الإمام علي عليه السلام في فكر معتزلة بغداد

اشارة

رقم الإيداع في دار الكتب والوثائق العراقية 1355 لسنة 2016

مصدر الفهرسة:

IQ-KaPLI ara IQ-KaPLI rda

رقم تصنيف: LC

BP37.3-N3 2017

المؤلف الشخصي: النصر الله، جواد کاظم.

العنوان: الإمام علی (علیه السلام) فی فکر معتزلة بغداد.

بيان المسؤولية: تأليف الأستاذ الدكتور جواد کاظم النصر الله، تقديم السيد نبيل

الحسني الكربلائي.

بيانات الطبع: الطبعة الاولى.

بيانات النشر: كربلاء: العتبة الحسينية المقدسة - مؤسسة علوم نهج البلاغة.

1438 ه = 2017 م.

الوصف المادي: 744 صفحة.

سلسلة النشر: سلسلة الکتب العلمیة - وحدة علم الکلام والفرق الإسلامیة؛ 10 - مؤسسة علوم نهج البلاغة.

تبصرة عامة:

تبصرة ببليوجرافية: يتضمن هوامش - لائحة المصادر (الصفحات 693 - 740).

تبصرة محتویات:

موضوع شخصي: ابن أبی الحدید، عبد الحمید بن هبة الدین محمد، 586 - 656 هجریاً. شرح نهج البلاغة.

موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة - 40

للهجرة - أحاديث.

موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة - 40

للهجرة - فضائل.

موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة - 40

للهجرة - تأثیر فی المعتزلة

مصطلح موضوعی: المعتزلة - تأثیر علی بن أبی طالب (علیه السلام).

مصطلح موضوعی: المعتزلة (علم الکلام).

مصطلح موضوعی: المعتزلة (فرقة إسلامیة) - العراق - بغداد - تاریخ - العصر العباسی.

مصطلح موضوعی: العلماء المسلمون - المعتزلة - تراجم.

مؤلف اضافي: الحسنی، نبيل قدوري حسن، 1965 م، مقدم.

مؤلف إضافی: : ابن أبی الحدید، عبد الحمید بن هبة الدیم محمد، 586 - 656 هجریاً. شرح نهج البلاغة.

عنوان إضافی: شرح نهج البلاغة.

تمت الفهرسة قبل النشر في مكتبة العتبة الحسينية

ص: 1

اشارة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم

الإمام علي (عليه السلام) في فكر معتزلة بغداد

ص: 2

سلسلة الكتب العلمية

وحدة علم الكلام والفرق الإسلامية

(10)

الإمام علي (عليه السلام) في فكر معتزلة بغداد

تَألِيف

أ. د. جواد كاظم النصر الله

اصدار

مؤسسة علوم نهج البلاغة فی العتبة الحسینیة المقدسة

ص: 3

جميع الحقوق محفوظة

للعتبة الحسينية المقدسة

الطبعة الأولى

1438 ه - 2017 م

العراق: كربلاء المقدسة - شارع السدرة - مجاور مقام علي الأكبر علیه السلام

مؤسسة علوم نهج البلاغة

هاتف: 07728243600 - 07815016633

الموقع: www.inahj.org

Email: Info@ Inahj.com

تنويه:

إن الأفكار والآراء المذكورة في هذا الكتاب تعبر عن وجهة نظر كاتبها،

ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر العتبة الحسينية المقدسة

ص: 4

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم «عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ النَّبَأِ الْعَظِيمِ * الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُون * كَلَّا سَيَعْلَمُون * ثُمَّ كَلَّ سَيَعْلَمُون»

صدق الله العلي العظيم

(سورة النبأ: 1 - 5)

ص: 5

ص: 6

الإهداء

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم

«يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا»

إلهي وسيدي ومولاي منك وإليك

ص: 7

ص: 8

مقدمة المؤسسة

ص: 9

ص: 10

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة المؤسسة

الحمد لله على ما أنعم وله الشكر بما ألهم والثناء بما قدم، من عموم نعم ابتدأها وسبوغ آلاء أسداها، وتمام منن والاها، والصلاة والسلام على خير الخلق أجمعين محمد وآله الطاهرين.

أما بعد:

فلم يزل كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) منهلاً للعلوم من حيث التأسيس والتبيين ولم يتقصر الأمر على علوم اللغة العربية أو العلوم الإنسانية، بل وغيرها من العلوم التي تسير بها منظومة الحياة وإن تعددت المعطيات الفكرية، إلا أن التأصيل مثلما يجري في القرآن الكريم الذي ما فرط الله فيه من شيء كما جاء في قوله تعالى: «ما فرّطنا في

ص: 11

الكتاب من شيء»(1)، كذا نجد يجري مجراه في قوله تعالى: «وكل شيء أحصيناه في إمام مبين»(2)، غاية ما في الأمر أن أهل الاختصاصات في العلوم كافة حينما يوفقون للنظر في نصوص الثقلين يجدون ما تخصصوا فيه حاضراً وشاهداً فيهما، أي في القرآن الكريم وحديث العترة النبوية (عليهم السلام) فيسارعون وقد أخذهم الشوق لإرشاد العقول إلى تلك السنن والقوانين والقواعد والمفاهيم والدلالات في القرآن الكريم والعترة النبوية.

من هنا ارتأت مؤسسة علوم نهج البلاغة أن تتناول تلك الدراسات العلمية المختصة بعلوم نهج البلاغة وبسيرة أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) وفكره ضمن سلسلة علمية وفكرية موسومة ب(سلسة الكتب العلمية) والتي يتم عبرها طباعة هذه الكتب واصدارها ونشرها في داخل العراق وخارجه بغية إيصال هذه العلوم إلى الباحثين والدارسين واعانتهم على تبين هذا العطاء الفكري والانتهال من علوم أمير المؤمنين علي (عليه السلام) والسير على هديه وتقديم رؤى علمية جديدة تسهم في إثراء المعرفة وحقولها المتعددة.

وما هذه الدراسة التي بين أيدينا إلا واحدة من تلك الدراسات التي وفق صاحبها للغوص في بحر علم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، فقد أذن له بالدخول إلى مدينة علم النبوة والتزود منها بغية

ص: 12


1- الأنعام: 38
2- يس: 12

بيان أثر تلك المرويات العلوية والتأصيل العلمي في ميدان علم الكلام ولتقدم لنا الدراسة صورة عن رؤية اعتزالية ألا وهي مسألة التفضيل، أي تفضيل الإمام علي (عليه السلام) بعد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) التي جاءت عند المعتزلة من جانبين، بكونه الأكثر ثواباً والأكثر مناقباً.

فجزى الله الباحث خير الجزاء فقد بذل جهده وعلى الله أجره.

والحمد لله رب العالمين..

السيد نبيل الحسني الكربلائي رئيس مؤسسة علوم نهج البلاغة

ص: 13

ص: 14

المقدّمة

ص: 15

ص: 16

المقدّمة

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي هدانا لهذا، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، والصلاة والسلام على من كان نبيا، وآدم بين الماء والطين، وعلى ذوي قرباه الذين أذهب الله عنهم الرجس، وطهرهم تطهيرا، وعلى الخيرة من أصحابه المنتجبين الذين ثبتوا على الدين القويم حتى آتاهم اليقين.

شهدت الحركة الثقافية في الدولة العربية الإسلامية منذ بواكير نشأتها نشاطاً ملحوظاً في شتى صنوف المعرفة(1)، فقد كانت أمة العرب هي أمة الشعر والبلاغة منذ ما قبل الإسلام، ثم جاء الدين الإسلامي بكتابه المقدس القرآن الكريم الذي تحدى بلاغة فصحاء العرب، وما جاء عن النبي صلی الله علیه و آله وسلم وهو أفصح من نطق بالضاد، لذا نجد اهتماماً كبيراً بالأدب، حيث تناثرت في مؤلفات

ص: 17


1- أنظر عبد الخضر حمادي: الحركة الفكرية في القرن الأول الهجري رسالة ماجستير، الجامعة المستنصرية، بغداد، 1984

التراث، وعلى مختلف أنواعها اللغوية والأدبية والتاريخية والكلامية والفقهية الخطب والرسائل وقصار الكلمات لبلغاء العرب سواء قبل الإسلام أو بعده.

بل لقد خصصت بعض الكتب لهذا الغرض ككتاب البيان والتبيين للجاحظ ت 255 ه، وعيون الأخبار لابن قتيبة ت 276 ه، والكامل في اللغة والأدب للمبرد ت 285 ه، والأغاني لأبي الفرج الاصفهاني ت 356 ه.

وما إن جاء القرن الرابع الهجري وهو قمة الإبداع العربي الإسلامي(1) في مختلف صنوف المعرفة، حيث انجب الكثير من فطاحل العروبة، ومنهم محمد ابن الحسين المعروف بالشريف الرضي(2) الذي نبغ بالأدب شعراً ونثراً، ففي إطار الشعر ترك لنا ديواناً لا زال مثار اهتمام الباحثين(3). أما في مجال النثر فقد

ص: 18


1- أنظر آدم متز: الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري
2- عن الشريف الرضي أنظر: ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة 1 / 31 - 41 وسيرد بإسم الشرح. الثعالبي: يتيمة الدهر 3/ 155 - 178. الخطيب: تاريخ بغداد 2 / 246 - 247. ابن الجوزي: المنتظم 7/ 279 - 283. القفطي: أنباه الرواة 3 / 114 - 115. ابن خلكان: وفيات الأعيان 4 / 414 - 420. الصفدي: الوافي بالوفيات 2 / 374 - 376. ابن عنبة: عمدة الطالب ص 207 - 211
3- خصصت مجلة آفاق عربية، ع 7، 1985 للشريف الرضي في ذكراه الألفية فنشرت فيه المقالات التالية: شلش: من صور البطولة في شعر الشريف الرضي ص 7 - 22. الشيبي: حجازيات الشريف الرضي ص 23 - 62. الصفار: المؤثرات العامة في شعر الشريف الرضي ص 63 - 93. الجادر: الرؤى الاجتماعية والأخلاقية في شعر الشريف الرضي ص 95 - 140. مطلوب: الشريف الرضي ناقداً ص 159 - 192. غزوان: بناء القصيدة عند الشريف الرضي ص 193 - 246. الصائغ: الصورة الفنية في شعر الشريف الرضي ص 247 - ص 329 - 353. وانظر: العطية: الشريف الرضي الشاعر الأبي والاديب العبقري، مجلة ثقافة الهند ص 40 - 62

وضع سلسلة من المؤلفات التي تميزت بالطابع البلاغي.

فقد نظر في ما أثر عن النبي صلی الله علیه و آله وسلم من كلام فاقتبس منه قبسات أودعها كتاباً أسماه المجازات النبوية، وقد تميز ما اقتبسه بأسلوب المجاز وهو أسلوب بلاغي.

ثم نظر في ما أثر من كلام الإمام علي علیه السلام في ما توافر لديه من كتب اللغة والأدب والتاريخ وغيرها، فانتقى منه ما كان في قمة الفصاحة فأودعها في كتاب أسماه نهج البلاغة.

هذا يعني إن ما جاء في نهج البلاغة لا يمثل إلا نزراً يسيراً مما أثر عن الإمام علي علیه السلام، ونظرة متفحصة في كتب التراث تؤكد ذلك. وقد قسم الشريف الرضي كتابه هذا على ثلاثة أقسام؛ الأول: خطب الإمام علي علیه السلام.

الثاني: رسائله.

الثالث: قصار كلماته.

وقد ترك نهج البلاغة وقعاً في النفوس، إذ تلاقفته أقلام المفكرين وعقولهم شرحاً وتعليقاً منذ أيام الشريف الرضي وإلى يومنا هذا، حتى بلغت شروحاته (370) شرحاً(1). وقد تباينت هذه الشروحات في احجامها، فمنها الكبير كشرح حبيب الله الهاشمي المسمى منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (ط)، والمتوسط كشرح ميثم البحراني (ط)، والصغير كشرح صبحي الصالح (ط).

وتباينت أيضاً في موضوعاتها، فهناك من غلب عليه الطابع البلاغي كشرح

ص: 19


1- أنظر الأميني: الغدير 4 / 257 - 265. الخطيب: مصادر نهج البلاغة وأسانيده 1 / 247 - 314

ميثم البحراني(1)، أو السياسي كشرح محمد جواد مغنية (ط) أو اللغوي كشرح محمد عبده (ط).

ومن بين هذه الشروحات كان شرح - ابن أبي الحديد ت 656 ه وهو من رجالات الاعتزال، وقبل الحديث عن هذا الشرح لابد أن نوضح ما المقصود بالاعتزال؟ الاعتزال: تيار فكري ظهر في إطار الفكر العربي الإسلامي متمثلاً بفرقة المعتزلة التي اتخذت من علم الكلام موضوعاً لها(2).

فعلم الكلام(3) هو الجانب النظري في الفكر الإسلامي، فالمعروف ان الدين الإسلامي جاء عقيدة وعملاً، فالعمل هو ما يقوم به الفرد من اعمال في اوقات محددة كالصلاة والصوم والزكاة والحج وغيرها لذا سميت بالاعمال، وهو ما اطلق عليه اصطلاح (فروع الدين)، والعلم الذي يهتم به يسمى علم الفقه، والشخص الذي يهتم به يسمى الفقيه.

اما القسم الأول وهو العقيدة، فهو ما عقد في القلب دون القيام بعمل

ص: 20


1- قال أحد الباحثين: «يكاد يكون شرحاً بلاغياً لولا لغة ابن ميثم القريبة من المنطق والجدل والكلام «أنظر: الفحام: التصوير الفني في خطب الإمام علي علیه السلام. ص 2
2- عن فكر المعتزلة أنظر: الناشئ الأكبر: مسائل الإمامة. الخياط: الانتصار. وانظر موسوعة القاضي عبد الجبار: المغني في التوحيد والعدل وهي في عشرين جزءاً، وكتابه الآخر شرح الاصول الخمسة. ابن متويه: كتاب التذكرة، أبي رشيد النيسابوري: كتاب مسائل الخلاف بين البصريين والبغداديين
3- عن علم الكلام أنظر: الجاحظ: رسالة صناعة الكلام 49 - 58. احمد محمود صبحي: في علم الكلام 1 / 1 - 101 . بدوي: مذاهب الاسلاميين 1 / 7 - 32

كالاعتقاد بأن الله واحد، وأنه لاشبيه له، وأن افعاله معللة بالغايات التي هي لمصلحة الانسان كالعقل وبعثة الانبياء وإكمال رسالاتهم بالاوصياء، وأن الله يبعث من في القبور، فهذه المسائل تسمى اصول الدين. والعلم الذي يهتم بها هو علم الكلام، وقد ظهرت في نطاقه فرق متعددة كالامامية والمعتزلة والخوارج، والأشاعرة وغيرها(1).

لقد واجهت المجتمع العربي الاسلامي مشكلات فكرية منذ اواخر القرن الأول الهجري، وقد طرح بعض المفكرين اجابات لهذه المشكلات، فإزاء مسألة هل الانسان حر في افعاله أم مقيد؟ طرح غيلان الدمشقي(2) فكرة حرية الارادة، وإزاء كنه الله سبحانه وتعالى طرح الجعد بن درهم(3) مسألة نفي الصفات، وكانت مسألة مرتكب الكبيرة تشغل بال الكثيرين، فطرح واصل بن عطاء مسألة المنزلة بين المنزلتين.

ص: 21


1- عن معنى العقيدة أنظر: الشريف المرتضى: شرح جمل العلم والعمل ص 37 _ 248. الشيخ الطوسي: الاقتصاد فيما يتعلق بالاعتقاد ص 21 وما بعدها. ابن ميثم البحراني: قواعد الكلام في علم الكلام ص 21 وما بعدها. العلامة الحلي: كشف المراد ص 7 وما بعدها. المقداد السيوري: الاعتماد في شرح واجب الاعتقاد ص 42 _ 43. التبريزي: الأنوار الإلهية ص 75 _ 76
2- هو غيلان بن مسلم الدمشقي ظهر أيام عمر بن عبد العزيز حيث ولاه الخزائن، ولما جاء هشام ابن عبد الملك صلبه. ابن قتيبة: المعارف ص 484. القاضي: فرق وطبقات المعتزلة ص 38 - 41. ابن نباته: سرح العيون ص 201 - 203. ابن المرتضى: طبقات المعتزلة ص 25 - 27
3- هو من الموالي كان يسكن الجزيرة الفراتية واتصل بمروان بن محمد لما تولى الأخير الجزيرة لهشام ابن عبد الملك وكان الجعد مؤدباً لمروان، قتله خالد القسري لنفيه الصفات. أنظر: ابن الاثير: اللباب 1 / 230. ابن نباتة: سرح العيون ص 203، ابن تغري: النجوم الزاهرة 1 / 322. الحفني: موسوعة الفرق ص 198 - 199

هذه الآراء التي كان التوصل إليها عقلاً، أخذ يعتنقها فيما بعد تيار عرف بالاعتزال، بدأ بالبصرة ثم بغداد مكوناً مدرستين.

وتميز الاعتزال بميزات ثلاث:

الاولى: انه اعتبر العقل هو المصدر المعرفي الوحيد، حيث انه سابق للشرائع، لأن الشرائع موجهة لأناس عقلاء، فلا تأتي الشريعة للصبي، ولا المجنون لأنهما بلا عقل، بل حتى السكران والنائم يرتفع عنه تكليف الشريعة ما دام فاقداً للعقل.

الثانية: التأويل: إن فهم الشريعة يكون بالعقل، لذا يجب أن تكون الشريعة مطابقة للعقل، ولكن احياناً نجد ظاهر الشريعة يخالف العقل، هنا اضطر المعتزلة لصرف ظاهر النص الشرعي إلى معنى مجازي أي القول بالتأويل معتمدين على قوله تعالى:

«وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّه وَالرَّاسِخُونَ فِی الْعِلْمِ»(1).

ولذا قالوا: «إذا تعارض ظاهر النص مع العقل، فإن العقل هو المرجح»(2).

الثالثة: حرية الارادة: إن الله سبحانه وتعالى اعطى الانسان العقل وهو امتياز عن باقي المخلوقات مقابل تكليفه. اذاً فالانسان مسؤول عن عمله، وهذه المسؤولية تقتضي أن يكون الانسان حراً في إرادته(3).

اذاً فهذه المشكلات الفكرية ادت إلى ظهور تيار فكري عرف بالاعتزال، تمثله مدرستان الاولى في البصرة، والثانية في بغداد. وقد تميزت معتزلة بغداد عن البصرة:

ص: 22


1- سورة آل عمران، آية 7
2- صبحي: في علم الكلام 1 / 389
3- الموسوي: محاضرات ألقيت على طلبة الدكتوراه 1999 - 2000 م

الميل إلى الإمام علي علیه السلام.

الرغبة بتطبيق الاعتزال عملياً(1).

وقد انتعشت المعتزلة أيام الخلفاء المأمون والمعتصم والواثق ولكنها واجهت تحدياً قوياً منذ عهد المتوكل، حتى جاء الصاحب بن عباد(2) فأحيا الفكر الاعتزالي مرة أخرى(3).

ولكن المعتزلة واجهت تحدياً من الاشاعرة والمتصوفة منذ القرن الخامس الهجري، وهذا ما دفعهم للبحث عن اصول لهم فادعوا أن واصلاً تتلمذ على يد أبي هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية، وأبو هاشم تلميذ أبيه محمد، ومحمد تلميذ أبيه الإمام علي علیه السلام(4).

والملاحظ ان جذوة الاعتزال قد خفّت منذ أواخر القرن الخامس الهجري، فلم نعد نسمع بشخصيات اعتزالية لها أثر في الفكر الاعتزالي، حتى ان ابن المرتضى ت 840 ه لما وضع كتاب (طبقات المعتزلة) توقف في القرن الخامس الهجري(5).

ص: 23


1- صبحي: في علم الكلام 1 / 283 - 287. الراوي: ثورة العقل ص 94 - 95
2- هو الوزير البويهي اسماعيل وأول من لقب بالصاحب (326 - 358)، أنظر: ابن الجوزي: المنتظم 7 / 179 181. القفطي: انباه الرواة: 1 / 201 - 203. الحموي: معجم الادباء 6 / 168 - 317. الخوانساري: روضات الجنات 2 / 19 - 43
3- زهدي جار الله: المعتزلة ص 158 - 213
4- الشرح 1 / 17، 6 / 371. القاضي: فرق وطبقات المعتزلة ص 17 - 18. ابن المرتضى: طبقات المعتزلة ص 5 - 7
5- ص 116 - 119

وفي القرن السابع الهجري ظهر ابن أبي الحديد المعتزلي(1) 586 - 656 ه الذي ولد ونشأ في المدائن ثم انتقل إلى بغداد، فدرس علوم اللغة والادب والكلام والفلسفة حتى أصبح من كبار علماء عصره، وبرز بشكل واضح في الأدب والكلام، ففي الأدب وضع كتابه (الفلك الدائر على المثل السائر) وهو رد على كتاب المثل السائر لابن الاثير(2)، اما في الكلام فقد وضع عدة مؤلفات ولكنها فقدت ولم تصل إلينا. ومن كتبه الكلامية (النقيضين)، و (نقض السفيانية) وهو رد على كتاب السفيانية للجاحظ، و (شرح الغرر) وهو شرح لكتاب الغرر للمرتضى.

ومن بين كتبه كان كتاب (شرح نهج البلاغة) الذي يقع في عشرين جزءاً، وهو كتاب موسوعي ضم اللغة والادب والتاريخ والكلام، وغيرها من نوادر المعرفة ولذا اعتبره «كتاب ادب لانظر»(3).

ويأتي التساؤل: لماذا شرح ابن أبي الحديد نهج البلاغة؟ و ما الذي أراد أن يقوله من خلال شرحه هذا؟ أولاً: الملاحظ أن المعتزلة واجهوا نقداً شديداً في هذه الفترة وما سبقها منذ القرن الخامس الهجري حول أصل الاعتزال لذا أراد رجال المعتزلة تأصيل الفكر الاعتزالي بإرجاعه إلى مصدر موثوق من قبل الجميع ألا وهو الإمام علي علیه السلام وذلك

ص: 24


1- أنظر ترجمته: الحوادث الجامعة لمؤلف مجهول ص 366. الكتبي: فوات الوفيات 2 / 259 - 262. ابن كثير: البداية والنهاية 13 / 199 - 200. ولمزيد من التفاصيل والتحليلات أنظر: رسالة الماجستير الموسومة «ابن أبي الحديد سيرته وآثاره الادبية والنقدية» لعلي جواد محي الدين
2- محي الدين: ابن أبي الحديد ص 221 - 226
3- الشرح 20 / 245

عن طريق اتصال واصل بأبي هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية وقد ساعدهم على ذلك ما أثر عن الإمام علي علیه السلام من كلام حول التوحيد والنبوة والمعاد وخلق الافعال وغيرها من المسائل الكلامية، مما لا يوجد مثيله لدى أحد من الصحابة.

ولذا نجد ابن أبي الحديد في شرحه للنهج يشرحه شرحاً اعتزالياً ليقول بعد ذلك بأن عقائد المعتزلة مأخوذة من كلام الإمام علي علیه السلام.

ثانياً: ان الميزة التي ميزت معتزلة بغداد قاطبة هو القول بالتفضيل(1)، لذا نجد ابن أبي الحديد يفتتح شرحه بالقول بالتفضيل ثم يؤكد على هذه المسألة في اجزائه العشرين اينما سنحت له الفرصة.

ومثلما وجدنا الزمخشري يقول ان مدة تفسيره للكشاف استمرت سنتين وثلاثة أشهر وهي مدة خلافة الخليفة أبي بكر(2). نجد ابن أبي الحديد يقول ان مدة اكماله شرح نهج البلاغة استمرت أربع سنوات واربعة أشهر وهي مدة خلافة الإمام علي علیه السلام(3). فالزمخشري يؤكد على رؤية معتزلة البصرة القائلة بأفضلية الخليفة أبي بكر وكأن ابن أبي الحديد رد على ذلك برؤية معتزلة بغداد القائلة بأفضلية الإمام علي علیه السلام.

ومن هنا جاءت هذه الدراسة لتقدم لنا صورة عن رؤية اعتزالية ألا وهي مسألة التفضيل أي تفضيل الإمام علي علیه السلام بعد الرسول صلی الله علیه و آله وسلم التي جاءت عند المعتزلة من جانبين:

ص: 25


1- أنظر: تفصيل ذلك في المدخل الذي قدمناه لهذه الدراسة
2- الكشاف 1 / 4
3- الشرح 20 / 349

بكونه الأكثر ثواباً.

الأكثر مناقباً.

لم تكن هذه الدراسة هي الاولى حول شرح نهج البلاغة لابن أبي الحدید، بل سبقتها دراسات متعددة منها:

أولاً: الكتب:

محمود الملاح: تشريح شرح نهج البلاغة(1): كتاب وضع للرد على شرح ابن أبي الحديد، ومن خلال نظرة متفحصة للكتاب يعلم القارئ إلى أي مدى يستحق مؤلفه العطف على ضآلة تفكيره.

احمد الربيعي: العذيق النضيد بمصادر ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة.

استعرض فيه مؤلفه أولا مصادر الشريف الرضي في نهج البلاغة، ثم مصادر ابن أبي الحديد في الشرح مرتباً المصادر ترتيباً ابجدياً، مكتفياً بتعريف بسيط للمؤلف واشارة إلى كون المصدر مطبوعاً أو مخطوطاً، ثم إشارة للصفحات الوارد فيها المصدر في الشرح، واحياناً إذا كثرت الصفحات يذكر بعضاً منها.

ان الذي يؤاخذ على الكتاب:

ذكره لمجموعة من المصادر ليست لابن أبي الحديد وإنما للشريف الرضي(2).

ذكره لمجموعة من المصادر ليست من مصادر ابن أبي الحديد، وإنما هي من مصادر مصادر ابن أبي الحديد(3).

ص: 26


1- طبع في بغداد 1954 م
2- أنظر مثلاً العذيق ص 134 وقارن الشرح 17 / 131
3- أنظر مثلاً العذيق 167 168 وقارن الشرح 4 / 120، 5 / 59 - 60

لم يقم بدراسة للمصدر الذي اعتمده ابن أبي الحديد، من حيث نوعية الاستفادة، والموضوع الذي استقى منه ابن أبي الحديد.

ومع ذلك تبقى لهذا الكتاب أهمية خاصة لمن يريد القيام بدراسة شاملة لمصادر ابن أبي الحديد المتنوعة.

ثانياً: المقالات:

د. مصطفى جواد: بعض مستندات ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة(1). مقال ذكر فيه مجموعة من مصادر ابن أبي الحديد في الشرح مكتفياً بذكر اسمائها دون التعليق عليها.

د. صفاء خلوصي: الكنوز الدفينة في شرح نهج البلاغة(2). يتحدث عن بعض المصادر التي اعتمدها ابن أبي الحديد، حيث ضم بين اجزائه العشرين مادة واسعة لمصادر فقدت ولم تصل إلينا لحد الآن، إذ يقول: «ان كثيرا من الكتب التي اصبحت في عداد التراث العربي المفقود لا تزال عناوينها ومقتبسات منها محفوظة فيه»(3) ولكن بعضا من هذه الكتب قد اكتشفت الآن وحققت.(4) بالاضافة لبعض الموضوعات التي اسهب ابن أبي الحديد في الحديث عنها كالخوارج وصاحب الزنج والتتار.

ص: 27


1- مجلة لغة العرب، مج 9، ع 7، 1931، ص 543 - 546
2- مجلة المعلم الجديد، مج 24، ح 3 - 4، س 1961، ص 1 - 22
3- مجلة المعلم الجديد، مج 24، ح 3 - 4، س 1961، ص 1
4- مثل كتاب صفين للمنقري وكتاب الغارات لأبي هلال الثقفي وكتاب الموفقيات لابن بكار وكتاب الخراج لقدامة بن جعفر وغيرها

د. صفاء خلوصي: مصادر شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد(1)، وهو مقال يتضمن جرداً بالاسماء فقط لطائفة من مصادر الشرح وليس كلها.

د. صفاء خلوصي: شكوك الرضي وابن أبي الحديد في بعض نصوص نهج البلاغة(2). فيما إذا كانت بعض تلك النصوص هي للامام علي علیه السلام أم للرسول صلی الله علیه و آله وسلم(3)، اما بالنسبة لابن أبي الحديد، فقد توقف في بعض النصوص التي اضطر إلى تأويلها أو التوقف فيها(4).

د. مصطفى جواد: عبد الحميد ابن أبي الحديد شارح نهج البلاغة(5). مقال في حدود الصفحتين وهو تعريف موجز بابن أبي الحديد وشرحه للنهج.

ابراهيم الأبياري: شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد(6)، وهو تعريف بسيط بابن أبي الحديد وبشرحه للنهج.

الرسائل الجامعية:

علي جواد محي الدين: ابن أبي الحديد سيرته وآثاره النقدية والادبية رسالة ماجستير، تناولت عصر ابن أبي الحديد وسيرته ومؤلفاته بالتفصيل، لذا اغنت كل باحث عن الرجوع للمصادر الاخرى أو الكتابة عنه.

حامد الظالمي: ابن أبي الحديد: جهوده النقدية والبلاغية رسالة ماجستير

ص: 28


1- مجلة المجمع العلمي العراقي، مج 9، س 1961، ص 340 - 348
2- مجلة الاستاذ، كلية التربية، مج 10، س 1962
3- أنظر مثلاً الشرح: 18 / 311، نهج البلاغة ص 490
4- أنظر مثلاً الشرح 9 / 87 88، 307، 16 / 156 - 157
5- مجلة المعرفة (بغداد)، س 2، ع 29، 1962، ص 4 - 6، 34
6- مجلة تراث الانسانية، مج 2، ص 125 - 139

ناقش فيها الباحث جهود ابن أبي الحديد في النقد.

عبد الواحد خلف وساك آل عجيل: جهود ابن أبي الحديد النحوية في شرح نهج البلاغة، رسالة في اللغة العربية، درس فيها الباحث جهود ابن أبي الحديد في النحو.

عبد الجبار سالم عبد الكريم: شعر عبد الحميد بن هبة الله المدائني، رسالة دكتواره جمع فيها الباحث شعر ابن أبي الحديد من شرح نهج البلاغة أو القصائد السبع العلويات أو القصائد المستنصريات لابن أبي الحديد، أو من مؤلفات أخرى.

حسن حميد فياض: ابن أبي الحديد ناقداً، وهي رسالة تتحدث عن النقد الادبي عند ابن أبي الحديد وخاصة في كتابه الفلك الدائر على المثل السائر.

وجاءت هذه الرسالة لتتناول جانباً معيناً من فكر ابن أبي الحديد المعتزلي، حيث تقدم لنا رؤية معتزلة بغداد إزاء الإمام علي علیه السلام.

اقتضت الدراسة البدء بمدخل يبين رؤية المعتزلة عموماً للإمامة، ومسألة الأفضل وجواز امامة المفضول أم لا؟ ثم اوضحنا رؤية معتزلة بغداد قاطبة القائلة بالتفضيل مبينين ادلتهم في هذا الاطار، ثم موقف ابن أبي الحديد الذي ارجع التفضيل إلى عصر الصحابة.

ولأجل ايضاح هذه الرؤية قسمت الرسالة على خمسة فصول، اختص الفصل الأول منها بدراسة تفصيلية لعراقة نسب الإمام علي علیه السلام حيث ينتسب لبني هاشم الذين وصفهم الجاحظ بأنهم ملح الارض، فكان لهاشم الجد الأكبر للقبيلة صاحب الايلاف الذي جعل من مكة مركزاً دينياً واقتصادياً، ثم جاء

ص: 29

ولده عبد المطلب الذي تزامن عصره مع سلسلة احداث مهمة كحفر زمزم وفشل حملة الفيل، واستحداثه جملة أعمال أقرها الإسلام فيما بعد حتى سمي بابراهيم الثاني. وقد ترك عشرة من الاولاد وصفهم اكثم بن صيفي(1) بأن الله إذا إراد أن ينشأ دولة أوجد لها مثل هؤلاء(2)، وقد اوصى إلى أبي طالب، ومن جملة وصاياه اوصاه بالنبي صلی الله علیه و آله وسلم تلك الوصية التي استمرت لخمسين سنة حيث كان لأبي طالب الدور الرائد في حماية النبي صلی الله علیه و آله وسلم واستمراره للدعوة لعشر سنوات بحيث لما توفي أبو طالب أخذ النبي صلی الله علیه و آله وسلم يبحث عن اماكن أخرى لنشر الدعوة الاسلامية.

وكان الإمام علي علیه السلام قد ولد لأبوين هاشميين فأمه أيضاً من بني هاشم، مضافاً لذلك كان الإمام علي علیه السلام يفتخر نسباً بعمه حمزة وأخيه جعفر.

اما الفصل الثاني؛ فقد اوضحنا فيه رؤية المعتزلة لنشأة الإمام علي علیه السلام، التي عدوها من اسس تفضيله علیه السلام، فبدءاً كانت ولادته في الكعبة الشريفة، ثم انتقاله لبيت الرسالة، حيث كان له شرف التربية على يد النبي صلی الله علیه و آله وسلم، فكان لذلك اثر في نشأته الروحية، حيث كان في مقدمة من آمن بالرسول صلی الله علیه و آله وسلم، ثم ما لبث ان أصبح له وزيراً يوم الإنذار، واستمر في المؤازرة طيلة وجودهما في مكة، وكان هو من نام في فراش الرسول صلی الله علیه و آله وسلم ليلة الهجرة ليموه على المشركين.

وبعد الهجرة المباركة زوّجه النبي صلی الله علیه و آله وسلم بأمر السماء من السيدة فاطمة

ص: 30


1- اكثم بن صيفي التميمي أحد حكماء العرب قبل الإسلام وقد ادرك الإسلام ويقال حث قومه على الدخول فيه. أنظر: الثعالبي: التمثيل والمحاضرة ص 36. ابن نباته: سرح العيون ص 14 - 16. ابن حجر: الاصابة 1 / 110 - 112
2- اليعقوبي: تاريخ 2 / 11

الزهراء علیها السلام سيدة نساء العالمين، فكان ذلك من أعظم فضائله حتى ان كبار الصحابة كعمر وسعد بن أبي وقاص كانا يغبطانه على ذلك.

ومن زواجه هذا جاء ولداه الحسن والحسين علیهما السلام سبطا رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم وسيدا شباب أهل الجنة، وقد تكون من هذه الاسرة أهل بيت النبوة الأطهار الذين خصهم القرآن بعدد من الآيات كآية التطهير والمباهلة.

كان للإمام علي علیه السلام جملة من الخصائص الخلقية، والسجايا النفسية فاق بها الأقران والمعاصرين وأسدل الستار على من سبقه وتلاه فيها.

هذه الخصائص خصص الفصل الثالث لبيان رؤية المعتزلة فيها، سواء في الشجاعة أو الحلم أو الصبر أو الزهد أو العيان أو غيرها. والشيء الذي يلفت النظر في خصائصه علیه السلام هو جمعه بين المتناقضات حيث كان ذلك مثار اعجاب الشريف الرضي وابن أبي الحديد.

اما تفسير المعتزلة لرؤية الإمام علي علیه السلام لنظام الحكم، فقد تناولها الفصل الرابع، إذ يرى معتزلة بغداد ان الإمام علياً علیه السلام يرى نفسه الأحق ليس بالنص، وإنما بالأفضلية، ولكنه علیه السلام لما رأى ان الأمة اجمعت على بيعة الخليفة أبي بكر ثم عمر ثم عثمان فقد بايع لهم حسبما يرى المعتزلة.

ويتخذ معتزلة بغداد مواقفهم من موقف الإمام علي علیه السلام، إذ لما قبل بخلافة من سبقه عدّ المعتزلة خلافتهم صحيحة، ولكنهم خطّأوا من خرج عليه أيام خلافته، وحكموا بتوبة أم المؤمنين عائشة وطلحة والزبير وأنهم من أهل الجنة.

وقد اوضح ابن أبي الحديد الرؤية الاعتزالية التي قدمها الجاحظ والاسكافي والجبائي والقاضي حول كثير من الشبهات التي اثيرت حول سياسة الإمام

ص: 31

علي علیه السلام سواء قبل خلافته أو بعد توليه الخلافة.

في حين جاء الفصل الخامس والاخير ليوضح الرؤية الاعتزالية حول الإمام علي علیه السلام والفكر العربي الاسلامي، إذ أثبت المعتزلة أن الإمام علياً علیه السلام هو الوحيد الذي بان في العلم الإلهي، ومن خلال ما جاء في كلامه عن التوحيد والعدل والنبوة والمعاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وخلق الافعال وغيرها استمد المعتزلة آراءهم الكلامية، وكان ابن أبي الحديد يؤكد على ذلك في شرحه اينما سنحت له الفرصة.

ان كثيراً مما ورد في فكر المتصوفة مأخوذ من الإمام علي علیه السلام، وهذا ما أشار إليه ابن أبي الحديد في اثناء شرحه لكلام الإمام علي علیه السلام، وأكد انتساب المتصوفة للإمام علیه السلام.

اما في علم الفقه فقد أكد ابن أبي الحديد أن الإمام علياً علیه السلام كان مصدر الخلفاء والصحابة والمذاهب الفقهية الاربعة، حيث أثر عن الخليفة عمر قوله «لا أبقاني الله لمعضلة ليس لها أبو الحسن».

وكذا الحال في علوم القرآن، وعلوم اللغة العربية وخاصة البلاغة حيث ترك الإمام علي علیه السلام كنزاً من الخطابة أصبح مصدراً ومورداً للادباء والشعراء ينتقون منه ويوحشون به خطبهم وأشعارهم.

وكان علیه السلام قد أشار لبعض الحوادث التاريخية والمسائل الفلكية، وما يخص علم الحيوان، بالاضافة لإشارته لبعض الغيبيات التي عدّها ابن أبي الحديد من أسس تفضيله.

وختمنا هذه الفصول بخاتمة اوضحنا فيها أهم ما تم التوصل إليه من خلال

ص: 32

البحث، منوّهين بالمواضع التي يمكن ان تكتب عن ابن أبي الحديد وكتابه شرح نهج البلاغة، التي لا زالت لم تحظ باهتمام الباحثين.

تحليل المصادر لقد اعتمدت الدراسة على جملة من المصادر والمراجع يأتي في مقدمتها - شرح نهج البلاغة - لابن أبي الحديد المعتزلي، إذ هو المحور الذي دارت حوله الدراسة.

لقد صنفه ابن أبي الحديد على عشرين جزءاً، اودع فيه الكثير من جوانب المعرفة سواء في اللغة أو الأدب أو التاريخ أو الكلام وغيرها، لذا عدّه كتاب ادب وليس نظراً. ولما كانت موضوعات نهج البلاغة متنوعة جاءت موضوعات شرح نهج البلاغة متنوعة أيضاً.

قال باحث معاصر في وصفه: «كتاب ولا كالكتب، بل بوسعي أن اقول إنه من الكتب القليلة النادرة التي تجمع بين المتعة والفائدة إلى اقصى حدودهما، مع نصاعة في الديباجة، وحلاوة في اللغة، وسلامة في التعبير، وسلاسة في البيان، فأنت حين تقرأ الكتاب تشعر كأنك تطالع انسكلوبيديا أو دائرة معارف تزودك بمعلومات لغوية وأدبية وتاريخية وفلسفية على صعيد واحد ضمن اطار نهج البلاغة للامام علي … وتستشف من وراء الكتاب كله عقلية نيرة غير متعصبة وتحليلات منطقية وألمعية في التفكير وابتكاراً في التعليل، قَلَّ أن تجد له نظيراً في الكتب الحديثة بله القديمة. وبوسع القارئ المطالع له ان يقتبس شيئاً جديداً من كل فصل من فصوله إن لم أقل من كل صفحة من صفحاته فهو الكتاب القديم - الجديد دائماً وأبداً»(1).

ص: 33


1- خلوصي: الكنوز الدفينة ص 1 - 2

ويخلص للقول: «وهكذا نجد بوجه عام أن ابن أبي الحديد قد جعل شرح نهج البلاغة اطاراً جميلاً لصورة رائعة تزدحم فيها الوقائع التاريخية والبحوث الادبية والمناقشات الفلسفية، فهو بحق منجم لكنوز دفينة لاتقوّم بثمن»(1).

وقد شرح ابن أبي الحديد نهج البلاغة شرحاً اعتزالياً ليؤكد رؤية المعتزلة القائلة بأن مصدر عقيدتهم هو الإمام علي علیه السلام، ولكنه كان يتوقف عند بعض النصوص التي لا تتفق والرؤية الاعتزالية لذا يضطر لتأويلها أو التوقف عندها وعدم اصدار حكم فيها(2).

ومن هنا فإن ابن أبي الحديد عامل كلام الإمام معاملة النص القرآني أو الحديث النبوي الذي يؤول إذا خالف ظاهره العقل عند المعتزلة.

لقد حاول ابن أبي الحديد وهو من معتزلة بغداد المتأخرين أن يسدل الستار على الخلاف ما بين مدرستي الاعتزال وأن يقدم صورة موحدة للفكر الاعتزالي، وإن كان احياناً يشير لمواضع الخلاف ويحاول تبريرها.

ولم يظهر منه تحامل على معتزلة البصرة، بل اعتمد كثيراً من مؤلفاتهم كمؤلفات الجاحظ ت 255 ه، الذي كان يقف عند ارائه قائلاً «رحم الله أبا عمرو لقد غلبت عليه البصرة وطينتها...»، ولما اتهم ابراهيم بن سيار النظّام - وهو من معتزلة البصرة - الإمام علياً خلوصي: الكنوز الدفينة ص 1 - 2 بالتدليس في الحديث، رد عليه ابن أبي الحديد مستغفراً له.

وقد استخدم ابن أبي الحديد في إثبات ما يراه ونفي ما لا يراه صحيحاً

ص: 34


1- خلوصي: الكنوز الدفينة ص 22
2- أنظر: مثلا الشرح 9 / 87 - 88، 307، 16 / 156 - 157

الآيات القرآنية التي يأخذها على ظاهرها، أما إذا تعارض ظاهرها مع العقل فإنه يؤولها. وكذا الحال بالنسبة للسنة النبوية الشريفة، مع انه يرى ان هناك الكثير من الاحاديث النبوية موضوعاً، وكذلك كان يستخدم الروايات التاريخية ونجده لا يقف سلبياً إزاءها بل يناقشها فيقبل ما يراه صحيحاً ويرفض العكس.

ووصل إلينا من مؤلفاته أيضاً سبع قصائد في مدح الإمام علي علیه السلام سميت بالقصائد السبع العلويات، اوضح فيها رؤيته للامام علي علیه السلام.

وتأتي مؤلفات علم الكلام بعد - شرح نهج البلاغة - كمصدر للرسالة، ومنها مؤلفات المعتزلة كرسائل الجاحظ الكلامية ومنها العثمانية التي اوضح فيها وجهة نظر القائلين بعدم أفضلية الإمام علي علیه السلام، فرد عليه الاسكافي ت 240 ه وهو من معتزلة بغداد بكتاب (نقض العثمانية) الذي استفدنا منه في بيان رؤية معتزلة بغداد في تفضيل الإمام علي علیه السلام.

وللناشئ الأكبر ت 293 ه أحد رجال المعتزلة كتاب (مسائل الإمامة) أفاد الرسالة في بيان رؤية المعتزلة للامامة من حيث وجوبها؟ ثم رؤيته للامام هل يجب أن يكون الأفضل؟ أم تجوز امامة المفضول؟ ومن هو الأفضل؟ وللخياط ت 300 ه أحد معتزلة بغداد كتاب (الانتصار) اثبت فيه أفضلية الإمام علي علیه السلام. وجاءت مؤلفات القاضي عبد الجبار ت 415 ه وخاصة كتابه (المغني في ابواب العدل والتوحيد) الذي صنفه على عشرين جزءاً، اوضح فيه تفصيلاً الفكر الاعتزالي، حيث استفدنا من الجزء العشرين الذي يقع في قسمين خصصهما للامامة، وقد افرد فصلاً عن التفضيل مبيناً آراء المعتزلة فيه كالاسكافي وابي علي وابي هاشم الجبائيان. اما كتابه فضل الاعتزال فقد أفادنا

ص: 35

في دراسة تراجم رجالات المعتزلة قبل القاضي، وقد نشر - النشار - كتاباً بإسم - فرق وطبقات المعتزلة - أخذه من كتاب المنية والأمل لابن المرتضى(1)، فإن الموجود منه هو ما جاء لدى ابن المرتضى في كتابه (المنية والامل) اما الكتاب الاصلي فلم احصل عليه.

ومن المؤلفات الكلامية مؤلفات الأشاعرة، كمقالات الاسلاميين لأبي الحسن الاشعري ت 324 ه، والتمهيد للباقلاني ت 403 ه، والفرق بين الفرق للبغدادي ت 429 ه. ومن كتب الإمامية الكلامية: تنزيه الانبياء للشريف المرتضى ت 436 ه، الذي استفدنا منه في رؤيته لرواية خطبة الإمام علي علیه السلام جويرية بنت أبي جهل.

وكتابه (الشافي في الإمامة) وهو رد على كتاب المغني للقاضي عبد الجبار، وقد اعتمده ابن أبي الحديد كثيراً في معرض المقارنة بين آراء القاضي عبد الجبار والشريف المرتضى. ويلاحظ على ابن أبي الحديد عدم الميل نحو القاضي لأنه معتزلي مثله، بل تارة يؤيد هذا وتارة يؤيد ذاك حسبما يراه صحيحاً.

لقد اعتمد ابن أبي الحديد في شرحه لنهج البلاغة على جملة من المصادر التاريخية بعض منها وصل إلينا، لذا آثرنا من باب التوثيق التاريخي الرجوع إلى هذه المصادر كسيرة ابن اسحق ت 151 ه، ومغازي الواقدي ت 209 ه، وتاريخ الرسل والملوك للطبري ت 310 ه، ومروج الذهب للمسعودي ت 346 ه، والكامل في التاريخ لابن الاثير ت 630 ه وغيرها.

وهناك من المصادر التاريخية لم يعتمدها ابن أبي الحديد، ولقد رجعنا إليها

ص: 36


1- أنظر: رأي: البطاط في هذا الكتاب: قاضي القضاة عبد الجبار ص 42 - 43

في مواضع من البحث كتاريخ اليعقوبي ت بعد 292 ه الذي قدم لنا رؤية لبني هاشم قبل الإسلام خاصة موقف عبد المطلب في حملة أبرهة وانعكاس ذلك الموقف في رؤية العرب له، وإشارته إلى ما سنهّ من سنن اثبتها الإسلام فيما بعد.

اما كتب التفسير فقد اعتمدت الدراسة في تفسير بعض الآيات على جامع البيان للطبري، والتبيان في تفسير القرآن للطوسي ت 460 ه، والكشاف للزمخشري ت 528 ه. ويعد الزمخشري من معتزلة البصرة، لذا أفدنا منه كثيراً في بيان رؤية معتزلة البصرة في الآيات الخاصة بالإمام علي علیه السلام، والجامع لاحكام القرآن للقرطبي ت 671 ه.

اما كتب الحديث؛ فقد استفاد البحث من عدد من كتب الصحاح كصحيح البخاري ت 256 ه، ومسلم ت 263 ه، وكتب السنن كسنن ابن ماجه ت 273 ه، وابي داود ت 275 ه، والترمذي ت 279 ه، والنسائي ت 303 ه، والبيهقي ت 458 ه، ومن المسانيد مسند احمد بن حنبل ت 240 ه. ومنها المستدرك على الصحيحين للحاكم النيسابوري ت 405 ه الذي استفدنا منه في مواضع متعددة، ومنها تأكيده على ولادة الإمام علي علیه السلام في الكعبة إذ يقول: «وتواترت الاخبار ان فاطمة بنت اسد ولدت علياً كرم الله وجهه في جوف الكعبة».

اما كتب الصحابة فقد رجعنا إلى الطبقات الكبرى لابن سعد ت 230 ه، والاستيعاب لابن عبد البر ت 463 ه، وصفة الصفوة لابن الجوزي ت 597 ه، وأسد الغابة لابن الاثير ت 630 ه، والإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر ت 852 ه، وغيرها.

ص: 37

ومن كتب التراجم رجعنا لكتاب تاريخ بغداد للخطيب البغداديت 463 ه، و معجم الادباء لياقوت الحموي ت 626 ه، ووفيات الاعيان لابن خلكان ت 681 ه، وفوات الوفيات للكتبي ت 764 ه، والوافي بالوفيات للصفدي ت 764 ه، ومرآة الجنان لليافعي ت 768 ه.

اما كتب الأدب فقد رجعنا لكتاب البيان والتبيين للجاحظ ت 255 ه، وعيون الاخبار لابن قتيبة ت 276 ه، والكامل في الأدب للمبرد ت 285 ه، والاغاني لأبي الفرج الاصفهاني ت 356 ه، وربيع الابرار للزمخشري ويلاحظ أن كثيراً من نصوص الشرح ربما منقولة عن الأخير ولكنه لم يشر لذلك.

واعتمد البحث على كتب الجرح والتعديل لمناقشة بعض الروايات ككتاب الضعفاء لأبي زرعة ت 246 ه، ورجال البرقي ت 274 ه، وكتاب الجرح والتعديل لابن أبي حاتم ت 327 ه، ورجال الكشي ت 340 ه، والكامل في ضعفاء الرجال لابن عدي ت 365 ه، ورجال النجاشي ت 450 ه، ورجال وفهرست الطوسي ت 460 ه، ورجال ابن المطهر الحلي ت 726 ه، ورجال ابن داود الحلي ت 740 ه، وميزان الاعتدال للذهبي ت 748 ه، وتقريب التهذيب وتهذيب التهذيب، ولسان الميزان لابن حجر العسقلاني ت 852 ه.

ورجعنا لعدد من الدواوين الشعرية لتوثيق كثير من الأبيات الشعرية كديوان امرئ القيس، والنابغة، وأبي طالب بن عبد المطلب، وامية بن أبي الصلت، والفرزدق، والسيد الحميري، وابي تمام، والبحتري، والمتنبي، والشريف الرضي، وعبد الباقي العمري وغيرهم.

فضلاً عن اعتماد الدراسة على مجموعة من الكتب الحديثة والرسائل الجامعية

ص: 38

وبعض المقالات، حيث اقتبست الرسالة آراءهم إما للتأييد أو للمناقشة.

ولما كانت الدراسة حول كتاب شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد لذا آثرنا إذا تعددت المصادر في الهامش الواحد الاشارة أولا إليه ثم إلى المصادر الاخرى حتى وإن كانت اسبق منه زمنياً واقتصرنا في الاشارة إليه بكلمة الشرح.

ولغرض عدم اثقال الهوامش بالمعلومات لذا اقتصرنا على الاشارة لاسم المؤلف وكتابه والجزء إن وجد والصفحة، أما باقي المعلومات فسيجدها القارئ في فهرس المصادر والمراجع.

وختاما لابد من القول ان الله سبحانه وتعالى أبى أن يكون هناك صحيح إلا كلامه المقدس، ولذا فإن هذه الدراسة المتواضعة لا تخلو من الهنات، وما احرى كاتبها بالقول:

وما أبِّرىءُ نفسي أنني بَشَرُ *** أسهو وأخطىءُ ما لم يحمِني قَدَرُ

ولا ترى عذرا أولى بذي زللٍ *** من أن يقولَ بأنني بشرُ

فإن كنت أصبت الذي أردت فهذا من جزيل نعم الله تعالى فله الحمد والشكر مبلغ رضاه، وإن كنت لم ابلغ ذلك فيكفيني نيتي التي أسال الله أن يجعلها خالصة لوجهه الكريم... ونية المرء خير من عمله.

وآخر دعوانا ربي.... توفني مسلما وألحقني بالصالحين واجعلني من ورثة جنة النعيم... والحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.

جواد كاظم النصر الله البصرة رمضان 1423 ه كانون أول 2002 م

ص: 39

ص: 40

المدخل

ص: 41

ص: 42

التفضيل عند المعتزلة

اقتضت الحكمة الإلهية تكليف الانسان للقيام ببعض الاعمال، والانتهاء عن اعمال أخرى، وسيقابل هذا الانجاز بثمرات دنيوية وأخروية على أن ذلك لن يكون إلا بوجود ضمانات له توجه الانسان للقيام به. ومن هنا فإن الإسلام لم يطرح النظرية فقط، بل وضع لها اسس التطبيق العملي حيث أوجد نظاماً سمي «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» مهمته حماية المجتمع والنظام، مما يساعد على تحقيق ما كلف به الانسان على الوجه الأفضل ويقف على رأس هذا النظام - الحاكم - الذي وصل لهذا المنصب بناءً على شروط معينة(1).

لقد عدَّ المعتزلة - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - اصلاً من اصولهم الخمسة(2)، وهو الاصل العملي الوحيد، إذ باقي الاصول نظرية(3)، وهذا الاصل واجب عند المعتزلة ووجوبه شرعي بدليل قوله تعالى:

ص: 43


1- د. عبد الكريم عثمان: قاضي القضاة ص 227 - 228
2- وهي - التوحيد - العدل - الوعد والوعيد - المنزلة بين المنزلتين - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فكل من قال بهذه الاصول مجتمعة فهو معتزلي. أنظر: الخياط: الانتصار ص 93. وقد شرح هذه الاصول القاضي عبد الجبار بكتاب اسماه شرح الاصول الخمسة. وهو مطبوع
3- صبحي: في علم الكلام 1 / 174 - 177

«كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ»(1).

بالاضافة لوجوبه العقلي(2)، فهو يجب إلى درجة استخدام القوة، ومن هنا أجاز المعتزلة الخروج على الامام الجائر، وبهذا فهم يماثلون الخوارج(3)، لكنهم اكتفوا بالقول دون الفعل لذا سموا مخانيث الخوارج(4).

إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب عند المعتزلة على كل مكلف وفق شروط(5)، وهو فرض كفاية إذا قام به من به الكفاية سقط عن الآخرين(6).

وفي مقدمة من يجب عليهم القيام بهذا الاصل هو الامام، لذا أصبح موضوع الإمامة من موضوعات هذا الاصل «ووجه اتصاله بهذا الباب إن أكثر ما يدخل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يقوم به إلا الأئمة»(7).

وقبل التحدث عن موضوع الإمامة لابد من الاشارة إلى أن التطور التاريخي للمعتزلة يشير لمدرستين للاعتزال، الاولى نشأت في البصرة واشارت الروايات إلى أن أول من قال بالاعتزال هو واصل بن عطاء وزميله عمرو بن عبيد،

ص: 44


1- سورة آل عمران، الآية: 110
2- القاضي عبد الجبار: شرح الاصول الخمسة ص 142، 741 - 746
3- ابن أبي الحديد: الشرح 5 / 78
4- البغدادي: الفرق بين الفرق ص 71
5- القاضي: شرح الاصول ص 142 - 144
6- القاضي: شرح الاصول ص 148
7- القاضي: شرح الاصول الخمسة ص 749

وسميت بمدرسة البصرة لنشوئها في البصرة، وقد وضع رجالات هذه المدرسة القواعد والاصول الاساسية للاعتزال، وبرز فيها كبار رجالات المعتزلة كأبي الهذيل العلاف، وابراهيم بن سيار النظّام، والجاحظ، والجبائيان، والقاضي عبد الجبار، وابن متويه، واصبح كل من يحمل آراء هذه المدرسة يعد بصرياً بغض النظر عن بلدته(1).

اما بالنسبة لمعتزلة بغداد فهي التي ينسب تأسيسها إلى بشر بن المعتمر الذي تتلمذ على يد معتزلة البصرة، ثم جاء لبغداد مؤسساً فرعاً جديداً للاعتزال عرف بمعتزلة بغداد، فأصبح كل من يأخذ بآراء هذه المدرسة يعد من معتزلة بغداد بغض النظر عن بلدته. ومن رجالات هذه المدرسة بشر بن المعتمر، والجعفريان، والاسكافي، واحمد بن أبي دؤاد(2)، والخياط، والكعبي، وابن أبي الحديد(3).

والذي يميز مدرسة بغداد عن مدرسة البصرة:

أولا:ً ميل مدرسة بغداد قاطبة إلى الإمام علي علیه السلام.

ثانياً: إنها طبقت عملياً رؤية معتزلة البصرة في التوحيد حيث ألغت القول

ص: 45


1- عن مدرسة البصرة أنظر: صبحي: في علم الكلام 1 / 105 - 393. الراوي: ثورة العقل ص 23 - 77. النعيمي: مدرسة البصرة الاعتزالية ص 7 وما بعدها
2- هو احمد بن أبي دؤاد فرح بن جرير القاضي، والمتولي لمهمة القول بخلق القرآن فيما عرف بالمحنة. أنظر: الملطي: التنبيه والرد ص 39. ابن النديم: الفهرست ص 3- 4 (تراجم ملحقة بآخر الكتاب). ابن الاثير: اللباب 1 / 427. الصفدي: الوافي بالوفيات 2 / 33. ابن المرتضى: طبقات المعتزلة ص 123 - 126
3- عن مدرسة بغداد أنظر: صبحي: في علم الكلام/ 283 - 317. الراوي: ثورة العقل ص 81 - 299

بالصفات، وقالت بخلق القرآن، فكان ما عرف تاريخياً بالمحنة، حيث كان معتزلة بغداد القائمين بها(1).

ثالثاً: النزعة العملية: حيث لما اتسم الاعتزال البصري بالسكونية والنظرات التجريدية، وجعل البحث النظري حواراً وجدلا طابعه العقائدي، نجد معتزلة بغداد تسعى لإيجاد بعد عملي لفكرها على نحو تحقيق رغبتها بإقامة دولة اعتزالية.

رابعاً: اقتضاهم عصر النهضة الفكرية، وقراءتهم للفلسفة، تعميق وتطوير مباحث العدل الالهي(2)، بعد أن شرحها معتزلة البصرة، كالقول بالتوليد(3)، واللطف الالهي(4).

خامساً: تصدى معتزلة بغداد للمباحث الدقيقة في الكلام، كمسألة

ص: 46


1- صبحي: في علم الكلام 1 / 283 - 287، الراوي: ثورة العقل ص 95. وعن مسالة خلق القرآن أنظر: الجاحظ: رسالة في خلق القرآن ص 163 - 175. الأزدي: تاريخ الموصل: 412 - 414
2- العدل: ما يقتضيه العقل من الحكمة، أو صدور الفعل على وجه الصواب والمصلحة، ويناقش المعتزلة تحت هذا الاصل موضوعات. (نفي صدور القبح عن الله، اللطف الالهي، حرية الارادة)، أنظر الشهرستاني: الملل والنحل 1 / 55 - 56. صبحي: في علم الكلام 1 / 148 - 165
3- هو الفعل الذي يتولد من فعل الانسان، فإذا ضرب انسان انساناً، فالضربة من فعل الضارب، وهو مسؤول عنها، ولكن ماذا عن الألم المتولد، أو إذا فعل الانسان فعلاً عن غير قصد. أنظر الخياط: الانتصار 60 - 61، الباقلاني: التمهيد 1 / 296 - 302، الشهرستاني: الملل والنحل 1 / 88 - 90، بدوي: مذاهب الاسلاميين 1 / 192 - 197
4- هو كل ما يوصل الانسان إلى الطاعة ويبعده عن المعصية. أنظر القاضي عبد الجبار: شرح الاصول الخمسة ص 518 - 525، الباقلاني: التمهيد 1 / 338 - 340، الشهرستاني: الملل والنحل 1 / 82 - 83، بدوي: مذاهب الاسلاميين 1 / 293 - 297

الجوهر(1).

سادساً: الزهد: كانت هذه الصفة غالبة على اكثرية معتزلة بغداد كبشر بن المعتمر، وتلميذه أبي موسى، والاسكافي وغيرهم، ولشياع هذه الصفة فيهم عرفوا ب «نسّك بغداد»(2).

لقد ناقش المتكلمون على اختلاف توجهاتهم موضوع الإمامة، من حيث وجوب نصب الامام أو لا؟ وهل أن الإمامة واجبة عقلاً أم شرعاً؟ وهل يجب أن يكون الامام أفضل الأمة؟ أم تجوز امامة المفضول مع وجود الأفضل؟(3) قال ابن حزم: «اتفق جميع أهل السنةّ، وجميع المرجئة، وجميع المعتزلة، وجميع الشيعة وجميع الخوارج على وجوب الإمامة… حاشا النجدات(4) من الخوارج»(5).

ص: 47


1- هو الجزء الذي لا يتجزأ وأول من قال به أبو الهذيل العلاف، أنظر: الخوارزمي: مفاتيح العلوم ص 17، أبو رشيد: المسائل في الخلاف ص 28، ابن متويه: التذكره ص 47 145. الجرجاني: التعريفات ص 13، التهانوي: كشاف اصطلاحات العلوم 1 / 207. بينس: مذهب الذرة عند المسلمين ص 1 - 16
2- الراوي: ثورة العقل ص 94 - 100
3- افرد المتكلمون مؤلفات لهذا الغرض. أنظر: الناشئ الأكبر: مسائل الإمامة، وخصص القاضي عبد الجبار الجزء العشرين من كتابه (المغني) في قسميه الأول والثاني لمسائل الإمامة ووضع الشريف المرتضى: الشافي في الإمامة أنظر ص 2 وما بعدها، الطوسي: تلخيص الشافي 1 / 63 - 190، 207 - 242
4- اصحاب نجدة بن عامر الحنفي. أنظر الاشعري: مقالات الاسلاميين 1 / 162 - 164. الخوارزمي: مفاتيح العلوم ص 19. البغدادي: الفرق بين الفرق ص 52 - 54. الشهرستاني: الملل 1 / 165 - 169
5- الفصل في الملل 4 / 149

وأوضح - الناشئ الأكبر - وجهة نظر المعتزلة فقال: «المعتزلة صنفان:

صنف أوجبوا الإمامة وزعموا أن نصب الامام فرض على الأمة في عقد الدين، وصنف انكروا وجوب الإمامة، وزعموا أنّ للمسلمين أن يقيموا اماماً، ولهم أن لا يقيموه، وليس أحد الأمرين بأولى من الآخر»(1).

بينما أشار ابن أبي الحديد إلى أن المعتزلة جميعهم قالوا بالوجوب ما عدا أبا بكر الأصم(2) الذي يرى «إنها غير واجبة إذا تناصفت الأمة ولم تتظالم». وهذا الرأي عدّه متأخرو المعتزلة قولا بالوجوب، وذلك لأن في العادة لا تستقيم امور الناس من دون رئيس يحكم(3).

وقد تباينت وجهة نظر المعتزلة حول طريق وجوب الإمامة، هل هو شرعي؟ أم عقلي؟ فالبعض من معتزلة البصرة يرى ان طريق وجوبها الشرع.

اما معتزلة بغداد وبعض من معتزلة البصرة كالجاحظ، وأبو الحسين البصري، فيرون ان طريق وجوبها العقل واتفقت معهم الإمامية(4) بذلك(5).

ص: 48


1- مسائل الإمامة ص 49
2- هو أبو بكر عبد الرحمن بن كيسان الاصم من معتزلة البصرة، يعد من الطبقة السادسة. أنظر: الملطي: التنبيه ص 39، القاضي: فضل الاعتزال ص 267، الشهرستاني: الملل 1 / 93. ابن المرتضى: طبقات المعتزلة ص 56 - 57، الداوودي: طبقات المفسرين 1 / 274
3- الشرح 2 / 308. أنظر رأي الاصم: الاشعري: مقالات الاسلاميين 2 / 133
4- ان كل الفرق الاسلامية قالت بالإمامة، ولكن لفظ (الإمامية) إذا ذكر ينصرف إلى تلك الفرقة التي حددت عدد أئمتها واسماءهم بلا زيادة ولا نقصان. وهم المعروفون بالاثني عشرية. فيما لم تحدد باقي الفرق الاسلامية عدد أئمتها. أنظر الاشعري: مقالات الاسلاميين 1 / 87 - 88 الفياض: تاريخ الإمامية ص 73 - 85
5- الشرح 2 / 308

وإذا كانت المعتزلة ترى ان الهدف من وجوب الإمامة لأن فيها مصالح دنيوية ودفع مضار دنيوية، فإن الإمامية يوجبونها على الله لأن فيها لطف وابعاد للمكلفين عن مواقعة القبائح العقلية(1).

وناقش المتكلمون: هل يجب أن يكون الامام هو الأفضل؟ أم تجوز امامة المفضول؟(2) يرى الباقلاني(3) انه «واجب أن يكون الامام أفضل الأمة».

وقد رد عليه ابن حزم قائلاً: «هذا خطأ متيقن لبرهانين؛ احدهما: إنه لا يعرف الأفضل إلا بالظن في ظاهر أمره، وقد قال تعالى:

﴿إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنيِ مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا»(4).

والثاني: ان قريشاً انتشرت في مشرق الارض وغربها وجنوبها وشمالها، ولا سبيل لمعرفة الأفضل، ويكفي بطلان قول الباقلاني؛ ان الصحابة الذين ادركوا امامة الحسن ومعاوية قالوا بها مع أن فيهم من هو أفضل من الحسن ومعاوية كسعد، وسعيد بن زيد، وابن عمر»(5).

ص: 49


1- الشرح 2 / 308. عن الإمامة أنظر: الناشىء الأكبر: مسائل الامامه ص 49. الشريف المرتضى ص 4 - 5. الطوسي: تلخيص الشافي 1 / 63 - 190
2- الاشعري: مقالات الاسلاميين 2 / 131 وما بعدها
3- أبو بكر محمد بن الطيب ولد بالبصرة ثم سكن بغداد وهو من كبار رجالات الاشاعرة ت 403 ه. أنظر: السمعاني الانساب 1 / 266. ابن الاثير: اللباب 1 / 51 - 52. النباهي: تاريخ قضاة الاندلس ص 37 - 40. الصفدي: الوافي 3 / 177. محمد عبد الله رمضان: الباقلاني ص 96 ومابعدها. بدوي: مذاهب الاسلاميين 1 / 569 - 633
4- سورة يونس، آية 36
5- الفصل في الملل 4 / 179 - 180

إن التمعن في فهم معنى آيات التطهير والمباهلة والمودة وهل أتى، وكذا أحاديث النبي صلی الله علیه و آله وسلم كحديث الثقلين، وقوله صلی الله علیه و آله وسلم: «الحسن والحسين إمامان إن قاما وإن قعدا». يقطع بأفضلية الامام الحسن على من ذكرهم فضلا عن كل الأمة بعد أبيه علیه السلام.

اما المعتزلة فقد انقسموا لقسمين:

الأول: يرى عدم جواز عقد الإمامة إلا للأفضل، لأنهم يرون انه ليس بعد النبوة منزلة أفضل من الإمامة، فكما كان النبي صلی الله علیه و آله وسلم أفضل الناس فكذلك الامام، لأن الامام هو الذي يؤدب الأمة ويعرفها معالم دينها، فلا يجوز أن يكون المؤدَّب أفضل من المؤدِب، وإلى هذا المذهب يذهب عمرو بن عبيد(1)، وإبراهيم النظام(2).

اما القسم الثاني فيرى جواز امامة المفضول مع وجود الأفضل حيث يرون ان النبي صلی الله علیه و آله وسلم ولى المفضول على الأفضل كما في تولية عمرو بن العاص في غزوة

ص: 50


1- هو صاحب واصل بن عطاء ولد في البصرة 80 ه وتوفي سنة 140 ه. أنظر: البلخي: باب ذكر المعتزلة ص 86 - 89. القاضي: فضل الاعتزال ص 242 - 250. الشهرستاني: الملل: 1 / 62. ابن خلكان: وفيات الاعيان 3 / 460 - 462. ابن المرتضى: طبقات المعتزلة ص 35 - 41. المقريزي: الخطط 2/ 346
2- أحد معتزلة البصرة، سمي بالنظّام لاشتغاله بنظم الخرز. له آراء ومؤلفات فلسفية ويعد فيلسوف المعتزلة. أنظر: الخياط: الانتصار ص 19، 21 - 47. البلخي: باب ذكر المعتزلة ص 70 - 71. القاضي: فضل الاعتزال ص 264 - 265. ابن النديم: الفهرست ص 2 (تراجم ملحقة بآخر الكتاب). البغدادي: الفرق ص 79 - 91. الشهرستاني: الملل 1 / 67 - 81، ابن نباتة: سرح العيون ص 153 - 157. ابن المرتضى: طبقات المعتزلة ص 49 - 52. ابن تغري: النجوم الزاهرة 2 / 234. بدوي: مذاهب الاسلاميين 1 / 198 - 279

ذات السلاسل(1) على جيش فيه أبو بكر وعمر وأبو عبيدة بن الجراح، وهم أفضل منه، وتولية أسامة بن زيد على جيش فيه أبو بكر وعمر(2)، ويرون «إذا رأينا رجلاً تجمع عليه الكلمة ولم يكن ساقط العدالة، وكان معه علم بالكتاب والسنةّ، وليناه أمر الأمة، وإن كان فيهم من هو أفضل منه وأوسع علماً.

والقائلون بهذا القول واصل بن عطاء(3)، ومعتزلة بغداد قاطبة(4).

وناقش المتكلمون من هو الأفضل بعد الرسول صلی الله علیه و آله وسلم، قال ابن حزم:

«اختلف المتكلمون فيمن هو أفضل الناس بعد الانبياء علیهم السلام، فذهب بعض السنّة وبعض المعتزلة، وبعض المرجئة(5)، وجميع الشيعة إلى أن أفضل الأمة بعد

ص: 51


1- كانت في السنة السابعة للهجرة. أنظر: الشرح 6 / 319 - 320. ابن سعد: الطبقات 2/ 131. البخاري: الصحيح 5/ 68. الطبري: تاريخ 3 / 32. الحاكم: المستدرك 3/ 45. الشهرستاني: الملل 1 / 219
2- في مرض الرسول صلی الله علیه و آله وسلم. الشرح 1/ 159، 6 / 52، 17 / 183. ابن سعد: الطبقات: 2 / 249. اليعقوبي: التاريخ 2 / 103. أبو هلال العسكري: الاوائل ص 137
3- ينسب إليه تأسيس الاعتزال. وكان ألثغ بالراء ومع ذلك كان يلقي الخطب البليغة الخالية من الراء. وهو أول من قال بالمنزلة بين المنزلتين. أنظر: ابن عطاء: الخطبة الخالية من الراء، نوادر المخطوطات 2 / 118 - 136. البلخي: باب ذكر المعتزلة ص 64 - 68. ابن النديم: الفهرست ص 10 (تراجم ملحقة بآخر الكتاب). البغدادي: الفرق ص 70 - 72. الشهرستاني: الملل 1 / 57 - 62. ابن المرتضى: طبقات المعتزلة ص 28 - 35. بدوي: مذاهب الاسلاميين 1 / 73 - 96
4- الناشئ الأكبر: مسائل الإمامة ص 51 - 52. أنظر الاشعري: مقالات الاسلاميين 2 / 134. ويوافقهم الزيدية. الشهرستاني: الملل 1 / 208
5- هي فرقة كلامية ناقشت مسألة الإيمان والعمل ويرى اصحابها انه مثلما لا ينفع مع الكفر طاعة لا يضر مع الإيمان معصية. أنظر: الملطي: التنبيه ص 43 - 47، 146 - 156، البغدادي: الفرق بين الفرق ص 122 - 125، الشهرستاني: الملل 1 / 181 - 195

رسول الله صلی الله علیه وسلم علي بن أبي طالب رضی الله عنه وقد روينا هذا القول نصاً عن بعض الصحابة رضی الله عنه وعن جماعة من التابعين والفقهاء.

«وذهبت الخوارج كلها وبعض أهل السنةّ، وبعض المعتزلة، وبعض المرجئة، إلى أن أفضل الصحابة بعد الرسول أبو بكر ثم عمر، وروينا عن أبي هريرة ان أفضل الناس بعد الرسول صلی الله علیه وسلم جعفراً ثم حمزة، وروينا عن نحو عشرين من الصحابة «اكرم الناس على الرسول صلی الله علیه وسلم علي والزبير»(1).

ثم قال: «والذي نقول به، وندين لله تعالى به، ونقطع على أنه الحق عند الله عز وجل: ان أفضل الناس بعد الانبياء علیهم السلام نساء رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم ثم أبو بكر»(2).

حيث يرى ان أفضل الناس بعد الرسول صلی الله علیه و آله وسلم هم الصحابة لأن فضيلة الصحبة لها فضل عظيم، ولما كانت نساء النبي صلی الله علیه و آله وسلم، قد اشتركن في الصحبة، وزدن بفضيلة الأمومة (أمهات المؤمنين)، ثم كونهن زوجات الرسول صلی الله علیه و آه وسلم، وهذا يعني انهن معه في الدنيا والآخرة، لذا اصبحن هن الأفضل(3).

