنّتِ قالت : أنّا حوتُ يونس يا سيّدي، قال : إيتينا بالخبر، قالت: يا سيدي إنّ الله لم يَبعَث نبيّاً من آدم عليه السلام علي نبينا وآله وعليه السلام إلي أنّ صار جدّک محمد صلي الله عليه وآله وسلم إلّا وقد عرضَت عليه ولايتکم أهلَ البيت فمَن قبلها من الأنّبياء سلم وتخلّص، ومَن تَوقَّف عنها وتمنّع في حملها لقي ما لقي ، فمن ذلک ما لقي آدم من المعصية، وما لقي نوع من الغرق ، وما لقي إبراهيم من النار، وما لقي يوسف من الجبّ، وما لقي أيوّب من البلاء، وما لقي داود من الخطيئة، إلي أنّ بعث الله تعالي يونس فأوحي الله تعالي إليه : أنّ يا يونس تَولَّ أميرالمؤمنين عليه السلام والأئمة الراشدين مِن صُلبه عليه السلام في کلام، قال : وکيف أتولّي مَن لم أره ولم أعرفه وذهب مغاضباً فأوحي الله تعالي إلي : أنّ القمي يونس، ولا توهني له عظمة ، فمکث في بطني أربعين صباحاًيطوف معي في البحار في ظلمات ثلاث ينادي : لا اله الّا أنّت سبحانک إنّي کنت من الظالمين، قد قَبِلتُ ولايةَ علي بن أبي طالب والائمّة الراشدين مِن وُلده صلوات الله عليهم أجمعين، فلمّا آمن بولايتکم أمرني ربّي فقذفته علي ساحل البحر فقال زين العابدين عليه السلام : إرجع أيّها الحوتُ إلي وکرِک (1) واستوي الماء (2) الخبر.

إلي غير ذلک من الأخبار الدالّة علي عرض ولايتهم علي جميع الأنّبياء والأوصياءِ والأمم، بل وجميع الملئکة من العالين والکروبييّن والمقرّبين وغيرهم، بل علي جميع السموات والأرض والنّجوم والعناصر والمياه والجبال وغيرها من

ص: 585


1- الوکر: عش الطائر .
2- بحار الأنّوار: ج46 / 39- 40 عن المناقب لابن شهر آشوب ج 4 ص 138.

الجواهر والأعراض، فمن قبلها منها سعد، وطاب ، وصفي، ومَن أنکرها أو تأمّل فيها أو لم يَقم بوظائفها أو لم يحفظ حدودَها أو قَصر عن نَيل مقام الإذعان والتصديق والإعتقاد بتفاصيلها شقي أو خبث أو ابتلي بالبلايا والرزايا علي المراتب التي لا يحيط بها الکلام، بل لعلّه لا يخطر تفاصيلها علي الأفهام، إلا أنّ المقصود الإشارة إلي نوع المراد ليصل الطالب إلي سبيل الرشاد، وذلک أنّ مقتضي ولايتهم التي هي من أشعة أنّوار کينوناتهم النورانيّة اللمعانيّة الّتي هي نفس مشيّة الله وإرادته ورحمته ومحبّته ورضاه وقربِه وجوارِه أنّ يطاعَ الله ولا يُعصي في ملکه أبداً بأنّ لا يقع في ملکه من کلّ مخلوق في جميع الأزمنة والأمکنة إلّا ما يوافق رضاه ومحبتّه وإرادته، لأنّ هذه صور أعمالهم وأفعالهم وأحوالهم وإرادتهم الفانية في إرادة الله سبحانه ، فلا يشاؤن إلّا ما يشاء الله، لاندکاک جبل إنيّاتهم، فهم کالميّت بين يدي الغسَّال، وقلبهم بين إصبعين من أصابع الرحمن، بل لا فرق بَيَنه وبينهم إلّا أنّهم عباده وخلقه، فَمن أشرق عليه من أنّوار ولايتهم الکونيّة في صُقعِ الّرحمة الرّحمانية بأنّ تَذَؤّتت إنيتُه وحقيقته من فاضل أشعّةِ أنّوار أجسادِهم علي حَسَب الإختلاف، ومراتب القرب والبعد في ذلک ترشحت عليه فِضفاضُ من رشحات تجلّيات أنّوار أجساد عباداتهم التي هي أفعالهم الشرعيّة في ناحية الرّحمة الرحيميّة،(وهم الذين قالوا ربنّا ثمّ إستقاموا) (1)

فاستجابوالله وللّرسول ولوليّ الأمر من بعده فلمّا أجابوا خُلقوا بصورة الإجابة علي هيکل التوحيد الذي هو صِبغة الله، فيکون مبدؤه من النور، إلي النور ومنقلبه في النور، فيشرح الله صدرَه للاسلام بالطاعة التامّة العامّة لوليّ الأمر عليه السلام.

وامّا الّذين أنّکروا بقلوبهم أو في مقام التفصيل بعدما أقرّوا بألسنتهم في مقام

ص: 586


1- فصلت :30.

الإجمال فخلقهم الله من الظلمة الّتي هي حقيقة الإنکار وولاية الجِبت والطاغوت فبانکارهم خُلقِوا من الظلمة، ولو أقرّوا لخلقوا من النور حين اقروا ولکنهم أنّکروا فخرجوا عن ولاية أولياء الله التي هي مطرح أشعّة أنّوار الإيمان إلي ولاية أعدائه التي هي بَحرُ الظلمة، ودار النقمة المخلوقة من جهة المقابلة، فإنّ الله تعالي خُلق النور وخلق الظلمة فالمؤمن بحسن اختياره بأفعاله خُلق من النور، والمنافق بسوء إختياره وبح أفعاله څلق من الظلمة المخلوقة من الظلم، إنّ الله لا يظلم الناسَ شيئاً ولکنّ الناس أنّفسهم يظلمون.

نقد وتحصيل

العلّک بعد التأمل فيما ذکرناه ينکشف لک النقاب عن وجوه الأخبار الواردة في الباب فإنّک قد عرفتَ أنّ معرفتَهم ومحبّتَهم وإطاعتَهم هي الطريق المستقيم للخلق إلي الخالق بشرط أنّ يکون عدلاً متوسطاً بين الغلو والتقصير، فإنّ ذلک هو مقتضي ولايتهم دون غيره کما أنّ مقتضاها الإعتدال والتوسطُ في جميع الأحوال والأخلاق الّتي قد سمعت أنّ فضائلها هي الأوساط المتوسطة بين طرفي الأضداد التي هي الرذائل الواقعة في طريق الإفراط والتفريط فبعد تحقّق ذلک کلّه يحصل حقيقة الإيمان بجميع حدوده وشرايطه ومراتبه، ولذا سر الإيمان في قوله : (من يکفر بالايمان فقد حبط عملُه )(1) بالولاية في أخبار کثيرة بل من طرق العامة أيضا کما فسّر بها أيضا والثالثة بالثلثة في قوله : (ولکنّ الله حبّب اليکم الإيمان وزينّه في قلوبکم ، وکّره إليکم الکفر والفسوق والعصيان) (2)فلا إيمان الّا بالولاية ومعها، بل هي هو وهو هي، ولا تنال الشفاعة فاقداً لها.

ص: 587


1- المائدة : 5.
2- الحجرات : 7.

ولذا ورد في النبوي من طرق الخاصة والعامة : حبّ عليّ حسنة لا تضرّ معها

سيئة وبغض عليّ سيّئة لا ينفع معها حسنة (1)

فالتصديق بالولاية کاشف عن التصديق بالنّبوه کما أنّ التصديق بالنبوّة

کاشف عن التصديق بالتوحيد، بمعني أنّ کلّا منها مصحّحُ ومتمّمّ لسابقه وکاشف عن صحّته ووقوعه بل إذا وقع السابق علي الوجه المرضي المأمور به لحقه المتأخر لا محالة وإلا لم يکن السابق أصلاً بمعني أنّه لم يتحقّق.

ولذا لا يعدّ اليهود والنصاري من أهل التوحيد والوعُدّوا فلا ينفعهم توحيدهم،

کما لا ينفع أهل السنّة تصديقهم الظاهري بالشهادتين، فإنّ هذا کلّه من شعب التصديق الظاهري الأوّلي في عالم الذّات قبل الإبتلاء والتمحيص، وليس منه في القلب أثر، ولذا ينتفي بل ينقلب کفراً بالإمتحان ليميز الله الخبيث من الطّيب، وکذا الذين قالوا آمنّا بأفواههم ولم تومن قلوبهم، فإن الإيمان الظاهري البدني تتبعه الأحکام الظاهريّة البدنيّة، والإيمان الحقيقي القلبي تتبعه الأحکام الواقعة المعنوية الحقيقية.

ولذا قال السيّد السّجاد في دعائه الذي رواه الثمالي: اللهم إنّ قوماً آمنوا بلسانهم ليحقنوا به دمائهم فأدرکوا ما أمّلوا وإنا آمنّا بألسنتنا وقلوبنا لتعفو عنّا فادرکنا ما أمّلنا.

ثمّ أنّ هذا الإيمان الجامع للحدود الظاهرية والحقائق الواقعيّة من الاعتقادات والنيات والأخلاق والأعمال وغيرها من الشرايع التکوينيّة والتکوينات الشّرعيّة هو الطريق الأقرب للسالکين إلي الله والوافدين عليه، وهو بمنزلة الخطّ المستقيم الذي هو أقصر الخُطوط الواصلة بين النهايتين وان کان سبحانه يجلّ عن اکتناه الحدود والأطراف والنهايات (فأينما تولّوا فثّم وجه الله)(2)

ص: 588


1- ينابيع المودة ج 1 ص 270 عن المناقب للخوارزمي ص 76 ح 56.
2- البقرة : 115.

بل قد إنتهي المخلوق إلي مثله وألجأه الطلب إلي شکله، فهو طريق إلي قربه وجواره، بل هو طريق إلي حقيقة العبد وهي العبودية الّتي کنهها الربوبيّة فإنّ الطريق إلي الله مسدود، والطلب مردود، ولا يتجاوز الممکن مقام نفسه (وهو معکم اينما کنتم)(1) وخلق الله الخلق حجاب بينه وبينهم، ولا يرتفع الحجاب إلا بفتح الباب، وسدّ الأبواب (يا صاحبي السجن ءارباب متفرّقون خير ام الله الواحد القهّار)(2)

فلا ينصبغ العبد بصبغة الله ولا يتخلق بأخلاقه ما دام فيه تلوّن من عقله ونفسه الناطقة فضلاً عن الأرواح الحيوانيّة والسبّعية والبهيّمية والشيطانيّة والجسمانيّة فاذا إستسلم وتعلّم کلبُ الکهف باسطاً ذراعيه فنائه کان لونَ الماء لونُ انائه فيقلبهم الله ذات اليمين وذات الشمال، ويصير العبد بحقيقه مرآةً مجلوّة لإشراق أشعة أنّوار الجلال والجمال، وهذا هو الطريق الموصل إلي قرب الحقّ وجواره الذي هو صورة ولاية مولينا امير المؤمنين عليه السلام في الدنيا بل متفرّع من هيئات أعماله وأفعاله وآثاره، بل مقتبس من إشراق أشعّة أنّواره، وهو الذي يتجوهر في يوم القيمة الذي تُبلئ فيه السرائر، وتنکشف الضمائر، فيکون علي صورة الصراط جسراً ممدوداً علي متن جهنم الذي هو تجوهر البعد عن ساحة قربه سبحانه للإشتغال بالهواجس النفسانية والانغماس في الدورات الظلمانية والإستغراق في الغواسق البدنية ولذا يکون في تجوهره أدقّ من الشعر وأحدّ من السيف والناس يمرّون عليه علي طبقات فمنهم من يمرّ مثل البرق أو عدو الفرس، أو المشي أو متعلقا بيديه قد تأخذ النار منه شيئا وتترک شيئاً أو علي الصدر إلي غير ذلک من الطبقات والمراتب الّتي يشاهد مثلها في هذا العالم في سلوک الدين المبين والاهتداء بشريعة سيد المرسلين فمنهم الذين إستسهلوا ما استوعره المترفون بل انخمدت نار طبيعتهم، وفنوا عن إنيّتهم فتمتّعوا بلذيذ مناجاته، وحملوا في سفن نجاته وأُوردوا حياض حُبّه وأذيقوا حلاوة وُدّه

ص: 589


1- الحديد : 4.
2- يوسف: 39.

وقربه، ومنهم غير ذلک إلي اخر المراتب. .

ولذا ورد فيما رويناه سابقاً عن تفسير المقاتل انّه يجعله الله علي المؤمنين

عريضة وعلي المذنبين دقيقاً.

وفي النبوي علي ما رواه بعض الأجلّة مرسلاً أنّ الصراط يظهر يوم القيمة للأبصار علي قدِر نور المارين عليه، فيکون دقيقا في حقّ بعض، وجليلا في حقّ آخرين.

قيل : ويصدّقه قوله تعالي : (نورهم يسعي بين أيديهم )(1)

نعم ربما تقول في معني کونه أدق من الشعر وأحدّ من السيف أنّ کمال الإنسان في سلوکه إلي الحق منوط باستکمال قوتيه، أما العلمية فبحسب إصابة الحق في الأنّظار الدقيقة الّتي هي أدقّ من الشعر في المعالم الالّهية وانا العملية فبحسب قوّة الشهرية والغضبّية والفکرية في الأعمال لتحصيل ملکة العدالة وهي أحدّ من السيف فللصراط المستقيم وجهان: أحدهما أحد مَن السيف من وقف عليه شقه فيشقّ قدم مَن مشي أو وقف عليه لحِدَّته ودقّته وصُعوبة الثبات وإجتماع المشاعر عليه ، بل اکثر من يمرّ عليه تتفّرق مشاعره وحواشه الظاهرةُ والباطنةُ، بل يفترق بالعبور عنه کل من الحق والباطل عن الآخر ليميز الله الخبيث من الطّيب.

وثانيهما أدقّ من الشعر لشدّة إضطرابه بالسائر عليه فلا يزال يمرّ ويضطرب

ولا يثبت عليه إلّا من ثبّته الله بالقول الثابت في الحيوة الدنيا وفي الآخرة.

والوقوف علي الأوّل يوجب القطع والفصل أي تفريق الإدراک والعمل، حيث لا يقدر السائر علي تخليص الحقّ عن شائبة الباطل، ولا علي إخلاص العمل عن شائبة الشرک والأغراض الباطلة، فيکون النظر والعمل شقّين لأنّه أحدّ من السيف فيشق القدم العابر به عن بصيرة النظر ونية العمل ، ولکن الإنصاف أنّ هذا کلّه کغيره

ص: 590


1- التحريم: 8.

ممّا في «شواهد الربوبيّة» و«العرشية» وغيرهما تکلّف مستغن عنه، بل وکذا ما في شرح الثاني(1)للعارف الصمداني نظراً إلي أنّ المقصود من التشبيه تصوير دقّته وشدّة صعوبة العبور عليه، وليس کلّ من الوصفين نعتاً لوجه دون الآخر، بل ليس له وجهان متغايران من حيث الإقتضاء والحکم، فإنه أمر وحداني معنوي أو صوري حسب ما سمعت من أنّه صورة ولاية مولينا أميرالمؤمنين عليه السلام .

نعم ربما يُستشکل في المقام بأنّ نفس النبي صلي الله عليه وآله وسلم وطريقته وولايته التي هي باطن النبوة بل نبوّته الّتي هي حقيقة الولاية أقوم وأتم وأکمل وأجمل من ولاية مولينا أميرالمؤمنين علا فإنه عبد من عبيده ، ولذاکُنّي : بأبي القاسم حيث إنّه صلي الله عليه وآله وسلم کان أبو أمّته الذين کان واحدة منهم وهو وصية وخليفته قسيمُ الجنّة والنار، کما ورد التصريح به في بعض الأخبار، وعلي هذا فما السبب في تفسير الصراط بولاية مولينا أميرالمؤمنين عليه السلام وإضافته إليه دون النبي صلي الله عليه وآله وسلم کما في الأخبار المتقدّمة المروية من طريق الخاصّة والعامة.

والجواب ما أشرنا اليه سابقاً من أنّ الولاية ولاية واحدة، وهي قوله : (قل انما اعظکم بواحدة ) (2) فمرّة تضاف إلي الله، ومرة إلي رسوله، وأخري إلي اميرالمؤمنين عليه السلام ولذا قال (انّما وليکم الله ورسوله والذين آمنوا)(3) وقال : (هنالک الولاية الله الحقَ)(4)

وقال النبي صلي الله عليه وآله وسلم: من کنت مولاه فعلي مولاه(5) لکن لمّا کان الکاشف الحقّ عن ولايته سبحانه التصديق بنبيّه صلي الله عليه وآله وسلم وعن

ص: 591


1- مراده شرح العرشية في المبدأ والمعاد تصنيف المولي صدر الدين الشيرازي المتوفي (1050) ه للشيخ احمد بن زين الدين الاحسائي المتوفي (1243).
2- سبأ: 46.
3- المائدة : 55.
4- الکهف : 44. (
5- الإصابة ج 1 ص 577 وعنه ينابيع المودة ج 1 ص 108.

التصديق بالنبي صلي الله عليه وآله وسلم ولايةُ وُلاة الأمر من بعده، فولايتهم ولاية النبي صلي الله عليه وآله وسلم، وولاية النبي ولاية الله، والآخذ بحجزتهم أخد بحجزة النبي صلي الله عليه وآله وسلم والآخذ بحجزة النبي أخذ بحجزة الله سبحانه کما في الأخبار الکثيرة (1)

بل فيما قدمناه عن «تفسير فرات» أنّ رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم أتاه جبرئيل فقال : أبشرّک يا محمّد بما تجوز علي الصراط قال : قلت بلي قال تجوز بنور الله ويجوز علي بنورک ونور من نور الله، وتجوز امتک بنور عليّ، ونور عليّ من نورک ، ومن لم يجعل الله له نوراً فماله من نو(2)

ولذا فُسّر الصراط في کثير من الأخبار المتقدّمة بصراط محمّد و آله ، فنورهم واحد، وصراطهم واحد، وسبيلهم واحد، وطريقتهم واحدة، ألا إن الناس لم يختلفوا في الله ولا في رسوله صلي الله عليه وآله، وإنّما اختلفوا في مولينا أميرالمؤمنين، فبولايته يُسلک إلي الرضوان، وعلي من جحد ولايتَه غضبُ الرحمن، فهو والأئمّة الطاهرة من ذريته أبوابه وسُبُلُه جَعلَهم الله ائمّةً وسطاً ليکونوا شهداء علي الناس ويکون الرسول شهيداً عليهم (3)

فالنبي صلي الله عليه وآله وسلم يدعو الناسَ إلي ولايتهم، وهم يَدعون الناسَ إلي ولايته، قال

الله تعالي : ( وانک لتهدي إلي صراط مستقيم) (4)

عن القمي قال عليه السلام يعني إنک لَتأمُرُ بولاية عليّ وتَدعو إليها، وعليّ هو الصراط المستقيم، (صراط الله الذي له ما في السموات وما في الأرض) (5) قال : يعني عليّاً إنّه جعله خازئه علي ما في السموات وما في الأرض من شيء،

ص: 592


1- بحار الأنّوار : ج 68ص 134.
2- تفسير فرات ص 287 ح 387 - والآية من سورة النور : 40.
3- نقل بالمعني من سورة البقرة آية : 143.
4- الشوري : 52.
5- الشوري : 53.

وإنتمنه عليه (1)

وقال سبحانه: ( وانک لتدعوهم إلي صراط مستقيم )القمي قال عليه السلام إلي

ولاية اميرالمؤمنين عليه السلام (2)

(وان الذين لا يؤمنون بالاخرة عن الصراط لنا کبون) (3)القمي قال :

عن الإمام لحائدون (4)

ويؤيّده ما في «الکافي» عن الصادق عليه السلام قال : قال اميرالمؤمنين عليه الصلوة والسلام أنّ الله تبارک وتعالي لو شاء لعرّف العباد نفسه لکن جعلنا أبوابه، وصراطَه ، وسبيله ، والوجه الّذي يؤتي منه، فمن عدل عن ولايتنا أو فضل علينا غيرَنا فإنّهم عن الصراط الناکبون(5)

هذا لکّن الشيخ الأکبر الامجد عطر الله مرقده إستشعر في «شرحه للعرشية»

لهذا الإشکال في شرح قول الملّاصدرا: وأتمّ الصراطات المستقيمة نفس اميرالمؤمنين عليه السلام ثمّ نفوسُ أولاده المقدسين، فقال : إنّه يحتمل وجوهاً حيث لم يذکر نفس النبي صلي الله عليه وآله وسلم، مع أنّها أتم من نفس أميرالمؤمنين ، ونفوس ذريته المعصومين :

الأول أنّه ورد أنّ الصراط المستقيم أمير المؤمنين وأهل بيته الطاهرين سلام الله عليهم أجمعين، فاستطرد عند ذکره ووصفه بالصراط المستقيم تفسير الصراط المطلق المشتمل علي المستقيم وغيره، وبيَن أنّ نفسه ونفوس أولاده المعصومين عليهم السلام أتمّ الصراطات المذکورة لأنّ المذکور هنا هو وأولاده عليهم السلام ، والنبي صلي الله عليه وآله وسلم لم يُذکَر في الموصوفين بالصراط المستقيم وإن کان فسّر مطلق الصراط

ص: 593


1- تفسير القمي ج2/ 280.
2- تفسير القمي ج 92/2 .
3- المؤمنون:74.
4- تفسير القمي ج 92/2
5- بحار الأنّوار ج 24 ص 253 عن بصائر الدرجات ص 146.

لأنّ الموجب لذکر المطلق هو ذکره بالصراط المستقيم قال : ولعل المصنّف يرد غير هذا الوجه.

الثاني أنّه عليه السلام هو المشتهر بالولاية والنبي صلي الله عليه وآله وسلم إشتهر بالنبوة، والولاية فترت

بالصراط المستقيم دون النبوة.

الثالث : أنّ نفس النبي صلي الله عليه وآله وسلم هي الغاية التي الصراطات کلّها تؤدي إليها إما دلت عليه الأدلّة النقلية والعقلية فردّه ومصيره إلي الله تعالي، وقد دلت الأدلة عقلا ونقلا علي أنّ الردّ إلي الله والرجوع والمصير إليه هو الرد والرجوع والمصير إلي رسوله صلي الله عليه وآله وسلم في الدنيا والاخرة، لأنّ الحوادث لا تنتهي إلا إلي مثلها کما قال مولينا أمير المؤمنين : إنتهي المخلوق الي مثله وألجأه الطلب إلي شکله.

وقوله عليه السلام في شأنّ النبي صلي الله عليه وآله وسلم في خطبته يوم الجمعة والغدير قال : أقامه في سائر عالمه مَقامَه في الأداء إذ کان لا تدرکه الأبصارولا تحويه خواطرالأفکار(1)

ثمّ قال : وإذا قطعنا النظرَ من کلام المصنّف وعن مراده فلک أنّ تعتبر الوجه الثالث لأنّه الجاري علي تفسير باطن الباطن وبيان السر المقنع بالسرّ ولک أنّ تفسّر الصراطات المطلقة يعني الشاملة لکلّ أحد فان قلت أکملها تعينت نفس النبي صلي الله عليه وآله وسلم وإن قلتَ أتمّها فکما قال المصنف ، ولک أنّ تستعمل أتم بصيغة التفضيل المطلق، فتقول أتتها نفس النبي صلي الله عليه وآله وسلم، وتلک الأئميّة الحقيقية، وإن أردت الأتميّة الإضافية فکما قال المصنف ، انتهي کلامه زيد مقامه.

لکن لا يخفي أنّ کلامه في تعدّد الصراطات في المقام جارٍ علي منوال ما ذکره الملاصدرا من أنّ کلّ نفس صراط إلي الآخرة بوجه کما أنّها سالکة أيضاً بوجه، فالمتحرّک والمسافة شيء واحد بالذات، متغايرة بالاعتبار، فالنفوس صراطات إلي العاقبة بعضها مستقيمة، وبعضها منحرفة، وبعضها منکوسة

ص: 594


1- بحار الأنّوار : ج 113/97 .

والمستقيمة بعضها واقفة، ومعطّلة، والواصلة بعضها سريعة، وبعضها بطيئة إلي غير ذلک ممّا ذکره في «عرشيته» و «شواهده» وأسفاره، وتفسيره وغيرها من کتبه الّتي بني الأمر فيها علي الحرکات الجوهريّة والانتقالات النفسانية في نشاة ذاتية حسب ما أشرنا سابقاً إليها وإلي التأمل فيها.

بل ينبغي التامل ايضاً في بعض ما حکيناه في المقام فإنّ الوجه الأول والثاني لا يَحسِمان مادّةَ الأشکال، بل لعلّهما سيّما الثاني أقرب إلي المصادرة، وعلي کلّ حال فلعل الوجه ما ذکرناه أوّلاً.

ثمّ انّه لما کانت الطّرق إلي الله کثيرة بعدد نفوسِ الخلائق، بل بعدد أنّفاسِهم وإن إختلفت في الإستقامة وسُرعَة الوصول وشرفِ القبول، وغيرها بين الصراط المطلوب المسئول، بعد توصيفه بالإستقامة المطلقة الجامعة المجملة، تأکيداً بل تکريراً للسؤال وتفصيلاً بعد الإجمال فأبدلَ عنه قوله : صراط الذين أنّعمت عليهم بدلّ الکلّ الّذي هو بمنزلة تکرير العامل فيه، ولذا ذهب الأخفش، والّرمخشري، وأکثر المتأخرين علي ما قيل إلي أنّ العامل في البدل مقدّرُ من جنس المذکور، نظراً إلي أنّه وإن عُدّ من التوابع إلّا أنّه مستقلّ برأسِه مقصودُ بالحکم ولذا لم يشترط مطابقته للمبدَل منه تعريفاً وتنکيراً، ومقتضي ذلک أنّ يکون عامله أيضاً مستقلاً عليحدة، لا عاملاً في شييء قبلَه، غاية الأمر أنّه لدلالة سابِقة عليه إطّرد حذفُه عن الکلام فيقدّر کما بقدر الفعل بدلالة اللّاحق في مثل قوله : (إذا الّسماءُ إنّشقت )(1)

لکن قد يقال : إنّ هذا الدليل بعينه إستدلّ به أصحابُ القول الآخر الذي هو أنّ العامل فيه هو العامل في المبدل منه کغيره من التوابع الّتي عُدّ واحداً منها بل قيل : إنه ألصق بُمدّعيهم حيث إنّهم قالوا : إستقلال البدل، وکونه هو المقصود بالنسبة

ص: 595


1- الانشقاق : 1.

يؤذنان بأنّ العامل فيه هو الأول لا مقدّر آخر، إذا المتبوع کالساقط ، فکأنّ العامل لم يعمل في الأول ولم يباشر أصلاً.

وشيخنا الطبرسي با جعله صفة للصراط المستقيم قال : ويجوز أنّ يکون بدلاً عنه، والفصل بين الصفة و البدل أنّ في تقدير تکرير العامل بدلالة تکرير حرف الجرّ في قوله : (قال الملا الذين إستکبروا من قومه للذين اسُتضعفوا لِمن آمَنَ منهم ) (1) وليس کذلک الصفة فکما اعيدت اللام الجارة في الإسم، فکذلک العامل الرافع أو الناصب في تقدير التکرير فکانه قال : إهدنا صراط الذين، وليس يخرج البدل وإن کان کذلک عن أنّ يکون فيه تبيين للأوّل کما أنّ الصفة کذلک ولهذا لم يُجِز سيبويه بي المسکين کان الامر ولا بک المسکين کما أجاز ذلک في الغايب نحو مررت به المسکين(2)

قلت : أمّا جعله صفة فبعيد جدّاً سيّما مع التکرير، ولذا جعلوا ناصية في قوله : ( بالناصية ناصية کاذبة ) (3) بدلاً لا نعتاً بل هو قد صرّح به کغيره مع أنّ في

عبارته تسامحاً في جعل الموصوف الوصف مع الموصوف، وأما ما ذکره في الفرق بين الصفة و البدل فهو مبني علي إعتبار تکرير العامل في البدل نظراً إلي ما سمعتَ ضعفه وإلي ما ذکره من تکرير الجارة في الآية وفي قوله : (لجعلنا لمن يکفر بالرحمن لبيوتهم)(4)

وفيه أنّ الجارّ والمجرور بدل من الجار والمجرور، والعامل وهو الفعل في

الموضعين غير مکرر کما صرح به الشيخ الرضيّ رضي الله عنه

بل أورد علي نفسه أنّه لو لم يکن المجرور وحده بدلا من المجرور لم يسّم

ص: 596


1- الأعراف : 75.
2- مجمع البيان ج 1 ص 29.
3- العلق : 16.
4- الزخرف : 33.

هذا بدلَ الإشتمال، لأنّ الجارّ والمجرور ليس بمشتمل علي الجار والمجرور بل البيت مشتمل علي الکافر، کما أنّ من آمن بعضُ الذين استضعفوا.

وأجاب بأنّه لمّا لم يحصل من اللام فائدة إلّا التأکيد جازلهم أنّ يجعلوه کالعدم، ويسموه بدل الإشتمال نظراً إلي المجرور، ولا يکرّر في اللفظ في البدل من العوامل إلّا حرف الجر لکونه کبعض حروف المجرور

وبالجملة الأظهر في البدل بل في سائر التوابع وفاقاًللاکثر أنّ العامل فيها هو العامل في المتبوع، لأنّ المنسوب إلي المتبوع في قصد المتکلم منسوب إليه مع تابعه ولذا قالوا: إن الفعل لا يرفع أزيد من واحد بالأصالة إخراجاً للتبيعته .

هذا مضافاً إلي ضعف القولين الأخرين فيها وهو تقدير العامل کما سمعتَ أو

کونه معنوياً کما في المبتداء ، وهو المحکي عن الأخفش لکونهما علي خلاف الأصل، والظاهر سيّما مع شذوذ الثاني.

وأمّا ما ذکره الإمام عليه السلام في المقام تفسيرة للآية من قوله : أي قولوا: صراط

الذين أنّعمت عليهم بالتوفيق لدينک وطاعتک(1)... آه.

فلا دلالة علي التقدير بل هو مبني علي ما ذکروه من أنّ المبدل منه في درجة السقوط وإنّ کان الحق فيه أنّه ليس علي وجه الکلّية ايضاً لکونه المرجع الضمير البدل أحياناً.

وعلي کلّ حال ففائدة البدل مطلقاً وإن کان تأکيداً لحکم بتکرير ذکر المنسوب اليه، وتکرير النسبة تقديراً أو إعتباراً إلا أنّه يفيد في المقام مضافاً إليه الإشعار بأنّ إستقامة الصراط إنما هو بکونه محصوراً بين المُنعِم والمُنعَم عليهم، وإن کان المخلوق إنما ينتهي إلي مثله، لأنّ الطلب إنّما يلجئه إلي شکله، وان الصراط المستقيم نعمة منه سبحانه لا من غيره، وأنّ في سلوکه إشتياقاً لنفوس المشتاقين

ص: 597


1- کنز الدقائق ج 1 ص 75 عن معاني الأخبار ص 32 ح 9.

