المسائل الفقهية

اشارة

الکتاب: المسائل الفقهیة

تألیف: السیّد محمّد الرجائي

تاريخ الطبع : 1421

ناشر: مؤلف

الألواح الحساسة : سیدالشهداء (ع)733762

المطبعة : العلمية

الطبعة : الأولى 1421- 1379

شابک : 35- 9- 34- 6439- 964

خیراندیش دیجیتالی : انجمن مددکاری امام زمان (عج) اصفهان

ص: 1

اشارة

المسائل الفقهية

تأليف : السيد محمد الرجائي

ص: 2

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين ، والصلاة والسلام على أفضل خلقه محمد وعلى آله الطاهرين ، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين .

أمّا بعد : فإنّه ينبغي للباحثين عن الأحكام الشرعيّة الالتفات إلى الاُمور التالية و مراعاتها :

الأوّل : أنّ شريعة الإسلام التي بيّنها رسول الله وخاتم النبيين محمد گغ وأوصياؤه الأئمّة الهداة المعصومون علیهم السلام خاتمة الشرائع الإلهيّة ، وهي الناسخة لما سبقها من شرائع لا تتغيّر أحكامها الكليّة بتغيّر الزمان ، ولا تختلف باختلاف المكان فإنّ حلال محمّد گغ حلال إلى يوم القيامة ، وحرامه حرام إلى يوم القيامة . وقد نصّت الروايات الواردة عن الأئمّة المعصومين صلوات الله عليهم على ذلك.

روى الكليني عن علي بن إبراهيم ، عن محمّد بن عيسى بن عبيد ، عن يونس ، عن حریز ، عن زرارة ، قَالَ سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام عَنِ الْحَلَالِ وَ الْحَرَامِ فَقَالَ : حَلَالُ مُحَمَّدٍ حَلَالُ أَبَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، وَ حَرَامُهُ حَرَامُ أَبَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، لَا يَكُونُ غَيْرُهُ وَ لَا يَجِي ءُ غَيْرُهُ ، وَ قَالٍ : قَالَ علیه السلام : مَا أَحَدُ ابْتَدَعَ بِدْعَةً إِلَّا تُرِكَ بِهَا سُنَّةً (1).

وروى أيضاً عن علي بن إبراهيم ، عن محمّد بن عيسى بن عبيد ، عن يونس بن عبد الرحمن ، عن سماعة بن مهران ، عن أبي الحسن موسى علیه السلام قال : قلت: أَصْلَحَكَ اللَّهُ إِنَّا نَجْتَمِعُ فَنَتَذَاكَرُ مَا عِنْدَنَا ، فَلَا يَرِدُ عَلَيْنَا شَيْ ءُ إِلَّا وَ عِنْدَنَا فِيهِ شَيْ ءُ

ص: 3


1- أصول الكافي 1: 58ح 19.

مُسَطَّرُ ، وَ ذَلِكَ مِمَّا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْنَا بِكُمْ ، ثُمَّ يَرِدُ عَلَيْنَا الشَّيْ ءُ الصَّغِيرُ لَيْسَ عِنْدَنَا فِيهِ شَيْ ءُ ، فَيَنْظُرُ بَعْضُنَا إِلَى بَعْضٍ ، وَ عِنْدَنَا مَا يُشْبِهُهُ فَنَقِيسُ عَلَى أَحْسَنِهِ ؟ فَقَالَ : وَ مَالِكُمْ وَ لِلْقِيَاسِ ؟ إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ هَلَكَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِالْقِيَاسِ ، ثُمَّ قَالَ : إِذَا جَاءَكُمْ مَا تَعْلَمُونَ فَقُولُوا بِهِ ، وَ إِنْ جَاءَكُمْ مَا لَا تَعْلَمُونَ فَهَا - وَ أَهْوَى بِيَدِهِ إِلَى فِيهِ - ثُمَّ قَالَ : لَعَنَ اللَّهُ أَبَا حَنِيفَةَ كَانَ يَقُولُ : قَالَ عَلِيُّ وَ قُلْتُ أَنَا ، وَ قَالَتِ الصَّحَابَةُ وَ قُلْتُ ، ثُمَّ قَالَ : أَكِنَّةً تَجْلِسُ إِلَيْهِ ؟ فَقُلْتُ : لَا وَ لَكِنْ هَذَا كَلَامُهُ .

فقلت : أَصْلَحَكَ اللَّهُ أَتَى رَسُولُ اللَّهِ علیه السلام النَّاسَ بِمَا يَكْتَفُونَ بِهِ فِي عَهْدِهِ ؟ قَالَ : نَعَمْ وَ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، فَقُلْتُ : فَضَاعَ مِنْ ذَلِكَ شَيْ ءُ ؟ فَقَالَ : لَا هُوَ عِنْدَ أَهْلِه(1).

وروى الصدوق في العلل ، قال : حدّثنا محمّد بن إبراهيم بن إسحاق الطالقاني رضي الله عنهم ، قال : حدّثنا أحمد بن محمّد بن سعيد الهمداني ، قال : حدّثنا علي بن الحسن بن فضال ، عن أبيه ، عن أبي الحسن الرضا ، قَالَ : إِنَّمَا سُمِّيَ أُولُوا الْعَزْمِ أُولِي الْعَزْمِ ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا أَصْحَابَ الْعَزَائِمِ وَ الشَّرَائِعِ ، وَ ذَلِكَ أَنَّ كُلَّ نَبِيٍّ کان بَعْدَ نُوحٍ علیه السلام كَانَ عَلَى شَرِيعَتِهِ وَ مِنْهَاجَهُ ، وَ تَابِعاً لِكِتَابِهِ إِلَى زَمَانُ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ علیه السلام .

وكلّ نبيّ كان في أيام إبراهيم علیه السلام وبعده كان على شريعة إبراهيم علیه السلام ومنهاجه ، و تابعاً لكتابه إلى زمن موسى علیه السلام، وكلّ نبي كان في زمن موسى علیه السلام وبعده كان على شريعة موسئ علیه السلام ومنهاجه ، و تابعاً لكتابه إلى أيام عيسى علیه السلام ، وكلّ نبيّ كان في أيام عيسی علیه السلام و بعده كان على منهاج عيسى علیه السلام وشريعته ، و تابعاً لكتابه إلى زمن نبيّنا محمّد .

فهؤلاء الخمسة هم اُولوا العزم ، وهم أفضل الأنبياء والرسل ، وشريعة

ص: 4


1- أصول الكافي 1: 57ح 13.

محمّد صلی الله و علیه وآله وسلم لا تنسخ إلى يوم القيامة ، ولا نبي بعده إلى يوم القيامة ، فمن ادعى بعد نبيّنا أو أتي بعد القرآن بكتاب ، فدمه مباح لكلّ من سمع ذلك منه (1).

وروى الصفّار في بصائر الدرجات ، قال : حدّثنا إبراهيم بن هاشم ، عن يحيی بن أبي عمران ، عن يونس ، عن حمّاد ، قَالَ : سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام يَقُولُ : مَا خَلَقَ اللَّهُ حَلَالًا وَ لَا حَرَاماً إِلَّا وَلَهٍ حَدُّ كَحَدِّ الدُّورِ ، وَ إِنْ حَلَالُ مُحَمَّدٍ صلی الله و علیه وآله وسلم حَلَالُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، وَ حَرَامُهُ حَرَامُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ الْحَدِيثَ (2).

وروي في الوسائل ، عن محمّد بن علي بن عثمان الكراجكي في کتاب کنز الفوائد . عن محمّد بن علي بن طالب البلدي ، عن محمّد بن إبراهيم بن جعفر النعماني ، عن أحمد بن سعید بن عقدة ، عن شيوخه الأربعة ، عن الحسن بن محبوب ، عن محمّد بن النعمان الأحول، عن سلام بن المستنير ، عن أبي جعفر الباقر علیه السلام قال : قال جدي رسول الله صلی الله و علیه وآله وسلم : أَيُّهَا النَّاسُ حَلَالِي حَلَالُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، وَ حَرَامِي حَرَامُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، أَلَا وَقَدْ بَيَّنَهُمَا اللَّهُ عزوجل فِي الْكِتَابِ وبینهما لَكُمْ فِي سُنَّتِي وَ سِيرَتِي ، وَ بَيْنَهَا شُبُهَاتُ مِنَ الشَّيْطَانِ وَ بِدَعُ بَعْدِي الْحَدِيثَ(3) .

وغيرها من الروايات. وإذا كان ثمّة تغيير أو اختلاف ، فإنّما هو في المصادیق لا في نفس الأحكام.

ومثال ذلك : أنّ الحكم الإلهي حرمة الربا في البيع في المكيل والموزون ، فقد يكون الشيء مكيلاً أو موزوناً في مكان يحرم بيعه بالزيادة ، ويكون ذلك الشيء في مكان آخر معدوداً يجوز بيعه بالزيادة ، وكذلك قد يكون شيء في زمان مكيلاً أو موزوناً ، ويكون في زمان آخر معدوداً ، وليس ذلك من تغيير الحكم أو تبدّله ،

ص: 5


1- علل الشرائع ص 122ح 2.
2- جامع أحاديث الشيعة 1: 136 ب 4 ح 40
3- وسائل الشيعة 18 : 124 ح 47.

وينبغي الدقّة في التفريق بين الأمرين .

الثاني : أن الأحكام الشرعيّة كلّها حدود الله تعالى يجب العمل بها وعدم التعدّي عنها، وقد توعّد الله تبارك و تعالى على تجاوز حدوده النار ، فقال سبحانه و تعالى في سياق أحكام الإرث :« تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ ۚ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ۚ وَذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ* وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ»(1).

وقد أكّد الأئمة المعصومون على ضرورة التعبّد بحدود الله ، وأنّه لا سبيل لعقول غير المعصومين لادراك المصالح الواقعيّة التي هي ملاك الأحكام الشرعيّة.

وقد تضمّن القرآن الكريم آيات في الأحكام تؤكّد على أنّه لا مجال لعقول الناس الدرك ملاكاتها، ولا مجال للقياس والاستحسان فيها.

ومن ذلك أن الله تعالى قد جعل في كفّارة اليمين عنق الرقبة عدلاً لإطعام عشرة مساكين ، ومع تعذّرها ينتقل إلى صيام ثلاثة أيّام ، قال الله تعالى :«لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَٰكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ ۖ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ ۖ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ۚ ذَٰلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ ۚ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ ۚ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» (2).

وجعل كفّارة الظهار عتق الرقبة ، ومع عدم الوجدان ينتقل إلى صيام شهرين ، ومع تعذّره إلى إطعام ستين مسكيناً ، قال الله تعالى : «وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ۚ ذَٰلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ ۚ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ *فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ۖ فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ

ص: 6


1- النساء : 13 - 14.
2- المائدة :89.

فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ۚ ذَٰلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ۚ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ ۗ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (1)فجعل الله تبارك وتعالى عتق الرقبة تارة عدلاً لصيام ثلاثة أيّام، وأخرى عدلاً لصيام ستّين يوماً.

وأمّا ما هو السرّ في أن يكون عتق الرقبة عدلاً لصيام ثلاثة أيّام في حكم وعدلاً الصيام شهرين في حكم آخر ، فأمر لا يدرك ، ولابدّ من التعبّد المحض ، ولا يختلج في الصدر أنّه لماذا ؟ لوجوب التسليم ، كما قال الله تبارك وتعالى :«فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا»(2).

وقد حذّر الأئمّة المعصومون علیه السلام شيعتهم من اتّباع القياس والاستحسان والظنّ في معرفة الأحكام ، و تشدّدوا في ذلك ، وعرّفوا شيعتهم أنّ دين الله لا يصاب بالعقول ، وإذا قيس الدین محق الدین.

الثالث : حذّر الله سبحانه وتعالى عن اتّباع غير العلم في العقائد والأعمال الشرعيّة ، سواء كان قياساً أو استحساناً أو ظناً ، بل يجب اتّباع العلم ، وهو الاعتقاد بالشيء على ما هو عليه ، والاعتقاد المخالف للواقع جهل وليس علماً ، ولا سبيل إلى حصول العلم في غير الضروريّات إلا بقول المعصومين علیهم السلام، والآيات الناصّة على المنع عن اتّباع غير العلم كثيرة:

منها : قوله تعالى «وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۚ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا»(3).

ص: 7


1- المجادلة : 3-4
2- النساء : 65.
3- الإسراء : 36.

ومنها : قوله تعالى« أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ»(1).

ومنها : قوله عزّوجلّ« آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ ۖ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ»(2).

والأخبار مستفيضة على ذلك :

منها : ما رواه الكليني ، عن محمّد بن يحيى ، عن أحمد بن محمّد بن عيسى ، عن الحسن بن محبوب ، عن علي بن رئاب ، عن أبي عبيدة الحذّاء ، قال : قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ علیه السلام : مِنْ أُفْتِي النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَ لَا هدیً لَعَنَتْهُ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ وَ مَلَائِكَةُ الْعَذَابِ ، وَ لَحِقَهُ وِزْرُ مَنْ عَمِلَ بفتياء(3).

ومنها : ما رواه الكليني أيضاً ، عن علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ،عن عبد الرحمن بن الحجّاج ، قال : كان أبو عبد الله علیه السلام قاعداً في حلقة ربيعة الرأي، فجاء أعرابيّ ، فسأل ربيعةالرأي عن مسألة فأجابه ، فلمّا سكت قال له الأعرابي : أهو في عنقك ؟ فسكت عنه ربيعة ولم يردّ عليه شيئاً ، فأعاد عليه المسألة فأجابه بمثل ذلك ، فقال له الأعرابي : أهو في عنقك ؟ فسكت ربيعة ، فقال له أبو عبدالله علیه السلام : هو في عنقه قال أو لم يقل ، وكلّ مفت ضامن (4).

وقد ورد في الروايات الكثيرة أنّ الأئمّة علیهم السلام قد تصدّوا لإبطال بدعة القياس والاستحسان ، كما في مناظرات الإمام الصادق علیه السلام مع أبي حنيفة وغيره ، وبيّنوا صلوات الله عليهم أنّ ذلك يجرّ إلى تحليل الحرام و تحريم الحلال ، و يكون من متابعة الأهواء والشكوك، والإيقاع في الفتنة والشبهات.

كما جاء في نهج البلاغة ، قال : وقام إليه رجل فقال : يا أمير المؤمنين أخبرنا عن

ص: 8


1- الأعراف : 28.
2- يونس: 59.
3- أصول الكافي 1: 42ح 3.
4- فروع الكافي 7: 409 ع 1.

الفتنة ، وهل سألت رسول الله صلی الله و علیه وآله وسلم عنها ؟ فقال علیه السلام : إنّه لمّا أنزل الله سبحانه قوله «الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ » و علمت أنّ الفتنة لاتنزل بنا ورسول الله صلی الله و علیه وآله وسلم بين أظهرنا ، فقلت : يا رسول الله ما هذه الفتنة التي أخبرك الله تعالى بها ؟ فقال : يا علي إنّ أمّتي سيفتنون من بعدي .

فقلت : يا رسول الله أوليس قد قلت لي يوم اُحد حيث استشهد من استشهد من المسلمين ، وحيزت عنّي الشهادة ، فشقّ ذلك عليّ ، فقلت لي : أبشر فإنّ الشهادة من ورائك ، فقال لي : إنّ ذلك لكذلك ، فكيف صبرك إذن ؟ فقلت : يا رسول الله ليس هذا من مواطن الصبر ، ولكن من مواطن البشري والشكر.

وقال : يا علي إنّ القوم سيفتنون بأموالهم ، ويمنّون بدينهم على ربّهم ، ويتمنّون رحمته ، ويأمنون سطوته ، ويستحلّون حرامه بالشبهات الكاذبة ، والأهواء الساهية، فيستحلّون الخمر بالنبيذ ، والسحت بالهدية ، والربا بالبيع ، قال : يا رسول الله فبأيٌ المنازل أنزلهم عند ذلك ، أبمنزلة ردّة أوبمنزلة فتنة ؟ فقال : بمنزلة فتنة (1).

ولابّد أن يكون المؤمن على حذر من خطورة بيان الأحكام ، ولذا كان الصلحاء يتورّعون عن الإفتاء . وقد اعتذر السيّد بن طاووس چغ لولده عن عدم دخوله في الإفتاء .

فقال : وأراد بعض شيوخي أنّي أدرس وأعلم الناس وأفتهم ، وأسلک سبيل الرؤساء المتقدّمين ، فوجدت الله جلّ جلاله يقول في القرآن الشريف لجدّك محمّد الله صاحب المقام المنيف :« وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ*لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ *ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ*فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ» أفرأيت أنّ هذا تهدید من ربّ العالمين لأعزّه عليه من الأوّلين والآخرين أن يقول عليه بعض

ص: 9


1- نهج البلاغة ص 220 رقم الخطبة : 156.

الأقاويل ، فكرهت وخفت من الدخول في الفتوى حذرأ أن يكون فيها تقوّل عليه وطلب رئاسة لا اُريد بها التقرّب إليه ، فاعتزلت عن أوائل هذا الحال قبل التلبّس بما فيها من الأهوال ، واشتغلت بما دلّني عليه العلم من العمل الصالح(1) انتهي .

فينبغي لكلّ من يعتقد بالقرآن الكريم من الكتّاب والمعلّمين والمرشدين أن يلتفتوا إلى هذا التهديد ، ولا يحرفون الكلم عن مواضعه ، ولا يتصدون للإفتاء ، ولا يقولون ولا يكتبون ما يوجب انحراف الناس .

ثمّ إنّ هذه مجموعة من المسائل تناولت فيها استعراض أدلّتها من الآيات والروايات على قدر الوسع ، وإنّي معترف بالقصور والتقصير ، ولا أدّعي إصابة الواقع ، وأردت بذلك الالتفات إلى ضرورة التثبّت في مقام الافتاء و في البحث عن الأحكام الشرعية.

أمّا هذه المسائل ، فهي:

الأوّل : وجوب ستر الوجه والكفّين على المرأة من الأجانب ، وحرمة النظر إلى الوجه والكفّين من الأجنبية .

الثاني : بلوغ البنت بتسع سنين .

الثالث : سهم الإمام والأنفال ملك شخصيّ للإمام المعصوم ، وهو الإمام الحجة صاحب الزمان عجّل الله تعالى فرجه الشریف .

الرابع : حرمة اللعب بالشطرنج قماراً و حذقاً و لهواً.

الخامس : أحكام الشروط .

السادس : حكم التضليل للمحرم .

ص: 10


1- کشف المحجّة ص 109 - 110.

رسالة

في حكم ستر الوجه والكفين على المرأة

اشارة

تأليف: السيد محمد الرجائي

ص: 11

بسم الله الرحمن الرحيم

«وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا ۖ وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ ۖ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَىٰ عَوْرَاتِ النِّسَاءِ ۖ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ ۚ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ .»النور : 31.

ص: 12

بسم الله الرحمن الرحيم

مسألة: في وجوب ستر الوجه والكفّين على المرأة عن غير المحارم مطلقاً ، أي:سواء نظر إليها بريبة ، أو تلذّذ ، أو بغيرهما ، وفيها احتمالان بل قولان :

القول الأول

عدم وجوب ستر الوجه والكفّين

ويستدلّ عليه بقوله تعالى « وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ» (1)فإنّه يدلّ على جواز إبداء الزينة الظاهرة ، والمراد من الزينة الظاهرة : إمّا الوجه والكفّان ، أو الزينة التي عليهما ، ولازم جواز إبدائها جواز إبداء مواضعها.

وفيه أنّ قوله تعالى«مَا ظَهَرَ مِنْهَا»، ليس نصّاً في الوجه والكفّين ، ولا ظاهراً فيها ظهوراً، بيّنا لا يحتمل خلافه ، والكتاب حجّة في الظواهر التي لا تحتمل الخلاف، ولم يرد خلافها عن أهل البيت علیه السلام.

وهذه الجملة من الآية - بعد ملاحظة مجموع الآية صدراً وذيلاً، وملاحظة أخبار أهل البيت علیه السلام الواردة في تفسيرها ، أو الواردة في بيان الحكم الموافق لها . وملاحظة سائر الأخبار المناسبة لها ، والآيات الواردة في شبيهها - لیست ظاهرة في الوجه والكفّين ظهوراً، لا يحتمل الخلاف ، فلذا يشكل الاستدلال بها.

ص: 13


1- النور: 31.

فنقول في توضيحها :

قوله تعالى«وَلَا يُبْدِينَ »، لعلّ المراد منه عدم إبداء الزينة للناس وإراءتها إيّاهم .

ودعوي : أنّ المعنى لا يظهرن زينتهنّ لا عدم إراءتهنّ زينتهنّ للناس ، للفرق بين أبدى الشيء بدون التعدية باللام ، وبين أبدى الشيء له متعدياّ باللام ، بأنّ الأوّل لا يدلّ على إراءة الشيء حتّى يجوز للغير رؤيته ، بخلاف الثاني فإنّه يدلّ على إراءة الشيء للغير ، فيجوز له رؤيته ، فلا یدلّ قوله تعالى «لَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ» على جواز رؤية الغير ما ظهر ، بخلاف قوله تعالى «وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ » فإنّه يدلّ على جواز نظر المذكورين في الآية ، سيأتي ما فيها.

قوله تعالى و «زِينَتَهُنَّ »الزينة تطلق على الشيء الذي يتزيّن به وإن لم يكن في موضع الزينة ، كالسوار والقرط و القلادة ، فإنّها زينة وإن لم تكن ملبوسة لكنّها غير مرادة.

وتطلق عليها ملبوسة ، ومثلها الكحل والخضاب ونحوهما ، والنظر إليها مستلزم للنظر إلى مجالها.

و تطلق على مواضع الزينة : إمّا من باب إطلاق الحالّ وإرادة المحلّ، وإمّا لكونهازينة حقيقة ، فالوجه الجميل زينة لصاحبه.

ولا يبعد أن يكون مفهوم الزينة عبارة عن إضافة شيء إلى شيء نوع إضافة ، يكون حسن المضاف إليه به ، فالمال والبنون زينة الحياة الدنيا ، وزينة العلم الحلم ، وزينة جسد الإنسان رأسه وعنقه وكفّاه وساقا رجليه ، وهذه هي زينة جسد المرأة بأيّ شكل كانت من الحسن ، وبأيّ لون كانت ، إلّا إذا كانت قبيحة المنظر، فليس لها زينة في جسدها أصلاً.

وهذا المعنى مستفاد من كلام اللغوييّن .

قال في المصباح : زان الشيء صاحبه زيناً من باب سار ، وأزانه ازانة مثله،

ص: 14

والاسم الزينة ، وزيّنه تزییناً مثله ، والزين نقيض الشين (1).

وقال في تهذيب اللغة : وقال الليث : زانه الحسن يزينه زيناً وازدانت الأرض بنباتها ازدياناً ، وازیّنت و تزیّنت أي حسنت و بهجت ، قال : والزينة اسم جامع لكلّ شيء يتزيّن به(2).

ومثله تقريباً في ترتيب كتاب العين ، وزاد شعراً:

واذا الدرّ زان حسن وجوه كان للدر حسن وجهك زيناً(3).

وقال في المقاييس : أصل صحيح يدلّ على حسن الشيء وتحسينه ، فالزين نقيض الشين ، يقال : زیّنت الشيء تزیّین وازيّنت الأرض إذا حسنها عشبها(4).

وقال في الصحاح : الزينة ما يتزيّن به ، ويوم الزينة يوم العيد ، والزين نقيض الشين (5).

فالزينة لغة تشمل الزينة الذاتية الخلقيّة والعرضيّة .

ولو سلّم اختصاصها لغة بما كان خارجاً عن الجسد ، لكن الأخبار الصحيحة وغيرها دلت على إرادة الجسد أيضاً من الزينة ، ففي صحيح فضيل ، سألته عن الذراعين أهما من الزينة ؟ قال : نعم (6) وغيره من الأخبار .

فإذا صدقت الزينة على الذراعين ، فلا ريب في صدق الزينة على الوجه الحسن . و حيث كانت النساء حين نزول الآية لم تكن عاريات ، بل كنّ يسترن الجسد

ص: 15


1- المصباح المنير ص 317.
2- تهذيب اللغة للأزهري 13 :355.
3- ترتیب كتاب العين للخليل ص 355.
4- مقاییس اللغة 3: 41.
5- صحاح اللغة 5: 2132.
6- جامع أحاديث الشيعة 7:20 پ 2 ح 1.

والرأس في الجملة ، فالآية نزلت للنهي عن إبداء زينتهنّ التي لا يسترنها عادة . وهي أعمّ من الزينة الخلقيّة والعرضيّة .

نعني عدم إبدائهنّ الزينة عدم إظهارهنّ الرأس والوجه والعنق واليدين والساقين ، فإنّها زينة جسد المرأة ، سواء كان عليها زينة خارجيّة أو لم تكن ، بل لابدّ من سترها ، كما يسترن سائر الجسد.

ويدلّ قوله تعالى « وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ» على أن الزينة قسمان : زينة ظاهرة ، وزينة خفيّة ، فالخلخال زينة خفيّة ، وما عداه من القرط والسوار والكحل وألوان الخدّ و الفم والقلادة و شعر الرأس والعنق زينة ظاهرة.

ويصدق على الوجه المزين بالتجميل أنّه زينة ، ولذا لا يجوز على المرأة القاعدة من النكاح أن تتبرّج بوجه مزيّن ؛ لأنّه يصدّق عليها أنّها متبرّجة بزينة ، فإذا صدقت الزينة على الوجه المزيّن ، فصدقها على الوجه الحسن الذي هو أحسن أولی.

-قوله تعالى «إِلَّا مَا ظَهَرَ» ، رفي الإستثناء احتمالات ثلاثة :

الاحتمال الأوّل : أن يكون الاستثناء متصلاً.

والمعنى : لا يبدين زينتهنّ أيّ زينة كانت ظاهرة أو خفيّة ، ذاتيّة أو عرضيّة لأي إنسان إلّا ما ظهر ، فيجوز إبداؤه في الجملة ، ويفسّر ذلك ويبيّنه قوله تعالى «وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ ۖ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ» الآية .

فالمراد بالزينة الظاهرة ما تظهر بعد ضرب الخمار على جيوبهنّ ، وهي الوجه والعنق والكفّين ، والمراد بمن يبدين زينتهنّ لهم بعولتهنّ إلى آخر الآية ، أي : لا يبدينها لأحد إلّا للمذكورين في الآية . نعم لبعولتهنّ حكم خاصّ معلوم من الخارج .

و مقتضى هذا المعنى أنّه لا يجوز لهنّ إبداء وجوههنّ للأجنبيّ ، ولا يجوز إبداء

ص: 16

صدورهتّ وظهورهنّ وغيرها ممّا لا يدخل فيها ظهر للمحارم والأجانب ، ويقرب من هذا المعنى خبر أبي جارود الآتي ، وصحيح فضيل على بعض الوجوه.

الاحتمال الثاني : أن يكون الاستثناء متصلاً أيضاً ، ولكن كلّ جملة تفيد حكماً غير ما تفيده الاُخرى ، وليست إحداها بياناً للاُخري .

فيكون المعنى على هذا : لا يبدين زينتهنّ لأحد إلّا الزينة الظاهرة ، فيجوز إبداؤها لكلّ أحد.

وعلى هذا الاحتمال فني معني « ما ظهر » احتمالات :

أحدها : أن يكون المعنى لا يبدين زينتهنّ إلا الزينة الظاهرة التي كانت متعارفة عندهنّ ، وهي النحر والعنق والوجه والقرطان .

فإنّه كما قال في الكشّاف : كانت جيوبهنّ واسعة تبدو منها نحورهنّ و صدورهنّ وما حولها ، وكنِ يسدلن الخمر من ورائهنّ ، فتبقی مکشوفة ، وكانت المرأة تضرب الأرض برجلها ليتقعقع خلخالها ، فيعلم أنّها ذات خلخال(1)انتهى.

وفي خبر سعد الآتي : وكان النساء يتقنّعن خلف آذانهنّ. انتهى .

وفيه أنّه غير مراد ، فإنّ الآية الكريمة نزلت للمنع عن ابدائها ، فإنّه بعد ضرب الخمار على جيوبهنّ تستتر نحورهنّ ، كما تستتر تمام أعناقهنّ و آذانهنّ.

ثانيها : الزينة الظاهرة العرضيّة التي هي غير الجسد ، ولا يمكن إخفاؤها إن خرجت المرأة في المجتمع الذي فيه الرجال وهي الثياب ، فإنّها زينة ، وعدم إبدائها أصلا إنّما يكون بعدم خروجها أصلا في مجتمع الرجال .

ودعوى أنّ الثياب لا تكون زينة ، خلاف الوجدان ؛ فإنّ منظر الإنسان العاري قبيح يزيّنه الثياب ، وكما أنّها زينة للرجال ، فكذلك للنساء ، وقد فسّر قوله تعالى

ص: 17


1- الكشّاف 3: 62.

«خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ»(1) بالثياب .

فهي من حيث كونها ثياباً زينة ، ولعلّ المراد بها مثل الملحفة التي تستر جميع بدنها و لیست بزينة ، كأن تكون سوداء مثلاً.

وأمّا ثياب الجمل التي تلبسها ، فلعلّ الظاهر عدم جواز إظهارها ، كما يستفاد من مجموع الآيات .

ثالثها : أن تكون الزينة الظاهرة هي الوجه المزيّن بالتجميل بالكحل والوشم والألوان ، والكفّان المزيّنتان بالخضاب والخاتم ونحوهما . وإرادة هذا الاحتمالی بعبد جداً لوجهين :

الأوّل : أنّ القواعد من النساء - وهي العجائز - إن تبرّجن وزيّن وجوههن صدق عليه انّهنّ تبرجنّ بزينة ، فإذا كان تبرّج المسنّة كذلك حراماً ، فأولى أن يكون تبرّج الشابّة كذلك حراماً ؛ لأنّ الملاك في ذلك واحد .

الثاني : أنّ صوت الزينة الخفيّة إن حرم إبداؤه ، فأولى بأن يحرم إبداء الزينة الظاهرة كذلك.

رابعها : أن يكون المراد بالزينة الظاهرة الوجه واليدين حال كونهما خاليين من الزينة العرضيّة ؛ لأنّ الزينة الظاهرة لجسد كلّ امرأة وجهها وكفّاها .

وعلى هذا الاحتمال يجوز لها إبداء الوجه والكفّين للأجانب .

ثمّ إنّه يمكن تقييد إطلاقه بما إذا كانت هناك حاجة عرفيّة للإظهار ، کا ذکر ذلك يحیی بن سعید رحمة الله في جامعه ، حيث قال : والزينة الظاهرة الوجه والكفّان ، فينظر ذلك لضرورة الإشهاد والأخذ والإعطاء والقاضي للحكم عليها إلى آخر كلامه (2).

ص: 18


1- الأعراف : 31.
2- جامع الشرائع ص 396.

خامسها : أن يكون المراد بالزينة الظاهرة الوجه واليدين من المرأة الحسناءأي: يجوز لها إبداؤها وأولى بالجواز غيرها.

لكن يرد على هذا ما أورد على الثالث ، فيدور الأمر بين إرادة المعنى الثاني بأن يكون المراد بالزينة الظاهرة الثياب ، أو المعنى الرابع ، ولا يخفى أنّ ظهور الجملة في أحد المعنيين بحيث يكون ظاهراً لا يحتمل الخلاف غير متحقّق.

الاحتمال الثالث : أن يكون الاستثناء منقطعاً ، أي : لا يبدين زينتهنّ عن عمدوقصد ، وأمّا ما ظهر بغير تعمّد واختيار فلا بأس به .

ويؤيد هذا الاحتمال أمور:

منها : أن قوله تعالى «ظَهَرَ» فعل ماض يدلّ على الحدوث بعد عدم الإبداء ، أي : لا يبدين زينتهنّ إلا زينة حدث ظهورها ، ولو كان المراد إظهار الزينةالظاهرة كان ينبغي أن يقال : إلّا الزينة الظاهرة.

ومنها : أنّه قد كثر استعمال « إلّا » في الإستثناء المنقطع كقوله تعالى «فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ»(1) وقوله تعالى «وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ»(2) وقوله تعالى «لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَىٰ ۖ»(3)وقوله تعالى « لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ »(4) إلى غير ذلك.

ومنها : أن قوله تعالى«وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ» الآية واضح الدلالة على عدم ابداء كلّ زينة ، ذاتيّة كانت أو عرضيّة ، ظاهرة كانت أو خفيّة ، فيكون

ص: 19


1- الشعراء : 77.
2- النساء: 22.
3- الدخان : 56.
4- النساء: 29.

مبيّناً للإجمال فيما ظهر بحمله على الانقطاع .وحاصل المعنى أن الزينة على قسمين :

الأول : ما لا يجوز إبداؤها بقصد وبدوّها بغير قصد عادة ، بل لابدّ من سترها بحيث لا تبدو لهبوب الرياح وغيره بلا اختيار ، وهو ما يستره الخمار حين ضربه على جيوبهنّ، أي : شدّه عليها حتّى لا يظهر اتفاقاٌ ، فلا يكفيها لبس الخيار الا بشدّه بحيث لا يبدو ما يستره بلا اختيار . كما يجب عليها ستر صدرها و ظهرها و عورتها بحيث لا تبدو بغير اختيار .

الثاني : ما يجب سترها ولا يجوز إظهارها اختياراً ، لكن لا بأس بظهورها بغير اختيار أو لضرورة ، وهو الوجه والكفّان والجلباب ، فهذه الأشياء وإن أمكن إيجاب سترها حتّى لا تظهر بغير اختيارها بأن يجب عليها أن لا تخرج إلى مجتمع الرجال أصلاً ، لكن حيث إنّها تحتاج إلى الخروج وجب عليها سترها ، وإن اتّفق ظهورها بغير اختيار أو لضرورة فلا بأس به ، هذا لغير المحارم وما ألحق بهم.

وأمّا للمحارم فيجوز لها إبداء زينتها الظاهرة والخفيّة بعد ضرب الخمار على جسدها .

ثمّ إنّه مع هذه الاحتمالات في الاستثناء لا يمكن الاطمئنان إلى أنّ الاستثناء ظاهر هنا في الاتّصال أو في الانقطاع ، وذلك لأنّ لكلّ منها مرجحاً.

فإن كان متّصلاً ، فلابدّ من تقييد قوله تعالى «وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ» بالزينة الخفيّة ؛ لأنّه يجوز إبداء الزينة الظاهرة لكلّ أحد ، بخلاف ما إذا كان منقطعاً ، فيبقى على إطلاقه.

فيدور الأمر بين تقييد الإطلاق وهو خلاف الظاهر ، وبين الحمل على الاستثناء المنقطع ،وهو أيضاً خلاف الظاهر، لكن كثرة الاستثناء المنقطع تؤيّد كونه منقطعاً .

قوله تعالى «وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ ۖ» الخمار ثوب تغطّى به المرأة

ص: 20

رأسها ، كذا في المصباح المنير(1).

قال في التبيان : الخمار غطاء رأس المرأة المسبل على جبينها ، وجمعه خمر(2).

والجيب قال في المصباح : جيب القميص ما ينفتح على النحر(3).

وفي بعض كتب اللغة : الجيب من القميص طوقه . وقيل : الجيب الطرف المشقوق من القميص الواقع في مقابل النحر.

أمرهنّ بضرب الخمار على جيوبهنّ حتى لا تظهر أعناقهنّ ونحورهنّ ، بخلاف بعض زينتهنّ الأخرى كالوجه والكفّين ، فإنّها لو اتّفق ظهورها من غير عمد لم يكن به بأس .

وهو ظاهر بناءً على أن يكون الاستثناء في قوله تعالى«إِلَّا مَا ظَهَرَ» منقطعأ ، وأمّا إذا كان متّصلاً. فيكون المعنى : لا يبدين زينتهنّ، بل يسترن جميع جسدهنّ إلا الوجه والكفّين ، فيكون ما يستره الخمار مستوراً، فالأمر بضرب الخمار على الجيوب يكون تکراراً وتأكيداً.

ثمّ إنّ المراد من ضرب الخمار على الجيب أن يشدّ عليه ، ولا يكفي مجرّدالإلقاء ، وحيث إنّ العينين لابدّ أن تكونا مكشوفتين لترى المرأة طريقها لم يؤمرن بضرب الخمار على وجوههنّ ، ولكن لا يدلّ على جواز کشف الوجه ؛ إذ لا ينافيه وجوب القاء الثوب على الوجه.

قوله تعالى «وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ»أي : لا يُسمعن صوت الخلخال للأجانب ، سواء كان الإسماع موجباً للفتنة أم لا ، ويحتمل الاختصاص بما يوجب الافتتان إن كان المتعارف عندهنّ ذلك ، ويكون النهي

ص: 21


1- المصباح المنير ص 181.
2- التبيان للشيخ الطوسي 7: 430.
3- المصباح المنير ص 115.

ناظراً إليه ، لكن اللفظ مطلق غير مقيّد بما یوجب الافتتان ، فتأمّل .

ثمّ إنّه يمكن أن يقال : إنّ المنع عن إسماع صوت الزينة يدلّ بالأولويّة على المنع عمّا يكون الافتتان به أكثر من سماع الصوت ، فهو كالنهي عن قول «أفّ » للوالدين الدالّ على النهي عن ضربهما ، ولاريب في أنّ الوجه المزيّن بالكحل وحمرة الخدّ والفم أكثر افتتاناً من سماع صوت الزينة .

وقد تبيّن ممّا ذكر أنّ الآية غير ظاهرة في الدلالة على جواز إظهار المرأة الوجه والکفّين للأجنبي .

وحاصل ما ذكرناه أنّ المحتملات في معنى الآية - والله العالم - أربعة :

الأولى : لا يبدين زينتهنّ مطلقا ، أي : الذاتيّة والعرضيّة إلّا المقدار الذي ظهر عادة بعد لبس الخمر وشدّها على الجيوب - أي : شدّها على مفتتح القميص من طرف النحر ، فتستتر بذلك أعناقهنّ و نحورهنّ ، وما يحيط بها من شعر وزينة من الحلّي في الاُذن والنحر و موضع العقد أو القلادة مثلاً منها - و بعد لبس الجلباب فوق الخمر وستر جميع البدن .

وحينئذ فقد تظهر منهنّ عين واحدة ليرين الطريق ، أو يظهر منهنّ اصبع أو أصابع لرفع شيء ، فهذا المقدار الذي يظهر للحاجة لا بأس به ، ولا يبدين زينتهنّ إلا لبعولتهنّ و غيرهم المذكورين في الآية.

الثاني : لا يبدين زينتهنّ مطلقاً ، أي : الخلقيّة و العرضيّة لأيّ شخص كان إلّا ما ظهر منها بعد ضرب الخمر على الجيوب ، وهو الوجه والكفّان والقدمان ، والثياب التي يلبسنها في الدار لا ثياب زينتهنّ ، فلهنّ أن يبدينها لبعولتهنّ وغيرهم من المذكورين في الآية ، نعم لبعولتهنّ حكم خاصّ معلوم.

الثالث : لا يبدين زينتهنّ مطلقاً إلّا ما ظهر منها بغير قصد، والمراد ما ظهر بغير قصد ما ظهر بعد شدّ الخمر على جيوبهنّ ، ولبسهنّ جلبابهنّ ، وهو الوجه والكفّان ،

ص: 22

فعليهنّ أن يسترن الوجه والكفّين ، لكن إن بدیا بغير قصد لم يكن به بأس ، بخلاف سائر المواضع التي يجب سترها بحيث لا تبدو حتّى من غير قصد .

الرابع : لا يبدين زينتهنّ مطلقاً إلّا الزينة الظاهرة التي لا يمكن خفاءها إن خرجن إلى خارج بيوتهنّ ، وهي الجلباب الذي لا يوجب نظر الرجال ولم یکن زينة . ولعلّ في الآية احتمالات أخرى.

والحاصل أنّ الآية الشريفة لها ظهور جليّ في قوله تعالى «وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ»وقوله تعالى« وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ» الآية . ولها إجمال في قوله تعالى «إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا ۖ».

فهل يمكن رفع إجماله بسائر الظهورات حتّى يكون المعنى لا يبدين زينتهنّ إلا ما ظهر منها بغير قصد ؟

فلابدّ من التثبيت و تحصيل العلم بالمراد، قال الله تعالى :«وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۚ»(1) وقال الله تعالى:« أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُون« »(2)وفي الخبر الصحيح : من أفتى الناس بغير علم ولا هدیً من الله لعنته ملائكة الرحمة وملائكة العذاب و لحقه وزر من عمل بفتياه(3).

والتفسير بالرأي ممنوع و حرام ، وقول المفّسرين ليس بحجّة ما لم يدعمه قول المعصومين علیهم السلام. ومن راجع التفاسير يظهر له عدم ظهور قوله تعالى«إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا ۖ» في الوجه والكفّين .

ص: 23


1- الإسراء : 36.
2- یونس: 68.
3- أصول الكافي 1: 42ح 3.

الأخبار التي قيل بدلالتها على عدم وجوب ستر الوجه والكفّين والمناقشة فيها

واستدلّ على جواز إظهارهما بأخبار :

الأوّل : ما رواه في الكافي ، عن عدّة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمّد بن عيسى، عن ابن محبوب ، عن جميل بن دراج ، عن فضيل بن يسار ، قال : سألت أبا عبد الله علیه السلام عن الذراعين من المرأة أهما من الزينة التي قال الله تبارك وتعالى «وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ» قَالَ : نَعَمْ وَ مَا دُونَ الْخِمَارِ مِنَ الزِّينَةِ ، وَ مَا دُونَ السّوارین(1).

قال الشيخ الأنصاري رحمة الله: في هذا الصحيح دلالة ظاهرة على خروج الوجه والكفين عن الزينة التي يحرم إبداؤها (2) انتهى .

وفي المستمسك قال : وظاهر أنّ ما يستره الخمار هو الرأس والرقبة ، والوجه خارج عنه ، وأنّ الكفّ فوق السوار لا دونه ، فيكونان خارجين عن الزينة(3)انتهى .

وفي ذكراه نظر ؛ لعدم سؤال هذا الراوي الجليل عن إبداء الذراعين للأجانب ، بل كان يعلم جواز إبداء المرأة وجهها وكفّيها للمحارم ، لكن لم يدر جواز إبداء الذراعين للمحارم فسأل عنهما ، وهو غير مستبعد، فقدكان جواز إبدائها الشعر للمحارم غير واضح.

فقد روى السكوني عن جعفر بن محمّد ، عن أبيه پغ قال : لا بأس أن ينظر

ص: 24


1- فروع الكافي 5: 520 - 521ح 1، جامع أحاديث الشيعة 20 : 287 ب 6ح 1.
2- کتاب النكاح للشيخ الأنصاري ص 47.
3- مستمسك العروة الوثقی 21:12 .

الرَّجُلُ إِلَى شَعْرِ أُمِّهِ أَوْ ابْنَتَهُ أَوْ أُخْتَهُ(1).

فلم يكن حكه بديهيّأ حتّى لا يحتاج إلى السؤال . فأجاب أبو عبد الله علیه السلام عن سؤاله هذا بجواز إبداء الذراعين للمحارم، ولم يسأل عمّا تظهره المرأة للأجانب ليقال : إنّه جعل جواز النظر إلى الوجه والكفّين للأجانب مفروغاًعنه .

واحتمال أن يكون منشأ سؤال السائل شكّه في حكم دخول الذراعين فيما يجوز إبداؤه للأجنبي - فإن أجاب الإمام علیه السلام بأنّهما لا يدخلان في الزينة التي لا تبديها المرأة إلّا لبعلها يتبيّن أنّهما داخلان فيما يجوز إبداؤه ، ومعنى ذلك أنّه جعل إيداء الوجه والكفّ للأجنبي مفروغاً عنه - بعيد جداً ، خارج عن متفاهم المحاورات .

و في معنى قوله علیه السلام« وَ مَا دُونَ الْخِمَارِ مِنَ الزِّينَةِ وَ مَا دُونَ السوارین » احتمالات :

الأوّل : أن يراد به تحت الخمار وتحت السوارين ؛ لأنّ الخمار فوق الرأس والرقبة وكذا السوارين فوق الذراعين ، فيصحّ إطلاق ما دون على ما تحتهما؛ لأنّه أسفل من الفوق .

قال في الوافي : وما دون الخمار يعني ما يستره الخمار من الرأس والرقبة ، وهو سوى الوجه منهما ، وما دون السوارين يعني من اليدين ، وهو ماعدا الكفّين منها (2) انتهى .

الثاني : استظهار أنّ المراد به « مَا دُونَ الْخِمَارُ » هو ما يعمّ الوجه أيضاً ؛ لأنّ الخمار يكون على الرأس ، فيكون الوجه ممّا هو دونه لا محالة ، ولا مبرّر لملاحظة الخمار من أسفله، أعني : ما يكون على الذقن کي يقال : إنّ ما دونه هو الرقبة خاصّة ، بل ما دونه هو الوجه فما تحته .

ص: 25


1- من لا يحضره الفقيه 4: 474 برقم: 4659، جامع أحاديث الشيعة 282:20 ب 1ع 25.
2- الوافي 2: 817 .

كما أنّ الظاهر بل الواضح أنّ المراد به «ما دون السوارین » هو ما يكون دونها إلى أطراف الأصابع .

قلت : على هذا الاحتمال لو كانت العبارة هكذا : والوجه والعنق والكفّان من الزينة ، أي : التي قال الله تعالى«وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ» لكان أخصر وأدلّ.

الثالث : أن يكون معنی « ما دون الخمار » ما قرب من الخمار ، وهو الوجه والعنق وبعض شعر مقدّم الرأس ، ومعنى « ما دون السوارین » ما قرب منهما من الذراع والكفّ ، لأنّ دون لغة بمعنى القرب.

قال في المقاييس : دون يدلّ على المداناة والمقاربة ، يقال : هذا دون ذلك أي أقرب منه ، ويقال في الإغراء : دونكه أي خذه أقرب منه وقربه منك ، ويقولون : أمر دون وثوب دون أي قريب القيمة (1) انتهى .

الرابع : أن يكون بمعنى غير ، كما يقال : يجوز أن يُعطي لوجه الإحسان فقیر دون فقير ، و درهم دون درهم ، وفي حال دون أخرى.

فعني الرواية على هذا أنّ غير الخمار وغير السوارین ممّا تتزيّن به المرأة من الزينة التي لا يجوز إبداؤها إلّا للمحارم.

قلت : « دون » إن استعمل بدون « ما » فقد يكون بمعنى الغير، وإن استعمل «ما» و «دون» معاً في لفظ واحد فقيل « مادون » فلعلّه ليس بمعنى الغير .

الخامس : أن يكون المعنى ما كان أسفل من الخمار كالعنق وبعض الصدر ، وما كان أسفل من السوارين كالذراع ، أيضاً من الزينة التي يجوز إبداؤها للمحارم ، فإنّ الخمار إن لم تضرب على الجيوب في مجتمع المحارم الابن والأخ وغيرهما ربما يتيّن

ص: 26


1- مقاییس اللغة 2: 317.

ما كان أسفل منه ، فإنّ حد الخمار إلى العنق ونحوه.

وعلى جميع هذه الاحتمالات فهذه الرواية لا دلالة لها على إبداء الوجه والكفّين للأجانب ؛ لأنّ محلّ السؤال الزينة التي تبديها للمحارم ، والسائل يعلم أنّ الوجه والكفّين ممّا يجوز إبداؤهما للمحارم، وإنّما سأل عن حكم إيداء الذراعين للمحارم . أي : هل هما کالوجه والكفّين أو لا؟

الخبر الثاني : ما رواه في الكافي ، عن محمّد بن يحيى ، عن أحمد بن محمّد بن عيسى، عن محمّد بن خالد والحسين بن سعيد ، عن القاسم بن عروة ، عن عبد الله بن بكير ، عن زرارة ، عن أبي عبد الله علیه السلام في قول الله تبارك و تعالى«إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا» قال : الزِّينَةُ الظَّاهِرَةُ الْكُحْلُ وَ الْخَاتَمُ(1).

وفي سنده القاسم بن عروة ، ولم يذكر له توثیق ، لكن قيل : رواية الأجلّة عنه يوجب اعتماداً عليه.

ولا يبعد کون الرواية في كتاب الحسين بن سعيد الذي قال فيه النجاشي : كتبه معمول بها. وعدّ الصدوق كتابه من الكتب التي عليها المعوّل.

ويمكن المناقشة في دلالته على جواز تعمّد إراءة الوجه والكفّين للأجانب :

أوّلاً : بأنّ قوله تعالى «إِلَّا مَا ظَهَرَ» يحتمل الاستثناء المنقطع کما مرّ ، أي : يحرم عليهنّ إبداء الزينة مطلقاً من الوجه والكفّين وغيرهما إلا ما ظهر بغير اختیار ، والمقدار الذي لا بأس بظهوره بغير اختيار الكحل والخاتم ، وأمّا غيرهما فلابدّ من التحفّظ عليه بحيث لا يظهر بغير اختيار بل تستره، کا تستر جسدها بحيث لا يظهر بغير اختيار.

والحاصل أنّه ليس له دلالة على أنّ الاستثناء في الآية متّصل أو منقطع .

ص: 27


1- فروع الكافي 5: 521 ح 3، جامع أحاديث الشيعة .2: 287ح 2.

وثانياً : لو سلّم دلالته على جواز إبداء الزينة الظاهرة اختياراً بأن كان الاستثناءمتصلاً ، فهو مختصّ بالكحل والخاتم فقط .

ودعوى إلغاء خصوصيّة الكحل والخاتم - والتعدّي إلى مطلق الوجه والكفّين ، أو كونهما كناية عن الوجه والكفّين - غير مسموعة ؛ لأنّ المرأة ربما تحتاج إلى إظهارهما بخصوصهما من دون حاجة إلى إظهار غيرهما ، كما إذا أرادت الخروج ، فإنّه يكفيها أن لا تستر عينها حتّى ترى طريقها و تخرج إحدى أصابعها التي فيها خاتم ، أو جميع أصابعها فقط.

الخبر الثالث : ما رواه في تفسير علي بن إبراهيم ، قال : وفي رواية أبي الجارود عن أبي جعفر علیه السلام في قوله «وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا ۖ»: فَهِيَ الثِّيَابُ وَ الْكُحْلُ وَ الْخَاتَمُ وَ خِضَابُ الْكَفِّ وَ السِّوَارُ ، وَ الزِّينَةُ ثَلَاثٍ : زِينَةُ لِلنَّاسِ ، وَ زِينَةُ لِلْمُحْرِمِ ، وَ زِينَةُ لِلزَّوْجِ . فَأَمَّا زِينَةُ النَّاسِ ، فَقَدْ ذَكَرْنَاهُ . وَ أَمَّا زِينَةُ الْمَحْرَمِ ، فَمَوْضِعُ الْقِلَادَةِ فَمَا فَوْقَهَا ، وَ الدُّمْلُجِ (1) وَ مَا دُونَهُ ، وَ الْخَلْخَالُ وَ مَا أَسْفَلَ مِنْهُ . وَ أَمَّا زِينَةُ الزَّوْجِ ، فَالْجَسَدُ كُلُّهُ (2).

ونوقش في سنده بالإرسال ، لأنّ علي بن إبراهيم ليس في طبقةأبي الجارود ، فروايته عنه تكون مرسلة .

وفيه أنّه لا يبعد أن يكون التفسير المنسوب إلى علي بن إبراهيم مركّباً من تفسيره و تفسير أبي الجارود، وعدم ذكر الطريق هنا إلى أبي الجارود عول على ذكره في سائر الموارد ، لكن ورد الذمّ في أبي الجارود ، فالسند غير واضح.

ويمكن المناقشة في دلالته بأن غاية ما يدل عليه جواز إراءتها الناس الزينة الظاهرة وهي الثياب والكفّين ومن الوجه الكحل فقط ، ولا وجه لالغاء خصوصيّة الكحل

ص: 28


1- الدملج : حليّ يلبس في المعصم.
2- تفسير القمي 101:2 ، جامع أحاديث الشيعة 287:20 ح 3.

والتعدّي إلى جميع الوجه ، أو كون ذکره کناية عن تمام الوجه.

الخبر الرابع : ما رواه في الكافي عن الحسين بن محمّد ، عن أحمد بن إسحاق ، عن سعدان بن مسلم ، عن أبي بصير ، عن أبي عبد الله علیه السلام قال : سألته عن قول الله عزّوجلّ «وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا» قَالَ : الْخَاتَمُ وَ الْمَسَكَةُ وَ هِيَ الْقُلْبُ (1).

وفي اللغة : القلب بالضمّ : السوار .

وفي السند سعدان بن مسلم ، وهو غير موثّق في كتب الرجال ، بل عن موضع من الوجيزة : إنّه ضعيف .

ويمكن المناقشة في دلالته بأنّه يدلّ على جواز إظهار السوار المستلزم لإظهار موضعه ، وهو خارج عن الكفّ، ولم يفت أحد بجواز إظهاره فيما أعلم .

ويمكن حمله على الاستثناء المنقطع بإرادة ظهورهما بدون تعمّد للإظهار ، أي: إنّ ما لا يجب التحفّظ على ظهوره الخاتم والمسكة ، فلا بأس بظهورهما بغير تعمّد واختيار .

بل إنّ هذا الخبر من أدلّة وجوب ستر الوجه ؛ لأنّه في مقام بیان تحديد «مَا ظَهَرَ» ذکر « الخاتم والمسكة » فقط.

الخبر الخامس : ما رواه في قرب الإسناد بقوله : وعنه ، عن مسعدةبن زیاد، قال:وسمعت جعفراً وسئل عمّا تُظهر المرأة من زينتها ، قال : الوجه والكفّين(2) .

والسند المذكور في أوّله : محمّد بن عبد الله بن جعفر الحميري ، عن أبيه ، عن هارون بن مسلم . والضمير في « عنه » يرجع إلى هارون بن مسلم.

قال النجاشي : مسعدة بن زياد الربعي ثقة عين . روي عن أبي عبدالله علیه السلام، له

ص: 29


1- فروع الكافي 5: 521 ج 4، جامع أحاديث الشيعة 20 : 287 ح 4.
2- قرب الاسناد ص 82 ح 270.

كتاب في الحلال والحرام مبوّب ، أخبرنا محمّد بن محمّد ، قال : حدّثنا أحمد بن محمّد الرازي ، قال : حدّثنا عبد الله بن جعفر الحميري ، قال : حدّثنا هارون بن مسلم ، عن مسعدة بن زیاد بكتابه(1).

لكن لم يثبت أنّ قرب الإسناد الموجود هو قرب الإسناد الذي للحميري ، فإنّه قد عدّ من كتبه قرب الإسناد ، لكن لا طريق لنا إلى أنّ هذا الموجود هو ذاك .

وأمّا دعوى أن لصاحب الوسائل طريقاً إلى الكتاب المذكور ، فقد زیّفناها في محلّه ، وقلنا : إنّ الذي يظهر منه في فوائد الوسائل إنّه ثبت عنده أنّ الكتب التي روئ عنها الحديث هي لأربابها بالقرائن ، ومنها الكتاب المذكور ، فإنّه للحميري لدلالة القرائن الخارجيّة ، فالكتاب المذكور عند صاحب الوسائل كالعلوم کونه للحميري، وله طريق إلى الشيخ الطوسي ، وللشيخ طريق إلى الكتب المذكورة ، ولم يصل إليه الكتاب بالمناوله من شیخه من شيخه إلى أن ينتهي إلى صاحب الكتاب أعني الحميري .

ويمكن المناقشة في دلالته :

أوّلاً : بالاضطراب في متن الرواية ، قال في البحار: وکتاب قرب الإسناد من الأصول المعتبرة المشهورة ، وكتبناه من نسخة قديمة مأخوذة من خط الشيخ محمّد بن إدريس ، وكان عليها صورة خطّه هكذا : الأصل الذي نقلته منه كان فيه لمحن صریح وكلام مضطرب ، فصوّرته على ما وجدته خوفاً من التغيير والتبدیل ، فالناظر فيه يمهّد العذر فقد بينت عذري فيه (2) انتهى.

و ثانياً : بأنّه يحتمل أن يكون السؤال عمّا تُظهرها للمحارم ؛ لأنّه لم يسأل عن معنی « ما ظهر » فلعلّ السائل يعتقد بأنّ المراد من « ما ظهر » الثياب كا ذكره بعض

ص: 30


1- رجال النجاشي ص 415 برقم: 1109.
2- بحار الأنوار 2: 26.

وسأل عمّا تُظهرها للمحارم.

وبعبارة اُخرى : إنّ مسعدة يحكي سؤالاً سأله رجل الإمام ، وهذا السؤال لو لميكن ظاهراً فيها تُظهره المرأة من الزينة للمحارم ، فلا أقلّ من إجماله .

ولو سلّم ظهوره في جواز إظهارها الوجه والكفّين للأجانب ، لعارضه خبر أبي بصير ، وخبر زرارة ، وخبر أبي الجارود ، ودلالتها واضحة في المنع عن غير الكحل في الوجه ، فإنّ أمكن تقييد الوجه بخصوص العين فهو ، وإلّا لم يعمل بظاهره؛ لأنّ معارضه أقوى، أي الروايات الثلاث الأخيرة.

إلا أن يقال بأنّ موضوع تلك الأخبار الزينة العرضيّة ، وموضوع هذا الخبر الوجه والكفّان بدون الزينة .

ثمّ لا يخفى أن مدرك الأحكام الشرعيّة منحصر في الكتاب والسنّة النبويّة والإماميّة ، والشهرة والإجماع الكاشفين عن نصّ عن المعصومين علیهم السلام والعقل الضروري ، ولذا ينبغي أن يعمل بكلّ خبر في كتب أخبارنا إلاّ خبراً يقيّد إطلاق دليل إلزاميّ أقوى منه سنداً، أو يخصّص عمومه كذلك ، فيحتاط في ذلك إن لم يكن في مرتبة الدليل المطلق أو العام في قوّة السند ، وكذا عند معارضة الخبرين يقدّم ما له مرجّح مّا.

والغرض من هذه المناقشات التي ذكرت أنّ الخبر المذكور ليس له قوّة في السند بحيث يؤخذ به في مقابل ما دلّ على عدم جواز الإظهار .

الخبر السادس : ما رواه في مكارم الأخلاق من کتاب المحاسن . عن أبي عبدالله علیه السلام في قوله جلّ ثناؤه«إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا» قَالَ : الْوَجْهُ وَ الذِّرَاعَانِ(1).

ولم يذكر له سند ، ولو تمّ سنده كانت المناقشة في دلالته بما مرّ.

ص: 31


1- جامع أحاديث الشيعة 20 : 287 - 288 ح 6 عن مكارم الأخلاق .

الخبر السابع : ما رواه في الكافي ، عن عدّة من أصحابنا ، عن أحمد بن أبي عبد الله ، عن إسماعيل بن مهران ، عن عبيد بن معاوية بن شريح ، عن سيف بن عميرة ، عن عمرو بن شمر ، عن جابر ، عن أبي جعفر ، عن جابر بن عبد الله الأنصاري ، قَالَ : خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صل الله و علیه وآله وسلم يُرِيدُ فَاطِمَةَ لِي وَ أَنَا مَعَهُ ، فَلَمَّا انْتَهَيْتُ إِلَى الْبَابِ وَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ فَدَفَعَهُ ، ثُمَّ قَالَ : السَّلَامُ عَلَيْكُمْ ، فَقَالَتْ فَاطِمَةُ پع : عَلَيْكَ السَّلَامُ یا رَسُولَ اللَّهِ ، قَالَ : أَدْخَلَ ؟ قَالَتْ : ادْخُلْ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قَالَ : أَدْخُلُ أَنَا وَ مَنْ مَعِيَ ؟ فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ لَيْسَ عَلَى قِنَاعُ ، فَقَالَ : يَا فَاطِمَةُ خُذِي فَضْلَ مِلْحَفَتِكِ فَقَنِّعِي بِهِ رَأْسَكِ ، فَفَعَلَتْ ثُمَّ قَالَ : السَّلَامُ عَلَيْكَ ، فَقَالَتْ : وَ عَلَيْكَ السَّلَامُ یا رَسُولَ اللَّهِ ، قَالَ : أَدْخَلَ ؟ قَالَتْ : نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قَالَ : أَنَا وَ مَنْ مَعِي ؟ قَالَتْ : وَ مَنْ مَعَكَ .

قال جابر : فدخل رسول الله صل الله و علیه وآله وسلم ودخلت وإذا وجه فاطمة پع أصفر كانّه بطن جرادة ، فقال رسول الله صل الله و علیه وآله وسلم : مالي أرى وجهك أصفر ؟ قالت : يا رسول الله الجوع ، فقال رسول الله صل الله و علیه وآله وسلم : اللَّهُمَّ مشيع الْجَوْعَةِ وَ دَافِعَ الضَّيْعَةِ أَشْبِعْ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ ، قَالَ جَابِرٍ ، فَوَاللَّهِ لَنَظَرْتُ إِلَى الدَّمِ يَنْحَدِرُ مِنْ قُصَاصِهَا حَتَّى عَادَ وَجْهُهَا أَحْمَرَ ، فَمَا جَاعَتْ بَعْدَ ذَلِكَ الْيَوْمِ(1).

وفيه أوّلاً : ضعفي السند ؛ لاشتماله على عبید بن معاوية بن شريح ، وهو مهمل .

وعلى عمرو بن شمر الذي قال فيه النجاشي : أبو عبد الله الجعفي عربيّ ، روى عن أبي عبد الله علیه السلام، ضعيف جدّاً ، زيد أحاديث في كتب جابر الجعفي ينسب بعضها إليه، والأمر ملبس (2).

وثانياً : احتال کونه قبل نزول الحجاب ، أي : قبل وجوب ستر جميع الجسد .

ص: 32


1- فروع الكافي 5: 528 - 529، جامع أحادیث الشيعة 20 : 313ح 6، وسائل الشيعة14: 158ح 3.
2- رجال النجاشي ص 287 برقم: 765.

وثالثاً : معارضته بما روي عنها علیها السلام حيث قالت : خير ما يكون للنساء أن لا یرين الرجال ولا يراهنّ الرجال . فقال رسول الله صل الله و علیه وآله وسلم: إنّها منّی (1).

الثامن : النصوص المتعرّضة لستر الشعر عن الغلام إذا احتلم ، و ستره عن العبد والخصيّ ، فإنّها تدلّ على عدم لزوم ستر الوجه عنهم ، وجواز نظر هم إليه ، وهي عدّة روايات :

منها : ما رواه في الكافي ، عن عدّة من أصحابنا ، عن سهل بن زیاد ، وعلي بن إبراهيم ، عن أبيه جميعاً ، عن إبن أبي نجران ، عن عاصم بن حميد ، عن محمّد بن مسلم ، عن أبي جعفر علیه السلام،قَالَ : لَا يَصْلُحُ لِلْجَارِيَةِ إِذَا حَاضَتْ إِلَّا أَنْ تَخْتَمِرَ ، إِلَّا أَنْ لَا تَجِدَهُ (2).

فإنّه يدلّ على أنّها إن حاضت كفاها الخمار لظهورها عند الأجانب ، والخمار لا يستر الوجه ، ولم ينبّه الإمام علیه السلام على وجوب ستر الوجه .

وفيه أنّ هذا الخبر وإن أوردوه في كتب الأخبار في كتاب النكاح في مسألة ستر المرأة عن الأجنبي، لكن يحتمل قوياً أن يكون مربوطاً بباب الصلاة ، أي : لا يصلح للجارية أن تصلّي إذا حاضت إلّا بالخمار ، بقرينة قوله « إِلَّا أَنْ لَا تَجِدَهُ» فإنّه لا يجوز لها الخروج إلى مجتمع الرجال بعد أن حاضت بدون الخمار إن لم تجد الخمار ، بالضرورة من الفقه.

وقد ورد هذا المضمون فيها رواه الصدوق في الفقيه : سأل يونس بن يعقوب أبا عبد الله علیه السلام عن الرجل يصلّي في ثوب واحد ، قال : نعم ، قال: فقلت : فالمرأة ؟

ص: 33


1- جامع أحادیث الشيعة 20 : 263 - 264 ح 10 و ح 11وح 12.
2- فروع الكافي 5: 532 ح1، وسائل الشيعة 14: 168ح 1 ، جامع أحادیث الشيعة 297:20 ب 10ح 1.

قال: لا ولا يصلح للحرّة إذا حاضت إلّا الخمار إلّا أن لا تجده(1).

ثمّ إنّ قوله علیه السلام « إذا حاضت » محمول على صيرورتها قابلة للتحيّض ، وهي عند بلوغها التسع ، كما في خبر عبد الله بن سنان ، عن أبي عبدالله علیه السلام في حديث : وَ إِذَا بَلَغَتِ الْجَارِيَةُ تِسْعَ سِنِينَ فَكَذَلِكَ - أَيْ : كَتَبْتُ عَلَيْهَا السَّيِّئَاتِ - وَ ذَلِكَ أَنَّهَا تَحِيضُ لِتِسْعِ سِنِينَ (2).

ولو سلّم کونه وارداً في مسألة الستر عن الأجنبي ، فليس ظاهراً في جواز کشف الوجه ظهوراً بيّناً ، لأنّ على المرأة أن تستر رأسها كما تستر جسدها كصدرها وظهرها مثلاً ، بخلاف الوجه فإنّه يجوز إبداء بعضه عند الحاجة إن جوّزناه ، أو عند الحاكم عند الشهادة ، فالإمام علیه السلام ذكر ما يجب ستره حتماً وعلى كلّ حال ، وهو الرأس.

ومنها : ما رواه في الكافي ، عن محمّد بن اسماعيل ، عن الفضل بن شاذان وأبو على الأشعري ، عن محمّد بن عبد الجبار ، عن صفوان بن يحيى ، عن عبد الرحمن بن الحجاج ، قال : سألت أبا إبراهيم علیه السلام عن الجارية التي لم تدرك متي ينبغي لها أن تغطّي رأسها من ليس بينها وبينه محرم أومتي يجب عليها أن تفع رأسها للصلاة ؟ قَالَ : لَا تُغَطِّي رَأْسَهَا حَتَّى تَحْرُمَ عَلَيْهَا الصَّلَاةُ(3). أي : حتّى ترى دم الحيض.

وهذا الخبر اشتمل على سؤالين :

الأوّل : أنّ الجارية غير المدركة متى تخطّي رأسها عن الأجنبي ؟ ولم يسأل متى

ص: 34


1- من لا يحضره الفقيه 1: 373 برقم : 1082 ، جامع أحاديث الشيعة 4: کتاب الصلاة في الستر باب 1ح 2.
2- جامع أحاديث الشيعة 1: 353ب 11ح 13.
3- فروع الكافي 5: 533 ع 2، وسائل الشيعة 14: 168ح 2، جامع أحاديث الشيعة 297:20 ب 10ح 2.

تغطّي وجهها ؛ لما ارتكز عنده من عدم وجوب ستر الوجه .

الثاني : اَنّها متى تقنّع للصلاة ؟ والجواب إمّا راجع إلى الأوّل ، أو إلى كليهما ، وفيه تقرير لمرتكز السائل من عدم وجوب ستر الوجه .

وفيه أنّ الرأس يطلق على ما فوق الرقبة ، والوجه داخل في الرأس ،وقد ذكروا في مسألة عدم جواز ارتماس الرأس للصائم أنّ المراد ارتماس تمام ما فوق الرقبة ، ولعلّ السائل أراد تمام ما فوق الرقبة ، ولذا فرّق بينه و بين الصلاة ، وعبّر عن سترها في الصلاة بالتقنّع ، وهو مخصوص بما عدا الوجه ، كما تقدّم في خبر جابر .

فهذا الخبر على عكس مطلوب القائل بجواز کشف الوجه أدلّ.

ولو سلّم إرادة شعر الرأس ، فلعلّه للفرق بين الوجه والرأس ، فإنّ الوجه ربّما يظهر بغير قصد أو لحاجة ، بخلاف الرأس ، ولذا سأل عن الرأس ، وليس نصاًّ ولا ظاهراً في جواز کشف تمام الوجه قصداً و بغير قصد.

وأمّا قوله علیه السلام « حَتَّى تَحْرُمَ عَلَيْهَا الصَّلَاةُ » الظاهر في فعليّة الحرمة برؤيتها دم الحيض، فهو معارض بما دلّ على أن المرأة تغطّي شعرها عن الغلام بعد أن يحتلم ، الشامل للمرأة بعد بلوغها التسع وإن لم تحض ، بل هو معارض للكتاب ، فإنّه يجوز تزويجها بعد التسع بالضرورة قبل أن تحيض، وحينئذ يشملها قوله تعالى«وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ».

ومنها: ما رواه في الفقيه ، عن أحمد بن محمّد بن أبي نصر ، عن الرضا علیه السلام، قَالَ : يُؤْخَذُ الْغُلَامُ بِالصَّلَاةِ وَ هُوَ ابْنُ سَبْعِ سِنِينَ ، وَ لَا تُغَطِّي الْمَرْأَةُ شَعْرَهَا مِنْهُ حَتَّى يَحْتَلِمَ (1).

فإنّه يدلّ على أن المرأة لا تغطّي شعرها ولا وجهها عن الغلام قبل أن يحتلم ، فإذا

ص: 35


1- من لا يحضره الفقيه 3: 436، برقم : 4507، وسائل الشيعة 14: 168ح 3، جامع أحاديث الشيعة 4: 42ب 3ح 4.

احتلم غطّت شعرها عنه ، ولا تستر وجهها ؛ لأنّه لو كان ستره واجباً لوجب ذكره أیضاً.

وفيه أوّلاً : أنّه يحتمل أن يكون الشعر كالصدر والظهر ممّا يجب ستره بحيث لا يبدو أصلاً لا قصداً ولا بغير قصد، لحاجة ولا لغير حاجة ، بخلاف الوجه فإنّه يجب ستره ، لكن ربّما يبدو بلا قصد أو لحاجة .

و ثانياً : لو سلّم فلا يدلّ على جواز کشف تمام الوجه ، بل يدلّ على عدم وجوب تغطية تمام الوجه ، ولعلّه ماعدا العين ، كا دلّ بعض الأخبار على جواز إظهار الكحل .

التاسع : النصوص التي استدلّ بها على جواز نظر الرجل إلى الوجه والكفّين فإنّ جوازه ملازم عرفة لعدم وجوب سترهما على المرأة.

وفيه : أنّه لا ملازمة بينهما ، كما يجوز للرجل كشف وجهه ويديه ، ولا يجوز للمرأةالنظر إليها.

وسيأتي أنّ بعض تلك الأخبار محمول على وقوع النظر إلى وجه المرأة اتفاقاً فيما إذا لم يحرم عليها كشف الوجه واليدين ، كما إذا كانت مُحرمة على إشكال يأتي ، وأنّه يجب عليها الستر أيضاً في حال الإحرام ، أو لم تسترهما لغفلة أو لاعتقاد عدم وجود الأجنبيّ، أو لكونها من أهل الذمّة.

العاشر : النصوص الدالّة على جواز وضع القواعد من النساء جلابيبهنّ وخمرهنّ، فإن ظاهرها المفروغيّة عن جواز کشف الوجه واليدين مطلقا ، وإنّما الفرق بين القواعد وغيرهنّ جواز وضع الخيار للقواعد المستلزم لکشف شعرها . وأمّا جواز کشف الوجه واليدين فهو مشترك بينهنّ.

قلت : يأتي التعرّض لها في موضع آخر من هذه الرسالة .

فتلخّص ممّا ذكر أنّ غاية ما يمكن أن يقال بجوازه مع عدم قوّة هذه الأخبار

ص: 36

وجوب ستر الوجه إلّا العين ، ووجوب ستر الكفت إلآ محلّ الخاتم .

هذا وقد استدلّ على جواز کشف الوجه والكفّين بالسيرة ، فإنّها قائمة على کشفها منذ عهد رسول الله صل الله و علیه وآله وسلم إلى زماننا.

قال في المسالك عند نقل الأقوال أحدها : الجواز مطلقاً على كراهية ، اختاره الشيخ ؛ لقوله تعالى « وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا»وهو مفسّر بالوجه والكقّين ، ولأنّ ذلك ممّا تعمّ به البلوى ، ولاطباق الناس في كلّ عصر على خروج النساء على وجه يحصل منه بدوّ ذلك من غير نكير (1) انتهى.

وفيه ماذكره في الجواهر ، قال : والسيرة والطريقة معارضة بمثلها من المتديّنات والمتديّنين في جميع الأعصار والأمصار (2) انتهى.

ثمّ قال في المسالك : الثاني : التحريم مطلقاً ، اختاره العلامّة في التذكرة لعموم قوله تعالى « وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ» الآية ، ولاتّفاق المسلمين على منع النساء من أن يخرجن سافرات ، ولو حل النظر لنزّلن منزلة الرجال .

وقد تنظّر فيها استدل به العلامّة ، إلى أن قال : ودعوي اتّفاق المسلمين عليه معارض بمثله ، ولو تمّ لم يلزم منه تحريم هذا المقدار ؛ لجواز استناد منعهنّ إلى المروة والغيرة ، بل هو الأظهر ، أو على جهة الأفضليّة ؛ إذ لا شكّ فيها (3) انتهى .

أقول : لم يتمكّن من منع دعوى السيرة على المنع ، بل جعلها معارضة ، وأستظهر كون المنع على الأفضليّة ، والغرض أنّ دعوى السيرة على كشف الوجوه والأيدي غير ثابتة .

نعم قد يظهر من كلام العلامّة في المختلف - في الاستدلال على وجوب ستر

ص: 37


1- المالك 47:7 .
2- جواهر الكلام 29: 80.
3- المسالك 47:7.

الرأس للحرّة في الصلاة وعدم وجوب ستر الوجه - وجود السيرة على كشف الوجه ، قال : ولأنّ الوجه لا يجب ستره با جماع علماء الإسلام ، وكذا الكفّان عندناء؛ لأنّها ليسا بعورة ؛ إذ الغالب كشفهما دائماً ؛ لأنّ الحاجة داعية إلى ذلك للأخذ والعطاء وقضاء المهامّ، وكذا الرجلان ، بل كشفهما أغلب في العادة(1) انتهى .

قوله « لِأَنَّهُمَا لَيْسَا بِعَوْرَةِ » أي : في غير الصلاة ، فلا يكونا عورة في الصلاة : لعدم الفرق بين العورة في غير الصلاة والعورة فيها.

أقول : والقائل بعدم جواز الكشف يدّعي الفرق بين العورة التي يجب سترها في الصلاة وهو ما عدا الوجه والكفّين ، وبين العورة التي لا يجب سترها في غير الصلاة .

فلو سلّم عدم وجوب ستر الوجه والكفّين في الصلاة لإجماع علماء الإسلام ، لكان الوجه فيه أنّها ليسا بعورة في الصلاة .

ثمّ إنّه قد يستشهد للسيرة - المدّعاة على عدم ستر الوجوه - بشواهد من الأخبار الصادرة عن النبي صل الله و علیه وآله وسلم والأئمة المعصومين علیهم السلام:

منها : ما ورد من النهي عن النظر إلى النساء ، والنهي عن النظرة الثانية ، فإنّ هذه الأخبار تكون بلا موضوع لو كانت النساء محجوبات ، أو كان الغالب فيهنّ المجاب.

ومنها: ما عن أمير المؤمنين علیه السلام أنّه قال : يَا أَهْلَ الْعِرَاقِ نُبِّئْتُ أَنَّ نِسَاءَكُمْ يُدَافِعْنَ الرِّجَالَ فِي الطَّرِيقِ ، أَمَّا تَسْتَحْيُونَ.

قال الكليني : وفي حديث آخر : إنّ أمير المؤمنين علیه السلام قَالَ : أَمَّا تَسْتَحْيُونَ وَ لَا تَغَارُونَ نِسَاءَكُمْ يَخْرُجْنَ إِلَى الْأَسْوَاقِ وَ يُزَاحِمْنَ الْعُلُوجَ (2).

ومنها :ما عن أمير المؤمنين علیه السلام أنّه كره السلام على الشابّة . وهو يدلّ على أنّ

ص: 38


1- المختلف 2: 98.
2- فروع الكافي 5: 537 ح 6.

النساء كنّ كاشفات الوجوه وبذلك تتميّز الشابة عن غيرها.

إلى غير ذلك من أمثال هذه الإشعارات من الأخبار ، بل قد يدّعى استفادة ذلك من التواريخ وغيرها.

قلت : وللمناقشة في هذه السيرة بمجال واسع ، فإنّه لا ريب في أنّ النساء يخرجن من بيوتهنّ إلى الحجّ ، وإلى بعض المناسبات الدينيّة وغيرها من حاجاتهنّ ، وإنّما الكلام في انّه يخرجن کاشفات الوجوه والأيدي في زمان النبيّ صل الله و علیه وآله وسلم إلى زماننا .

والمنكر لهذه السيرة يقول : إنّ النساء في بعض البلاد العربيّة و غيرها في عصرنا يخرجن ساترات البدن من جميع جوانبه من الوجه وغيره ، حتّى أنّ بعضهم يلبسن الققازين ، فيسأل عن أنّ هذه الكيفيّة منذ متى بدأت ؟ وفي أيّ زمان حدثت ؟ ومن أحدثها ؟

وهل يمكن لأحد أن يدّعي أنّها حدثت في الأزمنة الأخيرة التي تسرّبت فيها آداب الكفّار وأعرافهم إلى البلاد الإسلاميّة ، أو أنّها كانت من سابق الزمان قد أخذنها من ابن عباس ونظرائه ، حتّى استقرّت عادتهنّ عليها ؟

ففي تفسير ابن كثير قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عبّاس في ذيل آية الجلباب: أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهنّ في حاجة أن يغطّين وجوههنّ من فوق رؤوسهنّ ، ويبدين عيناً واحدة.

وقال محمّد بن سیرین : سألت عبيدة السلماني عن قول الله عزوجل «يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ۚ »فغطّى وجهه ورأسه وأبرز عينه اليسرى ، إلى أن حكى عن أمّ سلمة ، قالت : لمّا نزلت هذه الآية«يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ»خرج نساء الأنصار كأنّ على رؤوسهنّ الغربان من السكينة وعليهنّ أكسية سود يلبسنها(1).

ص: 39


1- تفسير ابن كثير3: 518.

انتهی .

وادّعاء كون سيرة المسلمين من زماننا إلى عهد النبي صل الله و علیه وآله وسلم مطابقة لما يرى في العصر الحاضر ، خصوصاً في بعض البلاد من عدم ستر الوجوه والأيدي ، يحتاج إلى الاطلاّع على أحوال الأزمنة وأهلها .

مع أنّه ينبغي أن يكون الاعتبار بالبلاد التي استمرّت على عادتها وسيرتها من قدیم ، و تكون هي الفدوة في مثل ذلك ، وبها يحكم باتّصالها إلى الأزمنة السابقة ، ولقد كانت المرأة تخرج من دارها ساترة لجميع بدنها ، وأنّ النساء اللاتي من نفس تلك البلاد المتقيّدات بعادتهنّ لا يخرجن مکشّفات الوجوه ، فكيف يمكن القطع بأنّ النساء المتديّنات في زمان المعصومين كنّ يخرجن مكشفات الوجوه؟

ثمّ لا يخفى أنّ سيرة المسلمين تختلف بحسب الأزمنة ، فهي بمنزلة شهرة بعض الفتاوي في زمان دون زمان ، فقد تكون الشهرة على بعضها في وقت ، ثمّ تنقلب إلى ضدّها في وقت آخر ، كما ذكره المحقق النائيني پغ في أوّل رسالته في اللباس المشكوك: من أنّ الشهرة كانت على عدم جواز الصلاة في المشكوك كونه ممّا يؤكل حتّى أفتى السيّد الشيرازي پغ بالجواز ، فانقلبت الشهرة عليه .

وأمّا ما استشهد به من الأخبار على أنّ سيرة المسلمات كانت في عهد المعصومين علیهم السلام كشف الوجوه والأيدي .

فيرد على الأوّل - وهو دلالة النهي عن تكرار النظر على أنّ النساء کنّ مکشّفات الوجوه - بأنّ الإماء لعلّهنّ لم يكنّ يسترن الوجوه .

ففي خبر زرعة بن محمّد ، قال : كان رجل بالمدينة وكان له جارية نفيسة ، فوقعت في قلب رجل وأعجب بها ، فشكى ذلك إلى أبي عبد الله علیه السلام ، قال : تعرّض

ص: 40

لرؤيتها وكلّما رأيتها فقل أسأل الله من فضله الحديث (1).

أو أنّه قد يتّفق كشف وجوههنّ لحاجة ، أو أنهنّ من أهل الذمّة .

أو لعلّ المراد النظر إليهنّ من وراء الثياب ، فلا تصريح في النهي عن النظرة الثانية أّنّها نظرة إلى الوجه . فإنّه قد ورد المدح على عدم النظر في خلف النساء مع الستر في عدّة روايات :

منها : مارواه في الفقيه ، عن هشام وحفص وحمّاد بن عثمان ، عن أبي عبد الله علیه السلام أنّه قال :مَا يَأْمَنُ الَّذِينَ يَنْظُرُونَ فِي أَدْبَارِ النِّسَاءِ أَنْ يُبْتَلَوْا بِذَلِكَ فِي نِسَائِهِمْ (2).

ومنها : مارواه في الكافي ، عن علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن هشام بن سالم ، عن أبي عبد الله علیه السلام قال : أمّا يخشى الذين ينظرون في أدبار النساء أن يبتلوا بذلك في نسائهم (3).

ومنها : ما رواه في الفقيه ، قال أبو بصير للصادق علیه السلام: الرجل تمرّ به المرأة فينظر إلى خلفها، قَالَ : أَيْسَرَ أَنْ يُنْظَرَ إِلَى أَهْلِهِ وَ ذَاتِ قَرَابَتِهِ ؟ قِلَّةُ : لَا ، قَالَ : فَارْضَ لِلنَّاسِ مَا تَرْضَاهُ لِنَفْسِكَ (4)

ومنها : مارواه أيضاً في الفقيه ، عن صفوان بن يحيئ ، عن أبي الحسن علیه السلام في قول الله عزّوجلّ « يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ » قال : قال لها شعيب علیه السلام: يَا بُنَيَّةِ هَذَا قَوِيُّ قَدْ عَرَفْتِيهِ بِدَفْعِ الصَّخْرَةِ ، الْأَمِينُ مِنْ أَيْنَ عَرَفْتِيهِ ؟ قَالَتْ : يا أَبَتِ إِنِّي مَشَيْتُ قُدَّامَهُ ، فَقَالَ : امْشِي مِنْ خَلْفِي ، فَإِنْ ضَلَلْتُ

ص: 41


1- فروع الكافي 5: 559ح 15 ، جامع أحاديث الشيعة 20 : 34ب ح 6.
2- من لا يحضره الفقيه 4: 19 برقم : 4973، جامع أحادیث الشيعة 291:20ب 7ح 1
3- فروع الكافي 5: 553 ح 2، جامع أحاديث الشيعة 20: 291 ح 2.
4- من لا يحضره الفقيه 4: 19 برقم: 4972، جامع أحاديث الشيعة 20 : 291 ح 3.

فأرشديتي إِلَى الطَّرِيقِ ، فَإِنَّا قَوْمُ لَا نَنْظُرُ فِي أَدْبَارِ النِّسَاءِ(1).

هذا مع أنّ النهي المذكور لا يدلّ على أن ذلك كان أمراً شائعاً في المتديّنات الملتزمات بالدين.

ويرد على الثاني - وهو استنکار أمير المؤمنين علیه السلام على أهل العراق -بأنّه لا دلالة فيه على أنّهنّ كنّ مكشّفات الوجوه ، بل النهي ظاهر في أنّه بلغه أنّهنّ يمسّنّ الرجال وإن کنّ ساترات ، فإنّ الوارد في كلتا الروايتين مدافعة الرجال في الطريق كما في الرواية الاُولى - ومزاحمة العلوج في الأسواق - كما في الرواية الثانية ، ولذا وبخ الإمام علیه السلام رجالهنّ على ذلك ، مبيّناً لهم أنّه خلاف الحياء والغيرة.

ويرد على الثالث : أنّ تميّز الشابّة عن غيرها لا يتوقّف على كشف الوجه ، بل يظهر ذلك من طرق أخرى.

ويحتمل أن يكون مسألة كشف الوجه واليدين في عصير الأئمّة محلّ كلام بين العامّة الاعتقاد بعضهم أنّ المراد من « ما ظهر» و الوجه والكفّان ، فلذا سأل رواة الشيعة المعصوم علیه السلام عمّا تظهر المرأة ، فأجابوا بالتضيّق عليهم.

وذلك كما في خبر أبي بصير - المفسّر له «ما ظهر » بالخاتم والمسكة - الدالّ على أنّها تستر وجهها .

وكذا خبر زرارة الدالّ على أنّه الكحل والخاتم ، فإنّه يدلّ على سترها وجهها ماعدا عينها . وكذا خبر أبي الجارود يدلّ على كشف الكحل فقط في الوجه ، بل إنّ ما يجوز لها إظهاره للمحارم لم يكن معلوماً عندهم ، كما تقدّم في خبر فضيل بن يسار ، حيث إنّه سأل عن جواز إظهار الذراعين للمحارم ، فكيف يدّعي بأنّ سيرة المتديّنات كانت على كشف الوجوه ؟!

ص: 42


1- من لا يحضره الفقيه 4: 19 برقم: 4976، جامع أحاديث الشيعة 20: 291ح 5.

القول الثاني

وجوب ستر الوجه والكفّين

وهو قوّي ، كما في الجواهر ، حيث قال : ونصوص الإحرام إنّما هو لحكم الإحرام من حيث إنّ إحرامها في وجهها ، فلا يجوز وضع شيء عليه ، وإن وجب عليها الستر بما لا يمسه(1).

ويستدلّ عليه بالآيات والروايات .

الآيات التي استدل بها على وجوب سترهما

أمّا الآيات التي يمكن الاستدلال بها على وجوب ستر الوجه والكفّين فنذكر آيتين :

الآية الأولى : قوله تعالى «وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ ۖ»(2)الآیة.

تدلّ الآية الشريفة على جواز وضعهنّ ثيابهنّ غير متظاهرات بزينة ، وليس المراد جواز خروجهنّ عاريات ، بل المراد وضعهنّ خمارهنّ أو جلبابهنّ ، أمّا إذا اكتحلن و وشمن خدودهنّ وحمرّن شفاههنّ ونحو ذلك وظهرن بين الرجال فقد تبرّجن بزينة ، وكذلك إن كنّ جميلات بالذات فلا يبعد صدق أنّهنّ يتبرّجن بزينة ؛ لأنّ الزينة مطلقة شاملة للخلقيّة و غيرها ، كما تقدّم بيانه .

وعدم جواز التبرّج لهنّ بالزينة كذلك - مع أنّ زينتهنّ ليست كزينة الشابّة - يدلّ بالأولوية القطعيّة على عدم جواز التبرج بالزينة للشابّة ، وحملها على الزينة الخفيّة الباطنة لا دليل عليه .

وبعبارة أخرى : إظهار المرأة زينتها للرجال محرّم مطلقاً ، وإنّما الفرق بين القاعدة

ص: 43


1- جواهر الكلام 79:29 .
2- النور :60.

من النساء التي لا رجاء لها في النكاح وبين غيرها ، في جواز وضع الجلباب والخمار فقط ، نعم يمكن أن يقال : إنّه لا يدلّ على المنع من كشف الوجه إن لم يكن زينة .

قال الشيخ الطوسي رحمة الله في التبيان في تفسير الثياب : قيل : هو القناع الذي فوق الخمار ، وهو الجلباب والرداء الذي يكون فوق الشعار .

إلى أن قال في تفسير عدم التبرج : أي لا نقصد بوضع الجلباب إظهار محاسنها وما ينبغي لها أن تستره ، والتبرّج إظهار المرأة من محاسنها ما يجب عليها ستره.

إلى أن قال : وإنّما ذكر القواعد من النساء ؛ لأنّ الشابّة يلزمها من التستّر أكثر ممّا يلزم العجوز ، ومع ذلك فلا يجوز للعجوز أن تبدي عورة لغير محرم ، کالساق والشعر والذراع(1) انتهى .

هذا ما يقتضيه بیان معنى الآية من حيث هي في نفسها بغضّ النظر عن الروايات المفترة لها.

وأمّاالأخبار الواردة في معناها ، فهي أصناف :

الصنف الأوّل : ما يدلّ على وضع الجلباب فقط ، وهو صحيح محمّد بن مسلم . عن أبي جعفر علیه السلام في قوله عزّوجلّ «وَ الْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً » ما الذي يصلح لهن أن يضعن من ثيابهن ؟ قال: الجلباب (2).

و حسن محمّد بن أبي حمزة ، عن أبي عبد الله علیه السلام ، قَالَ : الْقَوَاعِدِ مِنَ النِّسَاءِ لَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ ؟ قَالَ : تَضَعُ الْجِلْبَابَ وَحْدَهُ(3).

الصنف الثاني : ما يدلّ على وضع الجلباب والحمار ، وهو حسن الحلبي ، عن أبي عبد الله علیه السلام أنّه قرأ « َنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ» قال : الخمار والجلباب ، قلت : بين يدي

ص: 44


1- التبيان 7: 461.
2- فروع الكافي 5: 522ح 3، جامع أحادیث الشيعة 20: 288 ح 7.
3- فروع الكافي 5: 522ح 2، جامع أحاديث الشيعة 20: 288 ح 8.

مَنْ كَانَ ؟ فَقَالَ : بَيْنَ يَدَيْ مَنْ كَانَ غَيْرَ مُتَبَرِّجَةٍ بِزِينَةٍ ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَهُوَ خَيْرُ لَهَا ، والزينةالتي يبدین لَهُنَّ شَيْ ءُ فِي الْآيَةِ الأخرين (1).

قال العلامّة المجلسي رحمة الله في مرآة العقول : أي شيء ثبت لهنّ جوازه في الآية الاُخرى ، وهو قوله عزّوجلّ «إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا» فإنّ ما سوى ذلك داخل في النهي عن التبرّج بها ، ولا يبعد أن يكون « لهنّ » تصحيف هي(2) انتهي.

الصنف الثالث : ما دلّ على التفصيل بين الأمة والحرّة ، وهو خبر أبي الصباح الكناني ، قَالَ : سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام عَنِ الْقَوَاعِدِ مِنَ النِّسَاءِ مَا الَّذِي يَصْلُحُ لَهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ مِنْ ثِيَابِهِنَّ ؟ فَقَالَ : الْجِلْبَابَ إِلَّا أَنْ تَكُونَ أَمَةً فَلَيْسَ عَلَيْهَا جُنَاحُ أَنْ تَضَعَ خِمَارَهَا (3).

أو بين الشابّة والمسنّة ، وهو حسن حریز بن عبد الله ، عن أبي عبدالله علیه السلام أنّه قرأ « أَنْ يَضَعْنَ - مِنْ - ثِيابَهُنَّ » قَالَ : الْجِلْبَابَ وَ الْخِمَارَ إِذَا كَانَتِ الْمَرْأَةُ مُسِنَّةً(4) .

ويمكن أن يجعل الصنف الثالث شاهد جمع للصنفين الأوّلين ، أي : تضع الخمار والجلباب إن كانت أمة ، أو مسنّة . وأمّا المرّة القاعدة عن النكاح ، فهي تضع الجلباب فقط.

الآية الثانية : قوله تعالى « قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ۚ ذَٰلِكَ أَدْنَىٰ أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ ۗ»(5)

الإدناء هو النقريب . قال في المصباح : دنا منه وإليه يدنو دنواً قرب ، وأدنيت

ص: 45


1- فروع الكافي 522:5 ح 1 ، جامع أحادیث الشيعة 20: 288 ح 9.
2- مرآة العقول20: 345.
3- تهذیب الأحكام 7:480 ح 136 ، جامع أحاديث الشيعة 20: 288 - 289ح 12.
4- فروع الكافي 5: 522ح 4، جامع أحاديث الشيعة 20 : 289 ح 13.
5- الأحزاب : 59.

الستر أرخيته(1).

والجلباب كما في المصباح المنير : ثوب أوسع من الخمار ودون الرداء . وقال ابن فارس : الجلباب ما يغطّى به من ثوب وغيره ، والجمع الجلابيب (2) انتهی .

وقال الأزهري في تهذيب اللغة : قال ابن السكّيت : قالت العامريّة :الجلباب الخمار ، وقيل : جلباب المرأة ملاءتها التي تشتمل بها ، وقال الليث : الجلباب ثوب أوسع من الخمار دون الرداء تغطّي به المرأة رأسها وصدرها ، قال أبو العبّاس : قال ابن الأعرابي : الجلباب الإزار ، قال أبو عبيد : ومعنى قول ابن الأعرابي الجلباب الإزار ولم يرد به إزار الحقو ، ولكنّه أراد به الإزار الذي يشتمل به فیجلّل جميع الجسد (3) انتهى ملخصاً.

وقال في المفردات : الجلابيب القمص والخمر ، الواحد جلباب (4) انتهى .

وقال في المقاييس : الأصل الثاني الجلبة جلدة تجعل على القتب ، و من هذا اشتقاق الجلباب وهو القميص (5).

وقال في التبيان : فالجلابيب جمع جلباب ، وهو خمار المرأة ، وهي المقنعة تغطّي جبينها ورأسها إذا خرجت لحاجة ، بخلاف خروج الاماء اللاتي يخرجن مكشّفات الرؤوس والجباه في قول ابن عبّاس ومجاهد ، وقال الحسن : الجلابيب الملاحف تدنيها المرأة على وجهها(6).

ص: 46


1- المصباح المنير ص 201.
2- المصباح المنير ص104.
3- تهذيب اللغة 93:11 .
4- مفردات الراغب ص 95.
5- مقاییس اللغة 1: 469.
6- التبيان 8: 359.

وقال النيشابوري : يدنين عليهنّ برخين عليهنّ ، يقال للمرأة إذا زال الثوب عن وجهها : أدني ثوبك على وجهك ، ومعنى التبعيض في « من جلابيبهنّ» و أن يكون للمرأة جلابیب و فتقتصر على واحد منها ، أو أريد طرف من الجلباب الذي لها وكانت النساء في أوّل الاسلام على عادتهنّ في الجاهليّة مبتذلات يبرزن في درع وخمار من غير فصل بين الحرّة والأمة ، فاُمرن يلبسن الأردية والملاحف وستر الرأس والوجوه(1) انتهى.

قال الطبري : ثمّ اختلف أهل التأويل في صفة الإدناء الذي أمرهنّ الله به ، فقال بعضهم : هو أن يغطّين وجوههنّ ورؤوسهنّ ، فلا يبدين إلا عيناً واحدة ، ثمّ نقل ذلك بإسناده عن ابن عبّاس وعن عبيدة ، وقال آخرون : بل اُمرن أن يشددن جلابيبهنّ على جباههنّ ، ثمّ نقل ذلك عن ابن عبّاس ، وحكي عن ابن قتادة أن يقنعن على الحواجب انتهى.

وقال البيضاوي : يغطّين وجوههنّ وأبدانهنّ بملاحقهنّ إذا برزن الحاجة و « من » للتبعيض ، فإنّ المرأة ترخي بعض جلبابها وتتلفّع ببعض(2) انتهي.

قيل : لا يستفاد من الآية كيفيّة الستر، والمتكفّل لبيان کيفيّته الآية الشريفة في سورة النور ، وحيث إنّ هذه الآية نزلت بعد سورة النور فيفهم منها أنّه تأكيد للعمل ما بيّنته الآية في سورة النور .

قلت : يظهر من بعض الأخبار والكلمات أنّ الجلباب غير الخمار ، فتدلّ الآية على اعتبار الجلباب زائداً على الخمار ، والخمار لم يكن ساتراً للوجه ، والأحكام كانت تنزل تدريجاً.

فهذه الآية لو كانت نازلة بعد آية النور لأمكن القول بأنّها تدلّ على اعتبار

ص: 47


1- تفسير النيشابوري المطبوع على هامش تفسير الطبري 320:20 .
2- تفسير البيضاوي 2: 280.

الجلباب ، وهو ساتر للوجه أيضاً ، وكما أنّه ساتر مجموع الأعضاء التي تظهر مع المغار.

ويحتمل أن يكون قوله تعالى « ذلِكَ أُدْنِي» من فوائد ذلك لا علّة يدور مداره الحكم.

الأخبار الدالة على وجوب ستر الوجه

وأمّا الأخبار الواردة في وجوب الستر ، فهي على طوائف :

الطائفة الأولى : ما تدلّ على وجوب الستر .