واوضح البغدادي رؤية الاشاعرة الذين «قالوا بتفضيل أبي بكر وعمر على من بعدهما، وإنما اختلفوا في التفاضل بين علي وعثمان...»(4).

أما بالنسبة إلى المعتزلة فقد تعددت وجهة نظرها بتعدد مدارسها فمدرسة

ص: 52


1- الفصل 4 / 181
2- الفصل 4 / 181
3- الفصل 4 / 183
4- الفرق بين الفرق ص 211

البصرة تنقسم على عدة اقسام:

القسم الأول: يرى أفضلية الخلفاء حسب تسلسلهم بالخلافة.

القسم الثاني: يرى أفضلية أبي بكر ثم عمر ثم علي ثم عثمان.

القسم الثالث: يرى أفضلية أبي بكر ثم عمر ثم عبد الرحمن بن عوف ثم عثمان.

القسم الرابع: يتوقف في القول الافضلية بين أبي بكر والإمام علي علیه السلام.

القسم الخامس: يرى أفضلية الإمام علي علیه السلام ثم أبي بكر ثم عمر ثم عثمان.

فبالنسبة إلى القسم الأول دليلهم «ان اصحاب النبي صلی الله علیه وسلم قدموه (أبو بكر) في الإمامة على سائر الناس، قالوا: ووجدنا المفضول لا يتولى على الفاضل إلا بإحدى خصلتين: إما بأن يغلب المفضول الأمة على أمرها، ويتولى على الفاضل، والناس لذلك كارهون، وأما بأن يكون الذين يتولون اختيار الامام غير مناصحين للامة ولا ناظرين ولا محتاطين في حسن الاختيار لإمام يرعاها فينحرفون عن الفاضل البارع إلى المفضول الناقص، وقالوا: كما وجدنا امامة أبي بكر قد زال عنها هذان الأمران وذلك انه لم يستكره الأمة، ولم يغلبها على الإمامة، ولو كان ذلك لجاءت الاخبار به، وكان الذين عقدوا امامته خيار الخلق والحجة، وهم الذين الرسول لآدابه، وباجتماع منهم عليه، وقد قال النبي (صلى الله عليه [وآله] وسلم): ولم تكن امتي لتجتمع على ضلالة(1). علماً إن أبا بكر إنما عقد المسلمون له الإمامة لأنه افضلهم عندهم. وقالوا مثل ذلك

ص: 53


1- اخرجه أبو داود: السنن 4 / 98. ابن الطيب: المعتمد 2/ 471، 475 - 6، 480، 483 - 484، 491 492، 496، 499، 502، 515. الشهرستاني: الملل 2/ 37

في عمر، أنه أفضل الناس بعد بيعة أبي بكر، وأن عثمان أفضل الناس بعد عمر في الوقت الذي ولي إلى سنة ست من خلافته… واثبتوا امامة علي فقالوا: كان أفضل الناس في الوقت الذي عقد له الخلافة…»(1).

اما القسم الثاني فهو رأي واصل بن عطاء حيث قدم الإمام علياً على عثمان بالافضلية لتوقف واصل في احداث الفتنة(2).

وانفرد أبو بكر الاصم في القسم الثالث بإثباته أفضلية عبد الرحمن بن عوف بعد أبي بكر وعمر، وتقديمه على عثمان، لأنه يرى ان عبد الرحمن ازهد الناس، فيما لم يثبت أي امامة للامام علي علیه السلام وذلك «ان بيعته عن غير شورى، وأن اكفائه ونظرائه في الفضل نازعوه وأبوا أن يسلموه الإمامة فحاربهم، قال: والامامة لا تعقد بالسيف، وإنما تعقد لمن تمد إليه الاعناق طوعاً بعد النظر والتشاور ورضى الأمة، واجتماع الكلمة. وصوب معاوية في حربه علياً ومنعه من الشام لأن عمر ولى معاوية ثم اثبته عثمان، وهما امامان. فلما قتل عثمان كان على معاوية ألا يسلم الشام إلا إلى أمام مفترض الطاعة، فإذا أراد ذلك الامام أن يأخذ الشام بالقوة وجب على معاوية محاربته...»(3).

أما القسم الرابع فقد توقفوا في القول بالتفضيل بين أبي بكر وعمر وبين الإمام علي علیه السلام، ومن هؤلاء أبو الهذيل العلاف(4) الذي يعد المؤسس الثاني

ص: 54


1- الناشئ الأكبر: مسائل الإمامة ص 52 - 53
2- الشرح 1 / 8. القاضي: شرح الاصول الخمسة ص 767. المغني 20 / 2 / 114
3- الناشئ الأكبر: مسائل الإمامة ص 59 - 60
4- هو محمد بن الهذيل العلاف (125 - 235): لقب بالعلاف لأن داره في العلافين بالبصرة. أنظر ترجمته: الخياط: الانتصار ص 15 - 21، 56 - 59، 80 - 83، 90 92، 113 - 114، 115 - 117، 120 - 121. البلخي: باب ذكر المعتزلة ص 69 - 70. الملطي: التنبيه ص 38 - 39. القاضي: فضل الاعتزال: ص 254 - 263. ابن النديم: الفهرست ص 1- 2 (تراجم ألحقت في آخر الكتاب). البغدادي: الفرق ص 73 - 79. الشهرستاني: الملل 1 / 62 - 67. ابن خلكان: وفيات الأعيان 4 / 265 - 267. اليافعي: مرآة الجنان 2 / 116. ابن المرتضى: طبقات المعتزلة ص 44 - 49. ابن حجر: لسان الميزان 5 / 41، 414

للاعتزال بعد واصل، هو وان توقف بين أبي بكر وعمر والإمام علي، فإنه يقطع بتفضيل الإمام علٍي على عثمان(1).

ومن الذاهبين إلى التوقف أيضاً - أبو هاشم عبد السلام بن أبي علي الجبائي(2) - (247 - 321 ه) وهو من متأخري معتزلة البصرة، وقد عدّه القاضي في الطبقة التاسعة من طبقات المعتزلة.

كان يرى في التفضيل بأنه لو صح خبر الطائر(3) لوجب القطع بأفضلية

ص: 55


1- الشرح 1 / 8. ابن حجر: لسان الميزان 5 / 413 - 414
2- أنظر ترجمته: الملطي: التنبيه ص 40. القاضي: فضل الاعتزال ص 304 - 8. الهمذاني: تكملة تاريخ الطبري ص 278 - 279. ابن النديم: الفهرست ص 247. البغدادي: الفرق بين الفرق ص 111 - 119. الشهرستاني: الملل 1 / 98 - 108. السمعاني: الانساب 3 / 187 - 188. ابن الاثير: اللباب 1 / 157. ابن المرتضى: طبقات المعتزلة ص 94 - 96. المقريزي: الخطط 2 / 348. ابن حجر: لسان الميزان 4 / 16
3- أشارت كتب الحديث انه اهدي للنبي صلی الله علیه و آله وسلم طائر مشوي فقال: اللهم ائتني بأحب الخلق اليك يأكل معي هذا الطائر فجاء علي بن أبي طالب علیه السلام. اخرجه: الجاحظ: رسائل الجاحظ السياسية ص 231، 220 - 232. الترمذي: صحيح 12 / 170. البلاذري: انساب 2 / 142. النسائي: خصائص ص 51 - 52. ديوان الصاحب بن عباد ص 35، 44. ابن اخي تبوك: مناقب علي ابن أبي طالب ص 435. الحاكم: المستدرك 3 / 142 - 143. الخطيب: تاريخ بغداد 3 / 171. ابن المغازلي: المناقب ص 156 - 175. الخوارزمي: المناقب ص 59 - 65. سبط ابن الجوزي: تذكرة ص 38 - 39. محب الدين: الرياض النظرة 2 / 211 - 212. الجويني: فرائد السمطين 1 / 209 - 215، 322. ابن تيمية: منهاج السنة 3 / 13. ابن كثير: البداية والنهاية 7 / 351 - 354. وقال في نهاية حديثه عنه: «وقد جمع الناس في هذا الحديث مصنفات مفردة منهم أبو بكر ابن مردويه، والحافظ أبو طاهر محمد بن احمد بن حمدان، فيما رواه شيخنا أبو عبد الله الذهبي، ورأيت فيه مجلداً في جمع طرقه وألفاظه لأبي جعفر بن جرير الطبري المفسر صاحب التاريخ، ثم وقفت على مجلد كبير في رده وتضعيفه سنداً و متناً للقاضي أبي بكر الباقلاني المتكلم. وبالجملة ففي القلب من صحة هذا الحديث نظر، وإن كثرت طرقه والله أعلم». البداية والنهاية 7 / 354

الإمام علي علیه السلام ولكنه لما لم يصح، لذا لم يعلم فضل أحدهما لأن الاعمال لا تبنى على فضل الانسان إذا لم يعلم المغيب من حالة، فإذا فقدنا الدلالة وجب التوقف(1).

ومن المتوقفين أيضاً أبو الحسين محمد بن علي بن الطيب البصري، كان حسن العبارة غزير المادة، وله تصانيف في اصول الفقه منها - المعتمد(2) - وهو كتاب كبير، واصبح هذا الكتاب مع كتاب المستصفى للغزالي(3) مصدراً لفخر الدين الرازي(4) في تأليفه لكتاب المحصول(5) وتوفي سنة 436 ه(6).

ص: 56


1- القاضي: المغني 20 / 2 / 119 - 120
2- طبع بجزئين في دمشق 1964
3- كتاب في علم الاصول وقد طبع بجزأين في بيروت سنة 1322
4- أحد كبار المفسرين وصاحب مفاتح الغيب ولد في سنة 544 ه وتوفي في سنة 606 ه. تنظر ترجمته: ابن خلكان: وفيات 4 / 248 - 52. الذهبي: العبر 3 / 142. السبكي: طبقات الشافعية 5 / 33 - 40. ابن كثير: البداية والنهاية 13 / 55 - 56
5- كتاب في علم اصول الفقه. وقد طبع في جدة سنة 1399 ه. أنظر: صالحية: المعجم الشامل 3 / 21
6- الشرح 1 / 9. الخطيب: تاريخ بغداد 3 / 100. الحاكم: الطبقتان الحادية عشرة والثانية عشرة من كتاب سرح العيون، ص 837. ابن خلكان: وفيات 4 / 271. الصفدي: الوافي 4 / 125. اليافعي: مرآة 4 / 57

اما القسم الخامس من معتزلة البصرة فهم الذاهبون لتفضيل الإمام علي علیه السلام وسنشير إليهم فيما بعد(1).

أما بالنسبة لمعتزلة بغداد فقد اجمعت على القول بأفضلية الإمام علي علیه السلام على سائر الأمة بعد الرسول صلی الله علیه و آله وسلم. ومن أشهر رجالاتها:

أولاً: بشر بن المعتمر الهلالي(2) ت 210 ه:

يعد مؤسس مدرسة بغداد المعتزلية. كانت ولادته ونشأته في الكوفة، ثم انتقل للبصرة لدراسة الاعتزال على يد رجالات معتزلة البصرة، ثم ذهب لبغداد مؤسساً الاعتزال البغدادي، وقد تتلمذ على يديه كبار معتزلة بغداد كأحمد بن أبي دؤاد الذي كان له الدور الأكبر في مسألة المحنة(3).

كان بشر أول من قال بالتفضيل ومنه سرى القول إلى معتزلة بغداد وبعض من معتزلة البصرة(4).

ص: 57


1- الشرح 1 / 7 - 8. وانظر رؤية الزيدية القائلين بأفضلية الإمام علي علیه السلام أيضاً: الجاحظ: استحقاق الإمامة ص 184. الملطي: التنبيه ص 34. الصاحب بن عباد: نصره ص 84 - 129
2- أنظر ترجمته: البلخي: باب ذكر المعتزلة ص 72 - 73. الملطي: التنبيه ص 38. القاضي: فضل الاعتزال ص 265 - 266. البغدادي: الفرق ص 94 - 96. ابن المرتضى: طبقات المعتزلة ص 52 - 54. المقريزي: الخطط 2 / 346، ابن حجر: لسان الميزان 2 / 33. الداوودي: طبقات المفسرين 1 / 117
3- أنظر تفاصيل المحنة: الراوي: ثورة العقل ص 203 - 238
4- الشرح 3 / 288 - 289

يقول الناشئ الأكبر: «قال بشر بن المعتمر ومن قال بقوله: كان علي أفضل بعد النبي (صلعم) وكان أبو بكر يليه في الفضل، إلاّ ان قريشاً كانت أميل إلى أبي بكر منها إلى علي لأنّ عليّاً كان قد وتر منها وقتلها في غزوات النبي (صلعم)، فكره اصحاب محمد أن يولّوا علياً فتختلف الكلمة، فولوا أبا بكر وكان دونه في الفضل غير ان تخلفه عنه لم يكن يقعد به عن أن يكون مضطلعاً بالإمامة. قالوا: وكان أبو بكر في تلك الحال اصلح للامة على هذه العلة»(1).

وأضاف: «واحتجوا في ذلك ان عليّاً كان أفضل الناس بعد النبي (صلعم) بأن قالوا: إنا وجدنا الفضل في الدين إنما ينال بالعلم والعمل، فلما اعتبرنا علم اصحاب النبي (صلعم) وعلمهم على ما تناهت به الاخبار إلينا عنهم وجدنا علياً ارجحهم علماً وافضلهم عملاً، وذلك إنا إذا قلنا: من كان اقدم المسلمين إسلاماً؟ قالوا: علي، وقال قوم: أبو بكر، وقال قوم: زيد، وقال قوم: خباب.

فقلنا لا أقل من أن نجعل علياً واحداً من هؤلاء، فلا نقضي له بأنه اقدمهم إسلاماً، ولا عليه بأن إسلامه متأخر عنهم، وإن كانت الاخبار في أن علياً كان اقدمهم إسلاماً أشهر وأكثر.

وإذا قلنا من كان أعظم اصحاب رسول الله (صلعم) جهاداً وأقتلهم للأكفاء واشدهم بذلا لمهجته في الحرب؟ فالقائلون: علياً والزبير وعمر وأبو دجانة والبراء بن مالك، غير أنهم قد اجمعوا أن لعلي من الأكفاء والأقران ما ليس لأحد منهم. فقلنا: لا أقل من أن نجعله رجلاً من هؤلاء ولا يحتسب بما له من الفضل عليهم وإذا قلنا من كان أعلم اصحاب رسول الله (صلعم)؟ قال

ص: 58


1- الناشئ الأكبر: مسائل الإمامة ص 56

قوم: معاذ بن جبل وعمر وعبد الله بن مسعود وعلي. غير انهم اجمعوا ان علياً يُسأل ولا يسأل، فقلنا: لا أقل من أن نجعله كأحدهم في العلم، ولا يحتسب بما جاء من الاخبار في فضله عليهم. وإذا قلنا: من كان ازهدهم في الدنيا؟ قال قوم: أبو ذر أو عمر وسلمان أو أبو الدرداء أو علي، غير انهم اجمعوا: ان علياً ملك رقاب العرب والعجم وبيوت الاموال، فكان إذا أتى المال قسمه في الناس، ولا يدخر شيئاً منه، ثم يكنس بيت المال، ويرشه، ويقول: يا صفراء، ويا بيضاء(1) غري غيري(2). وكان يقول إذا قسم الاموال بين الناس(3):

هذا جناي وخياره فيه *** إذ كل جانٍ يده إلى فيه

فقلنا: لا أقل من أن يكون علي كأحدهم، قالوا: فلما رأينا علياً شارك كل ذي فضل من اصحاب رسول الله (صلعم)، وبان هو بفضائل لم يشركوه فيها علمنا انه أفضل الناس بعد النبي (صلعم). فوجب علينا أن نفضله على سائر أصحاب النبي (صلعم)»(4).

ص: 59


1- الصفراء (الذهب) أي الدنانير، والبيضاء (الفضة) أي الدراهم
2- ابن قتيبة: عيون الأخبار 1 / 53. الشريف الرضي: نهج البلاغة ص 480. البلوي: ألف باء 1 / 223. الثعالبي: التمثيل والمحاضرة ص 30. ابن الجوزي: صفة الصفوة 1 / 314 - 315. سبط ابن الجوزي: تذكرة ص 110
3- أنشده عمرو بن عدي الذي كان يخرج مع خدم خاله الملك جذيمة الابرش، لاجتناء الكمأة، فكان الآخرون إذا وجدوا كمأة جيدة اكلوها، أما هو فلا، وحين يعود يردد هذا البيت. أنظر: ابن قتيبة: عيون الاخبار 1 / 53. ابن عبد ربه: العقد الفريد 4 / 312. ابن عبد البر: الاستيعاب 3 / 1114. الميداني: مجمع الامثال 2 / 397. ابن الجوزي: صفة الصفوة 1 / 314
4- الناشئ الأكبر: مسائل الإمامة ص 56 - 57. وانظر الجاحظ: رسالة استحقاق الإمامة ص 179 - 181

ويؤكد بشِر أن الإمام علياً علیه السلام أشجع وأسخى الصحابة لذلك استحق التفضيل(1).

وكان بِشر بن المعتمر قد ألّف كتاباً في الرد على أبي بكر الاصم، حيث يخطئ الأخير الإمام علياً علیه السلام، ولا يرى له امامة أصلاً(2).

ثانياً: أبو موسى عيسى بن صبيح ت 226 ه(3).

أخذ الاعتزال عن استاذه بشر بن المعتمر، حتى أن آراءه تحاكي آراء استاذه، وتولى رئاسة معتزلة بغداد بعد وفاته، وقد تخرج على يديه الجيل التالي من كبار معتزلة بغداد كجعفر بن حرب(4) وجعفر بن مبشر، وقد انتشر الاعتزال البغدادي في ايامه بكثرة، وكان أبو موسى يتميز بالورع والزهد حتى سمي - الناسك - وعرف «براهب المعتزلة «وكان على نسق معتزلة بغداد في القول بأفضلية الإمام علي علیه السلام(5).

ثالثاً: جعفر بن مبشر بن احمد بن محمد الثقفي ت 234 ه(6)

ص: 60


1- الشرح 3 / 288 - 289
2- الراوي: ثورة العقل ص 106
3- أنظر ترجمته: الخياط: الانتصار ص 53 - 56، 59، 73 - 74. البلخي: باب ذكر المعتزلة ص 74. الملطي: التنبيه ص 38. القاضي: فضل الاعتزال ص 277 - 279. البغدادي: الفرق ص 100 - 101. الشهرستاني: الملل 1 / 88 - 89. ابن المرتضى: طبقات المعتزلة: ص 70 - 71. المقريزي: الخطط 2 / 346. ابن حجر: لسان الميزان 4 / 398
4- أنظر ترجمته: البغدادي: الفرق ص 101 - 102. ابن المرتضى: طبقات المعتزلة ص 73 - 76. ابن حجر: لسان الميزان 2 / 113
5- الشرح 1 / 7
6- أنظر: الخياط: الانتصار ص 63 - 4، 67 - 8، 73 74. القاضي: فضل الاعتزال ص 283. البغدادي: الفرق ص 101 - 102. الخطيب: تاريخ بغداد 7 / 162. ابن المرتضى: طبقات المعتزلة ص 76 - 77. ابن حجر: لسان الميزان 2 / 121

كان تلميذ أبي موسى مع زميله جعفر بن حرب حتى عرفا بالجعفريان، وكان يرتزق ببيع القصب لذلك عرف بالقصبي، عاش عيشة زهد كأكثر معتزلة بغداد، وكان من القائلين بأفضلية الإمام علي علیه السلام(1).

رابعاً: أبو جعفر الاسكافي(2) ت 240 ه:

هو محمد بن عبد الله، عدّه القاضي في الطبقة السابعة من طبقات المعتزلة، درس على يد جعفر بن حرب حتى بلغ مبلغاً من العلم في الاعتزال، وكان من أشهر معتزلة بغداد في الميل إلى تفضيل الإمام علي علیه السلام حيث «يبالغ في ذلك، وكان علوي الرأي، محققاً منصفاً، قليل العصبية»(3).

هذه الرؤية جاءت في كتابه «نقض العثمانية»(4) الذي وضعه رداً على كتاب «العثمانية» للجاحظ، وفيه أثبت الاسكافي أفضلية الإمام علي علیه السلام حيث كان «من المتحققين بموالاة علي علیه السلام، والمبالغين في تفضيله، وإن كان القول

ص: 61


1- الشرح 1 / 7. وانظر الملطي: التنبيه ص 34
2- أنظر ترجمته: الملطي: التنبيه ص 342. الخياط: الانتصار ص 19، 68 9، 74، 76، 103. البغدادي الفرق ص 102 - 103. السمعاني: الانساب 1 / 234 - 235. ابن الاثير: اللباب 1 / 45. ابن المرتضى: طبقات المعتزلة ص 78. المقريزي: الخطط 2 / 346. ابن حجر: لسان الميزان 5 / 221. الراوي: ثورة العقل ص 155 - 167. محمد السيد أبو جعفر الاسكافي: ص 7 وما بعدها
3- الشرح 17 / 132 - 133
4- ورد هذا الكتاب في شرح نهج البلاغة، وقد نشر ملحق بكتاب العثمانية للجاحظ حيث أخذه المحقق من الشرح. أنظر الجاحظ: العثمانية ص 281 - 342. وقارن الشرح 3 / 215 - 295

بالتفضيل عاماً شائعاً في البغداديين من اصحابنا كافة، إلا أن أبا جعفر كان أشدهم في ذلك قولا وأخلصهم فيه اعتقاداً»(1).

والمقصود بالأفضل عند الاسكافي «أكرمهم عند الله، وأكثرهم ثواباً وأرفعهم في دار الجزاء منزلة»(2).

والطريقة التي استخدمها الاسكافي في التوصل للافضل هي الموازنة في الاعمال بين الإمام علي علیه السلام وغيره من الصحابة وقد وضع كتاباً باسم المعيار والموازنة(3).

قال القاضي: «فإن شيخنا أبو عبد الله (الاسكافي) فإنه يقطع على أن علياً علیه السلام أفضل لأخبار يقطع بصحتها، ثم يذكر مع ذلك موازنة الاعمال، ويبين أن لفضائل امير المؤمنين مزية»(4).

ومن جملة الامور التي استدل بها الاسكافي على أفضلية الإمام علي علیه السلام(5) أولاً: حديث الطائر حيث اُهدي للنبي صلی الله علیه وسلم طائر مشوي فقال صلی الله علیه و آله وسلم: اللهم ائتني بأحب الخلق اليك ليأكل معي هذا الطائر. فجاء الإمام علي علیه السلام.

وقد استدل الاسكافي على صحة هذا الحديث بطريقتين:

الأول: ان هذه الاخبار كانت مشهورة في الصحابة، ولم يختلفوا في قبولها

ص: 62


1- الشرح 4 / 63
2- الشرح 11 / 120
3- القاضي: المغني 20 / 2 / 112. أبو حيان التوحيدي: الامتاع والمؤانسة 1 / 98. ابن المرتضى: طبقات المعتزلة ص 84
4- القاضي: المغني 20 / 2 / 120
5- القاضي: المغني 20 / 2 / 122

مع وقوع الكلام في التفضيل ولم يقع من احدهم الرد والنكير، ولم يجروه مجرى أخبار الآحاد.

الثاني: ان الإمام عليّاً علیه السلام أنشد أهل الشورى هذا الخبر مع سائر الفضائل فأقروا به. فدل على صحة الخبر.

ثم اوضح دلالته على أن الإمام عليّاً علیه السلام أفضل «لأن المحبة إذا اضيفت إلى الله تعالى لم يحتمل إلا الفضل في باب الدين فهو مخالفة للمحبة التي تضاف إلى من يجوز خلاف ذلك عليه»(1).

ثانياً: حديث «من كنت مولاه فعلي مولاه. اللهم وال من والاه وعاد من عاداه»(2).

قال الاسكافي: «وثبوته مثل ثبوت الخبر المتقدم بل اولى، وقد ثبت أنه علیه السلام جمع الناس لإظهار هذا الأمر، فلابد من أن يفيد فائدة تليق بالحال، ولا بد من

ص: 63


1- القاضي: المغني 20 / 2 / 122 - 125
2- اخرجه: احمد: المسند 5 / 347، 366. الجاحظ: رسائل الجاحظ السياسية ص 220. البلاذري: انساب 2 / 108 - 112. ابن ماجه: الصحيح 1 / 26. الترمذي: صحيح 12 / 165. النسائي: خصائص ص 64. ابن عبد ربه: العقد الفريد 4 / 311. الملطي: التنبيه ص 25. الحاكم: المستدرك 3 / 109، 116، 118 119. ابن عبد البر: الاستيعاب 3 / 1099. ابن المغازلي: مناقب علي بن أبي طالب ص 16 - 27. البلوي: ألف باء 1 / 223. الخوارزمي: المناقب ص 74 - 79. ابن الجوزي: صفة الصفوة 1 / 313. النووي: تهذيب الاسماء 1 / 1 / 347. محب الدين: الرياض 2 / 222 - 225. ابن تيمية: منهاج السنة 3 / 13. ابن كثير: البداية والنهاية 7 / 335، 339، 344 - 345. ابن حجر: الاصابة 2 / 509. السيوطي: تاريخ الخلفاء ص 196. وقد استعرض عبد الحسين الأميني هذا الحديث ومصادره التاريخية والادبية وآثاره في كتاب أسماه الغدير في أحد عشر جزءاً

أن يعرف بها، ما لم يكن معروفاً من قبل، وقد ثبت إنه لا يجوز أن يراد به الإمامة على ما قاله بعضهم. وثبت انه لن يرد به استحقاق الولاء على ما روي من ان منافرة وقعت بين علي وزيد بن حارثة في ذلك... فكيف يحمل عليه وقد قال له عمر: اصبحت مولاي ومولى كل مؤمن. وفي بعض الاخبار هنالك اصبحت مولى كل مؤمن ومؤمنة. حتى روي عن جماعة من الأنصار كأبي ايوب وغيرهم أنهم عند ذلك سلموا عليه وقالوا له: يا مولانا، وبطل أن يراد بذلك النص والموالاة، لأن ذلك كان معروفاً لأمير المؤمنين من قبل، فيجب حمله على أن المراد به أنه يليه في الفضل وأفضلهم عنده، لأن ذلك ما يجوز أن يجمع له الناس لما فيه من التشريف العظيم الذي يبين به من غيره.(1).

ثالثاً: - قوله صلی الله علیه و آله وسلم لعلي: «أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي»(2) قال الاسكافي: «أما أريد به في باب الإمامة، وقد علمنا

ص: 64


1- القاضي: المغني 20 / 2 / 125 - 126
2- اخرجه: ابن حنبل: المسند 1 / 4، 173 / 368. رسائل الجاحظ السياسية ص 220، 234 - 239. البخاري: الصحيح 5 / 90. البلاذري: انساب 2 / 96. ابن ماجه: صحيح 1 / 25 - 27. الترمذي: صحيح 12 / 171، 175. النسائي: خصائص ص 48 - 50. البهيقي: المحاسن والمساوئ ص 44. ابن عبد ربه: العقد الفريد 4 / 311. الملطي: التنبيه ص 25. الطبراني: المعجم الكبير 12 / 78. الحاكم: المستدرك 3 / 117، 144. ابن حزم: الفصل 4 / 159، 224. ابن عبد البر: الاستيعاب 3 / 1097 - 1098. المغازلي: مناقب ص 27 - 37. سبط ابن الجوزي: تذكره ص 18 - 20، 23. النووي: تهذيب الاسماء 1 / 1 / 346. الخوارزمي: المناقب ص 19، 59. محب الدين: ذخائر العقبى ص 73. الرياض 2 / 214 - 216. الجويني: فرائد السمطين ص 116، 122، 126، 317، 329. ابن كثير: البداية والنهاية 7 / 335، 339 - 342. الهيثمي: مجمع الزوائد 9 / 120. ابن حجر: الإصابة 2 / 509. تهذيب التهذيب 7 / 337. لسان الميزان 2 / 325. السيوطي: تاريخ الخلفاء ص 168. الهيثمي: الصواعق ص 118 - 119. تجدر الاشارة إلى أن هناك حديثاً مشابهاً مضمونه «أبو بكر مني بمنزلة هارون من موسى «ولقد اعتبره الذهبي موضوعاً. أنظر ميزان الاعتدال 3 / 122

خلافه أو في باب أنه خلّفه على قومه على ما روي في غزاة تبوك عند كلام المنافقين وأنه أراد أن يزيل الشبهة في أن يبين إنه خلَّفه على أمر هو أعظم أثراً من إخراجه معه في الجهاد، أو يراد بذلك في باب المؤازرة والمعاونة على ما كلف وحمل، أو يراد بذلك أن يليه في الفضل وإذا بطل باب الإمامة وجب في ما عداه أن يكون الكل مراداً بالكلام إذ كان يحتمله، لأن جميع ذلك يدخل تحت المنازل»(1).

رابعاً: - حديث المؤاخاة: آخى الرسول بين الصحابة بعد الهجرة وقال لعلي: أنت أخي(2).

هذا الدليل عدّه القاضي من أقوى الأدلة التي استدل بها القائلون بأفضلية الإمام علي علیه السلام، ومنهم الاسكافي(3).

خامساً: ما ورد في القرآن الكريم من آيات تشمل الإمام عليّاً كقوله تعالى:

ص: 65


1- القاضي المغني 20 / 2 / 126
2- الجاحظ: رسائل الجاحظ السياسية ص 220. الترمذي: صحيح 12 / 170. ابن حبيب: المحبر ص 70. الحاكم: المستدرك: 3 / 15 - 16. ابن عبد البر: الاستيعاب 3 / 1098 - 1099. ابن المغازلي: مناقب ص 37 - 39. ابن الجوزي: صفة الصفوة 1 / 312. النووي: تهذيب الاسماء 1 / 1 / 348. محب الدين: الرياض 2 / 220. الجويني: فرائد السمطين ص 116 - 121. ابن كثير: البداية والنهاية 7 / 336. السيوطي: تاريخ الخلفاء ص 166، 170، المتقي الهندي: كنز العمال 12 / 200، 203، 206 207. الهيثمي: الصواعق ص 120
3- القاضي: المغني 20 / 2 / 126 - 127

«إِّنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا»(1).

وآية المباهلة(2)، وقوله تعالى:

«وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ»(3).

أشار ابن أبي الحديد إنه وقع بيده كتاب للاسكافي يذكر فيه عقيدته في التفضيل إذ يقول: «ثم وقع بيدي بعد ذلك كتاب لشيخنا أبي جعفر الاسكافي ذكر فيه ان مذهب بشر بن المعتمر، وابي موسى، وجعفر بن مبشر، وسائر قدماء

ص: 66


1- سورة الاحزاب 33. وانظر: الترمذي: صحيح 12 / 200. النسائي: خصائص ص 49. الطبري: جامع البيان 22 / 5 - 8. البيهقي: المحاسن ص 87. الحاكم: المستدرك 3 / 158 - 160. الواحدي: أسباب النزول ص 239 - 240. ابن عبد البر: الاستيعاب 3 / 1100. ابن المغازلي: المناقب ص 301 - 307. الخوارزمي: المناقب ص 23، 73. الزمخشري: الكشاف 1 / 369. سبط ابن الجوزي: تذكرة ص 17، 233. ابن تيمية: منهاج السنة 2 / 121
2- وهي قوله تعالى: «فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ». سورة آل عمران (61). الترمذي: صحيح 11 / 126، 173. الطبري: جامع 4 / 299 - 301. البيهقي: المحاسن ص 42. الحاكم: المستدرك 3 / 163. الواحدي: أسباب النزول ص 67 - 68. ابن المغازلي: المناقب ص 263. الزمخشري: الكشاف 1 / 368 - 369. النووي: تهذيب 1 / 1 / 347. محب الدين: الرياض 2 / 248. ابن كثير: البداية 7 / 340. ابن حجر: الاصابة 2 / 509. السيوطي: تاريخ الخلفاء ص 169. الهيثمي: الصواعق ص 113، 143، 155
3- سورة الانسان آية (8). الواحدي: أسباب النزول ص 296. الزمخشري: ربيع الابرار 2 / 147 - 148. الكشاف 4 / 670. الخوارزمي: المناقب ص 192. محب الدين: الرياض 2 / 274، 302. ابن كثير: البداية والنهاية 7 / 359

البغداديين أن أفضل المسلمين علي بن أبي طالب، ثم ابنه الحسن، ثم ابنه الحسين، ثم حمزة بن عبد المطلب ثم جعفر بن أبي طالب، ثم أبو بكر بن أبي قحافة، ثم عمر بن الخطاب، ثم عثمان بن عفان»(1) سادساً: أبو الحسين الخياط(2) ت 300 ه هو عبد الرحيم بن محمد بن عثمان الخياط، تولى زعامة معتزلة بغداد، وكان قد تصدى لأحد الخارجين على الاعتزال ألا وهو ابن الراوندي(3)، فألّف ضده كتاب الانتصار.

كان الخياط ممن يقول بتفضيل الإمام علي علیه السلام إذ قال: «الاقتصاد في التشييع حق، وهو ديننا، وهو وضع علي بن أبي طالب حيث وضعه الله»(4).

ولما سئل عن أفضل الصحابة قال: «امير المؤمنين علي بن أبي طالب، لأن الخصال التي فضّل الناس بها متفرقة في الناس وهي مجتمعة فيه، وعد الفضائل فقيل: فما منع الناس من العقد له بالإمامة؟ فقال: هذا باب لا علم لي به إلا بما

ص: 67


1- الشرح 11 / 119
2- أنظر ترجمته: القاضي: فضل الاعتزال ص 296 - 297. البغدادي: الفرق ص 107 - 108. الشهرستاني: الملل والنحل 1 / 97 - 98. ابن المرتضى: طبقات المعتزلة ص 85 - 88. ابن حجر: لسان الميزان 4 / 8 - 9
3- أبو الحسين احمد بن يحيى اسحق الراوندي، عدّ من الطبقة الثامنة للمعتزلة ثم خرج عليهم وألف كتاب فضيحة المعتزلة رد به على كتاب فضيلة المعتزلة للجاحظ، فرد عليه الخياط بكتاب الانتصار. الخياط: الانتصار ص 11، 78، ابن المرتضى: طبقات المعتزلة ص 92. الخوانساري: روضات الجنات 1 / 193 - 195
4- الانتصار: ص 112

فعل الناس وتسليمه الأمر على ما امضاه عليه الصحابة لأني لما وجدت الناس قد عملوا ولم أره أنكر ذلك ولا خالف علمت صحة ما فعلوا»(1).

يمكن القول ان جواب الخياط يثير الاستغراب، إذ إن ما توصل إليه من أفضلية الإمام علي علیه السلام على سائر الأمة لم يتأت له إلا بعد استقراءه لمصادر الصدر الأول للأسلام، ومن خلال هذا الاستقراء قطع الخياط بلا نقاش بأفضلية الإمام علي علیه السلام، ولكن العجب كيف لم يجد جوابا عن سبب عدم عقد الإمامة للإمام علي علیه السلام. والحال ان المصادر واحدة فمن خلالها يتم إثبات أفضلية الإمام علي علیه السلام وأيضا يجد فيها الجواب على سبب عدم عقد الإمامة له؟!! والأشد غرابة قوله إن الامام لم ينكر ولم يخالف؟!! إذ كيف يخفى ذلك على مثل الخياط؟!! وعقب باحث معاصر على موقف الخياط هذا قائلاً: (وفي ظل هذا التفسير يسقط الخياط كل الدعوات المتطرفة التي حاول اصحابها خلق ثغرة مذهبية ضيقة في صفوف المسلمين أو إحداث الانشقاق داخل المجتمع العربي الاسلامي تحت ستار من الشعارات المحرضة.. وبهذا التفسير أيضاً يثبت أبو الحسين عقلانية الاتجاه الثوري وحيويته الذي يتجه بحركته الواعية إلى ما هو موجود وإلى ما ينبغي أن يكون بدراية نقدية تلتقط وتبوّب، تحلّل وتركّب وتستخلص نتائج تجربتها الفكرية داخل التاريخ وفي عمق حركته، لتنتفي فيما بعد كل الاتجاهات المذهبية والعنصرية المريضة، التي لم تستطع أن تنفذ إلى الحياة الاجتماعية فعاشت متطفلة على محيطها)(2).

ص: 68


1- ابن المرتضى: طبقات المعتزلة ص 86
2- الراوي: ثورة العقل ص 180 - 181

ويلاحظ ان الباحث أعلاه قد ذهب بعيدا فالسائل كان وجيهاً في سؤاله!! إذ مادام الإمام علي هو أفضل الصحابة بنظر الخياط فلماذا لم يعقدوا له الإمامة؟!! وقد يكون السائل من المعتزلة اصحاب الخياط الذي اشاد به الباحث. ولم يتضح من سؤال السائل وجواب الخياط ما هول له هذا الباحث؟!! سابعا: أبو القاسم الكعبي ت 319 ه(1):

عبد الله بن احمد بن محمود البلخي، ولد في بلخ ثم انتقل إلى بغداد ودرس على يد الخياط حتى أصبح من المتحمسين لآراء معتزلة بغداد والمدافعين عنها وكان له دور في إسلام كثير من أهل خرسان.

يرى الكعبي ان مسألة وجوب نصب الإمام عقلية وليست سمعية أي حتى لو لم ينص على نصب إمام فإنه يجب على المسلمين أن ينصّبوا إماما لأن مصلحة المسلمين الدينية تقتضي ذلك(2).

اما في التفضيل فيذهب إلى أن الإمام علياً علیه السلام (لو نازع عقيب وفاة رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم، وسل سيفه لحكمنا بهلاك كل من خالفه وتقدم عليه كما حكمنا بهلاك من نازعه حين أظهر نفسه، ولكنه مالك الأمر وصاحب الخلافة إذا طلبها،

ص: 69


1- أنظر ترجمته: الهمذاني: تكملة تاريخ الطبري ص 271. القاضي: فضل الاعتزال ص 297. البغدادي: الفرق ص 108 - 110. الخطيب: تاريخ بغداد 9 / 384، ابن الجوزي: المنتظم 6 / 238، ابن خلكان: وفيات الاعيان 3 / 45. الذهبي: العبر 2 / 4، ابن كثير: البداية 11 / 164، المقريزي: الخطط 2 / 348، ابن حجر: لسان الميزان 3 / 255 - 256. ابن قطلو بغا: تاج التراجم ص 31. القرشي: الجواهر المضية 1 / 271، المشهداني: فلسفة أبو القاسم الكعبي: رسالة دكتوراه غير منشورة
2- القاضي: شرح الاصول الخمسة ص 758 - 759

وجب علينا القول بتفسيق من ينازعه فيها، وإذا امسك عنها وجب علينا القول بعدالة من اغضى له عليها، وحكمه في ذلك حكم رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم، لأنه قد ثبت عنه في الاخبار الصحيحة انه قال: علي مع الحق، والحق مع علي يدور حيثما دار(1)، وقال غير مرة: حربك حربي، وسلمك سلمي(2))(3).

ان القول بالتفضيل لدى معتزلة بغداد نجده قد سرى فيما بعد إلى متأخري معتزلة البصرة فممن قال بالتفضيل منهم:

أولاً: أبو علي الجبائي (235 - 303 ه)(4)

ص: 70


1- اخرجه الترمذي: صحيح 12 / 166. الحاكم: المستدرك 3 / 119، 124، 135. ابن الطيب: المعتمد 2 / 945 - 946. الخطيب: تاريخ بغداد 14 / 321. الخوارزمي: المناقب ص 56 - 57. الزمخشري: ربيع الابرار 1 / 828. الجويني: فرائد السمطين 1 / 177. الهيثمي: مجمع الزوائد 7 / 236
2- ابن حنبل: المسند 2 / 442. الطبراني: المعجم الكبير 3 / 40. الحاكم: المستدرك 3 / 161. الخطيب: تاريخ بغداد 7/ 137. ابن المغازلي: مناقب ص 63 - 64. الخوارزمي: المناقب ص 76 - 91. محب الدين: الرياض النظرة 2 / 249. ابن تيمية: منهاج السنة 2 / 231. ابن كثير: البداية والنهاية 8 / 36. ابن حجر: الصواعق ص 142
3- الشرح: 2 / 296 - 297
4- أنظر ترجمته: الملطي: التنبيه ص 39 - 40. ابن النديم: الفهرست ص 6 (تراجم ملحقة بآخر الكتاب). الهمذاني: تكملة تاريخ الطبري ص 208 - 209. القاضي: فضل الاعتزال ص 287 - 296. البغدادي: الفرق ص 110 - 111. الشهرستاني: الملل والنحل 1 / 98 - 108. السمعاني: الانساب 3 / 187. ابن الاثير: اللباب: 1 / 208. ابن خلكان: وفيات 4 / 267 - 269. الصفدي: الوافي 4 / 74 - 75. ابن كثير: البداية 11 / 125. ابن المرتضى: طبقات المعتزلة ص 94 - 96. المقريزي: الخطط 2 / 348. ابن حجر: لسان الميزان 5 / 271

محمد بن عبد الوهاب ولد في جبا(1)، ثم رحل إلى البصرة والتقى بأبي يعقوب الشحام(2) الذي انتهت إليه رئاسة معتزلة البصرة، وبعد وفاة الشحام ترأس الجبائي معتزلة البصرة وبغداد، وقد عرف بغزارة انتاجه العلمي سواء في التفسير أو الفقه أو الكلام، وقد عدّه القاضي في الطبقة الثامنة من طبقات المعتزلة.

كان في البدء متوقفا في تحديد الأفضل وهذا يتضح مما جاء به القاضي(3)، وإن (كان يميل إلى التفضيل ولا يصرح به، وإذا صنف ذهب إلى الوقف في مصنفاته، وقال في كثير من تصانيفه: إن صح خبر الطائر فعلي أفضل، ثم أن قاضي القضاة رحمه الله ذكر في شرح المقالات(4) لأبي القاسم البلخي، إن أبا علي رحمه الله ما مات حتى قال بتفضيل علي علیه السلام وقال: إنه نقل ذلك عنه سماعا ولم يوجد في شيء من مصنفاته وقال أيضا: إن أبا علي رحمه الله يوم مات استدنى ابنه أبا هاشم إليه، وكان قد ضعف عن رفع الصوت، فألقى إليه اشياء من جملتها القول بتفضيل علي علیه السلام(5).

ص: 71


1- تقع جنوبي خوزستان. ياقوت الحموي: معجم البلدان 2 / 97
2- يوسف بن عبد الله أحد معتزلة البصرة، توفي سنة 267 ه، أنظر الملطي: التنبيه ص 39. القاضي: فضل الاعتزال ص 280 - 281. البغدادي: الفرق ص 107. ابن المرتضى: طبقات المعتزلة ص 71 - 72
3- المغني 20 / 2 / 114، 117 - 8، 125 133
4- ألّفه سنة 279 ه، وطرح فيه وجهة نظر الاعتزال، أنظر ابن المرتضى: طبقات المعتزلة ص 89، حاجي خليفة: كشف الظنون 2 / 1782
5- الشرح: 1 / 7 - 8

وقال القاضي: إن البعض لجهلهم بأبي علي الجبائي يرمونه بالنصب (وكيف وقد نقض كتاب عبّاد(1) في تفضيل أبي بكر ولم ينقض كتاب الاسكافي المسمى المعيار والموازنة، في تفضيل علي على أبي بكر)(2).

ثانيا: الشيخ المرشد أبو عبد الله الحسين بن علي البصري(3) ت 367 ه:

من فقهاء ومتكلمي مدرسة معتزلة البصرة وهو من تلامذة أبي هاشم الجبائي، وعدّه القاضي في الطبقة العاشرة من طبقات المعتزلة، وكان يميل إلى الإمام علي علیه السلام ميلا عظيما، وصنف كتاب التفضيل وأحسن فيه غاية الاحسان(4).

قال ابن أبي الحديد: كان متحققا بتفضيله ومبالغاً في ذلك، وصنف فيه كتاباً مفرداً(5).

ولما سُئِلَ: أتجد في النصوص ما يدل على تفضيل علي علیه السلام، بمعنى كثرة الثواب لا بمعنى كثرة مناقبه، فإن ذلك أمر مفروغ منه؟ فذكر حديث الطائر

ص: 72


1- عباد بن سليمان من تلامذة هشام الفوطي، وله كتاب الابواب الذي نقضه أبو هاشم الجبائي وكتاب تفضيل أبي بكر وردّ عليه الجبائي أيضاً. الملطي: التنبيه والرد ص 39. ابن النديم: الفهرست ص 247، ابن المرتضى: طبقات المعتزلة ص 77 - 78، 84، 101. ابن حجر: لسان الميزان 3 / 229 - 230
2- ابن المرتضى: طبقات المعتزلة ص 84
3- أنظر ترجمته: ابن النديم: الفهرست ص 248. القاضي: فضل الاعتزال ص 325 - 328. أبو حيان: الامتاع والمؤانسة 1 / 140. ابن الجوزي: المنتظم 7 / 101. ابن المرتضى: طبقات المعتزلة ص 105 - 107. ابن حجر: لسان الميزان 2 / 303. اللكنوي: الفوائد البهية ص 67. الداوودي: طبقات المفسرين 1 / 159
4- ابن المرتضى: طبقات المعتزلة ص 107
5- الشرح: 1 / 8

المشوي، إذ ان المحبة من الله إرادة الثواب، فقيل له: قد سبقك الشيخ أبو علي رحمه الله تعالى إلى هذا فهل تجد غير ذلك؟ فقال: نعم! قوله تعالى:

«إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ اَّلذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَّنَهُمْ بُنَيَانٌ مَرْصُوصٌ»(1).

فإذا كان أصل المحبة لمن ثبت كثبوت البنيان المرصوص فكل من زاد ثباته زادت المحبة له، ومعلوم أن عليا علیه السلام ما فرّ في زحف قط، وفرَّ غيره في غير موطن(2).

ثالثاً: قاضي القضاة أبو الحسن عبد الجبار بن احمد الهمداني(3) ت 415 ه:

«وهو الذي فتق علم الكلام، وتكلم في دقيقه وجليله، وإليه انتهت رئاسة المعتزلة وصار المعتمد على كتبه ومسائله»(4).

ومن خلال ما جاء في كتاب المغني يتضح انه كان متوقفا(5) ويقول مانكديم تلميذ القاضي (وقد كان قاضي القضاة يتوقف في الأفضل من هؤلاء

ص: 73


1- سورة الصف آية 4
2- الشرح: 3 / 264
3- أنظر ترجمته: الجشمي: الطبقتان الحادية عشرة والثانية عشرة من كتاب سرح العيون ص 365 - 375. الذهبي: العبر 2 / 229. اليافعي: مرآة الجنان 3 / 29. ابن المرتضى: طبقات المعتزلة ص 112 - 113. ابن حجر: لسان الميزان 3 / 386 - 387. الداوودي: طبقات المفسرين 1 / 262 - 263. بدوي: مذاهب الاسلاميين 1 / 380 - 484. عثمان: قاضي القضاة عبد الجبار ابن احمد الهمداني ص 11، وما بعدها. االراوي: القاضي عبد الجبار ص 28 - 60، البطاط: قاضي القضاة ص 12 - 176
4- ابن المرتضى: طبقات المعتزلة ص 112 - 113
5- المغني: 20 / 2 / 112 - 144

الاربعة كالشيخين إلى أن شرح هذا الكتاب (شرح الاصول الخمسة) فقطع على أن أفضل الصحابة امير المؤمنين علي علیه السلام)(1).

وقال ابن أبي الحديد: (ذكر ابن متويه في كتاب الكفاية(2) في علم الكلام إنه كان من المتوقفين بين علي علیه السلام وابي بكر ثم قطع على تفضيل علي علیه السلام بكامل المنزلة)(3).

رابعاً: ابن متويه:

هو أبو محمد الحسن بن احمد بن متويه(4) ت 469 ه من معتزلة البصرة، تتلمذ على يد القاضي عبد الجبار وله عدة مؤلفات في الكلام، أكد في كتابه الكفاية على تفضيل الإمام علي علیه السلام (واحتج لذلك وأطال في الاحتجاج)(5).

خامسا: أبن أبي الحديد يؤكد ابن أبي الحديد ان اعتقاده كاعتقاد سائر معتزلة بغداد في إثبات أفضلية الإمام علي علیه السلام ويقول: (وقد ذكرنا في كتبنا الكلامية ما معنى الأفضل؟ وهل المراد به الأكثر ثوابا أم الأجمع لمزايا الفضل والخصال الحميدة؟ وبيّنا أنه علیه السلام أفضل على التفسيرين معا)(6).

ص: 74


1- شرح الاصول الخمسة ص 767
2- من الكتب المفقودة حيث لم يشر إليه حاجي خليفة في كشف الظنون 2 / 1496 - 1502. ولا صالحيه: المعجم الشامل 5 / 24
3- الشرح: 1 / 8
4- أنظر ترجمته: الجشمي: الطبقتان ص 389. ابن المرتضى: طبقات المعتزلة ص 119، صبحي: في علم الكلام 1 / 272
5- الشرح: 1 / 8
6- الشرح: 1 / 9

والملاحظ ان ابن أبي الحديد افتتح شرحه لنهج البلاغة بالحديث عن القول في التفضيل(1)، وأخذ يؤكد على هذه المسألة في ثنايا كتابه كلما سنحت الفرصة محاولا إثبات صحة ما يذهب إليه معتزلة بغداد في القول بالتفضيل وقد كان هذا الإجماع من معتزلة بغداد وكثير من معتزلة البصرة مثار اعجابه وسروره فعد ذلك أعدل المذاهب(2) حيث يقول: (فأعجبني هذا المذهب وسررت به بأن ذهب الكثير من شيوخنا إليه، ونظمته في الأرجوزة التي شرحت بها عقيدة المعتزلة فقلت(3):

وخيرُ خلقِ اللهِ بعدَ المصطفى *** وخيرُ خلقِ اللهِ بعدَ المصطفى

بعلُ البتولِ المرتضى علي *** أعظمهم يومَ الفخارِ شرفا

وابناه ثمَّ حمزةٌ وجعفرٌ *** ثم عتيقٌ بعدهُم لا ينكرُ

المخلصُ الصديقُ ثم عمرُ *** فاروقُ دينِ اللهِ ذاكَ القسورُ

وبعدَهُ عثمانُ ذو النورينِ *** هذا هو الحقُ بغيرِ مين

وأكد ابن أبي الحديد ان القول بتفضيل الإمام علي علیه السلام كان معروفا لدى البعض من كبار الصحابة والتابعين، فمن الصحابة عمّر بن ياسر والمقداد(4) وأبو ذر الغفاري وسلمان المحمدي وجابر بن عبد الله الانصاري(5) وأبُی بن

ص: 75


1- الشرح: 1 / 7 - 9
2- الشرح: 2 / 297
3- الشرح: 11 / 120
4- هو المقداد بن عمرو الكندي، هاجر متخفيا بعد الهجرة ونال حظوة لدى الرسول صلی الله علیه و آله وسلم، توفي سنة 33 ه. الطبري: المنتخب ص 506. ابن عبد البر: الاستيعاب 4 / 1480 - 1482
5- لم يشهد بدرا لأنّه صغير وشهد سائر المشاهد واشترك في صفين مع الإمام علي علیه السلام، توفي سنة 74 ه. الطبري: المنتخب ص 526. الكشي: رجال ص 42 - 45. ابن عبد البر: الاستيعاب 1 / 220

كعب(1) وحذيفة بن اليمان(2) وبريده بن الحصيب الاسلمي(3) وأبو ايوب الانصاري(4) وسهل بن حنيف(5) وعثمان بن حنيف(6) وأبو الهيثم بن التيهان(7)........................................................

ص: 76


1- انصاري شهد العقبة الثانية وهو من قرّاء الصحابة مات في خلافة عمر أو عثمان بن سعد: الطبقات 2 / 340 - 341. مسلم: الصحيح 16 / 19. الجهشياري: الوزراء والكتاب ص 12. ابن النديم: الفهرست ص 40 - 41. ابن عبد البر: الاستيعاب 1 / 65 - 67. الذهبي: معرفة القراء الكبار 1 / 32
2- كان يسمى صاحب سر المنافقين، وهو أحد الأنصار مات سنة 36 ه. الطبري: المنتخب ص 573. الكشي: رجال ص 37 - 38. الحاكم: المستدرك 3 / 427 - 428. ابن عبد البر: الاستيعاب 1 / 334 - 335
3- انصاري شهد الحديبية وبيعة الرضوان مات أيام يزيد بن معاوية بمرو، ابن عبد البر: الاستيعاب 1 / 185 - 186
4- خالد بن يزيد انصاري شهد سائر مشاهد الرسول صلی الله علیه و آله وسلم وصفين والنهروان مع الإمام علي علیه السلام ومات على حدود بيزنطة أيام معاوية. الطبري: المنتخب ص 515. البيهقي: المحاسن والمساوئ ص 136 - 137. الحاكم: المستدرك 3 / 518 - 523. ابن عبد البر: الاستيعاب 4 / 166 - 167
5- انصاري من الأوس شهد مشاهد الرسول صلی الله علیه و آله وسلم واستخلفه الإمام علي على المدينة أيام خلافته توفي سنة 38 ه بالكوفة. رسائل الجاحظ السياسية: ص 240. الطبري: المنتخب ص 512. الحاكم: المستدرك 3 / 461 - 466. ابن عبد البر: الاستيعاب 2 / 162 - 163
6- أخو سهل بن حنيف تولى مهمة مسح السواد للخليفة عمر بن الخطاب وتولى البصرة للإمام علي علیه السلام. الطبري: المنتخب: ص 535. الشريف الرضي: المجازات النبوية ص 156. ابن عبد البر: الاستيعاب 3 / 1033
7- مالك بن التيهان انصاري من الأوس أحد النقباء ليلة العقبة وممن شهد بدراً وشهد صفين مع الإمام علي علیه السلام وقتل فيها، الحاكم: المستدرك 3 / 323 - 324. ابن عبد البر: الاستيعاب 4 / 1773. ابن الجوزي: صفة الصفوة 1 / 462 - 463

............................... وخزيمة بن ثابت(1) وأبو الطفيل عامر بن وائلة(2) والعباس بن عبد المطلب وبنوه وبنو هاشم كافة، وبنو المطلب كافة بل حتى الزبير بن العوام كان أولا من القائلين بالتفضيل ثم رجع عنه، وكان من الأسرة الأموية من يقول بالتفضيل مثل خالد بن سعيد بن العاص(3) وعمر بن عبد العزيز(4).

أمّا من التابعين فمن قال بأفضلية الإمام علي علیه السلام ذكر ابن أبي الحديد منهم، أويسا القرني(5). وزيدَ بن صوحان(6) ....................................

ص: 77


1- انصاري عرف بذي الشهادتين شهد مشاهد الرسول صلی الله علیه و آله وسلم وقتل بصفين مع الإمام علي علیه السلام، الشرح: 10 / 108 - 109. الطبري: المنتخب ص 511، 572. ابن عبد البر: الاستيعاب 2 / 448، ابن الجوزي: صفة الصفوة 1 / 702
2- أسلم يوم أحد وكان آخر من بقي من الصحابة ممن رأى النبي صلی الله علیه و آله وسلم شهد مشاهد الإمام علي علیه السلام، توفي سنة 100 ه: ابن عبد البر: الاستيعاب 4 / 1696 - 1697
3- أسلم منذ بواكير الدعوة الاسلامية وهاجر إلى الحبشة ثم إلى المدينة وولّه الرسول صلی الله علیه و آله وسلم اليمن، وكان ممن دعا لبيعة الإمام علي علیه السلام، الشرح: 6 / 31 - 33. رسائل الجاحظ السياسية: ص 252 - 253. الحاكم: المستدرك 3 / 277 - 280
4- الشرح: 20 / 222 - 225
5- اويس بن عامر، تابعي شهد صفين مع الإمام علي علیه السلام ويرجح البعض انه قتل فيها. ابن سعد: الطبقات 7 / 132. مسلم: الصحيح: 16 / 94. الطبري: المنتخب ص 627 - 628. الحاكم: المستدرك 3 / 455 - 461. أبو نعيم: حلية الاولياء 2 / 79 - 87
6- أسلم على عهد النبي صلی الله علیه و آله وسلم وشارك مع الإمام علي علیه السلام في معركة الجمل وقتل فيها، الكشي: رجال ص 63 - 64. الخطيب البغدادي: تاريخ بغداد 8 / 439 - 440. ابن عبد البر: الاستيعاب 2 / 555 - 557

...................وأخاه صعصعة بن صوحان(1) وجندب الخير(2) وعبيدة السلماني(3) وغيرهم(4).

وأضاف ابن أبي الحديد: (ولم تكن لفظة الشيعة تعرف في ذلك العصر إلا لمن قال بتفضيله ولم تكن مقالة الإمامية … على هذا النحو من الاشتهار فكان القائلون بالتفضيل هم المسمون الشيعة، وجميع ما ورد من الآثار والأخبار في فضل الشيعة وأنهم موعودون بالجنة(5)، فهؤلاء هم المعنيون به دون غيرهم، ولذلك قال أصحابنا المعتزلة في كتبهم وتصانيفهم: نحن الشيعة حقاً، فهذا القول هو اقرب إلى السلامة وأشبه بالحق من القولين المقتسمين طرفي الافراط والتفريط إن شاء الله)(6).

ان المعتزلة بقولها بالتفضيل لا على اساس النص كما تعتقد الإمامية وإنما

ص: 78


1- كان من سادات عبد القيس معروفا بالفضل والدين والبلاغة، ويعد من أصحاب الإمام علي علیه السلام حيث شارك معه في صفين، ثم نفاه المغيرة إلى البحرين في خلافة معاوية. الكشي: رجال ص 64 - 65. ابن عبد البر: الاستيعاب 2 / 717. ابن حجر: الاصابة 2 / 200. المرصفي: رغبة الآمل 7 / 138
2- جندب بن عبد الله بن سفيان البجلي له صحبة، أخذ عنه الحسن البصري وابن سيرين، ابن عبد البر: الاستيعاب 2 / 256 - 257، ابن حجر: الاصابة 1 / 248 - 249
3- عبيده بن عمرو السلماني أسلم أيام النبي صلی الله علیه و آله وسلم وعد من أصحاب ابن مسعود الفقهاء، ومن أصحاب الإمام علي علیه السلام ابن عبد البر: الاستيعاب 3 / 1023
4- الشرح: 20 / 226
5- أنظر مثلا: سبط بن الجوزي: تذكرة ص 54
6- الشرح: 20 / 226، وانظر الملطي: التنبيه ص 35

على أساس أفضلية الإمام ذاته لكثرة فضائله ومناقبه(1)، ومع القول بأفضلية الامام لكن المعتزلة تحكم بصحة خلافة المفصول، فكل من سبق الإمام علياً علیه السلام بالخلافة فخلافته صحيحة بلحاظ موقف الإمام علي علیه السلام، فلو نازع الإمام علي علیه السلام لحكم بتفسيق المنازع له ما لم يتب فإذا ثبتت توبته يحكم المعتزلة له بالجنة، وإذا لم تثبت يحكمون له بالنار(2).

وفي الفصول التالية نستعرض رؤية معتزلة بغداد في تفضيل الإمام علي علیه السلام بإسهاب.

ص: 79


1- الشرح: 1 / 157، 9 / 305، 307، 10 / 254. إن الإمامية بقولها بأفضلية الإمام علي علیه السلام تعتمد على النص مضافاً إلى فضائل الإمام علي علیه السلام التي فاق بها الآخرين، اما المعتزلة فتنفي النص وتعتمد على الفضائل فقط. أنظر: العلاّمة الحلي: الألفين في إمامة أمير المؤمنين ص 11 وما بعدها. كشف المراد ص 7 وما بعدها
2- الشرح: 1 / 157، 2 / 296 - 297، 9 / 328، 10 / 255، 20 / 221 - 222

ص: 80

الفصل الأول عراقة النسب

ص: 81

ص: 82

الفصل الأول عراقة النسب

كان أمير المؤمنين علیه السلام في مصاص الشرف ومعدنه ومعانيه لا يشك عدو ولا صديق انه أشرف خلق الله نسبا بعد ابن عمه رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم(1). فهو أبو الحسن علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي(2)، ينتمي إلى قبيلة قريش(3) اصرح القبائل العربية، والتي نزل القرآن بلهجتها(4)، وهو من أعرق بطونها وأشرفها - بني هاشم - (5).

ص: 83


1- ابن أبي الحديد: الشرح 1 / 51
2- لا يكاد يخلو مصدر من مصادرنا الاولية أيا كان نوعها من إشارة إلى سيرة الإمام علي علیه السلام إلّا ما ندر، لذا لا نجد مسوغاً للاشارة لمصادر ترجمته، ومن إراد فعليه بهذا الكتاب الذي حاولنا الألمام قدر الامكان بعدد من مصادر ترجمته
3- عن قبيلة قريش أنظر: الجميلي: قبيلة قريش ص 5 وما بعدها
4- ابن خلدون: المقدمة ص 1041. هاشم يحيى الملاح: الوسيط في تاريخ العرب قبل الإسلام ص 304
5- ان اعداد رسالة جامعية اكاديمية حول قبيلة بني هاشم سيعطي صورة اوضح ليس على نطاق مكة فحسب بل مجمل الجزيرة العربية، والعالم القديم يومذاك، لذا يلفت الباحث نظر الباحثين الكرام لدراسات كهذه

ولهاشم(1) بن عبد مناف تاريخ معروف وحافل بالأمجاد، كان اسمه أولا عمراً، ولقب بالقمر لجماله، ولما أصابت قريش ضائقة اقتصادية أخذ يهشم لهم الخبز ثريدا، فلقب بهاشم وغلب هذا اللقب عليه ومن أشهر أعماله (الايلاف)، حيث كان هاشم كثير السفر والتجارة، ففي الشتاء يتجه إلى اليمن وفي الصيف إلى بلاد الشام، وشاركه في تجارته زعماء القبائل العربية، وأخذ عهوداً من ملوك الأطراف، فكانت تجارته تدر الربح الوفير، بعد أن تمكن بوساطة هذه العهود من حماية تجارته من مخاطر الطريق، لذلك ازدهرت تجارة قريش حتى قال فيه الحارث بن حنش السلمي(2):

إن اخي هاشماً *** ليس أخا واحد

الآخذ الاياف و *** القائمُ للقاعدِ

ولهذا فسر البعض قوله تعالى:

«وَآَمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ»(3).

أي ان تجارتهم اصبحت آمنة من مخاوف الطريق(4).

ص: 84


1- عقد ابن أبي الحديد فصلا اوضح فيه أفضلية بني هاشم قبل الإسلام وبعده، مبرزا أهم الانجازات التي تحققت على يد رجالاتهم. شرح نهج البلاغة 15 / 198 - 295. وانظر: الجاحظ: رسالة فضل هاشم على عبد شمس ضمن رسائل الجاحظ السياسية ص 407 - 60. وكذلك رسالة الاوطان والبلدان ص 106 - 110
2- هو أخو هاشم وعبد شمس والمطلب أبناء عبد مناف من أمهم عاتكة بنت مرة بن هلال بن فالح ابن ذكوان بن سليم. ينظر: ابن حبيب: المنمق ص 43. البلاذري: أنساب الأشراف 1 / 59
3- سورة قريش، آية 4، أنظر الزمخشري: الكشاف 4 / 801
4- الشرح 5 / 199 - 203. وانظر الجاحظ: رسائل الجاحظ، تحقيق السندوبي ص 68 - 71. الطبري: تاريخ 2 / 251 - 252. أبو هلال العسكري: الاوائل ص 21 - 22

وتولى هاشم الرئاسة والسقاية والرفادة(1) بعد أبيه من دون إخوته، فازدادت مكانة مكة في زمانه حيث كانت موردا لجموع الحجاج من ارجاء الجزيرة العربية، لذا دعا هاشم أهل مكة إلى ضرورة الاهتمام بموسم الحج من حيث توفير الامن والطعام والشراب، والظرف اللازم لتأدية مناسك الحج فكان لذلك أثره في ازدهار مكانة مكة في داخل الجزيرة العربية وخارجها(2).

ان توفير الطعام في بيئة فقيرة يعد من اكبر الفضائل التي يمدح صاحبها، وبسببها ينال الاحترام، والمؤاكلة تعد جواراً عند العرب، فإطعام قريش لقبائل العرب يعني إنها تنال احترام القبائل العربية لها وعقداً للجوار من هذه القبائل لذا أصبحت قريش آمنة عند سيرها في اراضيها(3).

ومن مآثر هاشم بن عبد مناف انه خلفه في الزعامة ولدٌ يحمل سيماه ألا وهو عبد المطلب، واسمه شيبة الحمد، وسيد الوادي بلا مدافع، أجمل الناس جمالا، وأظهرهم جودا، وأكملهم كمالا،ً وهو صاحب الفيل، والطير الأبابيل، وصاحب زمزم، وساقي الحجيج وقد أعطاه الله في زمانه وأجرى على يديه، وأظهر من كرامته ما لا يعرف إلا لنبيّ مرسل، وهذا ما نجده في كلامه لأبرهة وتوعّده إياه برب الكعبة وفعلا تحقق وعيده بقتل أصحاب الفيل بالطير الأبابيل والحجارة السجيل حتى تُركوا كالعصف المأكول(4).

ص: 85


1- الرفادة: توفير الطعام للحجيج، وأول من أوجده قصي. أنظر الطبري: تاريخ 2 / 260
2- الشرح 15 / 209 - 213. وانظر اليعقوبي: تاريخ 1 / 212 - 214. الطبري: تاريخ 2 / 252 - 254
3- الملاح: الوسيط في تاريخ العرب قبل الإسلام ص 382
4- إشارة لما جاء في سورة الفيل

وهذا من أعجب البراهين وأسنى الكرامات وقد يكون ذلك ارهاصاً للنبوة وتأسياً لما اراده الله من الكرامة وليجعل بهاء عبد المطلب متقدماً وإشارة لنبوة النبي صلی الله علیه و آله وسلم حتى يكون أشهر في الآفاق وأجل في صدور الفراعنة والجبابرة والأكاسرة، وأن يقهر المعاند ويكشف غباوة الجاهل(1).

يقول الجاحظ: (ولو عزلنا ما أكرمه الله به من النبوة حتى نقتصر على اخلاقه ومذاهبه وشيمه، لما وفى به بشر ولا عدّ له شيء، ولو شئنا أن نذكر ما أعطى الله به عبد المطلب من تفجر العيون وينابيع الماء من تحت كلكل بعيره(2)، واخفافه بالأرض القسي، وبما أُعطى من المساهمة وعند المقارعة من الأمور العجيبة)(3).

إن أشهر ما وقع في عهد عبد المطلب هو ما عرف بحملة الفيل(4)، تلك الحملة التي قادها أبرهة الحبشي في محاولة منه لهدم الكعبة وصرف العرب عن الحج إليها، ومن ثمّ دفعهم إلى التوجه نحو كنيسة بناها في اليمن اسمها

ص: 86


1- الشرح 15 / 200 - 201. وانظر الجاحظ: رسالة في فضل بني هاشم على بني عبد شمس، ص 411 - 412. أبو الفرج: الاغاني 1 / 15، الشهرستاني: الملل والنحل 3 / 223 - 224. وأوضح السيوطي أن عبد المطلب كانت لديه دلائل على ان محمداً نبي مرسل: الخصائص الكبرى 1 / 201 - 204
2- إشارة لقصة زمزم ومنافرة قريش له. الشرح 15 / 215 - 217، 228 229. وانظر ابن اسحق: السير والمغازي ص 25، ابن هشام: السيرة 1 / 152 - 153. الأزرقي: اخبار مكة 2 / 42 - 48. ابن حبيب: المنمق ص 413 - 416. اليعقوبي: التاريخ 1 / 216 - 220
3- الشرح 15 / 201 - 202. وانظر الجاحظ: رسالة في فضل بني هاشم على بني عبد شمس، ص 412
4- أنظر: خالد العسلي: عام الفيل صورة من الصراع العربي الحبشي، مجلة دراسات في التاريخ والآثار، بغداد، ع 2. 1982، ص 171 - 192

(القليس) في محاولة منه لنشر النصرانية.

وقد أفادت المصادر ان مكانة عبد المطلب ازدادت لدى العرب بعد هذه الحملة، وفي ذلك دلالة على أن ما قام به عبد المطلب له أثر في فشل حملة أبرهة، فلا يصح أن يقال إن عبد المطلب دعا قريشا للذهاب إلى قمم الجبال حتى لا تصيبهم معرة الجيش، وإنه اكتفى بالمطالبة بإبِله التي أخذها جيش أبرهة، أما عن مصير الكعبة فاكتفى عبد المطلب بالقول: أنا رب الأبل، وللبيت رب يحميه(1).

إن موقفا سلبيا كهذا لا يمكن أن يصدر من زعيم مكة إزاء الكعبة التي هي عماد حياة مكة على مختلف الأصعدة، فمكة ما وجدت ولا قامت فيها الحياة إلّا ببناء الكعبة المشرفة، ومكانة مكة السياسية والاقتصادية والدينية كلها متعلقة بالكعبة، إذا فهل يمكن أن نتصور أن عبد المطلب يترك أمر الكعبة كهذه برؤية (إن للبيت رباً يحميه). وإذا كان كذلك فلماذا اعظمت العرب عبد المطلب بعد هذه الحملة؟!! والأصح هو ما أشار إليه اليعقوبي(2) بقوله: (لما قدم أبرهة ملك الحبشة صاحب الفيل مكة ليهدم الكعبة، فتهاربت قريش في رؤوس الجبال، فقال عبد المطلب: لو اجتمعنا فدفعنا هذا الجيش عن بيت الله. فقالت قريش: لا بد لنا به.

فأقام عبد المطلب في الحرم وقال: لا أبرح من حرم الله ولا أعوذ بغير الله فأخذ أصحاب أبرهة إبلاً لعبد المطلب وصار عبد المطلب إلى أبرهة فلما استاذن عليه،

ص: 87


1- أنظر تفاصيل ذلك: الأزرقي: اخبار مكة 1 / 141 - 7، 2 / 42 - 49. الطبري: تاريخ 2 / 130 - 139
2- التاريخ 1 / 221 - 222

قيل له: قد أتاك سيد العرب وعظيم قريش وشريف الناس. فلما دخل عليه أعظمه أبرهة وجلَّ في قلبه لما رأى من جماله وكماله ونبله. فقال لترجمانه: قل له: سل ما بدا لك. فقال: إبلاً لي اخذها اصحابك فقال: لقد رأيتك فأجللتك وأعظمتك وقد تراني حيث تهدم مكرمتك وشرفك فلم تسألني الانصراف، وتكلمني في إبلك، فقال عبد المطلب: أنا ربّ هذا الابل، ولهذا البيت الذي زعمت تريد هدمه ربّ يمنعك منه، فردَّ الإبل وداخله ذعر لكلام عبد المطلب.

فلما انصرف جمع ولده ومن معه ثم جاء إلى باب الكعبة فتعلق به وقال:

لا همَّ أنَّ المرءَ يمنَعُ *** رَحْلَهُ فامنعْ رحالَكْ

لا يغلبَنَّ صليبُهُم *** ومحالَهُم عَدْواً مَحَالَكْ

ولئِنْ فَعَلْتَ فإنَّهُ *** أمرٌ تُتَمُّ بهِ فِعالَكْ

إنْ كُنْتَ تارِكَهُم وقِبْلَتَنا *** فأمرْ ما بدا لَكْ

وأقام بموضعه فلما كان من غد بعث ابنه عبد الله ليأتيه بالخبر، ودنا وقد اجتمعت إليه من قريش جماعة ليقاتلوا معه، إن أمكنهم ذلك، فأتى عبد الله على فرس شقراء يركض، وقد جردت ركبته، فقال عبد المطلب: قد جاءكم عبد الله بشيرا ونذيرا والله ما رأيت ركبته قط قبل هذا اليوم فأخبرهم ما صنع الله بأصحاب الفيل).

إن هذا النص يوضح لنا الواجب الذي كان على عبد المطلب أن يضطلع به لمواجهة أكبر خطر يواجه مدينة مكة، ويتمثل ذلك ب:

أولاً: ثبات عبد المطلب بعد هروب قريش في الجبال حينما أدركت أنه لا طاقة لها بحرب أبرهة فيما كان هو يدعوها للوقوف بوجهه.