وابتهاجاً لأرواح السالکين بسبب مرافقة تلک الأرواح القدسية والأشباح الإنسيّة

(أُولئک مع الذين أنّعم الله عليهم من النبييّن والصديقين والشهداء والصالحين

وحَسُنَ أُولئک رفيقاً)(1)

بل قد يقال : إنه بدل البعض من الکل طلباً لا قرب السبل، فإنّ المستقيم وإن أفاد تخصيص الصراط باخراج الطرق المعوجة التي لا يزيد سالکها إلّا بُعداً من الله إلا أنّه يشمل بعد ذلک طريقَ المقرّبين وأصحابِ اليمين، بل يشمل الفرق الثالث الذين أورثهم الله کتابَه ( فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات باذن الله) (2)

وطرق الجميع وإن کانت مشترکة في الإنتهاء إلي الله لاشتراکها في المنتهي، إلّا أنّها مختلفة في المبدأ قرباً وبُعداً ، بل في نفس المسلک وکيفية السلوک أيضاً فإنّ بعضَهم يتوجّهون إلي الله بأبدان الأعمال، وآخرون بأرواحها الّتي هي نفس التوجه والإقبال، ولذا قيل : إنّ الآية متضمنة لجملة من السؤال والجواب، فکأنّ لسان الربوبية لما قال العبد: إهدنا الصراط، سأله أيّ الصراط فإنّ الطرق کثيرة فيجيبه لسان العبُوديّة باستدعاء الصراط المستقيم ثمّ خاطبه ثانياً بأنّ الطرق المستقيمة أيضاً کثيرةُ مختلفة لا في نفسها فإن المستقيم الواصل بين النهايتين لا يزيد علي واحد، بل باعتبار المبدأ بحسب القرب والبعد وإن کان الکلّ ينتهي إليه سبحانه ، فأجاب العبد ، بل الرب بلسان عبد: بأنّ المسئول طريق الذين أنّعمتَ عليهم بشرف الوصال، من دون شوب الغَضَب والضلال، فهم أرباب المنحة لا المحِنة وأصحاب النِعمة لا النقمة ، بل هم الواصلون، وغيرهم الضالّون المُضِلّون. خليليّ قُطّاعُ الطريقِ إلي الحمي کثيرُ ولکن واصِلوة قليلُ

ثمّ إن الذين في موضوع الجرّ باضافة الصراط إليه، وهو جمع الّذي من لفظه

ص: 598


1- النساء: 69.
2- فاطر : 32.

لذوي العلم في الأحوال الثلثة عند الأکثر، وهو الأصحّ والأفصح، واللّذون رفعة هُذَليّةُ ومنه قولهم:

نحن اللّذون صَبّحوا الصّباحاً.

نعم ربما يقال : إنّ إعراب الجمع لغة مَن شَدَّد الياءَ في الواحد، وهذا يُقوّي قولَ الجزولي : إنّ الذيّ مشدّد الياء مُعربَ وأصله اللّذيّون فحذف أحد اليائين، ثمّ عُمِل ما عُمِل بقاضون، وعن بعضهم عدم الحذف والعمل أصلاً، بل الجري علي الأصل بالواو رفعاً، وبالياء مع الياء المشددة نصباً وجدّاً.

وهذا کلّه من أضغاث أحلام المُعربين الذين وجدوا الألفاظ مستعملةً ثمّ تکلّموا فيها بما هو شبيه برَجم الغيب ، کما تکلّموا في الذي أيضاً بمثل ذلک، حيث زعم الکوفيون أنّ أصله الذال الساکنة فلّما أرادوا إدخال اللام الساکنة عليها زادوا قبلَها لامة متحرکةً لئلاً يجمعوا بين الّذالِ الساکنة ولامِ التعريف الساکنة، ثم حرّکوا الذال بالکسر، وأشبَعوُا الکسرَ فتولّدت ياءُ

والبصريون أنّ أصله لذِ بالفتح والکسر الزِمَت اللام التعريف الّتي لا تفيدها

تعريفاً، لکونها من المعارف تَحسيناً للفظها واشبِعَتِ الکسرة ياءً

لکنّه کغيره من تکلّفاتهم ممّا لا ينبغي الإصغاءُ إليه، بل ولا إلي ما ذکره عارفُهم الشيخ صدر الدين القونوي من أنّ الّذي أصله الأي، ولکثرة التداول والإستعمال أفضي فيه الأمر إلي أنّ حُذِفَت ياؤُه المشددّة ، ثمّ تدرّجوا فحَذفوا الياء الأخري فقالوا اللبن ثم حذف بعضُهم الذال ايضاً فلم يبق إلّا اللام المشدّدة الذي هو عين الفعل ، فإنّ اللامَ الأُخري لام التعريف، فاذا قلتَ زيد الذي قائُم، أو قلت القائم، کان المعني واحداً فلام القائم ناب منابِ قولک : الذي ، والياء والنون في الّذين ليس للجمع، بل لزيادة الدلالة لِما تُقرّر أنّ الموصولات لفظ الواحد، والجمع فيهّن سواء، لأنّه لو کان الياء والنون في الذين للجمع لَأُعِيدَ إليه حين الجمع الياء الأصلية المحذوفة علي العادة الجارية في مثل ذلک، ولم يکن أيضاً نبيّاً بل معرباً والّذين

ص: 599

مَبنيُّ بلا شک انتهي.

اذ فيه أنّه من أين علم أنّ اللام الموصولة أصلها الذيّ وأنّ أصله أيضاً بتشديد الياء ، وما الّداعي إلي ذلک وهل رات النُحاة إلا بعض الإستعمالات التي ربما إستَنبَطَ بعضهُم منها بعضَ النِکات التي ليست بعلل أوليّة .

نعم ربما يقال : إنّ في المفرد أربع وجوه ، بل لغات يَختلِفُ باعتبارها صِيَغُ

المثّني والمجموع: أحدها بالياء المشدّدة کالنبيّ، والمثنّي اللذّيات بزيادة الألف والنون بعد الياء المشدّدة ، والجمع الليون بضم الياء المشدّدة رفعاً واللذّيِين بکسرها نصباً وجرّاً علي وزن النبيّين.

ثانيها اللغة المشهورة الّتي هي تخفيف الياء في المفرد، وحذفها مع زيادة الألف والنون رفعاً والياء والنون نصباً وجرّاً مع فتح الذال في الأحوال کقوله :

(واللذان يأتيانها) (1)( ارنا اللّذيَنِ )(2)

وإن قيل : إنّه ربّما يُشدَّد النون حينئذ کما قيل: إنّ هذه الملحقات ليست علائم للإعراب وإن توهّمها بعض القاصرين فإنّ الموصولات بأسرها مبنيّاتُ وُضِعت صيغتُها للدلالة علي معانيها، ولذا کان جمعه في الأحوال بالياء والنون وإن إشتهرت عن هُذيل بالواو رفعاً ، بل ربما يقال : إن الياء والنون في الذين ليست علامة للجمع أصلاً، بل لزيادة الدلالة، بل قيل : من لطائف الغرائب أنّ المفرد والمثني يعم ذوي العقول وغيرهم، بخلاف الجمع فإنّه يختصّ بذوي العقول، ولعلّها قيست بالجمع السالم.

ثالثها حذف الياء إکتفاء بالکسرة الدالّة عليها علي حدّ قوله : (يوم يَدعُ الداعِ) (3)لکنّها شادة کالوجه الرابع الذي يحذف فيه الکسرة أيضاً ، وکانّهما وقعا

ص: 600


1- النساء: 16.
2- فصلت :29 .
3- القمر :6.

في ضرورة الشعر فظنّوهما لغتين ، بل لعلّ الوجه الأول ايضا کذلک .

تبصرة

اللصراط إعتبارات تلثة لأنّه في نفسه طريق معنوي محصور بين المبدأ والمنتهي، وهو مشروع مجعول من الله سبحانه لسلوک العبد فيه، ولذا وصفه أوّلاً بالاستقامة التي هي صفة ذاتية له، ثم أضافه في السالکين الذين أنّعم الله عليهم بسلوکِ هذا الصراط المستقيمِ في التوجه إليه والإقبال عليه، ثمّ أشار الي أنّه نعمة منه، وأنّه هو المنعَم به علي عبيده ، وإنّما أضافه إلي المنعَم عليهم بالفتح دون المنجم بالکسر للتنبيه علي کون هذا الصراط الموصوف بالإستقامة طريقاً لهم نعمة من الله عليهم، ولذا قال بعد قوله : ( ولهديناهم صراطا مستقيما فأولئک مع الذين أنّعم الله

عليهم من النبيّين والصدّيقين والشهداء والصالحين )(1)

وانّه ليس لأحد التنعّم بهذه النعمة الجليلة المحتوية علي خير الدنيا والاخرة إلا بمتابعتهم ومشايعتهم والإقتداء بهديهم والاهتداء بنورهم و (اولئک الذين هدي الله فبهديهم اقتده)(2)

فإن القرآن نزل علي حدّ إيّاک أعني واسمعي يا جاره، ومن هنا يظهر أنّه يمکن الإستدلال بهذه الآية علي أنّ النبي صلي الله عليه وآله وسلم

والأئمّة الطاهرين صلوات الله عليهم اجمعين وسائط الخلق إلي الله سبحانه وأنّهم الأبواب والحُجاّب والنُواّب، سيّما بعدَ ما سمعتَ أنّ ولايتَهم هو الصراط المستقيم الذي نَجي به من تجئ وهلک من هلک، قبهم تمّت الکلمةُ، وعظمت النعمة، وهم السبيل الأعظم إلي الله، والصراط الأقوم

ص: 601


1- النساء:68-69.
2- الانعام:90.

إليه، وشهداء دار الفناء، فلا يغيب منهم عمل عامل من حق أو باطل، وشفعاء دار البقاء فيشفعون لمن إرتضي الله دينَه بولايتهم، ومحبتّهم والإنقطاع اليهم، والأخذ منهم والعمل بمقتضيات ولايتهم.

والآية وإن لم يکن فيها تصريح بالتّعيين فضلاً عن الحصر إلّا أنّه يتمّ ذلک بضميمة الأخبار المستفيضة المتقدّمة المصحة بکونهم الصراط المستقيم، مضافاً إلي ما سمعت من الإشارة إلي ذلک في آيات کثيرة يقطع الناظر فيها سيما بعد التأمل فيما ورد في تفاسيرها من الطريقين لو کان من أهل الشک والارتياب .

أمّا المؤالف المؤتَمن فضلاً عن المؤمِن المُمتَحَن فلعلّه لا يستريب في وساطتهم المحقّقة وبابينّهم المطلقة في جميع الفيوض التکوينّية والتشريعيّة علي وجه لا يوجب الإلحاد ولا التعطيل حسب ما أشرنا إليه ، کما أنّه يستفاد من الآية أيضاً مضافاً إلي ما استفيد من الآية المتقدّمة حسبَ ما أشرنا اليه تقرير الأمر بين الأمرين علي أتمّ الوجوه وأبلغها بالنسبة إلي المنعَم عليهم الّذين هم قادة الأمم وأولياء النِعم، نظراً إلي أنّه سبحانه أضاف الصراط إليهم أولاً نَفياً لتوهّم الجبر وأضاف النعمة إليه سبحانه، ثانياً دفَعاً لشوب التَفويض الّذي توهمّته الغُلاة أو المفوضّة إليهم أو إلي أنّفسهم، ولذا أضاف إلي نفسه وإلي خلقِه معا الصراط کما في هذه الآية، وفي قوله : (أنّ هذا صراطي مستقيماً فاتّبعوه) والدين في قوله : (أفغير دينِ الله يَبغُون)، (واليوم اکملت لکم دينکم) والهداية في قوله : (أولئک الّذين هَدي اللهِ فيهُديهم إقتُدِه )و وإن کان مرجع الثالثة الي واحد.

ص: 602

ثم إن إضافة الصراط إلي الموصولة لامية تفيد إختصاصّه بهم فإن أُريد بم المتبوعون فالاختصاص بهم واضح، وإن أريد التابعون فإختصاصه بهم من حيث السلوک والإستطراق وإن کان مختصّاً بالنّبي صلي الله عليه وآله وسلم وعترته المعصومين صلوات الله عليهم اجمعين من حيث الإشراق والإشتقاق، وبالله سبحانه من حيث الإنوجاد والإنخلاق لکفاية أدنَي الملابسة في باب الإضافة

ولذا أُضيف إليه سبحانه في قوله : (صراط العزيز الحميد الله )(1)الآية وقوله :( الله الذي له ما في السموات )(2)وإلي النبي صلي الله عليه وآله وسلم: (قل هذه سبيلي أدعو إلي الله) (3)

وإلي مولينا أمير المؤمنين روحي له الفداء في قوله : (هذا صراط عليّ مستقيم)(4) علي وجه البيان أو الاضافة، وان کان محتملاً للاول، ولتقدير اللام.

ثمّ إنّ التعبير بالذين في المقام دون مَن وغيره من الأسماء الموصولة إنّا هو الزيادة الإشعار فيه بالّتعظيم والّتفخيم، بل التصريح بالجمعيّة الداعية إلي الإلتحاق بهم والانخراط في زمرتهم إيثاراً لموافقتهم ومرافقتهم، ولذا ندب سبحانه إلي طاعته وطاعة رسوله موافقة أوليائه في قوله : (من يطع الله والّرسولَ فأولئک مع الذين أنّعم الله عليهم من النبيّين والصّديقين والشهداء والصالحين وحسن اولئک رفيقاً )(5)

نعم قرء شاّذاً صراطَ مَن أنعمتَ عليهم ونسبه في الکشّاف إلي عبد الله بن

ص: 603


1- ابراهيم1-2.
2- الشوري:53.
3- يوسف:108.
4- الحجر:41.
5- النساء:69.

مسعود، بل رواه مرسلاً شيخ الطائفة في «البيان» والطبرسي في «مجمع البيانعن أهل البيت عليه السلام لکنه لا ريب في شذوذه وعدم ثبوته لهذه الرواية المرسلة الّتي لا جابر لها، مضافا إلي أنّ الموجود في تفسير الامام عليه السلام بل وفي غيره من الأخبار المشتملة علي تفسير هذه المبارکة والآية الشريفة هو القراءة المشهورة ، هذا مضافاً إلي أنّه نسب في «التبيان» وفي «مجمع البيان» هذه القراءة الشاذة إلي شاذ من الناس کالثاني والزبيري ومن البين أنّ الرشد في خلافهما.

نعم روي القمي في تفسيره عن أبيه، عن حمّاد، عن حُريز، عن أبي عبدالله عليه السلام أنّه قرء صراطَ مَن أنّعمت عليهم غير المغضوب عليهم وغير الضالين

ولعل الأولي حمله علي التقيّة لمِا سمعتَ.

بسط في الکلام لبيان معني الإنعام

الإنعام إفعال من النِعمة بمعني إعطائها وإيصالها ، وهي بالکسر وإن قيل : إنّها مأخوذة من النَعمة بالفتح بمعني اللين، ومنها النعومة في البدن، والنُغامئ بالضم ريح الجنوب لکنها بالفتح اسم بمعني التّنعم کما صرحوا مضافا إلي قوله : (نعمة کانوا فيها فاکهين) ، ولذا قيل: بأنّ الموجود في کتب اللغة أنّها بالفتح في التنعم، وبالکسر هي المال، ونحوه ، ومن کلامهم : کم من ذي نغمةٍ لا نَغمةَ له، أي کم من ذي مال لا تَنَّعُم له.

وقيل : إنّها من الثعمة بالضم بمعني المسرّة والبهجة فالنعمة ما توجبها وتقرّبه

ص: 604

العين .

وقيل : إن الإنعام الإتمام تقول : أنّعمتُ دقه إذا بالغتَ فيه وأتَممتَه، ولعلّ أصل الباب للمبالغة والزيادة لکن علي وجه الرفق والسهولة، ولذا إقتصر عليها في

مجمع البيان» وإن لم يذکر القيد، وعلي کلّ حال فالنِعمةُ في الأصل وإن کانت هي الحالة المستلّذّة للإنسان لکونه صحيحاً مليّاً وجيهاً إلي غير ذلک ممّا تشتهيه الأنّفس وتقرّبه الأعين، إلّا أنّها أُطلِقَت علي نفس الشيء المستلّذ به کالمال، والصّحة، والجاه إطلاقاً لاسم المسَّبب علي السبب، نعم يختلف النعمة باختلاف الأشخاص والأحوال والأزمان إلي غير ذلک من المشخصّات الّتي قد يکون الشيء معها نِعمة ونقمِة من جهتين، فالمال مثلاً في نفسه وبالنسبة إلي بعض الأشخاص أو مطلقاً نعمة، وقد يکون نِقمة علي غيره، إذ يسعد به قوم، ويَشقي به آخرون (إنّ الإنسان ليطغي أنّ راه إستغني) (1)و( ولو بسط الله الّرزق لعباده لبغوا في الأرض )(2)، (ألم تر إلي الذين بَدَّلُوا نعمة الله کفراً وأحلّوا قومهم دارَ البوار )(3)

کما أنّه ربما يکون الشخص حيث يتلّذذ ويتنعّم بکلّ ما يرد عليه ولو من البلايا والمحِنَ الدنيوية کالفقر والمرض والذلّة وغيرها من البلايا والمصائب.

ولذا ورد في الخبر: إنّ العبد إذا بلغ حقايق اليقين، فالبلاء عنده نِعمةُ.

وفي العلوي الّذي رواه کميل بن زياد انّ النفسَ الکليةَ الالهيّة لما خمسُ قُوي بقاءٍ في فناء، ونعيمُ في شقاء، وعزّ في ذلٍّ، وفق في غناء، وصبرُ في بلاء،

ص: 605


1- العلق:6.
2- الشوري:27.
3- ابراهيم:28.

ولها خاصيّتان: الرضا والتسليم (1)

وذلک لا لإيثار الفقر والذلة والبلاء علي أضدادها من حيث هي، فإنّ الکلّ نعمةُ منه تعالي مع أنّ النعمة في أضدادها أتمّ وأعمّ، بل إنّما ذلک لما يلزمها من قطع العلائق والانقطاع عن الخلايق، والتوجه التّام إلي جناب الخالق، أو لأنّ العبد يلزم أنّ يکون في مقام التسليم بحيث يتلقّي ويرضي بما يرد عليه ، ولذا عُدّني العلوي المتقدّم من خواصّ النفس الکلّية الالهية الرضا والّتسليم، وهو من أسني المقامات علي ما يستفاد من أخبار کثيرة.

ثمّ إنّ نعم الله سبحانه علي کلّ عبد من عبيده مما لا تُعَدّ ولا تحصي ولذا قال : (إن تَعُدّوا نعمةَ الله لا تُحصوها)(2)بکيف ولا يمکن لأحد الإطّلاع علي الإستقصاء بجميع الارتباطات التي بينه وبين کل جزئي من جزئيات العالم، مما جعله الله تعالي من روابط فيوضه الّروحانية والجسمانية بلا واسطة أو معها مع وحدتها أو تکثّرها بل لعل الفيض الواحد الجزئي، فضلاً عن الفيوض الکثيرة الغير المتناهية الّتي لا يعلمها أحد إلا هو سبحانه له إرتباط بجميع مراتب الفيوض الواقعة في الّسلسلة الطّولية والعرضية لإستحالة الطفرة في الوجود وإنقطاع الروابط بين العابد والمعبود، بل کلّ عال مجاز ودرجة لما تحتَه في الصعود، ووسيلة له إلي واجب الوجود، وکلّ سافلٍ مجاز للعالي ومظهر له في النزول، ورابطة بين العلّة والمعلول، حتّي أنّه لو تَغيّر البعض تَغيّر الکل، ولذا قال سبحانه : ( وما أمرنا إلّا واحدة )(3)

ص: 606


1- بحارالانوار ج61ص 85عن بعض کتب الصوفية
2- ابراهيم :34.
3- القمر:50.

وورد أبي الله أنّ يُجريَ الُأمور إلِا بأسبابها .

وبالجملة فرحمته عامّة شاملة وعنايته تامّة کاملة، وحينئذ فينفتح بهذا

المقال بابُ للسؤال، وهو أنّ المنعَم عليهم جميع الخلق أجمعين من المسلمين والمشرکين والکافرين، وقضّية عموم الموصول، وحذف متعلق النعمة، وعدم التعرض لخصوصيّتها شمولُ الموصول لکلّ مَن أنّعم الله تعالي عليه بأيّ نعمة کان ، فيکون المسئول طرقَ جميعِ أهل العالم، ولا يمکن الجمع بين طرق الجميع الشامل للمؤمن والکافر والمشرک والمنافق والمطيع بمراتب الإطاعة ودرجاتها - والعاصي يفسوق المعصية ودرکاتها، ولا ريب أنّ المقصود بالسؤال خلافه.

لکنّ الخطبَ سهلُ في دفعه بعد إفتتاح الآية في الهداية الظاهرة في طريق الصواب الموصل إلي الأحباب، ونيل الثواب، سيما مع توصيفه بالمستقيم الذي هو صفة مخصّصَة للصراط إن لم نقل : إن اللام فيه للإشارة إلي الفرد الکامل الذي هو تمام الحقيقة، أو إلي المعهود الذي هو المقصود، أو أنّ غيره لا ينبغي أنّ يُسمّي صراطا، ولا الإرشاد إليه وإرائته هدايةً إلّا علي وجه التهکّم

هذا مع أنّ الذين أنّعمت عليهم ظاهر في المعهودية في خصوص قوم، وهم الذين أنّعم الله عليهم من النبيّين والصّدّيقين والشهداء والصالحين، ولو لإستفادته من التعبير بالموصولة أو ظهور النعمة في الفرد الأکمل، أو جميع أفرادها الّتي يختصّ به المؤمن الکامل، أو لأنّ النعمة لم تبق علي الکفّار نعمة، بل جعلوها نقمة عليهم، ولذا کان مولينا اميرالمؤمنين عليه السلام ، بل کل نعمة من نعم الله الّتي هو عليه السلام أعظمها نعمةً علي الأبرار، ونقمةً علي الفّجار (الم تر إلي الذين بدّلوا نعمةً الله کفراً) (1)مضافاً

ص: 607


1- ابراهيم :28.

إلي تعقيبه بالمخصّص المتصّل الذي هو غير المغضوب عليهم ولا الضالّين علي فرض عمومه وإلّا فقد عرفتَ إختصاصه من وجوه عديدة.

ولذا قال مولينا الإمام عليه السلام : إن هؤلاء هم الذين قال الله تعالي : ( ومن يطع الله

والرسول فأولئک مع الذين أنّعم الله عليهم)(1)-(2)

وحکي هذا بعينه عن أمير المؤمنين عليه السلام قال ثم عليه السلام قال ليس هؤلاء المنعَم عليهم بالمال وصحّة البدن، وإن کان کلّ هذا نعمة من الله ظاهرة ألا ترون أنّ هؤلاء قد يکونون کفّارا أو فُسّاقاً فما نُدبِتُم أنّ تدعوا بأنّ ترشدوا إلي صراطهم، وانّما أمِرتم بالدعاء لأنّ ترشدو إلي صراط الذين أنّعِم عليهم بالإيمان بالله وتصديق رسوله ، وبالولاية لمحمّد والله الطّيبين وأصحابه الخيّرين المنتجبين، وبالتقية الحسنة التي يسلم بها من شرّ عبادالله ومن شر الزنادقة في أيّام أعداء الله بکفرهم بأنّ تداريهم فلا تُغريَهم بأذاک ولا أذي المؤمنين، وبالمعرفة بحقوق الإخوان من المؤمنين فإنّه ما من عبد ولا أمة والي محمّداً وآل محمّد وأصحابَ محمد وعادي مَن عاديهم إلا کان قد إتخذ من عذاب الله حصِناً منيعاً وجُنّةً حصينةً، وما من عبد ولا أمة داري عبادالله بأحسن المداراة فلم يدخل بها في باطلٍ، ولم يخرج بها عن حقّ إلا جعل الله نَفَسه تسبيحاً وزکي عملَه، وأعطاه بصيرةً علي کتمانِ سرّنا وإحتمال الغيظ لما يسمعه من أعدائنا ثواب المتشحِطّ بدَمِه في سبيل الله ، وما من عبد أخذ نفسه بحقوق إخوانه فوقيهم حقوقَهم جهده وأعطيهم ممکنه، ورَضيَ عنهم بعفوهم، وترک الإستقصاء عليهم فيما يکون من زللهم وغَفَرها لهم إلا قال الله عزّ وجلّ له يوم القيمة : يا عبدي قضيتَ حقوقَ إخوانک ولم تستقص عليهم فيما لک

ص:608


1- النساء:69.
2- تفسيرالعسکري:ص22-23.

عليهم، فإني أجود وأکرم، وأولي بمثل ما فعلته من المسامحة والتکرم، فأنّا أقضيک اليوم علي حقّ وعدتک به وأزيدک من الفضل الواسع، ولا أستقصي عليک في تقصيرک في بعض حقوقي قال عليه السلام فيلحقه بمحمّد و آله وأصحابه ويجعله من خيار شيعتهم).

ثمّ قال : قال رسول الله صلي الله عليه وسلم لبعض أصحابه ذات يوم : يا عبدالله أحبّ في الله وأبغض في الله، وواللي في الله وعادِ في الله ، فإنه لا تتال ولاية الله إلا بذلک ، ولا يجد رجل طعم الإيمان وان کثرت صلاتُه وصيامُه حتي يکون کذلک، وقد صارت مواخاة الناس يومکم هذا أکثرها في الدنيا عليها يتوآدون وعليها يتباغضون، لا يُغني من الله شيئاً فقال الرجل : يا رسولَ الله فکيف أنّ أعلم أنّي قد واليت في الله وعاديت في الله ومَن ولي الله حتي أو اليه، ومَن عدو الله حتي اعاديه فأشار له رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم عليّ عليه السلام فقال : أترَي هذا؟ قال : بلي قال : ولّي هذا ولي الله فوالِه ، وعدوّ هذا عدّو الله فعادِه، و وال وليّ هذا ولو أنّه قال أبيک وولدک، وعادِ عدوَّ هذا ولو أنّه أبوک وولدک

تتمة مهمّة في أنّ النعمة هي الولاية

قد سمعت تواتر الأخبار وشهادةَ الاعتبار علي أنّ المراد بالصراط المستقيم هي ولاية مولينا اميرالمؤمنين عليه السلام ، وهي طريقته في معرفته الله تعالي ولرسول الله صلي الله عليه وآله وسلم وفي عبادته وعبوديته لوقوفه علي التَطنجين وبرزخيته الکبري في البين.

ص: 609

ونزيد في المقام أنّ قضيّة الإنعام أنّ هيهنا أموراًثلاثة : المنِعم والمنعَم عليهم والنعِمة، فالأول هو الله تعالي، والثاني قد مرّ أنّه جميع مَن أنّعم الله عليهم من التبتين والصّديقين والشهداء والصالحين بل والکروبيّين والعالين، بل وغيرهم من صنوف الملائکة والجنّة والناس أجمعين، واما الثالث فهو ولاية مولينا أمير المؤمنين عليه السلام إذ بولايته ومحبّته ومشايعته في عبادة ربّه ومتابعته في طريق معرفته قد فاز الفائزون، ونجي الصالحون، ولذا ورد: أنّ الله تعالي قد أخذ ميثاق ولايته علي الأنّبياء والمرسلين وجميع الخلق أجمعين فسعد مَن صدّقه بتصديقه، فخلق بهيئة التصديق، وهيکل التوحيد، وشقي من کذّبه بتکذيبه ، فإن ولايته متضمنة لولاية الله تعالي وولاية رسوله، بل لا طاعة الله عزّوجلّ في کلّ ما دقّ وجلّ من الأصول والفروع والآداب والسنن والأحکام الاقتضائية والتخييرية والوضعيّة علي حسب حال موضوعاتها من العموم و الخصوص والإطلاق والتقييد والظاهر والباطل.

ولذا قال مولينا الصادق عليه السلام : إنّ الدهرَ فينا قسّمت حدوده ولنا أخذت

عهوده

بل ورد من طريق العامة أيضاً عن انس بن مالک قال دفع علي بن أبي طالب عليه السلام إلي بلال درهماً ليشتري به بطيخا قال : فاشتريت به بطيخة فوجدها مُرّةً فقال : يا بلال رُدّ هذا إلي صاحبه وانتي بالدرهم إن رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم قال لي : إنّ الله أخذ حبّک علي البشر والشجر والثمر والبذر فما أجاب إلي حبّک عذب وطاب ، وما لم يُجِب خبث ومرّ، وإنّي أظنّ أنّ هذه ممّا لم يُجِب

وممّا يصرّح يکون ولايته عليه السلام تمام النعمة قوله تعالي : (اليوم اکملت لکم دينکم وأتممت)

ص: 610

لما ستسمع من إستفاضة الأخبار بل تواترها من الفريقين علي أنّ المراد بها

في الآية تنزيلاً وتأويلاً ولايته عليه السلام ونصبه عَلَماً للناس.

ولذا قال مولينا الصادق عليه السلامفي الدعاء المرويّ في «التهذيب» وغيره بعد

صلوة الغدير : ومُنَنتَ محمّدا وذريّته).

وفي تفسير قوله تعالي : (الم تر إلي الذين بدّلوا نعمة الله کفرا واحلّوا قومهم دار البوار) عن القمي عن مولينا أمير المؤمنين عليه السلام قال : ما بالُ قوم غَيَّروا سنّةً رسولِ الله صلي الله عليه وآله وسلم وعدلوا عن وصيّةِ لا يخافون أنّ ينزل بهم العذاب، ثمّ تلا هذه الآية، ثم قال: نحن النعمة التي أنّعم الله علي عباده ، وبنا يفوز مَن فاز يوم القيمة

وفيه عن الصادق عليه السلام في قوله تعالي ( فاذکروا ألاءالله ) قال : أتَدرِي ما

آلاءُ الله؟ قلت: لا، قال : هي أعظم نِعَم الله علي خلقه وهي ولايتنا.

وروي القمي وغيره عن مولينا الباقر عليه السلام في قوله تعالي : (وأسبغ عليکم نعمة ظاهرة وباطنة )، قال : أمّا النِعمة الظاهرة فالنبيّ صلي الله عليه وآله وسلم وما جاء به من معرفة الله وتوحيدِه، وأما النعمة الباطنة فولايتنا أهل البيت وعقد مودّتنا

ويمعناه أخبار أخر، بل في بَعضِها أنّ النِعمة الظاهرة الإمام الظاهر والباطنة

الإمام الباطن.

وفي «المحاسن» مسنداً عنه طلا ، عن النبي صلي الله عليه وآله وسلم يا أباذر من أحبّنا أهل البيت

ص: 611

فليحمد الله علي أوّل النِعم ، قال : يا رسول الله وما أوّل النِعم ؟ قال : طيب الولادة لا يحبّنا أهل البيت إلّا طاب مولده

وفي الزيارةالجامعة: بموالاتکم تمتّ وعظمت النعمة.

ثمّ إنّه قد فُسّرت النجمة في هذه الآية وفي غيرها أيضاً بالدين، والإسلام،

والإيمان، والمعرفة، والتقوي، والتوحيد، وغيرها من التعبيرات المختلفة الّتي مرجعها إلي حقيقة الولاية بالحدود المعتبرة. عباراتنا شتّي وحسنک واحد وکلّ إلي ذاک الجمال يشير

ولذا فرض الله طاعتَه وإقامةَ ولايته علي الناس أجمعين بل جعل ولايته

المعرف الصحيح، والکاشف الأخير لتوحيده ونبّوة رسوله.

وورد في النبوي : أنّ الله تعالي لمّا خلق آدم ونفخ فيه من روحِه عَطَس آدم فقال : الحمد لله ، فأوحي الله تعالي إليه حمدتَني، وعزّتي وجلالي لولا عبدان أريد أنّ أخلقهما في دار الدنيا ما خلقتُک يا آدم قال : إلهي فيکونان مني ، قال : نعم يا آدم إرفع رأسک وأنّظر، فرفع رأسه فإذا مکتوب علي العرش: لا اله الا الله ، محمد نبي الرحمة، وعلي مقيمس الحجة، من عرف حق علي زکي وطاب، ومَن أنّکر حقّه لُعِنَ وخاب، أقسمتُ بعزّتي أنّ أدخِل الجنةً مَن أطاعه وإن عصاني ، وأقسمت بعزّتي أنّ أُدخِل النار مَن عصاه وإن أطاعني

بل قد ورد أخبار کثيرة في تفسير قوله تعالي : (من جاء بالحسنة فله خير منها وهم من فزع يومئذ امنون ومن جاء بالسّيئة فکبت وجوههم في النار)

ص: 612

الآية : أنّ المراد بالحسنة والله ولايةُ أمير المؤمنين، والسّيئة والله إتّباع أعدائه .

