«بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ »
اِنَّما خَرَجْتُ لِطَلَبِ الاِصْلاحِ في اُمّهِ جَدّي
الاِصلَاحُ الحُسَینيُّ
مَجَلةٌ فَصلِیّةُ مُتخَصِّصَةُ في النّهضَةِ وَ تُعنیَ بالدِّرَاسَّاتِ الدِّینِیَّةِ
تصَدُرُ عَن مَركَز الدِّرَاسَاتِ التَّخَصُّصيَّة
في النَّهضَة الحُسَينيَّة/ النَّجَف الأشرَف-قُم المُقَدَّسَة
قِسمُ الشُؤُون الفِكريَّة/العَتَبة الحُسَينيَّة المُقَدَّسَة
العدد السادس
السنة الثانیة(1435ه-.2014م)
ص: 1
ص: 2
الاِصلَاحُ الحُسَینيُّ
مَجَلةٌ فَصلِیّةُ مُتخَصِّصَةُ في النّهضَةِ وَ تُعنیَ بالدِّرَاسَّاتِ الدِّینِیَّةِ
الهَیئَة الاستشَارِیَّة
آیة الله الشیخ محمد السند***آیة الله السید عادل العلوي
آیة الله الشیخ مهدي الآصفي***آیة الله السید منیر الخباز
العلامة المحقق السید ریاض الحکیم***العلامةالدکتور الشیخ محمدباقر المقدسي
العلامة الشیخ عبد المهدي الکربلائي
ص: 3
الاِصلَاحُ الحُسَینيُّ
تصدر عن مركز الدراسات التخصصية
في النهضة الحسينية/ النجف الأشرف قم المقدّسة
قسم الشؤون الفكرية
العتبة الحسينية المقدّسة
رئيس التحرير ...*
الشيخ قيصر التميمي
مدير التحرير...*
الشيخ صباح عباس الساعدي
هيئة التحرير...*
د. السيد حاتم البخاتي
ثناءالدین الدهلکی
الشیخ محمد الکروي القیسي
الشیخ غزوان العتابي
حیدر الساعدي
المقابلة وتقويم النص...*
الشيخ عدنان الطائي
الشيخ عصام السعيد
الشيخ مصطفى الدالي
التصميم و الإخراج الفني...*
السید علي مطر الهاشمي
الإشراف العام:...*
سماحة الشيخ علي الفتلاوي
إدارة المركز: ...*
الشيخ باقر الساعدي
الشیخ رافد التمیمي (فرع قم المقدسة)
معاونية المركز: ...*
الشيخ عباس الحمداوي
الشیخ حیدر الأسدي (فرع قم المقدسة)
رقم الإیداع في دار الکتب و الوثائق ببغداد (1924) لسنة 2013م
الترقیم الدولي:ISSN:978-964-984-240-7
ص: 4
مجلّة علمية فصلية تخصصيّة تعنى بالبحوث المتخصّصة في مجال النهضة الحسينيّة، وكذا الدراسات العلمية في حقول المعرفة الدينيّة. تصدر عن مركز الدراسات التخصصيّة في النهضة الحسينيّة في النجف الأشرف، التابع لقسم الشؤون الفكريّة في العتبة الحسينيّة المقدّسة.
تهتمّ المجلّة بنشر معالم وآفاق الفكر الحسيني وتسليط الضوء على تاريخ النهضة الحسينيّة وتراثها، وكذا إبراز الجوانب الإنسانية والاجتماعية والفقهية والأدبية في تلك النهضة المباركة.
كما تهتمّ المجلّة أيضاً باستقطاب ونشر البحوث والدراسات الدينيّة التخصّصية ذات الجوانب التجديديّة والإبداعيّة، وذلك في كافّة الحقول والمجالات، فتمتدّ لتشمل الدراسات القرآنية والعقديّة والفكريّة والتاريخيّة والفقهيّة، وكذا ما يرتبط بالتراث الديني، من الأدعية والزيارات والنصوص الدينيّة بشكل عام.
فالمجلّة تتطلّع لاستيعاب جميع المجالات المهمّة والحسّاسة في أبواب العلوم والمعارف الدينيّة، شريطة أن تكون البحوث والدراسات متضمّنة لجوانب من الإبداع والحداثة والتجديد، مع حفظ روح الأصالة والتأسيس.
ص: 5
1 - إعطاء رؤية واضحة حول معالم النهضة الحسينيّة من خلال البحوث والدراسات.
2 - نشر أهداف وثقافة النهضة الحسينيّة.
3 - إحياء التراث الديني والحسيني.
4 - فتح نافذة علميّة لتفعيل جانب الإبداع والتجديد والتأصيل الفكري في كافة حقول المعرفة الدينيّة.
5 - الانفتاح على الواقع العلمي والفكري لدى العلماء والأساتذة والمفكرين.
6- استثمار الأقلام الرائدة، وتطوير الطاقات العلمية الواعدة، واستقطاب البحوث والدراسات والمقالات العلميّة القيّمة لنشرها تعميماً للفائدة.
7 - فسح المجال أمام الباحثين والمفكرين لنشر بحوثهم ودراساتهم، لتكون المجلّة رافداً من روافد تزكية العلم والمعرفة.
8 - التصدّي للإجابة عن الشبهات والإشكاليات والقراءات غير الموزونة حول الدين بصورة عامّة والنهضة الحسينيّة بصورة خاصّة.
ص: 6
تدعو المجلة العلماء والأساتذة والباحثين وكل من لديه اهتمام في مجال الكتابة والتحقيق إلى رفدها بنتاجاتهم القيّمة، على أمل ملاحظة الأُمور التالية:
أن تكون البحوث مرتبطة باختصاص المجلّة وأركانها.
ألاّ تكون منشورة أو بصدد النشر في كتاب أو مجلّة.
أن تكون ضمن المناهج العلمية المتبعة.
أن تكون بحوثاً مبتكرة وبلغة معاصرة.
أن يكون البحث على قرص ليزري فيما لو كان منضداً.
حقوق النشر محفوظة.
الأفكار المطروحة لا تعبر بالضرورة عن رأي المجلّة.
لا تعاد البحوث لأصحابها نشرت أم لم تنشر.
يخضع ترتيب البحوث لاعتبارات فنية.
إجراء التعديلات والتلخيصات اللازمة من صلاحيات المجلة.
للمجلة حق إعادة نشر البحث أو المقال في كتاب أو ضمن كتاب منفصل، مع الحفاظ على نصه الأصلي.
كل 250 كلمة تحسب صفحة واحدة.
المجلة تتبع نظام المكافآت لأصحاب البحوث.
تعتبر الأولويّة في المجلّة للمقالات والبحوث الحسينية.
المجلة غير ملزمة بنشر ما يقل عن 15 صفحة أو يزيد عن 30 صفحة.
تنويه: للمجلة فرع في مدينة قم المقدسة.
ص: 7
* النجف الأشرف: الروضة الحيدرية - معرض الكتاب الدائم.
* النجف الأشرف: شارع الرسول صلی الله علیه و آله - مكتبة دار الهلال.
* النجف الأشرف: قرب مشروع الماء - مكتبة العراق الجديد.
* النجف الأشرف: سوق الحويش - دار الغدير.
* كربلاء المقدسة: المعرض الدائم في العتبة الحسينية المقدسة.
* بغداد: شارع المتنبي - مكتبة العين.
* البصرة: العشار - مكتبة الإمام الهادي علیه السلام .
* ميسان: شارع التربية - مكتبة الإمام الصادق علیه السلام .
* إيران - قم المقدسة: صفائية - سوق الإمام المهدي عج الله تعالی فرجه الشریف - مكتبة فدك.
* إيران - قم المقدسة: سوق كذرخان - مكتبة الهاشمي.
ص: 8
مقال التحرير
الأهداف السياسية وانتماؤها التاريخي لمحيط النهضة الحسينية
الشيخ قيصر التميمي...31
دراسات في آفاق النهضة الحسينية
مشروع دراسة الحركة الحسينية
آية الله السيد منير الخباز القطيفي...49
منطلقات النهضة الحسينية وخلفياتها
القسم الثاني (مشروع التوريث)
السيد محمد الشوكي...73
عناصر الانتصار الحسيني وتجلّياته في المجتمع الإسلامي
الشيخ ليث العتابي...91
مصرع الحسين علیه السلام وقاعدة نفي السبيل على المؤمنين
الشيخ كاظم القره غولي...125
دراسات في تاريخ وتراث النهضة الحسينية
مقتل الحسين علیه السلام برواية عمّار بن أبي معاوية الدهني الكوفي
الشيخ عامر الجابري...143
ص: 9
نجوم في سماء الحسين علیه السلام (الحرّ الرياحي)
دراسة استدلالية لحركته العسكرية وموقفه من حادثة الطف
السيد شهيد طالب الموسوي...169
هل وطأت الخيل جسد الحسين علیه السلام؟
الشيخ لؤي المنصوري...197
العنايات الإلهية بالإمام الحسين علیه السلام
د. الشيخ علي حمود العبادي...211
دراسات في فقه النهضة الحسينية
فقه التربة الحسينية
القسم الأول (حرمة الاستنجاء بالتربة الحسينية)
الشيخ أحمد العلي...235
المشي لزيارة الإمام الحسين علیه السلام وباقي الأئمة علیهم السلام
(دراسة في الموازين الفقهية)
الشيخ حبيب عبد الواحد الساعدي...253
دراسات دينية
حق الحياة والعمليات الانتحارية
د. فلاح الدوخي...279
سب معاوية وولاته لأمير المؤمنين علیه السلام
(دراسة حديثية تاريخية في مصادر أهل السنة المعتبرة)
د. السيد حاتم البخاتي...317
خلاصة المقالات باللغة العربية والانجليزية...349
ص: 10
الأهدَافُ السَّيَاسِيَّة وَانتِمَاؤُهَا التَّارِيخِيُّ لِمُحِيطِ النَهّضَةِ الحَسَينِيَّة
ص: 11
ص: 12
الشَّيخ قَيصَر التَّمِيمِيّ
كان التاريخ ولا زال اللاعب الأساس في رسم معالم الكثير من المعارف الدينية والإسلامية، وانسياقاً مع هذا النوع من التأثير أدرج مجموعة من العلماء والباحثين الأحداث التاريخية التي أحاطت بالنهضة الحسينية في قائمة الأسباب المانعة من الالتزام بوثائق ومستندات أهدافها السياسية.
ونحن قد تعرّضنا في مقال سابق لبيان بعض الأسباب والمبررات التي دعت جملة واسعة من أولئك العلماء والباحثين لإنكار الأهداف السياسية للنهضة الحسينية، فذكرنا منها الأسباب العقدية والتراثية، وأجبنا عنهما بما يتناسب مع الآفاق العامة للبحث، ونحاول في هذا المقال أيضاً أن نستعرض واحدة من أهم الأسباب والمبررات التاريخيّة، وذلك في إطار العنوان التالي:
ص: 13
إنّ الفكرة المطروحة تحت هذا العنوان ملخّصها هو: أن كل الأئمة المعصومين علیهم السلام بعد وفاة النبي الأكرم صلی الله علیه و آله - باستثناء الإمام الحسين علیه السلام في موقفه الأخير - لم يُسجّل لهم التاريخ موقفاً سياسياً يُمثّل جانباً من جوانب الثورة والانقلاب والخروج على السلطات غير الشرعية لإسقاطها وإقامة الحكومة الإسلامية الإلهية العادلة بقيادة خليفة الله في أرضه.
فأمير المؤمنين علي بن أبي طالب علیه السلام قد بقي جليس داره زمناً طويلاً، ولم يرصد له التاريخ تحركاً سياسياً أو تخطيطاً عسكرياً لإسقاط النظام الحاكم آنذاك، بل كان مستشاراً دينيّاً وقانونيّاً وسياسيّاً لذلك النظام في كثير من القضايا المهمّة والمفصليّة، وحينما جاءه المسلمون يبايعونه على الخلافة - بعد مقتل عثمان - اعتذر في بداية الأمر عن قبول بيعتهم، وطلب منهم أن يلتمسوا غيره، وشارطهم على أنه سيكون داعماً للحكومة التي يختارونها، ولعل أسباب ذلك هو أن الأُمة قد انحرفت بعد نبيّها عن مسارها الصحيح الذي اختطَّه لها، ولم يبقَ بالإمكان فرصة إصلاحها، بإقامة حكومة إلهية على يد الخليفة المعصوم، باستثناء ما سيقوم به المهديّ علیه السلام. وحتى بعد قبوله علیه السلام استلام السلطة كان يعلم من أول الأمر بفشل مشروع الإصلاح، ولم يكن هدفه من ذلك تحقيق ما اندفعت الجماهير له وتخيّلته ممكناً، من إصلاح الأوضاع العامّة أو تعديل مسار السلطة في الإسلام. وإنما كان الدافع الأساس هو عهد النبي صلی الله علیه و آله له بالقيام بالأمر إذا وجد أنصاراً.
كذلك الإمام الحسن علیه السلام، حيث اضطر لترك الخلافة وتسليمها لمعاوية بن أبي سفيان، وبغض النظر عن الحديث في ظروف ومبررات ذلك، فهو علیه السلام في نهاية المطاف
ص: 14
قد تنازل عن الخلافة لحساب معاوية، ما يعني أن الأُمة لا زالت غير مؤهَّلة لتشكيل حكومة إسلامية عادلة.
والإمام الحسين علیه السلام لم يتحرّك أيضاً بعد أخيه الحسن علیه السلام للقيام بالثورة والانقلاب لإقامة دولة الإسلام، لا في زمان معاوية ولا زمان ابنه يزيد، وهو إنما خرج أخيراً لطلب الشهادة بأمر إلهي، لمّا حوصر وضاقت عليه الأرض بما رحبت.
والصورة أوضح وأجلى بالنسبة إلى سائر الأئمة المعصومين علیهم السلام، من زمن إمامة علي بن الحسين زين العابدين علیه السلام، إلى زمن الإمام الحسن بن علي العسكري علیه السلام، والفترة التي أعقبتها حينما غاب ابنه المهدي علیه السلام، حيث لا نجد في فصول سيرتهم علیهم السلام أيّ تحرك باتجاه التغيير السياسي أو الانقلاب العسكري، بل كانوا يأمرون أصحابهم بالجلوس والسكون والالتزام بالهدنة وانتظار الفرج على يدي القائم من آل محمد علیهم السلام، خصوصاً في زمن الإمام الصادق علیه السلام، مع أن فرصة التغيير السياسي كانت كبيرة جدّاً في فترة إمامته علیه السلام.
روى الكليني بسنده عن عبد الحميد الواسطي، عن أبي جعفر الباقر علیه السلام، قال: «قلت له: أصلحك الله! لقد تركنا أسواقنا انتظاراً لهذا الأمر، حتى ليوشك الرجل منا أن يسأل في يده؟ فقال: يا [أبا] عبد الحميد! أترى مَن حبس نفسه على الله لا يجعل الله له مخرجاً؟ بلى والله، ليجعلن الله له مخرجاً، رحم الله عبداً أحيا أمرنا» (1).
وروى النعماني في الغيبة بسنده عن عبد الرحمن بن كثير، قال: «كنت عند أبي عبد الله علیه السلام يوماً وعنده مهزم الأسدي، فقال: جعلني الله فداك، متى هذا الأمر الذي تنتظرونه، فقد طال علينا؟ فقال: يا مهزم، كذب المتمنّون، وهلك المستعجلون، ونجا المسلمون، وإلينا يصيرون» (2).
وهذا كلّه يكشف عن أن منهج الأئمة علیهم السلام وسيرتهم بعد النبي الأكرم صلی الله علیه و آله لم يكن
ص: 15
قائماً على التدبير والتخطيط لإسقاط الأنظمة الظالمة في زمانهم، واستبدالها بالحكومة الإلهية العادلة. بل إن سيرتهم علیهم السلام وسيرة أتباعهم قد جرت على مبدأ السكوت والجلوس والانتظار والترقّب، إلى أن يأذن الله بأمره؛ وذلك لأن الأُمّة قد فقدت قابلية الإصلاح والتغيير حينما انحرفت عن مبدأ الإمامة والخلافة الإلهيّة بعد وفاة نبيّها الأكرم صلی الله علیه و آله ، فأضحى الإصلاح وإرجاع السلطة في الإسلام إلى مسارها الصحيح متعذراً، بعد الانحراف الكبير الذي تورّطت به الأمّة، وكان الأئمة علیهم السلام يعلمون بذلك من اليوم الأول للانحراف، وإن لم يتسنّ لهم التصريح به والتأكيد عليه إلّا بعد فاجعة الطف.
وحينئذ يكون الإيمان بثبوت أهداف سياسية انقلابيّة وثورية للنهضة الحسينية، مما يتنافى مع المنهج الصحيح والتوجّه العام والسيرة العملية المعروفة لأئمة أهل البيت علیهم السلام، في كيفية تعاملهم مع السلطات غير الشرعية، الحاكمة في زمانهم، حيث كانت قائمة على مبدأ المهادنة وعدم التصدّي لمواجهة الحاكم، مع أن بعض تلك السلطات قد لا يقل ظلماً وجوراً وتهتّكاً عن حكومة يزيد بن معاوية.
نعتقد بأن هذه الإشكاليّة والرؤية المجتزأة في تحديد سيرة ومواقف المعصومين علیهم السلام تجاه السلطات الحاكمة في زمانهم، غير واقعيّة ولا مطابقة لأُسلوبهم في التعامل مع طبيعة الواقع الديني والاجتماعي والتقلّبات السياسية والاضطرابات الأمنيّة والاقتصاديّة والمذهبيّة التي عايشوها آنذاك. وللوقوف على حقيقة الأمر نقول:
إننا وبشكل صريح وواضح نرفض هذه الإشكالية من الأساس، ولا نقبل بفكرة أن الأئمة علیهم السلام لم يسعوا على الإطلاق لاستلام الحكم وإصلاح الأُمور وبناء دولة الحقّ والعدل بعد وفاة النبي الأكرم صلی الله علیه و آله . بل نعتقد بأن سيرتهم كانت قائمة على العكس من ذلك، حتى بعد انحراف الأُمّة عن مسارها الصحيح في مسألة الإمامة والخلافة،
ص: 16
خصوصاً في الفترة التي سبقت شهادة الحسين علیه السلام، والتاريخ والنصوص الدينية المتضافرة خير شاهد ودليل على ما ندّعي، ولنأخذ جولة سريعة حول أهم الأحداث والنصوص الواردة في هذا الإطار ضمن العناوين التالية(1):
نعتقد بأن الإمام علي بن أبي طالب علیه السلام قد سعى بقوّة وبشكل جادّ للقيام بنهضة تصحيحيّة شاملة، كما سعى أيضاً بالسبل المتاحة والمشروعة لاستلام السلطة والخلافة وإقامة حكم الله في الأرض بعد وفاة النبي الأكرم صلی الله علیه و آله ، والشواهد التاريخية والروائية على ذلك كثيرة جداً، ومستفيضة نصّاً ومعنًى، نذكر فيما يلى بعضها:
لقد واصل الإمام علي علیه السلام رفضه واستنكاره لخلافة أبي بكر، ومقاطعتها، وامتناعه عن أداء البيعة، وتحصّنه هو وأهل بيته وأتباعه في بيت فاطمة سلام الله عليها، والمطالبة المستمرّة بحقّه المشروع بالخلافة وقيادة الأُمّة، واعتبار ما حصل انقلاباً على الشرعية.
يقول علیه السلام في إحدى خطبه حول هذه النقطة بالخصوص: «وقال قائل: إنك على هذا الأمر يا بن أبي طالب لحريص. فقلت: بل أنتم - والله - لأحرص وأبعد، وأنا أخص وأقرب، وإنما طلبت حقاً لي، وأنتم تحولون بيني وبينه، وتضربون وجهي دونه... اللهم، إني أستعينك على قريش ومن أعانهم، فإنهم قطعوا رحمي، وصغّروا عظيم منزلتي،
ص: 17
وأجمعوا على منازعتي أمراً هو لي» (1).
وقد شكّل ذلك العصيان المدني والسياسي اللافت خطراً شديداً على تشكيلة الحكومة الجديدة، واعتبره قادة الحركة الانقلابية توهيناً وإضعافاً لهيبة الخلافة والدولة في نفوس عامّة المسلمين، ما استدعى منهم إصدار التوجيهات والأوامر بالتحرك العسكري لقمع المعارضة، وإعلان حالة الطوارئ، وفرض الأحكام الجاهليّة اللا عرفية، التي انتهكت حرمة البيت النبوي الطاهر، وتجاوزت على البضعة النبوية الشريفة بالضرب والتعنيف، وقد وقعت في أكثر من مناسبة مشادّات كلامية ومناوشات بين أفراد في المعارضة وبين قيادات حكومية وعسكريّة في الحزب الحاكم(2).
هذه وغيرها من الأحداث - في سياق الحركة السلميّة العلوية للمطالبة بالحقوق الدينيّة والسياسيّة - كوّنت رؤية واضحة لدى الرأي العام تجاه الخلافة القائمة وعدم شرعيتها. وهذا خير شاهد على التدخل المباشر من قِبَل المعصوم في صناعة القرار السياسي وتعيين نظام الحكم والسلطة، ولكن بالطرق السلميّة.
لقد ترأّس الإمام علي علیه السلام حركة ثورية لإدارة دفّة التغيير السياسي والحكومي، واتخذ خطوات ميدانية بقيادته الحكيمة لإسقاط خلافة الانقلاب السقيفي، الفاقد للأهلية والكفاءة في قيادة الأُمّة الإسلاميّة، وهنالك نصوص تاريخية وروائية كثيرة جدّاً، يمكن رصدها وتتبّعها لفهم معالم وآفاق هذه النهضة العلوية الرائدة، وتفصيل الكلام في هذه النقطة قد يخرجنا عن هدف هذا المقال، ولكننا نحاول التأشير على بعض مشاهد وصور تلك النهضة إجمالاً، فمن ذلك على سبيل المثال:
1- ما رواه الخصيبي في كتابه الهداية الكبرى، بسنده عن الإمام الحسن علیه السلام، حينما
ص: 18
عاتبوه على صلحه مع معاوية، وتركه الخلافة له كما سيأتي، فأجابهم قائلاً: «لو أني في ألف رجل، لا والله إلّا مائتي رجل، لا والله إلّا في سبع نفر لما وسعني تركه، ولقد علمتم أن أمير المؤمنين دخل عليه ثقاته حين بايع أبا بكر، فقالوا له مثلما قلتم لي، فقال لهم مثلما قلت لكم، فقام سلمان والمقداد وأبو ذر وعمار وحذيفة بن اليمان وخزيمة بن ثابت وأبو الهيثم مالك بن التيهان، فقالوا: نحن لك شيعة ومن ورائنا شيعة لك، مصدقون الله في طاعتك. فقال لهم: حسبي بكم. قالوا: وما تأمرنا؟ قال: إذا كان غداً فاحلقوا رؤوسكم واشهروا سيوفكم وضعوها على عواتقكم وبكّروا إليّ؛ فإني أقوم بأمر الله ولا يسعني القعود عنه. فلمّا كان من الغد بكّر إليه سلمان والمقداد وأبو ذر وقد حلقوا رؤوسهم وأشهروا سيوفهم وجعلوها على عواتقهم، ومعهم عمار بن ياسر... فلما قعدوا بين يديه علیه السلام نظر إليهم... فقال: اغمدوا سيوفكم، فو الله، لو تمّ عددكم سبعة رجال لما وسعني القعود عنكم»(1).
فهذا النص صريح في أن من الوظائف المصيريّة والأوامر الإلهيّة التي كان يرى الإمام علي علیه السلام ضرورة القيام بها - بعد رحيل الرسول الأكرم صلی الله علیه و آله - هو النهوض والتحرّك المسلّح لإسقاط الخلافة المنتحلة، والتصدّي لإقامة أمر الله وحكمه في الأرض بإمامته وقيادته علیه السلام، وقد أعطى الأوامر والتوجيهات اللازمة في هذا المجال، وكان يكفيه للخروج وتحقيق الأهداف في ذلك الحين سبعة من الرجال المخلصين، المضحّين لدينهم ومبادئهم. لكنه علیه السلام لم يجتمع لديه حتى هذا العدد القليل من الأعوان والأنصار، وهو ما اضطرّه للبيعة واستبعاد الخيار العسكري.
2- خطبته علیه السلام المشهورة في مسجد النبي الأكرم صلی الله علیه و آله ، حينما تخاذلت الأُمّة في الدفاع عن حقّه بالإمامة والخلافة، يقول فيها علیه السلام، بعد تقديم الحمد والثناء لله تعالى، والصلاة على الرسول الأكرم صلی الله علیه و آله : «أيها الأُمة التي خُدعت فانخدعت، وعرفت خديعة من خدعها فأصرّت على ما عرفت، واتّبعت أهواءها، وضربت في عشواء غوايتها، وقد استبان لها الحق فصدّت عنه»، في إشارة واضحة منه علیه السلام إلى أن خلافة السقيفة كانت
ص: 19
خدعة مفضوحة بفكرتها ورجالاتها وتشكيلتها، وأن الخدعة انكشفت للأُمّة بالجهود السلميّة التي بذلها علیه السلام، فظهرت بذلك معالم الحقّ والحقيقة، ولكن الأُمّة تخاذلت، واتّبعت أهواءها، وصدّت عن الحق، ونامت على وسائد الخديعة والذلّ.
ثم يواصل علیه السلام كلامه في تعنيف الأُمة وتوبيخها على تضييعها هذا الحق الإلهي، الذي فيه صلاح البلاد والعباد والسعادة في الدارين، إلى أن يقول علیه السلام: «أما والله، لو كان لي عدّة أصحاب طالوت أو عدة أهل بدر - وهم أعداؤكم - لضربتكم بالسيف حتى تؤولوا إلى الحق وتنيبوا للصدق، فكان أرتق للفتق، وآخذ بالرفق، اللهم فاحكم بيننا بالحق وأنت خير الحاكمين»، فكان الإمام علیه السلام على استعداد تامّ لخوض حرب شاملة، هدفها إسقاط الحكم الفاسد وإرجاع الحقّ لأهله، ويؤكّد بشكل واضح وصريح على أن المصلحة في ذلك، وأنه لا مصلحة في المهادنة والسكوت. ولكن لا حرب بلا جيش، ولا صولة بيدٍ جذّاء!!
ثم خرج علیه السلام من المسجد، فمرّ بحظيرة فيها نحو من ثلاثين شاة، فقال: «والله، لو أن لي رجالاً ينصحون لله عز وجل ولرسوله بعدد هذه الشياه لأزلت ابن آكلة الذبان عن ملكه. فلما أمسى بايعه ثلاثمائة وستون رجلاً على الموت، فقال لهم أمير المؤمنين علیه السلام: اغدوا بنا إلى أحجار الزيت محلّقين، وحلّق أمير المؤمنين علیه السلام، فما وافى من القوم محلقاً إلا أبو ذر والمقداد وحذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر وجاء سلمان في آخر القوم، فرفع يده إلى السماء، فقال: اللهم إن القوم استضعفوني كما استضعفت بنو إسرائيل هارون»(1). ومضمون النصّ واضح لا يفتقر إلى التعليق. ويظهر منه أنه علیه السلام كان يجلس لاستقبال المبايعين على التضحية والقتال في سبيل الحقّ، وقد أقنع - بكلامه وخُطبه وتحركاته الواسعة - مجموعة كبيرة من الصحابة، قادرة على التغيير وصناعة المستقبل بما يتوافق مع الإرادة الإلهيّة، لولا الخيانة والخذلان.
3- ما يروى عن سليم بن قيس، أنه قال: «سمعت علياً يوم الجمل ويوم صفين
ص: 20
يقول: إني نظرت فلم أجد إلا الكفر بالله، والجحود بما أنزل الله، بمعالجة الأغلال في نار جهنم، أو قتال هؤلاء، ولم أجد أعواناً على ذلك. وإني لم أزل مظلوماً منذ قُبض رسول الله صلی الله علیه و آله ، ولو وجدت قبلُ الناس أعواناً على إحياء الكتاب والسنّة كما وجدت اليوم لنا لم يسعني القعود»(1).
فكان البحث جارياً عن الأعوان والأنصار منذ قبض رسول الله صلی الله علیه و آله ، وما كان يسع عليّاً علیه السلام القعود عن حقّه، لولا اليد الجذّاء وتخاذل الشعب وفقدان الناصر. والنصّ يُشير بوضوح إلى أن هناك نهضة علوية تستهدف إحياء الكتاب والسنّة، والتغيير الثوري المسلّح، ولكنها نهضة لم ترَ النور بسبب تخاذل الأُمّة وتقاعسها عن الحقّ. كما أن النصّ واضح أيضاً، في كون الجلوس عن الحق، ومهادنة الطغاة، مع وجود الأعوان والأنصار، من الأُمور التي تستلزم لصاحبها الكفر بالله، والجحود بكتابه، واستحقاق الدخول إلى نار جهنّم، فهي من الكبائر بامتياز.
4- يواجه الإمام علیه السلام في هذا النصّ قيادات الحزب الحاكم في مسجد رسول الله صلی الله علیه و آله ، ويُصارحهم بأبعاد حركته السياسية الثورية التي كانت تؤرّقهم آنذاك، ويخاطبهم علیه السلام بالقول: «ولو كنت في أربعين رجلاً، لفرقت جماعتكم، فلعن الله قوماً بايعوني ثم خذلوني»(2).
فكان هناك تخطيط عسكري من قِبله علیه السلام، وبيعة له على التحرّك المسلّح لإسقاط النظام، وكاد أن ينجح الأمر لولا الخذلان، ولعلّ نظام الحكم الانقلابي قد بلغ من القوّة والاستحكام ما احتاج فيه الإمام علیه السلام لزيادة سقف الأعوان والمؤيدين من سبعة رجال إلى الأربعين رجلاً.
5- في مضمون آخر ذي صلة، أن رسول الله صلی الله علیه و آله قال لعلي علیه السلام، بعد أن كشف له طموحات القوم ومخططاتهم ورغبتهم الجامحة في تولّي السلطة والحكم: «إن وجدت
ص: 21
عليهم أعواناً فجاهدهم ونابذهم، وإن أنت لم تجد أعواناً، فبايع واحقن دمك». فقال علي علیه السلام مخاطباً مجلس الشيوخ!!: «أما والله، لو أن أُولئك الأربعين رجلاً الذين بايعوني وفوا لي لجاهدتكم في الله» (1).
فلم تكن وصية النبي الأكرم صلی الله علیه و آله لعلي علیه السلام هي السكوت والقعود عن حقّه بشكل مطلق وفي جميع الأحوال، وإنما جعل ذلك ظرفاً اضطراريّاً ومشروطاً بعدم وجود المؤيدين والأعوان، وأن عليه أن يسعى لتكوين قوّة فدائية ضاربة؛ يستعين بها لتقويم الانحراف الذي ظهرت معالمه في الأُمّة، ويظهر من كلامه علیه السلام أنه قد عمل فعلاً بالفرض الأول من الوصية، فاستنصر الناس وتهيّأ للجهاد وجمع الأعوان، وأن هناك أربعين رجلاً من الأصحاب - في أقلّ التقادير - قد بايعوه بالفعل على الجهاد لإسقاط نظام الحكم، ولكنهم خذلوه، فاضطر للسكوت والمهادنة.
6- وهناك نصّ روائي يُبيّن طبيعة التحرك والتخطيط العلوي لجمع الأعوان، وكسب الأنصار، والتأكيد على ضرورة التحشيد البشري والعسكري؛ للخروج على الخلافة غير الشرعية، وهو ما شاهده سلمان، ورواه توصيفاً وتوثيقاً لتلك المرحلة الحسّاسة، إذ يقول: «فلما كان الليل حمل عليّ فاطمة على حمار، وأخذ بيد ابنيه الحسن والحسين، فلم يدع أحداً من أهل بدر من المهاجرين ولا من الأنصار إلا أتى منزله وذكر حقّه ودعاه إلى نصرته، فما استجاب له من جميعهم إلا أربعة وأربعون رجلاً، فأمرهم أن يُصبحوا بكرة محلّقين رؤوسهم، معهم سلاحهم، وقد بايعوه على الموت، فأصبح ولم يوافه منهم أحد غير أربعة»(2).
لقد احتشدت في هذا النص معان ومضامين بالغة الخطورة والأهمية، تحكي آفاق وأُسلوب وآليات النهضة العلوية للتغيير، تلك النهضة التي أقعدها خذلان الأُمة وضعف إرادتها، حيث حمل علیه السلام ثقل النبوة وحرم الله ورسوله وأهل بيته الطاهرين، وخرج بهم في هيئة وكيفية خاصّة، وبشيء من السريّة والخفاء والكتمان؛ وذلك بغية
ص: 22
إقناع الأُمّة بحقّه، ودعوة الناس لنصرته، ومبايعته على الموت والجهاد في سبيل الله؛ لتصحيح المسار الذي لا زال في بدايات الانحراف والضلال، وقد اختار للتغيير والتصحيح الأُسلوب العسكري المسلّح؛ لخطورة الموقف، وضرورة الإصلاح.
نكتفي بهذا القدر من النصوص والإيضاحات، ويمكننا أن نجمل مفاصل هذه النهضة العلوية المباركة بعد وفاة النبي الأكرم صلی الله علیه و آله في النقاط التالية:
1- كان الإمام علي علیه السلام يعلم بواقع المؤامرة؛ حيث أخبره النبي صلی الله علیه و آله بذلك، وأطلعه على ما يُضمره القوم من مطامع وشهوات تجاه الزعامة والحكم.
2- إن النبي صلی الله علیه و آله قد أوصى عليّاً علیه السلام، في حال تفاقمت الأُمور، وانقلب القوم على الشرعيّة السماويّة، بأن يسعى لتشكيل قوّة عسكريّة مسلّحة لوأد الفتنة وإفشال المؤامرة، وإكمال مسيرة بناء الدولة الإسلاميّة العادلة؛ فكان الخروج المسلّح للتغيير من الوظائف الإلهيّة، بأمر مباشر من النبي صلی الله علیه و آله .
3- كذلك أوصى النبي صلی الله علیه و آله علياً علیه السلام بالجلوس والسكوت واستبعاد الخيار العسكري إن لم يجد ما يكفي من الأتباع والمؤيدين، ويُفهم من النصوص الواردة في هذا المجال أن خيار السكوت كان خياراً اضطراريّاً، وعلاجاً طوارئيّاً في أسفل قائمة الحلول، ولم يكن هو الأصل في التأسيس لكيفية مواجهة السلطات والحكومات الفاسدة والمنحرفة.
4- ابتدأت الحركة العلوية بشكل سلمي؛ لكشف خيوط المؤامرة والخديعة والشعارات المزيّفة، متمثّلة في بداية الأمر بالمقاطعة والاستنكار والمطالبة بالحقّ ورفض البيعة والعمل على كشف الأوراق، وقد نجحت هذه الحركة السلميّة في فضح المؤامرة ورجالاتها أمام الرأي العام، وأضحى المسلمون على بيّنة من أمرهم، يعلمون أن الحقّ مع علي علیه السلام، لا مع غيره. واستشعاراً بخطورة هذه الحركة، اتخذت الحكومة القائمة تدابير أمنيّة صارمة لإسكات هذا الصوت المعارض، والمطالب بحقوقه المشروعة.
5- كانت الحركة والنهضة العلوية المباركة تحمل شعارات التغيير والإصلاح، وإحقاق الحق، والدفاع عن الدستور الإسلامي (الكتاب والسنّة النبويّة)، وإقامة حكم الله في الأرض.
ص: 23
6- بعد أن جُوبه الخيار السلمي بالعنف الحكومي، وارتسمت الصورة الواضحة للخلافة غير المشروعة، وعملاً بالوصيّة النبوية الشريفة، سعى الإمام علیه السلام بشكل جادّ ومتكرّر لاستنهاض الأُمّة وتحشيد المسلمين وإقناعهم بضرورة تبنّي الخيار العسكري لاسترجاع الحقوق وردع البغاة والطامعين والمتسلّقين على أكتاف المسلمين، وأن الخروج المسلّح لتحقيق الإرادة الإلهيّة أصلح للأُمّة من المهادنة والسكوت على الباطل، بل يُعدّ هذا الأمر من الكبائر مع إمكانيّة التغيير.
ويظهر من بعض النصوص أنه علیه السلام قد تحرك بهذا الاتجاه مراراً وتكراراً، وحاول استنهاض الأُمة في ظروف ومناسبات مختلفة. كل ذلك بتدبير خاص ومدروس ومُتقن، مُحاطاً بدرجة عالية من السرية والخفاء والكتمان، وفي وفد مفاوض إلهي رفيع المستوى، ضمّ أهل الكساء والمباهلة وآية التطهير.
7- أصابت تلك الجهود المباركة أهدافها، وأسفرت عن تشكيل جيش متكامل، وقوّة عسكريّة كبيرة قادرة على التغيير، وقد بايعوا الإمام علیه السلام على الجهاد في سبيل الله والموت بين يديه. وصرّح علیه السلام في أكثر من موقف بأنه مستعدّ لخوض حرب عامّة وشاملة ضدّ كل مَن يقف بوجه الإصلاح والتغيير، واسترجاع الحقوق المسلوبة، وإقامة حكم الله في الأرض، وليس ذلك إلا لخطورة الموقف وحساسيّة المرحلة.
8- أصدر الإمام علیه السلام لأتباعه مجموعة من التوجيهات والأوامر والتدابير السياسيّة والأمنيّة، كان من جملتها المحافظة على سريّة الحركة إلى حين مجيء ساعة الحرب، وأن يكونوا على استعداد كامل للمواجهة، وأن يحلقوا رؤوسهم؛ ليتميّزوا بالهيئة والشكل عن غيرهم، ويُوحوا لأعدائهم بأنهم مستميتون في سبيل مبادئهم، ويُدخلوا في قلوبهم الرعب، وقد أمرهم علیه السلام بالإبكار مصبحين واضعين سيوفهم على أكتافهم، إما التغيير أو الموت.
9- لكن المؤسف في الأمر هو أن الأُمة قد تخاذلت في أداء وظائفها، وتخاذل المؤيّدون وتراجعوا تدريجيّاً عن بيعتهم، اتباعاً للهوى، وطلباً للسلامة الدنيويّة على حساب الدين ومصلحة الإسلام.
10- اضطر الإمام علیه السلام بعد الخذلان للبيعة والمهادنة، وحينما استدعاه الحزب الحاكم
ص: 24
للبيعة تحت طائلة العنف والتهديد، صارحهم بحركته السياسية وتخطيطه العسكري، الذي كان كثيراً ما يؤرّقهم ويُخيفهم، وقد أطلعهم بشكل واضح على أنه كان عازماً على استئصالهم وإقصائهم عن سدّة الحكم، لولا تقاعس وخذلان الناس والأعوان.
وحاصل ما ذكرناه في هذه النقطة وسابقتها: أن هناك نهضة إصلاحية وتصحيحية منظّمة، قادها الإمام علي علیه السلام، حملت شعارات: التغيير، وإحياء الكتاب والسنّة، والدفاع عن الشرعيّة الإلهية، وإسقاط الخلافة المبتدعة والخارجة عن القانون، وإقامة حكومة الإسلام بقيادة علويّة ربّانيّة. ولكن النجاح لم يُكتب لهذه النهضة المباركة بسبب سوء اختيار الأُمّة المتخاذلة، وفقدان الأنصار المؤمنين بالنهضة وقائدها.
تسنّم أمير المؤمنين علیه السلام وبشكل مباشر ورسمي كرسي الخلافة، وإدارة شؤون الدولة الإسلامية، بعد مقتل عثمان وإقدام أغلب الصحابة والمسلمين على مبايعته، وقد رسم للسياسة صورة رائعة، وأعطى رؤية متكاملة حول نظام الحكومة الإسلاميّة، فكان ولازال علي بن أبي طالب علیه السلام الحاكم الأبرز والأمثل والأعدل في تاريخ الحكومات الإسلامية والعالمية، وقد صُنّفت حول شخصيّته السياسية المحنّكة وحكومته الرائدة الكتب والبحوث والدراسات، وانتُخبت أقواله ومواقفه وسيرته مع الرعية والولاة والحكومات والأنظمة غير الإسلامية مصدراً ومنهاجاً عالمياً في الأُمم المتحدة، ولازال المفكّرون من القرّاء والدارسين لهذه الشخصية العظيمة على أعتاب سلّم المجد العلوي، ولازالت جميع الدول والحكومات مدعوّة لدراسة أبعاد الحكومة والقيادة العلوية والاقتداء بها للخروج من أزماتها الدوليّة والمحلّيّة.
وقد حملت هذه الحكومة الإلهية في جنباتها كلّ خير للأُمّة الإسلامية وللإنسانيّة جمعاء، وتضمّنت من الأقوال والنصوص والمواقف والشواهد ما يكرّس وبشكل واضح وجلي كلّ ما ادّعيناه في هذه الإجابة الأُولى، من أن سيرة المعصومين علیهم السلام قائمة على التخطيط لبناء دولة الحق واستلام مقاليد الحكم.
ص: 25
وكم يُعجبني أن أستعرض هنا بعض الفصول السياسية الضخمة في حياة علي علیه السلام، من قبيل ما يرتبط بإعلان الدستور (الكتاب والسنّة)، وتحديد الرؤية الإسلاميّة السياسية تجاه الحكم ومبادئه وعلاقته بالدين والسماء، وتشكيل حقائب الحكومة الصالحة وتعيين وظائفها التنفيذيّة، وبناء الدولة الكريمة، واختيار الولاة والقضاة والموظفين والعمّال، وتنظيم الموازنة الماليّة والاقتصاديّة، وإنشاء منظومة الحقوق ودوائر ودور الرعاية الاجتماعية، ورفع راية الإصلاح والتغيير والتطوير، والاهتمام بالتنمية البشريّة، ومحاربة الفساد بكل أشكاله، ودعم التسليح العسكري، وتعبئة الجبهات ضد الأعداء على كافة الأصعدة، وغير ذلك من روائع الموسوعة السياسيّة العلوية. ولكنه يطول بذلك المقام وتتسع دائرة المقال بما يخرجنا عن نقطة البحث؛ ولذا نكتفي بأصل الفكرة في هذا الشاهد، وهي مسألة التصدّي الفعلي لاستلام الحكم والتأسيس لمعالم الحكم الإسلامي؛ فإنه خير شاهد على أن قيادة الأُمة بالحقّ دينيّاً وسياسياً من الأُمور المتيسّرة والممكنة حتى بعد انحرافها في الحُقب الماضية، وأن ذلك من الوظائف الموكلة للإمام المعصوم علیه السلام، إذا أحسنت الأُمة اختيارها، ووقفت إلى جانبه، وقدّمت الدعم البشري لحكومته الإلهية.
وأما قصّة رفض الإمام علي علیه السلام للخلافة وامتناعه عن استلام الحكم والسلطة بعد مقتل عثمان، لمّا انهال عليه الناس للبيعة، فليست أسبابها عدم أهلية الأُمّة لقيادة المعصوم في بناء الدولة وتشكيل الحكم الإسلامي، وإلا كان من المفترض رفض الخلافة على أيّة حال، فقبوله علیه السلام يكشف عن أهليّة الأُمة لذلك لو أحسنت اختياراتها(1)، وإنما أراد علیه السلام
ص: 26
بذلك الرفض والامتناع عن قبول الخلافة في بداية الأمر أن يسجّل استنكاراً واعتراضاً على الذين توجّهوا لغيره بعد وفاة النبي صلی الله علیه و آله ، وأقرّوا بخلافته بسوء اختيارهم، من دون أن يتحلّى ذلك الغير بأي صفة من مواصفات العلم والحلم والحكمة والقدرة على قيادة المجتمع، فمنعوه علیه السلام حقّه الطبيعي والمشروع في تولّي الخلافة ظلماً وعدواناً. وينضاف إلى ذلك أيضاً الظرف الحرج والحساس جدّاً الذي كانت تمرّ به الأُمّة بعد مقتل الخليفة عثمان؛ حيث كان سيُتّهم بدمه كل مَن يجلس في مكانه لتولّي الخلافة، وسيتحمّل المتصدّي أيضاً أعباء الإرث الثقيل للفساد المستشري الذي تورّطت به الحكومة السابقة، على كافّة الأصعدة وفي جميع المستويات، وهذا ما حصل بالفعل.
ومن مجموع ما بيّناه إجمالاً يتضح: أن سيرة أمير المؤمنين علیه السلام ومواقفه وأقواله وتحركاته عموماً كانت قائمة على تبنّي الرؤية السياسية، والتدخّل العسكري، والتصدّي للإصلاح والتغيير، وإقامة حكم الله في الأرض، ولكن سكوته علیه السلام عن ذلك في فترة معيّنة من حياته المباركة كان سببه الأساس هو الاضطراب والتردد والتخاذل من قِبل الأُمّة والمجتمع الإسلامي بصورة عامّة. وهذا ما اختلفت ظروفه وشرائطه في زمن الإمام الحسين علیه السلام، فاختلفت في ضوئه الصورة والنتائج، كما سيتبيّن.
أيضاً نعتقد بأن الإمام الحسن علیه السلام قد تصدّى بشكل واضح وصريح لإكمال صروح المسيرة الربانيّة والنهضة الإصلاحية بعد شهادة أبيه أمير المؤمنين علیه السلام، وقد باشر في التأسيس لإقامة دولة إلهية إسلامية عادلة بإمامته وقيادته علیه السلام، في إطار نهضة تغييرية إصلاحية واسعة الأبعاد، والحديث في هذه النقطة يطول أيضاً، وشواهده الروائية والتاريخية كثيرة جدّاً ومستفيضة، وجديرة بالدراسة والبحث والتدقيق، ولكن سنقتصر على اقتطاف بعضها؛ للتدليل على ما نقول:
ص: 27
والأبرز في هذا المجال خطبته علیه السلام صبيحة الليلة التي دفن فيها أمير المؤمنين علیه السلام، حيث استعرض أثناء مراسم العزاء والتأبين المسيرة الدينية والإيمانيّة والاجتماعيّة والسياسية والجهاديّة والقياديّة التي حفلت وتميّزت بها حياة أبيه علي بن أبي طالب علیه السلام، ثم انتقل بعد ذلك مباشرة للتعريف بشخصيته المباركة، وأنه الامتداد الطبيعي للبيت النبوي والعلوي، وأنه الكفوء والأهل والأحقّ باستلام زمام الأُمور وتولّي قيادة الأُمة، قال علیه السلام: «أيها الناس، مَن عرفني فقد عرفني، ومَن لم يعرفني فأنا الحسن بن علي، وأنا ابن النبي، وأنا ابن الوصي، وأنا ابن البشير، وأنا ابن النذير، وأنا ابن الداعي إلى الله بإذنه، وأنا ابن السراج المنير، وأنا من أهل البيت الذي كان جبريل ينزل إلينا ويصعد من عندنا، وأنا من أهل البيت الذي أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً، وأنا من أهل البيت الذي افترض الله مودّتهم على كل مسلم... »(1). «ولقد حدّثني حبيبي جدي رسول الله صلی الله علیه و آله أن الأمر يملكه اثنا عشر إماماً من أهل بيته وصفوته، ما منا إلا مقتول أو مسموم»(2).
فانتسب الحسن علیه السلام إلى جدّه وأبيه، وعرّف نفسه بمواريث النبوة والوصاية والمُلك والإمامة وهداية الأُمة والدعوة إلى الله عزّ وجلّ، وأكّد على أن مودّة أهل البيت علیهم السلام فرض واجب على كافة المسلمين، وأن المعصومين من أهل البيت علیهم السلام هم أئمة الخلق وساداتهم بالحقّ.
وقد فهم الحاضرون من هذه النُّبذة التعريفيّة أنه علیه السلام قد عرض نفسه الكريمة لتولّي الخلافة والحكم وقيادة الدولة الإسلامية خلفاً لأبيه أمير المؤمنين علیه السلام؛ ولذا نهض عبد الله بن عباس مباشرة يدعو الحاضرين لمبايعة الحسن علیه السلام، قائلاً: «معاشر الناس، هذا ابن نبيكم ووصي إمامكم فبايعوه. فاستجاب له الناس، وقالوا: ما أحبه إلينا! وأوجب حقّه
ص: 28
علينا! وتبادروا إلى البيعة له بالخلافة... فرتب علیه السلام العمال وأمّر الأُمراء، وأنفذ عبد الله بن العباس (رضي الله عنه) إلى البصرة، ونظر في الأُمور» (1).
ثم إنه علیه السلام خطب الناس بعد البيعة قائلاً: «نحن حزب الله الغالبون، وعترة رسوله الأقربون، وأهل بيته الطيبون الطاهرون، وأحد الثقلين اللذين خلّفهما رسول الله صلی الله علیه و آله في أُمته، والتالي كتاب الله، فيه تفصيل كل شيء، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فالمعول علينا في تفسيره، لا نتظنّى تأويله، بل نتيقن حقائقه، فأطيعونا، فإن طاعتنا مفروضة؛ إذ كانت بطاعة الله عز وجل ورسوله مقرونة» (2). ويُمثّل هذا الخطاب التاريخي إعلاناً رسميّاً رئاسيّاً لثالث حكومة إلهيّة في الإسلام بقيادة المعصوم من حزب واحد، هو حزب الله الغالب، ويجب على الأُمّة السمع والطاعة لأوامر وتوجيهات هذا الحزب الإلهي المبارك.
وكان الحسن علیه السلام يؤكّد دائماً على حقّه الشرعي وأحقيّته بالخلافة والحكم، ويُطالب باسترجاع هذا الحق في مواضع كثيرة، ومناسبات مختلفة، حتى قال له معاوية - بعد واحدة من خطبه علیه السلام البليغة التي ألهبت مشاعر المجتمع الشامي -: «أما إنك - يا حسن - قد كنت ترجو أن تكون خليفة ولست هناك. فقال الحسن علیه السلام: أما الخليفة فمَن سار بسيرة رسول الله صلی الله علیه و آله وعمل بطاعة الله عز وجل، ليس الخليفة مَن سار بالجور وعطّل السُّنن واتخذ الدنيا أمّاً وأباً» (3). وفي خطبة أُخرى أيضاً في مجلس معاوية يقول علیه السلام: «أصبحت قريش تفتخر على العرب بأن محمداً منها، وأصبحت العرب تفتخر على العجم بأن محمداً منها، وأصبحت العجم تعرف حق العرب بأن محمداً منها، يطلبون حقنا، ولا يردون إلينا حقّنا»(4). هو المنطق ذاته وذات الشعارات التي حملتها النهضة الحسينية المباركة، ولكن الدور والقرار والمشهد السياسي قد يختلف باختلاف ظروف الواقع الإسلامي المتقلّب والمتردّي.
ص: 29
حيث تولّى علیه السلام وبشكل مباشر إدارة شؤون الحكومة والدولة الإسلاميّة، ففي ضوء النص السابق لما بويع الحسن علیه السلام وأعلن تولّيه الأمر وقيادته للأُمة، بادر مباشرة لتشكيل الحكومة وتعيين الحقائب الوزاريّة وتخصيص وتشخيص سائر الأُمور التنفيذية والمالية ذات العلاقة، فرتّب العمال وأمّر الأُمراء ونظر في الأُمور. وكتب لمعاوية يأمره بطاعته والانقياد لأوامره، ويقول له: «إن علياً لما توفّاه الله ولّاني المسلمون الأمر بعده، فاتق الله يا معاوية، واُنظر لأُمّة محمد صلی الله علیه و آله ، ما تحقن به دماءها وتصلح به أمرها» (1). وفي نص آخر مماثل يقول فيه علیه السلام: «فاليوم فليتعجّب المتعجّب من توثّبك - يا معاوية - على أمر لست من أهله... إن علياً لما مضى لسبيله... ولّاني المسلمون الأمر بعده... فدع التمادي في الباطل، وادخل فيما دخل فيه الناس من بيعتي؛ فإنك تعلم أني أحق بهذا الأمر منك عند الله وعند كل أوّاب حفيظ، ومَن له قلب منيب. واتق الله ودع البغي، واحقن دماء المسلمين، فو الله، ما لك خير في أن تلقى الله من دمائهم بأكثر مما أنت لاقيه به، وادخُل في السلم والطاعة، ولا تُنازع الأمر أهله ومَن هو أحق به منك، ليطفئ الله النائرة بذلك، ويجمع الكلمة، ويُصلح ذات البين، وإن أنت أبيت إلا التمادي في غيّك سرت إليك بالمسلمين فحاكمتك، حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين» (2).
وقد تضمّنت هذه النصوص والمكاتبات التاريخيّة المهمّة معالم الرؤية السياسيّة الثاقبة والمتميّزة للإمام الحسن علیه السلام إزاء التأسيس للدولة العادلة، والتصدّي لمحاربة البغاة والمفسدين والإرهابيين القتلة، الطامحين في إقامة دولة داعشية أُمويّة تكفيرية،
ص: 30
بقيادة معاوية بن أبي سفيان، تُبنى هياكلها على جماجم المسلمين، تُكفّرهم وتقتات من دمائهم. ولا بأس بالتنصيص على أهم ما جاء فيها؛ لارتباطها بواقعنا المعاش:
1- معاوية الذي انخرط في حزب (بيعة المسلمين) المزعومة لأشياخه، وبنى مجده على أنقاض ورفات خلفاء تلك البيعة، يبدأ الإمام الحسن علیه السلام بإلزامه بما ألزم به نفسه، فها هي بيعة المسلمين قد تمّت له علیه السلام بما لا ينقص عن مبايعة السابقين، وعلى معاوية أن يُذعن ويخضع وينقاد لولايته وخلافته الإسلامية الشرعية، وأن يلتزم الجانب السلمي في التعاطي مع هذا الأمر.
2- يواصل الإمام علیه السلام التأكيد على حقّه في قيادة الأُمّة، وأنه من الحقوق المعلومة والثابتة، التي لا تفتقر إلى بيعة مَن بايع أو طاعة مَن يطيع، وإنما البيعة والطاعة من آليات وسبل تفعيل ذلك الحقّ الإلهي، يُشير إلى هذا المعنى قوله علیه السلام: «فإنك تعلم أني أحق بهذا الأمر منك عند الله، وعند كل أوّاب حفيظ، ومَن له قلب منيب... ولا تنازع الأمر أهله ومَن هو أحق به منك». ويؤكّد علیه السلام على أن خير الأُمّة صلاحها في إرجاع الحقّ لأهله، حيث يقول: «ليطفئ الله النائرة بذلك، ويجمع الكلمة، ويصلح ذات البين».
3- التأكيد على عدم أهلية معاوية للمنصب الحساس الذي يشغله، وعليه أن يتنحّى عن منصبه، وأنه ينبغي أن تكون الأهلية والكفاءة هي المعيار الأساس في تولّي المناصب السيادية والحكومية.
4- الدعوة إلى السلم، والطاعة، وتقوى الله، والانقياد للشرعية، وتوحيد الكلمة، وإطفاء الإرث العدواني الثقيل، وتوخّي الإصلاح وصلاح الأمّة، وترك البغي والتمادي في الغيّ والباطل، وعدم منازعة أهل الحقّ في حقّهم، وحقن دماء المسلمين، والتزام مبدأ التداول السلمي للسلطة.
5- وقد ختم الإمام علیه السلام كتابه لمعاوية بالتهديد ولغة السلاح والقتال إن أبى معاوية التعامل بالطرق السلمية والدبلوماسية، قائلاً: «وإن أنت أبيت إلا التمادي في غيّك، سرت إليك بالمسلمين فحاكمتك، حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين».
ص: 31
ثم إنه علیه السلام قام بتجييش الجيوش وتحشيدها والرفع من معنوياتهم، وخرج الجيش الإسلامي بقيادته لقتال البغاة - معاوية وأتباعه بعد أن رفضوا دعوته للطاعة والسلم - وقد زاد في عطاء الجيوش وتجهيزهم وتسليحهم(1). والحديث في هذه النقطة بالخصوص يتّسع ويطول، ونحن اليوم بأمسّ الحاجة لدراسة معالم وأبعاد السياسة الحسنية المباركة، ومعرفة دورها في التعامل مع الأزمات الاجتماعيّة والسياسية والأمنية والعسكرية، التي واجهها المجتمع الإسلامي، قبل الالتجاء إلى الموافقة على عقد الهدنة مع معاوية. وسوف نتجنّب الولوج في هذه النقطة أيضاً رعاية للإيجاز والاختصار.
هناك مجموعة كبيرة جدّاً من الأحاديث والنصوص التاريخية، الواضحة والصريحة في أن الخروج المسلّح ضد معاوية وإسقاط حكمه وإقامة حكم الله في الأرض، كان هو الحل الأمثل والأفضل، بل هو المتعيّن مع وجود الأنصار المؤمنين بنهضة الإصلاح والتغيير، كما أشرنا آنفاً إلى بعض تلك النصوص. وقد سار الإمام الحسن علیه السلام بشكل عملي لإنجاز هذه المهمّة العسكريّة المصيريّة والحسّاسة، فخرج بالجيوش ليختبر نيّاتهم وطاعتهم، ففشلوا في الاختبار فشلاً ذريعاً(2).
وكان الحسن علیه السلام كثيراً ما يُهدّد معاوية بالجيش الإسلامي، ويضع الخيار العسكري دائماً على طاولة المداولة والمفاوضات، برجاء أن ينهض الجيش بهذه المهمّة والمسؤوليّة الحسّاسة، كما تقدّمت الإشارة إلى ذلك في نص سابق، وهو ما جاء أيضاً بشكل صريح في كتاب بعثه لمعاوية بعد أن نفّذ علیه السلام عقوبة الإعدام بحق شخصين منافقين من جواسيس معاوية، يقول فيه: «أما بعد، فإنك دسست إليّ الرجال كأنك تحب اللقاء، وما أشك في
ص: 32
ذلك، فتوقّعه إن شاء الله» (1).
ولكن التاريخ يرسم صورة مختلفة للجيش الإسلامي آنذاك، فكان وللأسف جيشاً متداعياً، خائر القوى، منهزماً ومكسوراً من الناحية الإيمانيّة والنفسية والإعلاميّة، خائفاً مهزوزاً متململاً من كثرة الحروب وطول أمدها وامتداد تاريخ المسيرة الجهاديّة، قد وضع الدنيا وزينتها أمام طموحاته وأمانيه، وجعل التضحية في سبيل الدين والمبادئ آخر ما يفكّر فيه ويهتمّ به، وسجّل انهزامات متتالية في شتّى الميادين، حتى كاد هذا الجيش الضعيف المخترق والمكشوف أن يُسلّم الحسن علیه السلام أسيراً بيد معاوية، وهذا ما صرّح به الإمام علیه السلام في محضر معاوية، حينما خطب الناس قائلاً: «أيها الناس، إن معاوية زعم أني رأيته للخلافة أهلاً، ولم أرَ نفسي لها أهلاً، وكذب معاوية، أنا أوْلى الناس بالناس في كتاب الله، وعلى لسان نبي الله، فأقسم بالله، لو أن الناس بايعوني وأطاعوني ونصروني لأعطتهم السماء قطرها، والأرض بركتها، ولما طمعتَ فيها يا معاوية، وقد قال رسول الله صلی الله علیه و آله : ما ولّت أُمة أمرها رجلاً قط وفيهم مَن هو أعلم منه إلّا لم يزل أمرهم يذهب سفالاً، حتى يرجعوا إلى ملّة عبدة العجل... وقد تركت الأُمة علياً علیه السلام وقد سمعوا رسول الله صلی الله علیه و آله يقول لعلي علیه السلام: أنت منّي بمنزلة هارون من موسى غير النبوة، فلا نبي بعدي. وقد هرب رسول الله صلی الله علیه و آله من قومه، وهو يدعوهم إلى الله، حتى فرّ إلى الغار، ولو وجد عليهم أعواناً ما هرب منهم، ولو وجدت أنا أعواناً ما بايعتك يا معاوية. قد جعل الله هارون في سعة حين استضعفوه وكادوا يقتلونه، ولم يجد عليهم أعواناً، وقد جعل الله النبي صلی الله علیه و آله في سعة حين فرّ من قومه، لمّا لم يجد أعواناً عليهم، وكذلك أنا وأبي في سعة من الله، حين تركتنا الأُمة وبايعت غيرنا ولم نجد أعواناً. وإنما هي السُّنن والأمثال يتبع بعضها بعضاً» (2).
وأما أنصاره والمحيطون به، فقد تحدّث هو علیه السلام عنهم قائلاً: «يزعمون أنهم لي شيعة، ابتغوا قتلي، وانتهبوا ثقلي، وأخذوا مالي... والله، لو قاتلت معاوية لأخذوا بعنقي حتى يدفعوني إليه سلماً. فو الله، لأن أسالمه وأنا عزيز خير من أن يقتلني وأنا أسيره أو
ص: 33
يمنّ عليّ، فتكون سُبّةً على بني هاشم إلى آخر الدهر» (1).
وفي نص آخر يقول علیه السلام: «أما والله، ما ثنانا عن قتال أهل الشام ذلة ولا قلة، ولكن كنا نقاتلهم بالسلامة والصبر، فشيب السلامة بالعداوة، والصبر بالجزع، وكنتم تتوجهون معنا ودينكم أمام دنياكم، وقد أصبحتم الآن ودنياكم أمام دينكم، وكنا لكم وكنتم لنا، وقد صرتم اليوم علينا... وإن معاوية قد دعا إلى أمر ليس فيه عِزٌّ ولا نصفة، فإن أردتم الحياة قبلناه منه، وأغضضنا على القذى، وإن أردتم الموت، بذلناه في ذات الله، وحاكمناه إلى الله. فنادى القوم بأجمعهم: بل البقية والحياة» (2).
وفي نص ثالث يؤنِّب أنصاره على الاختراقات الخطيرة والخيانات العسكريّة التي انتشرت في جيشه ومعسكره، حيث يقول علیه السلام: «ويلكم! والله، إنّ معاوية لا يفي لأحد منكم بما ضمنه في قتلي، وإنّي أظن أنّي إن وضعت يدي في يده فأسالمه لم يتركني أدين لدين جدّي صلی الله علیه و آله وإنّي أقدر أن أعبد الله عزّ وجلّ وحدي، ولكنّي كأنّي أنظر إلى أبنائكم واقفين على أبواب أبنائهم يستسقونهم ويستطعمونهم بما جعله الله لهم، فلا يسقون ولا يطعمون، فبُعداً وسحقاً لما كسبته أيديكم «وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ». فجعلوا يعتذرون بما لا عذر لهم فيه» (3).
ويقول أيضاً علیه السلام في مقام بيان سبب تسليمه الخلافة لمعاوية: «والله، ما سلّمت الأمر إليه، إلّا أني لم أجد أنصاراً، ولو وجدت أنصاراً لقاتلته ليلي ونهاري، حتى يحكم الله بيني وبينه» (4).
وبهذا الكلام كان الحسن علیه السلام يستقبل مَن يعاتبه من أصحابه في مسألة الصلح والهدنة، فمن ذلك ما تقدمّت الإشارة إليه في ملامح النهضة العلوية، حيث أجاب علیه السلام حجر بن عدي الطائي بالقول: «والله، يا حجر! لو أني في ألف رجل، لا والله إلّا مائتي
ص: 34
رجل، لا والله إلّا في سبع نفر لما وسعني تركه... وتالله، يا حجر! إني لعلى ما كان عليه أبي أمير المؤمنين لو أطعتموني» (1).
وبنفس المضمون ما روي عن علي بن محمد بن بشير الهمداني، قال: «خرجت أنا وسفيان بن ليلى، حتى قدمنا على الحسن المدينة، فدخلنا عليه، وعنده المسيب بن نجبة وعبد الله بن الوداك التميمي، وسراج بن مالك الخثعمي، فقلت: السلام عليك يا مذلّ المؤمنين! قال: وعليك السلام، اجلس، لستُ مذلَّ المؤمنين، ولكني معزّهم، ما أردت بمصالحتي معاوية إلّا أن أدفع عنكم القتل، عندما رأيت من تباطؤ أصحابي عن الحرب، ونكولهم عن القتال» (2).
ويُعقّب السيد المرتضى على مثل هذه النصوص قائلاً: «لأن المجتمعين له من الأصحاب وإن كانوا كثيري العدد، فقد كانت قلوب أكثرهم دغلة غير صافية، وقد كانوا صبوا إلى دنيا معاوية... فأظهروا له علیه السلام النصرة، وحملوه على المحاربة والاستعداد لها طمعاً في أن يورّطوه ويسلموه، فأحسّ بهذا منهم قبل التولّج والتلبّس، فتخلّى من الأمر، وتحرّز من المكيدة» (3).
ونستنتج من مجموع هذه النصوص المتضافرة الأُمور التالية:
1- إن الإمام الحسن علیه السلام كان عازماً على السير قُدماً في تولّي شؤون الخلافة الإلهيّة، والاستمرار في بناء الحكومة العادلة وتشييد صرح الدولة الإسلاميّة الكريمة.
2- كان يرى علیه السلام أنه هو المؤهل والأوْلى والأحقّ في تولّي الحكم وقيادة الأُمّة في كتاب الله وعلى لسان رسول الله صلی الله علیه و آله ، قبل بيعة الناس له، وأنّ على معاوية أن يطيعه ويخضع لحكمه الإلهي العادل كما تقدّم، وأن الناس لو أطاعوه وبايعوه ونصروه لأعطتهم السماء قطرها، والأرض بركتها.
ص: 35
3- إنه علیه السلام كان عازماً على محاربة الفساد والقضاء عليه بشتّى الوسائل والسبل المشروعة، وابتدأ علیه السلام بمحاولة القضاء على حكومة معاوية بن أبي سفيان، التي كانت تمثّل أبرز مظاهر الفساد، وتشغل مساحة جغرافية كبيرة وواسعة ومهمّة في كيان الدولة الإسلاميّة. فاختار علیه السلام الحلّ العسكري والخروج المسلّح لاستئصال جذور الشجرة الخبيثة والغدّة الأُمويّة التي ابتُلي بها المجتمع الإسلامي، وكان عدد الجيش وعدّته كافيين لبلوغ هذه الغاية، ولكن الأُمّة عصت أوامره وخذلته وتقاعست عن الجهاد في سبيل الله، وقدّمت المصالح الشخصية والرغبات الفرديّة الخاصّة، على سعادة البشريّة ورقيّها وصلاح أمرها.
4- إنه علیه السلام لو وجد أعواناً وأنصاراً لما بايع معاوية، ولقاتله ليله ونهاره، وأن العزة والنصرة والكرامة بقتاله والقضاء عليه، ولم تكن المصلحة أبداً في الصلح لو اختارت الأُمّة طريق الجهاد، بل كان في الصلح ذلة ومهانة لهم وللأجيال اللاحقة، فاختار القوم العيش بالذلّ وفضّلوا الحياة الرخيصة وقدّموها على خيار العزّة والإباء والنصر، فبايعت الأُمة معاوية خاضعة خاسئة، وأُجبر الحسن علیه السلام على قبول الصلح وفي العين قذى؛ ليلملم ما تبقّى للمؤمنين من العزّة والكرامة، فبُعداً وسحقاً لما كسبته أيدي الأُمة المتخاذلة، وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون.
5- كانت هناك مؤامرات تُحاك ليلاً ونهاراً، وخيانات وانقلابات عسكريّة متوالية، هدفها القضاء على خلافة الحسن علیه السلام، والتجاوز على شخصه الكريم، ونهب تراثه وتسليبه، وتسليمه لمعاوية ليرى فيه رأيه، إما القتل أو الإذلال، فكان الصلح خياراً مُرّاً لا مناص منه.
إن الإمام الحسن علیه السلام قد صالح معاوية على «أن له ولاية الأمر بعده، فإن حدث به حدث فللحسين» (1)، ويُعدّ هذا البند من البنود المهمّة التي تصدّرت القائمة، وتكرر
ص: 36
ذكرها في خطب الإمام الحسن علیه السلام بعد توقيعه على كتاب الصلح، وهذا ما يكشف وبوضوح عمّا نروم إثباته، من أن الإمام الحسن علیه السلام كان ينظر إلى الحكم الإلهي والقيادة الربانيّة على يد المعصوم في هذه الأرض من الفرائض التي يجب النهوض بها، ولكنها كانت وللأسف فاقدة لشروطها المرتبطة بواقع الأُمّة، ومتى ما تحقّقت الشروط كان على الإمام المعصوم أن ينهض للقيام بدولة الحق والعدل.
ويُضاف إلى ذلك أيضاً البنود الأُخرى التي تضمّنت روح التدخل السياسي من قِبل المعصوم؛ لسدّ منافذ الفساد والانحراف في الحكومات غير الكفوءة، من قبيل ما يرتبط بالقضايا الأمنية العامّة، وترك تتبع الناس وقتلهم على المذهب والهوية والانتماء، واحترام رموز الأُمّة وقادتها، والمحافظة على أموال الشعب وصرفها في مستحقّيها، وغيرها من البنود الأُخرى.
كان الإمام الحسن علیه السلام دائماً ما يوجّه التهديد والإنذار لمعاوية، بأنه يراقب المشهد السياسي عن كثب، وأنه سيعمل على دراسة الأُمور مجدّداً، وإعادة النظر في قرار الصلح، والانقلاب عليه بإلغائه، في حال تفاقمت الأُمور، وتدهورت الأوضاع الأمنية والاجتماعيّة، واستشرى الفساد، وتعرّض المسلمون عموماً وأتباع أهل البيت علیهم السلام على وجه الخصوص للسوء والاضطهاد والمطاردة من قِبل السلطة الظالمة.