ص: 88

ثانياً: مقابلته لأبرهة، تلك المقابلة التي كان لها أكبر الأثر في نفس أبرهة حيث يشير النص إلى أن أبرهة (داخله ذعر لكلام عبد المطلب). وهذا بالتأكيد يوضح لنا حسن استخدام عبد المطلب للحرب النفسية.

ثالثاً: استخدام عبد المطلب لعبارة: (ان للبيت رباً يحميه). لا تعني تركه أمر البيت وإنما تلقي ضوءاً على إيمان عبد المطلب وتوكله على الله سبحانه وتعالى وكأنه يطبق قوله تعالى:

«فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ»(1).

فالملاحظ ان عبد المطلب بعد توكله على الله قام بالعمل الفعلي حيث جمع أولاده ومن معه ثم ساروا نحو الكعبة مرابطين عازمين على الدفاع عنها.

رابعاً: وضع عبد المطلب ما يسمى (بقوة الاستطلاع) لمعرفة اخبار العدو متمثلة بولده عبد الله، واختياره لعبد الله قد يعطينا انطباعا عن كون هذا الابن شخصية مهيأة لمواقف كهذه وهذا لا يعني ان عبد الله كان لوحده بل ربما كان قائدا لقوة الاستطلاع.

خامساً: بعد أن علم الله صدق عزيمة عبد المطلب، أنزل نصره وأهلك أعداءه وكان عبد المطلب قد أوفد ولده عبد الله، الذي عندما عاد إليه قال عنه:

قد جاءكم عبد الله بشيراً أو نذيراً. وفي هذا دلالة على ان عبد المطلب:

كان لديه اعتقاد بتدخل العناية الإلهية.

كان مدركاً لنوايا أبرهة ولذا فسر عودة عبد الله بهذا الشكل بأنه يريد انذارهم من تحرك أبرهة نحو الكعبة.

ص: 89


1- سورة آل عمران، 159

ونتيجة لهذا أصبح عبد المطلب سيد قريش، حيث أعطاه الله من الشرف ما لم يعط أحداً وسقاه زمزم، وحكّمته قريش في اموالها، وأطعم في المحل حتى اطعم الطير والوحوش في الجبال. ورفض عبادة الاصنام(1)، حتى عدَّه ابن أبي الحديد من المتألّين البعيدين عن القبائح(2).

وقد سنَّ عبد المطلب سنناً نزل القرآن بأكثرها، وأثبتتها السنة الشريفة، كالوفاء بالنذر(3)، وجعل الدية مئة من الإبل(4)، وحرمة زواج المحارم(5)، وأن لا تؤتى البيوت من ظهورها(6)، وقطع يد السارق(7)، والنهي عن قتل

ص: 90


1- اليعقوبي: التاريخ 2 / 9
2- الشرح 1 / 120
3- ورد في الشريعة الاسلامية قوله تعالى: «يُوفُونَ باِلنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شُّرَهُ مُسْتَطيِرًا». سورة الانسان، آية 7
4- دية الفرد المسلم في الشريعة الاسلامية مائة من الابل أو الف رأس من الغنم أو ألف مثقال من الذهب
5- قوله تعالى: «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا». سورة النساء، آية 23
6- قوله تعالى: «يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ». سورة البقرة، آية 189
7- قوله تعالى: «وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ». سورة المائدة، آية 38

المؤودة(1)، والمباهلة(2)، وتحريم الخمر(3)، والزنا وفرض الحد عليها(4)، والقرعة، ولا يطوف بالبيت عريان(5)، واستضافة الضيف(6)، وألّا ينفقوا إذا حجوا إلّا من طيب أموالهم(7)، وتعظيم الأشهر الحرم(8)، ونفي ذوات الرايات(9).

ولذا عظّمته قريش وكانت تسمّيه ابراهيم الثاني وقالوا فيه: (ان كنت

ص: 91


1- قوله تعالى: «وَإذا اْلمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْب قُتِلَتْ». سورة التكوير، آية 9
2- قوله تعالى: «فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللِّهَ عَلَی الْكَاذِبِينَ». سورة آل عمران، آية 61
3- قوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ». سورة المائدة، آية 90
4- قوله تعالى: «الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ». سورة النور، آية 2
5- كان مما اوصى به الرسول صلی الله علیه و آله وسلم الإمام علي علیه السلام ليقرأه على الناس في الحج (ألا يطوف في البيت عريان) البخاري: الصحيح 6/ 123 - 124. الطبري: تاريخ 3 / 123، ابن كثير: البداية والنهاية 7 / 358. القسطلاني: إرشاد الساري 3 / 209 - 210
6- قال صلی الله علیه و آله وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه…) مسلم: الصحيح 2 / 20. الترمذي: صحيح 8 / 145
7- وهذا أمر طبيعي في الشريعة الاسلامية
8- قوله تعالى: «إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ». سورة التوبة، آية 36
9- اليعقوبي: التاريخ 2 / 9 - 10

لعظيم البركة، لميمون الطائر مذ كنت)(1). ولقد عظمت قريش موته فغسل بالماء والسدر، ولُفَّ في حلتين من حلل اليمن قيمة الواحدة ألف مثقال ذهباً، وحمل على ايدي الرجال اياماً إعظاماً وإكراماً له من تغييبه تحت التراب(2).

وقد روي عن الرسول صلی الله علیه و آله وسلم أنه قال:

(ان الله يبعث جدّي عبد المطلب أمة واحدة في هيئة الأنبياء وزي الملوك)(3).

وقد خلف عبد المطلب في الزعامة ولده أبو طالب الذي كان سيداً شريفا مطاعا مهيبا مع فقره، ولذا قال الإمام علي علیه السلام:

(أبي ساد فقيرا وما ساد فقير قبله)(4).

وكان عبد المطلب قد أوصى إليه من بين أولاده العشرة، ومن ضمن وصاياه المهمة أوصى إليه بمهمة كفالة الرسول صلی الله علیه و آله وسلم حيث كان صلی الله علیه و آله وسلم وقتها في الثامنة من عمره الشريف. فكان أبو طالب خير كافل(5)، والملاحظ أن أبا طالب كان أخاَ لعبد الله والد الرسول من أبيه وأمه(6)، ونتيجة لمكانة أبي طالب فقد عرف

ص: 92


1- اليعقوبي: التاريخ 2 / 10
2- اليعقوبي: التاريخ 2 / 12
3- الشرح 14 / 68. وانظر: اليعقوبي: التاريخ 2 / 13. ابن حجر: الاصابة 4 / 117 - 118
4- الشرح 1 / 29، 14 / 70. وانظر: اليعقوبي: التاريخ 2 / 13. إن الامام يقصد بفقره هنا ان وضعه المادي لايتناسب مع مكانته الاجتماعية
5- الشرح 1 / 29. وانظر: اليعقوبي: التاريخ 2 / 13. الطبري: التاريخ 2 / 277. أبو نعيم: دلائل النبوة ص 123. سبط بن الجوزي: تذكرة ص 6، 8. ابن حجر: الاصابة 4 / 115
6- الشرح 1 / 14، وانظر: الطبري: التاريخ 2 / 277

بالشيخ أو شيخ البطحاء(1).

لذا كان الإمام علي علیه السلام يدّعي التقدم على الكل، والشرف على الكل بابن عمه وبنفسه وبأبيه أبي طالب (فإنه من قرأ علوم السير عرف ان الإسلام لولا أبو طالب لم يكن شيئاً مذكوراً)(2).

والملاحظ ان عبد المطلب كأنما كان ينظر من وراء الغيب لما سيجري على النبي صلی الله علیه و آله وسلم، ولذا فهذه الكفالة لا تقتصر على النبي صلی الله علیه و آله وسلم زمن الصبا، بل استمرت حتى بلغ t الخمسين من عمره الشريف، وما انتهت كفالة أبي طالب إلّ بنهاية عمره، يقول ابن أبي الحديد: (أبو طالب هو الذي كفل رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم وحماه وحاطه كبيرا، ومنعه من مشركي قريش ولقي لأجله عنتا عظيما، وقاسى بلاءً شديداً وصبر على نصره والقيام بأمره وجاء في الخبر إنه لما توفي أبو طالب أوحي إليه علیه السلام، وقيل له: اخرج منها فقد مات ناصرك)(3).

إذن فخليق بأبي طالب الذي درج في حجر والده، أن يكون المثل الأعلى في نشأته من حيث الطموح إلى رفيعات المراتب، والتأهب لمستوى فوق مستوى قومه، وأن يخلف أباه في جميع مزاياه في حكمته وتوحده، ومنابذته لخرافات عصره(4).

وكان أبو طالب أول من سنّ القسامة قبل الإسلام(5)، ولما جاء الإسلام

ص: 93


1- الشرح 1 / 29، 13 / 227. وانظر الاسكافي: نقض العثمانية ص 289، ابن الاثير: اسد الغابة 3 / 414
2- الشرح 1 / 142
3- الشرح 1 / 29
4- العاملي: شيخ الابطح ص 8
5- الشرح 15 / 219

أثبتها(1) والقسامة كلمة مشتقة من القسم وهو اليمين، حيث لما قتل عمرو ابن علقمة بن المطلب بن عبد مناف، واتهم خداش بن عبد الله بن أبي قيس العامري بقتله، طلب أبو طالب أن يحلف منهم خمسون رجلاً بأن لا علم لهم بقاتل القتيل، ويقال إنهم حلفوا بأجمعهم ما عدا حويطب بن عبد العزى، فهلكوا بأجمعهم قبل أن يدور الحول(2).

إن ذلك الدور الذي أداه أبو طالب في حمايته للرسول صلی الله علیه و آله وسلم ونصرته إياه، مماّ مكنه صلی الله علیه و آله وسلم من القيام بالدعوة للإسلام عشر سنوات، كان ولا زال مثار نقاش بين الباحثين، فهل كان ذلك الدفاع عن الرسول صلی الله علیه و آله وسلم دليل إيمان من أبي طالب؟ أم انه كان بدافع العصبية القبلية؟.

عقد ابن أبي الحديد فصلاً عن الآراء التي قيلت في ذلك، فأوضح أن الإمامية وأكثر الزيدية، وبعضاً من شيوخ المعتزلة كالكعبي والإسكافي يرون إنه ما مات إلا مسلما، فيما يرى أهل الحديث والعامة من معتزلة البصرة بأنه مات على دين قومه(3).

وقبل أن يصدر ابن أبي الحديد حكمه في هذه المسألة استعرض أدلة الطرفين، فذكر أولا أدلة القائلين ببقائه على دين قومه. وهي:

أولاً: إن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم قال له عند موته: (قل يا عم كلمة أشهد لك بها

ص: 94


1- النسائي: سنن 6 / 4 - 5. الطحاوي: شرح معاني الاثار 3 / 197 - 203
2- مصعب الزبيري: نسب قريش ص 424 - 5. ابن حبيب: المحبر ص 335 - 337. المنمق ص 140 - 142. النسائي: سنن 6 / 3 - 4. أبو هلال العسكري: الاوائل ص 36 - 37. ابن حزم: جمهرة انساب العرب ص 168. الخوارزمي: مفاتيح العلوم ص 15
3- الشرح 14 / 65 - 66

غداً عند الله تعالى. فقال: لولا أن تقول العرب أن أبا طالب جزع عند الموت لأقررت بها عينك)(1).

ثانياً: روي إن أبا طالب قال عند موته: أنا على دين الأشياخ، أو أنا على دين عبد المطلب(2).

ثالثاً: إن قوله تعالى:

«مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ...»(3).

نزلت في أبي طالب لأن الرسول صلی الله علیه و آله وسلم استغفر له بعد موته(4).

رابعاً: ان قوله تعالى:

«إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ»(5). نزلت في أبي طالب(6).

ص: 95


1- الشرح: 14 / 66. وانظر الطبري: جامع البيان 20 / 92. الثعالبي: الجواهر الحسان 2 / 160. ابن كثير: البداية والنهاية 3 / 124
2- الشرح 14 / 66، وانظر ابن هشام: السيرة 1 / 264. ابن سعد: الطبقات 1 / 122. الطبري: تاريخ 2 / 325. الواحدي: أسباب النزول ص 177، 218. ابن كثير: البداية والنهاية 3 / 124
3- سورة التوبة، الآيات 113 - 114
4- الشرح: 14 / 66. وانظر: ابن سعد: الطبقات 1 / 122. البخاري: الصحيح 6 / 132 - 133. الطبري: جامع البيان 11 / 41. الواحدي: أسباب النزول ص 176 - 178. القرطبي: الجامع لأحكام القرآن 8 / 272. ابن كثير: البداية والنهاية 3 / 124
5- سورة القصص، آية (56)
6- الشرح: 14 / 66، وانظر ابن سعد: الطبقات 1 / 123. الطبري: تاريخ 2/ 325. وايضا جامع البيان 20 / 91. الواحدي: أسباب النزول ص 228. الثعالبي: الجواهر الحسان 2 / 160، 3 / 179 - 180. القرطبي: الجامع 17 / 299. ابن كثير: البداية والنهاية: 3 / 124. السيوطي: الخصائص 1 / 217

خامساً: إن الإمام عليّا علیه السلام جاء للرسول صلی الله علیه و آله وسلم بعد وفاة أبي طالب فقال: إن عمك الضال قد قضي فما الذي تأمرني فيه؟(1) سادساً: لم ينقل عن أبي طالب انه رآه أحد يصلي، والصلاة هي المفرقة بين المسلم والمشرك(2).

سابعاً: ان الإمام علياً و جعفرا لم يأخذا من تركته(3).

ثامناً: قول النبي صلی الله علیه و آله وسلم: (إن الله قد وعدني بتخفيف عذابه، لما صنع في حقي وإنه في ضحضاح من نار)(4).

تاسعاً: قيل للرسول صلی الله علیه و آله وسلم: لو استغفرت لأبيك وأمك! فقال: لو استغفرت لهما لاستغفرت لأبي طالب فإنه صنع إليَ مالم يصنعا، وإن عبد الله و آمنة وأبا طالب جمرات من جمرات جهنم)(5).

ص: 96


1- الشرح: 14 / 66، وانظر ابن سعد: الطبقات 1 / 124. ابن كثير: البداية والنهاية: 3 / 125
2- الشرح 14 / 66. وهذا الدليل إن ثبت فهو صحيح لأن الرسول صلی الله علیه و آله وسلم قال: بين الكفر والايمان ترك الصلاة ولكن أنظر تعليقنا فيما بعد على هذا الدليل. مسلم: الصحيح 2 / 70 - 71. الترمذي: صحيح 10 / 89. ابن ماجة: صحيح 1 / 177
3- الشرح: 14 / 66. وانظر: ابن سعد: الطبقات 1 / 124. ابن قتيبة: المعارف ص 203. وانظر رد ابن معد: الحجة على الذاهب ص 162 - 168
4- الشرح: 14 / 66. ابن سعد: الطبقات 1 / 124. مسلم: الصحيح 3 / 84 - 85. الطبري: جامع البيان 20 / 93. الملطي: التنبيه ص 162. ابن معد: الحجة ص 87 - 103. ابن كثير: البداية والنهاية: 3 / 125. السيوطي: الخصائص الكبرى 1 / 215
5- الشرح: 14 / 66

بعد طرحه لهذه الأدلة، لم يبد ابن أبي الحديد إلا تعليقاً واحداً حول الدليل السادس القائل بأنه لم ينقل عن أبي طالب صلاة، حيث قال عنه: (فأمّا الصلاة وكونه لم ينقل عنه انه صلى، فيجوز أن يكون لأن الصلاة لم تكن بعد قد فرضت، وإنّما كانت نفلا غير واجب فمن شاء صلى ومن شاء ترك ولم تفرض إلاّ بالمدينة)(1).

ثم استعرض أدلة القائلين بإسلامه(2):

أولاً: عن الإمام علي علیه السلام: قال صلی الله علیه و آله وسلم: قال لي جبرائيل: إن الله مشفّعك في ستّة، بطن حملتك آمنة بنت وهب، وصلب أنزلك، عبد الله بن عبد المطلب، وحجر كفلك، أبي طالب، وبيت آواك، عبد المطلب، وأخ كان لك في الجاهلية، قيل: يا رسول الله: وما كان فعله؟ قال: كان سخيا يطعم الطعام ويجود بالنوال، وثدي أرضعتك، حليمة بنت أبي ذؤيب)(3).

ثانياً: قول الرسول صلی الله علیه و آله وسلم: نقلنا من الاصلاب الطاهرة إلى الارحام

ص: 97


1- الشرح: 14 / 83. وانظر ابن هشام: السيرة 1 / 259 - 261. دحلان: اسنى المطالب ص 27
2- وضعت قديماً مجموعة من الكتب تناقش مسألة صحة إيمان أبي طالب وقد أوردها بحر العلوم عند تحقيقه لكتاب الحجة على الذاهب إلى كفر أبي طالب ص 17 - 26، لكن هذه الكتب فقدت ولم يصل إلينا إلا ثلاثة كتب وهي كتاب أبي نعيم علي بن حمزة البصري اللغوي ت 375 ه والذي لا زال مخطوطا في إحدى مكتبات سامراء. ن. م ص 27. وكتاب الشيخ المفيد وكتاب ابن معد وقد طبعا واستخدمناهما
3- الشرح: 14 / 67، وانظر: اليعقوبي: التاريخ 2 / 30، ابن معد: الحجة ص 48 - 50، 55، محب الدين: ذخائر العقبى ص 9، ومؤلفات السيوطي: الدرج المنيفة ص 6.: مسالك الحنفا ص 14. التعظيم والمنة ص 25، الخصائص الكبرى 1 / 216. الحلبي: السيرة الحلبية 1 / 382. دحلان: اسنى المطالب ص 24. مع اننا نتحفظ على هذا الحديث

الزكية(1). فوجب بهذا أن يكون آباؤه كلهم منزهين عن الشرك، لأنهم لو كانوا عبدة أصنام لما كانوا طاهرين(2). والظاهر ان هذا الدليل قد تعرض للنقد حيث أن القرآن أشار إلى أن إبراهيم الخليل علیه السلام كان مشركاً: فقالوا: هذا لايقدح في مذهبنا لأن المذكور في القرآن عمّ إبراهيم (آزر) أما أبوه (تارح) فكان مسلما، وقد سمى القرآن العمّ أبا كما في قوله تعالى:

«أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ»(3).

ثم عدّ فيهم إسماعيل علیه السلام وليس من آبائه ولكنهّ عمّه(4).

وقد احتجوا بإسلام الآباء بما رواه الامام الصادق علیه السلام عن الرسول صلی الله علیه و آله وسلم إنه قال: إن الله يبعث عبد المطلب يوم القيامة وعليه سيما الأنبياء وبهاء الملوك(5).

ثالثاً: سأل العبّاس النبي صلی الله علیه و آله وسلم: يا رسول الله: ما ترجوا لأبي طالب؟ فقال:

أرجو له كل الخير من الله عز وجل(6).

رابعاً: كتب أبان بن محمود(7) للإمام علي بن موسى الرضا علیه السلام: جعلت

ص: 98


1- أخرجه السيوطي: الدرج المنيفة ص 9. السبل الجلية ص 11. مسالك الحنفا: ص 18
2- الشرح: 14 / 67، وانظر ابن معد: الحجة ص 56 - 57
3- سورة البقرة، الآية 133
4- الشرح: 14 / 67، وانظر ابن معد: الحجة ص 58 - 59
5- الشرح: 14 / 68، وانظر اليعقوبي: التاريخ 2 / 13. ابن معد: الحجة ص 56
6- الشرح: 14 / 68، وانظر ابن سعد: الطبقات 1 / 124 - 125. المفيد: إيمان أبو طالب ص 76. ابن معد: الحجة ص 71 - 72. سبط ابن الجوزي: تذكره ص 8. السيوطي: الخصائص الكبرى 1 / 215
7- لم أعثر على ترجمته

فداك! إنّ قد شككت في إسلام أبي طالب! فكتب إليه: (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين…)(1) إنك إن لم تقر بإيمان أبي طالب كان مصيرك إلى النار(2).

خامساً: سئل محمد بن علي الباقر علیه السلام عمّ يقوله الناس: إن أبا طالب في ضحضاح من نار! فقال: لو وضع إيمان أبي طالب في كفة ميزان وإيمان هذا الخلق في الكفة الأخرى لرجح إيمانه. ثم قال: ألم تعلموا ان أمير المؤمنين عليّاً علیه السلام كان يأمر أن يحجّ عن عبد الله وابي طالب في حياته ثم أوصى في وصيته بالحج عنهم(3).

سادساً: إن أبا بكر جاء بأبيه أبي قحافة إلى النبي صلی الله علیه و آله وسلم عام الفتح يقوده، وهو شيخ كبير أعمى، فقال صلی الله علیه و آله وسلم: ألا تركت الشيخ حتى نأتيه! فقال: أردت يا رسول الله ان يأجره الله! أما والذي بعثك بالحقّ لأنا كنت أشد فرحاً بإسلام عمّك أبي طالب منّي بإسلام أبي ألتمس بذلك قرة عينك فقال صلی الله علیه و آله وسلم: صدقت(4).

سابعاً: سئل الإمام علي بن الحسين علیه السلام عن إسلام أبي طالب فقال: واعجبا! إن الله تعالى نهى رسوله صلی الله علیه و آله وسلم أن يقر مسلمة على نكاح كافر وقد كانت فاطمة بنت أسد من السابقات في الإسلام ولم تزل تحت أبي طالب حتى مات(5).

ثامناً: يروي بعض الزيدية إن أبا طالب حدث عن النبي صلی الله علیه و آله وسلم قائلاً: حدثني محمد ابن أخي أن ربّه بعثه بصلة الرحم، وأن يعبده وحده لا يعبد معه غيره،

ص: 99


1- سورة النساء اية 115
2- الشرح: 14 / 68، وانظر ابن معد: الحجة ص 76 - 77، 82
3- الشرح: 14 / 68، وانظر ابن معد: الحجة ص 84 - 85
4- الشرح: 14 / 68 - 69، وانظر ابن معد: الحجة ص 115 - 116 - 119
5- الشرح: 14 / 69، وانظر ابن معد: الحجة ص 123 - 124

ومحمد عندي الصادق الأمين(1).

تاسعاً: ان معنى قوله صلی الله علیه و آله وسلم: أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة(2)، إن كافل اليتم هو أبو طالب لأنه كفل الرسول صلی الله علیه و آله وسلم(3).

عاشراً: إن ما يروى من أن عليّاً أو جعفراً لم يأخذا من تركة أبي طالب شيئا حديث موضوع حيث ان مذهب أهل البيت علیهم السلام بخلاف ذلك، فإن المسلم عندهم يرث الكافر ولا يرث الكافر المسلم(4). ولو كان أعلى درجة منه في النسب، ولذا فسروا قوله صلی الله علیه و آله وسلم: لا توارث بين أهل ملتين(5). قالوا: نقول بموجبه لأن التوارث تفاعل ولا تفاعل عندنا في ميراثهما واللفظ يستدعي الطرفين، كالتضارب لا يكون إلا من اثنين(6).

حادي عشر: إن حب الرسول صلی الله علیه و آله وسلم لعمّه أبي طالب معلوم مشهور وإذا كان كافراً فكيف يجوز له أن يحبّه لقوله تعالى(7):

«لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ

ص: 100


1- الشرح: 14 / 69، وانظر ابن معد: الحجة ص 133 - 137، ابن حجر: الاصابة 4 / 116. زيني دحلان: اسنى المطالب ص 6
2- اخرجه ابن حنبل: المسند 5 / 333
3- الشرح: 14 / 69، وانظر ابن معد: الحجة ص 142 - 143
4- روى الترمذي: قال رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم: لا يرثُ المسلمَ كافرٌ ولا الكافرَ المسلمُ، الترمذي: صحيح 8 / 257. ابن ماجة: صحيح 2 / 115. ابن حزم: الفصل 3 / 276
5- اخرجه الترمذي: صحيح 8 / 259. ابن ماجة: صحيح 2 / 116
6- الشرح: 14 / 69. وانظر ابن معد: الحجة ص 162 - 164
7- سورة المجادلة، آية 22

وَرَسُولَهُ»(1).

ثاني عشر: استفاض عنه صلی الله علیه و آله وسلم قوله لعقيل: أنا أُحبّك حبّين: حبّا لك، وحبّا لحبّ أبي طالب فإنه كان يحبّك)(2).

ثالث عشر: ان الخطبة التي ألقاها أبو طالب لما خطب خديجة(3) للرسول صلی الله علیه و آله وسلم تدل على توحيده وهي: (الحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم، وزرع إسماعيل، وجعل لنا بلداً حراماً، وبيتا محجوباً، وجعلنا الحكام على الناس ثم ان محمّد بن عبد الله أخي من لا يوازن به فتى من قريش إلا رجح عليه براً وفضلاً وحزماً وعقلاً ورأياً ونبلاً وإن كان في المال قل، فإنّما المال ظل زائل وعارية مسترجعة وله في خديجة بنت خويلد رغبة، ولها فيه مثل ذلك، وما أصبتم من الصداق فعلي وله والله بعد نبأ شائع وخطب جليل)(4).

قالوا: أفتراه يعلم نبأه الشائع وخطبه الجليل ثم يعانده ويكذّبه وهو من أولى الألباب فهذا غير سائغ في العقول(5).

ص: 101


1- الشرح: 14 / 69 - 70، وانظر ابن معد: الحجة ص 162 - 164
2- الشرح: 14 / 70، وانظر: الحاكم: المستدرك 3 / 167. ابن عبد البر: الاستيعاب 2 / 509. ابن معد: الحجة ص 179. محب الدين: ذخائر العقبى ص 232. سبط ابن الجوزي: تذكره ص 12. الهيثمي: مجمع الزوائد 9 / 273. ابن عنبة: عمدة الطالب ص 31. العامري: بهجة المحافل 1 / 327
3- عن سيرة السيدة خديجة. أنظر: حسين علي الشرهاني: حياة السيدة خديجة بنت خويلد من المهد إلى اللحد ص 45 ومابعدها
4- الشرح: 14 / 70، وانظر: ابوهلال العسكري: الاوائل ص 91. ابن المغازلي: مناقب ص 333 - 4. الزمخشري: ربيع الابرار 4 / 299 - 300. ابن معد: الحجة ص 182 - 186. سبط ابن الجوزي: تذكرة ص 302. دحلان: اسنى المطالب ص 8، 60 61
5- الشرح: 14 / 70، وانظر: ابن معد: الحجة ص 185 - 186

رابع عشر: روى الامام الصادق علیه السلام ان الرسول صلی الله علیه و آله وسلم قال: إن أصحاب الكهف أسرّوا الإيمان وأظهروا الكفر فآتاهم الله أجرهم مرتين، وإن أبا طالب أسرَّ الإيمان وأظهر الشرك، فآتاه الله أجره مرتين(1).

خامس عشر: إن جبرائيل علیه السلام قال للرسول صلی الله علیه و آله وسلم في الليلة التي مات بها أبو طالب: أخرج منها فقد مات ناصرك(2).

سادس عشر: أما حديث الضحضاح من النار(3)، فهو يروى عن شخص واحد وهو المغيرة بن شعبة المعروف ببغضه لبني هاشم وخاصة الإمام علي علیه السلام وقصته وفسقه غير خافٍ على أحد(4).

سابع عشر: روي بأسانيد مختلفة عن العباس وابي بكر: أن أبا طالب ما مات حتى قال: لا إله إلا الله محمد رسول الله. وهناك خبر مشهور: إن أبا طالب عند الموت قال كلاماً خفياً، فأصغى إليه العبّاس ثم قال للنبيّ صلی الله علیه و آله وسلم: يا ابن أخي والله لقد قالها عمّك، ولكن ضعف عن أن يبلغك صوته(5).

ثامن عشر: قال الإمام علي علیه السلام: ما مات أبو طالب حتى أعطى الرسول صلی الله علیه و آله وسلم من نفسه الرضا(6).

ص: 102


1- الشرح: 14 / 70
2- الشرح: 1 / 14، 29 / 70. وانظر المفيد: إيمان أبي طالب ص 74. ابن معد: الحجة ص 260
3- الشرح: 14 / 70. وانظر: ابن معد: الحجة ص 77 - 103
4- أنظر تفاصيل ذلك في الشرح 12 / 227 - 246، أبو الفرج: الاغاني 16 / 103 - 10. الحاكم: المستدرك 3 / 507 - 508
5- الشرح: 14 / 71، وانظر ابن هشام: السيرة: 2 / 58 - 59، ابن معد: الحجة ص 106 - 108، تاريخ أبو الفداء 1 / 120، ابن كثير: البداية والنهاية 3 / 123، وما بعدها
6- الشرح: 14 / 71، وانظر: ابن معد: الحجة ص 108 - 109

تاسع عشر: ان أشعار أبي طالب تدل على أنه كان مسلما، حيث لا فرق بين الكلام المنظوم والمنثور إذا تضمنا إقراراً بالإسلام، ألا ترى أن يهوديا لو توسط جماعة من المسلمين وأنشد شعراً قد ارتجله ونظمه يتضمن الإقرار بنبوّة محمد صلی الله علیه و آله وسلم لكنا نحكم بإسلامه، كما لو قال: أشهد أن محمداً رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم(1) ومن هذه الاشعار(2):

وظلمُ نبيٍ جاءَ يدعو إلى الهدى *** أمرٌ أتى من عندِ ذيِ العرشِ قيّمِ

ومن شعره لما كتبت قريش صحيفة المقاطعة:

ألم تعلموا أنَّا وجدْنا محمّداً *** رسولا كموسى خُطَّ في أولِ الكُتُبِ

ومنها(3):

فلسنا وبيتِ اللهِ نُسْلِمُ أحمدا *** لعزاء من غضِ الزمانِ ولا كربِ وقال(4):

يرى الناسُ برهانا عليه وهيبةً *** وما جاهلٌ في قومِهِ مثلُ عالِمِ

نبيٌّ أتاهُ الوحيُ من عندِ ربِهِ *** ومن قالَ لا: يُقرعْ بها سنُّ نادمِ

ص: 103


1- الشرح: 14 / 71، وانظر: ابن معد الحجة ص 186 - 324
2- من قصيدة في سبعة ابيات: الشرح: 14 / 71 - 72، وانظر ديوان أبي طالب، ط بحر العلوم ص 29 - 31. ابن معد: الحجة ص 189
3- الشرح: 14 / 72 - 73، وانظر ديوان أبي طالب، ط حسن آل ياسين ص 50. ابن هشام: السيرة 1 / 337 - 339. ابن معد: الحجة ص 192 - 193. السهيلي: الروض الانف 1 / 220. ابن كثير: البداية والنهاية 3 / 87، البغدادي: خزانة الأدب 1 / 261. دحلان: اسنى المطالب ص 7، 17 18
4- من قصيدة في ثمانية ابيات. الشرح: 14 / 73. وانظر ديوان أبي طالب، ط آل ياسين ص 50، 119. ابن معد: الحجة ص 201

وقال من قصيدة لما غضب لعثمان بن مظعون الجمحي لما عذبته قريش(1):

أوَ تؤمنوا بكتابٍ مُنزلٍ عجبٍ *** على نبيٍ كموسى أو كَذي النونِ

وروي أن أبا جهل أراد أن يرضخ رأس الرسول صلی الله علیه و آله وسلم وهو ساجد بحجر فلصق الحجر بكفه ولم يستطع فعل شيء فقال أبو طالب(2):

وأعجبُ من ذاكَ في امرِكُم *** عجائبَ في الحجرِ الملصقِ

بكفِ الذي قامَ من حينِهِ *** إلى الصابرِ الصادقِ المتّقي

فأثْبَتَهُ اللهُ في كفِّهِ *** على رغمِهِ الخائفِ الأحمقِ

وقال المأمون إن أبا طالب أسلم بقوله(3):

نصرتُ الرسولَ رسولَ المليكِ *** ببيضٍ تلالاً كلمعِ البروقِ

أذبُّ وأحمي رسولَ الإلهِ *** حمايةَ حامٍ عليهِ شفيقِ

ولما ذهب عمرو بن العاص إلى الحبشة ليحرض النجاشي على تسليم مهاجري الحبشة، كتب أبو طالب قصيدة إلى النجاشي يطلب منه إكرام جعفر والمهاجرين، ومنها(4):

ص: 104


1- من قصيدة في سبعة ابيات: الشرح: 14 / 73 - 74، وانظر ديوان أبي طالب، ط آل ياسين ص 307. ابن معد: الحجة ص 222
2- الشرح: 14 / 74، وانظر ديوان أبي طالب، ط آل ياسين ص 156. ابن معد: الحجة ص 224
3- الشرح: 14 / 74، وانظر ديوان أبي طالب، ط آل ياسين ص 66 - 67. ابن معد: الحجة ص 226 - 227
4- الشرح: 14 / 75، وانظر ديوان أبي طالب، ط آل ياسين ص 145. ابن هشام: السيرة 1 / 357. ابن معد: الحجة ص 239. ابن كثير: البداية 3 / 77

ألا ليت شعري كيف في النأي جعفر *** وعمرو وأعداء النبي الأقارب!

وقال في تحريض ولديه علي وجعفر على نصرة النبي صلی الله علیه و آله وسلم(1):

إن عليّا وجعفرا ثِقتي *** عند ملم الزمانِ والنوبِ

لا تخذلا وانصرا ابن عمِكُما *** أخي لأمّي من بينهِم وأبي

والله لا أخذِلُ النبي ولا *** يخذِلَهَ من بني ذو حسبِ

ومن شعره يخاطب به أخاه حمزة ويدعوه لنصرة النبي صلی الله علیه و آله وسلم(2):

فصبراً أبا يعلى على دينِ أحمدٍ *** وكنْ مُظهراً للدينِ وفِّقْتَ صابِرا

وحَطَّ من أتى بالحقِّ من عندِ ربِّهِ *** بصدقٍ وعزمِ لا تكنْ حمزُ كافرا

فقدْ سَرَّني إذْ قُلتَ إنَّكَ مؤمنٌ *** فكنْ لرسولِ اللهِ في اللهِ ناصرا

وبادِ قريشاً بالّذي قد أثبتَهُ *** جِهارا وقل ما كانَ أحمدُ ساحرا

وله قصيدة يمدح فيها النبي صلی الله علیه و آۀه وسلم منها:

انتَ النبيُ محمدٌ *** قرمٌ أعزُّ مسوَّدُ

لِمُسوَّدينَ أكارِمٍ *** طابوا وطابَ المولِدُ

ص: 105


1- الشرح: 14 / 76، وانظر ديوان أبي طالب، ط آل ياسين ص 63 - 64. أبو هلال العسكري: الاوائل ص 75. المفيد: إيمان أبو طالب ص 82 - 83، ابن معد: الحجة ص 249 - 251. جعفر نقدي: زهرة الادباء ص 6
2- الشرح: 14 / 76 - 77. وانظر ديوان أبي طالب، ط آل ياسين ص 153. المفيد: إيمان أبو طالب: ص 80. ابن معد: الحجة ص 277. الحلبي: السيرة الحلبية: 1 / 286. جعفر نقدي: زهرة الادباء ص 6

ومنها(1):

ما زلت تنطق بالصواب *** وأنت طفل امردُ

ومن شعره أيضاً(2):

لقد أكرم الله النبي محمداً *** فاكرم خلق الله في الناس أحمد

وشق له من اسمه ليجله *** فذو العرش محمود وهذا أحمد

وقوله(3):

يا شاهد الله عليَّ فاشهد *** إنّی على دين النبي احمد

من ضل في الدين فإني مهتد ومن شعره قصيدته اللامية التي أورد ابن هشام(4) منها - اربعة وتسعين بيتاً - ذكر ابن أبي الحديد سبعة عشر منها فقط، ومنها(5):

ص: 106


1- الشرح: 14 / 77. ابن معد: الحجة ص 281 - 282
2- الشرح 14 / 78. وانظر: أبو نعيم: دلائل النبوة 1 / 11. ابن معد: الحجة ص 284. ابن كثير: البداية والنهاية 1 / 226، 2 / 325. ابن حجر: الاصابة 4 / 115. القسطلاني: المواهب 1 / 518. دحلان: اسنى المطالب ص 18
3- الشرح 14 / 78. وانظر ابن معد: الحجة ص 294 - 295
4- السيرة النبوية 1 / 291 - 299. وذكر بعضها المفيد: إيمان أبي طالب ص 70 - 72
5- الشرح 14 / 78 - 79. وانظر ديوان أبي طالب، ط آل ياسين ص 85 - 94. حيث ذكرها في (115) بيت. الطبري: تاريخ 2 / 446 4 / 222. الشهرستاني: الملل والنحل 3 / 226. ابن معد: الحجة ص 296 - 300. ابن كثير: البداية والنهاية 3 / 53 - 75. وقد ذكر ابن كثير منها (92) بيتاً وقال: هذه قصيدة عظيمة بليغة جداً لا يستطيع أن يقولها إلا من نسبت إليه، وهي أفحل من المعلقات السبع، وأبلغ في تأدية المعنى فيها جميعها وقد أوردها الأموي في مغازيه مطولة بزيادات آخر، والله أعلم. 3 / 57. وقال القسطلاني في إرشاد الساري: قصيدة جليلة بليغة من بحر الطويل، وعدّة ابياتها مائة وعشرة ابيات 2/ 227. وذكر البغدادي منها في خزانة الأدب (42) بيتاً مع شرحها 1 / 252 - 261. دحلان: اسنى المطالب ص 18 - 19. السيرة الدحلانية 1 / 94 - 95. وقد شرحها جعفر نقدي في كتابه: زهرة الادباء في شرح لامية شيخ البطحاء ص 7 - 41

أعوذ بربّ البيت من كل طاعن *** علينا بسوء أو يلوح بباطل

ومنها كذبتم وبيت الله نبزي محمد *** ولما نطاعن دونه ونناضل

ومنها ألم تعلموا ان ابننا لا مكذّب *** لدينا، ولا يعبأ بقول الأباطل

يرى القائلون بتوحيده أن هذه الاشعار جاءت مجيء التواتر، لأنه إن لم تكن آحادها متواترة فمجموعها يدل على أمر واحد مشترك، وهو تصديق محمد صلی الله علیه و آله وسلم، ومجموعها متواترة، كما أن كل واحدة من قتلات علي علیه السلام الفرسان منقولة احاداً، ومجموعها متواتر، ولذا يفيدنا العلم الضروري بشجاعته، كذلك القول بسخاء حاتم، وحلم الاحنف، وذكاء إياس وغير ذلك(1).

عشرون: لمّا مات أبو طالب جاء الإمام علي علیه السلام فأعلم النبي صلی الله علیه و آله وسلم فتوجع صلی الله علیه و آله وسلم وجعاً عظيماً وحزن حزناً شديداً، ثم قال: امضِ فتولَّ غسله، فإذا رفعته على سريره فأعلمني، ففعل، فاعترضه صلی الله علیه و آله وسلم وهو محمول على رؤوس الرجال.

فقال صلی الله علیه و آله وسلم: وصلتك رحم يا عم، وجزيت خيراً: أما والله لأستغفرن لك، ولأشفعن فيك شفاعة يعجب لها الثقلان(2).

ص: 107


1- الشرح 14 / 78
2- الشرح 14 / 76 يه السلام ى اللحد ص 45 ومابعدها. وانظر ابن سعد: الطبقات 1 / 123. اليعقوبي: التاريخ 2 / 30. المفيد: إيمان أبي طالب ص 75. الخطيب: تاريخ بغداد 13 / 196. ابن معد: الحجة ص 264 - 265. سبط ابن الجوزي: تذكرة ص 8 - 9. ابن كثير: البداية والنهاية 3 / 125. ابن حجر: الاصابة 4 / 116. الحلبي: السيرة الحلبية 1 / 373

قال القائلون بتوحيده: والمسلم لا يجوز أن يتولى غسل الكافر، ولا يجوز للنبيّ صلی الله علیه و آله وسلم أن يرق لكافر، ولا يدعو له بخير، ولا الاستغفار والشفاعة، وكان سبب تولية الإمام علي - علیه السلام - غسله، لأن طالباً وعقيلاً لم يكونا قد أسلما، أما جعفر فكان بالحبشة، وأما بخصوص صلاة الجنائز فإنها لم تشرّع بعد ولذا لم يصل النبي لا على أبي طالب ولا خديجة، إنّما كان تشييع ودعاء(1).

إحدى وعشرون: إن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم استغفر لأبي طالب بعد معركة بدر لما ذكر عبيدة بن الحارث(2) شعر أبي طالب(3):

كذبتم وبيت الله نخلي محمّداً *** ولما نطاعن دونه ونناضل

وننصره حتى نصرع حوله *** ونذهل عن أبناءنا والحلائل

اثنتان وعشرون: روي أن اعربياً أنشد النبي صلی الله علیه و آله وسلم شعراً لما حل به من جدب،

فدعا النبي صلی الله علیه و آله وسلم واستسقى، فاستجاب الله له، ثم قال صلی الله علیه و آله وسلم لله در أبي طالب: لو

كان حياً لقرت عينه. من ينشدنا قوله فأنشد علي قصيدته التي منها:

وأبيض يستسقى الغمام بوجهه *** ثمال اليتامى عصمة للأرامل

يطيف به الهلاك من آل هاشم *** فهم عنده في نعمة وفواضل

ص: 108


1- الشرح 14 / 76. وانظر ابن معد: الحجة ص 266 - 267. سبط ابن الجوزي: تذكرة ص 304. الشبلنجي: نور الابصار ص 13
2- استشهد في معركة بدر. أنظر ترجمته، ابن الاثير: اسد الغابة 3 / 356 - 357. ابن حجر: الاصابة 2 / 549
3- الشرح 3 / 258 - 14، 9 / 80. وانظر ديوان أبي طالب، ط آل ياسين ص 88. الواقدي: المغازي 1 / 69 - 70. ابن هشام: السيرة 1 / 3، 294 / 224. ابن معد: الحجة ص 300 - 302

ورسول الله صلی الله علیه و آله وسلم قائم يستغفر لأبي طالب على المنبر(1).

ثالث وعشرون: أما سبب عدم إظهار أبي طالب لإسلامه، فلأنّه لو أظهره لم يتهيأ له نصرة الرسول صلی الله علیه و آله وسلم، فيكون بذلك كأحد المسلمين نحو أبي بكر وعبد الرحمن بن عوف وغيرهما، وإنّما تمكن من نصرته، والدفاع عنه بالثبات ظاهراً على دين قريش، وإن أبطن الإسلام(2).

هذه الأدلة لم يبد ابن أبي الحديد عليها تعليقاً ما عدا الدليل الثاني وهو قول النبي صلی الله علیه و آله وسلم:

«نُقلنا من الأصلاب الطاهرة إلى الأرحام الزكية».

فوجب بهذا أن يكون آباؤه كلّهم منزهين عن الشرك لأنّم لو كانوا عبدة أصنام لما كانوا طاهرين».

قال ابن أبي الحديد: هذا الاحتجاج عندي ضعيف لأنّ المراد من قوله: نقلنا من الأصلاب الطاهرة إلى الأرحام الزكية». وهو تنزيه آبائه وأجداده وأمهاته عن السفاح لا غير، لأنّ العرب كان يعيب بعضها البعض باختلاط المياه، واشتباه الأنساب، ونكاح الشبهة. ورَدَّ ابن أبي الحديد على قولهم: لو كانوا عبدة أصنام لما كانوا طاهرين. قال: إنّه لا منافاة بين طهارة الأصلاب وعبادة الأصنام، فلو أراد صلی الله علیه و آله وسلم مازعموه لذكر العقائد بدل الأصلاب والأرحام. كذلك

ص: 109


1- الشرح 14 / 80 - 81. أنظر: ديوان أبي طالب، ط آل ياسين ص 89، 96. ابن هشام: السيرة 1 / 300. اليعقوبي: التاريخ 2 / 22. ابن معد: الحجة ص 305 - 11. الشهرستاني: الملل 3 / 225 - 226. ابن حجر: الاصابة 4 / 115. السيوطي: الخصائص الكبرى 1 / 214. الديار بكري: تاريخ الخميس 1 / 354. دحلان: اسنى المطالب ص 14، 18
2- الشرح 14 / 81 - 82. ابن معد: الحجة ص 340 - 342

ردّ على قولهم: إن أبا ابراهيم كان مسلماً، وإن المشرك عمّه. قال: إن هذه الآية لا تفيدهم، فإن أبا طالب هو عمّ النبي صلی الله علیه و آله وسلم، ولذلك فهذه الآية ليست لهم بحجة في إسلام أبي طالب(1).

موقف ابن أبي الحديد:

لقد بنى ابن أبي الحديد حكمه في أبي طالب على امرين:

الأول: إنّه قد روي في إسلامه أخبار، وروي في موته على دين قومه أخبار أخرى، لذا تعارضت الأدلة فتعارض الجرح والتعديل ويمكن أن يقول أصحاب الحديث: إذا تعارض الجرح والتعديل، فالترجيح عند أصحاب الأصول لجانب الجرح، لأنّ الجارح قد اطّلع على زيادة لم يطلع عليها المعدل.

أجاب ابن أبي الحديد: إن هذا يكون في اصول الفقه في طعن مفصل في مقابلة تعديل مجمل، فعلى سبيل المثال يروي شعبة(2) حديثا عن شخص ما هو عنده ثقة، ويكفي توثيقه إنه بالنسبة إليه مستور الحال ظاهره العدالة، ولكن الدارقطني(3) يطعن فيه كأن يقول: كان مدلساً(4) أو يرتكب الذنب الفلاني

ص: 110


1- الشرح 14 / 67 - 68
2- شعبة بن الحجّاج الأزدي بالولاء من أئمّة رجال الحديث 82 - 160، أنظر أبو نعيم: حلية الاولياء 7 / 144 - 209، الخطيب: تاريخ بغداد 9 / 255 - 216
3- علي بن عمر بن احمد الدارقطني الشافعي (306 - 385 ه) من ائمة الحديث وأول من صنف في القراءات، الخطيب: تاريخ بغداد 12 / 34 - 40. السبكي: طبقات الشافعية 2 / 310 - 312. الذهبي: معرفة القراء الكبار 1 / 281. السمعاني: الانساب 5 / 273 - 275. مظفر شاكر محمود الحياني: الامام الدارقطني ص 38 - 130
4- التدليس: اسقاط الراوي من اسناد الحديث بحيث يكون السقط من الاسناد خفياً. التهانوي: كشاف اصطلاحات العلوم 2 / 481

فيكون طعنه فيه مفصلاً في مقابلة تعديل مجمل.

أما هنا فالروايتان متعارضتان تفصيلا لا إجمالا فهؤلاء يقولون: إنّه تلفظ بكلمتي الشهادة عند الموت والآخرون يرون إنه قال عند الموت أنا على دين الأشياخ.

وقال: أما من يقول بإسلامه فيقول ان روايتنا أرجح لأنا نروي حكما ايجابيا ونشهد على إثبات، وخصومنا يشهدون على النفي.

قال: ولا شهادة على النفي، وذلك ان الشهادة في الجانبين معاً، إنما هي على إثبات ولكنه إثبات متضاد(1).

الثاني: ما ورد في رسالة محمد ذي النفس الزكية(2) حيث يقول: (ويقف في صدري رسالة النفس الزكية إلى المنصور وقوله فيها: (فأنا ابن خير الأخيار وأنا ابن شر الأشرار وأنا ابن سيّد أهل الجنةّ وأنا ابن سيّد أهل النار). فإن هذه شهادة منه على أبي طالب بالكفر، وهو ابنه وغير متهم عليه، وعهده قريب من عهد النبي صلی الله علیه و آله وسلم، ولم يطل الزمان فيكون الخبر مفتعلاً(3).

إن هذين الأمرين جعلا ابن أبي الحديد يتوقف في اصدار حكم في أبي طالب حيث يقول: (فتعارض الجرح والتعديل، فكان كتعارض البينتين عند الحاكم، وذلك يقتضي التوقف فأنا في أمره من المتوقفين)(4).

ص: 111


1- الشرح: 14 / 83
2- سنترجمه لاحقاً
3- الشرح: 14 / 82
4- الشرح: 14 / 82. وقد ردَّ يوسف البحراني ت 1186 ه على توقف ابن أبي الحديد هذا في كتاب أسماه (سلاسل الحديد في تقييد ابن أبي الحديد) حيث قال يوسف البحراني في ترجمته لنفسه في كتابه لؤلؤة البحرين في ذكر مؤلفاته ما نصّه (ومنها كتاب سلاسل الحديد في تقييد ابن أبي الحديد) والرد عليه في شرحه لكتاب نهج البلاغة الذي رام فيه أن يشرحه على رأي المعتزلة واصولهم ومذاهبهم وقواعدهم، وذكرت في أوله مقدمة شافية في الإمامة تصلح أن تكون كتابا مستقلا ثم نقلت من كلامه في الشرح المذكور ما يتعلق بالإمامة وأحوال الخلفاء والصحابة وما يناسب ذلك ويدخل تحته وبينّت ما فيه من الخلل والمفاسد الظاهرة لكلّ طالب وقاصد، خرج منه مجلد ومن المجلد الثاني ما يقرب من ثلث مجلد، وعاق الاشتغال بكتاب الحدائق عن إتمامه، لؤلؤة البحرين ص 446 - 447، احمد الربيعي: العذيق النضيد ص 80

والآن لنقف عند الأدلة التي ذكرها ابن أبي الحديد في مسألة إيمان أبي طالب، أو بقائه على دين قومه، تلك الأدلة التي وقف منها ابن أبي الحديد موقفا سلبيا فلم يبد رأيا فيها، فلنقف عندها ولنناقشها لنرى مدى مطابقتها للواقع، ولنبدأ أولا بأدلة القائلين ببقائه على دين قومه:

الدليل الأول والثاني: اللذان ينصان على ان النبي صلی الله علیه و آله وسلم، طلب من أبي طالب أن يشهد الشهادتين عند موته، فكان ردُّ أبي طالب: انه على دين عبد المطلب.

والسؤال هنا: ما هو دين عبد المطلب؟ المعروف ان المعتقد الأول لأهل مكة هو دين الحنيفية الذي هو بقايا دين ابراهيم الخليل علیه السلام ثم جاء عمرو بن لحي بفكرة الاصنام(1) والتي وإن انتشرت في مكة إلا أنه بقي اناس لا يقرّون بها عرفوا بالأحناف(2).

اما إذا نظرنا إلى عبد المطلب فنجد أن الأحداث الهامة في مكة قد ارتبطت

ص: 112


1- الأزرقي: اخبار مكة 1 / 117، أبو هلال العسكري: الاوائل ص 48. الشهرستاني: الملل 3 / 217. السيوطي: السبل الجلية ص 13
2- أنظر الآلوسي: بلوغ الارب 2 / 194 6، 244 286

بأيامه، كحفر زمزم، والذي يلاحظ أنه تمّ بوحي(1) وحملة أبرهة التي أشار لها القرآن الكريم، حيث كان لعبد المطلب الدور الرائد في إفشالها، وموقفه فيها دليل على توحيده وإلا فما معنى قوله لأبرهة: [إن للبيت رباً يحميه] وفيه إشارة لإيمان عميق برب هذا البيت وإنه لمؤمن بعدم قدرة أيٍّ كان على هدمه، ولقد كان لكلامه أثر في إدخال الرعب في قلب أبرهة، ومن ثمَّ فشل الحملة، ولو لم يكن عبد المطلب على هذه الدرجة من التوحيد لمَا أسمته العرب (ابراهيم الثاني) ولمَا أعظمت موته حتى بقي على رؤوس الرجال اياما.

ويروى أنه كان يؤمن بالمعاد فكان من وصاياه: (انه لن يخرج من الدنيا ظلوم حتى ينتقم الله منه وتصيبه عقوبة)، فلما هلك أحد الظلمة ولم تكن قد اصابته عقوبة قال: والله إن وراء هذه الدار دار يجزى فيها المحسن بإحسانه ويعاقب المسيء بإساءته.(2) ومن الأدلة على توحيد عبد المطلب، إشادة الرسول صلی الله علیه و آله وسلم به في موقف من اصعب المواقف التي مرت به صلی الله علیه و آله وسلم وذلك يوم حنين الذي اعجب المسلمون فيه بكثرتهم ولكنهم ما لبثوا أن انهزموا تاركين الرسول صلی الله علیه و آله وسلم في عدد قليل ممن ثبت معه، فنزل صلی الله علیه و آله وسلم إلى ساحة المعركة يقاتل ويهتف(3):

ص: 113


1- اليعقوبي: التاريخ 1 / 216
2- الشهرستاني: الملل والنحل بهامش الفصل 3 / 224 - 225، السيوطي: الدرج المنيفة ص 14. مسالك الحنفا ص 37
3- الواقدي: المغازي 1 / 280. ابن حنبل: المسند 4 / 289، 304. الطبري: تاريخ 3 / 76. جامع البيان 10 / 103. الملطي: التنبيه ص 152. ابن حزم: جمهرة انساب العرب ص 234. ابن تيمية: منهاج السنة 4 / 177

أنا النبي لا كذب *** أنا ابن عبد المطلب

إنه لأمر يثير الاستغراب في موقف يدعو النبي فيه المشركين لعبادة الله سبحانه وتعالى ونبذ الوثنية إلى أن وصل به الحال إلى استخدام القوة، وفي مثل هذا الموضع الذي يجدر بالنبي صلی الله علیه و آله وسلم فيه أن يذكر أناسا على خط التوحيد، أما إنه يذكر مشركاً ويفتخر به في موضع يقاتل به الشرك والمشركين، إن هذا لشيء عجاب!!.

والظاهر أن النبي صلی الله علیه و آله وسلم إنما بقوله هذا يعيد إلى الاذهان ذكرى عبد المطلب ومواقفه النبيلة وكأنه يقول لهم: أنا ابن ذلك الانسان الذي اسميتموه ابراهيم الثاني؟ الذي أوجد لكم زمزم والذي رد أبرهة عن البيت الحرام؟ فإذا كان عبد المطلب بتلك المكانة التي تعرفونها عنه فأنا ابنه:

(أنا النبي لا كذب).

وينسحب الكلام حول أبوي النبي صلی الله علیه و آله وسلم، حيث يرى القائلون ببقاء أبي طالب على دين قومه أن أبوي النبي صلی الله علیه و آله وسلم (جمرة من جمرات جهنم) وقد اثبت السيوطي إيمان أبوي النبي صلی الله علیه و آله وسلم في أكثر من كتاب من كتبه ومنها: مسالك الحنفا في والدي المصطفى(1)، والدرج المنيفة في الآباء الشريفة(2)، والمقامة السندسية في النسبة المصطفوية(3)، والتعظيم والمنة في أن أبوي رسول الله في الجنة(4)، ونشر

ص: 114


1- ص 2 وما بعدها
2- ص 2 وما بعدها
3- ص 2 وما بعدها
4- ص 2 وما بعدها

العلمين في إحياء الابوين(1)، والسبل الجلية في الآباء العلية(2).

تجدر الاشارة إلى أن قصة فداء عبد الله بذلك الاسلوب الذي أشارت به الكاهنة فأصبح فداؤه مائة بعير(3)، وهذا ما اثبته الإسلام فيما بعد فيه دلالة على أن مسألة تدخّل الكهان والاصنام لا صحة لها، إذ كيف يثبت الإسلام حكما أقرته الاصنام والكهان، وهو الذي جاء للقضاء عليها.

إذا ماذا كان يقصد أبو طالب بقوله: (إني على دين عبد المطلب). فهل يريد التعمية على المشركين الذين يعتقدون ان عبد المطلب على دينهم؟ أم إن أبا طالب إراد تأكيد إيمانه بأنه كإيمان عبد المطلب! كما يقول الشاعر(4):

ولا عيب فيهم غير ان سيوفهم *** بهن فلول من قراع الكتائب

الدليل الثالث: الذي يشير لنزول الآية القرآنية «مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ»(5).

روى البخاري في صحيحه عن سعيد بن المسيب عن أبيه قال: (لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه الرسول صلی الله علیه و آۀه وسلم فوجد عنده أبا جهل و عبد الله بن أبي أمية ابن المغيرة فقال: أي عم! قل: لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله، فقال

ص: 115


1- ص 2 وما بعدها
2- ص 2 وما بعدها
3- الأزرقي: اخبار مكة 2 / 48 - 49. الطبري: تاريخ 2 / 240 - 244. السيوطي: الوسائل ص 55 - 56
4- للشاعر النابغة الذبياني: ديوانه ص 15. ابن خلكان: وفيات 3 / 257
5- التوبة: 113

أبو جهل و عبد الله بن أبي أمية: أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فلم يزل رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم يعرضها عليه ويعيدانها بتلك المقالة حتى قال أبو طالب آخر ما تكلم به: على ملة عبد المطلب وأبى أن يقول: لا إله إلا الله فقال صلی الله علیه و آله وسلم: والله لأستغفرن لك ما لم أنه عنك فنزل قوله تعالى «مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ...»)(1).

والآن لنطرح الحيثيات الآتية:

أولاً: المعروف ان الرسول صلی الله علیه و آله وسلم وعلى مدى عشر سنوات كان يدعو إلى التوحيد تحت مرأى وحماية أبي طالب، فأين كان صلی الله علیه و آله وسلم عن أبي طالب؟ ولماذا لم يدعه إلى التوحيد الا في هذه الساعة الأخيرة من حياته؟ حيث لم نقرأ في الروايات أنه دعاه إلا ما كان في يوم الإنذار في بدء الدعوة الاسلامية والذي أيد فيه أبو طالب النبي، ودعاه للقيام بأمره وتعهد بحمايته(2).

ثانياً: ان قول النبي صلی الله علیه و آله وسلم: لاستغفرن لك ما لم أنه عنك. فيه دلالة أن فكرة النهي عن الاستغفار للمشركين كانت ماثلة لديه صلی الله علیه و آله وسلم، إذاً كان الأجدر بالنبي صلی الله علیه و آله وسلم أن يطلب أولاً الإذن من الله سبحانه وتعالى على الاستغفار، قبل المبادرة إلى فعل يشك صلی الله علیه و آله وسلم بأن الله لا يرخص به.

ثالثاً: أما الآية أعلاه فهي الآية (114) من سورة التوبة والمعروف ان هذه السورة نزلت في المدينة في السنة التاسعة للهجرة(3) أي بعد وفاة أبي طالب

ص: 116


1- الصحيح 6 / 132 - 133. وانظر مسلم: الصحيح 1 / 214
2- أنظر موقف أبي طالب يوم الإنذار. الشرح: 13 / 199، 211. اليعقوبي: التاريخ 2/ 23 - 24. الطبري: جامع البيان 19 / 122
3- أنظر: الزمخشري: الكشاف 2 / 241، القرطبي: الجامع 8 / 61

باثنتي عشرة سنة فما هو السر في تأخرها إن كانت نزلت في حق أبي طالب؟!!.

رابعاً: حتى لو قلنا إنها نزلت في أبي طالب بعد كل هذه السنين ولكن ألا تستوقفنا تلك الآيات الكثيرة التي نزلت قبلها، والتي تدعو النبي والمؤمنين لعدم الاستغفار للمشركين، ولا المودة لهم ولا اتخاذهم اولياء(1)، أفما كان بهذه الآيات دليل للنبي صلی الله علیه و آله وسلم أن لا يستغفر لأبي طالب حتى ينتظر كل تلك المدة وهو يستغفر له؟ خامساً: إن هناك مناسبات أخرى لنزول الآية قد تكون أكثر مصداقا لسبب نزولها ومنها:

قال الإمام علي علیه السلام: سمعت رجلا يستغفر لأبويه وهما مشركان فقلت:

أتستغفر لأبويك وهما مشركان؟ قال: أولم يستغفر ابراهيم؟ فذكرت ذلك للنبي صلی الله علیه و آله وسلم فنزلت الآية(2).

قال ابن عباس: كانوا يستغفرون لآبائهم حتى نزلت هذه الآية، فلما نزلت أمسكوا عن الاستغفار لأمواتهم، ولم ينهوا عن الاستغفار للأحياء حتى يموتوا ثم أنزل الله تعالى:

«وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأبَيِهِ».

ص: 117


1- كقوله تعالى: «لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ». سورة المجادلة، آية 22، نزلت قبل سورة التوبة بسبع سور. السيوطي: الاتقان 1 / 17. بالاضافة إلى الآية 28 من سورة آل عمران والآيات 139، 144 من سورة النساء وغيرها
2- الترمذي: صحيح 11 / 249 - 252 . الطبري: جامع البيان 11 / 43. دحلان: اسنى المطالب ص 32

أي أن استغفاره كان ما دام ابوه حيا(1).

عن قتادة: (ذكرنا رجالا من اصحاب النبي صلی الله علیه و آله وسلم قالوا: يا نبي الله إن من ابائنا من كان يحسن الجوار ويصل الرحم ويفك العاني ويوفي بالذمم أفلا نستغفر لهم؟ فنزل قوله تعالى:

«مَا كَانَ للِنَّبِيِّ»)(2).

سادسا: إن الاداة (ما) الواردة في الآية تفيد النفي وليس النهي أي إن الآية تفيد نفي استغفار الرسول صلی الله علیه و آله وسلم للمشركين، أي ان النبي صلی الله علیه و آله وسلم لم يستغفر للمشركين، فإذا كان النبي صلی الله علیه و آله وسلم قد استغفر لأبي طالب فهذه الآية تؤكد إن أبا طالب ليس مشركا لأنه لو كان مشركا لما كان النبي صلی الله علیه و آله وسلم سيستغفر له.

سابعا: إن من احتج على الاستغفار للمشركين لم يحتج بفعل النبي صلی الله علیه و آله وسلم بل بفعل ابراهيم صلی الله علیه و آله وسلم ولو كانوا يعرفون أن أبا طالب مشرك وأن النبي صلی الله علیه و آله وسلم يستغفر له، لكان الاولى أن يحتجوا بفعل النبي صلی الله علیه و آله وسلم لا بفعل ابراهيم علیه السلام(3).

ثامناً: ان مصدر الرواية مطعون فيه، فالراوي هو سعيد بن المسيب وهو المعروف بموقفه السلبي تجاه الإمام علي علیه السلام حيث ذكره ابن أبي الحديد في جملة من اتخذ موقفاً سلبياً من الإمام علي علیه السلام(4).

تاسعاً: المعروف ان النبي صلی الله علیه و آله وسلم قال لعقيل الذي أسلم قبل فتح مكة: احبك

ص: 118


1- دحلان: اسنى المطالب ص 18، 45
2- الطبري: جامع البيان 11 / 31
3- الطبري: جامع البيان 11 / 31
4- الشرح: 4 / 101 - 102. مع ان سعيد بن المسيب موثق عند علماء الجرح والتعديل، ابن حجر: تقريب التهذيب 1 / 305 - 306، تهذيب التهذيب 4 / 84 - 85

حبين: حبا لك وحبا لحب أبي طالب لك)(1) والمعروف أن الآيات الكثيرة التي نزلت قبل فتح مكة تؤكد على عدم المودة للمشركين.

الدليل الرابع: نزول الآية.

«إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ»(2).

في أبي طالب(3) أولاً: ان نسبة الهداية إلى الله سبحانه وتعالى لا تقتصر على هذه الآية وإنما هناك آيات كثيرة تشير إلى ذلك فعلى سبيل المثال قوله تعالى:

«لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ»(4).

وقوله تعالى:

«إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ»(5).

و:

«أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ»(6).

و:

ص: 119


1- الشرح: 14 / 70، وانظر الحاكم: المستدرك 3 / 667، ابن عبد البر: الاستيعاب 2 / 509. ولكن لماذا يحب أبو طالب عقيلا أكثر من باقي ولده؟ أم أنها وضعت لتؤكد كفر أبي طالب، وانه يحب عقيلا لأنه بقي على الكفر مثله!
2- سورة القصص 56
3- أنظر تحليل الخنيزي: أبو طالب ص 311، 361 - 376
4- سورة البقرة، الآية 272
5- سورة النحل، آية 37
6- سورة النساء، آية 88

«مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا»(1).

وغيرها.

غير أن هذه الهداية والضلال لا تأتي بالقوة ولكن الله سبحانه وتعالى أوضح للانسان الطريق الصحيح ومنحه الحرية لاختيار ما يشاء:

«إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبيِلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا»(2).

فإذا ما اختار طريق الهداية فالله سبحانه وتعالى قادر على أن يضله، ولكن عدله سبحانه وتعالى يأبى ذلك، وإذا ما اختار طريق الضلال فالله قادر على هدايته ولكنهّ تعالى لا يستخدم الجبر في ذلك، أي إن فحوى الآيات أن إيمان الانسان وضلاله ليس خارجا عن قدرة الله سبحانه وتعالى.

إذن فهناك آيات كثيرة نزلت بهذا المعنى فلا يوجد داع لتخصيص هذه الآية دون غيرها في أبي طالب.

ثانيا: إن قوله تعالى:

«إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ»(3) هذا الخطاب لا يعني أنه موجّه للنبي صلی الله علیه و آله وسلم فقط، بل هو موجّه لكل من سار في طريق الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى ثم ان لفظه (إنك) التي تفيد المفرد قد تفيد الجمع، فالقرآن أحيانا يستخدم المفرد ويريد الجمع، وأحيانا يستخدم

ص: 120


1- سورة الكهف، آية 17
2- سورة الانسان، آية 3
3- سورة القصص: آية 56

الجمع ويريد المفرد، وهذا موجود في اللغة العربية.(1) ثالثاً: ان روايات نزول هذه الآية في أبي طالب كلها مروية عن اشخاص لم يشهدوا زمان أبي طالب أو معاينته حال الوفاة وهم:

رواية مصدرها - أبو هريرة - وهو صحابي من أهل البحرين جاء إلى المدينة وأسلم في السنة السابعة للهجرة في فتح خيبر، أي بعد وفاة أبي طالب بعشر سنين ولم تشر الرواية لمصدر أبي هريرة(2).

رواية عن أبي سهل السري بن سهل، عن عبد القدوس، عن أبي صالح، عن ابن عباس، والمعروف أن أبا سهل ضعيف الحديث، بل مجهول العين والحال.(3) اما عبد القدوس بن حبيب الكلاعي من أهل الشام فلم يكن ابن المبارك يفصح بقوله كذاب إلا لعبد القدوس هذا، وقال الفلاس: اجمعوا على ترك حديثه، وقال النسائي: ليس بثقة(4).

ص: 121


1- وقد ورد هذا الاسلوب كثيراً في القرآن الكريم كقوله تعالى: «الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ» سورة آل عمران، آية 181، نزلت في حي بن اخطب. القرطبي: الجامع 4 / 294. وقوله تعالى: «وَمِنَ الناَّسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فيِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فيِ قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ» سورة البقرة، آية 204، نزلت في الأخنس بن شريق. الواحدي: أسباب النزول: ص 39. وقوله تعالى: «وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ» سورة النور، آية 33. نزلت في غلام حويطب ابن عبد العزى. الواحدي: أسباب النزول ص 219
2- أنظر الرواية لدى السيوطي: الدر المنثور 5 / 133
3- الذهبي: ميزان الاعتدال 4 / 535
4- أبو زرعة: الضعفاء 3 / 815. الذهبي: ميزان الاعتدال 2 / 642. ابن أبي حاتم: الجرح والتعديل 3 / 1 / 56

ومصدر الرواية ابن عباس الذي كان يوم وفاة أبي طالب رضيعا!(1) فمن الذي أخبره بالرواية(2)؟ هل أبوه الذي أكد أن أبا طالب قال كلمة التوحيد في آخر لحظات حياته!!.

رواية عن أبي سهل السري الكذاب المار الذكر، عن عبد القدوس الكذاب أيضاً إلى أن تنتهي إلى عبد الله بن عمر بن الخطاب والمعروف ان ابن عمر كان عمره وقتذاك سبع سنوات(3) ولا يتصور أنه حضر وفاة أبي طالب فمن الذي اخبره بذلك؟(4).

فهذه الروايات برواتها الضعفاء والكذابين يمكن القول أنها وُضِعت ونسبت إلى الصحابة.

الدليل الخامس: قول الإمام علي علیه السلام للنبي صلی الله علیه و آله وسلم: ان عمك الضال قد قضي! فما الذي تأمرني فيه؟ أولاً: هل هذا الكلام الصادر من الإمام علي علیه السلام بحق أبيه يتناسب مع خلق الامام الذي هو من خلق رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم!!! ثانياً: إذا كان الإمام علي علیه السلام ناقماً علي أبيه، فأين كان عنه؟ فهل سمعنا أو قرأنا أنه علیه السلام ناقش أباه يوما على الضلالة؟ وينسحب الأمر إلى النبي صلی الله علیه و آله وسلم حيث لم نقرأ انه دعا عمه أبا طالب إلا في اللحظات الأخيرة من حياته وهو أمر غير

ص: 122


1- الطبري: المنتخب ص 524. ابن حزم: جمهرة ص 18. ابن عبد البر: الاستيعاب 3 / 933. ابن الاثير: اسد الغابة 3 / 193
2- أنظر الرواية لدى السيوطي: الدر المنثور 5 / 133
3- ابن الاثير: اسد الغابة 3 / 227 - 231
4- أنظر الرواية لدى السيوطي: الدر المنثور 5 / 133

مستبعد، لأن تلقين الميت بالشهادتين من السنة المباركة.

ثالثاً: أليس من اغرب الغرائب أن يموت شيخ البطحاء، وهو الذي كان السند والعمود لدعوة النبي صلی الله علیه و آله وسلم لعشر سنوات والنبي محمد صلی الله علیه و آله وسلم بعيد عنه، ثم يموت ولا أحد بجواره، لدرجة أن الإمام عليا علیه السلام يحتار في أمره فيأتي إلى النبي صلی الله علیه و آله وسلم يطلب الإذن فيه، فيقول له صلی الله علیه و آله وسلم: إذهب فواره، فأين أبناء عبد المطلب العشرة؟ أين بقية بني هاشم؟ أين زعماء قريش؟ أ يموت أبو طالب هكذا وضع وكأنه من عامة الناس؟! رابعاً: ان سند الرواية مطعون فيه وهو: عن سفيان بن عيينة عن أبي اسحاق، عن ناجية بن كعب، قال: قال علي علیه السلام: ان عمك…) اما سفيان بن عيينة فمع انه يوصف بأنه حافظ فقيه، إمام حجة، وثقة، وقد اجتمعت الأمة على الاحتجاج به، لكنه كان يدلس عن الثقات، وقد تغير حفظه واختلط في سنة 197 ه(1).

أبو اسحق السبيعي: هو عمرو بن عبد الله الهمداني، يشار إلى أنه كان عابدا ثقة وقد ولد أيام الخليفة عثمان ورأى الإمام عليا وأسامة، ولكنه في عهد معاوية كان يتقاضى منه ثلاثمائة دينار في الشهر، وهذا يوجب التوقف في امره؟ والتساؤل عن سر ذلك؟ ويشار إلى انه اختلط في آخر حياته، واخذ ينسى وتغير حفظه، ويقال أيضاً إنه افسد حديث أهل الكوفة(2).

أما ناجية بن كعب، فقد توقف ابن حيان في توثيقه ولم يحدث عنه إلا أبو

ص: 123


1- الذهبي: ميزان الاعتدال 2 / 170 - 171. ابن حجر: تقريب التهذيب 1 / 312
2- الذهبي: ميزان الاعتدال 2 / 270. ابن حجر: تقريب التهذيب 2 / 73

اسحق السالف الذكر(1).

الدليل السادس: لم ينقل عن أبي طالب أنه صلى:

أولاً: إذا كان أبو طالب لم يعلن إسلامه قولاً، أتجده يعلن صلاته فعلا، فإن كان قد تستر على القول فالفعل اولى بالتستر! ثانياً: ان الصلاة يومذاك لم تكن واجبة(2)، بل نافلة فمن شاء صلى، ومن شاء ترك لأن المسلمين كانوا تحت انظار المشركين.

ثالثاً: هل نقل عن جميع ممن أسلم في مكة انه صلى! الدليل السابع: عدم أخذ الإمام علي علیه السلام وجعفر من تركة أبي طالب(3).

أولاً: ما هي هذه التركة التي تركها أبو طالب؟ أو ليس أبو طالب هو ذاك الفقير الذي ساد مكة وما ساد فقير قبله! أو ليس أبا طالب هو الذي ترك النبي صلی الله علیه و آله وسلم والعباس يأخذان ولديه عليا وجعفرا حتى يخففا عنه أثقال المعيشة لأنه كان فقيرا؟ مع اننا نتحفظ على أخذ العباس جعفرا وقد تكون الرواية وضعت للطعن في تربية الإمام علي علیه السلام في بيت النبي صلی الله علیه و آله وسلم(4).

