رقم الإيداع في دار الكتب والوثائق ببغداد 1082 لسنة 2019
مصدر الفهرسة :
IQKaPLI ara IQKaPLI rda
رقم تصنيف : LC BP37.6 .S58 2018
المؤلف الشخصي : الشريفي، احمد فاضل عبد زيد، مؤلف.
العنوان : المفسرون وأثرهم في إقصاء الامام علي (عليه السلام) عن فضائله : كتاب مفاتيح الغيب للفخر الرازي : دراسة تحليلية /
بيان المسؤولية : تأليف احمد فاضل الشريفي ؛ تقديم نبيل الحسني الكربلائي.
بيانات الطبع : الطبعة الأولى.
بيانات النشر : العراق، كربلاء : العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة، 2019 / 1440 للهجرة.
الوصف المادي : 362 صفحة ؛ 24 سم.
سلسلة النشر : (العتبة الحسينية المقدسة ؛ 530 ).
سلسلة النشر : (مؤسسة علوم نهج البلاغة؛ 162 ).
سلسلة النشر : (سلسلة الرسائل والأطاريح الجامعية، وحدة الدراسات التاريخية ؛ 35 ).
تبصرة عامة : اصل الكتاب اطروحة دكتوراه.
تبصرة ببليوجرافية: يتضمن هوامش، لائحة المصادر (الصفحات 329 - 363).
موضوع شخصي : الفخر الرازي، محمد بن عمر بن الحسن، 544 - 606 للهجرة – نقد وتفسير.
موضوع شخصي : الفخر الرازي، محمد بن عمر بن الحسن، 544 - 606 للهجرة – مفاتيح الغيب - شبهات.
موضوع شخصي : علي بن أبي طالب (عليه السلام)، الإمام الأول، 23 قبل الهجرة- 40 للهجرة – دفع مطاعن.
موضوع شخصي : علي بن أبي طالب (عليه السلام)، الإمام الأول، 23 قبل الهجرة- 40 للهجرة – فضائل.
مصطلح موضوعي : أحاديث أهل السنة – القرن 15 للهجرة.
مؤلف اضافي : شبهات ل (عمل) – الفخر الرازي، محمد بن عمر بن الحسن، 544 - 606 للهجرة – مفاتيح الغيب.
مؤلف اضافي : الحسني، نبيل قدوري، 1965 - . – مقدم.
اسم هيئة اضافي : العتبة الحسينية المقدسة. مؤسسة علوم نهج البلاغة. جهة مصدرة.
عنوان اضافي : مفاتيح الغيب، المعروف، بالتفسير الكبير.
تمت الفهرسة قبل النشر في مكتبة العتبة الحسينية
ص: 1
سلسلة الرسائل والأطاريح الجامعية وحدة الدراسات التاريخية (35)
جميع الحقوق محفوظة العتبة الحسينية المقدسة الطبعة الأولى 1440 ه - 2019 م
العراق - كربلاء المقدسة مجاور مقام علي الأكبر عليه السلام
مؤسسة علوم نهج البلاغة العتبة الحسينية المقدسة
ص: 2
هاتف: 07728243600 - 07815016633
الموقع الألكتروني: www.inahj.org
الإيميل: Info@Inahj.org
تنويه: إن الأفكار والآراء المذكورة في هذا الكتاب تعبر عن وجهة نظر كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر العتبة الحسينية المقدسة
تخلي العتبة الحسينية المقدسة مسؤوليتها عن أي انتهاك لحقوق الملكية الفكرية
ص: 3
بسم الله الرحمن الرحيم
«إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ »
صدق الله العلی العظیم
سورة المائدة الآية 55
ص: 4
ص: 5
أهدي هذا الجهد المتواضع إلى من قال عنه رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )
يا علي ما عرف الله إلا أنا وأنت وما عرفني إلا الله وأنت وما عرفك إلا الله وأنا
إلى إمام المتقين وسيد البلغاء والمتكلمين ومن فضائله ملأت ما بين الخافقين الإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام)
ص: 6
ص: 7
ص: 8
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله على ما أنعم وله الشكر بما ألهم والثناء بما قدم، من عموم نعم ابتدأها وسبوغ آلاء أسداها، وتمام منن والاها، والصلاة والسلام على خیر الخلق أجمعین محمد وآله الطاهرين.
أما بعد: فلم يزل كلام أمیر المؤمنین (علیه السّلام) منهلاً للعلوم من حيث التأسيس
والتبيین ولم يتقصر الأمر على علوم اللغة العربية أو العلوم الإنسانية، بل وغيرها
من العلوم التي تسیر بها منظومة الحياة وإن تعددت المعطيات الفكرية، إلا أن
التأصيل مثلما يجري في القرآن الكريم الذي ما فرط الله فيه من شيء كما جاء في
قوله تعالى: « مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ »، كذا نجد يجري مجراه في قوله تعالى:
﴿وَكُلَّ شَءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِینٍ﴾، غاية ما في الأمر أن أهل الاختصاصات في العلوم كافة حينما يوفقون للنظر في نصوص الثقلین يجدون ما تخصصوا فيه حاضرًا وشاهدًا فيهما، أي في القرآن الكريم وحديث العترة النبوية (علیهم السّلام) فيسارعون وقد أخذهم الشوق لإرشاد العقول إلى تلك السنن والقوانین اوالقواعد والمفاهيم والدلالات في القرآن الكريم والعترة النبوية.
من هنا ارتأت مؤسسة علوم نهج البلاغة أن تتناول تلك الدراسات الجامعية
ص: 9
المختصة بعلوم نهج البلاغة وبسیرة أمیر المؤمنین الإمام علي بن أبي طالب
(علیه السّلام) وفكره ضمن سلسلة علمية وفكرية موسومة ب (سلسلة الرسائل
والأطاريح الجامعية) التي يتم عبرها طباعة هذه الرسائل وإصدارها ونشرها في
داخل العراق وخارجه، بغية إيصال هذه العلوم الأكاديمية إلى الباحثين والدارسین
وإعانتهم على تبین هذا العطاء الفكري والانتهال من علوم أمیر المؤمنین علي
(علیه السّلام) والسیر على هديه وتقديم رؤى علمية جديدة تسهم في إثراء المعرفة
وحقولها المتعددة.
وما هذه الدراسة الجامعية التي بین أيدينا لنيل شهادة الدكتوراه في التاريخ الإسلامي إلا واحدة من تلك الدراسات التي وفق صاحبها وأجاد فيها، وقد اتخذت الدراسة أحد المفسرين الذين تعمدوا إقصاء أمیر المؤمنین (علیه السّلام) وهو استمرار للنهج الأموي، وبذل الباحث فيها جهدًا في بيان مواضع الإقصاء وتحليلها مستندا إلى الأدلة التي تفند رأي هذا المفسر وما ذهب إليه .
فجزى الله الباحث خير جزاء المحسنين فقد بذل جهده وعلى الله أجره.
والحمد لله رب العالمين.
السيد نبيل الحسني الكربلائي
رئيس مؤسسة علوم نهج البلاغة
ص: 10
بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله رب العالمین وأفضل الصلاة وأتم التسليم على خاتم الأنبياء والمرسلين النبي الأمین محمد وعلى آله الغر الميامین.
بعد التحاق الرسول (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) بالرفيق الاعلى انقلبت الأمّة وانقسمت إلى تيارات وأحزاب مختلفة الأهواء والغايات فكان كل واحد منها يطمح إلى الوصول إلى هدفه وغايته وكان الهدف الكبیر والرئيسي تسلم الرئاسة تحت مسمى الخلافة مع علم تلك الأحزاب وبالصورة اليقينية بمن نُصّب للخلافة وقيادة الأمّة بالأدلة
والبراهین والأحاديث الشريفة المؤكدة لذلك فكانت تلك الأحزاب مجتهدة في
إبعاد ذلك المنصب علي بن أبي طالب (علیه السّلام) عن مراكز القيادة أولاً ،والعمل على طمس كل مايدل على أحقيته بالخلافة وقيادة الأمّة ثانيا، فبدأت السياسة الاقصائية للامام (علیه السّلام) منذ قيام دولة الخلافة وكانت القيادات العليا جاهدة بالعمل على إقصائه من كل فضيلة، وتعدى الأمر اثناء حكم الدولة الأموية ( 41 ه/ 661 م-
132 ه/ 749 م) إلى محاسبة كل من حدث بفضيلة تخص علي بن أبي طالب (علیه السّلام) ومعاقبته، بل وحتى ذكر اسمه في سلسلة حديث نبوي فإذا أراد الراوي ذكر علي
ص: 11
في سند حديث قال عن أبي زينب تحاشيا لرقابة الأمويین وشرهم(1).
وهذا يدل على تكاتف تلك الحكومات في العمل لطمس فضائله (علیه السّلام) حتى وصل الأمر إلى دفع الاموال إلى المحدثين لوضع الفضائل الكاذبة إلى الخلفاء والحكام لرفعهم إلى مقامه (علیه السّلام)ورفع فضائله وطمسها بل وخلقهم المثالب له كي ينقصوا قدره (علیه السّلام)لكنهم باؤوا بالفشل لان الله اظهر تلك الفضائل وجعلها اشهر من أن تذكر.
ولم يقف الأمر إلى هذا الحد حتى أصبح علاء الأمة يسيرون على خطى الحكام
والامراء في اقصائهم له ودفعه عن فضائله ونسب بعضها إلى غيره والتقليل من
أهمية مناقبه وكان المحدثون هم السباقون في هذا المجال وتبعهم في ذلك المفسرون والمؤرخون حتى أصبح الأمر منهجاً ثابتاً عندهم وغلبت عليهم العصبية في عقائدهم فراحوا يسيرون في وادي الاقصاء من دون أي اكتراث لحقيقة تلك الفضائل وعدم استحيائهم من مقارنته مع غيره مع ما ثبت من أفضليته على سائر الأمة بعد رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ).
أما عن الفخر الرازي فقد كان من أهم المفسرين الذين اتخذوا اقصاء الإمام علي (علیه السّلام)منهجا في مصنفاتهم فكان كتاب مفاتيح الغيب حافا بذلك، فقد اتبع أسلوب الاقصاء كمنهج في تفسره فأخذ يتعمد التطرق إلى ما يجره لإقصاء الإمام فكان كثیرًا ما يقارن بن فضائل علي (علیه السّلام) والخلفاء، وكثیرًا ما يحاول التضليل على أهمية تلك الفضائل مع اطلاعه على المصادر التي ذكرت فضائل أمیر المؤمنین، بل واعتمادها في تفسیره كمورد، و قد اتخذ أساليب مختلفة في الإقصاء، وهذا ما دفعنا للإقدام على دراسة ذلك الإقصاء ومعالجته بدراسة آراء الرازي
ص: 12
الإقصائية، والرد عليها بإثبات ما أخفاه الرازي أو ما أطلقه من آراء اتجاه فضائل
الإمام وتحليل تلك الأساليب، وما وراءه من نوايا اراد من خلالها الرازي أو من
سبقه في ذلك جعل الإمام (علیه السّلام)بمستوى اقل من غيره من الصحابة، الذين اراد الرازي تفضيلهم عى الإمام (علیه السّلام) وقد اعتمد الباحث المنهج التحليلي في دراسة آراء الرازي ورواياته، معتمداً على ما ثبت من أدلة وبراهين حديثية وتفسيرية وتاريخية تجاهلها المؤلف ولم يأبه بها، ولم يكن الاعتماد عى المصادر الشيعية وإنما كان الاعتماد على كتب المذاهب الإسلامية الأخرى بمختلف مذاهبها وما كان استخدام المصادر الشيعية إلا للرد في بعض المسائل وجاء استعالها كرأي ساند لما تبناه الباحث.
أما فيما يخص اثبات تلك الفضائل والدفاع عنها من قبل المصنفين فقد انبرى
لهذا الأمر كثير من العلماء الذين حاولوا إبراز تلك الفضائل، عن طريق التصنيف
فيها واسنادها بطرق مختلفة لتأكيد أفضلية أمير المؤمنين، فكان من هؤلاء ابن مردويه الاصفهاني (ت410ه/1019م) بكتابة (المناقب) فكان يورد الأحاديث المسندة التي ورد فيها فضل علي (علیه السّلام)كذلك ابن المغازلي (ت483ه/1090م) في كتابه (مناقب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (علیه السّلام)وهناك من رد عى الاقصاء الذي تمت ممارسته ضد علي (علیه السّلام)ومنهم الاسكافي المعتزلي (ت220ه/835م) الذي رد باسلوب جميل ومعتدل على آراء الجاحظ (ت255ه/868م) في كتابه العثانية الذي يمثل اقصاء واضح لأمير المؤمنين (علیه السّلام)كذلك العلامة اسماعيل ابن أحمد البستي المعتزلي (420ه/1029م) في كتابه (المراتب في فضائل علي بن أبي طالب (علیه السّلام)فكان ذا أسلوب توثيقي بإيراده الأحاديث وأسانيدها والمقارنات المستندة على العقل والمنطق اضافة إلى كثير من العلماء المسلمين ممن رد وأثبت
ص: 13
تلك الفضائل لعلي (علیه السّلام).
أما فيما يخص عمل الباحث في هذه الدراسة فهو دراسة أساليب الرازي في
إقصاء الإمام علي (علیه السّلام)عن فضائله، الذي تمثل بآرئه التي أطلقها حول تلك المرويات الواردة في فضله (علیه السّلام)وسوقه في بعض الاحيان لروايات موضوعة لرفع أحد الصحابة ومساواته بعلي (علیه السّلام)أو مقارنته لأهمية فضائل علي (علیه السّلام) مع غيره من الصحابة فلم تكن الرواية التاريخية العينة التي ندرسها بصورة أساسية مقارنه مع دراسة رأي الرازي الذي يعد هو العينة الرئيسة، إلا في قليل مما أورده من روايات تاريخية تخص أحداث معينة.
وقد قسمت الدراسة على مقدمة واربعة فصول وخاتمة خصص الفصل الأول
منها في دراسة الفخر الرازي حياته وعصره المتمثل بسيرته الذاتية و العلمية وقد
صنفت في سيرة الفخر الرازي عدة مؤلفات كان من اشهرها (محمد صالح الزركان
– فخر الدين الرازي وآراؤه الكلامية والفلسفية، ومحمد العربي (نظرية المعرفة عند الفخر الرازي) وكان الفصل الثاني في موقف الرازي من فضائل الإمام علي (علیه السّلام)في عصر الرسالة، وقسم إلى مرحلة مكية وأخرى مدنية، والفصل الثالث في الرازي وآثره في إقصاء الإمام علي (علیه السّلام) عن الخلافة وإمامة الأمة، ودرسنا فيه الآيات والأحاديث التي دلت عى امامته (علیه السّلام)وإقصائه الرازي عنها. والفصل الرابع إقصائه للإمام علي (علیه السّلام) عن جملةٍ من فضائله، أي التي لم تكن مختصة بحادثة مكية أو مدنية أو إمامة وإنا فضيلة ومنقبة لرفع مقامه وعلمه وفضله على غيره من الأمّة وكان الفصل الأخير أقل مادة من غيره من الفصول لما توفرت فيه من مادة علمية تكاد تكون أقل من الفصول الأخرى.
اعتمدت الدراسة على عدد من المصادر والمراجع المهمة التي يأتي في مقدمتها
ص: 14
القرآن الكريم مصدراً مهمًا للآيات القرآنية التي نزلت في علي (علیه السّلام) وأقصيَ عنها كذلك عند تعضيد رأي الباحث أو الاستشهاد في آيات القرآن الكريم.
1- كتب التفسر: وأهمها تفسير مقاتل (ت150ه/ ً 767م) وكان مصدرًا مهمًّا
اعتمده الباحث في جميع فصول الدراسة كذلك كتاب (تفسير القرآن العظيم لابن
أبي حاتم (ت327ه/938م) وكذلك تفسير الماتريدي (ت333ه/944م) وتفسير
(الكشف والبيان) للثعلبي (ت427ه/ ً 1035م) وكان مصدرًا مهمًّا في البحث لما تميز به من ايراد الروايات والأحاديث في فضل أهل البيت (علیهم السّلام) ويكاد يكون حيادياً في إيراده لتلك الأخبار كما أنه يورد الأحاديث المسندة بأهل البيت (علیهم السّلام)كذلك كتاب (شواهد التنزيل لقواعد التفضيل) للحسكاني (ت468ه/ 1076م)ويعد مصدراً مهمًّا في إثبات الفضائل التي أقصاها الرازي وهو يورد كثير من الروايات المسندة عن طريق أهل البيت (علیهم السّلام)ولم يكن يعلق عى ما يورده سوى نقله للأخبار وغيرهامن المصادر التفسرية مثل (الجامع لأحكام القرآن) للقرطبي (ت 671 ه/ 1279 م) والثعالبي (ت 875 ه/ 1471 م) كتابه (الجواهر الحسان).
2- كتب الحديث: التي كان لها أثر ٌ بارز في جميع فصول الأطروحة فلا
بد من الاعتماد عليها كدليل وإثبات لما يتبناه الباحث وينافي فيه رأي الرازي المزعوم في حادثة أو خبر ومنها أحمد بن حنبل (ت241ه/855م) مسند أحمد وكتاب المعجم الكبير والمعجم الصغير للطبراني (ت360ه/971م) وكان مصدراً مهمًّا اعتمد عليه الباحث في إيراد كثير من الأحاديث كذلك كتاب (كنز العمال) للمتقي الهندي، (ت975ه/1567م) وكتاب (ينابيع المودة) للقندوزي (ت 1877م) كذلك كان لكتب المناقب والفضائل حيزاً كبيراً في الأطروحة وعلى رأسها (المناقب) لابن مردويه (ت410ه/1019م) وكتاب (المناقب) لابن
ص: 15
المغازلي (ت483ه/1091م) وكان اعتماد الباحث على هذين الكتابين بصورة
كبيرة لأن مصنفيها من أبناء المذاهب الأخرى، وإيرادهم للأحاديث الدالة على
فضائل أهل البيت (علیه السّلام)تكون حجتها أكبر على المقابل كذلك كتاب (نظم درر السمطين) للحنفي (ت750ه/1349م).
3- السیر والمغازي: وكان الاعتماد عليها في الفصل الثاني أكثر من غيرها
من الفصول لما تضمنه هذا الفصل من أحداث تخص السيرة النبوية بشقيها المكي والمدني و يأتي في مقدتمها كتاب (المغازي) للواقدي (ت207ه/823م) وكتاب (السيرة النبوية واخبار الخلفاء) لابن حبان (ت354ه/965م) ودلائل النبوة) للبيهقي (ت458ه/1066م) و(سبل الهدى والرشاد) للصالحي الشامي (ت942ه/1535م) وعدد من كتب السيرة التي اعتمدها الباحث
4-التراجم والطبقات وكتب الجرح والتعديل: اعتمدها الباحث في سائر
فصول البحث في ترجمة الأسماء الواردة وفي إيراد الأخبار المتعلقة بشخص
معين يتعلق بخبر أو حادثة وفي مقدمتها (الطبقات الكبرى) لابن سعد
(ت230ه/785م) وكتاب (الطبقات) لابن خياط (ت241ه/796م) و(الثقات للعجلي (ت261ه/816م) و(الثقات) لابن حيان (ت354ه/965م) و(الجرح والتعديل) لابن أبي حاتم (ت327ه/938م) و(معجم الأدباء) للحموي (ت626ه/1229م) و(عيون الأنباء) لابن أبي أصيبعة (ت668ه/1270م) وكان استعالها في الفصل الأول بصورة كبيرة عند البحث في سيرة الرازي وتلامذته.
كذلك كتاب (طبقات الشافعية الكبرى) للسبكي (ت771ه/1370م) و(طبقات الشافعية) لابن قاضي شهبة (ت851ه/1448م)
5-كتب الجغرافية: في تعريف المواقع والمدن واهمها: (المسالك والممالك)
ص: 16
للاصطخري (346ه/1957م) و(الروض المعطار) للحميري (ت900ه/1495م)
وغيرها.
6-التاريخ: اعتمدنا مصادر التاريخ في الفصل الأول من الأطروحة وأهم
تلك المصادر (الكامل في التاريخ) لابن الأثير (ت630ه/1232م) وأخبار
العلاء) للقفطي (ت646ه/1248م) وابن كثير (ت774ه/1372م) في كتابه
(البداية والنهاية) و(تاريخ الإسلام) للذهبي (ت748ه/1347م) و(مرآة الجنان)
لليافعي (ت768ه/1367م.
7-الكتب الكلامية: وهي المصادر التي رجع إليها الباحث في الرد على الرازي
بما يتبناه من رأي عقائدي يحاول به ادحاظ الآراء التي تقترب من المذهب الإمامي
وأولها (المعيار والموازنة) للاسكافي (ت220ه/835م) وهو معتزلي المذهب لكنه
صنف هذا الكتاب للرد على الجاحظ الذي صنف العثانية لاثبات أفضلية أبي
بكر على علي (علیه السّلام)وكتاب (المراتب) للبستي المعتزلي (ت420ه/ ً 1029م) ايضاً للرد على من يدعي أفضلية أبي بكر على علي (علیه السّلام)وكتاب (الشافي في الإمامة) للشريف المرتضى (ت436ه/1044م) كذلك كتاب (شرح نهج البلاغة) لابن أبي الحديد المعتزلي (ت: 656ه/ ً 1258م) رغم أن الكتاب لغوي بوصفه شرحاً لمجموعة خطب إلا انه تناولها بصورة كلامية واضحة.
8-كتب اللغة: اعتمدها الباحث في بيان المعاني الواردة في الآيات القرآنية أو بيان
عمل بعض الكلات الواردة مثل أدوات الحصر أو لفظ الكلمة وقراءتها بالحركات
وأهمها كتاب (الفروق اللغوية) لأبي هلال العسكري (ت395ه/1005م) وكتاب
(الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي) للازهري (ت370ه/981م).
9-المراجع: ً كان الرجوع إليها كرأي حديث إلى جانب رأي الباحث وغالباً
ص: 17
ما كانت تتناقض مع رأي الرازي وأهمها (الصحيح من سيرة الإمام علي (علیه السّلام) للعاملي، و(كتاب التفسير) للمظهري، والخوانساري (روضات الجنات) وطاش كبري زادة (مفتاح السعادة،) والكوراني (ألف سؤال وإشكال) وغيرها من المراجع الحديثة.
وختاماً، فإن ما قدمته من دراسة ما هي إلا محاولة متواضعة ضمن إمكانيتي
وقدرتي فإن أصبت فيما ذهبت إليه فبتوفيق من الله وإن أخطأت فذاك من نفسي
ونسأله السداد والتوفيق ومن ورائه القصد.
ص: 18
ص: 19
ص: 20
إن دراسة أي شخصية علمية كانت أو سياسية، لابد من التعرف على سيرته
الذاتية (الاجتماعية والعلمية) ليتضح للباحث والقارئ أثر هذه الحياة على
انطباعاته الفكرية والمذهبية، لأن الإنسان يتأثر بالفكر الديني والسياسي لأسرته مع تأثره بالآراء الفكرية لأساتذتهِ الذين تتلمذ على أيديهم وسنجد هذا الأمر جليًا في الجانب الفكري الذي اعتقده وتبناه الرازي.
كذلك لابد من دراسة العصر السياسي للمؤلف ليتسنى لنا معرفة علاقة
الرازي مع حكام عصره خصوصا وإن بلاد المشرق في تلك الحقبة كانت تعيش
حالة من الانقسام والصراع السياسي بين حكام تلك الامارات لتتوسع في تلك
البلاد، فلابد من التعرف على موقفه من أولئك الحكام وعلاقته معهم وهل أن
مصنفاته في التفسير والعلوم الأخرى كانت تحت رعاية الدولة أم كانت تكتب بصورة متكتمة عن السلطة؟ لأن لكل حالة انطباعاتها وانعكاساتها على المؤلف وعلى مصنفاته وهذا ما سنعرفه في مباحث الفصل
ص: 21
ص: 22
1149م)(1)وقد أكد هذا التاريخ الفخر الرازي نفسهُ عند تفسيره لسورة يوسف الآية (42) فقد قال في شأن التوكل على الله: فهذه التجربة استمرت لي من أول عمري إلى هذا الوقت الذي بلغت فيه السابع والخمسين (2) وقد وجدنا أنه بدأ بتفسيرها واسمها في أثناء عام (601ه/1204م)(3)وبهذا يكون مولده عام .(م1149/ه544)
وهناك من أشار إلى أن الرازي ولد عام (543ه/1148م)(4) الا انه ما ثبت
عندنا يخالف هذا وهو الأكثر صواباً.
هراة)(1) وما اشتهر به من الألقاب هو (فخر الدين)(2) وكان لقب الإمام يطلق على الرازي في التفسر والكلام)(3).
كان لأسرة الفخر الرازي أثرها البارز في حياته الفكرية فهو نشأ في أحضان
أبيه ضياء الدين عمر الذي عرف بعمله واشتهاره بالخطابة والوعظ حتى اكتسب
ولده من ذلك لقب (ابن خطيب الري) فكان والده من أشهر علماء الري، وكان
مشتغلاً بعلم الاصول والخلاف حتى تميز تميزاً كثيراً فأصبح قليل المثل في بلاده
وكان والده يدرس بالري ويخطب بها ويجتمع عنده خلق كثير حتى اشتهر بين
الخاص والعام(4)،وله كتاب في علم الكلام (غايه المرام في علم الكلام) أشار إليه السبكي في طبقاته(5)،قائلا : من أنفس كتب أهل السنة وأشدها تحقيقاً كما وصف والده بأنه متجراً بالفقه والأصول متصوفاً ومحدثاً أديبًا(6).
أما عن أخيه فله أخ واحد أكبر منه سنًا كان يلقب ب (ركن الدين،) وكان له
معرفة في الفقه والأصول والخلاف، إلا أنه كان مختلفاً عن أخيه، فيصفه ابن أبي
ص: 25
اصيبعة(1)(كان أهوج كثير الاختلال.)
وكان يسير خلف اخيه الفخر ويشنع عليه ويسفه المشتغلين بكتبه واراءه وكان
يقول: «الست أكبر منه سنًا وأكثر معرفة بالخلاف والاصول فما للناس يقولون
فخر الدين فخر الدين ولا اسمعهم يقولون ركن الدين»(2)،ثم يقول: هذا خير من كلام فخر الدين(3).
ويظهر أن ركن الدين كان قد صنف شيئاً بعلم الكلام يختلف عن فكر اخيه
الفخر لكن الناس لم يستقبلوا ذلك وكانوا يهزؤون منه ويتعجبون(4).
ومن شدة إيذائه طلب الرازي من السلطان خوارزمشاه(5).أن يضع أخيه في موضع آمن يمنعه من الخروج ويوفر له كفايته فوضعه في احدى القلاع إلى ان توفي(6).
وللفخر الرازي عدد من الأبناء الأكبر منهم كان يلقب ب (ضياء الدين) وكان
له معرفه في العلوم، والآخر هو الأصغر منه ويلقب ب (شمس الدين) وكان له
فطرة فائقة، وكان أبوه قد تنبه لذلك، إذ كان يقول: إن عاش ابني هذا فإنه يكون
ص: 26
أعلم مني ولقب ولده من بعده ب (فخر الدين)(1).
وللرازي ولدا اسمه محمد توفي عام (601ه/1204م،) إذ يذكر في تفسيره
لسورة يونس: «اختتمت تفسير هذه السورة يوم السبت من شهر الله الأصم رجب سنه إحدى وستمائة وكنت ضيق الصدر... بسبب وفاة الولد الصالح محمد...»(2)،وذكره في مواضع كثيرة من كتابه(3).
ويشير في كتابه الأربعين أن ولده محمد أكبر أولاده إذ يذكر في مقدمة كتابه
«أردت أن أكتب هذا الكتاب لأجل أكبر أولادي وأعزهم عليَّ محمد...»(4).
ويشير أبو شامة أن ولده محمد كان قد تجند في خدمة السلطان الخوارزمي محمد بن تكش(5)في حياة ابيه(6).
وللفخر الرازي بنت تزوجت من الوزير علاء الملك العلوي وزير السلطان خوارزم شاه وقد كان ذا علم ومعرفة(7)وكان أولاد الفخر مقيمين في هراة وعند
ص: 27
دخول المغول إلى بلاد المشرق وشنوا حملتهم الوحشية على السكان فإن علاء الدين أخذ لهم الأمان من جنكيز خان بعد أن أصبح من خواصه فأقاموا في دارهم في هراة(1).
اجمعت المصادر التاريخية على أن وفاة الفخر الرازي كانت يوم الاثنين في يوم
عيد الفطر سنة (606ه/1209م) بمدينة هراة، ودفن آخر النهار في الجبل المجاور
لقرية مزدخان(2).(3)وله اثنتان وستون سنة(4) ،وقد ترك وصية كبيرة حملت مبادئه وآراءه بل وخلاصة ما كان يبغيه، وكان قد أوصى بها إلى أحد تلامذته إبراهيم بن أبي بكر بن علي الأصبهاني(5)وبيّن فيها مقصده من تصانيفه وعقيدته(6)وهناك إشارة إلى أنه مات مسمومًا من قبل مبغضيه ومخالفيه في عقيدته(7).
ص: 28
أشرنا إلى البيئة التي نشأ فيها الفخر الرازي وكيف اهتم به والده الذي عرف بعلمه وفصاحته ووعظه وكان والده استاذه ومربيه فكان يقول: «سمعت شيخي ووالدي »(1).
وقد عاصر الرازي عددًا من العلماء الكبار والفلاسفة امثال (سيف الدين الامدي)(2) ، و (السهروردي)(3) ، و (ابن الفارض)(4) ، و (العز بن سلام)(5) ، و (ابن
ص: 29
رشد)(1) وغيرهم.
وقد نشأ الفخر الرازي محبًا للعلم فهماً بارعًا وكان كثیر البحث وقد عبر عن هذا بقوله: «والله إني أسف في الفوات عن الاشتغال بالعلم في وقت الأكل فإن الوقت والزمان عزيز»2(2).
وكان قوي الذاكرة والحفظ فقال: «ما اذن لي في تدريس علم الكلام حتى
حفظت اثنى عشر الف ورقة»(3)،وحتى ان كان في هذا القول شيءٌ من المبالغة إلا أنه يعطي صورة عن مدى سعة أفقه واتساع ذهنه.
كما ورد(4)أنه كان يحفظ الشامل في الدين لإمام الحرمين الجويني(5)،والمستصفى في أصول الفقه للغزالي(6)والمعتمد في أصول الفقه لأبي الحسين المعتزلي(7).
ص: 30
أما عن مذهب الفخر الرازي ومعتقده فقد كان الرازي شافعياً أشعريًّا(1)، ومن أبرز فقهاء الشافعية(2)،وكان يمثل الأشاعرة على رأس المائة السادسة(3).
وقد اشتغل في الأصول على والده ضياء الدين عمر الذي يرجع إلى أبي الحسن
كذلك فإنه اشتغل في الفروع على والده الذي ينهل من الشافعي (204ه/
820م) عن طريق سلسلة من العلماء(6).
وإن المطّلع على مصنفات الفخر الرازي يجد مذهبه جليًّا فيها فهو قد صنف
كتاباً في مناقب الشافعي ويدافع كثيراً عن آراء الشافعي في الفقه وقد صرح الرازي عن انتمائه إلى ابناء السنة والجماعة «ويعتقدون أني لست على مذهب أهل السنة والجماعة وقد علم العالمون أنه ليس مذهبي ولا مذهب اسلافي إلا مذهب أهل
ص: 31
السنة والجماعة»(1)،وهناك من نسب الفخر الرازي إلى التشيع أمثال ابن حجر العسقلاني(2)،إذ ينقل ابن حجر عن غيره أن الفخر كان شيعياً يقدم محبة أهل البيت لمحبته للشيعة حتى قال في بعض تصانيفه وكان علي شجاعاً بخلاف غيره(3)
يرى ابن حجر أن هذه الأمور تدل على تشيع الرازي الذي يظهر في ضوء ما نقله لنا أن التشيع يعد منقصة للرازي وتهمة كبيرة لمجرد أنه كما أورد- يقدم محبة أهل البيت (علیهم السّلام) ويعترف بشجاعة الإمام علي (علیه السّلام)إلا أنه لم يطّلع على العبارة الأخيرة ولم يعرف أي كتاب كذلك لم يكن يعلم ما مغزاها، لكن وبعد أن دققنا في العبارة وجدنا أن الرازي ذكرها في (معالم أصول الدين) في مسألة ناقش فيها إمامة علي (علیه السّلام) وأبي بكر وقد حاول أن يثبت بطلان النص وأورد هذه العبارة كتوضيح لرأي الشيعة بالإمام إذ ذكر: «أن عليًا كان في غايه الشجاعة وأبو بكر كان في غاية الضعف هذا مذهبهم [يعني الشيعة]»(4).
ولعل ابن حجر كان يرى مجرد محبة أهل البيت تعني التشيع وبغضهم يعني
الالتزام بمذهب أهل السنة ولم يطلع ابن حجر على كتاب التفسير ومعالم أصول
الدين للرازي فهو لا يكاد يذكر فضيلة للإمام إلا وذكر مثلها لأبي بكر(5)،وإذا
بحث أمر الإمامة فإنه يحاول جاهداً أن يورد أدلة وحجج تثبت وجوب إمامة أبي
بكر كما يراها هو(6).
ص: 32
وإلى جانب تشدد الرازي في قضية الإمامة إلا أنه كان يرى الإمام علي (علیه السّلام) أوثق الناس وأكثرهم إيماناً ووثاقة فهو يتخذ من الإمام علي (علیه السّلام) إماماً له في الجهر بالبسملة إذ قال: «ومن اتخذ عليا إماما لدينه فقد استمسك بالعروة الوثقى في دينه ونفسه»(1).ولا أعلم كيف خفي هذا القول على ابن حجر فلو اطلّع عليه، لكان اتهامه أشد مما ذكرنا.
إن المطلّع على مصنفات الرازي وسيما تفسيره يرى نفسه متحيرا في مذهب الرازي فأسلوب الرازي وطريقته في التفسير وردّ الشبهة ومناقشتها أشبه الناس بالمعتزلة ويمكن لنا أن نعلل هذا إلى اطلاع الرازي على أكثر كتب المعتزلة بل وأخذه عنها وقد ذكر الذهبي ذلك عند حديثه عن أبي الحسين المعتزلي وكتابه المعتمد من أجود الكتب يغترف منه ابن الخطيب(2).
كما أورد في كتابه كثيراً من الآراء والحجج التي يتبناها المعتزلة سواء أكان ذلك
عن طريق مناقشته إياها أم عن طريق التزامه بها(3).
كما يمكن أن يُعزَى هذا التأثر لاطلاعه على كتب زعيم الأشاعرة أبي الحسن
الأشعري الذي يرجع إليه في أصول المذهب، وأبو الحسن كان في بداية أمره
ص: 33
معتزليًا تتلمذ على يد أبي علي الجبائي(1)وأخذ عنه علم الكلام، ثم فارقه(2).
وهذه المدة التي قضاها الاشعري تلميذا للجبائي لابد أن تترك بصlاتها على
آراءه وأفكاره الكلامية التي استند إليها طلابه فيما بعد ووصلت إلى الرازي الذي
بدوره تأثر بها كغيره من الأشاعرة.
وعلى الرغم من هذه الاقوال التي ذكرناها إلا أن الثابت أن مذهب الرازي ومعتقده أشعري بالأصول شافعي بالفروع بل ورأس الأشاعرة في المائة السادسة(3).
عاش الرازي في عصر مليء بالعلم والعلماء والفلاسفة والمتكلمين فقد سبقه
ثلة من العلماء الذين اقتفى أثرهم وطوّر آراءهم وناقش أغلبها فكانوا هم
الممهدون له في مجالات مختلفة من العلوم فكانوا مثارا لتساؤلاته وانبثاق أفكاره وقد برع الرازي في كثير ً من العلوم سنذكرها مختصراً.
1-الفلسفة: اهتم بها الرازي واصبحت رافدا من روافده فهو يعد من
ص: 34
فلاسفة القرن (السادس الهجري /الحادي عشر الميلادي)(1)،إلى جوار نصر الدين الطوسي(2)والمطلّع على مصنفات الرازي يجدها قد ملئت بالمباحث الفلسفية منها (لوامع البيّنات) وكتاب (المعالم) ضمّ كثيرا من الجدل(3).
2-الفقه: من أهم علوم الدين التي اهتم بها الرازي، إذ كان يمثل استمرارية
لشيخه الشافعي (ت204ه/ 819م) إلا أن الرازي كان ميّالا إلى الاكتفاء بظاهر
الآيات من دون الخوض بالاستنباط والخوض بالقياس وغيره من مصادر الفقه
فقد أورد في تفسيره «ان وجدنا نصًا دالا على أن بعض العقود التي وقع من
الجانبين غير صحيح قضينا فيه بالبطلان تقديما للخاص على العام والا حكمنا فيه بالصحة رعاية لمدلول هذه العموميات وبهذا الطريق ثبت أن القرآن وافٍ ببيان
جميع أحكام الشريعة من أولها إلى آخرها»(4)
وقد ضمت مناظرات الرازي حيزا كبيرا من الفقه (5)إلا أن ابن ً تيمية له رأي آخر في الرازي إذ قال: «وأما التصوف فكان ضعيفاً كما كان ضعيفاً في الفقه»(6)وأورده علماء الشافعية في عداد علماء الفقه(7).
ص: 35
3-علم الكلام(1) :اشتهر الرازي بعلم الكلام أكثر من العلوم فقد وُصف بأنه إمام المتكلمين الذي له اليد الطولى في أصول الكلام ولقب ب (الإمام) عند علماء الأصول(2)،وبعضهم من وصفه ب (سلطان المتكلمين)(3)،وله في علم الكلام مصنفات متعددة سنذكرها عند الكلام عن مصنفاته منها (المباحث المشرقية) و(المعالم في أصول الدين،) و(المحصل في أفكار المتقدمين) وغيرها. وقد ضمّ كتابه جانباً كبيراً جداً من علم الكلام فهو ليس تفسيراً فقط بل هو كتاب عقائدي أصولي ناقش فيه العقائد من توحيد ونبوة وإمامة وغيرها.
وللرازي ردود كلامية على أبرز مشايخ الأشعرية أمثال الغزالي (4)،وقال ابن خلدون عن الرازي كان من علماء الكلام الذين اتبعوا الغزالي(5).
إلا أن الرازي ندم عى اشتغاله بعلم الكلام في آخر علمه وقد صنف كتابه التفسير كنتيجة لندمه فقال في وصيته: «لقد اختبرت الطرق الكلامية والمناهج ، الفلسفية فما رأيت فيها فائدة تساوي الفائدة التي وجدتها في القرآن العظيم»(6).
كذلك ورد انه كان يقول: «ليتني لم اشتغل بعلم الكلام ويبكي»(7).
ص: 36
4-علم المنطق(1) تضمنت كتب الرازي علم المنطق والجدل وهو العلم القريب من علم الكلام، ويعد من كبار العلاء في هذا المجال، إذ نظر إليه علمًا بذاته ليس وسيلة للعلوم وقد أكد هذا ابن خلدون بقوله: «انتشرت بعد ذلك علوم المنطق في الملة وقرأه الناس وفرقوا بينه وبين العلوم الفلسفية بأنه قانون ومعيار للأدلة»(2).
وأشار ابن خلدون.(3) إلى أن أول من جعل المنطق فنًا برأسه لا وسيلة للعلوم هو الإمام فخر الدين ابن الخطيب ومن بعده أفضل الدين الخونجي وعى كتبه معتمد المشارقة لهذا العهد (عهد ابن خلدون).
وللرازي كتابٌ مهم في مجال المنطق والجدل (المعالم في أصول الدين) وقد أورد فيه علم الخلاف والجدل(4).
5-علم التفسير: يعد من كبار المفسرين وأكثرهم شهرة فقد اشتهر بتفسيره
(مفاتيح الغيب) وآراء الرازي في مجال التفسير ّ دلّت على مدى ثقافته في مجال التفسير وغيره من العلوم فكانت آراءه محل اهتمام الكتاب والنقاد قديماً وحديثاً ولم يكن الرازي مقتصراً على التفسير الظاهري بل كان يبحث ويغوص في أعماق الآيات ويستطرد كثيراً عن أساس موضوعه ببحثه مسائل متفرقة، وهذا ما جعل
ص: 37
بعضهم ينتقد كتابه كابن تيمية الذي قال عنه: «فيه كل شيء الا التفسير»(1).
ولا يستغرب هذا القول من ابن تيمية فمن المعروف عنه تكفيره لكل من
خالفه وبما أن الرازي اشعريٌّ وهو حنبليٌّ فهذا سبب في اصداره هذا القول.
إلا أن كثير من العلاء قد أشادوا بتفسير الرازي ومن ابرزهم السبكي الذي
، قال: «فيه مع التفسير كل شيء»(2)،وابن خلكان: «فيه كل غريب وغريبة»(3)، وهذا يدل على سعة علمه بالتفسير وتضمينه بكثير من العلوم.
لم تتوقف شهرة الرازي عند العلوم الإنسانية وحسب بل تتعدى إلى العلوم
العقلية وأصبح مشهوراً وبارعاً فيها.
1-علم الطب: أورده ابن أبي اصيبعة(4)، في أطباء العجم المشهورين وقال عنه: «قوي النظر في صناعة الطب ومباحثهما،» وكان قد تناول علم التشريح وصنف فيه كتباً وذكر ذلك صاحب مفتاح السعادة« (5): وكتب التشريح أكثر من ان تحصى ولا انفع من تصنيف ابن سينا والإمام الرازي».
كما أنه قد درّس تلاميذاً أصبحوا فيما بعد أطباء مشهورين منهم القطب
ص: 38
المصري الذي تتلمذ على يديه وأصبح طبيباً حاذقا(1).
كذلك فقد شرح الرازي القانون لابن سينا عندما كان مسافراً إلى بلاد ما وراء
النهر عام (580ه/1189م)(2).
2-الهندسة: من العلوم التي كانت له اهتمامات فيها وصف فيها كتاب اسماه
الهندسة(3)، ولشدة اهتمامه بالهندسة يجعلها علماً لابد منه حتى في معرفة القبلة لمن
غاب عنها، وأنه يقف متعجباً أمام آراء الذين يجعلون تعلم الهندسة مكروهاً أو
محرماً(4).
3- الرياضيات: اهتم بها الرازي وصنف فيها مصنفاً (مصادرات اقليدس)(5).
يظهر من اهتمامات الرازي أنه لم يدع باباً من أبواب العلم إلا وطرقه حتى وإن كان ذلك العلم مما يرى غيره حرمته ونبذه وقد أورد الرازي تبريرا لإقدامه على هذا العلم بقوله: «إن العلم بالسحر غير قبيح ولا محظور اتفق عليه أهل
العلم على ذلك لأن العلم لذاته شريف وأيضاً لعمومه»(6).
وقال أيضا معللاً : «لأن السحر لو لم يكن يُعلم لما أمكن الفرق بينه وبين
المعجز.... وما يتوقف الواجب عليه فهو واجب فبهذا يقتي أن يكون تحصيل
ص: 39
العلم بالسحر واجب»(1)
وللرازي مصنف مهم في هذا المجال (السرّ المكتوم في مخاطبة النجوم) الذي
جعل كثيراً من العلماء يعيبون على الرازي خوضه في هذا العلم الذي عدوه من
عمل الشيطان فقال الذهبي: «له من المصنفات السر المكتوم في مخاطبة النجوم يدل على ضلاله وقلة إيمانه فإنه سحر صريح»(2).
وقد اتبع الذهبي بهذا القول رأي استاذه ابن تيمية إذ وصف الرازي
بصفات المشركين وعبدة النجوم(3).
تعد اللغة العربية وعلومها من أهم العلوم التي أعطت للرازي شهرته
فقد اشتهر بالبلاغة والوعظ والخطابة وكان له مجلس للخطابة يحضره الأمراء والسلاطين والعلماء(4).وذكر ابن خلدون(5) أن الرازي يعتمد عى أربعة أركان وهي (اللغة والنحو والبيان والأدب) وأوضح أنه متمكن منها جميعا.
وله مداخلات مهمة على النحاة أشار إليها ابن خلكان(6) وله كتاب (المحرر في النحو)(7)،وشرح المفصل(8)،وقد ضم كتابه مباحثاً لغوية ونحوية في مختلف
ص: 40
أجزائه، وله في مجال الأدب والشعر اهتامات بارزة فله مصنف (شرح سقط
الزند) و (شرح نهج البلاغة) لم يتمه. وشرح أبيات شعرية للشافعي وشرح ديوان
المتنبي(1).
كذلك فإن الحموي(2) ذكره في معجمه من جملة الأدباء وأورد له أشعاراً ً في الحكمة والوعظ وأبياتاً في وصف حاله وطلبه للعلم، كا ورد أنه كان يتكلم
باللسانين العربي والتركي أو الفارسي(3).
وخلاصة هذا أن اهتمامات الرازي تدل عى مدى طموحاته وآماله في احتوائه
إلى أكثر من علم ورغبته في خوض كل المجالات مع ندمه لخوضه في بعضها مثل علم الكلام ولعله ندم لأنه لم يصل فيه إلى نتيجة أو لأنه سار في اتجاه اكتشف في آخر عمره أنه الاتجاه غير الصحيح أو البعيد عن الحق.
مراغة(1)، للقاء مجد الدين الجيلي(2)،وكانت هذه الرحلات لطلب العلم وتلقيه على يد هذين الأستاذين، فكلاهما ممن اشتهر بعلم الكلام والأصول.
وبعد هذه الرحلات البحثية انطلق الرازي في رحلته الجديدة وهي نشر
علومه وآراءه في بلدان المشرق فرحل إلى بلاد ما وراء النهر وبالخصوص مدينة بخارى(3).
وقد أورد القفطي(4): إن أحد التجار نقل له أنه رأى الرازي في بخارى مريضا في إحدى مدارسها المجهولة وكان فقيرا فشكا ذلك للتاجر فجمع له بعض الأموال من باقي التجار.
لكن هذا يخالف ما نقله سائر المؤرخين والجغرافيين فقد نقل القزويني(5) أن الرازي نزل بخارى وحضر حلقة رضي الدين النيسابوري(6)، وكان في حلقته
ص: 42
400 عالم فاضل وكان الرازي قد تكلم في تلك الحلقة واستدل لهم بمجموعة استدلالات جعلتهم يتعجبون من علمه وآراءه.
كما نقل القزويني(1)،مناظرات جرت للرازي في بخارى وبعض مدن ما وراء النهر وأورد ما يؤكد أنه كان مشهوراً قبل وصوله إليهم ومناظرتهم فيما يتكلمون عليه من كتب ابن سينا.
