الاِصلَاحُ الحُسَینيُّ : مَجَلةٌ فَصلِیّةُ مُتخَصِّصَةُ في النّهضَةِ وَ تُعنیَ بالدِّرَاسَّاتِ الدِّینِیَّةِ العدد السادس

اشارة

«بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ »

اِنَّما خَرَجْتُ لِطَلَبِ الاِصْلاحِ في اُمّهِ جَدّي

الاِصلَاحُ الحُسَینيُّ

مَجَلةٌ فَصلِیّةُ مُتخَصِّصَةُ في النّهضَةِ وَ تُعنیَ بالدِّرَاسَّاتِ الدِّینِیَّةِ

تصَدُرُ عَن مَركَز الدِّرَاسَاتِ التَّخَصُّصيَّة

في النَّهضَة الحُسَينيَّة/ النَّجَف الأشرَف-قُم المُقَدَّسَة

قِسمُ الشُؤُون الفِكريَّة/العَتَبة الحُسَينيَّة المُقَدَّسَة

العدد السادس

السنة الثانیة(1435ه-.2014م)

ص: 1

اشارة

ص: 2

الاِصلَاحُ الحُسَینيُّ

مَجَلةٌ فَصلِیّةُ مُتخَصِّصَةُ في النّهضَةِ وَ تُعنیَ بالدِّرَاسَّاتِ الدِّینِیَّةِ

الهَیئَة الاستشَارِیَّة

آیة الله الشیخ محمد السند***آیة الله السید عادل العلوي

آیة الله الشیخ مهدي الآصفي***آیة الله السید منیر الخباز

العلامة المحقق السید ریاض الحکیم***العلامةالدکتور الشیخ محمدباقر المقدسي

العلامة الشیخ عبد المهدي الکربلائي

ص: 3

الاِصلَاحُ الحُسَینيُّ

تصدر عن مركز الدراسات التخصصية

في النهضة الحسينية/ النجف الأشرف قم المقدّسة

قسم الشؤون الفكرية

العتبة الحسينية المقدّسة

رئيس التحرير ...*

الشيخ قيصر التميمي

مدير التحرير...*

الشيخ صباح عباس الساعدي

هيئة التحرير...*

د. السيد حاتم البخاتي

ثناءالدین الدهلکی

الشیخ محمد الکروي القیسي

الشیخ غزوان العتابي

حیدر الساعدي

المقابلة وتقويم النص...*

الشيخ عدنان الطائي

الشيخ عصام السعيد

الشيخ مصطفى الدالي

التصميم و الإخراج الفني...*

السید علي مطر الهاشمي

الإشراف العام:...*

سماحة الشيخ علي الفتلاوي

إدارة المركز: ...*

الشيخ باقر الساعدي

الشیخ رافد التمیمي (فرع قم المقدسة)

معاونية المركز: ...*

الشيخ عباس الحمداوي

الشیخ حیدر الأسدي (فرع قم المقدسة)

رقم الإیداع في دار الکتب و الوثائق ببغداد (1924) لسنة 2013م

الترقیم الدولي:ISSN:978-964-984-240-7

ص: 4

هوية المجلّة:

مجلّة علمية فصلية تخصصيّة تعنى بالبحوث المتخصّصة في مجال النهضة الحسينيّة، وكذا الدراسات العلمية في حقول المعرفة الدينيّة. تصدر عن مركز الدراسات التخصصيّة في النهضة الحسينيّة في النجف الأشرف، التابع لقسم الشؤون الفكريّة في العتبة الحسينيّة المقدّسة.

اهتمام المجلّة:

تهتمّ المجلّة بنشر معالم وآفاق الفكر الحسيني وتسليط الضوء على تاريخ النهضة الحسينيّة وتراثها، وكذا إبراز الجوانب الإنسانية والاجتماعية والفقهية والأدبية في تلك النهضة المباركة.

كما تهتمّ المجلّة أيضاً باستقطاب ونشر البحوث والدراسات الدينيّة التخصّصية ذات الجوانب التجديديّة والإبداعيّة، وذلك في كافّة الحقول والمجالات، فتمتدّ لتشمل الدراسات القرآنية والعقديّة والفكريّة والتاريخيّة والفقهيّة، وكذا ما يرتبط بالتراث الديني، من الأدعية والزيارات والنصوص الدينيّة بشكل عام.

فالمجلّة تتطلّع لاستيعاب جميع المجالات المهمّة والحسّاسة في أبواب العلوم والمعارف الدينيّة، شريطة أن تكون البحوث والدراسات متضمّنة لجوانب من الإبداع والحداثة والتجديد، مع حفظ روح الأصالة والتأسيس.

ص: 5

أهداف المجلّة:

1 - إعطاء رؤية واضحة حول معالم النهضة الحسينيّة من خلال البحوث والدراسات.

2 - نشر أهداف وثقافة النهضة الحسينيّة.

3 - إحياء التراث الديني والحسيني.

4 - فتح نافذة علميّة لتفعيل جانب الإبداع والتجديد والتأصيل الفكري في كافة حقول المعرفة الدينيّة.

5 - الانفتاح على الواقع العلمي والفكري لدى العلماء والأساتذة والمفكرين.

6- استثمار الأقلام الرائدة، وتطوير الطاقات العلمية الواعدة، واستقطاب البحوث والدراسات والمقالات العلميّة القيّمة لنشرها تعميماً للفائدة.

7 - فسح المجال أمام الباحثين والمفكرين لنشر بحوثهم ودراساتهم، لتكون المجلّة رافداً من روافد تزكية العلم والمعرفة.

8 - التصدّي للإجابة عن الشبهات والإشكاليات والقراءات غير الموزونة حول الدين بصورة عامّة والنهضة الحسينيّة بصورة خاصّة.

ص: 6

ضوابط النشر

تدعو المجلة العلماء والأساتذة والباحثين وكل من لديه اهتمام في مجال الكتابة والتحقيق إلى رفدها بنتاجاتهم القيّمة، على أمل ملاحظة الأُمور التالية:

أن تكون البحوث مرتبطة باختصاص المجلّة وأركانها.

ألاّ تكون منشورة أو بصدد النشر في كتاب أو مجلّة.

أن تكون ضمن المناهج العلمية المتبعة.

أن تكون بحوثاً مبتكرة وبلغة معاصرة.

أن يكون البحث على قرص ليزري فيما لو كان منضداً.

حقوق النشر محفوظة.

الأفكار المطروحة لا تعبر بالضرورة عن رأي المجلّة.

لا تعاد البحوث لأصحابها نشرت أم لم تنشر.

يخضع ترتيب البحوث لاعتبارات فنية.

إجراء التعديلات والتلخيصات اللازمة من صلاحيات المجلة.

للمجلة حق إعادة نشر البحث أو المقال في كتاب أو ضمن كتاب منفصل، مع الحفاظ على نصه الأصلي.

كل 250 كلمة تحسب صفحة واحدة.

المجلة تتبع نظام المكافآت لأصحاب البحوث.

تعتبر الأولويّة في المجلّة للمقالات والبحوث الحسينية.

المجلة غير ملزمة بنشر ما يقل عن 15 صفحة أو يزيد عن 30 صفحة.

تنويه: للمجلة فرع في مدينة قم المقدسة.

ص: 7

مراكز النشر:

* النجف الأشرف: الروضة الحيدرية - معرض الكتاب الدائم.

* النجف الأشرف: شارع الرسول صلی الله علیه و آله - مكتبة دار الهلال.

* النجف الأشرف: قرب مشروع الماء - مكتبة العراق الجديد.

* النجف الأشرف: سوق الحويش - دار الغدير.

* كربلاء المقدسة: المعرض الدائم في العتبة الحسينية المقدسة.

* بغداد: شارع المتنبي - مكتبة العين.

* البصرة: العشار - مكتبة الإمام الهادي علیه السلام .

* ميسان: شارع التربية - مكتبة الإمام الصادق علیه السلام .

* إيران - قم المقدسة: صفائية - سوق الإمام المهدي عج الله تعالی فرجه الشریف - مكتبة فدك.

* إيران - قم المقدسة: سوق كذرخان - مكتبة الهاشمي.

ص: 8

المُحتَویَات

مقال التحرير

الأهداف السياسية وانتماؤها التاريخي لمحيط النهضة الحسينية

الشيخ قيصر التميمي...31

دراسات في آفاق النهضة الحسينية

مشروع دراسة الحركة الحسينية

آية الله السيد منير الخباز القطيفي...49

منطلقات النهضة الحسينية وخلفياتها

القسم الثاني (مشروع التوريث)

السيد محمد الشوكي...73

عناصر الانتصار الحسيني وتجلّياته في المجتمع الإسلامي

الشيخ ليث العتابي...91

مصرع الحسين علیه السلام وقاعدة نفي السبيل على المؤمنين

الشيخ كاظم القره غولي...125

دراسات في تاريخ وتراث النهضة الحسينية

مقتل الحسين علیه السلام برواية عمّار بن أبي معاوية الدهني الكوفي

الشيخ عامر الجابري...143

ص: 9

نجوم في سماء الحسين علیه السلام (الحرّ الرياحي)

دراسة استدلالية لحركته العسكرية وموقفه من حادثة الطف

السيد شهيد طالب الموسوي...169

هل وطأت الخيل جسد الحسين علیه السلام؟

الشيخ لؤي المنصوري...197

العنايات الإلهية بالإمام الحسين علیه السلام

د. الشيخ علي حمود العبادي...211

دراسات في فقه النهضة الحسينية

فقه التربة الحسينية

القسم الأول (حرمة الاستنجاء بالتربة الحسينية)

الشيخ أحمد العلي...235

المشي لزيارة الإمام الحسين علیه السلام وباقي الأئمة علیهم السلام

(دراسة في الموازين الفقهية)

الشيخ حبيب عبد الواحد الساعدي...253

دراسات دينية

حق الحياة والعمليات الانتحارية

د. فلاح الدوخي...279

سب معاوية وولاته لأمير المؤمنين علیه السلام

(دراسة حديثية تاريخية في مصادر أهل السنة المعتبرة)

د. السيد حاتم البخاتي...317

خلاصة المقالات باللغة العربية والانجليزية...349

ص: 10

مَقَالُ التَحرِير

اشارة

الأهدَافُ السَّيَاسِيَّة وَانتِمَاؤُهَا التَّارِيخِيُّ لِمُحِيطِ النَهّضَةِ الحَسَينِيَّة

ص: 11

ص: 12

الأهدَافُ السَّيَاسِيَّة وَانتِمَاؤُهَا التَّارِيخِيُّ لِمُحِيطِ النَهّضَةِ الحَسَينِيَّة

اشارة

الشَّيخ قَيصَر التَّمِيمِيّ

كان التاريخ ولا زال اللاعب الأساس في رسم معالم الكثير من المعارف الدينية والإسلامية، وانسياقاً مع هذا النوع من التأثير أدرج مجموعة من العلماء والباحثين الأحداث التاريخية التي أحاطت بالنهضة الحسينية في قائمة الأسباب المانعة من الالتزام بوثائق ومستندات أهدافها السياسية.

ونحن قد تعرّضنا في مقال سابق لبيان بعض الأسباب والمبررات التي دعت جملة واسعة من أولئك العلماء والباحثين لإنكار الأهداف السياسية للنهضة الحسينية، فذكرنا منها الأسباب العقدية والتراثية، وأجبنا عنهما بما يتناسب مع الآفاق العامة للبحث، ونحاول في هذا المقال أيضاً أن نستعرض واحدة من أهم الأسباب والمبررات التاريخيّة، وذلك في إطار العنوان التالي:

ص: 13

الخروج لإسقاط الأنظمة الحاكمة لم يكن سبيلاً ومنهجاً في سيرة الأئمة علیهم السلام(أسباب تاريخية)

إنّ الفكرة المطروحة تحت هذا العنوان ملخّصها هو: أن كل الأئمة المعصومين علیهم السلام بعد وفاة النبي الأكرم صلی الله علیه و آله - باستثناء الإمام الحسين علیه السلام في موقفه الأخير - لم يُسجّل لهم التاريخ موقفاً سياسياً يُمثّل جانباً من جوانب الثورة والانقلاب والخروج على السلطات غير الشرعية لإسقاطها وإقامة الحكومة الإسلامية الإلهية العادلة بقيادة خليفة الله في أرضه.

فأمير المؤمنين علي بن أبي طالب علیه السلام قد بقي جليس داره زمناً طويلاً، ولم يرصد له التاريخ تحركاً سياسياً أو تخطيطاً عسكرياً لإسقاط النظام الحاكم آنذاك، بل كان مستشاراً دينيّاً وقانونيّاً وسياسيّاً لذلك النظام في كثير من القضايا المهمّة والمفصليّة، وحينما جاءه المسلمون يبايعونه على الخلافة - بعد مقتل عثمان - اعتذر في بداية الأمر عن قبول بيعتهم، وطلب منهم أن يلتمسوا غيره، وشارطهم على أنه سيكون داعماً للحكومة التي يختارونها، ولعل أسباب ذلك هو أن الأُمة قد انحرفت بعد نبيّها عن مسارها الصحيح الذي اختطَّه لها، ولم يبقَ بالإمكان فرصة إصلاحها، بإقامة حكومة إلهية على يد الخليفة المعصوم، باستثناء ما سيقوم به المهديّ علیه السلام. وحتى بعد قبوله علیه السلام استلام السلطة كان يعلم من أول الأمر بفشل مشروع الإصلاح، ولم يكن هدفه من ذلك تحقيق ما اندفعت الجماهير له وتخيّلته ممكناً، من إصلاح الأوضاع العامّة أو تعديل مسار السلطة في الإسلام. وإنما كان الدافع الأساس هو عهد النبي صلی الله علیه و آله له بالقيام بالأمر إذا وجد أنصاراً.

كذلك الإمام الحسن علیه السلام، حيث اضطر لترك الخلافة وتسليمها لمعاوية بن أبي سفيان، وبغض النظر عن الحديث في ظروف ومبررات ذلك، فهو علیه السلام في نهاية المطاف

ص: 14

قد تنازل عن الخلافة لحساب معاوية، ما يعني أن الأُمة لا زالت غير مؤهَّلة لتشكيل حكومة إسلامية عادلة.

والإمام الحسين علیه السلام لم يتحرّك أيضاً بعد أخيه الحسن علیه السلام للقيام بالثورة والانقلاب لإقامة دولة الإسلام، لا في زمان معاوية ولا زمان ابنه يزيد، وهو إنما خرج أخيراً لطلب الشهادة بأمر إلهي، لمّا حوصر وضاقت عليه الأرض بما رحبت.

والصورة أوضح وأجلى بالنسبة إلى سائر الأئمة المعصومين علیهم السلام، من زمن إمامة علي بن الحسين زين العابدين علیه السلام، إلى زمن الإمام الحسن بن علي العسكري علیه السلام، والفترة التي أعقبتها حينما غاب ابنه المهدي علیه السلام، حيث لا نجد في فصول سيرتهم علیهم السلام أيّ تحرك باتجاه التغيير السياسي أو الانقلاب العسكري، بل كانوا يأمرون أصحابهم بالجلوس والسكون والالتزام بالهدنة وانتظار الفرج على يدي القائم من آل محمد علیهم السلام، خصوصاً في زمن الإمام الصادق علیه السلام، مع أن فرصة التغيير السياسي كانت كبيرة جدّاً في فترة إمامته علیه السلام.

روى الكليني بسنده عن عبد الحميد الواسطي، عن أبي جعفر الباقر علیه السلام، قال: «قلت له: أصلحك الله! لقد تركنا أسواقنا انتظاراً لهذا الأمر، حتى ليوشك الرجل منا أن يسأل في يده؟ فقال: يا [أبا] عبد الحميد! أترى مَن حبس نفسه على الله لا يجعل الله له مخرجاً؟ بلى والله، ليجعلن الله له مخرجاً، رحم الله عبداً أحيا أمرنا» (1).

وروى النعماني في الغيبة بسنده عن عبد الرحمن بن كثير، قال: «كنت عند أبي عبد الله علیه السلام يوماً وعنده مهزم الأسدي، فقال: جعلني الله فداك، متى هذا الأمر الذي تنتظرونه، فقد طال علينا؟ فقال: يا مهزم، كذب المتمنّون، وهلك المستعجلون، ونجا المسلمون، وإلينا يصيرون» (2).

وهذا كلّه يكشف عن أن منهج الأئمة علیهم السلام وسيرتهم بعد النبي الأكرم صلی الله علیه و آله لم يكن

ص: 15


1- الكليني، محمد يعقوب، الكافي: ج8، ص270-273.
2- النعماني، محمد بن إبراهيم، الغيبة: ص204.

قائماً على التدبير والتخطيط لإسقاط الأنظمة الظالمة في زمانهم، واستبدالها بالحكومة الإلهية العادلة. بل إن سيرتهم علیهم السلام وسيرة أتباعهم قد جرت على مبدأ السكوت والجلوس والانتظار والترقّب، إلى أن يأذن الله بأمره؛ وذلك لأن الأُمّة قد فقدت قابلية الإصلاح والتغيير حينما انحرفت عن مبدأ الإمامة والخلافة الإلهيّة بعد وفاة نبيّها الأكرم صلی الله علیه و آله ، فأضحى الإصلاح وإرجاع السلطة في الإسلام إلى مسارها الصحيح متعذراً، بعد الانحراف الكبير الذي تورّطت به الأمّة، وكان الأئمة علیهم السلام يعلمون بذلك من اليوم الأول للانحراف، وإن لم يتسنّ لهم التصريح به والتأكيد عليه إلّا بعد فاجعة الطف.

وحينئذ يكون الإيمان بثبوت أهداف سياسية انقلابيّة وثورية للنهضة الحسينية، مما يتنافى مع المنهج الصحيح والتوجّه العام والسيرة العملية المعروفة لأئمة أهل البيت علیهم السلام، في كيفية تعاملهم مع السلطات غير الشرعية، الحاكمة في زمانهم، حيث كانت قائمة على مبدأ المهادنة وعدم التصدّي لمواجهة الحاكم، مع أن بعض تلك السلطات قد لا يقل ظلماً وجوراً وتهتّكاً عن حكومة يزيد بن معاوية.

الإجابة عن هذه الإشكاليّة

النهضة والإصلاح والتغيير السياسي في منهج وسيرة أهل البيت علیهم السلام
اشارة

نعتقد بأن هذه الإشكاليّة والرؤية المجتزأة في تحديد سيرة ومواقف المعصومين علیهم السلام تجاه السلطات الحاكمة في زمانهم، غير واقعيّة ولا مطابقة لأُسلوبهم في التعامل مع طبيعة الواقع الديني والاجتماعي والتقلّبات السياسية والاضطرابات الأمنيّة والاقتصاديّة والمذهبيّة التي عايشوها آنذاك. وللوقوف على حقيقة الأمر نقول:

إننا وبشكل صريح وواضح نرفض هذه الإشكالية من الأساس، ولا نقبل بفكرة أن الأئمة علیهم السلام لم يسعوا على الإطلاق لاستلام الحكم وإصلاح الأُمور وبناء دولة الحقّ والعدل بعد وفاة النبي الأكرم صلی الله علیه و آله . بل نعتقد بأن سيرتهم كانت قائمة على العكس من ذلك، حتى بعد انحراف الأُمّة عن مسارها الصحيح في مسألة الإمامة والخلافة،

ص: 16

خصوصاً في الفترة التي سبقت شهادة الحسين علیه السلام، والتاريخ والنصوص الدينية المتضافرة خير شاهد ودليل على ما ندّعي، ولنأخذ جولة سريعة حول أهم الأحداث والنصوص الواردة في هذا الإطار ضمن العناوين التالية(1):

1- المبادئ السياسية للنهضة العلوية
اشارة

نعتقد بأن الإمام علي بن أبي طالب علیه السلام قد سعى بقوّة وبشكل جادّ للقيام بنهضة تصحيحيّة شاملة، كما سعى أيضاً بالسبل المتاحة والمشروعة لاستلام السلطة والخلافة وإقامة حكم الله في الأرض بعد وفاة النبي الأكرم صلی الله علیه و آله ، والشواهد التاريخية والروائية على ذلك كثيرة جداً، ومستفيضة نصّاً ومعنًى، نذكر فيما يلى بعضها:

الشاهد الأول: الحركة السلمية لإسقاط الحكومة غير الشرعيّة

لقد واصل الإمام علي علیه السلام رفضه واستنكاره لخلافة أبي بكر، ومقاطعتها، وامتناعه عن أداء البيعة، وتحصّنه هو وأهل بيته وأتباعه في بيت فاطمة سلام الله عليها، والمطالبة المستمرّة بحقّه المشروع بالخلافة وقيادة الأُمّة، واعتبار ما حصل انقلاباً على الشرعية.

يقول علیه السلام في إحدى خطبه حول هذه النقطة بالخصوص: «وقال قائل: إنك على هذا الأمر يا بن أبي طالب لحريص. فقلت: بل أنتم - والله - لأحرص وأبعد، وأنا أخص وأقرب، وإنما طلبت حقاً لي، وأنتم تحولون بيني وبينه، وتضربون وجهي دونه... اللهم، إني أستعينك على قريش ومن أعانهم، فإنهم قطعوا رحمي، وصغّروا عظيم منزلتي،

ص: 17


1- كان من المفروض أن ننطلق من نصوص وشواهد المبادئ السياسيّة للنهضة المحمّدية المباركة؛ لكونها مبدأ التأسيس للحكومة الإسلاميّة، وتمثّل انعطافة كبيرة وعظيمة جدّاً في بناء الحكومة الإلهيّة العالميّة بصورة عامّة، فهي امتداد لحكم الله في الأرض، وتأسيس لحكومة الإسلام، وتأتي الحركة السياسيّة للمعصومين من أهل البيت علیهم السلام في إطار حركة ذلك الحزب الإلهي الممتدّ من آدم خليفة الله في أرضه إلى نبينا الأكرم صلی الله علیه و آله خاتم الأنبياء. لكننا تركنا البحث في هذه النقطة؛ لأنّ بحثها يطول كثيراً ويتجاوز دائرة هذا المقال، ولأن صاحب الإشكالية يفترض أن الظرف والموقف اختلف، قبل انحراف الأُمّة وبعد انحرافها، وإن كنّا لا نرتضي ذلك بشكل مطلق

وأجمعوا على منازعتي أمراً هو لي» (1).

وقد شكّل ذلك العصيان المدني والسياسي اللافت خطراً شديداً على تشكيلة الحكومة الجديدة، واعتبره قادة الحركة الانقلابية توهيناً وإضعافاً لهيبة الخلافة والدولة في نفوس عامّة المسلمين، ما استدعى منهم إصدار التوجيهات والأوامر بالتحرك العسكري لقمع المعارضة، وإعلان حالة الطوارئ، وفرض الأحكام الجاهليّة اللا عرفية، التي انتهكت حرمة البيت النبوي الطاهر، وتجاوزت على البضعة النبوية الشريفة بالضرب والتعنيف، وقد وقعت في أكثر من مناسبة مشادّات كلامية ومناوشات بين أفراد في المعارضة وبين قيادات حكومية وعسكريّة في الحزب الحاكم(2).

هذه وغيرها من الأحداث - في سياق الحركة السلميّة العلوية للمطالبة بالحقوق الدينيّة والسياسيّة - كوّنت رؤية واضحة لدى الرأي العام تجاه الخلافة القائمة وعدم شرعيتها. وهذا خير شاهد على التدخل المباشر من قِبَل المعصوم في صناعة القرار السياسي وتعيين نظام الحكم والسلطة، ولكن بالطرق السلميّة.

الشاهد الثاني: الحركة الثورية لإسقاط الحكومة غير الشرعية

لقد ترأّس الإمام علي علیه السلام حركة ثورية لإدارة دفّة التغيير السياسي والحكومي، واتخذ خطوات ميدانية بقيادته الحكيمة لإسقاط خلافة الانقلاب السقيفي، الفاقد للأهلية والكفاءة في قيادة الأُمّة الإسلاميّة، وهنالك نصوص تاريخية وروائية كثيرة جدّاً، يمكن رصدها وتتبّعها لفهم معالم وآفاق هذه النهضة العلوية الرائدة، وتفصيل الكلام في هذه النقطة قد يخرجنا عن هدف هذا المقال، ولكننا نحاول التأشير على بعض مشاهد وصور تلك النهضة إجمالاً، فمن ذلك على سبيل المثال:

1- ما رواه الخصيبي في كتابه الهداية الكبرى، بسنده عن الإمام الحسن علیه السلام، حينما

ص: 18


1- نهج البلاغة: ص246.
2- اُنظر تفصيل ذلك في كتاب: الطبرسي، أحمد بن علي، الاحتجاج: ج1.

عاتبوه على صلحه مع معاوية، وتركه الخلافة له كما سيأتي، فأجابهم قائلاً: «لو أني في ألف رجل، لا والله إلّا مائتي رجل، لا والله إلّا في سبع نفر لما وسعني تركه، ولقد علمتم أن أمير المؤمنين دخل عليه ثقاته حين بايع أبا بكر، فقالوا له مثلما قلتم لي، فقال لهم مثلما قلت لكم، فقام سلمان والمقداد وأبو ذر وعمار وحذيفة بن اليمان وخزيمة بن ثابت وأبو الهيثم مالك بن التيهان، فقالوا: نحن لك شيعة ومن ورائنا شيعة لك، مصدقون الله في طاعتك. فقال لهم: حسبي بكم. قالوا: وما تأمرنا؟ قال: إذا كان غداً فاحلقوا رؤوسكم واشهروا سيوفكم وضعوها على عواتقكم وبكّروا إليّ؛ فإني أقوم بأمر الله ولا يسعني القعود عنه. فلمّا كان من الغد بكّر إليه سلمان والمقداد وأبو ذر وقد حلقوا رؤوسهم وأشهروا سيوفهم وجعلوها على عواتقهم، ومعهم عمار بن ياسر... فلما قعدوا بين يديه علیه السلام نظر إليهم... فقال: اغمدوا سيوفكم، فو الله، لو تمّ عددكم سبعة رجال لما وسعني القعود عنكم»(1).

فهذا النص صريح في أن من الوظائف المصيريّة والأوامر الإلهيّة التي كان يرى الإمام علي علیه السلام ضرورة القيام بها - بعد رحيل الرسول الأكرم صلی الله علیه و آله - هو النهوض والتحرّك المسلّح لإسقاط الخلافة المنتحلة، والتصدّي لإقامة أمر الله وحكمه في الأرض بإمامته وقيادته علیه السلام، وقد أعطى الأوامر والتوجيهات اللازمة في هذا المجال، وكان يكفيه للخروج وتحقيق الأهداف في ذلك الحين سبعة من الرجال المخلصين، المضحّين لدينهم ومبادئهم. لكنه علیه السلام لم يجتمع لديه حتى هذا العدد القليل من الأعوان والأنصار، وهو ما اضطرّه للبيعة واستبعاد الخيار العسكري.

2- خطبته علیه السلام المشهورة في مسجد النبي الأكرم صلی الله علیه و آله ، حينما تخاذلت الأُمّة في الدفاع عن حقّه بالإمامة والخلافة، يقول فيها علیه السلام، بعد تقديم الحمد والثناء لله تعالى، والصلاة على الرسول الأكرم صلی الله علیه و آله : «أيها الأُمة التي خُدعت فانخدعت، وعرفت خديعة من خدعها فأصرّت على ما عرفت، واتّبعت أهواءها، وضربت في عشواء غوايتها، وقد استبان لها الحق فصدّت عنه»، في إشارة واضحة منه علیه السلام إلى أن خلافة السقيفة كانت

ص: 19


1- الخصيبي، الحسين بن حمدان، الهداية الكبرى: ص193.

خدعة مفضوحة بفكرتها ورجالاتها وتشكيلتها، وأن الخدعة انكشفت للأُمّة بالجهود السلميّة التي بذلها علیه السلام، فظهرت بذلك معالم الحقّ والحقيقة، ولكن الأُمّة تخاذلت، واتّبعت أهواءها، وصدّت عن الحق، ونامت على وسائد الخديعة والذلّ.

ثم يواصل علیه السلام كلامه في تعنيف الأُمة وتوبيخها على تضييعها هذا الحق الإلهي، الذي فيه صلاح البلاد والعباد والسعادة في الدارين، إلى أن يقول علیه السلام: «أما والله، لو كان لي عدّة أصحاب طالوت أو عدة أهل بدر - وهم أعداؤكم - لضربتكم بالسيف حتى تؤولوا إلى الحق وتنيبوا للصدق، فكان أرتق للفتق، وآخذ بالرفق، اللهم فاحكم بيننا بالحق وأنت خير الحاكمين»، فكان الإمام علیه السلام على استعداد تامّ لخوض حرب شاملة، هدفها إسقاط الحكم الفاسد وإرجاع الحقّ لأهله، ويؤكّد بشكل واضح وصريح على أن المصلحة في ذلك، وأنه لا مصلحة في المهادنة والسكوت. ولكن لا حرب بلا جيش، ولا صولة بيدٍ جذّاء!!

ثم خرج علیه السلام من المسجد، فمرّ بحظيرة فيها نحو من ثلاثين شاة، فقال: «والله، لو أن لي رجالاً ينصحون لله عز وجل ولرسوله بعدد هذه الشياه لأزلت ابن آكلة الذبان عن ملكه. فلما أمسى بايعه ثلاثمائة وستون رجلاً على الموت، فقال لهم أمير المؤمنين علیه السلام: اغدوا بنا إلى أحجار الزيت محلّقين، وحلّق أمير المؤمنين علیه السلام، فما وافى من القوم محلقاً إلا أبو ذر والمقداد وحذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر وجاء سلمان في آخر القوم، فرفع يده إلى السماء، فقال: اللهم إن القوم استضعفوني كما استضعفت بنو إسرائيل هارون»(1). ومضمون النصّ واضح لا يفتقر إلى التعليق. ويظهر منه أنه علیه السلام كان يجلس لاستقبال المبايعين على التضحية والقتال في سبيل الحقّ، وقد أقنع - بكلامه وخُطبه وتحركاته الواسعة - مجموعة كبيرة من الصحابة، قادرة على التغيير وصناعة المستقبل بما يتوافق مع الإرادة الإلهيّة، لولا الخيانة والخذلان.

3- ما يروى عن سليم بن قيس، أنه قال: «سمعت علياً يوم الجمل ويوم صفين

ص: 20


1- الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي: ج8، ص32-33.

يقول: إني نظرت فلم أجد إلا الكفر بالله، والجحود بما أنزل الله، بمعالجة الأغلال في نار جهنم، أو قتال هؤلاء، ولم أجد أعواناً على ذلك. وإني لم أزل مظلوماً منذ قُبض رسول الله صلی الله علیه و آله ، ولو وجدت قبلُ الناس أعواناً على إحياء الكتاب والسنّة كما وجدت اليوم لنا لم يسعني القعود»(1).

فكان البحث جارياً عن الأعوان والأنصار منذ قبض رسول الله صلی الله علیه و آله ، وما كان يسع عليّاً علیه السلام القعود عن حقّه، لولا اليد الجذّاء وتخاذل الشعب وفقدان الناصر. والنصّ يُشير بوضوح إلى أن هناك نهضة علوية تستهدف إحياء الكتاب والسنّة، والتغيير الثوري المسلّح، ولكنها نهضة لم ترَ النور بسبب تخاذل الأُمّة وتقاعسها عن الحقّ. كما أن النصّ واضح أيضاً، في كون الجلوس عن الحق، ومهادنة الطغاة، مع وجود الأعوان والأنصار، من الأُمور التي تستلزم لصاحبها الكفر بالله، والجحود بكتابه، واستحقاق الدخول إلى نار جهنّم، فهي من الكبائر بامتياز.

4- يواجه الإمام علیه السلام في هذا النصّ قيادات الحزب الحاكم في مسجد رسول الله صلی الله علیه و آله ، ويُصارحهم بأبعاد حركته السياسية الثورية التي كانت تؤرّقهم آنذاك، ويخاطبهم علیه السلام بالقول: «ولو كنت في أربعين رجلاً، لفرقت جماعتكم، فلعن الله قوماً بايعوني ثم خذلوني»(2).

فكان هناك تخطيط عسكري من قِبله علیه السلام، وبيعة له على التحرّك المسلّح لإسقاط النظام، وكاد أن ينجح الأمر لولا الخذلان، ولعلّ نظام الحكم الانقلابي قد بلغ من القوّة والاستحكام ما احتاج فيه الإمام علیه السلام لزيادة سقف الأعوان والمؤيدين من سبعة رجال إلى الأربعين رجلاً.

5- في مضمون آخر ذي صلة، أن رسول الله صلی الله علیه و آله قال لعلي علیه السلام، بعد أن كشف له طموحات القوم ومخططاتهم ورغبتهم الجامحة في تولّي السلطة والحكم: «إن وجدت

ص: 21


1- القمي، سديد الدين شاذان، الروضة في فضائل أمير المؤمنين علیه السلام: ص204.
2- الطبرسي، أحمد بن علي، الاحتجاج: ج1، ص109.

عليهم أعواناً فجاهدهم ونابذهم، وإن أنت لم تجد أعواناً، فبايع واحقن دمك». فقال علي علیه السلام مخاطباً مجلس الشيوخ!!: «أما والله، لو أن أُولئك الأربعين رجلاً الذين بايعوني وفوا لي لجاهدتكم في الله» (1).

فلم تكن وصية النبي الأكرم صلی الله علیه و آله لعلي علیه السلام هي السكوت والقعود عن حقّه بشكل مطلق وفي جميع الأحوال، وإنما جعل ذلك ظرفاً اضطراريّاً ومشروطاً بعدم وجود المؤيدين والأعوان، وأن عليه أن يسعى لتكوين قوّة فدائية ضاربة؛ يستعين بها لتقويم الانحراف الذي ظهرت معالمه في الأُمّة، ويظهر من كلامه علیه السلام أنه قد عمل فعلاً بالفرض الأول من الوصية، فاستنصر الناس وتهيّأ للجهاد وجمع الأعوان، وأن هناك أربعين رجلاً من الأصحاب - في أقلّ التقادير - قد بايعوه بالفعل على الجهاد لإسقاط نظام الحكم، ولكنهم خذلوه، فاضطر للسكوت والمهادنة.

6- وهناك نصّ روائي يُبيّن طبيعة التحرك والتخطيط العلوي لجمع الأعوان، وكسب الأنصار، والتأكيد على ضرورة التحشيد البشري والعسكري؛ للخروج على الخلافة غير الشرعية، وهو ما شاهده سلمان، ورواه توصيفاً وتوثيقاً لتلك المرحلة الحسّاسة، إذ يقول: «فلما كان الليل حمل عليّ فاطمة على حمار، وأخذ بيد ابنيه الحسن والحسين، فلم يدع أحداً من أهل بدر من المهاجرين ولا من الأنصار إلا أتى منزله وذكر حقّه ودعاه إلى نصرته، فما استجاب له من جميعهم إلا أربعة وأربعون رجلاً، فأمرهم أن يُصبحوا بكرة محلّقين رؤوسهم، معهم سلاحهم، وقد بايعوه على الموت، فأصبح ولم يوافه منهم أحد غير أربعة»(2).

لقد احتشدت في هذا النص معان ومضامين بالغة الخطورة والأهمية، تحكي آفاق وأُسلوب وآليات النهضة العلوية للتغيير، تلك النهضة التي أقعدها خذلان الأُمة وضعف إرادتها، حيث حمل علیه السلام ثقل النبوة وحرم الله ورسوله وأهل بيته الطاهرين، وخرج بهم في هيئة وكيفية خاصّة، وبشيء من السريّة والخفاء والكتمان؛ وذلك بغية

ص: 22


1- الهلالي، سليم بن قيس، كتاب سليم بن قيس: ص155.
2- الطبرسي، أحمد بن علي، الاحتجاج: ج1، ص107.

إقناع الأُمّة بحقّه، ودعوة الناس لنصرته، ومبايعته على الموت والجهاد في سبيل الله؛ لتصحيح المسار الذي لا زال في بدايات الانحراف والضلال، وقد اختار للتغيير والتصحيح الأُسلوب العسكري المسلّح؛ لخطورة الموقف، وضرورة الإصلاح.

نكتفي بهذا القدر من النصوص والإيضاحات، ويمكننا أن نجمل مفاصل هذه النهضة العلوية المباركة بعد وفاة النبي الأكرم صلی الله علیه و آله في النقاط التالية:

1- كان الإمام علي علیه السلام يعلم بواقع المؤامرة؛ حيث أخبره النبي صلی الله علیه و آله بذلك، وأطلعه على ما يُضمره القوم من مطامع وشهوات تجاه الزعامة والحكم.

2- إن النبي صلی الله علیه و آله قد أوصى عليّاً علیه السلام، في حال تفاقمت الأُمور، وانقلب القوم على الشرعيّة السماويّة، بأن يسعى لتشكيل قوّة عسكريّة مسلّحة لوأد الفتنة وإفشال المؤامرة، وإكمال مسيرة بناء الدولة الإسلاميّة العادلة؛ فكان الخروج المسلّح للتغيير من الوظائف الإلهيّة، بأمر مباشر من النبي صلی الله علیه و آله .

3- كذلك أوصى النبي صلی الله علیه و آله علياً علیه السلام بالجلوس والسكوت واستبعاد الخيار العسكري إن لم يجد ما يكفي من الأتباع والمؤيدين، ويُفهم من النصوص الواردة في هذا المجال أن خيار السكوت كان خياراً اضطراريّاً، وعلاجاً طوارئيّاً في أسفل قائمة الحلول، ولم يكن هو الأصل في التأسيس لكيفية مواجهة السلطات والحكومات الفاسدة والمنحرفة.

4- ابتدأت الحركة العلوية بشكل سلمي؛ لكشف خيوط المؤامرة والخديعة والشعارات المزيّفة، متمثّلة في بداية الأمر بالمقاطعة والاستنكار والمطالبة بالحقّ ورفض البيعة والعمل على كشف الأوراق، وقد نجحت هذه الحركة السلميّة في فضح المؤامرة ورجالاتها أمام الرأي العام، وأضحى المسلمون على بيّنة من أمرهم، يعلمون أن الحقّ مع علي علیه السلام، لا مع غيره. واستشعاراً بخطورة هذه الحركة، اتخذت الحكومة القائمة تدابير أمنيّة صارمة لإسكات هذا الصوت المعارض، والمطالب بحقوقه المشروعة.

5- كانت الحركة والنهضة العلوية المباركة تحمل شعارات التغيير والإصلاح، وإحقاق الحق، والدفاع عن الدستور الإسلامي (الكتاب والسنّة النبويّة)، وإقامة حكم الله في الأرض.

ص: 23

6- بعد أن جُوبه الخيار السلمي بالعنف الحكومي، وارتسمت الصورة الواضحة للخلافة غير المشروعة، وعملاً بالوصيّة النبوية الشريفة، سعى الإمام علیه السلام بشكل جادّ ومتكرّر لاستنهاض الأُمّة وتحشيد المسلمين وإقناعهم بضرورة تبنّي الخيار العسكري لاسترجاع الحقوق وردع البغاة والطامعين والمتسلّقين على أكتاف المسلمين، وأن الخروج المسلّح لتحقيق الإرادة الإلهيّة أصلح للأُمّة من المهادنة والسكوت على الباطل، بل يُعدّ هذا الأمر من الكبائر مع إمكانيّة التغيير.

ويظهر من بعض النصوص أنه علیه السلام قد تحرك بهذا الاتجاه مراراً وتكراراً، وحاول استنهاض الأُمة في ظروف ومناسبات مختلفة. كل ذلك بتدبير خاص ومدروس ومُتقن، مُحاطاً بدرجة عالية من السرية والخفاء والكتمان، وفي وفد مفاوض إلهي رفيع المستوى، ضمّ أهل الكساء والمباهلة وآية التطهير.

7- أصابت تلك الجهود المباركة أهدافها، وأسفرت عن تشكيل جيش متكامل، وقوّة عسكريّة كبيرة قادرة على التغيير، وقد بايعوا الإمام علیه السلام على الجهاد في سبيل الله والموت بين يديه. وصرّح علیه السلام في أكثر من موقف بأنه مستعدّ لخوض حرب عامّة وشاملة ضدّ كل مَن يقف بوجه الإصلاح والتغيير، واسترجاع الحقوق المسلوبة، وإقامة حكم الله في الأرض، وليس ذلك إلا لخطورة الموقف وحساسيّة المرحلة.

8- أصدر الإمام علیه السلام لأتباعه مجموعة من التوجيهات والأوامر والتدابير السياسيّة والأمنيّة، كان من جملتها المحافظة على سريّة الحركة إلى حين مجيء ساعة الحرب، وأن يكونوا على استعداد كامل للمواجهة، وأن يحلقوا رؤوسهم؛ ليتميّزوا بالهيئة والشكل عن غيرهم، ويُوحوا لأعدائهم بأنهم مستميتون في سبيل مبادئهم، ويُدخلوا في قلوبهم الرعب، وقد أمرهم علیه السلام بالإبكار مصبحين واضعين سيوفهم على أكتافهم، إما التغيير أو الموت.

9- لكن المؤسف في الأمر هو أن الأُمة قد تخاذلت في أداء وظائفها، وتخاذل المؤيّدون وتراجعوا تدريجيّاً عن بيعتهم، اتباعاً للهوى، وطلباً للسلامة الدنيويّة على حساب الدين ومصلحة الإسلام.

10- اضطر الإمام علیه السلام بعد الخذلان للبيعة والمهادنة، وحينما استدعاه الحزب الحاكم

ص: 24

للبيعة تحت طائلة العنف والتهديد، صارحهم بحركته السياسية وتخطيطه العسكري، الذي كان كثيراً ما يؤرّقهم ويُخيفهم، وقد أطلعهم بشكل واضح على أنه كان عازماً على استئصالهم وإقصائهم عن سدّة الحكم، لولا تقاعس وخذلان الناس والأعوان.

وحاصل ما ذكرناه في هذه النقطة وسابقتها: أن هناك نهضة إصلاحية وتصحيحية منظّمة، قادها الإمام علي علیه السلام، حملت شعارات: التغيير، وإحياء الكتاب والسنّة، والدفاع عن الشرعيّة الإلهية، وإسقاط الخلافة المبتدعة والخارجة عن القانون، وإقامة حكومة الإسلام بقيادة علويّة ربّانيّة. ولكن النجاح لم يُكتب لهذه النهضة المباركة بسبب سوء اختيار الأُمّة المتخاذلة، وفقدان الأنصار المؤمنين بالنهضة وقائدها.

الشاهد الثالث: التصدّي الفعلي لتسلّم مقاليد الحكم والسلطة

تسنّم أمير المؤمنين علیه السلام وبشكل مباشر ورسمي كرسي الخلافة، وإدارة شؤون الدولة الإسلامية، بعد مقتل عثمان وإقدام أغلب الصحابة والمسلمين على مبايعته، وقد رسم للسياسة صورة رائعة، وأعطى رؤية متكاملة حول نظام الحكومة الإسلاميّة، فكان ولازال علي بن أبي طالب علیه السلام الحاكم الأبرز والأمثل والأعدل في تاريخ الحكومات الإسلامية والعالمية، وقد صُنّفت حول شخصيّته السياسية المحنّكة وحكومته الرائدة الكتب والبحوث والدراسات، وانتُخبت أقواله ومواقفه وسيرته مع الرعية والولاة والحكومات والأنظمة غير الإسلامية مصدراً ومنهاجاً عالمياً في الأُمم المتحدة، ولازال المفكّرون من القرّاء والدارسين لهذه الشخصية العظيمة على أعتاب سلّم المجد العلوي، ولازالت جميع الدول والحكومات مدعوّة لدراسة أبعاد الحكومة والقيادة العلوية والاقتداء بها للخروج من أزماتها الدوليّة والمحلّيّة.

وقد حملت هذه الحكومة الإلهية في جنباتها كلّ خير للأُمّة الإسلامية وللإنسانيّة جمعاء، وتضمّنت من الأقوال والنصوص والمواقف والشواهد ما يكرّس وبشكل واضح وجلي كلّ ما ادّعيناه في هذه الإجابة الأُولى، من أن سيرة المعصومين علیهم السلام قائمة على التخطيط لبناء دولة الحق واستلام مقاليد الحكم.

ص: 25

وكم يُعجبني أن أستعرض هنا بعض الفصول السياسية الضخمة في حياة علي علیه السلام، من قبيل ما يرتبط بإعلان الدستور (الكتاب والسنّة)، وتحديد الرؤية الإسلاميّة السياسية تجاه الحكم ومبادئه وعلاقته بالدين والسماء، وتشكيل حقائب الحكومة الصالحة وتعيين وظائفها التنفيذيّة، وبناء الدولة الكريمة، واختيار الولاة والقضاة والموظفين والعمّال، وتنظيم الموازنة الماليّة والاقتصاديّة، وإنشاء منظومة الحقوق ودوائر ودور الرعاية الاجتماعية، ورفع راية الإصلاح والتغيير والتطوير، والاهتمام بالتنمية البشريّة، ومحاربة الفساد بكل أشكاله، ودعم التسليح العسكري، وتعبئة الجبهات ضد الأعداء على كافة الأصعدة، وغير ذلك من روائع الموسوعة السياسيّة العلوية. ولكنه يطول بذلك المقام وتتسع دائرة المقال بما يخرجنا عن نقطة البحث؛ ولذا نكتفي بأصل الفكرة في هذا الشاهد، وهي مسألة التصدّي الفعلي لاستلام الحكم والتأسيس لمعالم الحكم الإسلامي؛ فإنه خير شاهد على أن قيادة الأُمة بالحقّ دينيّاً وسياسياً من الأُمور المتيسّرة والممكنة حتى بعد انحرافها في الحُقب الماضية، وأن ذلك من الوظائف الموكلة للإمام المعصوم علیه السلام، إذا أحسنت الأُمة اختيارها، ووقفت إلى جانبه، وقدّمت الدعم البشري لحكومته الإلهية.

وأما قصّة رفض الإمام علي علیه السلام للخلافة وامتناعه عن استلام الحكم والسلطة بعد مقتل عثمان، لمّا انهال عليه الناس للبيعة، فليست أسبابها عدم أهلية الأُمّة لقيادة المعصوم في بناء الدولة وتشكيل الحكم الإسلامي، وإلا كان من المفترض رفض الخلافة على أيّة حال، فقبوله علیه السلام يكشف عن أهليّة الأُمة لذلك لو أحسنت اختياراتها(1)، وإنما أراد علیه السلام

ص: 26


1- المراد من الأهلية هي القابلية الفعلية والإمكان الوقوعي، بمعنى أن في الأمّة قابليّة وإمكانيّة الإصلاح الوقوعي والفعلي بقيادة المعصوم في المجال السياسي، وهي مبتنية على التسليم بانحراف الأمة بعد نبيّها عن مسارها الصحيح، وسوف نبيّن لاحقاً بأن البحث عن الأنصار والأعوان مترتب على إمكانية التغيير، فلولا ذلك لما سعى المعصومون من أهل البيت علیهم السلام لتشكيل قوّة مسلّحة تستهدف التغيير والإصلاح السياسي. فالسعي لجمع الأعوان المخلصين لمبادئ التغيير يستلزم أهليّة الأمّة لذلك، وخذلان الأعوان والأنصار لا يستلزم أبداً سقوط تلك الأهلية والقابليّة في الأمّة.

بذلك الرفض والامتناع عن قبول الخلافة في بداية الأمر أن يسجّل استنكاراً واعتراضاً على الذين توجّهوا لغيره بعد وفاة النبي صلی الله علیه و آله ، وأقرّوا بخلافته بسوء اختيارهم، من دون أن يتحلّى ذلك الغير بأي صفة من مواصفات العلم والحلم والحكمة والقدرة على قيادة المجتمع، فمنعوه علیه السلام حقّه الطبيعي والمشروع في تولّي الخلافة ظلماً وعدواناً. وينضاف إلى ذلك أيضاً الظرف الحرج والحساس جدّاً الذي كانت تمرّ به الأُمّة بعد مقتل الخليفة عثمان؛ حيث كان سيُتّهم بدمه كل مَن يجلس في مكانه لتولّي الخلافة، وسيتحمّل المتصدّي أيضاً أعباء الإرث الثقيل للفساد المستشري الذي تورّطت به الحكومة السابقة، على كافّة الأصعدة وفي جميع المستويات، وهذا ما حصل بالفعل.

ومن مجموع ما بيّناه إجمالاً يتضح: أن سيرة أمير المؤمنين علیه السلام ومواقفه وأقواله وتحركاته عموماً كانت قائمة على تبنّي الرؤية السياسية، والتدخّل العسكري، والتصدّي للإصلاح والتغيير، وإقامة حكم الله في الأرض، ولكن سكوته علیه السلام عن ذلك في فترة معيّنة من حياته المباركة كان سببه الأساس هو الاضطراب والتردد والتخاذل من قِبل الأُمّة والمجتمع الإسلامي بصورة عامّة. وهذا ما اختلفت ظروفه وشرائطه في زمن الإمام الحسين علیه السلام، فاختلفت في ضوئه الصورة والنتائج، كما سيتبيّن.

2- المبادئ السياسية للنهضة الحسنية
اشارة

أيضاً نعتقد بأن الإمام الحسن علیه السلام قد تصدّى بشكل واضح وصريح لإكمال صروح المسيرة الربانيّة والنهضة الإصلاحية بعد شهادة أبيه أمير المؤمنين علیه السلام، وقد باشر في التأسيس لإقامة دولة إلهية إسلامية عادلة بإمامته وقيادته علیه السلام، في إطار نهضة تغييرية إصلاحية واسعة الأبعاد، والحديث في هذه النقطة يطول أيضاً، وشواهده الروائية والتاريخية كثيرة جدّاً ومستفيضة، وجديرة بالدراسة والبحث والتدقيق، ولكن سنقتصر على اقتطاف بعضها؛ للتدليل على ما نقول:

ص: 27

الشاهد الأول: الخطابات السياسيّة والقيادية

والأبرز في هذا المجال خطبته علیه السلام صبيحة الليلة التي دفن فيها أمير المؤمنين علیه السلام، حيث استعرض أثناء مراسم العزاء والتأبين المسيرة الدينية والإيمانيّة والاجتماعيّة والسياسية والجهاديّة والقياديّة التي حفلت وتميّزت بها حياة أبيه علي بن أبي طالب علیه السلام، ثم انتقل بعد ذلك مباشرة للتعريف بشخصيته المباركة، وأنه الامتداد الطبيعي للبيت النبوي والعلوي، وأنه الكفوء والأهل والأحقّ باستلام زمام الأُمور وتولّي قيادة الأُمة، قال علیه السلام: «أيها الناس، مَن عرفني فقد عرفني، ومَن لم يعرفني فأنا الحسن بن علي، وأنا ابن النبي، وأنا ابن الوصي، وأنا ابن البشير، وأنا ابن النذير، وأنا ابن الداعي إلى الله بإذنه، وأنا ابن السراج المنير، وأنا من أهل البيت الذي كان جبريل ينزل إلينا ويصعد من عندنا، وأنا من أهل البيت الذي أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً، وأنا من أهل البيت الذي افترض الله مودّتهم على كل مسلم... »(1). «ولقد حدّثني حبيبي جدي رسول الله صلی الله علیه و آله أن الأمر يملكه اثنا عشر إماماً من أهل بيته وصفوته، ما منا إلا مقتول أو مسموم»(2).

فانتسب الحسن علیه السلام إلى جدّه وأبيه، وعرّف نفسه بمواريث النبوة والوصاية والمُلك والإمامة وهداية الأُمة والدعوة إلى الله عزّ وجلّ، وأكّد على أن مودّة أهل البيت علیهم السلام فرض واجب على كافة المسلمين، وأن المعصومين من أهل البيت علیهم السلام هم أئمة الخلق وساداتهم بالحقّ.

وقد فهم الحاضرون من هذه النُّبذة التعريفيّة أنه علیه السلام قد عرض نفسه الكريمة لتولّي الخلافة والحكم وقيادة الدولة الإسلامية خلفاً لأبيه أمير المؤمنين علیه السلام؛ ولذا نهض عبد الله بن عباس مباشرة يدعو الحاضرين لمبايعة الحسن علیه السلام، قائلاً: «معاشر الناس، هذا ابن نبيكم ووصي إمامكم فبايعوه. فاستجاب له الناس، وقالوا: ما أحبه إلينا! وأوجب حقّه

ص: 28


1- الحاكم النيسابوري، أبو عبد الله، المستدرك على الصحيحين: ج3، ص172.
2- القمي، علي بن محمد، كفاية الأثر: ص162.

علينا! وتبادروا إلى البيعة له بالخلافة... فرتب علیه السلام العمال وأمّر الأُمراء، وأنفذ عبد الله بن العباس (رضي الله عنه) إلى البصرة، ونظر في الأُمور» (1).

ثم إنه علیه السلام خطب الناس بعد البيعة قائلاً: «نحن حزب الله الغالبون، وعترة رسوله الأقربون، وأهل بيته الطيبون الطاهرون، وأحد الثقلين اللذين خلّفهما رسول الله صلی الله علیه و آله في أُمته، والتالي كتاب الله، فيه تفصيل كل شيء، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فالمعول علينا في تفسيره، لا نتظنّى تأويله، بل نتيقن حقائقه، فأطيعونا، فإن طاعتنا مفروضة؛ إذ كانت بطاعة الله عز وجل ورسوله مقرونة» (2). ويُمثّل هذا الخطاب التاريخي إعلاناً رسميّاً رئاسيّاً لثالث حكومة إلهيّة في الإسلام بقيادة المعصوم من حزب واحد، هو حزب الله الغالب، ويجب على الأُمّة السمع والطاعة لأوامر وتوجيهات هذا الحزب الإلهي المبارك.

وكان الحسن علیه السلام يؤكّد دائماً على حقّه الشرعي وأحقيّته بالخلافة والحكم، ويُطالب باسترجاع هذا الحق في مواضع كثيرة، ومناسبات مختلفة، حتى قال له معاوية - بعد واحدة من خطبه علیه السلام البليغة التي ألهبت مشاعر المجتمع الشامي -: «أما إنك - يا حسن - قد كنت ترجو أن تكون خليفة ولست هناك. فقال الحسن علیه السلام: أما الخليفة فمَن سار بسيرة رسول الله صلی الله علیه و آله وعمل بطاعة الله عز وجل، ليس الخليفة مَن سار بالجور وعطّل السُّنن واتخذ الدنيا أمّاً وأباً» (3). وفي خطبة أُخرى أيضاً في مجلس معاوية يقول علیه السلام: «أصبحت قريش تفتخر على العرب بأن محمداً منها، وأصبحت العرب تفتخر على العجم بأن محمداً منها، وأصبحت العجم تعرف حق العرب بأن محمداً منها، يطلبون حقنا، ولا يردون إلينا حقّنا»(4). هو المنطق ذاته وذات الشعارات التي حملتها النهضة الحسينية المباركة، ولكن الدور والقرار والمشهد السياسي قد يختلف باختلاف ظروف الواقع الإسلامي المتقلّب والمتردّي.

ص: 29


1- المفيد، محمد بن محمد، الإرشاد: ج2، ص8 - 9.
2- المفيد، محمد بن محمد، الأمالي: ص349.
3- الطبرسي، أحمد بن علي، الاحتجاج: ج1، ص419.
4- ابن شهر آشوب، محمد بن علي، مناقب آل أبي طالب: ج3، ص178.
الشاهد الثاني: التصدّي لمباشرة شؤون الخلافة والحكم

حيث تولّى علیه السلام وبشكل مباشر إدارة شؤون الحكومة والدولة الإسلاميّة، ففي ضوء النص السابق لما بويع الحسن علیه السلام وأعلن تولّيه الأمر وقيادته للأُمة، بادر مباشرة لتشكيل الحكومة وتعيين الحقائب الوزاريّة وتخصيص وتشخيص سائر الأُمور التنفيذية والمالية ذات العلاقة، فرتّب العمال وأمّر الأُمراء ونظر في الأُمور. وكتب لمعاوية يأمره بطاعته والانقياد لأوامره، ويقول له: «إن علياً لما توفّاه الله ولّاني المسلمون الأمر بعده، فاتق الله يا معاوية، واُنظر لأُمّة محمد صلی الله علیه و آله ، ما تحقن به دماءها وتصلح به أمرها» (1). وفي نص آخر مماثل يقول فيه علیه السلام: «فاليوم فليتعجّب المتعجّب من توثّبك - يا معاوية - على أمر لست من أهله... إن علياً لما مضى لسبيله... ولّاني المسلمون الأمر بعده... فدع التمادي في الباطل، وادخل فيما دخل فيه الناس من بيعتي؛ فإنك تعلم أني أحق بهذا الأمر منك عند الله وعند كل أوّاب حفيظ، ومَن له قلب منيب. واتق الله ودع البغي، واحقن دماء المسلمين، فو الله، ما لك خير في أن تلقى الله من دمائهم بأكثر مما أنت لاقيه به، وادخُل في السلم والطاعة، ولا تُنازع الأمر أهله ومَن هو أحق به منك، ليطفئ الله النائرة بذلك، ويجمع الكلمة، ويُصلح ذات البين، وإن أنت أبيت إلا التمادي في غيّك سرت إليك بالمسلمين فحاكمتك، حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين» (2).

وقد تضمّنت هذه النصوص والمكاتبات التاريخيّة المهمّة معالم الرؤية السياسيّة الثاقبة والمتميّزة للإمام الحسن علیه السلام إزاء التأسيس للدولة العادلة، والتصدّي لمحاربة البغاة والمفسدين والإرهابيين القتلة، الطامحين في إقامة دولة داعشية أُمويّة تكفيرية،

ص: 30


1- ابن أبي الحديد، عز الدين، شرح نهج البلاغة: ج16، ص24 - 25. وفي لفظ الإربلي في كشف الغمّة: «فإن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب لما نزل به الموت ولّاني هذا الأمر من بعده، فاتق الله يا معاوية، واُنظر لأُمة محمد| ما تُحقَن به دماؤهم، وتُصلَح به أُمورهم» ج2، ص192. وفي هذا النص نسب الإمام الحسن علیه السلام توليته الأمر لأمير المؤمنين علیه السلام، فهو الذي ولاه الأمر وليست الأُمّة، والأُمة ليست من وظائفها إلا البيعة للمعصوم، وهذا أنسب بالرؤية العقديّة في مذهب الإماميّة.
2- ابن أبي الحديد، عز الدين، شرح نهج البلاغة: ج3، ص34.

بقيادة معاوية بن أبي سفيان، تُبنى هياكلها على جماجم المسلمين، تُكفّرهم وتقتات من دمائهم. ولا بأس بالتنصيص على أهم ما جاء فيها؛ لارتباطها بواقعنا المعاش:

1- معاوية الذي انخرط في حزب (بيعة المسلمين) المزعومة لأشياخه، وبنى مجده على أنقاض ورفات خلفاء تلك البيعة، يبدأ الإمام الحسن علیه السلام بإلزامه بما ألزم به نفسه، فها هي بيعة المسلمين قد تمّت له علیه السلام بما لا ينقص عن مبايعة السابقين، وعلى معاوية أن يُذعن ويخضع وينقاد لولايته وخلافته الإسلامية الشرعية، وأن يلتزم الجانب السلمي في التعاطي مع هذا الأمر.

2- يواصل الإمام علیه السلام التأكيد على حقّه في قيادة الأُمّة، وأنه من الحقوق المعلومة والثابتة، التي لا تفتقر إلى بيعة مَن بايع أو طاعة مَن يطيع، وإنما البيعة والطاعة من آليات وسبل تفعيل ذلك الحقّ الإلهي، يُشير إلى هذا المعنى قوله علیه السلام: «فإنك تعلم أني أحق بهذا الأمر منك عند الله، وعند كل أوّاب حفيظ، ومَن له قلب منيب... ولا تنازع الأمر أهله ومَن هو أحق به منك». ويؤكّد علیه السلام على أن خير الأُمّة صلاحها في إرجاع الحقّ لأهله، حيث يقول: «ليطفئ الله النائرة بذلك، ويجمع الكلمة، ويصلح ذات البين».

3- التأكيد على عدم أهلية معاوية للمنصب الحساس الذي يشغله، وعليه أن يتنحّى عن منصبه، وأنه ينبغي أن تكون الأهلية والكفاءة هي المعيار الأساس في تولّي المناصب السيادية والحكومية.

4- الدعوة إلى السلم، والطاعة، وتقوى الله، والانقياد للشرعية، وتوحيد الكلمة، وإطفاء الإرث العدواني الثقيل، وتوخّي الإصلاح وصلاح الأمّة، وترك البغي والتمادي في الغيّ والباطل، وعدم منازعة أهل الحقّ في حقّهم، وحقن دماء المسلمين، والتزام مبدأ التداول السلمي للسلطة.

5- وقد ختم الإمام علیه السلام كتابه لمعاوية بالتهديد ولغة السلاح والقتال إن أبى معاوية التعامل بالطرق السلمية والدبلوماسية، قائلاً: «وإن أنت أبيت إلا التمادي في غيّك، سرت إليك بالمسلمين فحاكمتك، حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين».

ص: 31

ثم إنه علیه السلام قام بتجييش الجيوش وتحشيدها والرفع من معنوياتهم، وخرج الجيش الإسلامي بقيادته لقتال البغاة - معاوية وأتباعه بعد أن رفضوا دعوته للطاعة والسلم - وقد زاد في عطاء الجيوش وتجهيزهم وتسليحهم(1). والحديث في هذه النقطة بالخصوص يتّسع ويطول، ونحن اليوم بأمسّ الحاجة لدراسة معالم وأبعاد السياسة الحسنية المباركة، ومعرفة دورها في التعامل مع الأزمات الاجتماعيّة والسياسية والأمنية والعسكرية، التي واجهها المجتمع الإسلامي، قبل الالتجاء إلى الموافقة على عقد الهدنة مع معاوية. وسوف نتجنّب الولوج في هذه النقطة أيضاً رعاية للإيجاز والاختصار.

الشاهد الثالث: فقدان الناصر وخذلان الأُمة

هناك مجموعة كبيرة جدّاً من الأحاديث والنصوص التاريخية، الواضحة والصريحة في أن الخروج المسلّح ضد معاوية وإسقاط حكمه وإقامة حكم الله في الأرض، كان هو الحل الأمثل والأفضل، بل هو المتعيّن مع وجود الأنصار المؤمنين بنهضة الإصلاح والتغيير، كما أشرنا آنفاً إلى بعض تلك النصوص. وقد سار الإمام الحسن علیه السلام بشكل عملي لإنجاز هذه المهمّة العسكريّة المصيريّة والحسّاسة، فخرج بالجيوش ليختبر نيّاتهم وطاعتهم، ففشلوا في الاختبار فشلاً ذريعاً(2).

وكان الحسن علیه السلام كثيراً ما يُهدّد معاوية بالجيش الإسلامي، ويضع الخيار العسكري دائماً على طاولة المداولة والمفاوضات، برجاء أن ينهض الجيش بهذه المهمّة والمسؤوليّة الحسّاسة، كما تقدّمت الإشارة إلى ذلك في نص سابق، وهو ما جاء أيضاً بشكل صريح في كتاب بعثه لمعاوية بعد أن نفّذ علیه السلام عقوبة الإعدام بحق شخصين منافقين من جواسيس معاوية، يقول فيه: «أما بعد، فإنك دسست إليّ الرجال كأنك تحب اللقاء، وما أشك في

ص: 32


1- اُنظر تفصيل ذلك في المصادر التالية: ابن شهر آشوب، محمد بن علي، المناقب: ج3، ص194- 195. ابن أبي الحديد، عز الدين، شرح نهج البلاغة: ج16، ص30 وما بعدها. المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج44، ص33 وما بعدها.
2- هناك تفاصيل مؤلمة حول هذه النقطة، يمكن ملاحظتها في أغلب الكتب التاريخية والروائية.

ذلك، فتوقّعه إن شاء الله» (1).

ولكن التاريخ يرسم صورة مختلفة للجيش الإسلامي آنذاك، فكان وللأسف جيشاً متداعياً، خائر القوى، منهزماً ومكسوراً من الناحية الإيمانيّة والنفسية والإعلاميّة، خائفاً مهزوزاً متململاً من كثرة الحروب وطول أمدها وامتداد تاريخ المسيرة الجهاديّة، قد وضع الدنيا وزينتها أمام طموحاته وأمانيه، وجعل التضحية في سبيل الدين والمبادئ آخر ما يفكّر فيه ويهتمّ به، وسجّل انهزامات متتالية في شتّى الميادين، حتى كاد هذا الجيش الضعيف المخترق والمكشوف أن يُسلّم الحسن علیه السلام أسيراً بيد معاوية، وهذا ما صرّح به الإمام علیه السلام في محضر معاوية، حينما خطب الناس قائلاً: «أيها الناس، إن معاوية زعم أني رأيته للخلافة أهلاً، ولم أرَ نفسي لها أهلاً، وكذب معاوية، أنا أوْلى الناس بالناس في كتاب الله، وعلى لسان نبي الله، فأقسم بالله، لو أن الناس بايعوني وأطاعوني ونصروني لأعطتهم السماء قطرها، والأرض بركتها، ولما طمعتَ فيها يا معاوية، وقد قال رسول الله صلی الله علیه و آله : ما ولّت أُمة أمرها رجلاً قط وفيهم مَن هو أعلم منه إلّا لم يزل أمرهم يذهب سفالاً، حتى يرجعوا إلى ملّة عبدة العجل... وقد تركت الأُمة علياً علیه السلام وقد سمعوا رسول الله صلی الله علیه و آله يقول لعلي علیه السلام: أنت منّي بمنزلة هارون من موسى غير النبوة، فلا نبي بعدي. وقد هرب رسول الله صلی الله علیه و آله من قومه، وهو يدعوهم إلى الله، حتى فرّ إلى الغار، ولو وجد عليهم أعواناً ما هرب منهم، ولو وجدت أنا أعواناً ما بايعتك يا معاوية. قد جعل الله هارون في سعة حين استضعفوه وكادوا يقتلونه، ولم يجد عليهم أعواناً، وقد جعل الله النبي صلی الله علیه و آله في سعة حين فرّ من قومه، لمّا لم يجد أعواناً عليهم، وكذلك أنا وأبي في سعة من الله، حين تركتنا الأُمة وبايعت غيرنا ولم نجد أعواناً. وإنما هي السُّنن والأمثال يتبع بعضها بعضاً» (2).

وأما أنصاره والمحيطون به، فقد تحدّث هو علیه السلام عنهم قائلاً: «يزعمون أنهم لي شيعة، ابتغوا قتلي، وانتهبوا ثقلي، وأخذوا مالي... والله، لو قاتلت معاوية لأخذوا بعنقي حتى يدفعوني إليه سلماً. فو الله، لأن أسالمه وأنا عزيز خير من أن يقتلني وأنا أسيره أو

ص: 33


1- أبو الفرج الأصفهاني، علي بن الحسين، مقاتل الطالبيين: ص33.
2- الطبرسي، أحمد بن علي، الاحتجاج: ج2، ص8.

يمنّ عليّ، فتكون سُبّةً على بني هاشم إلى آخر الدهر» (1).

وفي نص آخر يقول علیه السلام: «أما والله، ما ثنانا عن قتال أهل الشام ذلة ولا قلة، ولكن كنا نقاتلهم بالسلامة والصبر، فشيب السلامة بالعداوة، والصبر بالجزع، وكنتم تتوجهون معنا ودينكم أمام دنياكم، وقد أصبحتم الآن ودنياكم أمام دينكم، وكنا لكم وكنتم لنا، وقد صرتم اليوم علينا... وإن معاوية قد دعا إلى أمر ليس فيه عِزٌّ ولا نصفة، فإن أردتم الحياة قبلناه منه، وأغضضنا على القذى، وإن أردتم الموت، بذلناه في ذات الله، وحاكمناه إلى الله. فنادى القوم بأجمعهم: بل البقية والحياة» (2).

وفي نص ثالث يؤنِّب أنصاره على الاختراقات الخطيرة والخيانات العسكريّة التي انتشرت في جيشه ومعسكره، حيث يقول علیه السلام: «ويلكم! والله، إنّ معاوية لا يفي لأحد منكم بما ضمنه في قتلي، وإنّي أظن أنّي إن وضعت يدي في يده فأسالمه لم يتركني أدين لدين جدّي صلی الله علیه و آله وإنّي أقدر أن أعبد الله عزّ وجلّ وحدي، ولكنّي كأنّي أنظر إلى أبنائكم واقفين على أبواب أبنائهم يستسقونهم ويستطعمونهم بما جعله الله لهم، فلا يسقون ولا يطعمون، فبُعداً وسحقاً لما كسبته أيديكم «وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ». فجعلوا يعتذرون بما لا عذر لهم فيه» (3).

ويقول أيضاً علیه السلام في مقام بيان سبب تسليمه الخلافة لمعاوية: «والله، ما سلّمت الأمر إليه، إلّا أني لم أجد أنصاراً، ولو وجدت أنصاراً لقاتلته ليلي ونهاري، حتى يحكم الله بيني وبينه» (4).

وبهذا الكلام كان الحسن علیه السلام يستقبل مَن يعاتبه من أصحابه في مسألة الصلح والهدنة، فمن ذلك ما تقدمّت الإشارة إليه في ملامح النهضة العلوية، حيث أجاب علیه السلام حجر بن عدي الطائي بالقول: «والله، يا حجر! لو أني في ألف رجل، لا والله إلّا مائتي

ص: 34


1- المصدر السابق: ج2، ص10.
2- الديلمي، الحسين بن أبي الحسن، أعلام الدين في صفات المؤمنين: ج2، ص292.
3- الصدوق، محمد بن علي، علل الشرائع: ج1، ص221.
4- الطبرسي، أحمد بن علي، الاحتجاج: ج2، ص12.

رجل، لا والله إلّا في سبع نفر لما وسعني تركه... وتالله، يا حجر! إني لعلى ما كان عليه أبي أمير المؤمنين لو أطعتموني» (1).

وبنفس المضمون ما روي عن علي بن محمد بن بشير الهمداني، قال: «خرجت أنا وسفيان بن ليلى، حتى قدمنا على الحسن المدينة، فدخلنا عليه، وعنده المسيب بن نجبة وعبد الله بن الوداك التميمي، وسراج بن مالك الخثعمي، فقلت: السلام عليك يا مذلّ المؤمنين! قال: وعليك السلام، اجلس، لستُ مذلَّ المؤمنين، ولكني معزّهم، ما أردت بمصالحتي معاوية إلّا أن أدفع عنكم القتل، عندما رأيت من تباطؤ أصحابي عن الحرب، ونكولهم عن القتال» (2).

ويُعقّب السيد المرتضى على مثل هذه النصوص قائلاً: «لأن المجتمعين له من الأصحاب وإن كانوا كثيري العدد، فقد كانت قلوب أكثرهم دغلة غير صافية، وقد كانوا صبوا إلى دنيا معاوية... فأظهروا له علیه السلام النصرة، وحملوه على المحاربة والاستعداد لها طمعاً في أن يورّطوه ويسلموه، فأحسّ بهذا منهم قبل التولّج والتلبّس، فتخلّى من الأمر، وتحرّز من المكيدة» (3).

ونستنتج من مجموع هذه النصوص المتضافرة الأُمور التالية:

1- إن الإمام الحسن علیه السلام كان عازماً على السير قُدماً في تولّي شؤون الخلافة الإلهيّة، والاستمرار في بناء الحكومة العادلة وتشييد صرح الدولة الإسلاميّة الكريمة.

2- كان يرى علیه السلام أنه هو المؤهل والأوْلى والأحقّ في تولّي الحكم وقيادة الأُمّة في كتاب الله وعلى لسان رسول الله صلی الله علیه و آله ، قبل بيعة الناس له، وأنّ على معاوية أن يطيعه ويخضع لحكمه الإلهي العادل كما تقدّم، وأن الناس لو أطاعوه وبايعوه ونصروه لأعطتهم السماء قطرها، والأرض بركتها.

ص: 35


1- الخصيبي، حسين بن حمدان، الهداية الكبرى: ص193.
2- الدينوري، أحمد بن داود، الأخبار الطوال: ص221.
3- المرتضى، علي بن الحسين، تنزيه الأنبياء: ص221- 222.

3- إنه علیه السلام كان عازماً على محاربة الفساد والقضاء عليه بشتّى الوسائل والسبل المشروعة، وابتدأ علیه السلام بمحاولة القضاء على حكومة معاوية بن أبي سفيان، التي كانت تمثّل أبرز مظاهر الفساد، وتشغل مساحة جغرافية كبيرة وواسعة ومهمّة في كيان الدولة الإسلاميّة. فاختار علیه السلام الحلّ العسكري والخروج المسلّح لاستئصال جذور الشجرة الخبيثة والغدّة الأُمويّة التي ابتُلي بها المجتمع الإسلامي، وكان عدد الجيش وعدّته كافيين لبلوغ هذه الغاية، ولكن الأُمّة عصت أوامره وخذلته وتقاعست عن الجهاد في سبيل الله، وقدّمت المصالح الشخصية والرغبات الفرديّة الخاصّة، على سعادة البشريّة ورقيّها وصلاح أمرها.

4- إنه علیه السلام لو وجد أعواناً وأنصاراً لما بايع معاوية، ولقاتله ليله ونهاره، وأن العزة والنصرة والكرامة بقتاله والقضاء عليه، ولم تكن المصلحة أبداً في الصلح لو اختارت الأُمّة طريق الجهاد، بل كان في الصلح ذلة ومهانة لهم وللأجيال اللاحقة، فاختار القوم العيش بالذلّ وفضّلوا الحياة الرخيصة وقدّموها على خيار العزّة والإباء والنصر، فبايعت الأُمة معاوية خاضعة خاسئة، وأُجبر الحسن علیه السلام على قبول الصلح وفي العين قذى؛ ليلملم ما تبقّى للمؤمنين من العزّة والكرامة، فبُعداً وسحقاً لما كسبته أيدي الأُمة المتخاذلة، وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون.

5- كانت هناك مؤامرات تُحاك ليلاً ونهاراً، وخيانات وانقلابات عسكريّة متوالية، هدفها القضاء على خلافة الحسن علیه السلام، والتجاوز على شخصه الكريم، ونهب تراثه وتسليبه، وتسليمه لمعاوية ليرى فيه رأيه، إما القتل أو الإذلال، فكان الصلح خياراً مُرّاً لا مناص منه.

الشاهد الرابع: ما تضمّنته بنود الصلح والهدنة مع معاوية

إن الإمام الحسن علیه السلام قد صالح معاوية على «أن له ولاية الأمر بعده، فإن حدث به حدث فللحسين» (1)، ويُعدّ هذا البند من البنود المهمّة التي تصدّرت القائمة، وتكرر

ص: 36


1- ابن عنبة، أحمد بن علي، عمدة الطالب في أنساب آل أبي طالب: ص67.

ذكرها في خطب الإمام الحسن علیه السلام بعد توقيعه على كتاب الصلح، وهذا ما يكشف وبوضوح عمّا نروم إثباته، من أن الإمام الحسن علیه السلام كان ينظر إلى الحكم الإلهي والقيادة الربانيّة على يد المعصوم في هذه الأرض من الفرائض التي يجب النهوض بها، ولكنها كانت وللأسف فاقدة لشروطها المرتبطة بواقع الأُمّة، ومتى ما تحقّقت الشروط كان على الإمام المعصوم أن ينهض للقيام بدولة الحق والعدل.

ويُضاف إلى ذلك أيضاً البنود الأُخرى التي تضمّنت روح التدخل السياسي من قِبل المعصوم؛ لسدّ منافذ الفساد والانحراف في الحكومات غير الكفوءة، من قبيل ما يرتبط بالقضايا الأمنية العامّة، وترك تتبع الناس وقتلهم على المذهب والهوية والانتماء، واحترام رموز الأُمّة وقادتها، والمحافظة على أموال الشعب وصرفها في مستحقّيها، وغيرها من البنود الأُخرى.

الشاهد الخامس: التهديد والإنذار المتواصل

كان الإمام الحسن علیه السلام دائماً ما يوجّه التهديد والإنذار لمعاوية، بأنه يراقب المشهد السياسي عن كثب، وأنه سيعمل على دراسة الأُمور مجدّداً، وإعادة النظر في قرار الصلح، والانقلاب عليه بإلغائه، في حال تفاقمت الأُمور، وتدهورت الأوضاع الأمنية والاجتماعيّة، واستشرى الفساد، وتعرّض المسلمون عموماً وأتباع أهل البيت علیهم السلام على وجه الخصوص للسوء والاضطهاد والمطاردة من قِبل السلطة الظالمة.

ويمكننا أن نستشعر ذلك بوضوح في ردّ له علیه السلام على إساءة واعتداء في الكلام على شخصه الكريم من قِبل عمرو بن العاص في مجلس معاوية، يقول فيه علیه السلام: «يا معاوية، لا يزال عندك عبد راتعاً في لحوم الناس، أما والله، لو شئت ليكونن بيننا ما تتفاقم فيه الأُمور وتحرج منه الصدور» (1).

ص: 37


1- المرعشي، شهاب الدين، شرح إحقاق الحق: ج11، ص244، نقلاً عن البيهقي في كتابه المحاسن والمساوي.

وفي نصّ آخر طويل ومفصّل، يردّ فيه علیه السلام بقوّة على كلام مسيء تحدّث به مروان بن الحكم في مجلس معاوية، فأذهل بكلامه علیه السلام الحضور، وأسكت الطغاة وألجم أفواههم وألقمها حجراً، حيث يقول: «ثم تزعم أني ابتُليت بحلم معاوية. أما والله، لهو أعرف بشأنه وأشكر لنا إذ ولّيناه هذا الأمر، فمتى بدا له، فلا يغضين جفنه على القذى معك، فو الله، لأعنفنّ أهل الشام بجيش يضيق فضاؤه(1)، ويستأصل فرسانه، ثم لا ينفعك عند ذلك الروغان والهرب» (2). إن هذا المنطق العاصف والقوي والمرعب لطواغيت الأُمّة، يكشف وبوضوح عن أن الإمام الحسن علیه السلام قد مهّد الأُمور لتنفيذ ما يقول، وعمل على التأسيس لقاعدة شعبية عريضة وواسعة في المجتمع الإسلامي، وهيأها للتغيير والانقلاب، في حال تطلّب الأمر ذلك، ولكنه علیه السلام كان ملزماً بالصلح. وهناك شواهد للتدليل على هذه الحقيقة أعرضنا عن ذكرها خوف الإطالة.

3- المبادئ السياسية للنهضة الحسينية

كان هذا العنوان بالخصوص هو الموضوع الأساس الذي دعانا لكتابة المقال، وقد عرضنا في مقالات ماضية جملة من الشواهد والنصوص فيما يرتبط بالتدليل على المبادئ والأهداف السياسية للنهضة الحسينية المباركة، وذكرنا من ضمن تلك الشواهد: حركة التغيير ونصوص الإصلاح الحسيني، ومواقف الإمام الحسين علیه السلام وأقواله وتصريحاته ومكاتباته ورسائله السياسية إلى أهل الكوفة والبصرة وغيرهما، مضافاً إلى أقواله وأحاديثه وخطبه علیه السلام في طريقه إلى الكوفة وفي فترة تواجده بكربلاء.

واستنتجنا من مجموع تلك الشواهد أن الإمام الحسين علیه السلام قد قام بنهضة إصلاحيّة عامّة وشاملة، كان من أهم أهدافها: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتصدّي

ص: 38


1- وفي لفظ آخر: «فو الله، لأثخننّ أهل الشام بجيش يضيق عنها فضاؤها». الخوئي، حبيب الله، منهاج البراعة: ج19، ص153.
2- المرعشي، شهاب الدين، شرح إحقاق الحق: ج11، ص222، نقلاً عن البيهقي في كتابه المحاسن والمساوي.

للظلم والجور والفساد، ونصرة المظلومين والمضطهدين، والإطاحة بالنظام الأُموي المُستبدّ، وإرجاع الحق إلى أهله، وإقامة حكم الله في الأرض، وتشكيل حكومة إلهية بقيادة خليفة الله في خلقه، وتطبيق مبادئ الشريعة الإسلامية، وحفظ الحرّيات الدينية والإنسانية المشروعة، وأداء الحقوق والواجبات الدينيّة والاجتماعيّة، وإجراء الحدود، وتنفيذ القوانين، والعمل بالأحكام الشرعية.

وقد تهيّأت كافة السبل والأسباب والعوامل لانتصار هذه النهضة النوراء، وبزوغ الفجر الحسيني الصادق، وإقامة الحقّ والعدل في ربوع البلاد، وذلك من زوايا وجهات مختلفة ومتنوّعة، منها:

1- هلاك معاوية، الذي أحكم قبضته على الناس بالظلم والقتل والجور وانتهاك الحرمات.

2- انقضاء مدّة الهدنة وأمد الصلح الحسني، الذي التزم به الحسين علیه السلام مع وجود معاوية في سدّة الحكم(1).

3- ضعف الحكومة الأُموية المتمثّلة بيزيد المتهتك الطائش.

4- سأم الناس وامتعاضهم الشديد من الحكم الأُموي الجائر، الذي تجاوز كل القيم الإسلامية والبشرية، وأرهق الأُمّة بصنوف الاضطهاد والإرهاب، من القتل والتشريد والتجويع والتضييق الخانق للحريات الدينية والفكريّة والاجتماعيّة والسياسيّة.

5- اشتياق المسلمين وحنينهم للعدالة العلوية الضائعة.

6- المنزلة المتميزة والمقام الرفيع الذي يشغله الإمام الحسين علیه السلام في نفوس المسلمين.

7- وجود الشخصيّة القويّة والمؤهلة لقيادة الأُمة.

8- توفر القدر الكافي من الأعوان والأنصار، الذين بايعوا الإمام الحسين علیه السلام على الخلافة والجهاد والنصر وبذل النفس والتفاني بين يديه، بنوايا حقيقية وصادقة، اختبرها السفير الحاذق والرائد الفطن والثقة من أهل البيت مسلم بن عقيل علیه السلام، وعكسها

ص: 39


1- اُنظر: الدينوري، أحمد بن داود، الأخبار الطوال: ص222.

بأمانة تامّة على الإمام علیه السلام، في كتاب يحمل بشائر التغيير، ويدعوه للإسراع في القدوم إلى العاصمة العلويّة هادياً مهديّاً.

وهذا ما لم يتوفر لأمير المؤمنين علیه السلام بعد وفاة النبي الأكرم صلی الله علیه و آله ، ولا للحسن علیه السلام حينما اضطر للصلح مع معاوية كما ألمحنا سابقاً. بل سبق أيضاً التصريح بأنهما علیهما السلام سيخرجان للتغيير والانقلاب على السلطات غير الشرعيّة لو اجتمع لهما العدد المطلوب من الأتباع والأنصار، وقد حُدّد ذلك العدد في بعض النصوص بسبعة من المضحين، أو بأربعين، بحسب اختلاف الظرف وطبيعة الموقف، وهذا العدد من الأبطال وأكثر منه قد التفّ حول الحسين علیه السلام في كل الظروف، قبل حادثة كربلاء وحين وقوعها.

يُضاف إلى ذلك كلّه تردّي الأوضاع السياسية والاجتماعية والدينية وتدهورها وانحدارها بما لا يترك مجالاً للجلوس والسكوت؛ وفي ضوء هذا وذاك اختلفت المرحلة وتغيّرت الأوضاع وتحركت رياح الثورة والتحرير، فتوجهت أنظار الأُمّة لمنقذها، فأصبح الإمام في قطب دائرة المسؤولية السياسية، وتوجّب عليه الخروج لإسقاط النظام الظالم وإقامة الحكومة الإلهية العادلة.

وأما لماذا لم تُحقّق النهضة الحسينيّة المباركة هذا النوع من الأهداف السياسيّة؟ ولماذا لم يحصل التغيير السياسي والحكومي، ولم تسقط دولة بني أُميّة؟ ولماذا لم تُشرق الأرض بصبح العدالة الحسينيّة؟ ولماذا انقلبت الظروف وتغيّرت إلى مأساة وثأر تطلبه السماء؟ فلهذا كلّه شأن آخر وحديث مستأنف، نتمنّى أن نحظى بفرصة بحثه ودراسته في مقالات لاحقة.

اتضح إلى هنا: أن الانقلاب على الحكومات الظالمة والفاسدة، والعمل على إسقاطها وإقامة حكم الله في الأرض، هو المنهج الإلهي والسبيل القويم الذي سار عليه سادة الخلق وأئمة الهدى علیهم السلام بعد وفاة النبي الأكرم صلی الله علیه و آله . والإمام الحسين علیه السلام قد اتخذ ذات المواقف العلوية والحسنية، ولكنّ اختلاف الظروف والشرائط والأحداث هو الذي غاير في فوارق الصورة وملامح المشهد.

ص: 40

4- مواقف وأقوال الأئمة علیهم السلام من ذرية الحسين علیه السلام بعد شهادته

نعم؛ نحن نعتقد بأن منهج وأُسلوب التعامل مع السلطات الحاكمة قد تغير بعد شهادة الإمام الحسين علیه السلام مباشرة، وكان السبب الرئيس في ذلك هو انكفاء الأُمّة وفقدان الأعوان والأنصار المؤهلين لرفع راية الإصلاح والتغيير بما يناسب الوقت والمرحلة، والنصوص والشواهد التاريخية والروائية الدالة على ذلك كثيرة ومتضافرة، نكتفي بالإشارة إلى بعضها:

منها: ما تحدّث به الإمام زين العابدين علیه السلام مع أهل الكوفة، حينما أبدوا استعدادهم لمبايعته والقتال بين يديه لإسقاط حكومة يزيد بن معاوية، بعد أن ألهب مشاعرهم بخطاب حول مأساة كربلاء، يحرق القلوب، يقول فيه: «أنا ابن مَن انتهكت حرمته، وسُلبت نعمته، وانتُهب ماله، وسُبي عياله، أنا ابن المذبوح بشط الفرات، من غير ذحل ولا ترات، أنا ابن مَن قُتل صبراً، وكفى بذلك فخراً»، ثم توجّه إلى الناس قائلاً: «رحم الله امرئاً قبل نصيحتي وحفظ وصيتي»، فأجابوه بأجمعهم: «نحن كلّنا يا بن رسول الله سامعون مطيعون، حافظون لذمامك، غير زاهدين فيك، ولا راغبين عنك، فمرنا بأمرك يرحمك الله، فإنّا حرب لحربك، وسلم لسلمك، لنأخذن يزيد لعنه الله، ونبرأ ممن ظلمك». فأجابهم علیه السلام بما يُحدّد وبوضوح الموقف السياسي الإلهي تجاه الأُمّة المتخاذلة في ظل الحكومات الظالمة، قائلاً: «هيهات هيهات! أيها الغدرة المكرة! حيل بينكم وبين شهوات أنفسكم، أتريدون أن تأتوا إليّ كما آتيتم آبائي من قبل؟! كلّا وربّ الراقصات، فإن الجرح لما يندمل»، ثم انتقل لتحديد الوظيفة الفعليّة لهذه الأُمّة الضعيفة، قائلاً: «ومسألتي أن تكونوا لا لنا ولا علينا» (1). فكانت هذه المرحلة العصيبة والحساسة بعد شهادة الحسين علیه السلام أدنى ما تتطلبه هو تحييد الأُمّة من الناحية السياسية، في ظل التخاذل الكبير، الذي وصفته السيدة زينب صلی الله علیه و آله في الموقف ذاته، مخاطبة أهل الكوفة بقولها:

ص: 41


1- ابن طاووس، علي بن موسى، الملهوف: ص92-93.

«خوّارون في اللقاء، عاجزون عن الأعداء، ناكثون للبيعة، مضيّعون للذمة» (1).

ومنها: قول الإمام الباقر علیه السلام: «إذا اجتمع للإمام عدّة أهل بدر ثلاثمائة وثلاثة عشر، وجب عليه القيام والتغيير»(2). وهذا يكشف بجلاء عن أن الأُمّة لا زالت مؤهلة للنهضة والتغيير في زمان الإمام الباقر علیه السلام، والمشكلة في توفّر الأنصار، واستمرّت الحال كذلك في زمن المعصومين من ذريّته علیهم السلام. كما أن النص صريح أيضاً في أن القيام والتغيير السياسي من الأُسس الدينيّة والأهداف الحيويّة التي يرصدها ويُتابعها كلّ إمام، متابعة ميدانيّة وبشكل متواصل، ومتى ما تحقّقت الشرائط والظروف المناسبة، خرج للتغير وإقامة حكم الله في الأرض.

ومنها: ما هو المشهور والمروي عن مأمون الرقي، قال: «كنت عند سيدي الصادق علیه السلام، إذ دخل سهل بن حسن الخراساني، فسلّم عليه، ثم جلس، فقال له: يا بن رسول الله، لكم الرأفة والرحمة، وأنتم أهل بيت الإمامة، ما الذي يمنعك أن يكون لك حق تقعد عنه، وأنت تجد من شيعتك مائة ألف يضربون بين يديك بالسيف؟! فقال له علیه السلام: اجلس يا خراساني رعى الله حقك. ثم قال: يا حنفية، أسجري التنور. فسجرته حتى صار كالجمرة، وابيضّ علوه، ثم قال: يا خراساني، قم فاجلس في التنور، فقال الخراساني: يا سيدي يا بن رسول الله، لا تعذبني بالنار! أقلني أقالك الله. قال: قد أقلتك، فبينما نحن كذلك، إذ أقبل هارون المكي ونعله في سبابته، فقال: السلام عليك يا بن رسول الله. فقال له الصادق: الق النعل من يدك واجلس في التنّور. قال: فألقى النعل من سبابته ثم جلس في التنور، وأقبل الإمام يحدث الخراساني حديث خراسان، حتى كأنه شاهد لها، ثم قال: قم يا خراساني واُنظر ما في التنور. قال: فقمت إليه فرأيته متربعاً، فخرج إلينا وسلّم علينا، فقال له الإمام: كم تجد بخراسان مثل هذا؟ فقلت: والله، ولا واحداً. فقال علیه السلام: لا والله، ولا واحداً، أما إنّا لا نخرج في زمان لا نجد فيه خمسة معاضدين لنا، نحن أعلم بالوقت»(3). فكان التغيير السياسي

ص: 42


1- المفيد، محمد بن محمد، الأمالي: ص322
2- القاضي النعمان، أبو حنيفة، دعائم الإسلام: ج1، ص342.
3- ابن شهر آشوب، محمد بن علي، مناقب آل أبي طالب: ج1، ص363.

والقيام بنهضة إصلاحيّة في الأُمة من المرتكزات المتأصّلة في نفوس الشيعة والموالين لأهل البيت علیهم السلام، وكان الإمام علیه السلام على دراية تامّة بمتطلّبات المرحلة، ومن أهمّ متطلباتها وجود الأنصار المؤيدين والمخلصين لدينهم وإمامهم، الذين يحملون ما يحمله هارون المكي من تسليم وإخلاص وتفانٍ بين يدي إمامه وقائده وسيّده الصادق علیه السلام، وهذا ما لم يظفر به أحد من الأئمة المعصومين، إلّا الإمام الحسين علیه السلام، فخرج بأهله وأصحابه المخلصين؛ لطلب الإصلاح والتغيير.

ومنها: ما روي عن عبد الله بن بكير، عن أبي الحسن موسى بن جعفر علیه السلام، قال: «يا بن بكير، إني لأقول لك قولاً قد كانت آبائي علیهم السلام تقوله: لو كان فيكم عدّة أهل بدر لقام قائمنا، يا عبد الله، إنا نداوي الناس ونعلم ما هم، فمنهم مَن يصدقنا المودّة يبذل مهجته لنا، ومنهم مَن ليس في قلبه حقيقة ما يظهر بلسانه، ومنهم مَن هو عين لعدونا علينا، يسمع حديثنا، وإن أطمع في شيء قليل من الدنيا، كان أشدّ علينا من عدونا»، ثم شرع علیه السلام باستعراض الأوصاف والخصائص المطلوبة في أنصار النهضة والتغيير، قائلاً: «ينتظرون أمرنا ويرغبون إلى الله أن يروا دولتنا، ليسوا بالبذر المذيعين، ولا بالجفاة المرائين، ولا بنا مستأكلين، ولا بالطمعين، خيار الأُمة، نور في ظلمات الأرض، ونور في ظلمات الفتن، ونور هدًى يُستضاء بهم، لا يمنعون الخير أولياءهم، ولا يطمع فيهم أعداؤهم، إن ذُكرنا بالخير استبشروا وابتهجوا واطمأنت قلوبهم وأضاءت وجوههم، وإن ذُكرنا بالقبح اشمأزت قلوبهم واقشعرت جلودهم وكلحت وجوههم، وأبدوا نصرتهم وبدا ضمير أفئدتهم، قد شمّروا فاحتذوا بحذونا وعملوا بأمرنا، تعرف الرهبانية في وجوههم، يصبحون في غير ما الناس فيه، ويمسون في غير ما الناس فيه، يجأرون إلى الله في إصلاح الأُمة بنا، وأن يبعثنا الله رحمة للضعفاء والعامة، يا عبد الله، أولئك شيعتنا، وأولئك منّا، أولئك حزبنا وأولئك أهل ولايتنا»(1). إذن هذه هي المواصفات الحقيقيّة لحزب أهل البيت علیهم السلام، والذي يطمحون لتشكيله وإصلاح الأُمّة به، ولكنه لم يجتمع هذا الحزب الإلهي بتلك الخصائص كما أشرنا،

ص: 43


1- الطبرسي، أحمد بن علي، مشكاة الأنوار: ص128.

إلا تحت قيادة الإمام الحسين علیه السلام، فنهض بالأمر.

ومنها: ما روي عن عبد العظيم الحسني، قال: قلت لمحمد بن علي بن موسى علیهم السلام: «يا مولاي، إني لأرجو أن تكون القائم من أهل بيت محمد، الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً. فقال علیه السلام: ما منا إلّا قائم بأمر الله، وهادٍ إلى دين الله، ولكن القائم الذي يُطهّر الله به الأرض من أهل الكفر والجحود، ويملأ الأرض قسطاً وعدلاً، هو الذي يخفى على الناس ولادته، ويغيب عنهم شخصه... يجتمع إليه من أصحابه عدة أهل بدر: (ثلاثمائة وثلاثة عشر) رجلاً من أقاصي الأرض... فإذا اجتمعت له هذه العدة من أهل الإخلاص، أظهر الله أمره، فإذا كمل له العقد وهو: (عشرة آلاف) رجل، خرج بإذن الله، فلا يزال يقتل أعداء الله حتى يرضى عز وجل» (1).

ومن هنا؛ نجد أن النصوص الكثيرة والمتضافرة قد نصّت على محورية أصحاب الإمام المهدي علیه السلام في مسألة شرائط الظهور وقيام دولة المعصوم الإلهية العالمية العادلة. كما ورد ذلك في كلام الإمام الصادق علیه السلام، حيث يقول: «كأني أنظر إلى القائم علیه السلام على منبر الكوفة، وحوله أصحابه ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً، عدّة أهل بدر، وهم أصحاب الألوية، وهم حكّام الله في أرضه على خلقه» (2).

ثمّ إن هناك مواقف سياسية كثيرة ومتنوّعة صدرت من الأئمة علیهم السلام في أزمنة ومراحل مختلفة، جميعها يؤكّد ما بيّناه، من أن الأصل في حركة المعصوم هو الإصلاح والتغيير السياسي وإقامة الدولة الإلهيّة، وأن هذا من الأُمور الممكنة والمتيسّرة، إلا في حال فقدان الشرائط التي يتطلبها التغيير، وأهمّها توفّر الأنصار واستعداد الأُمّة لذلك، ومن تلك المواقف السياسيّة على سبيل المثال:

1- الدعم السري المتواصل لكثير من الحركات الثوريّة، التي كانت تخرج لمقارعة الطغاة والدفاع عن حقوق المظلومين والمضطهدين.

ص: 44


1- الصدوق، محمد بن علي، كمال الدين وتمام النعمة: ص377- 378.
2- المصدر السابق: ص672-673.

2- العمل بشكل دؤوب ومتواصل لبناء المجتمع الإيماني الصالح المتماسك والقويّ والقادر على إدارة شؤونه بشكل ذاتي ومستقلّ.

3- تكريس فكرة مقاطعة الجبت والطاغوت في نفوس أتباع أهل البيت علیهم السلام، وأن الحكومات القائمة باطلة وغير شرعية ومُفسدة في الأرض، وأن الحكومة التي ينبغي ترقّبها والاستعداد لها هي حكومة المعصوم، القائمة على أسس العدالة والقسط.

4- المنع من التحاكم للجبت والطاغوت، وتغذية المجتمع الإيماني بالفقه الفردي والاجتماعي والأخلاقي والاقتصادي والسياسي وغير ذلك، ممّا يُغني الشيعة عن الاحتياج لأروقة الحكّام والسلاطين.

5- ترسيخ عقيدة المهدي، التي تمثّل فكرة مقاطعة ومقارعة الطغاة، والسعي لإقامة حكم الله في الأرض.

لكننا أعرضنا عن البحث التفصيلي في جميع هذه المواقف والأدوار والسياسات المتنوعة، طلباً للاختصار وبما يُناسب طبيعة المقال.

نتائج البحث

أولاً: إنّ الأُمّة كانت مؤهلة للإصلاح والتغيير السياسي بقيادة المعصوم، حتى بعد الانحراف عن الحقّ الذي تورّطت به الأُمّة بعد وفاة النبي الأكرم صلی الله علیه و آله .

ثانياً: إن المنهج القويم والأصل في حركة المعصومين علیهم السلام هو القيام والنهوض لمقارعة الظالمين، والعمل على إسقاط الحكومات الباطلة والفاسدة، والتخطيط لإقامة حكم الله في الأرض، ولكن مع توفر الشرائط ومقوّمات الخروج، والتي من أهمّها وجود الأعوان والأنصار، المؤمنين بالفكرة، والمخلصين لها.

ثالثاً: لقد توفّرت كافّة الشرائط المطلوبة للنهوض في الفترة الزمنيّة لإمامة الحسين علیه السلام، فنهض للتغيير والإصلاح في الأُمة، ولكن الخذلان بعد ذلك هو الذي أدى إلى النتيجة المأساوية.

ص: 45

رابعاً: تُعدّ المهادنة للسلطات الفاسدة من الكبائر، ولا يُصار إليها إلا في حال الضرورة القصوى، وحينما تتقطّع كافة السُّبل للتغير والإصلاح.

خامساً: إن للأئمة علیهم السلام أدوارهم المختلفة بحسب اختلاف الوقائع والظروف المتلوّنة والمتغيّرة التي يعيشونها، ومنها نستلهم الشرعية والنهج الصحيح، وليس من الصائب تغليب دور على حساب الآخر، فلو ثبت أن الخروج لإسقاط السلطة الظالمة من مبادئ النهضة الحسينية، فليس لنا التشكيك في ذلك عطفاً على أدوار بعض الأئمة علیهم السلام في ظروف خاصّة مغايرة ومختلفة، عاشوها في فترة إمامتهم، فالأهداف الإلهية متنوّعة والأدوار مختلفة.

سادساً: إن هناك نهضة علوية ونهضة حسنية ونهضة حسينية، تعاقبت وتسلسلت في مسار واحد، واستهدفت استئصال الأنظمة الفاسدة، والانقلاب عليها، وإقامة حكم الله في الأرض، وكان الأئمة من وُلد الحسين علیهم السلام يسعون لذلك النحو من التغيير، ويأملون في تحقيقه لإصلاح الأُمّة، ولكن من دون جدوى، فاضطروا بشكل طارئ للقبول بالمهادنة، والجلوس عن حقّهم. هذا. ونسأل الله تعالى العفو والمعافاة في الدنيا والآخرة.

ص: 46

دِرَاسَاتٌ في آفَاقِ النَهضَةِ الحَسَينِيَّة

اشارة

*مشروع دراسة الحركة الحسينية

*منطلقات النهضة الحسينية وخلفياتها

القسم الثاني (مشروع التوريث)

*عناصر الانتصار الحسيني

وتجلّياته في المجتمع الإسلامي

*مصرع الحسين علیه السلام

وقاعدة نفي السبيل على المؤمنين

ص: 47

ص: 48

مَشرُوع دِرَاسَة الحَرَكة الحُسَينِيَّة

اشارة

آیةُ الله السَّیِّد مُنیر الخَبَاز

توطئة

إنّ ما نطرحه من هذه البحوث ليس تحقيقاً لمفاصل الحركة الحسينية، ولا هو اختيارٌ لرأي من الآراء، وإنّما هو منهجيةٌ لكيفية دراسة حركة الإمام الحسين علیه السلام، ووضعٌ أو بيانٌ للأُسس العلمية التي ينبغي الدخول منها إلى دراسة الحركة الحسينية، فهذه الدراسة تشكل الهيكلية العامة لهذه الحركة المباركة.

جهات البحث

اشارة

إنّ مشروع دراسة الحركة الحسينية بأُسس علمية معرفية، وكذا تناولها في إطار البحث الموضوعي، يحتاج إلى البحث والتأمّل في جهات متعدّدة ومتنوعة، منها:

ص: 49

الجهة الأُولى: هل نحن معنيّون بتفسير الحركة الحسينية؟
اشارة

لا بدّ في بداية البحث من طرح هذا السؤال، وهو: هل نحن معنيون ومطالبون بتقديم تفسير للحركة الحسينية وشرح المبررات والأهداف لهذه الحركة أم لا؟ وهنا قد يُجاب بالنفي أو الإثبات:

وجوه النفي

قد يقال: إنّنا غير معنيين بذلك؛ بلحاظ أحد أُمور:

الأول: إنّ ما قام به الإمام الحسين علیه السلام يُعتبر امتثالاً لتكليف شخصي، والتكليف الشخصي لسنا معنيين بتفسير هويته أو مطالبين بامتثاله، وهذا كتكليف النبيّ صلی الله علیه و آله ببعض الأُمور الخاصة كوجوب صلاة الليل ونحوها؛ فيعتبر هذا التكليف من التكاليف الخاصة بذلك المعصوم، ولسنا مكلَّفين به أو مسؤولين عنه.

الثاني: لو تنزّلنا - عمّا سبق - وفرضنا أنّ ما قام به الإمام الحسين علیه السلام هو تطبيق لتكليف عام لا يختص به، مع ذلك فنحن غير مسؤولين عن ذلك التكليف؛ والسبب في ذلك هو أنّ تطبيقه لا يكون إلّا من خلال شروط موضوعية، وتعيين تلك الشروط والظروف المناسبة وتشخيصها بيد المعصوم علیه السلام، وهو أمرٌ خارج عن إطار قدرتنا وإمكاناتنا البشرية العاديّة القابلة للخطأ والصواب.

وبالتالي؛ فنحن لسنا معنيين بتفسير هوية الحركة أو شرح مبرراتها؛ إذ لا ثمرة في ذلك.

الثالث: إنّ الأئمّة المعصومين علیهم السلام لم يتصدوا لشرح حقيقة هذه الحركة، ولم يتصدوا لوضع المبررات لها، وإنّما اكتفوا بربط الأُمّة الإسلامية بحركة الإمام الحسين علیه السلام ربطاً غيبياً من خلال المراسم العزائية، أو ربطاً عاطفياً من خلال إثارة الضمائر المتفاعلة مع حركة الإمام الحسين علیه السلام. فإذا كان هذا هو موقف أهل البيت علیهم السلام من النهضة الحسينية، فموقف غيرهم لا بدّ أن يتطابق معهم؛ لأنّهم أهل العصمة والطهارة.

ص: 50

وجوه الإثبات

ولكن قد يقال في مقابل وجوه النفي المتقدّمة: بأنّ هناك وظيفة ومسؤولية على عواتقنا وهي ضرورة شرح حركة الإمام الحسين علیه السلام المباركة؛ وذلك لوجوه ثلاثة تصلح للرد على ما تقدم من وجوه النفي:

الوجه الأوّل: إنّ حركة الإمام الحسين علیه السلام كانت تطبيقاً لتكليف عام توافرت فيه كافّة الشروط، وحيثما توافرت الشروط تعيَّن التكليف، وأمّا تشخيص الظروف المناسبة لتطبيق مثل هذا التكليف في كل زمان فهو بيد الأُمّة من خلال طرق الإحراز التعبّدي؛ إذ ليس المطلوب من المكلَّف أن يصل إلى تشخيص موضوع التكليف وقيوده تشخيصاً حقيقياً يقينياً، وإنّما هو مُطالَب بالطرق التعبّدية بإحراز موضوع التكليف وقيوده، وهذا أمرٌ ممكن، بل لازم على المكلَّف في كل زمان، سواء أكان فرداً أم مجتمعاً. وبذلك يتبيَّن ضرورة دراسة وتحليل النهضة الحسينية بشكل مفصَّل وواضح.

الوجه الثاني: إنّ شرح حقيقة هذه الحركة هو مصداق من مصاديق التعرّف على مقامات الإمام المعصوم علیه السلام، فإنّ من مقامات الإمام المعصوم وصوله إلى مرتبة الشهادة، ومن مقاماته علیه السلام قيامه بحركة تُعدّ مظهراً لمشيئة الله ومظهراً للهداية الإلهية التي أُنيطت بهداية المعصوم علیه السلام؛ فالتعرّف على هذه الحركة هو مصداق وصغرى من صغريات معرفة مقاماتهم العظيمة.

ومن الواضح، فنحن مكلَّفون بمعرفة مقاماتهم ومراتبهم الوجودية الإلهية.

كما أنّ التعرّف على مقاماتهم يُعتبر من صغريات إحياء أمرهم، ولا يتوقف إحياء الأمر على إقامة المراسم العزائية فحسب، وإنّما من أوضح مصاديقه هو شرح مقاماتهم وتفسير مسيرتهم وبيان الأسرار الخفية والأهداف الإلهية في هذه المسيرة العظيمة. ومن الواضح فنحن مأمورون بإحياء أمرهم علیهم السلام.