ويمكننا أن نستشعر ذلك بوضوح في ردّ له علیه السلام على إساءة واعتداء في الكلام على شخصه الكريم من قِبل عمرو بن العاص في مجلس معاوية، يقول فيه علیه السلام: «يا معاوية، لا يزال عندك عبد راتعاً في لحوم الناس، أما والله، لو شئت ليكونن بيننا ما تتفاقم فيه الأُمور وتحرج منه الصدور» (1).
ص: 37
وفي نصّ آخر طويل ومفصّل، يردّ فيه علیه السلام بقوّة على كلام مسيء تحدّث به مروان بن الحكم في مجلس معاوية، فأذهل بكلامه علیه السلام الحضور، وأسكت الطغاة وألجم أفواههم وألقمها حجراً، حيث يقول: «ثم تزعم أني ابتُليت بحلم معاوية. أما والله، لهو أعرف بشأنه وأشكر لنا إذ ولّيناه هذا الأمر، فمتى بدا له، فلا يغضين جفنه على القذى معك، فو الله، لأعنفنّ أهل الشام بجيش يضيق فضاؤه(1)، ويستأصل فرسانه، ثم لا ينفعك عند ذلك الروغان والهرب» (2). إن هذا المنطق العاصف والقوي والمرعب لطواغيت الأُمّة، يكشف وبوضوح عن أن الإمام الحسن علیه السلام قد مهّد الأُمور لتنفيذ ما يقول، وعمل على التأسيس لقاعدة شعبية عريضة وواسعة في المجتمع الإسلامي، وهيأها للتغيير والانقلاب، في حال تطلّب الأمر ذلك، ولكنه علیه السلام كان ملزماً بالصلح. وهناك شواهد للتدليل على هذه الحقيقة أعرضنا عن ذكرها خوف الإطالة.
كان هذا العنوان بالخصوص هو الموضوع الأساس الذي دعانا لكتابة المقال، وقد عرضنا في مقالات ماضية جملة من الشواهد والنصوص فيما يرتبط بالتدليل على المبادئ والأهداف السياسية للنهضة الحسينية المباركة، وذكرنا من ضمن تلك الشواهد: حركة التغيير ونصوص الإصلاح الحسيني، ومواقف الإمام الحسين علیه السلام وأقواله وتصريحاته ومكاتباته ورسائله السياسية إلى أهل الكوفة والبصرة وغيرهما، مضافاً إلى أقواله وأحاديثه وخطبه علیه السلام في طريقه إلى الكوفة وفي فترة تواجده بكربلاء.
واستنتجنا من مجموع تلك الشواهد أن الإمام الحسين علیه السلام قد قام بنهضة إصلاحيّة عامّة وشاملة، كان من أهم أهدافها: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتصدّي
ص: 38
للظلم والجور والفساد، ونصرة المظلومين والمضطهدين، والإطاحة بالنظام الأُموي المُستبدّ، وإرجاع الحق إلى أهله، وإقامة حكم الله في الأرض، وتشكيل حكومة إلهية بقيادة خليفة الله في خلقه، وتطبيق مبادئ الشريعة الإسلامية، وحفظ الحرّيات الدينية والإنسانية المشروعة، وأداء الحقوق والواجبات الدينيّة والاجتماعيّة، وإجراء الحدود، وتنفيذ القوانين، والعمل بالأحكام الشرعية.
وقد تهيّأت كافة السبل والأسباب والعوامل لانتصار هذه النهضة النوراء، وبزوغ الفجر الحسيني الصادق، وإقامة الحقّ والعدل في ربوع البلاد، وذلك من زوايا وجهات مختلفة ومتنوّعة، منها:
1- هلاك معاوية، الذي أحكم قبضته على الناس بالظلم والقتل والجور وانتهاك الحرمات.
2- انقضاء مدّة الهدنة وأمد الصلح الحسني، الذي التزم به الحسين علیه السلام مع وجود معاوية في سدّة الحكم(1).
3- ضعف الحكومة الأُموية المتمثّلة بيزيد المتهتك الطائش.
4- سأم الناس وامتعاضهم الشديد من الحكم الأُموي الجائر، الذي تجاوز كل القيم الإسلامية والبشرية، وأرهق الأُمّة بصنوف الاضطهاد والإرهاب، من القتل والتشريد والتجويع والتضييق الخانق للحريات الدينية والفكريّة والاجتماعيّة والسياسيّة.
5- اشتياق المسلمين وحنينهم للعدالة العلوية الضائعة.
6- المنزلة المتميزة والمقام الرفيع الذي يشغله الإمام الحسين علیه السلام في نفوس المسلمين.
7- وجود الشخصيّة القويّة والمؤهلة لقيادة الأُمة.
8- توفر القدر الكافي من الأعوان والأنصار، الذين بايعوا الإمام الحسين علیه السلام على الخلافة والجهاد والنصر وبذل النفس والتفاني بين يديه، بنوايا حقيقية وصادقة، اختبرها السفير الحاذق والرائد الفطن والثقة من أهل البيت مسلم بن عقيل علیه السلام، وعكسها
ص: 39
بأمانة تامّة على الإمام علیه السلام، في كتاب يحمل بشائر التغيير، ويدعوه للإسراع في القدوم إلى العاصمة العلويّة هادياً مهديّاً.
وهذا ما لم يتوفر لأمير المؤمنين علیه السلام بعد وفاة النبي الأكرم صلی الله علیه و آله ، ولا للحسن علیه السلام حينما اضطر للصلح مع معاوية كما ألمحنا سابقاً. بل سبق أيضاً التصريح بأنهما علیهما السلام سيخرجان للتغيير والانقلاب على السلطات غير الشرعيّة لو اجتمع لهما العدد المطلوب من الأتباع والأنصار، وقد حُدّد ذلك العدد في بعض النصوص بسبعة من المضحين، أو بأربعين، بحسب اختلاف الظرف وطبيعة الموقف، وهذا العدد من الأبطال وأكثر منه قد التفّ حول الحسين علیه السلام في كل الظروف، قبل حادثة كربلاء وحين وقوعها.
يُضاف إلى ذلك كلّه تردّي الأوضاع السياسية والاجتماعية والدينية وتدهورها وانحدارها بما لا يترك مجالاً للجلوس والسكوت؛ وفي ضوء هذا وذاك اختلفت المرحلة وتغيّرت الأوضاع وتحركت رياح الثورة والتحرير، فتوجهت أنظار الأُمّة لمنقذها، فأصبح الإمام في قطب دائرة المسؤولية السياسية، وتوجّب عليه الخروج لإسقاط النظام الظالم وإقامة الحكومة الإلهية العادلة.
وأما لماذا لم تُحقّق النهضة الحسينيّة المباركة هذا النوع من الأهداف السياسيّة؟ ولماذا لم يحصل التغيير السياسي والحكومي، ولم تسقط دولة بني أُميّة؟ ولماذا لم تُشرق الأرض بصبح العدالة الحسينيّة؟ ولماذا انقلبت الظروف وتغيّرت إلى مأساة وثأر تطلبه السماء؟ فلهذا كلّه شأن آخر وحديث مستأنف، نتمنّى أن نحظى بفرصة بحثه ودراسته في مقالات لاحقة.
اتضح إلى هنا: أن الانقلاب على الحكومات الظالمة والفاسدة، والعمل على إسقاطها وإقامة حكم الله في الأرض، هو المنهج الإلهي والسبيل القويم الذي سار عليه سادة الخلق وأئمة الهدى علیهم السلام بعد وفاة النبي الأكرم صلی الله علیه و آله . والإمام الحسين علیه السلام قد اتخذ ذات المواقف العلوية والحسنية، ولكنّ اختلاف الظروف والشرائط والأحداث هو الذي غاير في فوارق الصورة وملامح المشهد.
ص: 40
نعم؛ نحن نعتقد بأن منهج وأُسلوب التعامل مع السلطات الحاكمة قد تغير بعد شهادة الإمام الحسين علیه السلام مباشرة، وكان السبب الرئيس في ذلك هو انكفاء الأُمّة وفقدان الأعوان والأنصار المؤهلين لرفع راية الإصلاح والتغيير بما يناسب الوقت والمرحلة، والنصوص والشواهد التاريخية والروائية الدالة على ذلك كثيرة ومتضافرة، نكتفي بالإشارة إلى بعضها:
منها: ما تحدّث به الإمام زين العابدين علیه السلام مع أهل الكوفة، حينما أبدوا استعدادهم لمبايعته والقتال بين يديه لإسقاط حكومة يزيد بن معاوية، بعد أن ألهب مشاعرهم بخطاب حول مأساة كربلاء، يحرق القلوب، يقول فيه: «أنا ابن مَن انتهكت حرمته، وسُلبت نعمته، وانتُهب ماله، وسُبي عياله، أنا ابن المذبوح بشط الفرات، من غير ذحل ولا ترات، أنا ابن مَن قُتل صبراً، وكفى بذلك فخراً»، ثم توجّه إلى الناس قائلاً: «رحم الله امرئاً قبل نصيحتي وحفظ وصيتي»، فأجابوه بأجمعهم: «نحن كلّنا يا بن رسول الله سامعون مطيعون، حافظون لذمامك، غير زاهدين فيك، ولا راغبين عنك، فمرنا بأمرك يرحمك الله، فإنّا حرب لحربك، وسلم لسلمك، لنأخذن يزيد لعنه الله، ونبرأ ممن ظلمك». فأجابهم علیه السلام بما يُحدّد وبوضوح الموقف السياسي الإلهي تجاه الأُمّة المتخاذلة في ظل الحكومات الظالمة، قائلاً: «هيهات هيهات! أيها الغدرة المكرة! حيل بينكم وبين شهوات أنفسكم، أتريدون أن تأتوا إليّ كما آتيتم آبائي من قبل؟! كلّا وربّ الراقصات، فإن الجرح لما يندمل»، ثم انتقل لتحديد الوظيفة الفعليّة لهذه الأُمّة الضعيفة، قائلاً: «ومسألتي أن تكونوا لا لنا ولا علينا» (1). فكانت هذه المرحلة العصيبة والحساسة بعد شهادة الحسين علیه السلام أدنى ما تتطلبه هو تحييد الأُمّة من الناحية السياسية، في ظل التخاذل الكبير، الذي وصفته السيدة زينب صلی الله علیه و آله في الموقف ذاته، مخاطبة أهل الكوفة بقولها:
ص: 41
«خوّارون في اللقاء، عاجزون عن الأعداء، ناكثون للبيعة، مضيّعون للذمة» (1).
ومنها: قول الإمام الباقر علیه السلام: «إذا اجتمع للإمام عدّة أهل بدر ثلاثمائة وثلاثة عشر، وجب عليه القيام والتغيير»(2). وهذا يكشف بجلاء عن أن الأُمّة لا زالت مؤهلة للنهضة والتغيير في زمان الإمام الباقر علیه السلام، والمشكلة في توفّر الأنصار، واستمرّت الحال كذلك في زمن المعصومين من ذريّته علیهم السلام. كما أن النص صريح أيضاً في أن القيام والتغيير السياسي من الأُسس الدينيّة والأهداف الحيويّة التي يرصدها ويُتابعها كلّ إمام، متابعة ميدانيّة وبشكل متواصل، ومتى ما تحقّقت الشرائط والظروف المناسبة، خرج للتغير وإقامة حكم الله في الأرض.
ومنها: ما هو المشهور والمروي عن مأمون الرقي، قال: «كنت عند سيدي الصادق علیه السلام، إذ دخل سهل بن حسن الخراساني، فسلّم عليه، ثم جلس، فقال له: يا بن رسول الله، لكم الرأفة والرحمة، وأنتم أهل بيت الإمامة، ما الذي يمنعك أن يكون لك حق تقعد عنه، وأنت تجد من شيعتك مائة ألف يضربون بين يديك بالسيف؟! فقال له علیه السلام: اجلس يا خراساني رعى الله حقك. ثم قال: يا حنفية، أسجري التنور. فسجرته حتى صار كالجمرة، وابيضّ علوه، ثم قال: يا خراساني، قم فاجلس في التنور، فقال الخراساني: يا سيدي يا بن رسول الله، لا تعذبني بالنار! أقلني أقالك الله. قال: قد أقلتك، فبينما نحن كذلك، إذ أقبل هارون المكي ونعله في سبابته، فقال: السلام عليك يا بن رسول الله. فقال له الصادق: الق النعل من يدك واجلس في التنّور. قال: فألقى النعل من سبابته ثم جلس في التنور، وأقبل الإمام يحدث الخراساني حديث خراسان، حتى كأنه شاهد لها، ثم قال: قم يا خراساني واُنظر ما في التنور. قال: فقمت إليه فرأيته متربعاً، فخرج إلينا وسلّم علينا، فقال له الإمام: كم تجد بخراسان مثل هذا؟ فقلت: والله، ولا واحداً. فقال علیه السلام: لا والله، ولا واحداً، أما إنّا لا نخرج في زمان لا نجد فيه خمسة معاضدين لنا، نحن أعلم بالوقت»(3). فكان التغيير السياسي
ص: 42
والقيام بنهضة إصلاحيّة في الأُمة من المرتكزات المتأصّلة في نفوس الشيعة والموالين لأهل البيت علیهم السلام، وكان الإمام علیه السلام على دراية تامّة بمتطلّبات المرحلة، ومن أهمّ متطلباتها وجود الأنصار المؤيدين والمخلصين لدينهم وإمامهم، الذين يحملون ما يحمله هارون المكي من تسليم وإخلاص وتفانٍ بين يدي إمامه وقائده وسيّده الصادق علیه السلام، وهذا ما لم يظفر به أحد من الأئمة المعصومين، إلّا الإمام الحسين علیه السلام، فخرج بأهله وأصحابه المخلصين؛ لطلب الإصلاح والتغيير.
ومنها: ما روي عن عبد الله بن بكير، عن أبي الحسن موسى بن جعفر علیه السلام، قال: «يا بن بكير، إني لأقول لك قولاً قد كانت آبائي علیهم السلام تقوله: لو كان فيكم عدّة أهل بدر لقام قائمنا، يا عبد الله، إنا نداوي الناس ونعلم ما هم، فمنهم مَن يصدقنا المودّة يبذل مهجته لنا، ومنهم مَن ليس في قلبه حقيقة ما يظهر بلسانه، ومنهم مَن هو عين لعدونا علينا، يسمع حديثنا، وإن أطمع في شيء قليل من الدنيا، كان أشدّ علينا من عدونا»، ثم شرع علیه السلام باستعراض الأوصاف والخصائص المطلوبة في أنصار النهضة والتغيير، قائلاً: «ينتظرون أمرنا ويرغبون إلى الله أن يروا دولتنا، ليسوا بالبذر المذيعين، ولا بالجفاة المرائين، ولا بنا مستأكلين، ولا بالطمعين، خيار الأُمة، نور في ظلمات الأرض، ونور في ظلمات الفتن، ونور هدًى يُستضاء بهم، لا يمنعون الخير أولياءهم، ولا يطمع فيهم أعداؤهم، إن ذُكرنا بالخير استبشروا وابتهجوا واطمأنت قلوبهم وأضاءت وجوههم، وإن ذُكرنا بالقبح اشمأزت قلوبهم واقشعرت جلودهم وكلحت وجوههم، وأبدوا نصرتهم وبدا ضمير أفئدتهم، قد شمّروا فاحتذوا بحذونا وعملوا بأمرنا، تعرف الرهبانية في وجوههم، يصبحون في غير ما الناس فيه، ويمسون في غير ما الناس فيه، يجأرون إلى الله في إصلاح الأُمة بنا، وأن يبعثنا الله رحمة للضعفاء والعامة، يا عبد الله، أولئك شيعتنا، وأولئك منّا، أولئك حزبنا وأولئك أهل ولايتنا»(1). إذن هذه هي المواصفات الحقيقيّة لحزب أهل البيت علیهم السلام، والذي يطمحون لتشكيله وإصلاح الأُمّة به، ولكنه لم يجتمع هذا الحزب الإلهي بتلك الخصائص كما أشرنا،
ص: 43
إلا تحت قيادة الإمام الحسين علیه السلام، فنهض بالأمر.
ومنها: ما روي عن عبد العظيم الحسني، قال: قلت لمحمد بن علي بن موسى علیهم السلام: «يا مولاي، إني لأرجو أن تكون القائم من أهل بيت محمد، الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً. فقال علیه السلام: ما منا إلّا قائم بأمر الله، وهادٍ إلى دين الله، ولكن القائم الذي يُطهّر الله به الأرض من أهل الكفر والجحود، ويملأ الأرض قسطاً وعدلاً، هو الذي يخفى على الناس ولادته، ويغيب عنهم شخصه... يجتمع إليه من أصحابه عدة أهل بدر: (ثلاثمائة وثلاثة عشر) رجلاً من أقاصي الأرض... فإذا اجتمعت له هذه العدة من أهل الإخلاص، أظهر الله أمره، فإذا كمل له العقد وهو: (عشرة آلاف) رجل، خرج بإذن الله، فلا يزال يقتل أعداء الله حتى يرضى عز وجل» (1).
ومن هنا؛ نجد أن النصوص الكثيرة والمتضافرة قد نصّت على محورية أصحاب الإمام المهدي علیه السلام في مسألة شرائط الظهور وقيام دولة المعصوم الإلهية العالمية العادلة. كما ورد ذلك في كلام الإمام الصادق علیه السلام، حيث يقول: «كأني أنظر إلى القائم علیه السلام على منبر الكوفة، وحوله أصحابه ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً، عدّة أهل بدر، وهم أصحاب الألوية، وهم حكّام الله في أرضه على خلقه» (2).
ثمّ إن هناك مواقف سياسية كثيرة ومتنوّعة صدرت من الأئمة علیهم السلام في أزمنة ومراحل مختلفة، جميعها يؤكّد ما بيّناه، من أن الأصل في حركة المعصوم هو الإصلاح والتغيير السياسي وإقامة الدولة الإلهيّة، وأن هذا من الأُمور الممكنة والمتيسّرة، إلا في حال فقدان الشرائط التي يتطلبها التغيير، وأهمّها توفّر الأنصار واستعداد الأُمّة لذلك، ومن تلك المواقف السياسيّة على سبيل المثال:
1- الدعم السري المتواصل لكثير من الحركات الثوريّة، التي كانت تخرج لمقارعة الطغاة والدفاع عن حقوق المظلومين والمضطهدين.
ص: 44
2- العمل بشكل دؤوب ومتواصل لبناء المجتمع الإيماني الصالح المتماسك والقويّ والقادر على إدارة شؤونه بشكل ذاتي ومستقلّ.
3- تكريس فكرة مقاطعة الجبت والطاغوت في نفوس أتباع أهل البيت علیهم السلام، وأن الحكومات القائمة باطلة وغير شرعية ومُفسدة في الأرض، وأن الحكومة التي ينبغي ترقّبها والاستعداد لها هي حكومة المعصوم، القائمة على أسس العدالة والقسط.
4- المنع من التحاكم للجبت والطاغوت، وتغذية المجتمع الإيماني بالفقه الفردي والاجتماعي والأخلاقي والاقتصادي والسياسي وغير ذلك، ممّا يُغني الشيعة عن الاحتياج لأروقة الحكّام والسلاطين.
5- ترسيخ عقيدة المهدي، التي تمثّل فكرة مقاطعة ومقارعة الطغاة، والسعي لإقامة حكم الله في الأرض.
لكننا أعرضنا عن البحث التفصيلي في جميع هذه المواقف والأدوار والسياسات المتنوعة، طلباً للاختصار وبما يُناسب طبيعة المقال.
أولاً: إنّ الأُمّة كانت مؤهلة للإصلاح والتغيير السياسي بقيادة المعصوم، حتى بعد الانحراف عن الحقّ الذي تورّطت به الأُمّة بعد وفاة النبي الأكرم صلی الله علیه و آله .
ثانياً: إن المنهج القويم والأصل في حركة المعصومين علیهم السلام هو القيام والنهوض لمقارعة الظالمين، والعمل على إسقاط الحكومات الباطلة والفاسدة، والتخطيط لإقامة حكم الله في الأرض، ولكن مع توفر الشرائط ومقوّمات الخروج، والتي من أهمّها وجود الأعوان والأنصار، المؤمنين بالفكرة، والمخلصين لها.
ثالثاً: لقد توفّرت كافّة الشرائط المطلوبة للنهوض في الفترة الزمنيّة لإمامة الحسين علیه السلام، فنهض للتغيير والإصلاح في الأُمة، ولكن الخذلان بعد ذلك هو الذي أدى إلى النتيجة المأساوية.
ص: 45
رابعاً: تُعدّ المهادنة للسلطات الفاسدة من الكبائر، ولا يُصار إليها إلا في حال الضرورة القصوى، وحينما تتقطّع كافة السُّبل للتغير والإصلاح.
خامساً: إن للأئمة علیهم السلام أدوارهم المختلفة بحسب اختلاف الوقائع والظروف المتلوّنة والمتغيّرة التي يعيشونها، ومنها نستلهم الشرعية والنهج الصحيح، وليس من الصائب تغليب دور على حساب الآخر، فلو ثبت أن الخروج لإسقاط السلطة الظالمة من مبادئ النهضة الحسينية، فليس لنا التشكيك في ذلك عطفاً على أدوار بعض الأئمة علیهم السلام في ظروف خاصّة مغايرة ومختلفة، عاشوها في فترة إمامتهم، فالأهداف الإلهية متنوّعة والأدوار مختلفة.
سادساً: إن هناك نهضة علوية ونهضة حسنية ونهضة حسينية، تعاقبت وتسلسلت في مسار واحد، واستهدفت استئصال الأنظمة الفاسدة، والانقلاب عليها، وإقامة حكم الله في الأرض، وكان الأئمة من وُلد الحسين علیهم السلام يسعون لذلك النحو من التغيير، ويأملون في تحقيقه لإصلاح الأُمّة، ولكن من دون جدوى، فاضطروا بشكل طارئ للقبول بالمهادنة، والجلوس عن حقّهم. هذا. ونسأل الله تعالى العفو والمعافاة في الدنيا والآخرة.
ص: 46
*مشروع دراسة الحركة الحسينية
*منطلقات النهضة الحسينية وخلفياتها
القسم الثاني (مشروع التوريث)
*عناصر الانتصار الحسيني
وتجلّياته في المجتمع الإسلامي
*مصرع الحسين علیه السلام
وقاعدة نفي السبيل على المؤمنين
ص: 47
ص: 48
آیةُ الله السَّیِّد مُنیر الخَبَاز
إنّ ما نطرحه من هذه البحوث ليس تحقيقاً لمفاصل الحركة الحسينية، ولا هو اختيارٌ لرأي من الآراء، وإنّما هو منهجيةٌ لكيفية دراسة حركة الإمام الحسين علیه السلام، ووضعٌ أو بيانٌ للأُسس العلمية التي ينبغي الدخول منها إلى دراسة الحركة الحسينية، فهذه الدراسة تشكل الهيكلية العامة لهذه الحركة المباركة.
إنّ مشروع دراسة الحركة الحسينية بأُسس علمية معرفية، وكذا تناولها في إطار البحث الموضوعي، يحتاج إلى البحث والتأمّل في جهات متعدّدة ومتنوعة، منها:
ص: 49
لا بدّ في بداية البحث من طرح هذا السؤال، وهو: هل نحن معنيون ومطالبون بتقديم تفسير للحركة الحسينية وشرح المبررات والأهداف لهذه الحركة أم لا؟ وهنا قد يُجاب بالنفي أو الإثبات:
قد يقال: إنّنا غير معنيين بذلك؛ بلحاظ أحد أُمور:
الأول: إنّ ما قام به الإمام الحسين علیه السلام يُعتبر امتثالاً لتكليف شخصي، والتكليف الشخصي لسنا معنيين بتفسير هويته أو مطالبين بامتثاله، وهذا كتكليف النبيّ صلی الله علیه و آله ببعض الأُمور الخاصة كوجوب صلاة الليل ونحوها؛ فيعتبر هذا التكليف من التكاليف الخاصة بذلك المعصوم، ولسنا مكلَّفين به أو مسؤولين عنه.
الثاني: لو تنزّلنا - عمّا سبق - وفرضنا أنّ ما قام به الإمام الحسين علیه السلام هو تطبيق لتكليف عام لا يختص به، مع ذلك فنحن غير مسؤولين عن ذلك التكليف؛ والسبب في ذلك هو أنّ تطبيقه لا يكون إلّا من خلال شروط موضوعية، وتعيين تلك الشروط والظروف المناسبة وتشخيصها بيد المعصوم علیه السلام، وهو أمرٌ خارج عن إطار قدرتنا وإمكاناتنا البشرية العاديّة القابلة للخطأ والصواب.
وبالتالي؛ فنحن لسنا معنيين بتفسير هوية الحركة أو شرح مبرراتها؛ إذ لا ثمرة في ذلك.
الثالث: إنّ الأئمّة المعصومين علیهم السلام لم يتصدوا لشرح حقيقة هذه الحركة، ولم يتصدوا لوضع المبررات لها، وإنّما اكتفوا بربط الأُمّة الإسلامية بحركة الإمام الحسين علیه السلام ربطاً غيبياً من خلال المراسم العزائية، أو ربطاً عاطفياً من خلال إثارة الضمائر المتفاعلة مع حركة الإمام الحسين علیه السلام. فإذا كان هذا هو موقف أهل البيت علیهم السلام من النهضة الحسينية، فموقف غيرهم لا بدّ أن يتطابق معهم؛ لأنّهم أهل العصمة والطهارة.
ص: 50
ولكن قد يقال في مقابل وجوه النفي المتقدّمة: بأنّ هناك وظيفة ومسؤولية على عواتقنا وهي ضرورة شرح حركة الإمام الحسين علیه السلام المباركة؛ وذلك لوجوه ثلاثة تصلح للرد على ما تقدم من وجوه النفي:
الوجه الأوّل: إنّ حركة الإمام الحسين علیه السلام كانت تطبيقاً لتكليف عام توافرت فيه كافّة الشروط، وحيثما توافرت الشروط تعيَّن التكليف، وأمّا تشخيص الظروف المناسبة لتطبيق مثل هذا التكليف في كل زمان فهو بيد الأُمّة من خلال طرق الإحراز التعبّدي؛ إذ ليس المطلوب من المكلَّف أن يصل إلى تشخيص موضوع التكليف وقيوده تشخيصاً حقيقياً يقينياً، وإنّما هو مُطالَب بالطرق التعبّدية بإحراز موضوع التكليف وقيوده، وهذا أمرٌ ممكن، بل لازم على المكلَّف في كل زمان، سواء أكان فرداً أم مجتمعاً. وبذلك يتبيَّن ضرورة دراسة وتحليل النهضة الحسينية بشكل مفصَّل وواضح.
الوجه الثاني: إنّ شرح حقيقة هذه الحركة هو مصداق من مصاديق التعرّف على مقامات الإمام المعصوم علیه السلام، فإنّ من مقامات الإمام المعصوم وصوله إلى مرتبة الشهادة، ومن مقاماته علیه السلام قيامه بحركة تُعدّ مظهراً لمشيئة الله ومظهراً للهداية الإلهية التي أُنيطت بهداية المعصوم علیه السلام؛ فالتعرّف على هذه الحركة هو مصداق وصغرى من صغريات معرفة مقاماتهم العظيمة.
ومن الواضح، فنحن مكلَّفون بمعرفة مقاماتهم ومراتبهم الوجودية الإلهية.
كما أنّ التعرّف على مقاماتهم يُعتبر من صغريات إحياء أمرهم، ولا يتوقف إحياء الأمر على إقامة المراسم العزائية فحسب، وإنّما من أوضح مصاديقه هو شرح مقاماتهم وتفسير مسيرتهم وبيان الأسرار الخفية والأهداف الإلهية في هذه المسيرة العظيمة. ومن الواضح فنحن مأمورون بإحياء أمرهم علیهم السلام.
الوجه الثالث: إنّ التعرّف على حركة الإمام الحسين علیه السلام هو تعرّفٌ على السنن التاريخية والسنن الإلهية في مسيرة تاريخ المعصومين بصفة عامة، فكما أنّ لحركة التاريخ
ص: 51
سنناً اجتماعية تحكمها في كل جيل وفي كل فترة من الفترات، فإنّ هناك - أيضاً - سنناً إلهية متكررة تحكم تاريخ الرسالة السماوية وتاريخ مسيرة الدين نفسه، فإنّه يستفاد من الآيات المباركة: «إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ *ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34)»(1)، «وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ»(2)، وقوله عن لسان إبراهيم علیه السلام:«رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ»(3): إنّ العلم والعصمة والنبوّة هي في أُسرة واحدة وسلالة واحدة، انحدرت من الأجداد إلى الآباء إلى الأبناء، وإنّ جعل هذا العلم في هذه الأُسرة وفي هذه السلالة هو عامل من عوامل نشأة الحجية لكل معصوم من هؤلاء المعصومين بلحاظ أنّه انحدار من هذه الأصلاب الطاهرة، بعضها من بعض، وهو عامل في تخلق النطفة منذ تكونها في هذا الإطار القدسي المعطر بالعلم والعصمة والكتاب، فالانحدار من عصمة واحدة عاملٌ من عوامل تخلق النطفة وهي مقترنة بالحجية والإمامة على الخلق، وهذا هو معنى أنّ فيهم ميراث النبوّة والإمامة، وهو معنى ما ورد في الزيارة الشريفة للإمام الحسين علیه السلام: «السلام عليك يا وارث آدم صفوة الله... »(4)، فإنّه ليس المقصود هو الإرث الحسّي وهو تناقل الكتب السماوية من يد إلى يد أُخرى، بل إنّ هذا النوع من الإرث ما هو إلّا مظهر من مظاهر الإرث الحقيقي؛ بمعنى أنّ هذا السنخ من المعلومات والقداسة والعصمة حمله صلب واحد وعرق واحد ممتد في هذا النور الذي تَقلَّب في الأصلاب والأرحام: «أشهدُ أنّك كنتَ نوراً في الأصلاب الشامخة والأرحام المطهَّرة، لم تنجّسك الجاهلية بأنجاسها، ولم تُلبسك من مُدلهمّات ثيابها»(5). فقراءة ثورة الحسين علیه السلام وتفسير ماهية
ص: 52
تلك الحركة المباركة - من أجل التعرّف على السنن الإلهية في حركة تاريخ الرسالة - من الأُمور المهمّة جدّاً، والتي لا بدّ من دراستها والتنقيب عنها بشكل مفصّل وواضح.
فإنّنا عندما نسأل - مثلاً -: ما هي العلاقة بين أن يُقيم إبراهيم علیه السلام الكعبة وأن يكون بزوغ نبوّة النبيّ صلی الله علیه و آله من الكعبة، وأن يكون ظهور المهدي المنتظر عجل الله تعالی فرجه الشریف من الكعبة؟
وما هي العلاقة بين تقديم إسماعيل علیه السلام للذبح قرباناً إلى الله، وتقديم الحسين علیه السلام قرباناً إلى الله تبارك وتعالى وفداءً للدين؟
وما هي العلاقة بين زواج الإمام علي علیه السلام من امرأة عراقية (فاطمة أُمّ البنين) وبين خروج الإمام علي علیه السلام إلى العراق والانتقال بالعاصمة الإسلامية إلى هناك؟ وما هي العلاقة بين خروج الإمام علي علیه السلام إلى العراق، واختيار الإمام الحسين علیه السلام العراق مهداً لحركته، واختيار المهدي المنتظر عجل الله تعالی فرجه الشریف العراق عاصمة لدولته دولة العدل والقسط؟ وما هي العلاقة بين زواج الحسين علیه السلام من امرأة فارسية لتكون أُمّاً لزين العابدين علیه السلام، وبين كون بلاد فارس قاعدة للتشيع وخروج الخراساني الذي هو من أنصار الإمام المهدي من هذه القاعدة؟ وما هي العلاقة بين كون أُمّ الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف جارية رومية وكون المسيح عيسى بن مريم علیه السلام ركناً من أركان دولة المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف؟
فإنّ هذه الأحداث ليست أُموراً وقعت صدفة من دون أن تكون بينها روابط، بل إنّ هذه الأحداث تكشف لنا عن سنن إلهية كانت بمثابة وضع روابط مفاصل حركة الدين وحركة الرسالة منذ نوح علیه السلام - الذي أرسى سفينته في الكوفة - إلى ظهور المهدي المنتظر عجل الله تعالی فرجه الشریف وقيام دولته المباركة في الكوفة. فالتعرّف على حركة الحسين علیه السلام وتفسير ماهيّتها وشرح مبرّراتها لربطها بهذه المسيرة (مسيرة الرسالة) منذ اليوم الأول لها إلى آخر يوم على وجه البسيطة(1)، فالمبرّر لدراسة حركة الإمام علیه السلام وكوننا معنيين بالدراسة هو الوصول إلى كل تلك المعارف المهمة على مرّ تاريخ الرسالة الإلهية، وهو الغاية
ص: 53
القصوى من الدين.
وفي هذه الجهة هناك مجموعة من الأسئلة المهمة، أولاً: هل ما قام به الإمام الحسين علیه السلام امتثال لتكليف شخصي يخصّه، كما قد يستشعره البعض من قوله علیه السلام: «إنّ رسول الله صلی الله علیه و آله قد أمرني بأمرٍ وأنا ماضٍ فيه»(1)، أم أنّه علیه السلام كان في إطار تطبيق تكليف عام، لا امتثال لتكليف شخصي؟
ثم لو كان التكليف عاماً، نسأل ثانياً: هل ذلك التكليف العام تكليف فردي أم تكليف اجتماعي؟ أي: هل المخاطب بذلك التكليف كل فرد فرد، أو أنّ المخاطب بذلك التكليف الأُمّة والمجتمع بأسره؟
فإن اخترنا أنّ ما قام به الإمام الحسين علیه السلام هو تطبيقٌ لتكليف فردي، فنسأل ثالثاً: ما هو ذلك التكليف الفردي؟ هل هو الدفاع عن النفس(2)؟ أم أنّ ذلك التكليف الفردي هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حيث إنّ من موارد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: أنّه إذا توقّف تأثير النهي عن المنكر على إتلاف النفس - أحياناً - أو المال أو الجاه والمنصب، فإنّ النهي عن المنكر يُقدّم على تلك الأضرار وإن كانت جسيمة؛ وذلك لكون المنكر جسيماً جداً، وهذا ما يستشعره بعضهم من خلال قول الإمام الحسين علیه السلام: «وإنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً، ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في أُمّة جدّي صلی الله علیه و آله ، أُريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر»(3)؟
وإذا اخترنا أنّ حركة الإمام الحسين علیه السلام هي تطبيقُ تكليفٍ يخصّ الأُمّة والمجتمع الإسلامي، وليس المخاطب به فرداً من الأفراد؛ لذلك فقد أراد الإمام الحسين علیه السلام
ص: 54
بحركته تشريع هذا الأمر الذي تُخاطَب به الأُمّة، وتطبيقه في الوقت نفسه؛ من هنا تظهر لنا عدّة احتمالات:
الأول: هل ذلك الأمر الذي خوطبت به الأُمّة الإسلامية - آنذاك - هو الأمر بحفظ مقام الإمامة عن الإذلال، والذي قد يُستفاد من قوله: «إنّا أهل بيت النبوّة، ومعدن الرسالة، ومختلف الملائكة، بِنا فتح الله وبنا ختم الله، ويزيد رجلٌ فاسق، شارب الخمر، قاتل النفس المحرمة، معلنٌ بالفسق، ومثلي لا يبايع مثله»(1)، وقال: «ألا وإنّ الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين، بين السلة والذلة، وهيهات منّا الذلّة، يأبى الله ذلك لنا ورسوله والمؤمنون»(2). فالأُمّة مخاطبة بصيانة هذا المنصب من أن يكون معرَّضاً للإذلال، وقبول بيعة يزيد بن معاوية تعريضٌ لهذا المنصب للإذلال؟
الثاني: أو يقال: إنّ المسألة لا ترتبط بمنصب الإمامة بما هو منصب الإمامة، بل إنّ منصب الإمامة هنا ملحوظ على نحو الطريقية للدين نفسه وليس ملحوظاً على نحو الموضوعية؛ فيكون الخطاب للأُمة في هذا الأمر متوجِّهاً لإعزاز الدين، فإذا ما بايع الإمام الحسين علیه السلام يزيدَ بن معاوية وأمثاله تحقّق معنى الإذلال للدين نفسه، ومن الواضح أنّ الأُمّة مطالبة بإعزاز الدين نفسه؛ إذ العزّة لله ولرسوله، كما قال تعالى:«وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ»(3)، وهذا هو المقصود من قوله علیه السلام: «يأبى الله ذلك لنا ورسوله والمؤمنون...».
الثالث: أو يقال: إنّ التكليف الذي خوطبت به الأُمّة هو تسليم مقام الخلافة إلى أهله، فليس المطلوب مجرد صيانة المنصب عن الإذلال، أو مجرد أن يكون الدين عزيزاً، بل لا بدّ من تسليم هذا المقام إلى أهله، وهذا كما يُعتبر تكليفاً للأُمّة فهو حق من حقوقها أيضاً؛ لأنّ من حقوق الأُمّة نفسها أن تكون تحت قيادة معصومة تمثل الإرادة السماوية
ص: 55
تشريعاً وتطبيقاً. وبالتالي؛ فلا بدّ للأُمّة أن تقوم بمسؤوليتها في سبيل إرجاع هذا المنصب إلى أهله، وفي سبيل المطالبة بحقها في القيادة المعصومة.
الرابع: أو أن يقال: إنّ الأمر الذي خوطبت به الأُمّة هو إقامة العدالة، كما في قوله:«لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ »(1)، فهي مطالبة بذلك سواء تمكّنت الأُمّة من إرجاع الأمر إلى أهله أم لم تتمكن من ذلك؛ لأنّ المطلوب الأصلي هو إقامة العدالة على الأرض، وإن كانت العدالة التامة لا تتحقق إلّا بقيادة المعصوم وكون الأمر بيده تشريعاً وتطبيقاً، إلّا أنّ هناك مرتبة أُخرى من العدالة يمكن للأُمّة تحقيقها.
فحينئذ - وبعد هذه الاحتمالات - لا بدّ من دراسة أنّ هذا التكليف الجماعي أو التكليف العام الذي خوطبت به الأُمّة الإسلامية، والذي أراد الحسين علیه السلام بحركته تشريعه وتطبيقه مع أيٍّ من هذه الاحتمالات السابقة ينسجم ويتطابق؟
وهنا تنشأ أسئلة أُخرى، بأن يقال: على فرض أنّ ما قام الإمام الحسين علیه السلام بتطبيقه هو التكليف بإرجاع مقام الخلافة إلى أهله، أو التكليف بإقامة العدالة على الأرض، فهل كان المخطط الحسيني هو أن يتمّ هذا الهدف - وهو إقامة العدالة أو دولة العدالة أو الدولة المعصومة - على يده، أم أراد أن يكون هو المفتاح لهذا المشروع ولهذا الخط؟ فكما أنّ النبيّ صلی الله علیه و آله والإمام أمير المؤمنين علیه السلام كانت مهمتهما التأسيس للدولة الإسلامية؛ إذ أتمّ الإمام علي علیه السلام في عصره التشريعات المتعلّقة بالدولة الإسلامية من حيث السلطة القضائية والتنفيذية ووضع القوانين الاجتماعية والاقتصادية للدولة الإسلامية - كما يظهر من عهده لمالك الأشتر رضي الله تعالى عنه - وأصبح الدور الآخر على عاتق الإمام الحسين علیه السلام ومن بعده الأئمّة علیهم السلام، وهذا الدور هو الشروع في حركة تطبيق تلك التشريعات والقوانين على أرض الدولة الإسلامية، فالحسين علیه السلام أراد أن يكون هو المفتاح للشروع بهذا الدور، لا أن يتمّ هذا الأمر على يده في عصره وفي زمانه، بل هو
ص: 56
المفتاح لجميع ما حصل من ثورات وحركات منذ يومه علیه السلام إلى ظهور الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف، فجميع ذلك مراحل لنفس حركة الإمام الحسين علیه السلام، وإنّ دولة المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف ما هي إلّا امتداد لهذا المشروع الحسيني العظيم ومرحلة من مراحله.
وبالتالي؛ فلا مانع من أن يكون دور الحسين علیه السلام هو وضع الإطار العام لهذه الحركة العظيمة، وأن تكون شهادته علیه السلام بذرة لبداية وانطلاقة هذا المشروع إلى ظهور المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف، وليس ذلك تحجيماً لدور الحسين علیه السلام ومقامه؛ فإنّ حركة كل إمام معصوم هي بحجم الظروف الموضوعية التي عاش فيها، فعندما يقال: إنّ الدور الحسني كان دور الصلح وحقن الدماء والتمهيد لثورة الحسين علیه السلام، فإنّ هذا ليس تحجيماً لدور الحسن علیه السلام؛ وإنّما دوره ومسؤوليته في زمانه بحجم الظروف الموضوعية التي عاش فيها، وكذلك دور الصادِقَين علیهما السلام، ودور الكاظم علیه السلام، ودور الرضا علیه السلام، ودور الإمامين العسكريين علیهما السلام الذي اقتصر على إجابة المسائل والاستفتاءات وصرف الحقوق من خلال وكلائهم؛ فإنّ الظروف هي التي جعلت الدور بهذا الإطار، وليس ذلك تحجيماً لدورهم علیهم السلام.
فكل تلك الأسئلة بحاجة إلى دراسة فقهية من أجل معرفة أنّ ما قام به الإمام الحسين علیه السلام هل هو تطبيق لتكليف خاص أو لتكليف عام، وما هي حقيقة ذلك التكليف؟
يُبحث في هذه الجهة عن قسمين:
وهذا البحث من قبيل ما يقال: ما هي ماهية وحقيقة حركة الرسول صلی الله علیه و آله ؟ فيُجاب: إنّ ماهيتها وحقيقتها الدعوة والبيان. ومن قبيل ما يقال: ما هي حقيقة حركة الإمام المهدي المنتظر عجل الله تعالی فرجه الشریف؟ فيُجاب: إنّ حقيقتها إقامة دولة العدل والقسط. وهنا نسأل أيضاً: ما هي حقيقة حركة الإمام الحسين علیه السلام؟
ص: 57
وللجواب عن هذا السؤال لا بدّ من الرجوع إلى كلمات وشعارات صاحب الحركة (الإمام الحسين علیه السلام)؛ لكي تتّضح وتتحدّد الإجابة المناسبة والصحيحة.
عندما نقرأ تصريحات الإمام الحسين علیه السلام - من أول انطلاقة الحركة والثورة وحتى يوم شهادته - نجد أنّها تُشير إلى عدة حقائق:
أولاً: رفض البيعة: فإنّ هناك تصريحاً للإمام علیه السلام يظهر منه أنّ واقع الثورة هو رفض البيعة؛ لأنّ في البيعة إذلالاً حينما قال علیه السلام: «ومثلي لا يبايع مثله».
ثانياً: امتثال الأمر الإلهي: هناك تصريحٌ آخر يظهر منه أنّ المطلوب امتثال الأمر الإلهي، وذلك في قوله علیه السلام: «أتاني رسول الله صلی الله علیه و آله ... فقال: يا حسين، اخرج؛ فإنّ الله قد شاء أن يراك قتيلاً، فقال له ابن الحنفية:... فما معنى حملك هؤلاء النساء معك وأنت تخرج على مثل هذه الحال؟ فقال له: قد قال لي: إنّ الله قد شاء أن يراهنّ سبايا»(1).
ثالثاً: الإصلاح: وهنا يظهر منه علیه السلام أنّه في إطار إنشاء مشروع إصلاحي، وهو ما ذكره علیه السلام لأخيه محمد بن الحنفية في وصيته له: «وإنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً، ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في أُمّة جدّي صلی الله علیه و آله ...»، بناءً على أنّ المراد بالخروج هو خروجه علیه السلام على الدولة الظالمة آنذاك، وليس الخروج من مكة إلى العراق.
رابعاً: مواجهة الظلم: وفي موقع رابع صرّح علیه السلام وهو في طريقه إلى العراق بأنّ الظلم لا بدّ من مواجهته: «ألَا ترون الحق لا يُعمَل به، والباطل لا يُتناهى عنه؛ ليرغب المؤمن في لقاء الله، وإنّي لا أرى الموت إلّا سعادة، والحياة مع الظالمين إلّا برماً»(2).
خامساً: الزحف المقدّس: المعنى الآخر الذي صرح علیه السلام به هو الزحف على كل حال؛ لأنّه لا خيار غير هذا العمل: «ألَا وإنّي زاحف بهذه الأُسرة على قلّة العدد، وكثرة العدو، وخذلة الناصر»(3).
ص: 58
إذن، فهناك مجموعة من التصريحات والكلمات - المختلفة ظاهراً - قد صدرت من الإمام الحسين علیه السلام؛ من هنا لا بدّ من طرح هذا السؤال: هل هذه الموارد هي عبارة عن عوامل متعددة أم لا؟ فهنا عدّة آراء:
الرأي الأول: إنّ هذه الموارد والتصريحات هي عبارة عن عوامل متعدّدة وعلل ومبرّرات متنوعة في حركة واحدة.
الرأي الثاني: إنّه لا بدّ من إرجاع هذه المبرّرات كلها إلى هدف واحد، كما حاول الشهيد المطهري في كتابه الملحمة الحسينية من إرجاعها إلى حركة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الرأي الثالث: هناك نظرة أُخرى لهذه التصريحات، وهي أن يقال: بأنّها تعبير عن مراحل مرّت بها الحركة الحسينية؛ أي: إنّ كل تصريح يتحدّث عن دور ومرحلة من المراحل تكون كل مرحلة تمهيداً لبروز مرحلة أُخرى.
وعليه؛ فهنا مراحل:
المرحلة الأُولى: مرحلة المدينة، وكانت مرحلة رفض البيعة - سواء أكان الإمام الحسين علیه السلام مختاراً في هذا الرفض أم مضطراً إليه، فهذا شيء آخر - ومن الطبيعي أن تكون لهذه المرحلة كلماتها الخاصة بها.
المرحلة الثانية: وهي مرحلة الخروج من مكة، وكانت مرحلة إظهار أنّه في مقام امتثال أمر إلهي، وكان لا بدّ لهذا الخروج من تفسير أمام صحابة النبيّ صلی الله علیه و آله والتابعين ومَن كان في حالة استغراب من خروج الحسين علیه السلام يوم التروية والناس قادمة إلى الحج في مكة.
المرحلة الثالثة: مرحلة تحديد الزمان والمكان، فأمّا المكان، فقد اختار علیه السلام العراق لانطلاق الثورة، وهو ما ذكره علیه السلام: «ألم تكتبوا لي أن أقبل إلينا لقد أينعت الثمار واخضر
ص: 59
الجناب، وإنّما تقبل على جند لك مجنّدة»(1)، فهذا النص يعبِّر عن هذه المرحلة في الحركة الحسينية، وليس هو تعبيراً عن أصل الحركة نفسها، بل هو تعبير عن تحديد الموقع والمكان.
كما يظهر منه علیه السلام أنّه أخَّر المعركة إلى يوم عاشوراء باختياره وإرادته؛ لأنّها كادت أن تتم في يوم التاسع من المحرم، إلّا أنّه علیه السلام اختار الزمان المناسب كما اختار المكان المناسب. فكل هذه التصريحات التي ترتبط بإرسال مسلم بن عقيل إلى الكوفة، والسؤال عن حركة مسلم بن عقيل ومصيرها، ومعاتبة الحرّ بن يزيد الرياحي ومَن معه بأنّهم كتبوا إليه، وقد أخرج لهم خرجين من الكتب والرسائل، كل ذلك لا يرتبط بأصل الحركة وماهيّتها، بل هو مرتبط بتحديد المكان والزمان.
المرحلة الرابعة: وهي مرحلة يوم عاشوراء (يوم الاستشهاد)، والتصريحات التي برزت منه علیه السلام يوم عاشوراء هي التي تُعبِّر عن المرحلة الأخيرة من مراحل هذه الحركة المباركة.
إذاً؛ فكل تصريح وكل مقطع من كلام الإمام الحسين علیه السلام يُعبِّر عن مرحلة معيّنة تكون ممهِّدة للمرحلة التي بعدها، لا أنّ كل هذه التصريحات تُعبِّر عن ماهية الحركة نفسها، ولا أنّها علل وأسباب متعددة لحركة واحدة.
فهذه جهة من الجهات المهمة التي لا بدّ من بحثها في تفسير ماهية الحركة الحسينية.
البحث في أنّ هذه الحركة هل كانت حركة مادية طبيعية، أي: هل كانت في إطار العوامل الطبيعية المتاحة آنذاك، أو لا؟ فهنا احتمالان:
الأول: إنّ الإمام الحسين علیه السلام أراد أن يحقّق هدفه من إقامة العدالة من خلال العوامل التي أُتيحت له، وهي - على سبيل المثال - التحرّك بمئة شخص أو يزيدون أو ينقصون، وبأن يكون له علیه السلام صوت - مثلاً - في الحجاز، وصوت في الكوفة، وصوت في البصرة،
ص: 60
وصوت في اليمن، وهذا يُعتبر الدور الأول للحركة، ثم ينتهي هذا الدور في مقطع تاريخي معيَّن، ليأتي دور آخر من قِبَل الإمام السجاد علیه السلام أو العقيلة زينب صلی الله علیه و آله ؛ ليكون إعلاماً لهذه الحركة، بحيث لولاه لانقضت هذه الحركة واندثرت، ثُمّ يأتي الدور الثالث، وهو دور الأئمّة المعصومين علیهم السلام في الإصرار على إقامة المجالس وإحياء الأمر لهذه الحركة المباركة، كما ورد عنهم علیهم السلام: «مَن جلس مجلساً يُحيَى به أمرنا لم يمت قلبه يوم تموت القلوب»(1).
الثاني: إنّ الحركة الحسينية لم تكن مؤطَّرة بالأُطر المادية الطبيعية؛ وذلك من خلال قراءة ما صدر عن النبيّ صلی الله علیه و آله والزهراء صلی الله علیه و آله من أنباء عن مصير هذه الحركة، وأنّه ينصب له علم في الطف، وينصب له علم لا يزيده مرور الأيام وكرور الدهور إلّا علواً، خصوصاً بملاحظة أنّ الظروف الطبيعية لم تكن متأتّية لحجم هذا الهدف الذي صرَّح به الحسين علیه السلام من خلال بياناته ورسائله، فلو كان الأمر خاضعاً للعوامل الطبيعية فقط لما كان وجه لتلك التصريحات المتكررة من قبل الإمام علیه السلام، كيف وهي صدرت من سياسي حكيم يختار دوراً بحجم الظروف وبحجم الإمكانات التي بين يديه؟! وأيضاً عندما نضمّ إلى هذه التنبيهات والمؤشرات ما حدث من إعداد بني أسد في الأيام الأُولى لمقتله علیه السلام من القيام بدور معيَّن، وما حدث للسبايا في طريقهم إلى الكوفة وإلى الشام من معاجز وكرامات إلى آخر هذه الأُمور، فجميعها يُظهِر أنّ هذه الحركة - سواء أكانت حركة إقامة العدالة أم كانت حركة إعزازٍ للدين - لم تكن متأطرة بالعوامل الطبيعية، ولم تكن متقوقعة في هذه الأسباب المادية المحدودة، بل كان للعوامل الغيبية دورٌ في هذه الحركة، ومن هذه العوامل دم الحسين علیه السلام وصبره وعطشه؛ فإنّ هذه الأُمور ربما يُنظَر إليها بمنظار مادي، ويُتعامل معها بالحسابات الطبيعية، فتبدو أُموراً طبيعية في ساحة المعركة، فإنّ مَن يُحاصَر في أرض ويُمنَع عنه الماء فإنّه يموت عطشاً، ومَن يقاتل فإنّه يُراق دمه، ومَن تكون الفئة المحاربة له فئة حاقدة فإنّه من الطبيعي أن تقوم بمجزرة تشمل حتّى ذبح الأطفال والتمثيل بالأجساد وسبي النساء، ولكنّ الأمر ليس كذلك؛ لأنّ هذه الأُمور لا يُنظَر إليها بهذا المنظار الضيّق، وإنّما كل هذه
ص: 61
الأُمور هي جزء من الحركة نفسها، فالحركة لم تعتمد على فعل مادي جسدي تمثل في جسم الحسين علیه السلام وهو خارج من المدينة إلى مكة، ثُمّ من مكة إلى كربلاء، ثُمّ قيامه بحركة قتالية معيَّنة، إنّما انضمّت إليها عوامل هي كانت دخيلة - بالمنظور الملكوتي - في تحقيق أهداف الحسين علیه السلام، من دمه وصبره ومحنته وذبح أطفاله وسبي نسائه، بحيث يكون مجموع هذه العوامل الغيبية أقطاباً وأوتاداً اعتمدت عليها الحركة الحسينية، ويكون ذلك تفسيراً لمشيئة الله تعالى بأن يرى الحسين علیه السلام قتيلاً، وأن يرى النساء سبايا.
وبالتالي؛ إذا قُرئت الحركة من هذا المنظار تبيَّن أنّ ما ورد في كثير من فقرات الزيارات الشريفة عن الصادق علیه السلام والأئمّة علیهم السلام من بعده في الحسين علیه السلام من التركيز على نقاط معيَّنة في هذه الحركة: من أنّه صريع الدمعة الساكبة، وصاحب المصيبة الراتبة، وبطل الإسلام، والمضحّي بنفسه في سبيل الله، أو عندما يُخاطب العباس علیه السلام بالصابر المجاهد المحامي الناصر... «أَشهدُ وأُشهِدُ اللهَ أنّك مضيتَ على ما مضى عليه البدريون والمجاهدون في سبيل الله»(1).
فإنّه بذلك يتبيَّن لنا الجواب عن السؤال الذي طرحناه في الجهة الأُولى (هل نحن معنيّون بدراسة الحركة الحسينية أم لا)؟ والجواب: إنّنا معنيّون بدراسة حركة الحسين علیه السلام؛ لأنّنا معنيون بفهم هذه الزيارات الشريفة التي وردت في حركة الحسين علیه السلام، فهي كانت شرحاً لماهية هذه الحركة وتفسيراً لحقيقة هذه الحركة. ومن جهة أُخرى، نفهم من مجموعة هذه الزيارات أنّ الحركة لم تعتمد على العوامل الطبيعية وحدها، وإنّما اعتمدت على مجموعة من العوامل الغيبية التي كانت أوتاداً وأعمدة لتحقيق أهداف هذه الحركة وثمراتها.
قد يقال: بأنّ تفسير الحركة الحسينية بتفسير غيبي وإخضاعها للعوامل الغيبية يخرجها عن الإطار الإنساني، وبالتالي؛ فلا قابلية ولا صلاحية لها أن تقدم بوصفها مثلاً إنسانياً أعلى
ص: 62
للحركة الهادفة التي تصل إلى غاياتها ضمن الطرق والسبل الإنسانية والطاقة البشرية.
جواب الإشكال:
يمكن الجواب عن الإشكال المتقدم بأنّ العامل الغيبي على نحوين:
النحو الأوّل: أن يكون العامل نفسه أمراً غيبياً، وهذا نظير تدخّل الملائكة في معركة بدر، كما جاء في قوله تعالى: «وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى»(1)، فهذا العامل في حد نفسه أمرٌ غيبيٌ، ولا ننكر دخله في سلوك المؤمن، فضلاً عن حركة الأنبياء والأوصياء والمصلحين بمقتضى قوله:«أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ»(2). ولكنّنا لا نربط الحركة الحسينية بمثل هذا العامل، وإن كان دخيلاً فيها.
النحو الثاني: أن يكون العامل ذا تأثير ملكوتي إلّا أنّه في حد نفسه عاملٌ بشريٌ إنساني، نظير ما تطرحه مدرسة علم النفس الاستبطاني من أنّ إرادة الإنسان لها دخل في صناعة إنجازاته، والتلقين النفسي من الإنسان لنفسه في كل مرحلة من مراحل خوضه للحياة عامل دخيل في نجاحه ووصوله إلى المعجزات في إنجازاته وأفعاله.
فالمطروح في هذا التفسير هو أنّ هناك مجموعة من العوامل البشرية والإنسانية لها تأثير ملكوتي في إنجاح الإنجاز البشري، فالحسين علیه السلام من أجل الوصول إلى غايته وهدفه من حركته - وهو أن تكون تلك الحركة هي المفتاح أو البذرة أو المنطلق لجميع الحركات والثورات التي تصبّ في تحقيق العدالة والقسط على الأرض - قد استخدم الأدوات البشرية التي لها تأثير ملكوتي في صناعة الإنجاز، نظير الدم الذي يُعبِّر عنه - وهو يجري من طفله أو من قلبه -: «هوَّن عليَّ ما نزل بي أنّه بعين الله»(3)، ونظير العطش الذي عبَّر عنه
ص: 63
بخطابه لولده على الأكبر: «فما أسرع ما تلقى جدَّك محمداً صلی الله علیه و آله فيسقيك بكأسه الأوفى شربةً لا تظمأ بعدها أبداً»(1)، ونظير قوة الإرادة التي عبَّر عنها بقوله: «لا والله، لا أُعطيهم بيدي إعطاء الذليل، ولا أُقرّ إقرار العبيد»(2)، ونظير عدم الانحناء الذي عبَّر عنه بقوله:
«أنا الحسين بن علي***أحمي عي-الات أب-ي
آلي-ت أن لا أن-ث-ني ***أمضي على دين النبي»(3).
ونظير لفظ الذلّ الذي عبَّر عنه بقوله: «هيهات منّا الذلة، يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون». فعندما يرد علينا التساؤل: كيف استطاع الحسين علیه السلام بهذا الحجم الصغير من العُدّة والعتاد والأنصار، وفي هذا المدى الزمني القصير الذي خاض فيه المعركة، وفي هذه الوسائل الإعلامية الضئيلة التي توفّرت آنذاك، أن يتجاوز الحدود المادية المعبَّر عنها بالزمكان، وأن يفرض حركته على الزمن، وعلى جميع الأُطُر والإمكانات البشرية؟
فالجواب عن هذا السؤال هو: أنّ الإمام علیه السلام إنّما تخطّى كل هذه القيود، وتجاوز كل هذه الحدود بالأدوات التي هي في ظاهرها أدوات بشرية إنسانية، ولكنّها في واقعها ذات تأثير ملكوتي غيبي في صناعة الحدث وتجاوزه مدى الزمان والمكان، وهذه إحدى المعاني المشار إليها من المشيئة الإلهية برؤيته علیه السلام قتيلاً ورؤية النساء سبايا.
هذا كلّه فيما يتعلّق بهذه الجهة الثالثة، وهي جهة حقيقة وماهية الحركة الحسينية.
دراسة الحركة الحسينية من وجهة نظر عقائدية في غاية الأهمية؛ إذ لا يمكن فصل دراسة حركة حَمَلَة رسالة السماء - من الأنبياء والأوصياء - عن الجانب الاعتقادي،
ص: 64
وهذا نظير ما تقدم في الجهة السابقة من عدم إمكان فصل حركة المصلحين عن العوامل الغيبية؛ لأنّ منطلقهم من الغيب إلى الغيب، كذلك لا يمكن فصل حركتهم عن الإطار الاعتقادي؛ لأنّهم هم حملته وروّاده.
وبالتالي؛ فلا بدّ من تمهيد البحث في الجهة العقائدية؛ لربطها بثورة الإمام الحسين علیه السلام. فنقول: قد تقرّر من الأحاديث الشريفة أنّ المعصوم علیه السلام هو مظهر لمشيئة الله تعالى، بل هو مشيئة الله تبارك وتعالى بمقتضى ما ورد: «رضا الله رضانا أهل البيت»(1)، وما ورد عن أمير المؤمنين علیه السلام «فإنّا صنائع ربّنا والناس بعد صنائع لنا»(2)، وقوله علیه السلام: «...ونحن إذا شئنا شاء الله، وإذا كرهنا كره الله...»(3)، وبمقتضى ما ورد في زيارة الجامعة: «والمستقرّين في أمر الله»(4)؛ حيث إنّ هناك عالَ-مَين: عالم الخلق وعالم الأمر، وقد أُشير إليهما بقوله:«أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ »(5) وإنّ عالم الخلق انعكاس لعالم الأمر، فالاستقرار في عالم الأمر يعني أنّ القرار في عالم الخلق بيد مَن له الاستقرار في عالم الأمر، وقد أشارت الزيارة الجامعة في عدة فقرات منها إلى التزاوج الوثيق بين هذين العالَمين، وأنّ مَن له الاستقرار في عالم الأمر فله القرار في عالم الخلق: «بكم فتح الله، وبكم يختم، وبكم ينزل الغيث»(6)، وما يُشير بوضوح إلى هذا التزاوج الوثيق بين عالم الخلق وعالم الأمر هو قوله علیه السلام: «وأسماؤكم في الأسماء، وأجسادكم في الأجساد، وأرواحكم في الأرواح، وأنفسكم في النفوس»(7)، فلا يكاد يتفاعل قرار في عالم الخلق إلّا وله منطلق من عالم الأمر.
ص: 65
فمن هذا المنطلق: وهو أنّ حركة المعصوم هي تجسيد لمشيئة الله (المشيئة التشريعية والتكوينية)، ومشيئته تبارك وتعالى واحدةٌ، إنّما الفرق في المتعلَّق، فتارة يكون متعلّقها تشريعاً وأُخرى تكويناً. وقد أشار الإمام الحسين علیه السلام - كما ذكرنا سابقاً - إلى ائتلاف الجانبين التشريعي والتكويني في حركته في مفاد قوله: شاء الله أن يراني قتيلاً وأن يرى النساء سبايا.
ففي هذه الجهة كيف يتم الربط والتوفيق بين كونهم مظهراً لمشيئة الله، وكون جريهم على طبق قوانين عالم المادة الذي يقتضي التغيّر والتجدّد، وبحسب التعبير القرآني يقتضي المحو والإثبات، كما في قوله:«يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ »(1)، فلأجل ذلك لا بدّ من عرض عدّة مفردات مهمّة لها دخل في بيان الربط:
المفردة الأُولى: في بيان المشيئة، فقد ورد في بعض الأخبار الصحاح: «خلق الله المشيئة بنفسها، ثم خلق الأشياء بالمشيئة»(2)، وفيه عدّة تفسيرات:
منها: إنّ سائر الكون المعبّر عنه بالوجود الانبساطي الإطلاقي راجع للمشيئة، حيث إنّ سائر الموجودات الإمكانية مرجعها إلى المشيئة، والمشيئة هي عبارة عن الوجود الانبساطي الإطلاقي.
ومنها: إنّ له تعالى مشيئة ذاتية كما أنّ له مشيئة فعلية بلحاظ أنّ ذاته التي هي الحياة والعلم والقدرة هي اقتضاء للفيض، وبلحاظ مبدئية ذاته للفيض يكون لجميع صفات الفعل وألوان الفعل جذر ذاتي، بحيث يكون مرجع صفات الفعل إلى صفة من صفات الذات.
ومنها: إنّ المقصود بمثل هذا الحديث هو أنّ الله تبارك وتعالى برأ المخلوقات بمشيئته، وأنّ مشيئته لم تستند لمشيئةٍ قبلها، لا أنّ مشيئته ذاتية، ولا أنّ مشيئته هي عبارة عن الوجود الانبساطي الإطلاقي، فالمقصود: أنّ مشيئته لم تنشأ عن مشيئةٍ قبلها. وقد اختار المشهور من علمائنا أن ليست إرادته إلّا فعله استناداً إلى الروايات الشريفة التي
ص: 66
منها: صحيحة عاصم بن حميد، عن أبي عبد الله علیه السلام، «قلت: لم يزل الله مريداً؟ قال: إنّ المريد لا يكون إلّا لمراد معه، لم يزل [ الله ] عالماً قادراً ثمّ أراد»(1)، ومنها: صحيحة صفوان بن يحيى، قال: قال علیه السلام: «الإرادة من الخلق الضمير وما يبدو لهم بعد ذلك من الفعل، وأمّا من الله تعالى فإرادته إحداثه لا غير ذلك»(2).
المفردة الثانية: في بيان مظهرية المعصوم للمشيئة الإلهية، فإنّ المعصوم مظهر لمشيئة الله تعالى، فهو الجامع بين سائر أطوار المشيئة الإلهية في سائر العوالم في صلب ذاته القدسية، فهو الكنز الخفي في عالم الواحدية المعبَّر عنه بعالم الأسماء والصفات، وهو رقيقة العرش في قوله: «الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى»(3)، وهو ركن الكرسي في قوله تعالى:«وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ»(4)، وهو العقل الأوّل في عالم الجبروت الذي أشارت إليه النصوص: «إنّ أوّل ما خلق الله العقل» (5)، وهو النفس الأوّل في عالم الملكوت الذي أشارت إليه الزيارة الجامعة: «خلقكم أنواراً فجعلكم بعرشه محدقين، حتّى مَنَّ علينا بكم، فجعلكم الله في بيوت أذن الله أن تُرفَع ويُذكَر فيها اسمه»(6)، وهو مفتاح عالم المادة وعالم الناسوت، بل هو غايته وشرفه الذي أشار إليه حديث الكساء في الحديث القدسي: «ما خلقتُ سماءً مبنيّة ولا أرضاً مدحيةً...»(7)، إلى آخر كلمات حديث الكساء. فذاته القدسية كثيرة في عين وحدتها؛ حيث إنّ ذاته القدسية جامعة لأطوار المشيئة الإلهية لسائر هذه العوالم، وهذا ما يتفرَّع عنه البحث في المفردة الثالثة.
المفردة الثالثة: هل علم المعصوم علیه السلام إفاضة قهرية عليه أو أنّ علمه بيده - حيث
ص: 67
إنّ ما ورد في الحديث الشريف: «إِذا أرادَ الإِمامُ أنْ يعلم شيئاً أعلمه الله ذلك»(1)، ليس المقصود منه أنّه يكون جاهلاً فترة فيطلب العلم اختياراً فيتحوّل إلى كونه عالماً، وإنّما المقصود منه أنّ علمه بيده وتحت اختياره وليس مجبوراً عليه - وبتبع هذا البحث يأتي بحث آخر أيضاً، وهو أنّ علمهم علیهم السلام الاختياري هل هو خاضع للبداء المشار إليه في قوله: «يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ»(2)، أم لا؟
مقتضى مراجعة النصوص الشريفة، فإنّ هناك ثلاث مراتب لعلم الإمام علیه السلام:
المرتبة الأُولى: العلم الحصولي بما هو نفس متعلقة بالبدن كسائر الأنفس، فإنّ مقتضى تعلّق النفس بالبدن تعلّق التدبير والتصرّف ارتسامُ صور الأشياء في النفس، فهذا العلم الحصولي موجود لدى الإمام علیه السلام.
المرتبة الثانية: العلم الحضوري الإفاضي الذي هو مقتضى كونهم ولاة الأمر، ومقتضى كونهم المشيئة الفعلية السارية، فعلمهم الحصولي خاضع ومحكوم لعلمهم الحضوري الإفاضي، وعلمهم الحضوري الإفاضي الذي هو تجسيد للمشيئة الإلهية، وإن كان في عالم الإمكان وعالم المادة يكون مجراه خاضعاً للمحو والإثبات والتغيّر والتبدّل، إلّا أنّ هذا الخضوع لقانون المحو والإثبات هل هو لقصور في القابل وهو نفس عالم المادة؛ حيث إنّ من طبيعته ومقتضياته التغيّر والتبدّل، أم هو لقصور في الفاعل؛ بمعنى أنّ هذا العلم الحضوري الفيضي الذي لهم - كعلم الملائكة المقرَّبين الذين هم أدوات في إفاضة هذا الوجود - خاضعٌ في حدّ ذاته للمحو والإثبات؟ فقد يقال: بأنّ ظاهر بعض النصوص الشريفة أنّ هذا النوع من العلم الحضوري الإفاضي هو في حدّ نفسه - لا بلحاظ متعلّقه ومجراه - خاضعٌ لعالم المحو والإثبات، ومنها هذه الرواية الواردة عن
ص: 68
الحسين علیه السلام أنّه لمّا نزل شقوق أتاه رجل فسأله عن العراق، فأخبره بحاله فقال: «إنّ الأمر لله يفعل ما يشاء، وربّنا تبارك كل يوم في شأن، فإن نزل القضاء فالحمد لله على نعمائه وهو المستعان على أداء الشكر، وإن حال القضاء ودُوِّن الرجاء فلم يبعد من الحق نفيه»(1). وفي الأبيات المسندة إليه التي تمثل بها في يوم عاشوراء:
«فإن نهزم فهزامون قدما ***وإن نُغ-لب فغير مغلّبينا
وما إن طبّنا جبن ولكن***منايانا ودولة آخرينا
إذا ما الموت رُفع عن أُناس ***كلاكله أناخ بآخرينا»(2)
قد يقال: إنّه إشارة إلى ذلك وإنّ علمهم خاضع للبداء ولقانون المحو والإثبات.