وفي الکافي عن مولينا الصادق عليه السلامعن جدّه أمير المؤمنين عليه السلام في هذه الآية قال عليه السلام: الحسنة معرفة الولاية وحبّنا أهل البيت، والسّيئة إنکار الولاية وبغضُنا اهل البيت (1)

ومثله أخبار کثيرة تأتي في موضعها، بل ورد مثله في طرق العامة عن

عبدالله بن مسعود وغيره عن النبي صلي الله عليه وآله وسلم.

فعن «المناقب» للخوارزمي عنه صلي الله عليه وآله وسلم: لو إجتمع الناس علي حبّ عليّ بن

أبي طالب لما خلق الله عزّ وجل النار (2)

وعن کتاب «الفردوس» عن معاذ عنه صلي الله عليه وآله وسلم : حبُّ عليّ بن أبي طالب حسنة لا تضر معها سيّئة ويخضه سيّئة لا ينفع معها حسنة، وأدخِل الجنة من أطاعه وإن عصاني وأُدخل النارً مَن عصاه وإن أطاعني (3)

بل في المحکي عن الزمخشري في بيانه أنّه قال : هذا رمز حسن ، وذلک أنّ حبّ عليّ هو الإيمان الکامل، والإيمان الکامل لا تضر معه السّينات قوله : وإن عصاني فإني أغفر له اکراماً وأدخله الجنّة فله الجنة بالإيمان ، وله بحبّ عليّ العفو والغفران ، وقوله : أدخل النار من عصاه وإن أطاعني، وذلک لأنّه إن لم يوالِ علياً فلا إيمان له وطاعته هناک مجاز حقيقة، لأنّ الطاعة الحقيقية هي المضاف إليها سائر الأعمال، فمن أحبّ عليّاً فقد أطاع الله ونجي.

فعلم أنّ حبّه هو الإيمان وبغضه هو الکفر، وليس يوم القيمة إلا محبّ ومبغض ، فمحبّه لا سيّئة له ولا حساب عليه، ومَن لا حساب فالجنة داره ، ومبغضُه لا إيمان له، ومَن لا إيمان له ينظر الله إليه بغير رحمته، وطاعتُه عينُ المعصية إلي

ص: 613


1- اصول الکافي ج 1 ص 185 ح 14.
2- المناقب للخوارزمي ص 607 الفصل 1 ص 39.
3- الفردوس ج 2 ص 162 ح 2725 وليس فيه : ( وأدخل الجنة .. الخ) .

اخر ما ذکره في مادّة «عصاني» مجمع البحرين(1)وکانّه حکاه عن الشيخ البرسي الذي خلط کلامه بکلام الزمخشري فلاحظ (2)

وحيث إنّک قد سمعتَ أنّ المنعم عليهم هم الأنّبياء والمرسلون، والملئکة أجمعون، والعباد الصالحون حسب ما هو قضيّة عموم الآية بل خصوص الآية الأخري المتقدّمة، سيما مع ملاحظة تفسير الإمام عليه السلام فالنعمة عليهم جميعاً في ولاية مولينا أمير المؤمنين، حسب ما مرّت الإشارة إليها آنفا من أنّ المراد بولايته هو القيام بحدود العبودية ووظائفها، وملازمة التقوي، والطاعة الکاملة المطلقة في جميع ما شاء الله وأحبَّ من الأمور التشريعية وغيرها، فکلّ مَن إرتکب منهم شيئاً خِلافَ ما هو الأولي والأحري فقد خرج عن حدود ولايته، کما أنّه خرج عن وظائفِ عبوديّة الله سبحانه، ولا تتوّهم من هذا شرکاً أو إلحاداً فإنّ الله تعالي جعل ولايتهم ولايته، وطاعتهم طاعته، ومعصيتهَم معصيته، ومحبتّهم محبّته، وإن شئت فقل : جعل ولايته ولايتهم للاول إلي الاتّحاد من غير إلحاد، وفي البَين ما تقِرّبه العين فمن أطاعهم فقد أطاع الله ، ومن عصاهم فقد عصي الله ، ومن أحبهم فقد أحب الله ، ومن أبغضهم فقد أبغض الله، لا لقضيه الملازمة فإنّها بعيدة غير ملائمة، بل لأنّها هي، لا لأنّهم هو، بل لأنّهم الأعراف الذين لا يُعرفُ الله إلّا بسبيل محبّتهم ومعرفتهم وولايتهم لأنّه جعلهم أبوابَه وسَبُلَه وحُجُبَه ، ومعادِنَ لکلماته وأرکاناً لتوحيده و آياته ومقاماته الّتي لا تعطيل لها في کلّ مکان يعرفه بها من عرفه لا فرق بينه وبينهم إلّا أنّهم عبادهُ وخلقه فإنّهم عباد مکرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون.

ثمّ إنّ سُبُلَ الذين أنّعم الله عليهم من هؤلاء المعدودين وإن کانت بمختلفةً جدّاً لإختلاف مراتب القبول الّتي يختلف بها الوصول لکن المسؤول هو النوع الّذي

ص:614


1- مجمع البحرين ج 1 ص 259 في ذيل کلمة (عصي) ط بيروت .
2- مشارق انوار اليقين للبرسي ص 16.

الأفرادها عرض عريض جدّاً حتّي أنّ الهداية اللائقة بشخص واحد خاصٍّ من حيث الإستعداد والقبول لها جزئيّات مختلفة من حيث خصوصّيات الأزمان والأحوال، ومِن هنا يسقط ما لو ربّما توهّم من أنّه کيف يصحّ سؤال الصراط المبهم وسؤال ما لا يُنال قطعا إذ مع أنّ سبيل کلّ واحد لا يتعدّاه لا ريب أنّ سبيل الأنّبياء والأوصياء المخصوصين بالعصمة علي إختلاف مراتبها لا يتعدّاهم إلي غيرهم، ومع فرضه فمن البيّن أنّه لا يناله کلّ أحد ممّن أُمِرَ بهذا الطلب في کلّ صلوة وغيرها.

ثم إنّه قد ظهر من جميع ما مرّ أنّ النعمة التي مَنَّ الله تعالي بها عليهم هو نفسُ هدايتهم إلي الصراط المستقيم، أو نفس الصراط علي بعض الوجوه، فکأنّه جعل المقصد الصراط الذي هو النعمة العُظمي : منه سبحانه علي جميع المؤمنين والشهداء والصالحين بل الأنّبياء والمرسلين ولذا جمعهم في الهداية مع الإمتنان عليهم بالنعمة في الآية بل في صريح الآية المتقدّمة وفي قوله : (اليوم اکملت لکم دينکُم وأتممتُ عليکم نعمتي)(1) وإن لم يصرّح بالصراط لأنّ الآية في حقّه وفي يوم نصبه، وفي قوله تعالي : خطاباً لنبيهصلي الله عليه وآله وسلم (ويُتِمُ نعمتَه عليک ويهديک صراطاً مستقيماً) (2) وإتمام النِعمة عليه عليه السلام بجعل وصيّه بابه وحجابَه ليتمّ بولايته نبوتَه من حيث التبليغ والإرشاد وهداية الخلق.

وأمّا هدايته إلي الصراط المستقيم فإمّا باعتبار نيل ذلک المقام الذي به اتمام

القوسين والوقوف علي التَطَنِجين.

ولذا ورد في القدسيّات علي ما مر: لولاک لما خلقت الأفلاک، ولولا عليّ لما خلقتک(3)، وإمّا للتعبير به عن هداية أمتّه، حيث إنّه صلي الله عليه وآله وسلم تحمل ذنوبَ أمَّتِه عنهم ليغفر له الله ما تقدّم من ذنب أمتِّه وما تأخر، کما ورد عن الإمام عليه السلام في تفسير صدر

ص: 615


1- المائدة : 3.
2- الفتح : 2.
3- بحار الأنّوار ج 15 ص 28 ح 5 - وج 57 ص 99 ح 3 والجملة الثانية ليست موجودة فيه .

ثمّ إنّه يظهر لک مما مرّ أنّ تفسير المنعم عليهم بخصوص المتقين أو السالکين، أو التائبين، أو المشتاقين، أو المنقطعين إليه سبحانه، أو الفانين عن هويات وجوداتهم وذَواتهم فيه به له، إلي غير ذلک من المقامات الّتي لا تدرکها العقول، ولا تنالها الأوهام إلا بعد الوصول تخصيص من غير مخصص بعد إشتراک الجميع في الهداية والاستقامة، وإن اختلفت في مراتب الفضل والکرامة، فإنّ هذه کلّها کالفروع والجزئيّات ما ذکرناه من الولاية التي هي الأصل المحتوي علي جميع ذلک وعلي غيره مما لم يذکر في المقام، ولم تجربها الأقلام، بل لم تخطر علي الأوهام.

وأمّا تعيين الفرقة المُنعَم عليهم من بين فرق الإسلام فقد لوّحنا لک أنّه الفرقة التاجية الإماميّة الإثني عشرية، وستسمع تمامَ الکلام في إقامة البرهان من طريق العقل والنقل علي أنّهم هم المخصوصون بالهداية والعناية والکرامة والاستقامة من بين الفِرَقِ الاسلاميّة الذين أضافوا اليهم إسمَه وأضاعوا رسمَه، وهم بضع وسبعون فِرقة کلّهم في النار فضلاً عن غيرهم من فِرَق الکفار، ولإنحرافهم بالغلوّ والإلحاد عن الصراط المستقيم الذي هو الإقتصاد في الأقوال والأفعال والاعتقاد فيمن سمّاهم الله تعالي بالمنذر والهاد.

ص: 616

( غير المغضوب عليهم)

وصل

وحيث قد سمعتَ أنّ الإستقامة يلزمها طرفان نوعيّان محصوران بکثرة أفرادهما في القصور والتقصير أراد سبحانه بعد التلويح به بوصف الصّراط بالاستقامة التصريح ببيان أحوال الفِرَق الثلاث واعدادها فإنّ الأشياء تعرَف بأضدادها فجعل المسئول المأمول صراط الذين أنّعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.

(غير المغضوب عليهم )بالتقصير والتَفريط في ولاية أوليائه حتي الحِقوا بتهّودهم ورجوعِهم إلي الجاهلية الأولي وإتّباعهم يعجل الأمّة وسامريّها بمَن لعنه اللهُ وغَضِبَ عليه وجَعل منهم القِردَةَ والخنازير وعبد الطاغوت فإنّ المسخ الباطني غيرُ منسوخ في هذه الأمّة.

(لا الضَالين )الذين أفرطوا وغلوا في حبّهم وطاعتهم حتّي إتّبعوا بغُلوّهم

أهواءَ النصاري الّذين قد ضلّوا من قبل وأضلّوا کثيراً وضَلّوا عن سواء السبيل.

ولذا فُسّر في بعض الأخبار باليهود والنصاري، وفي بعضها بالغلاةِ والقُلاة : وفي ثالث تنزيل کلّ من الوصفين علي کلّ من الفريقين ، بل جميع الفرق المنحرفة کما في «تفسير الامام عليه السلام » عن مولينا أميرالمؤمنين عليه السلام : إن الله أمر عباده أنّ يسئلوه طريق المنعَم عليهم، وهم النبيون والصّديقون والشهداء.

وأنّ يَستَعيِذُوا به من طريق المغضوب عليهم، وهم اليهود الّذين قال الله تعالي

ص: 617

فيهم: (قل هل أُنبّئکم بشرٍّ من ذلک مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه)(1)

وأنّ يستعيذوا به من طريق الضالّين وهم الذين قال الله فيهم : (قل يا اهلَ الکتاب لا تغلوا في دينکم غير الحقّ ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلّوا من قبل)(2) الآية وهم النصاري.

ثمّ قال أمير المؤمنين عليه السلام : کل من کفر بالله فهو مغضوبُ عليه، وضالّ عن

سبيل الله عزّوجل (3)

وقال الرضاعليه السلام مثله وزاد فيه : مَن تجاوز بأميرالمؤمنين العبوديّة فهو من

المغضوب عليهم ومن الضّالين(4)

إلي آخر ما تسمعه في مقالة اللاة .

وروي القمي عن مولينا الصادق عليه السلام ؟ قال: إنّ المغضوب عليهم النصاري

والضّالين أهل الشکوک الذين لا يَعرفون الإمام عليه السلام(5)

إلي غير ذلک ممّا تسمعه في بيان حال الفِرقَتين بعد التنبيه علي أنّ الغير من الأسماء المتوغلّة في الإبهام مثل الِمثل والشبه، إلّا أنّ هذين المماثلة والمشابهة وذلک للمغايرة في الذات أو في الصفات، أو الاثار، أو من کل وجه أو مطلقاً او مطلقها ، وعلي کلّ حال لا يزول إيهامها ولو بالإضافة إلي المعارف إلّا إذا وقعت بين ضدين کما في المقام، وفي قولهم: الحرکة غير السکون، فيضعف إيهامها، کما عن الأکثر أو يزول رأساً کما عن السيرافي فتتعرف عنده، وتکون بدلاً لا صفةً ومن

ص: 618


1- المائدة : 60.
2- المائدة : 77.
3- بحار الأنّوار ج 25 ص 273 - 276 ح 20 عن الاحتجاج وتفسير الامام علي .
4- بحار الأنّوار ج 25 ص 273 - 276 ح 20 عن الاحتجاج و تفسير الإمام عل .
5- تفسير القمي ج 1 ص 29.

حقّها في الأصل أنّ يوصف بها لِما فيها من معني إسم الفاعل الّذي هو المغايرة،

فمعني قولک زيد غير عمرو : مغائر له، وموصوفها نکرة محضة نحو: (نعمل صالحاً غير الذي کنّا نعمل ) أو معني خاصّة کما في المقام علي أحد الوجهين وإن کان في اللفظ معرفة.

قال في «القاموس» : إنّها بمعني سوي، وتکون بمعني لا (فمَن أضُطّر غير باغٍ ولا عادٍ) اي جايعاً لا باغياً، وبمعني إلّا.

قلت : ومثله عن «التيسير» في إستعمالها علي الوجوه الثلاثة، بل ربما يقال

بجوازها في المقام أيضاً.

فالأولّان علي قراءة الجرّ، وان کان الفرق بينهما أنّها في الأوّل بمعني المغايرة کقوله تعالي : (لِتَفتَريَ علينا غيره ) اي سواه، وفي الثاني لمجرّد النفي کقوله تعالي: (فمن اضطرّ في مخمصةٍ غيرَ متجانِف)أي لا متجانف ، وعليهما تکون مجرورة بالتّبعية کما تسمع.

والثالث علي قراءة النصب علي الحال أو الاستثناء أو الإضمار.

ثمّ إنها لشدّة إيهامها ونسبيّة معناها تلزمها الإضافة في المعني، وربما قُطِعَت عنها لفظاً إن فُهِمَ معناه، وتقدّمت عليها ليس، لا غيره من ألفاظ الجِخد، ولذا قيل : إنّ لا غير لحنُ ورُدّ بانّه مسموع في قول الشاعر:

جواباً به تنجو اعتَمِد فوَرَيُنا لَعَن عملٍ أسلَفتَ لا غير تُسئَل

قيل : وقد سُمع قبضت عشرة ليس غيرُها بالرفع والنصب، وليس غير بالفتح

ص: 619

علي حذف المضاف وإضمار الاسم، وليس غيرُ بالضم، ويحتمل کونه ضّمَه بناء وإعراب ، وليس غيرُ بالرفع، وليس غيراً بالنصب.

وعلي کلّ حال فإذا کانت للإستثناء تکون معربةً بما يستحقّه المستثني بإلّا في ذلک الکلام، وإن حکي في «الصحاح» عن الفراء أنّ بعض بني أسد وقُضاعة يَنصِبون غير إذا کانت بمعني إلّا تم الکلام قبلها أو لم يتمّ، يقولون : ما جائني غيرک فإنه علي فرض صحة النقل شاذّ جدّاً.

نعم قد يقال : إنّها تفارق إلّا في خَمس مسائل.

وهي أنّ إلّا تقع بعدها الجُمَل دون غير. وأنّه يجوز عندي درهمُ غير جيّد علي الضفة ، ويمتنع عندي درهمّ إلا جيد. وأنّه يجوز قام غير زيد، دون قام إلّا زيد.

وأنّه يجوز ما قام القوم غير زيد وعمرو بجرّ عمرو علي لفظ زيد، ورفعه حملاً علي المعني لأنّ المعني ما قام إلّا زيدُ وعمروُ، ومع إلّا لا يجوز إلّا مراعاة اللفظ.

وأنّه يجوز ما جئتک إلّا إبتغاءً معروفک بالنصب، ولا يجوز مع غير إلاّ بالجرّ

فتقول : ما جئتک لغير إبتغاء معروفک .

القراءة والإعراب

إعلم أنّ لهم في هذه الآية إختلافات ثلاثة :

أحدها أنّ المشهور في «غير المغضوب» قراءة الجرّ ويُخکئ في الشواذ

النصب ، لکنّ الأکثر علي الأوّل، وإن إختلفوا في وَجهِه.

فبين مَن جعله بدلا من ضمير الجمع وهو الهاء والميم في «أنعمتً عليهم»

ص: 620

الجواز إبدالِ الظاهر من ضمير الغائب مطلقاً نحو: (أسرّوا النجوي الّذين

ظلموا)علي أحد الوجوه، وقوله: علي حالةٍ لو أنّ في القوم حاتما علي جوده قد ظنّ بالماء حاتم

فجر حاتم علي البدل من الهاء في جوده.

أو بدلاً من قوله : «الذين» بناء علي أنّ المقصود بالمنعم عليهم هم الّذين

أسلموا من الغضب والضلال

وإنّما ساغ جعله علي الوجهين بدلاً نظراً إلي غلبة الإسمية عليها، فيسقط ما قد يقال من ضعف بدلّيتها نظراً إلي أنّ أصل وضعها الوصف، حسب ما سمعتَ أنّ معناها المغاير، والبدل بالوصف ضعيف عندهم، ولذا قوي بعضهم الوجه الثالث في جرّها، وهو کونها صفةً لموصولة، وإنّ کان يرد عليه أيضاً أنّ أصل غير أنّ تکون صفة للنکرة کما مو تقول : مررت برجل غيرک، فإنّها وإن أضيفت إلي أخص المعارف الذي هو ضمير الحاضر، لکنّها وصفت بها النکرة فکانک قلت: مررت برجل آخر أو برجل ليس بک، ومن هنا مع ملاحظة لزوم تطابق الصفة للموصوف أضطرّوا إلي التأويل.

إمّا بتنکير الموصوف الّذي هو الموصولة إجراء لها مَجريَ النکرة، نظراً إلي معناه، حيث لم يُقصَد بما عامّةُ المسلمين خاصّة، ولا طائفة منهم بأعيانهم، بل طائفة غير معيّنة منهم بأعيانهم، وإن کانوا معلومين بأوصافهم، فيجوز حينئذ أنّ يعامل معاملة المعرفة بالنظر إلي لفظه فيوصف بالمعرفة، ويجعل مبتدأء، وذا حال، ومعاملة النکرة بالنظر إلي المعني فيوصف بالنکرة کما يوصف بها المحلّي

ص: 621

باللّام في قوله:ولقد أمرّ علي اللّنيم يَسبّني فمضيت ثَمّةً قلتُ لا يعنيني

أي لثيم يسبّني إذ لا مرور علي الکل ، ولا دلالة علي التّعيين ، وإن کان يمکن

حملُه علي ضربٍ من العهد: فتأمّل فإن مراد القائل مدحُ نفسه بالحلم وأغماض العين، وقصد التنکير من المعارف باب وسيع تقول : إنّي لأمرّ علي الرجل مثلک فيکرمني، بل يَجري في الأعلام الشخصّية علي تأويل المسمّي بهذا الإسم، ولذا ذکروا أنّ غير المنصرف بالعَلَميّة وسببٍ آخر ينصرف عند التَنکير کقوله : مررت بأحمدکم.

وإمّا بتعريف اللفظ نظراً إلي زوال إبهامها في المقام رأساً کما مر حکايته عن السيرافي ، وغيره، ولذا قال السراّج: إن غيراً في هذا الموضع مع ما أضيف إليه معرفة لأنّ حکم کل مضاف إلي معرفةً أنّ يکون معرفةً ، وإنّما نکّرت غير ومثل ، مع إضافتهما إلي المعارف من أجل معناهما ، وذلک أنّک إذا قلتَ رايتُ غيرَک فکلّ شيء يري سوي المخاطب فهو غيره، وکذلک إذا قلتَ رأيتُ مثلک فما هو مثله لا يحصي، وأمّا إذا کان شيء معرفة له ضد واحد وأردت اثباته ونفي ضده، وعلم ذلک السامع ، فوصفتَ بغير وأضفت غير إلي ضدّه فهو معرفة ، وذلک نحو قولک : عليک بالحرکة غير السکون، فغير السکون معرفة وهي الحرکة، فکأنّک کرّرتَ الحرکة تأکيدا وکذلک قوله :(الذين انعمت عليهم غير المغضوب عليهم ) فغير المغضوب عليهم هم الذين أنّعِمَ عليهم، فمتي کانت غير بهذه الصفة فهي معرفة، وکذلک إذا غرف إنسان بأنّه مثلک في ضرب من الضروب فقيل فيه : قد جاء مثلک، کانت معرفة إذا أردت المعروف بمثلِک.

قال : ومن جعل غير بدلاً إستغني من هذا الإحتجاج، لأنّ النکرة قد تبدل من

المعرفة .

ص:622

قلت : وهذا الوجه أولي من تنکير الموصول ، سيّما بعد ما سمعتَ من تفسيره بالأخبار بالنبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وغيرهم من أولياء مولينا أمير المؤمنين عليه السلام .

مضافاً إلي إستفادة حصر أصناف النّاس کافّة حينئذ في الثلثة الراجعة إلي الإثنين : أهل الحق وهم أهل ولاية من يدور مع الحق حيثما دار، وأهل الباطل الذين إنحرفوا عن الحق بالغلو والتقصير، فلا داعي إلي التکليف بتنکير الموصول الذي هو في غاية البُعد.

نعم عن عليّ بن عيسي الرّماني أنّه قال : إنّما جاز أنّ يکون نعتاً للذين لأنّ الّذين بصلتها ليست بالمعرفة المعيّنة کالأعلام نحو زيد وعمرو، إنّما هي کالنکرات إذا عرفت نحو الرجل والفرس، فلما کانت الذين کذلک، کانت صفتها کذلک أيضا کما يقال : لا أجلس إلا إلي العالم غير الجاهل، ولو کانت بمنزلة الأعلام لما جاز کما لم يَجُز مررت بزيد غير الظريف بالجرّ علي الّصفة.

ثمّ إنّه علي فرض کونها صفةً قيل بجواز کونها صفة مُبيِنّة له، علي تقدير أنّ يراد بالنعم في ( أنّعمتَ عليهم) النعم الأخروية، وما يتوصل إلي نيلها من الدنيوية، أو مقيّدة علي فرض إرادة مطلقِ النعم أو الدنيوية مطلقاً لدخول الکافر

حنيئذ.

لکن في «الحواشي البهائيّة» أنّ الأولي التفصيل بانّه قد سبق أنّ (الذين انعمت عليهم ) هم المؤمنون أو الأنّبياء أو أصحاب موسي وعيسي علي نبيّنا وآله وعليهما السلام قبل التحريف والتسخ، فعلي الأوّل إن أريد بهم مَن اتّصف بالايمان ولو في الجملة، وبالمغضوب عليهم والضالين العصاة منهم، والجاهلون ببعض العقائد فالصفة مقَيّدة ، وإن أريد به الکاملون في الإيمان فمبيئَّة أيضاً، وإن أُريد بالمغضوب عليهم والضالين اليهود والنصاري فمُبِينّةُ أيضاً سواء أريد بالمؤمنين

ص: 623

الکاملون أو في الجملة، وعلي الثاني الصفة مُبَيِنّةُ لا غير بايّ تفسير فُسّر المغضوب عليهم والضالّين، وعلي الثالث کالأوّل.

أقول: ولعلّ الأولي من هذا التطويل الذي لا طائل تحته لايتنائه علي تفسير المخالفين الاقتصار علي ما يُستفاد من أخبار الأئمّة الطاهرين صلوات الله عليهم ، من کون الصفة مُبِيّنَةُ فإنّه وإن کان التأسيس أولي، للتبيين هنا مزيد فائدة، وهو التنبيه علي إنقسام الناس کافة إلي أقسام ثلاثة : التالي الموالي، والقالي ، والغالي، أو إلي المتوسطين علي الصراط السوي المستقيم، والمنحرفين عنه بالقصور والتقصير .

وبالجملة فهؤلاء لهم صفتان وجودية هو کونهم منعماً عليهم بذلک الصراط،

وعدمية هو عدم الغضب عليهم وعدم ضلالتهم.

وعلي کلّ حال فقراءة النصب محکيّة عن ابن کثير، ونسبت في غير واحد من التفاسير إلي الشذوذ، بل في بعضها أنّ الرواية شاذّة ، وقضيتها عدم ثبوت القراءة عنه، لکن في «الکشاّف» آنّها قراءة رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم، قيل يريد أنّها عادته قبل العرضة الأخيرة والا فکل القراءات قرائته عليه السلام.

لکن قد يقال : کلّ من القراءات السبع المتواترة إنّما نُسِبَ إلي واحدٍ من الائتة السبعة لاشتهاره بها، وتفرده فيها بأحکام خاصّة، وأما غيرُها فإذا لم يشتهر بها أحد نُسِبَ اليه سواء کان عادته أم لا، قيل : وهذا هو المختار عند المحقّقين ، ولا يَخفي فساده بعد ما سمعتَ في المقدّمات من سبب حدوثِ الاختلاف فيها وأنّ القرآن واحد، نزل من عند واحد.

ثمّ إنّ نصبه إما علي الحاليّة من المضمر في (عليهم) والعامل في الحال وصاحبها معاً هو (أنّعَمتَ) والعبرة بالمجرور، فإنّ الجارصلة تجرّ معني الفعل إليه، فالمجرور بالحرف بنفسه منصوب المحل بالفعل، وبهذا الإعتبار وقع ذا حال، فلا يرد أنّ العامل في ذي الحال هو الحرف الجارّ، مع أنّه لا بدّ من اتّحاد العامل في

ص: 624

الحال وصاحبها.

وإمّا علي الإستثناء المنقطع کما صرّح به في «المجمع» وغيره، بناء علي التقريب المتقدّم الذي ظهر منه أنّ في( المغضوب عليهم) من غير جنس المنعم عليهم، أو المتصل کما يظهر من البيضاوي حيث إشترط فيه تفسير المنعم بما يعمّ القبيلتين، ولعلّه لأولويّة التأسيس، أو أصالة الإتصال، أو إطلاق النعمة.

لکن الکلّ کما تري بعد ما سمعتَ من تفسير النعِمة سيّما مع البيانات الواردة

عن الأئمّة صلي الله عليهم أجمعين.

نعم عن الرّماني أنّ مَن نصب علي الإستثناء جعل «لا صِلة، کما أنّشد أبو

عبيدة : «في بئر لاحور سري وما شعر». .

أي في بئر هلکته، وتقديره غير المغضوب عليهم والضالين، کما قال : (ما منعک أنّ لا تسجد إذ أمرتک )وستسمع الکلام فيه، بل وفي أنّ «لا» في آية السجود ليست بزائدة وإن اطبقوا عليه ظاهراً.

وإمّا علي القطع بتقدير أعني، واعلم أنّه علي فرض التبعيّة أو القطع لا يلزم بل لا يجوز أنّ يقال غير المغضوبين عليهم لمراعاة المطابقة نظراً إلي الإستغناء عن الجمع بضمير الموصول به بالحرف الجار، بل قيل : إن هذا حکم کلّ ما يُعدّي بحرف جرّ تقول : رأيت القوم غير مذهوب بهم، فاستغنيت بالضمير المجرور في بهم عن جمع المذهوب.

ثانيها إختلافهم في الهاء والميم ين عليهم هنا، وفيما تقدّم وإن أغفلنا ذکره هناک، لکون الجميع آية واحدة ولنظمه مع غيره من الاختلافات، وبالجملة اختلفوا

ص: 625

في ضمير عليهم في کلّ موضع ، وکذلک لديهم، واليهم، بل کلّ هاء قبلها ياء ساکنة في التثنية وجمع المذکر والمؤنّث وغيرها نحو عليهما، وإليهما، وفيهما، وعليهم، وفيهم، وعليهنّ، وفيهنّ، وأتيهم، وصياصيهم، ويزّکيهم، وأيديهم، وأيديهنّ وإن إختلفوا في التعميم والعدم أيضاً، فقرء يعقوب ثلاثةً منها، وهي : عليهمُ، واليهُم، ولديهم، حيث وقعت بضمّ الهاء، ومثله حمزة فيها وإن في التعميم في جميع ما مرّ فإنه لم يَشتَثنِ من الهاء الواقعة بعد الياء الساکنة إلّا ضمير المفرد، وقرء الباقون في الجميع بکسر الهاء، فالأقوال فيها ثلاثة:

الضم مطلقاًللأصل، فإنها تضمّ مبتدئة نحوهُم فعلوا، وکذا بعد الألف والفتحة والضّمة والواو والسکون في سوي الياء، بل والياء سوي الساکنة نحو رآهم، جائهم، يعلمهم، أخوهم، منهم، يُغنِيهم، فيظهر من ذلک أنّ الضّمة هي الأصل فيها لا يعدل عنها إلا بسبب طار، وهو مفقود في المقام.

بل عن السراّج أنّها القراءة القديمة، ولغة قريش ، واهل الحجاز، ومن حولهم

من فصحاء اليمن.

والکسر مطلقا لمناسبته للياء وخفّته بالإضافة، والفرار من ثِقل الإنتقال من الياء التي تجانس الکسرة إلي الضمّ، وللتفصيل بين الألفاظ الثلثة وغيرها إنقلاب الياء فيها عن الألف بدليل علي زيد، وإلي عمرو، ولدي بکر، والألف يضمّ الهاء بعدها نحو: (ما هُم بمؤمنين) فکذلک بعد المنقلب منها إجراء لحکم الأصل ودلالة عليه.

ثمّ إنّهم قد أطبقوا علي عدم الضم في قوله : ( ومن يولّهم يومئذ دبره)

ص: 626

بل قيل : لا خلاف بينهم في کسرها إذا کان ما قبلها مشدّدة مکسورة، فإنّها بمنزلة الکسرتين اللّتين يتعسر الإنتقال منهما إلي الضمّ لثقله جدّاً، کما أنّهم قد إتفقوا علي الکسر أيضاً إذا سقطت الياء بسبب جزم أو بناء نحو: (ويُخزِهم) ( وإن يأتِهِم) و(فَاتِهِم)و(فاستَفتِهّم )

إذ لا خلاف بينهم في کسرها حينئذ مطلقاً إلا فيما يحکي عن رويس، حيث

إنه يرعي الأصل ولم يعتد بعارض السقوط.