ثانيا: ولنفترض انه كانت لديه تركة، فأي شيء يبقى منها في ذلك الزمن الصعب؟ فما الذي بقي من اموال خديجة وهي من كبار اغنياء مكة، حتى

ص: 124


1- الذهبي: ميزان الاعتدال 4 / 239
2- الشرح: 14 / 83. وانظر: ابن زبالة: منتخب ص 48، حيث ذكر ان خديجة توفيت قبل فرض الصلاة
3- أنظر تحليل الخنيزي: أبو طالب ص 376 - 377
4- وقد ناقشنا الرواية تفصيلا في بحثنا الموسوم (فضائل الإمام علي علیه السلام المنسوبة لغيره... الولادة في الكعبة)

اصبحت في أيام حصار الشعب تجلس على حصير ولا تجد لها طعاماً، حيث انفقت اموالها في خدمة الدعوة الاسلامية(1)، فإذا كان هكذا يؤول حال خديجة فما ظنك بأبي طالب!!؟ الدليل الثامن: رواية الضحضاح(2) في النار.

فحوى هذه الرواية ان العباس بن عبد المطلب سأل النبي صلی الله علیه و آله وسلم: ما أغنيت عن عمك، فإنه كان يحوطك ويغضب لك قال صلی الله علیه و آله وسلم: هو في ضحضاح من النار، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل، وفي رواية: وجدته في غمرات النار فأخرجته إلى ضحضاح. وفي رواية: لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة، فيجعل في ضحضاح من نار يبلغ كعبيه يغلي منه دماغه.

يمكن مناقشة النص أعلاه في الحيثيات الآتية(3) أولاً: المعروف في العقيدة الاسلامية ان من يموت مشركا فإن له نار جهنم خالدا فيها ابدا، فهو ممن لا يغفر له يقول تعالى:

«إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ»(4).

ثانياً: ان الشفاعة في العقيدة الاسلامية منحصرة باهل التوحيد فقط، اما من لم يكن بموحد (فما تنفعهم شفاعة الشافعين)(5).

قال صلی الله علیه و آله وسلم قيل لي: سل فإن كل نبي قد سأل، فأخرت مسألتي إلى يوم القيامة،

ص: 125


1- أنظر الشرهاوي: السيدة خديجة ص 81 - 87
2- الضحضاح: الماء القريب القعر، الرازي: مختار الصحاح ص 377
3- أنظر تحليل الخنيزي: أبو طالب ص 377 - 403
4- سورة النساء، آية 48
5- سورة: المدثر، آية 48

فهي لكم ولمن شهد أن لا إله إلا الله(1) وقال صلی الله علیه و آله وسلم: شفاعتي لمن شهد لا إله إلا الله مخلصا وأن محمداً رسول الله يصدق لسانه قلبه وقلبه لسانه(2).

ثالثاً: أما مسألة التخفيف في العذاب فقد اُنكره القرآن الكريم في أكثر من آية، قال تعالى:

«وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ»(3).

وقال تعالى:

«وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ»(4).

وقال تعالى:

«خَالِدِينَ فيِهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ»(5).

وقال تعالى:

«وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا * لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا»(6).

ص: 126


1- ابن حنبل: المسند 2 / 444. المنذري: تهذيب الترغيب والترهيب 4 / 519. وهناك ما يماثله في مسلم: الصحيح 3 / 74. الترمذي: صحيح 2 / 295
2- ابن حنبل: المسند 2 / 307، 518
3- سورة فاطر، آية 36
4- سورة النحل، آية 85
5- سورة البقرة، آية 162، سورة آل عمران، آية 88
6- سورة مريم، آية 86 - 87

والعهد هنا شهادة لا إله إلا الله والقيام بحقها(1).

رابعاً: ان الرواية مطعون في سندها فمن رواتها:

سفيان الثوري الذي وإن كان ثبتا حجة متفقا عليه، وله نقد وذوق ولكنه كان يدلس عن الضعفاء ويكتب عن الكذابين(2).

عبد الملك بن عمير اللخمي: يوصف بأنه من أوعية العلم، تولى قضاء الكوفة بعد الشعبي ويقول ابن حجر انه فقيه ثقة ولكنه تغير حفظه، وربما دلس ومات وله من العمر مائة وثلاث سنين، وقال الذهبي ولكنه طال عمره وساء حفظه وقال ابن أبي حاتم: (ليس بحافظ تغير حفظه). وقال احمد: ضعيف، يغلط. وقال ابن معين: مخلط، وقال ابن خراش: كان شعبه لا يرضاه. وذكر الكوسج عن احمد: انه ضعف جدا ولكن العجلي وثَّقه، وقال النسّائي: لا بأس به، وقال الذهبي: الرجل من نظراء أبي اسحق السبيعي وسعيد المقري لما وقعوا في هرم الشيخوخة، نقص حفظهم وساءت اذهانهم ولم يختلطوا(3).

عبد الله بن يوسف التنيسي: اختلف علماء الجرح والتعديل فيه، ففي الوقت الذي قال فيه الذهبي: انه (الثقة شيخ البخاري) فقد ضعّفه ابن عدي وأورده في الضعفاء، وشك يحيى بن بكر في سماعه من الامام مالك، وكان التنيسي من

ص: 127


1- القرطبي: الجامع 11 / 154. تفسير البيضاوي 2 / 40. تفسير ابن كثير 3 / 138
2- ابن أبي حاتم: الجرح والتعديل 1 / 2 / 225، الذهبي: ميزان الاعتدال 2 / 169. ابن حجر: تقريب التهذيب 1 / 311
3- ابن أبي حاتم: الجرح والتعديل 2 / 2 / 360 - 361، الذهبي: ميزان الاعتدال 2 / 660 - 661، ابن حجر: تقريب التهذيب 1 / 521

أهل الشام(1).

الليث بن سعد: كان أحد الأعلام والأئمة الأثبات وحجة بلا نزاع عند الذهبي، ولكن ابن معين أشار إلى أنه كان يتساهل في الشيوخ والسماع(2).

يزيد بن عبد الله الهادي: هو من ثقات التابعين وعلمائهم عند الذهبي، ولكن أبا عبد الله بن الحذاء أورده في باب من ذكر بجرح من رجال الموطأ وكان يروي عن كل أحد(3).

عبد العزيز بن محمد بن عبيده الداوردي: قال الذهبي: صدوق من علماء أهل المدينة، ولكن غيره أقوى منه. وقال احمد بن حنبل: إذا حدث من حفظه ليس هو بشيء وإذا حدّث من كتابه فنعم، وإذا حدّث من حفظه جاء ببواطيل، وفي الوقت الذي وثقه ابن المديني فقد قال فيه ابن أبي حاتم: لا يحتج به، وقال:

أبو زرعة: سيئ الحفظ، فيما ارتقى به معن بن عيسى: يصلح الداوردي أن يكون امير المؤمنين(4).

اما بالنسبة إلى أدلة القائلين بإسلامه فقد توقفنا عند الأدلة الآتية:

الدليل الثالث: هذا الدليل يأتي في مقابلة الدليل الثامن لدى القائلين ببقاء أبي طالب على دين قومه، ففي كلا الدليلين نجد العباس يسأل النبي صلی الله علیه و آله وسلم

ص: 128


1- ابن عدي: الكامل في الضعفاء 5 / 341 - 342، الذهبي: ميزان الاعتدال 2 / 528
2- الذهبي: ميزان الاعتدال 3 / 423
3- الذهبي: ميزان الاعتدال 4 / 430
4- ابن أبي حاتم: الجرح والتعديل 2/ 2 / 395 - 396، أبو زرعه: الكامل في الضعفاء 2 / 425. الذهبي: ميزان الاعتدال 2 / 633 - 634. ابن حجر: تهذيب التهذيب 6 / 353 - 355. تقريب التهذيب 1 / 512

عن مصير أبي طالب الذي يختلف عند الطرفين فهو في ضحضاح من نار عند القائلين ببقائه على دين قومه، اما عند القائلين بإيمانه فالرسول يرجو له كل الخير، والظاهر انه وضع في مقابل حديث الضحضاح، وإلا فما معنى سؤال العباس عن أبي طالب فإنه إن صح يورث شكا في إيمان أبي طالب.

الدليل الرابع: قول الإمام علي بن موسى الرضا علیه السلام: (إنك إن لم تقر بإيمان أبي طالب كان مصيرك إلى النار) الملاحظ أن المقصود هو ممن قامت لديه البينة على إيمان أبي طالب ومع ذلك انكره لمآرب أخرى كأن يكون البغض للإمام علي علیه السلام وإلا فلا يؤخذ هذا النص على ظاهره في حالة صحته.

الدليل الخامس: لم أجِد ما يؤيد أن الإمام عليا علیه السلام أوصى بالحج عن عبد الله وأبي طالب.

الدليل السادس: قول أبي بكر للرسول صلی الله علیه و آله وسلم: لأنا كنت أشد فرحا بإسلام عمك أبي طالب مني بإسلام أبي، التمس بذلك قرة عينك.

إذا كان إسلام أبي طالب في بدء الدعوة الاسلامية فلا معنى لفرح الرسول صلی الله علیه و آله وسلم، أو أبي بكر لأن إسلامه كإسلام أي من المسلمين الاوائل، اما إذا كان إسلامه في لحظات الموت، ولذلك فرح الرسول صلی الله علیه و آله وسلم به تبعا لذلك فرح أبو بكر، فإن هذا ما لا يقوله القائلون بإسلام أبي طالب، فكيف يعتبرونه دليلا على إسلامه، بل إن النص أعلاه يفيد عدم إسلام أبي طالب، أي إن أبا بكر كان يتمنى إسلام أبي طالب ولو أسلم لكان أشد فرحا به من إسلام أبيه.

الدليل السابع عشر: حينما حضرت أبا طالب الوفاة تكلم بكلام خفي فأنصت له العباس، وقال للرسول صلی الله علیه و آله وسلم: يا ابن اخي والله لقد قالها عمك، ولكنه

ص: 129

ضعف أن يبلغك صوته.

إذا صحت هذه الرواية وهذا الموقف من العباس، فلماذا لم يسلم هو، ثم هذا يعني أن أبا طالب أسلم في اللحظات الأخيرة والقائلون بإسلامه يقولون:

إنه أسلم منذ يوم الإنذار.

والأولى أن يقال في ذلك إن ما قاله أبو طالب في اللحظات الأخيرة لا يعني بدء إسلامه وإنما هو التشهد الذي يقوله المحتضر ساعة الاحتضار كما تؤكده السنةّ المشرفة.

الدليل التاسع عشر والثالث والعشرون: انّ شِعر أبي طالب دليل إيمانه:

إن من يقرأ شعر أبي طالب أو يسمعه يقطع بإيمانه!! إذا يا ترى ما هو موقف مشركي مكة من هذا الشعر، فهل كان أبو طالب يقوله بعيدا عن اسماع المشركين؟ نجد أن بعضه قاله بوجه المشركين وبمسمع منهم! والملاحظ ان فترة المقاطعة قد تكون حدا فاصلا بين فترتين متميزتين من حياة أبي طالب بعد ظهور الإسلام ألا وهي فترة السر وهي الفترة السابقة للمقاطعة، ولكن حينما ادرك المشركون أن أبا طالب قد آمن بدعوة ابن أخيه لذا اصدروا بحقه أقسى العقوبات ألا وهي المقاطعة، حيث كان أبو طالب هو كبير المقاطعين والمحصورين، فدعا بني هاشم لنصرة النبي صلی الله علیه و آله وسلم وتأييده واستنكر موقف القريشيين هذا شعراً.

فهل ان شعر أبي طالب جاء بعد المقاطعة؟ خاصة إذا علمنا ان القائلين بإسلامه يقولون بأن أبا طالب كتم إسلامه بغية حماية النبي صلی الله علیه و آله وسلم؟ فكيف يتأتى ذلك مع شعره الصريح بإيمانه!!؟

ص: 130

اما بالنسبة إلى موقف ابن أبي الحديد السلبي وعدم اتخاذه قرارا واضحا معتمدا على دليلين: الأول: تعارض أدلة القائلين ببقائه على دين قومه مع أدلة القائلين بإسلامه.

والواقع إن عدد الأدلة التي ساقها لبيان بقائه على دين قومه لا تتجاوز التسع أدلة بينما أورد ثلاثة وعشرين دليلا على إيمانه وفي هذا نجد موقفا خفيا لابن أبي الحديد!!؟ الثاني: ما ورد في رسالة محمد ذي النفس الزكية إلى الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور سنة 145 ه، وقول «ذي النفس الزكية» فيها: (أنا ابن خير الاخيار، وأنا ابن شر الأشرار)، (فإن هذه شهادة منه على أبي طالب بالكفر وهو ابنه وغير متهم عليه) وأضاف: وعهده قريب من عهد النبي صلی الله علیه و آله وسلم ولم يطل الزمان فيكون الخبر مفتعلاً.

نظرة في رسالة محمد ذو النفس الزكية:

هو محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، من كبار رجالات أهل البيت خلقا وعلما حتى سمي بذي النفس الزكية لزهده ونسكه، وحينما لاحت علامات ضعف وانحلال الدولة الأموية، أخذ رجالات البيت الهاشمي بعقد الاجتماعات ومداولة الرأي، وقد عقد في الأبواء اجتماعان، كان الأول سنة 126 ه اما الثاني سنة 129 ه لبيعة ذي النفس الزكية، فلم تتم فيهما البيعة لأن الدعوة العباسية كانت قد أتت أكلها، وسرعان ما قامت الدولة العباسية، فاختفى محمد ولم يبايع لأبي العباس السفاح 132 - 136، وقد إراد الأخير أن يقدم صورة لخلافة هاشمية، فلم يتعرض لأبناء عمه العلويين، ولكنه

ص: 131

لما جاء أبو جعفر المنصور (136 - 158)، لم يقتنع إلا ببيعة محمد، متخذا جملة من الاجراءات التي اضطرت محمدا للخروج في المدينة، وهنا أشارت المصادر إلى أن الخليفة وجدها فرصة للاعلان عن الرؤية العباسية في نظرية الخلافة، فكانت ثلاث رسائل تبودلت بدأها المنصور، وأجاب محمد عن الاولى ثم اعاد الخليفة الجواب، فيما لم تشر المصادر لرسالة جوابية ثانية من محمد لتكون أربع رسائل وكان من جملة ما ورد في رسالة محمد عبارة (أنا ابن خير الاخيار، وأنا ابن شر الاشرار)(1).

هنا لنطرح عدة حيثيات حول ذلك:

أولاً: ان هذه الرسائل(2) إنما كتبت لإثبات من هو الأحق بمنصب الخلافة، إذن يجدر بمحمد أن يبحث عن أدلة تؤيد أحقيته، فهل يعقل أن نجد محمدا يسجل على نفسه وبقلمه عند خصمه هذا الدليل الذي يعد طعنا فيه وليس له؟ كيف يجوز لعاقل ان يظن صدور مثل هذا القول من محمد وهو في

ص: 132


1- البلاذري: انساب الاشراف 2 / 75 - 135. مؤلف مجهول: اخبار العباس وولده ص 385 - 386، 388 - 389. الطبري: تاريخ 7 / 517 - 609. أبو الفرج: مقاتل الطالبين ص 157 - 200، مؤلف مجهول: العيون والحدائق ص 230 - 250. القالي: ذيل الامالي ص 120. ابن عنبه: عمدة الطالب ص 103 - 105
2- أنظر هذه الرسائل في البلاذري: انساب الاشراف 2 / 95 - 102. المبرد: الكامل في اللغة والادب 4 / 113 - 120. الطبري: تاريخ 7 / 565 - 571. ابن عبد ربه: العقد الفريد 5 / 79 - 85. الازدي: تاريخ الموصل 182 - 187. مؤلف مجهول: العيون والحدائق ص 240 - 241. سبط ابن الجوزي: تذكرة ص 221 - 224. القلقشندي: صبح الاعشى 1 / 231 - 235. صفوة: جمهرة رسائل العرب 3 / 84 - 96. وانظر تحليل لهذه الرسائل، فاروق عمر: العباسيون الاوائل 1 / 118 - 134

وقت مملوء حماسا وافتخاراً؟ وإذا كان محمد ابن شر الاشرار فأي فخر يبقى له؟!!(1).

ثانيا: لو قبلنا بصحة ذلك جدلا فهل هناك من يقول إن أبا طالب شر الاشرار؟ فهل هو شر من أبي لهب الذي صرح القرآن به، وأبي جهل فرعون هذه الأمة، والوليد بن المغيرة الذي توعده القرآن بسقر!!؟(2).

ثالثا: ولو تنزلنا بعد وقلنا بصدور ذلك من ذي النفس الزكية فما هو الدليل على أن قصد محمد بشر الاشرار هو أبو طالب فقد يكون قصده جده لأمه، عبد العزى، فأم محمد هي هند بنت أبي عبيدة بن عبد الله بن زمعة بن الاسود بن المطلب بن اسد بن عبد العزى، وكان عبد العزى من مشيخة قريش ومشركيهم(3) وقد يقصد جده زمعة بن الأسود(4)، أحد المناوئين للنبي صلی الله علیه و آله وسلم.

رابعاً: يرى ابن أبي الحديد انه لا يمكن القول بافتعال ذلك على محمد لأن عهده قريب من عهد النبي صلی الله علیه و آله وسلم فلم يطل الزمان حتى يكون الخبر مفتعلا.

ان المتتبع لما ورد في شرح ابن أبي الحديد يكاد يقطع بأن ابن أبي الحديد لا يقتنع نفسه بهذا الدليل - حيث أكد في مناسبات عدة على أن مسألة الوضع في الحديث قد بدأت في عهد معاوية، حتى أن الأخير وضع اشخاصا لهذا

ص: 133


1- العاملي: شيخ الابطح ص 81. الخنيزي: أبو طالب 295 - 296
2- العاملي: شيخ الابطح ص 81
3- ابن عنبه: عمدة الطالب ص 103. العاملي: شيخ الابطح ص 82. الخنيزي: أبو طالب ص 296 - 298
4- من ألدّ أعداء النبي صلی الله علیه و آۀه وسلم وقتل في معركة بدر. أنظر: الطبري: تاريخ 2 / 370، 437، 458، 461

الغرض(1)، مع أن الإمام علياً يرى أن الوضع في الحديث قد بدأ في عصر النبي صلی الله علیه و آله وسلم ولذا نجده صلی الله علیه و آله وسلم يتوعد اولئك ويقول: من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار(2).

فإذا كان الوضع قد افتعل على النبي صلی الله علیه و آله وسلم في زمانه، فمن باب أولى أن نجده في العصور اللاحقة، ولا داعي للافاضة في هذه المسألة فهي من المسلّمات.

خامسا: بدأ المنصور بإرسال رسالة ممزوجة بالترغيب والترهيب إلى محمد، وكأنه إراد استثارته حتى إذا جاءت رسالة محمد الجوابية، نجد الخليفة وكأنه يريد ان يوضح نظرية العباسيين في الخلافة، محاولا ابطال النظرية العلوية، إلا اننا بعد ذلك لا نجد رسالة لمحمد للإجابة على النظرية التي طرحها الخليفة؟ فهل هذا يعني اقتناع محمد بما جاء به المنصور؟ أو رأى أن الاجابة لا تجدي نفعا؟ أم أن هناك رسالة ولكن يدا خفية أخفتها؟!.

سادسا: ان محمدا قد قتل وتشتت أصحابه بين القتل والسجن والتشريد، فلم يكن لدينا مصدرٌ عن هذه الرسائل إلا بلاط الخليفة العباسي!!؟.

سابعا: ولنأت الآن إلى مصدر هذه الرسائل ورواتها:

مصدرها لدى البلاذري: هو ابن حرب. وقد أورد الذهبي شخصيتين بهذا الاسم، قال بحق الأول: مجهول، أما الآخر فهو: واه(3).

ص: 134


1- الشرح: 4 / 63 - 73، 11 / 38 - 50
2- الشرح: 11 / 38. واخرج حديث النبي الترمذي: صحيح 12 / 167. ابن ماجه: صحيح 1 / 12 13
3- الذهبي: ميزان الاعتدال 4 / 513

مصدرها لدى الطبري:

قال الطبري: قال عمر بن شبة: حدثني محمد بن يحيى قال: نسخت هذه الرسائل من محمد بن بشير وكان بشير يصححها وحدثنيها أبو عبد الرحمن من كتّاب أهل العراق والحكم بن صدقة بن نزار، وسمعت ابن أبي حرب يصححها، ويزعم ان رسالة محمد لما وردت على أبي جعفر قال أبو ايوب: دعني أجبه عليها، فقال: أبو جعفر: لا بل أنا اجيبه، إذا تقارعنا على الاحساب فدعني وإياه.

بدءاً يتضح ان هناك شكوكا في الرسائل ولذا نجد محمد بن بشر يصححها، ولا ندري ماذا يقصد بالتصحيح؟ ويذكر لفظة (ويزعم) وهي من الفاظ الشك والتمريض.

اما بالنسبة إلى الرواة، فابن أبي الحرب، لم نجد شخصا بهذا الاسم، وقد يكون ابن حرب الذي ذكره البلاذري ولاحظنا القول فيه.

الحكم بن صدقة بن نزار: لم أجد في كتب التاريخ أو الجرح والتعديل شخصا بهذا الاسم حيث اطلعت على كتاب الجرح والتعديل لابن أبي حاتم، وميزان الاعتدال للذهبي، وتقريب التهذيب وتهذيب التهذيب لابن حجر وغيرها.

أبو عبد الرحمن: ذكر الذهبي سبعة اشخاص بهذه الكنية وقد طعن فيهم كلهم.(1) محمد بن بشر: ذكر الذهبي ستة اشخاص بهذا الاسم ولم يسلم أحد من تجريحه.(2)

ص: 135


1- الذهبي: ميزان الاعتدال 4 / 546 - 547
2- الذهبي: ميزان الاعتدال 2 / 491 - 492

محمد بن يحيى: قال فيه محمد ابن أبي حاتم: شيخ، وقال السليماني: حديثه منكر، وقال النسائي: ليس به بأس وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: ربما خالف وقال عمر بن شبه: كان كاتبا وابوه كاتبا وجداه كاتبين، وكان عمه كاتبا بينما عدّه ابن حزم مجهولا، أما الدارقطني وابن حجر فقالا فيه ثقة(1).

مصدرها لدى ابن عبد ربه في العقد الفريد: قال: حدث عبد العزيز بن عبد الله البصري عن عثمان بن سعيد بن سعد المدني(2).

فبالنسبة إلى عبد العزيز بن عبد الله البصري فقد قال فيه الذهبي (تكلم فيه ابن عدي وقال: هو القرشي البصري، ثم ساق له احاديث تستنكر، وقال: عامة ما يرويه لا يتابعه عليه الثقات)(3).

في حين عجزت كتب الجرح والتعديل أن تجد لها مكانا تضع فيه عثمان بن سعيد بن سعد المدني، حيث لم أجد له ذكرا في كتاب الجرح والتعديل لأبي حاتم ولا الكامل في الضعفاء لابن عدي ولا ميزان الاعتدال للذهبي، ولا تقريب التهذيب وتهذيب التهذيب لابن حجر. إذن فهو من مجاهيل الرواة، إن لم يكن مختلقاً.

والآن لنطرح سؤالا: لماذا قام أبو طالب بنصرة النبي صلی الله علیه و آله وسلم؟.

إن أي دارس للدعوة الاسلامية في مكة المكرمة يجد أن أبا طالب كان

ص: 136


1- ابن أبي حاتم: الجرح والتعديل 1 / 4 / 123، الذهبي: ميزان الاعتدال 4 / 62، ابن حجر: تقريب التهذيب 2 / 218، تهذيب التهذيب 9 / 517 - 518
2- العقد الفريد 5 / 74
3- ابن عدي: الكامل في الضعفاء 6 / 511 - 512، الذهبي: ميزان الاعتدال 2 / 630

عماد هذه الدعوة(1)، الذي ما إن زال حتى بان الضعف فيها، فأعطى الأعداء الفرصة لمحاولة الاجهاز عليها.

فبدءاً نجد أبا طالب يحتضن الدعوة منذ يوم الإنذار(2)، ونجده يجيب النبي صلی الله علیه و آله وسلم قائلا لأبي لهب: (والله لننصرنه ثم لنعيننه. يا ابن اخي إذا أردت أن تدعو إلى ربك فأعلمنا حتى نخرج معك بالسلاح)(3).

وهنا أخذ النبي يباشر دعوته بإسناد عمه، الذي بدوره أسند ولديه عليا وجعفرا ودعاهما لنصرة النبي صلی الله علیه و آله وسلم وخصص عليا للمنام في فراش الرسول صلی الله علیه و آله وسلم إذا ما أحس بوجود خطر عليه يوما ما(4). ثم أخذ أبو طالب على عاتقه الرد

ص: 137


1- يقول ابن كثير: (وقد قدمنا ما كان يتعاطاه أبو طالب من المحاباة والمحاجة والممانعة عن الرسول صلی الله علیه و آله وسلم والدفع عنه وعن أصحابه، وما قال فيه من الممادح والثناء، وما أظهره له ولأصحابه من المودة والمحبة والشفقة في اشعاره التي اسلفناها وما تضمنته من العيب والتنقيص لمن خالفه وكذبه بتلك العبارة الفصيحة البليغة الهاشمية المطلبية التي لا تدانى ولا تسامى، ولا يمكن عربيا مقاربتها ولا معارضتها، وهو في ذلك كله يعلم ان رسول الله (صلى الله عليه [وآله] وسلم) صادق بار راشد ولكن مع هذا لم يؤمن قلبه، وفرق بين علم القلب وتصديقه كما قررنا ذلك في شرح كتاب الإيمان من صحيح البخاري … كان أبو طالب يصد الناس عن أذية الرسول (صلى الله عليه [وآله] وسلم) وأصحابه بكل ما يقدر عليه من فعال ومقال ونفس ومال. ولكن مع هذا لم يقدّر الله له الإيمان لما له تعالى في ذلك من الحكمة العظيمة والحجة القاطعة البالغة الدافعة التي يجب الإيمان بها، والتسليم لها، ولولا ما نهانا الله عنه من الاستغفار للمشركين لاستغفرنا لأبي طالب وترحمنا عليه). البداية والنهاية 3 / 126. اقرأ وتعجب!!؟
2- حينما نزل قوله تعالى: [وانذر عشيرتك الأقربين]. سورة الشعراء، آية 214
3- اليعقوبي: 2 / 24
4- الشرح: 13 / 200، 14 / 53، 64، 75 - 76. أبو نعيم: دلائل النبوة 1 / 227

بيد من حديد لكل من تسول له نفسه إيذاء النبي صلی الله علیه و آله وسلم بالقول أو الفعل كما فعل مع ابن الزبعرى(1)، ومع أبي جهل.(2) ولما لم تجد قريش من وسيلة لإيقاف النبي صلی الله علیه و آله وسلم عن مواصلة دعوته لجأت إلى عمه أبي طالب تقدم الاقتراحات لتسوية الخلافات، وما كان من أبي طالب سوى القيام بدور ذكي وكأنه دور الوسيط فيبعث للنبي صلی الله علیه و آله وسلم ويعرض عليه اقتراح قومه، وحينما يرفض النبي صلی الله علیه و آله وسلم نجد أبا طالب يعلن تجديده لعهده بحماية النبي صلی الله علیه و آله وسلم ودعوته إياه لمواصلة منهجه في الدعوة إلى التوحيد.(3) ولما شعر المشركون بأن أبا طالب وكأنه شريك للنبي صلی الله علیه و آله وسلم في دعوته قرروا أن تكون العقوبة شاملة لأبي طالب فكانت مقاطعة قريش لبني هاشم جميعا عدا أبي لهب(4).

وفي الواقع إن المقاطعة إنما كانت سلاحا موجها ضد أبي طالب لإرغامه على ترك حماية النبي صلی الله علیه و آله وسلم، وأما مقاطعة بني هاشم فلعلمهم بأنهم تبع لأبي طالب، فإذا ما تم ثني أبي طالب عن عزمه فهنا ينتهي دور بني هاشم بصورة طبيعية مما يسهل عليهم الإجهاز على النبي صلی الله علیه و آله وسلم.

ولكننا نجد أبا طالب يهب داعيا بني هاشم لنصرة النبي صلی الله علیه و آله وسلم وتأييده ولما

ص: 138


1- أنظر القرطبي: الجامع 6 / 261
2- الشرح: 14 / 72، وانظر ابن معد: الحجة ص 224
3- الشرح: 14 / 53 - 55، 74. أنظر: الطبري: تاريخ 2 / 323 - 237. الحاكم: المستدرك 3 / 667. الواحدي: أسباب النزول ص 149. 246 - 247. النويري: نهاية الارب 16 / 199 - 202
4- الشرح: 14 / 58 - 61. وانظر اليعقوبي: التاريخ 2 / 26 - 27. الطبري: تاريخ 2 / 335، 341 - 343

رأى استجابتهم سره ذلك وأعلن ذلك شعراً(1)، ولم يكتف بذلك بل أعلن استنكاره على قريش فعلهم هذا نظما ونثرا واعتبره مثلبة لقريش.(2) وعلى مدى ثلاث سنوات عانى أبو طالب الأمرّين من أثر الحصار حتى إذا علم النبي صلی الله علیه و آله وسلم بأن صحيفة المشركين قد اكلتها الأرضة إلا ما كان من (باسمك اللهم) جاء صلی الله علیه و آله وسلم وأخبر عمه، الذي سرعان ما ذهب إلى أندية قريش مخبرا إياهم بما أخبره به النبي صلی الله علیه و آله وسلم وهو على ثقة من كلام النبي صلی الله علیه و آله وسلم(3). وبذلك أعلن أبو طالب فشل مقاطعتهم وخرج بنو هاشم من الحصار الذي كان تجربه قاسية ومثلا من امثلة التضحية والإباء.

وما هي إلا أيام حتى كان أبو طالب يعيش في آخر أيامه، فدعا قريشا وأوصاهم ومن جملة وصاياه اوصاهم بالنبي صلی الله علیه و آله وسلم خيراً(4).

إن الملاحظ على ذلك امران:

الأول: إن كان أبو طالب على دين عبد المطلب الذي هو كما يرى البعض دين الوثنية، إذا أليس الأجدر به أن يثأر لأبيه صاحب المكانة الكبرى لدى

ص: 139


1- الشرح: 14 / 56 - 64. وانظر: الطبري: تاريخ 2 / 327 - 328
2- الشرح: 14 / 72 - 73، 79. وانظر: ديوان أبي طالب، ط بحر العلوم ص 17
3- اليعقوبي: التاريخ 2 / 27. أبو نعيم: دلائل النبوة ص 228 - 229. النويري: نهاية الارب 16 / 259. ابن كثير: البداية والنهاية 3 / 97. السيوطي: الخصائص الكبرى 1 / 375. الحلبي: السيرة الحلبية 1 / 373 - 374. دحلان: اسنى المطالب ص 15 - 16. الشبلنجي: نور الابصار ص 12
4- سبط ابن الجوزي: تذكرة ص 8. السهيلي: الروض الانف 1 / 259. السيوطي: الخصائص الكبرى 1 / 215. الديار بكري: تاريخ الخميس 1 / 300 - 301. الحلبي: السيرة الحلبية 1 / 383. دحلان: اسنى المطالب ص 7 - 8، 62 - 63

قريش خاصة والعرب عامة؟ كيف يتسنى لأبي طالب أن يحمي ابن أخيه حول أمر هو أول المدانين عليه؟ فالنبي صلی الله علیه و آله وسلم كان يسفّه احلام المشركين ويطعن في عقولهم علنا وصراحة ويتوعدهم بالهلاك في الدنيا والجحيم في الآخرة، فهل كان هذا الوعيد الذي يشمل المشركين لا يشمل أبا طالب إن كان مشركاً؟ وهل يشمل عبد المطلب أم لا؟.

المعروف ان العصبية للآباء والأجداد أشد من العصبية للأبناء:

«إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ»(1).

إذا فحرّي بأبي طالب إن كان مشركا أن يثأر لعقيدته وعقيدة أبيه التي سفهها النبي صلی الله علیه و آله وسلم.

الثاني: كان أبو طالب مع بدء الدعوة الاسلامية في قمة مجده فهو شيخ الأبطح، وإليه المرجع في الأحكام ليس لدى قريش فحسب بل عند العرب عامة حيث عدّ من الحكام وكان قد استنبط بعض الاحكام. وعندما بدأت الدعوة الاسلامية نجد العباس لا يتخذ بشأنها قرارا قائلا: (ننتظر رأي الشيخ) حيث أن أبا طالب قد حاز مجد أبيه السياسي والاجتماعي.

إذا أليس الأجدر بأبي طالب أن يحافظ على هذا المجد ويقف أمام أي محاولة للطعن فيه؟ أم انه وجد في دعوة النبي صلی الله علیه و آله وسلم مجدا أعظم من ذلك المجد؟ فيا ترى ما هو المجد الذي جعل أبا طالب يمضي السنين العشر الأواخر من حياته في صراع مع قريش لفسح المجال للرسول صلی الله علیه و آله وسلم لنشر دعوته!!؟.

بعد هذا التحليل يأتي التساؤل حول السر في توقف ابن أبي الحديد في أمر

ص: 140


1- سورة الزخرف آية 23

إسلام أبي طالب، فمن خلال تحليلات أخرى لابن أبي الحديد يتضح أن مسألة توقفه قد تكون مجرد مسألة توفيقية لا اعتقادية ومن هذه التحليلات:

أولاQ: أشار ابن أبي الحديد أن أحد الطالبين في زمانه ولم يشر إلى اسمه وضع كتابا حول إسلام أبي طالب، وقدمه إليه، ليكتب عليه بخطه إما شعرا أو نثرا وليشهد بصحة ذلك بوثاقة الأدلة عليه. ومن خلال بحثنا قد تبين لنا ان هذا الطالبي هو - شمس الدين فخار بن معد الموسوي(1) أحد شيوخ ابن أبي الحديد وقد وصل كتابه هذا إلينا باسم )الحجة على الذاهب إلى تكفير أبي طالب( وقد اعتمده ابن أبي الحديد كثيرا في إيراد أدلة القائلين بإسلام أبي طالب إلا أنه لم يشر لذلك.(2) قال ابن أبي الحديد: )فتحرجت أن أحكم بذلك حكما قاطعا لما عندي من التوقف فيه، ولم أستجز أن أقعد عن تعظيم أبي طالب فإني أعلم أنه لولاه لما قامت للاسلام دعامة، وأعلم أن حقه واجب على كل مسلم في الدنيا إلى أن تقوم الساعة فكتبت على ظهر المجلد:

ولولا أبو طالب وابنه *** لما مثل الدين شخصا وقاما

فذاك بمكة اوى وحاما *** وهذا بيثرب جس الحماما

تكفل عبد مناف بأمر *** واودى فكان علي تماما

ص: 141


1- هو النسابة السيد شمس الدين أبو علي فخار بن معد بن فخار بن معد بن احمد بن محمد بن الحسين بن محمد بن ابراهيم المجاب بن محمد العابد بن الامام موسى الكاظم علیه السلام. توفي سنة 603 ه وله مؤلفات عدة أنظر ترجمته: البحراني: اللؤلؤة ص 280، الخوانساري: روضات الجنات 5 / 23، الامين: اعيان الشيعة 42 / 262 - 263. الأميني: الغدير 7 / 401
2- وقد اعتمده في مواضع أخرى أشار له مثل 1 / 41، 12 / 4، 14 / 83، 15 / 23

فقل في ثبیر مضى بعد ما *** قضى ما قضاه وابقى شماما

فلله ذا فاتحا للهدى *** ولله ذا للمعالي ختاما

وما ضر مجد أبي طالب *** جهول لغا أو بصیر تعامى

كما لا ير إياه الصباح *** من ظن ضوء النهار الظلاما

قال ابن أبي الحديد بعد ذلك: (فوفيته حقه من التعظيم والإجلال ولم أجزم بأمر عندي فيه وقفة)(1)، ولكن لنتساءل عن قول ابن أبي الحديد أعلاه: وما ضر مجد أبي طالب …. فاننا لم نقرأ أو نسمع أن أحدا طعن في أبي طالب في شيء غير إسلامه، اذن فكل من طعن في ذلك عند ابن أبي الحديد هو (جهول لغا أو بصير تعامى) وهذا لا يضر مجد أبي طالب ولكن ماذا نقول لابن أبي الحديد إذا كان هو في صف اولئك أم إن هناك امراً خفياً!!!.

ثانياً: في حديثه عن أديان العرب قبل الإسلام قسم ابن أبي الحديد العرب على قسمين، المعطلة: وهم عباد الاصنام والكواكب، وأدخل معهم إليهود لقولهم بالتجسيم، والنصارى لقولهم بالتثليث. اما القسم الثاني: غير المعطلة:

أي المتألهون وهم اصحاب الورع والتحرج عن القبائح وعدّ منهم عبد المطلب وولديه أبا طالب وعبد الله.(2).

ثالثاً: عدّ ابن أبي الحديد أبُوة أبي طالب من فضائل الإمام علي علیه السلام، إذ يقول: (وما أقول في رجل أبوه أبو طالب سيد البطحاء وشيخ قريش ورئيس

ص: 142


1- الشرح: 14 / 83 - 84
2- الشرح: 1 / 120

مكة)(1).

وقال أيضاً: (إن عليا علیه السلام كان يدعى التقدم على الكل، والشرف على الكل، والنعمة على الكل، بابن عمه صلی الله علیه و آله وسلم وبنفسه وبأبيه أبي طالب، فإنه من قرأ علوم السير عرف أن الإسلام لولا أبو طالب لم يكن شيئا مذكورا).(2) والظاهر أن هذا الرأي قد واجه نقدا فعقب ابن أبي الحديد قائلاً: (وليس لقائل ان يقول: كيف يقال هذا في دين تكفل الله تعالى بإظهاره سواء كان أبو طالب موجودا أو معدوما! لأنا نقول: فينبغي على هذا أن لا يمدح رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم ولا يقال: إنه هدى الناس من الضلالة، وأنقذهم من الجهالة، وأن له الحق على المسلمين، وإنه لولاه لما عبد الله تعالى على الارض وألا يمدح أبا بكر، ولا يقال: ان له أثراً في الإسلام وإن عبد الرحمن وسعدا وطلحة وعثمان وغيرهم من الأولين في الذين اتبعوا رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم لاتباعه لهم، وإن له يدا غير مجحودة في الانفاق واشتراء المعذبين، وإعتاقهم، وإنه لولاه لاستمرت الردة بعد الوفاة، وظهرت دعوة مسيلمة وطليحة، وإنه لولا عمر لما كانت الفتوح، ولا جهزت الجيوش، ولا قوي أمر الدين بعد ضعفه، ولا انتشرت الدعوة بعد خمولها).

وأضاف: (فإن قلتم في كل ذلك: إن هؤلاء يحمدون ويثنى عليهم، لأن الله تعالى اجرى هذه الامور على ايديهم ووفقهم لها، والفاعل بذلك بالحقيقة هو الله تعالى، وهؤلاء آلة مستعملة ووسائط تجري الافعال على ايديها فحمدهم والثناء عليهم، والاعتراف لهم إنما هو باعتبار ذلك قيل: لكم في شأن أبي طالب

ص: 143


1- الشرح: 1 / 29
2- الشرح: 1 / 142

مثله).(1) رابعا: في شرحه لوصية الإمام علي علیه السلام لابنه الحسن بضرورة السير على سنة السلف الصالح، أشار ابن أبي الحديد ان الإمامية وكثيرا من المعتزلة يرون أن أبا طالب من السلف الصالح.(2) خامساً: عدّ ابن أبا الحديد أبي طالب من أباة الضيم في قوله عند نصرة النبي صلی الله علیه و آله وسلم(3):

كذبتم وبيت الله نخلي محمداً *** ولما نطاعن دونه ونناضل

وننصره حتى نصرع حوله *** ونذهل عن ابنائنا والحلائل

وقد قيّض الله تعالى للإمام علي علیه السلام أمُاً تعد من شواخص نساء التاريخ وهي السيدة فاطمة بنت اسد بن هاشم(4) الزوجة الوحيدة لأبي طالب فأنجبت له أولاده الأربعة عقيلا وجعفراً وعلياً وام هانئ. وهي أول هاشمية تلد لهاشمي، أسلمت بعد عشرة من المسلمين فكانت الحادية عشرة، وهي أول امرأة بايعت الرسول صلی الله علیه و آله وسلم من النساء.

كان صلی الله علیه و آله وسلم يكرمها ويعظّمها ويدعوها (أمي) لأنها هي التي احتضنته صغيرا منذ كان في السادسة من عمره حيث توفت أمه آمنة بنت وهب، فأوصى عبد

ص: 144


1- الشرح: 1 / 142
2- الشرح: 16 / 71
3- الشرح: 3 / 258 - 259
4- أنظر ترجمتها: ابن سعد: الطبقات 8 / 222. ابن عبد البر: الاستيعاب 4 / 1891. ابن المغازلي: مناقب ص 6، 77. ابن الجوزي: صفة الصفوة 2 / 54. ابن الاثير: اسد الغابة 5 / 517. سبط ابن الجوزي: تذكرة ص 9 - 10. ابن حجر: الاصابة 4 / 380

المطلب برعايته صلی الله علیه و آله وسلم لأبي طالب.

وقد هاجرت فاطمة إلى المدينة، ولما حضرتها الوفاة أوصت إلى النبي صلی الله علیه و آله وسلم فقبل وصيتها وصلى عليها، ونزل في لحدها، واضطجع معها فيه، بعد أن ألبسها قميصه، فقال له أصحابه: إنا ما رأيناك صنعت يا رسول الله بأحد ما صنعت بها. فقال: إنه لم يكن أحد أبر بي منها، إنما ألبستها قميصي لتكسى من حلل الجنة، واضطجعت معها ليهون عليها ضغطة القبر.(1) تجدر الإشارة إلى أنها من الموحّدين قبل الإسلام ولم يؤثر عنها أنها سجدت لصنم.(2) حتى تشير الروايات أنها اتخذت من الكعبة مكانا لولادة ابنها الأصغر عليا(3) كما سنرى في الفصل القادم.

يخلص ابن أبي الحديد(4) في شأن نسب الامام للقول: (فآباؤه آباء رسول الله وأمهاته أمهات رسول الله وهو منوط بلحمه ودمه، لم يفارقه منذ خلق الله آدم إلى أن مات عبد المطلب بين الأخوين عبد الله وأبي طالب، وأمهما واحدة فكان منهما سيدا الناس هذا الأول وهذا التالي، وهذا المنذر وهذا الهادي)(5).

ص: 145


1- الشرح: 1 / 13 - 14. وانظر: الصاحب بن عباد: عنوان المعارف ص 43. أبو الفرج: مقاتل الطالبيين ص 4 - 5. الحاكم: المستدرك 3 / 117
2- الشبلنجي: نور الابصار ص 76
3- أنظر تفاصيل ذلك في كتابنا (فضائل الإمام علي علیه السلام المنسوبة لغيره.. الحلقة الاولى.. الولادة في الكعبة، الصفحات جميعها)
4- الشرح: 1 / 30
5- إشارة لقوله تعالى: «إنّما أنتَ منذرٌ ولكّلِ قوم هاد» سورة الرعد، آية 7، حيث يشار إلى نزولها في النبي صلی الله علیه و آله وسلم باعتباره المنذر، والإمام علي علیه السلام الهادي. أنظر الطبري: جامع البيان 13 / 108. الحاكم: المستدرك 3 / 140. ابن كثير: البداية والنهاية 7 / 358 - 359

وممن كان يفتخر به الامام علیه السلام عمه (حمزة)(1) الذي أسلم مع بواكير الدعوة الاسلامية، وكان لنصرته للرسول صلی الله علیه و آله وسلم مدعاة لارتياح أبي طالب الذي مدحه بشعره. وقد تميز حمزة بالشجاعة حتى عُرف بأسد الله وأسدِ رسول الله، لذلك نجده مع الإمام علي علیه السلام وعبيدة بن الحارث أول من يتقدم لحرب المشركين في أول مناجزة عسكرية.

وكان ممن ثبت يوم أحد حيث استشهد، وترك مقتله أثراً سلبياً في نفس النبي صلی الله علیه و آله وسلم(2).

وكان الامام علیه السلام يفتخر به ويقول(3):

محمد النبي اخي وصهري *** .وحمزة سيد الشهداء عمي

ويرى ابن أبي الحديد(4) انه لو كان حمزة حياً لما بايع علياً علیه السلام بل كان يدعو إلى نفسه لأنه كان جباراً، قوي النفس، شديد الشكيمة ذاهباً بنفسه، شجاعاً بهمه، وهو العم والأعلى سناً، وآثاره في الجهاد معروفة.

ص: 146


1- أنظر ترجمته: ابن عبد البر: الاستيعاب 1 / 369 - 375. ابن الاثير: اسد الغابة 2 / 46 - 50. ابن حجر: الاصابة 1 / 353 - 354
2- لا زالت سيرة - حمزة بن عبد المطلب - موضع اهمال من قبل الباحثين، حيث انه يمثل انموذجاً للفروسية عند العرب
3- الشرح 4 / 122. وانظر: ابن المغازلي: مناقب ص 404. ابن طلحة: مطالب السئول ص 30. الطبرسي: الاحتجاج 1 / 112. المازندراني: مناقب آل أبي طالب 2 / 19. سبط ابن الجوزي: تذكرة ص 107. الهيتمي: الصواعق المحرقة ص 130
4- الشرح 11 / 115

والظاهر ان ابن أبي الحديد أراد أن يعرف وجهة نظر الإمامية في هذه المسألة، فتوجه إلى شيخه النقيب أبو جعفر(1) الإمامي المذهب. فكان رأي النقيب؛ أن هناك من الأدلة التي تثبت أن حمزة لو كان حياً لتابع علياً ولبايعه، ومن هذه الأدلة:

إن حمزة رضی الله عنه كان صاحب دين متين، وتصديق خالص للرسول صلی الله علیه و آله وسلم.

إن حمزة لو عاش لرأى من أحوال الإمام علي علیه السلام مع الرسول صلی الله علیه و آله وسلم ما يدفعه لمتابعته وبيعته.

أين خلق حمزة السبعي، من خلق الإمام علي علیه السلام الممزوج من خلق حمزة السبعي. وخلق علي الروحاني، فاتصفت نفس علي بالخلقتين معاً.

أين هيولانية(2) نفس الحمزة، وخلوها من العلوم من نفس علي القدسية التي ادركت بالفطرة لا بالقوة التعليمية ما لم تدركه نفوس مدققي الفلاسفة الالهيين! فلو أن حمزة رضی الله عنه كان قد بقي حياً ورأى من علي ما رأى غيره لكان أتبعَ من ظله وأطوعَ له من أبي ذر والمقداد.

أما كون حمزة العم والأعلى سناً، فكذلك كان العباس، وقد بذل خدماته لعلي، ثم أن الأعمام ما زالت تخدم ابن الاخ، كما فعل أبو طالب وحمزة والعباس في موقفهم من ابن اخيهم الرسول صلی الله علیه و آله وسلم، وكما خدم اولاد علي العباسي ابن اخيهم

ص: 147


1- لمزيد من التفاصيل عنه أنظر: مصطفى جواد: أبو جعفر النقيب ص 8 وما بعدها
2- هي القوة في الانسان وهي في النفس بمنزلة القوة الناظرة في العين. أنظر: الخوارزمي: مفاتيح العلوم ص 81. بنسي: مذهب الذرة ص 41 - 46. صليبا: المعجم الفلسفي 2 / 536 - 537

أبا العباس السفاح.(1) ويرى ابن أبي الحديد ان لقب «سيد الشهداء» الذي اطلق على حمزة رضی الله عنه يقصد منه الشهداء في حياة النبي صلی الله علیه و آله وسلم ولا يشمل علياً علیه السلام لأن علياً أفضل من حمزة وسيده، بل هو سيد كل الناس، وهذه المسألة لاخلاف فيها بين المعتزلة(2).

وممن كان يفتخر به الإمام علي علیه السلام ويعد من فضائله أخوه جعفر بن أبي طالب(3) حيث يقول فيه مفتخراً(4):

وجعفر الذي يضحي ويمسي *** يطیر مع المائكة ابن امي

الذي أسلم منذ بواكير الدعوة الاسلامية، واستجاب لأمر والده في نصرة النبي صلی الله علیه و آله وسلم مع أخيه علي علیه السلام(5)، ثم اختاره الرسول صلی الله علیه و آله وسلم سفيراً إلى الحبشة حيث

ص: 148


1- الشرح 11 / 115 - 116
2- الشرح 15 / 193. وإلى هذا الرأي يذهب أيضاً الحسن البصري. الشرح 4/ 96
3- أنظر ترجمته: الطبري: المنتخب ص 494 – 495. أبو الفرج: مقاتل الطالبيين ص 3 - 10. الحاكم: المستدرك 3 / 230 - 235. ابن الجوزي: صفة الصفوة 1 / 511. ابن الاثير: اسد الغابة 1 / 286. ابن حجر: الاصابة 1 / 237 - 238
4- ابن المغازلي: مناقب ص 404، الطبرسي: الاحتجاج 1 / 112. سبط ابن الجوزي: تذكرة ص 107. ابن طلحة: مطالب السئول ص 30. الجويني: فرائد السمطين ص 427. الهيتمي: الصواعق ص 130
5- كان للامام أخوة اخرين أكبرهم طالب، الذي لا يعرف عنه شيء سوى انه هلك في الجاهلية، ولعله شخصية اسطورية، مأخوذة من كنية أبي طالب ليس إلا، والثاني عقيل الذي أسلم متأخراً وكان البعض يروي ان النبي صلی الله علیه و آله وسلم يحبه حبين حب لحب أبي طالب له وحب له. ويعد عقيل ممن عرف بعلم الانساب عند العرب. وقد أسيء فهم موقفه من الإمام علي ومعاوية - كما سنلاحظ - ويشار إلى أن أولاده صرعوا كلهم مع الحسين علیه السلام في كربلاء. وكان للإمام أخت تدعى أم هانيء أشاد الرسول بشجاعتها، قائلاً: لو أن أبا طالب اولد كل الناس لولدوا شجعاناً وكان لها ولد يدعى هبيرة كان من المساندين للإمام أيام خلافته. أنظر: الزمخشري: ربيع الابرار 1 / 869. ابن حجر: الاصابة 2 / 494، 4 / 503

تزعم مهاجري الحبشة، فكانت أول هجرة في الإسلام، حيث بقي هناك حتى السنة السابعة للهجرة(1).

تجدر الاشارة إلى أن اختيار (جعفر) لهذه المهمة من بين سائر المسلمين فيه دلالة على مكانته المتميزة لدى الرسول صلی الله علیه و آله وسلم وقدرته على ما أسند إليه من مهام فكان أول سفير في الإسلام(2).

وبعد عودته في أيام فتح خيبر سنة 7 ه، قال صلی الله علیه و آله وسلم: لا أدري بأيهما أشد فرحاً بفتح خيبر أم بقدوم جعفر؟(3) ثم قال له: أشبهت خلقي وخلقي(4).

ثم سير الرسول صلی الله علیه و آله وسلم جيشاً لحرب الروم البيزنطيين، رتب له ثلاثة من القادة، اختلف في الأول هل هو جعفر أم زيد بن حارثة، وأضاف لهما عبد الله ابن رواحة.(5)

ص: 149


1- عن الهجرة إلى الحبشة. أنظر: الطبري: تاريخ 2 / 328 - 332
2- لا زالت سفارة جعفر إلى الحبشة بحاجة إلى مزيد من الدراسة لإلقاء الضوء على أسباب بقائهم لخمس عشرة سنة وما النتائج التي اسفرت عن بقائهم؟
3- ابن الاثير: اسد الغابة 1 / 287. محب الدين: ذخائر العقبى ص 218، 224. الهيثمي: مجمع الزوائد 9 / 271 - 272. ابن عنبة: عمدة الطالب ص 35
4- الشرح 1 / 29. وانظر اليعقوبي: التاريخ 2 / 106. أبو الفرج: مقاتل ص 10. الحاكم: المستدرك 3 / 233
5- عن تفاصيل غزوة مؤته أنظر: الشرح 15 / 61 - 73. الواقدي: المغازي 2 / 755 - 767. ابن هشام: سيرة ابن هشام 3 / 373 - 389

وقد استنتج ابن أبي الحديد من خلال شعر حسان بن ثابت، وكعب بن مالك أن جعفراً هو الأول(1)، حيث جاء في قصيدة حسان(2):

فلا يبعدن الله قتلى تتابعوا *** بمؤتة منهم ذو الجناحين جعفر

وزيد وعبد الله حن تتابعوا *** جميعاً واسياف المنية تخطر

أما قصيدة كعب بن مالك الانصاري(3):

نام العيون ودمع عينك يهمل *** سحاً كما وكف الرباب المسبل

وجداً على النفر الذين تتابعوا *** قتلى بمؤتة اسندوا لم ينقلوا

ساروا امام المسلمين كأنهم *** طود يقودهم الهزبر المشبل

إذ يهتدون بجعفر ولوائه *** قدام اولهم ونعم الأول

تجدر الإشارة أن هناك من الأدلة ما تفيد قيادة جعفر للجيش منها:

إن زيداً مولى فلا يعقل ان النبي صلی الله علیه و آله وسلم يقدم مولى على جعفر الهاشمي، إذ لم يعهد من النبي فعلٌ كهذا.

إن المكانة التي تميز بها جعفر تجعله هو المقدم من حيث كونه هاشمياً كما ذكرنا. وأول سفير في الإسلام واتصافه بخلق الرسول صلی الله علیه و آله وسلم، وشجاعته المعروفة.

ص: 150


1- الشرح 15 / 62 - 64، 10 / 249. وانظر: اليعقوبي: التاريخ 2 / 55. الطبرسي: اعلام الورى ص 102
2- الشرح 15 / 62 - 63. وانظرها في الديوان 99 - 100. ابن هشام: سيرة ابن هشام 4 / 384 - 385
3- الشرح 15 / 63 - 64. وانظرها في الديوان 260 - 263. ابن هشام: السيرة 4 / 385 - 386. أبو الفرج: مقاتل الطالبيين ص 8 - 9

إن الملاحظ لأحداث معركة مؤتة، لا يجد هناك من صدى إلا لجعفر، فهو الذي قطعت يداه في ساحة المعركة، حيث عوضه الله بجناحين يطير بهما في الجنة، لذا عرف بجعفر الطيار(1). وحينما تستعرض الروايات أحداث المعركة لا تفيض في الحديث إلا عن موقفه.

نجد أن أصداء موقف جعفر ماثلة لدى الرسول صلی الله علیه و آله وسلم(2) والشعراء، بل كان الأجدر بشعراء الأنصار مدح صاحبهم عبدالله بن رواحة، ولكنهم اشادوا بموقف جعفر.

وإشادة حسان وكعب دليل على تقدمه كما اوضح ابن أبي الحديد.

ص: 151


1- الشرح 15 / 182. وانظر: الطبري: المنتخب ص 494 - 495. الشريف الرضي: نهج البلاغة 386. الحاكم: المستدرك 3 / 231 - 232. محب الدين: ذخائر العقبى ص 226 - 228
2- اليعقوبي: التاريخ 2 / 55 - 56. محب الدين: ذخائر العقبى ص 226 - 228. الهيثمي: مجمع الزوائد 9 / 327 - 373

ص: 152

الفصل الثاني نشأة الإمام علي علیه السلام في بيت الرسالة

ص: 153

ص: 154

الفصل الثاني نشأة الإمام علي علیه السلام في بيت الرسالة

ولد الإمام علي علیه السلام داخل الكعبة المشرفة، وكرم الله وجهه عن الخضوع والسجود للأصنام، فكأنما كان ميلاده إيذانا بعهد جديد للكعبة والعبادة فيها.(1) هذه الفضيلة التي انفرد بها الإمام علي علیه السلام، حيث الكعبة(2) بيت الله الحرام، اقدس بيت في الوجود، وقد جعله الله سبحانه وتعالى قبلة للموحدين في آخر الزمان رغم وجوده منذ القدم.

لقد أراد الله سبحانه وتعالى أن يضع منهاجه في الأرض عن طريق خليفة يتخذه:

«وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً»(3).

فأوجد سبحانه وتعالى الإنسان الذي أدخله في تجربة طويلة، حيث تكفلت

ص: 155


1- العقاد: عبقرية الإمام علي ص 43
2- الكعبة لغة: كعبت الشيء أي ربعته، والكعبة: البيت المربع، وسمي البيت الحرام بالكعبة لتكعبيه اي تربيعه، والعرب تسمى المكان المرتفع كعبة. ابن منظور: لسان العرب 2 / 213
3- سورة البقرة، آية 30

السماء برسم المنهج، الدستور، النظام، عن طريق ما عرف بسلسلة الأنبياء، فكان هناك (124) ألف نبي، كل أرسل إلى قومه:

«وَمَا كُنَّا مُعَذِّبيِنَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا»(1).

أما طريقة الحياة فكان على الإنسان أن يدخل في صراع مع الطبيعة، وكان لذلك الصراع أثره في حصول الإنسان على المعرفة حيث اكتشف الزراعة، ثم الصناعة، ثم التجارة، ثم العلاقات الدولية. وما كان ذلك ليتم إلا بعد زمن وصراع طويل مع الطبيعة.

وما إن حل القرن السابع الميلادي، وكأن البشرية قد وصلت إلى درجة من التكامل في التعامل مع الطبيعة، وتعامل الإنسان مع الإنسان أينما كان لذا وصل الإنسان إلى الدرجة التي تؤهله ليكون خليفة الله في الأرض، فالمعروف أن الأنبياء السابقين كانوا أنبياء قوميين ما عدا أولي العزم، وكل أرسل إلى قومه (أنظر سورة الأعراف 59، 65، 73). والكتب السماوية، كانت متباينة، وخاضعة لعنصر الزمن، ومختصة بقوم دون قوم، فما تلبث أن تنسخ لأنها لم تعد ملائمة لتطور الإنسان.

فأرادت السماء هنا أن تضع منهاجا واحداً، حيث لا أنبياء متعددون بعد الآن ولا كتباً متعددة، ولا اديان متعددة، فالدين الذي سيسود هو الدين الاسلامي:

«إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ»(2).

والنبي الوحيد الذي سيكون للبشرية اجمع هو النبي محمد صلی الله علیه و آله وسلم:

ص: 156


1- سورة الاسراء، آية 15
2- سورة آل عمران، آية 19

﴿وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ»(1).

والدستور الذي ينظم حياة البشرية جمعاء هو القرآن حيث أن أحكامه ستتناسب طردياً مع كل متغيرات الزمان والمكان والكل ستتوجه نحو قبلة واحدة هي الكعبة المشرفة، التي اصبحت قبلة للموحدين، فهي اليوم القبلة الوحيدة التي تحظى بقبول السماء، قال تعالى:

«قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فيِ السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ»(2).

وقد كانت هذه القبلة موضعاً لولادة الإمام علي بن أبي طالب علیه السلام فكانت هذه الفضيلة مما انفرد به(3)، حتى عرف باسم (وليد الكعبة).

وقد تصور ابن أبي الحديد ان رواية ولادته في الكعبة هي رواية امامية والواقع إن مسألة ولادته هي اجماع المسلمين(4).

وأقدم من أشار إليها الشاعر - السيد الحميري ت 173 ه(5) - في قصيدة

ص: 157


1- سورة الاحزاب، آية 40
2- سورة البقرة، آية 144
3- هناك روايات لولادة حكيم بن حزام في الكعبة، لكنها روايات مراسيل. أنظر ابن بكار: جمهرة نسب قريش ص 353. ابن حبيب: المحبر ص 176. تنظر دراستنا عن ولادة حكيم في كتابنا: فضائل أمير المؤمنين علیه السلام المنسوبة لغيره ص 243 284
4- ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة 1 / 14. ولمزيد من التفاصيل ينظر تأليفنا: فضائل امير المؤمنين علیه السلام المنسوبة لغيره، الولادة في الكعبة ص 149 - 238
5- هو اسماعيل بن محمد بن يزيد المعروف بالسيد الحميري، كان شاعراً ظريفاً وله ديوان شعر مطبوع. أنظر ترجمته. ابن المعتز: طبقات الشعراء ص 32 - 36. أبو الفرج: الاغاني: 7 / 248 - 97. الطوسي: الفهرست ص 108. الكشي: رجال ص 242 - 245. الخوانساري: روضات الجنات 1 / 103 - 111

له إذ قال(1):

ولدته في حرم الاله وأمنه *** والبيت حيث فناؤه والمسجد

بيضاء طاهرة الثياب كريمة *** طابت وطاب وليدها والمولد

في ليلة غابت نحوس نجومها *** وبدا مع القمر المنر الاسعد

ما لف في خرق القوابل مثله *** الا ابن آمنة النبي محمد

وممن ذكرها المسعودي المعتزلي ت 346 ه(2) والصدوق ت 381 ه(3)، وقال الحاكم النيسابوري ت 405 ه «تواترت الاخبار أن فاطمة بنت اسد ولدت امير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه في جوف الكعبة»(4).

وقال الشريف الرضي ت 406 ه: «لم نعلم مولوداً في الكعبة غيره»(5).

واشار لها المفيد ت 413 ه(6)، والشريف المرتضى ت 436 ه(7)، والطوسي ت 460 ه(8)، وابن المغازلي ت 483 ه(9).................................

ص: 158


1- ديوانه ص 155
2- مروج الذهب 2 / 358. وينظر الكتاب المنسوب له: إثبات الوصية ص 33
3- الامالي ص 116. علل الشرائع 1 / 135. معاني الاخبار ص 62
4- المستدرك على الصحيحين 3 / 550
5- خصائص الأئمة، ط مجمع البحوث الإسلامية ص 39
6- الإرشاد ص 7. المقنعة ص 461. مسار الشيعة ص 59
7- القصيدة المذهبية ص 119
8- الامالي: ط دار الثقافة ص 706. مصباح المتهجد ص 805
9- مناقب علي بن أبي طالب ص 7

........... والفتال ت 508 ه(1) والطبرسي ت 548 ه(2)، وعماد الدين الطبرسي ت بعد 553 ه(3) والمازندراني ت 588 ه(4).

ونوّه بها ابن طلحة الشافعي ت 652 ه(5)، وسبط ابن الجوزي الشافعي ت 654 ه(6)، والكنجي الشافعي ت 658 ه، الذي قال «ولم يولد قبله ولا بعده مولود في بيت الله الحرام سواه إكراماً له بذلك، وإجلالا لمحله من التعظيم»(7).

وقال الحسن بن محمد الهادي إلى الحق أحد ائمة الزيدية في اليمن(8):

وكان في البيت العتيق مولده *** وامه إذ دخلت لا تقصده

وأشار لها الاربلي ت 693 ه(9) والعلامة الحلي ت 726 ه(10) والجويني ت 730 ه(11)، وأكدها الذهبي ت 748 ه في تلخيصه للمستدرك(12)،

ص: 159


1- روضة الواعظين 1 / 76
2- اعلام الورى ص 153
3- بشارة المصطفى: ص 7 - 8
4- مناقب آل أبي طالب 2 / 22 - 23
5- مطالب السئول ص 29
6- تذكرة خواص الأمة ص 10
7- كفاية الطالب ص 406 - 407
8- الأميني: الغدير 5 / 653. وعن الحسن بن محمد أنظر: الغدير 5 / 653 - 660
9- كشف الغمة 1 / 60 - 61
10- كشف اليقين: ص 17
11- فرائد السمطين 1 / 425 - 426
12- تلخيص المستدرك 3 / 550

وأشار لها الشاعر السيد عبد العزيز بن محمد السريحي الأوالي(1) في حدود 750 ه إذ قال(2):

من كان في حرم الرحمن مولده *** وحاطه الله من باس وعدوان

وذكرها أيضاً في شعره أبو الحسن علاء الدين الشيخ علي بن الحسين من رجالات القرن الثامن الهجري إذ قال(3):

م هل ترى في العالمين باسرهم *** بشراً سواه ببيت مكة يولد

افي ليلة جبريل جاء بها مع *** الملأ المقدس حوله يتعبد

فلقد سما مجداً كما علا شرفاً به دون البقاع المسجد وذكرها من المتأخرين ابن عنبه ت 828 ه(4)، والديلمي ت 841 ه(5)، وابن الصباغ المالكي ت 855 ه(6)، والصفوري الشافعي ت 894 ه(7)، والسكتواري ت 1007 ه(8)، وعلي القاري الحنفي ت 1014 ه(9)، والحلبي الشافعي ت 1044 ه(10)،...............................................

ص: 160


1- نسبة إلى اوال جزيرة في البحرين. الحموي: معجم البلدان 1 / 274
2- الأميني: الغدير 6 / 34. وعن الشاعر أنظر الغدير 6 / 33 - 34، 58
3- الأميني: الغدير 6 / 508. وعن الشاعر أنظر: الغدير 6 / 503 - 556
4- عمدة الطالب ص 58 - 59
5- إرشاد القلوب 2 / 211
6- الفصول المهمة ص 13
7- نزهة المجالس 2 / 204 - 205
8- محاضرة الاوائل ص 120
9- شرح الشفا 1 / 151. نقلا عن الأميني: الغدير ص 6 / 37
10- السيرة الحلبية 1 / 154، 3 / 405

.........والدهلوي الحنفي ت 1176 ه(1)، والشاعر العمري ت 1278 ه بقوله:

أنت العلي الذي فوق العلى رفعا *** ببطن مكة عند البيت إذ وضعا

وقال الآلوسي ت بعد 1270 ه في شرحه البيت أعلاه: «وفي كون الامير كرم الله وجهه ولد في البيت أمر مشهور في الدنيا… وأحرى بإمام الأئمة أن يكون وضعه في موضع هو قبلة للمؤمنين. سبحان من يضع الاشياء في مواضعها وهو أحكم الحاكمين»(2). ونوّه بها الشبلنجي(3)، والشنقيطي ت 1363 ه(4)، والفيروزآبادي(5).

مضت فترة على ولادة أمير المؤمنين علیه السلام لينتقل من بيت الله إلى بيت رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم، إذ من الفضائل التي لم يحظ بها سواه علیه السلام هو شرف تربيته في بيت النبي صلی الله علیه و آله وسلم، منذ كان عمره ست سنوات، حيث تروي الروايات أن قريشاً أصابتها أزمة اقتصادية فاقترح الرسول صلی الله علیه و آله وسلم على عمه العباس التخفيف عن أبي طالب، فقال أبو طالب إن تركتما لي عقيلاً افعلا ما شئتما، فاختار العباس جعفراً واختار الرسول صلی الله علیه و آله وسلم عليا(6) وقال:

ص: 161


1- ديوانه ص 97
2- سرح الخريدة الغيبية بشرح القصيدة العينية ص 15، 75
3- نور الابصار ص 36
4- كفاية الطالب ص 37
5- فضائل الخمسة من الصحاح الستة 1 / 176
6- ان عدم ورود (طالب) بن أبي طالب في هذه الحادثة فيها دلالة على أنه لا وجود له، وأن أبا طالب كنية أو اسماً لأبي طالب. وقد أشار لذلك الحاكم: المستدرك 3 / 116

«قد اخترت من اختاره الله لي»(1).

فكان صلی الله علیه و آله وسلم يسدي لعلي علیه السلام من الاحسان والشفقة وحسن التربية حتى بعث صلی الله علیه و آله وسلم(2)، لذا كان علي علیه السلام يقول:

«وقَدْ عَلِمْتُمْ مَوْضِعِي مِنْ رَسُولِ الله صلی الله علیه و آله وسلم، باِلْقَرَابَةِ الْقَرِيبَةِ، والْمَنْزِلَةِ الْخَصِيصَةِ، وَضَعَنيِ فِی حِجْرِه وأَنَا وَلَدٌ يَضُمُّنيِ إِلَی صَدْرِه، ويَكْنُفُنيِ فِی فِرَاشِه ويُمِسُّنيِ جَسَدَه، ويُشِمُّنيِ عَرْفَه، وكَانَ يَمْضَغُ الشَّیْءَ ثُمَّ يُلْقِمُنيِه، ومَا وَجَدَ لِی كَذْبَةً فِی قَوْلٍ ولَا خَطْلَةً فِی فِعْلٍ»(3).

وكلامه هذا يؤكد بأنه تربى في بيت النبي صلی الله علیه و آله وسلم وعمره أقل من ست سنوات على خلاف ما ذهب إليه ابن أبي الحديد.

إن ولادته علیه السلام في الكعبة وتربيته في بيت الرسالة تعني إنه كاد أن يولد مسلماً، بل ولد مسلماً على التحقيق إذا نظرنا إلى ميلاد العقيدة والروح، لأنه فتح عينه على الإسلام، ولم يعرف عبادة الاصنام(4). حيث يقول علیه السلام:

«إني ولدت على الفطرة»(5).

ص: 162


1- الشرح 1 / 15. وانظر: البلاذري: انساب الاشراف 2 / 90. أبو الفرج: مقاتل الطالبيين ص 15. الحاكم: المستدرك 3 / 667. الخوارزمي: المناقب ص 17. مع اننا نتحفظ على هذه الرواية لأنها وضعت للطعن في تربية الامام في بيت الرسالة!!؟ وقد ناقشنا ذلك في بحثنا: الإمام علي علیه السلام في فكر معتزلة البصرة ص 7 8
2- الشرح 1 / 15
3- الشرح 13 / 197
4- العقاد: عبقرية الامام ص 43
5- الشرح 4 / 54

هنا نتسائل: إن كل مولود يولد على الفطرة، يقول صلی الله علیه و آله وسلم:

«كل مولود يولد على الفطرة، وإنما أبواه يهودانه وينصرانه»(1).

فماذا يقصد الامام بذلك؟ هنا ابن أبي الحديد يطرح عدة آراء في تفسير الفطرة:

أولاً: إن الامام علیه السلام لم يولد في الجاهلية، حيث كانت ولادته قبل البعثة بعشر سنوات، وهذه السنوات العشر يعدها ابن أبي الحديد مقدمة للإسلام وارهاصات للنبوة، حيث يقول: «وقد جاء في الاخبار الصحيحة إنه صلی الله علیه و آله وسلم مكث قبل الرسالة سنين عشراً يسمع الصوت ويرى الضوء، ولا يخاطبه أحد وكان ذلك ارهاصات لرسالته علیه السلام، فحكم تلك السنين العشر حكم أيام رسالته صلی الله علیه و آله وسلم؛ فالمولود فيها إذا كان في حجره وهو المتولي لتربيته، مولود في أيام كأيام النبوة، وليس بمولود في جاهلية محضة». وهذا هو وجه المقارنة بمعنى ولادته علیه السلام على الفطرة، وولادة غيره من الصحابة، حيث أكد ابن أبي الحديد أن هذه السنة لها أثر في حياة النبي صلی الله علیه و آله وسلم وذلك:

ان السنة التي ولد فيها الإمام علي علیه السلام هي السنة التي بدء فيها برسالة الرسول صلی الله علیه و آله وسلم، حيث سمع الهتاف من الاحجار والاشجار، وكشف عن بصره، فشاهد انواراً، واشخاصاً، ولم يخاطب فيها بشيء.

في هذه السنة ابتدأ النبي صلی الله علیه و آله وسلم بالتبتل، والانقطاع والعزلة في غار حراء، فلم يزل به حتى كوشف بالرسالة، ونزل عليه الوحي.

ص: 163


1- اخرجه: مسلم: الصحيح 16 / 207. 240. البيهقي: سنن 6 / 202. الترمذي: صحيح 8 / 303 - 304. ابن حزم: الفصل 3 / 168، 4 / 131 - 134

وكان صلی الله علیه و آله وسلم يتيمن بتلك السنة، وبولادة علي علیه السلام فيها، ويسميها سنة الخير والبركة؛ وقال لاهله ليلة ولادته، وقد شاهد فيها ما شاهد من الكرامات والقدرة الإلهية، ولم يكن من قبل شاهد ذلك: «لقد ولد لنا الليلة مولود يفتح الله علينا به ابواباً كثيرة من النعمة والرحمة». وقد أكد ابن أبي الحديد صحة ذلك بقوله: وكان كما قال صلوات الله عليه، فإنه علیه السلام كان ناصره والمحامي عنه،وكاشف الغماء عن وجهه، وبسيفه ثبت دين الإسلام، ورست دعائمه وتمهدت قواعده(1).

ثانياً: معنى ولادته على الفطرة أي الفطرة التي لم تتغير، ولم تحل، وذلك ان معنى قوله صلی الله علیه و آله وسلم:

«كل مولود يولد على الفطرة».