منها : ما رواه في الكافي ، عن أبي علي الأشعري ، عن محمّد بن عبد الجبّار ، عن صفوان ، عن عيص بن القاسم ،قَالَ : قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام : الْمَرْأَةُ الْمُحْرِمَةُ تَلْبَسُ مَا شَاءَتْ مِنَ الثِّيَابِ غَيْرَ الْحَرِيرِ وَ الْقُفَّازَيْنِ وَكْرِهِ النِّقَابِ ، وَ قَالٍ : تَسْدُلُ الثَّوْبَ عَلَى وَجْهِهَا . قِلَّةُ : حَدُّ ذَلِكَ إِلَى أَيْنَ ؟ قَالَ : إِلَى طَرَفِ الْأَنْفِ قَدْرَ مَا تُبْصِرُ (1).

ومنها: ما رواه فيه أيضاً ، عن علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن حمّاد ، عن الحلبي عن أبي عبد الله علیه السلام، قَالَ : مَرَّ أَبُو جَعْفَرٍ علیه السلام بِامْرَأَةٍ مُتَنَقِّبَةٍ وَ هِيَ مُحْرِمَةُ ، فَقَالَ : أَحْرِمِي وَ أَسْفِرِي وَ أَرْخِي ثَوْبَكِ مِنْ فَوْقِ رَأْسِكِ ، فَإِنَّكِ إِنْ تَنَقَّبْتِ لَمْ يَتَغَيَّرْ لَوْنُكِ ، قَالَ رَجُلُ : إِلَى أَيْنَ تُرْخِيهِ ؟ قَالَ : تُغَطِّي عَيْنَهَا ، قَالَ : قِلَّةُ : تَبْلُغَ نها ؟ قَالَ : نَعَمْ(2).

التنقّب أن تغطّي وجهها بالنقاب ، قيل : تشدّه من الأسفل إلى العين .

وقال الأزهري : النقاب على وجوه ، يقال : فلان حسنة النقية والنقاب ، وقال أبو عبيد : قال الفرّاء : إذا أدنت المرأة نقابها إلى عينها فتلك الوصوصة ، فإن أنزلته دون ذلك إلى المحجر فهو النقاب ، فإن كان على طرف الأنف فهو اللفام ،ثعلب عن

ص: 48


1- فروع الكافي 4: 344 ح 1، جامع أحاديث الشيعة 11: 38ح 12.
2- فروع الكافي 4: 344ح 3، جامع أحاديث الشيعة 101:11 ح 6.

ابن الأعرابي فلان میمون النقيبة ، والنقيبة أي اللون ، ومنه سمّي نقاب المرأة لأنّه يستر نقابها أي لونها بلون النقاب(1).

ومنها : مارواه في الفقيه ، عن حریز ، قال : قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام : الْمُحْرِمَةُ تَسْدُلُ الثَّوْبَ عَلَى وَجْهِهَا إِلَى الذَّقَنِ (2).

ومنها : ما رواه فيه أيضاً ، عن زرارة ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام : إِنَّ الْمُحْرِمَةَ تَسْدُلُ ثَوْبَهَا إِلَى نَحْرِهَا(3).

ومنها : ما رواه فيه أيضاً بإسناده ، عن معاوية بن عمّار ، عن أبي عبد الله علیه السلام أنّه قَالَ : تَسْدُلُ الْمَرْأَةُ الثَّوْبَ عَلَى وَجْهِهَا مِنْ أَعْلَاهَا إِلَى النَّحْرِ إِذَا كَانَتْ رَاكِبَةً (4).

وروى بإسناده عن سماعة ، عن أبي عبد الله علیه السلام أنّه سأله عن المحرمة، فَقَالَ : إِنْ مَرَّ بِهَا رَجُلُ اسْتَتَرَتْ مِنْهُ بِثَوْبِهَا وَ لَا تَسْتَقِرُّ بِيَدِهَا مِنَ الشَّمْسِ (5).

وحملت بعض هذه الأخبار على جواز الستر لا وجوبه ، بقرينة ما رواه في الكافي، عن علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن حمّاد بن عيسى ، عن عبد الله بن میمون ، عن جعفر ، عن أبيه ، قَالَ : الْمُحْرِمَةُ لَا تَتَنَقَّبُ ؛ لِأَنَّ إِحْرَامَ الْمَرْأَةِ فِي وَجْهِهَا ، وَ إِحْرَامَ الرَّجُلِ فِي رَأْسِهِ (6). حيث لم يبيّن فيه وجوب ستر الوجه.

وفيه نظر ؛ لأنّه لا يدلّ على عدم وجوب ستر الوجه ، بل كما تقدّم في حسن الحلبي أنّها لا تتنقّب وترخي الستر على وجهها .

ص: 49


1- تهذيب اللغة 198:9 - 199. ولاحظ لسان العرب 1: 768.
2- من لا يحضره الفقیه 2: 342 برقم: 2688، جامع أحاديث الشيعة 110101ح1.
3- من لا يحضره الفقیه 2: 356 برقم: 2688، جامع أحاديث الشيعة 101:11 ح 2.
4- من لا يحضره الفقیه 2: 342 برقم : 2626، جامع أحاديث الشيعة 101:11 ح 3.
5- من لا يحضره الفقيه 2: 344 برقم : 2635، جامع أحاديث الشيعة 11 : 39 ح 16
6- فروع الكافي 4: 346 ح 7، جامع أحاديث الشيعة 102:11 ح 8.

وما رواه في الكافي ، عن عدّة من أصحابنا ، عن سهل بن زیاد ، عن أحمد بن محمّد - بن أبي نصرخ - عن أبي الحسن علیه السلام، قَالَ : مَرَّ أَبُو جَعْفَرٍ بِامْرَأَةٍ قَدِ اسْتَتَرَتْ بِمِرْوَحَةٍ ، فَأَمَاطَ الْمِرْوَحَةَ بِقَضِيبِهِ عَنْ وَجْهِهَا (1).

قلت : لعلّ ما حكاه أبو الحسن علیه السلام عن أبي جعفر علیه السلام متّحد مع ما حكاه أبو عبد الله علیه السلام عنه علیه السلام في حسن الحلبي السابق ، ولم ينقل أبو الحسن علیه السلام ذيله ، وهو قوله «أَحْرِمِي وَ أَسْفِرِي وَ أَرْخِي ثَوْبَكِ مِنْ فَوْقِ رَأْسِكِ ، فَإِنَّكِ إِنْ تَنَقَّبْتِ لَمْ يَتَغَيَّرْ لَوْنُكِ ، قَالَ رَجُلُ : إِلَى أَيْنَ تُرْخِيهِ ؟ قَالَ : تُغَطِّي عَيْنَهَا ، قَالَ : قِلَّةُ : تَبْلُغَ فَهَا ؟ قَالَ : نَعَمْ » مع أنّ في سند الخبر سهل بن زیاد ، ولعلّ سند خبر الحلبي أقوى ، وتعدّد الواقعة ممكن ، لكن احتمال وحدتهاغير بعيد .

و منع في الجواهر عن دلالة هذه الأخبار على جواز کشف الوجه ، حيث قال : ونصوص الإحرام إنّما هو الحكم الإحرام من حيث إن إحرامها في وجهها ، فلا يجوز وضع شيء عليه ، وإن وجب عليها الستر بما لا يمسّه ، كما هو المتعارف الآن في إحرام النساء المتديّنات(2) انتهي.

قلت : يحرم على المرأة التنقّب ، وهو أن تلصق ثوباً أو مروحة بوجهها، وهو غير إلقاء الثوب على الوجه .

ومن الغريب ما عن بعض أنّه لم ينقل تمام خبر الحلبي ، وهو أنّ أبا جعفر علیه السلام أمرها أن ترخي ثوبها على وجهها .

ومنها : ما رواه في التهذيب في الصحيح ، عن محمّد بن الحسن الصفّار ، قال : كتبت إلى الفقيه علیه السلام في رجل أراد أن يشهد على امرأة ليس لها بمحرّم ، هل يجوز له أن يشهد عليها وهي من وراء الستر، ويسمع كلامها إذا شهد رجلان عدلان أنّها

ص: 50


1- فروع الكافي 4: 346ح 9، جامع أحاديث الشيعة 102:11 ح 9.
2- جواهر الكلام 79:29 .

فلانة بنت فلان التي تشهدك وهذا كلامها ، ولا يجوز له الشهادة عليها حتّى تبرز ويثبتها بعينها؟ فوقّع علیه السلام : تنقّب وَ تَظْهَرُ لِلشُّهُودِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ (1).

أقول : هكذا في الطبع القديم والجديد من التهذيب ، ويحتمل أن يكون « أو » بدل الواو في قوله « وَ لَا يَجُوزُ لَهُ الشَّهَادَةُ » .

وناقش في دلالته الشيخ الأنصاري پغ باحتمال كون الأمر بالتنقّب من جهة إباء المرأة عن التكشّف ؛ لكونها متستّرة مستحية عن أن تبرز للرجال ، فإنّ ذلك ممّا يشقّ على كثير من النساء ، وإن كان جائزاً ؛ إذ ربّ جائز یشقّ من جهة الغيرة والمروة، ثمّ استشهد بنظير ذلك إلى آخر ما أفاد(2).

قلت : هذا الاحتلال وإن كان وارداً ، لكن رفع اليد عن ظاهر الخبر في تعيّن التنقّب والظهور للشهود يحتاج إلى قرينة أو انصراف ، ولم يثبت شيء منها.

قيل : إنّ هذا الخبر يلاثم ما ورد من جواز إظهارها الكحل ؛ لأنّ التنقّب يكون من الأسفل إلى العينين .

ثمّ إنّه يمكن تقييد الخبر بما إذا تحقّقت الشهادة بظهورها متنقّبة ، وأمّا إذا لم يكن واضطرّ إلى النظر إلى وجهها أسفرت عن وجهها.

وعليه يحمل ما رواه في التهذيب عن أحمد بن محمّد ، عن أخيه جعفر بن عیسی ، عن ابن يقطين ، عن أبي الحسن الأوّل علیه السلام، قال : لا بأس بالشهادة على اقرار المرأة وليست بمسفرة إذا عرفت بعينها ، أو حضر من يعرفها ، فأمّا إن كانت لا تعرف بعينها ولا يحضر من يعرفها ، فلا يجوز للشهود أن يشهدوا عليها وعلى اقرارها دون أن تسفر وينظرون إليها(3) .

ص: 51


1- تهذيب الأحكام 6: 255 ح 71، و 2: 78 الطبع الحجري .
2- كتاب النكاح للشيخ الأنصاري ص 51.
3- تهذيب الأحكام 6: 255 ح 70.

وقوله «أَوْ حَضَرَ مَنْ يَعْرِفُهَا » محمول على من يعرفها ويحصل العلم من قوله .

ومن طريق العامّة روى أبو داود بسنده عن عائشة ، قالت : كان الركبان يمرّون بنا ونحن مع رسول الله صلی الله و علیه وآله وسلم مُحرمات ، فاذا حاذوا بنا سدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها ، فإذا جاوزنا كشفناه(1).

الطائفة الثانية : الأخبار المؤيّدة لوجوب الستر، وهي ما دلّت على أنّها عورة .

منها : ما رواه في الكافي ، عن علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن هشام بن سالم ، عن أبي عبد الله علیه السلام، قال : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلی الله و علیه وآله وسلم : النِّسَاءُ عِيُّ وَ عَوْرَةٍ ، فَاسْتُرُوا الْعَوْرَاتِ بِالْبُيُوتِ ، وَ اسْتُرُوا الْعِيَّ بِالسُّكُوتِ (2).

ومنها : ما رواه فيه أيضاً عن عدّة من أصحابنا ، عن أحمد بن أبي عبد الله ، عن عثمان بن عيسى ، عن ساعة ، عن أبي عبد الله علیه السلام، قَالَ : اتَّقُوا اللَّهَ فِي الضَّعِيفَيْنِ ، يَعْنِي بِذَلِكَ الْيَتِيمَ وَ النِّسَاءَ وَ إِنَّمَا هُنَّ عَوْرَةُ (3).

ومنها: ما رواه في الكافي أيضاً ، عن علي بن إبراهيم [ عن أبيه] عن هارون بن مسلم، عن مسعدة بن صدقة ، عن أبي عبد الله علیه السلام ، قال : قال أمير المؤمنين علیه السلام : لا تبدؤوا النِّسَاءِ بِالسَّلَامِ ، وَ لَا تَدْعُوهُنَّ إِلَى الطَّعَامِ ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صلی الله و علیه وآله وسلم قَالَ : النِّسَاءُ عِيُّ وَ عَوْرَةٍ ، فَاسْتُرُوا عِيَّهُنَّ بِالسُّكُوتِ ، وَ اسْتُرُوا عَوْرَاتِهِنَّ بِالْبُيُوتِ (4).

العورة هي النقص الذي ينبغي عدم ظهوره ، و تطلق على سوأة الرجل والمرأة ، لكّنه غير مراد في هذه الأخبار ، بل المراد منها في هذه الأخبار ما لا ينبغي أن يظهر للناس ، بقرينة المقارنة مع العيّ.

ص: 52


1- سنن أبي داود 2: 167 .
2- فروع الكافي 5: 535 ج 4، جامع أحاديث الشيعة 20: 262 ح 6.
3- فروع الكافي 5: 511 ح 3، جامع أحاديث الشيعة 20: 247 ح 16.
4- فروع الكافي 5: 534 - 535 ج 1، جامع أحاديث الشيعة307:20 ب 18ح 2.

قال في المصباح المنير : عورت العين نقصت أو غارت ، فالرجل أعور والأنثى عوراء . ومنه قيل كلمة عوراء لقبحها ، وقيل : السوأة عورة لقبح النظر إليها ، وكلّ شيء يستره الإنسان أنفة أو حياءً فهو عورة ، والنساء عورة ، والعورة في الثغر والحرب خلل يخاف منه(1) انتهي .

والعورة بهذا المعنى ليست ممّا يجب سترها في الصلیاة ، بل سترها یکون في البيوت ، ولم أجد في الأخبار الواردة في ستر المرأة في الصلیاة أنّها عورة ، فلا ربط بالستر في البيوت بمسألة السير في الصلیاة.

وهذه الروايات مطلقة تشمل كلّ مكان وكلّ زمان ، وهذه التأكيدات لا تجتمع مع جواز مخالطتهنّ للأجانب ، وهنّ يبدين وجوههنّ وأكفّهنّ ويتحدّثن مع الرجال، ويدخلن في مشاغل الرجال العامّة .

الطائفة الثالثة : ما دلّت على حسبهنّ في البيوت، كخبر عبد الرحمن بن سبابة ، عن أبي عبد الله علیه السلام قَالَ : إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ حَوَّاءَ مِنْ آدَمَ ، فَهِمَّةُ النِّسَاءِ بِالرِّجَالِ ، فَحَصِّنُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ (2).

وخبر الواسطي عن أبي عبد الله علیه السلام، قَالَ : إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ علیه السلام مِنَ الْمَاءَ وَ الطِّينُ ، فَهِمَّةُ ابْنِ آدَمَ فِي الْمَاءِ وَ الطِّينِ ، وَ خَلَقَ حَوَّاءَ مِنْ آدَمَ ، فَهِمَّةُ النِّسَاءِ فِي الرِّجَالِ ، فَحَصِّنُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ (3).

و خبر غیاث بن إبراهيم ، عن أبي عبد الله علیه السلام، قَالَ : إِنَّ الْمَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنَ الرَّجُلِ ، وَ إِنَّمَا هِمَّتُهَا فِي الرِّجَالِ ، فَاحْبِسُوا نِسَاءَكُمْ ، وَ إِنَّ الرَّجُلَ خُلِقَ مِنَ الْأَرْضِ وَ إِنَّمَا

ص: 53


1- المصباح المنير ص 437.
2- فروع الكافي 5: 337ح 3، جامع أحاديث الشيعة 20: 261 ح 1.
3- فروع الكافي 5: 337ح 4، جامع أحاديث الشيعة 20: 261ح 2.

همته في الأرض (1).

ومن تتبّع يجد شواهد في الأخبار والتواريخ على مطلوبية الستر من المرأة .

قال في النهاية : وفي حديث أمّ سلمة قالت لعائشة : «حماديات النِّسَاءِ ، غَضَّ الْأَطْرَافِ » أرادت قبض اليد والرجل عن الحركة والسير ، يعني تسكين الأطراف وهي الأعضاء (2) انتهى .

قلت : وبعد قوله « غضّ الأطراف » هكذا : وضمّ الذيول ، وقصر الوهاد .

حكم النظر إلى وجه الأجنبية وكفّيها

قال في العروة الوثقى : لا يجوز النظر إلى الأجنبيّة ، ولا للمرأة النظر إلى الأجنبيّ من غير ضرورة ،واستثنى جماعة الوجه والكفّين ، فقالوا بالجواز فيهما مع عدم الريبة والتلذّذ ، وقيل بالجواز فيها مرّة ، ولا يجوز تكرار النظر ، والأحوط المنع مطلقاً(3).

أقول : مسألة جواز نظر الرجل إلى الوجه والكفّين من المرأة الأجنبيّة غير مسألة عدم وجوب سترهما على المرأة ، فيمكن أن لا يجب عليها الستر ، ولا يجوز للأجنبيّ أن ينظر إليهما ، كما لا يجب على الرجل ستر الوجه والكفّين ، ولا يجوز للمرأة النظر إليهما . نعم الظاهر أنّ وجوب الستر على المرأة يستلزم حرمة النظر على الرجل .

ثمّ إنّ النظر إلى الأجنبية ، حرّة كانت أو أمة مسلمة كانت أو غير مسلمة ، تارة يكون عمديّاً بغير تلذّذ ، أو بتلذّذ أي مع الشهوة الحيوانيّة ، أو بتلذّذ من غير شهوة ،

ص: 54


1- علل الشرایع ص 498ب 251.
2- نهاية ابن الأثير 3: 120.
3- العروة الوثقی ، کتاب النکاح ، المسألة : 31.

كنظر الأب إلى بنته الحسناء متلذذاً ، واُخرى يكون اتّفاقيّاً لا يتعقّبه تلذّذ ، أو يتعقّبه تلذّذ جنسيّ أو غيره .

ثمّ إنّ من يخرج من بيته إلى الشوارع والأسواق تارة يعلم بوقوع نظره إلى الأجنبيّات مع تحفّظه على عدم النظر العمدي ، واُخرى يقطع بعدمه لكن يتّفق وقوع نظره إليهنّ بعد خروجه ، وثالثة يشكّ في ذلك مع كونه في معرض ذلك ، أو لا يكون في معرضه .

هذا كلّه في النظر لا بقصد التزوّج من الحرّة أو شراء الأمة ولا لضرورة ، فهاهنا مسائل :

حكم النظر إليهما من دون تلذّذ وريبة

المسألة الأولى : في جواز نظر الرجل إلى الوجه والكفّين من المرأة الأجنبية من دون تلذّذ ولا ريبة أقوال : عدم الجواز ، والجواز ،والتفصيل بين المرّة والتكرار .

القول الأوّل : عدم جواز النظر ، وهو قوّي ، كما في الجواهر ، حيث قال : فلا ريب في أنّ ترك النظر أحوط وأقوي(1).

ويستدلّ عليه بموضعين من الآية الكريمة في سورة النور :

الموضع الأول : قوله تعالى «قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ »(2)الغضّ هو الخفض والنقص ، فإذا أنقص من بصره ورؤيته بحيث لم تصلی رؤيته إلى الشيء يقال غضّ من بصره : إمّا بإطراق العين ، أو برفعه إلى السماء ، أو بإطباق الجفنين . وكذلك غضّ الصوت هو نقصه بمقدار لا يصلی صوته إلى بعيد .

قال في المفردات : الغضّ النقصان من الطرف والصوت وما في الإناء ، يقال :

ص: 55


1- جواهر الكلام 29 : 80.
2- النور : 30.

غضّ وأغضّ و غضضت السقاء نقصت ممّا فيه(1).

وقال في المقاييس : أصلیان يدلّ أحدهما على كفّ و نقص ، والآخر على طراوة ،فالأوّل الغضّ : غضّ البصر ، وكل شيء كففته فقد غضضته(2).

وقال في النهاية : في الحديث «کانَ إِذَا خَرَجَ غَضَّ طَرْفَهُ

» أي : كسره وأطرق ولم يفتح عينه ، وإنّما كان يفعل ذلك ليكون أبعد من الأسر والمرح، ومنه حديث أمّ سلمة «حَماديّاتُ النِّسَاءِ غَضَّ الْأَطْرَافِ » في قول القتيبي ، ومنه قصيد كعب :

وما سعاد غداة البين إذ رحلوا إلّآ أغنّ غضيض الطرف مکحول

هو فعيل بمعنى مفعول ، وذلك إنّما يكون من الحياء والحفر ، وفي حديث العطاس « كَانَ إِذَا عَطَسَ غَضَّ صَوْتَهُ » أي : خفضه ولم يرفعه بصيحة . وفي حديث ابن عبّاس « لَوْ غَضَّ النَّاسُ فِي الْوَصِيَّةِ مِنَ الثُّلُثِ » أي : لو نقصوا وحطّوا(3).

وقال في أساس البلاغة : اغضض من صوتك اخفض منه ، وغضّ طرفك وطرف غضيض و غضّ من لجام فرسك ، أي : صوبه وطأمنه لتنقص من عزبه ، واغضض لي ساعة ، أي : أحبس على مطيّتك و قف عليّ(4).

وقال في الصحاح : غضّ طرفه أي : خفضه ، وغضّ من صوته وكلّ شي كففته فقد غضضته . وانغضاض الطرف انغماضه ، وغضّ منه يغض بالضمّ إذا وضع ونقص من قدره ، يقال : ليس عليك في هذا الأمر غضاضة ، أي : ذلّة ومنقصة (5).

وقال في الجمهرة : غضّ بصره یغضّه غضّاً إذا أطرق وضمّ أجفانه ، وليس عليك

ص: 56


1- مفردات الراغب ص 366.
2- مقاییس اللغة 4: 383.
3- نهاية ابن الأثير 3: 371.
4- أساس البلاغة ص 451.
5- صحاح اللغة 3: 1095.

من هذا الأمر غضاضة . أي : ما تغضّ له طرفك (1).

أقول : الغضّ هو النقص من كلّ شيء بحسبه ، و متعلّقه في الآية الشريفة البصر ،وهي الجارحة المخصوصة بملاحظة رؤيتها الشيء ، وغضّ البصر هو إطراقه بحيث ينقص من إبصاره ، ولا يصلی إبصاره إلى الشيء ، و مثل الإطراق رفع البصر إلى السماء ونحو ذلك ، بحيث لا يرى الشيء لا مستقلاً ولاتبعاً ، فإذا كان بينه وبين الشيء المرئي مسافة عشرة أمتار ، فنقص الإبصار هو أن تصلی رؤيته إلى خمسة أمتار مثلاً ، فإنّه قد نقص من إبصاره.

والفرق بين الغضّ والغمض أنّ الغضّ نقص الإبصار ، فهو أعمّ من الغمض ، فإنّه إطباق الجفنين فقط ، وما أوجب الله سبحانه غمض العين ؛ لأنّ الإنسان لابدّ أن يمشي ويرئ طریقه فلذا أمربالغضّ ، وهذا المعنى مستفاد من الأخبار .

فالغضّ هو نقص البصر عن إبصاره ، كغضّ الصوت الذي هو خفض الصوت . ونقصه يكون بعدم إيصال نظره إلى الأجنبية . هذا ما يستفاد من معنى الغضّ في اللغة وموارد الاستعمال . وقوله في الجمهرة «غَضَّ بَصَرَهُ يغضّه غضاًّ إِذَا أَطْرَقَ وَضَمٍ أجفانه » لعلّه يريد بيان المصداق ، وإلّا فلا يعتبر فيه الإطراق .

لكن قيل : إنّ الغضّ بمعنى تنقيص الإبصار وعدم التحديق ، ويعبّر عنه بترك النظر الاستقلالي ، فإنّ من ينظر إلى غيره تارة ينظر إليه ليري لباسه وشمائله و شعره، فالنظر إليه يكون استقلاليّاً ، وتارة يتكلّم معه ويخاطبه ، والمخاطبة تستلزم رؤيته ، فالنظر إليه يكون آليّاً ، فيصدق معه الغضّ ؛ لأنّه ترك النظر الاستقلالي .

واستشهد لذلك بما ذكره قبل هذا، من خطبة علي علیه السلام « ارْمِ بِبَصَرِكَ أَقْصَى الْقَوْمِ وَ غُضَّ بَصَرَكَ »(2) قال : إنّ معناه أنّه يرئ آخر محل القوم، ولا يتحدّق في النظر إلى

ص: 57


1- جمهرة اللغة 1: 104 .
2- نهج البلاغة ، الخطبة : 11.

نقطة معيّنة.

ومثله قوله في الخطبة « غضّوا الأبصار ، فإنّه أربط للجأش ، وأسكن للقلوب ،وأميتوا الأصوات فإنّه أطرد للفشل (1).

فمعنى الغض ترك التحديق . وفي الاصطلاح : ترك النظر الاستقلالي .

وقال في مجمع البيان في ذيل الآية التي في سورة النور : أصلی الغضّ النقصان(2) .

وقال في ذيل الآية في سورة الحجرات : غضّ بصره إذا أضعفه عن حدّة النظر (3). ومثله قال الراغب في المفردات انتهي ملخصاً.

قلت : ما استظهره من ذلك ليس على ما ينبغي ؛ لأنّ النظر الاستقلالي والآلي لا فرق بينهما في عدم نقصان الإبصار ، فمن تكلّم مع المرأة الأجنبيّة ناطراً إليها ليتكلّم معها لم ينقص من بصره شيئاً.

والمراد من قوله علیه السلام « ارْمِ بَصَرَكَ أَقْصَى الْقَوْمِ وَ غُضَّ بَصَرَكَ » إنّما المعنى المجازي ، بأن يكون المراد لا يهولنّك منهم هائل ، وإمّا المعنى الحقيقي - كما هو الظاهر في الخطبة الأخرى بقرينة ما بعده - بأن يكون المراد عدم فتح العين بحيث يرئ أكثر من الحاجة .

والمعنى الحقيقي هو المناسب هنا ؛ لأنّ القوّى المحسوسة لو استعملت أكثر من حاجتها كالتكلّم الزائد والإبصار الزائد تؤثّر في تشتّت القلب والفكر ، فلذا ينبغي أن يقتصر على رؤية مقدار الحاجة.

ومما يدلّ على عدم الفرق بين النظر الآلي والاستقلالي أنّه لا ينبغي الريب في حرمة النظر إلى العورة بالنظر الآلي ، بأن يتكلّم مع شخص عار ناظراً إلى صدره

ص: 58


1- نهج البلاغة ، الخطبة : 222.
2- مجمع البيان 4: 137.
3- مجمع البيان 5: 129.

مثلاً استقلالاً ، فيكون حوالیه منظورة بالنظر الآلي .

وبناء على جواز التكلّم مع المرأة الأجنبيّة ، فلا ريب في أنّه لو تكلّم معها كاشفة رأسها بحيث يكون النظر إليها آلياً لم يجز ذلك.

وقد تلخّص أنّ هذا المعنى غير موافق للّغة وموارد الاستعمال ، وظهر أنّ المعني الحقيقي للغضّ هو نقص الإبصار بعدم إيصال الرؤية.

وقد يقال : إنّ المعنى الحقيقي للغضّ هو إطباق الجفون ، ولكن حيث إنّ المراد بالغضّ في الآية الكريمة ليس معناه الحقيقي يقيناً ، إذ لا يجب على الرجل أن يطبق جفنيه ، فالمراد به معناه المجازي ، و هو صرف النظر عن المرأة غير الزوجة والمملوكة وفرضها کالعدم .

وبعبارة أخرئ : إنّ غضّ البصر جعل الشيء مغفولاً عنه ، وعدم الطمع فيه بالمرّة والانصراف عنه .

والاستشهاد بخبر سعد الإسكاف الآتي قريباً - على أنّ المراد بالغضّ ترك النظر - في غير محله ؛ لأنّ مورد الخبر صورة التلذّذ والاستمتاع بالنظر إلى المرأة، وهي مشمولة للآية الكريمة بلا إشكال ، إلا أنّها أجنبيّة عمّا نحن فيه ، حيث إنّ كلامنا في النظر المجرد عن التلذّذ لا مطلقاً .

ويؤيّد ما ذكرناه أنّ نظر الشاب إليها كان من خلفها فيما عدا اللحظا الأولى ،ولا إشكال في أنّ ذلك إذا كان مجرداً عن التلذّذ ليس بحرام قطعاً.

أقول : قد بيّنا المعنى الحقيقي للغضّ ، وأنّه ليس إطباق الجفون ، بل تنقیص الإبصار ، وهو عدم إيصال النظر إلى الشيء بقطعه عن البلوغ إليه، ولا وجه للصرف عن المعنى الحقيقي إلى المعنى الكنائي .

قوله تعالى « مِنْ أَبْصارَهُمْ » وفي « من » ثلاثة إحتمالات :

أحدها : أنّ « غض ّ» يستعمل مع « من » وبدونها بمعنى واحد ، وهو اختیار

ص: 59

الفيّومي في المصباح کما مرّ.

ويؤيّده استعماله كذلك في القرآن ، قال الله سبحانه : « وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ»(1) وقال تعالى :«إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ» (2).

ثانيها : أن يكون صلیة للغضّ ، فإنّ الغضّ هو النقص ، و تعيين النقص من أيّ شيء يحتاج إلى ذكر متعلّقه ، فقد يكون من الإبصار ، وقد يكون من الصوت ، ولعلّ هذا هو الظاهر .

ثالثها : أن يكون للتبعيض ، والمراد به أحد اُمور :

الأوّل : غضّ البصر عمّا يحرم والاقتصار على ما يحلّ ، والتبعيض في المنظور يوجب التبعيض في البصر، أي : يغضّ العين في بعض الأوقات دون بعض.

وفيه أنّه يوجب الإجمال والإبهام المنافي لمقتضى المقام.

الثاني : التبعيض في كيفيّة الإبصار ، فلا يبصر للتلذّذ ولا عند خوف الفتنة ویبصر في غيرها .

وفيه أنّ إطلاق الآية يشمل غير الوجه والكفّين ، وخبر سعد الإسكاف أيضاً يدلّ على العموم ، فيلزم جواز النظر إلى غير الوجه والكفّين بدون التلذّذ و خوف الفتنة ، وهو خلاف ضرورة الفقه .

الثالث : التبعيض في كيفيّة الإبصار ، بأنّ لا يبصر محدقاً فيها مميّزاً لها ، ويبصر بنحو یری كالشبح ، أي : لا يغضّ العين كلّها بل يغضّ بعضها.

وفيه انّه لا يصدق معه غضّ البصر ، مع أنّه يمكن أن يكسر بصره ، ومع ذلك يرى الشيء تفصيلا ، ولا فرق بين فتح جميع البصير وفتح بعضه .

الرابع : في كيفيّة الإبصار أيضاً ، بأن لا يبصر استقلالاً ويجوز أن يبصر تبعاً

ص: 60


1- لقمان : 19.
2- الحجرات : 3.

للمخاطبة.

وفيه ما مرّ من أنّه لا يصدق الغضّ إذا نظر إليها ولو للمخاطبة .

الخامس : في كيفيّة الإبصار أيضاً ، وهو تنقیصه بعدم إيصال النظر إليها عمداً بإطراق الرأس ، أو برفع بصره إلى السماء ونحوه ، وإذا وقع نظره إليها غفلة أو سهواً ، رفع نظره فوراً و نقص إبصاره ، وهذا الوجه يتّحد مع الوجه الثاني ، أي : أن يكون صلیة للغضّ.

السادس : أن يكون التبعيض بالنسبة إلى النظر إلى العورة وسائر مواضع البدن ، فينقص من الإبصار بعدم النظر إلى العورة لا إلى ما عداها ، كما في المستمسك حيث قال : بل المناسب جداً بقرينة ما بعده أن يكون متعلّقه الفروج ، مع أنّ كون المراد من الغضّ الغمض غير ظاهر(1) انتهى .

والمعنى على هذا أنّهم لا ينظرون إلى فروج غيرهم ، ويحفظوا فروجهم من النظر إليها ، والناس لم يكونوا يتحفّظون.

قلت : وفيه أنّ حذف المتعلّق يفيد العموم.

وأمّا ما ذكره الشيخ الأنصاري رحمة الله من أنّ آية الغضّ لا تفيد العموم (2)انتهى .

فإن كان مراده أنّها تدلّ على غضّ النظر عن الأجنبيّة ، لكن لا تدلّ على الغضّ عن أيّ موضع من جسدها .

ففيه أنّ المتبادر من عدم النظر إلى المرأة عرفاً هو النظر إلى الوجه واليدين ؛ لأنّها موقع النظر غالباً ، وغيرهما مستور غالباً بالثياب ، وعدم جواز النظر إليهما يوجب عدم الجواز بالنسبة إلى غيرهما من باب الأولى.

وإن أراد غير ذلك ، ففيه أنّ حذف المتعلّق وقرائن المقام يدلّان على عموم

ص: 61


1- مستمسك العروة الوثقی5: 243.
2- کتاب النكاح للشيخ الأنصاري ص 46.

الغضّ.

ثمّ إن متعلّق غضّ البصر غير مذكور في الآية المباركة ، ومعلوم أنّ المراد به الأجنبيّة ، والاحتمالات فيه أمور :

أحدها : جميع بدنها حتّى الوجه والكفّين .

ثانيها : جميع بدنها حتّى وجهها وكفّيها وزينتها حتّى الثياب .

ثالثها : جميع بدنها عدا الوجه والكفّين ، أو عدا الوجه والكفّين والقدمين .

رابعها : خصوص العورة.

ومقتضى الإطلاق هو الثاني إلّا أن يثبت تقیید .

فیکون حاصلی معنى الآية وجوب غضّ البصر ، وهو ترك النظر إلى الأجنبيّة ، أي : إلى جسدها وزينتها، وكما أنّ المتبادر من قول القائل : انظر إلى شخص ، هو النظر إلى المواضع المكشوفة منه ، کالوجه و النحر والكفّين ، والمواضع غير المكشوفة كالثياب ، كذلك المتبادر من قول القائل : لا تنظر إلى شخص ، ترك النظر إلى الوجه والنحر والكفّين ممّا هو مكشوف، وترك النظر إلى غير المواضع المكشوفة ، بل لعلّ الآية نزلت في تحريم النظر إلى ما جرت عادة النساء على كشفه من الوجه و النحر والكفّين .

فقد روى في الكافي ، عن محمّد بن يحيى ، عن أحمد بن محمّد ، عن علي بن الحكم عن سيف بن عميرة ، عن سعد الإسكاف ، عن أبي جعفرعلیه السلام، قال :

اسْتَقْبَلَ شَابُّ مِنَ الْأَنْصَارِ امْرَأَةً بِالْمَدِينَةِ ، وَ كَانَ النِّسَاءُ يَتَقَنَّعْنَ خَلْفَ آذَانِهِنَّ ، فَنَظَرَ إِلَيْهَا وَ هِيَ مُقْبِلَةُ . فَلَمَّا جَازَتْ نَظَرَ إِلَيْهَا وَ دَخَلَ فِي زُقَاقٍ قَدْ سَمَّاهُ بِبَنِي فُلَانٍ . فَجَعَلَ يَنْظُرُ خَلْفِهَا ، وَ اعْتَرَضَ وَجْهَهُ عَظْمُ فِي الْحَائِطِ أَوْ زُجَاجَةُ فَشَقَّ وَ جهه . فَلَمَّا مَضَتِ الْمَرْأَةُ نَظَرَ فَإِذَا الدِّمَاءُ تَسِيلُ عَلَى ثَوْبِهِ وَ صَدْرِهِ . فَقَالَ : وَ اللَّهِ لآَتِيَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلی الله و علیه وآله وسلم ولاُخبرنّه ، فَأَتَاهُ ، فَلَمَّا رَآهُ رَسُولُ اللَّهِ صلی الله و علیه وآله وسلم قَالَ : مَا هَذَا ؟ فَأَخْبِرْهُ ،

ص: 62

فهبط جبرئیل بهذه الآية «قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ۚ ذَٰلِكَ أَزْكَىٰ لَهُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ»(1) .

فإنّ الآية نزلت في هذه الواقعة ، وحيث إنّ الآية الناهية عن إبدائهنّ زينتهنّ واقعة بعد هذه الآية ، فيفهم أنّ النساء حين نزول الآية كنّ على عادتهنّ المذكورة في الخبر ، وهذا الشابّ حين فاجأته المرأة ووقع نظره على وجهها و نحرها واُذنبيها واستمرّ في النظر إليها وإلى خلفها أصابه ما أصابه من شق الوجه - إلى آخر ما ذكر في الخبر - فنزلت الآية.

قيل : ليس في سنده من يتوقّف فيه إلّا سعد الاسكاف ، وهو سعد بن طريف الملحنظلي الاسكاف ، قال النجاشي : يعرف وينكر(2).

وعده الشيخ في أصحاب علي بن الحسين علیه السلام ، قال : روى عن الأصبغ بن نباته، وهو صحيح الحديث (3) .

وعدّه في أصحاب الباقر والصادق پغ (4).

وعن ابن الغضائري انّه ضعيف (5).

قلت : لم يوثّق صريحاً ، ولم يثبت حجيّة تضعيف ابن الغضائري.

ولعلّ تعقيبه بقوله تعالى « وَ يَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ » مشعر بأنّ حفظ الفرج عن الوقوع في الزنا مترتّب على كفّ البصر ، فإنّ الإبصار ربّما ينجرّ إلى الوقوع في الزنا ،

ص: 63


1- فروع الكافي 5: 521 ح 5، وسائل الشيعة 14: 138، جامع أحاديث الشيعة 20: 276ب1ح1 .
2- رجال النجاشي ص 178 برقم : 468.
3- رجال الشيخ ص 115 برقم : 1147.
4- رجال الشيخ ص 136 برقم: 1430 و ص 212 برقم : 2765.
5- رجال العلامّة ص 226 عنه .

فالمراد بالغضّ هو كفّ البصر عن النظر الذي وقع منه ، وهو نظره إلى وجهها و غیره.

والغضّ من الإبصار مقدّمة لحفظ الفرج عمّا يجب حفظه عنه ، والمتبادر منه الزناونحوه ، والنظر إلى المرأة ربّما ينجرّ إلى عدم حفظ الفرج.

فالآية الشريفة تدلّ على عدم إيصال النظر إلى الأجنبيّة حتى الوجه والكفّين.

وإلّا لزم الاجمال و الإبهام و عدم فهم المراد من الآية ، وهو بعيد جداً.

وممّا يؤيّد العموم التعليل المذكور بقوله تعالى «ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ » أي: أبعد من الفسق والفجور والزنا، وهذه العلّة تجري في النظر إلى الوجه والكفّين ، بل أنّ النظر إلى المحبوب هو رؤية جمال وجهه ، والوجه وجه لسائر أعضاء البدن من الهزال والسمن والبياض والحمرة وغيرها.

ويؤيّده أيضاً أن غض البصر عن الأجنبيّات بعني إطراق الرأس والعين يمنع من وقوع النظر غفلة وسهواً أيضاً ، بل يمنع من الاطلّاع على غير أجسادهنّ من الثياب وألوانهنّ وتفاصيل كيفيّاتهنّ الأخرى ، فهو أبلغ من النهي عن النظر ، فتأمّل .

ثمّ إنّه ورد تفسير غضّ البصر بترك النظر إلى العورة ، فيما رواه في الكافي عن علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن بكر بن صالح ، عن القاسم بن برید ، قال : حدّثنا أبو عمرو الزبيري ، عن أبي عبد الله علیه السلام.

إلى أن قال : وَ فَرَضَ عَلَى الْبَصَرِ أَنْ لَا يَنْظُرَ إِلَى مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ ، وَأَنْ يُعْرِضَ عَمَّا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ مِمَّا لَا يَحِلُّ لَهُ وَ هُوَ عَمَلُهُ ، وَ هُوَ مِنَ الْإِيمَانِ ، فقال تبارك وتعالى «قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ۚ » فنهاهم أن ينظروا إلى عوراتهم ، وأن ينظر المرء إلى فرج أخيه ، ويحفظ فرجه أن ينظر إليه ، وقال : «وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ» مِنْ أَنْ تَنْظُرَ إِحْدَاهُنَّ إِلَى فَرْجِ أُخْتِهَا ، وَ تَحْفَظَ فَرْجَهَا مِنْ أَنْ يُنْظَرَ إِلَيْهَا ، وَ قَالٍ : كُلُّ شَيْ ءٍ فِي الْقُرْآنِ مِنْ حِفْظِ الْفَرْجِ فَهُوَ مِنَ

ص: 64

الزنا إلّا هذه الآية فإنّها من النظر الحديث (1) .

وفي سنده بکر بن صالح ، وهو يطلق على رجلين : أحدهما مجهول من أصحاب الباقر علیه السلام ، والثاني - على ما قيل - ضعيف . والطبقة تقتضي الثاني ، فلم تثبت وثاقته . وأبو عمرو الزبيري ، وهو غير مذكور في الرجال .

وروى النعماني في تفسيره ، بإسناده إلى إسماعيل بن جابر ، عن أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق پغ في خبر طويل عن أمير المؤمنين علیه السلام إلى أن قال : وَ أَمَّا مَا فَرَضَهُ عَلَى الْعَيْنَيْنِ فَهُوَ النَّظَرُ إِلَى آيَاتِ اللَّهِ ، وَ غَضُّ النَّظَرِ عَنْ مَحَارِمِ اللَّهِ عزّوجلّ .

إلى أن قال : ومنه قوله تعالى «قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ۚ ذَٰلِكَ أَزْكَىٰ لَهُمْ» معناه لا ينظر أحدكم إلى فرج أخيه المؤمن ، أو يمكنه من النظر إلى فرجه ، ثم قال سبحانه : «وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ » أي : ممّن يلحقهن النظر ، كما جاء في حفظ الفروج ، فالنظر سبب إيقاع الفعل من الزنا و غيره الحديث (2).

وروى في الفقيه في وصيّة أمير المؤمنين علیه السلام لابنه محمّد بن حنفية - إلى أن قال : وفرض على البصر أن لا ينظر إلى ما حرّم الله تعالى عليه ، فقال عزّ من قائل « قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ۚ»وحرّم الله أن ينظر إلى فرج غيره الحديث (3).

وفي تفسير الطبري : روی بسنده عن أبي العالية قال : كلّ فرج ذکر حفظه في

ص: 65


1- أصول الكافي 2: 35 - 36، جامع أحاديث الشيعة 14: 119 ب 56 ح 1.
2- جامع أحاديث الشيعة 14: 125 ب 56ح 2.
3- من لا يحضره الفقيه2: 627، جامع أحادیث الشيعة 14: 128 - 129 ب 56 ح 7 .

القرآن فهو من الزنا ، إلا هذه فإنّه يعني الستر(1).

فإن كان المراد أنّ تمام ما حرّم الله من النظر هو النظر إلى عورة أخيه، فهذا خلاف الضروري من حرمة نظر الرجل إلى جسد المرأة وعورتها، وإن كان المراد بیان معنى الآية بأنّها تدلّ على حرمة هذا المقدار ، ولا ينافيها ثبوت حرمة ما عداه بسائر الأدلّة ، فيكون هذه الأخبار معارضة لخبر سعد الإسكاف ، وسنده أوضح من سند معارضه.

ويمكن أن يقال في مقام الجمع بينها وبين خبر سعد الإسكاف : إنّ هذه الأخبار في مقام بیان معنی حفظ الفروج ، أي : يجب عليكم حفظ فروجكم من أن تنظروا أو ينظر إليها ، نظير قوله تعالى و « فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ»(2) أي : يقتل بعضكم بعضاً ، ويكون المراد من غضّ البصر غضّه عن سائر المحرّمات.

وذكر في تفسير الطبري في معنى الآية ذلك ، أي : يغضضن من أبصارهنّ عمّا يكره الله النظر إليه ممّا نهاكم عن النظر إليه ، ويحفظن فروجهنّ عن أن يراها من لا يحلّ له رؤيتها بلبس ما يسترها عن أبصارهم(3).

مضافاً إلى أنّه لو وجب حفظ الفرج من أن ينظر إليه ، كان معناه حرمة نظر الآخر إليه ، فلا حاجة إلى إيجاب غضّ البصر عن النظر ، فهذا يؤیّد انّ متعلّق الغضّ غير العورة ، فتدبّر.

الموضع الثاني : قوله تعالى « وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ»

الزينة أعمّ من الظاهرة والخفيّة ، ومواضعها من الوجه واليدين وسائر الجسد .

والمراد من عدم جواز إبداء الزينة ومواضعها لغير المحارم وجوازه للمحارم عدم

ص: 66


1- جامع البيان للطبري 18: 92.
2- البقرة : 54.
3- جامع البيان للطبري 18: 92.

إراءة الزينة ومواضعها لغير المحارم وإراءتها للمحارم ، وهي مقتضية لجواز نظر المحارم وعدم جواز نظر غيرهم.

واُجيب بأنّ عموم قوله تعالى « وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ » مخصصة بقوله تعالى «وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا».

أي : لا يرين زينتهنّ لأحد إلّا الزينة الظاهرة ، وهي الوجه والكفّان ، فيجوز إراءتها لكلّ شخص من الأجانب والمحارم، فيكون قوله تعالى «َلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ » مختصّة بالزينة غير الظاهرة(1). أي : لا يبدين زينتهنّ الحنفيّة إلّا للمحارم.

وفيه أنّ للمتكلّم أن يلحق بكلامه ما شاء من اللواحق .

فكما يمكن تقييد الزينة في قوله تعالى «َلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ» بالخفيّة ، بقرينة ظهور الاستثناء في قوله تعالى «َلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا» في الاتصال.

كذلك يمكن جعل الاستثناء في قوله تعالى «َلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا» منقطعاً، بقرينة إطلاق الزينة في قوله تعالى«وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ » للظاهرة والخفيّة .

فيرتفع التنافي بين الجملتين ، ولا ترجيح لأحدهما على الآخر، بل تقدّم ترجیح جعل الاستثناء منقطعاً .

ص: 67


1- كتاب النكاح للشيخ الأنصاري ص 46.

الأخبار الدالة على عدم جواز النظر إلى وجه الأجنبيّة وكفّيها من دون تلذّذ وريبة

وأمّا الأخبار الدالّة على عدم جواز النظر ، فهي طوائف :

الطائفة الاُولى : ما دلّ على وجوب سترها للوجه والكفّين ، وقد تقدّمت ، فإنّه لو كان نظر الأجانب إليها جائزاً لم يجب الستر.

إلا أن يقال : إنّ وجوب الستر بلحاظ عدم النظر إليهنّ بريبة و شهوة ، لكن إطلاق بعضها المورد النظر إليهنّ من دون ريبة و شهوة قوّي.

الطائفة الثانية : مفهوم أخبار جواز النظر إلى المرأة التي يريد زواجها.

منها: ما رواه في الكافي ، عن علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن هشام بن سالم ، وحمّاد بن عثمان ، وحفص بن البختري ، كلّهم عن أبي عبد الله علیه السلام قَالَ : لَا بَأْسَ بِأَنْ يَنْظُرَ إِلَى وَجْهِهَا وَ مَعَاصِمِهَا إِذَا أَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا (1).

و مفهومه وجود البأس في النظر إلى وجهها و معاصمها إن لم يرد أن يتزوّجها ، والبأس في النظر إلى المعاصم هو الحرمة ، فيكون كذلك في النظر إلى الوجه لوحدة السياق.

قال الشيخ الأنصاري رحمة الله : لا دلالة له على عدم الجواز ؛ لأنّ سياق الشرط فيها ليس مفيداً للتعليق ، كما يظهر بالتأمّل فيها.

أقول : لم أفهم ما ذكره ، وهل يحتمل عدم اشتراط جواز النظر إلى المعاصم بإرادة الترويج ؟؟

ومنها: ما رواه في الكافي أيضاً ، عن علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن أبي أيوب الخراز ، عن محمّد بن مسلم ، قال : سألت أبا جعفر علیه السلام عن

ص: 68


1- فروع الكافي 5: 365ح 2، جامع أحادیث الشيعة 20 : 33ح 10.

الرجل يريد أن يتزوّج المرأة أينظر إليها ؟ قَالَ : نَعَمْ إِنَّمَا يَشْتَرِيهَا بأغلا الثَّمَنِ (1).

فإنّ المستفاد منها أن المرتكز في ذهن محمّد بن مسلم أنّه لا يجوز النظر إلى الأجنبيّة ، أي : إلى وجهها ويدها وحجمها ، فسأل عن جوازه للتزوّج ، ولم يكن سؤاله عن النظر إلى جسدها عارية ورأسها وشعرها.

لا يقال : ترك الاستفصال يقتضي جواز ذلك .

لانّا نقول : سائر الروايات تبيّن المراد .

ومنها : ما رواه في العلل، عن أبيه ، عن سعد بن عبد الله ، عن أحمد بن محمّد بن عيسى ، عن البزنطي ، عن يونس بن يعقوب ، قَالَ : قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام : الرَّجُلُ يُرِيدُ أَنْ يَتَزَوَّجَ الْمَرْأَةَ يَجُوزُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهَا ؟ قَالَ : نَعَمْ ، وَ تُرَقِّقُ لَهُ الثِّيَابَ لِأَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَشْتَرِيَهَا بأغلا ثَمَنُ(2).

ودلالته کسابقه ، ولعلّ المراد من ترقيق الثياب أن تكون بحيث ينظرإلى مقدارحجمها لا إلى أعضاء جسدها .

الطائفة الثالثة : ما دلّ على أنّ النظر سهم من سهام ابلیس ، وهي :

مرسلة داود بن أبي يزيد العطّار ، قال : قال أبو عبد الله علیه السلام: إِيَّاكُمْ وَ النَّظَرِ ، فَإِنَّهُ سَهْمُ مِنْ سِهَامِ إِبْلِيسَ ، وَ قَالٍ : لَا بَأْسَ بِالنَّظَرِ إِلَى مَا وَصَفَتِ الثِّيَابُ (3).

وخبر عقبة ، عن أبي عبد الله علیه السلام، قَالَ : سَمِعْتُهُ يَقُولُ : النَّظْرَةُ سَهْمُ مِنْ سِهَامِ إِبْلِيسَ مَسْمُومُ ، وَ كَمْ مِنْ نَظْرَةٍ أَوْرَثَتْ حَسْرَةً طَوِيلَةً(4).

ورواه في الفقيه ، وزاد بعد قوله « مسموم » : من تركها لله عزّوجلّ لا لغيره أعقبه

ص: 69


1- فروع الكافي 5: 365ح 1، جامع أحاديث الشيعة 20 : 32 ح 1.
2- جامع أحاديث الشيعة 20 : 32 ح 2 عن علل الشرائع .
3- تهذیب الأحکام 7:435، ح 3، جامع أحاديث الشيعة 20: 277 ح 4.
4- فروع الكافي 5: 559ح 12، جامع أحاديث الشيعة 20 : 277ح 2.

الله إيمانَاً يَجِد طَعمَهُ(1)

إلى غير ذلك من أحاديث هذا الباب .

وإطلاق النظر شامل للنظر عمداً والنظر اتفاقاً ، كما أنّه شامل للوجه والكفّين وغيرهما، وكونه سهماً من أجل أنّ النظر إن وقع إلى المرأة الحسناء وقعت صورتها في القلب ، وهذا سهم من سهام الشيطان يقيّد القلب ، كما يقيّد السهم الحيوان فيسلب حرّيّته.

وهذه الروايات تؤيّد مبغوضيّة النظر إلى النساء ، فيكون مؤيّد لعدم جواز النظر.

وبعبارة اُخرئ : جواز النظر إلى الوجه والكفّين كجواز شرب الماء وسائر المباحات ينافي هذه الأخبار .

واُجيب عن هذه الأخبار بأنّه لا إطلاق لها يمنع النظر مطلقاً ، بل هي تمنع عن النظر بشهوة و ريبة ؛ لأنّه الذي يكون من الشيطان ، وأمّا النظر لا لهما بل كما ينظر إلى سائر الأشياء الحسنة ، فليس من الشيطان .

وفيه نظر ؛ لأنّ النظر إلى المرأة ولو اتفاقاً يكون معرضاً للفتنة ، ففي خبر حمّاد بن عثمان ، عن أبي عبد الله علیه السلام، قَالَ : رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صلی الله و علیه وآله وسلم امْرَأَةٍ فَأَعْجَبَتْهُ ، فَدَخَلَ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ وَ كَانَ يَوْمُهَا ، فَأَصَابَ مِنْهَا وَ خَرَجَ إِلَى النَّاسِ وَ رَأْسُهُ يَقْطُرُ ، فَقَالَ : أَنَّهَا النَّاسُ إِنَّمَا النَّظَرُ مِنَ الشَّيْطَانِ ، فَمَنْ وَجَدَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئاً فَلْيَأْتِ أَهْلَهُ(2).

فإنّ النبيّ صلی الله و علیه وآله وسلم لا ينظر إلى النساء بشهوة وريبة ، بل اتّفق نظره إليه ، وقوله : النظر من الشيطان ، أنّما هو في غيره صلی الله و علیه وآله وسلم، وأمّا هو صلی الله و علیه وآله وسلم فلا سبيل للشيطان إليه .

وأمّا قوله فيما رواه الفقيه « من تركها لله » فلا يدلّ على رجحان ترك النظر لله ؛

ص: 70


1- من لا يحضره القفيه 4: 18 برقم: 4969، جامع أحاديث الشيعة 20: 277 - 3.
2- فروع الكافي 494:5 ح 2، جامع أحاديث الشيعة 210:20 ب 25 ح1 .

لأنّه يمكن أن يكون النظر عمداً حراماً مطلقاً يجب ترکه ، ويكون ازدياد الإيمان مترتباً على الترك لله ، فلا يقيّد به إطلاق صدر الخبر.

وما رواه في الكافي بسنده عن أبي جعفر وأبي عبد الله علیهما السلام، قَالَا : مَا مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَ هُوَ يُصِيبُ حَظّاً مِنَ الزِّنَا ، فَزِنَا الْعَيْنَيْنِ النَّظَرِ ، وَزْناً الْفَمِ الْقِبْلَةِ ، وَزْناً الْيَدَيْنِ اللَّمْسُ ، صَدَّقَ الْفَرْجُ ذَلِكَ أَوْ كَذَّبَ (1).

ومقتضى إطلاق النظر من غير تقييده بالشهوة أنّه زنا العينين ، ولعلّ المراد بقوله «صدّق الفرج » تأثير النظر في تحريك الشهوة بحيث يظهر أثرها في الفرج ، فإنّه تصديق للنظر ، وأمّا الزنا في الفرج فهو أمر مستقلّ.

وقوله «زنا الفم القبلة » أعمّ من أن يكون لشهوة ، فإنّه وإن لم يكن عن شهوة لكنه في معرض كونها عن شهوة.

واستدلّ في الجواهر - للمنع - بالسيرة والطريقة من المتديّنات والمتديّنين في جميع الأعصار والأمصار ، بل لعلّ التطلّع إلى وجوه المتستّرات من المنكرات في دين الإسلام (2).

ثمّ إنّه قال بجواز النظر إلى الجسد لمن أراد التزويج ، إلّا إذا فرض قضاءالغرض بترقيق الثياب له إلى آخر كلامه(3).

وأورد الشيخ الأنصاري رحمة الله دعوى السيرة المذكورة بأنّ ذلك من جهة الاستحياء لا اللزوم، وأورد على صاحب الجواهر ، فقال : يا ليت شعري التطلّع إلى جسد المرأة الباكرة المخدّرة من أولي الخطر بغیر اطلّاعها - لاختبار خلقتها ولونها وقابليّتها للأمور المطلوبة من الزوجات - أنكر عند الناس إذا اطّلعوا على تطّلعه

ص: 71


1- فروع الكافي 5: 559 ج 11، جامع أحاديث الشيعة 279:20 ح 10.
2- جواهر الكلام 80:29
3- جواهر الكلام 29: 67.

عليها لأجل الإختبار ، أم تطّلعه على وجهها لا لقصد الاختبار المذكور ، بل لأجل معاملة أو غرض آخر مع عدم قصد التلذّذ و عدم الريبة ؟! وهل الإنكار في المقامين إلّا لأجل الغيرة والاستحياء إذا كانت المرأة من اُولي الأخطار وذوات الأستار وسكنة الأمصار (1) انتهي.

قلت : لا مجال لمنع السيرة والطريقة من المتديّنات ، وتقّدّم الكلام عليها.

وأمّا جواز النظر إلى المرأة للتزوّج بها ، فهو قليل بالنّسبة إلى جواز رؤية كلّ أجنبي كل أجنبيّة ،وبعد تقييده باحتمال قبولها التزوّج يكون أقلّ ، وبعد تقييده بما إذا كانت المرأة قد استجابت إلى النكاح يكون أقلّ قليل.

قال الشيخ الطوسي في المبسوط : فأمّا إذا نظر إلى جملتها يريد أن يتزوّجها ، فعندنا يجوز أن ينظر إلى وجهها وكفّيها فحسب، وفيه خلاف، وله أن يكرّر النظر إليها، سواء أذنت أو لم تأذن إذا كانت استجابت إلى النكاح (2) انتهى .

ويدلّ على غضّ البصر من طريق العامّة ، ما رواه مسندة في سنن أبي داود ، عن جرير ، قال : سألت رسول الله صلی الله و علیه وآله وسلم عن نظر الفجأة ، فقال : اصرف بصرك (3) .

وبإسناده عن بريدة ، قال : قال رسول الله صلی الله و علیه وآله وسلم لعلي : يَا عَلِيُّ لَا تُتْبِعِ النَّظْرَةَ النَّظْرَةَ ، فَإِنَّ لَكَ الْأُولَى وَ لَيْسَتْ لَكَ الْآخِرَةِ (4).

ص: 72


1- كتاب النكاح للشيخ الأنصاري ص 52.
2- المبسوط 4 : 161.
3- سنن أبي داود 2: 246 برقم: 2148.
4- سنن أبي داود 2: 246 برقم : 2149.

اقوال القدماء في المسألة

والمشهور بينهم عدم جواز النظر إلى الوجه .

قال المفيد في المقنعة : وإذا أراد الرجل أن يعقد على امرأة ، فلا حرج عليه أن ينظر إلى وجهها قبل العقد ، ويرى يدیها بارزة من الثوب ، وينظر إليها ماشية في ثيابها ، وإذا أراد ابتیاع أمة نظر إلى وجهها وشعر رأسها.

ولا يحلّ له أن ينظر إلى وجه إمرأة ليست له بمحرم ليتلذّذ بذلك ، دون أن يراها للعقد عليها . ولا يجوز له أيضاً النظر إلى أمة لا يملكها للتلذّذ برؤيتها من غير عزم على ذلك لابتياعها ، ولا بأس بالنظر إلى وجوه نساء أهل الكتاب وشعورهنّ ؛ لأنّه بمنزلة الإماء، ولا يجوز النظر إلى ذلك منهن لريبة(1)انتهى.

قوله « ليتلذّذ » لعلّه يريد أن النظر إلى وجه المرأة يكون عادة لتلذّذ ، و مراده أنّه لا يجوز لغير العقد عليها بقرينة المقابلة بين أن يراها للتلذّذ وبين أن يراها للعقد عليها.

ويشهد له أيضاً قوله « لَا بَأْسَ بِالنَّظَرِ إِلَى وُجُوهِ نِسَاءِ أَهْلِ الذِّمَّةِ » فإنّ إطلاقه يشمل النظر للتلذّذ ؛ لأنّ تعمّد النظر يستدعي ذلك ، وإن لم يكن قاصداً للتلذّذ ، ولذا قال :« وَ لَا يَجُوزُ النَّظَرُ إِلَى وُجُوهِ نِسَاءِ أَهْلِ الذِّمَّةِ لِرِيبَةِ ».

والحاصلی أنّ المستفاد من كلامه أنّ النظر عمداً إلى الأجنبيّة يكون على ثلاثة أوجه : إما للتزوّج ، وإنّما للريبة ، وإنّما للتلذّذ ، و هو مجرّد تعمّد النظر إلى المرأة فإنّه تلذّذ . فالمراد من التلذّذ رؤية المرأة بغير حاجة ، فإنّ كان الحاجة فليس النظر متعيّناً اللذّة .

ويشهد على كون النظر عمداً مساوقاً للتلذّذ ما في الفقه على المذاهب الأربعة ،

ص: 73


1- المقنعة ص 520 - 521.

قال : وربّما يقال : إذا نظر إليها بدون لذة ولم يترتب على نظره فتنة لا يكون للكراهة وجه ؛ لأنّ النظر إلى الأجنبيّة مع الأمن من الفتنة بها وعدم قصد التلذّذ جائز.

والجواب : أنّ النظر إلى الخطوبة مع علمه بأنّها لا ترضى به بعلاً فيه شبهة قصدالتلذّذ ، لأنّه في هذه الحالة لا معنى للنظر إليها، فيكره لهذه العلّة(1).

وقال ابن البرّاج في المهذب : ويجوز للرجل النظر إلى وجه المرأة التي يريد العقد عليها وإلى محاسنها وجسمها من فوق ثيابها ، فإن لم يكن مريداً للعقد عليها لم يجز له شيء من ذلك ، وكذلك يجوز له في الأمة التي يريد ابتياعها ، فإن لم يرد ابتياعها لم يجز له شيء من ذلك أيضاً(2).

وقال أبو الصلیاح الحلبي في الكافي : وإذا أراد نكاح المرأة جاز له أن ينظر إلى وجهها وبدنها وماشية في ثيابها ، وكذلك يجوز للمرأة إذا أرادت نکاح رجل أن ترئ وجهه وأطرافه وماشياً ، ولا يحلّ لأحدهما ذلك من دون إرادة التزويج (3) .

وقال ابن زهرة في الغنية : ويجوز لمن أراد نکاح امرأة أن ينظر إلى وجهها وكفّيها، بدليل إجماع الطائفة ، وقد روي جابر عن النبيّ صلی الله و علیه وآله وسلم أنّه قال : إذا أراد أحدكم أن يتزوّج امرأة فلينظر إلى وجهها وكفّيها ، وروى أبو الدرداء أنّه قال : إذا طرح الله في قلب امرء خطبة امرأة ، فلا بأس أن يتأمّل محاسنها(4).

وقال الشيخ في النهاية : ولا بأس أن ينظر الرجل إلى وجه امرأة يريد العقد عليها، وينظر إلى محاسنها يديها ووجهها ، ويجوز أن ينظر إلى مشيها وإلى جسدها من فوق ثيابها ، ولا يجوز له شيء من ذلك إذا لم يرد العقد عليها ، ولا بأس أن ينظر

ص: 74


1- الفقه على المذاهب الأربعة ص 9
2- المهذب 2: 221.
3- الكافي ص 296.
4- غنية النزوع ص 549 .

الرجل إلى أمة يريد شراءها وينظر إلى شعرها ومحاسنها ، ولا يجوز له ذلك إذا لم يرد ابتياعها(1).

وقال ابن حمزة في الوسيلة : وإذا أراد أن يملك بامرأة جاز له النظر إلى محاسنها ومشيها وجسدها فوق الثياب ، وإلى محاسن الأمة وشعرها لا للتلذّذ إذا أراد شراءها(2).

وقال ابن ادريس في السرائر : لا يجوز للرجل الأجنبيّ من المرأة أن ينظر إليها مختاراً ، فأمّا النظر إليها الضرورة أو حاجة ، فالضرورة مثل نظر الطبيب إليها، وذلك يجوز بكلّ حال وإن نظر إلى عورتها ؛ لأنّه موضع ضرورة ؛ لأنّه لا يمكن العلاج إلا بعد الوقوف عليه ، والحاجة مثل أن يتحمل شهادة على امرأة ، فله أن ينظر وجهها من غير ريبة ليعرفها و يحقّقها.

وكذلك لو كانت بينه وبينها معاملة أو مبايعة ، فيعرف وجهها ليعلم من التي يعطيها الثمن أو الثمن إن كانت مبتاعة ، ومثل الحاكم إذا حكم عليها ، فإنّه يرى وجهها ليعرفها ويجلبها . فأمّا إذا نظر إلى جملتها يريد أن يتزوجها ، فعندنا يجوز أن ينظر إلى وجهها وكفيها فحسب (3).

وقوله « عندنا » يدلّ على شهرة ذلك عند الإماميّة ، فلا يبعد دعوى أن المشهور بين القدماء عدم الجواز ، وهذا يكشف : إمّا عن كون الأمر كان كذلك إلى زمان المعصومين ، أو عن فهمهم من الأخبار ذلك ، ولا يجوز لنا أن نتعدّي عمّا فهوه ؛لأنّهم أهل الاطّلاع واللغة ، ومن البعيد أن تخفي عليهم هذه المسألة التي هي محلّ الابتلاء عندهم .

ص: 75


1- النهاية ص 484.
2- الوسيلة ص 314.
3- السرائر2: 608.

القول الثاني : جواز النظر إلى الوجه والكفّين من غير تلذّذ وريبة ، بل ربّما كان بداعي ما تقتضيه الحاجات العرفيّة.

الآيات التي استدلّ بها على جواز النظر

وقد استدلّ لجواز النظر بآيات:

الأولى : قوله تعالى «وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا ۖ » والوجه والكفّان من الزينة الظاهرة.

قلت : قد مرّ عدم ظهور « مَا ظَهَرَ»في الوجه والكفّين .

وقد يناقش في دلالته على جواز النظر بأنّ الآية تدلّ على عدم وجوب ستر ما ظهر ، أي : الوجه والكفّين ، ولا ملازمة بين جواز کشف الوجه واليدين ، وبين جواز نظر الأجانب إليها؛ للفرق بين أيدي الشيء ، وبين أبدى الشيء له . فإنّ الأوّل يدلّ على مجرّد الإظهار ، كما يقال : يجوز للرجل أن يبدي غير عورته ، فإنّه لا يدلّ على جواز نظر المرأة إلى ما عداها ، بخلاف الثاني ، أي الإبداء له ، فإنّه يدلّ على الجواز ، كما في قوله تعالى «وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ» أی: يظهرها لهم ویرینها إيّاهم .

وفيه أنّ الأحكام المذكورة في هذه الآيات هي أحكام اختلاط النساء بغيرهنّ، من غضّ البصر ، وحفظ الفرج ، وإبداء الزينة إلّا ما ظهر ، إلى آخر الأحكام المذكورة.

وأمّا المرأة غير المختلطة بغيرها أو التي ليست في معرض الاختلاط بغيرها . فليست مشمولة لهذه الأحكام .

بل يمكن أن يقال : إنّ المستفاد من قوله تعالى«وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ»، أنّ الممنوع إسماع الأجنبي صوت الزينة ، فيقتضي أن تكون الآية في مقام بیان ما يجوز اطلّاع الأجنبي أو المحارم عليه وما لا يجوز الاطّلاع عليه ، فالجائز لها

ص: 76

إراءة ما ظهر للأجنبي وإراءة بعض الزينة الخفيّة للمحارم.

فيكون مساق قوله تعالى «لَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا» مساق قوله تعالى«وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ»

بل لا يبعد أن يقال : إنّ مفهوم الزينة هي ما يتزيّن به لإراءة الناس ، ولذالا يتزيّن الإنسان في مكان لا يراه الناس أصلیاً، فإذا قيل : لا تظهر زينتك إلّآ كذا ، فمعناه لا تتزيّن للناس إلّا بكذا.

الثانية : قوله تعالى «لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ» (1) فإنّ الظاهر أنّ النبي صلی الله و علیه وآله وسلم إنّما يعجبه حسنهنّ لأنهنّ ليسترن وجوههنّ ، فهو ينظر إليه ، ولو لم يكن جائزة لنهاهنّ ولم ينظر إليهنّ .

وحملها على أنّها إذا عصت فكشفت وجهها فرآه النبي صلی الله و علیه وآله وسلم وأعجبه حسنها ، أو على أنّها إذا وصفت له فأعجبه وصف حسنها ، حملان بعيدان .

وفيه أنّه يمكن أن يكون وقع نظره صلی الله و علیه وآله وسلم إليها اتفاقاً لا متعمداً ، بل قيل : إنّ آية الحجاب نزلت بعد الهجرة بأربع سنوات ، ولم تكن النساء يضعن الحجاب على وجوهه ، فلعلّه رآهنّ قبل نزول الحجاب ، بل يمكن أنّ يكون علمه صلی الله و علیه وآله وسلم بحسنهنّ من وصف حالها.

الثالثة : قوله تعالى «وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ »(2) الآية، قيل : قد فسّرها الفقهاء بأنّه يقول لها : إنّك جميلة وإنّك لنافعة ، وأمثال هذه التعبيرات ممّا يدلّ على كون المرأة المعتدّة مكشوفة الوجه بحيث يراها الرجال ويكلّمونها . وفيه أنّه لا دلالة له على جواز النظر عمداً، ولا ملازمة بين التعريض و جواز النظر .

ص: 77


1- الأحزاب : 52.
2- البقرة : 235.

الأخبار التي استدل بها على جواز النظر إلى وجه الأجنبيّة وكفّيها من دون تلذّذ وريبة

واستدل عليه بعدة من الأخبار :

الأوّل : ما رواه في الكافي ، عن محمّد بن يحيى ، عن أحمد بن محمّد بن عيسى ، عن مروك بن عبيد ، عن بعض أصحابنا ، عن أبي عبد الله علیه السلام ، قال : قلت له : ما يحلّ للرجل أن يرى من المرأة إذا لم يكن محرماً ؟ قَالَ : الْوَجْهُ وَ الْكَفَّانِ وَ الْقَدَمَانِ (1).

ورواه في الخصال ، قال : حدّثنا محمّد بن الحسن بن أحمد بن الوليد - رضي الله عنه - قال : حدّثنا محمّد بن الحسن الصفّار ، عن أحمد بن محمّد ، عن مروك بن عبيد ، عن بعض أصحابنا ، عن أبي عبد الله علیه السلام (2) .

والخبر مرسل ، ولم يثبت أنّ مروك لا يروي إلّا عن ثقة .

قال النجاشي : مروك بن عبيد بن سالم بن أبي حفصة مولى بني عجل ، وقال بعض أصحابنا : إنّه مولى عمّار بن المبارك العجلي ، واسم مروك صالح ، واسم أبي حفصة زياد ، قال أصحابنا القمّیّون : نوادره أصلی ، أخبرنا محمّد بن محمّد ، قال : حدّثنا جعفر بن محمّد ، قال : حدّثنا علي بن الحسين السعد آبادي ، قال : حدّثنا أحمد بن محمّد بن خالد ، عن مروك بكتابه (3) انتهي.

وقال الشيخ في الفهرست : مروك بن عبيد ، له کتاب ، رويناه بهذا الإسناد عن أحمد بن أبي عبد الله عنه (4) انتهى

وقال الكشي : قال محمّد بن مسعود : سألت علي بن الحسن عن مروك بن عبید

ص: 78


1- فروع الكافي 5: 521ح 2، جامع أحاديث الشيعة 20 : 282 ح 26.
2- الخصال ص 302 برقم: 78.
3- رجال النجاشي ص 425 برقم: 1142.
4- الفهرست ص 170.

بن سالم بن أبي حفصة ، فقال : ثقة شیخ صدوق (1) انتهى .

أقول : عدم توثيق النجاشي له - مع أنّه نقل عن بعض أصحابه أنّه مولى ، ونقل عن أصحابه القمّیّين أنّ نوادره أصلی - يوجب بعض التشكيك في أنّ رجال الكشي الموجود عنده ربّما لم يذكر فيه توثيق علي بن الحسن لمروك بن عبيد ، أو أنّه كان فيه لكنّه لم يعتمّد عليه ، وكذا الشيخ ، مع أنّه اختصار رجال الكشي لم يذكر توثيقه ، فلعلّ توثيقه كان غير مستند إلى الحسّ.

وما قيل : من أنّ رواية أحمد بن محمّد بن عيسى تدلّ على الاعتماد عليه ، غير معلوم ؛ مع أنّه لا يوجب خروج الخبر عن الإرسال.

وعلى كلّ حال فتخصيص الكتاب و الروايات الدالّة على عدم جواز النظر بهذا الخبر المرسل الذي لم يثبت عمل العلماء به مشکل جداً، مع أنّه مشتمل على النظر إلى القدمين .

وقد قيل : إنّه لم يقل أحد من العلماء بجواز النظر إليهما. وجميع الأخبار المفسّرة لقوله تعالى « مَا ظَهَرَ » بالكحل والخاتم و غيرهما ممّا ينفي كونه من « مَا ظَهَرَ» وكذا يوجب سترهما.

وأمّا ما ذكره الشيخ الأنصاري رحمة الله: من أنّ طرح بعض الرواية لدليل لا يسقط باقيها عن درجة الاعتبار (2) انتهى .

ففيه أنّه يمكن تسليمه فيا إذا كانت رواية صحيحة واضحة الدلالة . وأمّا مثل هذه الرواية المرسلة ، فيوجب ذلك شيئاً في النفس .

الثاني : ما رواه في الكافي ، عن محمّد بن يحيى ، عن أحمد بن محمّد بن عيسى، عن علي بن الحكم ، عن أبي حمزة الثمالي ، عن أبي جعفر ، قال : سألته عن المرأة المسلمة

ص: 79


1- اختیار معرفة الرجال 2: 835 برقم: 1063.
2- کتاب النكاح للشيخ الأنصاري ص 47.

يصيبها البلاء في جسدها إمّا کسر أو جراح في مكان لا يصلیح النظر إليه يكون الرجل أرفق بعلاجه من النساء ، أيصلیح له أن ينظر اليها ؟ قَالَ : إِذَا اضْطُرَّتْ إِلَيْهِ فَلْيُعَالِجْهَا إِنْ شَاءَتْ (1).

قال الشيخ الأنصاري رحمة الله: فيه دلالّة من حيث التقرير على جواز النظر إلى المرأة في الجملة ، وليس إلّا الوجه والكفّين ، للإجماع على المنع في غيرها (2)انتهى .

وقال في المستمسك : الرواية كالصريحة في أنّ من جسد المرأة ما يصلیح أن ينظر إليه وما لا يصلیح أن ينظر إليه (3) انتهى .

وفيه أنّه لا ريب في أن من جسد المرأة ما يصلیح أن تنظر إليه المرأة ، وهو ماعدا السورة ، وفيه ما لا يجوز أن تنظر إليه وهو عورتها ، فقوله « لَا يَصْلُحُ النَّظَرُ إِلَيْهِ » أي: لا يصلیح للرجل والمرأة النظر إليه و هو عورة المرأة ، لكنّها اضطرت إلى العلاج المتوقّف على النظر.

وحينئذ إن كانت المرأة أرفق أو مساوية مع الرجل تعيّنت المرأة ؛ لأنّ النظر إلى العورة لا ينفك غالباً عن النظر إلى سائر جسدها.

وأيضاً نظرها أخفّ من نظر الرجل ؛ لأنّه لا يجوز للرجل النظر إلى جسد المرأة وعورتها ، لكن حيث إن الرجل أرفق أجاز علیه السلام له النظر إليها ، وليس المعنى أنّه - أي موضع العلاج - في مكان لا يصلیح للرجل النظر إليه حتّى يوهم وجود مكان يصلیح للرجل النظر إليه.

وهناك روايات (4)كثيرة لا تخلو من المناقشة في سندها تدلّ على عدم جواز

ص: 80


1- فروع الكافي 5: 534 ، جامع أحاديث الشيعة 20: 285 ب 5ح1.
2- کتاب النكاح للشيخ الأنصاري ص 57.
3- مستمسك العروة الوثقى 13 : 22
4- جامع أحاديث الشيعة 285:20 ب5.

نظر الرجل إذا لم يكن ضرورة .

الثالث : ما رواه عبد الله بن الحسن ، عن جدّه على بن جعفر ، عن أخيه ، قال : وسألته عن الرجل ما يصلیح له أن ينظر إليه من المرأة التي لا تحلّ له ؟ قَالَ : الْوَجْهُ وَ الْكَفِّ وَ مَوْضِعِ السِّوَارُ (1).

وفي سنده عبد الله بن الحسن ، وهو مهمل في الرجال ، مضافة إلى ما تقدّم من الإشكال في الطريق إلى قرب الإسناد.

وفي كتاب النكاح للشيخ الأنصاري رحمة الله قال : وفيها - أي : في كتاب كفاية الأحكام - بسند لم يستبعد صحّته عن علي بن جعفر ، عن أخيه موسي ، قال : سألته عن الرجل ما يصلیح له أن ينظر إليه من المرأة التي لا تحلّ له ؟ قال : الوجه والكفّين (2) انتهی.

قلت : الموجود في قرب الإسناد ما نقلناه ، وما ذكره لم نعثر عليه .

وأمّا دلالته على جواز النظر إلى وجه الأجنبيّة وكفّيها ، فمبنيّ على أن يكون المراد من قوله « الَّتِي لَا تَحِلُّ لَهُ » عدم حليّة النظر إليها ، وهي المرأة الأجنبيّة ، وهو غير ظاهر ، بل يحتمل أن يكون المراد لا يحلّ له نكاحها ، فإن حلّيّة المرأة للرجل هي حلّيّة تزويجها ، وحرمتها حرمة تزويجها ، كالمحارم . والتعبير به قد ورد في موثّق سماعة ،قَالَ فِيهِ : فَأَمَّا الْمَرْأَةُ الَّتِي يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا فَلَا يُصَافِحُهَاالحديث (3) .

ويؤيّده ذکر موضع السوار ، وهو من الذراع الذي لا يجوز إبداؤه إلّا للمحارم کا دلّ عليه صحیع فضيل بن يسار المتقدّم . وطرح بعض الرواية ليس أولى من حملها على معنى لا يوجب الطرح.

ص: 81


1- قرب الإسناد ص 102.
2- كتاب النكاح ص 48.
3- جامع أحادیث الشيعة 301:20 ح 4.

ودعوى استبعاد خفاء الحكم - وهو جواز النظر إلى المحارم على علي بن جعفر ، مع أنّه يرى في بيت أبيه وأخيه علیهما السلام كيفية المعاشرة مع الأرحام ، فيكون هذا قرينة على أنّه أراد من المرأة التي لا تحلّ له المرأة الأجنبيّة - ممنوعة ؛ لعدم العلم بعادة النساء المتديّنات في زمان المعصومين علیهم السلام .

ثمّ إنّه لو سلّم أنّ السؤال عمّا يصلیح للرجل أن ينظر إليه من المرأة الأجنبيّة ، فيمكن حمل النظر على النظر إليها بغير قصد لا متعمداً ، وسيأتي ما احتمله في الجواهر من حمل أدلة الجواز على النظر الاتفاقي.

الرابع : ما رواه في الكافي ، عن محمّد بن يحيى ، عن أحمد بن محمّد ، عن علي بن الحكم ، عن علي بن سوید ، قال : قلت لأبي الحسن علیه السلام: إنّي مبتلى بالنظر إلى المرأة الجميلة ، فيعجبني النظر إليها ، فقال لي : يا علي لا بأس إذا عرف الله من نيّتك الصدق وإيّاك والزنا ، فإنّه يمحق البركة ويهلك الدين(1).

وهو محمول على الوجه والكفّين ؛ لعدم جواز النظر إلى غيرهما إجماعاً.

أقول : في السند علي بن الحكم و علي بن سوید .

أمّا علي بن الحكم ، ففي رجال الشيخ في أصحاب الرضا علیه السلام قال : علي بن الحكم بن الزبير مولى النخع ، كوفيّ(2).

وفي أصحاب الجواد علیه السلام قال : علي بن الحكم (3).

وفي فهرست الشيخ : علي بن الحكم الكوفي ثقة ، جلیل القدر ، له کتاب (4)انتهى .

ص: 82


1- فروع الكافي 5: 542 ح6 جامع أحاديث الشيعة 20 : 328ح 2.
2- رجال الشيخ ص 382.
3- رجال الشيخ ص 408.
4- الفهرست ص 113 .

وفي الكشي : علي بن الحكم الأنباري(1) انتهى ، ثمّ ذكر ترجمته ، ولا يبعد کونه متحداً مع علي بن الحكم بن الزبير .

وفي النجاشي : علي بن الحكم بن الزبير النخعي أبو الحسن الضرير مولى ،له ابن عمّ يعرف بعلي بن جعفر بن الزبير ، روى عنه ، له كتاب (2) انتهى.

واختلفوا في اتّحاد الجميع وتعدّده ، قال في تنقيع المقال : قال في المسالك : إنّ علي بن الحكم مشترك بين ثلاثة رجال : أحدهم علي بن الحكم الكوفي وهو ثقة . والثاني علي بن الحكم تلميذ إبن أبي عمير ، ذكره الكشي ولم يذكر له مدحاً ولا ذماً.

والثالث : علي بن الحكم بن الزبير انتهی .

وتكرّر في المدارك ذكر اشتراکه بين الثقة وغيره ، وكذا المحقّق الأردبيلي ، وكذا غيرهم ، فراجع و تدبّر .

واختار جمع من الأواخر اتّحاد الجميع ، منهم صاحب المعالم ، ونجله المحقّق الشيخ محمّد ، والفاضل التفرشي ، والمجلسي - إلى آخر كلامه - ثمّ ذكر ما استشهدوا به الاتّحاد الجميع ، فراجع(3).

وأمّا علي بن سوید ، ففي رجال الشيخ في أصحاب الصادق علیه السلام قَالَ : عَلِيُّ بْنُ سوید الْحَضْرَمِيِّ الْكُوفِيِّ (4) .

وفي أصحاب الكاظم علیه السلام قَالَ : عَلِيُّ بْنُ سُوَيْدِ التَّمَّارُ (5) .

ص: 83


1- اختیار معرفة الرجال 2: 840 برقم: 1079.
2- رجال النجاشی ص 274.
3- تنقیح المقال 2: 285 - 286.
4- رجال الشيخ ص 244.
5- رجال الشيخ ص 340 برقم : 5055.

وفي أصحاب الرضا علیه السلام قال : علي بن سويد الساني ثقة(1) .

وفي الفهرست : علي بن سويد السائي ، له کتاب (2).

وقال : علي بن سويد الصنعاني له کتاب (3) انتهى .

وفي الكشي عن علي بن سويد أنّه كتب إلى أبي الحسن موسى علیه السلام وهو في الحبس (4)انتهى.

وقال النجاشي : علي بن سويد الساني روي عن أبي الحسن علیه السلام . وقيل : روی عن أبي عبد الله علیه السلام وليس أعلم(5) انتهى .

وفي رجال ابن داود عنون علي بن سويد السائي ، و نقل عن رجال الشيخ أنّه من أصحاب الكاظم علیه السلام (6)ولم ينقل عنه أنّه ثقة ، لكن عدّه في القسم الأوّل المعدّ للموثّقين ، يدلّ على أنّه ثقة عنده .

ثمّ إنّ المذكور في السند مشترك بين التمّار والسائي ، ولا دليل على اتّحادهما مع تعدّد عنوانها ، والأوّل لم يذكر له توثيق ، والثاني تفرّد الشيخ بتوثيقه ، وفي مثل ذلك مع سكوت النجاشي عن توثيقه ، يحتمل أن لا يكون توثيق الشيخ مستنداً إلى الحسّ .

فلم يثبت حال الرجل في ضبطه وكيفيّة إحاطته بذكر القرائن المقاليّة والماليّة ؛لأنّ الوثاقة المطلّقة – كما قيل – هي الوثاقة في المذهب والقول والضبط .

ص: 84


1- رجال الشيخ ص 259 برقم : 5320.
2- الفهرست ص 95 برقم : 394.
3- الفهرست ص 96 برقم : 403.
4- إختيار معرفة الرجال 2: 754 برقم: 859.
5- رجال النجاشي ص 276 برقم : 724.
6- رجال ابن داود ص 245.

وأمّا دلالته ، فظاهره أنّ من ابتلي ولو لمحبّته للمناظر الجميلة من المرأة لا لشهوة حيوانيّة يجوز له النظر إليها إن كانت نيّته النظر إلى جمالها من دون شهوة لئلاّ ينجرّ إلى الزنا ، والابتلاء يستعمل في الخير والشرّ.

وفيه أنّه مخالف لما ثبت من الشرع من الابتعاد عن الأجنبيّات ، حتّى أنّه ورد عدم التسليم عليهنّ ، کما روئ في الكافي ، عن محمّد بن يحيى ، عن أحمد بن محمّد ، عن محمّد بن يحيى ، عن غياث بن إبراهيم ، عن أبي عبد الله علیه السلام أنّه قال : لا تسلّم على المرأة (1) . ويدلّ عليه خبر مسعدة بن صدقة(2).

وأيضاً ورد أنّه لا يجلس في مجلس المرأة إن قامت حتى يبرد ، کما رواه السكوني، عن أبي عبد الله علیه السلام قال : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلی الله و علیه وآله وسلم إِذَا جَلَسَتِ الْمَرْأَةُ مَجْلِساً فَقَامَتْ عَنْهُ ، فَلَا يَجْلِسْ فِي مَجْلِسِهَا رَجُلُ حَتَّى يَبْرُدَ(3).

إلى غير ذلك من أحكام المرأة ، مثل ما رواه في الكافي ، عن عدّة من أصحابنا عن سهل بن زیاد ، عن جعفر بن محمّد الأشعري ، عن ابن القدّاح ، عن أبي عبد الله علیه السلام قَالَ : نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلی الله و علیه وآله وسلم أَنْ يُرْكَبَ سَرْجُ بِفَرْجٍ (4) . وَ فَسَّرَهُ فِي الْفَقِيهِ بِقَوْلِهِ : يَعْنِي الْمَرْأَةَ تَرْكَبُ بِسَرْجٍ (5).

ولا حظ سائر الروايات الواردة بهذا المضمون في الباب الذي ذكرت فيه هذه الرواية .

وما رواه في الكافي بسنده ، عن هشام بن سالم ، عن أبي عبد الله علیه السلام قال : قال

ص: 85


1- فروع الكافي 5: 535ح 2، جامع أحاديث الشيعة 307:20 ب 18ح 1.
2- فروع الكافي 5: 534 - 535 ح 1 ، جامع أحاديث الشيعة 307:20ح 2.
3- فروع الكافي 5: 564 ح 38، جامع أحاديث الشيعة 308:20 ب 20ح 1.
4- فروع الكافي 19: 516 ح 3.
5- من لا يحضره الفقيه 3: 468، جامع أحاديث الشيعة 20: 316 ب26 ح 1.

رسول الله صلی الله و علیه وآله وسلم : لَيْسَ لِلنِّسَاءِ مِنْ سَرَاةِ الطَّرِيقِ وَ لَكِنْ جَنْبَيْهِ يَعْنِي وَسَطَهُ(1).

ثمّ إنّ في معنى الخبر احتمالات:

أحدها : ما ذكره الشيخ الأنصاري رحمة الله في كتاب النكاح ، قال : إنّ مراد السائل أنّه كثيرة يتّفق له الابتلاء بالنظر إلى المرأة الجميلة ، وأنّه حين النظر إليها والمكالمة معها المعاملة أو غيرها يتلذّذ لمكان حسنها.

ولعلّ ذلك من جهة كون الراوي من أهل الصنائع والحرف التي يكثر مخالطتهم للنساء ، كالصائغ والبزّاز حيث يكثر تردّد النساء إليهم ، سیّما نساء البوادي اللاتي لا پستترن، فسأل عن أنّه يجب الكفّ عن النظر عند التلذّذ أم لا؟

فأجاب علیه السلام بأنّه لا بأس بذلك إذا علم الله من قصدك مطابقة ما تظهره من أنّ نظرك ليس لمجرّد التلذّذ حيث عبرت عن مخالطتك معهنّ بالابتلاء بهنّ ، وإنّك کاره الإعجابك الحاصلی حين النظر ، ثمّ حذره عن الزنا(2) انتهی .

قلت : لعلّ لازم كلامه رحمة الله جواز النظر إلى شعورهنّ أيضاً ، لأنّ نساء البوادي لايسترن مقدّم شعورهنّ ، فيجوز له إدامة النظر إليهنّ في المعاملة . وهو بعيد جدّاً .

هذا ولكنّه قال رحمة الله بعد ذلك : نعم ينافي هذا الخبر ما رواه في الكافي - في الحسن إبراهيم بن هاشم - عن ربعي بن عبد الله ، عن أبي عبد الله علیه السلام، قال : كان رسول الله صلی الله و علیه وآله وسلم يسلّم على النساء ، وكان أمير المؤمنين علیه السلام يسلّم على النساء ، وكان يكره أن يسلّم على الشابّة منهنّ ويقول : أتخوّف أن يعجبني صوتها فيدخل عليّ أكثر ممّا طلبت من الأجر (3) انتهى ، ولاحظ تتمّة كلامه.

ثانيها : ما في الجواهر من أنّ المراد أنّه يبتلي بذلك اتّفاقاً ولا يديم النظر لكن

ص: 86


1- فروع الكافي 5: 516ح 4، جامع أحاديث الشيعة 317:20ب 25ح 2.
2- کتاب النكاح للشيخ الأنصاري ص 53.
3- كتاب النكاح ص 54.

يعجبه ذلك (1)انتهی.

وردّه في المستمسك بأنّ النظر الاتّفاقي لا نيّة فيه (2) انتهى . أي : لا معنى لقوله « إِذَا عَرَفَ اللَّهُ مِنْ نِيَّتِكَ ».

وفيه أنّه يكفي علمه بأنّه يتّفق وقوع نظره إليها ؛ لأنّه إذا لم يجز النظر الاتّفاقي يجب عليه أن لا يخرج من بيته مثلاً ، فهو قادر على تركه ، لكن لا بأس به إن كانت نيّنه مجرّد اتّفاق النظر .

ثالثها : ما في المستمسك من أنّ الظاهر منه الاضطرار إلى النظر لعلاج ونحوه ، بقرينة قوله « إذا عرف الله من نيّتك الصدق » يعني الصدق في أنّ نظرك للغاية اللازمة(3) انتهى .

وفيه أنّ الابتلاء أعمّ من الاضطرار إلى النظر .

وقد ظهر ما تقدّم أنّ ظاهر الخبر جواز النظر إلى المرأة الجميلة التي لا تستر بعض شعر رأسها ولا عنقها ولا اُذنيها، وهو مخالف للأخبار الدالّة على حرمة النظر إلى الأجنبيّة ، بل لعلّها ضروريّ ، فلابدّ من طرحه ، أو حمله على النظر الاتّفاقي الذي لا يعلم به قبل وقوع نظره إليها.

كما في الجواهر حيث قال : لا أنّ المراد الرخصة له في النظر إلى الأمرأة الجميلة التي يعجبه النظر إليها الذي يمكن دعوى الضرورة على عدم جوازه، والضرورة على عدم وقوع ذلك من الامام علیه السلام الذي من عادته الحثّ والترغيب في عدم ذلك.

قال الصادق علیه السلام : مَنْ نَظَرَ إِلَى امْرَأَةٍ فَرَفَعَ بَصَرَهُ إِلَى السَّمَاءِ أَوْ غَضَّ بَصَرَهُ لَمْ

ص: 87


1- جواهر الكلام 79:29
2- المستملك 13: 25.
3- المستمسك 13 : 25.

يرتدّ إليه طرفه حتّى يزوّجه الله من حور العين ، وفي خبر آخر : حتّى يعقّبه الله إيماناً يجد طعمه . والمراد بمن نظر إلى آخره من وقع نظره اتفاقاً ، ومنه ينقدح احتمال إرادة ذلك من أدلّة الجواز .

ودعوى عدم صلیاحيّة النظر الاتّفاقي لأن يكون موضوعاً لحكم شرعىّ ولوالإباحة ، يدفعها منع ذلك باعتبار مقدّماته بالمعنى الذي ذكرناه سابقاً (1) انتهى .

الخامس : ما يستفاد من الروايات الواردة في الموارد المختلفة - من السؤال عن ستر المرأة شعرها - الدالّة على جواز النظر إلى الوجه.

منها : ما ورد في تعليل عدم جواز کشف الشعور ، وهو ما رواه محمّد بن سنان أنّ الرضا علیه السلام كتب فيما كتب من جواب مسائله : حُرِّمَ النَّظَرُ إِلَى شُعُورِ النِّسَاءِ الْمَحْجُوبَاتِ بِالْأَزْوَاجِ ، وَ إِلَى غَيْرِهِنَّ مِنَ النِّسَاءِ ، لِمَا فِيهِ مِنْ تَهْيِيجِ الرِّجَالِ وَ مَا يَدْعُو التَّهْيِيجُ إِلَى الْفَسَادِ وَ الدُّخُولِ فِيمَا لَا يَحِلُّ وَ لَا يَجْمُلُ ، وَ كَذَلِكَ مَا أَشْبَهَ الشُّعُورَ إِلَّا الَّذِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى «وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ ۖ» وَ غَيْرِ الْجِلْبَابَ ، وَ لَا بَأْسَ بِالنَّظَرِ إِلَى شُعُورِ مِثْلِهِنَّ (2).

ويمكن المناقشة فيه بأنّ قوله علیه السلام « وَ كَذَلِكَ مَا أَشْبَهَ الشُّعُورَ مِمَّا يَدْعُو إِلَى التَّهْيِيجُ » يشمل الوجه والكفّين وغيرهما . والمراد کونه كذلك في طبعه لا لمانع في الناظر أو المنظور إليه.

ومنها: ما ورد في عدم جواز النظر إلى شعر اُخت الزوجة ، وهو ما رواه أحمد بن محمّد بن أبي نصر ،قَالَ : سَأَلْتُ الرِّضَا علیه السلام عَنِ الرَّجُلِ أَ يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى شَعْرِ أُخْتِ امْرَأَتِهِ ؟ فَقَالَ : لَا إِلَّا أَنْ تَكُونَ مِنَ الْقَوَاعِدِ ، قُلْتُ لَهُ : أُخْتُ إمرأته وَ الْغَرِيبَةُ

ص: 88


1- جواهر الكلام 79:29.
2- جامع أحاديث الشيعة 20: 278 ح 9.

سَوَاءُ ؟ ! قَالَ : نَعَمْ ، قِلَّةُ : فمالي مِنَ النَّظَرِ إِلَيْهِ مِنْهَا ؟ فَقَالَ : شَعْرُهَا وَ ذِرَاعُهَا(1).

فإنّه يشعر بأنّه لم يكن النظر إلى الوجه حراماً ، وإلّا كان السؤال أولى من السؤال عن الشعر .

ومنها : ما ورد في جواز النظر إلى شعور نساء أهل الذمّة ، وهو خبر عبّاد بن صهيب ، قال : سمعت أبا عبد الله علیه السلام يقول : لَا بَأْسَ بِالنَّظَرِ إِلَى شُعُورِ نِسَاءِ أَهْلِ تِهَامَةَ وَ الْأَعْرَابِ وَ أَهْلِ الْبَوَادِي وَ الْعُلُوجِ ؛ لِأَنَّهُ إِذَا نُهِينَ لَا يَنْتَهِينَ ، قَالَ : وَ الْمَجْنُونَةُ وَ الْمَغْلُوبَةُ لَا بَأْسَ بِالنَّظَرِ إِلَى شَعْرِهَا وَ جَسَدِهَا مَا لَمْ يَتَعَمَّدْ ذَلِكَ (2).

فإنّه يشعر بأنّ الذي يكون محل توهّم المنع الشعور لا الوجوه.

ومنها: ما ورد في الخصيّ ، وهو خبر محمّد بن إسحاق ، قال : سألت أبا الحسن موسي علیه السلام قلت : يكون للرجل الخصيّ يدخل على نسائه فيناولهنّ الوضوء ، فيرى شعورهنّ ؟ قال : لا (3).

فإنّ السؤال عن الشعر يدلّ على أن جواز النظر إلى الوجه كان مرکوزأ في ذهن السائل .

ومنها : ما ورد في المملوك ، وهو صحیح معاوية بن عمّار ، قال : قلت لأبي عبد الله علیه السلام المملوك يرى شعر مولاته وساقها ؟ قال : لا بأس(4).

فإنّه يدلّ على أن السائل كان يعتقد جواز نظره إلى الوجه والكفّين .

ومنها: ما ورد في قناع الأمة ، وهو خبر محمّد بن إسماعيل بن بزیع ، قال : سألت أبا الحسن الرضا علیه السلام عن أمّهات الأولاد ألها أن تكشف رأسها بين أيدي الرجال ؟

ص: 89


1- جامع أحاديث الشيعة 20 : 284 ب 2ح 1.
2- جامع أحاديث الشيعة 20 : 284 ح 2.
3- جامع أحاديث الشيعة20: 293 ح 2.
4- جامع أحاديث الشيعة 20: 295ح 2.