الوجه الثالث: إنّ التعرّف على حركة الإمام الحسين علیه السلام هو تعرّفٌ على السنن التاريخية والسنن الإلهية في مسيرة تاريخ المعصومين بصفة عامة، فكما أنّ لحركة التاريخ

ص: 51

سنناً اجتماعية تحكمها في كل جيل وفي كل فترة من الفترات، فإنّ هناك - أيضاً - سنناً إلهية متكررة تحكم تاريخ الرسالة السماوية وتاريخ مسيرة الدين نفسه، فإنّه يستفاد من الآيات المباركة: «إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ *ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34)»(1)، «وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ»(2)، وقوله عن لسان إبراهيم علیه السلام:«رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ»(3): إنّ العلم والعصمة والنبوّة هي في أُسرة واحدة وسلالة واحدة، انحدرت من الأجداد إلى الآباء إلى الأبناء، وإنّ جعل هذا العلم في هذه الأُسرة وفي هذه السلالة هو عامل من عوامل نشأة الحجية لكل معصوم من هؤلاء المعصومين بلحاظ أنّه انحدار من هذه الأصلاب الطاهرة، بعضها من بعض، وهو عامل في تخلق النطفة منذ تكونها في هذا الإطار القدسي المعطر بالعلم والعصمة والكتاب، فالانحدار من عصمة واحدة عاملٌ من عوامل تخلق النطفة وهي مقترنة بالحجية والإمامة على الخلق، وهذا هو معنى أنّ فيهم ميراث النبوّة والإمامة، وهو معنى ما ورد في الزيارة الشريفة للإمام الحسين علیه السلام: «السلام عليك يا وارث آدم صفوة الله... »(4)، فإنّه ليس المقصود هو الإرث الحسّي وهو تناقل الكتب السماوية من يد إلى يد أُخرى، بل إنّ هذا النوع من الإرث ما هو إلّا مظهر من مظاهر الإرث الحقيقي؛ بمعنى أنّ هذا السنخ من المعلومات والقداسة والعصمة حمله صلب واحد وعرق واحد ممتد في هذا النور الذي تَقلَّب في الأصلاب والأرحام: «أشهدُ أنّك كنتَ نوراً في الأصلاب الشامخة والأرحام المطهَّرة، لم تنجّسك الجاهلية بأنجاسها، ولم تُلبسك من مُدلهمّات ثيابها»(5). فقراءة ثورة الحسين علیه السلام وتفسير ماهية

ص: 52


1- آل عمران: آية33-34.
2- الحديد: آية26.
3- البقرة: آية129.
4- ابن قولويه، محمد بن جعفر، كامل الزيارات: ص375.
5- الطوسي، محمد بن الحسن، مصباح المتهجّد: ص721.

تلك الحركة المباركة - من أجل التعرّف على السنن الإلهية في حركة تاريخ الرسالة - من الأُمور المهمّة جدّاً، والتي لا بدّ من دراستها والتنقيب عنها بشكل مفصّل وواضح.

فإنّنا عندما نسأل - مثلاً -: ما هي العلاقة بين أن يُقيم إبراهيم علیه السلام الكعبة وأن يكون بزوغ نبوّة النبيّ صلی الله علیه و آله من الكعبة، وأن يكون ظهور المهدي المنتظر عجل الله تعالی فرجه الشریف من الكعبة؟

وما هي العلاقة بين تقديم إسماعيل علیه السلام للذبح قرباناً إلى الله، وتقديم الحسين علیه السلام قرباناً إلى الله تبارك وتعالى وفداءً للدين؟

وما هي العلاقة بين زواج الإمام علي علیه السلام من امرأة عراقية (فاطمة أُمّ البنين) وبين خروج الإمام علي علیه السلام إلى العراق والانتقال بالعاصمة الإسلامية إلى هناك؟ وما هي العلاقة بين خروج الإمام علي علیه السلام إلى العراق، واختيار الإمام الحسين علیه السلام العراق مهداً لحركته، واختيار المهدي المنتظر عجل الله تعالی فرجه الشریف العراق عاصمة لدولته دولة العدل والقسط؟ وما هي العلاقة بين زواج الحسين علیه السلام من امرأة فارسية لتكون أُمّاً لزين العابدين علیه السلام، وبين كون بلاد فارس قاعدة للتشيع وخروج الخراساني الذي هو من أنصار الإمام المهدي من هذه القاعدة؟ وما هي العلاقة بين كون أُمّ الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف جارية رومية وكون المسيح عيسى بن مريم علیه السلام ركناً من أركان دولة المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف؟

فإنّ هذه الأحداث ليست أُموراً وقعت صدفة من دون أن تكون بينها روابط، بل إنّ هذه الأحداث تكشف لنا عن سنن إلهية كانت بمثابة وضع روابط مفاصل حركة الدين وحركة الرسالة منذ نوح علیه السلام - الذي أرسى سفينته في الكوفة - إلى ظهور المهدي المنتظر عجل الله تعالی فرجه الشریف وقيام دولته المباركة في الكوفة. فالتعرّف على حركة الحسين علیه السلام وتفسير ماهيّتها وشرح مبرّراتها لربطها بهذه المسيرة (مسيرة الرسالة) منذ اليوم الأول لها إلى آخر يوم على وجه البسيطة(1)، فالمبرّر لدراسة حركة الإمام علیه السلام وكوننا معنيين بالدراسة هو الوصول إلى كل تلك المعارف المهمة على مرّ تاريخ الرسالة الإلهية، وهو الغاية

ص: 53


1- خصوصاً مع الأخذ بروايات الرجعة وأنّ الإمام الحسين علیه السلام كما هو فاتح لهذه الثورة فهو خاتم أيضاً، حيث إنّه في الرجعة يكون له الحكم، ويكون قيام الدولة المباركة أيضاً على يده، كما هو على يد حفيده الإمام المنتظر عجل الله تعالی فرجه الشریف.

القصوى من الدين.

الجهة الثانية: الرؤية الفقهية للحركة الحسينية

وفي هذه الجهة هناك مجموعة من الأسئلة المهمة، أولاً: هل ما قام به الإمام الحسين علیه السلام امتثال لتكليف شخصي يخصّه، كما قد يستشعره البعض من قوله علیه السلام: «إنّ رسول الله صلی الله علیه و آله قد أمرني بأمرٍ وأنا ماضٍ فيه»(1)، أم أنّه علیه السلام كان في إطار تطبيق تكليف عام، لا امتثال لتكليف شخصي؟

ثم لو كان التكليف عاماً، نسأل ثانياً: هل ذلك التكليف العام تكليف فردي أم تكليف اجتماعي؟ أي: هل المخاطب بذلك التكليف كل فرد فرد، أو أنّ المخاطب بذلك التكليف الأُمّة والمجتمع بأسره؟

فإن اخترنا أنّ ما قام به الإمام الحسين علیه السلام هو تطبيقٌ لتكليف فردي، فنسأل ثالثاً: ما هو ذلك التكليف الفردي؟ هل هو الدفاع عن النفس(2)؟ أم أنّ ذلك التكليف الفردي هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حيث إنّ من موارد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: أنّه إذا توقّف تأثير النهي عن المنكر على إتلاف النفس - أحياناً - أو المال أو الجاه والمنصب، فإنّ النهي عن المنكر يُقدّم على تلك الأضرار وإن كانت جسيمة؛ وذلك لكون المنكر جسيماً جداً، وهذا ما يستشعره بعضهم من خلال قول الإمام الحسين علیه السلام: «وإنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً، ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في أُمّة جدّي صلی الله علیه و آله ، أُريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر»(3)؟

وإذا اخترنا أنّ حركة الإمام الحسين علیه السلام هي تطبيقُ تكليفٍ يخصّ الأُمّة والمجتمع الإسلامي، وليس المخاطب به فرداً من الأفراد؛ لذلك فقد أراد الإمام الحسين علیه السلام

ص: 54


1- ابن طاووس، علي بن موسى، اللهوف في قتلى الطفوف: ص21.
2- كما في بعض كلمات المحلّلين لحركة الإمام الحسين علیه السلام: أنّه حيث ضويق في المدينة خرج إلى مكة، وحيث ضويق في مكة خرج منها، وحيث ضويق في حركته إلى الكوفة دافع عن نفسه وهو في طريقه إلى الكوفة، فانتهى هذا الدفاع بمقتله وشهادته العظيمة وبتلك الفاجعة الكبرى.
3- المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج44، ص329.

بحركته تشريع هذا الأمر الذي تُخاطَب به الأُمّة، وتطبيقه في الوقت نفسه؛ من هنا تظهر لنا عدّة احتمالات:

الأول: هل ذلك الأمر الذي خوطبت به الأُمّة الإسلامية - آنذاك - هو الأمر بحفظ مقام الإمامة عن الإذلال، والذي قد يُستفاد من قوله: «إنّا أهل بيت النبوّة، ومعدن الرسالة، ومختلف الملائكة، بِنا فتح الله وبنا ختم الله، ويزيد رجلٌ فاسق، شارب الخمر، قاتل النفس المحرمة، معلنٌ بالفسق، ومثلي لا يبايع مثله»(1)، وقال: «ألا وإنّ الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين، بين السلة والذلة، وهيهات منّا الذلّة، يأبى الله ذلك لنا ورسوله والمؤمنون»(2). فالأُمّة مخاطبة بصيانة هذا المنصب من أن يكون معرَّضاً للإذلال، وقبول بيعة يزيد بن معاوية تعريضٌ لهذا المنصب للإذلال؟

الثاني: أو يقال: إنّ المسألة لا ترتبط بمنصب الإمامة بما هو منصب الإمامة، بل إنّ منصب الإمامة هنا ملحوظ على نحو الطريقية للدين نفسه وليس ملحوظاً على نحو الموضوعية؛ فيكون الخطاب للأُمة في هذا الأمر متوجِّهاً لإعزاز الدين، فإذا ما بايع الإمام الحسين علیه السلام يزيدَ بن معاوية وأمثاله تحقّق معنى الإذلال للدين نفسه، ومن الواضح أنّ الأُمّة مطالبة بإعزاز الدين نفسه؛ إذ العزّة لله ولرسوله، كما قال تعالى:«وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ»(3)، وهذا هو المقصود من قوله علیه السلام: «يأبى الله ذلك لنا ورسوله والمؤمنون...».

الثالث: أو يقال: إنّ التكليف الذي خوطبت به الأُمّة هو تسليم مقام الخلافة إلى أهله، فليس المطلوب مجرد صيانة المنصب عن الإذلال، أو مجرد أن يكون الدين عزيزاً، بل لا بدّ من تسليم هذا المقام إلى أهله، وهذا كما يُعتبر تكليفاً للأُمّة فهو حق من حقوقها أيضاً؛ لأنّ من حقوق الأُمّة نفسها أن تكون تحت قيادة معصومة تمثل الإرادة السماوية

ص: 55


1- ابن طاووس، علي بن موسى، اللهوف في قتلى الطفوف: ص17.
2- المصدر السابق: ص59. ابن نما الحلي، محمد بن جعفر، مثير الأحزان: ص40.
3- المنافقون: آية8.

تشريعاً وتطبيقاً. وبالتالي؛ فلا بدّ للأُمّة أن تقوم بمسؤوليتها في سبيل إرجاع هذا المنصب إلى أهله، وفي سبيل المطالبة بحقها في القيادة المعصومة.

الرابع: أو أن يقال: إنّ الأمر الذي خوطبت به الأُمّة هو إقامة العدالة، كما في قوله:«لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ »(1)، فهي مطالبة بذلك سواء تمكّنت الأُمّة من إرجاع الأمر إلى أهله أم لم تتمكن من ذلك؛ لأنّ المطلوب الأصلي هو إقامة العدالة على الأرض، وإن كانت العدالة التامة لا تتحقق إلّا بقيادة المعصوم وكون الأمر بيده تشريعاً وتطبيقاً، إلّا أنّ هناك مرتبة أُخرى من العدالة يمكن للأُمّة تحقيقها.

فحينئذ - وبعد هذه الاحتمالات - لا بدّ من دراسة أنّ هذا التكليف الجماعي أو التكليف العام الذي خوطبت به الأُمّة الإسلامية، والذي أراد الحسين علیه السلام بحركته تشريعه وتطبيقه مع أيٍّ من هذه الاحتمالات السابقة ينسجم ويتطابق؟

وهنا تنشأ أسئلة أُخرى، بأن يقال: على فرض أنّ ما قام الإمام الحسين علیه السلام بتطبيقه هو التكليف بإرجاع مقام الخلافة إلى أهله، أو التكليف بإقامة العدالة على الأرض، فهل كان المخطط الحسيني هو أن يتمّ هذا الهدف - وهو إقامة العدالة أو دولة العدالة أو الدولة المعصومة - على يده، أم أراد أن يكون هو المفتاح لهذا المشروع ولهذا الخط؟ فكما أنّ النبيّ صلی الله علیه و آله والإمام أمير المؤمنين علیه السلام كانت مهمتهما التأسيس للدولة الإسلامية؛ إذ أتمّ الإمام علي علیه السلام في عصره التشريعات المتعلّقة بالدولة الإسلامية من حيث السلطة القضائية والتنفيذية ووضع القوانين الاجتماعية والاقتصادية للدولة الإسلامية - كما يظهر من عهده لمالك الأشتر رضي الله تعالى عنه - وأصبح الدور الآخر على عاتق الإمام الحسين علیه السلام ومن بعده الأئمّة علیهم السلام، وهذا الدور هو الشروع في حركة تطبيق تلك التشريعات والقوانين على أرض الدولة الإسلامية، فالحسين علیه السلام أراد أن يكون هو المفتاح للشروع بهذا الدور، لا أن يتمّ هذا الأمر على يده في عصره وفي زمانه، بل هو

ص: 56


1- الحديد: آية25.

المفتاح لجميع ما حصل من ثورات وحركات منذ يومه علیه السلام إلى ظهور الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف، فجميع ذلك مراحل لنفس حركة الإمام الحسين علیه السلام، وإنّ دولة المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف ما هي إلّا امتداد لهذا المشروع الحسيني العظيم ومرحلة من مراحله.

وبالتالي؛ فلا مانع من أن يكون دور الحسين علیه السلام هو وضع الإطار العام لهذه الحركة العظيمة، وأن تكون شهادته علیه السلام بذرة لبداية وانطلاقة هذا المشروع إلى ظهور المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف، وليس ذلك تحجيماً لدور الحسين علیه السلام ومقامه؛ فإنّ حركة كل إمام معصوم هي بحجم الظروف الموضوعية التي عاش فيها، فعندما يقال: إنّ الدور الحسني كان دور الصلح وحقن الدماء والتمهيد لثورة الحسين علیه السلام، فإنّ هذا ليس تحجيماً لدور الحسن علیه السلام؛ وإنّما دوره ومسؤوليته في زمانه بحجم الظروف الموضوعية التي عاش فيها، وكذلك دور الصادِقَين علیهما السلام، ودور الكاظم علیه السلام، ودور الرضا علیه السلام، ودور الإمامين العسكريين علیهما السلام الذي اقتصر على إجابة المسائل والاستفتاءات وصرف الحقوق من خلال وكلائهم؛ فإنّ الظروف هي التي جعلت الدور بهذا الإطار، وليس ذلك تحجيماً لدورهم علیهم السلام.

فكل تلك الأسئلة بحاجة إلى دراسة فقهية من أجل معرفة أنّ ما قام به الإمام الحسين علیه السلام هل هو تطبيق لتكليف خاص أو لتكليف عام، وما هي حقيقة ذلك التكليف؟

الجهة الثالثة: الرؤية التحليلية للحركة الحسينية
اشارة

يُبحث في هذه الجهة عن قسمين:

القسم الأول: البحث عن ماهية وحقيقة الحركة الحسينية

وهذا البحث من قبيل ما يقال: ما هي ماهية وحقيقة حركة الرسول صلی الله علیه و آله ؟ فيُجاب: إنّ ماهيتها وحقيقتها الدعوة والبيان. ومن قبيل ما يقال: ما هي حقيقة حركة الإمام المهدي المنتظر عجل الله تعالی فرجه الشریف؟ فيُجاب: إنّ حقيقتها إقامة دولة العدل والقسط. وهنا نسأل أيضاً: ما هي حقيقة حركة الإمام الحسين علیه السلام؟

ص: 57

وللجواب عن هذا السؤال لا بدّ من الرجوع إلى كلمات وشعارات صاحب الحركة (الإمام الحسين علیه السلام)؛ لكي تتّضح وتتحدّد الإجابة المناسبة والصحيحة.

عندما نقرأ تصريحات الإمام الحسين علیه السلام - من أول انطلاقة الحركة والثورة وحتى يوم شهادته - نجد أنّها تُشير إلى عدة حقائق:

أولاً: رفض البيعة: فإنّ هناك تصريحاً للإمام علیه السلام يظهر منه أنّ واقع الثورة هو رفض البيعة؛ لأنّ في البيعة إذلالاً حينما قال علیه السلام: «ومثلي لا يبايع مثله».

ثانياً: امتثال الأمر الإلهي: هناك تصريحٌ آخر يظهر منه أنّ المطلوب امتثال الأمر الإلهي، وذلك في قوله علیه السلام: «أتاني رسول الله صلی الله علیه و آله ... فقال: يا حسين، اخرج؛ فإنّ الله قد شاء أن يراك قتيلاً، فقال له ابن الحنفية:... فما معنى حملك هؤلاء النساء معك وأنت تخرج على مثل هذه الحال؟ فقال له: قد قال لي: إنّ الله قد شاء أن يراهنّ سبايا»(1).

ثالثاً: الإصلاح: وهنا يظهر منه علیه السلام أنّه في إطار إنشاء مشروع إصلاحي، وهو ما ذكره علیه السلام لأخيه محمد بن الحنفية في وصيته له: «وإنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً، ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في أُمّة جدّي صلی الله علیه و آله ...»، بناءً على أنّ المراد بالخروج هو خروجه علیه السلام على الدولة الظالمة آنذاك، وليس الخروج من مكة إلى العراق.

رابعاً: مواجهة الظلم: وفي موقع رابع صرّح علیه السلام وهو في طريقه إلى العراق بأنّ الظلم لا بدّ من مواجهته: «ألَا ترون الحق لا يُعمَل به، والباطل لا يُتناهى عنه؛ ليرغب المؤمن في لقاء الله، وإنّي لا أرى الموت إلّا سعادة، والحياة مع الظالمين إلّا برماً»(2).

خامساً: الزحف المقدّس: المعنى الآخر الذي صرح علیه السلام به هو الزحف على كل حال؛ لأنّه لا خيار غير هذا العمل: «ألَا وإنّي زاحف بهذه الأُسرة على قلّة العدد، وكثرة العدو، وخذلة الناصر»(3).

ص: 58


1- ابن طاووس، علي بن موسى، اللهوف في قتلى الطفوف: ص40.
2- ابن شهر آشوب، محمد بن علي، مناقب آل أبي طالب: ج3، ص224.
3- ابن عساكر، علي بن الحسن، تاريخ مدينة دمشق: ج14، ص219.
الآراء في تعدّد وتنوّع كلمات الإمام الحسين علیه السلام

إذن، فهناك مجموعة من التصريحات والكلمات - المختلفة ظاهراً - قد صدرت من الإمام الحسين علیه السلام؛ من هنا لا بدّ من طرح هذا السؤال: هل هذه الموارد هي عبارة عن عوامل متعددة أم لا؟ فهنا عدّة آراء:

الرأي الأول: إنّ هذه الموارد والتصريحات هي عبارة عن عوامل متعدّدة وعلل ومبرّرات متنوعة في حركة واحدة.

الرأي الثاني: إنّه لا بدّ من إرجاع هذه المبرّرات كلها إلى هدف واحد، كما حاول الشهيد المطهري في كتابه الملحمة الحسينية من إرجاعها إلى حركة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

الرأي الثالث: هناك نظرة أُخرى لهذه التصريحات، وهي أن يقال: بأنّها تعبير عن مراحل مرّت بها الحركة الحسينية؛ أي: إنّ كل تصريح يتحدّث عن دور ومرحلة من المراحل تكون كل مرحلة تمهيداً لبروز مرحلة أُخرى.

وعليه؛ فهنا مراحل:

المرحلة الأُولى: مرحلة المدينة، وكانت مرحلة رفض البيعة - سواء أكان الإمام الحسين علیه السلام مختاراً في هذا الرفض أم مضطراً إليه، فهذا شيء آخر - ومن الطبيعي أن تكون لهذه المرحلة كلماتها الخاصة بها.

المرحلة الثانية: وهي مرحلة الخروج من مكة، وكانت مرحلة إظهار أنّه في مقام امتثال أمر إلهي، وكان لا بدّ لهذا الخروج من تفسير أمام صحابة النبيّ صلی الله علیه و آله والتابعين ومَن كان في حالة استغراب من خروج الحسين علیه السلام يوم التروية والناس قادمة إلى الحج في مكة.

المرحلة الثالثة: مرحلة تحديد الزمان والمكان، فأمّا المكان، فقد اختار علیه السلام العراق لانطلاق الثورة، وهو ما ذكره علیه السلام: «ألم تكتبوا لي أن أقبل إلينا لقد أينعت الثمار واخضر

ص: 59

الجناب، وإنّما تقبل على جند لك مجنّدة»(1)، فهذا النص يعبِّر عن هذه المرحلة في الحركة الحسينية، وليس هو تعبيراً عن أصل الحركة نفسها، بل هو تعبير عن تحديد الموقع والمكان.

كما يظهر منه علیه السلام أنّه أخَّر المعركة إلى يوم عاشوراء باختياره وإرادته؛ لأنّها كادت أن تتم في يوم التاسع من المحرم، إلّا أنّه علیه السلام اختار الزمان المناسب كما اختار المكان المناسب. فكل هذه التصريحات التي ترتبط بإرسال مسلم بن عقيل إلى الكوفة، والسؤال عن حركة مسلم بن عقيل ومصيرها، ومعاتبة الحرّ بن يزيد الرياحي ومَن معه بأنّهم كتبوا إليه، وقد أخرج لهم خرجين من الكتب والرسائل، كل ذلك لا يرتبط بأصل الحركة وماهيّتها، بل هو مرتبط بتحديد المكان والزمان.

المرحلة الرابعة: وهي مرحلة يوم عاشوراء (يوم الاستشهاد)، والتصريحات التي برزت منه علیه السلام يوم عاشوراء هي التي تُعبِّر عن المرحلة الأخيرة من مراحل هذه الحركة المباركة.

إذاً؛ فكل تصريح وكل مقطع من كلام الإمام الحسين علیه السلام يُعبِّر عن مرحلة معيّنة تكون ممهِّدة للمرحلة التي بعدها، لا أنّ كل هذه التصريحات تُعبِّر عن ماهية الحركة نفسها، ولا أنّها علل وأسباب متعددة لحركة واحدة.

فهذه جهة من الجهات المهمة التي لا بدّ من بحثها في تفسير ماهية الحركة الحسينية.

القسم الثاني: البحث في عوامل الحركة الحسينية

البحث في أنّ هذه الحركة هل كانت حركة مادية طبيعية، أي: هل كانت في إطار العوامل الطبيعية المتاحة آنذاك، أو لا؟ فهنا احتمالان:

الأول: إنّ الإمام الحسين علیه السلام أراد أن يحقّق هدفه من إقامة العدالة من خلال العوامل التي أُتيحت له، وهي - على سبيل المثال - التحرّك بمئة شخص أو يزيدون أو ينقصون، وبأن يكون له علیه السلام صوت - مثلاً - في الحجاز، وصوت في الكوفة، وصوت في البصرة،

ص: 60


1- الشامي، يوسف بن حاتم، الدر النظيم: ص553. واُنظر: المفيد، محمد بن محمد، الإرشاد: ج2، ص38. والطبري، محمد بن جرير، تاريخ الطبري: ج4، ص262.

وصوت في اليمن، وهذا يُعتبر الدور الأول للحركة، ثم ينتهي هذا الدور في مقطع تاريخي معيَّن، ليأتي دور آخر من قِبَل الإمام السجاد علیه السلام أو العقيلة زينب صلی الله علیه و آله ؛ ليكون إعلاماً لهذه الحركة، بحيث لولاه لانقضت هذه الحركة واندثرت، ثُمّ يأتي الدور الثالث، وهو دور الأئمّة المعصومين علیهم السلام في الإصرار على إقامة المجالس وإحياء الأمر لهذه الحركة المباركة، كما ورد عنهم علیهم السلام: «مَن جلس مجلساً يُحيَى به أمرنا لم يمت قلبه يوم تموت القلوب»(1).

الثاني: إنّ الحركة الحسينية لم تكن مؤطَّرة بالأُطر المادية الطبيعية؛ وذلك من خلال قراءة ما صدر عن النبيّ صلی الله علیه و آله والزهراء صلی الله علیه و آله من أنباء عن مصير هذه الحركة، وأنّه ينصب له علم في الطف، وينصب له علم لا يزيده مرور الأيام وكرور الدهور إلّا علواً، خصوصاً بملاحظة أنّ الظروف الطبيعية لم تكن متأتّية لحجم هذا الهدف الذي صرَّح به الحسين علیه السلام من خلال بياناته ورسائله، فلو كان الأمر خاضعاً للعوامل الطبيعية فقط لما كان وجه لتلك التصريحات المتكررة من قبل الإمام علیه السلام، كيف وهي صدرت من سياسي حكيم يختار دوراً بحجم الظروف وبحجم الإمكانات التي بين يديه؟! وأيضاً عندما نضمّ إلى هذه التنبيهات والمؤشرات ما حدث من إعداد بني أسد في الأيام الأُولى لمقتله علیه السلام من القيام بدور معيَّن، وما حدث للسبايا في طريقهم إلى الكوفة وإلى الشام من معاجز وكرامات إلى آخر هذه الأُمور، فجميعها يُظهِر أنّ هذه الحركة - سواء أكانت حركة إقامة العدالة أم كانت حركة إعزازٍ للدين - لم تكن متأطرة بالعوامل الطبيعية، ولم تكن متقوقعة في هذه الأسباب المادية المحدودة، بل كان للعوامل الغيبية دورٌ في هذه الحركة، ومن هذه العوامل دم الحسين علیه السلام وصبره وعطشه؛ فإنّ هذه الأُمور ربما يُنظَر إليها بمنظار مادي، ويُتعامل معها بالحسابات الطبيعية، فتبدو أُموراً طبيعية في ساحة المعركة، فإنّ مَن يُحاصَر في أرض ويُمنَع عنه الماء فإنّه يموت عطشاً، ومَن يقاتل فإنّه يُراق دمه، ومَن تكون الفئة المحاربة له فئة حاقدة فإنّه من الطبيعي أن تقوم بمجزرة تشمل حتّى ذبح الأطفال والتمثيل بالأجساد وسبي النساء، ولكنّ الأمر ليس كذلك؛ لأنّ هذه الأُمور لا يُنظَر إليها بهذا المنظار الضيّق، وإنّما كل هذه

ص: 61


1- الصدوق، محمد بن علي، الأمالي: ص131، ح119.

الأُمور هي جزء من الحركة نفسها، فالحركة لم تعتمد على فعل مادي جسدي تمثل في جسم الحسين علیه السلام وهو خارج من المدينة إلى مكة، ثُمّ من مكة إلى كربلاء، ثُمّ قيامه بحركة قتالية معيَّنة، إنّما انضمّت إليها عوامل هي كانت دخيلة - بالمنظور الملكوتي - في تحقيق أهداف الحسين علیه السلام، من دمه وصبره ومحنته وذبح أطفاله وسبي نسائه، بحيث يكون مجموع هذه العوامل الغيبية أقطاباً وأوتاداً اعتمدت عليها الحركة الحسينية، ويكون ذلك تفسيراً لمشيئة الله تعالى بأن يرى الحسين علیه السلام قتيلاً، وأن يرى النساء سبايا.

وبالتالي؛ إذا قُرئت الحركة من هذا المنظار تبيَّن أنّ ما ورد في كثير من فقرات الزيارات الشريفة عن الصادق علیه السلام والأئمّة علیهم السلام من بعده في الحسين علیه السلام من التركيز على نقاط معيَّنة في هذه الحركة: من أنّه صريع الدمعة الساكبة، وصاحب المصيبة الراتبة، وبطل الإسلام، والمضحّي بنفسه في سبيل الله، أو عندما يُخاطب العباس علیه السلام بالصابر المجاهد المحامي الناصر... «أَشهدُ وأُشهِدُ اللهَ أنّك مضيتَ على ما مضى عليه البدريون والمجاهدون في سبيل الله»(1).

فإنّه بذلك يتبيَّن لنا الجواب عن السؤال الذي طرحناه في الجهة الأُولى (هل نحن معنيّون بدراسة الحركة الحسينية أم لا)؟ والجواب: إنّنا معنيّون بدراسة حركة الحسين علیه السلام؛ لأنّنا معنيون بفهم هذه الزيارات الشريفة التي وردت في حركة الحسين علیه السلام، فهي كانت شرحاً لماهية هذه الحركة وتفسيراً لحقيقة هذه الحركة. ومن جهة أُخرى، نفهم من مجموعة هذه الزيارات أنّ الحركة لم تعتمد على العوامل الطبيعية وحدها، وإنّما اعتمدت على مجموعة من العوامل الغيبية التي كانت أوتاداً وأعمدة لتحقيق أهداف هذه الحركة وثمراتها.

إشكال على غيبية الحركة الحسينية

قد يقال: بأنّ تفسير الحركة الحسينية بتفسير غيبي وإخضاعها للعوامل الغيبية يخرجها عن الإطار الإنساني، وبالتالي؛ فلا قابلية ولا صلاحية لها أن تقدم بوصفها مثلاً إنسانياً أعلى

ص: 62


1- ابن قولويه، جعفر بن محمد، كامل الزيارات: ص441.

للحركة الهادفة التي تصل إلى غاياتها ضمن الطرق والسبل الإنسانية والطاقة البشرية.

جواب الإشكال:

يمكن الجواب عن الإشكال المتقدم بأنّ العامل الغيبي على نحوين:

النحو الأوّل: أن يكون العامل نفسه أمراً غيبياً، وهذا نظير تدخّل الملائكة في معركة بدر، كما جاء في قوله تعالى: «وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى»(1)، فهذا العامل في حد نفسه أمرٌ غيبيٌ، ولا ننكر دخله في سلوك المؤمن، فضلاً عن حركة الأنبياء والأوصياء والمصلحين بمقتضى قوله:«أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ»(2). ولكنّنا لا نربط الحركة الحسينية بمثل هذا العامل، وإن كان دخيلاً فيها.

النحو الثاني: أن يكون العامل ذا تأثير ملكوتي إلّا أنّه في حد نفسه عاملٌ بشريٌ إنساني، نظير ما تطرحه مدرسة علم النفس الاستبطاني من أنّ إرادة الإنسان لها دخل في صناعة إنجازاته، والتلقين النفسي من الإنسان لنفسه في كل مرحلة من مراحل خوضه للحياة عامل دخيل في نجاحه ووصوله إلى المعجزات في إنجازاته وأفعاله.

فالمطروح في هذا التفسير هو أنّ هناك مجموعة من العوامل البشرية والإنسانية لها تأثير ملكوتي في إنجاح الإنجاز البشري، فالحسين علیه السلام من أجل الوصول إلى غايته وهدفه من حركته - وهو أن تكون تلك الحركة هي المفتاح أو البذرة أو المنطلق لجميع الحركات والثورات التي تصبّ في تحقيق العدالة والقسط على الأرض - قد استخدم الأدوات البشرية التي لها تأثير ملكوتي في صناعة الإنجاز، نظير الدم الذي يُعبِّر عنه - وهو يجري من طفله أو من قلبه -: «هوَّن عليَّ ما نزل بي أنّه بعين الله»(3)، ونظير العطش الذي عبَّر عنه

ص: 63


1- الأنفال: آية17.
2- المجادلة: آية22.
3- ابن طاووس، علي بن موسى، اللهوف في قتلى الطفوف: ص69. المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج45، ص46.

بخطابه لولده على الأكبر: «فما أسرع ما تلقى جدَّك محمداً صلی الله علیه و آله فيسقيك بكأسه الأوفى شربةً لا تظمأ بعدها أبداً»(1)، ونظير قوة الإرادة التي عبَّر عنها بقوله: «لا والله، لا أُعطيهم بيدي إعطاء الذليل، ولا أُقرّ إقرار العبيد»(2)، ونظير عدم الانحناء الذي عبَّر عنه بقوله:

«أنا الحسين بن علي***أحمي عي-الات أب-ي

آلي-ت أن لا أن-ث-ني ***أمضي على دين النبي»(3).

ونظير لفظ الذلّ الذي عبَّر عنه بقوله: «هيهات منّا الذلة، يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون». فعندما يرد علينا التساؤل: كيف استطاع الحسين علیه السلام بهذا الحجم الصغير من العُدّة والعتاد والأنصار، وفي هذا المدى الزمني القصير الذي خاض فيه المعركة، وفي هذه الوسائل الإعلامية الضئيلة التي توفّرت آنذاك، أن يتجاوز الحدود المادية المعبَّر عنها بالزمكان، وأن يفرض حركته على الزمن، وعلى جميع الأُطُر والإمكانات البشرية؟

فالجواب عن هذا السؤال هو: أنّ الإمام علیه السلام إنّما تخطّى كل هذه القيود، وتجاوز كل هذه الحدود بالأدوات التي هي في ظاهرها أدوات بشرية إنسانية، ولكنّها في واقعها ذات تأثير ملكوتي غيبي في صناعة الحدث وتجاوزه مدى الزمان والمكان، وهذه إحدى المعاني المشار إليها من المشيئة الإلهية برؤيته علیه السلام قتيلاً ورؤية النساء سبايا.

هذا كلّه فيما يتعلّق بهذه الجهة الثالثة، وهي جهة حقيقة وماهية الحركة الحسينية.

الجهة الرابعة: الرؤية العقائدية للحركة الحسينية

دراسة الحركة الحسينية من وجهة نظر عقائدية في غاية الأهمية؛ إذ لا يمكن فصل دراسة حركة حَمَلَة رسالة السماء - من الأنبياء والأوصياء - عن الجانب الاعتقادي،

ص: 64


1- ابن طاووس، علي بن موسى، اللهوف في قتلى الطفوف: ص67. واُنظر: الكوفي، أحمد بن أعثم، الفتوح: ج5، ص115.
2- الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الأُمم والملوك: ج4، ص323. واُنظر: ابن الأثير، علي بن أبي الكرم، الكامل في التاريخ: ج4، ص62.
3- ابن شهر آشوب، محمد بن علي، مناقب آل أبي طالب: ج3، ص258.

وهذا نظير ما تقدم في الجهة السابقة من عدم إمكان فصل حركة المصلحين عن العوامل الغيبية؛ لأنّ منطلقهم من الغيب إلى الغيب، كذلك لا يمكن فصل حركتهم عن الإطار الاعتقادي؛ لأنّهم هم حملته وروّاده.

وبالتالي؛ فلا بدّ من تمهيد البحث في الجهة العقائدية؛ لربطها بثورة الإمام الحسين علیه السلام. فنقول: قد تقرّر من الأحاديث الشريفة أنّ المعصوم علیه السلام هو مظهر لمشيئة الله تعالى، بل هو مشيئة الله تبارك وتعالى بمقتضى ما ورد: «رضا الله رضانا أهل البيت»(1)، وما ورد عن أمير المؤمنين علیه السلام «فإنّا صنائع ربّنا والناس بعد صنائع لنا»(2)، وقوله علیه السلام: «...ونحن إذا شئنا شاء الله، وإذا كرهنا كره الله...»(3)، وبمقتضى ما ورد في زيارة الجامعة: «والمستقرّين في أمر الله»(4)؛ حيث إنّ هناك عالَ-مَين: عالم الخلق وعالم الأمر، وقد أُشير إليهما بقوله:«أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ »(5) وإنّ عالم الخلق انعكاس لعالم الأمر، فالاستقرار في عالم الأمر يعني أنّ القرار في عالم الخلق بيد مَن له الاستقرار في عالم الأمر، وقد أشارت الزيارة الجامعة في عدة فقرات منها إلى التزاوج الوثيق بين هذين العالَمين، وأنّ مَن له الاستقرار في عالم الأمر فله القرار في عالم الخلق: «بكم فتح الله، وبكم يختم، وبكم ينزل الغيث»(6)، وما يُشير بوضوح إلى هذا التزاوج الوثيق بين عالم الخلق وعالم الأمر هو قوله علیه السلام: «وأسماؤكم في الأسماء، وأجسادكم في الأجساد، وأرواحكم في الأرواح، وأنفسكم في النفوس»(7)، فلا يكاد يتفاعل قرار في عالم الخلق إلّا وله منطلق من عالم الأمر.

ص: 65


1- ابن طاووس، علي بن موسى، اللهوف في قتلى الطفوف: ص38. ابن نما الحلي، محمد بن جعفر، مثير الأحزان: ص29.
2- الشريف الرضي، نهج البلاغة: ج3، ص32.
3- المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج26، ص7.
4- الصدوق، محمد بن علي، عيون أخبار الرضا: ج1، ص306. مَن لا يحضره الفقيه: ج2، ص610.
5- الأعراف: آية 54.
6- الصدوق، محمد بن علي، عيون أخبار الرضا: ج1، ص308.
7- المصدر السابق.

فمن هذا المنطلق: وهو أنّ حركة المعصوم هي تجسيد لمشيئة الله (المشيئة التشريعية والتكوينية)، ومشيئته تبارك وتعالى واحدةٌ، إنّما الفرق في المتعلَّق، فتارة يكون متعلّقها تشريعاً وأُخرى تكويناً. وقد أشار الإمام الحسين علیه السلام - كما ذكرنا سابقاً - إلى ائتلاف الجانبين التشريعي والتكويني في حركته في مفاد قوله: شاء الله أن يراني قتيلاً وأن يرى النساء سبايا.

ففي هذه الجهة كيف يتم الربط والتوفيق بين كونهم مظهراً لمشيئة الله، وكون جريهم على طبق قوانين عالم المادة الذي يقتضي التغيّر والتجدّد، وبحسب التعبير القرآني يقتضي المحو والإثبات، كما في قوله:«يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ »(1)، فلأجل ذلك لا بدّ من عرض عدّة مفردات مهمّة لها دخل في بيان الربط:

المفردة الأُولى: في بيان المشيئة، فقد ورد في بعض الأخبار الصحاح: «خلق الله المشيئة بنفسها، ثم خلق الأشياء بالمشيئة»(2)، وفيه عدّة تفسيرات:

منها: إنّ سائر الكون المعبّر عنه بالوجود الانبساطي الإطلاقي راجع للمشيئة، حيث إنّ سائر الموجودات الإمكانية مرجعها إلى المشيئة، والمشيئة هي عبارة عن الوجود الانبساطي الإطلاقي.

ومنها: إنّ له تعالى مشيئة ذاتية كما أنّ له مشيئة فعلية بلحاظ أنّ ذاته التي هي الحياة والعلم والقدرة هي اقتضاء للفيض، وبلحاظ مبدئية ذاته للفيض يكون لجميع صفات الفعل وألوان الفعل جذر ذاتي، بحيث يكون مرجع صفات الفعل إلى صفة من صفات الذات.

ومنها: إنّ المقصود بمثل هذا الحديث هو أنّ الله تبارك وتعالى برأ المخلوقات بمشيئته، وأنّ مشيئته لم تستند لمشيئةٍ قبلها، لا أنّ مشيئته ذاتية، ولا أنّ مشيئته هي عبارة عن الوجود الانبساطي الإطلاقي، فالمقصود: أنّ مشيئته لم تنشأ عن مشيئةٍ قبلها. وقد اختار المشهور من علمائنا أن ليست إرادته إلّا فعله استناداً إلى الروايات الشريفة التي

ص: 66


1- الرعد: آية 39.
2- الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي: ج1، ص110.

منها: صحيحة عاصم بن حميد، عن أبي عبد الله علیه السلام، «قلت: لم يزل الله مريداً؟ قال: إنّ المريد لا يكون إلّا لمراد معه، لم يزل [ الله ] عالماً قادراً ثمّ أراد»(1)، ومنها: صحيحة صفوان بن يحيى، قال: قال علیه السلام: «الإرادة من الخلق الضمير وما يبدو لهم بعد ذلك من الفعل، وأمّا من الله تعالى فإرادته إحداثه لا غير ذلك»(2).

المفردة الثانية: في بيان مظهرية المعصوم للمشيئة الإلهية، فإنّ المعصوم مظهر لمشيئة الله تعالى، فهو الجامع بين سائر أطوار المشيئة الإلهية في سائر العوالم في صلب ذاته القدسية، فهو الكنز الخفي في عالم الواحدية المعبَّر عنه بعالم الأسماء والصفات، وهو رقيقة العرش في قوله: «الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى»(3)، وهو ركن الكرسي في قوله تعالى:«وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ»(4)، وهو العقل الأوّل في عالم الجبروت الذي أشارت إليه النصوص: «إنّ أوّل ما خلق الله العقل» (5)، وهو النفس الأوّل في عالم الملكوت الذي أشارت إليه الزيارة الجامعة: «خلقكم أنواراً فجعلكم بعرشه محدقين، حتّى مَنَّ علينا بكم، فجعلكم الله في بيوت أذن الله أن تُرفَع ويُذكَر فيها اسمه»(6)، وهو مفتاح عالم المادة وعالم الناسوت، بل هو غايته وشرفه الذي أشار إليه حديث الكساء في الحديث القدسي: «ما خلقتُ سماءً مبنيّة ولا أرضاً مدحيةً...»(7)، إلى آخر كلمات حديث الكساء. فذاته القدسية كثيرة في عين وحدتها؛ حيث إنّ ذاته القدسية جامعة لأطوار المشيئة الإلهية لسائر هذه العوالم، وهذا ما يتفرَّع عنه البحث في المفردة الثالثة.

المفردة الثالثة: هل علم المعصوم علیه السلام إفاضة قهرية عليه أو أنّ علمه بيده - حيث

ص: 67


1- المصدر السابق: ج1، ص109.
2- المصدر السابق.
3- طه: آية5.
4- البقرة: آية255.
5- المازندراني، محمد صالح، شرح أصول الكافي: ج1، ص202. المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج1، ص97.
6- الصدوق، محمد بن علي، مَن لا يحضره الفقيه: ج2، ص613.
7- الطريحي، فخر الدين، المنتخب للطريحي: ص254. الفتّال النيسابوري، روضة الواعظين: ص84.

إنّ ما ورد في الحديث الشريف: «إِذا أرادَ الإِمامُ أنْ يعلم شيئاً أعلمه الله ذلك»(1)، ليس المقصود منه أنّه يكون جاهلاً فترة فيطلب العلم اختياراً فيتحوّل إلى كونه عالماً، وإنّما المقصود منه أنّ علمه بيده وتحت اختياره وليس مجبوراً عليه - وبتبع هذا البحث يأتي بحث آخر أيضاً، وهو أنّ علمهم علیهم السلام الاختياري هل هو خاضع للبداء المشار إليه في قوله: «يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ»(2)، أم لا؟

مراتب علم الإمام علیه السلام

مقتضى مراجعة النصوص الشريفة، فإنّ هناك ثلاث مراتب لعلم الإمام علیه السلام:

المرتبة الأُولى: العلم الحصولي بما هو نفس متعلقة بالبدن كسائر الأنفس، فإنّ مقتضى تعلّق النفس بالبدن تعلّق التدبير والتصرّف ارتسامُ صور الأشياء في النفس، فهذا العلم الحصولي موجود لدى الإمام علیه السلام.

المرتبة الثانية: العلم الحضوري الإفاضي الذي هو مقتضى كونهم ولاة الأمر، ومقتضى كونهم المشيئة الفعلية السارية، فعلمهم الحصولي خاضع ومحكوم لعلمهم الحضوري الإفاضي، وعلمهم الحضوري الإفاضي الذي هو تجسيد للمشيئة الإلهية، وإن كان في عالم الإمكان وعالم المادة يكون مجراه خاضعاً للمحو والإثبات والتغيّر والتبدّل، إلّا أنّ هذا الخضوع لقانون المحو والإثبات هل هو لقصور في القابل وهو نفس عالم المادة؛ حيث إنّ من طبيعته ومقتضياته التغيّر والتبدّل، أم هو لقصور في الفاعل؛ بمعنى أنّ هذا العلم الحضوري الفيضي الذي لهم - كعلم الملائكة المقرَّبين الذين هم أدوات في إفاضة هذا الوجود - خاضعٌ في حدّ ذاته للمحو والإثبات؟ فقد يقال: بأنّ ظاهر بعض النصوص الشريفة أنّ هذا النوع من العلم الحضوري الإفاضي هو في حدّ نفسه - لا بلحاظ متعلّقه ومجراه - خاضعٌ لعالم المحو والإثبات، ومنها هذه الرواية الواردة عن

ص: 68


1- الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي: ج1، ص258.
2- الرعد: آية39.

الحسين علیه السلام أنّه لمّا نزل شقوق أتاه رجل فسأله عن العراق، فأخبره بحاله فقال: «إنّ الأمر لله يفعل ما يشاء، وربّنا تبارك كل يوم في شأن، فإن نزل القضاء فالحمد لله على نعمائه وهو المستعان على أداء الشكر، وإن حال القضاء ودُوِّن الرجاء فلم يبعد من الحق نفيه»(1). وفي الأبيات المسندة إليه التي تمثل بها في يوم عاشوراء:

«فإن نهزم فهزامون قدما ***وإن نُغ-لب فغير مغلّبينا

وما إن طبّنا جبن ولكن***منايانا ودولة آخرينا

إذا ما الموت رُفع عن أُناس ***كلاكله أناخ بآخرينا»(2)

قد يقال: إنّه إشارة إلى ذلك وإنّ علمهم خاضع للبداء ولقانون المحو والإثبات.

المرتبة الثالثة: المبادئ العالية، والتي هي عبارة عن الكنز الخفي في عالم الواحدية ورقيقة العرش في ذلك العالم، فإنّ مقتضى كونهم عين هذه المبادئ العلمية العالية أنّ لهم الإحاطة بما سواه تبارك وتعالى، كما ورد في بعض الروايات الشريفة: أنّ لهم علم ما كان وما يكون وما هو كائن(3). وبالتالي؛ في مقام المعارضة بين هذه الروايات وما ورد عنهم في بعض أحاديثهم: أنّ العلم يُحجَب عنهم فلا يعلمون، ويُبسَط لهم فيعلمون، هو ترجيح هذه الطائفة من الروايات على تلك الطائفة بلحاظ شهرتها الروائية وكثرة طرقها - مثلاً - ممّا يوجب الوثوق بها في مقام المعارضة مع الطائفة الثانية، وإنّ مقتضى الكمال - حيث إنّهم النسخة الأُولى من الكمال الإمكاني - ومقتضى أنّهم عين الكمال وصرف الكمال، كما قُرِّر في قاعدة إمكان الأشرف، أنّه ليس هناك كمالٌ يمكن حصوله لهذا المخلوق الإمكاني إلّا وكماله فعليّ له، فليس هناك مرحلةٌ وحالة منتظرة بين الإمكان والوقوع، فكل كمال يمكن نيله لمحمدٍ صلی الله علیه و آله وآله فهو ثابت لهم بالفعل؛ حيث إنّ إحاطتهم

ص: 69


1- ابن شهر آشوب، محمد بن علي، مناقب آل أبي طالب: ج3، ص246.
2- ابن طاووس، علي بن موسى، اللهوف في قتلى الطفوف: ص59. ابن نما الحلي، محمد بن جعفر، مثير الأحزان: ص40.
3- اُنظر: الصفار، محمد بن الحسن، بصائر الدرجات: ص147.

بما كان وما يكون وما هو كائنٌ على نحو الحضور العيني التنجيزي الذي لا يخضع لبداءٍ ولا لتغيّرٍ، فلأجل ذلك - ولا نريد هنا بحث المسألة بحثاً عقائدياً مفصّلاً، وحسمها من حيث الأدلة، بل هو طرح في ضمن هذه الجهة العقائدية - فإنّ علمهم الحضوري الإفاضي في عالم المادة محكومٌ لعلمهم بلحاظ كونهم المبادئ العلمية العالية في تمام أطوار المشيئة الإلهية. وبالتالي؛ فإنّ جريهم على وفق عالم المادة من حيث اقتضاء طبيعته التغيّر والمحو والإثبات، لا يتنافى مع إحاطتهم التامة على نحو الإحاطة التنجيزية التي لا تخضع لاحتمال التغيّر والبداء، بل هو خاضع له ومحكوم به؛ وعلى هذا الأساس يصل الكلام إلى المفردة التالية في هذه الجهة العقائدية.

المفردة الرابعة: إنّ مقتضى عصمتهم العلمية في الموضوعات الخارجية أن تكون تصرّفاتهم في إطار علمهم، بل حتّى على الرأي الشاذ الذي لا يرى أنّ لهم العصمة العلمية في الموضوعات الخارجية، فإنّما يقال به في الموضوعات الفردية، كأكل الإمام وشربه ومشيه ونومه، وأمّا الموضوعات العامة التي لها تأثير في مصير الأُمّة الإسلامية فلا يمكن أن تكون قابلة للخطأ والصواب؛ بحيث يتعرَّض مصير الأُمّة ومسيرتها لخطأ القيادة ولخطأ الإمام، فحتى على هذا الرأي الشاذ لا بدّ من التفصيل بين الموضوعات المؤثِّرة في مسيرة الأُمّة، وبين الموضوعات الفردية التي لا أثر لها على تلك المسيرة وعلى المسيرة التطبيقية للتشريع نفسه في الأُمّة الإسلامية، وبالتالي؛ فحيث إنّ صلح الحسن علیه السلام وحركة الحسين علیه السلام وحروب الإمام أمير المؤمنين علیه السلام من الموضوعات الخارجية التي لها تأثيرٌ في مصير الأُمّة، والتي لا تنفكّ عن العصمة العلمية؛ فمن هنا عندما يُطرَح التساؤل: كيف نوفِّق بين عصمتهم العلمية في الموضوعات الخارجية وبين إقدامهم على ما يؤدّي إلى تلف الأنفس والأموال، أو إقدامهم على أُمور تكون بحسب المقاييس المادية زائلة ومنقضية، نظير ما يقع في التساؤل عن الحروب التي خاضها أمير المؤمنين علیه السلام وانتهت بعدم الانتصار العسكري للإمام علیه السلام، أو إرسال الحسين علیه السلام لمسلم بن عقيل والذي انتهى بمقتل مسلم بن عقيل علیه السلام، ونحو ذلك من التصرفات والتصريحات التي

ص: 70

صدرت عنهم علیهم السلام، والتي يُسأل عنها أنّه كيف يتمّ التوفيق بينها وبين العصمة العلمية في الموضوعات الخارجية؟

وفي مقام الجواب تُطرَح الوجوه الثلاثة:

الوجه الأوّل: إنّ علمهم في إطار عالم المادة علمٌ خاضعٌ للبداء والتغيّر، وهو ما أشرنا إليه في المفردة السابقة، وإنّه محل للتأمل والنظر.

الوجه الثاني: إنّ التكاليف والأوامر التي خوطب بها الأئمّة علیهم السلام - فردية أو اجتماعية - لم تُنَطْ بعلمهم الشهودي التنجيزي، وإنّما أُنيطت بمجريات عالم المادة وما يقتضيه من قوانين التغيّر والمحو والإثبات، فجرى تكليفهم في ضمن الإطار البشري الإنساني الذي هو الجامع المشترك بينهم وبين سائر الخلق، وإن كانوا - بما أنّهم هم المبادئ العلمية العالية - مطّلعين على أنّ مسيرتهم لها مدة زمنية محدّدة، ولها نتيجة منقضية وزائلة بحسب المقاييس المادية، ولكن لم يخاطبوا فيما هو خارج هذا الإطار، وإنّما خوطبوا بما هو ضمن هذا الإطار نفسه.

الوجه الثالث: إنّهم أُمروا على الإقدام على ما فيه قتلهم وفناؤهم وما يكونون فيه مصداقاً للصبر والمظلومية؛ كي يكون ذلك أعلى صورة التسليم والرضا بقضاء الله، كما يظهر من كلمات الإمام الحسين علیه السلام في يوم عاشوراء؛ حيث ورد عنه علیه السلام: «يا إلهي، صبراً على قضائك ولا معبود سواك يا غياث المستغيثين»(1). فالإمام علیه السلام مع علمه التنجيزي بسائر الأُمور، إلّا أنّ مقتضى كونه المشيئة الإلهية في إطار التشريع وفي إطار التكوين فهو أعلى صورة من صور التسليم والرضا في عالم الإمكان، والتي عند التأمّل لا نرى اثنينية وانفكاكاً بينها وبين كونه هو المشيئة الإلهية.

ص: 71


1- القندوزي، سليمان بن إبراهيم، ينابيع المودة: ج3، ص82.

ص: 72

مُنطَلقَاتُ النَهضَةِ الحُسَينِيَّةِ وَخَلفِياتُهَا

القِسمُ الثَاني مَشرُوعُ التَورِيثِ

اشارة

السَّيِّد مُحَمّد الشَوكي(1)

مدخل

تحدَّثنا في القسم الأول من هذه المقالة عن مسار الصعود الأُموي والتغلغل في جسد الأُمّة الإسلامية بمراحله المختلفة، وانتهينا بالصُّلح الذي تمَّ مع الإمام الحسن علیه السلام.

وقد تفرَّد معاوية بن أبي سفيان بإمرة المسلمين بعد الصلح مع الإمام الحسن علیه السلام، ولم يفِ بأيٍّ من الشروط التي اشترطها عليه، فلم يعمل بكتاب الله وسنّة رسوله - كما ذُكر في بند من بنود الصلح - وراح يلاحق أصحاب أمير المؤمنين علیه السلام من أجل تصفية القاعدة الواعية والموالية له، خلافاً لما اتُّفق عليه، وشنَّ هجمةً شعواء على سيد الأوصياء حتى جعل سبّه والانتقاص منه سُنّةً في المجالس وعلى المنابر، وهذا ما تحدَّثنا عنه في القسم الأول من هذه المقالة.

ص: 73


1- باحث وكاتب إسلامي.

ومن أهمّ الشروط التي خالفها معاوية والذي يعتبر الشرط الأساس في وثيقة الصُّلح هو إرجاع الحقّ إلى أهله، وعدم توريثه المُلك لأحد من بني أُمية، فنقض معاوية هذا الشرط بتوريث ولده يزيد ولياً للعهد من بعده، وأمر المسلمين بمبايعته تحت ضغط التهديد والوعيد.

مشروع التوريث

يمثّل توريث الحكم الحلقة الأهمّ في المشروع الأُموي وأحد أهمّ الأركان التي قام عليها منذ البداية، ونحن نتذكّر وصية أبي سفيان لولده معاوية عندما ولّاه عمر بن الخطاب ولاية الشام، حيث قال له: «فلا تخالفهم؛ فإنّك تجري إلى أمد فنافس، فإن بلغته أورثته عقبك»(1).

لم يكن الأُمويون من البداية مقتنعين كثيراً بمسألة النبوّة، وإنّما كانوا ينظرون إلى الرسالة على أنّها مشروع سلطة يريد بنو هاشم من خلاله أن يتحكّموا بالعرب، فحينما أوشكت جحافل الفتح أن تدخل مكّة جاء العباس بن عبد المطلب بأبي سفيان إلى النبي صلی الله علیه و آله يطلب له الأمان، فلمّا دخل عليه قال له صلی الله علیه و آله : «ويحك يا أبا سفيان، أما آن لك أن تعلم أن لا إله إلّا الله؟ فقال: بأبي أنت وأُمّي ما أوصلك وأحلمك وأكرمك، والله، لقد ظننت أنّه لو كان مع الله إلهاً غيره لقد أغنى عنّي شيئاً. فقال: ويحك يا أبا سفيان، ألم يأن لك أن تعلم أنّي رسول الله؟ فقال: بأبي أنت وأُمّي ما أوصلك وأحلمك وأكرمك، أما هذه ففي النفس منها شيء. فقال له العباس: ويلك! اشهد شهادة الحقّ قبل أن تُضرب عنقك!»(2).

ثمَّ بعدها أمر النبي صلی الله علیه و آله عمَّه العباس أن يأخذه إلى مضيق الوادي ليرى كتائب الفتح، فأخذه هناك، وأقبلت الكتائب تترى، حتى إذا أقبلت كتيبة النبي صلی الله علیه و آله الخضراء وفيها المهاجرون والأنصار لا يرى منهم إلّا الحدق من الحديد، قال: «سبحان الله! يا

ص: 74


1- ابن كثير، إسماعيل، البداية والنهاية: ج8، ص126.
2- ابن عبد البرّ، يوسف بن عبد الله، الاستيعاب: ج4، ص1678.

عباس، مَن هؤلاء؟ فقال: هذا رسول الله صلی الله علیه و آله في المهاجرين والأنصار. قال: ما لأحد بهؤلاء طاقة، والله، يا أبا الفضل، لقد أصبح مُلك ابن أخيك عظيماً! فقال العباس: يا أبا سفيان، إنّها النبوة. فقال: فنعم إذن»(1).

فيظهر من هذين النصّين أنّ الرجل كان في نفسه شيءٌ من النبوّة (أما هذه ففي النفس منها شيء) وحتى بعد أن أعلن إسلامَه تحت الضغط لم يقتنع بمسألة النبوّة وظل على رأيه في أنّ القضية هي قضية مُلك (لقد أصبح مُلك ابن أخيك عظيماً).

إنّه كان يرى أنَّ المشروع كلَّه مشروع مُلك، وقد نجح بنو هاشم في الوصول إليه رغم أنفه؛ ولذلك لما بويع عثمان بن عفان استرجع أبو سفيان شريط الأحداث، وتذكَّر ذلك النصر الذي حققه بنو هاشم عليهم في فتح مكّة، وها هم يعيدون الكرّة فيخطفونه منهم؛ ولذلك جاء إلى قبر حمزة بن عبد المطلب علیه السلام وركله برجله، وقال - مخاطباً إياه وكلّه شماتة وزهو بالانتصار -: «يا حمزة، إنّ الأمر الذي كنت قاتلْتَنا عليه بالأمس قد ملكناه اليوم، وكنّا أحقّ به من تيم وعدي»(2).

فهو يرى أنّ حمزة وبقيّة المسلمين قد قاتلوا على المُلك، وها هم بنو أُمية يحصلون عليه في نهاية الأمر، وهذا يُعبِّر بوضوح عن رؤية بني أُمية لموضوع الرسالة.

الحقد الأُموي على الرسول صلی الله علیه و آله وأهل بيته علیهم السلام

من هنا وعلى الرغم من أنَّ الخلافة سُلبت من بني هاشم، إلّا أنّ بقاء اسم النبي صلی الله علیه و آله وعلو ذكره وذكر آله كان يزعج بني أُمية كثيراً، فرووا أنّ معاوية بن أبي سفيان سمع المؤذن يصدح باسم النبي صلی الله علیه و آله ، فقال: «لله أبوك يا بن عبد الله! لقد كنت عالي الهمّة، ما رضيت لنفسك إلّا أن يُقرن اسمك باسم ربّ العالمين»(3).

ص: 75


1- ابن كثير، إسماعيل، البداية والنهاية: ج4، ص332.
2- المقريزي، تقي الدين أحمد بن علي، النزاع والتخاصم: ص87.
3- ابن أبي الحديد، عز الدين، شرح نهج البلاغة: ج10، ص101.

وقال للمغيرة بن شعبة حينما أوصاه بالرفق ببني هاشم: «هيهات هيهات، مَلَكَ أخو تيم فعدل وفعل ما فعل، فوالله، ما عدا أن هلك ذكره، إلّا أن يقول قائل: أبو بكر، ثمَّ مَلَكَ أخو عدي فاجتهد وشمّر عشر سنين، فوالله، ما عدا أن هلك فهلك ذكره، إلّا أن يقول قائل: عمر، ثمَّ ملك أخونا عثمان، فملك رجل لم يكن أحد في مثل نسبه فعمل ما عمل، فوالله، ما عدا أن هلك فهلك ذكره، وإنّ أخا هاشم يُصرخ به في كلِّ يوم خمس مرات: أشهد أنّ محمداً رسول الله، فأي عمل يبقى بعد هذا لا أُمّ لك؟!ألا دفناً دفناً!»(1).

وقد صرّح يزيد بهذا المكنون عندما قال قولته المعروفة بعد أن أقبلوا برأس الحسين علیه السلام إليه:

لعبت هاشم بالمُلك فلا ***مَلَكٌ جاء ولا وحي نزل(2)

فبنو أُمية كانوا ينظرون إلى الأمر كلِّه على أنّه مسألة مُلك ورئاسة وصراع عليهما، وقد استولوا عليه ولن يفرّطوا به أبداً، ولن يعيدوه إلى أي قبيلة أُخرى، لا بني هاشم ولا تيم ولا عَدي ولا غيرهم، بل لا بدّ أن يكون مُلكاً وراثياً يتوارثونه شخصاً بعد شخص.

موانع توريث المُلك

كانت فكرة توريث الحكم والمُلك التي تشغل بال بني أُمية وزعيمهم معاوية تصطدم بمجموعة من الموانع التي تعترض طريقها، وبعض هذه الموانع يتعلّق بمبدأ التوريث من الأساس، والبعض الآخر يتعلق بوريث الدولة الأُموية يزيد بن معاوية. فمن حيث المبدأ يعتبر التوريث خرقاً لما سارت عليه الأُمّة قبل ذلك من مسألة الانتخاب حتى بات متجذِّراً في وعيها السياسي والشرعي العام(3). وسنلاحظ أنّ كثيراً من الاعتراضات التي

ص: 76


1- الزبير بن بكار، الموفقيات: ص 577. المسعودي، علي بن الحسين، مروج الذهب: ج3، ص454.
2- الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الأُمم والملوك: ج8، ص188.
3- على الرغم من أنّ التجربة السياسية بعد النبي| لم تكن شوروية خالصة، وإنّما شابها الكثير من الإشكاليات، وتضمّنت كثيراً من الملاحظات التي لا مجال لبسطها هاهنا.

انطلقت ضدّ بيعة يزيد كانت تركِّز على هذا الجانب بالذات. ومن حيث الوريث نفسه، فلم يكن يزيد مؤهّلاً لرئاسة الأُمّة، فهو صبي غرّ فاسق متهتك إلى أبعد الحدود.

وهذا ما كان معاوية يدركه جيداً، وأنّ قضية توريث المُلك وبيعة يزيد ليست بالقضية السهلة على الإطلاق؛ لذا يتوجّب عليه أن يقوم في أُخريات حياته بجهد مضاعف من أجل تمهيد الأمر وتذليل العقبات، فلا بدّ إذاً من الإعداد لخطّة شاملة لذلك.

خطّة معاوية لتوريث الملك
اشارة

من خلال قرائتنا للتاريخ نجد أنّ هذه الخطّة كانت متعددة الأبعاد والجهات، وسنحاول أن نشير إلى أهمّ مفاصلها وملامحها عِبر نقاط:

1- الاستغفال الديني

إحدى العقبات التي كانت تواجه مشروع التوريث الأُموي - كما ذكرنا - هو تعارض مبدأ التوريث مع مبدأ الانتخاب والشورى الذي أصبح متجذِّراً في وعي الأُمّة آنذاك، فلا بدّ أن يجد معاوية مخرجاً شرعياً وتبريراً دينياً لذلك؛ من هنا نرى أنّه حاول أن يستدعي مسألة القضاء والقدر والجبر والاختيار - تلك العقيدة الإسلامية الحساسة - إلى ساحة الصراع السياسي، وأن يوظفها في سبيل تنفيذ مشروعه.

يرى كثير من الباحثين أنَّ عقيدة الجبر هي عقيدة أُموية بامتياز، تفتّحت وتفرّعت في أروقة السلطان الأُموي. يقول الشيخ أبو زهرة: «ولكننا نجزم بأنّ القول بالجبر شاع في أول العصر الأُموي، وكثر حتى صار مذهباً في آخره»(1).

ويقول الشيخ جعفر السبحاني: «لقد اتّخذ الأُمويون مسألة القدر أداة تبريرية لأعمالهم السيئة، وكانوا ينسبون وضعهم الراهن بما فيه من شتّى ضروب العبث والفساد إلى القدر، قال أبو هلال العسكري (في الأوائل: 2/125): إنّ معاوية أول مَن زعم أنّ الله يريد أفعال

ص: 77


1- أبو زهرة، محمد، تاريخ المذاهب: ص104.

العباد كلَّها... وقد كانت الحكومة الأُموية الجائرة متحمسة على تثبيت هذه الفكرة في المجتمع الإسلامي، وكانت تواجه المخالف بالشتم والضرب والإبعاد»(1).

وعقيدة الجبر وإن كانت مسألة عقائدية كلامية، ولكنها ليست مسألة تجريدية محضة، وإنّما لها تجليات ثقافية وسياسية واجتماعية كثيرة، وباستطاعة الطواغيت أن يوظّفوها توظيفاً سيئاً في سبيل تخدير الناس باسم الدين، وشلِّ حركتهم في التحرّر والانعتاق؛ لأنّك إذا ألغيت إرادة الأُمّة واختيارها فقد ألغيت وجودها وحركتها. كذلك يمكن استخدامها في تبرير سياسات الظالمين الجائرة كما فعل بنو أُمية بالفعل، ويظهر ذلك جلياً من كلام ابن عباس مع مجبّرة الشام، حيث يقول: «أمّا بعد، أتأمرون الناس بالتقوى وبكم ضلّ المتّقون، وتنهون الناس عن المعاصي وبكم ظهر العاصون؟! يا أبناء سلف المنافقين، وأعوان الظالمين، وخزّان مساجد الفاسقين... هل منكم إلّا مفترٍ على الله يجعل إجرامه عليه سبحانه، وينسبه علانية إليه؟!»(2).

لقد حاول معاوية أن يوظّف هذه المسألة العقائدية في خدمة مشروع التوريث، ويتّضح ذلك من كلام معاوية مع عبد الله بن عمر وهو أحد المعارضين للتوريث حيث يقول له: «يا عبد الله بن عمر، قد كنت تحدِّثنا أنّك لا تحبّ أن تبيت ليلة وليس في عنقك بيعة جماعة، وأن لك الدنيا وما فيها، وإنّي أحذرك أن تشقّ عصا المسلمين وتسعى في تفريق ملئهم، وأن تسفك دماءهم، وإن أمر يزيد قد كان قضاء من القضاء، وليس للعباد خيرة من أمرهم»(3).

فما دام أنّ أمر يزيد بن معاوية قضاء إلهي لا رادّ له، ومشيئة إلهية ليس للعباد الخيرة فيها، فلماذا يعترض عبد الله بن عمر وأضرابه على تولية يزيد؟! وهل يريدون أن يعارضوا إرادة الله تعالى؟!

ص: 78


1- السبحاني، جعفر، أبحاث في الملل والنحل: ج1، ص233.
2- أبو زهرة، محمد، تاريخ المذاهب الإسلامية: ص271.
3- ابن قتيبة، عبد الله بن مسلم، الإمامة والسياسة: ج1، ص210.

وفي هذا المضمار يقول جولد تسيهر متحدِّثاً عن النزعة الجبرية عند بني أُمية: «إذ لو أنّ عقيدة عملت تماماً لإمساك الأُمّة بالعنان وصرفتها عن الثورة عليهم وعلى ممثليهم، لكانت عقيدة الجبر. هذه العقيدة ترى أنّ الله قد حكم أزلاً أن تصل هذه الأُسرة إلى الحكم، وأنّ ما يعملون ليس إلّا أثراً أو نتيجة لقدر إلهي محكم؛ من أجل ذلك كان حسناً جداً لهم ولديهم أن تتأصّل هذه الأفكار في الشعب»(1).

2- تصفية المعارضين

العقبة الثانية التي كانت تعترض طريق معاوية الشخصياتُ المعارضة لمشروع التوريث وعلى رأسهم الإمام الحسن علیه السلام، وقد قام معاوية بالتلميح للمسألة في حياته، كما حاول جس نبض الأُمّة آنذاك عندما سافر إلى المدينة واجتمع سرّاً بالعبادلة الأربعة، عبد الله بن عباس، وعبد الله بن جعفر، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عمر، وعرض عليهم فكرة استخلافه ليزيد، فرفضوا ذلك رفضاً قاطعاً، وحذّروه من وخامة الإقدام على خطوة كهذه(2).

كان معاوية يرى أنّ معارضة الأُمّة يمكن التغلُّب عليها بالترغيب والترهيب، ولكن رموز المعارضة الأساسيين ليس من السهل إقناعهم بالمسألة، وخصوصاً الإمام الحسن علیه السلام الذي شرط عليه أن يُعيد الأمر له من بعده، فإن مات فلأخيه الحسين علیه السلام؛ ولذلك روى ابن عبد البرّ في الاستيعاب قائلاً: «كان معاوية قد أشار بالبيعة ليزيد في حياة الحسن وعرَّض بها، ولكنه لم يكشفها ولا عزم عليها إلّا بعد موت الحسن»(3).

إذاً؛ لا بدّ من إزالة العقبات الرئيسية من طريق مشروع التوريث، وأهمّ تلك العقبات هو وجود الإمام الحسن علیه السلام، وفعلاً روى بعض المؤرِّخين أنّه دبّر عملية خبيثة لاغتياله عِبر زوجته جعدة بنت الأشعث. يقول أبو الفرج الأصفهاني في المقاتل: «وأراد

ص: 79


1- الصدفي، أبداً حسين: ص222.
2- ابن قتيبة، عبد الله بن مسلم، الإمامة والسياسة: ج1، ص173.
3- ابن عبد البر، يوسف بن عبد الله، الاستيعاب: ج1، ص391.

معاوية البيعة لابنه يزيد، فلم يكن شيء أثقل عليه من أمر الحسن بن علي، وسعد بن أبي وقاص، فدسّ إليهما سمّاً فماتا به»(1). وسعد بن أبي وقاص هو أحد الذين رشّحهم عمر بن الخطاب للخلافة في الشورى السداسية، وهو الباقي الوحيد منهم.

ولكن لم يكن الإمام الحسن علیه السلام وسعد بن أبي وقاص المعارضين الوحيدين للأمر، بل هناك معارضون آخرون حتى من المحسوبين على السلطة الأُموية ومن الموالين لها أساساً، كعبد الرحمن بن خالد بن الوليد، وهو من الموالين لمعاوية، ولكنه كان يتمتّع بشعبية كبيرة في الشام وبصيت ذائع، وكان يطمح للخلافة أيضاً؛ ممّا اضطرّ معاوية إلى التخلُّص منه عِبر أحد الأطباء وهو ابن أثال(2). وكذلك كان من المعارضين للتوريث - مع أنّه من الموالين للسلطة والذي كان له طموح بالخلافة أيضاً - عبد الرحمن بن أبي بكر، باعتباره ابن الخليفة الأول، فاضطرّ أيضاً للتخلُّص منه، كما يظهر من بعض المحققين(3).

كما أنّ المعارضة لبيعة يزيد امتدّت لتشمل حتى الداخل الأُموي؛ لأنّ بعض رؤوس بني أُمية وأتباعهم كان طامعاً بها بعد معاوية، كمروان بن الحكم، وسعيد بن العاص، وعبد الله بن عامر، وغيرهم. روى أبو الفرج الأصفهاني: «فلمّا أراد معاوية البيعةَ ليزيد تهيَّب ذلك وخاف ألّا يُمالئه عليه الناس؛ لحسن البقية فيهم، وكثرة مَن يُرشَّح للخلافة، وبلغه في ذلك ذرء وكلام كرهه من سعيد بن العاص ومروان بن الحكم وعبد الله بن عامر»(4).

إلّا أن هؤلاء الأشخاص يمكن السيطرة عليهم ويمكن إرضاؤهم بالأموال والمناصب، كما حدث ذلك فعلاً.

ص: 80


1- أبو الفرج الأصفهاني، علي بن الحسين، مقاتل الطالبيين: ص 48. واُنظر: ابن أبي الحديد، عز الدين، شرح نهج البلاغة: ج16، ص49.
2- ابن عبد البر، يوسف بن عبد الله، الاستيعاب: ج2، ص830.
3- اُنظر: العسكري، مرتضى، معالم المدرستين: ج1، ص336. والأميني، عبد الحسين أحمد، الغدير: ج10، ص233.
4- أبو الفرج الأصفهاني، علي بن الحسين، كتاب الأغاني: ج20، ص227.
3 - تلميع صورة يزيد

العقبة الثالثة أمام مشروع التوريث تتمثّل في شخصية يزيد بن معاوية، تلك الشخصية السيئة المنحطّة التي لا تمتلك أيّ مؤهل من مؤهلات قيادة الأُمّة؛ فلا بدّ لمعاوية من القيام بحملة إعلامية دعائية لتحسين صورة يزيد في نفوس المسلمين الذين يملكون في مخيلتهم صورة سلبية سيئة جداً عنه، وهي صورة واقعية ولا ريب فيها. وقد كتب زياد بن أبيه كتاباً لمعاوية يحثّه فيه على ذلك، بعد أن بعث إليه معاوية كتاباً يذكر فيه البيعة لولده يزيد، فقد روى اليعقوبي أنّ زياد كتب إلى معاوية: «يا أمير المؤمنين، إنّ كتابك ورد عليَّ بكذا، فما يقول الناس إذا دعوناهم إلى بيعة يزيد وهو يلعب بالكلاب والقرود، ويلبس المصبغ، ويدمن الشرب، ويمشي على الدفوف، وبحضرتهم الحسين بن علي، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عمر، ولكن تأمره ويتخلَّق بأخلاق هؤلاء حولاً أو حولين، فعسانا أن نموّه على الناس»(1).

إذاً؛ لا بدّ من التمويه على الناس وتسويق يزيد في الأُمّة؛ لذلك سخّر معاوية أجهزة الإعلام الأُموية لبثّ فضائل يزيد المزعومة، وقام بإعطائه دوراً في قصره ليجرّه عن حياة اللهو واللعب التي كان غارقاً فيها، وولّاه إمرة بعض جيوش الفتح، وجعله أميراً على الحجّ، وغير ذلك من الخطوات العملية التي حاول من خلالها تسويقه في المجتمع الإسلامي. وسيمرّ علينا في مطاوي البحث الآتية كيف أنّ معاوية بذل جهداً كبيراً في المدينة لتحسين صورة يزيد أمام الناس.

4- الترغيب والترهيب

لم تكن المعارضة لمشروع التوريث مقتصرة على وجهاء الأُمّة وساداتها، وإنّما امتدّت إلى الشارع وشملت قطاعاً كبيراً من الجمهور، ولكن معارضة الجمهور لا تمثِّل عقبة كبيرة بالنسبة إلى معاوية؛ فقد اعتاد على كيفيّة التعامل معها وترويضها، وذلك عِبر سياسته المعروفة (سياسة الترغيب والترهيب).

ص: 81


1- اليعقوبي، أحمد بن أبي يعقوب، تاريخ اليعقوبي: ج2، ص220.

لقد حاول معاوية أن يشتري ضمائر الناس بأموال الدولة التي يملكها؛ من أجل إقناعهم بقبول بيعة يزيد، وما نقله ابن الأثير واضح في هذا المعنى؛ حيث يقول: «وكان معاوية يُعطي المقارب ويُداري المباعد ويلطف به؛ حتى استوثق له أكثر الناس وبايعه»(1).

فقد أوفد المغيرة وفداً من الكوفة إلى معاوية لتأييد مشروعه في تولية يزيد، وقد شرى ذممهم بثلاثين ألف درهم، وسيّرهم مع ولده موسى، فلمّا جاء الوفد إلى الشام وعرضوا رغبتهم ببيعة يزيد، قال معاوية لموسى بن المغيرة: «بكم اشترى أبوك من هؤلاء دينهم؟ قال: بثلاثين ألفاً. قال: لقد هان عليهم دينهم»(2).

وقد كان عقبة الأسدي من الكارهين لبيعة يزيد بن معاوية، وقد كتب أبياتاً من الشعر يقول فيها:

معاوي إننا بشر فأسجع***فلسنا بالجبال ولا الحديد

أكلتم أرضنا فجرَّدتموها***فهل من قائم أو من حصيد

أتطمع في الخلود إذا هلكنا***وليس لنا ولا لك من خلود

فهبها أُمّة هلكت ضياعاً***يزيد يسوسها وأبو يزيد

دعوا حقّ الإمارة واستقيموا***وتأمير الأراذل والعبيد

فبلغ ذلك معاوية؛ فأرسل إليه بعشرة آلاف درهم ليكفَّ لسانه، فأنشأ عقبة يقول:

إذا المنبر الغربي أخلاه ربّه***فإنّ أمير المؤمنين يزيد

على الطائر الميمون والجد صاعد***لكلّ أُناس طائر وجدود

فلا زلت أعلى الناس كعباً ولم تزل***وفود يساميها إليك وفود

ألا ليت شعري ما يقول ابن عامر***لمروان أم ماذا يقول سعيد

بني خلف-اء الله مهلاً فإنّما***يبوّئها الرحمن حيث يريد

ص: 82


1- ابن الأثير، علي بن أبي الكرم، الكامل في التاريخ: ج3، ص508.
2- المصدر السابق: ج3، ص504.

فأرسل له معاوية ببدرة أُخرى(1).

ومن الكارهين لبيعة يزيد - كذلك - عبد الله بن همام السلولي، فكتب قصيدة يقول فيها:

فإن يأتوا برملة أو بهند***نبايعها أميرةَ مؤمنينا

إذا ما مات كسرى قام كسرى***نعدّ ثلاثة متن-اسقينا

يورثها أكابرهم بنيهم***كما ورث القمامسة القطينا

فيا لهفي لو أنّ لنا أنوفاً***ولكن لا نعود كما عنينا

إذاً لضربتمُ حتى تعودوا***بمكّة تلطعون بها السخينا

حشينا الغيظ حتى لو شربنا***دماء بني أُمّية ما روينا

ضعوا كلباً على الأعناق منّا***وسرحكم أصاغر ورثونا

لقد ضاعت رعيتكم وأنتم***تصيدون الأرانب غافلينا

وأيضاً استطاع معاوية إسكاته بالأموال وجرّه إلى صفوف المؤيدين لولاية يزيد، وكتب بذلك شعراً يقول في جملة منه:

أب-و خالد أخلق به أن يصيبنا***بسجل من المعروف يتبعه سجل

هو اليوم ذو عهد وفينا خليفة*** إذا فارق الدنيا خليفتنا الكهل(2)

وأبو خالد هو كنية يزيد بن معاوية.

على رغم ذلك أدرك معاوية أنّه لن يستطيع أن يحصل على رضا الجماهير كاملاً ببيعة يزيد ما لم يحسم الأمر مع معارضيه الأساسيين، ورأى أنّه ليس بالإمكان إقناعهم أو التحايل عليهم؛ فلا بدّ من استخدام أساليب أُخرى، فاستخدم سياسته المعروفة بالترهيب والترغيب معهم أيضاً، فقد ذكرت الكثير من المصادر التاريخية أنّ معاوية بن أبي سفيان هدّدهم بالقتل إن لم يستجيبوا ويدخلوا فيما دخل فيه الناس؛ ومن هنا نجد

ص: 83


1- الكوفي، ابن أعثم، الفتوح: ج4، ص330.
2- المصدر السابق: ج4، ص331.

أنّ موقف عائشة ل-مّا التقى بها كان موقفاً حادّاً؛ لما سمعته من أنّه هدد هؤلاء الأشخاص بالقتل(1). ولا عجب في ذلك، فقد قتل في سبيل تمهيد الأمر ليزيد كثيراً من الشخصيات الإسلامية، كالإمام الحسن علیه السلام، وعبد الرحمن بن خالد، وسعد بن أبي وقاص، وحتى عبد الرحمن بن أبي بكر كما يرى الكثير من المحققين(2).

كما حاول أن يستخدم سياسة شراء الذمم في سبيل ذلك، فقد بعث لعبد الرحمن بن أبي بكر - وهو من أشد المعارضين لاستخلاف يزيد - بمائة ألف درهم يشتري بها ذمته، ولكنه رفض استلامها، وقال: «أأبيع ديني بدنياي؟!»(3).

وأيضاً بعث بمثلها لعبد الله بن عمر فردّها، وقال ما قاله عبد الرحمن(4).

كذلك اشترى ذمّة مروان بن الحكم وهو من المعارضين لاستخلاف يزيد ضمن الدائرة الأُموية(5). وغير ذلك من الشواهد الأُخرى، كما استخدم أُسلوب منع العطاء والضغط المالي لردع الرافضين لبيعة يزيد، فها هو يحرم بني هاشم من عطائهم في تلك السنة؛ لأنّهم رفضوا بيعة يزيد، ولمّا أتاه ابن عباس وسأله عن ذلك، قال: «ليس لكم عطاء حتى يبايع صاحبكم»(6).

البدء بتنفيذ مشروع التوريث

لقد رأينا أنَّ المعارضة لتولية يزيد اتّسعت لتشمل أكثر أطياف المجتمع الإسلامي من موالين ومعارضين ومحايدين، ولكن معاوية ظل مصرِّاً على ذلك؛ باعتباره الخطوة

ص: 84


1- ابن الأثير، علي بن أبي الكرم، الكامل في التاريخ: ج3، ص508.
2- اُنظر: العسكري، مرتضى، معالم المدرستين: ج1، ص336. والأميني، عبد الحسين، الغدير: ج10، ص233.
3- الحاكم النيسابوري، أبو عبد الله، المستدرك: ج3، ص476.
4- اُنظر: ابن الأثير، علي بن أبي الكرم، الكامل في التاريخ: ج3، ص351.
5- اُنظر: ابن قتيبة، عبد الله بن مسلم، الإمامة والسياسة: ج1، ص152.
6- المصدر السابق: ج1، ص164.

الأساس في تثبيت أركان المشروع الأُموي، وقد رأى معاوية أنّ الأيام تُسرع به، وأنّه لابدّ من أن ينفِّذ خطّته قبل أن يقصف الموت عمره، فلمّا توفّي الإمام الحسن علیه السلام بادر إلى إعلان تنصيبه ولَدَه يزيد من بعده، وأخذ البيعة له من أهل الشام؛ ومن ثَمَّ كتب لواليه على المدينة مروان بن الحكم بأن يأخذ له البيعة من أهلها.

وفعلاً دعا مروان أهل المدينة لمبايعة يزيد بن معاوية خليفةً لأبيه، ولكنه واجه رفضاً قاطعاً من قِبل وجهاء المدينة وعلى رأسهم الإمام الحسين علیه السلام، ولم يستطع أن يأخذ منهم البيعة له، وكتب لمعاوية بذلك، فغضب منه وعزله وولّى مكانه سعيد بن العاص لعله يستطيع أن ينفِّذ ما عجز عنه مروان. ولكنه فشل أيضاً في مهمته، وكتب إلى معاوية يقول: «أمّا بعد، فإنّك أمرتني أن أدعو الناس إلى بيعة يزيد بن أمير المؤمنين، وأن أكتب إليك بمَن سارع ممَّن أبطأ، وإنّي أخبرك أن الناس عن ذلك بطاء، لا سيما أهل البيت من بني هاشم؛ فإنّه لم يجبني منهم أحد، وبلغني عنهم ما أكره، وأمّا الذي جاهر بعداوته وإبائه فعبد الله بن الزبير، ولست أقوى عليهم إلّا بالخيل والرجال، أو تقدم بنفسك فترى رأيك في ذلك، والسلام»(1).

عند ذلك حاول معاوية أن يقنع وجهاء المدينة بقبول الأمر ومن خلال الأساليب الدبلوماسية السلميّة؛ فراح يبعث الكتب والرسائل إلى المعارضين في سبيل إقناعهم بالأمر، فكتب للإمام الحسين علیه السلام وعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير وعبد الله بن جعفر كتباً، وأمر سعيد بن العاص أن يوصلها إليهم ويبعث إليه بجواباتها، وأوصاه كذلك أن يكون ناعماً في تعامله مع الحسين علیه السلام وأن لا يستثيره؛ لأنّه ليث عرين، وله قرابة وحقٌّ عظيمٌ لا ينكره كلُّ مسلم ومسلمة على حدِّ تعبيره.

فقد كتب إلى الحسين علیه السلام قائلاً: «أمّا بعد، فقد انتهت إلي منك أُمور لم أكن أظنّك بها رغبة عنها، وإنَّ أحقَّ الناس بالوفاء لِ-مَن أعطى بيعته مَن كان مثلك في خطرك وشرفك

ص: 85


1- ابن قتيبة، عبد الله بن مسلم، الإمامة والسياسة: ج1، ص153.

ومنزلتك التي أنزلك الله بها، فلا تنازع إلى قطيعتك، واتّقِ الله ولا تردن هذه الأُمّة في فتنة، واُنظر لنفسك ودينك وأُمّة محمد، ولا يستخفنَّك الذين لا يوقنون»(1).

فكتب له الحسين علیه السلام ردّاً مطوَّلاً يدين فيه سياسات معاوية الظالمة، وختَمه بالقول: «واعلم أنّ الله ليس بناسٍ لك قتلك بالظنّة، وأخذك بالتهمة، وإمارتك صبياً يشرب الشراب، ويلعب بالكلاب، ما أراك إلّا أوبقت نفسك، وأهلكت دينك، وأضعت الرعية، والسلام»(2).

وكان ردّ بقية الذين كتب لهم معاوية هو الرفض التام لما أقدم عليه من توليته ابنه يزيدَ. عند ذلك قرر معاوية بن أبي سفيان أن يذهب بنفسه ليسوّي الأُمور.

معاوية في المدينة

لقد رأى معاوية أنَّ الأمر لا يمكن تسويته من خلال ولاته، ولا من خلال الرسائل من بعيد، فالأمر أخطر وأعقد من ذلك؛ فلا بدّ أن يمضي بنفسه لتسوية الأمر عبر الصفقات أو عبر التهديدات، فذهب معتمراً في رجب سنة ست وخمسين، وعرّج على المدينة ومعه قرابة الألف فارس قبل أن يذهب إلى مكة المكرمة، وحاول أن يجتمع أولاً ببني هاشم؛ لأنّهم الطرف الأهم في المعادلة، فاجتمع بالإمام الحسين علیه السلام وعبد الله بن عباس، وطرح عليهم مسألة البيعة، وقال: «وقد علم الله ما أُحاول به في أمر الرعية، من سدّ الخلل، ولمّ الصدع بولاية يزيد، بما أيقظ العين، وأحمد الفعل، هذا معناي في يزيد، وفيكما فضل القرابة، وحظوة العلم، وكمال المروءة، وقد أصبت من ذلك عند يزيد على المناظرة والمقابلة ما أعياني مثله عندكما وعند غيركما، مع علمه بالسنّة، وقراءة القرآن، والحلم الذي يرجح بالصمّ الصلاب». وراح يلمّع لهما صورة يزيد، وينسب له الخصال الحسنة التي ليس له منها ولا مثقال ذرّة، وكأنّه كان يظنّ أنّه يستطيع أن يستغفلهما بمثل هذه الكلمات. ثمَّ بعد

ص: 86


1- المصدر السابق: ج1، ص154.
2- المصدر السابق: ج1، ص157.

ذلك قال لهما: «ما زلت أرجو الإنصاف في اجتماعكما، فما يقول القائل إلّا بفضل قولكما، فردا على ذي رحم مستعتب ما يحمد به البصيرة في عتابكما، وأستغفر الله لي ولكما»(1).

ومن خلال كلمته الأخيرة يتّضح أنّه كان يعرف ثقل الإمام الحسين علیه السلام وبني هاشم في الساحة جيداً، وأنّه يصعب تجاوزهم في مسألة البيعة ليزيد «فما يقول القائل إلّا بفضل قولكما».

فأراد ابن عباس أن يتكلَّم فأشار إليه الإمام الحسين علیه السلام، وقال: «على رسلك فأنا المراد، ونصيبي في التهمة أوفر». فأمسك ابن عباس، فقام الحسين علیه السلام فحمد الله وصلّى على الرسول، ثمَّ خطب خطبة بليغة إلى أن عرج على معاوية فقال: «ولقد فضلت حتى أفطرت، واستأثرت حتى أجحفت، ومنعت حتى محلت، وجزت حتى جاوزت، ما بذلت لذي حقّ من اسم حقّه بنصيب، حتى أخذ الشيطان حظه الأوفر، ونصيبه الأكمل. وفهمت ما ذكرت عن يزيد من اكتماله، وسياسته لأُمّة محمد، تريد أن توهم الناس في يزيد، كأنّك تصف محجوباً، أو تنعت غائباً، أو تخبر عمّا كان ممّا احتويته بعلم خاصّ، وقد دلّ يزيد من نفسه على موقع رأيه، فخذ ليزيد فيما أخذ فيه، من استقرائه الكلاب المهارشة عند التهارش، والحمام السبق لأترابهن، والقيان ذوات المعازف، وضرب الملاهي، تجده باصراً، ودع عنك ما تحاول، فما أغناك أن تلقى الله من وزر هذا الخلق بأكثر مما أنت لاقيه، فوالله، ما برحت تقدح باطلاً في جور، وحنقاً في ظلم، حتى ملأت الأسقية، وما بينك وبين الموت إلّا غمضة، فتقدم على عمل محفوظ في يوم مشهود، ولات حين مناص».

لقد صُعق معاوية لهذا الردّ الحسيني الصاعق، ونظر مذهولاً لابن عباس قائلاً: «ما هذا يا بن عباس؟! ولما عندك أدهى وأمر. فقال ابن عباس: لعمر الله، إنّها لذرّية الرسول، وأحد أصحاب الكساء، وفي البيت المطهّر، فالهُ عمّا تريد؛ فإنّ لك في الناس مقنعاً، حتى يحكم الله بأمره وهو خير الحاكمين. فقال معاوية: أعود الحلم التحلم، وخيره التحلّم عن الأهل. انصرفا في حفظ الله »(2).

ص: 87


1- المصدر السابق: ج1، ص160.
2- المصدر السابق: ج1، ص161.

لقد خرج معاوية خائباً من هذا الاجتماع المهم، فحاول أن يجرِّب حظّه مع بقية المعارضين؛ فأرسل وراء عبد الرحمن بن أبي بكر، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، واجتمع معهم وحاول جاهداً إقناعهم، ولكنه خرج خالي الوفاض كذلك، فلم يستطع أن يثنيهم عن رفضهم، وكانت نتيجة اللقاء ردّاً واضحاً لمشروع معاوية، وكان أشدّهم في ذلك عبد الرحمن وابن الزبير، وأمّا ابن عمر فقد بدا ليّناً في موقفه.

عرض المشروع على الجماهير

لقد حاول معاوية أن يرضي الأطراف الرئيسة في المعارضة قبل أن يطرح الأمر على عموم الناس، حتى يخرج إليهم ويقول: إنّ كبار الأُمّة راضون عن بيعة يزيد؛ فيهرع الناس إلى الرضا بذلك، ولكنه فشل في ذلك فشلاً ذريعاً، فاحتجب عن الناس ثلاثة أيام لا يخرج فيها، ثمَّ خرج في اليوم الرابع وأمر بأن يُنادى في الناس نداءً جامعاً، فاجتمع الناس في المسجد، وكان الإمام الحسين علیه السلام وعبد الرحمن وابن الزبير وابن عمر حاضرين أيضاً، فحمد الله وأثنى عليه، ثمّ ذكر يزيد وفضله، وقراءته القرآن، ثم قال: «يا أهل المدينة، لقد هممت ببيعة يزيد، وما تركت قرية ولا مدرة إلّا بعثت إليها في بيعته، فبايع الناس جميعاً وسلموا، وأخرت المدينة بيعته، وقلت بيضته وأصله، ومَن لا أخافهم عليه، وكان الذين أبوا البيعة منهم مَن كانوا أجدر أن يصل، ووالله، لو علمت مكان أحد هو خير للمسلمين من يزيد لبايعت له.

هنا سكت الناس، فلم يردّ عليه أحد، فقام الحسين علیه السلام مقاطعاً له قائلاً: والله، لقد تركت مَن هو خير منه أباً وأُمّاً ونفساً. فقال معاوية: كأنّك تريد نفسك؟ فقال الحسين علیه السلام: نعم، أصلحك الله. فقال معاوية: إذاً أُخبرك، أمّا قولك: خير منه أُمّاً، فلعمري: أُمّك خير من أُمّه، ولو لم تكن إلّا أنّها امرأة من قريش لكان لنساء قريش فضلهن، فكيف وهي ابنة رسول الله؟! ثمَّ فاطمة في دينها وسابقتها، فأمُّك - لعمر الله - خير من أُمّه. وأمّا أبوك، فقد حاكم أباه إلى الله، فقضى لأبيه على أبيك. فقاطعه الحسين

ص: 88

قائلاً: حسبك جهلك، آثرت العاجل على الآجل. فقال معاوية: وأمّا ما ذكرت من أنّك خير من يزيد نفساً، فيزيد - والله - خير لأُمّة محمَّد منك. فقال الحسين علیه السلام: هذا هو الإفك والزور، يزيد شارب الخمر ومشتري اللهو، خير منّي؟!»(1).

ثمَّ استمر معاوية في تدليسه وتلبيسه على الناس وبيان فضائل يزيد المزعومة، فقام له عبد الله بن الزبير وردّ عليه، فانصرف معاوية إلى منزله.

في الختام

من هنا؛ ابتدأت المواجهة بين الإمام الحسين علیه السلام وبين البيت الأُموي والمخطط السفياني الشيطاني، وهذا ما سوف نسلِّط الضوء عليه في القسم الثالث من هذه المقالة فسوف نحاول التركيز - إن شاء الله - على موقف الإمام الحسين علیه السلام من معاوية، وقيادته لخطّ المعارضة للمشروع الأُموي في زمان معاوية، ونعرض بالتحليل الأحداث التي جرت بينهما، وتخطيط الإمام علیه السلام لما بعد معاوية، فإنّ هذه الفترة فترةٌ مهمّة لم يتمّ التركيز عليها كثيراً.

ص: 89


1- المصدر السابق: ج1، ص211.

ص: 90

عَنَاصِرُ الانتِصَارِ الحُسَينيّ وَتَجَليَاتُه في المُجتمَعِ الإِسلَامُيّ

اشارة

الشَّيخ ليث عَبدُ الحُسَین العَتَّابيّ(1)

المقدّمة

لقد جسّدت نهضة الإمام الحسين علیه السلام النموذج الأسمى في التضحية والجهاد والإصرار المبدئي، فعلى الرغم من كلّ الأوضاع الصعبة المضادّة، إلّا أنّها أصبحت القدوة الرائدة، والتجربة النقيّة، والينبوع المتفجّر في الروح الثورية الأصيلة، المصرّة على الفداء والتضحية، ولقد سجّل التاريخ البشري الكثير من انعكاساتها لا على المسلمين فحسب، بل حتى غيرهم من بني البشر. فالنهضة الحسينية منار للثوار منذ ثورة التوّابين، ومروراً بغاندي، وغيرهم ممَّن تأثّر بها، وإلى يومنا الحاضر، بل حتى في المستقبل الذي تتحقّق فيه الثورة (المهدوية) الكبرى رافعةً شعار: يا لثارات الحسين!

ونحن في هذه المقالة سوف نتناول أهمّ ثلاث نقاط في الثورة الحسينية المباركة وهي:

الأُولى: عوامل التكافؤ المعدوم بين المعسكرين.

ص: 91


1- باحث وكاتب إسلامي.

الثانية: عوامل النصر في النهضة الحسينية بغض النظر عن الأمور المادية.

الثالثة: مظاهر ذلك النصر وتجلياته.

النقطة الأُولى: عوامل التكافؤ المعدوم

اشارة

إنّ عدم التكافؤ في العُدّة والعدد بين طرفي الحرب في ملحمة كربلاء واضح جداً؛ فجيش يزيد بن معاوية كان أُلوفاً مؤلّفة(1)، بينما كان جيش الإمام الحسين علیه السلام أفراداً من أهل بيته وأصحابه. والتكافؤ عنصر ضروري ما بين الطرفين - سواء كان بينهما تقارب أم تنازع - ويتأكّد وجوده في النزاعات أكثر من أيِّ مكان أو وقت آخر.

وقد «تعدّدت تعريفات ونظريات وتجارب الحرب غير المتكافئة، فهي حرب تتعامل مع المجهول والمفاجآت، سواء فيما يتعلّق بغاياتها أو وسائلها، أو طرق شنّها، وكلّما ازداد عدم تكافؤ الخصم، كلّما أصبح من العسير التنبؤ بأفعاله...

ومن هنا؛ يمكن القول: إنّ التصدي لخصم غير متكافئ يستلزم عقيدة عسكرية تكفل طريقة للتفكير في عدم التكافؤ، وفلسفة عمليات لا تُغفِل ذلك النوع من عدم التكافؤ، وإنّما تأخذه في الحسبان جملةً وتفصيلاً»(2).

أمّا الإمام «الحسين كان وارث الإسلام، ووارث تلك الثورة التي فجّرها جدّه، وأوصلها أبوه وأخوه، لكنّ الحسين في المقابل لم يرث جيشاً ولا سلاحاً ولا ذهباً؛ وبالتالي لم يرث أيَّ قوة جبهوية تُذكر، ولا حتى مجموعة منظّمة!! وكان هذا يعني بادئ ذي بدء أنّ القيادة الحسينية التي آمنت بالنضال وأقرّته كقاعدة أساسية لوجودها، هذه القيادة كانت - ككلّ قائد أو إمام يؤمن بالنضال - غير حرّة في اختيار طريقة هذا النضال، وإنّما كان عليها أن تخضع للظروف التي تُحيط بها، والتي تفرض عليها شكلاً معيّناً من أشكال الحرب»(3).

ص: 92


1- فإنه يتراوح بين 18000- 70000 على ما ذُكر في التاريخ.
2- العقيد المتقاعد (كلينتون جيه آنكر: الجيش الأمريكي)، مجلّة خالد العسكرية 1/12/ 2007م.
3- شريعتي، علي، الشهادة: ص63.

كان الإمام الحسين علیه السلام يعلم بعدم التكافؤ، وأنّ الأعداء يفوقونه في العُدّة والعدد، وأنّ لديه في معسكره عناصر تُزيد من عنصر الهزيمة بالمعايير العسكرية، وهي: النساء والأطفال، فهم عنصر ضعف سواء أكان راغباً في الصلح والسلم أم عازماً على الحرب، ففي السلم - فيما لو أراد الإمام الحسين علیه السلام المصالحة - فإنّهم يشكّلون عليه ورقة ضغط أمام أعدائه؛ لإجباره على الموافقة بما يُمليه العدو من شروط، وكذلك الحال فيما لو أراد الحرب، فهم عنصر ضغط أيضاً؛ إذ يضطرّ صاحب العيال إلى وضع خطّة خاصّة للحرب تتلاءم مع وجود العيال معه، خصوصاً مع رفع الخصم لشعار: اقتلوهم ولا تُبقوا لأهل هذا البيت باقية. فلا بدّ أن يفكّر بما يجري على عياله فيما لو قُتل، فمصيرهم بعد الحرب مهم جدّاً، خصوصاً مع هكذا خصم هدفه القضاء على خصمه بشكل نهائي، وبشتّى الطرق.

لذا؛ يمكن إجمال عناصر عدم التكافؤ في واقعة كربلاء، وبالخصوص في المخيم الحسيني في الأُمور التالية:

1- العُدة القليلة في الرجال والسلاح.

2- وجود النساء والأطفال.

3- سيطرة العدو على الماء.

4- محاصرة المعسكر الحسيني من قِبل العدو، وسدّ جميع الطرق ومنعه من الماء أو الطعام أو السلاح أو الرجال، أو حتى لم-َن يريد الهرب مثلاً.

5- عدم الأهلية العسكرية لدى بعض مقاتلي المخيم الحسيني؛ إذ فيهم مَن هو صغير في السن على القتال، بل فيهم مَن هو شيخ كبير جدّاً لا يتلاءم عمره ومحاربة جيش كبير في العُدَّة والعدد.

6- تضمّن المخيم الحسيني لأساس سلالة المعصومين، وحامل علم رسول الله صلی الله علیه و آله ، وهو الإمام الحسين علیه السلام وجميع وُلده، فلو قُضي عليه وعلى أولاده جميعاً لانقطع النسل المحمّدي وانقطعت العصمة، ولخلت الأرض من آل الرسول وحملة العلم الإلهي، وخلفاء الله في أرضه.

ص: 93

وإحدى هذه الحجج كافية لأن يمتنع أيّ شخص عن مواصلة الحرب والجهاد، فكيف إن اجتمعت كلّها؟!

لكنّ الإمام الحسين علیه السلام لم يجعل من هذه الحجج مسوّغاً، وكان شعاره في ذلك: إنّ مَن يخرج لتحرير الأُمة، أو لردع الظالم، أو استرجاع حقّه وحقّ الأُمّة التي يقودها، أو إرساء العدل، أو نصرة الدين؛ فإنّ عليه أن لا يتحجّج بشيء أبداً.

فكل ذلك غير مقبول ساعة الحقيقة، وفي ساحة الاختبار الأكبر ف-«لقد أدّى الحسين علیه السلام رسالته في أحلك الظروف؛ كي لا يبقى لأحد عذرٌ إن قست عليه الظروف»(1).

فأراد الإمام الحسين علیه السلام من خلال ملحمة الطف إعطاء درس متكامل في المبادئ، والقيم الدينية والأخلاقية والإنسانية لكلّ بني البشر؛ حتى لا يبقى لأحد من عذر يتحجّج به باسم عوامل الضغط وغيرها، فالقائد والمصلح يضحّي بكلّ ما يملك في سبيل إقامة أُسس العدل والخير، وليس شرطاً أن يبقى هذا القائد حيّاً بعد الثورة، وليس شرطاً اعتبار بقائه حيّاً في تحقّق النصر، بل ربّما يكون موته فاتحة للنصر الأكبر، كما في الثورة الحسينية التي لا عذر فيها لِ-مَن يتحجّج، فليس المتحجّج بأفضل من الإمام الحسين علیه السلام، ولا عياله بأفضل من عيال الإمام علیه السلام، ولا مكانته وشأنه أفضل من شأن الإمام علیه السلام، ولا بقاؤه حياًّ أفضل من بقاء الإمام علیه السلام.

إنّ ما فعله الإمام الحسين علیه السلام يدحض النظرية القائلة: إنّه علیه السلام أراد بثورته طلب السلطان.

بل إنّ قائد الثورة يسير نحو الموت، وأنّ ثورته لن تنتصر بحسب المقاييس العسكرية، بل هي حركة فدائية تضحويّة، وهناك شواهد كثيرة نذكر بعضاً منها على سبيل المثال:

1- قول الإمام الحسين علیه السلام لأخيه عمر الأطرف: «حدّثني أبي أنّ رسول الله أخبره بقتله وقتلي، وإنّ تربته تكون بالقرب من تربتي، أتظنّ أنّك علمت ما لم أعلمه؟! وإنّي لا أُعطي الدنية من نفسي أبداً، ولتلقينَّ فاطمة أباها شاكية ممّا لقيت ذريّتها من أُمّته، ولا

ص: 94


1- الخامنئي، علي، الكلمات القصار: ص68.

يدخل الجنة مَن آذاها في ذريتها»(1).

2- قول الإمام الحسين علیه السلام لأُمّ سلمة - بعد أن أخبرته بقتله وخبر القارورة -: «يا أُمّاه، وأنا أعلم أنّي مقتول مذبوح ظلماً وعدواناً، وقد شاء أن يرى حرمي ورهطي مشرّدين، وأطفالي مذبوحين مأسورين مقيَّدين، وهم يستغيثون فلا يجدون ناصراً...»(2).

3- قوله علیه السلام لعبد الله بن عمر: «يا عبد الله، إنّ من هوان الدنيا على الله أنّ رأس يحيى بن زكريا يُهدى إلى بغيٍّ من بغايا بني إسرائيل، وأنّ رأسي يُهدى إلى بغيٍّ من بغايا بني أُميّة...»(3).

4- خطبته علیه السلام في مكة التي قال فيها: «...خُطَّ الموت على وُلد آدم مخطّ القلادة على جيد الفتاة، وما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف، وخير لي مصرعٌ أنا لاقيه، كأنّي بأوصالي تقطّعها عسلان الفلاة، بين النواويس وكربلا؛ فيملأنّ منّي أكراشاً جوفاً، وأجربةً سغباً، ولا محيص عن يوم خُطّ بالقلم... ألا مَن كان فينا باذلاً مهجته، موطّناً على لقاء الله نفسه، فليرحل معنا، فإنّي راحلٌ مصبحاً إن شاء الله تعالى»(4).

5- قوله علیه السلام لأخيه محمد بن الحنفية - لما رأى عزمه على ردّه ومنعه من الخروج -: «..أتاني رسول الله صلی الله علیه و آله ، وقال: يا حسين، اخرج، فإنّ الله تعالى شاء أن يراك قتيلاً... [ولما سأله محمد بن الحنفية عن سبب حمل العيال معه قال علیه السلام:] قد شاء الله أن يراهنَّ سبايا»(5).

6- قوله علیه السلام لعبد الله ابن عباس - ل-مّا أراد منعه عن المسير-: «والله، لا يدعوني حتى يستخرجوا هذه العلقة من جوفي...»(6).

ص: 95


1- ابن طاووس، علي بن موسى، اللهوف في قتلى الطفوف: ص20. المقرَّم، عبد الرزاق، مقتل الحسين علیه السلام: ص134.
2- المقرَّم، عبد الرزاق، مقتل الحسين علیه السلام: ص136.
3- الصدوق، محمد بن علي، الأمالي: ص93، مجلس30. المقرَّم، عبد الرزاق، مقتل الحسين علیه السلام: ص139.
4- المقرَّم، عبد الرزاق، مقتل الحسين علیه السلام: ص166.
5- المصدر السابق: ص168.
6- ابن الأثير، علي بن أبي الكرم، الكامل في التاريخ: ج4، ص39. المقرَّم، عبد الرزاق، مقتل الحسين علیه السلام: ص168.

7- قوله علیه السلام في (الرهيمة) لأبي هرم: «... وايمُ الله، ليقتلوني، ثمّ ليُلبسنّهم الله ذلّاً شاملاً، وسيفاً قاطعاً، وليسلطنَّ عليهم مَن يذلهّم»(1). وغير ذلك من الشواهد الكثيرة.

وجوه النصر وأنواعه

نظراً للوعد الإلهي القاطع نجد أنّ نصر الآخرة متحقِّق لا محالة وذلك في قوله تعالى: «إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ»(2)، لكن كيف يكون النصر في الدنيا ونحن نقرأ عمّا لاقاه الأنبياء والرسل علیهم السلام: من قتل وتهجير وتكذيب وتعذيب واضطهاد، فكيف يكون هذا النصر الدنيوي؟

لابدّ أن نفهم أنّ لتحقّق النصر وجوهاً عديدة، أهمّها:

1- النصر عن طريق الغلبة المباشرة لأنبياء الله ورسله علیهم السلام وأوليائه الصالحين، كما حصل مع نبي الله داود علیه السلام على سبيل المثال، كما في قوله تعالى: «وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ »(3). وكذلك نبي الله سليمان علیه السلام(4)، ونبي الله موسى علیه السلام(5)، ونبيّنا الأكرم محمد صلی الله علیه و آله ، فقد قال له تعالى تعبيراً عن النصر: «إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا»(6).