المرتبة الثالثة: المبادئ العالية، والتي هي عبارة عن الكنز الخفي في عالم الواحدية ورقيقة العرش في ذلك العالم، فإنّ مقتضى كونهم عين هذه المبادئ العلمية العالية أنّ لهم الإحاطة بما سواه تبارك وتعالى، كما ورد في بعض الروايات الشريفة: أنّ لهم علم ما كان وما يكون وما هو كائن(3). وبالتالي؛ في مقام المعارضة بين هذه الروايات وما ورد عنهم في بعض أحاديثهم: أنّ العلم يُحجَب عنهم فلا يعلمون، ويُبسَط لهم فيعلمون، هو ترجيح هذه الطائفة من الروايات على تلك الطائفة بلحاظ شهرتها الروائية وكثرة طرقها - مثلاً - ممّا يوجب الوثوق بها في مقام المعارضة مع الطائفة الثانية، وإنّ مقتضى الكمال - حيث إنّهم النسخة الأُولى من الكمال الإمكاني - ومقتضى أنّهم عين الكمال وصرف الكمال، كما قُرِّر في قاعدة إمكان الأشرف، أنّه ليس هناك كمالٌ يمكن حصوله لهذا المخلوق الإمكاني إلّا وكماله فعليّ له، فليس هناك مرحلةٌ وحالة منتظرة بين الإمكان والوقوع، فكل كمال يمكن نيله لمحمدٍ صلی الله علیه و آله وآله فهو ثابت لهم بالفعل؛ حيث إنّ إحاطتهم
ص: 69
بما كان وما يكون وما هو كائنٌ على نحو الحضور العيني التنجيزي الذي لا يخضع لبداءٍ ولا لتغيّرٍ، فلأجل ذلك - ولا نريد هنا بحث المسألة بحثاً عقائدياً مفصّلاً، وحسمها من حيث الأدلة، بل هو طرح في ضمن هذه الجهة العقائدية - فإنّ علمهم الحضوري الإفاضي في عالم المادة محكومٌ لعلمهم بلحاظ كونهم المبادئ العلمية العالية في تمام أطوار المشيئة الإلهية. وبالتالي؛ فإنّ جريهم على وفق عالم المادة من حيث اقتضاء طبيعته التغيّر والمحو والإثبات، لا يتنافى مع إحاطتهم التامة على نحو الإحاطة التنجيزية التي لا تخضع لاحتمال التغيّر والبداء، بل هو خاضع له ومحكوم به؛ وعلى هذا الأساس يصل الكلام إلى المفردة التالية في هذه الجهة العقائدية.
المفردة الرابعة: إنّ مقتضى عصمتهم العلمية في الموضوعات الخارجية أن تكون تصرّفاتهم في إطار علمهم، بل حتّى على الرأي الشاذ الذي لا يرى أنّ لهم العصمة العلمية في الموضوعات الخارجية، فإنّما يقال به في الموضوعات الفردية، كأكل الإمام وشربه ومشيه ونومه، وأمّا الموضوعات العامة التي لها تأثير في مصير الأُمّة الإسلامية فلا يمكن أن تكون قابلة للخطأ والصواب؛ بحيث يتعرَّض مصير الأُمّة ومسيرتها لخطأ القيادة ولخطأ الإمام، فحتى على هذا الرأي الشاذ لا بدّ من التفصيل بين الموضوعات المؤثِّرة في مسيرة الأُمّة، وبين الموضوعات الفردية التي لا أثر لها على تلك المسيرة وعلى المسيرة التطبيقية للتشريع نفسه في الأُمّة الإسلامية، وبالتالي؛ فحيث إنّ صلح الحسن علیه السلام وحركة الحسين علیه السلام وحروب الإمام أمير المؤمنين علیه السلام من الموضوعات الخارجية التي لها تأثيرٌ في مصير الأُمّة، والتي لا تنفكّ عن العصمة العلمية؛ فمن هنا عندما يُطرَح التساؤل: كيف نوفِّق بين عصمتهم العلمية في الموضوعات الخارجية وبين إقدامهم على ما يؤدّي إلى تلف الأنفس والأموال، أو إقدامهم على أُمور تكون بحسب المقاييس المادية زائلة ومنقضية، نظير ما يقع في التساؤل عن الحروب التي خاضها أمير المؤمنين علیه السلام وانتهت بعدم الانتصار العسكري للإمام علیه السلام، أو إرسال الحسين علیه السلام لمسلم بن عقيل والذي انتهى بمقتل مسلم بن عقيل علیه السلام، ونحو ذلك من التصرفات والتصريحات التي
ص: 70
صدرت عنهم علیهم السلام، والتي يُسأل عنها أنّه كيف يتمّ التوفيق بينها وبين العصمة العلمية في الموضوعات الخارجية؟
وفي مقام الجواب تُطرَح الوجوه الثلاثة:
الوجه الأوّل: إنّ علمهم في إطار عالم المادة علمٌ خاضعٌ للبداء والتغيّر، وهو ما أشرنا إليه في المفردة السابقة، وإنّه محل للتأمل والنظر.
الوجه الثاني: إنّ التكاليف والأوامر التي خوطب بها الأئمّة علیهم السلام - فردية أو اجتماعية - لم تُنَطْ بعلمهم الشهودي التنجيزي، وإنّما أُنيطت بمجريات عالم المادة وما يقتضيه من قوانين التغيّر والمحو والإثبات، فجرى تكليفهم في ضمن الإطار البشري الإنساني الذي هو الجامع المشترك بينهم وبين سائر الخلق، وإن كانوا - بما أنّهم هم المبادئ العلمية العالية - مطّلعين على أنّ مسيرتهم لها مدة زمنية محدّدة، ولها نتيجة منقضية وزائلة بحسب المقاييس المادية، ولكن لم يخاطبوا فيما هو خارج هذا الإطار، وإنّما خوطبوا بما هو ضمن هذا الإطار نفسه.
الوجه الثالث: إنّهم أُمروا على الإقدام على ما فيه قتلهم وفناؤهم وما يكونون فيه مصداقاً للصبر والمظلومية؛ كي يكون ذلك أعلى صورة التسليم والرضا بقضاء الله، كما يظهر من كلمات الإمام الحسين علیه السلام في يوم عاشوراء؛ حيث ورد عنه علیه السلام: «يا إلهي، صبراً على قضائك ولا معبود سواك يا غياث المستغيثين»(1). فالإمام علیه السلام مع علمه التنجيزي بسائر الأُمور، إلّا أنّ مقتضى كونه المشيئة الإلهية في إطار التشريع وفي إطار التكوين فهو أعلى صورة من صور التسليم والرضا في عالم الإمكان، والتي عند التأمّل لا نرى اثنينية وانفكاكاً بينها وبين كونه هو المشيئة الإلهية.
ص: 71
ص: 72
السَّيِّد مُحَمّد الشَوكي(1)
تحدَّثنا في القسم الأول من هذه المقالة عن مسار الصعود الأُموي والتغلغل في جسد الأُمّة الإسلامية بمراحله المختلفة، وانتهينا بالصُّلح الذي تمَّ مع الإمام الحسن علیه السلام.
وقد تفرَّد معاوية بن أبي سفيان بإمرة المسلمين بعد الصلح مع الإمام الحسن علیه السلام، ولم يفِ بأيٍّ من الشروط التي اشترطها عليه، فلم يعمل بكتاب الله وسنّة رسوله - كما ذُكر في بند من بنود الصلح - وراح يلاحق أصحاب أمير المؤمنين علیه السلام من أجل تصفية القاعدة الواعية والموالية له، خلافاً لما اتُّفق عليه، وشنَّ هجمةً شعواء على سيد الأوصياء حتى جعل سبّه والانتقاص منه سُنّةً في المجالس وعلى المنابر، وهذا ما تحدَّثنا عنه في القسم الأول من هذه المقالة.
ص: 73
ومن أهمّ الشروط التي خالفها معاوية والذي يعتبر الشرط الأساس في وثيقة الصُّلح هو إرجاع الحقّ إلى أهله، وعدم توريثه المُلك لأحد من بني أُمية، فنقض معاوية هذا الشرط بتوريث ولده يزيد ولياً للعهد من بعده، وأمر المسلمين بمبايعته تحت ضغط التهديد والوعيد.
يمثّل توريث الحكم الحلقة الأهمّ في المشروع الأُموي وأحد أهمّ الأركان التي قام عليها منذ البداية، ونحن نتذكّر وصية أبي سفيان لولده معاوية عندما ولّاه عمر بن الخطاب ولاية الشام، حيث قال له: «فلا تخالفهم؛ فإنّك تجري إلى أمد فنافس، فإن بلغته أورثته عقبك»(1).
لم يكن الأُمويون من البداية مقتنعين كثيراً بمسألة النبوّة، وإنّما كانوا ينظرون إلى الرسالة على أنّها مشروع سلطة يريد بنو هاشم من خلاله أن يتحكّموا بالعرب، فحينما أوشكت جحافل الفتح أن تدخل مكّة جاء العباس بن عبد المطلب بأبي سفيان إلى النبي صلی الله علیه و آله يطلب له الأمان، فلمّا دخل عليه قال له صلی الله علیه و آله : «ويحك يا أبا سفيان، أما آن لك أن تعلم أن لا إله إلّا الله؟ فقال: بأبي أنت وأُمّي ما أوصلك وأحلمك وأكرمك، والله، لقد ظننت أنّه لو كان مع الله إلهاً غيره لقد أغنى عنّي شيئاً. فقال: ويحك يا أبا سفيان، ألم يأن لك أن تعلم أنّي رسول الله؟ فقال: بأبي أنت وأُمّي ما أوصلك وأحلمك وأكرمك، أما هذه ففي النفس منها شيء. فقال له العباس: ويلك! اشهد شهادة الحقّ قبل أن تُضرب عنقك!»(2).
ثمَّ بعدها أمر النبي صلی الله علیه و آله عمَّه العباس أن يأخذه إلى مضيق الوادي ليرى كتائب الفتح، فأخذه هناك، وأقبلت الكتائب تترى، حتى إذا أقبلت كتيبة النبي صلی الله علیه و آله الخضراء وفيها المهاجرون والأنصار لا يرى منهم إلّا الحدق من الحديد، قال: «سبحان الله! يا
ص: 74
عباس، مَن هؤلاء؟ فقال: هذا رسول الله صلی الله علیه و آله في المهاجرين والأنصار. قال: ما لأحد بهؤلاء طاقة، والله، يا أبا الفضل، لقد أصبح مُلك ابن أخيك عظيماً! فقال العباس: يا أبا سفيان، إنّها النبوة. فقال: فنعم إذن»(1).
فيظهر من هذين النصّين أنّ الرجل كان في نفسه شيءٌ من النبوّة (أما هذه ففي النفس منها شيء) وحتى بعد أن أعلن إسلامَه تحت الضغط لم يقتنع بمسألة النبوّة وظل على رأيه في أنّ القضية هي قضية مُلك (لقد أصبح مُلك ابن أخيك عظيماً).
إنّه كان يرى أنَّ المشروع كلَّه مشروع مُلك، وقد نجح بنو هاشم في الوصول إليه رغم أنفه؛ ولذلك لما بويع عثمان بن عفان استرجع أبو سفيان شريط الأحداث، وتذكَّر ذلك النصر الذي حققه بنو هاشم عليهم في فتح مكّة، وها هم يعيدون الكرّة فيخطفونه منهم؛ ولذلك جاء إلى قبر حمزة بن عبد المطلب علیه السلام وركله برجله، وقال - مخاطباً إياه وكلّه شماتة وزهو بالانتصار -: «يا حمزة، إنّ الأمر الذي كنت قاتلْتَنا عليه بالأمس قد ملكناه اليوم، وكنّا أحقّ به من تيم وعدي»(2).
فهو يرى أنّ حمزة وبقيّة المسلمين قد قاتلوا على المُلك، وها هم بنو أُمية يحصلون عليه في نهاية الأمر، وهذا يُعبِّر بوضوح عن رؤية بني أُمية لموضوع الرسالة.
من هنا وعلى الرغم من أنَّ الخلافة سُلبت من بني هاشم، إلّا أنّ بقاء اسم النبي صلی الله علیه و آله وعلو ذكره وذكر آله كان يزعج بني أُمية كثيراً، فرووا أنّ معاوية بن أبي سفيان سمع المؤذن يصدح باسم النبي صلی الله علیه و آله ، فقال: «لله أبوك يا بن عبد الله! لقد كنت عالي الهمّة، ما رضيت لنفسك إلّا أن يُقرن اسمك باسم ربّ العالمين»(3).
ص: 75
وقال للمغيرة بن شعبة حينما أوصاه بالرفق ببني هاشم: «هيهات هيهات، مَلَكَ أخو تيم فعدل وفعل ما فعل، فوالله، ما عدا أن هلك ذكره، إلّا أن يقول قائل: أبو بكر، ثمَّ مَلَكَ أخو عدي فاجتهد وشمّر عشر سنين، فوالله، ما عدا أن هلك فهلك ذكره، إلّا أن يقول قائل: عمر، ثمَّ ملك أخونا عثمان، فملك رجل لم يكن أحد في مثل نسبه فعمل ما عمل، فوالله، ما عدا أن هلك فهلك ذكره، وإنّ أخا هاشم يُصرخ به في كلِّ يوم خمس مرات: أشهد أنّ محمداً رسول الله، فأي عمل يبقى بعد هذا لا أُمّ لك؟!ألا دفناً دفناً!»(1).
وقد صرّح يزيد بهذا المكنون عندما قال قولته المعروفة بعد أن أقبلوا برأس الحسين علیه السلام إليه:
لعبت هاشم بالمُلك فلا ***مَلَكٌ جاء ولا وحي نزل(2)
فبنو أُمية كانوا ينظرون إلى الأمر كلِّه على أنّه مسألة مُلك ورئاسة وصراع عليهما، وقد استولوا عليه ولن يفرّطوا به أبداً، ولن يعيدوه إلى أي قبيلة أُخرى، لا بني هاشم ولا تيم ولا عَدي ولا غيرهم، بل لا بدّ أن يكون مُلكاً وراثياً يتوارثونه شخصاً بعد شخص.
كانت فكرة توريث الحكم والمُلك التي تشغل بال بني أُمية وزعيمهم معاوية تصطدم بمجموعة من الموانع التي تعترض طريقها، وبعض هذه الموانع يتعلّق بمبدأ التوريث من الأساس، والبعض الآخر يتعلق بوريث الدولة الأُموية يزيد بن معاوية. فمن حيث المبدأ يعتبر التوريث خرقاً لما سارت عليه الأُمّة قبل ذلك من مسألة الانتخاب حتى بات متجذِّراً في وعيها السياسي والشرعي العام(3). وسنلاحظ أنّ كثيراً من الاعتراضات التي
ص: 76
انطلقت ضدّ بيعة يزيد كانت تركِّز على هذا الجانب بالذات. ومن حيث الوريث نفسه، فلم يكن يزيد مؤهّلاً لرئاسة الأُمّة، فهو صبي غرّ فاسق متهتك إلى أبعد الحدود.
وهذا ما كان معاوية يدركه جيداً، وأنّ قضية توريث المُلك وبيعة يزيد ليست بالقضية السهلة على الإطلاق؛ لذا يتوجّب عليه أن يقوم في أُخريات حياته بجهد مضاعف من أجل تمهيد الأمر وتذليل العقبات، فلا بدّ إذاً من الإعداد لخطّة شاملة لذلك.
من خلال قرائتنا للتاريخ نجد أنّ هذه الخطّة كانت متعددة الأبعاد والجهات، وسنحاول أن نشير إلى أهمّ مفاصلها وملامحها عِبر نقاط:
إحدى العقبات التي كانت تواجه مشروع التوريث الأُموي - كما ذكرنا - هو تعارض مبدأ التوريث مع مبدأ الانتخاب والشورى الذي أصبح متجذِّراً في وعي الأُمّة آنذاك، فلا بدّ أن يجد معاوية مخرجاً شرعياً وتبريراً دينياً لذلك؛ من هنا نرى أنّه حاول أن يستدعي مسألة القضاء والقدر والجبر والاختيار - تلك العقيدة الإسلامية الحساسة - إلى ساحة الصراع السياسي، وأن يوظفها في سبيل تنفيذ مشروعه.
يرى كثير من الباحثين أنَّ عقيدة الجبر هي عقيدة أُموية بامتياز، تفتّحت وتفرّعت في أروقة السلطان الأُموي. يقول الشيخ أبو زهرة: «ولكننا نجزم بأنّ القول بالجبر شاع في أول العصر الأُموي، وكثر حتى صار مذهباً في آخره»(1).
ويقول الشيخ جعفر السبحاني: «لقد اتّخذ الأُمويون مسألة القدر أداة تبريرية لأعمالهم السيئة، وكانوا ينسبون وضعهم الراهن بما فيه من شتّى ضروب العبث والفساد إلى القدر، قال أبو هلال العسكري (في الأوائل: 2/125): إنّ معاوية أول مَن زعم أنّ الله يريد أفعال
ص: 77
العباد كلَّها... وقد كانت الحكومة الأُموية الجائرة متحمسة على تثبيت هذه الفكرة في المجتمع الإسلامي، وكانت تواجه المخالف بالشتم والضرب والإبعاد»(1).
وعقيدة الجبر وإن كانت مسألة عقائدية كلامية، ولكنها ليست مسألة تجريدية محضة، وإنّما لها تجليات ثقافية وسياسية واجتماعية كثيرة، وباستطاعة الطواغيت أن يوظّفوها توظيفاً سيئاً في سبيل تخدير الناس باسم الدين، وشلِّ حركتهم في التحرّر والانعتاق؛ لأنّك إذا ألغيت إرادة الأُمّة واختيارها فقد ألغيت وجودها وحركتها. كذلك يمكن استخدامها في تبرير سياسات الظالمين الجائرة كما فعل بنو أُمية بالفعل، ويظهر ذلك جلياً من كلام ابن عباس مع مجبّرة الشام، حيث يقول: «أمّا بعد، أتأمرون الناس بالتقوى وبكم ضلّ المتّقون، وتنهون الناس عن المعاصي وبكم ظهر العاصون؟! يا أبناء سلف المنافقين، وأعوان الظالمين، وخزّان مساجد الفاسقين... هل منكم إلّا مفترٍ على الله يجعل إجرامه عليه سبحانه، وينسبه علانية إليه؟!»(2).
لقد حاول معاوية أن يوظّف هذه المسألة العقائدية في خدمة مشروع التوريث، ويتّضح ذلك من كلام معاوية مع عبد الله بن عمر وهو أحد المعارضين للتوريث حيث يقول له: «يا عبد الله بن عمر، قد كنت تحدِّثنا أنّك لا تحبّ أن تبيت ليلة وليس في عنقك بيعة جماعة، وأن لك الدنيا وما فيها، وإنّي أحذرك أن تشقّ عصا المسلمين وتسعى في تفريق ملئهم، وأن تسفك دماءهم، وإن أمر يزيد قد كان قضاء من القضاء، وليس للعباد خيرة من أمرهم»(3).
فما دام أنّ أمر يزيد بن معاوية قضاء إلهي لا رادّ له، ومشيئة إلهية ليس للعباد الخيرة فيها، فلماذا يعترض عبد الله بن عمر وأضرابه على تولية يزيد؟! وهل يريدون أن يعارضوا إرادة الله تعالى؟!
ص: 78
وفي هذا المضمار يقول جولد تسيهر متحدِّثاً عن النزعة الجبرية عند بني أُمية: «إذ لو أنّ عقيدة عملت تماماً لإمساك الأُمّة بالعنان وصرفتها عن الثورة عليهم وعلى ممثليهم، لكانت عقيدة الجبر. هذه العقيدة ترى أنّ الله قد حكم أزلاً أن تصل هذه الأُسرة إلى الحكم، وأنّ ما يعملون ليس إلّا أثراً أو نتيجة لقدر إلهي محكم؛ من أجل ذلك كان حسناً جداً لهم ولديهم أن تتأصّل هذه الأفكار في الشعب»(1).
العقبة الثانية التي كانت تعترض طريق معاوية الشخصياتُ المعارضة لمشروع التوريث وعلى رأسهم الإمام الحسن علیه السلام، وقد قام معاوية بالتلميح للمسألة في حياته، كما حاول جس نبض الأُمّة آنذاك عندما سافر إلى المدينة واجتمع سرّاً بالعبادلة الأربعة، عبد الله بن عباس، وعبد الله بن جعفر، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عمر، وعرض عليهم فكرة استخلافه ليزيد، فرفضوا ذلك رفضاً قاطعاً، وحذّروه من وخامة الإقدام على خطوة كهذه(2).
كان معاوية يرى أنّ معارضة الأُمّة يمكن التغلُّب عليها بالترغيب والترهيب، ولكن رموز المعارضة الأساسيين ليس من السهل إقناعهم بالمسألة، وخصوصاً الإمام الحسن علیه السلام الذي شرط عليه أن يُعيد الأمر له من بعده، فإن مات فلأخيه الحسين علیه السلام؛ ولذلك روى ابن عبد البرّ في الاستيعاب قائلاً: «كان معاوية قد أشار بالبيعة ليزيد في حياة الحسن وعرَّض بها، ولكنه لم يكشفها ولا عزم عليها إلّا بعد موت الحسن»(3).
إذاً؛ لا بدّ من إزالة العقبات الرئيسية من طريق مشروع التوريث، وأهمّ تلك العقبات هو وجود الإمام الحسن علیه السلام، وفعلاً روى بعض المؤرِّخين أنّه دبّر عملية خبيثة لاغتياله عِبر زوجته جعدة بنت الأشعث. يقول أبو الفرج الأصفهاني في المقاتل: «وأراد
ص: 79
معاوية البيعة لابنه يزيد، فلم يكن شيء أثقل عليه من أمر الحسن بن علي، وسعد بن أبي وقاص، فدسّ إليهما سمّاً فماتا به»(1). وسعد بن أبي وقاص هو أحد الذين رشّحهم عمر بن الخطاب للخلافة في الشورى السداسية، وهو الباقي الوحيد منهم.
ولكن لم يكن الإمام الحسن علیه السلام وسعد بن أبي وقاص المعارضين الوحيدين للأمر، بل هناك معارضون آخرون حتى من المحسوبين على السلطة الأُموية ومن الموالين لها أساساً، كعبد الرحمن بن خالد بن الوليد، وهو من الموالين لمعاوية، ولكنه كان يتمتّع بشعبية كبيرة في الشام وبصيت ذائع، وكان يطمح للخلافة أيضاً؛ ممّا اضطرّ معاوية إلى التخلُّص منه عِبر أحد الأطباء وهو ابن أثال(2). وكذلك كان من المعارضين للتوريث - مع أنّه من الموالين للسلطة والذي كان له طموح بالخلافة أيضاً - عبد الرحمن بن أبي بكر، باعتباره ابن الخليفة الأول، فاضطرّ أيضاً للتخلُّص منه، كما يظهر من بعض المحققين(3).
كما أنّ المعارضة لبيعة يزيد امتدّت لتشمل حتى الداخل الأُموي؛ لأنّ بعض رؤوس بني أُمية وأتباعهم كان طامعاً بها بعد معاوية، كمروان بن الحكم، وسعيد بن العاص، وعبد الله بن عامر، وغيرهم. روى أبو الفرج الأصفهاني: «فلمّا أراد معاوية البيعةَ ليزيد تهيَّب ذلك وخاف ألّا يُمالئه عليه الناس؛ لحسن البقية فيهم، وكثرة مَن يُرشَّح للخلافة، وبلغه في ذلك ذرء وكلام كرهه من سعيد بن العاص ومروان بن الحكم وعبد الله بن عامر»(4).
إلّا أن هؤلاء الأشخاص يمكن السيطرة عليهم ويمكن إرضاؤهم بالأموال والمناصب، كما حدث ذلك فعلاً.
ص: 80
العقبة الثالثة أمام مشروع التوريث تتمثّل في شخصية يزيد بن معاوية، تلك الشخصية السيئة المنحطّة التي لا تمتلك أيّ مؤهل من مؤهلات قيادة الأُمّة؛ فلا بدّ لمعاوية من القيام بحملة إعلامية دعائية لتحسين صورة يزيد في نفوس المسلمين الذين يملكون في مخيلتهم صورة سلبية سيئة جداً عنه، وهي صورة واقعية ولا ريب فيها. وقد كتب زياد بن أبيه كتاباً لمعاوية يحثّه فيه على ذلك، بعد أن بعث إليه معاوية كتاباً يذكر فيه البيعة لولده يزيد، فقد روى اليعقوبي أنّ زياد كتب إلى معاوية: «يا أمير المؤمنين، إنّ كتابك ورد عليَّ بكذا، فما يقول الناس إذا دعوناهم إلى بيعة يزيد وهو يلعب بالكلاب والقرود، ويلبس المصبغ، ويدمن الشرب، ويمشي على الدفوف، وبحضرتهم الحسين بن علي، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عمر، ولكن تأمره ويتخلَّق بأخلاق هؤلاء حولاً أو حولين، فعسانا أن نموّه على الناس»(1).
إذاً؛ لا بدّ من التمويه على الناس وتسويق يزيد في الأُمّة؛ لذلك سخّر معاوية أجهزة الإعلام الأُموية لبثّ فضائل يزيد المزعومة، وقام بإعطائه دوراً في قصره ليجرّه عن حياة اللهو واللعب التي كان غارقاً فيها، وولّاه إمرة بعض جيوش الفتح، وجعله أميراً على الحجّ، وغير ذلك من الخطوات العملية التي حاول من خلالها تسويقه في المجتمع الإسلامي. وسيمرّ علينا في مطاوي البحث الآتية كيف أنّ معاوية بذل جهداً كبيراً في المدينة لتحسين صورة يزيد أمام الناس.
لم تكن المعارضة لمشروع التوريث مقتصرة على وجهاء الأُمّة وساداتها، وإنّما امتدّت إلى الشارع وشملت قطاعاً كبيراً من الجمهور، ولكن معارضة الجمهور لا تمثِّل عقبة كبيرة بالنسبة إلى معاوية؛ فقد اعتاد على كيفيّة التعامل معها وترويضها، وذلك عِبر سياسته المعروفة (سياسة الترغيب والترهيب).
ص: 81
لقد حاول معاوية أن يشتري ضمائر الناس بأموال الدولة التي يملكها؛ من أجل إقناعهم بقبول بيعة يزيد، وما نقله ابن الأثير واضح في هذا المعنى؛ حيث يقول: «وكان معاوية يُعطي المقارب ويُداري المباعد ويلطف به؛ حتى استوثق له أكثر الناس وبايعه»(1).
فقد أوفد المغيرة وفداً من الكوفة إلى معاوية لتأييد مشروعه في تولية يزيد، وقد شرى ذممهم بثلاثين ألف درهم، وسيّرهم مع ولده موسى، فلمّا جاء الوفد إلى الشام وعرضوا رغبتهم ببيعة يزيد، قال معاوية لموسى بن المغيرة: «بكم اشترى أبوك من هؤلاء دينهم؟ قال: بثلاثين ألفاً. قال: لقد هان عليهم دينهم»(2).
وقد كان عقبة الأسدي من الكارهين لبيعة يزيد بن معاوية، وقد كتب أبياتاً من الشعر يقول فيها:
معاوي إننا بشر فأسجع***فلسنا بالجبال ولا الحديد
أكلتم أرضنا فجرَّدتموها***فهل من قائم أو من حصيد
أتطمع في الخلود إذا هلكنا***وليس لنا ولا لك من خلود
فهبها أُمّة هلكت ضياعاً***يزيد يسوسها وأبو يزيد
دعوا حقّ الإمارة واستقيموا***وتأمير الأراذل والعبيد
فبلغ ذلك معاوية؛ فأرسل إليه بعشرة آلاف درهم ليكفَّ لسانه، فأنشأ عقبة يقول:
إذا المنبر الغربي أخلاه ربّه***فإنّ أمير المؤمنين يزيد
على الطائر الميمون والجد صاعد***لكلّ أُناس طائر وجدود
فلا زلت أعلى الناس كعباً ولم تزل***وفود يساميها إليك وفود
ألا ليت شعري ما يقول ابن عامر***لمروان أم ماذا يقول سعيد
بني خلف-اء الله مهلاً فإنّما***يبوّئها الرحمن حيث يريد
ص: 82
فأرسل له معاوية ببدرة أُخرى(1).
ومن الكارهين لبيعة يزيد - كذلك - عبد الله بن همام السلولي، فكتب قصيدة يقول فيها:
فإن يأتوا برملة أو بهند***نبايعها أميرةَ مؤمنينا
إذا ما مات كسرى قام كسرى***نعدّ ثلاثة متن-اسقينا
يورثها أكابرهم بنيهم***كما ورث القمامسة القطينا
فيا لهفي لو أنّ لنا أنوفاً***ولكن لا نعود كما عنينا
إذاً لضربتمُ حتى تعودوا***بمكّة تلطعون بها السخينا
حشينا الغيظ حتى لو شربنا***دماء بني أُمّية ما روينا
ضعوا كلباً على الأعناق منّا***وسرحكم أصاغر ورثونا
لقد ضاعت رعيتكم وأنتم***تصيدون الأرانب غافلينا
وأيضاً استطاع معاوية إسكاته بالأموال وجرّه إلى صفوف المؤيدين لولاية يزيد، وكتب بذلك شعراً يقول في جملة منه:
أب-و خالد أخلق به أن يصيبنا***بسجل من المعروف يتبعه سجل
هو اليوم ذو عهد وفينا خليفة*** إذا فارق الدنيا خليفتنا الكهل(2)
وأبو خالد هو كنية يزيد بن معاوية.
على رغم ذلك أدرك معاوية أنّه لن يستطيع أن يحصل على رضا الجماهير كاملاً ببيعة يزيد ما لم يحسم الأمر مع معارضيه الأساسيين، ورأى أنّه ليس بالإمكان إقناعهم أو التحايل عليهم؛ فلا بدّ من استخدام أساليب أُخرى، فاستخدم سياسته المعروفة بالترهيب والترغيب معهم أيضاً، فقد ذكرت الكثير من المصادر التاريخية أنّ معاوية بن أبي سفيان هدّدهم بالقتل إن لم يستجيبوا ويدخلوا فيما دخل فيه الناس؛ ومن هنا نجد
ص: 83
أنّ موقف عائشة ل-مّا التقى بها كان موقفاً حادّاً؛ لما سمعته من أنّه هدد هؤلاء الأشخاص بالقتل(1). ولا عجب في ذلك، فقد قتل في سبيل تمهيد الأمر ليزيد كثيراً من الشخصيات الإسلامية، كالإمام الحسن علیه السلام، وعبد الرحمن بن خالد، وسعد بن أبي وقاص، وحتى عبد الرحمن بن أبي بكر كما يرى الكثير من المحققين(2).
كما حاول أن يستخدم سياسة شراء الذمم في سبيل ذلك، فقد بعث لعبد الرحمن بن أبي بكر - وهو من أشد المعارضين لاستخلاف يزيد - بمائة ألف درهم يشتري بها ذمته، ولكنه رفض استلامها، وقال: «أأبيع ديني بدنياي؟!»(3).
وأيضاً بعث بمثلها لعبد الله بن عمر فردّها، وقال ما قاله عبد الرحمن(4).
كذلك اشترى ذمّة مروان بن الحكم وهو من المعارضين لاستخلاف يزيد ضمن الدائرة الأُموية(5). وغير ذلك من الشواهد الأُخرى، كما استخدم أُسلوب منع العطاء والضغط المالي لردع الرافضين لبيعة يزيد، فها هو يحرم بني هاشم من عطائهم في تلك السنة؛ لأنّهم رفضوا بيعة يزيد، ولمّا أتاه ابن عباس وسأله عن ذلك، قال: «ليس لكم عطاء حتى يبايع صاحبكم»(6).
لقد رأينا أنَّ المعارضة لتولية يزيد اتّسعت لتشمل أكثر أطياف المجتمع الإسلامي من موالين ومعارضين ومحايدين، ولكن معاوية ظل مصرِّاً على ذلك؛ باعتباره الخطوة
ص: 84
الأساس في تثبيت أركان المشروع الأُموي، وقد رأى معاوية أنّ الأيام تُسرع به، وأنّه لابدّ من أن ينفِّذ خطّته قبل أن يقصف الموت عمره، فلمّا توفّي الإمام الحسن علیه السلام بادر إلى إعلان تنصيبه ولَدَه يزيد من بعده، وأخذ البيعة له من أهل الشام؛ ومن ثَمَّ كتب لواليه على المدينة مروان بن الحكم بأن يأخذ له البيعة من أهلها.
وفعلاً دعا مروان أهل المدينة لمبايعة يزيد بن معاوية خليفةً لأبيه، ولكنه واجه رفضاً قاطعاً من قِبل وجهاء المدينة وعلى رأسهم الإمام الحسين علیه السلام، ولم يستطع أن يأخذ منهم البيعة له، وكتب لمعاوية بذلك، فغضب منه وعزله وولّى مكانه سعيد بن العاص لعله يستطيع أن ينفِّذ ما عجز عنه مروان. ولكنه فشل أيضاً في مهمته، وكتب إلى معاوية يقول: «أمّا بعد، فإنّك أمرتني أن أدعو الناس إلى بيعة يزيد بن أمير المؤمنين، وأن أكتب إليك بمَن سارع ممَّن أبطأ، وإنّي أخبرك أن الناس عن ذلك بطاء، لا سيما أهل البيت من بني هاشم؛ فإنّه لم يجبني منهم أحد، وبلغني عنهم ما أكره، وأمّا الذي جاهر بعداوته وإبائه فعبد الله بن الزبير، ولست أقوى عليهم إلّا بالخيل والرجال، أو تقدم بنفسك فترى رأيك في ذلك، والسلام»(1).
عند ذلك حاول معاوية أن يقنع وجهاء المدينة بقبول الأمر ومن خلال الأساليب الدبلوماسية السلميّة؛ فراح يبعث الكتب والرسائل إلى المعارضين في سبيل إقناعهم بالأمر، فكتب للإمام الحسين علیه السلام وعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير وعبد الله بن جعفر كتباً، وأمر سعيد بن العاص أن يوصلها إليهم ويبعث إليه بجواباتها، وأوصاه كذلك أن يكون ناعماً في تعامله مع الحسين علیه السلام وأن لا يستثيره؛ لأنّه ليث عرين، وله قرابة وحقٌّ عظيمٌ لا ينكره كلُّ مسلم ومسلمة على حدِّ تعبيره.
فقد كتب إلى الحسين علیه السلام قائلاً: «أمّا بعد، فقد انتهت إلي منك أُمور لم أكن أظنّك بها رغبة عنها، وإنَّ أحقَّ الناس بالوفاء لِ-مَن أعطى بيعته مَن كان مثلك في خطرك وشرفك
ص: 85
ومنزلتك التي أنزلك الله بها، فلا تنازع إلى قطيعتك، واتّقِ الله ولا تردن هذه الأُمّة في فتنة، واُنظر لنفسك ودينك وأُمّة محمد، ولا يستخفنَّك الذين لا يوقنون»(1).
فكتب له الحسين علیه السلام ردّاً مطوَّلاً يدين فيه سياسات معاوية الظالمة، وختَمه بالقول: «واعلم أنّ الله ليس بناسٍ لك قتلك بالظنّة، وأخذك بالتهمة، وإمارتك صبياً يشرب الشراب، ويلعب بالكلاب، ما أراك إلّا أوبقت نفسك، وأهلكت دينك، وأضعت الرعية، والسلام»(2).
وكان ردّ بقية الذين كتب لهم معاوية هو الرفض التام لما أقدم عليه من توليته ابنه يزيدَ. عند ذلك قرر معاوية بن أبي سفيان أن يذهب بنفسه ليسوّي الأُمور.
لقد رأى معاوية أنَّ الأمر لا يمكن تسويته من خلال ولاته، ولا من خلال الرسائل من بعيد، فالأمر أخطر وأعقد من ذلك؛ فلا بدّ أن يمضي بنفسه لتسوية الأمر عبر الصفقات أو عبر التهديدات، فذهب معتمراً في رجب سنة ست وخمسين، وعرّج على المدينة ومعه قرابة الألف فارس قبل أن يذهب إلى مكة المكرمة، وحاول أن يجتمع أولاً ببني هاشم؛ لأنّهم الطرف الأهم في المعادلة، فاجتمع بالإمام الحسين علیه السلام وعبد الله بن عباس، وطرح عليهم مسألة البيعة، وقال: «وقد علم الله ما أُحاول به في أمر الرعية، من سدّ الخلل، ولمّ الصدع بولاية يزيد، بما أيقظ العين، وأحمد الفعل، هذا معناي في يزيد، وفيكما فضل القرابة، وحظوة العلم، وكمال المروءة، وقد أصبت من ذلك عند يزيد على المناظرة والمقابلة ما أعياني مثله عندكما وعند غيركما، مع علمه بالسنّة، وقراءة القرآن، والحلم الذي يرجح بالصمّ الصلاب». وراح يلمّع لهما صورة يزيد، وينسب له الخصال الحسنة التي ليس له منها ولا مثقال ذرّة، وكأنّه كان يظنّ أنّه يستطيع أن يستغفلهما بمثل هذه الكلمات. ثمَّ بعد
ص: 86
ذلك قال لهما: «ما زلت أرجو الإنصاف في اجتماعكما، فما يقول القائل إلّا بفضل قولكما، فردا على ذي رحم مستعتب ما يحمد به البصيرة في عتابكما، وأستغفر الله لي ولكما»(1).
ومن خلال كلمته الأخيرة يتّضح أنّه كان يعرف ثقل الإمام الحسين علیه السلام وبني هاشم في الساحة جيداً، وأنّه يصعب تجاوزهم في مسألة البيعة ليزيد «فما يقول القائل إلّا بفضل قولكما».
فأراد ابن عباس أن يتكلَّم فأشار إليه الإمام الحسين علیه السلام، وقال: «على رسلك فأنا المراد، ونصيبي في التهمة أوفر». فأمسك ابن عباس، فقام الحسين علیه السلام فحمد الله وصلّى على الرسول، ثمَّ خطب خطبة بليغة إلى أن عرج على معاوية فقال: «ولقد فضلت حتى أفطرت، واستأثرت حتى أجحفت، ومنعت حتى محلت، وجزت حتى جاوزت، ما بذلت لذي حقّ من اسم حقّه بنصيب، حتى أخذ الشيطان حظه الأوفر، ونصيبه الأكمل. وفهمت ما ذكرت عن يزيد من اكتماله، وسياسته لأُمّة محمد، تريد أن توهم الناس في يزيد، كأنّك تصف محجوباً، أو تنعت غائباً، أو تخبر عمّا كان ممّا احتويته بعلم خاصّ، وقد دلّ يزيد من نفسه على موقع رأيه، فخذ ليزيد فيما أخذ فيه، من استقرائه الكلاب المهارشة عند التهارش، والحمام السبق لأترابهن، والقيان ذوات المعازف، وضرب الملاهي، تجده باصراً، ودع عنك ما تحاول، فما أغناك أن تلقى الله من وزر هذا الخلق بأكثر مما أنت لاقيه، فوالله، ما برحت تقدح باطلاً في جور، وحنقاً في ظلم، حتى ملأت الأسقية، وما بينك وبين الموت إلّا غمضة، فتقدم على عمل محفوظ في يوم مشهود، ولات حين مناص».
لقد صُعق معاوية لهذا الردّ الحسيني الصاعق، ونظر مذهولاً لابن عباس قائلاً: «ما هذا يا بن عباس؟! ولما عندك أدهى وأمر. فقال ابن عباس: لعمر الله، إنّها لذرّية الرسول، وأحد أصحاب الكساء، وفي البيت المطهّر، فالهُ عمّا تريد؛ فإنّ لك في الناس مقنعاً، حتى يحكم الله بأمره وهو خير الحاكمين. فقال معاوية: أعود الحلم التحلم، وخيره التحلّم عن الأهل. انصرفا في حفظ الله »(2).
ص: 87
لقد خرج معاوية خائباً من هذا الاجتماع المهم، فحاول أن يجرِّب حظّه مع بقية المعارضين؛ فأرسل وراء عبد الرحمن بن أبي بكر، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، واجتمع معهم وحاول جاهداً إقناعهم، ولكنه خرج خالي الوفاض كذلك، فلم يستطع أن يثنيهم عن رفضهم، وكانت نتيجة اللقاء ردّاً واضحاً لمشروع معاوية، وكان أشدّهم في ذلك عبد الرحمن وابن الزبير، وأمّا ابن عمر فقد بدا ليّناً في موقفه.
لقد حاول معاوية أن يرضي الأطراف الرئيسة في المعارضة قبل أن يطرح الأمر على عموم الناس، حتى يخرج إليهم ويقول: إنّ كبار الأُمّة راضون عن بيعة يزيد؛ فيهرع الناس إلى الرضا بذلك، ولكنه فشل في ذلك فشلاً ذريعاً، فاحتجب عن الناس ثلاثة أيام لا يخرج فيها، ثمَّ خرج في اليوم الرابع وأمر بأن يُنادى في الناس نداءً جامعاً، فاجتمع الناس في المسجد، وكان الإمام الحسين علیه السلام وعبد الرحمن وابن الزبير وابن عمر حاضرين أيضاً، فحمد الله وأثنى عليه، ثمّ ذكر يزيد وفضله، وقراءته القرآن، ثم قال: «يا أهل المدينة، لقد هممت ببيعة يزيد، وما تركت قرية ولا مدرة إلّا بعثت إليها في بيعته، فبايع الناس جميعاً وسلموا، وأخرت المدينة بيعته، وقلت بيضته وأصله، ومَن لا أخافهم عليه، وكان الذين أبوا البيعة منهم مَن كانوا أجدر أن يصل، ووالله، لو علمت مكان أحد هو خير للمسلمين من يزيد لبايعت له.
هنا سكت الناس، فلم يردّ عليه أحد، فقام الحسين علیه السلام مقاطعاً له قائلاً: والله، لقد تركت مَن هو خير منه أباً وأُمّاً ونفساً. فقال معاوية: كأنّك تريد نفسك؟ فقال الحسين علیه السلام: نعم، أصلحك الله. فقال معاوية: إذاً أُخبرك، أمّا قولك: خير منه أُمّاً، فلعمري: أُمّك خير من أُمّه، ولو لم تكن إلّا أنّها امرأة من قريش لكان لنساء قريش فضلهن، فكيف وهي ابنة رسول الله؟! ثمَّ فاطمة في دينها وسابقتها، فأمُّك - لعمر الله - خير من أُمّه. وأمّا أبوك، فقد حاكم أباه إلى الله، فقضى لأبيه على أبيك. فقاطعه الحسين
ص: 88
قائلاً: حسبك جهلك، آثرت العاجل على الآجل. فقال معاوية: وأمّا ما ذكرت من أنّك خير من يزيد نفساً، فيزيد - والله - خير لأُمّة محمَّد منك. فقال الحسين علیه السلام: هذا هو الإفك والزور، يزيد شارب الخمر ومشتري اللهو، خير منّي؟!»(1).
ثمَّ استمر معاوية في تدليسه وتلبيسه على الناس وبيان فضائل يزيد المزعومة، فقام له عبد الله بن الزبير وردّ عليه، فانصرف معاوية إلى منزله.
من هنا؛ ابتدأت المواجهة بين الإمام الحسين علیه السلام وبين البيت الأُموي والمخطط السفياني الشيطاني، وهذا ما سوف نسلِّط الضوء عليه في القسم الثالث من هذه المقالة فسوف نحاول التركيز - إن شاء الله - على موقف الإمام الحسين علیه السلام من معاوية، وقيادته لخطّ المعارضة للمشروع الأُموي في زمان معاوية، ونعرض بالتحليل الأحداث التي جرت بينهما، وتخطيط الإمام علیه السلام لما بعد معاوية، فإنّ هذه الفترة فترةٌ مهمّة لم يتمّ التركيز عليها كثيراً.
ص: 89
ص: 90
الشَّيخ ليث عَبدُ الحُسَین العَتَّابيّ(1)
لقد جسّدت نهضة الإمام الحسين علیه السلام النموذج الأسمى في التضحية والجهاد والإصرار المبدئي، فعلى الرغم من كلّ الأوضاع الصعبة المضادّة، إلّا أنّها أصبحت القدوة الرائدة، والتجربة النقيّة، والينبوع المتفجّر في الروح الثورية الأصيلة، المصرّة على الفداء والتضحية، ولقد سجّل التاريخ البشري الكثير من انعكاساتها لا على المسلمين فحسب، بل حتى غيرهم من بني البشر. فالنهضة الحسينية منار للثوار منذ ثورة التوّابين، ومروراً بغاندي، وغيرهم ممَّن تأثّر بها، وإلى يومنا الحاضر، بل حتى في المستقبل الذي تتحقّق فيه الثورة (المهدوية) الكبرى رافعةً شعار: يا لثارات الحسين!
ونحن في هذه المقالة سوف نتناول أهمّ ثلاث نقاط في الثورة الحسينية المباركة وهي:
الأُولى: عوامل التكافؤ المعدوم بين المعسكرين.
ص: 91
الثانية: عوامل النصر في النهضة الحسينية بغض النظر عن الأمور المادية.
الثالثة: مظاهر ذلك النصر وتجلياته.
إنّ عدم التكافؤ في العُدّة والعدد بين طرفي الحرب في ملحمة كربلاء واضح جداً؛ فجيش يزيد بن معاوية كان أُلوفاً مؤلّفة(1)، بينما كان جيش الإمام الحسين علیه السلام أفراداً من أهل بيته وأصحابه. والتكافؤ عنصر ضروري ما بين الطرفين - سواء كان بينهما تقارب أم تنازع - ويتأكّد وجوده في النزاعات أكثر من أيِّ مكان أو وقت آخر.
وقد «تعدّدت تعريفات ونظريات وتجارب الحرب غير المتكافئة، فهي حرب تتعامل مع المجهول والمفاجآت، سواء فيما يتعلّق بغاياتها أو وسائلها، أو طرق شنّها، وكلّما ازداد عدم تكافؤ الخصم، كلّما أصبح من العسير التنبؤ بأفعاله...
ومن هنا؛ يمكن القول: إنّ التصدي لخصم غير متكافئ يستلزم عقيدة عسكرية تكفل طريقة للتفكير في عدم التكافؤ، وفلسفة عمليات لا تُغفِل ذلك النوع من عدم التكافؤ، وإنّما تأخذه في الحسبان جملةً وتفصيلاً»(2).
أمّا الإمام «الحسين كان وارث الإسلام، ووارث تلك الثورة التي فجّرها جدّه، وأوصلها أبوه وأخوه، لكنّ الحسين في المقابل لم يرث جيشاً ولا سلاحاً ولا ذهباً؛ وبالتالي لم يرث أيَّ قوة جبهوية تُذكر، ولا حتى مجموعة منظّمة!! وكان هذا يعني بادئ ذي بدء أنّ القيادة الحسينية التي آمنت بالنضال وأقرّته كقاعدة أساسية لوجودها، هذه القيادة كانت - ككلّ قائد أو إمام يؤمن بالنضال - غير حرّة في اختيار طريقة هذا النضال، وإنّما كان عليها أن تخضع للظروف التي تُحيط بها، والتي تفرض عليها شكلاً معيّناً من أشكال الحرب»(3).
ص: 92
كان الإمام الحسين علیه السلام يعلم بعدم التكافؤ، وأنّ الأعداء يفوقونه في العُدّة والعدد، وأنّ لديه في معسكره عناصر تُزيد من عنصر الهزيمة بالمعايير العسكرية، وهي: النساء والأطفال، فهم عنصر ضعف سواء أكان راغباً في الصلح والسلم أم عازماً على الحرب، ففي السلم - فيما لو أراد الإمام الحسين علیه السلام المصالحة - فإنّهم يشكّلون عليه ورقة ضغط أمام أعدائه؛ لإجباره على الموافقة بما يُمليه العدو من شروط، وكذلك الحال فيما لو أراد الحرب، فهم عنصر ضغط أيضاً؛ إذ يضطرّ صاحب العيال إلى وضع خطّة خاصّة للحرب تتلاءم مع وجود العيال معه، خصوصاً مع رفع الخصم لشعار: اقتلوهم ولا تُبقوا لأهل هذا البيت باقية. فلا بدّ أن يفكّر بما يجري على عياله فيما لو قُتل، فمصيرهم بعد الحرب مهم جدّاً، خصوصاً مع هكذا خصم هدفه القضاء على خصمه بشكل نهائي، وبشتّى الطرق.
لذا؛ يمكن إجمال عناصر عدم التكافؤ في واقعة كربلاء، وبالخصوص في المخيم الحسيني في الأُمور التالية:
1- العُدة القليلة في الرجال والسلاح.
2- وجود النساء والأطفال.
3- سيطرة العدو على الماء.
4- محاصرة المعسكر الحسيني من قِبل العدو، وسدّ جميع الطرق ومنعه من الماء أو الطعام أو السلاح أو الرجال، أو حتى لم-َن يريد الهرب مثلاً.
5- عدم الأهلية العسكرية لدى بعض مقاتلي المخيم الحسيني؛ إذ فيهم مَن هو صغير في السن على القتال، بل فيهم مَن هو شيخ كبير جدّاً لا يتلاءم عمره ومحاربة جيش كبير في العُدَّة والعدد.
6- تضمّن المخيم الحسيني لأساس سلالة المعصومين، وحامل علم رسول الله صلی الله علیه و آله ، وهو الإمام الحسين علیه السلام وجميع وُلده، فلو قُضي عليه وعلى أولاده جميعاً لانقطع النسل المحمّدي وانقطعت العصمة، ولخلت الأرض من آل الرسول وحملة العلم الإلهي، وخلفاء الله في أرضه.
ص: 93
وإحدى هذه الحجج كافية لأن يمتنع أيّ شخص عن مواصلة الحرب والجهاد، فكيف إن اجتمعت كلّها؟!
لكنّ الإمام الحسين علیه السلام لم يجعل من هذه الحجج مسوّغاً، وكان شعاره في ذلك: إنّ مَن يخرج لتحرير الأُمة، أو لردع الظالم، أو استرجاع حقّه وحقّ الأُمّة التي يقودها، أو إرساء العدل، أو نصرة الدين؛ فإنّ عليه أن لا يتحجّج بشيء أبداً.
فكل ذلك غير مقبول ساعة الحقيقة، وفي ساحة الاختبار الأكبر ف-«لقد أدّى الحسين علیه السلام رسالته في أحلك الظروف؛ كي لا يبقى لأحد عذرٌ إن قست عليه الظروف»(1).
فأراد الإمام الحسين علیه السلام من خلال ملحمة الطف إعطاء درس متكامل في المبادئ، والقيم الدينية والأخلاقية والإنسانية لكلّ بني البشر؛ حتى لا يبقى لأحد من عذر يتحجّج به باسم عوامل الضغط وغيرها، فالقائد والمصلح يضحّي بكلّ ما يملك في سبيل إقامة أُسس العدل والخير، وليس شرطاً أن يبقى هذا القائد حيّاً بعد الثورة، وليس شرطاً اعتبار بقائه حيّاً في تحقّق النصر، بل ربّما يكون موته فاتحة للنصر الأكبر، كما في الثورة الحسينية التي لا عذر فيها لِ-مَن يتحجّج، فليس المتحجّج بأفضل من الإمام الحسين علیه السلام، ولا عياله بأفضل من عيال الإمام علیه السلام، ولا مكانته وشأنه أفضل من شأن الإمام علیه السلام، ولا بقاؤه حياًّ أفضل من بقاء الإمام علیه السلام.
إنّ ما فعله الإمام الحسين علیه السلام يدحض النظرية القائلة: إنّه علیه السلام أراد بثورته طلب السلطان.
بل إنّ قائد الثورة يسير نحو الموت، وأنّ ثورته لن تنتصر بحسب المقاييس العسكرية، بل هي حركة فدائية تضحويّة، وهناك شواهد كثيرة نذكر بعضاً منها على سبيل المثال:
1- قول الإمام الحسين علیه السلام لأخيه عمر الأطرف: «حدّثني أبي أنّ رسول الله أخبره بقتله وقتلي، وإنّ تربته تكون بالقرب من تربتي، أتظنّ أنّك علمت ما لم أعلمه؟! وإنّي لا أُعطي الدنية من نفسي أبداً، ولتلقينَّ فاطمة أباها شاكية ممّا لقيت ذريّتها من أُمّته، ولا
ص: 94
يدخل الجنة مَن آذاها في ذريتها»(1).
2- قول الإمام الحسين علیه السلام لأُمّ سلمة - بعد أن أخبرته بقتله وخبر القارورة -: «يا أُمّاه، وأنا أعلم أنّي مقتول مذبوح ظلماً وعدواناً، وقد شاء أن يرى حرمي ورهطي مشرّدين، وأطفالي مذبوحين مأسورين مقيَّدين، وهم يستغيثون فلا يجدون ناصراً...»(2).
3- قوله علیه السلام لعبد الله بن عمر: «يا عبد الله، إنّ من هوان الدنيا على الله أنّ رأس يحيى بن زكريا يُهدى إلى بغيٍّ من بغايا بني إسرائيل، وأنّ رأسي يُهدى إلى بغيٍّ من بغايا بني أُميّة...»(3).
4- خطبته علیه السلام في مكة التي قال فيها: «...خُطَّ الموت على وُلد آدم مخطّ القلادة على جيد الفتاة، وما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف، وخير لي مصرعٌ أنا لاقيه، كأنّي بأوصالي تقطّعها عسلان الفلاة، بين النواويس وكربلا؛ فيملأنّ منّي أكراشاً جوفاً، وأجربةً سغباً، ولا محيص عن يوم خُطّ بالقلم... ألا مَن كان فينا باذلاً مهجته، موطّناً على لقاء الله نفسه، فليرحل معنا، فإنّي راحلٌ مصبحاً إن شاء الله تعالى»(4).
5- قوله علیه السلام لأخيه محمد بن الحنفية - لما رأى عزمه على ردّه ومنعه من الخروج -: «..أتاني رسول الله صلی الله علیه و آله ، وقال: يا حسين، اخرج، فإنّ الله تعالى شاء أن يراك قتيلاً... [ولما سأله محمد بن الحنفية عن سبب حمل العيال معه قال علیه السلام:] قد شاء الله أن يراهنَّ سبايا»(5).
6- قوله علیه السلام لعبد الله ابن عباس - ل-مّا أراد منعه عن المسير-: «والله، لا يدعوني حتى يستخرجوا هذه العلقة من جوفي...»(6).
ص: 95
7- قوله علیه السلام في (الرهيمة) لأبي هرم: «... وايمُ الله، ليقتلوني، ثمّ ليُلبسنّهم الله ذلّاً شاملاً، وسيفاً قاطعاً، وليسلطنَّ عليهم مَن يذلهّم»(1). وغير ذلك من الشواهد الكثيرة.
نظراً للوعد الإلهي القاطع نجد أنّ نصر الآخرة متحقِّق لا محالة وذلك في قوله تعالى: «إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ»(2)، لكن كيف يكون النصر في الدنيا ونحن نقرأ عمّا لاقاه الأنبياء والرسل علیهم السلام: من قتل وتهجير وتكذيب وتعذيب واضطهاد، فكيف يكون هذا النصر الدنيوي؟
لابدّ أن نفهم أنّ لتحقّق النصر وجوهاً عديدة، أهمّها:
1- النصر عن طريق الغلبة المباشرة لأنبياء الله ورسله علیهم السلام وأوليائه الصالحين، كما حصل مع نبي الله داود علیه السلام على سبيل المثال، كما في قوله تعالى: «وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ »(3). وكذلك نبي الله سليمان علیه السلام(4)، ونبي الله موسى علیه السلام(5)، ونبيّنا الأكرم محمد صلی الله علیه و آله ، فقد قال له تعالى تعبيراً عن النصر: «إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا»(6).
2- النصر عن طريق إهلاك مَن كذَّب الأنبياء والرسل علیهم السلام، كما في قصة النبي نوح علیه السلام: «فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ *فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ *وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ *وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ *تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ*وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ »(7)
ص: 96
وقصة النبي هود علیه السلام:«فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ»(1)، وغيرهما من الأنبياء علیهم السلام، ويمكن مراجعة قصصهم في الآيات القرآنية، والتفاسير المعتبرة؛ لمعرفة حقيقة النصر المتحقّق لهم علیهم السلام.
3- النصر بانتقام الله تعالى من أعداء الأنبياء والرسل علیهم السلام، كما حدث مع مَن قتل النبي يحيى علیه السلام، والنبي شعيباً علیه السلام، ومَن حاول قتل نبي الله عيسى علیه السلام.
4- النصر الحقيقي في الثبات على المبدأ، حيث يتحقّق النصر بالبقاء على المبدأ والإيمان به، وقوة الحجّة، وصحّة البرهان، فلا يرى عدّوه بُدّاً من قتله والتخلّص منه؛ فيؤدّي ذلك إلى فشل وخزي الطرف المقابل، وهو دليل ضعفه وسقم حجّته:«قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ*فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ»(2).
هذه وأشياء أُخر هي في الحقيقة وجوه للنصر، وحقائق نابعة عنه.
علَّمتنا ملحمة كربلاء أنّ الإمام الحسين علیه السلام وأصحابه لم يكونوا يرون أنّ كلّ انتصار هو انتصارٌ حقيقي، ويصحّ أطلاق كلمة النصر عليه، بل الانتصار الحقيقي هو الذي يتحقّق بالطرق المشروعة، والمنازلة الشريفة، فهذا مسلم بن عقيل امتنع عن قتل عبيد الله بن زياد غيلةً، مع إمكان ذلك، لكنّه لم يفعل؛ مستنداً إلى قول رسول الله صلی الله علیه و آله : «إنّ الإيمان قيد الفتك»(3). فأين مدرسة الإمام الحسين علیه السلام من مدرسة (مكيافيلي)(4) صاحب شعار: الغاية تبرّر الوسيلة. وبالتالي؛ فإنّ أيّ طريق يحقّق النصر
ص: 97
هو حلال ومسموح به، ولازمٌ اتّباعه.
إنّ مدرسة الإمام الحسين علیه السلام هي مدرسة علي بن أبي طالب علیه السلام، الذي يقول: «الغالب بالشرّ مغلوب»(1). إذن؛ أصبح مفهوماً لدينا معنى كلمة الإمام الحسين علیه السلام: «...وأسير بسيرة جدّي، وأبي علي بن أبي طالب...»(2).
إنّ النهضة الحسينية المباركة كانت تحمل في أحشائها أجنّة النصر وعوامله، التي ساعدت في تحقّقه على أرض الواقع، ومن أهمّ هذه العوامل:
وهو ما عبّر عنه عبد الله بن عمار بن يغوث في وصفه لحال الإمام الحسين علیه السلام في ساحة المعركة: «ما رأيت مكثوراً قط، قد قُتل وُلْده وأهل بيته وصحبه أربط جأشاً منه، ولا أمضى جناناً، ولا أجرأ مقدماً، ولقد كانت الرجال تنكشف بين يديه إذا شدّ فيها، ولم يثبت له أحد»(3).
وكما قال المؤرّخ الأمريكي واشنطن أيروينغ(4): «كان بميسور الإمام الحسين النجاة
ص: 98
بنفسه عبر الاستسلام لإرادة يزيد، إلّا أنّ رسالة القائد الذي كان سبباً لانبثاق الثورات في الإسلام لم تكن تسمح له الاعتراف بيزيد خليفة، بل وطّن نفسه لتحمّل كلّ الضغوط والمآسي لأجل إنقاذ الإسلام من مخالب بني أُميّة، وبقيت روح الحسين خالدة، بينما سقط جسمه على الرمضاء اللاهبة. أيّها البطل، ويا أُسوة الشجاعة، ويا أيّها الفارس يا حسين»(1).
لقد كانت ترتعد فرائصهم خوفاً وفرقاً من شجاعته وبسالته، وكانوا لا يواجهونه رجلاً لرجل، بل يفرّون من أمامه فرار المعزى إن شدّ عليها الذئب، وكان عمر بن سعد يقول لجيشه: «ويحكم، اهجموا عليه ما دام مشغولاً بنفسه وحرمه، والله، إن فرغ لكم لا تمتاز ميمنتكم عن ميسرتكم»(2).
وقول السيدة زينب صلی الله علیه و آله لِ-مَن قال في مجلس ابن زياد: إنّ الحسين جاء في نفر من أصحابه وعترته، فهجمنا عليهم، وكان يلوذ بعضهم بالبعض، فلم تمضِ ساعة إلّا قتلناهم عن آخرهم. فكان جواب السيدة زينب صلی الله علیه و آله : «ثكلتك الثواكل أيّها الكذّاب، إنّ سيف أخي الحسين لم يترك في الكوفة بيتاً إلّا وفيه باكٍ وباكية، ونائح ونائحة»(3).
من أكبر عوامل النصر - النفسية والحقيقية - هو اليقين الثابت والإيمان الصلب الموجود في معسكر الإمام الحسين علیه السلام، الذي جعلهم يضحكون ويستبشرون بالشهادة، وهذا ما نجده حين يلاطف برير بن خضير عبد الرحمن الأنصاري، فيقول له عبد الرحمن: «ما هذه ساعة باطل؟ فقال برير: لقد علم قومي ما أحببت الباطل كهلاً ولا شابّاً، ولكنّي مستبشر بما نحن لاقون، والله، ما بيننا وبين الحور العين إلّا أن يميل علينا
ص: 99
هؤلاء بأسيافهم، ولوددت أنّهم مالوا علينا الساعة» (1).
«وخرج حبيب بن مظاهر يضحك، فقال له يزيد بن الحصين الهمداني: ما هذه ساعة ضحك! قال حبيب: وأيّ موضع أحقّ بالسرور من هذا؟! ما هو إلّا أن يميل علينا هؤلاء بأسيافهم فنعانق الحور»(2).
ويقول الكاتب والمفكِّر والمستشرق الإنكليزي توماس كارلايل(3): «أسمى درس نتعلَّمه من مأساة كربلاء هو أنّ الحسين وأنصاره كان لهم إيمان راسخ بالله، وقد أثبتوا فعلاً بعملهم ذاك أن التفوّق العددي لا أهمية له وقت المواجهة بين الحقّ والباطل، والذي أثار دهشتي هو انتصار الحسين رغم قلّة الفئة التي كانت معه»(4).
لقد كان أصحاب الإمام علیه السلام على قدر كبير من الشجاعة والإقدام، وقد أفصح عمرو بن الحجاج عن حقيقة شجاعتهم، وعزمهم على الموت؛ إذ يقول لأصحابه محرّضاً: «أتدرون مَن تقاتلون؟ تقاتلون فرسان المصر، وأهل البصائر، وقوماً مستميتين، لا يبرز إليهم أحدٌ منكم إلّا قتلوه على قلّتهم...»(5).
وقيل لرجل شهد الطف مع عمر بن سعد: «ويحك! أقتلتم ذريَّة الرسول؟! فقال: عضضت بالجندل، إنّك لو شهدت ما شهدنا لفعلتَ ما فعلنا، ثارت علينا عصابة أيديهم على مقابض سيوفهم كالأُسود الضارية، تحطّم الفرسان يميناً وشمالاً، تُلقي نفسها على الموت، لا تقبل الأمان ولا ترغب في المال، ولا يحول حائل بينها وبين المنيّة أو الاستيلاء على الملك، فلو كففنا عنها رويداً لأتت على نفوس العسكر بحذافيرها، فما كنّا فاعلين
ص: 100
لا أُمّ لك؟!»(1).
ومن أدلّة النصر التي كانت للحقّ يوم كربلاء هو طلب عزرة بن قيس المدد(2)، وهو على الخيل التي كانت في جند عمر بن سعد؛ وذلك حين رأى الوهن بادياً في أصحابه، فأمدّه بالحصين بن نمير مع خمسمائة من الرماة(3).
وكان معسكر الإمام الحسين علیه السلام يطغى عليه التعبّد والتبتّل، والصلاة والتهجّد، بينما معسكر عمر بن سعد؛ معسكر واجم، مظلم، غارق بالذنوب، ويتّصف أصحابه بسواد القلوب، مع سواد الوجوه والنيِّات.
ولقد أثّر معسكر الإمام الحسين علیه السلام في أصحاب عمر بن سعد؛ فخرج بعض منهم والتحق(4) بمعسكر الحسين علیه السلام لمّا شاهد سيماء الطاعة والخضوع لله تعالى عليه. وفعلاً فقد بشّرهم الإمام الحسين علیه السلام بالجنة في يوم العاشر من محرم، فلمّا فرغ علیه السلام من صلاة الظهر من ذلك اليوم، قال لأصحابه: «يا كرام، هذه الجنة قد فتحت أبوابها، واتصلت أنهارها، وأينعت ثمارها، وزُيِّنت قصورها، وتؤلّفت ولدانها وحورها، وهذا رسول الله صلی الله علیه و آله والشهداء الذين قُتلوا معه، وأبي وأُمي، يتوقّعون قدومكم عليهم، ويتباشرون بكم، وهم مشتاقون إليكم...»(5).
وقد قال رسول الله صلی الله علیه و آله في كلامه مع أبي ذر الغفاري في وصف معسكر الإمام الحسين علیه السلام ومكانتهم السامية: «... واعلم يا أبا ذر، أنّ للواحد منهم سبعين بدريّاً، يا أبا ذر، واحدٌ منهم أكرم على الله من كلّ شيء خلق الله على وجه الأرض... »(6).
ص: 101
وقال عنهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب علیه السلام: «...لا يسبقهم مَن كان قبلهم، ولا يلحقهم مَن كان بعدهم»(1).
ومن الأُمور التي أسهمت في أن تحقّق النهضة الحسينية أهدافها، وتنتصر على مناوئيها، هو أنّها كانت ثورة واضحة الأهداف، علنيّة المقاصد، وليس فيها غموض أو سرِّية، يجعلها عرضة للشك والريبة، فقد أبدى الإمام الحسين علیه السلام امتعاضه علناً من الحكم الأُموي الجائر من أيام معاوية، وتركّز هذا الامتعاض وعدم القبول عند تولّي يزيد للعرش، فأظهر معارضته العلنية لذلك، وكذلك كان خروجه علنيّاً، وهذا ما أكّده عندما لزم الطريق الأعظم، وقال لّما نصحه البعض بالتنكّب عنه: «لا والله، لا أُفارقه حتى يقضي الله ما هو قاضٍ»(2). وهنا سؤال قد يطرح: لماذا لزم الإمام الحسين علیه السلام الطريق الأعظم؟
والجواب: هناك عدّة أسباب منها:
أ) يستلزم من ذلك أنّه علیه السلام ليس طالب مُلك، ولو كان كذلك لخرج بسرّية تامّة لتحقيق ما يريده.
ب) لكي يُعلِن للملأ أنّ خروجه علنيّ، فلا يتحجّج مَن يريد التحجّج من جميع المسلمين في جميع الأمصار الإسلامية - وبالخصوص المدينة ومكة والبصرة والكوفة والشام - بأنّه لا يعلم ولم يعلم بخروج الإمام، ولو علم لبادر لنصرته!
ج) التحدّي الواضح والعلني للسلطة الحاكمة، وأنّ طالب الحقّ لا يخاف في الله لومة لائم.
يقول علي شريعتي: «وقبل أن يغادر الحسين المدينة أعلن أهدافه من هذا الخروج وهي: (السيرة بسيرة جدّه وأبيه) و(الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر).
ص: 102
ثمّ يطوي مسافة ستمائة كيلو متر بين مكة والمدينة بشكل علني هو وأهل بيته، وهو إذ يصل مكة يُعلِن على مسمع من جموع الحجّ المتوافدة من الربوع الإسلامية أنّه ماضٍ إلى الموت»(1). ولكنّه الموت الذي سيؤدي إلى النصر المحقّق والأبدي.
من أهمّ سمات النهضة الحسينية وعوامل انتصارها هو أنّها لم تكن محدودة الأهداف أو مقتصرة على فئة معيّنة؛ فقد جاءت لتعلن انتصارها للإنسانية المسلوبة وإرجاع الحقوق الضائعة جرّاء التمييز والطبقية؛ فجيش الإمام الحسين علیه السلام رغم قلّته فقد تجسّدت فيه الإنسانية والعالمية؛ إذ نجد فيه الحبشي الأسود، والتركي، والنصراني، فهو جيش الإنسانية يحارب جيش الشياطين.
وتمثّلت عالمية الثورة الحسينية من خلال تأثّر الكثير بهذه الثورة من غير الشيعة، بل من غير المسلمين من أهل الديانات الأُخرى في العالم، والشاهد على ذلك المقالات والأقوال التي ذكرناها وسنذكرها في طيّات البحث، استشهاداً واستطراداً وتأييداً لذلك.
كما أنّ عالميتها واضحة من جانب آخر، ألا وهو عالمية الرسالة الإسلامية التي جاء بها النبي محمد صلی الله علیه و آله ، وبالتالي عالمية رسالة الأئمة علیهم السلام، ومنهم الإمام الحسين علیه السلام؛ لذا فإنّ مَن يريد اختزال القضية الحسينية وحصرها بشعب معيَّن، أو طائفة معيَّنة، فهو مخطئ، يحتاج إلى إعادة النظر في كلّ منظومته المعرفية.
فالقضية الحسينية انطلقت وفق أهداف إنسانية بحتة، هدفها تحرير الإنسانية جمعاء بما تحمله من أهداف وقيم وتضحيات ونماذج مشرّفة، فهي قضية عامّة لكلّ بني الإنسان لا تختصّ بفئة معيّنة من الناس، ولا بمكان معيّن من الأرض، وهذا الأمر يتّضح عبر شعارات النهضة، وأقوال قائدها: «... ألا وإنّ الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين، بين السلّة والذلّة، وهيهات منّا الذلّة، يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون، وحجورٌ طابت
ص: 103
وطهرت، وأنوفٌ حميّة، ونفوسٌ أبيّة من أن نُؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام، ألا وإنّي زاحف بهذه الأُسرة على قلّة العدد، وخذلان الناصر...»(1).