قال : تقنّع(1).

فإنّه يدلّ على أن جواز کشف الوجه لها أمر مفروغ عنه عند السائل .

ويمكن المناقشة في دلالة هذه الأخبار على جواز النظر عمداً إلى الوجه والكفّين بأنّ السؤال فيها عن جواز ايداء الشعر ، والجواب مطابق له ، وليس فيه تعرّض الغيره .

وأمّا كون المركوز في أذهان السائلين جواز النظر إلى الوجه والكفّين أو المفروغيّة عنه ، فلعلّه من أجلّ أن كشف بعض الوجه كالعين وبعض اليد كالخاتم مطلقاً، أو في بعض الأحيان ، كحال الضرورة كان جائزاً ، بخلاف الشعر وسائر مواضع البدن ، فإنّ لزوم سترها في جميع الحالات ثابت عندهم ، وهو المركوز في أذهانهم ، والمفروغ عنه عندهم ، فلذا سألوا عن إبدائها لبعض الأشخاص .

ومنها : الأخبار الدالّة على جواز النظر إلى الوجه والذراعين من الميّت المستلزم الجوازه إذا كانت لها حياة.

خبر أبي بصير ، قال : سألت أبا عبد الله علیه السلام عن امرأة ماتت في سفرها وليس معها نساء ولا ذو محرّم ، فَقَالَ : يُغْسَلُ مِنْهَا مَوْضِعُ الْوُضُوءِ وَ يُصَلَّى عَلَيْهَا وَ تُدْفَنُ (2).

وفيه أوّلاً : ضعف السند بمحمّد بن أسلم الجبلي .

و ثانياً : معارضته بصحيح فضيل الدالّ على أنّ الذراعين من الزينة التي لا تبديها المرأة إلّا للمحارم.

وثالثاً : معارضته بالأخبار الصحيحة التي تدلّ على أنّها تدفن ، ولا يغسّل منها شيء.

ص: 90


1- جامع أحادیث الشيعة 20 : 298ح 1ب 11.
2- جامع أحاديث الشيعة 1: 270.

ورابعاً : احتمال الخصوصيّة ، فهو نظير الضرورة المبيحة لجواز النظر .

وخامساً : احتمال وجوب التغسيل بدون النظر .

وكصحیع داود بن فرقد : يُغَسّلونَ كفّيها (1)..

وخبر جابر : يغسّل كفّيها(2)

وخبر مفضّل : يغسّل منها ما أوجب الله عليهم التيمّم ، ولا يمسّ ولا يكشف لها شيء من محاسنها(3).

وخبر أبي سعيد(4) بناءً على عدم الفرق بينها وبين الرجال ، وهي تدلّ على جواز المسّ.

وفيها أوّلاً : أنّها متعارضة في أنفسها ؛ لأنّ بعضها يدلّ على خصوص الكفّ .

وبعضها على الكفّ، والجبهة التي هي موضع التيمّم .

وثانياً : أنّها معارضة بروايات أصحّ وأكثر تدلّ على أنّها تدفن ولا يغسّل شيء من بدنها.

وثالثاً : يحتمل کون الجواز فيها للضرورة ؛ لأنّه يجوز النظر للضرورة.

ورابعاً : يحتمل - وإن كان بعيداً - أن يكون التغسيل بحيث لا ينظر إلى تلك المواضع.

وخامساً : ضعف السند ؛ لاشتمال الثاني على عمرو بن شمر ، والثالث على عبدالرحمن بن سالم .

ثمّ إنّ مسألة غسل غير المحرّم مذكورة في محلّها ، وليس الكلام هنا فيها .

ص: 91


1- جامع أحاديث الشيعة 1: 269 ح 3.
2- جامع أحاديث الشيعة 1: 269 ح 4.
3- جامع أحاديث الشيعة 1: ح 21.
4- جامع أحاديث الشيعة 1:ح 21.

السادس : صحيح فضيل بن يسار المتقدّم ، فقد استدلّ به الشيخ الأنصاري و وغيره بأنّ المستفاد منه أنّ ما تحت الخمار وما دون السوارين - أي الذراع - من الزينة التي لا تبديها المرأة إلا للمحارم . وأمّا الوجه والكفّان ، فهما من الزينة التي لا يختصّ إبداؤها للمحارم.

واُورد عليه بأنّ أقصى ما يمكن أن يقال بدلالته عليه هو جواز اپدائها الوجه والكفّين ، وهو لا يستلزم جواز النظر.

وفيه أنّ المرأة لا تتزيّن لنفسها ، فإنّها إن كانت في مكان لا يراها أحد لم تتزيّن أصلیاً ، فإذا قيل لها : لا تبدي زينتك إلّا الزينة الظاهرة ، كان معناه جواز إبدائها زينتها للناس ، وكونها في معرض نظرهم إليها ، فإنّهم إذا خرجوا من بيوتهم إلى الأسواق مثلاً نظروا إلى الأشياء والأشخاص ، ومنها الزينة التي تبديها المرأة .

فمعني إبداء زينتها الظاهرة هو إبداؤها لأن ينظروا إليها ، فإذا جاز لها إبداؤها لينظروا إليها جاز لهم النظر .

وهذا المعنى هو المفهوم عرفاً من قوله تعالى «وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا» أي : لا يرين زينتهنّ للناس.

ولكن تقدّم الكلام في معنى الآية ، كما تقدّم أنّ صحیح فضيل بن يسار قد فرض فيه جواز نظر المحارم إلى الوجه والكفّين ، وأنّ السؤال عن جواز نظرهم إلى الذراعين .

السابع : خبر أبي الجارود المتقدّم الدالّ على أنّ الزينة ثلاثة أقسام : أحدها الزينة الظاهرة ، وهي الاراءة الناس ونظرهم إليها ، فإنّه يدلّ على جواز النظر .

قلت : مرّ الكلام فيه سنداً ودلالة ، مع أنّه خصّ الكحل فقط بالزينة الظاهرة في الوجه .

الثامن : خبر جابر المتقدّم ، المذكور فيه رؤية جابر الأنصاري لوجه فاطمة

ص: 92

الزهراء علیها السلام.

قلت : تقدّم الكلام فيه فلاحظ .

وذكر الشيخ الأنصاري رحمة الله أخبار تؤيّد أو تدلّ على جواز النظر .

قال : منها ما سيجيء في جواز سماع صوتها.

أقول : إن أراد أنّه ملازم للنظر إلى وجهها وكفّيها ، ففيه منع . وإن أراد دلالته على أنّها ليست عورة مطلقاً يجب سترها من جميع الجهات حتّى سماع صوتها ، ففيه أنّه لا يدلّ على جواز النظر .

قال : ومنها ما دلّ على كراهة القنازع والقصّة ونقش الراحة بالخضاب للمرأة ،وأنّ نساء بني إسرائيل هلكن بهذه ، إذ لو وجب ستر الوجه والكفّين كغيرهما لم يكره تزيينها كما لا يكره غيرها كيف شاءت(1) انتهي.

أقول : لا يبعد أن يكون المكروه إزالة بعض شعر الرأس وإبقاء بعضه فينفسه ولو لم يره الناس ، أو رآه النساء فقط ، ولو لم يكن مكلّفاً كالصبي ، وكذا نقش اليد بالخضاب لا خضاب تمام الكفّ.

ففي خبر السكوني عن أبي عبد الله علیه السلام، قال : إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ علیه السلام نَهَى عَنِ الْقَنَازِعِ وَ الْقُصَصِ وَ نَقْشِ الْخِضَابِ عَلَى الرَّاحَةِ ، وَ قَالٍ : إِنَّمَا هَلَكَتْ نِسَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ قِبَلِ الْقُصَصِ وَ نَقْشِ الْخِضَابِ (2)

وفي خبر مسمع ، عن أبي عبد الله علیه السلام ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلی الله و علیه وآله وسلم : لَا تَحِلُّ لِامْرَأَةٍ حَاضَتْ أَنْ تَتَّخِذَ قُصَّةً أَوْ جُمَّةً (3) .

وفي خبر السكوني اُتي النبي صلی الله و علیه وآله وسلم بصبي يدعو له وله قنازع ، فأبي صلی الله و علیه وآله وسلم أن يدعو

ص: 93


1- كتاب النكاح ص 48.
2- فروع الكافي 5: 520ح 1.
3- فروع الكافي 5: 520 ح 2.

له وأمر أن يُحلق رأسه .

وفي رواية ابن القدّاح قوله علیه السلام: كَرِهَ الْقَزَعَ فِي رؤوس الصِّبْيَانِ ، وَ ذَكَرَ أَنَّ الْقَزَعَ أَنْ يُحْلَقَ الرَّأْسُ إِلَّا قَلِيلًا ويترل وَسَطُ الرَّأْسِ تُسَمَّى قَزَعَةَ (1).

ثمّ إنّ هذه الأخبار التي ذكرناها في أدلّة الجواز قد وردت من طرقنا. وأمّا من طرق العامّة ، فقد روى أبو داود بإسناده عن خالد بن دريك ، عن عائشة : أنّ أسماء بنت أبي بكر دخلت على رسول الله صلی الله و علیه وآله وسلم وعليها ثياب رقاق ، فأعرض عنها رسول الله صلی الله و علیه وآله وسلم،وَ قَالٍ : يَا أَسْمَاءُ إِنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا بَلَغَتِ الْمَحِيضَ لَمْ تَصْلُحُ أَنْ يُرَى مِنْهَا إِلَّا هَذَا وَ هَذَا وَ أَشَارَ إِلَى وَجْهِهِ وَ كَفَّيْهِ انْتَهَى .

وهذا الخبر غير معتبر عندهم ، فإنّ أبا داود قال بعد ذكر الحديث : هذامرسل ، خالد بن دريك لم يدرك عائشة(2).

القول الثالث : التفصيل بين المرّة والتكرار ، وهو الذي اختاره في الشرائع ، حيث قال : يجوز أن ينظر إلى وجهها وكفّيها على كراهيّة مرّة ، ولا يجوز معاودة النظر (3)انتهي.

وكذا لا يجوز إطالة النظر ، فإنّها بحكم المعاودة . وقد قيل : إنّه وجه الجمع بين ما دلّ على الجواز وما دلّ على عدمه ، ويشهد له أخبار :

الأوّل : ما رواه في الفقيه ، عن ابن أبي عمير ، عن الكاهلي ، قال : قَالَ أَبُو عبدالله علیه السلام : النَّظْرَةُ بَعْدَ النَّظْرَةِ تَزْرَعُ فِي الْقَلْبِ الشَّهْوَةَ ، وكفی بِهَا لِصَاحِبِهَا فِتْنَةً(4).

فإنّه يدلّ على أنّ النظرة الثانية تؤدّي إلى الفتنة ، فتحرم من حيث إنها تنجرّ

ص: 94


1- جامع أحاديث الشيعة 20: 230 ب 33.
2- سنن أبي داود 4 :62.
3- شرائع الاسلام 2: 269.
4- من لا يحضره الفقيه 4: 18 برقم: 4970، جامع أحاديث الشيعة 20 : 279 ح 11.

الیها.

وفيه أنّه لا دلالة فيه على جواز النظرة الأولى ، فقد يقال : إنّ الأولى محرّمة ، وإنّما الوقوع في الفتنة بالثانية .

الثاني : ما رواه في العيون بسنده عن علي علیه السلام، قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ صلی الله و علیه وآله وسلم : يَا عَلِيُّ لَا تُتْبِعِ النَّظْرَةَ النَّظْرَةَ ، فَلَيْسَ لَكَ إِلَّا أَوَّلُ نَظْرَةٍ (1).

فإنّ مقتضى إطلاق أنّ له أوّل نظرة شمول النظرة لما كان منها عن اتّفاق أو عمد .

لكن قال في الجواهر : بل يمكن دعوی ظهورها في إرادة النهي عن اتّباع النظر الاتّفاقي بالنظر العمدي ، كما هو الواقع غالباً ، فيكون حينئذ دليلاً للمختار(2).

قلت : لا ظهور له في تعمّد النظر ، وإطلاق المنع لا مقيّد له ، مضافاً إلى ما في سنده ممّا يوجب عدم مقاومته لأدلّة المنع سنداً .

الثالث : ما رواه في المعاني بسنده عن أبي الطفيل ، عن علي بن أبي

طالب علیه السلام(3) قريباً من الثاني.

وقريب منه ما رواه في الفقيه مرسلا ً(4) ، وما رواه عن الأصبغ بن نباته (5) ، وما رواه في الخصال (6)، وما رواه صاحب الدعائم (7).

والحاصلی أنّ هذا القول غير ناهض ، والأقوى هو ما ذكرناه فيما تقدّم .

ص: 95


1- جامع أحاديث الشيعة 20 : 279 - 12.
2- جواهر الكلام 29: 81.
3- جامع أحاديث الشيعة 280:20 ح 14.
4- جامع أحاديث الشيعة 280:20 ح 16 .
5- جامع أحاديث الشيعة 280:20 ح 17.
6- جامع أحاديث الشيعة 280:20 ح 18.
7- جامع أحاديث الشيعة 2820:20 ح 19.

في جواز النظر إلى المرأة الأجنبيّة للضرورة

المسألة الثانية : يجوز النظر إلى المرأة الأجنبيّة إن اضطرّ إليه ، كما إذا توقّف حفظ النفس المحترمة على النظر إليها ، أو كان هناك مريض يتوقّف حفظ نفسه عن الهلاك على النظر .

وأمّا إذا كان مرضاً لا يتحمل عادة ، أو يكون تحمّله حرجاً، ويكون العلاج منحصراً بنظر الأجنبيّ، فلا يبعد الجواز ، الخبر الثمالي (1) المتقدّم ، ومثله ما رواه في الدعائم (2).

وأمّا إذا كان مرضاً يتحمل عادة وليس في تحمّله حرج ، فإنّ كان لو ترك علاجه يطيب بنفسه وإن طال زمان المرض ، ففي صدق الاضطرار المذكور في رواية الثمالي تأمّل.

وأمّا إذا كان لا يطيب إلّا بالمعالجة وكانت منحصرة بنظر الأجنبيّ، ففي صدق الاضطرار لرفع هذا المرض الذي يتحمّل عادة - كوجع قليل جداً في رجل المرأة مثلاً - إشكال.

ثمّ إنّه يقيّد إطلاق خبر علي بن جعفر عن أخيه موسي علیه السلام - قال : سألته عن المرأة تكون بها الجروح في فخذها أو بطنها أو عضدها هل يصلیح للرجل أن ينظر إليه يعالجيه ؟ قال : لا (3) - ما إذا لم يكن العلاج منحصراً بالرجل .

في جواز النظر لحاجة

المسألةالثالثة : هل يجوز النظر لحاجة أم لا؟

قال الشيخ الأنصاري رحمة الله: المراد بالحاجة التي استثناها المصنّف قدس سره من تحريم

ص: 96


1- جامع أحادیث الشيعة 20: 285 ب 5 ح 1.
2- جامع أحاديث الشيعة 20: 285 - 286ح 2.
3- جامع أحاديث الشيعة 20 : 286 ح 3 ورواه في قرب الإسناد ص 101.

النظر إلى الأجنبيّة هي الحاجة المضطرّ إليها دون مطلق الحاجة ، وإلّا فالنظر غالباً لا يكون إلّا لحاجة ، مع أنّ مطلق الحاجة لا دليل على تسويغها للنظر المحرّم ، وإنّما المسوّغ الضرورة بحكم العقل والنقل (1) انتهي.

ولكن في المبسوط جوّز النظر لحاجة ، قال : والحاجة مثل أن يتحمّل شهادته على امرأة ، فلابّد أن يرى وجهها ليعرفها ، ومثل ما لو كانت بينهما معاملة ومبايعة ليعرف وجهها ، فيعلم من التي يعطيها الثمن إن كانت بايعة والمثمن إن كانت متبايعة ، ومثل الحاكم إذا حكم عليها ، فإنّه يرى وجهها ليعرفها ويجلبها (2) انتهى.

قلت : ما ذكره الشيخ الأنصاري رحمة الله متين ؛ لأنّ الضرورات تبيح المحذورات .

في جواز النظر بتلذّذ بغير شهوة

المسألة الرابعة : هل يجوز النظر للتلذّذ كما يتلذّذ بالنظر إلى المناظر الجميلة والحدائق ونحوها ؟

قال الشيخ الأنصاري رحمة الله : قد عرفت أنّ النظر إذا كان بقصد التلذّذ فهو حرام إجماعاً ، كما ادّعاه غير واحد انتهى.

في جواز النظر إلى نساء أهل الذمة

المسألة الخامسة : قال في الشرائع : ويجوز النظر إلى نساء أهل الذمّة و شعورهنّ ؛لأنّهنّ بمنزلة الإماء، لكن لا يجوز ذلك لتلذّذ ولا لريبة(3) .

أقول : ظاهره اختصاص الجواز بنساء أهل الذمّة لا مطلق الكفّار، ولا أهل

ص: 97


1- كتاب النكاح ص 56.
2- المبسوط 4: 161.
3- شرائع الاسلام 2: 269.

الكتاب إن لم يعملوا بشرائط الذمّة . وإطلاق كلامه يقتضي جواز النظر إليهنّ حتّى وإن كنّ ساترات ، أو ينتهين إن نهين ، بأن كنّ في دولة إسلاميّة و الزمن بالحجاب .

واستدلّ للجواز بوجوه :

الأوّل : ما في الجواهر من أنّهم مماليك للمسلمين ، باعتبار كونهم كغيرهم من أموالهم فيئاً لهم ، وإن حرم على المسلمين نكاحهنّ تبعاً لذمّة الرجال ، كالأمة المزوّجة ، والأمة المملوكة للمسلم(1).

قلت : يمكن تعلیل حرمة النكاح بأنّها مشتركة بينهم ، بناءً على جواز النظر إلى الأمّة المشتركة ، وهذا الوجه لا يأتي في مطلق الکفّار ؛ لعدم صيرورتهم فيئاً للمسلمين .

واُورد عليه بأنّ الملك لا يتمّ إلا بالاسترقاق ولم يحصلی ، والالتزام بكونهم مماليك ينافي جملة من الأحكام الثابتة لهم ، كالدية إذا قتل أحدهم ، فإنّها تدفع إلى أقربائه ، ولو كان ملكاً كان ينبغي دفع القيمة إلى مالكه لا إلى أقربائه ، والإرث فإنّهم يرثون بعضهم بعضاً. ثمّ إنّه لو كان مراده ذلك كان ينبغي أن يعبّر بأنّهم مماليك الا انّهم بمنزلتهم.

قلت : في بعض الأخبار أنّ المشرك ملك للمسلم ، فبناءً على تعميمه لمطلق الكفّار يشمل أهل الكتاب أيضاً.

وهو ما رواه في الاستبصار بسنده عن أحمد بن محمّد بن عيسى ، عن ياسين الضرير ، عن حریز ، عن زرارة، عن محمّد بن مسلم ، عن أبي جعفر علیه السلام ، قال : لَيْسَ بَيْنَ الرَّجُلِ وَ وَلَدِهِ وَ بَيْنَهُ وَ بَيْنَ عَبْدِهِ وَ لَا بَيْنَ أَهْلِهِ رِبًا ، إِنَّمَا الرِّبَا فِيمَا بَيْنَكَ وَ بَيْنَ مَا لَا تَمْلِكُ ، فَقُلْتُ : وَ الْمُشْرِكُونَ بَيْنِي وَ بَيْنَهُمْ رِبًا ؟ قَالَ : نَعَمْ ، قَالَ : قِلَّةُ : فَإِنَّهُمْ مَمَالِيكَ ؟

ص: 98


1- جواهر الكلام 29: 68.

فقال : إنّك لست تملكهم ، إنّما تملكهم مع غيرك ، أنت وغيرك فيهم سواء، والذي بينك وبينهم ليس من ذلك : لأنّ عبدك ليس مثل عبد غيرك(1).

الثاني : ما ذكره في الجواهر : من أنّهنّ بمنزلة إماء الغير ، بناءً على جواز النظر إلى أمّة الغير ، ويدلّ عليه :

ما رواه في التهذيب ، عن الكافي ، عن علي بن إبراهيم ، عن أبيه - عن ابن محبوب کما في نسخة الكافي - عن ابن رئاب ، عن أبي بصير ، عن أبي جعفر علیه السلام، قال : سألته عن رجل له امرأة نصرانيّة ، له أن يتزوّج عليها يهوديّة ؟ فَقَالَ : إِنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ مَمَالِيكُ لِلْإِمَامِ ، وَ ذَلِكَ مُوَسَّعُ مِنَّا عَلَيْكُمْ خَاصَّةً الْحَدِيثَ (2).

وهذه الرواية تدلّ على أنّه من الإماء، ويجري عليهنّ حکمهنّ ، ومن أحكامهنّ جواز النظر إليه.

وما رواه في الكافي ، عن علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن محبوب ، عن ابن رئاب ، عن ابن بكير ، عن زرارة ، عن أبي جعفر علي، قال : سألته عن نصرانية كانت تحت نصرانيّ وطلّقها هل عليها عدّة مثل عدّة المسلمة ؟ فقال : لا لأنّ أهل الكتاب مماليك للإمام ، ألا ترى أنّهم يؤدّونهم الجزية ، كما يؤدّي العبد الضريبة إلى مولاه ، قال : ومن أسلم منهم فهو حرّ تطرح عنه الجزية . قلت : فما عدّتها إن أراد المسلم أن يتزوّجها ؟ قال : عدّتها عدّة الأمة حيضتان أو خمسة وأربعون يوماً قبل أن تسلّم الحديث (3).

ويورد على هذا الوجه ما ذكر في الوجه الأوّل من أنّه ينبغي أن يقول لأنّهنّ إماء

ص: 99


1- الاستبصار 3: 71ح 2.
2- تهذيب الأحكام 7: 449 ح 5، فروع الكافي 5: 358 ح 11 ، جامع أحادیث الشيعة 20: 533ب ح 1.
3- فروع الكاني 6: 174 ، والوسائل 15 : 455کتاب الطلاق ب 46.

أي : إماء الإمام.

وأمّا جواز النظر إلى أمة الغير ، فقد استدلّ في الجواهر ببعض النصوص الواردة في شراء الأمة ، قال : نحو قوله علیه السلام « لَا أُحِبُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يُقَلِّبَ جَارِيَةً إِلَّا جَارِيَةً يُرِيدُ شِرَاءَهَا » وغيره ، بل ظاهر النصوص الواردة في مملوكة الولد المفروغيّة من کون الإماء يحلّ منهنّ لغير المالك في الجملة ، بل هو مقتضى السيرة المستمرّة في جميع الأعصار والأمصار ، بل قد يشعر به في الجملةأيضاً عدم وجوب ستر رأسها في الصلیاة.

فالأقوى جواز النظر لأمة الغير و عدم وجوب الستر عمّا هو متعارف من سيرة المتديّنين حتّى مع عدم رضا المالك ؛ إذ هو حكم شرعيّ لا مالكيّ (1) انتهي.

الثالث : ما ذكر من أنّه لا حرمة لهنّ في أنفسهنّ ، كما أنّ الإماء يختلفن عن الأحرار ، فإنّ احترام الحرائر اقتضى سترهنّ وعدم النظر إليهنّ ، بخلاف الإماء فإنّ الإماء ليست له هذه الحرمة ، وهو الستر وعدم النظر إليهنّ.

وبذلك يصحّ التنزيل ، أي : أنّ نساء أهل الذمّة مع كونه حرائر يجري عليهنّ أحكام الحرائر ، لكن بمنزلة الإماء في جواز النظر إليهنّ ، وفي مقدار عدّتهنّ ، وبعض الاُمور الاُخرى.

واستدلّ له بما رواه في الكافي ، عن علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن النوفلي ، عن السكوني ، عن أبي عبد الله علیه السلام، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلی الله و علیه وآله وسلم : لَا حُرْمَةَ لِنِسَاءِ أَهْلِ الذِّمَّةِ أَنْ يُنْظَرَ إِلَى شُعُورِهِنَّ وَ أَيْدِيهِنَّ (2).

قال في الجواهر : ضرورة ظهور ففي الحرمة في معاملتهنّ معاملة الدوابّ

ص: 100


1- جواهر الكلام29: 69.
2- فروع الكافي 5: 524، جامع أحاديث الشيعة 20: 285 ب 4 ح 1.

المملوكة(1)انتهی .

وفي سنده النوفلي ولم يذكر له توثيق ، والسكوني وهو أيضاً لم تثبت وثاقته .

وما رواه في قرب الإسناد ، عن السندي بن محمّد البزّاز ، قال : حدّثني أبو البختري ، عن جعفر بن محمّد ، عن أبيه ، عن علي بن أبي طالب علیه السلام أنّه قال : لا بأس بالنظر إلى رؤوس نساء أهل الذمة(2).

وفي سنده أبو البختري ، ولم يذكر له توثيق ، بل ذكروا ضعفه ، مع أنّ وصول قرب الإسناد بطریق معتبر غير ثابت ، والمتيقّن من الخبر الرأس والأيدي ، وليس كما ذكره في الجواهر من أنّهنّ كالدوابّ .

ومقتضى الإطلاق فيها جواز تعمد النظر.

لكن يمكن أن يقال : إنّ عدم ذكر تقيّد جواز النظر - بأن لا يكون متعمداً - للاتكال على وضوحه ، أو إنّ الإطلاق مقيّد بما رواه في الجعفريّات والأشعثيّات ، قال : أخبرنا عبد الله ، أخبرنا محمّد ، حدّثني موسى ، قال : حدّثنا أبي ، عن أبيه ، عن جده جعفر بن محمّد ، عن أبيه ، عن جده علي بن الحسين ، عن أبيه ، عن على ، قال :قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلی الله و علیه وآله وسلم : لَيْسَ لِنِسَاءِ أَهْلِ الذِّمَّةِ حُرْمَةُ ، لَا بَأْسَ بِالنَّظَرِ إِلَيْهِنَّ مَا لَمْ يُتَعَمَّدْ (3).

و بهذا الإسناد ، قال : قال رسول الله صلی الله و علیه وآله وسلم : لَيْسَ لِنِسَاءِ أَهْلِ الذِّمَّةِ حُرْمَةُ ، لَا بَأْسَ بِالنَّظَرِ إِلَى وُجُوهِهِنَّ وَ شُعُورِهِنَّ وَ نُحُورِهِنَّ وَ بَدَنِهِنَّ مَا لَمْ يُتَعَمَّدْ ذَلِكَ (4).

وحيث إنّ سند الخبرين محلّ إشكال ؛ لأنّ نسبة الكتاب إلى مؤلّفه متواتراً أو

ص: 101


1- جواهر الكلام 70:29.
2- قرب الإسناد ص 131 ح 459، جامع أحاديث الشيعة 20: 285 ب 4ح 4.
3- الجعفريّات والأشعثّات ص 82.
4- جامع أحاديث الشيعة 285:20 ب 4 ح 2.

بالتناول يداً بيد إليه لم تثبت ، وكذا وثاقة الرواة الذين رووها ، فلا يقويان على تخصیص عموم الكتاب ، ويحتمل اتّحاد الخبرین ، مضافاً إلى أنّ الوثوق بصدور ما اشتمل عليه الخبر الثاني مشكل.

وحمل بعضهم قوله صلی الله و علیه وآله وسلم « مَا لَمْ يَتَعَمَّدْ ذَلِكَ» به على النظر بقصد اللذّة أو الشهوة ، واستشهد له بخبر سعيد الأعرج أنّه سأل أبا عبد الله علیه السلام عن الرجل ينزل المرأة من المحمل فيضمّها إليه وهو محرم ، فقال : لا بأس إلا أن يتعمّد ، وهو أحقّ أن ينزلها من غيره (1).إلى غير ذلك من الأخبار .

و فيه أنّه لا دليل عليه ، فإنّ العمد هو القصد إلى الشيء في مقابل عدم القصد ،ومعنى ذلك أنّه لم يكن النظر نظراً قصداً ، أي : لم يقصد النظر بل اتّفق النظر .

قال في المقاییس : العمد هو الاستقامة في الشيء منتصباً أو ممتدّاً ، وكذلك في الرأي وإرادة الشيء من ذلك ، عمدت فلاناً وأنا أعمده عمداً إذا قصدت إليه ، والعمد نقيض الخطاً في القتل و غيره ، وإنّما سمّي ذلك عمداً لاستواء إرادتك إيّاه (2) انتهي .

الرابع : ما قاله ابن إدريس من أنّ هذا المضمون «لِأَنَّهُنَّ بِمَنْزِلَةِ الْإِمَاءِ» رواية أوردهاالشيخ الطوسي إيراداً لا اعتقاد(3)انتهي.

قلت : هذه الرواية لم تثبت حجيّتها.

ثمّ إنّ مقتضى هذه الوجوه الأربعة جواز النظر إلى شعور نساء أهل الذمّة ووجوههنّ من حيث إنّه لا حرمة لهنّ، أو كونهنّ بمنزلة الإماء حتّى وإن كنّ ساترات وملتزمات بستر الرأس والوجه .

ص: 102


1- وسائل الشيعة 9: 88ب 13ح 2.
2- مقاييس اللغة 4: 137 .
3- السرائر 2: 610.

ولكن يمكن أن يقال : بمنافاة هذه الوجوه لوجهين آخرين قد ذكرا الجواز النظر .

الأوّل : ما رواه في الكافي ، عن علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن غير واحد، عن أبي عبد الله علیه السلام،قَالَ : النَّظَرُ إِلَى عَوْرَةِ مَنْ لَيْسَ بِمُسْلِمٍ مِثْلُ النَّظَرِ إِلَى عَوْرَةِ الْحِمَارِ(1).

وروى الصدوق قريباً منه مرسلاً ، ويحتمل اتّحاد الخبرين . ومقتضى الإطلاق عدم الفرق بين الإناث والذكور في جواز النظر.

فيمكن أن يقال : إذا جاز النظر إلى العورة ، فبمفهوم الموافقة يدلّ على جواز النظر إلى سائر الجسد ، ومقتضى التشبيه هو أنّ من ليس بمسلم مثل الحيوان يجوز النظر إليه ، كما يجوز النظر إلى الحيوانات ، لا لأنّه بمنزلة الإماء المسلمات .

ويمكن تأیید اختصاص حرمة النظر بعورة المسلم بالأخبار الدالّة على أن عورة المؤمن على المؤمن حرام.

لكن قال في الجواهر : إنّ القول بجواز النظر إلى عورة غير المسلم ضعیف مخالف لإطلاق بعض الروايات المنجبرة بإطلاق الفتوى والإجماع ، فلا يجسر على تقیید ذلك بهاتين الروايتين ، مع ما فيهما من الإرسال وعدم الجابر ، وبذلك يضعّف المفهوم المتقدّم لوقلنا بحجيّة مثله ، وبأنّ مقتضاه عدم وجوب التستّر عن الكافر ولم يقل به أحد (2) انتهی .

قلت : لعلّه نظر في قوله « لِإِطْلَاقِ بَعْضِ الرِّوَايَاتِ » إلى ما رواه في الكافي ، عن محمّد بن یحیی ، عن أحمد بن محمّد ، عن علي بن الحكم ، عن أبان بن عثمان ، عن ابن أبي يعفور ، قَالَ : سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام أَ يَتَجَرَّدُ الرَّجُلُ عِنْدَ صَبِّ الْمَاءِ تری عَوْرَتُهُ أَوْ يُصَبُّ عَلَيْهِ الْمَاءُ أَوْ يَرَى هُوَ عَوْرَةَ النَّاسِ ؟ قَالَ : كَانَ أَبِي يَكْرَهُ ذَلِكَ مِنْ كُلِّ

ص: 103


1- فروع الكافي 1: 501ح 27 ، وسائل الشيعة 1: 365أبواب آداب الحمّام ب 6 ح 1.
2- جواهر الكلام 2: 5.

أحد(1).

ومقتضى الروايات الآتية - الدالّة على جواز النظر إلى رؤوس أهل الذمّة - وخبر عباد بن صهيب - الدالّ على جواز النظر إلى الرؤوس - عدم جواز النظر إلى عورة الكافر ، وإلّا لم يكن وجه لتقييد جواز النظر بالرؤوس ، وإن كان بعضها مطلقاً.

وكذا تعليل الفقهاء لجواز النظر بأنّه بمنزلة الإماء ، فإنّه يقتضي عدم جواز النظر إلى العورة ؛ لأنه لا يجوز النظر إلى عورة الإماء ، فيكون هذا الخبر معارضة ، ولذا احتمل المجلسي الأوّل رحمة الله في شرحه الفارسي على الفقيه عند تعرّض الصدوق إلى غسل الجمعة صدور هذا الخبر عن تقيّة .

وأمّا ما ذكره في الجواهر من أنّ الخبر مرسل ، فهو وإن كان كذلك ، لكنّه في قوّة المسند - على ما قيل - لاستبعاد أن لا يكون في « غير واحد » من يعتمد عليه خصوصاً أنّ المرسل ابن أبي عمير ، وما ذكره من أنّ مقتضاه عدم وجوب التستّر عن الكافر مبني على التلازم وهو غير معلوم .

الثاني : خبر عبّاد بن صهيب ، فإنّه يدلّ على أن جواز النظر ليس لعدم حرمتهنّ في أنفسهنّ ، ولا لكونهنّ بمنزلة الإماء ، بل لأنّهنّ ملتزمات بكشف الرأس والوجه بحيث لو نهين عن الكشف لم ينتهين ، فلو كانت المرأة منهنّ ملتزمة بالستر أو تنتهي إن نُهيت ، فلا يجوز النظر إليها ، ولا بأس بذكر خبره بجميع طرقه ومتونه.

روى الكليني رحمة الله في الكافي ، عن عدّة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمّد بن عيسى، عن ابن محبوب ، عن عباد بن صهيب ، قال : سمعت أبا عبد الله علیه السلام يقول: لَا بَأْسَ بِالنَّظَرِ إِلَى رؤوس أَهْلِ التهامة وَ الْأَعْرَابِ وَ أَهْلِ السَّوَادِ وَ الْعُلُوجِ ، لِأَنَّهُمْ إِذَا

ص: 104


1- فروع الكافي 6: 502 ج 28، وسائل الشيعة 1 : 346أبواب آداب الحمام ب 3ح3 .

نُهُوا لَا يَنْتَهُونَ ، قَالَ : وَ الْمَجْنُونَةُ وَ الْمَغْلُوبَةُ عَلَى عَقْلِهَا ، وَ لَا بَأْسَ بِالنَّظَرِ إِلَى شَعْرِهَا وَ جَسَدِهَا مَا لَمْ يَتَعَمَّدْ ذَلِكَ (1).

ورواه الصدوق رحمة الله في الفقيه ، قال : روى الحسن بن محبوب ، عن عبّاد بن صهيب ، قال : سمعت أبا عبد الله علیه السلام يقول : لَا بَأْسَ بِالنَّظَرِ إِلَى شُعُورِ نِسَاءِ أَهْلِ تِهَامَةَ وَ الْأَعْرَابِ وَ أَهْلِ الْبَوَادِي مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَ الْعُلُوجِ ؛ لِأَنَّهُ إِذَا نُهِينَ لَا يَنْتَهِينَ ، قَالَ : وَ الْمَجْنُونَةُ وَ الْمَغْلُوبَةُ لَا بَأْسَ بِالنَّظَرِ إِلَى شَعْرِهَا وَ جَسَدِهَا مَا لَمْ يَتَعَمَّدْ ذَلِكَ (2) .

ورواه أيضاً في العلل ، قال : حدّثنا محمّد بن موسی بن المتوكّل ، قال : حدّثنا عبد الله بن جعفر الحميري ، عن أحمد بن محمّد بن عيسى ، عن الحسن بن محبوب ، عن عبّاد بن صهيب ، قال : سمعت أبا عبد الله علیه السلام يقول : لَا بَأْسَ بِالنَّظَرِ إِلَى رؤوس أَهْلِ تِهَامَةَ وَ الْأَعْرَابِ وَ أَهْلِ السَّوَادِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ ؛ لِأَنَّهُ إِذَا نُهِينَ لَا يَنْتَهِينَ ، قَالَ : الْمَغْلُوبَةُ لَا بَأْسَ بِالنَّظَرِ إِلَى شَعْرِ هَا وَ جَسَدِهَا مَا لَمْ يَتَعَمَّدْ ذَلِكَ (3) .

وينبغي البحث عن سند الخبر وعن دلالته .

أمّا سنده ، فهو صحيح إلى عباد ، وأمّا هو فقد اختلف فيه .

قال النجاشي : عبّاد بن صهيب أبو بكر التميمي اليربوعي بصريّ ، ثقة ، روی عن أبي عبد الله علیه السلام كتاباً (4).

وقال الشيخ رحمة الله في الرجال ، في أصحاب الباقر رحمة الله : عبّاد بن صهيب بصريّ عامي(5).

ص: 105


1- فروع الكافي 5: 524ح 1.
2- من لا يحضره الفقیه 3: 469 - 470 برقم: 4636.
3- علل الشرائع ص 565، جامع أحاديث الشيعة20: 284 - 285ح 2.
4- رجال النجاشي ص 293.
5- رجال الشيخ ص 131.

وقال في أصحاب الصادق علیه السلام : عبّاد بن صهيب المازني الكليبي بصيريّ (1).

وقال في الفهرست : له کتاب (2).

وقال البرقي في الرجال المنسوب إليه في أصحاب رجال الإمام الصادق علیه السلام عباد بن صهيب البصري عامي ، كوفي (3).

وقال الكشي عند عدّ جماعة من العامّة والبتريّة : و عباد بن صهيب عامي(4).

وعنونه في موضع آخر(5)، لكن ذكر في ترجمته ما هو راجع إلى عبّاد بن بكير البصري ، ولعلّ ذلك من جملة الأغلاط الذي ذكر النجاشي أنّ كتاب الكشي مشتمل عليها. ويحتمل أنّه زعم اتّحاد عبّاد بن صهيب مع عبّاد البصري ، أو عبّاد بن بکیر البصري ، فرماه بأنّه عامّي ، ولو عرف أنّه غيره لم ير مه به.

قد يقال : بأنّه عامّي ثقة ، جمعاً بين كلام النجاشي وبين كلام الشيخ والبرقي والكشي.

وفيه نظر ، وذلك لأنّ الكلامين لو صدرا من متكلّم واحد جاز الجمع بينهما، وأمّا لو كانا من شخصين فهما متعارضان ؛ لأنّ معنى كونه عاميّاً أنّه فاسق ولا يعتمد على قول الفاسق ، ومعنى كونه ثقة أنّه من يعتمد عليه في مذهبه وروايته وضبطه ، ومع التعارض يسقطان ، ولا أقلّ من أن يكون التوثيق غیر مستند إلى الحسّ ، أو كان إحتال استناده إلى رأي النجاشي قريبا ، ولا يقاس بالكلامين الصادرين من إمامين پغ حيث يجمع بينهما .

ص: 106


1- رجال الشيخ ص 240 .
2- الفهرست ص 164.
3- رجال البرتي ص 24.
4- اختیار معرفة الرجال 2: 687 برقم: 733.
5- اختیار معرفة الرجال 2: 689- 690 برقم: 736.

ثمّ إنّ الكشي ذكر في ترجمة حمّاد بن عيسى الجهني : حمدويه وابراهيم ابنا نصير ، قالا: حدّثنا محمّد بن عيسى ، عن حمّاد بن عيسى البصري ، قال : سمعت أنا وعبّاد بن صهيب البصري من أبي عبد الله علیه السلام ، فحفظ عبّاد مائتي حديث ، وكان يحدّث بها عنه عبّاد ، وحفظت أنا سبعين حديثاً ، قال حمّاد : فلم أزل أشكّك نفسي حتّى اقتصرت على هذه العشرين حديثاً التي لم تدخلني فيها الشكوك(1).

ولم يظهر أنّ حمّادأ ماذا قصد بهذا الكلام ؟ فهل أراد مدح عبّاد حيث إنّ عمله ممدوح ؛ لأنّ تعلم العلم ونشره من أفضل القربات ، وعليه فلماذا لم يتبعه ؟ أو أراد أن عباداً تهمّه كثرة الرواية لا دراية الرواية ، وهذا نوع ضعف.

وقد حكى الذهبي في ميزان الاعتدال (2) ، وابن حجر في لسان الميزان (3) عن بعضهم أنّه كثير الرواية . وقولها ليس بحجّة .

وعلى أيّ حال فلم يعلم المراد من قول حمّاد .

ثمّ إنّ الشيخ الأنصاري رحمة الله قال : و مستند المسألة ضعيف بحبور ، ولضعفه طرحه الحلّي والفاضل في المختلف على ما حكي عنهما ، ولانجباره أخذ به الآخرون (4)انتهى.

أقول : إن أراد جبر خبر عبّاد بن صهيب لاستناد العلماء إليه ، فهو ممنوع ؛ لأنّه لم يثبت أنّ القدماء استندوا إليه ، بل الثابت عن بعضهم عدم الاستناد.

فإنّ الشيخ المفيد رحمة الله علّل جواز النظر بكونهنّ بمنزلة الإماء كما تقدّم.

وقال الشيخ الطوسي رحمة الله في النهاية : والنظر إلى نساء أهل الكتاب وشعورهنّ لا

ص: 107


1- إختيار معرفة الرجال 2: 604 برقم: 571.
2- میزان الاعتدال 2: 367 .
3- لسان المیزان 2: 290.
4- كتاب النكاح ص 43.

بأس به ؛ لأنّه بمنزلة الإماء إذا لم يكن النظر لريبة أو تلذّذ ، وأمّا إذا كان كذلك فلا يجوز النظر إليهنّ على حال(1) انتهی .

ولم يذكر مضمون خبر عبّاد من التعليل بأنّهنّ لا ينتهين إن نهين ، ولم يورد خبره في التهذيب أو الاستبصار .

قال ابن ادریس : وقد روي جواز النظر إلى نساء أهل الكتاب وشعورهنّ ؛ لأنّه بمنزلة الإماء ، إذا لم يكن النظر لريبة أو تلذّذ ، فأمّا إذا كان لذلك فلا يجوز النظر إليهنّ على حال ، والذي يقوي في نفسي ترك هذه الرواية والعدول عنها . والتمسّك بقوله تعالى «قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ » (2) وقال تعالى : «وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا»(3) وإن كان ذكرها وأوردها شيخنا في نهايته فعلى جهة الإيراد لا الاعتقاد(4) انتهی .

فلم يذكر هذا الخبر .

وإن أراد موافقة مضمون خبر عبّاد لفتوى المشهور ، وهي تو جب جبر سنده ، ففيه أنّ تعليلهم بأنّهنّ بمنزلة الإماء يدلّ على أنّه ليس نظرهم إلى خبر عبّاد ، مع أن کون فترى المشهور جواز ذلك يحتاج إلى المراجعة.

وأمّا الدلالة :

فإنّ تهامة -كما في الصباح المنير - في قوله علیه السلام «أهل تهامة » أرض أوّلها ذات عرق من قبل نجد إلى مكّة وما وراءها بمرحلتين أو أكثر ، ثمّ تتّصلی بالغور و تأخذ إلى البحر ، ويقال : إنّ تهامة تتّصلی بأرض اليمن وإنّ مكّة من تهامة اليمن ، والنسبة

ص: 108


1- النهاية ص 484.
2- النور : 30 .
3- طه : 131.
4- السرائر 2: 610.

إليها تهامّي(1).

قوله علیه السلام « الأعراب »به جمع الأعرابي ، قال في المصباح المنير : وأمّا الأعراب بالفتح ، فأهل البدو من العرب ، الواحد أعرابي بالفتح أيضاً ، وهو الذي يكون صاحب نجعة وارتياد للكلاً ، وزاد الأزهري فقال : سواء كان من العرب أو من مواليهم ، قَالَ : فَمَنْ نَزَلَ الْبَادِيَةِ وَ جَاوَرَ الباديين وظعن بظعنهم فَهُمْ أَعْرَابِ ، وَ مَنْ نَزَلَ بِلَادِ الريف واستوطن الْمُدُنِ وَ الْقُرَى الْعَرَبِيَّةِ وَ غَيْرُهَا مِمَّنْ يَنْتَمِي إِلَى الْعَرَبِ فَهُمْ عَرَبِ وَ إِنْ لَمْ يَكُونُوا فُصَحَاءُ (2).

وقوله علیه السلام « أهل السواد ، قال في المصباح : والعرب تسمّي الأخضر أسود ؛ لأنّه يرئ كذلك على بعد ، ومنه سواد العراق لحفرة أشجاره وزروعه(3).

قوله علیه السلام « العلوج » بضمّ العين جمع العلج ، وهو كما في الصباح : الرجل الضخم من كفّار العجم ، وبعض العرب يطلق العلج على الكافر مطلقاً ، والجمع علوج وأعلاج(4).

ثمّ إنّ نسخة الكافي يختلف معناها عن نسختي الفقيه والعلل من جهتين :

الأولى : أنّ نسخة الكافي تدلّ على جواز النظر إلى رؤوس رجال أهل تهامة ، ومنهم أهل مكّة والأعراب وأهل السواد والكفّار ؛ لأنّ التعليل المذكور فيه « لِأَنَّهُمْ إِذَا نُهُوا لَا يَنْتَهُونَ» خاصّ بالرجال ، فلعلّ المتعارف في تلك الأزمنة ستر الرجال رؤوسهم بالعمائم أو بغيرها ، كما هو المتعارف في هذه الأعصار في بعض البلاد العربيّة ، لكن هذه الطائفة لم يكونوا يسترون رؤوسهم وإن نهرا لا ينتهون ولا

ص: 109


1- المصباح المنير 1: 97.
2- المصباح المنير 2: 56.
3- المصباح المنير 1: 355.
4- المصباح المنير 2: 87.

یسترون ، فجاز للنساء النظر إلى رؤوسهم.

وأمّا نسخة الفقيه ، فقد صرّح بأنّه «لا بَأْسَ بِالنَّظَرِ إِلَى رؤوس نِسَاءِ أَهْلِ تِهَامَةَ وَ الْأَعْرَابِ وَ أَهْلِ الْبَوَادِي مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَ الْعُلُوجِ ؛ لِأَنَّهُنَّ إِذَا نُهِينَ لَا يَنْتَهِينَ »

الثانية : أنّ نسخة الكافي مطلقة تشمل الكافر والمسلم من أهل تهامة والأعراب وأهل السواد ، بخلاف نسخة الفقيه ، فإنّها قيّدت النساء بما إذا كنّ من أهل الذمّة والعلوج ، ونسخة العلل قيّدتهنّ بما إذا كنّ من أهل الذمّة ، فلا يجوز النظر إلى المسلمات من أهل مكّة والأعراب و أهل السواد .

بقي ما ذكرناه من التنافي بين هذا الوجه والوجوه المتقدّمة ، وقد قال صاحب الجواهر في مقام رفع التنافي بين هذا الخبر وبين ما دلّ على أنّه لا حرمة لهنّ : اللهمّ إلا أن يكون المراد ذكر التعليل الجامع للجميع ، فلا ينافي حينئذ اختصاص أهل الذمّة بعلّة أخرى هي ما عرفت التي يؤمیء إليها ما في خبر السكوني الخ (1).

قلت : لا يرتفع التنافي إن كان للتعليل عقد النفي.

فروع:

ثمّ إنّه ينبغي ذكر ما يقال باستفادته من هذه الأخبار ، وذلك في ضمن الفروع التالية :

الأوّل : جواز النظر عمداً إلى شعور و وجوه النساء غير المسلمات ووجوههنّ لا الريبة و قصد تلذّذ.

والذي ينبغي أن يقال : إنّ تقييد إطلاق الكتاب والأخبار - الدالّين على وجوب غضّ النظر الشاملين للمسلمة وغيرها - بهذه الأخبار مشکل جداً.

وذلك لأنّ بعض الأخبار المذكورة لا قوّة لسندها ، وبعضها لا قوّة في دلالتها

ص: 110


1- جواهر الكلام 19:29 .

على أنّ الذميّات بحكم الإماء في جواز النظر ، نعم لو ثبت أحكام الأمة كالعدّة ونحوها لأمكن دعوى جواز النظر إليهنّ بالأولويّة ، لكنّها ليست قطعيّة.

وأمّا خبر عبّاد ، ففيه :

أوّلا : عدم قوّة السند بحيث يقيّد به الكتاب والأخبار.

وثانياً : اختلاف النسخ ، والاعتماد على الكافي أكثر منه على الفقیه ، مع أن صدرالحديث في الكافي مع صدره في العلل متّحدان ، وظاهرهما النظر إلى الرجال .

و ثالثاً : احتمال کون قوله «مَا لَمْ يُتَعَمَّدْ » في آخر الخبر راجعاً إلى جميع المذكورات ، أي : يجوز النظر إلى أهل السواد - إلى آخر ما ذكره علیه السلام- ما لم يتعمّد وإن كان يبدو أنّ قوله « مَا لَمْ يُتَعَمَّدْ» راجع إلى قوله علیه السلام « والمجنونة» ، لكن ذکر قوله علیه السلام «مَا لَمْ يُتَعَمَّدْ ذلك » في الأخبار المتقدّمة في جواز النظر إلى نساء أهل الذمّة ، يوجب احتقاف الكلام بما لا ينعقد معه ظهور الكلام في الإطلاق.

ورابعاً : أنّ التعليل المذكور ليس علّة وحدها ، وذلك لأنّ العلّة تعمّم و تخصّص، فالتعليل في قول القائل : لا تأكل الرمّان لأنّه حامض يقيّد الرمّان بكونه حامضاً، فلا يحرم أكل الرمّان الحلو ، ويعمّم الحكم إلى الخلّ وغيره من الحوامض.

وعلى هذا فلو كان علّة رفع حرمة النظر بمجرّد عدم انتهاء المنظور إليه كان لازمها جواز بعض الأفعال الذي لا ينتهي معه ، ومن الضروري أنّ عدم انتهاء شخص عن فعل لا يسوّغ فعله معه .

فلابدّ وأن تكون جزء العلّة ، ويكون جزؤها الآخر : إما سقوط حرمتهنّ بذلك فهنّ کنساء أهل الذمّة ، وإما إسقاطهنّ حرمة أنفسهنّ حيث هتکن حجابهنّ ، فيكون العلّة لجواز النظر عدم مبالاتهنّ بأن ينظر إليهنّ ، وإمّا أنّ المسلمين يحتاجون إلى التردّد على الأسواق والشوارع ويقع نظرهم عليهنّ بدون تعمّد وهنّ لا ينتهين لونهين ، فلرفع العسر والمحرج عن المؤمنين جاز النظر الاتّفاقي .

ص: 111

کما ذکره في الجواهر من أنّه يمكن كون المراد منه عدم وجوب الغضّ و عدم حرمة التردّد في الأسواق والزقاق من هذه الجهة ؛ لما في ذلك من العسروالحرج بعد فرض عدم الانتهاء بالنهي ، فهو حينئذ أمر خارج عمّا نحن فيه (1)انتهى .

ويؤيّده ذكر المجنونة والمغلوبة ، فإنّها أيضاً كذلك. فهذا الخبر : إمّا ظاهر فيا ذكره في الجواهر ، أو بحمل فلا يصحّ تقييّد إطلاق الكتاب والسنّة به .

الثاني : في اختصاص الحكم بأهل الذمّة ، أو مطلق الكتابي ، أو مطلق الكافرة .

وفيه احتمالات ، فإنّ ظاهر بعض الفتاوي الاختصاص بأهل الذمّة كبعض الأخبار ، وقال في العروة الوثق بالتعميم المطلق الكافرة.

ويستدلّ على العموم بأمرين:

أحدهما : أنّه إذا جاز النظر إلى نساء أهل الذمّة اللاتي تشبّثن ببعض ما للمسلمين من حقن الدماء والأموال ، فالنظر إلى الكافرات أولى بالجواز .

ثانيهما : خبر عبّاد ، فإنّه اشتمل على ما في نسخة الكافي والفقيه على العلوج.

الثالث : قال في العروة الوثق : الأحوط الاقتصار على المقدار الذي جرت عادتهنّ على عدم ستره انتهى .

ولعلّ ظاهرة الاحتياط في الاقتصار على المقدار الذي جرت عادتهنّ على عدم ستره في هذه الأعصار .

ولا يخفى أنّ خبر عبّاد بن صهيب دلّ على الرؤوس فقط ، و خبر السكوني على الشعور والأيدي ، وخبر أبي البختري - في نسخة - على الرؤوس ، ولعلّ المتعارف في زمان صدور الأخبار هو کشف رؤوسهنّ وأيديهنّ فقط ، والأخبار ناظرة إلى ما هو التعارف بينهنّ في تلك الأزمنة ، فلا وجه للتعدّي إلى ما جرت عادتهنّ في

ص: 112


1- جواهر الكلام 29: 69.

أمثال هذه الأزمنة فضلاً عن الزائد عليه .

نعم يدلّ خبر الجعفريّات على الأعم، لكن لم يثبت حجّيته ، ولا طريق يقطع به بثبوتها عند صاحب الوسائل أو غيره .

فينبغي - بناء على الجواز - تقييد عبارة العروة الوثق بما جرت عادتهنّ على عدم ستره في زمان صدور الخبر.

وقد يستدلّ لتعميم جواز النظر إلى جميع جسدهنّ :

تارة بعموم العلّة المذكورة في كلام الفقهاء انّهنّ منزلة الإماء ، كما في المستمسك ، حيث قال : إذا كان المستند في الحلّ التعليل ، فهو يقتضي جواز النظر إلى جميع البدن، وإذا كان المستند خبر السكوني لزم الاقتصار على خصوص الشعور والأيدي ، وقد عرفت أنّه المتعيّن ، اللهمّ إلّا أن يفهم أنّ ذكر الشعور والأيدي من باب أنّ المتعارف کشفه لا خصوصيّة فيها(1)انتهي.

وفيه أنّه لم نعلم جواز النظر إلى جميع بدن أمة الغير.

وتارة بعدم وجود حرمة لأعراض أهل الذمّة والکفّار ، فلا يختلف الحال بين ما جرت عادتهنّ على ستره وما لم تجر ، فيجوز النظر إلى شعورهنّ حتى ولو جرت عادته على ستره.

وفيه أنّ خبر السكوني دلّ على أنّه لا حرمة لنساء أهل الذمّة أن ينظر إلى شعورهنّ وأيديهنّ ، أي : لا حرمة في النظر إلى خصوصها لا أنّه لا حرمة لحق بأنّ يكن الحيوانات .

والتعليل في خبر عبّاد بن صهيب بأنّه لا ينتهين إن نهين يحتاج إلى ضميمة ،هی :

ص: 113


1- المستمسك 17:13

إمّا انهنّ هتكن ستورهنّ بإبداء رؤوسهنّ ؛ لأنّه لا ينتهين إن نهين ، فجاز النظر إليه ، والمفروض انّهنّ لم يهتكن حرمته بالنسبة إلى أجسادهنّ.

وإمّا أن ترك النظر إليهنّ بغير قصد يستلزم عدم خروج الرجال من بيوتهم إلى الأسواق لقضاء حوائجهم ؛ لأنّ الأمر دائر بين أن ينهونهنّ ، أو عدم خروج الرجال، أو وقوع نظرهم إليهنّ بغير قصد، والأوّل لا يتحقّق ؛ لأنّه لا ينتهين ، والثاني حرج فيتعيّن الثالث .

والحاصلی أنّ رؤوسهنّ وأيديهنّ مکشوفات يجوز النظر إليها بغير قصد ؛ لأنّه لا سبيل إلى سترهنّ ، إلا بأنّ ينهيهن ولا ينفع النهي ؛ لأنّهنّ لا ينتهين .

الرابع : قال في العروة الوثقی: وقد يلحق بهنّ نساء أهل البوادي والقرئ من الأعراب وغيرهم ، وهو مشکل انتهى . ومقصوده المسلمات منهنّ.

ويمكن الإستدلال لجواز النظر إليهنّ بو جوه:

الأوّل : تنقيح المناط بعدم الفرق بينه وبينهنّ الكافرات .

وفيه أنّه ليس قطعية.

الثاني : أنّ النظر إنّما يحرم لاحترام المنظور إليها واستحيائها وإبائها عن رؤيتها فإن لم تتقيّد بالحجاب جاز النظر.

وفيه أنّ إطلاق المنع عن النظر من الكتاب والأخبار شامل لها ولا مقيّد له . وما ورد في الذميّة من أنّه لا حرمة لها ، فلعلّ المراد لا حرمة لها في نفسها ، كما أنّ عبارة الفقهاء « لأنّه بمنزلة الإماء » يقصد بها عدم احترامهنّ في أنفسهنّ ، وهو الظاهر من قوله لا حرمة لهنّ ، بخلاف المسلمة فإنّها محترمة في نفسها من أجل إسلامها .

الثالث : التعليل في خبر عبّاد بن صهيب ، فإنّه شامل لهنّ فائهنّ إذا نهين لا ينتهين.

وفيه أوّلا : ما تقدّم من الاختلاف بين نسختي الكافي والفقيه ، فعلى نسخة الكافي

ص: 114

يكون جواز النظر راجعاً إلى نظر النساء إلى رؤوس الرجال .

وثانياً : احتمال رجوع القيد وهو قوله علیه السلام « مَا لَمْ يُتَعَمَّدْ» إلى جميع المذكورات ، وقد تقدّم بيانه ، فيدلّ على عدم وجوب الجلوس في البيوت حتّى لا يقع نظره اتّفاقا عليهنّ ، بل يجوز النظر بغير قصد .

وثالثاً : أنّ نسخة الكافي وإن كانت مطلقة - فيمكن دعون شمول أهل تهامة والأعراب وأهل السواد لغير أهل الذمّة والكفّار ، ولم يجعل جواز النظر إليهم مشروطاً بكونهم من أهل الذمّة - لكن مقتضى تقييد النساء بكونهنّ من أهل الذمّة والعلوج في نسخة الفقيه ، ومقتضي تقييد النساء بكونهنّ من أهل الذمّة في نسخة العلل ، اختصاص الحكم بهنّ.

وعليه - أي على التقييد بأهل الذمّة والعلوم – فلا يجوز التمسّك بعموم التعليل ؛لأنّ الحكم الخاصّ أي النظر إلى نساء أهل الذمّة معلّل بذلك .

ويمكن ثبوتاً أن تكون العلّة مركّبة من كونهنّ من أهل الذمّة وأنّهنّ لا ينتهين إذا نهين ، فإذا قيل مثلاً : يجوز النظر إلى الزوجة الذميّة لزيد لأنّها لا تنتهي إن نهیت، وكانت العلّة كونها ذميّة لا تنتهي ، لم يحتج أن يقال في التعليل : لأنّها ذميّة لا تنتهي ، وذلك لأنّ المفروض كونها ذمیّة . نعم يمكن إسراء الحكم إلى الزوجة الذمیّة لعمرو ، فراجع الاستعمالات العرفيّة.

وفيما نحن فيه لا يحتاج إلى أن يقال : يجوز النظر إلى نساء أهل الذمّة ؛ لأنّهنّ ذميّات ولا ينتهين إن نهين ، بل يكفي لإفادةالاختصاص بهنّ أن يقال : لأنّهنّ لا ينتهين إن نهين.

الخامس : بناء على جواز النظر إلى المسلمات من أهل البوادي والقرئ قد يفرّق بينهنّ وبين الذميّات بعدم جواز النظر إلى المسلمات فيما جرت عادتهنّ على ستره، بخلاف الذميّات فيجوز النظر إلى جميع أبدانهنّ ؛ لأنّهنّ لا حرمة لهنّ في أنفسهنّ ،

ص: 115

والمسلمات لا حرمة لهنّ فيها هتكوه .

فإنّ منشأ الجواز في أهل البوادي هو هتك حرمتهنّ بأيديهنّ ؛ إذ لا ينتهين إذا نهين ، فيكون الحكم في الجواز فيهنّ نظير ما ورد في الغيبة من أنّه من ألقي جلباب الحياء فلا غيبة له ، فإنّ الذي كشف ما ستره الله ، ولم يجعل لنفسه حرمة ، فلا مانع من استغابته.

وفيه ما تقدّم من احتمال أن يكون المراد من أنّه لا ينتهينّ جواز التردّد على الأسواق ، وعدم البأس بوقوع النظر إليه ؛ لدوران الأمر بين أن لا يخرج الإنسان إلى حوائجه وبين وقوع نظره عليهنّ ، والأوّل لا يتحمل لاحتياج الإنسان إلى إعاشته ، ولا سبيل إلى ثالث ، وهو نهيهنّ عن كشف الرووس.

وقياسه على الغيبة مع الفارق ؛ لأنّ الغيبة هي كشف المستور في حال غيبة المتّصف بالعيب المستور ، والمتجاهر ليس مستوراً ، مع أنّ ما ورد في الغيبة صريح بجواز الغيبة لهتكه حرمته ، بخلاف معني الخبر في عدم انتهائهنّ عند النهي .

السادس : قد يلحق بالكافرات النساء المسلمات السافرات في المدن اللاتي لا ينتهين إن نهين ؛ لعموم التعليل.

وفيه نظر واضح ممّا بيّناه ، ونزيده أنّ من الضروري في دين الإسلام عدم جواز النظر إلى المرأة المسلمة ، وقد قام إجماع الأمّة على عدم جواز النظر إلّا إلى الوجه والكفّين ، ولذا استثناهما بعض الفقهاء ، مع أنّه تقدّمت المناقشة في أدلّة الاستثناء .وحينئذ هل يمكن تخصيص هذا الحكم الضروري الثابت بالكتاب والسنّة بخبر تقدّمت المناقشة في سنده بعدم ثبوت وثاقة راويه ؛ لاختلاف القول فيه بين الرجاليّين، ولا أقلّ من عدم معرفة حاله من حيث الضبط ، وأنّه هل يتمكّن من أداء ما ذكره المعصوم علیه السلام أو لا؟

كما تقدّمت المناقشة في دلالته بتقييد المنظور إليها بكونها من أهل الذمّة والعلوج

ص: 116

کما في نسخة الفقيه ، واحتمال رجوع قوله علیه السلام « مَا لَمْ يُتَعَمَّدْ» إلى صدر الخبر وذيله بأن يكون الجواز مختصّاً بغير النظر العمدي .

هذا كلّه مضافاً إلى احتمال أن يكون المراد أن نساء أهل الذمّة لا يعتقدن وجوب الستر، فلذا لا ينتهين إن نهين ، بخلاف المسلمة فإنّها لو التفتت إلى أنّها مسلمة ، وأنّ وجوب الستر من ضروريّات الإسلام ، وأنّ التارك له يستحقّ الدخول في النّار ، فربّما ارتدعت وانتهت عن الكشف.

وبعبارة أخرى : يحتمل أن يكون المعنى أنّه لا ينتهين على أي حال ، بخلاف المسلمة فإنّها ربّما تنتهي.

ثمّ لا يبعد أن يكون المراد النهي بمراتبه من القول والزجر عملاً ، فلو فرض إمكان النهي في بعض بلاد المسلمین بغير القول لم يصدق أنهنّ لا ينتهين إن نهين .

مسألتان

في حكم نظر المراة إلى الرجل الأجنبي

المسألة الأولى : في عدم جواز نظر المرأة إلى بدن الرجل الأجنبي، أو جوازه، أو التفصيل بين ما جرى العادة على عدم ستره من الرأس والرقبة واليدين فيجوز وبين ما جرت العادة على ستره فلا يجوز ، وفيها وجوه بل أقوال :

القول الأوّل : عدم الجواز ، واستدلّ عليه بأمور :

الأوّل : الإجماع على التلازم بين الرجل والمرأة في الحكم ، فإذا لم يجز نظر الرجل الأجنبي إلى بدن المرأة ، فلا يجوز نظر المرأة إلى بدن الرجل الأجنبي .

ونوقش فيه بأنّه لا سبيل إلى إثبات كونه إجماعاً قطعي محصلیاً ، كيف ولم يتعرّض المسألة كثير من القدماء والمتأخّرين ، على أنّه يكفينا في إثبات عدم الملازمة الجزم بجواز نظرها إلى وجه الرجل ويديه حتّى مع القول بحرمة نظر الرجل إلى وجهها

ص: 117

ویدیها ، فإنّ السيرة القطعيّة قائمة على الجواز بالنسبة إليها من عصير الرسول الأعظم صلی الله و علیه وآله وسلم إلى زماننا هذا ، فإنّهنّ كنّ ينظرن إلى الرجال حين التكلّم معهم أو غيره ولو من وراء الحجاب ، فمثل هذا الإجماع لا يمكن الاعتماد عليه .

وفيه أنّه يمكن أن يكون عدم جواز نظر المرأة إلى بدن الرجل مفروغا عنه عندهم ، ولذا لم يتعرضوا له صريحأ ، وقد صرح بعدم الجواز الحلبي في الكافي . والقاضي في المهذب ، و تقدّم نقل عبارتهما.

الثاني : عموم قوله تعالى « وَ قُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ» الآية .

ونوقش فيه بأنّ الغضّ ليس هو ترك النظر ، وإنّما هو عبارة عن جعل الشيء مغفولاً عنه ، وعدم الطمع فيه بالمرّة والانصراف عنه .

وممّا يؤيّده أنّ العموم يشمل المبصرات منهنّ وغير المبصرات ، مع أنّ غير

البصر لا معنى لخطابها بترك النظر.

وأمّا خبر سعد الإسكاف فورده النظر بلذّة ، وهو مشمول للآية لأنّه لم يجعل

مغفولاً عنه .

وفيه أنّ المعنى المذكور للغضّ معنى مجازي لا يصار إليه إلّا بقرينة ، ولا مانع من حمل اللفظ على معناه الحقيقي كما تقدّم.

والتأييد المذكور معارض بشمول الآية للعنّين ، و من لا شهوة له أصلیاً ، کالمؤمن الهرم مثلاً ، فالمراد من كان يتمكّن من النظر .

الثالث : الأخبار ، و هي عدّة :

منها: ما رواه في الكافي ، عن عدّة من أصحابنا ، عن أحمد بن أبي عبد الله ، قال : استأذن ابن أمّ مكتوم على النبي صلی الله و علیه وآله وسلم وعنده عائشة وحفصة ، فقال لهما : قوما

ص: 118

فادخلا البيت ، فقالت : إنّه أعمى ، فقال : إن لم يركما فإنکما تریانه(1).

ومنها: ما روي في مكارم الأخلاق عن أمّ سلمة ، قَالَتْ : كُنْتُ عِنْدَ النَّبِيِّ صلی الله و علیه وآله وسلم وَ عِنْدَهُ میمونة ، فَأَقْبَلَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ وَ ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ أُمِرَ بِالْحِجَابِ ، فَقَالَ : إحتجبا ، فَقُلْنَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَيْسَ أَعْمَى لَا يُبْصِرُنَا ، فَقَالَ : أَ فَعَمْيَاوَانِ أَنْتُمَا أَ لَسْتُمَا تُبْصِرَانِهِ (2).

ومنها : ما روي في الجعفريّات بإسناده عن جعفر بن محمّد ، عن أبيه ، عن جده علي بن الحسين ، عن أبيه : أن فاطمة بنت رسول الله و إستأذن عليها أعمى فحجبته، فقال لها النبي صلی الله و علیه وآله وسلم : لِمَ حَجَبْتِهِ وَ هُوَ لَا يَرَاكِ ، فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ لَمْ يَكُنْ يَرَانِي فَأَنَا أَرَاهُ وَ هُوَ يَشَمُّ الرِّيحَ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلی الله و علیه وآله وسلم : أَشْهَدُ أنّک بَضْعَةُ مِنِّي . وَ نَحْوَهُ عَنْ دَعَائِمِ الْإِسْلَامِ (3).

ومنها: ما روي في مكارم الأخلاق عن أبي عبد الله علیه السلام، قال : قال رسول الله صلی الله و علیه وآله وسلم في الحديث الذي قالته فاطمة علیها السلام:خَيْرُ النِّسَاءِ أَنْ لَا يَرَيْنَ الرِّجَالَ وَ لَا يَرَاهُنَّ الرِّجَالُ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلی الله و علیه وآله وسلم : إِنَّها مِنِّي (4).

ومنها: ما روي في الدعائم عن علي پج أَنَّهُ قَالَ : قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلی الله و علیه وآله وسلم : أَيُّ شَيْ ءٍ خَيْرُ لِلْمَرْأَةِ فَلَمْ يُجِبْهُ أَحَدُ مِنَّا ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِفَاطِمَةَ علیها السلام ، فَقَالَتْ : مَا مِنْ شَيْ ءٍ خَيْرُ لِلْمَرْأَةِ مِنْ أَنْ لَا تَرَى رَجُلًا وَ لَا يَرَاهَا ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلی الله و علیه وآله وسلم ، فَقَالَ : صَدَقَةُ ، إِنَّهَا بَضْعَةُ مِنِّي (5).

ص: 119


1- فروع الكافي 5: 543 ح 2، جامع أحاديث الشيعة 20 : 298 ب 12ح 1.
2- جامع أحاديث الشيعة 20 : 298 - 299ح 2.
3- جامع أحاديث الشيعة 20: 299 ح 3.
4- جامع أحاديث الشيعة 20: 299 ح 4.
5- جامع أحاديث الشيعة 20 : 299 ح 5.

ومنها : ما روي في عقاب الأعمال بإسناده عن أبي هريرة وابن عبّاس ، قالا : خطبنا رسول الله صلی الله و علیه وآله وسلم قبل وفاته – إلى أن قال : -وَ اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ عزوجل عَلَى امْرَأَةٍ ذَاتِ بَعْلٍ مَلَأَتْ عَيْنَهَا مِنْ غَيْرِ زَوْجِهَا أَوْ غَيْرِ ذِي مَحْرَمٍ مِنْهَا ، فَإِنَّهَا إِنْ فَعَلَتْ ذَلِكَ أَحْبَطَ اللَّهُ كُلَّ عَمَلٍ عَمِلْتَهُ ، فَإِنْ أَوْطَأَتْ فِرَاشٍ غَيْرَهُ كَانَ حَقّاً عَلَى اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يُحْرِقَهَا بِالنَّارِ بَعْدَ أَنْ يُعَذِّبَهَا فِي قَبْرِهَا (1).

و نوقش في هذه الأخبار بضعف السند في الجميع ، وضعف الدلالة في البعض .

وفيه أنّه إذا أضيفت هذه الأخبار إلى سائر الشواهد على المنع ، كان المجموع في قوّة الخبر المعتبر .

فمن الشواهد على عدم الجواز ارتکاز المتشرّعة على الملازمة بين حرمة نظر الرجل إلى جسد المرأة وحرمة نظر المرأة إلى جسد الرجل المستفاد من خلال الروايات.

ومنها : ما يشعر به بل يدلّ عليه ، كقوله تعالى « ذلِكُمْ أَزْكى »(2) فإنّه في مقام التعليل من أنّ المصلیحة الداعية إلى إيجاب الغضّ عدم تحريك شهوة الرجال بسبب النظر إلى النساء ، وهذا الملاك موجود في المرأة بل هو فيها أشدّ.

فقد روى عبد الرحمن بن سبابة (3) ، والواسطي(4)، وغياث بن إبراهيم (5) ووهب عن أبي عبد الله علیه السلام (6)، وابن أبي جمهور مرفوع إلى أمير المؤمنين علیه السلام(7)

ص: 120


1- جامع أحاديث الشيعة 20 : 299 ح 6.
2- البقرة : 232.
3- جامع أحاديث الشيعة20: 261 ب 46ح 1.
4- جامع أحادیث الشيعة20: 261ح 2.
5- جامع أحادیث الشيعة20: 261ح3.
6- جامع أحاديث الشيعة 20: 261 ح 4.
7- جامع أحاديث الشيعة 20 : 262ح 5 .

أنّ مهمّة النساء في الرجال .

وروى أصبغ بن نباته ، عن أمير المؤمنين علیه السلام (1)أنّ للشهوة عشرة أجزاء تسعة منها في النساء.

ورون إسحاق بن عمّار (2) ، ومسعدة بن صدقة (3). وضريس(4)، وأبو بصيرعن أبي عبد الله علیه السلام(5) أنّها تصبر و شهوتها أكثر من الرجال .

ومنها : إطلاق قولهم في الأخبار المتقدّمة أنّ النظر سهم من سهام إبليس ، فإنّه يشمل نظر الرجل إلى الأجنبيّة ونظرها إليه.

ومنها : ما دلّ على أنّهنّ عورة فاحبسونهنّ ، فإنّه يدلّ على ابعاده عن الرجال.

ومنها: ما دلّ على أنّهنّ لا ينزلوهنّ الغرف.

ومنها : ما ورد في غسل الميّت الرجل إن لم يكن معه رجل ولا نساء ذات محرم والروايات فيه وإن كانت متعارضة ، فبعضها يدلّ على أنّه يدفن من غير غسل وهي خبر البصري (6)، والحلبي (7)، وخبر زيد الشام(8)، والحلي(9) وخبر

ص: 121


1- جامع أحاديث الشيعة 20: 264 ح 13.
2- جامع أحاديث الشيعة 20: 265 ح 14.
3- جامع أحاديث الشيعة 20: 265 ح 15.
4- جامع أحاديث الشيعة20: 265 ح 16.
5- جامع أحاديث الشيعة 20: 265 ح 17.
6- جامع أحاديث الشيعة 3: 169 ب 18ح 1.
7- جامع أحاديث الشيعة 3: 169ح 2.
8- جامع أحاديث الشيعة 3: 197ح 9.
9- جامع أحاديث الشيعة 3: 198 ح 14.

أبي الصباح الكناني (1) ، وخبر ابن أبي يعفور(2).

وبعضها يدلّ على أنّه يغسلنه بصبّ الماء.

وبعضها يدلّ على أنّه إن وجد رجل كتابي اغتسل وغسّله ، ففي موثّق عمّار، قلت : فإن مات رجل مسلم وليس معه رجل مسلم ولا امرأة مسلمة من ذي قرابته ومعه رجال نصارى ونساء مسلمات ليس بينه وبينهنّ قرابة ؟ قَالَ : يَغْتَسِلُ النَّصْرَانِيُّ ثُمَّ يُغَسِّلُهُ فَقَدِ اضْطُرَّ الْحَدِيثَ (3) .

وليس الغرض تحرير تلك المسألة ، إلا أنّ مجموع هذه الأخبار يشعر بأنّ المرأة ليس لها أن تنظر إلى بدن الأجنبي . ولم نستقص الأخبار الواردة في كيفيّة معاشرة النساء مع الأجانب ، لعدم القصد إلى التعرّض لجميع الفروع.

وقد تحصّل أن دلالة الآية الشريفة بضميمة هذه الأخبار والشواهد على عدم جواز نظر المرأة إلى جسد الرجل ممّا لا ينبغي أن ينكر .

القول الثاني : جواز نظر المرأة إلى بدن الرجل الأجنبي ، ويستدلّ عليه بأمور :

أحدها : ما رواه علي بن جعفر کما عن البحار ، قال في البحار : ما وصلی إلينا من أخبار علي بن جعفر ، عن أخيه موسی بن جعفر علیه السلام ، قال : سألته عن الرجل يكون ببطن فخذه أو أليته جرح هل يصلیح للمرأة أن تنظر إليه وتداويه ؟ قال : إذا لم تكن عورة فلا بأس (4) . ورواه في قرب الإسناده(5) . وفي مسائل علي بن

ص: 122


1- جامع أحاديث الشيعة 3: 203ح 35.
2- جامع أحاديث الشيعة 3: 204 ح 37.
3- جامع أحاديث الشيعة 3: 207 ح 49.
4- جامع أحاديث الشيعة 20 : 286 ب 5 ح 5.
5- قرب الإسناد ص 101.

جعفر(1).

وفيه أوّلاً : أنّه مطلق و شامل لصورتي الاضطرار وعدمه ، فيمكن تقييده بصورة الاضطرار .

وثانياً : أن سندي كتابي علي بن جعفر وكتاب قرب الإسناد غير ثابتين ؛ لأنّ النجاشي رحمة الله قال : له كتاب في الحلال والحرام ، يروي تارة غير مبوّب وتارة مبوّباً(2) انتهی.

وقال الشيخ الطوسي رحمة الله : له کتاب المناسك و مسائل لأخيه موسى الكاظم بن جعفر علیه السلام سأله عنها (3) انتهى.

وظاهر كلام النجاشي أنّ له كتاباً واحداً يروي تارة غير مبوّب ، وتارة مبوّباً ،وعلى كلّ حال فله مسائل سأل أخاه عنها ، وهي تختلف بحسب الكتب التي نقلت تلك المسائل.

فهل هي خصوص المسائل التي أوردها الكليني في الكافي ، والصندوق في الفقیه ،والشيخ في التهذيب والاستبصار ؟ أو هي مع الموجودة في قرب الإسناد ؟ أو هي مع الموجودة في الكتب الأربعة وفي کتاب قرب الإسناد و في الكتاب المنسوب إليه ؟ ولا طريق إليها إلا إلى ما ورد في الكتب الأربعة.

والعلامّة المجلسي رحمة الله أراد تقوّية رواياته ، فقال في موضع من البحار : وكتاب المسائل المشتمل على جلّ ما سأله الشريف النبيل علي بن الإمام الصادق جعفر بن محمّد أخاه الکاظم صلیوات الله عليهم أجمعين (4).

ص: 123


1- مسائل علي بن جعفر ص 166.
2- رجال النجاشي ص 252 برقم: 662.
3- الفهرست ص 87 - 88.
4- بحار الأنوار 12:1 .

وقال في موضع آخر : وكتاب المسائل أحاديثه موافقة لما في الكتب المتداولة وراويه أشهر من أن يخفى حاله وجلالته على أحد (1) انتهى .

ودعوئ وصول كتابه إلى صاحب الوسائل بالطريق الذي ذكره في آخر

الوسائل (2).

ممنوعة ؛ لأنّ المستفاد من كلامه - في أوّل الفائدة الرابعة والفائدة الخامسة - أنّه حصلی له القطع بالقرائن التي ذكرها أنّ هذا الكتاب هو کتاب علي بن جعفر . وذكر في الفائدة الخامسة طريقه إلى الكتب ، فروى عن جماعة بطريقهم إلى الشيخ الطوسي.

ثمّ قال له : وقد عرف من ذلك الطريق إلى الكليني ... وغيرهم ممّن تقدّم على الشيخ أو تأخّر عنه ، وقد ذكر في هذا السند فإنّا نروي كتبهم ورواياتهم بالسند المذكور إليهم أو إلى الشيخ بأسانيده السابقة في طرق التهذيب والاستبصار وفي الفهرست الخ (3).

ولم يدّع أنّ الكتاب المذكور تناوله من شيخه عن شيخه إلى أن وصلی إلى علي بن جعفر ، والذي يكون معتبراً ويعتمد عليه هو وصول الكتاب إليه بالمناولة .

وما ذكرناه - من أنّ الطرق المذكورة طرق إلى الكتاب الواقعي لا الموجود عند من يذكر الطريق - هو الظاهر من العلامّة له في إجازته لبني زهرة.

قال : وقد أجزت لهم أدام الله أيّامهم أن يرووا عنّي ، عن والدي ، عن مشايخه المتّصلیة منه إلى الشيخ أبي جعفر الطوسي، جميع ما اشتمل عليه كتاب فهرست أسماء المصنّفين وأسماء الرجال من الكتب والمشايخ بطرق الشيخ إليهم ، وكذا ما اشتمل

ص: 124


1- بحار الأنوار 1: 30.
2- وسائل الشيعة20: 36 و 49.
3- وسائل الشيعة 20 : 54.

علیه کتاب الكشي والنجاشي(1).

وصاحب الوسائل متأخّر عنه ، فلعله مثله .

والحاصلی أنّ هذا الخبر لا يقوى على تخصيص عموم الكتاب أو تقييد إطلاقه ، وعلى تخصيص سائر الأدلّة المانعة عن النظر.

ثانيها : ما ورد في تغسيلها الرجل الميّت.

منها : ما رواه أبو سعيد أو أبو بصير ، قال : سمعت أبا عبد الله علیه السلام يقول :الْمَرْأَةُ إِذَا مَاتَتْ مَعَ قَوْمٍ لَيْسَ لَهَا فِيهِمْ مَحْرَمُ يَصُبُّونَ الْمَاءَ عَلَيْهَا صَبّاً ، وَ رَجُلُ مَاتَ مَعَ نِسْوَةٍ لَيْسَ فِيهِنَّ لَهُ مَحْرَمُ ؟ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يصبين عَلَيْهِ الْمَاءُ صَبّاً ، فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام : بَلْ يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَمْسَسْنَ مِنْهُ مَا كَانَ يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَنْظُرْنَ مِنْهُ إِلَيْهِ وَ هُوَ حَيُّ ، فَإِذَا بَلَغْنَ الْمَوْضِعَ الَّذِي لَا يَحِلُّ لَهُنَّ النَّظَرُ إِلَيْهِ وَ لَا مِنْهُ وَ هُوَ حَيُّ صَبَبْنَ الْمَاءَ عَلَيْهِ صَبّاً (2).

فإنّه يدلّ على أنّه يجوز النظر إلى الأجنبي في الجملة .

وفيه أوّلاً : أنّه معارض بما دلّ على أنّه لا يجوز مست الأجنبيّة الأجنبي ، وأنّه لايصافح الرجل المرأة غير ذات محرم إلا من وراء الثوب .

وثانياً : أنّه معارض بالأخبار الكثيرة الواردة في نفس الموضوع من أنّه يدفن بلا غسل ، أو يغسله الكتابي بعد أن يغتسل .

وثالثاً : إنّ سنده غير نقي .

ورابعاً : أنّه قد ورد ما يدلّ على خلاف ذلك .

ومنه : ما رواه زید بن علي ، عن آبائه ، عن علي علیه السلام، قَالَ : إِذَا مَاتَ الرَّجُلُ فِي السَّفَرِ مَعَ النِّسَاءِ لَيْسَ فِيهِنَّ إمرأته وَ لَا ذُو مَحْرَمٍ یوزّرنه ويصبين عَلَيْهِ الْمَاءُ صَبّاً ، وَ لَا يَنْظُرْنَ إِلَى عَوْرَتِهِ ، وَ لَا يَلْمِسْنَهُ بِأَيْدِيهِنَّ وَ يُطَهِّرْنَهُ ، وَ إِذَا كَانَ مَعَهُ نِسَاءُ ذَوَاتُ

ص: 125


1- بحار الأنوار 137:107 .
2- جامع أحاديث الشيعة 3: 197 ح 6.

محرم یوزّرنه ويصبين عليه الماء صبّاً ، ويمسسن جسده ولا يمسسن فرجه(1).

لكن في سنده مناقشة.

ثالثها : ما يحكى من مداواة النساء الجرحى في الحروب في صدر الإسلام.

وفيه أنّه لابد من ثبوت ذلك بطريق معتبر ، ولعلّ ذلك كان بالنسبة إلى المحارم،أو كان للاضطرار و نحوه .

القول الثالث : التفصيل ، وسيأتي في المسألة الثانية الاستدلال عليه والمناقشة فيه.

المسألة الثانية : في جواز نظر المرأة إلى الوجه والكفّين من الأجنبي وعدمه والتفصيل بين المرة والتكرار ، وفيها أقوال.

القول الأوّل : الجواز ، واستدلّ عليه بعد الاعتراف بأنّ مقتضى عموم قوله تعالى « وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ »و المنع بأمور:

الأوّل : انسياق اتّحاد المراد من لفظ « من » في قوله تعالى « مِنْ أَبْصَارِهِم»وقوله تعالى «مِنْ أَبْصَارِهِنَّ» فإذا كان المراد في المؤمنين ماعدا الوجه والكفّين كان كذلك في المؤمنات.

وفيه منع ظهور « من» في قوله تعالى «مِنْ أَبْصَارِهِم» في تبعیض غضّ البصر عن بعض الجسد ، وعدم غضّه عن بعضه الآخر وهو الوجه و الكفّان ؛ لاحتمال كونها البیان متعلّق الغضّ ، وغيره ما تقدّم في توضيح الآية الكريمة .

بل إنّ حذف متعلّق غضّ البصر يفيد العموم الشامل للوجه والكفّين ، وشموله لهما ظاهر ؛ لأنّ غضّ البصر عن الرجال - أي : ترك النظر إلى أجسادهم – هو ترك النظر إلى ما تعارف عدم ستره منهم من الوجه والكفّين والعنق ، وأمّا سائر مواضع

ص: 126


1- جامع أحاديث الشيعة 3: 204ب 18 ح 39.

جسدهم فهي مستورة بالثياب غالباً .

الثاني : الإجماع على التلازم بين جواز نظر الرجل ونظر المرأة ، كما حكي عن الرياض من أنّه قال : تتّحد المرأة مع الرجل ، فتمنع في محلّ المنع ، ولا تمنع في غيره إجماعآً.

وفيه أنّه إن سلّمنا الإجماع على التلازم ، فلا نسلّم الإجماع على جواز نظر الرجال إلى وجوه النساء.

وأجاب عن هذين الدليلين في الجواهر ، فقال : يسهل الحطب عندنا ما عرفته من أنّ الأقوى الحرمة ، فيحرم حينئذ ذلك منها أيضاً كما يحرم منه(1) انتهى.

ومراده رحمة الله أنّ نظر الرجل إلى وجه الأجنبيّة وكفّيها حرام فكذا عكسه ، فاتّحاد سیاق « من » فيهما واحد ، وكذا التلازم بينهما.

الثالث : السيرة على نظر النساء إلى وجوه الرجال الأجانب ، بل إلى كلّ ما تعارف عدم ستره من الرأس والوجه والرقبة والذراع وغيرها .

وفيه أوّلاً المنع عن سيرة المسلمات على نظرهنّ إلى الرجال لا لحاجة ولاضرورة .

ويؤيّده ما ذكره النسائي في كتابه من نظر عائشة إلى الرجال ، فقال في هامشه : قال النووي : يحتمل أن يكون ذلك قبل بلوغ عائشة ، أو قبل نزول الآية في تحريم النظر ، أو كانت تنظر إلى لعبهم بحرابهم لا إلى وجوههم وأبدانهم، وإن وقع بلا قصد أمكن أن تصرفه في الحال انتهی .

وليس الغرض من ذلك أنّ الواقعة صحيحة ، وإنّما الغرض هو الاستشهاد بكلام

النووي على أنّ السيرة المدعاة غير ثابتة .

ص: 127


1- جواهر الكلام 29: 81.

مضافاً إلى أنّه لو كانت السيرة قطعيّة فكيف يقول المحقّق بجواز النظر مرّة وبحرمة التكرار .

وثانياً : إثبات كون السيرة سيرة المتديّنات غير معلوم، مع شدّة احتجاب النساء عن الرجال في بعض البلاد العربيّة في العصر الحاضر أيضاً.

القول الثاني : المنع مطلقا .

ويستدلّ عليه ما تقدّم في المسألة الأولى من عدم جواز النظر إلى بدن الأجنبي .

القول الثالث : وهو ما اختاره المحقّق في الشرائع من الجواز مرّة وعدم جواز التكرار .

ولعلّه لإطلاق قوله علیه السلام « لَا تُتْبِعِ النَّظْرَةَ النَّظْرَةَ » أو إلغاء خصوصيّة نظر الرجل إلى المرأة .

ص: 128

رسالة في حد بلوغ الصبية

اشارة

تأليف:السيّد محمّد الرجائي

ص: 129

ص: 130

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين ، والصلیاة والسلام على محمد و آله الطاهرين ، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين .

وبعد فغير خفيّ أن مدارك الأحكام الشرعيّة التعبّديّة هي : الكتاب ، والسنّة ،والإجماع الكاشف عن قول المعصوم علیه السلام ، وأمّا الأحكام المستكشفة بالعقل الضروري ، فهي أحكام غير تعبديّة ؛ لأنّه لا سبيل للعقل إلى الأحكام التعبّديّة ؛ وذلك لعدم معرفته ملاكات الأحكام التعبّديّة ، و تفصيله في محلّه.

والأحكام المذكورة في الكتاب والسنّة متوجّهة إلى الإنسان الذكر والأنثى ؛ فإنّ الله تعالى خلق الإنسان ليتعبّد بالعمل بالأحكام الشرعية ، كما قال تبارك وتعالى:«وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ .»(1).

وقد حثّ في الكتاب العزيز على طلب العلم الذي منه علم الأحكام ، ومدح العلماء والعقلاء وخاطبهم ، ولم يقيّد أحكامه بعنوان خاصّ من بلوغ وغيره ، بل کما قال تبارك وتعالى: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ»(2) وقال سبحانه: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ »(3) وقال تبارك وتعالى :« أَلَمْ

ص: 131


1- الذاريات : 56.
2- الحجرات :13
3- البقرة : 21.

أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ ۖ(1) إلى غير ذلك .

فوضوع الأحكام الذكر والأنثي ، بشرط أن يكونا قادرين على تعلّم الأحكام ، وقادرين على امتثالها ، كما قال تبارك وتعالى:«لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا»(2) وقال تعالى شأنه : «لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا ۚ»(3)

والأحكام وضعيّة وتكليفيّة ، والأحكام الوضعيّة ثابتة على الصغير والكبير . وعلى القادر والعاجز، فيتنجّس بدن الصبيّ الغير المميّز ، وإن مات أبوه ملك أمواله، ويضمن ما يتلفه ، ولا مانع من ثبوت الأحكام الوضعيّة الماليّة عليه ، ولولا قابليّته تتوجّه الأحكام إليه لم يرد في الأخبار المستفيضة قولهم علیهم السلام « لا زَکاة فی مَالِ الیَتیم » ، وقد أفتى بعض الفقهاء بثبوت الخمس في أمواله ، ولو كان الصغير مثل الحيوان لما قالوا : ليس في ماله زكاة .

والحاصلی أنّ الإنسان لم يخلق أن يكون حیواناً ، بل إنّه خلق للعبادة وأن يعمل بالأحكام الشرعيّة ، ولذا يكون في الإسلام لاختيار الولد آداب توجب قابليّته للتعبّد بالدّين ، فللتزوّج واختيار الزوجة وأيّام الحمل والولادة آداب ، وبعد الولادة يؤذّن ويقام في أُذني المولود ، إلى غير ذلك من آداب تربية الولد وتعليمه .

ويدلّ هذه الأمور على قابليّته لتوجّه التكاليف إليه ، فقد ورد أمر الأولياءالصبيان بالصلیاة والصيام.

ففي حسن الحلبي ، عن أبي عبد الله علیه السلام ، عن أبيه ، قال : إنّا نأمر صبياننا بالصلیاة إذا كانوا يني خمس سنين ، فروا صبيانكم بالصلیاة إذاكانوا بني سبع سنين ، ونحن نأمر صبياننا بالصوم إذا كانوا بني سبع سنين بما أطاقوا من صيام اليوم ، وإن

ص: 132


1- یس: 60.
2- البقرة : 286 .
3- الطلاق : 7.

كَانَ إِلَى نِصْفِ النَّهَارِ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ أَوْ أَقَلَّ ، فَإِذَا غَلَبَهُمُ الْعَطَشُ وَ الْغَرْسِ أَفْطَرُوا حَتَّى يَتَعَوَّدُوا الصَّوْمَ وَ يُطِيقُوهُ ، فَمُرُوا صِبْيَانَكُمْ إِذَا كَانُوا بَنِي تِسْعِ سِنِينَ بِالصَّوْمِ مَا اسْتَطَاعُوا مِنْ صِيَامِ الْيَوْمِ ، فَإِذَا غُلَّهُمْ الْعَطَشُ أَفْطَرُوا (1).

وفي خبر البزنطي عن الرضا علیه السلام، قَالَ : يُؤْخَذُ الْغُلَامُ بِالصَّلَاةِ وَ هُوَ ابْنُ سَبْعِ سِنِينَ ، وَ لَا تُغَطَّى الْمَرْأَةُ شَعْرَهَا مِنْهُ حَتَّى يَحْتَلِمَ(2). وغيرهما من الأخبار .

ولذا قال جماعة من الفقهاء - رحمهم الله - بشرعيّة عبادة الصبيّ، وإجزاء فعله عن الواجب ، فإنّ صلیّى الصبّي في أوّل الوقت صلیاة صحيحة ، ثمّ بلغ في الوقت ، أجزأه ما فعله ولم يحتج إلى الإعادة ؛ لشمول عمومات التكاليف العباديّة له.

والحاصلی أنّ الأحكام الشرعيّة التكليفيّة والحدود في قوله تعالى «الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي »(3) وقوله تعالى «وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ»(4) وغيرهما تتوجّه إلى القادر على الامتثال ، ولم يؤخذ في موضوعها البلوغ حتّی عن أنّه أمر تكويني أو تعبّديّ.

لكن قد اختصّ حكمان بحدّ معيّن :

الأول : دفع مال اليتيم إليه ، فإنّه قد حدّ في الكتاب الكريم ببلوغه النكاح ور شده ، قال الله تعالى : « وَابْتَلُوا الْيَتَامَىٰ حَتَّىٰ إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ»(5) .

والمتفاهُم عرفاً من بلوغ النكاح في الصبيّ الوصول إلى حدّ يتكون المنّي في البدن

ص: 133


1- جامع أحاديث الشيعة 4: 41 - 42 ب 3 ح 1.
2- جامع أحاديث الشيعة 4: 42ب 3ح 4.
3- النور : 2.
4- المائدة : 38.
5- النساء : 6.

و يتحرّك الشهوة والنزوع إلى الجماع وإمكان إنزال المني ، فمتى حصلیت هذه الممالة فيه واستمرت تحقّق بلوغه النكاح ، ولا يتقيّد بسنّ خاصّ ، فلو حصلیت في عشر سنين من عمره واستمرّت ، فقد بلغ النكاح.

وكذا في الصبيّة إن وصلیت إلى حدّ قد تكوّن في بدنها الماء الذي ينزل منها بشهوة الموجب للحكم بجنابتها ووجوب غسلها عليها ، فمتي حصلیت فيها هذه الحالة واستمرت فقد بلغت النكاح ، ولا يتقيّد بسّن خاصّ ، ولا يبعد أن يكون الدم الذي تراها بصفات الحميض بعد حصول هذه الحالة محكوماً بكونه حيضاً، حتّى وإن حصلیت قبل بلوغها التسع ، والأخبار الدالّة على أنّها لا ترى الحيض قبل تسع سنين من عمرها منصرفة عن هذا المورد ، وهو أن تبلغ النكاح وترى الدم ، لكنّه فرد نادر .

ثمّ إنّ إحراز تحقّق هذه الحالة في الصبيّ ممكن ، بل إنّه يحتلم في النوم عادة و ينزل منه المني ، وأمّا في الصينيّة فلم يتعارف ذلك ، ومجرّد وجود الشهوة فيها لا يوجب الحكم ببلوغها النكاح ، ولعلّه لذلك تعبّد الشارع فيها بلوغ النكاح بتسع سنين ، وسيأتي بيان الأخبار المستفيضة الدالّة على أنّ المراد من بلوغ الصبيّة هو بلوغها التسع.

ويحتمل اختصاص الآية بالصبيّ ، كما يظهر من الشيخ الطوسي رحمة الله في التبيان ،حيث ذكر علائم بلوغ الصبيّ.

ثمّ إنّ الآية الشريفة مخصوصة باليتيم ، ولعلّ له خصوصيّة من حيث إنّه لا كافل له ممّن يتدارك ما تلف من أمواله من أب أو جدّ ، فلذا لزم التحفّظ على أمواله من الضياع والتلف ، لكن الأخبار دلّت على عدم نفوذ تصرّف غير البالغ وإن لم يكن یتیماً.

ثمّ إنّه لا يبعد أن يكون الغرض من عدم دفع أموال اليتيم إليه عدم استقلاله

ص: 134

بالتصرف فيها ؛ لأنّه في معرض تلفها بغير وجه صحيح، ولا دلالة في الآية الشريفة على عدم مباشرته للتصرّف مع إشراف وليّه على كيفيّة تصرفه ، والمسألة محررة في محلّه . کمالا دلالة فيها على عدم توجّه الأحكام العباديّة والماليّة وغيرهما عليه قبل بلوغ النكاح.

ولعلّ المراد بالرشد هو ما في خبر عيص بن القاسم، عن أبي عبد الله علیه السلام، قال : سألته عن اليتيمة متي يدفع إليها مالها ؟ قال : إذا علمت أنّها لا تفسد ولا تضيع .

فسألته إن كانت قد تزوّجت ، فَقَالَ : إِذَا زُوِّجَتْ فَقَدِ انْقَطَعَ مُلْكُ الْوَصِيِّ عَنْهَا (1) .

وفي خبر عبد الله بن سنان : جَازَ أَمْرُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً ، فَقَالَ : وَ مَا السَّفِيهُ ؟ فَقَالَ : الَّذِي يَشْتَرِي الدِّرْهَمَ بِأَضْعَافِهِ . وَ لَعَلَّهُ لِعَدَمِ رُشْدَهُ .