وقد ذكر الرازي رحلته ودخوله لبلاد ما وراء النهر وما جرى بينه وبين
أهلها من مناظرات مع الأفاضل والأعيان(2).
وهناك إشارة ذكرها الحموي(3) أن رحلة الرازي إلى بخارى كانت ذات أهداف مالية أكثر مما هي علمية. إذ ذكر انه قصد بخارى للوصول إلى بني مازة(4)حوالي
عام 580ه/1184م، وأشار القفطي(5) إلى فقره في هذه المرحلة.
وبعد عودته من هذه الرحلة التي لم تأتِ بنتيجة عاد إلى الري وهنا توجد
رواية مشكوك في صحتها إذ أورد عدد ممن ترجم له(6)أن الرازي التقى فيها
ص: 43
بطبيب ثري له بنتان فزوجها لابني الرازي وبعد وفاة هذا الطبيب أصبحت
ثروته للرازي فأصبح الرازي ثرياً.
وفي هذه الرواية كثير من الشكوك، وإن صحّت فمن المفروض أن تكون تلك
الثروة لأبناء الرازي ولا تكون للرازي إلا إذا كان وصيًا عليها لصغرهما مثلاً.
وعلى الرغم من صحة هذه الرواية أو عدمه فإن الرازي أصبح ثرياً
وصاحب مماليك كثيرة وعقار ودواب(1)،ثم ذهب إلى بلاد ما وراء النهر قاصدا حكام خوارزم وحظي عندهم بمكانة عالية جداً وأصبح مربياً لابن السلطان خوارزمشاه وأصبح من المقربين منه(2).
ثم توجه الرازي إلى هراة وعقد له حاكمها حسين بن خرمين (3)مجلساً علمياً ونصب له منبراً في صدر الديوان وجعل له يوماً مشهوداً حضره جمع من الأمراء والعلماء(4).
وبعد هذا رحل إلى غزنه(5) حاكمها غياث الدين الغوري(6) وكان غياث
ص: 44
الدين في عسكره في (فيروزكوة)(1)، وأمر ببناء مدرسة علمية للرازي في هراة، وخاض الرازي مناظراته الحادة مع كبار الفرقة الكرامية(2)،وكان الغور أكثرهم من الكرامية فثاروا عليه مما ادى إلى اخراجه من البلاد(3)، وبعدها عاد الرازي إلى خوارزم وقام السلطان خوارزمشاه بإسكان الرازي في هراة بعد استيلائه عليها وجعل صدارتها للرازي وكانت هذه الدار من أعظم دور هراة(4).
وكانت المجالس العلمية التي عقدها هناك قد حضرها حكام الغور والى
جواره مماليكه من الترك وهم يحملون السيوف فكان مجلسه ذا هيبة وعظمة وكان السلطان الغوري يأتيه إلى مجلسه هناك ويعضه(5).
وذهب الرازي برحلة سياسة علمية إلى الهند إذ بعثه خوارزمشاه سفيراً إلى الهند(6) وقد تجول فيها و وصف عبادة أهلها وأحوالهم(7).
ص: 45
كما زار مدينة مرو(1)، والتقى فيها بكثير من العلماء وكان من ضمنهم صاحب كتاب (الفخري في أنساب الطالبيين) (2)، الذي ألفه بطلب من الرازي لأنه كان ً راغباً بمعرفة نسب ذرية رسول الله (صى الله عليه وآله) وسماه بالفخري نسبة للفخر الرازي الذي طلب منه التصنيف فسماه باسمه (3)، وكان المروزي قد سُرّ لطلب الرازي منه هذا الأمر وأكثر من المديح والثناء له(4).
ولم يكن الرازي كسائر العلماء مجهولاً ومغموراً بل كان له هيبة ووقار في
الأماكن التي حل بها، وكان لمجلسه هيبة اذ كان مماليكه يحضرون مع السيوف والسلاطين تأتي إلى مجلسه وكان يعظهم ويذكرهم بالأيام وعدم دوامها وقد وجدنا أن هذه الأولوية التي حظي بها الرازي عند حكّام غزنه تعود إلى التشابه المذهبي بين الطرفين فإن هؤلاء الحكام كانوا شافعيين أشاعرة(5) أما عن حكام خوارزم فإنهم كانوا حنفية وكانوا محبين للعلم وبنوا مدارس كثيرة في بلادهم(6).
وكذلك فإن وزير السلطان خوارزم شاه كان شافعيًا محبًا لمذهبه وهو (نظام
الدين)(7) وكان مهتما بنشر ً مذهبه وبنى لذلك جامعاً كبيراً ومدرسة عظيمة في
ص: 46
خوارزم(1).
وهذه جميعها تجعلنا نعلل اهتمامهم بالرازي من باب التشابه المذهبي
واعطاء واجهة علمية لدولتهم وعدّها راعية للعلم والعلماء، كذلك فإن الرازي
في تلك المرحلة كان يمثل رأس الأشاعرة وكبيرها في المشرق فهو يتمتع بمكانة علمية ومنصب ديني جعله مقبولاً عند الحكام كما أنه كان يتبع أسلوب عدم التعرض لسياسة الدولة والحكام وهذا ما جعله أكثر مقبولية خصوصاً وان أولئك السلاطين كانوا أشاعرة فهذا كان يمثل دعماً لسلطانهم وتأييداً لحكمهم ولم تخلوا رحلات الرازي من مكاسب مادية فقد حصل له من جهة أولئك الحكام أموالاً وجاهاً كبيرين(2)،وهذا يعد سبباً آخر بعدم تعرضه للسلطة وتأييده لها.
ص: 47
ص: 48
عند دراسة أي عالم من علماء المسلمين لابد من التعرف إلى شيوخ ذلك
العالم وتلامذته أيضا فشيوخه يمثلون أساسه الفكري وأصحاب مبانيه العقائدية
والفكرية وتلامذته هم امتداده الفكري وهم الواسطة لنقل آرائه في حياته وبعد
مماته فضلا عن مصنفاته.
ذكر الحموي في معجمه(1) انه سأل ولد الفخر الرازي (ضياء الله علي) فقال له: «على من قرأ والدك العلوم فقال له: ليس له شيخ مشهور إلا أنه رحل إلى اذربيجان(2) وكان بها رجل يقال له مجد الدين الجيلي فقرأ عليه ثم فتح الله عليه فتحاً كبيراً واخذ من الكتب.»
إلا أن الثابت ان الرازي تتلمذ أولاً على يد والده الشيخ ضياء الدين عمر،
درس على يديه الكلام والأصول وبعد وفاته رحل إلى بلاد سمنان للقاء كمال الدين السمناني الذي أخذ عنه الخلاف والجدل ثم رحل إلى مراغة لطلب مجد
ص: 49
الدين الجيلي المعروف بفلسفته وعلمه بالكلام أيضاً(1).
كما تتلمذ على يد محمود بن علي الرازي الحمي المتكلم(2)، وهذا الرجل يعد من كبار علماء الشيعة الإمامية ومصنفيهم وقد ترجم له علاؤهم وأورد مصنفاته منها (التعليق الصغير) و(المنقذ من التقليد) و(المصادر في الاصول) وغيرها (3)،وقد ذكره ابن حجر في ميزانه (4)،انه من علماء الإمامية وله مناظرات مع الأشاعرة وأنه كان يتعاطى بيع الحمص المسلوق ثم تركه واشتغل بالعلم وله خمسون سنة وأخذ عنه الرازي.
كذلك أورد الحموي (5) إشارة غير مؤكدة حول تعلم الرازي على يد (الطبسي)(6)
صاحب الحائر في علم الروحاني.
ولم نجد في المصادر التي اطلعنا عليها أي شيخ آخر للرازي غير انه اعتمد على مصادر متعددة في آراءه ومصنفاته.
كان لشهرة الرازي أثرها في كثرة تلاميذه فورد انه حوالي ثلاثائة تلميذ كانوا
يسيرون معه اذا مشى وعند حلقة الدرس يجلس تلاميذه إلى جانبه على شكل طبقات، فالطبقة الأولى هم أكثر تلاميذه علماً ثم إلى جانبهم الأقل منهم وسائر
ص: 50
الناس بعدهم(1).
وكان تلاميذه يباحثون من يتكلم في شيء من العلوم فإن اشكل ذلك على
كبار تلاميذه فانه يتدخل يشاركهم فيما اشكل عليهم (2). وكان التلاميذ يقصدونه من مختلف البلدان لطلب العلم والتتلمذ على يديه على اختلاف مذاهبهم وعلومهم(3).
وكان يحضر مجلسه أرباب المقالات والمذاهب، ويسألونه حتى أثّر في كثير
من الكرامية ورجعوا عن مذهبهم (4).ولم يقتصر مجلسه على طلبة العلم، بل كان
يحضره الأمراء والملوك والوزراء والعلماء والفقراء وسائر الناس(5).
وان لمجلسه هيبة وعظمة فكان يعظ السلاطين وينصحهم (6)،وكان وقراً مهاباً فكان لمجلسه جلالة عظيمة وكان يتعاظم حتى على الملوك(7).
وهنا سنذكر أشهر تلاميذ الرازي الذين ثبت أنهم تتلمذوا على يديه وهم:
1-شمس الدين قاضي القضاة: أحمد بن خليل بن سعادة قاضي القضاة
بالشام شافعي المذهب ولد سنة 583ه/ 1186م، سافر إلى خراسان وقرأ الأصول
والكلام على الفخر الرازي(8).
ص: 51
2- سراج الدين الأرموي: محمود بن أبي بكر (ت682ه/1283م) من اشهر تلاميذ الفخر الرازي، اصله من ارمية (1)،وسكن دمشق وتوفي في قونية (2) له من التصانيف (مطالع الأنوار،) وله شرح على كتاب المحصول للرازي أسماه (التحصيل من المحصول)(3).
3- شمس الدين الخسروشاهي: عبد الحميد بن عيسى بن عمرية علّامة فقيه
متكلم ولد بخسروشاه (4)عام (580ه/1183م) تتلمذ عى يد الفخر الرازي وبالأخص علم الكلام وأصبح من المع العلماء وأبرزهم(5)وأصبح الملك المعظم ابن الملك العادل بن أيوب صاحب الكرك يتردد إلى مجلسه وتتلمذ على يديه (6) توفي652ه/1254م) وله من الكتب (مختصر كتاب المهذب) في الفقه على مذهب الشافعي ومختصر (كتاب الشفا لابن سينا) وتتمة كتاب الآيات البينات للفخر الرازي(7).
4-تاج الدين الأرموي: محمد بن حسن الشافعي مدرس الشّرفّية ببغداد
صحب الرازي وبرع في العقليات وكان له حشمة وجاه وكان ثرياً له مماليك
ص: 52
وخدم صنف كتاب (التحصيل) وله مناظرات معروفة (ت653ه/1255م)(1).
5- أفضل الدين الخونجي: محمد بن ناما وار بن عبد الملك فيلسوف متكلم بارع ولد سنة 590ه/1193م ودرس الفلسفة والمنطق على الفخر الرازي له من
الكتب (كشف الأسرار) في الطبيعي (الموجز) و(شرح مقالة لابن سينا) ولي القضاء
بمصر بعد عزل العز بن سلام، توفي عام (642ه/1244م)(2).
6- اثير الدين الابهري: المفضل بن عمر بن المفضل السمرقندي من كتبه
(تنزيل الافكار) و (هداية الحكمة) كان اماما مبرزاً في العلوم له اشتغال بالحكمة
والطبيعيات(3)،توفي عام (663ه/1264م)(4).
7-زين الدين الكشي: عبد الرحمن بن محمد من كبار تلاميذ الرازي الذي
ورد أنه كان قريب الجلوس منه عند الدرس(5) من تصانيفه (المعيار) شرح تنزيل الأفكار في المنطق(6).
8-قطب الدين المصري: أبو إسحاق إبراهيم بن علي السلمي أصله من
بلاد المغرب ثم انتقل إلى مصر وسافر إلى بلاد المشرق وكان طبيباً وله كتب بهذا المجال منها (شرح كليات القانون) قتله المغول عند دخولهم إلى بلاد العجم
ص: 53
عام618ه/1221م(1).
9-شهاب الدين النيسابوري ورد أنه من كبار تلاميذ الرازي وكان قريب
الجلوس من الرازي في درسه(2).
10-محمد بن مسعود بن أبي يعلى الماليني الهروي أديب لغوي حسن المعرفة
باللغة والأدب وهو من الكرامية وله في الزهد شعر حسن(3)،وقد قال يصف مجلس الرازي عندما عاتبه لانقطاعه
ومجلسك البحر وإني أمرؤ*** لا أحسن السبح فأخشى الغرق(4).
11-ابراهيم بن أبي بكر بن علي الأصفهاني، تلميذه الذي أملى عليه وصيته
عند وفاته(5).
وهؤلاء هم المشهورين من تلاميذ الرازي والذين حصلنا لهم على ترجمة في
كتب التاريخ والتراجم وكما ذكرنا أن بعضهم كان مخالفاً له في مذهبه لكنه درس
عنده علماً معينًا وعاد إلى بلاده، وهذا يدل على مدى الشهرة والصيت الذي جناه الرازي في عصره حتى جعل طلاب العلم يأتونه من أقاصي البقاع للتتلمذ عنده والنهل من علومه.
ص: 54
مدح الفخر الرازي من قبل أكثر العلماء ومن مختلف المذاهب إلا أنه لقي
بعض القدح من قبل علماء آخرين وسنذكر آراء الطرفين في حقه.
1-القزويني(1) صاحب كتاب (التدوين في أخبار قزوين) قال عند ترجمته له: «صاحب اليد الطولى في أصول الكلام وعلوم الأوائل وآخر التصرف والتصنيف والاعتراض على الحكماء والمتكلمين... اعترف أهل العصر له بالتبريز والتقدم في الفنون».
2- ياقوت الحموي في المعجم(2):« الحكيم الأديب المتكلم المفسر فريد دهره ونسج وحده فخر الدين».
3-ابن الاثير في الكامل (3):« إمام الدنيا في عصره».
4- ابن المطهر الحلي (4) قال عنه عندما وردته أسئلة من شخص اجازة برواية كتبه وكتب أبيه نصير الدين الطوسي وقال جميع مصنفات أفضل المتاخرين فخر الدين الرازي عن والدي عن نجم الدين عن أثير الدين الأبهري(5).
5- الصفدي: اجتمع له خمسة أشياء ما جمعها الله لغيره فيما علمته من أمثاله
ص: 55
وهي سعة العبارة في القدرة على الكلام وصحة الذهن والاطلاع الذي ماعليه
مزيد والحافظة المستوعبة والذاكرة التي تعينه على ما يريده في تقرير الأدلة وكان فيه قوة جدلية ونظره دقيق وكان عارفاً بالأدب(1).
6- ابن كثير، قال عنه: «كان يقرر الشبهة من جهة الخصوم بعبارات كثيرة
ويجب عن ذلك بأدنى اشارة»(2)،كما قال ايضا: «كان يصحب السلطان ويحب الدنيا ويتسع فيها اتساعاً زائداً وليس ذلك من صفة العلماء»(3).
7- الداوودي المالكي قال: «امام وقته في العلوم العقلية وامد الأئمة في العلوم
الشرعية صاحب المصنفات المشهورة والفضائل الغزيرة المذكورة وأحد المبعوثين
على رأس المائة السادسة لتجديد الدين»(4).
8- المحقق الداماد: قال عند ذكره لتفسير سورة الاخلاص إذ أورد قولا
للرازي فقال: «التفسير الكبير لعلامة العلماء الجمهورية وإمامهم فخر الدين
الرازي»(5).
9-ابن حجر في ميزانه: نقل عن المغاربة»: انهم يقولون عنه: «يورد الشبهة
نقداً ويحلها نسيئة»(6).
ص: 56
اهتم الفخر الرازي بالتصنيف في مختلف العلوم والفنون وكان لهذه المصنفات
أهمية كبيرة مما دفع النقاد والعلماء شرقاً وغرباً بالاهتمام فيها فأخذوا يطرحون
آرائهم وتعليقاتهم وشروحهم على آراءه التي طرحها في كتبه.
وقد مُدحت مصنفاته كثيراً فقال الحموي: «ورزق الإمام فخر الدين الرازي السعادة العظمى في تصانيفه وانتشرت في الآفاق وأقبل الناس على الاشتغال بها ورفضوا كتب الأقدمين»(1).وقال ابن خلكان(2):«كل كتبه مفيدة وانتشرت تصانيفه في البلاد ورزق سعادة عظيمة بين العباد فإن الناس اشتغلوا بها».
وهذا ما يؤكد أهمية تلك الكتب وسرعة انتشارها في البلدان فالحموي المتوفى
626ه/1228م ذكر أن هذه المصنفات قد انتشرت في الآفاق حتى وصلت إلى
بلاد الأندلس وقرأها طلاب العلم(3)،وأما عما أورده الرازي من آراء ومناقشات فلسفية وكلامية فإنه قال في وصيته: «وأما الكتب العلمية التي صنفتها أو استكثرت من إيراد السؤالات على المتقدمين فيها فمن نظر في شيء منها فإن طابت له السؤالات فليذكرني في صالح دعائه على سبيل التفضيل والانعام والا فليحذف القول السيء فاني ما أردت الا تكثير البحث وتشحيذ الخاطر واعتمادي فيه على الله»(4).
وقول الرازي هذا واضح في بيان آرائه فهو يرشد المهتمين في كتبه إلى أخذ ما
ص: 57
يرونه مفيدا وترك ما لا ينفعهم من تلك الآراء وهذا يدل على أنه لم يلزم شخصاً
في رأيه ولم يعد رأيه حجة على من يتبعه وهذا الأمر يعد ميزة للرازي في مجال بحثه وتصنيفه.
وللرازي طريقة خاصة في طرح المسألة ومناقشتها وقد مدح في هذا الأمر فقيل في ذلك: «يذكر المسألة ويفتح باب تقسيمها، وقسمة فروع ذلك التقسيم ويستدل بأدلة السبر و التقسيم فلا يشذ منه عن تلك المسألة فرع لها به علاقة فانضبطت له القواعد وانحصرت معه المسائل»(1).
وأشار آخرون إلى أنه أول من أوجد هذا الترتيب في البحث (2)،والحقيقة أن أسلوبه هذا متطور و قريب إلى أساليب البحث الحديثة وقد وجدنا ذلك واضحا في تفسيره(3).
أما عن عدد هذه المصنفات فقد اختلف في عددها ونتيجة لكثرتها فإن
بعضهم قد بالغ في عددها فقال ابن الساعي(4) ما يزيد على مائتي مصنف.
ومما يلاحظ على مصنفات الرازي أنه صنف بعضها للحكام والعلماء ومثال ذلك كتاب (أساس التقديس) وهو رسالة في علم الكلام الذي صنفه كهدية
، للسلطان سيف الدين أبي بكر أيوب الملك الأيوبي (ت: 615ه/1218م)(5)،
ص: 58
فقال في مقدمة ذلك الكتاب: «أردت أن اتحفه بتحفة سنية وهدية فرضية فأتحفه بهذا الكتاب الذي سميته ب (أساس التقديس»(1)،وقام السلطان الأيوبي بإرسال ألف دينار للفخر الرازي هدية عن الكتاب(2).
كذلك صنف كتاب (البراهين البهائية) باللغة الفارسية للأمير بهاء الدين
سام(3) وذلك سنة 602ه/1204م (4).كما صنف (الأحكام العلائية في الأعلام السماوية) وله اسم آخر (الاختبارات العلائية) للسلطان الخوارزمي علاء الدين تكش (خوارزم شاه)(5).
وهذا الأمر إن دل على شيء إنما يدل على أنه كان خاضعاً في آرائه إلى رغبات
الحكام وأهوائهم فهو يصنف بما لا يتعارض مع معتقد السلطان ورأيه، فليس معقولاً أن يكتب فيها ما يتعارض مع أفكار الحاكم ومعتقده،سيما وأنه يعيش في كنف تلك الدولة وفي ظل السلطان، بل وكان منعما وله مكانته واحترامه في دولتهم بل وأنه كان ثريَّا وصاحب أحوال وممتلكات وكما ذكرنا أنه قد أتاه من جانبهم أموال طائلة كذلك فقد صنف بعضاً منها كهدية للحكام وهي وسيلة لجني الأموال وكسب جانب الحكام ووسيلة لنشر الأفكار والآراء التي يتبناها في
ص: 59
بلاد بعيدة عنه مثل مصر وزيادة في شهرته في أوسع رقعة كما كانت تمثل مردوداً مادياً له، إذ ذُكر أنه حصل على (ألف دينار) من السلطان الأيوبي هدية عن كتابه، ويظهر من هذا أنه كان على علاقة بالحكام ومعرفة بهم في البلاد الإسلامية فهو يسكن في بلاد المشرق وفي مرحلة تصنيفه لهذه الكتب كان متنقلا ما بين خوارزم وهراة وغزنه وباميان وملك الايوبيين في مصر فلعله كان على علاقة مع ذلك الحاكم فكيف يهديه كتاباً عقائدياً مهماً دون أن يكون بينهما أدنى علاقة.
وقد قدمنا على جمع ما ورد من تصانيفه في المصادر التي اطلعنا عليها في جدول منفرد(1).
ص: 60
عاش الفخر الرازي في القرن السادس الهجري وبداية القرن السابع في المدة
مابين عام (544ه 606ه/1149م1209م) وهذه الحقبة من أهم حقب
التاريخ سياسياً وأكثرها خطورة نتيجة لما وصلت إليه الدولة الإسلامية من
ضعف وانقسام وتدهور واضح اذ تمثل هذا بالأنظمة السياسية التي ظهرت على
شكل دويلات وامارات مستقلة التي تمتعت بحكمٍ ذاتيِّ وبعضها لم يكن له صلة
بمؤسسة الخلافة وهذا الأمر أدى إلى التناحر والتنازع ما بين تلك الامارات من
اجل السيطرة وتوسعة النفوذ وفرض هيمنتها على من يجاورها من الدويلات كما أن الدولة الإسلامية كانت تخوض حروباً دامية مع الصليبيين في الغرب التي تمثلت بحركة الاسترداد الغربي لما وقع تحت سيطرة المسلمين في القرون المنصرمة وسنأتي على بيان الأوضاع العامة لعصره السياسي.
كانت مؤسسة الخلافة متمثلة بشخص الخليفة الذي كان يمثل هيبة الدولة
وسطوتها، وهذه المؤسسة أبان عصر الرازي كانت تمر بحالة من الاضطراب والصراع المستمر على السلطة وهيمنة القوى الدخيلة المتمثلة بسيطرة الاتراك السلاجقة على مؤسسات الدولة وتحكمهم بالحاكم وفرض أوامرهم عليه ولم يكن الحاكم إلا أداة بأيديهم ولا تتعدى سلطته أسوار بغداد ومثالاً على هذا الضعف ما
ص: 61
رواه السيوطي(1) عن الخليفة المقتفي لأمر الله (530ه555ه/11601135م) ان السلاجقة بايعوه على الا يكون عنده خيل ولا آلة سفر.
وهم بهذا جعلوا الخليفة مجرداً من كل مسؤولياته وهم قادرون على قتله إلا
إنهم على ما يبدو أبقوه ليمثل السلطة الروحية اتجاه الناس حتى يتمكنوا من كسب استقرار العامة وعدم ثورتهم على السلاجقة لأن الناس ترى في شخص الخليفة منصبا إلهيًّا نبويًّا فتركوه ليقوم بتمثيل هذا الدور.
لكن الخلافة مع ما تعانيه من وضعف وانهيار، وتسلط الترك إلا أنها
أصبحت تحاول استعادة هيبتها من جديد، ومثال ذلك ما قام به المقتفي عام (543ه/1148م) من مواجهة الحملة الهجومية التي قادها الأمير علي بن دبيس (2)،التي قاومها المقتفي بنجاح وتمكن من اظهار الخليفة بمظهر القوة وكان
هذا بمساعدة عامة الناس الذين وقفوا معه في مقاومة السلاجقة والأمير ابن دبيس إذ تحالف الطرفان لكن المقتفي تمكن من التغلب عليهم في وقعة النهروان (م1148 /ه543)(3).
وهذا الأمر يعني وقوف الخليفة بوجه الأتراك وعصيانهم وروض سلطتهم، كما كان للمستنجد بالله (555ه/1160م- ٌ 1170م) أثرٌ في استعادة هيبة الحكم فكان أول هذه التوجهات هي توجهه نحو الامارة المزيدية في الحلة فشن حملة
ص: 62
عليهم عام (558ه/1162م) وقتل منهم حوالي أربعة آلاف قتيل (1)،كما قام باتخاذ وزراء أقوياء ومحاسبة المفسدين ومتابعة أحوال العامة (2).
كذلك شهدت هذه الحقبة ضعف دولة مجاورة للدولة العباسية وهي الدولة
الفاطمية في مصر ومن ثم زوالها عام (567ه/1171م) (3)،التي كان زوالها في آخر سني المستنجد.
ومع هذه المحاولات ظل الاتراك مسيطرين على الدولة حتى مجيء الناصر
لدين الله (622575ه/13251127م) فكان عهده عهد قوة وانتعاش للدولة فاستعاد كثيراً من هيبة الخلافة خصوصاً وان عصره شهد فراغاً سياسياً وروحياً في العالم الإسلامي إذ زالت الدولتين الأموية في الأندلس والفاطمية في مصر وهذا ما جعل الانظار تتوجه نحوه وتعده الخليفة الوحيد في الساحة السياسية وفي عهده ضعف الصليبيون وأصبحت مصر تابعة لدولة العباسيين وأصبح يخطب
له من قبل الأيوبيين (4).
كذلك شهدت الخلافة أهم انقلاب سياسي على السلاجقة في عهده
وذلك عام590ه/1193م، إذ تمكن من التحالف مع السلطان خوارزم شاه
596ه/1199م، وحاول أن يفرض سيطرته على الخليفة الناصر إلا أن الأخير
رفض ذلك وأمر بهدم دار السلطنة التي كانت للسلاجقة (5).وامتدت سلطة
ص: 63
الخلافة إلى مدن المشرق الإسلامي ودانت المالك للخلافة (1).
وفي ضوء ما ذكرناه يتضح أن الدولة العباسية إبان عهد الناصر استعادت
نشاطها وعنفوانها وأصبحت ذات قوة وسيادة داخلياً وخارجياً.
عاش الفخر الرازي في بلاد المشرق الإسلامية منذ مولده حتى وفاته وقد
تنقل في مدنها وعاش في إماراتها زماناً وقد شهد الرازي قيام عدد من إمارات
المشرق وشهد حروبها وخلافاتها ومن أهم الإمارات التي عاصرها الرازي الدولة
السلجوقية (590447ه/1152م1192م،) كما عاصر الإمارة الخوارزمية
(612490ه/12301096م،) والدولة الغورية (612543ه/1148 1215م،) التي سقطت على يد الخوارزميين(2).
وقد كان للدولة العباسية اثر في قيام هذه الامارات فقد نشأت في مرحلة
الضعف وتسلط الترك مما سهل لهذه الإمارات أن تعلن حكمها من دون خوف
من الخلافة كذلك فإن تهاون الخلفاء في المرحلة السابقة لهذا التاريخ سهل قيام امارات مستقلة عن الخلافة، فالخليفة كان يكتفي بولائهم الشكلي ودفعهم الأموال إلى أن ظهرت إمارات قوية أصبح لها جيش وكيان سياسي خاص بها وخزائن تجبي لها الأموال والضرائب لكنها كانت تعيش حالة الصراع والتمدد السلطوي وفرض السيطرة على من يجاورها من الإمارات.
عاش الرازي ردحاً من حياته تحت الحكم السلجوقي فهو من أبناء مدينة
الري، وأبوه عاش فيها ولُقب ب(خطيب الري) وكانت الري إبان تلك الحقبة
ص: 64
تحت حكم السلاجقة الذين تمكنوا من بسط نفوذهم على أغلب بلاد المشرق فخضعت لهم الري وخراسان وأجزاء من بلاد ما وراء النهر(1).
وقد وقعت الري تحت حكم السلاجقة حتى تولى أمرها (إينانج)(2)عام (548ه/1145م) وتمكن من حكمها بقوة وضم ما جاورها من البلدان واستدر رضا السلاطين السلاجقة بما أرسله لهم من هدايا معلنًا اعترافه بهم وأخذ يسيطر على المدن إلى أن قوي سلطانه وأصبح عسكره عشرة آلاف مقاتل(3).
وكانت هناك وقعات كثيرة بين اينانج والسلاجقة وكانت الري ميداناً لتلك
الوقعات إلى عام564ه/1168م، اذ اصبحت الري تحت حكم ايلدكز (4) بعد قتل َ اينانج، فلم يبقَ بها بل ولاها إلى عماله وعاد إلى همذان (5).وتفرق غلمان اينانج في البلدان (6).وبقيت الري تحت حكم أسرة ايلدكز إلى أن عادت إلى سيطرة السلاجقة عام
(588ه/ 1192م)(7).
ص: 65
ولم تستمر سيطرة السلاجقة على الري أكثر من عامين إذ لمع نجم الإمارة الخوارزمية (628490ه/ 12301996م،) التي اصبحت ذات نفوذ وأطماع توسعية فتمكن سلطانها علاء الدين تكش المعروف ب خوارزم شاه
(596568ه/11991172م) من مد نفوذه على مدن مهمة من مدن السلاجقة
فسيطر على سرخس(1) ،وأبيورد(2) ،ونسا(3).
أما عن علاقة الخوارزميين مع الخلافة فإنها كانت ودية في بادئ الأمر، إذ ورد
أن الخليفة العباسي الناصر لدين الله (622575ه/12251179م) قد استعان
بهم من أجل تخليصه من السلاجقة وقد حصل هذا الأمر فتم القضاء عليهم على يد السلاجقة عام 590ه/1194م من دون مشاركة جيش الخلافة(4).
إلا أن اطاع الخوارزميين لم تقف عند هذا الحد فسيطروا على عدد من المدن
أهمها خوزستان (5)،بعد طردهم للسلاجقة لكن الناصر لدين الله كان قويًّا فسرعان ما أرسل قوة عسكرية تمكن من إرجاع تلك الاراضي لدولته(6).
كما كانت هناك امارة قوية أخرى عاصرها الرازي وعاش في كنفها مدة من
ص: 66
الزمن وهي الامارة الغورية 530- 612ه/ 1096- 1230م والتي كانت تسيطر
على كثير من المدن أمثال هراة وباميان وغزنة وتوغلت في مدن كثيرة من الهند(1) ودخلت بحروب كثيرة مع السلاجقة في بداية قيامها وانتصرت عليهم وامتد نفوذها على اراضيهم، وقد أفاد الخليفة الناصر من قوة الامارة الغورية فاستعملها كورقة ضغط على الخوارزميين الذين أصبحوا أعداء للدولة العباسية ومثالاً على هذا أن الناصر لدين الله كاتب غياث الدين الغوري547ه599ه/1152م - 1202م ليهدد بلاد الخوارزميين ويضغط عليها من جهة الشرق لوصول أخبار بشأن تقدم الخوارزميين نحو بغداد فقام غياث الدين بتهديد خوارزمشاه وارجعه عن قصده(2).
وكان حكام الغور قد لقبوا انفسهم بألقاب الخلافة فاطلق غياث الدين على
نفسه غياث الدين والدنيا معين الإسلام قسيم أمير المؤمنين(3).
وكانت العلاقة بين الخوارزميين والغوريين ما بين المد و الجزر، سيما بعد
وفاة السلطان خوارزم شاه علاء الدين تكش596ه/1199م، كذلك كان هناك
امارة ثالثة مشتركة في الصراع السياسي العسكري بين الامارات وهي دولة القرة خطائيين(4)(518( )4ه/ ً 1124م) وقد مثلت هذه الدولة خطراً على المشرق الإسلامي ودخلوا في صراع مع الغوريين وكانت بينهم معاهدات صلح وكثيرا
ص: 67
ما استعان الخوارزميون بالخطا في تنفيذ رغبتهم التوسعية في السيطرة على ممتلكات الغور(1).
وقد عاصر الرازي هذه الأحداث السياسية وعاش في هذه الدول المتصارعة
وساير حكامها وحظي بالاهتام من قبلهم.
كان للفخر الرازي أهمية كبيرة عند حكام عصره فحظي عندهم بمكانة
مرموقة فقد عاش متنقلا في بلدان المشرق الإسلامي ثم قصد السلطان شهاب الدين الغوري(2) وكان قد عامله بأموال وذهب لاستيفائها فحظي بالاحترام والاهتمام من قبل ذلك السلطان وبقي عنده مدة ثم عاد إلى خراسان(3).
ويتضح أن هذه العلاقة لم تكن جديدة فهناك معاملة مالية بينه وبين السلطان
ولعله قد عمل موظفاً عند السلطان أو كانت معاملة تجارية فالمصادر لم تخبرنا عن ماهية ذلك العمل.
ولم يستقر المقام به طويلاً في خراسان إذ سرعان ما سافر إلى الدولة الخورازمية وأيضا حظي عندهم بالاهتمام وذلك عام 595ه/1198م ونال عندهم اسمى المراتب ولم يبلغ أحد منزلته عند السلطان خوارزم شاه(4).
ص: 68
وكان لمقام الرازي عند السلطان أثره الكبير إذ سرعان ما تزوج الوزير علاء
الملك العلوي (1)من ابنة الرازي(2).وبهذا الزواج أصبح له مركز سياسي ٌ مهمٌ، فهو صهر الوزير الخوارزمي وجليس السلطان في آن واحد.
كما قام السلطان بإرسال الرازي في سفارة مهمة إلى بلاد الهند(3) ،وهذا الأمر لا يعطى لأي شخص عادي وإنما لمن نال إعجاب السلطان وكسب ثقته فهو ممثلٌ للسلطان أمام الطرف الآخر.
ولم يكتفِ الرازي بهذه الميزات فسار إلى بهاء الدين سام صاحب باميان وأقام
عنده مدة وحظي عنده بالاهتمام وجنى منه الأموال وأصبح من أكثر الناس قربا
عنده(4). ثم سار إلى حاكم هراة حسين بن خرمين(5)،وقد استقبله بنفسه ونصب له منبراً في هراة(6).
ولم يستقر به المقام طويلاً إذ سرعان ما فارق هراة وقصد السلطان الغوري غياث الدين (599ه/1202م) وقد كان في معسكره ب (فيروزكوه) فنال احترامه وامر ببناء مدرسة خاصة به في هراة إلا أن الرازي كان كثير المناظرة مع كبار العلماء
ص: 69
الكرامية التي كان الغور يعتقدون بها فكانوا يبغضونه كثيراً كما أن عم السلطان غياث الدين وهو ضياء الدين من الكرامية وكان شديد البغض للرازي فاستغل مناظرات الرازي مع الكرامية فأعاده إلى هراة، فعاد إليها(1).
وبعد تولي السلطان شهاب الدين الغوري الحكم عام 599ه/ 1202م عاد
الرازي إلى مدينة غزنه وأصبح جليس شهاب الدين حتى أن السلطان لما قتل كان الرازي بصحبته مما دعى الناس إلى اتهام الرازي بانه كان مدسوساً من قبل خوارزم شاه فثار الناس عليه وحاولوا قتله إلا أن الوزير الغوري (مؤيد الملك) تمكن من تخليصه منهم وإيصاله إلى مأمنه(2).
وبعد مقتل السلطان شهاب الدين 602ه/1205م تولى الحكم ولده محمود
واصبحت الدولة تعاني من هرمها مما مكن السلطان الخوارزمي من السيطرة عليها فتمكن من الاستيلاء على باميان وهراة فقام خوارزم شاه بتنصيب الفخر الرازي صدرية هراة واسكنه في دار السلطنة التي كانت أكبر ُ الدُور وأجملها(3).
وبقي الرازي هو وعياله في هذه الدار حتى وفاته وبقيت الدار من بعده لأولاده
حتى مجيء المغول(4).
وهناك خبر غير مؤكد أورده العمري في مسالكه(5) أن الفخر الرازي كان سليط اللسان فخي الأمير الأسماعيلي صاحب قلعة النسر (الالموت)(6)، من أن
ص: 70
يشنع عليه ويؤلب الناس على عقيدته فعمد إلى مداراته بالأموال لكسب جانبه،
وقد تمكن من هذا، وأشار بروان(1) إلى أن صاحب القلعة الالموت جعل له مرتباً مقابل احترامه للمذهب الاسماعيلي وعدم التعرض له. ولم نجد في المصادر التي اطلعنا عليها ما يعضد هذا الخبر ولعل بروان قد اطلع على مصادر أخرى عربية أو فارسية أو مخطوطات تضمنت هذا الخبر.
ومن الأدلة على مكانة الرازي عند السلاطين وأنه كان برعايتهم وحمايتهم
بل إنه كان يتمتع بأبهة ويتزين بمظهر الملوك والسلاطين، فقد ورد أنه كان يحضر
درسه غلمانه وهم يحملون سيوفهم عن جانبيه وهذه السمه لا تتوفر عند غيره من العلماء إذ من المعروف أن حلقات الدرس خالية من هذا المظهر وهذا كما ذكرنا يدل على رعاية الدولة له والعمل على إظهار مجلسه بمظهر أكثر هيبة للناظرين ّ والسامعين وإن دلّ على شيء فيدل على أن الرازي هو عالم الدولة ومفتيها.
وخلاصة هذا أن الرازي كان على علاقة وثيقة بحكام زمانه وتمكن من تولي
منصب سياسي مهم وهو السفارة وصدارة هراة فيما بعد، كذلك كان من جلساء الملوك ووعاظهم، ومما أثار الشبهات حول الفخر الرازي، تنقله ما بين إمارتين متعاديتين وهما الغورية والخوارزمية فهذا أدى إلى اتهامه بإيصال من قتل السلطان شهاب الدين الغوري (602ه/ ً 1205م) وأنه كان مدسوساً ِ من قبل خوارزم شاه لكن على الرغم من اتهام الناس له لم نجد أحد هؤلاء السلاطين في كلا الدولتين
ص: 71
يشكل عليه علاقته بالدولة المخالفة له فيمكن أن نعلل هذا بأن الرازي لم يكن
منحازا إلى حاكم سياسي وإنما كان همه الحصول على رضا كلا الدولتين وعدم زج نفسه بصراع سياسي لا مصلحة له فيه.
ص: 72
اشتهر الفخر الرازي بتفسيره المعروف ب (مفاتيح الغيب) أو (التفسير الكبير)
ولعل تسميته ب (التفسير الكبير) ماهي إلا صفة له لأن من ذكره قال عنه: «ألف الرازي تفسيره الكبير المسمى مفاتيح الغيب»(1).
ويتألف هذا الكتاب من عدة مجلدات اختلف المؤرخون في عددها فقال
الحموي(2): «وهو في ستة وعشرين مجلداً ذكر تفسير الفاتحة منه في مجلد وعلى تجزئه الفاتحة في أكثر من ثلاثين ً مجلداً،» وقال ابن أبي أصيبعة(3)«اثنتا عشرة مجلدة ً بخطه الدقيق سوى الفاتحة فإنه أفرد لها كتاباً بتفسير الفاتحة مجلدة،» ووافقه في هذا القول ابن قاضي شهبة(4).
ويمكن لنا أن نرجّح رأياً من بين هذه الآراء ألا وهو قول الحموي لعدة أسباب
منها القرب الزماني والمكاني من الفخر الرازي إذ إن الحموي (ت: 626ه/1228م)
عاش في بلاد المشرق متنقلا في نواحيه حتى عام (616ه/1218م) عند دخول
ص: 73
الجيش المغولي إلى بلاده(1) وهذا يدل على أن هذه المعلومة اما من مصادر قريبة من الرازي نفسه اذ ورد أنه التقى بابن الرازي ودار بينها حديث حول الرازي وشيوخه(2)،أو لعله اطلع على الكتاب بنفسه كذلك إن التفسير ً المطبوع حالياً يتألف من اثنين وثلاثين ً جزءاً وهذا ما يتقارب مع قول الحموي الذي جعله ستة وعشرين جزءاً ويرى لو أنه جُزِّئ لوصل إلى ما فوق الثلاثين، كذلك ما ذكره ابن أبي اصيبعة يعضد ما ذهب إليه الحموي اذ أشار إلى دقة خطه في النسخة التي اطلع عليها.(3)وهذا يؤيد أن هذه المجلدات التي أوردوها قد تختلف عند الطباعة.
أما عن نسبة هذا الكتاب إلى الرازي فهذا من الثوابت التي لا يناقش فيها
لكن الخلاف حول نسبة هذا الكتاب كاملاً أو ناقصاً فقد أشار عدد ممن ترجم له
إلى ان الرازي لم يُتمّ كتابه وإنه تم إكماله بعد وفاته، ومنها ما أورده ابن خلكان(4).
وهو كبير جدا لم يكمله ووافقه اليافعي على هذا(5).
كذلك فقد ورد في ترجمة أحمد بن خليل الخويي (ت639ه/1214م)(6)
أنه أتم تفسير الرازي(7).كما ورد في ترجمة نجم الدين احمد بن محمد القمولي
ص: 74
(ت727ه/1326م) (1)،أنه أكمل تفسير الرازي اذ أشار السبكي بقوله: «وله تكملة على تفسير الإمام فخر الدين»(2).
وأمام هذه الآراء يقف الباحث متحيراً فهناك سؤالان الأول حول إكمال
الرازي لتفسيره، والثاني إلى أي نقطة وصل الرازي في هذا التفسير، لكن يمكن لنا ان نعود إلى أقرب المصادر معاصرة للرازي، هو الحموي إذ أشار إلى أن الرازي قد أتم تفسيره إملاءً على المنبر(3)،وقد وافقه الصفدي على هذا الرأي(4).
وبعد التدقيق في الكتاب اتضح أن الرازي قد اتبع أسلوباً تاريخياً إذ يذكر عند
نهاية كل سورة السنة التي فسر فيها فهو قد شرع في تفسيره عام595ه/1198م وذكر هذا في خاتمة تفسير سورة آل عمران(5)،واستمر يذكر تاريخ تفسير السور القرآنية إلى أن وصل إلى سورة الفتح فقال: تم تفسير هذه السورة يوم الخميس السابع عشر من ذي الحجة سنة ثلاث وستائة من الهجرة النبوية(6).
وبعد سورة الفتح ينقطع التوثيق التاريخي، لكن هناك اشارات يمكن اعتمادها
وهي الإحالة إلى كتبه فقد احال إلى كتابه (المحصول من أصول الفقه) عند تفسيره لسورة الحشر في الجزء التاسع والعشرين(7).
ص: 75
وأشار إلى نفس الكتاب عند تفسيره سورة المدثر(1)،كذلك مما يؤكد وصوله في التفسير إلى الجزء الثلاثين فإنه في تفسير سورة الفجر قال: «وجواب المعارفة بالنفس مذكور في كتابنا المسمى (لباب الاشارات»(2).
وهذه الأدلة نراها تصل إلى درجة من التوثيق حول اتمام الرازي لتفسيره إما فيما يخص من أوردنا ذكرهما سالفاً بخصوص اكمال التفسير فلعلهم أكملوا نقوصات كانت في تفسير ً الرازي إذ وجدنا ألفاظاً تدل على أن صاحبها غير الرازي بل أنه مفسرٌ آخر ومنها ما ورد في تفسير سورة الواقعة الآية ( :23وشيء من هذا رأيته في كلام الإمام فخر الدين الرازي رحمه الله بعد ما فرغت من كتابه هذا مما وافق خاطري خاطره على أني معترف بأني أصبت منه فوائد لا أحصيها)(3).وهذا ليس كلام الرازي بل لشخص آخر ولعله كان هناك نقص في تفسير سورة الواقعة قد أتمه أحد الشخصين السالفي الذكر وأحد تلامذته كما يمكن ان نحتمل أن تلاميذه قد تركوا تعليقاتهم وحواشيهم على التفسير وقد أضيفت فيما بعد إلى متن الكتاب عن طريق النساخ وقد أشار الحموي إلى إكمال الرازي لتفسيره املاءًا فلعل تلاميذه تركوا نقصا عند تدوينهم إياه فأكمل هذا النقص أحد الشخصين أو كلاهما تعاقبا.
أما عن عدد اجزاء الكتاب المطبوع فهو اثنان وثلاثون جزءاً، الفاتحة فسرها
في جزء منفرد وفسر السور الباقية متداخلة في الأجزاء وقد توسع في تفسير الفاتحة وتكلم عن علومها ومسائلها ثم جعل ستة أجزاء لتفسير سورة البقرة وجعل لسورة آل عمران عدة ورقات من الجزء السابع حتى الجزء التاسع وجعل تفسير
ص: 76
سورة النساء في ذيل الجزء التاسع حتى الجزء الحادي عشر وجعل باقي السور
متفرقة في الأجزاء ففي كل جزء سورتان أو أكثر.
ومما يلاحظ على كتاب الرازي أنه لم يكن فيه مقدمة مطوله كغيره من كتب
التفسير بل إن مقدمته لا تتجاوز تسعة أسطر وكذلك لم نجد خاتمة عند إكماله لتفسيره.
ينتمي الفخر الرازي إلى مدرسة التفسير بالرأي ولكنه (الرأي المحمود) كما
أشاروا إلى ذلك (1)،والتفسير بالرأي المحمود هو التفسير المستمد من القرآن ومن سنة الرسول (صلى الله عليه وآله) وكان صاحبه عالماً باللغة العربية وأساليبها وقواعد الشريعة وأصولها(2).
وقال آخرون (3).هو ذلك التفسير الذي أعمل فيه المفسر عقله للوصول إلى مراد الله تعالى بقدر الطاقة البشرية مستعينًا في ذلك بكل الأدوات والشروط والعلوم الواجب توفرها في مجال التفسير.
اعتمد الرازي في تفسیره على رأيه أولاً إذ فسر القرآن تفسیرًا عقليًا لانقليًا جاعلاً من رأيه الأداة الأولى في التفسیر مستعينًا بالقرآن في تفسیر بعض الآيات وبالسنة النبوية مع رجوعه إلى كتب الحديث النبوي وقد رجع إلى آراء
ص: 77
المفسرين الاوائل فكان الإمام علي (علیه السّلام)من أوائل الذين اعتمد عليهم وأورد ، رأيه في عدة مسائل(1)،كذلك اعتمد على عبد الله بن عباس(2)،ومجاهد(3) وقتادة(4)،والسدي(5)،والزهري(6)،وسعيد بن جبير(7)،وابن جريح (8)،والحسن
ص: 78
البصري(1)،كما نقل عن الإمام محمد بن علي الباقر (علیه السّلام)(2)،والامام جعفر الصادق (علیه السّلام)(3)،ونقل مرويات عن الصحابة وامهات المؤمنين سنذكرها في محلها، أما عن موارده التي رجع إليها واستعان بها في تفسيره فسنذكرها حسب نوعها (ملحق رقم2.)