وقوله علیه السلام: «فإنّي لا أرى الموت إلّا سعادة، والحياة مع الظالمين إلّا برماً»(2).
وكذلك قوله علیه السلام: «والله، لا أُعطيكم بيدي إعطاء الذليل، ولا أُقرُّ لكم إقرار العبيد»(3).
وكلّها مبادئ وشعارات يتمسّك بها جميع الأحرار والثوار أُسوة بالإمام الحسين علیه السلام.
ومن بين العوامل المساعدة في انتصار الثورة الحسينية ووصولها إلى غاياتها، هو الدور الإعلامي الكبير لأسرى كربلاء من أهل البيت علیهم السلام في فضح الحكومة الأُموية الظالمة، فقد استفادوا من فرصة أسرهم وانتقالهم من بلدٍ إلى بلد في ذلك، فكان لهذا الدور الأثر الكبير؛ بأن اتضحت للناس شرعية الثورة الحسينية، وحقيقة الدولة الأُموية، فهذه الدولة التي قتلت ابن بنت النبي صلی الله علیه و آله وأنصاره - ومعهم من أصحاب النبي صلی الله علیه و آله ، وأصحاب الإمام علي علیه السلام - ومنعتْ الماء عن أهل بيت النبوّة، وقتلت الأطفال الرضّع، ومثّلت بالأجساد وسلبتها، وقطعت الرؤوس، وحملتها على الرماح، حتى رؤوس الأطفال و...، فوقف هذا الإعلام الحقيقي أمام الإعلام الكاذب والمضادّ، فكان صراع بين الحقيقة الشاخصة والادعاءات الباطلة الواهمة.
إنّ هذا الدور الإعلامي كان مكمّلاً للدور العسكري الذي قام به الإمام الحسين علیه السلام، فإن كانت الثورة الحسينية قد خُنقت وأُسكتت في ساحة المعركة، إلّا أنّ المعركة الإعلامية لا يمكن إسكاتها ولا خنقها، وأنّ شعار: لا تُبقوا لأهل هذا البيت باقية، كان هدفه القضاء
ص: 104
عليهم عسكرياً وإعلامياً، لكنّ مشيئة الله تعالى جرت على غير ذلك.
وكان لخطبة الإمام علي بن الحسين زين العابدين علیه السلام، في مجلس يزيد في الشام، تأثيرها في تأليب الرأي العام عليه؛ ممّا اضطرّه لإخراجهم من الشام وإعادتهم خوفاً على سلطانه.
وصوت السيدة زينب صلی الله علیه و آله في الكوفة كان ناطقاً بالحقّ، يقول بشر بن خزيم الأسدي(1) عن السيدة زينب ودورها وخطبتها في الكوفة، تلك الخطبة المدوّية: «ونظرتُ إلى زينب بنت علي يومئذٍ، فلم أرَ خفرة قط أنطق منها، كأنّما تنطق عن لسان أمير المؤمنين»(2).
وقال عنها عبيد الله بن زياد - بعد أن أفحمته وأخزته -: «لعمري، إنّها لسجّاعة، ولقد كان أبوها أسجع منها»(3).
ومن كلامها في الشام مخاطبة يزيد: «...فو الله، لا تمحو ذكرنا، ولا تُميت وحينا، ولا تدرك أمدنا، ولا ترحض(4) عنك عارها، ولا تغيب منك شنارها...»(5).
وكذلك لها دورها لمّا رجعت إلى المدينة المنورة، فقد كتب عمر بن سعيد الأشدق - والي يزيد بن معاوية على المدينة - إلى يزيد، بشأن السيدة زينب صلی الله علیه و آله ونشاطها ودورها
ص: 105
في المدينة: «إنّ وجودها بين أهل المدينة مهيّج للخواطر، وإنّها فصيحة، عاقلة، لبيبة، وقد عزمت هي ومَن معها على القيام للأخذ بثأر الحسين»(1).
إنّ الإمام الحسين علیه السلام وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة، كان قلبه مطمئنّاً بأنّ أُخته زينب بنت علي بن أبي طالب علیه السلام ستُكمل الطريق، وستحمل الراية من بعده، لتنصبها في أرجاء المعمورة؛ ليكون اسم الحسين علیه السلام مناراً خفّاقاً، وشعاراً إلهياً عاماً وشاملاً، وأملاً لكلّ المستضعفين في الأرض، ولكلّ الأحرار في الدنيا.
ما تقدّم يمثّل أهم عوامل انتصار النهضة الحسينية، وفيما يأتي نعرض لأهمّ وأوضح مظاهر وتجلّيات هذا النصر على المستوى القريب والبعيد.
لقد أتت النهضة الحسينية أُكلها، وحقّقت أهدافها بالنصر المؤزَّر على كلّ ألوان الظلم والباطل، وتمظهر هذا النصر بمظاهر وأشكال متعدّدة، نذكر منها:
إنّ حفظ الدين هو النصر الأكبر، فقد قال إبراهيم بن طلحة للإمام السجاد علیه السلام: «يا علي بن الحسين، مَن غلب؟». فقال له الإمام السجاد علیه السلام: «إذا أردت أن تعلم مَن غلب، ودخل وقت الصلاة، فأذِّن ثمّ أقِم»(2). ويقول علي شلق(3): «بقي الحسين بن علي يُذكر حيّاً، نَضِراً، فوّاحاً، كلّما ذُكر محمد وآل محمد، ورسالة محمد صلی الله علیه و آله ، في كلّ صلاة، وفي كلّ تسليم»(4).
ص: 106
فقد حافظت الثورة الحسينية على الدين وعلى الصلاة التي هي عمود الدين، والتي أرادت طغمة بني أُميّة محوها، ويكفيك ما قاله أبو سفيان: «تلاقفوها يا بني أُميّة؛ فإنّه الملك، ولا جنّة ولا نار»(1). وبالتالي؛ لا دين ولا صلاة. وما عقّب معاوية بن أبي سفيان، لمّا سمع المؤذِّن يقول: أشهد أنّ محمداً رسول الله، بقوله: إلّا دفناً دفناً(2). أي أنّه سوف يسعى لدفن هذا الدين، بدفن الأذان ودفن الصلاة، ودفن ذكر محمد صلی الله علیه و آله ، بل دفنه بدفن آل بيته علیهم السلام.
وكذلك ما فعله من سبّه ولعنه للإمام علي علیه السلام على المنابر علناً، وكما يقول الدكتور سعيد عبد الفتاح عاشور المصري(3): «وكلّنا نعلم ماذا كان يقول زياد ابن أبيه وغير زياد من سباب، هو في حقيقة الأمر ليس موجّهاً إلى علي بقدر ما هو موجّه إلى المسلمين كافّة، وإلى نبيّ المسلمين، إلى رسول الله صلی الله علیه و آله ...»(4).
فالنهضة الحسينية لها الأثر البالغ في التعريف بالدين على حقيقته، وإيضاح معالمه، ورفع الشكّ والارتياب والحيرة عنه، فنقرأ في زيارته علیه السلام: «...فأعذر في الدعاء، وبذل مهجته فيك، ليستنقذ عبادك من الضلالة والجهالة، والعمى والشك والارتياب إلى باب الهدى من الردى»(5). ويقول الشيخ محمد عبده: «لولا الإمام الحسين لما بقي لهذا الدين من أثر»(6). وتقول الكاتبة الإنكليزية فريا ستارك(7): «إن كان الحسين قد حارب من
ص: 107
أجل أهداف دنيوية، فإنّني لا أدرك لماذا اصطحب معه النساء والصبية؟ إذن؛ فالعقل يحكم أنّه ضحى فقط لأجل الإسلام»(1).
ولعلّ هذا هو الفتح الذي عبّر عنه الإمام الحسين علیه السلام في كتابه إلى بني هاشم في المدينة، الذي قال فيه: «بسم الله الرحمن الرحيم، من الحسين بن علي إلى محمد بن علي ومَن قبله من بني هاشم، أمّا بعد، فإنّ مَن لحق بي استُشهد، ومَن لم يلحق بي لم يُدرك الفتح»(2).
فهو فتح للدين وللدعوة الإسلامية التي أراد بنو أُميّة ذبحها وإنهاء وجودها، لكنّ الإمام الحسين علیه السلام فتح الدين ونشره من جديد(3)، كما فعل جدّه المصطفى صلی الله علیه و آله ، فهو علیه السلام يقول في دعائه يوم عاشوراء: «اللهم، إن كنتَ حبست عنّا النصر، فاجعل ذلك لما هو خير في العاقبة، وانتقم لنا من القوم الظالمين»(4).
ص: 108
وقال المستشرق الفرنسي لويس ماسينيون(1): «أخذ الحسين على عاتقه مصير الروح الإسلامية، وقُتل في سبيل العدل بكربلاء»(2).
لقد لاحت بوادر انتصار الثورة الحسينية في وقت مبكّر جدّاً، فما أن أُسدِل الستار على الجريمة النكراء ظُهر عاشوراء، وتحرّك الركب المفجوع، حتى بدأت الأُمور تتغير وتتّجه في صالح الثورة، ومن الدلائل على ذلك تعاطف الناس الكبير مع السبايا عندما مرّوا بالكوفة، وغيرها من المدن الأُخرى، وكذلك امتناع الكثير من أهل البلدان والأماكن التي مرَّ بها الركب الحسيني عن استقبال قتلة ابن بنت رسول الله صلی الله علیه و آله (3).
وأيضاً إسلام الراهب اليهودي(4) ببركة الرأس الشريف، ولربّما ذكرت المصادر أكثر من واحد من اليهود والنصارى أسلم بسبب كرامات الرأس الشريف(5).
وتسمية أكثر من مكان في طريق السبايا باسم الحسين علیه السلام وبمَن مرَّ به، وكل ذلك تبرّكاً به، والمتتبّع لذلك يجد هذه الآثار والمقامات باقيةً إلى زماننا هذا، كمسجد النقطة، ومسجد الرأس، ومقام السقط، وغيرها على طول الطريق إلى الشام(6).
ولا ننسى المصير الأسود والجزاء العادل الذي لاقاه قتلة الإمام الحسين علیه السلام، يقول ابن كثير: «وأمّا ما رُوي من الأحاديث والفتن التي أصابت من قتله فأكثرها صحيح، فإنّه قلَّ مَن نجا من أولئك الذين قتلوه من آفة أو عاهة في الدنيا، فلم يخرج منها حتى أُصيب
ص: 109
بمرض، وأكثرهم أصابهم الجنون»(1). كلّ ذلك شكل من أشكال النصر لهذه الثلّة المباركة.
لقد انتصر الإمام الحسين علیه السلام على قتلته من بني أُميّة - وعلى رأسهم يزيد - في عقر دارهم، وذلك من خلال ما واجهوه من اعتراض واستياء من قبل أعوانهم ومقرَّبيهم، ومن الأمثلة على ذلك:
أ) اعتراض عبد الرحمن بن الحكم بن أبي العاص - الأُموي أخي مروان بن الحكم - عندما شاهد قافلة الأسرى ومعها رؤوس الشهداء من أهل بيت النبوّة في مجلس يزيد، فقال: «حجبتم عن محمد يوم القيامة، وإنّي لن أُجامعكم على أمرٍ أبداً»(2).
و قال أيضاً:
لهامٌ بجنب الطفّ أدنى قرابةً ***من ابن زياد العبد ذي الحسب الوغلِ
سميّة أمسى نسلها عدد الحص-ى ***وبنت رسول الله أمست بلا نسلِ(3)
وروي أن يزيد نظر إلى عبد الرحمن بن الحكم، وقال: «سبحان الله! أفي هذا الموضع تقول ذلك، أما يسعك السكوت؟!»(4). وروى أبو الفرج الأصفهاني: «إنّ يزيد صاح به: اسكت يا بن الحمقاء، ما أنت وهذا؟!»(5).
ب) موقف هند بنت عبد الله بن عامر بن كريز زوجة يزيد بن معاوية، والتي حين رأت رأس الحسين علیه السلام خرجت حاسرة، فوثبت على يزيد وقالت: «أرأس ابن فاطمة مصلوب على باب داري؟!...»(6). فقد ذكر أرباب التاريخ والسير بأنّه قد أُقيم مأتم
ص: 110
للإمام الحسين علیه السلام في بيت يزيد، رغماً عنه ولثلاثة أيام(1).
ج) موقف معاوية بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان، فقد صرّح على منبر الشام - مركز الخلافة الأُموية - بذمّ أبيه يزيد وجدّه معاوية، وأعطى الحقّ للأمام الحسين وعلي بن أبي طالب علیهما السلام، فهو لمّا خلع نفسه صعد المنبر، وقال فيما قال: «... يا أيّها الناس، ما أنا بالراغب في الائتمار عليكم لعظيم ما أكرهه منكم، وأنّي لأعلم أنّكم تكرهوننا أيضاً... إلّا أنّ جدّي معاوية قد نازع في هذا الأمر مَن كان أولى به منه ومن غيره؛ لقرابته من رسول الله صلی الله علیه و آله ، وعظم فضله وسابقته، أعظم المهاجرين قدراً، وأشجعهم قلباً، وأكثرهم علماً، وأوّلهم إيماناً، وأشرفهم منزلة، وأقدمهم صحبة، ابن عمّ رسول الله صلی الله علیه و آله ، وصهره وأخوه، زوّجه صلی الله علیه و آله ابنته فاطمة... ثمّ انتقلت الخلافة إلى يزيد أبي، فتقلّد أمركم لهوًى كان أبوه فيه، ولقد كان أبي يزيد - بسوء فعله، وإسرافه على نفسه - غير خليقٍ بالخلافة على أُمّة محمد صلی الله علیه و آله ، فركب هواه، واستحسن خطاه، وأقدم على ما أقدم من جرأته على الله، وبغيه على مَن استحلّ حرمته من أولاد رسول الله صلی الله علیه و آله ، فقلّت مدّته، وانقطع أثره، وضاجع عمله، وصار حليف حفرته، رهين خطيئته، وبقيت أوزاره وتبعاته...»(2).
ثمّ إنّ بني أُميّة قالوا لمؤدِّبه عمر المقصوص: «أنت علّمته هذا ولقّنته إيّاه، وصددته عن الخلافة، وزيّنت له حبّ علي وأولاده... وأخذوه ودفنوه حيّاً حتى مات»(3).
وكذلك امتدّ هذا التيار ليشمل أُسرة ابن زياد المعروفة بالفسق والفجور، والهمجية وسفك الدماء، فنجد أنّ أخا عبيد الله - وهو عثمان بن زياد - يعترض عليه ويقول: «والله، لوددت أنّه ليس من بني زياد رجل إلّا وفي أنفه خزامة إلى يوم القيامة، وإنّ حسيناً لم يُقتل»(4).
ص: 111
د) مرجانة أُمّ عبيد الله مع خبثها وفجورها، قالت له: «يا خبيث، قتلت ابن رسول الله، لا ترى الجنة أبداً»(1). مضافاً للاعتراضات التي صدرت على مَن اشترك بقتل الإمام الحسين علیه السلام، من أمثال؛ زوجة خولي، وزوجة كعب بن جابر، وغيرهم.
كانت الظاهرة الأُموية من أخطر الظواهر على الدين الإسلامي، والتي حذَّر منها النبي محمد صلی الله علیه و آله ؛ إذ قال: «إنّ أهل بيتي سيلقون من بعدي من أُمّتي قتلاً وتشريداً، وإنّ أشدّ قومنا لنا بغضاً بنو أُميّة...»(2). وقال صلی الله علیه و آله : «إذا بلغت بنو أُميّة أربعين رجلاً اتخذوا عباد الله خولاً، ومال الله دخلاً، وكتاب الله دغلاً»(3). وقال صلی الله علیه و آله : «إنّ لكلّ دين آفة، وآفة هذا الدين بنو أُميّة»(4).
وأخرج ابن أبي حاتم عن يعلى بن مرّة، قال: قال رسول الله صلی الله علیه و آله : «أُريت بني أُميّة على منابر الأرض وسيمتلكونهم، فيجدونهم أرباب سوء»(5). واهتمّ رسول الله صلی الله علیه و آله لذلك، فأنزل الله: «وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ»(6).
وقال أمير المؤمنين علیه السلام مُعرّفاً بني أُميّة ومحذّراً من الظاهرة الأُموية أيضاً: «ألا وإنّ أَخوَف الفتن عندي عليكم فتنة بني أُميّة؛ فإنّها فتنة عمياء مظلمة... وايم الله، لتجدنّ بني أُميّة لكم أرباب سوءٍ بعدي»(7). وقال علیه السلام: «لكلّ أُمّة آفة، وآفة هذه الأُمّة بنو أُميّة»(8).
ص: 112
وقال الإمام الحسن علیه السلام محذّراً من الظاهرة الأُموية: «ولو لم يبقَ لبني أُميّة إلّا عجوز درداء، لبغت دين الله عوجاً»(1).
كما أنّ الإمام الحسين علیه السلام قال محذّراً من الظاهرة الأُموية: «أيّها الناس، إنّ رسول الله صلی الله علیه و آله قال: مَن رأى سلطاناً جائراً، مستحلِّاً لحُرَم الله، ناكثاً عهده، مخالفاً لسنّة رسول الله، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، فلم يُغيِّر عليه بفعلٍ ولا قول، كان حقّاً على الله أن يُدخله مدخله. ألا وإنّ هؤلاء [أي بني أُميّة] قد لزموا طاعة الشيطان، وتركوا طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد، وعطّلوا الحدود، واستأثروا بالفيء، وأحلّوا حرام الله، وحرّموا حلاله، وأنا أحقّ ممَّن غيَّر»(2).
ويقول الإمام الصادق علیه السلام: «إنّ بني أُميّة أطلقوا للناس تعليم الإيمان، ولم يطلقوا تعليم الشرك؛ لكي إذا حملوهم عليه لم يعرفوه»(3).
وقد صرَّح الكثير من الكُتّاب والمفكّرين والمؤرّخين بخطر الظاهرة الأُمويّة:
يقول المقريزي حول أفعال بني أُميّة المُشينة: «هدّموا الكعبة، وجعلوا الرسول صلی الله علیه و آله دون الخليفة، وختموا في أعناق الصحابة، وغيّروا أوقات الصلاة، ونقشوا أكفّ المسلمين، وأباحوا أعراض المسلمات في المدينة ثلاثة أيّام، وأكلوا وشربوا الخمر على منبر رسول الله صلی الله علیه و آله ...»(4).
ويقول المستشرق الإنكليزي المعروف نيكلسون(5): «كان بنو أُميّة طغاةً مستبدّين، تجاهلوا أحكام الإسلام، واستهانوا بالمسلمين، ولو درسنا التاريخ لوجدنا أنّ الدين قام ضدّ الطغيان والتسلّط، وأنّ الدولة الدينية قد واجهت النظم الإمبراطورية، وعلى هذا؛
ص: 113
فالتاريخ يقضي بالإنصاف في أنّ دم الحسين في رقبة بني أُميّة»(1).
وبثورة الإمام الحسين علیه السلام ترسّخ للناس حقيقة أنّ طاعة بني أُميّة ليست من الدين بشيء، بل على العكس من ذلك؛ فإنّ الدين الحقيقي يدعو إلى البراءة منهم، والوقوف بوجههم، ومحاربتهم، والإطاحة بهم.
يقول الكاتب المصري عباس محمود العقاد: «ثورة الحسين واحدة من الثورات الفريدة في التاريخ، لم يظهر نظير لها حتى الآن في مجال الدعوات الدينية، أو الثورات السياسية، فلم تدم الدولة الأُموية بعدها حتى بقدر عمر الإنسان الطبيعي، ولم يمضِ من تاريخ ثورة الحسين حتى سقوطها أكثر من ستين سنة ونيف»(2).
وبالتالي؛ فشل يزيد بن معاوية ومن بعده الحكم الأُموي في تحقيق أهدافهم غير المشروعة، من القضاء على الإسلام كلّياً، بكلّ قوانينه وسننه ومعالمه وقيمه العليا، والسعي لمحو ذكر النبي محمد صلی الله علیه و آله من كلّ شيء حتى من الخطب والمجالس والكتب، بل أرادوا محوه حتى من أذان الصلاة، وقتل وتشريد أهل بيت النبي صلی الله علیه و آله ؛ وبالتالي كلّ مَن يتبعهم، ومحوهم من سجلّات الدولة، وعدم شمولهم بالعطاء، وعدم قبولهم في أيّ شهادة.
كانت ثورة الإمام الحسين علیه السلام ثورة الحقّ ضد الباطل، والعدل ضد الجور، وثورة الإسلام ضد الكفر، فكانت الشعار الرئيسي لكلّ الثورات التي جاءت بعدها، والمتتبّع للثورات التي حصلت بعد الثورة الحسينية يلمس - بما لا يقبل الشك - مدى التطور الثقافي الديني في أوساط الأُمّة بعد طول هجعة ورقاد، ومن هذه الثورات:
أ) ثورة المدينة بقيادة عبد الله بن حنظلة غسيل الملائكة، والتي دعت لخلع يزيد
ص: 114
وعرَّفته بكونه شارب الخمر، وملاعب القردة، وخارجاً عن الدين، فهي ثورة المظلومين ضد الظالمين، ويشير أكثر الكُتّاب إلى أنّ السبب الرئيسي والمهيّج لهذه الثورة هي زينب بنت علي علیهما السلام، ودورها المحرّض على حكم بني أُميّة، فقد كتب عمرو بن سعيد الأشدق - والي يزيد على المدينة - إلى يزيد بخصوص زينب ونشاطها، ودورها في المدينة: «إنّ وجودها بين أهل المدينة مهيّج للخواطر، وإنّها فصيحة، عاقلة، لبيبة، وقد عزمت هي ومَن معها على القيام للأخذ بثأر الحسين»(1).
ب) ثورة التوّابين سنة (65ه-)، بقيادة سليمان بن صرد الخزاعي(2)، وكان شعاره: الجهاد في سبيل الحقّ، والموت دون تحقيقه، وطلب الثأر من قتلة الحسين علیه السلام.
ج) ثورة المختار الثقفي سنة (66ه-)، تحت شعار: يالثارات الحسين.
د) ثورة صالح بن مسرح التميمي سنة (76ﻫ)، رافعاً شعار: محاربة الجور، وإقامة العدل.
ﻫ) ثورة مطرف بن المغيرة بن شعبة(3) على الحجاج بن يوسف الثقفي، سنة (77ﻫ)، داعياً إلى قتال الظلمة، وجهاد مَن حارب الحقّ واستأثر بالفيء، وحرم المسلمين منه.
و) ثورة عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث سنة (81ه-)، تحت شعار: الدعوة إلى كتاب الله وسنّة نبيِّه، وخلع أئمّة الجور.
ز) ثورة زيد بن علي بن الحسين علیه السلام سنة (122ه-)، على بني أُميّة.
ح) ثورة يحيى بن زيد بن علي بن الحسين علیه السلام سنة (125ه-)، على بني أُميّة.
ص: 115
ط) ثورة الحارث بن سريج سنة (128ه-)، إنكاراً للجور.
ي) ثورة أبي حمزة سنة (128ه-)، ضد آل مروان وظلمهم.
ك) ثورة بني العباس بقيادة أبي مسلم الخراساني التي ابتدأت سنة (129ﻫ)، واستمرّت حتى الإطاحة بالحكم الأُموي سنة (132ﻫ)، تحت شعار: الحكم لآل البيت.
هذا في عهد بني أُميّة، أمّا في عهد بني العباس، والذين ظهرت حقيقتهم وجورهم الذي زاد على جور بني أُميّة، فقد استمرّت الثورات في عهدهم ولم تخمد أبداً، كثورة أبي السرايا، محمد بن إبراهيم بن طباطبا العلوي، وغيرها.
يقول المستشرق الفرنسي (هنري ماسيه) في الإمام الحسين علیه السلام: «بالرّغم من القضاء على ثورة الحسين عسكرياً، فإنّ لاستشهاده معنًى كبيراً في مثاليّته، وأثراً فعّالاً في استدرار عطف كثير من المسلمين على آل البيت»(1).
تعرّض الحديث النبويّ للمنع والتزوير، وإنّ الثورة الحسينية فتحت الطريق لنشر الصحيح منه، والذي خفي عن الأُمّة بسبب سياسة الخلفاء الثلاثة، وسياسة بني أُميّة بعدهم وعلى رأسهم معاوية بن أبي سفيان، وبعد الثورة الحسينية فُتح الباب على مصراعيه ليُطرحَ أهلُ البيتِ علیهم السلام بِكونِهم الامتداد الحقيقي للرسالة النبوية، ومحور الإسلام، وملجأ الناس الصحيح بعد أن غفل عنهم وتركوهم وأنكروا حقّهم، وحاربوهم، وقد أشار الإمام الحسين علیه السلام لهذا بقوله: «...فإنّ السنَّة قد أُميتت، والبدعة قد أُحييت، فإن تسمعوا قولي أهدِكم إلى سبيل الرشاد»(2).
فلا بدّ من العلم بأنّ أخطر ما قام به معاوية بن أبي سفيان في أيّام استيلائه على السلطة هو تحريف أحاديث النبي محمد صلی الله علیه و آله ، بل ووضع الأحاديث الكاذبة على رسول
ص: 116
الله صلی الله علیه و آله ، من خلال استغلال السُّذّج وأصحاب الضمائر الميتة وذوي الأطماع الدنيوية، ممَّن رأوا رسول الله صلی الله علیه و آله وسمعوا حديثه وغيرهم، من خلال استغلالهم والاستفادة منهم استفادةً تخدم غايات وأهداف معاوية السلطوية.
ففي رواية علي بن محمد بن أبي سيف المدائني (ت 225ه-) في كتابه الأحداث، عمَّا ورد في كتاب معاوية بن أبي سفيان إلى عمّاله في كلّ الأمصار، وذلك بعد عام الجماعة: «أن برئت الذمّة ممَّن روى شيئاً من فضل أبي تراب وأهل بيته»(1). فقامت الخطباء في كلّ كورة وعلى كلّ منبر يلعنون علياً علیه السلام، ويبرؤون منه، ويقعون فيه وفي أهل بيته، وكتب إلى عمّاله في جميع الآفاق: «ألّا يُجيزوا لأحدٍ من شيعة علي وأهل بيته شهادة». وكتب أيضاً: «اُنظروا مَن قامت عليه البيّنة أنّه يحبّ علياً وأهل بيته، فامحوه من الديوان، وأسقطوا عطاءه ورزقه». كما وأمرهم بتحريف الأحاديث الواردة بحقّ الإمام علي علیه السلام، وكتابة الفضائل الملفّقة بحقّ أبي بكر وعمر وعثمان، وبني أُميّة، فنجد ابن عرفة المعروف ب-(نفطويه)(2) يقول: «إنّ أكثر الأحاديث الموضوعة في فضائل الصحابة افتُعلت في أيّام بني أُميّة تقرّباً إليهم، بما يظنّون أنّهم يرغمون به أُنوف بني هاشم»(3).
وكذلك بذل معاوية بن أبي سفيان أربعمائة ألف درهم لسمرة بن جندب؛ ليروي أنّ قوله تعالى: «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ»(4)، نزلت في عبد الرحمن بن ملجم المرادي قاتل أمير المؤمنين علیه السلام. وإنّ قوله تعالى: «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ
ص: 117
الْخِصَامِ»(1)، نزلت في علي بن أبي طالب(2).
ومن أبرز الذين اشترى معاوية بن أبي سفيان ضمائرهم بأمواله هم: أبو هريرة، وسمرة بن جندب؛ لذا يقول الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء: «...ولولا شهادته سلام الله عليه لكانت الشريعة أُمويّة، ولعادت الملّة الحنيفية يزيدية...»(3).
فكانت الثورة الحسينية الفتح الذي أخذ من خلاله أهل البيت مكانتهم في المجتمع؛ بكونهم قادة وأئمّة هدًى منصوصاً عليهم من قِبَل الله تعالى على لسان نبيّه الأكرم صلی الله علیه و آله .
إنّ الجريمة الكبرى والمصيبة العظمى التي حلّت بالإسلام والمسلمين في عاشوراء أدّت إلى زلزلة عروش بني أُميّة وكلّ الطغاة، وأبقت شعلة الإسلام وقّادة وأزليّة.
وهي صرخة مدوّية هزَّت كيان الأُمّة، وأخرجتها من سباتها العميق، ونبّهتها من غفلتها، وزعزعت أُسس الظالمين، ودكّت عروشهم، وأفشلت مخططاتهم القديمة والمستقبليّة؛ وأكبر دليل على ذلك: الثورات التي تلت الفاجعة - كما ذكرنا - والتي لم تقف إلّا بإسقاط ملك بني أُميّة إلى الأبد.
بل إنّ الثورة الحسينية أصبحت شعاراً للثوار - المظلومين والمضطهدين - في كلّ دول العالم باختلاف لغاتهم وألوانهم ودياناتهم، فحتى غير المسلم يستلهم العزم من الثورة الحسينية؛ فهذا غاندي(4) يقول: «تعلّمت من الحسين كيف أكون مظلوماً
ص: 118
فأنتصر»(1). والزعيم الأفريقي نيلسون مانديلا(2) يقول: «تعلّمت الثبات والصمود والصبر من الحسين وعائلته وأصحابه»(3).
كما قال القائد والمناضل الصيني ماو تسي تونغ(4) في الإمام الحسين علیه السلام، حينما زاره وفد من منظّمة التحرير الفلسطينية برئاسة أحمد الشقيري ممثّل ياسر عرفات، وذلك بعد انتكاسة - وخيانة - حزيران 1967م؛ وذلك للحصول على الدعم، وللتعرّف على أساليب النضال وسبل الكفاح الثوري في التجربة الصينية، فقال ماوتسي تونغ لأحمد الشقيري: «عُد إلى وطنك، فعندكم - أيّها العرب - الثورة الحسينية، فتعلّم منها كما تعلّمنا منها!»(5).
يقول الكاتب المسيحي أنطوان بارا(6) عن تأثير الثورة الحسينية في الحسّ الثوري العالمي: «المظلومون والمضطهَدون والمقهورون والمروَّعون - من كلّ المذاهب والبقاع - يتّجهون في كلّ رغباتهم إلى جوهر ثورة الحسين، ففي اتجاههم الفطري ورود إلى منبع الكرامة والإنصاف، والعدل والأمان»(7).
وظلّت كربلاء مدرسة للأجيال، وملحمة من ملاحم التاريخ الإنساني، خلقت
ص: 119
لدى الناس حسّ التضحية في سبيل الحقّ والعدل والإنسانية، وتجلّى فيها الاستعداد البشري للتّضحية في سبيل دين الله، والكرامة الإنسانية، وتبيّنت فيها حقيقة المواجهة مع الظلم والطغيان أيّاً كان وكيف كان، فلا حسابات عسكرية، ولا عُدّة أو عدد.
إنّ كربلاء الحسين علیه السلام أعطت درساً عملياً في عدم السكوت على الظلم ووجوب مجاهدة الظالم؛ فلو لم يقم الإمام الحسين علیه السلام بنهضته الدامية، وبقي في المدينة لا يحرّك ساكناً، لما انتفض المسلمون في مناطق الدولة الإسلامية، ولبقوا يسالمون ويهادنون الحكم الأُموي، ف-«لم يُبقِ الحسين لابن حرةٍ عذراً»(1).
ولعلّ من معالم ومظاهر انتصار الحسين علیه السلام في نهضته أنّه أحدث في قلب وروح وضمير وعقل الأُمّة الإسلامية هزّة وانقلاب؛ أدّى إلى تعظيمه وتقديسه وحصوله على مكانته وموقعه في الأُمّة الإسلامية، فأخذوا يبكون عليه بكلّ ألمٍ وحسرة وتفجّع، وبدموع غضّة طريّة جديدة، في كلّ زمانٍ ومكان، وكأنّ موته يتجدّد في كلّ ساعة، وفي كلّ حين، فحزنه لا يبرد أبداً. وذلك مصداق قول الرسول الأكرم صلی الله علیه و آله : «إنّ للحسين في بواطن المؤمنين معرفة مكتومة»(2). وقوله صلی الله علیه و آله : «إنّ لقتل الحسين حرارة في قلوب المؤمنين لا تبرد أبداً»(3).
وأصبح الإمام الحسين علیه السلام قائداً ورمزاً ربّانياً وخالداً للمسلمين، وكلّ الأحرار في العالم. وبقي ذكره تتناقله كتب التاريخ.
يقول إبراهيم بيضون: «...ومن هنا تكتسب ثورة الحسين ريادتها، بل فرادتها في التاريخ، متّخذة هذا المدى الواسع في مصنّفات المؤرّخين الكبار، الذين كسروا من
ص: 120
مناهجهم قاعدة كانت أخبار السلطة بها هي الطاغية على الدوام، فإذا بهم إزاء هذه الثورة يسهبون في التفاصيل، ولا تكاد تخفى عن عيونهم لحظة من مسيرة الحسين، وربّما جاز القول: إنّهم كانوا منضمين إليها بصورة غير مباشرة. خلافاً للنظرة العامّة للسلطة، التي كانوا يؤرّخون بوحيها (الثورة - الفتنة)...»(1).
أضحى مشهد الإمام الحسين وضريحه مناراً للثائرين، وشوكة في عيون الظالمين والحاسدين، وهو اليوم يطاول السماء علوّاً وشموخاً، وعليه من سيماء الهيبة والجلال، وسيبقى إلى يوم القيامة، وفي المقابل لا تجد لقبور الطغاة أو قصورهم عيناً أو أثراً، وهذا ترجمة لما قالته زينب صلی الله علیه و آله للإمام زين العابدين علیه السلام بعد فاجعة الطف: «...لا يجزعنّك ما ترى، فوالله، إنّ ذلك لعهد من رسول الله صلی الله علیه و آله إلى جدّك وأبيك وعمّك، لقد أخذ الله ميثاق أُناس من هذه الأُمّة، لا تعرفهم فراعنة هذه الأرض، وهم معروفون في أهل السماوات، إنّهم يجمعون هذه الأعضاء المتفرّقة فيوارونها، وهذه الجسوم المضرّجة، وينصبون لهذا الطف علماً لقبر أبيك سيّد الشهداء لا يُدرس أثره، ولا يعفو رسمه، على كرور الليالي والأيام، وليجتهدنّ أئمة الكفر وأشياع الضلالة في محوه وتطميسه، فلا يزداد أثره إلّا ظهوراً، وأمره إلّا علواً....»(2).
ويقول الشيخ محمد حسين المظفَّر: «...ولو رأيت اليوم القبور العلويّة المشيّدة في دمشق عاصمة بني أُميّة - مع اندراس قبور بني أُميّة - لعرفت كيف يعلو الحقّ، وإن اجتهد أعداؤه طول الزمن في طمسه»(3).
وأصبح هذا الضريح المقدّس مهوى المحبّين والموالين، يتهافتون على زيارته من كلّ
ص: 121
حدب وصوب، وقد حثّ أئمة أهل البيت علیهم السلام أصحابهم وشيعتهم على زيارة الإمام الحسين علیه السلام.
فعن الإمام الصادق علیه السلام: «مَن زار قبر الحسين علیه السلام في يوم عاشوراء عارفاً بحقّه، كان كمَن زار الله في عرشه»(1).
وعنه علیه السلام: «مَن بات عند قبر الحسين علیه السلام ليلة عاشوراء، لقي الله تعالى يوم القيامة ملطّخاً بدمه، كأنّما قُتل معه في عرصة كربلاء»(2).
وعنه علیه السلام: «مَن زار الحسين علیه السلام ليلة النصف من شعبان، وليلة الفطر، وليلة عرفة في سنة واحدة، كتب الله له ألف حجّة مبرورة، وألف عمرة متقبّله، وقُضيت له ألف حاجة من حوائج الدنيا والآخرة »(3).
وعنه علیه السلام: «وكّلَ الله بقبر الحسين علیه السلام أربعة آلاف مَلك شعثاً غبراً، يبكونه إلى يوم القيامة، فمَن زاره عارفاً بحقّه، شيّعوه حتى يبلغوه مأمنه، وإن مرض عادوه غدوةً وعشية، وإن مات شهدوا جنازته، واستغفروا له إلى يوم القيامة»(4).
والكثير جداً من الروايات التي تحثّ على الزيارة والبكاء، وإحياء هذه المراسم لتكون مصداقاً لقوله تعالى«ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ»(5).
ولا يخفى ما لضريح الإمام الحسين علیه السلام وتعاهده، وزيارته بهذه الهيئة من دور إعلامي كبير في إيصال مبادئ النهضة الحسينية ورسالتها إلى جميع الناس، وهذا من أكبر مظاهر النصر وأشكاله.
ص: 122
من النتائج والمعطيات المهمّة للنهضة الحسينية المباركة هي إقامة الشعائر، والممارسات والطقوس الحسينية، المشتملة على منابر الموعظة والإرشاد، والدعوة إلى كلّ ما يأمر به الإسلام من الاستقامة وفعل الخير، وينهى عنه من المنكر والبغي، وهذا هو التطبيق الحي لمبادئ وغايات النهضة الحسينية؛ ولذا نجد أنّ الطغاة يحاولون منع إقامة مراسم عاشوراء وما يرتبط بها؛ إمّا بالتعتيم والتكتيم والجفاء والإنكار، وإمّا بالإرهاب والمطاردة والمنع والتخويف والتقتيل؛ حتى وصل الأمر إلى تهديم القبور وقتل الزائرين، كما فعل سلاطين بني العباس(1)، والغزاة من الوهابية، وغيرهم من الطغاة.
يقول المؤرِّخ والكاتب المسيحي الأمريكي فيليب حتى (1886 - 1978م): «أصبح اليوم الذي قُتِل فيه الحسين بن علي يوم حداد ونوح عند المسلمين، ففي مثل هذا اليوم - أي: يوم عاشوراء - من كلّ عام تمثّل مأساة النضال الباسل والحدث المفجع الذي وقع للإمام الشهيد، وغدت كربلاء من الأماكن المقدَّسة في العالم، وأصبح يوم كربلاء وثأر الحسين صيحة الاستنفار في مناهضة الظلم»(2).
فإحياء فاجعة الطف يعدّ من الأشياء التي تثير حفيظة الظالمين، ممّا حدا بهم إلى منع ذلك والتنكيل بمَن يفعله، وما زاد ذلك الموالين والمحبّين إلّا إصراراً وعزماً على مواصلة ذلك، بل إنّ الطغاة مارسوا - بالإضافةِ إلى القتل والتشنيع والترويع - سياسة التهجير والإبعاد؛ ممّا أدى إلى انتشارِ الفكر الحسيني وفاجعة الطف في جميع دول العالم وبذلك انقلب السحر على الساحر.
ص: 123
يقول المستشرق الإنكليزي وليم لوفتس(1) في الإمام الحسين علیه السلام: «وهل ثمّة قلب لا يغشاه الحزن والألم حين يسمع حديثاً عن كربلاء؟! وحتى غير المسلمين لا يسعهم إنكار طهارة الروح التي وقعت هذه المعركة في ظلّها»(2).
ويقول الرئيس السابق للمؤتمر الوطني الهندي تاملاس توندون الهندوسي في الإمام الحسين علیه السلام: «هذه التضحيات الكبرى من قبيل شهادة الإمام الحسين، رفعت مستوى الفكر البشري، وخليق بهذه الذكرى أن تبقى إلى الأبد، وتُذكر على الدوام»(3).
فما ذكرناه وغيره من أوجه الانتصار ومظاهره استطاعت النهضة الحسينية تحقيقه وتفعيله في المجتمع، ولكن يبقى علينا إدامة زخم هذه الانتصارات والعمل بكلّ جدّ على إظهار الثورة الحسينية بوجهها الناصع الوضّاء.
ص: 124
الشَيخ كَاظِم القَره غُوليّ(1)
لا يزال الناس على طريقتهم المعتادة في إعطاء أنفسهم ما ليس لها من حقٍّ، وإدخالها فيما هي غير مؤهلة للدخول فيه، والباب الأوسع لذلك باب المعرفة والمعتقد؛ فتجد كثيراً من الناس يتحدَّثون في مسائل فكرية وعقدية عديدة ويبدون آراءهم فيها، ولعل ذلك يرجع إلى ضعف المانع والرادع من الخوض في مثل هذه الأُمور النظرية لعامّة الناس؛ لخفاء الخطأ فيها عادةً على الآخرين، بخلاف الأُمور العملية التي سرعان ما يظهر الخطأ فيها حتى للعامّة، هذا فيما يتعلَّق بنظرة المجتمع إلى مَن يتكلَّم بمثل هذه القضايا. وأمّا بالنسبة لصاحب الرأي نفسه، فضعف الرادع والمانع لديه عن إعمال النظر في غير ما هو متخصص فيه أوضح.
ص: 125
وإن كان النظر والفكر مرتبطاً بالدين، فإنّ الداعي والمقتضي للدخول في الطريق الخاطئ أقوى منه في المجالات الأُخرى، لا أقل من جهة تأثير الشيطان في دفع الإنسان لما يكون معه أقرب إلى الضلال في معتقده وجانبه النظري، والذي يترك أثره بلا شكّ على الجانب العملي في حالات متعددة، وقد يدعم ذلك أنّ التبعية لدين معيَّن تعني القبول بمنظومة أحكامه، وأنّ الإنسان مكلَّف بها. والتكليف من الكلفة التي هي بالضرورة قيد للنفس، والنفس تسعى ما أمكنها للتخلُّص منه، قال سبحانه وتعالى:«بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ*يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ»(1).
فإن لم يرفض الدين من أصله، فإنّه قد يتسامح في التعاطي مع بعض المفردات من حيث لا يشعر. والنفس تداهن كثيراً للتخلّص من تبعة تحديد الموقف العملي الحقّ، كما عبَّرت عن ذلك بعض كلمات أهل البيت علیهم السلام: «وأرى نفسي تخاتلني»(2). فما أكثر مَن يسعى لمعرفة الحقّ، لكن قد يؤدّي به سعيه الخارج عن الأُسس السليمة للتفكير المنطقي إلى الضلال «قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا *الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا»(3).
ونتيجة لما تقدَّم؛ فقد أُفرزت حالة من التعاطي الخاطئ مع الأدلّة الشرعية، أو ما يظنّ أنّه كذلك. فتعددت الآراء في المسألة الواحدة وتنوَّعت المذاهب، مع أنّ مستندها في بناء فكرها وتحديد منظومة أحكامها لا يخرج عن الموروث الفكري الديني الذي جاء به النبي محمّد صلی الله علیه و آله .
ومن تلك الموارد التي وقع الاختلاف فيها، ما يُستفاد من قوله تعالى:«...وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا »(4).
ص: 126
لقد استنبط الفقهاء من هذا المقطع المتقدِّم من الآية الشريفة قاعدة أسموها (قاعدة نفي السبيل)، وطبَّقوها في موارد فقهية عديدة، كالشفعة وملكية الكافر للمؤمن؛ ما يعني أنّ الاستفادة من هذه الآية الشريفة بهذا النحو لا ينافي القواعد العامّة للاستنباط، إلّا أنّ هذه القاعدة تصطدم بعقبة تتمثَّل في أنّ السبيل المنفي مقيَّد بنحو خاصّ، فلا يُستفاد منه إطلاق هذا السبيل المنفي، وهذا ما قد يُفهَم عند ملاحظة الآية بتمامها: «الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا»(1).
فالقيد هو قوله تعالى:«يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»، ممّا يوحي بأنّ السبيل المنفي سيكون يوم القيامة، ولا شكّ في أنّه هو القدر المتيقّن من الآية. ولكن قد اشتُهر بين الأصوليين أنّ خصوصية المورد لا تخصِّص الوارد، فالوارد هو نفي السبيل، والمورد هو يوم القيامة والدار الآخرة؛ ممّا يعني أنّ نفي السبيل لا يتحدد ولا يُقيَّد بالآخرة فقط؛ ولذا طبّقوا الآية في بعض الأحكام التي ظرفها الدنيا، ممّا يعني أنّهم لم يأخذوا دخالة المورد في تحديد إطلاق الآية الشريفة.
وقع شيء من اللَّبس عند بعضٍ دعاهم إلى إنكار بعض الوقائع التاريخيّة المهمّة وتوجيهها بالنحو الذي لا يتنافى مع هذه الآية بحسب فهمهم، والمَعلَم الشاخص في ذلك هو قتل الحسين علیه السلام بتلك الطريقة البشعة على أيدي أعدائه، فقد رأى هذا البعض أنّ ذلك منافٍ لقاعدة نفي السبيل؛ وزعموا أنّ الحسين علیه السلام لم يُقتَل وإنّما شُبِّه لهم، كما هو الحال في عيسى علیه السلام، حيث يصرِّح القرآن بأنّهم - أي اليهود - «وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ»(2) فقالوا في الحسين علیه السلام كما قال القرآن في عيسى علیه السلام.
ص: 127
وقد وردت روايات عديدة عن أهل البيت علیهم السلام تُفنِّد هذا الزعم الباطل، فعن الهروي، قال: «قلت للرضا علیه السلام: إنّ في سواد الكوفة قوماً يزعمون... قال: قلت: يا بن رسول الله، وفيهم قوم يزعمون أنّ الحسين بن علي لم يُقتل، وأنّه أُلقي شبهه على حنظلة بن أسعد الشامي، وأنّه رُفع إلى السماء كما رُفع عيسى بن مريم علیه السلام، ويحتجّون بهذه الآية «وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا»، فقال: كذبوا، عليهم غضب الله ولعنته، وكفروا بتكذيبهم لنبي الله في إخباره بأنّ الحسين بن علي علیهما السلام سيُقتل. والله، لقد قُتل الحسين وقُتل مَن كان خيراً من الحسين، أمير المؤمنين والحسن بن علي، وما منّا إلّا مقتول، وأنا - والله - مقتول بالسمّ باغتيال مَن يغتالني، أعرف ذلك بعهد معهود إليّ من رسول الله، أخبره به جبرئيل عن ربِّ العالمين.
وأمّا قول الله:«وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا»، فإنّه يقول: ولن يجعل الله لكافر على مؤمن حجّةً، ولقد أخبر الله عن كفار قتلوا النبيين بغير الحقّ، ومع قتلهم إياهم لم يجعل الله لهم على أنبيائه سبيلاً من طريق الحجّة»(1).
وفي رواية عبد الله بن الفضل الهاشمي، عن أبي عبد الله علیه السلام، قال عبد الله بن الفضل الهاشمي: «فقلت له: يا بن رسول الله، فكيف سمّت العامة يوم عاشوراء يوم بركة؟ فبكى علیه السلام ثم قال: لمّا قُتل الحسين علیه السلام تقرّب الناس بالشام إلى يزيد، فوضعوا له الأخبار وأخذوا عليها الجوائز من الأموال، فكان مما وضعوا له أمر هذا اليوم، وأنّه يوم بركة؛ ليعدل الناس فيه من الجزع والبكاء والمصيبة والحزن إلى الفرح والسرور والتبرّك والاستعداد فيه. حكم الله بيننا وبينهم.
قال: ثم قال علیه السلام: يا بن عم، وإنّ ذلك لأقلّ ضرراً على الإسلام وأهله مما وضعه قوم انتحلوا مودتنا وزعموا أنّهم يدينون بموالاتنا ويقولون بإمامتنا، زعموا أنّ الحسين علیه السلام لم يُقتل، وأنّه شُبِّه للناس أمره كعيسى بن مريم. فلا لائِمَةٌ - إذاً - على بني أُمية ولا عتب على زعمهم، يا بن عم، مَن زعم أن الحسين علیه السلام لم يُقتل فقد كذّب رسول الله وعلياً، وكذّب
ص: 128
من بعده من الأئمّة علیهم السلام في إخبارهم بقتله. ومَن كذّبهم فهو كافر بالله العظيم، ودمه مباح لكلِّ مَن سمع ذلك منه. قال عبد الله بن الفضل: فقلت له: يا بن رسول الله، فما تقول في قوم من شيعتك يقولون به؟ فقال علیه السلام: ما هؤلاء من شيعتي وأنا بريء منهم...»(1).
وقد ورد التوقيع بخطّ مولانا صاحب العصر والزمان علیه السلام على يد محمد بن عثمان العمري: «أمّا مَن زعم أنّ الحسين لم يُقتل فكفرٌ وتكذيبٌ وضلال»(2).
وأمّا عدم منافاة قتل الحسين علیه السلام - على أيدي أعداء الله تعالى - لآية نفي السبيل فبيانه: إنّ الآية لو كان فيها دلالة على العموم لمحل الكلام فدلالتها ليست قطعية، وإنّما هي بمستوى الظهور، والظهور حجّة في موردٍ إذا لم تقم القرينة على الخلاف. وليس المورد المبحوث فيه من موارد حجّية الظهور؛ لأنّه لا يُستنبط منه حكم فرعي، ولا تجري حجّية الظهور، بل مطلق التعبُّد في غير الفروع على القول المشهور. ثم لو كان محل الكلام من موارد جريانها فلا مجال لإجرائها؛ وذلك لقيام القرائن القطعية على خلافها، وكثرة النقوض على هذا المعنى، فلا يكاد وليٌ ينجو من استهزاء أو تسلّط الكافر عليه. وليس ببعيد أن يلزم تخصيص الأكثر، وهو قبيح لا سبيل إليه في كلام الشارع المقدَّس. مضافاً إلى تواتر الأخبار بأنّ الحسين علیه السلام قد قُتل على أيدي أعداء الدين، بعد أن حُرِم الماء، ونقض الناس عهودهم معه، فأسلموه إلى عدوِّه، بل ساهموا في قتله. ومع هذا؛ فلا يُصغى لقول مَن يقول: إنّ آية نفي السبيل تنفي أن يكون الحسين علیه السلام قد قُتل.
والذي ينبغي أن نسلِّط الضوء عليه هو أنّ ما جرى به القلم في واقعة عاشوراء وأمثالها موافق تمام الموافقة للنواميس الإلهية والسُّنن التي أجرى الله تعالى عليها هذا الكون ومنها سنّة الابتلاء والامتحان، خاصّة للأولياء والمقرَّبين، هذا أولاً. وثانياً: بيان وجه الحكمة في ذلك، وفي حدود ما تحدَّثت عنه الأدلّة الشرعية. وثالثاً: كشف اللوازم الباطلة لإنكار مقتل الإمام الحسين علیه السلام.
ص: 129
لقد اقتضت الحكمة الإلهية أن يُستخلف الإنسان في الأرض، وأن يسير في طريق يطلب فيه المعرفة ويتزوّد بالعمل الصالح إلى حين انتقاله إلى جوار ربّه، وقد وفّرت الذات الإلهية المقدّسة للإنسان كلَّ الوسائل التي يمكن أن تُسهم في إيصاله إلى الغاية المنشودة، وشاء الله تعالى أن يكون اختيار الإنسان عنصراً فاعلاً في كلّ خطوة في هذا المسار الطويل. إلّا أنّ السير في ذلك الطريق لنيل تلك الغاية مع توفير المقدمات المساهمة في المسيرة مسألة في غاية التعقيد؛ فقد تخفى علينا جهة الربط بين بعض المفردات والعقبات الموجودة في هذا الطريق - كشراك النفس ومزالق الهوى وكيد إبليس - وبين الهدف المرسوم سلفاً، وفي كثير من الأحيان نحتاج إلى تأمّل كبير أو إلى مراجعة الروايات الشريفة للوقوف على واقع ذلك الارتباط.
وكيف كان، فقد جُعل الابتلاء مَعْلَماً شاخصاً في هذا الطريق الطويل، ولم يقع الابتلاء على صنفٍ من الناس دون صنفٍ آخر، بل تكاد هذه السنّة الإلهية أن تعمّ سائر الناس بكلّ طبقاتهم وفئاتهم، إلّا أنّ الشيء الماثل للعيان من خلال الروايات والواقع الخارجي هو أنّ هناك تفاوتاً في كمية هذا الابتلاء وشدّته بين فصيل وآخر من المؤمنين، فتجد الأئمّة والأنبياء والأولياء هم أشدّ الناس ابتلاءً واختباراً، وكلّما ازداد إيمان العبد وصَلُح حاله ازداد بلاؤه، وهذا ما نلمسه في النص المروي عن عبد الرحمن بن الحجاج، قال: «ذكر عند أبي عبد الله علیه السلام البلاء وما يخصّ الله به المؤمن، فقال: سئل رسول الله صلی الله علیه و آله : مَن أشدُّ الناس بلاءً في الدنيا؟ فقال: النبيّون، ثم الأمثل فالأمثل، ويُبتلى المؤمن بعد على قدر إيمانه وحُسْنِ أعماله، فمَن صحّ إيمانه وحَسُنَ عمله اشتدّ بلاؤه، ومَن سخف إيمانه وضعف عمله قلّ بلاؤه»(1). وأيضاً عن أبي عبد الله علیه السلام، قال: «إنّما المؤمن بمنزلة كفّة الميزان، كلّما زيد في إيمانه زيد في ابتلائه»(2).
ص: 130
وعليه؛ فالابتلاء نوع من الحُبّ والاهتمام من الباري بعبده المؤمن، فعن أبي عبد الله علیه السلام أنّه قال: «إنّ الله إذا أحبّ عبداً غتّه بالبلاء غتّاً»(1). وعنه علیه السلام أيضاً، قال: «إنّ عظيم الأجر لمَعَ عظيم البلاء، وما أحبّ الله قوماً إلّا ابتلاهم»(2).
فكان الأنبياء وأهل البيت علیهم السلام والأولياء والصالحون محلّ بلاء الله الشديد، والذي قابلوه بالصبر والصلاة والدعاء والاستعانة بالله والتوكّل عليه سبحانه. روي عن أبي عبد الله علیه السلام أن قال: «إن كان النبي من الأنبياء ليُبتلى بالجوع حتى يموت جوعاً، وإن كان النبي من الأنبياء ليُبتلى بالعطش حتى يموت عطشاً، وإن كان النبي من الأنبياء ليُبتلى بالعراء حتى يموت عرياناً، وإن كان النبي من الأنبياء ليُبتلى بالسقم والأمراض حتى تُتلفه، وإن كان النبي ليأتي قومه فيقوم فيهم يأمرهم بطاعة الله ويدعوهم إلى توحيد الله وما معه مبيت ليلة، فما يتركونه يفرغ من كلامه ولا يستمعون إليه حتى يقتلوه، وإنّما يبتلي الله تبارك وتعالى عباده على قدر منازلهم عنده»(3).
وعن محنة النبي أيوب علیه السلام ورد عن الإمام الباقر علیه السلام أنّه قال: «إنّ أيوب علیه السلام من جميع ما ابتُلي به لم تنتن له رائحة، ولا قبحت له صورة، ولا خرجت منه مدّة من دم ولا قيح، ولا استقذره أحد رآه، ولا استوحش منه أحد شاهده، ولا تدوّد شيء من جسده. وهكذا يصنع الله بجميع مَن يبتليه من أنبيائه وأوليائه المكرمين عليه. وإنّما اجتنبه الناس لفقره وضعفه في ظاهر أمره، بجهلهم بما له عند ربّه تعالى ذكره من التأييد والفرج، وقد قال النبي صلی الله علیه و آله : أعظم الناس بلاءً الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل...»(4).
ومن هنا؛ تعرّض الكثير من الأنبياء لأنواع الفتك والقتل المروّع، كالذبح، والنشر بالمناشير، والصلب على جذوع الأشجار، وسلخ الجلد وفروة الرأس، والإلقاء في النار، والتغييب في مطامير السجون وغياهبها. وأكثر من تلك المحن والابتلاءات ما واجهه رسول
ص: 131
الله صلی الله علیه و آله ، وقد روي عنه أنّه قال: «ما أُوذي أحد ما أوذيت»(1). وأهل بيت رسول الله صلی الله علیه و آله كانوا في طليعة من ابتُلوا في هذه الأُمّة؛ لعظم إيمانهم وجليل مكانتهم، فلاقوا ما لاقوا من أعداء الله وأعداء الدين، قال المنهال بن عمر: «كنت جالساً مع محمد بن علي الباقر علیه السلام إذ جاءه رجل، فسلّم عليه، فردّ علیه السلام. فقال الرجل: كيف أنتم؟ فقال له محمد: أوَ ما آن لكم أن تعلموا كيف نحن؟ إنّما مثلنا في هذه الأُمّة مثل بني إسرائيل، كان يُذبح أبناؤهم ويُستحيى نساؤهم، ألا وإنّ هؤلاء يذبحون أبناءنا ويستحيون نساءنا»(2). فما جرى في يوم عاشوراء وعلى أرض كربلاء غير بعيد عن هذه السنّة الإلهية، ومنسجم تمام الانسجام مع النواميس الإلهية الحاكمة على الكون، خصوصاً مع ملاحظة أنّ الحسين علیه السلام سيد شباب أهل الجنّة وخامس أصحاب الكساء ووارث خاتم الأنبياء، بل وارث جميع الأنبياء. ومَن أوْلى منه بالغتّ بالبلاء وعظيم الامتحان؟!
لا شكّ في أنّ الله تعالى حكيم، وأنّ كلَّ ما أَذِنَ به أو خلقهُ لا يخلو عن وجهٍ للحكمة، ومن ذلك إذنه أو أمره التكويني بأن تجري الابتلاءات العظيمة على أوليائه. هذا على وجه الإجمال، وأمّا على وجه التفصيل فالكلام له وجهة عامّة ووجهة خاصّة بالحسين علیه السلام.
أمّا في الوجهة العامّة، فنذكر بعض الروايات التي تغنينا عن كثير من التأمّل، ولعلّ من أهمّ الروايات في ذلك ما ورد عن السفير، الحسين بن روح(قدَّس الله روحه)، فقد ورد عن محمد بن إبراهيم بن إسحاق الطالقاني، قال: «كنت عند الشيخ أبي القاسم الحسين بن روح (قدَّس الله روحه) مع جماعة فيهم علي بن عيسى القصري، فقام إليه رجل، فقال له: أريد أن أسألك عن شيء. فقال: سل عمّا بدا لك. فقال الرجل: أخبِرني
ص: 132
عن الحسين بن علي علیهما السلام أهو وليُّ الله؟ قال: نعم. قال: أخبرني عن قاتله أهو عدوُّ الله؟ قال: نعم. قال الرجل: فهل يجوز أن يُسلِّط الله عدوَّه على وليه؟ فقال له أبو القاسم (قدَّس الله روحه): افهم عنِّي ما أقول لك، اعلم أنّ الله لا يخاطب الناس بشهادة العيان، ولا يشافههم بالكلام، ولكنّه بعث إليهم رسلاً من أجناسهم وأصنافهم بشراً مثلهم» إلى أن يقول بعد استعراض معاجز الأنبياء: «كان من تقدير الله ولطفه بعباده وحكمته أن جعل أنبياءه مع هذه المعجزات في حالٍ غالبين، وفي أُخرى مغلوبين، وفي حالٍ قاهرين، وفي أُخرى مقهورين، ولو جعلهم في جميع أحوالهم غالبين وقاهرين ولم يبتلهم ولم يمتحنهم لاتخذهم الناس آلهة من دون الله، ولما عرف فضل صبرهم على البلاء والمحنة والاختبار، ولكنه جعل أحوالهم في ذلك كأحوال غيرهم؛ ليكونوا في حال المحنة والبلوى صابرين، وفي حال العافية والظهور على الأعداء شاكرين، ويكونوا في جميع أحوالهم متواضعين، غير شامخين ولا متجبِّرين، وليعلم العباد أنّ لهم علیهم السلام إلهاً هو خالقهم ومدبِّرهم؛ فيعبدوه ويطيعوا رسله، وتكون حجّة الله تعالى ثابتة على مَن تجاوز الحدَّ فيهم وادّعى لهم الربوبية، أو عاند وخالف وجحد بما أتت به الأنبياء والرسل، ليهلك مَن هلك عن بينة ويحيى مَن حيّ عن بينة. قال محمد بن إبراهيم بن إسحاق: فعدت إلى الشيخ أبي القاسم الحسين بن روح (قدَّس الله روحه) من الغد وأنا أقول في نفسي: أتراه ذكر ما ذكره لنا يوم أمس من عند نفسه؟ فابتدأني فقال: يا محمد بن إبراهيم، لئن أخِرّ من السماء أو تخطفني الطير أو تهوي بي الريح في مكان سحيق أحبُّ إليَّ من أن أقول في دين الله (تعالى ذكره) برأيي ومن عند نفسي، بل ذلك عن الأصل، ومسموع عن الحجّة صلوات الله عليه»(1).
وجاء في تتمّة الرواية المتقدِّمة عن الإمام الباقر علیه السلام التي تحدَّثت عن محنة أيوب علیه السلام وابتلائه، قال: «...وإنّما ابتلاه الله بالبلاء العظيم الذي يهون معه على جميع الناس؛ لئلّا يدّعوا له الربوبية إذا شاهدوا ما أراد الله أن يوصله إليه من عظائم نعمه تعالى متى
ص: 133
شاهدوه، ليستدلّوا بذلك على أنّ الثواب من الله (تعالى ذكره) على ضربين: استحقاق واختصاص؛ ولئلّا يحتقروا ضعيفاً لضعفه، ولا فقيراً لفقره، ولا مريضاً لمرضه. وليعلموا أنّه يُسقِم مَن يشاء ويشفي مَن يشاء، متى شاء كيف شاء، بأيِّ سبب شاء، ويجعل ذلك عبرة لِ-مَن شاء وشقاوة لِ-مَن شاء، وسعادة لِ-مَن شاء. وهو في جميع ذلك عدلٌ في قضائه، وحكيم في أفعاله، لا يفعل بعباده إلّا الأصلح لهم، ولا قوّة إلّا بالله»(1).
والمستفاد من هاتين الروايتين أنّ الحكمة فيما ينزل على الأولياء من بلاء ومحن تكمن في أُمور منها:
1- إنّ الابتلاءات تمنع عن الغلو في الأنبياء والأولياء واتّخاذهم آلهة من دون الله.
2- في الصبر على البلاء يظهر فضل الأولياء للناس؛ ممّا يكون أدعى للاعتقاد بهم والسير على نهجهم.
3- لا شكّ في أنّ الأنبياء أبعد الناس عن الاعتداد بالنفس والتجبُّر، وأقربهم إلى الشكر والتواضع، ولكن ذلك لا يعني أنّ المشكلة حُلَّت عندهم نظرياً، فانجرّ ذلك إلى التوفيق في مجال التطبيق، دون أن يكون للوقائع التي تحدث أمامهم أو تمرّ بهم أثر في ذلك، بل قد يقال: بأنّ للوقائع أثراً أيضاً في رقي ذواتهم وسموّها، فالبلاءات التي نزلت بهم لها أثرها في اتّجاه ما تدفع نحوه إدراكاتُ عقولهم السليمة، فبمجموع الفكر الذي يحملونه وما يواجههم من المحن والبلاءات يكون الأنبياء متواضعين غير متكبِّرين ولا متجبِّرين. فالمحن التي تواجههم تساهم في صياغة شخصياتهم واصطناعهم؛ ومن هنا جاء الخطاب لموسى الكليم علیه السلام:«ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى*وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي »(2)، وجاء قوله تعالى:«وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي»(3).
فإنّ الآيتين - خصوصاً الثانية - ظاهرتان في أنّه علیه السلام صُنِع وتكامل من خلال ظروف
ص: 134
مناسبة هيأتها الإرادة الإلهية؛ ممّا يوضِّح أنّ المسألة لم تُعالَج نظرياً فقط عند موسى علیه السلام، وما جرى على موسى علیه السلام لا يُمثِّل استثناءً، بل هذه هي سُنة الله تعالى في خلقه ولن تجد لسُنة الله تبديلاً، «وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا»(1).
4- بنزول البلاء على الأولياء يتجلّى للناس عملياً ما يقول الأنبياء علیهم السلام من أنّهم لا حول ولا قوّة لهم إلّا بالله، وأنّهم لا يملكون لأنفسهم ضرّاً ولا نفعاً، ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً، وأنّ المالك لأمرهم وأمر جميع الناس هو إلههم وربّهم؛ فتتمّ بذلك حجّة الله على الناس؛ « لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ»(2)، فيتنبهون حينئذٍ إلى ضعفهم وحاجتهم المستمرة إلى الله سبحانه.
كما أنّ للابتلاءات والمحن فوائد أُخرى كثيرة منها:
1- تُساهم الابتلاءات في منع إسقاط بعض المبتلين من أعين الناس؛ فلا يُحتقر ضعيف لضعفه، ولا فقير لفقره، ولا مريض لمرضه؛ إذ لو كان المرض وغيره موجباً للاحتقار لما ابتلى الله تعالى به الأنبياء والأولياء.
2- إنّ في الابتلاء رفعاً للدرجات، وتكاملاً للنفس وارتقاءً لها، ويوجب استحقاق الثواب من الله تعالى.
3- يتعلَّم الناس من ملاحظة ما عليه حال الأولياء عند نزول البلاء، كيف ينبغي أن يصنعوا عند نزول البلاء.
4- إنّ الابتلاءات تُذَكِّر الناسَ بالنعم الإلهية التي أنعم الله بها عليهم حين يرون المحروم منها.
5- تُظهِر الابتلاءات قدرة الأفراد الحقيقية على الاستجابة للأوامر الإلهية، وتُبرِز مقدار استحقاقاتهم.
6- تُكسِب النفس قوّة وقدرة على الثبات والمقاومة أمام مغريات الباطل.
ص: 135
فالابتلاء عنصر لكشف الاستحقاق ولتقوية الإرادة ورقي النفوس وغير ذلك من الفوائد(1) وهذا ما يجعل الابتلاء من النعم الإلهية، والأَولى بهذه النعمة هم الأقرب إلى الله تعالى، وقد وردت روايات كثيرة في هذا المعنى، فعن أبي عبد الله علیه السلام، قال: «إنّ أشدّ الناس بلاءً الأنبياء، ثمّ الذين يلونهم، ثمّ الأمثل فالأمثل»(2).
وفيما يتعلَّق بالإمام الحسين علیه السلام، فإنّ الحكمة الخاصّة بمقتله علیه السلام يتمثّل خطّها العامّ بصلاح الأُمّة - التي نكبت عن الصراط الحقّ وسلكت سُبُل الباطل - وتمثل هذا بالإصلاح النظري والعملي، أمّا النظري فلأنّه كشف عن وجوه الشؤم، تلك الأقنعة التي ساهم في وضعها علماء السوء وفقهاء البلاط وطلّاب الدنيا، فظهرت تلك الوجوه على حقيقتها البشعة والبعيدة كلّ البعد عن الدين، كما أظهر للناس جواز الخروج على الحاكم الجائر المستحلّ لحرمات الله تعالى.
وأمّا من الناحية العملية؛ فلأنّ الحرب في عاشوراء كانت بذرة خير أراد الله تعالى أن تسقى بدماء الأطهرين؛ لتنبت شجرة خيرٍ وعطاء تؤتي أُكُلَها كلَّ حين بإذن ربِّها. والكلام في هذا المبحث طويل الذيل، وله فروعه الكثيرة، ليس هنا محلّ ذكرها. ولست أتفاعل مع قول القائل: إنّه كان على الحسين علیه السلام إغاثة الملهوف الذي دعاهُ لنصرته في محاربة باطل الشام، وأنّه لولا ذلك لما انقطع الكلام: لِمَ لم يستجب علیه السلام للناس؟
فإنّه يرد على ذلك قطعاً أنّه حين علم بحال الكوفة وتبدُّل المواقف فيها ورجوع الناس القهقرى عمّا عاهدوه عليه وقتل مسلم رضوان الله عليه، لم يفكِّر - ولو للحظة - بالرجوع عن مسيره.
نعم، دعوة الناس له كانت لها خصوصية مؤثِّرة في حركته علیه السلام، ولكن لا من جهة
ص: 136
لزوم الاستجابة، بل من ناحية أنّ ذلك إذا ضُمَّ إلى نكول القوم وسعيهم لقتل الحسين علیه السلام سيكون أدعى لأن يتفعّل دور النفوس اللوّامة لتأخذ مدًى أوسع في تأثيرها على الوجهة العامّة للناس، التي عذَّب الكثيرَ منهم تأنيبُ الضمير؛ فحاولوا أن يتداركوا ذلك من خلال السعي لنصرة الحقّ ومحاربة الباطل ولو بعد حين.
وبالجملة؛ إنّ ذلك ساهم في سعي الناس لتغيير ما بأنفسهم، فجرى الميزان الإلهي « إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ »(1).
ويشهد لذلك أنّ الحسين علیه السلام قد جمع في كربلاء من العناصر التي تُساهم في إبراز عظم جرم أهل الكوفة وقطع الحجّة عليهم، وكان بعض تلك العناصر قد وفَّره علیه السلام من أوّل حركته حين أخذ النساء والأطفال، معلِّلاً ذلك بمشيئة الله تعالى أن يراهن سبايا.
فلا مجال بعد هذا إلى إنكار مقتل الحسين علیه السلام بحجّة منافاته لقاعدة: أن لا سبيل للكافر والفاسق على المؤمن، مضافاً لوجود لوازم باطلة لهذا الإنكار.
إنّ لهذا القول لوازم باطلة كثيرة، ومن ذلك تكذيب ما ورد في الكتاب الكريم من تعذيب المؤمنين بأيدي الكافرين، وما أكثر هذه المفردات - خصوصاً مع ملاحظة أنّ الآية التي ادُّعي دلالتها على ذلك - قد وردت بلفظ المؤمنين، وليس بلفظ الأولياء أو الأئمّة أو الأنبياء، وهو باطل بالضرورة.