وليس المراد بالرشد کمال عقله بحيث لم يغبن في المعاملات ، فإنّه ربّما لا يحصلی من الكبير ، بل لعلّه كما قال الشيخ الطوسي رحمة الله في التبيان : الأقوى أن يحمل على أنّ المراد به العقل وإصلیاح المال (2) انتهى.

ثمّ إنّه يمكن التعبير عن بلوغ النكاح والرشد ببلوغ الأشدّ، فيتّحد مضمون الآية المذكورة مع قوله تعالى «وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ»(3) لكن فسّر في بعض الأخبار بالاحتلام ، وسيأتي الكلام عليه.

الثاني : وجوب الاستئذان على من لم يبلغ الحلم في أوقات ثلاثة ، ووجوبه على من بلغ الحلم في جميع الأوقات ، قال الله تعالى : «وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ۚ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ

ص: 135


1- تهذيب الأحكام 9: 184 ح 15.
2- التبيان : 117:3
3- الأنعام : 152.

حَكِيمٌ(1).

والحلم يأتي لمعان ، والمناسب للمورد ما ذكره في لسان العرب : الحلم والاحتلام الجماع ونحوه في النوم ، والاسم الحلم(2) ، وفي التنزيل العزيز «لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ» .

ولا يبعد أن يقال : إنّه لا يقال لغير المراهق لم يبلغ الحلم ، ولعلّ العلّة في إيجاب الاستئذان في الأوقات الثلاثة اختلال التستّر فيها.

قال البيضاوي : وأصلی العورة الخلل ، ومنها أعور المكان ، ورجل أعور انتهی .

وهذا حكم خاصّ بمورده لا ربط له سائر الأحكام ، فلا يقيّد إطلاقها .

ثمّ إنّه يحتمل أن يكون بلوغ الحلم مخصوصاً بالرجال ؛ لأنّ الحلم لو كان هو الاحتلام ، فإنّه لا يغلب تحقّقه في النساء ، كما سيأتي توضيحه.

فيمكن أن يقال : إنّ بلوغ الحلم المذكور في الآية الشريفة مخصوص بالرجال ، لكنّه كناية عن خروج الصبيّ عن صباه ، ووصوله إلى حدّ الرجال ، وهذا الملاك بعينه موجود في الصبيّة ؛ فكما أنّ التستّر مطلوب من الصبيّ ، كذلك مطلوب من الصبيّة.

ويحتمل أن يقال : إن شأن نزوله كان في الصبّي، ولا سبيل إلى إحراز شأن النزول.

وقد تحصّل أنّ إطلاق الأحكام في الكتاب شامل لكلّ قادر على الامتثال إلا حكمان اختصّا بمن بلغ النكاح ، ومن لم يبلغ الحلم ومن بلغه .

لكن قد دلّت الأخبار على أمرين ، لا يدلّ عليها الكتاب العزيز :

أحدهما : أنّ جميع الأحكام التعبديّة لا تتعلّق بالصبيّ والصبيّة حتّى يصلیاً إلى حدّ معيّن ، حتّى وإن كانا عالمين بالأحكام قادرين على امتثالهما.

ص: 136


1- النور: 59.
2- لسان العرب 12: 145.

ثانيهما : أنّ بلوغ الصبيّة للنكاح يحصلی بصيرورة عمرها تسع سنوات.

ولا يخفى أنّه لا يبعد أن تكون الأخبار منصرفة عن الأحكام العقليّة الضروريّة . فهي لا تختصّ بحدّ خاصّ ، فيجب على الصبيِّ ما يحكم به العقل الفطري الضروري من قبح بعض الأشياء وحسنها ، كما أنّ ما يدركه عقله في مرحلة الامتثال لابدّ من أن يعمل عليه ، فما يدركه العقل الضروري في كلا المقامين ثابت عليه.

وقد حقّق في الأصول أنّ الصبيّ الذي يعلم بتوجّه التكاليف التعبديّة عليه عند وصوله إلى حدّ خاصّ ، وبوجوب امتثالها بمجرّد وصوله إليه ، يحكم عقله بلزوم تعلّمها قبل وصوله إلى ذلك الحدّ.

ثمّ إنّ محور البحث في بلوغ الصبية ، فلذا نتعرض لما يرجع إليها .

والأخبار المتعلقة بذلك على قسمين :

القسم الأول

ما ورد بعنوان عام

وهو البلوغ والإدراك.

الأخبار الدالّة على عنوان البلوغ

منها : ما رواه في الكافي في الحسن عن أبي بصير ، قال : سمعت أبا عبد الله علیه السلام يقول : لَيْسَ عَلَى مَالِ الْيَتِيمِ زَكَاةُ وَ إِنْ بَلَغَ الْيَتِيمُ ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ لِمَا مَضَى زَكَاةُ ، وَ لَا عَلَيْهِ فَيَا بَقِيَ حَتَّى يُدْرِكُ ، فَإِذَا أَدْرَكَ فَإِنَّمَا عَلَيْهِ زَكَاةُ وَاحِدَةُ ، ثُمَّ كَانَ عَلَيْهِ مِثْلُ مَا عَلَى غَيْرِهِ مِنَ النَّاسِ . وَ رَوَاهُ فِي التَّهْذِيبِ بِزِيَادَةٍ (1).

ومنها : خبر سلمان بن المروزي عن الرضا علیه السلام أنّه قال في حديث : وإنّ الصيّ لا يجري عليه القلم حتّى يبلغ(2).

ص: 137


1- جامع أحاديث الشيعة 8: 149 ب ا أبواب من تجب عليه الزكاة ح 7 و ح 8.
2- جامع أحاديث الشيعة1: 420 ب 12 ح 1.

ومنها : ما رواه في التهذيب والكافي في الحسن عن أبي بصير ، قال : قلت لأبي عبد الله علیه السلام : الرَّجُلُ يَمُوتُ وَ يَتْرُكُ الْعِيَالَ أَ يُعْطَوْنَ مِنَ الزَّكَاةِ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، حَتَّى ينشوا وَ يَبْلُغُوا وَ يَسْأَلُوا مِنْ أَيْنَ كَانُوا يَعِيشُونَ إِذَا قُطِعَ ذَلِكَ عَنْهُمْ ، فَقُلْتُ : إِنَّهُمْ لَا يَعْرِفُونَ ، قَالَ : يُحْفَظُ فِيهِمْ میتهم وَ يُحَبَّبُ إِلَيْهِمْ دِينُ أَبِيهِمْ ، فَلَا يَلْبَثُونَ أَنْ يَهْتَمُّوا بدین أَبِيهِمْ ، فَإِذَا بَلَغُوا وَ عَدَلُوا إِلَى غَيْرِكُمْ فَلَا تُعْطُوهُمْ(1).

وخبر أبي خديجة ، عن أبي عبد الله علیه السلام، قَالَ : ذُرِّيَّةُ الرَّجُلِ الْمُسْلِمِ إِذَا مَاتَ يُعْطَوْنَ مِنَ الزَّكَاةِ وَ الْفِطْرَةِ كَمَا كَانَ يُعْطَى أَبُوهُمْ حَتَّى يَبْلُغُوا ، فَإِذَا بَلَغُوا وَ عَرَفُوا مَا كَانَ أَبُوهُمْ يَعْرِفُ أُعْطُوا وَ إِنْ نَصَبُوا لَمْ يُعْطَوْا(2).

وخبر علي بن يقطين ، قال : سألت أبا الحسن علیه السلام أتزوّج الجارية وهي بنت ثلاث سنين أو يزوّج الغلام وهو ابن ثلاث سنين ؟ وما أدنى حدّ ذلك الذي يزوّجان فيه ؟ فإذا بلغت الجارية فلم ترض به فا حالها ؟ قال : لا بأس بذلك إذا رضي أبوها أو وليّها(3).

وخبر عبد الله بن الصلیت ، قال : سَأَلْتُ أَبَا الْحَسَنِ الرِّضَا علیه السلام عَنِ الْجَارِيَةِ الصَّغِيرَةِ يُزَوِّجُهَا أَبُوهَا أَ لَهَا أَمْرُ إِذَا بَلَغَتْ ؟ قَالَ : لَا ، وَ سَأَلْتُهُ عَنِ الْبِكْرِ إِذَا بَلَغَتْ مَبْلَغَ النِّسَاءِ أَ لَهَا مَعَ أَبِيهَا أَمْرُ ؟ فَقَالَ : لَيْسَ لَهَا مَعَ أَبِيهَا أَمْرُ مَا لَمْ تُثَيَّبْ (4).

وخبر إسحاق بن عمّار ، عن جعفر ، عن أبيه ليه أنّ علياً علیه السلام قَالَ : انْتَظِرُوا بِالصِّغَارِ الَّذِينَ قُتِلَ أَبُوهُمْ أَنْ يَكْبَرُوا ، فَإِذَا بَلَغُوا خُيِّرُوا ، فَإِنْ أَحَبُّوا قَتَلُوا أَوْ عَفَوْا أَوْ

ص: 138


1- جامع أحادیث الشيعة 8: 215ب 21 ع 1.
2- جامع أحاديث الشيعة 8: 216ب 21ح 2.
3- جامع أحادیث الشيعة20: 140 ب 51 ح5 .
4- جامع أحاديث الشيعة20: 142- 143ب 51ح 11.

صَالَحُوا (1).

ومنها : حسن عبد الرحمن بن الحجّاج ، عن أبي الحسن علیه السلام : ردّه إلى اليتيم وقد بلغ (2).

ومنها : خبر جماعة عن أبي جعفر وأبي عبد الله پغ : عَنِ الصَّغِيرِ وَ الْكَبِيرِ وَ الذَّكَرِ والأنثي وَ الْبَالِغِ وَ مَنْ تَعُولُ(3).

ومنها: ما رواه علي بن الفضل الواسطي : فنزوّجها غُلَامُ لَمْ يَحْتَلِمْ ، قَالَ : لَا ، حَتَّى يَبْلُغَ ، وَ كَتَبْتُ إِلَيْهِ مَا حَدُّ الْبُلُوغِ ؟ فَقَالَ : مَا أَوْجَبَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ الْحُدُودَ (4).

ومنها : خبر علي بن يقطين : وَ تَقْضِي الْمَرْأَةُ الْوَصِيَّةِ ، وَ لَا تَنْتَظِرُ بُلُوغَ الصَّبِيِّ ، فَإِذَا بَلَغَ الصَّبِيُّ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ لَا يَرْضَى (5).

ومنها : مرسل يونس : كلّ بالغ من ذكر أو أنثى افترى على صغير أو كبير أو أنثي أو مسلم أو كافر أو حرّ أو مملوك ، فعليه حدّ القرية ، وعلى غير البالغ حدّ الأدب (6).

ومنها : خبر سماعة : حتّى كبر وكان غلاماً شابّاً أو رجلاً قد بلغ (7).

ومنها : ما في خبر أبي بصير، عن أبي عبد الله علیه السلام، قال في الرجل يقذف الصبيّة يجلد ، قال : لا حتّى تبلغ(8) .

إلى غير ذلك من الأخبار التي رتّب الحكم على عنوان البلوغ ، لاحظ المعجم

ص: 139


1- جامع أحاديث الشيعة26: 221 ب 49ح 2.
2- تهذيب الأحكام 6: 342ح 79.
3- تهذيب الأحكام 4 : 82 ح 10.
4- تهذيب الأحكام 8: 33ح 19.
5- تهذيب الأحكام 9: 115ح 1.
6- تهذيب الأحكام 89:10 ح 108.
7- فروع الكاني 6: 39ح 3.
8- تهذيب الأحكام 10: 68.

المفهرس لألفاظ أحاديث الكتب الأربعة.

والمحتمل في البلوغ ثلاثة :

الأول : البلوغ إلى حدّ الرجال ، والبلوغ إلى حدّ النساء ، كما يقال في الثمرة مثل العنب ونحوه : بلغت ، أي : وصلیت إلى حدّها الذي يترقّب منه ، وبه قال في الجواهر .

حيث قال : والمراد بالبلوغ الذي هو في اللغة الإدراك بلوغُ الحلم والوصولُ إلى حد النكاح بسبب تكوّن المني في البدن و تحرّك الشهرة والنزوع إلى الجماع ، وإنزال الماء الدافق الذي هو مبدأ خلق الإنسان بمقتضى الحكمة الربّانيّة فيه وفي غيره من الحيوان لبقاء النوع ، فهو حينئذ کمال طبيعي للإنسان يبقى به النسل ويقوي معه العقل ، وهو حال انتقال الأطفال إلى حدّ الكمال والبلوغ مبالغ النساء والرجال .

ومن هنا إذا اتفّق الاحتلام في الوقت المحتمل حصلی به البلوغ ولم يتوقّف على بيان الشارع، فإنّ البلوغ من الأمور الطبيعيّة المعروفة في اللغة والعرف ، وليس من الموضوعات الشرعيّة التي لا تعلم إلّا من جهة الشرع كألفاظ العبادات.

إلى أن قال : نعم يرجع إلى الشرع في مبدء السنّ الذي يحصلی به البلوغ مثلاً إذا حصلی فيه الاشتباه ، بخلاف الاحتلام والحيض والمحمل ونحوها ممّا لا ريب في صدق البلوغ معها لغة وعرفاً ولو للتلازم بينها (1) انتهی.

الثاني : أن يكون المراد به البلوغ عند المتشرّعة ، وهو وصول الصبيّ إلى حدّ تظهر فيه العلامات المذكورة لبلوغه ، ووصول الصبيّة إلى تسع سنين ، بحيث كان هذا المعنى معلوماً عند المتشرّعة ، وحيث ما يقال في الأخبار : إنّ البالغ يفعل كذا وغيره يفعل ذلك ، انصرف إلى ذلك .

الثالث : أن يحمل معنى البلوغ في كلّ خبر ذكر فيه البلوغ على ما يناسبه من

ص: 140


1- جواهر الكلام 26 : 4 - 5.

المعنى ، ويكون البلوغ بمعنى الوصول ، كما في قوله « إِلَّا إِذَا بَلَغَ كُرّاً » وغيره .

وفي خبر علي بن يقطين : لكم يصلیّي على الصبيّ إذا بلغ من السنين والشهور»(1).

ولا يبعد أن يقال : إنّ الصبيّة تبلغ في تسع سنين ، أي : تبلغ النكاح ، ولكن تبلغ مبلغ النساء إذا حصلیت فيها حالة شهوة مقاربة الرجال ، أو حاضت ، فلها مرتبتان من البلوغ.

ويشعر به ما رواه الشيخ بإسناده عن الحسين بن سعيد ، عن عبد الله بن الصلیت ، قال : سألت أبا الحسن علیه السلام عن الجارية الصغيرة يزوّجها أبوها ألها أمر إذا بلغت ؟ قال : لا . وسألته عن البكر إذا بلغت مبلغ النساء أها مع أبيها أمر ؟ فقال : ليس لها مع أبيها أمر(2). فإنّه مشعر بأنّ الجارية التي لم تبلغ تسعة إذا بلغت تسعة ليس لها مع أبيها أمر ، والبكر التي بلغت تسعاً لكن لم تبلغ مبلغ النساء في الحيض وغيره ليس لها مع أبيها أمر.

وفي خبر يزيد الكناسي الآتي : إِنَّهُ إِذَا بَلَغَتْ تِسْعَ سِنِينَ جَازَ لَهَا الْقَوْلُ فِي نَفْسِهَا وَ إِنْ لَمْ تَكُنْ أَدْرَكَتْ مُدْرَكَ النِّسَاءِ(3)

ما ورد من الأخبار بعنوان الإدراك

منها : صحیح محمّد بن مسلم ، قال : سألت أبا جعفر علیه السلام عن الصبيّ يتزوّج الصبيّة ؟ قَالَ : إِذَا كَانَ أَبَوَاهُمَا اللَّذَانِ زَوَّجَاهَا فَنَعَمْ جَائِزُ ، وَ لَكِنْ لَهُمَا الْخِيَارُ إِذَا أَدْرَكَا ، فَإِنْ رَضِيَا بَعْدَ ذَلِكَ فَإِنَّ الْمَهْرَ عَلَى الْأَبِ ، قُلْتُ لَهُ : فَهَلْ يَجُوزُ طَلَاقُ الْأَبِ عَلَى ابْنِهِ فِي حَالِ صِغَرِهِ ؟ قَالَ : لَا (4).

ص: 141


1- الاستبصار 1: 481ح 1.
2- الاستبصار 3: 236 ح 1.
3- تهذيب الأحكام 7: 383.
4- جامع أحاديث الشيعة 20: 140ب51ح2.

ومنها : خبر محمّد بن إسماعيل بن بزیع . قال : سأله رجل عن رجل مات و ترك أخوين وابنة ، والابنةُ صغيرة ، فعمد أحد الأخوين الوصيّ ، فزوّج الابنة من أبنه . ثمّ مات أبو الابن المزوّج ، فلما أن مات قال الآخر : أخي لم يزوّج ابنه ، فزوّج الجارية من ابنه ، فقيل للجارية : أيّ الزوجين أحبّ إليك الأوّل أو الآخر ؟ قالت : الآخر ، ثمّ إنّ الأخ الثاني مات وللأخ الأكبر ابن أكبر من الابن المزوّج ، فقال اللجارية : اختاري أيّهما أحبّ إليك الزوج الأوّل أو الزوج الثاني ، فَقَالَ : الرِّوَايَةُ فِيهَا أَنَّهَا لِلزَّوْجِ الْأَخِيرِ ، وَ ذَلِكَ أَنَّهَا قَدْ كَانَتْ أَدْرَكَتْ حِينَ زَوَّجَهَا وَ لَيْسَ لَهَا أَنْ تَنْقُضَ مَا عَقَدَتْهُ بَعْدَ إِدْرَاكِهَا(1).

ومنها : خبر حمران ، عن أبي عبد الله علیه السلام، قال : سئل عن رجل تزوّج جارية بكرة لم تدرك - الحديث (2).

وهذه اللفظة واقعة في كلام السائل ، وأراد به عدم بلوغها حدّ النساء ، فلا ينافي تحديد الشارع الإدراك ببلوغ تسع.

ومنها : خبر عبید بن زرارة ، عن أبي عبد الله علیه السلام، قَالَ فِي الرَّجُلِ يُزَوِّجُ ابْنَهُ يَتِيمَةً فِي حَجْرِهِ ، وَ ابْنُهُ مُدْرِكُ وَ الْيَتِيمَةُ غَيْرُ مُدْرِكَةٍ ، قَالَ : نکاح جَائِزُ عَلَى ابْنِهِ ، فَإِنْ مَاتَ عُزِلَ میراثها مِنْهُ حَتَّى تُدْرِكَ ، فَإِذَا أَدْرَكَتْ حُلِّفَتْ بِاللَّهِ مَا دَعَاهَا إِلَى أَخْذِ الْمِيرَاثِ إِلَّا رِضَاهَا بِالنِّكَاحِ ، ثُمَّ يُدْفَعُ إِلَيْهَا الْمِيرَاثُ وَ نِصْفُ الْمَهْرِ ، قَالَ : فَإِنْ مَاتَتْ قَبْلَ أَنْ تُدْرِكَ وَ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ الزَّوْجُ لَمْ يَرِثْهَا الزَّوْجُ ؛ لِأَنَّ لَهَا الْخِيَارَ عَلَيْهِ إِذَا أَدْرَكَتْ وَ لَا خِيَارَ لَهُ عَلَيْهَا (3) .

ومنها : ما رواه في الكافي بسنده عن علي بن رئاب ، عن أبي عبيدة الحذّاء ، قال :

ص: 142


1- جامع أحاديث الشيعة 147:20ب 53ح 7.
2- جامع أحاديث الشيعة 20 : 183 ب 3ح 10.
3- جامع أحاديث الشيعة 21: 250 ب 31ح 7.

سألت أبا جعفر علیه السلام عن غلام وجارية زوجّهما وليّان غير مدركين ؟ قَالَ : فَقَالَ : النکاح جَائِزُ وأیّهما أَدْرَكَ كَانَ لَهُ الْخِيَارُ ، وَ إِنْ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يُدْرِكَا فَلَا میراث بَيْنَهَا وَ لَا مَهْرَ إِلَّا أَنْ يَكُونَا قَدْ أَدْرَكَا وَ رَضِيَا . قِلَّةُ : فَإِنْ أَدْرَكَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْآخَرِ ، قَالَ : يَجُوزُ ذَلِكَ عَلَيْهِ إِنْ هُوَ رَضِيَ .

قلت : فإن كان الرجل الذي قد أدرك قبل الجارية ورضي بالنكاح ، ثمّ مات قبل أن تدرك الجارية أترثه ؟ قَالَ : نَعَمْ يُعْزَلُ میراثها مِنْهُ حَتَّى تُدْرِكَ ، فَتَحْلِفَ بِاللَّهِ مَا دَعَاهَا إِلَى أَخْذِ الْمِيرَاثِ إِلَّا رِضَاهَا بِالتَّزْوِيجِ ، ثُمَّ يُدْفَعُ إِلَيْهَا الْمِيرَاثُ وَ نِصْفُ الْمَهْرِ ، قِلَّةُ : فَإِنْ مَاتَتِ الْجَارِيَةُ وَ لَمْ تَكُنْ أَدْرَكَتْ أيرتها الزَّوْجُ الْمُدْرِكُ ؟ قَالَ : لَا ؛ لِأَنَّ لَهَا الْخِيَارَ إِذَا أَدْرَكَتْ .

قلت : فإن كان أبوها هو الذي زوّجها قبل أن تدرك ، قَالَ : يَجُوزُ عَلَيْهَا تَزْوِيجُ الْأَبِ وَ يَجُوزُ عَلَى الْغُلَامِ وَ الْمَهْرُ عَلَى الْأَبِ لِلْجَارِيَةِ (1).

ومنها : خبر مالك بن أعين ، عن أبي جعفر علیه السلام، قال : سألته عن نصرانيّ مات وله ابن أخ مسلم وابن اُخت مسلم ، وللنصرانيّ أولاد وزوجة نصاری ، فَقَالَ : أَرَى أَنْ يُعْطَى ابْنُ أَخِيهِ الْمُسْلِمُ ثُلُثَيْ مَا تَرَكَ ، وَ يُعْطَى ابْنُ أُخْتِهِ الْمُسْلِمُ ثُلُثَ مَا تَرَكَ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وُلْدُ صِغَارُ ، فَإِنْ كَانَ لَهُ وُلْدُ صِغَارُ ، فَإِنَّ عَلَى الْوَارِثَيْنِ أَنْ يُنْفِقَا عَلَى الصِّغَارِ مِمَّا وَرِثَا مِنْ أَبِيهِمْ حَتَّى يُدْرِكُوا.

قيل له : كيف يتفقان على الصغار ؟ فَقَالَ : يُخْرِجُ وَارِثُ الثُّلُثَيْنِ ثُلُثَيِ النَّفَقَةِ وَ يُخْرِجُ وَارِثُ الثُّلُثِ ثُلُثَ النَّفَقَةِ ، فَإِذَا أَدْرَكُوا قَطَعَا النَّفَقَةَ عَنْهُمْ.

قيل له : فَإِنْ أَسْلَمَ الْأَوْلَادُ وَهْمُ صِغَارٍ ، فَقَالَ : يُدْفَعُ مَا تَرَكَ أَبُوهُمْ إِلَى الْإِمَامِ حَتَّى يُدْرِكُوا ، فَإِنْ بَقُوا عَلَى الْإِسْلَامِ إِذَا أَدْرَكُوا دَفَعَ الْإِمَامُ میراثهم إِلَيْهِمْ ، وَ إِنْ لَمْ

ص: 143


1- جامع أحاديث الشيعة 251:21ب 31 ح 11.

يَتِمُّوا عَلَى الْإِسْلَامِ إِذَا أَدْرَكُوا دَفَعَ الْإِمَامُ مِيرَاثَهُ إِلَى ابْنِ أَخِيهِ وَ ابْنِ أُخْتِهِ الْمُسْلِمَيْنِ ، يَدْفَعُ إِلَى ابْنِ أَخِيهِ ثُلُثَيْ مَا تَرَكَ ، وَ يَدْفَعُ إِلَى ابْنِ أُخْتِهِ ثُلُثَ مَا تَرَكَ (1).

وهذا الحديث يدلّ على عدم نفوذ إسلامهم قبل أن يدركوا ، لا عدم صحّة إسلامهم ، وأنّه يشترط إمضاؤهم بعد الإدراك .

ومنها : خبر الحلبي ، قال : قلت لأبي عبد الله علیه السلام : الغلام له عشر سنين ، فيزوّجه أبوه في صغره ، أيجوز طلاقه وهو ابن عشر سنين ؟ قَالَ : فَقَالَ : أَمَّا التزویج فَصَحِيحُ ، وَ أَمَّا طَلَاقُهُ فَيَنْبَغِي أَنْ يَحْبِسَ عَلَيْهِ امْرَأَتُهُ حَتَّى يُدْرِكَ ، فَيُعْلَمَ أَنَّهُ كَانَ قَدْ طَلَّقَ ، فَإِنْ أَقَرَّ بِذَلِكَ وَ أَمْضَاهُ فَهِيَ وَاحِدَةُ بَائِنَةُ ، وَ هُوَ خَاطِبُ مِنَ الْخُطَّابِ . وَ إِنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ وَ أَبَى أَنْ يُمْضِيَهُ فَهِيَ امْرَأَتُهُ.

قلت :فَإِنْ مَاتَتْ أَوْ مَاتَ ، فَقَالَ : يُوقَفُ الْمِيرَاثُ حَتَّى يُدْرِكَ أیّهما بَقِيَ ، ثُمَّ يُحَلَّفُ بِاللَّهِ مَا دَعَاهُ إِلَى أَخْذِ الْمِيرَاثِ إِلَّا الرِّضَا بِالنِّكَاحِ وَ يُدْفَعُ إِلَيْهِ الْمِيرَاثُ (2).

ومنها : ما رواه في الكافي ، بسنده عن النضر بن قرواش الجمال ، قال : سألت أبا عبد الله علیه السلام - إلى أن قال : - ولا يتم بعد إدراك (3).

ومنها : ما رواه في التهذیب بسنده عن داود بن فرقد ، قال : سألت أبا عبدالله علیه السلام عن رجل اشتري جارية مدركة ، فلم تحض عنده حتّى مضى لها سنّة أشهر ، وليس بها حمل ، قَالَ : إِنْ كَانَ مِثْلُهَا تَحِيضُ وَ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْ کبر ، فَهَذَا عَيْبُ تُرَدُّ مِنْهُ(4).

ومنها: ما رواه في التهذيب بسنده عن أبي بكر الحضرمي ، عن أبي عبد الله علیه السلام

ص: 144


1- جامع أحاديث الشيعة 24: 278 ب 5 ح 1.
2- جامع أحاديث الشيعة 24: 438 ح 3.
3- روضة الكافي 8: 196 ح 234.
4- تهذیب الأحکام 7: 65.

إلى أن قال : وَ ضُرِبَ الْغُلَامُ دُونَ الْحَدِّ ، وَ قَالٍ : أَمَا لَوْ كُنْتَ مُدْرِكاً لَقَتَلْتُكَ لَا مَكَانَكَ إِيَّاهُ نَفْسِكَ يَثْقُبُكَ (1).

ومنها : ما رواه في التهذيب - إلى أن قال : - وَ عَلَى قَرَابَتِهِ مِنْ قِبَلِ أُمِّهِ مِنَ الرِّجَالِ الدركين الْمُسْلِمِينَ(2).

ومنها : ما رواه في التهذيب : محمّد بن الحسن الفّقار ، قال : كتبت إلى أبي محمّد صلی الله و علیه وآله وسلم رجل أوصى إلى ولده وفيهم كبار قد أدركوا وفيهم صغار الحديث (3).

ومنها : ما رواه في الفقيه ، عن زرارة، عن أبي عبد الله علیه السلام ما مضمونه : إنّه لا أدرك هبة الله وأدرك يافث ، وأنزل الله لها زوجة ، فولد لأحدهما ابن ولآخر بنت، فأمر الله عزّوجلّ حين أدركا أن يزوّج ابنة يافث من ابن شيث الحديث(4).

ومنها : ما رواه في الكافي ، عن محمّد بن يحيى ، عن أحمد بن محمّد بن عيسى ، عن سعد بن إسماعيل ، عن أبيه ، قال : سَأَلْتُ الرِّضَا علیه السلام عَنْ وَصِيِّ أَيْتَامٍ تُدْرِكُ أَيْتَامُهُ ، فَيَعْرِضُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَأْخُذُوا الَّذِي لَهُمْ ، فَيَأْبَوْنَ عَلَيْهِ كَيْفَ يَصْنَعُ ؟ قَالَ : يَرُدُّهُ عَلَيْهِمْ وَ يُكْرِهُهُمْ عَلَى ذَلِكَ (5).

وما رواه فيه بسنده ، عن عيص بن القاسم، عن أبي عبد الله علیه السلام، قال : سألته عن اليتيمة متي يدفع إليها مالها ؟ قال : إذا علمت أنّها لا تفسد ولا تضيع ، فسألته إن كانت قد تزوّجت ؟ فَقَالَ : إِذَا تَزَوَّجَتْ فَقَدِ انْقَطَعَ مُلْكُ الْوَصِيِّ عَنْهَا(6).

ص: 145


1- تهذيب الأحكام 10 : 51.
2- تهذيب الأحكام 10 : 171.
3- تهذيب الأحكام 9: 185.
4- من لا يحضره الفقیه 3: 381.
5- فروع الكافي 7: 68.
6- فروع الكافي 7: 68.

ويمكن أن يقال : إنّها تتزوّج عند بلوغها التسع للأخبار المستفيضة ، فإذا تزوجت وانقطع ملك الوصيّ عنها يكون قد أدركت .

ومثله في الدلالة على أنّ إدراكها في الزواج جواز المجامعة ، ما رواه الشيخ في التهذيب بإسناده عن زرارة ، قال : سألت أبا جعفر علیه السلام عن رجل تزوّج جارية لم تدرك لا يجامع مثلها الحديث (1) .فإنّه بضميمة ما دلّ على جواز بجامعتها عند بلوغها التسع يدلّ على أنّها مدركة بعد بلوغ التسع.

إلى غير ذلك من الموارد المذكورة في الأخبار من ترتّب الأحكام على كون الصبيّة مدركة .

والمراد بالإدراك هو الوصول إلى حدّه المترقب منه ، كالثمرة يقال لها أدركت ،أي : وصلیت إلى حدّها، فيتّحد مع معنى البلوغ.

ويمكن أن يقال : إنّ البنت لها مرتبتان من الإدراك كالبلوغ ، فهي بعد بلوغها التسع مدركة ، لكنّها ليست مدركة حدّ النساء في الحيض.

کا دلّ عليه قوله في خبر يزيد الكناسي : وإذا بلغت تسع سنين جاز لها القول في نفسها بالرضا والتأّبّي ، وجاز عليها بعد ذلك وإن لم تكن أدركت مدرك النساء ، قلت : أفيقام عليها الحدود و تؤخذ بها ؟وهي في تلك الحال وإنّما لها تسع سنين ولم تدرك مدرك النساء في الحيض ؟قَالَ : نَعَمْ إِذَا دَخَلَتْ عَلَى زَوْجِهَا وَلِّهَا تِسْعُ سِنِينَ ذَهَبَ عَنْهَا الْيُتْمُ وَ دُفِعَ إِلَيْهَا مَالُهَا واُقيمت الْحُدُودُ التَّامَّةُ عَلَيْهَا وَلِّهَا الْحَدِيثَ(2).

وقد تحصّل أنّ البلوغ والإدراك يرجعان إلى معنى واحد ، والأخبار المشتملة عليها كثيرة ، وإنّ المراد بهما الوصول إلى الحدّ المترقّب من الصبيّ والصبيّة ، كوصول الثمرة إلى حدّها.

ص: 146


1- تهذيب الأحكام 7: 465 ح 74.
2- جامع أحادیث الشيعة 141:20 ب 15 ح 10.

فيقع الكلام في أنّ الأصلی في ثبوت التكاليف هو البلوغ بالمعنى المذكور ، حتّى يقيّد به إطلاق الأحكام الموجودة في الكتاب والسنّة بما إذا كان الصبيّ والصبيّة بالغين ، أو يكون البلوغ في كلّ مورد في الأخبار له معناه الذي يقتضيه . وعلى الأوّل - أي : تقييّد الأحكام بالبلوغ بالمعنى المذكور - فإذا وردت أخبار على تحقّق البلوغ بغير ذلك ، ففي الصبيّ بالسنّ والانبات و غيرهما ، وفي الصبيّة بالتسع والعشر، فيقتصر في تقييده على المتيقّن ، مثلاً ورد في الصبيّ ثلاثة عشر وأربعة عشر وخمسة عشر ، فإذا لم يبلغ حدّ النكاح في هذه السنين ، فالمتيقّن من ثبوت التكليف عليه هو الخمسة عشر .

والذي ينبغي أن يقال من غير تردید : إنّ التكاليف التعبديّة والماليّة من الصلیاة والصوم والحجّ والزكاة ولزوم الحجاب وغيرها تثبت على الصبيّة البالغة تسعاً ؛ لأنّ الأخبار الدالّة على التسع مستفيضة ، ولسان بعضها الحكومة ، مثل قوله « إِذَا بَلَغَتْ تِسْعاً فَقَدْ بَلَغَتْ » وكذا يجوز زواجها والدخول بها بعد التسع إن لم تتضرّر به بلا ترديد للأخبار المستفيضة.

وأمّا بعض الأحكام الأخر المأخوذ في موضوعه كونها مدركة ، فهل يترتّب على بلوغها التسع أو على إدراكها مدرك النساء ؟ فإنّه يحتاج إلى مراجعة مواضع كلّ واحد منها ، وملاحظة القرائن الدالّة على المراد بها، ولم يسعني الوقت والمال المراجعة كلّ موضع منها في الفقه ، ولكن لا ينبغي الشكّ في ثبوت الأحكام التعبديّة ، وجواز التزويج ببلوغها التسع .

ص: 147

القسم الثاني

الأخبار التي تدلّ او يمكن الاستدلال بها على عناوين خاصّة

وهي:

الأول

إنبات الشعر الخشن

قال المحقّق في الشرائع في كتاب الحجر : ويعلم بلوغه بإنبات الشعر الخشن على العانة ، سواء كان مسلماً أو مشركاً ، و خروج المني الذي يكون منه الولد من الموضع المعتاد كيف كان ، ويشترك في هذين الذكور والاناث (1)انتهي.

واستدلّ الأوّل في الجواهر بالإجماع وبعض الأخبار ، ثمّ قال : نعم قد يشكل عمومه للإناث بظهور النصوص في الذكور خاصّة ، بل قد يظهر من بعض الأصحاب اختصاصها بهم وإن لم يعرف نقل الخلاف في ذلك ، لكن قد عرفت العموم في معقد إجماعي الخلاف والتذكرة ، بل صرّحا به وإن لم يكن في المعقد المزبور مؤيّداً بتتبّع أكثر العبارات ، وبأنّ الإنبات إمارة طبيعيّة اعتبرها الشارع الكشفه عن تحقّق الإدراك ، فلا يختلف ، وبقضاء العادة بتأخّر إنبات هذا الشعر عن تسع سنين بكثير ، ولعلّ ذلك هو السبب في ترك التعرّض له في النصوص : لندرة الاحتياج إليه فيهنّ كالاحتلام (2) انتهی.

قلت : الانصاف أنّ الإنبات إن تحقّق قبل التسع لا لعلاج ولا لأمر خارج عن الطبيعة ، فاعتباره في بلوغ الصبيّة مشكل ؛ لاختصاص النصوص بالذكور ، و ثبوت الإجماع الكاشف عن قول المعصوم - ولو مع التأييدات المذكورة -غير واضح.

ص: 148


1- شرائع الاسلام 2: 99.
2- جواهر الكلام 26: 7.

الثاني

خروج المني بجماع او احتلام أو استمناء ونحوها

وهو مشترك بين الصبي والصبيّة . ولا إشكال في تحقّق البلوغ به ، وإن خرج من غير المخرج المعتاد ، ولم يكن ممّا يتكوّن منه الولد إذا لم يكن الخروج مرحليّاً وقتيّاً بل كان ناشئاً عن الشهوة والقوّة الموجودتين في النساء والرجال ، ولا إشكال فيه في الرجال .

وأمّا في النساء ، فقد يناقش في أنّ لهنّ منّي كمنيّ الرجال .

ويرد عليه أنّ المدعى أنّ المرأة إن حصلی لها التهيّج للشهوة وقاربها الرجل بحيث ارتفعت شهوتها الجنسيّة بعد المقاربة ، فإنّها ينزل منها شيء يترتّب عليه حكم المنّي .

وإن لم يكن كمنّي الرجال ، فإنّ حصلی لها مثل هذه الحالة بغير بجامعة الرجل وأنزلت، فيجب عليها الغسل ، و هر يكشف عن بلوغها .

واستدلّ لوجود المنّي في المرأة بقوله تعالى « مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ »(1)أي : مختلطة من الرجل والمرأة .

وفيه أنّه يحتمل أن يكون المراد الاختلاط من الطبائع المختلفة .

واستدلّ أيضاً بقوله تعالى «خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ*يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ »(2) أي : صلیب الرجل وتريبة المرأة .

قال الشيخ الطوسي رحمة الله في التبيان : التريبة موضع القلادة من صدر المرأة(3).

لكن يحتمل تريبة الرجل بأنّ يخرج من بين صلیبه وتريبته .

ويحتمل أن يكون المراد أنّ البويضة الموجودة في رحمها التي تتركّب مع منّي

ص: 149


1- الإنسان: 2.
2- الطارق : 6- 7.
3- التبيان 10: 324.

الرجل تخرج من تريبتها لا خروج منّیها ، لكنّه خلاف ظاهر كونها ماءً دافقاً ، فإنّه ظاهر في أنّ مجموع الماء المتولّد منه دافق.

والأولى

الاستدلال له بالأخبار ، وهي :

صحیح عبد الله بن سنان ، قال : سألت أبا عبد الله علیه السلام عن المرأة ترى أنّ الرجل يجامعها في المنام في فرجها حتّى تنزل ، قال : تغتسل(1).

وخبر أديم بن الحرّ(2) . وإطلاقه محمول على ما إذا أنزلت .

و خبر الحلبي(3). وخبر يحيى بن أبي طلحة(4). وخبر إسماعيل بن سعد الأشعريه(5). وخبر محمد بن إسماعيل بن بزیع (6) . وخبر أبي عبيدة الحذاء (7). ويدل عليه خبر الدعائم(8).

ويعارضها في عدم وجوب الغسل : صحیح محمّد بن مسلم ، قال : قلت لأبي جعفر علیه السلام : كَيْفَ جُعِلَ عَلَى الْمَرْأَةِ إِذَا رَأَتْ فِي النَّوْمِ أَنَّ الرَّجُلَ يُجَامِعُهَا فِي فَرْجِهَا الْغُسْلُ وَ لَمْ يُجْعَلْ عَلَيْهَا الْغُسْلُ إِذَا جَامَعَهَا دُونَ الْفَرْجِ فِي الْيَقَظَةِ فَأَمْنَتْ ؟ قَالَ : لِأَنَّهَا رَأَتْ فِي مَنَامِهَا أَنَّ الرَّجُلَ يُجَامِعُهَا فِي فَرْجِهَا ، فَوَجَبَ عَلَيْهَا الْغُسْلُ ، وَ الْآخَرُ إِنَّمَا جَامَعَهَا دُونَ الْفَرْجِ ، فَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهَا الْغُسْلُ لِأَنَّهُ لَمْ يُدْخِلْهُ ، وَ لَوْ كَانَ أَدْخَلَهُ فِي الْيَقَظَةِ

ص: 150


1- جامع أحاديث الشيعة 2: 441 ب3 ح 1.
2- جامع الشيعة 2: 441 ب 3ح2.
3- جامع الشيعة 442:2 ب 3ح6.
4- جامع أحاديث الشيعة 2: 444 ب 3ح 12.
5- جامع أحاديث الشيعة 2: 444 ب 3 ع 13.
6- جامع أحاديث الشيعة 2: 444 ب 3ح 14.
7- جامع أحاديث الشيعة 22: 443ح 1.
8- جامع أحاديث الشيعة 2: 442ح 3 و ح 4.

وَجَبَ عَلَيْهَا الْغُسْلُ أَمْنَتْ أَوْ لَمْ تُمْنِ (1).

لكن يدلّ على أنّها منيّاً، ويحتمل أن يكون قوله « فأمنت » يعني به أنّها أمذت .

ومثله خبر عمر بن یزید (2). وكذا خبره الآخر(3). ولعلّها متحدّان .

والمرسل عن عبيد بن زرارة (4). وفيه مضافاً إلى الإرسال أنّه لا دلالّة فيه على أنّها أنزلت ، وغايته أنّها لا تحتلم في النوم ، والخطاب إلى الذين يقومون من النوم من الرجال .

وخبر عمر بن أذينة (5) . ويمكن حمله على أنّها تهريق في النوم ، لكن لما تنبّهت لا ترى شيئاً ، فهي كالرجل إن رأى في النوم وانتبه ولم يجد على ثيابه شيئاً في أنّه لا يجب عليها الغسل.

ثمّ إنّ الروايات المعارضة لا تدلّ على أنّه ليس لها منّي ، وإنّما تدلّ على عدم وجوب الغسل عليها ، والطائفة الأولى الدالّة على وجوب الغسل عليها إن أنزلت أكثر ، ولا مناقشة في دلالتها ، فيتعيّن الأخذ بها . والمسألة محررة في محلّها .

ثمّ إنّه تعرّض في الجواهر لوجود المنّي للمرأة ، وحكی وجوده عن الحكماء ، فلاحظ كلامه(6). ولاحظ خبر أبي بصير في العلل (7). وخبر عبد الله بن سنان (8) .

ص: 151


1- جامع أحاديث الشيعة 2: 534 ب 3ح 8.
2- ح 16.
3- ب 3ح 17.
4- ح 18.
5- ح 19.
6- جواهر الكلام 26: 45.
7- علل الشرائع ص 94ب 85ح 1.
8- علل الشرائع ص 94ب 85 ح 2.

وخبر أنس(1). فقد ذكر فيها و جود المنّي للمرأة .

مسألة: يستفاد من هذه الأخبار إمكان نزول الماء من المرأة بذلك ونحوه ، كما صرح به في خبر محمّد بن الفضيل المتقدّم ، والظاهر حرمة الاستمناء عليها ؛ لعموم قوله تعالى «وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ-الی قوله- فَمَنِ ابْتَغَىٰ وَرَاءَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْعَادُونَ»(2) وما ورد في الناكح نفسه ، و ما ورد في الأمة من جواز التذاذها بید مولاها لا بغير جسده .

فقد روى في الكافي بسنده ، عن عبيد بن زرارة ، قال : كان لناجار شیخ له جارية فارهة قد أعطى بها ثلاثين ألف درهم ، فكان لا يبلغ منها ما يريد ، وكانت تقول : اجعل يدك بين شفري فإني أجد لذلك لذة ، وكان يكره أن يفعل ذلك ، فقال الزرارة : اسأل أبا عبد الله علیه السلام عن هذا ، فسأله ، فقال :لَا بَأْسَ أَنْ يَسْتَعِينَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ مِنْ جَسَدِهِ عَلَيْهَا ، وَ لَكِنْ لَا يَسْتَعِينُ بِغَيْرِ جَسَدِهِ عَلَيْهَا(3) .

وروى في التهذيب بسنده عن عبيد بن زرارة ، قلت لأبي عبد الله علیه السلام : الرَّجُلُ يَكُونُ عِنْدَهُ جَوَارٍ ، فَلَا يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَطَأَهُنَّ يَعْمَلُ لَهُنَّ شَيْئاً يُلَذِّذُهُنَّ بِهِ ، قَالَ : أَمَّا مَا كَانَ مِنْ جَسَدِهِ فَلَا بَأْسَ بِهِ (4).

الثالث

بلوغ الحلم

يدلّ عليه ما رواه في الكافي ، عن محمّد بن يحيى ، عن أحمد بن محمّد بن عيسى ، عن محمّد بن يحيى ، عن طلحة بن زيد ، عن أبي عبد الله علیه السلام، قال : إنّ أولاد

ص: 152


1- علل الشرائع ص 94ب 85ح 3، وراجع ح 4 و ح 5.
2- المؤمنون : 5 - 7
3- جامع أحاديث الشيعة 191:20 ب9 ح 2.
4- جامع أحاديث الشيعة 20 : 191 ب 9 ح 3.

الْمُسْلِمِينَ مَوْسُومُونَ عندالله شَافِعُ وَ مُشَفَّعُ ، فَإِذَا بَلَغُوا اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً كَانَتْ لَهُمُ الْحَسَنَاتُ ، فَإِذَا بَلَغُوا الْحُلُمَ كُتِبَتْ عَلَيْهِمُ السَّيِّئَاتُ (1).

ورواه الصدوق في التوحيد في الصحيح عن محمّد بن سنان ، عن طلحة بن زید(2). ومحمّد بن يحيى الراوي عن طلحة بن زید مردّد بين الخزّاز والخثعمي ووثّق النجاشي کليهما.

وأمّا طلحة بن زید ، فقال النجاشي : عامي (3).

وقال الشيخ : له کتاب ، وهو عامّی المذهب ، إلّا أنّ كتابه معتمد(4).

فليس له توثیق سوى ما ذكره الشيخ من أنّ كتابه معتمد ، فليس للسند قوّة يخصص به عموم الكتاب .

وقد توّهم أنّ هذا الخبر يشمل الذكور والإناث ، فيدلّ على أنّ الإناث ليس لهم الحسنات ما لم يبلغن اثنتي عشرة سنة، ولا تكتب عليهم السيّئات ما لم يبلغن الحلم.

وفيه أنّ المراد بهم في هذا الخبر الذكور ؛ لأنّه يجوز تزويج الصبيّة بإذنها وبإذن أبيها إن كانت باكرة بعد بلوغها التسع بالضرورة ، ويجوز الدخول بها ، وحينئذ يشملها جميع الأحكام الثابتة للزوّجة ، فيكتب لها الحسنات والسيّئات .

وأيضاً ظاهر قوله علیه السلام « فَإِذَا بَلَغُوا الْحُلُمَ » هو البلوغ بعد اثنتي عشرة سنة ، فیناسب بلوغ الصبيّ ، فإنّه يبلغ الحلم ويحتلم من الاثنتي عشرة إلى ما بعد خمس عشرة .

ص: 153


1- جامع أحادیث الشيعة 1: 421 ب 12 ح 4.
2- جامع أحاديث الشيعة 1: ب 12 ح 4.
3- رجال النجاشي ص 207 برقم: 550.
4- الفهرست للشيخ الطوسي ص 86.

الرابع

الاحتلام

وهو أن يرى في النوم ما يوجب خروج المني منه ، أو يرى أنّه يجامع النساء وإن لم يخرج منه المنّي، ولا يصير جنباً إن لم يخرج منه المنّي.

ولا يبعد أن يقال : إنّ الاحتلام علامة البلوغ في الصبيّ؛ لأنّه يكثر ذلك فيهم .وليس علامة للصبيّة ، فإنّه ممّا يقلّ وقوعه فيها ، فلا يناسب جعله علامة فيها.

وينبغي إيراد الروايات المشتملة على الاحتلام :

فنها : ما رواه عبد الله بن سنان ، وقد روي عنه خمس روایات متّحدة المضامين إلّا في بعض الكلمات ، ولا يبعد أن يكون الجميع رواية واحدة اختلفت في النقل ، لا أنّه سمع من المعصوم خمس مرات ، فلذا لا يمكن التمسّك بإطلاق بعضه ، ونذكر جميعها:.

الأوّل : ما رواه في الكافي والتهذيب و الفقيه والخصال بسند معتبر ، عن عبد الله بن سنان ، عن أبي عبد الله علیه السلام ، قَالَ : إِذَا بَلَغَ ( الْغُلَامُ - فقیه ، خِصَالٍ أَشُدَّهُ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً وَ دَخَلَ فِي الْأَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً ، وَجَبَ عَلَيْهِ مَا وَجَبَ عَلَى الْمُحْتَلِمِينَ ، احْتَلَمَ أَوْ لَمْ يَحْتَلِمْ ، وَ كُتِبَتْ عَلَيْهِ السَّيِّئَاتُ ، وَ كُتِبَتْ لَهُ الْحَسَنَاتِ ، وَ جَازَ لَهُ كُلُّ شَيْ ءٍ ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ سَفِيهَةُ أَوْ ضَعِيفاً(1).

وهذا الخبر مخصوص بالذكور لقرائن :

منها : ذكر الغلام في الفقيه والخصال .

ومنها : اعتبار ثلاث عشرة ، مع أنّ الصبيّة تحيض قبلها .

ومنها : قوله « احتلم أو لم يحتلم » فإنّه شائع في الذكور .

ص: 154


1- جامع أحاديث الشيعة 1: 353ب 11 ح 9.

و توّهم من لا خبرة له عمومه للإناث ، ولم يلحظ القرائن المذكورة .

الثاني : ما رواه في التهذيب في الموثّق ، عن عبد الله بن سنان ، عن أبي عبدالله علیه السلام، قال : سئل أبي وأنا حاضر عن قول الله عزوجل « حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ »قال : الإحتلام ، قَالَ : فَقَالَ : يَحْتَلِمُ فِي سِتَّ عَشْرَةَ وَ سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً وَ نَحْوِهَا ، فَقَالَ : إِذَا أَتَتْ عَلَيْهِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً وَ نَحْوُهَا ، فَقَالَ : لَا إِذَا أَتَتْ عَلَيْهِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً كُتِبَتْ لَهُ الْحَسَنَاتُ وَ كُتِبَتْ عَلَيْهِ السَّيِّئَاتُ وَ جَازَ أَمْرُهُ ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً ، فَقَالَ : وَ مَا السَّفِيهُ ؟ فَقَالَ : الَّذِي يَشْتَرِي الدِّرْهَمَ بِأَضْعَافِهِ ، قَالَ : وَ مَا الضَّعِيفِ ؟ قَالَ : الابله(1).

وهذا الخبر مخصوص بالذكور أيضاً ؛ لاحتمال اتّحاده مع الأوّل ، مع أنّ قوله « يَحْتَلِمُ فِي سِتَّ عَشْرَةَ » ظاهر في احتلام الغلام ، مع أنّ الاحتلام شائع فيه.

الثالث : ما رواه في الخصال بسنده ، عن عبد الله بن سنان ، عن أبي عبد الله علیه السلام قَالَ : سَأَلَهُ أَبِي وَ أَنَا حَاضِرُ عَنِ الْيَتِيمِ متي يَجُوزُ أَمْرِهِ ؟ قَالَ : حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ ، قَالَ : وَ مَا أَشُدُّهُ ؟ قَالَ : الِاحْتِلَامَ ، قَالَ : قِلَّةُ : قَدْ يَكُونُ الْغُلَامُ ابْنَ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً أَوْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ وَ لَا يَحْتَلِمْ ؟ قَالَ : إِذَا بَلَغَ وَ كُتِبَ عَلَيْهِ الشَّيْ ءُ جَازَ أَمْرُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً(2).

وهذا الخبر أيضاً مخصوص بالذكور ؛ لأنّ الاحتلام شائع فيه ، مع أن قوله علیه السلام «قد يكون الغلام» - إلى آخره - ظاهر في أنّه بيان لصدر الخبر .

الرابع : ما رواه في المستدرك عن العيّاشي في تفسيره عنه (3) ، وهو نظير الثالث .

ص: 155


1- جامع أحاديث الشيعة 1: 352ب 11ح8.
2- جامع أحاديث الشيعة 1: 352ب 11ح7.
3- جامع أحاديث الشيعة 1: 351 - 352ب 11ح 1.

الخامس : ما رواه في الوسائل عن العيّاشي (1)عنه ، وهو قريب من الأحاديث السابقة .

ومنها : ما رواه في الفقیه ، بسنده عن إسحاق بن عمّار ، قال : سألت أبا الحسن علیه السلام عن ابن عشر سنين يحجّ ، قال : عليه حجّة الإسلام إذا احتلم ، وكذلك الجارية عليها الحجّ إذا طشت(2).

ومنها: ما رواه في الكافي بسنده ، عن شهاب ، عن أبي عبد الله علیه السلام في حديث ، قال : وسألته عن ابن عشر سنين يحجّ ، قَالَ : عَلَيْهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ إِذَا احْتَلَمَ ، وَ كَذَا الْجَارِيَةُ عَلَيْهَا الْحَجُّ إِذَا طَمِثَتْ (3) .

ومنها: ما رواه في التهذيب والاستبصار ، بسنده عن أبي بصير ، عن أبي عبد الله علیه السلام، قَالَ : عَلَى الصَّبِيِّ إِذَا احْتَلَمَ الصِّيَامُ ، وَ عَلَى المجارية إِذَا حَاضَتِ الصِّيَامُ - الْحَدِيثَ .(4)

وهذه الروايات الثلاثة تؤيّد كون الاحتلام علامة بلوغ الصبيّ في غير هذه الأخبار أيضاً، لأنّه جعل في مقابله علامة بلوغ الصبيّة حيضها .

ومنها : الأخبار المشتملة على أنّه على الغلام إذا احتلم كذا، وهي تؤیّد کون الاحتلام مختصاً بالذكور.

ومنها : ما رواه في الكافي والفقيه بإسنادهما عن هشام ، عن أبي عبد الله علیه السلام. قَالَ : انْقِطَاعُ يُتْمِ الْيَتِيمِ بِالِاحْتِلَامِ وَ هُوَ أَشُدُّهُ ، وَ إِنِ احْتَلَمَ وَ لَمْ يُؤْنَسْ مِنْهُ رُشْدُهُ وَ كَانَ

ص: 156


1- جامع أحاديث الشيعة 1: 353ب 11 10.
2- جامع أحاديث الشيعة 10: 266ب 5 ح 1.
3- فروع الكائي 4: 276.
4- جامع أحاديث الشيعة 9: 271 ح 1.

سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً فَلْيُمْسِكْ عَنْهُ وَلِيُّهُ مَالَهُ(1).

وقد يقال : بأنّ اليتيم أعم من الصبيّ والصبيّة ، فيكون انقطاع يتم الصبيّة بالاحتلام أيضاً.

وفيه أنّه يحتمل أن يكون مخصوصاً بالصبيّ وساكتاً عن الصبيّة : لكثرة الاحتلام من الصبيّ.

والحاصلی أنّ المراد بالاحتلام المذكور في الأخبار ، احتلام الصبيّ لا الصبيّة ، للقرائن الدالّة على ذلك :

أحدها : أنّ الاحتلام وقع في مقابل حيض المرأة في عدّة أخبار قد تقدّمت .

الثاني : تحديد الاحتلام في بعض الأخبار بأربع عشرة وستّ عشرة ، مع أنّ المرأة تحيض عادة في اثنتي عشرة سنة أو ثلاث عشرة .

الثالث : ندرة ذلك بحيث صار مورد الأسئلة في عدّة أخبار ، بل ظاهر بعضها السؤال عن إمكان وقوعه ، فهو أمر غير عاديّ لا مجال لجعله علامة البلوغ في المرأة.

ويدلّ عليه - وإن لم يكن حجّة - ما في موطّأ مالك ، عن عروة بن الزبير ، أن أمّ سليم قالت لرسول الله صلی الله و علیه وآله وسلم : الْمَرْأَةَ تَرَى فِي الْمَنَامِ مِثْلَ مَا يَرَى الرَّجُلُ ، أَ تَغْتَسِلَ ؟ فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلی الله و علیه وآله وسلم : نَعَمْ فَلْتَغْتَسِلْ ، فَقَالَتْ لَهَا عَائِشَةُ : أُفٍّ لک وَ هَلْ ترئ ذَلِكَ لِلْمَرْأَةِ ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلی الله و علیه وآله وسلم : تُرْبَةُ يَمِينِكَ وَ مِنْ أَيْنَ يَكُونُ الشَّبَهِ ؟

عن أمّ سلمة زوج النبيّ أنّها قالت : جاءت أمّ سليم امرأة أبي طلحة الأنصاري إلى رسول الله صلی الله و علیه وآله وسلم ، فقالت : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ ، هَلْ عَلَى الْمَرْأَةِ مِنْ غُسْلٍ إِذَا هِيَ احْتَلَمْتُ ؟ فَقَالَ : نَعَمْ إِذَا رَأَتِ الْمَاءَ (2).

وظاهر الخبرين أنّه أمر نادر مخفي ليس علامة للبلوغ.

ص: 157


1- وسائل الشيعة 13 : 141 کتاب الحجربا 1ح 1.
2- موطّأ مالك ص 44.

ويدلّ على أنّه مخفي، وأنّه لابدّ من إخفائه ، ما رواه الشيخ بسند قوّي عن أديم بن الحرّ ، قَالَ : سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام عَنِ الْمَرْأَةِ تَرَى فِي مَنَامِهَا مَا يَرَى الرَّجُلُ عَلَيْهَا غُسْلُ ؟ قَالَ : نَعَمْ وَ لَا تُحَدِّثُوهُنَّ فَيَتَّخِذَهُ عِلَّةٍ (1).

وفي الكافي : وفي رواية أخرى : قال : عليها غسل ولكن لا تحدّثوهنّ بهذا فيتخذه علّة (2).

وقال العلّامة المجلسي رحمة الله في مرآة العقول : وقال الشيخ البهاني رحمة الله : لعلّ مراده علیه السلام : أنّكم لا تذكروا لهنّ ذلك لئلّا يجعلن ذلك وسيلة للخروج إلى الحمّام متى شئن ، من غير أن تكن صادقات في ذلك ، أو أنّهنّ جُمعن خفية عن أقاربهنّ ، فإذا رآهنّ أقاربهنّ يغتسلن وليس لهنّ بعل ، جعلن الاحتلام علّة لذلك ، وهذا هو الأظهر .

وزاد في مشرق الشمسين وجهاٌ آخر ، حيث قال : ويمكن أن يكون مراده علیه السلام أنّكم لا تخبروه بذلك ، لئلاّ يخطر ذلك ببالهنّ عند النوم ويتفكّرن فيه فيحتلمن ، إذ الأغلب أنّ ما يخطر ببال الإنسان حين النوم ويتفكّر فيه ، فإنّه يراه في المنام .

وقال : في هذا الحديث دلالة على أنّه لا يجب على العالم با مثال هذه المسائل أن يعلمها للجاهل ، بل يكره له ذلك إذا ظنّ ترتب مثل هذه المفسدة على تعليمه .

وقال الفاضل التستري رحمة الله : كأنّ فيه أنّه لا يجب تعليم الجاهل و تنبيه الفاضل ، وليس ببعيد إذا لم يعلم تحقّق سببه ، إذ لعلّه لا يحتلم أبداً ، نعم إذا علم حاله فالظاهر حرمة كتمان ما يعلمه إلّا لضرورة(3).

ص: 158


1- جامع أحاديث الشيعة 2: 441 ب 3ح 2.
2- فروع الكافي 49:3 ح 6.
3- مرآة العقول 13: 145.

الخامس

السنّ

وقد استفاضت الأخبار أنّه تسع سنين هلاليّة .

الأوّل : ما رواه في الكافي ، عن محمّد بن يحيى ، عن أحمد بن محمّد ، عن ابن محبوب ، عن عبد العزيز العبدي ، عن حمزة بن حمران ، قال : سألت أبا جعفر علیه السلام قلت له :متي يَجِبُ عَلَى الْغُلَامِ أَنْ يُؤْخَذَ بِالْحُدُودِ التَّامَّةِ وَ يُقَامَ عَلَيْهِ ؟

فقال :إِذَا خَرَجَ عَنْهُ الْيُتْمُ وَ أَدْرَكَ .

قلت : فَلِذَلِكَ حَدُّ يُعْرَفُ بِهِ ؟

فقال :إِذَا احْتَلَمَ أَوْ بَلَغَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً أَوْ أَشْعَرَ أَوْ أَنْبَتَ قَبْلَ ذَلِكَ أُقِيمَتْ عَلَيْهِ الْحُدُودُ التَّامَّةُ وَ أُخِذَ بِهَا واُخذت لَهُ .

قلت : فالجارية متي يجب عليها الحدود و تؤخذ بها ؟

قَالَ : إِنَّ الْجَارِيَةَ لَيْسَتْ مِثْلَ الْغُلَامِ ، إِنَّ الْجَارِيَةَ إِذَا تَزَوَّجَتْ وَ دُخِلَ بِهَا وَلِّهَا تِسْعُ سِنِينَ ذَهَبَ عَنْهَا الْيُتْمُ وَ دُفِعَ إِلَيْهَا مَالُهَا ، وَ جَازَ أَمْرُهَا فِي الشِّرَاءِ وَ الْبَيْعِ ، واُقيمت عَلَيْهَا الْحُدُودُ التَّامَّةُ وَ أُخِذَ لَهَا وَ بِهَا .

قال :وَ الْغُلَامُ لَا يَجُوزُ أَمْرُهُ فِي الشِّرَاءِ وَ الْبَيْعِ ، وَ لَا يَخْرُجُ مِنَ الْيُتْمِ حَتَّى يَبْلُغَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً ، أَوْ يَحْتَلِمْ ، أَوْ يُشْعِرْ ، أَوْ يُنْبِتَ قَبْلَ ذَلِكَ (1).

وفي السند عبد العزيز العبدي ، ولم يتعرّض له الشيخ أصلیاً. وذكر النجاشي أنّه كوفي روي عن أبي عبد الله علیه السلام ضعیف ذكره ابن نوح؟(2).

ويحتمل بل لا يبعد رجوع ضمير « ذكره، إلى جميع ما ذكره أو « ضعيف » أي : إنّ ابن نوح ذکر ضعفه ، فلعلّ النجاشي لا يحكم بضعفه ، ولم يثبت عنده ، وإلّا لم

ص: 159


1- جامع أحاديث الشيعة 350:1 ب 11ح 2، والتهذیب 137:10
2- رجال النجاشي ص 244 برقم : 641.

بنسبه إلى ابن نوح.

وقد ذكرنا في محلّه أن كون جميع التضعيفات مستندة إلى الحسّ غیر ثابت .

والراوي عنه حسن بن محبوب الذي قال الشيخ رحمة الله في حقّه : إنّه يعدّ من الأركان الأربعة. وهو من أصحاب الإجماع .

والرواية أوردها الكليني من جملة الآثار الصحيحة عن الصادقين علیهم السلام.

وهذا الخبر لو لم يكن بنفسه حجّة ، فلا ريب في كونه معاضداً لسائر الأخبار ،بحيث يخرج مجموعها عن الخبر الواحد.

ثمّ إنّ السائل سأل عن إجراء الحدود ، ولم يسأل عن وجوب الفرائض ، فلعلّه كان عنده معلومة ، مع أنّه إنّ ثبت الحدود التامّة ، فثبوت الأحكام التعبديّة بالأولويّة.

قوله علیه السلام « إِنَّ الْجَارِيَةَ إِذَا تَزَوَّجَتْ وَ دُخِلَ بِهَا وَلِّهَا تِسْعَ » ظاهر في اشتراط إجراء الحدود عليه بالتزوّج والدخول ، فلا يكفي التزوّج قبل التسع ولا بعده بدون الدخول بها ، ولا الدخول بلا تزوّج ، وهو ظاهر خبر يزيد الكناسي الثالث الآتي ، حيث قال : نَعَمْ إِذَا دَخَلَتْ عَلَى زَوْجِهَا وَلِّهَا تِسْعُ سِنِينَ ذَهَبَ عَنْهَا الْيُتْمُ.

لكن الظاهر مفروغيّة جريان الحدود عليه ، وإن لم تتزوّج ولم يدخل بها إن بلغت حدّ النساء . ولا يعارضها خبر يزيد الكناسي الثاني للاحتمال الآتي.

الثاني : ما رواه في الكافي ، عن محمّد بن يحيى ، عن أحمد بن محمّد ، عن ابن محبوب، عن أبي أيّوب الخزّاز ، عن يزيد الكناسي ، عن أبي جعفر علیه السلام.

قال :الْجَارِيَةُ إِذَا بَلَغَتْ تِسْعَ سِنِينَ ذَهَبَ عَنْهَا الْيُتْمُ وَ زُوِّجَتْ ، وَ أُقِيمَتْ عَلَيْهَا الْحُدُودُ التَّامَّةُ عَلَيْهَا وَلِهاً(1).

ص: 160


1- فروع الكافي 7: 198 ع 2.

وفي التهذيب زيادة قوله « قال : قلت : الغلام » الحديث (1).

والسند صحيح إلى يزيد الكناسي . ويزيد أبو خالد الكناسي عدّه الشيخ في رجاله(2) من أصحاب الباقر علیه السلام .

وقيل : إنّه متّحد مع يزيد أبي خالد القاط ، ولذا قال العلامّة المجلسي رحمة الله في مرآةالعقول : الحديث صحيح على الظاهر ، و يحتمل الجهالة للاشتباه في الكناسي(3).

أقول : الاتّحاد ممّا لا شاهد عليه . ثمّ إنّه يحتمل أن يكون هذا الخبر قطعة من الخبر الثالث ، وحينئذ يمكن أن يحمل قوله علیه السلام « وَ أُقِيمَتْ عَلَيْهَا الْحُدُودُ » على الإقامة بعد الازدواج ، فإنّه ظاهر الخبر الثالث .

الثالث : مارواه في التهذيب والاستبصار ، عن أحمد بن محمّد بن عيسى ، عن الحسن بن محبوب ، عن أبي أيوب الخزّاز ، عن يزيد الكناسي ، قال :

قلت لأبي جعفر علیه السلام : مَتَى يَجُوزُ لِلْأَبِ أَنْ يُزَوِّجَ ابْنَتَهُ وَ لَا يَسْتَأْمِرَهَا ؟

قال :إِذَا جَازَتْ تِسْعَ سِنِينَ (4).

قلت : فإن زوّجها أبوها ولم تبلغ تسع سنين فبلغها ذلك فسكتت ولم تأب ذلك أيجوز عليها؟

قال : لَيْسَ يَجُوزُ عَلَيْهَا رِضًا فِي نَفْسِهَا ، وَ لَا يَجُوزُ لَهَا تأبّي ، وَ لَا سَخَطُ فِي نَفْسِهَا حَتَّى تَسْتَكْمِلَ تِسْعَ سِنِينَ ، وَ إِذَا بَلَغَتْ تِسْعَ سِنِينَ جَازَ لَهَا الْقَوْلُ فِي نَفْسِهَا بِالرِّضَا وَ التَّأَبِّي ، وَ جَازَ عَلَيْهَا بَعْدَ ذَلِكَ وَ إِنْ لَمْ تَكُنْ أَدْرَكَتْ مُدْرَكَ النِّسَاءِ.

ص: 161


1- تهذيب الأحكام 138:10.
2- رجال الشيخ ص 140.
3- مرآة العقول 23 : 301.
4- وفي التهذيب : فإن زوجها قبل بلوغ التسع سنين كان الخيار لها إذا بلغت تسع سنین. وهذه الزيادة وجدتها في كتاب المشيخة عن يزيد الكناسي .

قلت : أفيقام عليها الحدود و تؤخذ بها وهي في تلك الحال وإنّما لها تسع سنين ولم تدرك مدرك النساء في الحيض ؟

قال : نَعَمْ إِذَا دَخَلَتْ عَلَى زَوْجِهَا وَلِّهَا تِسْعُ سِنِينَ ذَهَبَ عَنْهَا الْيُتْمُ وَ دُفِعَ إِلَيْهَا مالهاء واُقيمت الْحُدُودُ التَّامَّةُ عَلَيْهَا وَلِهاً (1) الحديث .

قوله « ولا يستأمرها » يعني إنّ الابنة لها حقّ أن تأمر بتزويجها أو تنهی عنه ،ولكن أباها يزوّجها بغير إذنها، ولا يطلب منها الأمر بالتزویج.

وقوله علیه السلام « إِذَا جَازَتْ تِسْعَ سِنِينَ » أي : إنّ الأب له الولاية على تزويج ابنته بدون إذنها بعد البلوغ إن كانت بكراً . ثمّ إذا كانت له الولاية على تزويجها بدون إذنها بعد التسع ، فأولى أن يكون له الولاية على تزويجها قبل بلوغ التسع.

وقوله علیه السلام « وَ إِذَا بَلَغَتْ تِسْعَ سِنِينَ جَازَ لَهَا الْقَوْلُ » لعلّ المعنى أنّ لها الولاية على نفسها بعد بلوغها التسع ، فللأب ولاية عليها استقلالاً ، ولها أيضاً ولاية على نفسها استقلالاً ، وهذا أحد الوجوه في مسألة ولاية الأب على الباكرة الرشيدة.

وقوله علیه السلام« إِذَا دَخَلَتْ عَلَى زَوْجِهَا» لعلّه يعني جواز دخول الزوج بها وهو بعد التسع ، ولا يجوز الدخول بها قبل التسع إنّ زوجها أبوها ، وإن كان التزویج صحيح.

ثمّ إنّه ينبغي أن يحمل الشرطيّة على ما فرضه السائل من أن المرأة كانت مزوّجة، وإلّا فلا يشترط التزویج في إجراء أحكام البالغ عليها ؛ لأنّ ما دلّ على إجراء أحكام البلوغ عليها ببلوغها التسع وإن لم تتزوج أكثر وأوضح سنداً ودلالة ، بل الخبر السابق الذي رواه يزيد الكناسي نفسه صريح في أنّها إذا بلغت التسع ترتّب عليه أنّه يصح تزويجها ، ويقام عليها المحدود، ويذهب عنها اليتم ، لكن تقدّم احتمال

ص: 162


1- جامع أحاديث الشيعة 20 : 142 ب 51 ح 10 ، الاستبصار 3: 237 ، وتهذیب الأحكام 7: 382.

کونه قطعة من هذا الخبر.

الرابع : ما رواه في الكافي ، عن حمید بن زیاد ، عن الحسن ، عن جعفر بن سماعة ، عن آدم بيّاع اللؤلؤ ، عن عبد الله بن سنان ، عن أبي عبد الله علیه السلام ، قال : إِذَا بَلَغَ الْغُلَامُ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً كُتِبَتْ لَهُ الْحَسَنَةُ ، وَ كُتِبَتْ عَلَيْهِ السَّيِّئَةُ وَ عُوقِبَ ، وَ إِذَا بَلَغَتِ الْجَارِيَةُ تِسْعَ سِنِينَ فَكَذَلِكَ ، وَ ذَلِكَ أَنَّهَا تَحِيضُ لِتِسْعِ سِنِينَ (1).

ورواه الشيخ عن الحسن بن ساعة مثله(2).

وفي السند جعفر بن ساعة ، فإن كان هو جعفر بن محمّد بن سماعة ، فقد وثقه النجاشي (3) .وإن كان عماًّ لحسن بن محمّد بن سماعة ، فليس له توثيق ، وتحقيقه في محله.

ثمّ إنّ صدره معارض بما دلّ على أن الصبيّ يبلغ بأربع عشرة أو خمس عشرة ، ولكن لا يضرّ بذيله .

ومفاده أنّ جنس الجارية إذا بلغ تسع سنين كتبت لها الحسنة وعليها السيّئة ؛ لأنّ جنس الجارية تحيض في تسع ، والقضيّة صادقة على كل فرد ؛ لأنّ الجنس موجود فيه ، فكل جاريّة بلغت تسعة كتبت لها الحسنة وعليها السيّئة ؛ لأنّ جنس الجارية تحيض في تسع ، ولا يلزم تحقّق الجنس المذكور في التعليل في الفرد ، وذلك واضح لمن يعرف اللغة العربيّة .

و توهم بعض من لا خبرة له أنّ المعني إذا حاضت في تسع فقد بلغت ، وإن لم تحض في تسع قلم تبلغ.

يدفعه أنّ هذا غير مفهوم من هذا الكلام .

ص: 163


1- فروع الكافي 7: 69 ح 1.
2- تهذیب الأحکام 9: 184 ح 16 ، جامع أحاديث الشيعة 1: 353ب 11.
3- رجال النجاشي ص 119 برقم: 305.

ومثله توهّم آخر بأنّ المرأة في زمان صدور الأخبار كانت تحيض في تسع .

وفيه نظر: لأنّ بعض الروايات صرحت بأنّها بلغت ولم تدرك الحيض .

الخامس : ما رواه الصدوق في الخصال ، عن أبيه ، قال : حدّثنا علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن محمّد بن أبي عمير ، عن غير واحد ، عن أبي عبد الله علیه السلام، قال : حدّ بلوغ المرأة تسع سنين (1).

ونوقش فيه أوّلاً بالإرسال .

وفيه أنّه يبعد جداً أن يكون ابن أبي عمير مع ما قيل في شأنه يروي عن غير واحد كلّهم ضعاف.

وثانيا : بأنّ بلوغ التسع كان في زمان صدور الأخبار موافقة الحيض الصبيّة في الخارج ، فهو أمارة على الحيض .

وفيه ما في بعض الروايات من التصريح بأنّها بلغت التسع ولم تحض ، كما في الخبر الثالث « وَ لَمْ تُدْرِكْ مُدْرَكَ النِّسَاءِ فِي الْحَيْضِ » .

وثالثا : بأنّه لم يذكر فيه أنّ المراد بالبلوغ بلوغها لتوجّه التكاليف عليها ، فالخبر مجمل.

وفيه أنّه كثر استعمال البلوغ في الأخبار فيها هو موضوع التكاليف ، خصوصا مع ذكر التسع الموجود في سائر الأخبار أيضاً.

ورابعاً : المناقشة في متن الحديث ، بأنّ الاستعمال الصحيح أن يقال : بلوغ الصبيّة وأماالمرأة فلا يطلق على الصبيّة .

وفيه أنّ استعمال ما يؤول إليه كثير ، كما يقال : إذا مات الميّت .

وخامساً : لم يذكر في هذا الخبر أنّه حدّ لأيّ تكليف ، فإنّه لو كان دليل على أنّكم

ص: 164


1- الخصال ص421، برقم : 17.

الأحكام الشرعيّة تجري على البالغة ، كان هذا الخبر بيان لموضوعها ، لكنّه لم يوجد.

وفيه ما تقدّم من الأخبار التي رتّب الحكم على البلوغ.

السادس : مارواه في التهذيب ، بإسناده عن محمّد بن أحمد بن يحيى ، عن محمّد بن عيسى ، عن سليمان بن حفص المروزي ، عن الرجل علیه السلام ، قال : إذا تمّ للغلام ثمان سنين فجائز أمره ، وقد وجبت عليه القرائض والحدود ، و إذا تمّ اللجارية تسع سنين فكذلك (1).

ونوقش فيه بعدم العمل بصدره .

وفيه أنّ سقوط جزء من الخبر عن الحجّية لا يوجب سقوط سائر أجزائه ، فلعلّ الراوي وهم ، أو كانت مصلیحة في ذكره .

السابع : ما رواه في التهذيب ، عن علي بن الحسن ، عن العبدي ، عن الحسن بن راشد ، عن العسكري علیه السلام ، قَالَ : إِذَا بَلَغَ الْغُلَامُ ثَمَانَ سنین فَجَائِزُ أَمْرُهُ فِي مَالِهِ ، وَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْفَرَائِضُ وَ الْحُدُودُ ، وَ إِذَا تَمَّ لِلْجَارِيَةِ سَبْعُ - تِسْعَ خ لِ - سِنِينَ فَكَذَلِكَ (2).

وهذا الخبر صدره کسابقه وذيله مردّد بين التسع والسبع.

الثامن : ما رواه في التهذيب ، عن الصفّار ، عن موسى بن عمر ، عن الحسن بن یوسف ، عن نصر ، عن محمّد بن هاشم ، عن أبي الحسن الأوّل ، قَالَ : إِذَا تَزَوَّجَتِ الْبِكْرُ بِنْتَ تِسْعِ سِنِينَ فَلَيْسَتْ مَخْدُوعَةً (3).

التاسع : ما رواه في الكافي ، عن علي ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن رجل ، عن أبي عبد الله علیه السلام قال : قلت : الجارية ابنة كم لا تستصبي ابنة ستّ أو سبع ؟

ص: 165


1- تهذيب الأحكام 10: 120 ح 98 ، جامع أحاديث الشيعة 1 : 354ب 11ح 15.
2- تهذيب الأحكام 9 : 183ح 11.
3- تهذیب الأحکام 7: 468 ح 83، جامع أحادیث الشيعة 20 : 138 ح 14.

فَقَالَ : لَا أَ بِنْتُ تِسْعٍ لَا تستصبي ، وَ أَجْمَعُوا كُلُّهُمْ عَلَى أَنَّ أَ بِنْتُ تِسْعٍ لَا تُسْتَصْبَى إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِي عَقْلِهَا ضَعْفُ ، وَ إِلَّا فَهِيَ إِذَا بَلَغَتْ تِسْعَةً فَقَدْ بَلَغَتْ (1).

العاشر : ما رواه في العيون ، قال : حدّثنا المحاكم أبو محمّد جعفر بن نعيم بن شاذان رضي الله عنه ، قال : حدّثني عمي أبو عبد الله محمّد بن شاذان ، قال : حدّثنا الفضل بن شاذان ، عن محمّد بن إسماعيل بن بزیع ، عن الرضا علیه السلام، قال : سَأَلْتُهُ عَنْ حَدِّ الْجَارِيَةِ الصَّغِيرَةِ السِّنِّ إِذَا لَمْ تَبْلُغْهُ لَمْ يَكُنْ عَلَى الرَّجُلِ اسْتِبْرَاءَهَا؟

فَقَالَ : إِذَا لَمْ تَبْلُغْ اسْتَبْرَأَتْ بِشَهْرٍ .

قلت : وَ إِنْ كَانَتِ ابْنَةَ سَبْعِ سِنِينَ أَوْ نَحْوِهَا مِمَّنْ لَا تَحْمِلْ ؟

فَقَالَ : هِيَ صَغِيرَةُ وَ لَا يَضُرُّكَ أَنْ لَا تستبرأها .

فَقُلْتُ : مَا بَيْنَهَا وَ بَيْنَ تِسْعِ سِنِينَ ؟

فَقَالَ : نَعَمْ تِسْعِ سِنِينَ (2).

ثمّ إنّه إن زوّج الأب ابنته قبل التسع كان التزويج صحيحااً ، وأمّا أنّ لها الخيار إن بلغت أو لا؟ فهي مسألة اُخرى تبحث في محلّها ، وهي على كلّ حال زوجة ولا يجوز للزوج أن ينكح اُختها ، ولكن يمكن أن يقال : إنّه لا يجب عليه النفقة والقسم إلّا إذا جاز له الدخول بها ، فإذا جاز له الدخول بها جرى عليها جميع أحكام الزوجيّة .

ومن ذلك يظهر دلالة الأخبار الواردة في جواز الدخول بها إذا بلغت التسع أو العشر ، فإنّها تدلّ على أنّها تبلغ بالتسع ، وأنّ جميع أحكام الزوجيّة من وجوب التمكين وإطاعة الزوج ، ووجوب العدّة إن طلّقها وغيرها تجري عليها ؛ لأنّه إذا جاز للزوج الدخول بها وهي زوجة ، فيشملها جميع العمومات الواردة في الكتاب والسنّة في أحكام الزوجة ، وإذا ثبت عليها هذه الأحكام ، فأولى بأن يثبت عليها

ص: 166


1- فروع الكافی 5: 423ح 5، جامع أحاديث الشيعة 37:21 ب 7 ح18 .
2- عيون الأخبار19:2 ، جامع أحاديث الشيعة 71:21 ب 4 ح 12.

الأحكام الغير المقيّدة بشيء ، فهيكالصريحة في أنّها تبلغ بالتسع.

وأمّا الأخبار الواردة في زمان جواز الدخول بها، فهي مستفيضة ، وهي : صحیح الحلبي ، عن أبي عبد الله علیه السلام قال :قَالَ : إِذَا تَزَوَّجَ الرَّجُلُ الْجَارِيَةَ وَ هِيَ صَغِيرَةُ ، فَلَا يَدْخُلْ بِهَا حَتَّى يَأْتِيَ لَهَا تِسْعُ سِنِينَ(1).

ومثله المرويّ في دعائم الإسلام(2). وخبر عار السجستاني (3) . وخبر الحلبي(4). وخبر طلحة بن زید(5) . وخبر حمران (6) . ومرسل يعقوب بن یزید(7).

ثمّ إنّه يحمل ما دلّ على العشر على رجحان عدم الدخول بها إلى أن تبلغ العشر جمع بين الأخبار ، وهي :

خبر زرارة ، عن أبي جعفر علیه السلام قال : قَالَ : لَا يَدْخُلُ بالمجارية حَتَّى يَأْتِيَ لَهَا تِسْعُ سِنِينَ أَوْ عَشْرُ سِنِينَ (8).

وخبر أبي بصير ، عن أبي جعفر علیه السلام قَالَ : لَا يَدْخُلُ بالمجارية حَتَّى يَأْتِيَ لَهَا تِسْعُ سِنِينَ أَوْ عَشْرُ سِنِينَ(9).

و خبر غیاث بن إبراهيم ، عن جعفر ، عن أبيه ، عن علي : لا توطّأ جارية

ص: 167


1- جامع أحاديث الشيعة 20 : 181 ب 3ح 2.
2- جامع أحاديث الشيعة 181:20 - 182 ح 3.
3- جامع أحاديث الشيعة 182:20ح 4.
4- جامع أحاديث الشيعة 182:20 ح 7.
5- جامع أحاديث الشيعة 20: 182 ح 8.
6- جامع أحاديث الشيعة 20 : 183 ح 10.
7- جامع أحاديث الشيعة 20: 504 ب 28ح 2.
8- جامع أحاديث الشيعة 20 : 181 ب 3 ح 1.
9- جامع أحاديث الشيعة 20: 182 ح 5.

الأقلّ من عشر سنين ، فإن فعل فعيبت فقد ضمن(1).

وخبر محمّد بن مسلم ، قال : سألته عن الجارية يتمتّع منها الرجل ، قال :نَعَمْ إِلَّا أَنْ تَكُونَ صَبِيَّةً تُخْدَعُ . قَالَ : قِلَّةُ : أَصْلَحَكَ اللَّهِ كَمِ الْحَدُّ الَّذِي إِذَا بَلَغَتْهُ لَمْ تُخْدَعْ ؟ قَالَ : بِنْتُ عَشْرِ سِنِينَ (2).

وخبر أبي أيّوب الخزّاز ، قال : سألت إسماعيل بن جعفر متى تجوز شهادة الغلام ؟ فَقَالَ : إِذَا بَلَغَ عَشْرَ سِنِينَ ، قَالَ : قِلَّةُ : وَ يَجُوزُ أَمْرِهِ ؟ قَالَ : فَقَالَ : إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلی الله و علیه وآله وسلم دَخَلَ بِعَائِشَةَ وَ هِيَ بِنْتُ عَشْرِ سِنِينَ ، وَ لَيْسَ يُدْخَلُ بِالْجَارِيَةِ حَتَّى تَكُونَ امْرَأَةً ، فَإِذَا كَانَ لِلْغُلَامِ عَشْرُ سِنِينَ جَازَ أَمْرُهُ وَ جَازَتْ شَهَادَتُهُ.(3)

وإن قال قائل بأنّ ما دلّ على العشر معارض بما دلّ على التسع ، ولم ير الجمع العربي الذي ذكرناه ، فلا ريب في اتفاق ما دلّ على التسع وما دلّ على العشر على نفي الزائد عن العشر .

ثمّ لا يخفى أنّ هذه الأخبار مع الأخبار الدالّة على البلوغ بتسع سنين تشكّل طائفة كبيرة من الأخبار، وهي تنفي أن تكون رؤية دم الحيض بلوغاً ؛ لأنّه يتأخّر عادة عن العشر ، فقيل : إنّها تراه في اثنتي عشرة أو ثلاث عشرة وأكثر .

تنبیهان : الأوّل : دلّ خبر عار فقط على أنّ بلوغ المجارية بثلاث عشرة سنة إن لم تحض قبلها ، ولم يعتن الفقهاء بهذا الخبر ولم يعوّلوا عليه ، ولا دلالة لغير خبره على ذلك ، کا اتّضح ممّا بيّنّاه ، فلا بأس بالإشارة إلى خبره و بیان ما فيه .

فنقول : روئ عمّار الساباطي ، عن أبي عبد الله علیه السلام قال : سألته عن الغلام متي

ص: 168


1- جامع أحاديث الشيعة 20: 182 ح6.
2- جامع أحاديث الشيعة 21: 36ب 7ح 17.
3- جامع أحاديث الشيعة 180:25 ب17 ح 5.

تَجِبُ عَلَيْهِ الصَّلَاةِ ؟ قَالَ : إِذَا أَتَى عَلَيْهِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً ، فَإِنِ احْتَلَمَ قَبْلَ ذَلِكَ فَقَدْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَ جَرَى عَلَيْهِ الْقَلَمُ ، والمجارية مِثْلُ ذَلِكَ إِنْ أَتَى لَهَا ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً أَوْ حَاضَتْ قَبْلَ ذَلِكَ ، فَقَدْ وَجَبَتْ عَلَيْهَا الصَّلَاةُ وَ جَرَى عَلَيْهَا الْقَلَمُ (1).

فإنّه يدلّ على أنّه لا عبرة بالتسع . وقوله علیه السلام « أَوْ حَاضَتْ قَبْلَ ذَلِكَ »، أي : حاضت في الخارج لا الحيض الشأني ، فإنّه يكون في تسع ، فلو كان المراد بقوله «أَوْ حَاضَتْ» قابليّة الحيض ، أي : البلوغ إلى التسع ، لم يكن وجه لجعل ثلاث عشرة سنّ البلوغ.

وفيه أنّ هذا الخبر مطروح:

أوّلا : لمعارضته بالسنّة القطعيّة ، وهي ما دلّ على حصول البلوغ بالتسع كما تقدّم،وأنّه لا عبرة بالحيض بعد التسع ، كما يطرح الخبر المعارض لنص الكتاب .

و ثانياً : لو فرض التعارض بينه وبين ما دلّ على البلوغ بالتسع ، فيترجح التسع بموافقة الكتاب ، بناء على شمول العمومات للمميّز العاقل .

وثالثاً : أنّ عماراً وإنّ وثقه النجاشي (2) ، وعن الشيخ المفيد رحمة الله في رسالته العدديّة أنّه من الفقهاء والأعلام والرؤساء المأخوذ منهم الحلال والحرام والفتيا والأحكام الذين لا يطعن عليهم ، ولا طريق إلى ذمّ واحد منهم .

قلت : ولم اُراجع ولا أدري كيف وصلیت رسالته العدديّة .

لكن اضطرب كلام الشيخ رحمة الله، فوثّقه في موضع من الاستبصار ، قال : قد ضعّفه جماعة من أهل النقل ، وذكروا أنّ ما يتفرّد بنقله لا يعمل عليه ؛ لأنّه كان فطحيّاً فاسد المذهب ، غير أنّا لا نطعن في النقل عليه بهذه الطريقة وإن كان كذلك ، فهو ثقة

ص: 169


1- جامع أحادیث الشيعة 1: 422 ب 12 ح 11.
2- رجال النجاشي ص 290 برقم : 779.

لا يطعن عليه(1).

وضعّفه في موضع آخر ، قال بعد ایراد خبرین عنه : فالوجه في هذين الخبرين أن لا يعارض بهما الأخبار الأوّلة ؛ لأنّ الأصلی فيها واحد، وهو عار الساباطي، وهو ضعيف فاسد المذهب ، لا يعمل على ما يختصّ بروايته ، وقد أجمعت الطائفة على ترك العمل بهذا الخبر (2).

لكن لو سلّم کونه ثقة ، فله روایات شاذّة توجب التوقّف فيا ينفرد به إذا عارضه الأخبار الصحيحة ، وقد أوّل الشيخ الطوسي رحمة الله جملة من أخباره ، و طرح بعض أخباره لشذوذه ، ونذكر بعضها:

فمنها : ما أورده الشيخ في الاستبصار ، ثمّ قال : فالوجه في هذا الخبر أن نحمله على ضرب من الاستحباب ؛ لأنّه خبر شانه مخالف للأخبار الكثيرة وما يجري هذا المجري لا يعمل عليه على ما بيّناه(3).

ومنها: ما رواه عن أبي عبد الله علیه السلام أنّه سئل عن المولود ما لم يجر عليه القلم هل يصلیّى عليه ؟ قال : لا إنّما الصلیاة على الرجل والمرأة إذا جرى عليها القلم (4) . ولا يخفى أنّه إذا كان القلم يجري على المرأة بعد بلوغها ثلاث عشرة سنة ، فينبغي أن لا يصلیى على ميّتها قبل ثلاثة عشرة ، وهو خلاف الإجماع القطعيّ .

ومنها : ما أورده الشيخ ، ثمّ قال بعده : فهذا خبر شاذّ مخالف للأخبار كلّها(5).

ومنها : ما أورده أيضاً، ثمّ قال : فهذا خبر شاذّ لا يعارض به الأخبار التي

ص: 170


1- الاستبصار 3: 95 ح 325.
2- الاستبصار 1: 372ح 1413.
3- الاستبصار1: 96 ح 311.
4- الاستبصار 1: 480 ح 1859.
5- الاستبصار 1: 288 مع 1055.

قدّمناها مع مطابقتها الظاهر الكتاب وإجماع الأمة(1).

ومنها : ما رواه عنه ، ثمّ قال الشيخ رحمة الله : ما يتضمّن هذا الخبر من قوله «أَوْصَى بِهِ كُلِّهِ فَهُوَ جَائِزُ » وهم من الراوي(2) .إلى غير ذلك ، وأنا أرجو ممّن له مجال أن يستقصي ذلك ، فيعثر على أكثر من ذلك.

ورابعاً : مخالفته لفتوى القدماء ، و من البعيد جدّاً خفاء مثل هذا الحكم الذي هو محل للابتلاء عليهم ، ولنقل بعض کلماتهم.

قال في المقنعة : والرجل إذا جامع الصبيّة ولها دون تسع سنين فأفضاها كان عليه دية نفسها والقيام بها حتّى يفرق الموت بينهما(3).

وقال أيضاً : والأم أحقّ بكفالة البنت حتّى تبلغ تسع سنين .

وقال أيضاً : ومن طلق صبيّة لم تبلغ المحيض وكان قد دخل بها ، فعدّتها ثلاثة أشهر إن كانت في سنّ من تحيض ، وهو أن تبلغ تسع سنين ، وإن صغرت عن ذلك لم يكن عليها عدّة من طلاق (4).

وقال في المهذّب : حدّ الدخول بعد التسع(5).

وقال في المراسم : وأمّا من تعتدّ بالشهور ، فالمدخول بها التي لم تحض وهي في سنّ من تحيض وهو تسع سنين(6).

وقال الحلبي في الكافي : فأمّا الطلاق فإنّ وقع من حرّ أو عبد ، بحرّة أو أمّة ، قبل

ص: 171


1- الاستبصار 1 : 289 ح 1057.
2- تهذيب الأحكام 9: 187ح 753.
3- المقنعة ص 117.
4- المقنعة ص 83.
5- المهذب 2: 281.
6- المراسم ص 167.

الدخول أو بعده ، وقبل أن تبلغ تسع سنين أو بعد ما يئست من الحيض ومثلها لا تحيض ، فلا عدّة عليها(1).

وقال في الوسيلة : وبلوغ الرجل يحصلی بأحد ثلاثة أشياء : الاحتلام ، والإنبات، وتمام خمس عشرة سنة ، وبلوغ المرأة بأحد شيئين : الحيض و تمام عشر سنين ، والحمل علامة البلوغ (2) .

وقال أيضاً: وبلوغ المرأة يعرف بالحيض أو بلوغها تسع سنين فصاعداً(3) .

وقال الشيخ في النهاية : وحدّ الجارية التي يجوز لها العقد على نفسها ، أو يجوز لهاأن توّلي من يعقد عليها تسع سنين فصاعداً(4) .

وقال أيضاً: وحدّ بلوغ المرأة تسع سنين (5).

وقال في الغنية : وحدّ الغلام خمس عشرة سنّة وفي الجارية تسع سنين(6).

وقال أيضاً : وإذا كانت الزوجة ممّن يصحّ الدخول بها لبلوغها لتسع سنين فصاعدة وتسلّمها الزوج ، لزمه إسكانها والإنفاق في كسوتها وإطعامها بالمعروف ، ولزمها طاعته في نفسها وملازمة منزله(7) .

وقد تبيّن من هذه الفتاوي من القدماء أنّهم قد أعرضوا عن هذه الموثّقة . وقال الشيخ الأنصاري رحمة الله : لا قائل بها(8).

ص: 172


1- الكافی ص 312.
2- الوسيلة ص 718.
3- الوسيلة ص 754.
4- النهاية ص 468.
5- النهاية ص 612.
6- الغنية ص 251 و 532 الحجري
7- الغنية ص 549 الحجري.
8- کتاب الصوم للشيخ الأنصاري ص 212.

والمتحصّل من ذلك كلّه أنّ القول بأنّ بلوغ البنت بثلاث عشرة سنة لا يمكن المصير إليه لعدم الدليل عليه ، بل الدليل على عدمه.

وتوّهم أن خبر عار معارض مع سائر الأخبار ، وعند التعارض يتخير ؛ لأن الترجيح بالمرجحات المنصوصة غير واجب ، كا ذكره في الكفاية ، حيث قال : إنّ إطلاقات التخيير محكّمة ، وليس في الأخبار ما يصلیح لتقييدها(1).

مدفوع بأنّ مورد کلامه تعارض الأخبار ، وخبر عار ليس منه ، بل هو شاذّ .

ثمّ إنّ الفيض رحمة الله ذكر في المفاتيح أنّ الأنثى تبلغ لتسع على المشهور للنصّ ، ثمّ ذكر أنّ التوفيق بين الأخبار يقتضي اختلاف معني البلوغ بحسب السنّ بالإضافة إلى أنواع التكاليف ، كما يظهر ممّا روي في باب الصيام أنّه لا يجب على الاُنثي قبل إكمالها ثلاث عشرة سنة إلّا إذا حاضت قبل ذلك ، إلى آخر كلامه(2).

وفيه نظر واضح ، فإنّه لا يوجد رواية ولو ضعيفة تدلّ على وجوب الصيام على الأنتي بعد بلوغها ثلاث عشرة سنة ، وهذه الموثّقة عامّة للصوم وغيره.

التنبيه الثاني : قد يتوّهم دلالة بعض الأخبار على أنّ العبرة في البلوغ بثلاث عشرة سنة .

وهو ما رواه في التهذيب ، بإسناده عن الصفّار ، عن السندي بن ربیع ، عن يحيی بن المبارك ، عن عبد الله بن جبلة ، عن عاصم بن حميد ، عن أبي حمزة الثمالي ، عن أبي جعفر علیه السلام ، قَالَ : قُلْتُ لَهُ : جُعِلْتُ فِدَاكَ فِي كَمْ تَجْرِي الْأَحْكَامُ عَلَى الصِّبْيَانِ ؟ قَالَ : فِي ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً وَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً ، قِلَّةُ : فَإِنْ لَمْ يَحْتَلِمْ فِيهَا ؟ قَالَ : وَ إِنْ لَمْ يَحْتَلِمْ (3).

ص: 173


1- كفاية الأصول ص 506.
2- مفاتیح الشرائع 1: 14.
3- جامع أحاديث الشيعة 1: 353ح 12.

وفي السند سندي بن الربيع حكى في تنقيح المقال(1) عن نسخة من رجال الشيخ كوفيّ ، وعن نسخة أخرى إبدال الكوفي بأنّه ثقة.

وفيه أيضاً يحيى بن مبارك ، وهو كما في تنقيح المقال(2) أنّ الشيخ قد عدّه في رجاله من أصحاب الرضا علیه السلام .

وهذا الخبر مخصوص بالذكور أوّلاً ؛ لأنّ الصبيان لا تشمل الإناث ، إلّا إذا علم عدم الفرق في الحكم بين الذكور والإناث ، كما يذكر الذكور تغليباً ، مثل قوله تعالى «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ»ونحوه.

وثانياً : لو سلّم الشمول ، فإنّما هو بالإطلاق ، ومن شروط التمسك بالإطلاق عدم وجود القدر المتيقّن في حال التخاطب ، وذلك لاحتمال أن يكون نظر السائل إلى الذكور . والجواب منزل عليه ، ويدلّ عليه أنّه سأل ثانية بأنّه وإن لم يحتلم ، فإنّ الاحتلام يغلب في الذكور.