لابد من التطرق إلى منهجية الرازي في كتابه بصورة عامة للتعرف على أسلوبه
في طرح المعلومة وعرضها ومعرفة اسلوبه التفسيري والمجالات التي تطرق إليها في كتابه.
1-إيراده لأسماء السور وعدد آياتها في بداية كل سورة وهو مستمراً على هذه
الطريقة في كل سور القرآن.
2-بيان المرحلة أو الطور الذي تنتمي إليه السورة: أي مكية أم مدنية مستمر
أيضا على كل السور.
3-إيراد أسباب نزول الآيات والسور مع ذكره لأكثر من سبب في نزول
الآية غالباً ما يجعل سبب النزول قبل الشروع في التفسير، مثال ذلك الآية 178
من سورة البقرة إذ قال فيها: «قبل الشروع في التفسير لابد من ذكر سبب نزول
ص: 79
الآية،» وذكر ثلاث أوجه في سبب نزولها(1) ،وكذلك الآية 128من سورة آل عمران إذ قال: «المسألة الأولى في سبب نزول هذه الآية ونذكر فيه قولان»(2).
وعادة يجعل سبب النزول آخر تفسير الآية 122من سورة الأنعام(3)،والآية 1 من سورة المعارج(4).
4-الاهتمام كثيراً بالجانب اللغوي واللفظي عند تفسيره للآيات: تعد اللغة
علماً اساسياً في تفسير الآيات وبيان معاني المفردات فالقرآن احتوى على مفردات صعبة المفهوم على الرغم من نزوله بلغة العرب إلا أن معانيه تحتاج إلى تبيان فهو كلام الخالق العظيم اذ ليس من السهل تفسيره من دون الرجوع إلى علوم اللغة للتوصل إلى المعنى المراد من الآية أو المعنى القريب منها.
وعلى الرغم من معرفة الرازي في علوم اللغة والأدب إلا أنه كان يرجع إلى عدد
من المصادر اللغوية والأدبية ليستعين بها في تفسيره مع ذكره لأكثر من رأي في بيان معنى مفردة معينة أو مقطع من آية، ومثال هذا عند تفسيره لسورة الفاتحة توسع في بيان معنى الحمد وبيان المدح والثناء(5)،وكذلك في بيان معنى الصراط(6)الرازي، مفاتيح الغيب، ج 1،ص 218 (7)كما كان يستعين بآراء اللغويين وكتبهم في بيان معاني الحروف المقطعة أوائل السور(8)كما كان يورد أبيات شعرية في إثبات معنى الكلمة ومثال ذلك في صحة لفظه (تصالحا)
ص: 80
من الآية 128من سورة النساء، فقد أورد بيتا شعرياً لبيان صحة اللفظ(1). وبعد عطائك المائة الرتاعا وكذلك في بيان لفظة (الإصباح) في سورة الانعام الآية 96اذ استدل بقول الشاعر ليبين صحة اللفظ والمعنى(2).
أفنى رياحاً وبني رياح*** تناسخ الإمساء والإصباح
كما أورد مسائل لغوية نحوية مهمة في تفسير الآية 6من سورة البقرة(3) وللرازي مباحث لغوية في تفسيره في مواضع كثيرة.
5-اهتمامه بالقراءات(4):اهتم بعلم القراءات وكيفية النطق بالآيات القرآنية ومثال ذلك إيراده للقراءات المختلفة حول الآية 99من سورة الأنعام إذ أورد أكثر من قراءة لألفاظ تلك الآية(5)كذلك الآية 105من سورة الأنعام (6)،والآية 3 من سورة الأعراف(7).
6-تفسير الآيات: أشرنا سابقا إلى ذكر الرازي لأسباب النزول في أوائل
الآيات ثم يبدأ في تفسير الآية وهو لا ينتقل إلى الآية اللاحقة إلى أن يتم تفسير
ص: 81
الآية كاملاً.
أما الآيات التي لا تحتوي على سبب نزول أو ترتبط بحدث تاريخي أو لها
علاقة بحادثة معينة، فيفسرها تفسيراً لغوياً مع بيان دلائل الآية فقهية كانت أم
كلامية وغيرها، ومثالاً لذلك تفسير سورة الفاتحة التي أفرد لها مجلداً كاملاً فهو
يفسرها لغوياً، ويغوص في أعماق دلائلها مع اتباعه أسلوب الوعظ والارشاد عند
تفسيره لآياتها كما يذكر الآراء الكلامية في بيان صفات الله التي وردت فيها(1).
أما عن الآيات التي اختلف في تفسيرها أهل التفسير ووردت فيها أراءاً
للمتكلمين فهو يطنب في تفسيرها كثيراً ويحللها تحليلاً دقيقاً، ذاكراً الآراء التي وردت فيها مع توظيفه لما برع فيه من علم المنطق والكلام جاعلاً منها أداة للوصول إلى ما يريد اثباته في تفسيره مع ذكره لآراء الفرق والمذاهب الإسلامية وإيراده لرأي مذهبه الأشعري بقوله (أصحابنا)(2)،وإيراده لرأيه في نهاية الأمر أي نتيجة التفسير غالباً تكون بذكر رأيه(3).
وهناك كثير من الأمثلة على هذا منها تفسيره للآيات 2721من سورة البقرة
اذ ناقش فيها التوحيد والنبوة محاولاً أن يرد على آراء المخالفين له والملحدين(4).
كذلك تفسيره للآية 38من سورة آل عمران فقد تكلم فيها عن كرامات
الأولياء وآراء المذاهب فيها(5).
ص: 82
وتفسيره للآية 79من سورة النساء فقد بحث مسألة الإيمان كونه مخلوقاً أم
مكتوبا، وأورد آراء المذاهب في هذا(1).
أما عن الآيات التي تناولت جانباً فقهياً، فكان الرازي يورد الآراء الفقهية
، والأحكام، من دون أن يقدح في رأي منها، وكان كثيرا ما يورد لرأي أبو حنيفة(2)، ومالك بن أنس(3).
إلا أنه كان يرجح رأي الشافعي لأنه يعد مرجعه في الفروع(4)،ومن الامثلة على هذا ما ورده في حكم دخول الجنب إلى المسجد فقد أورد رأي أبي حنيفة ومالك(5)،وفي حكم الميتة الآية 173من سورة البقرة فقد ذكر آراء متعددة في ما يخص جلد الميتة(6).
كما كان يشير إلى كتبه الفقهية فيما يتعلق بالفقه مثل كتابه (المحصول في أصول الفقه)(7).
ص: 83
كذلك اعتمد الرازي على القرآن نفسه في تفسير الآيات فعندما يفسر آية
ما، فإنه يدعم تفسيره بالآيات التي تقترب من قوله وهذا الأمر نجده كثيراً في
تفسيره مثل الآية 6من سورة البقرة فقد أورد ثلاث آيات تدعم رأيه وهي الآية
49من سورة المدثر والآية 165من سورة النساء والآية 134من سورة طه(1).
أيضا الآية 60من سورة ال عمران فأورد الآيات 8988من سورة الشعراء والآية 46من سورة الكهف والآية 80من سورة مريم لدعم رأيه في تفسيرها(2).
اتبع الرازي أسلوب الاستنباط للمسائل عند تفسير الآيات القرآنية فهو
يستنبط المسائل الكلامية ويولدها ويقسم تلك المسائل إلى أقسام عدة ونجد هذا واضحاً في تفسيره لسورة الفاتحة التي أفرد لها مجلداً تناول فيه مسائل شتى كان الجزء الكبير منها في علم الكلام والتحليل العقلي وقال عن كثرة مسائلها إن هذه السورة الكريمة يمكن أن يستنبط من فوائدها ونفائسها عشرة الآف مسألة(3).
كما أشار الحموي(4) إلى أسلوب الرازي قائلاً: «يذكر المسألة ويفتح باب تفسيرها وقسمة فروع ذلك التقسيم».
وكان أسلوب الرازي في مناقشته الإمامة أشبه بالمناظرة فهو يورد آراء الفرق
والمذاهب الإسلامية جاعلاً من الإمام علي (علیه السّلام)وأبي بكر محور تلك المناظرة الا انه كان يسوق الأدلة والحجج محاولاً إثبات إمامة أبي بكر(5).
ص: 84
ومما يلاحظ على مناقشات الرازي الكلامية كثرة اهتامه بالمعتزلة (1)، وإيراده لآرائهم في كل مسألة فلا يكاد يناقش مسألة إلا وأشار إلى رأي أحد متكلميهم المشهورين(2).
كما كان يذكر آراء المذاهب الأخرى من شيعة وغيرهم ويشير إلى رأي الأشاعرة
بقوله أصحابنا(3).
ويمكن ان نعلل هذا الاهتمام بالمعتزلة لكون المعتزلة تمثل أهم الفرق الكلامية
أولاً ولأن شيخه الأشعري قد تتلمذ ردحاً من الزمن على يد الجبائي كما ذكرنا
سابقاً (4).وهذا الأمر جعل المعتزلة قريبين على الرازي فكان يستدل بآرائهم كثيرا ويناقشها.
7- إيراده لأخبار عن السيرة النبوية والمغازي: ذكرنا في بداية المبحث أن
الرازي اهتم بإيراد أسباب النزول وكذلك في ذكر وقت النزول المرتبط بسببها ولما كانت الآيات القرآنية قد نزلت في مرحلتين مكية ومدنية فهي مقترنة بأسباب نزولها بعضها مرتبط بالأحوال العامة للرسول (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )كسيرته الاجتماعية وعلاقته بالصحابة وأسرته أو حادثة اجتماعية تخص المسلمين والبعض الآخر مرتبطاً
ص: 85
بمغازي الرسول وسراياه وكلا الجانبين اهتم بها الرازي.
وأورد أخبار تخص كلاهما إلا أنه لم يكن مفصلاً في أحداث الغزوة أو السيرة
وانا يوردها كقرينة لسبب النزول أو ربط الآية بغزوة ما، مثال ذلك، الآية 109
من سورة البقرة َ « حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ »و الآية 39من سورة الحج«أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ »فهو يورد رواية تخص ابتداء أمر القتال مروية عن الإمام الباقر(علیه السّلام) لم يؤمر رسول الله بقتال حتى نزل جبرائيل (علیه السّلام)،«أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ » وقلده سيفاً فكان أول قتال، قتال أصحاب عبد الله بن جحش(1)، ببطن نخل(2)،وبعده غزوة بدر»(3).
كما أورد ذكرا لغزوة أحد عند تفسيره للآيات ،122121من سورة آل
عمران:«وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ »فقد أورد الرازي عدة آراء في الغزوة المقصودة في الآيتين فبعد استدلالات أثبتت أن المقصود هو يوم أحد وأخذ يذكر تفاصيل ذلك اليوم وما هي المخالفة التي اقترفها المسلمون يوم أحد(4).
ص: 86
كذلك تفسير سورة الفتح التي أورد فيها أخبارا عن المغازي ذاكراً جملة من
الآراء في الفتح المذكور فيها(1).
كما أورد أخباراً تخص سيرته وأخبار تخص أزواجه مثل حادثة الإفك، التي وردت في الآية 11من سورة النور(2)،وخبر زواجه من زينب بنت جحش (3) في تفسير الآية 23من سورة النساء(4).
كذلك ما ورد من خبر الوحي ونزوله عليه (صلى الله عليه وآله،) وموقف قريش من دعوة النبي (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) وكيف كذبوه (5)،وذلك في تفسير سورة المدثر الآيتين الأولى والثانية:«يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ *قُمْ فَأَنْذِرْ ».
8-اعتماد المباحث الكلامية والعقلية: كان لعلم الكلام أثره في مصنفات الفخر الرازي ولقد طغت على مصنفاته بصورة كبيرة والمطلّع على مصنفاته يرى
ذلك جليّاً وعلى الرغم من أن كتاب مفاتيح الغيب كتاب تفسيرليس كتاباً كلامياً
إلا أن الرازي جعل البحث الكلامي العقائدي جزءاً لا يتجزء منه فكان معتمداً
على تحليله العقلي وآراء المتكلمين فكان يستخرج المسائل استخراجا ويستنبط من الآيات القرآنية مسائل يستطرد من خلالها إلى مباحث كلامية مورداً فيها آراء
ص: 87
متعددة شملت آراء القدماء من متكلمي الهند والصين وبابل والروم(1).
كذلك كان يبحث في الأصول بحثاً دقيقاً كالتوحيد والنبوة والإمامة التي
ناقشها كثيراً وجعلها من أهم مباحث الأصول، فكتابه بحثٌ عملاقٌ في علم الأصول فهو يعلق ويناقش آراء المذاهب الأصولية وكثيراً ما يشير إلى كتبه الكلامية مثل (لوامع البينات) وكتاب (المحصول في الأصول)(2).
9-تضمين ً كتابه بعلمي الفلك والجغرافية: ضمن الرازي كتابه علماً مهماً
ألا وهو علم الفلك ولم يكن هذا التضمين دخيلاً على التفسير، فالقرآن تناول علم الفلك وتكلم عن أهم الظواهر الفلكية وهذا الأمر قد جعل الرازي يتطرق إلى علم الفلك بصورة تجعله متميزا من غيره في هذا المجال لعلمه بهذا الصنف من العلوم ومثالا لهذا ما ورده في تفسير الآية 164من سورة البقرة«إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ »
فتكلم عن ترتيب الافلاك ومعرفتها ومقادير الحركات وأحوال الأرض(3).
كما تطرق لخطوط العرض والطول وكيف ينشأ الليل والنهار والصيف
والشتاء وأثر الكرة الأرضية في تكونهما(4)،وتكلم عن منازل الكواكب وأثرها
ص: 88
على الإنسان (1)،وعن البروج وأثرها (2)،وعن الكسوف ايضا له كلام مهم فيه(3).
وقد اعترف الرازي بصورة غير مباشرة عن إكثاره من ذكر الفلك والنجوم والهيأة إذ قال راداً على من أشكل عليه هذا الأمر: «إنك لو تأملت في كتاب الله حق التأمل لعرفت فساد ما ذكرته... إن الله ملأ كتابه من الاستدلال على العلم
والقدرة والحكمة بأحوال السموات والأرض وتعاقب الليل والنهار وكيفية
أحوال الضياء والظلام وأحوال الشمس والقمر والنجوم»(4).
أما عن الجغرافية فتطرق الرازي في تفسيره إلى مباحث هذا العلم فتكلم في
البحار وعددها واسمائها ذاكرا أطوالها وعرضها وذكره لخط الاستواء وما يجاور
من البحار(5).
كذلك تكلم الرازي عن مواقع المدن التي تحاذي البحار ابتداءً من بلاد
المشرق حتى بلاد المغرب مع استعماله لألفاظ جغرافية (أوقيانوس)(6)ومحيط مع ذكره لكل الأقوام التي تسكن تلك المدن أو النواحي(7).
10-الاختصار في ذكر قصص الأنبياء: اتبع الرازي منهج الاختصار والايجاز في ذكر قصص الأنبياء وهذا الأسلوب والمنهج إن دل فيدل على عدم اهتمامه
ص: 89
بالأخبار النقلية التي تخص سيرة الأنبياء بل اهتم بالأمور العقلية والفلسفية ونجد منهجه واضحاً في قصة نبي الله إبراهيم وموسى وصالح وعيسى وحتى قصة نبي الله محمد (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) فإنه أورد أخبارها بايجاز.
11-موقفه من الاسناد: اعتمد الفخر الرازي طريقة تكاد تكون موحدة
في كتابه فيما يخص السند عند إيراده للأحاديث النبوية والمرويات التاريخية أما فيما يخص الروايات التي أخذها من مصادر تفسير أو سيرة فإنه يتعامل معها وفقاً لأهميتها عنده فإن كانت ذات أهمية قليلة أوردها مرسلة دون سند وهذا هو الغالب أما إذا كانت ذات أهمية أورد لها سندا وغالباً ما يكون سنداً موجزاً(1).
وقد أورد الرازي روايات وأحاديث مسندة إلى أهل البيت (علیهم السّلام)عن الإمام علي (علیه السّلام)(2)،وعن الحسن والحسين (علیهما السّلام)(3)،والامام الباقر (علیه السّلام)(4)،كما أورد عنهم احكاماً فقهيةً في مواضع مختلفة(5).
12- ابتعاده عن الإسرائيليات: المطّلع على كتاب (مفاتيح الغيب) يجد الرازي
قليل الاهتمام بالإسرائيليات وعدم إعارته أي أهمية لتلك المرويات بل كان متحرزاً
ص: 90
منها فقد أشار إلى هذا عند كلامه عن قصه سيدنا يوسف (علیه السّلام) والاشخاص الذين اشتروه فقال: «لم يثبت عندنا خبر صحيح، وتفسير كتاب الله تعالى لا يتوقف على شيء من هذه الروايات فالأليق بالعاقل أن يحترز من ذكرها»(1).
وهذا القول يعطي إشارة واضحة إلى عدم اهتمامه بالاسرائليات بل إنه كان
محتاطاً منها ومن الأدلة في إثبات هذا، تعقيبه على رواية نزول سورة النجم وكيف القاها رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) على قريش فألقى الشيطان على لسانه قول تلك الغرانيق العلى منها الشفاعة ترتجى يريد منها مدح اللات والعزى وإن رسول الله علم بها من الشيطان وندم بعد ذلك وعاتبه الله على فعله هذا(2).
لكن الفخر الرازي رفضها قطعيّاً وقال عنها رواية باطلة موضوعة(3)، فالواضح من الرواية الحط من منزلة رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) وتشكيك الناس في رسالته وفي كلام الوحي فهم يحاولون أن يجعلوا الرسول قابلاً للسهو ولتأثير الشياطين.
كذلك فيما ورد في قصة هاروت وماروت من أخبار إسرائيلية لا يقبلها العقل
والمنطق فقد قال عن تلك الروايات: «وهي قصة هاروت وماروت فالجواب
عنها أن القصة التي ذكروها [المفسرون] باطلة»(4).
كما تكلم عن عصا موسى (علیه السّلام) وعن صفتها فقال: «واعلم أن السكوت عن أمثال هذه المباحث واجب لأنه ليس فيها نص متواتر قاطع، ولا يتعلق بها
ص: 91
عمل حتى يكتفي فيها بالظن المستفاد من أخبار الآحاد فالأولى تركها»(1).
13-إيراده للأحاديث النبوية وأقوال الصحابة: اتخذ الرازي من الأحاديث النبوية عماداً مهماً في تفسيره للقرآن فيذكرها معضداً لرأيه ومثبتاً لفكرته في التفسير
أو كشاهد على دلائل الآية ومرادها وهناك كثير من الأمثلة في هذا الخصوص منها: ما ذكره في تفسيره للآية 19من سورة النور «إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ» فذكر حديثاً نبويّاً عن رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ): «إني لأعرف قوماً يضربون صدورهم ضرباً يسمعه أهل النار وهم الهمازون اللمازون الذين يلتمسون عورات المسلمين ويهتكون ستورهم ويشيعون فيهم من الفواحش ما لبس فيهم»(2)،وكذلك أورد
قوله (صلى الله عليه واله:) «المسلم من سلم الناس من لسانه ويده والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه»(3).
وكذلك أورد له خطبة في القضاء والقدر(4)،ونقل عن الصحابة والتابعين والفقهاء المسلمين في مواضع مختلفة يمكن للقارىء الاطلاع عليها في سائر أجزاء الكتاب.
14- اتباعه أسلوب التأريخ بذكر السنة التي ينتهي بها من تفسير السور
القرآنية إذ يذكر عند نهاية كل سورة السنة التي فسر فيها فهو قد شرع في تفسيره عام 595ه/1198م وذكر هذا في خاتمة تفسير سورة آل عمران(5)،واستمر يذكر تاريخ تفسير السور القرآنية إلى أن وصل إلى سورة الفتح فقال تم تفسير هذه
ص: 92
السورة يوم الخميس السابع عشر من ذي الحجة سنة ثلاث وستمائة من الهجرة النبوية(1).
لابد من التعرف على معنى الإقصاء ومن ثم عرض أساليبه، الإقصاء لغةً: هناك إجماع بين َ معاجم اللغة على الدلالة اللغوية للفعل (قصِيَ ومشتقاته) فقد
حدّدت معنى الاقصاء بمعنى الإبعاد أو ما يدل على هذا المعنى من التّنحّي، أو
الترك فالمعنى اللغوي المشترك في اشتقاقات الفعل (قصِي) هو الإبعاد(2).
أما الإقصاء اصطلاحاً، فهو يشابه المعنى اللغوي المتمثل بالابعاد: فالإقصاء هو أحد نتائج ممارسات العقل، أو الرأي، أو الفكر أو العقيدة المغلقة، تلك التوجهات التي تعتقد أن تفكيرها أو رأيها أو معتقدها هو وحده الذي يملك
الصدق المطلق، والحق المطلق، وأن ما عداها على ضلال مطلق، وخطأ مطلق، وهنا يتحقق مفهوم الإقصاء(3).
أما عن أساليب الإقصاء وأنواعه فهي مختلفة ومتنوعة بحسب نوع الأمر
المراد الإقصاء عنه، أما عند الرازي فكان الإقصاء متمثل بإبعاد الإمام علي (علیه السّلام) عن الفضائل التي خصته وكان هو المصداق الوحيد لها، وكانت للرازي أدواته في هذا الأمر، فقد اتبع أساليب مختلفة في إقصاء الإمام علي (علیه السّلام) وكانت تلك الأساليب تختلف من فضيلة لأخرى، وبما أن الرازي اتبع التفسير بالرأي فهذا
ص: 93
جعله يبتعد قليلاً عن الإقصاء الروائي أي المجيء برواية تعضد رأية في فضيلة من فضائل الإمام (علیه السّلام) عند نفيها ولا تجد هذا الأمر إلا في أسلوب المقارنة من دون نفيه بالرواية الفضيلة ومن أساليب الإقصاء عند الرازي، وكان إقصاءه معتمدا على رأيه وتقريراته الكلامية.
يعد هذا الاسلوب من أهم الأساليب الإقصائية عند الرازي اتجاه فضائل
الإمام علي (علیه السّلام) إذ يورد الفضيلة التي تخص الإمام علي (علیه السّلام) ويورد إلى جانبها فضيلة تخص أبابكر ويقوم بإجراء مقارنة بينها ويورد قرائن وترجيحات يحاول بها ان يؤكد فضيلة أبي بكر على من سواه ويجعل فضيلة الإمام (علیه السّلام) أقل أهميةً وأثراً من فضيلة أبي بكر.
وهناك أمثلة كثيرة عن الأسلوب، ما ورد في تفسير الآية 100من سورة
التوبة «وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ...» إذ ساق مقارنة وترجيح يحاول بها أن يؤكد أسبقية أبي بكر ويقلل من أثر جهود الإمام علي (علیه السّلام) مقارنة مع جهود أبي بكر(1).
كما قارن في فضيلة الإمام علي (علیه السّلام) في الآية 69من النساء «...مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا »
فإنه قارن بين إسلام الإمام علي (علیه السّلام) وإسلام أبي بكر وقارن بين جهاد الإمام علي وأبي بكر جاعلاً من سن أبب بكر فيصلاً في تلك المفاضلة(2).
ص: 94
تميّز المنهج التفسيري للفخر الرازي بذكر أسباب النزول في بداية تفسيره لكل
آية إذا ما اقترنت بسبب وتحليله لهذه الأسباب وتأييده لأحدها إلا أنه ابتعد عن
ذكر أسباب النزول في عدد من الآيات التي تخص الإمام (علیه السّلام) مع وجود أدلة على نزولها بحق الامام علي (علیه السّلام) من قبل المفسرين ومن هذا يتضح أنه تجاهل أسباب النزول في هذه المواضع لكي لا يتعرض إلى فضيلة الإمام علي (علیه السّلام) ومن هذه الامثلة: الآية 96من سورة مريم«إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا »فأنه لم يورد سبب نزولها في الإمام علي (عليه السلام)(.)(1)وكذلك آية الإكمال الآية 3من سورة المائدة ْ «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ »ايضا لم يتطرق إلى سبب نزولها(2).
أي ذكر فضائل الإمام علي (علیه السّلام) مع إيراده لفضيلة مقابلة لها مع عدم وجود ما يربط بين فضيلة الإمام (علیه السّلام) وفضيلة ذلك الشخص.
ومن الأمثلة على هذا الاسلوب عند تفسيره للآية 28من سورة غافرَ «وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ ...»فإنه أورد حديثاً عن رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )قال: «الصديقون ثلاث حبيب النجار مؤمن آل ياسين ومؤمن آل فرعون... والثالث علي بن أبي طالب وهو أفضلهم»(3)لكنه سرعان ما يورد قولاً عن الإمام الصادق (علیه السّلام):«كان أبو بكر خيراً من مؤمن آل فرعون»...(4)،وهذه أهم سمة أوصفة لأسلوب المقابلة
ص: 95
وهذا الأسلوب من الأساليب التي اعتمدها الرازي في الإقصاء ليجعل
القارئ مركزاً في المعنى اللغوي للآيات من دون أن يلتفت إلى سبب النزول أو يعيره أهمية مع إعطائه تفسيرات لغوية عدة للمفردة ليذهب معناها الحقيقي.
ومن الأمثلة على هذا الأسلوب عند تفسيره لقوله تعالى:«إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا ... »(1)،فانه على الرغم من إيراده لروايات أسباب النزول، إلا أنه اعتمد على التحليل اللغوي لمفردة (الولي) ليذهبها عن معناها الحقيقي وهو الولاية(2).
اتبع الرازي هذا الأسلوب عند تفسيره لآيات المغازي فهو يذكر الغزوة
ويورد فيها أحداثاً تشير إلى فضائل أصحابها، مثالاً لهذا ثبات المسلمين مع رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) يوم أُحد، فإنه يذكر عدة أشخاص إلى جانب الإمام علي (علیه السّلام) وقد ثبتوا مع رسول الله(صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )(3).
وهذا الأسلوب لم يكن الرازي أول من أوجده، إذ سبقه إليه كتاب السير
والمغازي الذين ابتدعوا هذا الأسلوب.
إن هذا الأسلوب يكاد يكون سمة لكثير من المفسرين الذين حاولوا أن يقصوا
الإمام علي (علیه السّلام) عن فضائله وقد اتبعه الرازي في كثير من الآيات التي تخص
ص: 96
حادثة مهمة من حوادث الإسلام التي كان للإمام علي (علیه السّلام) أثرٌ بارز فيها مثل غزوة الخندق(1)،رغم تطرق القرآن إلى جزء من أحداث الغزوة ووصفه لحال المسلمين فيها وكيف كفاهم شر القتال(2)،كذلك فإن بعض المفسرين المنصفين قد أوردوا دور الإمام علي (علیه السّلام) في تلك الغزوة(3).
أي تريح الرازي بالإقصاء من دون المراوغة بطريقة ما أو اتباعه وسيلة لاخفاء تلك الفضيلة وأهم دليل على هذا إقصاؤه لحديث الغدير المشهور عند ، سائر المسلمين عند تفسيره للآية:َ«يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ »(4)، التي أشار عدد من المفسرين في نزولها بحق الإمام علي (علیه السّلام)(5)()إلا أنه ينكرها ويفسرها بعيداً عن الإمام علي (علیه السّلام)(6).
فضلا عن آية الولاية «إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ
ص: 97
الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ »(1) إذ يرى الرازي(2)وبعد نقاش مستفيض، َ «و َأمَّا استِدلالهُم بِأنَّ َهذِهِ ا لآيَة نَزَلَت ِفي َحقِّ َعَلِيٍّ َفهُو َممْنُوعٌ.»
وهذه أهم الأساليب التي اتبعها الرازي في الإقصاء، فبعضها كان مخفيا
بأسلوبه الدقيق وبعضها ظاهراً لمن يقرأه بتمعن...
ص: 98
ص: 99
ص: 100
بعد أن بعث الله (عَزَّوَجَلَّ )نبيه محمد (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )برسالته السمحاء إلى الناس كافة، وكانت مكة مهبط تلك الرسالة ومهدها الا ان أهل مكة ما كانوا يقبلون أن يبدل دينهم بالدين الجديد الذي جاء به محمد (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )وهو دين جدهم إبراهيم إلا أنهم اعرضوا عنه وصدوا عنه صدوداً، فكان لمن سبق إليه وصدقه فضله ومنقبته التي لا تساوى بها فضيلة أخرى، وبعد أن التحق الرسول (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )بربه واعتلى سلم الخلافة من اعتلى وشايعه من شايعه من الناس، وظهرت المدارس الفكرية والمذاهب الإسلامية التي اتبعت مدرسة الصحابة وفضلت من اتبعته وجعلته إماماً عليها، فأخذوا يضعون له الفضائل ليكون افضل من نظيره عند الفئة الاخرى وكان الرازي أحد هؤلاء الكتّاب الذين ساروا على هذا النهج بل وكان شديدا في أرائه مدافعاً عنها بقوة ليدحض غيره وليجعل من أمامه صاحب الرتبة الأولى والدرجة العالية، متبعاً الخطوات الأولى التي سار عليها غيره من الكتاب والمصنفين، وبما ان كتابه كتاب تفسير وكما ذكرنا انه تفسير بالرأي فكان يفسر الآية ويورد ما يورد فيها ثم يورد رأيه ويعطي مبرراته، وكان موضوع السبق إلى الإسلام من الامور التي تناولها القرآن الكريم في مواضع كثيرة من أياته، الا ان الرازي لم يكن مقتصراً على ما يخص السبق بل تعدى إلى ايراد أراءه ومباحثه الكلامية في أيات لا تخص السبق إلى الإسلام وانا كانت آيات وصفية لحال فئات معينة من الناس الا انه أدخلها ضمن بحثه ورأيه وسنقدم على دراستها وفقاً لتقسيمات البحث
ص: 101
ص: 102
تضمنت المرحلة المكية فضائل عظيمة للإمام علي (علیه السّلام) في مواقفه الممدوحة مع رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) وقد شهد بها من صنف في السيرة والحديث النبوي، اذ كان لها أثرها البالغ في سير الرسالة المحمدية وقيام الدولة الإسلامية إلا أن الفخر الرازي كان له موقفٌ مغاير مع تلك الفضائل التي تطرق لها في تفسيره وقد صنفناها على ثلاثة اصناف:
بحث الرازي قضية السبق إلى الإسلام في مواضع مختلفة من تفسيره فكان أولها عند تفسيره للآية القرآنية
1- «وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا »(1)
على الرغم من أن الآية لم تخص شخصاً معيناً أو صفة لشخص واحد، كما
أشار إلى ذلك عدد من المفسرين، إلا أن الرازي فصل منها صفة الصديقين وأخذ
يدقق بها دون غيرها من الصفات فبعد أن أورد آراء عدة يخص سبب نزول الآية،
وكل تلك الأسباب التي أوردها تشير إلى أن المسلمين كانوا مهتمين بلقائهم برسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )في الصفة أو بعد وفاته، فكانوا يسألونه عن شوقهم إليه إذا ما التحق بربه وهم التحقوا به أيضاً فهل يقدرون على رؤيته بعد ذلك فانزل الله
ص: 103
الجواب بهذه الآية الكريمة(1).
ثم أخذ الرازي يفسر الآية القرآنية ومعنى ما ورد فيها من صفات، وعند
تفسيره ((الصديقين)) أخذ يفصل فيها وفي ما ورد من آراء في معناها فقال(2).
أولاً: الصديق هو اسم لمن عادته الصدق، كما يقال سكير و شريب وخمير.
ثانياً: قال قود: الصديقون أفاضل أصحاب النبي (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )(3).
ثالثاً: إن الصديق اسم لمن سبق إلى تصديق الرسول (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) فصار في ذلك قدوة لسائر الناس(4).
ثم أعقب هذه الآراء بقوله «إذا كان الأمر كذلك، كان أبو بكر أولى الخلق بهذا
الوصف أما بيان أنه سبق إلى تصديق الرسول (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )فلأنه قد أشتهر بالرواية عن الرسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) أنه قال: «ماعرضت الإسلام على أحدٍ الا و له كبوة غير أبي بكر فأنه لم يتلعثم»(5).
ثم يوضح مصداقية الحديث بتعليقه، ان رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) عندما عرض الإسلام على أبي بكر قبله لم يتوقف، ولو تأخر إسلامه عن إسلام غيره، فيكون ذلك بتقصير من رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )لأنه اخر عليه عرض الإسلام، ولما علمنا أن الرسول (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )لم يتأخر في عرضه وأبو بكر لم يتوقف عن تصديق الأمر. لزم أن
ص: 104
يكون أبو بكر أسبق الناس إسلاما(1).
ثم يستمر في إبداء آراءه، فيقول: أما بيان أنه قدوة لسائر الناس في ذلك فلأن
بتقدير ان يقال: إن إسلام علي(علیه السّلام) سابق على إسلام أبي بكر إلا أنه لا يشك عاقل أن علياً ما صار قدوة في ذلك الوقت(2).
يتبين لنا في ضوء ما أورده الرازي من آراء في تفسيره هذا أنه يرى وبصورة
قطعية أن أبا بكر أسبق الناس إلى رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )وأولهم إسلاما، وهنا لابد من أن يكون للعقل والمنطق مكانة قبل أن ترد عليه بالروايات والأحاديث المخالفة برأيه، والمنطق يسوقنا إلى أن كل إنسان يؤمر بدعوة باصلاح معين فإنه يبدأ بعائلته التي هي أقرب ما يكون إليه، ومن الثابت أن أسرة رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) إبان نزول الوحي هي (رسول الله + خديجة + علي بن أبي طالب) فالأولى به أن يهدي هؤلاء ليصبحوا مسلمين حتى يتمكن من هداية من هم خارج بيته وخصوصا اذا ما علمنا أن الإسلام ينظر إلى غير المسلم على أنه نجاسة فكيف لرسول الله أن يجتمع في بيت فيه من لا يعبد الله ويوحده وهذا ما لم يحصل في علي وخديجة، لأننا سنورد ما يؤكد هذا، فالأولى بالنبي (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) أن يدعو أهل بيته ثم الأدنى فالأدنى فلا يعقل أن يدعو من هو أبعد حتى من أبناء عمومته ولا يصح أن يدعو البعيد إلى أمر أمره الله به وأمره بأن يدعو الناس إليه فيترك أهله ويدعوا الأبعدين إلى أمر فيه خر الدنيا والاخرة.
وفي سياق حديثه أورد حديثا في إسلام أبي بكر ويتضح أن الرازي قد اتبع
ضعاف الأحاديث في إثبات الفضائل وكان الحديث الذي أورده في إثبات أسبقية
ص: 105
أبو بكر للإسلام أحدها(1)،ولو أننا سلمنا ذلك الحديث، فأنه لم يكن دالاً على الأسبقية وأنا على سرعة التقبل وعدم التوقف وهذا لا يعطي دليلا على السبق إلى الإسلام.
أضف إلى هذا أن ما ورد في مسألة سبقه إلى الإسلام مستفيض وقد أورد الأدلة كثير من المحدثين وأصحاب السير وكان قسم كبير منها على لسان الرسول (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) وكبار الصحابة والتابعين:
كان رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) أول من تحدث عن السابقين إلى الإسلام وعد ذلك فضلاً لا يضاهى وقد قال (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) (السبق ثلاثة السابق إلى موسى، يوشع ذنون، والسابق إلى عيسى صاحبه يس، والسابق إلى محمد علي بن أبي طالب)(2).
كما ورد عن عمر بن الخطاب قال: «كنت أنا وأبو عبيدة وأبو بكر وجماعة
من الصحابة إذ ضرب رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) على منكب علي(علیه السّلام) فقال: يا علي أنت أول المؤمنين إيمانا وأول المسلمين إسلاماً وأنت مني بمنزلة هارون من موسى»(3).
كما ورد عن أبي ذر (رضي الله عنه) قال: « أشهد أني سمعت رسول الله(صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) يقول: علي أول من آمن بي وأول من يصافحني يوم القيامة، وهو الصديق الاكبر
ص: 106
وهو الفاروق، يفرق بين الحق والباطل»(1)
ولو أنا أعدنا النظر في سيرة أمير المؤمنين (علیه السّلام) لوجدناه ما كفر حتى يؤمن أو يسلم، بل أنه ولد ونشأ وتربى في بيت دين وإيمان فقد رباه رسول الله(صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) وقد قال واصفاً حاله مع رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )«ولم يجمع بيت في الإسلام يومئذ غیر رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )وخديجة وأنا ثالثهما، أرى نور الوحي والرسالة وأشم ريح النبوة»(2)،ثم قال: «وضعني في حجره وأنا ولد يضمني إلى صدره ويكنفني في فراشه ويمسني جسده ويشمني عرقه وكان يمضغ الشيء ثم يلقيمنيه»(3).
فمن يصع معه رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )ما قد ورده ذكره وهو ربيبه الا ينبغي ان يكون أول من يختص به في أمر عظيم مثل أمر الإسلام بل وقد ورد عن رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )انه لم يعرض عليه الإسلام وحسب وانا اسلما طويلاً سراً دون ان يعلم بهما شخص فقال رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) في هذا «صلت الملائكة علي وعلى علي بن
أبي طالب سبع سنین قالوا ولم ذلك يارسول الله: قال لم يكن معي من الرجال غیره»(4).
وروي عن سلمان المحمدي قال: عن رسول الله(صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) أولكم وارداً عليّ
ص: 107
الحوض أولكم إسلاما علي بن أبي طالب»(1).
وهنا نستدل با ورد عن رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) فيما أوردناه أيضا أن علياً (علیه السّلام) هو مصداق الصديقين على لسان رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) وأنه هو السابق إلى الإسلام، فلا يتكلم الرسول (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) بكلام جزاف أبدا ولا يطلق الكلام دون تخصيص وتأكد،
فعندما فضل عليا (علیه السّلام) لسبقه كان ذلك معلوماً عند كافة المسلمين ممن شهد قوله.
وردت عن علي (علیه السّلام) أقوال واستشهادات فيما يخص سبقه وفضله، منها قوله: «أنا عبدالله وأخو رسوله، وأنا الصديق الأكبر لا يقولها بعدي إلا كاذب مفتر، صليت قبل الناس بسبع سنن»(2) .كذلك قوله مفتخراً على معاوية(3):
سبقتكم إلى الإسلام طراً ***غلاماً ما بلغت أوان حلمي
كما ورد عنه أنه قال: «آمنت قبل أن يؤمن أباپبكر وأسلمت قبل أن يسلم»(4).
وهذه المفاخرات والاحتجاجات من أدل الأدلة على أن علياً (علیه السّلام) أول من آمن وصدق وأسلم من دون منازع، فلو انه كان مسبوقا بهذا الأمر من قبل أحد
ص: 108
غيره لما افتخر ولكان هناك من رد عليه فخره من الصحابة والتابعين لكنه سُلّم
له بالفضل وأقروا له بالسبق والإيمان.
هناك كثير من الشهادات التي دلت على سبق أمير المؤمنين إلى الإسلام على خلاف مازعمه الرازي الذي يرى سبق أبي بكر لعلي (علیه السّلام)،بل إن هناك شهادات على تأخر إسلام أبي بكر حتى سبقه عدد من الصحابة إلى الإسلام.
منها ما ورد عن ابن أبي رافع أنه قال: إن علياً مكث يصلي سبع سنين وأشهر
متخفياً عن الناس قبل أن يصلي أحد(1).
كذلك ماورد في رواية ابن يحيى بن عفيف عن أبيه عن جده في مقدمه إلى
مكة ومشاهدته لرسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) يصلي مع خديجة والإمام علي (علیه السّلام)(2) دليلٌ على سبقه إلى الإسلام. وماورد عن ابن عباس بقوله: إنه أول عربي وعجمي صلّى مع النبي(3):
كما ورد عن زيد بن أرقم(4). قال: أول من أسلم مع رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )علي
ص: 109
(علیه السّلام)(1)،بل وأكثر من هذا ما جاء من احتجاجات منها ما وقع فيها الصحابي عبدالله بن خباب(2)،الذي قتلته الخوارج فإنهم قالوا له: ما تقول في علي بن أبي طالب؟ قال: أقول إنه أمير المؤمنين وأول المسلمين إياناً بالله وبرسوله(3).
وجواب عبدالله بن خباب لم يكن اعتباطاً وإنا لعلمه بمن سبق إلى الإسلام
والإيمان بالله وبرسوله، كذلك ماورد من مراسلات محمد بن أبي بكر مع معاوية
إذ قال له في كتاب أرسله إليه: فكان أول من أناب وأجاب وصدق ووافق وأسلم
وسلم أخوه وابن عمه علي بن أبي طالب.... وهو كان أول الناس إسلاماً وأصدق الناس فيه(4).
وإن شهادة محمد بن بن أبي بكر هي رد ٌ قاطع على الرازي الذي ادعى وتزعم
فكرة السبق، ولو كان محمدٌ عالمٌ بأن أباه قد سبق علياً لما استشهد بفضل علي وسابقته بل إنه كان عالماً بتأخر إسلام أبيه، وإنه قد احتج بما هو معروف عند معاوية وسائر المسلمين.
أما بشأن ادعاء الرازي في سبق أبي بكر إلى الإسلام فإن ادعاء الرازي هذا يتعارض مع المنطق أولاً ومع الأخبار الصحيحة، فقد ورد عن محمد بن سعد بن
ص: 110
أبي وقاص (1)،قال: قلت لأبي: أكان أبو بكر أولكم إسلاماً؟ فقال: لا ولقد أسلم
قبله أكثر من خمسين رجلاً(2).
وهذا إن دلّ على شيء فيدل على تأخر إسلام أبي بكر إلى مدة تكاثر فيها
المسلمين وقوي أمرهم، وما يعضد هذا القول ماورد عند ابن اسحاق « ثم أن
أبا بكر لقي رسول الله(صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) فقال له أحق ماتقول قريش يامحمد، من تركك آلهتنا وتسفيهك عقولنا وتكفيرك آبائنا فقال يا أبا بكر اني رسول الله ونبيه... فأسلم وكفر بالأصنام»(3).
جهر بدعوته التي استمرت سرّاً ثلاث سنين، أصبح رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) على خط المواجهة مع المشركين، فعلم أبو بكر وجاء إلى الرسول يستفهم منه الأمر، ويكون هذا على أقل تقدير بعد ثلاث سنين من البعثة لأنه ما صدع بأمره إلا بعد ، ثلاث سنين بعد نزول قوله تعالى: «فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ »(4)، فهنا وقع الأمر بالجهر والاعراض عن المشركين وفي هذه الثلاث سنوات التي كانت الدعوة سرية دخل عدد من الرجال إلى الإسلام وكان من هؤلاء أبوذر(5) ورجالٌ من اقاربه الذين سبقوا غيرهم إلى الإسلام(6).
ص: 111
وقد علق النيسابوري حول إسلام علي (علیه السّلام) قائلاً : ولا أعلم خلافاً بين أصحاب التواريخ أن علي بن أبي طالب أولهم إسلاما(1).
كما ورد عن أبي بكر قوله: «يا لهفي على ساعة تقدمني فيها ابن أبي طالب فلو سبقته لكان لي سابقة الإسلام»(2).
وهذا الحديث الذي ورد عن أبي بكر شهادة من صاحب القضية نفسها، فهو
يرى أنه لم يحتج بأنه أسبق من علي عندما تولى الخلافة، كما أنه لم يدعي لنفسه لقب الصديق وإنا لقبه به أناس آخرون(3)،لأن ما ورد عى لسان رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) ينافي هذا، فروى ابن عباس عن رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )قال: «الصديقون ثلاثة: حزقيل مؤمن آل فرعون، وحبيب النجار صاحب آل يسين، وعلي بن أبي طالب وهو أفضلهم»(4).
وقد روى الرازي هذا الحديث في تفسيره عند كلامه على مؤمن آل فرعون،
إلا أنه لم يتركها من دون أن يجعل فيها أفضلية لأبي بكر، فقد أورد قولاً عن الإمام الصادق (علیه السّلام): كان أبو بكر خيراً من مؤمن آل فرعون لأنه كان يكتم إيمانه وقال أبو بكر جهاراً: أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله فكان ذلك سرّاً وهذا جهاراً(5).
ص: 112
وهنا قد تعارض الإمام الصادق مع جده (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) وهذا من المحال، لأنهم لايسيرون الا على خطاه، وأحاديثه، فكيف يتلفظ بأقوال مناقضة لرسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) ، وهنا قد أعتمد الرازي على حديث مروي في مصدر واحد وهو الترمذي(1)، وقد حرفه وزوره فالحديث مروي عن علي (علیه السّلام) ومفاده أن قريش أرادوا قتل رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )بعد وفاة أبي طالب، فجاؤوا إليه وأخذوا يجرونه ويتلتلوه، وكان أبو بكر يتلتهم وينادي، اتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله، فقال علي عندئذ، ليوم أبي بكر من مؤمن آل فرعون، إن ذلك رجل كتم إيمانه فأثنى الله تعالى عليه في كتابه وهذا أبو بكر أظهر إيمانه.
ويظهر أن الرازي قد اعتمد ذيل الحديث ونسبه للامام الصادق ليُظهر أبا بكر بمظهر المدافع عن الإسلام وعلي (علیه السّلام) ينظر فقط لما يدور، إذ ما يثير الدهشة بما ورد أن علياً (علیه السّلام) حاضرٌ في تلك الحادثة ولم يُحدث أمراً بل و يثني على أبي بكر لأنه دافع عن رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) فلهذا لم يقم الرازي بنقل الحديث وإنا اكتفى بالتدليس والتحريف وليجعل أبا بكر أفضل من علي(علیه السّلام) الذي هو أفضل من مؤمن آل فرعون.
2قوله تعالى «وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ »(2)، كانت هذه الآية من الآيات التي بحثها الرازي بأسلوب الإقصاء عمن اختص بها، فقبل أن نورد آراء المفسرين فيها لابد من معرفة رأي الرازي أولاً.
للرازي في هذه الآية قولان:
الأول: إن المراد شخص واحد، فالذي جاء بالصدق محمد (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )والذي صدق
ص: 113
به هو أبو بكر، وهذا القول مروي عن علي بن أبي طالب(علیه السّلام)(1).
والثاني: إن المراد منه كل من جاء بالصدق، فالذي جاء بالصدق الأنبياء،
والذي صدق به الأتباع، واحتج القائلون بهذا القول بأن الذي جاء بالصدق
جماعة، وإلا لم يجز أن يقال أؤلئك هم المتقون(2).