2- النصر عن طريق إهلاك مَن كذَّب الأنبياء والرسل علیهم السلام، كما في قصة النبي نوح علیه السلام: «فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ *فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ *وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ *وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ *تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ*وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ »(7)

ص: 96


1- الصدوق، محمد بن علي، الأمالي: ص218. المقرَّم، عبد الرزاق، مقتل الحسين علیه السلام: ص186.
2- غافر: آية51.
3- البقرة: آية251.
4- ويتّضح ذلك جليّاً من خلال قراءة سورة النمل وما دار بين النبي سليمان علیه السلام وقوم سبأ في الآية (15)، وما بعدها.
5- حيث أغرق الله فرعون وجنوده في اليمّ. يونس: آية90.
6- الفتح: آية1.
7- القمر: آية10- 15.

وقصة النبي هود علیه السلام:«فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ»(1)، وغيرهما من الأنبياء علیهم السلام، ويمكن مراجعة قصصهم في الآيات القرآنية، والتفاسير المعتبرة؛ لمعرفة حقيقة النصر المتحقّق لهم علیهم السلام.

3- النصر بانتقام الله تعالى من أعداء الأنبياء والرسل علیهم السلام، كما حدث مع مَن قتل النبي يحيى علیه السلام، والنبي شعيباً علیه السلام، ومَن حاول قتل نبي الله عيسى علیه السلام.

4- النصر الحقيقي في الثبات على المبدأ، حيث يتحقّق النصر بالبقاء على المبدأ والإيمان به، وقوة الحجّة، وصحّة البرهان، فلا يرى عدّوه بُدّاً من قتله والتخلّص منه؛ فيؤدّي ذلك إلى فشل وخزي الطرف المقابل، وهو دليل ضعفه وسقم حجّته:«قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ*فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ»(2).

هذه وأشياء أُخر هي في الحقيقة وجوه للنصر، وحقائق نابعة عنه.

كربلاء والتعريف بحقيقة النصر

علَّمتنا ملحمة كربلاء أنّ الإمام الحسين علیه السلام وأصحابه لم يكونوا يرون أنّ كلّ انتصار هو انتصارٌ حقيقي، ويصحّ أطلاق كلمة النصر عليه، بل الانتصار الحقيقي هو الذي يتحقّق بالطرق المشروعة، والمنازلة الشريفة، فهذا مسلم بن عقيل امتنع عن قتل عبيد الله بن زياد غيلةً، مع إمكان ذلك، لكنّه لم يفعل؛ مستنداً إلى قول رسول الله صلی الله علیه و آله : «إنّ الإيمان قيد الفتك»(3). فأين مدرسة الإمام الحسين علیه السلام من مدرسة (مكيافيلي)(4) صاحب شعار: الغاية تبرّر الوسيلة. وبالتالي؛ فإنّ أيّ طريق يحقّق النصر

ص: 97


1- الأعراف: آية72.
2- الصافات: آية97- 98.
3- الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الأُمم والملوك: ج4، ص271.
4- نيقولو مكيافيلي (1469- 1527م) سياسي وأديب إيطالي، وُلد في فلورنسة بإيطاليا، من أُسرة توسكانية، انتُخب عام 1498م سكرتيراً للمستشارية الثانية لجمهورية فلورنسة التي تُشرف على الشؤون الخارجية والعسكرية، وأضحى من واصفي السياسة ومخطّطيها، وبعد أن قضى مكيافيلي ثلاثة عشر عاماً في الحكم جاء الجيش الفرنسي من جديد إلى فلورنسة، واضطر أهلها تحت ضغط الفزع والخوف إلى استدعاء آل مديتشي، وخرج مكيافيلي بدوره منفياً من مدينته، كتب خلال هذه المدّة كتاب (الأمير) وفق مبدأ (الغاية تبرر الوسيلة)، ويُعرف الفكر المكيافيلي بأنّه فكر استبدادي تسلُّطي، والمكيافيلية مذهب الدهاء والمكر السياسي والخداع.

هو حلال ومسموح به، ولازمٌ اتّباعه.

إنّ مدرسة الإمام الحسين علیه السلام هي مدرسة علي بن أبي طالب علیه السلام، الذي يقول: «الغالب بالشرّ مغلوب»(1). إذن؛ أصبح مفهوماً لدينا معنى كلمة الإمام الحسين علیه السلام: «...وأسير بسيرة جدّي، وأبي علي بن أبي طالب...»(2).

النقطة الثانية: عوامل النصر في النهضة الحسينية

اشارة

إنّ النهضة الحسينية المباركة كانت تحمل في أحشائها أجنّة النصر وعوامله، التي ساعدت في تحقّقه على أرض الواقع، ومن أهمّ هذه العوامل:

1- الثبات الحسيني المنقطع النظير

وهو ما عبّر عنه عبد الله بن عمار بن يغوث في وصفه لحال الإمام الحسين علیه السلام في ساحة المعركة: «ما رأيت مكثوراً قط، قد قُتل وُلْده وأهل بيته وصحبه أربط جأشاً منه، ولا أمضى جناناً، ولا أجرأ مقدماً، ولقد كانت الرجال تنكشف بين يديه إذا شدّ فيها، ولم يثبت له أحد»(3).

وكما قال المؤرّخ الأمريكي واشنطن أيروينغ(4): «كان بميسور الإمام الحسين النجاة

ص: 98


1- ابن أبي الحديد، عز الدين، شرح نهج البلاغة: ج19، ص204.
2- المقرَّم، عبد الرزاق، مقتل الحسين علیه السلام: ص139.
3- الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الأُمم والملوك: ج6، ص259. المقرَّم، عبد الرزاق، مقتل الحسين علیه السلام: ص275.
4- واشنطن أيروينغ أو أيرفنج: مؤرخ وكاتب أمريكي له أثار عديدة منها: (سيرة النبي العربي، فتح غرناطة وإسبانيا). كتب عنه الأزهر كتاباً تحت عنوان: (عظمة الرسول كما يراها الكاتب الأمريكي واشنطن أرفنج) صدر عام 1978م عن الأزهر في مصر.

بنفسه عبر الاستسلام لإرادة يزيد، إلّا أنّ رسالة القائد الذي كان سبباً لانبثاق الثورات في الإسلام لم تكن تسمح له الاعتراف بيزيد خليفة، بل وطّن نفسه لتحمّل كلّ الضغوط والمآسي لأجل إنقاذ الإسلام من مخالب بني أُميّة، وبقيت روح الحسين خالدة، بينما سقط جسمه على الرمضاء اللاهبة. أيّها البطل، ويا أُسوة الشجاعة، ويا أيّها الفارس يا حسين»(1).

2- خوف الأعداء من الإمام الحسين علیه السلام

لقد كانت ترتعد فرائصهم خوفاً وفرقاً من شجاعته وبسالته، وكانوا لا يواجهونه رجلاً لرجل، بل يفرّون من أمامه فرار المعزى إن شدّ عليها الذئب، وكان عمر بن سعد يقول لجيشه: «ويحكم، اهجموا عليه ما دام مشغولاً بنفسه وحرمه، والله، إن فرغ لكم لا تمتاز ميمنتكم عن ميسرتكم»(2).

وقول السيدة زينب صلی الله علیه و آله لِ-مَن قال في مجلس ابن زياد: إنّ الحسين جاء في نفر من أصحابه وعترته، فهجمنا عليهم، وكان يلوذ بعضهم بالبعض، فلم تمضِ ساعة إلّا قتلناهم عن آخرهم. فكان جواب السيدة زينب صلی الله علیه و آله : «ثكلتك الثواكل أيّها الكذّاب، إنّ سيف أخي الحسين لم يترك في الكوفة بيتاً إلّا وفيه باكٍ وباكية، ونائح ونائحة»(3).

3- إيمان أصحاب الحسين علیه السلام وشجاعتهم

من أكبر عوامل النصر - النفسية والحقيقية - هو اليقين الثابت والإيمان الصلب الموجود في معسكر الإمام الحسين علیه السلام، الذي جعلهم يضحكون ويستبشرون بالشهادة، وهذا ما نجده حين يلاطف برير بن خضير عبد الرحمن الأنصاري، فيقول له عبد الرحمن: «ما هذه ساعة باطل؟ فقال برير: لقد علم قومي ما أحببت الباطل كهلاً ولا شابّاً، ولكنّي مستبشر بما نحن لاقون، والله، ما بيننا وبين الحور العين إلّا أن يميل علينا

ص: 99


1- جريدة النهار الكويتية: العدد 484.
2- المقرَّم، عبد الرزاق، مقتل الحسين علیه السلام: ص291.
3- الفاضل الدربندي، أسرار الشهادة: ص345.

هؤلاء بأسيافهم، ولوددت أنّهم مالوا علينا الساعة» (1).

«وخرج حبيب بن مظاهر يضحك، فقال له يزيد بن الحصين الهمداني: ما هذه ساعة ضحك! قال حبيب: وأيّ موضع أحقّ بالسرور من هذا؟! ما هو إلّا أن يميل علينا هؤلاء بأسيافهم فنعانق الحور»(2).

ويقول الكاتب والمفكِّر والمستشرق الإنكليزي توماس كارلايل(3): «أسمى درس نتعلَّمه من مأساة كربلاء هو أنّ الحسين وأنصاره كان لهم إيمان راسخ بالله، وقد أثبتوا فعلاً بعملهم ذاك أن التفوّق العددي لا أهمية له وقت المواجهة بين الحقّ والباطل، والذي أثار دهشتي هو انتصار الحسين رغم قلّة الفئة التي كانت معه»(4).

لقد كان أصحاب الإمام علیه السلام على قدر كبير من الشجاعة والإقدام، وقد أفصح عمرو بن الحجاج عن حقيقة شجاعتهم، وعزمهم على الموت؛ إذ يقول لأصحابه محرّضاً: «أتدرون مَن تقاتلون؟ تقاتلون فرسان المصر، وأهل البصائر، وقوماً مستميتين، لا يبرز إليهم أحدٌ منكم إلّا قتلوه على قلّتهم...»(5).

وقيل لرجل شهد الطف مع عمر بن سعد: «ويحك! أقتلتم ذريَّة الرسول؟! فقال: عضضت بالجندل، إنّك لو شهدت ما شهدنا لفعلتَ ما فعلنا، ثارت علينا عصابة أيديهم على مقابض سيوفهم كالأُسود الضارية، تحطّم الفرسان يميناً وشمالاً، تُلقي نفسها على الموت، لا تقبل الأمان ولا ترغب في المال، ولا يحول حائل بينها وبين المنيّة أو الاستيلاء على الملك، فلو كففنا عنها رويداً لأتت على نفوس العسكر بحذافيرها، فما كنّا فاعلين

ص: 100


1- الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الأُمم والملوك: ج6، ص241. المقرَّم، عبد الرزاق، مقتل الحسين علیه السلام: ص216.
2- الطوسي، محمد بن الحسن، اختيار معرفة الرجال (رجال الكشّي): ج1، ص293. المقرَّم، عبد الرزاق، مقتل الحسين علیه السلام: ص216.
3- توماس كارلايل (1795 - 1881م). مؤرّخ وفيلسوف وناقد إنكليزي له كتاب (الأبطال).
4- جريدة النهار الكويتية: العدد 484.
5- المقرَّم، عبد الرزاق، مقتل الحسين علیه السلام: ص70.

لا أُمّ لك؟!»(1).

ومن أدلّة النصر التي كانت للحقّ يوم كربلاء هو طلب عزرة بن قيس المدد(2)، وهو على الخيل التي كانت في جند عمر بن سعد؛ وذلك حين رأى الوهن بادياً في أصحابه، فأمدّه بالحصين بن نمير مع خمسمائة من الرماة(3).

وكان معسكر الإمام الحسين علیه السلام يطغى عليه التعبّد والتبتّل، والصلاة والتهجّد، بينما معسكر عمر بن سعد؛ معسكر واجم، مظلم، غارق بالذنوب، ويتّصف أصحابه بسواد القلوب، مع سواد الوجوه والنيِّات.

ولقد أثّر معسكر الإمام الحسين علیه السلام في أصحاب عمر بن سعد؛ فخرج بعض منهم والتحق(4) بمعسكر الحسين علیه السلام لمّا شاهد سيماء الطاعة والخضوع لله تعالى عليه. وفعلاً فقد بشّرهم الإمام الحسين علیه السلام بالجنة في يوم العاشر من محرم، فلمّا فرغ علیه السلام من صلاة الظهر من ذلك اليوم، قال لأصحابه: «يا كرام، هذه الجنة قد فتحت أبوابها، واتصلت أنهارها، وأينعت ثمارها، وزُيِّنت قصورها، وتؤلّفت ولدانها وحورها، وهذا رسول الله صلی الله علیه و آله والشهداء الذين قُتلوا معه، وأبي وأُمي، يتوقّعون قدومكم عليهم، ويتباشرون بكم، وهم مشتاقون إليكم...»(5).

وقد قال رسول الله صلی الله علیه و آله في كلامه مع أبي ذر الغفاري في وصف معسكر الإمام الحسين علیه السلام ومكانتهم السامية: «... واعلم يا أبا ذر، أنّ للواحد منهم سبعين بدريّاً، يا أبا ذر، واحدٌ منهم أكرم على الله من كلّ شيء خلق الله على وجه الأرض... »(6).

ص: 101


1- ابن أبي الحديد، عز الدين، شرح نهج البلاغة: ج3، ص263. المقرَّم، عبد الرزاق، مقتل الحسين علیه السلام: ص70.
2- عزرة بن قيس بن غزية الأحمسي البجلي: من قادة جيش عمر بن سعد الذين خرجوا لمحاربة الإمام الحسين علیه السلام.
3- اُنظر: المقرَّم، عبد الرزاق، مقتل الحسين علیه السلام: ص243.
4- اليعقوبي، محمد بن أبي يعقوب، تاريخ اليعقوبي: ج2، ص 217.
5- أبو مخنف، لوط بن يحيى، مقتل الحسين علیه السلام: ص67.
6- الفاضل الدربندي، أسرار الشهادة: ص274.

وقال عنهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب علیه السلام: «...لا يسبقهم مَن كان قبلهم، ولا يلحقهم مَن كان بعدهم»(1).

4- علنية النهضة الحسينية وعدم سرّيتها

ومن الأُمور التي أسهمت في أن تحقّق النهضة الحسينية أهدافها، وتنتصر على مناوئيها، هو أنّها كانت ثورة واضحة الأهداف، علنيّة المقاصد، وليس فيها غموض أو سرِّية، يجعلها عرضة للشك والريبة، فقد أبدى الإمام الحسين علیه السلام امتعاضه علناً من الحكم الأُموي الجائر من أيام معاوية، وتركّز هذا الامتعاض وعدم القبول عند تولّي يزيد للعرش، فأظهر معارضته العلنية لذلك، وكذلك كان خروجه علنيّاً، وهذا ما أكّده عندما لزم الطريق الأعظم، وقال لّما نصحه البعض بالتنكّب عنه: «لا والله، لا أُفارقه حتى يقضي الله ما هو قاضٍ»(2). وهنا سؤال قد يطرح: لماذا لزم الإمام الحسين علیه السلام الطريق الأعظم؟

والجواب: هناك عدّة أسباب منها:

أ) يستلزم من ذلك أنّه علیه السلام ليس طالب مُلك، ولو كان كذلك لخرج بسرّية تامّة لتحقيق ما يريده.

ب) لكي يُعلِن للملأ أنّ خروجه علنيّ، فلا يتحجّج مَن يريد التحجّج من جميع المسلمين في جميع الأمصار الإسلامية - وبالخصوص المدينة ومكة والبصرة والكوفة والشام - بأنّه لا يعلم ولم يعلم بخروج الإمام، ولو علم لبادر لنصرته!

ج) التحدّي الواضح والعلني للسلطة الحاكمة، وأنّ طالب الحقّ لا يخاف في الله لومة لائم.

يقول علي شريعتي: «وقبل أن يغادر الحسين المدينة أعلن أهدافه من هذا الخروج وهي: (السيرة بسيرة جدّه وأبيه) و(الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر).

ص: 102


1- الطريحي، فخر الدين، المنتخب: ج1، ص 87.
2- المفيد، محمد بن محمد، الإرشاد: ج2، ص35. المقرَّم، عبد الرزاق، مقتل الحسين علیه السلام: ص 140.

ثمّ يطوي مسافة ستمائة كيلو متر بين مكة والمدينة بشكل علني هو وأهل بيته، وهو إذ يصل مكة يُعلِن على مسمع من جموع الحجّ المتوافدة من الربوع الإسلامية أنّه ماضٍ إلى الموت»(1). ولكنّه الموت الذي سيؤدي إلى النصر المحقّق والأبدي.

5- عالمية الثورة الحسينية وإنسانيتها

من أهمّ سمات النهضة الحسينية وعوامل انتصارها هو أنّها لم تكن محدودة الأهداف أو مقتصرة على فئة معيّنة؛ فقد جاءت لتعلن انتصارها للإنسانية المسلوبة وإرجاع الحقوق الضائعة جرّاء التمييز والطبقية؛ فجيش الإمام الحسين علیه السلام رغم قلّته فقد تجسّدت فيه الإنسانية والعالمية؛ إذ نجد فيه الحبشي الأسود، والتركي، والنصراني، فهو جيش الإنسانية يحارب جيش الشياطين.

وتمثّلت عالمية الثورة الحسينية من خلال تأثّر الكثير بهذه الثورة من غير الشيعة، بل من غير المسلمين من أهل الديانات الأُخرى في العالم، والشاهد على ذلك المقالات والأقوال التي ذكرناها وسنذكرها في طيّات البحث، استشهاداً واستطراداً وتأييداً لذلك.

كما أنّ عالميتها واضحة من جانب آخر، ألا وهو عالمية الرسالة الإسلامية التي جاء بها النبي محمد صلی الله علیه و آله ، وبالتالي عالمية رسالة الأئمة علیهم السلام، ومنهم الإمام الحسين علیه السلام؛ لذا فإنّ مَن يريد اختزال القضية الحسينية وحصرها بشعب معيَّن، أو طائفة معيَّنة، فهو مخطئ، يحتاج إلى إعادة النظر في كلّ منظومته المعرفية.

فالقضية الحسينية انطلقت وفق أهداف إنسانية بحتة، هدفها تحرير الإنسانية جمعاء بما تحمله من أهداف وقيم وتضحيات ونماذج مشرّفة، فهي قضية عامّة لكلّ بني الإنسان لا تختصّ بفئة معيّنة من الناس، ولا بمكان معيّن من الأرض، وهذا الأمر يتّضح عبر شعارات النهضة، وأقوال قائدها: «... ألا وإنّ الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين، بين السلّة والذلّة، وهيهات منّا الذلّة، يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون، وحجورٌ طابت

ص: 103


1- شريعتي، علي، الشهادة: ص90.

وطهرت، وأنوفٌ حميّة، ونفوسٌ أبيّة من أن نُؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام، ألا وإنّي زاحف بهذه الأُسرة على قلّة العدد، وخذلان الناصر...»(1).

وقوله علیه السلام: «فإنّي لا أرى الموت إلّا سعادة، والحياة مع الظالمين إلّا برماً»(2).

وكذلك قوله علیه السلام: «والله، لا أُعطيكم بيدي إعطاء الذليل، ولا أُقرُّ لكم إقرار العبيد»(3).

وكلّها مبادئ وشعارات يتمسّك بها جميع الأحرار والثوار أُسوة بالإمام الحسين علیه السلام.

6- الدور الإعلامي لأسرى الطفّ

ومن بين العوامل المساعدة في انتصار الثورة الحسينية ووصولها إلى غاياتها، هو الدور الإعلامي الكبير لأسرى كربلاء من أهل البيت علیهم السلام في فضح الحكومة الأُموية الظالمة، فقد استفادوا من فرصة أسرهم وانتقالهم من بلدٍ إلى بلد في ذلك، فكان لهذا الدور الأثر الكبير؛ بأن اتضحت للناس شرعية الثورة الحسينية، وحقيقة الدولة الأُموية، فهذه الدولة التي قتلت ابن بنت النبي صلی الله علیه و آله وأنصاره - ومعهم من أصحاب النبي صلی الله علیه و آله ، وأصحاب الإمام علي علیه السلام - ومنعتْ الماء عن أهل بيت النبوّة، وقتلت الأطفال الرضّع، ومثّلت بالأجساد وسلبتها، وقطعت الرؤوس، وحملتها على الرماح، حتى رؤوس الأطفال و...، فوقف هذا الإعلام الحقيقي أمام الإعلام الكاذب والمضادّ، فكان صراع بين الحقيقة الشاخصة والادعاءات الباطلة الواهمة.

إنّ هذا الدور الإعلامي كان مكمّلاً للدور العسكري الذي قام به الإمام الحسين علیه السلام، فإن كانت الثورة الحسينية قد خُنقت وأُسكتت في ساحة المعركة، إلّا أنّ المعركة الإعلامية لا يمكن إسكاتها ولا خنقها، وأنّ شعار: لا تُبقوا لأهل هذا البيت باقية، كان هدفه القضاء

ص: 104


1- المقرَّم، عبد الرزاق، مقتل الحسين علیه السلام: ص234.
2- الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الأُمم والملوك: ج6، ص229. المقرَّم، عبد الرزاق، مقتل الحسين علیه السلام: ص194.
3- المقرَّم، عبد الرزاق، مقتل الحسين علیه السلام: ص229.

عليهم عسكرياً وإعلامياً، لكنّ مشيئة الله تعالى جرت على غير ذلك.

وكان لخطبة الإمام علي بن الحسين زين العابدين علیه السلام، في مجلس يزيد في الشام، تأثيرها في تأليب الرأي العام عليه؛ ممّا اضطرّه لإخراجهم من الشام وإعادتهم خوفاً على سلطانه.

وصوت السيدة زينب صلی الله علیه و آله في الكوفة كان ناطقاً بالحقّ، يقول بشر بن خزيم الأسدي(1) عن السيدة زينب ودورها وخطبتها في الكوفة، تلك الخطبة المدوّية: «ونظرتُ إلى زينب بنت علي يومئذٍ، فلم أرَ خفرة قط أنطق منها، كأنّما تنطق عن لسان أمير المؤمنين»(2).

وقال عنها عبيد الله بن زياد - بعد أن أفحمته وأخزته -: «لعمري، إنّها لسجّاعة، ولقد كان أبوها أسجع منها»(3).

ومن كلامها في الشام مخاطبة يزيد: «...فو الله، لا تمحو ذكرنا، ولا تُميت وحينا، ولا تدرك أمدنا، ولا ترحض(4) عنك عارها، ولا تغيب منك شنارها...»(5).

وكذلك لها دورها لمّا رجعت إلى المدينة المنورة، فقد كتب عمر بن سعيد الأشدق - والي يزيد بن معاوية على المدينة - إلى يزيد، بشأن السيدة زينب صلی الله علیه و آله ونشاطها ودورها

ص: 105


1- وقد اختلفوا في اسمه ما بين: بشر بن خزيم، أو حذام الأسدي، أو حذلم بن بشير، أو حذلم بن ستير، أو حذيم، أو حذيم بن شريك الأسدي، أو بشير بن حذيم الأسدي، أو بشير بن خزيم الأسدي، أو حذيم بن شريك.
2- ابن طيفور، أبو الفضل بن أبي طاهر، بلاغات النساء: ص25. المفيد، محمد بن محمد، الأمالي: ص321. الطبرسي، أحمد بن علي، الاحتجاج: ج2، ص29. الخوارزمي، محمد بن أحمد، مقتل الحسين علیه السلام: ج2، ص45. ابن طاووس، علي بن موسى، اللهوف في قتلى الطفوف: ص86. الطوسي، محمد بن الحسن، الأبواب (رجال الطوسي): ص88.
3- الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الأُمم والملوك: ج3، ص337. ابن أعثم، أحمد، مقتل الحسين علیه السلام: ص150. ابن الأثير، علي بن أبي الكرم، الكامل في التاريخ: ج3، ص435.
4- لا تغسل.
5- الخوارزمي، محمد بن أحمد، مقتل الحسين علیه السلام: ص63- 64. ابن طيفور، أبو الفضل بن أبي طاهر، بلاغات النساء: ص21 - 23.

في المدينة: «إنّ وجودها بين أهل المدينة مهيّج للخواطر، وإنّها فصيحة، عاقلة، لبيبة، وقد عزمت هي ومَن معها على القيام للأخذ بثأر الحسين»(1).

إنّ الإمام الحسين علیه السلام وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة، كان قلبه مطمئنّاً بأنّ أُخته زينب بنت علي بن أبي طالب علیه السلام ستُكمل الطريق، وستحمل الراية من بعده، لتنصبها في أرجاء المعمورة؛ ليكون اسم الحسين علیه السلام مناراً خفّاقاً، وشعاراً إلهياً عاماً وشاملاً، وأملاً لكلّ المستضعفين في الأرض، ولكلّ الأحرار في الدنيا.

ما تقدّم يمثّل أهم عوامل انتصار النهضة الحسينية، وفيما يأتي نعرض لأهمّ وأوضح مظاهر وتجلّيات هذا النصر على المستوى القريب والبعيد.

النقطة الثالثة: مظاهر النصر المتحقّقة للنهضة الحسينية

اشارة

لقد أتت النهضة الحسينية أُكلها، وحقّقت أهدافها بالنصر المؤزَّر على كلّ ألوان الظلم والباطل، وتمظهر هذا النصر بمظاهر وأشكال متعدّدة، نذكر منها:

أولاً: حفظ الدين

إنّ حفظ الدين هو النصر الأكبر، فقد قال إبراهيم بن طلحة للإمام السجاد علیه السلام: «يا علي بن الحسين، مَن غلب؟». فقال له الإمام السجاد علیه السلام: «إذا أردت أن تعلم مَن غلب، ودخل وقت الصلاة، فأذِّن ثمّ أقِم»(2). ويقول علي شلق(3): «بقي الحسين بن علي يُذكر حيّاً، نَضِراً، فوّاحاً، كلّما ذُكر محمد وآل محمد، ورسالة محمد صلی الله علیه و آله ، في كلّ صلاة، وفي كلّ تسليم»(4).

ص: 106


1- النقدي، جعفر، زينب الكبرى: ص120. شمس الدين، محمد مهدي، ثورة الحسين علیه السلام: ص204. بنت الشاطئ، بطلة كربلاء: ص206.
2- الطوسي، محمد بن الحسن، الأمالي: ص677.
3- علي محمد شلق (1915 - 2008م)، من مواليد كفريا (الكورة) لبنان، عمل مديراً لثانوية طرابلس، ثمّ انتقل إلى بيروت، حيث تابع التدريس في أماكن عدّة في لبنان والعراق.
4- شلق، علي محمد، الحسين بن علي إمام الشاهدين: ص9.

فقد حافظت الثورة الحسينية على الدين وعلى الصلاة التي هي عمود الدين، والتي أرادت طغمة بني أُميّة محوها، ويكفيك ما قاله أبو سفيان: «تلاقفوها يا بني أُميّة؛ فإنّه الملك، ولا جنّة ولا نار»(1). وبالتالي؛ لا دين ولا صلاة. وما عقّب معاوية بن أبي سفيان، لمّا سمع المؤذِّن يقول: أشهد أنّ محمداً رسول الله، بقوله: إلّا دفناً دفناً(2). أي أنّه سوف يسعى لدفن هذا الدين، بدفن الأذان ودفن الصلاة، ودفن ذكر محمد صلی الله علیه و آله ، بل دفنه بدفن آل بيته علیهم السلام.

وكذلك ما فعله من سبّه ولعنه للإمام علي علیه السلام على المنابر علناً، وكما يقول الدكتور سعيد عبد الفتاح عاشور المصري(3): «وكلّنا نعلم ماذا كان يقول زياد ابن أبيه وغير زياد من سباب، هو في حقيقة الأمر ليس موجّهاً إلى علي بقدر ما هو موجّه إلى المسلمين كافّة، وإلى نبيّ المسلمين، إلى رسول الله صلی الله علیه و آله ...»(4).

فالنهضة الحسينية لها الأثر البالغ في التعريف بالدين على حقيقته، وإيضاح معالمه، ورفع الشكّ والارتياب والحيرة عنه، فنقرأ في زيارته علیه السلام: «...فأعذر في الدعاء، وبذل مهجته فيك، ليستنقذ عبادك من الضلالة والجهالة، والعمى والشك والارتياب إلى باب الهدى من الردى»(5). ويقول الشيخ محمد عبده: «لولا الإمام الحسين لما بقي لهذا الدين من أثر»(6). وتقول الكاتبة الإنكليزية فريا ستارك(7): «إن كان الحسين قد حارب من

ص: 107


1- الطبرسي، أحمد بن علي، الاحتجاج: ج1، ص75 - 80. ابن عبد البر، يوسف بن عبد الله، الاستيعاب: ج4، ص87. أبو الفرج الأصفهاني، علي بن الحسين، الأغاني: ج6، ص356.
2- اُنظر: ابن بكار، الزبير، الموفقيات: ص577. المسعودي، علي بن الحسين، مروج الذهب: ج3، ص454. التستري، محمد تقي، قاموس الرجال: ج9، ص20.
3- أُستاذ التاريخ في جامعة القاهرة بمصر، ثمّ بيروت، ثمّ الكويت، مختصّ في تاريخ العصور الوسطى.
4- العتابي، ليث عبد الحسين، السبّ واللعن بين الحقائق والادعاءات: ص214.
5- ابن قولويه، جعفر بن محمد، كامل الزيارات: ص401.
6- مجلة البناء: العدد 56. محرم 1422ه-/ 2001م.
7- فريا ستارك: (1893م)، وُلدت في باريس، وتخرّجت من مدرسة اللغات الشرقية، عملت في سفارة بغداد (1942م) وفي الولايات المتحدة وكندا (1944م)، نالت العديد من الأوسمة.

أجل أهداف دنيوية، فإنّني لا أدرك لماذا اصطحب معه النساء والصبية؟ إذن؛ فالعقل يحكم أنّه ضحى فقط لأجل الإسلام»(1).

ولعلّ هذا هو الفتح الذي عبّر عنه الإمام الحسين علیه السلام في كتابه إلى بني هاشم في المدينة، الذي قال فيه: «بسم الله الرحمن الرحيم، من الحسين بن علي إلى محمد بن علي ومَن قبله من بني هاشم، أمّا بعد، فإنّ مَن لحق بي استُشهد، ومَن لم يلحق بي لم يُدرك الفتح»(2).

فهو فتح للدين وللدعوة الإسلامية التي أراد بنو أُميّة ذبحها وإنهاء وجودها، لكنّ الإمام الحسين علیه السلام فتح الدين ونشره من جديد(3)، كما فعل جدّه المصطفى صلی الله علیه و آله ، فهو علیه السلام يقول في دعائه يوم عاشوراء: «اللهم، إن كنتَ حبست عنّا النصر، فاجعل ذلك لما هو خير في العاقبة، وانتقم لنا من القوم الظالمين»(4).

ص: 108


1- فريا ستارك، كتاب صور بغدادية: ص45.
2- ابن قولويه، جعفر بن محمد، كامل الزيارات: ص157. الراوندي، قطب الدين، الخرائج والجرائح: ج2، ص771 - 772.
3- ولعلّ المراد بالفتح شيء آخر أسمى وأنبل من ذلك لا يمكننا إدراكه، وليس في دار الدنيا، بل في الآخرة من علو المنزلة وعظمة الشأن، ولعلّه النصر الآجل، بانتصار المبادئ التي قاتل من أجلها، وليس القياس قياساً عسكرياً فقط. ولعلّ الفتح همّ بخلق جيل جديد صالح، يميّز الحقّ من الباطل، ويتربّى التربية الإسلامية الحسينية، يقول الكاتب والمفكّر الغربي، هربرت سبنسر(1820 - 1903م) وهو فيلسوف وعالم اجتماع انكليزي، له (أُصول علم الحياة)، و(أُصول علم النفس)، و(أُصول علم الاجتماع)، و(أُصول علم الأخلاق)، يُعتَبر فيلسوف بريطانيا بلا منازع: «إنّ أرقى ما يأمل الوصول إليه الرجال الصالحون هو المشاركة في صناعة الإنسان الآدمي، أي: الاشتراك في خلق جيل صالح، بينما مدرسة الحسين ليست فقط مدرسة تنبذ المذنبين، ولا يمكن لها أن تكون من صانعيهم، بل إنّها لا تكتفي بكونها تسعى لخلق جيل صالح، إنّها مدرسة لتخريج المصلحين». مطهري، مرتضى، الملحمة الحسينية: ج3، ص66. أو لعلّ مراد الإمام الحسين غير ذلك من المعاني، لكنّه علیه السلام أخبر بالفتح، والحقيقة أنّ كلّ ما تحقّق بعد الثورة الحسينية المباركة هو فتح، وهو انتصار، فالمكاسب التي تحقّقت عظيمة جداً، وخلاف التوقّعات البشرية المحدودة.
4- ابن سعد، محمد، ترجمة الإمام الحسين علیه السلام من الطبقات الكبرى: ص471.

وقال المستشرق الفرنسي لويس ماسينيون(1): «أخذ الحسين على عاتقه مصير الروح الإسلامية، وقُتل في سبيل العدل بكربلاء»(2).

ثانياً: بوادر النصر الأُولى للنهضة الحسينية

لقد لاحت بوادر انتصار الثورة الحسينية في وقت مبكّر جدّاً، فما أن أُسدِل الستار على الجريمة النكراء ظُهر عاشوراء، وتحرّك الركب المفجوع، حتى بدأت الأُمور تتغير وتتّجه في صالح الثورة، ومن الدلائل على ذلك تعاطف الناس الكبير مع السبايا عندما مرّوا بالكوفة، وغيرها من المدن الأُخرى، وكذلك امتناع الكثير من أهل البلدان والأماكن التي مرَّ بها الركب الحسيني عن استقبال قتلة ابن بنت رسول الله صلی الله علیه و آله (3).

وأيضاً إسلام الراهب اليهودي(4) ببركة الرأس الشريف، ولربّما ذكرت المصادر أكثر من واحد من اليهود والنصارى أسلم بسبب كرامات الرأس الشريف(5).

وتسمية أكثر من مكان في طريق السبايا باسم الحسين علیه السلام وبمَن مرَّ به، وكل ذلك تبرّكاً به، والمتتبّع لذلك يجد هذه الآثار والمقامات باقيةً إلى زماننا هذا، كمسجد النقطة، ومسجد الرأس، ومقام السقط، وغيرها على طول الطريق إلى الشام(6).

ولا ننسى المصير الأسود والجزاء العادل الذي لاقاه قتلة الإمام الحسين علیه السلام، يقول ابن كثير: «وأمّا ما رُوي من الأحاديث والفتن التي أصابت من قتله فأكثرها صحيح، فإنّه قلَّ مَن نجا من أولئك الذين قتلوه من آفة أو عاهة في الدنيا، فلم يخرج منها حتى أُصيب

ص: 109


1- لويس ماسينيون: (1883 - 1962م) مستشرق فرنسي، من مؤسّسي دائرة المعارف الإسلامية في مصر، والتي كان هدفها تشويه الإسلام ونشر المسيحية، وكان ماسينيون من كبار المنصّرين والطاعنين في الإسلام والقران، وُصف بأنّه من المستشرقين الخطرين.
2- جريدة النهار الكويتية: العدد 484.
3- أبو مخنف، لوط بن يحيى، مقتل الحسين علیه السلام: ص 116.
4- المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج45، ص 303.
5- اُنظر: لبيب بيضون، موسوعة كربلاء.
6- المصدر السابق.

بمرض، وأكثرهم أصابهم الجنون»(1). كلّ ذلك شكل من أشكال النصر لهذه الثلّة المباركة.

ثالثاً: النصر الحسيني يتحقّق داخل البلاط الأُموي

لقد انتصر الإمام الحسين علیه السلام على قتلته من بني أُميّة - وعلى رأسهم يزيد - في عقر دارهم، وذلك من خلال ما واجهوه من اعتراض واستياء من قبل أعوانهم ومقرَّبيهم، ومن الأمثلة على ذلك:

أ) اعتراض عبد الرحمن بن الحكم بن أبي العاص - الأُموي أخي مروان بن الحكم - عندما شاهد قافلة الأسرى ومعها رؤوس الشهداء من أهل بيت النبوّة في مجلس يزيد، فقال: «حجبتم عن محمد يوم القيامة، وإنّي لن أُجامعكم على أمرٍ أبداً»(2).

و قال أيضاً:

لهامٌ بجنب الطفّ أدنى قرابةً ***من ابن زياد العبد ذي الحسب الوغلِ

سميّة أمسى نسلها عدد الحص-ى ***وبنت رسول الله أمست بلا نسلِ(3)

وروي أن يزيد نظر إلى عبد الرحمن بن الحكم، وقال: «سبحان الله! أفي هذا الموضع تقول ذلك، أما يسعك السكوت؟!»(4). وروى أبو الفرج الأصفهاني: «إنّ يزيد صاح به: اسكت يا بن الحمقاء، ما أنت وهذا؟!»(5).

ب) موقف هند بنت عبد الله بن عامر بن كريز زوجة يزيد بن معاوية، والتي حين رأت رأس الحسين علیه السلام خرجت حاسرة، فوثبت على يزيد وقالت: «أرأس ابن فاطمة مصلوب على باب داري؟!...»(6). فقد ذكر أرباب التاريخ والسير بأنّه قد أُقيم مأتم

ص: 110


1- ابن كثير، إسماعيل بن عمر، البداية والنهاية: ج8، ص220.
2- الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الأُمم والملوك: ج4، ص 356.
3- ابن شهر آشوب، محمد بن علي، مناقب آل أبي طالب: ج3، ص260 - 261.
4- الخوارزمي، محمد بن أحمد، مقتل الحسين علیه السلام: ج2، ص 63.
5- أبو الفرج الأصفهاني، علي بن الحسين، الأغاني: ج13، ص 288 - 289.
6- الخوارزمي، محمد بن أحمد، مقتل الحسين علیه السلام: ج2، ص81. المقرَّم عبد الرزاق، مقتل الحسين علیه السلام: ص355.

للإمام الحسين علیه السلام في بيت يزيد، رغماً عنه ولثلاثة أيام(1).

ج) موقف معاوية بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان، فقد صرّح على منبر الشام - مركز الخلافة الأُموية - بذمّ أبيه يزيد وجدّه معاوية، وأعطى الحقّ للأمام الحسين وعلي بن أبي طالب علیهما السلام، فهو لمّا خلع نفسه صعد المنبر، وقال فيما قال: «... يا أيّها الناس، ما أنا بالراغب في الائتمار عليكم لعظيم ما أكرهه منكم، وأنّي لأعلم أنّكم تكرهوننا أيضاً... إلّا أنّ جدّي معاوية قد نازع في هذا الأمر مَن كان أولى به منه ومن غيره؛ لقرابته من رسول الله صلی الله علیه و آله ، وعظم فضله وسابقته، أعظم المهاجرين قدراً، وأشجعهم قلباً، وأكثرهم علماً، وأوّلهم إيماناً، وأشرفهم منزلة، وأقدمهم صحبة، ابن عمّ رسول الله صلی الله علیه و آله ، وصهره وأخوه، زوّجه صلی الله علیه و آله ابنته فاطمة... ثمّ انتقلت الخلافة إلى يزيد أبي، فتقلّد أمركم لهوًى كان أبوه فيه، ولقد كان أبي يزيد - بسوء فعله، وإسرافه على نفسه - غير خليقٍ بالخلافة على أُمّة محمد صلی الله علیه و آله ، فركب هواه، واستحسن خطاه، وأقدم على ما أقدم من جرأته على الله، وبغيه على مَن استحلّ حرمته من أولاد رسول الله صلی الله علیه و آله ، فقلّت مدّته، وانقطع أثره، وضاجع عمله، وصار حليف حفرته، رهين خطيئته، وبقيت أوزاره وتبعاته...»(2).

ثمّ إنّ بني أُميّة قالوا لمؤدِّبه عمر المقصوص: «أنت علّمته هذا ولقّنته إيّاه، وصددته عن الخلافة، وزيّنت له حبّ علي وأولاده... وأخذوه ودفنوه حيّاً حتى مات»(3).

وكذلك امتدّ هذا التيار ليشمل أُسرة ابن زياد المعروفة بالفسق والفجور، والهمجية وسفك الدماء، فنجد أنّ أخا عبيد الله - وهو عثمان بن زياد - يعترض عليه ويقول: «والله، لوددت أنّه ليس من بني زياد رجل إلّا وفي أنفه خزامة إلى يوم القيامة، وإنّ حسيناً لم يُقتل»(4).

ص: 111


1- سبط ابن الجوزي، يوسف شمس الدين، تذكرة الخواص: ص275. الخوارزمي، محمد بن أحمد، مقتل الحسين علیه السلام: ج2، ص74.
2- الدميري، كمال الدين، حياة الحيوان الكبرى: ج1، ص 94. المسعودي، علي بن الحسين، مروج الذهب: ج3، ص85. اليعقوبي، أحمد بن أبي يعقوب، تاريخ اليعقوبي: ج2، ص254.
3- الدميري، كمال الدين، حياة الحيوان الكبرى: ج1، ص94.
4- الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الأُمم والملوك: ج4، ص357.

د) مرجانة أُمّ عبيد الله مع خبثها وفجورها، قالت له: «يا خبيث، قتلت ابن رسول الله، لا ترى الجنة أبداً»(1). مضافاً للاعتراضات التي صدرت على مَن اشترك بقتل الإمام الحسين علیه السلام، من أمثال؛ زوجة خولي، وزوجة كعب بن جابر، وغيرهم.

رابعاً: كشف الظاهرة الأُموية ومحاربتها

كانت الظاهرة الأُموية من أخطر الظواهر على الدين الإسلامي، والتي حذَّر منها النبي محمد صلی الله علیه و آله ؛ إذ قال: «إنّ أهل بيتي سيلقون من بعدي من أُمّتي قتلاً وتشريداً، وإنّ أشدّ قومنا لنا بغضاً بنو أُميّة...»(2). وقال صلی الله علیه و آله : «إذا بلغت بنو أُميّة أربعين رجلاً اتخذوا عباد الله خولاً، ومال الله دخلاً، وكتاب الله دغلاً»(3). وقال صلی الله علیه و آله : «إنّ لكلّ دين آفة، وآفة هذا الدين بنو أُميّة»(4).

وأخرج ابن أبي حاتم عن يعلى بن مرّة، قال: قال رسول الله صلی الله علیه و آله : «أُريت بني أُميّة على منابر الأرض وسيمتلكونهم، فيجدونهم أرباب سوء»(5). واهتمّ رسول الله صلی الله علیه و آله لذلك، فأنزل الله: «وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ»(6).

وقال أمير المؤمنين علیه السلام مُعرّفاً بني أُميّة ومحذّراً من الظاهرة الأُموية أيضاً: «ألا وإنّ أَخوَف الفتن عندي عليكم فتنة بني أُميّة؛ فإنّها فتنة عمياء مظلمة... وايم الله، لتجدنّ بني أُميّة لكم أرباب سوءٍ بعدي»(7). وقال علیه السلام: «لكلّ أُمّة آفة، وآفة هذه الأُمّة بنو أُميّة»(8).

ص: 112


1- ابن الأثير، علي بن أبي الكرم، الكامل في التاريخ: ج4، ص265.
2- الحاكم النيسابوري، المستدرك على الصحيحين: ج4، ص487.
3- المتقي الهندي، علاء الدين علي، كنز العمال: ج11، ص169.
4- المصدر السابق: ج14، ص87.
5- السيوطي، ابن أبي بكر، الدر المنثور: ج4، ص191.
6- الإسراء: آية60.
7- نهج البلاغة: خطبة91.
8- المتقي الهندي، علاء الدين علي، كنز العمال: ج11، ص364.

وقال الإمام الحسن علیه السلام محذّراً من الظاهرة الأُموية: «ولو لم يبقَ لبني أُميّة إلّا عجوز درداء، لبغت دين الله عوجاً»(1).

كما أنّ الإمام الحسين علیه السلام قال محذّراً من الظاهرة الأُموية: «أيّها الناس، إنّ رسول الله صلی الله علیه و آله قال: مَن رأى سلطاناً جائراً، مستحلِّاً لحُرَم الله، ناكثاً عهده، مخالفاً لسنّة رسول الله، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، فلم يُغيِّر عليه بفعلٍ ولا قول، كان حقّاً على الله أن يُدخله مدخله. ألا وإنّ هؤلاء [أي بني أُميّة] قد لزموا طاعة الشيطان، وتركوا طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد، وعطّلوا الحدود، واستأثروا بالفيء، وأحلّوا حرام الله، وحرّموا حلاله، وأنا أحقّ ممَّن غيَّر»(2).

ويقول الإمام الصادق علیه السلام: «إنّ بني أُميّة أطلقوا للناس تعليم الإيمان، ولم يطلقوا تعليم الشرك؛ لكي إذا حملوهم عليه لم يعرفوه»(3).

وقد صرَّح الكثير من الكُتّاب والمفكّرين والمؤرّخين بخطر الظاهرة الأُمويّة:

يقول المقريزي حول أفعال بني أُميّة المُشينة: «هدّموا الكعبة، وجعلوا الرسول صلی الله علیه و آله دون الخليفة، وختموا في أعناق الصحابة، وغيّروا أوقات الصلاة، ونقشوا أكفّ المسلمين، وأباحوا أعراض المسلمات في المدينة ثلاثة أيّام، وأكلوا وشربوا الخمر على منبر رسول الله صلی الله علیه و آله ...»(4).

ويقول المستشرق الإنكليزي المعروف نيكلسون(5): «كان بنو أُميّة طغاةً مستبدّين، تجاهلوا أحكام الإسلام، واستهانوا بالمسلمين، ولو درسنا التاريخ لوجدنا أنّ الدين قام ضدّ الطغيان والتسلّط، وأنّ الدولة الدينية قد واجهت النظم الإمبراطورية، وعلى هذا؛

ص: 113


1- المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج44، ص43.
2- الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الطبري: ج4، ص304.
3- الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي: ج2، ص415 - 416.
4- المقريزي، أحمد بن علي، النزاع والتخاصم: ص40.
5- رينولد ألين نيكلسون (1868- 1945م): مستشرق إنكليزي وعالم بالتصوّف.

فالتاريخ يقضي بالإنصاف في أنّ دم الحسين في رقبة بني أُميّة»(1).

وبثورة الإمام الحسين علیه السلام ترسّخ للناس حقيقة أنّ طاعة بني أُميّة ليست من الدين بشيء، بل على العكس من ذلك؛ فإنّ الدين الحقيقي يدعو إلى البراءة منهم، والوقوف بوجههم، ومحاربتهم، والإطاحة بهم.

يقول الكاتب المصري عباس محمود العقاد: «ثورة الحسين واحدة من الثورات الفريدة في التاريخ، لم يظهر نظير لها حتى الآن في مجال الدعوات الدينية، أو الثورات السياسية، فلم تدم الدولة الأُموية بعدها حتى بقدر عمر الإنسان الطبيعي، ولم يمضِ من تاريخ ثورة الحسين حتى سقوطها أكثر من ستين سنة ونيف»(2).

وبالتالي؛ فشل يزيد بن معاوية ومن بعده الحكم الأُموي في تحقيق أهدافهم غير المشروعة، من القضاء على الإسلام كلّياً، بكلّ قوانينه وسننه ومعالمه وقيمه العليا، والسعي لمحو ذكر النبي محمد صلی الله علیه و آله من كلّ شيء حتى من الخطب والمجالس والكتب، بل أرادوا محوه حتى من أذان الصلاة، وقتل وتشريد أهل بيت النبي صلی الله علیه و آله ؛ وبالتالي كلّ مَن يتبعهم، ومحوهم من سجلّات الدولة، وعدم شمولهم بالعطاء، وعدم قبولهم في أيّ شهادة.

خامساً: اقتداء الثوار في كل زمان ومكان بالنهضة الحسينية

كانت ثورة الإمام الحسين علیه السلام ثورة الحقّ ضد الباطل، والعدل ضد الجور، وثورة الإسلام ضد الكفر، فكانت الشعار الرئيسي لكلّ الثورات التي جاءت بعدها، والمتتبّع للثورات التي حصلت بعد الثورة الحسينية يلمس - بما لا يقبل الشك - مدى التطور الثقافي الديني في أوساط الأُمّة بعد طول هجعة ورقاد، ومن هذه الثورات:

أ) ثورة المدينة بقيادة عبد الله بن حنظلة غسيل الملائكة، والتي دعت لخلع يزيد

ص: 114


1- جريدة النهار الكويتية: العدد 484.
2- العقاد، عباس محمود، الحسين بن علي أبو الشهداء: ص32.

وعرَّفته بكونه شارب الخمر، وملاعب القردة، وخارجاً عن الدين، فهي ثورة المظلومين ضد الظالمين، ويشير أكثر الكُتّاب إلى أنّ السبب الرئيسي والمهيّج لهذه الثورة هي زينب بنت علي علیهما السلام، ودورها المحرّض على حكم بني أُميّة، فقد كتب عمرو بن سعيد الأشدق - والي يزيد على المدينة - إلى يزيد بخصوص زينب ونشاطها، ودورها في المدينة: «إنّ وجودها بين أهل المدينة مهيّج للخواطر، وإنّها فصيحة، عاقلة، لبيبة، وقد عزمت هي ومَن معها على القيام للأخذ بثأر الحسين»(1).

ب) ثورة التوّابين سنة (65ه-)، بقيادة سليمان بن صرد الخزاعي(2)، وكان شعاره: الجهاد في سبيل الحقّ، والموت دون تحقيقه، وطلب الثأر من قتلة الحسين علیه السلام.

ج) ثورة المختار الثقفي سنة (66ه-)، تحت شعار: يالثارات الحسين.

د) ثورة صالح بن مسرح التميمي سنة (76ﻫ)، رافعاً شعار: محاربة الجور، وإقامة العدل.

ﻫ) ثورة مطرف بن المغيرة بن شعبة(3) على الحجاج بن يوسف الثقفي، سنة (77ﻫ)، داعياً إلى قتال الظلمة، وجهاد مَن حارب الحقّ واستأثر بالفيء، وحرم المسلمين منه.

و) ثورة عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث سنة (81ه-)، تحت شعار: الدعوة إلى كتاب الله وسنّة نبيِّه، وخلع أئمّة الجور.

ز) ثورة زيد بن علي بن الحسين علیه السلام سنة (122ه-)، على بني أُميّة.

ح) ثورة يحيى بن زيد بن علي بن الحسين علیه السلام سنة (125ه-)، على بني أُميّة.

ص: 115


1- النقدي، جعفر، زينب الكبرى: ص120. شمس الدين، محمد مهدي، ثورة الحسين: ص204. بنت الشاطئ، بطلة كربلاء: ص206.
2- الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الأُمم والملوك: ج4، ص326 - 473.
3- المطرف بن المغيرة بن شعبة الثقفي، ولّاه الحجاج بن يوسف الثقفي المدائن، فاستقامت سيرته وسريرته مع الرعية، واستمرّ على ولايته حتى كان خروجه على عبد الملك بن مروان والحجاج بن يوسف الثقفي، والمعروفة بثورة المطرف، واستمرّت ثورته حتى قُتل، وحمُل رأسه إلى عبد الملك بن مروان سنة 77ه-. يُراجع لذلك: تاريخ الطبري والكامل في التاريخ، حوادث سنة 77ه-.

ط) ثورة الحارث بن سريج سنة (128ه-)، إنكاراً للجور.

ي) ثورة أبي حمزة سنة (128ه-)، ضد آل مروان وظلمهم.

ك) ثورة بني العباس بقيادة أبي مسلم الخراساني التي ابتدأت سنة (129ﻫ)، واستمرّت حتى الإطاحة بالحكم الأُموي سنة (132ﻫ)، تحت شعار: الحكم لآل البيت.

هذا في عهد بني أُميّة، أمّا في عهد بني العباس، والذين ظهرت حقيقتهم وجورهم الذي زاد على جور بني أُميّة، فقد استمرّت الثورات في عهدهم ولم تخمد أبداً، كثورة أبي السرايا، محمد بن إبراهيم بن طباطبا العلوي، وغيرها.

يقول المستشرق الفرنسي (هنري ماسيه) في الإمام الحسين علیه السلام: «بالرّغم من القضاء على ثورة الحسين عسكرياً، فإنّ لاستشهاده معنًى كبيراً في مثاليّته، وأثراً فعّالاً في استدرار عطف كثير من المسلمين على آل البيت»(1).

سادساً: كسر الطوق المفروض على الحديث النبوي الشريف

تعرّض الحديث النبويّ للمنع والتزوير، وإنّ الثورة الحسينية فتحت الطريق لنشر الصحيح منه، والذي خفي عن الأُمّة بسبب سياسة الخلفاء الثلاثة، وسياسة بني أُميّة بعدهم وعلى رأسهم معاوية بن أبي سفيان، وبعد الثورة الحسينية فُتح الباب على مصراعيه ليُطرحَ أهلُ البيتِ علیهم السلام بِكونِهم الامتداد الحقيقي للرسالة النبوية، ومحور الإسلام، وملجأ الناس الصحيح بعد أن غفل عنهم وتركوهم وأنكروا حقّهم، وحاربوهم، وقد أشار الإمام الحسين علیه السلام لهذا بقوله: «...فإنّ السنَّة قد أُميتت، والبدعة قد أُحييت، فإن تسمعوا قولي أهدِكم إلى سبيل الرشاد»(2).

فلا بدّ من العلم بأنّ أخطر ما قام به معاوية بن أبي سفيان في أيّام استيلائه على السلطة هو تحريف أحاديث النبي محمد صلی الله علیه و آله ، بل ووضع الأحاديث الكاذبة على رسول

ص: 116


1- شبكة البرلمان العراقي.
2- المقرَّم، عبد الرزاق، مقتل الحسين علیه السلام: ص142. الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الأُمم والملوك: ج4، ص266.

الله صلی الله علیه و آله ، من خلال استغلال السُّذّج وأصحاب الضمائر الميتة وذوي الأطماع الدنيوية، ممَّن رأوا رسول الله صلی الله علیه و آله وسمعوا حديثه وغيرهم، من خلال استغلالهم والاستفادة منهم استفادةً تخدم غايات وأهداف معاوية السلطوية.

ففي رواية علي بن محمد بن أبي سيف المدائني (ت 225ه-) في كتابه الأحداث، عمَّا ورد في كتاب معاوية بن أبي سفيان إلى عمّاله في كلّ الأمصار، وذلك بعد عام الجماعة: «أن برئت الذمّة ممَّن روى شيئاً من فضل أبي تراب وأهل بيته»(1). فقامت الخطباء في كلّ كورة وعلى كلّ منبر يلعنون علياً علیه السلام، ويبرؤون منه، ويقعون فيه وفي أهل بيته، وكتب إلى عمّاله في جميع الآفاق: «ألّا يُجيزوا لأحدٍ من شيعة علي وأهل بيته شهادة». وكتب أيضاً: «اُنظروا مَن قامت عليه البيّنة أنّه يحبّ علياً وأهل بيته، فامحوه من الديوان، وأسقطوا عطاءه ورزقه». كما وأمرهم بتحريف الأحاديث الواردة بحقّ الإمام علي علیه السلام، وكتابة الفضائل الملفّقة بحقّ أبي بكر وعمر وعثمان، وبني أُميّة، فنجد ابن عرفة المعروف ب-(نفطويه)(2) يقول: «إنّ أكثر الأحاديث الموضوعة في فضائل الصحابة افتُعلت في أيّام بني أُميّة تقرّباً إليهم، بما يظنّون أنّهم يرغمون به أُنوف بني هاشم»(3).

وكذلك بذل معاوية بن أبي سفيان أربعمائة ألف درهم لسمرة بن جندب؛ ليروي أنّ قوله تعالى: «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ»(4)، نزلت في عبد الرحمن بن ملجم المرادي قاتل أمير المؤمنين علیه السلام. وإنّ قوله تعالى: «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ

ص: 117


1- ابن أبي الحديد، عز الدين، شرح نهج البلاغة: ج11، ص44.
2- أبو عبد الله إبراهيم بن محمد بن عرفة الأزدي العتكي، من أحفاد المهلّب بن صفرة، المعروف ب-(نفطويه)، المولود في واسط سنة (244ه-)، والمتوفَّى في بغداد سنة (323ه-)، كان من أئمّة النحو ذوي الشهرة الكبيرة.
3- العلوي، محمد بن عقيل، النصائح الكافية: ص99. ابن أبي الحديد، عز الدين، شرح نهج البلاغة: ج11، ص46.
4- البقرة: آية207.

الْخِصَامِ»(1)، نزلت في علي بن أبي طالب(2).

ومن أبرز الذين اشترى معاوية بن أبي سفيان ضمائرهم بأمواله هم: أبو هريرة، وسمرة بن جندب؛ لذا يقول الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء: «...ولولا شهادته سلام الله عليه لكانت الشريعة أُمويّة، ولعادت الملّة الحنيفية يزيدية...»(3).

فكانت الثورة الحسينية الفتح الذي أخذ من خلاله أهل البيت مكانتهم في المجتمع؛ بكونهم قادة وأئمّة هدًى منصوصاً عليهم من قِبَل الله تعالى على لسان نبيّه الأكرم صلی الله علیه و آله .

سابعاً: النهضة الحسينية صرخة زلزلت عروش الطغاة

إنّ الجريمة الكبرى والمصيبة العظمى التي حلّت بالإسلام والمسلمين في عاشوراء أدّت إلى زلزلة عروش بني أُميّة وكلّ الطغاة، وأبقت شعلة الإسلام وقّادة وأزليّة.

وهي صرخة مدوّية هزَّت كيان الأُمّة، وأخرجتها من سباتها العميق، ونبّهتها من غفلتها، وزعزعت أُسس الظالمين، ودكّت عروشهم، وأفشلت مخططاتهم القديمة والمستقبليّة؛ وأكبر دليل على ذلك: الثورات التي تلت الفاجعة - كما ذكرنا - والتي لم تقف إلّا بإسقاط ملك بني أُميّة إلى الأبد.

بل إنّ الثورة الحسينية أصبحت شعاراً للثوار - المظلومين والمضطهدين - في كلّ دول العالم باختلاف لغاتهم وألوانهم ودياناتهم، فحتى غير المسلم يستلهم العزم من الثورة الحسينية؛ فهذا غاندي(4) يقول: «تعلّمت من الحسين كيف أكون مظلوماً

ص: 118


1- البقرة: آية204.
2- اُنظر: ابن أبي الحديد، عز الدين، شرح نهج البلاغة: ج4، ص73. وكذلك في الغدير للأميني، وكُتُب أُخرى.
3- كاشف الغطاء، محمد حسين، الآيات البيّنات في قمع البدع والضلالات: القسم الأول، ص 26.
4- المهاتما وأسمه موهانداس كرامشاند: (1869 - 1948م) فيلسوف ومجاهد هندي، ولِد في بور بندر، اشتُهر بلقب المهاتما، أي: (النفس السامية)، دعا إلى تحرير الهند من الإنكليز بالطرق السلمية والمقاومة السلبية، بعيداً عن العنف، أدّت جهوده إلى تحرير الهند 1947م، اغتاله برهماني متعصِّب.

فأنتصر»(1). والزعيم الأفريقي نيلسون مانديلا(2) يقول: «تعلّمت الثبات والصمود والصبر من الحسين وعائلته وأصحابه»(3).

كما قال القائد والمناضل الصيني ماو تسي تونغ(4) في الإمام الحسين علیه السلام، حينما زاره وفد من منظّمة التحرير الفلسطينية برئاسة أحمد الشقيري ممثّل ياسر عرفات، وذلك بعد انتكاسة - وخيانة - حزيران 1967م؛ وذلك للحصول على الدعم، وللتعرّف على أساليب النضال وسبل الكفاح الثوري في التجربة الصينية، فقال ماوتسي تونغ لأحمد الشقيري: «عُد إلى وطنك، فعندكم - أيّها العرب - الثورة الحسينية، فتعلّم منها كما تعلّمنا منها!»(5).

يقول الكاتب المسيحي أنطوان بارا(6) عن تأثير الثورة الحسينية في الحسّ الثوري العالمي: «المظلومون والمضطهَدون والمقهورون والمروَّعون - من كلّ المذاهب والبقاع - يتّجهون في كلّ رغباتهم إلى جوهر ثورة الحسين، ففي اتجاههم الفطري ورود إلى منبع الكرامة والإنصاف، والعدل والأمان»(7).

وظلّت كربلاء مدرسة للأجيال، وملحمة من ملاحم التاريخ الإنساني، خلقت

ص: 119


1- العتابي، ليث عبد الحسين، قالوا في الحسين علیه السلام، كتاب مخطوط.
2- نيلسون أو نلسون مانديلا: (1918 - 2013م) زعيم أفريقي أسود ومناضل.
3- العتابي، ليث عبد الحسين، قالوا في الحسين علیه السلام، كتاب مخطوط.
4- ماوتسي تونغ (1893 - 1976م) من مؤسّ-سي الحزب الشيوعي الصيني، أعلن جمهورية الصين الشعبية (1949م).
5- العتابي، ليث عبد الحسين، قالوا في الحسين علیه السلام، كتاب مخطوط.
6- بارا، أنطوان بن يوسف، ولِد عام (1943م) في بلدة (يبرود) التابعة لمحافظة ريف دمشق، كاتب وصحفي مسيحي سوري معاصر، يعمل في الصحافة منذ عام 1964م، عمل مدير تحرير مجلة (شبكة الحوادث)، ومقدِّم للبرامج الإخبارية والحوارية في قناة (العدالة)، عضو نادي كُتّاب الخيال العلمي الدولي في نيويورك، له من المؤلّفات: الأسياد (رواية من أدب الخيال العلمي)، الحسين في الفكر المسيحي(بحث في الفكر الديني) تُرجم إلى 17 لغة، زينب صرخة أكملت مسيرة، وغيرها.
7- بارا، أنطوان بن يوسف، الحسين علیه السلام في الفكر المسيحي: ص 71.

لدى الناس حسّ التضحية في سبيل الحقّ والعدل والإنسانية، وتجلّى فيها الاستعداد البشري للتّضحية في سبيل دين الله، والكرامة الإنسانية، وتبيّنت فيها حقيقة المواجهة مع الظلم والطغيان أيّاً كان وكيف كان، فلا حسابات عسكرية، ولا عُدّة أو عدد.

إنّ كربلاء الحسين علیه السلام أعطت درساً عملياً في عدم السكوت على الظلم ووجوب مجاهدة الظالم؛ فلو لم يقم الإمام الحسين علیه السلام بنهضته الدامية، وبقي في المدينة لا يحرّك ساكناً، لما انتفض المسلمون في مناطق الدولة الإسلامية، ولبقوا يسالمون ويهادنون الحكم الأُموي، ف-«لم يُبقِ الحسين لابن حرةٍ عذراً»(1).

ثامناً: تنامي حبّ الإمام الحسين علیه السلام واتخاذه القدوة في كلّ شيء

ولعلّ من معالم ومظاهر انتصار الحسين علیه السلام في نهضته أنّه أحدث في قلب وروح وضمير وعقل الأُمّة الإسلامية هزّة وانقلاب؛ أدّى إلى تعظيمه وتقديسه وحصوله على مكانته وموقعه في الأُمّة الإسلامية، فأخذوا يبكون عليه بكلّ ألمٍ وحسرة وتفجّع، وبدموع غضّة طريّة جديدة، في كلّ زمانٍ ومكان، وكأنّ موته يتجدّد في كلّ ساعة، وفي كلّ حين، فحزنه لا يبرد أبداً. وذلك مصداق قول الرسول الأكرم صلی الله علیه و آله : «إنّ للحسين في بواطن المؤمنين معرفة مكتومة»(2). وقوله صلی الله علیه و آله : «إنّ لقتل الحسين حرارة في قلوب المؤمنين لا تبرد أبداً»(3).

وأصبح الإمام الحسين علیه السلام قائداً ورمزاً ربّانياً وخالداً للمسلمين، وكلّ الأحرار في العالم. وبقي ذكره تتناقله كتب التاريخ.

يقول إبراهيم بيضون: «...ومن هنا تكتسب ثورة الحسين ريادتها، بل فرادتها في التاريخ، متّخذة هذا المدى الواسع في مصنّفات المؤرّخين الكبار، الذين كسروا من

ص: 120


1- الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الأُمم والملوك: ج5، ص6. العلايلي، عبد الله، تاريخ الحسين: ص100.
2- الرواندي، قطب الدين، الخرائج والجرائح: ج2، ص842.
3- الطبرسي، ميرزا حسين، مستدرك الوسائل: ج10، ص318.

مناهجهم قاعدة كانت أخبار السلطة بها هي الطاغية على الدوام، فإذا بهم إزاء هذه الثورة يسهبون في التفاصيل، ولا تكاد تخفى عن عيونهم لحظة من مسيرة الحسين، وربّما جاز القول: إنّهم كانوا منضمين إليها بصورة غير مباشرة. خلافاً للنظرة العامّة للسلطة، التي كانوا يؤرّخون بوحيها (الثورة - الفتنة)...»(1).

تاسعاً: بقاء ضريح الإمام الحسين علیه السلام علماً للمؤمنين والثائرين

أضحى مشهد الإمام الحسين وضريحه مناراً للثائرين، وشوكة في عيون الظالمين والحاسدين، وهو اليوم يطاول السماء علوّاً وشموخاً، وعليه من سيماء الهيبة والجلال، وسيبقى إلى يوم القيامة، وفي المقابل لا تجد لقبور الطغاة أو قصورهم عيناً أو أثراً، وهذا ترجمة لما قالته زينب صلی الله علیه و آله للإمام زين العابدين علیه السلام بعد فاجعة الطف: «...لا يجزعنّك ما ترى، فوالله، إنّ ذلك لعهد من رسول الله صلی الله علیه و آله إلى جدّك وأبيك وعمّك، لقد أخذ الله ميثاق أُناس من هذه الأُمّة، لا تعرفهم فراعنة هذه الأرض، وهم معروفون في أهل السماوات، إنّهم يجمعون هذه الأعضاء المتفرّقة فيوارونها، وهذه الجسوم المضرّجة، وينصبون لهذا الطف علماً لقبر أبيك سيّد الشهداء لا يُدرس أثره، ولا يعفو رسمه، على كرور الليالي والأيام، وليجتهدنّ أئمة الكفر وأشياع الضلالة في محوه وتطميسه، فلا يزداد أثره إلّا ظهوراً، وأمره إلّا علواً....»(2).

ويقول الشيخ محمد حسين المظفَّر: «...ولو رأيت اليوم القبور العلويّة المشيّدة في دمشق عاصمة بني أُميّة - مع اندراس قبور بني أُميّة - لعرفت كيف يعلو الحقّ، وإن اجتهد أعداؤه طول الزمن في طمسه»(3).

وأصبح هذا الضريح المقدّس مهوى المحبّين والموالين، يتهافتون على زيارته من كلّ

ص: 121


1- إبراهيم بيضون، ثورة الحسين حدثاً وإشكاليات: ص161.
2- المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج28، ص57.
3- المظفر، محمد حسين، تاريخ الشيعة: ص138.

حدب وصوب، وقد حثّ أئمة أهل البيت علیهم السلام أصحابهم وشيعتهم على زيارة الإمام الحسين علیه السلام.

فعن الإمام الصادق علیه السلام: «مَن زار قبر الحسين علیه السلام في يوم عاشوراء عارفاً بحقّه، كان كمَن زار الله في عرشه»(1).

وعنه علیه السلام: «مَن بات عند قبر الحسين علیه السلام ليلة عاشوراء، لقي الله تعالى يوم القيامة ملطّخاً بدمه، كأنّما قُتل معه في عرصة كربلاء»(2).

وعنه علیه السلام: «مَن زار الحسين علیه السلام ليلة النصف من شعبان، وليلة الفطر، وليلة عرفة في سنة واحدة، كتب الله له ألف حجّة مبرورة، وألف عمرة متقبّله، وقُضيت له ألف حاجة من حوائج الدنيا والآخرة »(3).

وعنه علیه السلام: «وكّلَ الله بقبر الحسين علیه السلام أربعة آلاف مَلك شعثاً غبراً، يبكونه إلى يوم القيامة، فمَن زاره عارفاً بحقّه، شيّعوه حتى يبلغوه مأمنه، وإن مرض عادوه غدوةً وعشية، وإن مات شهدوا جنازته، واستغفروا له إلى يوم القيامة»(4).

والكثير جداً من الروايات التي تحثّ على الزيارة والبكاء، وإحياء هذه المراسم لتكون مصداقاً لقوله تعالى«ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ»(5).

ولا يخفى ما لضريح الإمام الحسين علیه السلام وتعاهده، وزيارته بهذه الهيئة من دور إعلامي كبير في إيصال مبادئ النهضة الحسينية ورسالتها إلى جميع الناس، وهذا من أكبر مظاهر النصر وأشكاله.

ص: 122


1- الطوسي، محمد بن الحسن، مصباح المتهجد: ص771.
2- المصدر السابق.
3- ابن قولويه، جعفر بن محمد، كامل الزيارات: ص319.
4- المصدر السابق: ص349 - 350.
5- الحج: آية32.
عاشراً: إقامة مراسم العزاء والشعائر الحسينية في كلّ عام

من النتائج والمعطيات المهمّة للنهضة الحسينية المباركة هي إقامة الشعائر، والممارسات والطقوس الحسينية، المشتملة على منابر الموعظة والإرشاد، والدعوة إلى كلّ ما يأمر به الإسلام من الاستقامة وفعل الخير، وينهى عنه من المنكر والبغي، وهذا هو التطبيق الحي لمبادئ وغايات النهضة الحسينية؛ ولذا نجد أنّ الطغاة يحاولون منع إقامة مراسم عاشوراء وما يرتبط بها؛ إمّا بالتعتيم والتكتيم والجفاء والإنكار، وإمّا بالإرهاب والمطاردة والمنع والتخويف والتقتيل؛ حتى وصل الأمر إلى تهديم القبور وقتل الزائرين، كما فعل سلاطين بني العباس(1)، والغزاة من الوهابية، وغيرهم من الطغاة.

يقول المؤرِّخ والكاتب المسيحي الأمريكي فيليب حتى (1886 - 1978م): «أصبح اليوم الذي قُتِل فيه الحسين بن علي يوم حداد ونوح عند المسلمين، ففي مثل هذا اليوم - أي: يوم عاشوراء - من كلّ عام تمثّل مأساة النضال الباسل والحدث المفجع الذي وقع للإمام الشهيد، وغدت كربلاء من الأماكن المقدَّسة في العالم، وأصبح يوم كربلاء وثأر الحسين صيحة الاستنفار في مناهضة الظلم»(2).

فإحياء فاجعة الطف يعدّ من الأشياء التي تثير حفيظة الظالمين، ممّا حدا بهم إلى منع ذلك والتنكيل بمَن يفعله، وما زاد ذلك الموالين والمحبّين إلّا إصراراً وعزماً على مواصلة ذلك، بل إنّ الطغاة مارسوا - بالإضافةِ إلى القتل والتشنيع والترويع - سياسة التهجير والإبعاد؛ ممّا أدى إلى انتشارِ الفكر الحسيني وفاجعة الطف في جميع دول العالم وبذلك انقلب السحر على الساحر.

ص: 123


1- فقد أمر هارون العباسي بهدم القبر وحرثه، وأمر المتوكل العباسي بهدم القبر وكلّ ما حوله من دورٍ وغيرها، ومنع الناس من الزيارة.
2- فيليب حتى، مجلة الثقافة الإسلامية: العدد 50، ص 44. تموز - أب 1993م.

يقول المستشرق الإنكليزي وليم لوفتس(1) في الإمام الحسين علیه السلام: «وهل ثمّة قلب لا يغشاه الحزن والألم حين يسمع حديثاً عن كربلاء؟! وحتى غير المسلمين لا يسعهم إنكار طهارة الروح التي وقعت هذه المعركة في ظلّها»(2).

ويقول الرئيس السابق للمؤتمر الوطني الهندي تاملاس توندون الهندوسي في الإمام الحسين علیه السلام: «هذه التضحيات الكبرى من قبيل شهادة الإمام الحسين، رفعت مستوى الفكر البشري، وخليق بهذه الذكرى أن تبقى إلى الأبد، وتُذكر على الدوام»(3).

فما ذكرناه وغيره من أوجه الانتصار ومظاهره استطاعت النهضة الحسينية تحقيقه وتفعيله في المجتمع، ولكن يبقى علينا إدامة زخم هذه الانتصارات والعمل بكلّ جدّ على إظهار الثورة الحسينية بوجهها الناصع الوضّاء.

ص: 124


1- وليم كنت لوفتس (1820 - 1858م) عالم آثار ومستشرق إنكليزي، هو الذي اكتشف مدينة أُور في العراق (1840م).
2- وليم لوفتس، الرحلة إلى كلدة وسوسيان.
3- جريدة النهار الكويتية: العدد 484. 7/1/2009م.

مَصرَع الحُسَين علیه السلام وَقَاعِدَة نَفي السَّبيلِ عَلى المُؤمنِين

اشارة

الشَيخ كَاظِم القَره غُوليّ(1)

تمهيد

لا يزال الناس على طريقتهم المعتادة في إعطاء أنفسهم ما ليس لها من حقٍّ، وإدخالها فيما هي غير مؤهلة للدخول فيه، والباب الأوسع لذلك باب المعرفة والمعتقد؛ فتجد كثيراً من الناس يتحدَّثون في مسائل فكرية وعقدية عديدة ويبدون آراءهم فيها، ولعل ذلك يرجع إلى ضعف المانع والرادع من الخوض في مثل هذه الأُمور النظرية لعامّة الناس؛ لخفاء الخطأ فيها عادةً على الآخرين، بخلاف الأُمور العملية التي سرعان ما يظهر الخطأ فيها حتى للعامّة، هذا فيما يتعلَّق بنظرة المجتمع إلى مَن يتكلَّم بمثل هذه القضايا. وأمّا بالنسبة لصاحب الرأي نفسه، فضعف الرادع والمانع لديه عن إعمال النظر في غير ما هو متخصص فيه أوضح.

ص: 125


1- باحث وكاتب إسلامي .

وإن كان النظر والفكر مرتبطاً بالدين، فإنّ الداعي والمقتضي للدخول في الطريق الخاطئ أقوى منه في المجالات الأُخرى، لا أقل من جهة تأثير الشيطان في دفع الإنسان لما يكون معه أقرب إلى الضلال في معتقده وجانبه النظري، والذي يترك أثره بلا شكّ على الجانب العملي في حالات متعددة، وقد يدعم ذلك أنّ التبعية لدين معيَّن تعني القبول بمنظومة أحكامه، وأنّ الإنسان مكلَّف بها. والتكليف من الكلفة التي هي بالضرورة قيد للنفس، والنفس تسعى ما أمكنها للتخلُّص منه، قال سبحانه وتعالى:«بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ*يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ»(1).

فإن لم يرفض الدين من أصله، فإنّه قد يتسامح في التعاطي مع بعض المفردات من حيث لا يشعر. والنفس تداهن كثيراً للتخلّص من تبعة تحديد الموقف العملي الحقّ، كما عبَّرت عن ذلك بعض كلمات أهل البيت علیهم السلام: «وأرى نفسي تخاتلني»(2). فما أكثر مَن يسعى لمعرفة الحقّ، لكن قد يؤدّي به سعيه الخارج عن الأُسس السليمة للتفكير المنطقي إلى الضلال «قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا *الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا»(3).

ونتيجة لما تقدَّم؛ فقد أُفرزت حالة من التعاطي الخاطئ مع الأدلّة الشرعية، أو ما يظنّ أنّه كذلك. فتعددت الآراء في المسألة الواحدة وتنوَّعت المذاهب، مع أنّ مستندها في بناء فكرها وتحديد منظومة أحكامها لا يخرج عن الموروث الفكري الديني الذي جاء به النبي محمّد صلی الله علیه و آله .

قاعدة نفي السبيل

ومن تلك الموارد التي وقع الاختلاف فيها، ما يُستفاد من قوله تعالى:«...وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا »(4).

ص: 126


1- القيامة: آية5 - 6.
2- الصحيفة السجادية: ص 428.
3- الكهف: آية-104103.
4- النساء: آية141.

لقد استنبط الفقهاء من هذا المقطع المتقدِّم من الآية الشريفة قاعدة أسموها (قاعدة نفي السبيل)، وطبَّقوها في موارد فقهية عديدة، كالشفعة وملكية الكافر للمؤمن؛ ما يعني أنّ الاستفادة من هذه الآية الشريفة بهذا النحو لا ينافي القواعد العامّة للاستنباط، إلّا أنّ هذه القاعدة تصطدم بعقبة تتمثَّل في أنّ السبيل المنفي مقيَّد بنحو خاصّ، فلا يُستفاد منه إطلاق هذا السبيل المنفي، وهذا ما قد يُفهَم عند ملاحظة الآية بتمامها: «الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا»(1).

فالقيد هو قوله تعالى:«يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»، ممّا يوحي بأنّ السبيل المنفي سيكون يوم القيامة، ولا شكّ في أنّه هو القدر المتيقّن من الآية. ولكن قد اشتُهر بين الأصوليين أنّ خصوصية المورد لا تخصِّص الوارد، فالوارد هو نفي السبيل، والمورد هو يوم القيامة والدار الآخرة؛ ممّا يعني أنّ نفي السبيل لا يتحدد ولا يُقيَّد بالآخرة فقط؛ ولذا طبّقوا الآية في بعض الأحكام التي ظرفها الدنيا، ممّا يعني أنّهم لم يأخذوا دخالة المورد في تحديد إطلاق الآية الشريفة.

مقتل الحسين علیه السلام لا ينافي قاعدة نفي السبيل

وقع شيء من اللَّبس عند بعضٍ دعاهم إلى إنكار بعض الوقائع التاريخيّة المهمّة وتوجيهها بالنحو الذي لا يتنافى مع هذه الآية بحسب فهمهم، والمَعلَم الشاخص في ذلك هو قتل الحسين علیه السلام بتلك الطريقة البشعة على أيدي أعدائه، فقد رأى هذا البعض أنّ ذلك منافٍ لقاعدة نفي السبيل؛ وزعموا أنّ الحسين علیه السلام لم يُقتَل وإنّما شُبِّه لهم، كما هو الحال في عيسى علیه السلام، حيث يصرِّح القرآن بأنّهم - أي اليهود - «وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ»(2) فقالوا في الحسين علیه السلام كما قال القرآن في عيسى علیه السلام.

ص: 127


1- النساء: آية141.
2- النساء: آية 157.

وقد وردت روايات عديدة عن أهل البيت علیهم السلام تُفنِّد هذا الزعم الباطل، فعن الهروي، قال: «قلت للرضا علیه السلام: إنّ في سواد الكوفة قوماً يزعمون... قال: قلت: يا بن رسول الله، وفيهم قوم يزعمون أنّ الحسين بن علي لم يُقتل، وأنّه أُلقي شبهه على حنظلة بن أسعد الشامي، وأنّه رُفع إلى السماء كما رُفع عيسى بن مريم علیه السلام، ويحتجّون بهذه الآية «وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا»، فقال: كذبوا، عليهم غضب الله ولعنته، وكفروا بتكذيبهم لنبي الله في إخباره بأنّ الحسين بن علي علیهما السلام سيُقتل. والله، لقد قُتل الحسين وقُتل مَن كان خيراً من الحسين، أمير المؤمنين والحسن بن علي، وما منّا إلّا مقتول، وأنا - والله - مقتول بالسمّ باغتيال مَن يغتالني، أعرف ذلك بعهد معهود إليّ من رسول الله، أخبره به جبرئيل عن ربِّ العالمين.

وأمّا قول الله:«وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا»، فإنّه يقول: ولن يجعل الله لكافر على مؤمن حجّةً، ولقد أخبر الله عن كفار قتلوا النبيين بغير الحقّ، ومع قتلهم إياهم لم يجعل الله لهم على أنبيائه سبيلاً من طريق الحجّة»(1).

وفي رواية عبد الله بن الفضل الهاشمي، عن أبي عبد الله علیه السلام، قال عبد الله بن الفضل الهاشمي: «فقلت له: يا بن رسول الله، فكيف سمّت العامة يوم عاشوراء يوم بركة؟ فبكى علیه السلام ثم قال: لمّا قُتل الحسين علیه السلام تقرّب الناس بالشام إلى يزيد، فوضعوا له الأخبار وأخذوا عليها الجوائز من الأموال، فكان مما وضعوا له أمر هذا اليوم، وأنّه يوم بركة؛ ليعدل الناس فيه من الجزع والبكاء والمصيبة والحزن إلى الفرح والسرور والتبرّك والاستعداد فيه. حكم الله بيننا وبينهم.

قال: ثم قال علیه السلام: يا بن عم، وإنّ ذلك لأقلّ ضرراً على الإسلام وأهله مما وضعه قوم انتحلوا مودتنا وزعموا أنّهم يدينون بموالاتنا ويقولون بإمامتنا، زعموا أنّ الحسين علیه السلام لم يُقتل، وأنّه شُبِّه للناس أمره كعيسى بن مريم. فلا لائِمَةٌ - إذاً - على بني أُمية ولا عتب على زعمهم، يا بن عم، مَن زعم أن الحسين علیه السلام لم يُقتل فقد كذّب رسول الله وعلياً، وكذّب

ص: 128


1- المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج44، ص271 - 272.

من بعده من الأئمّة علیهم السلام في إخبارهم بقتله. ومَن كذّبهم فهو كافر بالله العظيم، ودمه مباح لكلِّ مَن سمع ذلك منه. قال عبد الله بن الفضل: فقلت له: يا بن رسول الله، فما تقول في قوم من شيعتك يقولون به؟ فقال علیه السلام: ما هؤلاء من شيعتي وأنا بريء منهم...»(1).

وقد ورد التوقيع بخطّ مولانا صاحب العصر والزمان علیه السلام على يد محمد بن عثمان العمري: «أمّا مَن زعم أنّ الحسين لم يُقتل فكفرٌ وتكذيبٌ وضلال»(2).

وأمّا عدم منافاة قتل الحسين علیه السلام - على أيدي أعداء الله تعالى - لآية نفي السبيل فبيانه: إنّ الآية لو كان فيها دلالة على العموم لمحل الكلام فدلالتها ليست قطعية، وإنّما هي بمستوى الظهور، والظهور حجّة في موردٍ إذا لم تقم القرينة على الخلاف. وليس المورد المبحوث فيه من موارد حجّية الظهور؛ لأنّه لا يُستنبط منه حكم فرعي، ولا تجري حجّية الظهور، بل مطلق التعبُّد في غير الفروع على القول المشهور. ثم لو كان محل الكلام من موارد جريانها فلا مجال لإجرائها؛ وذلك لقيام القرائن القطعية على خلافها، وكثرة النقوض على هذا المعنى، فلا يكاد وليٌ ينجو من استهزاء أو تسلّط الكافر عليه. وليس ببعيد أن يلزم تخصيص الأكثر، وهو قبيح لا سبيل إليه في كلام الشارع المقدَّس. مضافاً إلى تواتر الأخبار بأنّ الحسين علیه السلام قد قُتل على أيدي أعداء الدين، بعد أن حُرِم الماء، ونقض الناس عهودهم معه، فأسلموه إلى عدوِّه، بل ساهموا في قتله. ومع هذا؛ فلا يُصغى لقول مَن يقول: إنّ آية نفي السبيل تنفي أن يكون الحسين علیه السلام قد قُتل.

والذي ينبغي أن نسلِّط الضوء عليه هو أنّ ما جرى به القلم في واقعة عاشوراء وأمثالها موافق تمام الموافقة للنواميس الإلهية والسُّنن التي أجرى الله تعالى عليها هذا الكون ومنها سنّة الابتلاء والامتحان، خاصّة للأولياء والمقرَّبين، هذا أولاً. وثانياً: بيان وجه الحكمة في ذلك، وفي حدود ما تحدَّثت عنه الأدلّة الشرعية. وثالثاً: كشف اللوازم الباطلة لإنكار مقتل الإمام الحسين علیه السلام.

ص: 129


1- المصدر السابق: ج44، ص270.
2- المصدر السابق: ج44، ص 271.

واقعة عاشوراء وسنّة الابتلاء

لقد اقتضت الحكمة الإلهية أن يُستخلف الإنسان في الأرض، وأن يسير في طريق يطلب فيه المعرفة ويتزوّد بالعمل الصالح إلى حين انتقاله إلى جوار ربّه، وقد وفّرت الذات الإلهية المقدّسة للإنسان كلَّ الوسائل التي يمكن أن تُسهم في إيصاله إلى الغاية المنشودة، وشاء الله تعالى أن يكون اختيار الإنسان عنصراً فاعلاً في كلّ خطوة في هذا المسار الطويل. إلّا أنّ السير في ذلك الطريق لنيل تلك الغاية مع توفير المقدمات المساهمة في المسيرة مسألة في غاية التعقيد؛ فقد تخفى علينا جهة الربط بين بعض المفردات والعقبات الموجودة في هذا الطريق - كشراك النفس ومزالق الهوى وكيد إبليس - وبين الهدف المرسوم سلفاً، وفي كثير من الأحيان نحتاج إلى تأمّل كبير أو إلى مراجعة الروايات الشريفة للوقوف على واقع ذلك الارتباط.

وكيف كان، فقد جُعل الابتلاء مَعْلَماً شاخصاً في هذا الطريق الطويل، ولم يقع الابتلاء على صنفٍ من الناس دون صنفٍ آخر، بل تكاد هذه السنّة الإلهية أن تعمّ سائر الناس بكلّ طبقاتهم وفئاتهم، إلّا أنّ الشيء الماثل للعيان من خلال الروايات والواقع الخارجي هو أنّ هناك تفاوتاً في كمية هذا الابتلاء وشدّته بين فصيل وآخر من المؤمنين، فتجد الأئمّة والأنبياء والأولياء هم أشدّ الناس ابتلاءً واختباراً، وكلّما ازداد إيمان العبد وصَلُح حاله ازداد بلاؤه، وهذا ما نلمسه في النص المروي عن عبد الرحمن بن الحجاج، قال: «ذكر عند أبي عبد الله علیه السلام البلاء وما يخصّ الله به المؤمن، فقال: سئل رسول الله صلی الله علیه و آله : مَن أشدُّ الناس بلاءً في الدنيا؟ فقال: النبيّون، ثم الأمثل فالأمثل، ويُبتلى المؤمن بعد على قدر إيمانه وحُسْنِ أعماله، فمَن صحّ إيمانه وحَسُنَ عمله اشتدّ بلاؤه، ومَن سخف إيمانه وضعف عمله قلّ بلاؤه»(1). وأيضاً عن أبي عبد الله علیه السلام، قال: «إنّما المؤمن بمنزلة كفّة الميزان، كلّما زيد في إيمانه زيد في ابتلائه»(2).

ص: 130


1- المصدر السابق: ج64، ص207.
2- الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي: ج2، ص 254.

وعليه؛ فالابتلاء نوع من الحُبّ والاهتمام من الباري بعبده المؤمن، فعن أبي عبد الله علیه السلام أنّه قال: «إنّ الله إذا أحبّ عبداً غتّه بالبلاء غتّاً»(1). وعنه علیه السلام أيضاً، قال: «إنّ عظيم الأجر لمَعَ عظيم البلاء، وما أحبّ الله قوماً إلّا ابتلاهم»(2).

فكان الأنبياء وأهل البيت علیهم السلام والأولياء والصالحون محلّ بلاء الله الشديد، والذي قابلوه بالصبر والصلاة والدعاء والاستعانة بالله والتوكّل عليه سبحانه. روي عن أبي عبد الله علیه السلام أن قال: «إن كان النبي من الأنبياء ليُبتلى بالجوع حتى يموت جوعاً، وإن كان النبي من الأنبياء ليُبتلى بالعطش حتى يموت عطشاً، وإن كان النبي من الأنبياء ليُبتلى بالعراء حتى يموت عرياناً، وإن كان النبي من الأنبياء ليُبتلى بالسقم والأمراض حتى تُتلفه، وإن كان النبي ليأتي قومه فيقوم فيهم يأمرهم بطاعة الله ويدعوهم إلى توحيد الله وما معه مبيت ليلة، فما يتركونه يفرغ من كلامه ولا يستمعون إليه حتى يقتلوه، وإنّما يبتلي الله تبارك وتعالى عباده على قدر منازلهم عنده»(3).

وعن محنة النبي أيوب علیه السلام ورد عن الإمام الباقر علیه السلام أنّه قال: «إنّ أيوب علیه السلام من جميع ما ابتُلي به لم تنتن له رائحة، ولا قبحت له صورة، ولا خرجت منه مدّة من دم ولا قيح، ولا استقذره أحد رآه، ولا استوحش منه أحد شاهده، ولا تدوّد شيء من جسده. وهكذا يصنع الله بجميع مَن يبتليه من أنبيائه وأوليائه المكرمين عليه. وإنّما اجتنبه الناس لفقره وضعفه في ظاهر أمره، بجهلهم بما له عند ربّه تعالى ذكره من التأييد والفرج، وقد قال النبي صلی الله علیه و آله : أعظم الناس بلاءً الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل...»(4).

ومن هنا؛ تعرّض الكثير من الأنبياء لأنواع الفتك والقتل المروّع، كالذبح، والنشر بالمناشير، والصلب على جذوع الأشجار، وسلخ الجلد وفروة الرأس، والإلقاء في النار، والتغييب في مطامير السجون وغياهبها. وأكثر من تلك المحن والابتلاءات ما واجهه رسول

ص: 131


1- المصدر السابق: ج2، ص253.
2- المصدر السابق: ص252.
3- المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج64، ص 235.
4- المصدر السابق: ج44، ص275.

الله صلی الله علیه و آله ، وقد روي عنه أنّه قال: «ما أُوذي أحد ما أوذيت»(1). وأهل بيت رسول الله صلی الله علیه و آله كانوا في طليعة من ابتُلوا في هذه الأُمّة؛ لعظم إيمانهم وجليل مكانتهم، فلاقوا ما لاقوا من أعداء الله وأعداء الدين، قال المنهال بن عمر: «كنت جالساً مع محمد بن علي الباقر علیه السلام إذ جاءه رجل، فسلّم عليه، فردّ علیه السلام. فقال الرجل: كيف أنتم؟ فقال له محمد: أوَ ما آن لكم أن تعلموا كيف نحن؟ إنّما مثلنا في هذه الأُمّة مثل بني إسرائيل، كان يُذبح أبناؤهم ويُستحيى نساؤهم، ألا وإنّ هؤلاء يذبحون أبناءنا ويستحيون نساءنا»(2). فما جرى في يوم عاشوراء وعلى أرض كربلاء غير بعيد عن هذه السنّة الإلهية، ومنسجم تمام الانسجام مع النواميس الإلهية الحاكمة على الكون، خصوصاً مع ملاحظة أنّ الحسين علیه السلام سيد شباب أهل الجنّة وخامس أصحاب الكساء ووارث خاتم الأنبياء، بل وارث جميع الأنبياء. ومَن أوْلى منه بالغتّ بالبلاء وعظيم الامتحان؟!

الحكمة في ابتلاء الأولياء

لا شكّ في أنّ الله تعالى حكيم، وأنّ كلَّ ما أَذِنَ به أو خلقهُ لا يخلو عن وجهٍ للحكمة، ومن ذلك إذنه أو أمره التكويني بأن تجري الابتلاءات العظيمة على أوليائه. هذا على وجه الإجمال، وأمّا على وجه التفصيل فالكلام له وجهة عامّة ووجهة خاصّة بالحسين علیه السلام.

أمّا في الوجهة العامّة، فنذكر بعض الروايات التي تغنينا عن كثير من التأمّل، ولعلّ من أهمّ الروايات في ذلك ما ورد عن السفير، الحسين بن روح(قدَّس الله روحه)، فقد ورد عن محمد بن إبراهيم بن إسحاق الطالقاني، قال: «كنت عند الشيخ أبي القاسم الحسين بن روح (قدَّس الله روحه) مع جماعة فيهم علي بن عيسى القصري، فقام إليه رجل، فقال له: أريد أن أسألك عن شيء. فقال: سل عمّا بدا لك. فقال الرجل: أخبِرني

ص: 132


1- ابن حجر، أحمد بن علي، فتح الباري، ج 7، ص 126. السيوطي، جلال الدين، الجامع الصغير: ج2، ص 488. ابن شهر آشوب، محمد بن علي، مناقب آل أبي طالب: ج3، ص 42.
2- المجلسي، محمّد باقر، بحار الأنوار: ج64، ص 238.

عن الحسين بن علي علیهما السلام أهو وليُّ الله؟ قال: نعم. قال: أخبرني عن قاتله أهو عدوُّ الله؟ قال: نعم. قال الرجل: فهل يجوز أن يُسلِّط الله عدوَّه على وليه؟ فقال له أبو القاسم (قدَّس الله روحه): افهم عنِّي ما أقول لك، اعلم أنّ الله لا يخاطب الناس بشهادة العيان، ولا يشافههم بالكلام، ولكنّه بعث إليهم رسلاً من أجناسهم وأصنافهم بشراً مثلهم» إلى أن يقول بعد استعراض معاجز الأنبياء: «كان من تقدير الله ولطفه بعباده وحكمته أن جعل أنبياءه مع هذه المعجزات في حالٍ غالبين، وفي أُخرى مغلوبين، وفي حالٍ قاهرين، وفي أُخرى مقهورين، ولو جعلهم في جميع أحوالهم غالبين وقاهرين ولم يبتلهم ولم يمتحنهم لاتخذهم الناس آلهة من دون الله، ولما عرف فضل صبرهم على البلاء والمحنة والاختبار، ولكنه جعل أحوالهم في ذلك كأحوال غيرهم؛ ليكونوا في حال المحنة والبلوى صابرين، وفي حال العافية والظهور على الأعداء شاكرين، ويكونوا في جميع أحوالهم متواضعين، غير شامخين ولا متجبِّرين، وليعلم العباد أنّ لهم علیهم السلام إلهاً هو خالقهم ومدبِّرهم؛ فيعبدوه ويطيعوا رسله، وتكون حجّة الله تعالى ثابتة على مَن تجاوز الحدَّ فيهم وادّعى لهم الربوبية، أو عاند وخالف وجحد بما أتت به الأنبياء والرسل، ليهلك مَن هلك عن بينة ويحيى مَن حيّ عن بينة. قال محمد بن إبراهيم بن إسحاق: فعدت إلى الشيخ أبي القاسم الحسين بن روح (قدَّس الله روحه) من الغد وأنا أقول في نفسي: أتراه ذكر ما ذكره لنا يوم أمس من عند نفسه؟ فابتدأني فقال: يا محمد بن إبراهيم، لئن أخِرّ من السماء أو تخطفني الطير أو تهوي بي الريح في مكان سحيق أحبُّ إليَّ من أن أقول في دين الله (تعالى ذكره) برأيي ومن عند نفسي، بل ذلك عن الأصل، ومسموع عن الحجّة صلوات الله عليه»(1).

وجاء في تتمّة الرواية المتقدِّمة عن الإمام الباقر علیه السلام التي تحدَّثت عن محنة أيوب علیه السلام وابتلائه، قال: «...وإنّما ابتلاه الله بالبلاء العظيم الذي يهون معه على جميع الناس؛ لئلّا يدّعوا له الربوبية إذا شاهدوا ما أراد الله أن يوصله إليه من عظائم نعمه تعالى متى

ص: 133


1- المصدر السابق: ج44، ص 273 - 274.

شاهدوه، ليستدلّوا بذلك على أنّ الثواب من الله (تعالى ذكره) على ضربين: استحقاق واختصاص؛ ولئلّا يحتقروا ضعيفاً لضعفه، ولا فقيراً لفقره، ولا مريضاً لمرضه. وليعلموا أنّه يُسقِم مَن يشاء ويشفي مَن يشاء، متى شاء كيف شاء، بأيِّ سبب شاء، ويجعل ذلك عبرة لِ-مَن شاء وشقاوة لِ-مَن شاء، وسعادة لِ-مَن شاء. وهو في جميع ذلك عدلٌ في قضائه، وحكيم في أفعاله، لا يفعل بعباده إلّا الأصلح لهم، ولا قوّة إلّا بالله»(1).

والمستفاد من هاتين الروايتين أنّ الحكمة فيما ينزل على الأولياء من بلاء ومحن تكمن في أُمور منها:

1- إنّ الابتلاءات تمنع عن الغلو في الأنبياء والأولياء واتّخاذهم آلهة من دون الله.

2- في الصبر على البلاء يظهر فضل الأولياء للناس؛ ممّا يكون أدعى للاعتقاد بهم والسير على نهجهم.

3- لا شكّ في أنّ الأنبياء أبعد الناس عن الاعتداد بالنفس والتجبُّر، وأقربهم إلى الشكر والتواضع، ولكن ذلك لا يعني أنّ المشكلة حُلَّت عندهم نظرياً، فانجرّ ذلك إلى التوفيق في مجال التطبيق، دون أن يكون للوقائع التي تحدث أمامهم أو تمرّ بهم أثر في ذلك، بل قد يقال: بأنّ للوقائع أثراً أيضاً في رقي ذواتهم وسموّها، فالبلاءات التي نزلت بهم لها أثرها في اتّجاه ما تدفع نحوه إدراكاتُ عقولهم السليمة، فبمجموع الفكر الذي يحملونه وما يواجههم من المحن والبلاءات يكون الأنبياء متواضعين غير متكبِّرين ولا متجبِّرين. فالمحن التي تواجههم تساهم في صياغة شخصياتهم واصطناعهم؛ ومن هنا جاء الخطاب لموسى الكليم علیه السلام:«ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى*وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي »(2)، وجاء قوله تعالى:«وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي»(3).

فإنّ الآيتين - خصوصاً الثانية - ظاهرتان في أنّه علیه السلام صُنِع وتكامل من خلال ظروف

ص: 134


1- المصدر السابق: ص275- 276.
2- طه: آية40 - 41.
3- طه: آية39.

مناسبة هيأتها الإرادة الإلهية؛ ممّا يوضِّح أنّ المسألة لم تُعالَج نظرياً فقط عند موسى علیه السلام، وما جرى على موسى علیه السلام لا يُمثِّل استثناءً، بل هذه هي سُنة الله تعالى في خلقه ولن تجد لسُنة الله تبديلاً، «وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا»(1).

4- بنزول البلاء على الأولياء يتجلّى للناس عملياً ما يقول الأنبياء علیهم السلام من أنّهم لا حول ولا قوّة لهم إلّا بالله، وأنّهم لا يملكون لأنفسهم ضرّاً ولا نفعاً، ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً، وأنّ المالك لأمرهم وأمر جميع الناس هو إلههم وربّهم؛ فتتمّ بذلك حجّة الله على الناس؛ « لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ»(2)، فيتنبهون حينئذٍ إلى ضعفهم وحاجتهم المستمرة إلى الله سبحانه.

كما أنّ للابتلاءات والمحن فوائد أُخرى كثيرة منها:

1- تُساهم الابتلاءات في منع إسقاط بعض المبتلين من أعين الناس؛ فلا يُحتقر ضعيف لضعفه، ولا فقير لفقره، ولا مريض لمرضه؛ إذ لو كان المرض وغيره موجباً للاحتقار لما ابتلى الله تعالى به الأنبياء والأولياء.

2- إنّ في الابتلاء رفعاً للدرجات، وتكاملاً للنفس وارتقاءً لها، ويوجب استحقاق الثواب من الله تعالى.

3- يتعلَّم الناس من ملاحظة ما عليه حال الأولياء عند نزول البلاء، كيف ينبغي أن يصنعوا عند نزول البلاء.

4- إنّ الابتلاءات تُذَكِّر الناسَ بالنعم الإلهية التي أنعم الله بها عليهم حين يرون المحروم منها.

5- تُظهِر الابتلاءات قدرة الأفراد الحقيقية على الاستجابة للأوامر الإلهية، وتُبرِز مقدار استحقاقاتهم.

6- تُكسِب النفس قوّة وقدرة على الثبات والمقاومة أمام مغريات الباطل.

ص: 135


1- فاطر: آية43.
2- الأنفال: آية42.

فالابتلاء عنصر لكشف الاستحقاق ولتقوية الإرادة ورقي النفوس وغير ذلك من الفوائد(1) وهذا ما يجعل الابتلاء من النعم الإلهية، والأَولى بهذه النعمة هم الأقرب إلى الله تعالى، وقد وردت روايات كثيرة في هذا المعنى، فعن أبي عبد الله علیه السلام، قال: «إنّ أشدّ الناس بلاءً الأنبياء، ثمّ الذين يلونهم، ثمّ الأمثل فالأمثل»(2).

ثمار تضحية الإمام الحسين علیه السلام

وفيما يتعلَّق بالإمام الحسين علیه السلام، فإنّ الحكمة الخاصّة بمقتله علیه السلام يتمثّل خطّها العامّ بصلاح الأُمّة - التي نكبت عن الصراط الحقّ وسلكت سُبُل الباطل - وتمثل هذا بالإصلاح النظري والعملي، أمّا النظري فلأنّه كشف عن وجوه الشؤم، تلك الأقنعة التي ساهم في وضعها علماء السوء وفقهاء البلاط وطلّاب الدنيا، فظهرت تلك الوجوه على حقيقتها البشعة والبعيدة كلّ البعد عن الدين، كما أظهر للناس جواز الخروج على الحاكم الجائر المستحلّ لحرمات الله تعالى.

وأمّا من الناحية العملية؛ فلأنّ الحرب في عاشوراء كانت بذرة خير أراد الله تعالى أن تسقى بدماء الأطهرين؛ لتنبت شجرة خيرٍ وعطاء تؤتي أُكُلَها كلَّ حين بإذن ربِّها. والكلام في هذا المبحث طويل الذيل، وله فروعه الكثيرة، ليس هنا محلّ ذكرها. ولست أتفاعل مع قول القائل: إنّه كان على الحسين علیه السلام إغاثة الملهوف الذي دعاهُ لنصرته في محاربة باطل الشام، وأنّه لولا ذلك لما انقطع الكلام: لِمَ لم يستجب علیه السلام للناس؟

فإنّه يرد على ذلك قطعاً أنّه حين علم بحال الكوفة وتبدُّل المواقف فيها ورجوع الناس القهقرى عمّا عاهدوه عليه وقتل مسلم رضوان الله عليه، لم يفكِّر - ولو للحظة - بالرجوع عن مسيره.

نعم، دعوة الناس له كانت لها خصوصية مؤثِّرة في حركته علیه السلام، ولكن لا من جهة

ص: 136


1- وقد فصّلنا ذلك في كتابنا إقدام المعصوم، فمَن أراد التفصيل، فليراجع.
2- الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي: ج2، ص252.

لزوم الاستجابة، بل من ناحية أنّ ذلك إذا ضُمَّ إلى نكول القوم وسعيهم لقتل الحسين علیه السلام سيكون أدعى لأن يتفعّل دور النفوس اللوّامة لتأخذ مدًى أوسع في تأثيرها على الوجهة العامّة للناس، التي عذَّب الكثيرَ منهم تأنيبُ الضمير؛ فحاولوا أن يتداركوا ذلك من خلال السعي لنصرة الحقّ ومحاربة الباطل ولو بعد حين.

وبالجملة؛ إنّ ذلك ساهم في سعي الناس لتغيير ما بأنفسهم، فجرى الميزان الإلهي « إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ »(1).

ويشهد لذلك أنّ الحسين علیه السلام قد جمع في كربلاء من العناصر التي تُساهم في إبراز عظم جرم أهل الكوفة وقطع الحجّة عليهم، وكان بعض تلك العناصر قد وفَّره علیه السلام من أوّل حركته حين أخذ النساء والأطفال، معلِّلاً ذلك بمشيئة الله تعالى أن يراهن سبايا.

فلا مجال بعد هذا إلى إنكار مقتل الحسين علیه السلام بحجّة منافاته لقاعدة: أن لا سبيل للكافر والفاسق على المؤمن، مضافاً لوجود لوازم باطلة لهذا الإنكار.

اللوازم الباطلة لإنكار مقتل الحسين علیه السلام

إنّ لهذا القول لوازم باطلة كثيرة، ومن ذلك تكذيب ما ورد في الكتاب الكريم من تعذيب المؤمنين بأيدي الكافرين، وما أكثر هذه المفردات - خصوصاً مع ملاحظة أنّ الآية التي ادُّعي دلالتها على ذلك - قد وردت بلفظ المؤمنين، وليس بلفظ الأولياء أو الأئمّة أو الأنبياء، وهو باطل بالضرورة.

كما يلزم من ذلك تكذيب النبي صلی الله علیه و آله والأئمّة علیهم السلام والسيدة الزهراء صلی الله علیه و آله ؛ حيث إنّهم أخبروا قبل يوم عاشوراء بما ينزل بالحسين علیه السلام. ولو التفت القائل إلى ذلك لكان مكذِّباً للمعصومين بما فيهم النبي صلی الله علیه و آله ؛ والمكذِّب لأحد منهم بمنزلة الكافر - لا أقل فيما يرجع إلى النبي - ومَن صدر منه ذلك يستحقّ أن يتبرَّأ منه الإمام المعصوم وينفي كونه من شيعته، أعاذنا الله تعالى من القول بلا علم.

ص: 137


1- الرعد: آية11.

ثمَّ أخبر مَن جاء بعد الحسين علیه السلام عن حصول هذا الأمر، وبكاء رسول الله صلی الله علیه و آله عليه في موارد متعددة نقلتها كتب العامّة فضلاً عن كتب الخاصّة، وبكاء علي وفاطمة والحسن علیهم السلام، وبكاء السجاد علیه السلام لأكثر من ثلاثين عاماً، وهكذا بقية الأئمّة علیهم السلام، وبكاء المولى صاحب الزمان عجل الله تعالی فرجه الشریف، فهل كلّ ذلك تأثّراً على حنظلة بن أسعد الشامي الذي قُتل بزعمهم من خلال إلقاء الشبه عليه؟! وهل سلم علي أو الحسن أو بقية الأئمّة علیهم السلام من القتل، أو أنّ الذي قتلهم كان من أولياء الله؟!!