وثالثاً : الترديد بين الثلاث عشرة وأربع عشرة محمول على أفضليِّة إجزاء أربع عشرة ، وهذا يناسب سائر الأخبار الواردة في الذكور.

ثمّ إنّ الشيخ الطوسي رحمة الله طريق صحيح إلى كتاب عاصم بن حميد ، وعلى مختار صاحب جامع الرواة يكفي ذلك في صحّة رواياته الأخر . لكن فيه نظر ؛ لأنّه لم يثبت وجود هذه الرواية في كتابه .

وزعم بعضهم أنّ الشيخ حيث بداً في كتاب القضاء في النهاية باسم عاصم بن حميد عن أبي حمزة أنّه أخذه من كتابه . وفيه نظر ؛ لأنّ الشيخ قال بانّه يأخذ من کتاب من بدأ باسمه في التهذيبين ، ولم يقل ذلك بالنسبة إلى كتبه الفقهيّة .

ص: 174


1- تنقیح المقال 2: 71.
2- تنقیح المقال 221:3 .

السادس

من علامات بلوغ الصبيّة رؤيتها دم الحيض

والأقوى أنّ الدم الواجد لصفات الحيض قبل بلوغ التسع ليس بلوغاً للمرأة ، وإن رأت دماً و شکّت في سنّها ، فلم تعلّم أنّها بلغت التسع ، فإن حصلی لها العلم يكون الدم حيضاً من صفاته وعادة نسائها وغيرها من العلامات ، كان ذلك كاشفاً عن سبق بلوغها التسع.

وأمّا إن لم يحصلی لها العلم بكونه دم الحيض ، فمجرّد كونه واجداً لصفات الحيض لا يوجب العلم بكونه دم الحيض ، مع أنّه لو كان قبل التسع و واجداً للصفات لم يحكم بكونه حيضة ، فيشكل الحكم بكونه علامة على بلوغها التسع.

خلافاً لما في الشرائع والعروة الوثق من أنّه علامة على البلوغ ، وعلى ما ذكرنا فالمدار في بلوغ المرأة وجريان الأحكام عليها هو بلوغ التسع لا رؤية دم الحيض بعد بلوغها التسع.

لكن قيل : ظاهر کلام الصدوق رحمة الله أنّ خصوص التكليف بالصوم لا يتعلّق بها إلا بعد رؤية دم الحيض ، ولا يكفي في وجوبه بلوغها التسع.

فإنّه قال في الفقيه - بعد إیراد روايات في الحدّ الذي يؤخذ الصبيان بالصوم -: وفي خبر آخر : على الصبيّ إذا احتلم الصيام ، وعلى المرأة إذا حاضت الصيام.

قال : وهذه الأخبار كلّها متّقفة المعاني . يؤخذ الصبيّ بالصيام إذا بلغ تسع سنين إلى أربع عشرة سنة أو خمس عشرة سنة إلى الاحتلام ، وكذلك المرأة إلى الحيض ووجوب الصوم عليها بعد الاحتلام والملحيض وما قبل ذلك تأدیب (1)انتهي.

أقول : يمكن أن يقال : إنّ مراده من بلوغ المرأة إلى الحيض بلوغها إلى حدّ يمكن

ص: 175


1- من لا يحضره الفقيه 2: 76.

أن تحيض ؛ لأنّ وحدة السياق في الصبيّ والصبيّة تقتضي ذلك ؛ لأنّ بلوغ الصبيّ يتحقّق بوصوله إلى حدّ يمكن أن يحتلم ، ولا يعتبر في بلوغه الاحتلام خارجة ، فإنّه ربّما احتلم خارجاً في عمر ثماني عشرة سنة.

فكما لابدّ من حمل قوله « وُجُوبُ الصَّوْمِ عَلَى الصَّبِيِّ بَعْدَ الِاحْتِلَامَ» على قابليّة الاحتلام ، كذلك ينبغي حمل قوله « بعد الحيض » على قابليّة أن تحيض ، وهي تتحقّق ببلوغها تسع سنين .

ثمّ إنّ الأخبار التي رتّب فيها الحكم على الحيض ، هي عدّة أخبار :

الأوّل : ما رواه في التهذيب والاستبصار ، بإسناده عن الحسين بن سعيد ، عن قاسم بن محمّد ، عن علي بن أبي حمزة ، عن أبي بصير ، عن أبي عبد الله علیه السلام،قَالَ : عَلَى الصَّبِيِّ إِذَا احْتَلَمَ الصِّيَامُ ، وَ عَلَى الْجَارِيَةِ إِذَا حَاضَتِ الصِّيَامُ وَ الْحِمَارِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ ملوكة ، فَإِنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهَا خِمَارُ إِلَّا أَنْ تُحِبَّ أَنْ تَخْتَمِرَ وَ عَلَيْهَا الصِّيَامُ (1).

وفيه أوّلا : أنّ هذا الخبر ليس له قوّة في السند بحيث يخصّص به عموم قوله تعالى «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ» و عموم قولهم علیهم السلام في الأخبار الدالّة على وجوب الصوم على الناس، لأنّ في سنده القاسم بن محمّد ، وعلي بن أبي حمزة البطائني.

وثانياً : لابدّ من حمل قوله علیه السلام « عَلَى الصَّبِيِّ إِذَا احْتَلَمَ الصِّيَامُ» على قابليّته للاحتلام؛ لعدم اعتبار الاحتلام خارجاً في بلوغ الصبيّ ، فكذلك ينبغي حمل قوله علیه السلام« عَلَى الْجَارِيَةِ إِذَا حَاضَتِ» على قابليّتها لأنّ تحيض و هي بلوغها التسع، جمعاً بينه وبين الأخبار المستفيضة الدالّة على أنّ الصبيّة تبلغ بتسع ، ويدلّ عليه قوله علیه السلام في خبر عبد الله بن سنان « إِنَّها تَحِيضُ لِتِسْعِ»

ص: 176


1- جامع أحاديث الشيعة 9: 271 ح 1.

الثاني : ما رواه في الفقيه عن صفوان ، عن إسحاق بن عمّار ، قال : سألت أبا الحسن علیه السلام عن ابن عشر سنين يحجّ ، قَالَ : عَلَيْهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ إِذَا احْتَلَمَ ، وَ كَذَلِكَ الْجَارِيَةُ عَلَيْهَا الْحَجُّ إِذَا طَمِثَتْ (1).

ومثله الخبر الآخر(2).

ولابدّ من حملها على قابليّة الابن للاحتلام ، وقابليّة الجارية للطمث ، واحتمال خصوصيّة للحجّ عن سائر التكاليف بعيد.

الثالث : الروايات الواردة في وجوب الخمار في الصلیاة على الجارية إذا حاضت ،كخبر یونس بن يعقوب ، حيث سأل أبا عبد الله علیه السلام الرجل يصلیّي في ثوب واحد ؟ قال : نعم ، قال : قلت : فالمرأة ؟ قَالَ : لَا وَ لَا يَصْلُحُ لِلْحُرَّةِ إِذَا حَاضَتْ ، إِلَّا الْخِمَارُ إِلَّا أَنْ لَا تَجِدَهُ(3). ومثله حسن محمّد بن مسلم . وهما محمولان على قابليّتها لأنّ تحيض .

ثمّ لا يخفى أنه إن حمل قوله علیه السلام « حاضَت » على رؤية الدم في هذه الأخبار ، فيقتصر على موردها ، وهو الصوم والحجّ ، والخيار في الصلیاة.

الرابع : صحيح عبد الرحمن بن الحجّاج ، قال : سألت أبا إبراهيم عن الجارية التي لم تدرك متي ينبغي لها أن تغطي رأسها ممّن ليس بينها وبينه محرم؟ ومتى يجب عليها أن تقنّع رأسها للصلیاة ؟قَالَ : لَا تُغَطِّي رَأْسَهَا حَتَّى يَحْرُمُ عَلَيْهَا الصَّلَاةُ(4).

وهذا الخبر مخالف للآيات والأخبار الدالّة على التكاليف ، وللأخبار المستفيضة التي دلّت على أنّ الأحكام تجري عليها بعد بلوغ التسع فيطرح ، ولا يمكن حمله على

ص: 177


1- جامع أحاديث الشيعة 10: 266ب 15ح 1.
2- جامع أحاديث الشيعة 10: 266ب 15ح 2.
3- جامع أحاديث الشيعة4: 280ب 1ح 2.
4- جامع أحاديث الشيعة 297:20 پ 10ح 2.

قابليّتها للحيض ؛ لأنّ حرمة الصلیاة إنّما تتحقّق برؤية دم الحيض ، بل لو كانت مزوجة في بيت زوجها شملها قوله تعالى « وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ » فيكون جواز أبدائها شعرها لغير بعولتهنّ ومحارمها بعد أن تزوّجت ولها تسع سنين قبلأن تحيض مخالفاً للكتاب.

تتمیم:

مقتضى طائفة من الأخبار أنّ بعض الأحكام مترتّب على المرأة التي لا تحيض ولا تحيض مثلها ، وبعضها مترتّب على المرأة التي لا تحيض و تحيض مثلها ، فيمكن أن يجعل هذه الأخبار شارحة لقولهم « إذا حاضت » أي : من تحيض مثلها .

وهي الأخبار الواردة في عدم وجوب العدّة على من لا تحيض ، ووجوب العدّة على من لا تحيض ، فإنّه يجمع بينهما بأنّها إن لم تحض لعدم المقتضي بأنّ لم تكن بالغة تسع سنة ، فلا عدّة عليها ، وإن لم تحض لمانع بأن كانت بالغة للتسع فعليها العدّة ، والشاهد عليه بعض الأخبار، فهي على طوائف :

الطائفة الاُولى : ما تدلّ على أنّه لا عدّة على من لم تحض ، وهي :

ما رواه في الكافي ، في الحسن ، عن الحلبي ، عن أبي عبد الله علیه السلام، ورواه الصدوق في الصحيح ، عن حمّاد بن عثمان ، عن أبي عبد الله علیه السلام، قال : لا بأس بطلاق خمس على كلّ حال : الغائب عنها زوجها ، والتي لم تحض ، والتي لم يدخل بها زوجها ، والحبلى ، والتي قد يئست من المحيض (1).

دلّ على أنّ المدخولة التي لم تحض لا حاجة إلى استبراء رحمها بل تطلق .

ومثله خبر إسماعيل بن جابر الجعفي (2) . وخبر محمّد بن مسلم وزرارة(3) .

ص: 178


1- جامع أحاديث الشيعة 22 : 59ب 11ح 1.
2- جامع أحاديث الشيعة22: 60 ح 2.
3- جامع أحاديث الشيعة22: 60 ح 4.

وما رواه في التهذيب في الصحيح ، عن حمّاد بن عثمان ، قال : سألت أبا عبد الله علیه السلام عن التي قد يئست من المحيض والتي لا تحيض مثلها ، قال : ليس عليها عدة(1).

والمراد ممّن لا تحيض هي التي لا مقتضى لحيضها ، وهي التي لم تبلغ التسع.

ومارواه أيضاً بسنده عن زرارة ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام فِي الصَّبِيَّةِ الَّتِي لَا تَحِيضُ مِثْلُهَا ، وَ الَّتِي قَدْ يَئِسَتْ مِنَ الْمَحِيضِ ، ثُمَّ قَالَ : لَيْسَ عَلَيْهَا عِدَّةُ وَ إِنْ دَخَلَ بِهِمْ(2).

وخبر عبد الله بن عمرو ، قال : قلت لأبي عبد الله أو لأبي جعفر علیه السلام : الْجَارِيَةُ يَشْتَرِيهَا الرَّجُلُ لَمْ تُدْرِكْ أَوْ قديئست مِنَ الْمَحِيضِ ؟ قَالَ : فَقَالَ : لَا بَأْسَ بِأَنْ لَا يستبرأها (3).

الطائفة الثانية : ما تدلّ على أن من لا تحيض تعتدّ بالشهور .

فمنها : ما رواه في التهذيب بسنده عن ابن سنان ، عن أبي عبدالله علیه السلام ، قال في الجارية التي لم تدرك الحيض ، قال : يطّلقها زوجها بالشهور(4).

ومنها : خبر أبي بصير ، قال : عدة التي لم تبلغ المحيض ثلاثة أشهر الحديث(5) .

ومنها : خبر الحلبي ، عن أبي عبد الله علیه السلام، قال : عدّة المرأة التي لا تحيض والمستحاضة التي لا تطهر والجارية التي قد يئست ثلاثة أشهر(6).

ص: 179


1- جامع أحاديث الشيعة 22: 170ب 2 ح 1.
2- تهذيب الأحكام 8: 138 ح 78.
3- فروع الكائي 5: 472 ح 3.
4- جامع أحاديث الشيعة 22: 172 ب 173 ح 9.
5- جامع أحاديث الشيعة 22 : 172 - 173 ح 10.
6- جامع أحاديث الشيعة 22 : 173ح 11.

ومثله خبر هارون بن حمزة(1).

ومنها : ما رواه في الكافي بسنده ، عن الحلبي ، عن أبي عبد الله ، قال في رجل اشتري جارية لم يكن صاحبها يطؤها أيستبرىء رحمها ؟ قال : نعم ، قلت : جارية لم تحض كيف يصنع بها ؟ قال : أمرها شديد غير أنّه إن أتاها فلا ينزل عليها حتّى يستبين إن كان بها حبل ، قلت : وفي كم يستبين ؟ قال : في خمس وأربعين ليلة(2).

ومثله خبر سماعة(3).

الطائفة الثالثة : ما تدلّ على أنّ المرأة البالغة التي لم تحض تعتدّ ، وهي :

ما رواه في الكافي في الحسن ، عن الحلبي ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام أَنَّهُ قَالَ فِي رَجُلِ ابْتَاعَ جَارِيَةً وَ لَمْ تَطْمَثْ ، قَالَ : إِنْ كانَتْ صَغِيرَةً وَ يَتَخَوَّفُ عَلَيْهَا الْحَبَلِ ، فَلَيْسَ بِهِ عَلَيْهَا عِدَّةُ ، وَ لْيَطَأْهَا إِنْ شَاءَ ، وَ إِنْ كَانَتْ قَدْ بَلَغَتْ وَ لَمْ تَطْمَثْ ، فَإِنَّ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ - الحديث(4).

والمراد بلوغها مع أنّها لم تطمث هو بلوغها النكاح ، أي : جواز مجامعةالرجل معها . وقد ثبت بالأخبار المستفيضة جوازها بعد بلوغها التسع ، أو المراد بلوغها مرتبة النساء في وجود الشهوة التي تحتاج معها إلى الرجال ، والظاهر أنّ المراد هو الأوّل ؛ لقوة احتمال أن يكون البلوغ المذكور في الأخبار هو البلوغ المذكور في القرآن ، و هو بلوغ النكاح ، وجواز دخول الزوج بها.

فهذه الطائفة تكون شاهدة الجمع بين الطائفتين الأوليين ، بحملها على أنّها إن بلغت النكاح - وهو بلوغها التسع لجواز دخول الزوج بها - للأخبار المستفيضة ولم

ص: 180


1- جامع أحاديث الشيعة 22 : 173ح 12.
2- فروع الكافي 5: 472 ح 2.
3- فروع الكافي 5: 472ح 1.
4- فروع الكافي 5: 473ح 1.

تحض فهي تعتدّ ، وإن لم تبلغ النكاح - لعدم بلوغها التسع - فهي لا تحيض وليس عليها عدّة.

ويشهد لهذا الجمع أيضاً ما رواه في الكافي ، عن عدّة من أصحابنا ، عن سهل بن زیاد ، عن ابن أبي نجران ، عن صفوان ، عن عبد الرحمن بن الحجّاج ، قال : قال أبو عبد الله علیه السلام : ثَلَاثُ يَتَزَوَّجْنَ عَلَى كُلِّ حَالٍ ، الَّتِي لَمْ تحیض وَ مِثْلُهَا لَا تَحِيضُ ، قَالَ : قلت : وَ مَا حَدُّهَا ؟ قَالَ : إِذَا أَتَى عَلَيْهَا أَقَلُّ مِنْ تِسْعِ سِنِينَ - الْحَدِيثَ .

ورواه في التهذيب بإسناده عن علي بن الحسن ، عن محمّد بن الحسين بن أبي الخطاب ، عن صفوان ، عن عبد الرحمن بن الحجاج(1).

فإنّه يدلّ على أنّ المرأة بحسب نوعها تحيض في تسع .

ويمكن المناقشة فيه سنداً ، لأنّ في طريق الكافي سهل بن زياد وهو محل کلام ، و في طريق التهذيب إلى علي بن الحسن - لو كان المراد به ابن فضال - علي بن محمّد بن الزبير ، ولم يرد فيه توثیق .

وفيه - مضافة إلى أن الشيخ الطوسي رحمة الله الذي هو الوسيلة في وصول الأخبار إلينا ، لم يناقش في طريقه إلى الكتب التي أخذ منها الأخبار ، فيعلم أن الكتب كانت معلومة الانتساب إلى أربابها ، وأنّ السندين المنتهيين إلى راي واحد لرواية واحدة يوجبان قوّةاعتبار الرواية – أنّه يمكن تصحيح السند بوجهين :

أحدهما : أنّ علي بن محمّد بن الزبير ممّن يعتمد على روايته ؛ لأنّ النجاشي قال :ورأيت جماعة من شيوخنا يذكرون الكتاب المنسوب إلى علي بن الحسن بن فضّال المعروف «به أصفياء أمير المؤمنين علیه السلام » ويقولون : إنّه موضوع عليه لا أصلی له ، والله أعلم . قالوا : وهذا الكتاب ألصق روايته إلى أبي العبّاس بن عقدة و ابن الزبير ،

ص: 181


1- جامع أحاديث الشيعة 171:22 ب 2ح 5 و ح 6.

ولم نر أحداً من روى عن هذين الرجلين يقول فرأته على الشيخ ، غير أنّه يضاف إلى كل رجل منهما بالإجازة حسب(1) انتهی.

فإنّه لو كان قری، کتاب الأصفياء على ابن الزبير لكان من كتب علي بن الحسن،فيدل على أن كلّ كتاب قرىء عليه جاز إسناده إلى علي بن الحسن.

ثانيها : أنّ النجاشي قال بعد ذکر کتبه : قرأ أحمد بن الحسين کتاب الصلیاة و .. على أحمد بن عبد الواحد في مدّة سمعتها معه ، وقرأت أنا كتاب الصيام عليه في مشهد العتيقة عن ابن الزبير ، عن علي بن الحسن ، وأخبرنا بسائر كتب ابن فضال بهذا الطريق ، وأخبرنا محمّد بن جعفر في آخرین عن أحمد بن محمّد بن سعيد ، عن علي بن الحسن بكتبه(2) انتهي.

وظاهر كلامه أنّ جميع الكتب التي رواها ابن الزبير رواها أبو العبّاس بن عقدة ، وهو أحمد بن محمّد بن سعيد الذي قال النجاشي في ترجمته : وذكره أصحابنا الاختلاطه بهم ، ومداخلته إيّاهم ، وعظم محلّه و ثفته وأمانته(3) انتهى .

ولنا كلام في هذا الوجه الثاني.

إلى هنا انتهى الكلام في بلوغ الصبيّة ، والحمد لله ربّ العالمين ، وصلیى الله على محمّد و آله الطاهرین.

ص: 182


1- رجال النجاشي ص 258 برقم : 676.
2- رجال النجاشي ص 258 - 259.
3- رجال النجاشي ص 94 برقم : 233.

رسالة في سهم الإمام والأنفال

اشارة

تألیف: السيّد محمّد الرجائی

ص: 183

ص: 184

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين ، والصلیاة والسلام على محمّد و آله الطاهرين .

قال المحقّق في كتاب الشرائع في قسمة الخمس : يقسّم ستّة أقسام : ثلاثة للنبي صلی الله و علیه وآله وسلم ، وهي : سهم الله ، و سهم رسوله ، وسهم ذي القربي ، وهو الإمام ، وبعده للإمام القائم مقامه . وما كان قبضه النبي صلی الله و علیه وآله وسلم أو الإمام ينتقل إلى وارثه .

وقال : الأنفال وهي ما يستحقّه الإمام من الأموال على جهة الخصوص کما کان للنبي صلی الله و علیه وآله وسلم - إلى أن قال : – مسائل : الأولى لا يجوز التصرّف في ذلك بغير إذنه ، ولو تصرّف متصرّف کان غاصباً ، ولو حصلی له فائدة كانت للإمام(1).

ويقع الكلام - في تصوير کيفيّة اختصاص كلّ من الباري تبارك وتعالى والنبي صلی الله و علیه وآله وسلم والإمام علیه السلام ثبوتاً بالخمس والأنفال ، وفي الدليل عليها إثباتاً - في مقامین :

المقام الأول

في تصوير کيفيّة اختصاص الله تعالى والنبي صلی الله و علیه وآله وسلم والإمام علیه السلام ثبوتاً بالخمس والأنفال

أما تصویر كيفيّة اختصاص الخمس بالله تبارك وتعالى ، فهو على و جهين:

الأوّل : أن يكون من باب أن كلّ شيء الله تبارك وتعالى من حيث كونه مخلوقاً

ص: 185


1- شرائع الإسلام 1: 181 - 184.

له، فلحاظه بهذه الحيثيّة يرجع إلى قطع اعتبار الملكيّة لغيره تعالى ، أي : أنّ سدس الخمس لا يعتبر ملكاً لأحد ،بل هو خاصّ بالله بالملكيّة التكوينيّة له تبارك و تعالى لكلّ شيء. ولعلّ هذا الوجه يتعين في الأنفال فإنّها لله تعالى ، وفائدته أنّه جعله الله تعالى لرسوله .

الثاني : أن يكون من باب الملكية الاعتباريّة ، أي : ما كان مملوكاً بالملك الاعتباري ، کملكيّة الناس للأشياء ، فهو ملك لله تعالى اعتباراً ، أي : اعتبر أنّ الله سبحانه مالك له ، وعليه فإذا كان ملكاً لله فلا يكون ملكاً لغيره ، كما أنّ ملك زيد لا يكون ملكاً لعمرو ، وفائدة الاعتبار لله تعالى أنه يجعله لرسوله .

وعلى كلا الوجهين في تصوير اختصاص الباري تعالى بسدس الخمس أنّه سبحانه جعل سهمه لرسوله.

وأمّا احتمال أن يكون سهم الله من باب ولاية الله على التصرّف فيه.

فقیه نظر ؛ وذلك لأنّ هذه الولاية إن كانت ولاية اعتباريّة كولاية الرسول صلی الله و علیه وآله وسلم والإمام علیه السلام، فاعتبار الملكيّة أولى منها . وإن كانت ولاية تكوينيّة ، فالملكيّة التكوينيّة أولى.

وأمّا كيفيّة اختصاص الخمس و الأنفال بالرسول ، فيتصّور على وجوه :

الأوّل : أن يكون ملكاً للرسول من أجل رئاسته على العباد في الدين والدنيا ،

على أن تكون حيثيّة الرئاسة جهة تعليليّة الملك الرسول ملكاً شخصياً، ويتصرّف فيه تصرف المالك في ملكه ، حتّى أنّ له أن يهب جميعه لشخص واحد لكونه ملكاً له، ولازمه أن يورث منه كسائر أملاكه.

لكن الأخبار المتواترة دلّت على أنّه لا يرثه إلّا الإمام بعده ، فهي تخصّص عمومات الإرث من الكتاب والسنّة . نعم له أن يقصد تملّك بعض السهم أو بعض الأنفال ، فيكون ملكة شخصيّة له ، فيصير كسائر أملاكه الخاصّة به .

ص: 186

الثاني : أن يكون ملكاً له من أجل رئاسته ، على أن تكون حيثيّة الرئاسة جهة تقييديّة ، ولازمه أن لا يورث ، بل هو لعنوان الرئيس في الدنيا والدين ، وينطبق على الرسول ، ثمّ بعد وفاته علىالإمام بعده ، فليس السهم من أملاكه الشخصيّة بحيث يتصرّف فيه تصرّف المالك في ماله ، بل تیّصرف فيه بما يرجع إلى رئاسته وإدارة شؤون المجتمع ، وليس له أن يهبه لشخص واحد.

الثالث : التفصيل بين ما قبضه فهو ملك شخصيّ له ، وما لم يقبضه فهو ملك لجهةالرئاسة على النحو المتقدّم في الوجه الثاني.

الرابع : أن يكون ملكاً بلا مالك ، ويكون للرسول ولاية التصرّف فيه بجميع الأنحاء، أو ولاية التصرّف فيه بما يرجع إلى جهة الرئاسة من إدارة شؤون المجتمع الإسلامي.

تنبيهات :

الأوّل : لا أثر عمليّ في تحقيق أنّ سهم ذي القربي في زمان النبي صلی الله و علیه وآله وسلم كان ملكاً له أو ملكاً لذي القربي.

الثاني : لا حاجة إلى تحقيق أن الأسهم الثلاثة أو السهمين ينتقلان إلى الإمام وراثة ورثها الإمام من النبيّ ، أو كانت ملكاً للعنوان ، وأنّه ينطبق على الإمام بعد وفاة النبي صلی الله و علیه وآله وسلم بعنوان الوراثة عن النبي صلی الله و علیه وآله وسلم ، بل بعنوان الرئاسة ، وإن كان ظاهر الأدلّة هو الأوّل ؛ لأنّ ظاهر إنّها ملكاً للرسول وهوالشخص کونه ملكاً لشخصه.

الثالث : قيل بأنّ الخمس يقسّم خمسة أسهم بإسقاط سهم الله ، ويكون ذكر الله تعالى - مع أنّ كلّ شيء له - تعظيماً لأمر الخمس ، أو تنبيهاً على أنّ كلّ شيء له ، حتّى يتوجّه من يريد أن يعطي الخمس أنّه ليس له .

وفيه أنّ الأخبار قد صرّحت بأنّه تقسّم ستّة أسهم .

الرابع : قيل بأنّ كلّ الخمس له تبارك وتعالى ، فإنّ كلّ شيء له ، ثمّ جعل

ص: 187

للنبي صلی الله و علیه وآله وسلم، ثمّ بعد وفاته جعل للإمام علیه السلام.

وفيه أنّه خلاف ظاهر الآية ؛ لأنّه جعل للطوائف في عرض جعله له تعالى ، وكذا فی عرض جعاه للرسول ،هذا مع تصریح الأخبار بالتقسیم.

المقام الثاني

في الدليل على الوجوه المنصوّرة

وقبل بيان الدليل على الوجوه نذكر بعض الأقوال ، وهي :

الأوّل : أن يكون نصف الخمس والأنفال ملكاً شخصياً للرسول قوله ، ثمّ بعده للإمام علیه السلام ، يفعلان بهما ما يشاء آن ، من غير فرق بين ما قبضاه وما لم يقبضاه .

الثاني : التفصيل بين ما قبضاه ، فهو ملك شخصيّ يورث على كتاب الله ، وما لم يقبضه الرسول ، فهو ملك شخصيّ لعنوان الرسول صلی الله و علیه وآله وسلم، وينتقل إلى الإمام لتحقّق العنوان فيه . وكذلك ما لم يقبضه الإمام المتقدّم بالنسبة إلى الإمام بعده .

الثالث : أن لا يكونا ملكاً لأحد ، بل يكون الله تعالى ولاية التصرّف ، وكذا الرسول صلی الله و علیه وآله وسلم وللإمام علیه السلام.

الرابع : أن يكون جميع الخمس لجهة الحكومة على نحو الجهة التقييديّة ، بأن يكون جميعه لله تعالى ، ثمّ يكون جميعه للنبي صلی الله و علیه وآله وسلم ، ثمّ يكون للإمام علیه السلام ، ويصرف في ما يرجع إلى شؤون الحكم والإدارة .

الخامس : التفصيل بين خمس الأرباع وغيره ، فيختصّ الأوّل بالإمام ویملکه .

والمستفاد من الكتاب والسنّة الملكيّة الشخصيّة ، وهو القول الأوّل ، وهو أن يكون مقام النبّوة والخلافة المجعولة للنبيّ والإمام جهة تعليليّة توجب كون المال ملكاً شخصياً للنبيّ من دون فرق بين ما قبضه وما لم يقبضه ، ولكن ينتقل هذا السهم إلى الإمام بعده ، إلّا إذا قصد النبيّ أو الإمام کون بعضه ملكاً شخصياً له ، كما إذا

ص: 188

اشتري لنفسه داراً أو توباً أو غيرهما ، أو بني في الأرض الموات ، فإنّه يصير ملكاً شخصياً له يرثه ورّاثه .

ويدلّ على ما ذكرنا الكتاب والسنّة . أمّا الكتاب فقوله تعالى « وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ» الآية (1).

فإنّه يدلّ على اختصاص المذكورين بالخمس اختصاص مطلقاً مساوقاً للملكيّة الشخصيّة ؛ لأنّ اللام تفيد مطلق الاختصاص ، فإذا لم يقيّد مدخولها أفادت الاختصاص المطلق ، كما أنّ الرقبة موضوعة لمطلق الرقبة ، وإنّما تدلّ على عمومها للمؤمنة والكافرة في قولك « أعتق رقبة » بمعونة كون المتكلّم في مقام البيان وعدم تقيّدها بالمؤمنة.

وكذا لو قال : الدار لزيد ، فإنّ مفاد هذه الجملة الاختصاص المطلق ، ومعناه أنّ الدار منفعة ورقبة لزيد . ولذا لو قال بعد ذلك - بمدّة - : الدار لعمرو ، لكانت الجملتان متنافيتين ، ولا يرتفع التنافي بينها بتفسير الجملة الأولى ، بأنّ المراد أنّ منفعة الدار لزيد . و تفسير الثانية بأنّ المراد أنّ رقبة الدار لعمرو ، وذلك لدلالة اللام في قوله « الدار لزيد » على الاختصاص المطلق الشامل لمنفعة الدار ورقبتها.

ثمّ إنّ الاختصاص المطلق يتفاوت أفراده بحسب قابلية المحل ، وذلك لا يوجب التفاوت في إطلاق الاختصاص ، فإن قال : الغلام لزيد ، فمفادها الاختصاص المطلق به ، ولكن ليس الغلام مخلوقاً لزيد ، فليس له اختصاص الخالقيّة به لعدم قابليّته . وكذا إن قال : الفراش للمسجد ، فإنّ الاختصاص المطلق به هو صرفه فيه وعدم جعله في البيت والنوم أو الجلوس عليه.

ص: 189


1- الأنفال : 41.

وظاهر الآية كما في الأخبار أنّ الخمس يقسّم ستّة أسهم ، فيكون سدسه له تبارك و تعالى ، و معنی کونه له أنّه خالقه و موجده ، وكلّ شيء من الممكنات له تبارك و تعالى ، وهو الذي أفاض الوجود عليه.

فإن منعنا إرادة هذا المعنى ، فالاختصاص من جميع الجهات یکون هو اختصاص الملكيّة الاعتباريّة ، فإنّها مستلزمة لولاية التصرّف وأعلى منها ؛ لأنّ مقتضى ولاية التصرّف أن يكون سدسه لا مالك له ، وأنّ ولاية التصرّف له تبارك و تعالى ، وهو دون معنى الاختصاص بالملكيّة الاعتباريّة ، كما هو واضح.

وأمّا اللام في « للرسول» ، فهي تفيد الملكيّة الاعتباريّة : لإنّ الاختصاص المطلق من جميع الجهات بالرسول لا يتحقّق إلا بالملكيّة الاعتباريّة وكذا الإمام ، لكن حيث أنّ هذا الاختصاص من جهة المقام المعنوي الذي لها، فأدلّة الإرث منصرفة عنه ولا أقلّ من كون إطلاقها قابلاً للتقييد على نحو يكون عرفياً.

وظاهر كونه للرسول أنّه للذات المتّصفة بكونها رسولاً لا لجهة الرسالة . وهذا هو الملك الشخصي وإنّما يرثه من يرث مقامه المعنوي ، وإن كان مقتضى إطلاق الآيات والأخبار في الإرث أن يكون جميع ما تركه الميّت لورثته على سهام الإرث و فرائضه، إلّا أنّه منصرف إلى غير هذا الملك .

ولو كان لها إطلاق ، فالأخبار المستفيضة - لو لم تكن متواترة - دلّت على أنّ الأنفال وسهم الله تعالى و سهم رسوله صلی الله و علیه وآله وسلم يرثهما الإمام المعصوم علیه السلام ، فهي تخصصّ عموم الآيات والأخبار ، و تقيّد إطلاقها.

وأمّا من السنّة ، فالأخبار الدالّة على ما ذكرنا كثيرة ، وهي على طائفتين :

الطائفة الاُولى : ما يدلّ على أنّ الخمس لهم ، أو نصفه لهم ، وقد عبّر فيها باللام .

فلقائل أن يناقش في دلالة اللام ، كما ناقش في اللام في قوله تعالى«لله ولرسوله» ولكن المناقشة غير واردة ، بل غير صحيحة ؛ لما ذكرنا من أنّها تفيد الاختصاص

ص: 190

المطلق إن لم يقیّد .

الطائفة الثانية : ما صرّح فيه بأنّه للرسول ، أو للإمام يضعه حيث يحبّ ، أو يفعل به ما يشاء ، وهي غير قابلة للمناقشة المذكورة في اللام.

أمّا الطائفة الأولى ، فهي :

ما رواه في الفقيه والخصال ، عن الصادق علیه السلام : إنّ الله الذي لا إله إلّا هو لمّا حرّم علينا الصدقة أنزل لنا الخمس ، فالصدقة علينا حرام ، والخمس لنافريضة ، والكرامة لنا حلال(1)

فإنّ كلمة « لنا » ظاهرة في الملكيّة الشخصيّة .

وما رواه أبو بصير : فإنّ لنا خمسه(2).

وما رواه في تفسير النعماني : فأمّا وجه الإمارة ، فقوله تعالى «وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ» الآية - إلى أن قال علیه السلام : - فيأخذ الإمام منها سهم الله و سهم الرسول وسهم ذي القربي ، ثمّ يقسّم الثلاثة السهام الباقية بين يتامى آل محمّد ومساکینهم وأبناء سبيلهم(3).

فإنّه يدلّ على أنّ الإمارة جهة تعليلّة لملك الإمام ثلاثة أقسام ، وعليه صرف الباقي في اليتامى والمساكين وأبناء السبيل من آل محمّد علیهم السلام .

وما رواه الحلبي ، قال : يؤدّي خمسنا(4).

وما رواه هشام بن سالم ، عن أبي عبد الله علیه السلام قال : سألته عن الغنيمة ، فقال :

ص: 191


1- جامع أحاديث الشيعة 8: 524ب 1ح 1.
2- جامع أحاديث الشيعة 8: 529ب 2 ح 1.
3- جامع أحاديث الشيعة 8: 529 ب 2 ح 4.
4- جامع أحاديث الشيعة 8: 530 ب 2ح 5.

يُخْرَجُ مِنْهَا خُمُسُ لِلَّهِ وَ لِلرَّسُولِ ، وَ مَا بَقِيَ قُسِمَ بَيْنَ مَنْ قَاتَلَ عَلَيْهِ وَ وَلِيَ ذَلِكَ(1).

السؤال والجواب ظاهران في أنّهما في مقام بیان معنى الآية النازلة في الخمس التي قد ذكر فيها ولذي القربى وغيرهم ، فحذفهم في الجواب إيكال إلى معلوميته ومن هذا يظهر معني الحديث :إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى رَضِيَ نَفْسِهِ مِنَ الْغَنِيمَةِ بِالْخُمُسِ (2).

وما رواه علي بن مهزیار ، قال : قال لي أبو علي بن راشد : قلت له : أمرتني بالقيام بأمرك وأخذ حقّك ، فأعلمت مواليك ذلك ، فقال لي بعضهم : وأي شيء حقّه، فلم أدر ما أجيبه ، فقال : يجب عليهم الخمس الحديث(3).

وهو يدلّ على أنّه حقّه يفعل به ما يشاء . بل قيل : يدلّ على أنّ الخمس كلّه للمعصوم علیه السلام ، وفيه أنّه يصح الإضافة إليه لولايته على سائر المستحقيّن للخمس .

إلى غير ذلك من الأخبار الظاهرة ظهوراً جلياً في أنّ السهم للإمام يختصّ به ،وكذا الأنفال .

الطائفة الثانية : ما صرّح فيه بأنّ الخمس والأنفال لهم خاصّة يصنعون به ما شاؤوا ، وهي :

ما رواه عبد الله بن سنان ، عن أبي عبد الله علیه السلام في الغنيمة ؟ قَالَ : يُخْرَجُ مِنْهَا الْخُمُسُ وَ يُقْسَمُ مَا بَقِيَ بَيْنَ مَا قَاتَلَ عَلَيْهِ وَ وَلِيَ ذَلِكَ ، وأمّاالغيء وَ الْأَنْفَالِ ، فَهُوَ خَالِصُ الرَّسُولِ اللَّهُ صلی الله و علیه وآله وسلم(4).

وهذا الخبر صرع في أنّ الأنفال ملك شخصي لرسول الله صلی الله و علیه وآله وسلم.

وما رواه عبد الله بن سنان ، قال : قال أبو عبد الله علیه السلام : على كل امرىء غنم أو

ص: 192


1- جامع أحادیث الشيعة 8: 530 ب 2 ح 6.
2- جامع أحاديث الشيعة 8: 530 ب 8 ح 8.
3- جامع أحاديث الشيعة 8: 548 ب 12 ح 9.
4- جامع أحاديث الشيعة 8: 530 ب 2ح 7.

اكتسب ، الخمس ممّا أصاب لفاطمة علیها السلام ولن يلي أمرها من بعدها من ذريّتها الحجج على الناس ، فذاك لهم خاصّة يضعونه حيث شاؤوا، وحرّم عليهم الصدقة حتّى الخيّاط ليخيط قميصاً بخمسة دوانیق ، فلنا منها دانق إلّا من أحللناه من شيعتنا التطيب لهم به الولادة إنّه ليس من شيء عند الله يوم القيامة أعظم من الزنا ، إنّه ليقوم صاحب الخمس ، فيقول : يا ربّ سل هؤلاء بما أبيحوا(1).

وهذا الخبر صريع في أنّ الخمس ملك شخصيّ لهم ، يفعلون به ما شاؤوا ، لكن قد علم أنّ نصفه راجع إلی بقیّة بني هاشمغیر المعصومین علیهم السلام.

وما رواه مسمع بن عبد الملك من حمله خمس ماله إلى أبي عبد الله علیه السلام، فردّه عليه أبو عبد الله علیه السلام، وقال له : يا أبا سیّار : الأرض كلّها لنا ، فما أخرج له منها من شيء فهو لنا الحديث(2).

وما رواه حفص بن البختري ، عن أبي عبد الله علیه السلام، قال : الأنفال - إلى أن

قال: - فهو لرسول الله صلی الله و علیه وآله وسلم وهو للإمام من بعده يضعه حيث يشاء (3).

ومثله في خبر محمّد بن مسلم : فما كان الله فهو لرسوله يضعه حيث يشاء(4).

وفي حسن معاوية بن وهب : وَ إِنْ لَمْ يَكُونُوا قَاتَلُوا عَلَيْهَا الْمُشْرِكِينَ كَانَ كُلُّ مَا غَنِمُوا لِلْإِمَامِ يَجْعَلُهُ حَيْثُ أُحِبُّهُ (5).

إلى غير ذلك من الروايات الدالّة على أنّ السهم والأنفال ملك شخصيّ للإمام علیه السلام ، ولا معنى لأنّ تكون الأنفال ملكاً لجهة الإمامة والحكومة ، كما لا وجه

ص: 193


1- جامع أحاديث الشيعة 8: 547 ب 12 ح 5.
2- جامع أحاديث الشيعة 8: 598ب 7ح 18 .
3- جامع أحادیث الشيعة 8: 602ح 1.
4- جامع أحاديث الشيعة 8: 602ح 2.
5- جامع أحاديث الشيعة 8: 617 ب 4 ح 3.

لأن تكون الجبال في الأراضي البعيدة عن الإسلام وأراضي الموات فيها وغيرها ملكاً لحكومة إسلاميّة يرأسها حكّام الجور.

القول الثاني : ما اختاره المحقّق في الشرائع ، وارتضاه في الجواهر ، قال بعد قول المصتف « نَعَمْ مَا قَبَضَهُ النَّبِيِّ صلی الله و علیه وآله وسلم أَوِ الْإِمَامُ يَنْتَقِلْ إِلَى وَارِثِهِ »: ضرورة صيرورته حينئذ كسائر أمواله التي فرض الله تقسيمها على الوارث ، واحتمال اختصاص الإمام علیه السلام به أيضأ لقبض النبي صلی الله و علیه وآله وسلم له مثلاً بمنصب النبوّة أيضاً باطل قطعاً ، إذ هو وإن كان كذلك لكنّه صار ملكاً من أملاكه بقبضه ، وإن كان سببه منصب النبوّة ، وفرق واضح بينه و بين انتقال الاستحقاق السابق للإمام بعد أن علم ملاحظة الوصف فيه الذي لا يشاركه فيه غير الإمام ، بخلاف المقبوض فإنّه قد صار خصوصيّة الذات لها مدخليّة(1) انتهی .

وفيه أنّه إن قبضه بقصد کونه له شخصاً أوجب الملكيّة التي يترتّب عليه الإرث ونحوه ، وأمّا إن قبضه لا بقصد کو نه لشخصه بل من باب أنّه إمام فيبقی على الملكيّة الشخصيّة له بعنوان الإمامة ويرثه الإمام بعده.

وهذا ظاهر قوله في خبر أبي علي بن راشد « وَ ما كانَ لِأَبِي بِسَبَبِ الْإِمَامَةِ فَهُوَ لي» أي : ما قبضه وكلائه بعنوان كونه للإمام ، أو ما كان باقياً على عهدة من تعلّق به الخمس من العين أو غيرها فهو لي.

القول الثالث : أنّ السهم ليس ملكاً لأحد ، وإنّما لرسول الله صلی الله و علیه وآله وسلم وللإمام المعصوم علیه السلام ولاية التصرّف فيه ، لا الملكيّة الشخصيّة على أن تكون الرسالة والإمامة جهة تعليليّة ، ولا الملكيّة من جهة الرسالة والإمامة على أن تكون الجهة تقييديّة ، بل إن السهم لا مالك له ، وإنّما لله تبارك وتعالى ولرسوله وللإمام ولاية

ص: 194


1- جواهر الكلام 16 : 88.

التصرّف ولاية مجهولة اعتباريّة.

واستدلّ عليه بوحدة سياق اللام في الموارد الثلاثة ، أي : في « لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَىٰ» وذلك لأن ّالمحتمل في معنى اللام : إنّما الملكيّة الاعتباريّة ، كملكيّة الثوب لزيد ، والملكيّة الاعتباريّة هي التي يعتبرها العقلاء ، لكنّهم لا يعتبرون الملكيّة لله تعالى ؛ لاستلزامها لأنّ يقال : إنّه لو وكّل الله تعالى رسوله في أن يبيع سهمه خرج عن ملكه ودخل الثمن في ملكه ، وهو واضح الفساد.

وإمّا الملكيّة التكوينيّة ، وهو لا يناسب مقام بيان الحكم الشرعي، أعني : وجوب الخمس المذكور في الآية المباركة.

وإمّا ولاية التصرّف التي اعتبرها العقلاء ، وهو اعتبار معقول واقع من العقلاء .

وحينئذ إن أريد من اللام في «لِلرَّسُولِه وَلِذِي الْقُرْبَىٰ » المعنى الذي يراد في «الله» وهو ولاية التصرّف التي اعتبرها العقلاء ، كانت وحدة السياق في معنى اللام في الموارد الثلاثة محفوظة.

وأمّا لو أريد من اللام في و «لِلرَّسُولِه وَلِذِي الْقُرْبَىٰ»الملكيّة الاعتباريّة ، فيرد عليه - مضافاً إلى أنّه مناف لوحدة السياق – أنّ جهة الرسالة والإمامة إن كانت جهة تعليليّة كان مقتضاها أن يكون السهم ملكاً شخصياً لهما، ومقتضى الملكيّة الشخصيّة الانتقال إلى الورثة على حسب السهام المفروضة لهم ، وهو مناف للأخبار الدالّة على أنّ ما للرسول ينتقل إلى الإمام، وكذا ما للإمام ينتقل إلى الإمام بعده ، ففي خبر أبي علي بن راشد « وَ ما كانَ لِأَبِي بِسَبَبِ الْإِمَامَةِ فَهُوَ لِي ».

وإن كانت جهة الرسالة والإمامة جهة تقييديّة ، كان مقتضاها ملكیّة جهة الرسالة، وهو مناف لظاهر اللام في ملكيّته لشخص الرسول لا جهة الرسالة .

وفيه أنّ اعتبار ولاية التصرّف لله تعالى إن كان من العقلاء ، فأيّ شأن لهم في أن يعتبروا ذلك للخالق تبارك وتعالى ، مع أنّ اعتبار الملكيّة أولى من اعتبار ولاية

ص: 195

التصرّف .

وإن كان من الله تبارك و تعالى ، فلا حاجة إليه : لأنّه لا مانع من أن يعتبر الله سبحانه وتعالى لنفسه ، بمعنى أنّ المال يختصّ به وهو يجعله لمن يريد.

وهذا المعني معقول موافق للأخبار والارتكاز . ففي خبر إسحاق بن عمّار ، عن أبي عبد الله علیه السلام فال : قلت : رَجُلُ مَرِضَ فَاشْتَرَى نَفْسَهُ مِنَ اللَّهِ بِمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ إِنْ هُوَ عَافَاهُ اللَّهُ مِنْ مَرَضِهِ ، فَقَالَ : يَا إِسْحَاقُ لِمَنْ جَعَلْتَهُ ؟ قَالَ : جُعِلْتُ فِدَاكَ لِلْإِمَامِ ، قَالَ : نَعَمْ هُوَ لِلَّهِ وَ مَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ لِلْإِمَامِ (1).

والسهم الذي هو ملك لله تعالى قد جعله لرسوله ، فالرسول يملك السهم ملكاً شخصياً ، وينتقل منه إلى الإمام : للأخبار الدالّة على ذلك ، وهكذا الإمام فإنّه يملك السهم ملكاً شخصياً ، ثمّ ينتقل منه إلى الإمام بعده.

وهذا المعنى هو الظاهر من خبر أبي علي بن راشد ، أي : ما كان لأبي ملكاً شخصياً بسبب الإمامة على أن تكون الإمامة جهة تعليليّة ، فهو ملك شخصي لي ،نعم إن أخذ الرسول أو الإمام مقداراً من السهم لنفسه ، أو قصد ذلك ، صار قصده سبباً لمله الشخصي کسائر المالکین ، فیکون کسائر أمواله التی تکون کذلک ویورث على كتاب الله .

وتقدّم أنّ ما ذكره في الشرائع وارتضاه في الجواهر من التفصيل بين المقبوض وغيره لا وجه له ، فإنّ المقبوض منه لو لم يقصد به ملكه الشخصي كدار و ثوب ونحوهما لم يورث.

القول الرابع : أنّ الخمس جميعه حقّ واحد ثابت بأجمعه لله ، ثمّ للرسول في طوله ثمّ للإمام في طوله ، على حسب الطوليّة في الحكومة ، ومثله الأنفال ، والإمامة حيثيّة

ص: 196


1- وسائل الشيعة 4:16 20 پ 22 ح 1.

تقييديّة لا تعليليّة ، حتّى يثبت الخمس والأنفال لشخص الرسول . واستشهد عليه بالآية والأخبار .

أمّا الآية ، فتدلّ عليه :

أولاً من جهة لام الاختصاص التي كرّرت ، فإنّه يقتضي أن يكون جميع الخمس الله ثمّ جميعه للرسول ، ثمّ للإمام ، ولو كان الخمس مشتركاً لم يؤت باللام إلّا مرّة واحدة ، كما يقال الدار لزيد وعمرو.

وثانياً : أنّ تقدّم الخبر أعني لفظ « لله » على الاسم أعني خمسه يدلّ على الحصير ،كما يقال: الشجاع زید ، ولو كان مشتركاً لقال : فان خمسه لله ولرسوله.

ثمّ استشهد بأخبار مشتملة على قول الإمام علیه السلام « إِنَّ اللَّهَ قَدْ رَضِيَ لِنَفْسِهِ بِالْخُمُسِ» أو قوله في « يَسَّرَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَرْزَاقَهُمْ بِخَمْسَةِ دَرَاهِمَ جَعَلُوا لِرَبِّهِمْ وَاحِدَةً» أو قوله علیه السلام « لِي مِنْهُ الْخُمُسِ » أو قوله علیه السلام في الإجابة عن حقّه ، فقال : « يَجِبُ عَلَيْهِمُ الْخُمُسِ» أو قوله علیه السلام «الْخُمُسُ لَنَا»، ونحو ذلك من الأخبار ممّا ظاهره أنّ جميعه له.

قلت : أمّا الاستشهاد ما ذكر في دلالة الآية ، ففيه أنّه إذا كان المال مشتركاً صحّ أن يقال : الدار لزيد ولعمرو ، و تقديم الخبر ربما يكون تشريفاً للفظ الجلالة ، وتأكيداً على أنّ الخمس منه ما هو الله تبارك وتعالى.

وأمّا الأخبار ، فلا دلالة لها على ذلك ، لأنّ الإمام علیه السلام له الولاية على سائر مصارف الخمس ، وينبغي أن يكون جميعه عنده حتّى يوزعه على المستحقّين ، فلذا يصحّ أن يقول الخمس لي.

ولو سلّم الظهور في ذلك ، فالأخبار المصرّحة بالتقسيم تكون رافعة لظهورها.

ثمّ لو فرض کون الخمس بأجمعه للإمام لكان ملكاً شخصياً له ، لا أنّه ملك لجهة الإمامة حتى يصرّف فيا يرجع إلى أمر إمامته ، بل له أن يبه لشخص واحد ، وإن لم

ص: 197

يكن مربوطاً بجهة إمامته ورئاسته .

وقد احتمل في الجواهر أن يكون جميعه له علیه السلام ، قال : بل لولا وحشة الانفراد عن ظاهر اتّفاق الأصحاب ، لأمكن دعون ظهور الأخبار في أنّ الخمس جميعه للإمام ، وإن كان يجب عليه الانفاق على الأصناف الثلاثة(1).

لكن المختار عنده التقسيم ؛ لأنّه قال - بعد ذكر الاحتملال المذكور - : إلّا أنّ التحقيق ما قدّمناه سابق الذي ظاهر الأصحاب الاتّفاق عليه(2)انتهي.

وأمّا الاستشهاد على كونه لجهة الإمارة بما في بعض الأخبار من أنّه للوالي ، أو القائم بأمور المسلمين ونحو ذلك ، فالمراد منها هو الإمام المعصوم ؛ لقرائن تدلّ عليه في نفس هذه الأخبار .

فمنها : ما في رسالة المحكم والمتشابه ، قال : إنّ للقائم بأمور المسلمين (3)الحديث .

وقد يقال : إنّ القائم بأمور المسلمين أعم من أن يكون معصومة أو غير معصوم وفيه أنّ المراد به الإمام المعصوم بالقرائن الواضحة على ذلك المذكورة في تتمّة الخبر فراجع ، كقوله « فَمَا كَانَ لِلَّهِ وَ لِرَسُولِهِ فَهُوَ لِلْإِمَامِ» وفسر ذي القربي بالإمام ، والمراد به الإمام المعصوم علیه السلام .

ومنها: ما في مرسل حمّاد : فسهم الله وسهم رسول الله صلی الله و علیه وآله وسلم ولي الأمر من بعد رسول الله صلی الله و علیه وآله وسلم ورائة ، فله ثلاثة أسهم : سهمان وراثة ، وسهم مقسوم له من الله (4).

وفيه أنّ المراد من أولي الأمر هو «ذي القربى» المذكور في الآية ؛ لأنّ التقسيم ستّة أقسام مذكورة في الآية ، والمراد به الإمام المعصوم ؛ لأنّ له سهماً من الله لا

ص: 198


1- جواهر الكلام 16 : 150.
2- جواهر الكلام 16: 167.
3- جامع أحاديث الشيعة 8: 607پ 1ح 22.
4- أصول الكافي 1: 539 ج 4، جامع أحاديث الشيعة 8: 564 ح 15.

مطلق من ولي الأمر ، وإن لم يكن إمام معصوماً ؛ لأنّ ذا القربي المذكور في الآية هو الإمام المعصوم .

ومنها : قوله علیه السلام « فهو للوالي » والمراد به الإمام المعصوم ، بقرينة قوله « وهؤلاءالذين جَعَلَ اللَّهُ لَهُمُ الْخُمُسَ هُمْ قَرَابَةُ النَّبِيِّ صلی الله و علیه وآله وسلم فالوالي مِنْ ذِي القربي » . وَ مِنْهَا : قوله « وَ لِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ عَلَى مَالِ النَّبِيِّ وَ الْوَالِي زَكَاةُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ فَقِيرُ مُحْتَاجُ » والمراد بالوالي الإمام المعصوم.

والحاصلی أنّ القرائن الموجودة في هذا المنبر تدلّ على إرادة الإمام المعصوم.

توهّم ودفع:

ذكر القائلون بعدم الملك الشخصي للإمام تأیید قوياّ في نظرهم، بحيث يتراءى أنّه صار دليلاً متقناً.

وحاصلیه : أنّ سهمه المبارك مقدار عظيم غاية الكثرة ، لا يحتاج هو إلى عشر من أعشاره في حياته الشخصيّة المقدّسة ، ومن البعيد جداً في حكمة الحكيم جعله له بلا حاجة منه إليه ، ولا إمكان جذبه في حياته الشخصيّة ، بل القرائن الواضحة شاهدة على أنّه إنّما جعله له مقامه السامي ، وهو الولاية على الخلق ، أي : يكون لمقام الحكومة العامة الإلهية التي جعلها له ، فيجعله في بيت مال المسلمين ، ويكون علیه السلام ناظراً على صرفه في مصارفه و والياً عليه ، وحيث إنّ الحكومة بالجعل الإلهي ، فهذه الأموال له علیه السلام.

ونظير هذا الكلام الاستبعاد بأنّه كيف يمكن القول بكون الإسلام مع كونه دین المساواة والعدالة ، قد شرّع فيه تمليك أكثر أموال الناس ، وكذا جميع الأنفال مع كثرتها لشخص واحد با هوهو ، مع أنّ الأنفال في اعتبار العرف والعقلاء في جميع الأعصار والأمصار املاك عمومية تتعلّق بالعموم ، وتصرف في المصالح العموميّة ،

ص: 199

فالظاهر تنفيذ شريعة الإسلام لما يعتبره العرف والعقلاء قديماً وحديثاً.

ويدفعه أنه لابد من التعبد بما دلت الأخبار المستفيضة الموافقة للكتاب ، والأخذ بمضمونها، لا صرفها عن ظواهرها لاستبعاد محض وعدم الوصول إلى مغزاها والأدلّة حجة في مدلولها ما لم يكن مضمونها محالاً .

ولا مانع من أن يكرم الله تبارك و تعالى نبيه صلی الله و علیه وآله وسلم والأمة علیهم السلام، فيجعلهم منشأ الخيرات والبركات المعنويّة والماديّة ، فإنّ الله تعالى خلق الإنس والجنّ ليعبدوه ، كما قال في كتابه الكريم :«وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ»(1).

ولولاهم ما عبد الله ، كما في صحيح على بن جعفر ، عن أبي الحسن موسى علیه السلام، قال : قال أبو عبد الله : إِنَّ اللَّهَ عزوجل خَلَقَنَا فَأَحْسَنَ خَلْقَنَا ، وَ صَوَّرَنَا فَأَحْسَنَ صُوَرَنَا ، وَ جَعَلَنَا خُزَّانَهُ فِي سَمَائِهِ وَ أَرْضِهِ ، وَ لَنَا نَطَقَتِ الشَّجَرَةُ ، وَ بِعِبَادَتِنَا عُبِدَ اللَّهِ ، وَ لَوْلَانَا مَا عُبِدَ اللَّهُ (2).

وجعل مودتهم أجر رسالة رسوله التي هي أعظم النعم حتى قال سبحانه و تعالى: «لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ »(3) .

وجعلهم الحجج على عباده . ووردت الأخبار في أنّ الحجّة قبل الخلق وبعده ، وأنّه لولا الحجّة لساخت الأرض بأهلها ، فجعل الله تعالى السهم والأنفال ملكاً لهم حتّى يعرف الناس أنّهم قوام معاشهم ، فیشکر و هم حيث انّهم أولياء النعم .

قال صاحب الكفاية : نعم يجب تحصيل العلم في بعض الاعتقادات لو أمكن ، من باب وجوب المعرفة لنفسها ، كمعرفة الواجب تعالى وصفاته أداءً لشكر بعض

ص: 200


1- الذاريات : 56.
2- أصول الكافي 1: 193 باب أن الأئمة علیهم السلام ولاة أمر الله وخزنة علمه ح 6.
3- آل عمران : 164.

نعمائه، ومعرفة أنبيائه فإنّهم وسائط نعمه وآلاته ، بل وكذا معرفة الإمام(1)انتهى .

وأغلب الناس يرغبون في المنافع الدنيويّة أكثر من رغبتهم في المنافع المعنويُّة . فيكون هذا الارتباط الدنيوي موجباً للمحبّة الناس لهم ، وهي توجب سعادتهم الأبدية ، كما قال سبحانه :«قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ ۖ »(2).

ثمّ إنّ ما ذكره من أنّ الأنفال في جميع الأعمار والأمصار املاك عموميّة تتعلّق بالعموم وتصرف في مصالحهم ، فالظاهر تنفيذ شريعة الإسلام لما يعتبره العرف و العقلاء قديماً وحديثاً ممنوع.

أوّلا : بأنّه ليس الأمر كذلك.

وثانياً : أنّ العقلاء هل يعلمون أنّ الله خلق آدم وأقطعه الدنيا كما في الكافي ، ومع ذلك يعتبرون الأنفال من الأموال العموميّة ، أو لا يعلمون ذلك ، وأيّ شأن لهم في أن يعتبروا في مقابل ما جعله الله لشخص النبي صلی الله و علیه وآله وسلم وللإمام علیه السلام.

ثمّ إنّه قد يقال بأنّه لو قلنا بأنّه شرّع نصف الخمس مع كثرته موضوعاً و مقداراً للفقراء من بني هاشم مع قلّتهم ، ولا يشركهم فيه غيرهم ، وشرع الزكاة مع قلّتها بالنسبة إلى الخمس موضوعأ و مقداراً ليصرف في مصارف ثمانية منها فقراء غير السادة ، مع كثرتهم أضعافاّ مضاعفة ، ومع ذلك يشركهم فقراءالسادة في زكاة السادة ، وفي بعض سائر المصارف ، ولا سيّما سبل الخير بسعتها وكثرة شعبها ، فهل لا يعدّ هذا ظلّ أوزوراً في عالم الجمل والتشريع؟.

قلت : إنّ تشريع الزكاة على نحو - كما في الخبر - يرفع حوائج الفقراء بها ، وإن لم يكفهم في مقام العمل خارجاً ، فإنّ الإمام يعطيهم من ماله ما يستغنون .

كما في مرسل حمّاد ، قال فيه : فَوَجَّهَهُ فِي الْجِهَةِ الَّتِي وَجَّهَهَا اللَّهُ عَلَى ثَمَانِيَةِ أَسْهُمٍ

ص: 201


1- الكفاية ص 378.
2- سبأ : 47.

لِلْفُقَرَاءِ وَ الْمَساكِينِ وَ الْعامِلِينَ عَلَيْها وَ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِيُّ الرِّقابِ وَ الْغارِمِينَ وَفِيُّ سَبِيلِ اللَّهِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ ، ثَمَانِيَةُ أَسْهُمٍ يَقْسِمُ بَيْنَهُمْ فِي مَوَاضِعِهِمْ بِقَدْرِ مَا يَسْتَغْنُونَ بِهِ فِي سَنَتِهِمْ بِلَا ضِيقٍ وَ لَا تَقْتِيرٍ ، فَإِنْ فَضَلَ مِنْ ذَلِكَ شَيْ ءُ رُدَّ إِلَى الْوَالِي ، وَ إِنْ نَقَصَ مِنْ ذَلِكَ شَيْ ءُ وَ لَمْ يَكْتَفُوا بِهِ كَانَ عَلَى الْوَالِي أَنْ يكونهم مِنْ عِنْدِهِ بِقَدْرِ سَعَتِهِمْ حَتَّى يَستَغنَواالحديث .

وقد وردت الأخبار الكثيرة في مقام الإمامة هو مقام رعاية ، وإنّ الإمام هو المراعي ، ولا شكّ أنّ الإمام علیه السلام يتصدّى لسدّ جميع الثغرات في المجتمع ، فيغني فقيرهم ، ويوسّع على عائلهم ، ويقضي حوائجهم ، وغير ذلك ممّا يقتضيه شأن الإمامة ومقام الإمام.

فليس في جعل هذا المقدار ملكاّ ما يوجب الاستبعاد ، ولعلّ هناك موارد كثيرة غفل عنها الناس ، ولو كان الإمام علیه السلام حاضراً لأنفق عليها كثيراً . مضافاً إلى أنّ الدين وحفظه ونشره يتطلّب الانفاق الكثير من شخص الولي نقسه لا من خزينة الدولة ، أو بيت مال المسلمين ، كما هو معلوم من سيرة النبي صلی الله و علیه وآله وسلم وأمير المؤمنين علیه السلام.

وحاصلی ما ذكرنا أن الخمس ليس من أموال الحكومة حتّى يصرف في مصاريف الحكومة ؛ لأنّه ملك شخصي للإمام . هذامع أنّ المسلمين الذين يعيشون تحت حكومة الجائرين والظالمين الذين نهى الله تعالى عن الركون إليهم لا يجب عليهم اعطاؤه للحكومة الجائرة.

القول الخامس : التفصيل بين خمس أرباح المكاسب وخمس غيرها ، باختصاص جميع الأوّل بالإمام علیه السلام . مال إليه في منتق الجمان ، حيث قال : في الأخبار ما يؤذن به ، بل ينادي بالاختلاف ، کالخبر السابق عن أبي علي بن راشد ، وهو قوله «ما كانَ لِأَبِي بِسَبِّ الْإِمَامَةِ فَهُوَ لِي » ، وعليه حمل قوله علیه السلام في صحيح علي بن مهزیار ،

ص: 202

حيث قال علیه السلام: أوجبت في سنتي . وغيره من العبارات الدالّة على أنّه لا يحكم في هذا الحقّ بما شاء واختار(1).

أقول : قد تقدّم أنّ الإمام علیه السلام له الولاية على جميع الخمس ، وله ما يزيد عن مؤونة سائر الذريّة ، وعليه تتميم ما نقص من ماله إن لم يكفهم سهمهم من الخمس ، وليس في رواية أبي علي بن راشد قرينة تصرف عموم قوله علیه السلام« ما كانَ لِأَبِي بِسَبَبِ الْإِمَامَةِ فَهُوَ لِي » إلى خصوص أرباح المكاسب .

وأمّا صحیح علي بن مهزیار ، فهو أدلّ على أن خمس الأرباح كخمس سائر ما يتعلّق به الخمس من المعادن وغيرها . فإنّه قال فيه : فأمّا الغنائم والفوائد ، فهي واجبة عليهم في كلّ عام ، قال الله تعالى « وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَىٰ »الآية ، والغنائم والفوائد یرحمك الله فهي الغنيمة يغنمها المرء ، والفائدة يفيدها إلى آخر الحديث (2). فقد فسّر الغنيمة المذكورة في الآية بما ينطبق على مطلق الفوائد لا خصوص غنائم دار الحرب.

وممّا يدلّ على اتّحاد انواع ما يتعلّق به الخمس في التقسيم ستّة أقسام خبر حكيم « هِيَ الْإِفَادَةُ يَوْماً بِيَوْمٍ»(3) في تفسير الغنيمة.

ومنها : مرسل حمّاد الخمس من خمسة أشياء إلى أن قال : يُؤْخَذَ مِنْ كُلِّ هَذِهِ الضئوف الْخُمُسِ ، فَيُجْعَلُ لِمَنْ جَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، إِلَى أَنْ قَالَ : وَ يُقْسَمُ بَيْنَهُمُ الْخُمُسُ عَلَى سِتَّةِ أَسْهُمٍ (4).

ص: 203


1- منتقى الجمان 2: 142.
2- جامع أحاديث الشيعة 8: 549 ب 12ح 12.
3- جامع أحادیث الشيعة 8: 549 ب 12ح 11.
4- جامع أحاديث الشيعة 8: 564ب 1ح 15.

خاتمة البحث:

قد تبيّن ممّا ذكرناه أنّ سهم الإمام ملك شخصيّ للإمام الثاني عشر الحجّة بن الحسن - عجّل الله تعالى فرجه وجعلنا فداه - وكذلك الأنفال .

وفي كيفيّة التصرّف في الخمس أقوال ، ذكرها في الحدائق والجواهر ، ولسنا في مقام تحقيقه .

ولكن ينبغی الإشارة إلى نكتة ، وهي أنّه لو تعيّن صرفه فيما يرضاه - عجّل الله فرجه - فلابدّ من العلم بما يرضاه ، وهو موقوف على الاطّلاع الكامل على حاله ، كما ذكره في الجواهر(1).

إذ المصالح والمفاسد التي في نظره الشريف - عجل الله فرجه - ممّا لا يمكن إحاطة مثلنا به ، خصوصاً من لم تزهد نفسه في الدنيا منّا، خصوصاً مع عدم خلوص النفس من الملكات الرديّة ، كحبّ الراحة ، وحبّ الشهوات ، وحبّ الجاه والصداقة والقرابة ، ونحوها من المصالح الدنيويّة ، مع أنّه - عجل الله فرجه - من أزهد الزاهدين في الدنيا و تجمّلاتها وزينتها.

فليس المناط في إحراز رضاه ما يقطع في نظرنا وخيالنا بأنّه يرضى به ، اللهمّ امنن علينا برضاه ، وهب لنا رأفته ورحمته ودعاءه . والحمد لله ربّ العالمين .

ص: 204


1- جواهر الكلام 16: 973.

رسالة في الشطرنج

اشارة

تأليف :السيّد محمّد الرجائي

ص: 205

ص: 206

بسم الله الرحمن الرحیم

الحمد لله ربّ العالمين ، والصلیاة والسلام على محمّد و آله الطاهرين.

قال المحقّق في الشرائع في كتاب التجارة : الثاني ما يحرم لتحريم ماقصد به كالات اللهو مثل العود والزمر ، و هياكل العبادة المبتدعة كالصلیيب والصنم ، و آلات القمار کالنرد والشطرنج(1).

وقال في كتاب الشهادات منه : الثالثة اللعب بألات القمار كلّها حرام ، كالشطرنج والنرد والأربعة عشر وغير ذلك ، سواء قصد اللهو أو الحذق أو القمار(2).

والمستفاد من الأدلّة هو الحرمة المطلقة ، أي : لعباً وبيعاً وشراءً وحفظاً . ويدلّ على ذلك آيات وأخبار

الآيات الدالة على حرمة الشطرنج مطلقا

أمّا الآيات فهي:

الآية الأولى : قوله تعالى « فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ »(3) وقد ورد في عدّة من الأخبار تفسير الرجس بالشطرنج ، وهي :

الأوّل : في الكافي ، عن محمّد بن يحيى ، عن أحمد بن محمّد ، عن محمّد بن خالد ،

ص: 207


1- شرائع الإسلام 2: 9.
2- شرائع الإسلام 4: 128.
3- الحج : 30.

والحسين بن سعيد جميعا ، عن النضر بن سوید ، عن درست ، عن زيد الشحّام ، قال: سألت أبا عبد الله علیه السلام عن قول الله عزّوجلّ «فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ »، فَقَالَ : الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ الشِّطْرَنْجُ ، وَ قَوْلُ الزُّورِ الْغِنَاءُ (1).

الثاني : ما رواه في الكافي أيضاً، عن علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن بعض أصحابنا ، عن أبي عبد الله علیه السلام في قول الله تبارك وتعالى «فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ» فَقَالَ : الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ الشِّطْرَنْجُ ، وَ قَوْلُ الزُّورِ الْغِنَاءُ (2) .

الثالث : ما رواه علي بن ابراهيم في تفسيره ، قال : حدّثني أبي ، عن ابن أبي عمير ، عن هشام ، عن أبي عبد الله علیه السلام، قال :الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ الشِّطْرَنْجُ ، وَ قَوْلُ الزُّورِ الْغِنَاءُ (3)

الرابع : ما رواه في معاني الأخبار ، قال : حدّثنا المظفر بن جعفر بن المظفّر العلوي رحمة الله ، قال : حدثنا جعفر بن محمّد بن مسعود ، عن أبيه ، قال : حدّثنا الحسين بن اشكيب، قال : حدّثنا محمد بن السري ، عن الحسين بن سعيد ، عن أبي أحمد محمّد بن أبي عمير ، عن علي بن أبي حمزة ، عن عبد الأعلى ، قال : سألت جعفر بن محمّد عليه عن قول الله عزوجل « فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ» ، قال :الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ الشِّطْرَنْجُ ، وَ قَوْلُ الزُّورِ الْغِنَاءُ ، قلت : قوله

ص: 208


1- فروع الكافي 6: 435ح 2، جامع أحاديث الشيعة 17 : 184 ح 1ب 19 من أبواب ما يكتسب به ، الوسائل کتاب التجارة أبواب ما یکتسب به الباب 102ح 1.
2- فروع الكافي 6: 436، ح 7، جامع أحاديث الشيعة 17: 184 ح 1.
3- تفسير القمّي 2:84، وجامع أحاديث الشيعة 17 : 185 ب 19 ح 7.

عزّوجلّ «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ »(1) قال : منه الغناء(2).

الخامس : مرسلة الصدوق في الفقيه : وسئل الصادق علیه السلام عن قول الله عزّوجلّ و « فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ» قال :الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ الشِّطْرَنْجُ ، وَ قَوْلُ الزُّورِ الْغِنَاءُ، وَ النَّرْدُ أَشَدُّ مِنَ الشِّطْرَنْجِ ، فَأَمَّا الشِّطْرَنْجُ فَإِنَّ اتِّخَاذِهِ کفر ، وَ اللَّعِبُ بِهَا شِرْكُ ، وَ تَعْلِيمَهَا كَبِيرَةُ مُوبِقَةُ ، وَ السَّلَامُ عَلَى اللَّاهِي بِهَا مَعْصِيَةُ ، وَ مُقَلِّبَهَا كَمُقَلِّبِ لَحْمِ الْخِنْزِيرِ، وَ النَّاظِرَ إِلَيْهَا كَالنَّاظِرِ إِلَى فَرْجِ أُمِّهِ ، وَ اللَّاعِبَ بِالنَّرْدِ قِمَاراً مَثَلُهُ مَثَلُ مَنْ يَأْكُلُ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ ، وَ مَثَلَ الَّذِي يَلْعَبُ بِهَا منغير قِمَارٍ مَثَلُ مَنْ يَضَعُ يَدَهُ فِي لَحْمِ الْخِنْزِيرِ أَوْ فِي دَمِهِ ، وَ لَا يَجُوزُ اللَّعِبُ بِالْخَوَاتِيمِ وَ الْأَرْبَعَةَ عَشَرَ ، وَكَّلَ ذَلِكَ وَ أَشْبَاهُهُ قِمَارُ حَتَّى لَعِبُ الصِّبْيَانِ بِالْجَوْزِ هُوَ الْقِمَارُ ، وَ إِيَّاكَ بِالضَّرْبِ بالصوانج ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَرْكُضُ مَعَكَ ، وَ الْمَلَائِكَةُ تَنْفُرُ عَنْكَ ، وَ مَنْ بَقِيَ فِي بَيْتِهِ طُنْبُورُ أَرْبَعِينَ صَبَاحاً فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ عزوجل(3).

ويحتمل أن يكون بعض المذكورات من كلام الصدوق ، أخذه من سائر الأخبار .

السادس : مرسلة الصدوق في المقنع : وفي التفسير انّ الرجس من الأوثان الشطرنج، وقول الزور الغناء(4).

السابع : ما رواه في الأمالي للشيخ الطوسي (5)[والإسناد هكذا : أبو محمّد الفحّام السامري، قال : حدّثني أبو الحسن محمّد بن أحمد الهاشمي المنصوري ، قال : حدثني عم أبي أبو موسی بن عیسی بن أحمد ، قال : حدثني الإمام علي بن محمّد ،

ص: 209


1- لقمان : 6.
2- جامع أحادیث الشيعة 17 : 185 19ح 5.
3- من لا يحضره الفقيه 4: 58 - 59ح 5093، جامع أحاديث الشيعة 17 : 216 ب 23ح 41.
4- المقنع ص 458، جامع أحاديث الشيعة 209:17 ب 23 ح 4.
5-

قال : حدّثني أبي ، عن أبيه علي بن موسى ، قال : حدّثني أبي موسى بن جعفر ، قال: قال الباقر علیه السلام ] قال : وبإسناده في قوله « فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ»، قال : الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ الشِّطْرَنْجُ ، وَ قَوْلُ الزُّورِ الْغِنَاءُ(1).

الثامن : ما رواه في مستدرك الوسائل عن زید النرسي في أصلیه ، عن أبي عبد الله علیه السلام أنّه قال في حديث : وأمّا الشطرنج فهو الذي قال الله عزوجل

« فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ» الخبر (2).

التاسع : ما رواه في الدعائم ، عن جعفر بن محمّد عليه أنّه سئل عن قول الله عزوجل « فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ» فَقَالَ : الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ الشِّطْرَنْجُ ، وَ قَوْلُ الزُّورِ الْغِنَاءُ (3).

قال في التبيان : معنى « من » لتبيين الصفة ، والتقدير : فاجتنبوا الرجسالذي هو الأوثان . وروى أصحابنا أنّ المراد به اللعب بالشطرنج والبرد وسائر أنواع القمار(4) .

بیان:

قوله تعالى « فاجتنبوا» معناه : كونوا في جانب عن الرجس ، وإنّما يستحقّق الاجتناب بعدم استعماله بيعاً وشراءً ولعباً لحذق أو لهو أوقمار .

قوله تعالى« الرجس »، هو الشيء المستقذر . قال في المقاییس : الرجس القذر(5).

ص: 210


1- الأمالي للشيخ الطوسي رحمة الله ص 294 ح 575.
2- جامع أحادیث الشيعة 209:17 ب 23ح 2 عن المستدرك .
3- دعائم الاسلام 2: 210 ، وجامع أحاديث الشيعة 17 : 184ح 1.
4- التبيان 312:7.
5- مقاییس اللغة 2: 490.

و « من » في قوله تعالى «من الأوثان »، للتبيين ، أي : الرجس الذي هو الأوثان ، وهو جمع وثن .

والوثن : الصنم ، وهو كلّ ما عبد من دون الله ، أو كلّ ما يعبده الوثنيّون من صورة أو تمثال ، ولعلّ التعبير عن الشطرنج بالوثن من أجلّ أنّه كان على صورة الحيوان ، أو أنّ اللاعب به كأنّه يعبده لما له من الاستيلاء على الحواسّ والفكر ، ونتيجة ذلك تلوّث النفس وانحرافها ، كما في نظائره منعبادة الدنيا أو الأموال ونحو ذلك .

قال في مروج الذهب في ذكر أخبار الهند و آرائها : ثمّ ملك بعده بلهيت ، وصنعت في أيامّه الشطرنج ، فقضى بلعبها على النرد ، وبيّن الظفر الذي يناله الحازم ، والبليّة التي تلحق الجاهل ، وحسب حسابها ، ورتّب لذلك كتاباً للهند يعرف بطرق جنکا ، يتداولونه بينهم ، ولعب بالشطرنج مع حكمائها ، وجعلها مصوّرة تماثيل مشكلة على صور الناطقين وغيرهم ، من الحيوان مما ليس بناطق ، وجعلهم درجات و مراتب ، ومثّل الشاه بالمدبّر الرئيس إلى آخر ما ذكره(1).

ومن ذلك يظهر وجه إطلاق الوثن على الشطرنج ، فهو قذر مستقذر ، ينبغي النفرة عنه ، وعلى هذا فتفسير الوثن به في الروايات بأنّه المراد في الآية ، أو أنّه من مصادیقه ، هو الذي يناسب تعلّق الاجتناب به ، ولو كان المراد عدم استقذار الإنسان بسبب التعلّق بالصنم لقيل : لا ترجسوا من الأوثان ، أي : بعبادتكم لها.

ويؤيّد المعنى المذكور في الروايات من أنّ الرجس هو الشطرنج أنّ السورة التي وردت فيها الآية الشريفة - بناءً على ما في المصاحف المطبوعة - مدنيّة ، وفيها بیان الأحكام للمؤمنين ، والنهي عن عبادة الأصنام لا يتوجّه إلى الموحّدين ، فإنّها

ص: 211


1- مروج الذهب 1: 96.

مرحلة تجاوزوها بإيمانهم بالله تعالى ورسوله صلی الله و علیه وآله وسلم .

وأمّا ما ذكره العامّة في تفسير الآية ، فلا يساعده المعنى اللغوي ، ولا يناسب الخطاب إلى المؤمنين.

قال الطبري في تفسيره : وقوله «فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ »يقول : فاتّقوا عبادة الأوثان وطاعة الشيطان ، فإنّها رجس - إلى أن قال : - ويجوز أن يكون مراد به : اجتبنوا أن ترجموا أنتم أيّها الناس من الأوثان بعبادتكم إيّاها(1)انتهى.

وقال النيشابوري في تفسيره : والرجس العمل القبيح ، والقبيح في الغاية (2) انتهی .

وذلك لأنّ الرجس عبارة عن ذات مستقذرة و « من الأوثان » يكون بياناً له

أو تبعيضاً ، أي : بعض الرجس وهو الأوثان .

وتوجيه ما ذكراه - بأن يكون الرجس مصدراً ، أو يكون المعنى اجتنبوا أن ترجسوا من الأوثان ، أي : بسبب عبادتها - بلا وجه.

وأمّا قوله تعالى «وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ» ، فقد فسّرته الأخبار بالغناء - كما تقدّم - وظاهرها أنّ معناه المراد هنا الغناء فقط ، ولا ريب في أنّ الغناء من صفات الصوت لا مضمون الكلام ، فلو كان مضمون الشعر الذي يتغنّى به ممّا يباع التكلّم به بغير غناء ، ولكن غنّى به في مجلس اللهو ، لما كان ريب في كونه غناءً.

فالغناء مفهومه أوضح من قول الزور، وإلّا لم يصح تفسيره بالمجمل ، ولا يحمل مفهوم القول على الغناء ، فلا يقال بأن الغناء بحسب الأخبار من مقولة المعني؛ الوضوح بطلانه .

وقد يخدش في الاستدلال بهذه الروايات بظهورها في أنّ الغناء من مقولة الكلام

ص: 212


1- جامع البيان للطبري 7: 112.
2- تفسير النيشابوري المطبوع على هامش جامع البيان للطبري 17 : 86.

التفسير قول الزور به .

وفيه أنّ وضوح کون الغناء من صفات الصوت يقتضي أن يكون المراد من قول الزور هو الكلام الذي له ظاهر حسن ، ولا ينطبق إلّا على الغناء، فإنّه عبارة عن الميل عن الحقّ لا من حيث المعنى بل من حيث الصوت : لأنّ معاني الأشعار التي يتغنّى بها تختلف ، فبعضها معان ليست بحرام ، وبعضها معان توجب الحزن ، وبعضها معان توجب شدّة الفرح.

ولم يتعارف التغنّي بصوت لا لفظ فيه ، أو بألفاظ لا معنى لها ، وإلّا فلو فرض أنّه تغنّى بألفاظ مهملة بما يناسب الطرب واللهو كان غناءً ، ولتحقيق مفهوم الغناء محلّ آخر .

الآية الثانية : قوله تعالى « يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ»(1)

الآية الثالثة : قوله تعالى «يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ۖ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا»(2)

وقد فسّرت الأخبار الميسر - في كلتا الآيتين - بالشطرنج ، وهي :

الأوّل : ما رواه في الكافي ، عن محمّد بن يحيى ، عن أحمد بن محمّد ، عن معمّر بن خلاد ، عن أبي الحسن ، قَالَ : النَّرْدُ وَ الشِّطْرَنْجُ وَ الْأَرْبَعَةَ عَشَرَ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَكَّلَ مَا قُومِرَ عَلَيْهِ فَهُوَ مُیَّسَر(3).

الثاني : ما رواه أيضاً في الكافي ، عن عدِة من أصحابنا ، عن سهل بن زیاد ، عن أبن أبي نجران ، عن مثنى الحنّاط ، عن أبي بصير ، عن أبي عبد الله علیه السلام قال : قال

ص: 213


1- المائدة : 90.
2- البقرة : 219.
3- فروع الكاني 6: 435 ع 1، جامع أحاديث الشيعة 212:17 ب 23ح 20 .

أمير المؤمنين علیه السلام : الشِّطْرَنْجُ وَ النَّرْدِ هُمَا الْمَيْسِرُ (1).

الثالث : ما رواه أيضاً في الكافي ، عن محمّد بن يحيى ، عن أحمد بن محمّد ، عن محمُد بن سنان ، عن عبد الملك القمي ، قال : كنت أنا وإدريس أخي عند أبي عبد الله علیه السلام فقال إدريس : جعلنا الله فداك ما الميسر ؟ فقال أبو عبد الله علیه السلام : هي الشطرنج، قال : فقلت : أمّا إنّهم يقولون : إنّها النرد ، قال : والنرد أيضا(2).

الرابع : ما رواه في الكافي عن سهل (3)، عن محمّد بن عيسى ، عن يونس ، عن أبي أيوب ، عن عبد الله بن جندب ، عمن أخبره ، عن أبي عبد الله علیه السلام قَالَ : الشِّطْرَنْجُ میسر وَ النَّرْدِ میسر (4).

ورواه العياشي في تفسيره ، عن عبد الله بن جندب (5)

الخامس : ما في تفسير علي بن إبراهيم ، قال : في رواية أبي الجارود، عن أبي جعفر علیه السلام في قوله «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ» أمّا الخمر فكلّ مسكر من الشراب خمر - إلى أن قال : - وأمّا الميسر فكالفرد و الشطرنج ، وكلّ قمار میسر . وأمّا الأتصاب فالأوثان التي كانوا يعبدونها المشركون . وأمّا الأزلام(6) فالأقداح (7)التي كانت تستقسم بها مشركوا العرب في

ص: 214


1- فروع الكاني 6: 435 ح 3، جامع أحاديث الشيعة212:17 ب 23 ح 17.
2- فروع الكافي 6: 436 ح 8، جامع أحاديث الشيعة 17 : 212 ب23 ح 19.
3- الحديث معلّق على سابقه ، أي : عدّة من أصحابنا ، عن سهل.
4- فروع الكافي 6: 437 ح 11، جامع أحاديث الشيعة 210:17 ب 23ح 6.
5- تفسير العياشي 1: 341ح 185.
6- الأزلام جمع زلم . قال في المصباح المنير : كانت العرب في الجاهليّة تكتب عليها الأمر والنهي وتضعهافي وعاء ، فإذا أراد أحدهم أمرأ أدخل يده وأخرج قدحاً، فإن خرج ما فيه الأمر مضئ لقصده ، وإن خرج ما فيه النهي كفّ.
7- قال في المصباح المنير : القدح بالكسر اسم السهم قبل أن براش و یرکب نصلیه انتهى وقال في بعض كتب اللغة : الميسر كلّ قمار . اللعب بالقداح . الجزر و التي كانوا يتقامرون عليها ، وذلك أنّهم كانوا ينحرون الجزور ويقسّمونها ثمانية وعشرين قسماً ، أو عشرة أقسام ، ثمّ يضربون بالقداح وفيها الرابع والعقل ، فمن خرج له قدح رابح فازوأخذ نصيبه من الجزور، ومن خرج له العقل غرم ثمنها .

اللجاهلية ، كُلُّ هَذَا بَيْعُهُ وَ شِرَاهُ وَ الِانْتِفَاعُ بِشَيْ ءٍ مِنْ هَذَا حَرَامُ مِنَ اللَّهِ مُحَرَّمُ ، وَ هُوَ رِجْسُ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ ، فَقَرَنَ اللَّهُ الْخَمْرَ وَ الْمَيْسِرَ مَعَ الْأَوْثَانِ(1).

والظاهر أنّ المراد بقوله علیه السلام « وَكَّلَ قِمَارٍ میسر» الآلات التي يقامر بها ، بقرينة إطلاق الرجس على الميسر ، وبقرينة قوله علیه السلام «كل هذا بيعه وشراه والانتفاع بشيء من هذا حرام ».

السادس : ما في تفسير العيّاشي عن اسماعيل الجعفي ، عن أبي جعفر علیه السلام قال :الشطرنج والنرد میسر(2).

السابع : ما رواه في تفسير العيّاشي ، عن الحسين ، عن موسى بن القاسم البجلي ، عن محمّد بن علي بن جعفر بن محمّد ، عن أبيه ، عن أخيه موسى ، عن أبيه جعفر علیه السلام قَالَ : الْفَرْدُ وَ الشِّطْرَنْجُ مِنَ الْمَيْسِرِ(3).

الثامن : ما رواه أيضا في تفسير العيّاشي ، عن أبي الحسن الرضا علیه السلام قال : سمعته يَقُولُ : إِنَّ الشِّطْرَنْجَ وَ الْبَرْدِ وَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ وَكَّلَ مَا قُومِرَ عَلَيْهِ مِنْهَا نهو مَيْسِرُ (4) .

لعلّ المراد بقوله علیه السلام « مَا قُومِرَ عَلَيْهِ » الآلة التي يقامر بها ، بقرينة العطف ، فكلّ آلة قومر بها فهي میسر ، وليس المراد به المال الذي يقمر عليه ، وهو ظاهر .

ص: 215


1- تفسير القمّي 1: 180 ، جامع أحاديت الشيعة 210:17 ب 23 ح 5.
2- تفسير العياشي 1: 341ح 186 ، جامع أحاديث الشيعة 210:17 ب 23 ح 7.
3- تفسير العياشي 1: 106 ح 312، جامع أحاديث الشيعة 17 : 212 ب 23 ح 18.
4- تفسير العياشي 1: 339 ح 182 ، جامع أحاديث الشيعة 17 : 216 - 217 ب 23 ح 43.

التاسع : ما في فقه الرضا علیه السلام قال : اعلم أن الله تعالى قد نهى عن جميع القمار وأمر العباد بالإجتناب منها وسمّاها رجساً ، فقال : « رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ » مِثْلُ اللَّعْبِ بِالشِّطْرَنْجِ وَ النَّرْدِ وَغَيْرُهُ مِنَ الْقِمَارِ وَ النَّرْدُ أَشَرُّ ( أَشَدُّ - خ ) مِنَ الشِّطْرَنْجُ ، فَإِنَّ اتِّخَاذَهَا كُفْرُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ ، وَ اللَّعِبُ بِهَا شِرْكُ ، وَ تقلابها كَبِيرَةُ مُوبِقَةُ ، وَ السَّلَامُ عَلَى اللَّاهِي بِهَا كفرومقلبها كَالنَّاظِرِ إِلَى فَرْجِ أُمِّهِ ، وَ اللَّاعِبُ بِالنَّرْدِ كَمَثَلِ الَّذِي يَأْكُلُ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ ، وَ مَثَلَ الَّذِي يَلْعَبُ بِهَا مِنْ غَيْرِ قِمَارٍ مَثَلُ الَّذِي يَضَعُ يَدَهُ فِي الدَّمِ وَ لَحْمِ الْخِنْزِيرِ ، وَ مَثَلُ الَّذِي يَلْعَبُ فِي شَيْ ءٍ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ كَمَثَلِ الَّذِي مُصِرُّ عَلَى الْفَرْجِ الْحَرَامِ .

وَ اتَّقِ اللَّعْبَ بِالْخَوَاتِيمِ وَ الْأَرْبَعَةَ عَشَرَ ، وَكَّلَ قِمَارُ حَتَّى لَعِبُ الصِّبْيَانِ بِالْجَوْزِ وَ اللَّوْزِ وَ الْكِعَابِ ، وَ إِيَّاكَ وَ الضَّرْبَةُ بالصولجان ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَرْكُضُ مَعَكَ . وَ الْمَلَائِكَةُ تَنْفُرُ عَنْكَ ، وَ مَنْ عَثَرَ دَابَّتُهُ فَمَاتَ دَخَلَ النَّارَ(1).

والميسر - كما في مقاييس اللغة - : القمار(2). وهو في المصباح المنير : مثال مسجد قار العرب بالأزلام(3) .

الآية الرابعة : قوله تعالى «وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ*إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَٰذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ»(4)

وقد ورد تفسير التماثيل بالشطرنج في خبرين :

الأوّل : ما في جامع الأخبار ، قال : روى عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلی الله و علیه وآله وسلم

ص: 216


1- فقه الرضا علیه السلام ص 284، جامع أحاديث الشيعة 17 : 215 - 216ب 23 ح 40.
2- مقاییس اللغة 6: 156.
3- المصباح المنير ص 681.
4- الأنبياء : 51 - 52.

مرّ بقوم يلعبون بالشطرنج ،قَالَ : مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (1).

ورواه في العوالي (2) .

الثاني : ما رواه الشيخ أبو الفتوح في تفسيره عن أمير المؤمنين علیه السلام أنّه مرّ بقوم يلعبون بالشطرنج ، فقال : ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون ، وأخذ قدراً من التراب وطرحه فيه (3).

أقول : مورد الآية الأصنام التي كانوا يعبدونها ، لكن الآية قابلة للانطباق على الشطرنج.

الآية الخامسة : قوله تعالي «وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا»(4).

روى في الدعائم عن جعفر بن محمّد علي أنّه سئل عن قول الله عزّوجلّ «َالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا» قال : من ذلك الغناء والشطرنج(5).

السادسة : الآيات التي ورد فيها ذمّ الباطل ومن اتّبعه ، وهي قوله تعالى « وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ*لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ»(6)

وقوله تعالى « ذَٰلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ-

ص: 217


1- جامع أحاديث الشيعة 210:17 ح 8 عن المستدرك 13: 222 عن جامع الأخبار .
2- جامع أحاديث الشيعة 210:17 ب 23 ح 8 عن العوالي.
3- جامع أحاديث الشيعة 17: 210ب23ح 9 عن المستدرك 13: 223 عن التفسير.
4- الفرقان : 72.
5- دعائم الإسلام 208:2 ، جامع أحادیث الشيعة 17 : 186ح 9ب 19.
6- الأنفال : 7 - 8.

مِنْ رَبِّهِمْ ۚ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ (1).

وقوله تعالى«وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ*لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ*بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ ۚ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ»(2)

وقد جعل الشطرنج في بعض الأخبار مصداقاً للباطل ، و هي :

الأوّل : ما رواه في الكافي ، عن عدّة من أصحابنا ، عن سهل بن زیاد ، عن محمّد بن عيسى ، عن عبد الله بن عاصم ، عن علي بن إسماعيل الميئمي ، عن ربعي بن عبد الله ، عن الفضيل ، قَالَ : سَأَلْتُ أَبَا جَعْفَرٍ علیه السلام عَنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي يَلْعَبُ بِهَا النَّاسُ النَّرْدِ وَ الشِّطْرَنْجِ حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَى السُّدَّرِ ، فَقَالَ : إِذَا مَيَّزَ اللَّهُ بَيْنَ الْحَقِّ وَ الْبَاطِلِ فِي أَنَّهَا يَكُونُ ؟ قِلَّةُ : مَعَ الْبَاطِلِ ، قَالَ : فمالك وَ لِلْبَاطِلِ (3) .

فإن قيل : لا ملازمة بين البطلان والحرمة.

قلت : الحقّ المطلق في مقابل الباطل المطلق هو الحرام ؛ لأنّ المكروه والجائز لیسا باطلين ، مع أنّ معنى هذا الخبر يتّضح بعد ضمّه إلى سائر الأخبار الواردة بهذا المضمون.

الثاني : ما رواه في الكافي أيضاً ، عن علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن حفص بن البختري ، عمّن ذكره ، عن أبي عبد الله علیه السلام قال : الشطرنج من الباطل(4).

الثالث : ما رواه في الكافي أيضاً ، عن محمّد بن يحيى ، عن أحمد بن محمّد ، عن ابن

ص: 218


1- محمد صلی الله و علیه وآله وسلم: 3.
2- الأنبياء : 11 - 18.
3- فروع الكاني 6: 436 ح 9.
4- فروع الكافي 1: 435 ع 4، جامع أحاديث الشيعة 17 : 211ب 23ح 12.

فضال ، عن علي بن عقبة ، عن ابن بكير ، عن زرارة، عن أبي عبد الله علیه السلام أنّه سئل عن الشطرنج ، وعن لعبة شبيب التي يقال لها : لعبة الأمير ، وعن لعبة الثلاث ، فقال : أرأيتك إذا ميز الله الحقّ من الباطل مع أنّها یکون ؟ قال : قلت : مع الباطل ، قال : فلا خير فيه(1).

فإن قيل : نفي الخير أعمّ من الحرمة والكراهة .

قلت : الذي « لَا خَيْرَ فِيهِ » بقول مطلق هو الحرام ؛ لأن المكروه والجائز فيها بعض الخير.

الرابع : ما رواه في تفسير العيّاشي ، عن حمدويه ، عن يعقوب بن يزيد ، عن بعض أصحابنا ، قَالَ : سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام عَنِ اللَّعِبِ بِالشِّطْرَنْجِ ، فَقَالَ : الشِّطْرَنْجُ مِنَ الْبَاطِلِ (2).

الأخبار الواردة في حرمة الشطرنج

وأمّا الأخبار الواردة في الشطرنج ، فهي :

الأوّل : ما رواه في الكافي ، عن علي بن إبراهيم ، عن هارون بن مسلم، عن مسعدة بن زیاد ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام انْهَ سُئِلَ عَنِ الشِّطْرَنْجُ ، فَقَالَ : دَعُوا الْمَجُوسِيَّةَ لِأَهْلِهَا لَعَنَهُ الله (3).

قوله علیه السلام « المجوسيّة » هي اللعب بالشطرنج مطلقاً.

والخبر من حيث السند صحيح . وأمّا من حيث الدلالة فإنّه أمر لا بترك اللعب به ، سواء كان على رهان أو لحذق أو للهو ، وجعله من فعل المجوس ، بل نعّت

ص: 219


1- فروع الكافي 6: 436 ح 6، جامع أحاديث الشيعة 211:17 ب 23 ح 14.
2- تفسير العياشي 2: 315، جامع أحاديث الشيعة 17 : 211 ب23ح 13.
3- فروع الكافي 1: 437ح 13 ، جامع أحاديث الشيعة 17 : 211ب 23 ح 11.

الشطرنج بالمجوسيّة ولعنها .

الثاني : ما رواه في الكافي أيضاً ، عن علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن النوفلي ، عن السكوني ، عن أبي عبد الله علیه السلام قال : نهى رسول الله صلی الله و علیه وآله وسلم عن اللعب بالشطرنج والنرد(1).

وإطلاق اللعب شامل لجميع أغراضه ، أي : سواء كان من أجل الله أو الحذق أو الظفر برهان .

الثالث : ما رواه في معاني الأخبار ، قال : أبي رحمة الله قال : حدّثنا سعد بن عبد الله ،عن يعقوب بن يزيد ، عن الحسن بن محبوب ، عن خالد بن جریر ، عن أبي الربيع الشامي ، عن أبي عبد الله علیه السلام، قَالَ : سُئِلَ عَنِ النَّرْدُ وَ الشِّطْرَنْجُ ، قَالَ : لَا تَقِرُّ بِهِمَا ، قِلَّةُ : فَالْغِنَاءُ ؟ قَالَ : لا خَيْرَ فِيهِ لَا تَفْعَلُوا (2) ، قِلَّةُ : فَالنَّبِيذُ ؟ قَالَ : نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلی الله و علیه وآله وسلم عَنْ كُلِّ مُسْكِرٍ ، وَكَّلَ مُسْكِرٍ حَرَامُ ، قلت : فَالظُّرُوفُ الَّتِي يُصْنَعُ فِيهَا ؟ قَالَ : نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلی الله و علیه وآله وسلم عَنِ الدُّبَّاءِ وَ المُزَفَّتِ وَ الْحَنْتَمِ وَ النَّقِيرِ ، قلت : وَ مَا ذَاكَ ؟ قَالَ : الدُّبَّاءُ الْقَرْعُ ، وَ المُزَفَّتُ الدِّنَانُ ، وَ الْحَنْتَمُ جِرَارُ الْأُرْدُنِّ ، وَ يُقَالُ : أَنَّهَا الْجِرَارُ الْخُضْرُ ، وَ النَّقِيرُ خَشَبُ كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَنْقُرُونَهَا حَتَّى يَصِيرَ لَهَا أَجْوَافُ يَنْبِذُونَ فِيهَا(3).