ثم علق على هذين القولين : وأعلم أنّا سواء قلنا المراد بالذي صدّق به
شخص معين ، أو قلنا المراد منه كل من كان موصوفاً بهذه الصفة فإن أبا بكر داخل فيه(3).وله آراء مكملة لهذا القول سنوردها بعد الرد على مقدمة آرائه.
قبل أن نرد على الرازي، لابد من التطرق إلى آراء المفسرين في هذه الآية، ومن أبرز أولئك.
1- الصنعاني: عن قتادة: والذي جاء بالصدق يعني الرسول (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )«وصدق به» قال قتادة: «وصدق به المؤمنون»(4).
2-الطبري: أورد عدة آراء كان أحدها عن علي (علیه السّلام):والذي جاء بالصدق»
قال محمد (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) وصدق به قال: أبو بكر(5) ورأي آخر قال: وقال آخرون الذي جاء بالصدق: رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) والصدق القرآن والمصدقون به المؤمنون(6).
3- الثعلبي: أورد عن مجاهد قال: «والذي جاء بالصدق» يعني الرسول (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )
ص: 114
وصدقّ به» يعني علي بن أبي طالب (علیه السّلام) وقيل هو أبو بكر وأصحابه(1).
4-السمعاني: أورد أربعة آراء، أحدها الذي صدق به هم المؤمنون(2)،والآخر أنه النبي محمد (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )والآخر أنه أبو بكر والآخر علي(علیه السّلام).
5-البغوي: أورد آراء عدّة أهمها أنه أبو بكر، وآخر أنهم المؤمنون وآخر أنهم
أتباع الأنبياء(3).
نكتفي بهذه الآراء التي تمثل أهم مدارس التفسير التي اعتمد عليها الرازي
أولاً، وذات مقبولية عند أغلب المدارس الإسلامية، ولو تأملنا في آرائهم لوجدنا
أن جميع تلك الآراء ما خلا قولهم «إنه أبو بكر» هي أقرب إلى نسبة تلك الصفة إلى الإمام علي(علیه السّلام)،كذلك فإن ماورد بأنهم المؤمنون فهذا لايبعدنا عن اختصاصها بأمير المؤمنين بل وهو الرأس في هذا المعنى، فقد ورد عن ابن عباس قوله «ما أنزل الله آية في القرآن فيها يا أيها الذين آمنوا إلا وعلي أميرها وشريفها»(4) ورأساً لمن يسميهم العبد بالمؤمنين.
أما لقول إنهم أتباع الأنبياء، فهذا أيضاً يدخل فيه أمير المؤمنين ً ويكون رأساً
وشريفاً فيه، لأنه سيد الاتباع وسابقهم وشريفهم لما أوردناه من أقوال في سبقه وإيمانه منها قول رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ):«السبق ثلاثة: فالسابق إلى موسى يوشع بن
ص: 115
ذنون، والسابق إلى عيسى صاحب يس والسابق إلى محمد علي بن أبي طالب»(1).
وفيها قول علي (علیه السّلام) على نفسه
سبقتكم إلى الإسلام طراً*** غلاماً، ما بلغت أوان حلمي(2)
أما بشأن الرأي المنقول عن الإمام علي (علیه السّلام) في أن الذي صدق به هو أبو بكر، فهذا ينافي المنطق بل وإنه مدعاة لمناقضة الإمام لرسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )أولاً، ثم مناقضة نفسه ثانياً، لأنه كيف يصف أبا بكر بهذا الوصف وهو يعلم بوصف رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) إليه بأنه هو السبق وهو أول المؤمنين، ثم هو نفسه يصف حاله بأنها أسبق المؤمنين وهو الذي صدق رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) حين كذبه الناس، إلا أنه يمكن أن نعلل إيراد هكذا حديث عن الإمام علي (علیه السّلام) نفسه، ولم يرد هذا الحديث يصبح نفي هذه الفضيلة عن أمير المؤمنين أسهل وقبوله من قبل المسلمين أكثر منطقاً.
إلا أنه بعد التدقيق في الحديث وجدنا أن الرازي قد اعتمد الطبري مصدراً في
هذا الحديث، وأن سلسلة الحديث التي أوردها الطبري تبدأ ب(أسيد بن صفوان،)
وبعد التحقيق في هذه الشخصية اتضح أنها مجهولة الأصل، وأن اسمه تبين مجهولاً لا أثر له، ولا يعرف له نسب أو عشيرة و لاسنة وفاة ولا سيرة ذاتية(3)،وقال عنه السخاوي: أحد المتروكين(4)،وبهذا فهو شخص مختلق من قبل الوضاعين والمحرفين فوضعوه ليجعلوه طريقاً من طرق الوضع.
ص: 116
ولم يكتف الرازي بإيراد هذا الحديث فقط وتعليقه بأن أبا بكر أولى بها من
علي (علیه السّلام) بل تعدى إلى قوله: «فدخول أبي بكر فيه ظاهر وذلك لأن هذا يتناول أسبق الناس إلى التصديق وأجمعوا على أن الأسبق الأفضل إما أبو بكر وإمام علي وحمل هذا اللفظ على أبي بكر أولى، لأن علياً (علیه السّلام) كان وقت البعثة صغيراً، فكان كالولد الصغير الذي يكون في البيت، ومعلوم أن أقدامه على التصديق لايفيد مزيد قوة وشوكة في الإسلام فكان حمل هذا اللفظ إلى أبي بكر أولى»(1).
يتضح لنا من رأي الرازي أعلاه أنه كان متيقناً بسبق الإمام علي (علیه السّلام) إلى الإسلام والتصديق برسول الله ودعوته المباركة، لأنه قد وضع خيارين لنفسه إما أبي بكر أو علي، ثم يرى أن أبا بكر أولى بهذا حتى وإن سبقه علي (علیه السّلام) لأنه كان كبيراً وعلي (علیه السّلام) كان صغيراً.
أقول: إن المنهج الرباني والرسالة المحمدية لم يكن مقياسها لفضائل المؤمنين
السن، وانما كان مقياسها هو ميزان الأعمال ومدى أهمية تلك الأعمال، فإن كانت عظيمة وصدرت من صغير السن، فهي عظيمة وصاحبها عظيم، وإن منهج الرب (عزّو جلّ )قد وضح هذه القاعدة في آياته التي تخص الأنبياء أمثال يحيى (علیه السّلام)« وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا»(2)وعيسى (علیه السّلام) إذ قال َ «قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا »(3) فلم يكن مقام يحيى وعيسى أقل من الشيوخ من أنبياء الله (عزّو جلّ )كذلك فلم يكن للعمر فضلاً في مسألة الطاعة لله (عزّو جلّ )فقد أرسل يحيى وعيسى (علیهما السّلام)
وهما في مرحلة الصبى كذلك فقد علق الماتريدي على الآية التي تخص عيسى
ص: 117
فقال: «شهد في حال طفولته بوحدانية الله وربوبيته واخلاص عبوديته وذلك من
أعظم نعم الله عليه ومننه»(1).
وبهذا فيكون عليٌ (علیه السّلام) مشابهاً في موقفه من دعوة الرسول وشهادته بوحدانية الله وتصديقه لاخبار الغيب، لعيسى ويحيى (علیه السّلام) وله من الفضل ما لا يقاس به أحد من المسلمين لأنه صغيرٌ وقد وعى كبار الأمور وعظامها التي جهلها شيوخ قريش وكبارها، فهو أفضل ممن صدق بها بعده صغيراً كان أم كبير.
كذلك فقد ناقش المأمون في إحدى مناظراته مع علماء المذاهب الإسلامية في
شأن السبق إلى الإسلام وهل كان لسن أمير المؤمنين (علیه السّلام) أفضلية في هذا الأمر، فقد أفحمهم عندما سألهم: أكانت دعوة رسول الله لعلي (علیه السّلام) من قبل الله أم من قبل نفسه؟ فأجابوا: بل من قبل الله: فقال: فهل من صفة الجبار جل ثناؤه أن يكلف رسله دعاء من لايجوز عليه الحكم؟(2)،إلى آخر المناظرة التي انتهت
بإفحام العلاء وإثبات سبق الإمام إلى الإسلام وإنه ما كان الصبى أو الكهولية مقياساً للفضل. إذاً فعلي (علیه السّلام) كان على قدر تحمل المسؤلية وإن دعوة رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) له كانت بأمر الله (عزّو جلّ )ومناظرة المأمون قد تكفي للرد على رأي الرازي بشأن أفضلية أبي بكر في السبق لأنه كبير السن بالإضافة إلى ما أوردناه من سبق علي (علیه السّلام) إلى الإسلام وتأخر أبي بكر كذلك ماورد من اختصاص الإمام علي
(علیه السّلام) بهذه الآية عند مصنفي المسلمين فقد ورد عن مجاهد قال: «والذي جاء بالصدق وصدق به» قال: جاء محمد (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )وصدق به علي بن أبي طالب (علیه السّلام)(3)
ص: 118
أما عن الآية اللاحقة لها، التي تشير إلى تكفير الله (عزّو جلّ )لسيئات ذلك المصدق «لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ....»(1)فظاهر الآية يدل على ارتكاب المعاصي التي منها الشرك وعلي(علیه السّلام) لم يرتكب تلك المعاصي فلا يكون هو المعني(2).
نقول: إن هذا الاحتجاج يتعارض مع منهج القرآن، لأن الله (عزّو جلّ )قد
خاطب بعض أنبيائه بآيات أشار فيها إلى غفرانه لذنوبهم وتجاوزه عنها علماً أن الأنبياء لم يرتكبوا السيئات التي يحتاجون إلى غفرانها، إذن فلماذا يخاطبهم الله بالمغفرة وتكفير الذنوب ومنها قوله تعالى «لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ ...»(3)وقوله تعالى«قَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ ....»(4) وقوله: َ «وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ »(5).
فظاهر هذه الآيات يدل على ارتكاب النبي (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )للمعصية لكن العقل والمنطق وسيرة الرسول (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )تدل على عدم ارتكاب النبي للمعاصي، فلماذا يخاطبه ربه بهذه اللهجة، أجاب الشيخ المفيد فقال: «إن المراد بذكر التكفير هنا ليؤكد التطهير له (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) من الذنوب وإن كان لفظ الخبر على الاطلاق فإنه مشترط
بوقوع الفعل لو وقع، وإن كان المعلوم غير واقع أبداً للعصمة بدليل العقل الذي
ص: 119
لايقع فيه اشتراط»(1) وبهذا يكون ذكر الآية اللاحقة هو لأثبات التطهير للمصدق فيكون أكثر طهراً، كجزاء لما قدم من عظيم الفضل و الطاعة.
3. 3قوله تعالى:«وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ »(2).
إن منهج الفخر الرازي في تفسيره للآيات القرآنية التي تخص السبق إلى
الإسلام، وتصديق الرسول الأكرم (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) واحدة وهي المنازعة على نسب السبق والفضل في التصديق إلى أبي بكر دون أي منازع، إلا أن الرازي تجاهل قضية السبق ولم يتعرض لأبي بكر حتى مصداق أولئك السابقين وهذا غريب عن منهجه في التفسير، ولعل هذا يعود إلى ما أوردناه في الفصل الأول بخصوص نسبة الكتاب إلى الرازي، فقد أوردنا أنه ربما أتم أحد تلامذته نقصا كان في تفسيره وخصوصاً سورة الواقعة.
أما عن تفسيره هذه الآية فالرازي أول ما بدأ به هو تفسيرٌ لغوي في معنى
السابقين ولماذا كررت مرتين فهو يرى(3):
1- أن يكون لشهرة المبتدأ بما هو عليه فلا حاجة إلى الخبر عنه.
2-للاشارة إلى أن المبتدأ إما لايحيط العلم به ولا يخبر عنه ولايعرف منه إلا
نفس المبتدأ، وقوله: (السابقون السابقون) أي لا يمكن الأخبار عنهم إلا بنفسهم، فإن حالهم وما هم عليه فوق أن يحيط به علم البشر.
أما عن قوله: أولئك المقربون، فينبغي الحصر أن لا يكون مقربا غيرهم،فإن
ص: 120
قيل والذين ورد ذكرهم من المؤمنين ً قلنا إن السابقين أعلى شأناً ورتبةً وقربةً(1).
وأما معنى السابقين فيرى الرازي قولاً وسطاً حسب تعبيره، إن المراد منه أن
السابقين هم السابقون إلى الخيرات في الدنيا وهم السابقون إلى الجنة في الآخرة(2).
وهذا أهم ما أورده الرازي بخصوص السابقين أما عن آراء المفسرين فيها
فهي مختلفة وأهمها:
1- هم الذين سبق لهم من الله الاختيار والولاية قبل كونهم وهم الذين سبقوا
في الدنيا فسِبق ِ الأنبياء إلى الإيمان بالله، وسِبق الصديقين والشهداء من الصحابة(3)
2-هم الذين سبقوا إلى الإيمان بالله ورسوله، وهم المهاجرون والأولون(4).
3- الذين سبقوا إلى توحيد الله والإيمان برسوله(5).
4-السابقون إلى الإسلام وهو رأي عكرمة(6).
5-السابقون المخلصون الذين سبقوا إلى مادعاهم الله إليه وشقوا الغبار في
طلب مرضاة الله عز وجل(7).
6-الذين سبقوا إلى الإيمان والطاعة بعد ظهور الحق من غير ٍ تلعثم وتوان أو
ص: 121
سبقوا في حيازة الفضائل والكمالات(1)
وهذه أهم الآراء التفسيرية التي تخص المدارس الإسلامية، وبعد الرجوع
إلى الصفات التي أوردها المفسرون يتضح لنا أنها جميعا مصداقها هو الإمام علي (علیه السّلام) فهي لاتتوفر ولاتكتمل إلا في شخصه، وهو السابق إلى الرسول (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) والمصدق به قبل الناس، وهو الذي آمن بغيب الله الذي جاء به رسوله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )وقد ورد عن رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )قوله لفاطمة عليها السلام حين زوجها لعلي (علیه السّلام): «زوجتك خير أمتي أعلمهم علماً وأفضلهم حلما وأولهم سلما»(2) وهذا فضلا عما أوردناه بخصوص سبق الإمام علي إلى الإسلام.
أما بشأن اختصاص الإمام علي (علیه السّلام) بهذه الآية فهناك كثير من الأدلة والآراء التي أشارت إلى هذا ومنها:
1- المأمون العباسي (ت218ه833م) في مناظرته قال: «السابقون السابقون
أولئك المقربون» انما على من سبق إلى الإسلام، فهل علمت أحداً سبق علياً إلى الإسلام؟(3)
والمأمون من البيت العباسي الذين طالما حاربوا أهل البيت (علیهم السّلام)وانكروا فضائلهم بل وعاقبوا على محبتهم، فتكون شهادة أكثر وقعا من غيرها.
2-ابن أبي حاتم(4)أورد في تفسيره للآية عن ابن عباس قوله: يوشع بن ذنون
ص: 122
سبق إلى موسى، ومؤمن آل يس سبق إلى عيسى وعلي بن أبي طالب(علیه السّلام) سبق إلى رسول الله(صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) وهذا الحديث مرتبط بقول رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ): السبق ثلاثة وذكر الأشخاص الثلاثة سابقي الذكر(1).
3-الحاكم الحسكاني(2) أخرج عن السدي قال: نزلت في علي بن أبي طالب(علیه السّلام) كما أخرج عن ابن عباس قال: سابق هذه الأمّة علي بن أبي طالب (علیه السّلام)
4- الموفق الخوارزمي(3)في تفسيره للآية قال «قوله تعالى السابقون السابقون، قيل هم الذين صلوا إلى القبلتين، وقيل السابقون إلى الطاعة، وقيل إلى الهجرة، وقيل الإسلام، وإجابة الرسول، وكل ذلك موجود في أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(علیه السّلام)».
وهذا الرأي يكاد يكون شاملاً لجميع الآراء فهو يرى أن كل صفة أوردها
المفسرون هي موجودة في علي (علیه السّلام) مفقودة في غيره، أو إنه سابق فيها لغيره.
كذلك فقد ورد عن الإمام علي (علیه السّلام) في احتجاجه على الصحابة قوله: انشدكم بالله أمنكم من نزل فيه «والسابقون السابقون أولئك المقربون» وكنت سابق هذه الأمة تدرون غيري؟ قالوا: اللهم لا(4)
كما ورد عن علي (علیه السّلام) قال: «السابقون السابقون» نزلت فيّ(5).
ص: 123
كذلك ورد عن سليم بن قيس الهلالي(1) في مناشدة أمير المؤمنين (علیه السّلام) للصحابة فقال: أنشدكم الله أتعلمون حيث نزلت «السابقون السابقون أولئك
المقربون» سئل عنها رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) فقال: أنزلها الله في الأنبياء وأوصيائهم فأنا أفضل أنبياء الله ورسله، وعلي وصيي أفضل الأوصياء؟ قالوا: نعم(2).
فهذه الأقوال منقولة عن الإمام علي (علیه السّلام) أما ما ورد عن غيره فقد ورد عن ابن عباس في كلامه مع ابن الزبير واصفا أمير المؤمنين (علیه السّلام) فقال: حتى اختار الله تعالى لها نوارا وبعث لها سراجا فانتجبه طيباً من الطيبين لايسبه بمسبه ولا يبغي عليه غائلة فكان احدنا وولدنا وعمنا وابن عمنا ثم إن أسبق السابقين إليه منا وابن عمنا ثم تلاه في السبق أهلنا ولحمتنا واحدا بعد واحد(3).
وكلام ابن عباس وشهادته صريحة وواضحة فهو لم يدع السبق لغير علي(علیه السّلام) مع وجود غيره من أبناء عمومته وأعمامه وأقاربه، بل شهد بفضل علي (علیه السّلام) أنه أسبق السابقين وأمام جمع من الصحابة وأبناء الصحابة في المسجد(4) فلو كان الأمر مجهولا عندهم لما تكلم فيه ابن عباس بل إنه تكلم بأمر معروف عند صغارهم وكبارهم فإنهم يعلمون علم اليقين ً أن علياً أسبق السابقين وأولهم إيمانا،
ص: 124
ولو تكلم بأمر مفترى لرد عليه من كان حاضراً ولرد عليه ابن الزبيرأيضاً،
وعند ما رد ابن الزبير رد بكلام بعيد عن السبق وإنا بأمر بعيد عن كلام ابن عباس وإنا بتهم وافتراءات(1).
وهناك من الكتاب المحدثين من وصف أمير المؤمنين (علیه السّلام) بصفة السبق على السابقين بقولهم «أسبق السابقين الأولين»(2)،وهذه أيضاً من علماء محدثين تكون ردّاً أيضا بما أوردناه من أدلة وبراهين بهذا الخصوص.
بعد إيراد هذه الأدلة يتضح لنا اختصاص أمير المؤمنين بهذه الآية من دون غيره من المسلمين، ولا نعلم لماذا لم يتطرق الرازي أو من أكمل تفسيره لهذه الآية،
إلى قضبة السبق وأهميتها ومن خُص بالآية، لكن الظاهر أنه أسلوب اقصائي، إذ
تغافل الرازي عن مصاديق الآية واكتفى بالمضامين اللغوية فقط.
بعد أن دافع الرازي عن فضيلة السبق التي نسبها إلى أبي بكر وإنه أسبق السابقين وأول المسلمين، وهو المصدق والمؤمن الأول، لم يكتفِ بهذا، بل زاد إلى التقليل من أهمية إسلام علي (علیه السّلام) ليجعل من فكرة السبق أكثر مقبولية لدى قارئ الكتاب وليجعل فكرة المفاضلة مقبولة لدى القارئ فاتبع المفاضلة العمرية (السن) أساسا في هذا، فهو يورد رأيه (اتفق أهل الحديث على أن أول من أسلم من الرجال أبو بكر، ومن النساء خديجة، ومن الصبيان علي (علیه السّلام)ومن الموالي
ص: 125
زيد(1)،فعلى هذه التقدير يكون أبو بكر من السابقين الأولين(2).
ثم يورد رأيه في موضع آخر (إن السبق إلى الإيمان إنما أوجب الفضل العظيم
من حيث إنه يتقوى به قلب الرسول (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) ويصير هو قدوة لغيره، وهذا المعنى في حق أبي بكر أكمل، وذلك لأنه حين أسلم كان رجلاً كبير السن مشهوراً فيما بين الناس، واقتدى به جماعة من أكابر الصحابة)(3).
يتضح لنا من آراء الرازي التي ذكرت آنفاً، أن أثر السياستين الأموية
والعباسية، واضح كل الوضوح على تلك الآراء لأن هذه المقولة والرأي ما هو
الا رأي مسيس من قبل السلطة التي جعلت إقصاء الإمام علي (علیه السّلام) عن مناقبه وفضائله قاعدة أساسية يرتكز عليها الحكم الأموي والعباسي إذ جعلوا من إقصائه أمراً مفروضاً على المحدثين وكتاب السيرة والتاريخ لأنهم رأوا أن في ذكر تلك الفضائل اثارة للعامة عليهم، وأن إقصائه هو ديمومة لدولتهم، حتى منعوا ذكر اسمه في سند الأحاديث، فكان الراوي يقول عن (أبي زينب) أو (عن رجل من قريش)(4).
وبهذا فإن من المؤكد أن يكون أمر إسلام أمير المؤمنين من أول تلك الأمور
التي يقصيها رجال السلطة ومن كان يكنٌّ العداء لأمير المؤمنين (علیه السّلام) ويقللون
ص: 126
من أهمية إسلامه حتى لايكون له الفضل والمنقبة التي لايصل إليها غيره ممن جعلوهم أنداداً له، وأن الرازي لم يكن مبتدعاً لهذه المسألة وإنا قد سبقه بها محدثو السلطة الأموية والعباسية إلا أن الرازي لم يرشدنا إلى المصدر الذي اعتمده في هذه المعلومة، غير قوله (اتفق أهل الحديث) وبعد الرجوع إلى مصادر السيرة والحديث التي رجع إليها الرازي والتي لم يرجع إليها، وجدنا أن هذا التقسيم ورد عند الترمذي (ت279ه) صاحب السنن، لأنه أورد ماذهب إليه الرازي فقال: «وقال بعض أهل العلم أول من أسلم من الرجال أبو بكر وأسلم علي وهو غلام ابن ثمان شنين، وأول من أسلم من النساء خديجة»(1).
فيبدو أن الترمذي قد نقل هذا التقسيم، إلا أنه لم يورد لنا من هم أهل العلم
الذين وضعوا هذا التقسيم، غير أن الواضح من هذا التقسيم هو جعل إسلام
علي (علیه السّلام) أمراً صبيانياً لا دراية فيه، والفضل يكون لأهل الدراية والمعرفة، الذين يكبرونه سناً، وهذا التقسيم يبدو أنه جاء على وفق سياسة ممنهجة لإقصاء الإمام علي(علیه السّلام) لأنهم لم يتمكنوا من تأخير إسلامه فمالوا إلى هذا التقسيم ليكون أكثر مقبولية عند عامة الناس.
وبعد التدقيق اتضح أن واضع هذا التقسيم هو أبو حنيفة(2)،عندما سئل من أول من أسلم فأجاب: أول من أسلم من الرجال الأحرار أبو بكر ومن النساء
ص: 127
خديجة، ومن الموالي زيد بن حارثة، ومن الغلمان علي بن أبي طالب(1).
وبهذا يكون أبو حنيفة أول من جمع الآراء وجعلها في تقسيم مرتب، سار عليه
من جاء بعد من الكتاب والمحدثين الذين لم يدققوا، بل إنهم رأوا أن رأي أبي حنيفة مرضٍ للجميع لأنه جعل علياً أول من أسلم من الصبيان وأبو بكر أول من أسلم من الرجال، وخديجة أول من أسلم من النساء.
وللرد على أبي حنيفة والرازي معاً. نقول: عندما جاء الإسلام وبدأ رسول
الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) بدعوة المسلمين، هل كان هناك عدد من الصبيان الذين أسلموا ليكون علياً(علیه السّلام) أولهم، وهل أن رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) قد وضع تقسيماً لفئات السابقين فقال: أول من أسلم من الرجال والنساء والموالين والصبيان وهل كانت عند رسول الله مفاضلة بين صبي وشيخ أم مفاضلتة كانت في السبق، كذلك فمن المغالطة قولهم عن علي: أول من أسلم من الصبيان فهو متى أشرك حتى أسلم، ومتى كفر حتى آمن، وإنما هو مسلم على الفطرة، فضلاً عن أن رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )كان يعد إسلام علياً فضيلة وسابقة ومنقبة لاتساوى بها مناقب غيره، فقول رسول الله له: السبق ثلاثة وإيراده لعلي بأنه السابق إلى محمد (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )(2).
كذلك فإن رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) لم يكن يرى علياً صبياً لما يمتلكه من إيان ومعرفة فقال له(صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ):«لم يكن معي من الرجال غيره» (3)كذلك قوله لعلي أمام الصحابة: «ياعلي أنت أول المؤمنين إيمانا وأول المسلمين إسلاما»(4) وبهذا فإن رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )
ص: 128
لم يكن يرى علياً غلاماً صبياً بل يراه رجلاً عارفاً، ولم يكن سن المسلم قياسا عند رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )،ولو كان هذا الأمر معتمداً عند رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) لأباح به، ولكان الصحابة قد أباحوا به بعده.
كذلك فإن الإمام علي (علیه السّلام) كان قد افتخر بإسلامه بقوله: آمنت قبل أن يؤمن أبا بكر وأسلمت قبل أن يسلم(1).
فهل من يرى أن إسلامه إسلام صبيان صغار يفتخر بهذا وإنا كان إسلامه أفضل من غيره لأنه لم يخالط بشرك أو انكار وحدانية الرب (عزّو جلّ ) فهنا تبطل عندنا
نظرية الرازي في عده علياً (علیه السّلام) أول الصبيان إسلاماً وإنا المقياس هو الفضل في السبق وحسب.
أما عن قول الرازي بأن السبق إلى الإسلام أوجب الفضل لأنه يتقوى به
قلب رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) ،وأبو بكر أحق بهذا الأمر لأنه كان شيخاً كبيراً وفي موضع آخر عند حديثه عن أول من صدق فقال: وحمل هذا اللفظ على أبي بكر أولى لأن عليا (علیه السّلام) كان وقت البعثة صغيراً فكان كالولد الصغير الذي يكون في البيت أما أبو بكر فإنه رجلٌ كبير في السن كبير في المنصب فاقدامه على التصديق يفيد قوة وشوكة في الإسلام فكان حمل هذا اللفظ إلى أبي بكر أولى(2).
فهناك أدلة عدة وإثباتات لنفي فكرة الرازي ورأيه في عدم أهمية إسلام علي
(علیه السّلام) مقابل إسلام أبي بكر.
أ - لو كان رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) يرى أن إسلام علي (علیه السّلام) غير مجدي نفعاً ولا
ص: 129
أهمية لما دعاه، وعندما دعاه رسول الله(صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) إلى الإسلام فإن هذا ماكان عند رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )وإنما من عند الله عز وجل لقوله:«وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى »(1).
وقد حاج المأمون العباسي بهذا: عندما أجابه مناظره بقوله: إن علياً أسلم
وهو حديث السن لا يجوز عليه الحكم وأبو بكر أسلم وهو مكتمل يجوز عليه
الحكم. فرد عليه المأمون: فهل يخلو رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) حين دعاه إلى الإسلام من أن يكون دعاه بأمر الله أو تكلف ذلك من نفسه؟ فقال: مناظره: بل دعاه بأمر الله(2).
وبهذا تكون دعوة رسول الله لعلي (علیه السّلام) بأمر الله ومن يدعوه الله للإسلام، لابد وان يكون أهلاً لتحمل المسؤولية وتحمل مشاق ما دعي له وأتعابه، ولم يكن مقياس الرب ( عزّ و جلّ)هو لصبا أو الشيخوخة.
ب- لو كان رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) يرى أن علياً صبياً صغيراً لا أهمية لإسلامه لما دعاه إلى الاجتماع الذي عقده مع بني هاشم عند نزول الآية: «وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ »(3) لكان دعا أبا بكر ليحضر ذلك الاجتماع، لأنه أعلى منه شأناً وأكبر منه سناً، لما قال له رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) بعد أن أجابه لدعوته: إن هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم(4) ،فلو كان رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) ينظر إليه كسائر الغلمان لما قال له هذا
ص: 130
وأمام مشيخة بني هاشم وعليا (علیه السّلام) كان صبياً حدثاً.
ج - إعلان رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) وأمام الملأ من الصحابة أن عليا (علیه السّلام) أول المسلمين والمؤمنين ً وذكره لهذا الأمر على انه فضيلة ومغفرة، مع افتخار علياً نفسه بهذا الأمر، وقد رد البستي المعتزلي على من يقول بأن علياً أول الصبيان فقال: هذا جهل فإن علياً افتخر بإسلامه، فلو دعاه الرسول (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) وهو غير كامل العقل لكان ذلك طعناً في نبوته.... فلعلمنا أنه دعاه وله من العقل ما يميز به بيت
المعجز والحيلة والنبي والمتنبي، والمشرك والموحد وهذا يوجب نقص الحاده فيه: «كمال عقله على الصبا وشابه المسيح عيسى(علیه السّلام) في كمال عقله على الصغر فهو كرامة له ومعجزة لرسول الله ومعجزة لعلي»(1).
وهذا القول صادر عن عالم من علماء المسلمين، فهذا لم يكن نابعاً عن عاطفة
وإنما عن فكر وتمحيص و حيادية.
د- لم يكن تكليف رسول الله لعلي (علیه السّلام) أمر الإسلام خالٍ من أهمية إسلام علي (علیه السّلام) وما له من قيمة مادية ومعنوية عند رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) ولعلم رسول الله بأن إسلام علي (علیه السّلام) أكثر فائدة من إسلام شيوخ قريش وكبارهم.
ه- لو كان للسن أهمية في أمور الطاعة والتبليغ، لكان هذا مقياس يجري على
الأنبياء الذين يحملون الرسالات، ولما بعث الله يحيى وهو صبي وعيسى وهو طفلاً رضيعاً، فقد قال تعالى « وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا » (2) وقال تعالى على لسان عيسى «قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا»(3) ولو كان مقياس العمر
ص: 131
فاعلاً في المفاضلة لكان فضل غيرهم من الأنبياء (علیه السّلام) أكثر من فضل عيسى ويحيى (علیه السّلام) لصغر سنهم.
أما فيما يخص رأي الرازي، بشأن من كان سنه كبيراً مثل أبي بكر فإنه يكون
قدوة لغيره، سندرسه في المباحث القادمة، لتعلق الأمر مسائل عدّة.
وبهذا يكون ما رآه الرازي من مفاضلة (عمرية) وجعله إسلام أمير المؤمنين
(علیه السّلام) على مستوى أقل ممن أسلم وهو كبير، مفاضلة باطلة لا أساس لها إلا السياسة الأموية التي وضعت هذه الأفكار في أذهان المحدثين بقوة السبق ورغبة المال، لأنها أرادت أن تجعل من علي (علیه السّلام) رجلاً كسائر الرجال لا أهمية له ولا فضل وإنما الفضل لمن تبنته الدولة والتقى مع مصالحها السياسية.
تعد الهجرة النبوية إلى المدينة المنورة حدثاً فعلياً في تاريخ الإسلام لأنها مثلت
بداية لقيام الدولة الرسالية التي أسسها رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )ً وإن من كان له أثراً فيها، فهذا يعد في ميزان مناقبه وفضائله لأنه ساهم في استمرارية الدعوة والحفاظ عليها، فحاول كثير من الوضاعين والمحرفين التقليل من أثر الإمام علي (علیه السّلام) في تلك الحادثة العظيمة، وكان الفخر الرازي أبرز أولئك لأنه قد بحث هذا الأمر عند كلامه عن الآية التي ورد فيها صفة المهاجرين والأنصار وهي قوله تعالى:«وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ»(1).
ص: 132
فالرازي أعطانا مقدمة عند تفسيره للآية تخص أولئك الموصوفين في الآية
فقال: « والصحيح عندي أنهم السابقون في الهجرة وفي النصرة والذي يدل عليه أنه ذكر كونهم السابقين ولم يبين أنهم سابقون فيما إذا، فبقي اللفظ مجملاً الا أنه وصفهم بكونهم مهاجرين وأنصاراً... فوجب أن يكون المراد منه السابقين الأولين في الهجرة و النصرة(1).
وبعد إيراد هذه المقدمة اتضح لنا رأي الرازي في من وصفُوا بالآية الكريمة،
وهنا لابد من إيراد آراء المفسرين في هذه الآية.
فهناك من أشار الى: أنهم الذين شهدوا بيعة الرضوان(2)، وهناك من أشار إلى أنهم الذين صلوا القبلتين(3).
وقال الطبري: هم الذين سبقوا الناس أولاً إلى الإيان بالله ورسوله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) من المهاجرين الذين هجروا قومهم وعشيرتهم وفارقوا منازلهم وأوطانهم، وأما الأنصار الذين نصروا رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) على أعدائه من أهل الكفر بالله ورسوله(صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )(4).
وقد أوجز الماوردي آراء عدة في هذه الآية، ذكر الرأيين السابقين وأضاف(5):
أ- إنهم أهل بدر.
ص: 133
ب- إنهم السابقون بالموت والشهادة من المهاجرين والأنصار الذين سبقوا إلى
ثواب الله وحسن جزائه.
وأضاف الرازي رأيه الخاص فقال: ويحتمل أن يكون السابقون الأولون من المهاجرين هم الذين آمنوا بمكة قبل الهجرة والسابقون الأولون من الأنصار هم الذين آمنوا برسول الله(صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) من قبل هجرته إليهم(1).
كذلك فقد أورد النيسابوري(2) رأيا عرفانيا في هذه الآية فقال: الذين سبقت لهم العناية الأزلية أو السابقون عن الخروج من العدم، وهم أهل الصف الأول من الجنود المجندة أو السابقون في جواب (ألست بربكم).
وهذه أهم الآراء التفسيرية التي وردت في الآية الكريمة بالإضافة إلى رأي
الرازي الذي أوردناه، وهو إلى هذا الحد رأيٌ حياديٌ لا ميل فيه، لأنه قد شابه
آراء المفسرين الذين سبقوه في تفسير الآية سواء أصابوا أم لم يصيبوا.
أما عن تكملة رأيه فإنه أخذ بالانحدار إلى وادي التعصب، إذ قال بعد أن
أثنى على السابقين في الهجرة والنصرة: فلهذه الوجوه يجب أن يكون المراد ب (والسابقون الأولون) في الهجرة، وان أسبق الناس إلى الهجرة هو أبو بكر لأنه كان في خدمة الرسول (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) وكان مصاحباً له في كل مسكن وموضع فكان حظه في هذا المنصب أعلى من نصيب غيره، أما علي بن أبي طالب (علیه السّلام) وإن كان من المهاجرين الأولين إلا أنه إنما هاجر بعد هجرة الرسول (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) ولاشك أنه إنما بقي بمكة لتنفيذ مهام الرسول (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) إلا ان السبق إلى الهجرة إنما حصل لأبي بكر فكان نصيب أبي بكر من هذه الفضيلة أوفر، فإذا ثبت هذا صار أبو بكر محكوماً عليه
ص: 134
بأنه (ورضي هو عنه) وذلك في أعلى درجات الفضل(1).
فضلا عن هذا الرأي فالرازي يرى أن السبق المذكور في الآية إنا هو السبق
في الهجرة لأن السبق في الإسلام لا يتضمن السبق في الهجرة، والسبق في الهجرة يتضمن السبق في الإسلام... فثبت أن الرأس والرئيس في قوله (والسابقون الأولون) ليس الا أبا بكر ويرى أن علياً وإن دخل في هذه الآية إلا أنه لا يصل إلى فضل أبي بكر لما قدمه إسلام أبي بكر من أهمية كبيرة(2).
وبعد عرض آراء الرازي التفسيرية، اتضح أنه لم يقصِ علياً (علیه السّلام) وإنا أقصى كل من شملته الآية، فهو يراها حكراً على أبي بكر ويرى أن نصيب أبي بكر من الهجرة أوفر من نصيب علي (علیه السّلام) لأنه قد حصل السبق فيها نقول:
1- إن الآية عامة الوصف، ولم تحدد شخصاً معيناً بذاته، وإنما حددت بعضاً
من جماعتين، لأنه تعالى قال «من المهاجرين والانصار» وهنا «من» تفيد التبعيض فأرادت كما يراه المفسرون الذين سبقوا من هاتين المجموعتين.
وإن المفسرين الذين سبقوا الرازي لم يحصروا كلمة السابقين ب (السبق) في الهجرة، فلماذا خصَّ أبا بكر السبق في الهجرة دون السبق في الإسلام، فيتضح لنا أن الرازي رأى أن علياً سابق غيره في كل أمر، من السبق في الإسلام إلى الجهاد وكل أمر، لكنه رأى أن يكون أبو بكر قد هاجر قبل هجرة علي لأنه خلف رسول الله في مكة لمهام جسيمة(3)،وأبو بكر قد هاجر قبله، فحمل (السابقون) على السبق في الهجرة ليجعل لأبي بكر فضيلة مصطنعة دون أن يؤيده فيها أي مفسر.
ص: 135
إلا أن الرازي نسي أو تغافل عن أمرٍ مهم وهو أن هناك عدداً من المسلمين
كانوا قد سبقوا أبا بكر إلى الهجرة فكانوا أولى بالفضل منه، إذا كان هذا هو
المقياس، فهناك مهاجرو الحبشة، وهم أسبق المهاجرين وإن قال قائل أن المقصود هجرة المدينة قلنا: سبقه جمع من المسلمين إلى المدينة أمثال: مصعب بن عمير (1)، الذي أرسله الرسول إلى المدينة مع مبايعي الأنصار يوم العقبة الثانية ليعلمهم القرآن وهو أول مهاجر(2).
كذلك فقد تتابع المسلمون في الهجرة إلى المدينة واحداً تلو الآخر حتى هاجر
الرسول (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) إليهم(3).
وهنا تسقط الفضيلة التي اصطنعها الرازي لأبي بكر وهي السبق في الهجرة،
لأنه قد هاجر قبله عدد كبير ِ من المسلمين كذلك لم يروِ أحد المفسرين اختصاص أبي بكر بهذه الآية بل إنها شملت المهاجرين وعلى رأسهم علي (علیه السّلام) لأنه قد أقصاهم عن فضلهم وإباحته بإقصاء علي (علیه السّلام) منها والتقليل من أثره في الهجرة وهذا ما يتنافى مع ما نقل عن المهاجرين أنفسهم فقد ورد عن عمر بن الخطاب أنه قد افتخر بهذه الآية لأنها قد رفعت من شأن المهاجرين وهو أحدهم ومن
ص: 136
شأن الأنصار اخوانهم(1)،وعلق الطبري على رواية عمر بن الخطاب بقوله: إن السابق كان من الفريقين جميعاً من المهاجرين والأنصار(2)، وأشار الطباطبائي: إلى أن المخصوصين في الآية هم الذين سبقوا الناس إلى رفع قواعد الدين وشيدوا بنيانه وهاجروا إلى الحبشة والمدينة بعد الإيذاء، وآخرين نروا وآووا من هاجر إليهم(3). فهنا يكون اتفاق ما بين المفسرين حول خصوص الثلتين بهذه الآية، أما قول الرازي بأن الرأس والرئيس في هذه الآية هو أبو بكر فهذا عين الإقصاء، ً لأنه قد ورد ما يؤكد أن علياً (علیه السّلام) هو الرأس والرئيس في هذه الآية.
فقد ورد عن عبد الرحمن بن عوف(4)،في قوله تعالى «والسابقون الأولون....».
قال: هم ستة من قريش أولهم إسلاما علي بن أبي طالب (علیه السّلام)(5).
كما ورد عن ابن عباس قال: «هم علي بن أبي طالب وحمزة وعمار، وأبو ذر
وسلمان والمقداد»(6) .وورد ايضاً عن الحسن بن علي (علیهما السّلام): إنه حمد الله واثنى عليه وقال «السابقون الأولون» فكما كان للسابقين فضلهم على من بعدهم، كذلك لأبي علي بن أبي طالب (علیه السّلام) فضيلة على السابقين بسبقه السابقين»(7) كذلك ورد عن
ص: 137
ابن عباس: قال: نزلت في علي سبق الناس كلهم بالإيمان بالله وبرسوله فصلى القبلتين وبايع البيعتين وهاجر الهجرتين ففيه نزلت الآية(1)،كما أوردها ابن مردويه عن ابن عباس على أن علي هو السبق الذي سبق إلى رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )(2).
وبهذا يكون التفضيل على مراتب فيما أن الله قد فضل أولئك السابقين، فلا
بد من أن تكون درجتهم على أساس سبقهم ولما كان أسبق السابقين هو علي (علیه السّلام)،إذا فهو الرأس في هذه الآية، لأنه لم يسبقه أحدٌ في فضل لا في هجرة ولا في إسلام ولا في جهاد ولا في إيمان، فكان هو المصداق لصفة السابقين.
ولم يكتفِ الرازي بإقصاء الإمام علي (علیه السّلام) عن فضل السبق في الهجرة مع ثلة من السابقين حتى توصل به الأمر إلى إجراء مقارنة غير عادلة بين أثر الإمام علي(علیه السّلام) في الهجرة وبين صحبة أبي بكر لرسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) فبعد تفسيره للآية:«إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ »(3).
وبعد ايراده لخبر هجرة أبي بكر مع رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) إلى المدينة وكلامه عن ذلك الفضل، أخذ يرد أقوال الشيعة في الطعن في تلك الحادثة، وهذا ليس من صلب بحثنا، فلا حاجة للتوسع فيه، ثم أخذ يقارن بين صحبة أبي بكر ومبيت علي (علیه السّلام) تلك الليلة، فقال « أنا لا ننكر أن اضطجاع علي بن أبي طالب في تلك الليلة المظلمة على فراش رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) طاعة عظيمة ومنصب رفيع، إلا أنا
ص: 138
ندعي أن أبا بكر بمصاحبته كان حافزاً في خدمة الرسول (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) وعلي كان غائباً، والحاضر أعلى حالاً من الغائب»(1)، وهذا هو الرأي الأول أما الثاني فسنناقشه بعد هذا.
نقول: إن النص القرآني إذا كان محكماً، فهو غير قابل للرد، وإنه تعالى قال:
«وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى »(2) فما تفرده رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) في شأن الدعوة والهجرة وأمور الإسلام، ما هو إلا وحي من عند الله ( عزّو جلّ)فأمر رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )لعلي بالمبيت في فراشه، وأن يخلفه لأداء الأمانات والودائع، ما كان من عنده وإنما كان بأمر من الله (عزّو جلّ )وهذا نظير لما يراه الرازي في صحبة أبي بكر لرسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) فهو يرى أن الله أمر رسوله بأن يصطحب أبا بكر معه، وأن هذا الأمر يدل على منصب عالٍ في الدين(3).
وبهذا يكون بقاء علي (علیه السّلام) أيضاً بأمر الله، وما كان غيابه عن صحبة رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) إلا لتحمله أموراً كبيرة وجسيمة لا يقوى على تحملها غيره، وأما قوله بأن الحاضر مع رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )أعلى شأناً من الغائب فهذا الأمر مخالف للمنطق، لأن رفيق الرجل وصاحبه في دربه، أقل بكثيرٍ من خليفته في أهله الذي يتولى ً المسؤوليات والمهام، حتى وإن كان ذلك السفر مهماً كالهجرة مثلاً، ودليل ذلك ما
قدمه علي (علیه السّلام) في تلك الحادثة والمتمثل ب:
أ- فداء رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) بنفسه، ومبيته في فراشه وما في ذلك من خطر كبير على شخصه، إذ إن القوم قد جهزوا أنفسهم لقتل الرسول (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) ولعظمة موقف
ص: 139
أمير المؤمنين أنزل الله قوله «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ »(1).
وقد ورد عند الفريقين اختصاص أمير المؤمنين بهذه الآية(2) التي تدل على عظم فعله وأهميته، كذلك روي أنه لما بات أمير المؤمنين (علیه السّلام) في فراش رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) أوحى الله إلى جبرئيل وميكائيل، إني قد آخيت بينكما وجعلت عمر أحدكما أطول من عمر الآخر، فأيكما يؤثرها حبه بالبقاء والحياة؟ فاختار كلاهما الحياة، فاوحى الله تعالى أفلا كنتما مثل علي بن أبي طالب، آخيت بينه وبين محمد (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )
فبات على فراشه، يفديه بنفسه ويؤثره بالحياة، اهبطا إلى الأرض فاحفظاه من عدوه، فنزلا فكان جبرئيل عند رأس علي، وميكائيل عند رجليه، ينادي: بخ بخ من مثلك يابن أبي طالب،» فانزل الله تعالى على نبيه وهو متوجه إلى المدينة في شأن علي آية المبيت(3).
وأما قوله لم يتعرضوا لعلي بعد أن علموا بهجرة محمد (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )فهذا ما لا أصل له، وإنما افتراء واضح وتحريف وإخفاء للحقائق الثابتة والمشهورة، إن علياً (علیه السّلام)
ص: 140
حال مبيته في فراش النبي(صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) تعرض للأذى الكبير فرمي بالحجارة(1)، و صبر ليؤخر المشركين عن اللحاق برسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) فلو قاتلهم لحسم الأمر وللحق المشركون برسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) لكنه أخرهم عن ذلك وتحمل الألم والضرب، لتحقيق ما هو أسمى من ذلك وهو سلامة رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )ورسالته.
كذلك فقد وقع التعرض الآخر وهو مواجهة الإمام (علیه السّلام) لمشركي قريش بعد أخذه للفواطم، وقاتلهم وقتل منهم رجلاً، فكيف يدعي الرازي أن الإمام علي(علیه السّلام) لم يتعرض إلى أذىً.
أما قوله إن أبا بكر كان موقفه أكثر أهمية وإنه تحمل الأذى والمحنة لبقائه في
الغار ثلاثة أيام، نقول: إن بقاء أبي بكر في الغار كان إلى جوار رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) وكان على علم بنجاته من كيد المشركين، كذلك لايقاس ماقدمه علي (علیه السّلام) من جهاد وتعرضه للأذى العيني، ومواجهته المباشرة للمشركين، لأن بقاءه في الغار لا يساوي مبيت علي في فراش النبي (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) في تلك الليلة الرهيبة الخطرة، كذلك فإنه ليس من الثابت اصطحاب الرسول لأبي بكر في هجرته،وإن الروايات متضاربة في هذا الأمر(2).