كما يلزم من ذلك تكذيب النبي صلی الله علیه و آله والأئمّة علیهم السلام والسيدة الزهراء صلی الله علیه و آله ؛ حيث إنّهم أخبروا قبل يوم عاشوراء بما ينزل بالحسين علیه السلام. ولو التفت القائل إلى ذلك لكان مكذِّباً للمعصومين بما فيهم النبي صلی الله علیه و آله ؛ والمكذِّب لأحد منهم بمنزلة الكافر - لا أقل فيما يرجع إلى النبي - ومَن صدر منه ذلك يستحقّ أن يتبرَّأ منه الإمام المعصوم وينفي كونه من شيعته، أعاذنا الله تعالى من القول بلا علم.
ص: 137
ثمَّ أخبر مَن جاء بعد الحسين علیه السلام عن حصول هذا الأمر، وبكاء رسول الله صلی الله علیه و آله عليه في موارد متعددة نقلتها كتب العامّة فضلاً عن كتب الخاصّة، وبكاء علي وفاطمة والحسن علیهم السلام، وبكاء السجاد علیه السلام لأكثر من ثلاثين عاماً، وهكذا بقية الأئمّة علیهم السلام، وبكاء المولى صاحب الزمان عجل الله تعالی فرجه الشریف، فهل كلّ ذلك تأثّراً على حنظلة بن أسعد الشامي الذي قُتل بزعمهم من خلال إلقاء الشبه عليه؟! وهل سلم علي أو الحسن أو بقية الأئمّة علیهم السلام من القتل، أو أنّ الذي قتلهم كان من أولياء الله؟!!
ثمَّ إنّ واقعة كربلاء لم يحصل فيها قتل الحسين علیه السلام فقط، فقد قُتِلَ أبو الفضل العباس وعلي الأكبر علیهما السلام والأكابر من الصحابة، وسُبيت النساء الهاشميات، فهل تُحلّ المشكلة بالقول: إنّ الحسين علیه السلام لم يُقتل وإنّما قُتل شبيهه!
وكيف كان، فالآية تنفي أن يجعل الله تعالى حكماً شرعياً يؤدّي تطبيقه إلى تسلُّط الكافر على المؤمن، كما تنفي أن يكون للكافر سبيلٌ عقليٌّ - أي حجّة تامّة - على المؤمن فيغلبه في حجّته. وهذا الأخير لا يحتاج إلى مؤونة إثبات؛ لأن المؤمن يفترض به أن لا يعتقد إلّا بالحقّ، وماذا بعد الحقّ إلّا الضلال، فما يعتقد به غير المؤمن ليس إلّا الباطل. وهل يمكن لحجّة الباطل - أي: صورة حجّة - أن تغلب الحجّة الحقّة على المعتقد الحقّ؟! وإنّما قلنا: صورة حجّة أو برهان؛ لأنّ الباطل لا يمكن أن تُقام عليه حجّة، وما يُساق من كلام لإثبات الباطل، فهو يُصوَّر بصورة البرهان أو الحجّة.
بقي أمر وهو: ما هو السرّ في تشديد الروايات الشريفة على القائلين بهذه المقولة؟
والجواب: إنّ عظمة واقعة كربلاء منبثقة من عمق المأساة التي حصلت فيها، والتي ارتكبها أعداء الحسين علیه السلام، حين قطعوا الماء عن سبط رسول الله صلی الله علیه و آله ومنعوه من الذهاب إلى بلاد أُخرى في الطلب الصوري الذي صدر من الحسين علیه السلام، وأحاطوا الثلّة المؤمنة - التي وقفت مع إمام زمانها - بسيل من البشر لا يُفسّره إلّا جبن الأعداء وخسّة نفوسهم،
ص: 138
وحين قتلوا أصحابه الذين هم خيرة الناس، أمثال: حبيب، وزهير، وبرير، وعابس، ومسلم بن عوسجة، وأهل بيته علیهم السلام - صنّاع التاريخ وأبطال المجد والمعالم الشاخصة على مرّ التاريخ - أمثال: أبي الفضل، وعلي الأكبر. وأيّ موقف يضاهي موقف القاسم؟! إلى بقية أبطال هذه القصّة، بل وقتل الرضيع الذي لا ذنب له، عدا كونه من أهل بيت علي علیه السلام، ثمّ سَحْق الأجساد الطاهرة، وحمل الرؤوس على الرماح، وسبي الهاشميات، وقبل ذلك يُنادى في جمعٍ من أُمّة محمد صلی الله علیه و آله : أن لا تبقوا لأهل هذا البيت باقية، وأحرقوا بيوت الظالمين، وتركوا الجثث في العراء بلا كفن ولا دفن، يضاف إلى ذلك أنّ القاتلين هم مَن دعا الحسين علیه السلام لنصرتهم.
ولعمق هذه المأساة بدأ وقعها يكبر في النفوس، فقد تفاعلت صُوَر تلك المأساة في نفوس القوم، وبدأ النتاج؛ حيث لاحت بوادر التغيير في نفوس الناس، وشرعوا بالسعي للتكفير عن تلك الخطيئة، وعمّ بعد حين إحساس المسلمين بالحَيف من سوء ما حصل، فسعوا إلى الثأر وإتمام الطريق الذي تحددت ملامحه بدم الحسين وأصحابه وأهل بيته. وما زال ذلك المقطع من التاريخ مُلهِماً للأجيال فكرة رفض الظلم، ومردّداً في نفوسهم صرخة الإباء من الحسين علیه السلام: هيهات منّا الذلّة.
فإذا قيل: إنّ المنادي لم يكن هو الحسين علیه السلام، والمقتول ليس إلّا رجلاً شامياً معادياً لأهل البيت علیهم السلام، فهل يبقى بعد ذلك شجًى؟! وهل تبقى المأساة على عمقها؟! وهل ستكون عاشوراء معطاءً كما هي الآن؟!
إنّ هذه المقولة تنسف كلّ جهود وتضحيات الحسين علیه السلام وأهل بيته وأصحابه، وتقلب صفحة سوداء في تأريخ بني أُمّية والخلافة الباطلة، وتُلغي سوادها.
ومن هنا؛ كان ضرر هذه المقولة أشدّ من ضرر مقولة القائل: بأنّ يوم عاشوراء يوم بركة، وافترائه بأنّ عدّة حوادث سعيدة مهمّة في التاريخ قد وقعت فيه.
ص: 139
ص: 140
*مقتل الحسين علیه السلام
برواية عمّار بن أبي معاوية الدهني الكوفي
*نجوم في سماء الحسين علیه السلام (الحرّ الرياحي)
دراسة استدلالية لحركته العسكرية وموقفه من حادثة الطف
*هل وطأت الخيل جسد الحسين علیه السلام؟
*العنايات الإلهية بالإمام الحسين علیه السلام
ص: 141
ص: 142
الشَّيخ عَامِر الجَابريّ(1)
نحن بين يدي المحدّث والأخباري القديم عمّار الدهني، وهو من الشخصيات الكوفية التي برزت في نهايات القرن الأوّل وبدايات القرن الثاني، وقد عُرف بوصفه محدّثاً أكثر من أيّ شيءٍ آخر.
وعمّار الدهني هو والد معاوية بن عمّار المحدّث المعروف، ولكن لم تكن منزلة عمّار - عندنا نحن الإمامية - كمنزلة ولده معاوية، فقد وقع خلاف في مذهب عمّار ومعتقده، كما أنَّ موقف علمائنا غامض من وثاقته وعدالته كما سيأتي، بينما لا نجد اختلافاً في إمامية معاوية بن عمّار، ولا تشكيكاً من أحد في كونه من ثقات محدّثي الطائفة وأجلّائها.
ص: 143
كان عمّار الدهني من المهتمين بمعرفة تفاصيل مقتل الحسين علیه السلام، وكان يطمح أن تكون معرفته بما جرى في كربلاء معرفة يقينية، معرفة غير قائمة على الحدس والتخمين، اللذين لا ينفكان عن إخبارات المؤرخين وحكاياتهم، فلم يجد مَن يجمع بين هذين الأمرين سوى الإمام الباقر علیه السلام، فذهب إليه، وطلب منه أن يحدّثه بمقتل الحسين علیه السلام، حديثاً يكون معه عمّار الدهني بمنزلة الحاضر في تلك الأحداث، فحدّثه الإمام علیه السلام عن ذلك، في رواية مفصَّلة سنأتي عليها في مطاوي البحث.
ولو سَلِمَ هذا المقتل من تلاعب الرواة الذين جاؤوا بعد الدهني لكان في هذا المقتل غنًى عن سائر المقاتل، ولكنَّه مع الأسف لم يُرو عن طرقنا، بل وصلنا عن طريق العامّة، وقد توسط في الطريق بعض الكذّابين والمدلّسين الذين تلاعبوا بالنص بالحذف تارةً، وبالدّس أُخرى؛ ففقد بذلك قيمته، وأهملته المصادر الشيعية المعنيّة بذكر وقعة الطفّ.
وفي الصفحات التالية ستكون لنا رحلة تحقيقية، نفصّل الكلام في القسم الأوّل منها حول ترجمة عمّار الدهني، ثمّ نتحدّث في القسم الثاني حول مقتل الإمام الحسين علیه السلام الذي تم نقله عن عمّار الدهني، ونناقش أهمّ فقراته، ونختم بخلاصة وافية للبحث، إن شاء الله تعالى.
ويقع الكلام في سبعة جوانب:
قال السمعاني: «قرأت بخطّ أبي بكر الأودني ببخارى، على وجه الجزء التاسع والعشرين، من كتاب الغريب لأبي سليمان الخطابي، سمعت أبا سليمان، يقول: سمعت أبا سعيد بن الأعرابي، يقول: سمعت عباساً الدوري، يقول: سمعت يحيى بن معين، يقول: عمّار الدهني، دهن قبيلة من بجيلة»(1).
وقال ابن عبد البر: «ومن بطون بجيلة: دهن بن معاوية بن أسلم بن أحمس بن الغوث بن أنمار، ومن دهن هذا: عمّار بن أبي معاوية الدهني»(2).
1- معاوية بن عمّار: هو المحدّث الإمامي، الثقة المشهور، الذي كان من خواصّ الإمام الصادق علیه السلام، وكان - بحسب تعبير النجاشي - «وجهاً في أصحابنا ومقدّماً، كبير الشأن، عظيم المحل»(3).
له عدّة كتب، منها: كتاب الحج، وكتاب يوم وليلة، وكتاب الزكاة، وغير ذلك(4).
2- معاوية بن حكيم: وهو معاوية بن حكيم بن معاوية بن عمّار الدهني - أي من أحفاد عمّار الدهني - وهو من الثقات الأجلّاء، ومن أصحاب الإمام الرضا علیه السلام، قال أبو عبد الله الحسين بن عبيد الله: سمعت شيوخنا يقولون: «روى معاوية بن حكيم أربعة وعشرين أصلاً لم يروِ غيرها. وله كتب، منها كتاب الطلاق، وكتاب الحيض، وكتاب الفرائض، وكتاب النكاح، وكتاب الحدود، وكتاب الديات، وله نوادر»(5).
3- أحمد بن معاوية: وهو أبو الفضل أحمد بن معاوية بن حكيم بن معاوية بن عمّار - ويُعتبر أيضاً من أحفاد عمّار الدهني - سمع منه ابن عقدة، وقال: مات سنة 292ه-.
ص: 145
وله ثمانٍ وستون سنة(1).
4- يونس بن يعقوب: وهو يونس بن يعقوب بن قيس أبو علي الجلاب البجلي الدهني، حيث إنَّ أُمّه هي منية بنت عمّار الدهني؛ فيكون من أسباط عمّار، وهو من خواصّ الإمامين الصادق والكاظم علیهما السلام، وكان وكيلاً للإمام الكاظم علیه السلام، ومات في المدينة في أيّام الرضا علیه السلام، فتولى أمره. وكان من المحظوظين والموثّقين عند الأئمة علیهم السلام(2).
توجد ثلاث حقائق تاريخية في سيرة عمّار الدهني لا يرتقي إليها شك، ولا تطالها شبهة:
الحقيقة الأُولى: إنّه قد ولد بالكوفة، كما تشهد بذلك المصادر التي تعرّضت لترجمته ولقّبته ب- (الكوفي)(3). أو التي قالت: إنَّ عداده في أهل الكوفة(4).
ولم يُنسب عمّار إلى أيّ مدينةٍ سوى الكوفة، وهذا ما يجعلنا نطمئن بأنّه من مواليد هذه المدينة، ولم يكن مجرّد نزيل فيها.
الحقيقة الثانية: إنّه قد نشأ وتعلّم الحديث فيها أيضاً، يدلّنا على ذلك أنَّ أكثر شيوخه، وأساتذته، هم من أهل الكوفة.
الحقيقة الثالثة: إنّه قد حدّث وبثّ ما لديه من العلم فيها كذلك، وهذا واضح من خلال مراجعة سِيَر تلامذته وتراجمهم، والمستفيدين منه؛ حيث إنَّ غالبيتهم من أهل الكوفة.
فهذه الحقائق الثلاث ممّا لا ريب فيها، ولكن ما يحتاج إلى مزيد من البحث
ص: 146
والتنقيب، هو تحديد - أو على الأقل - تخمين زمان ولادته، وفي الحقيقة إنَّنا نفتقر إلى وجود نص في هذا المجال، ولا يمكننا أن نُحدد زمان ولادة عمّار الدهني تحديداً دقيقاً. ولعلَّ أهمّ ما ينفعنا في هذا الصدد هو روايته عن عدّة ممَّن كانت وفياتهم في تسعينيات القرن الهجري الأوّل، ومنهم:
1- سعيد بن جبير، قُتل سنة 94ه-.
2- إبراهيم النخعي، مات سنة 96ه-.
3- إبراهيم التيمي، مات سنة92أو 94ه-.
وقد تتبعت شيوخ الدهني وأساتذته، فلم أجد فيهم مَن توفّي في ثمانينيات القرن الأوّل، وهذا إن دلَّ على شيء فإنّما يدلُّ على أنَّه كان صبياً صغيراً غير مؤهّلٍ لتلقّي الحديث في الثمانينات، وبهذا نستطيع أن نخمّن أنَّ ولادته كانت قُبيل أو بُعيد عام 80ه-، وأنَّه طلب العلم في مدّة التسعينات، ولعلّه لم يكن قد بلغ آنذاك؛ ولذا نجد أنَّ ابن عياش كان يُشكّك في سماع سعيد بن جبير(1).
نعم، روى العقيلي عن عبد الله بن أحمد، عن البخاري، عن علي بن المديني، قال: قال سفيان: «قطع بشر بن مروان عرقوبيه(2)، فقلت: في أيِّ شيء. قال: في التشيع»(3). وبشر بن مروان هو أخو عبد الملك بن مروان الذي وليَ إمرة العراق لأخيه عبد الملك، وكانت وفاته سنة 75ه-(4)، فإذا افترضنا أنَّ عمّاراً الدهني في أيّام بشر كان 15عاماً، - كما هو أقل الفروض المحتملة - تكون ولادته تقريباً عام 60ه-، وهذا يعني أنّه كان في الثمانينيات شاباً قد تجاوز العشرين، وهذا بدوره يتعارض مع عدم نقله، ولو لحديث واحدٍ من رجلٍ واحدٍ من رواة الحديث الذين كانت وفياتهم في الثمانينيات، ولعلّ
ص: 147
الذهبي كان ملتفتاً إلى هذا التعارض، حيث يقول - بعد أن أشار إلى هذه الرواية -: «وأراه كان صبياً شاباً في أيّام بشر»(1).
أقول: إنَّ افتراض كونه صبياً شاباً في أيّام بشر لا يحلُّ الإشكالية، وإنَّما افترض الذهبي ذلك ليتملّص من ردِّ الرواية، وأنَّى له ذلك، فالرواية - بناءً على ما تقدّم - غير قابلة للإثبات التاريخي.
ومما يُثير الشك حول هذه الرواية أيضاً، أنَّ العقيلي ذاته، قد روى مضمون هذه الرواية عن سفيان نفسه، ولكن بحقِّ مصدع أبي يحيى الأعرج، وليس في حقِّ الدهني(2).
لم يُعرف الدهني بكونه مؤرخاً، بل اشتُهر بوصفه محدّثاً، ولعلّ أهمّ وأدق ما قيل في بيان مكانته العلمية هو نعت الذهبي له ب- «الإمام المحدّث»(3)، ووصف النجاشي له - في ترجمة ابنه معاوية - حيث قال: «وكان أبوه عمّار ثقة في العامّة، وجهاً»(4).
وقد عدّه ابن النديم من فقهاء الشيعة ومحدّثيهم وعلمائهم، ومن مشايخهم الذين رووا الفقه عن الأئمة علیهم السلام(5)، وسيأتي الحديث عن مذهبه، وكونه من الشيعة بالمعنى العام للتشيع، والمساوي للميل والمحبة لأهل البيت علیهم السلام.
وأمّا طبقته، فقد عدّه الشيخ في رجاله من أصحاب الصادق علیه السلام(6)، مع أنّه قد روى عن الإمام الباقر علیه السلام أيضاً، ويكفي أن نستشهد على ذلك بمقتله الذي نحن بصدده، حيث سيتضح أنّه يرويه عنه علیه السلام.
ص: 148
وقد عدّه ابن حجر من الطبقة السادسة(1)، وقد «روى عن إبراهيم التيمي، وبكير الطويل، والحكم بن عتيبة، وسالم بن أبي الجعد، وسعيد بن جبير، وأبي فاختة سعيد بن علاقة، وأبي وائل شقيق بن سلمة، وأبي الطفيل عامر بن واثلة، وعبد الله بن شداد بن الهاد، وعبد الجبار بن العباس الشبامي، وعبد الرحمن بن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، وعطية العوفي، ومالك بن عمير الحنفي، ومجاهد بن جبر المكي... وروى عنه الأجلح الكندي، وإسرائيل بن يونس، وجابر الجعفي، وأبو صخر حميد بن زياد المدني، وخالد بن يزيد بن أسد بن عبد الله القسري، وزهير بن معاوية، وسفيان الثوري، وسفيان بن عيينة، وشريك بن عبد الله، وشعبة بن الحجاج، والصباح بن يحيى، وعبد الله بن الأجلح، وعبد الله بن شبرمة، وعبد الجبار بن العباس الشبامي، وعبيدة بن حميد، وغيرهم كثير»(2).
ولم يكن للدهني نشاطٌ تأليفي واسع، ولعلّ السبب في ذلك - في تقديرنا - هو أنّه قد تُوفّي ما بين عامي 133-140ه- كما سنُبيّن، وقد كانت حركة التدوين والتأليف والتصنيف في هذه المدّة ضعيفةً جداً عند العلماء المخالفين لخط أهل البيت علیهم السلام، فمع أنَّ قانون منع التدوين الجائر قد أُلغي في مطلع القرن الثاني الهجري، بقرار من عمر بن عبد العزيز(3)، غير أنّ التفاعل مع هذا القرار والتجاوب معه بشكل واعٍ وشامل قد تأخَّر لعقود، وقد كان تجاوب العلماء معه - وقت صدوره - متفاوتاً، فالعلماء الواعون الذين كانوا يرون قانون منع التدوين قانوناً ظالماً، قد رحّبوا بهذا القرار، وبادروا مباشرةً إلى تدوين ما يحملونه من العلم، وهؤلاء هم العلماء الذين كانوا يسيرون على هدي أهل البيت علیهم السلام، ويستضيئون بتعليماتهم وتوجيهاتهم، وأمّا العلماء الذين لم يكونوا على صلةٍ وثيقةٍ بخط أهل البيت علیهم السلام - ومنهم عمّار الدهني - فقد كانت استجابتهم لهذا القرار بطيئة، ولم يتفاعلوا معه كما ينبغي.
ص: 149
قال أبو طالب المكي: «كره كتب الحديث الطبقة الأُولى من التابعين... وأجاز ذلك من بعدهم، وما حدث التصنيف إلّا بعد موت الحسن البصري (ت110ه-)، وابن المسيب (ت 94 أو 105ه-)»(1).
وقال الغزالي: «الكتب والتصانيف مُحدثة ولم يكن شيء منها زمن الصحابة وصدر التابعين، وإنَّما حدث بعد سنة (120ه-)، وبعد وفاة جميع الصحابة وجلّة التابعين، وبعد وفاة سعيد بن المسيب، والحسن البصري، وخيار التابعين، بل كان الأوّلون يكرهون كتب الحديث، وتصنيف الكتب»(2).
وعلى أيّة حال، لم يذكر أصحاب الفهارس إلّا كتاباً واحداً من تأليف عمّار الدهني، قال الطوسي: «عمّار بن معاوية الدهني له كتاب ذكره ابن النديم»(3).
وهذا الكتاب هو ما أشار إليه ابن النديم في الفن الخامس من المقالة السادسة تحت عنوان (فقهاء الشيعة ومحدّثوهم وعلماؤهم)، فقال - عند عَدِّ الكتب المصنفة لهم -: «كتاب عمّار بن معاوية الدهني...»(4). وهو غير موجود الآن، ولا نعرف محتوياته تفصيلاً، وإن بدا لنا من كلام ابن النديم أنّه كان يحتوي على مرويات فقهية، رواها عمّار الدهني عن أهل البيت علیهم السلام، إذ يقول: «هؤلاء مشايخ الشيعة الذين رووا الفقه عن الأئمة، ذكرتهم على غير ترتيب، فمنهم... كتاب عمّار بن معاوية الدهني...»(5).
ويمكن أن نُضيف إلى هذا الكتاب، كتاباً آخر صنفه الدهني، وهو كتاب المقتل الذي نحن بصدده، هذا إن صحّ كونه كتاباً، وستأتي مناقشة ذلك.
ص: 150
كان عمّار الدهني يميل إلى أهل البيت علیهم السلام، إلى درجة أنّه صنف كتاباً ممَّا رواه من فقههم علیهم السلام - كما مرَّ علينا - وكان من المهتمين بمرويات كربلاء، وقد حرص على أخذ تفاصيلها عن الإمام الباقر علیه السلام، كما سيأتي عند الحديث عن مقتله.
وقد كان الإمام الصادق علیه السلام يهتم به ويُخلي له المجلس، فقد روى محمد بن يعقوب بإسناده، عن معاوية بن عمّار، قال: «كنّا عند أبي عبدالله علیه السلام نحواً من ثلاثين رجلاً، إذ دخل عليه أبي فرحّب به أبو عبدالله علیه السلام، وأجلسه إلى جنبه، فأقبل عليه طويلاً، ثمَّ قال أبو عبد الله علیه السلام: إنَّ لأبي معاوية حاجةً فلو خففتم. فقمنا جميعاً، فقال لي أبي: ارجع يا معاوية. فرجعت، فقال أبو عبد الله علیه السلام: هذا ابنك؟ قال: نعم»(1).
ومع هذا كلّه، فإنَّ عمّاراً الدهني لم يكن شيعيّاً إماميّاً، بل كان عاميّاً معتدلاً محباً لأهل البيت علیهم السلام، وهذا ما يظهر من كلام النجاشي الذي مرَّ علينا؛ إذ وصفه بكونه «ثقة في العامّة وجهاً». قال بحر العلوم - بعد نقله لكلام النجاشي -: «وظاهر كلام النجاشي أنَّ عمّاراً هذا ليس منّا»(2). وهذا ما فهمه السيد الخوئي أيضاً من عبارة النجاشي؛ إذ قال: «إنّ قول النجاشي: كان ثقةً في العامّة، وجهاً. ليس معناه أنَّ عمّاراً كان ثقةً عند العامّة أيضاً، وإلّا لم يقل: في العامّة. بل معناه أنّه كان ثقةً في رواة العامّة وجماعتهم؛ فيكون ذلك شهادة من النجاشي على أنَّ الرجل لم يكن شيعيّاً»(3).
وعلى هذا؛ فإن نسبته إلى التشيع في كلمات بعض علماء العامّة، يُحمل على التشيع بالمعنى العام، المنسجم مع القول بأنَّ الإمامة بالاختيار؛ وممَّا يؤيد ذلك أنَّهم أجمعوا على وثاقته وعدالته كما سيجيء، ولو كان تشيّعه بالمعنى الخاصّ للتشيع، لكان ذلك من أكبر الطعون فيه، ولحكموا بردّ روايته كما فعلوا مع غيره.
ص: 151
وقد يُستدل على تشيّعه برواية تفسير الإمام العسكري علیه السلام، ومفادها: أنّ القاضي ابن أبي ليلى ردّ شهادة عمّار الدهني، معللاً ذلك بكونه رافضياً، فبكى عمّار، وقال: نسبتني إلى مرتبة شريفة لست من أهلها. فقيل هذا للصادق علیه السلام، فقال: «لو أنَّ على عمّار من الذنوب ما هو أعظم من السماوات والأرضين، لُمحيت عنه بهذه الكلمات، وإنّها لتزيد في حسناته عند ربه حتى جعل كلّ خردلة منها أعظم من الدنيا ألف مرّة»(1).
وقد ردَّ السيّد الخوئي هذه الرواية بوجهين:
الوجه الأوّل: إنَّ نسبة هذا التفسير إلى الإمام علیه السلام غير ثابتة، بل هي معلومة العدم.
الوجه الثاني: إنَّ الصدوق قد روى عن أبي كهمس، أنّه قال: «تقدّمت إلى شريك في شهادة لزمتني، فقال لي: كيف أُجيز شهادتك وأنت تُنسب إلى ما تُنسب إليه، قال أبو كهمس: فقلت: وما هو؟ قال: الرفض. قال: فبكيت، ثمّ قلت: نسبتني إلى قوم أخاف ألّا أكون منهم. فأجاز شهادتي، وقد وقع مثل ذلك لابن أبي يعفور، ولفضيل سكرة، (انتهى)، فإنّ عدم تعرّض الصدوق لذكر عمّار، يؤيد عدم صحة القصة المنسوبة إليه»(2).
وخلاصة القول: إنَّ كلّ المعطيات والدلائل التي بين أيدينا تُشير إلى ميل عمّار الدهني ومودته الشديدة لأهل البيت علیهم السلام، ولكنّنا لا نستطيع أن نُثبت تشيّعه بالمعنى الخاص للتشيع.
يُمكن أن يُدّعى توثيق عمّار الدهني - بحسب مباني علم الرجال لدينا - بعدّة وجوه:
الوجه الأوّل: هو أن يُستدل على وثاقته وعدالته برواية تفسير العسكري علیه السلام السالفة، فقد ورد فيها ما يدلُّ على وثاقة عمّار وعدالته، بل إنَّ قول الإمام علیه السلام: «لو أنَّ على عمّار من الذنوب ما هو أعظم من السماوات والأرضين لمُحيت عنه بهذه الكلمات،
ص: 152
وإنّها لتزيد في حسناته عند ربّه، حتى جعل كلّ خردلة منها أعظم من الدنيا ألف مرّة». هو من أعلى عبارات التوثيق، ولا يخفى أنَّ توثيق الإمام علیه السلام هو أرفع طرق التوثيق، قال الشيخ جعفر السبحاني: «إذا نصَّ أحد المعصومين علیهم السلام على وثاقة الرجل، فإنَّ ذلك يثُبت وثاقته قطعاً، وهذا من أوضح الطرق وأسماها، ولكن يتوقف ذلك على ثبوته بالعلم الوجداني، أو برواية معتبرة»(1).
ولكن قد عرفت حال هذه الرواية من خلال الوجهين الذين أوردهما السيد الخوئي رحمة الله.
الوجه الثاني: مرّ علينا وصف النجاشي له بكونه «ثقة في العامّة وجهاً»، والنجاشي من علمائنا المتقدّمين، وهو خرِّيت هذه الصناعة، وقوله يُقدّم حتى على قول الطوسي عند التعارض، وإنّما الكلام في دلالة هذه العبارة، وهل أنَّ النجاشي يُريد أن يقول: إنَّ الدهني ثقة عندنا، مع أنّه وجه من وجوههم؟ أي: إنَّ الفارزة تقع بعد كلمة (ثقة)، هذا احتمال، والاحتمال الآخر هو أنّه يُريد أن يقول: إنَّ الدهني ثقة عند العامّة ووجهاً لديهم، أي: نجعل الفارزة بعد عبارة (ثقة في العامّة).
وقد استظهر السيد الخوئي - كما مرّ علينا - من هذه العبارة توثيق النجاشي له؛ إذ قال: «إنَّ قول النجاشي كان ثقةً في العامّة، وجهاً، ليس معناه أنَّ عمّاراً كان ثقةً عند العامّة أيضاً، وإلّا لم يقل: في العامّة، بل معناه أنَّه كان ثقةً في رواة العامّة، وجماعتهم».
فهو - إذن - يُرجح الاحتمال الأوّل في فهم عبارة النجاشي، وقد استظهر السيد الخوئي ذلك من كلمة (في).
ولكن ممَّا يُرجِّح الاحتمال الآخر هو وجود معطى خارجي واضح لا يمكن تجاوزه أو صرف النظر عنه، وهو أنَّ عمّاراً بالفعل - كما سيجيء عمَّا قريب - موثّق عند العامّة، بل هم مُجمعون على ذلك، فالاحتمال الآخر هو المتبادر إلى الذهن بعد الاطلاع على هذا المعطى.
ص: 153
الوجه الثالث: إنَّ الطوسي قد عنون لعمّار الدهني في الرجال(1)، والفهرست(2)، وهو وإن لم يوثّقه أو يمدحه، ولكنّه لم يجرحه أيضاً، وإنمَّا أهمله، ومَن كانت هذه حاله فهو معتمد على أخباره عند جماعة؛ إذ المهمل غير المجهول الذي صرّح علماء الرجال بجهالة حاله، وقد كان ابن داوُد يعمل بخبر المهمل كما يعمل بخبر الممدوح(3).
وهذا هو مبنى العلّامة الحلي أيضاً؛ حيث قال في إبراهيم بن هاشم: «ولم أقف لأحد من أصحابنا على قول في القدح فيه، ولا على تعديله بالتنصيص، والروايات عنه كثيرة، والأرجح قبول قوله»(4). وقال في أحمد بن إسماعيل بن سمكة: «ولم ينص علماؤنا عليه بتعديل، ولم يرد فيه جرح؛ فالأقوى قبول روايته مع سلامتها من المعارض»(5).
نعم، كان العلّامة الحلي يشترط في توثيق الشخص المهمل أن يكون إماميّاً، وهذا ما لم يثبت بحقّ المترجَم له.
الوجه الرابع: إنَّ ابن داوُد قال في ترجمة معاوية بن عمّار نقلاً عن الكشي: «وأبوه عمّار أيضاً ثقة»(6).
والكشي من علمائنا المتقدّمين، وتوثيقاته معتمدة بلا خلاف، شأنه شأن سائر المتقدمين، كالنجاشي والشيخ وغيرهما، وقد ألّف كتاباً أسماه (معرفة الرجال) أو (معرفة الناقلين عن الأئمة الصادقين) أو (معرفة الناقلين) ولكنّه لم يصل إلينا، والموجود بين أيدينا هو ما اختصره الطوسي من هذا الكتاب، وأسماه (اختيار معرفة الرجال)، وحينما نراجع هذا المختصر (أعني اختيار معرفة الرجال)، لا نجد أثراً لهذه العبارة، ويوجد في
ص: 154
المقام عدّة احتمالات:
1- إنَّ هذه العبارة موجودة في أصل الكتاب، وأنَّ هذا الأصل كان موجوداً عند ابن داوُد، وكان يرتشف منه مباشرةً، لا من (اختيار معرفة الرجال)، فقد قيل: إنَّ الأصل كان موجوداً عند السيّد جمال الدين أحمد بن موسى بن طاووس؛ لأنَّه تصدى إلى ترتيب هذا الكتاب وتبويبه، وضمَّه إلى كتب أُخرى من الكتب الرجالية وأسماه (حلّ الإشكال في معرفة الرجال)(1)، وزمان ابن داوُد ليس بعيداً عن زمان السيّد ابن طاووس، فقد كان الأخير أُستاذ الأوّل.
ومما يُؤيد ذلك أنَّ القهبائي كان يقول - في كيفية عمل الشيخ في رجال الكشي -: «إنَّ الأصل كان في رجال العامّة والخاصّة فاختار منه الشيخ الخاصّة»(2)، وبما أنَّ عمّاراً كان من العامّة - كما رجّحنا فيما سلف - فمن الطبيعي أن لا نجد له ذكراً في اختيار الشيخ إلّا ما وقع عرضاً.
2- أن تكون عند ابن داوُد نسخة من (اختيار معرفة الرجال) تختلف في بعض الموارد عن النسخة المتداولة؛ فإنَّ لابن داوُد طريقه الخاصّ إلى الشيخ كما صرّح في مقدّمة رجاله؛ وبالتالي تكون لديه نسخته الخاصّة التي قد تكون غير متطابقة مع النسخة المتداولة في بعض الموارد. قال في المقدّمة: «وطريقي إلى الكشي شيخنا نجم الدين أيضاً، والشيخ مفيد الدين محمد بن جهيم جميعاً، عن السيّد شمس الدين فخار، عن أبي محمد قريش بن سبيع بن مهنا بن سبيع الحسيني، عن الحسين بن رطبة السوراوي، عن أبي علي، عن أبيه أبي جعفر الطوسي، عن عدّة من أصحابنا، عن أبي محمد هارون بن موسى التلعكبري، عن الكشي (رحمه الله تعالى)»(3).
3- أن تكون هذه العبارة من إنشاء ابن داوُد، وقد امتزجت بكلام الكشي؛ بسبب
ص: 155
سوء النسخ، وفي ضوء هذا الاحتمال تسقط قيمة هذه العبارة في توثيق عمّار الدهني، إلّا على المبنى القائل بصحة الاعتماد على توثيقات المتأخرين، وهو ما قال به جماعة (1).
هذا بحسب رجالنا، وأمّا في رجال العامّة، فقد وثّقوه واعتمدوا مروياته، قال الذهبي: «وثّقة أحمد، وابن معين، وأبو حاتم، والناس، وما علمت أحداً تكلّم فيه إلّا العقيلى، فتعلّق عليه بما سأله أبو بكر بن عياش: أسمِعْتَ من سعيد بن جبير؟ قال: لا. قال: فاذهب»(2).
وقد أشرنا إلى هذه الرواية سابقاً، وهذه الرواية - إن ثبتت - فهي لا تدلُّ على أكثر من كون مرويات عمّار عن ابن جبير مرسلة، والإرسال في نفسه لا يُعدُّ طعناً في الراوي، ما لم يدَّعِ المرسِل المباشرةَ، كأن يقول: حدّثني أو أخبرني. وما شابه ذلك من العبارات التي تفيد التلّقي المباشر، ففي هذه الحالة يكون الإرسال تدليساً، وهذا لم يثبت في حقِّ عمّار.
يوجد حول وفاة عمّار الدهني قولان:
الأوّل: قول المزي: قال محمد بن عبد الله الحضرمي: «مات سنة ثلاث وثلاثين ومئة»(3). هذا القول تبنّاه الذهبي في ميزان الاعتدال(4)، وتاريخ الإسلام(5) كذلك، ونُسب هذا القول في تاريخ الإسلام إلى مطين، ومطين هو لقب محمد بن عبد الله الحضرمي، وقد «لُقِّب بمطين؛ لأنّه كان وهو صغير يلعب مع الصبيان في الماء فيطينون ظهره» (6). إذاً، فالمزي والذهبي استندا في هذا القول على المصدر نفسه، وهو محمد بن
ص: 156
عبد الله الحضرمي الملقب ب-(مطين)، وجميع مَن تبنّى هذا القول ممَّن تأخر عنهما، فإنَّه قد أخذه عنهما عن مطين.
الثاني: ما تفرّد به الصفدي، من أنَّ عمّاراً الدهني قد تُوفّي في حدود الأربعين ومائة(1)، وفي تقديري أنَّ هذا القول غير نابع من نص روائي، وإلّا لذكر الصفدي مصدره؛ ولعلّه قد استنتجه من خلال ملاحظة طبقتي شيوخ وتلامذة الدهني، ومعرفة وفياتهم، وهذا ما تُوحي به طريقته المرنة في التعبير، حيث قال: «في حدود»، وهذه العبارة تُستخدم - في العادة - في حالة التقدير.
ومهما يكن، فإنَّنا بالجمع بين هذين القولين، نستطيع القول: إنَّ وفاة الدهني، كانت بين سنة 133و140ه-.
يروي الدهني مقتل الإمام الحسين علیه السلام عن الإمام الباقر علیه السلام، وهذا ما يزيد من أهمية البحث حول هذا المقتل، ومن اللافت للنظر أنّ هذا المقتل لم يُروَ من طرقنا الخاصّة، وليس له أيُّ أثر في مدوناتنا الحديثية.
وينبغي أن يُعلم أنّه لا يوجد كتاب مستقل بعنوان مقتل الحسين علیه السلام من تصنيف عمّار الدهني، لا في هذا العصر ولا في العصور السابقة، كما لا تجد إشارة إلى وجود كتاب بهذا العنوان في كتب الفهارس ومعاجم المؤلفات، والظاهر أنَّ هذا المقتل كان عبارةً عن رواية شفهية مطوّلة، ولم يكن مدوّناً في قرطاس قبل تدوينه في تاريخ الطبري، فأقدم نسخة من هذا المقتل هي نسخة الطبري المتوفّى عام 310ه-، ورواية الطبري له غير متصلة، بل أورده في ثلاثة مقاطع.
ويُعدُّ هذا المقتل من الأُصول التي اعتمدها أبو الفرج الأصفهاني (ت356ه-) في كتابه مقاتل الطالبيين؛ إذ ذكره في جملة المصادر التي استقى منها حديثه حول مقتل
ص: 157
الحسين علیه السلام(1).
ونلاحظ أنَّ العامّة قد ضخّموا شأن هذا المقتل، واهتموا بروايته؛ لأنّه ينسجم إلى حدٍ كبيرٍ مع نظرتهم إلى واقعة الطفّ، ويمكن القول: إنَّ أهمية مقتل عمّار الدهني عند العامّة كأهمية مقتل أبي مخنف عند الشيعة.
قال ابن حجر(ت852ه-) - بعد أن روى مقتل الحسين علیه السلام برواية عمّار الدهني -: «وقد صنّف جماعة من القدماء في مقتل الحسين تصانيف فيها الغثّ والسمين، والصحيح والسقيم، وفي هذه القصّة التي سقتها غنًى»(2).
وعلى أية حال، فنحن الآن سنورد مقتل عمّار الدهني كاملاً برواية الطبري - لأنّها الأصل على ما يبدو- بعد وصل بعضها بالبعض الآخر، ثمّ نذكر أهمّ المناقشات التي أُثيرت حول هذه الرواية.
*مقتل عمّار الدهني برواية الطبري(3)
قال الطبري: «حدّثني زكريا بن يحيى الضرير، قال: حدّثنا أحمد بن جناب المصيصي - ويكنى أبا الوليد - قال: حدّثنا خالد بن يزيد بن أسد بن عبد الله القسري، قال: حدّثني عمّار الدهني، قال: قلت لأبي جعفر علیه السلام: حدّثني بمقتل الحسين حتى كأنّي حضرته.
قال علیه السلام: مات معاوية والوليد بن عتبة بن أبي سفيان على المدينة، فأرسل إلى الحسين بن علي ليأخذ بيعته، فقال له: أخّرني وارفق. فأخّره، فخرج إلى مكة، فأتاه أهل الكوفة ورُسلهم: إنّا قد حبسنا أنفسنا عليك، ولسنا نحضر الجمعة مع الوالي، فأقدم
ص: 158
علينا - وكان النعمان بن بشير الأنصاري على الكوفة - قال: فبعث الحسين إلى مسلم بن عقيل بن أبي طالب ابن عمّه، فقال له: سر إلى الكوفة، فانظر ما كتبوا به إليّ، فإن كان حقاً خرجنا إليهم. فخرج مسلم حتى أتى المدينة، فأخذ منها دليلين، فمرّا به في البرية، فأصابهم عطش، فمات أحد الدليلين، وكتب مسلم إلى الحسين يستعفيه، فكتب إليه الحسين: أن امض إلى الكوفة.
فخرج حتى قدمها، ونزل على رجل من أهلها يقال له: ابن عوسجة. قال: فلمّا تحدّث أهل الكوفة بمقدمه، دبّوا إليه فبايعوه، فبايعه منهم اثنا عشر ألفاً، قال: فقام رجل ممَّن يهوى يزيد بن معاوية إلى النعمان بن بشير، فقال له: إنّك ضعيف أو متضعِّف، قد فسد البلاد! فقال له النعمان: أن أكون ضعيفاً وأنا في طاعة الله، أحبُّ إليّ من أن أكون قوياً في معصية الله، وما كنت لأهتك ستراً ستره الله.
فكتب بقول النعمان إلى يزيد، فدعا مولى له يقال له: سرجون - وكان يستشيره - فأخبره الخبر، فقال له: أكنت قابلاً من معاوية لو كان حيّاً؟ قال: نعم. قال: فاقبل منِّي، فإنَّه ليس للكوفة إلّا عبيد الله بن زياد، فولهّا إيّاه، وكان يزيد عليه ساخطاً، وكان همَّ بعزله عن البصرة، فكتب إليه برضائه، وأنّه قد ولّاه الكوفة مع البصرة، وكتب إليه أن يطلب مسلم بن عقيل فيقتله إن وجده.
قال: فأقبل عبيد الله في وجوه أهل البصرة حتى قدم الكوفة متلثماً، ولا يمرُّ على مجلس من مجالسهم فيسلّم إلّا قالوا: عليك السلام يا بن بنت رسول الله - وهم يظنّون أنّه الحسين بن علي علیه السلام- حتى نزل القصر، فدعا مولى له فأعطاه ثلاثة آلاف، وقال له: اذهب حتى تسأل عن الرجل الذي يُبايع له أهل الكوفة، فأعلِمْه أنّك رجل من أهل حمص جئت لهذا الأمر، وهذا مال تدفعه إليه ليتقوى. فلم يزل يتلطّف ويرفق به حتى دلّ على شيخ من أهل الكوفة يلي البيعة، فلقيه فأخبره، فقال له الشيخ: لقد سرّني لقاؤك إيّاي، وقد ساءني، فأمّا ما سرّني من ذلك فما هداك الله له، وأمّا ما ساءني، فإنَّ أمرنا لم يستحكم بعدُ، فأدخله إليه، فأخذ منه المال وبايعه، ورجع إلى عبيد الله فأخبره.
ص: 159
فتحوّل مسلم حين قدم عبيد الله بن زياد من الدار التي كان فيها إلى منزل هانئ بن عروة المرادي، وكتب مسلم بن عقيل إلى الحسين بن علي علیه السلام، يخبره ببيعة اثني عشر ألفاً من أهل الكوفة، ويأمره بالقدوم.
وقال عبيد الله لوجوه أهل الكوفة: ما لي أرى هانئ بن عروة لم يأتِني فيمَن أتاني! قال: فخرج إليه محمد بن الأشعث في ناس من قومه وهو على باب داره، فقالوا: إنَّ الأمير قد ذكرك واستبطأك، فانطلقْ إليه. فلم يزالوا به حتى ركب معهم وسار حتى دخل على عبيد الله وعنده شريح القاضي، فلمّا نظر إليه قال لشريح: أتتك بحائن رجلاه. فلمّا سلّم عليه، قال: يا هانئ، أين مسلم؟ قال: ما أدري. فأمر عبيد الله مولاه صاحب الدراهم فخرج إليه، فلمّا رآه قطع به، فقال: أصلح الله الأمير! والله، ما دعوته إلى منزلي ولكنَّه جاء فطرح نفسه عليَّ. قال: ائتني به. قال: والله، لو كان تحت قدميّ ما رفعتهما عنه. قال: أدنوه إليّ، فأُدني فضربه على حاجبه فشجّه، قال: وأهوى هانئ إلى سيف شرطي ليسلّه، فدُفع عن ذلك، وقال: قد أحلّ الله دمك، فأُمر به فحُبس في جانب القصر»(1).
ثمّ قال: «فبينا هو كذلك، إذ خرج الخبر إلى مذحج، فإذا على باب القصر جلبة سمعها عبيد الله، فقال: ما هذا؟ فقالوا: مذحج. فقال لشريح: اخرج إليهم فأعلمهم أنّي إنّما حبسته لأُسائله، وبعث عيناً عليه من مواليه يسمع ما يقول، فمرَّ بهانئ بن عروة، فقال له هانئ: اتقِ الله يا شريح، فإنّه قاتلي. فخرج شريح حتى قام على باب القصر، فقال: لا بأس عليه، إنّما حبسه الأمير؛ ليُسائله. فقالوا: صدق، ليس على صاحبكم بأس، فتفرّقوا، فأتى مسلماً الخبر، فنادى بشعاره، فاجتمع إليه أربعة آلاف من أهل الكوفة، فقدّم مقدّمته، وعبّى ميمنته وميسرته، وسار في القلب إلى عبيد الله، وبعث عبيد الله إلى وجوه أهل الكوفة، فجمعهم عنده في القصر، فلمّا سار إليه مسلم فانتهى إلى باب القصر أشرفوا على عشائرهم، فجعلوا يكلّمونهم ويردّونهم، فجعل أصحاب مسلم يتسللون حتى أمسى في خمسمائة، فلمّا اختلط الظلام ذهب أولئك أيضاً.
ص: 160
فلمّا رأى مسلم أنّه قد بقيَ وحده يتردد في الطرق، أتى باباً فنزل عليه، فخرجت إليه امرأة، فقال لها: اسقيني. فسقته، ثمّ دخلت فمكثت ما شاء الله، ثمّ خرجت فإذا هو على الباب، قالت: يا عبد الله، إنَّ مجلسك مجلس ريبةٍ؛ فقم. قال: إنّي أنا مسلم بن عقيل، فهل عندك مأوى؟ قالت: نعم، ادخل. وكان ابنها مولى لمحمد بن الأشعث، فلمّا علم به الغلام انطلق إلى محمد فأخبره، فانطلق محمد إلى عبيد الله فأخبره، فبعث عبيد الله عمرو بن حريث المخزومي - وكان صاحب شرطته - إليه، ومعه عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث، فلم يعلم مسلم حتى أُحيط بالدار، فلمّا رأى ذلك مسلم خرج إليهم بسيفه فقاتلهم، فأعطاه عبد الرحمن الأمان، فأمكن من يده، فجاء به إلى عبيد الله، فأمر به فأُصعد إلى أعلى القصر فضُربت عنقه، وأُلقي جثته إلى الناس، وأُمر بهانئ، فسُحب إلى الكناسة، فصُلب هنالك، وقال شاعرهم في ذلك:
فإن كنت لا تدرين ما الموت فانظري***إلى هانئ في السوق وابن عقيلِ
أصابهما أمر الإمام فأصبحا***أحاديث مَن يسعى بكلّ سبيلِ
أيركب أسماء الهماليج آمناً***وقد طلبته مذحج بذح-ولِ»(1).
ثمّ قال: «فأقبل حسين بن علي بكتاب مسلم بن عقيل كان إليه حتى إذا كان بينه وبين القادسية ثلاثة أميال، لقيه الحرّ بن يزيد التميمي، فقال له: أين تريد؟ قال: أُريد هذا المصر. قال له: ارجع؛ فإنّي لم أدع لك خلفي خيراً أرجوه. فهمّ أن يرجع، وكان معه إخوة مسلم بن عقيل، فقالوا: والله، لا نرجع حتى نُصيب بثأرنا أو نُقتل. فقال: لا خير في الحياة بعدكم. فسار فلقيته أوائل خيل عبيد الله، فلمّا رأى ذلك عدل إلى كربلاء، فأسند ظهره إلى قصباء وخلا؛ كيلا يُقاتل إلّا من وجهٍ واحدٍ، فنزل وضرب أبنيته، وكان أصحابه خمسة وأربعين فارساً، ومائة راجل، وكان عمر بن سعد بن أبي وقاص قد ولّاه عبيد الله بن زياد الري، وعهد إليه عهده، فقال: اكفني هذا الرجل. قال: أعفني. فأبى أن يعفيه، قال: فانظرني الليلة. فأخّره، فنظر في أمره، فلمّا أصبح، غدا عليه راضياً بما أمر
ص: 161
به؛ فتوجه إليه عمر بن سعد، فلمّا أتاه قال له الحسين: اختر واحدةً من ثلاث: إمّا أن تدعوني فانصرف من حيث جئت، وإمّا أن تدعوني فأذهب إلى يزيد، وإمّا أن تدعوني فألحق بالثغور، فقبل ذلك عمر، فكتب إليه عبيد الله: لا ولا كرامة، حتى يضع يده في يدي. فقال له الحسين: لا والله، لا يكون ذلك أبداً. فقاتله فقُتل أصحاب الحسين كلّهم، وفيهم بضعة عشر شاباً من أهل بيته، وجاء سهم فأصاب ابناً له معه في حجره، فجعل يمسح الدم عنه، ويقول: اللهمَّ، احكم بيننا وبين قومٍ دعونا لينصرونا فقتلونا. ثمّ أمر بحبرة فشقها ثمّ لبسها، وخرج بسيفه، فقاتل حتى قُتل (صلوات الله عليه) قتله رجل من مذحج، واحتز رأسه، وانطلق به إلى عبيد الله، وقال:
أوقر رك--ابي فض-ةً وذهباً***أنا قتلت الملك المحج--با
قتلت خير الناس أُمّا وأبا***وخيرهم إذ ينسبون نسبا
وأوفده إلى يزيد بن معاوية، ومعه الرأس فوضع رأسه بين يديه، وعنده أبو برزة الأسلمي، فجعل ينكت بالقضيب على فيه، ويقول:
يفلقن هاماً من رجال أعزة***علينا وهم كانوا أعقَّ وأظلما
فقال له أبو برزة: ارفع قضيبك؛ فو الله، لربما رأيت فاه رسول الله صلی الله علیه و آله على فيه يلثمه، وسرّح عمر بن سعد بحرمه وعياله إلى عبيد الله، ولم يكن بقي من أهل بيت الحسين بن علي علیه السلام إلّا غلام كان مريضاً مع النساء، فأمر به عبيد الله ليُقتل؛ فطرحت زينب نفسها عليه، وقالت: والله، لا يُقتل حتى تقتلوني! فرقَّ لها فتركه، وكفَّ عنه.
قال: فجهّزهم، وحملهم إلى يزيد، فلمّا قدموا عليه، جمع مَن كان بحضرته من أهل الشام، ثمَّ أدخلوهم فهنّؤوه بالفتح، قال رجل منهم أزرق أحمر، ونظر إلى وصيفة من بناتهم، فقال: يا أمير المؤمنين، هب لي هذه. فقالت زينب: لا والله، ولا كرامة لك، ولا له إلّا أن يخرج من دين الله. قال: فأعادها الأزرق، فقال له يزيد: كفَّ عن هذا. ثمَّ أدخلهم على عياله فجهّزهم، وحملهم إلى المدينة، فلمّا دخلوها خرجت امرأة من بني عبد المطلب ناشرةً شعرها، واضعةً كمها على رأسها تلقاهم، وهي تبكي، وتقول:
ص: 162
م-اذا تقولون إن قال النبي لكم***ماذا فعلتم وأنتم آخر الأُممِ
بعترتي وبأهلي بعد مفتقدي***منهم أُسارى وقتلى ضرّجوا بدمِ
ما كان هذا جزائي إذ نصحت لكم***أن تخلفوني بسوءٍ في ذوي رحمي»(1).
إلى هنا ينتهي مقتل عمّار الدهني برواية الطبري.
يمكن أن تُثار عدَّة مناقشات حول هذه الرواية، نقتصر على أهمها:
أشرنا فيما سبق إلى أهمية البحث حول هذا المقتل؛ من جهة كونه مروياً عن الإمام الباقر علیه السلام، وأشرنا أيضاً إلى أنَّ هذا المقتل لم يصل إلينا من خلال طرقنا الخاصّة، ولم يُعتمد في مدوناتنا المعنية بنقل مرويات كربلاء.
نعم، اعتمد عليه ابن نما في مثير الأحزان، وأثبت منه الرواية التي تتحدّث عن مفاوضة الحسين علیه السلام مع ابن سعد (لعنه الله)، وطلب الإمام الحسين علیه السلام منه أن يأخذه إلى يزيد (لعنه الله) ويرى فيه(2). وهذا غريب من ابن نما.
والطبري يرويه عن الدهني بثلاث وسائط: عن زكريا بن يحيى الضرير، عن أحمد بن جناب المصيصي، عن خالد بن يزيد بن أسد بن عبد الله القسري، وهؤلاء جميعهم من العامّة، وقد طعنت كتبهم الرجالية في زكريا بن يحيى الضرير، فذكره ابن الجوزي في الضعفاء والمتروكين(3)، وعن الشعبي، عن يحيى بن معين، أنّه قال فيه: «ليس بشيء»(4)، وأما خالد بن يزيد القسري، فقد ذكره ابن عدي في الضعفاء، وقال فيه: «وخالد بن
ص: 163
يزيد هذا له أحاديث غير ما ذكرت، وأحاديثه كلّها لا يتابع عليها»(1)، وهذا ما يجعلنا نحتمل أن التلاعب الذي حصل في هذه القصة - وسنُشير إلى بعضه فيما يلي - قد أتى من أحد هذين الرجلين وذلك لو سلّمنا بوثاقة الدهني، والمصيصي، والطبري.
ناقش الشيخ باقر شريف القرشي في هذه الرواية، فقال: «إن عمّاراً الدهني طلب من الإمام علیه السلام أن يحدِّثه بالتفصيل عن مقتل الإمام الحسين علیه السلام كأنَّه قد حضره، أمّا الجواب فقد كان موجزاً، ولم يُشر إلى كثير من الأحداث لا بقليل ولا بكثير، فقد طويت فيه أكثر فصول تلك المأساة، ومن الطبيعي أنَّ هذا لا يتناسب مع السؤال الذي يُطلب فيه المزيد من المعلومات»(2).
ويمكن مناقشة ما ذكره القرشي من وجهين:
الوجه الأوّل: إن طلب عمّار الدهني من الإمام علیه السلام، أن يحدّثه بالتفصيل عن مقتل الإمام الحسين علیه السلام، غير ملزم للإمام علیه السلام بأن يكون جوابه تفصيلياً، فقد تقتضي المصلحة بأن يكون الجواب مجملاً؛ وممّا يؤيد ذلك أننا نلاحظ: أنَّ الأحاديث الواردة عن المعصومين علیهم السلام حول كربلاء، كلّها تتسم بالاقتضاب والإجمال، بل يرى بعض الأعلام: أنَّ المعصومين علیهم السلام لم يتحدّثوا عن واقعة الطفّ كمؤرخين، بل كانوا يركزون على الجانب المعنوي لواقعة الطفّ، والدفاع عن قضية الحسين علیه السلام، ولا يكون همّهم رواية أو نقل الحوادث، إلّا ما جاء عرضاً خلال الحديث، إذن؛ فلا ينبغي أن نتوقع سماع حديثهم عن التفاصيل الكثيرة التي نريدها(3).
وقد شاع مؤخراً بين الموالين حديثٌ منسوبٌ إلى الإمام الباقر علیه السلام، يقول فيه: «لولا
ص: 164
خوفنا على شيعتنا من الموت لروينا لهم ما جرى في كربلاء»، وهذا الحديث لو كان صحيحاً، لصلح أن يكون جواباً عن هذه المناقشة، ولكن هذا الحديث لا أساس له من الصحة، وهو غير متوفر في أيّ مصدرٍ من المصادر.
الوجه الثاني: يحتمل أن يكون الإمام علیه السلام قد أجابه مفصّلاً، ولكن الطبري لم ينقل القصة بشكلٍ كاملٍ؛ وممّا يؤيد ذلك أنَّ الطبري قد أوردها في ثلاثة مقاطع، والظاهر أنَّ الطبري كان يقتطع منها حسب الحاجة، ولم يدّع الطبري أنَّه أورد الرواية بشكلٍ كاملٍ.
1- كما حصل حذف في بعض تفاصيل هذه الرواية، فقد حصل دسُّ وإضافة أيضاً، ومن ذلك قوله: إنَّ الحسين علیه السلام همَّ أن يرجع على إثر نصيحة الحرّ له، ولكن إخوة مسلم بن عقيل كانوا معه، فقالوا: «والله، لا نرجع حتى نُصيب بثأرنا أو نُقتل. فقال: لا خير في الحياة بعدكم. فسار...».
ويأتي هذا النص جزءاً من النصوص التي وُضعت لتشويه وتحريف أهداف نهضة الحسين علیه السلام، ووضعها في إطار قَبَلي ضيّق، وهذا ممّا لا يمكن قبوله في حقِّ إخوة مسلم، فضلاً عن قبوله في حقِّ الحسين علیه السلام، وهو الإمام المفترض الطاعة.
2- ومن نماذج الدسّ والإضافة في هذا المقتل، الفقرة التي تقول: إنّ الحسين علیه السلام، قال لعمر بن سعد (لعنه الله): «اختر واحدةً من ثلاث: إمّا أن تدعوني فانصرف من حيث جئت، وإمّا أن تدعوني فأذهب إلى يزيد، وإمّا أن تدعوني فألحق بالثغور...».
فهذا ممّا لا يمكن صدوره من الحسين علیه السلام، وهو ممّا كان يُشيعه بنو أُميّة لتشويه صورة الحسين علیه السلام، ولنفي الجريمة عن يزيد، وإلصاقها بعبيد الله بن زياد، وعمر بن سعد، وقد كان عقبة بن سمعان ينفي هذه القضية، وكان يقول: «صحبت حسيناً فخرجت معه من المدينة إلى مكة، ومن مكة إلى العراق، ولم أُفارقه حتى قُتل، وليس من مخاطبته الناس كلمة بالمدينة، ولا بمكة، ولا في الطريق، ولا بالعراق، ولا في عسكر إلى
ص: 165
يوم مقتله إلّا وقد سمعتها، ألا والله، ما أعطاهم ما يتذاكر الناس، وما يزعمون، من أن يضع يده في يد يزيد بن معاوية، ولا أن يُسيّروه إلى ثغر من ثغور المسلمين، ولكنّه قال: دعوني فلأذهب في هذه الأرض العريضة حتى ننظر ما يصير أمر الناس»(1).
بعد هذه الرحلة التي قطعناها في الحديث عن عمّار الدهني ومقتله يحسن بنا أن نُلخّص أهمّ النتائج التي ظفرنا بها، وهي:
1- إنَّ عمّاراً الدهني من المحدّثين والأخباريين القدامى، وقد دخل معترك الحياة العلمية في نهايات القرن الأوّل، ونشط في نشر الحديث وتعليمه بعد مطلع القرن الهجري الثاني.
2- كان عمّار الدهني من الشخصيات التي اتصلت بأهل البيت علیهم السلام وروت عنهم، وكان محباً لهم، ولكن لم يثبت لدينا أنّه كان يؤمن بإمامتهم.
3- يمكن توثيق عمّار الدهني في ضوء بعض المباني الرجالية المعمول بها عند البعض، وقد أجمعت أو كادت أن تجمع كتب الجرح والتعديل عند العامّة على وثاقته وتعديله.
4- كان عمّار الدهني من الأوائل الذين اهتموا بحفظ النص الكربلائي، وقد حرص الدهني على أن يتلقّى هذا النص من مصادره القريبة والمأمونة، كما حرص على أن يتعرّف على أدقّ التفاصيل، وإن جاء الجواب مجملاً من الإمام علیه السلام، وحصل تلاعب في هذا النص، كما ناقشنا في ذلك.
5- لا يوجد أثر لكتاب في مقتل الحسين علیه السلام من تصنيف الدهني، ولم تنص كتب الفهارس عليه، ولكن الطبري قد نقل لنا هذا المقتل في ثلاثة مقاطع، وقد قمنا بوصل بعضها ببعض، وجمعناها في روايةٍ واحدةٍ.
ص: 166
6- إن مقتل الدهني من الأُصول التي اعتمد عليها كثير من العامّة، وهم يعتبرونه كمقتل أبي مخنف لدى الشيعة، وقد فضّله ابن حجر على سائر المقاتل؛ وذلك لكونه يحتوي على بعض المفردات التي تخدمهم، ويفتقر إلى كثير من الحقائق التي لا تروق لهم.
7- لم يعتنِ رواة الشيعة الأوائل برواية هذا المقتل، ولم يهتم أصحاب المدونات الحديثيّة والتاريخية الشيعية بتدوينه، اللهمَّ إلّا ما كان من ابن نما في مثير الأحزان، كما أشرنا.
8- عرضنا مقتل عمّار الدهني برواية الطبري، وأوردنا عليها أربع مناقشات، واحدة منها ترتبط بسند هذا المقتل، والبقية تتعلق بالمتن، وأشرنا فيها إلى عمليات الحذف، والدسّ، والإضافة التي وقعت في هذا المقتل.
ص: 167
ص: 168
السَّيِّد شهيد طَالِب المُوسَوي(1)
إنَّ كتابة تاريخ الأُمّة - أي أُمّة كانت - وعلى مرِّ العصور والأجيال لا يعني أنَّه بدرجة من النقاوة، بحيث يُمثّل المعدن النقي بدون شوائب الدسِّ والتحريف، ولا يمكن لأحد أن يدّعي ذلك، وعلى هذا؛ فلا بدَّ أن يخضع تاريخ الأُمّة - في مسؤولية دراسته ونقده، ومسؤولية كتابته وخطه - إلى دراسة حقيقيّة وموضوعيّة في محاولة استئصال كلّ ما هو غريب قد يطرأ على تاريخ الأُمّة، في الوقت الذي نقول فيه: إنّ تلك الدراسات لتاريخ الأُمّة هي أيضاً خاضعة للنقد والتحليل، وهكذا إلى أن نصل إلى الجوهر الحقيقي الذي لا يمكن أن تطاله يد التغيير والتحريف أو تُحمّله ما لا يحتمله.
ص: 169
ومن هنا؛ سعى علماء الأُمة الإسلاميّة إلى كتابة التاريخ ودراسته، وتحقيقه في مختلف المجالات، وهي أمانة حاولوا إيصالها إلى الأجيال، كونها تُمثّل المدرسة الحقيقية التي يتربى عليها أجيال الأُمّة.
ولنأخذ مثالاً لحادثة مضت وسُطّرت في كتب التاريخ، وعُدّت من أهمّ حوادث الدهر، هي ملحمة وحادثة كربلاء، أو ما تُعرف بواقعة الطفِّ، حيث تُعدُّ من أهمّ الأحداث التاريخية التي مرَّت بها الأُمّة الإسلاميّة، والتي سجلت للأُمّة أروع دروس التضحية والإباء، والوقوف ضدّ الظلم والتمسك بالقيم الإنسانية والدينية، وقد بذل أصحابها الغالي والنفيس في سبيل الله، فقد سُقيت هذه الواقعة بدم ابن بنت رسول الله صلی الله علیه و آله ، وأهل بيته وأصحابه (رضوان الله عليهم أجمعين).
وعندما كتب التاريخ هذه الواقعة المباركة وسطّر أحداثها، أتى الكثير من الباحثين محاولين بيان وتوضيح تلك الدروس وتحليلها، أو نقد ما كُتب من التاريخ في هذه الواقعة، وهكذا تستمر هذه المسيرة لتعطي وتُغذّي الأجيال بنبض الحياة المنبثق من تلك الواقعة، ولعلّ هذا هو ما يُميّز تلك الملحمة عن غيرها، فهي إلى الآن تتجدد لتُعطي صورة حيّة مستمرة عن مبادئها الشامخة، وتعطي الدروس والعبر كلّ حين.
نحن نعلم أن هناك العديد من البحوث والدراسات كتبت عن شخصيات هذه الواقعة وما يحملونه من المبادئ السامية والقيم النبيلة، وما سطّروه من معاني التضحية والفداء؛ لأجل الدين والوقوف مع الحسين علیه السلام ضدّ ظلم وطغيان النفس الأمّارة بالسوء المتمثلة بأذناب بني أُميّة، وفي مقدمتهم يزيد بن معاوية (لعنه الله).
لكنّنا أحببنا أن نُدلي بدلونا، فكانت هذه المحاولة في دراسة شخصية مهمّة من شخصيات تلك الملحمة، وهي شخصية الحرّ بن يزيد الرياحي (رضوان الله تعالى عليه)؛ لعلّنا نستطيع أن نُبيّن جانباً من دروس هذا البطل المقدام، الذي كان له دور متميّز وبارز في تلك الواقعة.
وسنعتمد في هذا البحث على ثلاثة محاور:
ص: 170
الحر لغةً: «الحُرُّ، بالضمّ: خلافُ العَبْدِ. والحُرُّ: خِيَارُ كلِّ شيْءٍ وأَعْتَقُه،... ومن ذلك الحُرُّ بِمَعْنى الفَرَس العَتِيق الأَصِيل، يُقَال: فَرَسٌ حُرٌّ...»(1)، فالحر هو ما خلص من غير أصله.
ومن أهمّ ما يمكن أن نقف عليه هنا في تسميته بهذا الاسم، أنّه ورد عن الإمام الحسين علیه السلام بعد استشهاد الحرّ ووقوفه عليه، حيث قال الإمام الحسين علیه السلام: «والله، ما أخطأت أُمّك إذ سمّتك حراً؛ فأنت - والله - حر في الدنيا، وسعيد في الآخرة»(2)، ويمكن أن نستفيد من هذه الرواية أمرين:
الأمر الأوّل: إنّ مَن سمّاه بهذا الاسم أُمّه، كما قال له الإمام الحسين علیه السلام ذلك، ويمكن بيان أمر مهم هنا؛ وهو علاقة الأُم في تسمية الولد، ومن ثمَّ العلاقة في تسمية الحرّ من قِبل أُمّه، فإننا نحتمل عدّة توجيهات:
1- إنَّ أباه كان ميتاً عند ولادته فسمّته أُمّه، وهو مشابه لما ورد من تسمية عبد المطلب من قِبل أُمّه سلمى، حيث سمّته شيبة الحمد، بعد أن تُوفّي أبوه هاشم قبل ولادته، ثمّ سمّاه عمُّه المطلب بعبد المطلب، فقد ذكر ابن أبي الحديد ذلك، فقال: «...وأُمّ عبد المطلب سلمى بنت عمرو بن زيد... وولدت عبد المطلب، فسمّته شيبة الحمد؛ لشعرة بيضاء كانت في ذوائبه حين وُلِدَ»(3).
2- إنّنا نحتمل أنَّ هذه التسمية - غير اسمه الحقيقي - كانت من أُمّه، أمّا اسمه الحقيقي فلم يرد إلينا، وهناك شاهد على ذلك؛ بأنَّ العرب كانت تستسيغ هذا الأمر، كما ورد ذلك في اسم الإمام علي علیه السلام؛ فإنَّ أُمّه قد سمّته حيدرة أو حيدر، كما هو واضح
ص: 171
من أُرجوزته المعروفة:
أنا الذي سمّتني أُمّي حيدرة ***كليث غاب في العرين قسورة
أكيلكم بالصاع كيل السندرة(1)
3- ويُحتمل أيضاً أنَّ من الأعراف السائدة آنذاك، أنّ تسمية الولد - ابناً أو بنتاً - مختصة بالأُم دون الأب، فقد ورد في بعض المصادر، كما في تاريخ الطبري، حيث ذكر: «...فقال أبو حصين وهو يحدّثنا هذا: فبلغنا أنَّ فلاناً (الحجاج) قد أمّر على مكة... فقال: يا أبا حصين، قد - والله - فررت حتى استحييت من الله! سيجيئني ما كتب الله لي. قلت: أظنّك - والله - سعيداً كما سمّتك أُمك»(2)، أو أنّها من الاستعمالات المجازية التي وُصِف بها كلام العرب؛ لأنَّ الأُم هي مَن تلهج باسم وليدها في كلّ حالٍ وحين.
الأمر الثاني: ومن الأُمور التي نستفيدها من الرواية، أنَّ الحرّ لم يكن اسمه الحرّ فحسب، بل إنَّ الحسين علیه السلام قد نعته بهذه التسمية، فهي كانت صفة إضافة لتأكيد الاسم.
ولا يخفى على مَن يُدقق أنَّ في نعت الإمام علیه السلام للحر بهذه الصفة مداليل واعتبارات، فمن ضمنها:
1- إنّه متحرر من كلِّ أنواع التسلّط المفروضة من قِبل السلطة الحاكمة، أو من قِبل العرف الاجتماعي السائد حينئذٍ، وغير خاضع لها بالمقدار الذي يسلبه إرادته في اختيار ما هو على قناعة منه وما هو مؤمن به؛ فكان مستقلاً بآرائه وتوجهاته الاجتماعية والفكرية، بل حتى العسكرية كما سيأتي، ولم يكن ذيلاً من ذيول حكام بني أُميّة وأتباعهم على أمصار البلاد الإسلامية، ونحن نعلم أنَّ الأعراف الاجتماعية ورغبات الأُمراء وعقائدهم لها الدور الأكبر في تحديد سلوك الأفراد؛ لأنَّ الناس على دين ملوكهم كما يقال، فهو من هذه الناحية متحرر من هذه القيود.