نعم أختلف النقل عنه في (ويلههم الامل)في سورة الحجر ووقهم السيئاته (وقِهِم عذابَ الحجيم)کلاهما في غافر، (يُغنِهِمُ الله)في النور، فروي عنه بعضهم ضمّها في الجميع طرداً للباب، وروي آخرون کسرها لأجل الساکن بعدها إلحاقاً بنحو ( بِهِمُ الاسباب)

ثمّ إنّ لهم في المقام إختلافاً آخر في الميم، حاصله أنّ ميم الجمع بعد الهاء إمّا أنّ يکون بعدها متحرّک أو ساکن فعلي الأوّل کما في هذه السورة في موضعين ، وفي قوله : (هُم يوقنون) (قلوبهم وعلي سمعهم وعلي أبصارهم غشاوة

ص: 627

ولهم عذاب ک(1)

فالمحکيّ عن أبي جعفر، وابن کثير، وقالون بخلاف عنه في حالة الوصل، وصل الميم بواو أنضمّت الهاء قبلها أو انکسرت فيقولون : عليهم هُمو وقلوبهمو، وسَمِعهُمو إلي غير ذلک.

ونسبه في الجمع إلي أهل الحجاز، قال : إلا أنّ نافعاًاختلف عنه، وأمّا

الباقون فبالإسکان من غير صلة.

وحکي في «المجمع» عليهُمُ بالضّمتين قراءة ابن أبي اسحق، وعيسي الثقفي، وعليهِمِي بالکسر والياء قراءة الحسن البصري وعمرو بن فائد، وعليهِمُ مکسورة الهاء مضمومة الميم بغيرواو وعليه مضمومة اليهاء والميم من غير بلوغ واو مرويِّتان من الأعرج قال : فهذه سبع قراءات (2)

قلت : ولعلّه باعتبار إنضمام الإختلاف الأول إليه فالثامن ما حکاه الجزري في «طيبة النشر» عن ورش، وهو الوصل والإشباع قبل همزة القطع کما في (عليهم ، أنّذرتَهم أم لم تنذرهم ) (3)و ( أنّهم إلينا) (4)

امّا الحجّة علي هذه القراءات فلعلّ العمدة إختلاف اللّغات بالنسبة إلي الجلّ

أو الکل، وإن قال في «المجمع». .

أنّ مَن قرء عليهمو فإنّه اتبع الهاء ما أشبهها وهو الياء أو ترک ما لا يشبه الياء

والألف علي الأصل وهو الميم.

ومَن قرء عليهم فکسر الهاء وأسکن الميم فلائه أمِن الليس، إذ کانت الألف

ص: 628


1- البقرة : 7.
2- مجمع البيان ج 1 ص 28.
3- البقرة : 6.
4- القصص : 39.

في التثنية قد دلّت علي الإثنين ولاميم في الواحد، فلمّا لزمت الميم الجمع ، حذفوا الواو وأسکنوا الميم، طلبا للتخفيف إذا کان ذلک لا يشکل، وإنّما کسر الهاء مع أنّ الأصل الضمّ للياء الّتي قبلها.

ومَن قرء عليهمو فلانّه الأصل لأنّ هذه الواو في الجمع وسيلة الألف في

التثنية أعني أنّ ثبات الواو کثبات الألف.

ومَن قرء عليهمي فإنه کسر الهاء لوقوع الياء قبلها ساکنة وکسر الميم کراهة للخروج من کسرة الهاء إلي ضمة الميم، ثمّ انقلبت الواو ياء لسکونها وانکسار ما قبلها.

ومَن کسر الهاء وضم الميم وحذف الواو فإنّه إحتمل الضمة بعد الکسرة لانها غير لازمة إذا کانت ألف التثنية يفتحها لکنّه حذف الواو تفاديا وتخلّصا من ثقلها مع ثقل الضمة.

ومن قرء عليهم فإنه حذف الواو إستخفافاً واحتمل الضمة قبلها دليلاً عليها،

انتهي(1)

لکنّ الکل کما تري إن لم تکن مرجعها إلي لغات العرب التي لا يجوز الخروج عنها ، ويجوز الأخذ بکل منها مع عدم شذوذه فضلاً عن صحّته وشيوعه.

نعم ذکر شارح «منظومة الجزري» أنّ کسر الهاء وإسکان الميم وأشباحها الفنان صحيحتان فصيحتان کما ذکر أنّ هذا کله في حال الوصل، إذ کلهم متّفقون

علي الوقف عليها بالسکون.

وأمّا علي الثاني الذي يکون بعد الميم ساکن فعن أهل الحجاز، وعاصم،

ص: 629


1- مجمع البيان ج 1 ص 29.

وابن عامر کسر الهاء وضمّ الميم نحو: (بهم الاسباب)(1)، (عليهم القتال) (2)

(في قلوبهم العجل ) (3)لإجراء الميم علي الأصل الذي هو الضمّ فيها کما سمعت، وبقاء الهاء علي کسرها نظراً إلي أنّها تبعت الکسرة أو الياء ، ولم يتبعها الميم لبعدها، ولم يُشبِعوا الميم في المقام حذراً عن التقاء السالکين ، وعن المدّ الحاصل من الواو الساکنة بعدها سکون، فلما أضطرّوا إلي تحريکها ترجّح الأصل الذي هو الضم، وعن أبي عمرو کسر الميم حالة الوصل لأنّه کما کسرت الهاء لاتباع ما قبلها کسرت الميم لاتباع الهاء، مع انه اتبعت الکسر الکسر لثقل الضمة بعد الکسر، وعن حمزة والکسائي وخلف ضم الهاء قبلها إتباعاً، واذا وقفوا کسروا الهاء، إلّا حمزة فهو علي أصله في ضم الهاء في نحو(عليهم القتال ) (4)و( إليهم إثنين)(5)

وعن يعقوب إتّباع الهاء الميم علي ما تقرّر من مذهبه فيضمّ الميم إذا وقعت بعد الهاء المضمومة في مذهبه نحو: (عليهم القتال)(6)و (يريهم الله) (7) ويکسرها إذا وقعت بعدها مکسورة نحو: (بهم الاسباب)(8)و(قلوبهم العجل )(9)، هذا کلّه في الوصل.

وأمّا في الوقف فعلي الميم الساکنة وکسر الهاء سواء کان قبلها

ص: 630


1- البقره:166.
2- البقره:246.
3- البقره:93.
4- البقره:246.
5- يس:14.
6- البقره:246.
7- البقره:167.
8- البقره:166.
9- البقره:93.

کسرة ، نعم عن حمزة في عليهم، وإليهم، ولديهم ضمُّ الهاء وصلاً ووقفاً.

ثالثها ما قرء في الشواذّ: «وغير الضالّين» قال في «المجمع» : وروي ذلک عن مولينا اميرالمؤمنين روحي له الفداء وعليه وعلي أخيه وذريته آلاف التحية والثناء بعد ما حکاه عن أشقي الأشقياء أبي الشرور

ودلالة الحکاية علي وضع الّرواية أو حملها علي التقنية في غاية الظهور، سيما بعد ما ورد في أخبار کثيرة کتفسير الإمام عليه السلام وغيره موافقاً للقراءة المشهورة التي إتفقوا عليها .

نعم قد مرّ عن القمي أنّه رواه في الصحيح عن الصادق عليه السلام .

وفيه في الصحيح أيضاً عنه عليه السلام في قوله: «غير المغضوب عليهم وغير الضالين» قال : المغضوب عليهم النّصاب، والضالّين الشکاکون الذين لا يعرفون الإمام

وفيه مع ضعف الثاني دلالةً، أنّه لا يثبت القرءان بمثله سيّما بعد ما سمعتَ، ثمّ إنّه ينبغي أنّ يُعلم أنّ (لا) ليست في المقام للعطف، إذ شرط عطفها أنّ تسبق بايجاب، ولذا جيء بالواو للعطف، نَعَم قد يقال : إنها زيدت لتوکيد النفي، کما عن البصريين، بل ذکروا أنّ (لا) بعد الواو العاطفة إنما تزاد إذا کانت في سياق النفي وفائدتها التوکيد، والتصريح بشموله لکلّ واحد من المعطوف والمعطوف عليه لئلّا يتوهّم أنّ المنفي هو المجموع من حيث هو مجموع، فلا ينافيه ثبوت أحدهما معيّناً أولا علي التّعيين، وقد سمعتَ أنّ لفظ غير في الأصل وصف بمعني المغاير تفيد النفي إما بالإستلزام کما إذا وصف به إثباتاً للمغايرة کما في الآية الکريمة فإنّ

ص:631

وصف الشيء بکونه مغايراً للموصوف بوصف من حيث هذا الوصف تفيد نفي الوصف، وإمّا بالصراحة کما قيل في قولهم : أنّا غير ضارب زيداً، حيث إنّ المراد الستُ ضارباً له، لا أنّا مغاير لشخص ضارب له، فالإضافة إنها هي في اللفظ، والّا فلا إضافة معني، ولذا جوّزوا تقديم معمول المضاف إليه علي المضاف في قلوبهم: أنّا زيداً غير ضارب کما جاز ذلک في قولهم : أنّا زيدأ لا ضارب، فنزّلوا غيراً منزلة لا في صيرورته جزء الکلمة کالمعدولة فينتفي الإضافة من غير أنّ يتطّرق تخصيص إلي ما ذکروه من عدم جواز تقديم معمول المضاف إليه علي المضاف.

ولذا لا يقال في أنّا مثل ضارب زبداً أنّا زيداً مثل ضارب لامتناع وقوع

المعمول حيث يمتنع وقوع العامل.

والحاصل جواز تقديم ما في حيّز النفي ولو بغير عليه دون ما في حيّز

الإثبات لا لمجرّد الإثبات والنفي بل لما سمعت

نعم قيل: شرط حرف النفي أنّ يکون لا أولَم أو لَن، دون ما وإن، وعللّه التفتازاني بأنّ ما تدخل علي القبيلتين أي الاسم والفعل فيشبه الإستفهام، ولَم ولَن مختصّان بالفعل، ويکونان الجزء منه وأمّا لا فهي وإن دخلت علي القبيلتين إلا أنّها حرف متصرف فيها جاز عمل ما قبلها فيما بعدها، مثل جئت بلا شيء وأريد أنّ لا يخرج ، فجاز العکس أيضاً.

قلت : ولعلّ الأولي من کلّ ذلک الإقتصار علي السمّاع، وتتبع موارد الإستعمال وما أحسن الکسائي حيث سئل في حلقة يونس لِم لا يجوز أعجبني أنّهم قام ؟ فقال : أيّ کذا خُلِقَت.

رابعها ما قرء في الشواذّ أيضاً ولا الضالّين بالهمزة المفتوحة مقلوبة عن الألف واللام المشالة في لغة من جدّ في الهرب عن إلتقاء الساکنين حتّي في مثل المقام الذي قد صرحوا بجوازه فيه، لکون أوّل الساکنين حرف لين والثاني مدغماً

ص: 632

فيه مع کونهما في کلمة، من غير فرق بين کون حرکة ما قبل حرف اللّين من جنسه أولا، وإن سمّي في الأول حرف المدّ أيضاً، والدليل علي جوازه بعد جريان اللّغة عليه ووروده في کلمة أهلها أنّ في حرف اللّين نوعا من المدّ الذي يتوصل به إلي النطق بالساکن بعده، مع أنّ المدغم والمدغم فيه بمنزلة حرف واحد، إذ اللسان يرتفع عنهما دفعة واحدة والثاني متحرک فالأوّل الّذي هو ثاني الساکنين بمنزلته.

نعم يظهر من أبي البقاء عدم جريان هذه اللغة في حروف المد فضلاً عن

اللين، حيث قال : إنها لغة ناشية في کلّ ألف وقع بعدها حرف مشدّدة.

وعن الفيروز آبادي : أنّ الذي نصّ عليه جمهور النحاة أنّ ذلک لا يقاس عليه، وإنّما سُمِع منه ألفاظ دابّة وشَاّبّه ثمّ حکي عن أبي زيد سمعت عمرو بن عبيد يقرء ( فيومئذ لا يُسئل عن ذنبه انس ولا جَانُّ)(1) فظننته قد لَحن حيث حتي سمعت من العرب دَاَبّة وشابَّة.

تحقيق لمعني الغضب

إعلم أنّ الغَضَب بالتحريک مصدر أو إسم من غَضِب کسمِع ، عليه، وله إذا کان حيّاً وغَضِب به إذا کان ميّتاً کما في «القاموس» وغيره، وهو ضدّ الرضا في الخالق والخلق، ولذا يُنسَبُ إلي الله سبحانه أيضاً کما في قوله : (ولا تَتَولّوا قوما غَضَبَ الله عليهم) (2)وکذا في آية اللعان وغيره، وإن کان لا يسمي بالغضبان کما لا يسمي باللّعان فإنّه فينا کيفيّة نفسانية يتبعها حرکة الروح إلي الخارج دفعة طلباً للإنتقام، وهذه الحرکة لما کانت شديدة عنيفة يتبعها شدة سُخونِة الروح وثَوَران

ص: 633


1- الراحمن:39.
2- النور:9.

الحرارة المودّعة في بدن الإنسان واشتعالها فيغلي بهادم القلب، وينتشر في العروق، ويرتفع إلي أعالي البدن کما ترتفع النار والماء الذي في القدر فيظهر الحمرة والحرارة والالتهاب في أعالي البدن سيّما الوجه والعين اللّذين هما مظهران للنفس الإنسانية خصوصاً بعدما لهما من اللطافة والصّفاء، بل يصعد حينئذ من البدن فضلاً عن خصوص القلب الذي هو مستوقد الحرارة الحيوانيّة أبخرة ردّية مظلمة، شديدة الإلتهاب، فيمتلأ بها الشريانات الدماغية ولذا شبّهوا هيکل الانسان عند، ثوران الغضب بالتور المتوقّد باللهيب والحريق فلا يکاد يُسمَع منه إلا زفير وشهيق.

وقد ورد في الخبر: الغضب شعلَة من النار تُلقي صاحبَها في النار. وفيه أيضاً : الغضب من الشيطان وإن الشيطان خلق من النار

وفي الکافي : عن أبي جعفر عليه السلام : إن هذا الغضب جمرةُ من الشيّطان توقد في جوف إبن آدم وإنّ أحدکم إذا غضب إحمرّت عيناه وإنتفحت أوداجه، ودخل الشيطان فيه ، فإذا خاف أحدکم ذلک من نفسه فليلزم الأرض فإنّ رِجزَ الشيطان ليذهب عنه عند ذلک

وعلي کلّ حال فهو من الإنفعالات الرديّة النفسانية الّتي لا يليق بأوليائه

فضلاً عنه سبحانه .

ولذا قال مولينا الباقر عليه السلام لعمرو بن عبيد بعد ما سئله عن الغضب في قوله :(وَمَن يحلل عليه غضبي فقد هوي)إنّه هو العقاب، يا عمرو إنه مَن زعم أنّ

الله قد زال من شيء فقد وصفه بصفه المخلوقين

ص: 634

وسُيل مولينا الصادق عليه السلام عن الله تعالي هل له رضي وسخط؟ فقال : لهم،

وليس علي ما يوجد من المخلوقين، ولکن غضب الله عقابه ورضاه ثوابه

وفي المناقب عن أبي جعفرعليه السلام في قوله : ( ولکن کانوا انفسهم يظلمون) قال : إن الله أعظم وأعزّ وأجلّ من أنّ يُظلمُ لکن خلطنا بنفسه فجعل ظلمنا ظلمه وولايتنا ولايته، حيث يقول : (انما وليکم الله ورسوله والذين آمنوا) يعني الائمّة ثم، قال في موضع آخر (وما ظلمونا ولکن کانوا انفسهم يظلمون)

وفيه عن مولينا الصادق عليه السلام في قوله: (فلما آسفونا انتقمنا منهم ) ، فقال : إن الله عزّوجلّ لا يأسف کأسفنا ولکنه خلق أولياء لنفسه يأسفون ويرضون، وهم مخلوقون مربوبون، فجعل رضاهم رضا نفسه، وسخطهم سخط نفسه، لأنّه جعلهم الأعاة إليه والأدلاءَ عليه ، فلذلک صاروا کذلک ، وليس إنّ ذلک يصل إلي الله کما يصل إلي خلقه لکن هذا معني ما قال من ذلک ، وقد قال : أيضاً مَن أهان لي وليّاً فقد بارزني بالمحاربة ودعاني إليها ، وقال : (مَن يطع الرسول فقد اطاع الله )وقال : (إنّ الذين يبايعونک إنما يبايعون الله) ،(يدالله فوق ايديهم)فکل هذا وشبهه علي ما ذکرت لک وهکذا الرضا والغضب وغيرهما من الأشياء ممّا

ص: 635

يشاکل ذلک ولو کان يصل إلي الله الأسف والضجر وهو الذي خلقهما وأنّشأهما الجاز لقائل أنّ يقول : إن الخالق يبيد يوماً لأنّه إذا دخله الغضب دخله التغيّر وإذا دخله التغير لم يؤمن عليه الإبادَةِ ثم لم يُعرَف المکوّن من المکوّن، ولا القادر من المقدور، ولا الخالق من المخلوق ، تعالي الله عن ذلک علوّا کبيرا، بل هو الخالق للأشياء لا لحاجة ، فاذا کان لا لحاجة إستحال الحدّ والکيف فانهم ذلک إن شاء الله

وروي الصدوق مثله في التوحيد والمعاني إلي غير ذلک من الأخبار الدالة علي أنّ إطلاق هذه الأفعال عليه سبحانه ليس باعتبار المبادي الّتي هي من أفعال أو إنفعالات دالة علي التغيّر والنقصان وغيرهما من لوازم الإمکان الدالّة علي الإيادة والفناء کما أشار اليه بقوله : إذا دخله الغضب دخله التغير وإذا دخله التغير لم يؤمن عليه الإبادة ، وذلک لما قيل من أنّ هذه الأمور کيفيّات قابلة للإشتداد، والإشتداد يلزمه التضاد، والمتضادان متفاسدان، ولذا ينقلب الماء هواء، بل ناراً باشتداد السخونة المفسدة لصورته المائيّة والهواء ينقلب ماء باشتداد البرد، والإنسان يموت فجأة عند إشتداد کل من الخوف والغضب والفرح ومن أنّ کلّ متغير لا بدّله من غير خارج من ذاته ، إذا الشيء لا يتحرک من نفسه وکل ما له مغيّر قاهر عليه متصرف فيه قادر علي إهلاکه وأنّ کلّ ما دخله التغيّر فهو مرکّب من أمرين: أحدهما شيء بالفعل والآخر بالقوة لاستحالة أنّ يکون الشيء من جهة ما هو بالفعل بالقوة ومن جهة ما هو موجود معدوماً إذ القوّة ضرب من العدم فلابدّ فيه من ترکيب من مادّة وصورة ، وکلّ مرکّب مسبوق بالعدم، قابل للانحلال والزوال، وأنّ ما کانت له قوّة

ص: 636

غير متناهية فلا يؤثّر فيه شيء وهو لا يتأثر ولا ينفعل من شيء، إذا الضعيف القوة لا يتقاوم قوّيها فضلا عِن أنّ يغلب علي القوي ، فحينئذ کيف الحال إذا کان القوي ذا قوّة غير متناهية فدلّ ذلک بعکس النقيض علي أنّ کل متغير منفعل فقوته متناهية إلي حدّوکلّ ما هو کذلک فلابدّ من أنّ ينتهي إلي الفناء والدثور إلي غير ذلک من القواطع الدالّة علي أنّ إطلاقها کإطلاق ما يضاهيها من المکر والکيد والاستهزاء والأسف والمجييء ونحوها ليست باعتبار مباديها، بل إنّما هو لأحد الوجهين المشار إليهما في الأخبار المتقدمة : أحدهما باعتبار الغايات ولذا فسرّ في کثير منها الغضب بالعقاب ، والرضاء بالثواب المحتملين لارادة المصدر، وإسمه وهو ما يعاقب به وما يرضي به کالنار والجنّة، لا المعنيين المصدريين اللّذين ينبغي تنزيهه سبحانه عنه أيضاً الا أنّ يکون علي وجه التشبيه والتمثيل بناءاً علي أنّه واقع في صقع صفات الأفعال التي لا ريب في حدوثها، ويرائة ساحة کبرياء الذات عنها، ولذا ورد نسبة جميع الأفعال المتقدمة إليه ، وإن کانت باعتبار المشاکلة والإزدواج لأفعال العباد کقوله: وومکروا (ومکر الله والله خير الماکرين)(إنّ المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم ) (انّما نحن مستهزؤن الله يستهزء بهم) (انّهم يکيدون کيدا واکيد کيداً)

أي يفعل بهم فعل الماکر، والمخادع، والمستهزء علي حدّ قوله : (وجزاء سيّئة سيّئة مثلها)لمنساق لمجرد المشاکلة علي أحد الوجوه، أو باعتبارات ما

ص: 637

يعود جزاءً عليهم هو بعينه نفس أعمالهم الملازمة الغير المنفکّة عنهم، للزومها لهم لزوم الظّل للشاخص، ولذا قال سبحانه : (لا يحيق المکر السّييء الّا باهله) و(ما ظلمهم الله ولکن کانوا انفسهم يظلمون) (فمن نکث فانما ينکث علي نفسه)

ولذا قيل بتجوهر الأعمال وتجشم العقائد والارادات والأحوال يوم القيمة مستشهدأ له ببعض الظواهر کقوله : (وان جهنّم لمحيطة بالکافرين) ها(وما هم عنها بغائبين)(وانما ياکلون في بطونهم ناراً)

بل روي الشيخ الأمجد عن مولينا الصادق عليه السلام ما معناه إنّه سمع رجلاً من محبيه يقول : اللّهم أدخلنا الجنة فقال عليه السلام إنّکم في الجنّة ولکن إسئلوا الله أنّ لا يخرجکم منها إنّ الجنّة هي ولا يتناوهي تأويل قوله : ( وامّا الذين سعدوا ففي الجنّة )

وذکر في موضع آخر انّهم عليه السلام صرحوا بان النار موجودة في الدنيا في أهلها ويوم القيمة أهلها فيها إلي غير ذلک من الظواهر والشواهد العقليّة التي ستسمع الکلام فيها في مواضعها إن شاء الله.

ثانيهما باعتبار أنّه سبحانه خلط أوليائه المقرّبين بنفسه فجعل ظلمهَم وقوعاًوصدورة ظلمه، ورضاهم رضاه وسخطّهم سخطَه، وحبهم حبّه کما صرّح به

ص: 638

الامام عليه السلام في الخبرين الأخيرين.

وذلک لما ذکره صدر المحققين في شرح الخبر الأخير من أنّ الولي الکامل والفاني المضمحلّ هو الّذي يستغرق وجوده في وجود الحق المعبود لأنّه الموجود في مقام العبودية والشهود الراجع إلي عالم الوحدة الجمعية بعد طيّ منازل الکثرة في مراحل التفرقة وقد خرج من البين والأين، ووصل وفني في العين، فحينئذ إن بقي علي هذه الحالة في المحو ولم يرجع إلي الصخو کان محجوبا بالحق عن الخلق علي عکس حالة المحجوبين بالخلق عن الحق ، فحينئذ لا شغل له في هذا العالم ولا أسف ولا ضجر ولا غضب ولا رضي ولا غير ذلک مع الخلق لأنّ جميع ذلک فرع الالتفات إليهم ولا معاملة معهم فإذا صارت تلک الحالة ملکة راسخة له وقويت ذاته بحسب وسع شخصه وقلبه إنشرح صدره وصار جالساً في مقام التمکين علي الحد المشترک بين الحق والخلق غير محتجب أحدهما عن الآخر فحينئذ کلّ ما يصدر عنه من الأعمال والأفعال والمجاهدات والمخاصمات وغيرها کان الله وبالله ومن الله وفي الله ، فإن غضب کان غضبه بالله ولله ، وإن رضي کان رضاه کذلک وهکذا في جميع ما يفعل أو ينفعل فکان غضبه غضبَ الحق ورضاه رضاه من دون أنّ يکون إنضجاره راجعاً إلي أسف الخلق وإنضجارهم بوجه.

لکن يجب أنّ يعلم لدفع الإشکال الوارد هنا بأنّ هذه الإنفعالات والتغيرات کيف تنسب إلي الحق تعالي، إن الأولياء الکاملين الکمّلين للخلق ماداموا في هذا العالم لا مخلص لهم عن الإشتغال بالخلق والمخالطة معهم وإصلاحهم وتأديبهم وتعليمهم وأمرهم بالمعروفات ونهيهم عن المنکرات ، وحينئذ تلحقهم لوازم البشرية والنقائص الخلقية من الأذي والألم والإنضجار والأسف وغيرها من الإنفعالات والأستحالات وإليه الاشارة بقول الامام عليه السلام في الخبر المتقدّم: يأسفون ويرضون وهم مخلوقون مربوبون، ولکن لمّا کان أصل اشتغالهم بأمور الدنيا وإلتفاتهم إلي

ص: 639

الخلائق بواسطة أمر الله وطاعته وعبارته فکلّما يلحقهم من ذلک ويصل إليهم کان لله وفي سبيله، فجعل رضاهم رضا نفسه ، وسخطهم سخط نفسه.

والحاصل ألّذي يستحيل علي الله من الإنفعالات والتغيرات هو الذي يکون وصفاً له بالذات وبالحقيقة ويصل إلي ذاته بذاته ، والذي لا يکون أولا وبالذات بل بالعرض وبواسطة العبد واسطة في العروض لا واسطة في الثبوت ولا في الاثبات ، واليه الإشارة بقوله : لأنّه جعلهم الدعاة إليه والأدلّاء عليه، ولذلک صاروا کذلک . فإن لهم لتوسّطهم بين الله وبين خلقه جهتين ظاهرية مع الخلق ، وباطنية مع الحق.

ثمّ ذکر أنّ في قوله في الخبر: «وليس ذلک يصل إلي الله کما يصل إلي خلقه» تَنبيهاً لطيفا علي أنّ کلّما هو من الصفات من الأمور الوجودية التي هي مظاهر اسمائه وصفاته فهو ثابت للحقتعالي علي وجه أعلي وأشرف، فإنّ صفات الوجود کالوجود نفسه في کلّ موطن من المواطن وعالم من العوالم بحسب ذلک الموطن والمقام، فالغضب مثلا في الجسم جسماني وصفي کما يشاهد من ثوران الدم وحرارة الجلد وحمرة الوجه، وفي النفس نفساني إدراکي وهو إرادة الانتقام والتقفي من الغيظ، وفي العقل عقلي، وهو الحکم الشرعي والتصديق بتعذيب طائفة، والمحاربة لأعداء الله ، وإقامة الحدود وما يجري مجري ذلک ، وغضب الله ما يليق بمفهومات صفاته بوجود ذاته، وکذا الشهوة فانّها في النبات الميل إلي جذب الغذاء والنمو، وفي البدن الحيواني إنتفاخ العضو المخصوص وامتلاء أوعية المني وجذب الرحم الإحليل، وفي نفسه التلذذ النفساني بالمباشرة، وفي النفس الإنساني محبّة الإخوان والمؤالفة والصداقة والعشق العفيف الذي منشأوه تناسب الأعضاء والشمائل الحسنة لحسان الوجوه، لا غلبة الشهوة وإستيلاء الحيوانية التهمية، وفي العقل الإبتهاج بمعرفة الله وصفاته وأفعاله وکيفيّة ترتيب الوجود وسلسلتي البدو والنهاية، والخلق والأمر، والملک والملکوت، وقدمت سابقاً أنّه

ص:640

تعالي بحسب کلّ صفة ونعت هوله ليس کمثله شيء في تلک الصفة، والمخلوقات وصفاتها رشح وتبع لذاته وصفاته ، والمجعول لا يساوي جاعله في وجوده ولا في صفات وجوده ، فليس کمثله شيء في کل الوجوه والجهات، ولکن الجميع فيه علي وجه أعلي واشرف. انتهي کلامه زيد مقامه.

وفيه مع الغضّ عمّا في بعض کلامه من جواز عروض بعض الصفات ولو بواسطة العبد وکونه واسطة في العروض لوضوح فساده إلّا أنّ يريد به جواز الإطلاق لا العروض ومن إثبات العشق العفيف حسبما أجمله في المقام وفصّله في أسفاره، وستسمع تمام الکلام في إبطاله عند تفسير قوله : (من الناس من يتخذ من دون الله أنّداداً) (1)

أنّ صفات الإمکانية والمعاني الکلّية لايتصف بشييء منها ذاتُ الواجب جلّت عظمته، والقول بالرشح والنسخ والتنّزل وغيرها ممّا تقوله بعض الصوفية القائلين بوحدة الوجود باطل جدّاً حسبما أسلفنا بعضَ القول فيه، وبيّنا أنّ العلم والقدرة وغيرهما من صفات الذات أو من صفات الفعل ليس إطلاقه عليه سبحانه من باب الإشتراک المعنوي بأنّ يکون للعلم مثلاً معني واحد مختلف المراتب بحسب الشراقة واللطافة والإحاطة والبساطة وإمتدادها فيتّصف الواجب به علي وجه أشرف وغيره علي حسب مرتبته، فإن هذا المعني الواحد إن کان واجباً غير الذات فيتعدد الواجب، وکيف يتصف به غيره أو عينه فليس وصفا لغيره وإلا لکان الذات وصفاً للممکن أو من الممکنات فلا يجري عليه ما هو أجراه علي خلقه فهو بمعزل عن أنّ يکون وصفة للواجب، فالقول بالشرکة المعنوية باطل في نفس الوجود، وفي الصفات الذاتية والفعلية کما وقع التصريح به في أخبار أهل

ص: 641


1- البقرة : 165 .

البيت عليهم السلام .

ومثله القول باتّحاد المعني مع نسبة الإختلاف إلي المراتب والإضافات

والإعتبار کما يقوله الصوفية.

بل صرّح هذا الفاضل في موضع آخر أنّه ما من صورة إمکانية وصفة خلقيّة إلا ولها حقيقة أصليّة في عالم الالهية وعالم الأسماء الربانيّة لکن علي وجه اعلي

واشرف، ألا تري أنّ الوجود حقيقة واحدة نوعيّة، وهو في مرتبةٍ جسمّ، وفي مرتبةٍ نفس، وفي مرتبة عقل، وفي مرتبة حق تعالي عن المثل والتشبيه ، وکذاحکم کل حقيقة وجودية، إذ الإختلاف بالشدّة والضعف قد ينتهي إلي غاية التخالف. إنتهي .

وهو کما تري صريح في أنّ الوجود الحقي والخلقي متحّد بحسب الحقيقة ، وأنّه حقيقة واحدة نوعية، والإختلاف إنما هو بحسب المراتب، بل صرّح بأنّ الإختلاف بالشدّة والضعف، فيالله وللتوحيد، متي کان ذکر الإمکان وللممکنات في عالم الوجوب کي يتحّد معه في الحقيّقة النوعيّة الوحدانية، وهل هذه الاعتبارات والمراتب والقيود کانت قديمة أو حادثة، والأوّل واضح الفساد، والثاني خلاف مدّعاهم، لکنّهم يقولون: إنّ جميع ما في الکون کلّها إشراقات وإضافات وإعتبارات للحقيقة الواحدة التي هو الوجود، فلا يثبتون في الکون والإمکان إلا سلويا وغيُوراً، وإنهم ليقولون منکرا من القول وزورا ، فإذا سئلت عن کلّ منهم بل عن کلّ شيء في العالم فإمّا عدم محض عندهم، أو أنّه واجب الوجود تعالي الله عمّا يقول الظالمون علوّاً کبيراً.

وما أحسن ما وصاه به شيخنا الأفخم الأمجد ا في شرحه للعرشيّة حيث قال : وأنّا اقول للمصنّف لا يتعب نفسه فإنّه إن صعد السّماء أو نزل الأرض أو قتل نفسه أو غير ذلک لا يکون ربّاً ولا يکون قديماً، ولا أصل له في الأزل أبداً ولا يقبل منه ذلک إلّا من کان يريد مثل هذه المرتبة، وهم معه مثل ما قيل في ذمّ أبي

ص: 642

الحسين الجزّارة.