إن كل مولود فإن الله تعالى قد هيأه بالعقل الذي خلقه فيه، وبصحة الحواس، والمشاعر لأن يعلم التوحيد والعدل، ولم يجعل فيه مانعاً يمنعه من ذلك، ولكن التربية والعقيدة في الوالدين، والالف لاعتقادهما، وحسن الظن فيهما، يصده عما فطر عليه، وامير المؤمنين علیه السلام دون غيره، ولد على الفطرة التي لم تحل، ولم يصد عن مقتضاها مانع، لا من جانب الأبوين، ولا من جهة غيرهما، وغيره ولد على الفطرة، ولكنه حال عن مقتضاها، وزال عن موجبها»(2).

ثالثاً: إنه أراد بالفطرة - العصمة - وإنه منذ ولد لم يواقع قبيحاً، ولا كان كافراً طرفة عين، ولا مخطئاً ولا غالطاً في شيء يتعلق بالوالدين وقال ابن أبي

ص: 164


1- الشرح 4 / 114 - 115
2- الشرح 4 / 115. وانظر عن أثر الاسرة في تنشئة الابناء: كاظم، التنشئة الاجتماعية ص 149 - 155

الحديد «وهذا تفسير الإمامية»(1). ولكنه لم يعلق عليه لا سلباً ولا ايجاباً.

وما إن بزغ نور الإسلام حتى كان الإمام علي علیه السلام في مقدمة معتنقيه، حيث يقول:

«وسبقت إلى الإيمان»(2).

ولكن كيف يتفق هذا مع ان هناك من يقول بأسبقية أبي بكر أو زيد!!؟(3) أشار ابن أبي الحديد إن أكثر أهل الحديث يرون أن الإمام علياً علیه السلام هو أول من أسلم، حيث استعرض روايات - ابن عبد البر - الذي أورد إحدى وعشرين رواية تفيد أسبقية الإمام علي علیه السلام للاسلام، ويقول في نهايتها «إنه لاشك عندنا أن علياً أولهما إسلاماً»(4). لذا يقول ابن أبي الحديد: «ان شيوخنا المتكلمين لا يكادون يختلفون في أن أول الناس إسلاماً علي بن أبي طالب علیه السلام» إلا من عساه خالف في ذلك من اوائل البصريين، فأما الذي تقررت المقالة عليه الآن فهو القول بأنه اسبق الناس إلى الإيمان، لا نكاد نجد اليوم في تصانيفهم وعند متكلميهم والمحققين منهم خلافا في ذلك»(5).

وأضاف: «إن امير المؤمنين علیه السلام ما زال يدّعي ذلك لنفسه، ويفتخر به، ويجعله

ص: 165


1- الشرح 4 / 115 - 116
2- الشرح 4 / 54
3- أنظر الاختلافات: الشرح 13 / 215 وما بعدها. الجاحظ: العثمانية ص 3 وما بعدها. الاسكافي: تقض العثمانية ص 282 وما بعدها
4- الشرح 4 / 116 - 122. وانظر: ابن قتيبة: المعارف ص 168 - 169. ابن عبد البر: الاستيعاب 3 / 1090 - 1096
5- الشرح 4 / 122. وانظر القاضي: المغني 20 / 2 / 138 - 141

في أفضليته على غيره، ويصرح بذلك. وقد قال غير مرة: «أنا الصديق الأكبر، والفاروق الأول، أسلمت قبل إسلام أبي بكر، وصليت قبل صلاته»(1). وكان - علیه السلام - يقول(2):

سبقتكم إلى الإسلام طرا *** غلاما ما بلغت اوان حلمي

وخلص للقول: «والاخبار الواردة في هذا الباب كثيرة جداً، لا يتسع هذا الكتاب لذكرها، فلتطلب من مظانها ومن تأمل كتب السير والتواريخ عرف من ذلك ما قلناه»(3).

ثم أشار إلى أن هذا يطابق قوله علیه السلام:

«لقد عبدْتُ اللهَ قبل أن يعبده أحد من هذه الأمة سبع سنين».

وقوله:

«كنت أسمعُ الصوتَ، وأبصرُ الضوءَ سنينَ سبعاً».

والرسول صلی الله علیه و آله وسلم حينئذ صامت، ما أذن له في الإنذار والتبليغ؛ وذلك لأنه إذا كان عمره يوم اظهار الدعوة ثلاث عشرة سنة، وتسليمه إلى رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم من أبيه وعمره ست سنوات، فقد صح انه كان يعبد الله قبل الناس بأجمعهم

ص: 166


1- الشرح 4 / 122. وانظر: الاسكافي: نقض العثمانية ص 29. ابن قتيبة: المعارف ص 169. أبو هلال العسكري: الاوائل ص 107 - 110
2- الشرح 4 / 122. وانظر: ابن المغازلي: مناقب ص 404. المازندراني: مناقب 2 / 19. الحموي: معجم الادباء 14 / 48. ابن طلحة: مطالب السئول ص 30. سبط ابن الجوزي: تذكرة ص 108. الجويني: فرائد السمطين ص 427. الهيتمي: الصواعق ص 131. الحلبي: السيرة الحلبية 1 / 294
3- الشرح 4 / 123

سبع سنين، وابن ست تصح منه العبادة إذا كان ذا تمييز، على ان عبادة مثله هي التعظيم والاجلال، وخشوع القلب، واستخذاء الجوارح إذا شاهد شيئاً من جلال الله سبحانه وتعالى، وآياته الباهرة، ومثل هذا يوجد عند الصبيان(1).

وقد لاحظنا من خلال كلام الإمام أن عمره علیه السلام أقل من ست سنوات لما تربى في بيت النبي صلی الله علیه و آله وسلم.

ويرى أكثر المعتزلة أن عمر الإمام علي علیه السلام يوم أسلم كان ثلاث عشرة سنة(2)، وقد سبق ذلك ارهاصات، حيث كان يسمع رنة الشيطان(3)، وإن الرسول صلی الله علیه و آله وسلم قال له: لولا أني خاتم الانبياء لكنت شريكاً في النبوة، فإن لا تكن نبياً، فإنك وصي نبي ووارثه بل أنت سيد الأوصياء وإمام الأتقياء(4).

ولما كان رسول الله محمد صلی الله علیه و آله وسلم نبياً فقد أصبح الإمام علي علیه السلام وزيراً وذلك يوم الإنذار بعد نزول قوله تعالى:

«وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ»(5).

فدعا صلی الله علیه و آله وسلم بني هاشم وأبلغهم وطلب منهم مؤازرته، فلم يؤازروه، إلاعلي علیه السلام(6).

ص: 167


1- شرح نهج البلاغة 1 / 15
2- شرح نهج البلاغة 1 / 14
3- شرح نهج البلاغة 13 / 209
4- شرح نهج البلاغة 13 / 210
5- سورة الشعراء 214
6- الشرح 13 / 210 - 212، 244 - 245. الاسكافي: نقض العثمانية ص 303. الطبري: تاريخ 2 / 321 - 322

واستدل ابن أبي الحديد «على أنه وزير رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم من نص الكتاب والسنة، قول الله تعالى:

«وَاجْعَلْ ليِ وَزِيرًا مِنْ أَهْليِ * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِی أَمْرِي»(1).

وقال النبي صلی الله علیه و آله وسلم في الخبر المجمع على روايته بين سائر فرق الإسلام:

«أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي».

فأثبت له جميع مراتب هارون من موسى، فإذن هو وزير رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم وشاد أزره، ولولا أنه خاتم النبيين لكان شريكاً في أمره»(2).

وأكد الإمام علیه السلام على سبقه حتى في الهجرة إذ يقول:

«وسبقت إلى الإيمان والهجرة»(3).

ولكن المعروف أن الامام لم يكن أول من هاجر بل سبقه الكثيرون لأنه بات في فراش الرسول صلی الله علیه و آله وسلم كما هو معلوم.

ويفسر ابن أبي الحديد كلام الإمام علي أعلاه بأنه علیه السلام لم يقل سبقت كل الناس، وإنما سبق المهاجرين، إذ أن سيل الهجرة استمر حتى قبيل فتح مكة في السنة الثامنة من الهجرة(4).

وأضاف: «إن اللام في الهجرة يجوز أن لا تكون للمعهود السابق، بل

ص: 168


1- سورة طه، الآيات 29 - 31
2- الشرح 13 / 211
3- الشرح 4 / 54
4- الشرح 4 / 125

تكون للجنس، وامير المؤمنين علیه السلام سبق أبا بكر وغيره إلى الهجرة التي قبل هجرة المدينة، فإن النبي صلی الله علیه و آله وسلم هاجر من مكة مراراً يطوف على احياء العرب، وينتقل من ارض قوم إلى غيرها، وكان علي علیه السلام معه دون غيره»(1).

لقد كان الإمام علي علیه السلام ذا صلة وثيقة بالنبي صلی الله علیه و آله وسلم حيث إنهما ذوا أصل واحد «فآباؤه آباء رسول الله، وأمهاته أمهات رسول الله، وهو منوط لحمه ودمه، لم يفارقه منذ خلق الله آدم، إلى أن مات عبد المطلب بين الأخوين عبد الله وابي طالب، وأمهما واحدة، فكان منهما سيدا الناس؛ هذا الأول وهذا التالي، وهذا المنذر وهذا الهادي»(2).

ومما يؤكد هذه الانطلاقة المشتركة نحو الهدف الواحد المنشود ما رواه الزمخشري - أحد معتزلة البصرة - في حق الإمام علي علیه السلام والزمخشري حسبما يصفه ابن أبي الحديد: «مذهبه في الاعتزال ونصرة اصحابنا معلوم، وكذلك في انحرافه عن الشيعة، وتسخيفه لمقالاتهم - إن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم قال:

«لما أسري بي، أخذني جبريل، فأقعدني على درنوك من درانيك الجنة، ثم ناولني سفرجلة، فبينما أنا أقلبها انفلقت، فخرجت منها جارية لم أر أحسن منها، فسلمت، فقلت: من أنت؟ قالت: أنا الراضية المرضية، خلقني الجبار من ثلاثة اصناف؛ أعلاي من عنبر، وأوسطي من كافور، وأسفلي من مسك. ثم عجنني بماء الحيوان. وقال لي: كوني كذا، فكنت. خلقني لأخيك، وابن عمك

ص: 169


1- الشرح 4 / 125 - 126
2- الشرح 1 / 30

علي بن أبي طالب»(1).

ولذا كان الإمام علي علیه السلام بالنسبة للنبي صلی الله علیه و آله وسلم «شعاع من شمسه، وغصن من غرسه، وقوة من قوى نفسه، ومنسوب إليه نسبة الغد إلى يومه واليوم إلى أمسه، فما هما إلا سابق ولاحق، وقائد وسائق، وساكت وناطق، ومجل ومصل، سيفا لمحة البارق، وأنارا سدنة الغاسق، صلى الله عليهما ما استخلب خبير وتناوح حراء وثبير(2)»(3).

وكان الإمام يفتخر بهذه العلاقة ويقول(4):

محمد النبي اخي وصهري *** وحمزة سيد الشهداء عمي

هذه القرابة القريبة بينهما سببها «كونه في حجره، ثم حامى عنه ونصره عند اظهار الدعوة دون غيره من بني هاشم، ثم ما كان بينهما من المصاهرة التي أفضت إلى النسل الأطهر دون غيره من الاصهار»(5).

بل وصل الأمر أن شبّه ابن أبي الحديد ومعاصريه سياسة النبي صلی الله علیه و آله وسلم والظرف الذي عاشه بسياسة الامام والظرف الذي عاش فيه، إذ يقول: «وإذا تأملت احواله في خلافته كلها وجدتها هي مختصرة من أحوال رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم في حياته،

ص: 170


1- الشرح 9 / 280 - 281. وانظر الزمخشري: ربيع الابرار 1 / 286. الخوارزمي: المناقب ص 210. الجويني: فرائد السمطين 1 / 48
2- جبلان قرب مكة. أنظر الحموي: معجم البلدان 2 / 72 - 47، 233 - 234
3- الشرح 1 / 3
4- الشرح 4 / 122. وانظر ابن المغازلي: مناقب ص 404. ابن طلحة: مطالب السئول ص 30
5- الشرح 13 / 198. سنتناول في حلقة من حلقات تأليفنا (فضائل الإمام علي علیه السلام المنسوبة لغيره) فضيلة مصاهرة النبي صلی الله علیه و آله وسلم لنرى مدى صحة مصاهرة الآخرين له

كأنها نسخة مستنسخة منها، في حربه وسلمه، وسيرته وأخلاقه، وكثرة شكايته من المنافقين من أصحابه والمخالفين لأمره، وإذا اردت ان تعلم ذلك علماً واضحاً، فاقرأ سورة براءة ففيها الجم الغفير من المعنى الذي أشرنا إليه»(1).

ولما كان الإمام علي - علیه السلام - ابن عم الرسول صلی الله علیه و آله وسلم في النسب وأخاه ولحمه ودمه، وفضائله مشتقة من فضائل الرسول صلی الله علیه و آله وسلم، وهو قبس من نوره، وثانيه على الحقيقة ولا ثالث لهما، لذا نجد سيرته - علیه السلام - جارية نفس مجرى سيرة الرسول صلی الله علیه و آله وسلم(2).

وحينما شرح كلام الإمام علي علیه السلام في اقسام أصحابه، قال ابن أبي الحديد:

«إن حاله كانت مناسبة لحال النبي صلی الله علیه و آله وسلم، ومن تذكر احوالهما وسيرتهما، وما جرى لهما إلى أن قبضا، علم تحقيق ذلك»(3).

ولذا نجده علیه السلام يقول لأصحابه: «والله ما أسمعكم الرسول شيئاً، إلا وها أنا ذا اليوم مسمعكموه، وما أسماعكم اليوم بدون أسماعكم بالأمس، ولا شقت لكم الابصار ولا جعلت لهم الافئدة في ذلك الزمان، إلا وقد اعطيتم مثلها في هذا الزمان، ووالله ما بصرتم بعدهم شيئاً جهلوه، ولا أصفيتم به وحرموه، ولقد نزلت بكم البلية جائلاً حطامها…»(4).

ولقد علق ابن أبي الحديد على كلام الإمام علي علیه السلام قائلاً: «… المخاطبون وإن كانوا نوعاً واحدا متساويا، إلا أن المخاطب مختلف الحال، وذلك لأنك

ص: 171


1- الشرح 6 / 229
2- الشرح 6 / 190
3- الشرح 16 / 147
4- الشرح 6 / 387

وإن كنت ابن عمه في النسب وأخاه ولحمه ودمه، وفضائلك مشتقة من فضائله، وأنت قبس من نوره، وثانيه على الحقيقة، ولا ثالث لكما؛ إلا أنك لم ترزق القبول الذي رزقه، ولا انفعلت نفوس الناس لك حسب انفعالها له، وتلك خاصية النبوة التي امتاز بها عنك»(1).

هذه الرؤية في توافق السيرتين أكدها أيضاً شيخ ابن أبي الحديد وهو أبو جعفر النقيب ثم قال: «أنظر إلى أخلاقهما وخصائصهما، هذا شجاع وهذا شجاع، هذا فصيح وهذا فصيح، هذا سخي جواد وهذا سخي جواد، وهذا عالم بالشرائع والأمور الإلهية، وهذا عالم بالفقه والشريعة والأمور الإلهية الدقيقة الغامضة، وهذا زاهد في الدنيا غير نهم ولا مستكثر منها، وهذا زاهد في الدنيا تارك لها غير متمتع بلذاتها، وهذا مذيب نفسه في الصلاة والعبادة، وهذا مثله. وهذا غير محبب إليه شيء من الامور العاجلة إلا النساء وهذا مثله. وهذا ابن عبد المطلب بن هاشم، وهذا في قعدده، أبواهما أخوان لأب واحد دون غيرهما من بني عبد المطلب، وربي محمد صلی الله علیه و آله وسلم في حجر والد هذا أبي طالب، فكان جاريا عنده مجرى أحد أولاده. ثم لما شب صلی الله علیه و آله وسلم، وكبر استخلصه من أبي طالب وهو غلام، فربى في حجره مكافأة لصنيع أبي طالب به، فامتزج الخلقان، وتماثلت السجيتان، وإذا كان القرين بالقرين، فما ظنك بالتربية والتثقيف الدهر الطويل!»(2).

وأردف قائلاً: «فواجب أن تكون أخلاق محمد صلی الله علیه و آله وسلم كأخلاق أبي طالب، وتكون أخلاق علي علیه السلام كأخلاق أبي طالب أبيه، ومحمد علیه السلام مربيه، وأن يكون

ص: 172


1- الشرح 6 / 390
2- الشرح 10 / 221

الكل شيمة واحدة، وسوساً واحدا، وطينة مشتركة ونفساً غير منقسمة ولامتجزئة، وألا يكون بين بعض هؤلاء وبعض فرق ولا فضل، لولا ان الله تعالى اختص محمداً صلی الله علیه و آله وسلم برسالته، واصطفاه لوحيه، لما يعلمه من مصالح البرية في ذلك، ومن ان اللطف به اكمل، والنفع بمكانه أتم وأعم، فامتاز رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم بذلك عمن سواه، وبقي ما عدا الرسالة على أمر الاتحاد، وإلى هذا المعنى أشار صلی الله علیه و آله وسلم: «اخصمك بالنبوة فلا نبوة بعدي، وتخصم الناس بسبع»(1). وقال له أيضاً «أنت مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي «فأبان نفسه منه بالنبوة، وأثبت له ما عداها من جميع الفضائل والخصائص مشتركا بينهما»(2).

هذه العلاقة الوثيقة بين النبي صلی الله علیه و آله وسلم والإمام علي علیه السلام نجدها تتمثل أيضاً في الأيام الأخيرة من عمر النبي صلی الله علیه و آله وسلم حيث كان الإمام علي علیه السلام إلى جواره حيث لم يرسله ضمن سرية أسامة بن زيد إلى الشام، ثم هو الذي تولى غسله صلی الله علیه و آله وسلم وكفنه ودفنه.

إذ لما مرض صلی الله علیه و آله وسلم دعا أسامة بن زيد بن حارثة، وقال له: سر إلى مقتل ابيك فأوطئهم الخيل فقد وليتك على هذا الجيش. وكان ضمن الجيش وجوه المهاجرين(3) ولكن اختلف في أبي بكر هل موجود ضمنه أولا؟ فقد أشار

ص: 173


1- اخرجه: أبو نعيم: حلية الاولياء 1 / 65 - 66. ابن طلحة الشافعي: مطالب السؤول ص 34. الكنجي: كفاية الطالب ص 139. محب الدين: الرياض النظرة 2 / 292
2- الشرح 10 / 222
3- الشرح 1 / 159. وانظر: البخاري: الصحيح 6 / 39 - 40. الطبري: تاريخ 3 / 184

موسى بن عقبة(1) والواقدي(2) والطبري(3) لعدم وجوده في الجيش بينما ذكره اليعقوبي(4) وأبو هلال العسكري(5)، والجوهري(6) ضمن الجيش الخارج للشام(7)، فيما لم يذكر أي مصدر أن الإمام علياً علیه السلام كان ضمن الجيش وهذا فيه دلالة على مدى اختصاصه بالرسول صلی الله علیه و آله وسلم.

وقد أكد هذه الحقيقة الإمام علي علیه السلام بقوله مخاطباً الرسول صلی الله علیه و آله وسلم بعد وفاته «وفاضت بين نحري وصدري نفسك»(8).

ولكن روي عن السيدة عائشة أنها قالت: «توفي رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم بين سحري ونحري»(9). لذا حاول ابن أبي الحديد التوفيق بين الروايتين بقوله «الله أعلم بحقيقة هذا الحال، ولا يبعد عندي أن يصدق الخبران معاً، بأن يكون رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم وقت الوفاة مستنداً إلى علي وعائشة جميعاً، فقد

ص: 174


1- الشرح 17 / 183
2- المغازي 3 / 1118 - 1120
3- تاريخ 3 / 184
4- التاريخ 2 / 103
5- الاوائل ص 337
6- الشرح 1 / 159، 6 / 17، 52 / 183
7- أنظر تفاصيل حملة أسامة وآراء المعتزلة فيها. الشرح 1 / 159 - 62، 17 / 175 - 194. القاضي: المغني 20 / 1 / 343 - 349
8- الشرح 10 / 265. وانظر ابن سعد: الطبقات 2 / 262 - 263. البيهقي: المحاسن ص 298. الزمخشري: ربيع الابرار 4 / 197
9- الشرح 10 / 267. وانظر: ابن عبد ربه: العقد الفريد 4 / 261 - 262. سبط ابن الجوزي: تذكرة ص 43

وقع الاتفاق على أنه مات وهو حاضر لموته، وهو الذي كان يقلبه بعد موته، وهو الذي كان يعلله ليالي مرضه، فيجوز أن يكون مستنداً إلى زوجه وابن عمه، ومثل هذا لا يبعد وقوعه في زماننا هذا، فكيف في ذلك الزمان الذي كان النساء فيه والرجال مختلطين، لا يستتر البعض عن البعض، فإن قلت: فكيف تعمل بآية الحجاب، وما صح من استتار ازواج الرسول صلی الله علیه و آله وسلم عن الناس بعد نزولها؟ قلت قد وقع اتفاق المحدثين كلهم على ان العباس كان ملازماً للرسول صلی الله علیه و آله وسلم أيام مرضه في بيت عائشة، وهذا لا ينكره أحد، فعلى القاعدة التي كان العباس ملازمه صلی الله علیه و آله وسلم كان علي علیه السلام ملازمه، وذلك يكون بأحد أمرين: إما بأن نساءه لا يستترن من العباس وعلي لكونهما أهل الرجل وجزء منه. أو لعل النساء كن يختمرن بأخمرتهن، ويخالطن الرجال فلا يرون وجههن، وما كانت عائشة وحدها في البيت عند موته، بل كان نساءه كلهن في البيت، وكانت إبنته فاطمة عند رأسه صلی الله علیه و آله وسلم»(1).

ان الذي يلاحظ على الروايتين أعلاه:

1. تعدد رواة القائلين بأن النبي صلی الله علیه و آله وسلم مات بين سحر الامام وصدره واقتصار القائلين على عائشة عليها وعلى ابن اختها عروة بن الزبير المعروف بعدائه اللدود للإمام علي علیه السلام.

2. ان الذي يستقرىء الروايات التي تتحدث عن الأيام الأخيرة للنبي صلی الله علیه و آله وسلم ليشهد الدور الكبير للإمام والزهراء دون سواهما.

3. إن الملاحظ ان رواية السيدة عائشة لم تأت لتوضح أن النبي صلی الله علیه و آله وسلم مات

ص: 175


1- الشرح 10 / 267 - 268

بين سحرها ونحرها، وإنما لتنفي الوصية عن الإمام علیه السلام. وكأنها وضعت لهذا الغرض.

4. فهل وضعت الرواية من قبل عروة بن الزبير باعتباره من ضمن اللجنة التي وضعها معاوية لاختلاق فضائل مقابل فضائل الإمام علي علیه السلام!!؟ ومن خلال استعراضه لأحداث وفاة الرسول صلی الله علیه و آله وسلم ومراسيم تجهيزه ودفنه لاحظ ابن أبي الحديد ان الإمام علياً علیه السلام كان المتصدي لكل لذلك، إذ يقول:

«من تأمل هذه الاخبار، علم أن علياً علیه السلام كان الاصل والجملة والتفصيل فيأمر الرسول صلی الله علیه و آله وسلم وجهازه، ألا ترى أن أوس بن خولّی(1) لا يخاطب أحداً من الجماعة غيره، ولا يسأل غيره في حضور الغسل والنزول في القبر! ثم أنظر إلى كرم علي علیه السلام وسجاحة اخلاقه وطهارة شيمته، كيف يضن بمثل هذه المقامات الشريفة عن أوس؛ وهو رجل غريب من الأنصار، فعرف له حقه وأطلبه بما طلبه! فكم بين هذه السجية الشريفة، وبين قول من قال: لو استقبلت من امري ما استدبرت ما غسل الرسول صلی الله علیه و آله وسلم إلا نساؤه، ولو كان في ذلك المقام غيره من أولي الطباع الخشنة وأرباب الفظاظة والغلظة، وقد سأل أوس ذلك لزجر وانتهر ورجع خائباً»(2).

وبعد وفاته صلی الله علیه و آله وسلم كان الإمام علي علیه السلام شديد الورع في ما يرويه عن النبي صلی الله علیه و آله وسلم

ص: 176


1- هو ممن شهد سائر مشاهد النبي صلی الله علیه و آله وسلم، وطلب الأنصار من الإمام علي علیه السلام ان يشاركوا في دفن النبي صلی الله علیه و آله وسلم فسمح لأحدهم فنزل أوس بن خولي: أنظر: ابن الاثير: اسد الغابة 1 / 144 - 145. ابن حجر: الاصابة 1 / 84
2- الشرح 13 / 40 - 41. يقصد بالقائل (لو استقبلت من امري ما استدبرت...) السيدة عائشة. أما صاحب الطباع الخشنة فيقصد الخليفة عمر

حيث بلغ من تعظيمه له، وإجلاله لقدره واحترام حديثه، ألّا يرويه إلا بألفاظه، لا بمعانيه، ولا بأمر يقتضي فيه إلباساً وتعمية، ولو كان مضطراً إلى ذلك ترجيحاً للجانب الذي على جانب مصلحته في خاص نفسه(1).

ولقد أثار ذلك التساؤل لدى ابن أبي الحديد فتوجه نحو شيخه أبي جعفر قائلاً: قد وقفت على كلام الصحابة وخطبهم فلم أر فيها من يعظم رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم تعظيم هذا الرجل، ولا يدعو كدعائه، فإنا قد وقفنا من نهج البلاغة ومن غيره على فصول كثيرة مناسبة لهذا الفصل، تدل على جلال عظيم، وتبجيل شديد منه لرسول الله صلی الله علیه و آله وسلم.

فأجاب أبو جعفر: ان علياً علیه السلام كان قوي الإيمان برسول الله صلی الله علیه و آله وسلم والتصديق له، ثابت اليقين، قاطعا بالأمر، متحققاً له، وكان مع ذلك يحب رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم لنسبته منه، وتربيته له، واختصاصه به من دون أصحابه، وبعد فشرفه له لأنهما نفس واحدة في جسمين: الاب واحد، والدار واحدة؛ والأخلاق متشابهة فإذا عظّمه فقد عظّم نفسه وإذا دعا إليه فقد دعا إلى نفسه، ولقد كان يود أن تطبق دعوة الإسلام مشارق الارض ومغاربها، لأن جمال ذلك لاحق به، وعائد عليه، فكيف لا يعظّمه ويبجّله ويجتهد في إعلاء كلمته(2).

ونتيجة لكل ذلك أصبح الإمام علي علیه السلام وريثاً للرسول صلی الله علیه و آله وسلم في كل شيء، حتى فيما كانت العرب تعتقده من ثارات حيث «إن كل دم أراقه رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم بسيف علي علیه السلام وبسيف غيره، فإن العرب بعد وفاته صلی الله علیه و آله وسلم عصبت تلك الدماء بعلي ابن أبي طالب علیه السلام وحده، لأنه لم يكن في رهطه من يستحق في شرعهم وسنتهم

ص: 177


1- الشرح 6 / 132
2- الشرح 7 / 174 - 175

وعاداتهم أن يعصب به تلك الدماء إلا بعلي وحده، وهذه عادة العرب إذا قتل منها قتلى طالبت بتلك الدماء القاتل، فإن مات أو تعذرت عليها مطالبته، طالبت به أمثل الناس من أهله … ومن نظر في أيام العرب ووقائعها ومقاتلها عرف ما ذكرناه»(1).

ومما امتاز به الإمام علي علیه السلام على سائر الأمة، وعُدَّ من فضائله؛ زواجه من فاطمة بنت النبي محمد صلی الله علیه و آله وسلم(2)، حيث كان علیه السلام يفتخر بذلك قائلًا:

«ومنا خير نساء العالمين»(3).

قال ابن أبي الحديد: «يعني فاطمة علیها السلام، نص رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم على ذلك، لا خلاف فيه. وقد تواتر الخبر عنه صلی الله علیه و آله وسلم انه قال: فاطمة سيدة نساء العالمين(4)، إما بهذا اللفظ بعينه، أو لفظ يؤدي هذا المعنى. روي أنه قال وقد رآها تبكي عند

ص: 178


1- الشرح 13 / 300 - 301
2- روي ان عمر بن الخطاب أو سعد بن أبي وقاص قال: لعلي ثلاث لو كانت لي واحدة أحب إلي من حمر النعم: زواجه بفاطمة، وسكناه في المسجد، واعطاءه الراية يوم خيبر. الترمذي: الصحيح 12 / 171 - 172. الحاكم: المستدرك 3 / 135، 117، 126. الخوارزمي: المناقب ص 238. سبط ابن الجوزي: تذكرة ص 128. الذهبي: تلخيص المستدرك 3 / 135. ابن كثير: البداية والنهاية 7 / 341 - 343. الهيثمي: مجمع الزوائد 9 / 120. الهيتمي: الصواعق ص 125
3- الشرح 15 / 182
4- ابن سعد: الطبقات 2 / 248. النسائي: خصائص ص 114 - 120. البيهقي: المحاسن ص 80 - 82. الطحاوي: مشكل الاثار 1 / 50. الحاكم: المستدرك 3 / 171 - 172، 174. أبو نعيم: حلية الاولياء 2 / 40، 42. ابن عبد البر: الاستيعاب 4 / 1893 - 1895. النووي: تهذيب الاسماء 1 / 1 / 158، 344. محب الدين: ذخائر العقبى ص 36، 49 - 50. ابن تيمية: منهاج السنة 2 / 169. المتقي الهندي: كنز العمال 13 / 93 - 95. الهيتمي: الصواعق ص 118 - 189

موته: ألا ترضين أن تكوني سيدة نساء هذه الأمة(1). وروي انه قال: سادات نساء العالمين أربع: خديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد، وآسية بنت مزاحم، ومريم بنت عمران(2)»(3).

وناقش ابن أبي الحديد أيهما شرف بالاخر الإمام علي أم فاطمة؟ تساءل ابن أبي الحديد أولاً: ما المقصود بالأفضل؟ ان أريد بالأفضل الأجمع للمناقب التي تتفاضل بها الناس، نحو العلم والشجاعة ونحو ذلك، فعلي أفضل.

وإن أريد بالأفضل: الأرفع منزلة عند الله، فالذي استقر عليه رأي المتأخرين من اصحابنا، أن علياً أرفع المسلمين كافة عند الله تعالى بعد رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم من الذكور والاناث، وفاطمة امرأة من المسلمين، وإن كانت سيدة نساء العالمين ويدل على ذلك انه قد ثبت إنه أحب الخلق إلى الله تعالى بحديث الطائر، وفاطمة من الخلق، وأحب الخلق إليه سبحانه أعظم ثواباً يوم القيامة على ما فسّه المحققون من أهل الكلام.

وإن أريد بالأفضل الأشرف نسباً، ففاطمة أفضل لأن أباها سيد ولد آدم من الأولين والآخرين، فليس في آباء علي علیه السلام مثله ولا مقارنة.

ص: 179


1- ابن سعد: الطبقات 2 / 248. النسائي: خصائص ص 118 - 20. الطحاوي: مشكل الآثار 1 / 49. أبو نعيم: حلية الاولياء 2 / 40
2- ابن زبالة: منتخب من كتاب ازواج النبي صلی الله علیه و آله وسلم ص 49. الترمذي: الصحيح 13 / 255. الطحاوي: مشكل الاثار 1 / 50. الحاكم: المستدرك 3 / 172. ابن عبد البر: الاستيعاب 4 / 1895 - 1896. الحافظ العراقي: طرح التثريب 1 / 149 - 150
3- الشرح 15 / 197. وانظر أيضاً الشرح 1 / 30، 10 / 265 - 266

وان أريد بالأفضل: من كان رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم أشدّ عليه حنواً، وأمسّ به رحماً، ففاطمة أفضل، لأنها إبنته، وكان شديد الحب لها، والحنو عليها جداً، وهي اقرب إليه نسباً من ابن العم، لا شبهة في ذلك.(1) ثانياً: تساءل ابن أبي الحديد هل علي شُرِّف بفاطمة أم فاطمة شُرِّفت به؟ فأجاب: «إن علياً علیه السلام كانت أسباب شرفه وتميزه على الناس متنوعة، فمنها ما هو متعلق بفاطمة علیها السلام، ومنها ما هو متعلق بأبيها صلوات الله عليه، ومنها ما هو مستقل بنفسه. فأما الذي هو مستقل بنفسه، فنحو شجاعته، وعفته، وحلمه وقناعته، وسجاحة اخلاقه، وسماحة نفسه، وأما الذي هو متعلق برسول الله صلی الله علیه و آله وسلم فنحو علمه، ودينه، وزهده، وعبادته، وسبقه إلى الإسلام، وإخباره بالغيوب. واما الذي يتعلق بفاطمة علیها السلام فنكاحه لها، حتى صار بينه وبين رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم الصهر المضاف إلى النسب والسبب، وحتى ان ذريته منها صارت ذرية لرسول الله صلی الله علیه و آله وسلم، وأجزاء من ذاته علیه السلام؛ وذلك لأن الولد إنما يكون من مني الرجل ودم المراة، وهما جزءان من ذاتي الاب والام، ثم هكذا أبداً في ولد الولد ومن بعده من البطون دائماً. فهذا هو القول في شرف علي علیه السلام بفاطمة فأما شرفها به، فإنها وإن كانت ابنة سيد العالمين إلا أن كونها زوجة علي أفادها نوعا من شرف آخر زائداً على ذلك الشرف الأول؛ ألا ترى أن أباها لو زوجها أبا هريرة أو أنس بن مالك لم يكن حالها في العظمة والجلالة كحالها الآن، كذلك لو كان بنوها وذريتها من أبي هريرة وأنس بن مالك، لم يكن حالهم في أنفسهم كحالهم الآن»(2).

ص: 180


1- الشرح 16 / 19 - 20
2- الشرح 16 / 20 - 21

لذا لم يتزوج الإمام علي علیه السلام على فاطمة طيلة حياتها الشريفة شأنه شأن الرسول صلی الله علیه و آله وسلم بعدم زواجه في حياة خديجة علیه السلام، إلا أن هناك رواية تفيد أن الإمام علياً علیه السلام أراد أن يتزوج على فاطمة حيث خطب جويرية بنت أبي جهل.

ففي استعراض ابن أبي الحديد لما جاء به - أبو جعفر الاسكافي - قال الأخير إن أبا هريرة روى الحديث «الذي معناه أن علياً علیه السلام خطب ابنة أبي جهل في حياة رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم فأسخطه، فخطب على المنبر، وقال لاها الله! لا تجتمع ابنة ولي الله وابنة عدو الله أبي جهل! إن فاطمة بضعة مني يؤذيني ما يؤذيها، فان كان علي يريد ابنة أبي جهل فليفارق ابنتي، وليفعل ما يريد». أو كلاما هذا معناه، والحديث مشهور من رواية الكرابيسي(1)»(2).

وأضاف ابن أبي الحديد: «هذا الحديث أيضاً مخرج في صحيحي مسلم والبخاري عن المسور بن مخرمة الزهري، وقد ذكره المرتضى في كتابه المسمى تنزيه الانبياء والائمة، وذكر انه رواية حسين الكرابيسي، وأنه مشهور بالانحراف عن أهل البيت علیهم السلام، وعداوتهم والمناصبة لهم فلا تقبل روايته»(3).

ثم قال: «وعندي أن هذا الخبر لو صح لم يكن على امير المؤمنين فيه غضاضة، ولا قدح، لأن الأمة مجمعة على أنه لو نكح ابنة أبي جهل، مضافاً إلى نكاح فاطمة علیها السلام لجاز، لأنه داخل تحت عموم الآية المبيحة للنساء الأربع؛

ص: 181


1- هو أبو علي الحسين بن علي بن يزيد المهلبي الكرابيسي، كان من المجبرة، وعارفاً بالحديث والفقه، وله كتاب المدلسين في الحديث، وكتاب الإمامة وفي الأخير غمز على علي علیه السلام. أنظر ابن النديم: الفهرست ص 256. الخطيب: تاريخ بغداد 8 / 66. ابن حجر: لسان الميزان 2 / 303 - 305
2- الشرح 4 / 64
3- الشرح 4 / 64 - 65

فابنة أبي جهل المشار إليها كانت مسلمة، لأن هذه القصة، كانت بعد فتح مكة، وإسلام أهلها طوعاً وكرهاً، ورواة الخبر متوافقون على ذلك، فلم يبق إلا أنه إن كان هذا الخبر صحيحاً فإن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم، لما رأى فاطمة علیها السلام قد غارت وادركها ما يدرك النساء، عاتب علياً علیه السلام عتاب الأهل، وكما يستثبت الوالد رأي الولد ويستعطفه إلى رضا أهله وصلح زوجته، ولعل الواقع كان بعض هذا الكلام فحرف وزيد فيه»(1).

وأضاف: «لو تأملت أحوال النبي صلی الله علیه و آله وسلم مع زوجاته، وما كان يجري بينه وبينهن من الغضب تارة، والصلح أخرى، والسخط تارة والرضا أخرى، حتى بلغ الأمر إلى الطلاق مرة، وإلى الإيلاء مرة، وإلى الهجر مرة والقطيعة مرة، وتدبرت ما ورد في الروايات الصحيحة مما كن يلقينه علیه السلام به، ويسمعنه إياه، لعلمت ان الذي عاب الحسدة والشانئون علياً علیه السلام به بالنسبة إلى تلك الأحوال قطرة من البحر المحيط، ولو لم يكن إلا قصة مارية، وما جرى بين رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم، وبين تينك الإمراتين من الأحوال والأقوال، حتى أنزل فيها قرآن يتلى في المحاريب، ويكتب في المصاحف، وقيل لهما ما لا يقال للاسكندر ملك الدنيا لو كان حياً، منابذاً لرسول الله صلی الله علیه و آله وسلم:

«وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ»(2).

ثم أردف ذلك بالوعد والتخويف:

ص: 182


1- الشرح 4 / 65 - 66
2- سورة التحريم، آية 4

«عَسَى رَبُّهُ إنْ طَلَّقَكُنَّ»(1).

الآيات بتمامها. ثم ضرب لهما مثلاً امرأة نوح وامرأة لوط اللتين خانتا بعليهما، فلم يغنيا عنهما من الله شيئاً وتمام الآية معلوم، فهل ما روي في الخبر من تعصب فاطمة علیها السلام على علي علیه السلام وغيرتها من تعريض بني المغيرة له بنكاح عقيلتهم، إذا قيس إلى هذه الأحوال وغيرها مما كان يجري الا كنسبة التأفيف إلى حرب البسوس! ولكن صاحب الهوى والعصبية لا علاج له»(2).

والآن لنستعرض الروايات التاريخية التي أشارت لخطبة الامام جويرية، وآراء بعض الباحثين فيها، ثم نحاول أن ندلي برأي في ذلك.

أولاً: ابن سعد ت 230 ه: قال في ترجمة جويرية بلا سند (وجويرية هذه هي التي خطبها علي بن أبي طالب، فجاء بنو المغيرة إلى رسول الله صلی الله علیه وسلم يستأمرونه في ذلك، فلم يأذن لهم أن يزوجوه وقال: إنما فاطمة بضعة مني يسوؤني ما ساءها»(3).

ثانياً: الزبيري ت 236 ه: قال بلا سند: «خطب علي بن أبي طالب جويرية بنت أبي جهل فشق ذلك على فاطمة، فأرسل إليها عتاب (بن أسيد): أنا أريحك منها. فتزوجها»(4).

وقال أيضاً: «وكان علي بن أبي طالب قد خطب جويرية بنت أبي جهل قبل

ص: 183


1- سورة التحريم، آية 5. راجع التفاصيل عند تفسير الطبري والزمخشري والقرطبي والسيوطي في تفسير سورة التحريم، آية 4، 5
2- الشرح 4 / 66 - 67
3- الطبقات 8 / 262
4- نسب قريش ص 187

عتاب، وهم بنكاحها، فكره ذلك رسول الله صلی الله علیه وسلم، وقال: إني لأكره أن تجمع بين بنت ولي الله وبين بنت عدو الله، فتركها علي وتزوجها عتاب»(1).

ثالثاً: ابن بكار ت 256 ه: أورد رواية مرسلة إلى ابن عباس تحكي محاورة بين ابن عباس والخليفة عمر بشأن الإمام. فقال ابن عباس: يا امير المؤمنين إن صاحبنا ما قد علمت إنه ما غيّر ولا بدل، ولا سخط رسول الله صلی الله علیه وسلم أيام صحبته له. فقطع علي الكلام فقال: ولا في ابنة أبي جهل لما أراد أن يخطبها على فاطمة! قلت: قال الله تعالى:

«وَلَم نَجِدْ لَهُ عَزْمَاً»(2).

وصاحبنا لم يعزم على سخط رسول الله صلی الله علیه وسلم، ولكن الخواطر التي لا يقدر أحد على دفعها عن نفسه وربما كان من الفقيه في دين الله، العالم العامل بأمر الله»(3).

رابعاً: البخاري ت 256 ه: عن المسور بن مخرمة قال: إن علياً خطب بنت أبي جهل، فسمعت بذلك فاطمة، فأتت النبي صلى الله عليه [وآله] وسلم، فقالت: يزعم قومك انك لا تغضب لبناتك، وهذا علي ناكح بنت أبي جهل.

فقام رسول الله صلی الله علیه وسلم. فسمعته حين تشهد يقول: أما بعد، فإني أنكحت أبا العاص بن الربيع، فحدثني وصدقني، وإن فاطمة بضعة مني، وإني أكره أن يسوؤها.

والله لا تجتمع بنت رسول الله صلی الله علیه وسلم وبنت عدو الله عند رجل واحد، فترك علي

ص: 184


1- نسب قريش ص 312
2- سورة طه، آية 115
3- الموفقيات ص 619. وردت كذلك في الشرح 12 / 50 - 51

الخطبة وزاد محمد بن عمرو بن حلحلة عن ابن شهاب عن علي عن مسور سمعت النبي صلی الله علیه وسلم ذكر صهراً له من بني عبد شمس، فأثنى عليه في مصاهرته إياه فأحسن قال: فصدقني ووعدني فوفى لي»(1).

وقال أيضاً عن المسور «إن رسول الله صلی الله علیه وسلم قال: فاطمة بضعة مني من أغضبها أغضبني»(2).

خامساً: مسلم ت 263 ه: أورد أربع روايات:

عن المسور: «انه سمع رسول الله صلی الله علیه وسلم على المنبر، وهو يقول: ان بني هشام ابن المغيرة إستاذنوني أن ينكحوا ابنتهم علي بن أبي طالب. فلا آذن، ثم لا آذن.

ثم لا آذن إلا أن يحب ابن أبي طالب أن يطلق ابنتي، وينكح ابنتهم، فإنما ابنتي بضعة مني يريبني ما رابها، ويؤذيني ما آذاها»(3).

«عن المسور قال: قال رسول الله صلی الله علیه وسلم:

إنما فاطمة بضعة مني يؤذيني ما آذاها»(4).

«عن ابن شهاب: ان علي بن الحسين حدثه انهم حين قدموا المدينة من عند يزيد بن معاوية (بعد) مقتل الحسين بن علي رضي الله عنه لقيه المسور بن مخرمة فقال له: هل لك لي من حاجة تأمرني بها؟ قال: فقلت له: لا، قال له:

هل أنت معطي سيف رسول الله صلی الله علیه وسلم، فإني أخاف أن يغلبك القوم عليه. وأيم

ص: 185


1- الصحيح 5 / 95 - 96. وأوردها الصبان: اسعاف الراغبين ص 85 - 86
2- الصحيح 5 / 105. وأوردها المتقي الهندي: كنز العمال 13 / 93
3- الصحيح: 16 / 2. وذكرها: الترمذي: الصحيح 13 / 246 - 7. النسائي: خصائص ص 120
4- الصحيح 16 / 2 - 3

الله لئن أعطيتنيه لا يخلص إليه أبداً، حتى تبلغ نفسي ان علي بن أبي طالب خطب بنت أبي جهل على فاطمة، فسمعت رسول الله صلی الله علیه وسلم وهو يخطب الناس في ذلك على منبره هذا، وأنا يومئذ محتلم، فقال: إن فاطمة مني وأنا اتخوف أن تفتن في دينها. قال: ثم ذكر صهراً له من بني عبد شمس، فأثنى عليه في مصاهرته إياه فأحسن قال: حدثني فصدقني، ووعدني فأوفى لي، وإني لست أحرّم حلالا،ً ولا أحلّ حراماً، ولكن والله لا تجتمع بنت رسول الله وبنت عدو الله في مكان واحد أبداً»(1).

عن المسور: «إن علي بن أبي طالب خطب بنت أبي جهل وعنده فاطمة بنت رسول الله صلی الله علیه وسلم فلما سمعت بذلك فاطمة، أتت النبي صلی الله علیه وسلم فقالت له: إن قومك يتحدثون إنك لا تغضب لبناتك، وهذا علي ناكحاً ابنة أبي جهل. قال المسور:

فقام النبي صلی الله علیه وسلم فسمعته حين تشهد ثم قال: أما بعد، فإني أنكحت أبا العاص ابن الربيع، فحدثني فصدقني، وإن فاطمة بنت محمد مضغة مني، وإنما أكره أن يفتنوها والله لا تجتمع بنت رسول الله، وبنت عدو الله عند رجل واحد أبداً.

فترك علي الخطبة»(2).

سادساً: الترمذي ت 279 ه: ذكر روايتين الاولى سبق وأوردها مسلم، اما الثانية: عن ابن أبي مليكة عن عبد الله بن الزبير: «ان علياً ذكر بنت أبي جهل فبلغ ذلك النبي صلی الله علیه وسلم فقال: ان فاطمة بضعة مني يؤذيني ما آذاها وينصبني ما أنصبها. قال أبو عيسى (الترمذي) هذا حديث حسن صحيح هكذا قال ايوب

ص: 186


1- الصحيح 16 / 3- 4
2- الصحيح 16 / 4، وذكرها ابن الاثير: اسد الغابة 5 / 419. محب الدين: ذخائر العقبى ص 47 - 8. المتقي الهندي: كنز العمال 13 / 91 - 92

عن ابن أبي مليكة عن ابن الزبير، وقال غير واحد عن ابن أبي مليكة عن المسور ابن مخرمة. ويحتمل أن يكون ابن أبي مليكة روى عنهما جميعاً»(1).

سابعاً: الحاكم النيسابوري ت 405 ه: ذكر أربع روايات:

عن المسور: «إنه بعث إليه حسن بن حسن يخطب إبنته. فقال له: قل له فليلقاني في العتمة. قال: فلقيه: فحمد الله المسور وأثنى عليه ثم قال: وأما بعد وأيم الله، ما من نسب ولا سبب ولا صهر أحب إلي من نسبكم وسببكم وصهركم. ولكن رسول الله صلی الله علیه وسلم. قال: فاطمة بضعة مني يغضبني ما يغضبها، ويبسطني ما يبسطها. وإن الانساب يوم القيمة تنقطع غير نسبي وسببي وصهري. وعندك ابنتها. ولو زوجتك لقبضها ذلك. فانطلق عاذراً له».(2) عن سويد بن غفلة: «خطب علي ابنة أبي جهل إلى عمها الحارث بن هشام، فاستشار النبي صلی الله علیه وسلم. فقال: أعن حسبها تسألني؟ قال علي: قد أعلم ما حسبها.

ولكن أتامرني بها، فقال: لا! فاطمة مضغة مني، ولا أحسب إلا وأنها تحزن أو تجزع، فقال علي: لا آتي شيئاً تكرهه».(3) عن أبي حنظلة رجل من أهل مكة: «إن علياً خطب ابنة أبي جهل فقال له أهلها: لا نزوجك على ابنة رسول الله صلی الله علیه وسلم. فبلغ ذلك رسول الله صلی الله علیه وسلم، فقال: إنما فاطمة مضغة مني فمن آذاها فقد آذاني»(4).

الرواية أعلاه التي أشار لها الترمذي.

ص: 187


1- الصحيح 13 / 247 - 248. وذكرها الحاكم: المستدرك 3 / 173
2- المستدرك 3 / 172. وذكرها محب الدين: ذخائر العقبى ص 48
3- المستدرك 3 / 173
4- المستدرك 3 / 173

ثامناً: الشريف المرتضى ت 436 ه: طرح رؤية مغايرة لما جاءت به هذه الروايات حيث عدها موضوعة قائلاً: «هذا خبر باطل موضوع غير معروف ولا ثابت عند أهل النقل، وإنما ذكره الكرابيسي طاعنا به على امير المؤمنين صلوات الله عليه وآله، ومعرضاً بذكره لبعض ما يذكره شيعته من الاخبار في اعدائه وهيهات أن يشبه الحق الباطل ولو لم يكن في ضعفه إلا رواية الكرابيسي له، واعتماده عليه وهو من العداوة لأهل البيت علیهم السلام، والمناصبة لهم، والازراء على فضائلهم ومآثرهم على ما هو مشهور لكفى»1.

وأضاف: «على أن هذا الخبر قد تضمن ما يشهد ببطلأنه، ويقضي على كذبة، من حيث ادعى فيه أن النبي ذم هذا الفعل، وخطب بإنكاره على المنابر.

ومعلوم ان امير المؤمنين علیه السلام لو كان فعل ذلك على ما حكي لما كان فاعلاً لمحظور في الشريعة لأن نكاح الأربع حلال على لسان نبينا محمد صلی الله علیه و آله وسلم، والمباح لا ينكره الرسول صلی الله علیه و آله وسلم، ويصرح بذمه، وبأنه متأذ به؛ وقد رفعه الله عن هذه المنزلة، وأعلاه من كل منقصة ومذمة، ولو كان علیه السلام نافراً من الجمع بين بنته وبين غيرها بالطباع التي تنفر من الحسن والقبيح، لما جاز أن ينكره بلسانه، ثم ما جاز أن يبالغ في الانكار، ويعلن به على المنابر، وفوق رؤوس الأشهاد، ولو بلغ ايلامه لقلبه كل مبلغ فالذي اختص به علیه السلام من الحلم والكظم ووصفه الله بأنه من جميل الاخلاق، وكريم الأدب، ينافي ذلك ويحيله، ويمنع من إضافته إليه، وتصديقه عليه وأكثر ما يفعله مثله علیه السلام في هذا الأمر، إذا ثقل على قلبه، أن يعاتب علياً علیه السلام سراً، ويتكلم في العدول عنه خفياً على وجه جميل وبقول لطيف»(1).

ص: 188


1- تنزيه الانبياء ص 190

ثم ضرب المرتضى مثلاً بالمأمون لما زوج إبنته من أبي جعفر محمد بن علي الجواد فأخذها معه إلى المدينة، ثم تزوج عليها فكتبت شاكية لأبيها، فأجابها المأمون «إنا ما أنكحناه لنحظر عليه ما أباحه الله له». ولذا يرى المرتضى ان «المأمون اولى بالامتعاض من غيرة إبنته، وحاله أجمل للمنع من هذا الباب والانكار له»(1).

وأكد المرتضى أن الطعن في هذا الخبر على النبي صلی الله علیه و آله وسلم هو أعظم من الطعن على الإمام علي علیه السلام لذا وصف واضع هذا الطعن بأنه «لا يبالي أن يشفي غيظه بما لا يرجع على أصوله بالقدح والهدم»(2).

ثم قال «على أنه لا خلاف بين أهل النقل أن الله تعالى هو الذي اختار امير المؤمنين علیه السلام لنكاح سيدة النساء صلوات الله وسلامه عليها، وأن النبي صلی الله علیه و آله وسلم ردّ عنها جلة أصحابه وقد خطبوها، وقال صلی الله علیه و آله وسلم: إني لم ازوج فاطمة علياً عليهما السلام حتى زوجها الله في سمائه، ونحن نعلم أن الله سبحانه لا يختار لها من بين الخلائق من غيرها ويؤذيها، فإن ذلك من أول دليل على كذب الراوي لهذا الخبر»(3).

وقدم دليلاً آخر على وضع الخبر «وبعد؛ فان الشيء إنما يحمل على نظائره، ويلحق بأمثاله، وقد علم كل من سمع الاخبار إنه لم يعهد امير المؤمنين علیه السلام خلافاً على الرسول، ولا كان قط بحيث يكره، على اختلاف الأحوال، وتقلب الازمان وطول الصحبة، ولا عاتبه علیه السلام على شيء من افعاله، مع أن أحداً من أصحابه لم يخل من عتاب على هفوة ونكيير لأجل زلة فكيف خرق بهذا الفعل

ص: 189


1- تنزيه الانبياء ص 190
2- تنزيه الانبياء ص 190 - 191
3- تنزيه الانبياء ص 191

عادته وفارق سجيته وسنته لولا تخرص الأعداء وتعديهم»(1).

وختم كلامه بآخر دليل «فأين كان اعداؤه علیه السلام … من هذه الفرصة المنتهزة، وكيف لم يجعلوها عنواناً لما يتخرصونه من العيوب والفروق، وكيف تحملوا الكذب، وعدلوا عن الحق، وفي علمنا بأن أحدا من الأعداء متقدماً لم يذكر ذلك، دليل على أنه باطل موضوع»(2).

تاسعاً: ابن حزم ت 456 ه: قال في اشارته لبني مخزوم «وولد أيضاً أبو جهل الحنفاء، أراد علي أن يتزوجها؛ فكره ذلك رسول الله صلی الله علیه وسلم فتزوجها عتاب بن أسيد»(3).

والظاهر ان ابن حزم قد وهم لأن ابن سعد ذكر ان الحنفاء وهي بنت ثانية لأبي جهل غير جويرية تزوجها سهيل بن عمرو ثم أسامة بن زيد(4).

عاشراً: ابن حجر ت 852 ه: أورد ترجمتين لابنة أبي جهل:

الاولى تحت اسم «جميلة بنت أبي جهل بن هشام ابن المغيرة المخزومية. روت عن النبي صلی الله علیه و آله وسلم، روى عنها زوجها، اخرج حديثها ابن منده من طريق سماك بن حرب عن عبدالله بن عمره عن زوج بنت أبي جهل، واسمها جميلة. قالت: مر بنا النبي صلی الله علیه و آله وسلم فاستسقى فسقيناه. وقال: خير القرون قرني ثم الذين يلونهم … وقيل إنها هي التي خطبها علي. والمحفوظ إنها جويرة»(5).

ص: 190


1- تنزيه الانبياء ص 191
2- تنزيه الانبياء ص 191
3- جمهرة انساب العرب ص 145
4- الطبقات 8 / 262
5- الاصابة 4 / 262 - 263

الثانية: جويرية بنت أبي جهل التي خطبها علي بن أبي طالب فقال رسول الله صلی الله علیه وسلم: لا تجتمع بنت رسول الله وبنت عدو الله عند رجل واحد أبداً. فترك علي الخطبة … وقصتها في الصحيحين من حديث المسور بن مخرمة من غير ان تسمى»(1).

حادي عشر: إن الروايات أعلاه وظفها المستشرق - اميل در منغم - للطعن في شخص الإمام علي علیه السلام إذ يقول: «ولكن محمداً مع امتداحه قدم عليفي الإسلام ارضاء لابنته، كان قليل الالتفات إليه، وكان صهرا النبي الأمويين عثمان الكريم وابي العاص أكثر مداراة للنبي من علي، وكان علي يألم من عدم عمل النبي على سعادة إبنته، ومن عدّ النبي له غير قوام بجليل الاعمال، فالنبي كان يفوض إليه ضرب الرقاب، وكان يتجنب تسليم قيادة له، وقد إراد علي يوماً ان يتزوج على فاطمة فغضب النبي واحتج على ذلك، جهرا من فوق المنبر، وهذا لأن علياً كان غير لبق في ميله للزواج من ابنة أبي جهل وجمعه تحت سقف واحد بنت رسول الله وبنت أشد اعدائه ومما آلم منه علي عدم إذن النبي له في الزواج من أخرى مع فاطمة كما صنع مع صهريه الآخرين»(2).

ثاني عشر: بنت الشاطئ: استفادت من هذه الروايات لتصوغ لنا هذه الحادثة بأسلوب أدبي اضفت عليه شيئاً من خيالها. فقالت: «لكنه (الإمام علي علیه السلام) كاد يأتي - غير متعمد - شيئاً تكرهه فاطمة أشد الكره، وتألم منه أفدح الألم.. وأي شيء أبغض إلى زوجة كالزهراء من أن يأتيها زوجها وابن عمها بضرة؟ لقد همَّ علي بالزواج على فاطمة، وفي حسبانه إنه إنما يجري على مألوف

ص: 191


1- الاصابة 4 / 265
2- حياة محمد ص 199

عادة قومه في الجمع بين زوجتين وأكثر، ويفعل ما أباحه له الإسلام من تعدد الزوجات، دون أن يخطر بباله أن في هذا ما تنكره بنت نبي الإسلام! لكن الأمر جرى على غير ما قدر علي.. فما كاد يهمّ بالزواج … حتى راعه أن يرى أبا الزهراء يقبل على المسجد مغضباً، ويخطب في الناس منكراً على ابن أبي طالب أن يتزوج على فاطمة»(1).

ثم تساءلت: «ولكن كيف والاسلام يبيح تعدد الزوجات، والنبي صلی الله علیه و آله وسلم كان يجمع في بيته يومئذ بين زوجات ثلاث أو أربع، فيهن عائشة بنت أبي بكر الصديق، وحفصة بنت عمر بن الخطاب الذي أعز الله به الإسلام؟ كيف يحرم النبي ما احله الله، وينكر على ابن عمه ما لم ينكره على نفسه؟ ليكن هذا الزواج مؤذياً لفاطمة، افلم تتعرض لمثله بنتا أبي بكر وعمر؟ وهل يأبى النبي أن يجوز على إبنته ما يجوز على كل مسلمة … وهل استثنى الإسلام من تعدد الزوجات بنات نبيه الذي بلغ رسالته؟ ياله من موقف بالغ الدقة والصعوبة والحرج، فالنبي يعلم حق علي في الزواج ولو على فاطمة.. ومحمد في أبوته الرحيمة وبشريته السوية، يؤذيه أن تروّع أحب بناته بضرة، ويشفق عليها من تجربة قاسية كهذه، يعلم انه لا قبل لها باحتمالها.. ألا ليت علياً قد صبر على واحدة أسوة بابن عمه حين اكتفى بخديجة زوجة، مدى ربع قرن من الزمان! اذن لأعفى الاب النبي من الحرج، وأغناه من ذلك الموقف الشائك الصعب… وإني لأتمثله - صلى الله عليه [وآله] وسلم - يرنو إلى إبنته الغالية وهي تترقب المحنة في خوف وقهر، فتكاد لفرط أساها وقلقها، تذوب من ضعف وكمد، ويود بكل ما استطاع ان يدفع عنها ما تكره، وأن يحميها من الخوف الذي يقرح أجفانها ويروع امنها، ويؤرق ليإليها، لكن الأمر يبدو

ص: 192


1- بنات النبي ص 175 - 176

معقداً، فما كان لنبي أن يحرم ما أحلّ الله! وفي ظلمات الحيرة، يلوح شعاع من الضوء ينير السبيل: إن عليا ذكر بنت عمرو بن هشام المخزومي فهل يرضى الله ان يجمع بيت علي بين بنت رسول الله، وبنت عدو الله؟ فعمرو هذا هو أبو الحكم بن هشام أبو جهل، الذي لم ينس الرسول والمؤمنين ما اقترف من آثام في اضطهاد الدعوة الاسلامية … »(1).

ثم أخذت تعدد مواقف أبي جهل من الدعوة الاسلامية، وأردفت قائلة:

«أتكون بنت هذا الرجل ضرة لفاطمة بنت النبي؟ يأبى الرسول ذلك … ويأباه الإسلام! وانطلق - صلی الله علیه و آله وسلم - إلى المسجد مغضبا حتى بلغ المنبر فخطب في صحبه: ان بني المغيرة استأذنوني… ثم ذكر - صلی الله علیه و آله وسلم - صهره أبا العاص، وهو من بني عبد شمس، لا من بني عبد المطلب كعلي - فأثنى عليه في مصاهرته إياه أحسن الثناء … وقد ورد هذا الحديث في الكتب الستة الأمهات ولكن أحداً من الرواة لم يذكر لنا وقعه على المسلمين وصداه في المدينة. فهل ترى يعيينا أن نتصور مدينة الرسول، وقد باتت ليلتها ساهرة، تؤمن على قول النبي، وترى فيه مظهراً جميلاً من مظاهر بشريته التي طالما أصر على الاعتراف بها. وآية ناطقة بأبوته الرحيمة التي كانت مضرب الامثال، ودليلاً جديداً من أدلة حبه لبناته، هذا الحب الذي شاء الله أن يملا به قلب النبي المختار في بيئة وأدت بناتها؟ أو هل يقصر خيالنا عن متابعة علي وهو ينصرف من المسجد إثر سماعه خطبة صهره النبي صلی الله علیه و آله وسلم، ويأخذ طريقه إلى بيته بطيء الخطو، مثقل القلب، يفكر فيما كان؟ أتراه حقاً قد أراد الزواج على فاطمة، من بنت عدو الإسلام؟.. كيف هان عليه جهاده

ص: 193


1- بنات النبي ص 176 - 177

الطويل الباسل في سبيل الدعوة المحمدية؟ بل كيف هان عليه أن يروع أمن الحبيبة بنت الحبيب، ويكسر قلبها بزواج كهذا لا يمكن أن يؤول إلا بالرغبة في متاع حسي مادي، لا يجده لديها»(1).

ثم اوضحت بنت الشاطئ ان زواج النبي صلی الله علیه و آله وسلم المتعدد له مبرراته الخاصة، وظروفه وإلا فما باله - صلی الله علیه و آله وسلم - قد اكتفى بخديجة خمساً وعشرين سنة، فلم يتزوج عليها حتى ماتت وقد بلغ الخمسين. ثم أن الامام كان يشغله الجهاد في سبيل الدين الجديد، اذن «فلتكن بنت أبي جهل من حظ غيره، أما هو، فليس بالذي يحبط جهاده الباسل، فيستبدل بالنبي أبا جهل بن هشام صهراً.. وليس هو بالذي يؤذي نبيه وأباه وابن عمه، في أحب بناته إليه، ولن يكون أبو العاص ابن الربيع قبل إسلامه أبر منه ببنت محمد، ابن عمه عبد الله بن عبد المطلب ولا ارعى في مصاهرته للنبي ذماما»(2).

ثم اختلقت - بنت الشاطئ - اعتذاراً من الإمام علي للزهراء - عليهما السلام - فقالت: «واذ رآها تبكي، همس معتذرا: هبيني اخطأت في حقك يا فاطمة، فمثلك أهل للعفو والمغفرة، ومضت قطعة من الليل قبل أن تجيب: غفر الله لك يا ابن عم»(3).

وختمت كلامها بالسؤال: متى هَمَّ علي بالزواج على الزهراء؟ قالت: «صمت المؤرخون ورجال الحديث فلم يشيروا إلى موعد الخطبة على ما لذلك من أهمية وخطر، لكنا نطمئن إلى أنها كانت في الفترة الاولى من زواجها.

ص: 194


1- بنات النبي ص 177 - 181
2- بنات النبي ص 181
3- بنات النبي ص 181

وهو اطمئنان لا يسنده دليل نقلي، وإنما يغرينا به فهمنا لطبيعة الموقف، وتقديرنا انه اقرب احتمالا قبل أن يرزقا الولد، حين كانت فاطمة وعلي في مستهل حياتهما الزوجية، لم تألف بعد شدته وصرامته، ولم يروض هو نفسه على احتمال ما كانت لا تزال تجد من حزن لفقد امها، وشجو لفراق بيتها الأول! وبهذا الاطمئنان نميل إلى توقيت الحادثة على وجه التقريب بالعام الثاني من الهجرة، قبل ان يأتيهما العام الثالث بأولى الثمرات المباركة للزواج.. انقشعت السحابة التي ظللت افق الزهراء حيناً لا نحدد مداه، وعاد البيت اصفى جواً مما كان قبل أن يمتحن بتلك التجربة القاسية، ومضت الحياة تسير بالزوجين الكريمين على ما يرجوان من تعاون ومودة؛ فاطمة في الدار تقوم على خدمة زوجها ما وسعها وتتخلص شيئاً فشيئاً مما كان يعتادها من شجن وانقباض، وعلي إلى جانبها يبذل لها من الحب والرعاية ما يعينها على مشقة العيش الكادح في جو المدينة الذي لم تسعفها صحتها على أن تألفه بسرعة كما ألفه كثير من المهاجرين. ويحاول قدر ما أطاق أن يترفق بها ويروض نفسه على شيء من اللين واليسر. ثم شاء الله أن يقر عين الزهراء وعيون من يحبونها فوضعت بكرها الحسن بن علي في السنة الثالثة من الهجرة»(1).

ثالث عشر: وردد - توفيق أبو علم - ما جاء عند بنت الشاطئ وأضاف «ليس علي هو الذي يؤذي نبيه وأباه وابن عمه في أحب بناته إليه والتي قال لها صلی الله علیه و آله وسلم: إن الله غير معذبك ولا أحد من ولدك»(2). وهي التي قال فيها أيضاً «إذا كان يوم القيمة جمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد، ثم ينادي مناد

ص: 195


1- بنات النبي ص 182 - 183
2- اخرجه: الطبراني: المعجم الكبير 11 / 210، الهيتمي: الصواعق ص 158. المتقي الهندي: كنز العمال 13 / 96. الصبان: اسعاف الراغبين ص 109. الشبلنجي: نور الابصار ص 45

إن الجليل جل جلاله يقول: نكسوا رؤوسكم وغضوا أبصاركم فإن هذه فاطمة بنت محمد صلی الله علیه و آله وسلم تريد أن تمر على الصراط»(1).

وعن أبي سعيد الخدري انه صلی الله علیه و آله وسلم مرّ في السماء السابعة. وقال: فرأيت فيها لمريم ولأم موسى ولآسية امراة فرعون ولخديجة بنت خويلد قصورا من ياقوت، ولفاطمة بنت محمد سبعين قصراً من مرجان احمر باللؤلؤ أبوابها وأسرّتها من عود واحد(2)».(3) وأضاف: «هذه هي الزهراء التي يحبها الرسول كما رأينا فيما سبق وتكرر انه لم يكن من المعقول ان يجمع بنت رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم وبنت عدو الله بيت واحد. وعن يحيى بن سعيد القطان قال: ذاكرت عبد الله بن داود الحرثي قول النبي صلی الله علیه و آله وسلم لا آذن إلا أن يحب علي بن أبي طالب أن يطلق ابنتي وينكح ابنتهم، قال ابن داود:

حرم الله على علي ان ينكح على فاطمة طيلة حياتها لقول الله عز وجل:

«وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا»(4).

فلما قال النبي صلی الله علیه و آله وسلم: لا آذن لم يكن يحل لعلي أن ينكح على فاطمة إلا أن يأذن رسول الله. قال: وسمعت عمر بن داود يقول: لما قال الرسول: فاطمة بضعة مني يريبني ما رابها، ويؤذيني ما آذاها حرم الله على علي أن ينكح على فاطمة، إذ أنه بنكاحه عليها يؤذي الرسول، والله تعالى يقول:

ص: 196


1- اخرجه الطبراني: المعجم 1 / 108. الحاكم: المستدرك 3 / 166، 175. الهيتمي: الصواعق ص 188. المتقي الهندي: كنز العمال 13 / 93، 91. الشبلنجي: نور الابصار ص 46
2- الشبلنجي: نور الابصار ص 46
3- أهل البيت: ص 155 - 156
4- سورة الحشر، آية 7

«وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ»(1)»(2).

رابع عشر: الحسني: إذا رأينا - منغم، وبنت الشاطئ وتوفيق أبو علم، وكذلك كحاله(3) اعتمدوا المنهج الحرفي (النقلي) في التعامل مع الروايات لذا أكدوا صحة الحادثة، فإن هاشم معروف الحسني قد انتهج نهج الشريف المرتضى، وابن أبي الحديد وهو النهج العقلي في التعامل مع النصوص لذلك حكم بعدم صحة الروايات. حيث جاء في معرض مناقشته للحادثة:

«وأما حديث زواجه (علي) من غيرها، فقد جاء في بعض المرويات انه كاد أن يأتي شيئاً تكرهه سيدة النساء، ولا تتمكن من التغاضي عن نتائجه ويشير إليه الرواة، إنه همَّ أن يتزوج من جويرية… وإن أهلها استشاروا النبي صلی الله علیه و آله وسلم فأنكر عليهم، ولم يأذن لهم بذلك، وأضاف الرواة لهذه الاسطورة: إن الزهراء ذهبت إلى أبيها باكية تقول له: ان الناس يزعمون بانك لا تغضب لبناتك، وان رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم قام من ساعته، وأقبل إلى المسجد مغضباً، وصعد المنبر، وقال على ملأ من المهاجرين والانصار: إلا وإن بني هشام … إلى غير ذلك مما جاء حول هذه الاسطورة التي تصور النبي وكأنه انسان تستبد به العاطفة إلى الخروج من المألوف ومحاباة إبنته على حساب حكم من احكام الله، وتصور الزهراء، وكأنها أقل حظاً من الدين والصبر من سائر النساء، وإن النبي يتخوف عليها أن تتعدى حدود ما أنزل الله لو تم هذا الأمر.

ص: 197


1- سورة الاحزاب، آية 53
2- أهل البيت ص 155 - 156
3- اعلام النساء 4 / 112

«إن الذين وضعوا هذه الاسطورة أرادوا أن يسيئوا إلى النبي، لا إلى علي وحده، لأن النبي صلی الله علیه و آله وسلم كما جاء في الرواية، أراد أن يمنع علياً علیه السلام مما أباحه الله لجميع الناس، وما فعله هو وجميع المسلمين أو أكثرهم، ومع ذلك فهل يجوز على النبي أن يقف هذا الموقف المتصلب، ويحابي إبنته الزهراء في حكم من احكام الله، ومع العلم انه كان يقول لفاطمة: «اعملي فلن أغني عنك من الله شيئاً»(1).

وقال لمن جاء يستشفع في امرأة من الأنصار قد سرقت: والله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها(2).

«هذا بالاضافة إلى أن قوله المزعوم: أخاف أن تفتن ابنتي عن دينها، هذا القول على تقديره، يعني إنها كغيرها من النساء اللواتي يخرجن عن المألوف، ويتجاوزن احكام الله في مثل هذه الحالات، في حين إنه قال أكثر من مرة: «إن الله يغضب لغضبك، ويرضى لرضاك»(3)، وبلا شك فإنها لم تبلغ هذه المرتبة إلا لأن جميع اعمالها وتصرفاتها وأقوالها في حدود ما أراد الله. وإذا صح كما يزعم الراوي أن تفتن في دينها لأمر قد أباحه الله لعلي وغيره من سائر الناس،

ص: 198


1- مسلم: الصحيح 3 / 80. الطبري: جامع البيان 19 / 118 - 120. الهيتمي: الصواعقص 155 - 6
2- البيهقي: المحاسن ص 368. ابن تيمية: منهاج السنة 3 / 17
3- الطبراني: المعجم الكبير 1 / 108. الحاكم: المستدرك 3 / 167. الهيثمي: مجمع الزوائد 9 / 203. ابن حجر: الاصابة 4 / 378. المتقي الهندي: كنز العمال 13 / 96. وقد اعتبر ابن تيمية هذا = =الحديث موضوعاً بقوله «ما ورد هذا من النبي صلی الله علیه و آله وسلم ولا يعرف هذا من شيء من كتب الحديث المعروفة ولا الاسناد معروف عن النبي صلی الله علیه و آله وسلم لا صحيح ولا حسن» منهاج السنة 2 / 170

فكيف يربط النبي رضاها برضى الله وغضبها بغضبه. هذا بالاضافة إلى أنها أحد المعنيين بآية التطهير بلا شك في ذلك عند أحد من المسلمين، ومع ذلك فكيف تفتن في دينها وقد أذهب الله عنها الرجس وطهرها من الذنوب وجعلها السيدة الاولى لنساء العالمين.

«إن الذين رووا هذه الاسطورة ونسبوا إلى النبي هذا الموقف المتصلب، وتلك المقالة البعيدة عن منطقه قد رووا إلى جانبها أنه إذا كان يوم القيمة يجمع الله الأولين والآخرين على صعيد واحد، ثم ينادي منادي الجليل جل جلاله:

نكسوا رؤوسكم وغضوا أبصاركم فإن فاطمة بنت محمد تريد أن تمرعلى الصراط. وإذا كانت بهذا المستوى فكيف تفتن عن دينها لأمر متاح ومألوف بين المسلمين، وفي بيت أبيها سيد المسلمين أكثر من أربع من النساء.