وإذا ثبتت صحبة أبي بكر، فإن بقاء رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )معه كافٍ لزوال الخوف والمحنة، لأنه إذا كان عارفاً بنبوة محمد (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) ورسالته، فهو عارف أيضاً بسلامة رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )وعدم وصول المشركين إليه، كذلك فإن علياً ما كان معه من
ص: 141
يصبره ويقلل من رهبة تلك المواقف التي خصها الله بذكره لعلي (علیه السّلام) بأنه اشترى نفسه من الله (عزّو جلّ )وقد قال علي (علیه السّلام) عن مبيته ذلك اليوم:
وبت اراعيهم ولم يتهمونني*** وقد وطنت نفسي على القتل والأسر(1)
وهذا الكلام يدل على علمه بما يقوم به، وما لهذا الأمر من آثار وأخطار
نتائجها أما القتل أو الأسر بيد قريش وقد روي في فضل مبيته عن علي بن الحسين زين العابدين قال: «إن أول من شرى نفسه ابتغاء مرضاة الله علي بن أبي طالب»(2).
ويعطي الرازي مسوغاً لأهمية جهاد أبي بكر في ذلك الأمر، فهو يرى أن
خطورة الأمر على أبي بكر أكثر من علي (علیه السّلام) لأن أبا بكر كان عداؤه ظاهرا مع قريش قد ذب عن رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) بيده وماله في مكة، وعلي (3) لم يظهر له في حال الهجرة من هذا الأمر شيء، فأبو بكر مطلوب عند قريش وعلي (علیه السّلام) غير مطلوب فكانت تلك الدرجة أفضل وأكمل(4).
يتضح لنا أن الرازي اتخذ أسلوب الإطلاق واللامبالات في الادعاءات طريقة لاقناع القارئ من دون التحقق والتدقيق في المصادر المختصة، فهو ينسب لأبي بكر
الجهاد بالنفس والمال وينفي ذلك عن علي (علیه السّلام) بحجة صغر السن.
نقول: إن الجهاد الذي يراه الرازي قد يكون جهاداً غير طبيعي لأنه يرى
أن جهاد علي (علیه السّلام) في مبيته ليس جهاداً ورد الودائع وقتال المشركين، هذا
ص: 142
كله ليس بجهاد ويرى أن عليا (علیه السّلام) لم يتعرض للأذى البته، كيف وقد رجم بالحجارة وقاتل الطلب الذي لحقه وتحمل مسؤولية رد الودائع التي ماتحمل منها أبو بكر شيئاً، أما عن جهاد أبي بكر في مكة فلم نجد رواية تؤكد لنا جهاد أبي بكر بيده وماله بل على العكس فعند حصار الشعب لم يشمل ذلك أبي بكر ولم يصله ماوصل إليه المسلمون في الشعب(1).فلو كان ممن طلبه المشركون لحوصر في الشعب كبني هاشم ولم نجد ما يدل على بذله للمال، ولم ترد الأخبار في هذا الأمر، فلا نعلم لادعاء الرازي أصلا حتى نرجع إليه ونناقشه.
كذلك فإن الرازي يرى أن خوف أبي بكر في الغار كان خوفاً على نفسه لأنه
كان في خدمة رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) وهذا أشد من خوف علي (علیه السّلام) وأعلى درجة وفضلاً(2).
ونرد على قول الرازي هذا إن علياً لم يكن خائفاً أصلاً لأنه قد وقع في قلبه
التسليم المطلق لعاقبة أمره وكان على علم بمدى التضحية وخطورة الموقف إلا أنه لم يكن خائفاً البتة ودليل ذلك أن رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) عند ما طلب المبيت في فراشه وأعلمه أن في مبيته نجاة الإسلام فتبسم أمير المؤمنين وأهوى إلى الارض ساجداً شكراً، وقال لرسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) إمضِ فداك أبي وأمي.(3)
بينما كان أبو بكر يراوده الخوف الذي نزل فيه القرآن ينهاه عنه، وهذا إذ ثبت
ص: 143
أنه كان صاحبه في الغار.
والفرق شاسع بين من يخاف على نفسه ومن لا يخاف على نفسه ويضحي بها
أمام السيوف القواطع(1).
فهنا يكون عليٌ مصداق للآية القرآنيةَ «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ ...»التي أورد الرازي فيها رواية تشير إلى نزولها في حق علي (علیه السّلام)(2) ولو كان لأبي بكر فضل في الهجرة لأنزل الله فيه قرآنا كما أنزل بعلي آية.
كذلك فقد ناقش البستي(3)أمر الهجرة فقال: وكان بذل النفس أعظم من الإبقاء على النفس في الهرب إلى الغار وكان الرسول (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) معه يقوي قلبه، ولم يكن مع علي (علیه السّلام) من يقوي قلبه، وأبو بكر لا يصيبه وجع وعلي (علیه السّلام) كان يرمى بالحجارة وأبو بكر في الغار لا يراه الكفار.
ب- تحمله مسؤولية كبيرة جدا تمثلت برد الودائع والأمانات التي كانت عند
رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) وهذه الأمانات كانت لأهل مكة، فإن ردها يعني خوض غمار المخاطر والتصدي المباشر لقريش التي كانت تعذب المسلمين وتؤذيهم وكانت في ذلك الحدث تنوي قتل رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) فإن موقف علي (علیه السّلام) يعني الوقوف بوجه قريش وهذا أسمى غايات التضحية.
جتحمل الإمام علي (علیه السّلام) مسؤولية أخرى تكاد تكون موازية لرد الودائع
أو أكثر خطراً منها وهي جلب الإمام علي (علیه السّلام) للفواطم(4)من مكة إلى المدينة
ص: 144
وهذا بدوره معضلة أخرى، إذ يتمثل هذا بوقوع لقتال الذي لابد منه وهذا غاية
الخطورة على حياة الإمام (علیه السّلام) وهي من بوادر جهاد الإمام علي (علیه السّلام)بسيفه الشريف فقد ورد أن الإمام (علیه السّلام) خرج بالفواطم والمشركين يطلبونه بعد أن أدّى الأمانات وأرجع الودائع فخرج بهن ولحقه طلب المشركين وحاولوا أن يرجعوه مع النساء لكنه مال بينهم وبين مرادهم وقتل منهم رجلاً وحذرهم إن تقدموا إليه، وسار ظاهراً مطلقاً مطاياه، فلحق به المستضعفين من المسلمين، وسار حتى تورمت قدماه من السير ليلاً والكمن نهاراً، حتى قدم المدينة، فزاره رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) إلى محله ودعا له بالشفاء بعد أن مسح قدميه(1).
ويتضح من الرواية أعلاه مدى التضحية التي قدمها أمير المؤمنين (علیه السّلام) في عمله هذا، فعرّض نفسه للمهالك، وواجه الأعداء بصورة مباشرة ولم يخف ولم يحزن، وإنما جاهد فكان له فضلان فضل الهجرة ورد الودائع وفضل الجهاد ونتيجة لعمله هذا وتعبه الشاق، فإن رسول الله(صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) يزوره هو بنفسه ويمسح قدميه ويدعو له.
فهذه التضحيات والفدائيات كبيرة جداً وعظيمة جداً ولو لم تكن على درجة
كبيرة من ذلك لما باهى الله تعالى وملائكته بفضل علي (علیه السّلام) وتضحيته وفدائه للرسول(صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) بنفسه.
أما عن موقف الرازي من هذه التضحيات فهو يرى بقوله إن علياً ما تحمل المحنة إلا في تلك الليلة أما بعدها لما عرفوا أن محمداً غاب تركوه، ولم يتعرضوا
ص: 145
له، اما أبو بكر فإنه بسبب كونه مع محمد(صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )ثلاثة أيام في الغار كان في أشد أسباب المحنة، فكان بلاؤه أشد(1).
إن المدقق في أحداث الهجرة يرى أن ما قدمه علي (علیه السّلام) لا يقاس به جهاد إبان ذلك الحدث فهو كما أوردناه جاهداً بفداء نفسه فأنزل نظرية الرازي كذلك فقد أورد الرازي خبر مباهات الله للملائكة بفداء علي للرسول (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )(2).
وبهذا فإن ماقدمه أمير المؤمنين (علیه السّلام) في حادثة الهجرة لايقاس به أي جهاد في تلك الحادثة، ومن أراد القياس فإنه لا يصل إلى مبتغاه لأن علي (علیه السّلام) قدم ما لم يقدمه أحد وهو فداء نفسه بنفس رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) وهذا ما ينطبق عليه (الجود بالنفس أقصى غاية الجود.)
ص: 146
إن الله سبحانه وتعالى فرض على المسلمين فرائض أوجب عليهم القيام بها،
منها ما كان سهلاً عليهم كالصلاة والصيام والعبادات المتيسرة الأخرى، ومنها ما
كان فيه حرج عليهم يستصعبون الإقدام عليه، لما فيه من مخاطر قد تصل إلى فداء النفس والتضحية بها، وأولها الجهاد الذي يتطلب مواجهة الأعداء ومقارعتهم لردهم عن غيهم إلى الرشد، وقد قال تعالى في كتابه «كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ »(1) فالله تعالى يصرح بحال المسلمين أنهم يرون القتال أمراً مكروهاً عندهم مستصعب، كذلك أشار في آية أخرى « .. فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ »(2).وهذه الآيات تكفي لبيان حال المسلمين اتجاه الجهاد، وهذا لايعني جميع المسلمين لان هناك من كان مجاهداً بماله ويده،وكان يرمي بنفسه في لهوات الحرب غير مبالٍ ليرفع راية الإسلام ويحط راية الشرك والنفاق.
فكان في المسلمين من الصحابة من هو مصداق للمجاهد المخلص وعلى
ص: 147
رأسهم الإمام علي (علیه السّلام) الذي لاداعي لذكر التفاصيل عن جهاده في الإسلام فمن كان يغُشى عليه إذا ذكر الجهاد لا يتساوى مع من كان يُسر ويسعد إذا ما جاهد وقارع المشركين، وبين من كان يرى الجهاد كرهاً وبين من كان يرى الجهاد سروراً وتقرباً إلى الله ورسوله.
أما بشأن إقصاء الرازي لجهاد أمير المؤمنين (علیه السّلام) في عصر الرسالة فهو أمر يحتاج إلى التمحيص لإظهار أساليب الإقصاء التي اتبعها الرازي في ذلك لأنه لم يكن صريحاً في كثير من مواضع الإقصاء إلا في قليل منها، وسنذكر هذه الأمور في موضوعات البحث.
إن المطّلع على أحداث السيرة النبوية والمغازي يجد فيها ما يقف إزاءه متحيراً
في وصفه، من تضحيات قدمها أمير المؤمنين (علیه السّلام) ومن أسمى آيات الجهاد وحسن البلاء، الذي شهد به المخالف قبل الموالي، لكن الرازي يرى غير ما يراه سائر المسلمين، فهو يرى أن جهاد علي (علیه السّلام) لا يصل إلى أهمية جهاد أبي بكر، فعند تفسيره للآية القرآنية «لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا »(1) يورد عدة آراء في بيان معنى مفردات الآية ومقصد الله منها، إلا أنه يعرج إلى إجراء مقارنة أو مفاضلة بين جهاد الإمام (علیه السّلام) وجهاد أبي بكر فقال: «قالت الشيعة دلت هذه الآية على أن علي بن أبي طالب (علیه السّلام) أفضل من أبي بكر وذلك لأن علياً كان أكثر جهاداً فالقدر الذي حصل فيه التفاوت كان أبو
ص: 148
بكر من القاعدين فيه وعلي من القائمين وإذا كان كذلك وجب أن يكون علي أفضل منه، لقوله تعالى:« وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا »(1).
ويرد الرازي على ما أورده من رأي الشيعة فقال: «إن مباشرة علي (علیه السّلام) لقتل الكفار كانت أكثر من مباشرة الرسول (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) لذلك فيلزمكم بحكم هذه الآية أن يكون علياً أفضل من محمد (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) وهذا لا يقوله عاقل، فإن قلتم ان مجاهدة الرسول (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) مع الكفار كانت أعظم من مجاهدة علي (علیه السّلام) معهم، لأن الرسول (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) كان يجاهد الكفار بتقرير الدلائل والبيّنات وإزالة الشبهات والضلالات وهذا الجهاد أكمل من ذلك الجهاد، فنقول: فاقبلوا منا مثله في حق أبي بكر وذلك أن أبا بكر لما أسلم في أول الأمر سعى في الإسلام سائر الناس حتى أسلم على يده عثمان بن عفان وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص وعثمان بن مظعون(2)،وكان يبالغ في ترغيب الناس إلى الإيمان وفي الذب عن محمد (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) بنفسه وبحاله، وعلي ً في ذلك الوقت كان صبياً ما كان أحد يسلم بقوله، وما كان قادراً على الذب عن محمد (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) فكان جهاد أبي بكر أفضل من جهاد علي من وجهين:
أحدهما: أن جهاد أبي بكر كان في أول الأمر حين كان الإسلام في غاية الضعف
وأما جهاد علي فإنما ظهر في المدينة في الغزوات وكان الإسلام في ذلك الوقت قوياً والثاني: أن جهاد أبي بكر كان بالدعوة إلى الدين، وأكثر أفاضل العشرة إنما اسلموا على يده وهذا النوع من الجهاد هو حرفة النبي (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) وأما جهاد علي فإنما
ص: 149
كان بالقتل ولا شك أن الإسلام أفضل»(1).
1- إن الآية الكريمة دالة على التشجيع والترغيب في الجهاد وبيان فضل
المجاهدين على القاعدين لترغيبهم في الجهاد.
2- إن الله تعالى ذكره، لم يبين حال القاعدين بأنهم عاصين وإنما بين أنهم أقل
درجة ممن جاهد وقاتل.
3-يظهر من قوله تعالى أن من انطبق عليه الوصف الحقيقي للجهاد، فقد نال
مرتبة يغبط عليها فقد ورد عن رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) أنه قال: (إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله كل درجتين ما بينهما كما بين السماء والأرض)(2).
4- يتضح من الآية السابقة الذكر، أن الجهاد بشقين أحدهما بالنفس والآخر
بالمال فمن كان عنده عائق لايمكنه من الجهاد بالنفس وعنده أموال، فعليه الجهاد بماله، إما يعطيه لغيره ليغزو مكانه أو يمد به الغزاة(3).
وبهذا فالآية لم تخص شخصاً معيناً ولم يجعلوا الفضل في الجهاد محصوراً في علي ابن أبي طالب (علیه السّلام) وإنا يرون ان عليا (علیه السّلام) هو سيد المجاهدين وصاحب الحظ الأوفر من الجهاد، وأن جهاده لايقاس به جهاد رجل من سائر المسلمين أما الرازي فإنه يصرح وبصورة غير مباشرة من خلال رأيه، أن عليا (علیه السّلام) صاحب الدرجة الأولى والمقام الأول في الجهاد، إلا أنه يرى أن أبا بكر جاهد في دعوته، وأن جهاده بمقارعة العدو أقل من جهاد أمير المؤمنين نقول:
ص: 150
أولاً: أن الآية القرآنية لم تتطرق إلى الجهاد بالدعوة ولم يقصد الباري «عز وجل»
عند ذكره للمجاهدين في هذه الآية جهاد الدعوة، لأنه تعالى قد أعذر أولي الضرر وهم معذورون من جهاد القتال وليس الدعوة، وكذلك لأنه أورد ذكر المجاهدين في سبيل الله بالمال والنفس وناظرهم بالقاعدين عن الجهاد وأشار إلى هذا عدد من المفسرين(1).
ثانياً: أن الأدلة الواردة في إثبات سبق أمير المؤمنين (علیه السّلام) للمجاهدين وأنه سيد المجاهدين أكثر من أن تحصى، فقد كان حامل اللواء والمحامي عن حرم المسلمين والملقي نفسه في غمار الحرب، فقد ورد في نزول الآية«أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ »(2)فثبت أن المراد ذكره بصفة المؤمن والمجاهدين في هذه الآية هو علي (علیه السّلام) بأنه أول المؤمنين وأنهم لولا سبقه ما دخلوا إلى الإسلام(3).
والدليل الآخر هو ماورد في خطبة سيدة النساء (علیه السّلام)«كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله ونجم قرن الضلالة ونفر فاغر من المشركين قذف اخاه في لهواتها، فلا ينكفئ، حتى يطأ صماخها بأخصمه ويخمد لهبها بسيفه...، وانتم في
ص: 151
رفاهية وادعون آمنون»(1)
أما عن جهاد أبي بكر، فإنه لم يرد في مصادر المسلمين ما يؤكد لنا وقوع الجهاد
من قبل أبي بكر ولو لمرة واحدة، وقد رد عدد من علماء المسلمين ومتكلميهم على من يدعي ذلك فقد قال أبو جعفر الاسكافي(2) إن المذكورين في الجهاد والنجدة علي بن أبي طالب وحمزة بن عبد المطلب... وليس أحد يعد أبا بكر ولا عمر مع المذكورين بالحرب والشجاعة. ويرى أن علياً أفضل من سائر المجاهدين.
وكذلك ورد عن الاسكافي أنه قال في شأن أبي بكر: أنه لم يكن أهلاً للحرب
وملاقاة الرجال(3).
وقال البستي المعتزلي في مفاضلة جهاد علي (علیه السّلام) وأبي بكر: فأنى يقاس بهذا في الشجاعة من لم ينل في جاهلية ولا إسلام أُلف مقاتل(4)،ولا له مقام ولابروز وليس إلا الحضور من الجهاد(5)،وقال أيضاً: لا خلاف أنه لم يقاتل بنفسه ولم يخدش كافراً(6)
وقال البستي: «وكيف يقاس من لم يصب محجمة دم عن كافر في جهاد لا في
جاهلية أو إسلام، على من بارز الأقران والشجعان وأباد كل مذكور في الحرب
ص:152
وصار ظهراً»(1)
وبهذه الأقوال تصريحٌ كافٍ لعدم حصول القتال والجهاد من قبل أبي بكر لا في مكة ولا في المدينة، ويتضح أن الرازي كان على علم بهذه الأقوال والآراء ومتيقنا
من عدم حصول الجهاد من قبل أبي بكر، فاتخذ أسلوباً جديداً لإثبات فضيلة الجهاد لأبي بكر، وهو بعد اعترافه أن علياً كان أكثر مباشرة في قتال المشركين فإنه أخذ بالقياس بين جهاد علي (علیه السّلام) وجهاد رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ،وجعل جهاد أبي بكر كجهاد رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) فهو يرى أن جهاد أبي بكر كان بالدعوة إلى الإسلام(2) وهنا وقع الرازي في إشكالية كبيرة وهي:
1- اتباعه القياس بين جهاد رسول الله(صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) وجهاد عليا (علیه السّلام ) مع اختلاف وظائف كل منهم.
2مساواته لجهاد رسول الله مع أبي بكر بل وتشبيهه لأبي بكر بعمل رسول
الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) أما بشأن جهاد الإمام علي (علیه السّلام) ورسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) فعلي (علیه السّلام) هو جندي عند رسول الله (3) ورسول الله هو القائد و الموجه ولا يقارن عمل أحداهما بالآخر هذا أولاً ، وثانياً: إن مهمة رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) ووظيفته هي تكليف الرسالة والدعوة إلى الإسلام وهي النبوة والرسالة فلا يقاس به بشر ولا يقارن بجهاده ، أحد، وقد قال تعالى في ذكره إلى عمل الرسول (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) ومهمته « إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ »(4)،
ص: 153
إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ »(1)، « إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ »(2)،فالوظيفة الرئيسية لعمل النبي(صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) هي الدعوة والانذار والتبشير وبعد هذا تأتي وظيفة الجهاد بمقارعة الأعداء المشركين فقال تعالى: «يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ ...»(3)
وبهذا فقد وضح الله تعالى دور الرسول (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )الذي ينقسم إلى شقين رئيسين حسب تعبير الآيات:
الأول: الانذار والتبليغ [وهذا شقٌ من الجهاد] والتبشير
الثاني: الجهاد ومنازلة الكفر ومقارعة النفاق
فالرسول (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) يتحمل ما لا يتحمله غيره من أعباء الرسالة وهموم الأمة والدعوة إلى الله بما يلاقيه من متاعب ومشاق، فهو سيد المجاهدين أولاً وآخراً.
والرازي تجاوز على خصوصية رسول الله(صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) وفضيلته الكبرى، فهو يرى جهاده على درجة ضعيفة مساوية إلى درجة أبي بكر وهذا مايخالف الأخبار المؤكدة الواردة بهذا الخصوص، فقد ورد عن علي (علیه السّلام) أنه قال: (كنا إذا حمي البأس ولقي القوم أتقينا برسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه(4)،وعن البراء بن عازب(5) أنه قال: كنا والله إذا حمى البأس نتقي به وإن الشجاع منا الذي
ص: 154
يحاذي به(1)وورد أيضاً عن عمران بن حصين(2) أنه قال: ما لقى رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) كتيبة إلا كان أول من يضرب(3).
وهذه الأخبار تخالف رأي الرازي بخصوص جهاد رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) الذي أراد أن ينزله إلى منزلة أبي بكر فثبت العكس إلا أنه (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) كان في غاية الشجاعة وكان يتقدم المسلمين في القتال في سبيل الله وإن جهاده لم يكن بأقل من جهاد علي(علیه السّلام) في الحرب، لكن اختلاف الوظائف لكلاهما وأنه (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) هو القائد الأعى للأمة فلا يقارن ولا يقاس بأحد رغم أنه (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )وعلي (علیه السّلام) نفس واحدة على حد تعبير القرآن الكريم في قوله:َ « وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ »فأشاروا إلى أن المراد به محمد (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) وعلي (علیه السّلام)(4) ويقارن بغيره! فالمفاضلة تقع بين من هم دون رسول الله(صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) فضلاً ودرجة، للوصول إلى معرفة من هو أفضل الناس بعد الرسول (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) وقد اتخذ الرازي هذه المقارنه للوصول إلى أن أبا بكر أفضل الناس بعد الرسول (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) إذن فهو أحق بالأمانة والخلافة من علي (علیه السّلام).
أما فيما يخص ادعاء الرازي في أن جهاد أبي بكر كجهاد رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) لأنه
ص: 155
جاهد في اثبات الدلائل والبينات، فهو اعلان صريح من قبل الرازي في عدم جهاد أبو بكر في حروب النبي (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) فرأى أن يثبت له الفضيلة المزعومة في الدعوة و أثبات الدلائل والبراهين حتى اسلم على يده كما يقول أفاضل العشرة الاوائل ورداً على رايه نقول:
أولاً: إذا ثبت دعوة أبي بكر لغيره من المسلمين فإن هذا الأمر يمدح عليه
ويحسب له لكن لا يعد هذا الأمر فضيلة لا مثيل لها وتقاس بدعوة النبي (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )، لأنه قد حصل عند غيره من المسلمين ماهو أعظم من ذلك، مثل دعوة الصحابي الجليل مصعب بن عميره في المدينة اذ اسلم على يديه منهم كثير(1).
ثانياً: ما ورد من أخبار وأدلة تنفي قيام أبي بكر بدعوة أي صحابي منها: إن
أبابكر كان ضعيفاً حتى عند أهله ولو كان مؤثراً إلى حد إقناع الأجانب لأثر في
عائلته واقنعهم في الدخول إلى الإسلام، فهو لم يستطع أن يقنع أهله كأبيه وزوجته وأبنه عبد الرحمن فظلوا كفاراً إلى عام الفتح 9ه/630م(2) فكيف له ان يقنع رجالاً غرباء قد تغلغل الشرك في قلوبهم وأصبحت عندهم قناعات وآراء متشددة لايمكن أن يغيرها إلا من له قدرة وأهمية كبيرة، وقد قال الاسكافي عن هذا الأمر ما نصه «فمن عجز عن أبنه وأبيه وامرأته فهو عن غيرهم من الغرباء أعجز ومن لم يقبل منه أبوه وابنه وأمراته لا برفق ولا احتجاج ولاخوفاً من قطع النفقة عنهم
ص: 156
وأدخال المكروه عليهم فغيرهم أقل قبولاً منه وأكثر خلافاً عليه»(1).
وهذا حقاً ما لا يعقل إذ إن أهله لم يسلموا بعد فكيف يدعو من هم أبعد، فلربما قائل يقول له: أدعو أهلك حتى تدعوا غيرهم.
ثالثاً: اما عن جهاده في مكة فإن ما ورد من أخبار، تؤكد أن أبا بكر كان من
المستضعفين في مكة ولم يكن مهاباً، وانا كان رجلاً ضعيفاً لا جاه لديه ولا عشيرة تحميه فكيف يذب عن رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) بيده، وهو لم يستطع أن يحمي نفسه، فقد ورد أنه خرج إلى الحبشة فاراً من قريش ولقيه رجل يقال له ابن الدغنة(2)فارجعه وآمنه، وكان قد ترك رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) فيها مع أصحابه(3)،وهذا يدل على ضعف عشيرته وأهله في مكة لأنه لم يبق حتى مع الصحابة المستضعفين في مكة فأين قول الرازي من أنه كان يذب عن رسول الله(صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) بيده فهو لم يصبر حتى ليقف إلى جانب النبي في تلك الظروف العصيبة.
ومقابل هذا الموقف من أبي بكر هناك موقف لأمير المؤمنين (علیه السّلام) في مكة فإنه كان يسايره في كل أمر ويقاسي معه الألم والهجر منذ بداية دعوته حتى هجرته، فعانى معه أيام الحصار بالشعب، وكان ينام هو وأخوته في فراشه (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) خوفاً عليه
ص: 157
من القتل(1)حتى سمي ب (القضم)(2)،وأكثر من هذا فأن البستي يورد أن قوله تعالى: «كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ »(3) نزلت بسبب هذا الأمر(4).
وإن الرازي يرى أن في عدم أهمية جهاد الإمام علي (علیه السّلام)أسباب:
الأول: إن جهاد علي (علیه السّلام) عندما كان الإسلام قوياً بينما أبو بكر فإنه كان في ضعف الإسلام.
والثاني: إن جهاد علي (علیه السّلام) كان بالقتل وجهاد أبي بكر كان بالدعوة إلى الدين ولا شك أن الثاني أفضل(5).
يتضح من رد الرازي أنه ينسب الفضائل كما يشتهي و يرغب، دون ان يدقق
فيما يورد وذلك لعدة أسباب:
1- لم يثبت عند كتاب المسلمين ومؤرخيهم أي جهاد لأبي بكر في مكة أم في
غيرها، وإنما ورد عنه صفة الضعف وقلة النجدة، فورد فيه: لم يقاتل ولم يجاهد ولم يمس كافراً قط(6).
وإذا كانت الدعوة إلى الإسلام هي حرفة الأنبياء كما يراها الرازي، فإن الله
ص: 158
لم يجعل حرفة الأنبياء الدعوة فقط وإنما جعل الجهاد ومناجزة الكفار شقاً ثانياً
لحرفتهم كما ورد في قوله تعالى«يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ »(1).
و ما ورد فی سیرته (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) كما ذكرنا سابقاً في قتاله المشركين بل وهو أشجع المسلمين في ذلك وأكثرهم أقداماً، فأين أبو بكر من هذا الأمر، فعلي (علیه السّلام) صاحب الحظ الأوفر من الجهاد في ضعف الإسلام وفي قوته، وهناك من حصل له الفضل في هذا الأمر من سائر المسلمين ولم يحصل لأبي بكر، فهناك من صبر وعُذب وجاهد بسيفه وقارع الظلم وهذا لم يحصل لأبي بكر.
ومن الأدلة الأخرى على أهمية جهاد أمير المؤمنين (علیه السّلام) وأنه المؤيد لرسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) من قبل الله (عز وجل) ماورد في تفسير قوله تعالى«وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ »(2) فقد ورد في تفسيرها انها من الآيات التي اختص بها أمير المؤمنين(علیه السّلام)بلفظ (المؤمنين،) فقد ورد عن رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )انه قال: « لما أسري بي إلى السماء دخلت الجنة فرأيت في ساق العرش مكتوباٌ لا إله إلا الله محمد رسول الله ايدته بعلي ونصرته»3 ،)(3) فكان هو الناصر والمؤيد لرسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) وهو سيد المجاهدين في سبيل الله ورسوله، ولم يتطرق
ص: 159
الرازي إلى اختصاص أمير المؤمنين في الآية أعلاه فكان أيضاً مقصي له عن هذه
الفضيلة التي أقرها غيره واثبتها له (علیه السّلام).
فإن كان يعني في الجهاد في مكة هو الإسلام، وتحمل التعب والمشقة، فإن غيره قد حصل له أكثر من أبي بكر أمثال المعذبين في مكة(1)،لأنهم تحملوا أذى و تعذيب أكثر من غيرهم وهو لما رأى أن العذاب قد أشتد خرج يزيد الحبشة فأرجعه ابن الدغنة ولم يحصل حتى عى تعب الهجرة.
أما عن جهاد علي (علیه السّلام) فالرازي ينفي انه(علیه السّلام) جاهد في مكة، وأي جهاد أعظم من مبيته في الشعب كما أوردنا، وأبعاده للصبيان إذ يؤذون النبي كذلك مبيته في فراش النبي (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) ليلة الهجرة ومواجهته لفرسان قريش عند طلبهم إياه، فإنه يقول [الرازي] إن علياً (علیه السّلام) كان صبياً ما كان قادراً على الذب عن رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )(2)
نقول: إن علياً (علیه السّلام) كان عمره في الهجرة 23عاماً، فأين الصغر في هذا، فإن من كان عمره فوق الخامسة عشرة يستطيع أن يدافع عن نفسه وأهله، فكيف بمن عمره 23سنة وهو علي (علیه السّلام) الذي له من الشجاعة ماعجز عن وصفها الكتّاب والشعراء، وما قام به يعجز أن يقوم به غيره فهل هذه التضحيات جميعها لا تعد ً جهاداً.
أما قوله أن علياً ظهر منه الجهاد يوم كان الإسلام قوياً فهل ظهر لأبي بكر
جهاداً عندما كان الإسلام قوياً ايضاً فهل جاهد في غزوات النبي (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) بسيفه
ص: 160
وذب عنه وحامى عنه بل سنورد في المباحث القادمة ماهو عكس مارواه الرازي
من مواقف أبي بكر وغيره ممن عرف عنهم الضعف والهزيمة
2- إن الرازي يرى أن الجهاد بالسيف ومواجهة الأعداء أقل درجة من الدعوة
إلى الإسلام قلنا: إن موضوع الدعوة قد ناقشناه سابقاً ولم يؤيده المسلمون لعدم وجود المؤهلات الكافية عند أبي بكر من أسلوب إقناع وجاه ٍ وتأييدٍ بين الناس
بل وحتى عند أهله، كذلك فإن الله قد تناول فضل الجهاد والقتال مع المشركين
في كثير من الآيات كما أوردنا وذم المخلفين، وفضلاً عن هذا فإن عليا (علیه السّلام) كان مرافقاً للنبي (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) في دعوته للناس، فقد خرج معه عند عرض نفسه على القبائل ومعهم زيد بن حارثه(1).
كما ورد عن الإمام الصادق (علیه السّلام) أن الرسول (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) لما أراد مبايعة الأنصار في العقبة كان الإمام علي (علیه السّلام) معه، فقال له: قم يا علي، فقال علي: على ما أبايعهم يا رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )؟ قال: على أن يطاع الله ولا يعصى وعلى أن تمنعوا رسول الله
(صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) وأهل بيته وذريته ما تمنعون أنفسكم وذراريكم(2).
وهذه الرواية تثبت فضلا كبيرا أكبر من القيام بالدعوة، فهي تشير إلى
وصول أمير المؤمنين(علیه السّلام) في تلك المرحلة إلى درجة النائب عن النبي (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) المؤهل لوزارته وخلافته لأنه يبايع الناس نيابة عنه، وهذا مايأتي بفضيلة أعظم من الدعوة إلى الإسلام وحسب.
ص: 161
ثانياً: إقصاؤه للإمام علي (علیه السّلام)عن فضيلته في أحد ( 3ه/ 624 م)(1)
لم يكن الأسلوب الذي أتبعه الرازي في اقصاء الإمام (علیه السّلام) عن فضله في معركة احد أسلوباً مباشراً إذ يجد القارئ أن الإقصاء ظاهرٌ من دون فحص وتدقيق، بل أنه أتبع أسلوباً خفياً يجعل القارئ يضن أنه [الرازي] قد أثبت الفضل والمنقبة للامام (علیه السّلام) إلا أنه قد أشرك فيها من أراده هو وجعله شريكاً للإمام في منقبة قد تفرد فيها وحده (علیه السّلام).
فعندما يتعرض للآيات التي خصت معركة أحد يقوم بتفسيرها، ويوضح ما جرى ذلك اليوم وكيف دارت الحرب فعند تفسيره للآية «وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ »(2) أورد حال المسلمين وهزيمتهم وموقفهم من رسول (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) إذ تركوه وفروا بأنفسهم، فقال بعد ذلك «أحتمله طلحة بن عبيد الله، ودافع عنه أبو بكر وعلي (علیه السّلام) ونفر آخرون معهم ثم إن الرسول (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) جعل ينادي إلي عباد الله حتى أنحازت إليه طائفة من أصحابه فلامهم على هزيمتهم، فقالوا يارسول الله فديناك بآبائنا وأمهاتنا، أتانا خبر قتلك
ص: 162
فاستولى الرعب على قلوبنا فولينا مدبرين»(1).
إن النص الذي أورده الرازي في تفسيره واضح جداً فهو يوضح إنهزام
المسلمين عن رسول (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) كلهم، ولم يثبت معه الا أبو بكر وعلي وطلحة الذي كان يحمي رسول الله لأنه لم يكن قادراً على السير حسب النص، كذلك فقد أورد عند تفسيره للآية «إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ »(2). المنهزمون والثابتون مع رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) وفيها تناقض لأنه قد أورد في النص السابق ان الثابتين (علي – طلحة أبو بكر) أما في هذا النص فقال: إن الذين ثبتوا مع رسول الله(صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) كانوا أربعة عشر رجلاً، سبعة من المهاجرين، وسبعة من الأنصار، فمن المهاجرين أبو بكر وعلي، وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وطلحة بن عبيد الله، وأبو عبيدة بن الجراح والزبير بن العوام(3)،وسبعة من الانصار(4).وقال في موضع آخر: ولم يبق معه إلا أبو بكر وعلي والعباس وسعد(5).
وبعد إيراد النصوص التي ذكرها الرازي، يظهر التضارب فيها، لكن الثابت عنده ثبات علي (علیه السّلام) وأبي بكر في كل النصوص التي ذكرها، وبهذا لابد من الرجوع إلى المصادر الأصيلة المختصة في سيرة الرسول (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )ومغازيه، للوصول
ص: 163
إلى أحد في الأخبار وأوثقها ومنها ما ورد عند ابن اسحاق(1).«لما انتهى أنسٌ ابن النضر(2) وهو عم أنس بن مالك(3)،وبه سمي أنساً، إلى عمر بن الخطاب وطلحة بن عبيد الله في رجال من المهاجرين والأنصار وقد ألقوا بأيدهم فقال: ما يجلسكم قالوا: قتل محمد.»
كذلك ما جاء عن انهزام سعد بن أبي وقاص، الذي يعده الرازي من الثابتين،
فقد ورد أنه إنهزم إلا أنه رجع وأفاء إلى رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) فيما بعد (لما مال الناس عن رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )تلك الجولة تنحيت فقلت: أذود عن نفي فاما أن استشهد وإما أن أنجو:... فقال: أين كنت اليوم ياسعد؟ فقلت: حيث رأيت يارسول الله(صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )(4).
وهذا النص يدل على فرار سعد بل وتأخره في الرجوع لأن الرسول (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) قال له: أين كنت اليوم يا سعد، وهذا اللفظ إنا يدل على طول الغياب، فلو قال له:اين أنهزمت من دون ذكر اليوم أو أين كنت لدل على قصر الغياب لكنه خاطبه بلهجة تدل على طول غيابه.
ص: 164
وورد عن فرار أبي بكر: لما دون عمر الدواوين، جاء طلحة في جماعة من بني
تيم ليفرض لهم، وجاء غلام أنصاري سقيم فسأله عمر فقال: إنه البراء بن أنس
بن النضر ففرض له أربعة آلاف وفرض لأصحاب طلحة ست مائة، فأعترض طلحة فقال عمر: اني رأيت أبا هذا جاء يوم أحد وأنا وأبو بكر قد تحدثنا أن
رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) قتل، فقال يا أبا بكر وياعمر مالي اراكما جالسين؟ إن كان رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) قتل فإن الله حيٌ لايموت(1).
وهذا النص مرتبط بالنص الأول الذي أوردنا فيه لقاء أنس مع طلحة
ومجموعة ممن أنهزم، فيظهر أن أبا بكر وعمر كانا إلى جوار طلحة وإنها كانا جالسين عن نصرة الرسول (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ).
وورد عن عائشة قالت عن أبي بكر قال: كنت أول من قام يوم أحد (2) وورد عن الاسكافي أنه قال عن ثبات أبي بكر: أما ثباته [ابو بكر] يوم أحد فأكثر المؤرخين وأرباب السير ينكرونه(3).
كذلك فقد نقل ابن حبان ما يؤكد فرار أغلب من أثبتهم الرازي يوم أحد فقد أورد: لما نادى كعب بن مالك(4) يبشر الناس بحياة الرسول(صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )نهضوا إليه
ص: 165
منهم: أبو بكر وعمر وعلي وطلحة والزبير وسعد و الحارث بن الصمة(1)(2).
ورغم أن الراوي قد أدخل اسم الإمام علي (علیه السّلام) ضمن الذين انهزموا ثم رجعوا إلا أن هذا لا يخفي من الحق شيء. فإن أدخله خطأً أو تعمداً ليساوي أمر الناس في الهزيمة حتى لايكون فاضل في الأمر.
فضلا عن هذا، فإن هيكل يعترف بفرار الشيخين: فأما الذين ظنوا محمداً قد
مات ومن بينهم أبو بكر وعمر فانتهوا إلى الجبل والقوا بأيديهم(3)
كما أورد الرازي من جملة الثابتين «العباس» ولم يورد من المقصود، رغم
أن المشهور أن (لفظة العباس إذا وردت مفردة، فإن المعني هو العباس بن عبد المطلب) لكن هذا الأمر غير منطقي، لأن العباس بن المطلب لم يشارك في أحد أولاً ولم يسلم إلا في وقت متأخر من الدعوة الإسلامية(4)،لكن يظهر أن المراد في العباس هنا هو العباس بن عبادة(5).من الصحابة الذين فاؤا إلى رسول الله(صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) وقاتلوا معه حتى استشهد(6).
ص: 166
أما فيما يتعلق بما أورده من نصوص، فيظهر أنه اكتفى بإيراد الأخبار على
علاتها من دون تدقيق وتمحيص،وفضلا عن هذا فهو يورد ما ينقض بنيانه، فعند
تفسيره لأية المشاورة«فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ »(1).فالرازي يعترف أن الآية خطاب لمن انهزم يوم أحد، ثم يورد: «إن الذين أمر النبي (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) بمشاورته في هذه الآية أبو بكر وعمر، وعندي فيه أشكال، لأن الذين امر الله عز وجل رسوله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) بمشاورتهم في هذه الآية هم الذين أمره بأن يعفو عنهم ويستغفر لهم وهم المنهزمون، فهب أن عمر كان من المهزمين فدخل تحت الآية، إلا أن أبا بكر ما كان منهم فكيف يدخل تحت الآية»(2).
ويتضح من النص أعلاه، أن الرازي كان قد أطلع عى نصوص تشير إلى فرار أبي بكر وعمر، لكنه لم يؤمن إلا بما يراه هو، فهو حتى لم يثبت فرار عمر فيقول:
هب أن عمر كان من المنهزمين، وقد ورد عن رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) في خطابه مع عمر: أنسيتم يوم احد اذ تصعدون ولا تلوون على أحد وأنا أدعوكم في أخراكم(3)، فالآية إذن خطاب للمنهزمين وعلى رأسهم أبو بكر وعمر(4).
ص: 167
ولو علم الرازي وغيره من المصنفين أن أبا بكر كان ممن ثبت وقاتل، ولو بموقف بسيط لأحتجوا به ولملأت كتبهم بذلك. لكنهم لم يجدوا ولو موقفاً واحداً يثبت قتاله وعدم هزيمته، بل لأكثر من هذا فإن ماورد عن المنهزمين أكبر من أن
يوصف، فقد وصفهم الله تعالى بقوله «إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ »(1).
وهذه الآية تدل على عظم ما اقترفوا، وإن الشيطان قد استزلهم واتبعوا سبيله،
وفعلاً فقد ورد أن المنهزمين جلسوا يتلاومون فيمن ياخذ لهم الأمان من المشركين حتى يعودوا إلى ملتهم الأولى(2)،وهذا هو النفاق الحقيقي الذي ورد في القرآن الكريم، وقد علق الرازي على المنهزمين والثابتين بأنهم صنفان صنف مؤمن انه نبي (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) وصنف كان شاك بنبوته وما حضروا إلا لطلب الغنيمة فهؤلاء اشتد خوفهم وجزعهم(3).
أما بشأن الثابتين مع رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) فقد وردت الشهادة الأولى من الرازي نفسه، فهو يؤكد ثبات الإمام علي (علیه السّلام) بل ويذكر انه ممن بايع على الموت في ذلك اليوم(4)، لكنه كما أوردنا أشرك معه أناس لا فضل لهم تلك الساعة و قد وردت الأخبار مستفيضة في ثبات الإمام علي (علیه السّلام) منها: عن ابن عباس قال في ذكره لخصال علي (علیه السّلام): وهو الذي صبر يوم المهراس [أحد] انهزم الناس كلهم
ص: 168
غيره(1).
وورد ايضاً: كان الفتح يوم أحد بصبر علي (علیه السّلام)(2).وقال البلاذري: وثبت مع رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) يوم أحد حين انكشف الناس(3)،كذلك ورد عن عمر بن الخطاب قال: والله لقد رأيته يدخل بنفسه في جمع المشركين كما يدخل الأسد في رزية الغنم فيقتل منها ويخلي ما يشاء حتى فما زال ذلك دابه حتى افى الينا ونحن منهزمون عن رسول (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) وهو ثابت(4).
وهذه الأخبار تدل على ثباته وحده أول الأمر، ثم فاء إليهم [الرسول وعلي]
خلص الصحابة واحداً تلوَ الآخر فقد ورد أن الثابتين من الصحابة كانوا سبعة
، من الانصار ورجل من قريش، فقتل أؤلئك السبعة ولم يبقى إلا ذلك الرجل(5)، وبما أن الثابت عند جميع المسلمين علي (علیه السّلام) ثبت ولم ينهزم إذن فهو علي (علیه السّلام) الذي ثبت وقاتل، أما بشأن الصحابة الذين قاتلوا إلى جانب علي (علیه السّلام) فمنهم من أستشهد ومنهم من افاء ورجع فيما بعد إلى الرسول (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) فهم على ما يبدوا فروا أول الأمر، ثم رجعوا بعد ذلك واحدا تلو الآخر(6).
ص: 169
وقد علق ابن أبي الحديد(1).على فضيلته يوم أحد فقال: مما أختص به(علیه السّلام) غير مدافع: ثبت معه يوم احد. ولم يكتفي الرازي بنسبة أبو بكر ومن معه إلى الثبات، بل خصهم بما ورد في ذلك الآية من قوله تعالى« وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ » فأورد نقلاً عن محمد بن جرير أن المراد بالشاكرين هم أبو بكر وأصحابه، وروى عن النبي (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) انه قال: أبو بكر وأصحابه من الشاكرين وهو من أحباء الله(2).
إن اعتماد الرازي على الخبر أعلاه يدل على أنه يرى أن أبا بكر ثبت هو
وأصحابه، وان الشاكرين في الآية هي صفة الذين ثبتوا، وبما أن الثابت كما أوردناه هزيمة أبي بكر وفراره مع أصحابه، إذن ينسحب عنه صفة الشاكرين ولو كان من الشاكرين لما ورد ذمة في الآية السابقة الذكر من أنهم اتبعوا الشيطان فانهزموا وفروا عن الرسول (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) فضلا عن ذمهم في آية المشاورة وخطاب الله لنبيه بأن يستشيرهم بعد أن تركهم وجافاهم لفعلتهم.
كذلك فقد أوردنا قول الرازي بشأن المنهزمين وأنهم كانوا شاكين حتى في
نبوة محمد فانهزموا وجزعوا(3)،ولو كانوا حقا شاكرين مؤمنين لسلموا لأمر الله وثبتوا إلى جواز نبيه (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )،بل على العكس مما عليه الشاكرون، وقد ورد في معنى الشاكرين أنه الإمام علي (علیه السّلام) ومن ثبت معه (4).
كما علق على الآية بعض المفسرين في معنى الشاكرين فقالوا انهم الذين
ص: 170
صبروا وشكروا نعمة الإسلام فيما فعلوا و لم يكفروا(1).
وفي خاتمة الكلام هناك كلام للأستاذ محمد حسنين هيكل قال فيه: وكان أكبر
هم كل مسلم ان ينجو بنفسه الا من عصم الله من أمثال الإمام علي(علیه السّلام)(2).
اذن خلاصة القول إن صفة الشاكرين التي نسبها الرازي لأبي بكر، هي لمن
ثبت مع الرسول (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) وهم الذين عصمهم الله وشكروه فأصبحوا شاكرين صابرين مسلمين لله في قضائه.
كذلك هناك آية اخرى اختصت بيوم أحد وهي تذكر حال المؤمنين الخلص
في ذلك اليوم وكيف جاهدوا وثبتوا وهي قوله تعالى «مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا »(3).
فقد ورد في تفسيرها انها مختصة في حال المؤمنين َ يوم أحد فقوله (مَا عاهُدوا الله) على أّلّا يفروا عند لقائهم العدو وذلك يوم احد فمنهم من قى نحبه: عهده فقتل ومنهم من ينتظر: ينتظر يوماً فيه جهاد فيقضي نحبه بقتل أو صدق في لقاء العدو(4).
وهذه الآية تخص حال المؤمنين الصادقين الثابتين في ما عاهدوا عليه، إذن
لابد من وجود مصاديق لما ورد فيها من اصناف، فتدور على أن الذي قى نحبه
ص: 171
هم الذين استشهدوا في أحد، حمزة وأصحابه(1).
والمنتظر هو الإمام علي (علیه السّلام) فقد ورد انه قال: فينا نزلت فأنا والله المنتظر وما بدلت تبديلاً(2).
وما يؤكد نزول هذه الآية في مجاهدي احُد، ماورد عن رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) انه بعد استشهاد مصعب بن عمير وقف عليه ودعا وقرأ عليه الآية، وأمر الناس ان يسلموا على قبورهم ويزوروهم إذا مروا عليهم(3).