ثمَّ إنّ واقعة كربلاء لم يحصل فيها قتل الحسين علیه السلام فقط، فقد قُتِلَ أبو الفضل العباس وعلي الأكبر علیهما السلام والأكابر من الصحابة، وسُبيت النساء الهاشميات، فهل تُحلّ المشكلة بالقول: إنّ الحسين علیه السلام لم يُقتل وإنّما قُتل شبيهه!

وكيف كان، فالآية تنفي أن يجعل الله تعالى حكماً شرعياً يؤدّي تطبيقه إلى تسلُّط الكافر على المؤمن، كما تنفي أن يكون للكافر سبيلٌ عقليٌّ - أي حجّة تامّة - على المؤمن فيغلبه في حجّته. وهذا الأخير لا يحتاج إلى مؤونة إثبات؛ لأن المؤمن يفترض به أن لا يعتقد إلّا بالحقّ، وماذا بعد الحقّ إلّا الضلال، فما يعتقد به غير المؤمن ليس إلّا الباطل. وهل يمكن لحجّة الباطل - أي: صورة حجّة - أن تغلب الحجّة الحقّة على المعتقد الحقّ؟! وإنّما قلنا: صورة حجّة أو برهان؛ لأنّ الباطل لا يمكن أن تُقام عليه حجّة، وما يُساق من كلام لإثبات الباطل، فهو يُصوَّر بصورة البرهان أو الحجّة.

التشديد على مَن أنكر قتل الحسين علیه السلام

بقي أمر وهو: ما هو السرّ في تشديد الروايات الشريفة على القائلين بهذه المقولة؟

والجواب: إنّ عظمة واقعة كربلاء منبثقة من عمق المأساة التي حصلت فيها، والتي ارتكبها أعداء الحسين علیه السلام، حين قطعوا الماء عن سبط رسول الله صلی الله علیه و آله ومنعوه من الذهاب إلى بلاد أُخرى في الطلب الصوري الذي صدر من الحسين علیه السلام، وأحاطوا الثلّة المؤمنة - التي وقفت مع إمام زمانها - بسيل من البشر لا يُفسّره إلّا جبن الأعداء وخسّة نفوسهم،

ص: 138

وحين قتلوا أصحابه الذين هم خيرة الناس، أمثال: حبيب، وزهير، وبرير، وعابس، ومسلم بن عوسجة، وأهل بيته علیهم السلام - صنّاع التاريخ وأبطال المجد والمعالم الشاخصة على مرّ التاريخ - أمثال: أبي الفضل، وعلي الأكبر. وأيّ موقف يضاهي موقف القاسم؟! إلى بقية أبطال هذه القصّة، بل وقتل الرضيع الذي لا ذنب له، عدا كونه من أهل بيت علي علیه السلام، ثمّ سَحْق الأجساد الطاهرة، وحمل الرؤوس على الرماح، وسبي الهاشميات، وقبل ذلك يُنادى في جمعٍ من أُمّة محمد صلی الله علیه و آله : أن لا تبقوا لأهل هذا البيت باقية، وأحرقوا بيوت الظالمين، وتركوا الجثث في العراء بلا كفن ولا دفن، يضاف إلى ذلك أنّ القاتلين هم مَن دعا الحسين علیه السلام لنصرتهم.

ولعمق هذه المأساة بدأ وقعها يكبر في النفوس، فقد تفاعلت صُوَر تلك المأساة في نفوس القوم، وبدأ النتاج؛ حيث لاحت بوادر التغيير في نفوس الناس، وشرعوا بالسعي للتكفير عن تلك الخطيئة، وعمّ بعد حين إحساس المسلمين بالحَيف من سوء ما حصل، فسعوا إلى الثأر وإتمام الطريق الذي تحددت ملامحه بدم الحسين وأصحابه وأهل بيته. وما زال ذلك المقطع من التاريخ مُلهِماً للأجيال فكرة رفض الظلم، ومردّداً في نفوسهم صرخة الإباء من الحسين علیه السلام: هيهات منّا الذلّة.

فإذا قيل: إنّ المنادي لم يكن هو الحسين علیه السلام، والمقتول ليس إلّا رجلاً شامياً معادياً لأهل البيت علیهم السلام، فهل يبقى بعد ذلك شجًى؟! وهل تبقى المأساة على عمقها؟! وهل ستكون عاشوراء معطاءً كما هي الآن؟!

إنّ هذه المقولة تنسف كلّ جهود وتضحيات الحسين علیه السلام وأهل بيته وأصحابه، وتقلب صفحة سوداء في تأريخ بني أُمّية والخلافة الباطلة، وتُلغي سوادها.

ومن هنا؛ كان ضرر هذه المقولة أشدّ من ضرر مقولة القائل: بأنّ يوم عاشوراء يوم بركة، وافترائه بأنّ عدّة حوادث سعيدة مهمّة في التاريخ قد وقعت فيه.

ص: 139

ص: 140

دِرَاسَاتٌ في تارِيخ وَتُرَاثِ النَهضَةِ الحُسَينِيَّة

اشارة

*مقتل الحسين علیه السلام

برواية عمّار بن أبي معاوية الدهني الكوفي

*نجوم في سماء الحسين علیه السلام (الحرّ الرياحي)

دراسة استدلالية لحركته العسكرية وموقفه من حادثة الطف

*هل وطأت الخيل جسد الحسين علیه السلام؟

*العنايات الإلهية بالإمام الحسين علیه السلام

ص: 141

ص: 142

مَقتَلُ الحُسَين علیه السلام بروَاية عَمَّار بن أبي مُعَاويَةَ الدُّهنيّ الكُوفيّ

اشارة

الشَّيخ عَامِر الجَابريّ(1)

تقديم

نحن بين يدي المحدّث والأخباري القديم عمّار الدهني، وهو من الشخصيات الكوفية التي برزت في نهايات القرن الأوّل وبدايات القرن الثاني، وقد عُرف بوصفه محدّثاً أكثر من أيّ شيءٍ آخر.

وعمّار الدهني هو والد معاوية بن عمّار المحدّث المعروف، ولكن لم تكن منزلة عمّار - عندنا نحن الإمامية - كمنزلة ولده معاوية، فقد وقع خلاف في مذهب عمّار ومعتقده، كما أنَّ موقف علمائنا غامض من وثاقته وعدالته كما سيأتي، بينما لا نجد اختلافاً في إمامية معاوية بن عمّار، ولا تشكيكاً من أحد في كونه من ثقات محدّثي الطائفة وأجلّائها.

ص: 143


1- باحث وكاتب إسلامي.

كان عمّار الدهني من المهتمين بمعرفة تفاصيل مقتل الحسين علیه السلام، وكان يطمح أن تكون معرفته بما جرى في كربلاء معرفة يقينية، معرفة غير قائمة على الحدس والتخمين، اللذين لا ينفكان عن إخبارات المؤرخين وحكاياتهم، فلم يجد مَن يجمع بين هذين الأمرين سوى الإمام الباقر علیه السلام، فذهب إليه، وطلب منه أن يحدّثه بمقتل الحسين علیه السلام، حديثاً يكون معه عمّار الدهني بمنزلة الحاضر في تلك الأحداث، فحدّثه الإمام علیه السلام عن ذلك، في رواية مفصَّلة سنأتي عليها في مطاوي البحث.

ولو سَلِمَ هذا المقتل من تلاعب الرواة الذين جاؤوا بعد الدهني لكان في هذا المقتل غنًى عن سائر المقاتل، ولكنَّه مع الأسف لم يُرو عن طرقنا، بل وصلنا عن طريق العامّة، وقد توسط في الطريق بعض الكذّابين والمدلّسين الذين تلاعبوا بالنص بالحذف تارةً، وبالدّس أُخرى؛ ففقد بذلك قيمته، وأهملته المصادر الشيعية المعنيّة بذكر وقعة الطفّ.

وفي الصفحات التالية ستكون لنا رحلة تحقيقية، نفصّل الكلام في القسم الأوّل منها حول ترجمة عمّار الدهني، ثمّ نتحدّث في القسم الثاني حول مقتل الإمام الحسين علیه السلام الذي تم نقله عن عمّار الدهني، ونناقش أهمّ فقراته، ونختم بخلاصة وافية للبحث، إن شاء الله تعالى.

القسم الأوّل: ترجمة عمّار الدهني

اشارة

ويقع الكلام في سبعة جوانب:

الجانب الأوّل: اسمه ونسبه وكنيته

هو عمّار بن أبي معاوية، واسم أبي معاوية خباب (1) بن عبد الله الدهني أبو معاوية.

عُرف عمّار ب-(الدهني)، حيث كان مولىً لبني دهن، (وهو بضم الدال وسكون الهاء) نسبة إلى حي من بجيلة، وهم بنو دهن بن معاوية بن أسلم بن أحمس بن الغوث بن أنمار(2).

ص: 144


1- النجاشي، أحمد بن علي، رجال النجاشي: ص411. الطوسي، محمد بن الحسن، رجال الطوسي: ص251.
2- اُنظر: ابن الأثير، علي بن أبي الكرم، اللباب في تهذيب الأنساب: ج1، ص520.

قال السمعاني: «قرأت بخطّ أبي بكر الأودني ببخارى، على وجه الجزء التاسع والعشرين، من كتاب الغريب لأبي سليمان الخطابي، سمعت أبا سليمان، يقول: سمعت أبا سعيد بن الأعرابي، يقول: سمعت عباساً الدوري، يقول: سمعت يحيى بن معين، يقول: عمّار الدهني، دهن قبيلة من بجيلة»(1).

وقال ابن عبد البر: «ومن بطون بجيلة: دهن بن معاوية بن أسلم بن أحمس بن الغوث بن أنمار، ومن دهن هذا: عمّار بن أبي معاوية الدهني»(2).

الجانب الثاني: الأعلام من أولاده وأحفاده

1- معاوية بن عمّار: هو المحدّث الإمامي، الثقة المشهور، الذي كان من خواصّ الإمام الصادق علیه السلام، وكان - بحسب تعبير النجاشي - «وجهاً في أصحابنا ومقدّماً، كبير الشأن، عظيم المحل»(3).

له عدّة كتب، منها: كتاب الحج، وكتاب يوم وليلة، وكتاب الزكاة، وغير ذلك(4).

2- معاوية بن حكيم: وهو معاوية بن حكيم بن معاوية بن عمّار الدهني - أي من أحفاد عمّار الدهني - وهو من الثقات الأجلّاء، ومن أصحاب الإمام الرضا علیه السلام، قال أبو عبد الله الحسين بن عبيد الله: سمعت شيوخنا يقولون: «روى معاوية بن حكيم أربعة وعشرين أصلاً لم يروِ غيرها. وله كتب، منها كتاب الطلاق، وكتاب الحيض، وكتاب الفرائض، وكتاب النكاح، وكتاب الحدود، وكتاب الديات، وله نوادر»(5).

3- أحمد بن معاوية: وهو أبو الفضل أحمد بن معاوية بن حكيم بن معاوية بن عمّار - ويُعتبر أيضاً من أحفاد عمّار الدهني - سمع منه ابن عقدة، وقال: مات سنة 292ه-.

ص: 145


1- اُنظر: السمعاني، عبد الكريم بن محمد، الأنساب: ج2، ص517.
2- النمري، يوسف بن عبد الله، الإنباه على قبائل الرواة: ص95.
3- النجاشي، أحمد بن علي، رجال النجاشي: ص411.
4- اُنظر: الطوسي، محمد بن الحسن، الفهرست: ص166.
5- النجاشي، أحمد بن علي، رجال النجاشي: ص412.

وله ثمانٍ وستون سنة(1).

4- يونس بن يعقوب: وهو يونس بن يعقوب بن قيس أبو علي الجلاب البجلي الدهني، حيث إنَّ أُمّه هي منية بنت عمّار الدهني؛ فيكون من أسباط عمّار، وهو من خواصّ الإمامين الصادق والكاظم علیهما السلام، وكان وكيلاً للإمام الكاظم علیه السلام، ومات في المدينة في أيّام الرضا علیه السلام، فتولى أمره. وكان من المحظوظين والموثّقين عند الأئمة علیهم السلام(2).

الجانب الثالث: ولادته ونشأته

توجد ثلاث حقائق تاريخية في سيرة عمّار الدهني لا يرتقي إليها شك، ولا تطالها شبهة:

الحقيقة الأُولى: إنّه قد ولد بالكوفة، كما تشهد بذلك المصادر التي تعرّضت لترجمته ولقّبته ب- (الكوفي)(3). أو التي قالت: إنَّ عداده في أهل الكوفة(4).

ولم يُنسب عمّار إلى أيّ مدينةٍ سوى الكوفة، وهذا ما يجعلنا نطمئن بأنّه من مواليد هذه المدينة، ولم يكن مجرّد نزيل فيها.

الحقيقة الثانية: إنّه قد نشأ وتعلّم الحديث فيها أيضاً، يدلّنا على ذلك أنَّ أكثر شيوخه، وأساتذته، هم من أهل الكوفة.

الحقيقة الثالثة: إنّه قد حدّث وبثّ ما لديه من العلم فيها كذلك، وهذا واضح من خلال مراجعة سِيَر تلامذته وتراجمهم، والمستفيدين منه؛ حيث إنَّ غالبيتهم من أهل الكوفة.

فهذه الحقائق الثلاث ممّا لا ريب فيها، ولكن ما يحتاج إلى مزيد من البحث

ص: 146


1- اُنظر: ابن حجر، أحمد بن علي، تبصير المنتبه بتحرير المشتبه: ج2، ص572.
2- اُنظر: النجاشي، أحمد بن علي، رجال النجاشي: ص446.
3- اُنظر: البخاري، محمد بن إسماعيل، التاريخ الكبير: ج7، ص28. ابن حجر، أحمد بن علي، تقريب التهذيب: ج1، ص708.
4- اُنظر: ابن حبان، محمد بن حبان، الثقات: ج5، ص268.

والتنقيب، هو تحديد - أو على الأقل - تخمين زمان ولادته، وفي الحقيقة إنَّنا نفتقر إلى وجود نص في هذا المجال، ولا يمكننا أن نُحدد زمان ولادة عمّار الدهني تحديداً دقيقاً. ولعلَّ أهمّ ما ينفعنا في هذا الصدد هو روايته عن عدّة ممَّن كانت وفياتهم في تسعينيات القرن الهجري الأوّل، ومنهم:

1- سعيد بن جبير، قُتل سنة 94ه-.

2- إبراهيم النخعي، مات سنة 96ه-.

3- إبراهيم التيمي، مات سنة92أو 94ه-.

وقد تتبعت شيوخ الدهني وأساتذته، فلم أجد فيهم مَن توفّي في ثمانينيات القرن الأوّل، وهذا إن دلَّ على شيء فإنّما يدلُّ على أنَّه كان صبياً صغيراً غير مؤهّلٍ لتلقّي الحديث في الثمانينات، وبهذا نستطيع أن نخمّن أنَّ ولادته كانت قُبيل أو بُعيد عام 80ه-، وأنَّه طلب العلم في مدّة التسعينات، ولعلّه لم يكن قد بلغ آنذاك؛ ولذا نجد أنَّ ابن عياش كان يُشكّك في سماع سعيد بن جبير(1).

نعم، روى العقيلي عن عبد الله بن أحمد، عن البخاري، عن علي بن المديني، قال: قال سفيان: «قطع بشر بن مروان عرقوبيه(2)، فقلت: في أيِّ شيء. قال: في التشيع»(3). وبشر بن مروان هو أخو عبد الملك بن مروان الذي وليَ إمرة العراق لأخيه عبد الملك، وكانت وفاته سنة 75ه-(4)، فإذا افترضنا أنَّ عمّاراً الدهني في أيّام بشر كان 15عاماً، - كما هو أقل الفروض المحتملة - تكون ولادته تقريباً عام 60ه-، وهذا يعني أنّه كان في الثمانينيات شاباً قد تجاوز العشرين، وهذا بدوره يتعارض مع عدم نقله، ولو لحديث واحدٍ من رجلٍ واحدٍ من رواة الحديث الذين كانت وفياتهم في الثمانينيات، ولعلّ

ص: 147


1- اُنظر: المزي، يوسف بن عبد الرحمن، تهذيب الكمال: ج20، ص210.
2- العرقوب: عصب غليظ موتر فوق عقب الإنسان. الزبيدي، محمد مرتضى، تاج العروس: ج3، ص225، مادة عرقب.
3- العقيلي، محمد بن عمرو، الضعفاء الكبير: ج6، ص793.
4- اُنظر: الصفدي، خليل بن أيبك، الوافي بالوفيات: ج10، ص95.

الذهبي كان ملتفتاً إلى هذا التعارض، حيث يقول - بعد أن أشار إلى هذه الرواية -: «وأراه كان صبياً شاباً في أيّام بشر»(1).

أقول: إنَّ افتراض كونه صبياً شاباً في أيّام بشر لا يحلُّ الإشكالية، وإنَّما افترض الذهبي ذلك ليتملّص من ردِّ الرواية، وأنَّى له ذلك، فالرواية - بناءً على ما تقدّم - غير قابلة للإثبات التاريخي.

ومما يُثير الشك حول هذه الرواية أيضاً، أنَّ العقيلي ذاته، قد روى مضمون هذه الرواية عن سفيان نفسه، ولكن بحقِّ مصدع أبي يحيى الأعرج، وليس في حقِّ الدهني(2).

الجانب الرابع: مكانته العلمية وطبقته ومصنفاته

لم يُعرف الدهني بكونه مؤرخاً، بل اشتُهر بوصفه محدّثاً، ولعلّ أهمّ وأدق ما قيل في بيان مكانته العلمية هو نعت الذهبي له ب- «الإمام المحدّث»(3)، ووصف النجاشي له - في ترجمة ابنه معاوية - حيث قال: «وكان أبوه عمّار ثقة في العامّة، وجهاً»(4).

وقد عدّه ابن النديم من فقهاء الشيعة ومحدّثيهم وعلمائهم، ومن مشايخهم الذين رووا الفقه عن الأئمة علیهم السلام(5)، وسيأتي الحديث عن مذهبه، وكونه من الشيعة بالمعنى العام للتشيع، والمساوي للميل والمحبة لأهل البيت علیهم السلام.

وأمّا طبقته، فقد عدّه الشيخ في رجاله من أصحاب الصادق علیه السلام(6)، مع أنّه قد روى عن الإمام الباقر علیه السلام أيضاً، ويكفي أن نستشهد على ذلك بمقتله الذي نحن بصدده، حيث سيتضح أنّه يرويه عنه علیه السلام.

ص: 148


1- الذهبي، محمد بن أحمد، ميزان الاعتدال: ج3، ص170.
2- اُنظر: العقيلي، محمد بن عمرو، الضعفاء الكبير: ج4، ص266.
3- الذهبي، محمد بن أحمد، سير أعلام النبلاء: ج6، ص138.
4- النجاشي، أحمد بن علي، رجال النجاشي: ص411.
5- اُنظر: ابن النديم، محمد بن إسحاق، الفهرست: ص275.
6- اُنظر: الطوسي، محمد بن الحسن، رجال الطوسي: ص251.

وقد عدّه ابن حجر من الطبقة السادسة(1)، وقد «روى عن إبراهيم التيمي، وبكير الطويل، والحكم بن عتيبة، وسالم بن أبي الجعد، وسعيد بن جبير، وأبي فاختة سعيد بن علاقة، وأبي وائل شقيق بن سلمة، وأبي الطفيل عامر بن واثلة، وعبد الله بن شداد بن الهاد، وعبد الجبار بن العباس الشبامي، وعبد الرحمن بن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، وعطية العوفي، ومالك بن عمير الحنفي، ومجاهد بن جبر المكي... وروى عنه الأجلح الكندي، وإسرائيل بن يونس، وجابر الجعفي، وأبو صخر حميد بن زياد المدني، وخالد بن يزيد بن أسد بن عبد الله القسري، وزهير بن معاوية، وسفيان الثوري، وسفيان بن عيينة، وشريك بن عبد الله، وشعبة بن الحجاج، والصباح بن يحيى، وعبد الله بن الأجلح، وعبد الله بن شبرمة، وعبد الجبار بن العباس الشبامي، وعبيدة بن حميد، وغيرهم كثير»(2).

ولم يكن للدهني نشاطٌ تأليفي واسع، ولعلّ السبب في ذلك - في تقديرنا - هو أنّه قد تُوفّي ما بين عامي 133-140ه- كما سنُبيّن، وقد كانت حركة التدوين والتأليف والتصنيف في هذه المدّة ضعيفةً جداً عند العلماء المخالفين لخط أهل البيت علیهم السلام، فمع أنَّ قانون منع التدوين الجائر قد أُلغي في مطلع القرن الثاني الهجري، بقرار من عمر بن عبد العزيز(3)، غير أنّ التفاعل مع هذا القرار والتجاوب معه بشكل واعٍ وشامل قد تأخَّر لعقود، وقد كان تجاوب العلماء معه - وقت صدوره - متفاوتاً، فالعلماء الواعون الذين كانوا يرون قانون منع التدوين قانوناً ظالماً، قد رحّبوا بهذا القرار، وبادروا مباشرةً إلى تدوين ما يحملونه من العلم، وهؤلاء هم العلماء الذين كانوا يسيرون على هدي أهل البيت علیهم السلام، ويستضيئون بتعليماتهم وتوجيهاتهم، وأمّا العلماء الذين لم يكونوا على صلةٍ وثيقةٍ بخط أهل البيت علیهم السلام - ومنهم عمّار الدهني - فقد كانت استجابتهم لهذا القرار بطيئة، ولم يتفاعلوا معه كما ينبغي.

ص: 149


1- اُنظر: ابن حجر، أحمد بن علي، تقريب التهذيب: ج2، ص 470.
2- المزي، يوسف بن عبد الرحمن، تهذيب الكمال: ج21، ص 209.
3- اُنظر: الجلالي، محمد رضا الحسيني، تدوين السنّة الشريفة: ص15.

قال أبو طالب المكي: «كره كتب الحديث الطبقة الأُولى من التابعين... وأجاز ذلك من بعدهم، وما حدث التصنيف إلّا بعد موت الحسن البصري (ت110ه-)، وابن المسيب (ت 94 أو 105ه-)»(1).

وقال الغزالي: «الكتب والتصانيف مُحدثة ولم يكن شيء منها زمن الصحابة وصدر التابعين، وإنَّما حدث بعد سنة (120ه-)، وبعد وفاة جميع الصحابة وجلّة التابعين، وبعد وفاة سعيد بن المسيب، والحسن البصري، وخيار التابعين، بل كان الأوّلون يكرهون كتب الحديث، وتصنيف الكتب»(2).

وعلى أيّة حال، لم يذكر أصحاب الفهارس إلّا كتاباً واحداً من تأليف عمّار الدهني، قال الطوسي: «عمّار بن معاوية الدهني له كتاب ذكره ابن النديم»(3).

وهذا الكتاب هو ما أشار إليه ابن النديم في الفن الخامس من المقالة السادسة تحت عنوان (فقهاء الشيعة ومحدّثوهم وعلماؤهم)، فقال - عند عَدِّ الكتب المصنفة لهم -: «كتاب عمّار بن معاوية الدهني...»(4). وهو غير موجود الآن، ولا نعرف محتوياته تفصيلاً، وإن بدا لنا من كلام ابن النديم أنّه كان يحتوي على مرويات فقهية، رواها عمّار الدهني عن أهل البيت علیهم السلام، إذ يقول: «هؤلاء مشايخ الشيعة الذين رووا الفقه عن الأئمة، ذكرتهم على غير ترتيب، فمنهم... كتاب عمّار بن معاوية الدهني...»(5).

ويمكن أن نُضيف إلى هذا الكتاب، كتاباً آخر صنفه الدهني، وهو كتاب المقتل الذي نحن بصدده، هذا إن صحّ كونه كتاباً، وستأتي مناقشة ذلك.

ص: 150


1- اُنظر: أبو طالب المكي، محمد بن علي، قوت القلوب: ج1، ص258.
2- اُنظر: الغزالي، أبو حامد، إحياء علوم الدين: ج1، ص134.
3- الطوسي، محمد بن الحسن، الفهرست: ص189.
4- ابن النديم، محمد بن إسحاق، الفهرست: ص527.
5- المصدر السابق.
الجانب الخامس: مذهبه ومعتقده

كان عمّار الدهني يميل إلى أهل البيت علیهم السلام، إلى درجة أنّه صنف كتاباً ممَّا رواه من فقههم علیهم السلام - كما مرَّ علينا - وكان من المهتمين بمرويات كربلاء، وقد حرص على أخذ تفاصيلها عن الإمام الباقر علیه السلام، كما سيأتي عند الحديث عن مقتله.

وقد كان الإمام الصادق علیه السلام يهتم به ويُخلي له المجلس، فقد روى محمد بن يعقوب بإسناده، عن معاوية بن عمّار، قال: «كنّا عند أبي عبدالله علیه السلام نحواً من ثلاثين رجلاً، إذ دخل عليه أبي فرحّب به أبو عبدالله علیه السلام، وأجلسه إلى جنبه، فأقبل عليه طويلاً، ثمَّ قال أبو عبد الله علیه السلام: إنَّ لأبي معاوية حاجةً فلو خففتم. فقمنا جميعاً، فقال لي أبي: ارجع يا معاوية. فرجعت، فقال أبو عبد الله علیه السلام: هذا ابنك؟ قال: نعم»(1).

ومع هذا كلّه، فإنَّ عمّاراً الدهني لم يكن شيعيّاً إماميّاً، بل كان عاميّاً معتدلاً محباً لأهل البيت علیهم السلام، وهذا ما يظهر من كلام النجاشي الذي مرَّ علينا؛ إذ وصفه بكونه «ثقة في العامّة وجهاً». قال بحر العلوم - بعد نقله لكلام النجاشي -: «وظاهر كلام النجاشي أنَّ عمّاراً هذا ليس منّا»(2). وهذا ما فهمه السيد الخوئي أيضاً من عبارة النجاشي؛ إذ قال: «إنّ قول النجاشي: كان ثقةً في العامّة، وجهاً. ليس معناه أنَّ عمّاراً كان ثقةً عند العامّة أيضاً، وإلّا لم يقل: في العامّة. بل معناه أنّه كان ثقةً في رواة العامّة وجماعتهم؛ فيكون ذلك شهادة من النجاشي على أنَّ الرجل لم يكن شيعيّاً»(3).

وعلى هذا؛ فإن نسبته إلى التشيع في كلمات بعض علماء العامّة، يُحمل على التشيع بالمعنى العام، المنسجم مع القول بأنَّ الإمامة بالاختيار؛ وممَّا يؤيد ذلك أنَّهم أجمعوا على وثاقته وعدالته كما سيجيء، ولو كان تشيّعه بالمعنى الخاصّ للتشيع، لكان ذلك من أكبر الطعون فيه، ولحكموا بردّ روايته كما فعلوا مع غيره.

ص: 151


1- الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي: ج5، ص531.
2- بحر العلوم، محمد مهدي، رجال بحر العلوم المعروف ب- (الفوائد الرجالية): ج1، ص391.
3- الخوئي، أبو القاسم، معجم رجال الحديث: ج13، ص269.

وقد يُستدل على تشيّعه برواية تفسير الإمام العسكري علیه السلام، ومفادها: أنّ القاضي ابن أبي ليلى ردّ شهادة عمّار الدهني، معللاً ذلك بكونه رافضياً، فبكى عمّار، وقال: نسبتني إلى مرتبة شريفة لست من أهلها. فقيل هذا للصادق علیه السلام، فقال: «لو أنَّ على عمّار من الذنوب ما هو أعظم من السماوات والأرضين، لُمحيت عنه بهذه الكلمات، وإنّها لتزيد في حسناته عند ربه حتى جعل كلّ خردلة منها أعظم من الدنيا ألف مرّة»(1).

وقد ردَّ السيّد الخوئي هذه الرواية بوجهين:

الوجه الأوّل: إنَّ نسبة هذا التفسير إلى الإمام علیه السلام غير ثابتة، بل هي معلومة العدم.

الوجه الثاني: إنَّ الصدوق قد روى عن أبي كهمس، أنّه قال: «تقدّمت إلى شريك في شهادة لزمتني، فقال لي: كيف أُجيز شهادتك وأنت تُنسب إلى ما تُنسب إليه، قال أبو كهمس: فقلت: وما هو؟ قال: الرفض. قال: فبكيت، ثمّ قلت: نسبتني إلى قوم أخاف ألّا أكون منهم. فأجاز شهادتي، وقد وقع مثل ذلك لابن أبي يعفور، ولفضيل سكرة، (انتهى)، فإنّ عدم تعرّض الصدوق لذكر عمّار، يؤيد عدم صحة القصة المنسوبة إليه»(2).

وخلاصة القول: إنَّ كلّ المعطيات والدلائل التي بين أيدينا تُشير إلى ميل عمّار الدهني ومودته الشديدة لأهل البيت علیهم السلام، ولكنّنا لا نستطيع أن نُثبت تشيّعه بالمعنى الخاص للتشيع.

الجانب السادس: وثاقته وعدالته

يُمكن أن يُدّعى توثيق عمّار الدهني - بحسب مباني علم الرجال لدينا - بعدّة وجوه:

الوجه الأوّل: هو أن يُستدل على وثاقته وعدالته برواية تفسير العسكري علیه السلام السالفة، فقد ورد فيها ما يدلُّ على وثاقة عمّار وعدالته، بل إنَّ قول الإمام علیه السلام: «لو أنَّ على عمّار من الذنوب ما هو أعظم من السماوات والأرضين لمُحيت عنه بهذه الكلمات،

ص: 152


1- التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري علیه السلام: ص311.
2- الخوئي، أبو القاسم، معجم رجال الحديث: ج13، ص270.

وإنّها لتزيد في حسناته عند ربّه، حتى جعل كلّ خردلة منها أعظم من الدنيا ألف مرّة». هو من أعلى عبارات التوثيق، ولا يخفى أنَّ توثيق الإمام علیه السلام هو أرفع طرق التوثيق، قال الشيخ جعفر السبحاني: «إذا نصَّ أحد المعصومين علیهم السلام على وثاقة الرجل، فإنَّ ذلك يثُبت وثاقته قطعاً، وهذا من أوضح الطرق وأسماها، ولكن يتوقف ذلك على ثبوته بالعلم الوجداني، أو برواية معتبرة»(1).

ولكن قد عرفت حال هذه الرواية من خلال الوجهين الذين أوردهما السيد الخوئي رحمة الله.

الوجه الثاني: مرّ علينا وصف النجاشي له بكونه «ثقة في العامّة وجهاً»، والنجاشي من علمائنا المتقدّمين، وهو خرِّيت هذه الصناعة، وقوله يُقدّم حتى على قول الطوسي عند التعارض، وإنّما الكلام في دلالة هذه العبارة، وهل أنَّ النجاشي يُريد أن يقول: إنَّ الدهني ثقة عندنا، مع أنّه وجه من وجوههم؟ أي: إنَّ الفارزة تقع بعد كلمة (ثقة)، هذا احتمال، والاحتمال الآخر هو أنّه يُريد أن يقول: إنَّ الدهني ثقة عند العامّة ووجهاً لديهم، أي: نجعل الفارزة بعد عبارة (ثقة في العامّة).

وقد استظهر السيد الخوئي - كما مرّ علينا - من هذه العبارة توثيق النجاشي له؛ إذ قال: «إنَّ قول النجاشي كان ثقةً في العامّة، وجهاً، ليس معناه أنَّ عمّاراً كان ثقةً عند العامّة أيضاً، وإلّا لم يقل: في العامّة، بل معناه أنَّه كان ثقةً في رواة العامّة، وجماعتهم».

فهو - إذن - يُرجح الاحتمال الأوّل في فهم عبارة النجاشي، وقد استظهر السيد الخوئي ذلك من كلمة (في).

ولكن ممَّا يُرجِّح الاحتمال الآخر هو وجود معطى خارجي واضح لا يمكن تجاوزه أو صرف النظر عنه، وهو أنَّ عمّاراً بالفعل - كما سيجيء عمَّا قريب - موثّق عند العامّة، بل هم مُجمعون على ذلك، فالاحتمال الآخر هو المتبادر إلى الذهن بعد الاطلاع على هذا المعطى.

ص: 153


1- السبحاني، جعفر، كليات في علم الرجال: ص151.

الوجه الثالث: إنَّ الطوسي قد عنون لعمّار الدهني في الرجال(1)، والفهرست(2)، وهو وإن لم يوثّقه أو يمدحه، ولكنّه لم يجرحه أيضاً، وإنمَّا أهمله، ومَن كانت هذه حاله فهو معتمد على أخباره عند جماعة؛ إذ المهمل غير المجهول الذي صرّح علماء الرجال بجهالة حاله، وقد كان ابن داوُد يعمل بخبر المهمل كما يعمل بخبر الممدوح(3).

وهذا هو مبنى العلّامة الحلي أيضاً؛ حيث قال في إبراهيم بن هاشم: «ولم أقف لأحد من أصحابنا على قول في القدح فيه، ولا على تعديله بالتنصيص، والروايات عنه كثيرة، والأرجح قبول قوله»(4). وقال في أحمد بن إسماعيل بن سمكة: «ولم ينص علماؤنا عليه بتعديل، ولم يرد فيه جرح؛ فالأقوى قبول روايته مع سلامتها من المعارض»(5).

نعم، كان العلّامة الحلي يشترط في توثيق الشخص المهمل أن يكون إماميّاً، وهذا ما لم يثبت بحقّ المترجَم له.

الوجه الرابع: إنَّ ابن داوُد قال في ترجمة معاوية بن عمّار نقلاً عن الكشي: «وأبوه عمّار أيضاً ثقة»(6).

والكشي من علمائنا المتقدّمين، وتوثيقاته معتمدة بلا خلاف، شأنه شأن سائر المتقدمين، كالنجاشي والشيخ وغيرهما، وقد ألّف كتاباً أسماه (معرفة الرجال) أو (معرفة الناقلين عن الأئمة الصادقين) أو (معرفة الناقلين) ولكنّه لم يصل إلينا، والموجود بين أيدينا هو ما اختصره الطوسي من هذا الكتاب، وأسماه (اختيار معرفة الرجال)، وحينما نراجع هذا المختصر (أعني اختيار معرفة الرجال)، لا نجد أثراً لهذه العبارة، ويوجد في

ص: 154


1- اُنظر: الطوسي، محمد بن الحسن، رجال الطوسي: ص251.
2- اُنظر: الطوسي، محمد بن الحسن، الفهرست: ص189.
3- قال ابن داوُد في رجاله: ج1، ص29: «في ذكر الممدوحين ومَن لم يضعفهم الأصحاب فيما علمته»، ويفهم منه أنّه يعمل بخبر الراوي المهمل كما يعمل بخبر الراوي الممدوح.
4- العلّامة الحلي، الحسن بن يوسف، خلاصة الأقوال: ص49.
5- المصدر السابق: ص66.
6- الحلي، الحسن بن علي، رجال ابن داوُد: ص191.

المقام عدّة احتمالات:

1- إنَّ هذه العبارة موجودة في أصل الكتاب، وأنَّ هذا الأصل كان موجوداً عند ابن داوُد، وكان يرتشف منه مباشرةً، لا من (اختيار معرفة الرجال)، فقد قيل: إنَّ الأصل كان موجوداً عند السيّد جمال الدين أحمد بن موسى بن طاووس؛ لأنَّه تصدى إلى ترتيب هذا الكتاب وتبويبه، وضمَّه إلى كتب أُخرى من الكتب الرجالية وأسماه (حلّ الإشكال في معرفة الرجال)(1)، وزمان ابن داوُد ليس بعيداً عن زمان السيّد ابن طاووس، فقد كان الأخير أُستاذ الأوّل.

ومما يُؤيد ذلك أنَّ القهبائي كان يقول - في كيفية عمل الشيخ في رجال الكشي -: «إنَّ الأصل كان في رجال العامّة والخاصّة فاختار منه الشيخ الخاصّة»(2)، وبما أنَّ عمّاراً كان من العامّة - كما رجّحنا فيما سلف - فمن الطبيعي أن لا نجد له ذكراً في اختيار الشيخ إلّا ما وقع عرضاً.

2- أن تكون عند ابن داوُد نسخة من (اختيار معرفة الرجال) تختلف في بعض الموارد عن النسخة المتداولة؛ فإنَّ لابن داوُد طريقه الخاصّ إلى الشيخ كما صرّح في مقدّمة رجاله؛ وبالتالي تكون لديه نسخته الخاصّة التي قد تكون غير متطابقة مع النسخة المتداولة في بعض الموارد. قال في المقدّمة: «وطريقي إلى الكشي شيخنا نجم الدين أيضاً، والشيخ مفيد الدين محمد بن جهيم جميعاً، عن السيّد شمس الدين فخار، عن أبي محمد قريش بن سبيع بن مهنا بن سبيع الحسيني، عن الحسين بن رطبة السوراوي، عن أبي علي، عن أبيه أبي جعفر الطوسي، عن عدّة من أصحابنا، عن أبي محمد هارون بن موسى التلعكبري، عن الكشي (رحمه الله تعالى)»(3).

3- أن تكون هذه العبارة من إنشاء ابن داوُد، وقد امتزجت بكلام الكشي؛ بسبب

ص: 155


1- اُنظر: السبحاني، جعفر، كلّيات في علم الرجال: ص59.
2- المصدر السابق.
3- الحلي، الحسن بن علي، رجال ابن داوُد: ص28.

سوء النسخ، وفي ضوء هذا الاحتمال تسقط قيمة هذه العبارة في توثيق عمّار الدهني، إلّا على المبنى القائل بصحة الاعتماد على توثيقات المتأخرين، وهو ما قال به جماعة (1).

هذا بحسب رجالنا، وأمّا في رجال العامّة، فقد وثّقوه واعتمدوا مروياته، قال الذهبي: «وثّقة أحمد، وابن معين، وأبو حاتم، والناس، وما علمت أحداً تكلّم فيه إلّا العقيلى، فتعلّق عليه بما سأله أبو بكر بن عياش: أسمِعْتَ من سعيد بن جبير؟ قال: لا. قال: فاذهب»(2).

وقد أشرنا إلى هذه الرواية سابقاً، وهذه الرواية - إن ثبتت - فهي لا تدلُّ على أكثر من كون مرويات عمّار عن ابن جبير مرسلة، والإرسال في نفسه لا يُعدُّ طعناً في الراوي، ما لم يدَّعِ المرسِل المباشرةَ، كأن يقول: حدّثني أو أخبرني. وما شابه ذلك من العبارات التي تفيد التلّقي المباشر، ففي هذه الحالة يكون الإرسال تدليساً، وهذا لم يثبت في حقِّ عمّار.

الجانب السابع: وفاته

يوجد حول وفاة عمّار الدهني قولان:

الأوّل: قول المزي: قال محمد بن عبد الله الحضرمي: «مات سنة ثلاث وثلاثين ومئة»(3). هذا القول تبنّاه الذهبي في ميزان الاعتدال(4)، وتاريخ الإسلام(5) كذلك، ونُسب هذا القول في تاريخ الإسلام إلى مطين، ومطين هو لقب محمد بن عبد الله الحضرمي، وقد «لُقِّب بمطين؛ لأنّه كان وهو صغير يلعب مع الصبيان في الماء فيطينون ظهره» (6). إذاً، فالمزي والذهبي استندا في هذا القول على المصدر نفسه، وهو محمد بن

ص: 156


1- اُنظر: الأصفهاني، علي العلّامة الفاني، بحوث في فقه الرجال للفاني: ص93- 99.
2- الذهبي، محمد بن أحمد، ميزان الاعتدال: ج3، ص170.
3- المزي، يوسف بن عبد الرحمن، تهذيب الكمال: ج21، ص210.
4- اُنظر: الذهبي، محمد بن أحمد، ميزان الاعتدال: ج3، ص170.
5- اُنظر: الذهبي، محمد بن أحمد، تاريخ الإسلام: ج8، ص500 - 501.
6- الزركلي، خير الدين، الأعلام: ج6، ص223.

عبد الله الحضرمي الملقب ب-(مطين)، وجميع مَن تبنّى هذا القول ممَّن تأخر عنهما، فإنَّه قد أخذه عنهما عن مطين.

الثاني: ما تفرّد به الصفدي، من أنَّ عمّاراً الدهني قد تُوفّي في حدود الأربعين ومائة(1)، وفي تقديري أنَّ هذا القول غير نابع من نص روائي، وإلّا لذكر الصفدي مصدره؛ ولعلّه قد استنتجه من خلال ملاحظة طبقتي شيوخ وتلامذة الدهني، ومعرفة وفياتهم، وهذا ما تُوحي به طريقته المرنة في التعبير، حيث قال: «في حدود»، وهذه العبارة تُستخدم - في العادة - في حالة التقدير.

ومهما يكن، فإنَّنا بالجمع بين هذين القولين، نستطيع القول: إنَّ وفاة الدهني، كانت بين سنة 133و140ه-.

القسم الثاني: مقتل الحسين علیه السلام للدهني

يروي الدهني مقتل الإمام الحسين علیه السلام عن الإمام الباقر علیه السلام، وهذا ما يزيد من أهمية البحث حول هذا المقتل، ومن اللافت للنظر أنّ هذا المقتل لم يُروَ من طرقنا الخاصّة، وليس له أيُّ أثر في مدوناتنا الحديثية.

وينبغي أن يُعلم أنّه لا يوجد كتاب مستقل بعنوان مقتل الحسين علیه السلام من تصنيف عمّار الدهني، لا في هذا العصر ولا في العصور السابقة، كما لا تجد إشارة إلى وجود كتاب بهذا العنوان في كتب الفهارس ومعاجم المؤلفات، والظاهر أنَّ هذا المقتل كان عبارةً عن رواية شفهية مطوّلة، ولم يكن مدوّناً في قرطاس قبل تدوينه في تاريخ الطبري، فأقدم نسخة من هذا المقتل هي نسخة الطبري المتوفّى عام 310ه-، ورواية الطبري له غير متصلة، بل أورده في ثلاثة مقاطع.

ويُعدُّ هذا المقتل من الأُصول التي اعتمدها أبو الفرج الأصفهاني (ت356ه-) في كتابه مقاتل الطالبيين؛ إذ ذكره في جملة المصادر التي استقى منها حديثه حول مقتل

ص: 157


1- اُنظر: الصفدي، خليل بن أيبك، الوافي بالوفيات: ج22، ص234.

الحسين علیه السلام(1).

ونلاحظ أنَّ العامّة قد ضخّموا شأن هذا المقتل، واهتموا بروايته؛ لأنّه ينسجم إلى حدٍ كبيرٍ مع نظرتهم إلى واقعة الطفّ، ويمكن القول: إنَّ أهمية مقتل عمّار الدهني عند العامّة كأهمية مقتل أبي مخنف عند الشيعة.

قال ابن حجر(ت852ه-) - بعد أن روى مقتل الحسين علیه السلام برواية عمّار الدهني -: «وقد صنّف جماعة من القدماء في مقتل الحسين تصانيف فيها الغثّ والسمين، والصحيح والسقيم، وفي هذه القصّة التي سقتها غنًى»(2).

وعلى أية حال، فنحن الآن سنورد مقتل عمّار الدهني كاملاً برواية الطبري - لأنّها الأصل على ما يبدو- بعد وصل بعضها بالبعض الآخر، ثمّ نذكر أهمّ المناقشات التي أُثيرت حول هذه الرواية.

مقتل عمّار الدهني برواية الطبري

*مقتل عمّار الدهني برواية الطبري(3)

قال الطبري: «حدّثني زكريا بن يحيى الضرير، قال: حدّثنا أحمد بن جناب المصيصي - ويكنى أبا الوليد - قال: حدّثنا خالد بن يزيد بن أسد بن عبد الله القسري، قال: حدّثني عمّار الدهني، قال: قلت لأبي جعفر علیه السلام: حدّثني بمقتل الحسين حتى كأنّي حضرته.

قال علیه السلام: مات معاوية والوليد بن عتبة بن أبي سفيان على المدينة، فأرسل إلى الحسين بن علي ليأخذ بيعته، فقال له: أخّرني وارفق. فأخّره، فخرج إلى مكة، فأتاه أهل الكوفة ورُسلهم: إنّا قد حبسنا أنفسنا عليك، ولسنا نحضر الجمعة مع الوالي، فأقدم

ص: 158


1- اُنظر: الأصفهاني، أبو الفرج، مقاتل الطالبيين: ص63.
2- ابن حجر، أحمد بن علي، الإصابة: ج2، ص71.
3- إنَّ طبيعة عملنا تقتضي تجنب إيراد تفاصيل المقتل، ولكن للضرورة أحكام؛ فإنَّ أغلب المناقشات التي سنوردها على مقتل الدهني إن لم يكن جميعها تستوجب قبل إيرادها عرض هذا المقتل للقارئ، يُضاف إلى ذلك: أنَّ مقتل الدهني هو عبارة عن قصة، أو رواية طويلة نسبياً، وليس مقتلاً مفصّلاً، ولن يأخذ مساحة كبيرة من البحث.

علينا - وكان النعمان بن بشير الأنصاري على الكوفة - قال: فبعث الحسين إلى مسلم بن عقيل بن أبي طالب ابن عمّه، فقال له: سر إلى الكوفة، فانظر ما كتبوا به إليّ، فإن كان حقاً خرجنا إليهم. فخرج مسلم حتى أتى المدينة، فأخذ منها دليلين، فمرّا به في البرية، فأصابهم عطش، فمات أحد الدليلين، وكتب مسلم إلى الحسين يستعفيه، فكتب إليه الحسين: أن امض إلى الكوفة.

فخرج حتى قدمها، ونزل على رجل من أهلها يقال له: ابن عوسجة. قال: فلمّا تحدّث أهل الكوفة بمقدمه، دبّوا إليه فبايعوه، فبايعه منهم اثنا عشر ألفاً، قال: فقام رجل ممَّن يهوى يزيد بن معاوية إلى النعمان بن بشير، فقال له: إنّك ضعيف أو متضعِّف، قد فسد البلاد! فقال له النعمان: أن أكون ضعيفاً وأنا في طاعة الله، أحبُّ إليّ من أن أكون قوياً في معصية الله، وما كنت لأهتك ستراً ستره الله.

فكتب بقول النعمان إلى يزيد، فدعا مولى له يقال له: سرجون - وكان يستشيره - فأخبره الخبر، فقال له: أكنت قابلاً من معاوية لو كان حيّاً؟ قال: نعم. قال: فاقبل منِّي، فإنَّه ليس للكوفة إلّا عبيد الله بن زياد، فولهّا إيّاه، وكان يزيد عليه ساخطاً، وكان همَّ بعزله عن البصرة، فكتب إليه برضائه، وأنّه قد ولّاه الكوفة مع البصرة، وكتب إليه أن يطلب مسلم بن عقيل فيقتله إن وجده.

قال: فأقبل عبيد الله في وجوه أهل البصرة حتى قدم الكوفة متلثماً، ولا يمرُّ على مجلس من مجالسهم فيسلّم إلّا قالوا: عليك السلام يا بن بنت رسول الله - وهم يظنّون أنّه الحسين بن علي علیه السلام- حتى نزل القصر، فدعا مولى له فأعطاه ثلاثة آلاف، وقال له: اذهب حتى تسأل عن الرجل الذي يُبايع له أهل الكوفة، فأعلِمْه أنّك رجل من أهل حمص جئت لهذا الأمر، وهذا مال تدفعه إليه ليتقوى. فلم يزل يتلطّف ويرفق به حتى دلّ على شيخ من أهل الكوفة يلي البيعة، فلقيه فأخبره، فقال له الشيخ: لقد سرّني لقاؤك إيّاي، وقد ساءني، فأمّا ما سرّني من ذلك فما هداك الله له، وأمّا ما ساءني، فإنَّ أمرنا لم يستحكم بعدُ، فأدخله إليه، فأخذ منه المال وبايعه، ورجع إلى عبيد الله فأخبره.

ص: 159

فتحوّل مسلم حين قدم عبيد الله بن زياد من الدار التي كان فيها إلى منزل هانئ بن عروة المرادي، وكتب مسلم بن عقيل إلى الحسين بن علي علیه السلام، يخبره ببيعة اثني عشر ألفاً من أهل الكوفة، ويأمره بالقدوم.

وقال عبيد الله لوجوه أهل الكوفة: ما لي أرى هانئ بن عروة لم يأتِني فيمَن أتاني! قال: فخرج إليه محمد بن الأشعث في ناس من قومه وهو على باب داره، فقالوا: إنَّ الأمير قد ذكرك واستبطأك، فانطلقْ إليه. فلم يزالوا به حتى ركب معهم وسار حتى دخل على عبيد الله وعنده شريح القاضي، فلمّا نظر إليه قال لشريح: أتتك بحائن رجلاه. فلمّا سلّم عليه، قال: يا هانئ، أين مسلم؟ قال: ما أدري. فأمر عبيد الله مولاه صاحب الدراهم فخرج إليه، فلمّا رآه قطع به، فقال: أصلح الله الأمير! والله، ما دعوته إلى منزلي ولكنَّه جاء فطرح نفسه عليَّ. قال: ائتني به. قال: والله، لو كان تحت قدميّ ما رفعتهما عنه. قال: أدنوه إليّ، فأُدني فضربه على حاجبه فشجّه، قال: وأهوى هانئ إلى سيف شرطي ليسلّه، فدُفع عن ذلك، وقال: قد أحلّ الله دمك، فأُمر به فحُبس في جانب القصر»(1).

ثمّ قال: «فبينا هو كذلك، إذ خرج الخبر إلى مذحج، فإذا على باب القصر جلبة سمعها عبيد الله، فقال: ما هذا؟ فقالوا: مذحج. فقال لشريح: اخرج إليهم فأعلمهم أنّي إنّما حبسته لأُسائله، وبعث عيناً عليه من مواليه يسمع ما يقول، فمرَّ بهانئ بن عروة، فقال له هانئ: اتقِ الله يا شريح، فإنّه قاتلي. فخرج شريح حتى قام على باب القصر، فقال: لا بأس عليه، إنّما حبسه الأمير؛ ليُسائله. فقالوا: صدق، ليس على صاحبكم بأس، فتفرّقوا، فأتى مسلماً الخبر، فنادى بشعاره، فاجتمع إليه أربعة آلاف من أهل الكوفة، فقدّم مقدّمته، وعبّى ميمنته وميسرته، وسار في القلب إلى عبيد الله، وبعث عبيد الله إلى وجوه أهل الكوفة، فجمعهم عنده في القصر، فلمّا سار إليه مسلم فانتهى إلى باب القصر أشرفوا على عشائرهم، فجعلوا يكلّمونهم ويردّونهم، فجعل أصحاب مسلم يتسللون حتى أمسى في خمسمائة، فلمّا اختلط الظلام ذهب أولئك أيضاً.

ص: 160


1- الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الأُمم والملوك: ج4، ص259.

فلمّا رأى مسلم أنّه قد بقيَ وحده يتردد في الطرق، أتى باباً فنزل عليه، فخرجت إليه امرأة، فقال لها: اسقيني. فسقته، ثمّ دخلت فمكثت ما شاء الله، ثمّ خرجت فإذا هو على الباب، قالت: يا عبد الله، إنَّ مجلسك مجلس ريبةٍ؛ فقم. قال: إنّي أنا مسلم بن عقيل، فهل عندك مأوى؟ قالت: نعم، ادخل. وكان ابنها مولى لمحمد بن الأشعث، فلمّا علم به الغلام انطلق إلى محمد فأخبره، فانطلق محمد إلى عبيد الله فأخبره، فبعث عبيد الله عمرو بن حريث المخزومي - وكان صاحب شرطته - إليه، ومعه عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث، فلم يعلم مسلم حتى أُحيط بالدار، فلمّا رأى ذلك مسلم خرج إليهم بسيفه فقاتلهم، فأعطاه عبد الرحمن الأمان، فأمكن من يده، فجاء به إلى عبيد الله، فأمر به فأُصعد إلى أعلى القصر فضُربت عنقه، وأُلقي جثته إلى الناس، وأُمر بهانئ، فسُحب إلى الكناسة، فصُلب هنالك، وقال شاعرهم في ذلك:

فإن كنت لا تدرين ما الموت فانظري***إلى هانئ في السوق وابن عقيلِ

أصابهما أمر الإمام فأصبحا***أحاديث مَن يسعى بكلّ سبيلِ

أيركب أسماء الهماليج آمناً***وقد طلبته مذحج بذح-ولِ»(1).

ثمّ قال: «فأقبل حسين بن علي بكتاب مسلم بن عقيل كان إليه حتى إذا كان بينه وبين القادسية ثلاثة أميال، لقيه الحرّ بن يزيد التميمي، فقال له: أين تريد؟ قال: أُريد هذا المصر. قال له: ارجع؛ فإنّي لم أدع لك خلفي خيراً أرجوه. فهمّ أن يرجع، وكان معه إخوة مسلم بن عقيل، فقالوا: والله، لا نرجع حتى نُصيب بثأرنا أو نُقتل. فقال: لا خير في الحياة بعدكم. فسار فلقيته أوائل خيل عبيد الله، فلمّا رأى ذلك عدل إلى كربلاء، فأسند ظهره إلى قصباء وخلا؛ كيلا يُقاتل إلّا من وجهٍ واحدٍ، فنزل وضرب أبنيته، وكان أصحابه خمسة وأربعين فارساً، ومائة راجل، وكان عمر بن سعد بن أبي وقاص قد ولّاه عبيد الله بن زياد الري، وعهد إليه عهده، فقال: اكفني هذا الرجل. قال: أعفني. فأبى أن يعفيه، قال: فانظرني الليلة. فأخّره، فنظر في أمره، فلمّا أصبح، غدا عليه راضياً بما أمر

ص: 161


1- المصدر السابق: ص260.

به؛ فتوجه إليه عمر بن سعد، فلمّا أتاه قال له الحسين: اختر واحدةً من ثلاث: إمّا أن تدعوني فانصرف من حيث جئت، وإمّا أن تدعوني فأذهب إلى يزيد، وإمّا أن تدعوني فألحق بالثغور، فقبل ذلك عمر، فكتب إليه عبيد الله: لا ولا كرامة، حتى يضع يده في يدي. فقال له الحسين: لا والله، لا يكون ذلك أبداً. فقاتله فقُتل أصحاب الحسين كلّهم، وفيهم بضعة عشر شاباً من أهل بيته، وجاء سهم فأصاب ابناً له معه في حجره، فجعل يمسح الدم عنه، ويقول: اللهمَّ، احكم بيننا وبين قومٍ دعونا لينصرونا فقتلونا. ثمّ أمر بحبرة فشقها ثمّ لبسها، وخرج بسيفه، فقاتل حتى قُتل (صلوات الله عليه) قتله رجل من مذحج، واحتز رأسه، وانطلق به إلى عبيد الله، وقال:

أوقر رك--ابي فض-ةً وذهباً***أنا قتلت الملك المحج--با

قتلت خير الناس أُمّا وأبا***وخيرهم إذ ينسبون نسبا

وأوفده إلى يزيد بن معاوية، ومعه الرأس فوضع رأسه بين يديه، وعنده أبو برزة الأسلمي، فجعل ينكت بالقضيب على فيه، ويقول:

يفلقن هاماً من رجال أعزة***علينا وهم كانوا أعقَّ وأظلما

فقال له أبو برزة: ارفع قضيبك؛ فو الله، لربما رأيت فاه رسول الله صلی الله علیه و آله على فيه يلثمه، وسرّح عمر بن سعد بحرمه وعياله إلى عبيد الله، ولم يكن بقي من أهل بيت الحسين بن علي علیه السلام إلّا غلام كان مريضاً مع النساء، فأمر به عبيد الله ليُقتل؛ فطرحت زينب نفسها عليه، وقالت: والله، لا يُقتل حتى تقتلوني! فرقَّ لها فتركه، وكفَّ عنه.

قال: فجهّزهم، وحملهم إلى يزيد، فلمّا قدموا عليه، جمع مَن كان بحضرته من أهل الشام، ثمَّ أدخلوهم فهنّؤوه بالفتح، قال رجل منهم أزرق أحمر، ونظر إلى وصيفة من بناتهم، فقال: يا أمير المؤمنين، هب لي هذه. فقالت زينب: لا والله، ولا كرامة لك، ولا له إلّا أن يخرج من دين الله. قال: فأعادها الأزرق، فقال له يزيد: كفَّ عن هذا. ثمَّ أدخلهم على عياله فجهّزهم، وحملهم إلى المدينة، فلمّا دخلوها خرجت امرأة من بني عبد المطلب ناشرةً شعرها، واضعةً كمها على رأسها تلقاهم، وهي تبكي، وتقول:

ص: 162

م-اذا تقولون إن قال النبي لكم***ماذا فعلتم وأنتم آخر الأُممِ

بعترتي وبأهلي بعد مفتقدي***منهم أُسارى وقتلى ضرّجوا بدمِ

ما كان هذا جزائي إذ نصحت لكم***أن تخلفوني بسوءٍ في ذوي رحمي»(1).

إلى هنا ينتهي مقتل عمّار الدهني برواية الطبري.

مناقشات حول رواية الدهني

اشارة

يمكن أن تُثار عدَّة مناقشات حول هذه الرواية، نقتصر على أهمها:

الأُولى: طرق الرواية ورجالها

أشرنا فيما سبق إلى أهمية البحث حول هذا المقتل؛ من جهة كونه مروياً عن الإمام الباقر علیه السلام، وأشرنا أيضاً إلى أنَّ هذا المقتل لم يصل إلينا من خلال طرقنا الخاصّة، ولم يُعتمد في مدوناتنا المعنية بنقل مرويات كربلاء.

نعم، اعتمد عليه ابن نما في مثير الأحزان، وأثبت منه الرواية التي تتحدّث عن مفاوضة الحسين علیه السلام مع ابن سعد (لعنه الله)، وطلب الإمام الحسين علیه السلام منه أن يأخذه إلى يزيد (لعنه الله) ويرى فيه(2). وهذا غريب من ابن نما.

والطبري يرويه عن الدهني بثلاث وسائط: عن زكريا بن يحيى الضرير، عن أحمد بن جناب المصيصي، عن خالد بن يزيد بن أسد بن عبد الله القسري، وهؤلاء جميعهم من العامّة، وقد طعنت كتبهم الرجالية في زكريا بن يحيى الضرير، فذكره ابن الجوزي في الضعفاء والمتروكين(3)، وعن الشعبي، عن يحيى بن معين، أنّه قال فيه: «ليس بشيء»(4)، وأما خالد بن يزيد القسري، فقد ذكره ابن عدي في الضعفاء، وقال فيه: «وخالد بن

ص: 163


1- الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الأُمم والملوك: ج4، ص294.
2- اُنظر: ابن نما، محمد بن جعفر، مثير الأحزان: ص36.
3- اُنظر: ابن الجوزي، عبد الرحمن بن علي، الموضوعات: ج1، ص336.
4- الذهبي، محمد بن أحمد، ميزان الاعتدال: ج2، ص75.

يزيد هذا له أحاديث غير ما ذكرت، وأحاديثه كلّها لا يتابع عليها»(1)، وهذا ما يجعلنا نحتمل أن التلاعب الذي حصل في هذه القصة - وسنُشير إلى بعضه فيما يلي - قد أتى من أحد هذين الرجلين وذلك لو سلّمنا بوثاقة الدهني، والمصيصي، والطبري.

الثانية: رأي الشيخ القرشي رحمة الله ومناقشته

ناقش الشيخ باقر شريف القرشي في هذه الرواية، فقال: «إن عمّاراً الدهني طلب من الإمام علیه السلام أن يحدِّثه بالتفصيل عن مقتل الإمام الحسين علیه السلام كأنَّه قد حضره، أمّا الجواب فقد كان موجزاً، ولم يُشر إلى كثير من الأحداث لا بقليل ولا بكثير، فقد طويت فيه أكثر فصول تلك المأساة، ومن الطبيعي أنَّ هذا لا يتناسب مع السؤال الذي يُطلب فيه المزيد من المعلومات»(2).

ويمكن مناقشة ما ذكره القرشي من وجهين:

الوجه الأوّل: إن طلب عمّار الدهني من الإمام علیه السلام، أن يحدّثه بالتفصيل عن مقتل الإمام الحسين علیه السلام، غير ملزم للإمام علیه السلام بأن يكون جوابه تفصيلياً، فقد تقتضي المصلحة بأن يكون الجواب مجملاً؛ وممّا يؤيد ذلك أننا نلاحظ: أنَّ الأحاديث الواردة عن المعصومين علیهم السلام حول كربلاء، كلّها تتسم بالاقتضاب والإجمال، بل يرى بعض الأعلام: أنَّ المعصومين علیهم السلام لم يتحدّثوا عن واقعة الطفّ كمؤرخين، بل كانوا يركزون على الجانب المعنوي لواقعة الطفّ، والدفاع عن قضية الحسين علیه السلام، ولا يكون همّهم رواية أو نقل الحوادث، إلّا ما جاء عرضاً خلال الحديث، إذن؛ فلا ينبغي أن نتوقع سماع حديثهم عن التفاصيل الكثيرة التي نريدها(3).

وقد شاع مؤخراً بين الموالين حديثٌ منسوبٌ إلى الإمام الباقر علیه السلام، يقول فيه: «لولا

ص: 164


1- ابن عدي، عبد الله، الكامل في الضعفاء: ج3، ص432.
2- القرشي، باقر شريف، حياة الإمام الباقر علیه السلام دراسة وتحليل: ج1، ص280.
3- اُنظر: الصدر، محمد محمد صادق، أضواء على ثورة الإمام الحسين علیه السلام: ص161.

خوفنا على شيعتنا من الموت لروينا لهم ما جرى في كربلاء»، وهذا الحديث لو كان صحيحاً، لصلح أن يكون جواباً عن هذه المناقشة، ولكن هذا الحديث لا أساس له من الصحة، وهو غير متوفر في أيّ مصدرٍ من المصادر.

الوجه الثاني: يحتمل أن يكون الإمام علیه السلام قد أجابه مفصّلاً، ولكن الطبري لم ينقل القصة بشكلٍ كاملٍ؛ وممّا يؤيد ذلك أنَّ الطبري قد أوردها في ثلاثة مقاطع، والظاهر أنَّ الطبري كان يقتطع منها حسب الحاجة، ولم يدّع الطبري أنَّه أورد الرواية بشكلٍ كاملٍ.

الثالثة: الدسُّ والتحريف في الرواية

1- كما حصل حذف في بعض تفاصيل هذه الرواية، فقد حصل دسُّ وإضافة أيضاً، ومن ذلك قوله: إنَّ الحسين علیه السلام همَّ أن يرجع على إثر نصيحة الحرّ له، ولكن إخوة مسلم بن عقيل كانوا معه، فقالوا: «والله، لا نرجع حتى نُصيب بثأرنا أو نُقتل. فقال: لا خير في الحياة بعدكم. فسار...».

ويأتي هذا النص جزءاً من النصوص التي وُضعت لتشويه وتحريف أهداف نهضة الحسين علیه السلام، ووضعها في إطار قَبَلي ضيّق، وهذا ممّا لا يمكن قبوله في حقِّ إخوة مسلم، فضلاً عن قبوله في حقِّ الحسين علیه السلام، وهو الإمام المفترض الطاعة.

2- ومن نماذج الدسّ والإضافة في هذا المقتل، الفقرة التي تقول: إنّ الحسين علیه السلام، قال لعمر بن سعد (لعنه الله): «اختر واحدةً من ثلاث: إمّا أن تدعوني فانصرف من حيث جئت، وإمّا أن تدعوني فأذهب إلى يزيد، وإمّا أن تدعوني فألحق بالثغور...».

فهذا ممّا لا يمكن صدوره من الحسين علیه السلام، وهو ممّا كان يُشيعه بنو أُميّة لتشويه صورة الحسين علیه السلام، ولنفي الجريمة عن يزيد، وإلصاقها بعبيد الله بن زياد، وعمر بن سعد، وقد كان عقبة بن سمعان ينفي هذه القضية، وكان يقول: «صحبت حسيناً فخرجت معه من المدينة إلى مكة، ومن مكة إلى العراق، ولم أُفارقه حتى قُتل، وليس من مخاطبته الناس كلمة بالمدينة، ولا بمكة، ولا في الطريق، ولا بالعراق، ولا في عسكر إلى

ص: 165

يوم مقتله إلّا وقد سمعتها، ألا والله، ما أعطاهم ما يتذاكر الناس، وما يزعمون، من أن يضع يده في يد يزيد بن معاوية، ولا أن يُسيّروه إلى ثغر من ثغور المسلمين، ولكنّه قال: دعوني فلأذهب في هذه الأرض العريضة حتى ننظر ما يصير أمر الناس»(1).

خاتمة بأهمِّ النتائج

بعد هذه الرحلة التي قطعناها في الحديث عن عمّار الدهني ومقتله يحسن بنا أن نُلخّص أهمّ النتائج التي ظفرنا بها، وهي:

1- إنَّ عمّاراً الدهني من المحدّثين والأخباريين القدامى، وقد دخل معترك الحياة العلمية في نهايات القرن الأوّل، ونشط في نشر الحديث وتعليمه بعد مطلع القرن الهجري الثاني.

2- كان عمّار الدهني من الشخصيات التي اتصلت بأهل البيت علیهم السلام وروت عنهم، وكان محباً لهم، ولكن لم يثبت لدينا أنّه كان يؤمن بإمامتهم.

3- يمكن توثيق عمّار الدهني في ضوء بعض المباني الرجالية المعمول بها عند البعض، وقد أجمعت أو كادت أن تجمع كتب الجرح والتعديل عند العامّة على وثاقته وتعديله.

4- كان عمّار الدهني من الأوائل الذين اهتموا بحفظ النص الكربلائي، وقد حرص الدهني على أن يتلقّى هذا النص من مصادره القريبة والمأمونة، كما حرص على أن يتعرّف على أدقّ التفاصيل، وإن جاء الجواب مجملاً من الإمام علیه السلام، وحصل تلاعب في هذا النص، كما ناقشنا في ذلك.

5- لا يوجد أثر لكتاب في مقتل الحسين علیه السلام من تصنيف الدهني، ولم تنص كتب الفهارس عليه، ولكن الطبري قد نقل لنا هذا المقتل في ثلاثة مقاطع، وقد قمنا بوصل بعضها ببعض، وجمعناها في روايةٍ واحدةٍ.

ص: 166


1- الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الأُمم والملوك: ج4، ص313 - 314.

6- إن مقتل الدهني من الأُصول التي اعتمد عليها كثير من العامّة، وهم يعتبرونه كمقتل أبي مخنف لدى الشيعة، وقد فضّله ابن حجر على سائر المقاتل؛ وذلك لكونه يحتوي على بعض المفردات التي تخدمهم، ويفتقر إلى كثير من الحقائق التي لا تروق لهم.

7- لم يعتنِ رواة الشيعة الأوائل برواية هذا المقتل، ولم يهتم أصحاب المدونات الحديثيّة والتاريخية الشيعية بتدوينه، اللهمَّ إلّا ما كان من ابن نما في مثير الأحزان، كما أشرنا.

8- عرضنا مقتل عمّار الدهني برواية الطبري، وأوردنا عليها أربع مناقشات، واحدة منها ترتبط بسند هذا المقتل، والبقية تتعلق بالمتن، وأشرنا فيها إلى عمليات الحذف، والدسّ، والإضافة التي وقعت في هذا المقتل.

ص: 167

ص: 168

نُجُومٌ في سَمَاءِ الحُسَين علیه السلام الحُرُّ الرَّيَاحِيّ

دِرَاسَةٌ استِدلالِيّةٌ لِحَرَكَتِهِ العَسكَرِيَّة وَمَوَقِفهِ مِن حَادِثَةِ الطَّفَّ

اشارة

السَّيِّد شهيد طَالِب المُوسَوي(1)

مقدّمة

إنَّ كتابة تاريخ الأُمّة - أي أُمّة كانت - وعلى مرِّ العصور والأجيال لا يعني أنَّه بدرجة من النقاوة، بحيث يُمثّل المعدن النقي بدون شوائب الدسِّ والتحريف، ولا يمكن لأحد أن يدّعي ذلك، وعلى هذا؛ فلا بدَّ أن يخضع تاريخ الأُمّة - في مسؤولية دراسته ونقده، ومسؤولية كتابته وخطه - إلى دراسة حقيقيّة وموضوعيّة في محاولة استئصال كلّ ما هو غريب قد يطرأ على تاريخ الأُمّة، في الوقت الذي نقول فيه: إنّ تلك الدراسات لتاريخ الأُمّة هي أيضاً خاضعة للنقد والتحليل، وهكذا إلى أن نصل إلى الجوهر الحقيقي الذي لا يمكن أن تطاله يد التغيير والتحريف أو تُحمّله ما لا يحتمله.

ص: 169


1- كاتب وباحث إسلامي.

ومن هنا؛ سعى علماء الأُمة الإسلاميّة إلى كتابة التاريخ ودراسته، وتحقيقه في مختلف المجالات، وهي أمانة حاولوا إيصالها إلى الأجيال، كونها تُمثّل المدرسة الحقيقية التي يتربى عليها أجيال الأُمّة.

ولنأخذ مثالاً لحادثة مضت وسُطّرت في كتب التاريخ، وعُدّت من أهمّ حوادث الدهر، هي ملحمة وحادثة كربلاء، أو ما تُعرف بواقعة الطفِّ، حيث تُعدُّ من أهمّ الأحداث التاريخية التي مرَّت بها الأُمّة الإسلاميّة، والتي سجلت للأُمّة أروع دروس التضحية والإباء، والوقوف ضدّ الظلم والتمسك بالقيم الإنسانية والدينية، وقد بذل أصحابها الغالي والنفيس في سبيل الله، فقد سُقيت هذه الواقعة بدم ابن بنت رسول الله صلی الله علیه و آله ، وأهل بيته وأصحابه (رضوان الله عليهم أجمعين).

وعندما كتب التاريخ هذه الواقعة المباركة وسطّر أحداثها، أتى الكثير من الباحثين محاولين بيان وتوضيح تلك الدروس وتحليلها، أو نقد ما كُتب من التاريخ في هذه الواقعة، وهكذا تستمر هذه المسيرة لتعطي وتُغذّي الأجيال بنبض الحياة المنبثق من تلك الواقعة، ولعلّ هذا هو ما يُميّز تلك الملحمة عن غيرها، فهي إلى الآن تتجدد لتُعطي صورة حيّة مستمرة عن مبادئها الشامخة، وتعطي الدروس والعبر كلّ حين.

نحن نعلم أن هناك العديد من البحوث والدراسات كتبت عن شخصيات هذه الواقعة وما يحملونه من المبادئ السامية والقيم النبيلة، وما سطّروه من معاني التضحية والفداء؛ لأجل الدين والوقوف مع الحسين علیه السلام ضدّ ظلم وطغيان النفس الأمّارة بالسوء المتمثلة بأذناب بني أُميّة، وفي مقدمتهم يزيد بن معاوية (لعنه الله).

لكنّنا أحببنا أن نُدلي بدلونا، فكانت هذه المحاولة في دراسة شخصية مهمّة من شخصيات تلك الملحمة، وهي شخصية الحرّ بن يزيد الرياحي (رضوان الله تعالى عليه)؛ لعلّنا نستطيع أن نُبيّن جانباً من دروس هذا البطل المقدام، الذي كان له دور متميّز وبارز في تلك الواقعة.

وسنعتمد في هذا البحث على ثلاثة محاور:

ص: 170

المحور الأوّل: سيرة الحرّ بن يزيد الرياحي (تسميته، نسبه، كنيته، عمره، شجاعته)
أوّلاً: تسميته

الحر لغةً: «الحُرُّ، بالضمّ: خلافُ العَبْدِ. والحُرُّ: خِيَارُ كلِّ شيْءٍ وأَعْتَقُه،... ومن ذلك الحُرُّ بِمَعْنى الفَرَس العَتِيق الأَصِيل، يُقَال: فَرَسٌ حُرٌّ...»(1)، فالحر هو ما خلص من غير أصله.

ومن أهمّ ما يمكن أن نقف عليه هنا في تسميته بهذا الاسم، أنّه ورد عن الإمام الحسين علیه السلام بعد استشهاد الحرّ ووقوفه عليه، حيث قال الإمام الحسين علیه السلام: «والله، ما أخطأت أُمّك إذ سمّتك حراً؛ فأنت - والله - حر في الدنيا، وسعيد في الآخرة»(2)، ويمكن أن نستفيد من هذه الرواية أمرين:

الأمر الأوّل: إنّ مَن سمّاه بهذا الاسم أُمّه، كما قال له الإمام الحسين علیه السلام ذلك، ويمكن بيان أمر مهم هنا؛ وهو علاقة الأُم في تسمية الولد، ومن ثمَّ العلاقة في تسمية الحرّ من قِبل أُمّه، فإننا نحتمل عدّة توجيهات:

1- إنَّ أباه كان ميتاً عند ولادته فسمّته أُمّه، وهو مشابه لما ورد من تسمية عبد المطلب من قِبل أُمّه سلمى، حيث سمّته شيبة الحمد، بعد أن تُوفّي أبوه هاشم قبل ولادته، ثمّ سمّاه عمُّه المطلب بعبد المطلب، فقد ذكر ابن أبي الحديد ذلك، فقال: «...وأُمّ عبد المطلب سلمى بنت عمرو بن زيد... وولدت عبد المطلب، فسمّته شيبة الحمد؛ لشعرة بيضاء كانت في ذوائبه حين وُلِدَ»(3).

2- إنّنا نحتمل أنَّ هذه التسمية - غير اسمه الحقيقي - كانت من أُمّه، أمّا اسمه الحقيقي فلم يرد إلينا، وهناك شاهد على ذلك؛ بأنَّ العرب كانت تستسيغ هذا الأمر، كما ورد ذلك في اسم الإمام علي علیه السلام؛ فإنَّ أُمّه قد سمّته حيدرة أو حيدر، كما هو واضح

ص: 171


1- الزبيدي، محمد مرتضى، تاج العروس: ج6، ص261.
2- القندوزي، سليمان بن إبراهيم، ينابيع المودة لذوي القربى: ج3، ص77.
3- ابن أبي الحديد، عز الدين، شرح نهج البلاغة: ج15، ص213.

من أُرجوزته المعروفة:

أنا الذي سمّتني أُمّي حيدرة ***كليث غاب في العرين قسورة

أكيلكم بالصاع كيل السندرة(1)

3- ويُحتمل أيضاً أنَّ من الأعراف السائدة آنذاك، أنّ تسمية الولد - ابناً أو بنتاً - مختصة بالأُم دون الأب، فقد ورد في بعض المصادر، كما في تاريخ الطبري، حيث ذكر: «...فقال أبو حصين وهو يحدّثنا هذا: فبلغنا أنَّ فلاناً (الحجاج) قد أمّر على مكة... فقال: يا أبا حصين، قد - والله - فررت حتى استحييت من الله! سيجيئني ما كتب الله لي. قلت: أظنّك - والله - سعيداً كما سمّتك أُمك»(2)، أو أنّها من الاستعمالات المجازية التي وُصِف بها كلام العرب؛ لأنَّ الأُم هي مَن تلهج باسم وليدها في كلّ حالٍ وحين.

الأمر الثاني: ومن الأُمور التي نستفيدها من الرواية، أنَّ الحرّ لم يكن اسمه الحرّ فحسب، بل إنَّ الحسين علیه السلام قد نعته بهذه التسمية، فهي كانت صفة إضافة لتأكيد الاسم.

ولا يخفى على مَن يُدقق أنَّ في نعت الإمام علیه السلام للحر بهذه الصفة مداليل واعتبارات، فمن ضمنها:

1- إنّه متحرر من كلِّ أنواع التسلّط المفروضة من قِبل السلطة الحاكمة، أو من قِبل العرف الاجتماعي السائد حينئذٍ، وغير خاضع لها بالمقدار الذي يسلبه إرادته في اختيار ما هو على قناعة منه وما هو مؤمن به؛ فكان مستقلاً بآرائه وتوجهاته الاجتماعية والفكرية، بل حتى العسكرية كما سيأتي، ولم يكن ذيلاً من ذيول حكام بني أُميّة وأتباعهم على أمصار البلاد الإسلامية، ونحن نعلم أنَّ الأعراف الاجتماعية ورغبات الأُمراء وعقائدهم لها الدور الأكبر في تحديد سلوك الأفراد؛ لأنَّ الناس على دين ملوكهم كما يقال، فهو من هذه الناحية متحرر من هذه القيود.

2- التحرر من قيود النفس الأمّارة بالسوء والطامعة في ملذات الدنيا الزائلة، فعلى

ص: 172


1- الأصفهاني، أبو الفرج، مقاتل الطالبيين: ص14.
2- الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الطبري: ج6، ص488.

ما كان للحر من مقام اجتماعي رفيع حيث تذكر الروايات أنّه كان رئيساً في عشيرته وقائداً عسكرياً، كان الحرّ متحرراً منها، أو على أقل تقدير إنّه استطاع أن يصرع نفسه الأمّارة بالسوء وينحرها في ميدان المعركة عندما قال: إنّي أُخيّر نفسي بين الجنة والنار... كما سيأتي المزيد من البيان.

ثانيا: نسبه

يمكن حصر ثلاثة أقوال رئيسة في نَسب الحرّ بن يزيد الرياحي، وهي:

القول الأوّل: وهو قول ابن حزم، في جمهرة أنساب العرب، حيث ذكر: «...والحر بن يزيد بن ناجية بن قعنب بن عتاب الردف بن هرمي بن رياح بن يربوع، الذي بعثه عبيد الله بن زياد ليشغل الحسين بن علي (رضي الله عنهما) فمال إلى الحسين، فقُتل معه (رحمة الله عليه)»(1).

القول الثاني: ما ذكره البلاذري، في أنساب الأشراف، فقد قال: «الحر بن يزيد بن ناجية بن قعنب بن عتاب بن الحارث بن عمرو بن همام، الذي صار مع الحسين بن علي، وكان من قبلُ من أشدِّ الناس عليه، فقال له الحسين: أنت الحرّ في الدنيا والآخرة. وقُتل معه...»(2).

القول الثالث: قول الشيخ الطوسي، في رجاله، فذكر: «الحر بن يزيد بن ناجية بن سعيد، من بني رياح بن يربوع»(3).

أمّا بالنسبة للقول الأوّل والثاني؛ فهناك نوع من التعارض في بعض نسب الحر، فإنّ ابن حزم والبلاذري قد اتفقا في انتساب الحرّ إلى رياح بن يربوع من بني تميم، واختلفا في نسبه إلى أبناء رياح، فابن حزم أوصله إلى هرمي والبلاذري أوصله إلى همام، وكلاهما يتفقان على أنَّهما من أبناء رياح.

ص: 173


1- ابن حزم، علي بن أحمد، جمهرة أنساب العرب: ج1، ص227.
2- البلاذري، أحمد بن يحيى، أنساب الأشراف: ج12، ص159.
3- الطوسي، محمد بن الحسن، رجال الطوسي: ص100.
نقطة الاتفاق والاختلاف

ووجه الاختلاف الحقيقي يكمن في قعنب بن عتاب، فابن حزم يرى أنَّ قعنب بن عتاب غير قعنب بن عتاب الردف، والدليل أنّه يذكر نسب الأبرد بن المعذر بعد ذكره لنسب الحرّ حيث يقول: «والحر بن يزيد بن ناجية... والأبرد بن قرّة بن نعيم بن قعنب بن عتاب بن الحارث بن عمرو بن همام بن رياح بن يربوع، كان سيّداً»(1).

أمّا البلاذري، فيرى الشيء نفسه؛ حيث يذكر عتاب الردف، بقوله: «ومن بني رياح: عتاب بن هرمي بن رياح، وهو الردف، ردف للنعمان بن الشقيقة، وكانت الردافة أن يجلس الملك، فيجلس الردف عن يمينه...»(2)، إلّا أنّ نسب الحرّ عند ابن حزم يعود لعتاب الردف بن هرمي بن رياح، وعند البلاذري إلى عتاب بن الحارث بن عمرو بن همام بن رياح، ف-(عتاب) عند ابن حزم هو رديف النعمان، وهو غيره عند البلاذري.

أمّا قول الشيخ الطوسي، فإنّنا نحتمل التصحيف في سعيد؛ لاحتمال التقارب في اللفظ مع قعنب، فيكون هو قعنب بن عتاب الردف، وعلى أيّة حالٍ، فقول النسّابة يكون راجحاً على قول غيرهم.

أمّا أبوه، فهو يزيد بن قعنب، قال البلاذري: «...ومن وُلده يزيد بن قعنب بن عتاب كان فارساً»(3).

إلّا أنّه - كما قدّمنا - يذكر الحرّ وينسبه إلى يزيد بن ناجية بن قعنب، أي: هناك ناجية يتوسط بين يزيد وقعنب، وفي المسألة احتمالان:

الأوّل: إنّ جدّه ناجية بن قعنب، وهذا ما لا مستند له.

والثاني: إنّ (ناجية) اسم لأُمّه، لاحتمال ورود تسميتها في نسبه، وهو أمر تعارفت

ص: 174


1- ابن حزم، علي بن أحمد، جمهرة أنساب العرب: ج1، ص227.
2- البلاذري، أحمد بن يحيى، أنساب الأشراف: ج12، ص154.
3- المصدر السابق: ص159.

عليه العرب في الانتساب، وأمثلة ذلك كثيرة في تاريخ الأنساب والرجال، فقد ذكر البلاذري، في نسب غالب بن أُسامة قوله: «...وغالب بن سامة: أُمّه ناجية بنت جرم بن ربان، إليها نسب وُلد زوجها؛ فهم بنو ناجية. ولا عقب لغالب الذي هو ولد ناجية»(1)، وقد أوردنا هذا القول للمثال وليس المقصود من ناجية نفسه الوارد في ذكر نسب الحر.

فيكون اسم أبيه يزيد بن قعنب، كما نحتمل ذلك، والله العالم.

ثالثاً: كنيته

العَلَم ينقسم على ثلاثة أقسام: الاسم، والكنية، واللقب، أمّا الكنية فهي للتعظيم وتُستخدم للتعريف عن الذات في الحروب وغيرها من موارد ذكر الكنى، فقد ورد عن الإمام الكاظم علیه السلام، أنّه قال: «إذا حضر الرجل فكنّوه وإذا غاب فسمّوه»(2).

وأنّ كتب التاريخ نقلت اسم الحرّ دون كنيته، والمصادر تفتقر إلى أحوال الحرّ قبل واقعة الطفِّ، إلّا أنّ بعض المصادر ذكرت أنّ له ولداً اسمه علي(3)، استُشهد معه في كربلاء مع أخيه مصعب بن يزيد، فإذا كان الغالب من كنية الرجل بابنه؛ فتكون كنيته أبو علي، إذا ثبت أنَّ لديه ولداً في واقعة الطفِّ. وعلى كلِّ حالٍ فتسميته الحرّ هي الغالبة على كنيته أو لقبه.

رابعاً: عمره

لم تذكر المصادر الرئيسة التي ذكرت أصحاب الإمام الحسين علیه السلام عمر الحرّ بن يزيد الرياحي، إلّا أنَّ صاحب كتاب أنصار الحسين علیه السلام، يقول: «...إنّ الحرّ يبدو إلى الشباب أقرب»(4)، ولم يذكر أمارة هذا القول، إلّا أنّنا نستبعد ذلك من عدّة وجوه، ولأجل

ص: 175


1- ابن حزم، علي بن أحمد، جمهرة أنساب العرب: ج1، ص173.
2- النوري، ميرزا حسين، مستدرك الوسائل: ج8، ص321.
3- ذكره شمس الدين في أنصار الحسين علیه السلام: ص84، بقوله: «وتحوله إلى صفوفها أثَّر على موقف ابنه علي بن الحر، وأخيه مصعب بن يزيد، وغلامه عروة». وذكره الشاهرودي في مستدركات علم الرجال: ج5، ص325، بقوله: «علي بن الحرّ بن يزيد الرياحي لم يذكروه، هو شهيد الطفّ، كما ذكره في الناسخ وغيره».
4- شمس الدين، محمد مهدي، أنصار الحسين علیه السلام: ص85.

الاختصار سنذكر اثنين:

الأوّل: إنَّ قيادته العسكرية لجيش قوامه ألف فارس تتطلب الخبرة الميدانية، والتي لا يمكن أن تتأتى له خلال مدّة قصيرة من عمره، ومَن يملك هذه الأهمية في صدارة الجيش لملاقاة الإمام الحسين علیه السلام لا بدَّ أن يتمتع إضافة إلى الحنكة العسكرية بالمنطق والرأي السديد والناضج؛ ليحمل على عاتقه إنجاح هذه المهمّة على أتمّ وجه، خاصّة وأنَّ مهمّته - كما سيأتي - لم تكن قتال الحسين بمجرد ملاقاته، بل كان مأموراً بأن يُجعجع بالحسين علیه السلام.

ولدينا كلام في ذلك، فهل كانت مهمته الجعجعة بالحسين علیه السلام، أو لا؟ وسيأتي بيانه لاحقاً.

وعلى كلّ حالٍ، فنحن لا نحتمل كونه إلى الشباب أقرب لأجل ما بيّنا.

الثاني: استفاضة الأخبار الدالة على أنّ الحرّ كان شريفاً ورئيساً على قومه من بني رياح، حيث إنّ صاحب الإبصار قد أشار إلى ذلك بقوله: «...التميمي اليربوعي الرياحي. كان الحرّ شريفاً في قومه جاهليةً وإسلاماً»(1)، وإنَّ دلالة «جاهليةً وإسلاماً» - وإن كان لعلّه وصف مجازي؛ لأجل التشريف والتعظيم - يدلُّ على العمر الطويل، وأنَّ له الباع والخبرة في الحياة الاجتماعية الميدانية، فضلاً عن قيادة العسكر كما قدّمنا.

خامساً: شجاعته

قال أبو مخنف(2): «حدّثني النضر بن صالح أبو زهير العبسي: أنّ الحرّ بن يزيد ل-مّا

ص: 176


1- السماوي، محمد، إبصار العين في أنصار الحسين علیه السلام: ص203.
2- لوط بن يحيى بن سعيد بن مخنف بن سالم الأزدي الغامدي، أبو مخنف، شيخ أصحاب الأخبار بالكوفة ووجههم، وكان يُسكن إلى ما يرويه، روى عن جعفر بن محمد علیهما السلام... وصنّف كُتباً كثيرةً، منها: كتاب المغازي، كتاب السقيفة، كتاب الردّة، كتاب فتوح الإسلام، كتاب فتوح العراق، كتاب فتوح خراسان، كتاب الشورى، كتاب قتل عثمان، كتاب الجمل، كتاب صفّين، كتاب النهر، كتاب الحكمين، كتاب الغارات، كتاب مقتل أمير المؤمنين علیه السلام، كتاب قتل الحسن علیه السلام، كتاب قتل الحسين علیه السلام، كتاب مقتل حجر بن عدي، كتاب أخبار زياد، كتاب أخبار المختار. اُنظر: النجاشي، أحمد بن علي، فهرست أسماء مصنفيّ الشيعة: ص320.

لحق بحسين، قال رجل من بني تميم من بنى شقرة - وهم بنو الحارث بن تميم - يقال له: يزيد بن سفيان: أما والله، لو أنّي رأيت الحرّ بن يزيد حين خرج لأتبعته السنان. قال: فبينا الناس يتجاولون ويقتلون والحر بن يزيد يحمل على القوم مُقدماً ويتمثّل قول عنترة:

ما زلت أرميهم بثغرة نحره***ولبانه حتى تسربل بالدم

قال: وإنّ فرسه لمضروب على أُذنيه وحاجبه، وإنَّ دماءه لتسيل، فقال الحصين بن تميم: وكان على شرطة عبيد الله، فبعثه إلى الحسين وكان مع عمر بن سعد، فولّاه عمر مع الشرطة المجففة ليزيد بن سفيان: هذا الحرّ بن يزيد الذي كنت تتمنّى. قال: نعم. فخرج إليه فقال له: هل لك يا حر بن يزيد في المبارزة ؟ قال: نعم قد شئت. فبرز له، قال: وأنا سمعت الحصين بن تميم يقول: والله، لبرز له فكأنّما كانت نفسه في يده، فما لبثه الحرّ حين خرج إليه أن قتله»(1)، وهذا النص يُبيّن لنا موقف الرجال من الحرّ بن يزيد الرياحي، وما مدى شجاعته في ساحات القتال، ولعلّه من أبرز ما يميّز القادة في جيوش الدولة الإسلامية.

إلّا أنّ الشجاعة الحقيقية التي أرادها الإسلام بتعاليمه السماوية السمحة وقيمه النبيلة، هي الوقوف بوجه الباطل بكلِّ صوره، ومنها النفس الأمّارة بالسوء التي تُمثّل أعدى أعداء الإنسان في طريق الكمال، ومن الشجاعة كذلك قول الحقِّ ولو عند حاكم جائر، وهذا ما جسّده الحرّ بأروع معانيه في مواقفه النبيلة مع الحسين علیه السلام، ثمّ في توبته بين يدي الحسين علیه السلام، وبعدها في خطبته، ثمّ ختم رسالته بدم شهادته الطاهر.

المحور الثاني: حركة الحرّ العسكرية، وما جرى من أحداث (خروجه وملاقاته للحسين علیه السلام)
اشارة

سنتحدث في هذا المحور عن عدّة مواضيع، تتلخّص بحركة الحرّ العسكرية، والمهمة التي وقعت على عاتقه لقتال الإمام الحسين علیه السلام، وكيف التقى بالإمام علیه السلام، وأهمّ المحاورات التي جرت بينهما، وسيكون اعتمادنا في هذا المحور على جهتين رئيستين:

ص: 177


1- الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الطبري: ج4، ص330.
الجهة الأُولى: خروجه من الكوفة

ونعني بها بداية المهمة العسكرية للحر بن يزيد الرياحي لملاقاة الحسين علیه السلام، وإذا لاحظنا الروايات والأخبار الواردة في كيفية خروج الحرّ من الكوفة، وكيف أنّه كان مرتبطاً بها عسكرياً؟ ومن أين يتسلّم الأوامر والتوجيهات فيها؟ فإنّنا نراها - أي: الروايات - تنقسم على ثلاثة أقسام، وكما يأتي:

القسم الأوّل: هناك أخبار تتحدث عن خروج الحرّ في ألف فارس لملاقاة الحسين علیه السلام، بأمر من عبيد الله بن زياد؛ فقد روى ذلك القاضي النعمان، في أثناء سرده لكيفية مقتل الحسين علیه السلام، وأهمّ المقدّمات التي كانت لأجل قتله، من خلال يزيد (لعنه الله)، فقال: «... وأرسل الحرّ بن يزيد الحنظلي [اليربوعي] في خيل، فلقيَ الحسين علیه السلام بكربلاء، فتوافقا، وأرسل عبيد الله بن زياد بعد ذلك عمر بن سعد بن أبي وقاص في عسكر جحفل، وعُدّة عتيدة. فوافى الحسين علیه السلام، وقد وافقه الحرّ بالطفِّ من كربلاء، ولم يكن بينهما قتال»(1).

وقد روى الصدوق كذلك، بإسناده عن الإمام الصادق علیه السلام، فقال: «...وبلغ عبيد الله بن زياد (لعنه الله) الخبر، وأنَّ الحسين علیه السلام قد نزل الرهيمة، فأسرى إليه الحرّ بن يزيد في ألف فارسٍ...»(2)، وقد روى المجلسي في البحار مثله(3).

وهذه الروايات تُشير إلى أنَّ الحرّ قد خرج من الكوفة بأمر من عبيد الله بن زياد؛ الأمر الذي يتطلّب أن تكون مهمّة الحرّ واضحةً وبتوجيه مباشر من ابن زياد، وهذه المهمّة، إمّا أن تكون الجعجعة بالحسين علیه السلام في كربلاء وعدم السماح له بالتوجه إلى مكان آخر، كما هو مضمون رواية القاضي، أو قتال الحسين علیه السلام.

ويمكن أن نُبيّن أمرين في ذلك:

ص: 178


1- القاضي المغربي، النعمان بن محمد، شرح الأخبار: ج3، ص148- 149.
2- الصدوق، محمد بن علي، الأمالي: ص 218- 219.
3- المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج44، ص314.

الأمر الأول: في مهمّة الجعجعة بالحسين علیه السلام، فإنّ الكتاب الذي أمر الحرّ بأن يُجعجع بالحسين علیه السلام قد وصل للحر في كربلاء، وما يدلُّ على ذلك، قول الدينوري: «...وسار الحسين علیه السلام من قصر بني مقاتل، ومعه الحرّ بن يزيد، كلّما أراد أن يميل نحو البادية منعه، حتى انتهى إلى المكان الذي يُسمّى: (کربلاء)، فمال قليلاً متيامناً حتى انتهى إلى (نينوى)، فإذا هو براكب على نجيب، مقبل من القوم، فوقفوا جميعاً ينتظرونه. فلمّا انتهى إليهم سلّم على الحر، ولم يُسلّم على الحسين. ثمّ ناول الحرّ كتاباً من عبيد الله بن زياد، فقرأه، فإذا فيه: أمّا بعد، فجعجع بالحسين بن علي وأصحابه»(1)، فما معنى وصول كتاب ابن زياد إلى الحرّ في كربلاء، إذا كان الحرّ قد خرج بأمر ابن زياد؟

إلّا أنّه يمكن القول: إنّ الأخبار التي وصلت لابن زياد، تُبيّن أنَّ موقف الحرّ من الحسين علیه السلام لم يكن كما ينبغي، ولم يكن وفق مخطط ابن زياد، ويمكن القول: إنّه تزامن نزول الحسين علیه السلام بكربلاء ووصول كتاب ابن زياد إلى الحر، هذا بالنسبة لما يتناسب مع رواية القاضي النعمان، وتصريح الدينوري.

الأمر الثاني: إنَّ القول بأنَّ الحرّ مأمور بقتال الحسين علیه السلام بعيد؛ لأنَّ الحرّ لم يكن معه سوى ألف فارس، في حين أنَّ ابن زياد كان عازماً على أكثر من هذا العدد بثلاثين ضعفاً؛ لأنّه يعتبرها حاسمة، فضلاً عن أنّه يخاف من الإمام الحسين علیه السلام، وكان يخطط لقمع احتمال انتفاضة الكوفيين عليه؛ فإنّه يكون قد هيأ العُدّة والعدد المناسبين لكلّ هذه الاحتمالات، فلم يكن عبيد الله ليجازف بهذا المقدار من العدد، وإن كان عدد مَن كان مع الحسين علیه السلام قليلاً جداً لا يتعدى المئة، وقد ورد في البحار، رغبة ابن زياد بهذا العدد: «...وقال: أحبُّ أن تشخص إلى قتال هذا الرجل عوناً لابن سعد عليه، فقال: أفعل أيّها الأمير، فما زال يرسل إليه بالعساكر حتى تكامل عنده ثلاثون ألفاً ما بين فارس وراجل»(2).

ص: 179


1- الدينوري، أحمد بن داود، الأخبار الطوال: ص251.
2- المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج44، ص386.

القسم الثاني: وهي الروايات التي تروي بأنَّ الحرّ وجيشه الذي قوامه ألف فارس كان في مقدمة أو طليعة الجيش الذي بعثه عبيد الله بن زياد؛ لقطع الطريق على الحسين علیه السلام بإمرة الحصين بن نُمير التميمي، والذي كان قائداً على شرطة بن زياد، فقد نقل هذا الأمر الطبري، فقال:«...وكان مجيء الحرّ بن يَزِيدَ ومسيره إلى الحسَين من القادسية، وذلك أنَّ عُبَيْد الله بن زياد لمّا بلغه إقبال الحسين بعث الحصين بن نُمير التميمي - وكان على شرطه - فأمره أن ينزل القادسية، وأن يضع المسالح فينظم ما بين القطقطانة إلى خفان، وقدّم الحرّ بن يزيد بين يديه في هذه الألف من القادسية، فيستقبل حسيناً. قال: فلم يزل موافقاً حسيناً حتّى حضرت الصلاة... فقال الحر: فإنّا لسنا من هؤلاء الذينَ كتبوا إليك، وقد أُمرنا إذا نحن لقيناك ألّا نفارقك حتّى نُقدمك على عُبَيْد الله بن زياد... فإذا أبيت فخذ طريقاً لا تدخلك الكوفة، ولا تردّك إلى المدينة...»(1)، ومثله ما رواه الشيخ المفيد في الإرشاد، بقوله: «..وكان مجيء الحرّ بن يزيد من القادسية، وكان عبيد الله بن زياد بعث الحصين بن نمير وأمره أن ينزل القادسية، وتقدّم الحرّ بين يديه في ألف فارس يستقبل بهم حسيناً... وقد أُمرنا إذا نحن لقيناك، ألّا نفارقك حتى نُقدمك الكوفة على عبيد الله»(2).

والملاحظ من مجموع الروايات في هذا القسم؛ أنَّ الحرّ في طليعة جيش الحصين بن نمير، الذي كان على شرطة ابن زياد، ومأمور بأن يضع المسالح ويقطع الطريق على الحسين علیه السلام، وقدم الحصين بن نمير الحرّ في ألف فارس.

أمّا طبيعة مهمّة الحر؛ فإنّ رواية الطبري والمفيد تُشير إلى أنّ مهمّته أن يُقدم بالحسين علیه السلام إلى الكوفة، أي: إلى ابن زياد، والغريب أنّ لقاء الحرّ بالحسين علیه السلام بحسب رواية الطبري كان في عذيب الهجانات، وهي منطقة تبعد عن القادسية ثلاثة أميال، حيث يوجد الحصين بن نمير وفرقته التي قوامها أربعة آلاف فارس، فما الذي منع الحرّ من أن يتوجه بالحسين علیه السلام إلى الحصين بن نمير وهو تحت إمرته، ومأمور بأن يُقدم

ص: 180


1- الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الأُمم والملوك: ج5، ص301- 303.
2- المفيد، محمد بن محمد، الإرشاد: ج2، ص78- 80.

بالحسين علیه السلام إلى الكوفة وفي هذا الطريق مسالح الحصين بن نمير وفرقته؟ فما الذي جعل الإمام الحسين علیه السلام ينعطف بمسيره من عذيب الهجانات ليتوجّه إلى كربلاء؟

والذي يقرّب الأمر ويكون بمثابة الجواب أنّ الحرّ هو مَن أخبر الحسين علیه السلام بهذه التهيئة، وأشار إليه بها ولو ضمناً بقوله للحسين علیه السلام: «...فخذ طريقاً لا تُدخلك الكُوفَة، وَلا تردّك إلى المدينة...». كما في رواية الطبري، فهي إشارة واضحة من الحرّ للحسين علیه السلام فيها نوع من التورية، فَهِم منها الحسين علیه السلام مراد الحرّ وما هو مُعدٌّ له في حال سلوكه طريق الكوفة.

القسم الثالث: في هذا القسم من الروايات الإشارة إلى أنّ الحرّ التقى بالحسين علیه السلام، وأنّه جاء بألف فارس، ولم تذكر أنّه مرسل من ابن زياد، أو أنّه كان في طليعة جيش الحصين بن نمير، حيث إنَّ الطبري أورد هذا الأمر من خلال رواية عمار الدهني لمقتل الإمام الحسين علیه السلام، فذكر: «...حدّثنا عمار الدهني، قال: قلت لأبي جعفر: حدّثني عن مقتل الحسين حتّى كأنّي حضرته... قال: فأقبل حسين بن علي بكتاب مسلم بن عقيل كان إليه، حتّى إذا كان بينه وبين القادسية ثلاثة أميال، لقيه الحرّ بن يزيد التميمي، فقال له: أين تريد؟ قال: أريد هذا المصر، قال له: ارجع؛ فإنّي لم أدع لك خلفي خيراً أرجوه...»(1).

وفي الإصابة لابن حجر، قال: «...ولم يبلغ الحسين ذلك حتى كان بينه وبين القادسيّة ثلاثة أميال، فلقيه الحرّ بن يزيد التميمي، فقال له: ارجع؛ فإنّي لم أدع لك خلفي خيراً، وأخبره الخبر، فهمّ أن يرجع»(2).

ولعدم وضوح الجهة الآمرة، ولعدم بيان هل أنَّ هناك من أمر بذلك أو لا؟ فإنّنا نُورد ما يلي:

1- إنَّ عدم بيان الجهة التي أمرت الحرّ بالخروج لملاقاة الحسين علیه السلام يعطي دلالة على

ص: 181


1- الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الأُمم والملوك: ج4، ص292.
2- ابن حجر، أحمد بن علي، الإصابة في تمييز الصحابة: ج2، ص71.

عدم وضوح مهمّة الحرّ بالنسبة إلى حركة الحسين علیه السلام، فضلاً عمَّا ورد في الروايتين، فقول الحرّ للحسين علیه السلام في رواية الطبري: «...ارجع؛ فإنّي لم أدع لك خلفي خيراً أرجوه...». دليل على أنَّ الحرّ لم يكن يريد للحسين علیه السلام إلّا الخير.

وكذلك الأمر في رواية ابن حجر، التي يُضيف إليها قوله: «فأخبره الخبر»، وهو خبر وجود الحصين بن نمير على طريق الكوفة؛ الأمر الذي جعل الحسين علیه السلام، يأخذ طريقاً آخر؛ فتوجه إلى كربلاء.

2- أو نحتمل وجود خبر آخر لم يكن لأحد أن يطلع عليه، ولعلّ قائلاً يقول: إنَّ مجرد ذكر خروج الحرّ لملاقاة الحسين علیه السلام من الكوفة كافٍ إجمالاً في بيان هذه الحقيقة - وهي أنّه كان مأموراً بأن يأتي للحسين علیه السلام، ويقاتله أو يُجعجع به - ولا ضرورة إلى ذكر الجهة التي أمرت الحرّ بالخروج، أو أنّ ذكر بعض الروايات كافٍ في تحديد الجهة التي أمرت الحرّ بذلك، كما في القسم الأوّل أو الثاني، أو مع ضمّ القسمين معاً تكون فيها الكفاية؛ فإنّها بطبيعة الحال تُبيّن الجهة إجمالاً، ولا داعي للتفصيل.

وفي مقام الجواب عن هذا التساؤل والاعتراض، نذكر عدّة نقاط:

الأولى: إنَّنا وإن كنّا نُشكك في تحديد الجهة التي أصدرت الأمر للحر بالخروج، إلّا أنّنا لا نُنكر خروجه أصلاً، فنحن نُؤكد على خروج الحرّ من الكوفة لملاقاة الحسين علیه السلام، إلّا أنَّ الاحتمال الذي أوردناه هو في تحديد الجهة التي أمرت الحرّ بالخروج؛ لأنَّ ذلك سينعكس بشكل مباشر على تحديد مهمّة الحرّ التي اختلفت الروايات في تحديدها، وكذلك اختلاف موقف الحرّ تجاه حركة الحسين علیه السلام.

الثانية: إنَّ احتمال عدم وضوح الجهة التي أصدرت الأمر للحر بالخروج لملاقاة الحسين علیه السلام، وارد جداً للتعارض بين روايات القسم الأوّل والثاني، فضلاً عن عدم ذكر الجهة أصلاً في القسم الثالث، وهذا الاحتمال يُبطل الاستدلال ويسقطه عن حجية الاعتبار؛ الأمر الذي يجعل سبب خروج الحرّ لملاقاة الحسين علیه السلام - وتحديد موقف الحرّ من حركة الحسين علیه السلام - غير واضح؛ وعليه سوف تختلف طبيعة مواقف الحرّ، وكذلك

ص: 182

سيختلف التحليل نتيجةً لهذه التعارضات، خاصّةً في القسم الثاني من الروايات الذي يُؤكد كونه في طليعة جيش الحصين بن نمير، ولم يكن يبعد عن القادسية، حيث كان الحصين بن نمير يضع مسالحه على بعد بضعة أميال؛ الأمر الذي تحصّل منه أنَّ الحرّ كان سبباً في انعطاف الحسين علیه السلام عن اللقاء بالحصين بن نمير، كما أنَّ تصور نتيجة لقاء الحسين علیه السلام وركبه بجيش الحصين بن نمير غير عصية على أدنى متأمل، وهو الذي حال دون حدوثه الحرّ، فهو لم يكن مرتبطاً بالحصين بن نمير وتابعاً لتوجيهاته فعليّاً.

الثالثة: إنَّ رواية الطبري - في القسم الثالث - تُشير إلى أنَّ الحرّ يسأل الحسين علیه السلام، بقوله: أين تريد؟ ورواية ابن حجر بقوله: وأخبره الخبر. فهذه الطائفة من الروايات، وبحسب أقوال الحرّ في الخبرين، تُشير إلى عدم وجود علاقة فعلية للحر بأمير الكوفة عبيد الله بن زياد، كما هو حال القسم الأوّل من الروايات، أو الحصين بن نمير كما في القسم الثاني.

الجهة الثانية: ملاقاة الحرّ للحسين علیه السلام

اختلفت الروايات في تحديد مكان لقاء الحرّ وجيشه بالحسين علیه السلام عند دخوله إلى أرض العراق، حيث ذكر الطبري في تاريخه روايتين، في هذا الصدد:

الرواية الأُولى: فقد ذكر الطبري: «...أقبل الحسين علیه السلام حتّى نزل شراف، فلمّا كان في السّحر أمر فتيانه فاستقوا من الماء فأكثروا،...ثمّ إنّ رجلاً قال: الله أكبر! فقال الحسين: الله أكبر ما كبّرت؟ قال: رأيت النّخل. فقال له الأسديّان: إنّ هذا المكان ما رأينا به نخلةً قطّ. قالا: فقال لنا الحسين: فما تريانه رأى؟ قلنا: نراه رأى هوادي الخيل. فقال: وأنا - والله - أرى ذلك. فقال الحسين: أما لنا ملجأٌ نلجأ إليه، نجعله في ظهورنا، ونستقبل القوم من وجهٍ واحدٍ؟ فقلنا له: بلى، هذا ذو حُسم إلى جنبك، تميل إليه عن يسارك، فإن سبقت القوم إليه فهو كما تريد... قال: فاستبقنا إلى ذي حُسم، فسبقناهم إليه، فنزل الحسين، فأمر بأبنيته فضربت، وجاء القوم وهم الف فارسٍ مع الحرّ بن يزيد التّميميّ

ص: 183

اليربوعيّ حتّى وقف هو وخيله مقابل الحسين في حرّ الظّهيرة، والحسين وأصحابه معتمّون متقلّدو أسيافهم، فقال الحسين لفتيانه: اسقوا القوم وارووهم من الماء ورشّفوا الخيل ترشيفاً. فقام فتيانه فرشّفوا الخيل ترشيفاً، فقام فتيةٌ وسقوا القوم من الماء حتّى أرووهم، وأقبلوا يملؤون القصاع والأتوار والطّساس من الماء ثمّ يدنونها من الفرس...»(1).