«على أن المتتبع لتاريخ علي علیه السلام في تلك الفترة من تاريخ الإسلام سواء كان منها في حياته مع الرسول صلی الله علیه و آله وسلم وهو إلى جانبه يجاهد في سبيل الدعوة، أو بعد زواجه من سيدة النساء، لا يتردد في أن جميع ما روي عنه في محاولة زواجه من ابنة أبي جهل، ومن اختياره لنفسه بعض الجواري في إحدى غزواته الناجحة(1) كما تحدث بذلك بعض المؤلفات في السيرة من موضوعات….

«والغريب في المقام إن أكثر المؤرخين يذهبون إلى أن خطبة علي علیه السلام لجويرية … كانت في السنة الثانية التي تزوج بها من فاطمة الزهراء، وقبل ان يأتيهما العام الثالث بأولى الثمرات المباركة لزواجهما… ووجه الغرابة في ذلك إن أبا

ص: 199


1- عندما ولّاه النبي صلی الله علیه و آله وسلم اليمن. أنظر الترمذي: الصحيح 12 / 164 - 172، 5 - 3. الحاكم: المستدرك 3 / 119

جهل وبني المغيرة كانوا في مكة، وأبو جهل كان من اقطاب المشركين، وألدّ أعداء الإسلام ومن أكثرهم تحريضاً وإساءة إلى النبي صلی الله علیه و آله وسلم وأتباعه … وقد قتل أبو جهل في بدر وظل بنوه على شركهم في مكة إلى السنة الثامنة حيث فتح مكة، فأسلموا، فكيف يجتمع هذا مع قول النبي في مطلع السنة الثالثة للهجرة، وقبل ولادة الحسن: إلا أن بني المغيرة قد استأذنوني أن يزوجوا ابنتهم عليا. وخلص للقول: «ومهما كان الحال فلو افترضنا ان عليا فكر في غير فاطمة من النساء، وان فاطمة لم تكن طيبة النفس بهذا التفكير، فذلك لا يوجب تجريحا، ولا يبيح لأحد أن ينال من قداستها شيئاً»(1).

خامس عشر: العقاد: قال بصددها «ولا نعلم نحن من شأن هذه الخطبة غير ما جاء في رواياتها المختلفة. ولكنا نعلم أن هذه الفتاة [جويرية] أسلمت وبايعت النبي وحفظت عنه، فلعلها قد خيف عليها الفتنة أن تتزوج بغير كفء من المسلمين، وأهلها هم من هم في المكانة والحسب لا يرضيهم من هو دون علي بن أبي طالب من ذوي قرابتها. أو لعلها غضبة من غضبات علي على أنفة من أنفات فاطمة، أو لعلها نازعة من نوازع النفس البشرية لم يكن في الدين ما يأباها، وإن أباها العرف في حالة المودة والصفاء»(2).

سادس عشر: الشرهاوي: وآخر من علمنا انه كان له رأي في هذه الحادثة زميلنا - حسين الشرهاوي - الذي قال بصددها:

«والرواية التي أوردناها تحمل ضعفها بين طياتها وهي متناقضة إلى درجة

ص: 200


1- سيرة الأئمة الاثني عشر 1 / 92 - 95
2- فاطمة الزهراء ص 44 - 5

كبيرة لا يمكن قبولها وهي تحمل إساءة إلى رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم أولا قبل الإمام علي وفاطمة الزهراء علیها السلام، ووجه اعتراض رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم حبه لابنته فاطمة… ولو افترضنا جدلا أن عليا علیه السلام قدم على هذه الخطبة بالفعل، فانه لم يأت بشيء محرم في الشريعة لأن الإسلام أباح الزواج بأربع، فكيف يقف رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم على المنبر وأمام كل المسلمين ويحرم شرع الله الذي أتى به من عند ربه، وذلك لمحبتة لابنته فاطمة علیها السلام! وهو ينادي بالمساواة والعدالة وعدم التفضيل وكون فاطمة كأي امرأة من نساء المسلمين من منطلق المساواة، ثم يصعد على المنبر ويعرض باحدى المسلمات وهي جويرية بنت أبي جهل، ويعيّها بأبي جهل، على الرغم من إسلامها فهل تحاسب بذنب أبيها».

«وقد روي ان عكرمة بن أبي جهل عندما أسلم هاجر إلى المدينة بعد فتح مكة فجعل عكرمة كلما مر بمجلس من مجالس الأنصار قالوا: هذا ابن أبي جهل وسبوا أبا جهل، فشكا ذلك إلى رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم فقال: لا تؤذوا الاحياء بسب الاموات(1) فإذا كان هذا حال رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم في مراعاة مشاعر المسلمين فكيف يصعد على المنبر امام المسلمين ويهجم على هذه المرأة المسلمة وينهي عن شرع الله، وحتى ان كان قد كره هذا الأمر بقلبه لمحبة فاطمة علیها السلام كما تذكر الرواية وبلغ به الغيض والغضب! أليس هو الموصوف بكظم الغيظ، وعدم التسرع بالأحكام). وقد وصفه الله بجميل الاخلاق، وكريم الآداب فلماذا لم يعاتب عليا سرا وينهاه. دون أن يجرح مشاعره ومشاعر المسلمين»(2).

ص: 201


1- أنظر: الزبيري: نسب قريش ص 311. الزمخشري: ربيع الابرار 2 / 841. السيوطي: مسالك الحنفا ص 15. دحلان: اسنى المطالب ص 15
2- السيدة خديجة بنت خويلد علیها السلام ص 131 - 132

والآن لنأتِ لمناقشة الحادثة في الحيثيات الآتية:

أولاً: من هم بنو المغيرة؟ ثانياً: من هي ابنة أبي جهل؟ ثالثاً: مناقشة تناقضات الروايات؟ رابعاً: موقف النبي صلی الله علیه و آله وسلم؟ خامساً: موقف فاطمة علیها السلام؟ سادسا: موقف الإمام علي علیه السلام؟ سابعاً: من هو راوي الرواية؟ ثامناً: تحليلات بعض الباحثين؟ أولاً: من هم بنو المغيرة؟ هو المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم. من الأسر التي اتخذت موقفا سلبيا من الدعوة الاسلامية في مكة أو فيما بعد في المدينة، فقد قتل في بدر منهم أبو قيس بن الفاكة بن المغيرة، وأبو جهل وأخوه العاصي بن هشام، وأسر عثمان ابن عبد الله بن المغيرة ومعبد بن هشام بن المغيرة، أما في الخندق فقد قتل نوفل ابن عبد الله بن المغيرة.(1) ومن أشهر رجالاتهم الوليد بن المغيرة وهو أول من خلع حذائه عند الدخول

ص: 202


1- ابن حزم: جمهرة انساب العرب ص 144 - 145

للكعبة إعظاما لها(1)، وأول من بدأ بتهديمها لما أرادت قريش إعادة بنائها وكانت تخشى ذلك(2)، ولذلك عرف بعظيم قريش، وفيه نزل قوله تعالى:

«وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْءانُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظيِمٍ»(3).

والوليد هو الذي اتهم النبي صلی الله علیه و آله وسلم بالسحر لذا نزل فيه قوله تعالى «ذَرْنيِ وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا * وَبَنِينَ شُهُودًا * وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلَّ إِنَّهُ كَانَ لِآَيَاتِنَا عَنِيدًا * سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا * إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ * سَأُصْليِهِ سَقَرَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ * لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ * لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ * عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ»(4).

وقد قتل ابنه أبو قيس يوم بدر مع المشركين فيما أسلم ابنه خالد بن الوليد قبيل فتح مكة.(5) أما باقي بنو المغيرة فقد دخلوا في الإسلام يوم فتح مكة ومن ضمنهم

ص: 203


1- الأزرقي: اخبار مكة 1 / 174، البيهقي: المحاسن والمساوئ ص 165، السيوطي: الوسائل ص 32 - 33
2- الطبري: تاريخ 2 / 288 - 9
3- سورة الزخرف: 31، أنظر: الطبري: جامع البيان 25 / 95، القرطبي: الجامع 16 / 83، ابن كثير: تفسيره 7 / 395
4- سورة المدثر: 11 - 30. أنظر: الطبري: جامع البيان 29 / 152 - 153، الواحدي: أسباب النزول ص 295 - 296
5- ابن حزم: جمهرة انساب العرب ص 147

الحارث بن هشام أخو أبي جهل الذي أصبح من الطلقاء ثم من المؤلفة قلوبهم ولذلك أعطاه النبي صلی الله علیه و آله وسلم من غنائم هوازن مائة بعير.(1) ويشار أنه هو الذي أشار على الخليفة عمر بن الخطاب بوضع ديوان العطاء.(2) ويأتي هنا التساؤل: مَنْ مِن بني المغيرة استأذن النبي صلی الله علیه و آله وسلم؟ هل هو الحارث ابن هشام عم جويرية؟ أم خالد بن الوليد؟ أم عكرمة بن أبي جهل؟.

ثانياً: من هي ابنة أبي جهل؟ إنها جويرية أو جويرة أو جميلة أو الحنفاء هكذا على اختلاف الروايات ابنة أبي جهل عمرو بن هشام المخزومي المعروف قبل الإسلام بأبي الحكم(3)، وكان لاتخاذه موقفا سلبيا من النبي صلی الله علیه و آله وسلم والدعوة الاسلامية أن لقَّبه صلی الله علیه و آله وسلم بأبي جهل، وذلك لبعده عن استيعاب مفاهيم الإسلام ورفضه اتباعها، فالجاهلية هي حالة نفسية ترفض الاهتداء بهدي الله.(4) وأبو جهل هو صاحب فكرة اغتيال النبي صلی الله علیه و آله وسلم ليلة الهجرة(5) ثم كان (أس) البلاء على قريش يوم بدر حتى أوردها المهالك، فكان أن قتل يوم بدر وقد لاقى

ص: 204


1- ابن هشام: السيرة 4 / 493، 413، الطبري: تاريخ 3 / 90
2- البلاذري: فتوح البلدان ص 436. الجهشياري: الوزراء والكتاب ص 17. ذكر اسمه الوليد ابن هشام
3- ابن سعد: الطبقات 8 / 62. ابن حزم: جمهرة انساب العرب ص 145. ابن حجر: الاصابة 4 / 265، 262
4- عن معنى الجاهلية أنظر بحثنا الموسوم (الجاهلية فترة زمنية أم حالة نفسية؟). مجلة ابحاث البصرة، العدد 31، 2006. ص 5 43
5- الطبري: تاريخ 2 / 370 - 2

خبر مقتله سروراً لدى النبي صلی الله علیه و آله وسلم وأصحابه(1). فيما بقيت أسرته حتى السنة الثامنة من الهجرة، حيث فتح مكة فكان ولده عكرمة بن أبي جهل من الدعاة لقتال المسلمين وعدم السماح لهم بالدخول لمكة، ولما فتحت مكة هرب إلى البحر، فلحقته زوجته بعد أن أخذت له الأمان من النبي صلی الله علیه و آله وسلم فعاد وأعلن إسلامه.(2) ومن أسرة أبي جهل إبنته التي اختلف في اسمها أعلاه، وقد كان لها موقف لما دخل المسلمون مكة فلما أذَّن بلال وقال: أشهد أن محمداً رسول الله، قالت جويرية: (قد لعمري رفع لك ذكرك، أما الصلاة فسنصلي، ووالله ما نحب من قتل الاحبة أبداً، ولقد جاء إلى أبي الذي كان جاء إلى محمد من النبوة فردها ولم يرد خلاف قومه).(3) إذن كانت من مسلمة الفتح، وبفتح مكة ختمت الهجرة، فلا هجرة بعد الفتح(4) هذا يعني إنه لا هجرة بعد ذلك للمدينة ألا لأغراض خاصة، فأين يا ترى كانت خطبة الامام لجويرية هل في مكة أم في المدينة؟ ثم لماذا لم تتحقق الخطبة أ لرفض النبي صلی الله علیه و آله وسلم(5)؟ أم رفض بني المغيرة أنفسهم(6)؟ أم لتدخل عتاب الذي

ص: 205


1- الطبري: تاريخ 2 / 454 - 6
2- الطبري: تاريخ 3 / 44، 48، 57 - 60، 63. المنتخب ص 501 - 2. ابن حجر: الاصابة 2 / 416 - 7
3- الأزرقي: اخبار مكة 1 / 274 - 275
4- حديث للنبي صلی الله علیه و آله وسلم اخرجه ابن حنبل: المسند 3 / 401، 22، 5 / 187
5- ابن سعد: الطبقات 8 / 262، الزبيري: نسب قريش ص 312، البخاري: الصحيح 5 / 95 - 96
6- الحاكم: المستدرك 3 / 173

خطبها فتزوجها؟(1)، ويأتي هنا التساؤل: أين كان عنها عتاب بن أسيد وهو أيضاً من مسلمة الفتح؟ الذي ولدت لعتاب ولده عبد الرحمن بن عتاب الذي كان ضمن أهل الجمل ضد الإمام علي علیه السلام فكان أن قتل في هذه المعركة(2). وبعد وفاة عتاب تزوجها أبان بن سعيد بن العاص بن أمية فلم تلد له شيئاً.(3) وتشير الروايات أنها روت عن النبي صلی الله علیه و آله وسلم، وروى عنها زوجها: «عن عبد الله بن عميرة عن زوج بنت أبي جهل». فابن عميرة هنا لا يعلم زوج ابنة أبي جهل؟ ومن هي؟ والملاحظ ان كتب الصحاح لم تذكر اسمها.(4) ثالثاً: تناقض صيغ الروايات تشير بعضها ان بني المغيرة هم الذين استأذنوا النبي صلی الله علیه و آله وسلم في تزويج ابنتهم للامام(5)، فيما تشير روايات أخرى أن الخبر كان شائعاً، وأن الناس قد تحدثوا به، فلما بلغ ذلك فاطمة علیها السلام ذهبت للنبي صلی الله علیه و آله وسلم وأخبرته(6) فيما تأتي رواية لدى الحاكم لتشير بأن الامام هو الذي طلب الإذن من النبي صلی الله علیه و آله وسلم فرفض(7)، وتذهب رواية أخرى لعلم النبي صلی الله علیه و آله وسلم بالأمر دون تحديد من الذي اخبره.(8) أما السبب

ص: 206


1- الزبيري: نسب قريش ص 187
2- الشرح: 11 / 123 - 4، الزبيري: نسب قريش ص 193، ابن حزم: جمهرة انساب العرب ص 113
3- ابن سعد: الطبقات 8 / 262
4- ابن حجر: الاصابة 4 / 265
5- ابن سعد: الطبقات 8 / 262. مسلم: الصحيح 16 / 2. الترمذي: الصحيح 3 / 246 - 7
6- البخاري: الصحيح 5 / 95 - 96. مسلم: الصحيح 16 / 4
7- المستدرك: 3 / 173
8- المستدرك: 3 / 173

في عدم تحقق الخطبة فهذا أيضاً موضع تناقض بين الروايات فأكثر الروايات تعزوه للنبي صلی الله علیه و آله وسلم(1)، فيما تأتي رواية لتشير إلى رفض بني المغيرة منذ البدء لأن ذلك يؤذي النبي صلی الله علیه و آله وسلم برأيهم(2)، ولكن رواية الزبيري تشير إلى تدخل عتاب بن أسيد الذي حسم الموقف بخطبته جويرية(3)؟ ولكن أليس خطبة المؤمن على أخيه المؤمن حراماً(4)؟!!.

رابعاً: موقف النبي صلی الله علیه و آله وسلم؟:

أشرنا إلى تناقض الروايات في من الذي أخبر النبي صلی الله علیه و آله وسلم، بخطبة الإمام علي علیه السلام لجويرية.

فبعضها يشير بأن بني هشام بن المغيرة استأذنوا النبي صلی الله علیه و آله وسلم، فهذا يعني أنه رفض ذلك، إذن لماذا يصعد صلی الله علیه و آله وسلم المنبر معلنا (ان بني هشام بن المغيرة استأذنوني أن ينكحوا ابنتهم علي بن أبي طالب، فلا إذن ثم لا إذن ثم لا إذن لهم)(5).

فلماذا لا يرسل النبي صلی الله علیه و آله وسلم للإمام علي علیه السلام ويدعوه لترك الخطبة؟ فما معنى هذا الموقف المتشدد من النبي صلی الله علیه و آله وسلم حيال علي علیه السلام وأمام الناس؟ فهل يريد النبي أن يقول ان عليا أتى بأمر خطير؟ أم إن النبي صلی الله علیه و آله وسلم أراد أن يسمع من تسوّل له نفسه ولو مستقبلا تزويج علي كما فعل بنو المغيرة؟.

ص: 207


1- ابن سعد: الطبقات 8 / 262. الزبيري: نسب قريش ص 312. البخاري: الصحيح 5 / 95 - 96
2- الحاكم: المستدرك: 3 / 173
3- الزبيري: نسب قريش ص 312
4- اخرجه الطحاوي: شرح معاني الاثار 3 / 3 - 4. ابن حزم: الفصل 4 / 16
5- مسلم: الصحيح 16 / 2. الترمذي: 13 / 246 - 7

ولكن رواية الحاكم تفيد أن الإمام عليا علیه السلام هو الذي طلب الموافقة من النبي منذ البدء ولكنه صلی الله علیه و آله وسلم لم يوافق فقال علي علیه السلام: لا آتي شيئا تكرهه(1)، إذا ما معنى صعود النبي المنبر واستنكاره، فهل هذا يعني إن عليًا عاود الخطبة رغم نهي النبي صلی الله علیه و آله وسلم له!!. إن هذا لا يمكن صدوره عن الإمام علي علیه السلام.

فيما تأتي رواية أخرى تشير أن فاطمة هي التي أبلغت النبي صلی الله علیه و آله وسلم: «فلما سمعت فاطمة أتت النبي صلی الله علیه و آله وسلم فقالت: إن قومك يتحدثون إنَّك لا تغضب لبناتك»(2).

إذن فالقوم يرون أن فعل الإمام علي علیه السلام غير صحيح، ولذلك أشيع بين الناس وأخذوا يتحدثون به، فبلغ مسامع فاطمة لذا أتت النبي صلی الله علیه و آله وسلم لتخبره بمقالة الناس. فلماذا يا ترى هذا التصور لدى الناس؟ والمعروف أن العرب قبل الإسلام وفي ظل عصر الرسول صلی الله علیه و آله وسلم كانوا يتزوجون لأكثر من واحدة، ولا نكاد نقرأ عن موقف متوتر حيال زواج ثانٍ، إذن لماذا يستنكر قوم النبي صلی الله علیه و آله وسلم ذلك إلى درجة أنهم يقولون: إن النبي صلی الله علیه و آله وسلم لا يغضب لبناته، فمن سبقه وقد غضب لبناته حتى يؤخذ على النبي عدم غضبه لبناته.

3. إن الرسول صلی الله علیه و آله وسلم بموقفه الاستنكاري هذا عرض بعلي علیه السلام، مقارنا إياه بموقف أحد أصهاره من بني عبد شمس، إذ يقول: (فإني أنكحت أبا العاص بن الربيع، فحدثني فصدقني) وفي رواية أخرى: (حدثني فصدقني، ووعدني

ص: 208


1- المستدرك: 3 / 173
2- البخاري: صحيح 5 / 95 - 96. مسلم: الصحيح 16 / 4

فأوفى لي)(1). فمن هو أبو العاص هذا؟.

هو أبو العاص بن الربيع من بني عبد شمس وأمه هالة بنت خويلد، أي أخت السيدة خديجة علیه السلام تزوج قبل الإسلام زينب التي يرى البعض أنها من بنات النبي صلی الله علیه و آله وسلم، ورغم أن الروايات تشير لإسلامها في بدء الدعوة الإسلامية لكنها بقيت في مكة ثلاث عشرة سنة عند زوجها وهو مشرك، فما سر بقاءها:

هل يرضاها؟ فهذا لا يجوز شرعاً؟ أم رغماً عنها؟ ومع ذلك فلم تشر الروايات لأي موقف سلبي لاحدهما حيال الآخر رغم تناقضهما في العقيدة، أليس هذا يثير الإستغراب؟!! وقد بقيت حتى بعد الهجرة وأشترك زوجها أبو العاص في معركة بدر مشركًا، فكانأن وقع أسيرًا بيد المسلمين فأرسلت زينب قلادة كانت أمها قد أهدتها لها ليلة زفافها، فَرَقَّ النَّبي صلی الله علیه و آله وسلم لها وأعادها عليها وأطلق سراح زوجها بعد أن شرط عليه أن يبعث زينب له، ففعل، فهل يدلك ذلك على فقر أبي العاص، ثم أين إسلام زينب وهي تتعاطف مع مشرك ضد أبيها النبي صلی الله علیه و آله وسلم؟!! واستمر أبو العاص مشركًا، حتى السنة السادسة للهجرة حيث خرج في قافلة فاعترضها المسلمون وأخذوا ما فيها وفرَّ أبو العاص إلى المدينة حيث استجار بزينب فأجارته وأعاد عليه المسلمون كل ما أخذوه من أموال، فمضى إلى مكة وأعاد الأموال لأصحابها ثم جاء إلى المدينة فأعلن إسلامه، وتشير الروايات إن الرسول صلی الله علیه و آله وسلم أعاد إليه زينب بالعقد الأول، فهل هذا جائز في الشريعة الإسلامية؟!! وبقيت معه سنتين حيث توفيت في السنة الثامنة من الهجرة، فيما عاش بعدها أبو العاص حتى توفي في عهد الخليفة أبي بكر(2).

ص: 209


1- البخاري: صحيح 5 / 96. مسلم: الصحيح 16 / 3 - 4
2- ابن سعد: الطبقات 8 / 30 - 36. الطبري: المنتخب ص 499 - 501. ابن حزم: جمهرة انساب العرب ص 77 - 78. ابن عبد البر: الاستيعاب 4 / 1701. ابن الاثير: اسد الغابة 5 / 236 - 8، ابن حجر: الاصابة 4 / 121 - 3، 312 - 3

إن ملاحظة سيرة أبي العاص ومقارنتها بسيرة الإمام علي علیه السلام لتقطع عقلا بأنه لا يمكن أن تكون هناك أدنى مقارنة عند عامة الناس، فكيف بالنبي صلی الله علیه و آله وسلم ولا داعي لبيان سيرة الإمام علي علیه السلام، فهي معروفة للخاص والعام كمعرفة البلد الحرام، أما أبو العاص فلا وجود له إلا في بطون الكتب، وقلَّ من يعرفه حتى من المتخصصين وليس ذلك إلا لأنه شخص من عامة الناس.

والملاحظ ان الرواية تشير لقول النبي صلی الله علیه و آله وسلم: حدثني فصدقني، ووعدني فأوفى لي، والسؤال: متى حدثه؟ ومتى صدقه؟ أبعد ثلاث عشرة سنة والرسول في مكة يدعو للإسلام، فلم يؤمن به؟ أبعد تضيقه على زينب التي أسلمت وبقيت عنده؟ أبعد خروجه مع المشركين في بدر ثم وقوعه في الأسر؟ أبعد ست سنين من الهجرة؟ ولما رأى واقع الجزيرة العربية يتجه لصالح النبي صلی الله علیه و آله وسلم جاء معلنًا إسلامه؟.

ثم إن القول المنسوب للنبي صلی الله علیه و آله وسلم: (فحدثني فصدقني، ووعدني فأوفى لي).

هل هذا الكلام لا نجد له مصداقية لدى الإمام علي علیه السلام؟!!.

ثم لنتساءل عن سر بقاء زينب لدى أبي العاص؟ والمعروف أن قريشا سعت لولدي أبي لهب لتطليق بنات النبي صلی الله علیه و آله وسلم وهما من بني هاشم وأبناء عمه؟ فلماذا لم تسع بالنسبة لأبي العاص؟ وإذا كانت قد سعت ورفض أبو العاص؟ فما هو سبب رفضه؟ هل اعتزاز بمصاهرته النبي صلی الله علیه و آله وسلم؟ إذًا لماذا لم يقبل دعوته؟ أم اعتزاز بابنته؟ فهي قد دخلت الإسلام طاعنة في ما يعتنقه من الشرك؟ ثم ما

ص: 210

سر بقاءها: هل برضاها؟ فهذا لا يجوز شرعا؟ أم رغما عنها؟ فإذا كان كذلك فكيف يقول الرسول صلی الله علیه و آله وسلم إنَّه وعدني فأوفى لي؟ وإن شرط النبي صلی الله علیه و آله وسلم إرسال زينب مقابل إطلاق سراحه دليل على أن بقاءها عنده رغماً عنها.

ومع كل ذلك فإنَّه لم يثبت تاريخيا أن للنبي صلی الله علیه و آله وسلم بنات سوى السيدة فاطمة الزهراء علیها السلام.

إن السر في منع النبي صلی الله علیه و آله وسلم من زواج علي علیه السلام هو «إن فاطمة بضعة مني، وإنَّما أكره أن يفتنوها»(1) نعم… إن فاطمة قطعة من رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم بلا شك، ولكن ماذا يقصد صلی الله علیه و آله وسلم بفتنة فاطمة؟ هل يقصد إنَّه يصيبها ما يصيب النساء، وإن هذا سيدعوها للإنحراف في التعامل مع زوجها ومع ضرتها؟.

إن مثل هذا التصور يقوله شخص غير مدرك لحقيقة النبي صلی الله علیه و آله وسلم وابنته فاطمة علیها السلام التي صرح القرآن الكريم بطهارتها من الرجس، فلا يمكن بحال من الأحوال أن تشعر بأي شيء يحرمه الإسلام، والمعروف أن غيرة المرأة محرمة في الإسلام،(2) ولهذا قطعاً ففاطمة سوف لن ينتابها من هذا شيء.

يخلص الرسول صلی الله علیه و آله وسلم للقول: (إلاَّ أن يحب ابن أبي طالب أن يطلق ابنتي وينكح ابنتهم).(3) المعروف ان قول الرسول صلی الله علیه و آله وسلم وفعله وتقريره سنة واجبة الاتباع، فإذا ما حدث أن النبي صلی الله علیه و آله وسلم طلق إبنته لأن زوجها أراد الزواج عليها، فهذا يعني إنه

ص: 211


1- مسلم: الصحيح 16 / 4، ابن الاثير: اسد الغابة 5 / 419
2- قال الإمام علي علیه السلام: غيرة المرأة كفر وغيرة الرجل إيمان. الشرح 18 / 312
3- الترمذي: الصحيح: 13 / 247

تشريع ستسير عليه الأمة، فيصبح أحدنا إذا أراد شخص أن يتزوج على إبنته يطلب منه طلاقها مقتديا بالنبي صلی الله علیه و آله وسلم.

ثم ما هو علاج الرسول صلی الله علیه و آله وسلم للمسألة؟ انه الطلاق، والمعروف أن الطلاق شرع كعلاج للفساد الأسري، وهو من أبغض الحلال عند الله تعالى.

فإذا صحَّ وطلِّقت فاطمة علیها السلام أليس الذي سيواجهه النبي صلی الله علیه و آله وسلم هو مشكلة من سيتزوجها؟ إذ المعروف أن كثيرا من الصحابة خطبوها فردَّهم النبي صلی الله علیه و آله وسلم لأنَّه ينتظر أمر السماء، وقد جاء أمر السماء بتزويجها من علي علیه السلام.(1) يقول اليعقوبي: «وقدم علي بن أبي طالب علیه السلام بفاطمة بنت رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم وذلك قبل نكاحه إيَّاها… ثم زوجها رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم من علي علیه السلام بعد قدومه بشهرين، وقد كان جماعة من المهاجرين خطبوها من رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم فلما زوجها عليا علیه السلام قالوا في ذلك، فقال رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم: ما أنا زوجته، ولكن الله زوجه)(2).

فهل شرطت السماء على علي علیه السلام ألَّا يتزوج على فاطمة علیها السلام؟ وأنى للنبَّي أن يطلقها من علي والسماء هي التي زوجته!! ثم يقول الرسول صلی الله علیه و آله وسلم: (وإِنَّها والله لا تجتمع بنت رسول الله، وبنت عدو الله عند رجل واحد أبداً).

هل يعقل ان هذا التصور وهذا الكلام يصدر من أبي هذه الأمة؟ هل يعقل أن يصدر من رحمة الله:

ص: 212


1- ابن سعد: الطبقات 8 / 19
2- التاريخ: 2 / 35. سبط ابن الجوزي: تذكرة ص 307. وانظر الهيتمي: الصواعق ص 122. المتقي الهندي: كنز العمال 12 / 13، 205، 201 / 97. الشبلنجي: نور الابصار ص 46

«مَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ»(1)؟ هل يعقل أن يصدر ممن وصفه القرآن:

«وَإنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظيِمِ»(2).

و:

«وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَليِظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ»(3).

و:

«لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ»(4).

فهل هذه المواصفات القرآنية تنطبق على هذا الشخص، وهو يفرق بين ابناء أمته!!؟ ويعلن بلسان العصبية بأن إبنته لا تجتمع مع ابنة عدو الله. أليس هذا تشريعا؟! وما هو ذنب جويرية المسلمة، إن كان أبوها كافرا؟ أليس في هذا طعن لها وإيذاء!! والله سبحانه نهى عن إيذاء المؤمن.

إن الرسول صلی الله علیه و آله وسلم هو الذي جاء عن الله مشرعا للمسلمين:

«فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ»(5).

وهذه الآية عامة لجميع المسلمين فهي تضم عليا وغيره، فكيف يحرمها

ص: 213


1- سورة الانبياء، الآية: 107
2- سورة القلم، الآية: 4
3- سورة آل عمران، الآية: 159
4- سورة التوبة، الآية: 128
5- سورة النساء، الآية: 3

الرسول صلی الله علیه و آله وسلم على علي علیه السلام (وإنِّی لست أحرم حلالا ولا أحلّ حراما).

قال ابن العربي: (وأذية النبي صلی الله علیه و آله وسلم لا تغفر، فإن قيل: فكيف منع النبي صلی الله علیه و آله وسلم عليًا من النكاح ولا يقضي ذلك عقد النكاح، قلنا قد بيَّن النبي صلی الله علیه و آله وسلم ذلك غاية البيان، فقال: إنَّه ليس في تحريم ما أحلّ الله إلا إذا أراد علي بن أبي طالب أن يطلق ابنتي ويتزوج ابنتهم، فبيَّن له أن ذلك ليس بحرام، وبين له أنَّه لا عليه أن يطلق علي فاطمة، فأمَّا الزواج عليها فإنه يؤذيه، وما آذاه كان حراما من جهة إذايته لا من جهة تحريم النكاح في الاصل… هذا الأمر يختص به النبي صلی الله علیه و آله وسلم وحده، فاذى غيره مأذون فيه مباح لا حرج على أحد أن يفعله).(1) والشيء الذي يلفت النظر هو سكوت القرآن الكريم إزاء هذه الحادثة لا تأييداً لموقف النبي صلی الله علیه و آله وسلم ولا نقداً له.

ولكن يا ترى لماذا لم يغضب النبي صلی الله علیه و آله وسلم لرقية أو أم كلثوم على اختلاف الروايات في زواج عثمان عليها، فيروى أن الرسول صلی الله علیه و آله وسلم في ساعة الدفن شرط أن لا يدخل القبر من قارف زوجته تلك الليلة فلم يدخل عثمان القبر(2)، ولهذا فصاحب الرواية جعل على لسان النبي صلی الله علیه و آله وسلم أن يحتج بأبي العاص مع إنه مشرك، ولم يحتج بعثمان لأن الأخير قد تزوج على رقية أو أم كلثوم.

المتتبع لسيرة النبي صلی الله علیه و آله وسلم يجد لديه اهتماما بفاطمة علیها السلام يفوق بكثير اهتمامه بباقي بناته، فزينب التي تزوجت من أبي العاص، والذي استمر على شركه

ص: 214


1- صحيح الترمذي بشرح ابن العربي 13 / 246 - 247
2- ابن سعد: الطبقات 8 / 38. الطبري: المنتخب ص 498. ابن عبد البر: الاستيعاب 4 / 1841، 1952. ابن حجر: الاصابة 4 / 304، 489

لإحدى وعشرين سنة، قضت معه أكثر من خمس عشرة سنة وحينما هاجرت إلى المدينة بقيت لأربع سنوات حتى أسلم أبو العاص فأعادها النَّبي صلی الله علیه و آله وسلم إليه.

ولم يعرف لماذا لم تتزوج بعد عودتها للمدينة؟!! ويقال إنَّا ولدت له ولدين (علي) وقد مات صغيرا، و(أمامة) التي رووا أنَّها تزوجت من الإمام علي علیه السلام بعد فاطمة علیها السلام بدعوى الوصية المزعومة للزهراء وبعده تزوجت نوفل بن المغيرة ولم تلد لأي منهما.(1) أمَّا رقية فقد تزوجت من ابن أبي لهب والذي طلقها حال بدء الدعوة الاسلامية فتزوجها عثمان الذي هاجر بها إلى الحبشة ثم عاد لمكة إثر حادثة الغرانيق الموضوعة طعنا في شخص النبي صلی الله علیه و آله وسلم؟!!، وتوفيت في المدينة في السنة الثانية من الهجرة وقد ولدت لعثمان ولدا اسمه عبد الله مات صغيرا حيث نقره الديك.(2) أمَّا بالنسبة إلى أم كلثوم فقد أشار الرواة لزواجها من الابن الثاني لأبي لهب، الذي اقتفى أثر أخيه فطلقها، ولكنَّها لم تجد زوجًا فبقيت ثم غابت عن الرواة لخمس عشرة سنة حتى ماتت رقية فظهرت من جديد في الروايات حيث تزوجها الخليفة عثمان ولكنَّها لم تطل معه حيث توفيت في السنة الثامنة من

ص: 215


1- ابن سعد: الطبقات 8 / 30 - 36. الطبري: المنتخب ص 494، 594 - 5. ابن عبد البر: الاستيعاب 4 / 1853 - 4. ابن الاثير: اسد الغابة 5 / 467 - 8، ابن حجر: الاصابة 4 / 312 - 3
2- ابن زبالة: منتخب ص 42 - 3. ابن سعد: الطبقات 8 / 36 - 37. الطبري: المنتخب ص 594. ابن عبد البر: الاستيعاب 4 / 1839 - 43. ابن الاثير: اسد الغابة 5 / 456 - 7. ابن حجر: الاصابة 4 / 304 - 5

الهجرة دون أن تلد له ولدا.(1) إن كتب السيرة والحديث لتخلو من الاشارة إلى فضائل بنات رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم ما عدا فاطمة علیها السلام التي أفردت لها كتب الصحاح بابا في ذكر مناقبها.(2) بالإضافة إلى أنَّه لم يكن للنبي صلی الله علیه و آله وسلم نسل من بناته إلَّا من فاطمة علیها السلام ولم يبق لبناته الآخر من الذكر إلَّا في بطون الكتب، في الوقت الذي أصبحت فيه فاطمة علیها السلام الوعاء الوحيد الذي ينتسب إليه الملايين ممن ينتسب إلى رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم.

إن دراسة متمعنة لهذه البنات الأربع لتؤكد إنَّه لاصحة لهنَّ إلا السَّيدة فاطمة الزهراء علیها السلام والباقيات تم اختلاقهن لوضع فضيلة للآخرين مقابل فضيلة الإمام علي علیه السلام في مصاهرته للنبي صلی الله علیه و آله وسلم، وهذا ما سنتناوله تفصيلا في مشروعنا «فضائل الإمام علي علیه السلام تنسب لغيره... الحلقة الثالثة.. صهر النبي صلی الله علیه و آله وسلم»؟!!

ص: 216


1- ابن زبالة: منتخب ص 43. ابن سعد: الطبقات 8 / 37 - 9. الطبري: المنتخب ص 498. ابن عبد البر: الاستيعاب 4 / 1952 - 3. ابن الاثير: اسد الغابة 5 / 612 - 3، ابن حجر: الاصابة 4 / 489 - 490
2- أنظر البخاري: الصحيح 5 / 91 - 105، 2. مسلم: الصحيح 16 / 2 - 7. الترمذي: الصحيح 13 / 246 - 251. النسائي: خصائص ص 116 - 122. الطحاوي: مشكل الآثار 1 / 47 - 52. الحاكم: المستدرك 3 / 164 - 179. أبو نعيم: حلية الاولياء 2 / 39 - 43. سبط ابن الجوزي: تذكرة ص 306 - 322. الحافظ العراقي: طرح التثريب 1 / 149 - 151. الهيتمي: الصواعق ص 188 - 9، المتقي الهندي: كنز العمال 13 / 91 - 7. الصبان: اسعاف الراغبين ص 104 - 170، 121 - 173. الشبلنجي: نور الابصار ص 44 - 47

خامساً: موقف فاطمة علیها السلام:

تصور الرواية فاطمة علیها السلام وكأنَّها المرأة الضَّعيفة القليلة الحنكة شأنها شأن سائر النساء، فتنفعل، وتستغل سلطة أبيها لتذهب إليه قائلة: (إنَّ قومك يتحدثون إنَّك لا تغضب لبناتك).

إنَّ المرأة الاصيلة هي التي تعالج مشاكلها مع زوجها وبدون تدخل أحد حتى أهلها، أمَّا إذا لجأت لتدخل الآخرين فهذا دليل على عدم اصالتها، وهذا كما هو معروف لا ينطبق على فاطمة علیها السلام التي ارتقت لتكون سيدة نساء هذه الأمة،(1) أو سيدة نساء الجنة(2)، أو سيدة نساء العالمين.(3) إنَّنا لم نقرأ في متون الكتب ولم نسمع أنَّ الله سبحانه وتعالى يغضب لغضب امرأة، ويرضى لرضى امرأة سوى فاطمة علیه السلام.(4) فهل التي تتوصل إلى هذه الدرجات العليَّة تقف كهذا موقفاً!! سادساً: موقف الإمام علي علیه السلام.

تتجاهله كافة الروايات ما عدا رواية للحاكم، بنو المغيرة يتجاهلونه ويذهبون للنبي صلی الله علیه و آله وسلم ليستأذنوه في أن يزوجوا عليا ابنتهم، وفاطمة تتجاهله وتذهب للنبي صلی الله علیه و آله وسلم شاكية إيَّاه، والنبَّي صلی الله علیه و آله وسلم بدوره يتجاهله ويقف مندداً به بدون

ص: 217


1- مسلم: الصحيح 16 / 6 - 7. الحاكم: المستدرك 3 / 170. سبط ابن الجوزي: تذكرة ص 309. الحافظ العراقي: طرح التثريب 1 / 149
2- البخاري: الصحيح 5 / 105، 91. الحاكم: المستدرك 3 / 164، 168. ابن تيمية: منهاج السنة 3 / 12
3- ابن ماجة: صحيح سنن 1 / 271. الحاكم: المستدرك 3 / 170
4- الطبراني: المعجم الكبير 1/ 108 . الحاكم: المستدرك 3 / 167. الهيثمي: مجمع الزوائد 9 / 203

ذكر اسمه (إن أراد ابن أبي طالب) ومعرضا به بأبي العاص بن الربيع، وكأن عليا علیه السلام شخص عادي لا ثقل له.

وكأن الراوي يريد القول إن الرسول صلی الله علیه و آله وسلم تناسى من هو علي علیه السلام؟ وأين تربى؟ ومتى أسلم؟ ومن هو الذي بات في فراش النبي صلی الله علیه و آله وسلم ليلة الهجرة؟ ومن هو صاحب السيف في سائر غزوات الرسول صلی الله علیه و آله وسلم؟ وهو الذي لم يجد لفاطمة ندا سواه؟ والذي جاء التشريف من السماء بتزويجه إيّاها؟ وهو الذي حفظ نسل الرسول الأكرم صلی الله علیه و آله وسلم، فلا نسل له صلی الله علیه و آله وسلم إلَّا من الإمام علي علیه السلام و…و…و….

كل ذلك يريد الراوي أن يسدل الستار عليه، وقد روى ابن أبي الحديد أربعة وعشرين حديثا في أمهات كتب الحديث في فضل الإمام عليّ علیه السلام(1).

والآن لنتساءل: أ حقاً كان الإمام علي علیه السلام يرغب بالزواج في حياة السيدة فاطمة علیها السلام؟.

يمكن القول إن أكثر الرجال لديهم الرغبة بأن يتزوجوا ثانيا، ولكن يكون ذلك بدافع، وهذا الدافع يكمن في مسألتين:

الاولى: أن لا توفر الزوجة الاولى الاحتياجات اللازمة للزوج.

الثانية: أن يجد الزوج امرأة أسمى من زوجته.

فيا ترى هل كانت فاطمة علیها السلام مقصرة أو قاصرة عن تلبية متطلبات زوجها؟ أكان في نسبها بعض الطعن؟ أليست هي من أصرح العرب نسبا؟ ومن أشهر قبائل قريش (بنو هاشم)؟ وابنة سيد المخلوقات؟ أليست هي (فاطمة بضعة منِّي) و البضعة هي القطعة من اللحم، ففاطمة علیها السلام قطعة من رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم عند

ص: 218


1- الشرح: 9 / 166 - 174

عليّ علیه السلام روحًا ودمًا وعقلًا، أليست هي سيدة نساء العالمين؟ التي لم تحض أبدًا، فكانت في قمة الطّهارة الروحية والجسدية؟ أليست هي التي ولدت لعليّ علیه السلام القمرين، الحسن والحسين (عليهما السلام)، سيدي شباب أهل الجنة؟ أليست هي التي كانت تنهل من علوم أبيها إلى درجة ان أصبح لديها كتاب كبير سمي بمصحف فاطمة فيه الكثير مما أخذته عن الرسول صلی الله علیه و آله وسلم من الأحكام الشرعية؟ لذا كانت في مكانة تؤهّلها لتوازي مكانة عليّ علیه السلام العلمية. إلى غيرها من الفضائل التي أهّلتها لأن تكون زوجة مثالية لعليّ علیه السلام إذًا فلماذا يبحث عن زوجة ثانية؟ ثم من هي هذه التي اختارها؟ فإذا ما قورنت بفاطمة علیها السلام هل هناك وجه مقارنة في النسب والإيمان والعلم؟ إنَّها ابنة أبي جهل المعروف بعدائه للرسول صلی الله علیه و آله وسلم والإسلام، وفاطمة علیها السلام بنت رسول الإسلام، وتلك عاشت مشركة حتى بعد الإسلام لإحدى وعشرين سنة، وحينما فتحت مكة وسمعت بلالاً يقول: (أشهد أن محمدًا رسول الله) قالت: «قد لعمري رفع لك ذكرك أما الصلاة فسنصلي، ووالله ما نحب من قتل الأحبة ابدا، ولقد جاء أبي الذي كان جاء إلى محمد بالنّبوة، فردها ولم يرد خلاف قومه»(1)، أمّا فاطمة علیها السلام فهي التي فتحت عينها على الإسلام، ولم تعرف للشرك معنى بل يقال أن نطفتها من تفاحة من الجنة(2).

وتلك من الطلقاء، وفاطمة علیها السلام سيدة نساء العالمين، وتلك تزوجت عتابا بن أسيد أحد الطلقاء وفاطمة تزوجت من الإمام عليِّ علیه السلام الذي كان من رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم بمنزلة هارون من موسى.

ص: 219


1- الأزرقي: اخبار مكة 1 / 274 - 275
2- الحاكم: المستدرك 3 / 169. محب الدين: ذخائر العقبى ص 46. الشبلنجي: نور الابصار ص 44 - 45

وتلك ولدت عبد الرحمن بن عتاب الذي قاتل عليا يوم الجمل وقتل، وفاطمة ولدت الحسن والحسين (عليهما السلام) سيدي شباب أهل الجنة وولدي رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم، حيث لا يعرف له نسل إلّا منهما وتلك نهايتها مجهولة، وفاطمة لما توفيت ندبتها الرجال قبل النساء.

سابعاً: مصدر الحادثة: أرجع الرواة مصدر الحادثة لخمسة اشخاص وهم:

المِسْور بن مخرمة، عبد الله بن الزبير، ابن عباس، سويد بن غفلة، أبو حنظلة.

أولاً: المِسْور بن مخرمة(1): هو الذي ترجع إليه أكثر الروايات فمن هو؟ إنه المِسْور بكسر الميم وسكون السين، بن مخرمة بن نوفل الزهري، وأمّه عاتكة بنت عوف أخت الصحابي عبد الرحمن بن عوف.

ولد بمكة بعد الهجرة إلى المدينة بسنتين وفي عام 8ه فتحت مكة، ودخل أهلها الإسلام، فكان عمره ست سنوات وفي ذي الحجة من هذه السنة (8 ه) قدم إلى المدينة وهو ابن ست سنوات ولا تعرف أسباب مقدمه ومع من؟ والظاهر انه قدم مع والده الذي أسلم يوم الفتح، فكان من الطلقاء ثم من المؤلفة قلوبهم.(2).

روي المِسْور روايتين أيام وجوده في المدينة. الأولى: «مر بي يهودي والنبي صلی الله علیه و آله وسلم يتوضأ وأنا خلفه، فرفع ثوبه فإذا خاتم النبوة في ظهره فقال لي إليهودي: أرفع رداءه عن ظهره فذهبت افعل فنضح في وجهي كفاً من ماء».

ص: 220


1- أنظر ترجمته: الطبري: المنتخب 522، 556 - 7. ابن أبي حاتم: الجرح والتعديل 4 / 1 / 297. ابن الاثير: اسد الغابة 4 / 365 - 6. ابن حجر: الاصابة 3 / 419 - 420
2- ابن هشام: السيرة 4 / 193. الطبري: تاريخ 3 / 90. المنتخب ص 516. ابن حزم: جمهرة انساب العرب ص 129

الثانية: «أقبلت بحجر أحمله، ثقيل وعليّ إزار خفيف فانحل فلم أستطع أن اضع الحجر حتى بلغت به موضعه، فقال لي النّبي صلی الله علیه و آله وسلم: إرجع إلى ثوبك فخذه ولا تمشوا عراة»(1).

فالروايتان أعلاه تدلان على صغر سنه يوم جاء إلى المدينة!! ثم انه يتصور أن خاتم النبوة هو كالخواتم المعروفة ولأن هذا الخاتم لا يعرفه إلا إليهود لأنَّ لديهم العلم الأول كما يزعمون لذا كان ذلك الشخص الذي أعلمه بالخاتم يهوديا، مع ان إليهود قد أجلاهم النبي صلی الله علیه و آله وسلم عن المدينة منذ معركة الخندق سنة 5 ه!!؟ وتشير الروايات لملازمته الخليفة عمر بن الخطاب وكان مع خاله عبد الرحمن بن عوف يوم الشورى، فأقام بالمدينة حتى قتل الخليفة عثمان ثم سار إلى مكة حتى وفاة معاوية، فكره بيعة يزيد وأيّد عبد الله بن الزبير في مكة، وبقي معه حتى حصار الحصين بن نمير، حيث أصابه حجر من حجارة المنجنيق فمات على أثره، فصلى عليه ابن الزبير ودفنه وأشار ابن سعد أن عبد الله بن الزبير ادعى الخلافة لنفسه بعد وفاة المسور، إذ كان سابقا يدّعي أنّها شورى بينه وبين المِسْور ومصعب بن عبد الرحمن.(2) فإذا كان المِسْور بن مخرمة ابن ست سنوات فهل بالامكان أن يعي ما يحدث بتفاصيله؟ ومن الغرابة ان تلك الحادثة التي جعلت النبي صلی الله علیه و آله وسلم يغضب ويصعد المنبر ويندد بعلي، وبكل من تسول له نفسه تزويج علي علیه السلام، وجعلت المدينة تعج بأهلها والناس يتحدثون بل وينتقدون النبي صلی الله علیه و آله وسلم لأنَه لم يغضب لبناته!!؟ نعم.. تلك الحادثة لا يرويها إلَّا طفل في السادسة من عمره وهو قريب

ص: 221


1- ابن حجر: الاصابة 3 / 419
2- الطبقات 5 / 160

عهد بالإسلام، ولا تعرف أسباب مجيئه إلى المدينة في هذه السن؟ وقد أحجم المهاجرون والأنصار عن روايتها، فلا يعرف هل نسوها وتذكرها هذا الطفل الصغير أم أنهم رأوها غير ذات بال!!؟ والملاحظ أن المِسْور واجه نقدا من الإمام علي بن الحسين علیه السلام حيث تشير إحدى الروايات للقاء المِسْور بعليِّ بن الحسين علیه السلام بعد رجوع الأخير من الشام، فأراد المِسْور ان يقدم له المساعدة، التي تتمثل بأن يحتفظ بسيف الإمام الحسين علیه السلام خوفا من أن يؤخذ منه ولا أدري من الذي سيأخذه والإمام علیه السلام قد عاد من الشام حيث يزيد، فإذا لم يأخذه الأخير فمن يأخذه! هذا إن قلنا أن الإمام بقي لديه سيف والمعروف أنَّ سيوف الإمام الحسين علیه السلام كلها قد أخذت في ساحة المعركة!!؟ ولما لم يجد المِسْور تجاوبا من الإمام علي بن الحسين علیه السلام انطلق فجأة بتلك الرواية، رواية خطبة الإمام لجويرية، ولا يعرف ما الرابط بين طلبه السيف وبين إيراده خطبة الامام لجويرية، وأورد قوله «وأنا يومئذ محتلم» فهل في هذا إشارة لشك الإمام علیه السلام في ما يقوله، فأكد المِسْور بقوله إنه يومها قد بلغ الحلم، قال ابن حجر: «وهذا يدل على أنه ولد قبل الهجرة، ولكنهم أطبقوا أنه ولد بعدها».(1) ويلاحظ أيضاً ان الإمام علي بن الحسين علیه السلام أنكر على المِسِور لأنَّ النبَّي صلی الله علیه و آله وسلم هو الذي جاء بتشريع تعدد الزوجات فقال المِسْور حاكيا عن النبَّي صلی الله علیه و آله وسلم: «وإنِّی لست أحرم حلالا ولا أحلل حراماً».

ولكي يدعم موقفه رفض المِسْور تزويج إبنته من الحسن بن الحسن

ص: 222


1- ابن حجر: الاصابة 3 / 419

بدعوى: (ما سبب ونسب وصهر أحب إلي من نسبكم وصهركم، ولكن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم قال: فاطمة علیها السلام بضعة مني يغضبني ما يغضبها، ويبسطني ما يبسطها، وإن الأنساب يوم القيامة تنقطع إلا نسبي وسببي وصهري، وعندك إبنته، ولو زوجتك لقبضها ذلك).(1) فما الذي يريد المِسْور أن يقوله؟!! هل إن ذرية الرسول صلی الله علیه و آله وسلم من البنات يكره الزواج عليها؟!!.

ثانياً: عبد الله بن الزبير: هو الابن الأكبر للزبير بن العوام وقيل إنه أول مولود للمهاجرين بعد الهجرة، ولد في السنة الأولى للهجرة فعمره يوم فتح مكة ثمان سنوات، ولم تذكر إلا رواية واحدة تنتهي إليه «عن اسماعيل بن علية عن ايوب عن ابن أبي مليكة عن عبد الله بن الزبير». وقد شك الترمذي في ذلك قائلاً: «هكذا قال ايوب عن ابن أبي مليكة عن ابن الزبير، وقال غير واحد عن ابن أبي مليكة عن المسور» ثم حاول الترمذي التوفيق فقال: «ويحتمل أن يكون ابن أبي مليكة روي عنهما جميعا».(2) إن حادثة خطبة الإمام علي علیه السلام لجويرية لم يروها ابن أبي مليكة إلا عن المِسْور بن مخرمة، فإذا صحت روايته هذه عن ابن الزبير فيحتمل أن الأخير أخذها عن المِسْور، خاصة وأن المِسْور وابن الزبير اتخذوا من مكة مكانا لرفض بيعة يزيد وأنهما كانا يرشحان نفسيهما للخلافة، حتى قتل المِسْور في حصار مكة الأول على يد الحصين بن نمير.

ص: 223


1- الحاكم: المستدرك 3 / 172. محب الدين: ذخائر العقبى ص 48
2- الترمذي: الصحيح 13 / 247 - 248

ثالثاً: ابن عباس: رواية واحدة أوردها الزبير بن بكار مرسلة عن ابن عباس، ولا تعدو أن تكون ضمن تلك الروايات التي اصبغت طابعا خاصا على ابن عباس في مجادلاته ومناظراته مع الخليفتين عمر وعثمان.(1) رابعاً: سويد بن غفلة بن عوسجة الجعفي: مخضرم قيل ولد في عام الفيل وأسلم في حياة النبي صلی الله علیه و آله وسلم ولكنه لم يدخل المدينة إلا بعد دفن النبَّي صلی الله علیه و آله وسلم سنة 11 ه. وعاش طويلا حتى مات سنة 80 أو 81 أو 82 وله أكثر من مائة وثلاثين سنة.(2) فإذا كانت خطبة الإمام علي علیه السلام لجويرية في السنة الثامنة من الهجرة فمن أين علم بذلك سويد وهو لم يدخل المدينة إلا بعد ثلاث سنوات، وإذا كان هناك شخص أخبره، فمن ذلك الشخص؟ على أنها الرواية الوحيدة التي تسند إلى سويد هذا، وقد يكون أخذها من المسور، ولكنه تغافل عن إسنادها إليه، بعد أن بلغ من العمر عتيا.

خامساً: أبو حنظلة: روى الحاكم رواية واحدة تعود لشخص يدعى أبو حنظلة قال عنه: إنه رجل من أهل مكة ولا يعرف عنه شيئًا سوى هذه الكنية، وقد بخلت كتب الصحابة والتراجم، وعجزت أن تجد لها مكانا تضع فيه ترجمة لأبي حنظلة هذا!!؟

ص: 224


1- الشرح 9 / 8 - 21. ابن بكار: الموفقيات ص 604 - 612
2- أنظر ترجمته: الذهبي: تجريد اسماء الصحابة 1 / 250. ابن حجر: الاصابة 2 / 118. تهذيب التهذيب 4 / 278 - 9. وذكر الطبراني له حديثين يتضح منهما انه لم ير النبي صلی الله علیه و آله وسلم. المعجم الكبير 7 / 91 - 92

ثامناً: تحليلات بعض الباحثين:

وطبقا للفهم الخاطئ لشخصيتي الإمام علي وفاطمة علیهما السلام ولعدم تطبيق مبدأ الجرح والتعديل والاعتماد على المنهج الحرفي النصي، لذا بنى البعض آراءهم حول تلك الحادثة فقد قالت بنت الشاطئ: «انقشعت السحابة التي ظللت أفق الزهراء علیهما السلام حيناً لا نحدد مداه، وعاد البيت أصفى جوا مما كان قبل أن يمتحن بتلك التجربة القاسية، ومضت الحياة تسير بالزوجين الكريمين على ما يرجوان من تعاون ومودة: فاطمة علیهما السلام في الدار تقوم على خدمة زوجها ما وسعها، وتتخلص شيئا فشيئا مما كان يعتادها من شجن وانقباض، وعليّ علیه السلام إلى جانبها يبذل لها من الحدب والرعاية ما يعينها على مشقة العيش الكادح في جو المدينة الذي لم تسعفها صحتها على أن تألفه بسرعة كما ألفه كثير من المهاجرين، ويحاول قدر ما اطاق ان يترفق بها ويروض نفسه على شيء من اللين واليسر».(1) ان هذه الرؤية لشجن الزهراء وانقباضها، وشدة الإمام عليّ علیه السلام وضراوته هي وليدة تلك الدراسات الاستشراقية(2) التي تناولت جانبا من السيرة النّبوية، وشواخص الأمة، معتمدة على ما جاء في بعض الروايات الضعيفة، لتصوير وضع سلبي لبيت الرسالة والاعلام الأمة، فلننظر إلى ما جاء لدى (منغم) أحد المستشرقين: «وكان للنبي إبنة غير متزوجة وكانت في العشرين من عمرها اسمها فاطمة علیهما السلام، وقد توفيت إبنته رقية منذ زمن غير قليل، وكانت رقية متزوجة بعثمان

ص: 225


1- بنت الشاطئ: بنات النبي ص 182
2- أنظر كلمة للعقاد في نقده للدراسات الاستشراقية. فاطمة الزهراء ص 33 - 37

وكانت فاطمة علیهما السلام نحيفة طويلة القامة مع الشحوب، وكانت فاطمة عابسة ودون رقية جمالاً ودون زينب ذكاءا ولم تدر فاطمة علیهما السلام حينما أخبرها أبوها من وراء الستار أن عليّ بن أبي طالب علیه السلام ذكر اسمها، وكانت من عادة البنت إذا وافقت على الزواج سكتت والا حركت الستر، فلما أخبرت فاطمة علیهما السلام بذلك صمتت، فكان ذلك عن حياء أو حيرة، ما دامت قد قالت لأبيها ذات يوم إنه زوجها فقيرا، وكانت فاطمة علیهما السلام تعد عليًّا دميماً محدوداً مع عظيم شجاعته، وما كان عليّ علیه السلام أكثر رغبة فيها من رغبتها فيه».(1) وقال أيضاً: «وكان عليِّ علیه السلام غير بهي الوجه لعينيه الكبيرتين الفاترتين وانخفاض قصبة انفه وكبر بطنه وصلعه، وذلك كله. إلا أن عليَّا علیه السلام كان شجاعا، تقيا، صادقا، وفيا، مخلصا، صالحا، مع توان وتردد… وكان عليِّ علیه السلام ينهت فيستقي الماء لنخيل أحد اليهود في مقابل حفنة تمر، فكان إذا ما عاد بها قال لزوجته عابسا: كلي وأطعمي الاولاد… وكان عليّ يحرد بعد كل منافرة، ويذهب لينام في المسجد وكان حموه يربته على كتفه ويعظه ويوفق بينه وبين فاطمة إلى حين ومما حدث أن رأى النبي إبنته في بيته ذات مرة، وهي تبكي من لكم عليِّ علیه السلام لها».(2) وأضاف: «ولكن محمدا صلی الله علیه و سلم مع امتداحه قدم علي علیه السلام في الإسلام، إرضاءا لابنته كان قليل الالتفات إليها، وكان صهرا النبي الأمويان عثمان الكريم وأبي العاص أكثر مداراة للنبَّي صلی الله علیه و سلم من عليِّ علیه السلام، وكان عليّ يألم من عدم عمل النَّبي صلی الله علیه و سلم على سعادة إبنته ومن عدّ النّبي صلی الله علیه و سلم له غير قوام بجليل الاعمال، فالنبي

ص: 226


1- حياة محمد ص 197
2- حياة محمد ص 199

كان يفوض إليه ضرب الرقاب، وكان يتجنب تسليم قيادة له، وقد أراد عليّ علیه السلام يوما أن يتزوج على فاطمة علیها السلام، فغضب النبي واحتج على ذلك جهرا من فوق المنبر، وهذا لأن علياً كان غير لبق في ميله للزواج من ابنة أبي جهل، وجمعه تحت سقف واحد بنت رسول الله، وبنت أشد اعدائه، ومما آلم منه علي عدم إذن النبي له في الزواج من أخرى مع فاطمة كما صنع مع صهريه الاخرين»(1).

إن النصوص أعلاه فيها من الجناية والتحامل على صاحب الرسالة وعلى ابن عمه وابنته مما يجعلنا نتوقف عندها قليلا.

إن وصف السيدة فاطمة علیها السلام بالعبوس جاء من تصور البعض إنه السبب في تأخر زواجها حتى بلغت العشرين حسب رواية ولادتها قبل البعثة بخمس سنين بينما تقدم زواج اخواتها وهنَّ دون العاشرة،(2) والأصح أن ولادتها في السنة الخامسة بعد البعثة، ورغم صغرها فقد تولت مسؤولية الاهتمام بأبيها بعد وفاة أمها خديجة علیها السلام(3)، أما بعد الهجرة فقد أصبحت محط أنظار الصحابة، قال ابن سعد: «إن أبا بكر خطب فاطمة من النبي صلی الله علیه وسلم فقال له: يا أبا بكر انتظر بها القضاء. فذكر ذلك أبو بكر لعمر، فقال له عمر: ردك يا أبا بكر، ثم أن أبا بكر قال لعمر: أخطب فاطمة إلى النبي، فخطبها فقال له مثل ما قال لأبي بكر، انتظر بها القضاء»(4)، إلى أن جاء الأمر من السماء بتزويجها من علي علیه السلام كما مر.

والآن لنلقي نظرة على ما جاء في حديث النبي صلی الله علیه و آله وسلم بخصوص فاطمة علیها السلام

ص: 227


1- حياة محمد ص 199
2- للتفاصيل أنظر الشرهاوي: خديجة بنت خويلد ص 113 - 132
3- الشرح: 6 / 282. أنظر البخاري: الصحيح 4 / 127. المتقي الهندي: كنز العمال 2 / 89 - 90
4- الطبقات: 8 / 19. وانظر المتقي الهندي: كنز العمال 13 / 97

لنرى إلى أي مدى يصدق كلام منغم؟!!.

قال صلی الله علیه و آله وسلم: «فاطمة حوراء أنسية، كلما اشتقت إلى الجنة قبلتها».(1) وقال صلی الله علیه و آله وسلم: «إبنتي فاطمة حوراء آدمية».(2) وقالت أم أنس بن مالك: «كانت فاطمة كالقمر ليلة البدر، أو الشمس كفر غماما - إذا خرج من السحاب - بيضاء مشربة حمرة، لها شعر أسود، من أشد الناس برسول الله صلی الله علیه و آله وسلم شبهاً»(3). ويكفي في الاشارة لجمالها لقبها بالزهراء.

أما وصفها بقلة الذكاء مقارنة بزينب فأي وجه للمقارنة بين الاثنتين إن صح وجود زينب بلا طعن في زينب؟ فهل ذكاء الأخيرة يكمن في بقاءها تحت مشرك يحارب أباها ويقع في الأسر مرتين، بينما فاطمة تسهر على راحة أبيها حتى سميت بأم أبيها(4)، ولكن - منغم - لم ينظر لدعوة النبي صلی الله علیه و آله وسلم كدعوة سماوية بل تصور إنها مجرد مسألة دنيوية لطلب السلطة، لذلك نظر لبقاء زينب عند زوجها دليل ذكاء، وإنها لم تصدّق بدعوة أبيها.

ولننظر ما جاءت به السنة فيما يخص ذكاء فاطمة علیها السلام:

عن السيدة عائشة: ما رأيت أحد أشبه سمتاً ودلا وهديا وحديثا برسول الله في قيامه وقعوده من فاطمة، وكانت إذا دخلت على رسول الله قام إليها

ص: 228


1- الحاكم: المستدرك 3 / 169. الخطيب البغدادي: تاريخ بغداد 5 / 87
2- الهيتمي: الصواعق ص 158. الصبان: اسعاف الراغبين ص 172. المتقي الهندي: كنز العمال 13 / 94
3- الحاكم: المستدرك 3 / 176
4- الطبري: المنتخب ص 499. لما كانت الام هي الاصل ولولاها لم يكن الولد، لذا لما كانت ذرية النبي صلی الله علیه و آله وسلم انحصرت بفاطمة فكانت السبب في ذلك الامتداد للنبي صلی الله علیه و آله وسلم لذلك سميت بأم أبيها

فقبَّلها ورحب بها وأخذ بيدها وأجلسها في مجلسه(1).

اما وصف الإمام علي علیه السلام بالدمامة، فليته دلنا على مصدره، وهلا نظر في مصادرنا العربية الاسلامية وهي تصف الإمام بأنه حسن الوجه كأنه قمر ليلة البدر، وكأن عنقه ابريق فضة(2)، ضحوك السن(3)، فإن تبسم فعن مثل اللؤلؤ المنظوم(4).

وكم ناقض - منغم - الحقيقة بوصفه الإمام عليًّا علیه السلام بالتردد والتواني، ويكفي أن نحيل القارئ إلى ما كتبناه في فصل خصائص الإمام وسجاياه.

أما عن تلك المنافرات بين الإمام علي علیه السلام وفاطمة والتي كان مصدرها تلك الرواية التي تفيد أن عليا أغضب فاطمة ثم خرج إلى المسجد، فجاءه الرسول صلی الله علیه و آله وسلم ووجده نائما وقد سقط التراب على جسمه، فقال له اجلس إنما أنت أبو تراب والواقع إن كنية أبي تراب هي من أحب كنى الإمام عليِّ علیه السلام إليه لأن النبَّي صلی الله علیه و آله وسلم كنّاه بها حينما أرسله مع عمار كمقدمة لمعرفة اخبار العدو وبعدما أرهقهم التعب ناموا فأدركهم النبَّي فأخذ يمسح التراب عن وجه الإمام ويقول له إنَّما أنت

ص: 229


1- الترمذي: الصحيح 13 / 249. ابن عبد ربه: العقد الفريد 3 / 230 - 3. الحاكم: المستدرك 3 / 167. ابن عبد البر: الاستيعاب 4 / 1896. محب الدين: ذخائر العقبى ص 50 - 51 .= =الحافظ العراقي: طرح التثريب 1 / 150 . الصبان: اسعاف الراغبين ص 171
2- ابن عبد البر: الاستيعاب 3 / 1123. محب الدين: الرياض النظرة: 2 / 205. الصفوري: نزهة المجالس 2 / 24
3- النووي: تهذيب الاسماء واللغات 1 / 1 / 349
4- البيهقي: المحاسن والمساوئ ص 46 - 47. أبو نعيم: حلية الاولياء 1 / 84

أبوتراب.(1) إن من يقرأ سيرة امير المؤمنين علیه السلام ويستطلع تلك الاحاديث النبوية الصادرة عمَّن:

«وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى»(2).

ليستبعد هذا التصوير لمعاملة الإمام عليَّ علیه السلام للسيدة فاطمة علیها السلام.

قال صلی الله علیه و آله وسلم لعلي:

«أشْبهت خَلْقي وخُلُقي، وأنت من شجرتي التي أنا منها».(3) وقال صلی الله علیه و آله وسلم:

«علي خير أمتي، أعلمهم علما وأفضلهم حلما».(4) وقال صلی الله علیه و آله وسلم لفاطمة:

«زوجتك أقدم أمتي سلما، وأكثرهم علما، وأعظمهم حلما».(5)

ص: 230


1- ابن هشام: السيرة 2 / 236. ابن سعد: الطبقات 2 / 10. البخاري: الصحيح 5 / 88 - 89. الحاكم: المستدرك 3 / 151 - 2. ابن عبد البر: الاستيعاب 3 / 1118. ابن كثير: البداية والنهاية 3 / 247. الهيثمي: مجمع الزوائد 9 / 136. الهيتمي: الصواعق ص 123. يوسف محمد عمرو: أبو تراب ص 15 - 31
2- سورة النجم، الآية: 3
3- الخطيب: تاريخ بغداد 11 / 171
4- الطبراني: المعجم الكبير 1 / 194. الهيثمي: مجمع الزوائد 9 / 102.المتقي الهندي: كنز العمال 6 / 153. 392. 398
5- الاسكافي: نقض العثمانية ص 289 - 90. محب الدين: ذخائر العقبى ص 88. الرياض النظرة 2 / 240، 255. الجويني: فرائد 1 / 92. الهيثمي: مجمع الزوائد 9 / 101، 114. المتقي الهندي: كنز العمال 12 / 205

فهل يمكن تصور الإمام عليّ علیه السلام وهو يلكم فاطمة علیها السلام كما ادّعى منغم وهو يسمع قول الرسول صلی الله علیه و آله وسلم لفاطمة:

«إن الله يغضب لغضبك، ويرضى لرضاك».

وقوله صلی الله علیه و آله وسلم:

«فاطمة بضعة مني فمن أغضبها فقد أغضبني».

كما مر.

ولقد ناقض منغم نفسه، فتارة يقول إن النبي صلی الله علیه و آله وسلم يمدح عليًّا إرضاء لابنته، وتارة يقول إن عليًّا كان يتألم من النبَّي لعدم اهتمامه بابنته والأغرب من ذلك إن النبي الذي كان لا ينطق عن الهوى، يمدح عليا إرضاء لابنته وكأن عليَّا علیه السلام لم يقدم للإسلام شيئًا، ويكفي هنا أن نذكر قول احمد بن حنبل حيث يقول (ما جاء لأحد من الصحابة من الفضائل بقدر ما جاء لعليَّ بن أبي طالب)(1).

ولعدم الألمام بحوادث التاريخ وقعت بنت الشاطئ وتبعها أبو علم في الخطأ حينما ارَّخوا وقت هذه الحادثة في السنة الثانية من الهجرة، مع العلم أنه يفترض وقوعها إن صحت في السنة الثامنة بعد فتح مكة المكرمة لأن جويرية أسلمت في فتح مكة السنة الثامنة للهجرة.

وختاما ما هو تفسير هذه الحادثة؟ • هل هي مجرد فكرة طرحها الإمام علي علیه السلام على النبي صلی الله علیه و آله وسلم ولكن النبي

ص: 231


1- الحاكم: المستدرك 3 / 116. ابن عبد البر: الاستيعاب 3 / 1115. الهيتمي: الصواعق ص 118

كره ذلك، لذا عزف عنها الإمام كما صورتها إحدى روايات الحاكم(1) بدون ذلك التهويل الذي صورته الروايات الأخرى؟ • أم إنها فكرة بني المغيرة، ولا علاقة للإمام بذلك، وقد تكون تلك الفكرة من باب خلق إشكال بين النَّبي صلی الله علیه و آله وسلم والإمام عليّ علیه السلام ولكنَّها لم تنجح؟ • أم إن الرواية موضوعة لتكون مصداقاً لقوله صلی الله علیه و آله وسلم لفاطمة علیها السلام: فاطمة بضعة مني من أغضبها فقد أغضبني؟ كما أدلى بذلك ابن تيمية(2).

• إن معرفة حقيقة النبي صلی الله علیه و آله وسلم بصفته نبيا مرسلا وإنه ما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، والوحي لا يضاد الوحي.

معرفة طبيعة العلاقة التي تربط النبي صلی الله علیه و آله وسلم بالإمام علي علیه السلام من جهة والإمام علي بفاطمة علیها السلام من جهة أخرى وهي طبيعة ايجابية.

اقتصار مصدر الرواية على طفل في السادسة من عمره أو شخص لم يدخل المدينة إلّا بعد وفاة النبي صلی الله علیه و آله وسلم أو شخص مجهول.

عدم استغلال خصوم الإمام علي علیه السلام هذه الحادثة للتشنيع به.

كل ذلك دليل على أن الحادثة قد بولغ فيها كثيرا إن لم نقل أنها موضوعة!!؟

ص: 232


1- الحاكم: المستدرك 3 / 173
2- منهاج السنة: 2 / 170

أرض(1) فدك(2) أرض لم يوجف عليها المسلمون بِخيلٍ ولا رِكاب فأصبحت خالصة للرسول صلی الله علیه و آله وسلم فأعطاها لفاطمة علیها السلام وبعد وفاته صلی الله علیه و آله وسلم أعادها الخليفة أبو بكر لتكون صدقة لجميع المسلمين مستندا إلى حديث رواه عن النبي صلی الله علیه و آله وسلم مفاده: إنَّا معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة(3).

هذه المسألة أولاها ابن أبي الحديد أهمية حيث عقد فصولا ثلاثة لمناقشتها:

الفصل الأول(4): مصدر حوادث مسألة فدك، إذ يقول: (فيما ورد من الاخبار والسير المنقولة من أفواه أهل الحديث وكتبهم، لا من كتب الشيعة ورجالاتهم، لانا مشترطون على أنفسنا ألَّا نحفل بذلك، وجميع ما نورده في هذا الفصل من كتاب أبي بكر احمد بن عبد العزيز الجوهري(5) في السقيفة

ص: 233


1- لم يسهب الباحث في مناقشة هذا الموضوع لأنه من الموضوعات الممنوع مناقشتها مطلقاً في النظام البائد لذا اقتصرنا على خلاصة رأي ابن أبي الحديد
2- قرية بالحجاز تبعد عن المدينة المنورة يومين، فتحت صلحا على ان يعطوا نصف ثمارها فاصبحت خالصة للرسول صلی الله علیه و آله وسلم. أنظر البلاذري: فتوح البلدان ص 42 - 47. الحموي: معجم البلدان 4 / 238 - 40
3- اخرجه ابن سعد: الطبقات 2 / 314 - 5. البخاري: الصحيح 5 / 91. البلاذري: فتوح البلدان ص 44. الطحاوي: شرح معاني الآثار 3 / 307. مشكل الآثار 1 / 47. ابن حزم: الفصل 4 / 155. ابن الطيب: المعتمد في اصول الفقه 2 / 646
4- الشرح: 16 / 210 - 237
5- هو الشيخ المتقدم البارع أبو بكر احمد بن عبد العزيز الجوهري من رجالات القرن الرابع الهجري وله مؤلفات تاريخية اعتمدها أبو الفرج وابن أبي الحديد. أنظر: الشرح 2 / 44 - 59. الاغاني: 5 / 135 - 9، 141 - 8، 153. وانظر ترجمته: الطوسي: الفهرست ص 61. المازندراني: معالم العلماء ص 22. الخوانساري: روضات الجنات 2 / 48. الربيعي: العذيق النضيد ص 163 - 4

وفدك، وما وقع من الاختلاف والاضطراب عقب وفاة النبي صلی الله علیه و آله وسلم، وأبو بكر الجوهري هذا عالم محدث كثير الأدب، ثقة ورع، أثنى عليه المحدثون ورووا عنه مصنفاته).