والثابت أنها نزلت في أحد إذن هي تخص الصابرين من المؤمنين الثابتين في القتال الصادقين َ في معاهدتهم التي عاهدوها لله، ومَن الثابت؟ أن رأس المؤمنين هو علي (علیه السّلام) إذن هو سيد المخصوصين في هذه الآية، كذلك فمن الثبات انه صبر و وثبت في احد فكان هو المخصوص بقوله ِ «رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ »وقوله«وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ » لأنه ثبت انه عاهد على الموت(4).وانه لم يفر بل ثبت إلى
ص: 172
جوار الرسول (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) يذب عنه حتى كشف الله عنهم البلاء.
وبما انها خصت المؤمنين الثابتين كما أشار إلى ذلك عدد من المفسرين، فإن
الآية الاخرى تخص هؤلاء المؤمنين «لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا »(1).
فقد أورد المفسرون ان المقصود (بالصادقين) الذين صدقوا بما عاهدوا، و
(المنافقين) الذين بدلوا ما عاهدوا عليه من الصبر والنكوث بالفرار(2).
وعليه يكون من استشهد من أصحاب الرسول (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) هم الذين قضوا نحبهم، والمنتظرون هم الصادقون بالعهد والثابتون، والمنافقون هم المنهزمون الذين أستزلهم الشيطان وهم الذين عبر عنهم الرازي بانهم الشاكون في نبوة محمد (3).
ورغم هذه المباحث التفسيرية للاية الا أن الرازي أغفلها وتجاوزها، ولم يهتم
إلى بيان الاصناف المذكورة في الآية، ولعله كان قاصداً لهذا الأمر، لأنه وجد فيه
ما يصف المنهزمين بالمنافقين فتجاوز عن فضيلة الصابرين الثابتين ً خوفاً من مساس المنافقين بشيء من الذم والقدح، فقام بإقصاء المخصوصين ً بالمدح إقصاءاً عن طريق الاغفال وعدم الاهتمام.
ص: 173
ثالثاً: إقصاؤه لأثر الإمام علي (علیه السّلام) في غزوة الخندق ( 5ه / 626 م)(1).
تعد غزوة الخندق من أخطر المغازي التي هددت كيان المسلمين، إذ حاول
بها المشركين واليهود الإطاحة بالمسلمين وهدم الرسالة المحمدية، لأنهم كانوا مصرين على المواجهة المباشرة معهم، لكن تخطيط الرسول (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) لصد هجومهم على المدينة المنورة واتخاذه الخندق لتحصين المدينة كان له أثر في التقليل من ذلك الخطر، إلا أن طغاة المشركين وشجعانهم لم يكن الخندق ليمنعهم من الوصول إلى غاياتهم، فقد جزعوا من الحصار وأقتحموا الخندق بخيولهم، لكن الله عز وجل رد كيدهم بأن جعل أمير المؤمنين (علیه السّلام) درعاً للإسلام لصد ذلك الهجوم الطارئ، وإرجاع المشركين خائبين لم ينالوا مرادهم(2).
ونتيجة لعظم خطر تلك الغزوة على الإسلام فقد أنزل الله في شأنها آيات
قرآنية تفصل أحوال المسلمين وما دار في خلجات نفسهم بعد أقتحام المشركين للخندق، ومنها «إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا »(3)،وقوله في وصف حال المنافقين في ذلك اليوم«وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ
ص: 174
إِلَّا غُرُورًا »(1).
وبالمقابل فإن هناك أناس ثابتي الإيمان ولهم من رباطة الجأش وقوة الإيمان
ماجعلهم يسلمون لامر الله ويواجهون الموقف بشجاعة وببسالة حتى كفا الله المؤمنين القتال بهم فقال تعالى «وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا »(2)،وقوله تعالى«وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا »(3).
وهذه الآيات واضحة في وصف المسلمين تلك الساعة فلا بد من أن يكون هناك مصداق لكلا الطرفين، فالطرف الأول، كانوا على ما وصفهم القرآن فئات منهم المنافقون ومنهم الذين خافوا وارتعبوا فزاغت قلوبهم وأبصارهم وزلزلوا وحاولوا الفرار والعودة لمنازلهم والطرف الثاني كان وصفهم ب (المؤمنين) المذعنين
لأمر الله الثابتين للقاء العدو وعلى رأسهم أمير المؤمنين (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ).
أولاً: لأنه سيد المؤمنين كما قال ابن عباس: «ما أنزل الله يا أيها الذين آمنوا
إلا كان علي شريفها وأميرها، ولقد عاتب الله أصحاب النبي (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) في غير آية من القرآن وما ذكر علياً إلا بخير»(4).
ثانيا: لأن ما بدر منه ذلك اليوم ينافي صفة الذم وإنما يصل إلى أسمى درجات
المدح من قبل الله ورسوله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ).
ص: 175
أما عن موقف الرازي من هذه الآيات التي اختصت بتلك الحادثة، فأنه
تطرق إلى أحداث الغزوة بشيء من الاختصار، مع تفسيره لحال المسلمين آنذاك فهو يرى أن الله امتحنهم فبين المؤمن الصادق من المنافق(1)،لكنه لم يتطرق إلى ما أبداه الطرف الأول من المؤمنين، لكي يكونوا مصداق اللفظ ومن هم أولئك المؤمنون الذين ثبتوا وسلموا لله في ما أنزله بهم من البلاء، وهذا يعد إقصاءً عن طريق التجاهل وعدم الاهتمام لعظيم الأمر الذي اهتم بإيراده كبار المفسرين بل وحتى القراء من المسلمين.
فقد ورد في قوله تعالى:«وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ »، عن ابن مسعود أنه كان
يقرأها: «وكفى الله المؤمنين القتال بعلي بن أبي طالب»(2).
كذلك عن ابن عباس قال: «أي بعلي بن أبي طالب (علیه السّلام) وقد كان قتل عمرو بن عبد ود ذلك اليوم وكان رأساً من رؤوس الكفار كبيراً منهم»(3) وقال ابن عطية في تفسيره للآية: وقتل عليٌ رجلاً من المشركين اسمه عمرو بن عبدود فكفاهم الله تعالى مداومة ذلك وعودته(4).
وهؤلاء المفسرون هم من أعلام المفسرين و كبارهم، وقد اعتمد الرازي على
كثير منهم في تفسيره أمثال السمعاني وابن عطية، لكنه لم يورد ما نقلوه عند تفسيره للآية، فيظهر أنه قد كان متعمداً في التغاضي عن ذكر أثر الإمام علي (علیه السّلام) ذلك
ص: 176
اليوم عند تفسيره لها.
ولم يقتصر الأمر على المفسرين فقط بل أورد اختصاص الإمام علي (علیه السّلام) في الآية السابقة الذكر وإن الله كفى المؤمنين القتال به، عددٌ من أرباب الفضائل وكتب الحديث(1).
ولم يكن ما فعله أمير المؤمنين (علیه السّلام) امراً يسيراً حتى يتجاهله الرازي، رغم أنه قد أورد حديث رسول الله(صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) في حق علي (علیه السّلام) ذلك اليوم وفي مبارزته لعمرو فقال: أفضل من عمل أمتي إلى يوم القيامة، وعلق قائلاً: «فلم يقل مثل عمله بل قال: أفضل كانه يقول: حسبك هذا من الوزن والباقي جزاف»(2)،لكنه لم يورد هذا الحديث في موقعه، وإنا أورده على سبيل المثل عند تفسيره بفضل ليلة القدر(3)،وهذا مغاير لعمل المفسرين الذين يذكرون ما يخص الآية أو الحادثة عند تفسيرهم لها.
رابعاً: اقصاؤه لأثر الإمام علي (علیه السّلام) وجهاده في غزوة حنين ( 8ه/ 630 م).(4)
يعد فتح مكة بداية لانهيار القوى العربية المعادية لرسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) فقد فشل
ص: 177
المشركون في هدم كيان الإسلام في غزواتهم وحروبهم السابقة مع دولة الإسلام في السنين السابقة للفتح، فكان فتح مكة ( (8ه/629م)) بداية لسيادة الإسلام على ربوع الجزيرة العربية، فكان هذا الأمر مثار رعب للقبائل المعادية التي لم تدخل الإسلام بعد وهم (هوازن(1)، وثقيف)(2).
فتحالفت هذه القبائل على حرب النبي (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) ودارت الحرب بينهما وقد انهزم فيها المسلمون أول الأمر وما ثبت إلا من امتحن قلبه بالايمان وكان أمير المؤمنين مع بعض الصحابة الخلص قد ثبتوا وقاتلوا دون رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) بينما انهزم غيرهم مدبرين وقد أنزل الله الرعب في قلوب المشركين وأنزل السكينة في قلوب المؤمنين فكان النصر حليف الإسلام والهزيمة مصير الكفر والشرك.
أما فيما يخص الأسلوب الإقصائي الذي اتبعه الرازي في هذا الموضوع، فهو
مختلف بعض الشيء عن أساليب الرازي التي اتبعها في إقصاء الإمام (علیه السّلام) عن أثره في المغازي فهو لم يشرك معه (علیه السّلام) في فضيلته كما يفعل سابقاً، ولم يقلل من ً أهمية جهاده، وإنما كان صريحاً في الإقصاء، فالرازي جعل الإمام (علیه السّلام) في صفوف المنهزمين عن الرسول (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) وجعل الثابتين معه العباس بن عبد المطلب وأبا سفيان بن الحارث(3).
ص: 178
فعند تفسيره للآية القرآنية«لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ »(1)
يورد ما دار في حنين ثم يذكر رواية عن البراء بن عازب الأنصاري (كانت هوازن رماة فلما حملنا عليهم انكشفوا وكببنا على الغنائم فأستقبلونا باسهام
وانكشف المسلمون عن رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) و لم يبق معه إلا العباس بن عبد المطلب وأبو سفيان بن الحارث)(2).
وهنا اعتمد الرازي على رواية مرسلة مخالفة لما تواتر ذكره في كتب السيرة
والمغازي، لأن الثابت المشهور عند عامة المسلمين إن الذين ثبتوا مع رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) تسعة أشخاص من بني هاشم وعاشرهم أيمن بن عبيد(3)،ولكن الرازي اعتمد على هذه الرواية التي فيها شيء من الوهم، لأن الثابت أن الذي أخذ بناقة الرسول (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) هو أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، ولم يكن يقاتل بل قائدٌ لناقته (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) والعباس بن عبد المطلب كان من الثابتين مع الرسول(صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) لكن الراوي قد أورد هذين الشخصين حصراً من دون غيرهم، رغم وجود الثابتين
ص: 179
الأخر، وقد وردت روايات متعددة سلمت أن أبا سفيان بن الحارث كان يقود
ناقته (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) ،فلم يذكر أن أبا سفيان والعباس وحدهم ثبتوا، فلا نعلم لماذا اعتمد الرازي هذه الرواية رغم وجود روايات أقرب إلى الحقيقة ليس كروايته السابقة، ولا نعلم لماذا أعتمد الرازي هذه الرواية دون غيرها من الروايات، مع علمه بغيرها، التي ملأت بطون المصادر التي اعتمدها الرازي في تفسيره، أمثال المغازي للواقدي ( (207ه/747م)) وغيرها من المصادر.
لكن يتضح لنا أن الرازي أراد بروايته هذه أن يجعل من مسألة الهزيمة مسألة
عامة، أي ان المسلمين جميعهم انهزموا ولم يثبت إلا هذين الرجلين، أي حتى علي(علیه السّلام) انهزم، فلم يكن أبو بكر وعمر وطلحة وعثمان وغيرهم من المهاجرين والانصار وحدهم المنهزمين وإنما جميع المسلمين ليكون الذم مرفوعاً، فيقع المدح على من ذكرهم، فلا يقال ثبت عليٌّ وانهزم غيره وإنما جميع المسلمين ليكون الذم مرفوع وانحسار المدح للثابتين أيضا مرفوع فيقع المدح على من ذكرهم، إذ ورد في الرواية الصحيحة أن الذين ثبتوا مع رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ):وانهزم المسلمون عن رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) حتى بقي في عشرة من بني هاشم وقيل تسعة، وهم: علي بن أبي طالب ، (علیه السّلام) والعباس بن عبد المطلب، وأبو سفيان بن الحارث، ونوفل بن الحارث(1)، وربيعة بن الحارث(2)،وعتبة ومعتب(3)،ابنا أبي لهب والفضل بن العباس وعبدالله
ص: 180
بن الزبير بن عبد المطلب(1)، وأيمن ابن أم اليمن(2).
وبهذا يكون الرازي قد أقصى الإمام (علیه السّلام) مع ثانية من بني هاشم وايمن بن عبيد تاسعاً لهم، وقد وردت أبيات شعرية تؤيد هذا الرواية فقد قال العباس بن عبد المطلب(3).
نصرنا رسول الله ف الحرب تسعة*** وقد فر من قد فر عنه فأقشعوا
وعاشرنا لاقى الحمام بسيفه*** لما ناله في الله لا يتوجع
وأراد بالعاشر الذي قتل هو أيمن ابن أم أيمن(4).
ونتيجة هذا فإن ما أورده الرازي في روايته سواء أكان قاصد الاقصاء للثابتين
أم غير قاصد فإن الإقصاء قد وقع لأنه لم يورد الثابتين أولا ليذكر فضلهم
وفضيلتهم العظيمة، ولأنه جعل الثابتين في صفاف المنهزمين فوقع الإقصاء
الحقيقي الذي سلب فضيلة الثابتين مع رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) حين انهزام المتخاذلين عنه.
ص: 181
ان المتتبع لسيرة الإمام علي (علیه السّلام) يجد أنها مكملة وأستمرارية لسيرة المصطفى (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) وأن الإمام علي (علیه السّلام) كان متبعا لخطى الرسول (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) في علمه وجهاده وسيرته ورسالته، فكان هو الممثل له (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) في غيابه عن أمته وكان هو الأمان من الضلال.
أما عن أثره (علیه السّلام) في جهاد المرتدين فقد ذكر الله (عزّو جلّ )لنبيه المصطفى(صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) أن امته سوف ترتد من بعده وأن الله سوف يأتي بقوم يحبهم ويحبونه فيجاهدون أعدائه المرتدين فقال تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ »(1)،وقد ذكر الرازي في تفسيره هذه الآية فقال: «إنا ندعي أن هذه الآية يجب أن يقال إنها نزلت في حق أبي بكر والدليل عليه وجهان: الأول: إن هذه الآية مختصة بمحاربة المرتدين، وأبو بكر هو الذي تولى محاربة المرتدين، على ماشرحنا، ولا يمكن أن يكون المراد هو الرسول (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) لأنه تعالى قال « فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ» وهذا للأستقبال
لا للحال، فوجب أن يكون هؤلاء القوم غير موجودين في وقت نزول الخطاب،
فإن قبل هذا لازم عليكم لأن أبا بكر كان موجوداً في ذلك الوقت قلنا: الجواب
من وجهين الأول: إن القوم الذين قاتل بهم أبو بكر أهل الردة ما كانوا موجودين في الحال، والثاني: إن معنى الآية أن الله تعالى قال:سوف يأتي الله بقوم قادرين متمكنين من هذه الحرب، وأبو بكر وإن كان موجودا في ذلك الوقت إلا أنه ما كان مستقلا
ص: 182
ولا يمكن أن يكون المراد هو الرسول (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) ولا يمكن أن يكون المراد على (عليه السلام) لأن علياً لم يتفق له قتال مع أهل الردة(1).
وهنا سنناقش هذا الرأي ثم نكمل الآراء الأخرى المختصة بهذا البحث:
أولا: إن الرازي يرى أن الناس الذين وعد الله بالإتيان بهم لقتال المرتدين لم
يكونوا موجودين حال نزول هذه الآية أولم يكن أبو بكر وهو الزعيم في هذه الحرب على رأي الرازي موجوداً في حال نزولها، كذلك قادة الحرب أمثال خالد ابن الوليد(2)،وغيره ممن خاض تلك الحرب، فإن كان يرى من حيث القدرة والتمكين، فإن رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) لم يكن ناقص القوة والتمكين قتال من يخالفه وأرتد عن دين الله.
ثانياً: تجاهل الرازي ما ذكره الله من صفات أولئك القوم فحر أشخاصهم بتلك الصفات، فلا بد أن يكون القوم الذين سيأتي الله بهم ممن حبهم ويحبونه،لا كما يراه الرازي أنهم متمكنون قادرون على قتال المرتدين، والظاهر أن تلك
الصفات قد كانت معلومة لدى المسلمين فيمن يمتلكها ومن هو مصداقٌ لها فقد ورد عن رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) أنه قال لعلي (علیه السّلام) يوم خيبر(3): (لأعطين الراية
ص: 183
غداً رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، كرار غير فرار لا يرجع حتى يفتح
الله علي يديه)(1) والرازي يرى أن هذا الحديث من باب الآحاد فلا يجوز التمسك به، وإن إثبات هذه الصفة لايعني انتفائها عن أبي بكر ويعلق بعدها: لو كانت هذه الصفات غير موجودة في أبي بكر وموجودة في علي (علیه السّلام) حال نزول الآية فهذا لا يعني عدم حصولها البته فربما حصلت تلك الصفات لأبي بكر حال قتاله لأهل الردة(2).
فنقول: إن ادعاء الرازي الأول بأن الخبر من باب الآحاد، فهذا أمر مفترى ومغالطة من قبله لمن سبقه. فالخبر متواتر، وقد نقله عدد كبير ً جداً من أصحاب
الحديث والسيرة وعن طرق مختلفة(3).
أما المقطع الثاني من تعليق الرازي، فهو أعتراف صريح من قبل الرازي بأن
هذه الصفات لعلي بن أبي طالب (علیه السّلام) وانتفائهاعن أبي بكر حال نزول الآية، إلا أنه يرى إمكانية حصولها فيما بعد دون وجود أي مبرر أو دليل.
كذلك فقد ورد على لسان رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) أن علياً كان خشناً في ذات الله عزيز
ص: 184
على الكافرين، فقد روي أنه (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) قال: (ادفعوا ألسنتكم عن علي بن أبي طالب فإنه خشن في ذات الله غير مداهن في دينه)(1)،وهذه الصفة الثانية من الصفات التي وردت في وصف أؤلئك القوم، وهي من صفات أمير المؤمنين (علیه السّلام) على لسان الرسول الأكرم (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) ولأن من وصُف بالآية لا بد أن يكون ثابت الجنان، قوي الإيمان وهذا لا يكون إلا في علي (علیه السّلام)(2).
وقد وردت أحاديث عدة تؤكد اختصاص أمير المؤمنين (علیه السّلام) بهذه الآية، لا كما يروي الرازي، وعدد ممن سبقه من المفسرين على أنها نزلت في أبي بكر وأصحابه في قتالهم لأهل الردة، وقد أوردوها عن الحسن البصري وابن جريج وحتى عن الإمام علي (علیه السّلام)(3) فهم يحاولون أن يزيدوا من الاثبات ليكون
القارئ أكثر تقبلاً لما أوردوا فهم ذكروها عن علي (علیه السّلام) نفسه لتكون حجتهم أكثر قوة من المقابل.
إلا أنه قد وردت في إثبات هذه الآية واختصاصها في علي (علیه السّلام) عدة أدلة حديثية وتفسيرية منها ماورد عن أبي سعيد الخدري(4)،قال: (قال رسول الله
ص: 185
(صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ):إن منكم من يقاتل على تأويله كما قاتلت على تنزيله، قال: فقام أبو بكر وعمر، فقال لا ولكنه خاصف النعل وكان علي يخصف نعله)(1)والقتال على التأويل يعني وجود انحراف وارتداد عن المسار الذي خطه رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) عند نزول القرآن فلم يخبر الرسول (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) بأن المخالفين هنا هم المرتدون بعده من قبائل العرب.
ومن الجدير بالإشارة هنا أن رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) قد أنذر قريشاً بأنه سوف يقاتلهم علي (علیه السّلام) فعن علي (علیه السّلام) قال: سمعت رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )يقول: «يامعشر قريش ليبعثن الله عليكم رجلاً امتحن الله به الإيمان، يضرب على الدين، فقال أبو بكر: أنا هو يارسول الله؟ قال: لا، فقال عمر: أنا هو يارسول الله؟ قال: لا، ولكنه خاصف النعل في المسجد، وكان ألقى إلى علي (علیه السّلام) نعله يخصفها»(2).
إلا أن الرازي يرى أن من البراهين على عدم اختصاص هذه الآية بالأمام علي
(علیه السّلام)،أنه لم يأت الله بقوة لردع أبي بكر وأتباعه وإرجاعهم إلى الدين الصحيح، وبما انه لم يحصل ذلك فإن منازعة علي (علیه السّلام) واغتصاب حقه ليست ردة(3).
نقول: «إن عليا (علیه السّلام) لم تكن لديه القوة الكافية لمواجهة الموقف، لأنه قد خذل من قبل أغلب الأمة، لذلك فإنه فضل الصبر رغم شدته وعظم أمره فقد
ص: 186
قال في خطبة له: «فَسَدَلْتُ دُونَهَا ثَوْباً وَ طَوَیْتُ عَنْهَا کَشْحاً(1) وَ طَفِقْتُ أَرْتَئِی بَیْنَ أَنْ أَصُولَ بِیَدٍ جَذَّاءَ أَوْ أَصْبِرَ عَلَى طَخْیَةٍ عَمْیَاءَ.... فَرَأَیْتُ أَنَّ الصَّبْرَ عَلَى هَاتَا أَحْجَى»(2). وبهذا فإن أمير المؤمنين كان قد اعلن صبره حتى ولي الأمر، فظهر أمر المرتدين على ظاهره، فقاتلوه وقد عمي على الناس أمرهم، وما تصدا احدا لقتالهم غيره فقال: «فَأَنَا فَقَأْتُ عَيْنَ الْفِتْنَةِ وَ لَمْ يَكُنْ لِيَجْتَرِئَ عَلَيْهَا أَحَدٌ غَيْرِي»(3).
وقد علق ابن بطة(4) في قتال الإمام علي (علیه السّلام) للمنحرفين عنه فقال: فقد علم العقلاء من المؤمنين ً والعلماء من أهل التمييز أن علياً(علیه السّلام) قاتل في خلافته أهل التأويل الذين تأولوا في حروبهم عليه ومن عنده أخذت الأحكام في قتال المتاولين.
وقد أخبره النبي (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) أنه سيقاتل ثلاثة أصناف من المرتدين أو المتأولين فقال: (تقاتل بعدي الناكثين والقاسطين والمارقين)(5).
وهذه الأحاديث تنبيه وإخبار مسبق لعلي (علیه السّلام) من قبل الرسول (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) فلم يخبر النبي (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) أحداً من الصحابة أنه سيقاتل مرتدا أو متأولاً إلا علي (علیه السّلام) فلم يرد أو يثبت أن الرسول (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) أخبَر أبا بكر بأنه سيقاتل المرتدين من العرب أو مانعي الزكاة.
ص: 187
ومن الأدلة الأخرى في إثبات اختصاص هذه الآية بعلي (علیه السّلام) وأنه سيقاتل المرتدين ما ورد في تفسير قوله تعالى: َ «فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ »فقد ورد عن جابر بن عبد الله(1)أن الرسول (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) قال: منهم بعلي بن أبي طالب(2).
وورد أيضاً عن علي (علیه السّلام) قال بعد تلاوته للآية: قد ذهب نبيه (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) وبقيت نقمته في عدوه(3) وكان (علیه السّلام) هو الأمان والأداة والوسيلة التي ردع الله بها أهل الضلال ووضحتت الفتنة بقتاله واتضح الضلال من الهدى فكان هو الموضح للناس الشبهة بقتاله لمن ارتد في خلافته وكان مسيرا لأمور المسلمين بما يتناسب مع كتاب الله، فقد علق الماوردي على الآية فقال: فإما نقبض روحك إلينا فإنا منتقمون من أمتك فيما أحدثوا بعدك(4).
وورد أيضا عن رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )قال فيمن نزلت هذه الآية (فإما نذهب بك قال: نزلت في علي بن أبي طالب (علیه السّلام) أنه ينتقم من الناكثين والقاسطين بعدي(5).
ص: 188
ورغم هذه الأدلة إلا أن الرازي أيضاً أقصى الإمام علي (علیه السّلام) منها ولم يذكر نزولها واختصاصها في علي(علیه السّلام)(1).
ومن الأدلة الثابته في أن عليا (علیه السّلام) هو المخصوص في قتال المرتدين ماورد عن علي (علیه السّلام) في قتاله لأهل البصرة قال بعد أن تلا الآية (ومن يرتد منكم).... والله ما قوتل أهل هذه الآية حتى اليوم(2).
وهذا دليل كافٍ لإثبات اختصاص هذه الآية بعلي (علیه السّلام) وإنه المقاتل
للمرتدين وإنه المنتقم من أهل الضلال بعد الرسول (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) ولو كان هناك أدنى دليل ليثبت اختصاص أبي بكر بهذه الآية لعجت به المصادر و لقرعت له طبول الإعلام ليعطى علما ومركزا لا يناقش فيه.
ثم يستمر الرازي في طرح آراءه حول الآية ليثبت أنها في أبي بكر فقال: فإن
قالوا: بل كان قتاله (يعني علياً) مع أهل الردة لأن كل من نازعه في الإمارة كان
مرتدا قلنا: هذا باطل من وجهين: الأول: اسم المرتد إنما يتناول من كان تاركا
للشرائع الإسلامية والقوم الذين نازعوا علياً ما كانوا كذلك في الظاهر... والثاني:
إنه لوكان كل من نازعه في الإمامة كان مرتداً لزم في أبي بكر وفي قومه أن يكونوا مرتدين، ولو كان كذلك لوجب بحكم ظاهر الآية أن يأتي الله بقوم يقهرونهم ويردونهم إلى الدين الصحيح، ولما لم يوجد ذلك علمنا ان منازعة علي (علیه السّلام) في الإمامة لاتكون ردة وإذا لم تكن ردة، لم يمكن محل الآية على علي، لانها نازلة فيمن
ص: 189
يحارب المرتدين(1).
يحاول الرازي أن يفند فكرة أو عقيدة في الاصل هو متبنيها، فهو يتناقض مع
نفسه لأنه يرى منازعة علي (علیه السّلام) في إمامته ليست ردة، بينما من رفض بيعة أبي بكر ولم يؤدِ إليه الزكاة لأنه كان يرى هناك من هو أولى منه بالأمر ليدفعها إليه مرتداً وتاركاً لشرائع الإسلام، ولو انا رجعنا إلى الآيات القرآنية التي انذرت الأمة من الردة لوجدناها صريحة في ذلك وهي تخاطب قوماً ممن كان مسلماً موحدا، فقوله تعالى «وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ ...»(2) كذلك الآية المعنية في البحث فإن الله يخبر بها نبيه (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) أنه سيرتد من أمته قوم لقوله تعالى « مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ »(3).فالخطاب موجه إلى ً الصحابة كما أوردناه سالفاً عند بحث غزوة أحد فإن من ارتد وانقلب في غزوة احد هم كبار الصحابة وكان الخطاب موجه إليهم وهو مقسوم على وضعتين فهو يخبرهم بالانقلاب إن مات أو قتل وهو نذير لهم بالانقلاب بعد حصول أحد الأمرين لأنه قد وقع منهم الارتداد والانهزام والرجوع إلى دينهم الأول، لأن هناك من طلب الأمان للعودة إلى دين قريش، فكان هذا محض الارتداد.
فضلا عن هذا فإن هناك أحاديث رويت عن رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) تخبر الأمّة بل تخبر أصحابه أنهم قد يرتدون بعده فقال: «ليرفعن لي ناس من أصحابي حتى إذا رأيتهم ورأوني احتجبوا ديني فلأقولن: أي رب أصحابي أصحابي فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك إن هؤلاء لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم»(4).
ص: 190
وهنا يتضح الإنذار والإخبار بوقوع الأحداث والتغيير من قبل الأصحاب ولو كان هناك خطر كبير من قبل المرتدين لأنذر به الرسول (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )ولأخبر به ولعمل على إعداد الأمة للتصدي له، لكنه كان يعلم بما هو أكبر من ذلك وهو التغيير والأحداث بعد وفاته، وإضافةً لحديث الرسول (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) فقد ورد عن الإمام علي (علیه السّلام) ما يؤكد ردة الصحابة بعد رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) فقد قال في خطبة له: (حتى
إذا قبض الله رسوله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) رجع قوم على الاعقاب، غالتهم السبل، واتكلوا الولائج ووصلوا غير الرحم وهجروا السبب الذي امروا بمودته ونقلوا البناء على رس أساسه فبنوه في غير موضعه)(1).
وقد علق ابن أبي الحديد(2) على هذه الخطبة فقال: تركوا ماكانوا عليه واحلكهم اختلاف الآراء والأهواء، ووصلوا غير الرحم أي غير رحم الرسول (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) وهجروا البيت يعني أهل البيت (علیهم السّلام).
وفضلا عن هذا، فقد أوردنا أن رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )قد أخبر قريشاً أن علياً سيقاتلهم بعد تغييرهم لشرائع دينه وثوابته فكان الأليق أن تكون في علي وليس في أبي بكر كما يراها الرازي كذلك فإن عليا (علیه السّلام) يرى أن القوم قد رجعوا وارتدوا بغصبهم حقه وحق أهل بيت النبوة، فكان الارتداد المخبر به من قبل النبي (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) متمثلاً بأرتدادهم عن أهل بيته (علیهم السّلام) وعن الخط الذي رسمه إليهم قبيل وفاته(3).
ص: 191
ويرى الرازي فيه رأياً آخر أنه حتى وإن افترضنا أن علياً قاتل المرتدين، إلا
أن أبا بكر كان قتاله للمرتدين أكثر نصرة للإسلام لأنه كان في وقت ضعف وعليٌ
في وقت قوة(1).
إن القرآن الكريم لم يخاطب رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) ليبين له قوة الأجر في الحالات التي يكون فيها القتال، وإنما وضح له حالة واحدة وهي الارتداد، وبصفات واحدة لمن يقاتلهم وتلك الصفات لا يمكن أن تكون في شخص على وجه الارض الا في علي (علیه السّلام) كذلك الإخبار الواقع من قبل الرسول له، يثبت أن علياً هو المخصوص، كذلك لو كان رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) يعلم بخطورة المرتدين ليجهز لهم جيشا لقتالهم، خصوصا إذا علمنا أنه قد ظهرت بوادرهم في عهده(2)،لكنه (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) ماكان مهتماً لأمرهم بل إنه جهز حملة لقتال الروم وكان مصرّاً على إنفاذها فلو كان أمر المرتدين له أهمية وخطورة كبيرة لأنفذ تلك الحملة لهم أو لجهزهم للقتال بدفع ذلك الخطر، كذلك فإن الرسول (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) كان قد أخبر الإمام (علیه السّلام) بأهمية قتاله للطوائف الثلاثة التي يقاتلها فكان هو المصداق، كذلك فإن قتال الإمام (علیه السّلام) للمرتدين خلال عهده، كان أكثر خطورة لأنه قد اشتبه الأمر على المسلمين ولو أنه ما قاتلهم لكان هذا الأمر سببا في التعتيم على الحق وعدم وضوحه إلى الآن، وكما أشرنا إنه لم يجرأ عليها أحد إلا هو فقد فقأ عين الفتنة وأوضح الحق من الضلال، كذلك بما أن عليا (علیه السّلام) هو المصداق فيها، فلا أهمية للقوة والضعف لأنه كان مصداقا فيكفي هذا الأمر فضيلة ومنقبة كبيرة.
وبعد هذا يورد الرازي أحاديث يبين فيها أن أبا بكر هو الموصوف بأن الله
ص: 192
يحبه وراضيا عنه حسب الآية فذكر عن رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )أنه قال: «إن الله يتجلى للناس عامة ويتجلى لأبي بكر خاصة» و«ما صبّ الله شيئا في صدري إلا وصبه في صدر أبي بكر»(1).
ويقول الرازي: كل هذا يدل على أنه كان يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله(2) وبعد التدقيق في الحديثين أعلاه تبين أنها من خبر الآحاد أولاً لأنه روي فقط عن جابر بن عبدالله الأنصاري ولم يروَ عن غيره(3) ،كذلك فإن الحديث الأول ضعيف وعد من الموضوعات الباطلة(4).أما الحديث الثاني فهو أيضا موضوع وقد صرح بذلك أكابر علماء المسلمين(5).
وخلاصة القول إن محاولة الرازي في إثبات أولوية أبي بكر بآية الردة وإنه
المخصوص بها لا تصمد أمام النقد والبحث الموضوعي وإنها من الفضائل التي
خصت أمير المؤمنين (علیه السّلام) وقد أوردناها في المبحث الذي يخص أثره في الجهاد في المرحلة المدنية، لأننا نرى أن سيرة الإمام علي(علیه السّلام) وحروبه هي امتداد لدعوة النبي (علیه السّلام) وسيرته ورسالته وإن ما قام به علي (علیه السّلام)هو بأمر وإخبار من قبل الرسول (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )فهو مكمل لسيرة النبوة الطاهرة.
ص: 193
ص: 194
ص: 195
ص: 196
تعد مسألة الخلافة والإمامة(1) والاختلاف فيها من أكثر المسائل التي تنازع المسلمون حولها وأصبح هذا الأمر سببا ليصبحوا فرقا ومذاهب متعددة وكل كان له آراؤه الخاصة فيها من حيث فكرة الخلافة وشخص الخليفة وقد لخص لنا
الشهرستاني(2)هذا الاختلاف بقوله: (وأعظم خلاف بين الأمة خلاف الإمامة إذ ما سُلّ سيف في الإسلام على قاعدة دينية مثل ما سُل على الإمامة في كل زمان.)
ولم يكن هذا النزاع محصوراً في جانب أو مجال معين من العلوم الإسلامية
كالمصنفات العقدية والأصولية و إنا تعدى ليدخل إلى سائر العلوم الأخرى وقد
كان التفسير أحد أهم تلك العلوم لما تضمنه القرآن الكريم من آيات تدل على
الإمامة بصورة مباشرة أو غير مباشرة وأخذ المفسرون يجرون النار إلى قرصهم فكل مفسر يجعل من تلك الآيات حجة لصحة معتقده في الشخص الذي يراه إماماً فينسبها له ويقصي غيره عنها ولعل سائل يسأل فيقول هل هناك آيات صريحة في إمامة علي (علیه السّلام) ليقصى عنها فلم يذكر اسمه جلياً ولم ترد تفاصيل كافية عن اثبات هذا في القرآن فنقول: إن أركان الدين لم تفصل كاملة بآيات القرآن ً وإنما جاء بها عاماً مثل الصلاة والصيام والحج والزكاة وغيرها وإنما وَكِّل أمرها إلى
ص: 197
الرسول (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) ليوضحها لأمته وقد كانت الإمامة مما نزل به القرآن عاماً وخاصاً أي فكرة الإمامة وشخص الإمام فمنها ما كان الإمام علي (علیه السّلام) سبباً في نزوله لإثبات إمامته وخلافته للرسول (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) وقد أخبر النبي (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) أمته بهذا وبعضها حمل صفته (علیه السّلام) فذكر النبي (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) الأحاديث الصريحة لينبه أمته إلى ذلك ايضاً.
كذلك كانت هناك آيات عامة ليس لها ارتباط بالخلافة لكن ما دار من
أحداث عند تبليغها كان دليلاً على إمامته (علیه السّلام) فكان (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) يخاطب المسلمين بصورة صريحة وعلنيه لينبههم على امامة علي (علیه السّلام) وإنه الخليفة من بعده لتكون حجته عليهم واضحة لأن كلامه ترجمان لكتاب الله (عز وجل) لقوله تعالى:َ «وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى »(1) وقوله:َ « وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ »(2) فكان تبليغه الرسالي المتعلق بالإمامة شأنه شأن التبليغ بالأمور الأخرى من الرسالة وقد أورد المؤرخون وكتّاب السيرة كيفية تعامل الرسول (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) مع كثير من الأخبار والأحاديث التي أطلقها لتثبت إمامته (علیه السّلام).
أما عن موقف الرازي، من الإمامة فقد حظيت باهتمام كبير من قبله فتناول
كثيراً من مباحثها وكان تركيزه على ما يتعلق بإمامة أمير المؤمنين (علیه السّلام) فكان متربصاً لما يدل على إمامته (علیه السّلام) فتارة يقصيه عن الآية الريحة والعامة وتارة يقصيه عن الحديث أو الموقف النبوي الدال على إمامته ويكون أسلوبه بالإقصاء ً تارة مباشراً وأخرى ملتوياً وهذا ما سنوضحه خلال الفصل.
ص: 198
بما أن النبي الأكرم (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) لا ينطق عن الهوى وإنما ذلك وحي من الله فإن أقواله وأفعاله وتقريراته تعد أمرا واجب الطاعة وله من الحجية ما يقابل حجة القرآن دلالة وأحاديثه (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) فيما يخص الإمامة هي اثبات لإمامة علي بن أبي طالب (علیه السّلام) اذ كان (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) مبلغاً لأمته عن طريق تلك المواقف بإمامة علي (علیه السّلام) وأحقيته بالخلافة دون غيره من الصحابة وفي بعضها كان معلناً أنه (علیه السّلام) الإمام والخليفة من بعده (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) فكانت تلك المواقف تمثل جانباً مهماً لإثبات الأحقية وإبطال النظريات المخالفة لخط القرآن والنبوة وقد اقترن ارتباط تلك المواقف بالآيات القرآنية من حيث التبليغ أو الانذار فكانت امامته (علیه السّلام) محوراً مهماً إلى جانب الآية التي تنزل على النبي الأكرم (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) ومن أهم تلك الأحداث والمواقف التي دلت على إمامته وأقصاه الرازي عنها هي:
أولاً: انذار الرسول (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) لعشيرته ونزول قوله:«وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ »
لعل سائل يسأل أو يستنكر إدراج هذه الحادثة والآية ضمن الآيات الصريحة في الإمامة مع أنها آيةُ أمر الله بها نبيه (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) أن يبلغ عشيرته وينذرهم فالجواب: إن الحادثة المرتبطة بنزول هذه الآية من الأدلة الصريحة في إمامة علي (علیه السّلام)إذ
ص: 199
أفصح رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) فيها عن التبليغ والدعوة إلى الإقرار بإمامة علي (علیه السّلام) شأنه شأن الإقرار بالتوحيد والنبوة.
وقبل الخوض في هذه الحادثة لابد من إيراد موقف الرازي من هذه الحادثة
والآية فعند تفسيره للآية يذكر سبب نزولها كما ورد في كتب السيرة والتاريخ والتفسير لكنه اكتفى بذكر سبب النزول من دون أن يذكر الحادثة كاملة وإنما قطع ما يتعلق منها بالإمام علي (علیه السّلام).
فذكر تبليغ النبي (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) لعشيرته مقطوعاً ولم يكمله إذ قوله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ): إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد(1).دون أن يكمل التبليغ الشريف ويتضح لنا من أسلوب الرازي هنا هو التعمد في قطع الخبر، لأنه على مايبدو لم يكن راغبا في الوقوع بالإحراج، بإيراد الخبر كاملا والرد عليه بالنفي، أو يفعل كما فعلها غیره بقولهم عند الوصول إلى قول رسول الله في علي (علیه السّلام) وقال: كذا كذا..(2)
ولعله لم يقدم عى إيراد قول رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) لأنه حديث نبوي صريح، فالآية القرآنية يستطيع أن يؤولها برأيه فيبعدها عن معناها ثم يقصي أمير المؤمنين (علیه السّلام) عنها أما الحديث فلا يكون من السهل التلاعب به لأنه صريح ومخصص.
وهنا خالف الرازي من سبقه ومن لحقه من المفسرين وكتاب السيرة لأن
أغلبهم أورد الحادثة كاملة وأوردوا دعوة النبي (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) لعشيرته المقربين لطاعة علي ابن أبي طالب (علیه السّلام) بعد أن أحجموا عن إجابة دعوته، فقد ورد عن ابن عباس مسنداً إلى علي ابن أبي طالب:انه جمع بني عبد المطلب وصنع لهم طعاما ثم قال
ص: 200
(صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) لهم: «إني قد جئتكم بخيري الدنيا والآخرة وقد أمرني الله ان أدعوا إليه، فإيكم يؤازرني على أمري هذا؟ ويكون أخي ووصي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا فسكت القوم وأعاد ذلك ثلاثاً كل ذلك يسكت القوم ويقول علي: أنا فقال (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ): هذا أخي ووصي وخليفتي فيكم فقام القوم وهم يضحكون ويقولون لأبي طالب أطع ابنك فقد أمر عليك»(1).
وهذا الخبر متفق عليه عند المفسرين والمحدثين كما أوردنا لكن الفخر الرازي
لم يأبه لذلك الاتفاق فاقصى أمير المؤمنين (علیه السّلام) عن فضيلة وحجة ودليل قاطع على الإمامة والخلافة التي نصبه بها الله ورسوله وقد اشهد على ذلك التنصيب بني عبد المطلب ليكون حجة عليهم أولاً كي لا يحتج محتج بالقرابة والنسب لأنه قد أمره ونصبه حتى على والده أبي طالب وسائر أعمامه رغم صغر سنه وعلى الرغم من كون الدعوة في بداية أمرها ولم تكتمل دعوة الرسول (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) فهذا يقودنا إلى أن الدعوة إلى الإمامة وتنصيب الخليفة جاء مقترنا مع الدعوة إلى توحيد الله والإقرار بنبوة محمد (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) لمالها من أهمية وضرورة في سير الرسالة وإرساء قواعد
ص: 201
الإسلام. كذلك تكرار النبي (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) لقوله ثلاث مرات يدل على تأكيده لهذا الأمر ليرسخ في الأذهان ويبقى دائما في تفكيرهم لا ينسونه.
ثانياً: موقف النبي عند تبليغ قوله تعالى َ«بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ »(1).
إن هذه الآية المباركة لا يختص نزولها ولامعناها بالإمامة أو الخلافة، لأنها
إعلان من الله بالبراءة من المشركين فلا ربط بين هذا الإعلان وموضوعة الإمامة
إلا أن الحادثة التي اقترنت مع تبليغ هذه الآية إلى المسلمين كانت إشارة وتنبيه على إمامة علي (علیه السّلام) وخلافته، وإنه أحق الناس بها بلا منازع بل إن رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) قد فعل مع علي (علیه السّلام) في أمر تبليغ هذه الآية ما يقطع به الطريق امام الذين في قلوبهم مرض فكان فعله حجة دامغة عليهم، لأن الاعتقاد يكون إما بنص قراني أو سنة نبوية، وما فعله رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) عند تبليغ هذه الآية هو بيان صريح للأمة يدعوهم فيه إلى الالتزام بإمامة علي (علیه السّلام) الذي أصبح بعد نزول الآية هو محور الربط بين النبي والأمّة.
اما عن الرازي وموقفه من هذه الآية وما حدث بعد نزولها فهو يورد أن
رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) جعل أبا بكر أميرا على الحج في سنة 9ه/631م وهي السنة التي نزلت فيها الآية «فلما نزلت هذه السورة أمر علياً أن يذهب إلى أهل الموسم ليقرأها عليهم فقيل له بعثت بها أبا بكر فقال: لايؤدي عني إلا رجل مني، فلما دنا علي (علیه السّلام) سمع أبو بكر صوت الرغاء فوقف وقال: هذا رغاء ناقة رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) فلما لحقه قال: أمير أم مأمور قال: مأمور ثم ساروا فلما كان قبل التروية
ص: 202
خطب أبو بكر وحدثهم عن مناسكهم وقام علي يوم النحر»(1).
وهنا عدة ملاحظات حول طريقة أو أسلوب الرازي في إيراد الخبر.
إن الآية أرسلها رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) مع أبي بكر ليبلغها للمسلمين عند وصوله إلى مكة ثم نزل عليه الوحي يأمره أن يمنع أبا بكر عن تبليغها ويرسل عليا (علیه السّلام) ليبلغها مكانه(2)، وهذا ماورد عند المسلمين لكن الرازي يذكر أن رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) أرسلها مباشرة مع علي (علیه السّلام) من دون أن يرسلها مع أبي بكر ويرى الباحث أن الرازي يبتغي من وراء هذا ألا يذكر منع الرسول لأبي بكر من تبليغها، لأنه يرى في هذا منقصة لمقام أبي بكر كما أنه يرى في هذا رفعا لمقام علي (علیه السّلام) على مقام أبي بكر وفيه حجة على عدم صحة خلافة أبي بكر وحجة على أنه (علیه السّلام) أولى بالنبي(صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) لقرابته منه.
رجوع أبي بكر إلى رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) للاستعلام عن سبب إرسال علي (علیه السّلام) ليبلغها دونه وقد وصل إلى (ذي الحليفة)(3) ،(4) وهذا مالم يذكره الرازي ليجعلها مسألة عادية ليس لها أهمية إلا أن أبا بكر قد رجع لأنه كما يرى الباحث قد وجد في ذلك الأمر خسارة لشرف كبير ومنقبة عظيمة وإشارة لمنصب الولاية والإمامة
ص: 203
فرجع مستعلا من رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) عن سبب ارجاعه.
ولم يكتفِ الرازي بالتلاعب في إيراد الخبر وإنما أخذ يعلل السبب الذي من
أجله بعث الرسول (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) علياً (علیه السّلام) للتبليغ من دون أبي بكر فهو يرى: أن عادة العرب أن لايتولى تقرير العهود ونقضها إلا رجل من الاقارب فلو تولاه أبو بكر لجاز أن يقولوا:هذا خلاف ما نعرف فينا من نقض العهود فربما لم يقبلوا فأزيحت علتهم بتوليه ذلك علياً (علیه السّلام)ولما خص أبا بكر (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) بتوليه أمير الموسم خص ً علياً بهذا التبليغ تطيبا للقلوب ورعاية للجوانب(1).
وأيضاً يرى أن قول رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )(لايبلغ عني إلا أنا أو رجل مني) ما هو إلا مصداق لما اعتادت عليه العرب فلا يحل عقد العهد أو نقضه الا من سيد القوم أو من رجل من أقاربه المقربين كالأخ أو العم فلهذا قال النبي(صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) ذلك(2).