إن تاه جزارکم عليکم بفطنة في الوري وکيس

فليس يرجوه غير کلب وليس يخشاه غير کيس

وعن الشيخ علاء الدولة السمناني في حاشيته الحتوفات المسماة بالفتوحات عند قول ابن عربي: سبحان مَن أظهر الاشياء وهو عينها أنّه قال : يا شيخ إن الله لا يستحيي من الحق شيئا لو قيل : إنّ فضلة الشيخ عين وجود الشيخ لا تسامحه بل تغضب عليه، فکيف يجوز ذلک أنّ تنسِبَ هذا الهذيان إلي الملک الديّان تُب إلي الله تعالي لتنجو من هذه الورطة الوَعِرة الّتي تستنکف عنها الطّبيعيون والدهريون .

نمط آخر من الکلام لتنقيح المرام

إعلم أنّ الله تعالي لم يَخلُق شيئاً فرداً لا ضدّ له کما قال : (ومن کلّ شيء خلقنا زوجين ).

وفي خبر عمران الصابي عن مولانا الرضا عليه السلام : إن الله لم يخلق شيئاً فرداً

قائماً بنفسه دون غيره للذي أراد من الدلالة علي نفسه وإثبات وجود

وذلک لأنّ التماثل والتضاد والإقتران کلّها من صفات الإمکان الّتي لا يتّصف

الواجب بشيء منها لتنّزهه عن الأنّداد والأضداد.

ولذا ورد في الخطبة العلويّة ومثلها في الخطبة الرضويّة : فبتشعيره المشاعر عرف أنّ لا مشعر له وبتجهيره الجواهر عرف أنّ لا جوهر له ويمضادته بين الاشياء عرف ان لا ضدّ له وبمقارنته بين الأمور عرف أنّ لا قرين له ضادّ النور بالظلمة

52.

ص: 643

واليبس بالبلل، والصرد بالحرور، مؤلّفاً بين متعادياتها مفرّقاً بين متدانياتها دالة بتفريقها علي مفرّقها وبتالّيفها علي مؤلّفها، وذلک قوله تعالي : (ومن کلّ شيء خلقنا زوجين لعلکم تذکّرون . آه)

فالممکن لا يمکن إيجاده بمعني أنّه لا ينوجد إلا أنّ يکون له ضدّ، لأنّ کل ممکن زوج ترکيبي ، فيه جهة من ربّه، وجهة من نفسه، وما هو عليه من رتبة إمکانه وفعليته وجوده جهة إمکانيّة يمکن فقدانها وزوالُها، وهو بعينه طرو ضدّها، فلمّا خلق الله الرحمة محبّة لها وعناية بها أوّلاً وبالذات، لأنّها من فيض جوده وتمام محبّته ومقام قربه إستلزم ايجادها خلق الغضب الذي حققته البعد عن الرحمة وخلاف المحبّة، لأنّ خلق الغضب من تمام قابلية الرحمة للخلق، فخلق الرحمة اولا وبالذات والغضب ثانية وبالعرض، لأنّه بخلاف محبته ورضاه فلم يُرده لذاته بل إنّما أراده لتمام الرحمة، فمراده ومحبوبه هو الرحمة التي وسعت کل شيء فکان خلقُه قبل خلق الغضب قبلية ذاتيّة ، ولذا سَبَقت رحمتُه غضبَه کما في الدعاء .

وعن مولينا الباقر عليه السلام : إن الله خلق الجنة قبل أنّ يخلق النار، إلي أنّ قال

وخلق الرحمة قبل أنّ يخلق الغضب

فنسب الرحمة والمغفرة إلي نفسه واشتقّ لها أسماء منها ليفرغ المخلوق بها الله سبحانه فقال : (نبي عبادي انّي أنّا الغفور الرحيم) ثمّ لم يشتقّ من الغضب لنفسه إسماً بل وصف العذاب بقوله : (وان عذابي هو العذاب الأليم) فسبقت رحمته غضبه من وجهين بل من وجوه.

ص: 644

ولذا قال أبو الحسن موسي عليه السلام : إنّ الله جلّ ثناؤه خلق العقل وهو أول خلق خلقه الله من الروحانيين عن يمين العرش من نوره فقال له اقبل فاقبل ثمّ قال له ادبر فادير فقال الله تعالي خلقتک خلقا عظيماً وکرّمتک علي جميع خلقي، ثمّ خلق الجهل من البحر الاجاج الظلماني .

ثمّ جعل لکل منهما جنوداً من جملتها الرحمة والغضب کما في الخبر وان احتمل فيه ان لا يکونا بالمعني الکلّي الذي نحن بصدده فإنّ حقيقة الرحمة وأصله موافقة الرضا والمحبة ومقام القرب خلقها الله بنفسها لنفسها وخلق من أشعة أنّوارها کل خير حتي الجنة وأهلها ومن فروعها الأنّبياء والأولياء والصلحاء والأخبار والأبرار والملائکة والروحانيين وغيرهم من المقرّبين الذين فازوا بمقام القرب الذي هو حقيقة الرحمة ولذا عبر عنها بالولاية الکليّة المختصة بنبينّا خاتم التبيين واله الطاهرين صلوات الله عليهم اجمعين فانّهم حقيقة الرحمة ومقام المحبة وتمام النعمة ومن ثم أرسله الله تعالي رحمة للعالمين واکمل بوصيّه الدين المبين وجعل من فروعهم کلَّ خير وبرّ من الأکوان والأعيان والکينونات التشريعية والتکونيية حتي الأخلاق والأحوال الحسنة والعبادات الواجبة والمندوبة وغيرها مما هو مقتضي الولاية الکلية التي عرضها الله علي جميع ذرات العالم فما قبلها طاب وطهر، وتکون علي وفق مشيّته وإرادته ومحبّته ورضاه.

وهذا معني الدعاء المأثور في ليالي شهر رمضان : «أللّهم برحمتک في الصالحين فأدخِلنا، وفي عليين فارفعنا، وبکأسٍ من مَعينٍ من عين سلسبيل فاسقنا . الدعاء.

ص: 645

فإنّ جميع ما ذکره هنا وفي سائر المواضع من شئون الرحمة ومقتضياتها ومظاهرها، وکذا قولهم بعد التوسلان والتضرعات و السؤلات: «برحمتک يا أرحم الراحمين» فإنّه توسل بالرحمة في طلب النعمة التي هي من مظاهرها وأشعتها وفروعها، ولذا يُحشر المتقون إلي الّرحمن وَفداً ويساق المجرمون إلي جهنّم ورداء فإنّ الرحمن هو الظاهر بالرحمة التي مظهرها في القيمة هو الجنّة أعني دار القرب والکرامة والفوز والسلامة التي خلقها الله برحمته کما أنّه من رحمته جعل لکم الليل والنهار، وغير ذلک مما من الله علي عباده من مقتضيات الرحمة الواسعة، والمکتوبة المشار اليهما بالکلمتين في البسملة، وبالرحمتين في الآية، ويقوله في دعاء السمات: «وبرحمتک التي تنت بها علي جميع خلقِک»، فيطلق علي النعمة الرحمة قال : (هذا رحمة من ربيّ) و(ولو رحمناهم وکشفنا ما بهم من ضرّ) ومنه قولهم بعد التسليم: «ورحمة الله وبرکاته»، ويطلق عليها أثر الرحمةِ وفانظر إلي آثار رحمۃِ الله کيف يحيي الأرض بعد موتها) أي أرض جرز الإمکان بماء رحمة الوجود المشار اليه بقوله : (وجعلنا من الماء کلّ شيء حّي)

إذ ليس المراد به الماء العنصري الذي هو أحد يسلط الأجسام، مع أنّه لم يخلق منه إلّا بعض الأجسام المرکّبة، والالتزام بالتخصيص مع إستغراق العموم وقلّة الباقي مستهجن جدّاً، وهو کما تري ولو مع جواز التخصيص بالاکثر في نفسه، والحيوة سارية في جميع الأکوان.

وأمّا الغضب نستجير بالله منه فقد سمعتَ أنّ حقيقتَه هو البُغدُ من الله ولذا لم

ص: 646

ص:647

ص: 648

ص:649

حين قالوا المسيح ابن الله واشتد غضب الله علي من أراق دمي وآذاني في عترتي(1)

واشتداد الغضب هو الذي عبّر عنه بالمقت في قوله :(ان الذين کفروا

ينادون لمقت الله اکبر من مقتکم انفسکم اذ تدعون إلي الإيمان فتکفرون)(2)

فعن القمي قال : إنّ الذين کفروا يعني بنو أميّة، وتدعون إلي الإيمان، يعني

إلي ولاية اميرالمؤمنين عليه السلام (3)

ومثله في المناقب عن مولانا الباقر والصادق عليه السلام، بل في المقام أخبار کثيرة نذکرها إن شاء الله في تفسير قوله : (و غَضِبَ اللهُ عليهم)(4) و(من يحلِل عليه غضبي) (5) ولا تتولوا قوماً غضب الله عليهم ) (6) (وکبر مقتا عند الله)(7)إلي غير ذلک من الآيات.

تفصيل للاجمال في تحقيق معني الضلال : إعلم هداک الله بنور اليقين وأرشدک إلي ولاية الأئمّة الطاهرين صلوات الله عليهم أجمعين أنّ الضلال في الأصل ضد الرشاد، قال في القاموس : الضلال والضلالة والضّل ويُضمّ والضلضلة والاضطولة والضلة بالکسر والضَلَل محرکة ضدّ الهدي، ضللت کزلَلت ومَلِلت ، وهذا إشارة إلي ما اشار اليه الفَيّومي تبعا للجوهري، قال: ضلّ الرجل الطريق ، وضل عنه يضلّ من باب ضرب ضلالاً وضلالة، ضلّ عنه فلم يهتد اليه فهو ضالّ، هذه لغة نجد، وهي الفصيح، وبها جاء القرآن في قوله تعالي : وإن ضَلَلتُ فإنّي

ص: 650


1- بحار الأنّوار : ج 20 ص 71ح 8 عن أمالي ابن الشيخ ص 88
2- غافر: 10.
3- تفسير القمي ج 2 ص 255.
4- الفتح: 6.
5- طه : 81.
6- الممتحنة : 13 .
7- غافر: 35 والصف : 3.

أضلّ علي نفسي ) (1)

وفي لغةٍ لأهل العالية من باب تَعِبَ، والأصل في الضَلال الغيبة، ومنه قيل

للحيوان الضايع ضالّة بالهاء للذکر والأنّثي إلي اخر ما ذکره.

وقد يقال : إنّه في الأصل خفاء الشيء وهلاکه في الشيء من قولهم : ضلّ

الماء في اللبن.

ويقال : إنّه قد استعمل في القران علي وجوه إثني عشر: طلب الزلة، (لهمّت طائفة منهم أنّ يضلوک) والکفر والشرک:( ثمّ انکم ايّها الضالّون) (2)والخسران : (وماکيد الکافرين الّا في ضلال) (3) اي خسار، وفرط المحبّة : (انها لنريها في ضلال مبين )(4) والشقاء: (ولکن کان في ضلال بعيد) (5)، والبطلان : (الّذين ضلّ سعيهم في الحيوة الدنيا)(6)(وأضلّ أعمالهم)(7)والنسيان : (أنّ تضلّ إحديهما فتذکّر إحديهما الأخري) (8)، والتلاشي والاضمحلال :( وقالوا : إذا ضللنا في الأرض) (9) والجمل: (قال فعلتها إذا وانا من الضالين)(10) والحرمان والياس: (انّ المجرمين في ضلال

ص: 651


1- سبأ : 50.
2- الواقعة : 51.
3- غافر: 25.
4- يوسف : 3.
5- ق : 27.
6- الکهف : 106.
7- محمد(ص) : 8.
8- البقرة : 282.
9- السجدة : 10.
10- الشعراء : 20.

وسعر) (1)والخطاء : (لا يضلّ ربّي ولا ينسي)(2) والاغواء : (لأضلّنهم (3)

لکنه مع ظهور التکرار فيه في الجملة ورجوع البعض إلي البعض لا يخفي أنّ المثال في بعضها غير مطابق للممثل سيما قوله في قصة موسي علي نبينا وآله وعليه السلام:(فعلتها إذا وانا من الضالين )(4)

فإنّه ليس من الجهالة ، بل الضلال عن الطريق کما عن الإمام عليه السلام : مضافاً إلي أنّه لم يستوف جميع معانيها الّتي ورد عليها في القرآن کالإضلال من الله في قوله : (يضل به کثيراً) (5)والضلال للنبّي صلي الله عليه وآله وسلم في قوله : (ووجدک ضالاً فهدي)(6)

فضلا عن المعاني المستعملة فيها في العرف واللغة کالخفاء، والضياع،

والغياب، والحيرة ، والحذق بالدلالة، وکون الولد لغير رشده إلي غير ذلک ممّا في القاموس وغيره الذي لا داعي إلي الإطناب في نقله، فضلا عن إرجاع بعضها إلي بعض وإنّ قيل : إنّ الأصل في معانيه الهلاک أو الميل عن الشيء.

نعم في تفسير النعماني بالاسناد عن مولانا أمير المؤمنينعليه السلام قال : الضلال علي وجوه فمنه محمود ومنه ما هو مذموم ومنه ما ليس بمحمود ولا مذموم ومنه ضلال النسيان، فامّا الضلال المحمود وهو المنسوب إلي الله تعالي کقوله : (يضلّ الله من يشاء ) (7) وهو ضلالهم عن طريق الجنّة بفعلهم، والمذموم هو قوله تعالي :

ص: 652


1- القمر : 47.
2- طه : 52.
3- النساء : 115.
4- الشعراء : 20
5- البقرة : 26.
6- الضحي : 7.
7- المدثر: 31.

(واضلّهم السامري) (1)، (وأضلّ فرعون قومه وما هدي)(2) ومثل ذلک کثير .

وأمّا الضلال المنسوب إلي الأصنام فقوله تعالي في قصّة ابراهيم: (واجنبني وبنيّ أنّ نعبد الأصنام ربّ انّهن اضللن کثيراً من الناس) (3)الآية.

والأصنام لا يُضللن أحداًعلي الحقيقة انّما ضّل الناس بها وکفروا حين

عبدوها من دون الله عزوجلّ.

وامّا الضلال الذي هو النسيان هو قوله تعالي : (أنّ تضلّ احديهما)(4)

وقد ذکر الله تعالي الضلال في مواضع من کتابه فمنه ما نسبه إلي نبيه علي ظاهر اللفظ کقوله سبحانه : (ووجدک ضالا فهدي)(5)فمعناه وجدناک في قوم لا يعرفون نبوتک فهديناهم بک.

وامّا الضلال المنسوب إلي الله تعالي الذي هو ضدّ الهدي ، والهدي هو البيان وهو معني قوله : (اولم يهد لهم) (6)معناه أولم يبين لهم مثل قوله : (فهديناهم فاستحبّو العمي علي الهدي) (7)، أي بينا لهم وهو قوله : (ما کان الله ليضلّ قوماً بعد إذ هداهم حتّي يبيّن لهم ما يتقّون)(8)

وامّا معني الهُدئ فقوله عز وجل : (إنّما أنّت منذر ولکلّ قومٍ هادٍ)(9)

ص: 653


1- طه : 85.
2- طه : 79.
3- ابراهيم: 36.
4- البقرة : 282 .
5- الضحي : 7.
6- طه : 128.
7- فصلت : 17.
8- التوبة : 115.
9- الرعد : 7.

ومعني الهادي المبيّن لما جاء به المنذِر من عند الله ، وقد احتجّ قوم من المنافقين علي الله تعالي : (ان الله لا يستحيي أنّ يضرب مثلاً ما بعوضة فما فوقها)(1)وذلک أنّ الله تعالي لما أنّزل علي نبيه اي و (لکل قوم هاده )، قال طائفة من المنافقين :

(ماذا أراد الله بهذا مثلا يضلّ به کثيراً) فأجابهم الله تعالي بقوله:( انّ الله لا يستحيي) ، الآية.

فهذا معني الضلال المنسوب إلي الله سبحانه لأنّه أقام لهم الإمام الهادي لما جاء به المنذر فخالفوه وصرفوا عنه بعد أنّ أقرّوا بفرضِ طاعته، ولمّا بيّن لهم ما يأخذون وما يذرون فخالفوه وضلّوا.

هذا مع علمهم بما قاله النبي صلي الله عليه وآله وسلم: لا تصلوا عليّ صلاةً مبثورة إذا صلّيتم عليّ بل صلّوا علي اهل بيتي ولا تقطعوهم عنّي فإنّ کلّ سبب ونسب منقطع يوم القيامة إلّا سببي ونسبي، ولمّا خالفوا الله تعالي ضلّوا واضلّوا فحذر الله الأمة من إتّباع الهوي، فقال سبحانه : ( ولا تتّبعوا أهواء قوم قد ضلّوا من قبل وأضلّوا کثيرا وضلّوا عن سواء السبيل)(2)والسبيل ههنا الوصيّ وقال سبحانه : ( ولا تتبعوا السبل فتفرق بکم عن سبيله ذلکم وصّاکم) به (3)، الآية ، فخالفوا ما وضاهم الله تعالي به واتبّعوا أهواءهم فحرفوا دين الله جلّت عظمته وشرايعه وبدّلوا فرائضه واحکامه وجميع ما أمروا به کما عدلوا عمن امِرُوا بطاعته وأخذ عليهم العهد بموالاته، واضطرهم ذلک إلي استعمال الرأي والقياس فزادهم ذلک حيرة والتباساً ، ومنه قوله سبحانه : (وليقول الذين في قلوبهم مرض والکافرون ماذا أراد الله

ص: 654


1- المائدة : 77.
2- المائدة : 77.
3- الأنّعام : 103.

بهذا مثلاً کذلک يضلّ الله من يشاء) (1)

فکان ترکهم إتبّاع الدليل الذي أقام لهم ضلالة لهم، فصار ذلک کانّه منسوب إليه تعالي لمّا خالفوا أمره في إتّباع الإمام ثم إفترقوا واختلفوا ولعن بعضّهم بعضاً وإستحلّ بعضهم دماءً بعض: (فماذا بعد الحقّ إلّا الضلال تأتّي تصرفون)(2) .(3)الخبر.

وعلي کلّ حال فقضّية الإطلاق وحذف المتعلق، سيّما بمعونة إختلاف الأخبار الواردة في تفسيره حسبما مرّ في اول تفسير الآية ويأتي أيضا حملُ الضلال في المقام علي کلّ إنحراف وعدول عن الحقّ الّذي هو الدين القويم، والصراط المستقيم، بلا فرق بين أنّ يکون ذلک الإنحراف في الإعتقاد أو العمل أو اللسان فيما يتعلق بأصول الدين کلّها أو بعضها أو فروع الدين کذلک، أو أصول الفروع وفروع الأصول سواء کان ذلک علي وجه الجحود والعناد، أو علي سبيل الإعتقاد وتوقم الصواب والسداد ، أو من جهة الإستضعاف وعدم التميز بين الفساد والرشاد، أنّ الضلالة تشتمل جميع ذلک منفردة ومجتمعاً مع غيره حتي المجموع وإن فشرت في بعض الأخبار بالغلوّ وفي بعضها بالنصب الذي هو الضلال عن سبيل الله کما مرت حکايتهما عن تفسير الامام عليه السلام وغيره.

بل فيه أيضا عن النبي صلي الله عليه وآله وسلم: إن الله لا يقبض العلم إنتزاعاً ينتزعه من الناس، ولکن يقبضه بقبض العلماء فإذا لم ينزل عالم إلي عالم تصرف عنه طلّاب حطام الدنيا وحرامها ويمنعون الحق من أهله، ويجعلونه لغير أهلهُ إتّخذ الناس رؤساء

ص: 655


1- المدثر: 31.
2- يونس : 32.
3- بحار الأنّوار : ج 5/ 208 - 209 ح 48 عن تفسير النعماني ص 17 - 20.

جّهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلّوا وأضلّوا(1)

وفي کثير من الأخبار أنّ أهل الضلال هم المستضعفون بل في بعضها تثليث

الإيمان والکفر بالضلالة.

عن العيّاشي عن مولينا الصادق قال : ألناس علي ستّ فِرقَ يؤتون کلّهم إلي ثلث فرق: الإيمان، والکفر، والضلال، وهم أهل الوعد من الّذين وعدهم الله الجنة والنار المؤمنون والکافرون والمستضعفون والمرجون لأمر الله إمّا يعذبهم وإمّا يتوب عليهم، والمعترفون بذنوبهم خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيّئاً وأهل الاعراف(2)

وفيه عن زرارة قال دخلت أنّا وحمران أو أنّا وبکير (3)علي أبي جعفر عليه السلام قال قلنا له إنّما تمد المطمر قال : وما المطمر؟ قلنا: الترفمَن وافَقَنا من علويّ أو غيره تولّيناه ، ومن خالفنا من علوي أو غيره برئنا منه، فقال لي: يا زرارة قول الله أصدق من قولک فأين الذين قال الله عز وجل : (إلّا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان الّذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً) (4) أين المرجَون الأمر الله ، أين الذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئّاً، أين أصحاب الأعراف، أين المؤلّفة قلوبهم.

وزاد حماّد في الحديث قال زرارة : فارتفع صوت أبي جعفر عليه السلام وصوتي حتي

کان يسمعه من علي باب الدار.

وزاد فيه جميل عن زرارة : فلمّا کثر الکلام بيني وبينه قال لي : يا زرارة حقّاً

ص: 656


1- حار الأنّوار : ج 83/2 عن تفسير الامام عليه السلام .
2- البحار:ج 165/75 -166عن تفسير العياشي ج 111/2 .
3- في البحار و تفسير العياشي ليس «أو أنّا وبکير»..
4- النساء : 98.

علي الله أنّ يدخل الضُلّال الجنّة (1)

قلت: في «مجمع البحرين» المطمر بکسر الميم الأولي وفتح الثانية خيط يقوم عليه البناء، ويستي التر أيضا وقال في التر: إنّه بالضم والتثقيل خيط البناء المطمر مثله ثمّ نقل الخبر وغيره(2)

ومراد زرارة به في الخبر إمّا الضاّل عن الاستقامة المطلقة في الأصول

والفروع وإمّا عن ولاية الأئمة الطاهرين.

وظاهر الخبر أنّ کلّ من عدّه الإمام عليه السلام في داخل في الضلال بالضّم والتشديد

جمع الضالّ، واستحقاق الجنة لعدم تماميّة الحجّة عليهم.

ويؤيّده ما في غيبة الشيخ في الصّحيح عن زرارة عن مولينا الصادق عليه السلام

قال : حقيق علي الله أنّ يدخل الضلال الجنّة.

فقال زرارة کيف ذلک جعلت فداک ؟

قال : يموت الناطق، ولا ينطق الصامت فيموت المرء بينهما فيدخله الله

الجنة (3).

علي الأوّل لا إشکال فيه لإحراز الإسلام والإيمان، وإن لم يکن علي سبيل الکمال، وعلي الثاني لعلّ المراد کونهم حينئذ من المستضعفين الذين لم يتم عليهم الحجّة في الدنيا بل يؤجج لهم في البرزخ أو في الآخرة نار يمتحنون بها کغيرهم ممّن لم يتمّ عليهم الحجّة مثل الأطفال، والمجانين، والذي مات في الفترة بين النبيين والأبله، والأصمّ والابکم کما رواه في «المعاني» و«الخصال» بل في بعض الأخبار إطلاق الضُلّال علي المخالفين مع تثليث القسمة.

ص: 657


1- تفسير العياشي ج 2 ص 93 وعنه البحار ج 72 ص 164 ح 26.
2- مجمع البحرين حرف الراء باب ما أوله التاء
3- بحار الأنّوار : ج 290/5 عن عيبة الطوسي ص 292.

ففي الکافي بالاسناد عن سُليم بن قيس الهلالي عن مولينا أميرالمؤمنين عليه السلام أنّه يمثل أدني ما يکون به العبد مؤمنا وأدني ما يکون به العبد کافراً وأدني ما يکون به العبد ضالّاً فقال عليه السلام قد سئلت فافهم(1)الجواب.

أمّا أدني ما يکون به العبد مؤمناً أنّ يعرفه الله تبارک وتعالي نفسه فيقرّ له

بالطاعة، ويعرّفه نبيّه فيقرّ له بالطاعة ويعرّفه إمامه وحجته في أرضه، وشاهدَة علي خلقه، فيقرّ بالطاعة، قلت: يا أمير المؤمنين وإنّ جهل جميع الأشياء إلا(2)ما وصفت ؟ قال : نعم إذا أمر أطاع وإذا نُهِي إنتهي.

وأدني ما يکون به العبد کافراً مَن زعم أنّ شيئاً نهي الله عنه أنّ الله أمر به،

ونصبه دينا يتولّي عليه، ويزعم أنّه يعبد الذي أمره به وإنّما يعبد الشيطان .

وأدني ما يکون به العبد ضالّاً أنّ لا يعرف حجّة الله تبارک وتعالي وشاهدة

علي عباده الذي أمر الله عزّوجلّ بطاعته وفرض ولايته.

قلت : يا اميرالمؤمنين صِنهم لي فقال : الذين قرنهم الله عزوجلّ بنفسه ونبيه

فقال : ( يا ايها الذين آمنوا اطيعوالله واطيعوا الرسول واولي الامر منکم)(3)

قلت : يا أمير المؤمنين جعلني الله فداک أوضح لي، فقال : الذين قال الرسول صلي الله عليه وآله وسلم في خطبته يوم قبضه الله عزوجلّ اليه : إنّي قد ترکتُ فيکم أمرين لن تضلّوا بعدي ما إن تمسکتم بهما: کتاب الله و عترتي اهل بيتي، فإنّ اللطيف الخبير قد عهد إلي أنّهما لن يفترقا حتي يردا عليّ الحوض، وجمع بين مسبّحيته ولا أقول کهاتين وجمع بين المسبحة والوسطي تسبق إحديهما الأخري فتمسکّوا بهما لا تزلوا ولا تضلوا ولا تقدّموهم فتضلّوا(4)

ص: 658


1- في البحار : قاسمع الجواب .
2- في البحار : غير ما وصفت .
3- المائدة : 95.
4- الکافي ج 2 ص 404 -405 ح 1 ورواه المجلسي قدّس سرّه في البحار عن کتاب سليم .

وإنما نقلناه بطوله لأنّه في تثليثه کالتفسير للفِرَق الثلث المذکورة في هذه

السورة الشريفة مع ما فيه من الإشعار بأنّ المخالف پستي ضالّاً ما لم يکن من أهل الجحود والنصب والعداوة، وأنّ نسبتهم إلي الضلال إنّما استفيد من خبر الثقلين المتواتر بين الفريقين بل المتلقيّ عندهم بالقبول من غير شک ودين ، وقضيّة ذلک إلتزامهم بضلالتهم حسب ما تأتي الإشارة اليه.

وأمّا ما رواه في الکافي أيضا عن مولينا الصادق عليه السلام في قوله : (الذين يجتنبون کبائر الاثم والفواحش الّا اللّمم )(1) : قال : الفواحش الزنا والسرقة واللمم الرجل يلم بالذنب فيستغفر الله منه، قلت: بين الضلال والکفر منزلة ؟ فقال ما أکثر عري الإيمان(2)

فلعلّ الظاهر أنّ المراد الإشارة إلي التثليث المتقدم، فالمنزلة إفتراق کلّ من الضلال والکفر عن الآخر، أو إلي وسعة مقام الضلّالة وکثرة أفرادها، فالمنزلة بين أول الضلالة والکفر بسائر افراد الضلالة، ولذا أشار إلي کثرة عري الإيمان، فإنّ إنقطاع کلّ عروة منها ضلالة وإن لم يکن کفرة فتشمل جميع المذاهب التي إفترقت عليها أمّة النبي صلي الله عليه وآله وسلم علي الفرقة المحقة الأمامية الاثني عشرية الذينهم مع الايمان والايمان معهم

بقي في المقام وجوه أخر في بيان المراد من الفريقين مثل أنّ يکون المراد بالمغضوب عليهم المتمسّکين بالظاهر مع رفض الباطن رأسا، وبالضالّين العکس، ولذا فَسرّ الاول باليهود والثاني بالنصاري، وهما مشترکان في الإنحراف عن الحق، إذ لا يکون ظاهر إلّا بالباطن ولا باطن إلّا بالظاهر کما في الخبر ولذا قال :(وذروا

ص: 659


1- النجم : 22
2- الکافي : ج 2 /442 ح 3.

ظاهر الإثم وباطنه)(1)

وفي الخبر عن الصادق عليه السلام : إن قوما آمنوا بالظاهر وکفروا بالباطن فلم ينفعهم شيء، وجاء قوم من بعدهم فآمنوا بالباطن وکفروا بالظاهر فلم ينفعهم ذلک شيئاً فلا إيمان بظاهر إلّا بباطن، ولا بباطن إلّا بظاهر (2)

أو أنّ المغضوب عليهم هم الذين خرجوا إلي الظلمة من النور بعد الشهود والحضور، وأهل الضلال هم الذين أخطاؤا الطريق بالاشتغال بالفسق والفجوراً .

أو الغضب لأهل الإلحاد والعصبيّة والعناد لقوله تعالي : (والذين يحاجّون في الله من بعد ما استجيب له حجّتهم داحضة عند ربّهم وعليهم غضب) (3)والضلال لأهل التقليد والإتباع لقوله : (إنّا أطعنا سادتنا وکبراءنا فأضلّونا السبيلا) (4)

او الغضب الکفار والضلال للفساق والفجار .

او الغضب لأهل البدع المنحرفين في العلم والضلال للعصاة المخالفين في

العمل.

او الغضب لمن اتّبع القري الغضبية السبعية، والضلال لمن إنهمک في متابعة الشهوة البهيميّة، إلي غير ذلک من الوجوه الّتي مرجعها إلي ما سمعت من إشتراک الفرقتين في الإنحراف عن متابعة مَن جعله الله سبيلاً إلي معرفته ووسيلة إلي مرضاته وهو النبأ العظيم، والصراط المستقيم، وقسيم النعيم والجحيم، وإنّه في امّ الکتاب لدينا لعليّ حکي

ص: 660


1- الانعام : 120.
2- بصائر الدرجات ص 157 وعنه البحار ج 24 ص 302 ح 11.
3- الشوري : 16.
4- الأحزاب :67.

تبصرة واستبصار لمن أراد حُسنَ الإختيار

اذا شئت أنّ تختر لنفسک مذهباً يُنجيّک يوم الحشر من لَهَبِ النّار فدع عنک قول الشافعي ومالک وأحمد والمرويّ عن کعب أحبار ووال أنّاسا قولهم وحديثهم روَي جدّنا عن جبرئيل عن الباري

ولقد أجاد مَن قال : إذا کان کل الناس سبعين فرقةً ونَيفاً کما قد جاء في واضح النقل ولم يک منهم ناجياً غير فرقةٍ فما ذا تري يا ذا البصيرة والعقل أفي الفرقة النّاجين آل محمد أم الفرقة الهلّاک أيّهما قل لي رَضِيتُ عليّاً لي إماماً وسيّداً وأنتَ من الباقين في سائر الحلّ

اعلم أنّ جميع الفرق المتقدّمة من المسلمين روي عن النبي صلي الله عليه وآله وسلم باختلاف النقلة وتشابه العبارة أنّه قال : ستفترق أمتّي علي ثلاثة وسبعين فرقةً، فرقهُ منها ناجية ، والباقي في النار.

ففي أمالي الطوسي عن مولينا أميرالمؤمنين عليه السلام أنّه قال لرأس اليهود: علي

کَم إفترقتم ؟ فقال : علي کذا وکذا فرقة، فقال علي عليه السلام کذبت.