2- التحرر من قيود النفس الأمّارة بالسوء والطامعة في ملذات الدنيا الزائلة، فعلى
ص: 172
ما كان للحر من مقام اجتماعي رفيع حيث تذكر الروايات أنّه كان رئيساً في عشيرته وقائداً عسكرياً، كان الحرّ متحرراً منها، أو على أقل تقدير إنّه استطاع أن يصرع نفسه الأمّارة بالسوء وينحرها في ميدان المعركة عندما قال: إنّي أُخيّر نفسي بين الجنة والنار... كما سيأتي المزيد من البيان.
يمكن حصر ثلاثة أقوال رئيسة في نَسب الحرّ بن يزيد الرياحي، وهي:
القول الأوّل: وهو قول ابن حزم، في جمهرة أنساب العرب، حيث ذكر: «...والحر بن يزيد بن ناجية بن قعنب بن عتاب الردف بن هرمي بن رياح بن يربوع، الذي بعثه عبيد الله بن زياد ليشغل الحسين بن علي (رضي الله عنهما) فمال إلى الحسين، فقُتل معه (رحمة الله عليه)»(1).
القول الثاني: ما ذكره البلاذري، في أنساب الأشراف، فقد قال: «الحر بن يزيد بن ناجية بن قعنب بن عتاب بن الحارث بن عمرو بن همام، الذي صار مع الحسين بن علي، وكان من قبلُ من أشدِّ الناس عليه، فقال له الحسين: أنت الحرّ في الدنيا والآخرة. وقُتل معه...»(2).
القول الثالث: قول الشيخ الطوسي، في رجاله، فذكر: «الحر بن يزيد بن ناجية بن سعيد، من بني رياح بن يربوع»(3).
أمّا بالنسبة للقول الأوّل والثاني؛ فهناك نوع من التعارض في بعض نسب الحر، فإنّ ابن حزم والبلاذري قد اتفقا في انتساب الحرّ إلى رياح بن يربوع من بني تميم، واختلفا في نسبه إلى أبناء رياح، فابن حزم أوصله إلى هرمي والبلاذري أوصله إلى همام، وكلاهما يتفقان على أنَّهما من أبناء رياح.
ص: 173
ووجه الاختلاف الحقيقي يكمن في قعنب بن عتاب، فابن حزم يرى أنَّ قعنب بن عتاب غير قعنب بن عتاب الردف، والدليل أنّه يذكر نسب الأبرد بن المعذر بعد ذكره لنسب الحرّ حيث يقول: «والحر بن يزيد بن ناجية... والأبرد بن قرّة بن نعيم بن قعنب بن عتاب بن الحارث بن عمرو بن همام بن رياح بن يربوع، كان سيّداً»(1).
أمّا البلاذري، فيرى الشيء نفسه؛ حيث يذكر عتاب الردف، بقوله: «ومن بني رياح: عتاب بن هرمي بن رياح، وهو الردف، ردف للنعمان بن الشقيقة، وكانت الردافة أن يجلس الملك، فيجلس الردف عن يمينه...»(2)، إلّا أنّ نسب الحرّ عند ابن حزم يعود لعتاب الردف بن هرمي بن رياح، وعند البلاذري إلى عتاب بن الحارث بن عمرو بن همام بن رياح، ف-(عتاب) عند ابن حزم هو رديف النعمان، وهو غيره عند البلاذري.
أمّا قول الشيخ الطوسي، فإنّنا نحتمل التصحيف في سعيد؛ لاحتمال التقارب في اللفظ مع قعنب، فيكون هو قعنب بن عتاب الردف، وعلى أيّة حالٍ، فقول النسّابة يكون راجحاً على قول غيرهم.
أمّا أبوه، فهو يزيد بن قعنب، قال البلاذري: «...ومن وُلده يزيد بن قعنب بن عتاب كان فارساً»(3).
إلّا أنّه - كما قدّمنا - يذكر الحرّ وينسبه إلى يزيد بن ناجية بن قعنب، أي: هناك ناجية يتوسط بين يزيد وقعنب، وفي المسألة احتمالان:
الأوّل: إنّ جدّه ناجية بن قعنب، وهذا ما لا مستند له.
والثاني: إنّ (ناجية) اسم لأُمّه، لاحتمال ورود تسميتها في نسبه، وهو أمر تعارفت
ص: 174
عليه العرب في الانتساب، وأمثلة ذلك كثيرة في تاريخ الأنساب والرجال، فقد ذكر البلاذري، في نسب غالب بن أُسامة قوله: «...وغالب بن سامة: أُمّه ناجية بنت جرم بن ربان، إليها نسب وُلد زوجها؛ فهم بنو ناجية. ولا عقب لغالب الذي هو ولد ناجية»(1)، وقد أوردنا هذا القول للمثال وليس المقصود من ناجية نفسه الوارد في ذكر نسب الحر.
فيكون اسم أبيه يزيد بن قعنب، كما نحتمل ذلك، والله العالم.
العَلَم ينقسم على ثلاثة أقسام: الاسم، والكنية، واللقب، أمّا الكنية فهي للتعظيم وتُستخدم للتعريف عن الذات في الحروب وغيرها من موارد ذكر الكنى، فقد ورد عن الإمام الكاظم علیه السلام، أنّه قال: «إذا حضر الرجل فكنّوه وإذا غاب فسمّوه»(2).
وأنّ كتب التاريخ نقلت اسم الحرّ دون كنيته، والمصادر تفتقر إلى أحوال الحرّ قبل واقعة الطفِّ، إلّا أنّ بعض المصادر ذكرت أنّ له ولداً اسمه علي(3)، استُشهد معه في كربلاء مع أخيه مصعب بن يزيد، فإذا كان الغالب من كنية الرجل بابنه؛ فتكون كنيته أبو علي، إذا ثبت أنَّ لديه ولداً في واقعة الطفِّ. وعلى كلِّ حالٍ فتسميته الحرّ هي الغالبة على كنيته أو لقبه.
لم تذكر المصادر الرئيسة التي ذكرت أصحاب الإمام الحسين علیه السلام عمر الحرّ بن يزيد الرياحي، إلّا أنَّ صاحب كتاب أنصار الحسين علیه السلام، يقول: «...إنّ الحرّ يبدو إلى الشباب أقرب»(4)، ولم يذكر أمارة هذا القول، إلّا أنّنا نستبعد ذلك من عدّة وجوه، ولأجل
ص: 175
الاختصار سنذكر اثنين:
الأوّل: إنَّ قيادته العسكرية لجيش قوامه ألف فارس تتطلب الخبرة الميدانية، والتي لا يمكن أن تتأتى له خلال مدّة قصيرة من عمره، ومَن يملك هذه الأهمية في صدارة الجيش لملاقاة الإمام الحسين علیه السلام لا بدَّ أن يتمتع إضافة إلى الحنكة العسكرية بالمنطق والرأي السديد والناضج؛ ليحمل على عاتقه إنجاح هذه المهمّة على أتمّ وجه، خاصّة وأنَّ مهمّته - كما سيأتي - لم تكن قتال الحسين بمجرد ملاقاته، بل كان مأموراً بأن يُجعجع بالحسين علیه السلام.
ولدينا كلام في ذلك، فهل كانت مهمته الجعجعة بالحسين علیه السلام، أو لا؟ وسيأتي بيانه لاحقاً.
وعلى كلّ حالٍ، فنحن لا نحتمل كونه إلى الشباب أقرب لأجل ما بيّنا.
الثاني: استفاضة الأخبار الدالة على أنّ الحرّ كان شريفاً ورئيساً على قومه من بني رياح، حيث إنّ صاحب الإبصار قد أشار إلى ذلك بقوله: «...التميمي اليربوعي الرياحي. كان الحرّ شريفاً في قومه جاهليةً وإسلاماً»(1)، وإنَّ دلالة «جاهليةً وإسلاماً» - وإن كان لعلّه وصف مجازي؛ لأجل التشريف والتعظيم - يدلُّ على العمر الطويل، وأنَّ له الباع والخبرة في الحياة الاجتماعية الميدانية، فضلاً عن قيادة العسكر كما قدّمنا.
قال أبو مخنف(2): «حدّثني النضر بن صالح أبو زهير العبسي: أنّ الحرّ بن يزيد ل-مّا
ص: 176
لحق بحسين، قال رجل من بني تميم من بنى شقرة - وهم بنو الحارث بن تميم - يقال له: يزيد بن سفيان: أما والله، لو أنّي رأيت الحرّ بن يزيد حين خرج لأتبعته السنان. قال: فبينا الناس يتجاولون ويقتلون والحر بن يزيد يحمل على القوم مُقدماً ويتمثّل قول عنترة:
ما زلت أرميهم بثغرة نحره***ولبانه حتى تسربل بالدم
قال: وإنّ فرسه لمضروب على أُذنيه وحاجبه، وإنَّ دماءه لتسيل، فقال الحصين بن تميم: وكان على شرطة عبيد الله، فبعثه إلى الحسين وكان مع عمر بن سعد، فولّاه عمر مع الشرطة المجففة ليزيد بن سفيان: هذا الحرّ بن يزيد الذي كنت تتمنّى. قال: نعم. فخرج إليه فقال له: هل لك يا حر بن يزيد في المبارزة ؟ قال: نعم قد شئت. فبرز له، قال: وأنا سمعت الحصين بن تميم يقول: والله، لبرز له فكأنّما كانت نفسه في يده، فما لبثه الحرّ حين خرج إليه أن قتله»(1)، وهذا النص يُبيّن لنا موقف الرجال من الحرّ بن يزيد الرياحي، وما مدى شجاعته في ساحات القتال، ولعلّه من أبرز ما يميّز القادة في جيوش الدولة الإسلامية.
إلّا أنّ الشجاعة الحقيقية التي أرادها الإسلام بتعاليمه السماوية السمحة وقيمه النبيلة، هي الوقوف بوجه الباطل بكلِّ صوره، ومنها النفس الأمّارة بالسوء التي تُمثّل أعدى أعداء الإنسان في طريق الكمال، ومن الشجاعة كذلك قول الحقِّ ولو عند حاكم جائر، وهذا ما جسّده الحرّ بأروع معانيه في مواقفه النبيلة مع الحسين علیه السلام، ثمّ في توبته بين يدي الحسين علیه السلام، وبعدها في خطبته، ثمّ ختم رسالته بدم شهادته الطاهر.
سنتحدث في هذا المحور عن عدّة مواضيع، تتلخّص بحركة الحرّ العسكرية، والمهمة التي وقعت على عاتقه لقتال الإمام الحسين علیه السلام، وكيف التقى بالإمام علیه السلام، وأهمّ المحاورات التي جرت بينهما، وسيكون اعتمادنا في هذا المحور على جهتين رئيستين:
ص: 177
ونعني بها بداية المهمة العسكرية للحر بن يزيد الرياحي لملاقاة الحسين علیه السلام، وإذا لاحظنا الروايات والأخبار الواردة في كيفية خروج الحرّ من الكوفة، وكيف أنّه كان مرتبطاً بها عسكرياً؟ ومن أين يتسلّم الأوامر والتوجيهات فيها؟ فإنّنا نراها - أي: الروايات - تنقسم على ثلاثة أقسام، وكما يأتي:
القسم الأوّل: هناك أخبار تتحدث عن خروج الحرّ في ألف فارس لملاقاة الحسين علیه السلام، بأمر من عبيد الله بن زياد؛ فقد روى ذلك القاضي النعمان، في أثناء سرده لكيفية مقتل الحسين علیه السلام، وأهمّ المقدّمات التي كانت لأجل قتله، من خلال يزيد (لعنه الله)، فقال: «... وأرسل الحرّ بن يزيد الحنظلي [اليربوعي] في خيل، فلقيَ الحسين علیه السلام بكربلاء، فتوافقا، وأرسل عبيد الله بن زياد بعد ذلك عمر بن سعد بن أبي وقاص في عسكر جحفل، وعُدّة عتيدة. فوافى الحسين علیه السلام، وقد وافقه الحرّ بالطفِّ من كربلاء، ولم يكن بينهما قتال»(1).
وقد روى الصدوق كذلك، بإسناده عن الإمام الصادق علیه السلام، فقال: «...وبلغ عبيد الله بن زياد (لعنه الله) الخبر، وأنَّ الحسين علیه السلام قد نزل الرهيمة، فأسرى إليه الحرّ بن يزيد في ألف فارسٍ...»(2)، وقد روى المجلسي في البحار مثله(3).
وهذه الروايات تُشير إلى أنَّ الحرّ قد خرج من الكوفة بأمر من عبيد الله بن زياد؛ الأمر الذي يتطلّب أن تكون مهمّة الحرّ واضحةً وبتوجيه مباشر من ابن زياد، وهذه المهمّة، إمّا أن تكون الجعجعة بالحسين علیه السلام في كربلاء وعدم السماح له بالتوجه إلى مكان آخر، كما هو مضمون رواية القاضي، أو قتال الحسين علیه السلام.
ويمكن أن نُبيّن أمرين في ذلك:
ص: 178
الأمر الأول: في مهمّة الجعجعة بالحسين علیه السلام، فإنّ الكتاب الذي أمر الحرّ بأن يُجعجع بالحسين علیه السلام قد وصل للحر في كربلاء، وما يدلُّ على ذلك، قول الدينوري: «...وسار الحسين علیه السلام من قصر بني مقاتل، ومعه الحرّ بن يزيد، كلّما أراد أن يميل نحو البادية منعه، حتى انتهى إلى المكان الذي يُسمّى: (کربلاء)، فمال قليلاً متيامناً حتى انتهى إلى (نينوى)، فإذا هو براكب على نجيب، مقبل من القوم، فوقفوا جميعاً ينتظرونه. فلمّا انتهى إليهم سلّم على الحر، ولم يُسلّم على الحسين. ثمّ ناول الحرّ كتاباً من عبيد الله بن زياد، فقرأه، فإذا فيه: أمّا بعد، فجعجع بالحسين بن علي وأصحابه»(1)، فما معنى وصول كتاب ابن زياد إلى الحرّ في كربلاء، إذا كان الحرّ قد خرج بأمر ابن زياد؟
إلّا أنّه يمكن القول: إنّ الأخبار التي وصلت لابن زياد، تُبيّن أنَّ موقف الحرّ من الحسين علیه السلام لم يكن كما ينبغي، ولم يكن وفق مخطط ابن زياد، ويمكن القول: إنّه تزامن نزول الحسين علیه السلام بكربلاء ووصول كتاب ابن زياد إلى الحر، هذا بالنسبة لما يتناسب مع رواية القاضي النعمان، وتصريح الدينوري.
الأمر الثاني: إنَّ القول بأنَّ الحرّ مأمور بقتال الحسين علیه السلام بعيد؛ لأنَّ الحرّ لم يكن معه سوى ألف فارس، في حين أنَّ ابن زياد كان عازماً على أكثر من هذا العدد بثلاثين ضعفاً؛ لأنّه يعتبرها حاسمة، فضلاً عن أنّه يخاف من الإمام الحسين علیه السلام، وكان يخطط لقمع احتمال انتفاضة الكوفيين عليه؛ فإنّه يكون قد هيأ العُدّة والعدد المناسبين لكلّ هذه الاحتمالات، فلم يكن عبيد الله ليجازف بهذا المقدار من العدد، وإن كان عدد مَن كان مع الحسين علیه السلام قليلاً جداً لا يتعدى المئة، وقد ورد في البحار، رغبة ابن زياد بهذا العدد: «...وقال: أحبُّ أن تشخص إلى قتال هذا الرجل عوناً لابن سعد عليه، فقال: أفعل أيّها الأمير، فما زال يرسل إليه بالعساكر حتى تكامل عنده ثلاثون ألفاً ما بين فارس وراجل»(2).
ص: 179
القسم الثاني: وهي الروايات التي تروي بأنَّ الحرّ وجيشه الذي قوامه ألف فارس كان في مقدمة أو طليعة الجيش الذي بعثه عبيد الله بن زياد؛ لقطع الطريق على الحسين علیه السلام بإمرة الحصين بن نُمير التميمي، والذي كان قائداً على شرطة بن زياد، فقد نقل هذا الأمر الطبري، فقال:«...وكان مجيء الحرّ بن يَزِيدَ ومسيره إلى الحسَين من القادسية، وذلك أنَّ عُبَيْد الله بن زياد لمّا بلغه إقبال الحسين بعث الحصين بن نُمير التميمي - وكان على شرطه - فأمره أن ينزل القادسية، وأن يضع المسالح فينظم ما بين القطقطانة إلى خفان، وقدّم الحرّ بن يزيد بين يديه في هذه الألف من القادسية، فيستقبل حسيناً. قال: فلم يزل موافقاً حسيناً حتّى حضرت الصلاة... فقال الحر: فإنّا لسنا من هؤلاء الذينَ كتبوا إليك، وقد أُمرنا إذا نحن لقيناك ألّا نفارقك حتّى نُقدمك على عُبَيْد الله بن زياد... فإذا أبيت فخذ طريقاً لا تدخلك الكوفة، ولا تردّك إلى المدينة...»(1)، ومثله ما رواه الشيخ المفيد في الإرشاد، بقوله: «..وكان مجيء الحرّ بن يزيد من القادسية، وكان عبيد الله بن زياد بعث الحصين بن نمير وأمره أن ينزل القادسية، وتقدّم الحرّ بين يديه في ألف فارس يستقبل بهم حسيناً... وقد أُمرنا إذا نحن لقيناك، ألّا نفارقك حتى نُقدمك الكوفة على عبيد الله»(2).
والملاحظ من مجموع الروايات في هذا القسم؛ أنَّ الحرّ في طليعة جيش الحصين بن نمير، الذي كان على شرطة ابن زياد، ومأمور بأن يضع المسالح ويقطع الطريق على الحسين علیه السلام، وقدم الحصين بن نمير الحرّ في ألف فارس.
أمّا طبيعة مهمّة الحر؛ فإنّ رواية الطبري والمفيد تُشير إلى أنّ مهمّته أن يُقدم بالحسين علیه السلام إلى الكوفة، أي: إلى ابن زياد، والغريب أنّ لقاء الحرّ بالحسين علیه السلام بحسب رواية الطبري كان في عذيب الهجانات، وهي منطقة تبعد عن القادسية ثلاثة أميال، حيث يوجد الحصين بن نمير وفرقته التي قوامها أربعة آلاف فارس، فما الذي منع الحرّ من أن يتوجه بالحسين علیه السلام إلى الحصين بن نمير وهو تحت إمرته، ومأمور بأن يُقدم
ص: 180
بالحسين علیه السلام إلى الكوفة وفي هذا الطريق مسالح الحصين بن نمير وفرقته؟ فما الذي جعل الإمام الحسين علیه السلام ينعطف بمسيره من عذيب الهجانات ليتوجّه إلى كربلاء؟
والذي يقرّب الأمر ويكون بمثابة الجواب أنّ الحرّ هو مَن أخبر الحسين علیه السلام بهذه التهيئة، وأشار إليه بها ولو ضمناً بقوله للحسين علیه السلام: «...فخذ طريقاً لا تُدخلك الكُوفَة، وَلا تردّك إلى المدينة...». كما في رواية الطبري، فهي إشارة واضحة من الحرّ للحسين علیه السلام فيها نوع من التورية، فَهِم منها الحسين علیه السلام مراد الحرّ وما هو مُعدٌّ له في حال سلوكه طريق الكوفة.
القسم الثالث: في هذا القسم من الروايات الإشارة إلى أنّ الحرّ التقى بالحسين علیه السلام، وأنّه جاء بألف فارس، ولم تذكر أنّه مرسل من ابن زياد، أو أنّه كان في طليعة جيش الحصين بن نمير، حيث إنَّ الطبري أورد هذا الأمر من خلال رواية عمار الدهني لمقتل الإمام الحسين علیه السلام، فذكر: «...حدّثنا عمار الدهني، قال: قلت لأبي جعفر: حدّثني عن مقتل الحسين حتّى كأنّي حضرته... قال: فأقبل حسين بن علي بكتاب مسلم بن عقيل كان إليه، حتّى إذا كان بينه وبين القادسية ثلاثة أميال، لقيه الحرّ بن يزيد التميمي، فقال له: أين تريد؟ قال: أريد هذا المصر، قال له: ارجع؛ فإنّي لم أدع لك خلفي خيراً أرجوه...»(1).
وفي الإصابة لابن حجر، قال: «...ولم يبلغ الحسين ذلك حتى كان بينه وبين القادسيّة ثلاثة أميال، فلقيه الحرّ بن يزيد التميمي، فقال له: ارجع؛ فإنّي لم أدع لك خلفي خيراً، وأخبره الخبر، فهمّ أن يرجع»(2).
ولعدم وضوح الجهة الآمرة، ولعدم بيان هل أنَّ هناك من أمر بذلك أو لا؟ فإنّنا نُورد ما يلي:
1- إنَّ عدم بيان الجهة التي أمرت الحرّ بالخروج لملاقاة الحسين علیه السلام يعطي دلالة على
ص: 181
عدم وضوح مهمّة الحرّ بالنسبة إلى حركة الحسين علیه السلام، فضلاً عمَّا ورد في الروايتين، فقول الحرّ للحسين علیه السلام في رواية الطبري: «...ارجع؛ فإنّي لم أدع لك خلفي خيراً أرجوه...». دليل على أنَّ الحرّ لم يكن يريد للحسين علیه السلام إلّا الخير.
وكذلك الأمر في رواية ابن حجر، التي يُضيف إليها قوله: «فأخبره الخبر»، وهو خبر وجود الحصين بن نمير على طريق الكوفة؛ الأمر الذي جعل الحسين علیه السلام، يأخذ طريقاً آخر؛ فتوجه إلى كربلاء.
2- أو نحتمل وجود خبر آخر لم يكن لأحد أن يطلع عليه، ولعلّ قائلاً يقول: إنَّ مجرد ذكر خروج الحرّ لملاقاة الحسين علیه السلام من الكوفة كافٍ إجمالاً في بيان هذه الحقيقة - وهي أنّه كان مأموراً بأن يأتي للحسين علیه السلام، ويقاتله أو يُجعجع به - ولا ضرورة إلى ذكر الجهة التي أمرت الحرّ بالخروج، أو أنّ ذكر بعض الروايات كافٍ في تحديد الجهة التي أمرت الحرّ بذلك، كما في القسم الأوّل أو الثاني، أو مع ضمّ القسمين معاً تكون فيها الكفاية؛ فإنّها بطبيعة الحال تُبيّن الجهة إجمالاً، ولا داعي للتفصيل.
وفي مقام الجواب عن هذا التساؤل والاعتراض، نذكر عدّة نقاط:
الأولى: إنَّنا وإن كنّا نُشكك في تحديد الجهة التي أصدرت الأمر للحر بالخروج، إلّا أنّنا لا نُنكر خروجه أصلاً، فنحن نُؤكد على خروج الحرّ من الكوفة لملاقاة الحسين علیه السلام، إلّا أنَّ الاحتمال الذي أوردناه هو في تحديد الجهة التي أمرت الحرّ بالخروج؛ لأنَّ ذلك سينعكس بشكل مباشر على تحديد مهمّة الحرّ التي اختلفت الروايات في تحديدها، وكذلك اختلاف موقف الحرّ تجاه حركة الحسين علیه السلام.
الثانية: إنَّ احتمال عدم وضوح الجهة التي أصدرت الأمر للحر بالخروج لملاقاة الحسين علیه السلام، وارد جداً للتعارض بين روايات القسم الأوّل والثاني، فضلاً عن عدم ذكر الجهة أصلاً في القسم الثالث، وهذا الاحتمال يُبطل الاستدلال ويسقطه عن حجية الاعتبار؛ الأمر الذي يجعل سبب خروج الحرّ لملاقاة الحسين علیه السلام - وتحديد موقف الحرّ من حركة الحسين علیه السلام - غير واضح؛ وعليه سوف تختلف طبيعة مواقف الحرّ، وكذلك
ص: 182
سيختلف التحليل نتيجةً لهذه التعارضات، خاصّةً في القسم الثاني من الروايات الذي يُؤكد كونه في طليعة جيش الحصين بن نمير، ولم يكن يبعد عن القادسية، حيث كان الحصين بن نمير يضع مسالحه على بعد بضعة أميال؛ الأمر الذي تحصّل منه أنَّ الحرّ كان سبباً في انعطاف الحسين علیه السلام عن اللقاء بالحصين بن نمير، كما أنَّ تصور نتيجة لقاء الحسين علیه السلام وركبه بجيش الحصين بن نمير غير عصية على أدنى متأمل، وهو الذي حال دون حدوثه الحرّ، فهو لم يكن مرتبطاً بالحصين بن نمير وتابعاً لتوجيهاته فعليّاً.
الثالثة: إنَّ رواية الطبري - في القسم الثالث - تُشير إلى أنَّ الحرّ يسأل الحسين علیه السلام، بقوله: أين تريد؟ ورواية ابن حجر بقوله: وأخبره الخبر. فهذه الطائفة من الروايات، وبحسب أقوال الحرّ في الخبرين، تُشير إلى عدم وجود علاقة فعلية للحر بأمير الكوفة عبيد الله بن زياد، كما هو حال القسم الأوّل من الروايات، أو الحصين بن نمير كما في القسم الثاني.
اختلفت الروايات في تحديد مكان لقاء الحرّ وجيشه بالحسين علیه السلام عند دخوله إلى أرض العراق، حيث ذكر الطبري في تاريخه روايتين، في هذا الصدد:
الرواية الأُولى: فقد ذكر الطبري: «...أقبل الحسين علیه السلام حتّى نزل شراف، فلمّا كان في السّحر أمر فتيانه فاستقوا من الماء فأكثروا،...ثمّ إنّ رجلاً قال: الله أكبر! فقال الحسين: الله أكبر ما كبّرت؟ قال: رأيت النّخل. فقال له الأسديّان: إنّ هذا المكان ما رأينا به نخلةً قطّ. قالا: فقال لنا الحسين: فما تريانه رأى؟ قلنا: نراه رأى هوادي الخيل. فقال: وأنا - والله - أرى ذلك. فقال الحسين: أما لنا ملجأٌ نلجأ إليه، نجعله في ظهورنا، ونستقبل القوم من وجهٍ واحدٍ؟ فقلنا له: بلى، هذا ذو حُسم إلى جنبك، تميل إليه عن يسارك، فإن سبقت القوم إليه فهو كما تريد... قال: فاستبقنا إلى ذي حُسم، فسبقناهم إليه، فنزل الحسين، فأمر بأبنيته فضربت، وجاء القوم وهم الف فارسٍ مع الحرّ بن يزيد التّميميّ
ص: 183
اليربوعيّ حتّى وقف هو وخيله مقابل الحسين في حرّ الظّهيرة، والحسين وأصحابه معتمّون متقلّدو أسيافهم، فقال الحسين لفتيانه: اسقوا القوم وارووهم من الماء ورشّفوا الخيل ترشيفاً. فقام فتيانه فرشّفوا الخيل ترشيفاً، فقام فتيةٌ وسقوا القوم من الماء حتّى أرووهم، وأقبلوا يملؤون القصاع والأتوار والطّساس من الماء ثمّ يدنونها من الفرس...»(1).
أي: إنَّ لقاء الحرّ بالحسين علیه السلام كان في ذي حُسم، وهي منطقة إمّا جبلية، أو وادٍ فيه ماء، لقول الحسين علیه السلام: «...أما لنا ملجأٌ نلجأ إليه، نجعله في ظهورنا، ونستقبل القوم من وجهٍ واحدٍ؟ فقلنا له: بلى، هذا ذو حُسم إلى جنبك، تميل إليه عن يسارك، فإن سبقت القوم إليه فهو كما تريد...». فأراد الحسين علیه السلام من هذا المكان أن يسدَّ عليهم جهة ظهورهم فيستقبلون القوم من جهةٍ واحدةٍ، وذو حُسم منطقة تبعد عن عذيب الهجانات - التي هي قريبة من القادسية، كما سيأتي - ثمانية وثلاثين ميلاً بحسب رواية الطبري، وذكرها البكري بقوله: «... ذو حُسم بضمِّ أوّله وثانيه، وبالميم: وادٍ بنجد... وقال الخليل: حُسم وحاسم: موضع بالبادية... فأعلم أنَّ أعلاه قفر غامر، وأسفله نخل عامر»(2).
إلّا أنَّ الطبري، وفي روايةٍ ثانيةٍ، يقول: «...حدّثنا عمار الدهني، قال:... فأقبل حسين بن علي بكتاب مسلم بن عقيل كان إليه حتى إذا كان بينه وبين القادسية ثلاثة أميالٍ لقيه الحرّ بن يزيد التميمي...»(3).
وبحسب هذه الرواية؛ فإنّ لقاء الحرّ بالحسين علیه السلام، كان قبل القادسية بثلاثة أميال، وهي منطقة عذيب الهجانات أو الرهيمة.
وأنَّ الصدوق في أماليه ذكر هذا المكان أيضاً، فقال: «... ثمّ سار حتى نزل العذيب... ثمّ سار حتى نزل الرهيمة... قال: وبلغ عبيد الله بن زياد (لعنه الله) الخبر،
ص: 184
وأنَّ الحسين علیه السلام قد نزل الرهيمة، فأسرى إليه الحرّ بن يزيد في ألف فارس...»(1).
وهذان الموضعان يدعمان الروايات القائلة: إنَّ الحرّ كان في طليعة جيش الحصين بن نمير الذي نزل القادسية وسدَّ الطرق المؤدية إلى الكوفة؛ مكوّناً بذلك طوقاً أمنيَّاً لسدِّ الطريق على الحسين علیه السلام أو أخذه إلى عبيد الله بن زياد؛ الأمر الذي حال دون وقوعه الحر؛ لأنَّ الرهيمة أو منطقة العذيب قريبتان من القادسية، ولا تبعدان عنها سوى بضعة أميال.
ومن المناسب في هذا المحلّ أن نفرد رواية الطبري المفصّلة التي بيّنت ما دار بين الحرّ والإمام الحسين علیه السلام من محاورة، لعلّنا نقف على بعض الحقائق التي تفيدنا في المقام، فقد روى الطبري في تاريخه، قائلاً: «...وقدم الحرّ بن يزيد بين يديه في هذه الألف من القادسية، فيستقبل حسيناً، قال: فلم يزل موافقاً حسيناً حتّى حضرت الصّلاة - صلاة الظهر- فأمر الحسين الحجاج بن مسروق الجعفي أن يؤذن... وقالوا للمؤذن: أقم. فأقام الصّلاة، فقال الحسين علیه السلام للحر: أتريد أن تصلي بأصحابك؟ قال: لا، بل تصلّي أنت ونصلي بصلاتك. قال: فصلّى بهم الحسين.
ثمّ إنّه دخل واجتمع إليه أصحابه، وانصرف الحرّ إلى مكانه الّذي كان به، فدخل خيمة قد ضربت له، فاجتمع إليه جماعة من أصحابه... فلمّا كان وقت العصر أمر الحسين أن يتهيؤوا للرحيل. ثمّ إنّه خرج فأمر مناديه فنادى بالعصر، وأقام فاستقدم الحسين فصلّى بالقوم ثمّ سلّم، وانصرف إلى القوم بوجهه فحمد الله وأثنى عليه، ثمّ قال: أمّا بعد، أيّها النّاس، فإنّكم إن تتقوا وتعرفوا الحقّ لأهله يكن أرضى لله، ونحن أهل البيت أولى بولاية هذا الأمر عليكم من هؤلاء المدعين ما ليس لهم، والسائرين فيكم بالجور والعدوان، وإن أنتم كرهتمونا، وجهلتم حقنا، وكان رأيكم غير ما أتتني كتبكم، وقدمت به عليّ رسلكم، انصرفت عنكم، فقال له الحرّ بن يزيد: إنّا - والله - ما ندري ما
ص: 185
هذه الكتب الّتي تذكر! فقال الحسين: يا عقبة بن سمعان، أخرج الخرجين اللذين فيهما كتبهم إليّ. فأخرج خرجين مملوئين صحفاً، فنشرها بين أيديهم، فقال الحر: فإنّا لسنا من هؤلاء الّذين كتبوا إليك، وقد أمرنا إذا نحن لقيناك ألّا نفارقك حتّى نقدمك على عبيد الله بن زياد، [فقال له الحسين: الموت أدنى إليك من ذلك]، ثمّ قال لأصحابه: قوموا فاركبوا. فركبوا وانتظروا حتّى ركبت نساؤهم، فقال لأصحابه: انصرفوا بنا، فلمّا ذهبوا لينصرفوا حال القوم بينهم وبين الانصراف، فقال الحسين للحر:
ثكلتك أمّك! ما تريد؟ قال: أما والله، لو غيرك من العرب يقولها لي وهو على مثل الحال الّتي أنت عليها ما تركت ذكر أمّه بالثكل أن أقوله كائناً من كان، ولكن - والله - ما لي إلى ذكر أمّك من سبيل إلّا بأحسن ما يقدر عليه. فقال له الحسين: فما تريد؟ قال الحر: أريد - والله - أن أنطلق بك إلى عبيد الله بن زياد. قال له الحسين: إذن - والله - لا أتبعك.
فقال له الحر: إذن - والله - لا أدعك. فترادا القول ثلاث مرات، ولمّا كثر الكلام بينهما قال له الحر: إنّي لم أؤمر بقتالك، وإنمّا أمرت ألّا أفارقك حتّى أقدمك الكوفة، فإذا أبيت فخذ طريقاً لا تدخلك الكوفة، ولا تردّك إلى المدينة، لتكون بيني وبينك نصفاً حتّى أكتب إلى ابن زياد، وتكتب أنت إلى يزيد بن معاوية إن أردت أن تكتب إليه، أو إلى عبيد الله بن زياد إن شئت، فلعلّ الله إلى ذاك أن يأتي بأمر يرزقني فيه العافية من أن ابتلى بشيء من أمرك. قال: فخذ هاهنا فتياسر عن طريق العذيب والقادسية، وبينه وبين العذيب ثمانية وثلاثون ميلاً. ثمّ إنّ الحسين سار في أصحابه والحر يسايره»(1).
إلّا أنّنا إذا دققنا في مطلع رواية الطبري، حيث يقول الراوي: «...فلم يزل موافقاً حسيناً حتى حضرت صلاة الظهر»؛ أي: بعد أن سقى أصحاب الحسين علیه السلام الحرّ وجيشه وسقوا دوابهم، نجد أنّه لم تكن هناك أيّ: محاورةٍ بين الحرّ والإمام الحسين علیه السلام إلى وقت الصلاة، وهو أمر غريب، فأين هي مهمّة الحر؟! وأين المبعوث المأمور بأن يأتي بالحسين علیه السلام إلى ابن زياد؟! وبعد حضور صلاة الظهر، صلّى الحرّ وأصحابه خلف
ص: 186
الإمام الحسين علیه السلام، وإلى الآن فإن الراوي لم يذكر لنا أيّ شيءٍ لافت للنظر يُبيّن موقف الحرّ تجاه الإمام الحسين علیه السلام.
لقد صلّى الحسين علیه السلام بأصحابه وبالحر ومَن معه، وقام خاطباً فيهم، فيعتذر إلى الله وإليهم من قدومه؛ لأنّه كان بحسب طلبهم وتوقيتهم ربما، ومع هذا فبعد الخطبة وإشارة الحسين علیه السلام إلى طلبهم بقدومه، لم يكن هنالك كلام من الحرّ للإمام الحسين علیه السلام.
وبعدما انصرفوا وحان وقت صلاة العصر أمر الإمام الحسين علیه السلام أن يتهيَّؤوا للرحيل، إلّا أنّه هل أمر أصحابه فقط أو الجميع؟ وهذا ما لم يُبينه الراوي، ثمّ قام خطيباً ثانياً وكرر المضمون نفسه.
وبعدها تكلّم الحر، فأخبرهم بعدم علمه بهذه الكتب، وأنّه لم يكتب أيَّ كتابٍ للحسين علیه السلام، وهو أمر طبيعي؛ لأنَّ هذه الكتب كان لها طابعٌ سرّي لخطورة الموقف، وإذا لم يكن الحرّ ممَّن كتب للحسين علیه السلام، والحسين يعلم بمَن كتب له، فما معنى أن يعرض هذه الكتب ويحتجَّ بها على الحر؟
فلمّا أراد الحسين علیه السلامالانصراف - بحسب تعبير الراوي ولا نعلم أين يُريد الراوي للحسين علیه السلام أن ينصرف - حال القوم بينه وبين الانصراف، ودار الكلام بين الحرّ والإمام علیه السلام، والذي يتبيّن منه أنّه كان ذا طابع عدائي بين الطرفين، وهو الأمر الذي انتهى بالحر إلى أن يحول بين جهة انصراف الحسين علیه السلام - وهي المدينة بحسب الرواية - وبين الكوفة حيث كان الحرّ مأموراً بأن يأتي بالحسين علیه السلام إليها؛ وبسبب ذلك أعطى الحرّ للإمام الحسين خياراً وسطياً ووحيداً، وهو التوجه إلى جهة غير الكوفة والمدينة، ولعل ذلك يتعين بالاتجاه إلى كربلاء، حيث المصرع الذي اختاره الله للحسين علیه السلام وأتباعه، ومنهم الحر.
وهنا تذكر الرواية أنَّ الحرّ كتب لعبيد الله بن زياد، يطلب فيه الحلول؛ لأنَّ الحسين علیه السلام امتنع عن مرافقة الحر، والحر لم يكن مأموراً بقتاله، لكن الرواية تُؤكد على أنَّهم في هذه الحالة وصلوا لعذيب الهجانات، ومنها حصل تغيير مسار الحركة، ولم يكن
ص: 187
بين هذه المنطقة وبين القادسية سوى ثلاثة أميال بحسب الرواية، وكان هناك الحصين بن نمير، ولم يكن للحر أيّ قولٍ تجاه الحصين، وكان بإمكانه أن يستوقف الحسين علیه السلام ويبعث للحصين، وهذا ما لم يحصل، وسار الحسين علیه السلام وركبه برفقة الحرّ وجماعته حتى وصلوا إلى كربلاء.
فأتى جواب عبيد الله بن زياد للحر، بكتاب يقول فيه: «...أَمَّا بَعْدُ، فجعجع بالحسين حين يبلغك كتابي، ويقدم عَلَيْك رسولي، فلا تنزله إلّا بالعراء فِي غير حصن وعلى غير ماء، وَقَدْ أمرت رسولي أن يلزمك وَلا يفارقك حَتَّى يأتيني بإنفاذك أمري، والسلام»(1).
والسؤال الذي يهمنا هنا - باعتبار أنَّ كربلاء أرض اختارها الحسين علیه السلام- هو: هل اختارها قبل وصول كتاب ابن زياد للحر، أو اختارها الحرّ بعد وصول هذا الكتاب؟
يقول الطبري في الرواية نفسها: «... فقال له زهير بن القين: يا بن رسول الله، إنّ قتال هؤلاء أهون من قتال من يأتينا من بعدهم، فلعمري ليأتينا من بعد من ترى ما لا قبل لنا به، [فقال له الحسين: ما كنت لأبدأهم بالقتال] فقال له زهير بن القين: سر بنا إلى هذه القرية حتى تنزلها فإنّها حصينة، وهي على شاطئ الفرات، فإن منعونا قاتلناهم، فقتالهم أهون علينا من قتال من يجيء من بعدهم، فقال له الحسين: وأيّة قريةٍ هي؟ قال: هي العقر، فقال الحسين: اللّهمّ، إنّي أعوذ بك من العقر، ثمّ نزل...»(2).
فللقارئ هنا أن يُجيب عن هذا التساؤل بعد هذه الرواية؛ بأنّ نزول الإمام علیه السلام بكربلاء ليس له علاقة بكتاب ابن زياد أساساً، ولا الحرّ الذي أُمِرَ بأن يُجعجع بالحسين علیه السلام.
وفي رواية أُخرى أيضاً للطبري، ذكرناها - فيما سبق - قول الحرّ للحسين علیه السلام: «..أين تُريد؟ قال: أُريد هذا المصر. قال له: ارجع؛ فإنّي لم أدع لك خلفي خيراً أرجوه...»(3).
وكذلك روى ابن نما الحلي، ولم يذكر تعرّض الحرّ للإمام الحسين علیه السلام، بل ذكر
ص: 188
أن الحرّ سار بين يدي الإمام علیه السلام، فقال: «...فكان الحرّ يُساير الحسين ولا تعرض له، فنزل علیه السلام قصر أبي مقاتل. قال جابر بن عقبه بن سمعان: ارتحلنا من قصر أبي مقاتل وقد أخذ الحسين علیه السلام طريق عذيب الهجانات»(1).
سيكون كلامنا في هذا المحور الثالث والأخير، في خاتمة الحرّ الحسنة، التي على أساسها أصبح الحرّ حراً في الدنيا والآخرة، وأنّه مع سيّد شباب أهل الجنة، ويُسقى من كأس النبي محمد صلی الله علیه و آله التي لا ظمأ بعدها، وسنعتمد في بيان هذا المحور على ثلاث جهات:
باعتبار ما جاء في النبوي: «نية المرء خير من عمله»(2)، «ولكلِّ امرئ ما نوى»(3)، فسيكون لنا تساؤل مهم مفاده:
هل أنَّ الحرّ عقد النية وهمّ بالتوبة في ساحة القتال، أو قبل ساحة القتال؟
وفي مقام الإجابة عن السؤال السابق، نقول: قد روى الطبري في تاريخه خبر توبة الحر، حيث ذكر: «... إنَّ الحرّ بن يزيد ل-مّا زحف عمر بن سعد، قال له: أصلحك الله، مقاتل أنت هذا الرجل؟ قال: إي والله، قتالاً أيسره أن تسقط الرؤوس وتطيح الأيدي. قال: أفما لكم في واحدةٍ من الخصال التي عرض عليكم رضًى. قال عمر بن سعد: أما والله، لو كان الأمر إليَّ لفعلت، ولكن أميرك قد أبى ذلك. قال: فأقبل حتى وقف من الناس موقفاً ومعه رجل من قومه، يقال له: قرّة بن قيس، فقال: يا قرّة، هل سقيت
ص: 189
فرسك اليوم؟ قال: لا. قال: إنّما تُريد أن تسقيه. قال: فظننت - والله - أنّه يُريد أن يتنحَّى فلا يشهد القتال، وكره أن أراه حين يصنع ذلك، فيخاف أن أرفعه عليه. فقلت له: لم أسقه وأنا منطلق فساقيه. قال: فاعتزلت ذلك المكان الذي كان فيه. قال: فو الله، لو أنّه أطلعني على الذي يُريد لخرجت معه إلى الحسين. قال: فأخذ يدنو من حسين قليلاً قليلاً، فقال له رجل من قومه، يقال له: المهاجر بن أوس: ما تُريد يا بن يزيد؟ أتريد أن تحمل؟ فسكت، وأخذه مثل العرواء. فقال له: يا بن يزيد، والله، إنَّ أمرك لمريب، والله، ما رأيت منك في موقف قط مثل شيء أراه الآن، ولو قيل لي: مَن أشجع أهل الكوفة رجلاً ما عدوتك، فما هذا الذي أرى منك، قال: إنِّي - والله - أُخيّر نفسي بين الجنة والنار - ووالله - لا أختار على الجنة شيئاً ولو قُطّعت وحُرقت.
ثمّ ضرب فرسه فلحق بحسين علیه السلام، فقال له: جعلني الله فداك يا بن رسول الله، أنا صاحبك الذي حبستك عن الرجوع، وسايرتك في الطريق، وجعجعت بك في هذا المكان، والله الذي لا إله إلّا هو ما ظننت أنَّ القوم يردّون عليك ما عرضت عليهم أبداً، ولا يبلغون منك هذه المنزلة، فقلت في نفسي: لا أُبالي أن أُطيع القوم في بعض أمرهم ولا يرون أنّى خرجت من طاعتهم، وأمّا هم فسيقبلون من حسين هذه الخصال التي يعرض عليهم - ووالله - لو ظننت أنّهم لا يقبلونها منك ما ركبتها منك، وإنّي قد جئتك تائباً ممَّا كان منِّي إلى ربي ومواسياً لك بنفسي حتى أموت بين يديك، أفترى ذلك لي توبة؟ قال: نعم، يتوب الله عليك ويغفر لك، ما اسمك؟ قال: أنا الحرّ بن يزيد. قال: أنت الحرّ كما سمّتك أُمّك، أنت الحرّ إن شاء الله في الدنيا والآخرة، انزل. قال: أنا لك فارساً خير منِّي راجلاً؛ أُقاتلهم على فرس ساعة وإلى النزول ما يصير آخر أمري. قال الحسين: فاصنع يرحمك الله ما بدا لك...»(1).
وقد نقل هذا الخبر أيضاً كلّ من الشيخ المفيد في الإرشاد(2)، وابن نما الحلي في مثير
ص: 190
الأحزان(1)، وعنه المجلسي في بحار الأنوار(2)، ومشابه له ما رواه الدينوري في الأخبار الطوال(3).
ولا نستطيع هنا بعد توثيق الأخبار إلّا القطع بأنَّ الحرّ أعلن توبته بعدما رأى القوم عازمين على قتال الإمام الحسين علیه السلام، ولكن السؤال الذي يُطرح بتفريعاته هو:
هل أنَّ الحرّ لم يكن عالماً بنية القوم على قتال الإمام الحسين علیه السلام، وكذلك لم يكن على معرفة بالمخطط الكبير الذي كان معدّاً لقتال الحسين علیه السلام، أو كان يعلم بذلك؟
وهل أنّه لم يكن يعلم قوام جيش عمر بن سعد، الذي هو أكثر من ثلاثين ألف مقاتل؟
فهل جُمعت هذه الجموع بسرّية تامّة؟ خاصّةً وأنَّ طبيعة العمل في صفوف الجيش لم تكن مستمرة كما هو عليه الحال في عصرنا الحاضر، حيث كانت الجيوش تُندب إلى القتال ويبقى القادة ينتظرون قدوم أفراد الجيش من مناطقهم، وهذه العملية تستغرق أيّاماً طويلة.
فكيف - ولو على مستوى الاحتمال - يكون الحرّ غير عالم بكلِّ ذلك، وهو قائد عسكري وينتمي إلى هذا الجيش؟
وهل من المعقول أنَّ الجندي يعلم بالخطة والقائد لا يعلم؟!
كلّ هذه التساؤلات تُنبئ عن شيءٍ واحدٍ، وهو:
إنَّ الحرّ قد التقى بالحسين علیه السلام في مكان بعيد عن الكوفة، وقد استمر مسيره معه لأيّام، وهو نفس الوقت الذي تمَّ به إعداد الجيش وتهيئته، وهذا الاحتمال وارد - إن لم يكن الأقوى - إذ أوردنا رواية لقائه في منطقة ذي حُسم، وهي الأرض الجبلية التابعة لنجد.
وأمّا إذا لم يكن الحرّ عالماً بالمخطط العسكري الضخم الذي أعدَّه عبيد الله بن زياد،
ص: 191
فهو في هذه الحالة لم يكن مأموراً بأن يُجعجع بالحسين علیه السلام، بل غاية الأمر أنّه كان يعلم إجمالاً بالموقف السلبي لحاكم دمشق وواليه على الكوفة من الحسين علیه السلام، ولم يكن الحرّ على مقدّمة الجيش، الذي كان بإمرة الحصين بن نمير؛ لأنَّ ذلك يعني لقاءه بالحسين علیه السلام في عذيب الهجانات، وهذا ما أثبتنا عدم إمكان القطع به؛ لأنّها قريبة عن القادسية حيث يتجحفل معسكر الحصين بن نمير، وهو المأمور فعلاً بقطع الطريق على الحسين علیه السلام، والقبض عليه لو صحَّ التعبير.
أضف إلى ذلك ما أوردناه: من أنَّ وصول كتاب عبيد الله بن زياد للحر في كربلاء، فما معنى جعجعته بالحسين علیه السلام ووصول الكتاب كان في وقت قد وضع كلّ شيء في نصابه، ولم يكن الحرّ ليغير شيئاً؟! فالجيوش بقيادة عمر بن سعد تهيّأت لقتال الحسين علیه السلام، وكربلاء هي ما أراده الحسين علیه السلام.
نعم، إنَّ هذه الرواية عليها ملامح الوضع، فيستشرف منها أنَّ بني أُميّة كانوا يسعون إلى إشاعة أن موقع شهادة الحسين علیه السلام لم يكن باختياره، بعدما آيسوا من منعه من التوجه إلى كربلاء، وتحقيق نبوءة جدّه صلی الله علیه و آله ، فوضعوا هذه الروايات ليقولوا لنا: إنَّ الحرّ هو مَن جعجع بالحسين علیه السلام إلى هذه الأرض، ولم تكن باختياره علیه السلام.
فإذا صحّ كلّ ذلك، فإعلان توبة الحرّ لم تكن لأجل أنّه جعجع بالحسين علیه السلام، بل لأجل أمر آخر، وهو كما ذكرناه سابقاً، من أنَّ الحرّ كان غارقاً في الجاه والسمعة والسلطان، ورئاسة العشيرة والمركز الوظيفي في جيش الكوفة، ويرى أنّه قضى حياته قائداً عسكرياً يتمتع بامتيازات هذه القيادة مادياً ومعنوياً، وهذا يمكن أن يكون من الأسباب التي جعلت الحرّ يُقبل على التوبة ويقدّمها بين يدي إمام زمانه الحسين علیه السلام، أو أنَّه أدرك بشكل وآخر، بأنَّه لم يكن في الموقع المفترض به أن يكون بحسب الموازين الشرعية التي فرضها الله تعالى، فأهل البيت علیهم السلام أئمة الهدى الذين أمر الله باتباعهم، وهذا ما تبيّن للحر في وقت لاحق، الوقت الذي سبقه فيه حبيب بن مظاهر وزهير بن القين، ولكنّه التحق بهذا الركب الشريف ليشعل لنا مناراً يهتدي به الناس، وهو أنّ باب التوبة مفتوح وعلى الإنسان الطلب والوغول.
ص: 192
بعد هذه المسيرة للحر برفقة الإمام الحسين علیه السلام والوصول إلى كربلاء، وبعد أن عزم القوم على قتل ابن بنت نبيهم صلی الله علیه و آله وسبطه وريحانته، أبى الحرّ إلّا أن يكون من الأضاحي المقدّسة في كربلاء، وسنُبيّن هذا من خلال ما أورده الطبري كذلك؛ حيث ذكر: «... أنّ الحرّ بن يزيد ل-مّا لحق بحسين، قال رجل من بني نُمير من بني شقرة، وهم بنو الحارث بن تميم، يقال: له يزيد بن سفيان: أما والله، لو أنّي رأيت الحرّ بن يزيد حين خرج لأتبعته السنان. قال: فبينا الناس يتجاولون ويقتلون والحر بن يزيد يحمل على القوم مقدماً ويتمثّل قول عنترة:
ما زلت أرميهم بثغرة نحره***ولبانه حتى تسربل بالدم
قال: وإنَّ فرسه لمضروب على أُذنيه وحاجبه، وإنَّ دماءه لتسيل، فقال الحصين بن نُمير - وكان على شرطة عبيد الله، فبعثه إلى الحسين وكان مع عمر بن سعد، فولّاه عمر مع الشرطة المجففة - ليزيد بن سفيان: هذا الحرّ بن يزيد الذي كنت تتمنى. قال: نعم. فخرج إليه فقال له: هل لك يا حر بن يزيد في المبارزة؟ قال: نعم، قد شئت. فبرز له، قال: وأنا سمعت الحصين بن تميم يقول: والله، لبرز له فكأنّما كانت نفسه في يده فما لبثه الحرّ حين خرج إليه أن قتله... قال أبو مخنف: حدّثني نمير بن وعلة: أنّ أيوب بن مشرح الخيواني كان يقول: أنا والله، عقرت بالحر بن يزيد فرسه حشأته سهماً، فما لبث أن أرعد الفرس واضطرب وكبا فوثب عنه الحرّ كأنّه ليث، والسيف في يده وهو يقول:
إن تعقروا بي فأنا ابن الحرّ *** أشجع من ذي لبد هزبر
قال: فما رأيت أحداً قطُّ يفرى فريه. قال: فقال له أشياخ من الحي: أنت قتلته؟ قال: لا والله، ما أنا قتلته ولكن قتله غيري... ل-مّا قُتل حبيب بن مظاهر هدَّ ذلك حسيناً، وقال عند ذلك: احتسب نفسي وحماة أصحابي. قال: وأخذ الحرّ يرتجز ويقول:
آليت لا أُقتل حتى أقتلا***ولن أُص-اب اليوم إلّا مقبلا
ص: 193
أضربهم بالسي-ف ض-رباً مقصلا***لا ناكلاً عنهم ولا مهللا
وأخذ يقول أيضاً:
أضرب في أعراضهم بالسيف***عن خير مَن حلَّ مِنى والخيف
فقاتل هو وزهير بن القين قتالاً شديداً، فكان إذا شدَّ أحدهما فإنَّ استلحم شدَّ الآخر حتى يُخلّصه، ففعلا ذلك ساعةً. ثمَّ إنَّ رجّالة شدَّت على الحرّ بن يزيد فقُتل...»(1).
وإلى هنا أنهى الحرّ مهمّته الحقيقية بعاقبة الخير، وهي شهادته بين يدي إمامه الحسين علیه السلام، فسلام عليه يوم وُلِدَ ويوم استُشهد ويوم يُبعث حياً.
أمّا مرقده الطاهر، فهو على بعد بضعة أميال من مرقد الإمام الحسين علیه السلام، في منطقة سُمّيت بعد ذلك باسمه، وهي منطقة الحرّ في كربلاء المقدّسة نسبة إليه.
والدليل على محلِّ دفنه الحالي فيه كلام وأقوال، وقد أسعفنا فيها جناب الشيخ الفاضل عامر الجابري في كتابه دفن شهداء واقعة الطفّ، وهي دراسة تاريخية تحليلية عن دفن شهداء الطفّ ورمزية الدفن؛ حيث ذكر الآراء الخاصّة بمحلّ ضريح الحرّ بن يزيد الرياحي وكيفية دفنه، أمّا في موقع الضريح، فقد اعتمد في ذلك على قول السيّد المقرّم في كتابه العباس علیه السلام، والذي بدوره اعتمد في ذلك على أمرين:
الأمر الأوّل: شياع ذلك بين الشيعة والعلماء والمتدينين من أهل الملّة والمذهب.
والثاني: مصادقة الشهيد الأوّل على ذلك، وتوافق الشيخ النوري معه، وكذلك قول المجلسي في البحار، وقصة الكرامة التي ظهرت في زمن الشاه إسماعيل(2)، وكلّ هذه المصادر تابعة للمتأخرين من العلماء الأعلام.
ص: 194
أمّا ما شذَّ عن هذه الآراء، فهو ما نُقل في البحار: من أنَّ الحرّ نُقل ووضع بين يدي الحسين علیه السلام، واستنتج السيّد المقرّم من هذا القول أنّه مدفون مع الأصحاب ضمن الحائر الحسيني؛ فقال: «... تقدّم في نقل البحار أنّ الحرّ الرياحي حُمل من الميدان ووضع أمام الحسين علیه السلام، وعليه؛ يكون مدفوناً في الحائر الأطهر»(1)، إلّا أنَّ ما توصل إليه السيّد المقرّم مَّما نُقل في البحار، وهو ممَّا لا يمكن القطع به، ولم يقطع به السيّد المقرّم نفسه، حيث يستدرك، فيقول في الصفحة نفسها: «...ولكن في الكبريت الأحمر: ج3، ص124، جاءت الرواية عن مدينة العلم للسيّد الجزائري: أنّ السجّاد دفنه في موضعه، منحازاً عن الشهداء، وفي ص75 ذكر أنّ جماعة من عشيرته نقلوه عن مصرع الشهداء؛ لئلا يوطأ بالخيل إلى حيث مشهده، ويقال: إنّ أُمّه كانت معه، فأبعدته عن مجتمع الشهداء»(2)، أي: إنَّ هناك ثلاثة آراء لكيفية دفنه بحسب ما نقل السيّد المقرّم:
الأوّل: هو أنّ الحرّ (رضوان الله عليه) مدفون في الحائر الشريف، ولم يرتضِ السيّد هذا الرأي، وقد قوّى الرأي الثالث.
الثاني: وهو أنَّ الإمام السجاد علیه السلام هو مَن أمر بدفنه في هذا الموضع بعد أن أراد بنو أسد نقله ودفنه مع الأصحاب، فأمرهم بدفنه في موضعه.
والثالث: إنّه قُتل في هذا الموضع أصلاً - أي: الموضع الحالي - ولم يُنقل؛ لتسليمنا برواية السيّد الجزائري التي أشار إليها السيّد المقرّم؛ لأنَّ هذا يعني أن ساحة القتال كانت واسعة جداً، وهذا ما لا يمكن التفصيل به حاليّاً لخروجه عن مراد البحث، إلّا أنَّه من المواضيع المهمّة التي يمكن أن تكون نقطة بداية لدراسة واقعة الطفّ وفق منظور وقواعد إسلاميّة عامّة، وهذا ما يطول الكلام فيه فلنُرجئه إلى فرصةٍ أُخرى.
ص: 195
ص: 196
الشَّيخ لُؤيّ المَنصُوريّ(1)
إنّ من الفجائع الأليمة التي وقعت في اليوم العاشر من المحرَّم هي فاجعة رضّ الجسد الشريف بواسطة خيل الأعداء، حيث أمر عمر بن سعد مجموعة من الخيّالة بأن يطأوا جسد الحسين علیه السلام تلبيةً لأمر عبيد الله بن زياد، مكمِّلين بذلك أفجع الصور التي رسموها في يوم عاشوراء. وهذا هو الثابت والمعروف عند عامّة الشيعة، وعليه الأدلّة العديدة والنقولات التاريخيّة الكثيرة - سواء عند الشيعة أو عند العامّة - حيث إنّ الأعداء بعد قتلهم الإمام الحسين علیه السلام، وبعد الهجوم على خيامه، وترويع النساء والأطفال، انتدبوا خيلاً تُعرَف بالخيل الأعوجيّة؛ لتطأ جسد الإمام الحسين علیه السلام.
رغم الوضوح في ثبوت هذه الفاجعة المريعة، نجد أنّ بعض العلماء أنكر ذلك، بل عدّها فِريَةً أُموية، يُراد منها النيل من الإمام وإضفاء الضبابية على مقامه الشريف، بعد ما أذاعوا عليه أنّه طالبٌ للمُلك، ومُفسد في الأُمّة، ومن ثَمَّ تحليل دمه وقتله مع أهل بيته في ملحمة مفجعة، لا يزال صداها يصم آذان التاريخ بأجياله المتعاقبة.
ص: 197
ومن هؤلاء العلماء الذين أنكروا وقوع هذه الحادثة العلّامة المجلسي؛ حيث قال: «إنّ ما ذكره الخاصّة والعامّة من وقوع هذا الأمر الفظيع لا أصل له» (1). ويقصد بهذا الأمر حادثة الهجوم على الجسد الشريف.
استند المجلسي في نفيه هذا على رواية الكليني المروية عن فضّة خادمة فاطمة الزهراء صلی الله علیه و آله ؛ إذ روى الكليني قول «الحسين بن محمدٍ، قال: حدّثني أبو كريبٍ وأبو سعيدٍ الأشجّ، قال: حدّثنا عبد الله بن إدريس، عن أبيه إدريس بن عبد الله الأوديّ، قال: لمّا قتل الحسين علیه السلام أراد القوم أن يوطئوه الخيل، فقالت فضّة لزينب: يا سيّدتي، إنّ سفينةً كسر به في البحر، فخرج إلى جزيرةٍ، فإذا هو بأسدٍ، فقال: يا أبا الحارث، أنا مولى رسول الله صلی الله علیه و آله . فهمهم بين يديه حتّى وقفه على الطّريق، والأسد رابضٌ في ناحيةٍ، فدعيني أمضي إليه، وأعلمه ما هم صانعون غداً، قال فمضت إليه، فقالت: يا أبا الحارث. فرفع رأسه، ثمّ قالت: أتدري ما يريدون أن يعملوا غداً بأبي عبد الله علیه السلام؟ يريدون أن يوطئوا الخيل ظهره. قال: فمشى حتّى وضع يديه على جسد الحسين علیه السلام، فأقبلت الخيل، فلمّا نظروا إليه قال لهم عمر بن سعدٍ لعنه الله: فتنةٌ لا تثيروها، انصرفوا. فانصرفوا»(2). وعقّب على هذه الرواية بما تقدّم، ثمّ قال: «هي المعتمد عندي»(3).
وقال في البحار - بعد أن نقل خبر وطئ الخيل -: «أقول: المعتمد عندي ما سيأتي في رواية الكافي أنّه لم يتيسّر لهم ذلك»(4).
وذكر الشيخ الحائري بأنّه «اختلف أرباب المقاتل في أنّ هذه المصيبة - وطئ الخيل - جرت على جسد الحسين أم لا؟، ويظهر من كلام الكليني أنّه لم يتيسّر لهم، قال المجلسي:
ص: 198
والمعتمد عندي أنّه لم يتيسّر لهم ذلك اعتماداً على خبر الكافي، ويظهر من كلام السيد أنّهم صنعوا ذلك، كما قال في اللهوف...»(1).
ثمَّ علّل ما ادُّعي من وقوع تلك الحادثة بأنّه من وضع الملاعين، حيث قال: «ويمكن أن يكون ما رواه السيد(2) ادّعاء من الملاعين ذلك؛ لإخفاء هذه المعجزة، وكأنّه لذلك قلَّل وَلَدُ الزنا جائزتهم؛ لعلمه بكذبهم».
ثمَّ أجاب عن إشكال مقدَّر، حاصله: لو لم يكونوا فعلوا ذلك الفعل المنكر لما عاقبهم المختار عليه، فعقوبة المختار لهم تدلّ على ارتكابهم هذا الفعل الشنيع.
فأجاب بقوله: «وما فعله المختار لادِّعائهم ذلك وإن كان باطلاً، وإن كان ما فعلوه به علیه السلام قبل ذلك أفحش وأفظع منه»(3).
وخلاصة كلامه أن الدليل على خلاف وقوع تلك الحادثة، وما ادُّعي في التاريخ هو من دسّ الأعداء الملاعين، وما كان من عقوبة المختار هو لأجل ادعائهم ذلك ولو كذباً.
قد أشار المجلسي في أول كلامه إلى أنّ للحيوانات شعوراً وإحساساً يلهمها محبّة أهل البيت علیهم السلام، فألهم الله تعالى الأسدَ فَهْمَ كلام فضّة رضوان الله تعالى عليها وحرَّك عنده المحبّة لإجابة طلبها، فجاء ووضع يده على الجسد الشريف حفظاً له.
ولعل المجلسي انطلق ممّا روي عن أهل البيت علیهم السلام من أنّ الوحوش والحيوانات تأثّرت باستشهاد الإمام الحسين علیه السلام - وفي بعضها أنّ الوجود كلّه تأثّر وتألّم بهذه الواقعة الأليمة(4) - فقَبِلَ الخبر وسلّم به، وإن حكم بضعف سنده كما سيأتي.
ص: 199
وعلى كلّ حال، سواء تمّ ما ذكرناه أم لم يتمّ، يبقى رأي العلّامة المجلسي قائماً، من أنّ الله تعالى سخَّر أبا الحارث وألهمه فهم كلام فضّة رضوان الله عليها وحفظ الجسد الشريف من التعرِّض للسحق والوطئ.
هناك مجموعة من المناقشات والملاحظات على كلام العلّامة المجلسي، وعلى دليله الذي استدلّ به على نفي الواقعة:
إنّ الخبر الذي اعتمد عليه العلّامة المجلسي ضعيف من جهة السند؛ وذلك لعدّة أُمور:
الأمر الأول: الكلام في عبد الله وأبيه إدريس الأودي، حيث إنّ سند الحديث ينتهي إليهما، وهما لم يكونا في زمن وقعة كربلاء(1)؛ فكيف علما بهذه الحادثة؟ وما هي الواسطة
ص: 200
التي أوصلت إليهم ذلك؟
الأمر الثاني: الكلام في فضّة خادمة الزهراء صلی الله علیه و آله ، والتي يُطلق عليها فضّة النوبية(1)، فلم يرد لها ذكر في كُتبنا الرجالية حتى يُعرف حالها وحضورها في كربلاء، نعم ورد ذكرها في شهادة السيدة الزهراء صلی الله علیه و آله ، إلّا أنّ الخبر مجهول، قال المجلسي: «أقول: وجدت في بعض الكتب خبراً في وفاتها صلی الله علیه و آله ، فأحببت إيراده، وإن لم آخذه من أصل يُعوّل عليه. روى ورقة بن عبد الله الأزدي، قال: خرجت حاجّاً إلى بيت الله الحرام، راجياً لثواب الله ربّ العالمين، فبينما أنا أطوف وإذا أنا بجارية سمراء، ومليحة الوجه عذبة الكلام، وهي تنادي بفصاحة منطقها، وهي تقول: اللهم ربِّ الكعبة الحرام، والحفظة الكرام، وزمزم والمقام، والمشاعر العظام، وربّ محمد خير الأنام، صلى الله عليه وآله البررة الكرام، [أسألك] أن تحشرني مع ساداتي الطاهرين، وأبنائهم الغرّ المحجلين الميامين... قال ورقة بن عبد الله: فقلت: يا جارية، إنّي لأظنّك من موالي أهل البيت علیهم السلام؟ فقالت: أجل. قلت لها: ومَن أنت من مواليهم؟ قالت: أنا فضّة أَمَة فاطمة الزهراء ابنة محمد المصطفى صلى الله عليها وعلى أبيها وبعلها وبنيها»(2). والكتاب والمؤلف مجهولان فلا يمكن الاعتماد على الخبر.
نعم، ورد ذكرها في تراجم العامّة كأُسد الغابة والإصابة(3) في حادثة سورة الدهر المعروفة، لكن الاعتماد عليهم محل تأمّل ونظر؛ لكثرة الأخطاء والاشتباه في البحث.
ص: 201
وأمّا سفينة، فقد ذكر الشيخ في رجاله أنّه من أصحاب النبي صلی الله علیه و آله (1)، وفي كتب المخالفين، فهو من رجال مسلم والأربعة(2).
وأمّا بالنسبة إلى حضور فضّة في واقعة كربلاء، فهو أمر مستبعد جداً في نفسه؛ لأنّ حادثة كربلاء ليست بالعابرة والقليلة الأهمية، فالتراث الشيعي يزخر بأخبارها، والتأكيد على رموزها والشخصيات المشاركة فيها، ومع ذلك لا نجد لها ذكراً في تراجيديا كربلاء غير خبر أبي الحارث.
هذا بالإضافة إلى أنّ العلّامة المجلسي حكم على هذا الخبر بالضعف، ورماه بالجهالة(3)، فكيف يصحّ منه الاعتماد عليه؟!
نعم، تبقى هنا عبارة العلّامة الحائري حيث نسب للكليني الاعتماد على الرواية، فربما يُقال باعتبارها. ولكن هذه النسبة ناشئة من إخراج الكليني الرواية في كتابه وما ذكره في مقدمة الكافي من أنّه يروي الصحيح الذي يُعتمد عليه ويُرجع إليه عند الاختلاف (4). وهذا كلام غير تام كما ذُكر في محلّه.
ولكن يمكن أن يُقال في ردّ هذه المناقشة: إنّه عند مراجعة كلام العلّامة المجلسي نلاحظ أنّه لم يستند على الرواية في نفيه للحادثة، وإنّما كانت حافزاً ومؤيداً لما ذكره في كلامه؛ إذ يستند في رأيه على محبّة الحيوانات لأهل البيت علیهم السلام، المانع من قيامها بالعمل الشنيع وهتك
ص: 202
حرمة أجسادهم المقدسة، بعد ملاحظة خصوصية أجسادهم الشريفة وطهارتها ونقائها، كحرمتها على الأرض والدود(1)، وأنّ أجسادهم لا تبقى في الأرض أكثر من ثلاثة أيام(2)، وغيرها من الخصائص الثابتة لأجساد الأنبياء والأوصياء علیهم السلام، وكذلك يرى أنّ الله تعالى أظهر المعجزةَ في جسد الإمام الحسين علیه السلام بعد استشهاده، وحمل الكلام الوارد من قِبَل العشرة الذين ادّعوا ذلك على الكذب من أجل إخفاء ما ظهر من معجز(3).
يمكن أن يُقال: بأنّ المجلسي لم يتفاعل مع الخبر التاريخي الوارد في سحق الخيل للجسد الشريف، وبعد ورود الخبر بحراسة الجسد من قِبل أبي الحارث، تكاملت الصورة عنده وأخذ يدعمه بما ورد في كلامه، من أنّ الوطئ مستلزم لإهانة الجسد، وأنّ القوم راموا إخفاء ما ظهر من معجز بعد شهادته.
ص: 203
ولكن مع ذلك تبقى هناك أُمور عديدة ترد على كلام المجلسي ورأيه رحمة الله:
أولاً: إنّ المجلسي لم يذكر دليلاً معتبراً على كلامه، سوى الاستبعاد والخبر الضعيف وبعض الاستشهادات التي لا تنهض كدليل.
ثانياً: إنّ ما ذكره من أمر الحيوانات واستشعارها وتعاطفها مع أهل البيت علیهم السلام لا ينسجم مع قوله: «ويدلّ على أنّ للحيوانات شعوراً، وعلى أنّ بعضهم يحبّون أهل البيت ويعرفونهم»(1). فالبعضية تتنافى مع تأثر الجميع بالواقعة، ويجوز أن يكون البعض ممَّن لا يحبّ أهل البيت علیهم السلام اجترى على اقتراف الفعلة الأليمة الصادرة من قبل الجيش الأُموي.