وهنا لابد من النظر في:
إن الآية القرآنية جاءت للاعلان عن البراءة ممن نقضوا العهود والمواثيق من
المشتركين وإن إرسال الإمام علي (علیه السّلام) لتبليغها لا يعني أن رسول الله قد عامل العرب بعاداتهم في نقض العهد أو عقده لأنه (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) كان قد أرسل أبا بكر ليبلغها أولاً ثم نزل عليه الوحي يأمره بإرسال علي (علیه السّلام) فقال الرسول (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) ما قاله في سبب الإرجاع فهل هذا يدل على أن رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) كان لايعلم تقاليد الجزيرة العربية وقواعدها في عقد العهد ونقضه حتى نزل عليه الوحي يعلمه ذلك فإن وافقنا على قول الرازي يكن ذلك جهل من رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) وقصور في التعامل وخطأ في سياسته وحاشا أن يصدر ذلك عن رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ).
ص: 204
إلا أن الأصح هو أن رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) لايتصرف بأي أمر في أمور الدعوة والتعامل مع المشركين إلا بوحي لقوله تعالى: َ«وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3)»«إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى »النجم ] 43فكما ارسل علياً (علیه السّلام) بوحي لقوله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) عندما َ سأله أبو بكر عن سبب منعه عن التبليغ: لا ولكن جبريل جاءني فقال: لن يؤديَ عنك إلا أنت أو رجل منك.(1) وهذا يقودنا إلى الأقرار بأن إرسال أبي بكر ايضاً ٍ بوحي من الله وإن هناك غاية من وراء ذلك، فليس من المعقول أن يكون حصول
هكذا أمر نابع عن قصور في علم الرسول (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) بما تسير عليه القبائل فهو صاحب العهود والاتفاقيات والحروب وفتح الحصون والتعامل مع مختلف القبائل، فكيف لا يعلم بسنة العرب في عهودها وإنما كان إرسال عليٍ وإرجاع أبي بكر عن التبليغ وقوله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ): (لايبلغ عني إلا أنا أو رجل مني) ليوضح للناس وعلى رأسهم أبي بكر أن الله عز وجل لم يقبل أمر النيابة في تبليغ آيات من القرآن إلا علي (علیه السّلام) فأرجع أبو بكر عن ذلك فكيف بالنيابة الكبرى وهي خلافة رسول الله(صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) فأراد (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) أن يرسخ في أذهان الناس أحقية الإمام علي وأهليته وأولويته لتولي أمر الأمّة بعد النبي (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) وأنه (علیه السّلام) هو الأولى بالنبي ولا أحد ينازعه في ذلك بأمر من الله بعد أن أعلن لهم نزول وحي الله يأمره بإرسال علي(علیه السّلام) وإرجاع غيره.
ورسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) أراد أن يقطع الطريق أمام المدعين أنهم أحق بالخلافة لقرابتهم منه (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) وأنهم أولى بالرسول (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) فلو كانوا أقرب من علي (علیه السّلام)
رحماً لأمره الله أن يرسل أحدا أقرب من علي (علیه السّلام) وأولى به منه، لكن إرسال علي (علیه السّلام) بأمر من الله كان بمثابة بيان من الله ورسوله إلى الناس بولاية علي (علیه السّلام) وحجة على الناس بأنه الأولى والأحق فتبطل بموجب قول رسول الله
ص: 205
(صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )وترفه مع أبي بكر (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )أي حجة احتج بها أصحاب السقيفة تخص القرابة والرحم أو الأحقية في الأمر بأي مبرر كان.
يرى الباحث أن في إرسال النبي (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )لعلي (علیه السّلام) وإرجاع أبي بكر وقوله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) لا يبلغ عني إلا أنا أو رجل مني ما هو إلا تدريب لنفوس المسلمين على تقبل أمر الإمامة وأن علياً هو الإمام والقائد بعده (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) وليزرع في نفوسهم الاستعداد لتقبل هذا التنصيب في يوم الثامن عشر من ذي الحجة(1).
وقد ورد عن الإمام الحسن العسكري (علیه السّلام) في التفسير المنسوب له، عن رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) إن جبرائيل (علیه السّلام)قال له (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) في موضوع تبليغ براءة: «ما أمرك ربك بدفعها إلى علي (علیه السّلام) ونزعها من أبي بكر سهواً، ولا شكاً، ولا
استدراكاً على نفسه غلطاً ولكن أراد أن يبين لضعفاء المسلمين أن المقام الذي يقومه أخوك علي (علیه السّلام) لن يقومه غيره سواك يا محمد وإن جلت في عيون هؤلاء الضعفاء من أمتك مرتبته وشرفت عندهم منزلته»(2).
كذلك فإن أوامر رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) في الأمر والنهي والإرسال والإرجاع لم تكن لتطييب الخواطر ورعاية الجوانب فلو كانت كذلك كما يراها الرازي لما كان قد منع أبا بكر عنها وأمر علياً في ذلك فإن في هذا كسراً لقلب أبي بكر لأنه قد استنكر هذا التصرف ورجع مستفسرا من رسول الله(صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) عن سبب ذلك وقد أخبره الرسول (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) أن هذا ما كان منه وإنما من الله أمره بإرسال رجل منه (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) فيكون هذا التصرف في إرجاع أبي بكر وإرسال الإمام علي (علیه السّلام) بعد
ص: 206
أن أرسلها مع أبي بكر ليبلغها ماهو إلا تنبيه وإرشاد إلى مقام الإمام علي (علیه السّلام) ومنزلته وأولويته(1). ولم يكتفي الرازي بما أورده من رأي في السبب الذي من ورائه أرسل رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) علياً للتبليغ فهو يورد «حتى يصلي علي خلف أبي بكر ويكون ذلك جارياً مجرى التنبيه على إمامة أبي بكر والله أعلم»(2).
للرد على رأي الرازي نقول:
أ- إذا كانت إمارة الحج دليلا على إمامة ذلك الشخص فإن عتاب بن أسيد(3) كان قد أرسله النبي (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) أميراً على الحج في السنة التي سبقت إمارة أبي بكر فهل هذا يدل على أن عتاب بن أسيد هو الإمام بعد رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) وأن كل من سار معه تلك السنة فهو مؤتم به ومطيع له حتى بعد عودته من الحج حسب قول الرازي.
ب- إن أميرالحج مسؤولٌ عن تنظيم الحج وسلك الطريق السليم بالحجيج وتنظيم الحراسة وتنظيم الركب وغيرها من متعلقات الحج(4)،فهو ليس مسؤولا عن إمامة الصلاة وليس له دلالة على أي علقة بالإمامة والخلافة لأنه كما أوردنا ُ قد تولى هذا الأمر عتاب بن أسيد في السنة السابقة فيلزم أن يكون عتابُ هو الإمام لأنه الأسبق في هذا الأمر.
ص: 207
فضلاً عن هذا لم نجد في المصادر التي اطلعنا عليها رواية واحدة تشير إلى صلاة علي (علیه السّلام) خلف أبي بكر ولم نجد أن من واجبات أمير الحج أن يكون إماماً للصلاة وإنما إمامة الصلاة قد تكون لأي فرد مسلم يراه المسلمين صالحاً لهذا مستوفياً لشروط الإمامة في الصلاة(1) وهل إن كل من حضر الموسم صلى خلف أبي بكر ليكون أبو بكر إماما عليه وقد حضر الموسم أعداد كبيرة من الحجاج.
كذلك ماورد في سؤال أبي بكر لعلي (علیه السّلام) يدل على عدم وجود أي ارتباط وصلة بين عمل كل واحد منهم فقد قال له: أمير أم مأمور فقال (علیه السّلام) :بل أرسلني رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) ببراءة اقراها على الناس(2) .فلم يكن (علیه السّلام) داخل ضمن مسؤولية أبي بكر كأمير للحج وقوله (علیه السّلام) دليل على أنه أرسل للتبليغ وليس للحج أو لغيره من الأمور التي يكون بها تحت مسؤولية أبي بكر.
ج- ان ما حصل في تلك الحادثة ما كان دالاً على أي فضيلة لأبي بكر فكيف
يكون تنبيها على إمامة أبي بكر بل هي دالة على امامة علي (علیه السّلام) ومن الأدلة في ذلك هو احتجاج ابن عباس على عمر بن الخطاب عندما قال لابن عباس إن المانع من خلافة علي (علیه السّلام) هو صغر سنه فقال له ابن عباس فقد علمت أن الله حيث أنزل (براءة من الله ورسوله، وجه النبي (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) صاحبه ليبلغ عنه، فأمره الله أن لا يبلغ عنه إلا رجل من أهله، فوجهه به، فهل استصغر سنه؟ فقال عمر لابن عباس: امسك علي واكتم فإن سمعتها من غيرك لم أنم بين لابتيها(3).
ص: 208
كذلك ورد احتجاج الإمام الحسين (علیه السّلام) بها في فضل أبيه (علیه السّلام)(1)،وورد ذكر فضل علي (علیه السّلام) في ذلك اليوم على لسان سعد بن أبي وقاص أيضاً(2).
فضلاً عما تقدم فإن رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) كان يشير كثيراً إلى اختصاص علي (علیه السّلام) بأنه الأولى به من دون الأمة، ففي غزوة أحد (3ه/624م) عندما ثبت مع الرسول (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) وقاتل دونه وحيداً نزل جبرائيل على النبي (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) وقال له: إن هذه
لهي المواساة فقال (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) علي مني وأنا منه، فقال جبرائيل: وأنا منكما(3).
وكذلك في حجة الوداع قال (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ): علي مني وأنا منه(4)واختصاصه من قبل النبي (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) بأنه لايؤدي عنه إلا علي فقال: علي مني وأنا منه ولايؤدي عني إلا أنا أو علي(5) وحتى في مسألة الدين فقد ورد أنه (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) قال: لايقضي عني ديني إلا أنا أو
علي(6) وهذا الاختصاص لعلي (علیه السّلام) يدل على أن قول رسول الله عندما سأله أبو
بكر عن سبب إرجاعه عن تبليغ براءه وإرسال علي (علیه السّلام) محله لايبلغ عني إلا أنا
ص: 209
أو رجل مني ما كان إلا لقاعدة ثابتة عند رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) بأمر من الله (عز وجل،) وإن رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) قد زرع في نفوس المسلمين أنه لاينوب عني في كل أمر إلا علي (علیه السّلام) وكرر هذا في أكثر من موضع كما أوردنا فكان (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) ينبه أمته على ولاية علي ّ وإمامته على الأمّة.
ص: 210
هناك كثير من الآيات القرآنية التي أكدت الإمامة والولاية للإمام علي
(علیه السّلام) وأولاده من بعده، وقد شهد بذلك المخالف والموالف لارتباط سبب نزولها بالإمام (علیه السّلام) فيكون نزولها مرتبطاً بفعل قام به أمير المؤمنين (علیه السّلام) أو إن شخصه الشريف كان محور نزولها وسببه، إلا أن الفخر الرازي كان متربصاً لهذا في تفسيره فكان شديد الحرص باذلاً الجهد لإقصائها عن غايتها وإبعادها عن مرمى الإمام (علیه السّلام) بجعلها تارة في شخص غيره (علیه السّلام) وأخرى يجعلها عامة المضمون لا تخص إمامته وليس لها أي ارتباط بإمامته وهي كالآتي:
أولاً: قوله تعالى «إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ »(1).
تعد هذه الآية الكريمة من الآيات الصريحة بولاية أمير المؤمنين(علیه السّلام) لاقتران سبب نزولها بفعل الإمام علي (علیه السّلام)، ولأنها نزلت بأمر صادر من الله إلى المؤمنين يأمرهم بأن يوالوا الله والرسول والشخص المعني بكلمة المؤمنين وهو الذي كان سبباً لنزول هذه الآية كما سنوضحه في أثناء البحث.
أما عن موقف الرازي تجاه هذه الآية وفيمن اختصت فهو يرى إشكالية في
نسبتها إلى الإمام علي (علیه السّلام) ويرى عدم اختصاصه (علیه السّلام) بها،فهو أورد أقوالاً
ص: 211
عدّة في تفسيرها وسبب نزولها فيذكر أنها نزلت بعد أن تبرأ عبادة بن الصامت(1) من اليهود كا يورد رأياً آخر في أن نزولها كان بعد أن شكى عبد الله بن سلام(2)
الوحدة، لأن اليهود قاطعوه ومنازل المسلمين بعيدة عنه فشكى ذلك للرسول(صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) فأنزل الله هذه الآية(3).
كذلك يورد الخبر المروي عن أبي ذر الغفاري (رضی الله عنه) حول سبب نزول الآية وهو أن أمير المؤمنين (علیه السّلام) كان يصلي خلف رسول الله فدخل المسجد سائل يسأل، فلم يعطه أحدٌ وكان أمير المؤمنين (علیه السّلام) راكعاً فاوحى إلى السائل بخنصره الأيمن وكان فيه خاتم فأخذه السائل بمرآى النبي فقال (علیه السّلام) اللهم إن أخي موسى سألك فقال: َ «قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ...«وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي »(4).فأنزلت قرآنا ناطقاً: َ « سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا »(5) اللهم وأنا نبيك وصفيك فاشرح لي صدري ويسر لي أمري واجعل لي وزيراً من أهلي علياً أشدد به أزري قال أبو ذر: فو الله ما أتم رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) الكلمة حتى نزل جبرائيل فقال: يا محمد أقرا «إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ
ص: 212
الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ »(1).
أما عن اختصاص الآية في قوله: َ «وَهُمْ رَاكِعُونَ » فهو يورد آراء غيره فالقول الأول يرى أنهم كافة المؤمنين ّ الذين كانوا يصلون ويزكون إبّان نزول
الآية، والقول الثاني يرى أنها تخص شخص معين ويورد فيه رأيين الأول عن عكرمة(2) يرى أنها نزلت في أبي بكر. والثاني عن ابن عباس يرى أنها نزلت في علي(علیه السّلام) عند ما تصدق بخاتمه(3) ولم يعلق الرازي على هذه الآراء إلا أنه بعد إيراده لها أورد قول الشيعة في الآية بأنها نازلة في علي (علیه السّلام) ودالة على إمامته وولايته(4).
غير أنه يرفض هذا التفسير ويرد عليه بمحاور عدة لإقصاء الإمام علي
(عليه السلام) عن الآية:
1- لتلاعب في دلالة الولاية الواردة في الآية، إذ يرى الرازي أن حمل لفظ
الولي على الناصر والمتصرف معاً غير جائز لما ثبت في أصول الفقه أنه لايجوز حمل اللفظ المشترك على مفهوميه معاً ويرى أن الولي الواردة بالآية المعنية لا تعني إلا الناصر والمحب فقال: إن اللائق بما قبل هذه الآية وما بعدها ليس إلا هذا المعنى لأنه قال في آية سابقة:«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ »(5). والولاية المنهي عنها هنا هي النصرة فكانت الولاية المأمور بها
ص: 213
النصرة ايضاً وإن الولي في قوله: (إنما وليكم) ليس الا الناصر والمحب ولايمكن
أن يكون بمعنى الإمام(1) ويرى أن الموصوف بالآية الكريمة، ما هو إلا لفظ يدل على الجمع وإن جاز على الواحد على سبيل التعظيم لكنه مجاز لاحقيقة والأصل حمل الكلام على الحقيقة(2).
وهذه أهم آراء الرازي المتعلقة بلفظة الولاية الواردة في الآية التي تبين منها أن
آراءه مبنية على التشدد والتعصب في اثبات المعنى الذي يرومه و لا يرى أي مجال في المعاني الاخرى للولاية الواردة في الآية: من الطاعة أو التصرف والإمامة، وهذا مايتعارض مع القرآن فقد ورد في قوله تعالى:«النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ »(3) أي انه أولى بالتصرف بهم من تصرفهم بانفسهم فقد كان يقول: (انا أولى بالمؤمنين من أنفسهم فأيما رجل مات وترك ديناً فإلي ومن ترك مالاً فهو لورثته)(4).
وأورد التفتازاني(5) في معاني الولي: كما جاء بمعنى الناصر فقد جاء بمعنى الأولى والاحق بذلك يقال: أخو المرأة وليها والسلطان ولي من لا ولي له، وفلان ولي الدم.
كذلك أورد التستري(6) في بيان معنى الشكر لله فقال: الشكر لله هو الطاعة لله، والطاعة لله هي الولاية من الله تعالى كما قال«إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا ».
ص: 214
إن الرازي حصر لفظة (الولي) في معنى واحد فهو يرى أن كلمة الولي مشتركة
ولا يمكن حملها إلا على معنى أو مفهوم واحد وحصره في معنى الناصر أو المحب فقط، وسحب عنه المعاني الأخرى بينما يرى علماء اللغة أن للولي معاني عدّة منها (الولي،) قيل ولي اليتيم الذي يلي أمره ويقوم بكفايته، وولي المرأة الذي يلي عقد النكاح، ويقال فلان أولى بهذا الأمر من فلان أي أحق به(1) ومن الفاظ الولي تاتي بمعنى المتولي بالتصرف فيجوز أن يقال الله ولي المؤمنين بمعنى أنه يلي حفظهم وكلائتهم كولي الطفل المتولي شأنه(2) كما ان من معانيها أنه الأولى بالشيء(3) كما يأتي الولي بمعنى الأولى ودليله قوله تعالى: َ «مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ »(4) أي هي أولى بكم (احق بكم)(5).
كذلك فقد أورد النحاس قول أبو عبيد(6) في معنى الآية المعنية بالبحث قال أبو عبيد: وهذا يبين لك قول النبي (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) من كنت مولاه فعلي مولاه فالمولى والولي واحد والدليل على هذا قوله عز وجل: «اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ »(7).
ص: 215
كذلك فقد رد الحلبي(1) على معنى الولي بانه الولاية فهو يرى أن من الأدلة على اختصاص كلمة ولي هنا بمعنى الولاية أنه (عز وجل) بدأها ب(انما وليكم) خطاب لكل مكلف بر وفاجر وكونه خطاباً عاماً يمنع حمله على المحبة والنصرة، ولان حرف (انما) يثبت الحكم لما اتصل به وبنفية عما انفصل عنه بغير تنازع كقوله تعالى: « إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ »(2) «إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ»(3) «إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ »(4).
ولم يكتف الرازي بالتلاعب بمعنى الولاية بل تعدى إلى قوله: لانسلم أن
الولاية المذكورة في الآية غير عامة ولانسلم أن كلمة (إنما) للحصر، والدليل
قوله: «إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ »(5) ولاشك أن الحياة لها أمثال أخرى سوى هذا المثل(6).
أما عن قوله إنها عامة في جميع المؤمنين فقد ناقش الشريف المرتضى(7)هذا الرأي قبله فقال: قد ثبت أن المراد ب (الذين آمنوا) ليس جميعهم على العموم بل بعضهم وهو من كانت له الصفة المخصوصة التي هي إيتاء الزكاة في حال الركوع لأنه تعالى وصف بالإيمان من أخبر بأنه ولينا بعد ذكر نفسه وذكر رسوله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) كذلك وصفه بإيتاء الزكاة في حال الركوع فيجب أن يراعي ثبوت الصفتين
ص: 216
معاً، كما اجاب الزمخشري عن سؤال في هذا المجال: كيف صح أن يكون لعلي
(علیه السّلام) واللفظ لفظ جماعة؟ قلت جيء به على لفظ الجمع وإن كان السبب فيه رجلاً واحداً ليرغب الناس في مثل فعله فينالوا مثل ثوابه ولينبه على أن سجية المؤمنين يجب ان تكون على هذه الغاية(1).
وقد مال إلى قول الزمخشري عدد من مفسري المسلمين(2) كما أن القرآن خاطب أفراداً بلفظ الجمع وتكلم (عز وجل)عن نفسه بصفة الجمع فقال«إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ »(3) وقوله تعالى: «إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ »(4) وعن الفرد بصيغة الجمع قوله «الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ »(5).والمراد بالناس هنا نعيم بن مسعود الأشجعي(6).(7)
فضلا عما تقدم فقد أشار أغلب المفسرين إلى أن الآية نزلت في علي (علیه السّلام)(8)،
ص: 217
ومنهم من قال بأنه متفق عليه بأنها في علي(1)واذا كان السبب في نزولها هو الإمام علي (علیه السّلام) وإنه صاحب الصفات المذكورة فيها وليس هم طائفة أو جماعة معينة، كانت الولاية المعينة هنا حصراً لله والرسول ولصاحب تلك الصفات(2). فتكون كلمة (إنما) حصر لتلك الولاية وقد أشار عدد من المفسرين إلى (انما) الواردة في الآية هي اداة حصر وتخصيص أي حصر الولاية فيمن ورد ذكرهم في الآية فلا ولي غير هؤلاء(3).
فضلا عن هذا فإن عدد من المفسرين يرون ان قوله تعالى: «وهم راكعون»
تدل على أداء الزكاة حال الركوع أي إن الصفات الواردة في الآية هي جميعها
ص: 218
لشخص قام بها في آن واحد فيكون الوصف هو وصفاً حالياً(1).
2- انكاره لدلالة الآية على الإمامة لعدم احتجاج علي (علیه السّلام) بها. فبعد أن اجتهد الرازي بالتلاعب في معنى الولاية ومحاولته جعلها عامة في جميع المؤمنين اخذ يجتهد في حجج اخرى فهو يرى « ان علي بن أبي طالب كان اعرف بتفسير القرآن من هؤلاء الروافض فلو كانت الآية دالة على امامته لاحتج بها في محفل من المحافل وليس للقوم ان يقولوا انه تركه للتقية فانهم ينقلون عنه انه تمسك بيوم الشورى بخبر الغدير وخبر المباهلة وجميع فضائله ومناقبه ولم يتمسك البتة بهذه الآية وذلك يوجب قول هؤلاء الروافض لعنهم الله»(2).
ان الرازي يرى ان علياً (علیه السّلام) لم يحتج بهذه الآية لعدم دلالتها عى إمامته نقول: ان علياً لم يحتج بكل سيرته وكل فضائله وانما احتج يوم الشورى بالأحداث التي شهدها جميع الأمّة عياناً وكان موقف رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) فيها امام جميع المسلمين امثال يوم المباهلة واجتماع المسلمين لرؤية المباهلة ويوم الغدير الذي شهده الاف الحجاج فعندما يحتج به يكون حجة دامغة لان المسلمين جميعهم قد شهدوها، اما عن ادعائه ان علياً لم يحتج بها لامامته فقد ورد في مصادر الشيعة احتجاج علي (علیه السّلام) بها واحتجاج الأئمة من بعده بها ايضاً لإثبات إمامتهم على الأمّة، فقد
ورد أن علياً (علیه السّلام) قال للصحابة محتجّاً عليهم فيما قال: (نشدتكم بالله هل فيكم احد نزلت فيه هذه الية «إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ
ص: 219
الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ »غیری؟ قالوا: لا (1) كذلك ورد احتجاج أئمة أهل البيت (علیهم السّلام) بهذه الآية لإثبات الإمامة لهم على الأمّة(2).
وهذه المحاججات والاثباتات الواردة عن أئمة أهل البيت (علیهم السّلام) ماهي الا دليل على اختصاص الآية بإمامة أمير المؤمنين (علیهم السّلام) وإنه أمام الأمة بعد الرسول (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ).
ويرى الرازي رأيا آخر في هذا المجال فيقول: «هب أنها دالة على إمامة علي،
لكنا توافقنا على انها عند نزولها مادلت على حصول الإمامة في الحال لأن علياً ماكان نافذ التصرف في الأمّة حال حياة الرسول (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) فلم يبقى الا ان تحمل الآية ً على أن عليا سيصير إماماً بعد ذلك ومتى قالوا ذلك نقول بموجبه، ونحمله على إمامة أبي بكر وعمر وعثمان اذ ليس في الآية مايدل على تعيين الوقت(3).
يظهر من قول الرازي أعلاه أنه يفترض فرضية في دلالتها على إمامة علي (علیه السّلام) إلا أنها غير مفوضة إليه بالتصرف حال وجود الرسول (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) ولم يتولَ الإمامة بعد الرسول (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) فيكون متصرفاً حال توليه الخلافة نقول: ان الإمامة هي خلافة النبوة فمتى ما كان النبي (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) موجوداً يكن هو المتصرف لقوله تعالى: «النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ...»(4) ولقوله:َ ...وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ
ص: 220
فَانْتَهُوا...»(1) إذن فهو سيد الأمر والتصرف، إلا ان هناك أدلة على حصول الخلافة للإمام علي (علیه السّلام) حال وجود النبي وبتفويض منه (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) فعندما غزا رسول الله في تبوك خلف عليا في المدينة وقال له: «انت مني بمنزلة هارون من موسى الا انه لانبي بعدي»(2)،ونحن نعلم كما هو وارد في القرآن أن هارون هو خليفة موسى في قومه وهو المتصرف بهم بتخويل من موسى لقوله تعالى عى لسان موسى: َ ... وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ »(3) وهذا تفويض من قبل النبي موسى لأخيه هارون بالتصرف.
وهذا يقودنا إلى أن قول النبي (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) للإمام علي (علیه السّلام) عندما خلفه في المدينة وذهب هو إلى تبوك على انه خوله في التصرف في قومه وأهله وإنه النائب عنه وهو القائد بعده وأثبت له ما أثبت موسى لهارون فكان بذلك دليلاً على حصول التفويض بالتصرف في الأمّة وإعطاء الولاية دورها حال وجود رسول الله(صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) بل أن الدليل على أن آية الولاية المعنية في البحث دالة على إمامته ما ورد عن
رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) عندما علم بأن علياً قد تصدق بخاتمه فسأل ربه بما سأل موسى ربه من قبل بأن يجعل له وزيراً من أهله علياً أخاه فنزل إليه جبرائيل بالجواب من ربه(4).
ص: 221
اما عن تصرفه المطلق في حياة النبي (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) فهذا ما لا يمكن وقوعه في حياة النبي (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) لأنه هو القائم بالامر ولا يكون ذلك الا بعد ان ينتقل النبي إلى ربه اما عن امامته انها كانت بعد أبي بكر وعمر وعثمان كما يرى الرازي فهذا الرأي كما يتضح مبني على قاعدة سياسية فهو يرى ان الإمامة مرتبطة بتولي الحكم وان كل من تولى الحكم كان إماماً وان علياً لما لم يتولَ الحكم لم يكن إماماً حتى تولى.
إلا أن هذا يخالف ماورد في الآية ودلالتها فهي دالة على الإمامة ومتى ما
دلت هذه الآية على إمامته فإنها تلغي وقوع الإمامة وتمنعها لأحد غيره حتى وان تولى الحكم غيره لان نصها لم يشمل أحداً سواه (علیه السّلام) وقد قال الحلبي: ان حرف (إنما) في الآية يثبت الحكم لما اتصل به وينفيه عما انفصل عنه بغير تنازع(1).
ادعاؤه ان الآية لم تنزل بعلي (علیه السّلام) فبعد ان ناقش الرازي الآية من حيث دلالة المعاني والغاية التي وراء نص الآية اتجه إلى الإفصاح عن رأيه الصريح المتمثل بنفي نزول الآية في علي (علیه السّلام) فقال: اما استدلالهم بأن هذه الآية نزلت في حق علي فهو ممنوع فقد بينا ان أكثر المفسرين زعموا أنه في حق الأمة والمراد ان الله تعالى أمر المسلم ان لا يتخذ الحبيب والناصر إلا من المسلمين ومنهم من يقول إنها نزلت في حق أبي بكر(2).
وهنا يتضح مدى تزمت الرازي برأيه رغم مخالفته للمفسرين والمحدثين
وزعمه أن المفسرين قالوا إنها نزلت بحق الأمّة فقد ذكرنا المفسرين الذين ذكروا
نزولها في علي بن أبي طالب (علیه السّلام) في الصفحات السابقة إضافة إلى تصريح القسم
ص: 222
الآخر منهم على أنها متفق على نزولها في علي(1)
فهنا يكون رأي الرازي مبنياً على وجهة نظر فردية قائمة على قاعدة الإطلاق
في الكلام من دون التحديد فهو لم يرشد حتى إلى مفسر واحد يرى أنها عامة في جميع المؤمنين ويتضح أنها نزلت في حق أبي بكر وإنه يريد ان يحول الآية إلى فضائل أبي بكر ويمنع ان تكون في حق علي (علیه السّلام) رغم تظافر الروايات في نزولها بحق الإمام علي (علیه السّلام) فلم يرد ذكر نزولها في حقه (علیه السّلام) في التفاسير فقط، بل هناك شبه إجماع بين مصادر الحديث والتاريخ(2)وقد كانت أبيات حسان بن ثابت (3) ً شاهدا واعلاما لذلك الحدث اذ ورد انه انشد شعراً بعد نزولها في علي (علیه السّلام) منه:
فأنت الذي أعطيت إذ كنت راكعا*** فدتك نفوس القوم ياخیر راكع(4)
ص: 223
وقول حسان هذا شاهدُ على نزول الآية في علي (علیه السّلام) فكان الجانب الادبي دليلاً سانداً إلى جانب التفسير والحديث. ويرى الرازي أسباباً عدة تمنع نزول الآية بعلي بن أبي طالب (علیه السّلام)(1).
أ- إن لفظة الزكاة الواردة في الآية هي اسم للواجب فلو أنه أخر أداء الزكاة
الواجبة في حال كونه في الركوع لكان أخر أداء الزكاة وذلك عند العلماء معصية
ولا يجوز اسناده إلى علي (علیه السّلام) وحمل الزكاة على النافلة خلاف الأصل، لأن كل ما كان زكاة فهو واجب.
باللائق بعلي ان يكون مستغرق القلب بذكر الله (عز وجل) حال ما يكون
في الصلاة، والظاهر ان من كان كذلك لايستمع لكلام الغير
جأن دفع الخاتم في الصلاة للفقير عمل كثير واللائق به (علیه السّلام) أن لايفعل
ذلك.
دالمشهور أن علياً (علیه السّلام) كان فقيراً وليس له مال تجب فيه الزكاة.
وهنا تخالف الرازي مع غيره من المفسرين الذين لم يروا أي اشكال في فعل
الإمام (علیه السّلام) ولم يعطوا مبرراً واحداً مما أعطاه الرازي كمانع لنزول الآية فيه فمشهور المفسرين يرون ان اسم الزكاة الوارد بالآية هو اسم عام يشمل الزكاة الواجبة والتطوع وان صدقة التطوع تسمى زكاة(2).
ص: 224
وهم يرون أن هذا التصدق كان نافلة كما استدلوا على أن الفعل القليل
في الصلاة لا يبطلها ولا يخل فيها(1)وهذا يتخالف مع رأي الرازي ويفنده بل إن القرطبي يورد قوله تعالى:َ « وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ »(2)، كدليل على أن اسم الزكاة اسم عام ولا مانع في إيتائها أثناء الصلاة(3).
أما عن قوله أن علياً كان فقيراً ولا تجب عليه الزكاة الواجبة فهذا ينتفي
بإثبات معنى الزكاة وهو أن الزكاة الواردة في الآية هو اسم يشمل صدقة التطوع
وكل عمل خير فتكون هذه الزكاة هي صدقة تطوع ولم تكن زكاة واجبة.
كذلك فإن الرازي يستنكر أن يكون عليٌ قد تصدق أثناء الصلاة؛ لأنه من
اللائق به الاستغراق بالصلاة وعدم الانتباه، وهنا قد أجاب ابن الجوزي على هذا السؤال وقد نظم أبياتاً من الشعر فقال(4).
ص: 225
يسقي ويشرب لا تلهيه سكرته*** عن النديم ولا يلهو عن الناس
أطاعه سكره حتى تمكن من*** فعل الصحاة فهذا أوحد الناس
فضلا عن هذا فإن علياً التفت إلى أمرٍ مهم يصب في طاعة الله كالصلاة
والغاية هي مرضاة الله في كلا العملين وقد علق الجزائري قائلا: إنه (علیه السّلام) قد انتقل عن طاعة العبادة إلى طاعة الصدقة فهو في الخدمة دائما(1).
وبهذا فهو قد نال درجة عالية من الطاعة أنزل الباري بسببها هذه الآية.
ورد في ذيل الرواية التي ذكرها الرازي وغيره من المفسرين عن أبي ذر (رضي
الله عنه) وهي سؤال رسول الله (علیه السّلام) لربه (عز وجل) بقوله (اللهم إن أخي موسى سألك) فقال:َ « رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ....وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي »(2) فأنزلت قراناً ناطقاً: « سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا »(3)اللهم وانا محمد نبيك وصفيك فاشرح لي صدري ويسر لي أمري واجعل لي وزيراً من أهلي ً علياً اشدد به ظهري قال أبو ذر: فو الله ما أتمّ رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) كلامه حتى نزل جبرئيل فقال: يا محمد اقرأ إنما وليكم الله... إلى آخرها(4).
ص: 226
وعلى الرغم من إيراد الرازي لهذه الرواية وتعليقه على الرواية والآية ودفعها
عن علي (علیه السّلام) إلا أنه لم يتطرق إلى موضوع الوزارة عند تفسيره للآية الا أنه في موضع آخر عند تفسير للآيات 3225من سورة طه أعرب عن آرائه في موضوعة وزارة النبي (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) فاورد حديثاً يستشهد به فأورد عن رسول الل(صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) انه قال: «ان لي في السماء وزيرين، وفي الارض وزيرين فاللذان في السماء جبرائيل وميكائيل، واللذان في الارض أبو بكر وعمر»(1) وأورده بأسلوب الاستشهاد على وزاراتهما رغم أنه لم ترد أحاديث موثقة حول هذا الأمر بل على العكس منه هناك أدلة نقلية كثيرة على أن علياً (علیه السّلام) هو وزير رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) فقد أوردنا الرواية السابقة أن رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) قد سال ربه ان يجعل له وزيراً من أهله فكان ذلك علياً (علیه السّلام) إلا أن الرازي استبدل تلك الفضيلة والمنصب الكبير وأحل محله أبا بكر وعمر، ليعطي مقدمة على احقيتهما بالخلافة لأنه يورد أن الوزير مع النبي يعاونه على الأمر والتظاهر عليه مع مخالصة الود وزوال التهمة(2) إذن من ثبت أنه وزير لرسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) فهو ظهيرٌ له ومساعدٌ له في أمره.
وهذا الأسلوب الذي اتبعه الرازي ذو شقين شق تجاهل للرواية، وشق
إقصاء ونسبة فضائل أمير المؤمنين (علیه السّلام) لغيره، وهذا ما يخالف النقل والعقل فقد ورد قول رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) يوم انذاره لبني هاشم قائلاً: فأيكم يؤازرني على أمري هذا؟ على ان يكون اخي و وصيي وخليفتي فيكم؟ فسكتوا واجاب عليٌ
ص: 227
(علیه السّلام) فقال (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) ان هذا اخي ووصيي وخليفتي فيكم(1).
فكانت الوزارة والخلافة للنبي (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) من الأمور التي انيطت بعلي (علیه السّلام) منذ الأيام الأولى للدعوة كذلك قوله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) لعلي (علیه السّلام) يوم غزوة تبوك «انت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي»(2) وهذا تذكير آخر من رسول الله
(صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) لأمته وقد قال الاسكافي في هذا الصدد: فاشهد أنه أجابه وشفع مسألته ثم أمره بأن يشهر ذلك لأمته في حجة الوداع تاكيداً وإظهاراً لأمر الله لتقوم بذلك الحجة على الخليقة(3).
وكذلك فإن سؤاله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) بأن يكون له وزيرٌ كما كان هارون (علیه السّلام) وزيراً لموسى فكان ذلك علياً (علیه السّلام) فهو قد أثبت له جميع مراتب هارون من موسى فإذن هو وزير رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) وشادّ ازره ولولا أنه خاتم النبيين لكان شريكاً له في أمره(4).
وبهذا يثبت لدينا ان وزير رسول الله هو علي بن أبي طالب (علیه السّلام) اما الحديث الذي أورده الرازي فهو حديث غير متواتر(5) وهو حديث ضعيف متنا ورجالا(6).
ص: 228
فضلا عن هذا فالحديث عقلاً مرفوض،اذ كيف يتخذ رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) وزيرين يفران من الحرب ولا يشاركاه في أي شيء من أمره وحتى في المشورة الواردة في القرآن فإنها قد حرما منها لفرارهم من الحرب فغضب عليهم رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) حتى أمره الله بالعفو عنهم بقوله: َ« ...فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ...»(1)وهي فيمن فر يوم احد.(2) إذن فليس من المعقول أن تكون لهما الوزارة من دون من نصبه الله ورسوله وزيراً وأنزل بهذا آيات بينات وكان ذلك على رؤوس الأشهاد واضحاً وبيناً لكل مسلم.
يعد يوم الغدير من أعظم الأحداث والوقائع التي أكدت للأمة الإسلامية إمامة علي (علیه السّلام) وقطعت السبل أمام المشككين في إمامته (علیه السّلام) فكانت تلك الحادثة هي يوم إعلان الإمامة والتنصيب لعلي (علیه السّلام) إماما للأمة وقائداً للمسلمين وقد تمسك أتباع أهل البيت (علیه السّلام) بهذا اليوم والآيات التي نزلت فيه كدليل على أحقية الإمام (علیه السّلام) ووجوب اتباعه لأن الأدلة الواردة فيه ليست فقط روائية وتاريخية بل إن أغلب مفسري المسلمين أكدوا ارتباط الآيات النازلة في ذلك اليوم بالبلاغ الذي ورد على لسان النبي (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) في علي (علیه السّلام) ووجوب موالاته واتباعه وسنتناول هذه الآيات في الاتي:-
ص: 229
1-قوله تعالى:«يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ »(1).
يتضح لمن يقرأ الآية الكريمة أن الخطاب الرباني الوارد في الآية يأمر النبي
الأكرم (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) أن يبلغ أمراً يعادل الرسالة بأكملها وإن لم يقم بذلك كان كمن لم يبلغ الرسالة ولم يتحمل مشاق ذلك وأتعابه فما هو ذلك الأمر العظيم في نظر الرازي.
أورد الرازي آراء عدّة في الآية منها: انها نزلت في قصة الرجم والقصاص
وقيل في سبب سكوت النبي (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) على عيب اليهود واستهزائهم بالدين، والآخر امتناع النبي (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) عن تبليغ نسائه آية التخيير (28الأحزاب،) والآخر في أمر زيد بن حارثة وزوجته زينب بنت جحش، والآخر نزلت في الجهاد فكان يمسك ً أحياناً عن حثهم على الجهاد لكرههم إليه، والاخر سكوته عن عيب الهتهم بعد نزول قوله:َ «وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ»(2) .والآخر: إنه كان يهاب قريش فأزال الله تلك الهيبة بهذه الآية، والآخر إنها لما نزلت اخذ بيد علي وقال: من كنت مولاه فعلي ِ مولاه اللهم والِ من والاه وعاد من عاداه فلقيه عمر فقال له: هنيئاً لك يا بن أبي طالب أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة. وهو قول ابن عباس والبراء بن عازب ومحمد بن علي [يعني الباقر (علیه السّلام)](3).
وإلى هنا كان الرازي موضوعياً في طرحه فهو يورد الآراء التي قيلت بالآية
إلا أنه يفصح عن الرأي الذي يتبناه فقال، «واعلم أن هذه الروايات وإن كثرت
ص: 230
إلا أن الأولى حمله على أنه تعالى آمنه من مكر اليهود والنصارى وأمره بإظهار التبليغ من غير مبالاة منه بهم، وذلك لأن ما قبل هذه الآية وما بعدها بكثير لما كان كلاماً مع اليهود والنصارى امتنع إلقاء هذه الآية الواحدة في البين على وجه تكون أجنبية عما قبلها وما بعدها»(1).
وبتبني الرازي لهذا الرأي فهو ينفي أن تكون قد نزلت لتأمر الرسول (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) أن يبلغ المسلمين تنصيب أمير المؤمنين (علیه السّلام) إماماً وخليفة له عليهم، وهذا ما خالف به أكابر المفسرين، فقد ورد عن طرق مختلفة عن الإمام الباقر(علیه السّلام) وابن عباس وأبو سعيد الخدري والبراء بن عازب أن هذه الآية نزلت عند عودة الرسول (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) من الحج عام 10ه/632م، أي حجة الوداع وكان قد نزل عليه الوحي يامره ان يبلغ المسلمين امر تنصيب علي بن أبي طالب (علیه السّلام) أميراً للمؤمنين وخليفة لرسول رب العالمين فتوقف النبي (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) بغدير خم، وحبس من معه لينتظروا من تأخر عنهم حتى اجتمع المسلمون ونصب له منبر واخذ بيد علي(علیه السّلام) ونادى: الست أولى بالمؤمنين من انفسهم؟ قالوا بلى يارسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) قال: الست أولى بكل مؤمن من نفسه؟ قالوا بلى يارسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )قال من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم من ولاه وعاد من عاداه فلقيه عمر فقال: هنيئاً لك يا ابن أبي طالب اصبحت وامسيت مولى كل مؤمن ومؤمنة(2).
ص: 231
كذلك وردت الروايات في اختصاص هذه الآية بالتبليغ بولاية علي (علیه السّلام)في مختلف المصنفات الإسلامية (1)كما ورد عن ابن مسعود (رضی الله عنه) أنه قال: كنا نقرأ على عهد رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) يا أيها الرسول بلغ ما انزل اليك من ربك أن علياً مولى المؤمنين وان لم تفعل فما بلغت رسالته(2).
إلا أن الرازي لم يعتد بهذا الأمر وإنما اعتمد رأيه، ويرى أنها نزلت لإظهار التبليغ من دون مبالات لليهود والنصارى وان الله عاصمه منهم وهذا ما لايصلح لعدة أمور:
إن الآية مدنية وقد نزلت في السنة العاشرة من الهجرة في حجة الوداع (3) والرسول (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) كان قد بلغ وجاهد وحارب اليهود والمشركين في مختلف غزواته، وقد بلغهم أمر دين الله وحاججهم وسفه آراءهم وعقائدهم وكان قد أظهر تبليغه منذ أيام الضعف وقلة الناصر فكيف بعد أن عظم أمره وكثر أنصاره وأصبح
ص: 232
لايهاب المشركين بل واصبحوا يدخلون في دينه خشية قوته كذلك فقد حاجج النصارى وفند عقائدهم الخاطئة وفرض عليهم الجزية عن يد وهم صاغرون(1) فأي خشية بقيت منهم وأي تبليغ يخشى رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) أن يعلنه سيما أن ذلك التبليغ يعادل الرسالة بأكملها.
إن الآيات السابقة للآية المعنية والآيات اللاحقة لها صريحة في خطابها لليهود
والنصارى:«وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا...»(2).
واللاحقة َ «وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ »(3) وهذه الآيات صريحة في خطابها لأهل الكتاب وإنذاره لهم بالإيمان والتقوى والتصديق بالدعوة.
ج- إن الآية نزلت في السنة العاشرة ولم يبق بعدها رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) إلا مدة قليلة والرازي يرى ان الآية نزلت لتطمئن الرسول بأن الله قد امنه مكر اليهود فلماذا لم ينزل هذا الأمر منذ بداية الدعوة ليكون الرسول أكثر طمأنينة وعلى أي شيء يطمئنه من مكرهم فهم قد فعلوا الكثير وقد امنه الله من ذلك.
ديتضح من ألفاظ الآية أمران: الأول هو أن الله أمر نبيه أن يبلغ أمته أمراً معيناً وهذا الأمر يعادل الرسالة وكل ما تحمّله الرسول (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) من اتعاب ومشاق، والثاني: موقف الرسول (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) وخوفه من أن يبلغ هذا الأمر لعلمه بقومه ومكرهم وإخبار الله له بأنه عاصمه من أعدائه فليس من المعقول أن يكون ذلك الأمر هو
ص: 233
الأمان من مكر أهل الكتاب بل إنه ورد في الخبر: أن الوحي نزل على رسول الله
(صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )يأمره بالتبليغ ورسول الله يخشى ذلك حتى نزل الإنذار للنبي بالإبلاغ وإلا فما كان له من الأجر شيئاً وكأنه لم يبلغ وكان (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) يقول: يارب كيف أصنع وأنا وحدي يجتمعون علي، فنزلت الآية، « وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ » (1) وفي خبر آخر قال (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) إن قومه حديثي عهد بجاهلية ويخشى أن يخبرهم أمر تنصيب ابن عمه(2).
فنزل الوحي يطمئنه بالعصمة من شر قريش ومكرهم به وقد أكد أغلب
المفسرين نزولها في حجة الوداع السنة العاشرة للهجرة وهذا ينفي رأي الرازي ويبطل حجته لأن النبي (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) لم يبلغ أهل الكتاب بعد نزول هذه الآية بأمر عظيم وإنما كانت حياته بعدها قصيرة لم تتجاوز عدة أشهر ولم نجد في المصادر ما يرشدنا إلى تبيلغ الرسول (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) لأهل الكتاب بعد هذه الآية أمراً يساوي الرسالة باكملها كما ذكر الله بالآية، فكان ذلك الأمر إمامة علي (علیه السّلام) وتنصيبه على الأمّة وقد
علق الاسكافي على التبليغ بقوله: فقوله ألست أولى بكل مؤمن من نفسه؟ فمن كنت مولاه فهذا عليٌ مولاه: أي من كنت سيده فعلي سيده ورئيسه وإمامه(3) فكانت إمامة علي (علیه السّلام) عدل تلك الرسالة والاعتقاد بها هو الاعتقاد بالرسالة.
فضلا عما تقدم فإن حديث الغدير متواتر عند فرق المسلمين وقد ملئت بطون
الكتب برواية خبره(4)،وقد نُصِّب أميرُ المؤمنين (علیه السّلام) خليفة لرسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )
ص: 234
وقائداً للأمة في ذلك اليوم حتى قال حسان بن ثابت في ذلك أبياتاً من الشعر(1).
يناديم يوم الغدير نبيهم*** بخم و أكرم بالنبي مناديا
يقول فمن مولاكم ووليكم*** فقالوا ولم يبدوا هناك التعاديا
الهك مولانا وأنت ولينا*** لن تجدن منا لك اليوم عاصيا
فقال له قم يا علي فإنني*** رضيتك من بعدي إماماً وهادياً
وهذه الأبيات شهادة من قبل حسان بن ثابت لتلك الحادثة وليكون شعره
بمثابة إعلام وإشاعة للخبر وتخليداً وتذكيراً للأمة الإسلامية ما بقي الدهر، وكذلك ما ورد على لسان استاذ الفخر الرازي وهو الغزالي (ت505ه/1111م) إذ قال معلقاً على قول رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )يوم الغدير: (اسفرت الحجة وجهها وأجمع الجاهير على متن الحديث من خطبته في يوم غدير خم باتفاق الجميع وهو يقول: «من كنت مولاه فعي مولاه» فقال عمر بخ بخ يا أبا الحسن أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن. فهذا تسليم ورضا وتحكيم ثم بعد هذا أغلب الهوى لحب الرياسة وحمل عمود الخلافة وعقود النبوة وخفقان الهوى في قعقعة الرآيات واشتباك ازدحام الخيول وفتح الأمصار»(2).