أي: إنَّ لقاء الحرّ بالحسين علیه السلام كان في ذي حُسم، وهي منطقة إمّا جبلية، أو وادٍ فيه ماء، لقول الحسين علیه السلام: «...أما لنا ملجأٌ نلجأ إليه، نجعله في ظهورنا، ونستقبل القوم من وجهٍ واحدٍ؟ فقلنا له: بلى، هذا ذو حُسم إلى جنبك، تميل إليه عن يسارك، فإن سبقت القوم إليه فهو كما تريد...». فأراد الحسين علیه السلام من هذا المكان أن يسدَّ عليهم جهة ظهورهم فيستقبلون القوم من جهةٍ واحدةٍ، وذو حُسم منطقة تبعد عن عذيب الهجانات - التي هي قريبة من القادسية، كما سيأتي - ثمانية وثلاثين ميلاً بحسب رواية الطبري، وذكرها البكري بقوله: «... ذو حُسم بضمِّ أوّله وثانيه، وبالميم: وادٍ بنجد... وقال الخليل: حُسم وحاسم: موضع بالبادية... فأعلم أنَّ أعلاه قفر غامر، وأسفله نخل عامر»(2).

إلّا أنَّ الطبري، وفي روايةٍ ثانيةٍ، يقول: «...حدّثنا عمار الدهني، قال:... فأقبل حسين بن علي بكتاب مسلم بن عقيل كان إليه حتى إذا كان بينه وبين القادسية ثلاثة أميالٍ لقيه الحرّ بن يزيد التميمي...»(3).

وبحسب هذه الرواية؛ فإنّ لقاء الحرّ بالحسين علیه السلام، كان قبل القادسية بثلاثة أميال، وهي منطقة عذيب الهجانات أو الرهيمة.

وأنَّ الصدوق في أماليه ذكر هذا المكان أيضاً، فقال: «... ثمّ سار حتى نزل العذيب... ثمّ سار حتى نزل الرهيمة... قال: وبلغ عبيد الله بن زياد (لعنه الله) الخبر،

ص: 184


1- الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الأُمم والملوك: ج4، ص302.
2- البكري، عبد الله بن عبد العزيز، معجم ما استُعجم: ج2، ص446.
3- الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الأُمم والملوك: ج5، ص 389.

وأنَّ الحسين علیه السلام قد نزل الرهيمة، فأسرى إليه الحرّ بن يزيد في ألف فارس...»(1).

وهذان الموضعان يدعمان الروايات القائلة: إنَّ الحرّ كان في طليعة جيش الحصين بن نمير الذي نزل القادسية وسدَّ الطرق المؤدية إلى الكوفة؛ مكوّناً بذلك طوقاً أمنيَّاً لسدِّ الطريق على الحسين علیه السلام أو أخذه إلى عبيد الله بن زياد؛ الأمر الذي حال دون وقوعه الحر؛ لأنَّ الرهيمة أو منطقة العذيب قريبتان من القادسية، ولا تبعدان عنها سوى بضعة أميال.

محاورة الإمام الحسين علیه السلام مع الحرّ

ومن المناسب في هذا المحلّ أن نفرد رواية الطبري المفصّلة التي بيّنت ما دار بين الحرّ والإمام الحسين علیه السلام من محاورة، لعلّنا نقف على بعض الحقائق التي تفيدنا في المقام، فقد روى الطبري في تاريخه، قائلاً: «...وقدم الحرّ بن يزيد بين يديه في هذه الألف من القادسية، فيستقبل حسيناً، قال: فلم يزل موافقاً حسيناً حتّى حضرت الصّلاة - صلاة الظهر- فأمر الحسين الحجاج بن مسروق الجعفي أن يؤذن... وقالوا للمؤذن: أقم. فأقام الصّلاة، فقال الحسين علیه السلام للحر: أتريد أن تصلي بأصحابك؟ قال: لا، بل تصلّي أنت ونصلي بصلاتك. قال: فصلّى بهم الحسين.

ثمّ إنّه دخل واجتمع إليه أصحابه، وانصرف الحرّ إلى مكانه الّذي كان به، فدخل خيمة قد ضربت له، فاجتمع إليه جماعة من أصحابه... فلمّا كان وقت العصر أمر الحسين أن يتهيؤوا للرحيل. ثمّ إنّه خرج فأمر مناديه فنادى بالعصر، وأقام فاستقدم الحسين فصلّى بالقوم ثمّ سلّم، وانصرف إلى القوم بوجهه فحمد الله وأثنى عليه، ثمّ قال: أمّا بعد، أيّها النّاس، فإنّكم إن تتقوا وتعرفوا الحقّ لأهله يكن أرضى لله، ونحن أهل البيت أولى بولاية هذا الأمر عليكم من هؤلاء المدعين ما ليس لهم، والسائرين فيكم بالجور والعدوان، وإن أنتم كرهتمونا، وجهلتم حقنا، وكان رأيكم غير ما أتتني كتبكم، وقدمت به عليّ رسلكم، انصرفت عنكم، فقال له الحرّ بن يزيد: إنّا - والله - ما ندري ما

ص: 185


1- الصدوق، محمد بن علي، الأمالي: ص 218.

هذه الكتب الّتي تذكر! فقال الحسين: يا عقبة بن سمعان، أخرج الخرجين اللذين فيهما كتبهم إليّ. فأخرج خرجين مملوئين صحفاً، فنشرها بين أيديهم، فقال الحر: فإنّا لسنا من هؤلاء الّذين كتبوا إليك، وقد أمرنا إذا نحن لقيناك ألّا نفارقك حتّى نقدمك على عبيد الله بن زياد، [فقال له الحسين: الموت أدنى إليك من ذلك]، ثمّ قال لأصحابه: قوموا فاركبوا. فركبوا وانتظروا حتّى ركبت نساؤهم، فقال لأصحابه: انصرفوا بنا، فلمّا ذهبوا لينصرفوا حال القوم بينهم وبين الانصراف، فقال الحسين للحر:

ثكلتك أمّك! ما تريد؟ قال: أما والله، لو غيرك من العرب يقولها لي وهو على مثل الحال الّتي أنت عليها ما تركت ذكر أمّه بالثكل أن أقوله كائناً من كان، ولكن - والله - ما لي إلى ذكر أمّك من سبيل إلّا بأحسن ما يقدر عليه. فقال له الحسين: فما تريد؟ قال الحر: أريد - والله - أن أنطلق بك إلى عبيد الله بن زياد. قال له الحسين: إذن - والله - لا أتبعك.

فقال له الحر: إذن - والله - لا أدعك. فترادا القول ثلاث مرات، ولمّا كثر الكلام بينهما قال له الحر: إنّي لم أؤمر بقتالك، وإنمّا أمرت ألّا أفارقك حتّى أقدمك الكوفة، فإذا أبيت فخذ طريقاً لا تدخلك الكوفة، ولا تردّك إلى المدينة، لتكون بيني وبينك نصفاً حتّى أكتب إلى ابن زياد، وتكتب أنت إلى يزيد بن معاوية إن أردت أن تكتب إليه، أو إلى عبيد الله بن زياد إن شئت، فلعلّ الله إلى ذاك أن يأتي بأمر يرزقني فيه العافية من أن ابتلى بشيء من أمرك. قال: فخذ هاهنا فتياسر عن طريق العذيب والقادسية، وبينه وبين العذيب ثمانية وثلاثون ميلاً. ثمّ إنّ الحسين سار في أصحابه والحر يسايره»(1).

إلّا أنّنا إذا دققنا في مطلع رواية الطبري، حيث يقول الراوي: «...فلم يزل موافقاً حسيناً حتى حضرت صلاة الظهر»؛ أي: بعد أن سقى أصحاب الحسين علیه السلام الحرّ وجيشه وسقوا دوابهم، نجد أنّه لم تكن هناك أيّ: محاورةٍ بين الحرّ والإمام الحسين علیه السلام إلى وقت الصلاة، وهو أمر غريب، فأين هي مهمّة الحر؟! وأين المبعوث المأمور بأن يأتي بالحسين علیه السلام إلى ابن زياد؟! وبعد حضور صلاة الظهر، صلّى الحرّ وأصحابه خلف

ص: 186


1- الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الأُمم والملوك: ج4، ص303- 304.

الإمام الحسين علیه السلام، وإلى الآن فإن الراوي لم يذكر لنا أيّ شيءٍ لافت للنظر يُبيّن موقف الحرّ تجاه الإمام الحسين علیه السلام.

لقد صلّى الحسين علیه السلام بأصحابه وبالحر ومَن معه، وقام خاطباً فيهم، فيعتذر إلى الله وإليهم من قدومه؛ لأنّه كان بحسب طلبهم وتوقيتهم ربما، ومع هذا فبعد الخطبة وإشارة الحسين علیه السلام إلى طلبهم بقدومه، لم يكن هنالك كلام من الحرّ للإمام الحسين علیه السلام.

وبعدما انصرفوا وحان وقت صلاة العصر أمر الإمام الحسين علیه السلام أن يتهيَّؤوا للرحيل، إلّا أنّه هل أمر أصحابه فقط أو الجميع؟ وهذا ما لم يُبينه الراوي، ثمّ قام خطيباً ثانياً وكرر المضمون نفسه.

وبعدها تكلّم الحر، فأخبرهم بعدم علمه بهذه الكتب، وأنّه لم يكتب أيَّ كتابٍ للحسين علیه السلام، وهو أمر طبيعي؛ لأنَّ هذه الكتب كان لها طابعٌ سرّي لخطورة الموقف، وإذا لم يكن الحرّ ممَّن كتب للحسين علیه السلام، والحسين يعلم بمَن كتب له، فما معنى أن يعرض هذه الكتب ويحتجَّ بها على الحر؟

فلمّا أراد الحسين علیه السلامالانصراف - بحسب تعبير الراوي ولا نعلم أين يُريد الراوي للحسين علیه السلام أن ينصرف - حال القوم بينه وبين الانصراف، ودار الكلام بين الحرّ والإمام علیه السلام، والذي يتبيّن منه أنّه كان ذا طابع عدائي بين الطرفين، وهو الأمر الذي انتهى بالحر إلى أن يحول بين جهة انصراف الحسين علیه السلام - وهي المدينة بحسب الرواية - وبين الكوفة حيث كان الحرّ مأموراً بأن يأتي بالحسين علیه السلام إليها؛ وبسبب ذلك أعطى الحرّ للإمام الحسين خياراً وسطياً ووحيداً، وهو التوجه إلى جهة غير الكوفة والمدينة، ولعل ذلك يتعين بالاتجاه إلى كربلاء، حيث المصرع الذي اختاره الله للحسين علیه السلام وأتباعه، ومنهم الحر.

وهنا تذكر الرواية أنَّ الحرّ كتب لعبيد الله بن زياد، يطلب فيه الحلول؛ لأنَّ الحسين علیه السلام امتنع عن مرافقة الحر، والحر لم يكن مأموراً بقتاله، لكن الرواية تُؤكد على أنَّهم في هذه الحالة وصلوا لعذيب الهجانات، ومنها حصل تغيير مسار الحركة، ولم يكن

ص: 187

بين هذه المنطقة وبين القادسية سوى ثلاثة أميال بحسب الرواية، وكان هناك الحصين بن نمير، ولم يكن للحر أيّ قولٍ تجاه الحصين، وكان بإمكانه أن يستوقف الحسين علیه السلام ويبعث للحصين، وهذا ما لم يحصل، وسار الحسين علیه السلام وركبه برفقة الحرّ وجماعته حتى وصلوا إلى كربلاء.

فأتى جواب عبيد الله بن زياد للحر، بكتاب يقول فيه: «...أَمَّا بَعْدُ، فجعجع بالحسين حين يبلغك كتابي، ويقدم عَلَيْك رسولي، فلا تنزله إلّا بالعراء فِي غير حصن وعلى غير ماء، وَقَدْ أمرت رسولي أن يلزمك وَلا يفارقك حَتَّى يأتيني بإنفاذك أمري، والسلام»(1).

والسؤال الذي يهمنا هنا - باعتبار أنَّ كربلاء أرض اختارها الحسين علیه السلام- هو: هل اختارها قبل وصول كتاب ابن زياد للحر، أو اختارها الحرّ بعد وصول هذا الكتاب؟

يقول الطبري في الرواية نفسها: «... فقال له زهير بن القين: يا بن رسول الله، إنّ قتال هؤلاء أهون من قتال من يأتينا من بعدهم، فلعمري ليأتينا من بعد من ترى ما لا قبل لنا به، [فقال له الحسين: ما كنت لأبدأهم بالقتال] فقال له زهير بن القين: سر بنا إلى هذه القرية حتى تنزلها فإنّها حصينة، وهي على شاطئ الفرات، فإن منعونا قاتلناهم، فقتالهم أهون علينا من قتال من يجيء من بعدهم، فقال له الحسين: وأيّة قريةٍ هي؟ قال: هي العقر، فقال الحسين: اللّهمّ، إنّي أعوذ بك من العقر، ثمّ نزل...»(2).

فللقارئ هنا أن يُجيب عن هذا التساؤل بعد هذه الرواية؛ بأنّ نزول الإمام علیه السلام بكربلاء ليس له علاقة بكتاب ابن زياد أساساً، ولا الحرّ الذي أُمِرَ بأن يُجعجع بالحسين علیه السلام.

وفي رواية أُخرى أيضاً للطبري، ذكرناها - فيما سبق - قول الحرّ للحسين علیه السلام: «..أين تُريد؟ قال: أُريد هذا المصر. قال له: ارجع؛ فإنّي لم أدع لك خلفي خيراً أرجوه...»(3).

وكذلك روى ابن نما الحلي، ولم يذكر تعرّض الحرّ للإمام الحسين علیه السلام، بل ذكر

ص: 188


1- المصدر السابق: ج4، ص308.
2- المصدر السابق: ج4، ص309.
3- المصدر السابق: ج4، ص 292.

أن الحرّ سار بين يدي الإمام علیه السلام، فقال: «...فكان الحرّ يُساير الحسين ولا تعرض له، فنزل علیه السلام قصر أبي مقاتل. قال جابر بن عقبه بن سمعان: ارتحلنا من قصر أبي مقاتل وقد أخذ الحسين علیه السلام طريق عذيب الهجانات»(1).

المحور الثالث: إعلان توبة الحرّ ومقتله ومحلّ دفنه
اشارة

سيكون كلامنا في هذا المحور الثالث والأخير، في خاتمة الحرّ الحسنة، التي على أساسها أصبح الحرّ حراً في الدنيا والآخرة، وأنّه مع سيّد شباب أهل الجنة، ويُسقى من كأس النبي محمد صلی الله علیه و آله التي لا ظمأ بعدها، وسنعتمد في بيان هذا المحور على ثلاث جهات:

الجهة الأُولى: توبة الحرّ

باعتبار ما جاء في النبوي: «نية المرء خير من عمله»(2)، «ولكلِّ امرئ ما نوى»(3)، فسيكون لنا تساؤل مهم مفاده:

هل أنَّ الحرّ عقد النية وهمّ بالتوبة في ساحة القتال، أو قبل ساحة القتال؟

وقت إعلان التوبة

وفي مقام الإجابة عن السؤال السابق، نقول: قد روى الطبري في تاريخه خبر توبة الحر، حيث ذكر: «... إنَّ الحرّ بن يزيد ل-مّا زحف عمر بن سعد، قال له: أصلحك الله، مقاتل أنت هذا الرجل؟ قال: إي والله، قتالاً أيسره أن تسقط الرؤوس وتطيح الأيدي. قال: أفما لكم في واحدةٍ من الخصال التي عرض عليكم رضًى. قال عمر بن سعد: أما والله، لو كان الأمر إليَّ لفعلت، ولكن أميرك قد أبى ذلك. قال: فأقبل حتى وقف من الناس موقفاً ومعه رجل من قومه، يقال له: قرّة بن قيس، فقال: يا قرّة، هل سقيت

ص: 189


1- ابن نما الحلي، محمد بن جعفر، مثير الأحزان: ص 34.
2- البرقي، أحمد بن محمد، المحاسن: ج1، ص260.
3- ابن أبى جمهور، محمد بن علي، عوالي اللآلئ: ج1، ص 81 - 82.

فرسك اليوم؟ قال: لا. قال: إنّما تُريد أن تسقيه. قال: فظننت - والله - أنّه يُريد أن يتنحَّى فلا يشهد القتال، وكره أن أراه حين يصنع ذلك، فيخاف أن أرفعه عليه. فقلت له: لم أسقه وأنا منطلق فساقيه. قال: فاعتزلت ذلك المكان الذي كان فيه. قال: فو الله، لو أنّه أطلعني على الذي يُريد لخرجت معه إلى الحسين. قال: فأخذ يدنو من حسين قليلاً قليلاً، فقال له رجل من قومه، يقال له: المهاجر بن أوس: ما تُريد يا بن يزيد؟ أتريد أن تحمل؟ فسكت، وأخذه مثل العرواء. فقال له: يا بن يزيد، والله، إنَّ أمرك لمريب، والله، ما رأيت منك في موقف قط مثل شيء أراه الآن، ولو قيل لي: مَن أشجع أهل الكوفة رجلاً ما عدوتك، فما هذا الذي أرى منك، قال: إنِّي - والله - أُخيّر نفسي بين الجنة والنار - ووالله - لا أختار على الجنة شيئاً ولو قُطّعت وحُرقت.

ثمّ ضرب فرسه فلحق بحسين علیه السلام، فقال له: جعلني الله فداك يا بن رسول الله، أنا صاحبك الذي حبستك عن الرجوع، وسايرتك في الطريق، وجعجعت بك في هذا المكان، والله الذي لا إله إلّا هو ما ظننت أنَّ القوم يردّون عليك ما عرضت عليهم أبداً، ولا يبلغون منك هذه المنزلة، فقلت في نفسي: لا أُبالي أن أُطيع القوم في بعض أمرهم ولا يرون أنّى خرجت من طاعتهم، وأمّا هم فسيقبلون من حسين هذه الخصال التي يعرض عليهم - ووالله - لو ظننت أنّهم لا يقبلونها منك ما ركبتها منك، وإنّي قد جئتك تائباً ممَّا كان منِّي إلى ربي ومواسياً لك بنفسي حتى أموت بين يديك، أفترى ذلك لي توبة؟ قال: نعم، يتوب الله عليك ويغفر لك، ما اسمك؟ قال: أنا الحرّ بن يزيد. قال: أنت الحرّ كما سمّتك أُمّك، أنت الحرّ إن شاء الله في الدنيا والآخرة، انزل. قال: أنا لك فارساً خير منِّي راجلاً؛ أُقاتلهم على فرس ساعة وإلى النزول ما يصير آخر أمري. قال الحسين: فاصنع يرحمك الله ما بدا لك...»(1).

وقد نقل هذا الخبر أيضاً كلّ من الشيخ المفيد في الإرشاد(2)، وابن نما الحلي في مثير

ص: 190


1- الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الأُمم والملوك: ج4، ص324 - 325.
2- اُنظر: المفيد، محمد بن محمد، الإرشاد: ج2، ص99- 100.

الأحزان(1)، وعنه المجلسي في بحار الأنوار(2)، ومشابه له ما رواه الدينوري في الأخبار الطوال(3).

ولا نستطيع هنا بعد توثيق الأخبار إلّا القطع بأنَّ الحرّ أعلن توبته بعدما رأى القوم عازمين على قتال الإمام الحسين علیه السلام، ولكن السؤال الذي يُطرح بتفريعاته هو:

هل أنَّ الحرّ لم يكن عالماً بنية القوم على قتال الإمام الحسين علیه السلام، وكذلك لم يكن على معرفة بالمخطط الكبير الذي كان معدّاً لقتال الحسين علیه السلام، أو كان يعلم بذلك؟

وهل أنّه لم يكن يعلم قوام جيش عمر بن سعد، الذي هو أكثر من ثلاثين ألف مقاتل؟

فهل جُمعت هذه الجموع بسرّية تامّة؟ خاصّةً وأنَّ طبيعة العمل في صفوف الجيش لم تكن مستمرة كما هو عليه الحال في عصرنا الحاضر، حيث كانت الجيوش تُندب إلى القتال ويبقى القادة ينتظرون قدوم أفراد الجيش من مناطقهم، وهذه العملية تستغرق أيّاماً طويلة.

فكيف - ولو على مستوى الاحتمال - يكون الحرّ غير عالم بكلِّ ذلك، وهو قائد عسكري وينتمي إلى هذا الجيش؟

وهل من المعقول أنَّ الجندي يعلم بالخطة والقائد لا يعلم؟!

كلّ هذه التساؤلات تُنبئ عن شيءٍ واحدٍ، وهو:

إنَّ الحرّ قد التقى بالحسين علیه السلام في مكان بعيد عن الكوفة، وقد استمر مسيره معه لأيّام، وهو نفس الوقت الذي تمَّ به إعداد الجيش وتهيئته، وهذا الاحتمال وارد - إن لم يكن الأقوى - إذ أوردنا رواية لقائه في منطقة ذي حُسم، وهي الأرض الجبلية التابعة لنجد.

وأمّا إذا لم يكن الحرّ عالماً بالمخطط العسكري الضخم الذي أعدَّه عبيد الله بن زياد،

ص: 191


1- اُنظر: ابن نما الحلي، محمد بن جعفر، مثير الأحزان: ص44.
2- اُنظر: المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج45، ص 14.
3- اُنظر: الدينوري، أبو حنيفة، الأخبار الطوال: ص 251 - 256.

فهو في هذه الحالة لم يكن مأموراً بأن يُجعجع بالحسين علیه السلام، بل غاية الأمر أنّه كان يعلم إجمالاً بالموقف السلبي لحاكم دمشق وواليه على الكوفة من الحسين علیه السلام، ولم يكن الحرّ على مقدّمة الجيش، الذي كان بإمرة الحصين بن نمير؛ لأنَّ ذلك يعني لقاءه بالحسين علیه السلام في عذيب الهجانات، وهذا ما أثبتنا عدم إمكان القطع به؛ لأنّها قريبة عن القادسية حيث يتجحفل معسكر الحصين بن نمير، وهو المأمور فعلاً بقطع الطريق على الحسين علیه السلام، والقبض عليه لو صحَّ التعبير.

أضف إلى ذلك ما أوردناه: من أنَّ وصول كتاب عبيد الله بن زياد للحر في كربلاء، فما معنى جعجعته بالحسين علیه السلام ووصول الكتاب كان في وقت قد وضع كلّ شيء في نصابه، ولم يكن الحرّ ليغير شيئاً؟! فالجيوش بقيادة عمر بن سعد تهيّأت لقتال الحسين علیه السلام، وكربلاء هي ما أراده الحسين علیه السلام.

نعم، إنَّ هذه الرواية عليها ملامح الوضع، فيستشرف منها أنَّ بني أُميّة كانوا يسعون إلى إشاعة أن موقع شهادة الحسين علیه السلام لم يكن باختياره، بعدما آيسوا من منعه من التوجه إلى كربلاء، وتحقيق نبوءة جدّه صلی الله علیه و آله ، فوضعوا هذه الروايات ليقولوا لنا: إنَّ الحرّ هو مَن جعجع بالحسين علیه السلام إلى هذه الأرض، ولم تكن باختياره علیه السلام.

فإذا صحّ كلّ ذلك، فإعلان توبة الحرّ لم تكن لأجل أنّه جعجع بالحسين علیه السلام، بل لأجل أمر آخر، وهو كما ذكرناه سابقاً، من أنَّ الحرّ كان غارقاً في الجاه والسمعة والسلطان، ورئاسة العشيرة والمركز الوظيفي في جيش الكوفة، ويرى أنّه قضى حياته قائداً عسكرياً يتمتع بامتيازات هذه القيادة مادياً ومعنوياً، وهذا يمكن أن يكون من الأسباب التي جعلت الحرّ يُقبل على التوبة ويقدّمها بين يدي إمام زمانه الحسين علیه السلام، أو أنَّه أدرك بشكل وآخر، بأنَّه لم يكن في الموقع المفترض به أن يكون بحسب الموازين الشرعية التي فرضها الله تعالى، فأهل البيت علیهم السلام أئمة الهدى الذين أمر الله باتباعهم، وهذا ما تبيّن للحر في وقت لاحق، الوقت الذي سبقه فيه حبيب بن مظاهر وزهير بن القين، ولكنّه التحق بهذا الركب الشريف ليشعل لنا مناراً يهتدي به الناس، وهو أنّ باب التوبة مفتوح وعلى الإنسان الطلب والوغول.

ص: 192

الجهة الثانية: مقتله

بعد هذه المسيرة للحر برفقة الإمام الحسين علیه السلام والوصول إلى كربلاء، وبعد أن عزم القوم على قتل ابن بنت نبيهم صلی الله علیه و آله وسبطه وريحانته، أبى الحرّ إلّا أن يكون من الأضاحي المقدّسة في كربلاء، وسنُبيّن هذا من خلال ما أورده الطبري كذلك؛ حيث ذكر: «... أنّ الحرّ بن يزيد ل-مّا لحق بحسين، قال رجل من بني نُمير من بني شقرة، وهم بنو الحارث بن تميم، يقال: له يزيد بن سفيان: أما والله، لو أنّي رأيت الحرّ بن يزيد حين خرج لأتبعته السنان. قال: فبينا الناس يتجاولون ويقتلون والحر بن يزيد يحمل على القوم مقدماً ويتمثّل قول عنترة:

ما زلت أرميهم بثغرة نحره***ولبانه حتى تسربل بالدم

قال: وإنَّ فرسه لمضروب على أُذنيه وحاجبه، وإنَّ دماءه لتسيل، فقال الحصين بن نُمير - وكان على شرطة عبيد الله، فبعثه إلى الحسين وكان مع عمر بن سعد، فولّاه عمر مع الشرطة المجففة - ليزيد بن سفيان: هذا الحرّ بن يزيد الذي كنت تتمنى. قال: نعم. فخرج إليه فقال له: هل لك يا حر بن يزيد في المبارزة؟ قال: نعم، قد شئت. فبرز له، قال: وأنا سمعت الحصين بن تميم يقول: والله، لبرز له فكأنّما كانت نفسه في يده فما لبثه الحرّ حين خرج إليه أن قتله... قال أبو مخنف: حدّثني نمير بن وعلة: أنّ أيوب بن مشرح الخيواني كان يقول: أنا والله، عقرت بالحر بن يزيد فرسه حشأته سهماً، فما لبث أن أرعد الفرس واضطرب وكبا فوثب عنه الحرّ كأنّه ليث، والسيف في يده وهو يقول:

إن تعقروا بي فأنا ابن الحرّ *** أشجع من ذي لبد هزبر

قال: فما رأيت أحداً قطُّ يفرى فريه. قال: فقال له أشياخ من الحي: أنت قتلته؟ قال: لا والله، ما أنا قتلته ولكن قتله غيري... ل-مّا قُتل حبيب بن مظاهر هدَّ ذلك حسيناً، وقال عند ذلك: احتسب نفسي وحماة أصحابي. قال: وأخذ الحرّ يرتجز ويقول:

آليت لا أُقتل حتى أقتلا***ولن أُص-اب اليوم إلّا مقبلا

ص: 193

أضربهم بالسي-ف ض-رباً مقصلا***لا ناكلاً عنهم ولا مهللا

وأخذ يقول أيضاً:

أضرب في أعراضهم بالسيف***عن خير مَن حلَّ مِنى والخيف

فقاتل هو وزهير بن القين قتالاً شديداً، فكان إذا شدَّ أحدهما فإنَّ استلحم شدَّ الآخر حتى يُخلّصه، ففعلا ذلك ساعةً. ثمَّ إنَّ رجّالة شدَّت على الحرّ بن يزيد فقُتل...»(1).

وإلى هنا أنهى الحرّ مهمّته الحقيقية بعاقبة الخير، وهي شهادته بين يدي إمامه الحسين علیه السلام، فسلام عليه يوم وُلِدَ ويوم استُشهد ويوم يُبعث حياً.

الجهة الثالثة: محلّ الدفن

أمّا مرقده الطاهر، فهو على بعد بضعة أميال من مرقد الإمام الحسين علیه السلام، في منطقة سُمّيت بعد ذلك باسمه، وهي منطقة الحرّ في كربلاء المقدّسة نسبة إليه.

والدليل على محلِّ دفنه الحالي فيه كلام وأقوال، وقد أسعفنا فيها جناب الشيخ الفاضل عامر الجابري في كتابه دفن شهداء واقعة الطفّ، وهي دراسة تاريخية تحليلية عن دفن شهداء الطفّ ورمزية الدفن؛ حيث ذكر الآراء الخاصّة بمحلّ ضريح الحرّ بن يزيد الرياحي وكيفية دفنه، أمّا في موقع الضريح، فقد اعتمد في ذلك على قول السيّد المقرّم في كتابه العباس علیه السلام، والذي بدوره اعتمد في ذلك على أمرين:

الأمر الأوّل: شياع ذلك بين الشيعة والعلماء والمتدينين من أهل الملّة والمذهب.

والثاني: مصادقة الشهيد الأوّل على ذلك، وتوافق الشيخ النوري معه، وكذلك قول المجلسي في البحار، وقصة الكرامة التي ظهرت في زمن الشاه إسماعيل(2)، وكلّ هذه المصادر تابعة للمتأخرين من العلماء الأعلام.

ص: 194


1- الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الأُمم والملوك: ج4، ص303- 336.
2- الجابري، عامر، دفن شهداء واقعة الطفّ: ص93- 95.

أمّا ما شذَّ عن هذه الآراء، فهو ما نُقل في البحار: من أنَّ الحرّ نُقل ووضع بين يدي الحسين علیه السلام، واستنتج السيّد المقرّم من هذا القول أنّه مدفون مع الأصحاب ضمن الحائر الحسيني؛ فقال: «... تقدّم في نقل البحار أنّ الحرّ الرياحي حُمل من الميدان ووضع أمام الحسين علیه السلام، وعليه؛ يكون مدفوناً في الحائر الأطهر»(1)، إلّا أنَّ ما توصل إليه السيّد المقرّم مَّما نُقل في البحار، وهو ممَّا لا يمكن القطع به، ولم يقطع به السيّد المقرّم نفسه، حيث يستدرك، فيقول في الصفحة نفسها: «...ولكن في الكبريت الأحمر: ج3، ص124، جاءت الرواية عن مدينة العلم للسيّد الجزائري: أنّ السجّاد دفنه في موضعه، منحازاً عن الشهداء، وفي ص75 ذكر أنّ جماعة من عشيرته نقلوه عن مصرع الشهداء؛ لئلا يوطأ بالخيل إلى حيث مشهده، ويقال: إنّ أُمّه كانت معه، فأبعدته عن مجتمع الشهداء»(2)، أي: إنَّ هناك ثلاثة آراء لكيفية دفنه بحسب ما نقل السيّد المقرّم:

الأوّل: هو أنّ الحرّ (رضوان الله عليه) مدفون في الحائر الشريف، ولم يرتضِ السيّد هذا الرأي، وقد قوّى الرأي الثالث.

الثاني: وهو أنَّ الإمام السجاد علیه السلام هو مَن أمر بدفنه في هذا الموضع بعد أن أراد بنو أسد نقله ودفنه مع الأصحاب، فأمرهم بدفنه في موضعه.

والثالث: إنّه قُتل في هذا الموضع أصلاً - أي: الموضع الحالي - ولم يُنقل؛ لتسليمنا برواية السيّد الجزائري التي أشار إليها السيّد المقرّم؛ لأنَّ هذا يعني أن ساحة القتال كانت واسعة جداً، وهذا ما لا يمكن التفصيل به حاليّاً لخروجه عن مراد البحث، إلّا أنَّه من المواضيع المهمّة التي يمكن أن تكون نقطة بداية لدراسة واقعة الطفّ وفق منظور وقواعد إسلاميّة عامّة، وهذا ما يطول الكلام فيه فلنُرجئه إلى فرصةٍ أُخرى.

ص: 195


1- المقرَّم، عبد الرزاق، العباس علیه السلام: ص261.
2- المصدر السابق.

ص: 196

هَل وَطَأتِ الخَيلُ جَسَدَ الحُسَين علیه السلام؟

اشارة

الشَّيخ لُؤيّ المَنصُوريّ(1)

مدخل

إنّ من الفجائع الأليمة التي وقعت في اليوم العاشر من المحرَّم هي فاجعة رضّ الجسد الشريف بواسطة خيل الأعداء، حيث أمر عمر بن سعد مجموعة من الخيّالة بأن يطأوا جسد الحسين علیه السلام تلبيةً لأمر عبيد الله بن زياد، مكمِّلين بذلك أفجع الصور التي رسموها في يوم عاشوراء. وهذا هو الثابت والمعروف عند عامّة الشيعة، وعليه الأدلّة العديدة والنقولات التاريخيّة الكثيرة - سواء عند الشيعة أو عند العامّة - حيث إنّ الأعداء بعد قتلهم الإمام الحسين علیه السلام، وبعد الهجوم على خيامه، وترويع النساء والأطفال، انتدبوا خيلاً تُعرَف بالخيل الأعوجيّة؛ لتطأ جسد الإمام الحسين علیه السلام.

التشكيك في وقوع هذه الحادثة

رغم الوضوح في ثبوت هذه الفاجعة المريعة، نجد أنّ بعض العلماء أنكر ذلك، بل عدّها فِريَةً أُموية، يُراد منها النيل من الإمام وإضفاء الضبابية على مقامه الشريف، بعد ما أذاعوا عليه أنّه طالبٌ للمُلك، ومُفسد في الأُمّة، ومن ثَمَّ تحليل دمه وقتله مع أهل بيته في ملحمة مفجعة، لا يزال صداها يصم آذان التاريخ بأجياله المتعاقبة.

ص: 197


1- باحث وكاتب إسلامي.

ومن هؤلاء العلماء الذين أنكروا وقوع هذه الحادثة العلّامة المجلسي؛ حيث قال: «إنّ ما ذكره الخاصّة والعامّة من وقوع هذا الأمر الفظيع لا أصل له» (1). ويقصد بهذا الأمر حادثة الهجوم على الجسد الشريف.

دليل المجلسي على نفي الحادثة

استند المجلسي في نفيه هذا على رواية الكليني المروية عن فضّة خادمة فاطمة الزهراء صلی الله علیه و آله ؛ إذ روى الكليني قول «الحسين بن محمدٍ، قال: حدّثني أبو كريبٍ وأبو سعيدٍ الأشجّ، قال: حدّثنا عبد الله بن إدريس، عن أبيه إدريس بن عبد الله الأوديّ، قال: لمّا قتل الحسين علیه السلام أراد القوم أن يوطئوه الخيل، فقالت فضّة لزينب: يا سيّدتي، إنّ سفينةً كسر به في البحر، فخرج إلى جزيرةٍ، فإذا هو بأسدٍ، فقال: يا أبا الحارث، أنا مولى رسول الله صلی الله علیه و آله . فهمهم بين يديه حتّى وقفه على الطّريق، والأسد رابضٌ في ناحيةٍ، فدعيني أمضي إليه، وأعلمه ما هم صانعون غداً، قال فمضت إليه، فقالت: يا أبا الحارث. فرفع رأسه، ثمّ قالت: أتدري ما يريدون أن يعملوا غداً بأبي عبد الله علیه السلام؟ يريدون أن يوطئوا الخيل ظهره. قال: فمشى حتّى وضع يديه على جسد الحسين علیه السلام، فأقبلت الخيل، فلمّا نظروا إليه قال لهم عمر بن سعدٍ لعنه الله: فتنةٌ لا تثيروها، انصرفوا. فانصرفوا»(2). وعقّب على هذه الرواية بما تقدّم، ثمّ قال: «هي المعتمد عندي»(3).

وقال في البحار - بعد أن نقل خبر وطئ الخيل -: «أقول: المعتمد عندي ما سيأتي في رواية الكافي أنّه لم يتيسّر لهم ذلك»(4).

وذكر الشيخ الحائري بأنّه «اختلف أرباب المقاتل في أنّ هذه المصيبة - وطئ الخيل - جرت على جسد الحسين أم لا؟، ويظهر من كلام الكليني أنّه لم يتيسّر لهم، قال المجلسي:

ص: 198


1- المجلسي، محمد باقر، مرآة العقول: ج5، ص371.
2- الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي: ج1، ص466.
3- المجلسي، محمد باقر، مرآة العقول: ج5، ص371.
4- المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج45، ص60.

والمعتمد عندي أنّه لم يتيسّر لهم ذلك اعتماداً على خبر الكافي، ويظهر من كلام السيد أنّهم صنعوا ذلك، كما قال في اللهوف...»(1).

ثمَّ علّل ما ادُّعي من وقوع تلك الحادثة بأنّه من وضع الملاعين، حيث قال: «ويمكن أن يكون ما رواه السيد(2) ادّعاء من الملاعين ذلك؛ لإخفاء هذه المعجزة، وكأنّه لذلك قلَّل وَلَدُ الزنا جائزتهم؛ لعلمه بكذبهم».

ثمَّ أجاب عن إشكال مقدَّر، حاصله: لو لم يكونوا فعلوا ذلك الفعل المنكر لما عاقبهم المختار عليه، فعقوبة المختار لهم تدلّ على ارتكابهم هذا الفعل الشنيع.

فأجاب بقوله: «وما فعله المختار لادِّعائهم ذلك وإن كان باطلاً، وإن كان ما فعلوه به علیه السلام قبل ذلك أفحش وأفظع منه»(3).

وخلاصة كلامه أن الدليل على خلاف وقوع تلك الحادثة، وما ادُّعي في التاريخ هو من دسّ الأعداء الملاعين، وما كان من عقوبة المختار هو لأجل ادعائهم ذلك ولو كذباً.

تحليل المجلسي للرواية المتقدِّمة

قد أشار المجلسي في أول كلامه إلى أنّ للحيوانات شعوراً وإحساساً يلهمها محبّة أهل البيت علیهم السلام، فألهم الله تعالى الأسدَ فَهْمَ كلام فضّة رضوان الله تعالى عليها وحرَّك عنده المحبّة لإجابة طلبها، فجاء ووضع يده على الجسد الشريف حفظاً له.

ولعل المجلسي انطلق ممّا روي عن أهل البيت علیهم السلام من أنّ الوحوش والحيوانات تأثّرت باستشهاد الإمام الحسين علیه السلام - وفي بعضها أنّ الوجود كلّه تأثّر وتألّم بهذه الواقعة الأليمة(4) - فقَبِلَ الخبر وسلّم به، وإن حكم بضعف سنده كما سيأتي.

ص: 199


1- الحائري، محمد مهدي، شجرة طوبى: ج1، ص35.
2- أي: السيد ابن طاووس في اللهوف.
3- المجلسي، محمد باقر، مرآة العقول: ج5، ص372.
4- ابن قولويه، جعفر بن محمد، كامل الزيارات: ص165، باب62. بكاء جميع ما خلق الله على الحسين بن علي علیهما السلام.

وعلى كلّ حال، سواء تمّ ما ذكرناه أم لم يتمّ، يبقى رأي العلّامة المجلسي قائماً، من أنّ الله تعالى سخَّر أبا الحارث وألهمه فهم كلام فضّة رضوان الله عليها وحفظ الجسد الشريف من التعرِّض للسحق والوطئ.

مناقشة رأي العلّامة المجلسي

اشارة

هناك مجموعة من المناقشات والملاحظات على كلام العلّامة المجلسي، وعلى دليله الذي استدلّ به على نفي الواقعة:

المناقشة السندية للخبر المتقدِّم

إنّ الخبر الذي اعتمد عليه العلّامة المجلسي ضعيف من جهة السند؛ وذلك لعدّة أُمور:

الأمر الأول: الكلام في عبد الله وأبيه إدريس الأودي، حيث إنّ سند الحديث ينتهي إليهما، وهما لم يكونا في زمن وقعة كربلاء(1)؛ فكيف علما بهذه الحادثة؟ وما هي الواسطة

ص: 200


1- قال السيد الجلالي: «أمّا عبد الله بن إدريس: فهو عبد الله بن إدريس بن يزيد بن عبد الرحمن الأودي، أبو محمّد الكوفيّ، أحد الأعلام عند القوم، وثّقه كلّهم، وأخرج له الستّة، روى عن أبيه، وعمّه داود، ويحيى بن سعيد، والأعمش، وخلق. وعنه أحمد وإسحاق، ويحيى بن معين، وخلق. عَرَضَ عليه هارون قضاء الكوفة، بعدما أحضره مع حفص بن غياث ووكيع، فامتنع منه. ولد سنة (خمسة عشر ومائة) ومات سنة (اثنتين وتسعين ومائة) فهو في طبقاتنا من الخامسة. وأمّا أبوه الذي هو صاحب الحكاية المذكورة، فهو: إدريس بن يزيد الأودي، أبو عبد الله الكوفي، وتسمية والده (عبد الله) وَهْمٌ. أخرج له البخاريّ ومسلم والأربعة، وثّقه النسائي، روى عن طلحة بن مصرف، المتوفّى سنة 112ه-، وسِماك بن حرب المتوفّى سنة 123ه-، وعلقمة بن مرثد. وروى عنه ابنه عبد الله، ووكيع، ومحمّد ويعلى ابنا عبيد. ولم أجد تاريخ وفاته ولا ولادته، لكن روايته عمّن ذكرناه يقتضي أنّه من الرابعة، في مرتبة الأعمش، ورواية ابنه عبد الله المتولّد سنة 115ه عنه تدلّ على بقائه حيّاً إلى سنة ثلاثين ومائة، بل وبعدها بسنين؛ وحينئذٍ يبعُدُ حضوره وقعة الطفّ، فهو لو كان وُلِدَ قبلها لكان صغيراً حينئذٍ. فالظاهر أنّ حكايته لتلك الواقعة كانت عن علمٍ، لا عن شهودٍ، مع أنّ شهوده لجميع هذه الواقعة - التي بعضها راجع إلى الحرم، وبعضها إلى المعركة، وبعضها إلى موضع خارج عن الحرم والمعركة - بعيد جدّاً. نعم، كان في عصره أكثر مَنْ شهد وقعة الطفّ حيّاً، فكان يمكنه العلم ببعض ما وقع فيها من الأُمور، خصوصاً الأُمور الغريبة التي جرت عادة الناس بنقلها عند مشاهدتها، فيحصل العلم ل-مَن لم يشاهدها بتضافر النقل ممَّن شهدها، لكن يبعده أنّه لم يُتابَعْ في هذه الحكاية». المنهج الرجالي والعمل الرائد في الموسوعة الرجالية للسيد البروجردي: ص188.

التي أوصلت إليهم ذلك؟

الأمر الثاني: الكلام في فضّة خادمة الزهراء صلی الله علیه و آله ، والتي يُطلق عليها فضّة النوبية(1)، فلم يرد لها ذكر في كُتبنا الرجالية حتى يُعرف حالها وحضورها في كربلاء، نعم ورد ذكرها في شهادة السيدة الزهراء صلی الله علیه و آله ، إلّا أنّ الخبر مجهول، قال المجلسي: «أقول: وجدت في بعض الكتب خبراً في وفاتها صلی الله علیه و آله ، فأحببت إيراده، وإن لم آخذه من أصل يُعوّل عليه. روى ورقة بن عبد الله الأزدي، قال: خرجت حاجّاً إلى بيت الله الحرام، راجياً لثواب الله ربّ العالمين، فبينما أنا أطوف وإذا أنا بجارية سمراء، ومليحة الوجه عذبة الكلام، وهي تنادي بفصاحة منطقها، وهي تقول: اللهم ربِّ الكعبة الحرام، والحفظة الكرام، وزمزم والمقام، والمشاعر العظام، وربّ محمد خير الأنام، صلى الله عليه وآله البررة الكرام، [أسألك] أن تحشرني مع ساداتي الطاهرين، وأبنائهم الغرّ المحجلين الميامين... قال ورقة بن عبد الله: فقلت: يا جارية، إنّي لأظنّك من موالي أهل البيت علیهم السلام؟ فقالت: أجل. قلت لها: ومَن أنت من مواليهم؟ قالت: أنا فضّة أَمَة فاطمة الزهراء ابنة محمد المصطفى صلى الله عليها وعلى أبيها وبعلها وبنيها»(2). والكتاب والمؤلف مجهولان فلا يمكن الاعتماد على الخبر.

نعم، ورد ذكرها في تراجم العامّة كأُسد الغابة والإصابة(3) في حادثة سورة الدهر المعروفة، لكن الاعتماد عليهم محل تأمّل ونظر؛ لكثرة الأخطاء والاشتباه في البحث.

ص: 201


1- ابن الأثير، علي بن أبي الكرم، أُسد الغابة: ج3، ص53.
2- المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج43، ص174.
3- العسقلاني، ابن حجر، الإصابة: ج8، ص281. الدمشقي، إسماعيل بن كثير، البداية والنهاية: ج5، ص351. وخلط في كلامه؛ إذ رد الحديث بنزول سورة الدهر في أهل البيت علیهم السلام أنّها مكية والحسن والحسين علیهما السلام ولدا في المدينة، لكنه تعامى عن أنّ السورة مدنية؛ قال البغوي: «مدنيّة، وآياتها إحدى وثلاثون». البغوي، معالم التنزيل: ج5، ص495. وقال الآلوسي: «قال مجاهد وقتادة: مدنيّة كلّها. وقال الحسن وعكرمة والكلبي: مدنيّة إلّا آية واحدة فمكّيّة وهي:«وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا»، وقيل: مدنيّة إلّا من قوله تعالى:«فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ »». الآلوسي، محمود، روح المعاني: ص150، ص29.

وأمّا سفينة، فقد ذكر الشيخ في رجاله أنّه من أصحاب النبي صلی الله علیه و آله (1)، وفي كتب المخالفين، فهو من رجال مسلم والأربعة(2).

وأمّا بالنسبة إلى حضور فضّة في واقعة كربلاء، فهو أمر مستبعد جداً في نفسه؛ لأنّ حادثة كربلاء ليست بالعابرة والقليلة الأهمية، فالتراث الشيعي يزخر بأخبارها، والتأكيد على رموزها والشخصيات المشاركة فيها، ومع ذلك لا نجد لها ذكراً في تراجيديا كربلاء غير خبر أبي الحارث.

هذا بالإضافة إلى أنّ العلّامة المجلسي حكم على هذا الخبر بالضعف، ورماه بالجهالة(3)، فكيف يصحّ منه الاعتماد عليه؟!

نعم، تبقى هنا عبارة العلّامة الحائري حيث نسب للكليني الاعتماد على الرواية، فربما يُقال باعتبارها. ولكن هذه النسبة ناشئة من إخراج الكليني الرواية في كتابه وما ذكره في مقدمة الكافي من أنّه يروي الصحيح الذي يُعتمد عليه ويُرجع إليه عند الاختلاف (4). وهذا كلام غير تام كما ذُكر في محلّه.

محاولة الرد على المناقشة

ولكن يمكن أن يُقال في ردّ هذه المناقشة: إنّه عند مراجعة كلام العلّامة المجلسي نلاحظ أنّه لم يستند على الرواية في نفيه للحادثة، وإنّما كانت حافزاً ومؤيداً لما ذكره في كلامه؛ إذ يستند في رأيه على محبّة الحيوانات لأهل البيت علیهم السلام، المانع من قيامها بالعمل الشنيع وهتك

ص: 202


1- الطوسي، محمد بن الحسن، اختيار معرفة الرجال: ص41. وقال السيد محسن الأمين: «ذكره الشيخ في رجاله في أصحاب الرسول صلی الله علیه و آله ، وروى الكليني في الكافي رواية تتعلق بسفينة هذا، وفيها أنّ أسداً منع من رض جسد الحسين علیه السلام، وبنى عليها المجلسي في البحار، وهذه الرواية مع ضعف سندها مخالفة لما ذكره جميع المؤرِّخين..». الأمين، محسن، أعيان الشيعة: ج7، ص273.
2- الأنصاري، محمد حياة، معجم الرجال والحديث: ج1، ص85. الذهبي، محمد بن أحمد، سير أعلام النبلاء: ج3، ص172.
3- المجلسي، محمد باقر، مرآة العقول: ج5، ص368.
4- الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي: ج1، ص9.

حرمة أجسادهم المقدسة، بعد ملاحظة خصوصية أجسادهم الشريفة وطهارتها ونقائها، كحرمتها على الأرض والدود(1)، وأنّ أجسادهم لا تبقى في الأرض أكثر من ثلاثة أيام(2)، وغيرها من الخصائص الثابتة لأجساد الأنبياء والأوصياء علیهم السلام، وكذلك يرى أنّ الله تعالى أظهر المعجزةَ في جسد الإمام الحسين علیه السلام بعد استشهاده، وحمل الكلام الوارد من قِبَل العشرة الذين ادّعوا ذلك على الكذب من أجل إخفاء ما ظهر من معجز(3).

الصورة التي رسمها المجلسي للحادثة

يمكن أن يُقال: بأنّ المجلسي لم يتفاعل مع الخبر التاريخي الوارد في سحق الخيل للجسد الشريف، وبعد ورود الخبر بحراسة الجسد من قِبل أبي الحارث، تكاملت الصورة عنده وأخذ يدعمه بما ورد في كلامه، من أنّ الوطئ مستلزم لإهانة الجسد، وأنّ القوم راموا إخفاء ما ظهر من معجز بعد شهادته.

ص: 203


1- الصدوق، محمد بن علي، مَن لا يحضره الفقيه: ج1، ص191.
2- المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج18، ص298.
3- قال العلامة المجلسي في مرآة العقول، ج5، ص372: «ثمَّ نادى عمر بن سعد في أصحابه: مَن ينتدب للحسين فيوطئ الخيل ظهره؟ فانتدب منهم عشرة وهم: إسحاق بن حوية الذي سلب الحسين علیه السلام قميصه، وأخنس بن مرثد، وحكيم بن طفيل، وعمرو بن صبيح، ورجاء بن منقذ، وسالم بن خيثمة، وصالح بن وهب، وواخط بن ناعم، وهاني بن ثبيت، وأُسيد بن مالك، فداسوا الحسين صلوات الله عليه بحوافر خيلهم حتى رضّوا ظهره وصدره. قال: وجاء هؤلاء العشرة حتى وقفوا على ابن زياد، فقال أُسيد بن مالك - أحد العشرة -: نحن رضضنا الظهر بعد الصدر***بكلّ يعبوب شديد الأسر فقال ابن زياد: مَن أنتم؟ فقالوا: نحن الذين وطئنا بخيولنا ظهر الحسين حتى طحنّا جناجن صدره. فأمر لهم بجائزة يسيرة، قال أبو عمرو الزاهد: فنظرنا في هؤلاء العشرة فوجدناهم جميعاً أولاد زنا، وهؤلاء أخذهم المختار فشدّ أيديهم وأرجلهم بسلك الحديد وأوطأ الخيل ظهورهم حتى هلكوا، انتهى. وأقول: المعتمد ما رواه الكليني رحمة الله ويمكن أن يكون ما رواه السيد ادّعاءً من الملاعين ذلك لإخفاء هذه المعجزة، وكأنّه لذلك قلّل وَلَدُ الزنا جائزتهم؛ لعلمه بكذبهم، وما فعله المختار لادّعائهم ذلك وإن كان باطلاً، وإن كان ما فعلوه به علیه السلام قبل ذلك أفحش وأفظع منه».
المؤاخذات الواردة على كلامه رحمة الله

ولكن مع ذلك تبقى هناك أُمور عديدة ترد على كلام المجلسي ورأيه رحمة الله:

أولاً: إنّ المجلسي لم يذكر دليلاً معتبراً على كلامه، سوى الاستبعاد والخبر الضعيف وبعض الاستشهادات التي لا تنهض كدليل.

ثانياً: إنّ ما ذكره من أمر الحيوانات واستشعارها وتعاطفها مع أهل البيت علیهم السلام لا ينسجم مع قوله: «ويدلّ على أنّ للحيوانات شعوراً، وعلى أنّ بعضهم يحبّون أهل البيت ويعرفونهم»(1). فالبعضية تتنافى مع تأثر الجميع بالواقعة، ويجوز أن يكون البعض ممَّن لا يحبّ أهل البيت علیهم السلام اجترى على اقتراف الفعلة الأليمة الصادرة من قبل الجيش الأُموي.

ثالثاً: ذكر أنّ كلام العشرة كذبٌ، والباعث له هو الحصول على الجائزة، ولكن يبقى أمر غفل عنه الشيخ من أن العشرة لو كانوا يكذبون لافتضح أمرهم من قِبل الآخرين ممَّن شارك في الحرب، وهم يعدون بعشرات الآلاف، فكيف تقبل الكثرة الحاضرة للحرب بانفرادهم بجائزة مخصوصة، وهم لم يتميزوا عنهم بشيء؟

رابعاً: إنّ المختار عاقب مَن فعل تلك الفعلة الشنيعة بنفس الفعل الذي صدر منهم، حسبما ورد في الخبر، فحمل فعله على مجرّد الادّعاء منهم بعيد، خصوصاً وإنّ من هؤلاء العشرة إسحاق بن حياة الحضرمي وأحبش بن مرثد اللذين سلبوا الحسين علیه السلام(2).

خامساً: هنالك معاجز كثيرة وقعت قبل وبعد استشهاد الإمام الحسين علیه السلام نُقلت في مصادر الفريقين لم يُخفها أحدٌ، فلماذا يُخفون هذه المعجزة فقط؟

ومن تلك المعاجز: ما روته أُمّ حكيم، قالت: «لمّا قُتل الحسين بن علي، وأنا يومئذٍ جارية قد بلغت مبلغ النساء - أو كدت أن أبلغ - مكثت السماء بعد قتله أياماً كالعلقة»(3).

ومنها: ما عن أبي قبيل، قال: «لمّا قُتل الحسين بن علي، احتزّوا رأسه، وقعدوا في أول

ص: 204


1- المجلسي، محمد باقر، مرآة العقول: ج5، ص37.
2- أبو مخنف، لوط بن يحيى، مقتل الحسين علیه السلام: ص202.
3- المصدر السابق.

مرحلة يشربون النبيذ، ويتحفون الرأس، فخرج عليهم قلم حديد من حائط فكتب بسطر دم:

أترجو أُمّة قتلت حسيناً***شفاعة جدّه يوم الحساب»(1).

ومنها: «لمّا قُتل الحسين اسودّت السماء وظهرت الكواكب نهاراً حتى رؤيت الجوزاء عند العصر، وسقط التراب الأحمر»(2).

ومنها: «مطرت السماء يوم شهادة الحسين دماً، فأصبح الناس وكلّ شيء لهم مُلئ دماً، وبقي أثره في الثياب مدّة حتى تقطعت، وأنّ هذه الحمرة التي تُرى في السماء ظهرت يوم قتله ولم تُرَ قبله»(3).

ومنها: «لمّا قُتل الحسين مكثوا شهرين أو ثلاثة وكأنّما يلطَّخ الحيطان بالدم، من حين صلاة الغداة إلى طلوع الشمس»(4).

ومنها: «إنّ السماء أظلمت يوم قُتل الحسين حتى رأوا الكواكب»(5).

وغيرها الكثير من المعاجز التي وقعت بعد مقتله، وتناقلتها الألسن ودوّنتها الكتب، ولم يُخفها أحد، فلماذا تُترك هذه المعاجز تُروى وتُخفى معجزة حراسة الجسد الشريف من قِبَل الأسد؟!

سادساً: بعد الإغماض عمّا تقدَّم تبقى إشكالية، وهي: لا يوجد لدينا دليل على إطاعة الحيوانات لأوامر فضّة وغيرها ممَّن لم تثبت إمامته وعصمته. فعلى فرض حضورها ووجودها إلّا أنّ طاعة الأسد لها غير ثابتة.

والنقض بإطاعة سفينة لا يصحّ؛ لأنّ أصل وجوده مشكوك لا دليل عليه عندنا، وعند غيرنا لا يفيد.

فالخبر يحمل في طيّاته عدّة عقبات صعبة ليس من السهل تجاوزها والقبول به، مع ما سيأتي من تسالم المؤرِّخين والعلماء على أنّ رضّ الجسد الشريف قد حصل من قِبَل

ص: 205


1- الطبراني، المعجم الكبير: ج3، ص123. ابن العديم، بغية الطلب في تاريخ حلب: ج6، ص2653.
2- ابن عساكر، ترجمة الإمام الحسين علیه السلام: ص354.
3- السيوطي، عبد الرحمن، الخصائص الكبرى: ص126.
4- البلاذري، أحمد بن يحيى، أنساب الأشراف: ج3، ص209.
5- المصدر السابق.

جيش يزيد عليه من الله اللعنة والعذاب.

الأخبار الواردة في رضّ الجسد الشريف

روى المؤرِّخون لحادثة كربلاء أنّ الخيل وطأت الجسد الشريف، وتطابقت الكلمات على ذلك، فقد نصّ على الحادثة أغلب علماء الحديث والرجال، كالشيخ المفيد(1)، وابن طاووس(2)، وابن يونس العاملي(3)، والطبرسي(4)، والفتّال النيسابوري(5)، والمجلسي(6)، والكراجكي(7)، والسيد محسن الأمين(8)، وغيرهم. ومن العامّة الطبري(9)، وابن الأثير(10)، وابن الجوزي(11)، وابن حجر(12)، والنويري(13)، وابن كثير(14)، وابن أعثم الكوفي(15)، وغيرهم ممَّن صرَّح بوقوع الحادثة.

أقدم راوٍ للحادثة

يرجع المؤرِّخون - عموماً - إلى أقدم راوٍ للحادثة، وهو أبو مخنف (لوط بن يحيى

ص: 206


1- المفيد، محمد بن محمد، الإرشاد: ج2، ص11.
2- ابن طاووس، علي بن موسى، اللهوف في قتلى الطفوف: ص79.
3- الشامي، يوسف بن حاتم، الدرّ النظيم: ص558.
4- الطبرسي، الفضل بن الحسن، إعلام الورى: ج1، ص453.
5- النيسابوري، محمد بن الفتّال، روضة الواعظين: ص189.
6- المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج45، ص60، حيث نقل عدّة روايات عن الحادثة.
7- الكراجكي، محمد بن علي، كنز الفوائد: ص350.
8- الأمين، محسن، أصدق الأخبار: ص64. الأمين، محسن، أعيان الشيعة: ج7، ص273.
9- الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الأُمم والملوك: ج4، ص347.
10- ابن الأثير، علي بن أبي الكرم، أُسد الغابة: ج2، ص21.
11- ابن الجوزي، عبد الرحمن بن علي، المنتظم: ج5، ص337.
12- الهيتمي، أحمد بن حجر، الصواعق المحرقة: ج1، ص453.
13- النويريّ، أحمد بن عبد الوهاب، نهاية الأرب: ج20، ص463.
14- الدمشقي، إسماعيل بن كثير، البداية والنهاية: ج8، ص205.
15- الكوفي، ابن أعثم، الفتوح: ج5، ص120.

بن سعيد) الذي دوّن واقعة الطفّ في كتابٍ منفرد، والكتاب وإن لم يصل إلينا إلّا أنّ المؤرِّخين نقلوا عنه أكثر مادته، كالطبري في تاريخه حيث اعتمد عليه في تدوين واقعة الطف، وابن الأثير، وغيرهم من المؤرِّخين.

وأبو مخنف يمكن الركون إلى كونه شيعياً بالمعنى الخاص، أي من موالي أهل البيت علیهم السلام، وأنّه أخباري موثوق كما عبَّر عنه الشيخ النجاشي في ترجمته «وكان يُسكن إلى ما يرويه»(1). ممّا يعني أنّه يعتمد عليه فيما دونه من أخبار التاريخ، وتحريه ضبط الوقائع التي ينقلها، وإن كنّا نجهل مشايخه ومَن أخذ عنهم، إلّا أنّه كان يتحرّى الأُمور الثابتة والمشهورة بالتناقل(2).

ص: 207


1- النجاشي، أ حمد بن علي، رجال النجاشي: ص320.
2- بما أنّ أبا مخنف هو الراوي الأول للحادثة، فينبغي تسليط الضوء على هذا الراوي لمعرفة شخصيته ووثاقته ومذهبه، فنقول: هو أبو مخنف، لوط بن يحيى بن سعيد بن مخنف بن سالم الأزدي الغامدي، ترجمه الشيخ النجاشي، فقال: «لوط بن يحيى بن سعيد بن مخنف بن سالم الأزدي الغامدي، أبو مخنف، شيخ أصحاب الأخبار بالكوفة ووجههم، وكان يُسكن إلى ما يرويه، روى عن جعفر بن محمد علیه السلام. وقيل: إنّه روى عن أبي جعفر علیه السلام ولم يصحّ. وصنّف كتباً كثيرة، منها: كتاب المغازي، كتاب السقيفة، كتاب الرِّدّة، كتاب فتوح الإسلام، كتاب فتوح العراق، كتاب فتوح خراسان، كتاب الشورى، كتاب قتل عثمان، كتاب الجمل، كتاب صِفِّين، كتاب النهر، كتاب الحكمين، كتاب الغارات، كتاب مقتل أمير المؤمنين علیه السلام، كتاب قتل الحسن علیه السلام، كتاب قتل الحسين علیه السلام». النجاشي، أحمد بن علي، رجال النجاشي: ص320، رقم875. وقال الشيخ الطوسي: «من أصحاب أمير المؤمنين علیه السلام، ومن أصحاب الحسن والحسين علیهما السلام، على ما زعم الكشي، والصحيح أنّ أباه كان من أصحاب علي علیه السلام، وهو لم يلقه، له كتب كثيرة في السير، منها: كتاب مقتل الحسين علیه السلام» وطريق الشيخ إلى كتبه صحيح كما أشار إلى ذلك. الطوسي، محمد بن الحسن، الفهرست: ص204 وص325. وترجمه العلّامة في إيضاح الاشتباه، ص259. وترحّم عليه في الخلاصة، ص233. وقال الميرزا النراقي: «وكيف كان، لا شكّ في كونه ممدوحاً، روى عنه هشام بن السائب الكلبي». شعب المقال في درجات الرجال: ص300. وقال الشيخ عباس القمّي: «شيخ أصحاب الأخبار في الكوفة ووجههم، كما عن (جش)، وتوفّي سنة 157، يروي عن الصادق علیه السلام، ويروي عنه هشام الكلبي، وجدّه مخنف بن سليم صحابي شَهِد الجمل في أصحاب علي علیه السلام، حاملاً راية الأزد، فاستُشهد في تلك الواقعة سنة 36. وكان أبو مخنف من أعاظم مؤرِّخي الشيعة، ومع اشتهار تشيِّعه اعتمد عليه علماء السنّة في النقل عنه، كالطبري وابن الأثير وغيرهما. وليعلم أنّ لأبي مخنف كتباً كثيرة في التاريخ والسير، منها كتاب: مقتل الحسين علیه السلام الذي نقل منه أعاظم العلماء المتقدِّمين واعتمدوا عليه، ولكن للأسف أنّه فُقِدَ ولا يوجد منه نسخة، وأمّا المقتل الذي بأيدينا ويُنسب إليه فليس له، بل ولا لأحد من المؤرِّخين المعتمدين، ومَن أراد تصديق ذلك فليقابل ما في هذا المقتل وما نقله الطبري وغيره عنه حتى يعلم ذلك، وقد بيّنت ذلك في نفس المهموم في طرماح بن عدي، والله العالم». القمي، عباس، الكنى والألقاب: ج1، ص155. وقال السيد الخوئي بعد أن نقل كلام النجاشي والطوسي: «وكيف كان، فهو ثقة مسكون إلى روايته على ما عرفت من النجاشي. وطريق الشيخ إليه صحيح؛ فإنّ أحمد بن محمد بن موسى، ونصر بن مزاحم ثقتان على الأظهر». الخوئي، أبو القاسم، معجم رجال الحديث: ج15، ص143. وفي تراجم أهل السنّة ذكروا أنّه شيعي محترق ضعيف، قال العقيلي: «لوط أبو مخنف: حدَّثنا محمد بن عيسى، حدَّثنا عباس، قال: سمعت يحيى، قال: أبو مخنف ليس بشيء. وفي موضع آخر ليس بثقة. حدَّثنا محمد، حدَّثنا عباس، قال: سمعت يحيى، قال: أبو مخنف وأبو مريم وعمر بن شمر ليسوا هم بشيءٍ. قلت ليحيى: هما مثل عمرو بن شمر؟ قال: هما شرُّ من عمرو بن شمر». العقيلي، محمد بن جعفر، ضعفاء العقيلي: ج4، ص19. وقال ابن عدي: «حدَّثنا محمد بن أحمد بن حماد، ثنا عباس، عن يحيى، قال: أبو مخنف ليس بشيءٍ. وهذا الذي قاله بن معين يوافقه عليه الأئمّة، فإنّ لوط بن يحيى معروف بكنيته وباسمه، حدَّث بأخبار مَن تقدَّم من السلف الصالحين، ولا يبعد منه أن يتناولهم، وهو شيعي محترق صاحب أخبارهم، وإنّما وصفته لا يستغنى عن ذكر حديثه، فإنّي لا أعلم له من الأحاديث المسندة ما أذكره، وإنّما له من الأخبار المكروه الذي لا أستحب ذكره». الجرجاني، أبو أحمد بن عدي، الكامل في الضعفاء: ج6، ص93. وقال الذهبي: «لوط بن يحيى، أبو مخنف، أخباري تالف، لا يوثق به. تركه أبو حاتم وغيره. وقال الدارقطني: ضعيف. وقال ابن معين: ليس بثقة. وقال مرّة: ليس بشيء. وقال ابن عدي: شيعي محترق، صاحب أخبارهم». ميزان الاعتدال: ج3، ص420. وقال أيضاً: «لوط بن يحيى، أبو مخنف الكوفي الرافضي الأخباري، صاحب هاتيك التصانيف». الذهبي، محمد بن أحمد، تاريخ الإسلام: ج17، ص581. وقال الكناني: «لوط بن يحيى أبو مخنف كذاب تالف». الكناني، علي بن محمد، تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأخبار الموضوعة: ج1، ص98. وقال الفيروزآبادي: «أبو مخنف لوط بن يحيى، أخباري شيعي تالف متروك». الفيروزآبادي، محمد بن يعقوب، القاموس المحيط: ج3، ص139. فلوط بن يحيى - عند أهل السنة - شيعي محترق وصاحب أخبار الشيعة ورافضي أخباري، نقلوا عنه التاريخ ولم يستغنوا عن أخباره وأحاديثه، إلّا أنّهم يطعنون فيه ويردون ما لا ينسجم مع اعتقادهم وآرئهم. وأمّا عند علماء الشيعة، فهو شيعي ثقة وعليه الاعتماد.

رأي المؤرّخين والعلماء في الحادثة

قلنا سابقاً: إنّ علماء المسلمين يذهبون إلى وقوع حادثة رضّ الجسد الشريف بعد الاستشهاد والهجوم على الخيام والحرم، وهذا ما اتّفقت عليه كلمة علماء الشيعة إلّا ما

ص: 208

سمعت من الكليني والمجلسي وابن حمزة الطوسي(1)، وأمّا علماء السنّة فنصّوا على حدوث الواقعة، كالطبري في تاريخه(2) وابن الأثير(3) والبلاذري(4) وابن الجوزي(5) وابن أعثم(6) والخوارزمي(7) وسبط ابن الجوزي(8) والمسعودي(9) والشبراوي(10) والنويري(11) والهيتمي(12) وغيرهم ممَّن أخذ بما نقله لوط بن يحيى وغيره، ولم يشكّوا فيها أو يتوقّفوا في حدوثها.

ومقبولية الخبر من جميع هؤلاء المؤرِّخين مع نصّ النجاشي على تحرّي أبي مخنف في النقل والتوثيق، يُعطي حكماً يقينياً قوياً في وقوع الفاجعة ورضِّهم للجسد الشريف.

والعلّامة المجلسي نقل ذلك أيضاً في كتابه البحار في عدّة مواضع؛ إذ قال: «رأيت في بعض الكتب أنّ فاطمة الصغرى، قالت: كنت واقفة بباب الخيمة، وأنا أنظر إلى أبي وأصحابه مجزّرين كالأضاحي على الرمال والخيول على أجسادهم تجول»(13). فالأحرى به أن يلاحظ الأخبار من الطرفين، ومن ثمَّ معالجتها للخروج برأي مختار، دون الإسراع في اتّخاذ رأي مبتنٍ على استبعادات ذهنية مسبقة.

نعم، حاول بعضهم التوفيق بين الرأيين قائلاً: «وكأنّهم - لعنهم الله - أرادوا أن

ص: 209


1- الطوسي، ابن حمزة، الثاقب في المناقب: ص336. ويظهر منه إنكار رضّ الجسد الشريف؛ حيث عقد فصلاً وذكر فيه (في بيان ظهور آياته بعد الموت) وذكر تحته حديث الأسد.
2- الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الأُمم والملوك: ج4، ص314.
3- ابن الأثير، علي بن أبي الكرم، الكامل في التاريخ: ج4، ص55.
4- البلاذري، أحمد بن يحيى، أنساب الأشراف: ج3، ص204.
5- ابن الجوزي، عبد الرحمن بن علي، المنتظم: ج5، ص337.
6- الكوفي، ابن أعثم، الفتوح: ج5، ص93.
7- الخوارزمي، الموفق بن أحمد، مقتل الحسين علیه السلام: ج2، ص44.
8- سبط ابن الجوزي، شمس الدين بن قرغلي، تذكرة الخواص: ص288.
9- المسعودي، علي بن الحسين، مروج الذهب: ج3، ص259.
10- الشبراوي، عبد الله بن محمد، الإتحاف بحبّ الأشراف: ص53.
11- النويري، أحمد بن عبد الوهاب، نهاية الأرب في فنون الأدب: ج20، ص463.
12- الهيتمي، أحمد بن حجر، الصواعق المحرقة: ص198.
13- المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج45، ص60.

يوطئوا الخيل؛ بحيث لا يبقى من جسده الشريف أثر، فمنعهم الأسد من ذلك، وإلّا فالعشرة المتقدِّمة لعنهم الله قد رضّوا صدره وظهره على حسب ما أمر عبيد الله بن زياد أولاً، وجاءهم أمر آخر بأن لا يبقوا من جسده الشريف أثراً، فحال بينهم وبينه الأسد، وحكي عن السيد المرتضى ذلك»(1). وهو وجه قابل للتأمّل في الجمع بين الروايات المختلفة.

ص: 210


1- الحائري، محمد مهدي، معالي السبطين: ج2، ص23.

العِنَايَاتُ الإلهيَّة بالإمَامِ الحُسَين علیه السلام

اشارة

د. الشَّيخ عَليّ حُمُود العِبَادِيّ(1)

مدخل

تتمحور هذه الدراسة حول ذكر بعض العنايات الإلهية بالإمام الحسين علیه السلام، والتي أضاءتها النصوص القرآنية والروائية بأروع بيان، وبروح برهانيّة وعناصر استدلالية؛ لتُبيِّن لنا أنّ الإمام الحسين علیه السلام من الذرِّية الطاهرة، ذرِّية الأنبياء والأوصياء، وإمام معصوم قد خصّه الله تعالى بالتشريف والتعظيم.

وسيتّضح من خلال ما سنبيِّنه في هذه الدراسة حقيقة وماهية هذه العنايات الإلهية، والاستدلال عليها بما ورد في النصوص القرآنية والروائية التي تبلغ حدّ الاستفاضة أو التواتر - ما يغنينا عن البحث السندي - مع الاستئناس بأقوال علماء الفريقين، وسنحاول ذكر بعض الشبهات والإشكاليات ونجيب عنها.

وعليه؛ ستكون منهجة البحث وتقسيمه بالنحو التالي:

ص: 211


1- باحث وكاتب إسلامي وأُستاذ في جامعة آل البيت علیهم السلام العالمية.

تقسيم البحث

اشارة

سيتم البحث في هذهِ الدراسة - إن شاء الله - عن ثلاث عنايات قد خصّ الله بها الإمام الحسين علیه السلام، سيد شباب أهل الجنة، وريحانة جدّه صلی الله علیه و آله ، وهي:

الأُولى: إنّ الحسين علیه السلام امتداد لذرّية الأنبياء علیهم السلام.

الثانية: طهارة أصلاب آباء الإمام الحسين علیه السلام وأرحام أُمهاته.

الثالثة: خلق الإمام الحسين علیه السلام من طينة طاهرة.

العناية الأُولى: الإمام الحسين علیه السلام امتداد لذرّية الأنبياء الطاهرة
اشارة

إنّ كون الشخصية - أياً كانت - من ذرِّية الأنبياء والمرسلين هو من العنايات الربّانية التي تعكس المقام الشامخ لتلك الشخصية، والتي لا تتيسر لكلّ أحد، والاستدلال على أنّ الإمام الحسين علیه السلام امتداد للذرّية الطاهرة للأنبياء، يتوقّف على بيان عدّة مقدّمات تساهم في بناء إطار واضح للموضوع، وهي:

المقدمة الأُولى: إنّ الأنبياء من ذرّية واحدة.

المقدمة الثانية: إنّ النبي صلی الله علیه و آله من ذرّية الأنبياء علیهم السلام.

المقدمة الثالثة: إنّ الإمام الحسين من ذرية النبي صلی الله علیه و آله .

والنتيجة: إنّ الإمام الحسين علیه السلام من ذرّية الأنبياء علیهم السلام.

المقدّمة الأولى: الأنبياء علیهم السلام من ذرّية واحدة

من الحقائق التي أضاءها القرآن الكريم في نصوص وافرة هي كون الأنبياء من ذرّية واحدة، حيث استوفت النصوص المباركة جميع جوانب المسألة، وهي تغني عن إقامة أيّ دليل آخر، ومن هذه النصوص القرآنية:

1- قوله تعالى:«وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ*وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ *وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا

ص: 212

وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ *وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ*ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ *أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ...»(1).

2- قوله تعالى: «هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ*فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ »(2).

3- قوله تعالى: «وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ»(3).

4- قوله تعالى:«أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا»(4).

ومن خلال هذه الآيات المباركات نفهم بوضوح أنّ الأنبياء من ذرّية واحدة، وأنّ مواريث النبوّة لا تخرج عن هذه الذرّية الطيِّبة، وأنّ هذا من الحقائق والسُّنن القرآنية التي لا غبار عليها؛ وممّا يؤيد ذلك أيضاً أقوال العلماء في هذا المجال، يقول الشيخ الطبرسي في تفسير قوله تعالى: «ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ»: «آل إبراهيم: إسماعيل وإسحاق وأولادهما. و(آل عمران): موسى وهارون ابنا عمران بن يصهر. (بعضها من بعض) يعني: أنّ الآلين ذرّية واحدة متسلسلة بعضها متشعِّب من بعض»(5). ويقول الطباطبائي في تفسير قوله تعالى:«ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ»: «الذرّية في الأصل صغار الأولاد على ما ذكروا، ثمّ استُعملت في مطلق الأولاد، وهو المعنى المراد في الآية... وفي قوله:«ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ» دلالة على أنّ كلّ بعض فرض منها

ص: 213


1- الأنعام: آية 84 - 89.
2- آل عمران: آية 38 - 39.
3- العنكبوت: آية 27.
4- مريم: آية 58.
5- الطبرسي، الفضل بن الحسن، تفسير جوامع الجامع: ج1، ص279.

يبتدئ وينتهي من البعض الآخر وإليه، ولازمه كون المجموع متشابه الأجزاء، لا يفترق البعض من البعض في أوصافه وحالاته، وإذا كان الكلام في اصطفائهم أفاد ذلك أنّهم ذرّية لا يفترقون في صفات الفضيلة التي اصطفاهم الله لأجلها على العالمين»(1). ويقول الزمخشري أيضاً في بيان قوله تعالى:«ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ»: «يعني: أنّ الآلين ذرّية واحدة متسلسلة بعضها متشعِّب من بعض»(2). فتبيَّن أنّ الأنبياء من ذرّية واحدة.

المقدّمة الثانية: النبي الأكرم صلی الله علیه و آله من ذرّية الأنبياء

من الحقائق المُسَلَّمة بين المسلمين - والتي تُبرَز إلى جوار ما تقدّم من كون الأنبياء من ذرّية واحدة - هي الحقيقة التي تشير إلى كون نبينا الأكرم محمّد صلی الله علیه و آله من ذرّية الأنبياء، فلم يشكك أحد في كونه من ذرّية إبراهيم علیه السلام والذرّية الطاهرة للأنبياء علیهم السلام. ورغم أنّ هذا الأمر واضح ومتّفق عليه، إلّا أنّنا نعزّز البحث بذكر بعض الشواهد وأقوال العلماء:

1- روى المحدِّث القمّي - في تفسير قوله تعالى: «رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ » - قول رسول الله صلی الله علیه و آله : «أنا دعوة أبي إبراهيم»(3).

2- وفي تفسير العياشي، عن أبي عمرو الزبيري عن أبي عبد الله علیه السلام، قال: «قلت له: أخبرني عن أُمّة محمد صلی الله علیه و آله مَن هم؟ قال: أمُّة محمد بنو هاشم خاصّة، قلت: فما الحجّة في أمُّة محمد أنّهم أهل بيته الذين ذُكرت دون غيرهم؟ قال: قول الله: «وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ *رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ » فلمّا أجاب الله إبراهيم وإسماعيل، وجعل من ذريتهما أُمّةً مسلمة، وبعث فيها رسولاً منها، يعنى: من

ص: 214


1- اُنظر: الطباطبائي، محمد حسين، تفسير الميزان: ج3، ص167 - 169.
2- اُنظر: الزمخشري، محمود بن عمر، الكشاف: ج1، ص424.
3- اُنظر: القمي، علي بن إبراهيم، تفسير القمي: ج1، ص62.

تلك الأُمّة، يتلو عليهم آياته ويزكِّيهم ويعلِّمهم الكتاب والحكمة، ردف إبراهيم دعوته الأُولى بدعوة أُخرى فسأل لهم تطهيراً من الشرك، ومن عبادة الأصنام؛ ليصحّ أمره فيهم، ولا يتّبعوا غيرهم، فقال: «وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ*رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ». فهذه دلالة على أنّه لا تكون الأئمّة والأُمّة المسلمة التي بعث فيها محمد صلی الله علیه و آله إلّا من ذرّية إبراهيم لقوله: واجنبني وبنيّ أن نعبد الأصنام»(1).

3- وأخرج ابن المغازلي في المناقب، عن عبد الله بن مسعود، قال: «قال رسول الله صلی الله علیه و آله : أنا دَعْوَةُ أبي إبراهيم. قلنا: يا رسول الله، وكيف صِرْتَ دعوة أبيك إبراهيم؟ قال: أوحى الله إلى إبراهيم:«إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا » فاستَخَفَّ إبراهيم الفَرَحُ، قال: يا رَبِّ، ومِنْ ذُرِّيَّتِي أئمّة مِثْلي، فأوحى الله إليه أن يا إبراهيم إنّي لا أُعطيك عهداً لا أفي لك به. قال: يا ربّ، ما العهد الذي لا تفي لي به. قال: لا أعطيك لظالم من ذُرِّيَّتك. قال إبراهيم عندها:«وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ*رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ»، قال النبيّ صلی الله علیه و آله : فَانْتَهَتِ الدَّعوةُ إلَيَّ وإلى عَلِيّ لم يَسْجُدْ أحدٌ منّا لِصَنَم قطُّ، فاتَّخَذني الله نَبيّاً واتَّخذ عَليّاً وَصِيّاً»(2).

4- وقال الطبري في تفسيره، عن قتادة في قوله تعالى:«إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ»: «ذكر اللهُ أهلَ بيتين صالحين ورجلين صالحين، ففضَّلهم على العالمين، فكان محمد من آل إبراهيم»(3).

5- وقال الطباطبائي في بيان قوله تعالى:«إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ : «آل إبراهيم: فظاهر لفظه أنّهم الطيِّبون من ذرّيته، كإسحاق وإسرائيل، والأنبياء من بني إسرائيل وإسماعيل والطاهرون من ذرّيته وسيدهم محمد صلی الله علیه و آله »(4).

ص: 215


1- اُنظر: العياشي، محمد بن مسعود، تفسير العياشي: ج1، ص60 - 61.
2- ابن المغازلي الشافعي، علي بن محمد، مناقب علي بن أبي طالب علیه السلام: ص 224.
3- اُنظر: الطبري، محمد بن جرير، جامع البيان عن تأويل آي القرآن: ج3، ص317.
4- اُنظر: الطباطبائي، محمد حسين، تفسير الميزان: ج3، ص165- 166.
المقدمة الثالثة: الإمام الحسين علیه السلام من ذرية النبي الأكرم صلی الله علیه و آله

إنّ كون الإمام الحسين من ذرّية النبي صلی الله علیه و آله من الحقائق المسلَّمة بين جميع المسلمين، حيث توفَّرت نصوص قرآنية دالّة على ذلك، كآية التطهير والمباهلة والمودّة وغيرها، مضافاً إلى ما احتشدت به الكتب والمجامع الروائية من الشواهد الدالّة على ذلك، مما لا يسع المقام لاستقصائه.

إشكال وجوابه:

قد يُطرح إشكال مفاده: إنّ كون الشخص من أولاد البنت، لا يصيّره من أبناء آبائها، باعتبار أنّ قانون الذراري والأجداد يؤخذ من جدّ الأب لا الأُمّ، فكيف يكون الإمام الحسين من ذرّية النبي صلی الله علیه و آله مع أنّه علیه السلام من أبناء فاطمة صلی الله علیه و آله بنت النبي صلی الله علیه و آله ، وأبناء البنت ليسوا من الذراري والأبناء لآباء الأُم بالاصطلاح المعروف؟!

والجواب: إنّ القرآن الكريم قد جعل ابن البنت من ذرّية آباء البنت، كما في قوله تعالى:«وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ *وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ »(1).

قال الشيخ الطوسي: «إذا وقف على أولاده، وأولاد أولاده، دخل أولاد البنات فيه، ويشتركون فيه مع أولاد البنين، الذكر والأنثى فيه سواء كلّهم. وبه قال الشافعي، دليلنا [أي دليل الإمامية]: إجماع المسلمين على أنّ عيسى بن مريم من وُلد آدم، وهو ولد بنته؛ لأنّه ولِد من غير أب»(2).

وقال القرطبي: «أي: ذرّية إبراهيم... وقال ابن عباس: هؤلاء الأنبياء جميعاً مضافون إلى ذرّية إبراهيم وإن كان فيهم مَن لم تلحقه ولادة من جهته من جهة أب ولا أمُّ؛ لأنّ لوطاً ابن أخي إبراهيم، والعرب تجعل العم أباً، كما أخبر الله عن ولد يعقوب

ص: 216


1- الأنعام: آية84 - 85.
2- اُنظر: الطوسي، محمد بن الحسن، الخلاف: ج3، ص546- 547.

أنّهم قالوا: «نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ»(1). وإسماعيل عمّ يعقوب، وعدّ عيسى من ذرّية إبراهيم وإنّما هو ابن البنت، فأولاد فاطمة رضي الله عنها ذرّية النبي صلی الله علیه و آله »(2).

الحكمة في جعل الأوصياء والأنبياء علیهم السلام من ذرّية واحدة

بعد أن ثبت كون الإمام الحسين علیه السلام من ذرِّية الأنبياء، يأتي هذا السؤال: ما هي الحكمة في جعل الأوصياء والأنبياء من ذرية واحدة؟ وهل يُعدّ ارتباط الإمام الحسين علیه السلام بالنبي محمد صلی الله علیه و آله - باعتباره من ذرّيته - من جملة العنايات الإلهية لنفس الإمام علیه السلام، أم لا؟ ولماذا؟

وسنجيب عن هذا التساؤل بالوجهين التاليين:

الأول: لعل الحكمة في جعل الأنبياء من ذرّية واحدة هو: أنّ الذرّية عادة ما يكون لها من الاستعداد للإعداد الربّاني ولتحمّل مسؤولية الرسالة والولاية أكثر ممّا تكون خارج دائرة الذرّية؛ ومن هنا نجد أنّ إعداد الوصي للرسالة من ذرّية الرسول أو النبي يكون له الدور الكبير والأثر البالغ في تحقيق أهداف الرسالة؛ وذلك لأنّ القرابة تُعَدّ عادة الإطار السليم للتربية والإعداد للقيام بالدور الربّاني، فالقرابة ليس لها أيّ أثر عند الباري تعالى، إلّا إذا كانت تصبُّ في تحقيق أهداف الرسالة من خلال الإعداد السليم للتربية وتحمّل المسؤولية.

لاسيما إذا لا حظنا أنّ الرسول الحامل للرسالة عادة ما يكون عمره أقصر من عمر الرسالة ومهمّاتها؛ وهذا ما نلمسه واضحاً في كثير من الرسالات السماوية، وبالذات الرسالة الإسلامية، حيث كان عمر النبي صلی الله علیه و آله قصيراً نوعاً ما، وذلك لأنّه توفّي بعد مضي ثلاث وعشرين سنة من البعثة الشريفة، بالرغم من الجهود الكبيرة التي بذلها، والإنجازات الواسعة التي حقَّقها في غضون هذه المدّة القصيرة، لكن بقيت أعباء

ص: 217


1- البقرة: آية 133.
2- اُنظر: القرطبي، محمد بن أحمد، الجامع لأحكام القرآن: ج7، ص31.

الرسالة قائمة في جميع المجالات، سواء في مجال فهم وتوضيح الرسالة، أو مجال تطبيقها وتثبيتها، أو غير ذلك من المجالات التي تحتاج مَن يتحمّل أعباءها.

الثاني: إنّ القرابة والذرّية الواحدة وإن لم يكن لها أيّة مدخلية في الحساب يوم القيامة، كما في قوله تعالى:«فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ»(1)، ولكنّه يُعدّ من العوامل المؤثِّرة في حركة المجتمع وتكامله وبناء علاقاته الإنسانية؛ وذلك لأنّ الناس يتفاعلون ويتأثرون بهذا العامل الاجتماعي، كما نلمسه واضحاً في تاريخ الأُمم والمجتمعات الإنسانية السابقة واللاحقة، فيتفاضلون ويفتخرون ويتأثرون به؛ لذلك نجد أنّ من شرائط النبي أو الإمام هو أن لا يكون فيه جنحة مخلّة بوضعه الاجتماعي، وأن لا يكون من عائلة وضيعة وغير شريفة، وغير ذلك من الشرائط التي يتناولها علماء الكلام في بحث مواصفات الأنبياء والأئمّة.

ومن الواضح أنّ هذه الأبعاد نجدها متوفِّرة في أهل البيت علیهم السلام، ومن العوامل التي تساهم في توفّر هذه الأبعاد في الأنبياء وأهل البيت علیهم السلام هو كونهم من ذرّية واحدة؛ إذ لو لم يكونوا من نسب واحد وبيت واحد، وكانوا متفرِّقين ومن قبائل شتّى، لم يكن للرسالة أن تحقِّق غرضها بقدر ما لو كانوا من ذرّية واحدة وبيت واحد.

وبهذا يتّضح أنّ الحكمة من جعل الإمام الحسين علیه السلام من ذرّية الأنبياء علیهم السلام هو أنّ الذرّية الواحدة المتسلسلة، تُعدّ من أهم آليات الإعداد الإلهي للأنبياء والأوصياء. وهذا الأمر نجده واضحاً في تاريخ الرسالات والأنبياء، فقد قال تعالى:«وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ...»(2). وقال تعالى:«وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ *وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ *وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ *وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ*وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ

ص: 218


1- المؤمنون: آية101.
2- الحديد: آية26.

وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ »(1).

العناية الثانية: طهارة أصلاب آباء الإمام الحسين علیه السلام وأرحام أُمهاته

اشارة

إنّ إثبات طهارة أصلاب آباء الإمام الحسين علیه السلام وأرحام أُمهاته يتطلّب منّا إثبات طهارة أصلاب آباء النبي الأعظم صلی الله علیه و آله وأرحام أُمهاته؛ باعتبار أنّه ثبت في العناية الأُولى أنّ الإمام الحسين علیه السلام من ذرّية النبي صلی الله علیه و آله ، وحينها سيثبت كونه علیه السلام من أصلاب وأرحام طاهرة.

نعم، يبقى إثبات طهارة أبوي الإمام الحسين علیه السلام المباشرَين، وهما: الإمام أمير المؤمنين علیه السلام وفاطمة الزهراء صلی الله علیه و آله ، وطهارتهما أوضح من أن تُذكَر أو يُستدَلّ عليها، كما نصّت على ذلك آية التطهير. وكذا الحال بالنسبة إلى جدّه أبي طالب فطهارته من الشرك والسفاح من ضروريات المذهب الإمامي الاثني عشري.

ولنتكلّم حول طهارة أصلاب وأرحام آباء وأُمهات النبي محمد صلی الله علیه و آله ، فنقول: من الواضح أنّ المقصود من الطهارة ما يشمل جهتين:

1- الطهارة من الشرك.

2- الطهارة من السفاح.

وسنبحث في هاتين الجهتين بشيء من التفصيل:

الجهة الأُولى: الطهارة من الشرك

هناك مجموعة من النصوص القرآنية والروائية التي تدلّ على طهارة آباء وأُمّهات نبيّنا الأكرم محمد صلی الله علیه و آله من الشرك، من لدن آدم وحوّاء علیهما السلام، إلى أبيه عبد الله وأُمه آمنة علیهما السلام:

أمّا من القرآن الكريم: فقوله تعالى:«الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ *وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ »(2)، وهي واضحة الدلالة على أنّ النبي صلی الله علیه و آله كان يتقلّب في أصلاب الموحِّدين، وهذا هو

ص: 219


1- الأنعام: آية83 - 87.
2- الشعراء: آية218- 219.

الموافق للروايات المعتبرة وآراء العلماء في تفسير هذه الآية المبارك.

فقد روى القمّي في تفسيره عن الباقر علیه السلام في قوله تعالى:«وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ»، قال: «في أصلاب النبيّين»(1). وفي نصٍّ آخر يرويه المجلسي، عن أبي الجارود، قال: سألتُ أبا جعفر علیه السلام عن قوله:«وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ»، قال: «تقلّبه في أصلاب الموحِّدين من نبيّ إلى نبيّ، حتى أخرجه من صُلب أبيه من نكاح غير سفاح من لدن آدم علیه السلام»(2). وأخرج الطبراني بسنده عن ابن عباس، في قوله تعالى:«وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ»، قال رسول الله صلی الله علیه و آله : «من صلب نبيّ إلى نبيّ حتى أُخرجتُ نبيّاً»(3).

وقال المفيد في ذيل هذه الآية المباركة: «يريد به: تنقّله في أصلاب الموحِّدين، وقال نبيّنا صلی الله علیه و آله : ما زلت أتنقّل من أصلاب الطاهرين إلى أرحام المطهَّرات، حتى أخرجني الله تعالى في عالمكم هذا. فدلّ على أنّ آباءه كلّهم كانوا مؤمنين؛ إذ لو كان فيهم كافرٌ لما استحقَّ الوصف بالطهارة؛ لقول الله تعالى:«إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ...» (4)، فحكم على الكفّار بالنجاسة، فلمّا قضى رسول الله صلی الله علیه و آله بطهارة آبائه كلّهم ووصفهم بذلك، دلّ على أنّهم كانوا مؤمنين»(5).

وقال المارودي في تفسير هذه الآية: «أي: تقلّبك في أصلاب طاهرة من أبٍ بعد أبٍ إلى أن جعلتك نبيّاً، وقد كان نور النبوّة في آبائه ظاهراً»(6).

دفع توّهم

هناك توهُّم مفاده: إنّه لا يلزم ممّا ذُكِر أن يكون جميع آبائه النسبيِّين موحِّدين؛ وذلك لأنّ قوله تعالى:«وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ» يصدق حتى لو كان بعض آباء النبي صلی الله علیه و آله موحِّدين.

ص: 220


1- اُنظر: القمّي، علي بن إبراهيم، تفسير القمّي: ج2، ص125.
2- المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج15، ص3، ح2.
3- الطبراني، سليمان بن أحمد، المعجم الكبير: ج11، ص287.
4- التوبة: آية28.
5- المفيد، محمد بن محمد، تصحيح اعتقادات الإمامية: ص139.
6- اُنظر: الماوردي، علي بن محمد، أعلام النبوة: ص233.

الجواب: إنّ هذا الإشكال غير تامّ من جهتين:

الأُولى: إنّ الآية المباركة وهي قوله تعالى: «وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ»كانت في مقام الامتنان والمدح للنبي صلی الله علیه و آله ، ومن الواضح أنّ مقام الامتنان والمدح له صلی الله علیه و آله يقتضي شمول جميع آبائه في العمود النّسَبي؛ وذلك لأنّ الآية لو كانت بصدد بيان أنّ بعض آبائه موحِّدون دون غيرهم، فلا يكون ذلك مدحاً وامتناناً للنبي صلی الله علیه و آله ؛ لأنّه ممّا يشترك فيه جميع الناس؛ وحينئذٍ لا يكون ذلك من مزاياه.

وعلى هذا؛ لا بدّ أن تُحمَل دلالة الآية على جميع آبائه بلا استثناء، مضافاً إلى ما ذكرنا من الروايات والنصوص التي تؤكّد على طهارة أجداد وآباء النبي صلی الله علیه و آله جميعاً.

الثانية: قوله تعالى:«وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ *رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ...»(1)، وهي واضحة الدلالة على استمرار الذرّية المسلمة وعدم انقطاعها.

وعلى هذا؛ فالقول بأنّ بعض آباء النبيّ غير موحِّدين؛ باطل؛ لأنّ إبراهيم علیه السلام قد طلب أن تكون من ذرّيته أُمّة مسلمة مستمرة، ومن الواضح أنّه قد استُجيبت هذه الدعوة، وكان من أبرز مصاديق ذرّية إبراهيم المسلمة المستمرّة هو النبيّ محمد صلی الله علیه و آله . وتختص هذه الجهة بالسلسلة النسبية بين إبراهيم ونبيّنا الأكرم.

وأما النصوص الروائية: فهناك عدد وافر من الروايات التي تتحدّث عن طهارة آباء النبي من الشرك، بَيْد أنّ الشيء الذي ينبغي التذكير به هو أنّ هذه الروايات متواترة ومتضافرة عند الشيعة الإمامية، وكذلك عند غيرهم الكثير من الروايات التي تنزِّه آباء النبي صلی الله علیه و آله من الكفر والشرك.

ورد في البحار ما نصّه: «إنّ آباء النبيّ صلی الله علیه و آله كانوا من الصدّيقين، إمّا أنبياء أو أوصياء معصومين»(2). وقد نقل إجماعَ الإمامية على ذلك كلٌّ من الشيخ المفيد(3)، والطبرسي في

ص: 221


1- البقرة: آية127- 128.
2- اُنظر: المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج15، ص117.
3- اُنظر: المفيد، محمد بن محمد، تصحيح اعتقادات الإمامية: ص139.

مجمع البيان(1).

وروي عن ابن عباس عن رسول الله صلی الله علیه و آله ، أنّه قال: «لم يزل الله ينقلني من صُلب نبيّ إلى صُلب نبيّ حتى صرت نبيّاً»(2). ويدلّ على ذلك أيضاً ما سيأتي من الروايات المصرِّحة بطهارة آباء النبي صلی الله علیه و آله من السفاح، وهي شاملة بإطلاقها للطهارة من دنس الشرك. وقد صرّح بذلك كلٌّ من المسعودي(3) واليعقوبي(4) والماوردي في أعلام النبوَّة(5)، وغيرهم.

الجهة الثانية: طهارة آباء النبي صلی الله علیه و آله من السفاح

لا يخفى أنّ طهارة آباء النبي من السفاح يُعدّ عند الشيعة الإمامية من البدهيات التي تعلو على البرهنة والاستدلال؛ حيث دلّت على ذلك الروايات المتضافرة، من قبيل ما رواه الشيخ الصدوق، عن النبيّ صلی الله علیه و آله أنّه قال: «خرجت من نكاح، ولم أخرج من سفاح، من لدن آدم علیه السلام»(6). وما في كنز الفوائد عن رسول الله صلی الله علیه و آله ، أنّه قال: «نُقلتُ من الأصلاب الطاهرة إلى الأرحام المطهَّرة نكاحاً لا سفاحاً»(7).

وأمّا الروايات الواردة من طرق أهل السنّة فهي كثيرة أيضاً، منها:

1- ما رواه الطبراني عن النبي صلی الله علیه و آله ، أنّه قال: «خرجت من نكاح، ولم أخرج من سفاح، من لدن آدم إلى أن ولدني أبي وأُمّي»(8).

2- ما ورد في السيرة الحلبية، عن رسول الله صلی الله علیه و آله ، أنّه قال: «لم يزل الله ينقلني من

ص: 222


1- اُنظر: الطبرسي، الفضل بن الحسن، مجمع البيان: ج4، ص90.
2- اُنظر: الهيثمي، نور الدين، مجمع الزوائد: ج7، ص86.
3- اُنظر: المسعودي، علي بن الحسين، مروج الذهب: ج2، ص 108.
4- اُنظر: اليعقوبي، حمد بن أبي يعقوب، تاريخ اليعقوبي: ج2، ص14.
5- اُنظر: الماوردي، علي بن محمد، أعلام النبوّة: ص233.
6- الصدوق، محمد بن علي، الاعتقادات: ص111.
7- اُنظر: الكراجكي، محمد بن علي، كنز الفوائد: ص70.
8- الطبراني، سليمان بن أحمد، المعجم الأوسط: ج5، ص80.

الأصلاب الحسنة إلى الأرحام المطهَّرة»(1). وفيها أيضاً، قوله صلی الله علیه و آله : «لم يزل الله ينقلني من أصلاب الطاهرين إلى أرحام المطهرات حتى أخرجني في عالمكم هذا، ولم يُدنِّسني بدنس الجاهلية»(2).

3- ما رواه ابن سعد في طبقاته، عن النبيّ الأكرم صلی الله علیه و آله أنّه قال: «قسَّم الله الأرض نصفين، فجعلني في خيرها، ثمّ قسّم النصف على ثلاثة، فكنتُ في خير ثلث منها، ثمَّ اختار العرب من الناس، ثمَّ اختار قريشاً من العرب، ثمَّ اختار بني هاشم من قريش، ثمَّ اختار بني عبد المطلب من بني هاشم، ثمَّ اختارني من بني عبد المطلب»(3).

4- ما أخرجه أحمد والترمذي - واللفظ للثاني - عن رسول الله صلی الله علیه و آله ، أنّه قال: «أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، إنّ الله خلق الخلق، فجعلني في خيرهم فرقة، ثمَّ جعلهم فرقتين، فجعلني في خيرهم فرقة، ثمَّ جعلهم قبائل، فجعلني في خيرهم قبيلة، ثمَّ جعلهم بيوتاً، فجعلني في خيرهم بيتاً وخيرهم نسباً. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن»(4).

5- ما أخرجه ابن عساكر، عن ابن عباس، قال: «سألت رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم)، قلت: فداك أبي وأُمّي! أين كنتَ وآدم في الجنّة؟ قال: فتبسّم حتى بدت ثناياه، ثمَّ قال: كنتُ في صُلبه ورُكب بي السفينة في صُلب أبي نوح، وقُذف بي في صُلب إبراهيم، لم يلتقِ أبواي قطّ على سفاح، لم يزل الله تعالى ينقلني من الأصلاب الحسنة إلى الأرحام الطاهرة، صفيّ مهديّ، لا يتشعّب شعبتان إلّا كنتُ في خيرهما، قد أخذ الله تعالى بالنبوّة ميثاقي وبالإسلام عهدي، وبشّر في التوراة والإنجيل ذكري، وبيَّن كل نبيّ صفتي، تشرق الأرض بنوري والغمام لوجهي»(5).

ص: 223


1- اُنظر: الحلبي، علي بن إبراهيم، السيرة الحلبية: ج1، ص49.
2- اُنظر: المصدر السابق.
3- ابن سعد، الطبقات الكبرى: ج1، ص20.
4- اُنظر: الترمذي، محمد بن عيسى، سنن الترمذي: ج5، ص244. أحمد بن حنبل، فضائل الصحابة: ج2، ص937.
5- اُنظر: ابن عساكر، علي بن الحسن، تاريخ دمشق: ج3، ص408.

وممّا بينّاه اتضح أنّ نسَب النبي صلی الله علیه و آله طاهر مطهَّر من الشرك ودنس السفاح.

إشكالية أنّ أبا إبراهيم علیه السلام لم يكن موحِّداً

حاصل هذه الإشكالية: أنّ بعض الوسائط في العمود النّسَبي لرسول الله صلی الله علیه و آله لم تكن وسائط مؤمنة كما ذكر ذلك القرآن الكريم في قصّة أبي النبي إبراهيم علیه السلام، الذي يظهر من بعض الآيات الشريفة كونه مشركاً، كما في قوله تعالى:«وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ...»(1)، وهذه الآيات وما يقع في سياقها تدلّ بوضوح على أنّ أبا النبي إبراهيم علیه السلام كان مشركاً، فينتقض الاستدلال المتقدّم.

الجواب: المراد في الآية هو عمّ إبراهيم، فإنّ إجماع الإمامية قائم على أنّ الذي استغفر له إبراهيم في الآية آنفة الذكر هو (آزر) وهو عمّ إبراهيم علیه السلام؛ وعلى هذا لا يصحّ النقض به؛ لأنّ محل الكلام في العمود النسبي لرسول الله صلی الله علیه و آله .

فقد روي عن أبي عبد الله علیه السلام، أنّه قال: «كان آزر عمّ إبراهيم علیه السلام منجِّماً لنمرود، وكان لا يصدر إلّا عن رأيه...»(2).

وهذا النصّ يؤكّده قوله تعالى: «أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ»(3)، حيث جعلت الآية المباركة إسماعيل أباً ليعقوب، والحال أنّه عمّه، كما هو واضح. وقد كان هذا متعارفاً عند العرب، حيث يطلقون لفظ الأب على العمّ، فيسمّون العمّ أباً، وكذا ابن الأخ ابناً.

والنتيجة المتحصِّلة في المقام: ثبوت طهارة أرحام وأصلاب آباء الإمام الحسين علیه السلام،

ص: 224


1- التوبة: آية 114.
2- المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج12، ص42.
3- البقرة: آية 133.

لما ثبت آنفاً من أنّ الحسين ابن النبيّ صلی الله علیه و آله ، وبينه وبين النبيّ واسطة واحدة وهي فاطمة الزهراء صلی الله علیه و آله ، وطهارتها من الواضحات كما نصَّ عليه القرآن الكريم، كما في آية التطهير، وغيرها من النصوص القرآنية والروائية، وكذلك يُثبِت طهارةَ أرحام وأصلاب آباء الإمام الحسين علیه السلام ما ورد في زيارته بشكل واسع لا يسع المقام لذكره.

العناية الثالثة: خلق الإمام الحسين علیه السلام من طينة طاهرة

اشارة

لا يخفى أنّ بحث الطينة هو من الغيب المختصّ بالله تعالى، فلا بدّ أن يكون طريق العلم به من قبله، أو من طريق أنبيائه وأوليائه، وقد وردت روايات متضافرة تدلّ على أنّ الله تعالى قد خلق أهل البيت علیهم السلام من طينة طاهرة، وهذه الروايات شاملة للإمام الحسين علیه السلام كما هو واضح، وسيأتي إن شاء الله.

وهذه الروايات على وفرتها تُغنينا عن الدخول في غمرة البحث السندي لحصول الاطمئنان بصدور بعضها؛ لذا نستعرض البعض على سبيل المثال:

1- روى الصدوق بسنده، عن إسحاق القمّي، قال: «دخلت على أبي جعفر الباقر علیه السلام... فقال: يا إسحاق، ليس تدرون من أين أوتيتم؟ قلت: لا والله، جعلت فداك، إلّا أن تخبرني، فقال: يا إسحاق، إنّ الله تعالى لمّا كان متفرّداً بالوحدانية ابتدأ الأشياء لا من شيء، فأجرى الماء العذب على أرض طيبة طاهرة سبعة أيام بلياليها، ثمّ نضب الماء عنها، فقبض قبضة من صفوة ذلك الطين، وهي طينة أهل البيت، ثمَّ قبض قبضة من أسفل ذلك الطين وهي طينة شيعتنا، ثمَّ اصطفانا لنفسه، فلو أنّ طينة شيعتنا تُرِكَت كما تُرِكَت طينتنا، لما زنى أحد منهم، ولا سرق، ولا لاط، ولا شرب المسكر، ولا اكتسب شيئاً ممّا ذكرت، ولكن الله تعالى أجرى الماء المالح على أرض ملعونة سبعة أيام ولياليها، ثمَّ نضب الماء عنها، ثمَّ قبض قبضة، وهي طينة ملعونة من حمأٍ مسنون، وهي طينة خبال وهي طينة أعدائنا، فلو أنّ الله ترك طينتهم، كما أخذها لم تروهم في خلق الآدميين، ولم يقرّوا بالشهادتين، ولم يصوموا، ولم يصلّوا، ولم يزكّوا، ولم يحجّوا البيت، ولم

ص: 225

تروا أحداً منهم بحسن خلق، ولكن الله تبارك وتعالى جمع الطينتين: طينتكم وطينتهم، فخلطها وعركها عرك الأديم ومزجها بالمائين...»(1).

2- في البحار، عن الإمام الصادق علیه السلام: «إنّ الله خلق محمداً وطينته من جوهرة تحت العرش، وأنّه كان لطينته نضح، فجبل طينة أمير المؤمنين علیه السلام من نضح طينة رسول الله صلی الله علیه و آله ، وكان لطينة أمير المؤمنين نضح، فجبل طينتنا من فضل طينة أمير المؤمنين علیه السلام»(2).

3- روى القاضي النعمان، عن عمّار بن ياسر، قوله: «سمعت رسول الله صلی الله علیه و آله ، يقول: نوديت ليلة أُسري بي إلى السماء - إلى ربي -: يا محمد. قلتُ: لبيك وسعديك. قال: إنّي اصطفيتك لنفسي وانتجبتك لرسالتي، وأنت نبيي ورسولي وخير خلقي، ثمَّ الصدّيق الأكبر عليّ وصيك، خلقته من طينتك وجعلته وزيرك، وابناك الحسن والحسين. أنتم من شجرة، أنت - يا محمد - أصلها، وعليٌّ غصنها، والحسن والحسين ثمارها، خلقتكم من طينة علِّيين، وجعلتُ شيعتكم منكم، فقلوبهم تهوي إليكم. قلتُ: يا ربّ، هو الصدّيق الأكبر؟ قال: نعم، هو الصدّيق الأكبر»(3).