ثالثاً: ذكر أنّ كلام العشرة كذبٌ، والباعث له هو الحصول على الجائزة، ولكن يبقى أمر غفل عنه الشيخ من أن العشرة لو كانوا يكذبون لافتضح أمرهم من قِبل الآخرين ممَّن شارك في الحرب، وهم يعدون بعشرات الآلاف، فكيف تقبل الكثرة الحاضرة للحرب بانفرادهم بجائزة مخصوصة، وهم لم يتميزوا عنهم بشيء؟
رابعاً: إنّ المختار عاقب مَن فعل تلك الفعلة الشنيعة بنفس الفعل الذي صدر منهم، حسبما ورد في الخبر، فحمل فعله على مجرّد الادّعاء منهم بعيد، خصوصاً وإنّ من هؤلاء العشرة إسحاق بن حياة الحضرمي وأحبش بن مرثد اللذين سلبوا الحسين علیه السلام(2).
خامساً: هنالك معاجز كثيرة وقعت قبل وبعد استشهاد الإمام الحسين علیه السلام نُقلت في مصادر الفريقين لم يُخفها أحدٌ، فلماذا يُخفون هذه المعجزة فقط؟
ومن تلك المعاجز: ما روته أُمّ حكيم، قالت: «لمّا قُتل الحسين بن علي، وأنا يومئذٍ جارية قد بلغت مبلغ النساء - أو كدت أن أبلغ - مكثت السماء بعد قتله أياماً كالعلقة»(3).
ومنها: ما عن أبي قبيل، قال: «لمّا قُتل الحسين بن علي، احتزّوا رأسه، وقعدوا في أول
ص: 204
مرحلة يشربون النبيذ، ويتحفون الرأس، فخرج عليهم قلم حديد من حائط فكتب بسطر دم:
أترجو أُمّة قتلت حسيناً***شفاعة جدّه يوم الحساب»(1).
ومنها: «لمّا قُتل الحسين اسودّت السماء وظهرت الكواكب نهاراً حتى رؤيت الجوزاء عند العصر، وسقط التراب الأحمر»(2).
ومنها: «مطرت السماء يوم شهادة الحسين دماً، فأصبح الناس وكلّ شيء لهم مُلئ دماً، وبقي أثره في الثياب مدّة حتى تقطعت، وأنّ هذه الحمرة التي تُرى في السماء ظهرت يوم قتله ولم تُرَ قبله»(3).
ومنها: «لمّا قُتل الحسين مكثوا شهرين أو ثلاثة وكأنّما يلطَّخ الحيطان بالدم، من حين صلاة الغداة إلى طلوع الشمس»(4).
ومنها: «إنّ السماء أظلمت يوم قُتل الحسين حتى رأوا الكواكب»(5).
وغيرها الكثير من المعاجز التي وقعت بعد مقتله، وتناقلتها الألسن ودوّنتها الكتب، ولم يُخفها أحد، فلماذا تُترك هذه المعاجز تُروى وتُخفى معجزة حراسة الجسد الشريف من قِبَل الأسد؟!
سادساً: بعد الإغماض عمّا تقدَّم تبقى إشكالية، وهي: لا يوجد لدينا دليل على إطاعة الحيوانات لأوامر فضّة وغيرها ممَّن لم تثبت إمامته وعصمته. فعلى فرض حضورها ووجودها إلّا أنّ طاعة الأسد لها غير ثابتة.
والنقض بإطاعة سفينة لا يصحّ؛ لأنّ أصل وجوده مشكوك لا دليل عليه عندنا، وعند غيرنا لا يفيد.
فالخبر يحمل في طيّاته عدّة عقبات صعبة ليس من السهل تجاوزها والقبول به، مع ما سيأتي من تسالم المؤرِّخين والعلماء على أنّ رضّ الجسد الشريف قد حصل من قِبَل
ص: 205
جيش يزيد عليه من الله اللعنة والعذاب.
روى المؤرِّخون لحادثة كربلاء أنّ الخيل وطأت الجسد الشريف، وتطابقت الكلمات على ذلك، فقد نصّ على الحادثة أغلب علماء الحديث والرجال، كالشيخ المفيد(1)، وابن طاووس(2)، وابن يونس العاملي(3)، والطبرسي(4)، والفتّال النيسابوري(5)، والمجلسي(6)، والكراجكي(7)، والسيد محسن الأمين(8)، وغيرهم. ومن العامّة الطبري(9)، وابن الأثير(10)، وابن الجوزي(11)، وابن حجر(12)، والنويري(13)، وابن كثير(14)، وابن أعثم الكوفي(15)، وغيرهم ممَّن صرَّح بوقوع الحادثة.
يرجع المؤرِّخون - عموماً - إلى أقدم راوٍ للحادثة، وهو أبو مخنف (لوط بن يحيى
ص: 206
بن سعيد) الذي دوّن واقعة الطفّ في كتابٍ منفرد، والكتاب وإن لم يصل إلينا إلّا أنّ المؤرِّخين نقلوا عنه أكثر مادته، كالطبري في تاريخه حيث اعتمد عليه في تدوين واقعة الطف، وابن الأثير، وغيرهم من المؤرِّخين.
وأبو مخنف يمكن الركون إلى كونه شيعياً بالمعنى الخاص، أي من موالي أهل البيت علیهم السلام، وأنّه أخباري موثوق كما عبَّر عنه الشيخ النجاشي في ترجمته «وكان يُسكن إلى ما يرويه»(1). ممّا يعني أنّه يعتمد عليه فيما دونه من أخبار التاريخ، وتحريه ضبط الوقائع التي ينقلها، وإن كنّا نجهل مشايخه ومَن أخذ عنهم، إلّا أنّه كان يتحرّى الأُمور الثابتة والمشهورة بالتناقل(2).
ص: 207
قلنا سابقاً: إنّ علماء المسلمين يذهبون إلى وقوع حادثة رضّ الجسد الشريف بعد الاستشهاد والهجوم على الخيام والحرم، وهذا ما اتّفقت عليه كلمة علماء الشيعة إلّا ما
ص: 208
سمعت من الكليني والمجلسي وابن حمزة الطوسي(1)، وأمّا علماء السنّة فنصّوا على حدوث الواقعة، كالطبري في تاريخه(2) وابن الأثير(3) والبلاذري(4) وابن الجوزي(5) وابن أعثم(6) والخوارزمي(7) وسبط ابن الجوزي(8) والمسعودي(9) والشبراوي(10) والنويري(11) والهيتمي(12) وغيرهم ممَّن أخذ بما نقله لوط بن يحيى وغيره، ولم يشكّوا فيها أو يتوقّفوا في حدوثها.
ومقبولية الخبر من جميع هؤلاء المؤرِّخين مع نصّ النجاشي على تحرّي أبي مخنف في النقل والتوثيق، يُعطي حكماً يقينياً قوياً في وقوع الفاجعة ورضِّهم للجسد الشريف.
والعلّامة المجلسي نقل ذلك أيضاً في كتابه البحار في عدّة مواضع؛ إذ قال: «رأيت في بعض الكتب أنّ فاطمة الصغرى، قالت: كنت واقفة بباب الخيمة، وأنا أنظر إلى أبي وأصحابه مجزّرين كالأضاحي على الرمال والخيول على أجسادهم تجول»(13). فالأحرى به أن يلاحظ الأخبار من الطرفين، ومن ثمَّ معالجتها للخروج برأي مختار، دون الإسراع في اتّخاذ رأي مبتنٍ على استبعادات ذهنية مسبقة.
نعم، حاول بعضهم التوفيق بين الرأيين قائلاً: «وكأنّهم - لعنهم الله - أرادوا أن
ص: 209
يوطئوا الخيل؛ بحيث لا يبقى من جسده الشريف أثر، فمنعهم الأسد من ذلك، وإلّا فالعشرة المتقدِّمة لعنهم الله قد رضّوا صدره وظهره على حسب ما أمر عبيد الله بن زياد أولاً، وجاءهم أمر آخر بأن لا يبقوا من جسده الشريف أثراً، فحال بينهم وبينه الأسد، وحكي عن السيد المرتضى ذلك»(1). وهو وجه قابل للتأمّل في الجمع بين الروايات المختلفة.
ص: 210
د. الشَّيخ عَليّ حُمُود العِبَادِيّ(1)
تتمحور هذه الدراسة حول ذكر بعض العنايات الإلهية بالإمام الحسين علیه السلام، والتي أضاءتها النصوص القرآنية والروائية بأروع بيان، وبروح برهانيّة وعناصر استدلالية؛ لتُبيِّن لنا أنّ الإمام الحسين علیه السلام من الذرِّية الطاهرة، ذرِّية الأنبياء والأوصياء، وإمام معصوم قد خصّه الله تعالى بالتشريف والتعظيم.
وسيتّضح من خلال ما سنبيِّنه في هذه الدراسة حقيقة وماهية هذه العنايات الإلهية، والاستدلال عليها بما ورد في النصوص القرآنية والروائية التي تبلغ حدّ الاستفاضة أو التواتر - ما يغنينا عن البحث السندي - مع الاستئناس بأقوال علماء الفريقين، وسنحاول ذكر بعض الشبهات والإشكاليات ونجيب عنها.
وعليه؛ ستكون منهجة البحث وتقسيمه بالنحو التالي:
ص: 211
سيتم البحث في هذهِ الدراسة - إن شاء الله - عن ثلاث عنايات قد خصّ الله بها الإمام الحسين علیه السلام، سيد شباب أهل الجنة، وريحانة جدّه صلی الله علیه و آله ، وهي:
الأُولى: إنّ الحسين علیه السلام امتداد لذرّية الأنبياء علیهم السلام.
الثانية: طهارة أصلاب آباء الإمام الحسين علیه السلام وأرحام أُمهاته.
الثالثة: خلق الإمام الحسين علیه السلام من طينة طاهرة.
إنّ كون الشخصية - أياً كانت - من ذرِّية الأنبياء والمرسلين هو من العنايات الربّانية التي تعكس المقام الشامخ لتلك الشخصية، والتي لا تتيسر لكلّ أحد، والاستدلال على أنّ الإمام الحسين علیه السلام امتداد للذرّية الطاهرة للأنبياء، يتوقّف على بيان عدّة مقدّمات تساهم في بناء إطار واضح للموضوع، وهي:
المقدمة الأُولى: إنّ الأنبياء من ذرّية واحدة.
المقدمة الثانية: إنّ النبي صلی الله علیه و آله من ذرّية الأنبياء علیهم السلام.
المقدمة الثالثة: إنّ الإمام الحسين من ذرية النبي صلی الله علیه و آله .
والنتيجة: إنّ الإمام الحسين علیه السلام من ذرّية الأنبياء علیهم السلام.
من الحقائق التي أضاءها القرآن الكريم في نصوص وافرة هي كون الأنبياء من ذرّية واحدة، حيث استوفت النصوص المباركة جميع جوانب المسألة، وهي تغني عن إقامة أيّ دليل آخر، ومن هذه النصوص القرآنية:
1- قوله تعالى:«وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ*وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ *وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا
ص: 212
وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ *وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ*ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ *أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ...»(1).
2- قوله تعالى: «هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ*فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ »(2).
3- قوله تعالى: «وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ»(3).
4- قوله تعالى:«أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا»(4).
ومن خلال هذه الآيات المباركات نفهم بوضوح أنّ الأنبياء من ذرّية واحدة، وأنّ مواريث النبوّة لا تخرج عن هذه الذرّية الطيِّبة، وأنّ هذا من الحقائق والسُّنن القرآنية التي لا غبار عليها؛ وممّا يؤيد ذلك أيضاً أقوال العلماء في هذا المجال، يقول الشيخ الطبرسي في تفسير قوله تعالى: «ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ»: «آل إبراهيم: إسماعيل وإسحاق وأولادهما. و(آل عمران): موسى وهارون ابنا عمران بن يصهر. (بعضها من بعض) يعني: أنّ الآلين ذرّية واحدة متسلسلة بعضها متشعِّب من بعض»(5). ويقول الطباطبائي في تفسير قوله تعالى:«ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ»: «الذرّية في الأصل صغار الأولاد على ما ذكروا، ثمّ استُعملت في مطلق الأولاد، وهو المعنى المراد في الآية... وفي قوله:«ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ» دلالة على أنّ كلّ بعض فرض منها
ص: 213
يبتدئ وينتهي من البعض الآخر وإليه، ولازمه كون المجموع متشابه الأجزاء، لا يفترق البعض من البعض في أوصافه وحالاته، وإذا كان الكلام في اصطفائهم أفاد ذلك أنّهم ذرّية لا يفترقون في صفات الفضيلة التي اصطفاهم الله لأجلها على العالمين»(1). ويقول الزمخشري أيضاً في بيان قوله تعالى:«ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ»: «يعني: أنّ الآلين ذرّية واحدة متسلسلة بعضها متشعِّب من بعض»(2). فتبيَّن أنّ الأنبياء من ذرّية واحدة.
من الحقائق المُسَلَّمة بين المسلمين - والتي تُبرَز إلى جوار ما تقدّم من كون الأنبياء من ذرّية واحدة - هي الحقيقة التي تشير إلى كون نبينا الأكرم محمّد صلی الله علیه و آله من ذرّية الأنبياء، فلم يشكك أحد في كونه من ذرّية إبراهيم علیه السلام والذرّية الطاهرة للأنبياء علیهم السلام. ورغم أنّ هذا الأمر واضح ومتّفق عليه، إلّا أنّنا نعزّز البحث بذكر بعض الشواهد وأقوال العلماء:
1- روى المحدِّث القمّي - في تفسير قوله تعالى: «رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ » - قول رسول الله صلی الله علیه و آله : «أنا دعوة أبي إبراهيم»(3).
2- وفي تفسير العياشي، عن أبي عمرو الزبيري عن أبي عبد الله علیه السلام، قال: «قلت له: أخبرني عن أُمّة محمد صلی الله علیه و آله مَن هم؟ قال: أمُّة محمد بنو هاشم خاصّة، قلت: فما الحجّة في أمُّة محمد أنّهم أهل بيته الذين ذُكرت دون غيرهم؟ قال: قول الله: «وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ *رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ » فلمّا أجاب الله إبراهيم وإسماعيل، وجعل من ذريتهما أُمّةً مسلمة، وبعث فيها رسولاً منها، يعنى: من
ص: 214
تلك الأُمّة، يتلو عليهم آياته ويزكِّيهم ويعلِّمهم الكتاب والحكمة، ردف إبراهيم دعوته الأُولى بدعوة أُخرى فسأل لهم تطهيراً من الشرك، ومن عبادة الأصنام؛ ليصحّ أمره فيهم، ولا يتّبعوا غيرهم، فقال: «وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ*رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ». فهذه دلالة على أنّه لا تكون الأئمّة والأُمّة المسلمة التي بعث فيها محمد صلی الله علیه و آله إلّا من ذرّية إبراهيم لقوله: واجنبني وبنيّ أن نعبد الأصنام»(1).
3- وأخرج ابن المغازلي في المناقب، عن عبد الله بن مسعود، قال: «قال رسول الله صلی الله علیه و آله : أنا دَعْوَةُ أبي إبراهيم. قلنا: يا رسول الله، وكيف صِرْتَ دعوة أبيك إبراهيم؟ قال: أوحى الله إلى إبراهيم:«إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا » فاستَخَفَّ إبراهيم الفَرَحُ، قال: يا رَبِّ، ومِنْ ذُرِّيَّتِي أئمّة مِثْلي، فأوحى الله إليه أن يا إبراهيم إنّي لا أُعطيك عهداً لا أفي لك به. قال: يا ربّ، ما العهد الذي لا تفي لي به. قال: لا أعطيك لظالم من ذُرِّيَّتك. قال إبراهيم عندها:«وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ*رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ»، قال النبيّ صلی الله علیه و آله : فَانْتَهَتِ الدَّعوةُ إلَيَّ وإلى عَلِيّ لم يَسْجُدْ أحدٌ منّا لِصَنَم قطُّ، فاتَّخَذني الله نَبيّاً واتَّخذ عَليّاً وَصِيّاً»(2).
4- وقال الطبري في تفسيره، عن قتادة في قوله تعالى:«إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ»: «ذكر اللهُ أهلَ بيتين صالحين ورجلين صالحين، ففضَّلهم على العالمين، فكان محمد من آل إبراهيم»(3).
5- وقال الطباطبائي في بيان قوله تعالى:«إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ : «آل إبراهيم: فظاهر لفظه أنّهم الطيِّبون من ذرّيته، كإسحاق وإسرائيل، والأنبياء من بني إسرائيل وإسماعيل والطاهرون من ذرّيته وسيدهم محمد صلی الله علیه و آله »(4).
ص: 215
إنّ كون الإمام الحسين من ذرّية النبي صلی الله علیه و آله من الحقائق المسلَّمة بين جميع المسلمين، حيث توفَّرت نصوص قرآنية دالّة على ذلك، كآية التطهير والمباهلة والمودّة وغيرها، مضافاً إلى ما احتشدت به الكتب والمجامع الروائية من الشواهد الدالّة على ذلك، مما لا يسع المقام لاستقصائه.
إشكال وجوابه:
قد يُطرح إشكال مفاده: إنّ كون الشخص من أولاد البنت، لا يصيّره من أبناء آبائها، باعتبار أنّ قانون الذراري والأجداد يؤخذ من جدّ الأب لا الأُمّ، فكيف يكون الإمام الحسين من ذرّية النبي صلی الله علیه و آله مع أنّه علیه السلام من أبناء فاطمة صلی الله علیه و آله بنت النبي صلی الله علیه و آله ، وأبناء البنت ليسوا من الذراري والأبناء لآباء الأُم بالاصطلاح المعروف؟!
والجواب: إنّ القرآن الكريم قد جعل ابن البنت من ذرّية آباء البنت، كما في قوله تعالى:«وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ *وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ »(1).
قال الشيخ الطوسي: «إذا وقف على أولاده، وأولاد أولاده، دخل أولاد البنات فيه، ويشتركون فيه مع أولاد البنين، الذكر والأنثى فيه سواء كلّهم. وبه قال الشافعي، دليلنا [أي دليل الإمامية]: إجماع المسلمين على أنّ عيسى بن مريم من وُلد آدم، وهو ولد بنته؛ لأنّه ولِد من غير أب»(2).
وقال القرطبي: «أي: ذرّية إبراهيم... وقال ابن عباس: هؤلاء الأنبياء جميعاً مضافون إلى ذرّية إبراهيم وإن كان فيهم مَن لم تلحقه ولادة من جهته من جهة أب ولا أمُّ؛ لأنّ لوطاً ابن أخي إبراهيم، والعرب تجعل العم أباً، كما أخبر الله عن ولد يعقوب
ص: 216
أنّهم قالوا: «نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ»(1). وإسماعيل عمّ يعقوب، وعدّ عيسى من ذرّية إبراهيم وإنّما هو ابن البنت، فأولاد فاطمة رضي الله عنها ذرّية النبي صلی الله علیه و آله »(2).
بعد أن ثبت كون الإمام الحسين علیه السلام من ذرِّية الأنبياء، يأتي هذا السؤال: ما هي الحكمة في جعل الأوصياء والأنبياء من ذرية واحدة؟ وهل يُعدّ ارتباط الإمام الحسين علیه السلام بالنبي محمد صلی الله علیه و آله - باعتباره من ذرّيته - من جملة العنايات الإلهية لنفس الإمام علیه السلام، أم لا؟ ولماذا؟
وسنجيب عن هذا التساؤل بالوجهين التاليين:
الأول: لعل الحكمة في جعل الأنبياء من ذرّية واحدة هو: أنّ الذرّية عادة ما يكون لها من الاستعداد للإعداد الربّاني ولتحمّل مسؤولية الرسالة والولاية أكثر ممّا تكون خارج دائرة الذرّية؛ ومن هنا نجد أنّ إعداد الوصي للرسالة من ذرّية الرسول أو النبي يكون له الدور الكبير والأثر البالغ في تحقيق أهداف الرسالة؛ وذلك لأنّ القرابة تُعَدّ عادة الإطار السليم للتربية والإعداد للقيام بالدور الربّاني، فالقرابة ليس لها أيّ أثر عند الباري تعالى، إلّا إذا كانت تصبُّ في تحقيق أهداف الرسالة من خلال الإعداد السليم للتربية وتحمّل المسؤولية.
لاسيما إذا لا حظنا أنّ الرسول الحامل للرسالة عادة ما يكون عمره أقصر من عمر الرسالة ومهمّاتها؛ وهذا ما نلمسه واضحاً في كثير من الرسالات السماوية، وبالذات الرسالة الإسلامية، حيث كان عمر النبي صلی الله علیه و آله قصيراً نوعاً ما، وذلك لأنّه توفّي بعد مضي ثلاث وعشرين سنة من البعثة الشريفة، بالرغم من الجهود الكبيرة التي بذلها، والإنجازات الواسعة التي حقَّقها في غضون هذه المدّة القصيرة، لكن بقيت أعباء
ص: 217
الرسالة قائمة في جميع المجالات، سواء في مجال فهم وتوضيح الرسالة، أو مجال تطبيقها وتثبيتها، أو غير ذلك من المجالات التي تحتاج مَن يتحمّل أعباءها.
الثاني: إنّ القرابة والذرّية الواحدة وإن لم يكن لها أيّة مدخلية في الحساب يوم القيامة، كما في قوله تعالى:«فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ»(1)، ولكنّه يُعدّ من العوامل المؤثِّرة في حركة المجتمع وتكامله وبناء علاقاته الإنسانية؛ وذلك لأنّ الناس يتفاعلون ويتأثرون بهذا العامل الاجتماعي، كما نلمسه واضحاً في تاريخ الأُمم والمجتمعات الإنسانية السابقة واللاحقة، فيتفاضلون ويفتخرون ويتأثرون به؛ لذلك نجد أنّ من شرائط النبي أو الإمام هو أن لا يكون فيه جنحة مخلّة بوضعه الاجتماعي، وأن لا يكون من عائلة وضيعة وغير شريفة، وغير ذلك من الشرائط التي يتناولها علماء الكلام في بحث مواصفات الأنبياء والأئمّة.
ومن الواضح أنّ هذه الأبعاد نجدها متوفِّرة في أهل البيت علیهم السلام، ومن العوامل التي تساهم في توفّر هذه الأبعاد في الأنبياء وأهل البيت علیهم السلام هو كونهم من ذرّية واحدة؛ إذ لو لم يكونوا من نسب واحد وبيت واحد، وكانوا متفرِّقين ومن قبائل شتّى، لم يكن للرسالة أن تحقِّق غرضها بقدر ما لو كانوا من ذرّية واحدة وبيت واحد.
وبهذا يتّضح أنّ الحكمة من جعل الإمام الحسين علیه السلام من ذرّية الأنبياء علیهم السلام هو أنّ الذرّية الواحدة المتسلسلة، تُعدّ من أهم آليات الإعداد الإلهي للأنبياء والأوصياء. وهذا الأمر نجده واضحاً في تاريخ الرسالات والأنبياء، فقد قال تعالى:«وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ...»(2). وقال تعالى:«وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ *وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ *وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ *وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ*وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ
ص: 218
وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ »(1).
إنّ إثبات طهارة أصلاب آباء الإمام الحسين علیه السلام وأرحام أُمهاته يتطلّب منّا إثبات طهارة أصلاب آباء النبي الأعظم صلی الله علیه و آله وأرحام أُمهاته؛ باعتبار أنّه ثبت في العناية الأُولى أنّ الإمام الحسين علیه السلام من ذرّية النبي صلی الله علیه و آله ، وحينها سيثبت كونه علیه السلام من أصلاب وأرحام طاهرة.
نعم، يبقى إثبات طهارة أبوي الإمام الحسين علیه السلام المباشرَين، وهما: الإمام أمير المؤمنين علیه السلام وفاطمة الزهراء صلی الله علیه و آله ، وطهارتهما أوضح من أن تُذكَر أو يُستدَلّ عليها، كما نصّت على ذلك آية التطهير. وكذا الحال بالنسبة إلى جدّه أبي طالب فطهارته من الشرك والسفاح من ضروريات المذهب الإمامي الاثني عشري.
ولنتكلّم حول طهارة أصلاب وأرحام آباء وأُمهات النبي محمد صلی الله علیه و آله ، فنقول: من الواضح أنّ المقصود من الطهارة ما يشمل جهتين:
1- الطهارة من الشرك.
2- الطهارة من السفاح.
وسنبحث في هاتين الجهتين بشيء من التفصيل:
هناك مجموعة من النصوص القرآنية والروائية التي تدلّ على طهارة آباء وأُمّهات نبيّنا الأكرم محمد صلی الله علیه و آله من الشرك، من لدن آدم وحوّاء علیهما السلام، إلى أبيه عبد الله وأُمه آمنة علیهما السلام:
أمّا من القرآن الكريم: فقوله تعالى:«الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ *وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ »(2)، وهي واضحة الدلالة على أنّ النبي صلی الله علیه و آله كان يتقلّب في أصلاب الموحِّدين، وهذا هو
ص: 219
الموافق للروايات المعتبرة وآراء العلماء في تفسير هذه الآية المبارك.
فقد روى القمّي في تفسيره عن الباقر علیه السلام في قوله تعالى:«وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ»، قال: «في أصلاب النبيّين»(1). وفي نصٍّ آخر يرويه المجلسي، عن أبي الجارود، قال: سألتُ أبا جعفر علیه السلام عن قوله:«وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ»، قال: «تقلّبه في أصلاب الموحِّدين من نبيّ إلى نبيّ، حتى أخرجه من صُلب أبيه من نكاح غير سفاح من لدن آدم علیه السلام»(2). وأخرج الطبراني بسنده عن ابن عباس، في قوله تعالى:«وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ»، قال رسول الله صلی الله علیه و آله : «من صلب نبيّ إلى نبيّ حتى أُخرجتُ نبيّاً»(3).
وقال المفيد في ذيل هذه الآية المباركة: «يريد به: تنقّله في أصلاب الموحِّدين، وقال نبيّنا صلی الله علیه و آله : ما زلت أتنقّل من أصلاب الطاهرين إلى أرحام المطهَّرات، حتى أخرجني الله تعالى في عالمكم هذا. فدلّ على أنّ آباءه كلّهم كانوا مؤمنين؛ إذ لو كان فيهم كافرٌ لما استحقَّ الوصف بالطهارة؛ لقول الله تعالى:«إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ...» (4)، فحكم على الكفّار بالنجاسة، فلمّا قضى رسول الله صلی الله علیه و آله بطهارة آبائه كلّهم ووصفهم بذلك، دلّ على أنّهم كانوا مؤمنين»(5).
وقال المارودي في تفسير هذه الآية: «أي: تقلّبك في أصلاب طاهرة من أبٍ بعد أبٍ إلى أن جعلتك نبيّاً، وقد كان نور النبوّة في آبائه ظاهراً»(6).
هناك توهُّم مفاده: إنّه لا يلزم ممّا ذُكِر أن يكون جميع آبائه النسبيِّين موحِّدين؛ وذلك لأنّ قوله تعالى:«وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ» يصدق حتى لو كان بعض آباء النبي صلی الله علیه و آله موحِّدين.
ص: 220
الجواب: إنّ هذا الإشكال غير تامّ من جهتين:
الأُولى: إنّ الآية المباركة وهي قوله تعالى: «وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ»كانت في مقام الامتنان والمدح للنبي صلی الله علیه و آله ، ومن الواضح أنّ مقام الامتنان والمدح له صلی الله علیه و آله يقتضي شمول جميع آبائه في العمود النّسَبي؛ وذلك لأنّ الآية لو كانت بصدد بيان أنّ بعض آبائه موحِّدون دون غيرهم، فلا يكون ذلك مدحاً وامتناناً للنبي صلی الله علیه و آله ؛ لأنّه ممّا يشترك فيه جميع الناس؛ وحينئذٍ لا يكون ذلك من مزاياه.
وعلى هذا؛ لا بدّ أن تُحمَل دلالة الآية على جميع آبائه بلا استثناء، مضافاً إلى ما ذكرنا من الروايات والنصوص التي تؤكّد على طهارة أجداد وآباء النبي صلی الله علیه و آله جميعاً.
الثانية: قوله تعالى:«وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ *رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ...»(1)، وهي واضحة الدلالة على استمرار الذرّية المسلمة وعدم انقطاعها.
وعلى هذا؛ فالقول بأنّ بعض آباء النبيّ غير موحِّدين؛ باطل؛ لأنّ إبراهيم علیه السلام قد طلب أن تكون من ذرّيته أُمّة مسلمة مستمرة، ومن الواضح أنّه قد استُجيبت هذه الدعوة، وكان من أبرز مصاديق ذرّية إبراهيم المسلمة المستمرّة هو النبيّ محمد صلی الله علیه و آله . وتختص هذه الجهة بالسلسلة النسبية بين إبراهيم ونبيّنا الأكرم.
وأما النصوص الروائية: فهناك عدد وافر من الروايات التي تتحدّث عن طهارة آباء النبي من الشرك، بَيْد أنّ الشيء الذي ينبغي التذكير به هو أنّ هذه الروايات متواترة ومتضافرة عند الشيعة الإمامية، وكذلك عند غيرهم الكثير من الروايات التي تنزِّه آباء النبي صلی الله علیه و آله من الكفر والشرك.
ورد في البحار ما نصّه: «إنّ آباء النبيّ صلی الله علیه و آله كانوا من الصدّيقين، إمّا أنبياء أو أوصياء معصومين»(2). وقد نقل إجماعَ الإمامية على ذلك كلٌّ من الشيخ المفيد(3)، والطبرسي في
ص: 221
مجمع البيان(1).
وروي عن ابن عباس عن رسول الله صلی الله علیه و آله ، أنّه قال: «لم يزل الله ينقلني من صُلب نبيّ إلى صُلب نبيّ حتى صرت نبيّاً»(2). ويدلّ على ذلك أيضاً ما سيأتي من الروايات المصرِّحة بطهارة آباء النبي صلی الله علیه و آله من السفاح، وهي شاملة بإطلاقها للطهارة من دنس الشرك. وقد صرّح بذلك كلٌّ من المسعودي(3) واليعقوبي(4) والماوردي في أعلام النبوَّة(5)، وغيرهم.
لا يخفى أنّ طهارة آباء النبي من السفاح يُعدّ عند الشيعة الإمامية من البدهيات التي تعلو على البرهنة والاستدلال؛ حيث دلّت على ذلك الروايات المتضافرة، من قبيل ما رواه الشيخ الصدوق، عن النبيّ صلی الله علیه و آله أنّه قال: «خرجت من نكاح، ولم أخرج من سفاح، من لدن آدم علیه السلام»(6). وما في كنز الفوائد عن رسول الله صلی الله علیه و آله ، أنّه قال: «نُقلتُ من الأصلاب الطاهرة إلى الأرحام المطهَّرة نكاحاً لا سفاحاً»(7).
وأمّا الروايات الواردة من طرق أهل السنّة فهي كثيرة أيضاً، منها:
1- ما رواه الطبراني عن النبي صلی الله علیه و آله ، أنّه قال: «خرجت من نكاح، ولم أخرج من سفاح، من لدن آدم إلى أن ولدني أبي وأُمّي»(8).
2- ما ورد في السيرة الحلبية، عن رسول الله صلی الله علیه و آله ، أنّه قال: «لم يزل الله ينقلني من
ص: 222
الأصلاب الحسنة إلى الأرحام المطهَّرة»(1). وفيها أيضاً، قوله صلی الله علیه و آله : «لم يزل الله ينقلني من أصلاب الطاهرين إلى أرحام المطهرات حتى أخرجني في عالمكم هذا، ولم يُدنِّسني بدنس الجاهلية»(2).
3- ما رواه ابن سعد في طبقاته، عن النبيّ الأكرم صلی الله علیه و آله أنّه قال: «قسَّم الله الأرض نصفين، فجعلني في خيرها، ثمّ قسّم النصف على ثلاثة، فكنتُ في خير ثلث منها، ثمَّ اختار العرب من الناس، ثمَّ اختار قريشاً من العرب، ثمَّ اختار بني هاشم من قريش، ثمَّ اختار بني عبد المطلب من بني هاشم، ثمَّ اختارني من بني عبد المطلب»(3).
4- ما أخرجه أحمد والترمذي - واللفظ للثاني - عن رسول الله صلی الله علیه و آله ، أنّه قال: «أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، إنّ الله خلق الخلق، فجعلني في خيرهم فرقة، ثمَّ جعلهم فرقتين، فجعلني في خيرهم فرقة، ثمَّ جعلهم قبائل، فجعلني في خيرهم قبيلة، ثمَّ جعلهم بيوتاً، فجعلني في خيرهم بيتاً وخيرهم نسباً. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن»(4).
5- ما أخرجه ابن عساكر، عن ابن عباس، قال: «سألت رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم)، قلت: فداك أبي وأُمّي! أين كنتَ وآدم في الجنّة؟ قال: فتبسّم حتى بدت ثناياه، ثمَّ قال: كنتُ في صُلبه ورُكب بي السفينة في صُلب أبي نوح، وقُذف بي في صُلب إبراهيم، لم يلتقِ أبواي قطّ على سفاح، لم يزل الله تعالى ينقلني من الأصلاب الحسنة إلى الأرحام الطاهرة، صفيّ مهديّ، لا يتشعّب شعبتان إلّا كنتُ في خيرهما، قد أخذ الله تعالى بالنبوّة ميثاقي وبالإسلام عهدي، وبشّر في التوراة والإنجيل ذكري، وبيَّن كل نبيّ صفتي، تشرق الأرض بنوري والغمام لوجهي»(5).
ص: 223
وممّا بينّاه اتضح أنّ نسَب النبي صلی الله علیه و آله طاهر مطهَّر من الشرك ودنس السفاح.
حاصل هذه الإشكالية: أنّ بعض الوسائط في العمود النّسَبي لرسول الله صلی الله علیه و آله لم تكن وسائط مؤمنة كما ذكر ذلك القرآن الكريم في قصّة أبي النبي إبراهيم علیه السلام، الذي يظهر من بعض الآيات الشريفة كونه مشركاً، كما في قوله تعالى:«وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ...»(1)، وهذه الآيات وما يقع في سياقها تدلّ بوضوح على أنّ أبا النبي إبراهيم علیه السلام كان مشركاً، فينتقض الاستدلال المتقدّم.
الجواب: المراد في الآية هو عمّ إبراهيم، فإنّ إجماع الإمامية قائم على أنّ الذي استغفر له إبراهيم في الآية آنفة الذكر هو (آزر) وهو عمّ إبراهيم علیه السلام؛ وعلى هذا لا يصحّ النقض به؛ لأنّ محل الكلام في العمود النسبي لرسول الله صلی الله علیه و آله .
فقد روي عن أبي عبد الله علیه السلام، أنّه قال: «كان آزر عمّ إبراهيم علیه السلام منجِّماً لنمرود، وكان لا يصدر إلّا عن رأيه...»(2).
وهذا النصّ يؤكّده قوله تعالى: «أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ»(3)، حيث جعلت الآية المباركة إسماعيل أباً ليعقوب، والحال أنّه عمّه، كما هو واضح. وقد كان هذا متعارفاً عند العرب، حيث يطلقون لفظ الأب على العمّ، فيسمّون العمّ أباً، وكذا ابن الأخ ابناً.
والنتيجة المتحصِّلة في المقام: ثبوت طهارة أرحام وأصلاب آباء الإمام الحسين علیه السلام،
ص: 224
لما ثبت آنفاً من أنّ الحسين ابن النبيّ صلی الله علیه و آله ، وبينه وبين النبيّ واسطة واحدة وهي فاطمة الزهراء صلی الله علیه و آله ، وطهارتها من الواضحات كما نصَّ عليه القرآن الكريم، كما في آية التطهير، وغيرها من النصوص القرآنية والروائية، وكذلك يُثبِت طهارةَ أرحام وأصلاب آباء الإمام الحسين علیه السلام ما ورد في زيارته بشكل واسع لا يسع المقام لذكره.
لا يخفى أنّ بحث الطينة هو من الغيب المختصّ بالله تعالى، فلا بدّ أن يكون طريق العلم به من قبله، أو من طريق أنبيائه وأوليائه، وقد وردت روايات متضافرة تدلّ على أنّ الله تعالى قد خلق أهل البيت علیهم السلام من طينة طاهرة، وهذه الروايات شاملة للإمام الحسين علیه السلام كما هو واضح، وسيأتي إن شاء الله.
وهذه الروايات على وفرتها تُغنينا عن الدخول في غمرة البحث السندي لحصول الاطمئنان بصدور بعضها؛ لذا نستعرض البعض على سبيل المثال:
1- روى الصدوق بسنده، عن إسحاق القمّي، قال: «دخلت على أبي جعفر الباقر علیه السلام... فقال: يا إسحاق، ليس تدرون من أين أوتيتم؟ قلت: لا والله، جعلت فداك، إلّا أن تخبرني، فقال: يا إسحاق، إنّ الله تعالى لمّا كان متفرّداً بالوحدانية ابتدأ الأشياء لا من شيء، فأجرى الماء العذب على أرض طيبة طاهرة سبعة أيام بلياليها، ثمّ نضب الماء عنها، فقبض قبضة من صفوة ذلك الطين، وهي طينة أهل البيت، ثمَّ قبض قبضة من أسفل ذلك الطين وهي طينة شيعتنا، ثمَّ اصطفانا لنفسه، فلو أنّ طينة شيعتنا تُرِكَت كما تُرِكَت طينتنا، لما زنى أحد منهم، ولا سرق، ولا لاط، ولا شرب المسكر، ولا اكتسب شيئاً ممّا ذكرت، ولكن الله تعالى أجرى الماء المالح على أرض ملعونة سبعة أيام ولياليها، ثمَّ نضب الماء عنها، ثمَّ قبض قبضة، وهي طينة ملعونة من حمأٍ مسنون، وهي طينة خبال وهي طينة أعدائنا، فلو أنّ الله ترك طينتهم، كما أخذها لم تروهم في خلق الآدميين، ولم يقرّوا بالشهادتين، ولم يصوموا، ولم يصلّوا، ولم يزكّوا، ولم يحجّوا البيت، ولم
ص: 225
تروا أحداً منهم بحسن خلق، ولكن الله تبارك وتعالى جمع الطينتين: طينتكم وطينتهم، فخلطها وعركها عرك الأديم ومزجها بالمائين...»(1).
2- في البحار، عن الإمام الصادق علیه السلام: «إنّ الله خلق محمداً وطينته من جوهرة تحت العرش، وأنّه كان لطينته نضح، فجبل طينة أمير المؤمنين علیه السلام من نضح طينة رسول الله صلی الله علیه و آله ، وكان لطينة أمير المؤمنين نضح، فجبل طينتنا من فضل طينة أمير المؤمنين علیه السلام»(2).
3- روى القاضي النعمان، عن عمّار بن ياسر، قوله: «سمعت رسول الله صلی الله علیه و آله ، يقول: نوديت ليلة أُسري بي إلى السماء - إلى ربي -: يا محمد. قلتُ: لبيك وسعديك. قال: إنّي اصطفيتك لنفسي وانتجبتك لرسالتي، وأنت نبيي ورسولي وخير خلقي، ثمَّ الصدّيق الأكبر عليّ وصيك، خلقته من طينتك وجعلته وزيرك، وابناك الحسن والحسين. أنتم من شجرة، أنت - يا محمد - أصلها، وعليٌّ غصنها، والحسن والحسين ثمارها، خلقتكم من طينة علِّيين، وجعلتُ شيعتكم منكم، فقلوبهم تهوي إليكم. قلتُ: يا ربّ، هو الصدّيق الأكبر؟ قال: نعم، هو الصدّيق الأكبر»(3).
4- روى صاحب بصائر الدرجات، عن أبي الحجاج، قال: قال لي أبو جعفر علیه السلام: «يا أبا الحجاج، إنّ الله خلق محمداً وآل محمد من طينة علِّيين، وخلق قلوبهم من طينة فوق ذلك، وخلق شيعتنا من طينةٍ دون علِّيين، وخلق قلوبهم من طينة علِّيين، فقلوب شيعتنا من أبدان آل محمد، وإنّ الله خلق عدو آل محمد من طين سجين، وخلق قلوبهم من طين أخبث من ذلك، وخلق شيعتهم من طين دون طين سجين، وخلق قلوبهم من طين سجين، فقلوبهم من أبدان أولئك، وكلّ قلب يحنّ إلى بدنه»(4).
وغير ذلك من الروايات الوافرة المصرِّحة بأنّ طينة أهل البيت علیهم السلام طاهرة مطهَّرة(5).
ص: 226
حاصل الإشكال: إنّ أخبار الطينة ومسألة خلق الإنسان من طينات مختلفة، وأنّ الطينة إمّا من علِّيين أو من سجِّين، وأنّ لكلّ منها أثراً خاصاً في مصير الإنسان، كلّ هذا يتنافى مع اختيارية الإنسان.
الجواب: إنّ الطينة سواء كانت طاهرة أم لا، ليست علّة تامّة لفعل الإنسان؛ كي يقال: بأنّ الله تعالى إذا خلق عبداً من عباده من طينة طاهرة يلزم أن يكون مجبوراً على الطاعة؛ وذلك لأنّ الطينة الطاهرة جزء العلّة، وبنحو المقتضي؛ وعليه يبقى زمام الاختيار بيد الإنسان.
وللتوضيح أكثر نقول: إنّه لما ثبت في محلّه أنّ الله تعالى عالم بالأشياء قبل خلقها، وأنّه تعالى عادل حكيم، فعلى هذا يقتضي أن يعطي كلّ مستعدٍ لما استعدّ له، فلو فرضنا أنّ الله تعالى علم من شخص أنّه لا يريد إلّا الطاعة، وأنّه مستعدّ لأن يكون في مقام القرب الإلهي، فبمقتضى حكمته تعالى وعدله أن يوفّر له العوامل التي تساعده للوصول إلى هذا المقام، من دون أن يسلبه الاختيار، ونستطيع أن نقتبس ذلك من بعض الآيات والروايات:
منها: قوله: «كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا»(1)، وهي واضحة الدلالة على أنّ الله هو الذي يمنح عطاءه الجزيل على أساس الحكمة الإلهية التي تقتضي أن يكون العطاء على وفق إرادة الإنسان، وأنّ إرادته هي التي تحدِّد ماهية وكمّية العطاء الإلهي.
ويؤكّد الطباطبائي رحمة الله هذا المعنى في ذيل هذه الآية المباركة، حيث يقول: «وهذه الآية تفيد أنّ شأنه تعالى هو الإمداد بالعطاء، يمدُّ كلَّ مَن يحتاج إلى إمداده في طريق حياته ووجوده، ويعطيه ما يستحقّه، وأنَّ عطاءه غير محظور، ولا ممنوع من قبله تعالى، إلّا أن يمتنع ممتنع بسوء حظّ نفسه، من قِبَل نفسه لا من قِبَله تعالى»(2).
ص: 227
إذن؛ الناس بإرادتهم هم الذين قسّموا أنفسهم إلى هؤلاء وإلى هؤلاء، فالذين أرادوا لأنفسهم أن يكونوا من أهل الخير والصلاح، فإنّ الله تعالى يمدّهم؛ لكي يوفَّقوا إلى الطاعة، والذين أرادوا العناد والعصيان، فالله تعالى يمدّهم على حسب ما أرادوا. وعلى هذا؛ فالإنسان هو الذي يبني آخرته بنفسه، والله تعالى يزوّده بالإمكانيات على حسب استعداد ذلك الإنسان وإرادته.
ومنها: قوله:«أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا...»(1). ففي هذه الآية المباركة يضرب الله تعالى مثلاً، فيقول: كما أنّ الأودية الكبيرة والأنهار الصغيرة تأخذ قدرها من المياه بحسب ما استعدّت له، كذلك الأمر فيما يأخذه الإنسان من العطاء الإلهي، فيأخذ كلٌّ بحسب إرادته وعلى قدر ما استعدّ له. فالله تعالى يمدّ الإنسان بالعطاء، لمن أراد العاجلة أو الآخرة، فالإناء هو الذي يلوّن العطاء الإلهي.
وهذا المعنى يمكن أن نلمسه بوضوح، في حديث الإمام الباقر علیه السلام في ذيل الآية المباركة، حيث يقول: «أنزل الحق من السماء، فاحتملته القلوب بأهوائها، ذو اليقين على قدر يقينه، وذو الشكّ على قدر شكّه، فاحتمل الهوى باطلاً كثيراً وجفاءً، فالماء هو الحقّ، والأودية هي القلوب، والسيل هو الهوى، والزبد هو الباطل»(2).
ومنها: قوله:«وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ »(3)، أي: إنّ الله تعالى لم يجعلهم سمّاعين للخير؛ لأنّه تعالى علم منهم الإصرار على الهروب من الحقيقة، وأنّهم لا يريدون الخير والطاعة، ولو علم منهم أنّهم يطيعون لفتح قلوبهم وأسماعهم، ولو أعطاهم البصيرة، وفتح قلوبهم، فإنّهم لا يستفيدون منها.
ومنها: قوله:«وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا»(4).
ص: 228
حيث بعث الله تعالى عبداً من عباده كي يقتل الغلام؛ لأنّه سيكون سبباً في كفر والديه؛ لطغيانه وسوء معاملته لهما والتضييق عليهما ومحاصرتهما في النشاط الروحي«فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ...»، أي: أشدّ وصلاً للقرابة والرحمة، فلا يرهقهما بشيء، ومحلّ الشاهد في هذه الآية المباركة هو أنّ الله تعالى هيّأ للأبوين أسباب الطاعة لما علم بأنّهما يريدان الطاعة، وأنّهما مستعدّان لها؛ ولذا يكون سبب قتل الابن كونه مانعاً في وصول الأبوين لكمالهما.
ومنها: قوله تعالى:«وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى»(1)، فالظاهر من الآية أنّ الله تعالى يرسم لنا قاعدة قرآنية مهمّة مفادها: أنّ مَن علمنا أنّه يريد الطاعة، فنحن نهيِّئ له مقدماتها، ومتى علمنا أنّه يريد الشرك ويريد العصيان والعناد، فالحكمة الإلهية اقتضت «فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى» أي: نهيئ له تلك المقدمات التي من خلالها يستطيع أن يأتي بفعله على وفق ما أراد؛ ف-«كلٌّ ميسّر لما خلق له»(2)، أي: كلٌّ ميسّر لما أراد واستعدّ له.
وفي الرواية عن أبي بصير، قال: سمعت أبا عبد الله علیه السلام يقول: «إنّ الله اختار من وُلد آدم أُناساً طهَّر ميلادهم، وطيَّب أبدانهم، وحفظهم في أصلاب الرجال وأرحام النساء، أخرج منهم الأنبياء والرسل، فهم أزكى فروع آدم، فعل ذلك لأمر استحقوه من الله. ولكن علم الله منهم حين ذرأهم أنّهم يطيعونه ويعبدونه ولا يشركون به شيئاً، فهؤلاء بالطاعة نالوا من الله الكرامة والمنزلة الرفيعة عنده، وهؤلاء الذين لهم الشرف والفضل والحسب، وساير الناس سواء، ألا مَن اتّقى الله أكرمه، ومَن أطاعه أحبّه، ومَن أحبّه لم يعذِّبه بالنار...»(3).
ويُشير إلى هذا المعنى الآلوسي في تفسيره، حيث يقول: «ما ورد في الصحيح: اعملوا فكلّ ميسّر لما خلق له، أمّا مَن كان - أي: في علم الله - من أهل السعادة المستعدّة
ص: 229
لها ذاته، فسيُيسَّر بمقتضى الرحمة لعمل أهل السعادة؛ لأنّ شأنه تعالى الإفاضة على القوابل بحسب القابليات، وأمّا مَن كان في الأزل والعلم القديم من أهل الشقاوة التي ثبتت لماهيته الغير المجعولة أزلاً، فسيُيَسّر بمقتضى القهر لعمل أهل الشقاوة... فيؤول الأمر إلى أنّ سبب نفي إيجاد الهداية انتفاؤها في نفس الأمر، وعدم تقررها في العلم الأزلي، ولو علم الله فيهم خيراً لأسمعهم»(1).
النتيجة: إنّ الله تعالى إذا علم بأنّ عبداً من عباده لا يريد إلّا القرب منه تعالى والطاعة والعبادة والصلاح، فبمقتضى حكمته وعنايته بخلقه أن يوفِّر لهم أسباب الوصول إلى مقام القرب الإلهي والطاعة، ومن جملة هذه الأسباب هي أن يخلقه من طينة طاهرة طيِّبة.
ومن ذلك يتّضح أنّ الطينة الطاهرة ليست علّة تامّة لكون الإنسان مطيعاً لله تعالى، سائراً في رضاه، كي يقال بأنّ الله تعالى إذا خلق عبداً من عباده من طينة طاهرة يلزم أن يكون ذلك العبد مجبوراً على الطاعة؛ وذلك لأنّ الطينة الطاهرة هي جزء العلّة، فالله تعالى خلق الإنسان ووهب له القوّة والقدرة على الفعل وعلى الترك، وهيَّأ له الأسباب، وجعله حرّاً مختاراً.
ويبدو هذا الأمر واضحاً في عصمة الأنبياء والأوصياء؛ فإنّ المعصوم - سواء فُسِّرت العصمة بالدرجة العليا من التقوى، أو أنّها نتيجة العلم القطعي بعواقب الأعمال والمعاصي، أو أنّها نتيجة الاستشعار بعظمة الباري تعالى - على جميع التقادير يكون مختاراً في فعله، وغير مسلوب الإرادة.
الإشكالية تقول: إنّ أحاديث الطينة من الأحاديث الغريبة التي يصعب تعقّلها وإدراكها، فلا يمكن الاستدلال بها أساساً.
ص: 230
الجواب: إنّ أحاديث الطينة مستفيضة عند الفريقين؛ ولذا لا يمكن لأحد التشكيك في صدورها. وأمّا مجرّد الاستبعاد وصعوبة الفهم والتعقّل والإدراك، فإنّه ليس دليلاً على البطلان، وإلّا فإنّ أخبار الجنّة والنار بما لهما من الخصوصيات الغريبة والعجيبة أو أخبار السماء والملائكة، وكذلك أخبار نور النبي صلی الله علیه و آله الذي خُلق قبل ألفي عام كما في الروايات المتواترة من الفريقين، كلّها من الأحاديث التي يصعب إدراكها وفهمها، فهل يصحّ ردّها والحكم ببطلان مضامينها؟!
وبهذا ننتهي إلى أنّ الله تعالى أولى الإمامَ الحسين علیه السلام عنايات متعدّدة، من قبيل: جعله من ذرّية الأنبياء، وجعله وآبائه في أرحام وأصلاب طاهرة، وخلقه من طينة طاهرة.
ص: 231
ص: 232
*فقه التربة الحسينية
القسم الأول حرمة الاستنجاء بالتربة الحسينية
*المشي لزيارة الإمام الحسين علیه السلام وباقي الأئمة علیهم السلام
دراسة في الموازين الفقهية
ص: 233
ص: 234
الشَّيخ أحمَد مُوسیَ العَلي(1)
لا زالت كثير من المسائل الفقهية - محلّ الابتلاء - طيّ النسيان، ولا وجود لها في كتاباتنا الحديثة، سواء على مستوى الكتاب أو المجلة أو غيرها، وينحصر وجودها في الموسوعات الفقهية، التي كُتبت بعبارات علميّة تخصّصية، يصعب على أكثر القرّاء معرفتها، هذا من جانب.
ومن جانب آخر نجد أنّ معظم مسائل الموضوع الواحد منثورة وموزعة على الأبواب الفقهية؛ ممّا يشكّل صعوبة أُخرى في الاطّلاع عليها.
نعم، توجد هناك مشاريع جديدة قد عالجت هذه المعضلة، ولكن بعضها لا زال قيد الإنشاء، وبعضها الآخر في منتصف الطريق، مع خلوّ بعضها من المباحث المهمّة، ومن هذه المشاريع: (موسوعة الفقه الإسلامي)، و(موسوعة الفقه الإسلامي المقارن)، و(دائرة المعارف - فقه مقارن) باللغة الفارسية.
ص: 235
ومن تلك البحوث المنسيّة هي: (فقه التربة الحسينية المباركة).
ونحاول هنا - وبقدر ما نمتلك من إمكانية - أن نسلّط الضوء على جانبٍ فقهي من جوانب النهضة الحسينية المباركة، وهو الجانب المعني بدراسةِ فقه أحكام التربة الحسينية المقدّسة.
إنّ هذه التربة المقدّسة اختصّت:
أولاً: بأحكام معنوية وتشريف إلهي، ميّزها عن سائر التُرب.
و ثانياً: بأحكام فقهية عديدة، ميّزتها عن غيرها.
ونعرض في بداية البحث ما يتعلّق بالجانب الأوّل، ولو على مستوى الروايات، ثمّ نبحث الجانب الثاني بحثاً فقهياً قد يطول نسبياً، ضمن سلسلة مقالات، تستوعب كلّ ما يختصّ بالتربة من أحكام.
ونود التنبيه على أنّ المستوى المعروض في هذه البحوث هو وسط، من الناحية الفقهية والأدبية فتحاشينا البحوث الفقهية المعمّقة جداً، والبحوث المُغرَقة بالأدب، وحاولنا قدر الإمكان التوفيق بين المستويين.
وسوف نسير وفق طريقة فقهاء الإمامية في مسائل التربة الحسينية، وسنبدأ بكتاب الطهارة وما فيه من مسائل تختصّ بتلك التربة، ثُمّ سائر الكتب، وصولاً إلى كتاب الديّات.
وبذلك سنستوعب كلّ المسائل التي لها دخلٌ من الناحية الفقهية في التربة المباركة.
وبعد متابعة مضنية في جميع أبواب الفقه الإسلامي الإمامي حصلنا على عدّة مسائل وبحوث تتعلّق بالتربة الحسينية، منها بحوث أصليّة، ومنها فرعية لها اتصال بما نحن فيه.
وفيما يأتي فهرستٌ أوليٌّ بمسائلها، وهي:
1- حرمة الاستنجاء بالتربة المباركة.
ويتفرّع عليها عدّة فروع، هي:
أ) كفر مَن تعمّد الاستنجاء بالتربة بقصد الإهانة.
ب) حكم الاستنجاء بالتربة مع الشكّ فيها.
ص: 236
ج) حكم طهارة الموضع مع الاستنجاء بالتربة المباركة.
2- حكم إزالة النجاسة عن التربة الحسينية.
3- حكم وقوع التربة الحسينية المباركة في الخلاء.
4- حكم اصطحاب تربة الحسين علیه السلام إلى الخلاء.
5- حكم وضع تربة الحسين علیه السلام مع ماء غسل الميت.
6- حكم وضع التربة الحسينية مع الكفن.
7- حكم الكتابة بتربة الحسين على الكفن.
8- حكم وضع التربة الحسينية مع الميت (في القبر).
9- حكم السجود على التربة الحسينية.
10- حمل التربة الحسينية أثناء السفر، ولحفظ المتاع.
11- التسبيح بالتربة الحسينية.
12- حكم الإفطار يوم العيد على التربة الحسينية.
13- حكم وجوب الخمس في التربة الحسينية.
14- حكم شراء وبيع التربة الحسينية.
15- حكم التداوي بالتربة الحسينية.
16- تحنيك المولود بالتربة الحسينية.
ولنبدأ بإشارة موجزة إلى الجانب المعنوي للتربة المباركة، فنقول: قد ورد عن الإمامين الباقر والصادق علیهما السلام وابن عباس - في المشهور - من أنّ للإمام الحسين علیه السلام فضائل ومميّزات ينفرد بها عن غيره من جميع الخلق، مع ما له من الفضائل الأُخرى التي يصعب عدّها، حيث عوّضه الله بها مقابل تضحيته وشهادته، فعن محمّد بن مسلم، قال: سمعت أبا جعفر وجعفر بن محمّد علیهما السلام يقولان: «إنّ الله عوّض الحسين علیه السلام من قتلِه أنّ الإمامة من ذريته، والشفاء في تربته، وإجابة الدعاء عند قبره، ولا تُعدّ أيام زائريه جائياً
ص: 237
وراجعاً من عمره»(1).
وعن ابن عباس - كما في كفاية الأثر - قال: «دخلت على النبيّ صلی الله علیه و آله والحسن على عاتقه، والحسين على فخذه، يلثمهما ويقبلّهما، ويقول: اللهم والِ مَن والاهما، وعادِ مَن عاداهما. ثُمّ قال: يا بن عباس، كأنّي به وقد خُضّبت شيبته من دمه، يدعو فلا يُجاب، ويستنصر فلا يُنصر. قلت: مَن يفعل ذلك يا رسول الله؟ قال: شرار أُمّتي، ما لهم؟! لا أنالهم الله شفاعتي. ثُمّ قال: يا بن عباس، مَن زاره عارفاً بحقّه، كتب له ثواب ألف حجّة، وألف عمرة، ألا ومَن زاره فكأنّما زارني، ومَن زارني فكأنّما زار الله، وحقّ الزائر على الله أن لا يعذّبه بالنار، ألا وإنّ الإجابة تحت قبّته، والشفاء في تربته، والأئمّة من وُلده...»(2).
والروايات التي وردت في خصوص تربة الحسين علیه السلام، وما لها من خصائص وأحكام، وفي مختلف الأبواب تصل إلى حدّ التواتر، بل ورد كثير منها في المصادر السنّية، فضلاً عن الشيعية.
وهذه خلاصة بالعناوين(3) التي ورد فيها مدح لهذه التربة المباركة، وبعض من رواها:
1- الروح الأمين يحمل تربة الحسين علیه السلام.
وممَّن نقل الأحاديث في ذلك:
أ) الإمام علي بن أبي طالب علیه السلام.
ب) حَبر الأُمّة عبد الله بن عباس.
ج) أُمّ المؤمنين أُمّ سلمة، ولها أكثر من خمسة أحاديث.
د) أُمّ المؤمنين زينب بنت جحش.
ص: 238
ه-) أُمّ الفضل بنت الحارث.
و) سعيد بن جمهان.
ز) أبو أُمامة.
2- إنّ مَلَك القطر والمطر يحمل تربة الحسين علیه السلام.
وممّن نقل الأحاديث في ذلك:
أ) أنس بن مالك.
ب) أبو الطفيل.
3- مَلكٌ من الصفيح الأعلى لم ينزل من قبل، يحمل تربة الحسين علیه السلام إلى النبيّ صلی الله علیه و آله .
وممّن نقل الأحاديث في ذلك:
أ) أُمّ المؤمنين أُمّ سلمة وعائشة.
ب) المسور بن مخزمة.
4- ملك البحار يحمل تربة الحسين علیه السلام إلى النبيّ صلی الله علیه و آله .
5- جميع ملائكة السماوات يحملون تربة الحسين إلى النبيّ صلی الله علیه و آله .
6- روايات أهل البيت علیهم السلام الكثيرة والمتنوعة في شرف التربة الحسينية.
وسيأتي كثير منها في مطاوي هذه المقالات، ونذكر حديثاً واحداً من العنوان الأوّل المتقدّم:
إذ ورد فيها أن الروح الأمين علیه السلام نزل إلى النبيّ صلی الله علیه و آله مراراً وعزّاه بسبطه الحسين علیه السلام، وأراه تربته، فأخذها النبيّ صلی الله علیه و آله فقلّبها، وقبّلها، وشمّها، وقال: «ريح كربٍ وبلاء»، وأراها لجماعة من أهل بيته وأزواجه وأصحابه، وهم الذين رووا حديثها، وتقدّم ذكرهم: فقد جاء عن نجي الحضرمي: «أنّه سار مع علي بن أبي طالب علیه السلام - وكان صاحب مطهرته - فلمّا حاذى نينوى وهو منطلق إلى صفّين، فنادى علي: اصبر أبا عبد الله بشط الفرات. قلنا: وما ذاك. قال: دخلت على النبيّ صلی الله علیه و آله ذات يوم، وإذا عيناه تذرفان، قلت: يا نبي الله أغضبك أحد؟ ما شأن عينيك تفيضان؟ قال: بل قام من عندي جبرئيل علیه السلام قبلُ، فحدّثني أنّ الحسين علیه السلام يُقتل بشطّ الفرات. قال: فقال: هل لك إلى
ص: 239
أن أُشمّك من تربته؟ قال: قلت: نعم. فمدّ يده، فقبض قبضه من تراب فأعطانيها، فلم أملك عينيّ أن فاضتا»(1).
وهذا الحديث أخرجه أحمد والطبراني وسعيد بن منصور والخوارزمي وابن عساكر وأبو يعلى والبزار عن نجيّ الحضرمي، وليس في أسانيدهم أيّ جهالة، بل قال الهيثمي في (مجمع الزوائد) - بعد ذكر الحديث باللفظ المتقدّم -: رواه أحمد وأبو يعلى والبزار والطبري، ورجاله ثقات، ولم ينفرد نجيّ بهذا.
وعوداً على بدء، سوف نتناول المسائل الفقهية بالبحث، وحسب الترتيب السابق، فنقول:
الاستنجاء من المسائل الفقهية العملية، والتي تُبحث في باب الطهارة تحت عنوان: (التخلّي)، ولعلّ الشريعة الإسلامية سبقت الحضارة الغربيّة بمئات السنين في التأكيد على الطهارة والنظافة، بل وتقنينهما.
ولكي تتّضح حرمة الاستنجاء بالتربة الحسينية نذكر - وكمقدمة لما نحن فيه - بعض الأُمور المتعلقة بالاستنجاء:
الاستنجاء لغةً مصدر: استنجى، أي: طلب النجو، أو النجوة. ومن معاني النجو: الخلاص والقطع. والنجوة: المكان المرتفع، الذي ينجو فيه الإنسان من السيل(2).
وعرّفها فقهاء الإمامية: «إزالة ما يبقى من أحد الخبثين - بعد خروجهما من المحلّين
ص: 240
الأصليين، أو المعتادين العارضين في وجه - عن ظاهر الموضع الذي خرجا منه»(1).
الاستنجاء عند فقهاء الإمامية من الأُمور الواجبة، إلّا أنّهم قيّدوا الوجوب بما إذا وُجد سببه، وهو أمر خارج، والوجوب هنا هو وجوب شرطي لا نفسي، بمعنى أنّ الاستنجاء وإنّ كان مطلوباً في حدّ ذاته، ومرغوباً فيه، إلّا أنّه لا يجب إلّا لما تُشترط فيه الطهارة من الخبث، كالصلاة دون ما لا تُشترط فيه كالوضوء(2).
ذهب فقهاء الإمامية إلى أنّه لا يُستنجى من (المذي والودي)، وأمّا الدم إذا خرج من موضع الغائط أو البول؛ فإنّه يحتاج إلى تطهيره بالماء، ولا يكفي الاستجمار - الذي يأتي تفسيره - وأمّا الغائط والبول، فيجب الاستنجاء منه بغسله بالماء، ولا يصحّ الاستنجاء بالأحجار في موضع غير الغائط، نعم، يصحّ الاستنجاء بالأحجار في موضع الغائط بالخصوص، وأمّا إذا خرج البول أو الغائط من غير الموضع المعتاد، وأصبح بعد ذلك معتاداً، ففي شمول حكم الاستنجاء له قولان عند الإمامية:
الأوّل: شمول حكم الاستنجاء له.
والثاني: عدم شمول حكم الاستنجاء له(3).
ص: 241
الاستنجاء يمكن أن يتحقّق بأمرين:
الأوّل: الماء، وهو قابل لتطهير موضع الغائط والبول معاً، بشرط إزالة عين وأثر الغائط في الغائط، والتعدّد في إزالة البول، وهذا لا خلاف فيه عند فقهاء الإمامية، ولا يصحّ الاستنجاء بغير الماء من المائعات، بشرط أن يكون الماء مطلقاً وطاهراً.
الثاني: الجوامد القالعة للنجاسة
المشهور بين الإمامية أنّه يصحّ الاستنجاء بكلّ جسم طاهر قالع للنجاسة ومزيل لها، كالحجر والخرق والخشب ونحوها، عدا ما مُنع الاستنجاء به(1).
يُشترط فيما يُستنجى به أُمور، هي:
1- الطهارة؛ فلا يصحّ الاستنجاء بالنجس.
2- البكارة، بمعنى: يُشترط أن يكون الشيء الجامد غير مستعمل في إزالة النجاسة سابقاً.
3- أن يكون الجسم الجامد جافّاً، وهو مختار بعض فقهاء الإمامية(2).
يكفي في الاستنجاء بالأحجار ثلاثة أحجار، مع تحقّق الإزالة والانتقاء بالمسح بها،
ص: 242
ولو لم يتحقّق النقاء بالثلاثة وجب التمسّح بما يحقّق له الإزالة وإن زاد على الثلاثة(1).
ذكر جمعٌ من فقهاء الإمامية بأنّ هناك عدّة أُمور لا يجوز الاستنجاء بها، وهي كالآتي:
1- الأعيان النجسة: كالميتة، وتُلحق بها الأعيان المتنجّسة، كالحجر المتنجّس بالاستعمال في الاستنجاء وغيره.
2- العظم: وهو يشمل مطلق العظم من جميع الحيوانات حتى الطاهرة.
3- الروث.
4- المطعوم: وهو كلّ ما كان طعاماً للإنسان.
5- المحترمات: وهي كلّ ما كان محترماً في نظر الشارع(2).
وما يهمّنا في هذا المقال هو المحترمات، فلنبسط الكلام فيها بما يتناسب وحجم المقال.
عرّف بعض فقهاء الإمامية المحترمات: بأنّها ما أُحرز من الشرع المقدس إنّه يجب احترامه، ويحرم هتكه، مثل القرآن العزيز وكتب الحديث؛ فإنّ هتك ذلك هتك لمحارم الله تعالى(3).
وعرّفها السيد الخوئي جواباً عن سؤال وجه إليه: «المقصود منها كلّ ما يجب احترامه ولا يجوز هتكه، مثل كتب أحاديث الأئمّة علیهم السلام، والكتب الفقهية، والتربة الحسينية، وتربة سائر الأئمّة الأطهار علیهم السلام، وما شاكل ذلك»(4). والظاهر أنّ مرجع التعريفين إلى أمر واحد.
ص: 243
قال صاحب الجواهر رحمة الله: «ثمّ إنّه يُفهم من كثير من الأصحاب - بل لم أعثر فيه على مخالف - جريان الحكم في كلّ محترم، كالتربة الحسينية وغيرها... بل قد يتمشّى الحكم في المأخوذ من قبور الأئمّة، من تراب أو صدوق أو غيره...»(1).
وعبارته تدلّ على أُمور:
أ) ذهاب الكثير - بل عدم وجود مخالف - إلى أنّه لا يصحّ، ويحرم الاستنجاء بالمحترمات.
ب) إنّ المصداق البارز للمحترمات هو تربة الحسين علیه السلام، وهو ما صرّح به كثير من فقهائنا.
ج) جريان الحكم على التراب المأخوذ من قبور الأئمّة علیهم السلام، أيضاً.
النصوص الفقهية التي صُرّح فيها بالحرمة بنحو العموم - حرمة المحترمات - أو بنحو الخصوص كثيرة، نقتصر هنا على ذكر بعضها:
أ) قال الطوسي: «كلّ جسم طاهر مزيل للنجاسة فإنّه جائز؛ للخبر الذي قال فيه: ينقي ما ثمة(2)، وهو عامّ في كلّ ما ينقّي، إلّا ما استثناه ممَّا له حرمة»(3).
ب) قال العلّامة: «ألّا يكون ممّا له حرمة، كتربة الحسين علیه السلام، وحجر زمزم، وكتب الأحاديث وورق المصحف العزيز، وكتب الفقه؛ لأنّ فيه هتكاً للشريعة، واستخفافاً لحرمتها، فهو في الحرمة أعظم من الرّوث والرمّة»(4).
ص: 244
ج) ما قاله البحراني - وهو بصدد تعداد المحرّمات -: «ومنها: الاستنجاء بالروث والعظم والمطعوم المحترم، ومنه التربة الحسينية على مشرّفيها أفضل التحية، والقرآن، وما كُتب فيه شيء من علوم الدين، كالحديث والفقه»(1).
د) وقال الفاضل الهندي - وهو بصدد تعداد الممنوعات -: «...وذي الحرمة، كالمطعوم، وورق المصحف، وشبهه ممَّا كُتب عليه شيء من أسماء الله تعالى، أو الأنبياء، أو الأئمّة علیهم السلام، وتربة الحسين علیه السلام، بل وغيره من النبيّ صلی الله علیه و آله والأئمّة علیهم السلام: وبالجملة ما عُلم من الدين أو المذهب وجوب احترامه، فإنّ في الاستجاء به من الهتك ما لا يوصف»(2).
يمكن للمتابع لكلمات الفقهاء أن يحصل على عدّة أدلّة لإثبات الحكم بالحرمة، وهي كما يلي:
أ) إنّ المحترمات - ومنها التربة الحسينية - لا ريب ولا شكّ عند الفقهاء في وجوب إكرامها، وقد تقدّم قسم منها، ويأتي قسم آخر منها - إن شاء الله - وهذا يستلزم تحريم إهانتها، والاستنجاء بها يمثّل المصداق البارز للإهانة، من حيث كونها تربة الحسين علیه السلام(3).