. ونقله في الوسائل عن المعاني بسند آخر أيضاً ، وهو : محمّد بن موسی بن المتوكل، عن عبد الله بن جعفر الحميري ، عن أحمد بن محمّد بن عيسى ، عن الحسن بن محبوب.

والنهي عن قربها مطلقا شامل لقربها لهوأ وللحذق وقمار برهان .

ص: 220


1- فروع الكافي 6: 437ح 17، جامع أحاديث الشيعة 209:17 ب 23 ح 1.
2- في الوسائل : لا تقربه.
3- معاني الأخبار ص 244، جامع أحاديث الشيعة 209:17 ب 23ح 2.

الرابع : ما رواه في الكافي ، عن علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن حمّاد بن عيسى ، قال : دخل رجل من البصرييّن على أبي الحسن الأول علیه السلام ، فَقَالَ لَهُ : جُعِلْتُ فِدَاكَ إِنِّي أَقْعُدُ مَعَ قَوْمٍ يَلْعَبُونَ بِالشِّطْرَنْجِ وَ لَسْتُ أَلْعَبُ بِهَا وَ لَكِنْ أَنْظُرُ ، فَقَالَ : مَالِكَ وَ لِمَجْلِسٍ لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَى أَهْلِهِ (1).

ولعلّ المراد أنّ في الجلوس مع قوم يلعبون به ابتعاداً عن رحمة الله تعالى ولطفه وعنايته ، وتعرّضاً لغضبه وسخطه.

الخامس : ما رواه في الكافي أيضاً ، عن سهل بن زیاد(2)، عن علي بن سعيد . عن سلمان الجعفري ، عن أبي الحسن الرضا علیه السلام ، قَالَ : الْمُطَّلِعُ فِي الشِّطْرَنْجِ الْمُطَّلِعُ فِي النَّارِ (3).

لعلّ المعنى أنّ العالم بكيفية اللعب بالشطرنج مثل من اطلّع كيف يقع في النار .

السادس : ما رواه في الكافي أيضاً، عن عدّة من أصحابنا ، عن سهل بن زیاد ،عن ابن محبوب ، عن ابن رئاب ، قال : دخلت على أبي عبد الله علیه السلام فقلت : جُعِلْتُ فِدَاكَ مَا تَقُولُ فِي الشِّطْرَنْجِ ؟ قَالَ : الْمُقَلِّبُ لَهَا كالقلّب لَحْمَ الْخِنْزِيرِ ، فَقُلْتُ : مَا عَلَى مَنْ قَلَّبَ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ ؟ قَالَ : يَغْسِلُ يَدَهُ(4).

لعلّ مقصود الإمام علیه السلام المقلب الذي يأخذ اللحم ويأكله ، لا مجرّد التقليب باليد لعدم الداعي إليه ، لكن الراوي حيث لم يعرف مقصود الإمام أجابه الإمام بأنّه يغسل يده ، وهو محمول على الرجحان : لأنّ الشطرنج إن كان مأخوذاً من غير عظام الكلب والخنزير والكافر ولم تصبه نجاسة أخري فهو طاهر .

ص: 221


1- فروع الكافي 6: 47ح 12، جامع أحاديث الشيعة 17 : 213 - 214 ح 29 .
2- والسند معلّق ، أي : عدّة من أصحابنا ، عن سهل بن زیاد.
3- فروع الكافي 6: 437 ح 16، جامع أحاديث الشيعة17: 214 ب 23 ح 30.
4- فروع الكافي 6: 437ح 15، جامع أحاديث الشيعة 17 : 214 ح 31.

فقد روى في التهذيب عن الحسين بن سعيد ، عن صفوان بن یحیی ، عن الحسين بن زرارة ، عن أبي عبد الله علیه السلام ، إلى أن قال : وقال : عظام الفيل يجعل شطرنجاً ، قال : لا بأس بمسّها الحديث (1).

السابع : ما رواه في الفقيه و عيون الأخبار ، قال : روى لنا عبد الواحد بن محمّد بن عبدوس النيسابوري العطار رضي الله عنه ، قال : حدّثنا علي بن محمّد بن قتيبة ، عن الفضل بن شاذان ، قال : سمعت الرضا علیه السلام يقول : لمّا حمل رأس الحسين بن علي عليهما السلام إلى الشام أمر يزيد لعنه الله فوضع ونصبت عليه مائدة ، فأقبل هو لعنه الله وأصحابه يأكلون ويشربون الفقّاع ، فلمّا فرغوا أمر بالرأس فوضع في طست تحت سريره وبسط عليه رقعة الشطرنج ، ومنلس یزید لعنه الله يلعب بالشطرنج ويذكر الحسين بن علي وأباه وجدّه علیهم السلام ويستهزيء بذكرهم ، فمتى قمر صاحبه تناول الفقّاع فشربه ثلاث مرات ، ثمّ صبّ فضلته على ما يلي الطست من الأرض .

فمن كان من شيعتنا فليتورّع عن شرب الفقّاع واللعب بالشطرنج ، ومن نظر إلى الفقّاع أو إلى الشطرنج فليذكر الحسين علیه السلام وليلعن یزید و آل زیاد ، يمحو الله عزّوجلّ بذلك ذنوبه ولو كانت بعدد النجوم (2) .

ولا حاجة في طريق الصدوق في الفقيه إلى إثبات وثاقة عبد الواحد؛ لأنّ الصدوق التزم في أوّل الفقيه بأنّه لا يورد في كتابه إلّا ما هو حجّة بينه وبين ربّه . وهذا لا يتحقّق إلّا بأنّ كان هذا الخبر صادراً عن الفضل : إمّا لشهرة كتابه عنده . بحيث لا يحتاج إلى الطريق ، وإمّا لوثاقة جميع رواة الخبر إلى الفضل ، وإمّا لوثاقة أوّل الطريق وهو عبد الواحد.

ص: 222


1- جامع أحاديث الشيعة 2: 98ب 9ح 2.
2- جامع أحاديث الشيعة 24: 236 ب 43 من أبواب الأشربة ح 13.

واعتمد عليه في روايته ؛ لاعتقاده فيه أنّه لا يروي إلّا ما يثق به ، وعلى جميع التقادير فلا حاجة إلى توثيق عبد الواحد.

مضافة إلى أنّه في عيون الأخبار بعد إیراد رواية من ثلاث طرق ، أحدها عبدالواحد ، قال عقيب ذلك : وحديث عبد الواحد بن محمّد بن عبدوس عندي

أصحّ انتهی .

وأمّا علي بن محمّد بن قتيبة ، فقال النجاشي في ترجمته : النيشابوري ، عليه اعتمد أبو عمرو الكشي في كتاب الرجال ، أبو الحسن ، صاحب الفضل بن شاذان ، وراوية كتبه ، له كتب الخ(1).

واعتمد عليه النجاشي في مدح محمّد بن عيسى بن عبيد .

قال : قال أبو عمرو : قال القتيبي كان الفضل بن شاذان رحمة الله يحب العبيدي ، ويثني عليه ويمدحه ، ويميل إليه ، ويقول : ليس في أقرانه مثله . وبحسبك هذا الثناء من الفضل (2)انتهى.

فإنّ جملة « بحسبك » ليس موجوداً في الكشي الذي بأيدينا ، فلعلّه من كلام النجاشي .

وقال في ترجمة يونس بن عبد الرحمن : قال أبو عمرو الكشي ، ثمّ حكئ عنه خبرة بسند فيه القتيبي مدحاً ليونس . ثمّ قال : وهذه منزلة عظيمة(3)انتهى.

والظاهر أنّه لا ينبغي الشكّ في أنّ لعب بزید مع أصحابه - ممّن هم دونه - لم يكن على رهان من مال أو إمارة أو امرأة ، بل كان لمجّرد اللهو ؛ لأنّ اللعب بالشطرنج من لعب الأمراء والرؤساء من أهل الضلال - على ما قيل - قد استحسنوا اللعب به

ص: 223


1- رجال النجاشي ص 259 برقم : 678.
2- رجال النجاشي ص 334 برقم: 896.
3- رجال النجاشي ص 446 - 447 برقم : 1208.

وبالنرد ، فلعبوا بهما ، أو لعب بهما في محضرهم.

قال في مروج الذهب : وكان الرشيد أوّل من لعب بالشطرنج من خلفاءبني العبّاس وبالنرد ، وقدّم اللّعّاب ، وأجري عليهم الرزق(1).

وقال أيضاً : وذكر أنّ الراضي رأي في بعض متنزّهاته بالثریّا بستاناً؛ مونقاً وزهراً رائقاً ، فقال لمن حضر من ندمانه : هل رأيتم أحسن من هذا ؟ فكلّ قال أشياء ذهب فيها إلى مدحه ووصف محاسنه ، وانّها لا يفي بها شيء من زهرات الدنيا، فقال : لعب الصولي بالشطرنج والله أحسن من هذا الزهر ومن كلّ ما تصفون(2) انتهي .

قوله علیه السلام « قمر صاحبه »، أي : غلبه في القمار . ويظهر من كلام بعض اللغويّين أنّ القمار المغالبة برهان ، لكن يمكن أن يكون الاستعمال في مطلق اللعب بألات القمار قماراٌ وإن لم يكن برهان .

قال في تهذيب اللغة : وكان القمار مأخوذة من الخداع ، يقال : قامره بالخداع فقره (3) انتهي.

وعن الجوهري في صحاح اللغة : قرت الرجل أقره - بالكسر - قمرأ إذا لاعبته فيه فغلبته ، وقامرته فقمرته أقره - بالضمّ - قمراً ، إذا فاخرته فيه فغلبته ، و تقمّر الرجل غلب من يقامره(4) انتهى .

وقال الراغب في المفردات : سمّي القمر بذلك ؛ لأنّه يقمر ضوء الكواكب ويفوز به

ص: 224


1- مروج الذهب 4: 225.
2- مروج الذهب 4: 232.
3- تهذيب اللغة 13 : 148.
4- صحاح اللغة 2: 799.

وقرت فلاناً كذا خدعته عنه(1).

قوله علیه السلام« فليتورّع » أمر يدلّ على وجوب التورّع، والورع لغة : الكفّ والانقباض.

قوله علیه السلام « واللعب بالشطرنج » يشمل اللعب بها مطلقاً ، أي : سواء كان للهو أو للحذق أو للظفر بالرهان .

الثامن : ما رواه في الكافي ، عن محمّد بن يحيى ، عن محمّد بن موسى ، عن أحمد بن الحسن بن علي ، عن أبيه، عن علي بن عقبة ، عن موسى بن أكيل النميري ، عن العلاء بن سیّابة ، قَالَ : سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام يَقُولُ : لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ صَاحِبِ النَّرْدِ وَ الْأَرْبَعَةَ عَشَرَ ، وَ صَاحِبُ الشَّاهَيْنِ ، يَقُولُ : لَا وَ اللَّهِ وېلي وَ اللَّهِ مَاتَ وَ اللَّهِ شَاهُ وَ قُتِلَ وَ اللَّهِ شَاهُ ، وَ مَا مَاتَ وَ لَا قُتِلَ (2).

التاسع : ما رواه في الكافي أيضاً ، عن عدّة من أصحابنا ، عن سهل، عن محمّد بن عيسى ، عن يونس ، عن الحسين بن عمر بن یزید ، عن أبي عبد الله علیه السلام، قَالَ : يَغْفِرُ اللَّهُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ إِلَّا ثَلَاثَةً : صَاحِبُ مُسْكِرٍ ، أَوْ صَاحِبَ شَاهَيْنِ ، أَوْ مشاح (3).

العاشر : ما رواه في الكافي أيضاً ، عن ابن أبي عمير(4) ، عن محمًد بن الحكم أخي هشام بن الحكم ، عن عمر بن یزید ، عن أبي عبد الله علیه السلام، قَالَ : إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ عُتَقَاءَ مِنَ النَّارِ إِلَّا مَنْ أَفْطَرَ عَلَى مُسْكِرٍ ، أَوْ مُشَاحِنٍ ،

ص: 225


1- المفردات للراغب ص 428
2- وسائل الشيعة 18 : 279ب33 ح 1.
3- جامع أحاديث الشيعة 9: 7ب 1 من أبواب فضل شهر رمضان وجملة من أحكامه ح9.
4- وهو في الكافي معلّق ، أي : علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير . ورواه في التهذيب عن الحسين بن سعيد ، عن ابن أبي عمير الخ.

أَوْ صَاحِبَ شَاهَيْنِ ، قَالَ : قِلَّةُ : وَ أَيُّ شَيْ ءٍ صَاحِبُ شَاهَيْنِ ؟ قَالَ : الشِّطْرَنْجُ .

ورواه الصدوق رحمة الله في ثواب الأعمال ، قال : أبي ؛ قال : حدّثنا سعد بن عبد الله، قال : حدثنا أحمد بن محمّد بن عيسى ، عن الحسين بن سعيد ، عن محمّد بن أبي عمير وذكر مثله سنداً و متناً(1).

وقال في مجمع الفائدة والبرهان بعد إيراد هذه الرواية : وهذه موجودة في الفقيه أيضاً وبطرق متعدّدة في الكتب(2).

قوله علیه السلام « أو صاحب شاهين » إطلاقه يشمل المصاحبة معه مطلقاً ، سواء كان اللعب من أجل الرهان ، أو للهو ، أو للحذق ، ومقتضى إطلاقه عدم عتقه من النّار وإن كان سائر أعماله صحيحة ، فإنّه ما لم يتب يعاقب عليه.

الحادي عشر : ما رواه ابن إدريس في مستطرفات السرائر عن جامع البزنطي عن أبي بصير ، عن أبي عبد الله علیه السلام، قَالَ : بَيْعُ الشِّطْرَنْجِ حَرَامُ ، وَ أَكْلُ ثَمَنِهِ سُحْتُ ، وَ اتِّخَاذُهَا كَفَرَ ، وَ اللَّعِبُ بِهَا شِرْكُ ، وَ السَّلَامُ عَلَى اللَّاهِي بِهَا مَعْصِيَةُ وَ كَبِيرَةُ مُوبِقَةُ ، وَ الْحَائِضِ يذه فِيهَا كَالْحَائِضِ يَدَهُ فِي لَحْمِ الْخِنْزِيرِ ، وَ لَا صَلَاةَ لَهُ حَتَّى يَغْسِلَ يَدَهُ کها يَغْسِلُهَا مِنْ مَسِّ لَحْمِ الْخِنْزِيرِ ، وَ النَّاظِرُ إِلَيْهَا كَالنَّاظِرِ فِي فَرْجِ أُمِّهِ ، وَ اللَّاهِي بِهَا وَ النَّاظِرُ إِلَيْهَا فِي حَالِ مَا يُلْهِي بِهَا ، وَ السَّلَامُ عَلَى اللَّاهِي بِهَا فِي حَالَتِهِ تِلْكَ فِي الْإِثْمِ سَوَاءُ ، وَ مَنْ جَلَسَ عَلَى اللَّعِبِ بِهَا فَقَدْ تَبَوَّأَ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ ، وَ كَانَ عَيْشُهُ ذَلِكَ حَسْرَةً عَلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَ إِيَّاكَ وَ مُجَالَسَةَ اللَّاهِي الْمَغْرُورِ بِلَعِبِهَا ، فَإِنَّهُ مِنَ الْمَجَالِسِ الَّتِي قَدْ بَاءَ أَهْلُهَا بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ يَتَوَقَّعُونَهُ كُلِّ سَاعَةٍ فيعتك مَعَهُمْ (3) .

وفي الجواهر حمل هذا الخبر على المبالغة ، قال : إذ لا ريب في إرادتها من الحكم

ص: 226


1- جامع أحاديث الشيعة 9: 7ب اح 10.
2- مجمع الفائدة والبرهان 8: 43.
3- جامع أحادیث الشيعة 17 : 214 به 23 ح 33 عنه .

بنجاسة اليد ، وبطلان الصلیاة بدون الغسل والكفر والشرك ، بل واطلاق المعصية في السلام والنظر والجلوس ، وإن عمل به بعض الناس في الأخير، إلّا أنّه كا ترى ما لم ترجع إلى إعانة أو ترك بالمعروف أو نحو ذلك ممّا يندرج في أحد المحرّمات . نعم لا يبعد القول بحرمة الجلوس في مجالس المنكر ما لم يكن للرّد أو للضرورة(1) .

أقول : وفي هذا الخبر مطالب يتضح المراد بها لمن يراجع تاريخ حدوث الترد والشطرنج ، وما كانوا يعتقدون في ذلك ، وقد ذكر بعضها السعودي في مروج الذهب.

قال : وذكر بعض أهل النظر من الإسلامييّن أنّ واضع الشطرنج کان عدلياً مستطيعاً فما يفعل ، وأنّ واضع النرد کان مجبرّاً ، فتبيّن باللعب بها أنّه لا صنع له فيها ، بل تصرفه فيها على ما يوجبه القدر عليه بها(2)انتهي.

ولا يخفى أنّ النهي عن اللعب بها لا يتقيّد بالاعتقاد فيها ، بل النهي متعلّق بمجرّداللعب بها ، كما كان بعض أمراء الجور يلعبون بها، أو يلعب بحضرتهم.

وأمّا قوله علیه السلام « والسلام على اللاهي بها في حالته تلك في الإثم سواء » فيدلّ عليه : ما رواه في الخصال ، بسنده إلى محمّد بن يحيى بن عمران الأشعري ، رفعه إلى أمير المؤمنين علیه السلام، قال : نهى رسول الله صلی الله و علیه وآله وسلم أن يسلم على أربعة : على السكران ، وعلى من يعمل التماثيل ، وعلى من يلعب بالنرد ، وعلى من يلعب بالأربعة عشر ، وأنا أزيدكم الخامسة : أنّهاكم أن تسلّموا على أصحاب الشطرنج (3).

وما رواه في الملخصال ، بسنده عن الأصبغ بن نباتة ، قال : سمعت علياً علیه السلام يقول :

ص: 227


1- جواهر الكلام 111:22.
2- مروج الذهب 4: 236.
3- جامع أحاديث الشيعة 15 : 585 ح 15.

ستّة لا ينبغي أن يسلّم عليهم ، وستّة لا ينبغي لهم أن يأموا، وستّة في هذه الأمّة من أخلاق قوم لوط . فأمّا الذين لا ينبغي أن يسلّم عليهم ، فاليهود والنصاري ، وأصحاب النرد والشطرنج ، وأصحاب الخمر والبربط والطنبور ، والمتفکّهون بسبّ الأمّهات ، والشعراء الحديث(1).

وما رواه في الخصال ، بسنده عن جعفر بن محمّد ، عن أبيه پغ ، قال : لا تسلّموا على اليهود ، ولا على النصارى ، ولا على المجوس ، ولا على عبدة الأوثان ، ولا على موائد شرب الخمر ، ولا على صاحب الشطرنج والنرد الحديث (2).

وظاهر النهي الحرمة.

الثاني عشر : ما رواه الصدوق رحمة الله في الفقيه والأمالي ، قال : حدّثنا حمزة بن محمّد بن أحمد بن جعفر بن محمّد بن زید بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب علیه السلام، قال : حدّثني أبو عبد الله عبد العزيز بن محمّد بن عيسى الأبهري ، قال : حدّثنا أبو عبد الله محمّد بن زكريّا الجوهري الغَلابي البصري ، قال : حدّثنا شعیب بن واقد ، قال : حدّثنا الحسين بن زید ، عن الصادق جعفر بن محمّد ، عن أبيه، عن آبائه ، عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب علیهم السلام، قال : نهی رسول الله صلی الله و علیه وآله وسلم - إلى أن قال : – وَ نَهَى عَنِ اللَّعِبِ بِالنَّرْدِ وَ الشِّطْرَنْجِ وَ الْكُوبَةِ وَ الْعَرْطَبَةِ ، وَ هِيَ ( الطَّبْلُ وَ - الْأَمَالِي ) الطُّنْبُورُ وَ الْعُودُ - إِلَى أَنْ قَالَ : - وَ نَهَى عَنْ بَيْعِ النَّرْدِ وَ الشِّطْرَنْجُ ، وَ قَالٍ : مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَهُوَ كَآكِلِ لَحْمِ الْخِنْزِيرِ (3).

الثالث عشر : ما رواه في الخصال ، عن أحمد بن محمّد بن يحيى العطار ، عن أبيه ،عن سهل بن زیاد ، قال : حدّثنا أبو نصر محمّد بن جعفر بن عقبة ، عن الحسن بن

ص: 228


1- جامع أحاديث الشيعة 15: 586ح 17. (
2- جامع أحاديث الشيعة 15: 586 ح 18.
3- الأمالي للصدوق ص 511ح 1 ، جامع أحاديث الشيعة 212:17 ب 23ح 22.

محمّد ابن اُخت أبي مالك ، عن عبد الله بن سنان ، عن عبد الواحد بن المختار ، قال : سألت أبا جعفر علیه السلام عن اللعب بالشطرنج ، فَقَالَ : إِنَّ الْمُؤْمِنَ الْمَشْغُولَ عَنِ اللَّعِبِ (1).

الرابع عشر : ما رواه في قرب الإسناد ، عن محمّد بن الوليد الخزّاز ، عن بكير ، قال : سألت أبا عبد الله علیه السلام عن اللعب بالشطرنج ، قال : فَقَالَ : إِنَّ الْمُؤْمِنَ الْمَشْغُولَ عَنِ اللَّعِبِ (2)

الخامس عشر : ما رواه في الفقيه ، قال : وفي حديث آخر قال : لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ الْمُرِيبِ وَ الْخَصْمِ وَ دَافِعِ مَغْرَمٍ ، أَوْ أَجِيرُ ، أَوْ شَرِيكٍ ، أَوْ مُتَّهَمٍ ، أَوْ تَابِعٍ [ بَايَعَ ] وَ لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ شَارِبِ الْخَمْرِ ، وَ لَا شَهَادَةُ اللَّاعِبِ بِالشِّطْرَنْجِ وَ النَّرْدِ ، وَ لَا شَهَادَةُ الْمُقَامِرِ(3).

السادس عشر : ما رواه القطب الراوندي في لبّ اللباب عن النبي صلی الله و علیه وآله وسلم أنّه قال :ملعون من جرّ اللعب بالاستريق يعني الشطرنج (4).

السابع عشر : ما رواه في تحف العقول عن الصادق علیه السلام إلى أن قال : وَ ذَلِكَ إِنَّمَا حَرَّمَ اللَّهُ الصِّنَاعَةَ الَّتِي حَرَامُ هِيَ كُلُّهَا الَّتِي يَجِي ءُ مِنْهَا الْفَسَادُ مَحْضاً ، نَظِيرَ الْبَرَابِطِ وَ الْمَزَامِيرِ ، وَ الشِّطْرَنْجُ ، وَكَّلَ مَلْهُوٍّ بِهِ ، وَ الصُّلْبَانِ ، وَ الْأَصْنَامُ ، وَ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ صِنَاعَاتِ الْأَشْرِبَةِ الْحَرَامِ ، وَ مَا يَكُونُ مِنْهُ وَ فِيهِ الْفَسَادُ مَحْضاً ، وَ لَا يَكُونُ فِيهِ وَ لَا مِنْهُ شَيْ ءُ مِنْ وُجُوهِ الصَّلَاحِ، فَحَرَامُ تَعْلِيمُهُ وَ تَعَلُّمُهُ وَ الْعَمَلُ بِهِ وَ أَخْذُ الاجرة عَلَيْهِ ، وَ جَمِيعُ التَّقَلُّبِ فِيهِ مِنْ جَمِيعِ وُجُوهِ الْحَرَكَاتِ كُلِّهَا إِلَّا أَنْ تَكُونَ صِنَاعَةً قَدْ تَنْصَرِفُ إِلَى جِهَاتِ الصَّنَائِعِ ، وَ إِنْ كَانَ قَدْ يُتَصَرَّفُ بِهَا وَ يُتَنَاوَلُ بِهَا وَجْهُ مِنْ وُجُوهِ الْمَعَاصِي ،

ص: 229


1- جامع أحاديث الشيعة 17 : 211 - 212 ح 16.
2- نفس المصدر .
3- وسائل الشيعة 18 : 279 کتاب الشهادات ب 22 ح 7.
4- جامع أحاديث الشيعة 210:17 ب23 ح 10 عن المستدرك 13 : 223 عنه .

فَلَعَلَّهُ لِمَا فِيهِ مِنَ الصَّلَاحِ حَلَّ تَعَلُّمُهُ وَ تَعْلِيمُهُ وَ الْعَمَلُ بِهِ ، وَ يَحْرُمُ عَلَى مَنْ صَرَفَهُ إِلَى غَيْرِ وَجْهِ الْحَقِّ وَ الصَّلَاحِ (1).

قوله علیه السلام « التي يجيء منها الفساد محضاً ، المراد الفساد بنظر الشارع ، وهي المفسدة التي توجب الحرمة ، ثمّ بين أمثلة لما ينحصر وجوده في الفساد محضاً ، فالمذكورات كلّها ليس فيها جهة من الصلیاح ، فهي حرام صنعها واللعب بها مطلقاً هو أكان أو حذقاً، وعلى رهان كان - وهو القمار - أو لا.

قوله علیه السلام « إلا أن تكون صناعة » أي : قد تكون صناعة لا يأتي منها الفساد محضاً ، بل هي مشتركة بين الصلیاح والفساد.

فما ذكر من أنّها لا تدلّ إلا على صدق الكبرى من حرمة التقلّب والتصرّف في كلّ ما يجيء منه الفساد محضاً ، وأمّا إحراز الصغرى فلابدّ وأن يثبّت من الخارج ، ومن الواضح أنّ كون الآلات المعدة للقمار كذلك أوّل الكلام ؛ إذ لو كان اللعب بها بدون مراهنة جائزاً لم تكن كذلك ، فلا يمكن إثبات الحرمة به ، فإنّه دور واضح انتهى - ليس في محلّه ، فإنّه جعل الأمور المذكورة مصداقاً لما يجيء منه الفساد محضاً تعبداً.

الثامن عشر : ما رواه الشيخ أبو الفتوح في تفسيره عن النبي صلی الله و علیه وآله وسلم أنّه قال :مَلْعُونُ مَنْ لَعِبَ بالاستريق يَعْنِي الشِّطْرَنْجَ ، وَ النَّاظِرُ إِلَيْهِ كَأَكْلِ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ .

وفي جامع الأخبار عنه صلی الله و علیه وآله وسلم مثله . وفي خبر آخر : النَّاظِرُ إِلَيْهِ كَالنَّاظِرِ إِلَى فَرْجِ أُمِّهِ (2).

التاسع عشر : ما رواه في العوالي ، قال : قال الصادق علیه السلام : اللاعب بالشطرنج

ص: 230


1- تحف العقول ص 335 - 336، جامع أحادیث الشيعة 17 : 149 - 150ب 1ح15.
2- جامع أحاديث الشيعة 17 : 214 ب 23ح 32.

مشرك ، والسلام على اللامي به معصية(1).

ثمّ إنّ اللعب بالشطرنج إن كان للحذق فقط ، فهو حرام بعنوان كونه لعباً بالشطرنج، للآيات والأخبار المذكورة . وإن كان اللعب من أجل الظفر بالرهان ، فمضافاً إلى حرمته من حيث هو لعب بالشطرنج ، يشمله أيضاً ما دلً على حرمة القمار .

وإن كان اللعب من أجل اللهو ، فمضافاً إلى أنّه حرام بعنوان اللعب بالشطرنج ،يشمله ما دلّ على حرمة اللهو ، كالخبر الذي رواه الصدوق في عيون الأخبار(2) .

وممّا يدلّ على ما ذكرنا أنّ الحرمة أمر مرکوز في الأذهان ، بل لا يبعد تسالهم عليها ، ولذا قدحوا في من كان يتعاطى اللعب به.

ويشهد له ما ذكره النجاشي في رجاله حيث قال : حفص بن البختري مولى ، بغداديّ ، أصلیه كوفيّ ، ثقة ، روى عن أبي عبد الله وأبي الحسن پغ، ذكره أبو العبّاس ، وإنّما كان بينه وبين آل أعين نبوة ، فغزوا عليه بلعب الشطرنج (3)انتهى .

فيظهر منه أنّ الشيعة كانوا يرون اللعب بها محرّماً مطلقاً وإن كان للحذق ، وإلّا كان يعتذر له بأنّه يلعب به لهذا الغرض ، وذلك يؤيّد مضمون هذه الأخبار المستفيضة .

كلمات الأعلام في حرمة الشطرنج

قال الشيخ المفيدة رحمة الله في المقنعة : وكلّ ما حرمه الله تعالى و حظّره على خلقه ، فلا يجوز الاكتساب به ولا التصرّف فيه ، فمن ذلك عمل الحمر في الصناعة وبيعها في

ص: 231


1- عوالي الليالي 2: 111، جامع أحاديث الشيعة 17: 214ح 34.
2- عيون الأخبار 2: 127.
3- رجال النجاشي ص 134 برقم : 344.

التجارة ، وعمل العيدان والطنابير وسائر الملاهي محرّم ، والتجارة فيه محظور، وعمل الأصنام والصلیبان والتماثيل المجسّمة والشطرنج والبرد وما أشبه ذلك حرام . وبيعه وابتياعه حرام(1).

وقال الشيخ الطوسي رحمة الله في النهاية ، فمن المحرّمات الخمر ... ، ومنها : عمل جميع أنواع الملاهي والتجارة فيها والتكسّب بها، مثل العيدان و الطنابير وغيرهما من أنواع الأباطيل محرّم محظور ، وعمل الأصنام والصلیبان والتماثيل المجسمة والصور والشطرنج والبرد وسائر أنواع القمار حتّى لعب الصبيان بالجوز ، فالتجارة فيها والتصرّف والتكسّب بها حرام محظور(2).

وقال سلّار رحمة الله في المراسم : والمعايش على ثلاثة أضرب : مباح ، ومكروه ، ومحرّم . فأمّا المحرّم ، فبيع كلّ غصب .. وبيع المسكرات من الأشربة و الفقّاع ، وعمل الملاهي والتجارات فيها ، وعمل الأصنام والصلیبان ، وكلّ آلة تظنّ الكفّار أنّها آلة عبادة لهم ، والتماثيل المجسّمة والشطرنج والنرد، وماأشبه ذلك من آلات اللعب والقمار وبيعه وابتياعه(3).

وقال الحلبي رحمة الله في الغنية : فأمّا المحظور على كلّ حال ، فهو كلّ محرّم من المأكل والمشارب .... و آلات الملاهي والزمر مثل الناي وجميع ما جرى مجراه والقصيب ، والشين وما جرى مجرى ذلك والحبال على اختلاف وجوهه وضروبه وآلاته والغناء وسائر التماثيل ، بجسّمة كانت أو غير مجسّمة ، والشطرنج والنرد وجميع ما خالف ذلك من سائر آلات القمار ، كالأربعة عشر وبيوت الروعات وما جرئ

ص: 232


1- المقنعة صي 587.
2- النهاية ص 363.
3- المراسم العلوية ص 172.

مجرى ذلك ، واللعب باللوز والجوز وما جرى مجرى ذلك (1).

وقال المقدّس الأردبيلي رحمة الله في بجمع الفائدة : الثاني ممّا يحرم بيعه والتكسّب به ما يحرم لتحريم ما يقصد به ، كالات اللهو ، مثل الدفوف والمزامير والعود وغيرها ، وكالات القمار . والقمار هو اللعب بالآلات المعدة له ، كالنرد والشطرنج حتّى اللعب بالخاتم والجوز والكعاب وکالأصنام والصلیبان (2) .

ثمّ إنّ الشيخ الأنصاري رحمة الله استدلّ على حرمة اللعب بالآت القمار بغیر رهان

بأمور :

منها : صدق القمار عليه ، وتنظّر فيه بأنّه يعتبر في صدقه الرهن ، واستعماله في اللعب بغير الرهن إن بني على دلالته على كونه حقيقة لا يوجب إجراء حكم القار القوة انصرافه إلى الغالب من وجود الرهن .

ومنها : إطلاق النهي عن اللعب بتلك الآلات ، وتنظّر فيه بالانصراف إلى المتعارف من ثبوت الرهن.

ومنها : رواية أبي الربيع الشامي ، عن الشطرنج والنرد ، قال : لا تقربوهما .ويبعد دعوى الانصراف فيها إلى اللعب برهن.

ومنها : ما في رواية تحف العقول ، من أنّ ما يجيء منه الفساد محضة لا يجوزالتقلب فيه من جميع وجوه الحركات .

ومنها : ما في تفسير علي بن إبراهيم ، عن أبي الجارود، عن أبي جعفر علیه السلام إلى أنّ قال : وأمّا الميسر فالنرد والشطرنج ، وكلّ قمار میسر. والمراد بالقمار الآلات.

ثمّ أيّد الحكم بأمور؛

منها : ما عن مجالس ولد شيخنا الطوسي رحمة الله بسنده عن أمير المؤمنين علیه السلام في

ص: 233


1- غنية النزوع الى علمي الأصول والفروع ص
2- مجمع الفائدة والبرهان 8: 41.

تفسير الميسر ، من أنّ ما ألهي عن ذكر الله فهو الميسر.

ومنها : رواية فضيل ، قال : سألت أبا جعفر علیه السلام عن هذه الأشياء التي يلعب بها الناس من النرد والشطرنج .. حتّى انتهيت إلى السدر ، قال : إذا ميّز الله الحقّ من الباطل مع أيهما يكون ؟ قلت : مع الباطل ، قال : ومالك والباطل .

ومنها : موثّق زرارة.

ومنها : رواية عبد الواحد بن مختار ، عن اللعب بالشطرنج ، قال : إنّ المؤمن المشغول عن اللعب (1).

قلت : لا وجه لدعوی انصراف النهي عن اللعب بالآلات المخصوصة إلى اللعب مع الرهن ، ولا سيما في مثل اللعب بالنرد والشطرنج اللذين يستحسنها أمراء الجور، ويلعبون بها بأنفسهم، أو يلعب بهما في محضرهم ، ولم يكن غرضهم تحصيل الرهن . بل ربّما كان الغرض فيه اللهو و تبيّن الحذق .

وأمّا ما في جامع المدارك من قوله : ويمكن أن يقال : أمّا رواية تحف العقول ، فيشكل شمولها لما نحن فيه ؛ لأنّ اللعب بدون الرهن يعدّ لغواً ، وشمول ما يجيء منه الفساد محضأ غير ظاهر ، إلّا أن يقال : غلبة أحد اللاعبين توجب عداوة المغلوب منها، وعدّ هذه فسادة منهيا عنه لا يخلو عن إشكال.

وأمّا رواية أبي الجارود فالمستفاد منها حرمة بيع آلات القمار ، ولا نفهم دلالتها على حرمة اللعب بدون الرهن . وأمّا ما عن أمير المؤمنين علیه الصلیاة والسلام، فلا يستفاد منه الحرمة ، وإلّا لزم حرمة كلّ أمر مباح الهي عن ذكر الله تعالى .

وأمّا رواية الفضيل والموثّقة ، فاستفادة المحرمة منها من جهة الطرفيّة مع الحقّ مشكلة ، ألا ترى أن اللغو لا يكون حقاً فهو يكون باطلاً ، ومع ذلك لا يكون محرماً،

ص: 234


1- المكاسب المحرمة 14: 372 الطبعة المحققة .

وكذلك تكلّم الإنسان بما لا يعنيه لا يكون حقاً ، فيكون باطلاً لا يعدً من المحرمات(1) انتهي .

ففيه أنّه قد تقدّم الكلام في دلالة خبر تحف العقول ، ودعوى أنّ اللعب بدون رهن لغو ممنوعة ؛ إذ الغرض من اللعب كما يكون للحذق كذلك يكون للهو ، على أنّه الو سلّم کونه لغوأ لكن هذا اللغو حرام شرعاً، وليس الفساد من جهة الغلبة ، لتحقّقها في المغالبة الجائزة ، كما في سباق الخيل والرماية .

وأمّا خبر أبي الجارود ، فهو صريح في أنّ الانتفاع بشيء من الآلات حرام محرّم من الله تعالى.

وأمّا روايتا فضيل وزرارة ، فإنّهما تدلّان على تعيين مصداق الحقّ والباطل . وأمّا حكمهما ، فهو مستفاد من الكتاب والأخبار ، وقد وردنظير ذلك في الغناء مع أنّه حرام .

روئ في الكافي ، عن عدّة من أصحابنا ، عن سهل بن زیاد ، عن علي بن الريّان ، عن يونس ، قال : سألت الخراساني علیه السلام وقلت : إنّ العبّاسي ذكر أنّك ترخص في الغناء ، فقال : كذب الزنديق ما هكذا قلت له ، سألني عن الغناء فقلت له : إنّ رجلاً أتي أبا جعفر علیه السلامفنسأله عن الغناء ، فقال : يا فلان إذا ميزّ الله بين الحقّ والباطل فأنّى يكون الغناء ؟ فقال : مع الباطل ، قال : قد حكمت(2).

وروى أيضاً في الكافي ، عن محمّد بن يحيى ، عن أحمد بن محمّد ، عن ابن فضال ، عن يونس بن يعقوب ، عن عبد الأعلى ، قال : سألت أبا عبد الله علیه السلام عن الغناء وقلت : إنّهم يزعمون أن رسول الله وصلی الله و علیه وآله وسلم رخص في أن يقال : جئناكم جئناكم حيّونا حيّونا نحييكم ، فقال : كذبوا إنّ الله عزوجل يقول : «وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ

ص: 235


1- جامع المدارك 3: 28.
2- فروع الكائي 1: 435.

وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ*لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ*بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ وَ لَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ»ثمّ قال:ویل لفلان ممّایصف رجل لم یحضر المجلس(1).

أقول : لعلّ هذه التعبيرات وشبهها عن الحرام إنّما صدرت عنهم علیهم السلام في مقام التقيّة ، بل قد يقتضي المقام عدم التصريح ، حتّى كانّ الجواب أجنبيّ عن السؤال .

كما في رواية الكافي ، عن محمّد بن يحيى ، عن أحمد بن محمّد بن عيسى ، عن موسی بن القاسم، عن محمّد بن على بن جعفر ، عن الرضا علیه السلام، قال : جاء رجل إلى أبي جعفر علیه السلام فقال : يا أبا جعفر ما تقول في الشطرنج التي يلعب بها الناس ، فقال : أخبرني أبي علي بن الحسين ، عن الحسينبن علیهم السلام ، عن أمير المؤمنين علیه السلام قال: قال رسول الله صلی الله و علیه وآله وسلم : من كان ناطقاً فكان منطقه لغير ذكر الله عزّوجلّ کان لاغياً، ومن كان صامتاً فكان صمته لغير ذكر الله كان ساهياً ثمّ سكت ، فقام الرجل وانصرف(2).

وقريب منه قوله علیه السلام في رواية الخصال وقرب الإسناد المتقدّمة « انَّ الْمُؤْمِنِ مَشْغُولُ عَنِ اللَّعِبِ » فلا يبعد أن يكون عدم التصريح بالحرمة إنّما هو مراعاة للتقيّة ، فإنّ مذاهب العامة على القول بالمحليّة.

قال القاضي نور الله التستري رحمة الله في كتاب إحقاق الحقّ : قال المصنّف رفع الله درجته : والعاشر قال أبو حنيفة ومالك : اللعب بالشطرنج غير حرام لكن يرد به الشهادة . وقال الشافعي : ليس بحرام ولا ترد به الشهادة . وقد خالفوا قول النبي صلی الله و علیه وآله وسلم حيث نهى عن اللعب بالشطرنج ، ومرّ بقوم يلعبون بالشطرنج ، فقال : ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون . شبّهها بالأصنام المعبودة . وقال : اللاعب

ص: 236


1- فروع الکافی 433:6 ح 12
2- فروع الكافي 6: 437 ح 14.

بالشطرنج من أكذب خلق الله يقول مات وما مات انتهى .

وقال الناصب خفضه الله أقول : اللعب بالشطرنج عند الشافعي مكروه وليس حرام بشرائط أربعة :

الأوّل : عدم إخراج الصلیاة من وقتها بواسطة الاشتغال به .

الثاني : أن يخلو عن القمار .

الثالث : أن لا يصبر سبباً للنزاع والكذب .

الرابع : أن لا تكون أسبابه مصوّرة بصور الحيوانات . فإن فقد شيء من هذه الشرائط صار حراماً . وذهب الغزالي من أصحاب الشافعي إلى إباحته . والدليل عليه أنّه من جملة اللعب المباح ، وقد لعب به الصحابة والتابعون .

وأمّا ما ذكر من نهي رسول الله صلی الله و علیه وآله وسلم عن اللعب بالشطرنج ، فهذا باطل وافتراء ؛ لأنّه لم يكن الشطرنج من ملاعب العرب ، ولم يكن في زمن رسول الله صلی الله و علیه وآله وسلم ، ولم يتقرّر له حكم في زمانه ، فلمّا اختلط العرب بالعجم في زمن عمر بن الخطّاب تعلّموا الشطرنج وسألوا عن حكمها عمر ، فقال : وما الشطرنج ؟ قالوا : إنّه شيء ينفع في تدبير الحرب ، فقال : ما كان من أمر الحرب فلا بأس به .

وما ذكر النبيّ صلی الله و علیه وآله وسلم على لاعبي الشطرنج وقراءة الآية عليهم فهو باطل ، بل إنّ أمير المؤمنين علي علیه السلام مرّ في الكوفة على قوم يلعبون به ، فقال هذا الكلام . ووجهّه الشافعي بأنّه لم يأمر بترکه ، ولو كان حراماً لكان يأمر بترکه . وقال بعضهم : إنّما قال ذلك لأن أسبابه كان على صور الحيوانات ، وقد مرّ أنّه حرام . واستدلّ بعض الأصحاب على إیاحته بأنّه لم يأمر بالترك.

وقال الغزالي : كان أبو هريرة وسعيد بن جبير من الحذّاق فيه حتى كانا يلعبانه استدباراً فلا يحرم انتهی .

وأقول : لا يخفى أنّ الشرائط التي اعتبرها الشافعي في حلّ اللعب بالشطرنج نظير

ص: 237

أن يعتبر في حلّ الخمر عدم إخراج الصلیاة عن وقتها بسبب الاشتغال به والغفلة الحاصلیة عنه ، وأن يخلو عن الشتم والقذف والهذيان والمنازعة مع الأصحاب ، وأن لا يستعمل على صورة كان يستعمله عليها المجوس والأعاجم في مجالسهم المشتملة على الجام والساقي ليضع فيه في الكوز أو الدن ويشرب ما شاء.

وكما يعتبر في حلّ الزنا عدم إخراج الصلیاة عن وقتها بسبب طول الاشتغال به ، وأن لا يصير سبباً لنزاع زوج الزانية معهما بأن يكون الزوج مثلاً ديوثاً راضياً بذلك، أو كان غائباً عن البيت التي يقع فيه الزنا لا يحضرهما في ذلك الوقت ، وأن لا يعطي أحدهما الآخر أجراً على الزنا لن يكون كالقمار وأكلاً للمال بالباطل ، وأن لا يباشر الزانية على صورة يباشرها زوجها ، بل يخترع صورة اُخرى بأن يطنها قائماً مثلاً ، إلى غير ذلك من الاعتبارات التي يضحك منها الصبيان.

ومن العجب أنّ الحنفيّة جعلوا مجرّد المقامرة بالنرد مانعاً عن الشهادة ، ولم يجعلوا بمجرد المقامرة بالشطرنج فسقاً مانع من الشهادة ، و علّلوا ذلك بأنّ للاجتهاد فيه مساغاً ، وأرادوا بوجه الاجتهاد فيه أنّه يفيد تشحيذ الخاطر ، ويعين في الآراء والحروب کما مرّ، مع أنّ النرد أيضاً يعين في ملكة الحساب ، ويوجب تشحیذ الخاطر ، ومن أنكر ذلك فليسأل عن المولعين في اللعب به.

وأمّا ما استدلّ به الناصب على إباحة الشطرنج من لعب بعض الصحابة والتابعين به ، فلا يصير حجّة سيما إذا كان ذلك الصحابي متّهماً بالكذب والمساهلة في الدين ، كأبي هريرة على ما مرّ في بيان حاله .

ويدلّ على بطلان إنكار الناصب أنّه لم يسعه إسناد ذلك الإنكار إلى أحد من نقّاد الأخبار ، بل استند في إثبات ذلك الهوس بأنّه لم يكن الشطرنج من ملاعب العرب.

وهو مدخول بأنّ عدم كونه من مخترعات العرب لا يقتضي عدم كونه في زمن رسول الله صلی الله و علیه وآله وسلم وعدم رؤيته له ، فإنّ النرد أيضاً لم يكن من ملاعب العرب .

ص: 238

وسیعترف بصحّة الحديث الذي رووا عن رسول الله صلی الله و علیه وآله وسلم في النهي عنه .

وأيضاً مع ظهور سبق زمان اختراع الحكيم الهندي وهو صهصهة بن داهر للشطرنج على زمان الإسلام بكثير من الأعوام ، وكثرة تردّد التجّار وغيرهم دائماً من الهند إلى الحجاز واليمن وغيرهما من دیار العرب من طريق البحر ، ومع تولّع العرب من أهل الجاهليّة بأنواع القمار والأنصاب والأزلام ، يبعد جداً أن لا يصلی إليهم الشطرنج ، مع كونه من أحسن أنواع اللعب لإبراءة طريق التدبير في الآراء والحروب ، وإيراثه کمال اللهو الذي يكون لأهله أعزّ محبوب.

وما ذكره من وقوع ذلك النهي عن أمير المؤمنين علیه السلام في الكوفة لا ينفي وقوع النهي عنه قبله عن رسول الله صلی الله و علیه وآله وسلم، بل يحتمل أنّه علیه السلام نهي بالعبارة التي أتى بها رسول الله له قبل ذلك في مقام النهي عنه تذكرة للمخاطبين بأن النبي واله قد نهی قبله عنه ليشعر بأنه أول من نهی عنه ، فتأمّل انتهى كلام القاضي نور الله رحمة الله في احقاق الحقّ.

أقول : إنّ ما ذكره من الردّ إنّما هو على ما تقتضيه بمجادلة العامّة ، والإيراد على حسب مبانيهم ، وأمّا عندنا فقد تقدّمت الأخبار المستفيضة عن أئمة أهل البيت علیهم السلام على حرمة اللعب به مطلقا.

ثم إنّه قد ظهر ما ذكرنا فساد الاستدلال على حليّة اللعب به بغير رهن بوجهين :

الأوّل : انصراف ما دلّ على حرمة اللعب به إلى حرمته برهن ، فلا دليل على الحرمة ، والأصلی عدم الحرمة.

الثاني : انّ المستفاد من أدلّة تحريم اللعب به أنّ حرمة اللعب به تدور مدار صدق القمار عليه ، لكن قد خرج عن هذا العنوان في هذه الأعصار وصار اللعب به رياضة كسائر الألعاب التي يتسابق بها ، كاللعب بالكرة وغيرها.

أمّا الوجه الأوّل ، فيردّه. اطلاق الأخبار المتقدّمة، ولا وجه لدعوى الانصراف.

ص: 239

وأمّا الوجه الثاني ، فلأنّ حرمة اللعب به لم تكن بعنوان القمار؛ لأنّ يزيد وسائر أمراء المرور لم يكن لعبهم به أو اللعب في محضرهم بعنوان القمار ، بل كانوا يلهون باللعب به . والحاصلی أن الحرام بمجرّد اللعب به مطلقاً.

ثمّ لا يخفى أنّ اللعب به للظفر إلى الجائزة المجعولة للعّاب في هذه الأعصار قمار ؛ لأنّه لا فرق في الرهن المأخوذ على المغالبة أن يكون من اللاعبين أو من غيرهما ، کما في الجواهر ، حيث قال : تتّفق الأدلّة الشرعيّة الثلاثة على حرمة القمار ، بل حرمة المال الذي يؤخذ به سواء كان منهما أو من ثالث بذله لأحدهما(1) انتهى .

لا يخفى أنّ الشطرنج له صور مختلفة ، ويمكن أن يوجد له صورة اُخرى غير ما كانت متعارفة في الأزمنة السابقة ، ومعلوم أنّ اللعب بها لا يدور مدار صورة خاصّة ، بل اللعب به من حيث الكيفيّة الخاصّة التي استمرّت من أوّل اختراعها إلى هذا الزمان . والحاصلی أنّ الحرام هو اللعب بالشطرنج ، فما صدق عليه انّه لعب بالشطرنج فهو حرام.

ص: 240


1- جواهر الكلام 109:22

رسالة في قاعدة الشروط

اشارة

تأليف: السيّد محمّد الرجائي

ص: 241

ص: 242

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب ّالعالمين ، والصلیاةوالسلام على أشرف خلقه محمّد و آله الطاهرين ،ولعنة الله على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين .

وبعد فهذه مسألة تتناول وجوب الوفاء بكلّ شرط ، ونظرا لأهميّتها ومدخليّتها في كثير من أبواب فقه المعاملات ، نتعرّض للمهمّ من أحكامها بما يناسب المقام.

وينبغي تمهيداً قبل الدخول في المقصود أن نذكر أولاً المدلول اللغوي والعرفي للشرط، وما يستفاد من الأخبار التي اشتملت على ذكر هذه المفردة . وثانياً نذكر الأخبار الدالّة على عموم الوفاء بكلّ شرط ، فنقول :

معنى الشرط في اللغة والعرف

قال في المقاييس : يدلّ على عَلَم و علامة وما قارب ذلك من علم ، من ذلك العلامة ، واشراط الساعة علاماتها(1) إلى آخر كلامه . ولم يذكر اشترط له أو عليه.

وقال في تهذيب اللغة : قال الليث : الشرط معروف في البيع ، والفعل شارطه فشرط له على كذا وكذا وهو يشرط . قال أبو عبيد : قال الأصمعي : أشراط الساعة هي علاماتها ، قال : ومنه الاشتراط الذي يشترط الناس بعضهم على بعض إنّما هي علامات يجعلونها بينهم (2) .

وقال في النهاية : في الحديث «لا يجوز شرطان في بيع » هو كقولك بعتك هذا

ص: 243


1- مقاییس اللنة 3: 260.
2- تهذيب اللغة 308:11.

التوب نقداً بدينار ونسيئة بدينارين ، وهو كالبيعتين في بيع الخ(1).

وقال في مفردات الراغب : الشرط كلّ حکم معلوم يتعلّق بأمر يقع بوقوعه ، وذلك الأمر كالعلامة له ، وشريط و شرائط ، وقد اشترطت كذا ومنه قيل للعلامة الشرط... (2).

وقال في ترتيب العين : الشرط معروف في البيع ، والفعل شارطه فشرط له على كذا وكذا بشرط له(3) .

وقال في القاموس : الشرط إلزام الشيء والتزامه في البيع ونحوه(4) .

أقول : معنى الشرط المنطبق على موارد استعماله في الروايات والمحاورات العرفيّة عبارة عن الإلزام أو الإلتزام أو اللزوم التابع لعمل أو عقد أو إيقاع ، بل لا يبعد بحسب ملاحظة كلام اللغوييّن و موارد الاستعمال أن يكون مادّة شرط تفيد القيد ، بحيث لا يكون لفظ أصرح في الدلالة عليه ، فإذا اُريد التقيّد بشيء حتماً عبّر عنه بالشرط ، وأشراط الساعة تكون بمعنى ما هو كالملصق بالساعة ، أي : العلامات القريبة ، وأشراط الناس أي: أراذها لأنّهم كأنّهم كالكلّ على غيرهم ، وكذا أشرافهم لأنّّهم كالتقيّد لغيرهم.

ثمّ إنّه لا يستفاد من كلام الليث الذي نقله في تهذيب اللغة ، وكذا من كلام الخليل في ترتيب العين اختصاص معنى الشرط بالبيع .

وأمّا ما ذكره في القاموس ، فهو ظاهر في الاختصاص بالبيع ونحوه من العقود ،ولكن لا دليل عليه ، ولا يساعده موارد الاستعمال بلا عناية ولا تجرید.

ص: 244


1- نهاية ابن الأثير 2: 459.
2- مفردات الراغب ص 264.
3- ترتيب العين ص 411.
4- القاموس المحيط 2: 368.

نعم هو عامّ لكلّ قيد في البيع ، فإذا قال : بعتك الحنطة البغداديّة كانت صفة البغداديّة إلزاماً والتزاماً في البيع ، وكذا إن قال : بعتك بعشرة دراهم نقداً ، كان إلزاماً في البيع.

والذي يساعد عليه جميع موارد الاستعمالات هو ما ذكرناه ، وعليه فيصدق الشرط على البيع ؛ لأنّ البائع اشترط على المشتري بأنّه إن أعطيت عشرة دراهم أعطيتك منّاً من المنظة ، فإذا باع ولم يعطه ، صحّ أن يقال لم يعمل بشرطه.

نعم لا يصدق على إلزام المولى عبده بشراء اللحم إلّا إذا اشترط عليه بأنّه متى ما يأمره فليطعه ، كما أنّ الله تبارك وتعالى عهد على عباده عدم عبادة الشيطان والدخول في الجنّة إن عملوا بأحكامه.

ويصدق على الوعد ؛ لأنّ من وعد أن يعطي زبداً شيئاً غدآً مثلاً، فرجعه إلى أنّه إن صار الغد أو إن أتيتني غداً ونحوهما فأعطيك كذا.

ويصدق على الالتزام في الالتزام ، وعلى الالتزام التابع لعقد جائز أو إيقاع ، وعلى كلّ قيد مأخوذ في المعاملات وغيره.

ويصدق أيضاً على قول القائل : عليّ إن ارتكبت معصية أن أفعل كذا ، فإنّه شرط ويشمله عموم « الْمُؤْمِنُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ » لكن لا يجب الوفاء به للنصوص الخاصّة المذكورة في كتاب النذر .

منها : صحیح منصور بن حازم ، عن أبي عبد الله علیه السلام قَالَ : إِذَا قَالَ الرَّجُلُ عَلَيَّ الْمَشْيُ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ وَ هُوَ مُحْرِمُ بِحَجَّةٍ ، أَوْ عَلَى هَدْيُ كَذَا وَ كَذَا ، فَلَيْسَ بِشَيْ ءٍ حَتَّى يَقُولَ اللَّهُ عَلَيَّ الْمَشْيِ إِلَى بَيْتِهِ ، أَوْ يَقُولُ : اللَّهُ عَلَيَّ أَنْ أُحْرِمَ بِحَجَّةٍ ، أَوْ يَقُولُ : لِلَّهِ عَلَيَّ هَدْيُ كَذَا وَ كَذَا إِنْ لَمْ أَفْعَلْ كَذَا وَ كَذَا(1).وغيره من أحاديث هذا الباب .

ص: 245


1- وسائل الشيعة 16: 182 کتاب النذر والعهد ب 1 ح 1.

وفي خبر إسحاق بن عمّار ، قال : قلت لأبي عبد الله علیه السلام إلى أن قال : قلت : إنّي لم أجعلهما لله علي إنّما جعلت ذلك على نفسي اُصلیّيهما شكراً لله ولم أوجبهما على نفسي أفأدعهما إذا شئت ؟ قال : نعم(1).

ومن لا حظ موارد استعمال مادّة الشرط في الأخبار والكليات اعترف بما ذكرنا.

فمن الأخبار ما في خبر صالح الأعور ، قال : سمعت أبا عبد الله علیه السلام يقول : آخي رَسُولُ اللَّهِ صلی الله و علیه وآله وسلم بَيْنَ سَلْمَانَ وَ أَبِي ذَرٍّ ، وَ اشْتَرَطَ عَلَى أَبِي ذَرٍّ أَنْ لَا يَعْصِيَ سَلْمَانَ(2) .

لأنّه تابع لفعله صلی الله و علیه وآله وسلم من جعل الأخوة بينهما. ولعلّ ظاهر الخبر أنّ الشرط نافذ حتّى مع عدم إنشاء أبي ذرّ قبوله .

ومنها : صحیح ذريع المحاربي ، عن أبي عبد الله علیه السلام قَالَ : سَأَلْتُهُ عَنْ رَجُلٍ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ وَ أُحْصِرَ بَعْدَ مَا أَحْرَمَ كَيْفَ يَصْنَعُ ؟ قَالَ : فَقَالَ : أَوْ مَا اشْتَرَطَ عَلَى رَبِّهِ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ أَنْ يَحُلَّهُ مِنْ إِحْرَامِهِ عِنْدَ عَارِضٍ عَرَضَ لَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ؟ فَقُلْتُ : بَلى قَدِ اشْتَرَطَ ذَلِكَ ، قَالَ : فَلْيَرْجِعْ إِلَى أَهْلِهِ حَلَالًا لَا إِحْرَامَ عَلَيْهِ ، إِنَّ اللَّهَ أَحَقُّ مَنْ وَفِيُّ مَا اشْتَرَطَ عَلَيْهِ ، قِلَّةُ : فَعَلَيْهِ الْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ ؟ قَالَ : لَا (3).

ولعلّ صدق الشرط لكونه تابعاً لعمله الاحرام .

ومنها : ما رواه في الكافي ، عن الحلبي ، قال : سئل أبو عبد الله لا عن الرجل يسلم في وصف أسنان معلومة ولون معلوم ، ثمّ يعطي دون شرطه أو فوقه الحديث (4). وغيره من أحاديث الباب .

ومنها : صحیح الحلبي ، عن أبي عبد الله علیه السلام قال : في الحيوان كلّه شرط ثلاثة

ص: 246


1- وسائل الشيعة 16 : 189 ب 6ح 1.
2- روضة الكانی 8: 162.
3- جامع أحاديث الشيعة 10: 399 ب 9ح 32.
4- فروع الكافي 5: 221ح 7، وسائل الشيعة13: 65 ب9ح1.

أيام للمشتري ، وهو بالخيار فيها إن شرط أو لم يشترط . ومثله خبر فضيل(1) .وخبر علي بن رئاب (2).

ولعلّ المعنى أنّ القيد الذي يكون في بيع الحيوان ولا يكون في بيع غيره ، أو القيد في الحيوان في مقابل لقيد في غيره ، وهو خيار المجلس ثلاثة أيّام.

ومنها : صحيح زرارة، عن أبي جعفر علیه السلام في خلق الانسان من النطفة ، إلى أن قال علیه السلام : ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّهُ مَلَكَيْنِ خَلَّاقَيْنِ يَخْلُقَانِ فِي الْأَرْحَامِ مَا يَشَاءُ - إِلَى أَنْ قَالَ : - ثُمَّ يُوحِي اللَّهُ إِلَى الْمَلَكَيْنِ : اكْتُبَا عَلَيْهِ قَضَائِي وَ قَدَرِي وَ نَافِذَ أَمْرِي ، وَ اشْتَرِطَا لِيَ الْبَدَاءَ فِيمَا تَكْتُبَانِ الحديث(3).

ومنها: ما رواه في المحاسن ، عن أبيه ، عن حمّاد بن عيسى فيا أعلم ، عن يعقوب بن شعيب ، قال : سألت أبا عبد الله علیه السلام عن قول الله عزّوجلّ « الّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى » قال : إلى ولايتنا والله ، أما ترى كيف اشترط الله عزوجل(4) .

إلى غير ذلك من موارد استعمال مادّة الشرط في الأخبار ، ومن أراد الاطلاع عليها فليلاحظ المعجم المفهرس لألفاظ أحاديث الكتب الأربعة المجلّد الخامس، والمعجم المفهرس لألفاظ أحاديث البحار المجلّد الخامس عشر.

وقد استعمل الشرط في كلامهم في الشرط في غير المعاملات کالوعد ، فقد قال الشيخ الطوسي رحمة الله في آخر التهذيب : کما شرطنا في أوّل الكتاب أن نقتصر على

ص: 247


1- وسائل الشيعة12: 349 ب 3ح 1وح 5.
2- وسائل الشيعة 12 : 351ب 4 ح 1.
3- فروع الكافي 6: 12ح 15.
4- المحاسن 1: 237 ح 1.

ایراد شرح ، إلى أن قال : وقد وفينا هذا الشرط في أكثر ما يحتوي عليه(1).

فإنّه قال في أوّل التهذيب : إذ كان مقصوراً على ما تضمّنته الرسالة المقنعة من الفتاوي ولم أقصد الزيادة عليها انتهي.

وعلى كلّ فلا يبعد أن يكون للشرط معنى واحد في جميع الموارد ، وماذكره الشيخ الأنصاري رحمة الله من أنّ الشرط له معنيان : المعنى الحدثي ، وما يلزم من عدمه العدم ، كما يقال : إنّ الوضوء شرط في الصلیاة ، محلّ تأمّل بل منع ؛ فإنّ الوضوء قید في الصلیاة.

وكذا يمكن تطبيق المعنيين لاصطلاحيين اللذين ذكرهما على ما ذكرنا ، وكذا ما ذكره في خيار الشرط من عدم استبعاد منع صدق الشرط في الالتزامات الابتدائيّة ، بل المتبادر عرفة هو الالزام التابع إلى آخر ما أفاد(2).

فإنّه ممنوع ، بل الشرط عرفاً هو الالزام التابع مطلقا ، ولو کتبعيّة الثمن للمثمن وغيرها.

الأخبار المشتملة على عموم الوفاء

بالشرط منها: ما رواه في الكافي ، عن علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن حمّاد ، عن الحلبي ، عن أبي عبد الله علیه السلام في المكاتبة إذا أدّى بعض مکاتبته ، فقال : إنّ الناس كانوا لا يشترطون و هم اليوم يشترطون ، والمسلمون عند شروطهم ، فإن كان شرط عليه إن عجز رجع وإن لم يشترط عليه لم يرجع ، و في قول الله عزّوجلّ « فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيراً» قال : کاتبوهم إن علمتم أنّ لهم مالاً (3) ، قال :

ص: 248


1- تهذيب الأحكام 10: 4.
2- المكاسب 21:5.
3- إلى هنا رواه في التهذيب 8: 268 ح 8.

وَ قَالَ فِي الْمُكَاتَبِ يَشْتَرِطُ عَلَيْهِ مَوْلَاهُ أَنْ لَا يَتَزَوَّجَ إِلَّا بِإِذْنٍ مِنْهُ حَتَّى يُؤَدِّيَ مکاتبته ، قَالَ : يَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يَتَزَوَّجَ إِلَّا بِإِذْنٍ مِنْهُ ، فَإِنَّ لَهُ شَرْطُهُ(1).

ومنها : ما في الفقيه : روى القاسم بن یزید ، عن محمّد بن مسلم ، عن أبي جعفر علیه السلام في مكاتب شرط عليه إن عجز أن يُردّ في الرقّ ، قال : الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ(2).

ومنها : صحیح محمّد بن مسلم ، قال : سألت أبا جعفر علیه السلام عن رجل كانت له أمّ مملوكة ، فلمّا حضرته الوفاة انطلق رجل من أصحابنا ، فاشترى أمّه واشترط عليها إنّي اشتريتك وأعتقتك ، فإذا مات ابنك فلان بن فلان فور نتيه أعطيتني نصف ما ترثينه على أن تعطيني بذلك عهد الله و عهد رسوله ، فرضيت بذلك وأعطته عهد الله و عهد رسوله لتفيّن له بذلك ، فاشتراها الرجل وأعتقها على ذلك الشرط ، ومات اینها بعد ذلك ، فورثته ولم يكن له وارث غيرها ، قال : فقال أبو جعفر علیه السلام : لَقَدْ أَحْسَنَ إِلَيْهَا وَ أُجِرَ فِيهَا ، إِنَّ هذا لَفَقِيهُ ، وَ الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ ، وَ عَلَيْها أَنْ تفی لَهُ بِمَا عَاهَدَتِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ عَلَيْهِ(3).

ويدلّ هذا الخبر على نفوذ الشرط ، وهو التابع للعقد من غير أن يكون شرطاً في ضمنها ؛ لأنّ العقد وقع بين الرجل ومولى الأمّ، والشرط وقع بين الرجل وبين الأمّ وإطلاقه شامل لمن اشترط ذلك على الأمّ قبل الاشتراء ، أو في ضمن الاشتراء.

ومنها : صحیح علي بن رئاب ، عن أبي الحسن موسى علیه السلام ، قال : سئل وأنا حاضر عن رجل تزوّج امرأة على مائة دينار على أن تخرج معه إلى بلاده ، فإن لم تخرج معه فإنّ مهرها خمسون ديناراً، إن أبت أن تخرج معه إلى بلاده ، قال : فقال : إن

ص: 249


1- جامع أحاديث الشيعة 19: 397 - 398 ح 9.
2- جامع أحاديث الشيعة 19: 395ب6ح 2.
3- فروع الكافي 7: 150، جامع أحاديث الشيعة أبواب الميراث ب 21.

أراد أن يخرج بها إلى بلاد الشرك فلا شرط له عليها في ذلك ، ولها مائة دينار التي أصدتها إيّاها ، وإن أراد أن يخرج بها إلى بلاد المسلمين ودار الإسلام فله ما اشترط عليها ، والمسلمون عند شروطهم ، وليس له أن يخرج بها إلى بلاده حتّى يؤدّي إليها صداقها أو ترضى من ذلك بما رضيت وهو جائز له(1).

ولعلّ المرأة إنّما رضيت بأنّ تخرج معه إلى بلاده بزعم أنّ الرجل يخرج إلى بلاد الإسلام ، ولم تأب أن تخرج معه ، وحينئذ يكون مهرها مائة دينار ، فلذا يجب على الزوج أن يعطيها مائة إن أراد أن يخرج بها إلى بلاد الشرك ، فالشرط يكون من باب وحدة المطلوب.

ومنها : ما رواه في الكافي ، عن محمّد بن يحيى ، عن أحمد بن محمّد ، عن ابن محبوب ، عن مالك بن عطيّة ، عن سلمان بن خالد ، عن أبي عبد الله علیه السلام قال : سَأَلْتُهُ عَنْ رَجُلٍ كَانَ لَهُ أَبُ مَمْلُوكُ ، وَ كَانَتْ لِأَبِيهِ امْرَأَةُ مُكَاتَبَةُ قَدْ أَدَّتْ بَعْضَ مَا عَلَيْهَا ، فَقَالَ لَهَا ابْنُ الْعَبْدِ : هَلْ لَكِ أَنْ أُعِينَكِ فِي مُكَاتَبَتِكِ حَتَّى تُؤَدِّي مَا عَلَيْكِ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَكُونَ لَكِ الْخِيَارُ عَلَى أَبِي إِذَا أَنْتِ مَلَكْتِ نَفْسَكِ ؟ قَالَتْ : نَعَمْ ، فَأَعْطَاهَا فِي مُكَاتَبَتِهَا عَلَى أَنْ لَا يَكُونَ لَهَا الْخِيَارُ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ ، قَالَ : لَا يَكُونُ لَهَا الْخِيَارُ ، الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ (2).

وهو يدلّ على أنّ الشرط في الهبة - وهو عقد جائز - نافذ ؛ لأن إعانة المكاتبة بما تؤدي ما عليها هبة ، وإطلاقه يعم من اشترط ذلك قبل أن يعطيها، بأن كان الاعطاء مبنية عليه .

ومنها : صحیح منصور بزرج ، عن عبد صالح ، قال : قلت له : إنّ رجلا من مواليك تزوّج بامرأة ثمّ طلّقها فبانت منه ، فأراد أن يراجعها فأبت عليه إلّا أن يجعل

ص: 250


1- تهذيب الأحكام 7: 373ح 70، جامع أحاديث الشيعة 21: 272ب 41 ح 4.
2- جامع أحاديث الشيعة 19 : 41 ب 11ح 1 ، ورواه في التهذيب 8: 269 ح 12.

الله عليه أنّ لا يطلّقها ولا يتزوّج عليها فأعطاها ذلك ، ثمّ بدا له في الترويج بعد ذلك فكيف يصنع ؟ فَقَالَ : بِئْسَ مَا صَنَعَ ، وَ مَا كَانَ يُدْرِيهِ مَا يَقَعُ فِي قَلْبِهِ بِاللَّيْلِ وَ النَّهَارِ قُلْ لَهُ فَلْيَفِ بِالْمَرْأَةِ بِشَرْطِهَا ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلی الله و علیه وآله وسلم قَالَ : الْمُؤْمِنُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ (1).

قوله « أن يجعل لله» و إن كان نذراً ، فلابدّ أن يكون راجحآً ، ولعلّ رجحانه من باب قضاء حاجة المؤمنة . وإن لم يكن نذراً، فيمكن حمله على قضاء حاجة المؤمنة لا ترك المباح.

ومنها : ما رواه في التهذيب ، بإسناده عن الصفّار ، عن الحسن بن موسى الخشاب ، عن غياث بن کلوب ، عن إسحاق بن عمّار ، عن جعفر ، عن أبيه أن علي بن أبي طالب كان يقول : مَنْ شَرَطَ لِامْرَأَتِهِ شَرْطاً فَلْيَفِ هَا بِهِ ، فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ إِلَّا شَرْطاً حَرَّمَ حَلَالًا أَوْ حلّل حَرَاماً(2).

ومنها: ما رواه في الكافي ، عن عدّة من أصحابنا ، عن سهل بن زياد ، وأحمد بن محمّد جمیعا ، عن ابن محبوب ، عن عبد الله بن سنان ، عن أبي عبد الله علیه السلام قال : سمعته يقول : مَنِ اشْتَرَطَ شَرَطْتُ مُخَالِفَةُ لِكِتَابِ اللَّهِ فَلَا يَجُوزُ لَهُ وَ لَا يَجُوزُ عَلَى الَّذِي اشْتُرِطَ عَلَيْهِ ، وَ الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ مِمَّا وَافَقَ كِتَابَ اللَّهِ عزّوجلّ (3).

ومنها: ما رواه في التهذيب بإسناده عن الحسين بن سعيد ، عن النضر بن سوید. عن عبد الله سنان ، عن أبي عبد الله علیه السلام قال : الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ إِلَّا كُلَّ شَرْطٍ خَالَفَ كِتَابَ اللَّهِ عزّوجلّ(4).

إذا تبيّن هذا، فيقع البحث عن الشروط في مقاصد :

ص: 251


1- تهذيب الأحكام 7: 371ح66 ، الوسائل:15 30 أبواب المهور ب 20ح 4.
2- تهذيب الأحكام 7: 467 ح 80، الوسائل 12: 353 ب 40 ح 5.
3- الوسائل 12 : 353 ب 6ج 1، ورواه في التهذيب 22:7 ح 94.
4- تهذيب الأحكام 22:7 ح93.

المقصد الأول

في شروط صحّة الشرط

الأوّل : أن يكون مقدوراً للمشترط عليه ، بأن يكون له القدرة على تسليمه ،فلو اشترط عليه أن يخيط في يوم واحد عشرين ثوباً وهو لا يقدر عليه ، بطل الشرط ، ووجهه واضح ؛ لأنّ الأمر بالوفاء بالشرط تكليف ، ولا تكليف بغير المقدور .

ولو اعتقد تمكّنه ثمّ لم يتمكّن ، فهو على قسمين :

الأوّل : أن لا يكون قادراً واشتبه واعتقد أنّه قادر ، وهذا الشرط باطل ؛ لعدم القدرة أصلیاً.

الثاني : أن يطرأ العجز ، بأن يصير مریضاً بعد العقد ولا يتمكّن من فعل ما شرطه، وسيأتي الكلام عليه .

وأمّا المثال الذي ذكروه لعدم القدرة على التسليم من كون الزرع سنبلاً ، فإنّه يقع على وجوه :

أحدها : أن يقول : بعتك هذا الزرع الذي يصير سنبلاً ، وهذا بيع بجهول وباطل وغرريّ.

ثانيها : أن يقول : بعتك هذا الزرع على أن أجعله سنبلاً، أو يجعله الله سنبلاً،وهذا غير مقدور لا يتمكّن من تسليمه ؛ لأنّه خارج عن تحت قدرته .

ثالثها : أن يقول : بعتك هذا الزرع إن صار سنبلاً ، أي : إن لم يصر سنبلاً فما بعتکه، وهذا صحيح بناءً على القاعدة لولا الإجماع المدّعى على أنّه يبطل التعليق فيه، وسيأتي ما علّل به صاحب الجواهر عند نقل كلامه.

رابعها : أن يقول : بعتك هذا الزرع والتزامي بالبيع مشروط بصيرورته سنبلاً ، وهذا يوجب عدم الإلتزام بالبيع إن لم يصدر سنبلا ، كا إذا اشترط الخيار لنفسه في

ص: 252

مدّة معيّنة يتبيّن فيها صيرورة الزرع سنبلاً .

فالمبيع وهو الزرع الموجود معیّن و مقدور على تسليمه ، ويشترط الخيار إلى زمان معيّن وهو شهر ، أو الزمان الذي يتعارف صيرورة الزرع سنبلاً ، ولا نعلم وجهااً للبطلان .

ثمّ لا يخفى أنّ بعض أقسام شرط النتيجة - وسيأتي البحث فيه - يدخل في غير المقدور ، كاشتراط أن تكون المرأة الفلانية زوجة أو مطلّقة ، ويدخل بعض شروط الصحّة الآتية في كونه مقدوراً.

الثاني: أن يكون الشرط سائغاً ، فإنّ الشرط لا يحلّ الحرام ؛ لانحصار محلّله في الضرورة ولو للمزاحمة بما هو أهم ؛ لأنّ الحرام لا يجوز ارتكابه لغير الضرورة بأيّ نحو كان ، وفعل الحرام وإن كان مقدوراً تكويناً، لكن لا يصحّ اشتراطه . والمراد کون المشروط حلالاً الاشتراط.

الثالث: أن يكون في الشرط غرض عقلانّي، فإنّه لو لم يكن الرضا مقیّداً به ولا الخيار معلّقاً عليه فلا وجه لوجوبه ؛ لأنّه يكون من إيجاب ما لا فائدة فيه ، ومثله لا يجب شرعاً، فتأمّل.

الرابع : أن لا يكون مخالفاً للكتاب ولا محرّماً للحلال ، ويدلّ على الأوّل أخبار كثيرة:

منها : خبر أبي عمرو صاحب الكرابيس ، عن أبي عبد الله علیه السلام فِي رَجُلٍ كَاتَبَ مَمْلُوكَهُ ، وَ اشْتَرَطَ عَلَيْهِ أَنَّ مِيرَاثَهُ لَهُ ، فَرُفِعَ ذَلِكَ إِلَى عَلِيٍّ علیه السلام فَأَبْطَلَ شَرْطُهُ ، وَ قَالٍ : شَرْطُ اللَّهِ قَبْلَ شَرْطِكُمْ(1).

والمراد من شرط الله هو حكمه في الميراث ، وقد اشترط على المؤمنين أن يعملوا

ص: 253


1- الوسائل 16 أبواب المكاتبة ب 15.

بأحكامه ويطيعوه فيدخلهم الجنّة.

ومنها : ما رواه في التهذيب ، بإسناده عن الحسين بن سعيد ، عن صفوان ، عن ابن سنان ، قال : سألت أبا عبد الله علیه السلام عن الشرط في الإماء لا تباع ولا توهب ، قَالَ : يَجُوزُ ذَلِكَ غَيْرَ الْمِيرَاثِ فَإِنَّهَا تُورَثُ ؛ لِأَنَّ كُلَّ شَرْطٍ خَالَفَ الْكِتَابَ بَاطِلُ (1).

قوله « لَا تُبَاعُ وَ لَا تُوهَبُ »، لأنّه ليس مخالفاً للكتاب ؛ لأنّ مالك الأمة يملك عينها ومنافعها ، فقد جعل للمشتري غير هاتين المنفعتين .

ومنها: ما رواه في التهذيب ، بإسناده عن أحمد بن محمّد بن عيسى ، عن علي بن حدید ، عن أبي المغرا ، عن الحلبي ، عن أبي عبد الله علیه السلام فِي رَجُلَيْنِ اشْتَرَكَا فِي مَالٍ وَ رَبِحَا فِيهِ رِبْحاً ، وَ كَانَ الْمَالُ دَيْناً عَلَيْهِمَا ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ : أَعْطِنِي رَأْسَ الْمَالِ وَ الرِّبْحُ لَكَ وَ مَا تَوِيَ فَعَلَيْكَ ، فَقَالَ : لَا بَأْسَ بِهِ إِذَا اشْتَرَطَ عَلَيْهِ ، وَ إِنْ كَانَ شَرْطاً يُخَالِفُ كِتَابَ اللَّهِ عزّوجلّ فَهُوَ رَدُّ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ عزّوجلّ الْحَدِيثَ (2).

ومنها: ما رواه في الكافي في الحسن ، عن الحلبي ، عن أبي عبد الله علیه السلام قال : سألته عن الشرط في الإماء لا تباع ولا تورث ولا توهب ، فَقَالَ : يَجُوزُ ذَلِكَ غَيْرَ الْمِيرَاثِ ، فَإِنَّهَا تُورَثُ ، وَكَّلَ شَرْطٍ خَالَفَ كِتَابَ اللَّهِ فَهُوَ رَدُّ (3).

ومنها : خبرا عبد الله بن سنان المتقدّمان . إلى غير ذلك من الأخبار .

ويدلّ على الثاني - وهو أن لا يكون محرماً للحلال - خبر إسحاق المتقدّم(4)، ويمكن أن يستدلّ بخبر عبد الله سنان الآتي .

ويقع الكلام في هذا الشرط في جهات :

ص: 254


1- الوسائل12: 353 ب 6ح 3.
2- وسائل الشيعة 12: 353 ب 6ح 4.
3- وسائل الشيعة 13 : 43 ب 15ح 1.
4- وسائل الشيعة15: 50ب 4 ح 4.

الجهة الاُولى : في أنّهما - أي : عدم كونه مخالفاً للكتاب ، وعدم كونه محرّماً للحلال - شرطان أو شرط واحد ، مثلاً عدم كون الأمة موروثة المستلزم لجواز تصرّفها بدون إذن مولاها بعد موت المولى الأوّل ، مخالف للكتاب ، وکون تصرّفها في نفسها حلالاً یوجب تحليل الحرام ، فيرجعان إلى أمر واحد ، ولكن بعض الاُمور ليس كذلك ، مثلاً اشتراط أن لا يتزوّج ثانية تحريم الحلال وليس مخالفاً للكتاب ؛لأنّ الكتاب لم يوجب ذلك بل أباحه ، فلا يبعد أن يكونا شرطين .

الجبهة الثانية : في أنّه هل يعتبر موافقة الكتاب ، أو يضرّ مخالفة الكتاب ؟ ظاهر بعض الأخبار اشتراط کون مضمون الشرط موجوداً في الكتاب ، وإلّا لم يجب الوفاء به ، وظاهر بعضها مانعيّة مخالفة الكتاب .

ويمكن إرجاع موافقة الكتاب إلى عدم المخالفة : لأنّ عدم المخالفة للكتاب موافقة له من حيث عدم منع الكتاب عنه ، ويدلّ على عدم اعتبار وجود مضمون الشرط في الكتاب ، بل يكفي عدم المخالفة له ، تتّبع موارد الشرط التي تعرّضت الأخبار لوجوب الوفاء بها في روايات كثيرة ، في حين أنّها ليست موجودة في الكتاب ، لكنّها ليست مخالفة للكتاب ، فيكون الميزان عدم مخالفة الكتاب .

الجهة الثالثة : هل مخالفة السنّة كمخالفة الكتاب أو يختصّ بمخالفة الكتاب ؟ يمكن أن يراد من الكتاب ما كتبه الله على العباد وجميع الأحكام ممّا كتبه الله عليهم لكن هذا خلاف الاصطلاح ، و يمكن إرجاع مخالفاً السنّة إلى مخالفة الكتاب ؛ لأنّ الكتاب أمر بإطاعة أولي الأمر ، فإذا كان الشرط مخالفا لإطاعة اُولي الأمر رجع إلى مخالفة الكتاب .

ويحتمل أن يكون ذكر الكتاب من باب أنّه أحد أدلّة الأحكام، ويكون المراد أن لا يكون الشرط مخالفاً لأدلة الأحكام ، وهي الكتاب والسنّة ؛ لأنّ علّة المنع في بعض الموارد التي منع في الأخبار عن وجوب العمل بالشرط مخالفته للسنّة .

ص: 255

كالخبر المرويّ في الكافي ، عن علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير، عن حمّاد ، عن الحلبي ، قال : سألت أبا عبد الله علیه السلام عن أمة كانت تحت عبد فاُعتقت ، قال : أمرها بيدها إن شاءت ترکت نفسها مع زوجها ، وإن شاءت نزعت نفسها منه، قال : وروي أنّ بريرة كانت عند زوج لها وهي مملوكة ، فاشترتها عائشة وأعتقتها ، فخيّرها رسول الله صلی الله و علیه وآله وسلم وقال : إن شاءت أن تقرّ عند زوجها ، وإن شاءت فارقته ، وكان مواليها الذين باعوها اشترطوا على عائشة أنّ لهم ولائها ، فقال صلی الله و علیه وآله وسلم : الولاء لمن أعتق الحديث (1).

الجهة الرابعة : في المراد من الشرط المخالفة للكتاب والشرط المحرّم للحلال،فنقول : الشروط على أقسام :

القسم الأوّل : الشرط الذي يكون أمره بيد المشترط کالأموال والمنافع والحقوق ممّا جعله الشارع للإنسان وكان مسلطاً عليها، كإعطاء المال أو عمل ونحوهما ، ولا إشكال في صحّة اشتراط هذا القسم.

القسم الثاني : الشرط في الأحكام التي تتغيّر به ، كما دلّت عليه الأخبار، ولابدّ من الفحص عنها ، ونذكر بعضها:

منها : الإرث في المتعة ، فإنّه إن اشترط ثبت الإرث ، ويدلّ عليه صحیح محمّد بن مسلم(2)، وحسن البزنطي (3) ، ويعارضها خبر سعید بن يسار(4). ورجّح في الجواهر عدم الإرث ، والبحث عنه في محلّه .

ومنها : اشتراط رقيّة الولد إن تزوّجت الأمّة بالحرّ، فإنّ الولد حرّ إلّا إن اشترط

ص: 256


1- الوسائل14: 559 ب 52ح 2.
2- الوسائل 14: 486ب 32 و جامع أحاديث الشيعة 47:21 ح 1.
3- وسائل الشيعة 14: 485 ب 32 ح 1.
4- وسائل الشيعة 14: 487ب 32ح 7.

الرقيّة(1).

ومنها : اشتراط سقوط خيار الأمة المزوّجة بعبد إن اعتقت الأمة ، لخبر سلمان بن خالد.

ومنها : اشتراط تحمّل المقترض الزكاة عن المقرض . إلى غير ذلك ممّا يعثر عليه المتتبّع ، كاشتراط الضمان في العارية دون الإجارة ، كما في حسن زرارة(2) ولا داعي إلى تكلّف إدخال هذه الموارد تحت عنوان عدم مخالفة الكتاب.

القسم الثالث : أن يكون الشرط مخالفاً للكتاب أو السنّة ، كإرث الأجنبي وعدم إرث الرحم ونحوهما ، وهذا لا يجوز اشتراطه.

القسم الرابع : ما كان الفعل مباحاً ولكن الشرط يجعله حراماً ، وهذا وإن لم يكن مخالفاً للكتاب ، إلا أنّه يوجب تحريم الحلال ، فإذا كان المراد به غير مخالفة الكتاب الزم أن لا يجوز جعل المباح حراماً من حيث هو مباح ، کاشتراط عدم أكل شيء خاصّ ، فإنّه تحريم للحلال .

وهو الظاهر من تحريم الحلال ، أي الالتزام بترك المباح وتحرمه على النفس،بحلف أو يمين أو شرط أو غيرها من الملزمات.

وأمّا بمجرد الالتزام النفسي على ترك المباح ، فإن كان بقصد كونه حراماً شرعاً فهو تشريع . وإن لم يكن بهذا القصد ، بل كان مجرّد الالتزام النفسي بترك فعله لا بعنوان كونه حراماً فليس بحرام .

وعلى هذا فلو اشترط أن لا يشرب الماء مثلاً كان تحريماً للحلال.

وممّا يؤيّد هذا المعنى مضافاً إلى أنّه ظاهر اللفظ ما ورد في الملف على ترك الحلال ، كالخبر الذي رواه الصدوق بإسناده عن النضر بن سوید ، عن عبد الله بن

ص: 257


1- الوسائل 14: 528 ب 30.
2- جامع أحاديث الشيعة 19: 5.

سنان ، عن أبي عبد الله علیه السلام قال في رجل قال : إمرأته طالق و ماليكه أحرار این شربت حراماً أو حلالاً من الطلا أبداً ، فَقَالَ : أَمَّا الْحَرَامُ فَلَا يَقْرَبْهُ أَبَداً إِنْ حَلَفَ أَوْ لَمْ يَحْلِفْ ، وَ أَمَّا الطَّلَا فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُحَرِّمَ مَا أَحَلَّ اللَّهُ عزّوجلّ ، قَالَ اللَّهُ عزّوجلّ : « یا أَيُّهَا الَّتِي لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ » فَلَا تَجُوزُ يَمِينُ فِي تَحْرِيمِ حَلَالٍ وَ لَا تَحْلِيلِ حَرَامٍ . وَ لَا قَطِيعَةِ رَحِمٍ(1). والطلا هو العصير العنبي بعد ذهاب ثلثيه .

لا يقال : كلّ شرط يوجب تحريم الحلال .

لأنّا نقول : ليس الأمر كذلك ، فإنّه لا يصدق عرفاً على من اشترطت على زوجها أن يتزوّج عليها أنّه من تحريم الحلال ، فإنّ التزوّج كان مباحاً والآن صار واجباً ، إلى غير ذلك من نظائره.

وقوله علیه السلام في بعض الأخبار « شَرْطُ اللَّهِ قَبْلَ شَرْطِكُمْ » فالمراد به الترخيص الإلهي قبل إلزامكم على أنفسكم ، فهذا من تحريم الحلال لا المخالفة للكتاب بناءً على أنّها متغايران .

ويمكن أن يقال : إنّ المراد بتحريم الحلال أن يكون الداعي إلى الاشتراط تحريم الحلال ، فلو كان ذلك لأمر راجع لم یکن تحريماً للحلال ، مثلاً من كان معتاداً لشرب التتن وأراد ترکه ، وهو راجح من حيث إنّ ترکه راجح ، فإن اشترط ترك التتن لم يكن تحريماً للحلال ، بخلاف ما إذا لم يكن فيه جهة رجحان ، فتأمّل. نعم إن اشترط أن يكون المباح حراماً عليه لا أنّه لا يرتكبه صدق عليه تحريم الحلال .

ويمكن أن يقال بأنّه إن حرّم على نفسه شرب الطلا أبداً ودائماً، صدقي تحريم الحلال . ومثله أن يحرّم على نفسه بأنّ لا يتزوّج اثنتين أو ثلاثاً، أو على هذه المرأة أبداً، فإنّه تحريم للحلال . وأمّا إذا كان ذلك لمدّة معيّنة لم يكن تحريماً للحلال . ويؤيّده

ص: 258


1- وسائل الشيعة 15: 297 ب 18ح 2.

ما ورد في تحريم الطلا، وما ورد من أن النبي صلی الله و علیه وآله وسلم حرم على نفسه احدى زوجاته .

وينبغي بيان الوجوه التي ذكروها في معنى مخالفة الكتاب و تحريم الحلال :

الأوّل : ما ذكره الشيخ الأنصاري رحمة الله من أنّه لو كان حكم الشيء لا اقتضاء فيه کالاباحة ، فيصير لازماً بالشرط : لأنّ الشرط عنوان ثانوي لا ينافي العنوان الأولي. وإن كان له الاقتضاء بأن كان بحيث لا يتغير ، كالواجب والحرام والمباح الذي لا يتغيّر عن إباحته ، لم يصحّ اشتراط خلافه ، وعلى هذا وقع في توجيه بعض الأخبار مثل ما دلّ على أنّه لا يجوز اشتراط ترك التزوّج وترك التسرّي مع أنّه مباح ، فقال : بأنّه يستكشف من الأخبار بأنّه من الحلال الذي لا يتغيّر بالشرط.

وحاصلی کلامه أنّ المخالف للكتاب : إمّا نفس المشروط مثل إرث الأجنبيّ، وإمّا الالتزام کاشتراط فعل الحرام ، فإنّ الالتزام بفعل الحرام مخالف للكتاب . وكذا الالتزام بترك مباح لا يتغيّر عن إباحته .

أقول : ما ذكره لتوجيه معنى مخالفة الكتاب وجيه ، لكن يصدق في بعض الموارد على الشرط غير المخالف للكتاب أنّه تحريم الحلال ، كما إذا اشترط أن لا يشرب الماء مثلاً ، فإنّه ليس مخالفاً للكتاب ، لكن يصدق عليه انّه تحريم للحلال . وأمّا الأمثلة التي ذكرها ، فمنها منصوصة يقتصر على موردها.

الوجه الثاني : ما في تعليقة المحقّق الإصفهاني(1) وهو أنّ متعلّق الشرط تارة يكون مباحاً قبل العقد ، مثل التزوّج باثنتين أو ثلاث أو أربع ، فإن اشترط عدمه كان تحريماً للحلال ، واُخرى يكون متعلّقه قبل العقد حراماً وبالعقد يصير مباحاً کبيع الجارية التي لا يملكها ، وإخراج المرأة الأجنبيّة من بلدها ، فإنّهما حرامان وبالعقد يصيران مباحين ، وحينئذ إن أوقع العقد على نحو لا يصيران حلالين كان

ص: 259


1- التعليقة على المكاسب 2: 149.

دفعاً لصيرورتها حلالين لا رفعاً للحلال ، وكذا اشتراط عدم الوطي، في ضمن عقد الزواج.

أقول : يجوز للزوج إخراج الزوجة معه من بلدها إلى بلد آخر ، فإذا اشترط في العقد أن لا يكون للزوج ذلك صدق عليه انّه تحريم للحلال ، وكذا تحريم وطيء الزوج زوجته .

والحاصلی أنّ حرمة إخراج هذه المرأة من بلدها حال كونها أجنبيّة ترتفع بعقد زواجها ، و متعلّق الشرط بعد الزواج ، فيكون تحريم الإخراج حينئذ تحريماً للحلال .

الوجه الثالث : ما اختاره العراقي رحمة الله في العوائد ، من أنّه تارة يشترط أن يكون المباح حراماً شرعاً، فهذا تحريم للحلال ، وأخرى يشترط أن يختار ترك فعل المباح(1).

أقول : في خبر عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله علیه السلام قال في رجل قال : امرأته طالق و ماليكه أحرار إن شربتُ حراماً أو حلالاً من الطلا أبدا ، فقال : أَمَّا الْحَرَامُ فَلَا يَقْرَبْهُ أَبَداً إِنْ حَلَفَ أَوْ لَمْ يَحْلِفْ ، وَ أَمَّا الطَّلَا فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُحَرِّمَ مَا أَحَلَّ اللَّهُ عزّوجلّ ، قال الله عزّوجلّ « يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ» فَلَا يَجُوزُ يَمِينُ فِي تَحْرِيمِ حَلَالٍ وَ لَا تَحْلِيلِ حَرَامٍ وَ لَا قَطِيعَةِ رَحِمٍ(2).

جعل الحلف على ترك فعل شرب الطلا تحريماً للحلال ، لا جعل الشرب حراماً ؛ لأنّ هذا المعنى لا يخطر بال المشترطين ، فإنّهم لا يريدون أن يتصرّفوا في الأحكام الشرعيّة.

الوجه الرابع : ما ذكره في العوائد (3)ونسبه إلى القيل ، من أنّه تارة يشترط أن لا

ص: 260


1- عوائد الأيام ص 148- 150.
2- وسائل الشيعة 15: 297 کتاب الطلاق ب 18ح 2.
3- عوائد الأيام ص 147.

يرتكب المباح ، فليس تحريماً للحلال ، واُخرى يشترط أن يلتزم بالترك ، وهذا يكون تحرياً للحلال .

وبعبارة اُخرى : المراد من تحليل الحرام و تحريم الحلال المنهيّ عنه هو أن يحدث قاعدة كلّيّة ويُبدع حكماً جديداً.

هذا وفي تعليقته : إنّ قائله الميرزا القميّ رحمة الله. وهذا الوجه کسابقه . تتميم:

إنّ بعض الشروط المنصوص على صحتّها يكون من تحريم الملال ، وبعضها المنصوص على عدم صحّتها ، ليس تحريماً للحلال على ما ذكره الشيخ الأنصاري رحمة الله ، فينبغي ذكر الأخبار الواردة في هذه الموارد، وحيث أنّ المحقّق رحمة الله قد تعرّض في الشرائع لهذه الموارد ، فالأولى نقل ما ذكره.

المورد الأوّل : قال في الشرائع : لو شرط أن لا يفتضّها لزم الشرط ، ولو أذنت بعد ذلك جاز ، عملاً بإطلاق الرواية ، وقيل : يختصّ لزوم هذا الشرط بالنكاح المنقطع ، وهو تحكّم انتهي.

قلت : المراد من إطلاق الرواية خبر عمّار بن مروان ، عن أبي عبد الله علیه السلام قال: قلت : رجل جاء إلى امرأة ، فسألها أن تزوّجه نفسها ، فقالت : أزوّجك نفسي على أن تلتمس منّي ما شئت من نظر والتماس ، وتنال منّي ما ينال الرجل من أهله، إلّا أن لا تدخل فرجك في فرجي ، و تتلذّ بما شئت ، فإني أخاف الفضيحة ، قال : ليس له إلّا ما اشترط(1). وبمضمونه خبر سماعة بن مهران ، وخبر إسحاق بن عمّار (2). وهذه الأخبار تدلّ على صحّة الشرط الموجب لتحريم الحلال .

ص: 261


1- وسائل الشيعة 14: 491 ب 36 ح 1. و في الجواهر 31: 99 « فسألها أن تزوّضجه متعة » لكن ليس كلمة « المتعة » موجودة في الكافي
2- وسائل الشيعة 15: 45 ب 36ح 1ح 2، وجامع أحاديث الشيعة 21: 264 ب 36.

وكما اشترط صحّة الشرط بأن لا يكون محرماً للحلال ، كذلك اشترط صحّة الحلف بأن لا يكون محرّماً للحلال ، وجعل في خبر عبد الله بن سنان المتقدّم الحلف على ترك شرب الطلا باطلاً لكونه تحريماً للحلال .

والمعنى في كلا الموردين واحد ، ولذا قال الشيخ الأنصاري رحمة الله ماحاصلیه : الفرق بين اشتراط ترك الوطيء الذي جاز ، و ترك شرب العصير المباح الذي لا يجوز المحلف عليه ، في غاية الأشكال (1) انتهى .

ويمكن أن يقال أوّلاً : إنّ المرأة مسلّطة على نفسها ، فيمكن أن تجعل مقداراً منها في اختيار غيره ، فتشترط الانتفاع منها بهذا المقدار ، فإنّ المرأة لا تترك معطلّة وهي تريد أن تتحفّظ على كرامتها ، وللزوج الاستمتاع بزوجته . و مقتضى الجمع بين هذه الجهات الاقتصار على الاستمتاع بغير الدخول ، وهذا ليس من تحريم الحلال.

و ثانياً: إنّه ليس من تحريم الحلال الاقتراحي ، كترك شرب الماء ، بل هو أمر راجح ، لقضاء حاجة مؤمنة تخاف الفضيحة ، وليس ذلك بعنوان أنّ بيدها الجماع المنافي لسلطنة الرجال على النساء.

وقد يقال بمعارضة هذه الأخبار بخير محمّد بن قيس عن أبي جعفر علیه السلام قال : قضي علي علیه السلام في رجل تزوّج امرأة وأصدقها واشترطت أنّ بيدها الجماع والطلاق، قال : خالفت السنّة وولّت الحقّ من ليس بأهله ، قال : فقضى علیه السلام أن على الرجل النفقة وبيده الجماع والطلاق وذلك السنّة . هكذا رواه الشيخ في التهذيب . ورواه الصدوق « فأصدقته » أي : أعطت المرأة الصداق للزوج وهو أعطاه المرأة ، أو أخذه لنفسه. ورواه الصدوق « على الرجل الصداق » . ومثل ما رواه الصدوق

ص: 262


1- المكاسب الخيارات ص 280 ط الشهيدي .

مرسل ابن بكير(1)

وظاهر هذه الأخبار أنّ هذه القضية ليست فرضيّة ، بمعنى أنّه هل لها أن تشترط كذلك ، بل إنّ القضية وقعت ، وهي اشترطت هذه الشروط ، وأبطل علي علیه السلام الشرط لا أصلی العقد بل هو صحيح.