4- روى صاحب بصائر الدرجات، عن أبي الحجاج، قال: قال لي أبو جعفر علیه السلام: «يا أبا الحجاج، إنّ الله خلق محمداً وآل محمد من طينة علِّيين، وخلق قلوبهم من طينة فوق ذلك، وخلق شيعتنا من طينةٍ دون علِّيين، وخلق قلوبهم من طينة علِّيين، فقلوب شيعتنا من أبدان آل محمد، وإنّ الله خلق عدو آل محمد من طين سجين، وخلق قلوبهم من طين أخبث من ذلك، وخلق شيعتهم من طين دون طين سجين، وخلق قلوبهم من طين سجين، فقلوبهم من أبدان أولئك، وكلّ قلب يحنّ إلى بدنه»(4).

وغير ذلك من الروايات الوافرة المصرِّحة بأنّ طينة أهل البيت علیهم السلام طاهرة مطهَّرة(5).

ص: 226


1- اُنظر: الصدوق، محمد بن علي، علل الشرائع: ج2، ص490.
2- المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج15، ص22.
3- المغربي، النعمان بن محمد، شرح الأخبار: ج3، ص468- 469.
4- الصفار، محمد بن الحسن، بصائر الدرجات: ص38.
5- اُنظر: الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي: ج2، ص2، باب طينة المؤمن والكافر.
إشكال الجبر وسلب الإرادة

حاصل الإشكال: إنّ أخبار الطينة ومسألة خلق الإنسان من طينات مختلفة، وأنّ الطينة إمّا من علِّيين أو من سجِّين، وأنّ لكلّ منها أثراً خاصاً في مصير الإنسان، كلّ هذا يتنافى مع اختيارية الإنسان.

الجواب: إنّ الطينة سواء كانت طاهرة أم لا، ليست علّة تامّة لفعل الإنسان؛ كي يقال: بأنّ الله تعالى إذا خلق عبداً من عباده من طينة طاهرة يلزم أن يكون مجبوراً على الطاعة؛ وذلك لأنّ الطينة الطاهرة جزء العلّة، وبنحو المقتضي؛ وعليه يبقى زمام الاختيار بيد الإنسان.

وللتوضيح أكثر نقول: إنّه لما ثبت في محلّه أنّ الله تعالى عالم بالأشياء قبل خلقها، وأنّه تعالى عادل حكيم، فعلى هذا يقتضي أن يعطي كلّ مستعدٍ لما استعدّ له، فلو فرضنا أنّ الله تعالى علم من شخص أنّه لا يريد إلّا الطاعة، وأنّه مستعدّ لأن يكون في مقام القرب الإلهي، فبمقتضى حكمته تعالى وعدله أن يوفّر له العوامل التي تساعده للوصول إلى هذا المقام، من دون أن يسلبه الاختيار، ونستطيع أن نقتبس ذلك من بعض الآيات والروايات:

منها: قوله: «كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا»(1)، وهي واضحة الدلالة على أنّ الله هو الذي يمنح عطاءه الجزيل على أساس الحكمة الإلهية التي تقتضي أن يكون العطاء على وفق إرادة الإنسان، وأنّ إرادته هي التي تحدِّد ماهية وكمّية العطاء الإلهي.

ويؤكّد الطباطبائي رحمة الله هذا المعنى في ذيل هذه الآية المباركة، حيث يقول: «وهذه الآية تفيد أنّ شأنه تعالى هو الإمداد بالعطاء، يمدُّ كلَّ مَن يحتاج إلى إمداده في طريق حياته ووجوده، ويعطيه ما يستحقّه، وأنَّ عطاءه غير محظور، ولا ممنوع من قبله تعالى، إلّا أن يمتنع ممتنع بسوء حظّ نفسه، من قِبَل نفسه لا من قِبَله تعالى»(2).

ص: 227


1- الإسراء: آية20.
2- الطباطبائي، محمد حسين، تفسير الميزان: ج2، ص130- 131.

إذن؛ الناس بإرادتهم هم الذين قسّموا أنفسهم إلى هؤلاء وإلى هؤلاء، فالذين أرادوا لأنفسهم أن يكونوا من أهل الخير والصلاح، فإنّ الله تعالى يمدّهم؛ لكي يوفَّقوا إلى الطاعة، والذين أرادوا العناد والعصيان، فالله تعالى يمدّهم على حسب ما أرادوا. وعلى هذا؛ فالإنسان هو الذي يبني آخرته بنفسه، والله تعالى يزوّده بالإمكانيات على حسب استعداد ذلك الإنسان وإرادته.

ومنها: قوله:«أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا...»(1). ففي هذه الآية المباركة يضرب الله تعالى مثلاً، فيقول: كما أنّ الأودية الكبيرة والأنهار الصغيرة تأخذ قدرها من المياه بحسب ما استعدّت له، كذلك الأمر فيما يأخذه الإنسان من العطاء الإلهي، فيأخذ كلٌّ بحسب إرادته وعلى قدر ما استعدّ له. فالله تعالى يمدّ الإنسان بالعطاء، لمن أراد العاجلة أو الآخرة، فالإناء هو الذي يلوّن العطاء الإلهي.

وهذا المعنى يمكن أن نلمسه بوضوح، في حديث الإمام الباقر علیه السلام في ذيل الآية المباركة، حيث يقول: «أنزل الحق من السماء، فاحتملته القلوب بأهوائها، ذو اليقين على قدر يقينه، وذو الشكّ على قدر شكّه، فاحتمل الهوى باطلاً كثيراً وجفاءً، فالماء هو الحقّ، والأودية هي القلوب، والسيل هو الهوى، والزبد هو الباطل»(2).

ومنها: قوله:«وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ »(3)، أي: إنّ الله تعالى لم يجعلهم سمّاعين للخير؛ لأنّه تعالى علم منهم الإصرار على الهروب من الحقيقة، وأنّهم لا يريدون الخير والطاعة، ولو علم منهم أنّهم يطيعون لفتح قلوبهم وأسماعهم، ولو أعطاهم البصيرة، وفتح قلوبهم، فإنّهم لا يستفيدون منها.

ومنها: قوله:«وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا»(4).

ص: 228


1- الرعد: آية17.
2- اُنظر: القمّي، علي بن إبراهيم، تفسير القمي: ج1، ص362 - 364.
3- الأنفال: آية23.
4- الكهف: آية80.

حيث بعث الله تعالى عبداً من عباده كي يقتل الغلام؛ لأنّه سيكون سبباً في كفر والديه؛ لطغيانه وسوء معاملته لهما والتضييق عليهما ومحاصرتهما في النشاط الروحي«فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ...»، أي: أشدّ وصلاً للقرابة والرحمة، فلا يرهقهما بشيء، ومحلّ الشاهد في هذه الآية المباركة هو أنّ الله تعالى هيّأ للأبوين أسباب الطاعة لما علم بأنّهما يريدان الطاعة، وأنّهما مستعدّان لها؛ ولذا يكون سبب قتل الابن كونه مانعاً في وصول الأبوين لكمالهما.

ومنها: قوله تعالى:«وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى»(1)، فالظاهر من الآية أنّ الله تعالى يرسم لنا قاعدة قرآنية مهمّة مفادها: أنّ مَن علمنا أنّه يريد الطاعة، فنحن نهيِّئ له مقدماتها، ومتى علمنا أنّه يريد الشرك ويريد العصيان والعناد، فالحكمة الإلهية اقتضت «فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى» أي: نهيئ له تلك المقدمات التي من خلالها يستطيع أن يأتي بفعله على وفق ما أراد؛ ف-«كلٌّ ميسّر لما خلق له»(2)، أي: كلٌّ ميسّر لما أراد واستعدّ له.

وفي الرواية عن أبي بصير، قال: سمعت أبا عبد الله علیه السلام يقول: «إنّ الله اختار من وُلد آدم أُناساً طهَّر ميلادهم، وطيَّب أبدانهم، وحفظهم في أصلاب الرجال وأرحام النساء، أخرج منهم الأنبياء والرسل، فهم أزكى فروع آدم، فعل ذلك لأمر استحقوه من الله. ولكن علم الله منهم حين ذرأهم أنّهم يطيعونه ويعبدونه ولا يشركون به شيئاً، فهؤلاء بالطاعة نالوا من الله الكرامة والمنزلة الرفيعة عنده، وهؤلاء الذين لهم الشرف والفضل والحسب، وساير الناس سواء، ألا مَن اتّقى الله أكرمه، ومَن أطاعه أحبّه، ومَن أحبّه لم يعذِّبه بالنار...»(3).

ويُشير إلى هذا المعنى الآلوسي في تفسيره، حيث يقول: «ما ورد في الصحيح: اعملوا فكلّ ميسّر لما خلق له، أمّا مَن كان - أي: في علم الله - من أهل السعادة المستعدّة

ص: 229


1- الأعلى: آية8.
2- المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج4، ص282.
3- الطبرسي، أحمد بن علي، الاحتجاج: ج2، ص83 -84.

لها ذاته، فسيُيسَّر بمقتضى الرحمة لعمل أهل السعادة؛ لأنّ شأنه تعالى الإفاضة على القوابل بحسب القابليات، وأمّا مَن كان في الأزل والعلم القديم من أهل الشقاوة التي ثبتت لماهيته الغير المجعولة أزلاً، فسيُيَسّر بمقتضى القهر لعمل أهل الشقاوة... فيؤول الأمر إلى أنّ سبب نفي إيجاد الهداية انتفاؤها في نفس الأمر، وعدم تقررها في العلم الأزلي، ولو علم الله فيهم خيراً لأسمعهم»(1).

النتيجة: إنّ الله تعالى إذا علم بأنّ عبداً من عباده لا يريد إلّا القرب منه تعالى والطاعة والعبادة والصلاح، فبمقتضى حكمته وعنايته بخلقه أن يوفِّر لهم أسباب الوصول إلى مقام القرب الإلهي والطاعة، ومن جملة هذه الأسباب هي أن يخلقه من طينة طاهرة طيِّبة.

ومن ذلك يتّضح أنّ الطينة الطاهرة ليست علّة تامّة لكون الإنسان مطيعاً لله تعالى، سائراً في رضاه، كي يقال بأنّ الله تعالى إذا خلق عبداً من عباده من طينة طاهرة يلزم أن يكون ذلك العبد مجبوراً على الطاعة؛ وذلك لأنّ الطينة الطاهرة هي جزء العلّة، فالله تعالى خلق الإنسان ووهب له القوّة والقدرة على الفعل وعلى الترك، وهيَّأ له الأسباب، وجعله حرّاً مختاراً.

ويبدو هذا الأمر واضحاً في عصمة الأنبياء والأوصياء؛ فإنّ المعصوم - سواء فُسِّرت العصمة بالدرجة العليا من التقوى، أو أنّها نتيجة العلم القطعي بعواقب الأعمال والمعاصي، أو أنّها نتيجة الاستشعار بعظمة الباري تعالى - على جميع التقادير يكون مختاراً في فعله، وغير مسلوب الإرادة.

إشكالية صعوبة تعقّل أحاديث الطينة

الإشكالية تقول: إنّ أحاديث الطينة من الأحاديث الغريبة التي يصعب تعقّلها وإدراكها، فلا يمكن الاستدلال بها أساساً.

ص: 230


1- الآلوسي، أبو الفضل محمود، روح المعاني: ج1، ص139.

الجواب: إنّ أحاديث الطينة مستفيضة عند الفريقين؛ ولذا لا يمكن لأحد التشكيك في صدورها. وأمّا مجرّد الاستبعاد وصعوبة الفهم والتعقّل والإدراك، فإنّه ليس دليلاً على البطلان، وإلّا فإنّ أخبار الجنّة والنار بما لهما من الخصوصيات الغريبة والعجيبة أو أخبار السماء والملائكة، وكذلك أخبار نور النبي صلی الله علیه و آله الذي خُلق قبل ألفي عام كما في الروايات المتواترة من الفريقين، كلّها من الأحاديث التي يصعب إدراكها وفهمها، فهل يصحّ ردّها والحكم ببطلان مضامينها؟!

وبهذا ننتهي إلى أنّ الله تعالى أولى الإمامَ الحسين علیه السلام عنايات متعدّدة، من قبيل: جعله من ذرّية الأنبياء، وجعله وآبائه في أرحام وأصلاب طاهرة، وخلقه من طينة طاهرة.

ص: 231

ص: 232

دِرَاسَاتٌ في فِقهِ النَهّضَة الحُسَينيَة

اشارة

*فقه التربة الحسينية

القسم الأول حرمة الاستنجاء بالتربة الحسينية

*المشي لزيارة الإمام الحسين علیه السلام وباقي الأئمة علیهم السلام

دراسة في الموازين الفقهية

ص: 233

ص: 234

فِقهُ التُّربَةِ الحُسَينيَّة

القِسمُ الأوَّل حُرمَةُ الاستنِجَاءِ بالتُربَةِ الحُسَينيَّة

الشَّيخ أحمَد مُوسیَ العَلي(1)

المقدّمة

لا زالت كثير من المسائل الفقهية - محلّ الابتلاء - طيّ النسيان، ولا وجود لها في كتاباتنا الحديثة، سواء على مستوى الكتاب أو المجلة أو غيرها، وينحصر وجودها في الموسوعات الفقهية، التي كُتبت بعبارات علميّة تخصّصية، يصعب على أكثر القرّاء معرفتها، هذا من جانب.

ومن جانب آخر نجد أنّ معظم مسائل الموضوع الواحد منثورة وموزعة على الأبواب الفقهية؛ ممّا يشكّل صعوبة أُخرى في الاطّلاع عليها.

نعم، توجد هناك مشاريع جديدة قد عالجت هذه المعضلة، ولكن بعضها لا زال قيد الإنشاء، وبعضها الآخر في منتصف الطريق، مع خلوّ بعضها من المباحث المهمّة، ومن هذه المشاريع: (موسوعة الفقه الإسلامي)، و(موسوعة الفقه الإسلامي المقارن)، و(دائرة المعارف - فقه مقارن) باللغة الفارسية.

ص: 235


1- باحث وكاتب إسلامي.

ومن تلك البحوث المنسيّة هي: (فقه التربة الحسينية المباركة).

ونحاول هنا - وبقدر ما نمتلك من إمكانية - أن نسلّط الضوء على جانبٍ فقهي من جوانب النهضة الحسينية المباركة، وهو الجانب المعني بدراسةِ فقه أحكام التربة الحسينية المقدّسة.

إنّ هذه التربة المقدّسة اختصّت:

أولاً: بأحكام معنوية وتشريف إلهي، ميّزها عن سائر التُرب.

و ثانياً: بأحكام فقهية عديدة، ميّزتها عن غيرها.

ونعرض في بداية البحث ما يتعلّق بالجانب الأوّل، ولو على مستوى الروايات، ثمّ نبحث الجانب الثاني بحثاً فقهياً قد يطول نسبياً، ضمن سلسلة مقالات، تستوعب كلّ ما يختصّ بالتربة من أحكام.

ونود التنبيه على أنّ المستوى المعروض في هذه البحوث هو وسط، من الناحية الفقهية والأدبية فتحاشينا البحوث الفقهية المعمّقة جداً، والبحوث المُغرَقة بالأدب، وحاولنا قدر الإمكان التوفيق بين المستويين.

وسوف نسير وفق طريقة فقهاء الإمامية في مسائل التربة الحسينية، وسنبدأ بكتاب الطهارة وما فيه من مسائل تختصّ بتلك التربة، ثُمّ سائر الكتب، وصولاً إلى كتاب الديّات.

وبذلك سنستوعب كلّ المسائل التي لها دخلٌ من الناحية الفقهية في التربة المباركة.

وبعد متابعة مضنية في جميع أبواب الفقه الإسلامي الإمامي حصلنا على عدّة مسائل وبحوث تتعلّق بالتربة الحسينية، منها بحوث أصليّة، ومنها فرعية لها اتصال بما نحن فيه.

وفيما يأتي فهرستٌ أوليٌّ بمسائلها، وهي:

1- حرمة الاستنجاء بالتربة المباركة.

ويتفرّع عليها عدّة فروع، هي:

أ) كفر مَن تعمّد الاستنجاء بالتربة بقصد الإهانة.

ب) حكم الاستنجاء بالتربة مع الشكّ فيها.

ص: 236

ج) حكم طهارة الموضع مع الاستنجاء بالتربة المباركة.

2- حكم إزالة النجاسة عن التربة الحسينية.

3- حكم وقوع التربة الحسينية المباركة في الخلاء.

4- حكم اصطحاب تربة الحسين علیه السلام إلى الخلاء.

5- حكم وضع تربة الحسين علیه السلام مع ماء غسل الميت.

6- حكم وضع التربة الحسينية مع الكفن.

7- حكم الكتابة بتربة الحسين على الكفن.

8- حكم وضع التربة الحسينية مع الميت (في القبر).

9- حكم السجود على التربة الحسينية.

10- حمل التربة الحسينية أثناء السفر، ولحفظ المتاع.

11- التسبيح بالتربة الحسينية.

12- حكم الإفطار يوم العيد على التربة الحسينية.

13- حكم وجوب الخمس في التربة الحسينية.

14- حكم شراء وبيع التربة الحسينية.

15- حكم التداوي بالتربة الحسينية.

16- تحنيك المولود بالتربة الحسينية.

الجانب المعنوي للتربة الحسينية المباركة

اشارة

ولنبدأ بإشارة موجزة إلى الجانب المعنوي للتربة المباركة، فنقول: قد ورد عن الإمامين الباقر والصادق علیهما السلام وابن عباس - في المشهور - من أنّ للإمام الحسين علیه السلام فضائل ومميّزات ينفرد بها عن غيره من جميع الخلق، مع ما له من الفضائل الأُخرى التي يصعب عدّها، حيث عوّضه الله بها مقابل تضحيته وشهادته، فعن محمّد بن مسلم، قال: سمعت أبا جعفر وجعفر بن محمّد علیهما السلام يقولان: «إنّ الله عوّض الحسين علیه السلام من قتلِه أنّ الإمامة من ذريته، والشفاء في تربته، وإجابة الدعاء عند قبره، ولا تُعدّ أيام زائريه جائياً

ص: 237

وراجعاً من عمره»(1).

وعن ابن عباس - كما في كفاية الأثر - قال: «دخلت على النبيّ صلی الله علیه و آله والحسن على عاتقه، والحسين على فخذه، يلثمهما ويقبلّهما، ويقول: اللهم والِ مَن والاهما، وعادِ مَن عاداهما. ثُمّ قال: يا بن عباس، كأنّي به وقد خُضّبت شيبته من دمه، يدعو فلا يُجاب، ويستنصر فلا يُنصر. قلت: مَن يفعل ذلك يا رسول الله؟ قال: شرار أُمّتي، ما لهم؟! لا أنالهم الله شفاعتي. ثُمّ قال: يا بن عباس، مَن زاره عارفاً بحقّه، كتب له ثواب ألف حجّة، وألف عمرة، ألا ومَن زاره فكأنّما زارني، ومَن زارني فكأنّما زار الله، وحقّ الزائر على الله أن لا يعذّبه بالنار، ألا وإنّ الإجابة تحت قبّته، والشفاء في تربته، والأئمّة من وُلده...»(2).

والروايات التي وردت في خصوص تربة الحسين علیه السلام، وما لها من خصائص وأحكام، وفي مختلف الأبواب تصل إلى حدّ التواتر، بل ورد كثير منها في المصادر السنّية، فضلاً عن الشيعية.

وهذه خلاصة بالعناوين(3) التي ورد فيها مدح لهذه التربة المباركة، وبعض من رواها:

1- الروح الأمين يحمل تربة الحسين علیه السلام.

وممَّن نقل الأحاديث في ذلك:

أ) الإمام علي بن أبي طالب علیه السلام.

ب) حَبر الأُمّة عبد الله بن عباس.

ج) أُمّ المؤمنين أُمّ سلمة، ولها أكثر من خمسة أحاديث.

د) أُمّ المؤمنين زينب بنت جحش.

ص: 238


1- الطوسي، محمد بن الحسن، الأمالي: ص317. المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج44، ص221. الحرّ العاملي، محمد بن الحسن، وسائل الشيعة: ج14، ص423. مركز الرسالة، السجود مفهومه وآدابه والتربة الحسينية: ص105.
2- الخزاز القمّي، علي بن محمد، كفاية الأثر: ص16-17.
3- اُنظر: الأميني، عبد الحسين، السجود على التربة الحسينية: ص292 و347.

ه-) أُمّ الفضل بنت الحارث.

و) سعيد بن جمهان.

ز) أبو أُمامة.

2- إنّ مَلَك القطر والمطر يحمل تربة الحسين علیه السلام.

وممّن نقل الأحاديث في ذلك:

أ) أنس بن مالك.

ب) أبو الطفيل.

3- مَلكٌ من الصفيح الأعلى لم ينزل من قبل، يحمل تربة الحسين علیه السلام إلى النبيّ صلی الله علیه و آله .

وممّن نقل الأحاديث في ذلك:

أ) أُمّ المؤمنين أُمّ سلمة وعائشة.

ب) المسور بن مخزمة.

4- ملك البحار يحمل تربة الحسين علیه السلام إلى النبيّ صلی الله علیه و آله .

5- جميع ملائكة السماوات يحملون تربة الحسين إلى النبيّ صلی الله علیه و آله .

6- روايات أهل البيت علیهم السلام الكثيرة والمتنوعة في شرف التربة الحسينية.

وسيأتي كثير منها في مطاوي هذه المقالات، ونذكر حديثاً واحداً من العنوان الأوّل المتقدّم:

إذ ورد فيها أن الروح الأمين علیه السلام نزل إلى النبيّ صلی الله علیه و آله مراراً وعزّاه بسبطه الحسين علیه السلام، وأراه تربته، فأخذها النبيّ صلی الله علیه و آله فقلّبها، وقبّلها، وشمّها، وقال: «ريح كربٍ وبلاء»، وأراها لجماعة من أهل بيته وأزواجه وأصحابه، وهم الذين رووا حديثها، وتقدّم ذكرهم: فقد جاء عن نجي الحضرمي: «أنّه سار مع علي بن أبي طالب علیه السلام - وكان صاحب مطهرته - فلمّا حاذى نينوى وهو منطلق إلى صفّين، فنادى علي: اصبر أبا عبد الله بشط الفرات. قلنا: وما ذاك. قال: دخلت على النبيّ صلی الله علیه و آله ذات يوم، وإذا عيناه تذرفان، قلت: يا نبي الله أغضبك أحد؟ ما شأن عينيك تفيضان؟ قال: بل قام من عندي جبرئيل علیه السلام قبلُ، فحدّثني أنّ الحسين علیه السلام يُقتل بشطّ الفرات. قال: فقال: هل لك إلى

ص: 239

أن أُشمّك من تربته؟ قال: قلت: نعم. فمدّ يده، فقبض قبضه من تراب فأعطانيها، فلم أملك عينيّ أن فاضتا»(1).

وهذا الحديث أخرجه أحمد والطبراني وسعيد بن منصور والخوارزمي وابن عساكر وأبو يعلى والبزار عن نجيّ الحضرمي، وليس في أسانيدهم أيّ جهالة، بل قال الهيثمي في (مجمع الزوائد) - بعد ذكر الحديث باللفظ المتقدّم -: رواه أحمد وأبو يعلى والبزار والطبري، ورجاله ثقات، ولم ينفرد نجيّ بهذا.

وعوداً على بدء، سوف نتناول المسائل الفقهية بالبحث، وحسب الترتيب السابق، فنقول:

المسألة الأولى: حرمة الاستنجاء بالتربة الحسينية
اشارة

الاستنجاء من المسائل الفقهية العملية، والتي تُبحث في باب الطهارة تحت عنوان: (التخلّي)، ولعلّ الشريعة الإسلامية سبقت الحضارة الغربيّة بمئات السنين في التأكيد على الطهارة والنظافة، بل وتقنينهما.

ولكي تتّضح حرمة الاستنجاء بالتربة الحسينية نذكر - وكمقدمة لما نحن فيه - بعض الأُمور المتعلقة بالاستنجاء:

الأمر الأوّل: تعريف الاستنجاء لغة واصطلاحاً

الاستنجاء لغةً مصدر: استنجى، أي: طلب النجو، أو النجوة. ومن معاني النجو: الخلاص والقطع. والنجوة: المكان المرتفع، الذي ينجو فيه الإنسان من السيل(2).

وعرّفها فقهاء الإمامية: «إزالة ما يبقى من أحد الخبثين - بعد خروجهما من المحلّين

ص: 240


1- الهيثمي، علي بن أبي بكر، مجمع الزوائد: ج9، ص187. أبو يعلى، أحمد بن علي، مسند أبي يعلى: ج1، ص298. المتقي الهندي، علي، كنز العمال: ج13، ص655. ابن حنبل، أحمد، مسند أحمد: ج1، ص85.
2- اُنظر: الفيروز آبادي، محمد بن يعقوب، القاموس المحيط: ج4، ص392. الفيومي، أحمد بن محمد، المصباح المنير: ص594. الجوهري، إسماعيل بن حماد، الصحاح: ج6، ص2502، مادة (نجى).

الأصليين، أو المعتادين العارضين في وجه - عن ظاهر الموضع الذي خرجا منه»(1).

الأمر الثاني: الحكم التكليفي

الاستنجاء عند فقهاء الإمامية من الأُمور الواجبة، إلّا أنّهم قيّدوا الوجوب بما إذا وُجد سببه، وهو أمر خارج، والوجوب هنا هو وجوب شرطي لا نفسي، بمعنى أنّ الاستنجاء وإنّ كان مطلوباً في حدّ ذاته، ومرغوباً فيه، إلّا أنّه لا يجب إلّا لما تُشترط فيه الطهارة من الخبث، كالصلاة دون ما لا تُشترط فيه كالوضوء(2).

الأمر الثالث: الأشياء التي يُستنجى منها

ذهب فقهاء الإمامية إلى أنّه لا يُستنجى من (المذي والودي)، وأمّا الدم إذا خرج من موضع الغائط أو البول؛ فإنّه يحتاج إلى تطهيره بالماء، ولا يكفي الاستجمار - الذي يأتي تفسيره - وأمّا الغائط والبول، فيجب الاستنجاء منه بغسله بالماء، ولا يصحّ الاستنجاء بالأحجار في موضع غير الغائط، نعم، يصحّ الاستنجاء بالأحجار في موضع الغائط بالخصوص، وأمّا إذا خرج البول أو الغائط من غير الموضع المعتاد، وأصبح بعد ذلك معتاداً، ففي شمول حكم الاستنجاء له قولان عند الإمامية:

الأوّل: شمول حكم الاستنجاء له.

والثاني: عدم شمول حكم الاستنجاء له(3).

ص: 241


1- الجواهري، محمد حسن، جواهر الكلام: ج2، ص13.
2- اُنظر: الطوسي، محمد بن الحسن، الخلاف: ج1، ص103 - 104. الحلي، الحسن بن يوسف، تذكرة الفقهاء: ج1، ص123. العاملي، محمد جواد، مفتاح الكرامة: ج1، ص181. الجواهري، محمد حسن، جواهر الكلام: ج2، ص14، وص22.
3- اُنظر: المرتضى، علي بن الحسين، الانتصار: ص119. الكركي، علي بن الحسين، جامع المقاصد: ج1، ص108، وص129. العاملي، محمد جواد، مدارك الأحكام: ج1، ص124. الفاضل الهندي، محمد بن الحسن، كشف اللثام: ج1، ص247. الجواهري، محمد حسن، جواهر الكلام: ج1، ص357، وص411 - 414. الحكيم، محسن، مستمسك العروة: ج1، ص239.
الأمر الرابع: مصاديق الاستنجاء (ما يستنجي به)

الاستنجاء يمكن أن يتحقّق بأمرين:

الأوّل: الماء، وهو قابل لتطهير موضع الغائط والبول معاً، بشرط إزالة عين وأثر الغائط في الغائط، والتعدّد في إزالة البول، وهذا لا خلاف فيه عند فقهاء الإمامية، ولا يصحّ الاستنجاء بغير الماء من المائعات، بشرط أن يكون الماء مطلقاً وطاهراً.

الثاني: الجوامد القالعة للنجاسة

المشهور بين الإمامية أنّه يصحّ الاستنجاء بكلّ جسم طاهر قالع للنجاسة ومزيل لها، كالحجر والخرق والخشب ونحوها، عدا ما مُنع الاستنجاء به(1).

الأمر الخامس: شروط ما يُستنجى به من الجوامد

يُشترط فيما يُستنجى به أُمور، هي:

1- الطهارة؛ فلا يصحّ الاستنجاء بالنجس.

2- البكارة، بمعنى: يُشترط أن يكون الشيء الجامد غير مستعمل في إزالة النجاسة سابقاً.

3- أن يكون الجسم الجامد جافّاً، وهو مختار بعض فقهاء الإمامية(2).

الأمر السادس: مقدار ما يُجزي من الأحجار

يكفي في الاستنجاء بالأحجار ثلاثة أحجار، مع تحقّق الإزالة والانتقاء بالمسح بها،

ص: 242


1- اُنظر: البحراني، يوسف، الحدائق الناضرة: ج2، ص29. العاملي، محمد جواد، مفتاح الكرامة: ج1، ص44. النراقي، أحمد بن محمد، مستند الشيعة: ج1، ص372. الجواهري، محمد حسن، جواهر الكلام: ج2، ص 39.
2- اُنظر: الطوسي، محمد بن الحسن، النهاية في مجرد الفقه والفتاوى: ص10. ابن البراج، عبد العزيز، المهذب: ج1، ص40. الحلي، الحسن بن يوسف، منتهى المطلب: ج1، ص280. العاملي، محمد، مدارك الأحكام: ج1، ص173. العاملي، محمد جواد، مفتاح الكرامة: ج1، ص47. الجواهري، محمد حسن، جواهر الكلام: ج2، ص53. الحكيم، محسن، مستمسك العروة: ج2، ص218.

ولو لم يتحقّق النقاء بالثلاثة وجب التمسّح بما يحقّق له الإزالة وإن زاد على الثلاثة(1).

الأمر السابع: الأشياء التي لا يجوز الاستنجاء بها

ذكر جمعٌ من فقهاء الإمامية بأنّ هناك عدّة أُمور لا يجوز الاستنجاء بها، وهي كالآتي:

1- الأعيان النجسة: كالميتة، وتُلحق بها الأعيان المتنجّسة، كالحجر المتنجّس بالاستعمال في الاستنجاء وغيره.

2- العظم: وهو يشمل مطلق العظم من جميع الحيوانات حتى الطاهرة.

3- الروث.

4- المطعوم: وهو كلّ ما كان طعاماً للإنسان.

5- المحترمات: وهي كلّ ما كان محترماً في نظر الشارع(2).

وما يهمّنا في هذا المقال هو المحترمات، فلنبسط الكلام فيها بما يتناسب وحجم المقال.

ضابط المحترمات

عرّف بعض فقهاء الإمامية المحترمات: بأنّها ما أُحرز من الشرع المقدس إنّه يجب احترامه، ويحرم هتكه، مثل القرآن العزيز وكتب الحديث؛ فإنّ هتك ذلك هتك لمحارم الله تعالى(3).

وعرّفها السيد الخوئي جواباً عن سؤال وجه إليه: «المقصود منها كلّ ما يجب احترامه ولا يجوز هتكه، مثل كتب أحاديث الأئمّة علیهم السلام، والكتب الفقهية، والتربة الحسينية، وتربة سائر الأئمّة الأطهار علیهم السلام، وما شاكل ذلك»(4). والظاهر أنّ مرجع التعريفين إلى أمر واحد.

ص: 243


1- اُنظر: الجواهري، محمد حسن، جواهر الكلام: ج2، ص35.
2- اُنظر: ابن إدريس الحلي، محمد بن منصور، السرائر: ج1، ص 27. الحلي، الحسن بن يوسف، منتهى المطلب: ج1، ص280. العاملي، محمد، مدارك الأحكام: ج1، ص172. الجواهري، محمد حسن، جواهر الكلام: ج2، ص51 - 52. الأنصاري، محمد علي، الموسوعة الفقهية الميسرة: ج3، ص113.
3- اُنظر: القمشه اي، محمد علي، المعالم المأثورة (تقرير بحث الميرزا هاشم الآملي النجفي): ج4، ص117 - 118.
4- الخوئي، أبو القاسم، صراط النجاة (تعليق الميرزا التبريزي): ج1، ص437.

التربة الحسينية مصداق للمحترمات

قال صاحب الجواهر رحمة الله: «ثمّ إنّه يُفهم من كثير من الأصحاب - بل لم أعثر فيه على مخالف - جريان الحكم في كلّ محترم، كالتربة الحسينية وغيرها... بل قد يتمشّى الحكم في المأخوذ من قبور الأئمّة، من تراب أو صدوق أو غيره...»(1).

وعبارته تدلّ على أُمور:

أ) ذهاب الكثير - بل عدم وجود مخالف - إلى أنّه لا يصحّ، ويحرم الاستنجاء بالمحترمات.

ب) إنّ المصداق البارز للمحترمات هو تربة الحسين علیه السلام، وهو ما صرّح به كثير من فقهائنا.

ج) جريان الحكم على التراب المأخوذ من قبور الأئمّة علیهم السلام، أيضاً.

النصوص الفقهية الواردة في حرمة الاستنجاء بتربة الحسين علیه السلام

النصوص الفقهية التي صُرّح فيها بالحرمة بنحو العموم - حرمة المحترمات - أو بنحو الخصوص كثيرة، نقتصر هنا على ذكر بعضها:

أ) قال الطوسي: «كلّ جسم طاهر مزيل للنجاسة فإنّه جائز؛ للخبر الذي قال فيه: ينقي ما ثمة(2)، وهو عامّ في كلّ ما ينقّي، إلّا ما استثناه ممَّا له حرمة»(3).

ب) قال العلّامة: «ألّا يكون ممّا له حرمة، كتربة الحسين علیه السلام، وحجر زمزم، وكتب الأحاديث وورق المصحف العزيز، وكتب الفقه؛ لأنّ فيه هتكاً للشريعة، واستخفافاً لحرمتها، فهو في الحرمة أعظم من الرّوث والرمّة»(4).

ص: 244


1- الجواهري، محمد حسن، جواهر الكلام: ج2، ص51 - 52.
2- يعني: ما هناك من محلّ النجاسة.
3- الطوسي، محمد بن الحسن، المبسوط: ج1، ص17.
4- الحلي، الحسن بن يوسف، منتهى المطلب: ج1، ص280.

ج) ما قاله البحراني - وهو بصدد تعداد المحرّمات -: «ومنها: الاستنجاء بالروث والعظم والمطعوم المحترم، ومنه التربة الحسينية على مشرّفيها أفضل التحية، والقرآن، وما كُتب فيه شيء من علوم الدين، كالحديث والفقه»(1).

د) وقال الفاضل الهندي - وهو بصدد تعداد الممنوعات -: «...وذي الحرمة، كالمطعوم، وورق المصحف، وشبهه ممَّا كُتب عليه شيء من أسماء الله تعالى، أو الأنبياء، أو الأئمّة علیهم السلام، وتربة الحسين علیه السلام، بل وغيره من النبيّ صلی الله علیه و آله والأئمّة علیهم السلام: وبالجملة ما عُلم من الدين أو المذهب وجوب احترامه، فإنّ في الاستجاء به من الهتك ما لا يوصف»(2).

أدلّة التحريم

يمكن للمتابع لكلمات الفقهاء أن يحصل على عدّة أدلّة لإثبات الحكم بالحرمة، وهي كما يلي:

أ) إنّ المحترمات - ومنها التربة الحسينية - لا ريب ولا شكّ عند الفقهاء في وجوب إكرامها، وقد تقدّم قسم منها، ويأتي قسم آخر منها - إن شاء الله - وهذا يستلزم تحريم إهانتها، والاستنجاء بها يمثّل المصداق البارز للإهانة، من حيث كونها تربة الحسين علیه السلام(3).

ب) ما صرّح به النجفي في الجواهر من عدم وجود مخالف في الحكم المذكور، وهذا إن ارتقى إلى جعله دليلاً وداعماً للحكم بالحرمة فهو، وإن لم يرقَ إلى ذلك، فهو على أقلّ تقدير على حدّ الشهرة التي يتوقّف الفقهاء في الحكم على خلافها، بل يحتاطون في مقام الفتوى لأجلها(4).

ص: 245


1- البحراني، يوسف، الحدائق الناضرة: ج2، ص42.
2- الفاضل الهندي، محمد بن الحسن، كشف اللثام: ج1، ص212.
3- اُنظر: البحراني، يوسف، الحدائق الناضرة: ج2، ص44. الروحاني، محمد صادق، فقه الصادق: ج1، ص208 - 209.
4- اُنظر: الجواهري، محمد حسن، جواهر الكلام: ج2، ص51 - 52.

ج) ما ذكره النجفي في الجواهر أيضاً: «أنّه لا يليق بالفقيه الممارس لطريقة الشرع، العارف للسانه، أن يتطلّب [يطلب] الدليل على كلّ شيء بخصوصه، من رواية خاصّة ونحوها، بل يكتفي بالاستدلال على جميع ذلك بما دلّ على تعظيم شعائر الله، وبظاهر طريقة الشرع المعلومة لدى كلّ أحد، أترى أنّه يليق به أن يتطلّب رواية على عدم جواز الاستنجاء بشيء من كتاب الله تعالى؟!»(1).

فهو رحمة الله يُبيّن:

أولاً: بأنّ الدليل العامّ هو أنّ شعائر الله تعالى يجب تعظيمها، وتقديسها والاهتمام بها، وكلّ ما يخالف هذا التعظيم - ومنه الاستنجاء بالتربة المقدسة - يكون منهياً عنه ومحرّماً.

وثانياً: إنّ طريقة الشارع - وروح الشريعة المعلومة عند كلّ أحد - أنّ هذه المحترمات لا يجوز إهانتها والاستنجاء بها؛ ولذلك نحن لا نحتاج إلى رواية خاصّة تحرّم الاستنجاء بشيء من القرآن الكريم، وكذلك التربة المقدّسة، بل نكتفي للقول بالحرمة بهذه المسلمات والأُمور الكلّية.

د) الأولوية المستفادة من حرمة بعض الأشياء التي هي أقلّ شأناً من التربة الحسينية؛ فإنّ الدليل الخاصّ دلّ على حرمة الاستنجاء بالروث والعظم وغيرها، مع أنّها من حيث القداسة والاحترام والأهمية أقلّ بكثير من التربة الحسينية، فكيف بالتربة المشار إليها؟!(2).

هذا، ولا بدّ أن يُعلم أنّ الحرمة المتقدّمة إنّما تثبت فيما إذا لم تقصد الإهانة للتربة، أما إذا قصدت الإهانة، فقد يستلزم منه الحكم بكفر فاعله، كما سوف يأتي.

نشر فضيلة من فضائله علیه السلام

لا بأس - ونحن نتحدّث عن حرمة إهانة هذه التربة المقدسة، التي مدحها النبيّ صلی الله علیه و آله

ص: 246


1- الجواهري، محمد حسن، جواهر الكلام: ج2، ص52.
2- اُنظر: كاشف الغطاء، جعفر، كشف الغطاء: ج2، ص146 - 147.

قبل وقوع حادثة كربلاء بعدّة عقود - أن نُشير إلى رواية رواها جملة من علمائنا - عطّر الله مراقدهم - عن الشيخ الطوسي في كتاب الأمالي، تبيّن الأثر الوضعي للاستخفاف بتلك التربة، وقد تُبيّن أيضاً شرف وقداسة تراب قبر الحسين علیه السلام؛ وبالتالي شرف مَن دُفن فيها.

قال رحمة الله في الأمالي بسنده عن أبي موسى بن عبد العزيز، قال: «لقيني يوحنا بن سراقيون النصراني، المتطبّب في شارع أبي أحمد، فاستوقفني، وقال لي: بحقّ نبيّك ودينك، مَن هذا الذي يزور قبره قومٌ منكم بناحية قصر ابن هبيرة؟ مَنْ هو من أصحاب نبيّكم؟ قلت: ليس هو من أصحابه، هو ابن بنته، فما دعاك إلى المسألة عنه؟ فقال: له عندي حديث طريف. فقلت: حدّثني به. فقال: وجّه إليّ سابور الكبير الخادم الرشيدي في الليل، فصرت إليه، فقال لي: تعال معي. فمضى وأنا معه، حتّى دخلنا على موسى بن عيسى الهاشمي، فوجدناه زائل العقل منكبّاً على وسادة، وإذا بين يديه طشت فيه حشوة جوفه، وكان الرشيد استحضره من الكوفة، فأقبل سابور على خادم كان من خاصّة موسى، فقال له: ويحك ما خبره؟ فقال: أخبرك أنّه كان من الساعة جالساً وحوله ندماؤه، وهو من أصحّ الناس جسماً وأطيبهم نفساً، إذ جرى ذكر الحسين بن علي علیهما السلام. قال يوحنا: هذا الذي سألتك عنه. فقال موسى: إنّ الرافضة لتغلوا فيه، حتّى إنّهم - فيما عرفت - يجعلون تربته دواءً يتداوون به. فقال له رجل من بني هاشم كان حاضراً: قد كانت بي علّة غليظة، فتعالجت لها بكلّ علاج فما نفعني، حتّى وُصف لي أن آخذ من هذه التربة، فأخذتها، فنفعني الله بها، وزال عنّي ما كنت أجده. قال: فبقي عندك منها شيء؟ قال: نعم. فوجّه، فجاؤوه بقطعة منها، فناولها موسى بن عيسى، فأخذها موسى، فاستدخلها دبره استهزاءً بمَن يتداوى بها، واحتقاراً وتصغيراً لهذا الرجل الذي هذه تربته - يعني الحسين علیه السلام - فما هو إلّا أن استدخلها دبره، حتّى صاح: النار النار!! الطشت الطشت!! فجئناه بالطشت فأخرج فيه ما ترى، فانصرف الندماء وصار المجلس مأتماً. فأقبل عليّ سابور، فقال: اُنظر هل لك فيه حيلة؟ فدعوت بشمعة، فنظرت فإذا كبده وطحاله ورئته وفؤاده خرج منه في الطشت، فنظرت إلى أمر عظيم، فقلت: لا أجد إلى هذا صنعاً، إلّا أن يكون عيسى الذي كان يحيي الموتى. فقال لي سابور: صدقت، ولكن كن

ص: 247

هاهنا في الدار، إلى أن يُتبيّن ما يكون من أمره. فبتُّ عندهم وهو بتلك الحال ما رفع رأسه، فمات في وقت السحر. قال محمّد بن موسى: قال لي موسى بن سريع: كان يوحنّا يزور قبر الحسين علیه السلام وهو على دينه، ثُمّ أسلم بعد هذا وحسن إسلامه»(1).

فروع لا بدّ منهما

اشارة

يتفرّع على حرمة الاستنجاء بالتربة المقدسة عدّة فروع لا بدّ من إشارة إليها، وهي محلٌ للابتلاء:

1- الحكم بكفر المُستنجي بالتربة بقصد الإهانة

قد يستغرب البعض من وصول الحكم إلى تكفير مَن استهان بالتربة الحسينية عند الاستنجاء بها، والحكم عليه بهذا الحكم القاسي نسبياً، ولكن هذا الاستغراب يزول بملاحظة عشرات الروايات الدالّة على قداسة التربة، ولزوم احترامها، وبيان الآثار الوضعية فيها، مع تعدّد القائل بها من قبل جميع المعصومين، كما أنّ هذا الحكم ليس على إطلاقه، بل هو مقيّد بقصد إهانتها من حيث إنّها تربة الحسين علیه السلام، وهذا ما أشار إليه جملة من فقهاء الإمامية، منهم: الكركي والبحراني والشهيد الثاني والشيخ جعفر كاشف الغطاء، والشيخ محمّد حسن النجفي، وغيرهم. ولعلّ العبارة الجامعة لهذا الحكم هي ما ذكرها النجفي في جواهره، قائلاً: «ثُمّ ليُعلم أنّ ما ذكرناه من حرمة الاستنجاء بالمحترم، إنّما هو حيث لا يكون مع قصد الإهانة، وإلّا فقد يصل فاعله بالنسبة إلى بعض الأشياء إلى حدّ الكفر، والعياذ بالله، والضابط أنّ كلّ مُستحِل ممّا عُلم تحريمه من الدين ضرورةً، أو فعله بقصد التكبّر والعناد، أو الفسق، وإن لم يكن مُستحِلّاً تحقّق به الكفر؛ فيكون نجساً ذاتياً»(2).

ص: 248


1- الطوسي، محمد بن الحسن، الأمالي: ص320 - 321. البحراني، يوسف، الحدائق الناضرة: ج2، ص45 - 46.
2- الجواهري، محمد حسن، جواهر الكلام: ج2، ص52. واُنظر: الشهيد الثاني، زين الدين، المقاصد العلية: ص148. الكركي، علي بن الحسين، جامع المقاصد: ج1، ص98. ورسائل الكركي: ج3، ص217. السبزواري، عبد الأعلى، مهذب الأحكام: ج2، ص202. وغيرها.
2- الشكّ في التربة الحسينية

اختلفت كلمات الفقهاء المتأخرين - إذ لم أجد من صرّح من المتقدّمين بهذا الفرع - في جواز الاستنجاء أو عدم جوازه، فيما لو شكّ المستنجِي بالشيء المستنجَى به، وهل هو من التربة الحسينية التي يحرم الاستنجاء بها، أم هي شيء آخر مما يجوز الاستنجاء به؟

فذهب جماعة منهم السيد صاحب العروة الوثقى، والسيد السبزواري، وغيرهما إلى جواز الاستنجاء بما يشكّ في كونه من تربة الحسين علیه السلام.

واستدلّ السيد السبزواري بأصالة البراءة، التي هي المرجع في جميع الشبهات التحريمية، حكمية كانت أو موضوعية(1).

وفصّل البعض الآخر بين ما لو شكّ في كونه ممَّا يحرم الاستنجاء به تكليفاً فيجوز لأصالة الحلّ، وبين ما لو شكّ في كونه ممَّا لا يجوز الاستنجاء به وضعاً، فلا يجوز؛ لاستصحاب النجاسة(2).

واحتاط بعض آخر من الفقهاء بعدم الجواز، فقال: بأنّ الأوْلى تركه.

وأمّا طهارة المحل بعد الاستنجاء بالشيء المشكوك، ففيه أقوال:

أ) طهارة المحل.

ب) عدم طهارة المحل.

ج) الاستشكال بالطهارة.

ولعلّ الاكثر يذهب إلى القول الأوّل(3).

ص: 249


1- اُنظر: اليزدي، محمد كاظم، العروة الوثقى (مع التعليقات): ج1، ص337. الحكيم، محسن، مستمسك العروة الوثقى: ج2، ص224. السبزواري، عبد الأعلى، مهذب الأحكام: ج2، ص206.
2- اُنظر: اليزدي، محمد كاظم، العروة الوثقى (مع التعليقات): ج1، ص337. الخوئي، أبو القاسم، شرح العروة الوثقى: ج4، ص388. الروحاني، محمد صادق، فقه الصادق: ج1، ص210.
3- اُنظر ما تقدم في الهامش السابق. وأيضاً: الفياض، محمد إسحاق، تعاليق مبسوطة: ج1، ص217. السيستاني، علي، تعليقة على العروة الوثقى: ج1، ص136.
3- طهارة الموضع بعد الاستنجاء بالتربة الحسينية

من الأُمور المترتّبة على حرمة الاستنجاء بالتربة الحسينية - بعد القول بالحرمة كما تقدّم -: هو طهارة الموضع (محلّ الاستنجاء) أو عدم طهارته، بعد أن خالف المكلَّف الحرمة وارتكبها، وقام بالاستنجاء، أم بنجاسته؟

اختلاف الإمامية في هذا الفرع على قولين:

القول الأوّل: ما ذهب إليه جماعة كثيرة من الفقهاء، بل اشتهر بينهم كما صرّح بذلك البعض، وهو القول بطهارة الموضع.

واستدلّوا على ذلك بدليلين:

الأوّل: إنّ الاستنجاء بالتربة الحسينية وإن كان منهياً عنه - بحكم الروايات وعمومات النهي - إلّا أنّه لا تنافي بين النهي والقول بالإجزاء وطهارة الموضع في أمثال هذه النواهي؛ لأنّها ليست من الأُمور العبادية التي يستلزم النهي عنها بطلانها ؛ لعدم دخول عنصر القربة فيها حتّى يتنافى مع النهي؛ وبالتالي يكون حال المكلف في هذا الفرض كحال مَن يستنجي بحجر أو ماء مغصوبين.

الثاني: إنّ المتفاهم عرفاً في مثل هذه النواهي هو إرادة الحكم التكليفي دون الوضعي، مع أنّ عمدة الدليل هو الإجماع، والمتيقّن منه الحرمة التكليفية؛ لاختلافهم في الحكم الوضعي، والعرف أصدق شاهد؛ فإنّه إذا قيل: لا تستنجِ بمنديلي، فإنّي امسح به وجهي. أو لا تستنجِ بثوبي، فإنّي ألبسه. فإنه لا يُتوهّم منه عدم قلع نجاسة المحل به لو استنجى، والأخبار - على فرض اعتبارها - لا تدّل على أزيد من ذلك(1).

ص: 250


1- اُنظر: الشهيد الأول، محمد بن مكي، الدروس الشرعية: ج1، ص89. الشهيد الثاني، زين الدين، مسالك الأفهام: ج1، ص29. الكركي، علي بن الحسين، جامع المقاصد: ج1، ص98. العاملي، محمد بن علي، مدارك الأحكام: ج1، ص173. الفيض الكاشاني، محمد محسن، مفاتيح الشرائع: ج1، ص42. الصيمري، مفلح بن الحسن، كشف الالتباس: ص22 س19. العاملي، محمد جواد، مفتاح الكرامة: ج1، ص213 - 215.

فيكون إطلاق قوله علیه السلام: «ينقي ما ثمّة». هو المعوّل بعد تحقّق النقاء وجداناً.

القول الثاني: ما ذهب إليه جماعة من عدم طهارة موضع الغائط بالاستنجاء بالتربة الحسينية، بل ظاهر البعض قيام الشهرة عليه، بل عن الغنية: دعوى الإجماع(1)، وعمدة من ذهب إلى هذا القول: الشيخ الطوسي، وتبعه الحلّي وغيره، وعمدة الدليل الذي اعتمده الشيخ، ومن تبعه، هو كون النهي عن الاستنجاء بالمحترمات، ومنها التربة الحسينية، يُوجب الفساد وعدم ترتّب الأثر الوضعي عليه، وهو طهارة المحلّ(2).

وقرّب الشيخ الهندي في (کشف اللثام) الدليل: بأنّ الرُّخص (مثل إزالة النجاسة عن الموضع) لا تُناط بالمعاصي (هي الاستنجاء بالتربة الحسينية)، المنهي عن أهانتها والأمر باحترامها.

وبعبارةٍ أُخرى: إنّ الأصل والاحتياط يقتضيان بقاء النجاسة، خصوصاً مع بقاء أثرها؛ فلا يُحكم إلّا بطهارة ما علمت طهارته بالنصّ والإجماع، فلا يجزي ما حرّمه الشارع(3).

فتوى المعاصرين:

واختلفت - تبعاً للأدلّة المتقدّمة وغيرها - فتوى المعاصرين، فمنهم مَن منع من حصول الطهارة، ومنهم مَن حكم بالطهارة صراحةً، ومنهم مَن استشكل بالحكم، والظاهر منه الاحتياط وبقاء النجاسة على حالها(4).

ص: 251


1- اُنظر: الحلبي، ابن زهرة، الغنية (الجوامع الفقهية): ص487، س29. الطوسي، محمد بن الحسن، النهاية: ج1، ص213. الحلي، جعفر بن الحسن، شرائع الإسلام: ج1، ص11. الحلي، والمُعتبر: ج1، ص133. العاملي، محمد جواد، مفتاح الكرامة: ج1، ص213 - 214. الفاضل الهندي، محمد بن الحسن، كشف اللثام: ج1، ص214. الجواهري، محمد بن الحسن، جواهر الكلام: ج2، ص54.
2- اُنظر: الطوسي، محمد بن الحسن، المبسوط: ج1، ص16. البحراني، يوسف، الحدائق الناضرة: ج2، ص47.
3- اُنظر: الفاضل الهندي، محمد بن الحسن، كشف اللثام: ج1، ص214.
4- اُنظر: السبزواري، عبد الأعلى، مهذّب الأحكام: ج2، ص202 - 203. الفيّاض، محمد إسحاق، تعاليق مبسوطة: ج1، ص216. الخميني، روح الله، تحرير الوسيلة: ج1، ص19. السيستاني، علي، تعليقة على العروة الوثقى: ج1، ص135. الغروي، ميرزا علي، التنقيح في شرح العروة الوثقى (تقرير أبحاث السيد أبي القاسم الخوئي): ج4، ص377. الروحاني، محمد صادق، فقه الصادق: ج1، ص209 - 210.

ص: 252

المَشيُ لِزيَارَة الإمَامِ الحُسَين علیه السلام وَبَاقي الأئمَّة علیهم السلام

دِرَاسَةٌ في ضَوءِ المَوَازين الفِقهيَّة

اشارة

الشَّيخ حَبيب عَبد الواحِد السَّاعدِيّ(1)

مقدّمة

إنّ تلك الجموع التي تسير كلّ عام لزيارة الأربعين مشياً على الأقدم وبمرأى من العالم بأسره ومن كلِّ مكان لهي من أبرز مظاهر الولاء لأهل البيت علیهم السلام، وهي تُظهر بحقٍّ انتصار الإمام الحسين علیه السلام على الطُغاة، على مدى التاريخ وإلى يوم القيامة، وإنّ تلك الشعيرة التي تتجلّى في كلّ عام قد أدهشت وحيَّرت عقول المخالفين، وأدخلت السرور والبهجة على قلوب الموالين.

قد حاول البعض السعي بشتّى الطرق والوسائل للوقوف ضدّ هذه الشعيرة العظيمة التي تمثّل شوكة في عيون الظالمين، ففي كلّ عام تصدر من أولئك المخالفين حملات دعائية وأفكار باطلة وشبهات مغرضة؛ لأجل الوقوف أمام هذه الشعيرة العظيمة، فتراهم في كلّ عام يتهيّؤون ويستعدّون لبثّ الحجج الواهية، والحيل المبتكرة والإشكاليات التي لا أساس لها سوى تضليل وإيهام الناس الذين ليس لهم حظّ من العلم.

ص: 253


1- باحث وكاتب إسلامي.

ومن هذا المنطلق، نجد من اللازم والضروري الإجابة عن كل شبهةٍ أُثيرت أو قد تثار في وجه هذه الشعيرة المباركة أيّاً كان مُثيرها، عن قصدٍ أو مِن دون قصد. وهذه المقالة مكرسة لإثبات استحباب هذه الشعيرة، وإثبات عظمة ثواب مَن يقيم هذه الشعيرة بالدليل القاطع من السنّة المباركة، ثمَّ بعد ذلك نعرّج على تزييف الشبهات التي يحاول المغرضون بثّها لضعاف القلوب، ونقوم بدحرها وردها بحجّة دامغة، ثمَّ نختم الكلام ببعض آداب الزيارة التي ينبغي للزائر أن يتحلّى بها خلال سيره إلى زيارة الإمام الحسين علیه السلام، والثواب الذي يترتّب عليها، حتى تعطي هذه الشعيرة ثمارها ونتائجها الحسنة.

إذن؛ فيقع الكلام في تمهيد وثلاث جهات:

الجهة الأُولى: إثبات استحباب المشي لزيارة الإمام الحسين علیه السلام وسائر الأئمّة علیهم السلام.

الجهة الثانية: الإشكاليات والشبهات المثارة حول المشي، والجواب عنها.

الجهة الثالثة: بعض آداب الزيارة مشياً، وثواب السير مشياً إلى الإمام الحسين علیه السلام.

تمهيد
اشارة

قبل الولوج إلى البحث ينبغي أن نمهّد لبعض الأمور المهمّة، وهي:

1- نبذة تاريخية عن المشي لزيارة الإمام الحسين علیه السلام والأئمّة علیهم السلام

ترجع شعيرة المشي لزيارة الإمام الحسين علیه السلام تاريخياً - كما جاء في بعض الروايات - إلى الصحابي الجليل جابر بن عبد الله الأنصاري(رضي الله عنه) حيث إنّه زار الحسين علیه السلام في يوم الأربعين مشياً على الأقدام، وكان جائياً من المدينة(1).

وكانت هذه الشعيرة - وهي المشي لزيارة الحسين علیه السلام - موجودة منذ زمن الأئمّة علیهم السلام؛ وذلك لأنّ وسائل النقل الدارجة في زمنهم علیهم السلام كانت عبارة عن أمرين:

الأول: ركوب الخيل والجمال والبغال والحمير.

ص: 254


1- اُنظر: المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج98، ص334 - 335.

الثاني: المشي على الأقدام.

لا شكّ في أنّ جملة من الناس لا يمتلك تلك الوسائل، فينتقل من مكان إلى آخر عن طريق المشي على الأقدام؛ ولذا كان الأئمّة يقولون: مَن أتى قبر الحسين فإن كان ماشياً فله كذا وإن كان راكباً فله كذا. فهذا التقسيم يكشف عن وجود المشي لزيارة الإمام الحسين علیه السلام في تلك الفترة أيضاً.

وكان الناس في العراق منذ القدم يقصدون الإمام الحسين علیه السلام مشياً على الأقدام في مناسبات معينة إلى يومنا هذا، وأوضح تلك المناسبات هي زيارة الأربعين، إلى أن جاء نظام البعث البائد فمنع هذه الشعيرة طيلة حكمه، ولم يترك الناسُ هذه الشعيرة، فكانوا يمشون إلى زيارته علیه السلام بالخفاء، وبسبب الاضطهاد والظلم في العراق انتقلت هذه الشعيرة بشكل واضح إلى الأضرحة المقدّسة في إيران وسوريا.

أمّا في إيران، فكان الناس يمشون من مدينة قمّ المقدّسة إلى مشهد المقدّسة، أو من مدينة نيشابور إلى مرقد الإمام الرضا علیه السلام في خراسان.

وأمّا في سوريا، فكانوا يمشون من مرقد السيدة زينب إلى مرقد السيدة رقية أو بالعكس.

والأيام التي تُقام فيها هذه الشعيرة عادة هي العاشر من المحرَّم، ويوم الأربعين (20 من شهر صفر) وهو أبرزها، وأيام شهادة الزهراء صلی الله علیه و آله ، ويوم النصف من شعبان، ويوم عرفة (9 ذي الحجّة).

2- السرّ في اختصاص المشي بيوم الأربعين

تبرز شعيرة المشي على الأقدام بشكل واضح في زيارة يوم الأربعين (یوم العشرين من شهر صفر)، حيث يمشي الموالون على الأقدام قاصدين مرقد أبي الأحرار الإمام الحسين علیه السلام، بالرغم من أنّ هذه الشعيرة لا تختص بهذا اليوم؛ إذ سيأتي أنّ استحباب زيارة الحسين مشياً لا يختصّ بزيارة الأربعين، بل يُستحب في كل وقت، إذاً؛ فما هو السرّ فيما نراه اليوم من اختصاص المشي بزيارة الحسين يوم الأربعين؟ ولعل ذلك يرجع إلى أمرين:

ص: 255

الأول: إنّ أول مَن زار مرقد الإمام الحسين علیه السلام يوم الأربعين مشياً على الأقدام هو الصحابي الجليل جابر بن عبدالله الأنصاري رحمة الله فالناس يزورون الحسين علیه السلام في هذا اليوم تأسّياً بهذا الصحابي الجليل، هذا من جانب، ومن جانب آخر فقد حثّ الأئمّة علیهم السلام على الزيارة في هذا اليوم وجعلوها من علامات المؤمن، قال الإمام العسكري علیه السلام: «علامات المؤمن خمس: صلاة إحدى وخمسين، وزيارة الأربعين، والتختّم في اليمين، وتعفير الجبين، والجهر ببسم الله الرحمن الرحيم»(1). وبضميمة الروايات الآتية الواردة في استحباب المشي لزيارة الحسين علیه السلام.

الثاني: إنّ هذا اليوم قد رجع فيه أهل بيت الإمام الحسين علیه السلام من الشام إلى كربلاء، بعد ما لاقوا العذاب والعناء الشديد والظلم، وفي هذا اليوم حصل لقاء الإمام زين العابدين علیه السلام بالصحابي الجليل جابر بن عبد الله الأنصاري الذي جاء لزيارة الحسين علیه السلام مشياً على الأقدام، فالموالون من الشيعة إنّما يزورن الإمام الحسين علیه السلام في هذا اليوم مشياً على الأقدام مواساة لما جرى على عيال الحسين علیه السلام.

3- علّة استحباب زيارة الأربعين ووجه التسمية

قال العلّامة المجلسي رحمة الله: «اعلم أنّه ليس في الأخبار ما العلّة في استحباب زيارة الحسين (صلوات الله عليه) في هذا اليوم، والمشهور بين الأصحاب أنّ العلّة في ذلك رجوع حرم الحسين (صلوات الله عليه) في مثل ذلك اليوم إلى كربلاء عند رجوعهم من الشام، وإلحاق عليّ بن الحسين (صلوات الله عليه) الرؤوس بالأجساد... ولعل العلة في استحباب الزيارة في هذا اليوم هو أنّه جابر بن عبد الله الأنصاري (رضي الله عنه) في مثل هذا اليوم وصل من المدينة إلى قبره الشريف وزاره، فكان أول زائر له من الإنس ظاهراً؛ فلذلك يُستحب التأسي به»(2).

ص: 256


1- المفيد، محمد بن محمد، المزار: ص53.
2- المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج98، ص334 - 335.

أمّا وجه التسمية، فقال الشيخ الكفعمي: إنّما سمّيت بزيارة الأربعين لأنّ وقتها يوم العشرين من صفر، وذلك لأربعين يوماً من مقتل [الإمام] الحسين علیه السلام، وهو اليوم الذي ورد فيه جابر بن عبد الله الأنصاري صاحب النبي صلی الله علیه و آله من المدينة إلى كربلاء لزيارة قبر الحسين، فكان أول مَن زاره من الناس، وفي هذا اليوم كان رجوع حرم الحسين صلی الله علیه و آله من الشام إلى المدينة(1).

وهذا تمام الكلام في التمهيد، وأما الجهات الثلاث فهي:

الجهة الأُولى: استحباب المشي لزيارة الحسين وسائر الأئمّة علیهم السلام
اشارة

قد ورد في الشريعة الإسلامية استحباب المشي حافياً أو غير حافٍ في مواضع عديدة، فيُستحب المشي للمسجد(2)، ويستحب للإمام أن يمشي حافياً عندما يخرج لصلاة العيد(3)، ويُستحب تشييع الجنازة ماشياً(4)، ويستحب المشي للحجّ والعمرة(5)، كما يُستحب عند رمي الجمرات(6)، ويُستحبّ المشي لزيارة المؤمن(7)، فليس استحباب المشي أمراً غريباً عن الفقه، بل له نظائر، ومن جملة الموارد التي يُستحبّ فيها المشي هي زيارة مراقد الأئمّة علیهم السلام، وفي ما يلي نذكر بعض الأدلّة لإثبات استحباب المشي لزيارة الحسين علیه السلام، وسائر مراقد الأئمّة، وأنّ ثوابه يكون أكثر من ثواب الركوب، كما سنرى أنّ بعض الروايات تنصّ على استحباب التحفّي عند المشي، وأنّ استحباب المشي لا يختصّ بيوم الأربعين، بل يُستحبّ المشي في بقية المناسبات وبقية الأيام أيضاً.

ص: 257


1- اُنظر: المصدر السابق.
2- اُنظر: الحرّ العاملي، وسائل الشيعة: ج5، ص201.
3- اُنظر: المصدر السابق: ج7، ص455.
4- اُنظر: المصدر السابق، ج3، ص152.
5- اُنظر: المصدر السابق: ج11، ص79.
6- المصدر السابق: ج14، ص59.
7- الصدوق، محمد بن علي، ثواب الأعمال: ص293.
الدليل الأول: الروايات الواردة في ثواب المشي لزيارة الحسين علیه السلام وسائر مراقد الأئمّة علیهم السلام

سنتكلّم في هذا الدليل عن الروايات الكثيرة الدالة على استحباب المشي لزيارة الحسين علیه السلام، ثمَّ نتعرّض للروايات الدالّة على استحباب المشي لزيارة سائر الأئمّة علیهم السلام، فيقع البحث في نقطتين:

أ) الروايات الدالّة على استحباب المشي لزيارة الحسين علیه السلام

أمّا الروايات التي تنصّ على استحباب المشي لزيارة الحسين فهي:

1- «محمّد بن الحسن بإسناده، عن سعد بن عبد الله ومحمّد بن يحيى وعبد الله بن جعفرٍ وأحمد بن إدريس جميعاً، عن الحسين بن عبيد الله، عن الحسن بن عليّ بن أبي عثمان، عن عبد الجبّار النّهاونديّ، عن أبي إسماعيل، عن الحسين بن عليّ بن ثوير بن أبي فاختة، قال: قال لي أبو عبد الله علیه السلام: يا حسين، من خرج من منزله يريد زيارة الحسين بن عليّ بن أبي طالبٍ علیهما السلام إن كان ماشياً كتب الله له بكلّ خطوةٍ حسنةً وحطّ بها عنه سيّئةً، وإن كان راكباً كتب الله له بكلّ حافرٍ حسنةً وحطّ عنه بها سيّئةً حتّى إذا صار بالحائر كتبه الله من الصّالحين، وإذا قضى مناسكه كتبه الله من الفائزين حتّى إذا أراد الانصراف أتاه ملكٌ، فقال له: أنا رسول الله، ربّك يقرئك السّلام، ويقول لك: استأنف فقد غفر لك ما مضى»(1).

2- «وعن أبيه عن سعدٍ ومحمّد بن يحيى، عن محمّد بن الحسين، عن محمّد بن إسماعيل، عن صالح بن عقبة، عن بشيرٍ الدّهّان، عن أبي عبد الله علیه السلام، قال: إنّ الرّجل ليخرج إلى قبر الحسين علیه السلام فله إذا خرج من أهله بأوّل خطوةٍ مغفرة ذنبه، ثمّ لم يزل يقدّس بكلّ خطوةٍ حتّى يأتيه، فإذا أتاه ناجاه الله فقال: عبدي سلني أعطك، ادعني أجبك»(2).

3- «وعن عليّ بن الحسين بن بابويه وجماعةٍ، عن سعد بن عبد الله، عن الحسن بن عليّ بن عبد الله بن المغيرة، عن العبّاس بن عامرٍ، عن جابرٍ المكفوف، عن أبي الصّامت، قال: سمعت أبا عبد الله علیه السلام وهو يقول: من أتى قبر الحسين ماشياً كتب الله له بكلّ

ص: 258


1- العاملي، محمد بن الحسن، وسائل الشيعة: ج14، ص439.
2- المصدر السابق: ج14، ص440.

خطوةٍ الف حسنةٍ ومحا عنه الف سيّئةٍ، ورفع له الف درجةٍ، فإذا أتيت الفرات فاغتسل وعلّق نعليك وامش حافياً وامش مشي العبد الذّليل، فإذا أتيت باب الحائر فكبّر أربعاً، ثمّ امش قليلاً، ثمّ كبّر أربعاً، ثمّ ائت رأسه فقف عليه، فكبّر أربعاً وصلّ عنده وسل الله حاجتك»(1).

4- «وعن أبيه، عن الحسين بن الحسن بن أبانٍ، عن محمّد بن أورمة، عن رجلٍ، عن عليّ بن ميمونٍ الصّائغ، عن أبي عبد الله علیه السلام، قال: يا عليّ، زر الحسين ولا تدعه. قلت: ما لمن زاره من الثّواب؟ قال: من أتاه ماشياً كتب الله له بكلّ خطوةٍ حسنةً، ومحا عنه سيّئةً وترفع له درجةٌ»(2)، وفي رواية أُخرى: «فإذا أتاه وكّل الله به ملكين يكتبان ما يخرج من فيه من خير، ولا يكتبان ما يخرج من فيه من شرّ ولا غير ذلك، فإذا انصرفوا ودّعوه، وقالوا: يا وليّ الله، مغفور لك، أنت من حزب الله وحزب رسوله وحزب أهل بيت رسوله، والله، لا ترى النار بعينك أبداً، ولا تراك ولا تطعمك أبداً»(3).

5- «وعن أبيه، عن سعدٍ والحميريّ، عن أحمد بن محمّد بن خالدٍ، عن أبيه، عن عبد العظيم الحسنيّ، عن الحسين بن الحكم النّخعيّ، عن أبي حمّادٍ الأعرابيّ، عن سديرٍ الصّيرفيّ، عن أبي جعفرٍ علیه السلام في زيارة الحسين علیه السلام، قال: ما أتاه عبدٌ فخطا خطوةً إلّا كتب الله له حسنةً وحطّ عنه سيّئةً»(4).

6- «وعن محمّد بن جعفرٍ الرّزّاز، عن محمّد بن الحسين بن أبي الخطّاب، عن أحمد بن بشيرٍ، عن أبي سعيدٍ القاضي، قال: دخلت على أبي عبد الله علیه السلام في غرفةٍ له فسمعته يقول: من أتى قبر الحسين ماشياً كتب الله له بكلّ خطوةٍ وبكلّ قدمٍ يرفعها ويضعها عتق رقبةٍ من ولد إسماعيل»(5).

ص: 259


1- المصدر السابق: ج14، ص440.
2- المصدر السابق: ج14، ص441.
3- ابن قولويه، جعفر بن محمد، كامل الزيارات: ص256.
4- العاملي، محمد بن الحسن، وسائل الشيعة: ج14، ص441.
5- ابن قولويه، جعفر بن محمد، كامل الزيارات: ص257.

7- «عن جعفر بن محمد علیهما السلام: أنّه سُئل عن الزائر لقبر الحسين علیه السلام، فقال: مَن اغتسل في الفرات، ثمَّ مشى إلى قبر الحسين علیه السلام كان له بكلّ قدم يرفعها ويضعها حجّة متقبَّلة بمناسكها».(1)

وكثرة هذه الروايات وتعدّد طرقها يُغنينا عن البحث في سندها، فإنّ ذلك يوجب الاطمئنان بصدورها، وتدلّ هذه الروايات على أنّ مَن زار الحسين ماشياً فله من الثواب ما يأتي:

1- تُكتب له بكلِّ خطوة حسنة، وتُمحا عنه سيئة، ويُرفع له درجة.

2- يُكتب له بكلِّ خطوة ألف حسنة، وتُمحا عنه ألف سيئة، ويُرفع له ألف درجة.

3- يُكتب له بكلِّ خطوة ثواب حجّة متقبَّلة بمناسكها.

4- يُكتب له بكلِّ خطوة عتق رقبة من وُلد إسماعيل.

والعمل الذي له هذا المقدار من الثواب لا شكّ في أنّه من المستحبّات المؤكّدة.

ب) الروايات الدالة على استحباب المشي لزيارة سائر الأئمّة علیهم السلام:

1- يدلّ على استحباب المشي لزيارة أمير المؤمنين علیه السلام بالخصوص ما روي عن الإمام الصادق علیه السلام: «من زار قبر أمير المؤمنين علیه السلام ماشياً، كتب الله له بكلّ خطوةٍ حجّةً وعمرةً، فإن رجع ماشياً، كتب الله له بكلّ خطوةٍ حجّتين وعمرتين»(2).

2- ويدلّ على استحباب المشي لزيارة الأئمّة بشكل عامّ ما رواه الصدوق قدَّس سره في ثواب الأعمال والمشهدي قدَّس سره في كتاب المزار، والسند صحيح في كليهما.

«قال: قلت للرضا علیه السلام: ما لِ-مَن أتى قبر أحد من الأئمّة علیهم السلام؟ قال علیه السلام: له مثل ما لِ-مَن أتى قبر أبي عبدالله علیه السلام. قلت: ما لِ-مَن زار قبر أبي الحسن علیه السلام؟ قال: مثل ما لِ-مَن زار قبر أبي عبدالله علیه السلام»(3).

ص: 260


1- العاملي، محمد بن الحسن، وسائل الشيعة: ج14، ص485.
2- المصدر السابق: ج14، ص380.
3- الصدوق، محمد بن علي، ثواب الأعمال: ص98. المشهدي، محمد بن جعفر، المزار: ص32.

وتقريب الاستدلال بها:

إنّ قول الراوي: «ما لمَن أتى قبر أحد من الأئمّة؟». يشمل بإطلاقه جميع الأئمّة علیهم السلام، وقد أجابه الإمام: «له مثل ما لمَن أتى قبر أبي عبد الله علیه السلام». وهذا يعني أنّ زيارة الأئمّة الباقين مستحبّة كاستحباب زيارة الحسين علیه السلام، هذا بالنسبة إلى أصل الزيارة.

وأمّا استحباب المشي إلى زيارة سائر الأئمّة علیهم السلام، فيقال فيه: بعد ما ثبت استحباب زيارة سائر الأئمة علیهم السلام وإنّ زيارتهم كزيارة الإمام الحسين علیه السلام. وبضميمة الروايات الأُخرى الدالة على أفضليّة المشي لزيارة الإمام الحسين علیه السلام على الركوب لزيارته، حينئذٍ يثبت أفضليّة المشي واستحبابه لزيارة بقية الأئمة علیهم السلام. كما في التفصيل المتقدم في زيارة الإمام الحسين علیه السلام.

قال التبريزي: «وظاهر هذه الرواية - القريب من التصريح - أنّ السؤال الأول راجع إلى ثواب الإتيان، فإذا كان المشي في الإتيان لزيارة أبي عبد الله علیه السلام أفضل من الركوب لزيارته، كما أشرنا إلى الروايات فيه؛ فيكون الثواب في الإتيان لزيارة سائر الأئمّة علیهم السلام مشياً وركوباً كالإتيان لزيارة أبي عبد الله علیه السلام»(1).

وقال السيد الحائري: «وردت روايات عديدة في زيارة الإمام الحسين علیه السلام ماشياً، ولكنّي لم أجد ذلك في المشي في زيارة الإمام الرضا علیه السلام، نعم الروايات في أصل الثواب في زيارة الإمام الرضا علیه السلام كثيرة، من دون فرق بين المشي والركوب»(2).

الدليل الثاني: قول النبي الاكرم صلی الله علیه و آله : «أفضل الأعمال أحمزها»

الرواية الواردة عن النبي الأكرم صلی الله علیه و آله : «أفضل الأعمال أحمزها»(3)، وهي من الروايات

ص: 261


1- التبريزي، الميرزا جواد، الأنوار الإلهية في المسائل العقائدية: ص130.
2- الحائري، كاظم، الفتاوى المنتخبة: ص127.
3- لاحظ: السرخسيّ، المبسوط: ج1، ص25. الكاشاني، أبو بكر، بدائع الصنائع: ج1، ص294. ابن الأثير، مجد الدين، النهاية في غريب الحديث والأثر: ج1، ص440.

الصحيحة، بل المستفيضة، كما قال الشهيد الثاني(1)، وقد عبَّر صاحب البحار عن الحديث بالمشتهر بين العامّة والخاصّة(2)، والمراد من أحمزها: أي أشدّها وأمتنها وأكثرها مشقّة، ومعنى الحديث: أنّه إذا ثبت كون العمل عبادة لله تعالى، فكلّما كان امتثال تلك العبادة بنحو أصعب وأشدّ كان الثواب أكثر، فالأجر على مقدار المشقّة، فمثلاً الصوم في الحرّ يكون ثوابه أكثر من الصوم في البرد؛ لأنّه أشقّ وأصعب.

وكذا الكلام في زيارة الحسين علیه السلام، وزيارة سائر مراقد الأئمّة علیهم السلام، فلا شكّ في أنّ زيارة مراقدهم عبادة؛ لأنّها مستحبّة (إن لم نقل: واجبة)، فكلّما جاء الإنسان بالعبادة بنحو أشدّ تعباً، وأكثر مشقّة كان مقدار ثوابها أكثر وأعظم، فالمشي لزيارة مراقد الأئمّة علیهم السلام أشدّ من الركوب، وكلّما كانت المسافة أطول، والوضع الأمني أخطر كان الثواب والأجر أكبر وأعظم، فهذا يدلّ على أنّ المشي لزيارة الأئمّة علیهم السلام أفضل من الركوب، وأجره أكثر من ثواب الركوب بلا شكّ.

الدليل الثالث: قول النبي الأكرم صلی الله علیه و آله : (من اغبرّت قدماه في سبيل الله حرَّمها على النّار)

لا شكّ في أنّ زيارة مراقد الأئمّة علیهم السلام من أهمّ السبل المؤدّية إلى الله تعالى، فهي من أوضح مصاديق (سبيل الله)، كما أنّ من أوضح مصاديق اغبرار القدمين هو أن يقصد الإنسان زيارة مراقد الأئمّة علیهم السلام ماشياً؛ فإنّ ركوب السيارة قد لا يتحقق معه اغبرار القدمين؛ وحينئذٍ فزيارة الأئمّة علیهم السلام ماشياً من أوضح مصاديق هذا الحديث، وهذا يدلّ على الثواب العظيم في المشي.

قال المحقق الأردبيلي: «عن النبيّ صلی الله علیه و آله أنّه قال: مَن اغبرّت قدماه في سبيل الله حرّمهما على النّار. ويمكن الاستدلال بها على الحفاة في الحرم، وعلى صلاة الجنازة. بل مطلق العبادة، مثل زيارة الحسين علیه السلام وغيرها»(3).

ص: 262


1- اُنظر: الشهيد الثاني، الفوائد الملية لشرح الرسالة النفلية: ص15.
2- اُنظر: المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج79، ص229.
3- الأردبيلي، أحمد، مجمع الفائدة والبرهان في شرح إرشاد الأذهان: ج2، ص 408.
الدليل الرابع: إن المشي فيه إظهار للخضوع والتذلل لله تعالى وتعظيم لشعائره

إنّ في المشي لزيارة الأئمّة علیهم السلام جانبين:

1- إظهار الخضوع والتذلل لله تعالى، ولا سيما إذا كان حافياً، ويمكن أن يستأنس لهذا الحكم بعدة أُمور:

منها: عدم جواز الصلاة بالنعل لمنافاته الخضوع والاحترام.

ومنها: قوله تعالى:«إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى»(1).

فمن ذلك يُستأنس أن للتحفّي مدخلية في إظهار الخضوع والتذلّل لله تعالى.

ومنها: استحباب المشي حافياً لصلاة العيد والمشي إلى المسجد؛ ولذا استُدلّ على استحباب المشي في الطواف بأنّه أنسب بالخضوع والاستكانة(2).

2- إظهار التعظيم والاحترام لشعائر الله تعالى؛ ومن هنا يُستحب المشي في الحجّ والعمرة، وعند السعي بين الصفا والمروة، وعند رمي الجمرات، ويمكن أن يقال: إنّ المشي حافياً وراء الجنازة أيضاً فيه جنبة تعظيم لشعائر الله تعالى، واحترام للميت، والملائكة الذين يحفّون به، وكذا المشي لزيارة المؤمن.

وعليه؛ فإذا مشى المؤمن لزيارة الأئمّة علیهم السلام يكون قد أدّى ثلاث عبادات، الأُولى زيارة الأئمّة علیهم السلام، والثانية: الخضوع والتذلل لله تعالى، والثالثة: تعظيم شعائر الله تعالى؛ ومن هنا يتضاعف ثواب الزائر.

الدليل الخامس: الاستدلال برواية زيارة المؤمن

إنّه يُستحب المشي لزيارة المؤمن، وللماشي بكلّ خطوة حتى يرجع إلى أهله عتق مائة رقبة، وقد جاءت الروايات في استحباب ذلكَ، قالَ النبي صلی الله علیه و آله : «مَنْ مَشَى زَائِراً لِأَخِيهِ، فَلَهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ حَتَّى يَرْجِعَ إلى أَهْلِهِ عِتْقُ مِائَةِ رَقَبَةٍ، وَيُرْفَعُ لَهُ مِائَةُ الفِ دَرَجَةٍ، وَيُمْحَا

ص: 263


1- طه: آية12.
2- الفاضل الهندي، محمد بن الحسن، كشف اللثام عن قواعد الأحكام: ج5، ص465.

عَنْهُ مِائَةُ الفِ سَيِّئَةٍ»(1).

فإذا كان المشي إلى زيارة المؤمن مستحباً وله بكلّ خطوة عتق رقبة، فما بالك بالمشي إلى زيارة الأئمّة المعصومين وسادات المؤمنين وحجج الله في الأرضين علیهم السلام؟! فيكون المشي لزيارتهم مستحبّاً بطريق أولى.

فإن قيل: إنّ هذا يختصّ فيما لو كان الأئمّة أحياءً؛ فيكون المشي لزيارتهم فيه الثواب والأجر، وأمّا في حالة الموت فلا يتحقق الثواب في الزيارة.

فالجواب: إنّ الأئمّة علیهم السلام ليسوا أمواتاً، بل هم أحياء عند ربهم؛ طبقاً لقوله تعالى:«وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ»(2)، وقد جاء في زيارة الأربعين: «أشهد أنّك تسمع الكلام وترد الجواب»(3).

الجهة الثانية: الإشكالات والشبهات والجواب عنها
اشارة

هناك عدّة إشكالات وشبهات طرحها بعض العامّة من المخالفين أو غيرهم، وهي لا تعدو عن كونها شبهات لا تصمد أمام الحقائق العلميّة النيّرة، ولكن لمّا كان هناك جملة من الناس ممّن قد يقع تحت تأثير هذه الأباطيل والحملات الدعائية؛ لذا كان من الضروري طرحها لأجل ردّها ودحرها بالدليل القاطع والحجّة الدامغة.

الإشكال الأول: قطع المسافات يستلزم الضرر

إنّه لو سلَّمنا أنّ المشي على الأقدام مستحبّ وفيه ثواب، لكن ذلك إذا لم يترتّب عليه ضرر، فإنّه إذا ترتّب عليه الضرر فلا يستحبّ، بل يحرم، فمثلاً: لو كان المشي لزيارة الحسين علیه السلام يسبب تورّم القدمين أو يسبّب أمراضاً يطول بُرؤها، وقد لا تبرأ، فهنا من الواضح لا يجوز المشي حينئذٍ؛ لاستلزامه إضرار النفس والإعانة عليها.

ص: 264


1- العاملي، محمد بن الحسن، وسائل الشيعة: ج14، ص590.
2- آل عمران: آية169.
3- المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج98، ص330.
الجواب:

إنّ الضرر على قسمين:

1- أن يعلم أو يحتمل المكلَّف بأنّ في هذا العمل ضرراً يؤدّي إلى هلاك نفسه، أو قطع عضو من أعضائه مثلاً.

2- أن يعلم بأنّ هذا العمل فيه ضرر، ولكن هذا الضرر لا يؤدّي لا إلى هلاك النفس ولا إلى قطع عضو من أعضائه.

ومن المعلوم أنّ المشي لزيارة الحسين علیه السلام - لو سلَّمنا بوجود الضرر فيه - فإنّه لا يؤدّي إلى هلاك الإنسان عادة، أو قطع عضو من أعضائه فهو ضرر لا يُعتدّ به، بل إنّ في المشي منافع كثيرة، فإنّه يبعث على حيوية الإنسان ونشاطه، خصوصاً وأنّ الإنسان في عصرنا الحاضر أصبح قليل الحركة لتوفّر جميع مستلزمات النقل والانتقال الحديثة.

جاء في استفتاء قُدِّم للسيد الخوئي قدَّس سره: «سؤال 1292: الأُمور المستحبّة إذا ترتّب عليها الضرر، فهل يجوز فعلها أم لا؟ مثلاً لو كان الذهاب إلى زيارة الإمام الحسين علیه السلام مشياً على الأقدام يؤدّي إلى ورم القدمين أو مرض قد يطول شهراً مثلاً، فهل يجوز في مثل هذه الحالة أم لا؟

الخوئي: ما لم يكن الضرر المؤدّي إليه ممّا يحتمل أن يؤدّي إلى هلاك النفس فلا بأس بالعمل به.

التبريزي: ما لم يكن الضرر الهلاك أو الضرر المحسوب من الجناية على النفس، فلا بأس به، والله العالم»(1).

الإشكال الثاني: استلزامه إيذاء النفس وهو قبيح عقلاً

إنّ المشي لزيارة الحسين علیه السلام يُعدّ لدى العُرف إيذاءً للنفس وإتعاباً لها، والعقل يحكم بقبح إيذاء النفس؛ إذن فيُعدّ هذا العمل قبيحاً في نظر العقل، فلا يجوز؛ للتطابق بين حكم العقل وحكم الشرع.

ص: 265


1- الخوئي، أبو القاسم، صراط النجاة: ج2، ص 418.
الجواب:

إنّ حكم العقل بقبح إيذاء النفس مسلَّم في الأعمال التي تؤذي النفس ولا يترتّب عليها غرض معتد به، كجرح عضوٍ من أعضاء الجسد من دون غرض، وأمّا الأعمال التي يكون فيها إيذاء للنفس لأجل تحقيق غرض مهم، فلا يحكم العقل بقبحها، والعقلاء يتحمّلون المشاق والمتاعب لأجل الحصول على أغراضهم، وزيارة الحسين علیه السلام مشياً على الأقدام وإن كان فيها شيءٌ من التعب، إلّا أنّه يترتّب عليها خير الدنيا والآخرة، فهو تعب قليل في قبال نفع وأجر عظيم.

الإشكال الثالث: الاختلاط بين الجنسين

ومن جملة الإشكالات التي تذرّع بها بعضهم أنّ الشعائر الحسينيّة بشكل عام، والمشي لزيارة الحسين علیه السلام بشكل خاص يستلزم الاختلاط بين الجنسين، وهذا الاختلاط محرّم، والزيارة مشياً مستحبّة، فإذا ترتّب عليها مفاسد كالاختلاط بين الجنسين، كان ترك المشي للزيارة أوْلى، والركوب أفضل.

الجواب:

الوجه الأول: إنّ هذا الاختلاط المذكور ليس محرماً؛ فليس هناك من الفقهاء مَن أفتى بحرمة الاختلاط بين الجنسين بهذا المعنى المشار إليه؛ لأنّ الاختلاط تارة ينشأ عن الازدحام، كالحجّ وصلاة الجمعة وصلاة العيدين والمشي لزيارة الإمام الحسين علیه السلام، أو الازدحام داخل الحرم الشريف، فهذا النوع من الاختلاط ليس محرّماً في نفسه، بل أفتى الفقهاء بكراهته بشكل عام.

وأُخرى يكون الاختلاط بمعنى المعاشرة والخلطة من النساء للرجال، وهو ما يحصل عادة في المدارس والدوائر الحكومية والمستشفيات وغيرها؛ بحيث يكون

ص: 266

الاختلاط كثيراً ومستمرّاً، فهذا النوع من الاختلاط قد أفتى السيد الخوئي بحرمته(1).

وعلى أية حال، فالمفروض أنّ المشي لزيارة الحسين علیه السلام إن كان فيه اختلاط فهو اختلاط من القسم الأول دون الثاني(2).

الوجه الثاني: لو سلّمنا - ونحن لا نسلِّم ذلك - أنّ الاختلاط بالمعنى الثاني، أي: المعاشرة، فيحصل أحياناً من بعض ذوي النفوس الضعيفة في المشي لزيارة الحسين علیه السلام، إلّا أنّ ذلك لا يلزم منه تعطيل هذه الشعيرة، ولو كان ذلك صحيحاً للزم تعطيل أكثر العبادات الواجبة التي يكون فيها نوع من الاختلاط أحياناً كالحجّ، وصلاة الجمعة، وصلاة العيد، وصلاة الميت وغير ذلك؛ ولذا ورد عن زُرارة، قال: «حضر أبو جعفرٍ علیه السلام جنازة رجلٍ من قريشٍ وأنا معه وكان فيها عطاءٌ، فصرخت صارخةٌ، فقال عطاءٌ: لتسكتنّ أو لنرجعنّ. قال: فلم تسكت؛ فرجع عطاءٌ. قال: فقلت لأبي جعفرٍ: إنّ عطاءً قد رجع. قال ولم؟ قلت: صرخت هذه الصّارخة. فقال لها: لتسكتنّ أو لنرجعنّ. فلم تسكت؛ فرجع. فقال: امض فلو أنّا إذا رأينا شيئاً من الباطل مع الحقّ تركنا له الحقّ لم نقض حقّ مسلمٍ. قال: فلمّا صلّى على الجنازة قال وليّها لأبي جعفرٍ علیه السلام ارجع مأجوراً رحمك الله؛ فإنّك لا تقوى على المشي. فأبى أن يرجع»(3).

الإشكال الرابع: صرف الأموال الكثيرة مع حاجة الفقراء إليها

من الأُمور الواضحة أنّ الزائر الذي يأتي ماشياً لزيارة الحسين علیه السلام، ويقطع هذه المسافات يحتاج إلى كثير من الخدمات، فهو بحاجة إلى الطعام والشراب، والاستراحة في أثناء الطريق، والمعالجة أحياناً لما يصيبه من التورّمات في الأقدام التي تحصل إثر قطع المسافات الطويلة. ومن هذا المنطلق؛ يقوم المؤمنون الموالون باستقبال الزوّار، وقضاء حاجاتهم، فينصبون (السرادق) على الطريق لذلك، وتذكر الإحصائيات أنّ المواكب التي

ص: 267


1- اُنظر: الخوئي، أبو القاسم، منية السائل: ص219.
2- اُنظر: مجلة فقه أهل البيت علیهم السلام: ج51، ص 297 وما بعدها.
3- العاملي، محمد بن الحسن، وسائل الشيعة: ج3، ص140.

نُصبت في العام الماضي تقرب من ستّة آلاف موكب، وإذا أضفنا إلى ذلك أنّ كلّ موكب يصرف من الأموال ما يقرب من (8) مليون خلال فترة زيارة الأربعين؛ فيخرج الناتج (48) مليار ديناراً كقدر متيقَّن إن لم يكن أكثر. وهذا الرقم من الأموال يُصرف، وفي الناس مَن يحتاج إلى رغيف الخبز، وكم من المرضى الذين يحتاجون إلى الدواء، ولكنّهم لا يملكون أموال علاجهم، أفليس صرف هذه المبالغ في هذه الموارد أوجب، مع ملاحظة تمكّن الزوّار المشاة عادة من أن يتكفّلوا متاعهم بأنفسهم، مع أنّ ذلك يكون مانعاً عن الإسراف والتبذير.

الجواب:

إنّ الإنفاق في الشريعة الإسلامية تارة يكون واجباً وأُخرى مستحبّاً، أمّا الإنفاق الواجب فهو يتمثّل ب-: الإنفاق على واجبيّ النفقة، وفي الزكاة، والخمس، والكفارات، والإنفاق الواجب بالنذر. وأمّا الإنفاق المستحبّ: فهو يتمثّل بالصدقة والإنفاق في سبيل الله والتبرعات والأوقاف.

وقد جعلت الشريعة الإسلامية الزكاة وخمس السادة والكفارات من جملة الموارد المالية التي تُسدّ بها حاجة الفقراء والأيتام؛ فيجب تشكيل المؤسسات التي تُعنى بذلك، والدولة تتحمّل قسطاً من المسؤولية لرفع حالة الفقر، فيجب أن تخصص الدولة مؤسسات إغاثة للمحتاجين والمعوزين من خلال تلك الموارد المالية، وهذه الموارد المالية لا يجوز صرفها إلى غير المستحقّ، كما لا يجوز صرفها إلى الشعائر الحسينيّة.

وأمّا بالنسبة إلى النذر الواجب والإنفاق المستحبّ بجميع ألوانه فهو يرجع إلى قصد الناذر أو المنفق، فإن كان الناذر قد نذر ذلك للشعائر الحسينيّة فلا يجوز أن يصرفها في غيرها، فيجب العمل على طبق النذر، وأمّا الإنفاق المستحبّ فالمنفق مخيّر في ذلك يستطيع أن ينفق في ما يشاء من وجوه البرّ.

ومن المعلوم أنّ الأموال التي تصرف للشعائر الحسينيّة كلّها من قبيل النذور التي نُذرت للشعائر الحسينيّة، أو من قبيل الإنفاق المستحبّ الذي يدخل فيه الصدقة والتبرّعات

ص: 268

والأوقاف، فأمّا بالنسبة إلى الأموال التي نذرت للشعائر الحسينيّة فلا يجوز أن يصرفها في غيرها، فلا يسقط عنه النذر بذلك، وأمّا بالنسبة إلى الإنفاق فهو مخيّر في ذلك، ولا يجوز لنا إجباره على الإنفاق في جهة معينة، فله أن يصرف أمواله في الشعائر الحسينيّة، كنصب المواكب لضيافة زوار الحسين علیه السلام، وتقديم الخدمات لهم وإطعامهم الطعام وسقيهم الماء، فكلّ ذلك جائز له، بل هو من أعظم المستحبّات ويترتّب عليه الثواب العظيم.

وملخّص الكلام: أنّ كلّ جهة من الجهات قد خصّصت الشريعةُ لها مورداً من الموارد المالية، فالفقراء غير السادة قد خُصّصتْ لهم الزكاة والكفارات، والفقراء من السادة قد خُصّص لهم سهم من الخمس. وأمّا ما يرتبط ببقية الأمور الدينية، كالشعائر الحسينيّة وخدمة زوّار الحسين علیه السلام ووجوه البرّ، فهو يكون من الإنفاق في سبيل الله والنذور المتعلقة بها والتبرّعات والأوقاف، ولا ينبغي خلط أحدهما بالآخر.

الإشكال الخامس: إضاعة الوقت وقطع الطرق على الآخرين

إنّ مجيء تلك الحشود والجموع وخروجهم في الطرق والشوارع مشياً على الأقدام إلى زيارة الحسين علیه السلام يوم الأربعين يسبب أمرين:

1- إضاعة الوقت على الزوّار أنفسهم، فبدلاً من أن تستغرق زيارتهم عشرة أيام يمكن أن يختصر أحدهم ذلك ويزور في يوم واحد أو يومين، ثمَّ يرجع إلى عمله ويستغلّ ما تبقّى من وقته في عبادات أُخرى، كالكدِّ على العيال، وقضاء حوائج الناس وما أشبه.

2- إعاقة الآخرين عن مواصلة أعمالهم من خلال شلِّ حركة السير في الطرق الخارجية؛ إذ إنّ الزوّار يمشون ويملؤون الشوارع؛ ممّا يسبب توقّف السير في الشوارع، أو شلِّ الحركة وقطع الطرق على الآخرين، وهذا ليس أمراً مطلوباً في الشريعة.

الجواب:

قد طرح المستشكل محذورين، والجواب عنهما كما يأتي:

ص: 269

الجواب عن المحذور الأول

أولاً: إنّ إضاعة الوقت تارة تكون من قبيل إضاعة الوقت في شيءٍ لا فائدة فيه، وليس فيه غرض معتدّ به، كاللعب واللهو وما شابه ذلك، فهذا النوع من إضاعة الوقت تذمّه الشريعة الإسلامية.

وأُخرى من قبيل صرف الوقت لأجل أغراض معتدٍّ بها، كالعمل والكدِّ على العيال وقضاء حوائج الآخرين، ومواصلة أعمال اليوم، وأداء العبادات وتعظيم الشعائر، وهذا النوع من صرف الوقت ممدوح ومرغوب ؛ ولذا حثت الشريعة على أداء الواجبات، فلا يُسمّى صرف الوقت في ذلك إضاعة للوقت؛ لأنّه في الواقع لم يضيّع وقته، بل حصل على أمر أكبر من الوقت الذي أتلفه، وهذا أحد معاني الآية الكريمة:«وَالْعَصْرِ *إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ *إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ»(1)، أي: إنّ الإنسان قد خسر عمره وأيامه لا محالة، ولكنّه إذا جعل تلك الأيام في طاعة الله تعالى، وعمل الصالحات فلم يخسر عمره، بل ربح شيئاً أكبر.

وزيارة الإمام الحسين علیه السلام مشياً على الأقدام وصرف الوقت فيها من قبيل صرف الوقت في طاعة الله تعالى، وتعظيم شعائره، ونصرة نبيه صلی الله علیه و آله وأهل بيته علیهم السلام، وقضاء الوقت في ذلك مرغوب لدى الشريعة، بل هو من أفضل العبادات.

وثانياً: ورد في بعض الروايات أنّ زائر الحسين علیه السلام لا تحسب أيامه التي صرفها في زيارة الحسين ذاهباً وجائياً من عمره(2)، فمَن ينشغل بعبادات أُخرى، فهو يحصل على الثواب، ولكن يحسب ذلك الوقت من عمره، وأمّا مَن ينشغل بزيارة الإمام الحسين علیه السلام مشياً ذاهباً وجائياً فيحصل على الثواب من دون أن يحسب ذلك الوقت من عمره، وحينئذٍ لا تصدق إضاعة الوقت.

ص: 270


1- العصر: آية1- 3.
2- الحرّ العاملي، محمد بن الحسن، وسائل الشيعة: ج14، ص423.
الجواب عن المحذور الثاني

أولاً: يمكن الجمع بين زيارة الإمام الحسين علیه السلام مشياً والحفاظ على حركة السير، بأن يجعل أحد الشوارع للزوّار والآخر للسير، أو يجعل الليل لحركة السيارات والنهار لحركة المشاة لزيارة الإمام الحسين علیه السلام، فهذا من وظائف القائمين على أنظمة المرور العامّة؛ وحينئذٍ نحصل على كلا الأمرين وتكون زيارة الإمام الحسين علیه السلام مشياً على الأقدام متيسّرة، وحركة السيارات أيضاً تكون ممكنة، وبذلك يتمّ المحافظة على النظم العام.

ثانياً: من المبادئ الواجبة والأساسية في الشريعة الإسلامية هي الدفاع عن المظلوم والاقتصاص من الظالم، فكلّ إنسان مظلوم يجب على الأُمّة الإسلامية الدفاع عنه ومعاقبة مَن ظلمه طبقاً للآية الكريمة:«وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ»(1)، وهذا الأصل مسلّم عند جميع الفرق الإسلامية، بل العالم بأسره؛ ولذا شكّلت أوروبا منظمة للدفاع عن حقوق الإنسان، فإذا لم يتمكّن الناس من الاقتصاص من الظالم للمظلوم، فلا أقل من إظهار تلك المظلومية للعالم ودعوته للدفاع عن المظلومين الذين قُتلوا وظُلموا من دون أي ذنب.

والمشي لزيارة الإمام الحسين علیه السلام أحد المصاديق البارزة لمطالبة العالم الإنساني بالدفاع عن حقوق المظلومين الذين انتُهكت حقوقهم وأُريقت دماؤهم وسُلبت أموالهم من دون أي ذنب، وعلى رأسهم الإمام الحسين علیه السلام الغريب المظلوم، الذي خرج هو أيضاً للدفاع عن المظلومين الذين سلبت حقوقهم من قِبل الطغاة والجبابرة في كلّ زمان ومكان، ومن بعده الإمام زين العابدين علیه السلام والسيدة زينب صلی الله علیه و آله ؛ حيث قاما من بعد الإمام الحسين علیه السلام بهذه المهمّة خير قيام، وأبرزا مظلومية الحسين علیه السلام إلى العالم.

إذن، فزيارة الإمام الحسين علیه السلام مشياً هو أجلى وأتمّ مصداقٍ من مصاديق نصرة المظلوم والاصطفاف معه ضد الظلم والظالمين، وهي نصرةٌ لشخصية مثّلت أساس

ص: 271


1- البقرة: آية179.

العدل ومعدن الإباء، بل هي مظهر من مظاهر إحياء الدين، وكفى بذلك أهميةً، فتُقدّم حينئذٍ على ما سواها من المصالح الشخصية أو العامّة الأقل منها أهمية قطعاً.

أي إن هذا المورد من قبيل التعارض بين المصالح العامّة، والمصالح الشخصية، وكلّما تعارضت المصلحة العامّة مع المصلحة الشخصية، قُدِّمت الأولى على الثانية.

فالمشي لزيارة الحسين علیه السلام يوم الأربعين أصبح اليوم ذا مصلحة عامّة، وتلك المصلحة العامّة هي عبارة عن الصرخة في وجوه الظالمين، ورفع راية الإسلام، كما أنّ في المشي جنبة تبليغية عظيمة؛ حيث إنّ كلّ مَن يرى هذا الحدث وتلك الجموع الغفيرة التي تسير نحو الحسين علیه السلام يُثار لديه تساؤل: مَن هو الحسين الذي جعل جميع هذه القلوب تهوي إليه؟ ممّا يكون باعثاً على البحث والتحقيق، وكلُّ هذه الأُمور فيها مصلحة عامّة وهي مقدَّمة بلا ريب على المصالح الشخصية، كعرقلة المسير.

الجهة الثالثة: بعض آداب الزيارة وثواب الزائر خلال مسيره إلى زيارة الحسين علیه السلام
أوّلاً: الآداب التي ينبغي للزائر أن يتحلّى بها

هناك جملة من الآداب التي ينبغي لزائر الحسين علیه السلام مشياً التحلّي بها، وهي مستفادة من الروايات الواردة عن أهل البيت علیهم السلام:

1- أن يكون زائر الحسين علیه السلام عارفاً بحقّ الإمام الحسين علیه السلام؛ لأنّ الثواب الجزيل إنّما يترتّب على كون الزائر عارفاً بحقّ الإمام علیه السلام، ولعل التفاوت في الأجر الذي تقدَّم في الروايات يرجع إلى التفاوت في المعرفة، فبعض الزائرين يُعطى بكلّ خطوة حسنة في حين يُعطى الآخر بكلّ خطوة ألف حسنة، ويحصل الآخر بمقدار معرفته على ثواب حجّة متقبَّلة بكلّ خطوة، في حين يحصل العارف بحقّه بكلّ خطوة على عتق رقبة. فالمناسب للزائر أنّ يشتغل طول الطريق بالتعرُّف على شخصية الإمام الحسين علیه السلام وأخلاقه، ويحاول تطبيقها والعمل بها ليحصل على الثواب الجزيل.

ص: 272

2- أن يغتسل ويلبس ثياباً نظيفة وطاهرة، ويحافظ على السكينة والوقار، فلا يتصرَّف تصرُّفاً ينافي ذلك، وينبغي مراعاة النظافة بشكل عام طوال الطريق ويتجنَّب رمي النفايات على الأرض، بل ينبغي له رميها في المكان المخصص لها؛ فإنّ الله تعالى يقول: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ»(1)، كما أنّ من المبادئ الأساسية في الإسلام هي النظافة؛ فينبغي لزائر الحسين علیه السلام وسائر الأئمّة علیهم السلام خلال مسيره أن يعمل بهذه المسائل، فإنّه سيُعطي بذلك درساً للآخرين.

3- أن يتجنَّب خلال طريقه إلى الحسين علیه السلام كلَّ ما يسيء إلى سمعة وكرامة وعزّة المذهب؛ فإنّ التصرُّفات السلبية لزائر الحسين علیه السلام ستنعكس على سمعة المذهب وكرامته، فعلى الزائر أن يبتعد عمّا يسيء للمذهب، كالتهاون بالصلاة وعدم رعاية الحجاب، كما أنّ عليه أن يحفظ قلبه وسمعه ولسانه وبصره عن الحرام؛ فإنّ الله تعالى يقول:«إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا »(2). وقد جاء في صحيحة هشام بن الحكم، قوله: «سمعت أبا عبد الله علیه السلام يقول: إياكم أن تعملوا عملاً يعيِّرونا - أي المخالفون - به، فإنّ ولد السوء يُعيَّر والده بعمله، وكونوا لمَن انقطعتم إليه زيناً ولا تكونوا علينا شيناً... ولا يسبقوكم - يعني المخالفين - إلى شيء من الخير، فأنتم أوْلى به منهم»(3).

4- ينبغي لزائر الحسين علیه السلام حال مشيه أن يعمل أفعال الخير، فيرحم الكبير، ويعطف على الصغير، ويساعد المحتاج، ويغيث الملهوف، ويتخلّق بالأخلاق الحسنة، وأن يتكلَّم مع الناس بما هو خير طبقاً لقوله تعالى:«وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا»(4)، بحيث يكون متمسِّكاً بأخلاق أهل البيت علیهم السلام وداعية لهم؛ فإنّ التصرُّفات الإيجابية ستنعكس على سمعة المذهب وكرامته؛ ولذا ورد عن سليمان بن مهران، قال: «دخلت على الصادق جعفر بن محمد علیهما السلام وعنده نفر من الشيعة، فسمعته وهو يقول: معاشر الشيعة، كونوا لنا زيناً، ولا تكونوا علينا

ص: 273


1- البقرة: آية222.
2- الإسراء: آية36.
3- الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي: ج2، ص219.
4- البقرة: آية83.

شيناً، قولوا للناس حسناً، واحفظوا ألسنتكم وكفّوها عن الفضول وقبيح القول»(1).

5- عدم الأكل أثناء المشي، بل المناسب أن يجلس ويستريح قليلاً، ثمَّ يأكل، إلّا إذا اضطرّ إلى ذلك، وعدم السرعة في المشي؛ فإنّه من المستحبّات أن يمشي بسكينة ووقار، وسرعة المشي تذهب بالسكينة والوقار وتطفئ نور المؤمن، فعن أبي عبد الله علیه السلام، قال: «لا تأكل وأنت تمشي إلّا أن تضطرّ إلى ذلك»(2). وقد ورد عن أبي الحسن علیه السلام: «سرعة المشي تذهب ببهاء المؤمن»(3)، وقال علیه السلام: «المشي المستعجل يذهب ببهاء المؤمن ويطفئ نوره»(4).

6- أن يتحلّى بآداب المشي، فعليه أن يكون قاصداً في مشيه إلى زيارة الحسين والأئمّة المعصومين علیهم السلام، ويمشي على الأرض هوناً، وبتذلل وخضوع وعلى سكينة ووقار؛ كي يكون ممَّن يمشي سوياً على صراط مستقيم. حيث تشير إلى ذلك الآيات الكريمة، كقوله تعالى:

«وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ»(5)، « وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا»(6) «وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا »(7) و«أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ»(8).