ثمّ أقبل علي الناس وقال : والله لو ثنيّت لي الوسادة لقضيتُ بين أهل التورية بتوراتهم، وبين أهل الانجيل بأنّجيلهم، وبين أهل القرآن بقرآنهم، إفترقت اليهود علي إحدي وسبعين فرقة سبعون منها في النار، وواحدة منها في الجنّة، وهي الّتي إتّبعت يوشع بن نون، وافترقت النصاري علي اثنين وسبعين فرقة، إحدي وسبعون في النار، وواحدة منها في الجنة وهي التي اتبعت شمعون وصي عيسي عليه السلام ، وتفترق

ص: 661

تفسير فاتحة الکتاب

هذه الأمة علي ثلاث وسبعين فرقة، اثنتان وسبعون فرقة في النار، وواحدة في الجنة وهي التي اتبعت وصيّ محمد صلي الله عليه وآله وسلم، وضرب بيده علي صدره ، ثمّ قال ثلاث عشر فرقة من الثلاث وسبعين فرقة کلّها تنتحل مودّتي وحبّي واحدة منها في الجنّة ، وهم النّمط الأوسط، واثنتي عشرة في النار(1)

بل ورد من طريق العامة ايضا فعن موفق بن أحمد من علمائهم بالإسناد عن ذاذان عن علي عليه السلام قال تفترق هذه الأمة علي ثلاث وسبعين فرقة ثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنّة وهم الذين قال الله عزّ وجل في حقهم: (وممّن خلقنا امّة يهدون بالحق وبه يعدلون)(2)وهم انا وشيعتي (3)

وهو کما تري مشتمل علي تعيينه، بل قدرووا هذه الرواية بطرق عديدة وفي

آخرها: وهي أي الواحدة الناجية الّتي تتبع وصيّي عليّاً.

وروي الحافظ محمد بن موسي الشيرازي في کتابه الّذي استخرجه من التفاسير الاثني عشر الّتي هي لابي يوسف يعقوب بن سفيان ، وابن جريح، ومقاتل بن سليمان، وکيع بن جراح، ويوسف بن موسي القطان ، وقتادة ، وأبي عبيدة القاسم بن سلام، وعليّ بن حرب الطائي، والسدّي ومجاهد، ومقاتل بن حيّان، وأبي صالح، وکلهم من جمهور المخالفين، عن أنّس بن مالک قال کنّا جلوساً عند رسول الله فتذاکرنا رجلاً يصلّي ويصوم ويتصدّق ويزکّي فقال لنا رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم لا أعرفه، فقلنا يا رسول الله انه يعبد الله ويسبّحه ويقدّسه ويوحّده، فقال رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم أعرفه، فبينا نحن في ذکر الرجل إذ قد طلع علينا فقلنا هو ذا فنظر إليه رسول الله صلي الله عليه وآله وسلموقال لأبي بکر: خذ سيفي هذا وامض إلي هذا الرجل واضرب

ص: 662


1- الاحتجاج ص140-141وعنه البحار ج 28 ص 4 - 5 ح 5.
2- الأعراف : 181.
3- المناقب للخوارزمي ص 331 ح351 وعنه ينابيع المودّة ج 1 ص 337.

عنقه، فإنّه أوّل من ياتيه حزب الشيطان فدخل ابوبکر المسجد فراه راکعاً فقال والله لا اقتله ، فإنّ رسول الله ان نهانا عن قتل المصلّين فرجع إلي رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم فقال يا رسول الله اني رايته يصلّي فقال له رسول الله إجلس فلست بصاحبه، قم يا عمر فخذ سيفي من يد أبي بکر وادخل المسجد واضرب عنقه، قال عمر: فاخذت السيف من يد ابي بکر ودخلت المسجد فرايت الرجل ساجداً فقلت والله لا أقتله فقد إستامنه من هو خير منّي، فرجعت إلي رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم فقلت يا رسول الله إنّي رايت الرجل ساجدأ، فقال يا عمر اجلس فلست بصاحبه، قم يا علي فانک أنّت قاتله إن وجدتَه فاقتله فإنک إن قتلته لم يقع بين أمتي اختلاف أبداً قال علي عليه السلام فاخذت السيف ودخلت المسجد فلم أره، فرجعت إلي رسول الله الا وقلت يا رسول الله ما رأيته، فقال لي يا أبا الحسن إنّ امّة موسي إفترقت علي إحدي وسبعين فرقة، فرقة منها ناجية، والباقون في النار فقلت : يا رسول الله وما الناجية فقال المتمّسک بما أنّت عليه وأصحابک، فأنّزل الله تعالي في ذلک الرجل (ثاني عطفه ليضلّ عن سبيل الله له في الدنيا خزي )(1) يقول : هذا أول من يظهر من اصحاب البدع والضلالات، قال ابن عباس والله ما قتل ذلک الرجل إلا اميرالمؤمنين عليه السلام يوم صفين (2)

قلت فانظر إلي هذا الخبر الذي رواه غير واحد من الجمهور المصرح بمخالفتها للرسول صلي الله عليه وآله وسلم فيما أمر هما به في مثل هذا الأمر الذي صار سببة لافتراق الأمة فکائهما صارا سبين لضلالتها وإرتدادها عن طريق الهدي بمخالفتهما له في حيوته وبعد وفاته.

ولذا جعل علامة الفرقة الناجية مشايعة أمير المؤمنين عليه السلام وأصحابه والتمسک

ص: 663


1- الحج: 9.
2- صوابه يوم النهروان

بما هم عليه في الأصول والفرو(1)

ثمّ إنّ هذه الأخبار المرويّة من الطريقين ما بين مُصَرّحٍ بأنّ الفرقة الناجية هي الإمامية حسب ما سمعت، وبين مطلق لها إلّا أنّه علي فرضه يستفاد التعيين أيضا من خبر صحيح متفّق علي نقله وصحته بين الفريقين ، وهو قوله عليه السلام : مثل أهل بيتي کمثل سفينة نوح من رکبها نجي ومن تخلف عنها فرق، ولا ريب أنّ الإماميّة هم المختّصون برکوب هذه السفينة فإنّهم لا يرجعون في شيء من أحکامهم ومذهبهم إلا إلي أهل البيت عليه السلام کما أنّ غيرهم من الفرق يرجعون إلي غيرهم کأصحاب أبي حنيفة، وأصحاب الشافعي ، ومالک، وأحمد، وغيرهم.

مضافاً إلي أنّ المحکي عن أفضل المتأخرين نصير الملّة والحقّ والدين الطوسي عطّر الله مرقده أنّه باحث أصحاب المذاهب فاستدلّ بالخبر علي أنّ الناجية هي الإماميّة ، قال وذلک أنّي وقفت علي جميع المذاهب أصولها وفروعها فوجدث من عدي الإمامية مشترکين في الأصول المعتبرة في الإيمان وان اختلفوا في أشياء يساوي إثباتها نفيها بالنسبة إلي الإيمان .

ثمّ وجدتُ أنّ طائفة الإماميّة هم يخالفون الکل في أصولهم، فلو کانت فرقةُ

ممن عديهم ناجية لکان الکلّ ناجين فيدّل علي أنّ الناجية هم الإمامية لا غير.

أقول: ولعلّ الظاهر من کلامه نوع الإعتقادات الأصولية المرتبطة بالايمان کالجبر، والتفويض، والقدر، والرؤية، والصفات، والأحوال، وغيرها مما ستسمع إليها الاشارة بل يکفي في ذلک خصوص مسألة الإمامة.

ولذا قد يقال في تحرير کلامه : أنّ جميع الفرق متّفقون علي أنّ مناط النجاة ودخول الجنّة هو الإقرار بالشهادتين وخالفهم الإماميّة في ذلک وقالوا لابدّ من ضمّ

ص: 664


1- نفحات اللاهوت لعلي بن عبد العال الکرکي ص86 ط الغري وعنه إحقاق الحق ج 7ص 185.

ولاية أهل البيت والبرائة من أعدائهم وهي الّتي يدور عليها النجاة والهلاک في الاخرة، لاخصوص الحکم بالإسلام والکفر في الدنيا، فإنه من الأحکام الظاهرة التي قد شرعت تسهيلا علي أهل الحق.

وأمّا ما يقال من أنّه لو أريد الخلود فيها هو خلاف الإجماع، فإنّ المؤمنين لا يخلدون فيها وإن أريد مجرد الدخول فهو مشترک بين الفرق إذ ما من فرقة إلا وبعضها عصاة، والقول بأنّ معصية الفرقة الناجية مغفورة بعيد جدّاً، ولا يبعد أنّ يکون المراد إستقلال مکثهم في النار بالنسبة إلي سائر الفرق ترغيباً في تصحيح الاعتقاد

ففيه أنّ عدم خلود المؤمنين وإن کان مسلّماً إلّا أنّ إيمان من عدي الفرقة الناجية ممنوع کيف وقد أطبقت الطائفة الحقة علي عدم إيمان مَن سويهم وان الولاية من شرايط الإيمان والرکن الأعظم الذي عليه السلام من غير عکس.

مضافاً إلي إنفرادهم النص والعصمة وعدم انقطاع الحجة وغير ذلک من

الأصول التي انفردت بها من بين الفرق.

هذا کله مع الغضّ عن الوجوه المشخصة الخارجة الّتي منها خبر السفينة

وخبر الثقلين اللذين مرّت إليهما الإشارة في المقدمات.

وامّا ما وقع في کلامه من إستبعاد الغفران المعاصي الفرقة الناجيّة فهو أولي بالاستبعاد، بل المرجوّ من فضلهم ذلک کيف وقد وعدنا الله تعالي علي لسان أوليائه وهو لا يخلف الميعاد، وقد ورد به أخبار مستفيضة بل متواترة متضمنّة لبذلهم حسناتهم لشيعتهم، وأنّ الله تعالي أعطاهم الوسيلة والفضيلة والشفاعة لأصحاب الکبائر من شيعتهم، وأنّ الله تعالي قد قال إنّي غفرت لشيعة عليّ ومحبيّه ذنوبهم جميعاً ، وأنّ الله تعالي يَبيِلي شيعتَهم بالتقم، والفقر، والعاهة، والذّلة في اهلهم ومالهم کفارّةً لما إقترفوه من الذنوب الموبقة، حتّي أنّ منهم من يشدّد عليه خروج

ص: 665

نفسه کي يلقي الله تعالي حين يلقاه وهو عنه راض.

بل روي إبن المغازلي الشافعي بالاسناد عن النبي صلي الله عليه وآله وسلم قال يدخل الجنة من امتّي سبعون ألفاً لا حساب عليهم ثمّ التفت إلي علي عليه السلام فقال هم من شيعتک وأنّت إمامهم (1)

وقال اخطب خوارزم في فضائله وابن حجر في صواعقه بالإسناد إلي بلال بن حمام قال طلع علينا النبي صلي الله عليه وآله وسلم ووجهه مشرق کدائرة القمر فقام اليه عبد الرحمن بن عوف فقال : يا رسول الله ما هذا النور؟ فقال : بشارة أتتني من ربّي في أخي وابن عمّي وابنتي فاطمة أنّ الله تعالي زوج عليّاً (2) من فاطمة، وامر رضوان خازن الجنان فهو شجرة طوبي فحملت رقاقا يعني صِکاکا بعدد محبّي أهل بيتي وأنّشأ من تحتها ملئکة من نور، ودفع إلي کلّ ملک صکا فإذا إستوت القيمة بأهلها نادت الملائکة في الخلائق فلا تلقي محبّاً لنا أهل البيت الا دفعت إليه صکّاًفيه فکاکه من النار (3)

إلي غير ذلک مما تسمع في موضع أليق الإشارة إليها وإلي الجمع بينها وبين

آيات الوعيد وأخباره حتي بالنسبة إلي المعني العامّ للشيعة.

نعم ينبغي أنّ يعلم أنّ خبر الإفتراق قد رواه أصحاب جميع المذاهب، وأنّ کثيرا من العامّة والخاصّة قد شمرّوا عن ساق الجد والاجتهاد لتکميل ما ذکره عليه السلام في الخبر من الأعداد فإن الاختلافات الکلية لا تبلغ هذا العدد، والجزئيّة تجاوزها، ولذا تري کثيراً منهم قد إلتجا إلي عدّ الإختلاف الواقع في الجبر والإختيار والتفويض وغيرها من فروع الأصول، بل في بعض الأصول الکلامية من المذاهب

ص: 666


1- المناقب لأبن المغازلي ص 293 ح 335 وعنه ينابيع المودة ج 1 ص 374وفي آخره: إلتفت الي علي لا وقال : هم الذين جاهدوا وأمامهم هذا.
2- في ينابيع المودة : إن الله تبارک وتعالي زوج فاطمة بعلي .
3- الينابيع ج 2 ص 336.

تبصرة واستبصار لمن أراد محسن الاختيار الثلاث والسبعين وأهمل کثيراً من الاختلافات الراجعة إلي الأمامة في مذهب الأمامية، وغيره.

علي أنّک تري بعضهم قد تکلّف في ذلک أموراً تنادي بأعلي صوتها بأنّ الداعي لتکلّفها إنّما هو تکميل العدة ، مع أنّ بعض ما أهملوها يضاهي ما ذکروها بل لعلّه أولي بالذکر، وکثير المذاهب الّتي لبعض الفرق قد إنقطع إسمه ورسمه لانقراض أهله، وقد حدثت کثير من المذاهب بعدها بل کثير من المذاهب المتقدّمة المعدودة إنّما حدثت في أزمنة متطاولة علي سبيل التدريج، وبعد حصر المذاهب قد حدث بعض البدع أيضا، ولعله يحدث أيضا غيرها في مستقبل الزمان .

وبالجملة فالذي يقضي به الإنصاف أنّ کلّ ما ذکروه لإکمال العدة تعسّف وتکلّف، لا داعي لحمله، بل وکذا ما ربما يقال من أنّ المراد نوع الإختلافات الواقعة في المسائل الأصولية التي منها مسألة الإمامة التي يعد الاختلاف فيها إختلافاً واحداً أو أزيد إذ في الاوّل ربما تمسّ الحاجة إلي إدخال الإختلافات الفروعية لإکمال العدة ، وفي الثاني ريما تزيد الإختلافات الفروعية الواقعة في مسألة الإمامة خاصّة فضلاً عن غيرها من الإختلافات الأصوليّة علي العدة المذکورة.

وبذلک يتّضح لک ضعفه کضعف ما قد يقال أيضاً أنّ الفرق الأحد والسبعين کانت في امة موسي عليه السلام وزيد عليها واحد في أمة عيسي وثنتان في امّة نبينا محمد صلي الله عليه وعليهم أجمعين، فإنه مخالف لصريح الخبر الدّال علي أنّ الأُمة بعد الاقرار بالشهادتين مفترقة علي تلک العدّة.

بل الّذي لا يزال يختلج بالبال في حل الأشکال أنّ المراد بالسبعين کمال العدد فإنّ السبعة يسمي عندهم عدداً کاملاً لترکبه من زوج الزوج، وفرد الفرد أو لانّها تقوم من أوّل الأزواج إلي ثاني الأفراد، ومن أوّل الأفراد إلي ثاني الأزواج،

ص: 667

فاذا حصل له الترقي بالبسط إلي العشرات صار سبعون، ولذا يعبّر به عن کمال العدد، من غير أنّ يقصد منه الخصوص کما في قوله :( وإن تستغفر لهم سبعين مرّة فلق يغفر الله لهم )(1)

وقوله صلي الله عليه وآله وسلم إلي ليغان علي قلبي وإنّي لأستغفر الله في کلّ يوم سبعين مرّة (2)

وقوله تعالي : (في سلسلة ذرعها سبعون ذراعاً) (3)

إلي غير ذلک من الاطلاقات الّتي يستفاد من جملتها أنّهم يطلقون هذا العدد من غير قصد إلي خصوصية، بل للإشعار بکمال الحکم المنوط به وهو في المقام الإختلاف الذي بلغ فرق الکمال في أمتة موسي وزيد عليه في أمّه عيسي وزيد عليه ايضاً في امّة نبيناً صلي الله عليه وآله وسلم فيکون في هذه الأمة جميع الاختلافات الواقعة في تلک الأمم مع زيادات ، وله إشارات في الأخبار. کقوله صلي الله عليه وآله وسلم: «لترکبن سنن من کان قبلکم»(4) وغيره وحينئذ فالمراد کمال الإختلاف الواقع في هذه الأمة أزيد من غيرها فلا يهمنا التکلف الإکمال العدّة.

نعم في کتاب سليم بن قيس عن مولينا أميرالمؤمنين عليه السلام : أنّ الأمة تفرقت علي ثلاث وسبعين فرقة إثنتان وسبعون فرقة في النار، وفرقة في الجنّة وثلاث عشرة فرقة من الثلاث والسبعين تنتحل مودّتنا أهل البيت، واحدة منها في الجنّة واثنتا عشرة منها في النار. إلي أنّ قال : قيل يا أمير المؤمنين عليه السلام أرأيت من قد وقف فلم يائم بکم ولم يعاندکم ولم ينصب لکم ولم يتولکم ولم يبرء من عدوّکم وقال : لا أدري هو صادق ؟

قال عليه السلام : ليس أولئک من الثلاث والسبعين فرقة إنما عني رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم

ص: 668


1- التوبة :80.
2- بحار الأنّوار : ج 25 ص204.
3- الحاقة : 32
4- بحار الأنّوار : ج 13ص 180 عن العيّاشي .

بالثلاث والسبعين فرقة الباغين النصّابين الذين قد شهروا أنّفسهم ودعوا إلي دينهم، ففرقة واحدة منها تدّين بدين الرحمن، واثنتان وسبعون تدين بدين الشيطان (1) الخبر بطوله.

وقد مر ايضاً في العلوي المروي في «الأمالي» ثلث عشر فرقة من الثلث وسبعين فرقة کلّها تنتحل مودتي وحبّي واحدة منها في الجنّة وهم النمط الأوسط واثنتا عشرة في النّار.

ولعلّه يستفاد منهما تحقيق العدد ومن خصوص الأول أنّ المتحير الخالي عن

الولاية والعناد ليس من الأعداد .

وعلي کلّ حال فينبغي البحث حينئذ بعد الأغماض عمّا سمعت اوّلاً من الإستفادة من نفس الخبر حسب ما مرّ في أنّ من تلک الفرق المعدودة من الإسلام من الناجي الذي هداه الله إلي الصراط المستقيم، والضالّ، والمغضوب عليهم بالعذاب الأليمن

فنقول : إن کثيرا من تلک الفرق قد کفينا مؤنة ابطاله وردّه لانقراض أهله الذي هو أدلّ دليل علي بطلانه کجلّ فرق الشيعة بل کلهم غير الإماميّة الاثني عشرية ، ولذا ذهب کثير من الأساطين إلي أنّ الوقف علي الشيعة تنصرف إليهم لذلک، لا اللوضع کما أنّه قد انقرض أکثر فرق الغُلاة واکثر فرق التواصب، نعم بقيت من الأولي شرذمة في أطراف البلاد ربما لا يعرفون في الناس لشذوذهم کشذوذ أقوالهم وحججهم الّتي لا ترجع نحو شبهة فضلاً عن حجّة، سيّما مع الإطلاع بالآيات والأخبار القطعية والأصول العقليّة الّتي قضيتها بطلان الحلول والاتّحاد وتنزل الألوهيّة وغيرها من خرافاتهم، خصوصاً بعد ما تواتر نقله عنه عليه السلام من النهي

ص: 669


1- بحار الأنّوار : ج 28 ص 14 - 15 ح 22.

عن الغلوّ فيه في قوله : هلک فيّ رجلان(1) وغيره، بل برائتهم عن عبدالله بن سبا (2)والبيعية (3)والخطابية (4)وغيرهم من الغلاة الذين کانوا في عصرهم عليه السلام وکونه عليه السلام في عصره واحداً من أمّة النبي ورعيّته متعبّداً بالعبادات، مجتهدأ فيها يجري عليه ما يجري علي غيره من أفراد البشر من العوارض النفسانية والبدنيّة الدّالة علي الحدوث حتي المرض والقتل کما وقع عليهم عليه السلام حتّي قالوا: «مامنّا إلّا مسموم أو مقتول» (5)

بل في القرآن الإشارة إلي بطلان مذهبهم في آيات کثيرة کقوله : (ولا تغلوا في دينکم ) (6) (ومن يقل منهم إنّي إله من دونه فذلک تجزيه جهنّم) (7) ( وما کان لبشر أنّ يؤتيه الله الکتاب والحکم والنّبوة ثم يقول للناس کونوا عباداً لي )(8)، ولذا کانوا لم يزالوا يتضرّعون إلي الله ويبتهلون إليه في برائتهم ممّن إعتقد فيهم ذلک حتي أنّ مولينا الرضا عليه السلام کان يقول في دعائه :

اللّهم إنّي أبرء إليک من الّذين إدّعوا لنا ما ليس لنا بحقّ، اللّهم انّي أبرء اليک من الّذين قالوا فينا ما لم نقله في انفسنا اللّهم لک الخلق ومنک الأمر (9) اياک نعبد

ص: 670


1- نهج البلاغة ص 489 قصار الجمل : 117.
2- کان يهودية فأسلم، ثمّ إدّعي النبوّة وأنّ عليّاً عليه السلام هو الله تعالي فحبسه أمير المؤمنين عليه السلام و استتابه ثلاثة أيّام فلم يتب فأحرقه بالنار - سفينة البحار ج 6 ص68.
3- اصحاب بزيع الحائک المدعي النبوة کان من أصحاب أبي الخطاب لعنه الصادق علي - سفينة البحار ج 1 ص 302.
4- الخطابية أصحاب أبي الخطاب محمد بن مقلاص الکوفي إدعي النبوة وإن جعفر بن محمد الصادق عليه السلام هو الله تعالي و استحل المحارم کلها - سفينة البحار ج 2 ص 646.
5- بحار الأنّوار : ج 44 ص 139 ح6.
6- النساء : 171.
7- الأنّبياء : 29.
8- آل عمران : 79.
9- في البحار : ومنک الرزق .

واياک نستعين، اللهم أنّت خالقنا وخالق ابائنا الأولين وأبناءنا الاخرين أللّهم لا تليق الربوبية الا بک، ولا تصلح الالهيّة الألک فالعن النصاري الذين صغّروا عظمتک ، والعن المضاهيئن لقولهم من بريتک، اللهم انا عبيدک وأبناء عبيدک لا نملک

لأنّفسنا ضراًولا نفعاً ولا موتا ولا حيوة ولا نشورا، اللّهم من زعم انّنا ارباب فنحن اليک منه برءاء، ومن زعم أنّ إلينا الخلق وعلينا الرزق فتحن إليک منه برءاء کبراء عيسي من النصاري ، اللّهم إنّا لم نَدعهم إلي ما يزعمون فلا تؤاخذنا بما يقولون (ربّ لا تذر علي الأرض من الکافرين ديّاراً انک أنّ تذرهم يضلّوا عبادک ولا يلدوا الّا فاجرا کفّاراً) (1)-(2)

إلي غير ذلک ممّا لا نطيل بها الکلام لوضوح المرام، نعم العبرة في معني الغلوّ ما سمعت سابقاً ومنه يظهر وجه الجمع بين قوله في هذا الخبر: «ومن زعم أنّ الينا الخلق» وبين ما في الزيارة الجامعة : وإياب الخلق اليکم وحسابهم عليکم، بل الأخبار بمعناها قريبة من التواتر فإن المنفيّ علي وجه الإستقلال والاستبداد والأصالة، والمثبت علي وجه البابية والوساطة والإستفاضة حسبما مرّ.

نعم يبقي الکلام فيما ربما يصدر عن بعض الغلاة من خوارق العادات کدخول النار، وعدم التأثر من السيف وغيره حسب ما حکاه شيخنا المجلسي و إذ لا يخفي أنّه لا يدلّ علي إصابتهم بوجه من الوجوه، إذ مع الغض عن کونه أخذأ بالعيون من قبيل السحر والشعبدة وغيرها يمکن أنّ يکون منشاؤه بعض الرياضات التي يرتاضون بها أنّفسهم کالمرتاضين من الهنود سيّما الجوکية منهم، وذلک لان الله لا يُضيع عمل عامل من الناس، ومخالفة النفس مع کونها مطلوبة بالذات في جميع الملل لها خاصية ذاتية في نيل المقصد الذي جعله الإنسان نصب عينيه، خصوصاً

ص: 671


1- نوح :26
2- بحار الأنّوار : ج 25 ص 343.

تفسير فاتحة الکتاب

إذا کان صاحبه کافراًفإنّه يعجّل له طيّباته في الدنيا الدنيّة العاجلة، ولذا يقال لهم يوم القيمة : (أذهبتم طيّباتکم في حيوتکم الدنيا واستمتعم بها) (1)

ولعله يقرب منه الرياضة الإرتدادية الّتي ابتلي بها بعض الأشقياء في زماننا باغواء بعض شياطين الإنس، وذلک أنّه تدّرج في مراتب الإرتداد بکيفيّة لا ينبغي نشرها في السطور إلي أنّ بلغ إحراق المصحف وغيره ممّا هو أعظم منه، نعوذ بالله عن العزاية بعد الهداية حتي بلغ حّداً لا يؤثّر فيه شيء من المؤذيات کالنّار والحديد وغيرهما، وحينئذ ندم علي ما فرط منه فکان يصلّي عامة ليله ونهاره ووضع علي جنبه منجزاً يمتحن بها بدنه کلّ يوم وليلة إذ قال له مَن أمره بذلک أنّ علامة قبول توبتک أنّ ترجع إلي حالک السابقة ويؤثّر فيک الحديد وغيره.

وبالجملة فعدم التأثر عن بعض الموذيات بخصوصه أو عن کلّها ليس من علامات الحقيّة والإصابة، کما أنّ التأثر فيها ليس من علامات البطلان والخطاء، ولقد سُمّ رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم في غزوة خيبر فما زالت الأکلة في فؤاده حتي قطعت أبهره فمات منها، وأمير المؤمنين عليه السلام ضربه عبدالرحمن بن ملجم لعنة الله في موضوع ضربة عمرو بن عبدودّ ودفن بالغريّ، وجري بعدهما علي الحسنين بل علي سائر الأمة ما جري، بل في الانبياء ممن قتلوه ضرباً او حبساً او غرقاً او حرقاً.

وعلي کلّ حال فالأمة في هذه الأيام بل في بدو الإسلام بعد رحلة سيد الأنّام عليه و آله الصلوة والسلام علي فرقتين: الأولي من أوفي بما عاهد عليه الله ورسوله من متابعة ولي الأمر الذي بايعوا معه يوم الغدير واختصّ من بين الصحابة بالنص والعصمة فقدموا من قدمه الله، ووالو أوليائه، وهم الأئمّة المعصومون صلوات الله عليهم أجمعين، فإن الله تعالي انما خصّهم بالعصمة ليا من الناس من

ص: 672


1- الأحقاف : 20.

خطائهم وسهوهم وغلطهم فينقادوا إلي أوامرهم لئلّا يکون للناس علي الله حجّة بعد ذلک وليهلک من هلک عن بيّنة، ويحيي من حي عن بيّنة، وحيث إن العصمة فضيلة موهبة لا يطلع عليها الناس وجب النص عليهم من النبي صلي الله عليه وآله وسلم بل ومن کل إمام سابق علي إمام بعده.

الثانية منها هم الّذين انقلبوا علي أعقابهم فأنّکروا النصّ والوصاية، ولم يوجبوا العصمة والطهارة وقالوا: إن الأئمّة : بل الأنّبياء غيرُ معصومين وانه يقع منهم الخطأ والسهر والنسيان بل الفسوق والکذب وانّما وسعوا الباب ليتمکنوا من القول بخلافة مشايخهم الذين إنقضت أکثر أعمارهم في الکفر والشرک وعبادة الأوثان وشطر منها في التفاق وعداوة أهل الإيمان کما أنّهم قالوا إنّ الخلفاء کالأنّبياء يجتهدون في الأحکام والمسائل کي يستندوا إليه فيما يقع من مخالفة خلفائهم للنبي صلي الله عليه وآله وسلم کالوضوء المنکوس والمسح علي الخفين وغيرهما، بل لم يشترطوا في الخلافة العلم والعدالة، فجوّزوا إمامة الجاهل والفاسق فضلاً عن غير المعصوم، بل کثير منهم لم يُتبتوا العدل والحکمة في أفعاله تعالي وجوزوا عليه الظّلم والقبيح والعبث وما فيه الفساد للعباد، وأنّه تعالي لا يفعل لغرض من الأغراض بل جميع أفعاله خالية عن الأغراض والحکم والمصالح، وأثبت کثير منهم قدماء کثيرة سموها بالمعاني ، وجوزوا رؤيته في الدنيا أو في الآخرة للکل، أو للصلحاء، تعالي الله عن ذلک، وعن سائر مقالاتهم الّتي يتبرّأ منها الإسلام وأهله، هذا مجمل حالهم في الأصول، وأمّا في الفروع ففتحوا علي أنّفسهم باب الآراء والظّنون والقياس والإستحسان والمصالح المرسلة وغيرها فأدخلوا في دين الله ما ليس منه، وحرّفوا أحکام الشّريعة، وأوجبوا أنّ يکون النّاس في الفروع تابعاً لواحد من المذاهب الأربعة التي لم تکن في عصر النبي صلي الله عليه وآله وسلم ولا في عصر صحابته، بل قد أحدثوها بعد مدّة طويلة وذهبوا معها إلي أمور شنيعة، فأباحوا التبيذ والفقّاع، بل الوضوء به

ص: 673

وأباحوا اللّواط بالعبيد وبالأجير بل الزّنا بالأم إذا لفّ علي ذکره خرقة، وکذا أباحوا الملاهي من الغناء والشّطرنج وغيرها، وقالوا: إنّ الغاصب إذا غيّر صفة المغصوب ملکه، حتي إنهم قالوا: لو أنّ سارقاًدخل دار شخص له فيه رحي وحنطة فطحن السارق الطّعام برحي المالک ملکه، فلو جاء المالک ونازعه فيه کان المالک ظالماً والسارق مظلومة، وجوزوا الصلوة في جلد الکلب والتجود علي العذرة اليابسة.

وذکر العلّامة أنّه حکي بعض الفقهاء لبعض الملوک وعنده بعض الفقهاء الحنفية صفة صلاة الحنفي فدخل دارة مغصوبة وتوضّاً بالنّبيذ، وکبرّ بالفارسيّة من غير نيّة، وقرأ مدهامتان لا غير بالفارسيّة، ثمّ طأطأ رأسه من غير طمأنّينة، وسجد کذلک ورفع رأسه بقدر حدّ السيف ثم سجد وقام، ففعل کذلک ثانية ثمّ أحدث، فتبرّأ الملک وکان حنفياً من هذا المذهب وإعترف بالحقّ.

وعلي کلّ حال فيدلّ علي وجوب التّمسّک بمذهب الإماميّة الاثنا عشريّة مضافاً إلي ما سمعت عنا وفي تحرير المذاهب وجوه کثيرة کالآيات التي سنشير إلي کلّ منها وما يتعلق بها في مواضعها وکالأخبار التي أشير فيها إلي تعيين الفرقة التاجية المروية من طرق الفريقين.

کقوله : خلّفت فيکم الثّقلين کتاب الله وعترتي ما إن تمسّکتم بهما لن تضلّوا

أبداًوانّهما لن يفترقا حتّي يردا عليّ الحوض (1)

وعن مناقب إبن المغازلي عن أبي ذر الغفاري قال : قال رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم: من ناصب عليّاً للخلافة بعدي فهو کافر قد حارب الله ورسوله، ومن شکّ في عليّ فهو کافر (2)

ص: 674


1- الصواعق المحرقة 122 وفي ذيله : روي هذا الحديث ، ثلاثون صحابياً .
2- بحار الأنّوار : ج 38 ص 150 عن مناقب ابن المغازلي .