وأضاف: (ونحن لا ننصر مذهبا بعينه، وإنما نذكر ما قيل، وإذا جرى بحث نظري قلنا ما يقوى في انفسنا عنه).

الفصل الثاني(1): ناقش فيه هل إن النبَّي صلی الله علیه و آله وسلم يورث أم لا؟ موضحا ذلك من خلال ما جاء في كتاب المغني للقاضي حسب الرؤية الاعتزالية، وردَّ الشريف المرتضى في كتابه الشافي في الإمامة حسب الرؤية الإمامية، وقد وقف ابن أبي الحديد ناقدا ومحللا ومؤيدا هذا وذلك حسبما يراه أقرب للصحة برأيه.

الفصل الثالث(2): ناقش فيه هل إن فدك نحلة من الرسول صلی الله علیه و آله وسلم لفاطمة علیها السلام أم لا؟ وقد تناول هذا الفصل من خلال طرحه ما جاء لدى القاضي في كتابه المغني(3) وردَّ المرتضى في كتابه الشافي، ومعلقا ومناقشا لهذا أو ذاك وخلص للقول: «فأمَّا أنا فالأخبار عندي متعارضة، يدل بعضها على أن دعوى إلارث متأخرة، ويدل بعضها على أنها متقدمة، وأنا في هذا الموضع متوقف».(4) وأضاف: «وما ذكره المرتضى من أن الحال تقتضي أن تكون البداية بدعوى النحل فصحيح، وأما إخفاء القبر، وكتمان الموت، وعدم الصلاة وكل ما ذكره المرتضى فيه فهو الذي يظهر ويقوى عندي، لأن الروايات به أكثر وأصح من

ص: 234


1- الشرح: 16 / 237 - 268
2- الشرح: 16 / 268 - 286
3- المغني: 20 / 1 / 332 - 337
4- الشرح: 16 / 286

غيرها، وكذلك القول في موجدتها وغضبها، فأما المنقول عن رجال أهل ألبيت فإنه يختلف فتارة وتارة، وعلى كل حال فميل أهل البيت إلى ما فيه نصرة أبيهم وبيتهم».(1) وأردف: «لقد كان التكرم ورعاية حق رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم وحفظ عهده يقتضي أن تعوّض إبنته بشيء يرضيها، إن لم يستنزل المسلمون من فدك وتسلم إليها تطييباً لقلبها، وقد يسوَّغ للإمام أن يفعل ذلك من غير مشاورة المسلمين، إذا رأى المصلحة فيه، وقد بعد العهد الآن بيننا وبينهم، ولا نعلم حقيقة ما كان وإلى الله ترجع الامور».(2) كانت فاطمة علیها السلام وحيدة يوم وفاة أبيها صلی الله علیه و آله وسلم لذلك كان ثقل فراقه صلی الله علیه و آله وسلم عظيما عليها، فكانت تندبه قائلة: «يا أبتاه! جنة الخلد مثواه، يا أبتاه! عند ذي العرش مآواه! يا أبتاه! كان جبريل يغشاه! يا أبتاه لست بعد اليوم أراه!». ويشار إلى أنها «كانت تشوب هذه الندبة بنوع من التظلم والتألم لأمر يغلبها».(3) ويذكر إنها تحاملت نحو القبر الشريف، وألقت بنفسها عليه مغشيا عليها فلما أفاقت أخذت حفنة من تراب القبر، وأدنتها من عينيها اللتين قرحهما البكاء وراحت تشمها وتقول(4):

ماذا على من شمَّ تربةَ أَحمدٍ *** ألَّا يشمّ مدى الزَّمانِ غواليا

ص: 235


1- الشرح: 16 / 286
2- الشرح: 16 / 286
3- الشرح: 13 / 43. ابن عبد ربه: العقد الفريد 3 / 238. الحاكم: المستدرك 3 / 178، 61. ابن الجوزي: صفة الصفوة 1 / 227
4- الشبلنجي: نور الابصار ص 46. العقاد: فاطمة الزهراء ص 49

صُبَّت عليَّ مَصائِبٌ لو أنَّها *** صُبَّتْ على الأيَّامِ عُدنَ لياليا

ولم تطل حياتها بعد النَّبي صلی الله علیه و آله وسلم إلَّا أشهرا حيث توفيت وهي في الثامنة عشرة من عمرها وكان لوفاتها ومن قبل وفاة النبَّي صلی الله علیه و آله وسلم وقع عظيم في نفس الإمام علي علیه السلام، لذا قال(1):

أرى عللَ الدنيا عليَّ كثیرةً *** وصاحبُها حتى المماتِ عليلُ

لكلِّ اجتماعٍ من خليلينِ فرقةٌ *** وكلُّ الذي دونَ الفراقِ قليلُ

وإنَّ افتقادي فاطماً بعد أحمدٍ *** دليلٌ على أنْ لا يدومَ خليلُ

ونختم كلامنا عن فاطمة الزهراء بكلمة للعقاد جديرة بالتأمل، إذ يقول: «إن في كل دين صورة للأنوثة الكاملة المقدسة يتخشع بتقديسها المؤمنون، كأنما هي آية الله من ذكر وأنثى، فإذا تقدست في المسيحية صورة مريم العذراء، ففي الإسلام لا جرم أن تتقدس صورة فاطمة البتول. ولقد أخذت الزهراء مكانها الرفيع بين أعلام النساء في التاريخ واقترن اسمها بمئات الشهداء، وظل اسم المنتسبين إليها يقض مضاجع الحكام،… وكان لاكبر دولة اسلامية شرف الإنتساب إليها، خلال ثلاثة قرون أو تزيد بل كان الانتساب إليها من أقوى الدعائم، ليس لأنَّها بنت نبي وزوجة إمام وأم لآلاف الشهداء الذين استشهدوا في سبيل الضعفاء والمحرومين والمعذبين فحسب، بل لأنها رافقت دعوة أبيها منذ بدايتها، وتأصلت في نفسها حتى

ص: 236


1- الشرح: 16 / 288. وانظر المبرد: الكامل 4 / 30، ابن عبد ربه: العقد الفريد 3 / 241. الحاكم: المستدرك 3 / 179. سبط ابن الجوزي: تذكرة ص 319. ابن كثير: البداية 8 / 11.الشبلنجي: نور الابصار ص 47

اصبحت وكأنها جزء من كيانها وطبيعتها تمدها بالثبات على الحق، والدفاع عن المظلومين مهما كان الثمن غاليا.. وظلت تكافح وتناضل إلى أن فارقت الدنيا تاركة صورة للأنوثة الكاملة المقدسة يقدسها مئات الملايين من البشر، وكأنها من اقدس آيات الله التي خلقها فيما خلق من بني الإنسان منذ بداية الخليقة وحتى نهايتها».(1) الإمامان الحسن والحسين علیهما السلام ومن فضائل الإمام علي علیه السلام انه رزق بولدين كان لهما الأثر الأكبر في تاريخ الأمة الإسلامية من زوجته فاطمة الزهراء علیها السلام وهما الحسن والحسين علیهما السلام اللذين قال فيهما رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم إنهما سيدا شباب أهل الجنة.(2)، لذا كان الإمام علي علیه السلام يفتخر بهما ويقول(3):

وسبطا أحمدٍ ولدايَ مِنها *** فاْيُكُمُ لهُ سهمٌ كسهمي

وكان رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم يدعوهما ولداه ويقول: «لكل بني أنثى عصبة

ص: 237


1- أنظر العقاد: فاطمة الزهراء ص 68. الحسيني: سيرة الأمة 1 / 137 - 138
2- الشرح: 1 / 30، 15 / 182. وانظر ابن ماجة: صحيح سنن 1 / 26. البيهقي: المحاسن والمساوئ ص 78، 93، 80. ابن عبد ربه: العقد الفريد 4 / 312. الطبراني: المعجم الكبير 3 / 35 - 41. الحاكم: المستدرك 3 / 182. أبو نعيم: حلية الاولياء 4 / 139 - 140. ابن عبد البر: الاستيعاب 1 / 391. النووي: تهذيب الاسماء 1 / 1 / 160، 163. ابن الاثير: اسد الغابة 2 / 9، 18. ابن حجر: الاصابة 2 / 330. ابن حجر: لسان الميزان 2 / 343. الهيتمي: الصواعق ص 135 - 189. المتقي الهندي: كنز العمال 13 / 93، 97 - 8، 100
3- الشرح: 4 / 122. وانظر الطبرسي: الاحتجاج 1 / 112. المازندراني 2 / 19. سبط ابن الجوزي: تذكرة ص 108. الهيتمي: الصواعق ص 131

ينتمون إليها، إلّا ولد فاطمة فأنا وليهم وأنا عصبتهم»(1)، وقال أيضاً «إن الله تعالى جعل ذرية كل نبي في صلبه وجعل ذريتي في صلب علي بن أبي طالب»(2).

وقد ناقش ابن أبي الحديد مسألة: هل يجوز أن يقال ان الحسن والحسين علیهما السلام وولدهما أبناء رسول الله وذرية رسول الله ونسل رسول الله؟ قال «نعم، لأنَّ الله تعالى سماهم (أبناءه) في قوله تعالى:

«نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ»(3).

وإنَّما عني الحسن والحسين علیهما السلام ولو أوصى لولد فلان بمال دخل فيه اولاد البنات وسمي الله تعالى عيسى ذرية ابراهيم في قوله:

«وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ» إلى أن قال:

«وَيَحْيَى وَعِيسَى»(4).

ولم يختلف أهل اللغة في أن ولد البنات من نسل الرجل».

وفسر ابن أبي الحديد قوله تعالى:

«مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ»(5).

ص: 238


1- الحاكم: المستدرك 3 / 179. الهيتمي: الصواعق ص 154. الصبان: اسعاف الراغبين ص 133
2- الجويني: فرائد 1 / 324. الهيتمي: الصواعق ص 122، 154. المتقي الهندي: كنز العمال 12 / 201. الصبان: اسعاف الراغبين ص 132
3- سورة آل عمران، الآية: 61
4- سورة الانعام، الآية: 84، وبهذه الآية احتج يحيى بن معمر على الحجاج في إثبات بنوّة الحسن والحسين للنبي صلی الله علیه و آله وسلم. الحاكم: المستدرك 3 / 180
5- سورة الاحزاب، الآية: 40

بأن ذلك يعني به زيد بن حارثة لأن العرب كانت تقول (زيد بن محمد).

على عادتهم في تبني العبيد، فأبطل الله تعالى ذلك، ونهى عن سنة الجاهلية وقال:

«ان محمدا صلی الله علیه و آله وسلم ليس أبًا لواحد من الرجال البالغين المعروفين بينكم ليعتزى إليه بالنبوة، وذلك لا ينفي كونه أبا للأطفال، الذين تطلق عليهم لفظة الرجال كأبراهيم والحسن والحسين(1)».

وتسائل ابن أبي الحديد: هل أن ابن البنت ابن على الحقيقة أم المجاز؟ فقال: «لذاهب أن يذهب إلى أنه حقيقة أصلية لأن أصل الاطلاق الحقيقة، وقد يكون اللفظ مشتركًا بين مفهومين وهو في أحدهما أشهر، ولا يلزم من كونه أشهر في أحدهما، إلا يكون حقيقة في الآخر، ولذاهب أن يذهب إلى أنه حقيقة عرفية، وهي التي كثر استعمالها، وهي في الاكثر مجاز، حتى صارت حقيقة في العرف كالراوية للمزادة، والسماء للمطر، ولذاهب أن يذهب إلى كونه مجازًا قد استعمله الشارع، فجاز إطلاقه في كل حال، واستعماله كسائر المجازات المستعملة».

«ومما يدل على اختصاص ولد فاطمة دون بني هاشم كافة بالنبي صلی الله علیه و آله وسلم انه ما كان يحل له صلی الله علیه و آله وسلم أن ينكح بنات الحسن والحسين علیهما السلام ولا بنات ذريتهما، وإن بعدت وطال الزمان ويحل له نكاح بنات غيرهم من بني هاشم من الطالبين وغيرهم، وهذا يدل على مزيد من الأقربية وهي كونهم أولاده، لأنه ليس هناك من القربى غير هذا الوجه، لأنهم ليسوا أولاد أخيه ولا أولاد أخته، ولا هناك وجه يقتضي حرمتهم عليه، إلا كونه والداً لهم وكونهم أولاداً له. فان قلت: قد

ص: 239


1- الشرح: 11 / 26 - 27

قال الشاعر(1):

بنونا بنو ابنائِنا وبناتِنا *** بنوهُنَّ ابناءُ الرجالِ الاباعدِ

وقال حكيم العرب: أكثم بن صيفي(2) في البنات يذمهن: إنَّهن يلدن الأعداء ويورثن البعداء.

قلت: إنما قال الشاعر ما قاله على المفهوم الأشهر: وليس في قول أكثم ما يدل على نفي بنوتهم، وإنما ذكر أنهن يلدن الأعداء وقد يكون ولد الرجل لصلبه عدواً، قال الله تعالى:

«إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ»(3).

ولا ينفي كونه عدوا كونه إبناً(4).

ولذلك جعل الإمام علي علیه السلام الولاية في التصرف بأمواله إلى الحسن والحسين علیه السلام لشرفهما من الرسول صلی الله علیه و آله وسلم وقد عدّ ابن أبي الحديد ذلك (رمز وازراء بمن صرف الأمر عن أهل بيت رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم مع وجود من يصلح للامر أي كان الأليق بالمسلمين والأولى أن يجعلوا الرئاسة بعده لأهله، قربة إلى رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم وتكريما لحرمته وطاعة له وأنفة لقدره صلی الله علیه و آله وسلم أن تكون ورثته سوقةً يليهم الأجانب ومن ليس من شجرته

ص: 240


1- هذا البيت لا يعرف قائله مع شهرته في كتب النحاة: أنظر مؤلف مجهول: اخبار العباس ص 131. الجاحظ: الحيوان 2 / 206. البغدادي: خزانة الأدب 1 / 213
2- أحد حكماء العرب قبل الإسلام وهو تميمي أدرك الإسلام، وحث قومه على الدخول فيه. الثعالبي: التمثيل والمحاضرة ص 36. ابن نباته: سرح العيون ص 14 - 16. ابن حجر: الاصابة 1 / 110 - 2. الآلوسي: بلوغ الارب 1 / 308، 3 / 172 - 3
3- سورة التغابن، الآية: 14
4- الشرح: 11 / 27 - 28، وانظر القرطبي: الجامع 4 / 104

وأصله. ألا ترى أن هيبة الرّسالة والنبّوة في صدور الناس أعظم إذا كان السلطان والحاكم في الخلق من بيت النبّوة وليس يوجد مثل هذه الهيبة والجلال في نفوس الناس للنبوة إذا كان السلطان الأعظم بعيد النسب من صاحب الدعوة علیه السلام).(1) وقد عقد ابن أبي الحديد فصلا عن الإمام الحسن علیه السلام(2) وقال في تحليله لصلح الحسن علیه السلام مع معاوية بأن السبب يكمن في فقدان الحسن للأنصار، فلا حيلة له ثم قال: «والذي خاضها (الغمرات) مع عدم الأنصار هو الحسين علیه السلام ولهذا عظم عند الناس قدره، فقدمه قوم كثير على الحسن علیه السلام».(3) وأكد ابن أبي الحديد أن مكانتهما عند المعتزلة هي التساوي في الفضيلة، «أمَّا الحسن علیه السلام فلوقوفه مع قوله تعالي:

«إلا أنْ تَتَّقوا»(4).

وأمَّا الحسين علیه السلام فلأعزاز الدين»(5).

أمَّا الحسين علیه السلام فقد اعتبره ابن أبي الحديد من أباة الضيم فقال (سيد أهل الإباء، الذي علم الناس الحمية والموت تحت ظلال السيوف اختياراً له على الدنية، أبو عبد الله الحسين بن علي بن أبي طالب علیه السلام، عرض عليه الأمان واصحابه، فأنف من الذل وخاف من ابن زياد أن يناله بنوع من الهوان إن لم يقتله فاختار الموت على ذلك).

ص: 241


1- الشرح: 15 / 149
2- الشرح: 16 / 9 - 52
3- الشرح: 16 / 65
4- سورة آل عمران، الآية: 28
5- الشرح: 16 / 65

حتى كأن أبيات أبي تمام ما قيلت إلَّا في الحسين علیه السلام(1):

وقدْ كانَ فوتُ الموتِ سهلًا فَردَّهُ *** إليه الحِفاظُ المُرُّ والخُلُقُ الوُعْرُ

ونفسٌ تعافُ الضيمَ حتى كأنَّهُ *** هوَ الكفرُ يومَ الروعِ أو دونَهُ الكفرُ

فأثْبَتَ في مستنقعِ الموتِ رجلَهُ *** وقال لها: من تحتِ أخمصِكِ الحَشْرُ

تردى ثياب الموتِ حمرًا فما أتى *** لها الليلُ إلَّاوهي من سندسٍ خضرُ

وأشار ابن أبي الحديد لوصف رجل شارك في حرب الحسين علیه السلام مشيرا للجانب البطولي لدى الحسين علیه السلام وأصحابه فقال: «قيل لرجل شهد يوم الطف مع عمر بن سعد ويحك! اقتلتم ذرية رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم! فقال: عضضت بالجندل، إنك لو شهدت ما شهدنا لفعلت ما فعلنا، ثارت علينا عصابة، أيديها في مقابض سيوفها، كالأسود الضارية، تحطم الفرسان يمينا وشمالاً، وتلقي أنفسها على الموت، لا تقبل الأمان، ولا ترغب في المال، ولا يحول له حائل بينها، وبين الورود على حياض المنية، أو الاستيلاء على الملك، فلو كففنا عنها رويدا لأتت على نفوس العسكر بحذافيرها فما كنا فاعلين لا أم لك».(2) النص أعلاه وإن كان يمثل تبريرا لأولئك الذين قتلوا الحسين علیه السلام لكنه يشير إلى أنهم رفضوا السلامة المشوبة بالذل والاموال، وقبلوا الموت لأنهم رأوا عزهم فيه، وقد انتقد ابن أبي الحديد الجاحظ لتجاهله ما حدث بكربلاء قائلاً:

«هذا أيضاً تحامل من أبي عثمان (الجاحظ) هلَّا ذكر قتلى الطفوف وهم عشرون سيدا من بيت واحد، قتلوا في ساعة واحدة، وهذا ما لم يقع مثله في الدنيا لا في

ص: 242


1- الشرح: 3 / 249، وانظر ديوان أبي تمام ص 329
2- الشرح: 3 / 263

العرب ولا في العجم، ولما قتل حذيفة بن بدر يوم الهباءة(1) وقتل معه ثلاث أو أربعة من أهل بيته ضربت العرب بذلك الأمثال واستعظموه، فجاء يوم الطف (جرى الوادي فطم على القرى)(2)»(3).

«وقد فسر ابن أبي الحديد موقف الجاحظ هذا بقوله: «لقد غلبت البصرة وطينتها على إصابة رأيه».(4) أهل البيت لقد عرفت تلك الأسرة التي تكونت من علي وفاطمة والحسن والحسين علیهم السلام بإسم (أهل البيت) ووصفوا بأنَّم عترة رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم أي أهله الادنين ونسله ولا تشمل رهطه وإن بعدوا وعقّب ابن أبي الحديد على قول أبي بكر يوم السقيفة:

«نحن عترة رسول الله وبيضته التي فقئت عنه» انه على سبيل المجازلأنهم بالنسبة إلى الأنصار عترة له لا في الحقيقة، كما يفاخر العدناني القحطاني بأنه ابن عم الرسول صلی الله علیه و آله وسلم وهو ليس ابن عمه حقيقة وإنما مجازا إذا قورن بالقحطاني.(5) والعترة التي بيّنها الرسول صلی الله علیه و آله وسلم هي ما أشار إليها في قوله «إنِّی تارك فيكم

ص: 243


1- الهباءة ماء بأعلى أرض نجد كان فيه يوم الهباءة بين عبس وذبيان قتل فيه حذيفة بن بدر، أنظر. ابن حبيب: المحبر ص 349. ابن رشيق: العمدة 2 / 202 - 3. الميداني: مجمع الامثال 1 / 252، 2 / 115 - 119. النويري: نهاية الارب 15 / 360 - 2
2- أي جرى سيل الوادي فدفن القرى والقرى هي مجاري المياه الصغيرة، أبو هلال العسكري: جمهرة الامثال 1 / 322، الميداني: مجمع الامثال 1 / 159
3- الشرح: 15 / 251
4- الشرح: 15 / 247
5- الشرح: 6 / 375

الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي، حبلان ممدودان من السماء إلى الأرض، لا يفترقان حتى يردا عليَّ الحوض».(1) وبين في مقام آخر أهل بيته لما طرح عليهم كساءا فنزل قوله تعالى:

«إِّنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا»(2)، فقال الرسول صلی الله علیه و آله وسلم:

«اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب الرجس عنهم».

وهم علي وفاطمة والحسن والحسين علیهم السلام(3).

وقد نعت الإمام العترة بأنها السبب(4)، وأنها راية الحق(5) قال ابن أبي الحديد (إن الإمام يشير هنا إلى نفسه وولديه، والأصل في الحقيقة نفسه(6)، حيث وصف نفسه (دليلها مكيث الكلام) أي بطيئة(7) أمَّا ولداه فهما تابعان له ونسبتهما له كنسبة الكواكب المضيئة مع طلوع الشمس المشرقة، وقد أشار

ص: 244


1- الشرح: 9 / 133، اخرجه الحاكم: المستدرك 3 / 118، 163. النووي: تهذيب الاسماء 1 / 1 / 159، 347. الخوارزمي: المناقب ص 93. سبط ابن الجوزي: تذكرة ص 322 - 3.= =الهيتمي: الصواعق ص 124، 147 - 8
2- سورة الاحزاب 33
3- الشرح: 6 / 169، 375 - 6. واخرجه الحاكم: المستدرك 3 / 117، 143، 158 - 60. ابن تيمية: منهاج السنة 2 / 121
4- الشرح: 9 / 133
5- الشرح: 7 / 85
6- الشرح: 6 / 376
7- الشرح: 7 / 85

لذلك النَّبي صلی الله علیه و آله وسلم بقوله لهما: وأبوكما خير منكما(1)).

وعدَّ الإمام علي علیه السلام أهل البيت «أزمة الحق، وأعلام الدِّين، وألسنة الصدق، فأنزلوهم منزلة القرآن». إن تحت قوله علیه السلام: فأنزلوهم منزلة القرآن، سر عظيم، وذلك أنَّه أمر المكلفين بأن يجروا العترة في الإجلال والإعظام والإنقياد لها والطاعة لأوامرها مجرى القرآن.(2) هذه الرؤية ألا تشعر بعصمة العترة؟ أشار ابن أبي الحديد لرؤية ابن متويه لعصمة الإمام علي علیه السلام وأنه لم يكن واجب العصمة حيث ان العصمة ليست شرطا في الإمامة، عند المعتزلة، إلا أن «أدلة النصوص قد دلت على عصمته، والقطع على باطنه ومغيبه، وإن هذا امر اختص هو به دون غيره من الصحابة، والفرق ظاهر بين قولنا (زيد معصوم) وبين قولنا: (زيد واجب العصمة)، لأنه إمام ومن شروط الإمام أن يكون معصوما» فالاعتبار الأول مذهب المعتزلة، والثاني مذهب الإمامية.(3) ثم ان آل البيت علیهم السلام هم (ابواب الحكم) وهي الشرعيات والفتاوى وهم ضياء الأمور، أي العقليات والعقائد، وهذا المقام العظيم لا يستطيع أن يجسر أحد من المخلوقين على ادعائه إلَّا الإمام عليّ علیه السلام فلو ادعاه غيره لكذب وكذبه الناس.(4) وقد قال علیه السلام:

ص: 245


1- الشرح: 6 / 376، وانظر ابن عبد ربه: العقد الفريد 4 / 312. الصبان: اسعاف الراغبين ص 116
2- الشرح: 6 / 373، 376
3- الشرح: 6 / 376 - 7
4- الشرح: 7 / 289

(نحن مختلف الملائكة)(1).

ولذا دعا الإمام علي الناس إلى «ورودهم ورود الهيم العطاش»، أي الحرص على أخذ العلم والدين منهم(2)، ووصف أمرهم بأنه «صعب مستعصب لا يحتمله إلَّا عبد امتحن قلبه للإيمان». «والمعنى أنهم صبرٌ على التقوى اقوياء على احتمال مشاقها، ويجوز أن يكون وضع الامتحان موضع المعرفة لأنه تحققك الشيء إنما يكون باختياره … ويجوز أن يكون المعنى: ضرب الله على قلوبهم بأنواع المحن والتكاليف الصعبة لأجل التقوى … ويجوز أن يكون المعنى أنه أخلص قلوبهم للتقوى من قولهم: امتحن الذهب، إذا أذابه فخلص إبريزه من خبثه ونفاه»(3).

وفي شرحه لقوله علیه السلام: (لا يقاس بآل محمد من هذه الأمة أحد، ولا يسوى بهممن جرت نعمتهم عليه ابدا)، قال: «لا شبهة أن المنعم أعلى وأشرف من المنعم عليه، ولا ريب أن محمَّداً صلی الله علیه و آله وسلم وأهله الأدنين من بني هاشم، - لاسيما عليَّا علیه السلام - أنعموا على الخلق كافة بنعمة لا يقدر قدرها، وهي الدعاء إلى الإسلام، والهداية إليه، فمحمَّد صلی الله علیه و آله وسلم وإن كان هدى الخلق بالدعوة التي قام بها بلسانه ويده، ونصرة الله تعالى له بملائكته وتأييده، وهو السيد المتبوع والمصطفى المنتجب، الواجب الطاعة إلَّا أن لعليِّ علیه السلام من الهداية أيضاً وإن كان ثانيا لأول ومصليا على أثر سابق ما لا يجحد ولو لم يكن إلَّا جهاده بالسيف أولا وثانيا، وما كان بين الجهادين من نشر العلوم، وتفسير القرآن وإرشاد العرب إلى ما لم تكن له

ص: 246


1- الشرح: 7 / 218
2- الشرح: 6 / 373، 377
3- الشرح: 13 / 101، 105

فاهمة، ولا متصورة، لكفى في وجوب حقه، وسبوغ نعمته علیه السلام، فإن قيل: … فأي نعمه له عليهم؟ قيل: نعمتان: الأولى منهما، الجهاد عنهم وهم قاعدون، فإن من أنصف علم أنه لولا سيف عليِّ علیه السلام لاصطلم المشركون… وقد علمت آثاره في بدر وأحد والخندق وخيبر وحنين، وإن الشرك فيها فغر فاه، فلولا أن سدّه بسيفه لالتهم المسلمين كافة، والثانية: علومه التي لولاها لحكم بغير الصواب في كثير من الاحكام وقد اعترف عمر له بذلك، والخبر مشهور، لولا عليِّ علیه السلام لهلك عمر»(1).

وأضاف: «ويمكن أن يخرج كلامه على وجه آخر، وذلك لأن العرب تفضل القبيلة التي منها الرئيس الأعظم، على سائر القبائل، وتفضل الأدنى منه نسبا، فالأدنى على سائر آحاد تلك القبيلة، فإن بني دارم يفتخرون بحاجب وإخوته، وبزرارة ابيهم على سائر بني تميم... (2) فكذلك لما كان رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم رئيس الكل والمنعم على الكل جاز لواحد من بني هاشم ولا سيما مثل عليّ علیه السلام أن يقول هذه الكلمات».(3) ومن مميزات أهل البيت علیهم السلام إن الصلة وصدقة التطوع والزكاة الواجبة محرمة عليهم وهم محمَّد وعليّ وفاطمة والحسن والحسين علیهم السلام، وأما غيرهم فتحرم عليهم الزكاة الواجبة ولا تحرم صدقة التطوع ولا الصلة. وتسائل

ص: 247


1- الشرح: 1 / 140 - 1
2- عرف هذا البيت بالوفاء وبأنهم حضان الملوك حيث تربى مالك بن المنذر بن ماء السماء لديهم. أنظر المبرد: الكامل 1 / 170. أبو هلال العسكري: جمهرة الامثال 1 / 261. القلقشندي: صبح الاعشى 1 / 379. الآلوسي: بلوغ الارب 1 / 311
3- الشرح: 1 / 141 - 2

ابن أبي الحديد: كيف يقال ان الصلة محرمة عليهم، وقد أخذ الحسن والحسين عليهما السلام الصلات من معاوية؟ فأجاب: «كلا! لم يقبلا صلته ومعاذ الله أن يقبلاها! وإنَّما قبلا منه ما كان يدفعه إليهما من جملة حقهما من بيت المال، فإن سهم ذوي القربى منصوص عليه في الكتاب العزيز ولهما غير سهم ذوي القربى سهم آخر للإسلام من الغنائم»(1).

ولما أشار علیه السلام إلى اختصاص آل البيت بخصيصة بعد الموت بقوله (أيها الناس خذوها عن خاتم النبيين صلی الله علیه و آله وسلم إنه يموت من مات منا وليس بميت، ويبلى من بلي منا وليس ببالٍ). حمل ابن أبي الحديد هذا الكلام على وجهين. «الأول:

أن يكون النبَّي صلی الله علیه و آله وسلم وعلي علیه السلام ومن يتلوهما من أطايب العترة أحياء بأبدانهم التي كانت في الدنيا بأعيانها، قد رفعهم الله تعالى إلى ملكوت سماواته، وعلى هذا لو قدرنا أن محتفرا احتفر تلك الأجداث الطاهرة عقب دفنهم لم يجد الأبدإن في الأرض، وقد روي في الخبر النبوي صلی الله علیه و آله وسلم مثل ذلك، وهو قوله «إن الأرض لم تسلط عليَّ وإنها لا تأكل لي لحما، ولا تشرب لي دما»(2). نعم، يبقى الإشكال في قوله: (ويبلى من بلي منا وليس ببالٍ)، فإنه إن صح هذا التفسير في الكلام الأول وهو قوله: (يموت من مات منا وليس بميت). فليس يصح في القضية الثانية وهي حديث البلاء، لأنها تقتضي أن الأبدان تبلى وذاك الإنسان لم يبلَ، فأحوج هذا الإشكال إلى تقدير فاعل محذوف، فيكون تقدير الكلام: يموت من مات حال موته وليس بميت فيها بعد ذلك من الأحوال والأوقات، ويبلى كفن من بلي منا وليس هو ببالٍ، فحذف المضاف كقوله:

ص: 248


1- الشرح: 11 / 249. يقصد الخمس
2- روى ما يشابهه ابن ماجه: صحيح 1 / 179، 273. ابن كثير: نهاية البداية والنهاية 1 / 278

«وَإلِى مَدْيَنَ»(1).

أي وإلى أهل مدين، ولما كان الكفن كالجزء من الميت لاشتماله عليه عبر بأحدهما عن الآخر للمجاورة والاشتمال، كما عبروا عن المطر السماء وعن الخارج المخصوص بالغائط، وعن الخمر بالكأس، ويجوز أن يحذف الفاعل كقوله تعالى:

«حَتَّى تَوَارَتْ باِلْحِجَابِ»(2).

و:

«فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ»(3).

وقول حاتم: إذا حشرجت.(4) الثاني: إن أكثر المتكلمين ذهبوا إلى أن للإنسان الحي الفعال أجزاء أصلية في هذه البنية المشاهدة وهي أقل ما يمكن أن تأتلف منه البنية التي معها يصح كون الحي حياً، وجعلوا الخطاب متوجها نحوها، والتكليف واردا عليها، وما عداها من الأجزاء فهي فاصلة ليست داخلة في حقيقة الانسان وإذا صح ذلك جاز أن ينتزع الله تلك الأجزاء الأصلية من أبدان الأنبياء والأوصياء فيرفعها

ص: 249


1- سورة الاعراف، الآية: 85
2- سورة ص، الآية: 32
3- سورة الواقعة، الآية: 83
4- قال حاتم: أماويُّ ما يُغني الثراءُ عن الفتى *** إذا حشرجَتْ يومًا وضاقَ بها الصدرُ ديوانه ص 50

إليه بعد أن يخلق لها من الأجزاء الفاضلة عنها نظير ما كان لها في الدار الأولى، كما قاله من ذهب إلى قيامه الأنفس والأبدان معا، فتنعم عنده وتلتذ بضروب اللذات الجسمانية ويكون هذا مخصوصا بهذه الشجرة المباركة دون غيرها؛ ولا عجب فقد ورد في حق الشهداء نحو ذلك في قوله تعالى:

«وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ»(1).

«وعلى الوجه الأول لو أن محتفرا احتفر أجداثهم لوجد الأبدان فيها، وإن لم يعلم أن أصول تلك البنى قد انتزعت منها ونقلت إلى الرفيق الاعلى، وهذا الوجه لا يحتاج إلى تقدير ما قدرناه أولا من الحذف، لأن الجسد يبلى في القبر إلَّا قدر ما انتزع منه ونقل إلى محل القدس، وكذلك أيضاً يصدق على الجسد انه ميت، وإن كان أصل بنيته لم يمت، وقد ورد في الخبر الصحيح (إن ارواح الشهداء من المؤمنين في حواصل طيور خضر تدور في أفناء الجنان، وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش)(2) فإذا جاء هذا في الشهداء فما ظنك بموالي الشهداء وساداتهم؟».(3)

ص: 250


1- سورة آل عمران 145
2- اخرجه مالك: الموطأ 1 / 328. ابن حنبل:المسند 6 / 386
3- لشرح: 6 / 377 - 379

الفصل الثالث خصائص الإمام علی علیه السلام الخلقیة وسجایاه النفسیة

ص: 251

ص: 252

الفصل الثالث خصائص الإمام علي الخلقية وسجاياه النفسية

إن الخصائص الخلقية، والسجايا النفسية التي امتاز بها الإمام علي علیه السلام على سائر الأمة جعلته أفضل شخصية بعد الرسول صلی الله علیه و آله وسلم، فإن فضائله علیه السلام(1) بلغت من العظم، والجلالة، والانتشار مبلغاً يسمج(2) معه التعرض لذكرها، والتصدي لتفصيلها، فصارت كما قال أبو العيناء(3) لعبيد الله بن يحيى بن

ص: 253


1- يروى عن الإمام احمد بن حنبل انه قال «ما جاء لأحد من اصحاب رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم من الفضائل ما جاء لعلي ابن أبي طالب رضی الله عنه». الحاكم: المستدرك 3 / 116. السيوطي: تاريخ الخلفاء ص 168. ووضع النسّائي أحد اصحاب السنن والصحاح الستة كتاباً في فضائل الإمام أسماه «خصائص أمير المؤمنين». والكتاب مطبوع. وأفرد ابن عساكر في تاريخ دمشق ترجمة وافية للإمام علیه السلام. هذه الترجمة نشرها محمد باقر المحمودي في كتاب مستقل. وخرج الفيروز آبادي فضائل الإمام من كتب الصحاح الستة، ونشرها في كتاب أسماه «فضائل الخمسة من الصحاح الستة» في ثلاثة أجزاء
2- سمج: قبح. الرازي: مختار الصحاح ص 312
3- محمد بن القاسم الهاشمي بالولاء، أديب مشهور بالكتابة والترسل، توفي سنة 283. أنظر ترجمته: الخطيب البغدادي: تاريخ بغداد 3 / 170 - 179. الشابشتي: الديارات ص 52 - 60. الذهبي: ميزان الاعتدال 4 / 13. ابن حجر: لسان الميزان 5 / 344 - 346

خاقان(1): «رأيتني فيما أتعاطى من وصف فضلك، كالمخبر عن ضوء النهار الباهر، والقمر الزاهر، الذي لا يخفى على الناظر؛ فأيقنت اني حيث انتهى بي القول منسوب إلى العجز مقصر عن الغاية، فانصرفت عن الثناء عليك إلى الدعاء لك، ووكلت الاخبار عنك إلى علم الناس بك»(2).

هذه المناقب التي بلغ من الشهرة والتفرد بها فرضت على اعدائه الاعتراف بها فأقروا له بالفضل، ولم يمكنهم جحد مناقبه، ولا كتمان فضائله(3)، رغم أن الأمويين اجتهدوا في إطفاء نوره، والتحريض عليه، ووضع المعايب والمثالب له، ولعنوه على جميع المنابر، وتوعدوا مادحيه بالحبس والقتل، ومنعوا من رواية الأحاديث المتضمنة لفضائله علیه السلام، حتى وصل الأمر بمنعهم التسمية باسمه - علیه السلام -، ولكن كل ذلك لم يزده إلا رفعة وسمواً، «وكان كالمسك كلما ستر انتشر عرفه، وكلما كتم تضوع نشره، وكالشمس لا تستر بالراح، وكضوء النهار إن

ص: 254


1- هو وزير المتوكل والمعتمد (209 - 263 ه): الطبري التاريخ 9 / 214، 200، 185، 171 - 222، 7 - 228، 3، 234، 236، 258، 336، 243، 354، 357 - 8، 474، 507، 517، 532. ابن عبد ربه: العقد الفريد 4 / 816، 5 / 406، 122. الشابشتي: الديارات ص 82. الذهبي: دول الإسلام 1 / 116
2- الشرح 1 / 16. وانظر الزمخشري: ربيع الابرار 4 / 157
3- أنظر وصف ضرار للامام علي إلى معاوية وبكاء الأخير. الشرح 18 / 224. أنظر الشريف الرضي: نهج البلاغة ص 480 - 481. ابن عبد البر: الاستيعاب 3 / 1107 - 8. البلوي: الف باء 1 / 222 - 3. الزمخشري: ربيع الابرار 1 / 97، 835 - 6. ابن الجوزي: صفة الصفوة 1 / 315 - 6. سبط ابن الجوزي: تذكرة ص 118 - 9. محب الدين: الرياض 2 / 281 - 2. ابن الصباغ: الفصول المهمة ص 111

حجبت عنه عين واحدة، أدركته عيون كثيرة»(1).

كان علیه السلام في الخصائص الخلقية، والفضائل النفسانية - ابن جلاها وطلاع ثناياها(2) - فكان - علیه السلام - من لطافة الأخلاق، وسجاحة الشيم على قاعدة عجيبة جميلة(3).

ففي - الشجاعة - فإنه أنسى فيها ذكر من كان قبله، ومحا اسم من يأتي بعده، حيث لما سئل خلف الأحمر(4): أيهما أشجع عنبسة وبسطام أم علي بن أبي طالب؟ فقال: إنَّما يذكر عنبسة وبسطام مع البشر والناس، لا مع من يرتفع عن هذه الطبقة، فقيل له: فعلى كل حال؛ قال: والله لو صاح في وجههما لماتا قبل أن يحمل عليهما.(5) تجدر الإشارة إلى أن بسطاماً وعنبسة هما من مشاهير فرسان العرب قبل

ص: 255


1- الشرح 1 / 16 - 17. وقد اعتبر المفيد ذلك من باب المعجزات الخارقة للعادة. الإرشاد ص 116
2- مأخوذ من بيت شعر قاله - سحيم بن وثيل الرياحي - وهو: أنا ابنُ جَلا وطَلَّاع الثنايا *** متى أضَعِ العمامةَ تعرِفوني وابن جلا: جلا أي النهار. والمقصود: الأمر الواضح، وطَلَّع الثنايا: كناية عن السمو إلى معالي الامور. والثنايا جمع ثنية وهي الطريق في الجبل. أنظر: الميداني: مجمع الامثال 1 / 31. ابن منظور: لسان العرب 18 / 165. الفيروزآبادي: القاموس المحيط 4 / 313
3- الشرح 11 / 248
4- أبو محرز بن حيان المعروف بالأحمر. ت نحو 180 ه. راوية وأديب وشاعر بصري وله ديوان ومقدمة في النحو وهو معلم الاصمعي. أنظر: ابن قتيبة: الشعر والشعراء 2 / 673 - 4. ابن النديم: الفهرست ص 74. الحموي: معجم الادباء 11 / 66 - 72. السيوطي: بغية الوعاة ص 242
5- الشرح 16 / 146

الإسلام وبعده، فالاول هو بسطام بن قيس بن مسعود الشيباني، سيد شيبان، ومن أشهر فرسان العرب قبل الإسلام، وبه يضرب المثل في الفداء فيقال: «اغلى فداء من بسطام بن قيس»(1)، وكان قد ادرك الإسلام إلا أنه لم يعتنقه، وتوفي في حدود السنة العاشرة للهجرة.(2) أما عنبسة بن سحيم الكلبي فهو من فرسان العرب المسلمين في الاندلس، تولى الاندلس للخليفة الأموي هشام بن عبد الملك، وكان من الغزاة الشجعان والفاتحين توفي سنة 107 ه اثر جرح أصابه في حروبه في الاندلس.(3) وقد يتصور البعض أن كلام خلف الأحمر فيه غلو، ولكننا لو تأملنا مقاماته في الحروب التي أصبحت مضرب الأمثال، حيث كان الشجاع الذي ما فر قط، ولا ارتاع من كتيبة(4)، بل كان يقول بأنه «آنس بالموت كأنس الطفل بثدي أمّه»(5).

والمعروف عنه علیه السلام إنه ما بارز أحداً إلا قتله، ولا ضرب ضربة فاحتاجت الأولى إلى ثانية بل «كانت ضرباته وتراً»(6).

ص: 256


1- أنظر الميداني 2 / 66
2- ابن حبيب: المحبر ص 250. المبرد: الكامل في اللغة والادب 1 / 109. ابن الاثير: الكامل في التاريخ 1 / 224. مهدي عريبي الدخيلي: بسطام بن قيس ذي الجدين، رسالة ماجستير، كلية التربية، جامعة البصرة
3- الحميدي: جذوة المقتبس 1 / 318، 2 / 507. ابن عذاري: البيان المغرب 2 / 27
4- الشرح 1 / 20
5- الشرح 1 / 213، 215. وانظر الشريف الرضي: نهج البلاغة ص 52. سبط ابن الجوزي: تذكرة ص 128
6- الشرح 1 / 50. قال ابن فارس في المجمل: كانت ضربات علي - علیه السلام - في الحرب ابكاراً، ان اعتلى قد، وان اعترض قط. المجمل 1 / 133

ويشار إلى أن الإمام عليًّا علیه السلام دعا معاوية في صفين للبراز بدلاً من إرساله لأصحابه الذين جدلهم الإمام في ساحة المعركة، وكان قصده - علیه السلام - أن يستريح الناس من الحرب بقتل أحدهما، وحينما استشار معاوية وزيره عمراً بن العاص لعله يجد عنده حيلة للتخلص من هذه المأزق لكن عمر بن العاص قال له:

لقد أنصفك. فأدرك معاوية نوايا عمرو بن العاص فقال له: ما غششتني منذ نصحتني إلا اليوم، كيف تأمرني بمبارزة أبي الحسن وأنت تعلم أنه الشجاع المطرق!(1) أراك طمعت في إمارة الشام بعدي!(2).

وقد كانت العرب تفتخر بوقوفها في الحرب في مقابلته، يشار إلى أن عبد الله ابن الزبير مازح معاوية قائلاً له: يا أمير المؤمنين، لو شئت أن أفتك بك لفعلت، فقال معاوية: لقد شجعت بعدنا يا أبا بكر! واستغرب ابن الزبير من عدم إقرار معاوية بشجاعته وقدم الدليل على ذلك وهو: وما الذي تنكره من شجاعتي، وقد وقفت في الصف إزاء علي ابن أبي طالب علیه السلام، فقال معاوية: لا جرم! إنه قتلك وأباك بيسرى يديه، وبقيت اليمنى فارغة يطلب من يقتله بها.(3) وكان ذوو قتلاه يفتخرون بقتله إياهم، ويعتبرون ذلك شرفاً لهم، حيث قالت أخت عمرو بن عبد ود الذي قتله الإمام علیه السلام يوم الخندق(4):

ص: 257


1- اطرق: الرجل يرخي عينيه ينظر إلى الارض لا يتكلم. الرازي: مختار الصحاح ص 391
2- الشرح 1 / 20، 5 / 217، وانظر المنقري: صفين ص 257. ابن قتيبة: الإمامة والسياسة ص 80
3- الشرح 1 / 21
4- بيضة البلد هو الشيء المفرد الذي لا نظير له، والمقصود هنا الإمام، وقد ورد البيت في بعض المصادر: لكنَّ قاِتلُهُ مَن لا يُعاَبُ بهِ *** وكانَ يُدعى قديماً بيضةَ البلدِ أنظر: الحاكم: المستدرك 3 / 6. المفيد: الإرشاد ص 43. ابن منظور: لسان العرب 8 / 395

لو كانَ قاتلُ عمروٍ غيَر قاتِلِهِ *** بكيتُهُ أبداً ما دُمْتُ في الأبدِ

لكنَّ قاتِلَهُ مَنْ لا نَظِیرَ لَهُ *** وكانَ يُدعى أبوهُ بيضةَ البَلَدِ

وقد وظف الإمام علیه السلام شجاعته في الجهاد في سبيل الله، حتى أصبح معروفاً لدى اعدائه وأوليائه أنه سيد المجاهدين(1)، وكانت علائم شجاعته الواضحة في مبيته في فراش الرسول صلی الله علیه و آله وسلم ليلة الهجرة في الوقت الذي أجمعت فيه قريش على ضرب الرسول صلی الله علیه و آله وسلم ضربة واحدة من قبل أربعين شخصاً ينتمون لأربعين قبيلة، فلم يعبأ علیه السلام بذلك، ولم يكتف بهذا الدور بل قام بإرجاع كل الودائع والأمانات التي كانت عند الرسول صلی الله علیه و آله وسلم لأهلها ثم هاجر علناً(2).

وإلى ذلك أشار - أبو جعفر الاسكافي - أحد معتزلة بغداد بأنه لما علم الرسول صلی الله علیه و آله وسلم بخطة قريش بقتله «دعا أوثق الناس عنده، وأمثلهم في نفسه، وأبذلهم في ذات الله لمهجته، وأسرعهم إجابة إلى طاعته، فقال له: إن قريشاً قد تحالفت على أن تبيتني هذه الليلة، فامض إلى فراشي، وَنمْ في مضجعي، والتف في بردي الحضرمي ليروا أنِّی لم أخرج، وإني خارج إن شاء الله، فمنعه أولاً من التحرز واعمال الحيلة، وصده عن الاستظهار لنفسه بنوع من انواع المكايد والجهات التي يحتاط بها الناس لنفوسهم، وألجأه أن يعرض نفسه لظبات السيوف الشحيذة من أيدي أرباب الحنق والغيظة، فأجاب إلى ذلك سامعاً

ص: 258


1- الشرح 1 / 24
2- عن موضوع مبيت الإمام علیه السلام في فراش الرسول صلی الله علیه و آله وسلم ليلة الهجرة، راجع أيًا من كتب السيرة النبوية والتاريخ العام

مطيعاً طيبة بها نفسه، ونام على فراشه صابراً محتسباً، واقياً بها بمهجته، ينتظر القتل، ولا نعلم فوت بذل النفس درجة يلتمسها صابر، ولا يبلغها طالب؛ «والجود بالنفس أقصى غاية الجود»؛ ولولا أن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم علم أنه أهل لذلك، لما أهَّله، ولو كان عنده نقص في صبره، أو في شجاعته أو في مناصحته لابن عمه، واختير لذلك، لكان من اختاره صلی الله علیه و آله وسلم منقوصاً في رأيه، مضراً في اختياره، ولا يجوز أن يقول هذا أحد من أهل الإسلام، وكلهم مجمعون على أن الرسول صلی الله علیه و آله وسلم عمل الصواب وأحسن الاختيار»(1).

كانت معركة بدر الكبرى (2 ه) هي من أعظم غزوات الرَّسول صلی الله علیه و آله وسلم وأشدها نكاية بالمشركين، وقد قتل منهم سبعون رجلاً، قتل الإمام عليّ علیه السلام نصفهم بينما قتل المسلمون والملائكة النصف الآخر(2). قال ابن أبي الحديد يمدح الإمام عليًّا علیه السلام في موقفه يوم بدر(3):

رمى اللهُ مِنْهُ يومَ بدرٍ خصومَهُ *** بذي فذذٍ في آلِ بدرٍ مبادرِ

وقد جاشَتِ الأرضُ العريضةُ بالقنا *** فلم يُلْفَ إلَّا ضامرٌ فوق ضامرِ

فلو نَتَجَتْ أمُّ السماءِ صواعِقاً *** لما شجَ منها سارحٌ رأسَ حاسِرِ

ص: 259


1- الشرح 13 / 259. وانظر الاسكافي: نقض العثمانية ص 322. وقد حاول البعض التنقص من فضيلة المبيت هذه، وتصدى للرد عليهم الاسكافي في كتابه أعلاه. أنظر: الشرح 13 / 258 - 264. الاسكافي: نقض العثمانية ص 321 - 326. الجاحظ: رسائل الجاحظ السياسية ص 153 - 155. العثمانية ص 44
2- الشرح 1 / 24، 10 / 181 - 182. وانظر الواقدي: المغازي 1 / 147 - 152. البلاذري: انساب الاشراف 1 / 296 - 304
3- ابن أبي الحديد: القصائد العلويات السبع ص 32 - 33

فكانَ وكانوا كالقطامى ناهضُ *** البغاثِ فصرى شِلوَهُ في الاظافرِ

سرى نحوَهُم رسلاً فسارتْ قلوبُهُم *** من الخوفِ وخدًا نحوه في الحناجرِ

كأن ضبات المشرفية من كرى *** فما يبتغي إلَّا مقر المحناجرِ

فلا تحسبَنَّ الرَّعدَ رجْسَ غمامهٍ *** ولكنَّه من بعضِ تلكَ الزماجرِ

ولا تحسبَنَّ البرق ناراً فإنَّهُ *** وميضٌ أَتَى من ذيِ الفِقَارِ بفاقرِ

ولا تحسبَنَّ المُزنَ تهمي فإنَّها *** أنامِلُهُ تهمي بأوطف هامِرِ

أما موقفه علیه السلام يوم الخندق فقد أجاد في وصفه ابن أبي الحديد إذ قال: «فأما الخرجة التي خرجها يوم الخندق إلى عمرو بن عبد ود، فإنَّها أجلّ من أن يقال جليلة، وأعظم من أن يقال عظيمة، وما هي إلا كما قال شيخنا أبو الهذيل وقد سأله سائل: أيهما أعظم منزلة عند الله علي علیه السلام أم أبي بكر؟ فقال يا ابن اخي، والله لمبارزة علي عمرا يوم الخندق تعدل اعمال المهاجرين والانصار وطاعتهم كلها وتربى عليها فضلا عن أبي بكر وحده»(1).

رؤية أبو الهذيل أعلاه سبق وأن أشار إليها الصحابي حذيفة بن اليمان حينما قال: «والذي نفس حذيفة بيده لو وضع جميع أعمال أمة محمد في كفة ميزان منذ بعث الله تعالى محمدًا إلى يوم الناس هذا، ووضع عمل واحد من اعمال علي في الكفة الأخرى لرجح على أعمالهم كلهم». فاعتبر أحد السامعين هذا الكلام اسرافاً فأجابه حذيفة: «يا لكع، وكيف لا يحمل، وأين كان المسلمون يوم الخندق، وقد عبر إليهم عمرو وأصحابه، فملكهم الهلع والجزع، ودعا إلى المبارزة فأحجموا فبرز إليه علي علیه السلام فقتله والذي نفس حذيفة بيده لعمله ذلك

ص: 260


1- الشرح 19 / 60

اليوم أعظم أجراً من أعمال أمة محمد صلی الله علیه و آله وسلم إلى هذا اليوم وإلى أن تقوم الساعة»(1).

وقد علق - أبو الخير مصدق بن خير النحوي(2) شيخ ابن أبي الحديد على قول عمرو بن عبد ود للإمام علي علیه السلام «لقد كان أبوك نديماً لي وصديقاً، فارجع فإني لا أحب أن أقتلك» فقال أبو الخير: «والله ما أمره بالرجوع إبقاءً عليه، بل خوفاً منه، فقد عرف قتلاه ببدر وأحد، وعلم أنه إن ناهضه قتله، فاستحيا أن يظهر الفشل، فأظهر الإبقاء والرعاء، وإنه لكاذب فيهما»(3).

ويخلص ابن أبي الحديد للقول في أن قتلى الإمام في معارك الإسلام الأولى لا معنى للاطناب فيها لأنه من المعلومات الضرورية كالعلم بوجود مكة ومصر(4).

تجدر الاشارة إلى أن خصوم الإمام علیه السلام قللوا من شأن عمرو بن عبد ود العامري وأنكروا ما يقال من شجاعته، وقد ردَّ عليهم الاسكافي في كتابه نقض العثمانية بالأدلة التي تؤكد فروسية عمرو بن عبد ود قبل الإسلام وبعده(5).

ص: 261


1- الشرح 19 / 60 - 61. وانظر المفيد: الإرشاد ص 41. االطبرسي: اعلام الورى ص 193 - 4. وانظر المعنى نفسه على لسان الرسول الشرح 19 / 60. الحاكم: المستدرك 3 / 34
2- الاديب البارع ولد في قرية دوران إحدى قرى الصلح من سواد شرقي واسط سنة 535 ه. وتوفي في بغداد سنة 605. وانظر ترجمته: الحموي: معجم الادباء 19 / 147 - 148: ابن الاثير: الكامل 12 / 282. القفطي: انباه الرواة 3 / 274 - 5. أبي شامة: ذيل الروضتين ص 66.ابن الساعي: الجامع 9 / 273 - 4. المنذري: التكملة 3 / 239 - 240. السيوطي: بغية الوعاة ص 391
3- الشرح 19 / 61
4- الشرح 1 / 24
5- الشرح 13 / 287 - 292. أنظر الجاحظ: رسائل الجاحظ السياسية ص 16 - 4. العثمانية ص 59. الاسكافي: نقض العثمانية ص 335 - 9

وقد ثمَّنَ ابن أبي الحديد موقف الامام يوم الخندق قائلاً(1):

يا هازم الاحزاب لا يثنيه عن *** خوض الحمام مدجج ومدرع

إن جهاد الامام هذا اعتبره ابن أبي الحديد من نعِم الإمام على الصحابة «وإن من أنصف علم أنه لولا سيف علي علیه السلام لاصطلم المشركون، من أشار إليه وغيره من المسلمين (كذا)، وقد علمت آثاره في بدر وأحد والخندق وخيبر وحنين، وان الشرك، فيها فَغَرَفاه، فلولا سدّه بسيفه لالتهم المسلمين كافة»(2)، ولذا يقول ابن أبي الحديد في شعره(3):

ألا إنَّما الإسلامُ لولا حسامُهُ *** كضرطَةِ عنزٍ أو قلامَةِ حافرِ

ويقول أيضاً(4):

يا قاتِلَ الأبطالِ مجدُكَ للعدا *** من غَربِ مخذَمِكَ المُهَنَّدِ أقتلُ

بذُبابِ سيفِكَ قرَّ قارعُ طودِه *** بعد التأوِّدِ واستقامَ الأميلُ

لولاكَ أصبح ثلمةً لا تُتَّقى *** أطرافها ونقيصةً لا تُكمَلُ

كم جحفلٍ للجزءِ من أجزائه *** يومَ النزال يقلُّ قولَكَ جَحْفَلُ

أثوابُهُ الزردُ المضاعَفُ نسجُهُ *** لكنَّهُ بالزاغبيّةِ مَخمَلُ

يُحيى المنيَّةَ منهُ طعنُ انجل *** برحٌ محاجرُهُ وضربٌ أهذلُ

نَهْنَهْتُ سورَتَهُ بقلبٍ قلبٍ *** ثَبْتٍ يحالِفُهُ صقيلٌ مَصقَلُ

ص: 262


1- ابن أبي الحديد: القصائد السبع العلويات ص 43
2- الشرح 1 / 141
3- ابن أبي الحديد: القصائد السبع العلويات ص 32
4- القصائد السبع ص 55 - 56

وكان علیه السلام يفتخر بشجاعته، ويوظف اسمه الأول - حيدرة - لإرهاب الخصم، وهو الاسم الذي أسمته به أمه أولاً، والمعروف أن - حيدرة - من أسماء الأسد، وفيه إشارة إلى الشجاعة(1)، وقد أصبح هذا الإسم فيما بعد إسمًا على مسمى، فكان - علیه السلام - لما برز يوم خيبر ارتجز قائلاً(2):

أنا الذي أسمتني أمِّي حيدرة وكان علیه السلام تكتنفه الملائكة(3) في حملاته الجهادية فكان صلی الله علیه و آله وسلم يبعثه، وجبريل عن يمينه، وميكائيل عن شماله، ولذلك شهد جبريل للإمام يوم أحد حينما نادى(4):

ولا فتى إلَّا عليّ *** لا سيفَ إلَّا ذو الفقار

والظاهر أن هناك شكوكاً أثيرت حول ذلك حيث يقول ابن أبي الحديد:

«وقد روى هذا الخبر جماعة من المحدثين وهو من الأخبار المشهورة، ووقفت عليه في بعض نسخ مغازي محمد بن اسحق(5)، ورأيت بعضها خالياً منه، وسألت

ص: 263


1- الشرح 1 / 12، 19 / 127. وانظر محب الدين: الرياض النظرة 2 / 205. الدميري: حياة الحيوان الكبرى 1 / 3
2- الشرح 1 / 12. وانظر: مسلم الصحيح 12 / 185. أبو الفرج: مقاتل الطالبيين ص 14. الحاكم: المستدرك 3 / 41، 116. المفيد: الإرشاد ص 50. الطوسي: الامالي ط النجف 1 / 3. ابن المغازلي: مناقب ص 178، 182. الخوارزمي: المناقب ص 6، 104. سبط ابن الجوزي: تذكرة ص 3 - 4، 26. الكنجي: كفاية الطالب ص 102
3- أنظر تحليل ابن أبي الحديد لنزول الملائكة. الشرح 1 / 157 - 164. وانظر ابن عبد البر: الاستيعاب 3 / 1101. محب الدين: الرياض 2 / 251. الجويني: فرائد 1 / 222
4- الشرح 7 / 219
5- لم أجده في القطعة التي حققها سهيل زكار. وقد ورد في سيرة ابن هشام 3 / 100. وانظر المفيد: الإرشاد ص 35. ابن المغازلي: مناقب ص 197 - 9. الخوارزمي: المناقب ص 6، 103 سبط ابن الجوزي. تذكره ص 26. الكنجي: كفاية الطالب ص 277 - 81. محب الدين: الرياض النظرة 2 / 251. ابن تيمية: منهاج السنة 3 / 13. الجويني: فرائد 1 / 252، 257 - 8

شيخي عبد الوهاب بن سكينة(1) رحمه الله عن هذا الخبر، فقال: خبر صحيح، فقلت: فما بال الصحاح لم تشتمل عليه؟ قال: أو كلما كان صحيحاً تشتمل عليه كتب الصحاح؟ كم قد أهمل جامعو الصحاح من الاخبار الصحيحة!»(2).

ولم يقتصر جهاده - علیه السلام - على عهد الرسول صلی الله علیه و آله وسلم، فإذا كان صلی الله علیه و آله وسلم قاتل على التنزيل، فعلي - علیه السلام - قاتل على التأويل(3)، لذلك كان علیه السلام أول من سن قتال

ص: 264


1- أبو احمد عبد الوهاب بن أبي مضر علي البغدادي الصوفي المعروف بابن سكينة وهي جدته أم أبيه، ولد في 519 ه ودرس علوم عصره، ورافق السمعاني صاحب الأنساب، وحدث في مكة والمدينة وبغداد والشام ومصر. وتوفي في بغداد في 607 ه. أنظر ابن الاثير: الكامل 12 / 295. المنذري: التكملة 3 / 324 - 6. الذهبي: معرفة القراء 2 / 464 - 6. الصفدي: الوافي 1 / 167 - 8. ابن كثير: البداية والنهاية 13 / 61. الجزري: غاية النهاية 1 / 480. ابن تغري بردي: النجوم الزاهرة 6 / 201. الحنبلي: شذرات الذهب 5 / 25 - 26
2- الشرح 14 / 251. يشار إلى أن الإمام البخاري ومسلمً وضعا شروطًا لتخريج الاحاديث الصحيحة ولكنهما لم يخرّجا كل الأحاديث حسب هذه الشروط، فاستدرك الحاكم النيسابوري ذلك في كتاب اسماه المستدرك على الصحيحين حيث خرج الاحاديث الصحيحة وفق شروط الشيخين ولم يخرجاها
3- روي عنه صلی الله علیه و آله وسلم إنه قال: «إن منكم من يقاتل على تأويل القرآن، كما قاتلت على تنزيله، فاستشرف لها القوم، وفيهم أبو بكر وعمر رضی الله عنه. قال أبو بكر: أنا هو. قال: لا. قال عمر: أنا هو. قال: لا، ولكن خاصف النعل يعني علياً. فأتيناه فبشرناه، فلم يرفع رأسه كأنه قد كان سمعه من رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم. الشرح 3 / 7 - 20. وانظر المنقري: صفين ص 148. الملطي: التنبيه ص 25. الحاكم: المستدرك 3 / 132. الطوسي: الامالي 1 / 260. محب الدين: الرياض 2 / 252. ابن كثير: البداية والنهاية 7 / 305، 361. المتقي الهندي: كنز العمال 12 / 211

أهل القبلة، وكان المسلمون قبله يتحاشون ذلك حتى قال الامام الشافعي: ما عرفنا قتال أهل البغي إلَّا من علي.(1) إن هذه الشجاعة جعلت من الإمام يأنف أن يموت حتف أنفه، بل القتل عنده أهون من الموت حتف أنفه، وذلك على مقتضى ما منحه الله تعالى من الشجاعة الخارقة لطبيعة البشر، ولذا نجده علیه السلام يحرض أصحابه ليجعل من طبائعهم موافقة لطباعه، وإقدامهم على الحرب كإقدامه، وهو بهذا يفعل كما يفعل الأمراء في حث جندهم، فهو هنا كما قال المتنبِّي(2):

يُكَلِّفُ سيفُ الدولةِ الجيشَ هَّمَهُ *** وقد عَجَزَتْ عنهُ الجيوشُ الخضارِمُ

ويطلبُ عندَ النَّاسِ ما عندَ نفسِهِ *** وذلكَ ما لا تدَّعِيهِ الضراغِمُ

ويفسر ابن أبي الحديد(3) سبب ذلك: «ليست النفوس كلها من جوهر واحد، ولا الطباع والأمزجة كلها من نوع واحد، وهذه خاصية توجد لمن يصطفيه الله تعالى من عباده، في الأوقات المتطاولة، والدهور المتباعدة؛ وما اتصل بنا من بعد الطوفان؛ فإنَّ التواريخ من قبل الطوفان - مجهولة عندنا -، إنَّ أحداً إن أعطي من الشجاعة والإقدام ما اعطيه هذا الرجل من جميع فرق العالم على اختلافها؛ من الترك والفرس والعرب والروم وغيرهم؛ والمعلوم من

ص: 265


1- راجع الفصل الرابع. وانظر الشرح 9 / 331. وينسب القاضي هذا القول للامام أبي حنيفة: شرح الاصول الخمسة ص 141
2- الشرح 7 / 301. وانظر ديوان المتنبي ص 289
3- الشرح 7 / 301

حاله انه كان يؤثر الحرب على السلم(1)، والموت على الحياة، والموت الذي كان يطلبه ويؤثره، إنما هو القتل بالسيف، لا الموت على الفراش كما قال الشاعر(2):

لولم يَمتْ بين أطراف الرماحِ إذا *** لماتَ - إذ لم يمتْ - من شدةِ الحزنِ

وقال آخر(3):

يستعذبونَ مناياهُم كأنُّهم *** لا ييأسونَ من الدنيا إذا قُتِلوا

بل كان علیه السلام يرى أن ألف ضربةٍ بالسيف أهون عليه من ميتة على الفراش في غير طاعة الله. وهنا يأتي التساؤل: هل الألف ضربة بالسيف أهون ألماً على المقتول من موتة واحدة على الفراش بالحقيقة، أم هذا قول قاله علیه السلام على سبيل المبالغة والتجوز، ترغيباً لأصحابه في الجهاد؟ يقول ابن أبي الحديد في جواب التساؤل: «الحالف يحلف على أحد أمرين:

أحدهما أن يحلف على ظنه واعتقاده؛ نحو أن يحلف أن زيداً في الدار، أو أني اعتقد كون زيد في الدار، أي أنا حالف ومقسم على أني أظن أن زيداً في الدار، أو إني اعتقد كون زيد في الدار. والثاني: أن يحلف، لا على ظنه بل يحلف على نفس الأمر في الخارج. فإن حملنا قسم أمير المؤمنين علیه السلام على المحمل الأول فقد اندفع السؤال؛ لأنه علیه السلام قد كان يعتقد ذلك؛ فحلف إنه يعتقد وإنه يظن ذلك؛ وهذا لا كلام فيه. وإن حملناه على الثاني فالأمر في الحقيقة يختلف، لأن المقتول بسيف

ص: 266


1- ان ملاحظة مواقف الإمام علي علیه السلام في معركة الخندق والجمل وصفين والنهروان، تعطينا انطباعاً على أنه - علیه السلام - كان يؤثر السلم على الحرب على النقيض مما أشار له ابن أبي الحديد
2- لم اهتد إلى قائله
3- لم اهتد إلى قائله

صارم معجل للزهوق لا يجد من الألم وقت الضربة ما يجده الميت دون النزع من المد والكف. نعم قد يجد المقتول قبل الضربة ألم التوقع لها، وليس كلامنا في ذلك، بل في ألم الضربة نفسها، وألف سيف صارم مثل سيف واحد، إذا فرضنا سرعة الزهوق. وأما في غير هذه الصورة نحو أن يكون السيف كالًّا، وتتكرر الضربات به، والحياة باقية بعد؛ وقايسناه بينه وبين ميت يموت حتف أنفه موتاً سريعاً، اما بوقوف القوة الغازية كما يموت الشيوخ؛ أو بإسهال ذريع تسقط معه القوة، ويبقى العقل والذهن إلى وقت الموت، فإن الموت ها هنا أهون وأقل الماً، فالواجب أن يحمل كلام أمير المؤمنين علیه السلام إما على التحريض؛ فيكون قد بالغ كعادة العرب والخطباء في المبالغات المجازية.

وإما أن يكون أقسم على أنه يعتقد ذلك، وهو صادق فيما أقسم؛ لأنَّهُ هكذا كان يعتقد بناء على ما هو مركوز في طبعه من محبة القتال، وكراهية الموت على الفراش»(1).

ولكن إذا كان الإمام طامعاً في الشهادة فهلَّا خرج إلى معاوية وحده من غير جيش؟ إن ذلك في رؤية المعتزلة غير جائز، لأنه إلقاء النفس إلى التهلكة، وللشهادة شروط متى فقدت فلا يجوز أن تحمل إحدى الحالتين على الأخرى.(2) كان للإمام علیه السلام جملة من الآداب التي يستخدمها في حروبه منها:

أولاً: الدعوة للسلم: كانت الدعوة إلى السلام هو ديدن الامام علیه السلام سواء

ص: 267


1- الشرح 7 / 300 - 303. وانظر النص في نهج البلاغة ص 180
2- الشرح 16 / 147

مع المشركين أو مع الخارجين على خلافته، فكان يحث المقابل على ترك الحرب كما فعل مع عمرو بن عبد ود العامري يوم الخندق(1)، ومع اصحاب الجمل وصفين والنهروان أيام خلافته.(2) ثانياً: كراهية الغدر: ومن آدابه العسكرية - علیه السلام - أنه كان يكره الغدر في حروبه، وكان - علیه السلام - يقول: «والله ما معاوية بأدهى مني، ولكنه يغدر ويفجر، ولولا كراهية الغدر لكنت من أدهى الناس، ولكن كل غدرة فجرة، وكل فجرة كفرة، ولكل غادر لواء يعرف به يوم القيمة. والله ما استغفل بالمكيدة، ولا استغمز بالشديدة»(3).

فلما استأذنه مالك الاشتر في معركة صفين أن يبيت(4) معاوية، قال علیه السلام إنَّ رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم نهى أن يبيت المشركون. وفي الواقع إن هذا الخلق قد توارثه بنوه من بعده(5)، إذ كانوا أصحاب دين، وليسوا من الدنيا بسبيل، وإنما يطلبونها ليقيموا عمود الدين بالإمرة فيها، فلم يستقر لهم، والدنيا إلى أهلها أميل(6).

ثالثاً: لا يدعو إلى المبارزة: كان علیه السلام لا يدعو للمبارزة، ولكنه يستجيب إذا

ص: 268


1- أنظر: الواقدي: المغازي 2 / 471. ابن هشام: السيرة 3 / 225. الطبري: تاريخ 2 / 574
2- أنظر الفصل الرابع
3- الشرح 10 / 211
4- بيت العدو: اوقع به ليلًا، وبيت امراً: دبره ليلًا. أنظر ابن فارس: المجمل ص 140. الرازي: مختار الصحاح ص 70
5- أنظر مواقف - ابراهيم بن عبد الله بن الحسن مع المنصور. أبو الفرج: مقاتل الطالبين ص 221 - 223
6- الشرح 2 / 313 - 314

دعي إليها، والسبب «لأن الداعي إليها باغ، والباغي مصروع»(1). فقد ذكر علیه السلام الحكمة والعلة، ومن خلال استقصاء السيرة الشريفة له علیه السلام لم نجده يوماً يدعو إلى مبارزة وإنما كان يدعى لها، ففي معركة بدر الكبرى دعا بنو ربيعة بن عبد شمس بنو هاشم للبراز، فخرج علي علیه السلام وقتل الوليد بن عتبة(2)، واشترك مع حمزة في قتل عتبة بن ربيعة(3)، أما في معركة أحد، فقد دعا طلحة بن أبي طلحة للبراز، فخرج له الإمام وقتله(4)، وكذلك يوم الخندق، دعاه عمر بن عبد ود العامري للبراز فخرج له الإمام علیه السلام وقتله(5)، وفي يوم خيبر(6) دعاه مرحب اليهودي للبراز فخرج إليه فقتله.(7) رابعاً: التأكيد على الروح القتالية، حيث يقول لولده الإمام الحسن علیه السلام: «يا

ص: 269


1- الشرح 19 / 60. وانظر نهج البلاغة ص 509
2- حاول البعض التقليل من شأن الوليد بن عتبة وشجاعته، وتصدى لتفنيد ذلك. الاسكافي المعتزلي: أنظر الشرح 13 / 292. الجاحظ: العثمانية ص 59. الاسكافي: نقض العثمانية ص 339
3- الشرح 14 / 130 - 1. وانظر الواقدي: المغازي 1 / 69. ابن هشام: السيرة 2 / 277. الطبري: تاريخ 2 / 445
4- الشرح 14 / 235 - 6. وانظر: الواقدي: المغازي 1 / 225 - 6. ابن هشام: السيرة 3 / 127، 151
5- الشرح 19 / 60 - 64. الواقدي: المغازي 2 / 470 - 1، ابن هشام: السيرة 3 / 224 - 5. ابن حبيب: المحبر ص 175
6- أنظر الواقدي: المغازي 2 / 655. الطبري: تاريخ 9 / 12. وقد نسب ابن اسحق مقتل مرحب لمحمد بن مسلمة الانصاري، أنظر ابن هشام: السيرة 3 / 333 - 4. الطبري تاريخ 3 / 10 - 11. الحاكم: المستدرك 3 / 394
7- الشرح 19 / 60. وللتفصيل عن مواقف الامام في حروب الرسول صلی الله علیه و آله وسلم أنظر: المفيد: الإرشاد ص 28 - 64

بني إذا بارزت أحداً فحدث نفسك بقتله» والإمام علیه السلام هنا يشير إلى جانب الروح المعنوية، فإن المقاتل إذا برز لخصمه وهو يتصور أنه سيتغلب عليه فإنه سيزداد حماسة، أما إذا تصور، بأن العدو سيقتله، فإن قواه ستنهار، وما يلبث أن ينهزم أو يقتل. ولذلك كان علیه السلام يقول: «ما لقيت أحداً إلَّا وأعانني على قتله»(1). وهنا يشير الإمام علیه السلام إلى أن الخصم يخشى الإمام ويخافه، لذلك يزداد ضعفاً مما يمكِّن الإمام من قتله.