ثانياً: الثواب الذي يحصل عليه زائر الحسين علیه السلام خلال مشيه لزيارته

اعلم أن ّالثواب الذي يترتّب على زيارة الحسين علیه السلام كثير جدّاً، ولكن نحن نقتصر هنا على المهمّ منه، وسنبدأ بالثواب على حسب الطريق، ابتداء من خروج الزائر من المنزل وحتى وصوله إلى مرقد الإمام الحسين علیه السلام وانتهاء برجوعه إلى منزله؛ فإنّ الله تعالى قد وزّع الثواب على الزائر ابتداءً من الخروج من المنزل إلى حين رجوعه إلى المنزل.

ص: 274


1- الصدوق، محمد بن علي، الأمالي: ص484.
2- العاملي، محمد بن الحسن، وسائل الشيعة: ج24، ص261.
3- المصدر السابق: ج11، ص456.
4- المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج75، ص255.
5- لقمان: آية19.
6- لقمان: آية18.
7- الفرقان: آية63.
8- الملك: آية22.

1- تتباشر أهل السماء به عند ترتيب متاع السفر

فعن الإمام الصادق علیه السلام: «إنّ الرجل منكم ليأخذ في جهازه ويتهيأ لزيارته فيتباشر به أهل السماء»(1).

2- تُصلّي الملائكة عليه عند الخروج من المنزل وتُشيِّعه وتصحبه

عن الإمام الصادق علیه السلام: «إنّ الرجل إذا خرج من باب منزله وكّل الله به أربعة آلاف ملك من الملائكة يصلّون عليه حتى يوافي قبر الحسين علیه السلام» (2).

وقال علیه السلام: «إنّ الرجل إذا خرج من منزله يريد زيارة قبر الحسين علیه السلام شيَّعه سبعمائة ملك من فوق رأسه ومن تحته وعن يمينه وعن شماله ومن بين يديه ومن خلفه حتى يبلغونه مأمنه»(3)، و«صحبه ألف ملك عن يمينه وألف ملك عن يساره»(4).

3- عندما يمشي تُكتب له بكلّ خطوة حسنة

«عن الحسين بن عليّ بن ثوير بن أبي فاختة، قال: «قال لي أبو عبد الله علیه السلام يا حسين، من خرج من منزله يريد زيارة الحسين بن عليّ بن أبي طالبٍ علیهما السلام إن كان ماشياً كتب الله له بكلّ خطوةٍ حسنةً، وحطّ بها عنه سيّئةً» (5).

4- إذا مشى في الشمس أكلت ذنوبه كما تأكل النّار الحطب

قال الإمام الصادق علیه السلام: «وإنّ زائر الحسين علیه السلام إذا وقعت الشمس عليه أكلت ذنوبه كما تأكل النار الحطب، وما تبقي الشمس عليه من ذنوبه شيئاً؛ فينصرف وما عليه ذنب، وقد رفع له من الدرجات ما لا يناله المتشحِّط بدمه في سبيل الله»(6).

5- في حال تعرُّقه أو تعبه يخلق الله سبعين ألف ملك يسبِّحون له

ص: 275


1- ابن قولويه، جعفر بن محمد، كامل الزيارات: ص375.
2- المصدر السابق.
3- المصدر السابق: ص351.
4- الطوسي، محمد بن الحسن، مصباح المتهجد: ص716.
5- العاملي، محمد بن الحسن، وسائل الشيعة؛ ج14، ص 439.
6- ابن قولويه، جعفر بن محمد، كامل الزيارات: ص496.

روي: «أنّ الله تعالى يخلق من عرق زوّار قبر الحسين علیه السلام من كلّ عرقة سبعين ألف ملك يسبّحون الله ويستغفرون له ولزوّار الحسين علیه السلام إلى أن تقوم الساعة»(1).

6- إذا وصل الماشي إلى كربلاء تستقبله الملائكة ويُكتب من الصالحين

عن الإمام الصادق علیه السلام: «إنّ أربعة آلاف ملك عند قبر الحسين علیه السلام شعث غبر يبكونه إلى يوم القيامة، رئيسهم ملك يُقال له: منصور، فلا يزوره زائر إلّا استقبلوه»(2). وفي رواية أُخرى: «حتّى إذا صار بالحائر كتبه الله من الصّالحين»(3).

7- اذا قضى مناسكه كتبه الله من الفائزين

كما ورد ذلك في الرواية: «وإذا قضى مناسكه كتبه الله من الفائزين»(4).

8- إذا انصرف من الحسين علیه السلام غفر الله له ما مضى

عن الحسين بن عليّ بن ثوير بن أبي فاختة قال: «قال لي أبو عبد الله علیه السلام:... حتّى إذا أراد الانصراف أتاه ملكٌ فقال له: أنا رسول الله، ربّك يقرئك السّلام ويقول لك: استأنف؛ فقد غفر لك ما مضى»(5).

9- إذا رجع إلى منزله لم يحسب الوقت من عمره

جاء في رواية أنّ الله عوّض الحسين علیه السلام عن قتله بأمور أربعة، فعن محمّد بن مسلمٍ، قال: «سمعت أبا جعفرٍ علیه السلام وجعفر بن محمّدٍ علیهما السلام يقولان: إنّ الله عوّض الحسين علیه السلام من قتله أنّ الإمامة من ذرّيّته والشّفاء في تربته وإجابة الدّعاء عند قبره ولا تعدّ أيّام زائريه جائياً و راجعاً من عمره»(6).

ص: 276


1- المشهدي، محمد بن جعفر، المزار الكبير: ص417.
2- الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي: ج4، ص581.
3- العاملي، محمد بن الحسن، وسائل الشيعة: ج14، ص439.
4- بن قولويه، جعفر بن محمد، كامل الزيارات: ص253.
5- العاملي، محمد بن الحسن، وسائل الشيعة: ج14، ص439.
6- المصدر السابق: ج14، ص423.

دِرَاسَاتٌ دينِيَّة

اشارة

*حق الحياة والعمليات الانتحارية

*سب معاوية وولاته لأمير المؤمنين علیه السلام

دراسة حديثية تاريخية في مصادر أهل السنة المعتبرة

ص: 277

ص: 278

حَقُّ الحَيَاة وَالعَمَلِيَّاتُ الانتِحَارِيَّة

اشارة

د. فَلاح الدُّوخيّ(1)

مقدّمة

يُعدُّ البحث في موضوع النفس الإنسانية - وبالتحديد في مسألة حفظها وصونها من الهلاك - من البحوث المهمة، ذات الثمرات العديدة على صعيد الفعل والواقع الحياتي المعاش؛لأنّ النفس تمثّل ركناً أساسياً في وجود الفرد؛ وبالتالي في وجود المجتمع واستمراره؛ فيكون هذا البحث في الحقيقة بحثاً عن أصل الحياة، التي تعني الوجود بمعنى من المعاني.

ونعني بحقّ الحياة، معنيين:

الأوّل: حقّ العيش بلحاظ الآخرين، أي: هل الإنسان له حقّ العيش في منظومة المجتمع الإنساني؟

والمعنى الثاني: حقّ العيش بلحاظ ذات الإنسان، فهل حياته وعدمها من حقوقه أم لا؟

ص: 279


1- باحث وكاتب إسلامي، أستاذ في جامعة المصطفى صلی الله علیه و آله العالمية.

وفي هذا البحث سوف نركّز بشكل كبير على المعنى الثاني، وهو: هل بإمكان الإنسان أن يستغني عن حياته ما دامت حياته من مختصاته وله سلطنة عليها؟ هذا هو السؤال الافتراضي الرئيس في البحث، فنريد أن نبحث في المسألة كأصل أوّلي، ثمّ بعد ذلك على تقدير الإمكان، نبحث عن الموانع الفعلية التي تمنع جريان هذا الأصل.

وهذا في الحقيقة يجرّنا إلى بحث حيوي، وهو مسألة الانتحار المشروع، فبعد أن نعرض أدلّة حرمة الانتحار، نبحث هل هناك مشروعية للانتحار وقتل الإنسان نفسه تحت عناوين ثانوية، كما يحصل اليوم في العمليات الانتحارية والتي تُسمَّى بالعمليات الاستشهادية؟

ولا يخفى أنّ البحث عن جواز العمليات الاستشهادية يُعدّ من البحوث المستحدثة، أو من النوازل على حدّ تعبير الفقه السنّي، فلم تكن معروفة في عصر النبي صلی الله علیه و آله ، أو عصر الأئمة علیهم السلام، ولم يشتهر عند فقهاء الشيعة الحديث عنها، فلم يُولوها مزيد اهتمام.

نعم، ربما يوجد في بعض فتاواهم ما يُشير إلى هذه المسألة، وهذا السكوت قد يوجّه بأمرين:

إمّا أن تكون الحلّية ممّا لا شكّ فيها ولا حاجة للبحث عنها؛ بحيث تكون من الضروريات.

وإمّا أنّ الأمر ليس كذلك، وأنّ سبب السكوت كونها من المسائل المستحدثة من جهة، ولم تكن من المسائل الابتلائية في المجتمع الشيعي من جهةٍ أُخرى، وكذلك في الفقه السُّني.

والصحيح هو الثاني، ويؤيّده عدم معروفيّة المسلمين الشيعة للعمليات الانتحارية؛ إذ إنّنا لم نسمع في الوقت المعاصر عن قيامهم بذلك، إلّا في موارد نادرة جداً، ولضرورات خاصّة.

من هنا؛ يكون الخوض في المسألة من المباحث الجديدة في الفقه الشيعي.

ص: 280

مدخل للبحث

لقد اهتمت الشريعة الإسلامية السمحاء بصيانة حقّ الحياة، فكان حفظ النفس وصيانتها واحداً من مجموع أُمور خمسة هي أُمّهات الأحكام الفقهية، وتُسمى بالضروريات الخمس، وهي: حفظ الإسلام، وحفظ النفس، ثمّ حفظ المال، وحفظ العرض، وأخيراً حفظ العقل.

لقد خلق الله تعالى الإنسان وكرَّمه، وأوجده في أحسن صورة وأجمل هيئة:«لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ»(1)، وميَّزه عن سائر المخلوقات، فوهبه هذا العقل الذي به يعبد الله تعالى حقّ العبادة، ويُميّز به بين الأشياء، ويُدرك ما ينفعه وما يضرّه، ويُميّز الحقّ من الباطل، والحسن من القبيح، والخطأ من الصحيح، والنافع من الضّار، ويسلك الطريق الأمثل والمنهج الأقوم، قال تعالى: «وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا»(2).

وجعل الإسلام لهذا الإنسان حقوقاً كثيرة وأثبتها، أهمّها حقّ الحياة والعيش؛ ليؤدّي الإنسان دوره في الحياة.

ونجد أنّ الشريعة قد أولت هذا الجانب عناية كبيرة، فمَن يقرأ القرآن يجد أنّ الله تعالى قد أولى حياة الإنسان أهمية غير طبيعية، فألْفتَ انتباه عباده إلى أنّ القتل بشكل عام مّما لا يمكن قبوله، فقال تعالى حاكياً قصة ابني آدم علیه السلام:«إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ *فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ»(3)، فنلاحظ هنا أنّ الخسران هو ما يستحقّه القاتل جرّاء قتله، وأيّ شيء هو أعظم من الخسران عند الله تعالى؟!

وقال تعالى أيضاً: «مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا

ص: 281


1- التين: آية4.
2- الإسراء: آية70.
3- المائدة: آية29-30.

بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا»(1).

ونلاحظ في هذا النصّ القرآني أنّ الله تعالى قد حرص كثيراً على حفظ حياة الإنسان من قِبل الآخرين؛ فجعل قتل شخصٍ يُعادل قتل جميع الناس، وفي قبال ذلك، شجّع على الحياة ومنح المحيي لنفس واحدة أجر مَن أحيى جميع الناس.

أصلان أصيلان

اشارة

هنالك أصلان مهمان عدّا من مسلمات الشريعة الغراء هما:

الأصل الأوّل: حرمة قتل الإنسان من دون فرق بين المسلم والكافر

يُفهم من الآيات المتقدّمة أنّ الله تعالى يبغض قتل النفس بشكلٍ عام، من دون تفصيل بين كون المقتول مسلماً أو غير مسلم.

وبهذا يكون تشريعه - حرمة القتل - شاملاً للإنسان الكافرأيضاً، وقد أيدت السنّة النبوية هذا الشمول، فقد وردت نصوص تؤكّد حرمة دم الكافر الذمّي والمعاهد، ومن بين هذه النصوص ما رواه الشيخ الطوسي في الاستبصار عن الإمام الصادق علیه السلام: «ومَن قتل ذمّياً ظلماً فإنّه ليحرم على المسلم أن يقتل ذمّياً حراماً ما آمن بالجزية وأدّاها ولم يجحدها»(2)؛ لذلك أفتى العلماء بحرمة قتلهما(3).

وقد ورد ذلك أيضاً في روايات صحيحة من كتب أهل السنّة، تشدّد الوعيد على ذلك، فقد روى البخاري في صحيحه عن عبد الله بن عمرو، عن النبيِّ صلی الله علیه و آله ، قال: «مَن قتل نفساً معاهداً لم يرح رائحة الجنة، وإنَّ ريحها يوجد من مسيرة أربعين عاماً»(4).

ص: 282


1- المائدة: آية32.
2- الطوسي، محمد بن الحسن، الاستبصار: ج4، ص270.
3- اُنظر: الأردبيلي، أحمد، مجمع الفائدة: ج11، ص323.
4- البخاري، محمد بن إسماعيل، صحيح البخاري: ج8، ص47.

والمراد بالمعاهد: «مَن له عهدٌ مع المسلمين، سواء كان بعقد جزيةٍ، أو هُدنةٍ من سلطان، أو أمانٍ من مسلم»(1).

وروى النسائي وابن داود في ذلك أيضاً(2).

وهكذا يؤصّل الإسلام قانوناً عامّاً يكفل عصمة دم الإنسان بما هو إنسان، إلّا في موارد خاصّة، الهدف من تلك الموارد غالباً هو الحفاظ على أصل ذلك القانون، هذا في غير المؤمن والمسلم.

أمّا المؤمن بالله ومَن يقرّ بالشهادتين، فله حسابٌ خاصّ عند الله تعالى، فقد عظّم حرمة قتله بشكلٍ لافت، وبتعبيرٍ تقشعرّ له الجلود، يقول تعالى:«وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا»(3)

وقوله تعالى:«وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا*وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا »(4).

وقد أُشفعت الآيات القرآنية بروايات عديدة عن النبي صلی الله علیه و آله وأهل بيته علیهم السلام، توجب حقن دم المسلم والمؤمن؛ ففي الحديث: «مَن أعان على مؤمن بشطر كلمة، جاء يوم القيامة مكتوب بين عينيه: آيس من رحمة الله»(5).

وعن أبي عبد الله علیه السلام:«في رجل قتل رجلاً مؤمناً، قال: يقال له: متْ أي ميتة شئت: إن شئت يهودياً، وإن شئت نصرانياً، وإن شئت مجوسياً»(6).

وروي من طرق أهل السنّة عن عبد الله بن مسعود، قال: قال النبي صلی الله علیه و آله : «لا يحلّ

ص: 283


1- العسقلاني، ابن حجر، فتح الباري: ج12، ص229.
2- اُنظر: النسائي، أحمد بن شعيب، السنن الكبرى: ج8، ص25.
3- النساء: آية93.
4- النساء: آية29 - 30.
5- الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي: ج2، ص368.
6- الحرّ العاملي، محمد بن الحسن، وسائل الشيعة: ج29، ص19.

دم امرئٍ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأنّي رسول الله إلَّا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والمارق من الدين التارك الجماعة»(1).

وقوله صلی الله علیه و آله : «لا يحلّ دم امرئ مسلم إلّا بإحدى ثلاث: رجل كفر بعد إسلامه، أو زنى بعد إحصانه، أو قتل نفساً بغير نفس»(2).

وروى البخاري عن أنس بن مالك، قال: «قال رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم): مَن صلّى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا، فذلك المسلم الذي له ذمّة الله وذمّة رسوله، فلا تخفروا الله في ذمّته»(3).

وقد أكد النبي صلی الله علیه و آله هذا المعنى في أواخر حياته، فقد روي عن أبي عبد الله علیه السلام: «إنّ رسول الله صلی الله علیه و آله وقف بمنى حتى قضى مناسكها في حجّة الوداع... فقال: أيّ يومٍ أعظم حرمة؟ فقالوا: هذا اليوم. فقال: فأيّ شهرٍ أعظم حرمة؟ فقالوا: هذا الشهر. قال: فأيّ بلدٍ أعظم حرمة؟ قالوا: هذا البلد. قال: فإنّ دماءكم وأموالكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا إلى يوم تلقونه فيسألكم عن أعمالكم، ألا هل بلّغت؟ قالوا: نعم. قال: اللهم اشهد، ألا مَن كانت عنده أمانة فليؤدِّها إلى مَن ائتمنه عليها؛ فإنّه لا يحلّ دم امرئ مسلم ولا ماله إلا بطيبة نفسه، ولا تظلموا أنفسكم، ولا ترجعوا بعدي كفّاراً»(4).

هذه هي مجموعة من الخطابات الروائية، التي تؤسّس لحرمة الدماء، وتهوّل أمر مَن ينتهكها، أيّاً كان.

ثمّ إنّ احترام الدماء وحرمة قتل النفس مَّما اتُفق عليه في كلّ الشرائع السماوية(5)،

ص: 284


1- البخاري، محمد بن إسماعيل، صحيح البخاري: ج8، ص38.
2- النسائي، أحمد بن شعيب، السنن الكبرى: ج7، ص92.
3- البخاري، محمد بن إسماعيل، صحيح البخاري: ج1، ص102.
4- الحرّ العاملي، محمد بن الحسن، وسائل الشيعة: ج29، ص10. ورواه البخاري في صحيحه، اُنظر: البخاري، محمد بن إسماعيل، صحيح البخاري: ج2، ص191.
5- قال تعالى:«وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ». وفي هذه الآية نجد أنّ الله تعالى ينهى عن قتل النفس، ثمّ يصف النفس بالتي حرّم الله، فدلّت الآية على أنّ حرمة قتل النفس ثابتة في جميع الشرائع السماوية؛ فيكون التحريم من الشرائع العامّة المشتركة بين جميع الأديان.

فقتل النفس المحترمة عند الجميع يُعدّ من الذنوب الكبيرة، بل يتنفّر منها الطبع العقلائي السليم، إلَّا أن الإسلام اعتنى بصورة استثنائية بهذه المسألة، إذ نستفيد من بعض الآيات القرآنية أنّ جزاء قتل النفس بغير حقّ هو الخلود في النار، وأنّ هؤلاء الذين يتورّطون في دم الأبرياء يخرجون عن ربقة الإيمان.

وهذا الأمر بدهي في شريعة الإسلام، التي تحاسب تشريعاتها - سواء من خلال القرآن أم من خلال السنّة النبوية - على أدنى مراتب الأذى الذي يُلحقه الإنسان بأخيه الإنسان، فكيف بمسألة القتل وإراقة الدماء؟!

وبهذا يكون الإسلام قد تميّز عن بقية الأديان بشكلٍ واضح في شدّة تأكيده على حرمة القتل، من خلال تشريعات صريحة لا تقبل التأويل.

نعم، هناك حالات يجوّز الإسلام فيها القتل، كما لو قام شخص بقتل آخر عمداً، أو فعل ما يُوجب القتل، كالزنا أو الارتداد، لكن رفع اليد عن حرمة القتل في هذه الموارد إنّما جاء ليعزّز حرمة القتل نفسها؛ ذلك أنّ تشريع جواز قتل القاتل مثلاً المُعبّر عنه بالقصاص في الشريعة هو بلا شكّ يصبّ في طريق حفظ الحياة وديمومتها، قال تعالى:«وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا»(1). وقال تعالى:«وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ»(2).

وهكذا، فإنّ مَن تُسوّل له نفسه قتل أخيه حين يدرك أنّ عقوبة القتل تنتظره سوف يرتدع عن قتله بلا شك؛ ولهذا اشتُهر عند العرب قولهم: «القتل أنفى للقتل»(3).

وكذلك الأمر في مرتكب فاحشة الزنا؛ فإنّ فعله فيه موت وتدمير لنسيج المجتمع والأُمّة، وهو في قوّة القتل.

بَيدَ أنّ الشريعة الإسلامية امتازت أيضاً عن باقي الشرائع بأنّها ترجّح سلامة

ص: 285


1- الإسراء: آية33.
2- البقرة: آية179.
3- الميداني، أحمد بن محمد النيسابوري، مجمع الأمثال: ج1، ص105.

المجتمع والأُمّة على حرّية الفرد؛ لتضمن استمرار وجود الأُمّة وبقائها، فأيّ سلوكٍ فردي يهدّد استقرار المجتمع يواجه بشدّة، وقد تدخل كلّ من عقوبة الارتداد والزنا وسائر أنواع الحدود والقصاص في هذه المصلحة؛ فيترتّب على تنفيذ القصاص، وإقامة الحدود الأُخرى، أن يُخيِّم الأمن على المجتمع، ويعيش الناس في استقرار وطمأنينة.

وهكذا يسير الإسلام بمسارين في حفظ الحياة البشرية، فهو من جهة يحرّم قتل الإنسان أخاه ظلماً وعدواناً، ومن جهة أُخرى يُشرّع كلّ ما من شأنه الحفاظ على الحياة، كالقصاص وحرمة الإلقاء بالتهلكة، التي هي مفاد قوله تعالى:« وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ»(1)؛ إذ فهم منها العلماء تحريم كلّ ما من شأنه أن يؤدّي إلى هلاك الإنسان وانعدام حياته.

كما أنّ الحفاظ على حقّ الحياة يمتدّ في الإسلام من حياة الإنسان جنيناً إلى موته، فقد ذكروا في الفقه عدم جواز رجم المرأة الحامل، أو ملاعنتها، حتى تضع حملها(2).

وقد بيّنت السنّة النبوية حرمة إسقاط الجنين إذا نُفخت فيه الروح، أي: إذا بلغ أربعة أشهر، أمّا الجنين الذي لم يبلغ أربعة أشهر، فقد يجوز إسقاطه فيما لو زاحم بقاؤه حياة الأُم، فإنّ حياة الأُم مقدّمة على الجنين الذي لم تدخله الحياة بعد، على تفصيل مذكور في محلّه(3).

هذا ما شرّعه الله تعالى لحفظ حياة الإنسان من قبل غيره، أي: من أخيه الإنسان، فشرّع حقّ الحياة والعيش، أي: إنّه سنَّ له ما يُمكّنه من العيش بكرامة، ويحفظ له حياته من قِبَل الآخرين.

هذا هو الأصل الأوّل في صيانة حياة الإنسان، وخلاصته: إنّ الإنسان له الحقّ في العيش بغضّ النظر عن جنسه ومعتقده، ولا يجوز لغيره منعه من الحياة بقتل أو ما شابهه.

ص: 286


1- البقرة: آية195.
2- 642
3- اُنظر: التبريزي، الميرزا جواد، صراط النجاة: ج5، ص327.

ولهذا لا يمكن التعدّي عن هذا الأصل إلَّا بدليل شرعي واضح وصريح، مهما كان الهدف والمبرّر لمنع حياة الآخرين.

حرمة القتل الرحيم

لو طلب الشخص أن يقتله الآخرون - كما لو كان يعاني من آلام في حياته، واعتقد أن الموت راحة له من الألم - أو لم يكن ذلك بطلبه فيما لو كان مريضاً ورأى وليّه أو طبيبه المعالج أنّ قتله يكون أكثر راحة له، فيقصد التخفيف من مرضه، وهو ما يُسمى في الوقت الراهن بالقتل الرحيم، أو تيسير الموت، وهو حسب تعريف الأطباء(1): تسهيل موت الشخص بدون ألم؛ بسبب الرحمة لتخفيف معاناة المريض، سواء بطرق فعّالة أو منفعلة، كما يتّخذ الطبيب إجراءات فعالة لإنهاء حياة المريض. ومثال الطرق الفعّالة: أن يوجد مريض مصاب بمرض خطير، كالسرطان مثلاً، فهو يعاني من الألم والإغماء، ويعتقد الطبيب بأنّه سيموت بأيّ حالٍ من الأحوال، فيقوم بإعطائه جرعة عالية من علاجٍ تقضي على الألم الذي كان يعانيه، لكنّه في الوقت نفسه يتسبّب في إيقاف تنفّسه، ثمّ موته.

ومثال الطرق المنفعلة: هو المثال السابق، لكن هنا يكون دور الطبيب دوراً سلبياً، بأن يترك المرض يأخذ أدواره عند المريض، بدون إعطائه أي علاج لإطالة حياته(2).

فهذه الموارد لا تكون خارجة عن هذا الأصل، وتبقى داخلة تحت الحرمة، وهي حرمة قتل النفس من الغير؛ فلا يمكن أن يكون سلب الحياة هنا بهذا الهدف مباحاً.

الأصل الثاني: يحرم على الإنسان قتل نفسه

أمّا ما شرّعه الله تعالى بخصوص موقف الإنسان تجاه حياته، فقد رافقت التشريعات التي تحرم على الغير منع حياته، تشريعات أُخرى تهدف لمنع قتل الإنسان نفسه، أو ما

ص: 287


1- التعريف منقول من موقع إسلام ويب، وكذلك الأمثلة، مع تصرّف.
2- قد يُقال في المورد الثاني: بأنّه مبني على القول بوجوب التداوي في مثل هذا الفرض، فلو كان التداوي مباحاً أو مستحبّاً، فلا ذنب هنا على الطبيب.

يُعبّر عنه بالانتحار، وهي في الحقيقة بمجملها تشكّل الجهة التشريعية المكمّلة لحفظ الحياة وصونها، واستمرارها إلى أن يتوفّاها خالقها حينما يشاء.

الانتحار

لم يكن الانتحار - كمصطلح بما يحمل من معنى اليوم - مصطلحاً متداولاً، بل هو من المصطلحات الحديثة، فقد جاء في قاموس أكسفورد الإنجليزي أنّ كلمة الانتحار حديثة الاستخدام؛ إذ أنّها استُخدمت لأوّل مرّة عام 1651م، عند والتر شارلتون، عندما قال: عندما يحمي الفرد نفسه... من خلال الانتحار، فإنّ ذلك ليس جريمة.

ولقد استُخدم المصطلح حديثاً ليُعبّر عن السلوك التدميري عند الفرد، واستخدم اسم علم الانتحار للمرّة الأُولى عند بونجر في عام 1929م، وفي عام 1960م تمّت ولادة علم جديد سُمّي علم الانتحار، ولقد استخدم شنايدمان اسم علم الانتحار عام 1964م(1).

المعنى اللغوي للانتحار

اشارة

الانتحار في اللغة مصدر افتعال، من: نحر، وانتحر، وانتحار، قال صاحب المحيط في اللغة: «انْتَحَر، أي: قَتَلَ نَفْسَه»(2).

وقال صاحب لسان العرب: انتحر الرجل، أي: نحر نفسه. والنّحرُ: هو الصدر. ونحر الرجل البعير نحراً، أي: طعنه في منحره، حيث يبدو الحلقوم من أعلى الصدر. بمعنى: انتحر الرجل، إذا نحر، أي: قتل نفسه (3).

ولم تُذكر لفظة (انتحار) في المعاجم اللغوية، ولعلّ هذا يؤيّد صحّة ما ورد في قاموس أكسفورد، الذي مرّ سابقاً.

وهذا المعنى اللغوي للانتحار مطلق؛ حيث يشمل ما لو قتل الإنسان نفسَهُ متعمّداً،

ص: 288


1- المصدر السابق: ص4.
2- الصاحب، إسماعيل بن عباد، المحيط في اللغة: ص81. مادة: نحر.
3- اُنظر: ابن منظور، محمد بن مكرم، لسان العرب: ص197. مادة: نحر.

بآلة قاتلة كالسكين مثلاً، وقتل نفسه خطأً، كأن يريد صيداً فيصيب نفسه، فيموت.

التفسير الاجتماعي والنفسي للانتحار

يعتبر (إيميل دوركايم) مؤسّس علم الاجتماع ومن أبرز علمائه، وقد عرف الانتحار بأنّه: «كلّ حالات الوفاة الناتجة مباشرة أو غير مباشرة، عن فعل إيجابي أو سلبي للضحيّة نفسه، الذي يعلم أنّه سيؤدي لتلك النتيجة»(1).

وبتعريفه هذا يعزل دوركايم نفسه عن الفهم الشائع للانتحار، الذي يُشترط فيه أن يرغب الفرد في قتل نفسه؛ إذ لم يشترط في تعريفه سوى معرفة الفرد لعاقبة فعله من أنّها الوفاة.

وقد قسّم دوركايم الانتحار إلى أربعة أقسام، أسماها التيّارات في البيئة الاجتماعية:

1 - الانتحار الأناني (egoism).

2 - الانتحار الغيري أو الإيثاري (altruism).

3 - الانتحار اللامعياري أو الشاذّ (anomie).

4 - الانتحار القدري (fatalism).

ويشرح سبب الانتحار الأناني، يقول: إنّ الفردية المفرطة هي التي تقود الناس إلى ارتكاب الانتحار، فتتحلّل العروة التي تربط الإنسان بالحياة؛ لأنّ الروابط التي توحّد بينه وبين الغير تكون متراخية أو محطّمة.

وبعبارة أوضح، فإنّ المقصود بالانتحار الأناني: إنّ الفرد لا يجد مَن يدعمه عندما يواجه المشاكل الحياتية، فيصبح بمفرده هو الموجّه لها، وتصبح قضية الخطأ والصواب من القضايا التي يحدّدها الفرد لنفسه، أي: بمعنى أنّ النزعة الفردية المتطرفة وانفصال الفرد عن المجتمع يؤدّيان إلى هذا النوع من الانتحار.

ص: 289


1- اُنظر: دوركايم، كتاب الانتحار (Suicide): ص44. وأيضاً: نظرية الثقافة، العدد 223، وهي سلسلة كتب ثقافية يصدرها المجلس الوطني الكويتي للثقافة والآداب، مجموعة مؤلّفين، مراجعة: أ.د. الفاروق زكي اليونس: ص224.

أمّا الانتحار الإيثاري: فهو النقيض للانتحار الأناني، فبدلاً من الاندماج الملائم في الجماعة، ينتج الانتحار الإيثاري عندما يكون الاندماج الاجتماعي أقوى من اللازم بمعنى أنّ الفرد يكون مستوعباً تماماً في الجماعة.

وفي مثل هذه البيئة الاجتماعية، حيث لا تكون الذات ملكية خاصّة لا يستطيع الفرد مقاومة مطلب الجماعة بالتضحية.

لقد ميّز دوركايم بين ثلاثة حالات كأمثلة على هذا النوع، وهي: انتحار الرجال كبار السن، انتحار النساء بسبب موت أزواجهن، انتحار التابع بسبب موت قائده أو العبد بسبب موت سيده.

ويختلف الانتحار اللامعياري - أو الفاقد للمعايير - عن الانتحار الأناني والإيثاري كما يشرح دوركايم، في أنّه لا يعتمد على طريقة ارتباط الأفراد بالمجتمع، ولكن على أُسلوب (المجتمع) في تنظيمهم؛ إذ بالرغم من أنّ كلّا ًمن الأنانية واللامعيارية يتسم بالحضور غير الكافي للمجتمع في الأفراد، فالانتحار الأناني ينتج عن حقيقة أنّ هذا الشكل في الحياة ضعيف في النشاط الجمعي الحقيقي، بينما يحدث الانتحار اللامعياري عندما يفتقر نشاط المرء إلى التنظيم، فالانتحار اللامعياري ينتج من الافتقار للتنظيم في المجتمع وفقدان العمل.

ويظهر هذا النوع من الانتحار عندما تكون هناك أزمة اقتصادية؛ بسبب حدوث تغيرات اقتصادية سريعة وإيجابية قد تؤدّي إلى عدم إشباع حاجات الأفراد وبالتالي إلى الانتحار، وفي المقابل وفي حالة التغيرات الاقتصادية السلبية قد يجد الأفراد صعوبة في التأقلم مع مستويات المعيشة المتدنية؛ وهذا ممَّا يؤدّي إلى الانتحار، وتزيد في مثل هذه الظروف معدّلات الانتحار بسبب الضغط الاجتماعي على سلوك أفراد المجتمع، ويحتمل إقدام الفرد على الانتحار عندما يتعرّض الفرد بشكل مفاجئ إلى ظروف سيئة مثل فقدان العمل أو الأصدقاء.

ونقيض الانتحار اللامعياري هو الانتحار القدري، فعلى عكس افتقاد القيود

ص: 290

الاجتماعية الذي ينتج الانتحار اللامعياري، يشتقّ الشكل الرابع للانتحار من التنظيم المفرط، فهو انتحار عديمي الحيلة، وينتشر بين أشخاص ضاع مستقبلهم بلا شفقة، وصدمت عواطفهم بعنف على يد الأنظمة القهرية (1).

أمّا بالنسبة للتفسير النفسي للانتحار، فقد ركّز علماء النفس على الاكتئاب؛ كونه يشكّل اضطراباً مؤلماً ممزوجاً بمشاعر الحزن، فيُرجع فرويد الانتحار إلى أسباب نفسية داخلية، وأنّه ناتج عن مشاعر الحبّ الأساسية الموجّهة نحو موضوع داخلي، تحوّلت هذه المشاعر إلى غضب وعدوان نتيجة للإحباط؛ ولأنّ موضوع الحبّ داخلي أو جزء من الذات، فإنّ المشاعر العدوانية تتوجّه نحو الذات(2).

التفسير الشرعي للانتحار

ويمكن تعريفه شرعاً - بحسب استقراء الفتاوى الشرعية - هو: أن يقتل الإنسان نفسه عمداً وبقصدٍ منه للقتل، إمّا جزعاً وضجراًً أو يأساً أو في لحظة غضب، وغير ذلك من الدواعي التي نقطع بعدم رضا الشارع بها.

حكم الانتحار في الإسلام

والانتحار بالمعنى الشرعي، لا خلاف بين العلماء في تحريمه، وأنّ فاعله مرتكب لذنب كبير ومستحقٌّ لدخول النار، وكذلك فهو حرام بالتعريف الاجتماعي والنفسي، فهو لا يخرج عن كونه قتلاً للنفس.

نعم، ربّما يكون بعض صور الانتحار التي ذكرها دوركايم محل خلاف، كما في الانتحار الإيثاري في بعض صوره، وسوف نتطرّق لذكره في البحوث الآتية.

ص: 291


1- اُنظر: نظرية الثقافة: ص214 - 215. ومجلة جامعة الملك سعود، مقالة بقلم الدكتور ذياب البداينة: مجلد7، ع2، ص567 - 605، 1415ه-، وهي مجلة دورية تنشرها إدارة النشر العلمي والمطابع بجامعة الملك سعود، ص8 - 9. ومجلة قضايا وآراء، مقالة بقلم: د. السيد عليوة، العدد126، سنة2001م. (بتصرف)، ولم أعثر على كتاب دوركايم، عالم الاجتماع الفرنسي.
2- اُنظر: مجلة الملك سعود: ص10.
أدلّة حرمة الانتحار

استدلّوا على الحرمة بعدّة أدلّة:

الدليل الأوّل: الكتاب الكريم

1- قوله تعالى:«وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا*وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا »(1).

فقوله تعالى:«وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ». ينهى فيه عن قتل النفس والنهي ظاهر في التحريم؛ فدلّت الآية على حرمة الانتحار.

ويَردُ على هذا الاستدلال: أنّ المقصود من (قتل أنفسكم): هو قتل المسلم أخاه المسلم، بلحاظ أنّ المؤمنين بمنزلة النفس الواحدة(2) شبيه قوله تعالى: سلّموا على أنفسكم، في آية:«فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً»(3) أو قوله صلی الله علیه و آله : «أموالكم وأعراضكم عليكم حرام»(4)، ولم تكن الآية ناظرة إلى قتل الإنسان نفسه.

قال ابن جرير الطبري في البيان: «يعني بقوله جلّ ثناؤه:«وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ» ولا يقتل بعضكم بعضاً، وأنتم أهل ملّة واحدة»(5).

وقال القرطبي: «قوله تعالى:«وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ»... وأجمع أهل التأويل على أنّ المراد بهذه الآية النهى أن يقتل بعض الناس بعضاً»(6).

وفي تفسير العياشي: «عن أبي عبد الله علیه السلام، قرأ قوله:«وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا»، قال: كان المسلمون يدخلون على عدوهم في المغارات، فيتمكّن منهم

ص: 292


1- النساء: آية30.
2- اُنظر: النحاس، أحمد بن محمد، معاني القرآن: ج2، ص7.
3- النور: آية61.
4- الجصاص، أحمد بن علي، أحكام القرآن: ج1، ص304.
5- الطبري، محمد بن جرير، جامع البيان: ج5، ص50.
6- القرطبي، محمد بن أحمد، تفسير القرطبي: ج5، ص156.

عدوّهم فيقتلهم كيف شاء، فنهاهم الله أن يدخلوا عليهم في المغارات»(1).

لكن مع هذا، فإنّه لا مانع من شمول الآية لمورد قتل الإنسان نفسه، وذلك بالأولوية؛ ضرورة أنّ تشبيه قتل المؤمنين بعضهم بعضاً بقتل أنفسهم، يدلّ على حرمة قتل النفس في رتبة سابقة.

قال العلامة الطباطبائي: «قوله تعالى:«وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ». ظاهر الجملة: أنّها نهي عن قتل الإنسان نفسه، لكن مقارنتها قوله: لا تأكلوا أموالكم بينكم. حيث إنّ ظاهره أخذ مجموع المؤمنين كنفس واحدة لها مال يجب أن تأكلها من غير طريق الباطل، ربما أشعرت أو دلّت على أنّ المراد بالأنفس جميع نفوس المجتمع الديني المأخوذة كنفس واحدة، نفس كلّ بعض هي نفس الآخر؛ فيكون في مثل هذا المجتمع نفس الإنسان نفسه، ونفس غيره أيضاً نفسه، فلو قتل نفسه أو غيره فقد قتل نفسه؛ وبهذه العناية تكون الجملة أعني: قوله: ولا تقتلوا أنفسكم. مطلقة تشمل الانتحار الذي هو قتل الإنسان نفسه وقتل الإنسان غيره من المؤمنين»(2).

ويؤيّده استشهاد الإمام الصادق علیه السلام لقتل النفس بالآية المباركة، قال: «مَن قتل نفسه متعمداً فهو في نار جهنم خالداً فيها؛ قال الله تبارك وتعالى: «وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا*وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا ».(3).

وبذلك تتمّ دلالة الآية الشريفة.

2 - قوله تعالى: «وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ »(4).

فقد صرّحت الآية الكريمة بحرمة قتل النفس التي حرّم الله قتلها وجعلها محترمة، وهي تشمل بإطلاقها قتل الإنسان نفسه أيضاً.

ص: 293


1- العياشي، محمد بن مسعود، تفسير العياشي: ج1، ص236.
2- الطباطبائي، محمد حسين، تفسير الميزان: ج4، ص320.
3- الصدوق، محمد بن علي، مَن لا يحضره الفقيه: ج3، ص571.
4- الأنعام: آية151.

ويمكن أن يُورد على هذا الاستدلال: بأنّ مفاد الآية هو بيان مَن يستحقّ القتل شرعاً، من الأعداء المحاربين وغيرهم.

قال الطبرسي: «أعاد ذكر القتل... تفخيماً لشأنه، وتعظيماً لأمره، والنفس المحرّم قتلها هي: نفس المسلم والمعاهد، دون الحربي، والحقّ الذي يُستباح به قتل النفس المحرّم قتلها، ثلاثة أشياء: القود، والزنا بعد إحصان، والكفر بعد إيمان»(1).

وقال الطبري: «القول في تأويل قوله تعالى: «وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ». يقول تعالى ذكره:«قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا»،«وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ». يعني بالنفس التي حرّم الله قتلها: نفس مؤمن أو معاهد. وقوله: إلَّا بالحقّ. يعني: بما أباح قتلها به من أن تقتل نفساً فتُقتل قوداً بها، أو تزني وهي محصنة فتُرجم، أو ترتدّ عن دينها الحقّ فتُقتل»(2).

فمفاد الآية مع ملاحظة الجملة الاستثنائية جميعها: أنّ النفس المحترمة لا يجوز قتلها إلَّا بالحقّ، وذلك الحقّ في موارد محدّدة، فلا دلالة فيها على حرمة قتل الإنسان لنفسه، ولا توجد هنا نكتة تفيد الشمول.

3 - قوله تعالى: «وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ»(3).

والتهلكة والهلاك واحد، وهو مصير الإنسان، بحيث لا يدري أين هو؟ والتهلُكة على وزن تفعُلة، بضمّ العين، ولا يوجد في اللغة مصدر على هذا الوزن غيره(4).

وهذه الآية المباركة نهت عن إلقاء النفس في التهلكة، وهي مطلقة تشمل كلّ ما يوجب هلاك الإنسان وموته.

ص: 294


1- الطبرسي، الفضل بن الحسن، مجمع البيان: ج4، ص191.
2- الطبري، محمد بن جرير، جامع البيان: ج8، ص111.
3- البقرة: آية195.
4- اُنظر: الطباطبائي، محمد حسين، تفسير الميزان: ج2، ص64.

قال صاحب الميزان: «والكلام مطلق أُريد به النهي عن كلّ ما يوجب الهلاك، من إفراطٍ وتفريط، كما أنّ البخل والإمساك عن إنفاق المال عند القتال يوجب بطلان القوّة وذهاب القدرة، وفيه هلاك العدّة بظهور العدو عليهم، وكما أنّ التبذير بإنفاق جميع المال يُوجب الفقر والمسكنة، المؤدِّييَن إلى انحطاط الحياة وبطلان المروّة»(1).

وسوف نتكلّم عن معنى التهلكة بشكلٍ مفصّل، ونذكر الأقوال في هذه الآية في بحث العمليات الانتحارية.

الدليل الثاني: الروايات

اشارة

1- روى الكليني بسندٍ صحيح، عن أبي ولّاد، قال: «سمعت أبا عبد الله علیه السلام يقول: مَن قتل نفسه متعمداً، فهو في نار جهنم خالداً فيها...»(2).

وهي رواية صريحة في حرمة الانتحار وقتل النفس، وهي مطلقة لم تختصّ بحالة من حالات قتل الإنسان نفسه.

وهذا المضمون أيضاً رواه الصدوق رحمة الله، كما مرّ في دليل حرمة الانتحار.

2- روى الكليني بإسناده عن ناجية: «قال: قال أبو جعفر علیه السلام: إنّ المؤمن يُبتلى بكلّ بليّة ويموت بكلّ ميتة إلَّا أنّه لا يقتل نفسه»(3).

ودلالة هذه الرواية واضحة على حرمة قتل الإنسان نفسه، إلَّا أنّ المشكلة في سندها، وعنصر الضعف هو ناجية، وهو ابن أبي عمارة الصيداوي؛ إذ لم يُذكر له توثيق عند علماء الرجال، فهو مهمل.

حرمة الانتحار في روايات أهل السنّة
اشارة

1 - روى البخاري في صحيحه: «قال رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم): كان فيمَن

ص: 295


1- المصدر السابق.
2- الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي: ج7، ص45.
3- المصدر السابق: ج2، ص254.

كان قبلكم رجل به جرح، فجزع فأخذ سكّيناً فجزّ بها يده، فما رقأ الدم حتى مات، قال الله تعالى: بادرني عبدي بنفسه، حرمت عليه الجنة»(1).

2 - كما روى البخاري عن أبي هريرة، قال: «قال النبي (صلّى الله عليه وسلّم) الذي يخنق نفسه يخنقها في النار، والذي يطعنها يطعنها في النار»(2).

وأيضاً روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة عن النبي صلی الله علیه و آله ، قال: «مَن تردّى من جبل فقتل نفسه فهو في نار جهنم يتردّى فيه خالداً مخلّداً فيها أبداً، ومَن تحسّى سمّاً فقتل نفسه فسمّه في يده يتحسّاه في نار جهنم، خالداً مخلداً فيها أبداً، ومَن قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يجأ بها في بطنه في نار جهنم خالداً مخلّداً فيها أبداً»(3).

ومع هذه الأدلّة يتأسّس الأصل الثاني الذي يحفظ حقّ الحياة بلحاظ نفس الإنسان، فلا يجوز للإنسان أن يهلك حياته بنفسه.

لكن هل توجد استثناءات لهذا الأصل الثاني، مع عدم الاهتمام باستثناءات الأصل الأوّل؟

قد تعرّضنا في الأثناء إلى أنّ قتل الإنسان لغيره يكون مشروعاً في موارد محدّدة وهي: القود، والزنا بعد إحصان، والكفر بعد إيمان. وهذه الاستثناءات معلومة بالضرورة.

وهذا بخلاف الأصل الثاني؛ فإنّه ليس من الواضح أنّه يقبل الاستثناء، ولم يشتهر له استثناءات في كتب الفقه، فهل يكون الانتحار مباحاً في موارد محدّدة؟

من هنا؛ ندخل في أمر مهم وجدير بالبحث، وهو العمليات الانتحارية.

العمليات الانتحارية

المراد من العمليات الانتحارية: قيام شخص بقتل نفسه مقارناً مع قتل شخص، أو مجموعة من الأشخاص.

ص: 296


1- البخاري، محمد بن إسماعيل، صحيح البخاري: ج4، ص146.
2- المصدر السابق: ج2، ص100.
3- المصدر السابق: ج7، ص32.

وهذا الأُسلوب من القتل لم يكن متعارفاً إلَّا في وقت قريب جداً، فقد شاع ذلك في العقود الثلاثة الأخيرة، ولعلّ بدايتها كانت في أوّل عقد الثمانينيات من هذا القرن.

قال (روبرت بيب) - الخبير في العلوم السياسية بجامعة شيكاغو، ومدير مشروع شيكاغو حول الهجمات الإرهابية الانتحارية، في مقابلة أجراها معه موقع(یو أس إنفو) مؤخراً -: «المقصود من الهجمات الإرهابية الانتحارية هو قتل أعداد كبيرة من الناس بين جمهور مستهدف؛ من أجل إيجاد نوع من الخوف والفوضى، قادر على إحداث تغيير سياسي بشتّى الطرق»(1).

وهذا التعريف - كما ترى - يستثني العمليات الانتحارية الدفاعية، ويقصر العمل الانتحاري على الأهداف السياسية البحتة.

وقد ذكروا أنّ أول مَن قام بالعمليات الانتحارية هم الشيعة، يقول روبرت: «وقد ظهر استخدام الهجمات الإرهابية الانتحارية لأوّل مرة في لبنان في العام 1983م، من قِبل جماعة حزب الله التي أتقنت هذا الأُسلوب في البداية»(2).

ولكن هذا خلاف التتبع، فإنّ المتتبّع لتاريخ تلك العمليات يجد عشرات الشواهد، وعند أكثر الأُمم وأصحاب الأديان، ولعلّ ما حصل في الحرب العالمية الثانية خير شاهد على ذلك.

دوافع مختلفة للعمليات الانتحارية

بحسب الاستقراء للعمليات الانتحارية التي حدثت مؤخّراً، فقد لُوحظ أنّها ذات أهداف مختلفة ومتنوّعة، كما أنّها لا تختص بجماعة معيّنة، كما قد أُشيع عن كونها من مختصّات التطرف الإسلامي.

فقد نفى(روبرت بيب) نفسه ذلك، وقال: إنّ أكثر من نصف الهجمات الانتحارية

ص: 297


1- اُنظر: موقع: cog.acirema.www، مقالة تحت عنوان: الهجمات الإرهابية الانتحارية آخذة في الارتفاع على نطاق عالمي.
2- المصدر السابق.

غير مرتبط بالدين، وأوضح أنّه حتى الآونة الأخيرة ارتكب نمور التاميل في (سري لانكا) من الهجمات الإرهابية الانتحارية أكثر من أي جماعة أُخرى، وقال أيضاً: إنّ الدافع الأساسي لنمور التاميل هو الماركسية، وليس العقيدة الدينية، وإنّ نصف مجموع الهجمات تقريباً التي وقعت منذ ثمانينيات القرن الماضي ليست مرتبطة بالأُصولية الدينية، التي يُستشهد بها عادة بين الجماعات التي تتّخذ من الشرق الأوسط مقرّاً لها(1).

ويستشهد سيغمان - وهو طبيب نفسي متخصّص بالطب الشرعي وباحث في الإرهاب - بدراسة درس فيها أكثر من 400 من الإرهابيين المرتبطين بالقاعدة، من الشرق الأوسط وجنوب شرقي آسيا وشمالي إفريقيا وأوروبا، وأظهرت الدراسة أن حوالي 13بالمائة منهم فقط ذهبوا إلى مدارس دينية، وهي التي كان يعتقد عادة أنّها مصدر للمهاجمين الانتحاريين الجُدُد، وقال (سيغمان): إنّ الغالبية الساحقة للإرهابيين في دراسته، أي: حوالي 84 بالمائة، تمّ تحوّلهم للتطرّف في الغرب وليس في بلادهم السابقة(2).

وتقول (أودري كيرث كرونين) - وهي متخصّصة في الإرهاب كانت تعمل في خدمة أبحاث الكونغرس، (وهي جزء من مكتبة الكونغرس الأميركي) -: «إنّ الدوافع للهجمات الإرهابية ليست مختلفة - من نواحٍ عديدة - عن الأنواع الأُخرى للإرهاب، بما في ذلك لفْتُ الانتباه لقضية، أو الشهرة الشخصية بارتكاب عمل شرّ، أو الغضب، أو الانتقام والعقاب ضد ظلم مُتصوّر»(3).

أصناف العمليات الانتحارية

وبعد هذا الاستعراض للعمليات الانتحارية ودوافعها بشكل مجمل يمكن لنا أن نصنّف تلك العمليات وفقاً لتلك الدوافع:

ص: 298


1- اُنظر: موقع: cog.acirema.www المقالة السابقة.
2- المصدر السابق، مقالة بعنوان: (الصورة المعروفة للإرهابيين).
3- المصدر السابق.

الصنف الأول: العمليات الانتحارية ذات الأهداف السياسية؛ أي: إنّها تسعى لتحقيق مكاسب سياسية محدّدة، كما حدث ويحدث في العراق في السنوات الأخيرة، فتقوم بعض المجاميع المسلحة ذات البعد السياسي بالقتل الانتحاري، بدافع الضغط السياسي على خصومهم، أو كما يحدث في مصر حينما تقوم مجموعات تنتمي للإخوان المسلمين بتنفيذ عمليات انتحارية، الهدف منها الضغط على الحكومة المصرية وإضعافها، أو كما يحصل في إيران حينما تقوم منظمة مجاهدي خلق (منافقي خلق) بعمليات انتحارية لغرض تقويض النظام الإسلامي الحاكم.

وهذا الصنف من العمليات الانتحارية لا شك في حرمته؛ إذ لا يمكن أن يستدلّ على جوازه بأي نحوٍ من الأنحاء؛ لكونه لا يخضع لمبررات تُخرجه عن حرمة الانتحار، فيتحمّل المنتحر وزر قتل نفسه ووزر ما يقتله من نفوس بريئة.

الصنف الثاني: عمليات انتحارية ذات بُعدٍ شخصي، وهذا البُعد يتجلّى تارة بالانتقام أو الغضب أو حبّ الشهرة أو غيره من الدوافع الشخصية الأُخرى.

وهذا الصنف غير داخل في محل بحثنا؛ كونه حراماً جزماً، فليس للدوافع الشخصية قدرة على تقييد شمول حرمة الانتحار الشديدة.

الصنف الثالث: عمليات انتحارية ذات دوافع عقائدية قد جُزم بها، ومثاله: ما يقوم به تنظيم (القاعدة) المعروف تجاه غير المسلمين أو تجاه المسلمين المخالفين له في المبدأ والعقيدة.

وهذا الصنف أيضاً لا شكّ في حرمته بالنسبة لقتل المسلمين، فكما أشرنا في بداية البحث وبيَّنا شدّة التغليظ على حرمة قتل مَن يؤمن بالله ويشهد الشهادتين، مهما كانت الأسباب.

نعم، مسألة الانتحار بالكافر - وقتله خارج البلاد الإسلامية - كما يفعل تنظيم (القاعدة) في بعض الدول الأوربية، ربّما تكون مورد خلاف عند الفقهاء من ناحية حكمها الشرعي.

الصنف الرابع: العمليات الانتحارية التي تهدف إلى الدفاع عن النفس والوطن،

ص: 299

أو الدفاع عن الدين والعقيدة، فهي عمليات انتحارية دفاعية، ومثالها: ما يحدث في فلسطين، وما حدث في جنوب لبنان.

وهذا هو الصنف الأكثر أهمّية من بين أنواع العمليات الانتحارية، وهو ما سوف نبحث عن دليلٍ على جوازه.

وهكذا سوف يكون محلّ البحث هو الصنف الثالث في شقّه الأول، وهو الانتحار بغير المسلم نكايةً به وإضعافاً له، والصنف الرابع وهو الدفاع الانتحاري.

بعد هذا الاستعراض ندخل في مشروعية العمليات الانتحارية بأصنافها المختلفة؛ لنرى هل يوجد دليل شرعي يخرج هذه الأصناف - أو بعضها - من دائرة الأصل الثاني الذي أسّسناه، وهو حرمة قتل النفس وانتحارها؟

أدلّة مشروعية العمليات الانتحارية

سوف نتعرّض في هذه الجهة من البحث إلى الأدلّة التي يمكن أن تشكّل باباً للحكم بجواز قتل النفس في موارد معيّنة، كما يحدث في العمليات الانتحارية، وكذلك سوف نتعرّض لذكر الأدلّة التي يمكن أن تدلّ على حرمتها وعدم جوازها، وسوف نناقش ما يمكن مناقشته، ونقيّم كلّ هذه الأدلّة تباعاً.

أدلّة القائلين بالجواز

الدليل الأول: قوله تعالى: «وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ »(1).

وجه الاستدلال بهذه الآية هو أنّها حرّمت قتل النفس واستثنت قتلها بالحقّ، وما يقوم به المنتحر يمثّل حقاً؛ حينما يهدف: إمّا إلى الدفاع عن نفسه ووطنه، وإمّا نكايةً بالعدو وإضعافه.

وهذا الدليل قد مرَّ ذكره في أدلّة حرمة الانتحار، ولم يكن مقبولاً هناك؛ كونه ناظراً إلى إبراز مَن يجوز قتله استثناءً من حرمة قتل الغير؛ فلا دلالة فيه على حرمة قتل النفس

ص: 300


1- الأنعام: آية151.

حتى يرتّب عليه المستدلّ جواز قتل النفس بتلك المبرّرات.

الدليل الثاني: قوله تعالى:«وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا *وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا»(1).

وهذه الآية تفيد أنّ قتل النفس حرام، وهي تشمل بإطلاقها - كما ذكرنا في أدلّة حرمة الانتحار - قتل النفس وقتل الغير، وقد قيّد الله تعالى وعيده بالنار على فاعله، حينما يصدر القتل عن عدوان وظلم.

وهذا يعطي مفهوماً التزامياً، مفاده: أنّه إذا لم يكن القتل عدواناً وظلماً، فلا يوجد هناك وعيد بالنار، كما لو أهلك نفسه في سبيل الله وطاعته، وفي سبيل الدفاع عن الدين؛ فلا يكون عدواناً ولا ظلماً، فلا يشمله الوعيد بالنار.

ويرد على هذا الدليل عدّة ملاحظات

أولاً: إنّ هذا الدليل شبيه بالمصادرة؛ لأنّ الكلام في أن قتل النفس بالمبرّرات المذكورة هل هو عدوان وظلم على النفس، أم لا؟ فإذا ادُّعي أنّه ليس عدواناً؛ لكونه مصداقاً لطاعة الله تعالى، فهذا أول الكلام؛ لأنّ مصبّ البحث في الانتحار في الفرض المذكور، هل هو طاعة لله لكي يكون خارجاً عن حريم ودائرة قتل النفس المحرم، أم لا؟

ثانياً: إنّ الاستدلال هنا مبني على المفهوم من الجملة الوصفية؛ حيث إنّ جملة: ومَن يفعل ذلك - القتل - ظلماً وعدواناً سوف نصليه ناراً، يُستفاد أنّ لهذه الجملة مفهوماً التزامياً، وهو: أنّه إذا لم يتّصف القتل بالظلم والعدوان، فلا يترتّب عليه الوعيد بالنار.

وفيه: أنّ هذا مبنيٌ على قبول حجّية المفهوم الوصفي، والكثير من علماء الأُصول لا يقبلونه.

وكذلك يُقال: إنّ المفهوم من هذه الجملة الذي مفاده: عدم ترتّب الوعيد بالنار على القتل غير المتصف بالظلم والعدوان - على تقدير قبول المفهوم - من أبرز مصاديقه

ص: 301


1- النساء: آية29 - 30.

وأوضحها هو القتل السهوي، أو قتل الخطأ، كمَن قتل غيره أو نفسه خطأً مثلاً.

فالقيد هنا جاء به ليحترز عن قتل السهو والخطأ وقتل القصاص وقتل المرتدّ، ويكفي هذا في إشباع الاحتراز.

ويؤيّد هذا بعض علماء التفسير؛ فقد قال القرطبي: «قيّد الوعيد بذكر العدوان والظلم؛ ليخرج منه فعل السهو والغلط»(1).

وقال الشوكاني: «وخرج بقيد العدوان والظلم ما كان من القتل بحقّ: كالقصاص، وقتل المرتدّ، وسائر الحدود الشرعية، وكذلك قتل الخطأ»(2).

ثالثاً: لا يبعد أن يكون قيد (ظلماً وعدواناً) قيداً توضيحياً وليس احترازياً، بمعنى أنّ غالب القتل الذي يحصل على الغير أو على النفس هو قتل ظلم وعدوان، وهو شبيه قوله تعالى: «وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ»(3)؛ إذ قالوا: إنّ وصف اللاتي في حجوركم، هو وصف غالبي وتوضيحي وليس احترازياً، فلا مفهوم.

رابعاً: إنّ معنى العدوان والظلم هو التجاوز على حقّ الغير، قال النحاس: «العدوان في اللغة: المجاوزة للحقّ. والظلم: وضع الشيء في غير موضعه»(4).

وفي فرض قتل الإنسان نفسه، فلا يوجد في البين طرف آخر يدعى كونه غيراً؛ حتى يثبت التجاوز على حقه. وهذا يؤكد أن التقييد ناظر إلى قتل الإنسان غيره، لا قتله نفسه(5).

ومن هنا؛ لا يكون الاستدلال بمفهوم هذه الآية تاماً ولا أقل كون الدليل مجملاً لا

ص: 302


1- القرطبي، محمد بن أحمد، تفسير القرطبي: ج5، ص157.
2- الشوكاني، محمد بن علي، فتح القدير: ج1، ص457.
3- النساء: آية23.
4- النحاس، أحمد بن محمد، معاني القرآن: ج2، ص71.
5- يمكن النقاش في هذا المورد بالنقض بما يُقال: ظلم الإنسان نفسه، فهناك اثنينية في الإنسان، وهي اعتبارية، لكن يمكن أن يُقال بوجود الفارق بين الموردين، فهنا قد ذكر الله تعالى بعد الظلم العدوان، وهو يقتضي أن يكون موردهما واحداً.

قدرة له على كسر طوق حرمة الانتحار.

الدليل الثالث: قوله تعالى:«وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ»(1).

وجه الاستدلال: إن الله تعالى مدح وأثنى على مَن يبيع نفسه من أجل طاعة الله تعالى، من خلال بذلها في الجهاد، ومَن ينتحر بهدف طاعة الله يكون داخلاً في ثناء الله تعالى.

وفيه: إنّ الشراء هنا - والذي هو بمعنى البيع - لم يكن المقصود به بيع النفس بواسطة الانتحار وقتل النفس، بل المقصود هو بيع النفس من خلال الجهاد وقتال الأعداء؛ بحيث إنّ المكلف لو قتله عدوّه أثناء الجهاد، فسوف يعدّ هذا بيعاً لنفسه إرضاءً لله تعالى.

ويؤيّده سبب نزول الآية في خصوص الإمام علي علیه السلام، في قضية مبيته على فراش النبي صلی الله علیه و آله ؛ فقد روي عن جابر، عن أبي جعفر علیه السلام قال: «أمّا قوله:«وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ». فإنّها نزلت في علي بن أبي طالب علیه السلام، حين بذل نفسه لله ولرسوله، ليلة اضطجع على فراش رسول الله صلی الله علیه و آله ، لمّا طلبته كفار قريش»(2).

الدليل الرابع: قوله تعالى:«إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ»(3).

ووجه الاستدلال: إنّ الآية المباركة قد وعدت بالجنة لم-َن يجاهد في سبيل الله تعالى؛ حيث يكون المصير إمّا أن يُقتَلَ، أو يَقتُلَ غيره من الأعداء.

ومَن ينتحر في سبيل الله ويُقتَل فهو داخل في عنوان الجهاد في سبيل الله تعالى.

وفيه: أنّه كسابقه في الضعف؛ فإنّ الآية ناظرة لم-َن يقتله الغير حين الجهاد، لا أن يَقتُل نفسه بنفسه؛ ليقتل الآخرين معه كما هو الفرض.

ص: 303


1- البقرة: آية207.
2- المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج19، ص78.
3- التوبة: آية111.

الدليل الخامس: قوله تعالى:«وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ »(1).

ووجه الاستدلال: إنّ هناك أمراً من الله تعالى في تعزيز قوّة المسلمين، وإنّ الهدف منها هو إرهاب العدو.

والمنتحر حين يقتل نفسه فهو يُرهب العدو، فالغاية متحقّقة إذن.

وفيه: أنّ الكلام في مصداق الإرهاب الذي نحرز به رضا الله تعالى، فليس مطلق الإرهاب مطلوباً وفي كل الظروف.

والمنتحر حين ينتحر ويُرهب العدو لا بدّ أن يكون في رتبة سابقة قد علم أنّ هذا السلوك مَّما تطيب به نفس المولى. وهذا في الحقيقة تمسّك بعموم الآية؛ لإثبات شمولها لمصداق مشكوك، وهو تمسّك بالعام في الشبهات المصداقية، وقد قال علماء الأُصول أنّه غير مقبول.

الدليل السادس: سيرة أصحاب النبي صلی الله علیه و آله وأصحاب أئمة أهل البيت علیهم السلام.

ونقصد من ذلك سيرة أصحاب النبي صلی الله علیه و آله ، أو سيرة أصحاب الأئمة أثناء جهادهم وقتالهم العدو - سواء في الجهاد الهجومي أو الدفاعي - فالمتفحص لسيرتهم يجد أنّ مَن يُقدم على الجهاد وهو عالم يقيناً بأنّه مقتول، كما لو هجم بمفرده على العدو الكثير، لم يكن ذلك محرّماً.

والمنتحر من سنخ ذلك المجاهد، فهو يعلم - حين ينغمس في العدو - بقتله يقيناً(2)، فما هو الفرق بين شخص يهجم بنفسه على العدو وهو متيقّن أنّه سوف يُقتَل، وبين شخص انتحاري هجم على العدو ويعلم أنّه مقتول أيضاً؟

فقد نقلت السير أنّ سلمة بن الأكوع قد انغمس في العدو الكثير في قضية لقاح

ص: 304


1- الأنفال: آية60.
2- يُسمّى ذلك في فقه أهل السنّة: بحمل الواحد على العدو الكثير، أو بمسألة الانغماس في الصف، أو مسألة التغرير بالنفس في الجهاد.

النبي صلی الله علیه و آله (1)، وكذا قصة عابس رحمة الله في عاشوراء كربلاء، وغير ذلك من الموارد الكثيرة التي ملأت كتب السير والتاريخ.

وفيه: إنّ هذا القياس ليس صحيحاً؛ وذلك لأُمور:

أولاً: إنّ الهجوم على العدو الكثير ليس مأذوناً به بشكل عام - فهو مصداق واضح للإهلاك المحرم(2) - إلّا في موارد محدّدة؛ لذا لا يجب محاربة العدو فيما لو لم يكن هناك تكافؤ بين الطرفين.

ثانياً: إنّ المجاهد حين ينغمس في صفوف العدو يغلب على ظنه القتل، لا اليقين التام كما في المنتحر، كما أنّه يُقتَل على يد عدوه، بينما المنتحر في العمليات الانتحارية يَقتل نفسه بنفسه.

وقضية سلمة بن الأكوع - على تقدير صحة هذه الواقعة - وكذلك قصة عابس رحمة الله من القضايا الخاصّة وفي حادثةٍ خاصّة، وحكمها حكم خاصّ أيضاً.

الدليل السابع: إنّ الحياة من الحقوق التي يجوز إسقاطها

وحاصل الدليل: إنّ حياة الإنسان من مختصّات نفس الإنسان، فهو صاحب الحقّ في حياته، إن شاء قتلها وإن شاء أبقاها، لولا المانع الشرعي من ذلك.

وقد اقتصر المانع الشرعي على حرمة تنازله عن حقِّ حياته في خصوص موارد معيّنة، كالغضب أو اليأس والقنوط، وما يُشبه ذلك من الدواعي، أمّا في غير ذلك كما لو كان الداعي هو الجهاد وحفظ الدين، فلا محذور شرعي فيه، فالأصل أن يكون متمكّناً من التصرف في حقِّه؛ فيجوز له إهلاك حياته والتنازل عن حقّه في الحياة.

وهذا الدليل - كما ترى - يتوقّف على افتراض أنّ الحياة من الحقوق؛ فيجوز إسقاطه والتنازل عنه.

ومن هنا؛ نحتاج في تقييم هذا الدليل إلى إثبات كون الحياة من الحقوق، وهل هذه الدعوى صحيحة واقعاً؟

ص: 305


1- اُنظر: ابن كثير، إسماعيل، السيرة النبوية: ج3، ص289.
2- سوف يأتي بيان ذلك، حين التعرض لأدلّة المانعين من العمليات الانتحارية في آية التهلكة.
هل الحياة من الحقوق؟

معنى الحقّ:

سوف نتعرّض بنحو الإجمال إلى مسألة معنى الحقّ، وبماذا يفترق عن الحكم؟ وما هو ضابط تمييز الحقّ؟ ليتشخّص لنا كيف يمكن ادّعاء أنّ الحياة من الحقوق القابلة للإسقاط، على أنّ هذا البحث من البحوث التي تحتاج إلى تفصيل لكي يُستوفى حقّها، لكنّنا سوف نتطرّق له بقدر الحاجة والضرورة، فليس هنا مجال تفصيله، فنقول:

معنى الحقّ في اللغة: هو الوجوب والثبوت. قال في تهذيب اللغة: «الحقّ: نقيض الباطل، تقول: حَقّ الشيءُ يَحِقّ حَقّاً، معناه: وجب يجب وجوباً»(1).

وفي المصباح المنير: «الحقّ خلاف الباطل، وهو مصدر (حقّ) الشيء من بابي ضرب وقتل، إذا وجب وثبت... وحقّقت الأمر: أحقّه إذا تيقّنته، أو جعلته ثابتاً»(2).

ويمكن القول - من خلال تتبّع استعمالات كلمة الحقّ -: إنّه ليس بمعنى مجرد الثبوت، بل هو الثبوت على نحو اللزوم، فهو الذي يُسمّى حقّاً، وإن كان اللزوم بالمعنى اللغوي يرجع إلى الثبوت، ولكنّ التأمّل يقتضي كون اللزوم أيضاً هو الثبوت الخاصّ، لا الثبوت المطلق(3).

أمّا من ناحية الاصطلاح، فقد اختلفوا في تفسير الحقّ، فقال المحقّق النائيني رحمة الله: «هو سلطنة ضعيفة على المال»(4). ويرى السيّد الخميني رحمة الله: أنّ الحق بحسب المفهوم العرفي والمرتكز العقلائي له معنى واحد، وهو: اعتبار خاصٍّ يختلف عن اعتبار الملك أو السلطنة(5).

ص: 306


1- الأزهري، محمد بن أحمد، تهذيب اللغة: ج3، ص241. مادة: حقّ.
2- الفيومي، أحمد بن محمد، المصباح المنير: ج1، ص143- 144. مادة حقّ.
3- اُنظر: رسائل الشيخ اللنكراني، رسالة مختصرة في الحقّ والحكم: ص350. موقع الشيخ اللنكراني على الإنترنيت.
4- اُنظر: الخوانساري، موسى بن محمد، منية الطالب: ج1، ص106.
5- اُنظر: الخميني، روح الله، كتاب البيع: ص39 - 40.

وقال المحقّق اليزدي: «الحقّ نوع من السلطنة على شيء متعلّق بعين، كحقّ التحجير، وحقّ الرهانة، وحقّ الغرماء في تركة الميت أو غيرها، كحقّ الخيار المتعلق بالعقد... ونحو ذلك، فهو مرتبة ضعيفة من الملك، بل نوع منه»(1).

وقال المحقّق الخراساني في حاشيته على المكاسب: «الحقّ بنفسه ليس سلطنة، وإنّما كانت السلطنة من آثاره، كما أنّها من آثار الملك، وإنّما هو - كما أشرنا إليه - اعتبار خاصّ له آثار مخصوصة، منها: السلطنة على الفسخ، كما في حقّ الخيار، أو التملّك بالعوض، كما في حقّ الشفعة، أو بلا عوض»(2).

أما السيد الخوئي، فلم يرَ أنّ الحقّ يفترق عن الحكم، بل هما من وادٍ واحد، وأنّ معرفة إمكانية الإسقاط أو عدمه راجعة إلى الدليل الشرعي، فقد ذكر أنّه: «لا ينبغي الريب في أنّ الحكم والحقّ متّحدان حقيقةً؛ لأنّ قوامهما بالاعتبار الصرف... فلا وجه لتقسيم المجعول الشرعي أو العقلائي إلى الحقّ والحكم لكي نحتاج إلى بيان الفارق بينهما، بل كلّها حكم شرعي أو عقلائي قد اعتُبر لمصالح خاصّة؛ بناءً على مسلك العدلية من تبعية الأحكام للملاكات الواقعية»(3).

والمستفاد من كتاب مصباح الفقاهة وكتاب المحاضرات: أنّه لا فرق بين الحقّ وبين الحكم إلَّا في الاصطلاح، حيث اصطلح على الحكم القابل للإسقاط باسم الحقّ، فلم يرَ السيد الخوئي مجالاً للبحث عن كون شيءٍ ما حقاً وعدمه؛ لنثبت بذلك قبوله للإسقاط أو النقل أو الإرث وعدمه، بل لا بدّ في كلّ حكم من الرجوع إلى الأدلّة الواردة بشأن ذلك الحكم (4).

ص: 307


1- اليزدي، محمد كاظم، حاشية المكاسب: ج1، ص55.
2- الآخوند، محمد كاظم، حاشية المكاسب: ص4.
3- الخوئي، أبو القاسم، مصباح الفقاهة: ج2، ص51 - 52.
4- اُنظر: الحائري، كاظم، فقه العقود: ج1، ص 132.
الضابط في تمييز الحق ّعن الحكم

وعلى أيّة حال، فأغلب مَن ميّز بين الحقّ والحكم، قال: إنّ الضابط لتمييز الفارق بينهما هو أخذ السلطة وإعمال القدرة في مفهوم الأوّل، ومجرّد جواز الفعل والترك في مفهوم الثاني، فهناك فرق بين حقّ القصاص، وجواز شرب الماء مثلاً؛ فيتضمّن الأوّل، السلطةَ وإعمالَ القدرة بينما الثاني ليس كذلك.

هذه هي الضابطة الكليّة في التعرّف الإجمالي على الحقّ والحكم، ويُستعان في تمييز أحدهما عن الآخر بلسان الدليل تارة، والارتكاز العرفي ثانياً، والإجماع ثالثاً، وآثاره الشرعية رابعاً؛ فإنّ الحكم لا يقبل الإسقاط ولا النقل ولا الانتقال القهري؛ لأنّ كلّ واحد منها تدخّلٌ في التشريع مع أنّه بيد اللّه سبحانه، وهذا بخلاف الحقّ، فهو يقبل غالباً أحد - أو أكثر - هذه الأُمور.

بعد هذا البيان لمعنى الحق لغةً واصطلاحاً، والفارق بينه وبين الحكم، نقول: لا شكّ في أنّ الحياة ليست من الحقوق؛ ضرورة أنّ الحياة قوامها الروح، فلئن كانت الروح حقّاً فما هو متعلّقه؟ ومَن هو صاحب هذا الحقّ؟

فإن قيل: إنّ الإنسان هو صاحب الحقّ، فقد اجتمع صاحب الحقّ والحقّ معاً، وهو غير ممكن.

قال السيد الخميني رحمة الله: «وأمّا كون الشخص ذا حقّ على نفسه فغير عقلائي؛ إذ لا يعتبر العقلاء أنّ الإنسان ذو حقّ على نفسه»(1).

كما أنّه ليس للإنسان سلطنة على نفسه ما دام حيّاً؛ لعدم معقولية تسلّط الإنسان على نفسه؛ ولنفس النكتة التي ذُكرت في الحقّ؛ إذ يلزم اتحاد المُسلَّط والمُسلَّط عليه.

قال المحقّق النائيني رحمة الله - في مسألة نقل الحقّ إلى مَن هو عليه -: «امتناع نقل الحقّ إلى مَن هو عليه؛ لعدم معقولية تسلُّط الإنسان على نفسه»(2).

ص: 308


1- الخميني، روح الله، كتاب البيع: ج1، ص42.
2- الخوانساري، موسى بن محمد، منية الطالب: ج1، ص110.

أمّا ما يُقال: من أنّ الناس مسلّطون على أنفسهم. فهي سلطنة عقلائية، واعتبار عقلائي، قال السيد الخميني رحمة الله: «فإنّ الناس لدى العقلاء مسلّطون على أنفسهم، كما أنّهم مسلّطون على أموالهم، بل في هذا العصر تعارف بيع الشخص دمه وجسده للاختبارات الطبّية بعد موته، وليس ذلك إلَّا لتسلّطه على نفسه لدى العقلاء، فسلطنة الناس على أنفسهم عقلائية»(1).

وقد يُقال: إنّ السلطنة من الأحكام، وهي لا تقبل الإسقاط بحال من الأحوال، قال السيد الحكيم رحمة الله: «إنّ السلطنة من الأحكام التي لا تسقط بالإسقاط، وموضوعها تارة يكون ملكاً وأُخرى يكون حقّاً»(2).

وبالتحليل الدقيق يمكن القول: إنّ معنى الحياة وتفسيرها يُبيّن لنا حقيقة الأمر، فنقول: إنّ الله تعالى حينما خلق الإنسان فقد ركّبه من أمرين، أحدهما له بُعد غيبي، وهو الروح المدركة والناطقة، والأمر الثاني: له بُعد مادّي، وهو البدن أو الجسم، والروح المدركة هي التي تُمثّل حقيقة الإنسان، وهي التي مورد خطاب الله تعالى، فالحياة تعني بقاء الروح متعلّقة بالبدن وتتصرّف بأفعاله، والموت يعني انفصالها عنه وتركه وحيداً.

وهذه الروح المدركة جعل الله تعالى لها سلطنة على أفعال البدن، فالسلطنة هنا قائمة بين الروح وبين هذا البدن المادّي، وقد حدّد الله تعالى تصرّفات الروح في هذا البدن بالأحكام الشرعية الخمسة المعروفة، فيجب مثلاً أن تقوم الروح بدفع البدن لإنجاز الصلاة والحج، وكذلك يجب أن تمنعه من فعل المحرّمات ونحو ذلك.

وفي المقام: قد منع الله تعالى الروح من التصرف بالبدن بحيث يؤدي إلى انفصال الروح واستقلالها - يعني الموت - إلَّا في الموارد التي أرادها الله تعالى، كالجهاد وغيره.

من هنا؛ فما ذكره السيد الخميني من أمثلة لتسلط الإنسان على نفسه هي من قبيل المسامحة؛ كونها من سلطنة الروح على الأفعال الجسمية، لا من تسلّط الروح على الروح نفسها.

ولهذا؛ فقد كان النبي صلی الله علیه و آله أولى بالمؤمنين من أنفسهم؛ لأنّ هذه السلطنة التي منحها

ص: 309


1- الخميني، روح الله، البيع: ج1، ص42.
2- الحكيم، محسن، نهج الفقاهة: ص10.

الله تعالى لأبدانهم هي في المرتبة الأُولى له، ثمّ لنبيه، ثمّ لم-َن يقوم مقامه.

قال في بلغة الفقيه: «ولاية النبي صلی الله علیه و آله على المؤمنين، وهي وإن لم تكن من سنخ سلطنة الله تعالى، إلَّا أنّها سلطنة عنه تعالى بالاستخلاف، وولاية خلفائه الطاهرين، ونوّابهم المجتهدين، فهي في طول سلطنة الله على خلقه... وهي أقوى وأشدّ، وأوْلى وأكمل من سلطنة الإنسان على نفسه»(1).

وبهذا التحليل يتضح كيف أن الحياة سنخ من السلطنة التي هي من الأحكام الإلهية، فهي ليست مطلقة العنان، بل هي مقيدة، ففي كل تصرف لها نحتاج فيه إلى الدليل الشرعي.

وبعد أن اتّضحت حقيقة الحياة وأنّها ليست من الحقوق، فيتّضح به أيضاً تقييم الدليل السابع وضعفه.

ومن هنا؛ يمكن أن نقول: إنّه لا يوجد دليل واضح وصريح على جواز العمليات الانتحارية، فضلاً عن دليل استحبابها أو وجوبها، كما يذهب إليه البعض، وبهذا يكون الأصل الثاني سالماً من التخصيص والاستثناء؛ فتبقى تلك العمليات تحت حرمة الانتحار.

وهذا هو الدليل الذي يمكن أن يُستند إليه في مقام عدم الجواز، وربّما يعضده ما ذهب إليه البعض في تحريم العمليات الانتحارية؛ اعتماداً على دليل حرمة الإلقاء في التهلكة، وهو أحد الأدلّة المستفادة من الكتاب الكريم، والذي كان أحد الأدلّة التي أُسّست للأصل الثاني، وهو حرمة الانتحار وقتل الإنسان نفسه.

أدلّة القائلين بحرمة العمليات الانتحارية

قوله تعالى:«وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ »(2).

لقد اعتمد أغلب الذين ذهبوا إلى تحريم العمليات الانتحارية على قوله تعالى: «وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ».

ص: 310


1- بحر العلوم، محمد، بلغة الفقيه: ج1، ص16.
2- البقرة: آية195.

ووجه الاستدلال هنا: أنّ الآية تنهى عن إلقاء النفس في المهالك، والموت أبرز مصاديق الهلاك، وما يقوم به المنتحر من قتل نفسه في العمليات الانتحارية، هو مصداق من مصاديق التهلكة، الذي لا نرفع اليد عن حرمته إلَّا بدليل واضح.

تفسيرات متعدّدة للآية

هذه الآية المباركة سبقتها آيات تتحدّث عن الجهاد ووجوب القتال، فالغرض منها واحد، وهو تشريع القتال مع مشركي مكة، الذين كانوا يقاتلون المؤمنين.

ومعنى الإنفاق في اللغة هو: «إخراج الشيء عن ملكه إلى ملك غيره»(1)، والمقصود منه في الآية حيث قيّد بذكر سبيل الله، فالمراد به في طريق الدين، والسبيل هو الطريق، وسبيل الله هو دينه.

فكلّ ما أمر الله به في دينه من الإنفاق فهو داخل في الآية، سواء كان إنفاقاً في حجّ أو عمرة، أو كان جهاداً بالنفس، أو تجهيزاً للغير، أو كان إنفاقاً في صلة الرحم، أو في الصدقات أو على العيال، أو في الزكوات والكفارات، أو عمارة السبيل وغير ذلك، إلَّا أنّ الأقرب في هذه الآية أنّه يُراد به الإنفاق في الجهاد(2)، وقد تقدّم ذكر الجهاد.

وأمّا معنى لا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة، فقد اختلف المفسرون في معناها، وهذا الاختلاف مبنيٌ على تشخيص متعلّق النهي في الآية، فمنهم مَن قال: إنّه راجع إلى النفقة نفسها. ومنهم مَن قال: إنّه راجع إلى غيرها.

أما مَن قالوا بالأول: فذكروا فيه وجوهاً:

الوجه الأول: أن لا ينفقوا في مهمّات الجهاد أموالهم، فيستولي العدو عليهم ويهلكهم، وكأنّه قيل: إن كنت من رجال الدين، فأنفق مالك في سبيل الله وفي طلب مرضاته، وإن كنت من رجال الدنيا، فأنفق مالك في دفع الهلاك والضرر عن نفسك، فالنهي عن الإلقاء في التهلكة بسبب عدم وجوب الإنفاق في الجهاد؛ لأنّه يفضي إلى الهلاك.

ص: 311


1- الطبرسي، الفضل بن الحسن، مجمع البيان: ج2، ص34.
2- اُنظر: الفخر الرازي، محمد بن عمر، التفسير الكبير: ج5، ص148.

الوجه الثاني: إنّه تعالى لمّا أمره بالإنفاق، نهاه أن ينفق كلّ ماله؛ فإنّ إنفاق كلّ المال يفضي إلى التهلكة، عند الحاجة الشديدة إلى المأكول والمشروب والملبوس، فكان المراد منه ما ذكره في قوله: «وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا»(1).

وأمّا مَن قالوا بالثاني وإنّ جملة:«وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ»غير مرتبطة بالنفقة، فقد ذكر فيه وجوهاً لذلك:

أحدها: إنّه نهى عن ذلك حذراً من الإخلال بالجهاد، فيتعرّضوا للهلاك الذي هو عذاب النار، فحثّهم بذلك على التمسّك بالجهاد، وهو كقوله تعالى: «لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ»(2).

وثانيها: إنّ المراد من الجملة هو أنه: «لا تقتحموا في الحرب بحيث لا ترجون النفع، ولا يكون لكم فيه إلَّا قتل أنفسكم؛ فإنّ ذلك لا يحلّ، وإنّما يجب أن يقتحم إذا طمع في النكاية، وإن خاف القتل، فأمّا إذا كان آيساً من النكاية، وكان الأغلب أنّه مقتول؛ فليس له أن يُقدم عليه، وهذا الوجه منقول عن البراء بن عازب، ونُقل عن أبي هريرة أنّه قال في هذه الآية: هو الرجل يستقلّ بين الصفين»(3).

وهناك مَن اعترض على هذا التأويل، فقال: إنّ هذا القتل غير محرّم. واحتجّ لذلك بنقل بعض الوقائع في عهد النبي صلی الله علیه و آله من الصحابة الذين عرضوا نفسهم للقتل، وقد مدحهم النبي، مع أنّهم قد تيقّنوا القتل.

ويدفعه: أنّ تحريم إلقاء النفس في صفِّ العدو إذا لم يتوقّع إيقاع نكاية منهم، فأمّا إذا توقّع ذلك فلا محذور.

ثالثها: أن يكون هذا النهي متّصلاً بقوله تعالى:«الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ »(4). أي: فإن قاتلوكم في الشهر الحرام فقاتلوهم فيه؛ فإنّ الحرمات قصاص،

ص: 312


1- الفرقان: آية67.
2- الأنفال: آية42.
3- الفخر الرازي، محمد بن عمر، التفسير الكبير: ج5، ص150.
4- البقرة: آية194.

فبادلوهم الاعتداء بالمقاتلة، ولا تحملنّكم حرمة الشهر على أن تستسلموا لم-َن قاتلكم؛ فتهلكوا بترككم القتال؛ فإنّكم بذلك تكونون ملقين بأيديكم إلى التهلكة.

رابعها: أن يكون المعنى: أنفقوا في سبيل الله ولا تقولوا: إنّا نخاف الفقر إن أنفقنا، فنهلك ولا يبقى معنا شيء، فنهاهم الله تعالى أن يجعلوا أنفسهم هالكين بالإنفاق.

خامسها: ولا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة، هو الرجل يصيب الذنب الكبير، الذي يرى أنّه لا ينفعه معه عمل يشفع له عند الله تعالى، فذاك هو إلقاء النفس إلى التهلكة، فيكون المعنى النهي عن القنوط عن رحمة الله؛ لأنّ ذلك يحمل الإنسان على ترك العبودية والإصرار على الذنب.

سادسها: يحتمل أن يكون المراد (وأنفقوا في سبيل الله، ولا تلقوا إنفاقكم ذلك في التهلكة والإحباط؛ وذلك بأن تفعلوا بعد ذلك الإنفاق فعلاً يحبط ثوابه، إمّا بتذكير المنّة أو بذكر وجوه الرياء والسمعة، ونظيره قوله تعالى: «وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ»(1).

هذه هي مجمل الوجوه التي يمكن أن تقال في تفسير الآية المباركة، وما ينفع كدليل لمنع العمليات الانتحارية هو التفسير الثاني من الوجه الثاني، حيث يُقال بوحدة المناط بين مَن يقتل نفسه حيث يجزم أنّه مقتول، وبين مَن يهاجم العدو ويغلب على ظنه القتل، فالآية قد نهت عن ذلك.

لكنّك عرفت ضعف ذلك فيما تقدّم، وأنّ هناك فارقاً بين مَن ينتحر وبين مَن يُقاتل ثمّ يُقتَل وقد غلب على ظنه الموت.

كما أنّنا قد ذكرنا - في البحث المتقدّم في دليل حرمة الانتحار - أنّ مفاد الآية أعمّ ممّا ذُكِر، فهي مطلقة.

قال العلّامة الطباطبائي: «والكلام مطلقٌ، أُريد به النهي عن كلّ ما يوجب الهلاك من إفراط وتفريط، كما أنّ البخل والإمساك عن إنفاق المال عند القتال يوجب بطلان

ص: 313


1- اُنظر: الفخر الرازي، محمد بن عمر، التفسير الكبير: ج5، ص 148 - 151. تمّ نقل ما قاله مع مراعاة الاختصار.

القوة وذهاب القدرة، وفيه هلاك العدّة بظهور العدو عليهم، وكما أنّ التبذير بإنفاق جميع المال يُوجب الفقر والمسكنة، المؤدّيين إلى انحطاط الحياة وبطلان المروّة»(1).

وعليه؛ فلا تصلح الآية بوصفها دليلاً مستقلّاً على حرمة العمليات الانتحارية.

نعم، هي تؤسّس لحرمة الانتحار؛ بناءً على صحّة إطلاقها.

وقد يُقال: إنّ هذا الحكم يشمل كلّ حالات الانتحار ومَن يقتل نفسه بأيّ هدف، وأيّ داعٍ.

لكن يُقال أيضاً: إنّ القدر المتيقّن لشمول هذه الآية - بناءً على صحّة إطلاقها وشمولها لقتل النفس - هو الانتحار المتعارف، وهو ما عرّفناه من ناحية شرعية، أمّا ما كان مثل الانتحار بهدف التقّرب إلى الله ونكاية العدو، أو حتى الانتحار الإيثاري الذي ذكره دوركايم، فغير معلوم شمول الآية له؛ فلا تكون هذه الآية صالحة لتكون دليلاً خاصّاً على حرمة العمليات الانتحارية.

نعم، فيما لو لم يوجد دليل خاصّ على الجواز، ولا دليل خاصّ على الحرمة، فالأصل الثاني - وهو حرمة قتل النفس - جارٍ في المقام، ويمكن أن يُضاف له ذوق الشريعة المعروف في الاحتياط في مسألة الدماء، فلم نجد احتياطاً أكثر من الاحتياط في الدماء.

تزاحم حكم حرمة الانتحار مع حفظ الإسلام

ما تقدّم من كلام حول المسألة يثبت لنا عدم جواز العمليات الانتحارية بالحكم الأوَّلي، أمّا لو تزاحم هذا الحكم - بما يحمل من ملاك - مع ملاك آخر أقوى منه، كما لو تزاحم ذلك مع وجوب حفظ الإسلام؛ بحيث إنّه لو تُرك العمل الانتحاري أدّى ذلك إلى محو الإسلام، وتسلّط الكفر عليه، فهنا قد يُقال بجواز العمليات الانتحارية، فيقع التزاحم بين الأهمّ والمهمّ، ولا شكّ في تقديم حفظ الدين والإسلام، قال المفيد رحمة الله: «وحيث إنّ الدين أهمّ من نفس المؤمن، فقاعدة الأهمّ والمهمّ تقتضي ترجيح حفظ الدين على حفظ النفس»(2).

ص: 314


1- الطباطبائي، محمد حسين، تفسير الميزان: ج2، ص64.
2- المفيد، محمد بن محمد، أوائل المقالات: ص372.

وهذا النوع من التزاحم هو تزاحم في عالم الملاكات أو تزاحم المصالح، وإنّما نقول بتقديم حفظ الدين؛ لأنّه لا ريب في أنّنا نحرز أنّ أهم الأُمور في نظر المولى تعالى إنّما هو حفظ دينه وشريعته والذب عنها؛ ولهذا نجد أنّ الأنبياء والأئمة علیهم السلام قد بذلوا من أجل ذلك مهجهم، فحين يتوقّف إعلاء كلمة الدين وترويج شريعة سيد المرسلين صلی الله علیه و آله على بذل النفس بأيِّ نحوٍ، كان ذلك واجباً ومقدّماً.

الفتوى بجواز العمليات الانتحارية

لقد أجاز بعض علماء الشيعة العمليات الانتحارية بالعنوان الثانوي، ونقصد به ما أشرنا إليه، وهو حفظ الدين، حيث يتوقف الحفظ عليه، ومنهم: الميرزا جواد التبريزي رحمة الله، حيث قال: «إنّما يُحرم قتل النفس، وإلقاؤها في التهلكة، بالعنوان الأوَّلي، وأمّا بالعنوان الثانوي، كما إذا توقّف عليه حفظ الدين الحنيف، فربّما يجوز ذلك، بل قد يجب، فلولا أنّ الحسين علیه السلام قُتل بسيوف الأعداء لاندرست آثار النبوة، ولانمحى ما تحمّله النبي صلی الله علیه و آله ووصيّه أمير المؤمنين علیه السلاممن المشقّة والتعب»(1).

ونفهم من خلال هذا الكلام أنّ الملاك في جواز الانتحار هو حفظ الإسلام، ولا بدّ أن يكون المورد هنا هو من قبيل قتل الإمام الحسين علیه السلام، وتشخيص هذا إنّما يكون بيد الفقيه، فقد يرى الفقيه أنّ ما يحدث في فلسطين مثلاً دفاع عن أصل الإسلام، وأنّ إسرائيل تحاول أن تقضي على الإسلام والدين، فعندئذٍ سوف يجوّز الفقيه العمليات الانتحارية.

خاتمة البحث

إنّ نوع الإنسان باعتباره خليفة الله تعالى في أرضه، فبقاؤه واستمرار وجوده يمثّل الامتداد الحقيقي لخلافة الله تعالى؛ لهذا فقد كرّمه الله بشتّى أصناف التكريم، وسخَّر له كلّ ما يمكنه من استمرار العيش بكرامة وبعزّة، فمنذ خلقه شرّع له ما يحقّق استمرار وجوده في هذه الدنيا، وكانت تلك التشريعات تتّجه باتّجاهين.

ص: 315


1- الخوئي، أبو القاسم، صراط النجاة (تعليق التبريزي): ج3، ص422.

الاتّجاه الأول: تشريعات تعزّز حقّه في الحياة مع الآخرين، وتمنع الغير من الاعتداء عليه.

الاتّجاه الثاني: تشريعات تمنع الإنسان نفسه من قتل نفسه، وهو ما يعبّر عنه بحرمة الانتحار.

وهذه التشريعات جميعها تمثّل أصلين مهمّين في عرضٍ واحد، لا يمكن الخروج عنهما، إلَّا بدليلٍ واضح، يرخّص بسلب حقّ الحياة.

وقد انتشر في العصر الراهن ما يُسمّى بالعمليات الانتحارية، وبما أنّها من المستحدثات، فصارت مثار الاختلاف عند الفقهاء، بين محرّمٍ لها وبين مجوّزٍ لها، بل مشرّع لها على نحو الوجوب.

وقد طرحنا أدلّة الطرفين (المجوّزين والمانعين)، ولم نجد دليلاً واضحاً على جواز العمليات الانتحارية، بحيث يمكن لهذا الدليل الخروج عن الأصل الثاني المحرّم لقتل النفس، الواضح الدلالة.

نعم، نرى أنّ الجواز ينحصر فيما لو توقّف وجود وكيان الإسلام على العمليات الانتحارية، أو وفق ما يراه الولي الفقيه في الدولة الإسلامية الحديثة من مصلحة.

وقد يكون مصداق ذلك ما نراه من تأييد بعض العلماء لما يقوم به أبطال المقاومة الإسلامية في فلسطين اليوم، من عمليات ضدّ الهجمة الصهيونية، التي تستهدف كيان الإسلام والمسلمين.

كما ناقشنا أدلّة المانعين عن العمليات الانتحارية، ولم تكن الأدلّة واضحة في المنع أيضاً، فغاية ما يُستدل به هو قوله تعالى في آية التهلكة، ولم يكن الاستدلال بها على المنع تامّاً.

ثمّ سرنا سيراً جدليّاً، فبناءً على مَن يرى الجواز قد تعرّضنا لذكر شرائط ذلك الجواز، وأنّه ينحصر في الجهاد الدفاعي، ولا يوجد دليل واضح على جوازه في الجهاد الهجومي.

ص: 316

سَبُ مُعَاوِيَةَ وَولاتِه لِأَمِيرِ المُؤمِنِين علیه السلام

دِرَاسَةٌ حَدِيثيَّةٌ تاريخِيَّةٌ في مَصَادِرِ أهل السُّنَّة المُعتَبَرة

اشارة

د.السیَّیّد حَاتِم البُخَاتیّ(1)

مدخل

لقد شهد تاريخ المسلمين تحولاً مهمّاً في مسيرته أفضت إلى حدوث تغيّر هائل في بُنية الكيان الإسلامي على جميع المستويات؛ نتيجة ما حصل من فتنة بين الصحابة والخليفة الثالث عثمان بن عفان، والتي انتهت بمقتله على يد الصحابة أنفسهم، بعد أن وصل الخلاف إلى مرحلة فشلت معها جميع الحلول التي سعى لها كبار الصحابة، وفي مقدمتهم أمير المؤمنين علي علیه السلام، الذي لم يدّخر وسعاً في تطويق الأزمة ومعالجتها ولكن دون جدوى.

ويمكن القول: بأنّ حادثة مقتل عثمان وما خلّفته من نتائج كانت سبباً - مباشراً أو غير مباشر - في ظهور العديد من الظواهر السلبية التي لم يعهدها المسلمون من قبل، كالحروب الداخلية والانشقاقات المذهبية والعقدية بين المسلمين؛ وبالتالي أثّرت وبشكل فاعل على مسيرة الإسلام برمّته.

ص: 317


1- باحث وكاتب إسلامي.

وشاءت الأقدار أن يتحمّل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب علیه السلام تبعات هذه الفتنة العظيمة؛ فنهض بأعباء الخلافة وقيادة الأُمة في تلك المرحلة الحسّاسة، بعد أن لم يجد بدّاً من ذلك، إلّا أن التغيير الذي طال واقع الأُمة آنذاك وصل إلى حد لم يكن يسمح لعلي علیه السلام بإعادة الأُمور إلى ما كانت عليه، فواجه معارضة وتمرّداً من كبار الصحابة وزعمائهم، وكذلك معاوية بن أبي سفيان عامل ووالي الخليفة الثاني والثالث على الشام، وقد استفاد معاوية من تلك الفتنة واتخذ مقتل الخليفة عثمان ذريعةً للبقاء في الحكم، بعد أن أيقن أن أمير المؤمنين علیه السلام لا يمكن أن يُقرّه على ما في يده من بلاد المسلمين ومقدّراتهم؛ فشرع يطالب الإمام علیه السلام بتسليمه قتلة عثمان، بعد أن اعتبر نفسه ولياً لدمه، وراح ينادي بالثأر لدم الخليفة المغدور ويُحشّد الرأي العام الإسلامي لذلك.

وقد حاول الإمام علیه السلام تسوية الأُمور بينه وبين معاوية بالطرق السلمية بواسطة المراسلات والمخاطبات التي استخدم فيها الإمام علیه السلام الحجة والمنطق؛ لإقناع معاوية وردعه عن غيّه، ولتجنيب الأُمة ويلات الحروب ونتائجها المدمّرة، ولكنه لم يلقَ آذاناً صاغية، وذهبت تلك الجهود سدى، فسارت الأُمور - بسبب إصرار معاوية وتعنّته - إلى المواجهة المسلحة، فوقعت حرب صفّين التي قصمت ظهر الكيان الإسلامي وفتّت بعضده، وحمّلت الأُمة ثمناً باهضاً جداً، فقُتل الكثير من الصحابة والتابعين وجُرح مَن جُرح، فحدثت انشقاقات في الأُمة من أهمّها ظهور جماعة الخوارج بعد حادثة التحكيم المعروفة، الذين كان لهم دور كبير في إنهاك الأُمة وإضعافها.

ولكن يمكن القول: إنّ الخلاف بين أمير المؤمنين علیه السلام ومعاوية لم يكن وليد نتائج قتل عثمان وتسلُّم علي علیه السلام الخلافة، بل لهذا الخلاف والعداء جذور عميقة تمتدّ إلى بداية البعثة النبوية، حينما اصطفّ غالبية بني أُمية في معسكر الشرك وقاتلوا المسلمين الأوائل وفي مقدمتهم بنو هاشم، فنابذوا رسول الله العداء وجيّشوا الجيوش وقرعوا طبول الحروب، وكان يقودهم في ذلك أبو سفيان، وقد كان لأمير المؤمنين علیه السلام السهم الأكبر في الدفاع عن الإسلام والمسلمين، فقتل من أئمة الشرك والضلال العدد الكبير، وكان

ص: 318

لبني أُمية حصة من هذا القتل، فكان من الطبيعي جداً - في مجتمع لا تزال رواسب الجاهلية عالقة فيه - أن يحمل بنو أُمية الحقد والكراهية والبغضاء لعلي علیه السلام، مضافاً إلى أنّ علياً علیه السلام كان يمثّل الحق والعدل بكل أشكاله وصوره؛ فما كان يروق لمعاوية وأتباعه ذلك، وكيف يروقهم ذلك وقد ارتكبوا الكثير من المخالفات الشرعية في سبيل تحقيق غاياتهم للبقاء في السلطة؟! وهي أُمور لا يحتاج إثباتها إلى كثير عناء، إلّا لمن أراد أن يغمض عينيه لينكر ضوء الشمس في وضح النهار.

وفي وسط هذا العداء المتجذّر تاريخياً لا غرابة أن يترجم معاوية ما يحمله في صدره من حقد وغيض إلى سبّ وشتم لأمير المؤمنين علیه السلام، وأن يأمر به ويُعمّمه على المسلمين بعد أن أمسك بمقاليد السلطة وأموال المسلمين، وهذا ما وثّقته مصادر المسلمين.

غير أنّ بعض الباحثين ممن يحسبون على الخط السلفي الوهابي يحاولون إنكار هذه الحقائق التاريخية، ويريدون صياغة التاريخ حسب ما يتمنون لا طبق ما حصل ووقع، فأنكروا حصول السبّ من قبل معاوية أو أنه رضي بذلك، فضلاً عن أن يكون قد أصدر أمراً بتعميم ذلك على جميع المسلمين.

نعم، اعترفوا بحصول حالات فردية شاذّة لا ترقى إلى مستوى ظاهرة أو عمل حكومي منظم.

ولكن هذا الادّعاء لا يستند إلى أدّلة علمية ثابتة، بل الأدلة والشواهد على خلافه، فمعاوية عمل جاهداً على تثبيت أركان سنّته البغيضة، وهي سبّ وشتم أمير المؤمنين علیه السلام فقد كان يُباشرها بنفسه تارةً، ويأمر ولاته بالعمل بها وتعميمها على سائر المسلمين تارة أخرى، ومن فوق منابرهم وفي المناسبات العبادية، وقد استمرّت هذه السنّة السفيانية - إن جاز التعبير - بعد هلاك معاوية، فتعاهدَها من بعده حكّام بني أُمية وولاتهم لعقود طويلة، حتى جاء عمر بن عبد العزيز وأبطل هذه السنّة، وسنُثبت ذلك في ضوء كتب الحديث والتاريخ المعتبرة عند أهل السنّة أنفسهم.

ص: 319

سبّ علي علیه السلام في زمن معاوية
اشارة

إنَّ حقيقة سبّ أمير المؤمنين علیه السلام في زمن معاوية من الحقائق التي لا تقبل التشكيك تاريخياً؛ وذلك لورودها في أصحّ المصادر وأكثرها اعتباراً، مضافاً إلى شهرتها الواسعة في التاريخ الإسلامي، كما سيتّضح.

إنّ معاوية كما يظهر- من خلال الأدلة الحديثية والشواهد التاريخية - لم يستطع إخفاء غيضه وحنقه على علي علیه السلام نتيجة ما حصل بينهما في الماضي القريب والبعيد؛ فعمد إلى سبّ أمير المؤمنين علیه السلام وشتمه والتنقيص منه، كأحد أساليب التنفيس عن ذلك الحنق والغيض، ولم يكتفِ بذلك، بل كان يأمر المسلمين بسبّه وشتمه ويدعوهم إلى الاقتداء به.

سبّ معاوية لأمير المؤمنين علیه السلام في الأحاديث الصحيحة
1- حديث سعد بن أبي وقاص

أخرج مسلم في صحيحه، بسنده عن عامر بن سعد بن أبي وقاص، عن أبيه، قال: «أمر معاوية بن أبي سفيان سعداً، فقال: ما منعك أن تسبّ أبا التراب؟ فقال: أما ما ذكرت ثلاثاً قالهن له رسول الله صلی الله علیه و آله فلن أسبّه، لأن تكون لي واحدة منهن أحبّ إليّ من حمر النعم، سمعت رسول الله صلی الله علیه و آله يقول له خلفه في بعض مغازيه، فقال له علي: يا رسول الله، خلّفتني مع النساء والصبيان؟ فقال له رسول الله صلی الله علیه و آله : أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى؟ إلّا أنه لا نبوة بعدي، وسمعته يقول يوم خيبر: لأُعطينّ الراية رجلاً يحبّ الله ورسوله ويحبّه الله ورسوله، قال: فتطاولنا لها، فقال: ادعوا لي علياً. فأُتي به أرمد، فبصق في عينه ودفع الراية إليه، ففتح الله عليه، ولما نزلت هذه الآية:«نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ »، دعا رسول الله صلی الله علیه و آله علياً وفاطمة وحسناً وحسيناً، فقال: اللهم هؤلاء أهلي...»(1).

ص: 320


1- النيسابوري، مسلم بن الحجاج، صحيح مسلم: ج7، ص120. والترمذي، محمد بن عيسى، سنن الترمذي: ج5، ص301، وقد علّق الترمذي على الحديث قائلاً: «هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه».

وهذا الحديث الصحيح طبق قواعد أهل السنّة لوروده في صحيح مسلم، يدلّ دلالة واضحة على أن معاوية أمر الصحابي سعد بن أبي وقّاص بسبّ أمير المؤمنين علیه السلام، واستغرب من عدم امتثاله لهذا الأمر.

وكذلك فيه دلالة ضمنية واضحة على أنّ معاوية كان ممن يسبّ علياً علیه السلام أيضاً؛ فمَن يأمر بالسبّ لا غرابة في أنه بنفسه يتناول علياً بالسبّ والشتم، ويؤيد ذلك رواية ابن ماجه للحديث نفسه كما سيأتي.

إنّ هذا الحديث بما أنه لا يمكن الطعن به من جهة سنده - كما أشرنا - اتجهوا إلى التشكيك في دلالته رغم وضوحها.

تأويلهم للحديث

تمسّك بعض شرّاح كتب الحديث ببعض التأويلات والتمحّلات؛ للتشويش على ما يُفهم من الحديث، ولا تعدو كونها محاولات واهية ضعيفة جداً، بعيدة عن الفهم السليم لظاهر الكلام، ومن هذه التأويلات ما ذكره القاضي عياض المتوفّى 554ه- في إكمال المعلم بفوائد مسلم، وهو شرح لصحيح مسلم(1)، والنووي في شرحه لصحيح مسلم أيضاً، وتبعهم المباركفوري في تحفة الأحوذي(2) ولعلّ هناك غيرهم.

وقد ذكروا تأويلين، بعد أن احتملوا قوياً أنّ قول معاوية هذا ليس فيه تصريح بأنه أمر سعداً بسبّ عليّ علیه السلام:

التأويل الأول: أنّ معاوية إنما سأل سعداً عن السبب المانع له من السب كأنه يقول: هل امتنعت تورّعاً أو خوفاً أو غير ذلك؟ فإن كان تورّعاً وإجلالاً له عن السب فأنت مصيب محسن، وإن كان غير ذلك فله جواب آخر. ولعل سعداً قد كان في طائفة يسبّون فلم يسبّ معهم، وعجز عن الإنكار، فسأله هذا السؤال.

ص: 321


1- القاضي عياض، إكمال المعلم بفوائد مسلم: ج7، ص415-416، تحقيق: د.يحيى إسماعيل.
2- المباركفوري، محمد بن عبد الرحمن، تحفة الأحوذي: ج9، ص237- 238، خرّج أحاديثه: عصام الصبايطي.

التأويل الثاني: أنّ معنى الحديث أنّ معاوية سأل سعداً، فقال له: ما منعك أن تخطّئ علياً في رأيه واجتهاده ضدنا، وتظهر للناس حسن رأينا واجتهادنا وأنه أخطأ؟ ففسّروا السبّ هنا بمعنى التخطئة للرأي!

إن الإنسان ليعجب أشدّ العجب وهو يسمع بمثل هذه التأويلات والتفسيرات، لكن هذا العجب قد يزول فيما لو عرف السبب كما يقال في الأمثال، فلا عجب لو تم الاطلاع على العلة التي استدعت مثل هؤلاء العلماء وسوغت لهم ارتكاب مثل هذا التأويلات البعيدة في روحها ومضمونها عن العرف واللغة، وكذا بعيدة عن سياق الكلام العام.

والسبب الواقعي الذي يقف خلف ستار هذه التأويلات هو اعتقاد هؤلاء العلماء وغيرهم بعدالة جميع الصحابة، وأنهم على كثرتهم واختلافهم وتنوعهم فوق مستوى الشبهات، فما يرد من أحاديث - ولو كانت في أعلى درجات الوضوح دلالة وأقوى سنداً - فيها ما يفهم منه قدح أو دخل على أحد الصحابة لا بد من تأويله بأي نحو من التأويل، حتى لو كان مخالفاً للضوابط العامة.