وعن أبن شيرويه في «الفردوس» عنه صلي الله عليه وآله وسلم قال : خلقت أنّا وعليّ من نور واحد قبل أنّ يخلق الله آدم بأربعة آلاف عام فلما خلق آدم رکّب ذلک التنور في صلبه فلم نزل في شيء واحد حتّي إفترقنا في صلب عبد المطلب ففي النّبوة وفي عليّ الخلافة (1)

وعن حلية الأولياء وفضائل المعاني وکتاب الطّبراني والنطنزي عنه صلي الله عليه وآله وسلم:

أدعوا إليّ سيّد العرب، يعني عليّاً فقالت عائشة ألستَ سيّد العرب ؟ قال : أنّا سيّد ولد آدم وعلي سيّد العرب، فلمّا جاء أرسل إلي الأنّصار فقال : معاشر الأنّصار أدلّکم علي ما إن تمسّکتم به لن تضلّوا بعدي؟ قالوا بلي يا رسول الله قال : هذا عليّ فأحبوه لحتي واکرموه لکرامتي فإن جبرئيل أمرني بالذي قلت لکم عن الله عزّوجل(2)

وعن معجم الطَّبراني عنه صلي الله عليه وآله وسلم : لکلّ نبيَّ وصيّ وارث، وأنّ عليّاً وصيّي

ووارثي (3)

وعن کتاب الأربعين للحافظ أبي بکر محمد بن أبي نصر عنه : أنّا

وعلي حجة الله علي عباده (4)

ورواه المحدّث الحنبلي عنه صلي الله عليه وآله وسلم، وعن کفاية الطّالب عن حذيفة قال : قالوا يا رسول الله ألا تستخلف عليّاً قال إن تولوا عليّاً تجدوه هادياً مهديا يسلک بکم الطَّريق المستقيم(5)

ص: 675


1- البحار ج 38/150 عن ابن شيرويه في الفردوس .
2- البحار ج 38/ 150 عن المناقب لابن شهر آشوب
3- البحار: ج 38 / 154 عن معجم الطبراني .
4- مناقب آل أبي طالب ج 6 ص576 عن الفردوس .
5- کشف الغمة ص 45 عن کفاية الطالب .

وعن السّمعاني في فضائل الصّحابة عنه صلي الله عليه وآله وسلم: عليّ مع الحقّ والحقّ مع عليّ

لا يفترقان حتّي يردا عليّ الحوض(1).

وفي مسند أبي يعلي عن الخدري قال: مرّ علي بن أبي طالب فقال

النبي صلي الله عليه وآله وسلم: الحق مع ذا الحق مع ذا(2)

وسئل أبوذر عن اختلاف النّاس عنه صلي الله عليه وآله وسلم: فقال : عليک بکتاب الله والشيخ علي بن أبي طالب فإني سمعت رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم يقول : عليّ مع الحقّ والحقّ معه وعلي لسانه والحقّ يدور حيث ما دار عليّ(3) ومثله عن السّمعاني في فضائل الصّحابة.

وفيه عنه صلي الله عليه وآله وسلم: لا تضادوا عليّاً فتکفروا ولا تفضّلوا عليه فترتدّوا (4) . وعن مناقب ابن مردويه عنه عليه السلام : علي خير البشر من أبي فقد کفر(5)

وفيه عن سلمان : ان وصيي وخليفتي وأخي ووزيري و خير من أخلّفه بعدي

عليّ بن أبي طالب يؤدّي عنّي وينجز موعدي (6).

وعن أبي مجاهد في التاريخ والطّبري في الولاية والدّيلمي في الفردوس وأحمد في الفضائل وأعمش عن أبي وائل عنه عليه السلامقال : عليّ خير البشر فمن أبي فقد کفر ومن رضي فقد شکر . (7)

وعن موفّق بن أحمد من أعيان علمائهم بالاسناد عن مولانا

ص: 676


1- رواه أيضاً الخطيب في تاريخ بغداد ج 14 ص 321.
2- مجمع الزوائد ج 7 ص234 عن أبي يعلي
3- بحار الأنّوار: ج 38ص 28 عن المناقب لابن شهر آشوب ج 1 ص 552.
4- البحار ج 38 ص 29 عن المناقب ج 2 ص6.
5- کنز العمال ج 11 ص625.
6- البحار ج 38 ص 12 عن کشف الغمّة ص 45.
7- البحار ج 38 ص 7 عن المناقب ج 1 ص 556.

أميرالمؤمنين عليه السلام قال : قال لي رسول الله : يا عليّ مثلک في أمتّي مثل عيسي بن مريم افترق قومه ثلاث فرق فرقة مؤمنون وهم الحواريّون، وفرقة عادوه وهم اليهود، وفرقة غلوا فيه فخرجوا عن الإيمان، وان أمتّي ستفترق فيک ثلاث فرق فرقة هم شيعتک وهم المؤمنون، وفرقة هم أعداؤک وهم النّاکثون، وفرقة غلوا فيک وهم الضّالّون، وأنّت يا عليّ وشيعتک في الجنّة ، وعدوّک والغالي نيک في النا(1)

وعن ابن مردويه وهو من ثقاتهم مسنداً إلي أبان بن تغلب عن سليم قال : سمعت أبا ذر والمقداد وسلمان يقولون : کنّا قعوداً عند النبي صلي الله عليه وآله وسلم إذ أقبل ثلاثة من المهاجرين فقال صلي الله عليه وآله وسلم: تفترق أمتي بعدي ثلث فرق: أهل حق لا يشوبونه بباطل مثلهم کالذَّهب کلّما فتنتهم النّار زاد جودة وإمامهم هذا وأشار إلي أحد الثلاثة، وهو الّذي أمر الله تعالي في کتابه اماماً و رحمة، وفرقة أهل الباطل لا يشوبونه بحق مثلهم کمثل الحديد کلما فتنته التار زاد خبثاً وامامهم هذا احد الثلاثة فسألته عن أهل الحقّ وامامهم ؟ فقال : علي بن أبي طالب عليه السلام وامسک عن آخرين فجهدت في الآخرين أنّ يسمّيهما فلم يفعل . (2)

وعن ابن عبّاس قال : رأيت حسان بن ثابت واقفاً بمني والنّبي صلي الله عليه وآله وسلم بمني مجتمعين فقال النبي صلي الله عليه وآله وسلم: معاشر المسلمين هذا عليّ بن أبي طالب سيّد العرب والوصيّ الأکبر منزلته منّي منزلة هارون من موسي إلّا أنّه لا نبيَّ بعدي لا تقبل التّوبة إلّا بحبّه يا حسّان قل فيه شيئاً وقال حسّان :

ص: 677


1- المناقب للخوارزمي ص 317 ح 318.
2- ورواه المجلسي في بحار الأنّوار: ج 28 ص 10 ح 16 عن کشف اليقين عن کتاب أخطب خوارزم مع تفاوت يسير عن أصبغ من نباته عن سلمان، وفيه : فسئلته عن أهل الحق وامامهم ، فقال : هذا علي بن أبي طالب إمام المتقين ، وأمسک عن الاثنين ، فجهدت أنّ يسميهما فلم يفعل .

لا تقبل التوبة من تائب إلا بحب ابن أبي طالب أخو رسول الله بل صهره والصّهر لا يعدل بالصّاحب ومن يکن مثل عليّ وقد يأتي له الشمس من المغرب ردّت عليه الشّمس في ضوئها بيضاً کأنّ الشمس لم تغرب (1)

وعن ابن مردويه عن علي عليه السلام : تفترق هذه الفرقة علي ثلاث وسبعين فرقة إثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنّة وهم الّذين قال الله تعالي :(وممّن خلقنا أمّة يهدون بالحقّ وبه يعدلون) (2)

وهم أنّا وشيعتي(3)

وعن الجمع بين الصّحيحين للحميدي عنه : سيکون بعدي إثني عشر أميراً

کلّهم من قريش(4)

وفي حديث ابن ابي عُمَير قال صلي الله عليه وآله وسلم: لا يزال أمر النّاس ماضياً منيعاً ولّاهم اثني

عشر رجلا(5)

وفي رواية مسلم عنه : لا يزال هذا الدين عزيزأ منيعا ما ولاه اثني

عشر خليفة کلّھم من قريش (6)

وفي جامع الأصول عن صحيح البخاري ومسلم والترّمذي وسنن أبي داود عن جابر بن سمرة قال : سمعت النّبي صلي الله عليه وآله وسلم و يقول : يکون بعدي اثني عشر أميراً فقال کلمة لم أسمعها فقال أبي أنّه قال : کلّهم من قريش (7)

ص: 678


1- بحار الأنّوار : ج37 ص 260عن بشارة المصطفي ص 180.
2- الأعراف : 181.
3- المناقب للخوارزمي ص 331 ح 351.
4- صحيح البخاري ج 8 ص 127 ، وصحيح مسلم ج 2 ص 183 ح 1821.
5- بحار الأنّوار : ج 36 ص 266 عن المناقب .
6- البحار: ج36 ص 299 عن المناقب .
7- المصدر السابق : ج 36 ص266.

والأخبار بهذا المعني کثيرة من طرقهم بل قد تواتر أخبارهم عنه صلي الله عليه وآله وسلم في الإخبار عن القائم المهدي وأنّه من صلب الحسين ع : وأنّه يملأ الأرض قسطاً وعده بعد ما ملئت ظلماً وجوراً.

عن البغوي في شرح السنة والبخاري ومسلم بالاسناد عنه صلي الله عليه وآله وسلم: کيف انتم

إذا نزل ابن مريم فيکم وإمامکم منکم(1).

وعن أبي داود والتّرمذي عنه صلي الله عليه وآله وسلم: لو لم يبق من الدّنيا الّا يوم واحد لطوَّل الله ذلک اليوم حتّي يبعث الله رجلاً منّي أو من أهل بيتي يواطيء اسمه اسمي يملاً الأرض قسطاً وعدلاً بعد ما ملئت ظلماً وجوراً(2)

وعن محمد بن يوسف الشّافعي في کفاية الطّالب عن أبي سعيد الخدري في حديث طويل عن النّبي صلي الله عليه وآله وسلم أنّه قال يا فاطمة أما علمت أنّ الله إطلع إلي الأرض إطلاعة فاختار منهم أباک فبعثه نبيا ثم إطلع ثانية فاختار منهم بعلک فأوحي إلي فانکحته واتخذته وصياً أمّا علمت انک بکرامة الله اياک زوجک أغزرهم (3) علما وأکثرهم حلماً وأقدمهم سلماً.

قال : واستبشرت فأراد رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم أنّ يزيدهما مزيد الخير کله الذي قسّمه لمحمّد و آل محمّد فقال : يا فاطمة ولعليّ ثمانية أضراس يعني مناقب : الإيمان بالله ورسوله وحکمته، وزوجته، وسبطاء الحسن والحسين، وأمره بالمعروف، ونهيه عن المنکر.

يا فاطمة إنا أهل بيت أعطينا ستّ خصال لم يُعطها أحد من الأوّلين ولا يدرکها أحد من الآخرين غيرنا : نبيّنا خير الأنّبياء، وهو أبوک، ووصيّنا خير

ص: 679


1- صحيح البخاري ج 4 ص143صحيح مسلم ج 1 ص86ح 244.
2- الفصول المهمة عن أبي داود والترمذي ص276ط الغري.
3- في البحار : أعلمهم علماً .

الأوصياء وهو بعيک، وشهيدنا خير الشّهداء وهو حمزة عمّ أبيک، ومنّا سبطا هذه الأمّة وهما ابناک، ومنّا مهديّ الأمّة الّذي يصلّي عيسي خلفه.

ثمّ ضرب علي منکب الحسين فقال : من هذا مهدئّ الأمّة(1).

إلي غير ذلک من الأخبار الّتي أفردتها الخاصة بالتصنيف بل العامّة أيضاًکما

تصدّيّ لنقل ذلک عنهم شيخنا العلّامة المجلسي في البحار.

وعن کفاية الطّالب عن ابن عبّاس قال : ستکون فتنة فمن أدرکها منکم فعليه بخصلتين : کتاب الله تعالي وعلي بن أبي طالب فائي سمعت رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم وهو آخذ بيد علي وهو يقول : هو أوّل من أمن بي، وأوّل من يصافحني، وهو فاروق هذه الأمّة يفرق بين الحقّ والباطل، وهو يعسوب الدّين ، والمال يعسوب الظلمة، وهو الصّديق الأکبر وهو بابي الّذي أوتي منه، وهو خليفتي من بعدي(2)

وعن الحافظ النّطنزي عن ابن عبّاس قال : قال رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم: إنّ عليّ بن أبي طالب وصيّي وإمام أمتّي، وخليفتي عليها بعدي ، ومن ولده القائم المنتظر الّذي يملأ الله به الأرض قسطاً وعدلاً کما ملئت جوراً وظلماً، والَّذي بعثني بالحقّ ونذيراً إنّ الثّابتين علي القول به في زمان غيبته لأعزَّ من الکبريت الأحمر.

فقام إليه جابر بن عبدالله الأنّصاري فقال : يا رسول الله وللقائم من ولدک

غيبة ؟ قال : إي وربي (ليمحصّ الله الذين آمنوا و يمحق الکافرين)(3)

يا جابر، انّ هذا أمر من أمر الله عزّ وجلّ وسرّ من سرّ الله ، علمه مطوي عن

عباد الله إيّاک والشکّ في أمر الله عزّ وجلّ فانّه کف(4)

ص: 680


1- بحار الأنّوار : ج 38 ص 11 ح 16 عن کشف الغمّة ص 44.
2- بحار الأنّوار: ج 38 ص 27.
3- آل عمران : 141.
4- البحار: ج 126/38 - 127 عن اليقين ص 191.

وعن الحافظ أبي نعيم في کتاب ما نزل الله من القرآن في عليّ بالاسناد عن أبي سعيد الخدري قال إن رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم: دعا النّاس إلي عليّ عليه السلام في غدير خمّ وأمر بما تحت الشّجرة من شوک فقمّ فدعا عليّاً عليه السلام فأخذ بضبعيه فرفعهما حتّي نظرنا إلي بياض إبطي رسول الله صلي الله عليه وآله وسلمثمّ لم يتفرّقوا حتّي نزلت هذه الآية : (اليوم أکملت لکم دينکم) (1)

الآية. فقال رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم: الله اکبر علي اکمال الدّين واتمام النّعمة ورضي الرّب برسالتي وبالولاية لعليّ من بعدي ثمّ قال : من کنت مولاه فعليّ مولاه : اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه وانصر من نصره، واخذل من

خذله.

قال حسّان : ائذن لي يا رسول الله فأقول في عليّ أبياتاً فقال : قل علي برکة

الله فانشد:

يناديهم يوم الغدير نبيّهم بخمّ وأسمع بالتبي منادياً يقول فمن مولاکم ووليّکم فقالوا ولم يبدوا هناک التّعاديا إلهک م ولانا وأنّت وليّنا ولم تجدن هنّا لک اليوم عاصية فقال له قم باعليّ فانني رضيتک من بعدي إماماً وهادياً هناک دعا اللهمّ وال وليّه وکن للذي عادي عليّاً معادياً

ثمّ قال رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم: يا حسّان لا تزال مؤيّداًبروح القدس ما نافحت (2)

عنّا بلسانک.

بل قال ابن الجوزي : إنّه اتفق علماء السّير علي أنّ قصة الغدير کانت بعد رجوع رسول الله من حجّة الوداع في الثامن عشر ذي الحجة وکان معه من الصَّحابة

ص: 681


1- المائدة : 3.
2- نافح عنه : دافع عنه .

ومن الاعراب وممَّن يسکن حول مکة والمدينة مائة وعشرون ألفاً، وهم الّذين شهدوا معه حجّة الوداع وسمعوا منه هذه المقالة، وقد أکثر الشعراء في يوم الغدير ثمّ نقل أشعار حسّان وما أنّشده سعد بن عبادة الأنّصاري بين يدي أمير المؤمنين عليه السلام يوم صفّين في حکاية الغدير ثمّ حکي ما أنّشده کميت:

ويوم الدّوح دوح غدير خمّ أبان له الولاية لو أطيعا ولکنّ

الرّجال تدافعوها فلم أر مثلها خطراً منيعاً فلم أر مثل ذاک اليوم يوماً ولم أر مثله حقّاً أضيعا(1)

إلي غير ذلک من الأخبار الکثيرة الّتي أفردوها بالتصانيف، وستسمع کثيراً

منها في هذا التّفسير وإن کان کل ما ذکرناه کغيرنا قليلاً من کثير.

هذا مضافاً إلي إنتهاء جميع الفضائل والکمالات إليه عليه السلام وکونه أعلم الصحابة وأفضلهم وازهدهم وأعبدهم وأتقيهم، ورجوع جميع الصّحابة حتي الخلفاء إليه في الاحکام والقضايا، حتي قال عمر سبعين مرّة: لولا عليّ لهلک عمر(2)، وکانت الصحابة يرجعون إليه في حلّ المشاکل وکشف المعاضل.

کلّ ذلک مع الغضّ عن المطاعن والرذايل الّذي کانت للآخرين بحيث ملئوا منها الطّوامير، وسطروا فيها الأساطير، بل أقر بجلّها لولم نقل کلّها أکثر الجماهير وإن کان کل ما ذکروه قليلاً من کثير، فالإشتغال بذکرها لا يناسب ما نَحن بصدده من الاکتفاء بالإشارة في هذا التفّسير.

ص: 682


1- بحار الأنّوار : ج37 ص 112 وص 150.
2- المناقب للخوارزمي ص 97 ح 98 وليس فيه ذکر العدد

ختام به الإتمام

بقي في المقام شيئان أحدهما في التّامين الّذي هو قول آمين بعد الحمد، وهو في الأصل کلمة سريانيّة أو عبريّة کما عن الإخفش وعطّية ، أو فارسيّة معرب همين أي لانطلب شيئاً سوي هذا کما عن التّيسير، أو عربية بالمدّ وتشديد الميم بمعني قاصدين، منصوباً بفعل محذوف کدعوناک ونحوه کما رواه بعض المفسّرين من العامّة عن مولانا الصّادق عليه السلام، ولم يثبت ذلک منه عليه السلام ، وعلي تقديره فلا دلالة فيه علي جواز قولها بعد الحمد في الصلوة کي يعارض ما صحّ عنه وعن غيره من أئمّة الأنّام عليهم الصّلوة والسَّلام من المنع عن قولها في الصلوة للمأموم وللإمام، أو أنّه فعيلُّ والالف لاشباع الحرکة لعدم کون فاعيل وافعيل وغيعيل من أوزان کلمات العرب کما عن أبي عليّ.

وجوَّز نجم الائتة أنّ يکون أصله امين بالقصر، ثمّ مدّ فيکون عربيّاً مصدرا

في الأصل کالنذير والنکير، جعل إسم فعل.

وفي الکشّاف أنّه صوت يُسمّي به الفعل الذي هو استجب کما أنّ رويد

وحيهل وهلمُّ أصوات سميّت بها الأفعال الّتي هي أمهل وأقبل وأسرع.

وفي المصباح المنير: أمين بالقصر في الحجاز، وبالمدّ في لغة بني عامر والمدّ إشباع بدليل أنّه لا يوجد في العربيّة کلمة علي فاعيل، ومعناه اللّهم استجب .

وقال أبو حاتم : معناه يکون کذلک، وعن الحسن البصري : أنّه إسم من أسماء

الله تعالي.

والموجود في مشاهير الأصول المعتمدة أنّ التشديد خطأ، وقال بعضُ أهلِ

ص: 683

العلم: التّشديد لغة قديم وهو وَهَم قديم، وذلک أنّ أبا العباس أحمد بن يحيي قال : وأمين مثل عاصين لغة فتوهّم أنّ المراد صيغة الجمع لا أنّه قابله بالجمع، وهو مردود بقول ابن جني وغيره أنّ المراد موازنة اللّفظ لا غير، ويؤيده قول صاحب التمثيل في «الفصيح» والتشديد خطأ، ثم المعني غير مستقيم علي التشديد، لأنّ التقدير ولا الضّالّين قاصدين إليک وهذا لا يرتبط بما قبله.

قلت : ولعلّه جعله حالا من الفاعل فعاد نقضاًعلي المطلوب، وأمّا علي ما ذکرناه سابقاً فلا محذور، غير أنّ الظّاهر أنّه اسم فعل لا إسم فاعل بمعني إستجب بني علي الحرکة لالتقاء السّاکين والفتح للخفّة.

وفي القاموس آمين بالمدّ والقصر وقد يشدد الممدود ويمال أيضا.

عن الواحدي في «البسيط»: إسمُ من أسماء الله أو معناه أللهم إستجب، او

کذلک فليکن، أو کذلک فافعل :

وعن ابن الأثير هو إسمُ مبنيّ علي الفتح ، ومعناه : اللّهم استجب لي، وقيل :

معناه کذلک فليکن، بمعني الدّعاء، وعن المغرب معناه إستجب.

وبالجملة فالظّاهر کونه إسماً مبنيّاً علي الفتح لطلب الحاجة، وهو بالتخفيف والتّشديد لغة أو غلط کما أنّ الاکثر مدّه، و به ورد في الأدعية الکثيرة عن أهل بيت العصمة ، وأنّشد مجنون بني عامر: يا رب لا تسلبنيّ حبَّها أبداً ويرحم الله عبداً قال آمينا

نعم قد يقصّر لضرورة الشعر کقوله: تباعد عنّي فطحل إذ سئلته أمين فزاد الله ما بيننا بُعداً

وتقديمه علي الدّعاء المزيد الإهتمام، ويظهر من صريح بعض کظاهر آخرين

جواز قصره في غير الضَّرورة.

لکن الخطب فيه سهل کسهولته في القطع بعدم إستحبابه في الصّلوة بعد

ص: 684

الفاتحة للمتفرد والإمام والمأموم جهريّة کانت الصّلوة أو اخفاتيّة، وأنّما هو من بدع أهل البدعة المتّسمين باسم الشنة للتّضاد لرواية رواها أبو هريرة الّذي کان اکذب النّاس أو أکذب الأحياء علي رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم ان کما روي عن مولانا أميرالمؤمنين عليه السلام، بل عن الجاحظ في التوحيد أنّ أبا هريرة ليس بثقة في الرواية عن رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم، قال : ولم يکن عليُّ يوثقة في الرّواية بل يتّهمه، ويقدح فيه، وکذلک عمر، وعائشة

وفي مناقب الخوارزمي : أنّ رجلاً سئل أبا هريرة بصفّين في مجلس معاوية فقال : انشدک بالله ان سالتک عن حديث سمعته عن رسول الله و أتجيبني ؟ قال : نعم، قال الرجل : أسمعتَ رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم يقول لعلي عليه السلام من کنت مولاه فعليّ مولاه اللّهم وال من والاه وعاد من عاداه قال : نعم.

قال : فإنّي رايتک واليت أعدائه، وعاديت أوليائه ، فقال أبو هريرة: إنّا لله وإنا

إليه راجعون.

بل قد يحکي عنهم أنّه اتّفق له مع عمر بن الخطاب واقعة شهد فيها عليه بانّه عدو الله وعدّو للمسلمين، وحکم عليه بالخيانة وأوجب عليه عشرة ألف دينار وألزمه بها بعد ولاية البحرين.

وحکي أبو المعالي الجويني الشّافعي المعروف بامام الحرمين عدم عمل أبي حنيفة برواية أبي هريرة إلي غير ذلک مما إشتهر عنهم فضلاً عن غيرهم في القدح فيه وفي غيره ممّن إستندوا اليه في هذا الحکم وغيره.

هذا مضافاً إلي الإحتياط اللازم المراعاة في مهيّة العبادات ومرجعه إلي قاعدة الاشتغال، وانّ ترک التأمين لا يقدح في صحّة العبادة إجماعاً من الفريقين ، وفعله بدعة يوجب بطلان العبادة عند الإمامية الذين استفادوا علومهم واحکامهم من أئمتّهم. أهل البيت الذينهم أدري بما في البيت، مع أنّه قد صحَّعن

ص: 685

النبي صلي الله عليه وآله وسلم بين الفريقين أنّ هذه الصّلوة لا يصلح فيها شيء من کلام الآدمييّن، ومن البيّن أنّ قول آمين، من کلامهم أما علي کونه سريانيّاً أو عبرّياً أو معرّباً حسبما ذهب إلي کلّ منها فريق منهم کما مر فواضح.

وإمّا مع کونه عربيّاً فلأنّ المراد من کلام الآدمييّن ما ليس بقرآن ولادعاء ولا تسبيح ولا ذکر، ولذا قال صلي الله عليه وآله وسلم بعد الخبر المتقدّم إنّما هي التّسبيح والتکبير وقراءة القرآن أمّا عدم کونه قراناً فظاهر کظهور عدم کونه تسبيحاً وأمّا عدم کونه دعاء فلانّه اسمُ للدعاء الّي هو إستجب کما صرّح به البيضاوي وغيره، والإذن في أحدهما لا يستلزم الإذن في الآخر.

بل ذکر السيّد المرتضي رضي الله عنه في «الانتصار» أنّه لا خلاف في أنّ هذه اللّفظة ليست من جملة القرآن ولا مستقلّة بنفسها في کونها دعاء وتسبيحاً فجري التّلفظ بها مجري کل کلام خارج عن القرآن والتّسبيح والدّعاء.

وعن التّنقيح : إتفق الکلّ علي أنّها ليست قرآنا، وإنّما هي اسمُّ للدعاء،

والاسم غير المسمّي.

وفي کشف اللّثام بعد أنّ حکي عن «الخلاف» تعليل البطلان بانّه من کلام الآدميين الّذي لا يصلح قال : وهو مبنيّ علي أنّه ليس دعاء کما هو المشهور المروي عن النبي صلي الله عليه وآله وسلم مرفوعاً في «معاني الأخبار» عن الصّادق عليه السلام ، وانّما هو کلمة تُقال أو تکتب للختم کما روي آنها خاتم رب العالمين ، وقيل : إنّها تختم بها برائة أهل الجنّة وبرائة أهل النّار.

ثمّ إنّه مع کونها من أسماء الأفعال فقد سمعت أنّ معناه لفظ إستجب أو غيره ممّا مرّت حکايته عن القاموس وغيره، بل عن بعض الأجلّة أنّها إسم للفظ الفعل باجماع أهل العربيّة ، قال : بل هو بديّهي عندهم.

لکنّه في «الحدائق» إستظهر گونه دعاء کقولک: أللهمّ أستجب، قال : وقد

ص: 686

صرّح بذلک نجم الأئمّة الرضي رضي الله عنه فقال : وليس ممّا قال بعضهم إن صَه مثلاً إسمُ للفظ اسکت الذي هو دالّ علي معني الفعل ، فهو عَلَم للفظ الفعل لا لمعناه بشييء لأنّ العرّبي القُح يقول: صَه مع أنّه ربما لا يحضر في باله لفظ أسکت ، وربّما لم يسمعه أصلاً ولو قلت اسمُّ لاصمت أو إمتنع، او أکفف عن الکلام أو غير ذلک ممّا يؤدي هذا المعني لصحّ، فعلمنا أنّ المقصود المعني لا اللّفظ.

قلت وفيه : أنّ الظّاهر من کلام أهل الّلغة بل صريح غيرهم أنّها موضوعة اللفظ الفعل، ولذا سمّيت بأسماء الأفعال، وان کان ربما يکتفي في الإضافة بأدني الملابسة لکنّه بمجرّده غير دافع للظّاهر، بل قد سمعت من غير واحد من الأساطين دعوي الإتّفاق علي ذلک، نعم في «التصريح» أنّ أسماء الأفعال هل هي أسماء الألفاظ الأفعال، أو لمعانيها من الأحداث والأزمنة، أو أسماء للمصادر النّائبة عن الأفعال أو هي أفعال أقوال :

قال بالأول جمهور البصرييّن، وبالثّاني صاحب البسيط، ونسبه إلي ظاهر

قول سيبويه والجماعة، وبالثالث جماعة من البصريّين، وبالرّابع الکوفيون.

وعلي القول بانّها أفعال حقيقة أو أسماء لألفاظ الأفعال لا موضع لها من الإعراب عند الأخفش وطائفة، واختاره ابن مالک، وعلي القول بأنّها أسماء للمصادر التائبة عن الأفعال موضعها بأفعالها النّائبة عنها لوقوعها موقع ما هو في موضع نصب ، وهو قول المازني.

والصّحيح أنّ کلّاً منها إسم لفعل، وأنّه لا موضع لها من الأعراب : انتهي.

ومنه بل ومن غيره ممّا مرّ يظهر قوة القول المذکور مع المنع من التبادر الّذي قد استدلّ به نجم الأئمّة، مع أنّ المعني الفعلي لا يمکن وضع الإسم له ضرورة المغايرة الظّاهرة المانعة عن ذلک.

واستبعاد الوضع للفظ غير مسموع بعد تصريح أئمّة الفّن.

ص: 687

علي أنّه قد يقال بالبطلان أيضاً ولو مع تسليم کون معناه إستجب، أو اللّهم إستجب أو غير ذلک ممّا مرّ نظراً إلي إعتبار ورودها عرفاً بعد الدعاء دون القرآن، ودون إنفرادها فلا يکون حينئذ دعاءً، ولذا قيل إنه لو قال : اللّهم إستجب لم يجز فکذا ما بمعناه.

بل ذکر بعض المشايخ انّه لو قيل : إن معناه کذلک فليکن، أو کذلک فافعل، لم يجز قطعاً للزوم تعقبها للدعاء حينئذ، قال : ودعوي الإکتفاء بتعقبّها لما يصلح للدّعاء وان لم يکن ذلک أو منع إعتبار وقوعه بعده فيها علي التفسير الأوّل لها، وهو المعني المعروف، إذ لا مانع من إرادة طلب الاستجابة لکلّ ما دعي به في الزّمن السّابق، ويدعو به في الزّمن اللّاحق، أو يلتزم قصد الدّعائيّة مع القرانية ولا تنافي بينهما، وإن حکي عن «تبيان» الشّيخ المنعُ من جمعهما بالقصد للزوم إستعمال المشترک في معنييه ، إذ التّحقيق ضعفه بما في «الذکري» من أنّ المعني هنا متّحد، وهو الدّعاء المنزل قراناً، ومن المعلوم أنّ الله إنّما کلَّف بهذه الصيغة لإرادته الدعاء ، فکيف يبطل الصلوة بقصده، فإذا صحّ وقوعها حينئذٍ بعد المقصود به الدّعاء من القرآن صحّ بعد غيره، لعدم القول بالفصل.

يدفع الأول منها شهادة تتبّع إستعمالها ومعلوميّة قبح وقوعها بعد غير المقصود به الدّعاء من اللغو والهذر، وإن کان صالحاً لأنّ يقصد به الدعاء علي معني

طلب الإستجابة فعلية السؤال الأوِّل قطعاً.

بل والثاني أيضاً، وصحّته مستقلّا في اللّهم إستجب مثلاً لا يقتضي صحّته في آمين، والعرف أعدل شاهد علي ذلک، وقد سمعت نفي الخلاف في «الانتصار» علي عدم کونها دعاء مستقلاً

والثّالث بمنع جواز القصد بهما أوّلاً بناءً علي ما عندهم من وجوب تعيين

المشترک بالقصد والنيّة کما ذکروه في البسملة، وان کان قدينا قش فيه.

ص: 688

اللّهم إلا أنّ يفرّق بانّه لا ينافي القرآن بقصد الدّعاء بالمنزل منه، ولا يوجب الإشتراک لاتّحاد المعني، بخلاف غيره من المشترک بين القرآن وغيره فلاحظ وتأمل.