ويمكن الجمع بينها وبين الأخبار المتقدّمة بحمل الأخبار الأوّلة على صورة لا تريد الاستعلاء على الرجل ، بل هي تشترط خوف الفضيحة ، بخلاف مدلول الأخبار الأخيرة ، فإنّها محمولة على أنّها أرادت أن تكون هي القوامة على الرجل، وهذا الحمل قريب جداً.

وبعبارة أخرى : قد اشترطت ما يخالف المشروع ، وهو أن يكون أمر الطلاق والجماع بيدها ، وإلى ذلك أشار في الجواهر ، قال : والنصوص المتضمّنة لبطلان اشتراط کون ولاية الجماع بيدها وولاية الطلاق كذلك إنّما هوالمخالفة نحو قوله تعالى « اَلرِّ جَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ »، والطلاق بيد من أخذ بالساق ونحو ذلك ، وهو غير عدم الوطيء (2)انتهي.

المورد الثاني : قال في الشرائع : إذا شرط في العقد ما يخالف المشروع ، مثل أن لا يتزوّج عليها أو لا يتسرّي ، بطل الشرط وصحّ العقد والمهر انتهی .

أقول : لولا النصّ الخاص على عدم الجواز ، لكان مقتضى القاعدة صحّة الشرط،والأخبار متعارضة ، أمّا ما يدلّ على صحّته ، فهو خبر منصور بن بزرج ، قال : قلت لأبي الحسن موسي علیه السلام وأنا قائم : جعلني الله فداك إنّ شريكاً لي كانت تحته إمرأة ، فطلّقها فبانت منه ، فأراد مراجعتها وقالت المرأة : لا والله لا أتزوّجك أبدأ حتّى تجعل الله لي عليك أن لا تطلّقني ولا تزوّج علي ، قال : وفعل ؟ قلت : نعم قد فعل

ص: 263


1- جامع أحادیث الشيعة 21: 273 ب 42 ح 1 وح 2 وح3.
2- جواهر الكلام 100:31.

جعلني الله فداك ، قال علیه السلام: بئس ما صنع ، وما كان يدريه ما وقع في قلبه في جوف الليل والنهار ، ثمّ قال له : أمّا الآن فقل له فليتّم للمرأة شرطها ، فانّ رسول الله صلی الله و علیه وآله وسلم قال : المسلمون عند شروطهم الحديث(1).

قوله « قُلْتُ نَعَمْ قَدْ فَعَلَ » يحتمل أن يكون قد نذر ذلك قبل عقد الزواج ويطلق عليه الشرط ، ويمكن أن يكون قد جعله شرطاً في ضمن العقد ، وعلى كلا التقديرين فهو مباح ، فيصحّ اشتراط ترکه .

وجعل في الجواهر (2) من الأخبار الدالّة على الصحّة ، خبر محمّد بن مسلم ، عن أحدهما پغ للبيع في الرجل يقول لعبده : أعتقتك على أن اُزوّجك ابنتي ، فإن تزوّجت عليها أو تسرّيت عليها ، فعليك مائة دينار ، فأعتقه على ذلك ، فتسرّي أو تزوّج ، قال : لولاه علیه شرطه(3) . ومضمونه خبر البصري (4).

وفيه نظر لأنّه لم يشترط عليه عدم التسرّي وعدم التزوّج ، بل اشترط عليه مائة على تقديرهما ، وهو ليس مخالفاً للكتاب . نعم التزوّج مباح له من دون أن يعطي مائة ، لكن بالشرط وجب عليه ، ولا يستفاد من الدليل الدالّ على إباحته أنّه مباح لا يجب عليه المائة حتّى مع الشرط ، فتأمل.

وأمّا ما يدلّ على عدم الصحّة ، فهي أخبار :

أحدها : خبر زرارة قال : قلت لأبي عبد الله علیه السلام: إن ضريساً كانت تحته ابنة حمران ، فجعل لها أن لا يتزوّج عليها ، وأن لا يتسرّی ابدأ في حياتها ولا بعد موتها ،

ص: 264


1- وسائل الشيعة 15 : 30ب 20 مع 4، وجامع أحادیث الشيعة 21: 267ب 38ح 3 وح4.
2- جواهر الكلام 97:31
3- جامع أحاديث الشيعة 310:19 ب 8ح 2.
4- جامع أحاديث الشيعة 310:19 ب 8 ح 1.

على أن جعلت له هي أن لا تتزوّج بعده ، وجعلا عليها من الحجّ والعمرة والهدي والنذور وكلّ مال لهما يملكانه في المساكين ، وكلّ مملوك لها حرّ، إن لم يف كلّ واحد منهما لصاحبه، ثمّ إنّه أتى أبا عبد الله علیه السلام فذكر ذلك له ، فقال علیه السلام: إِنَّ لِابْنَةِ حُمْرَانَ لَحَقّاً ، وَ لَنْ يَحْمِلَنَا ذَلِكَ عَلَى أَنْ لَا نَقُولَ لَكَ الْحَقَّ ، اذْهَبْ فَتَزَوَّجْ وَ تَسَرَّ ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِشَيْ ءٍ ، وَ لَيْسَ شَيْ ءُ عَلَيْكَ وَ لَا عَلَيْهَا ، وَ لَيْسَ ذَلِكَ الَّذِي صنعتهما بِشَيْ ءٍ ، فَتَسَرَّى وَ وُلِدَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ أولادالحديث (1).

وجمع الشيخ الطوسي رحمة الله بين الأخبار الدالّة على فساد الشرط وبين خبر منصور بحمل خبر منصور على الندب ، أو حمله على التقيّة .

قال في الاستبصار : لأنّ من خالفنا يوجبون هذا الشرط ، ويحثون من

خالفه(2).

ويمكن الجمع بحمل خبر منصور على أنّه نذر ذلك قضاءً الحاجة المؤمنة ، فيكون ترك التزوّج راجحة بهذا العنوان، حيث قال : لله عليّ . وأمّا خبر زرارة فلم يقل لله عليّ ، بل جعلا على أنفسهما ، والجعل لا يوجب إلزاماً ما لم يقل لله عليّ ، بل لعلّ ظاهر قوله « فجعل لها » أنّه جعل لها بعد أن صارت امرأته له لا الجعل لها في عقدالنكاح.

فيمكن أن يقال : إنّه ليس من الشرط ، لعدم ذكر كلمة الشرط ، بل إنّهما تعاوضا ذلك ، ولا يدخل تحت المعاوضات المنصوصة . نعم على ما ذكرنا من صدق الشرط على الالتزام التابع يصدق الشرط ولأنّ التزام كل منهما تابع للآخر ، لكنّه من تحريم الحلال من دون رجحان ، فلذا لا يكون نافذاً.

ثانيها : خبر حمّادة بنت الحسن اُخت أبي عبيدة الحذّاء ، قالت : سألت

ص: 265


1- جامع أحاديث الشيعة 21: 266ب38ح2.
2- الاستبصار 3: 232 .

أباعبدالله علیه السلام عن رجل تزوّج امرأة وشرط لها أن لا يتزوّج عليها ، ورضيت أنّ ذلك مهرها، قالت : فقال أبو عبد الله علیه السلام : هَذَا شَرْطُ فَاسِدُ لَا يَكُونُ النِّكَاحُ إِلَّا عَلَى دِرْهَمٍ أَوْ دُرٍّ همين (1).

وأجاب عنه الشيخ الطوسي رحمة الله بأنّ الفساد ليس من ناحية اشتراط عدم التزوّج ، قال : إنّه تتضمّن أنّه قال لها ذلك وكان ذلك مهراً لها ، وهذا لا يجوز ، ألا ترئ أنّه قال في الخبر : ورضیت ، يعني المرأة أنّ ذلك مهرها(2) انتهی.

قلت : ظاهر قوله علیه السلام «َذَا شَرْطُ فَاسِدُ » أنّه فاسد من حيث هو لا من حيث کونه مهراً ، فلعلّ فساده من ناحية كونه تحرياً للحلال ، لكن الاحتمال المذكور لا بأس به ، بقرينة تفريع قوله علیه السلام « هلَا يَكُونُ النِّكَاحُ إِلَّا عَلَى دِرْهَمٍ أَوْ دُرٍّ همين » عليه. وعلى كلّ لا دلالة له على عدم صحّة الشرط في نفسه .

ثالثها : خبر محمّد بن قيس عن أبي جعفر قال علیه السلام: قضى علي علیه السلام في رجل تزوّج امرأة وشرط لها إن هو تزوّج عليها امرأة أو هجرها أو اتّخذ عليها سريّة فهي طالق ، فقضى في ذلك أن شرط الله قبل شرطكم ، فإن شاء وفي لها بالشرط ، وإن شاء أمسكها واتّخذ عليها ونكح عليها(3)

ومثله خبر ابن مسلم (4) و خبر ابن سنان (5). وخبر الدعائم(6).

ص: 266


1- جامع أحاديث الشيعة 21 : 266 ح 1 ، ورواه في التهذيب عن الكاهلي عن حمادة ، ورواه في الاستبصار عن الكاهلي ، قال : سألت أبا عبد الله علیه السلام
2- تهذيب الأحكام 7: 372.
3- جامع أحاديث الشيعة 21: 268 ح 1.
4- جامع أحاديث الشيعة 21: 368ح 3.
5- جامع أحادیث الشيعة 21: 269 ح 4.
6- جامع أحاديث الشيعة 21 : 269 ح 5.

وأجاب بعضهم عن هذه الأخبار بأنّ الفساد من ناحية صيرورتها مطلّقة عند عدم العمل بالشرط بدون صيغة الطلاق ، فيكون من قبيل شرط النتيجة ، وهو لا يصحّ فيما يحتاج إلى السبب الخاصّ .

وفيه أن قوله علیه السلام في ذيله «إِنْ شَاءَ وَفِيُّ وَ إِنْ شَاءَ لَمْ يَفِ » يدلّ على أنّ الشرط هو تطليقها ، فله أن يطلّقها وله أن يمسكها ، مع أنّه لا ريب في احتياج الطلاق إلى شهود شاهدين عدلين ، وخلوّ المرأة عن الحيض ، والمفروض أنّه لم يشهد شاهدين ، فليس ناظراً إلى فقد شروط صحّة الطلاق من الصيغة والشهود وغيرهما، فيكون فساد الشرط من ناحية مخالفته للكتاب ، حيث دلّ على جواز تعددّ الزوجات ، وقد استشهد بآية جواز التعدّد في خبرمحمّد بن مسلم المذكور .

ثمّ لعلّ المراد بقوله علیه السلام «شَرْطُ اللَّهِ قَبْلَ شَرْطِكُمْ » أنّ القيد الذي جعل لكم.

وبعبارة أخرى : الحكم الثابث عليكم من قبل الله تعالى هو جواز تعدّد الزوجات ، فيكون شرط ترك التزوّج من تحريم الحلال ، لما مرّ من أنّ تحريم الحلال هو الالتزام بترکه بحلف أو طلاق أو شرط، وفيما نحن فيه بالطلاق.

نعم لو كان الترك راجحاً لقضاء حاجة المؤمنة لأنّها تخاف الفضيحة مثلاً ، ولم يكن مجرّد اقتراح ، أمكن أن يقال بجواز اشتراط ترك تعدّد الزوجات .

رابعها : خبر الحلبي عن أبي عبد الله علیه السلام أنّه سئل عن رجل قال لامرأته : إن تزوّجت عليك أوبتّ عنك فأنت طالق ، فَقَالَ : إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلی الله و علیه وآله وسلم قَالَ : مَنْ شَرَطَ شَرْطاً سِوَى كِتَابِ اللَّهِ عزّوجلّ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَ لَا لَهُ ، قَالَ : وَ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ قَالَ : كُلُّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا مَا عَاشَتْ أُمِّي فَهِيَ طَالِقُ ، فَقَالَ : لَا طَلَاقَ إِلَّا بَعْدَ نکاح ، وَ لَا عِتْقَ إِلَّا بَعْدَ مِلْكٍ (1).

ص: 267


1- جامع أحاديث الشيعة 21: 368 ح 1.

ولعلّ ظاهر قوله « قال لامرأته » أنّه قال لها بعد أن صارت امرأته لا في عقد النكاح ، فيدلّ على صدق الشرط على الالتزام بالطلاق على تقدير التزوّج عليها .

والمراد بقوله في صدر الخبر « فأنت طالق » أنّ الزوج يجري عليها صيغة الطلاق بشرائطه ، فالبطلان من ناحية مخالفته للكتاب الدالّ على جواز تعدّد الزوجات . والانصاف أنّ هذه الأخبار - أي : خبر محمّد بن قيس ، وخبر ابن سنان ، والمرويّ في الدعائم ، وخبر الحلبي ، والأخبار الدالّة على عدم نفوذ الشرط الموجب التحريم الحلال - معارضة لخبر منصور ، و هي أكثر عدداً، وتدلّ على أنّ جواز تعدّد الزوجات حلال ، ولا يجوز تحريم الحلال بالشرط ، ولو سلّم جواز ترك المباح بالشرط ، فتعدّد الزوجات ليس من المباحات التي تكون مباحة اقتضاءً ، بل هو حكم لا يتغيّر ، مع أنّ خبر منصور موافق للعامّة كما في الاستبصار على ما تقدّم .

ولذا قال في الجواهر : اللهمّ إلّا أن يحمل ذلك على التقيّة لموافقته العامّة كما عن الاستبصار ، أو يفرق بين النذر والشرط ، كما عن الشيخين ، وإن كان هو كما ترى . وعلى كلّ حال فالمعروف ما عرفت من فساد الشرط وصحّة العقد والمهر(1) انتهى .

قلت : المسألة لا تخلو عن الإشكال ، فإنّ ما ذكرناه من الجمع بينها لم يدعمه نصّ شاهد عليه.

المورد الثالث : قال في الشرائع : ولو شرط تسليم المهر في أجل ، فإن لم يسلّمه كان العقد باطلاً ، لزم العقد والمهر وبطل الشرط انتهى .

قوله « لزم » جواب الشرط ، أي : شرط أن يأتي الزوج بالمهر في وقت معيّن ، فإن لم يأت به فيه لم يكن له نكاح ، ويدلّ عليه خبر محمّد بن قيس عن أبي جعفر علیه السلام قَالَ : قَضَى عَلِيُّ علیه السلام فِي رَجُلٍ يَتَزَوَّجُ الْمَرْأَةَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ، فَإِنْ جَاءَ

ص: 268


1- جواهر الكلام 31: 98

بِصَدَاقِهَا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَهِيَ امْرَأَتُهُ ، وَ إِنْ لَمْ يَجِي ءْ بِالصَّدَاقِ فَلَيْسَ لَهُ عَلَيْهَا سَبِيلُ شَرَطُوا بَيْنَهُمْ حَيْثُ أَنْكَحُوا ، فَقَضَى أَنَّ بِيَدِ الرَّجُلِ بُضْعَ امْرَأَتِهِ وَ أَحْبَطَ شَرْطَهُمْ (1).

وهذا الشرط من حيث تحديد مدّة الإتيان بالمهر ليس مخالفاً للكتاب ، لكن من حيث إنّه لا نکاح إن لم يأت به فهو باطل ، ومقتضى إطلاقه عدم الفرق في البطلان بين أن يكون الشرط من باب وحدة المطلوب أو تعدّد المطلوب ، لاحظ الجواهر(2).

المورد الرابع : اشتراط إتيان الزوج الزوجة كلّ شهر یوماً أو كلً جمعة ، والأخبار فيه على صنفين :

الصنف الأول : ما يدلّ على الصحّة بإطلاقه ، وهو خبر زرارة قال : كان الناس بالبصرة يتزوّجون سرّاً، فيشترط عليها أن لا آتيك إلّا نهاراً ولا آتيك بالليل ولا أقسم لك ، قال زرارة : وكنت أخاف أن يكون هذا تزويجاً فاسداً، فسألت أبا جعفر علیه السلام عن ذلك ، فقال : لا بأس به - يعني التزویج - إلّا أنّه ينبغي أن يكون هذا الشرط بعد النكاح ، ولو أنّها قالت له بعد هذه الشروط قبل التزویج : نعم ثمّ قالت بعد ما تزوّجها : إنّي لا أرضى إلّا أن تقسم لي وتبيت عندي فلم يفعل كان آئماً(3).

ومرسل ابن أبي عمر ، عن أبي عبد الله علیه السلام في رجل يتزوّج المرأة ، فيشترط عليها أن يأتيها إذا شاء ، وينفق عليها شيئاً مسمّی ، قال : لا بأس به(4).

وخبر عبد الرحمن بن أبي عبد الله ، قال : سألته عن الرجل يتزوّج امرأة

ص: 269


1- تهذيب الأحكام 7: 370.
2- الجواهر 31: 96.
3- تهذيب الأحكام 7: 374ح 73.
4- وسائل الشيعة 15: 47 ب 29 ح 1.

ويشترط عليها أن يأتيها إذا شاء و ينفق عليها شيئاً مست في كلّ شهر ، قال : لا بأس به(1).

الصنف الثاني : ما دلّ على المنع ، وهو خبر زرارة قال : سئل أبو جعفر علیه السلام عن النهاريّة يشترط عليها عند عقدة النكاح أن يأتيها متى شاء كلّ شهر أو كل جمعة يوماً ، ومن النفقة كذا وكذا، فليس ذلك الشرط بشيء، ومن تزوّج امرأة فلها ما للمرأة من النفقة والقسمة الحديث(2).

وجمع بينهما في الوسائل بقوله : باب أنّه يجوز أن يشترط على المرأة أن يأتيها متى شاء ، ويجوز أن يشترط لها نفقة معيّنة ، ولا يجوز أن يشترط عليها الاتیان وقتاً خاصة أو ترك القسيم(3).

أقول : ما ذكره بعيد ، والصنفان متعارضان ، والصنف الأوّل أكثر ، ومضمونه صادر عن المعصوم المتأخّر علیه السلام ومخالف للعامّة على ما قيل .

ثمّ لا يخفى أنّه لو حلفت المرأة للرجل أنّها لا تتزوّج بعده لم يجب الوفاء به ، ويدلّ علیه خبر منصور بن حازم عن أبي عبد الله علیه السلام، قال : سألته عن امرأة حلفت لزوجها بالعتاق والهدي إن هو مات لا تتزوّج بعده أبداً ، ثمّ بدا لها أن تتزوّج ، قال : تبيع مملوكها ، إنّي أخاف عليها السلطان ، وليس عليها في الحقّ شيء ، فإن شاءت أن تهدي هدياً فعلت(4).

فإنّ الحلف على أن لا تتزوّج يكون من تحريم الحلال ، فلذا لا يقع.

قوله علیه السلام « تبيع مملوكها » لعلّه لاحتمال كون مملوكها مطلعاً على حلفها ، وهذا

ص: 270


1- وسائل الشيعة 48:15 ب 39 ح 4.
2- تهذيب الأحكام 7: 372 ح 68 .
3- وسائل الشيعة15: 47.
4- تهذيب الأحكام 7: 372ح 67.

الحلف نافذ عند العامّة ، فإذا تزوّجت سعي بها إلى السلطان، وفي بعض الكتب بدل السلطان الشيطان ، ولعلّ المعني الخوف من بجامعة المملوك لها.

ثمّ إنّه لو شك في كون الشرط مخالفاً للكتاب أو تحريماً للحلال ، فمنشأه إن كان الشكّ في حرمة الفعل المشترط ، كما إذا اشترط عليه أن يشرب التتن ، فأصالة البراءة عن الحرمة ترفع حرمته . وإن كان الفعل مباحاً في نفسه لكن لا يعلم أنّه مباح لا يتغيّر بالشرط حتّى يكون اشتراط ترکه مخالفاً للكتاب ، أو أنّه مباح يتغيّر بالشرط.

فقد ذهب الشيخ الأنصاري رحمة الله إلى أنّ مقتضى الأصلی عدم المخالفة ، حيث قال : بني على أصالة عدم المخالفة ، فيرجع إلى عموم « الْمُؤْمِنُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ » والخارج عن هذا العموم وإن كان هو المخالف للكتاب والسنّة، لا ما علم مخالفته ، إلّا أنّ البناء على أصالة عدم المخالفة يكفي في إحراز عدمها واقعاً ، كما في ساتر مجاري الاُصول ، و مرجع الأصلی إلى أصالة عدم ثبوت هذا الحكم على وجه لا يقبل تغيّره بالشرط(1).

الخامس : أن لا يكون مخالفاً لمقتضى العقد ، فإن كان المراد من المقتضى مضمونه الذي أنشأه بالعقد كملكيّة المشتري للمبيع بإزاء الثمن ، فاشتراط أن لا يكون الشرط مخالفاً لمقتضى العقد يرجع إلى لزوم قصد مضمون العقد ، والاشتراط المذكور مناف له ، وإن كان المراد آثار العقد كالتصرّف في المبيع أو الاستمتاع بالزوجة ، فلا دليل على عدم صحّته إن لم يرجع إلى تحريم الحلال ، فله أن يبيع الكتاب من رجل ويشترط عليه أن لا يتصرّف فيه أصلیاً، ويبق في ملكه حتّى يموت ويرثه ابنه العالم . وذكر الشيخ الأنصاري رحمة الله ضابطاً لذلك ، فلاحظ (2).

ص: 271


1- المكاسب ص 31.
2- 6: 24.

السادس : أن لا يكون مجهولاً ، فإن كان الجهل به يسري إلى أحد العوضين ، أو يوجبكون البيع غرريّاً ، فاعتباره واضح. وأمّا مجرّد الجهالة ، فلا دليل على اعتبار عدمها. ويحتمل الفرق بين الجهالة من جميع الجهات ، والجهالة من بعض الجهات .

السابع : أن لا يستلزم منه المحال ، قيل : مثل ما إذا باع بشرط أن يبيعه منه ، فإن هذا الشرط يستلزم المحال ، لأنه يتوقف ملكية المشتري على الشرط ، أي : أن يبيعه منه و يتوقف بيعه على أن يكون ملكا.

وفيه أنه إن كان بنحو التعليق بأن قال : بعتک على شرط أن تبيعه منّي ، بحيث يكون قيداً في تملّك المشتري ، لزم المحذور المذكور ، لكن يقول : بعتك وألزمك ، أو التزامي بالبيع أن تبيعه منّي بعد ما صار ملكاً لك ، فلا بأس به حينئذ . نعم ورد روایات توهم عدم الجواز ، وسنتعرّض له في أحكام الشرط الفاسد.

الثامن : أن يذكر في متن العقد : لأنّ العقد إنشاء المدلوله وما يتعلّق به ، فإذا كان مذكوراً في متن العقد تحقّق إنشاؤه أيضاً . وإن لم يذكر في متن العقد ، فله صور :

الاُولى : أن يكون العقد مبنيّاً عليه ، ويكون العقد دالاً عليه دلالة عرفيّة ، كما إذا كان بناء السوق والمتعارف فيه أن يكون البيع مشروطاً بحيث يعرفه كلّ من كان من أهل السوق ، والظاهر أنّ حكمه حكم المذكور.

الثانية : أن لا يكون للعقد دلالة عرفيّة عليه ، لكن المتعاقدين كانا بانيين على ذلك من دون ذكر الشرط أصلیاً قبل العقد ولو بعنوان المقاولة ، و في كفايته في تحقّق الشرط وعدمها احتمالان.

الثالثة : أن يتقاولا على ذلك قبل العقد ، وأوقعا العقد مبنياً عليه ، وكان عدم ذكره في متن العقد لوضوحه والاتّكال على ذكره قبل ذلك ، بأن يكون ذكره قبل العقد كالدلالة اللفظيّة عليه ، ولعلّ إلحاقه بالمذكور أظهر ، وإن كان لا يخلو عن إشكال ؛ لأنّه لم ينشأ لفظاً ولا يدلّ عليه بدلالة لفظيّة كالقرينة العامّة ، ومجرّد

ص: 272

قصدهما لا يوجب تحقّق إنشائه ،

الرابعة : أن يكون قصدهما أو قصد أحدهما مضمون الشرط من دون شرط ولا إلزام ، وهذا لا يلحقه حكم الشرطه ، فلو أقرض ماله مثلاً وكان قصده أنّه يعطيه الأكثر من دون شرط مذکور ولم يبن عليه العقد بل مجرّد العلم بذلك لم يضرّ.

هذا ما يقتضيه صدق الشرط ليشمله عموم « » لكن في بعض النصوص أنّه لا اعتبار به ما لم يذكر .

فمنها : خبر بكير ، قال : قال أبو عبد الله علیه السلام : إذا اشترطت على المرأة شروط المتعة فرضیت به وأوجبت التزويج ، فاردد عليها شرطك الأوّل بعد النكاح ، فإن أجاز ته فقد جاز ، وإن لم تجزه فلا يجوز عليها ما كان من شرط قبل النكاح(1).

قوله علیه السلام « أوجبت » أي : قرأت الإيجاب فقط ، فيكون ذكر الشرط بعد الإيجاب قبل القبول و في متن العقد ، فيكون قرينة على أنّ المراد بقوله بعد النكاح بعد الإيجاب لا بعد إكمال الإيجاب والقبول ، فما ذكره في العوائد (2) من أنّ تأويله إلى ما بعد الإيجاب تأويل بلا دلیل ، ليس في محلّه . وعلى كلّ تقدير فظاهره أنّه لا يكفي العقد مبنيّاً على الشرط ، ويمكن القول باختصاصه بباب النكاح.

ومنها : خبره الآخر قال : قال أبو عبد الله علیه السلام : مَا كَانَ مِنْ شَرْطٍ قَبْلَ النِّكَاحِ هَدَمَهُ النِّكَاحُ ، وَ مَا كَانَ بَعْدَ النِّكَاحِ فَهُوَ جَائِزُ (3).

ومنها: خبر محمّد بن مسلم عن أبي جعفر علیه السلام قال : سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ علیه السلام يَقُولُ فِي الرَّجُلِ يَتَزَوَّجُ الْمَرْأَةَ مُتْعَةً أَنَّهُمَا يَتَوَارَثَانِ إِذَا لَمْ يُشْتَرَطَا ، وَ إِنَّمَا الشَّرْطُ بَعْدَ النِّكَاحِ .

ثمّ إنّ إطلاق هذه الأخبار يشمل ما لو علما تبانيها على الشرط بحيث اتّفقا عليه،

ص: 273


1- وسائل الشيعة 14: 468 ب 19ح 1.
2- العوائد ص 142.
3- وسائل الشيعة 18: 468ب 19ح 2 و 4.

نعم إن احتمل ندامتهما أو ندامة أحدهما على الشرط المذكور قبل العقد ، فهو خارج عمّا نحن فيه ، ولعلّه المراد من خبر زرارة ، قال : كان الناس بالبصرة يتزوّجون سرّاً فيشترط عليها أن لا آتيك إلّا نهاراً ولا آتيك بالليل ولا اُقسم لك ، قال زرارة : وكنت أخاف أن يكون هذا تزويجاً فاسداً ، فسألت أبا جعفر علیه السلام عن ذلك ، فقال : لا بأس به يعني التزويج ، إلا أنّه ينبغي أن يكون هذا الشرط بعد النكاح ولو أنّها قالت له بعد هذه الشروط قبل التزويج نعم ، ثمّ قالت - بعد ما تزوّجها - : إنّي لا أرضى إلّا أن تقسم لي و تبيت عندي فلم يفعل كان آثمآً(1).

بأن يكون المراد عدم وقوع التزویج مبنيّاً على الشروط المذكورة ، لكن يحتمل الاختصاص بالنكاح ؛ لأنّه يعتبر أن يكون في العقد ، والحكم متّرتّب على العقد . وإن كان المقصود غيره.

كما يدلّ عليه خبر أبان بن تغلب في المتعة أنّه قال لأبي عبد الله علیه السلام: فَإِنِّي أَسْتَحْيِي أَنْ أَذْكُرَ شَرْطَ الْأَيَّامِ ، قَالَ : هُوَ أَضَرُّ عَلَيْكَ ، قِلَّةُ : وَ كَيْفَ ؟ قَالَ : لِأَنَّكَ إِنْ لَمْ تَشْتَرِطْ كَانَ تَزْوِيجَ مُقَامٍ وَ لَزِمَتْكَ النَّفَقَةُ الْحَدِيثَ (2).

ولاحظ سائر الأبواب ففيها أخبار تدلّ على تعيين الصيغة في باب النكاح .

والحاصلی أنّه يمكن أن يقال : إنّ العقد النكاح خصوصيّة ، وهي اشتراط أن يذكر جميع القيود والشروط في متن العقد ، ولا يكفي أن يكون العقد مبنيّاً عليها بدون أن تذكر في العقد .

التاسع : التنجيز ، فلو كان الشرط معلّقاً بأن قال : بعت هذا على أن تخيط لي توباًإن جاء زيد لم يصحّ ، لكن لا دليل على اعتباره لعدم سرايته إلى أصلی العقد .

ص: 274


1- وسائل الشيعة15: 47 ب 39ح 2.
2- وسائل الشيعة 15: 470 ب 20 ع 2.

المقصد الثاني

في احكام الشروط

ويقع البحث فيه في فصلیين :

الفصلی الأول

في احكام الشروط الصحيحة

والكلام فيه في مواضع :

الموضع الأوّل

فيما إذا كان الشرط صفة من صفات المبيع الشخصي

تكون العبد كاتباً والجارية حاملاً،، واشتراطه يكون على أنحاء:

الأوّل : اشتراط أصلی البيع بالوصف ، بأن يقول : بعتك العبد إن كان كاتباً ،أي :إن لم يكن كاتباً لم أبعه ، وهذا تعليق في أصلی البيع ، وقيل : ببطلانه .

وما استدلّ له في الجواهر بأنّه مناف لما هو المعلوم من الشرع من تسبیب هذه الصيغ وترتّب الآثار عليها بمجرّد تمامها ، فالتعليق المقتضي لتأخّر الآثار وعدم إعمال السبب مقتضاه مناف لذلك ، ومنه يعلم أنّه لا يقدح صورة التعليق بعد العلم بإرادة الالتزام منها ، لا حقیقته المنافية لما عرفت ، بل ولا يقدح منه ما كان نحو بعتك إن كانت الشمس طالعة مع العلم بالطلوع (1)انتهی .

فإنّه لو تمّ لا يأتي في التعليق المفروض ، فانّ مقتضى العمومات من الآيات والأخبار، و عموم « المؤمنون عند شروطهم » صحّة البيع إن كان الشرط موجودة وذلك لا ينافي سبّيّة العقد من حين صدوره ، غاية الأمر عدم العلم بتأثيره ، فإذا انكشف وجود الصفة علم تأثير العقد ، والإجماع التعبّدي على البطلان غير معلوم

ص: 275


1- جواهر الكلام 23 : 198.

لاحظ ما أفاده الشيخ الأنصاري رحمة الله في شرائط البيع .

الثاني : أن يشترط لزوم البيع بوجوده على نحو تعدّد المطلوب ، بأن يقول :بعتك العبد على أن يكون لي الخيار إن كان جاهلاً. ولا إشكال في صحّته ، وثبوت الخيار مع فقد الصفة المشترطة.

الثالث : أن يشترط كون المبيع على تلك الصفة ، بأن يقول : بعتك العبد على أن يكون كاتباً على نحو وحدة المطلوب ، وهو في حكم أن يقول : بعتلك العبد الكاتب ؛ لأنّ الرضا بمبادلة العبد بالثمن إنّما يكون إذا كان كاتبة ، فإن لم يكن كاتباً لم يكن راضياً بالبيع.

فإن رضي بالبيع على الشرط المذكور بأن اعتمد على قول البايع أنّه مستصف بالكتابة ، وعلم البايع انّه ليس كذلك لم يجز له البيع ؛ لأنّه خدعة و غش وكذب ؛ لأنّ مقتضی عموم « الْمُؤْمِنُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ » و « أوفوا بالعقود» تسليم المبيع مع شرطه إلى المشتري ، سواء كانت العبارة بعتك هذا العبد الكاتب ، أو كانت العبارة بعتك هذا العبد على أن يكون كاتباً .

وحيث إنّ المبيع وقع على العين الشخصيّة فالمبيع هذه العين ، فإن تخلّف الوصف بطل البيع من ناحية فقد الرضا ؛ لأنّه رضي ببيع هذا العبد الموصوف بالكتابة ، بزعم أنّ هذا المبيع هو العبد الكاتب ، فاشتبه في تطبيق ما رضياً واقعاً على هذا الميع، لكن لو لحقه الرضا صحّ ؛ لأنّه كالبيع الفضولي واجد لجميع شرائط صحّة البيع إلّا الرضا.

ولا يخفى أنّ الرضا المعتبر في نفوذ المعاملات والتصرّفات هو الرضا الواقعي ، وإن كان حصوله من سبب لو علم عدم سببيّته لم يحصلی، لا الرضا الخيالي الخاطىء .

فإذا اعتقد شخص أن زيداً من أعدى أعدائه ، ونهاه عن أكل طعامه ، لكن كان واقعاً من أصدق أصدقائه ، وأحبّ الناس إليه ، جاز له الأكل؛ لأنّ الرضا الواقعي

ص: 276

موجود . وإن انعكس لم يجز له الأكل من طعامه.

وأمّا إذا حصلی الرضا من سبب لو كان يعلم عدم تأثيره ، لما كان يرضين بالتصرّف في ماله ، فيمكن أن يقال بكفايته ، كما إذا تخيّل أن الإحسان إلى شخص يفيده في قضاء حاجته ، مع أنه لا يفيده واقعاً ، وإن علم ذلك لم يحسن إليه ، لكن إن أحسن إليه بأن رضي أن يأكل من طعامه مثلاً ، وإن كان رضاه قد حصلی لخطأه ، جاز له أن يأكل ، لكن ليس رضا خياليّ ورضا واقعيّ ، بل رضا خباليّ فقط .

ويمكن استفادة ما ذكر من قوله علیه السلام « لَا يَحِلُّ الْمَالُ إِلَّا بِطِيبِ النَّفْسِ » فإنّ الطيب والرضا من الأمور الواقعيّة التي ليست تابعة للعلم والجهل ، كما أنّ الماء اسم للماء الواقعي ، فلو أعتقد وقطع بأنّ المائع ماء ولم يكن ماء في الواقع ، لم يترتّب عليه أحكام الماء ، فكذلك الرضا . ولو تنزّلنا عن ذلك و سلمنا أنّ الرضا حالة نفسانيّة لا واقع لها غير الحالة الموجودة في التنفس .

لكن يمكن أن يقال : إنّ هذا الرضا الحاصلی من زعم أنّ حقّه هذا المبيع لا ينفع لما يستفاد من ذیل صحيح أبي ولاّد الذي تحاكم مع من استأجر منه البغل إلى أبي حنيفة ، فقضى له بالجور ، فلمّا خرجا من عنده جعل صاحبه يسترجع ، فأعطاه شيئا فرضي به ، ثمّ إن أبا ولاّد لقي أبا عبد الله علیه السلام وقص عليه ما جرئ ، فقال علیه السلام بخلاف ما قال أبو حنيفة.

إلى أن قال : فقلت : إنّي كنت أعطيته دراهم ورضي بها وحلّلني ، فقال : إِنَّمَا رَضِيَ بِهَا وَ حَلَّلَكَ حِينَ قُضِيَ عَلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ بِالْجَوْرِ وَ الظُّلْمِ ، وَ لَكِنِ ارْجِعْ إِلَيْهِ فَأَخْبِرْهُ بِمَا أَفْتَيْتُكَ بِهِ ، فَإِنْ جَعَلَكَ فِي حِلٍّ بَعْدَ مَعْرِفَتِهِ فَلَا شَيْ ءَ عَلَيْكَ بَعْدَ ذَلِكَ (1).

إذ يقال : إنّ من يشتري شيئاً باعتقاد أنّ قيمته مائة تومان ان غشّه البائع

ص: 277


1- الوسائل 13: 255 کتاب الإجارة ب 17ح 1.

واشتراه بمائة تومان وكان قيمتاً واقعاً توماناً واحداً ، كانت المعاملة باطلة لفقد الرضا ، ولم يجز للبايع التصرف في الثمن إن علم ، ولكن لما كانت المعاملة صحيحة من جميع الجهات إلا من جهة فقد الرضا ، فإذا رضي المشتري صحّ ، وهذا معنى الخيار .

وممّا ذكرنا ظهر أنّه لا فرق بين القضيّة الحقيقيّة والخارجيّة ، فالتفصيل بين أن يقول لأعدى أعدائه الذي اعتقده صدیقه مخاطباً إيّاه : كل من طعامي بجواز الأكل، وبين أن يقول : من كان صديقي فليأكل من طعامي ، فلا يجوز له أن يأكل منه ، لا يرجع إلى محصّل.

وحاصلی ما ذكرناه في هذا المقام : إنّ قول القائل يعتك العبد على أن يكون كاتباً عبارة اُخرى عن قوله بعتك العبد الكاتب . ومن هذا القبيل شرط وجود صفة في أحد الزوجين ، مثل كون الزوجة باكرة ، أو كون الزوج هاشميّاً ، فإنّه لو تبين الخلاف فقتضى القاعدة الصحّة إن رضي أو رضيت .

الرابع : أن يكون الاشتراط التزاماً في ضمن التزام ويجب العمل به، لكن إن تخلّف لم يثبت الخيار ؛ لأنّه التزم بالبيع من دون تقيّده بشيء ، والتزم فيه أن يكون إخباره بكون المبيع واجداً للصفة المذكورة مطابقاً للواقع .

ثمّ إنّ الخيار قد يثبت في بعض هذه الأقسام الأربعة المتصورّة ، وفي بعضها لا يثبت . وقد ظهر ممّا ذكرنا أنّ ما أفاده الشيخ الأنصاري رحمة الله - من أنّه لا حكم التخلّف الوصف إلّا الخيار ؛ إذ لا يعقل تحصيله هنا ، فلا معنى لوجوب الوفاء فيه ، وعموم «المؤمنون » مختص بغيره انتهى - لا يتم في جميع الأقسام المذكورة.

ص: 278

الموضع الثاني

أن يكون الشرط من قبيل الغاية للفعل

کاشتراط تملّك عين خاصّة أو انعتاق ملوك خاصّ ونحوهما ، أو حقّ خیار في

المعاملة .

ولا ينبغي الإشكال في أنّ اشتراط الغاية لا يصحّ إن كان لها سبب خاصّ شرعاً مثل أن يقول : بعتك هذا الشيء على أن تكون زوجة زيد مطلّقة ، أو أن تكون هند زوجة لزيد ، فهذا شرط فاسد ؛ لعدم دخوله تحت القدرة بأن يتحقّق الزوجية أو الطلاق بدون إجراء صيغتهما.

وأمّا إن لم يكن له سبب خاصّ ، وكان يحصلی بأيّ دالّ يدلّ عليه ، فيصحّ اشتراطه ، مثل أن يقول : بعتك هذا الشيء بكذا على أن يكون فرسك لي ، أو على أن تكون وکيلي في بيع داري مثلاً ، فإنّ المال ينتقل من مالكه إلى آخر بسببٍ ما ، ولا يحتاج إلى سبب خاصّ .

ثمّ إنّه هل يتحقّق النتيجة المشترطة بعنوان الشرط ، أو يتحقّق بعنوان عقد الوكالة ؟ لأنّ الوكالة لا تحتاج إلى عقد خاصّ ؟ و جهان.

اختار الأوّل المحقّق الأصفهاني ، قال : إنّ العقود متباينة ، ولا يمكن اشتراط کون شيء مبيعاً بكذا ؛ لأنّ البيع مغایر لعنوان الشرط ، والقابل للاشتراط هي الملكيّة التي ليس لها سبب خاصّ ، وكذا الوكالة ، فإنّ الوكالة عنوان مغاير للشرط ، فلا معنى لحصولها به ، نعم أثر الوكالة وهي السلطنة على التصرّف يتحقّق بالوكالة وبالإذن في التصرّف وبالأمر به وبالشرط ، فإنّ هذه النتيجة علم أنّه لا سبب مخصوص لها(1)انتهى .

ص: 279


1- التعليقة ص 156.

واختار الثاني المحقق في الشرائع ، قال : وإذا اشترط المرتهن الوكالة في العقد لنفسه أو لغيره ، أو وضع الرهن على يد عدل لزم ، فلم يكن للراهن فسخ الوكالة على تردد انتهی .

وقال المحقّق الهمداني في شرحه : إنّ اشتراط الأذن في البيع في عقد الرهن يتصوّر على وجوه :

أحدها : اشتراط أن يوكّله بعقد مستأنف ، ولا إشكال في صحّة هذا الشرط .

ثانيها : اشتراط النتيجة ، أعني كونه وكيلاً عنه من دون حاجة إلى إيجاد سبب آخر وراء عقد الرهن ، وهذا أيضاً لا خفاء في صحّته ، بناءً على جواز شرط النتيجة، كما هو الأظهر في غير ما يتوقّف حصوله على أسباب موظفه ، كالنكاح والطلاق مثلاً.

ثالثها : مجرّد اشتراط كونه مرخصاً ومأذوناً في البيع ، هذا إذا قلنا بأنّ الوكالة عقد مرکّب من الإيجاب والقبول مغايرة لمطلق الإذن والترخيص كما هو الأظهر ، وإلّا فلا يكون هذا وجهاً ثالثاً ، ولا إشكال في جواز هذا الشرط وصحّته أيضاً .

رابعها ، اشتراط الاستيلاء والولاية في البيع ، إلى آخر كلامه(1) .

أقول : الظاهر تحقّق عنوان الوكالة بالشرط بعد قبول المشتري ، نعم فرق بين اشتراط الوكالة واشتراط الإذن في التصرّف ، فإنّه لا يحتاج إلى القبول ، بخلاف اشتراط الوكالة .

هذا كلّه إن دلّ الدليل على أحد الوجهين من صحّة اشتراط النتيجة أو عدم صحّتها ، وأمّا لو لم يدلّ دليل وشكّ في ذلك كاشتراط حرّيّة ولد العبد ونحوها ، فهل يصحّ أم لا؟ قولان ، اختار الشيخ الأنصاري رحمة الله والمحقق الخراساني رحمة الله الأوّل .

ص: 280


1- مصباح الفقيه ، كتاب الزكاة .. كتاب الرهن ص 222.

واستدلّ له الشيخ رحمة الله بوجهين : أحدهما أنّ الوفاء لا يختصّ بالفعل، بل هو أعمّ نظير الوفاء بالعهد ، ويشهد له تمسّك الإمام بهذا العموم في موارد كلّها من هذا القبيل كعدم الخيار للمكاتبة في خبر سليمان بن خالد . ثانيهمادليل الوفاء بالعقود بعد صيرورة الشرط جزءً للعقد .

واستدلّ له المحقّق الخراساني رحمة الله في تعليقته باستصحاب العدم المحمولي ، ويكفي في وجوب الوفاء به عدم مخالفة الشرط للكتاب والسنّة ؛ لأنّه لو احتاج المشروط إلى سبب كان حصوله بدون الشرط مخالفة للكتاب والسنّة ، والأصلی عدمه ، وعبّر عنه بعضهم باستصحاب العدم الأزلي .

أقول : قد ذكرنا في محله عدم صحة استصحاب العدم الأزلي لأمثال هذه الموارد .

واختار الثاني بعضهم ، وهو عدم صحّة الاشتراط ؛ لأنّ الشبهة مصداقيّة حيث لا يعلم أنّها تتحقّق بلا سبب ليكون داخلاً في عموم «الْمُؤْمِنُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ » أو لا تتحقّق بلا سبب ليكون داخلاً في المستثنى ، أي : إلآ شرطاً خالف الكتاب ، فتأمّل .

الموضع الثالث

أن يكون الشرط فعلاً

بأن يشترط في العقد فعلاً من أفعال أحد المتعاقدين أو غيرهما ، كاشتراط اعتاق العبد، أو خياطة الثوب ، أو فسخ العقد ، أو عدم فسخه ، وهو على أنحاء:

الأوّل : اشتراط أصلی البيع ، بأن يقول : بعتك هذا العبد إن خطت ثوبي ، أي : إن لم تخط ثوبي فلم أبعه ، وهذا الذي ادّعي فيه الإجماع على بطلانه ، وذكر في الجواهر وجهاً لبطلانه ، وقد تقدّم.

الثاني : أن يقول : بعتك هذا العيد وأشترط في التزامي بالبيع أن تخيط ثوبي ، أي بعتك وإن لم تخط ثوبي فلي الخيار في فسخ المعاملة ، ولا إشكال فيه ، ويكون له

ص: 281

الخيار عند تخلّفه ، ولا يجب عليه الوفاء بالخياطة لعدم الزامه بها.

الثالث : أن يقول : بعتك هذا العيد وألزمك أن تخيط ثوبي على أن يكون التزاماً في التزام ، ويجب عليه الوفاء بالشرط ، ولكن إن لم يف كان عاصياً ولم يوجب الخيار .

الرابع : أن يقول : بعتك هذا الشيء على أن تلتزم بخياطة الثوب ، ويجب عليه الوفاء بالشرط ، لأنّه التزم به ، وأمّا إذا لم يف فلا خيار ؛ لأنّ الشرط هو الالتزام وقد حصلی.

نعم له إجباره بالعمل بالشرط . قيل : ونظيره اشتراط الزوجة التزام الزوج بعدم إخراجها من بلدها ، فإذا قبل الزوج وجب عليه العمل بالشرط ، وإن عصى لم يكن خيار للزوجة ؛ لأنّ الشرط - وهو الالتزام - قد حصلی بقبول الزوج.

الخامس : أن يكون الفعل شرطاً ، بأن يقول : بعتك على أن تخيط ثوبي ، بأن يكون الخياطة شرطة في البيع ، وهنا مسائل :

المسألة الأولى : إذا قال : بعتك على أن تخيط ثوبي ، فلا ينبغي الإشكال في وجوب الوفاء بالعقد ، فإنّ الاستشهاد في الأخبار على لزوم الوفاء بالشرط بقول النبي صلی الله و علیه وآله وسلم «» يدلّ على الوجوب ، وليس هو كقوله « الْمُؤْمِنَ لَا يَتْرُكْ صَلَاةَ اللَّيْلِ » و نحوه ممّا ورد في مقام بيان الشأنيّة ، وإنّ المؤمن يكون كذلك من دون أن يكون واجباً.

وهل هو وجوب وضعي ؟ بمعنى أنّ المشروط له صار ذا حقّ بالشرط ، ولذا يجب إيصاله إليه ، ويجوز له التوصلی إليه بالرجوع إلى الجائر إن توقّف أخذ حقّه عليه بناءً على جوازه، أو أنّه وجوب تکليفي محض ، أو له جهتان جهة متعلّقة بالله تعالى من حيث إنّه أوجب ذلك ويجب إطاعته وإن لم يفعل عصي ، وجهة متعلّقة بالمشروط له من حيث كونه حقاً له ، نظير الغيبة التي فيها جهتان ، أو يختلف بحسب المقامات ، ففي

ص: 282

بعضها تکلیف محض ، وفي بعضها حقّ للمشروط له ، وجوه.

اختار الشيخ الأنصاري رحمة الله الوجه الأوّل ، فإنّه قال في المسألة الثانية : فالأقوى ما اختاره جماعة من أنّ للمشروط له إجبار المشروط عليه ؛ لعموم وجوب الوفاء بالعقد والشرط ، فإنّ العمل بالشرط ليس إلّا كتسليم المعوّضين ، فإنّ المشروط له قد ملك الشرط على المشروط عليه بمقتضى العقد المقرون بالشرط (1) انتهى .

وحاصلیه أنّ الشرط في العقود عبارة عن جعل عمل للمشروط له ، فإذا أمضاه الشارع بقوله «الْمُؤْمِنُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ» وبقوله « َوْفُوا بِالْعُقُودِ » كان له العمل المشروط ، فلذا يجب تسليمه إليه ، وله رفع اليد عنه ، فيسقط الوجوب ، وليس كسائر الواجبات التكليفية المحضة ، مثلاً جواب السلام واجب تكليفاً حضاً ، وليس للمسلّم أن يسقط حقّه من الجواب ، بأنّ يقول : لا اُريد جواب سلامي بخلاف الشرط ، وهذا يدلّ على أنّ وجوب العمل بالشرط متفرّع على كون الشرط من حقوق الشروط له ، فكما يجب أداء المال إلى مالكه من حيث كونه ماله ، فلو وهبه لم يجب الردّ، فكذلك الشرط.

واختار بعضهم الثاني ، واستدلّ عليه بأنّ الشرط هو الالتزام بشيء ، ومعنی کون المؤمن عند شرطه ليس إلّا لزوم الوفاء به وتعيّن إنهائه عليه شرعاً، وهذا هو الوجوب التكليف المحض.

أقول : إن كان المراد من كونه تکلیفاً محضاً أنّه نظیر وجوب الصلیاةعلى المكلّف لا يوجب حقاً للمشروط له ، وليس له مطالبته کمطالبته ماله الذي عنده ، فهذا خلاف المتفاهم عرفاً من كون الشرط من توابع المبيع . وقد تقدّم أنّ الشرط هو

ص: 283


1- المكاسب ص 285.

المسألة الثانية : هل يجبر المشروط عليه على فعل الشرط إن امتنع من باب أخذ الحقّ منه لا من باب الأمر بالمعروف ؟ الظاهر ذلك كما تقدّم عن الشيخ الأنصاري رحمة الله من أنّ المستفاد من كون الشرط قيداً في المعاملة أنّ ذلك حقّ للمشروط له ، فليس وجوب العمل بالشرط تکليفً محضاً ، وقد استدلّ من قال بأنّه تکلیف محض على وجوب الإجبار بوجوبه من باب الأمر بالمعروف ، وببناء العقلاء وسيرتهم على الاجبار .

المسألة الثالثة : الفعل المشروط إن كان قیداً في المبيع على نحو وحدة المطلوب بأن يكون الرضا بالمعاملة مقيداً بوجود الشرط ، فمع فقده كانت المعاملة بدون الرضا و تدخل في المستثنى منه في قوله تعالى « لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ» ونعبّر عنه بوحدة المطلوب ، وحيث إنّ المعاملة صحيحة من جميع الجهات إلّا من ناحية عدم رضا المتعاملين ، ففي نفوذها بلحوق الرضا بها کالفضولي وعدمها ، و جهان سيأتي التعرّض لها.

وإن كان من قبيل تعدّد المطلوب ، بأن كان أصلی البيع مثلاً مطلوباً بصيغة البيع ، ويكون المشروط مطلوباً بالشرط ، سواء كان الشرط قيداً في المبيع أو فعلاً ، فلا يكون الرضا بأصلی البيع مقيداً بكونه مع الشرط ، وحينئذ فتارة يكون الشرط شرطاً للالتزام بالبيع مع وجوب الوفاء به ، فإن امتنع يجبر عليه ، وإن لم يكن فله الخيار ، واُخرى يكون الشرط التزام في التزام ، فإن امتنع يجبر ، وإن لم يكن فلا خیار .

ثمّ إنّ من المناسب أن نذكر المسائل المتعلّقة بجميع أقسام الشرط، وهي شرط الصفة وشرط النتيجة وشرط الفعل تتميماً للفائدة ، فنقول :

المسألة الأولى : لو تعذّر الشرط ، ففي ما إذا كان من قبيل وحدةالمطلوب بطل البيع ، وإن كان من قبيل تعدّد المطلوب ، ففي بعض الصور يثبت الخيار ، وفي بعضها

ص: 284

لا يثبت الخيار .

نعم إن كان ممّا يقابل بالمال عرفاً وجب بذل ما بإزائه ، فلو اشترى منه ثوباً وشرط عليه الخياطة فتعذّر ، قدّر ما يعادله من الثمن بالنسبة إلى المسمّئ وبذل له ، ودعوی أنّ المشروط لا يبذل بإزائه المال ؛ لأنّ الثمن وقع بإزاء المبيع ، وإن زاد قيمته بلحاظ الشرطه ، غير مسموعة إن كان عرف المتبايعين على بذل مال بإزاء المشروط ، نعم إن كان عرف المتبايعين على عدم البذل حتّى يكون المتعاملان كأنّهما قد أقدما على هتك حرمة المشروط ، ثمّ يجب عليه بذل المال.

المسألة الثانية : لو تعذّر الشرط في مورد کان للبايع خيار الفسخ ، ولم تخرج العين عن سلطنة المشروط عليه بتلف فلا إشكال ، ولكن لو خرجت العين عن سلطنة المشروط عليه بتلف ، فهل يسقط الخيار أوله فسخ العقد والرجوع إلى قيمة العين ؟ وجهان .

وإن تعذّر الشرط والعين باقية لكّنها خارجة عن ملك المشروط عليه بنقله عن ملکه ، فهل له الفسيخ أم لا؟ وجهان ، وعلى فرض أنّه فسخ قهل يرجع إلى القيمة أو يفسخ العقد الواقع على العين ؟ وجهان . وتعرّض الشيخ الأنصاري رحمة الله لهذه الفروع في المسألة الخامسة.

المسألة الثالثة : هل للمشروط له رفع اليد عن شرطه فیما كان له إسقاطه ؟ لا يبعد أن يكون إسقاط الشرط إن كان فعلاً على ذمّة المشروط عليه من الأبراء ، وإن كان صفة وكان من وحدة المطلوب ، فهو من الرضا بالبيع الذي وقع لا عن رضا.

وأمّا إذا كان من قبيل شرط النتيجة ، فإن كان عيناً خارجياً ، فلا معنى للإبراء وإن كان شيئاً ثابتاً في الذمّة صحّ الإبراء.

المسألة الرابعة : هل يجب الوفاء بالشرط الابتدائي ؟ أي : ما لم يكن قيداً لعقد لازم أو جائز ولا إيقاع أو لا؟ وجهان ، اختار في العوائد الوجوب ، قال : نحن نقول

ص: 285

بوجوب الوفاء بكل وعد ، وقد صرح به جماعة(1).

أقول : ويدلّ عليه مع صدق الشرط عليه خبر هشام بن سالم ، قال : سمعت أبا عبد الله علیه السلام يقول :عِدَةُ الْمُؤْمِنِ أَخَاهُ نَذْرُ لَا كَفَّارَةَ لَهُ ، فَمَنْ أَخْلَفَ فَبِخُلْفِ اللَّهِ بَدَا وَ لِمَقْتِهِ تَعَرَّضَ ، وذلك قوله تعالى «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ »(2).

وخبر شعیب بن يعقوب ، عن أبي عبد الله علیه السلام قال : قال رسول الله صلی الله و علیه وآله وسلم : مِنْ کان يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَفِ إِذَا وَعَدَ (3).

وما ورد من أنّ خصال المنافق أنّه إذا قال كذب ، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان (4).

وما ورد من أنّ من إذا وعد وفا ، فقد كملت مروّته ، وحرمت غیبته .

وأقول : والأحوط لزوماً العمل به.

المسألة الخامسة : هل يصحّ الشرط إذا كان قبل العقد متصلیاً به أو بعده أم لا؟ کا لو قال البايع : بعت ، وقال المشتري : قبلت ، ثمّ قال البايع ، واشترطت أنّ لي الخيار إلى مدّة معلومة.

والظاهر دخوله في الشرط الابتدائي ، فمن قال بعدم وجوب الوفاء هناك ينبغي أن يقول فيه بعدم الوجوب.

هذا ولكن قال في العوائد : مقتضى العمومات المتقدّمة وجوب الوفاء بالشرط مطلقا، سواء كان قبل العقد أو بعده ، بل لو لم يكن عقد أيضاً إلّا فما كان شرطاً

ص: 286


1- العوائد ص 135.
2- وسائل الشيعة 8: 515ه ب 109 ح 3.
3- وسائل الشيعة 8: 515 ب 109ح 2.
4- وسائل الشيعة 11: 269 ح 4.

للخيار المستلزم للعقد مقارناً للشرط أو قبله أو بعده ، وقد خرج من ذلك ما كان قبل النكاح بالإجماع ، وأمّا غيره فلا دليل على خروجه ، بل الأخبار الكثيرة مصرّحة بنفوذ الشرط بعد النكاح والتزويج ، و تأويله إلى ما بعد الإيجاب تأویل بلا دليل(1) انتهي.

أقول : تقدّم وجه التأويل . ولا يبعد التفصيل بين عقد النكاح وشبه ممّا يعتبر فيه الصيغة ، أي : إنشاء المقصود باللفظ ، وبين غيره ممّا يكون المعتبر فيه إفادة المقصود ، فإنّ مقتضى إطلاق الأخبار كفاية ذكر الشرط قبل وبعد متّصلیاً ، ولا يترك الاحتياط.

الفصلی الثاني

في حكم الشرط الفاسد

وهو على أقسام:

الأوّل : ما يوجب فساده فساد المعاملة بمقتضى القاعدة ، أو بمقتضى نصّ خاصّ،فلا إشكال في فساد المعاملة.

الثاني : ما جعل شرطاً للخيار ، بأن قال : بعتك هذا على أن يكون لي الخيار إن لم تشرب الخمر من دون إلزام بالشرط ، والظاهر ثبوت الخيار عند التخلّف ، إلا أن يثبت نصّ خاصّ على عدمه.

الثالث : ما جعله شرطاً للخيار مع الإلزام بالشرط ، بأنّ قال : بعتك هذا على أن تشرب الخمر والتزامي بالبيع إن شربت الخمر ، فلا يجب الوفاء بالشرط ، ويثبت عند تخلّفه الخيار ، ولا إشكال على القاعدة.

الرابع : ما جعله شرطاً من باب تعدّد المطلوب ، کالالتزام في الالتزام ، فيجب

ص: 287


1- العوائد ص 142.

العمل بالشرط ولا يوجب تخلّفه الخيار .

الخامس : ما جعله شرطاً على نحو وحدة المطلوب. وهذا يوجب فساد العقد لفقد التراضي . فلو باع حانوتاً على أن يبيع المشتري فيه الخمر ، بأن كان رضاه بالبيع مقیّداً بذلك ، كان الحكم بصحّة البيع و عدم لزوم الشرط موجباً لصحّة البيع بدون رضا المالك ، فالقول بعدم سراية الفساد إلى البيع نفسه بعد عدم تغيّر عنوانه عمّا كان عليه قبل انضمام الشرط ، وأنّه ليس من الأكل بالباطل ، في غير محلّه . وكذلك البيع بالشرط الغير المقدور ، كاشتراط خياطة الثوب مع عدم كونه قادراً عليه، فإنّه يبطل لو كان على نحو وحدة المطلوب .

واستدلّ لصحّته بأخبار :

الأوّل : ما دلّ على أن من باع ما يملك وما لا يملك وجب البيع فيا يملك (1).

وفيه أنّه لا إطلاق للخير بحيث يشمل صورة تقیید رضا المشتري بأن يتملّك جميع المبيع في محلّ واحد.

الثاني : خبر الحلبي الدالّ على أنّ بريرة لمّا باعوها شرطوا أنّ ولاءها لهم ، فلم يسلم لهم الشرط وصحّ البيع .

أقول : لا يبعد أن يكون من تعدّد المطلوب ، لا أن يكون رضاهم بالبيع مقيّداً بأن يكون ولاؤها لهم فتأمّل .

الثالث : خبر محمّد بن قيس عن أبي جعفر علیه السلام قال : قُضِيَ عَلِيِّ علیه السلام فِي رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً وَ أَصْدَقَهَا وَ اشْتَرَطَتْ أَنَّ بِيَدِهَا الْجِمَاعَ وَ الطَّلَاقَ ، قَالَ : خَالَفَتِ السُّنَّةَ وَ وَلَّتِ الْحَقَّ مَنْ لَيْسَ بِأَهْلِهِ ، قَالَ : فَقُضِيَ علیه السلام أَنَّ عَلَى الرَّجُلِ النَّفَقَةَ وَ بِيَدِهِ الْجِمَاعَ وَ الطَّلَاقَ وَ ذَلِكَ السُّنَّةُ (2). وخبره الآخر (3). ومرسل ابن بكير(4).

ص: 288


1- وسائل الشيعة 252:12 ب 2 ح 1.
2- جامع أحادیث الشيعة 21 : 273 ب 42 ح 1.
3- جامع أحاديث الشيعة 21: 273ح 2.
4- جامع أحاديث الشيعة 21 :273ح 2.

وهي تدلّ على أن العقد صحیح و الشرط فاسد ، وهل هو من باب تعدّد المطلوب أم من باب وحدته ؟ والمقام يقتضي الاحتمال الأوّل : الاقتضاء الطبع ذلك ، فإنّ من تتزوّج وترغب في الزوج فهي راضية بالزواج به لكنّها اشترطت لنفسها شروطاً زائدة على ذلك .

الرابع : خبر علي بن رئاب عن أبي الحسن موسى علیه السلام قال :سُئِلَ وَ أَنَا حَاضِرُ عَنْ رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى مِائَةِ دِينَارٍ عَلَى أَنْ تَخْرُجَ مَعَهُ إِلَى بِلَادِهِ ، فَإِنْ لَمْ تَخْرُجْ مَعَهُ فَإِنَّ مَهْرَهَا خَمْسُونَ دِينَاراً إِنْ أَبَتْ أَنْ تَخْرُجَ مَعَهُ إِلَى بِلَادِهِ ، قَالَ : فَقَالَ : إِنْ أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ بِهَا إِلَى بِلَادِ الشِّرْكِ ، فَلَا شَرْطَ لَهُ عَلَيْهَا فِي ذَلِكَ ، وَلِّهَا مِائَةُ دِينَارِ الَّتِي أَصْدَقَهَا إِيَّاهَا ، وَ إِنْ أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ بِهَا إِلَى بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ وَ دَارِ الْإِسْلَامِ ، فَلَهُ مَا اشْتَرَطَ عَلَيْهَا ، وَ الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ ، وَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَخْرُجَ بِهَا إِلَى بِلَادِهِ حَتَّى يُؤَدِّيَ إِلَيْهَا صَدَاقَهَا أَوْ تُرْضِي مِنْهُ مِنْ ذَلِكَ بِمَا رَضِيَتْ وَ هُوَ جَائِزُ لَهُ(1).

فقد دلّ على أنّ فساد الشرط لا يؤثر في فساد العقد ، لكن يحتمل أن يكون المهر مائة وشرط عليها أن تأتي إلى بلاد الشرك ، وإن لم تأت فينتقص من مهرها خمسين ، وهذا الشرط لا يلزم الوفاء به ، فلا يؤثر في بطلان العقد ، و تقدّم احتمال آخر في معنى الخبر .

الخامس : مرسل جميل عن أحدهما پغ في الرجل يشتري الجارية ، فيشترط لأهلها أن لا يبيع ولا يهب ولا يورث ، قَالَ : يَفِي بِذَلِكَ إِذَا شَرَطَ لَهُمْ إِلَّا الْمِيرَاثَ الحديث (2). وهو يدلّ على أنّه إن شرط عدم الإرث كان الشرط باطلاً والعقد

ص: 289


1- جامع أحاديث الشيعة 21: 272ب 21ح 4.
2- جامع أحاديث الشيعة 21: 272ح 5.

صحيحاً . وفيه احتمال انّه من تعدّد المطلوب .

السادس : خبر زرارة قال : سئل أبو جعفر علیه السلام عن النهاريّة يشترط عليها عند عقدة النكاح أن يأتيها متى شاء كلّ شهر وكلّ جمعة يوماً ، ومن النفقة كذا وكذا قَالَ : فَلَيْسَ ذَلِكَ الشَّرْطُ بِشَيْ ءٍ ، وَ مَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً فَلَهَا مَا لِلْمَرْأَةِ مِنَ النَّفَقَةِ وَ الْقِسْمَةِ ، وَ لَكِنَّهُ إِذَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً فَخَافَتْ مِنْهُ نُشُوزاً أَوْ خَافَتْ أَنْ يَتَزَوَّجَ عَلَيْهَا أَوْ يُطَلِّقَهَا ، فَصَالَحَتْهُ مِنْ حَقِّهَا عَلَى شَيْ ءٍ مِنْ نَفَقَتِهَا أَوْ قِسْمَتِهَا ، فَإِنَّ ذَلِكَ جَائِزُ لَا بَأْسَ بِهِ (1).

وهو يدلّ على أن ّفساد الشرط لا يؤثر في فساد العقد ، وهو معارض بسائر أخبار الباب ، وجمع في الوسائل بينه وبين سائر الأخبار بحمله على تعيّن اليوم بخلاف غيره . وقد مرّ الكلام فيه.

واستدلّ على فساد العقد باُمور؛

الأوّل : الأخبار ، وهي :

الأوّل : خبر عبد الملك بن عتبة ، قال : سألت أبا الحسن موسى علیه السلام عَنِ الرَّجُلِ أَبْتَاعُ مِنْهُ طَعَاماً ، أَوْ أَبْتَاعُ مِنْهُ مَتَاعاً عَلَى أَنْ لَيْسَ عَلَى مِنْهُ وَضِيعَةُ ، هَلْ يَسْتَقِيمُ هَذَا ؟ وَ كَيْفَ يَسْتَقِيمُ ؟ وَحَّدَ ذَلِكَ ؟ قَالَ : لَا يَنْبَغِي(2).

فإنّ الربح والوضيعة تابعان للعين ، فاشتراط کون وضيعة العين على غير مالكها شرط فاسد فيفسد العقد ، وفيه أنّ قوله «لا ينبغي » وإن كان ظاهراً في الحرمة ، لكنّه محمول على الكراهة ، جمعاً بينه وبين ما رواه رفاعة ، قال : سألت أبا الحسن موسى علیه السلام عن رجل شارك رجلاً في جارية له ، وَ قَالٍ : إِنْ رَبِحْنَا فِيهَا فَلَكَ نِصْفُ الرِّبْحِ ، وَ إِنْ كَانَتْ وَضِيعَةُ فَلَيْسَ عَلَيْكَ شَيْ ءُ ، فقال : لَا أَرَى بِهَذَا بَأْساً إِذَا طَابَتْ

ص: 290


1- جامع أحادیث الشيعة 21: 270 ب 40 ح 4.
2- جامع أحاديث الشيعة 18: 243 ب 12 ح 3.

نَفْسُ صَاحِبِ المجارية(1) . وقريب منه رواية أبي الربيع(2).

وفي رسالة الشروط : إنّ الفساد ليس للشرط ، بل لسرايته منه إلى أصلی البيع ، فإنّ اشتراط أن ليس عليّ وضيعة على نحو الإطلاق ومن دون تحديد له بفترة زمنيّة محدودة ، بل وعدم تحديد الخسارة بحدّ معيّن ، يكون من أظهر مصادیق الغرر إلى آخر كلامه(3).

أقول : لعلّ له متعارفاً ينصرف إليه ، ولعلّ الحكم بالجواز في روايتي رفاعة وأبي الربيع المتقدّمين مبني على هذا الانصراف إلى المتعارف .

الثاني : خبر الحسين بن منذر ، قال : قلت لأبي عبد الله علیه السلام : يَجِيئُنِي الرَّجُلُ فَطَلَبَ الْعِينَةِ ، فَأَشْتَرِي لَهُ الْمَتَاعَ مُرَابَحَةً ، ثُمَّ أَبِيعُهُ إِيَّاهُ ، ثُمَّ أَشْتَرِيهِ مِنْهُ مَكَانِي ، قَالَ : فَقَالَ : إِذَا كَانَ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ بَاعَ وَ إِنْ شَاءَ لَمْ يَبِعْ ، وَ كُنْتَ أَنْتَ أَيْضاً إِنْ شِئْتَ اشْتَرَيْتَ وَ إِنْ شِئْتَ لَمْ تَشْتَرِ ، فَلَا بَأْسَ ، قَالَ : قِلَّةُ : فَإِنَّ أَهْلَ الْمَسْجِدِ يَزْعُمُونَ أَنَّ هَذَا فَاسِدُ وَ يَقُولُونَ : إِنْ جَاءَ بِهِ بَعْدَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ صَلَحَ ، قَالَ : فَقَالَ : إِنَّ هَذَا تَقْدِيمُ وَ تَأْخِيرُ فَلَا بَأْسَ بِهِ (4).

قال الشيخ الأنصاري رحمة الله في المكاسب : إنّ مفهومه ثبوت البأس إذا لم يكونا أو أحدهما مختاراً في ترك المعاملة الثانية ، و عدم الاختيار في تركها إنّما يتحقّق باشتراط فعلها في ضمن العقد الأوّل ، فيكون فساد العقد لفساد الشرط.

وأجاب بأنّ المراد من قوله علیه السلام « فلا بأس »، أنّ الشراء لا بأس به ، ومفهومه أنّه إن لم يكن مختاراً في البيع فسد الشراء منه ، ولعل الفساد من أجل فقد الرضا ، حيث

ص: 291


1- جامع أحاديث الشيعة18: 243 ب 12ح 1.
2- جامع أحاديث الشيعة 18 : 243 ب 12ح 2.
3- الشروط1: 306.
4- جامع أحاديث الشيعة 17 : 473ح 2.

أنّه يرى نفسه ملزمة بالبيع لا من حيث الاشتراط (1).

أقول : المبيع إمّا كلّيّ ، وإنّما عين شخصيّة . أمّا الأوّل ، فلا بأس به حالاً ومؤجلاً كان البايع مالكاً أو لم يكن مالكاً حين العقد . وأمّا الثاني ، فهو باطل إن لم يكن مالكاً ؛ لأنّه باع ما لم يملك ، نعم إن كان مجرّد مقاولة فلا بأس . وعلى هذا فقوله علیه السلام « إِذَا كَانَ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ بَاعَ » یرید به بیان أنّه هل وقع البيع على العين الغير المملوكة حتّى لا يصحّ البيع ، أو كانت مقاولة ومراوضة حتّى يصح البيع ، وليس ذلك من باب الاشتراط على أن يبيع البايع إيّاه بعد ذلك. فهذا الخبر لا ربط له بهذه المسألة.

الثالث : خبر علي بن جعفر ، عن أخيه موسی بن جعفر علیه السلام ، قال : سألته عن رجل باع ثوباً بعشرة دراهم إلى أجل ، ثمّ اشتراه بخمسة دراهم أيحلّ ؟ قال: إذا لم يشترط ورضيا فلا بأس (2).

وقد أورد عليه الشيخ الأنصاري رحمة الله بما أورده على خبر الحسين بن المنذر ، وقدتقدّم.

أقول : هو صريع في أنّه لا يصحّ مع الشرط ، بأن يبيعه بشرط أن يشتريه منه ، فالأحوط الالتزام بأنّ البيع بشرط أن يشتريه منه فاسد ، لكن مع صدق الاشتراط بذكره لفظاٌ أو مبنيّاً عليه العقد.

الثاني - من الأدلة - : أنّ الشرط يقابل بالمال ، فإذا كان فاسداً كان ما يقابله مجهولاً، وذلك يوجب جهالة الثمن.

وأجاب عنه الشيخ الأنصاري رحمة الله أوّلاً بأنّ الشرط لا يقابل بجزء من العرض . و ثانياً منع جهالة ما بإزاء الشرط من العرض : لأنّ التفاوت بين وجوده و عدمه

ص: 292


1- المكاسب ص 288.
2- جامع أحاديث الشيعة 17 : 473 ح 3.

مضبوط عرفاً.

وثالثاً منع كون الجهالة الطارية على العوض قادحة ، إنّما القادح هو الجهل عند إنشاء العقد(1).

قلت : الشرط إن كان متموّلاً فلا يبعد مقابلته بالمال ، و جهالته حينئذ يوجب جهالة ثمن المسمّئ ، وليس ذلك طارياً بل هو مجهول عند العقد .

الثالث : أنّ التراضي وقع على المقيّد بالشرط ، ومع فقده يكون المعاملة باطلة الفقد الرضا فيها.

قلت : إنّه كذلك إن كان من قبيل وحدة المطلوب . وأمّا إن كان من قبيل تعدّد المطلوب بأن كان التراضي بأصلی البيع غير مقيّد بالتراضي بالشرط فيصحّ البيع.

ثمّ إنّه في صورة وحدة المطلوب قد يقال بعدم بطلان البيع ؛ لأنّه وقع على العين الشخصيّة ، لكن لم يصحّ البيع لعدم الرضا به ، فإذا تعقّبه الرضا فيمكن تصحيحه .

ونظير هذا الكلام يأتي في العين ؛ لأنّ الرضا الواقعي لم يتعلّق بالمعاملة المغبون فيها ، فإذا علم البائع أو المشتري بالغين ، كان له الرضا بالبيع فيصحّ حينئذ ، وكان له عدم الرضا به فیبطل ، وهذا نتيجة الخيار .

ثمّ إنّ الشيخ الأنصاري رحمة الله فرّق بين القيود المأخوذة في المطلوبات العرفيّة والشرعيّة ، بين ما هو ركن تكون المبيع حيواناً ناطقاً لا ناهقاً ، فلو اشترين عبد فتبيّن كونه حماراٌ لم يقع التراضي عليه ، وبين ما لیس برکن ، کالعبد الكاتب وغير الكاتب ، وحينئذ إن كان الشرط من قبيل الثاني فقد وقع عليه التراضي ، غاية الأمر أنّ قوات القيد هنا موجب للخيار لو كان المشروط له جاهلاً بالفساد .

قلت : إن رجع إلى ما ذكرناه من تعدّد المطلوب ووحدته فهو ، وإلّا فيمكن منع

ص: 293


1- المكاسب ص 288.

ذلك ، مثلاً من اشترى مقدار كثيراً من العنب على أن يجعله البائع خمراً ، وإنّما رضي بالبيع بهذه الخصوصيّة ، وإلّا فلا حاجة له إلى العنب ، فالقول بصحّة البيع ولزومه وعدم جعله خمراً خلاف رضا المشتري ، والقول بأنّ له الخيار خلاف جعل الشرط قيداً للمبيع لا قيداً للالتزام بالبيع . ونظيره من اشترى للصيف لباساً على أن يخيطه ، ولم يخطه إلّا في الشتاء ، فلم يقع التراضي على الخياطة في الشتاء لا في أصلیه ولا في قیده ، فتأمّل .

المقصد الثالث

في جريان شرط الخيار في جميع العقود

قيل : إنّه يجري في العقود القابلة للتقایل ، فإنّه إذا جاز التقایل ، فلا بأس باشتراطه في العقد ، فيجوز جعل الخيار بدون شرط ردّ الثمن أو غيره ، ويجوز جعله بشرط ردّ الثمن .

ويدلّ على بعض أفراده خبر إسحاق بن عمّار ، قال : حدّثني من سمع أبا عبد الله علیه السلام وسأله رجل وأنا عنده ، فقال : رجل مسلم أحتاج إلى بيع داره ، فجاء إلى أخيه فقال : أبيعك داري هذه وتكون لك أحبّ إلي من أن تكون لغيرك ، على أن تشترط لي إن أنا جئتك بثمنها إلى سنة أن تردّ علي، فقال : لا بأس بهذا إن جاء بثمنها إلى سنة ردّها عليه الحديت(1).

ثمّ إنّه إن تعدّينا عن مورد خبر إسحاق إلى غيره ، يكون شرط الخیار من الحقوق التي تورث ، بناءً على أنّ الحقوق تورث . وأمّا إذا اقتصرنا على مورده ، فإن كان المجعول حقّ الخيار ، فهو يورث بناءً على إرث الحقوق . وأمّا إن لم يكن حقاً بل

ص: 294


1- وسائل الشيعة 12 : 355 ب 8ح 1.

مجرّد جواز الفسخ وكان حكماً فلا يورث.

وقد يقال بأنّه ليس للمتعاقدين جعل الحقّ ، فإنّه وظيفة الشارع ، وأيضاً ليس لها جعل جواز الفسخ لأحدهما أو لكليهما ، فيكون جعل الخيار مخالفاً للكتاب والسنّة.

وبعبارة اُخرى : لدليل لزوم العقد إطلاق ، وشرط الخيار يكون مخالفاً له .

وفيه أنّه إذا جاز التقایل ، فرجعه إلى أنّ اختيار فسخ العقد أو تراضيهما بيدهما ، فلا بأس بشمول عموم « الْمُؤْمِنُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ » له ؛ لرضايتهم من الأوّل بالفسخ.

وإن كان العقد غير قابل للتقابل کالنکاح ، فلا يصحّ جعل شرط الخيار ، فإنّه يكون مخالفاً لكون العقد يوجب العلاقة الزوجیّة على الدوام.

ولو شرط الخيار ، فهو شرط فاسد ، وهل يفسد العقد أم لا؟

الظاهر أنّه إن كان الشرط مطلوباً مستقلاً، بأن كان من تعدّد المطلوب بأن رضي بالنكاح واشترط ذلك فيصحّ ، وإلّا فيبطل .

هذا ولكن قال في الشرائع : لو شرط الخيار في النكاح بطل ، وفيه تردّد منشأه الالتفات إلى تحقّق الزوجيّة لوجود المقتضي ، وارتفاعه عن تطرّق الخيار ، أو الالتفات إلى عدم الرضا بالعقد لترتّبه على الشرط ، ولو اشترطه في المهر صح ّالعقد والمهر والشرط(1) انتهى.

واستدلّ على عدم دخول الخيار فيه بوجوه ، أحسنها أنّ فسخ عقد النكاح بالشرط مخالف لعموم وجوب الوفاء بعقد النكاح ما لم يطلق ، أو تنقضي المدّة . فالشرط مخالف للكتاب والسنّة ، ومناف للحصر في صحيح الحلبي إنّ النكاح لا يفسخ بغير الأربعة . وإذا كان الشرط فاسداً ، فهل يبطل العقد أم لا؟ وجهان .

ص: 295


1- الجواهر 105:31.

وقد استدلّ على البطلان بوجهين :

الأوّل : ما ذكره في الجواهر(1) بأنّ هذا الشرط مناف لمقتضي العقد ، والشرط المنافي لمقتضى العقد يوجب عدم القصد إلى العقد ، فلذا يبطل العقد ، بخلاف ما إذا كان الشرط منافياً للكتاب والسنّة ، فإنّه شرط فاسد، وهو لا يفسد العقد انتهى .

ولعلّه يريد أن ّالنكاح : إمّا موقّت وهوالمتعة ، وإمّا دائم ، فاشتراط الخيار مناف له.

وفيه أنّ مقتضى العقد كون المرأة زوجة للرجل ، وشرط الخيار لا ينافي كونها زوجة موقّتة أو غير موقّتة ، لأنّه راجع إلى زوال العقد ، ومثله شرط الطلاق ، فلو زوجها بشرط أن يطلقها لم يكن مانع عنه ظاهراً .

الثاني : فقد التراضي ؛ لأنّ التراضي لا يختصّ بالعقد دون الشرط ، بل هو شامل لهما معاً.

وأجاب عنه في الجواهر بأنّ ذلك يأتي في كلّ شرط فاسد ، والإجماع ثابت على عدم اقتضائه الفساد.

قلت : قد ذكرنا التفصيل بين وحدة المطلوب و تعددّه ، ولعلّ ما نحن فيه من قبيل الثاني ، وحينئذ فالشرط فاسد، ولا يسري فساده إلى العقد .

ص: 296


1- الجواهر31: 106.

المقصد الرابع

في الشرط في العقود الجائزة

والكلام فيه في مواضع :

الموضع الأقل

في اشتراط الوصف فيها

إنّ اشتراط الوصف في العقود الجائزة يوجب تعليق العقد عليه ، ولا يضرّ بصدق العقد عليه ، فلو قال : أنت وكيلي إن کنت هاشميّاً ، صدق علیه عقد الوكالة ، فإن كان الوصف موجوداً تحقّق العقد ، ولا دليل على المنع عن التعليق فيها .

الموضع الثاني

في شرط النتيجة

إنّ اشتراط نتيجة تحصلی بلا توقّف على سبب خاصّ ،كالزوجيّة المتوقّفة على صيغة الزواج ، مثل أن يقول : أنت وكيلي في بيع داري على أن يكون فرسك لي ، يوجب أن يكون الفرس للموكّل بعد قبول الوكيل ، وهل له فسخ الوكالة ؟ الظاهر ذلك ، فيخرج الفرس عن ملکه ؛ لأنّ ملكيّته له تابعة لكونه وكيلا في بيع الدار ، فإذا بطلت وكالته خرج الفرس عن ملکه ، إلا إذا كانت ملكيته تابعة لحدوث الوكالة ، ومن أفراد شرط النتيجة اشتراط لزوم العقد ، وفي نفوذه احتمالات :

الأوّل : صحّة اشتراطه ، فيوجب لزوم العقد ، واختاره في العروة الوثقی، حيث قال في كتاب المضاربة : إنّها جائزة من الطرفين ، نعم لو اشترط فيها عدم الفسخ إلى زمان كذا، يمكن أن يقال بعدم جواز فسخها قبله ، بل هو الأقوى لوجوب الوفاء

ص: 297

بالشرط ، والشرط الذي مفاده عدم الفسخ مثل المقام يوجب لزوم ذلك العقد(1).

أقول : من قال لزيد : أنت وكيلي في بيع داري بشرط أن لا يكون لي حقّ عزلك ، إنحلّ إلى قوله إنّك وكيلي في كلّ آن في بيع داري حتّى بعد أن أعزلك ؛ لأنّ الوكالة تنحلّ بحسب الأزمنة التي تستمرّ إليها ، وهي من العقود الجائزة ، فكونها لازمة منافية لجوازها . وكذا إن قال: أنت وكيلي بشرط أن لا تعزل نفسك ، أي : لا تفعل العزل ، ولكن لو عزلت نفسك لم تنفسغ الوكالة ، وهذا أيضا غير صحيح ؛ لأنّه لا إلزام للوكيل.

فالأولى أن يقال : إنّ معنى أنت وكيلي بشرط أن لا تعزل ، يرجع إلى أنّي اشترطت عليك أن تفعل ذلك العمل وكالة عنّي ، فإذا قبل وجب الوفاء بالشرط من باب الوفاء بالشرط الابتدائي ، فهو وكيل ويترتّب عليه آثار الوكالة لكن وكالة لازمة . هذا إذا كان تقييداً في الرضا وكان من باب وحدة المطلوب.

وأمّا إذا كان من باب تعدّد المطلوب ، بأنّ قال : أنت وکيلي في بيع داري وألزمك في ضمن هذا العقد أن لا تفسخ ، فيكون نظير الالتزام في الالتزام ، فإنّه يجب عليه الوفاء بالشرط ، لكن إن فسخ ينفسخ العقد.

ومما يدلّ على جريان شرط النتيجة خبر سلمان بن خالد ، فإن قوله علیه السلام «لا خیار ها » ظاهر في سقوط خيارها ، لا أنّه ليس له أن يفسخ بأن يكون الفسخ حراماً تکليفاً محضاً.

الثاني : عدم الوجوب ؛ لأنّ الشرط فرع العقد ، فإذا كان العقد جائزاً ، فلا يكون فرعه لازماً، وسيأتي ما له نفع بالمقام.

الثالث : التفصيل بين شرط اللزوم فهو باطل ؛ لأنّه خلاف السنّة ، فإنّ الوكالة

ص: 298


1- العروة الوثقى ، كتاب المضاربة ، المسألة 2.

عقد جائز ، وبين شرط أن لا يفسخ العقد ، فإنّه فعل مباح ، فله اشتراطه . وفيه أنّ شرط عدم فسخ العقد موجب لتحريم الحلال ، وهو حليّة فسخ الوكالة.

الموضع الثالث

في اشتراط فعل من أفعال أحد المتعاقدين

كأن يقول : أنت وکيلي في بيع داري على أن تخيط ثوبي ، أو أنت وكيلي على أن لا تفسخ الوكالة ، أو على أن لا أفسخ الوكالة . والظاهر أنّ بعض الأقسام المتصوّرة في اشتراط الفعل في العقد اللازم لا يجري هنا.

ثمّ إنّه هل يجب الوفاء بالشرط في ضمن العقد الجائز مطلقا أو لا يجب ؟ قولان :

الأوّل : وجوب العمل بالشرط ؛ لعموم «الْمُؤْمِنُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ »نعم له فسخ العقد حيث إنّه جائز، فينتفي العقد ، فلا يجب الوفاء بالشرط.

ومما يدلّ على جريان الشرط في العقد الجائز خبر سلمان بن خالد ، فإنّ ما اتّفق عليه الابن مع زوجة أبيه ليس إلّا هبة ونحوها من العقود الجائزة.

الثاني : عدم الوجوب ؛ لأنّ الشرط تعليق التزام بالتزام ، والعقد الجائز ليس فيه التزام ، ونسبه في العروة إلى المشهور ، والمختار عندنا التفصيل بين وحدة المطلوب وتعدّده .

الموضع الرابع

في صحة اشتراط خيار الفسخ في العقد الجائز

وفيه احتمالان :

الأوّل : عدم الصحّة ، قال الشيخ الأنصاري رحمة الله : بل إطلاقها - أي: إطلاق کلات جماعة - يشمل العقود الجائزة ، إلّا أن يدّعي من الخارج عدم معنى للخيار

ص: 299

في العقد الجائز ، ولو من طرف واحد(1) انتهى.

وقيل كما في تعليقة المحقّق الأصفهاني بأنّه لا مانع ، وذكر ما يتوهّم كونه مانعاٌ .وأجاب عنه.

أقول : إذا كان العقد جائزاً من الطرفين أو من طرف واحد ، فلا حاجة إلى الخيار ، فيحتمل انصراف ما دلّ على صحّة شرط الخيار عن ذلك ، فتأمّل .

وأمّا فائدة ذلك ، فقد قيل في فائدة الشرط مع أنّه جائز : بأنّ الخيار يوجب حقّاً في العقد ، فيورث كما تورث الحقوق ، بخلاف الجواز فإنّه حکم تکليفي.

وفيه أنّه لو قلنا بأنّ الخيار الثابت لا بالاشتراط يورث ، فلا دليل على إرث ما ثبت بالاشتراط فتأمّل.

المقصد الخامس

في الشرط في الإيقاعات

والكلام فيه في مواضع :

الموضع الأوّل

في الشروط التي لم يكن فيها قبول من المشترط عليه

کشرط عمل مدّة معيّنة في عتق العبد ، فلو اعتق عبده وأشترط عليه عمل مدّة معيّنة نفذ الشرط ؛ لأنّه كان مالكاً للعبد ومنافعه ، فاذا أعتقه كذلك ، فكأنّه أعتقه مسلوب المنفعة ، نظير ما إذا أجره سنة ، وبعد أن أجره أعتقه ، فإنّه لا يبطل إجارته، فتأمّل .

ثمّ إنّ علم أن الإيقاع قابل للاشتراط ، فلا إشكال . وأمّا إن شكّ فهل يجوز التمسك بعموم « الْمُؤْمِنُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ » فيه إشكال .

ص: 300


1- المكاسب 2: 233.

الموضع الثاني

في الشروط التي تحتاج إلى القبول

كأن يطلق زوجته ويشترط عليها أن لا تسكن في البلد الذي يسكنه وقبلت الزوجة ، ولا يبعد وجوب الوفاء به لتحقّق مفهوم الشرط ؛ لأنّ التزام عدم السكني في بلد الزوج تابع للطلاق ، فيصدق عليه الشرط بناءً على أنّ مفهومه الالتزام التابع .

الموضع الثالث

في شرط الخيار

بأن أعتق عبده وجعل له الخيار في ردّه إلى الرقيّة ، وفي وجوب الوفاء بالشرط في هذه الصورة وعدم وجوبه والتفصيل بين قبول المشروط عليه و عدمه وجوه .

استدلّ لعدم الوجوب بأمور :

الأوّل : الإجماع . وفيه منع ثبوته، ومنع کونه تعبّديّاً إن ثبت ؛ لاحتمال استناده إلى الوجوه الآتية .

الثاني : أنّ الشرط هو ما كان بين العقود ، أي : بين الإيجاب والقبول ، فلا يصدق الشرط على ما كان في الإيقاع.

وأورد عليه الشيخ الأنصاري رحمة الله في المكاسب بأنّه يعتبر في الشرط كونه قائماً بشخصين : المشروط له ، والمشروط عليه ، واستشهد على ذلك بما دلّ على جواز اشتراط خدمة معيّنة في الإعتاق(1).

أقول : قد مرّ في أوّل البحث أن مفهوم الشرط لغة وعرفاً هو القيد الذي لا ينفک ّعن المقيّد به ، وقد عبّر عن القيد الذي هو لازم وحتميّ بالشرط ، ولذا يصحّ لغة أن

ص: 301


1- المكاسب 2: 233.

يقول : اشترطت على نفسي كذا ، فلو قال : وقفت داري على شرط إن احتجت إليه أرجعته إلى ملكي ، صدق عليه الشرط.

الثالث : إن لم يمنع عن صدق الشرط ، فلا أقلّ من انصرافه عن الشمول للشرط في الإيقاع.

قلت : فيه منع عدم الصدق والانصراف .

الرابع : عدم مشروعيّة التقايل في الإيقاعات ، أي : عدم مشروعيّة الفسخ ، فلا يجوز اشتراطه ، فإن حكم الإيقاعات اللزوم، کالجواز الذي هو حكم العقود الجائزة . فالشرط يكون مخالفة للكتاب والسنّة .

وهذا الوجه وجيه ؛ لأنّ مقتضى شرعيّة الإيقاعات تحقّق مضمونها بمجرّدالإيقاع ، و شرط فسخه مخالف له.

وبعد فهذا ما أردناه من تحرير هذه القاعدة وبيان أحكامها ، والبحث وإن كان يتّسع للكثير إلّا أنّ في ما ذكرنا كفاية ، والحمد لله ربّ العالمين ، وصلیى الله على محمّد و آله الطاهرين .

ص: 302

رسالة في تظليل المحرم

اشارة

تأليف:السيّد محمّد الرجائي

ص: 303

ص: 304

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين ، والصلیاة والسلام على أشرف خلقه محمّد و آله الطاهرين ،ولعنة الله على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين .

وبعد : فهذه مسائل في التظليل للمحرم ، رتّبناها في فصول :

الفصلی الأوّل : في ذكر فتاوي القدماء.

الفصلی الثاني : في الأخبار الواردة فيها.

الفصلی الثالث : في الفروع المستفادة من الأخبار .

الفصلی الأول

في ذكر فتاوي القدماء

قال الصدوق في المقنع : ولا يجوز للمحرم أن يركب في القبّة إلّا أن يكون مريضاً. وأمّا النساء فلا بأس أن تستظلّ المرأة وهي محرمة ، ولا بأس أن يضرب على المحرم الظلال ، ويتصدّق بمدّ لكلّ يوم ، ولا بأس أن تضرب القبّة على النساء والصبيان وهم محرمون ، ولا يرتمس المحرم في الماء، ولا الصائم ، ولا بأس أن يظلّل المحرم على محمله إذا كانت به علّة ، أو خاف المطر ، فإذا أصابه حرّ الشمس وتأذّى به فلا بأس أن يستتر بطرف ثوبه ما لم يصب رأسه(1).

ص: 305


1- المقنع للصدوق ص 234 - 235 .

وقال الشيخ المفيد في المقنعة : فإذا أحرم فليكشف ظلال محمله إن كان له ظلال .ولا يجلس تحته(1).

وقال أيضاً : ولا يظلّل على نفسه إلّا أن يخاف الضرر العظيم فيفعل ذلك ، فإن ظلّل على نفسه مختاراً فعليه فداء(2) انتهى .

وأورد الشيخ الطوسي في التهذيب في شرح عبارة المقنعة الأخيرة روايات القبّة والكنيسة(3) ، لفهمه الإطلاق من كلامه .

وقال السيّد المرتضى في جمل العلم والعمل : ولا يظلّل على نفسه إلّا أن يخاف الضرورة(4).

وقال فيه : ومن أظلّ رأسه من أذى ، فعليه دم شاة ، أو إطعام ستّة مساكين ، أو صيام ثلاثة أيّام . ومن ظلّل على نفسه مختار فعليه دمه(5).

وقال أبو الصلیاح في الكافي في ما يجب اجتنابه للمحرم : والتظلّل في الحمل(6).

وقال أيضاً : وفي تظليل الحمل و تغطئة رأس الرجل ووجه المرأة مختاراً لكلّ يوم دم شاة ، ومع الاضطرار بجملة المدّة دم شاة(7).

وقال الشيخ الطوسي في النهاية : ولا يجوز للمحرم أن يظلّل على نفسه إلّا إذا خاف الضرر العظيم ، ويجوز له أن يمشي تحت الظلال(8).

ص: 306


1- المقنعة ص 397.
2- المقنعة ص432.
3- تهذيب الأحكام 5: 309- 312.
4- جمل العلم والعمل ، المطبوع في رسائل الشريف المرتضی 3: 66.
5- جمل العلم والعمل المطبوع في رسائل الشريف المرتضی 3: 70.
6- الكافي ص 203.
7- الكافي ص 204.
8- النهاية ص 221.

وقال أيضاً في الجمل والعقود : ولا يغطّي محمله(1).

وقال أيضاً في الخلاف : للمحرم أن يستظلّ بثوب ينصبه ما لم يكن فوق رأسه بلاخلاف ، وإذا كان فوق رأسه مثل الكنيسة والعمارية والهودج ، فلا يجوز له ذلك سائراً . فأمّا إذا كان نازلاً ، فلابأس أن يقعد تحت الخيمة والحباء والبيوت ، وبه قال مالك وأحمد . وقال الشافعي : يجوز له ذلك كيف ماستر . دليلنا : إجماع الفرقة ، وطريقة الإحتياط ؛ لأنّه إذا لم يستر صحّ إحرامه کاملاً بلا خلاف . وإذا ستر ففيه خلاف ، وروي عن ابن عمر أنّه قال : أضح لن أحرمت له . فأمر بالظهور للشمس (2).

وقال الكيدري في إصباح الشيعة : وأن يستظلّ وهو سائر بحيث يكون الظلال فوق رأسه كالقبّة(3).

وقال ابن البراج في المهذّب : والتظليل على نفسه أو محمله(4) .

وقال أيضاً : أو يظلل على نفسه(5).

وقال ابن زهرة في الغنية : ويحرم عليه أن يستظلّ وهو سائر بحيث يكون الظلال فوق رأسه كالقبّة ، فأمّا إذا نزل فلا بأس بجلوسه تحت الظلال من خيمة أو غيرها(6).

وقال ابن ادريس في السرائر : ولا يجوز للمحرم أن يظللّ على نفسه سائراً ، إلّا

ص: 307


1- الجمل والعقود ص 134.
2- الخلاف 318:2 مسألة : 118.
3- إصباع الشيعة ص 153.
4- المهذب 1: 220.
5- المهذب 1: 224.
6- غنية النزوع ص 159.

إذا خاف الضرر العظيم ، ويجوز له أن يمشي تحت الظلال ، ويجلس تحت الظلال والسقوف والخيم وغير ذلك ، وإنّما منع المحرم من الظلال إذا كان سائراً، فأمّا إذا نزل فلا بأس أن يستظلّ بما أراد(1).

وقال الحلبي في إشارة السبق : و تظليل المحمل؟(2).

وقال ابن حمزة في الوسيلة : وتغطئة الرأس للرجل والمحمل(3) .

وقال أيضاً : ويجوز .. والمشي تحت الظلال ، والقعود في البيت وفي الخباء ،والتظليل على رأسه حالة الاضطرار(4).

وقال أيضاً: والتظليل على نفسه(5).

والاحتمالات في معنى التظليل المذكور في كلامهم ثلاثة :

أحدها : إيجاد الظلّ عن الشمس فقط حتّى لا تشرق عليه الشمس ، وأمّا التظليل عن غيرها فلا بأس.

ثانيها : جعل ما يستّر الإنسان من المطر والبرد والشمس وغيرها ممّا يتستّر الإنسان منه .

ثالثها : جعل ما له قابليّة أن يستّر الإنسان من الأمور المذكورة وإن لم يكن شيءمنها موجودة.

ويمكن استظهار إرادة المعنى الثالث من كلمات الفقهاء ، فإنّ الصدوق منع عن ركوب القبّة مطلقاً ، والمفيد ذكر التظليل ، وأورد الشيخ الطوسي في شرحه في

ص: 308


1- السرائر 1: 547.
2- إشارة السبق ص 127 .
3- الوسيلة ص 162 .
4- الوسيلة ص 163.
5- الوسيلة ص 163.

التهذيب الروايات المانعة عن ركوب القبّة .

كما أنّه في النهاية منع عن التظليل وأجاز المشي تحت الظلال ، وهو المكان المسقّف و تحت الأشجار ، والمشي تحته أعمّ من أن يكون له فائدة أو لا.

وذكر في الجمل والعقود أنّه لا يغطّي محمله ، وهو أيضاً أعمّ من أن يكون مانعاً عن الشمس أو لم يكن مانعاً عن أيّ شيء ، وفي الوسيلة ذكر تغطنة المحمل .