قال القاضي عياض والنووي - واللفظ له -: «قال العلماء: الأحاديث الواردة التي في ظاهرها دخل على صحابي يجب تأويلها»(1).

ومعاوية عند ثلة من العلماء داخل في هذه الكلية قطعاً؛ ولذا ذكروا بعد قولهم هذا تأويل الحديث الآنف الذكر المرتبط بمعاوية.

إذاً؛ وفقاً لهذه القاعدة من الطبيعي جداً أن تكون التأويلات والشروح بهذا النحو الذي تراه، والتي لا تمتّ إلى أيّ ضابطة لغوية أو عرفية بصلة.

وعلى هذا؛ فإنّ هذه التأويلات غير مقبولة لمن لا يؤمن بتلك القاعدة، وهذا نقاش على مستوى البناء الفكري لهذه التأويلات.

ص: 322


1- القاضي عياض، إكمال المعلم بفوائد مسلم: ج7، ص415. النووي، محيي الدين، شرح صحيح مسلم: ج15، ص175.

وبعد بيان الجذور النفسية لتلك التأويلات، وأنها مؤسسة على قاعدة فيها الكثير من الخلل، نحاول الآن مناقشة تلك التأويلات وإثبات خطئها ومخالفتها لقواعد التأويل، ولنبدأ بالتأويل الأول الذي مفاده: يُحتمل أن سعداً كان جالساً بين جماعة يسبّون علياً علیه السلام وامتنع أن يشاركهم في السبّ وقد عجز عن الإنكار عليهم، وإنما سأله معاوية عن بيان السبب المانع له عن مشاركتهم السبّ، كأنه يقول: هل امتنعت تورّعاً أم خوفاً أو غير ذلك؟ فإن كان تورعاً وإجلالاً فأنت مصيب محسن، وإن كان غير ذلك فله جواب آخر.

والجواب عن ذلك:

أ) من الواضح أنّ كلمة (أمر) في صدر الحديث دالة صراحة على أنّ هناك أمراً قد صدر من معاوية، تعلق بسبّ أمير المؤمنين علیه السلام، فلمّا امتنع سعد عن ذلك، قال له حينها: ما منعك أن تسبّ أبا التراب. فلو أنّ القضية مجرد سؤال عن سبب الامتناع فما معنى: أمر معاوية؟!

فلا شك في وجود ترابطٍ بين أمر معاوية بالسبّ وبين سؤاله سعداً عن سبب امتناعه؛ وجهة الترابط أنه بعد أن أمره بالسبّ فرفض سعد الامتثال سأله حينئذ معاوية عن سبب امتناعه.

إذاً؛ هناك أمر بالسبّ وهناك امتناع عن السبّ، وسؤال عن سبب الامتناع، وهو ما يدلّ عليه سياق الكلام بشكل جلي.

ب) أن الحديث قد أخرجه النسائي في خصائص أمير المؤمنين علیه السلام(1)، وفيه: «ما يمنعك أن تسبّ أبا تراب؟»، وأخرجه الحاكم في المستدرك بلفظ: «ما يمنعك أن تسبّ ابن أبي طالب، قال: فقال: لا أسبّ ما ذكرت ثلاثاً»، وقال الحاكم: «هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه بهذه السياقة»، وقال الذهبي في التلخيص: «على شرط مسلم فقط» (2).

ص: 323


1- النسائي، أحمد بن شعيب، خصائص أمير المؤمنين علیه السلام: ص48.
2- الحاكم النيسابوري، المستدرك، بذيله التلخيص للذهبي: ج3، ص108.

والحديث بصيغة المضارع وليس الماضي كما ترى، فتكون دلالته واضحة على أمر معاوية له بالسبّ في لحظة الكلام، أي: ما يمنعك يا سعد الآن حين أمرتك أن تسبّ علياً، ولم يتحدّث عن قضية حدثت لسعد في الزمن الماضي ويسأله عنها.

ج) قد روى ابن ماجه قضية معاوية وسعد بن أبي وقّاص بنحو آخر يدلُّ بشكل بيّن على أن معاوية كان يسبّ علياً علیه السلام صراحة، لا أنه كان يأمر بذلك فقط، فقد روى بسنده عن موسى بن مسلم، عن ابن سابط - وهو عبد الرحمن - عن سعد بن أبي وقاص(1)، قال: «قَدِمَ معاوية في بعض حجّاته فدخل عليه سعد، فذكروا علياً فنال منه؛ فغضب

ص: 324


1- قد أُشكِلَ على هذا بحصول الانقطاع في سنده؛ لعدم سماع عبد الرحمن بن سابط سعد بن أبي وقاص، لكنّ الانقطاع في الحديث ليس جزمياً، بل هو محل تشكيك، ولهذا فقد حسّن الحديث ابن كثير الدمشقي في البداية والنهاية، قال:«لم يخرجوه وإسناده حسن». الدمشقي، إسماعيل بن كثير، البداية والنهاية: ج7، ص353. فلو كان هناك انقطاع في السند بسبب عدم سماع ابن سابط عن سعد، فكيف جاز أن يصف ابن كثير هذا السند بأنه حسن؟! وقد صحح الألباني أيضاً ما أخرجه ابن ماجه - والذي في سنده عبد الرحمن بن سابط عن سعد - وهو إمام الحديث المعاصر عند السُنّة في تعليقه على سنن ابن ماجه، قال: صحيح. الألباني ناصر الدين، صحيح سنن ابن ماجه: ج1، ص58. وأيضاً أشار إلى ذلك في السلسلة الصحيحة. الألباني، ناصر الدين، سلسلة الأحاديث الصحيحة: ج4، ص335. وأيضاً حكم أبو إسحاق الحويني بصحة الحديث في خصائص أمير المؤمنين علیه السلام للنسائي، فقال: «إسناده صحيح». تهذيب خصائص الإمام علي علیه السلام للنسائي: ص24، ح10. تحقيق: أبو إسحاق الحويني الحجازي بن محمد بن شريف. ولم يتفرّد به ابن سابط عن سعد، فقد رواه ربيعة الجرشي عنه أيضاً: فقد أخرج روايته عن سعد بن أبي عاصم في كتابه (السنّة): «حدثنا ابن كاسب، ثنا سفيان بن عيينة، عن ابن نجيح، عن أبيه، عن ربيعة الجرشي وقال: ذُكِرَ علي رضي الله عنه عند معاوية، وعنده سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، فقال له سعد: أيُذكر علي عندك؟! إن له لمناقب أربعاً، لأن يكون لي واحدة منهن أحب إليّ من كذا وكذا. ذكر حمر النعم، قوله: لأُعطين الراية. وقوله: بمنزلة هارون من موسى. وقوله: مَن كنت مولاه. ونسي سفيان الرابعة!!» ابن أبي عاصم، كتاب السنّة: ج2، ص610. وأخرجه من طريقه الضياء المقدسي في (الأحاديث المختارة) ج3، ص151 تحت عنوان (ربيعة بن الحارث الجرشي عن سعد رضي الله عنه) رقم (948). ومعروف أنه من مظان الصحيح.

سعد، وقال: تقول هذا لرجل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: مَن كنت مولاه فعليٌّ مولاه وسمعته، يقول: أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي، وسمعته يقول: لأُعطين الراية اليوم رجلاً يحب الله ورسوله»(1).

وعلّق السندي عند شرحه لهذه الرواية، قائلاً: «قوله: فنال منه، أي: نال معاوية من عليّ ووقع فيه وسبّه، بل أمر سعداً بالسبّ كما قيل في مسلم والترمذي، ومنشأ ذلك الأُمور الدنيوية التي كانت بينهما، ولا حول ولا قوة إلا بالله والله يغفر لنا»(2).

وأخرجه بهذا السياق ابن أبي شيبة في مصنفه بسنده عن عبد الرحمن بن سابط عن سعد، قال: «قدم معاوية في بعض حجّاته فأتاه سعد فذكروا علياً فنال منه معاوية؛ فغضب سعد، فقال: تقول هذا لرجل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: له ثلاث خصال...»(3).

د) وحديث سعد رواه ابن كثير عن أبي نجيح يسار المكي، وفيه دلالة واضحة على أن معاوية أخذ يشتم علياً ويتنقصه، قال ابن كثير: «قال أبو زرعة الدمشقي: ثنا أحمد بن خالد الذهبي أبو سعيد، ثنا محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن أبي نجيح، عن أبيه، قال: لما حج معاوية وأخذ بيد سعد بن أبي وقاص، فقال: يا أبا إسحاق، إنا قوم قد أجفانا هذا الغزو عن الحج حتى كدنا أن ننسى بعض سننه؛ فطف نطف بطوافك. قال: فلما فرغ أدخله دار الندوة فأجلسه معه على سريره، ثم ذكر علي بن أبي طالب فوقع فيه، فقال: أدخلتني دارك وأجلستني على سريرك ثم وقعت في عليّ تشتمه؟ والله، لأن يكون فيّ إحدى خلاله الثلاث أحب إليّ من أن يكون لي ما طلعت عليه الشمس...»(4).

ه-) اعتراف ابن تيمية بدلالة الحديث على أمر معاوية بسب علي علیه السلام، حيث قال:

ص: 325


1- ابن ماجه، محمد بن يزيد القزويني، سنن ابن ماجه: ج1، ص45.
2- السندي، نور الدين بن عبد الهادي، حاشية السندي على ابن ماجه: ج1، ص108.
3- ابن أبي شيبة الكوفي، المصنف: ج7، ص496.
4- الدمشقي، إسماعيل، البداية والنهاية: ج7، ص376.

«أما حديث سعد لما أمره معاوية بالسبّ فأبى، فقال: ما منعك أن تسبّ علي بن أبي طالب، فقال ثلاث قالهن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلن أسبه، لأن يكون لي واحدة منهن أحب إليّ من حُمر النعم. الحديث، فهذا حديث صحيح رواه مسلم في صحيحه»(1).

وقال في موضع آخر مشيراً إلى هذه الحقيقة: «ومعلوم أن الله قد جعل للصحابة مودة في قلب كل مسلم، لا سيما الخلفاء رضي الله عنهم، لا سيما أبو بكر وعمر؛ فإنّ عامة الصحابة والتابعين كانوا يودونهما وكانوا خير القرون، ولم يكن كذلك عليّ؛ فإنّ كثيراً من الصحابة والتابعين كانوا يبغضونه ويسبونه ويقاتلونه»(2).

والمصداق الأبرز والأوضح للصحابة الذين كانوا يبغضون علياً علیه السلام ويسبّونه ويقاتلونه هو معاوية بن أبي سفيان، وقد قال الشيخ السلفي المنصف حسن بن فرحان المالكي: «وقد سألت شيخنا العلامة الشيخ عبد العزيز بن باز (حفظه الله) - وهو من كبار المحدثين في عصرنا الحاضر - عن هذه الرواية في مسلم، وهل تدل على أن بني أُمية كانوا يسبّون علياً؟! فقال: هذا ليس بعيداً عن مروان وغيره، وهذه من الزلات نسأل الله العافية!»(3). وقد تحاشى الشيخ ابن باز ذكر معاوية مع أن رواية مسلم في معاوية وليست في مروان.

وأما التأويل الثاني لمعنى الحديث الذي كان يفيد: أن معنى قول معاوية لسعد: ما منعك أن تسبّ علياً، يعني: ما منعك أن تخطّئ علياً علیه السلام في رأيه واجتهاده وتظهر للناس حسن رأي معاوية وصحة اجتهاده؟ فهو تفسير لمعنى لفظ السبّ بالتخطئة في الرأي والاجتهاد.

فيرد عليه ما ورد على التأويل الأول: من أنه لا ينسجم مع صدر الحديث الدال على الأمر بالسبّ، وكذلك يخالفه فهم بعض العلماء كما قلنا، مضافاً إلى أنه تأويل بعيد

ص: 326


1- ابن تيمية، أحمد، منهاج السنّة: ج5، ص42.
2- المصدر السابق: ج7، ص137- 138.
3- المالكي، حسن بن فرحان، نحو إنقاذ التاريخ الإسلامي: ص22.

جداً عن ظاهر اللفظ وسياق الحديث، ولا توجد قرينة تدلّ عليه؛ فإن معنى لفظ السبّ هو التنقيص والشتم وذكر المثالب وليس التخطئة في الرأي والاجتهاد، والشاهد على ذلك قول سعد بأن سبب امتناعي عن السبّ والشتم هو مناقب وفضائل امتاز بها عليّ علیه السلام، فلو كانت المسألة مسألة تخطئة في الرأي والاجتهاد فلا حاجة لسعد أن يبرّر سبب امتناعه بتلك الفضائل؛ فإن الخطأ في الاجتهاد لا يتنافى مع وجود تلك المناقب والفضائل من وجهة نظر أهل السنّة.

وقد اعتبر بعض علماء الحديث المتأخرين أمثال الدكتور موسى شاهين لاشين(1) في فتح المنعم هذه التأويلات تعسّفية، بعيدة عن الصواب، فيقول تعليقاً على النووي: «ويحاول النووي تبرئة معاوية من هذا السوء... وهذا تأويل واضح التعسّف والبُعد، والثابت أن معاوية كان يأمر بسبّ علي، وهو غير معصوم، فهو يخطئ، ولكننا يجب أن نمسك عن انتقاص أي أحد من أصحاب رسول الله صلی الله علیه و آله ، وسبّ علي في عهد معاوية صريح في روايتنا التاسعة (2)»(3).

2- حديث بريدة

ومن الأحاديث الدالة على ممارسة معاوية رذيلة سبّ أمير المؤمنين علیه السلام، هو ما رواه الروياني في مسنده بسنده عن ابن بريدة عن أبيه: «إنه دخل على معاوية، ورجل يتناول

ص: 327


1- حاصل على شهادة الدكتوراه في التفسير والحديث من كلية أصول الدين عام 1965 م. اختارته إدارة المعاهد الأزهرية أُستاذاً للتفسير والحديث لمدة عشرين عاماً تقريباً (1948-1965). رئيس المركز الدولي للسيرة والسنّة وعضو مجمع البحوث الإسلامية، جمع بين علوم القرآن وعلوم الحديث بفقه عميق، وفهم دقيق. اُنظر: مجلة التبيان الصادرة عن الجمعية الشرعية الرئيسية بالقاهرة عدد صفر 1430 ه-.
2- وهي ما أخرجه مسلم في صحيحه عن سهل بن سعد، قال: استعمل على المدينة رجل من آل مروان، قال: فدعا سهل بن سعد فأمره أن يشتم علياً. قال: فأبى سهل. فقال له: أما إذ أبيت فقل: لعن الله أبا التراب...». صحيح مسلم: ج7، ص123-124.
3- موسى شاهين لاشين، فتح المنعم شرح صحيح مسلم: ج9، ص332.

علياً ويقع فيه، قال: فقال: يا معاوية، تأذن لي في الكلام؟ قال: فقال: تكلّم. وهو يرى أنه يقول مثلما قال صاحبه، فقال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: إني لأرجو أن أشفع عدد كل شجرة ومدرة أفترجوها أنت يا معاوية ولا يرجوها عليّ؟! قال: فقال: اسكت؛ فإنك شيخ قد ذهب عقلك»(1).

وأخرج الحديث أحمد بن حنبل في مسنده عن الأسود بن عامر، عن أبي إسرائيل، عن حارث بن حصيرة، عن ابن بريدة، عن أبيه، ولكن بلفظ: «دخل على معاوية فإذا رجل يتكلم»، بدل لفظ الروياني: «دخل على معاوية، ورجل يتناول علياً ويقع فيه»(2).

وقال حمزة أحمد الزين في تعليقه على الحديث: «إسناده حسن»(3).

وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: «رواه أحمد ورجاله وُثِّقوا على ضعف كثير في أبى إسرائيل الملائي»(4).

سبّ معاوية لأمير المؤمنين في مصادر التاريخ

لقد أشارت بعض المصادر التاريخية المعتبرة إلى مسألة سبّ معاوية لأمير المؤمنين علیه السلام وأمره بذلك أو سكوته عنه على أقل تقدير، فقد نقل الطبري في تاريخه: «إنّ معاوية بن أبي سفيان لما ولّى المغيرة بن شعبة الكوفة في جمادى سنة (41 ه-)دعاه، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد، فإن لذي الحلم قبل اليوم ما تقرع العصا، وقد قال المتلمس:

لذي الحلم قبل اليوم ما تقرع العصا***وما علم الإنسان إلّا ليعلما

وقد يجزى عنك الحكيم بغير التعلم وقد أردت إيصاءك بأشياء كثيرة فأنا تاركها اعتماداً على بصرك بما يرضيني ويسعد سلطاني ويصلح به رعيتي، ولست تاركاً إيصاءك

ص: 328


1- أبو محمد بن هارون الروياني، مسند الروياني: ج1، ص73، ضبطه وعلق عليه: أيمن علي أبو يماني.
2- ابن حنبل، أحمد بن حنبل، مسند أحمد: ج5، ص347.
3- المصدر السابق: ج16، ص474، شرحه وصنع فهارسه: حمزة أحمد الزين.
4- الهيثمي، علي بن أبي بكر، مجمع الزوائد: ج10، ص378.

بخصلة: لا تتحمّ(1) عن شتم عليّ وذمّه، والترحّم على عثمان والاستغفار له، والعيب على أصحاب علي والإقصاء لهم وترك الاستماع منهم، وبإطراء شيعة عثمان رضوان الله عليه والإدناء لهم والاستماع منهم»(2).

وقال البلاذري: «حدثني المدائني عن عبد الله بن فائد وسحيم بن حفص، قالا: كتب معاوية إلى المغيرة بن شعبة: أظهر شتم عليّ وتنقصه»(3).

وقال ابن قتيبة الدينوري المتوفّى سنة (276ه-) في عيون الأخبار: «بلغني عن حفص بن عمران الرازي، عن الحسن بن عمارة، عن المنهال بن عمرو، قال: قال معاوية لشداد بن عمرو بن أوس: قم فاذكر عليّاً فتنقّصه»(4).

وقال ابن العديم الحلبي الحنفي المتوفّى سنة (660ه-) في حديثه عن أبي أيوب خالد بن زيد البدري، قال: «وهو الذي نزل عليه النبي صلى الله عليه وسلم مقدمه المدينة، وهو كان على مقدمة عليّ يوم صفين، وهو الذي خاصم الخوارج يوم النهروان، وهو الذي قال لمعاوية حين سبّ علياً: كُف يا معاوية عن سبّ عليّ في الناس، فقال معاوية: ما أقدر على ذلك منهم، فقال أبو أيوب: والله، لا أسكن أرضاً أسمع فيها سبّ علي، فخرج إلى ساحل البحر حتى مات رحمه الله»(5).

وقال القاضي التنوخي واصفاً معاوية: «وهو أول مَن لعن المسلمين على المنابر، وأول مَن حبس النساء بجرائر الرجال؛ إذ طلب عمرو بن الحمق الخزاعي، لموالاته علياً، وحبس امرأته بدمشق، حتى إذا قطع عنقه، بعث بالرأس إلى امرأته وهي في السجن، وأمر الحرسي أن يطرح الرأس في حجرها، وكان يفرض على الناس لعن عليّ

ص: 329


1- لا تتحمّ: أي لا تمتنع.
2- الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الطبري: ج4، ص188.
3- البلاذري، أحمد بن يحيى، أنساب الأشراف: ج5، ص30.
4- الدينوري، عبد الله بن مسلم، كتاب عيون الأخبار: ج1، ص55.
5- ابن العديم، عمر بن أحمد، بغية الطلب في تاريخ حلب: ج3، ص214.

والبراءة منه، ومَن أبى قتله، أو بعث به إلى عامله زياد ليدفنه حياً»(1).

فهذه نماذج من الشواهد الحديثية والتاريخية تدل بملاحظة مجموعها على أن معاوية كان يسبّ علياً علیه السلام ويشتمه ويرضى بسبّه وشتمه، بل ويأمر بذلك، بل عممّ ذلك على ولايات الدولة الإسلامية من خلال التزام عدد من ولاته على الأمصار الإسلامية بهذه السنّة السيئة.

وبعد ثبوت أنّ معاوية بن أبي سفيان سبّ أمير المؤمنين علیه السلام وأمر بسبّه، فقد ارتكب معصية عظيمة، تخرجه عن الدين؛ لأن سبّ علي علیه السلام هو سبّ لرسول الله صلی الله علیه و آله ومَن سبّ رسول الله وشتمه وتنقَّصه فقد خرج عن دين الله، وقد ثبت عن النبي صلی الله علیه و آله أن مَن سبّ علياً فقد سبّ رسول الله صلی الله علیه و آله :

أخرج أحمد في مسنده والحاكم في مستدركه بسندهم «عن عبد الله الجدلي، قال: دخلتُ على أُم سلمة، فقالت لي: أيُسبّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فيكم؟ قلت: معاذ الله، أو سبحان الله، أو كلمة نحوها. قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: مَن سبّ علياً فقد سبّني»(2).

قال الحاكم هذا حديث صحيح الإسناد ولم يُخرجاه ووافقه الذهبي(3).

وقال الهيثمي: «رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح غير أبي عبد الله الجدلي، وهو ثقة»(4).

ولاة معاوية يسبّون علياً علیه السلام
اشارة

قد ضبطت لنا بعض المصادر التزام بعض ولاة معاوية بممارسة هذه السنّة البغيضة بمرأى وبمسمع من المسلمين دون حياء أو وجل.

ص: 330


1- القاضي التنوخي، المحسن بن علي، الفرج بعد الشدة: ج1، ص214.
2- ابن حنبل، أحمد، مسند أحمد: ج6، ص323.
3- الحاكم النيسابوري، محمد بن عبد الله، المستدرك وبذيله التلخيص للذهبي: ج3، ص121.
4- الهيثمي، علي بن أبي بكر، مجمع الزوائد: ج9، ص130.

ومع ملاحظة بعض الشواهد من قبيل وصية معاوية للمغيرة بن شعبة عندما ولّاه الكوفة لا يمكن حمل فعل أُولئك الولاة على كونه من تلقاء أنفسهم، كما أنه من غير المعقول أن يجهل معاوية ممارساتهم تلك، أو كان عاجزاً عن منعهم مع ما يمتلك من سلطة قوية آنذاك.

وسنستعين ببعض المصادر التاريخية التي تؤكد أن جملة من ولاة معاوية كانوا يدأبون على امتثال أوامر أميرهم وحاكمهم في تلك الممارسة.

وهذه المصادر كثيرة ومتنوعة في دلالاتها، وتلتقي تلك الدلالات في أن سبّ أمير المؤمنين علیه السلام في زمن معاوية كان ظاهرة واضحة يمارسها الخطباء والولاة، وقد ذكرت بعض هذه المصادر هؤلاء الخطباء والولاة على نحو العموم والإجمال، بينما البعض الآخر منها قد أشار إليهم بأسمائهم، فقد روى ابن الأثير في أُسد الغابة عن شهر بن حوشب أنه قال: «أقام فلان خطباء يشتمون علياً رضي الله عنه وأرضاه ويقعون فيه، حتى كان آخرهم رجل من الأنصار أو غيرهم يُقال له: أنيس، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: إنكم قد أكثرتم اليوم في سبّ هذا الرجل وشتمه، وإني أقسم بالله، إنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: إنّي لأشفع يوم القيامة لأكثر مما على الأرض من مدر وشجر، وأُقسم بالله، ما أحد أوصل لرحمه منه، أفترون شفاعته تصل إليكم وتعجز عن أهل بيته؟!»(1).

وفلان هو معاوية بن أبي سفيان، ولكن عُمِّي عليه إما خوفاً أو لسبب آخر، والرواية أخرجها ابن قانع المتوفّى سنة (351ه-)(2) في معجم الصحابة عن شهر بن حوشب مع حذف كلمة (فلان) قال: «قام رجال خطباء يشتمون علياً رضي الله عنه، حتى كان من آخرهم رجل يُقال: له أنيس فحمد الله وأثنى عليه وقال...»(3).

ص: 331


1- ابن الأثير، علي بن أبي الكرم، أُسد الغابة: ج1، ص134.
2- من الحفاظ البارزين ومن شيوخ الدارقطني الذين أكثر عنهم، قال الذهبي في: «ابن قانع الإمام الحافظ البارع الصدوق إن شاء الله القاضي أبو الحسين عبد الباقي... وكان واسع الرحلة كثير الحديث بصيراً به». سير أعلام النبلاء: ج15، ص526-527.
3- ابن قانع، عبد، معجم الصحابة: ج1، ص162.

وقال ابن حجر في الإصابة: «روى البغوي وابن شاهين والطبراني في الأوسط من حديث عباد بن راشد عن ميمون بن سياه عن شهر بن حوشب، قال: قام رجال خطباء يشتمون علياً ويقعون فيه...»(1).

وقد أدى شيوع ظاهرة سبّ أمير المؤمنين وشتمه إلى استنكار واستغراب بعض أُمّهات المؤمنين - أُمّ سلمة - لهذا الأمر، فقد أخرج أحمد في مسنده عن عبد الله الجدلي، قال: «دخلت على أُم سلمة، فقالت لي: أيُسبّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فيكم؟ قلت: معاذ الله، أو سبحان الله، أو كلمة نحوها. قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: مَن سب علياً فقد سبّني»(2).

ولم يكتفِ معاوية وولاته بالسبّ والشتم فقط، بل كانوا يجبرون الناس على ذلك؛ ففي مسند أبي يعلى، عن أبي بكر بن خالد بن عرفطة: «أتى سعد بن مالك، فقال: بلغني أنكم تعرضون على سبّ عليّ بالكوفة، فهل سببته؟ قال: معاذ الله، قال: والذي نفس سعد بيده، لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في عليّ شيئاً: لو وضع المنشار على مفرقي على أن أسبّه ما سببته أبداً»(3)، وهناك دلائل أُخرى سنذكرها لاحقاً.

هذا، وإليك جملة من الولاة الذين قاموا بسبّ وشتم عليّ علیه السلام امتثالاً لأوامر الصحابي! معاوية بن أبي سفيان:

ص: 332


1- ابن حجر، أحمد بن علي، الإصابة: ج1، ص287.
2- ابن حنبل، أحمد، مسند أحمد: ج6، ص323. قال الهيثمي في مجمع الزوائد: «رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح غير أبى عبد الله الجدلي وهو ثقة». الهيثمي، علي بن أبي بكر، مجمع الزوائد: ج9، ص130. أخرج الحديث أبو يعلى الموصلي في مسنده: ج2، ص253، وقال حسين أسد محقق الكتاب: «رجاله ثقات». وصحّحه الحاكم في المستدرك، ووافقه الذهبي. الحاكم النيسابوري، محمد بن عبد الله، المستدرك وبذيله التلخيص للذهبي: ج3، ص130.
3- الموصلي، أحمد بن علي أبو يعلى، مسند أبي يعلى: ج12، ص107. قال الهيثمي في مجمع الزوائد: «رواه أبو يعلى وإسناده حسن». الهيثمي، علي بن أبي بكر، مجمع الزوائد: ج9، ص130.
1- المغيرة بن شعبة

هو المغيرة بن شعبة بن أبي عامر، أسلم عام الخندق، استعمله الخليفة الثاني عمر بن الخطاب على البحرين، فكرهوه وأكثروا الشكوى منه؛ فعزله الخليفة، ثم ولّاه البصرة، ولمّا شهد عليه أبو بكرة وجماعة بأنه زنى بأُمّ جميل بنت عمرو بن الأفقم الهلالية عزله عمر بن الخطاب عن البصرة وولّاه الكوفة، ولم يزل عليها إلى أن قُتل الخليفة عمر، فأقرّه عليها عثمان ثم عزله، وبعد أنّ تولّى الإمام علي علیه السلام الخلافة جاء لينصحه بأن يبقي معاوية على الشام، فإذا استقرّت له الخلافة عزله، وقد رفض أمير المؤمنين نصيحته، فغضب المغيرة من ذلك، واعتزل صفّين، فلمّا حدثت قضية التحكيم المعروفة لحق بمعاوية وبايعه، وبعد شهادة الإمام الحسن علیه السلام عاد إلى الكوفة، ثم ولّاه معاوية عليها سنة 41ه-، وبقي عليها إلى أن مات سنة 50ه- (1).

وقد تقدّم أن معاوية قد أمَرَه حينما ولّاه الكوفة أن يواظب على سبّ علي علیه السلام والتنقّيص منه ومن شيعته، وقد نفّذ المغيرة أمر معاوية على أكمل وجه طيلة مدة خلافته، قال الطبري: «وأقام المغيرة على الكوفة عاملاً لمعاوية سبع سنين وأشهُراً، وهو من أحسن شيء سيرة وأشدّه حباً للعافية، غير أنه لا يدع ذمّ عليّ والوقوع فيه»(2).

وتنقل لنا المصادر الحديثية والتاريخية بعض مواقفه وهو يؤدي هذه المهمة الموكلة إليه، وفيها تتنوع مواقفه بين مباشرته بنفسه السبّ والشتم وعلى رؤوس الأشهاد وبين إقامة الخطباء ودعوتهم لممارسة هذه السنّة، وكذلك أمره الولاة والمسلمين في مشاركته هذه المهمة.

ومن الدلائل على تصدّي المغيرة بن شعبة بنفسه لشتم وسبّ أمير المؤمنين علیه السلام ما أخرجه الحاكم النيسابوري، بسنده عن زياد بن علاقة، عن عمه: «أنّ المغيرة بن شعبة

ص: 333


1- اُنظر: ابن عبد البر، يوسف بن عبد الله، الاستيعاب: ج4، ص1445- 1446. ابن حجر، أحمد بن علي، الإصابة: ج6، ص156- 158. الدمشقي، إسماعيل، البداية والنهاية: ج7، ص94.
2- الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الطبري: ج4، ص188.

سبّ علي بن أبي طالب، فقام إليه زيد بن أرقم، فقال: يا مغيرة، ألم تعلم أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله نهى عن سبّ الأموات، فلِمَ تسبّ علياً وقد مات؟!». قال الحاكم: «هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه»، ووافقه الذهبي في التلخيص(1)، وقال الألباني في السلسلة: «وهو كما قالا»(2).

ونظراً لاشتهار المغيرة بمعاداته الإمام علي علیه السلام وسبّه فقد كان مقصداً لبعض مبغضي علي علیه السلام الذين أخذوا يجهرون بسبّه أمامه من دون خوف أحد ما دام الأمير راضياً بذلك!!

فقد أخرج أبو داود في سننه بسنده عن صدقة بن المثنى النخعي، حدثني جدي رياح بن الحارث، قال: «كنت قاعداً عند فلان في مسجد الكوفة وعنده أهل الكوفة، فجاء سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، فرحّب به وحيّاه وأقعده عند رجله على السرير، فجاء رجل من أهل الكوفة يُقال له: قيس بن علقمة، فاستقبله فسبّ وسبّ، فقال سعيد: مَن يسب هذا الرجل؟ فقال: يسبّ علياً. قال: ألا أرى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يُسبّون عندك ثم لا تنكر ولا تُغيّر»(3).

وفلان الذي كنّى عنه أبو داود هو المغيرة بن شعبة، كما جاء مصرّحاً باسمه في مسند أحمد: «عن صدقة بن المثنى، حدثني رياح بن الحرث بن المغيرة: أن شعبة كان في المسجد الأكبر وعنده أهل الكوفة عن يمينه وعن يساره، فجاءه رجل يُدعى سعيد بن زيد، فحياه المغيرة وأجلسه عند رجليه على السرير، فجاء رجل من أهل الكوفة، فاستقبل المغيرة، فسبّ وسبّ، فقال: مَن يسبّ هذا يا مغيرة؟ قال: يسبّ علي بن أبي طالب رضي

ص: 334


1- المستدرك وفي ذيله التلخيص: ج1، ص384- 385. الطبراني، سليمان بن أحمد، المعجم الكبير: ج5، ص168. وقال الهيثمي: «رواه الطبراني بإسنادين، ورجال أحد أسانيد الطبراني ثقات». الهيثمي، علي بن أبي بكر، مجمع الزوائد: ج8، ص76. ابن حنبل، أحمد، مسند أحمد: ج4، ص369.
2- الألباني، ناصر الدين، سلسلة الأحاديث الصحيحة: ج5، ص396.
3- الطيالسي، سليمان بن داود، سنن أبي داود: ج2، ص402.

الله عنه...» (1)، وكذلك أخرج أبو عاصم في كتاب السنّة الحديث مصرحاً باسم المغيرة بن شعبة(2).

وأمّا فيما يتعلّق بإقامته الخطباء لسبّ علي علیه السلام، فقد أخرج أحمد في مسنده عن هلال بن يساف، عن عبد الله بن ظالم المازني، قال: «لمّا خرج معاوية من الكوفة استعمل المغيرة بن شعبة، قال: فأقام خطباء يقعون في عليّ، قال: وأنا إلى جنب سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، قال: فغضب، فقام فأخذ بيدي، فتبعته، فقال: ألا ترى إلى هذا الرجل الظالم لنفسه الذي يأمر بلعن رجل من أهل الجنة»(3)، وقد صحح الحديث أحمد محمد شاكر(4).

وأخرج الحديث الحاكم النيسابوري في المستدرك بنحو آخر، قال: «كان المغيرة بن شعبة ينال في خطبته من علي، وأقام خطباء ينالون منه، فبينا هو يخطب ونال من علي وإلى جنبي سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل العدوي، قال: فضربني بيده وقال: ألا ترى ما يقول هذا؟!» (5)، وأخرجه أبو داود عن سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، قال: «لما قدم فلان الكوفة أقام فلان خطيباً، فأخذ بيدي سعيد بن زيد، فقال: ألا ترى إلى هذا الظالم...»(6).

ومن الشواهد أيضاً على أمر المغيرة ولاته بسبّ علي علیه السلام ما نقله ابن الأثير، قال: «ولما ولي المغيرة الكوفة استعمل كثير بن شهاب علي الري، وكان يكثر سب علي على

ص: 335


1- ابن حنبل، أحمد، مسند أحمد: ج1، ص187.
2- عمرو بن أبي عاصم، كتاب السنّة: ص606.
3- ابن حنبل، أحمد، مسند أحمد: ج1، ص189.
4- المصدر السابق: ج2، ص294، شرحه وصنع فهارسه: أحمد محمد شاكر.
5- الحاكم النيسابوري، محمد بن عبد الله، المستدرك: ج3، ص450. النسائي، أحمد بن شعيب، فضائل الصحابة: ص27، وغير ذلك من المصادر الكثيرة، وهذا الحديث هو حديث العشرة المبشّرة بالجنة، ونحن سقنا الحديث هنا من باب الاحتجاج مع قطع النظر عن رأينا في الحديث، وهو من الأحاديث الصحيحة على مبنى القوم، علماً أن عدداً كبيراً من المحدثين نقل حديث العشرة المبشّرة بدون الإشارة إلى مقدمته، وهي سبّ المغيرة لعلي علیه السلام وإقامته للخطباء.
6- الطيالسي، سليمان بن داود، سنن أبي داود: ج2، ص401.

منبر الري»(1).

2- مروان بن الحكم

ومن ولاة معاوية الذين كانوا يأتمرون بأمره في شتم علي علیه السلام هو مروان بن الحكم الأُموي أبو عبد الملك الذي ولد على عهد رسول الله، واختلف في سنة وفاته، ولم تثبت له صحبة؛ لأنه كان منفياً مع والده الحكم بن أبي العاص، عندما طرده رسول الله إلى الطائف، وقد كان طفلاً لا يعقل حينها، وكان يقال له: خيط باطل.

وفي خلافة عثمان بن عفان أعاده إلى المدينة- مع كونه طريد الرسول صلی الله علیه و آله - برفقة أبيه الحَكَم والذي هو عم عثمان، وعيّن ابن عمه مروان كاتباً له، وزوّجه ابنته أم أبان وأعطاه خُمس غنائم أفريقيا، وعهد إليه خاتمه فاستغل مروان ذلك أبشع استغلال، وتصرّف تصرفات مشينة؛ أفضت إلى نقمة وسخط الناس عليه وعلى الخليفة عثمان لتقريبه إياه(2).

مروان بن الحكم يسبّ علياً وأهل البيت علیهم السلام

لقد كان مروان بن الحكم مواظباً على سبّ أمير المؤمنين على المنبر في كل جمعة طيلة فترة إمارته على المدينة من قِبَل معاوية بن أبي سفيان، ففي كتاب العلل لأحمد بن حنبل عن عمير بن إسحاق، قال: «كان مروان أميراً علينا ست سنين، فكان يسبّ علياً كل جمعة، ثم عزل ثم استعمل سعيد بن العاص سنتين فكان لا يسبّه، ثم أُعيد مروان فكان يسبّه»(3).

ص: 336


1- ابن الأثير، علي بن أبي الكرم، الكامل في التاريخ: ج3، ص413-414.
2- للمزيد من ترجمته، اُنظر: الذهبي، محمد بن أحمد، ميزان الاعتدال: ج4، ص 89. ابن حجر، أحمد بن علي، الإصابة: ج3، ص432. الذهبي، محمد بن أحمد، سير أعلام النبلاء: ج3، ص477. الدمشقي، إسماعيل بن كثير، البداية والنهاية: ج7، ص 208. الذهبي، محمد بن أحمد، تاريخ الإسلام: ج5، ص231. ابن سعد، محمد بن سعد، الطبقات الكبرى: ج5، ص36 - 39. وغيرها من المصادر التي ترجمت لمروان، ككتاب أُسد الغابة، والاستيعاب وغيرها.
3- ابن حنبل، أحمد، العلل: ج3، ص176. وروى الحديث ابن عساكر في تاريخ مدينة دمشق: ج57، ص249. الذهبي، محمد بن أحمد، تاريخ الإسلام: ج5، ص231.

وروى الذهبي في السير عن عمير بن إسحاق، قال: «كان مروان يسبّ علياً رضي الله عنه في الجمع، فعزل بسعيد بن العاص، فكان لا يسبّه»(1).

هذا، وقد نقل البخاري ومسلم في صحيحيهما قضية سبّ مروان لعلي علیه السلام على منبر المدينة، بل وأمره بذلك، ولكنهما حاولا التمويه على القضية والتخفيف منها تارة بالتغطية على اسم مروان وعدم التصريح به، وأُخرى بعدم ذكر السبّ صراحة والتعبير عنه بعبارات موهمة، ففي صحيح البخاري بسنده، عن عبد العزيز بن أبي حازم، عن أبيه: «أن رجلاً جاء إلى سهل بن سعد، فقال: هذا فلان - لأمير المدينة - يدعو علياً عند المنبر، قال: فيقول ماذا؟ قال: يقول له: أبو تراب. فضحك قال: والله، ما سماه إلّا النبي صلى الله عليه وسلم، وما كان له اسم أحب إليه منه، فاستطعمت الحديث سهلاً(2)، وقلت: يا أبا عباس، كيف؟ قال: دخل عليّ على فاطمة ثم خرج فاضطجع في المسجد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أين ابن عمك؟ قالت: في المسجد. فخرج إليه فوجد رداءه قد سقط عن ظهره وخلص التراب إلى ظهره، فجعل يمسح التراب عن ظهره، فيقول: اجلس يا أبا تراب. مرتين»(3).

فنلاحظ هنا كيف أن عالماً مثل البخاري قد عمد إلى التمويه وإخفاء هوية مروان بن الحكم معبراً عنه ب-(فلان) أمير المدينة.

ونجد أن ابن حجر في فتح الباري يقول: «وفلان المذكور لم أقف على اسمه صريحاً، ووقع عند الإسماعيلي هذا فكان فلان بن فلان»(4)، في حين نجده قد صرح في كتابه مقدمة فتح الباري أنّ فلاناً هذا ما هو إلّا مروان بن الحكم لا غير، قال: «وأمير

ص: 337


1- الذهبي، محمد بن أحمد، سير أعلام النبلاء: ج3، ص447.
2- أي: سألته أن يحدثني.
3- البخاري، محمد بن إسماعيل، صحيح البخاري: ج4، ص207- 208. وقد أخرج الحديث في أكثر من موضع، في كتاب الصلاة، باب نوم الرجال في المسجد: الحديث 441، وفي كتاب الاستئذان باب القائلة في المسجد: الحديث 6280.
4- ابن حجر، أحمد بن علي، فتح الباري: ج7، ص 58.

المدينة هو مروان بن الحكم فيما أظن»(1)، وهذا غريب من ابن حجر.

كما نلاحظ أيضاً أن البخاري عبّر عن السبّ بلفظ موهم مستبدلاً أياه بلفظ (یدعو)، فلا ندري ما معنى يدعو علياً عند المنبر؟! فهي عبارة مبهمة وموهمة؛ ولذا فسّرها لنا ابن حجر برواية الطبراني من وجه آخر عن عبد العزيز بن أبي حازم: «يدعوك لتسبّ علياً»(2)، وفسّرها العيني والقسطلاني بأنه: «أراد منه أن يذكر علياً بشيء غير مرضي»(3)، ولكنهما لم يبيّنا ما هو هذا الشيء غير المرضي.

وأما رواية مسلم للقضية نفسها، فحذفت اسم مروان أيضاً ولم تُشِر له صراحة، ولكنها ذكرت السبّ والشتم بشكل واضح:

قال مسلم في صحيحه: «حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا عبد العزيز (یعنى ابن أبي حازم) عن أبي حازم، عن سهل بن سعد قال: استعمل على المدينة رجل من آل مروان، قال: فدعا سهل بن سعد، فأمره أن يشتم علياً قال: فأبى سهل، فقال له: أما إذ أبيت فقل: لعن الله أبا التراب، فقال سهل: ما كان لعلى اسم أحب إليه من أبى التراب، وإن كان ليفرح إذا دُعي بها. فقال له: أخبرنا عن قصته لِمَ سُمّى أبا تراب؟ قال: جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت فاطمة فلم يجد علياً في البيت...»(4).

ولم يكتفِ مروان بمواصلة سبّه أمير المؤمنين علیه السلام في كل يوم جمعة، بل كان ينتهز المناسبات الدينية الأُخرى مثل صلاة العيدين، فيُشبع حقده الدفين على علي علیه السلام بسبّه في ذينيك اليومين العظيمين؛ متسبباً في إثارة مشاعر المسلمين وتذمرهم؛ مما يدفعهم إلى ترك الخطبة التي تكون بعد انتهاء الصلاة حتى لا يستمعوا لسبّه وشتمه، وحينها اضطر مروان إلى إحداث بدعة جديدة بتقديم الخطبة قبل الصلاة حتى يسمع الناس سبّ

ص: 338


1- ابن حجر، أحمد بن علي، هدي الساري مقدمة فتح الباري: ص267.
2- ابن حجر، أحمد بن علي، فتح الباري: ج7، ص 58.
3- العيني، محمود بن أحمد، عمدة القاري: ج16، ص217. القسطلاني، أحمد بن محمد، إرشاد الساري: ج6، ص116.
4- النيسابوري، مسلم، صحيح مسلم: ج7، ص123-124.

علي علیه السلام خلافاً لإرادتهم ورغبتهم.

وبهذا يكون مروان أول مَن قدّم الخطبة على صلاة العيد، بعد أن كان وقتها الصحيح بعد صلاة العيد مباشرة، وهذا ما روته صحاح المسلمين وسننهم، ومصادرهم الأُخرى(1).

وفي صحيح مسلم بسنده عن طارق بن شهاب - وهذا حديث أبي بكر- قال: «أول مَن بدأ بالخطبة يوم العيد قبل الصلاة مروان، فقام إليه رجل، فقال: الصلاة قبل الخطبة؟! فقال: قد ترك ما هنالك، فقال أبو سعيد: أما هذا، فقد قضى ما عليه، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: مَن رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان»(2).

هذا، وقد كان صوت سبّ أمير المؤمنين علیه السلام يتناهى إلى أسماع الحسن والحسين علیهما السلام، فكان يؤلمهم ذلك ويدمي قلوبهم وهم يرون كيف آلت أُمور المسلمين حتى صار يتقرب إلى الله بلعن مثل أمير المؤمنين علي علیه السلام وعلى منبر رسول الله وفي أيام المسلمين المباركة!!

وبعد كل هذه المعطيات والشواهد لا يمكن الشك في أن مروان كان سبّاباً وشتّاماً لأمير المؤمنين علیه السلام، وبشكل منظّم ورتيب ومتواصل، ولم تكن حالات نادرة أو قليلة.

3- زياد ابن أبيه

ومن الولاة أيضاً ممن اشتُهر بسبّ علي علیه السلام هو زياد بن أبيه، ويُقال له: زياد بن عبيد الثقفي، وأُمه سمية جارية الحارث بن كلدة، وُلِد عام الهجرة، وقيل: وُلِد قبل الهجرة، وقيل: وُلِد يوم بدر، وليست له صحبة ولا رواية، صار من شيعة علي علیه السلام في بداية الأمر فاستعمله الإمام على بلاد فارس، فلم يزل معه إلى أن استُشهد الإمام، وبعد أن آلت الأُمور إلى معاوية أغراه بالأموال والمناصب؛ فانحرف عن علي علیه السلام، واستعمله معاوية على البصرة، ثم أضاف إليه ولاية الكوفة بعد هلاك المغيرة بن شعبة سنة51ه- وبقى

ص: 339


1- البخاري، محمد بن إسماعيل، صحيح البخاري: ج2، ص4. النيسابوري، مسلم، صحيح مسلم: ج1، ص50. ابن حنبل، أحمد، مسند أحمد: ج3، ص92.
2- النيسابوري، مسلم، صحيح مسلم: ج1، ص50.

عليها إلى أن مات.

ولمّا رأى معاوية المؤهلات والامتيازات التي عند زياد صمم على الاستفادة منها وتسخيرها لصالحه؛ فشرع في أول خطوة لتحقيق ذلك وهي إضفاء الشرعية على ولادته، فادّعاه واستلحقه بأبيه أبي سفيان؛ فصار يُعرف في زمن بني أُمية بزياد بن أبي سفيان(1).

أخلص زياد لمعاوية إخلاصاً تامّاً وتفانى في التقرّب إليه وتنفيذ أوامره بشكل دقيق؛ مما جعل معاوية يوكل إليه مهمة قمع خصوم بني أُمية وأعدائهم، لا سيما شيعة علي علیه السلام الذين يعرفهم زياد بن أبيه معرفة تامة؛ لكونه قد عاش بينهم فترة ليست بالقصيرة، فاختاره لولاية الكوفة؛ لتواجد غالب الشيعة هناك وفي مقدمتهم حجر بن عدي الذي كان ممن وفد إلى النبي صلی الله علیه و آله وشهد القادسية وهو الذي افتتح مرج عذار، وشهد الجمل وصفين مع علي علیه السلام، وكذلك كان الصحابي عمرو بن الحمق الخزاعي ونخبة من الشيعة يعترضون على ما يفعله ولاة بني أُمية من سبّ وشتم لأمير المؤمنين علیه السلام.

وحين وطأت قدماه الكوفة ارتقى المنبر فخطب خطبة هدد فيها كل مَن يعارضه باستعمال القوة والشدة ضده، ثم ذكر عثمان وأصحابه وأثنى عليهم وذكر قتلته ولعنهم، فاعترض عليه حجر وأصحابه، عندئذ نشبت الخصومة والعداوة بينه وبين حجر وأصحابه، وانتهت بالقبض على حجر وعدد من أصحابه ثم تسييرهم إلى معاوية وتنفيذ حكم الإعدام بهم، وجرح عمر بن الحمق الخزاعي الذي فرّ إلى الموصل وهناك مات أو قُتل، وبُعث برأسه إلى الشام ليُلقى بين يدي زوجته المعتقلة هناك، وهو أول رأس طيف به بين المدن، وهو صحابي رأى النبي صلی الله علیه و آله وسمع حديثه.

وكان قتل الصحابي حجر وأصحابه وصمة عار لاحقت معاوية طيلة حياته، حتى إنّ عائشة اعترضت عليه ووبخته بشدّة على فعلته تلك.

ص: 340


1- وذلك لأنه يُقال: إن أبا سفيان أتى الطائف، فسكر فطلب بغياً فواقع سمية، وكانت مزوجة بعبيد، فولدت من جماعة زياداً، فقال معاوية: نزل من ظهر أبي. اُنظر: الذهبي، محمد بن أحمد، سير أعلام النبلاء: ج3، ص495.

وهكذا ظلّ زياد بن أبيه ينصب العداء لعلي علیه السلام وشيعته، ويستثمر كل فرصة ومناسبة للنيل منه ومن أصحابه.

وقد عُرِف عنه أنه كان يجبر موالي علي وشيعته على سبّ أمير المؤمنين علیه السلام والبراءة منه، فحين قبض على بعض أصحاب حجر، ومنهم صيفي بن فسيل الذي كان من رؤوس أصحاب حجر، قال له زياد: «يا عدو الله، ما تقول في أبى تراب؟ قال: ما أعرف أبا تراب، قال: ما أعرفك به! قال: ما أعرفه، قال: أما تعرف علي بن أبي طالب؟ قال: بلى، قال: فذاك أبو تراب. قال: كلا ذاك أبو الحسن والحسين علیه السلام. فقال له صاحب الشرطة: يقول لك الأمير: هو أبو تراب وتقول أنت: لا؟! قال: وإن كذب الأمير أتريد أن أكذب وأشهد له على باطل كما شهد؟! قال له زياد: وهذا أيضاً مع ذنبك، عليّ بالعصا. فأتى بها، فقال: ما قولك؟ قال: أحسن قول أنا قائله في عبد من عباد الله المؤمنين. قال: اضربوا عاتقه بالعصا حتى يلصق بالأرض. فضرب حتى لزم الأرض. ثم قال: اقلعوا عنه، إيهٍ! ما قولك في علي؟ قال: والله، لو شرحتني بالمواسي والمدي ما قلت إلا ما سمعت مني. قال: لتلعننه أو لأضربن عنقك. قال: إذن؛ تضربها والله قبل ذلك، فإن أبيت إلا أن تضربها رضيت بالله وشقيت أنت! قال: ادفعوا في رقبته. ثم قال: أوقروه حديداً وألقوه في السجن»(1). وهكذا قضى أصحاب حجر بين قتيل ومعتقل ومشرد، ودفعوا ضريبة حبّ علي علیه السلام وموالاته.

ومن شدة عداء زياد وحنقه على أمير المؤمنين علیه السلام أن جَمعَ أهل الكوفة يوماً حتى ملأ منهم المسجد والرحبة والقصر، ثم عرض عليهم لعن علي علیه السلام والبراءة منه، ولكنّ الله عاجله بمرض الطاعون فانصرف عنهم، وهذه القضية من القضايا التاريخية المشهورة التي ذكرها ابن الجوزي في المنتظم(2) والذهبي في تاريخ الإسلام (3)، وابن

ص: 341


1- الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الطبري: ج4، ص 198. ابن عساكر، علي بن الحسن، تاريخ مدينة دمشق: ج24، ص258- 259.
2- ابن الجوزي، عبد الرحمن بن علي، المنتظم في تاريخ الملوك والأُمم: ج5، ص263.
3- الذهبي، محمد بن أحمد، تاريخ الإسلام: ج4، ص210.

عساكر في تاريخ مدينة دمشق(1)، وذكر ابن كثير أنّ سبب هلاك زياد بن أبيه أنه بعد أن استتبّ له الأمر في العراق كتب إلى معاوية يقول له: «إني قد ضبطت لك العراق بشمالي ويميني فارغة، فارع لي ذلك، وهو يعرض له أن يستنيبه على بلاد الحجاز أيضاً، فلمّا بلغ أهل الحجاز جاؤوا إلى عبد الله بن عمر فشكوا إليه ذلك، وخافوا أن يلي عليهم زياد، فيعسفهم كما عسف أهل العراق، فقام ابن عمر فاستقبل القبلة فدعا على زياد والناس يؤمنون، فطعن زياد بالعراق»(2) أي: أُصيب بالطاعون.

وبغض النظر عن سبب إصابته بالطاعون وهلاكه إلّا أن المسلم أن الله تعالى قد عاجل له العقوبة في الدنيا قبل الآخرة؛ لكثرة ظلمه وتعديه على حرمات الله، وهو أمر قد عرف واشتُهر عن هذا الطاغية من ولاة بني أُمية، ولم يُجرّئه على الظلم والطغيان سوى مباركة بني أُمية وتشجيعهم ورضاهم بما يقول ويفعل(3).

وهكذا يتبين أيضاً أن سب علي وشتمه من هذا الطاغية لم يكن في حالات نادرة، بل كان منهجاً له ومصداقاً للتقرب لمعاوية وبني أُمية.

4 - بسر بن أرطاة

ومن النماذج الأُخرى لولاة معاوية الذين تعاهدوا شتم علي علیه السلام وسبّه هو بسر بن أرطأة القرشي، واسم أرطاة أو أبو أرطاة: عمير، وقيل: عويمر العامري من بني عامر، واختلف في صحبته، فقيل: إنه لم يسمع من النبي صلی الله علیه و آله ؛ لأن الرسول قُبِضَ وبسر صغير، وهذا قول الواقدي وابن معين وأحمد بن حنبل وغيرهم.

ص: 342


1- ابن عساكر، علي بن الحسن، تاريخ مدينة دمشق: ج19، ص203- 204.
2- الدمشقي، إسماعيل بن كثير، البداية والنهاية: ج8، ص67.
3- اُنظر: الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الطبري: ج4، ص187- 209. ابن الأثير، علي بن أبي الكرم، أُسد الغابة: ج2، ص215- 216، الذهبي، محمد بن أحمد، سير أعلام النبلاء: ج3، ص494- 496. ابن عساكر، علي بن الحسن، تاريخ مدينة دمشق: ج19، ص 162- 165، ص172- 175. وغيرها من المصادر.

وقال الدارقطني: له صحبة ولم تكن له استقامة بعد النبي، وكان من أخلص أصحاب معاوية الذين أطاعوه طاعة عمياء، وتفانوا في الدفاع عنه وتنفيذ أوامره، بل كان بسر بن أرطاة يبالغ في تنفيذ أوامر معاوية، حتى إنه ارتكب أُموراً لم يأمره بها معاوية، وكان مع معاوية في معركة صفّين، فأمره أن يلقى علياً علیه السلام في القتال، وقال له: سمعتك تتمنى لقاءه فلو أظفرك الله به وصرعته حصلت على دنيا وآخرة. ولم يزل به يشجعه ويمنّيه حتى رآه فقصده فالتقيا فصرعه علي علیه السلام فلم يرَ بداً إلّا أن كشف عورته للتخلص من الموت مقتدياً في ذلك بما فعله عمرو بن العاص، حتى قال الشاعر:

أفي كل يوم فارس ليس ينتهي***وعورته وسط العجاجة بادية

يكف لها عنه على سنانه***ويضحك منه في الخلاء معاوية

بدت أمس من عمرو فقنع رأسه***وعورة بسر مثلها حذو حاذية

فقولا لعمرو ثم بسر ألا انظرا***سبيلكما لا تلقيا الليث ثانية

وقد عرف بسر بن أرطأة في التاريخ بأنه رجل سيء؛ لارتكابه أُموراً عظيمة في الإسلام، وذلك ما نقله عنه أهل الأخبار والحديث حين أرسله معاوية في أول سنة أربعين بعد تحكيم الحكمين إلى الحجاز واليمن، فأمره إذا قدم المدينة أن يُرعب أهلها ويخيفهم ويأخذهم أخذاً شديداً، ثم إذا وصل اليمن فعليه أن يقتل كل مَن كان في طاعة علي علیه السلام فيما إذا امتنع عن بيعة معاوية، ويأخذ ما وجد لهم من مال.

وقَدِمَ المدينة وكان أبو أيوب الأنصاري عاملاً عليها يومئذٍ، ففرّ منها وأتى الكوفة، ودخل بسر المدينة فهدد أهلها، وأكرههم على البيعة، وهدم فيها دوراً كانت لجماعة من أصحاب علي علیه السلام وكان يقتل كل مَن ظنّ أنه أعان على قتل عثمان، ثم مضى حتى أتى مكة، فخافه أبو موسى أن يقتله، فقال له بسر: ما كنت لأفعل وقد خلعت علياً.

ثم مضى إلى اليمن وكان عليها عبيد الله بن عباس عاملاً لعلى علیه السلام، فلما بلغه مسيره فرّ إلى الكوفة، حتى أتى علياً علیه السلام واستخلف صهره عبد الله بن عبد المدان الحارثي على اليمن، فأتاه بسر فقتله وقتل ابنه.

ص: 343

ومن قسوته التي بلغت أبعد مداها حينما طاوعته نفسه ذبح طفلين صغيرين كانا مع أُمهما التي هي زوجة عبيد الله بن عباس، وكان اسم أحدهما عبد الرحمن والآخر قثم، وقد ذهلت أُمهما أيما ذهول من هول المصيبة والفاجعة التي حلّت بها؛ حتى هامت على وجهها وفقدت عقلها، ولمّا سمع أمير المؤمنين علیه السلام بقتلهما جزع جزعاً شديداً ودعا علي بسر، قائلاً: اللهم اسلبه دينه وعقله. فاستجاب الله دعاءه وفقد عقله، فكان يهذي بالسيف ويطلبه فيؤتى بسيف من خشب ويجعل بين يديه زق منفوخ فلا يزال يضربه ولم يزل كذلك حتى مات(1).

بسر بن أرطاة يسبّ أمير المؤمنين علیه السلام

لم يكن بسر متورّعاً عن سبّ علي علیه السلام، كيف لا؟ وهو الذي كان راغباً في امتثال أمر معاوية في مبارزة علي علیه السلام ومقاتلته؛ ولذا لم يتوانَ لحظة في الفتك بكل مَن يمتّ إلى علي علیه السلام بصلة من الرجال والشيوخ وحتى الصبية الصغار، بالإضافة إلى اقترافه أعمالاً قبيحة وشنيعة لا تمتّ إلى الإسلام والمسلمين بصلة، فلم يمتلك بعض العلماء ممن لا يحبّ سماع وقراءة ذلك إلّا أن يقول: «وله أخبار شهيرة في الفتن لا ينبغي التشاغل بها»(2).

ومن الشواهد التاريخية على سبّه أمير المؤمنين علیه السلام ما رواه صاحب أنساب الأشراف، قال: «ولما قدم بسر بن أبي أرطاة القرشي - ثم العامري - البصرة وكان معاوية

ص: 344


1- وللمزيد اُنظر: ابن عبد البر، يوسف بن عبد الله، الاستيعاب: ج1، ص 158- 166. ابن حجر، أحمد بن علي، الإصابة: ج1، ص421 - 422. ابن حجر، أحمد بن علي، تهذيب التهذيب: ج1، ص382. الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الطبري: ج4، ص106- 108. ابن الأثير، علي بن أبي الكرم، الكامل في التاريخ: ج3، ص383 - 385. الذهبي، محمد بن أحمد، تاريخ الإسلام: ج5، ص 369. الصفدي، خليل بن أيبك، الوافي بالوفيات: ج1، ص81 - 82. الدمشقي، إسماعيل بن كثير، البداية والنهاية: ج4، ص23. ج7، ص357، ابن الأثير، علي بن أبي الكرم، أُسد الغابة: ج1، ص180. ابن عساكر، علي بن الحسن، تاريخ مدينة دمشق: ج10، ص 141- 151. وغير ذلك من مصادر التاريخ والتراجم والأنساب.
2- ابن حجر، أحمد بن علي، الإصابة: ج1، ص422.

بعثه لقتل مَن خالفه واستحياء مَن بايعه، أخذ بني زياد، وهم غلمان: عبيد الله، وسلما، وعبد الرحمن، والمغيرة، وبه كان يكنى زياد، وحرباً، وزياد يومئذ متحصن في قلعة بفارس، تُعرف بقلعة زياد، مخالف لمعاوية، وذلك قبل أن يدعيه معاوية. فقال: والله، لأقتلنّكم، أو ليأتيني زياد أبوكم. ثم صعد المنبر، فذكر علياً بالقبيح وشتمه وتنقّصه»(1).

وكذا ما رواه الطبري في تاريخه، قال: «قال خطب بسر على منبر البصرة فشتم علياً علیه السلام، ثم قال: نشدت الله رجلاً علم أنى صادق إلّا صدقني أو كاذب إلا كذبني، قال: فقال أبو بكرة: اللهم إنا لا نعلمك إلا كاذباً. قال: فأمر به فخُنق، قال: فقام أبو لؤلؤة الضبي فرمى بنفسه عليه فمنعه»(2).

ومن الشواهد على شتمه - وهو في محضر معاوية - ما رواه الطبري في تاريخه عن جويرية بن أسماء: «أن بسر بن أبي أرطاة نال من عليّ عند معاوية وزيد بن عمر بن الخطاب جالس، فعلاه بعصا فشجّه، فقال معاوية لزيد: عمدت إلى شيخ من قريش سيد أهل الشام فضربته، وأقبل على بسر، فقال: تشتم علياً وهو جدّه، وابن الفاروق، على رؤوس الناس؟ أو كنت ترى أنه يصبر على ذلك؟ ثم أرضاهما جميعاً»(3).

ومن الواضح أن معاوية لم يستنكر الشتم الذي صدر من بسر لأنه كره ذلك، بل أراد أن يُبيّن له أن المقام لم يكن مناسباً لسبّ علي علیه السلام وشتمه أمام زيد بن عمر، وهو جده، وهذا ظاهر كلامه، ويؤيده ما سقناه من شواهد عديدة على ما قام به معاوية وولاته من سبّ وشتم.

5 - عمرو بن سعيد الأشدق

ومن النماذج الأُخرى لولاة معاوية الذين أسهبوا في سبّ وشتم وانتقاص خليفة المسلمين وأمير المؤمنين علي بن أبي طالب علیه السلام، وهو عمرو بن سعيد بن العاص بن أُمية،

ص: 345


1- البلاذري، أحمد بن يحيى، أنساب الأشراف، تحقيق سهيل زكار: ج2، ص136.
2- الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الطبري: ج4، ص 128.
3- المصدر السابق: ج4، ص 247- 248. البلاذري، أحمد بن يحيى، أنساب الأشراف: ج5، ص37. ابن الأثير، علي بن أبي الكرم، الكامل في التاريخ: ج4، ص12.

المعروف بالأشدق، كان والياً لمعاوية على المدينة، ثم عزله، ثم ولاه يزيد ابنه عليها، وكان يبعث الجيوش لقتال ابن الزبير في مكة بعد وقعة الحرّة أيام يزيد بن معاوية.

ثم إنه بعد ذلك طلب الخلافة وزعم أن مروان بن الحكم جعله ولي عهده بعد عبد الملك، ثم نقض ذلك وجعله إلى عبد العزيز بن مروان، فما زال ذلك في نفسه، فلمّا خرج عبد الملك بن مروان إلى العراق لقتال مصعب بن الزبير استخلف عمرو بن سعيد على دمشق، فخلعه وغلق دمشق وتحصّن بها وأجابه أهلها، فرجع إليه عبد الملك وحاصره وأعطاه الأمان ثم غدر به فقتله، يُلقّب بلطيم الشيطان(1).

قال ابن حجر: «وليست له صحبة ولا كان من التابعين بإحسان»(2)، وهو الذي قال عنه رسول الله صلی الله علیه و آله كما في مسند أحمد عن علي بن زيد: أخبرني من سمع أبا هريرة، يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: «ليرعفن على منبري جبار من جبابرة بنى أُمية يسيل رعافه. قال: فحدثني مَن رأى عمرو بن سعيد بن العاص رعف على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى سال رعافه»(3).

وكان عمرو بن سعيد هذا ممن تورّط أيضاً في سبّ أمير المؤمنين علیه السلام على المنبر، قال القسطلاني في إرشاد الساري في معرض حديثه عن سعيد، قال: «المعروف بالأشدق؛ لأنه صعد المنبر فبالغ في شتم عليّ رضي الله عنه فأصابته لقوة»(4)، وقد ذكر هذا الكلام أيضاً العيني في عمدة القاري(5).

وعمرو بن سعيد هذا كان في وقت استشهاد الحسين علیه السلام والياً على المدينة، فأراد

ص: 346


1- اُنظر: المزي، يوسف، تهذيب الكمال: ج22، ص35- 40. الذهبي، محمد بن أحمد، سير أعلام النبلاء: ج3، ص448. وتاريخ الإسلام: ج5، ص204. الدمشقي، إسماعيل بن كثير، البداية والنهاية: ج8، ص341. ابن حجر، أحمد بن علي، الإصابة: ج5، ص225. وتهذيب التهذيب: ج8، ص 34 - 35. ابن عساكر، علي بن الحسن، تاريخ مدينة دمشق: ج46، ص29- 45. وغيرها من المصادر.
2- ابن حجر، أحمد بن علي، فتح الباري: ج1، ص 176.
3- ابن حنبل، أحمد، مسند أحمد: ج2، ص 522.
4- القسطلاني، أحمد بن محمد، إرشاد الساري شرح صحيح البخاري: ج4، ص 368.
5- العيني، محمد بن أحمد، عمدة القاري: ج10، ص 187.

عبيد الله بن زياد أن يدخل السرور على قلبه بقتل الحسين فبعث إليه يبشّره بمقتل الحسين علیه السلام، فقد ذكر الطبري في تاريخه أنّه لمّا جيء برأس الحسين علیه السلام إلى عبيد الله بن زياد: «دعا عبد الملك بن أبي الحارث السلمي، فقال: انطلق حتى تقدم المدينة على عمرو بن سعيد بن العاص فبشره بقتل الحسين. وكان عمرو بن سعيد بن العاص أمير المدينة يومئذ، قال: فذهب ليعتل له فزجره، وكان عبيد الله لا يصطلي بناره، فقال: انطلق حتى تأتى المدينة ولا يسبقك الخبر وأعطاه دنانير، وقال: لا تعتل وإن قامت بك راحلتك فاشتر راحلة، قال عبد الملك: فقدمت المدينة فلقيني رجل من قريش، فقال: ما الخبر؟ فقلت: الخبر عند الأمير، فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، قُتل الحسين بن علي. قال: فدخلت على عمرو بن سعيد، فقال ما وراءك؟ فقلت: ما سرّ الأمير، قُتل الحسين بن علي، فقال: نادِ بقتله. فناديت بقتله، فلم أسمع - والله - واعية قط مثل واعية نساء بني هاشم في دورهن على الحسين، فقال عمرو بن سعيد وضحك:

عجّت نساء بنى زياد عجّة***كعجيج نسوتنا غداة الأرنب

والأرنب وقعة كانت لبنى زبيد على بنى زياد من بنى الحارث بن كعب من رهط عبد المدان، وهذا البيت من الشعر لعمرو بن معد يكرب، ثم قال عمرو: هذه واعية بواعية عثمان بن عفان. ثم صعد المنبر فأعلم الناس قتله(1).

فالمرء الذي يحمل كل ذلك الحقد والعداء لأمير المؤمنين وأهل بيته كيف لا يصدر منه شتم وسبّ لعلي علیه السلام وبنيه؟!

وبهذا يتضح من خلال ما تقدم من قرائن وشواهد وأدلة حديثية وتاريخية أن مسألة سبّ الإمام علي علیه السلام كانت ظاهرة شائعة في زمن خلافة معاوية، ولم تكن ناجمة عن حالات فردية شاذة، بل كانت عملاً حكومياً رسمياً منظماً، وكان معاوية يتصدى بنفسه للشتم وكان يأمر ولاته بذلك، وكان ولاته مطيعين له في ذلك، وقد جهد معاوية على ترسيخها وجعلها سنّة طوال مدة حكمه من سنة أربعين حتى سنة ستين للهجرة.

ص: 347


1- انظر الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الطبري: ج4، ص357.

ص: 348

خُلاصَة المَقَالات باللغَةِ العَرَبیَّة وَ الانجِلیزِیّة

اشارة

ص: 349

الأهداف السياسيةوانتماؤها التاريخي لمحيط النهضة الحسينية

الشيخ قيصر التميمي

استعرضنا في هذا المقال واحدة من أهم الأسباب والمبررات التاريخية لإنكار المبادئ والأهداف السياسية للنهضة الحسينية، وهي أن الأئمة المعصومين علیهم السلام بعد النبي صلی الله علیه و آله ما عدا الحسين علیه السلام لم يسجل لهم التاريخ موقفاً سياسياً يدعو إلى الثورة والخروج على السلطات الحاكمة، وأجبنا عن هذه الإشكالية من خلال عرض مجموعة من الشواهد التاريخية والروائية من حياة الأئمة علیهم السلام التي تثبت عكس ذلك، فابتدأنا بعرض أهم الشواهد التاريخية للمبادئ السياسية للنهضة العلوية، ومن ثم ذكرنا أهم الشواهد الدالة على الأهداف السياسية للنهضة الحسنية، ثم أشارنا لأهم المبادئ السياسية لنهضة الإمام الحسين علیه السلام، مع بيان وتوضيح للسبل والأسباب التي ساعدت على انتصار هذه النهضة، وعرضنا بعدها مواقف الأئمة علیهم السلام من ذريّة الحسين علیه السلام في المجال ذاته، فتبين من ذلك كلّه أن الانقلاب على الحكومات الظالمة والعمل على إسقاطها هو المنهج الذي سار عليه أئمّة أهل البيت علیهم السلام، ولكن عدم توافر الشروط الملائمة حال دون ذلك.

وخلصنا إلى جملة من نتائج، أهمها: أن الأمة كانت مؤهلة للإصلاح السياسي بقيادة أهل البيت علیهم السلام عبر انتهاج مبدأ النهوض لمقارعة الحكومات وإسقاطها وإقامة حكم الله في الأرض، وقد توافر للحسين علیه السلام في عصره كافة الشروط المطلوبة للنهوض؛ فنهض بالأمر، إلّا أن الخذلان بعد ذلك أدى إلى حصول المأساة، وأن الأئمة علیهم السلام بعده كانت لهم أدوارهم المختلفة حسب ما تهيأ لهم من ظروف وأسباب.

ص: 350

Political Goals

Their Historical Pertinence to the Milieu of Imam al-°usayn’s Uprising

Shaykh Qaissar al-Tam¢m¢

In the current essay، the writer touches on one of the most imperative motives and historical grounds of denying the principles and political goals of Imam al-°usayn’s uprising; namely، the claim that history has not recorded any political attitude for any of the Holy Imams (‛a)، except for Imam al-°usayn ibn ‛Al¢ (‛a); so، they failed to call people to revolt and rise against the ruling authorities.

Giving a persuading answer to this spurious argument، the writer reviews historical events and situations of the Holy Imams (‛a) proving the opposite of this baseless claim. He thus begins with surveying the most important historical proofs of the political principles of Imam ‛Al¢ ibn Ab¢-±¡lib’s uprising at the outset. He then moves to mention other points of evidence indicating the political goals and principles of Imam al-°usayn’s uprising، along with elaborate explanation and clarification of the events and reasons that contributed to the victory achieved by the Imam’s uprising at length.

Through this review، the writer establishes obviously the fact that the Holy Imams (‛a) adopted the same principle of revolution against the unjust ruling authorities and working towards overthrowing such regimes. The writer thus supports his research with the innumerable attitudes and words of the Holy Imams (‛a) indicating the accuracy of this fact; rather، because of the unavailability of suitable conditions، their efforts did not achieve their goals.

The writer then concludes a number of results، the most important of which is that the Muslim community was not qualified enough for any political reformation under the leadership of the Holy Imams (‛a) who took on the principle of uprising for challenging and overthrowing the ruling regimes and establishing the laws of the Lord on the earth. However، all conditions and grounds for uprising against the unjust rulers were available for Imam al-°usayn (‛a). For this reason، he took upon himself this mission and rose against the ruling authorities; yet، because of the betrayal of some people، Imam al-°usayn’s uprising ended with that tragic end. Likewise، the Holy Imams (‛a) who came after Imam al-°usayn (‛a) played the same role with different means and methods according to the conditions and reasons that were available for each one of them.

ص: 351

مشروع دراسة الحركة الحسينية

آية الله السيد منير الخباز القطيفي

يُقدم هذا المقال مشروع دراسة للحركة الحسينية، يُبيّن فيه منهجية دراسة هذه الحركة على أُسس علمية ضمن جهات أربع، يطرح في الجهة الأولى تساؤلاً حول موقفنا من تفسير الحركة الحسينية، وهل نحن معنيون بذلك، ويقدم وجهاً للنفي وأخرى للإثبات، وفي الجهة الثانية يبدي عدة تساؤلات فيما يخص الرؤية الفقهية للحركة الحسينية، فيما يتناول في الجهة الثالثة الرؤية التحليلية للحركة الحسينية، ويقسم البحث على قسمين: الأول: البحث عن ماهية وحقيقة الحركة الحسينية، والثاني: البحث عن عوامل الحركة الحسينية، ويصل إلى الجهة الرابعة المخصصة للرؤية العقدية للحركة الحسينية، ويربط فيها بين كون المعصوم مَظهراً لمشيئة الله سبحانه وبين جريه على طبق قوانين المادة، ويعرض لعدة مفردات لها دخل في هذا الربط.

واستطاع هذا المقال أن يفتح آفاقاً جديدة للبحث حول الثورة الحسينية وأبعادها المختلفة وربطها بما حولها من العقائد والأفكار والأحكام.

ولربما لم يبين المقال الموقف المختار في الإجابة عن بعض التساؤلات؛ والسبب في ذلك هو أن الهدف من المقال عرض المسائل وفتح الآفاق أمام الباحثين.

ص: 352

The Project of Analyzing Imam al-°usayn’s Revolutionary Movement

Ayatollah Sayyid Muneer al-Khabbaz al-Qatifi

Introducing the project of studying and analyzing the revolutionary movement of Imam al-°usayn (‛a)، the writer of the current essay puts on view the methodology of analyzing this revolutionary movement on scientific bases within the following four aspects:

In the first aspect، the writer poses a question about our attitudes to understanding and explaining Imam al-°usayn’s revolutionary movement accurately and demonstrates whether we are or are not involved in this movement، presenting two answers; one is negative and the other affirmative.

As a second aspect، the writer puts forward a number of wonderments appertained to the revolutionary movement of Imam al-°usayn (‛a) from a jurisprudential prospect.

Concerning the third aspect، the writer discusses the analytical view of Imam al-°usayn’s movement، subdividing this aspect into two parts، the first of which deals with the essence and reality of Imam al-°usayn’s revolutionary movement، while the second part attempts to search for the factors and reasons for this movement.

Within the fourth aspect، which is dedicated to Imam al-°usayn’s revolutionary movement from a creedal prospect، the writer creates a link between the fact that the Infallible Imams (‛a) are facets of the Divine Will and their acting upon the laws of nature، which are supposed to be applied to them as same as they are applied to all other creatures. Within this discussion، the writer embarks upon a number of terminologies that are related to this subject matter.

In fact، the writer in this essay has efficiently opened novel horizons with regard to discussing the revolutionary movement of Imam al-°usayn (‛a)، not to mention the adverse dimensions related thereto، as well as attaching this movement to the surrounding creeds، ideas، and laws.

In some parts of the essay، the writer has not referred to the most proper answer to some questions arisen. This is because the main objective of the essay is to demonstrate the issues related and then open the horizons before the eyes of the researchers.

ص: 353

منطلقات الثورة الحسينية وخلفياتها

القسم الثاني

(مشروع التوريث)

السيد محمد الشوكي

تعرض الباحث في القسم الثاني من مقاله (منطلقات الثورة الحسينية وخلفياتها) وهو القسم المختص بالخطوات العملية لتوريث معاوية ابنه يزيد الحكم، فيتعرّض إلى بيان وتوضيح مفاصل مشروع التوريث المتمثلة بالاستغفال الديني، وتصفية المعارضين، وتلميع صورة يزيد أمام الرأي العام، واستخدام سياسة الترغيب والترهيب، وقيام معاوية بنفسه من أجل تطبيق هذه الخطوات بعد فشل ولاته وعمّاله في ذلك، وكان الإمام الحسين علیه السلام من أهم العقبات في طريق تحقيق رغبة معاوية.

كل ذلك من خلال بيان متسلسل متناسق بالاعتماد على مجموعة من المصادر المهمة عند المسلمين.

ص: 354

The Starting Points and Backgrounds of Imam al-°usayn’s uprising

Part II: Nominating Yaz¢d to power

Sayyid Mu¦ammad al-Shawki

In Part II of his essay entitled، “The Starting Points and Backgrounds of Imam al-°usayn’s Revolution،” which is consecrated to the practical steps of nominating Yaz¢d to the next leadership، the writer gives elaborate details to the particulars of the scheme of designating Yaz¢d to authority. These particulars can be summed up in taking advantage of the people’s negligence of the religion، clearing out the way through assassinating all expected oppositionists، polishing the character of Yaz¢d before the publics، and applying the carrot and stick approach to the people. Moreover، when the governmental officials appointed by Mu‛¡wiyah for undertaking these steps failed، Mu‛¡wiyah took upon himself to carry out this mission. In fact، Imam al-°usayn (‛a) represented the first and most important obstacles that impeded Mu‛¡wiyah from giving success to his evil scheme and achieving his desire.

Depending upon a group of most reliable reference books of narrations and Islamic history، the writer introduces all of the abovementioned issues through a well-coordinated and seriated presentation.

ص: 355

عناصر الانتصار الحسيني وتجلياته في المجتمع الإسلامي

الشيخ ليث العتابي

ركّز الكاتب - في مقاله - على ثلاث نقاط تتحدّث عن ظواهر بارزة في واقعة كربلاء بشكل خاص والنهضة الحسينية بشكل عام، والتي منها:

1- عوامل انعدام التكافؤ العسكري في واقعة كربلاء والتي أجملها الكاتب في: العدّة القليلة، ووجود الأطفال والنساء، والسيطرة على الماء، ومحاصرة معسكر الحسين علیه السلام.

2- عوامل النصر في الثورة الحسينية - مع غضّ النظر عن الجانب العسكري في الثورة - فالثورة الحسينية حُسِمَ لها النصر لتوفّر جملة من العوامل الروحية والمعنوية، ولم تسبقها إليه أيّ ثورة قديماً وحديثاً.

3- مظاهر هذا النصر وتجلياته والتي بدت واضحة بُعيد الثورة الحسينية وحتى يومنا الحاضر، فقد تأثّر بهذهِ الثورة المباركة كثيرٌ من الثوّار على مرّ الزمن، وكُشِف القناع عن الحكم الأموي، وكُسِرَ الطوق المفروض على الحديث النبوي الشريف، وبقي اسم الحسين علیه السلام ونهضته سامياً في سماء الإنسانية.

ص: 356

Victory of Imam al-°usayn’s uprising; elements and manifestations in the Muslim community

Shaykh Layth al-Attabi

In this essay، the writer focuses on three points pertaining to remarkable aspects of the Battle of Karbal¡’ in particular and Imam al-°usayn’s revolutionary movement in general. These three points are as follows:

1. Summing up the reasons for the absence of any military equality between the two parties of the Battle of Karbal¡’، the writer mentions the little number of Imam al-°usayn’s army، the presence of women and children in the Imam’s camp، the enemy’s control over the resources of water، and their laying siege to Imam al-°usayn’s camp.

2. Apart from the military aspect of the encounter، Imam al-°usayn’s revolution enjoyed a number of factors that qualified the Imam and his followers to triumph over the enemy. In other words، victory was decided for Imam al-°usayn’s revolution owing to the availability of a number of spiritual and mental factors that no other revolution، neither in the ancient nor in the modern history، has ever had.

3. The manifestations and indications of victory of Imam al-°usayn’s revolution revealed themselves obviously shortly after the end of the battle and continued to the present day. All over history، a big number of revolutionists have impressively been affected by Imam al-°usayn’s uprising that also led to unmasking the Umayyad rulers and breaking the blockade that was imposed on the traditions of the Holy Prophet Mu¦ammad (¥). Thus، the name of Imam al-°usayn (‛a)، as well as the mottos of his uprising، has always been inspiringly glittering in the sky of humanity.

ص: 357

مصرع الحسين علیه السلام وقاعدة نفي السبيل على المؤمنين

الشيخ كاظم القره غولي

يتحدّث كاتب المقال عن قاعدةٍ من القواعد التي اختُلِف في تحديد مواردها سعةً وضيقاً ألا وهي: قاعدة نفي السبيل المستفادة من قوله تعالى: «وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا». حتى استدعى الأمر أن يحكم البعض بأنّ هذهِ القاعدة تنسحب على موضوع مقتل الإمام الحسين علیه السلام، زاعمين أنها تتنافى مع مقتله على يد أعداء الله؛ لما في مقتله سبيلاً وتمكيناً لهم عليه، فما قتلوه ولكن شُبِّه لهم! فقد أكد الكاتب على بطلان هذا القول من خلال التركيز على عدّة نقاط:

1- موافقة مقتل الحسين علیه السلام لسُنَّة الابتلاء والامتحان، وهي سُنّة إلهية سارية على العموم كل بحسب إيمانه واعتقاده، يزداد ذلك الإبتلاء بزيادة الإيمان، وفي ذلك حكمة إلهية.

2- إن سحب هذهِ القاعدة على مقتل الحسين علیه السلام يلزم منه تكذيب ما ورد في القرآن الكريم من تعذيب المؤمن بأيدي الكافرين، كما يلزم منه تكذيب النبي صلی الله علیه و آله والأئمة علیهم السلام حيث أخبروا بمقتله علیه السلام يوم عاشوراء.

3- نفي الروايات لهذه المقولة المزعومة وتشديدها على ذلك.

وكيف كان، فالآية تنفي جعل حكمٍ شرعي يؤدي تطبيقه إلى تسلُّط الكافرين على المؤمنين، كما تنفي أن يكون للكافر على المؤمن حجّة تامة يغلبه فيها.

ص: 358

Slaying Imam al-°usayn vs. the rule of non-authority of disbelievers over believers

Shaykh Kazim al-Qaraghulli

The writer of this essay deals with one of the rules of the creed of Islam about which scholars have had different opinions concerning the scope of its applicable examples. Known as the non-authority rule، this Islamic creedal principle is derived from a Qur’¡nic verse where Allah the Almighty states، “And never will Allah grant to the unbelievers a way to triumph over the believers. (4/141)”

Trying to apply this rule to the issue of slaying Imam al-°usayn (‛a) by his enemies، some scholars assert that the rule is in clear-cut violation of the Imam’s having been murdered by the enemies، because slaying the Imam (‛a) caused a way to triumph over the believers and made the enemies hold sway over him in his capacity as the leader of true believers. As a result، the Imam (‛a) must not have been slain by the enemies; rather، it was so made to appear to them!

In this essay، the writer confirms the inaccuracy of this claim and proves it as unfounded، through highlighting a number of points، some of which are as follows:

1. The slaying of Imam al-°usayn (‛a) is in conformity with the Divine law of testing and exposing the creatures to tribulation so as to discriminate the true believers from the false ones. Of course، this Divine law is applicable to everybody according to each one’s scope of faith and fidelity، and the Divine testing is increasingly dependent upon one’s scope of faith، the logic for which is known by the Lord alone.

2. To apply this creedal rule to slaying Imam al-°usayn (‛a) by his enemies necessitates giving the lie to the Qur’¡nic texts that referred to the torments undergone by believers at the hands of unbelievers. It also necessitates giving the lie to the Holy Prophet (¥) who foretold the slaying of Imam al-°usayn (‛a) on the Day of ‛ªsh£r¡’ as well as giving the lie to the Holy Imams (‛a) who related the story of his martyrdom.

3. In this essay، the narrations from which this unfounded claim is based are emphatically proven false، inauthentic and baseless.

At any rate، the Qur’¡nic verse involved disproves the claim that the application of a religious law may lead to giving authority of the unbelievers over the believers and disproves that an unbeliever puts the believer under overwhelming argument through which the earlier can defeat and overcome the latter.

ص: 359

مقتل عمار بن أبي معاوية الدهني الكوفي (ت133ه-)

الشيخ عامر الجابري

تعتبر واقعة الطف من الحوادث المركزية في التاريخ الإسلامي وقد اهتم بها المؤرخون والرواة عبر العصور، ومن الرواة الذين اهتموا برواية هذه الحادثة هو عمار بن أبي معاوية الدهني، حيث تحرّى معرفة الحقيقة من مصدرها الأصلي، تناول المقال الذي بين أيدينا في قسمه الأول ترجمة هذه الشخصية، فذكر اسمه ونسبه والأعلام من أولاده وأحفاده وولادته ونشأته، ثم سلط المقال الضوء على مكانته العلمية وطبقته ومصنفاته، ثمّ تطرّق إلى مذهبه ومعتقده، ثم جاء دور البحث الرجالي في وثاقته وعدالته، وقد انتهى القسم الأول بموضوع وفاة عمار بن أبي معاوية.

وفي القسم الثاني من المقال عرض الباحث رواية الدهني لمقتل الإمام الحسين علیه السلام بالربط بين فقراتها لتكون رواية متكاملة، وبعد هذا العرض ذكر الكاتب بعض المناقشات ذات العلاقة بهذه الرواية، فبحث حول رجالها وطريقها، واختتم القسم الثاني بمناقشة متن الرواية، وانتهى المقال بذكر النتائج التي توصل إليها الباحث.

ص: 360

The slaying of imam al-°usayn according to the report of ‛Amm¡r ibn Ab¢-Mu‛¡wiyah al-Duhn¢ al-K£f¢

Shaykh Ammar al-Jabiri

In its capacity as a central event in the history of Islam، historians and transmitters of traditions، all over ages، have paid very much attention to the event of Karbal¡’ (i.e. the martyrdom of Imam al-°usayn during the Battle of al-±aff). One of the transmitters of traditions who took very much interest in this event was ‛Amm¡r ibn Ab¢-Mu‛¡wiyah al-Duhn¢ (died in AH 133)، who tried to find out the truth about this event from its original sources.

In its first part، the current essay deals with the biography of this person، referring to his name، lineage، and celebrated personalities from his sons and grandsons as well as his birth and early life.

The essay then sheds light on the scientific status of this personality along with the class of transmitters of traditions to which he belonged and the books and writings he wrote.

The next step was that the essay speaks of ‛Amm¡r ibn Ab¢-Mu‛¡wiyah’s creed and faith and then moves to the study of his trustworthiness and decency in the sight of the scholars of biography of transmitters of traditions.

Finally، the first part of the essay ends with the topic of the death of ‛Amm¡r.

In the second part، the writer of the essay displays ‛Amm¡r al-Duhn¢’s report of the martyrdom of Imam al-°usayn (‛a) through creating a link between the paragraphs of this report so that it would become in a perfect، seriated chain. Having finished this section of the essay، the writer moves to mention some discussions related to ‛Amm¡r’s report، investigating the transmitters of the reports and the way of narrating it. Finalizing this part of the essay، the writer discusses scientifically the text of the report involved.

The essay then ends with a reference to the results concluded by the writer.

.

ص: 361

نجوم في سماء الحسين علیه السلام

الحر بن يزيد الرياحي

(دراسة استدلالية لحركته العسكرية وموقفه من حادثة الطف)

السيد شهيد طالب الموسوي

إن الحر بن يزيد الرياحي يعتبر من الشخصيات المهمة في واقعة عاشوراء، وقد مر بمراحل متنوعة من المواقف والتي ختمها بحسن العاقبة والشهادة.

في هذا المقال يقدم الكاتب دراسة لحركة الحر وموقفه في واقعة كربلاء، وذلك ضمن ثلاثة محاور: تناول في المحور الأول سيرة الحر بن يزيد وهويته الشخصية وبعض سماته، وجعل المحور الثاني في دراسة تحركات الحر العسكرية وملاقاته للإمام الحسين، وبحثه من جهتين، الأولى: خروجه من الكوفة وقد استعرض فيه ثلاثة أقسام من الروايات، والجهة الثانية: حول لقاء الحر بالحسين علیه السلام وما جرى بينهما، فيما خصص المحور الثالث والأخير لبحث كيفية إعلان الحر التوبة ومقتله ومحل دفنه.

ص: 362

Stars in the sky of al-°usayn

Al-°urr ibn Yaz¢d al-Riy¡¦¢

Sayyid Shaheed Talib al-Musawi

Al-°urr ibn Yaz¢d al-Riy¡¦¢ was one of the most prominent personalities that left a remarkable impact on the Event of ‛ªsh£r¡’. Having passed through different stages، al-°urr ended up his lifetime with the best end result; that is، martyrdom.

In the current essay، the writer acquaints with a study of al-°urr’s movement as well as his attitude to the Battle of Karbal¡’، presenting the material of the essay through three main sections.

In the first section، the writer covers the biography of al-°urr ibn Yaz¢d، including his personal identity and some of the features of his personality.

The second section is mainly directed to the military movements of al-°urr and his meeting with Imam al-°usayn (‛a). This part of the essay is discussed from two aspects، the first of which is dedicated to al-°urr’s movement from the city of al-K£fah to meet with the Imam (‛a). Presenting this incident، the writer provides three kinds of narrations.

The second section is about al-°urr’s meeting Imam al-°usayn (‛a) and the events and dialogues between the two.

The third، and last، section of the essay is a study of the way al-°urr declared repentance، joined Imam al-°usayn (‛a)، was martyred، and his burial place.

ص: 363

هل وطأت الخيل جسد الحسين علیه السلام؟

الشيخ لؤي المنصوري

امتلأت عاشوراء بصور مأساوية عديدة لم تزل مأساتها تؤجج ضمير الإنسانية، ومن أعظم هذه الفجائع جرأة الأعداء على الجسد الشريف لسيد الشهداء علیه السلام بوطئه بحوافر الخيل، وقد سلّط هذا المقال الأضواء على هذه الحادثة، فعرض رأي النافين لهذه الحادثة عموماً ورأي العلامة المجلسي خصوصاً، ثم بيّن دليل العلامة المجلسي على نفي الفاجعة المذكورة، وحلّل الرواية التي استدل بها العلامة المجلسي فناقش الخبر سنداً، ثم ناقشه من حيث المتن، فأورد ستة أمور على كلام العلامة المجلسي، وبعد ذلك ذكر أسماء علماء الحديث الذين نصّوا على هذه الحادثة، وثم ذكر أقدم راوٍ للحادثة، وذكر بعض العلماء والمؤرخين السنة الذين نقلوها لعضد الرأي القائل بالوقوع، وختَم المقال بمحاولة الجمع بين رأي النافين والمثبتين.

ص: 364

Did horses really run over the body of Imam al-°usayn?

Shaykh Lu’ay al-Mansuri

The Event of ‛ªsh£r¡’ is full of tragic sagas and pictures that have still kindled fire in the conscience of humanity. One of the most horrible and astounding events was the enemy’s boldness to drive their horses to tread on the holy body of Imam al-°usayn (‛a).

Shedding thorough light on this event، the writer of the essay presents the opinions of those who deny the event in general and the opinion adopted by `All¡mah al-Majlis¢ in particular، displaying the points of evidence on which al-Majlis¢ relied in denying the event. Discussing the chain of authority and the text of the report depended upon by `All¡mah al-Majlis¢، the writer introduces six arguments against al-Majlis¢’s denial of the event.

He then moves to list the names of the master scholars who confirmed the falling of the event، following it by mentioning the earliest reporters of the event، thus listing the names of some Sunni master scholars of traditions and history who reported it، in order to support the other opinion entailing that the enemies did drive their horses to run over the holy body of Imam al-°usayn (‛a).

Finally، the writer concludes his essay with an attempt to bring the two opposing opinions into agreement.

ص: 365

العنايات الإلهية بالإمام الحسين علیه السلام

د. الشيخ علي حمود العبادي

يُسلِّط الكاتب - في هذه الدراسة - الأضواء على ثلاث عنايات إلهية بالإمام الحسين علیه السلام، والتي أضاءتها النصوص القرآنية والروائية المستفيضة، بروح برهانية استدلالية، مع ذكر بعض الشبهات والإجابة عنها.

ففي العناية الأولى أوضح الكاتب أن الإمام الحسين علیه السلام امتدادٌ لذرِّية الأنبياء الطاهرة، وذلك من خلال مقدمات ثلاث، وهي: أن الأنبياء من ذرية واحدة، وأن النبي صلی الله علیه و آله من ذرية الأنبياء علیهم السلام، وأن الإمام الحسين علیه السلام من ذرية النبي صلی الله علیه و آله ؛ ليخلص إلى كون الإمام الحسين علیه السلام من ذرية الأنبياء علیهم السلام.

وأما العناية الثانية، فقد أثبت الكاتب طهارة أصلاب آباء الإمام الحسين علیه السلام وأرحام أمهاته ما يشمل الشرك والسفاح على حدٍّ سواء.

ثم بعدها تطرَّق إلى العناية الثالثة والتي أكّد من خلالها خلق الإمام الحسين علیه السلام من طينة طاهرة، مع ذكر إشكالية الجبر وسلب الإرادة؛ ببيان أنّ هذه العناية ليست علة تامة لفعل الإنسان حتى يلزم منه كونه مجبوراً على الفعل أو الترك، داعماً ذلك بالنصوص القرآنية والروائية.

ص: 366

Divine Providences for Imam al-°usayn

Dr. Shaykh Ali Hamud al-Ibadi

In this paper، the writer throws light upon three Divine providences that the Lord imparted to Imam al-°usayn (‛a) as highlighted by Qur’¡nic texts and famously reported traditions through an evidential and argumentative methodology، plus a reference to some spurious arguments and presenting answers that refute them.

As a first Divine providence، the writer expresses that Imam al-°usayn (‛a) is an extension of the immaculate offspring of the prophets. Proving this fact، the writer provides three premises، the first of which is that all prophets are the offspring of one another. The second premise is that the Holy Prophet Mu¦ammad (¥) is from the offspring of the prophets. The third premise is that Imam al-°usayn (‛a) is the offspring of the Holy Prophet Mu¦ammad (¥). In conclusion، the writer construes that Imam al-°usayn (‛a) is the offspring of the prophets.

As for the second Divine providence، the author proves the immaculacy and infallibility of the fathers and mothers of Imam al-°usayn (‛a) not only against illegal and forbidden sexual intercourse، but also against polytheism.

Touching on the third Divine providence، the writer emphasizes that Imam al-°usayn (‛a) was created from pure clay. In this regard، the author refers to the argument of fatalism (i.e. the false claim that all creatures are forced to do what they do) and indeterminism (i.e. the false claim that creatures have absolute freedom to do whatever they will to do) and the argument of absence of freedom of will. In conclusion، the writer proves that this Divine providence is not a perfect cause for human deeds; otherwise، humans are forced to do or not to do their acts. Of course، the author supports all of his discussions with texts derived from the Holy Qur’¡n and the traditions of the Holy Prophet and Imams (‛a).

ص: 367

فقه التربة الحسينية المباركة

(حرمة الاستنجاء بالتربة)

الشيخ أحمد العلي

يعدّ هذا المقال بداية سلسة من المقالات تتضمن بحوثاً فقهية تتعلق بالتربة الحسينية المباركة، فيعرض الكاتب في البدء بصورة سريعةٍ قائمةً للبحوث الفقهية المتصورة فيما يخص التربة الحسينية، فيذكر ستة عشر بحثاً يتناولها تباعاً، ثم يمهد الكاتب لبحثه الأول بذكر بعض الحقائق المعنوية الغيبية للتربة الحسينية، ثم يشرع في أول بحثٍ فقهي متعلقٍ بالتربة الحسينية ألا وهو بحث حرمة الاستنجاء بها، فيذكر معنى الاستنجاء لغةً واصطلاحاً، وحكمه التكليفي ومصاديقه، ثم يعرج على الأمور المحترمة التي يحرم الاستنجاء بها، وضابطة المحترم، ثم يعرض نصوص حرمة الاستنجاء بالتربة الحسينية، ثم يذكر أموراً تتفرّع على ذلك، بوصفها أدلةً للحكم بكفر المستنجي بالتربة الحسينية، ثم حكم الشك بكون التربة حسينية أم لا، ثم طهارة موضع الاستنجاء وحكمه الفقهي فيما لو عصى المكلف وارتكب حرمة الاستنجاء.

ص: 368

Religious Laws appertained to the blessed clay taken from Imam al-°usayn’s tomb

Part I: Forbiddance of ceremonially purifying the private parts with clay of Imam al-°usayn’s tomb

Shaykh Ahmad al-Ali

The current essay is the first chain in a series of essays comprising jurisprudential studies of the religious laws appertained to the blessed clay of Imam al-°usayn’s holy tomb.

Displaying a list of Muslim jurisprudential studies concerning the laws of using the clay of Imam al-°usayn’s holy tomb، the writer of this essay lists sixteen studies، each of which he would discuss consecutively in dependent papers. Paving the way to the first study، the writer begins with quoting some divine spiritual facts concerning the blessed clay of Imam al-°usayn’s holy tomb as a preamble to the study. Starting the first study in the series، the writer searches the forbiddance of using the clay of Imam al-°usayn’s holy tomb for ceremonially purifying the private parts after relieving nature. First of all، he refers to the meanings of the term istinj¡’ (meaning، purifying the private parts after relieving nature) in both language and terminology of Muslim jurisprudence and then mentions the obligatory rules and applicable examples of istinj¡’.

He then moves to point out the inviolable things that are illegal to use in purifying the private parts and gives an explanation of the standard of inviolability in this very matter specifically.

He then elaborates on the topic through mentioning other matters ramifying from this general rule، such as the points of evidence proving as faithless those who use the clay of Imam al-°usayn’s holy tomb as a means of purifying the private parts، the rules appertained to things that are doubted to be parts of the clay of Imam al-°usayn’s tomb، the ceremonial purity of the private parts after being cleansed with legal substances، and the religious law appertained to the duty-bound persons who disobediently violate the forbiddance of using the clay of Imam al-°usayn’s tomb as a means of cleaning the private parts after relieving nature.

ص: 369

المشي لزيارة الإمام الحسين علیه السلام وباقي الأئمة علیهم السلام

(دراسة في ضوء الموازين الفقهية)

الشيخ حبيب عبد الواحد الساعدي

من المسائل التي صار لها تداول واسع - خصوصاً في الآونة الأخيرة - مسألة المشي لزيارة الإمام الحسين علیه السلام وباقي الأئمة علیهم السلام، وقد تعرض الكاتب في مقاله هذا إلى جهات ثلاثة، هي محاور المقال:

الجهة الأولى: تعرض فيها الكاتب إلى إثبات استحباب المشي لزيارة الإمام الحسين علیه السلام، ثم استحبابه لباقي الأئمة علیهم السلام على حدٍ سواء، ثم بيّن سرّ اختصاص زيارة الأربعين بالمشي واشتهارها بذلك دون غيرها من الزيارات مع كثرتها، واستعرض الكاتب بعض أدلة استحباب المشي للزيارة مطلقاً.

أما في الجهة الثانية فقد طرح الكاتب فيها عدة شبهات أثيرت وتثار في وجه المشي والمشاة لزيارة الأربعين، كاستلزام الضرر أو إهدار الوقت أو صرف الأموال الطائلة...، وغير ذلك من الشبهات، وأجاب عنها جميعاً.

وأما الجهة الثالثة فقد تعرض الكاتب فيها إلى الآداب الشرعية والعرفية التي ينبغي للزائر مراعاتها أثناء الطريق وحين الزيارة، وأشار في نهاية الأمر إلى مقدار الثواب المترتب على المشي للزيارة.

ص: 370

Going on foot for visiting the holy shrines of Imam al-°usayn and the Holy Imams

A Study in the light of jurisprudential standards

Shaykh Habeeb ‛Abd al-Wahid al-Sa‛idi

The issue of going on foot for visiting the holy tomb of Imam al-°usayn in particular and of the Holy Imams in general has become one of the widely circulated issues، especially in the recent times. In the current essay، the writer broaches this issue through discussing three major points، which form the pivot of the essay:

Discussing the first point، the writer proves the recommendation of going on foot for visiting the holy shrine of Imam al-°usayn (‛a) and the same recommendation of going on foot for visiting the holy shrines of the other Holy Imams (‛a) as well. He then demonstrates the logic for and secrets of pilgrimage to Imam al-°usayn’s tomb on the fortieth day after his martyrdom، which is known as ziy¡rat al-arba‛¢n. The author thus sheds light on the fame and commonness of going on foot on this anniversary in particular other than the other anniversaries despite their big number. Within this topic، the writer presents some proofs of the recommendation of going on foot for pilgrimage to the holy shrines in general.

As a second point، the writer poses a number of spurious arguments that were، and still have been، arisen against going on foot and those who undertake this pilgrimage especially on the arba‛¢n anniversary، such as harms expected from those who walk such long distances، waste of time، and spending huge sums of money… etc. The writer thus gives persuasive answers to these spurious arguments and many others.

As a third point، the author touches on the religious and traditional etiquettes a pilgrim is required to observe on his way walking to Imam al-°usayn’s holy shrine and during the pilgrimage، as well as the rewards decided for walking to the holy shrines.

ص: 371

حق الحياة والعمليات الانتحارية

د. فلاح الدوخي

بيّن الكاتب في هذا المقال أن الأصل الأصيل في خلقة الإنسان هو الكرامة الإلهية؛ إذ كرّمه الله تعالى على جميع المخلوقات، وحرم لذلك القتل بكل ألوانه إلّا في موارد استثنائية خاصة لديمومة حياة المجتمع، فذكر أصلين مسلّمين:

الأول: حرمة قتل الإنسان من دون فرقٍ بين مؤمن وغير مؤمن، وأدلة هذا الأصل من الشريعة كثيرة جداً، ويترتب عليه حرمة القتل الرحيم.

الثاني: حرمة قتل الإنسانِ نفسه (الانتحار) وعرض الكاتب أدلة ذلك من الكتاب والسنة من طرق الفريقين.

ثم بدأ بتعريف العلميات الانتحارية، وذكر دوافعها وأصنافها كصنف العمليات الانتحارية ذات الدوافع السياسية أو الشخصية أو العقائدية أو للدفاع عن النفس أو الوطن أو العقيدة، ثم عرض أدلة المجوزين لتلك العلميات والإيرادات التي ترد عليها، ثم إن بعض أدلة المجوزين يتوقف على التمييز بين الحق والحكم، وهل أن الحياة حق أو لا؟ وبيّن المؤلف ما يميز بين الحق والحكم، ثم جاء بأدلة المانعين للعمليات الانتحارية، وتطرق إلى تزاحم قتل النفس مع ما هو أهم، كحفظ الإسلام.

ص: 372

Right to Life vs. Suicidal Operations

Dr. Falah al-Dukhi

In this essay، the writer proves evidently that the primary origin of creation of man is the Divine honor imparted to the human race. In other words، Allah the Almighty has honored man over all other creatures. For this reason، the Lord has prohibited homicide with all of its various kinds except in certain situations that achieve continuance of the social life of human communities. The writer thus refers to two uncontroversial principles:

First Principle: It is forbidden to murder any human being، be he faithful or infidel. The proof of this principle can be easily found in sources of Islamic legislation through innumerable points of evidence. As a result، the so-called merciful killing is also forbidden.

Second Principle: It is forbidden to commit suicide; that is to intentionally kill oneself. Discussing this principle، the writer displays many proofs deduced from the Holy Qur’¡n and the Prophetic traditions through various ways of narration approved of by both Sunni and Sh¢‛ah Muslim scholars.

Entering upon the main topic، the writer starts with defining the suicide operations، the motives behinds them، and their classification. He thus classifies them according to their motives، which can be political، personal، creedal، self-defense، and defense of one’s homeland or faith… etc. He then demonstrates the points presented by those who deem legal such suicide operations as proofs of their religious justification and then refutes and proves false these points. In the light of the fact that all the points presented by those who deem legal such suicide operations mainly depend upon accurate discrimination between the right and the law and upon the argument whether to live is or is not a human right، the writer introduces the points through which an accurate discrimination between rights and laws can be concluded.

Finally، the writer displays the points of evidence presented by the others who deem illegal and unjustified the suicide operations، touching on the crucial topic of competition between killing oneself and what is more important than it، such as safeguarding Islam as a system of life.

ص: 373

سب معاوية وولاته لأمير المؤمنين علیه السلام دراسة حديثية تاريخية في مصادر أهل السنّة المعتبرة

د. السيد حاتم البخاتي

من المسائل التاريخية التي لها أبعاد عقدية مسألة سب أمير المؤمنين علیه السلام من قبل معاوية وولاته، فقد تناول الباحث في هذا المقال هذه المسألة وأثبت بأنها كانت ظاهرة حكومية منظمة وبأوامر مباشرة من معاوية وولاته، وأجاب بذلك عن شبهة بعض السلفية الوهابية الذين يرفضون هذا الأمر، وإن اعترفوا بوجود حالات فردية من قبل البعض، واعتمد الكاتب في إثبات ذلك على أدلة حديثية صحيحة من طرق أهل السنة، وكذلك تتبع حصول هذه الظاهرة في المصادر التاريخية المعتبرة من خلال ما حصل من أحداث تاريخية من قبل ولاة معاوية على الأمصار الإسلامية.

ص: 374

Mu‛¡wiyah and his governmental officials cursing Imam ‛Al¢ Am¢r al-Mu’min¢n

A historical study based on historical narrations reported in the most reliable Sunni reference books

Dr. Sayyid °¡tam al-Bukhati

The fact of Mu‛¡wiyah and his governmental officials having cursed Imam ‛Al¢ ibn Ab¢-±¡lib (‛a) and ordered their subjects to curse him as a governmental decree is one of the historical issues that had creedal dimensions. Perceiving the importance of this fact، the writer proves through this essay that this fact was a well-organized governmental decree that was directly dictated by Mu‛¡wiyah and his ruling authorities. The writer then provides persuasive answers to the spurious arguments raised by some Salafis and Wahabis who denied this fact although they had to confess that some people did curse Imam ‛Al¢ (‛a) from their own accords without there having been any direction from the ruling authorities.

Proving this disgraceful fact، the writer depends mainly upon narrations that were reported through authentic chains of authority and approved by Sunni scholars. He also follows the initiation of this phenomenon in the most reliable reference books of Islamic history through the events the stars of which were governmental officials whom Mu‛¡wiyah had appointed as rulers of the Islamic regions.

ص: 375

اِنَّما خَرَجْتُ لِطَلَبِ الاِصْلاحِ في اُمّهِ جَدّي

الاِصلَاحُ الحُسَینيُّ

مَجَلةٌ فَصلِیّةُ مُتخَصِّصَةُ في النّهضَةِ وَ تُعنیَ بالدِّرَاسَّاتِ الدِّینِیَّةِ

ص: 376

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
هَلْ یَسْتَوِی الَّذِینَ یَعْلَمُونَ وَالَّذِینَ لَا یَعْلَمُونَ
الزمر: 9

عنوان المکتب المرکزي
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.