وثانياً بالقلب علي معني عدم الصّحة إذا لم يقصد کما هو الغالب في القارئين

من العرب والعجم ولا قائل بالفصل.

قلت : هذا غاية ما قيل أو يمکن أنّ يقال في المقام لکنّها لتطرّق وجوه المناقشة إليها لا تنهض باثبات المرام لظهور صدق الدّعاء علي اللّفظ الدّال علي

طلب الإجابة وسؤالها، ولو باعتبار وضعه للّفظ إستجب ونحوه ، فان المدار علي دلالته عليه و استفادة ذلک منه ولو بالواسطة، بل ولو مع عدم قصد الداعي للدّعاء وعدم انشائه لذلک، فإنّ العبرة في مثل ذلک بصلاحيّة اللّفظ وکونه موضوعاً لذلک مستعملاً في هذا المقصد لا بفعليّة القصد والإنشاء کما هو الحال في الأدعية الکثيرة المشتملة علي هذه الکلمة وغيرها المندوب قرائتها للقاصد المتذکّر وغيره، بل للعجمي البَخت الذي لا يفهم المعني أصلاً فضلاً عن أنّ يکون في مقام الطّلب والسّؤال کي يکون تلاوته دعاء، ضرورة کونه دعاء بملاحظة نفسه مع قطع النظر عن أحوال الدّاعي به وإن کان مراتب فضل قرائته تختلف باختلاف مراتب أحواله .

وامّا المنع من جواز قصد الدّعاء بالقرآن بل التأمّل في رجحانه فضلاً عن جوازه فغريب جدّاً، وأغرب منه توهم کونه من باب إستعمال المشترک في معنييه .

بل وممّا ذکرناه يظهر النظر فيما ذکره السيّد في «الغنيه» ايضاً لا في قوله : ولا يقول : آمين اخر الحمد بدليل الإجماع المشار اليه ، وطريقة الاحتياط واليقين ببرائة الأمة من الصّلوة فانّه جيّد وجيه.

بل في قوله بعد ذلک : وقولهم لفظة آمين وإن لم يکن دعاء ولا تسبيحاً ولا من جملة القرآن فهي تأمين علي دعاء تقدّم عليها ، وقوله : إهدنا الصّراط المستقيم

ص: 689

لا يصحّ الاعتماد عليه لأنّ اللفظ إنّما يکون دعاء بالقصد إلي ذلک، والقاري إنَّما يقصد التلاوة دون الدّعاء، ولو قصد الدعاء دون التّلاوة لم يکن قارياً للقرآن ولم يصح صلوته، وإن جاز أنّ يقصد التّلاوة والدعاء معاً جائز منه أنّ لا يقصد الدّعاء واذا لم يقصده لم يجز أنّ يقول امين ، والمخالف يقول إنّها مسنونة لکلّ مصلٍّ من غير أنّ يعتبر قصده الدعاء، وإذا ثبت أنّ قولَها لا يجوز لمن لم يقصده ثبت أنّه لا يجوز لمن قصده، لأنّ احداً لم يفرّق بين الأمرين، إذ فيه المنع من إنتفاء القراءة إذا کان داعياً بالقرآن، بل لعلّه القسم الأخير الّذي ظاهره تسليمه من هذا الوجه وإن ناقش فيه من وجه آخر.

مدفوع بجواز التّعبد به علي فرضه بمجرّد الصلوح ولذا ورد في القدسيّات:

قسمتُ فاتحة الکتاب بيني وبين عبدي، فنصفها لي ونصفها لعبدي، ولعبدي ما سئل إلي أنّ قال فاذا قال العبد : إهدنا الصّراط المستقيم إلي آخر السّورة قال الله جل جلاله هذا لعبدي، ولعبدي ما سئل فقد استجبت لعبدي وأعطيته ما أمّل وأمنته

ممّا منه وجل(1)رواه في العيون وتفسير الامام عليه السلام عن مولانا الصادق عن النبي صلي الله عليه وآله وسلم

عزّوجلّ. وحاصل الکلام أنّ هذه الوجوه الّتي علّلوا الحکم بها إن کان المقصود بها إبطال مذهب العامّة في توهّمهم تشريع هذه البدعة فالأولي ترک محاجتّهم بها إذ الأدلّة والوجوه الضّعيفة ربّما توجب وهن المدّعي وضعفه في نظر بعض القاصرين التوهّهم إنحصار الدّليل فيها، وإن کان المقصود إبطال القول بالکراهة أو الحرمة من غير ابطال الصلوة کما ربما يُعزي إلي بعض أصحابنا فالأولي الاستدلال بظهور إجماعهم علي ذلک، بل قد سمعتَ عن الإنتصار والغنية عليه الإجماع کما هو

ص: 690


1- عيون الأخبار ج 1 ص 301.

المحکي أيضاً عن الخلاف و«التّحرير» و«نهاية الاحکام» و«التذکرة» و«احقاق الحق» وظاهر «کشف الالتباس» و «المنتهي» و «جامع المقاصد» وغيره.

بل عن الصّدوق في أماليه من دين الإماميّة الإقرار بانّه لا يجوز قول آمين بعد فاتحة الکتاب، وفي «الفقيه» أيضاً: لا يجوز، لأنّ ذلک کان يقوله النصاري، وفي «المقنعة» للمفيد : ولا يَقُل بعد فراغه من الحمد آمين کقوله اليهود، وإخوانهم النصّاب إلي غير ذلک من تضاعيف کلماتهم وحکاية إجماعاتهم الّتي يستفاد منها أنّ طلب ترکه بل حرمته وبطلان الصَّلوة به مذهب أهل بيت الّذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرّهم تطهيراً.

ولذا استفاضت بها أخبارهم کالصّحيح عن مولينا الصّادق عليه السلام إذا کنتَ خلفَ إمام قرء الحمد تفرّغ من قرائتها فقل أنّت الحمد لله ربّ العالمين، ولا تقل آمين(1)

وصحيح زرارة عن مولينا الباقر عليه السلام ولا تقولن إذا فرغت من قرائتک : آمين

فإن شئتَ قلت : الحمد لله ربّ العالمين (2)

وصحيح الحلبي وان کان فيه محمّد بن سنان للاعتماد به بل عن جامع البزنطي روايته باسناد آخر عن الصّادق عليه السلام انّه سئله أقول إذا فرغت من فاتحة الکتاب امين قال لا (3) .

وعن دعائم الاسلام مرسلاً عنهم عليه السلام : انهم حرموا أنّ يقال بعد قراءة فاتحة الکتاب امين کما تقول العامة قال جعفر بن محمد إنما کانت النصّاري تقولها، وعنه عن آبائه عليه السلام قال قال رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم: لا تزال أمتّي بخير وعلي شريعة من دينها حسنة جميلة مالم يتخطّوا القبلة باقدامهم ولم ينصرفوا قياماً کفعل أهل

ص: 691


1- الکافي ج 1 ص313ح 5 - تهذيب الأحکام ج 2 ص 74ح275.
2- علل الشرايع ج 2 ص 67.
3- التهذيب ج 2 ص 76ح 276.

الکتاب ولم تکن لهم ضجّة بآمين (1)

وفي مجمع البيان عن فضل بن يسار عن أبي عبدالله عليه السلام قال إذا قرءت

الفاتحة وقد فرغت من قرائتها وأنّت في الصلوة فقل الحمد لله رب العالمين(2)

وصحيح معاوية بن وهب : أقول آمين إذا قال الامام غير المغضوب عليهم

ولا الضالين فقال عليه السلام هم اليهود والنصاري (3)

اي الفرقتان المشار اليهما في الاية، أو الذين يقولون آمين بعدها هم اليهود

والنصاري من هذه الأمّة والّا فمن البيّن أنّ اليهود والنّصاري لا يقرؤن الحمدکي يقولوا بعده آمين ، ولعلّ الأخير أظهر بل هو المتعّين لمن تدّبر.

ولذا قال شيخنا الشارح: أنّ فهم السائل بقرينة ما زاده في الوسائل في الخبر : ولم يجب من هذا أنّ هذا جواب للمراد بالضالين لا لسئواله ليس حجّة فلا حاجة حينئذٍ لحمله علي ترک الجواب للتقنية بل يمکن ارادة الامام في الجواب الجمع بين التقيّة وسؤال السّائل بالإيهام في العبارة.

ومن هذا کلّه يظهر ضعف القول بالکراهة علي فرض القائل به وإن لم أحققه

عن احد من المتقدّمين.

نعم قد يحکي عن الإسکاني وأبي الصّلاح لکن قد يقال : إنّهما مع کونها غير قادحين فيه قد حکي عن ثانيهما في «الذکري» أنّه لم يتعرَّض لذلک بنفي ولا إثبات کابن أبي عقيل، والجعفي، وصاحب الفاخر، ولا صراحة في کلام أولهما بل ظاهر بعض کلامه المحکي عنه الموافقة .

ص: 692


1- دعائم الاسلام ج 1 ص 160.
2- مجمع البيان ج 1 ص 31.
3- التهذيب ج 2 ص 74 ح 275 وعنه الوسائل ج 6 ص 67 ح 7363 وقال المصنف : عدول الامام علي عن الجواب للتقية دليل علي عدم جواز التأمين

قال : ولا يصلّ الإمام ولا غيره قراءة ولا الضّالين بأميّن لأنّ ذلک يجري مجري الزّيادة في القرآن ممّا ليس منه ، وربما سمعها الجاهل فقرأها من التنزّيل .

وقد روي سمرة وأبّي بن کعب السکتين ولم يذکرا فيها آمين، ثمّ قال بعد ذلک : ولو قال المأموم في نفسه : اللّهم اهدنا إلي صراطک کان أحبّ إلي : لأنّ ذلک ابتداء دعاء منه ، وإذا قال آمين تاميناً علي ما تلاه الإمام صرف القراءة إلي الدّعاء الذي يؤمن عليه سامعه.

قلت ولعلّ نهيه الأول أنّ لا يريد المحبة المقتضية للجواز وأمّا حکاية السکتين فإشارة إلي ما روي من السکتين اللّتين کانتا لرسول الله صلي الله عليه وآله وسلمفي القراءة وإن اختلفت الرواية في موضعهما. فعن مولينا الصّادق عليه السلام أنّ رجلين من أصحاب رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم

به اختلفا في صلوة رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم، فکبتا إلي أبّي بن کعب کم کانت لرسول الله من سکتة قال : کانت له سکتتان : سکتة إذا کبر، وسکتة إذا فرغ من قراءة أمّ القرآن (1)

وعن ابن الجنيد أنّه روي سمرة وأبّي بن کعب عن النبي صلي الله عليه وآله وسلم أنّ السّکتة

الأولي بعد تکبيرة الافتتاح، والثّانية بعد الحمد.

وقد مرّت رواية الخصال (2) في المقدّمة فلاحظ.

وعلي کلّ حال فلا ريب في ضعف القول المذکور وشذوذه کشذوذ القائل به ، وإن احتمله المحقّق في المعتبر مستدلّاً له بما رواه الحسين بن سعيد عن ابن أبي عمير عن جميل في الصّحيح قال : سئلت أبا عبدالله صلي الله عليه وآله وسلم عن قول النّاس في الصلوة جماعة حين يقرأ فاتحة الکتاب آمين ؟ قال : ما أحسنها وأخفض الصّوت بها (3)

ص: 693


1- المستدرک الباب 34 من ابواب القراءة في الصلاة ح 1 - 2.
2- الخصال للصدوق ج 1 ص74ح 116.
3- الوسائل ج6 ص 68 ح7366.

إذ فيه مع حمله علي التّعجب انّه مخالف لإجماع الإماميّة بل لضرورة

مذهبهم، لعدم قائل منّا بالاستحباب، بل يعرف انکاره من مذهبنا کلّ مخالف ومؤالف، فيجب حمله علي التقيّة ، سيما مع اشتماله علي الأمر بخفض الصّوت الذي هو عندهُم، مستحبّ في مستحبّ.

ومع حمله علي نفي التّحسين واستفادة الجواز عن الأمر بخفض الصَّوت بها أنّه مخالفُ للظّاهر المنساق، بل قد يقال للإجماع أيضاً، إذ المتبادر من الإقتصار علي نفي الحسن انتفاء القبح ايضاً.

مع أنّه من المحتمل لو لم يکن الظّاهر أنّ قوله ما أحسنها علي صيغة التکلّم من الإحسان أو التّحسين بمعني الحکم بالحسن وقوله : أخفض الصّوت بها علي صيغة الماضي من کلام الراوي لا من کلام الامام وهو مشعر بالتقيّة وتعبير به عن طلب ترکه .

وبالجملة فالقرائن الداخلية والخارجة متطابقة علي ورود الرّواية مورد التّقيّة إن لم تحمل علي ما ذکرناه لموافقتها للعامّة الّذي جعل الله الّرشد في خلافهم، ولذا أجمعت الطّائفة المحقّة علي الحرمة بل وعلي بطلان الصّلوة بها لظهور التّعبير عنه بالنّهي وبالحرمة في الأخبار المتقدّمة، وفي فتاوي الجماعة ولذا لم يفصل أحدُ منهم بين الأمرين عدي صاحب المدارک الّذي سبقه الإجماع ولحقه مضافاً إلي الأخبار الکثيرة المتقدمة الظّاهرة في عدم مطلوبيّة العبادة علي هذا الوجه ، بل عدم کونها حينئذ متعلّق الأمر باعتبار إشتمالها علي التشريع المحرم الّذي هو بدعة، وکلّ بدعة ضلالة، وکلّ ضلالة سبيلها إلي النّار.

هذا مضافاً إلي قاعدة التوظيفيّة ولزوم تحصيل البرائة عن الاشتغال بالعبادة

وغيرها من الأصول والقواعد، فضلاً عن خصوص النّصوص.

ص: 694

فضل سورة الفاتحة

ثانيهما في فضل هذه السورة المبارکة ويدلّ عليه مضافاً إلي ما سمعت من إشتمالها علي الحقائق الکليّة والعلوم الالهيّة، ونعوت الجمال والجلال، واسرار المبدأ والمعاد، وإرشاد العباد إلي طريق السداد، وغير ذلک کما مرّ تفصيل الکلام فيه، جملة من النّصوص المأثورة عن أهل الخصوص.

ففي «عدّة الدّاعي» وغيرها عن جعفر بن محمّد عن أبيه عن آبائه عليه السلام عن النبيي صلي الله عليه وآله وسلم

قال : لمّا أراد الله عزّوجلّ أنّ ينزّل فاتحة الکتاب، وآية الکرسي، وشهد الله، وقل اللّهم مالک الملک إلي قوله بغير حساب تعلقّن بالعرش وليس بينهنَّ وبين الله حجاب ، فقلن : يا ربّ تهبطنا إلي دار الذّنّوب، وإلي مَن يعصيک ونحن متعلقّات بالطهور والقدس، فقال سبحانه: و عزّتي وجلالي ما من عبد قرأ کُن َّفي دبر کلّ صلوة إلّا أسکنتُه حظيرة القدس علي ما کان ، وإلّا نظرت إليه بعيني المکنونة في کلّ يوم سبعين نظرة، وإلا قضيت له في کل يوم سبعين حاجة أدناها المغفرة، ولأعَذتُه من کلّ عدوٍ ونصرته عليه، ولا يمنعه دخول الجنّة إلّا الموت (1)

وفي الأمالي لابن الشّيخ عن الصّادق عليه السلام قال : مَن نالته علّة فليقرء في جيبه الحمد سبع مرّات فإن ذهب العلّة وإلّا فليقرءها سبعين مرّة وأنّا الضّامن له العافية(2)

وفي العلل والعيون بالاسناد عن مولينا الرضا علي فإن قال : فلمَ أمِروا بالقراءة في الصَّلوة ؟ قيل : لئلّا يکون مهجوراً مُضيَّعاً، وليکون محفوظاً مدروساً، فلا

ص: 695


1- مجمع البيان ج 1 ص 426 وعنه کنز الدقائق ج 1 ص6.
2- أمالي الطوسي ج 1 ص 290 وعنه البحار ج 92ص 231ح13.

يضمحلّ ولا يجهل.

فإن قال : فلم بُدءِ بالحمد في کلِ قراءة دون سائر السّور ؟ قيل : لأنّه ليس شيء من القرآن والکلام جُمِع فيه من جوامع الخير والحکمة ما جُمع في سورة الحمد ، وذلک أنّ قوله: «الحمد لله» إنما هو أداءُ لما أوجب الله تعالي علي خلقه من الشکر، وشکر لما وفُق عبده للخير، «ربّ العالمين» تمجيد له، وتحميد، وإقرار بأنّه هو الخالق المالک لا غيره، «الرحمن الرحيم» استعطاف وذکر لآلائه، ونعمائه علي جميع خلقه «مالک يوم الدّين» إقرارُ بالبعث والحساب والمجازات، وايجاب له ملک الآخرة کما أوجب له ملک الدنيا «اياک نعبد» رغبة وتقرّب إلي الله تعالي واخلاص بالعمل له دون غيره «واياک نستعين» استزادة من توفيقه وعبادته واستدامة لما أنّعم عليه ونصره، «اهدنا الصّراط المستقيم» إسترشاد لأدبه واستعصام بحبله واستزادة في المعرفة بريه وبعظمته وکبريائه: «صراط الّذين أنّعمت عليهم» توکيد للسوال والرّغبة ، وذکر لما تقدّم من نعمه علي أوليائه، ورغبة في مثل تلک النعم: «غير المغضوب عليهم» إستعاذة عن أنّ يکون من المعاندين الکافرين المستخفين به وبأمره ونهيه، «ولا الضّالين» إعتصام من أنّ يکون من الضّالين الذين ضلّوا عن سبيله من غير معرفة، وهم يحسبون أنّهم يحسنون صنعاً .

فقد إجتمع فيه من جوامع الخير والحکمة في أمر الآخرة والدّنيا مالا تجمعه

شيء من الأشياء (1)

وفي «العيون» و«تفسير الامام عليه السلام » قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام : فاتحة الکتاب أعطاه الله محمّداً صلي الله عليه وآله وسلم وأمتّه بدء فيها بالحمد والثّناء عليه ثمّ ثني بالدّعاء لله عزّوجلّ، ولقد سمعت رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم، يقول : قال الله عزّوجلّ: قسمتُ الحمد بَيني وبين عبدي نصفين ، فنصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد :

ص: 696


1- علل الشرايع ج 1 ص247- عيون الأخبار ج 2 ص 107.

(بسم الله الرّحمن الرّحيم ) قال الله عزّوجلّ : بدأ عبدي باسمي وحق عليّ أنّ أتمم له أموره: وأبارک له في أحواله، فاذا قال : (الحمد لله ربّ العالمين) ، قال الله عزّوجلّ : حمدني عبدي وعلم أنّ النّعم الّتي له من عندي، وأنّ البلايا الّتي إندفعت عنه فبطوّلي (1) أشهدکم يا ملائکتي أنّي أضيف له نعمَ الدنيا إلي نعم الاخرة، وأدفع عنه بلايا الاخرة کما دفعت عنه بلايا الدّنيا.

واذا قال : (الرّحمن الرّحيم) قال الله عزّوجلّ : شهد لي عبدي بانّي الرّحمن الرّحيم ، أشهدکم لأوفِرنّ من رحمتي حظّه، ولأجزلنّ من عطائي نصيبَه ، فإذا قال : (مالک يوم الدّين ) قال الله تعالي : أشهدکم کما اعترف بانّي أنّا الملک يوم الدين الأسهلنَّ يوم الحساب عليه حسابه، ولأتقبلنّ حسناته، وتجاوزَنَّ عن سيتّاتِه ، فاذا قال العبد : ( إيّاک نعبد ) : قال الله تعالي : صدق عبدي إيّاي يعبد، أشهدکم لأثيبَّه علي عبادته ثواباً يغبطه کلّ من خالفه في عبادته لي، فاذا قال :( وإيّاک نستعين) قال الله عز وجلّ : بي استعان عبدي، وإليّ إلتجاً، أشهدکم لأعينَنَه في شدائده ولأخُدَنّ بيده يوم نوائبِه، فاذا قال : (اهدنا الصّراط المستقيم ). الخ قال الله عزّوجلّ : هذا لعبدي ولعبدي ما سأل، قد إستجبتُ لعبدي، وأعطيته ما أمّل، وأمنته

عمّا منه وَجِل(2)

وفي کتاب العلل لمحمّد بن عليّ بن ابراهيم في تفسير الحمد لله يعني الشکر الله وهو أمر ولفظه خبر، والأمر مضمر فيه، ومعناه قل (الحمد لله ربّ العالمين ) ومعني (ربّ) آي خالق و ( العالمين ) کلّ مخلوق خلقه الله، (الرحمن) بجميع خلقه ( الرّحيم) بالمؤمنين خاصّة(ملک يوم الدين) يعني يوم الحساب والمجازات، (اياک نعبد) مخاطبة من رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم عزّوجلّ و(ايّاک نستعين)

مثل ذلک، (إهدنا الصراط المستقيم).

ص: 697


1- في البحار : فبتطولي
2- تفسير الامام عليه السلام ص 27 - عيون الأخبار ج 1 ص300.

حدَّثني أبي عن جدّي ، عن حماد، عن الحلبي ، عن أبي عبدالله عليه السلام قال:

(الصّراط المستقيم) أمير المؤمنين ، (صراط الّذين أنّعمت عليهم غير المغضوب عليهم) يعني النّصاب ( لا الضّالين و اليهود والنّصاري.

ثمّ قال : إنّ أوّل ما نزل علي رسول الله عليه السلام بمکّة بعد أنّ نبيء الحمد (1)

في المجمع وجامع الاخبار بالاسناد عن أبّي بن کعب قال : قال رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم: أيّما مسلم قرأ فاتحة الکتاب أعطي من الأجر کانّما قرأ ثلثي القرآن، وأعطي من الأجر کانّما تصدق علي کلّ مؤمن ومؤمنة(2)

وفيهما أنّه روي هذا الخبر عن طريق آخر إلّا أنّه قال کانّما قرء القرآن.

وعن أبي قال : قرأت علي رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم فاتحة الکتاب فقال : والّذي نفسي بيده ما أنّزل الله في التوراة ولا في الانجيل ولا في الزّبور ولا في الفرقان مثلها وهي أمّ القرآن، وهي السبع المثاني وهي مقسومة بين الله وبين عبده ولعبده ما سئل (3)

وعن العيّاشي بالاسناد انّ النبي صلي الله عليه وسلم قال لجابر بن عبدالله الانصاري يا جابر ألا أعلمک أفضل سورة أنّزلها الله تعالي في کتابه ؟ قال : فقال له جابر: بلي بأبي أنّت وأمتي يا رسول الله علمنيها، قال فعلمه الحمد لله ام الکتاب، ثمّ قال يا جابر ألا أخبرک عنها؟ قال : بلي بأبي أنّت وأمّي فاخبرني قال هي شفاء من کلّ داء إلّا السّام، والسّام الموت (4).

وعن سلمة بن محرز عن الصّادق عليه السلام قال : من لم يبرئه الحمد لم يبرئه

شيء(5)

وعن أمير المؤمنين عليه السلام قال : قال رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم: أنّ الله عزّوجلّ قال لي: يا

ص: 698


1- بحار الأنّوار : ج 82 ص 51 - 53 کتاب الصلاة باب القراءة .
2- مجمع البيان ج 1 ص 17.
3- نفس المصدر
4- مجمع البيان ج 1 ص 17.
5- نفس المصدر .

محمّد (ولقد آتيناک سبعاً من المثاني والقرآن العظيم)(1) فأفرد الامتنان عليّ بفاتحة الکتاب، وجعلها نظير (2)القرآن وإنّ فاتحة الکتاب أشرف ما في کنوز العرش ، وان الله تعالي خصّ محمّداً وشرّفه بها ، ولم يشرک فيها أحداً من أنّبيائه ما خلا سليمان علي نبينا وآله وعليه السلام فانّه أعطاه ( بسم الله الرّحمن الرّحيم) ألا تري يحکي عن بلقيس حين قالت(إنّي القي إليّ کتاب کريم انّه من سليمان وانّه بسم الله الرّحمن الرّحيم)(3)

ألا فمن قرأها متعمّداً بموالات محمّد صلي الله عليه وآله وسلم منقاداً لأمرها مؤمناً بظاهرها وباطنها أعطاه الله عزّوجلّ بکلّ حرف منها حسنةً کلّ واحد منها أفضل له مَن الدنيا بما فيها من أصناف أموالها وخزائنها، ومن إستمع إلي قاريء يقرءها کان له قدر

ثُلثِ ما للقاريء، فليستکثر أحدکم من هذا الخير المعرض له فإنّه غنيمة لا يذهبن

أوانه فتبقي في قلوبکم الحسرة (4)

ومثله في تفسير مولينا العسکري عليه السلام (5)

وفي «المکارم» عن الصّادق عليه السلام : لو قررت الحمد علي ميّت سبعين مرّة ثمّ

ردّت فيه الرّوح ما کان ذلک عجباً (6)

ورُوي عن المفضل النوفلي مرفوعاً قال : ما قرءت الفاتحة علي وجع سبعين

مرّة إلا سکن (7)

وعن الباقر عليه السلام: من لم تبرئه الحمد لم تبرئه شيء.(8)

ص: 699


1- الحجر : 87.
2- في مجمع البيان : وجعلها بأزاء القرآن .
3- النمل : 29.
4- مجمع البيان ج 1 ص 18.
5- تفسير الامام علي وعنه البحار ج 92 ص 265.
6- مکارم الأخلاق ص 418 وعنه البحار ج 92 ص 257.
7- بحار الأنّوار ج 235/92 عن طب الأئمّة ص 54.
8- نفس المصدر عن طب الائمه ح 19.

وفي طبّ الأئمّة عن الصّادق عليه السلام قال : کان رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم اذا کسل أو أصابته عين أو صداع بسط يديه فقرء فاتحة الکتاب، والمعوذتين ثمّ يمسح بهما وجهه فيذهب عنه ما کان يجده(1)

وعن الباقر عليه السلام قال : من لم تبرئه سورة الحمد وقل هو الله أحد لم يبرئه شيء

وکلّ علّة تبرء بهاتين السّورتين(2)

وعن أحدهم عليهم السلام قال : ما قرءت الحمد علي وجع سبعين مرّة إلا سکن باذن

الله وإن شئتم فجرّبوا ولا تشکّوا(3)

وفي الخصال عن الصّادق عليه السلام قال : رنّ أبليس أربع رنّات : أولهنّ يوم لُعِن،

وحين أهبطِ إلي الأرض، وحينُ بعث محمّد صلي الله عليه وآله وسلم علي حين فترة من الرسل، وحينُ أنّزلت أم الکتاب (4)

وفي تفسير القمي عنه عليه السلام مثله لکنّه إقتصر فيه علي الأخيرتين(5)

الحمد لله أوّلاً وآخراً وظاهراً وباطناً والشکر له علي أنّ وفّقني علي تحقيق هذا السِفر القيّم الکريم في تفسير فاتحة الکتاب من الصراط المستقيم تأليف العالم الجليل والجِبر المفسّر النبيل آية الله العظمي السيّد حسين البروجردي قدّس الله سرّه.

وساعدني علي طبعه السيّد الجليل المتّقي التقي بن السيّد الجليل طالب

البهبهاني طاب ثراهما.

وأنّا العبد الذليل غلام رضا بن علي أکبر مولانا البروجردي الراجي رحمة

ربّ العالمين ، تمّ التحقيق في غرّة رجب المرّجب سنة1421.

ص: 700


1- نفس المصدر ح18.
2- نفس المصدر ح 19.
3- طب الائمة ص 56 وعنه البحار ج 235/92ح 21.
4- الخصال ج 1 ص 263 باب الأربعة ح141.
5- تفسير القمي ج 1 ص 29 وفيه : إنّ إبليس أنَّ أنّينا .

فهرس الموضوعات

*

ترجمة المؤلف ............

مشايخه وأساتذته...........

کلمات العلماء في حقه .......

وفاته ........................

آثاره العلمية ..............

کلمة حول الصراط المستقيم أولاده..................

سورة الفاتحة .................

السورة في الاصطلاح .............

أسماء السورة المبارکة .

الکتاب التدويني والتکويني .......

عدد آياتها وکلماتها ................

الاستعاذة . حکم الاستعاذة ...........................

محل الاستعاذة في الصلاة المستعاذ منه .

تبصرة عرفانية ................

تنبيه...........................

بسم الله الرحمن الرحيم...............

الفصل الأول : الباء..............

ص: 701

الفصل الثاني : في الإسم...........

استبصار..................

تنبيه نبيه .................

إشارة لأهل البشارة..................

الفصل الثالث: في المباحث المتعلقة بلفظة الله..............

تجديد للکلام وعود للمرام ...........

إيراد مقال لدفع إشکال .................

ايقاظ و استيفاق في تحقيق الاشتقاق ..................

الفصل الرابع : في المباحث المتعلقة بالإسمين العظيمين الکريمين

210 ايران مقال لدفع إشکال .................................

تنبيه................

تبصرة ..............

ختام وتکملة في انتظام الأسماء الثلاثة في البسملة

تتمة مهمة في فضائل البسملة المروية عن الأئمة الا ................... الفصل الأول : فيما يتعلق بالحمد....................................

تبصرة عرفانية ....................................

نفحات قدسية ...................

درة بيضة في حقيقة اللواء...........

تنبيه....................

اشارة الي معني الألف واللام في الحمد.............

الفصل الثاني : فيما يتعلق بقوله تعالي وللهم .......

الفصل الثالث : في معني کلمة ورته ...............

تبصرة ..............

ص: 702

إحقاق وإزهاق.............................

تتميم نفعه عميم ..........................

عود إلي الحقيق بطرز أنّيق .......

نفحات غيوبية في أنّ العبودية جوهرة کنهها الربوبية

إشارة إلي ما يسمونه برب النوع .............................

الفصل الرابع : في البحت عن قوله تعالي في العالمين

تنبيه.................

إزهاق وإحقاق.............................

نمط آخر في تعدد عالم الأکوان ..

تذييل و تکميل .................

وصل..............................

ايراد کلام لنقض ابرام ....................

القراءة ................................

تنبيه..................................

معترضة استطرادية في مسألة فقهية ..........

فصل: الدين .......................

تبصرة ............................

إياک نعبد ..................

اللغة والقراءة : بحث نحوي في اياک.............

نقل وافادة في تحقيق العبادة ..............

في سر تقدم المفعول ............................

استکشاف واستعانة عن حقيقة الإستعانة .........

اهدنا الصراط المستقيم ..........

ص: 703

القراءة ......................................

دراية في معني الهداية ................

اشارة إلي مراتب الهداية ..............

کلام في المقام لبعض الاعلام........

ايراد ودفع .............................

کشف ايماني بتعليم رياني..............

ارشاد وهداية في تفسير الصراط.....

فتح الباب وکشف الحجاب ..........

ايراد کلام لدفع أوهام .........................

نقد و تحصيل. 000

تبصرة .................

بسط في الکلام لبيان معني الإنعام....

تتمة مهمة في أنّ النعمة هي الولاية ........

غير المغضوب عليهم ....................

القراءة والإعراب .........................

تحقيق لمعني الغضب .........................

نمط آخر من الکلام لتنقيح المرام ...............

تبصرة وإستبصار لمن أراد لحسن الإختيار ..

ختام به اتمام .........................

فضل سورة الفاتحة...........................

فهرس الموضوعات ................

ص: 704

ص: 705

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
هَلْ یَسْتَوِی الَّذِینَ یَعْلَمُونَ وَالَّذِینَ لَا یَعْلَمُونَ
الزمر: 9

عنوان المکتب المرکزي
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.