فهذه العبارات : إمّا تدلّ على المنع مطلقاً ، أو يمكن حمله على المنع مطلقا ، إلّا ما ذكره السيّد المرتضى في الانتصار، حيث قال : وممّا يظنّ انفراد الاماميّة به ولهم فيه موافق القول بأنّ المحرم لا يجوز له أن يستظلّ في محمله من الشمس ، إلّا عن ضرورة، وذهبوا إلى أنّه يفدي ذلك إذا فعله بدم(1) انتهی .

ولكن تقدّمت عبارته في جمل العلم والعمل ، وهي قابلة للحمل على الساتر مطلقاً .

ثمّ إنّه يظهر من عبارة الخلاف أنّ محلّ النزاع بيننا وبين العامّة في مطلق الساتر فإنّ ابن حزم قال : وجائز للمحرمين من الرجال والنساء أن يستظلّوا في المحامل وإذا نزلوا ، وهو قول أبي حنيفة والشافعي وأصحابنا ، وقال مالك : يتظلّون إذا نزلوا ولا يتظلّلون في الحامل ولا ركاباً(2).

وقال ابن قدامة : ولا يظلّل على رأسه في الحمل ، فإن فعل فعليه دم.

وقال في شرحه : يكره أحمد الأستظلال في المحمل خاصّة ، وما كان في معناه کالهودج والعمارية والكنيسة ، ونحو ذلك على البعير ، وكره ذلك ابن عمر ومالك و عبد الرحمن بن المهدي وأهل المدينة ، وكان سفيان بن عيينة يقول : لا يستظلّوا

ص: 309


1- الانتصار ص 245.
2- المحلی لابن حزم7: 196.

ألبتّة، ورخصّ فيه ربيعة والثوري والشافعي ، وروي ذلك عن عثان وعطا الخ(1).

أقول : يحتمل إرادة الأعمّ من الاستظلال من الشمس وغيرها ، ويؤيّده ذکر الهودج والعمارية والكنيسة ، فإنّها تمنع عن الشمس والمطر والبرد .

الفصلی الثاني

في الأخبار الواردة في المسألة

وهي على طوائف :

الطائفة الأولى : ما تدلّ على المنع من ركوب القبة ونحوها .

الطائفة الثانية : ما تدلّ على المنع من التظليل .

الطائفة الثالثة : ما تدلّ على المنع عن التستّر من الشمس .

أمّا الطائفة الاُولى ، فهي عدّة أخبار :

الأول : ما رواه الشيخ في التهذيب عن الحسين بن سعيد ، عن صفوان ، عن العلاء ، عن محمّد بن مسلم، عن أحدهما پغ قال : سألته عن المحرم يركب القبّة ، فقال : لا ، قلت : فالمرأة المحرمة ، قال : نعم(2).

والخبر صحيح ، و قوله « يركب القبّة » إطلاقه شامل لجميع الأحوال ، أي : في الشمس والغيم والليل والنهار ، سواء كان للركوب أثر في الحفظ عن البرد والحرّ ونحوهما أو لم يكن ، وسواء كان بارزاً للشمس بأن كان في طرف القبّة مواجهاً لها أو لم يكن ، وسواء كان في الطريق أو كان في مكّة و مني ، وسواء كان نازلاً أو لم يكن ، فلو نزل في مكّة وأراد أن يذهب إلى المسجد فليس له ركوبها.

الثاني : ما رواه أيضاً في التهذيب عن موسى بن القاسم ، عن صفوان ، عن هشام

ص: 310


1- المغني والشرح الكبير 3: 282.
2- جامع أحادیث الشيعة 109:11 ب 5 ح 19.

بن سالم ، قال : سألت أبا عبد الله علیه السلام عن المحرم يركب في الكنيسة (1) ، فقال : لا وهو للنساء جائز(2).

الثالث : ما رواه في النوادر ، عن أحمد بن محمّد بن عيسى ، عن صفوان ، عن معاوية بن عمّار ، عن أبي عبد الله علیه السلام، قال : لا يركب المحرم في القبّة و تركب المحرمة(3).

الرابع : مارواه في الفقيه ، قال : وفي رواية حريز ، قال : أبو عبد الله علیه السلام - وفي التهذيب : وعنه [الحسين بن سعيد] عن حمّاد، عن حریز ، عن أبي عبد الله علیه السلام قَالَ : لَا بَأْسَ بِالْقُبَّةِ عَلَى النِّسَاءِ وَ الصِّبْيَانِ وَ هُمْ مُحْرِمُونَ ، وَ لَا يَرْتَمِسُ الْمُحْرِمُ فِي الْمَاءِ وَ لَا الصَّائِمُ (4).

الخامس : ما رواه الكليني في الكافي ، عن محمّد بن يحيی ، عن أحمد بن محمّد ، عن علي بن الحكم ، عن الكاهلي ، عن أبي عبد الله علیه السلام، قَالَ : لَا بَأْسَ بِالْقُبَّةِ عَلَى النِّسَاءِ وَ الصِّبْيَانِ وَهْمُ مُحْرِمُونَ (5).

ومفهوم الخبرين الأخيرين عدم جواز ركوب القبّة للرجال .

ونوقش في إطلاق هذه الأخبار بانّها مكتنفة بما يوجب عدم انعقاد الإطلاق فيها، وذلك لأنّ المسألة المطروحة بين الشيعة والعامّة هي جواز أن يركب المحرم ما یکنّه عن الشمس وعدمه ، فذهب العامّة إلى جوازه ، والشيعة سألوا المعصومين علیهم السلام عن هذه المسألة ، أي : الاستتار عن الشمس ، فلا إطلاق لهذه

ص: 311


1- تكنّس الرجل دخل في الخيمة ، تكنّست المرأة دخلت في الهودج .
2- جامع أحاديث الشيعة 110:11 ح 19.
3- جامع أحاديث الشيعة 110:11 ح 17.
4- جامع أحاديث الشيعة 110:11 ح 21.
5- جامع أحاديث الشيعة 110:11 ح 21.

الأخبار لركوبها ليلاً أو في الغيم ونحوهما ممّا لا يكون موجباً للاستتار عن الشمس .

وفيه أنّه لم يثبت كون المسألة المختلف فيها بين العامّة والخاصّة خصوص الاستظلال بالشمس ، فلا وجه لرفع اليد عن إطلاق الأخبار ولا سيمّا فيما لم تكن مسبوقة بالسؤال ، بل يمكن أن يستظهر من الروايات الواردة في المناظرات التي جرت بين الإمام موسی بن جعفر علیه السلام و المخالف - کا ستأتي - أنّ النزاع في مطلق الساتر.

السادس : ما رواه في الكافي ، عن علي بن محمّد ، عن سهل بن زیاد ، عن ابن أبي نجران ، عن محمّد بن الفضيل ، قال : كنا في دهلیز یحیی بن خالد بمكّة وكان هناك أبو الحسن موسى علیه السلام وأبو يوسف ، فقام إليه أبو يوسف و تربّع بين يديه ، فقال : يا أبا الحسن جعلت فداك المحرم يظلّل ؟ قال : لا ، قال : فيستظلّ بالجدار والمحمل ويدخل البيت والخبأ ؟ قال : نعم .

قال : فضحك أبو يوسف شبه المستهزء، فقال له أبو الحسن علیه السلام : يَا أَبَا يُوسُفَ إِنَّ الدِّينَ لَيْسَ بِالْقِيَاسِ كَقِيَاسِكَ وَ قِيَاسِ أَصْحَابِكَ ، إِنَّ اللَّهَ عزّوجلّ أَمَرَ فِي كِتَابِهِ بِالطَّلَاقِ وَ أَكَّدَ فِيهِ بِشَاهِدَيْنِ وَ لَمْ يَرْضَ بِهَا إِلَّا عَدْلَيْنِ ، وَ أَمَرَ فِي كِتَابِهِ بِالتَّزْوِيجِ وَ أَهْمَلَهُ بِلَا شُهُودٍ ، فَأَتَيْتُمْ بِشَاهِدَيْنِ فِيهَا أَبْطَلَ اللَّهُ وَ أَبْطَلْتُمْ الشَّاهِدِينَ فَمَا أَكَّدَ اللَّهُ عزّوجلّ ، وَ أَجَزْتُمْ طَلَاقَ الْمَجْنُونِ وَ السَّكْرَانِ ، حَجَّ رَسُولُ اللَّهِ صلی الله و علیه وآله وسلم فَأَحْرَمَ وَ لَمْ يُظَلِّلْ وَ دَخَلَ الْبَيْتَ والخبأ وَ اسْتَظَلَّ بِالْمَحْمِلِ وَ الْجِدَارِ فَعَلْنَا كَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلی الله و علیه وآله وسلم ، فَسَكَتَ (1).

والمراد من قوله « يظلّل » أي : يجعل عليه الظلال ، وهو الساتر عن الشمس والبرد وغيرهما، بقرينة قوله «وَ يَدْخُلُ الْبَيْتَ والخبأ » فإن دخول البيت ليس

ص: 312


1- فروع الكافي 4: 352 - 353 ح 15. جامع أحاديث الشيعة 11 : 113 - 114ح 2.

للوقاية عن الشمس فقط ، بل للوقاية عن البرد والحرّ والمطر والعجّ.

ولعلّ المراد من قوله علیه السلام « حَجَّ رَسُولُ اللَّهِ صلی الله و علیه وآله وسلم فَأَحْرَمَ وَ لَمْ يُظَلِّلْ وَ دَخَلَ الْبَيْتَ » هو مطلق التظليل .

السابع : ما رواه في الكافي ، عن عدّة من أصحابنا ، عن - التهذيب - أحمد بن محمّد (بن عيسى يبه ) عن جعفر بن المثنّى الخطيب ، عن محمّد بن الفضيل ، وبشر بن إسماعيل ، قال : قال لي (محمّد بن إسماعيل - کا ) : ألا أسرّك بابن مثنّى ؟ ( قال :- کا) قلت : بلى ، فقمت إليه ، فقال : دخل هذا الفاسق أنفاً فجلس قبالة أبي الحسن ( الكاظم - خ کا ) ثمّ أقبل عليه ، فقال ( له كا ) يا أبا الحسن : ما تقول في المحرم أيستظلّ على ( في - يب خل ) الحمل ؟ فقال له : لا ، قال : فيستظلّ في الخبأ ، فقال له: نعم .

فأعاد إليه القول شبه المستهزء يضحك ( فقال - کا ) : يا أبا الحسن فما فرق بين هذا هذين - يب خل ) ( وهذا - کا ) ؟ فقال : يا أبا يوسف إنّ الدين ليس ( يقاس خ ) بقياسكقياسكم أنتم تلعبون ( بالدین کا ) إنّا صنعنا کها صنع رسول الله صلی الله و علیه وآله وسلم وقلنا كما قال رسول الله صلی الله و علیه وآله وسلم( كان رسول الله صلی الله و علیه وآله وسلم يب خ ) يركب راحلته فلا يستظلّ عليها و تؤذيه الشمس فيستر جسده بعضه ببعض ( بعض جسده ببعض يب وربّما ستر ( يستر يب ) وجهه بيده ، وإذا نزل استظلّ بالخبأ و في البيت وفي الجدار(1).

الثامن : ما رواه في الفقيه ، عن الحسين بن مسلم ( سلم خل ) عن أبي جعفر الثاني علیه السلام أنّه سئل ما فرق (ماخ ) بين الفسطاط و بين ظلّ المحمل ؟ فقال : لا ينبغي أن يستظلّ في المحمل ، والفرق بينهما أنّ المرأة تطمث في شهر رمضان فتقضي الصيام

ص: 313


1- جامع أحاديث الشيعة11: 114ح 3.

ولا تقضي الصلیاة ، قال : صدقت جعلت فداك (1).

التاسع : ما رواه في قرب الإسناد ، عن أحمد بن محمّد ، عن أحمد بن محمّد بن أبي نصر ، قال : وسمعت الرضا علیه السلام يقول : قال أبو حنيفة لأبي عبد الله علیه السلام : تجزون بشاهد واحد ويين ، إلى أن قال : فقال أبو حنيفة : أيّ شيء فرق ما بين ظلال المحرم والخبأ ؟ فقال أبو عبد الله علیه السلام: إن الستة لا تقاس (2).

العاشر : ما رواه في الاحتجاج ، قال : سأل محمّد بن الحسن موسی بن جعفر علیه السلام محضر الرشيد وهم بمكّة ، فقال له : أيجوز للمحرم أن يظللّ عليه محمله ؟ فقال له موسى علیه السلام : لا يجوز له ذلك مع الاختيار ، فقال له محمّد بن الحسن : أفيجوز أن يمشي تحت الظلال مختارة ؟ فقال له : نعم ، فتضاحك محمّد بن الحسن من ذلك .

فقال له أبو الحسن موسى علیه السلام :أَتَعَجَّبُ مِنْ سُنَّةِ النَّبِيِّ صلی الله و علیه وآله وسلم ؛ وتستهزاً بِهَا ! إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلی الله و علیه وآله وسلم كَشَفَ ظِلَالَهُ فِي إِحْرَامِهِ وَ مَشْيُ تَحْتَ الظِّلَالِ وَ هُوَ مُحْرِمُ ، إِنَّ أَحْكَامَ اللَّهِ يَا مُحَمَّدُ لَا تُقَاسُ ، فَمَنْ قَاسَ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فَقَدْ ضَلَّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ الْخَبَرَ .

ورواه المفيد في الإرشاد ، عن أبي زيد ،قَالَ : أَخْبَرَنِي عَبْدُ الْحَمِيدِ ، قَالَ سَأَلَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ مُوسَى علیه السلام مَحْضَرَ مِنْ الرشید ، وَ ذَكَرَ نَحْوَهُ (3).

وقوله « أَ فَيَجُوزُ أَنْ يَمْشِيَ تَحْتَ الظِّلَالِ » ظاهر في جوازه من حيث هو لا للوقاية من الشمس .

الحادي عشر : روى الطبرسي في الاحتجاج ، قال : قد جرى لأبي يوسف مع أبي الحسن موسى علیه السلام بحضرة المهدي ما يقرب من ذلك ، وهو أنّ موسى علیه السلام سأل أبا يوسف عن مسألة ليس عنده فيها شيء ، فقال لأبي الحسن موسى علیه السلام : إني اُريد

ص: 314


1- جامع أحاديث الشيعة 11: 115- 116ب 17ح7.
2- جامع أحاديث الشيعة 115:11 ح 6.
3- جامع أحاديث الشيعة 11: 114 - 115 ح 4.

أن أسألك عن شيء ، قال : هات ، فقال : ما تقول في التظليل للمحرم ؟ قال : لا يصلیح ، قال : فيضرب الخبأ في الأرض فيدخل فيه ؟ قال : نعم ، قال : فا فرق بين هذا وذلك ؟

قال أبو الحسن موسی علیه السلام : مَا تَقُولُ فِي الطاعث تَقْضِي الصَّلَاةَ ؟ قَالَ : لَا ، قَالَ : تَقْضِي الصَّوْمِ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، قَالَ : وَ لَمْ ؟ قَالَ : إِنَّ هذا كَذَا جَاءَ ، قَالَ أَبُو الْحَسَنِ علیه السلام : وَ كَذَلِكَ هَذَا ، قَالَ الْمَهْدِيُّ لِأَبِي يُوسُفُ : مَا أَرَاكَ صَنَعْتَ شَيْئاً ؟ قَالَ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ رَمَانِي بِحُجَّةٍ (1).

وروى الصدوق في العيون ، قَالَ : حَدَّثَنَا أَبِي قُدِّسَ سِرِّهِ ، قَالَ : حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ هَاشِمٍ ، عن أَبِيهِ ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ موسی ( عیسی خ ) عَنْ ( بَعْضُ - ئل ) أَصْحَابِهِ ، قَالَ : قَالَ أَبُو يُوسُفَ لِلْمَهْدِيِّ وَ عِنْدَهُ موسی بْنِ جَعْفَرٍ علیه السلام : ( أَ - ئل ) تَأْذَنُ لِي أَنْ أَسْأَلَهُ عَنْ مَسَائِلَ لَيْسَ عِنْدَهُ فِيهَا شَيْ ءُ ؟ فَقَالَ لَهُ : نَعَمْ ، فَقَالَ لموسی بْنِ جَعْفَرٍ علیه السلام : أَسْأَلُكَ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، قَالَ : مَا تَقُولُ الْحَدِيثَ (2).

الطائفة الثانية : الأخبار المشتملة على المنع عن الظلّ والظلال والتظليل ، وينبغي قبل ذكر الأخبار بيان المعنى اللغوي للظلّ ، ونذكر بعض کلمات اللغويّين ، ثمّ تعقبها با استظهرناه .

قال الخليل ، ظلّ فلان نهاره صائماً ، ولا تقول العرب ظلّ يظلّ إلّا لكلّ عمل بالنهار ، وسواد الليل يسمّئ ظلاًّ ، ومكان ظليل دائم الظلّ دامت ظلاله ، والظلّ والمظلّة سواء، وهما ما يستظلّ به من الشمس ، ويقال :مظلّة والإظلال الدنوّ يقال : أظلّك فلان أي : كأنّه ألق عليك ظلّه من قرب ، وأظلّ شهر رمضان أي : دنا

ص: 315


1- جامع أحادیث الشيعة 11: 115 17 ح 5 .
2- جامع أحاديث الشيعة 11 : 115 ذیل ح 5.

منك(1).

وقال الأزهري : عن أبي الهيثم أنّه قال : محلّ ما لم تطلع عليه الشمس فهو ظلّ . قال : والليل كلّه ظلّ، وإذا أسفر الفجر فمن لدن الاسفار إلى طلوع الشمس كلّه ظلّ، وقال الفرّاء : أظلّ يومنا إذا كان ذا سحاب ، والشمس مستظلّة أي : هي في السحاب ، وكل شيء أظلك فهو ظلة ، ويقال : ظل وظلال ولة وظلل مثل قلّة وقلل ، واستظلّ الرجل إذا اكتنّ بالظلّ، ويقال : فلان في ظلّ فلان أي : في ذراه وفي كنفه ، ويقال للدم الذي في الجوف : مستظلّ أيضاً ؟(2).

وقال ابن دريد : الظلّ معروف و في أوّل النهار ، فإذا نسخته الشمس ثمّ رجع فهو فيء حينئذ ، والظلّ المنعة والعزّ ، يقال : فلان في ظلّ فلان أي : في عزّه ، والظلّة ما استظللت به من شيء شجرة أو غيرها ، المظلّة مفعلة وهو ما استظلّ به(3).

وقال الجوهري : الظلّ معروف ، والجمع ظلال ، والظِلال أيضاً ما أظلّك من سحاب ونحوه ، وظلّ الليل سواده ، وهو استعارة ؛ لأنّ الظلّ في الحقيقة إنّما هو ضوء شعاع الشمس دون الشعاع ، فإذا لم يكن ضوء فهو ظلمة وليس بظلّ ، وفلان يعيش في ظلّ فلان أي : في كنفه ، والمظلّة البيت الكبير من الشعر ،وعرش مظلّل من الظلّ ، وأظلّ يومنا إذا كان ذا ظلّ ، وأظلّتني الشجرة وغيرها وأظلّك فلان إذا دنا منك كأنّه ألقى عليك ظلّه ، ثمّ قيل : أظلك أمر وأظلك شهر كذا ، أي : دنا منك ، واستظل بالشجرة استذري بها(4).

وقال ابن فارس : والظلّ معروف وأظلّتني الشجرة وظلّ ظليل دائم ، والليل ظلّ

ص: 316


1- ترتيب العين ص 503.
2- تهذيب اللغة 14 : 357.
3- جمهرة اللغة 110:1 .
4- صحاح اللغة : 1755.

وأظلّك فلان كانّه وقاك بظلّه وهو عزّه ومنعته ، والمظلّة معروفة ، قال ثعلب : الظلال ما أظلّك ، والظلال جمع الظلّ ،وأظلّ الشيء دنا(1).

وقال أيضاً : الظاء واللام أصلی واحد يدلّ على ستر شيء لشيء ، وهو الذي يسمّى الظلّ ، وكلمات الباب عائدة إليه ، فالظلّ ظلّ الإنسان وغيره ، وتقول : أظلّتني الشجرة ، والليل ظلّ ، وأظلّك فلان كانّه وقاك بظلّه ، وهو عزّه ومنعته ، والمظلّة معروفة(2).

وقال الشيخ الطوسي : والظلّة والعامّة والسترة نظائر في اللغة ، والظلّ ضدّ الضحّ و نقیضه ، والاظلال الدنوّ يقول : قد أظلّك فلان ، أي : كأنّه ألقي عليك ظلّه من قربه ، والظلّ لون النهار تغلب عليه الشمس ، وأصلی الباب التظليل وهو الستر والاظلال الدنوّ کدنوّ الساتر ، وحدّ التظليل الستر من علّة (3).

وقال الزمخشري : ظلّ أظلّني الغام والشجر ، و ظللّني من الشمس ، ومن المجاز بتنا في ظلّ الليل ، وأظلّ الشهر والشتاء ، وأظلّكم فلان أقبل ، وأظلّكم أمر ، وكان ذلك في ظلّ الشتاء في أوّل ما جاء ، وسرت في ظلّ القيظ أي : تحته (4).

وقال الفيّومي : وأنا في ظلّ فلان أي : في ستره، وظلّ الليل سواده ؛ لأنّه يستر الأبصار عن النفوذ، وظلّ النهار يظلّ من باب ضرب ظلالة دام ظلّه ،وأظلّ بالألف كذلك ، وأظلّ الشيء وظلّل امتدّ ظلّه ، فهو مظلّ ومظلّل أي : ذو ظلّ يستظلّ به(5).

ص: 317


1- مجمل اللغة 1: 559.
2- مقاییس اللغة 3: 461.
3- التبيان للشيخ الطوسي 1: 265.
4- أساس البلاغة ص 403 .
5- المصباح المنير 2: 38.

وقال في أقرب الموارد : ظلّله تظليلاً غشيه والتي عليه ظلّه ، استظل بالظلّ مال إليه وقعد فيه ، ومن الشيء وبه تظلّل ، الظلال بالفتح ما أظلّك من شيء ، الظلال بالكسر ما أظلّك من سحاب ونحوه ، وظلال البحر أمواجه(1).

أقول : لم يظهر المعنى الحقيقي للظلّ، والمحتملات فيه كثيرة:

الأوّل : أن يكون المعنى الحقيقي ضوء الشمس ؛ فإنّها إن لم تكن موجودة كانت الظلمة موجودة ، فإذا وجدت فلها شعاع ولشعاعها ضوء ، والظلّ هو ضوء الشمس، وأمّا وسط الأرض الذي لا يميّز فيه اليوم من الليل فليس فيه ظلّ، وقد لوحظ هذا المعنى في المشتقّات منه.

مثلا الظلال استعمل في ثلاثة معان : أحدها مصدر ظلّ يظلّ . ثانيها جمع ظلّ . ثالثها إسم لما يظلّ من الشمس . وفي جميع هذه الموارد لوحظ معنى الستر عن الشمس ، ومع ذلك يصحّ استعمال الظلال فيما يظلّ من الشمس وإن لم يظلّ منها فعلاً لأّنّه إن كان إسماً لما يظلّ من الشمس ، فهو اسم آلة نظير المفتاح الذي هو اسم آلة الفتح ، فإذا قيل : لا تجعل عليك ظلالاً، فهو كما يقال : لا تجعل عليك مفتاحاً ، فكما لا يعتبر الفتح الفعلي في صدق المفتاح ، فكذلك في صدق الظلال .

ثمّ إنّ لازم هذا المعنى أن يكون استعماله في غير هذا المعنى بجازاً ، وهو بعيد جدّاً .

الثاني : أن يكون له معنی جامع موجود في جميع المعاني المذكورة للظلّ فيجميع المشتقات.

الثالث : تعدّد المعاني ولو بتعدّد الصيغ ، فكلّ صيغة لها معنى ، فالظلّ هو ضوء شعاع الشمس ، وظلّ ماضي يظلّ في قولك ظلّ زید صائماً ، أي : مضى عليه النهار وهو صائم . واستظلّ أي : طلب ظلّ الشمس ، ويظلّل أي : يجعل ظلالاً .

ص: 318


1- أقرب الموارد 2: 730.

وعلى كلّ حال فالظاهر أنّ أحد معاني الظلال هو المسقّف الذي يمنع عن شعاع الشمس ، ولا يعتبر في صدقه فعليّة الستر عن الشمس ، نظير المفتاح الذي هو إسم لما يفتح به ، ولا يعتبر في الصدق عليه الفتح الفعلي ، فإذا قيل إنّ المحرم لا يضرب عليه الظلال شمل كلّ ما يمكن أن يظلّ عن الشمس في كلّ زمان من ليل ونهار ، وفي كلّ حال من غيم ومطر وغيرهما. ولا يعتبر الستر الفعلي عن الشمس في صدق الظلال عليه ، واستعماله في السقف شائع فيعرف الفقهاء.

قال في الشرائع في كتاب الأطعمة والأشربة في مسألة دهن المتنجّس : جاز الاستصباح به تحت السماء ولا يجوز تحت الأظلّة . وحكئ في الجواهر عن المبسوط أنّه قال : يتصاعد من أجزاء الدهن ، فإذا لقي الظلال أثّر بنجاسته ، فلاحظ(1).

إذا تمهّد هذا فنقول : ذكرنا أنّ الطائفة الثانية تدلّ على المنع عن الظلّ والظلال والتظليل ، وهي عدّة أخبار أيضاً:

الأوّل : ما رواه الشيخ في التهذيب والاستبصار ، عن محمّد بن الحسن الصفّار ، عن علي بن محمّد ، قال : كتبت إليه : المحرم هل يظلّل على نفسه إذا آذته الشمس أو المطر أو كان مريضاً أم لا؟ فإن ظلّل هل ( يجب - يب ) عليه الفداء أم لا؟ فَكَتَبَ : يُظَلِّلُ عَلَى نَفْسِهِ وَ يُهَرِيقُ دَماً إِنْ شَاءَ اللَّهُ (2).

وهذه الرواية عامّة لكلّ عذر ؛ لأنّ المراد بقوله « أو كان مريضاً » من كان مریضاً يضرّه غير الشمس والمطر ، بأن كان يضرّه الريح أو العجّ أو البرد.

وقوله « يظلّل على نفسه » شامل للتظليل راكباً وماشياً ، في الطريق إلى مكّة وبعد نزول مكّة ومني ، كان الظلّ فوق رأسه أو على أحد جوانبه . نعم لا إطلاق له للمنع عن الظلال إن لم يكن له تأثير أصلیاً.

ص: 319


1- جواهر الكلام36: 386.
2- جامع أحاديث الشيعة 109:11 ح13.

الثاني : ما رواه الشيخ في التهذيب والاستبصار، والكليني في الكافي ، عن أحمد بن محمّد بن عيسى - يب صا ) عن علي بن أحمد بن أشيم - کا) عن موسی بن عمر ، عن ( محمّد بن - یب کا ) منصور ، عن أبي الحسن ، قال : سألته عن الظلال للمحرم ، قال : لا يظلّل إلا من علبة ( أو - صا ) مرض(1).

وفي قوله « الظلال » إحتمالان :

أحدهما : أن يكون مصدر الظلّ ، وعليه فقوله « من علّة » ينبغي أن يحمل على علّة يضرّها الشمس.

ثانيها : أن يكون اسم آلة ، أي : الشيء الذي يستر به عن كلّ ما يضرّ من البرد والشمس وغيرهما ، أو خصوص الشمس ، لكن لا يعتبر فيه الستر الفعلي ، فيدلّ على عموم المنع ، ويؤيّده إطلاق قوله « من علّة ».

الثالث : ما رواه الشيخ في التهذيب والاستبصار ، عن موسى بن القاسم ، عن ابن جبلة ( ابن أبي جميلة - صاغل ) عن إسحاق بن عمّار ، عن أبي الحسن علیه السلام، قال : سَأَلْتُهُ عَنِ الْمُحْرِمِ يُظَلِّلُ عَلَيْهِ وَ هُوَ مُحْرِمُ ؟ قَالَ : لَا إِلَّا مَرِيضُ أَوْ مَنْ بِهِ عِلَّةُ وَ الَّذِي لَا يُطِيقُ الشَّمْسَ (2).

ويحتمل أن يكون المراد من قوله « يظلّل » هو جعل الظلّ عليه ، أي : الساتر من الشمس . كما يحتمل جعل الظلال عليه ، فإن كان المراد المانع من الشمس ، فينبغي تقييد المريض و من به علّة من تضرّه الشمس ، لكن إبقاؤهما على الإطلاق وإرادة جعل الظلال من قوله « يظلّل» أقرب.

والمراد بقوله «لا يطيق ، أنّه لا يتحمل عادة ، فيحمل إطلاق ما دلّ على كفاية إيذاء الشمس على من لا يطيق .

ص: 320


1- جامع أحاديث الشيعة 107:11 ح 1.
2- جامع أحاديث الشيعة 107:11 ح 2.

الرابع : ما رواه الشيخ أيضاً في التهذيب والاستبصار ، عن أحمد بن محمّد بن عيسى ، عن البرقي ، عن سعد بن سعد الأشعري ، عن أبي الحسن الرضا علیه السلام، قَالَ : سَأَلْتُهُ عَنِ الْمُحْرِمِ يُظَلِّلُ عَلَى نَفْسِهِ ، فَقَالَ : أَمَّنْ عِلَّةٍ ، فَقُلْتُ : يُؤْذِيهِ حَرُّ الشَّمْسِ وَ هُوَ مُحْرِمُ ، فَقَالَ : هِيَ عِلَّةُ يُظَلِّلُ وَ يَفْدِي (1).

و تقريب الدلالة فيه كسابقه .

الخامس : ما رواه الشيخ في التهذيب والاستبصار ، والكليني في الكافي ، عن أحمد بن محمّد بن عيسى - يب صا ) عن إبراهيم بن أبي محمود ،وقال : قلت : للرضا علیه السلام : الْمُحْرِمُ يُظَلِّلُ عَلَى مَحْمِلِهِ وَ يَفْدِي ( يَفْتَدِي - کا ) إِذَا كَانَتِ الشَّمْسُ وَ ( أَوْ - صا ) الْمَطَرُ يَضُرُّ ( يَضُرَّانِ - کا ) بِهِ ، قَالَ : نَعَمْ ، قِلَّةُ : كَمِ الْفِدَاءُ ؟ قَالَ : شَاةُ (2) .

والمراد من قوله « يظلّل » جعل الظلال ، وإنّما ذكر المطر والشمس لأنّها داعیان إليه ، وهو يوجب قرب ارادة جعل الظلال - أي : الآلة التي يمكن التستّر بها عن الشمس - من الأخبار الأخر.

السادس : ما رواه الكليني في الكافي ، عن عدّة من أصحابنا ، عن سهل بن زیاد ، عن بكر بن صالح - التهذيب و الاستبصار - الحسين بن سعيد ، عن بکر بن صالح - فقیه - وروى علي بن مهزیار ، عن بكر صالح ، قال : كتبت إلى أبي جعفر الثاني أنّ عمّتي معي وهي زميلتي والحرّ يشتدّ عليها إذا أحرمت (أ - يب ) فترى (لي - کا) أن أظلّل علي وعليها ؟ فكتب علیه السلام: ظلّل عليها وحدها (3) .

السابع : ما رواه في الدعائم ، عن جعفر بن محمّد پغ انّه کره للمحرم أن

ص: 321


1- جامع أحاديث الشيعة 109:11 ح 14.
2- جامع أحاديث الشيعة 111:11 ح 28 .
3- جامع أحاديث الشيعة 11: 116ح 1ب 18 .

يستظّل في الحمل إذا سار إلّا من علّة(1).

الثامن : ما رواه في الفقيه ، عن أحمد بن محمّد أنّه سأل محمّد بن إسماعيل بن بزيع أبا الحسن علیه السلام وَ أَنَا أَسْمَعُ عَنِ الظِّلِّ لِلْمُحْرِمِ فِي أَ ذِي مِنْ مَطَرٍ أَوْ شَمْسٍ أَوْ قَالَ : مِنْ عِلَّةٍ ، فَأَمَرَ بِفِدَاءِ شَاةٍ يَذْبَحُهَا ( يَحِلُّ بِهَا - خَلُّ ) مِنِّي ، وَ قَالٍ : نَحْنُ إِذَا أَرَدْنَا ذَلِكَ ظَلَّلْنَا وَ فَدَيْنَا (2).

وطريق الصدوق صحيح . والظاهر أنّ المراد بأبي الحسن هو الرضا علیه السلام ؛ لأنّه من أصحابه .

وقوله « عن الظلّ» يريد به الظلال ، وهو ما يستر عن الشيء ، فكأنّه معهود عند الرواة في ذلك ، فهذا مؤيّد قوّي للإطلاق في سائر الروايات .

وقوله « نحن إذا أردنا ذلك » ليس ظاهراً في التظليل من دون عذر ، بل أنّهم إذا أرادوا الظلّ فعلوا ذلك ، وأمّا أنّهم متى يريدون الظلّ فغير مذكور في الخبر ، فلعلّهم إنّما يريدونه لعلّة.

التاسع : ما رواه في التهذيب والاستبصار ، عن أحمد بن محمّد بن عيسى ، عن محمّد بن إسماعيل بن بزیع ، قال : سأله رجل عن الظلال للمحرم من أذى من مطر أو شمس وأنا أسمع ، فأمره أن يفدي ( يهدي - يبخل ) شاة يذبحها بمنى(3).

العاشر : ما رواه في الكافي ، عن عدّة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمّد ، عن محمّد بن إسماعيل بن بزیع ، علیه السلام : قَالَ : كَتَبْتُ إِلَى الرِّضَا علیه السلام هَلْ يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَمْشِيَ تَحْتَ ظِلِّ الْحَمْلِ ، فَكَتَبَ نعم.

قال : وسأله رجل عن الظلال للمحرم من أذي مطر أو شمس وأنا أسمع ، فأمره

ص: 322


1- جامع أحاديث الشيعة 107:11 ب 15ح 3.
2- جامع أحاديث الشيعة 111:11 ب 15ح 24.
3- جامع أحاديث الشيعة 111:11 ب 27.

أن يفدي شاة ويذبحها بمني(1).

ولعلّ المراد بقوله « تَحْتَ ظِلِّ الْمَحْمِلِ » أن يكون في جانب منه ويمشي في ظلّ المحمل ، وأطلق التحت من جهة أنّه لابد أن يكون الحمل أعلى منه حتّى يكون له ظلّ ويكون هو في أسفله ، فيصدق عليه التحت ؛ لأنّه لم يتعارف المشي تحت الحمل ، إذ لو كان المراد ذلك كان التعبير أّنّه يمشي تحت المحمل لا تحت ظلّ المحمل ، ولو سلّم شموله للمشي تحت الحمل ، فالتعدّي منها إلى مثل أخذ المظلّة ( الشمسيّة ) على الرأس ماشياً قياس.

الحادي عشر : ما رواه في النوادر ( أحمد بن محمّد بن عيسى ، عن محمّد بن إسماعيل) بن بزیع ، عن أبي الحسن علیه السلام، قَالَ : سَأَلَهُ رَجُلُ وَ أَنَا حَاضِرُ عَنِ الْمُحْرِمِ يُظِلُّ مِنْ عِلَّةٍ ، قَالَ : يُظِلُّ وَ يَفْدِي ، ثُمَّ قَالَ مُوسَى علیه السلام : إِذَا أَرَدْنَا ذَلِكَ ظَلَّلْنَا وَ فَدَيْنَا ( فَقُلْتُ : بِأَيِّ شَيْ ءُ ؟ فَقَالَ : بِشَاةٍ ، فَقُلْتُ : أَيْنَ يَذْبَحُهَا ؟ قَالَ : بمني )(2).

يحتمل سقوط لفظ « قال » أي : ثمّ قال ، أي الرضا علیه السلام : قال موسى علیه السلام، يعني : موسی بن جعفر علیه السلام.

الثاني عشر : ما رواه في التهذيب ، وعنه ( موسی بن القاسم ) عن محمّد بن إسماعيل ، قال : سألت أبا الحسن علیه السلام عن الظلّ للمحرم من أذى مطر أو شمس ، فقال : أرى أن يفديه بشاة يذبحها بمنى(3) .

هذا ويحتمل اتّحاد هذه الأخبار أو بعضها ، وهي تدلّ على جواز التظليل من علّة.

الثالث عشر : ما رواه في الكافي ، عن عدّة من أصحابنا ، عن سهل بن زیاد، عن

ص: 323


1- جامع أحاديث الشيعة 113:11 ب 17ح 1.
2- جامع أحاديث الشيعة 111:11 ب 15 ح 25.
3- جامع أحاديث الشيعة 111:11 ب 15ح 27.

- الفقيه - أحمد بن محمّد بن أبي نصر ( البزنطي - فقیه ) عن علي بن أبي حمزة ، عن أبي بصير ، قال : سألته عن المرأة يضرب عليها الظلال وهي محرمة ، قال : نعم ، قلت: فالرجل يضرب عليه الظلال وهو محرم ؟ قال : نعم إذا كانت به شقيقة ويتصدّق بمدّ لكلّ يوم(1).

ورواه في النوادر ، عن أحمد بن محمّد بن عيسى ، عن أبي بصير مثله .

والشقيقة : وجع في نصف الرأس . ومفهومه إذا لم يكن به شقيقة فلا يضرب عليه الظلال ، ولا وجه لتخصيص الشقيقة ما تكون بسبب الشمس ، بل للأعمّ منها و من البرد.

ثمّ إنّ الظلال المذكور في هذا الخبر ليس جمعاً للظلّ ، ولا يناسب كونه مصدراً للظلّ ، بل المناسب بقرينة الضرب المذكور في الخبر هو أن يكون المراد الشيء الذي يكون ظلالاً، ومقتضى الإطلاق عدم ضربه وإن لم تكن الشمس موجودة ، كما يقال : المفتاح مع أنّه ليس له الفتح فعلاً ، فيدلّ على أنّه لا يضرب على المحرم ما يمكن أن يكون ساتراً للشمس ، فإنّ الظلال إسم له كالمفتاح.

الرابع عشر : ما رواه الشيخ الطوسي في كتاب الغيبة ( ومن كتاب آخر فرأيك أدام الله عزّك في تأمّل رقعتي والتفضّل بما يسهل لاُضيفه إلى سائر أياديك عليّ واحتجت أدام الله عزّك أن تسأل لي بعض الفقهاء ) وعن المحرم يرفع الظلال هل يرفع خشب العمارية أو الكنيسة ويرفع الجناحين أم لا ؟ الجواب : لَا شَيْ ءَ عَلَيْهِ فِي ترکه وَ جَمَعَ الْخَشَبِ .

وعن المحرم يستظلّ من المطر بقطع أو غيره حذراً على ثيابه وما في محمله أن يبتلّ فهل يجوز ذلك ؟ الجواب : إِذَا فَعَلَ ذَلِكَ فِي الْحَمْلِ فِي طَرِيقِهِ فَعَلَيْهِ دَمُ (2) .

ص: 324


1- جامع أحاديث الشيعة 110:11 ب 15 ح 20.
2- جامع أحاديث الشيعة 11: 107 - 108 ح 5.

ودلالته کسابقه بل هي أوضح.

الطائفة الثالثة : ما يتوهّم معارضته لأخبار القبّة ، وهي عدّة أخبار :

الأوّل : ما رواه في التهذيب والاستبصار ، عن موسى بن القاسم ، عن ابن أبي عمير ، عن حمّاد ، عن الحلبي ، وابن سنان ، عن ابن مسکان ، عن الحلبي - والتهذيب : الحسين بن سعيد ، عن ابن سنان ، عن ابن مسکان ، عن الحلبي – قال : سألت أبا عبد الله علیه السلام عن المحرم يركب في القبّة ، قال : ما يعجبني (ذلك - يب صا ) إلا أن يكون مريضاً ( قلت : فالنساء ؟ قال : نعم - يب )(1).

فقوله علیه السلام « ما يعجبني » ظاهر في الكراهة . وفيه أنّه لابدّ من حمله على الحرمة ، فإنّ الأخبار المانعة أظهر منه في الكراهة المصطلحة ، ولو سلّم ظهوره في الجواز فيحمل على التقيّة ؛ لأنّه موافق العامّة ، ومع إصرار الإمام علیه السلام على المنع حتّى انّه يناظر القائلين بالجواز ، لا يمكن حمل الأخبار المانعة على الكراهة.

الثاني : ما رواه الشيخ عن موسى بن القاسم ، عن علي بن جعفر ، قال : سألت أخي علیه السلام اُظلّل وأنا محرم ، فقال : نعم وعليك الكفّارة ، قال : فرأيت عليّاً إذا قدم مكّة ينحر بدنة لكفّارة الظلّ (2).

فإن ترك الاستفصال عن كون تظليله من علّة يدلّ على الجواز من غير علّة وفيه أنّه ليس له ظهور في الجواز اختیاراً ، ويمكن حمله على المعذور بحيث كان حاله معلوماً عند الإمام علیه السلام ، فلذا لم يستفصلیه .

وجملة « فرأيت علياً علیه السلام » من کلام موسی بن القاسم وأنّه رأى علي بن جعفر.

الثالث : ما رواه في التهذيب والاستبصار ، عن سعد (بن عبد الله - صا ) عن أبي جعفر ، عن محمّد بن أبي عمير ، عن جميل بن درّاج ، عن أبي عبد الله علیه السلام، قال :

ص: 325


1- جامع أحاديث الشيعة 110:11 ب 15ح 18 .
2- جامع أحاديث الشيعة 107:11 ب 15 ع 4.

لَا بَأْسَ بِالظِّلَالِ لِلنِّسَاءِ وَقَدْ رُخِّصَ فِيهِ لِلرِّجَالِ (1).

فإنّه لم يقيّد الترخيص للرجال بالضرورة ، فيجوز لهم الاستظلال إختياراً . ولعلّ الفرق بينهم وبين النساء عدم الكراهة عليهنّ ، بخلاف الرجال فإنّه يكره لهم إختياراً.

وفيه أنّ قوله « وقد رخص » محمول على الترخيص لضرورة ، ولو كان دالاًّ على الجواز مطلقا فهو محمول على التقيّة.

الرابع : ما رواه الشيخ في التهذيب والاستبصار ، عن سعد بن عبد الله ، عن الحسن بن علي ، عن العباس بن معروف ، عن بعض أصحابناء عن الرضا علیه السلام( أبي عبد الله - خل ) قال : سألته عن المحرم له زميل فاعتلّ فظلّل على رأسه أله أن يستظلّ ؟ قال : نعم(2).

فإنّه ظاهر في عود ضمير «أله » إلى الحرم ، فتدلّ على جواز الاستظلال إختياراً .

وفيه أنّه قد يقال بعود الضمير في قوله « أله » إلى الزميل الذي اعتلّ، لكنّه بعيد ،بل يمكن أن يكون السؤال عن الاستطلال بظلّ الظلال على الزميل .

والحاصلی أنّ الأخبار التي استدلّ بها على جواز التظليل قاصرة الدلالة كما بيّنا .

الطائفة الرابعة : ما دلّ على عدم جواز الاستتار من الشمس ، وهي عدّة أخبار : الأوّل : ما رواه الشيخ في التهذيب والاستبصار ، عن موسى بن القاسم ، قال :

حدّثني النخعي ، عن صفوان ، عن عبد الرحمن بن الحجّاج ، قال : سألت أبا الحسن علیه السلام عن الرجل المحرم كان إذا أصابته الشمس شقّ عليه وصدع فيستر منها ، فقال : هو أعلم بنفسه إذا علم أنّه لا يستطيع أن تصيبه الشمس فليستظلّ

ص: 326


1- جامع أحاديث الشيعة 112:11 ب 15ح 31.
2- جامع أحاديث الشيعة 11: 116 18ح 2.

منها(1).

ومفهومه أنّه إذا استطاع أن تصيبه الشمس فلا يستظلّ، والنسبة بينه وبين ما دلّ على المنع عن الظلال عموم من وجه ، فلو اضطرّ إلى ركوب السيّارة لكن لم يضرّه الشمس فلا يستتر عنها.

ومقتضى ترك الاستفصال في قوله « أصابته الشمس » شموله لحال السير في الطريق وفي المنزل راكباً أو ماشياً ، في مكّة و مني وغيرهما ، سواء كان التستّر بالتظليل فوق الرأس أو أحد الجانبين ، وسواء كان ببعض الجسد أو بغيره ، وسواء كان الاستظلال بالجدار أو المحمل أو بغيرهما ، وسواء كان للرأس فقط أو للبدن فقط أو لهما. ويقيد إطلاقه ببعض الأخبار الآتية.

وقوله « وصدع » ظاهر في أنّ الصداع يوجب جواز ستر الرأس عن الشمس ، سواء كان الساتر فوق الرأس أو على الجوانب .

وقوله « لا يستطيع » يعني لا يتحمّل عادة ، فيقیّد به إطلاق ما دلّ على جواز التظليل إذا آذته الشمس بما إذا لم يتحمّل عادة .

الثاني : ما رواه الشيخ في التهذيب والاستبصار والكليني في الكافي ، عن أحمد بن محمّد بن عيسى - يب صا ) عن علي بن الحكم ، عن إسماعيل بن عبد الخالق ، قال : سألت أبا عبد الله علیه السلام هل يستتر المحرم من الشمس ؟ فقال : لا إلّا أن يكون شيخاً كبيراً ، أو قال : ذا علّة(2).

قال النجاشي في ترجمة إسماعيل بن عبد الخالق : وجه من وجوه أصحابنا وفقيه من فقهائنا(3). وفي نسخة : ثقة .

ص: 327


1- جامع أحاديث الشيعة 11 : 108ب 15 ح 6.
2- جامع أحاديث الشيعة 108:11 ب 15 ح 7.
3- رجال النجاشي ص 27 برقم : 50.

ثمّ إنّ قوله « شيخاً كبيراً» ، وإن لم يقيّده بكونه يتضرّر ، لكن لا يبعد انصرافه إلى ما كان حرجاً عليه.

ورواه في قرب الإسناد ، عن محمّد بن خالد الطيالسي ، قال : حدّثني إسماعيل بن عبد الخالق ، قال : سألت أبا عبد الله علیه السلام هل يستتر المحرم من الشمس ( وذكر مثله إلا أنّه قال : شيخا فانياً)(1).

الثالث : ما رواه في الفقيه ، قال : سأل ( أبا عبد الله علیه السلام) سعيد الأعرج عن المحرم يستتر من الشمس بعود أو بيده ، فقال : لا إلّا من علّة(2).

ودلالته واضحة ، إلا أنّ قوله « بيده » معارض بما دلّ على جواز التستّر باليد ، فيكون قوله « لا » محمولاً على الكراهة ، فيكون التستّر بالعود جائزاً على كراهة . واستشهد في الجواهر به على ذلك(3).

قلت : ظاهره الحرمة ، ويطرح الخبر في خصوص التستّر باليد ؛ لقوّة المعارض حتّى أن رسول الله صلی الله و علیه وآله وسلم فعله ، على ما في الاحتجاج ، فلا يكون مكروهاً.

الرابع : ما رواه في الكافي ، عن علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن عبد الله بن المغيرة، قال : سَأَلْتُ أَبَا الْحَسَنِ علیه السلام عَنِ الظِّلَالِ لِلْمُحْرِمِ ، فَقَالَ : أَ ضَحِّ لِمَنْ أَحْرَمْتَ لَهُ ، قلت : إِنِّي مَحْرُورُ وَ إِنَّ الْحَرَّ يَشْتَدُّ عَلَيَّ ، فَقَالَ : أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الشَّمْسَ تَغْرُبُ بِذُنُوبِ الْمُحْرِمِينَ (4).

وعبد الله بن المغيرة مشترك بين الحزّاز الذي عدّه الشيخ من أصحاب الكاظم والرضا پغ ، وبين البجلي الثقة ، لكن قالوا : إنّ الإطلاق ينصرف إلى الكامل

ص: 328


1- جامع أحادیث الشيعة 108:11 ذیل ح 7.
2- جامع أحاديث الشيعة 108:11ح8.
3- جواهر الكلام 18: 401.
4- جامع أحاديث الشيعة 108:11 ب 15 ح 10.

المشهور المعروف . ويمكن تأیید کونه البجلي بأنّ هذا الخبر متّحد مع ما بعده ، والصدوق ذكر في طريقه إلى عبد الله بن المغيرة طرقاً ثلاثة :

أحدها : ينتهي إلى الحسن بن علي عن جدّه عبد الله بن المغيرة.

وثانيها : ينتهي إلى إبراهيم بن هاشم .

و تالثها : إلى إبراهيم بن هاشم وأيّوب بن نوح والحسن بن علي عن جدّه ، و هو البجلي الثقة .

ثمّ إنّ قوله « الظلال » بالفتح ، أي : ما أظلّ كالسحاب ونحوه. ولا يخفى أنّه لا يبعد أن يكون الظلال إسماً لما يظلّ من الشمس والمطر والبرد ونحوها ، لا الذي يظلّ فعلا عن الشمس ، بل يكفي الشأنيّة والقابليّة .

الخامس : ما رواه في التهذيب والاستبصار ، عن العبّاس ( سعد بن عبد الله ، عن العبّاس - صا ) ( بن معروف - صاخ ) عن ( الفقيه : وروي عن عبد الله بن المغيرة، قال : قلت لأبي الحسن الأوّل علیه السلام: اُظلّل ( على نفسي - صاخ) وأنا محرم ؟ قال : لا ، قلت : أفاُظلِل و اُكفّر ؟ قال : لا ، قلت : فَإِنْ مَرِضْتُ ، قَالَ : ظَلِّلْ وَ كَفَّرَ ( يب وَ فَقِيهٍ ) ثُمَّ قَالَ : أمّاعلمت أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلی الله و علیه وآله وسلم قَالَ : مَا مِنْ حَاجٍّ يُضَحِّي مُلَبِّياً حَتَّى تَغِيبَ الشَّمْسُ إِلَّا غَابَتْ ذُنُوبُهُ مَعَهُ(معها - فقیه )(1).

السابع : ورواه في العلل ، قال : حدّثنا محمّد بن الحسن رحمة الله قال : حدّثنا الحسين بن الحسن بن أبان ، عن الحسين بن سعيد ، عن حمّاد ، عن ( بن - خ ) عبد الله بن يحيى المغيرة ، قال : قلت لأبي الحسن الأوّل علیه السلام: أظلّل وذكر مثله(2).

وأضح من قوله « أضح لمن أحرمت له » مشتقّ من الضحى وله معنيان: أحدهما الظهور للشمس . ثانيهما : مطلق الظهور .

ص: 329


1- جامع أحادیث الشيعة 11 : 108 - 109ح 11.
2- جامع أحاديث الشيعة 109:11 ذیل ح 11.

قال في لسان العرب : قال ابن عرفة يقال : لكلّ من كان بارزاً في غير ما يظلّه ويكنه أنّه ضاح(1).

وقال : قال شمر : كلّ ما ظهر وبرز فقد ضحا، ويقال : خرج الرجل من منزله

فضحالي (2) انتهي.

وفي اللسان أيضاً : وفعلت الأمر ضاحية أي ظاهراً بيّنا(3).

وقال : وليس لكلامه ضحى ، أي : بیان و ظهور ، وضحّى عن الأمر بيّنه وأظهره عن ابن الأعرابي ، وحكي أيضاً أضح لي عن أمرك - بفتح الهمزة - أي : أوضع وأظهر ، وأضحى الشيء أظهره وأبداه(4) .

ثمّ إنّه لو سلّم أنّ الظهور للشمس مأخوذ في مفهوم الضحى ، لكن يطلق على الشيء الذي يضحى للشمس لو كان في الشمس ، ولا يلزم أن يكون دائماً في الشمس ، فيقال للمنكبين : ضواحي ؛ لأنّهما يظهران للشمس ، ففي الليل أيضاً يقال لهما ضواحي ، فيمكن أن يكون معنی « أَ ضَحِّ لِمَنْ أَحْرَمْتَ لَهُ » به أن يجعل نفسه بحيث لو كانت الشمس ظاهرة لبرز لها.

وقيل : يختلف المعنى في قوله « أَ ضَحِّ لِمَنْ أَحْرَمْتَ لَهُ » بقراءة فتح الهمزة أوکسرها.

قال في لسان العرب : وفي الحديث « انّ ابن عمر رأى رجلاً محرماً قد استظلّ ، فقال : « أَ ضَحِّ لِمَنْ أَحْرَمْتَ لَهُ »، أي : أظهر واعتزل الکنّ والظلّ، هكذا يرويه المحدّثون بفتح الألف وكسر الحاء من أضحيت ، وقال الأصمعي : إنّما هو اضع لمن أحرمت له

ص: 330


1- لسان العرب 14: 477.
2- لسان العرب 14: 479.
3- لسان العرب 14: 479.
4- لسان العرب 14: 480.

بكسر الهمزة وفتح الحاء من ضحيت أضحى لأنّه إنّما أمره بالبروز للشمس(1) انتهی.

وقد يؤیّد کونه بالمعنى الثاني بقوله في خبر عبد الله بن المغيرة في تعليل الأضحاء « أمّا علمت أن الشمس تغرب بذنوب المحرمين » وفي خبره الآخر «ما من حاجّ يضحي ملبيّاً حتّى تغيب الشمس إلا غابت ذنوبه معها » الظاهر في أنّ الغفران من الذنوب يكون لمن أصابته الشمس ، ولا ينافيه قوله في خبر عثمان بن عیسی (والبرد شدید و یرید أن يحرم ) لاحتمال أن يكون الهواء باردة مع الاضحاء في الشمس .

أقول : لا طريق لنا إلى العلم بمعاني اللغات ، فقوله « اضح » يحتمل الأمرين.

وأمّا الاستشهاد الارادة الظهور للشمس بخبر عبد الله بن المغيرة ، فغير ثابت .فإنّه بعد ما قال الإمام علیه السلام له «اضح لمن أحرمت له » على معنى أظهر وأخرج من الظلال أي : أبرز لا يكِنّك شيء ، قال الراوي له : إنّي مرور ، فإذا ظهرت تأذّيت بالشمس ، فقال الإمام علیه السلام له إنّك إن برزت واتّفق ذلك في الشمس وفّقت هذه الفضيلة ، وهو غفران الذنب .

ويؤيّده قوله في خبره الآخر « ثمّ قال : أمّا علمت أن رسول الله صلی الله و علیه وآله وسلم قال : ما من حاجّ يضحي ملبيّاً حتّى تغيب الشمس إلّا غابت ذنوبه معه » فإنّ المراد به أنّ من خرج من محلّ مستور وصار بارزاً إن اتّفق أن أضحى ملّبياً في الشمس كان له كذلك؛ لأنّه لو وجب الاضحاء للشمس فلا يجب التلبية قطعاً ، فقوله « يضحي ملبيّاً» بيان لأمر مستحبّ.

ومما يؤيّد إرادة مطلق الظهور قوله في خبر حفص وهشام « أضح لمن أحرمت له» بعد قوله « يكره للمحرم أن يجوز توبه أنفه من أسفل» فإنّ المراد به الظهور

ص: 331


1- لسان العرب 14: 478.

و عدم ستر الوجه من أسفل ، لكن يحتمل أن يكون قوله « وقال : أضح» في موضع آخر لا تتمّة لهذا الخبر.

ثمّ إنّه يحتمل أن يكون للضحى معنى واحداً، وهو الظهور الذي لا يتعقّل الناس أعلى منه ، ويكون أكمل أفراده ضحى الشمس ، نظير ما قلنا في قولك « رأیت أسداً» انّ الأسد مستعمل في الرجل الشجاع البالغ أعلى مرتبة الشجاعة ؛ لأنّ الذي يمثّل أعلى مرتبة الشجاعة هو الأسد ، ولا يمكن التصريح بأبلغ منه ، فلذا يصحّ أن يقال : زید شجاع بل أسد ، فإذا اُريد إفادة الظهور بأعلى مرتبة عبّر عنه بالضحى ، فقيل : أضح لمن أحر مت له ، وقيل : ضاحت بلادنا.

ولذا لا يبعد ما ذكره في المقاييس ، قال : ضحين يدلّ على بروزالشيء، ثمّ أطال إلى أن قال : قال أبو زيد ، ضحا الطريق يضحوا ضَحواً و ضُحواً إذا بدا وظهر ، فقد دلّت هذه الفروع كلّها على صحّة ما أصّلناه في بروز الشيء ووضوحه(1) انتهى.

السابع : ما رواه في الكافي عن ( عدّة من أصحابنا - معلق ) أحمد ، عن عثمان بن عيسى الكلابي ، قال : قلت لأبي الحسن الأوّل علیه السلام: إن علي بن شهاب یشکو رأسه والبرد شديد ويريد أن يحرم ، فقال : إن كان كما زعم فليظلّل (و - خ ) أمّا أنت فاضح لمن أحرمت له(2).

وقوله « فليظلّل » أي : يجعل على نفسه ظلالاً يمنعه عن البرد ، فيدلّ على عموم الظلال للبرد وعدم اختصاصه بالشمس . وقيل باختصاصه بها ، لكن كان يؤذيه البرد ، فهو يظلّل من الشمس في أيّام الشتاء إذا كانت السماء صاحية دفعاً للبرد ، بقرينة قوله « أَمَّا أَنْتَ فَاضْحَ لِمَنْ أَحْرَمْتَ » أي : أبرز للشمس .

قلت : قد يمنع صدق الأضحاء إن لم يكن حرّ الشمس يؤذيه .

ص: 332


1- مقاییس اللغة 3: 391 - 393.
2- جامع أحاديث الشيعة 108:11 ح 9.

قال في لسان العرب : وعن الليث ضحى الرجل يضحي ضحاً إذا أصابته حرّ الشمس(1).

قوله « فاضح » ظاهر في الوجوب ، وإنّ الأضحاء هو البروز مطلقا لا البروز للشمس خاصّة ، فالتستّر عن البرد في الليل وغيره بما يكون فوق الرأس أو على أحد الجوانب ينافي الأضحاء.

الثامن : ما رواه في الفقيه ، عن حفص بن البختري ، وهشام بن الحكم ، رویا عن أبي عبد الله علیه السلام أنّه قَالَ : يُكْرَهُ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَجُوزَ ثَوْبُهُ أَنْفَهُ مِنْ أَسْفَلَ ، وَ قَالٍ : أَ ضَحِّ لِمَنْ أَحْرَمْتَ لَهُ (2).

والرواية تامّة السند ، فإنّ طريق الصدوق صحيح إلى حفص ، وكذا إلى هشام بن الحكم.

وأما قوله « يكره » فإنّه يستعمل في الأعمّ من الحرمة والكراهة المصطلحة ، و استظهر بعضهم منه إرادة الكراهة المصطلحة ، وحمل قوله « أضح » على رجحان الأضحاء الذي هو ضدّ المكروه ، أو يحمل على الإرشاد إلى ترك المكروه.

واستدلّ في الجواهر على حمل الأضحاء في سائر الأخبار على غير الوجوب بهذا الخبر ، قال - بعد ذكره - : فلا يبعد القول بالكراهة فيما نافي الأضحاء من التستّر ما لا يكون فوق الرأس والحرمة بما كان فوقه(3).

أقول : يحتمل أن يكون قوله « قال » رواية اُخرى وليس متّصلیاً ما قبله ، ويؤيّده تکرار کلمة « قال » بل يحتمل أن يكون من كلام الصدوق ، ولو سلّم کونه تتمّة الرواية وتعليلاً للكراهة المذكورة ، فلا يوجب حمل سائر الأخبار على خلاف

ص: 333


1- لسان العرب 14: 477.
2- جامع أحاديث الشيعة 105:11 ب 11ح 1.
3- جواهر الكلام 18 : 402.

ظاهرها من الوجوب ؛ لأنّ العدول عنه بقرينة يختصّ بمورد وجود القرينة ، وهو كراهة أن يجوز ثوبه أنفه من أسفل ، وهذه القرينة غير موجودة في سائر الأخبار المشتملة على قوله «أَضَعَ لِمَنْ أَحْرَمْتَ لَهُ» .

ثمّ إنّ نصوص الأضحاء إنّما تدلّ على البروز للشمس وعدم التستّر منها ، بناء على اختصاص الأضحاء بالبروز للشمس ، ودلالتها على المنع من التستّر مطلقا ، مبنيّة على أنّ الأضحاء هو مطلق الظهور ، وهو إن لم يثبت فلا تدلّ على اختصاص المنع بالتستّر عن الشمس ، فإنّ الظلال مستعمل في التستّر من الشمس والتستّر مطلقا ، فلا وجه لتقييده بالتستّر من الشمس فقط.

التاسع : ما رواه في الفقيه ، عن عبد الله بن سنان ، قال : سمعت أبا عبد الله علیه السلام يَقُولُ لِأَبِي وَقَدْ شكى إِلَيْهِ حَرَّ الشَّمْسِ وَ هُوَ مُحْرِمُ وَ هُوَ يتأذّي بِهِ ، وَ قَالٍ : تَرَى أَنْ أَسْتَتِرَ بِطَرَفِ ثَوْبِي ؟ قَالَ : لَا بَأْسَ بِذَلِكَ مَا لَمْ يُصِبْكَ ( يُصِبْ خ ) رَأْسَكَ(1).

وطريق الصدوق إلى عبد الله بن سنان صحيح.

ومقتضى إطلاق قوله « وهو يتأذّي » شموله لمطلق الأذّية وإن كانت ممّا تتحمّل عادة ، ولكن يقيّد إطلاقه بخبر عبد الرحمن و غیره .

وأمّا قوله « أن استتر » فهو شامل لما كان الاستتار بجعل الثوب فوق الرأس أو على أحد الجوانب .

وأمّا قوله « ما لم يصبك » فلعلّ المراد به أنّه لا بأس بالتستّر بالثوب مع الضرورة، سواء جعله فوق الرأس أو إلى أحد الجوانب، لكن يشترط أن لا يصيب الرأس؛ لأنّ تغطية الرأس حرام آخر غير التظليل . وممّا ذكرنا ظهر أنّ استشهاد صاحب الجواهر بهذا الخبر على جواز التستّر من الشمس إذا لميكن فوق

ص: 334


1- جامع أحاديث الشيعة 112:11 ب 15ح 32.

الرأس(1). غير واضح و لاشتاله على الجواز إن كان يتأذّى من حرّ الشمس .

وقوله « رأسك » عطف بيان أو بدل للكاف في قوله « يصبك ».

العاشر : ما رواه في الكافي ، عن محمّد بن يحيى ، عن محمّد بن أحمد ، عن علي بن الريان ، عن قاسم الصيقل ، قال : ما رأيت أحداً كان أشدّ تشديداً في الظلّ من أبي جعفر علیه السلام كان يأمر بقلع القبّة والحاجبين إذا أحرم(2).

وفي السند علي بن الرياّن الأشعري القمّي وقد وثّقه النجاشي(3).

و قاسم الصيقل وقد عدّه الشيخ من أصحاب الهادي علیه السلام(4) وحاله مجهول .

والمراد بالحاجبين المحمل و نحوه التي توضع عليهما القبّة ، وشدّة التشديد مستفادة من أمره علیه السلام بقلع الحاجبين .

وذكر صاحب الجواهر أنّ التشديد ظاهر في الزيادة على الواجب(5).

فيدلّ على جواز الاستتار بالحاجبين .

قلت : لعلّ قاسم الصيقل لم يكن يعرف في ذلك الوقت عدم جواز الاستتار بالحاجبين فلذا عبرّ بالتشديد.

ثمّ إنّ صاحب الحدائق ذكر أنّ الظاهر وقوع تصحيف الجناحين بالحاجبين ، كمافي الخبر الآخر.

الحادي عشر : ما رواه في التهذيب ، عن موسى بن القاسم، عن صفوان ، عن معاوية بن عمّار ، عن أبي عبد الله علیه السلام، قال : لا بأس أن يضع الحرم ذراعه على

ص: 335


1- جواهر الكلام 18: 400.
2- جامع أحاديث الشيعة 11: 109ب 15ح 15.
3- رجال النجاشي ص 278 برقم: 731.
4- رجال الشيخ الطوسي ص 390 برقم : 5744 .
5- جواهر الكلام 401:18

وجهه من حرّ الشمس ، وقال : لا بأس أن يستر بعض جسده ببعض (1).

الثاني عشر : ما رواه في الكافي ، عن عدّة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمّد ، عن الحسين بن سعيد ، عن النضر بن سوید ، عن يحيى الحلبي ، عن المعلّى بن خنیس ، عن أبي عبد الله علیه السلام ، قَالَ : لَا يَسْتَتِرُ الْمُحْرِمُ مِنَ الشَّمْسِ بِثَوْبٍ ، وَ لَا بَأْسَ أَنْ يَسْتُرَ بَعْضَهُ بَعْضٍ (2).

الطائفة الخامسة : ما دلّ على لزوم الكفّارة في التظليل ، وهي خبران : الأوّل : ما رواه في الكافي ، عن محمّد بن يحين ، عمّن ذكره ، عن أبي علي بن راشد ، قال : سألته عن محرم ظلّل في عمر ته ، قَالَ : يَجِبْ عَلَيْهِ دَمُ ، قَالَ : وَ إِنْ خَرَجَ إِلَى مَكَّةَ وَ ظِلُّ وَجَبَ عَلَيْهِ أيضاًدم لِعُمَرَ ته وَ دَمُ لِحَجَّتِهِ(3) .

والخبر مرسل ، ولعلّه قطعة من الخبر الثاني :

و لعلّ المراد من قوله « في عمر ته » هو العمرة المفردة .

وأمّا قوله « وإن خرج إلى مكّة » فمعناه : إن اعتمر للتمتّع وخرج إلى مكّة لعمرة التمتّع فظلّل في عمرته وحجّه ، فقد وجب عليه دمان .

الثاني : ما رواه في التهذيب ، عن محمّد بن الحسن الصفّار ، عن محمّد بن عيسى ، عن أبي علي بن راشد ، قال : قلت له علیه السلام : جُعِلْتُ فِدَاكَ إِنَّهُ يَشْتَدُّ عَلَيَّ کشف الظِّلَالِ فِي الاحرام لِأَنِّي مَحْرُورُ وَ يَشْتَدُّ عَلَيَّ الشَّمْسَ ، فَقَالَ : ظَلِّلْ وَ ارْقَ دَماً ، فَقُلْتُ : دَماً أَوْ دَمَيْنِ ، قَالَ : لِلْعُمْرَةِ ، قِلَّةُ : إِنَّا نُحْرِمُ بِالْعُمْرَةِ وَ نَدْخُلُ مَكَّةَ ، فَنُحِلُّ فنحرم بِالْحَجِّ ، قَالَ : فَارَقَ دَمَيْنِ (4).

ص: 336


1- جامع أحاديث الشيعة 112:11 ب 16ح 1.
2- جامع أحاديث الشيعة112:11 ب 16ح 2.
3- جامع أحاديث الشيعة 110:11 ب 15ح 22.
4- جامع أحاديث الشيعة 110:11- 111 ب15 ح 23،

وفي السند محمّد بن عيسى وهو ثقة.

والخبر وإن كان مضمراً ، إلا أنّه لا يبعد أن يكون قوله « جعلت فداك » قرينة على أنّ المسؤول كان معصوماً ؛ إذ لا تقال هذه الجملة عادة - عند الأصحاب - لغير المعصوم.

وأمّا قوله « ويشتدّ » فلعلّ المراد به زيادة تأذّيه على ما يتأذّى غيره من الشمس؛ لأنّ كلّ أحد يتأذّي من الشمس في الحرّ.

وأمّا قوله « فقلت » فلعلّه زعم أن الظلّال في العمرة والحجّ مع يوجب دم واحد فسأل عنه . وإطلاق الدم يشمل الأنعام الثلاثة .

وقوله « قال للعمرة » أي : قال المسؤول إنّك تسأل عن العمرة.

وأمّا قوله « قلت » فلعلّه ظاهر في أنّه قال أسألك .

الفصلی الثالث

في الفروع المستفادة من هذه الأخبار

وهي في مسائل :

الأولى : لا يجوز للمحرم التظليل سائرة ، بأنّ يجلس في محمل أو قبّة أو سيّارة أو سفينة مظلّلة أو طائرة أو قطار ، في أيّ زمان وأيّ مكان وأيّ حال ؛ لإطلاق الأخبار المانعة عن ركوب القبّة و التظليل ، وقد تقدّمت الأخبار المعارضة والمناقشة فيها.

ولا مخالف في أصلی المسألة إلّا ما ينسب إلى الاسكافي . وناقش في الجواهر في دلالة كلامه على الخلاف، وقال : مع أنّ عبارته ليست بتلك الصراحة(1) انتهی .

ص: 337


1- جواهر الكلام 18: 394.

وحكى الخلاف في الحدائق عن السبزواري ، وناقشه فراجع.

ولكن وقع الخلاف في فروع المسألة على أقوال :

أحدها : اختصاص المنع بالتظليل من الشمس فقط ؛ لأنّ مفهوم التظليل هو الاستتار عن الشمس .

ثانيها : اختصاصه بالتظليل من الشمس والمطر ، للروايات الدالّة عليها.

ثالثها : اختصاصه بالتظليل الذي يترتّب عليه فائدة من دفع شمس أو مطر أو ريح أو برد أو عجّ . وأمّا إذا لم يترتّب عليه أيّ فائدة ، فلا مانع من التظليل ؛ لعدم صدق التظليل أو للانصراف إلى غيره .

أقول : قد تقدّم أن مقتضى إطلاق المنع من ركوب القبّة ونحوها المنع منه مطلقا، فانّ الجوّ في زمان صدور الروايات كان كجوّ يومنا من البرد والحرّ والشمس والمطر وغيرها ، وكذلك أخبار التظليل مطلقة تشمل جميع ذلك .

الثانية : لو اضطرّ المحرم إلى التظليل لم يحرم عليه ، وليس الاضطرار إليه موجباً لسقوط التكليف ، فإن علم قبل الاحرام بأنّه يضطرّ الى التظليل جاز له الاحرام ، بخلاف الاضطرار إلى سائر المحرّمات ، كمن يعلم أنّه لو أحرم يضطرّ إلى قتل مؤمن مثلاً ، فإنّه لا يجوز له أن يحرم ، وما ذكرناه مستفاد من الروايات المذكورة .

ثمّ إنّ المراد بالاضطرار هل هو ما يسقط معه التكليف ، كما في الجواهر (1)، حيث قال بعد كلام المصنّف « لَوْ اضْطُرَّ لَمْ يُحْرِمْ» : وهو أن يتأذّى من ترك التظليل بحدّ لا يتحمل مثله على وجه يسقط معه التكليف انتهى .

أقول : وذلك جمعاً بين الأخبار المتقدِمة ، فإنِها على طائفتين : الطائفة الأولى : ما دلِ على جواز التظليل لمطلق الأذيِة ، وهي خبر سعد بن

ص: 338


1- جواهر الكلام 18 : 398

سعد: فقلت : يؤذيه حرّ الشمس ، فقال : هي علّة يظلّل ويفدي .

وخبر ابن بزیع : في أذى من مطر أو شمس أو قال : من علّة ، فأمر بفداء شاة يذبحها بمني.

وخبر إبراهيم بن أبي محمود : قلت للرضا علیه السلام : المحرم يظلّل على محمله و يفدي إذا كانت الشمس أو المطر يضرّان به ؟ قال : نعم.

و خبر علي بن محمّد : هل يظلّل على نفسه إذا آذته الشمس أو المطر ؟ فكتب : يظلّل على نفسه ويهريق دماً .

الطائفة الثانية : ما دلّ على اعتبار عدم إطاقة الشمس ، و هو : خبر عبد الرحمن : إذا علم أنّه لا يستطيع أن تصيبه الشمس فليستظلّ منها.

وخبر ابن المغيرة : قلت : إنّي محرور وإن الحرّ يشتدّ علي ، فقال : أمّا علمت أنّ الشمس تغرب بذنوب المحرمين.

وخبر إسحاق بن عمّار : قال : لا إلّا مريض أو من به علّة والذي لا يطيق الشمس .

ولعلّ مقتضى المجمع أن يكون الجواز متفرعاً على الضرورة المذكورة ، ولاسیّما أنّ الشمس تؤذّي عادة ، فإذا قيّد الجواز بكونها تؤذّي ، فالمراد الأذيّة التي تكون فوق الأذّية التي تقتضيه بنفسها ، ولكن في كون الضرورة هنا كالضرورة المسوّغة لشرب الخمر مثلاً إشكال ، فلعلّ المدار على عدم استطاعة أن تصيبه الشمس أو صيرورته مريضة ونحو ذلك ، فتأمّل .

الثالثة : هل يجوز التظليل على غير الرأس ؟ بأن يكون في القبّة مثلاً ويخرج رأسه منها تحت السماء أم لا ؟ قيل : لا يجوز ، ولعلّه لصدق التظليل ، وصدق الاستتار من الشمس ، وهو ممنوع.

الرابعة : هل يحرم على الحرم الأستار عن الشمس من حيث أنّه استتار عنها،

ص: 339

حتّى أنّه لو اضطرّ إلى ركوب القبة ونحوها وتمكّن من أن يقعد فيها مواجهاً للشمس بحيث تشرق عليه لكان الاستار منها حراماً أم لا؟ بمعنى أنّه إنّما يحرم الاستتار منها إن كان الساتر فوق الرأس ، قولان :

الأوّل : حرمة الاستتار من الشمس ، بجعل المحرم شيئاً ساتراً عنها ، فإنّ المستفاد من الأخبار أمران :

الأوّل : حرمة ركوب القبّة ونحوه للتوقّي من الشمس أو المطر أو غيرهما .

الثاني : الاستتار عن الشمس ، سواء كان راكباً في القبّة أو لم يكن فيها .

يدلّ على الأوّل الأخبار المانعة عن التظليل ، ويدلّ على الثاني الأخبار المانعة عن الاستتار ، وهي : خبر المعلّى : لا يستتر المحرم من الشمس بثوب.

وخبر إسماعيل بن عبد الخالق ، هل يستتر المحرم من الشمس ؟ فقال : لا .

وخبر محمّد بن الفضيل . وخبر عبد الله بن المغيرة . وخبر عبد الرحمن : إذا علم أنّه لا يستطيع أن تصيبه الشمس فليستظلّ منها.

وخبر سعيد الأعرج : عن المحرم يستتر من الشمس بعود أو بيده ؟ فقال : لا.

ويدلّ على المنع أيضاً خلوّ أخبار التكفير مع التظليل للضرورة إذا لم يكن فوق الرأس ؛ إذ لو كان جائزاً إختياراً وجب الاقتصار عليه إذا اندفعت به الضرورة .

الثاني : جواز الاستتار منها على وجه لا يكون على رأسه .

واستدلّ له في الجواهر ، فقال : ولعلّه للأصلی بعد کون المورد في أكثر النصوص الجلوس في القبّة والكنيسة والمحمل ونحوها ممّا لا يشمل الفرض (1).

وصحيح ابن سنان : وشکى إليه حرّ الشمس وهو محرّم وهو يتأذّى به ، وقال :أترى أن أستتر بطرف ثوبي ؟ قال : لا بأس بذلك ما لم يصبك رأسك .

ص: 340


1- جواهر الكلام 18: 400.

ثمّ انّه اتجه عنده حمل الأخبار المانعة على الكراهة ، فقال : كما يؤمي، إليه خبر قاسم الصيقل : ما رأيت أحداً كان أشدّ تشدیداً في الظلّ من أبي جعفر علیه السلام كان يأمر بقلع القبّة والحاجبين إذا أحرم . فإنّ التشديد ظاهر في الزيادة على الواجب ، وهذا وإن كان من الراوي إلا أنّه ظاهر في معلومة الحكم عندهم سابقأ .

إلى أن قال : بل قد يشهد لما ذكرناه ما في خبر سعيد الأعرج سأل الصادق علیه السلام عن المحرم يستتر من الشمس بعود أوبيده ، قال : لا إلاّ من علّة . لما عرفت من جواز الاستتار باليد الذي فعله رسول الله صلی الله و علیه وآله وسلم على وجه يقصر عن معارضته ، فلابدّ من حمله على ضرب من الكراهة (1) انتهى .

قلت : أمّا خبر ابن سنان فورده التأذّي من الشمس ، وهو من الضرورة.

وأمّا خبر قاسم ، فلم يعلم أنّ قاسم الصيقل كان عالماً بالمسألة مطلّعاً عليها أوّلا،فلعلّه زعم أنّه تشدید من دون أن يكون كما زعم.

وأمّا خبر سعيد فإنّ حمله على الكراهة يستلزم ارتكاب الرسول صلی الله و علیه وآله وسلم المكروه ، فيمكن طرحه بالنسبة إلى التستّر باليد ؛ لأنّ ما دلّ على الجواز أكثر.

وحاصلی الكلام أنّ المحرم يحرم عليه أمران :

الأوّل : أن يستتر في مثل القبّة والهودج ونحوهما مطلقا ، سواء كان في الشمس أو في غيره ، من غيم أو ليل.

الثاني : أن يستتر من الشمس ، سواء كان في القبّة البارزة، بحيث لم يكن فرق بين وجود القبّة وعدمها ، أم لم يكن في القبّة ، إلا في بعض الصور ، کالاستظل بظلّ الحمل أو غيره من الظلال الثابتة .

والنسبة بين الأمرين من وجه ، فإنّه لا يجوز له أن يركب القبّة إلا للضرورة

ص: 341


1- جواهر الكلام 18: 401.

فيجوز معها : إمّا لعدم قدرته على المشي ، وعدم وجود مرکوب غيره ، أو غيرهما ، وحينئذ لو قدر على أن يقعد في القبّة بحيث يكون بارزا للشمس ، كما إذا لم يكن في القبّة لم يجز أن يستتر من الشمس ، وكذا لو لم يكن في القبّة ومشى في الشمس لم يكن له أن يستتر عنها بشيء على رأسه أو على أحد جانبيه.

الخامسة : هل يجوز السير راكباً مستظلاً على وجه لا يكون على رأسه أم لا؟ إحتمالان :

الأوّل : عدم الجواز الاطلاق بعض الأخبار .

الثاني : الجواز ، قيل : لتقييد بعض الأخبار عدم الجواز بما إذاكان على وجه يكون على رأسه.

ولايبعد الأوّل ؛ لقصور دلالة ما استدلّ به على الثاني ، فإنّه يدلّ على المنع إطلاق الأخبار المانعة عن التظليل . وأمّا الأخبار التي استدلّ على الجواز ، فهي الأخبار التي استدلّ بها على المسألة المتقدّمة ، وهو جواز الاستتار من الشمس على وجه لا يكون الساتر على رأسه ، وهي قاصرة الدلالة كما تقدّم .

السادسة : إن كان ماشياً وأخذ على رأسه مظلّة ( شمسيّة ) للتوقّي أو مطلقا ، فالظاهر عدم الجواز ، خلافاً لما عن الشهيد الثاني من اختصاص الحرمة بحال الركوب ، ولعلّه لانصراف الإطلاق إلى الركوب ، وخصوص خبر ابن بزيع : للمحرم أن يمشي تحت ظلّ المحمل. وخبر الاحتجاج : يجوز له المشي تحت الظلال .

قلت : مقتضى إطلاق سائر الأخبار عدم التظليل ، أي : عدم الاستتار عن الشمس والمطر وغيرهما ، وهي لو لم تكن منصرفة إلى الظل السائر مع المحرم الذي يكون بفعله لا الظلّ الثابت مقيّدة بخبر ابن بزيع في جواز المشي تحت ظلّ الحمل . بحيث يكون في جانبه لا تحته حقيقة ، بناءً على أن معنى المشي تحت ظلّ المحمل هو المشي في جانبه ، على ما تقدّم بيانه .

ص: 342

وأمّا خبر الاحتجاج ، فيحتمل أن يكون المراد من الظلال البناء أو الخيمة ونحوهما ممّا هو ثابت غير متحرك ، بل يمكن منع صدق التظليل عليه كما في الجواهر ، حيث قال : الظلال المستقرّ لا السائر معه ، فإنّه قد يقال بجوازه للأصلی بعد قصور النصوص عن تناوله ، ضرورة عدم صدق التظليل به (1).

السابعة : في جواز التظليل للشيخ الكبير إن لم يتأذّ بالشمس إشكال ؛ فإنّ ما ورد في خبر إسماعيل بن عبد الخالق من قوله علیه السلام ، إلّا أن يكون شيخاً كبيراً أو قال ذا علّة . مردّد ، ولعلّ الشكّ من الراوي .

الثامنة : يجوز التظليل حال الجلوس والنوم عند النزول في مكّة ومنى وعرفات والشعر ، بل في الطريق والمنازل التي ينزل فيها المحرمون . وفي جواز التظليل في المنزل حال السير ، بأن يأخذ على رأسه شمسيّة مثلاً حال المشي ، قولان :

الأوّل : عدم الجواز ؛ لإطلاق الأخبار ، قال في الجواهر : قد يتوقّف في تظليل يسير معه راكباً أو ماشياً للتردّد في المنزل ونحوه(2)، فالأحوط إن لم يكن أقوى اجتنابه .

الثاني : الجواز ، واستدلّ له بأنّ المستفاد من روايات المقام هو المنع عن الاستظلال حال سيره إلى مكّة ، ولا تشمل حال نزوله في منزله . وقد كثر سؤال المخالفين الأئمة علیهم السلام بأنّه ما الفرق بين حال السير والنزول في المنزل والخباء، ممّا يدلّ على أن التظليل حال النزول لا بأس به . والظاهر عدم الفرق بين الاستظلال بالمظلّة ونحوها وبين الظلّ الثابت .

أقول : الاستظلال بالظلّ الثابت في المنزل جائز ، ولا يبعد كونه محلّ سؤال المخالفين ، وأمّا جواز الاستظلال بالمظلّة ونحوها سائراً مع إطلاق أدلّة المنع فلم

ص: 343


1- جواهر الكلام 18 : 403.
2- جواهر الكلام 18 : 403.

يثبته.

التاسعة : يجوز التظليل للنساء والصبيان ، لصحيح حريز .

العاشرة : يجوز التستّر عن الشمس ببعض الجسد ، ومقتضى ما دلّ على عدم التستّر من الشمس عدم التستّر به ، ويدلّ عليه خبر سعيد الأعرج . ولكن يدلّ على الجواز خبر محمّد بن الفضيل وبشر بن إسماعيل أن رسول الله صلی الله و علیه وآله وسلم تؤذيه الشمس فيستر جسده بعضه ببعض ، وربّما ستر وجهه بيده . و صحیح معاوية بن عمّار ، وخبر معلّی بن الخنيس : لا بأس أن يستر بعض جسده يبعض . فإنّ ثبت أنّ النبي صلی الله و علیه وآله وسلم فعل ذلك ، فينبغي عدم العمل بخبر سعيد ، وإلّا فقتضي الجمع حمله على الكراهة في خصوص الستر باليد.

الحادية عشرة : لو زامل من ظلّل عليه لم يجز له التظليل ، والظاهر أنّه لا بأس بالاستظلال ما يحدث من ظلال من ظلّل عليه : إمّا لعدم كونه على الرأس كمافي الجواهر(1). وإمّا لجواز أن يركب الحمل مع زوجته ، بأن تكون في طرف وهو في طرف آخر، فإنّ المرأة إذا ظلّلت على نفسها يكون ظلّ ما تستظلّ به على الرجل . وفي خبر بکر بن صالح في الرجل الذي زامل عمّته ، فكتب ظلّل عليها وحدها .

وأمّا مرسل عبّاس بن معروف عن المحرّم له زميل فاعتلّ فظلّل على رأسه أله أن يستظل ؟ قال : نعم . فيحتمل إرجاع ضمير « له » إلى الزميل ، كما يحتمل أن يكون المراد به الاستظلال من الظلّ المحادث ممّن ظلّل عليه.

الثانية عشرة : لا تضرّ الأعواد الخشبيّة وشبهها ، وهي القوائم التي يجعل عليها ظلال المحمل و نحوه ؛ لعدم صدق التظليل بها، ويدلّ عليه الخبر المروي في الاحتجاج ، وأمّا الجناحان فالظاهر صدق الاستتار بها، ويؤيّد ذلك أنّ المروي في

ص: 344


1- جواهر الكلام 18: 406.

الاحتجاج هو السؤال عن المحرم يرفع الظلال هل يرفع خشب العمارية أو الكنيسة ويرفع الجناحين أم لا؟ فكتب علیه السلام إليه في الجواب : لا شيء عليه في ترکه رفع الخشب . فإنّه اقتصر على رفع الخشب فقط .

ويؤيّده خبر قاسم الصيقل الدالّ على أنّه كان يأمر بقلع القبّة والحاجبين . قال في الحدائق : الظاهر أنّ الحاجبين وقع في هذا الخبر تصحيف الجناحين انتهى . فلم يذكر أنّه يرفع الخشب ، فتأمّل .

الثالثة عشرة : يجوز للمحرم السير راكباً أو ماشياً تحت الأشجار والسقوف المضروبة لتردّد المسافرين المتعارفة في الأسواق والشوارع ؛ لأنّ المتيقّن من المنع هو إحداث المحرم ظلاً على نفسه ، لا الانتفاع بالظلّ الموجود ، بل وإن كان سائراً كظلّ الحمل ، ولا يضرّ جلوس اثنين متّصلیين في محلّ واحد في السيّارات ونحوها ، وإن كان يستظلّ جانبه بظلّ جليسه أو ردیفه ؛ لجواز إرداف الرجل واحداً معه على حمار و نحوه . نعم يمكن دعوئ استحباب أن يكون في الشمس لما يستفاد من خبر عبد الله بن المغيرة.

هذا كلّه فيما إذا كان الظلّ ليس من فعل المباشر ، وكان الانتفاع بالظلّ لكلّ من ينتفع به . وأمّا إذا بنى الظلال الخصوص استطراق المحرمين كالظلّ المبنيّ في مني لذهاب المحرمين إلى رمي الجمار ، ففيه إشكال ؛ لعدم وجوده في أزمنة صدور الروايات التي يستفاد الجواز منها، فيمكن دعوی صدق التظليل به .

الرابعةعشرة : تجب الفدية في التظليل . وحكى في الحدائق عن ابن الجنيد أنّه ذهب إلى الاستحباب لعدم تحريمه التظليل ، وهو ضعيف.

ثمّ إنّ الكلام يقع فيها يكون فدية وفي موضعها وفي تكرارها بتكرّر التظليل و عدمه ، فهاهنا مواضع ثلاثة :

ص: 345

الموضع الأوّل

في الفدية

وفيها أقوال واحتمالات:

أحدها : أنّها إحدى الأنعام الثلاثة ، ويدلّ عليه إطلاق قوله في خبر علي بن محمّد: ويهريق دماً . لكن قيل : إنّ المراد به دم شاة ؛ لقرائن في سائر الأخبار، وخبر علي بن جعفر : إنّه ينحر بدنة لكفّارة الظلّ . والمرسل عن أبي علي بن راشد قال : يجب عليه دم . وخبره الآخر : فارق دماً .

ثانيها : أنّها شاة ، قيل : هو المشهور ، ويدلّ عليه خبر إبراهيم قلت : كم الفداء؟ قال : شاة . وخبر ابن بزيع : إنّه يفدي بشاة ويذبحها بمني. وإطلاقه شامل للتظليل في العمرة والتظليل في الحجّ.

ويمكن حمله على الجواز إذا كان في العمرة ؛ لأنّ مكّة أفضل ، ففي صحيح منصور بن حازم ، قال : سألت أبا عبد الله عن كفّارة العمرة المفردة أين يكون ؟ فقال : بمكّة إلّا أن يشاء صاحبها أن يؤخّرها إلى منى و يجعلها بمكّة أحب إلي وأفضل(1).

ثالثها : ما عن ابن أبي عقيل من أنّ فديته صيام أو صدقة أو نسك كالحلق لأذي .

قال في الحدائق : ولعلّ مستنده ما رواه الشيخ عن عمر بن یزید ، عن أبي عبد الله علیه السلام قال : قال الله تعالى في كتابه «فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ ۚ » فَمَنْ عَرَضَ لَهُ أَذًى أَوْ وَجَعُ ، فتعاطی مَا لَا يَنْبَغِي لِلْمُحْرِمِ إِذَا كَانَ صَحِيحاً ، فَالصِّيَامُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ، وَ الصَّدَقَةُ عَلَى عَشَرَةِ مَسَاكِينَ يُشْبِعُهُمْ مِنَ الطَّعَامِ ، وَ النُّسُكُ شَاةُ يَذْبَحُهَا فَيَأْكُلُ وَ يُطْعِمُ ، وَ إِنَّمَا عَلَيْهِ وَاحِدُ مِنْ ذَلِكَ(2).

ص: 346


1- جامع أحاديث الشيعة 11: 263 ب 1205 ح 8.
2- وسائل الشيعة باب 14 من بقيّة الكفّارات الإحرام

رابعها : ما عن الصدوق من أنّه عن كلّ يوم مدّ، ويدلّ عليه خبر أبي بصير قال :نعم إذا كانت به شقيقة ، ويتصدّق بد لكلّ يوم.

خامسها: ما عن أبي الصلیاح : وهو على المختار لكلّ يوم شاة ، وعلى المضطرّ الجملة المدّة شاة . ولم يعرف له دلیل .

سادسها : ما في جمل العلم والعمل للسيّد المرتضى من أنّ فيها تفصيلاً، حيث قال: ومن أظلِ على رأسه من أذى فعليه دم شاة ، أو إطعام ستّة مساكين ، أو صيام ثلاثة أيّام . ومن أظلّ على نفسه مختاراً فعليه دم .

والأحوط أن يجعل الفداء شاة للمضطرّ ، وكفّارة للمختار ؛ لاتّفاق الأخبار عليه إلّا خبر أبي بصير ، وهو : إمّا محمول على أنّه أحد فردي المخيّر ، بأنّ يكون مخيّراً بين الشاة والمدّ ، أو يردّ إلى أهله لأنّ معارضه أكثر .

الموضع الثاني

في محلّها

وفيه احتمالات:

الأوّل : من ، خبر ابن بزیع : ويذبحها بمني .

الثاني : إن كان في عمرة فمكّة ، وإن كان في حجّ فمني.

الثالث : جواز أن يذبحه أيّ مكان أراد ، يدلّ عليه خبر أحمد بن محمّد ، عن بعض رجاله ، عن أبي عبد الله علیه السلام، قَالَ : مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ هَدْيُ فِي أَ حَرَامِهِ فَلَهُ أَنْ يَنْحَرَهُ حَيْثُ شَاءَ إِلَّا فِدَاءَ الصَّيْدِ، فإنّ الله عزّوجلّ يقول ... الحديث (1).

وفي قرب الإسناد بإسناده عن علي بن جعفر عن أخيه ؟ قَالَ : لِكُلِّ شَيْ ءٍ خَرَجْتَ مِنْ حَجِّكَ فَعَلَيْكَ دَمُ تُهَرِيقُهُ حَيْثُ شِئْتَ(2) .

ص: 347


1- جامع أحاديث الشيعة11: 261 ب 105 ع 4.
2- جامع أحاديث الشيعة11: 261ب105 ح5.

وموثّق إسحاق بن عمّار ، عن أبي عبد الله علیه السلام قال : قلت له : الرجل يخرج يجترح - کاخل ) من حجّته شيئاً يلزمه منه دم يجزيه أن يذبحه إذا رجع إلى أهله . فقال : نعم ، وقال : فيا أعلم يتصدّق به ، قال إسحاق : وقلت لأبي إبراهيم علیه السلام : الرجل يخرج ( يجترح ) من ( عن ) حجّته ما يجب عليه الدم ولا يهريقه حتّى يرجع إلى أهله ، فقال : يُهَرِيقُهُ فِي أَهْلِهِ وَ يَأْكُلُ مِنْهُ (1).

الموضع الثالث

في تكرار الفدية بتكرار التظليل

وقد ذهب بعض الأعلام إلى أنّ الظاهر من النصوص لزوم تكرر الفدية بتكرّر التظليل وإن كان في نسك واحد.

قال في الحدائق : ظاهر الروايات يستلزم تکرّر الفدية بتكرار التظليل في النسك الواحد الخ.

أقول : فيه تفصيل : فإن كان التظليل في نسك واحد ، فلا تكرار في الفدية . وإن كان في نسكين ، فالظاهر لزوم التكرار ، ويدلّ على ما ذكرنا خبر أبي علي . والظاهر أنّه لا ينبغي الاشكال في التظليل.

وأمّا إذا تكرر التظليل في نسك واحد مع الفصلی بين التظليلين ، فإن كان المحرم مضطرّاً ، فلا يبعد عدم تكرر الفداء . وإن كان مختاراً ، فإن شمله الإطلاق فهو ، وإلا مع الشكّ في وجوب التكرار فالأصلی عدمه .

وبعد فهذا آخر ما أردناه في هذه الرسالة ، والحمد لله ربّ العالمين ، وصلیّى الله على محمّد و آله الطاهرين.

ص: 348


1- جامع أحاديث الشيعة11: 261 ب 105ح 6.

فهرس عناوين الكتاب

مقدمة المؤلف ...3

رسالة في حكم ستر الوجه والكفّين على المراة ...11

أدلّة عدم وجوب ستر الوجه والكفّين والمناقشة فيها ...13

الأخبار التي قيل بدلالتها على عدم وجوب ستر الوجه والكفّين والمناقشة فيها...24

الآيات التي استدلّ بها على وجوب ستر الوجه والكفّين ...43

الأخبار الدالّة على وجوب ستر الوجه ...48

حكم النظر إلى وجه الأجنبية وكفّيها ...54

حكم النظر إليها من دون تلذّذ وريبة ...55

الأخبار الدالّة على عدم جوار النظر إلى وجه الأجنبية وكفّيها من دون تلذّذ و ريبة ...68

أقوال القدماء في المسألة ...73

الآيات التي استدلّ بها على جواز النظر والمناقشة في دلالتها ...76

الأخبار التي استدلّ بها على جواز النظر إلى وجه الأجنبيّة وكفّيها من دون تلذّذ وريبة والمناقشة فيها ...78

في جواز النظر إلى المرأة الأجنبيّة للضرورة ...96

في جواز النظر لحاجة ...96

في جواز النظر بتلذّذ بغير شهوة...97

في جواز النظر إلى نساء أهل الذمّة ...97

ص: 349

حکم نظر المرأة إلى الرجل الأجنبي ...117

رسالة في حدّ بلوغ الصبية ...129

تنقیح المسألة ....131

الأخبار الدالّة على عنوان البلوغ ...137

ما ورد من الأخبار بعنوان الإدراك...141

الأخبار التي تدلّ أو يمكن الاستدلال بها على عناوين خاصّة ، إنبات الشعر الخشن ...148

خروج المني بجماع أو احتلام أو استمناء ونحوها ...149

بلوغ الحلم ...152

الاحتلام ...154

السنّ ...159

رؤيتها دم الحيض ...175

رسالة في سهم الإمام والأنفال ...183

تصوير کيفيّة اختصاص الله تعالى والنبي صلی الله و علیه وآله وسلم والإمام علیه السلام ثبوتأ بالخمس والأنفال...185

الدليل على الوجوه المنصوّرة ...188

خاتمة البحث ...204

رسالة في الشطرنج ...205

الآيات الدالّة على حرمة الشطرنج مطلقا ...207

الأخبار الواردة في حرمة الشطرنج ...219

كلمات الأعلام في حرمة الشطرنج ...231

رسالة في قاعدة الشروط ...241

ص: 350

معنى الشرط في اللغة و العرف ...243

الأخبار المشتملة ملة على عموم الوفاء بالشرط ...248

شروط صحّة الشرط...253

أحكام الشروط الصحيحة ...275

فيما إذا كان الشرط صفة من صفات المبيع الشخصي ...275

ما لو كان الشرط من قبيل الغاية للفعل ...279

ما لو كان الشرط فعلاً...281

حكم الشرط الفاسد...287

جریان شرط الخيار في جميع العقود ...294

شرط النتيجة ...297

صحة اشتراط خيار الفسخ في العقد الجائز ...299

الشرط في الايقاعات ، في الشروط التي لم يكن فيها قبول من المشترط عليه...300

شرط الخيار ...301

رسالة في تظليل المحرم ...303

ذكر فتاوى القدماء ...305

الأخبار الواردة في المسألة ...310

الأخبار المشتملة على المنع عن الظلّ ومعناه اللغوي ...315

ما يتوهم معارضته لأخبار القبة ...325

ما دلّ على عدم جواز الاستتار من الشمس ...326

الفروع المستفادة من هذه الأخبار ...337

الفدية ومحلّها ...346

تكرار الفدية بتكرار التظليل ...348

ص: 351

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
هَلْ یَسْتَوِی الَّذِینَ یَعْلَمُونَ وَالَّذِینَ لَا یَعْلَمُونَ
الزمر: 9

عنوان المکتب المرکزي
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.