ب) ما صرّح به النجفي في الجواهر من عدم وجود مخالف في الحكم المذكور، وهذا إن ارتقى إلى جعله دليلاً وداعماً للحكم بالحرمة فهو، وإن لم يرقَ إلى ذلك، فهو على أقلّ تقدير على حدّ الشهرة التي يتوقّف الفقهاء في الحكم على خلافها، بل يحتاطون في مقام الفتوى لأجلها(4).
ص: 245
ج) ما ذكره النجفي في الجواهر أيضاً: «أنّه لا يليق بالفقيه الممارس لطريقة الشرع، العارف للسانه، أن يتطلّب [يطلب] الدليل على كلّ شيء بخصوصه، من رواية خاصّة ونحوها، بل يكتفي بالاستدلال على جميع ذلك بما دلّ على تعظيم شعائر الله، وبظاهر طريقة الشرع المعلومة لدى كلّ أحد، أترى أنّه يليق به أن يتطلّب رواية على عدم جواز الاستنجاء بشيء من كتاب الله تعالى؟!»(1).
فهو رحمة الله يُبيّن:
أولاً: بأنّ الدليل العامّ هو أنّ شعائر الله تعالى يجب تعظيمها، وتقديسها والاهتمام بها، وكلّ ما يخالف هذا التعظيم - ومنه الاستنجاء بالتربة المقدسة - يكون منهياً عنه ومحرّماً.
وثانياً: إنّ طريقة الشارع - وروح الشريعة المعلومة عند كلّ أحد - أنّ هذه المحترمات لا يجوز إهانتها والاستنجاء بها؛ ولذلك نحن لا نحتاج إلى رواية خاصّة تحرّم الاستنجاء بشيء من القرآن الكريم، وكذلك التربة المقدّسة، بل نكتفي للقول بالحرمة بهذه المسلمات والأُمور الكلّية.
د) الأولوية المستفادة من حرمة بعض الأشياء التي هي أقلّ شأناً من التربة الحسينية؛ فإنّ الدليل الخاصّ دلّ على حرمة الاستنجاء بالروث والعظم وغيرها، مع أنّها من حيث القداسة والاحترام والأهمية أقلّ بكثير من التربة الحسينية، فكيف بالتربة المشار إليها؟!(2).
هذا، ولا بدّ أن يُعلم أنّ الحرمة المتقدّمة إنّما تثبت فيما إذا لم تقصد الإهانة للتربة، أما إذا قصدت الإهانة، فقد يستلزم منه الحكم بكفر فاعله، كما سوف يأتي.
لا بأس - ونحن نتحدّث عن حرمة إهانة هذه التربة المقدسة، التي مدحها النبيّ صلی الله علیه و آله
ص: 246
قبل وقوع حادثة كربلاء بعدّة عقود - أن نُشير إلى رواية رواها جملة من علمائنا - عطّر الله مراقدهم - عن الشيخ الطوسي في كتاب الأمالي، تبيّن الأثر الوضعي للاستخفاف بتلك التربة، وقد تُبيّن أيضاً شرف وقداسة تراب قبر الحسين علیه السلام؛ وبالتالي شرف مَن دُفن فيها.
قال رحمة الله في الأمالي بسنده عن أبي موسى بن عبد العزيز، قال: «لقيني يوحنا بن سراقيون النصراني، المتطبّب في شارع أبي أحمد، فاستوقفني، وقال لي: بحقّ نبيّك ودينك، مَن هذا الذي يزور قبره قومٌ منكم بناحية قصر ابن هبيرة؟ مَنْ هو من أصحاب نبيّكم؟ قلت: ليس هو من أصحابه، هو ابن بنته، فما دعاك إلى المسألة عنه؟ فقال: له عندي حديث طريف. فقلت: حدّثني به. فقال: وجّه إليّ سابور الكبير الخادم الرشيدي في الليل، فصرت إليه، فقال لي: تعال معي. فمضى وأنا معه، حتّى دخلنا على موسى بن عيسى الهاشمي، فوجدناه زائل العقل منكبّاً على وسادة، وإذا بين يديه طشت فيه حشوة جوفه، وكان الرشيد استحضره من الكوفة، فأقبل سابور على خادم كان من خاصّة موسى، فقال له: ويحك ما خبره؟ فقال: أخبرك أنّه كان من الساعة جالساً وحوله ندماؤه، وهو من أصحّ الناس جسماً وأطيبهم نفساً، إذ جرى ذكر الحسين بن علي علیهما السلام. قال يوحنا: هذا الذي سألتك عنه. فقال موسى: إنّ الرافضة لتغلوا فيه، حتّى إنّهم - فيما عرفت - يجعلون تربته دواءً يتداوون به. فقال له رجل من بني هاشم كان حاضراً: قد كانت بي علّة غليظة، فتعالجت لها بكلّ علاج فما نفعني، حتّى وُصف لي أن آخذ من هذه التربة، فأخذتها، فنفعني الله بها، وزال عنّي ما كنت أجده. قال: فبقي عندك منها شيء؟ قال: نعم. فوجّه، فجاؤوه بقطعة منها، فناولها موسى بن عيسى، فأخذها موسى، فاستدخلها دبره استهزاءً بمَن يتداوى بها، واحتقاراً وتصغيراً لهذا الرجل الذي هذه تربته - يعني الحسين علیه السلام - فما هو إلّا أن استدخلها دبره، حتّى صاح: النار النار!! الطشت الطشت!! فجئناه بالطشت فأخرج فيه ما ترى، فانصرف الندماء وصار المجلس مأتماً. فأقبل عليّ سابور، فقال: اُنظر هل لك فيه حيلة؟ فدعوت بشمعة، فنظرت فإذا كبده وطحاله ورئته وفؤاده خرج منه في الطشت، فنظرت إلى أمر عظيم، فقلت: لا أجد إلى هذا صنعاً، إلّا أن يكون عيسى الذي كان يحيي الموتى. فقال لي سابور: صدقت، ولكن كن
ص: 247
هاهنا في الدار، إلى أن يُتبيّن ما يكون من أمره. فبتُّ عندهم وهو بتلك الحال ما رفع رأسه، فمات في وقت السحر. قال محمّد بن موسى: قال لي موسى بن سريع: كان يوحنّا يزور قبر الحسين علیه السلام وهو على دينه، ثُمّ أسلم بعد هذا وحسن إسلامه»(1).
يتفرّع على حرمة الاستنجاء بالتربة المقدسة عدّة فروع لا بدّ من إشارة إليها، وهي محلٌ للابتلاء:
قد يستغرب البعض من وصول الحكم إلى تكفير مَن استهان بالتربة الحسينية عند الاستنجاء بها، والحكم عليه بهذا الحكم القاسي نسبياً، ولكن هذا الاستغراب يزول بملاحظة عشرات الروايات الدالّة على قداسة التربة، ولزوم احترامها، وبيان الآثار الوضعية فيها، مع تعدّد القائل بها من قبل جميع المعصومين، كما أنّ هذا الحكم ليس على إطلاقه، بل هو مقيّد بقصد إهانتها من حيث إنّها تربة الحسين علیه السلام، وهذا ما أشار إليه جملة من فقهاء الإمامية، منهم: الكركي والبحراني والشهيد الثاني والشيخ جعفر كاشف الغطاء، والشيخ محمّد حسن النجفي، وغيرهم. ولعلّ العبارة الجامعة لهذا الحكم هي ما ذكرها النجفي في جواهره، قائلاً: «ثُمّ ليُعلم أنّ ما ذكرناه من حرمة الاستنجاء بالمحترم، إنّما هو حيث لا يكون مع قصد الإهانة، وإلّا فقد يصل فاعله بالنسبة إلى بعض الأشياء إلى حدّ الكفر، والعياذ بالله، والضابط أنّ كلّ مُستحِل ممّا عُلم تحريمه من الدين ضرورةً، أو فعله بقصد التكبّر والعناد، أو الفسق، وإن لم يكن مُستحِلّاً تحقّق به الكفر؛ فيكون نجساً ذاتياً»(2).
ص: 248
اختلفت كلمات الفقهاء المتأخرين - إذ لم أجد من صرّح من المتقدّمين بهذا الفرع - في جواز الاستنجاء أو عدم جوازه، فيما لو شكّ المستنجِي بالشيء المستنجَى به، وهل هو من التربة الحسينية التي يحرم الاستنجاء بها، أم هي شيء آخر مما يجوز الاستنجاء به؟
فذهب جماعة منهم السيد صاحب العروة الوثقى، والسيد السبزواري، وغيرهما إلى جواز الاستنجاء بما يشكّ في كونه من تربة الحسين علیه السلام.
واستدلّ السيد السبزواري بأصالة البراءة، التي هي المرجع في جميع الشبهات التحريمية، حكمية كانت أو موضوعية(1).
وفصّل البعض الآخر بين ما لو شكّ في كونه ممَّا يحرم الاستنجاء به تكليفاً فيجوز لأصالة الحلّ، وبين ما لو شكّ في كونه ممَّا لا يجوز الاستنجاء به وضعاً، فلا يجوز؛ لاستصحاب النجاسة(2).
واحتاط بعض آخر من الفقهاء بعدم الجواز، فقال: بأنّ الأوْلى تركه.
وأمّا طهارة المحل بعد الاستنجاء بالشيء المشكوك، ففيه أقوال:
أ) طهارة المحل.
ب) عدم طهارة المحل.
ج) الاستشكال بالطهارة.
ولعلّ الاكثر يذهب إلى القول الأوّل(3).
ص: 249
من الأُمور المترتّبة على حرمة الاستنجاء بالتربة الحسينية - بعد القول بالحرمة كما تقدّم -: هو طهارة الموضع (محلّ الاستنجاء) أو عدم طهارته، بعد أن خالف المكلَّف الحرمة وارتكبها، وقام بالاستنجاء، أم بنجاسته؟
اختلاف الإمامية في هذا الفرع على قولين:
القول الأوّل: ما ذهب إليه جماعة كثيرة من الفقهاء، بل اشتهر بينهم كما صرّح بذلك البعض، وهو القول بطهارة الموضع.
واستدلّوا على ذلك بدليلين:
الأوّل: إنّ الاستنجاء بالتربة الحسينية وإن كان منهياً عنه - بحكم الروايات وعمومات النهي - إلّا أنّه لا تنافي بين النهي والقول بالإجزاء وطهارة الموضع في أمثال هذه النواهي؛ لأنّها ليست من الأُمور العبادية التي يستلزم النهي عنها بطلانها ؛ لعدم دخول عنصر القربة فيها حتّى يتنافى مع النهي؛ وبالتالي يكون حال المكلف في هذا الفرض كحال مَن يستنجي بحجر أو ماء مغصوبين.
الثاني: إنّ المتفاهم عرفاً في مثل هذه النواهي هو إرادة الحكم التكليفي دون الوضعي، مع أنّ عمدة الدليل هو الإجماع، والمتيقّن منه الحرمة التكليفية؛ لاختلافهم في الحكم الوضعي، والعرف أصدق شاهد؛ فإنّه إذا قيل: لا تستنجِ بمنديلي، فإنّي امسح به وجهي. أو لا تستنجِ بثوبي، فإنّي ألبسه. فإنه لا يُتوهّم منه عدم قلع نجاسة المحل به لو استنجى، والأخبار - على فرض اعتبارها - لا تدّل على أزيد من ذلك(1).
ص: 250
فيكون إطلاق قوله علیه السلام: «ينقي ما ثمّة». هو المعوّل بعد تحقّق النقاء وجداناً.
القول الثاني: ما ذهب إليه جماعة من عدم طهارة موضع الغائط بالاستنجاء بالتربة الحسينية، بل ظاهر البعض قيام الشهرة عليه، بل عن الغنية: دعوى الإجماع(1)، وعمدة من ذهب إلى هذا القول: الشيخ الطوسي، وتبعه الحلّي وغيره، وعمدة الدليل الذي اعتمده الشيخ، ومن تبعه، هو كون النهي عن الاستنجاء بالمحترمات، ومنها التربة الحسينية، يُوجب الفساد وعدم ترتّب الأثر الوضعي عليه، وهو طهارة المحلّ(2).
وقرّب الشيخ الهندي في (کشف اللثام) الدليل: بأنّ الرُّخص (مثل إزالة النجاسة عن الموضع) لا تُناط بالمعاصي (هي الاستنجاء بالتربة الحسينية)، المنهي عن أهانتها والأمر باحترامها.
وبعبارةٍ أُخرى: إنّ الأصل والاحتياط يقتضيان بقاء النجاسة، خصوصاً مع بقاء أثرها؛ فلا يُحكم إلّا بطهارة ما علمت طهارته بالنصّ والإجماع، فلا يجزي ما حرّمه الشارع(3).
فتوى المعاصرين:
واختلفت - تبعاً للأدلّة المتقدّمة وغيرها - فتوى المعاصرين، فمنهم مَن منع من حصول الطهارة، ومنهم مَن حكم بالطهارة صراحةً، ومنهم مَن استشكل بالحكم، والظاهر منه الاحتياط وبقاء النجاسة على حالها(4).
ص: 251
ص: 252
الشَّيخ حَبيب عَبد الواحِد السَّاعدِيّ(1)
إنّ تلك الجموع التي تسير كلّ عام لزيارة الأربعين مشياً على الأقدم وبمرأى من العالم بأسره ومن كلِّ مكان لهي من أبرز مظاهر الولاء لأهل البيت علیهم السلام، وهي تُظهر بحقٍّ انتصار الإمام الحسين علیه السلام على الطُغاة، على مدى التاريخ وإلى يوم القيامة، وإنّ تلك الشعيرة التي تتجلّى في كلّ عام قد أدهشت وحيَّرت عقول المخالفين، وأدخلت السرور والبهجة على قلوب الموالين.
قد حاول البعض السعي بشتّى الطرق والوسائل للوقوف ضدّ هذه الشعيرة العظيمة التي تمثّل شوكة في عيون الظالمين، ففي كلّ عام تصدر من أولئك المخالفين حملات دعائية وأفكار باطلة وشبهات مغرضة؛ لأجل الوقوف أمام هذه الشعيرة العظيمة، فتراهم في كلّ عام يتهيّؤون ويستعدّون لبثّ الحجج الواهية، والحيل المبتكرة والإشكاليات التي لا أساس لها سوى تضليل وإيهام الناس الذين ليس لهم حظّ من العلم.
ص: 253
ومن هذا المنطلق، نجد من اللازم والضروري الإجابة عن كل شبهةٍ أُثيرت أو قد تثار في وجه هذه الشعيرة المباركة أيّاً كان مُثيرها، عن قصدٍ أو مِن دون قصد. وهذه المقالة مكرسة لإثبات استحباب هذه الشعيرة، وإثبات عظمة ثواب مَن يقيم هذه الشعيرة بالدليل القاطع من السنّة المباركة، ثمَّ بعد ذلك نعرّج على تزييف الشبهات التي يحاول المغرضون بثّها لضعاف القلوب، ونقوم بدحرها وردها بحجّة دامغة، ثمَّ نختم الكلام ببعض آداب الزيارة التي ينبغي للزائر أن يتحلّى بها خلال سيره إلى زيارة الإمام الحسين علیه السلام، والثواب الذي يترتّب عليها، حتى تعطي هذه الشعيرة ثمارها ونتائجها الحسنة.
إذن؛ فيقع الكلام في تمهيد وثلاث جهات:
الجهة الأُولى: إثبات استحباب المشي لزيارة الإمام الحسين علیه السلام وسائر الأئمّة علیهم السلام.
الجهة الثانية: الإشكاليات والشبهات المثارة حول المشي، والجواب عنها.
الجهة الثالثة: بعض آداب الزيارة مشياً، وثواب السير مشياً إلى الإمام الحسين علیه السلام.
قبل الولوج إلى البحث ينبغي أن نمهّد لبعض الأمور المهمّة، وهي:
ترجع شعيرة المشي لزيارة الإمام الحسين علیه السلام تاريخياً - كما جاء في بعض الروايات - إلى الصحابي الجليل جابر بن عبد الله الأنصاري(رضي الله عنه) حيث إنّه زار الحسين علیه السلام في يوم الأربعين مشياً على الأقدام، وكان جائياً من المدينة(1).
وكانت هذه الشعيرة - وهي المشي لزيارة الحسين علیه السلام - موجودة منذ زمن الأئمّة علیهم السلام؛ وذلك لأنّ وسائل النقل الدارجة في زمنهم علیهم السلام كانت عبارة عن أمرين:
الأول: ركوب الخيل والجمال والبغال والحمير.
ص: 254
الثاني: المشي على الأقدام.
لا شكّ في أنّ جملة من الناس لا يمتلك تلك الوسائل، فينتقل من مكان إلى آخر عن طريق المشي على الأقدام؛ ولذا كان الأئمّة يقولون: مَن أتى قبر الحسين فإن كان ماشياً فله كذا وإن كان راكباً فله كذا. فهذا التقسيم يكشف عن وجود المشي لزيارة الإمام الحسين علیه السلام في تلك الفترة أيضاً.
وكان الناس في العراق منذ القدم يقصدون الإمام الحسين علیه السلام مشياً على الأقدام في مناسبات معينة إلى يومنا هذا، وأوضح تلك المناسبات هي زيارة الأربعين، إلى أن جاء نظام البعث البائد فمنع هذه الشعيرة طيلة حكمه، ولم يترك الناسُ هذه الشعيرة، فكانوا يمشون إلى زيارته علیه السلام بالخفاء، وبسبب الاضطهاد والظلم في العراق انتقلت هذه الشعيرة بشكل واضح إلى الأضرحة المقدّسة في إيران وسوريا.
أمّا في إيران، فكان الناس يمشون من مدينة قمّ المقدّسة إلى مشهد المقدّسة، أو من مدينة نيشابور إلى مرقد الإمام الرضا علیه السلام في خراسان.
وأمّا في سوريا، فكانوا يمشون من مرقد السيدة زينب إلى مرقد السيدة رقية أو بالعكس.
والأيام التي تُقام فيها هذه الشعيرة عادة هي العاشر من المحرَّم، ويوم الأربعين (20 من شهر صفر) وهو أبرزها، وأيام شهادة الزهراء صلی الله علیه و آله ، ويوم النصف من شعبان، ويوم عرفة (9 ذي الحجّة).
تبرز شعيرة المشي على الأقدام بشكل واضح في زيارة يوم الأربعين (یوم العشرين من شهر صفر)، حيث يمشي الموالون على الأقدام قاصدين مرقد أبي الأحرار الإمام الحسين علیه السلام، بالرغم من أنّ هذه الشعيرة لا تختص بهذا اليوم؛ إذ سيأتي أنّ استحباب زيارة الحسين مشياً لا يختصّ بزيارة الأربعين، بل يُستحب في كل وقت، إذاً؛ فما هو السرّ فيما نراه اليوم من اختصاص المشي بزيارة الحسين يوم الأربعين؟ ولعل ذلك يرجع إلى أمرين:
ص: 255
الأول: إنّ أول مَن زار مرقد الإمام الحسين علیه السلام يوم الأربعين مشياً على الأقدام هو الصحابي الجليل جابر بن عبدالله الأنصاري رحمة الله فالناس يزورون الحسين علیه السلام في هذا اليوم تأسّياً بهذا الصحابي الجليل، هذا من جانب، ومن جانب آخر فقد حثّ الأئمّة علیهم السلام على الزيارة في هذا اليوم وجعلوها من علامات المؤمن، قال الإمام العسكري علیه السلام: «علامات المؤمن خمس: صلاة إحدى وخمسين، وزيارة الأربعين، والتختّم في اليمين، وتعفير الجبين، والجهر ببسم الله الرحمن الرحيم»(1). وبضميمة الروايات الآتية الواردة في استحباب المشي لزيارة الحسين علیه السلام.
الثاني: إنّ هذا اليوم قد رجع فيه أهل بيت الإمام الحسين علیه السلام من الشام إلى كربلاء، بعد ما لاقوا العذاب والعناء الشديد والظلم، وفي هذا اليوم حصل لقاء الإمام زين العابدين علیه السلام بالصحابي الجليل جابر بن عبد الله الأنصاري الذي جاء لزيارة الحسين علیه السلام مشياً على الأقدام، فالموالون من الشيعة إنّما يزورن الإمام الحسين علیه السلام في هذا اليوم مشياً على الأقدام مواساة لما جرى على عيال الحسين علیه السلام.
قال العلّامة المجلسي رحمة الله: «اعلم أنّه ليس في الأخبار ما العلّة في استحباب زيارة الحسين (صلوات الله عليه) في هذا اليوم، والمشهور بين الأصحاب أنّ العلّة في ذلك رجوع حرم الحسين (صلوات الله عليه) في مثل ذلك اليوم إلى كربلاء عند رجوعهم من الشام، وإلحاق عليّ بن الحسين (صلوات الله عليه) الرؤوس بالأجساد... ولعل العلة في استحباب الزيارة في هذا اليوم هو أنّه جابر بن عبد الله الأنصاري (رضي الله عنه) في مثل هذا اليوم وصل من المدينة إلى قبره الشريف وزاره، فكان أول زائر له من الإنس ظاهراً؛ فلذلك يُستحب التأسي به»(2).
ص: 256
أمّا وجه التسمية، فقال الشيخ الكفعمي: إنّما سمّيت بزيارة الأربعين لأنّ وقتها يوم العشرين من صفر، وذلك لأربعين يوماً من مقتل [الإمام] الحسين علیه السلام، وهو اليوم الذي ورد فيه جابر بن عبد الله الأنصاري صاحب النبي صلی الله علیه و آله من المدينة إلى كربلاء لزيارة قبر الحسين، فكان أول مَن زاره من الناس، وفي هذا اليوم كان رجوع حرم الحسين صلی الله علیه و آله من الشام إلى المدينة(1).
وهذا تمام الكلام في التمهيد، وأما الجهات الثلاث فهي:
قد ورد في الشريعة الإسلامية استحباب المشي حافياً أو غير حافٍ في مواضع عديدة، فيُستحب المشي للمسجد(2)، ويستحب للإمام أن يمشي حافياً عندما يخرج لصلاة العيد(3)، ويُستحب تشييع الجنازة ماشياً(4)، ويستحب المشي للحجّ والعمرة(5)، كما يُستحب عند رمي الجمرات(6)، ويُستحبّ المشي لزيارة المؤمن(7)، فليس استحباب المشي أمراً غريباً عن الفقه، بل له نظائر، ومن جملة الموارد التي يُستحبّ فيها المشي هي زيارة مراقد الأئمّة علیهم السلام، وفي ما يلي نذكر بعض الأدلّة لإثبات استحباب المشي لزيارة الحسين علیه السلام، وسائر مراقد الأئمّة، وأنّ ثوابه يكون أكثر من ثواب الركوب، كما سنرى أنّ بعض الروايات تنصّ على استحباب التحفّي عند المشي، وأنّ استحباب المشي لا يختصّ بيوم الأربعين، بل يُستحبّ المشي في بقية المناسبات وبقية الأيام أيضاً.
ص: 257
سنتكلّم في هذا الدليل عن الروايات الكثيرة الدالة على استحباب المشي لزيارة الحسين علیه السلام، ثمَّ نتعرّض للروايات الدالّة على استحباب المشي لزيارة سائر الأئمّة علیهم السلام، فيقع البحث في نقطتين:
أ) الروايات الدالّة على استحباب المشي لزيارة الحسين علیه السلام
أمّا الروايات التي تنصّ على استحباب المشي لزيارة الحسين فهي:
1- «محمّد بن الحسن بإسناده، عن سعد بن عبد الله ومحمّد بن يحيى وعبد الله بن جعفرٍ وأحمد بن إدريس جميعاً، عن الحسين بن عبيد الله، عن الحسن بن عليّ بن أبي عثمان، عن عبد الجبّار النّهاونديّ، عن أبي إسماعيل، عن الحسين بن عليّ بن ثوير بن أبي فاختة، قال: قال لي أبو عبد الله علیه السلام: يا حسين، من خرج من منزله يريد زيارة الحسين بن عليّ بن أبي طالبٍ علیهما السلام إن كان ماشياً كتب الله له بكلّ خطوةٍ حسنةً وحطّ بها عنه سيّئةً، وإن كان راكباً كتب الله له بكلّ حافرٍ حسنةً وحطّ عنه بها سيّئةً حتّى إذا صار بالحائر كتبه الله من الصّالحين، وإذا قضى مناسكه كتبه الله من الفائزين حتّى إذا أراد الانصراف أتاه ملكٌ، فقال له: أنا رسول الله، ربّك يقرئك السّلام، ويقول لك: استأنف فقد غفر لك ما مضى»(1).
2- «وعن أبيه عن سعدٍ ومحمّد بن يحيى، عن محمّد بن الحسين، عن محمّد بن إسماعيل، عن صالح بن عقبة، عن بشيرٍ الدّهّان، عن أبي عبد الله علیه السلام، قال: إنّ الرّجل ليخرج إلى قبر الحسين علیه السلام فله إذا خرج من أهله بأوّل خطوةٍ مغفرة ذنبه، ثمّ لم يزل يقدّس بكلّ خطوةٍ حتّى يأتيه، فإذا أتاه ناجاه الله فقال: عبدي سلني أعطك، ادعني أجبك»(2).
3- «وعن عليّ بن الحسين بن بابويه وجماعةٍ، عن سعد بن عبد الله، عن الحسن بن عليّ بن عبد الله بن المغيرة، عن العبّاس بن عامرٍ، عن جابرٍ المكفوف، عن أبي الصّامت، قال: سمعت أبا عبد الله علیه السلام وهو يقول: من أتى قبر الحسين ماشياً كتب الله له بكلّ
ص: 258
خطوةٍ الف حسنةٍ ومحا عنه الف سيّئةٍ، ورفع له الف درجةٍ، فإذا أتيت الفرات فاغتسل وعلّق نعليك وامش حافياً وامش مشي العبد الذّليل، فإذا أتيت باب الحائر فكبّر أربعاً، ثمّ امش قليلاً، ثمّ كبّر أربعاً، ثمّ ائت رأسه فقف عليه، فكبّر أربعاً وصلّ عنده وسل الله حاجتك»(1).
4- «وعن أبيه، عن الحسين بن الحسن بن أبانٍ، عن محمّد بن أورمة، عن رجلٍ، عن عليّ بن ميمونٍ الصّائغ، عن أبي عبد الله علیه السلام، قال: يا عليّ، زر الحسين ولا تدعه. قلت: ما لمن زاره من الثّواب؟ قال: من أتاه ماشياً كتب الله له بكلّ خطوةٍ حسنةً، ومحا عنه سيّئةً وترفع له درجةٌ»(2)، وفي رواية أُخرى: «فإذا أتاه وكّل الله به ملكين يكتبان ما يخرج من فيه من خير، ولا يكتبان ما يخرج من فيه من شرّ ولا غير ذلك، فإذا انصرفوا ودّعوه، وقالوا: يا وليّ الله، مغفور لك، أنت من حزب الله وحزب رسوله وحزب أهل بيت رسوله، والله، لا ترى النار بعينك أبداً، ولا تراك ولا تطعمك أبداً»(3).
5- «وعن أبيه، عن سعدٍ والحميريّ، عن أحمد بن محمّد بن خالدٍ، عن أبيه، عن عبد العظيم الحسنيّ، عن الحسين بن الحكم النّخعيّ، عن أبي حمّادٍ الأعرابيّ، عن سديرٍ الصّيرفيّ، عن أبي جعفرٍ علیه السلام في زيارة الحسين علیه السلام، قال: ما أتاه عبدٌ فخطا خطوةً إلّا كتب الله له حسنةً وحطّ عنه سيّئةً»(4).
6- «وعن محمّد بن جعفرٍ الرّزّاز، عن محمّد بن الحسين بن أبي الخطّاب، عن أحمد بن بشيرٍ، عن أبي سعيدٍ القاضي، قال: دخلت على أبي عبد الله علیه السلام في غرفةٍ له فسمعته يقول: من أتى قبر الحسين ماشياً كتب الله له بكلّ خطوةٍ وبكلّ قدمٍ يرفعها ويضعها عتق رقبةٍ من ولد إسماعيل»(5).
ص: 259
7- «عن جعفر بن محمد علیهما السلام: أنّه سُئل عن الزائر لقبر الحسين علیه السلام، فقال: مَن اغتسل في الفرات، ثمَّ مشى إلى قبر الحسين علیه السلام كان له بكلّ قدم يرفعها ويضعها حجّة متقبَّلة بمناسكها».(1)
وكثرة هذه الروايات وتعدّد طرقها يُغنينا عن البحث في سندها، فإنّ ذلك يوجب الاطمئنان بصدورها، وتدلّ هذه الروايات على أنّ مَن زار الحسين ماشياً فله من الثواب ما يأتي:
1- تُكتب له بكلِّ خطوة حسنة، وتُمحا عنه سيئة، ويُرفع له درجة.
2- يُكتب له بكلِّ خطوة ألف حسنة، وتُمحا عنه ألف سيئة، ويُرفع له ألف درجة.
3- يُكتب له بكلِّ خطوة ثواب حجّة متقبَّلة بمناسكها.
4- يُكتب له بكلِّ خطوة عتق رقبة من وُلد إسماعيل.
والعمل الذي له هذا المقدار من الثواب لا شكّ في أنّه من المستحبّات المؤكّدة.
ب) الروايات الدالة على استحباب المشي لزيارة سائر الأئمّة علیهم السلام:
1- يدلّ على استحباب المشي لزيارة أمير المؤمنين علیه السلام بالخصوص ما روي عن الإمام الصادق علیه السلام: «من زار قبر أمير المؤمنين علیه السلام ماشياً، كتب الله له بكلّ خطوةٍ حجّةً وعمرةً، فإن رجع ماشياً، كتب الله له بكلّ خطوةٍ حجّتين وعمرتين»(2).
2- ويدلّ على استحباب المشي لزيارة الأئمّة بشكل عامّ ما رواه الصدوق قدَّس سره في ثواب الأعمال والمشهدي قدَّس سره في كتاب المزار، والسند صحيح في كليهما.
«قال: قلت للرضا علیه السلام: ما لِ-مَن أتى قبر أحد من الأئمّة علیهم السلام؟ قال علیه السلام: له مثل ما لِ-مَن أتى قبر أبي عبدالله علیه السلام. قلت: ما لِ-مَن زار قبر أبي الحسن علیه السلام؟ قال: مثل ما لِ-مَن زار قبر أبي عبدالله علیه السلام»(3).
ص: 260
وتقريب الاستدلال بها:
إنّ قول الراوي: «ما لمَن أتى قبر أحد من الأئمّة؟». يشمل بإطلاقه جميع الأئمّة علیهم السلام، وقد أجابه الإمام: «له مثل ما لمَن أتى قبر أبي عبد الله علیه السلام». وهذا يعني أنّ زيارة الأئمّة الباقين مستحبّة كاستحباب زيارة الحسين علیه السلام، هذا بالنسبة إلى أصل الزيارة.
وأمّا استحباب المشي إلى زيارة سائر الأئمّة علیهم السلام، فيقال فيه: بعد ما ثبت استحباب زيارة سائر الأئمة علیهم السلام وإنّ زيارتهم كزيارة الإمام الحسين علیه السلام. وبضميمة الروايات الأُخرى الدالة على أفضليّة المشي لزيارة الإمام الحسين علیه السلام على الركوب لزيارته، حينئذٍ يثبت أفضليّة المشي واستحبابه لزيارة بقية الأئمة علیهم السلام. كما في التفصيل المتقدم في زيارة الإمام الحسين علیه السلام.
قال التبريزي: «وظاهر هذه الرواية - القريب من التصريح - أنّ السؤال الأول راجع إلى ثواب الإتيان، فإذا كان المشي في الإتيان لزيارة أبي عبد الله علیه السلام أفضل من الركوب لزيارته، كما أشرنا إلى الروايات فيه؛ فيكون الثواب في الإتيان لزيارة سائر الأئمّة علیهم السلام مشياً وركوباً كالإتيان لزيارة أبي عبد الله علیه السلام»(1).
وقال السيد الحائري: «وردت روايات عديدة في زيارة الإمام الحسين علیه السلام ماشياً، ولكنّي لم أجد ذلك في المشي في زيارة الإمام الرضا علیه السلام، نعم الروايات في أصل الثواب في زيارة الإمام الرضا علیه السلام كثيرة، من دون فرق بين المشي والركوب»(2).
الرواية الواردة عن النبي الأكرم صلی الله علیه و آله : «أفضل الأعمال أحمزها»(3)، وهي من الروايات
ص: 261
الصحيحة، بل المستفيضة، كما قال الشهيد الثاني(1)، وقد عبَّر صاحب البحار عن الحديث بالمشتهر بين العامّة والخاصّة(2)، والمراد من أحمزها: أي أشدّها وأمتنها وأكثرها مشقّة، ومعنى الحديث: أنّه إذا ثبت كون العمل عبادة لله تعالى، فكلّما كان امتثال تلك العبادة بنحو أصعب وأشدّ كان الثواب أكثر، فالأجر على مقدار المشقّة، فمثلاً الصوم في الحرّ يكون ثوابه أكثر من الصوم في البرد؛ لأنّه أشقّ وأصعب.
وكذا الكلام في زيارة الحسين علیه السلام، وزيارة سائر مراقد الأئمّة علیهم السلام، فلا شكّ في أنّ زيارة مراقدهم عبادة؛ لأنّها مستحبّة (إن لم نقل: واجبة)، فكلّما جاء الإنسان بالعبادة بنحو أشدّ تعباً، وأكثر مشقّة كان مقدار ثوابها أكثر وأعظم، فالمشي لزيارة مراقد الأئمّة علیهم السلام أشدّ من الركوب، وكلّما كانت المسافة أطول، والوضع الأمني أخطر كان الثواب والأجر أكبر وأعظم، فهذا يدلّ على أنّ المشي لزيارة الأئمّة علیهم السلام أفضل من الركوب، وأجره أكثر من ثواب الركوب بلا شكّ.
لا شكّ في أنّ زيارة مراقد الأئمّة علیهم السلام من أهمّ السبل المؤدّية إلى الله تعالى، فهي من أوضح مصاديق (سبيل الله)، كما أنّ من أوضح مصاديق اغبرار القدمين هو أن يقصد الإنسان زيارة مراقد الأئمّة علیهم السلام ماشياً؛ فإنّ ركوب السيارة قد لا يتحقق معه اغبرار القدمين؛ وحينئذٍ فزيارة الأئمّة علیهم السلام ماشياً من أوضح مصاديق هذا الحديث، وهذا يدلّ على الثواب العظيم في المشي.
قال المحقق الأردبيلي: «عن النبيّ صلی الله علیه و آله أنّه قال: مَن اغبرّت قدماه في سبيل الله حرّمهما على النّار. ويمكن الاستدلال بها على الحفاة في الحرم، وعلى صلاة الجنازة. بل مطلق العبادة، مثل زيارة الحسين علیه السلام وغيرها»(3).
ص: 262
إنّ في المشي لزيارة الأئمّة علیهم السلام جانبين:
1- إظهار الخضوع والتذلل لله تعالى، ولا سيما إذا كان حافياً، ويمكن أن يستأنس لهذا الحكم بعدة أُمور:
منها: عدم جواز الصلاة بالنعل لمنافاته الخضوع والاحترام.
ومنها: قوله تعالى:«إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى»(1).
فمن ذلك يُستأنس أن للتحفّي مدخلية في إظهار الخضوع والتذلّل لله تعالى.
ومنها: استحباب المشي حافياً لصلاة العيد والمشي إلى المسجد؛ ولذا استُدلّ على استحباب المشي في الطواف بأنّه أنسب بالخضوع والاستكانة(2).
2- إظهار التعظيم والاحترام لشعائر الله تعالى؛ ومن هنا يُستحب المشي في الحجّ والعمرة، وعند السعي بين الصفا والمروة، وعند رمي الجمرات، ويمكن أن يقال: إنّ المشي حافياً وراء الجنازة أيضاً فيه جنبة تعظيم لشعائر الله تعالى، واحترام للميت، والملائكة الذين يحفّون به، وكذا المشي لزيارة المؤمن.
وعليه؛ فإذا مشى المؤمن لزيارة الأئمّة علیهم السلام يكون قد أدّى ثلاث عبادات، الأُولى زيارة الأئمّة علیهم السلام، والثانية: الخضوع والتذلل لله تعالى، والثالثة: تعظيم شعائر الله تعالى؛ ومن هنا يتضاعف ثواب الزائر.
إنّه يُستحب المشي لزيارة المؤمن، وللماشي بكلّ خطوة حتى يرجع إلى أهله عتق مائة رقبة، وقد جاءت الروايات في استحباب ذلكَ، قالَ النبي صلی الله علیه و آله : «مَنْ مَشَى زَائِراً لِأَخِيهِ، فَلَهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ حَتَّى يَرْجِعَ إلى أَهْلِهِ عِتْقُ مِائَةِ رَقَبَةٍ، وَيُرْفَعُ لَهُ مِائَةُ الفِ دَرَجَةٍ، وَيُمْحَا
ص: 263
عَنْهُ مِائَةُ الفِ سَيِّئَةٍ»(1).
فإذا كان المشي إلى زيارة المؤمن مستحباً وله بكلّ خطوة عتق رقبة، فما بالك بالمشي إلى زيارة الأئمّة المعصومين وسادات المؤمنين وحجج الله في الأرضين علیهم السلام؟! فيكون المشي لزيارتهم مستحبّاً بطريق أولى.
فإن قيل: إنّ هذا يختصّ فيما لو كان الأئمّة أحياءً؛ فيكون المشي لزيارتهم فيه الثواب والأجر، وأمّا في حالة الموت فلا يتحقق الثواب في الزيارة.
فالجواب: إنّ الأئمّة علیهم السلام ليسوا أمواتاً، بل هم أحياء عند ربهم؛ طبقاً لقوله تعالى:«وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ»(2)، وقد جاء في زيارة الأربعين: «أشهد أنّك تسمع الكلام وترد الجواب»(3).
هناك عدّة إشكالات وشبهات طرحها بعض العامّة من المخالفين أو غيرهم، وهي لا تعدو عن كونها شبهات لا تصمد أمام الحقائق العلميّة النيّرة، ولكن لمّا كان هناك جملة من الناس ممّن قد يقع تحت تأثير هذه الأباطيل والحملات الدعائية؛ لذا كان من الضروري طرحها لأجل ردّها ودحرها بالدليل القاطع والحجّة الدامغة.
إنّه لو سلَّمنا أنّ المشي على الأقدام مستحبّ وفيه ثواب، لكن ذلك إذا لم يترتّب عليه ضرر، فإنّه إذا ترتّب عليه الضرر فلا يستحبّ، بل يحرم، فمثلاً: لو كان المشي لزيارة الحسين علیه السلام يسبب تورّم القدمين أو يسبّب أمراضاً يطول بُرؤها، وقد لا تبرأ، فهنا من الواضح لا يجوز المشي حينئذٍ؛ لاستلزامه إضرار النفس والإعانة عليها.
ص: 264
إنّ الضرر على قسمين:
1- أن يعلم أو يحتمل المكلَّف بأنّ في هذا العمل ضرراً يؤدّي إلى هلاك نفسه، أو قطع عضو من أعضائه مثلاً.
2- أن يعلم بأنّ هذا العمل فيه ضرر، ولكن هذا الضرر لا يؤدّي لا إلى هلاك النفس ولا إلى قطع عضو من أعضائه.
ومن المعلوم أنّ المشي لزيارة الحسين علیه السلام - لو سلَّمنا بوجود الضرر فيه - فإنّه لا يؤدّي إلى هلاك الإنسان عادة، أو قطع عضو من أعضائه فهو ضرر لا يُعتدّ به، بل إنّ في المشي منافع كثيرة، فإنّه يبعث على حيوية الإنسان ونشاطه، خصوصاً وأنّ الإنسان في عصرنا الحاضر أصبح قليل الحركة لتوفّر جميع مستلزمات النقل والانتقال الحديثة.
جاء في استفتاء قُدِّم للسيد الخوئي قدَّس سره: «سؤال 1292: الأُمور المستحبّة إذا ترتّب عليها الضرر، فهل يجوز فعلها أم لا؟ مثلاً لو كان الذهاب إلى زيارة الإمام الحسين علیه السلام مشياً على الأقدام يؤدّي إلى ورم القدمين أو مرض قد يطول شهراً مثلاً، فهل يجوز في مثل هذه الحالة أم لا؟
الخوئي: ما لم يكن الضرر المؤدّي إليه ممّا يحتمل أن يؤدّي إلى هلاك النفس فلا بأس بالعمل به.
التبريزي: ما لم يكن الضرر الهلاك أو الضرر المحسوب من الجناية على النفس، فلا بأس به، والله العالم»(1).
إنّ المشي لزيارة الحسين علیه السلام يُعدّ لدى العُرف إيذاءً للنفس وإتعاباً لها، والعقل يحكم بقبح إيذاء النفس؛ إذن فيُعدّ هذا العمل قبيحاً في نظر العقل، فلا يجوز؛ للتطابق بين حكم العقل وحكم الشرع.
ص: 265
إنّ حكم العقل بقبح إيذاء النفس مسلَّم في الأعمال التي تؤذي النفس ولا يترتّب عليها غرض معتد به، كجرح عضوٍ من أعضاء الجسد من دون غرض، وأمّا الأعمال التي يكون فيها إيذاء للنفس لأجل تحقيق غرض مهم، فلا يحكم العقل بقبحها، والعقلاء يتحمّلون المشاق والمتاعب لأجل الحصول على أغراضهم، وزيارة الحسين علیه السلام مشياً على الأقدام وإن كان فيها شيءٌ من التعب، إلّا أنّه يترتّب عليها خير الدنيا والآخرة، فهو تعب قليل في قبال نفع وأجر عظيم.
ومن جملة الإشكالات التي تذرّع بها بعضهم أنّ الشعائر الحسينيّة بشكل عام، والمشي لزيارة الحسين علیه السلام بشكل خاص يستلزم الاختلاط بين الجنسين، وهذا الاختلاط محرّم، والزيارة مشياً مستحبّة، فإذا ترتّب عليها مفاسد كالاختلاط بين الجنسين، كان ترك المشي للزيارة أوْلى، والركوب أفضل.
الوجه الأول: إنّ هذا الاختلاط المذكور ليس محرماً؛ فليس هناك من الفقهاء مَن أفتى بحرمة الاختلاط بين الجنسين بهذا المعنى المشار إليه؛ لأنّ الاختلاط تارة ينشأ عن الازدحام، كالحجّ وصلاة الجمعة وصلاة العيدين والمشي لزيارة الإمام الحسين علیه السلام، أو الازدحام داخل الحرم الشريف، فهذا النوع من الاختلاط ليس محرّماً في نفسه، بل أفتى الفقهاء بكراهته بشكل عام.
وأُخرى يكون الاختلاط بمعنى المعاشرة والخلطة من النساء للرجال، وهو ما يحصل عادة في المدارس والدوائر الحكومية والمستشفيات وغيرها؛ بحيث يكون
ص: 266
الاختلاط كثيراً ومستمرّاً، فهذا النوع من الاختلاط قد أفتى السيد الخوئي بحرمته(1).
وعلى أية حال، فالمفروض أنّ المشي لزيارة الحسين علیه السلام إن كان فيه اختلاط فهو اختلاط من القسم الأول دون الثاني(2).
الوجه الثاني: لو سلّمنا - ونحن لا نسلِّم ذلك - أنّ الاختلاط بالمعنى الثاني، أي: المعاشرة، فيحصل أحياناً من بعض ذوي النفوس الضعيفة في المشي لزيارة الحسين علیه السلام، إلّا أنّ ذلك لا يلزم منه تعطيل هذه الشعيرة، ولو كان ذلك صحيحاً للزم تعطيل أكثر العبادات الواجبة التي يكون فيها نوع من الاختلاط أحياناً كالحجّ، وصلاة الجمعة، وصلاة العيد، وصلاة الميت وغير ذلك؛ ولذا ورد عن زُرارة، قال: «حضر أبو جعفرٍ علیه السلام جنازة رجلٍ من قريشٍ وأنا معه وكان فيها عطاءٌ، فصرخت صارخةٌ، فقال عطاءٌ: لتسكتنّ أو لنرجعنّ. قال: فلم تسكت؛ فرجع عطاءٌ. قال: فقلت لأبي جعفرٍ: إنّ عطاءً قد رجع. قال ولم؟ قلت: صرخت هذه الصّارخة. فقال لها: لتسكتنّ أو لنرجعنّ. فلم تسكت؛ فرجع. فقال: امض فلو أنّا إذا رأينا شيئاً من الباطل مع الحقّ تركنا له الحقّ لم نقض حقّ مسلمٍ. قال: فلمّا صلّى على الجنازة قال وليّها لأبي جعفرٍ علیه السلام ارجع مأجوراً رحمك الله؛ فإنّك لا تقوى على المشي. فأبى أن يرجع»(3).
من الأُمور الواضحة أنّ الزائر الذي يأتي ماشياً لزيارة الحسين علیه السلام، ويقطع هذه المسافات يحتاج إلى كثير من الخدمات، فهو بحاجة إلى الطعام والشراب، والاستراحة في أثناء الطريق، والمعالجة أحياناً لما يصيبه من التورّمات في الأقدام التي تحصل إثر قطع المسافات الطويلة. ومن هذا المنطلق؛ يقوم المؤمنون الموالون باستقبال الزوّار، وقضاء حاجاتهم، فينصبون (السرادق) على الطريق لذلك، وتذكر الإحصائيات أنّ المواكب التي
ص: 267
نُصبت في العام الماضي تقرب من ستّة آلاف موكب، وإذا أضفنا إلى ذلك أنّ كلّ موكب يصرف من الأموال ما يقرب من (8) مليون خلال فترة زيارة الأربعين؛ فيخرج الناتج (48) مليار ديناراً كقدر متيقَّن إن لم يكن أكثر. وهذا الرقم من الأموال يُصرف، وفي الناس مَن يحتاج إلى رغيف الخبز، وكم من المرضى الذين يحتاجون إلى الدواء، ولكنّهم لا يملكون أموال علاجهم، أفليس صرف هذه المبالغ في هذه الموارد أوجب، مع ملاحظة تمكّن الزوّار المشاة عادة من أن يتكفّلوا متاعهم بأنفسهم، مع أنّ ذلك يكون مانعاً عن الإسراف والتبذير.
إنّ الإنفاق في الشريعة الإسلامية تارة يكون واجباً وأُخرى مستحبّاً، أمّا الإنفاق الواجب فهو يتمثّل ب-: الإنفاق على واجبيّ النفقة، وفي الزكاة، والخمس، والكفارات، والإنفاق الواجب بالنذر. وأمّا الإنفاق المستحبّ: فهو يتمثّل بالصدقة والإنفاق في سبيل الله والتبرعات والأوقاف.
وقد جعلت الشريعة الإسلامية الزكاة وخمس السادة والكفارات من جملة الموارد المالية التي تُسدّ بها حاجة الفقراء والأيتام؛ فيجب تشكيل المؤسسات التي تُعنى بذلك، والدولة تتحمّل قسطاً من المسؤولية لرفع حالة الفقر، فيجب أن تخصص الدولة مؤسسات إغاثة للمحتاجين والمعوزين من خلال تلك الموارد المالية، وهذه الموارد المالية لا يجوز صرفها إلى غير المستحقّ، كما لا يجوز صرفها إلى الشعائر الحسينيّة.
وأمّا بالنسبة إلى النذر الواجب والإنفاق المستحبّ بجميع ألوانه فهو يرجع إلى قصد الناذر أو المنفق، فإن كان الناذر قد نذر ذلك للشعائر الحسينيّة فلا يجوز أن يصرفها في غيرها، فيجب العمل على طبق النذر، وأمّا الإنفاق المستحبّ فالمنفق مخيّر في ذلك يستطيع أن ينفق في ما يشاء من وجوه البرّ.
ومن المعلوم أنّ الأموال التي تصرف للشعائر الحسينيّة كلّها من قبيل النذور التي نُذرت للشعائر الحسينيّة، أو من قبيل الإنفاق المستحبّ الذي يدخل فيه الصدقة والتبرّعات
ص: 268
والأوقاف، فأمّا بالنسبة إلى الأموال التي نذرت للشعائر الحسينيّة فلا يجوز أن يصرفها في غيرها، فلا يسقط عنه النذر بذلك، وأمّا بالنسبة إلى الإنفاق فهو مخيّر في ذلك، ولا يجوز لنا إجباره على الإنفاق في جهة معينة، فله أن يصرف أمواله في الشعائر الحسينيّة، كنصب المواكب لضيافة زوار الحسين علیه السلام، وتقديم الخدمات لهم وإطعامهم الطعام وسقيهم الماء، فكلّ ذلك جائز له، بل هو من أعظم المستحبّات ويترتّب عليه الثواب العظيم.
وملخّص الكلام: أنّ كلّ جهة من الجهات قد خصّصت الشريعةُ لها مورداً من الموارد المالية، فالفقراء غير السادة قد خُصّصتْ لهم الزكاة والكفارات، والفقراء من السادة قد خُصّص لهم سهم من الخمس. وأمّا ما يرتبط ببقية الأمور الدينية، كالشعائر الحسينيّة وخدمة زوّار الحسين علیه السلام ووجوه البرّ، فهو يكون من الإنفاق في سبيل الله والنذور المتعلقة بها والتبرّعات والأوقاف، ولا ينبغي خلط أحدهما بالآخر.
إنّ مجيء تلك الحشود والجموع وخروجهم في الطرق والشوارع مشياً على الأقدام إلى زيارة الحسين علیه السلام يوم الأربعين يسبب أمرين:
1- إضاعة الوقت على الزوّار أنفسهم، فبدلاً من أن تستغرق زيارتهم عشرة أيام يمكن أن يختصر أحدهم ذلك ويزور في يوم واحد أو يومين، ثمَّ يرجع إلى عمله ويستغلّ ما تبقّى من وقته في عبادات أُخرى، كالكدِّ على العيال، وقضاء حوائج الناس وما أشبه.
2- إعاقة الآخرين عن مواصلة أعمالهم من خلال شلِّ حركة السير في الطرق الخارجية؛ إذ إنّ الزوّار يمشون ويملؤون الشوارع؛ ممّا يسبب توقّف السير في الشوارع، أو شلِّ الحركة وقطع الطرق على الآخرين، وهذا ليس أمراً مطلوباً في الشريعة.
قد طرح المستشكل محذورين، والجواب عنهما كما يأتي:
ص: 269
أولاً: إنّ إضاعة الوقت تارة تكون من قبيل إضاعة الوقت في شيءٍ لا فائدة فيه، وليس فيه غرض معتدّ به، كاللعب واللهو وما شابه ذلك، فهذا النوع من إضاعة الوقت تذمّه الشريعة الإسلامية.
وأُخرى من قبيل صرف الوقت لأجل أغراض معتدٍّ بها، كالعمل والكدِّ على العيال وقضاء حوائج الآخرين، ومواصلة أعمال اليوم، وأداء العبادات وتعظيم الشعائر، وهذا النوع من صرف الوقت ممدوح ومرغوب ؛ ولذا حثت الشريعة على أداء الواجبات، فلا يُسمّى صرف الوقت في ذلك إضاعة للوقت؛ لأنّه في الواقع لم يضيّع وقته، بل حصل على أمر أكبر من الوقت الذي أتلفه، وهذا أحد معاني الآية الكريمة:«وَالْعَصْرِ *إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ *إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ»(1)، أي: إنّ الإنسان قد خسر عمره وأيامه لا محالة، ولكنّه إذا جعل تلك الأيام في طاعة الله تعالى، وعمل الصالحات فلم يخسر عمره، بل ربح شيئاً أكبر.
وزيارة الإمام الحسين علیه السلام مشياً على الأقدام وصرف الوقت فيها من قبيل صرف الوقت في طاعة الله تعالى، وتعظيم شعائره، ونصرة نبيه صلی الله علیه و آله وأهل بيته علیهم السلام، وقضاء الوقت في ذلك مرغوب لدى الشريعة، بل هو من أفضل العبادات.
وثانياً: ورد في بعض الروايات أنّ زائر الحسين علیه السلام لا تحسب أيامه التي صرفها في زيارة الحسين ذاهباً وجائياً من عمره(2)، فمَن ينشغل بعبادات أُخرى، فهو يحصل على الثواب، ولكن يحسب ذلك الوقت من عمره، وأمّا مَن ينشغل بزيارة الإمام الحسين علیه السلام مشياً ذاهباً وجائياً فيحصل على الثواب من دون أن يحسب ذلك الوقت من عمره، وحينئذٍ لا تصدق إضاعة الوقت.
ص: 270
أولاً: يمكن الجمع بين زيارة الإمام الحسين علیه السلام مشياً والحفاظ على حركة السير، بأن يجعل أحد الشوارع للزوّار والآخر للسير، أو يجعل الليل لحركة السيارات والنهار لحركة المشاة لزيارة الإمام الحسين علیه السلام، فهذا من وظائف القائمين على أنظمة المرور العامّة؛ وحينئذٍ نحصل على كلا الأمرين وتكون زيارة الإمام الحسين علیه السلام مشياً على الأقدام متيسّرة، وحركة السيارات أيضاً تكون ممكنة، وبذلك يتمّ المحافظة على النظم العام.
ثانياً: من المبادئ الواجبة والأساسية في الشريعة الإسلامية هي الدفاع عن المظلوم والاقتصاص من الظالم، فكلّ إنسان مظلوم يجب على الأُمّة الإسلامية الدفاع عنه ومعاقبة مَن ظلمه طبقاً للآية الكريمة:«وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ»(1)، وهذا الأصل مسلّم عند جميع الفرق الإسلامية، بل العالم بأسره؛ ولذا شكّلت أوروبا منظمة للدفاع عن حقوق الإنسان، فإذا لم يتمكّن الناس من الاقتصاص من الظالم للمظلوم، فلا أقل من إظهار تلك المظلومية للعالم ودعوته للدفاع عن المظلومين الذين قُتلوا وظُلموا من دون أي ذنب.
والمشي لزيارة الإمام الحسين علیه السلام أحد المصاديق البارزة لمطالبة العالم الإنساني بالدفاع عن حقوق المظلومين الذين انتُهكت حقوقهم وأُريقت دماؤهم وسُلبت أموالهم من دون أي ذنب، وعلى رأسهم الإمام الحسين علیه السلام الغريب المظلوم، الذي خرج هو أيضاً للدفاع عن المظلومين الذين سلبت حقوقهم من قِبل الطغاة والجبابرة في كلّ زمان ومكان، ومن بعده الإمام زين العابدين علیه السلام والسيدة زينب صلی الله علیه و آله ؛ حيث قاما من بعد الإمام الحسين علیه السلام بهذه المهمّة خير قيام، وأبرزا مظلومية الحسين علیه السلام إلى العالم.
إذن، فزيارة الإمام الحسين علیه السلام مشياً هو أجلى وأتمّ مصداقٍ من مصاديق نصرة المظلوم والاصطفاف معه ضد الظلم والظالمين، وهي نصرةٌ لشخصية مثّلت أساس
ص: 271
العدل ومعدن الإباء، بل هي مظهر من مظاهر إحياء الدين، وكفى بذلك أهميةً، فتُقدّم حينئذٍ على ما سواها من المصالح الشخصية أو العامّة الأقل منها أهمية قطعاً.
أي إن هذا المورد من قبيل التعارض بين المصالح العامّة، والمصالح الشخصية، وكلّما تعارضت المصلحة العامّة مع المصلحة الشخصية، قُدِّمت الأولى على الثانية.
فالمشي لزيارة الحسين علیه السلام يوم الأربعين أصبح اليوم ذا مصلحة عامّة، وتلك المصلحة العامّة هي عبارة عن الصرخة في وجوه الظالمين، ورفع راية الإسلام، كما أنّ في المشي جنبة تبليغية عظيمة؛ حيث إنّ كلّ مَن يرى هذا الحدث وتلك الجموع الغفيرة التي تسير نحو الحسين علیه السلام يُثار لديه تساؤل: مَن هو الحسين الذي جعل جميع هذه القلوب تهوي إليه؟ ممّا يكون باعثاً على البحث والتحقيق، وكلُّ هذه الأُمور فيها مصلحة عامّة وهي مقدَّمة بلا ريب على المصالح الشخصية، كعرقلة المسير.
هناك جملة من الآداب التي ينبغي لزائر الحسين علیه السلام مشياً التحلّي بها، وهي مستفادة من الروايات الواردة عن أهل البيت علیهم السلام:
1- أن يكون زائر الحسين علیه السلام عارفاً بحقّ الإمام الحسين علیه السلام؛ لأنّ الثواب الجزيل إنّما يترتّب على كون الزائر عارفاً بحقّ الإمام علیه السلام، ولعل التفاوت في الأجر الذي تقدَّم في الروايات يرجع إلى التفاوت في المعرفة، فبعض الزائرين يُعطى بكلّ خطوة حسنة في حين يُعطى الآخر بكلّ خطوة ألف حسنة، ويحصل الآخر بمقدار معرفته على ثواب حجّة متقبَّلة بكلّ خطوة، في حين يحصل العارف بحقّه بكلّ خطوة على عتق رقبة. فالمناسب للزائر أنّ يشتغل طول الطريق بالتعرُّف على شخصية الإمام الحسين علیه السلام وأخلاقه، ويحاول تطبيقها والعمل بها ليحصل على الثواب الجزيل.
ص: 272
2- أن يغتسل ويلبس ثياباً نظيفة وطاهرة، ويحافظ على السكينة والوقار، فلا يتصرَّف تصرُّفاً ينافي ذلك، وينبغي مراعاة النظافة بشكل عام طوال الطريق ويتجنَّب رمي النفايات على الأرض، بل ينبغي له رميها في المكان المخصص لها؛ فإنّ الله تعالى يقول: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ»(1)، كما أنّ من المبادئ الأساسية في الإسلام هي النظافة؛ فينبغي لزائر الحسين علیه السلام وسائر الأئمّة علیهم السلام خلال مسيره أن يعمل بهذه المسائل، فإنّه سيُعطي بذلك درساً للآخرين.
3- أن يتجنَّب خلال طريقه إلى الحسين علیه السلام كلَّ ما يسيء إلى سمعة وكرامة وعزّة المذهب؛ فإنّ التصرُّفات السلبية لزائر الحسين علیه السلام ستنعكس على سمعة المذهب وكرامته، فعلى الزائر أن يبتعد عمّا يسيء للمذهب، كالتهاون بالصلاة وعدم رعاية الحجاب، كما أنّ عليه أن يحفظ قلبه وسمعه ولسانه وبصره عن الحرام؛ فإنّ الله تعالى يقول:«إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا »(2). وقد جاء في صحيحة هشام بن الحكم، قوله: «سمعت أبا عبد الله علیه السلام يقول: إياكم أن تعملوا عملاً يعيِّرونا - أي المخالفون - به، فإنّ ولد السوء يُعيَّر والده بعمله، وكونوا لمَن انقطعتم إليه زيناً ولا تكونوا علينا شيناً... ولا يسبقوكم - يعني المخالفين - إلى شيء من الخير، فأنتم أوْلى به منهم»(3).
4- ينبغي لزائر الحسين علیه السلام حال مشيه أن يعمل أفعال الخير، فيرحم الكبير، ويعطف على الصغير، ويساعد المحتاج، ويغيث الملهوف، ويتخلّق بالأخلاق الحسنة، وأن يتكلَّم مع الناس بما هو خير طبقاً لقوله تعالى:«وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا»(4)، بحيث يكون متمسِّكاً بأخلاق أهل البيت علیهم السلام وداعية لهم؛ فإنّ التصرُّفات الإيجابية ستنعكس على سمعة المذهب وكرامته؛ ولذا ورد عن سليمان بن مهران، قال: «دخلت على الصادق جعفر بن محمد علیهما السلام وعنده نفر من الشيعة، فسمعته وهو يقول: معاشر الشيعة، كونوا لنا زيناً، ولا تكونوا علينا
ص: 273
شيناً، قولوا للناس حسناً، واحفظوا ألسنتكم وكفّوها عن الفضول وقبيح القول»(1).
5- عدم الأكل أثناء المشي، بل المناسب أن يجلس ويستريح قليلاً، ثمَّ يأكل، إلّا إذا اضطرّ إلى ذلك، وعدم السرعة في المشي؛ فإنّه من المستحبّات أن يمشي بسكينة ووقار، وسرعة المشي تذهب بالسكينة والوقار وتطفئ نور المؤمن، فعن أبي عبد الله علیه السلام، قال: «لا تأكل وأنت تمشي إلّا أن تضطرّ إلى ذلك»(2). وقد ورد عن أبي الحسن علیه السلام: «سرعة المشي تذهب ببهاء المؤمن»(3)، وقال علیه السلام: «المشي المستعجل يذهب ببهاء المؤمن ويطفئ نوره»(4).
6- أن يتحلّى بآداب المشي، فعليه أن يكون قاصداً في مشيه إلى زيارة الحسين والأئمّة المعصومين علیهم السلام، ويمشي على الأرض هوناً، وبتذلل وخضوع وعلى سكينة ووقار؛ كي يكون ممَّن يمشي سوياً على صراط مستقيم. حيث تشير إلى ذلك الآيات الكريمة، كقوله تعالى:
«وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ»(5)، « وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا»(6) «وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا »(7) و«أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ»(8).
اعلم أن ّالثواب الذي يترتّب على زيارة الحسين علیه السلام كثير جدّاً، ولكن نحن نقتصر هنا على المهمّ منه، وسنبدأ بالثواب على حسب الطريق، ابتداء من خروج الزائر من المنزل وحتى وصوله إلى مرقد الإمام الحسين علیه السلام وانتهاء برجوعه إلى منزله؛ فإنّ الله تعالى قد وزّع الثواب على الزائر ابتداءً من الخروج من المنزل إلى حين رجوعه إلى المنزل.
ص: 274
1- تتباشر أهل السماء به عند ترتيب متاع السفر
فعن الإمام الصادق علیه السلام: «إنّ الرجل منكم ليأخذ في جهازه ويتهيأ لزيارته فيتباشر به أهل السماء»(1).
2- تُصلّي الملائكة عليه عند الخروج من المنزل وتُشيِّعه وتصحبه
عن الإمام الصادق علیه السلام: «إنّ الرجل إذا خرج من باب منزله وكّل الله به أربعة آلاف ملك من الملائكة يصلّون عليه حتى يوافي قبر الحسين علیه السلام» (2).
وقال علیه السلام: «إنّ الرجل إذا خرج من منزله يريد زيارة قبر الحسين علیه السلام شيَّعه سبعمائة ملك من فوق رأسه ومن تحته وعن يمينه وعن شماله ومن بين يديه ومن خلفه حتى يبلغونه مأمنه»(3)، و«صحبه ألف ملك عن يمينه وألف ملك عن يساره»(4).
3- عندما يمشي تُكتب له بكلّ خطوة حسنة
«عن الحسين بن عليّ بن ثوير بن أبي فاختة، قال: «قال لي أبو عبد الله علیه السلام يا حسين، من خرج من منزله يريد زيارة الحسين بن عليّ بن أبي طالبٍ علیهما السلام إن كان ماشياً كتب الله له بكلّ خطوةٍ حسنةً، وحطّ بها عنه سيّئةً» (5).
4- إذا مشى في الشمس أكلت ذنوبه كما تأكل النّار الحطب
قال الإمام الصادق علیه السلام: «وإنّ زائر الحسين علیه السلام إذا وقعت الشمس عليه أكلت ذنوبه كما تأكل النار الحطب، وما تبقي الشمس عليه من ذنوبه شيئاً؛ فينصرف وما عليه ذنب، وقد رفع له من الدرجات ما لا يناله المتشحِّط بدمه في سبيل الله»(6).
5- في حال تعرُّقه أو تعبه يخلق الله سبعين ألف ملك يسبِّحون له
ص: 275
روي: «أنّ الله تعالى يخلق من عرق زوّار قبر الحسين علیه السلام من كلّ عرقة سبعين ألف ملك يسبّحون الله ويستغفرون له ولزوّار الحسين علیه السلام إلى أن تقوم الساعة»(1).
6- إذا وصل الماشي إلى كربلاء تستقبله الملائكة ويُكتب من الصالحين
عن الإمام الصادق علیه السلام: «إنّ أربعة آلاف ملك عند قبر الحسين علیه السلام شعث غبر يبكونه إلى يوم القيامة، رئيسهم ملك يُقال له: منصور، فلا يزوره زائر إلّا استقبلوه»(2). وفي رواية أُخرى: «حتّى إذا صار بالحائر كتبه الله من الصّالحين»(3).
7- اذا قضى مناسكه كتبه الله من الفائزين
كما ورد ذلك في الرواية: «وإذا قضى مناسكه كتبه الله من الفائزين»(4).
8- إذا انصرف من الحسين علیه السلام غفر الله له ما مضى
عن الحسين بن عليّ بن ثوير بن أبي فاختة قال: «قال لي أبو عبد الله علیه السلام:... حتّى إذا أراد الانصراف أتاه ملكٌ فقال له: أنا رسول الله، ربّك يقرئك السّلام ويقول لك: استأنف؛ فقد غفر لك ما مضى»(5).
9- إذا رجع إلى منزله لم يحسب الوقت من عمره
جاء في رواية أنّ الله عوّض الحسين علیه السلام عن قتله بأمور أربعة، فعن محمّد بن مسلمٍ، قال: «سمعت أبا جعفرٍ علیه السلام وجعفر بن محمّدٍ علیهما السلام يقولان: إنّ الله عوّض الحسين علیه السلام من قتله أنّ الإمامة من ذرّيّته والشّفاء في تربته وإجابة الدّعاء عند قبره ولا تعدّ أيّام زائريه جائياً و راجعاً من عمره»(6).
ص: 276
*حق الحياة والعمليات الانتحارية
*سب معاوية وولاته لأمير المؤمنين علیه السلام
دراسة حديثية تاريخية في مصادر أهل السنة المعتبرة
ص: 277
ص: 278
د. فَلاح الدُّوخيّ(1)
يُعدُّ البحث في موضوع النفس الإنسانية - وبالتحديد في مسألة حفظها وصونها من الهلاك - من البحوث المهمة، ذات الثمرات العديدة على صعيد الفعل والواقع الحياتي المعاش؛لأنّ النفس تمثّل ركناً أساسياً في وجود الفرد؛ وبالتالي في وجود المجتمع واستمراره؛ فيكون هذا البحث في الحقيقة بحثاً عن أصل الحياة، التي تعني الوجود بمعنى من المعاني.
ونعني بحقّ الحياة، معنيين:
الأوّل: حقّ العيش بلحاظ الآخرين، أي: هل الإنسان له حقّ العيش في منظومة المجتمع الإنساني؟
والمعنى الثاني: حقّ العيش بلحاظ ذات الإنسان، فهل حياته وعدمها من حقوقه أم لا؟
ص: 279
وفي هذا البحث سوف نركّز بشكل كبير على المعنى الثاني، وهو: هل بإمكان الإنسان أن يستغني عن حياته ما دامت حياته من مختصاته وله سلطنة عليها؟ هذا هو السؤال الافتراضي الرئيس في البحث، فنريد أن نبحث في المسألة كأصل أوّلي، ثمّ بعد ذلك على تقدير الإمكان، نبحث عن الموانع الفعلية التي تمنع جريان هذا الأصل.
وهذا في الحقيقة يجرّنا إلى بحث حيوي، وهو مسألة الانتحار المشروع، فبعد أن نعرض أدلّة حرمة الانتحار، نبحث هل هناك مشروعية للانتحار وقتل الإنسان نفسه تحت عناوين ثانوية، كما يحصل اليوم في العمليات الانتحارية والتي تُسمَّى بالعمليات الاستشهادية؟
ولا يخفى أنّ البحث عن جواز العمليات الاستشهادية يُعدّ من البحوث المستحدثة، أو من النوازل على حدّ تعبير الفقه السنّي، فلم تكن معروفة في عصر النبي صلی الله علیه و آله ، أو عصر الأئمة علیهم السلام، ولم يشتهر عند فقهاء الشيعة الحديث عنها، فلم يُولوها مزيد اهتمام.
نعم، ربما يوجد في بعض فتاواهم ما يُشير إلى هذه المسألة، وهذا السكوت قد يوجّه بأمرين:
إمّا أن تكون الحلّية ممّا لا شكّ فيها ولا حاجة للبحث عنها؛ بحيث تكون من الضروريات.
وإمّا أنّ الأمر ليس كذلك، وأنّ سبب السكوت كونها من المسائل المستحدثة من جهة، ولم تكن من المسائل الابتلائية في المجتمع الشيعي من جهةٍ أُخرى، وكذلك في الفقه السُّني.
والصحيح هو الثاني، ويؤيّده عدم معروفيّة المسلمين الشيعة للعمليات الانتحارية؛ إذ إنّنا لم نسمع في الوقت المعاصر عن قيامهم بذلك، إلّا في موارد نادرة جداً، ولضرورات خاصّة.
من هنا؛ يكون الخوض في المسألة من المباحث الجديدة في الفقه الشيعي.
ص: 280
لقد اهتمت الشريعة الإسلامية السمحاء بصيانة حقّ الحياة، فكان حفظ النفس وصيانتها واحداً من مجموع أُمور خمسة هي أُمّهات الأحكام الفقهية، وتُسمى بالضروريات الخمس، وهي: حفظ الإسلام، وحفظ النفس، ثمّ حفظ المال، وحفظ العرض، وأخيراً حفظ العقل.
لقد خلق الله تعالى الإنسان وكرَّمه، وأوجده في أحسن صورة وأجمل هيئة:«لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ»(1)، وميَّزه عن سائر المخلوقات، فوهبه هذا العقل الذي به يعبد الله تعالى حقّ العب