وهذه الشهادة من الغزالي اكبر رد على الرازي لأنه من كبار علماء الاشاعرة
ص: 235
ورأيه يمثل حجة على الرازي ومن لحقه من علماء الأشاعرة.
2- إتمام التبليغ ونزول قوله تعالى«... الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ...»(1).
تعد هذه الآية من الثوابت التي تمسك بها أتباع أهل البيت (علیه السّلام) في اعتقادهم بإمامة علي (علیه السّلام) وان الله قد اكمل دينه وتمت نعمته بولاية علي (علیه السّلام) وورد أن هذه الآية نزلت بعد تنصيب الرسول (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) لعلي (علیه السّلام) يوم الغدير فنزل عليه الوحي مباشرة بعد التبليغ بها، إلا أن الرازي يرى خلاف هذا الرأي ويحاول جاهداً إبعاد أي شيء يتصل بإمامة علي (علیه السّلام) فالرازي يورد عدة آراء للمفسرين في قوله: اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي، منها:
إظهار القوة على الأعداء والقدرة عليهم، ومنها أكملت لكم ما تحتاجون إليه
في تكاليفكم، ومنها أن الدين كاملاً لكن الله كان عالماً في أول وقت المبعث بأن ماهو كامل في هذا اليوم ليس بكامل في الغد ولا صلاح فيه فالمراد أن الأول كمال إلى زمان مخصوص والثاني كمال إلى يوم القيامة وقد أيد الرازي هذا الرأي بقوله (وهو المختار)(2).
وأسلوب الرازي بطرحه الآراء يعد أسلوباً موضوعياً لا إشكال فيه لأن المفسرين كل له رأيه عند تفسيره للآية وهو يتبنى الرأي الأخير كرأي في معنى
الآية إلا أنه يعرج إلى آراء الشيعة في الآية وهنا يطرح رأيه الإقصائي لفكرة الإمامة والبيعة لعلي (علیه السّلام) فقال: قال أصحابنا(3):«وهذه الآية دالة على بطلان قول
ص: 236
الرافضة وذلك لأنه تعالى بين ان الذين كفروا يئسوا من تبديل الدين واكد ذلك
بقوله:« فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ» فلو كانت إمامة علي بن أبي طالب (علیه السّلام) منصوصاً عليها من قبل الله تعالى ومن قبل رسوله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) نصاً واجب الطاعة لكان من أراد اخفاءه وتغييره آيساً من ذلك بمقتضى هذه الآية فكان يلزم أن لايقدر أحد من الصحابة على انكار ذلك النص وعلى تغييره واخفائه ولما لم يكن الأمر كذلك بل لم يجر لهذا النص ذكر ولا ظهر منه خبر ولا أثر علمنا أن إدعاء هذا النص كذب وأن علي بن أبي طالب (علیه السّلام) ما كان منصوصاً عليه بالإمامة»(1).
وهنا يتضح موقف الرازي إزاء الآية واختصاصها وإزاء إمامة أمير المؤمنين (علیه السّلام) وهو الإقصاء المباشر القائم على المراوغة في الطرح وللرد على رأي الرازي هذا نقول:
يرى الرازي أنه لو كان هناك نص بإمامة علي لما قدر أحد على اخفائه وتغييره
لأنه تعالى قال « الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ» فهو يرى أنه ادعاء كاذب،
نقول: إن هذا اليأس ورد فيه عدة آراء منها عن ابن عباس: يعني أن ترجعوا إلى دينهم أبداً، وعن مجاهد: يعني يعوودا كما كانوا، وقال الطبري: من دينكم ان تتركوه فتردوا عنه راجعين إلى الشرك (2)، إذن فاليأس الوارد هنا هو الياس من العودة إلى الشرك والجاهلية الأولى فما هو ذلك الأمر الذي وقع ليمنع الارتداد والرجوع إلى الوثنية وهنا يجيب الرازي برايه قائلاً: «لأنكم الان صرتم بحيث لا يطمع أحد من أعدائكم في توهين أمركم نظيره قوله: كنت بالأمس شاباً واليوم قد صرت شيخاً» إذن فالخطاب باليأس موجه على نحو العلم بما وقع في قلوب أعداء
ص: 237
الإسلام وهو الشعور باليأس ساعة نزول تلك الآية وما تبعها من فعل رسول الله
(صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) مع علي (علیه السّلام) بتنصيبه إماماً وخليفة من بعده فهو قد رسم خط القيادة والرئاسة ووضع أمته أمام الأمر الواقع فلا يدعي مدعي خلافة الأمة وقيادتها وإن وقع هذا فهو لا يلغي منصب الإمامة الموكول لعلي (علیه السّلام) ولايعد هذا تغييراً لما وقع من امر الغدير وتنصيب أمير المؤمنين وقوله: لما قدروا على تغييره واخفائه فهم لم يغيروا شيئاً من إمامة علي (علیه السّلام) ولم يخفوها بل أن الأمّة كانت على علم
بأن علي هو الإمام وهو الخليفة وكما سنذكر ذلك في المطلب التالي، أضف إلى هذا، إن ما فعله القوم هو اغتصاب للحق. وليس تغيير للفكر فعلي (علیه السّلام) إمام قد تم تنصيبه بأمر الله ورسوله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) سواء ولي الحكم الصوري أم لم يتولاه.
فضلاً عن هذا، إن الدين لم يحصل به تغيير من حيث الأصل في التشريع وإنما
كان التغيير فقط بالشخص المعين والمُنصب للخلافة وهذا يعد مخالفة لأمر الله ورسوله وليس إلغاء للإمامة التي شرعها الله وبلغ بها رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) فالرازي يرى لو أن إمامة علي بن أبي طالب (علیه السّلام) كان منصوصاً عليها بنص واجب للزم ألا يقدر الصحابة على تغييرها ونقول:
إن إمامة إبراهيم (علیه السّلام) وردت بنص صريح بالقرآن الكريم .... قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ »(1) فالسؤال هل إن إبراهيم تولي الحكم المتمثل بالخلافة والرئاسة وهل أن عدم توليه لها يدل على عدم إمامته وأن تولي النمرود للسلطة يدل على إمامة النمرود وهذا قياسه مع علي ابن أبي طالب أولى، فهو وإن لم يتولَ خلافة رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) ظاهراً إلا أنه إمام بنص رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) كما اسلفنا وان تولي الخلافة غيره من الصحابة، لايعني هذا
ص: 238
إلغائهم لإمامته (علیه السّلام) بل يدل على اغتصابهم لحقه في الأمر وقد أثبت الغزالي(1) هذا الرأي باعترافه السابق الذكر وإن تنصيب الإمام علي يوم الغدير اتفق عليه الجميع وأولهم الصحابة فقال فيما نصه ...« ثم بعد هذا أغلب الهوى لحب الرياسة وحمل عمود الخلافة وعقود النبوة وخفقان الهوى...».
ولعل سائل يعترض فيقول إن الآية نزلت بالتحريم ولم تنزل بتنصيب الإمام علي (علیه السّلام) لأنها ذكرت التحريم نقول: إذا كان نزول هذه المحرمات في السنة العاشرة للهجرة فهل قبل هذا التاريخ كان الرسول (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) والمسلمون يحلون هذه المحرمات فما هذه المفاجئة بالتحريم المباشر إلا أن الأصح إن التحريم قد وقع قبل هذا التاريخ وقد نص الباري على هذا في سورة البقرة بقوله:«إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ»(2). وقوله:«قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ »(3) وقوله:«إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ »(4) إذن فتحريم تلك الأصناف كان قد نزل به الوحي قبل نزول سورة المائدة وإن إيراده فيها كان من باب التأكيد والتذكير على التشريع وإن من التشريع الإلهي هي الإمامة التي تبلورت للمسلمين بصورتها النهائية بتنصيب الإمام علي (علیه السّلام) يوم الغدير فكان بها كمال الدين وتمام النعمة.
ص: 239
إنكار الرازي ومدرسته الفكرية كما يدعي بأن تكون هذه الآية قد نزلت بعد
تنصيب الإمام علي (علیه السّلام) يوم الغدير وإنكارهم لوجود أي نص يثبت إمامة علي (علیه السّلام) وهذا يعد رأي مطلق وغير مبني على أي دليل وذلك لأسباب عدّة:
ورد عند كثير من المصنفين (مفسرين ومحدثين ومؤرخين) ان الآية نزلت
بعد تنصيب الرسول (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) لعلي (علیه السّلام)في غدير خم وبعد أن بايعه المسلمون فهي خاصة بولايته وبيعته(1).
كذلك ورد عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) استبشر بنزول الآية فقال: الله أكبر على إكمال الدين وتمام النعمة ورضا الرب برسالتي والولاية لعلي من بعدي(2) وهذه شهادة من الله ورسوله على أن علياً إمام وخليفة بعد رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) وهذا نص واضح جداً في هذا الأمر.
يرى الرازي أن ولاية علي وإمامته غير منصوص عليها من قبل الله تعابى
ورسوله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) وهذا افتراء وادعاء باطل فقد أوردنا في ما سبق من البحث أدلة كثيرة حول نص القرآن والرسول (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) على امامته منها يوم انذار عشيرته:
ص: 240
«وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ »(1) وآية الولاية والتبليغ بولايته يوم الغدير وأحاديث الرسول لاتعد ولا تحصى في هذا المجال وأشهرها قوله: (من كنت مولاه فهذا علي مولاه)(2)وقوله لبريدة(3) عندما وقع في علي (علیه السّلام):لا تقع يا بريدة في علي فإن علياً مني وانا منه وهو وليكم بعدي(4).
معرفة الصحابة وإدراكهم لحديث الغدير والتبليغ الذي نزل على رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) بولاية علي (علیه السّلام) وتسليمهم عليه بالولاية وإمرة المؤمنين وتهنئتهم له(5) يبطل حجة الرازي بعدم علم الصحابة بإمامة علي وبالخصوص يوم الغدير وماجرى فيه من التنصيب وقد قال الغزالي في سلام الصحابة على علي(علیه السّلام) بالولاية: فهذا تسليم ورضا وتحكيم ثم بعد هذا أغلب الهوى(6) وعلى القول
ص: 241
الذي تبناه الرازي بأنه إذا كان النص بالإمامة واقع فإنه لايقدر أحد من الصحابة
على تغييره واخفائه وبما أنه وقع هذا بشهادة الغزالي فإن من غيّر وبدّل أو حاول ذلك يكون ممن وصفهم الله بقوله « الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ » و بما انهم حاولوا التغيير لما بلغ به الرسول إذن فهم ممن وصفوا باليأس في الآية.
كذلك فقد شهد الاسكافي(1) وهو من كبار علماء المعتزلة على أن رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) قد بلغ بإمامة علي (علیه السّلام) يوم الغدير فقال: فهذا الحديث يؤكد بعضه بعضاً
ويشهد بشهادة واحدة وينفي تحريف الشاكين والمقصرين، ويوجب أهل العلم واليقين ويرى الاسكافي انه ما أراد الله ورسوله بهذه الولاية إلا الرئاسة والإمارة(2).
احتجاج أمير المؤمنين (علیه السّلام) بتنصيبه يوم الغدير لاثبات أولويته واحقيته(3) كذلك شهادة حسان بن ثابت التي أوردناها في الآية السابقة التي كانت شهادة ادبية خالدة على تنصيب الإمام علي (علیه السّلام) خليفة لرسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )وإماماً على العالمين وقد قال المظهري(4)وهو من علماء الحنفية، عند تفسيره للآية الكريمة وإيراده لحديث الرسول (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) يوم الغدير: وقد بلغ هذا الحديث مبلغ التواتر، رواه جمع من المحدثين في الصحاح والمسانيد برواية نحو ثلثين من أصحاب رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ).
ص: 242
3- البرهان على صدق التبليغ بالإمامة، وانه من عند الله ونزول قوله تعالى:
«سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ »(1).
بعد أن أتم رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) التبليغ الذي أمره الله أن يبلغه لأمته الذي كان يعدل الرسالة بما حملته من مشاق واتعاب، تناقل المسلمون هذا الخبر بين بلدانهم وقبائلهم فشاع امر تنصيب الإمام علي (علیه السّلام) خليفة لرسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) الا انه كان هناك من اعترض على هذا الأمر وكان ذلك المعترض هو (الحرث بن النعمان)(2) وقيل أيضاً (النضر بن الحارث)(3) فقد جاء إلى رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) وهو في أصحابه فقال له: يامحمد امرتنا عن الله أن نشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله فقبلناه منك وأمرتنا أن نصلي خمساً فقبلناه منك، وأمرتنا بالزكاة فقبلناه منك وأمرتنا بالحج فقبلنا.. ثم لم ترضَ بهذا حتى رفعت بضبعي ابن عمك ففضلته علينا وقلت: «من كنت مولاه فعلي مولاه» فهذا شيء منك ام من الله تعالى؟
فقال (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ):والذي لا إله إلا هو هذا من الله فولى الحرث وهو يقول: اللهم إن كان ما يقوله حقاً فأمطر علينا حجارة من السماء أو اتنا بعذاب إليم فما وصل إليها حتى رماه الله بحجر فسقط على هامته وخرج من دبرة فقتله، وانزل الله سبحانه هذه الآية، وقد وردت هذه الرواية عن سفيان بن عيينة(4)وعن الإمام
ص: 243
الصادق (علیه السّلام)(1).
إن الرواية أعلاه دليل كبير على بطلان الرأي الذي أورده الرازي في عدم
وجود نص على إمامة علي (علیه السّلام)، وإنها لو كانت من الله ورسوله لما قدر الصحابة على تغييرها واخضاعها فقد كان جواب رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) للشخص المستنكر على تنصيب أمير المؤمنين (علیه السّلام) يوم الغدير، ان ذلك التنصيب كان من الله وليس منه وكما أوردنا أن سبب نزولها قد أورده كبار علماء المسلمين.
أما عن رأي الرازي في سبب نزول الآية المعنية فعندما ذكر سبب نزولها أورد
رواية النضر بن الحارث لكنه لم يذكر أن سبب اعتراض النضر هو تنصيب الإمام
علي (علیه السّلام) وإنا ذكرها بقوله: إن النضر بن الحارث لما قال «اللهم ان كان هذا هو الحق من عندك فامطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم(2)انزل الله تعالى هذه الآية [الآية الأولى من المعارج] «وهذا الرأي كان هو المعتبر عند الرازي في تفسيره للاية(3) إذ علق عليه ليوضح ما هو العذاب الذي أصاب النضر فقال: ان النضر طلب العذاب.. وقد وقع عليه في الدنيا لأنه قتل يوم بدر(4).
ص: 244
وعلى الرغم من محاولة الرازي تغيير الحقائق إلا أن الرأي الذي ذكره كان
متفقاً عليه والسبب الذي من أجله سأل أن ينزل عليه العذاب ولم يكن الرازي
أول من أورد هذا الرأي وانما سبقه عدد من المفسرين الكبار(1).
وبعد التدقيق في الخبر المروي وجدنا أن النضر بن الحارث قتله الإمام علي
(علیه السّلام) يوم بدر (2ه/624م)(2)،وكذلك وجدنا رواية ذكرت أن المعترض هو جابر بن النضر بن الحارث بن كلدة العبدري(3)، وقد أيد هذا الخبر عدد من الباحثين المحدثين(4) وقد عللوا سبب تأييدهم، لأن الإمام علي (علیه السّلام) قتلَ والد جابر في بدر فكان قلبه مليء بالحقد والحسد لعلي (علیه السّلام) ولما سمع بتنصيبه إماماً عليهم استشاط غضباً لهذا، وجاء معترضاً على أمر الله ورسوله(5).
وبهذا تكون الرواية التي نقلها الرازي مقطوعة وغير كاملة ومن دون أن
يذكر السبب الرئيسي للاعتراض فهي مرفوضة من حيث الحقيقة التاريخية لسبب نزول الآية.
كذلك من المؤآخذات على رأي الرازي بالآية أنه يرى أن سؤال النضر كان في سورة الأنفال المدنية (آية - 32) والجواب كان في سورة المعارج المكية النزول
فكيف يصح هذا الأمر.
ص: 245
ولعل سائلاً يرد بنفس السؤال فيقول: كيف تقولون إنها مكية وتستدلون
بها على أمر الغدير وعذاب من اعتراض وهي حادثة مدنية الوقوع؟ نقول إن هناك سوراً مكية في مجموعها لا في جميع آياتها(1) فمثلاً سورة العنكبوت مكية إلا عشر آيات من أولها(2) وسورة الكهف مكية الا سبع آيات من أولها(3) وسورة المطففين مكية إلا ثمان آيات منها(4) وهناك سور مدنية وفيها آيات مكية مثلاً: سورة المجادلة ورد أن فيها آيات مكية(5).
وعلى هذا فيمكن أن يكون نزول الآيات الأول من سورة المعارج متعلقة
بحادثة الغدير والاعتراض الذي وقع بعد تنصيب الإمام علي (علیه السّلام) أو انها مكية وإن رسول ذكرها بعد اعتراض ذلك الشخص وبعد أن سأل العذاب إن كان حقاً مايقوله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ فذكرها الرسول (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ) للتذكير والتوضيح أو الاستشهاد بآياتها لتشابه الأمر الذي وقع بعد اعلان التنصيب مع أمر الاعتراض الذي واجهه النبي (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ) الوارد ذكره في سورة الأنفال (32) فكان حال الشخص الذي اعترض بعد يوم الغدير كحال الشخص المعترض على توحيد الله ونبوة محمد(صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) كذلك فإن صاحب (تفسير الميزان) يرى أن الآية محتمل أن تكون مدنية لأن الشخص المعترض جاء بكلام يدل على اعتناقه للتوحيد ومعرفته بأن الأمور جميعها راجعة إلى الله (عزوجل) ثم يتوقف بالشك والارتياب أمام أمر معين مما جاء به ذلك النبي (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )كما يرى أن في السورة آيات ذات مضامين مدنية مثل
ص: 246
قوله تعالى: َ«وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ »(1) وهذه الآية تخص الزكاة وهي لم تشرع الا في المدنية فيحتمل ان تكون الآيات الحافة بها مدنية أيضا وهي أربع عشرة آية وان وصف القرآن لمن يحيط بالنبي (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ) بالذين كفروا فيحتمل أن يكون قاصداً للمنافقين الحافين بالرسول (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) كما ورد وصفهم بهذا في سورة التوبة الآية (90)(2).
ص: 247
ص: 248
درسنا في المباحث الآنفة الإقصاء الذي اتبعه الرازي في الآيات الصريحة التي
كان الإمام علي (علیه السّلام) سببا في نزولها لتكون بمثابة إعلان أو بيان رسمي لإمامته أما في هذا المبحث فستكون الآيات غير الصريحة في الإمامة هي محل الدراسة ونقصد بغير الصريحة أي التي لم يكن الإمام علي (علیه السّلام) سبباً في نزولها، وهي التي دلت على إمامته عن طريق القرائن العقلية والنصوص الحديثية التي أوردها المفسرون والمحدثون نقلا عن النبي (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) والأئمة في اختصاص تلك الآيات بالإمام علي (علیه السّلام) والأئمة من ولده (علیه السّلام).
اولاً: قوله تعالی: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا »(1)
بعد أن ذكرنا في المبحث السابق اختصاص أمير المؤمنين (علیه السّلام) بالإمامة من بعد رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) ووجوب اتباعه والانقياد والطاعة له، وكان ذلك بأمر الله ورسوله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) فكان هذا مانعاً من أي طاعة لغير الله ورسوله ومن أمر الله بطاعته ممن يكن أمره ونهيه معصوماً من الزلل والخطأ لاقتران ذلك بطاعة الله ورسوله،وقد وردت هذه الإشارات والامارات في آية الولاية بقوله تعالى:
ص: 249
«إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ »(1)،فكانت هذه الآية دليلاً على وجوب الخضوع والطاعة والاذعان لمن ورد وصفه وذكر حاله فيها، كذلك فقد أوردنا أحاديث نبوية دلت على وجوب طاعة الإمام (علیه السّلام) وكان هذا الأمر بالطاعة منذ الأيام الأولى للدعوة فكان أولها يوم الانذار ونزول قوله تعالى:َ «وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ »(2).
اما عن موقف الرازي من دلالة الآية المعنية في البحث فهو يورد آراء
عدّة للمفسرين في دلالة قوله: «وأولي الأمر منكم» منها أمراء السرايا(3)ومنها العلماء(4)،وينقل قول الشيعة فيها: اما الروافض فانهم يرون ان أولي الأمر هم الأئمة المعصومون(5). أما عن رأي الرازي الخاص فهو يرى ان المراد بأولي الأمر هم أهل الحل والعقد وذلك يوجب القطع بأن إجماع الأمة حجة.(6)
ولم يقف الرازي مسلماً لرأي الشيعة دون ان يرد عليه فقال معقباً عليه: (اما
حمل الآية على ما تقوله الروافض ففي غاية البعد لوجوه: أحدها إن طاعتهم مشروطة بمعرفتهم وقدرة الوصول إليهم فلو اوجب علينا طاعتهم قبل معرفتهم كان هذا تكليف ما لا يطاق ولو أوجب علينا طاعتهم اذا صرنا عارفين بهم وبمذاهبهم صار هذا الايجاب مشروطاً وظاهر قوله أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم يقتضي الإطلاق وأيضا ففي الآية ما يدفع هذا الاحتمال وذلك
ص: 250
لأنه تعالى أمر بطاعة الرسول وطاعة أولي الأمر في لفظة واحدة وهو قوله: واطيعوا الرسول واولي الأمر منكم واللفظة الواحدة لا يجوز ان تكون مطلقة ومشروطة معاً، فلما كانت هذه اللفظة مطلقة في حق الرسول وجب ان تكون مطلقة في حق أولي الأمر الثاني: «انه تعالى أمر بطاعة أولي الأمر وأولو الأمر جمع وعندهم [الشيعة] لا يكون في الزمان إلا إمام واحد وحمل الجمع على الفرد خلاف الظاهر، وثالثها: أنه قال: فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول، ولو كان المراد بأولي الأمر الإمام المعصوم لوجب ان يقال: فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الإمام فثبت ان الحق تفسير الآية بما ذكرنا»(1)
يتضح من رأي الرازي الآنف الذكر أنه ينفي أن يكون المقصود بأولي الأمر أئمة أهل البيت (علیهم السّلام) وعلى رأسهم أمير المؤمنين (علیه السّلام) فهو يرى ان الآية في الإجماع وليس في الأئمة المعصومين ّ ، وهذا ما لا يكون لأن إجماع الأمة أمر مستعسر الوقوع لتعدد علمائها واختلاف مذاهبها في أكثر امورها، وإذا كان أمر الله في طاعة العلماء فإن طاعة الكل مع الاختلاف لا يمكن واطاعة البعض لا مرجح لها على البعض الآخر ولو قصرنا الطاعة على الأفضل تكون الأمّة قد وقعت في حيرة أخرى أما لجهلها بمن هو أفضل أو لتساوي المختلفين فلا يكون هناك دليل للطاعة ولو قلنا بالتخيير في طاعة الإجماع لجهة معينة من أولئك العلماء فإن هذا يكون مفسدة، وتعيين المختار في الطاعة في زمان معين ولزوم طاعته لا دليل لها لا من عقل ولا نقل(2).
فضلاً عن هذا، فإن الله أمر بطاعة أولي الأمر على وجه الاطلاق أي في جميع
ص: 251
الأزمنة والأمكنة وفي جميع الامور ولم يُفد وجوب تلك الطاعة بشيء(1)،فلو كان إجماع الأمّة كما يراه الرازي فالوجوب حصول الإجماع أولا ثم الاستمرارية في وقوع الإجماع لأنه تعالى أورد الطاعة لله وللرسول واولي الأمر دون تحديد زمان أو مكان أو حال. وانما جعلها مطلقة وغير محددة.
ويرى الرازي ان الله تعالى امر بطاعة أولي الأمر على سبيل الجزم ومن امر بطاعته على سبيل الجزم والقطع لا بد ان يكون معصوماً عن الخطأ اذ لو لم يكن معصوما عن الخطأ كان بتقدير اقدامه على الخطأ يكون قد امر الله بمتابعته فيكون ذلك امرا بفعل ذلك الخطأ فثبت ان أولي الأمر المذكورين لا بد وان يكونوا معصومين(2)، إلا أنه يرى بعد هذا ان هؤلاء المعصومين هم إجماع الأمّة وهنا يظهر ابتعاده عن خط أهل البيت (علیه السّلام) وهي النظرية التي أوجدها الله ورسوله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) لاتباع أهل البيت المعصومين، وأنهم أولي الأمر وللرد عليه نقول:
1هناك أدلة نقلية تؤكد اختصاص الأئمة (علیه السّلام) وعلى رأسم علي (علیه السّلام) بقوله « وأولي الأمر منكم» وقد ورد هذا عن الإمامين الصادقين (علیه السّلام) )وجابر بن عبد الله وابن عباس ومجاهد(3).
كما ورد ذلك عن الإمام الرضا (علیه السّلام) وقد سأله رجل في من تجب الإمامة
ص: 252
فقال (علیه السّلام): للذي كان منه بمنزلة هارون من موسى، المفروض الطاعة بقوله تعالى: َ «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ » الموصوف بقوله (عز وجل) «إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ »والمدعو إليه بالولاية المثبت له الإمامة يوم
غدير خم...»(1)
2- يرى الرازي اذا كانت الآية دالة على عصمة أولي الأمر وجب التعرف
عليهم ويرى ان هذا الأمر مستحيل الحصول (اي التعرف عليهم) وهنا يقع
التساؤل: هل ان الاستحالة في التعرف عليهم تخص زمان الرازي، ام زمان نزول
الآية؟ فهل ان الرسول (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) لم يوضح لهم من هم أولي الأمر؟ ويكون الجواب إن رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) قد وضح لأمته من هم ولاة أمرهم ومن تجب طاعتهم بل ومن هو أولى بهم من انفسهم فكان تعريف رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) بولي الأمر من بعده، منذ يوم الدار وقد علم بهذا التأمير ِ وعقِلهُ حتى أبو لهب فقالوا لأبي طالب: قد أمرك ان تسمع لإبنك وتطيع(2).
وفي هذه الحادثة حتى المشركين علموا من هو الإمام بعد رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) كذلك نزول قوله تعالى«إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ »(3) كان مختصاً بعلي وقد أقّر هذا جمع من المفسرين(4) فكان(علیه السّلام) هو الولي والمتصرف بالمؤمنين وكذلك قول رسول الله
ص: 253
(صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) يوم غدير خم: الست أولي بكم من انفسكم؟ قالوا بلى: قال فمن كنت مولاه فعلي مولاه(1).وهذه الاخبار وغيرها مما أوردناه في الآيات الريحة واخبار استئزاره من قبل رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) ألا يعد تعريفاً للأمة بإمامها وقائدها بعده (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) وقد أورد الرازي هذه الاخبار لكنه لم يؤمن بها وحاول ان يبعدها عن علي بن أبي طالب (علیه السّلام) فكان القصور من قبل الرازي في التعرف على أئمته وولاة أمره.
كذلك ليس من المنطق ان يأمر الله بطاعة شخص أو فئة دون ان يحددها ويعرف
الناس عليها وإذا لم يكن هناك تعريف لأولي الأمر من قبل الله و رسوله كان ذلك
قصوراً وحاشى أن ينسب ذلك لله وللرسول(2)، كذلك فقد قال رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ): (من مات وليس عليه طاعة مات ميته جاهلية)(3)،والطاعة هنا لله ورسوله ولاولي الأمر الذين أوجب الله طاعتهم وعرف الأمّة بهم منذ بداية الإسلام وقيام النبي (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) بدعوة الأقربين.
فضلا عن ذلك فإن هناك من فقهاء المسلمين من أكد الوجوب على وجوب
معرفة الأمّة لإمامها بجهد منها، كقول سليمان بن جرير(4): واجِبٌ عَلى الناس کُلِهم مَعرفَةُ ا لأمام بِعينه وَ اسمه، كَما عَليهم معر َفة اللهَ ومعرفة رَسولِه(5). .وعليه
ص: 254
فالأمّة يجب عليها البحث عن إمامها كوجوب البحث عن ربها ونبيها.
3- يرى الرازي أن (أولي الأمر) هم أهل الحل والعقد والمتمثلون بإجماع الأمة
وينسب العصمة لهم وإذا كان يرى أن العصمة ثابة للأمة فهناك من يرى العصمة
ثابتة لجماعة من الأمّة فابن تيمية عند ما ورد قول الشيعة بأن الإمام حافظ للشريعة بعد الرسول (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) ،قال: الشرع إذا نقله أهل التواتر كان ذلك خيراً من نقل الواحد فالقراء معصومون في حفظ القرآن وتبليغه والمحدثون معصومون في حفظ الأحاديث وتبليغها والفقهاء معصومون في الكلام والاستدلال(1).وكتب القراء والمحدثون ملئت بالاختلافات الكثيرة والكبيرة فاين الإجماع فيها فكيف يكون إجماع للأمة وقد اختلف علماؤها في أهم عقائدها فلا وجود للاجماع بالصورة التي يراها الرازي(2) ، فعلماء الأمّة مختلفون مذاهبَ وفرق فإن طاعة الكل مع الاختلاف غير ممكن وإطاعة البعض لا مرجح له(3) ،لأنه تعالى قد قرن طاعة أولي الأمر بطاعته وطاعة الرسول وقال في وجوب تلك الطاعة«وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ...»(4)، وبما أنه تعالى أمر بطاعة أولي الأمر بعد الله ورسوله اذن لا تكون الخيرة لمؤمن في أمر قد قطعوه أما إذا كان أولي الأمر هم أهل الحل والعقد كما يراه الرازي فكيف يمكن للمؤمن أن يتبع أمرهم وهم فرق مختلفة والعلماء مختلفون في آرائهم فهنا سيقع العبد في حيرة الاتباع لأحدهم وبهذا يرتفع القول عن إجماع الأمّة لتعسر وقوعه.
ص: 255
4- إن الإمام عند الشيعة واحد في كل زمان وإن المراد بأولي الأمر جمع نقول:
إن الإمام وإن كان في كل عصر شخصاً واحداً لا أكثر إلا أن الأئمة المتعددين في
العصور المختلفة يشكلون جماعة والآية لا تحدد وظيفة الناس في عصر واحد(1) ولم يقتصر ذكر أولي الأمر في هذه الآية فقط وانما ورد ذكرهم وبيان طاعتهم في أمور الدين والدنيا في آية أخرى فقال تعالى:َ «وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا »(2)،وهنا قد بين الله لعباده من يرجعون إليه في أمور الدين والدنيا لأنه أورد الأمن والخوف ولا يكون الرجوع إلى الرسول وأولي الأمر في هذا إلا لأمر قيادي وحكمة، والاستنباط لا يكون إلا لعالم عارف ورجوع الناس إليهم دليل على أنهم قادة الأمة وولاة أمرها كما كان رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) قائداً لها(3).
5- إن آراء المفسرين في قوله « وأولي الأمر منكم» كانت تدور ما بين: أمراء
السرايا، أو أولي العلم والفقه، والأمراء والسلاطين(4)،وقد رد الشيخ المفيد(5) على هذه الآراء بقوله ألم يكن علي من العلماء؟ ألم يكن علي (علیه السّلام) من أمراء السرايا؟
أليس علي (علیه السّلام) قد كان من القوام على الناس بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قالوا: بى صار عليٌ (علیه السّلام) معنياً بهذه الآية باتفاق الأمّة وإجماعها فوجب أن يكون
ص: 256
إماماً لهذه الآية ولم يجب العدول إلى غيره والاعتراف بإمامته لوجود الاختلاف في ذلك وعدم الاتفاق، وبهذا فيكون عليٌ (علیه السّلام) هو مصداق لما قدمه المفسرون من آراء حول (أولي الأمر) فتكون هذه الآية دليلاً على إمامته وإمامة الأئمة من ولده (علیه السّلام) وقد وقف الماتريدي(1) متحيراً عند تفسيره للآية فرح بقوله: فليس يخلو أولو الأمر من أحد ثلاثة أوجه: إما أن يكون الأمراء أو الفقهاء أو الإمام الذي تدعيه الرافضة.
وهذا تصريح واضح من قبل الماتريدي لأنه رأى أن فحوى الآية ينسجم مع فكر ونظرية الشيعة في أئمة أهل البيت (علیه السّلام) كذلك ورد أن رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) قال في حجة الوداع « اتقوا الله وصلوا خمسكم وصوموا شهركم، وأدوا زكاة أموالكم، وأطيعوا ذا أمركم، تدخلوا جنة ربكم»(2).
وهذا الحديث يعطي دلالة على أن رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) قد وضح لهم من هو ولي أمرهم وهذا قد حصل فعلاً فهو قد قال لهم في غدير خم: ألست أولى بكل مؤمن من نفسه؟ قالوا بلى قال: فمن كنت مولاه فعلي مولاه(3) فهو قد أرشدهم وعرفهم على ولي أمرهم وإمامهم ومن تجب طاعته من بعده في تلك الحجة نفسها.
فضلاً عن هذا، إن هناك ردوداً عقلية تمنع من أن يكون المخصوص بالآية فئة واحدة ممن ذكرها المفسرون لأن الله وصف أولي الأمر بصفة لم يجعلها
لأمراء السرايا والسلاطين لأن طاعة أمراء السرايا مختصة بالمأمورين لهم بزمان
ص: 257
ولايتهم وبما كانوا ولاة فيه فطاعتهم خاصة بولايتهم وما تضمنه الآية طاعة
عامة مطلقة فضلا عن أن الله أخبر عن قدرة أولي الأمر على الاستنباط والعلم
في ما يقع من تنازع وخلاف وحال أغلب أمراء السرايا عكس هذا ما خلا
أمير المؤمنين(علیه السّلام)(1).
كذلك، إن الله تعالى قد قرن طاعة أولي الأمر بطاعته وطاعة نبيه (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) فهذا دليل على عصمة أولي الأمر وقد أشار الرازي إلى ذلك. ولم ترد العصمة إلا لرسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) والإمام علي (علیه السّلام) والأئمة من ولده (علیه السّلام)وقد ورد النص القرآني بتطهيرهم بقوله تعالى:« إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا »(2) وقد ذكر المفسرون الروايات في اختصاص رسول الله وفاطمة وعلي والحسن والحسين (علیهم السّلام) بهذه الآية وفي أكثر من موضع (3)وقد أشار الرازي إلى هذا بقوله: واعلم أن هذه الرواية كالمتفق على صحتها بين أهل التفسير والحديث(4) وأشار علماء اللغة والقرآن إلى أن المعني بالرجس: كل مستنكر ومستقذر من مأكول أو عمل أو فاحشة(5) وقال الطحاوي(6) في بيان هذا المعنى:
ص: 258
التطهير من الذنوب ومن سائر الأشياء التي تدنس بني آدم وقال العسكري(1) (إن الله وفقكم لمجانبة الذنوب فتجنبتموها وكنتم طاهرين.)
وهذا دليل كافٍ لإثبات عصمتهم (علیه السّلام) وبثبوت هذا فإن «أولي الأمر» هم أئمة أهل البيت (علیهم السّلام)وهم مصداق ذلك.
ثانیاً: قوله تعالی:«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ »(2).
قبل البحث في ارتباط هذه الآية بالأئمة (علیه السّلام) وعلى رأسهم الإمام علي (علیه السّلام) لابد من التطرق إلى أسباب نزولها كذلك لا بد من معرفة الآية التي سبقتها وهي قوله تعالى:َ «لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ »(3).
قد أشار جملة من المفسرين إلى أن الآيتين أعلاه نزلتا في غزوة تبوك (8ه/630م) وقد خاطب الله نبيه والمسلمين من مهاجرين وأنصار بخطاب التوبة عليهم وفي الآية الثانية خص ثلاثة من المسلمين وهم المتخلفون عن رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) في غزوته وهم كعب بن مالك(4)،................
ص: 259
ومرارة بن ربيعة(1)،وهلال بن أمية(2).(3)
ثم أعقب هذه الآيات بآية أخرى أوجب فيها على المسلمين اتباع الصادقين
والكون معهم دون الإخبار عن شخصهم.
أما عن الرازي وموقفه من هذه الآية فرأيه أكثر حداثة وملائمة للخطاب القرآني من غيره من المفسرين لأنه حلل الآية وأعطاها أبعاد مستقبلية ولم يقصرها
على وقت النزول، لوجود قوله تعالى: َ « وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ »،ومتى وجب
الكون مع الصادقين فلا بد من وجود الصادقين في كل وقت وذلك يمنع من إطباق الكل على الباطل، ومتى امتنع الكل على الباطل وجب اذا اطبقوا على شيء أن يكونوا محقين فهذا يدل على ان إجماع الأمّة حجة(4)، ثم يعقب بقوله: كونوا مع الصادقين امر بموافقة الصادقين ونهى عن مفارقتهم وذلك مشروط بوجود الصادقين وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب(5) ثم يرى الرازي أن الآية تدل على أن من كان جائز الخطأ عليه أن يكون مع المعصوم عن الخطأ حتى يكون مانعاً له، وهذا قائم في كل الأزمان، وإن ذلك المعصوم هو مجموع الأمة وأنتم (الشيعة) تقولون ذلك المعصوم واحد منهم وهذا باطل لجهل المأمور بمعرفة ذلك المعصوم
ص: 260
وتكليفه مالا يطاق فالأصوب أن يكون مجموع الأمّة هم المأمور باتباعهم(1).
وهنا نرد على الرازي بمحاور عدّة:
1- إن رأي الرازي حول ضرورة وجود المعصوم في كل زمان إلى يوم القيامة
لحفظ الأمّة من الزلل ولمنع الوقوع في الخطأ رأيٌ ينسجم مع السنة القرآنية والنبوية لأن الله أمر في آية سابقة: َ «أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ»(2) فكان هناك فئة تجب طاعتها والرجوع إليها والكون معها، إلا أن الرازي يرى ذلك هو إجماع الأمّة وهذا ما لا يمكن وقوعه لأن الأمّة تضم فرقاً ومذاهب متعددة وعلماءهم لم يكن بينهم اتفاق على قضية معينة بل إن علماء المذهب الواحد تجدهم مختلفين في آرائهم ولا يوجد إجماع مطلق بل إن ابن تيمية مع تعصبه فهو يرى أن إجماع الأمّة لا ينعقد إلا بإجماع العترة التي هي جزء لا يتجزء من الأمّة فقال:
«اجماع الأمّة حجة بالكتاب والسنة، والإجماع، والعترة بعض الأمّة فيلزم من ثبوت إجماع الأمّة إجماع العترة»(3).
وهنا وضع ابن تيمية شرطاً لوقوع إلإجماع وهو إجماع العترة، وهذا ما لم
يكن يتحقق لأن أهل البيت (علیه السّلام) وعلماء مذهبهم قد أقُصوا وحُوربوا، وقد جعله بعض علماء الأمّة مستحيلاً فقال أبو بكر الباقلاني(4):«لا ينعقد الإجماع مع مخالفة
ص: 261
العوام»(1) وقال ابن قدامة(2):«وهذا القول يرجع إلى إبطال الإجماع إذ لا يتصور ّ قول الأمّة كلهم في حادثة واحدة وأن تصور فمن الذي ينقل قول جميعهم مع
كثرتهم وتفرقهم في البوادي والأمصار والقرى.»
فضلاً عن هذا فإن هناك من يرى إجماع الأمّة يعني إجماع أهل السنة والجماعة
ومنهم ابن حزم(3) فقال: «إن صفة الإجماع ما تيقن أنه لا خلاف فيه بين أحد من علماء الإسلام وإنما نعني بقولنا العلماء من حفظ الفتيا من الصحابة والتابعين ولسنا نعني [جملة من مذاهب المسلمين...] ولا أهل الرفض فإن هؤلاء لم يعتنوا من تثقيف الاثار ومعرفة صحيحها من سقيمها» وهنا ابن حزم يخرج الشيعة من الإسلام ولا يعد لهم رأياً في الإجماع فأين يكون محل الإجماع وقد اخرجت منه طوائف متعددة وبهذا فالخلاف وقع حتى في كيفية الإجماع ومتى ينعقد وهذا دليل على استحالة وقوع الإجماع ومن ثمّ فإنه لا يمثل المقصود بقوله:« وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ » لعدم حصول الإجماع ولعدم عصمته لاختلاف الآراء ومنها ما يصيب ويخطأ.
2- إن قول رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) في حجة الوداع: «إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبدا أحدها أعظم من الأخر، وهو كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض فانظروا
ص: 262
كيف تخلفوني فيهما»(1).
والحديث واضح بأن وجود العترة متزامن مع وجود القرآن وإنها باقيان
حتى قيام الساعة وهما الثقلان الواجب التمسك بها كتاب الله والكون مع العترة، وعندما يأمر النبي (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) بالتمسك بجماعة معينة فهذا يدل على أنهم لا يهدون إلى ضلال وإنما هم الآمرون بالمعروف الناهون عن المنكر المعصومون عن الخطأ الذين اذا تمسك بهم المؤمنون نجوا من الضلال وقد ورد عن أبي ذر عن رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) قال: «مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح من ركب فيها نجا ومن تلف عنها هلك»(2)،وهنا دليل كبير على الأمر النبوي بالتمسك والكون مع أهل البيت (علیه السّلام) للنجاة من الهلاك والضلالة لاستمرار هذه السفينة بحمل المؤمن إلى بر الأمان وهذا ما ينسجم مع نظرية الرازي بوجود الصادقين على مر الازمان لكنه لا يرى أنهم الأئمة المعصومون.
3-الأدلة النقلية عى أن أئمة أهل البيت (علیه السّلام) وعلى رأسهم علي بن أبي طالب (علیه السّلام) هم المخصومون بقوله تعالى:َ « وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ »فقد ورد عن ابن عباس أنه قال: مع علي بن أبي طالب وأصحابه(3) وعن الباقر (علیه السّلام) قال:
ص: 263
«آل محمد (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )»(1).
وورد عن الإمام الصادق (علیه السّلام) قال: يعني محمداً وعلياً(2)، كما ورد عن ابن عباس أنه قال: علي سيد الصادقين(3). كذلك أورد القندوزي(4)مناشدة الإمام علي (علیه السّلام) للصحابة في اختصاصه بالآية اذ قال (علیه السّلام)«انشدكم الله أتعلمون ان الله أنزل َ «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ »فقال سلمان: يا رسول الله هذه عامة ام خاصة؟ فقال (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ):أما المأمورون فعامة المؤمنين واما الصادقون فخاصة في علي وأوصيائي من بعده إلى يوم القيامة.
ثالثاً: قوله تعالی:«وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ »(5).
تعد هذه الآية من الآيات القرآنية التي خصت أئمة أهل البيت (علیه السّلام) وعلى رأسهم أمير المؤمنين (علیه السّلام) إلا أن الأيدي المغرضة امتدت لإقصائهم عن منصبهم ومراتبهم وجعلها عامة في الأمة، وتناولها الرازي لكنه لم يتطرق إلى الأخبار الواردة في اختصاص الأئمة بها، وقد أورد روايات تدل على أن المخصوص بها هم الأمّة بصورة عامة منها عن ابن عباس قال: يريد أمة محمد (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) المهاجرين والأنصار»(6)، إلا أنه يرى أن المعني بها هم « إجماع الأمّة» الذي يصدر عن كبار
ص: 264
الأمّة، معتمداً بهذا على رأي الجبائي الذي أورده في تفسيره على أن الآية تدل على عدم خلو الزمان عمّن يقوم بالحق ويعمل به ويهدي إليه، وإنهم لا يجتمعون على باطل سواء زمان النبي (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) أو أي زمان من الأزمنة(1).
وقبل مناقشة رأي الرازي لابد من الرجوع إلى سيرة الأنبياء والرجوع إلى
السنن التاريخية في القرآن الكريم فإن الله لم يجعل أمة محمد (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) بعيدة عن سنن أولئك الأنبياء (علیهم السّلام) فقد ورد في كتاب الله اختصاص لبعض أمة موسى (علیه السّلام) فقال:«وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ »(2) وهذا يدل على السنة التاريخية القرآنية التي وجدت في قوم موسى (علیه السّلام) وجدت في امة محمد(صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) فكان هناك من يهدي ويقتدى به ويأمر بالعدل وكان في امة محمد (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) مثله أيضاً وقد أشار الرسول (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) إلى ذلك فقال: «هذه لكم (يعني الآية) وقد اعطي القوم بين أيديكم مثلها«وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ »(3).
وهذا دليل على استمرارية هذه السنة وللرد على رأي الرازي الذي اعتمده نقول: ان الآية تدل على استمرارية وجود الهادي والقائد الذي باتباعه تكون النجاة من الضلال وقد ورد عن رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) قال: إن من امتي قوماً على الحق حتى ينزل عيسى ابن مريم(4) أي انهم مستمرون في ملازمة الإسلام حتى نزول
ص: 265
المسيح (علیه السّلام) وقال الماتريدي(1)،أي يهدون الخلق بالحق الذي عندهم وهو القرآن والكتب التي عندهم، وهذا القول يرتبط ارتباطاً وثيقاً بقول رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) في حجة الوداع «إني تارك فيكم ما ان تمسكتم به لن تضلوا بعدي أحدهما أعظم من الاخر وهو كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الارض وعترتي أهل بيتي لن يفترقا حتى يردا على الحوض»(2) فأهل البيت هم ترجمان القرآن الذي تهدى به الأمم ويصلح به الفاسد واشارة الرسول (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) إلى وجود قوم من امته على الحق ويهدون به إلى نزول عيسى (علیه السّلام) قريبة جداً من قوله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) في استمرارية الكتاب والعترة حتى الورود على الحوض، وقد عقب القرطبي(3)،على حديث الرسول الذي أشار به إلى وجود هؤلاء القوم حتى نزول عيسى (علیه السّلام) دلت هذه الآية على ان الله (عز وجل) لا يخلي الدنيا في وقت من الأوقات من داع يدعوا إلى الحق.
وقال الاستانبولي(4) وهو من كبار علماء الحنفية بعد مروره بهذه الآية: اعلم أن الله تعالى كما جعل من قوم موسى أئمة هادين مهديين.. سيجعل من هذه الأمّة المرحومة، وورد أيضا في المضمون نفسه عند أبي السعود(5).کذلك أشار النيسابوري في تفسيره (6) إلى أن المخصوص بالآية هم: أئمة الهدى وأعلام الدين وسادة الخلق بهم يقتدي في الذهاب إلى الله، وهذا القول ايضاً يدل على وجود
ص: 266