خامساً: عدم الاهتمام بالجانب المادي (الغنيمة): كان همُّ الإمام علیه السلام هو التخلص من العدو دون الاهتمام بما يخلّفه من غنائم، ففي معرض إشارته - لمبارزة سعد بن أبي وقاص لأبي سعد بن أبي طلحة، وقتله إياه، ثم تأسفه على عدم قدرته على سلبه، حيث نهض سبيع بن عبد عوف، ونفر معه، فحالوا دون سعد، ودون سلبه، وكان سلبه أجود سلب رجل من المشركين على حد تعبير سعد بن أبي وقاص(2) علق ابن أبي الحديد قائلًا: «شتان بين علي وسعد! هذا يجاحش على السلب ويتأسف على فواته، وذاك يقتل عمرو بن عبد ود يوم الخندق، وهو فارس قريش وصنديدها ومبارزه، فيعرض عن سلبه وهو أنفس سلب! فيقول: كرهت أن أبزّ السبي ثيابه(3)، فكأن حبيباً عناه بقوله(4):

إنَّ الأسودَ ذاسودَ الغاب هِمّتها *** يومَ الكريهَةِ في المسلوبِ لا السَلْبِ

ص: 270


1- الشرح 19 / 226. وانظر: نهج البلاغة ص 531
2- الشرح 14 / 237. وانظر: الواقدي: المغازي 1 / 227
3- الشرح 14 / 237 - 8. وانظر الحاكم: المستدرك 3 / 35. المفيد: الإرشاد ص 41. البيهقي: السنن 8 / 18
4- الشرح 14 / 238. وانظر ديوان أبي تمام حبيب بن أوس الطائي ص 17

وبالاضافة لهذه الروح القتالية لدى الامام علیه السلام نجده يتميز بقوة جسدية يضرب بها المثل، حيث يقول ابن قتيبة(1): «ما صارع أحداً قط إلَّا صرعه»، وكان - علیه السلام - قد قلع باب خيبر الذي اجتمع عليه عدد من الناس ليقلبوه فلم يستطيعوا(2). وقد أشار لذلك ابن أبي الحديد في شعره(3):

يا قالِعَ البابِ الذي عن هَزِّها *** عَجَزَتْ أكفٌّ أربعونَ وأربعُ وبعد فتح مكة المشرفة صعد أعلى الكعبة حيث أكبر الأصنام - هبل - فاقتلعه وألقاه إلى الأرض(4). وفي أيام خلافته اقتلع الصخرة العظيمة بيده بعد عجز الجيش كله عنها، وقد انبط الماء من تحتها.(5)

ص: 271


1- المعارف ص 210
2- قال اليعقوبي: «واقتلع باب الحصن، وكان حجارة طوله أربع اذرع في عرض ذراعين في سمك ذراع، فرمى به علي بن أبي طالب خلفه ودخل الحصن ودخله المسلمون». تاريخ اليعقوبي 2 / 47. وانظر ابن هشام: السيرة 3 / 335. المفيد: الإرشاد ص 124، 50. الخوارزمي: المناقب ص 106. الطبرسي: اعلام الورى ص 181. الشهرستاني: الملل 1 / 204. سبط ابن الجوزي: تذكرة ص 27. محب: الدين الرياض النظرة 2 / 247. السيوطي: تاريخ الخلفاء ص 167. الصبان: اسعاف الراغبين ص 150
3- ابن أبي الحديد: القصائد السبع العلويات ص 43
4- أنظر: ابن اخي تبوك: مناقب علي بن أبي طالب ص 429. الحاكم: المستدرك 3 / 6. الخوارزمي: المناقب ص 71. ابن طلحة: مطالب السئول ص 34. سبط ابن الجوزي: تذكرة ص 27، 4. محب الدين: الرياض النظرة 2 / 265 - 6. ابن تيمية: منهاج السنة 3 / 7. الجويني: فرائد السمطين ص 249 - 250
5- الشرح 1 / 21، 3 / 204. وانظر المنقري: صفين ص 144 - 5. المفيد: الإرشاد ص 124 - 125. المرتضى: القصيدة المذهبة للسيد الحميري ص 111 - 9. الطبرسي: اعلام الورى ص 176. الاربلي: كشف الغمة 1 / 282 - 3

ولذا فقد هدد النبي صلی الله علیه و آله وسلم بني وليعة(1) قائلًا: «لتنتهين يا بني وليعة، أو لأبعثن عليكم رجلاً عديل نفسي، يقتل مقاتلكم، ويسبي ذراريكم»(2).

ونتيجة لذلك كانت الشعوب تتيمن بالامام خيراً «وتصور ملوك الفرنج والروم صورته في بيعها، وبيوت عبادتها، حاملاً سيفه، مشمراً لحربه، وتصور ملوك الترك والديلم صورته على اسيافها! كان على سيف عضد الدولة بن بويه(3)، وسيف أبيه ركن الدولة(4) صورته، وكان على سيف الب ارسلان(5) وابنه ملكشاه(6) صورته، كأنهم يتفائلون به النصر والظفر»(7).

ص: 272


1- بطن من بطون كندة، وهي من القبائل القحطانية. الجوهري: الصحاح 3 / 1304. ابن منظور: لسان العرب 10 / 293. الفيروزآبادي: القاموس المحيط 3 / 97. كحالة: معجم قبائل العرب 3 / 1253
2- الشرح 1 / 294. وانظر سبط ابن الجوزي: تذكرة ص 39 - 40
3- هو فنا خسرو بن الحسن بن بويه الديلمي المكنى أبو شجاع، أحد الأمراء البويهيين عرف بالأدب وصنفت له بعض الكتب في اللغة والادب والتاريخ. توفي ببغداد سنة 372 ه. أنظر: الثعالبي: يتيمة الدهر 2 / 257. ابن الاثير: الكامل 8 / 669 – 711 (متفرقة) 9 / 5 - 18. ابن الطقطقى: الفخري ص 40. اليافعي: مرآة الجنان 2 / 398 - 399. ابن كثير: البداية والنهاية 11 / 299 - 301. السيوطي: الوسائل ص 78
4- والد عضد الدولة ولد في 284 وتوفي 366 ه، حكم الدولة البويهية (44) سنة. أنظر ابن الاثير: الكامل 8 / 360 - 669 (متفرقة). ابن كثير: البداية والنهاية 11 / 288
5- السلطان السلجوقي ابن جفري بك، تولى السلطة بعد عمه، طغرلبك، وكانت له معارك مع البيزنطيين اهمها معركة مانزكرت. قتل سنة 465 ه. أنظر ابن كثير: البداية والنهاية 12 / 106 - 107. عبد القادر احمد اليوسف: الامبراطورية البيزنطية ص 141 - 3
6- جلال الدين والدولة أبو الفتح ابن السلطان الب ارسلان، امتدت مملكته من اقصى بلاد الترك إلى اليمن، توفي سنة 485 ه. اليافعي: مرآة الجنان 3 / 139. ابن كثير: البداية والنهاية 12 / 142 - 143
7- الشرح 1 / 28 - 29

وأضاف ابن أبي الحديد قائلاً: «ما أقول في رجل أحب كل واحد أن يتكثر به، وودّ كل أحد أن يتجمل ويتحسن بالانتساب إليه، حتى الفتوة(1) التي أحسن ما قيل في حدها: ألا تستحسن من نفسك ما تستقبحه من غيرك، فإن أربابها نسبوا أنفسهم إليه، وصنفوا في ذلك كتباً، وجعلوا لذلك إسناداً أنهوه إليه، وقصروه عليه(2)، وسموه سيد الفتيان، وعضدوا مذهبهم إليه بالبيت المشهور المروي، انه سمع من السماء يوم أحد(3):

لا فتى إلَّا عليّ *** ولا سيف إلَّا ذو الفقار وأخيراً أصبح الامام علیه السلام حسبما يرى ابن أبي الحديد موضعاً لنسبة كثير من الوقائع والمشاهد الحربية، فكان ما يدعي له العامة من الشجاعة، وقتل الابطال حتى يقال أنه حمل على سبعين ألفاً فهزمهم(4)، وقتل الجن في البئر(5)، وفتل الطوق الحديدي في عنق خالد بن الوليد(6).

ص: 273


1- أسسه الخليفة العباسي الناصر لدين الله سنة 578 ه، وهدفه اعداد الفتيان للصيد والرياضة والحرب، وقد عممه الناصر على سائر الاقاليم. أنظر: الدسوقي: الفتوة عند العرب ص 24
2- أنظر هذا السند في: الدسوقي: الفتوة عند العرب 240 - 243
3- الشرح 1 / 29. وانظر مصادره في ما مضى من هذا الفصل
4- ربما يقصد حملات الإمام علیه السلام في صفين
5- ان قتال الامام علي علیه السلام للجن ليس من أقاويل العامة: أنظر المفيد: الإرشاد 126 - 127. الطبرسي: اعلام الورى ص 180 - 181. وينسب للإمام شعر في هذا الباب. أنظر ديوان الإمام علي ص 14
6- الشرح 11 / 49، 18 / 106. وعن فتل الامام الطوق بعنق خالد أنظر الطوسي: الرسائل العشر ص 319. الراوندي: الخرائج والجرائح 2 / 915. المجلسي: بحار الانوار 17 / 256، 29 / 172

ويخلص ابن أبي الحديد للقول: «وجملة الأمر إن كل شجاع في الدنيا إليه ينتهي، وبإسمه ينادي في مشارق الارض ومغاربها»(1).

إن من مميزات البطل الشجاع الصفح والحلم فكان علیه السلام احلم الناس عن ذنب، وأصفحهم عن مسيء، وقد ظهر صحة ذلك في معاركه، فبعد معركة الجمل ظفر بمروان بن الحكم(2)، وكان من أكثر الناس عداوة له، وأ شدهم بغضاً فصفح عنه. وكان عبد الله بن الزبير يشتمه على رؤوس الاشهاد، وخطب يوم البصرة فقال: قد اتاكم الوغد اللئيم علي بن أبي طالب، وكان الإمام علیه السلام يقول: ما زال الزبير رجلاً منا أهل البيت حتى شبَّ عبد الله(3). فظفر به يوم الجمل وأخذه اسيراً، وصفح عنه قائلاً «إذهب فلا أرَيَنك» لم يزده على ذلك.

وظفر الإمام علي علیه السلام بسعيد بن العاص بعد معركة الجمل في مكة(4)، وكان له عدواً فأعرض عنه ولم يقل له شيئاً»(5).

وتجلى حلمه - علیه السلام - في موقفه من أم المؤمنين عائشة، حيث أكرمها وبعثها إلى المدينة بصحبة عشرين أمرأة من بني عبد القيس عمَّمَهن بالعمائم وقلدهن

ص: 274


1- الشرح 1 / 21. ومع كل هذه الأدلة على شجاعة الامام نجد البعض قد حاول التمويه على ذلك واعتبار ذلك تهوراً وليس شجاعة. وللتفاصيل أنظر الشرح 3 / 284 - 6. الجاحظ: العثمانية ص 47. الاسكافي: نقض العثمانية ص 333 - 334
2- ان الدراسة المتمعنة لأحداث الفتنة تشير إلى أن مروان هو المسؤول عن النهاية الأليمة للخليفة عثمان بن عفان رضی الله عنه. الشرح 2 / 142 - 156. وانظر الطبري: التاريخ 4 / 339 - 396
3- عقد ابن أبي الحديد فصلًا عن سيرة عبد الله بن الزبير. الشرح 20 / 102 - 149
4- لم يعرف عن الإمام انه ذهب إلى مكة بعد توليه الخلافة حتى استشهاده - علیه السلام -
5- الشرح 1 / 22 - 23

السيوف(1)، فلما وصلت المدينة ألقى النساء العمائم وقلن لها: إنما نحن نسوة(2).

وظهر حلمه وصفحه تجاه من حاربه من أهل البصرة، إذ شتموه ولعنوه فلما ظفر بهم رفع السيف عنهم، ونادى مناديه في أقطار العسكر: «ألا يتبع مولٍ، ولا يجهز على جريح، ولا يقتل مستأسر، ومن ألقى سلاحه فهو آمن، ومن تحيز إلى عسكر الإمام فهو آمن» ولم يأخذ أثقالهم ولا سبى ذرا ريهم، ولا غنم شيئاً من أموالهم ولو شاء أن يفعل كل ذلك لفعل، ولكنه أبى إلا الصفح والعفو، وتقبل سنة الرسول صلی الله علیه و آله وسلم يوم فتح مكة، فإنه عفا والأحقاد لم تبرد، والإساءة لم تنس(3).

وقبيل معركة صفين سيطر معاوية على شريعة الفرات فاغتنمها فرصة للقضاء على الإمام علي علیه السلام وجنده بالعطش، ولما سألهم الماء قال: لا والله ولا قطرة حتى تموت ضمئاً، فأدرك أنه لا مناص من استخدام القوة، لذا حمل على عسكر معاوية وأزاحه عن الفرات، وأصبح الماء بأكمله لدى أصحاب الإمام علي علیه السلام، هنا قال أصحابه له: إمنعهم الماء يا أمير المؤمنين كما منعوك، ولا تسقهم منه قطرة، واقتلهم بسيوف العطش، وخذهم قبضاً بالأيدي فلا حاجة بك إلى الحرب. فقال علیه السلام: لا والله، لا أكافئهم بمثل فعلهم، إفسحوا لهم عن بعض الشريعة، ففي حد السيف ما يغني عن ذلك، «فهذه إن نسبتها إلى الحلم

ص: 275


1- هل يا ترى اكتفى الامام بهذا العدد من النساء، لكي يسرن مع أم المؤمنين عبر الصحراء من البصرة إلى المدينة؟ وما الضير من ارسال الامام للرجال بصحبة النساء؟ وهو الاولى؟ ثم كيف لم يكتشف وضع النساء طوال الطريق، واحوال النساء معروفة؟
2- الشرح 1 / 83
3- الشرح 1 / 23 - 24، 250. وانظر تفاصيل أكثر في الفصل الرابع

والصفح فناهيك بها جمالاً وحسناً، وإن نسبتها إلى الدين والورع فأخلق بمثلها أن تصدر عن مثله علیه السلام»(1).

لقد كانت الدعاية المضللة التي يبثها معاوية وأتباعه في أهل الشام، لتشويه سمعة الإمام علي علیه السلام بمكان، وإلا فهذا الموقف منه كفيل بأن يفتح بصائر أهل الشام عن حقيقة الإمام وبطلان دعاوى معاوية.

وكان علیه السلام الغاية فيالصبر، فالذي يقرأ أحواله علیه السلام عند وفاة الرسول صلی الله علیه و آله وسلم والسيدة فاطمة علیها السلام وما جرى من أحداث إلى أيام خلافته علیه السلام ثم ما مني به من خروج بعض الصحابة عليه، وتخاذل أصحابه، حتى عاد البطل الضرغام يقف حائراً أمام أعدائه الذين أخذوا يغيرون على المدن كغارات الثعالب(2).

وبعد وفاة النبي صلی الله علیه و آله وسلم وقف على قبره فقال: إن الصبر لجميل إلا عنك، وان الجزع لقبيح إلا عليك، وان المصاب بك لجليل، وانه قبلك وبعدك لجلل(3).

ويؤثر عنه قوله بعد وفاة النبي - صلی الله علیه و آله وسلم - والسّيدة فاطمةعلیها السلام(4):

ذكرتُ أبا أروى فبتُّ كأنّني *** بِرَدّ الهمومِ الماضياتِ وكيلُ لكل اجتماعٍ من خليلينِ فرقةٌ *** وكلٌ الذي دونَ الفراقِ قليلُ وإن افتقاديَ فاطماً بعد أحمدٍ *** دليلٌ على أن لا يدومَ خليلُ

ص: 276


1- الشرح 1 / 23 - 24، 2 / 313. وانظر تفاصيل أكثر في الفصل الرابع
2- أنظر لمزيد من التفاصيل الفصل الرابع
3- الشرح 19 / 195. أنظر الشريف الرضي: نهج البلاغة ص 527. المحمودي: نهج السعادة 1 / 37 - 8
4- الشرح 10 / 288. وانظر المبرد: الكامل 4 / 30. الحاكم: المستدرك 3 / 179

وروي أنه علیه السلام مرَّ على قبر السِّيدة فاطمة علیها السلام فقال(1):

مالي مررتُ على القبورِ مسلّماً *** قبرَ الحبيبِ فلمْ يَردّ جوابي يا قرُ مالكَ لا تجيبُ منادياً *** أمللتَ بعدي خلّةَ الأحبابِ قالَ الحبيبُ وكيفَ لي بجوابِكُم *** وأنا رهنُ جنادلٍ وتُرابِ أكلَ الترابُ محاسِني فنسِيتُكم *** وحُجِبْتُ عن أهلي وعن أترابي فعليكُمُ منِّي السَّلامُ تقطَّعتْ *** منِّي ومِنكم خلّةُ الأحبابِ أما في - التواضع - فكان أشد الناس تواضعاً لصغير وكبير، وألينهم عريكة وأسمحهم خلقاً، وأبعدهم عن الكبر، وأعرفهم بالحق، هذه الصفات كانت ماثلة لديه قبل توليه الخلافة وبعدها «لم تغيره الإمرة، ولا أحالت خلقه الرياسة، وكيف تحيل الرياسة خلقه وما زال رئيساً! وكيف تغير الإمرة سجيته وما برح أميرا! لم يستفد بالخلافة شرفاً، ولا اكتسب بها زينة! بل هو كما قال أبوعبد الله احمد بن حنبل: «إن عليًّا علیه السلام لم تزنه الخلافة ولكنهَّ زانها» هذا يعني إن غيره قد ازدان بالخلافة وأكملت نقصه، أمَّا الإمام علیه السلام فلم يكن فيه نقص يحتاج الخلافة لإتمامه، بل كانت الخلافة ذاتها فيها نقص فتم نقصها بولايته إياها»(2).

كان علیه السلام كثيراً ما يتحدث عن نعم الله تعالى عليه، انطلاقاً من قوله تعالى «وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ»(3).

ص: 277


1- الشبلنجي: نور الإبصار ص 47
2- الشرح 1 / 51 - 52
3- سورة الضحى، الآية : 11

فنسبه البعض عن قصد أو غير قصد للتيه والزهو(1) والفخر. حيث لما قيل لعمر بن الخطاب: ولِّ عليًّا علیه السلام أمر الجيش والحرب، قال: هو أتيه من ذلك.

وكان زيد بن ثابت يقول: ما رأينا أزهى من علي وأسامة بن زيد(2).

قال ابن أبي الحديد: «إن من قيل في وصفه ما قيل، لو رقي إلى السماء وعرج في الهواء، وفخر على الملائكة والأنبياء، تعظماً وتبجحاً؛ لم يكن ملوماً؛ بل كان بذلك جديراً؛ فكيف وهو علیه السلام لم يسلك قط مسلك التعظيم والتكبر في شيء من أقواله ولا من أفعاله، وكان ألطف البشر خلقاً، وأكرمهم طبعاً، وأشدهم تواضعاً، وأكثرهم احتمالاً، وأحسنهم بشراً، وأطلقهم وجهاً، حتى نسبه من نسبه إلى الدعابة والمزاح، وهما خلقان ينافيان التكبر والاستطالة»(3).

ولقد أوضح ابن أبي الحديد(4) الدافع الذي يدفع الإمام لذكر نعم الله عليه وهو «إنَّما كان يذكر احياناً ما يذكره من هذا النوع، نفثة مصدور، وشكوى مكروب، وتنفس مهموم، ولا يقصد به إذا ذكره إلَّا شكر النعمة، وتنبيه الغافل على ما خصه الله به من الفضيلة، فإن ذلك من باب الأمر بالمعروف والحض على اعتقاد الحق والصواب في أمره، والنهي عن المنكر، الذي هو تقديم غيره عليه

ص: 278


1- التيه والزهو هو التكبر: الرازي: مختار الصحاح ص 277، 81
2- الظاهر إن نسبة التيه إلى أسامة جاءت من تعيينه من قبل الرسول صلی الله علیه و آله وسلم اميراً على الجيش الإسلامي الخارج لمحاربة الروم. وفيه عدد من كبار الصحابة. الشرح 17 / 182 وما بعده. أنظر الواقدي: المغازي 3 / 1118. ابن هشام: السيرة 4 / 291 - 299. اليعقوبي 2 / 103. الطبري: التاريخ 3 / 184. القاضي عبد الجبار: المغني 20 / 1 / 343 - 9
3- الشرح 9 / 174 - 175
4- الشرح 9 / 175

في الفضل، فقد نهى الله سبحانه عن ذلك بقوله:

«أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ»(1).

إن النص أعلاه يشير إلى مسألة تقديم المفضول على الأفضل، والملاحظ أن الإمام علیه السلام يعتبر ذلك من باب المنكر لذا ينهي عنه، ويذكر الإمام فضائله التي هي «اعتقاد الحق والصواب» بكونه الأفضل، مستشهداً بالنص القرآني الذي يؤكد على تقديم الأفضل. إذن إذا كان تقديم المفضول على الأفضل برؤية الامام التي أدلى بها ابن أبي الحديد شيئاً منكراً لذلك كان الإمام علیه السلام ينهى عنه، إذاً ما معنى اعتقاد ابن أبي الحديد بجواز إمامة المفضول مع وجود الأفضل؟ آخذين بنظر الاعتبار رؤية ابن أبي الحديد، ومن سبقه من معتزلة بغداد بأن مصدرهم الأول هو الإمام عليّ علیه السلام(2).

وكان علیه السلام معروفاً في - السخاء والجود، فنراه سخياً في أشد الحالات صعوبة، حيث نجده صائماً، يؤثر بزاده ويبقى طاوياً، حتى نزل به قوله تعالى:

«وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكيِنًا وَيَتيِمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا»(3).

ونزل فيه أيضاً:

ص: 279


1- سورة يونس، الآية: 35
2- أنظر رؤية المعتزلة في التفضيل في المدخل وفي الفصل الرابع
3- سورة الانسان، الآيتان: 9 - 10. أنظر القاضي: المغني 20 / 2 / 62. الطوسي: التبيان 10 / 211. الزمخشري: الكشاف 4 / 670. القرطبي: الجامع 19 / 128 - 133. ابن كثير: البداية والنهاية 7 / 359

«الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ باِللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً»(1).

حيث روى المفسرون أن الإمام علي علیه السلام كان يملك أربعة دراهم، فتصدق بدرهم ليلاً وآخر نهاراً، وبالثالث سراً، وبالرابع علانية(2).

وكان علیه السلام يسقي بيده نخل قوم من إليهود، حتى مجلت(3) يداه، ويتصدق بالأجرة، ويشد على بطنه حجراً. ولقد قال فيه الشعبي: كان علي علیه السلام أسخى الناس، كان على الخلق الذي يحبه الله: السخاء والجود: ما قال لسائل: لا قط(4).

وقال معاوية وهو عدوه ومبغضه الذي يجتهد في وصمه وعيبه - لمحفن بن أبي محفن الضبي(5)، قال الأخير: جئتك من عند أبخل الناس. فقال معاوية: ويحك! كيف تقول أبخل الناس، لو ملك بيتاً من تبر وبيتاً من تبن، لأنفد تبره قبل تبنه(6).

وكان سلام الله عليه - سيد الزّهاد وبدل الابدال(7) - فإليه في هذا الباب

ص: 280


1- سورة البقرة، الآية: 274
2- أنظر الواحدي: أسباب النزول ص 58. الطوسي: التبيان 2 / 357. الثعالبي: الجواهر الحسان 1 / 223. الزمخشري: الكشاف 1 / 319. القرطبي: الجامع 3 / 347. وانظر عند غير المفسرين: الاسكافي: نقض العثمانية ص 319. سبط ابن الجوزي: تذكرة ص 13 - 14. ابن تيمية: منهاج السنة 4 / 62. الجويني: فرائد 1 / 356. القسطلاني: إرشاد الساري 3 / 26
3- المجل: أن يكون بين الجلد واللحم ماء، أو هي قشرة رقيقة يجتمع فيها ماء من اثر العمل. ابن فارس: المجمل 3 / 823. الفيروزآبادي: القاموس 4 / 49
4- الشرح 1 / 21 - 22
5- لم أجد له ترجمة
6- الشرح 1 / 22. وانظر ابن قتيبة: الإمامة والسياسة ص 86
7- الابدال قوم صالحون لا تخلو الدنيا منهم فإذا مات أحدهم استبدله الله بآخر. الرازي: مختار الصحاح ص 44

تشد الرحال، وعنده تنفض الاحلاس(1). فهو الذي ما شبع من طعام قط، وكان علیه السلام أخشن الناس ملبساً ومأكلاً، دخل عليه أحد أصحابه يوم عيد فقدم إليه جراباً(2) مختوماً فيه خبز شعير يابس مرضوض، فأكل علیه السلام منه، فقال له:

يا أمير المؤمنين، فلماذا تختمه فقال: خفت هذين الولدين أن يلتاه(3) بسمن أو زيت. وكان ثوبه علیه السلام مرقوعاً تارة بجلد وأخرى بليف، ونعلاه من ليف، ويلبس الكرباس(4) الغليظ، فإذا وجد كمه طويلًا قطعه شفره، ولم يخطه، فكان لا يزال متساقطاً على ذراعيه حتى يبقى سدى لا لحمةً له. وكان يأتدم إذا ائتدم بخلٍّ أو ملح، فإن ترقى عن ذلك فبعض نبات الأرض، فإن ارتفع عن ذلك فبقليل من ألبان الإبل. وكان علیه السلام لا يأكل من اللحم إلّا قليلاً، حيث يقول: لا تجعلوا بطونكم مقابر للحيوان. ومع ذلك كان أشد الناس قوة، وأعظمهم يداً، لا ينقض الجوع قوته ولا يخون إلّا قلال منته. وهو الذي طلق الدنيا، وكانت الأموال تجبى إليه من جميع بلاد الإسلام ما عدا الشام، فكان يفرقها(5) ويقول:

ص: 281


1- حلس البيت: كساه ببسط تحته حر الثياب. ابن فارس: المجمل 1 / 248. الرازي: مختار الصحاح ص 149
2- هو المزود أو الوعاء. الفيروزآبادي: القاموس 1 / 45
3- اللت هو الدق والشد والفت والسحق، واللات سمي بالذي كان يلت عنده السويق بالسمن. الفيروزآبادي: القاموس 1 / 156
4- ثوب من القطن الأبيض، والبائع له يدعى الكرابيسي، وهو لفظ معرب. ابن منظور: لسان العرب 8 / 78 - 9
5- الشرح 1 / 26

هذا جنايَ وخيارُهُ فيهِ *** إذ كلُّ جانٍ يدُهُ إلى فِيهِ ولما سئل علیه السلام: لم ترقع قميصك؟ قال: ليخشع القلب، ويهتدي بي المؤمنون(1).

وكان علیه السلام بعد أن يوزع الاموال يصلي في بيت المال، ويقول: يا صفراء يا بيضاء غري غيري، وهو الذي لم يخلف ميراثاً(2)، وكانت الدنيا بيده ما عدا الشام(3).

وفي شرحه لقوله علیه السلام: والله لدنياكم هذه أهون في عيني من عراق خنزير في يد مجذوم. قال ابن أبي الحديد: لعمري لقد صدق - ومازال صادقاً - حيث ان من تأمل سيرته في حالتي خلوه من العمل وولايته الخلافة عرف صحة هذا القول(4).

ويخلص ابن أبي الحديد للقول في أمر الأموال: إن أمير المؤمنين علیه السلام لم يكن يذهب في خلافته مذهب الملوك الذين يصانعون بالاموال ويصرفونها في مصالح ملكهم، وملاذ أنفسهم، وانه علیه السلام لم يكن من أهل الدنيا وإنَّما كان رجلاً

ص: 282


1- الشرح 9 / 235 - 6. الشريف الرضي: نهج البلاغة ص 486. وانظر البلاذري: انساب الاشراف 2 / 129. الزمخشري: ربيع الابرار 4 / 128. ابن الجوزي: صفة الصفوة 1 / 318
2- قال الحسن بن علي بعد استشهاد الامام - علیه السلام -: «لقد قبض في هذه الليلة رجل ما خلّف صفراء ولا بيضاء إلَّا سبعمائة درهم بقيت من عطائه، أراد أن يبتاع بها خادماً لأهله». أبو الفرج: مقاتل الطالبيين ص 32 - 33
3- الشرح 1 / 22
4- الشرح 19 / 67. أنظر نهج البلاغة ص 510

متألها صاحب حق، لا يريد بالله ورسوله بدلاً(1).

ويروى أنَّه علیه السلام علم بأن قاضيه - شريح بن الحارث(2) - اشترى داراً بثمانين ديناراً، فنظر إليه - علیه السلام - نظر مغضب وقال: «يا شريح، أما إنه سيأتيك من لا ينظر في كتابك، ولا يسألك عن بيتك، حتى يخرجك منها شاخصاً، ويسلمك إلى قبرك خالصاً. فانظر يا شريح لا تكون ابتعت هذه الدار من غير مالك، أو نقدت الثمن من غير حلالك، فإذا أنت قد خسرت دار الدنيا ودار الآخرة.

أَمَّا إنَّكَ لو كنت أتيتني عند شرائك ما اشتريت، لكتبت إليك كتاباً على هذه النسخة… »(3).

وبعد أن أورد ابن أبي الحديد نص الصيغة التي كتبها الإمام إلى شريح علق قائلاً: وموضع الاستحسان من هذا الفصل - وإن كان كله حسناً - أمران:

أحدهما: إنه علیه السلام نظر إليه نظر مغضب، إنكاراً لابتياعه داراً بثمانين ديناراً. وهذا يدل على زهد شديد في الدنيا عند الإمام علیه السلام واستكثار للقليل منها، ونسبه هذا المشتري للاسراف، وخوف من أن يكون ابتاعها بمال حرام.

الثاني: إنه أملى عليه كتاباً زهدياً وعظياً، مماثلاً لكتب الشروط التي تكتب في ابتياع الأملاك(4).

ص: 283


1- الشرح 2 / 202 - 203
2- هو شريح بن الحارث بن قيس الكندي، تولى قضاء الكوفة في خلافة عمر وعثمان وعلي علیه السلام ومعاوية، توفي سنة 78 ه. أنظر أبو نعيم؛ حلية الاولياء 4 / 132 - 141. ابن حجر: الاصابة 2 / 146
3- الشرح 14 / 27. وانظر سبط ابن الجوزي: تذكرة ص 149 - 150
4- الشرح 14 / 30 - 31

إن زهداً كهذا أثار إعجاب ابن أبي الحديد «فسبحان من منح هذا الرجل هذه المزايا النفيسة والخصائص الشريفة … وخرج أزهد الناس في الدنيا، وأعفهم، مع أن قريشاً ذوو حرص ومحبة للدنيا… »(1).

ولكن إذا كان الإمام علیه السلام على هذه الدرجة من الزهد، فما معنى قوله:

«وانتظرنا الغير انتظار المجدب المطر».

أليس هذا الكلام يدل على ترقبه الفرصة لتولي الخلافة وهذا لا يطابق كلامه في طلاقه للدنيا.

والواقع انه علیه السلام طلق الدنيا أن لا يقبل منها حظاً دنيوياً، وهذا لا يعني أن لا ينهى عن المنكر وإقامة الدين، ولا سبيل لذلك إلا بتولي الخلافة(2).

وقد عابت العثمانية(3) على الإمام علیه السلام بأَنَّهُ خلف عقاراً كثيراً، أي نخلًا بينما مات أبو بكر ولم يخلف ديناراً ولا درهماً.

هذه الرؤية فندَّها ابن أبي الحديد بقوله: «قد علم كل أحد أن عليّاً علیه السلام استخرج عيوناً بكدّ يده بالمدينة، وينبع(4)، ..............................

ص: 284


1- الشرح 16 / 146
2- الشرح 9 / 152 - 153. أنظر نهج البلاغة ص 212
3- هم المناصرون لقضية الخليفة عثمان بن عفان والمؤيدون لمعاوية. وقد وضع الجاحظ رسالة بإسم العثمانية فصل فيها آراء العثمانية. وقد رد عليه الاسكافي في كتاب أسماه نقض العثمانية. والكتابان مطبوعان. أنظر رسائل الجاحظ السياسية ص 192 - 3. وانظر:بلقاسم الغالي: الجانب الاعتزالي عند الجاحظ ص 328 - 331
4- تقع بين مكة والمدينة ذات نخل وزروع وعيون وماء عذبة غزيرة. أنظر عرام بن الاصبغ السلمي: اسماء جبال مكة وتهامة، منشور ضمن نوادر المخطوطات 2 / 397 - 8. الحموي: معجم البلدان 5 / 449 - 450

..............وسويعة(1)، وأحيا بها مواتاً(2) كثيراً، ثم أخرجها من ملكه، وتصدق بها على المسلمين، ولم يمت وشيء منها في ملكه، ألا ترى إلى ما تضمنته كتب السير والاخبار من منازعة زيد بن علي(3) وعبد الله بن الحسن(4) في صدقات علي علیه السلام(5)، ولم يورث علي - علیه السلام - بنيه قليلًا من المال ولا كثيراً إلَّا عبيده وإماءه وسبعمائة درهم من عطائه(6)، تركها ليشتري بها خادماً لأهله قيمتها ثمانية وعشرون ديناراً على حسب المائة اربعة دنانير، وهكذا كانت المعاملة بالدراهم إذ ذاك، وإنما لم يترك أبو بكر قليلاً ولا كثيراً لأنه ما عاش،

ص: 285


1- موضع قرب المدينة يسكنه آل علي بن أبي طالب علیه السلام زمن ياقوت الحموي. أنظر الحموي: معجم البلدان 3 / 286
2- الارض الموات: هي الأرض المتروكة التي يحتاج زرعها إلى استصلاح. مالك بن أنس: الموطأ 2 / 287 - 8. البلاذري: فتوح البلدان ص 453. الشريف الرضي: المجازات النبوية ص 255. الجرجاني: التعريفات ص 123
3- هو زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، قتل في الكوفة سنة 121 ه على يد والي الكوفة يوسف بن عمرو أيام هشام بن عبد الملك ويعرف بزيد الشهيد، وتنسب إليه الفرقة الزيدية أنظر: اليعقوبي: تاريخ 2 / 73 - 75. أبو الفرج: مقاتل الطالبيين ص 86 - 102
4- عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب المعروف بالمحض لأنه أول من ولد من الحسن والحسين وعرف بالفضل والحسن والمنطق، مات في حبس الهاشمية حيث حبسه المنصور بسبب تغيب ولده محمد ذي النفس الزكية. الطبري 7 / 539 - 551 ..أبو الفرج: مقاتل الطالبيين ص 122 - 125
5- أبو الفرج: مقاتل الطالبيين ص 90
6- أبو الفرج: مقاتل الطالبيين ص 33

ولو عاش لترك. ألا ترى أن عمراً اصدق أم كلثوم أربعين ألف درهم(1)، ودفعها إليها! وذلك لأن هؤلاء طالت أعمارهم، فمنهم من درت عليه اخلاف التجارة ومنهم من كان يستعمر الارض ويزرعها(2)، ومنهم من استفضل من رزقه من الفيء»(3).

مضافاً لذلك أن الإمام عليّاً - علیه السلام - فضلهم لأنه كان يعمل بيده، ويحرث الأرض ويسقي الماء، فيغرس النخل، كل ذلك يباشره بنفسه الشريفة، ومع ذلك فإنه لم يستبق لا لنفسه ولا لأولاده قليلاً ولا كثيراً، وإنَّما جعلها صدقة(4).

والمعروف ان الرسول صلی الله علیه و آله وسلم قد توفي وله ضياعاً كثيرة في خيبر وفدك وبني النضير، وكان له صلی الله علیه و آله وسلم وادي نخلة وغيره بالطائف، فصارت بعد موته صدقة بالخبر الذيرواه أبو بكر(5)، فإذا كان علي معاباً في تركه ضياع فكذلك صدقه الرسول صلی الله علیه و آله وسلم،

ص: 286


1- أنظر: ابن عبد البر: الإستيعاب 4 / 1955. ابن الاثير: اسد الغابة 5 / 615. ابن حجر: الاصابة 4 / 492. إن مسألة وجود بنت للإمام علي علیه السلام باسم أم كلثوم لم يثبت تاريخيا، وإنَّما هي كنية لابنته الوحيدة من السيدة فاطمة وهي زينب الكبرى علیها السلام
2- وكان للزبير خطط بالاسكندرية والكوفة والبصرة وغلات بالمدينة. ابن سعد: الطبقات 3 / 110. وانظر نجمان ياسين: تطور الاوضاع الاقتصادية ص 252 - 258
3- الشرح 15 / 146
4- الشرح 15 / 147
5- لما توفي النَّبي صلی الله علیه و آله وسلم كانت تركته (1) سبعة حوائط لمخيريق اليهودي أوصى بها للنَّبي قبل استشهاده في أحد (2) ما وهبه الأنصار للنبي من أراضيهم التي لا يبلغها الماء (3) أرض بني النضير التي افاء الله بها على النبي صلی الله علیه و آله وسلم (4) ثلاثة حصون في خيبر (5) فدك (6) ثلث وادي القرى (7) سوق بالمدينة يسمى سوق مهزور. ولمزيد من التفاصيل أنظر: مرتضى العسكري: معالم المدرستين 2 / 168 - 177

وهذا كفر وإلحاد؛ ثم إذا كان الرسول صلی الله علیه و آله وسلم ترك تلك الضياع صدقة، فذلك لم يروه إلا شخص واحد من المسلمين، أما ترك الإمام عليّ علیه السلام ضياعه صدقه فقد رواه جميع المسلمين بالمدينة. فالتهمة في هذا الباب أبعد على حد تعبير ابن أبي الحديد(1).

وفيما يخص - سجاحة الاخلاق، وبشر الوجه، وطلاقة المحيا والتبسم - فهو المضروب به المثل. قال صعصعة بن صوحان واصفاً الامام:

«كان فينا كأحدنا، لين جانب، وشدة تواضع، وسهولة قياد، وكنا نهابه مهابة الأسير المربوط للسياف الواقف على رأسه». وقال معاوية لقيس بن سعد(2): «رحم الله أبا حسن، فلقد كان هشاً بشاً ذا فكاهة فعلم قيس مراد معاوية فقال: نعم، كان رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم يمزح ويبتسم إلى أصحابه: وأراك تسر حسواً في ارتغاء(3)، وتعيبه بذلك! أما والله لقد كان مع تلك الفكاهة والطلاقة، أهيب من ذي لبدتين قد مسه الطوى؛ تلك هيبة التقوى، وليس كما يهابك طغام أهل الشام.(4) هذا الخلق بقي متوارثاً في محبي الإمام وأوليائه، في الوقت الذي بقي الجفاء والخشونة والوعورة في الجانب الآخر، حتى أن من له أدنى معرفة بأخلاق

ص: 287


1- الشرح 15 / 147
2- قيس بن سعد بن عبادة الخزرجي من أصحاب الرسول صلی الله علیه و آله وسلم والإمام علي علیه السلام و أحد دهاة العرب. ابن عبد البر: الإستيعاب 3 / 1289 - 1293. ابن حجر: الاصابة 3 / 249
3- مثل يضرب لمن يقول شيئاً ويريد غيره. أنظر الميداني: مجمع الامثال 1 / 89. ابن منظور: لسان العرب 19 / 46، مادة (رغا). النويري: نهاية الارب 3 / 60
4- الشرح 1 / 25

الناس يعرف ذلك(1).

وعدَّ ابن أبي الحديد موافقة الإمام علیه السلام على مشاركة - أوس بن خولّی - وهو من الأنصار في تجهيز الرسول صلی الله علیه و آله وسلم ودفنه دليلاً على كرم الإمام علیه السلام، وسجاحة أخلاقه، وطهارة شيمته، حيث لم يضن بهذا المقام الشريف عن أوس بن خولي الانصاري! فكم بين هذه السجية الشريفة وبين قول القائل: لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما غسّل الرّسول صلی الله علیه و آله وسلم إلّا نساؤه، و لو كان في ذلك المقام غير الإمام من ذوي الطباع الخشنة وأرباب الفظاظة والغلظة، ولو سأل أوس عن ذلك - لزجر وانتهر ورجع خائباً(2).

إن - الدعابة - من مميزات كثير من الحكماء والعلماء، وهي دعابة مقتصدة لا مسرفة لأن الإسراف يخرج صاحبه إلى الخلاعة(3)، ولكن هذه الفضيلة التي امتاز بها الإمام علي علیه السلام اعتبرت من قبل البعض منقصة، حيث جعلها عمر بن الخطاب السبب الذي يمنعه من أن يعهد بالخلافة للإمام قائلاً له: لله أنت، لولا دعابة فيك(4).

وقد وظف - عمرو بن العاص - رؤية عمر بن الخطاب هذه في صراعه مع الإمام علي علیه السلام حيث قال لأهل الشام: إن الإمام علیه السلام ذو دعابة شديدة يعافس

ص: 288


1- الشرح 1 / 26
2- الشرح 13 / 40 - 41. يقصد بالقائل لو استقبلت من امري... السيدة عائشة، اما صاحب الطباع الخشنة فيقصد الخليفة عمر بن الخطاب
3- الشرح 19 / 16. وقد كتب روكس العزيزي مقالًا رائعاً اوضح فيه ان الدعابة من الصفات الطيبة المطلوبة في رجال المجتمع. أنظر الإمام علي اسد الإسلام وقديسه ص 178 - 182
4- الشرح 1 / 25، 186، 6 / 326

ويمارس النساء، مما دعا الإمام عليًّا علیه السلام للرد عليه قائلاً: عجباً لابن النابغة! يزعم لأهل الشام أن فيَّ دعابه، وأني امرؤ تلعابه أعافس وأمارس! لقد قال باطلاً ونطق آثماً(1).

لقد اوضح ابن أبي الحديد السبب الذي دفع عمر بن الخطاب لاعتبار دعابة الإمام منقصة قائلاً: «وأعلم أن الرجل ذا الخلق المخصوص، لا يرى الفضيلة إلا في ذلك الخلق، ألا ترى أن الرجل يبخل فيعتقد أن الفضيلة في الإمساك والبخيل يعيب أهل السماح والجود، وينسبهم إلى التبذير، وإضاعة الحزم، وكذلك الرجل الجواد يعيب البخلاء وينسبهم إلى ضيق النفس وسوء الظن وحب المال، والجبان يعتقد أن الفضيلة في الجبن، ويعيب الشجاعة، ويعتقد كونها خرقاً وتغريراً بالنفس: كما قال المتنبي(2):

يرى الجبناءُ أنَّ الجبنَ حزمٌ والشجاع يعيب الجبان، وينسبه إلى الضعف ويعتقد أن الجبن ذل ومهانة! وهكذا القول في جميع الاخلاق والسجايا المقتسمة بين نوع الانسان»(3).

وأضاف قائلاً «ولما كان عمر شديد الغلظة، وعر الجانب، خشن الملمس، دائم العبوس، كان يعتقد أن ذلك هو الفضيلة، وأن خلافه نقص، ولو كان سهلاً طلقاً مطبوعاً على البشاشة، وسماحة الخلق، لكان يعتقد أن ذلك هوالفضيلة وأن خلافه نقص، حتى لو قدرنا أن خلقه حاصل لعلي علیه السلام وخلق علي

ص: 289


1- الشرح 1 / 25، 6 / 280. وانظر: الشريف الرضي: نهج البلاغة ص 115. ابن الاثير: النهاية 1 / 194
2- ديوان المتنبي ص 324. وعجزه: وتلك خديعة الطبع اللئيم
3- الشرح 6 / 327

حّاصل له، لقال في علي علیه السلام: لولا شراسة فيه، فهو غير ملوم عندي فيما قاله، ولا منسوب إلى أنه أراد الغض من علي، والقدح فيه، ولكنه أخبر عن خلقه، ظاناً إن الخلافة لا تصلح إلا لشديد الشكيمة، العظيم الوعورة، ولمقتضى ما كان يظنهّ من هذا المعنى تمم خلافة أبي بكر بمشاركته إيَّاه في جميع تدابيراه وسياسته وسائر احواله(1) لرفق وسهولة كانت في أخلاق أبي بكر، وبمقتضى هذا الخلق المتمكن عنده، كان يشير على رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم في مقامات كثيرة، وخطوب متعددة، بقتل قوم كان يرى قتلهم، وكان النبي صلی الله علیه و آله وسلم يرى استبقائهم واستصلاحهم، فلم يقبل علیه السلام مشورته على هذا الخلق»(2).

كان الخليفة عمر صعباً، عظيم الهيبة، شديد السياسة، لا يميل إلى أحد ولا يراقب شريفاً أو مشروفاً، ولذا فأكابر الصحابة كانوا يتفادون لقاءه(3). وكان في أخلاقه وألفاظه خشونة ظاهرة، يحسبه السامع لها أنه إراد بها ما لم يكن قد إراد، ويفهم من تحكى له أنه قصد به ظاهراً ما لم يقصده كالكلمة التي قالها في مرض الرسول صلی الله علیه و آله وسلم(4)، ومعاذ الله أن يقصد بها ظاهرها ولكنه أرسلها على مقتضى خشونة غريزته، ولم يتحفظ منها، وكان الأحسن أن يقول مغموراً أو

ص: 290


1- ان استقراء الروايات التاريخية توضح ان عمر بن الخطاب كان بمثابة الوزير لأبي بكر، ومن بين ذلك طلب الخليفة من أسامة بن زيد امير الجيش الخارج لحرب الروم البيزنطيين بان يسمح إلى عمر بن الخطاب بالبقاء مع الخليفة. أنظر الشرح 17 / 175 - 6
2- الشرح 6 / 327 - 328
3- الشرح 1 / 173 - 183
4- البخاري: الصحيح 1 / 65 - 66

مغلوباً بالمرض، وحاشاه أن يعني بها غير ذلك(1).

وفي تعقيبه على وصف عمر لبيعة أبي بكر بأنها فلتة وقى الله شرها(2)، قال ابن أبي الحديد: «إعلم أن هذه اللفظة من عمر مناسبة للفظات كثيرة كان يقولها بمقتضى ما جبله الله تعالى عليه من غلظ الطينة، وجفاء الطبيعة، ولاحيلة له فيها، لأنه مجبول عليها لا يستطيع تغييرها، ولا ريب عندنا إنه كان يتعاطى أن يتلطف، وأن يخرج ألفاظه مخارج حسنة لطيفة، فينزع به الطبع الجاسي، والغزيرة الغليظة، إلى أمثال هذه اللفظات، ولا يقصد بها سوءاً، ولا يريد بها ذماً، ولا تخطئة، كما قدمنا من قبل في اللفظة التي قالها في مرض الرسول صلی الله علیه و آله وسلم وكاللفظات التي قالها عام الحديبية(3) وغير

ص: 291


1- الشرح 1 / 183. كم يناقض ابن أبي الحديد نفسه فهو في تحليله لموقف عمر من وفاة النبي صلی الله علیه و آله وسلم ينفي أن عمراً تصور أن النبي صلی الله علیه و آله وسلم لم يمت كما كان يدّعي، وإنَّما كان لديه مقاصد من إعلانه هذا. راجع التفاصيل في الفصل الرابع
2- الشرح 2 / 26 - 27، 13 / 224. الاسكافي: نقض العثمانية ص 286. القاضي عبد الجبار: المغني 20 / 1 / 339. وقد نسب الجوهري هذا القول للخليفة أبي بكر نفسه. الشرح 6 / 47
3- قال ابن هشام: «فلما التأم الأمر ولم يبق إلا الكتاب، وثب عمر بن الخطاب فأتى أبا بكر قال: يا أبا بكر، أليس برسول الله؟ قال: بلى، قال: أولسنا بالمسلمين؟ قال: بلى، قال: أوليسوا بالمشركين؟ قال: بلى. قال: فعلام نعطي الدنيَّة في ديننا؟ قال أبو بكر: يا عمر الزم غرزه، فإني أشهد أنه رسول الله، قال عمر: وأنا أشهد أنه رسول الله، ثم أتى رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم فقال: يا رسول الله ألست برسول الله؟ قال: بلى. قال: أوليسوا بالمشركين؟ قال: بلى. قال: فعلام نعطي الدنيَّة في ديننا؟ قال: أنا عبد الله ورسوله، لن أخالف امره، ولن يضيعني! قال: فكان عمر يقول: ما زلت أتصدق وأصوم وأصلي وأعتق من الذي صنعت يومئذ! مخافة كلامي الذي تكلمت به، حتى رجوت أن يكون خيرا». السيرة النبوية 3 / 317. وانظر: صحيح مسلم 12 / 141. الملطي: التنبيه ص 8. ابن الجوزي: مناقب عمر بن الخطاب ص 44 - 45

ذلك، والله تعالى لا يجازي المكلف إلا بما نواه، ولقد كانت نيته من أطهر النيات، وأخلصها لله سبحانه وللمسلمين، ومن أنصف علم أن هذا الكلام حق»(1).

لما وقع بعض المشركين أسرى يوم بدر، أشارت الروايات أن الرسول صلی الله علیه و آله وسلم استشار المسلمين في امرهم، فكان رأي أبي بكر الفداء، فيما أشار عمر بن الخطاب بالقتل(2)، قال ابن أبي الحديد: فكان الصواب مع عمر ونزل القرآن بموافقته(3).

أما في الحديبية فقد أشار عمر بالحرب وكره الصلح، فنزل القرآن بضد ذلك(4)، إذ ليس كل وقت يصلح لتجريد السيف، والسياسة لا تجري على

ص: 292


1- الشرح 2 / 27. ولكن الله سبحانه وتعالى يقول: «مَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا». ونلاحظ من عمر كثرة المعارضة للنبي صلی الله علیه و آله وسلم، فلِمَ هذا الشك في ما يأتي به النبي صلی الله علیه و آله وسلم؟!!
2- الشرح 14 / 173 - 175. وانظر الواقدي: المغازي 1 / 107. الحاكم: المستدرك 3 / 24. الطوسي: الامالي ط النجف 1 / 273 - 274
3- يقصد قوله تعالى: «مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ» سورة الأنفال، الآيتان: 67 - 68. وانظر الطبري: جامع البيان 10 / 43 - 44. الزمخشري: الكشاف 2 / 236. ابن حزم: الفصل 4 / 12
4- يقصد قوله تعالى: «إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبيِنًا» سورة الفتح، آية: 1. أنظر مسلم: الصحيح 12 / 143. الطبري: جامع البيان 26 / 70

منهاج واحد ولا تلزم نظاماً واحداً(1).

وعلق ابن أبي الحديد على موقف عمر يوم الحديبية بأنه صحيح ولكنه غير مستهجن ولا مستقبح، لأنه سأل من باب الاسترشاد، والتماس الطمأنينة كما يفعل الصحابة مع الرسول صلی الله علیه و آله وسلم، حيث لما عزم الرسول صلی الله علیه و آله وسلم يوم الخندق على مصالحة اليهود ببعض تمر المدينة، قال له سعد بن عبادة، وسعد بن معاذ الانصاريان: أهذا من الله أم رأي رايته من نفسك؟ قال صلی الله علیه و آله وسلم: بل من نفسي قالا:

لا والله لا نعطيهم منها تمرة واحدة وأيدينا في مقابض سيوفنا(2).

وفي يوم بدر قال الأنصار للرسول صلی الله علیه و آله وسلم وقد نزل نزلاً لم يستصلحوه: أنزلت هذا المنزل من رأي رأيت أم بوحي أوحي إليك؟ قال: بل من رأي رأيته، فقالوا انه ليس لنا بمنزل، ارحل عنه فانزل بموضع كذا(3).

ثم اوضح ابن أبي الحديد ان مراد أبي بكر رضی الله عنه في قوله لعمر رضی الله عنه «إلزم غرزه، فوالله إنه لرسول الله صلی الله علیه و آله وسلم إنما هو تأكيد وتثبيت على عقيدته التي في قلبه، ولا يدل ذلك على الشك، فقد قال تعالى:

«وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا»(4).

فما من أحد يستغني عن زيادة اليقين والطمأنينة، وقد ظهر من عمر بن الخطاب أحوال أقل من ذلك تسرع فيها: كقوله للرسول صلی الله علیه و آله وسلم في أبي سفيان

ص: 293


1- الشرح 6 / 328. إن ما يذكره ابن أبي الحديد من موافقة القرآن لعمر هي من الموضوعات في فضائل عمر التي لم تلق قبولاً لدى عدد من المفسرين
2- الشرح 10 / 180. ابن هشام: السيرة 3 / 234
3- الشرسح 10 / 181. أنظر الواقدي: المغازي 1 / 53. ابن هشام: السيرة 2 / 272
4- سورة الاسراء ، آية: 74

«دعني أضرب عنق أبي سفيان»(1)، وقوله: «دعني أضرب عنق عبد الله بن اُبي»(2)، وقوله: (دعني أضرب عنق حاطب بن أبي بلتعة)(3)، وقد نهى النَّبي صلی الله علیه و آله وسلم وجذب ثوبه لما قام على جنازة ابن سلول يصلي قائلاً له: كيف تستغفر لرأس المنافقين(4). وليس في ذلك جميعه ما يدل على وقوع القبيح منه، وإنما كان عمر مطبوعاً على الشدة والشراسة والخشونة، وكان يقول ما يقول على مقتضى السجية التي طبع عليها(5).

وبعد أن أوضح ابن أبي الحديد سجية الخليفة عمر علّق قائلاً: «وأعلم أنا لا نريد بهذا القول ذمَّهُ وكيف نذمه، وهو أولى الناس بالمدح ليمن نقيبته وبركة خلافته، وكثرة الفتوح في أيامه، وانتظام أمور الإسلام على يده! ولكنا أردنا أن نشرح حال العنف والرفق، وحال سعة الخلق وضيقه، وحال البشاشة والعبوس، وحال الطلاقة والوعورة، فنذكر كل واحد منهما ذكراً كلياً، لا نخص به انساناً بعينه. فأما عمر فإنه وإن كان وعراً شديداً خشناً، فقد رزق من التوفيق، والعناية الإلهية ونجح المساعي، وطاعة الرعية ونفوذ الحكم، وقوة الدين، وحسن النية وهمة الرأي، ما يربى محاسنه ومحامده على ما في ذلك من

ص: 294


1- حينما خرج أبو سفيان قبيل فتح مكة. ابن هشام: السيرة 4 / 45. الطبري: تاريخ 3 / 53
2- في غزوة بني المصطلق. ابن هشام: السيرة 3 / 303
3- قبيل فتح مكة: ابن هشام 4 / 41. البخاري: الصحيح 6 / 129 - 31. الحاكم: المستدرك 3 / 341. المفيد: الإرشاد ص 25
4- ابن هشام: السيرة 4 / 196 - 197
5- الشرح 10 / 181

نقص، وليس الكامل المطلق، إلا الله تعالى وحده»(1).

ولذلك يخلص ابن أبي الحديد في تحليله لمقولة عمر في الإمام علي علیه السلام للقول «وجملة الأمر أنه لم يقصد عيب علي علیه السلام ولا كان عنده معيباً، ولا منقوصاً، ألا ترى أنه قال في آخر الخبر: «إن احراهم إن وليها أن يحملهم على كتاب الله وسنة رسوله لصاحبك». ثم أكد ذلك بأن قال: «إن وليهم ليحملهم على المحجة البيضاء والصراط المستقيم». فلو كان أطلق تلك اللفظة، وعنى بها ما حملها عليه الخصوم لم يقل في خاتمة كلامه ما قاله»(2).

إن ملاحظة أحوال الإمام علیه السلام تنفي اتهام عمرو بن العاص إياه بالدعابة سواء في عصر الرسول صلی الله علیه و آله وسلم أو عصور الخلفاء من بعده، حيث لا نجد حديثاً يمكن أن يتعلق به الخصوم في دعابته ومزاحه «فكيف يظن بعمر أنه نسبه إلى أمر لم ينقله عنه ناقل، ولا ندد به صديق ولا عدو، وإنما إراد سهولة خلقه لا غير، وظن أن ذلك مما يفضي به إلى ضعف أن ولي أمر الأمة، لاعتقاده أن قوام هذا الأمر إنما هو بالوعورة، بناء على ما قد ألفته نفسه، وطبعت عليه سجيته … ومن تأمل كتب السير عرف صدق هذا القول وعرف ان عمر بن العاص أخذ كلمة عمر، إذ لم يقصد بها العيب فجعلها عيباً، وزاد عليها أنه كثير اللعب، يعافس النساء، ويمارسهن، وأنه صاحب هزل»(3).

ثم أقسم ابن أبي الحديد: ولعمر الله! لقد كان علي أبعد الناس من ذلك،

ص: 295


1- الشرح 6 / 343 - 344
2- الشرح 1 / 186، 6 / 328
3- الشرح 6 / 328 - 329

وأي وقت يتسع له حتى يكون على هذه المواصفات؟ حيث ان أزمانه كلها في العبادة والصلاة والذكر والفتاوى والعلم، واختلاف الناس إليه في الاحكام وتفسير القرآن، أما نهاره فكان كله أو معظمه مشغولاً بالصوم، وليله كله أو معظمه بالصلاة، في أيام السلم، أما في أيام الحرب فالسيف الشهير، والسنان الطرير وركوب الخيل، وقيادة الجيش، ومباشرة الحرب. ولقد صدق - علیه السلام - في قوله: «انني ليمنعني من اللعب ذكر الموت»(1).

ثم أوضح ابن أبي الحديد سبب التهمة بأن الرجل الشريف النبيل الذي لم يتمكن اعداؤه ان يجدوا له عيباً علیه السلام ياخذون بالاحتيال في تحصيل عيب وإن كان ضعيفاً ليجعلوه عذراً لأنفسهم في ذمه، ويتوسلون به إلى أتباعهم في تحسينهم لهم مفارقته، والانحراف عنه كما كان يفعل المشركون والمنافقون مع الرسول صلی الله علیه و آله وسلم، فيبرأه الله من العيوب التي برأه الله منها، فغير منكر أن يعيب علياً علیه السلام عمرو ابن العاص وأمثاله من أعدائه، بما إذا تأمله المتأمل، علم أنهم باعتمادهم عليه وتعلقهم به، قد اجتهدوا في مدحه والثناء عليه، لأنهم لو وجدوا عيباً غير ذلك لذكروه، ولو بالغ أمير المؤمنين علیه السلام وبذل جهده في ان يثني اعدائه وشانئيه عليه من حيث لا يعلمون، لم يستطع أن يجد إلى ذلك طريقاً ألطف من هذه الطريق التي أسلكهم الله تعالى فيها، وهداهم إلى منهاجها، فظنوا أنهم يغضون منه، وإنما أعلوا شأنه، أويضعون من قدره، وإنَّما رفعوا منزلته ومكانه»(2).

أما في العبادة فكان علیه السلام أعبد الناس وأكثرهم صلاة وصوماً حيث تعلّم الناس منه صلاة الليل، وملازمة الأوراد، وقيام النافلة، وبلغ من محافظته على

ص: 296


1- الشرح 6 / 329
2- الشرح 6 / 329 - 330

الأوراد أن بسط له نطعاً في صفين ليلة الهرير وأخذ يصلي، والسهام تقع بين يديه وتمر على جانبيه فلا يرتاع منها، ولا يقوم حتى يفرغ من ورده، ولكثرة سجوده أصبحت جبهته كثفنة البعير «وإذا تأملت دعواته ومناجاته(1)، ووقفت على ما فيها من تعظيم الله سبحانه وإجلاله، وما يتضمنه من الخضوع لهيبته، والخشوع لعزته، والاستخذاء له، عرفت ما ينطوي عليه من الإخلاص، وفهمت من أي قلب خرجت، وعلى أي لسان جرت. وقد قيل لعلي بن الحسين(2) علیه السلام وكان الغاية في العبادة: أين عبادتك من عبادة جدك؟ قال: «عبادتي من عبادة جدي كعبادة جدي من عبادة رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم»(3)الشرح 1 / 27(4).

والشيء الذي يثير التعجب في مزايا الإمام علي علیه السلام هو - الجمع بين الأضداد - فكان ذلك من عجائبه التي انفرد بها وامن المشاركة فيها، وأصبح من فضائله العجيبة وخصائصه اللطيفة، حيث جمع بين الأضداد، وألف بين الأشتات،

ص: 297


1- راجع أدعية الامام في نهج البلاغة ص 85، 86، 87، 96، 104 وغيرها
2- علي بن الحسين علیه السلام غني عن التعريف - من انجازاته أنه أشار على الخليفة الأموي عبد الملك ابن مروان بضرب عملة عربية إسلامية ثم شرح له كيفية ذلك، وينسب هذا الفعل خطأ إلى الامام محمد الباقر علیه السلام. أنظر البيهقي: المحاسن والمساوئ ص 467 - 7 ابن كثير: البداية والنهاية 9 / 104. الدميري: حياة الحيوان الكبرى 1 / 62 - 64. وانظر تحليلاً تفصيلياً في رسالتنا للماجستير: المقريزي ص 139 - 148. وماكتبناه في الحلقة الثانية من فضائل الإمام علي علیه السلام المنسوبة لغيره (ضرب النقود الاسلامية). وعرف علیه السلام بمناجاته حيث وصلت إلينا الصحيفة المعروفة باسمه والمشتملة على أدعيته ومناجاته. أنظر الشرح 6 / 178 - 187. امالي الطوسي ط النجف 1 / 14 - 18. الصحيفة السجادية ص 16 وما بعدها. وعن الصحيفة السجادية أنظر دراسة تحليلية: علي حسين محفوظ: الصحيفة السجادية ص 2 وما بعدها
3-
4-

وهذا ما كان يثير عجب الشريف الرضي فيتحدث به إلى معاصريه فيثير إعجابهم، وهي موضع العبرة والفكرة فيها(1)، ومن هذه الصفات المتضادة:

أولاً: يقول الشريف الرضي(2): «إن كلامه الوارد في الزهد والمواعظ، والتذكير والزواجر؛ إذا تأمله المتأمل، وفكر فيه المفكر، وخلع من قلبه أنه كلام مثله، من عظم قدره ونفذ أمره وأحاط بالرقاب ملكه، لم يعترضه الشك في انه كلام من لا حظّ له في غير الزهادة، ولا شغل له بغير العبادة، قد قبع في كسر بيت، أو انقطع إلى سفح جبل، لا يسمع إلا حسه، ولا يرى إلا نفسه، ولا يكاد يوقن بأنه كلام من ينغمس في الحرب، مصلتاً سيفه، فيقط الرقاب، ويجدل الابطال، ويعود به ينطف دماً، ويقطر مهجاً، وهو مع تلك الحال زاهد الزهاد وبدل الأبدال».

إن الذي أشار له الشريف الرضي أمر صحيح لأن الغالب على أهل الشجاعة والإقدام والمغامرة والجرأة أن يكونوا ذوي قلوب قاسية، وفتك وتمرد وجبرية، والغالب على أهل الزهد ورفض الدنيا وهجران ملاذها، والاشتغال بمواعظ الناس وتخويفهم المعاد، وتذكيرهم الموت، أن يكونوا ذوي رقة ولين، وضعف قلب، وخور طبع، فهاتان حالتان متضادتان، وقد اجتمعتا له علیه السلام(3).

يقول ابن أبي الحديد(4): «إني لأطيل التعجب من رجل يخطب في الحرب بكلام يدل على أن طبعه مناسب لطباع الأسود والنمور وأمثالها من السباع

ص: 298


1- الشرح 1 / 49. الشريف الرضي: نهج البلاغة ص 36
2- الشرح 1 / 49. نهج البلاغة ص 35 - 36
3- الشرح 1 / 50
4- الشرح 11 / 153

الضارية، ثم يخطب في ذلك الموقف بعينه، إذا أراد الموعظة بكلام يدل على أن طبعه مُشاكِل لطباع الرهبان لابسي المسوح الذين لم يأكلوا لحماً، ولم يريقوا دماً! فتارة يكون في صورة بسطام بن قيس الشيباني، وعتبة بن الحارث اليربوعي(1)، وعامر بن الطفيل العامري(2)، وتارة يكون في صورة سقراط الحبر اليوناني(3)،

ص: 299


1- عتبة بن الحارث بن شهاب التميمي، فارس تميم قبل الإسلام، وكان يلقب «سم الفرسان» و «صياد الفوارس»، ويضرب به المثل في الفروسية. الشرح 3 / 279. أنظر أبو هلال: جمهرة الامثال: 2 / 111. ابن حزم: جمهرة النسب 224. المرصفي: رغبة الامل 2 / 155 - 156
2- عامر بن الطفيل بن مالك بن جعفر من بني عامر بن صعصعة، ولد في حدود 70 ق. ه وهو فارس قومه، وأحد فتّاك العرب وشعرائهم وساداتهم قبل الإسلام. وفد على النبي صلی الله علیه و آله وسلم ولم يسلم الا بشروط رفضها النبي صلی الله علیه و آله وسلم، توفي سنة 11 ه. أنظر الجاحظ: البيان والتبيين 1 / 54. ابن قتيبة: الشعر والشعراء ص 118. ابن حبيب: المحبر ص 118، 135، 303، 472، 473. ابن حجر: الاصابة 2 / 251. البغدادي: خزانة الأدب 1 / 338، 473، 3 / 492. المرصفي: رغبة الآمل 2 / 176، 8 / 165، 243. الآلوسي: بلوغ الارب 2 / 129، 3 / 128. وعامر هو القائل: إني وإن كنت ابن سيدِ عامرٍ *** وفارسِها المندوبِ في كلِّ موكبِ فا سوَّدتني عامرٌ عن قرابةٍ *** أبى اللهُ أن أسمو بأمٍ ولا ابِ ديوان عامر بن الطفيل ص 13. السيوطي: شرح شواهد المغني: 2 / 953 - 4
3- فيلسوف يوناني من أثينا (469 - 399 ق.م) لم يترك أثرا مكتوباً، ولكن قام تلاميذه بتسجيل آراؤه، وكان ينزل إلى العامة ويتحدث عن الفضيلة والعدل والتقوى، فاتهم بإفساد عقول الشباب فحكم عليه بالإعدام. الشهرستاني: الملل والنحل 3 / 185 - 190. القفطي: تاريخ الحكماء 197 - 207. الموسوعة الميسرة 1 / 985 - 986

ويوحنا المعمدان الاسرائيلي(1)، والمسيح(2) ابن مريم الإلهی».

ولقد اوضح ابن أبي الحديد(3) ذلك في شعره إذ يقول:

الضَّاربُ الَهام المقَنَّع في الوغى *** بالخوفِ للبُهمِ الكُماة يُقنِّعُ والسمهريةُ تستقيمُ وتنحني *** فكأنّا بین الاضالعِ أضلُعُ والمترعُ الحوض المدعدع حيثُ لا *** وادٍ يفيضُ ولا قليبٌ يُترعُ ومبدِّدُ الأبطال حيثُ تألبوا *** ومفرق الأحزابِ حيثُ تجمعُ والحبرُ يصدحُ بالمواعظِ خاشعاً *** حتى تكادُ لها القلوبُ تصَدَّعُ حتَّى إذا استعر الوغى متلضياً *** شربَ الدماءَ بغلةٍ لا تَنقُعُ متجلبباً ثوباً من الدَّم قانياً *** يعلوه من نقعِ الملاحمِ برقُعُ زُهْدُ المسيحِ وفَتكةُ الدَّهرِ الذي *** أودى بهِ كسرى وفوزٌ تُبَّعُ ثانياً: إن الغالب على ذوي الشجاعة وإراقة الدماء أن يكونوا ذوي أخلاق سبعية، وطباع حوشية، وغرائز وحشية، اما أهل الزهادة فيغلب عليهم أن يكونوا ذوي انقباض في الأخلاق، وعبوس في الوجوه، ونفار من الناس

ص: 300


1- هو النبي يحيى - علیه السلام - الذي بشر بالسيد المسيح - علیه السلام - لذا اصبحت له مكانة لدى المسيحيين، وكان متقشفاً في البرية يأكل الجراد، وأنكر زواج هيروس بأخت امرأته (هرودياد) فنقمت عليه وحرضته على قتله، فأعدم. أنظر الانجيل: متى ص 12 - 13، 25 - 26. مرقس ص 61 - 62، 17 - 72. لوقا 15، 97 - 1، 8 10 - 1، 109 - 110، 114. يوحنا 105 - 151، 154. محمد شقيق غربال: الموسوعة المبسرة 2 / 1989
2- المسيح: مأخوذ من المسح وهو إمرار اليد على الشيء السائل أو الملطخ لإذهابه. والمسيح هو المبارك. الفيروزي آبادي: القاموس 1 / 249
3- القصائد السبع العلويات: ص 42

واستيحاش، لأن هدفهم رفض الدنيا والتذكير بالآخرة(1).

ولكن الإمام عليّاً علیه السلام الذي كان أشجع الناس وأعظمهم إراقة للدم، وهو أيضاً أزهد الناس، وأبعدهم عن ملاذ الدنيا، وأكثرهم وعظاً وتذكيراً بأيام الله ومثلاته، ثم هو من أشد الناس في العبادة اجتهاداً، وآداباً في المعاملة لنفسه، مع كل ذاك فهو ألطف العالم أخلاقاً، وأسفرهم وجهاً، وأكثرهم بشراً، وأوفاهم هشاشة، وأبعدهم عن انقباض موحش، أو خلق نافر، أو تجهم مباعد، أو غلظة، وفظاظة تنفر معها نفس، أو يتكدر معها قلب، حتى عيب بالدعابة، بعد ان لم يجدوا فيه مغمزاً ولا مطعناً، واعتمدوا في التنفير عنه عليها(2).

وتلكَ شكاةٌ ظاهرٌ عنكَ عارُها(3) ثالثاً: إن المعروف على من يكون من أهل بيت السيادة والرياسة أن يكون ذا كبر وتيه وتعظُّم وتغطرس، خاصة إذا أضيف إلى شرفه من جهة النسب شرف من جهات أخرى.

هذا الحال لا نجده عند امير المؤمنين علیه السلام فمع أنه في مُصاص الشرف ومعدنه، لا يشك عدو ولا صديق أنه أشرف خلق الله نسباً بعد ابن عمه صلوات الله عليهما، مضافاً إلى الشرف الذي حصل عليه من جهات شتى، فكان من أشد الناس تواضعاً لصغير أو كبير وألينهم عريكة وأسمحهم خلقاً، وأبعدهم عن الكبر، وأعرفهم بالحق، وحاله هذا واحداً سواء قبل توليه الخلافة أو بعدها

ص: 301


1- الشرح 1 / 50
2- الشرح 1 / 51
3- هو عجز بيت لأبي ذؤيب الهذلي، وصدره: وعيّها الواشون أني أحِبُّها ديوان الهذليين 1 / 21. ابن منظور: لسان العرب 19 / 171

وذلك لأنه لم يزل اميراً فلم يستفد بالخلافة شرفاً، ولا اكتسب بها زينة، بل هو الذي زانها(1). وكانت في نقص فأتمت نقصها بتوليه إياها.(2) رابعاً: ان الصفة التي تغلب على ذوي الشجاعة، وقتل الأنفس، وإراقة الدماء، أن يكونوا قليلي الصفح، بعيدي العفو، لأن أكبادهم واغرة، وقلوبهم ملتهبة، والقوة العصبية عندهم شديدة، وهذا لا يتفق مع ما يتميز به امير المؤمنين - علیه السلام -، فمع شجاعته نجده في الحلم والصفح بمكان، ونجد لديه القدرة على مغالبة هوى النفس، كما لوحظ تماماً في أيام خلافته الذي أحسن مهيار الديلمي وصف حاله فيها(3): (4) حتى إذا دارت رحى بغيهمِ *** عليهم وسبق السيف العَذَلْ عاذوا بعفو ماجد معودٍ *** للصبرِ حمالٍ لَهمُ على العلَلْ فنجَّتِ البُقيا عليهم من نجا *** وأكَلَ الحديدُ منهم من كَلْ أطَّت بهم أرحامُهُم فلم يُطعِ *** ثائِرةَ الغيظِ ولم يشفِ الغللْ خامساً: قد لا تتفق الشجاعة مع الجود، حيث كان الزبير شجاعاً، ولكنه عرف بالشح، حتى عدّ ذلك عمر بن الخطاب من الصفات التي لا تؤهله

ص: 302


1- قال أبو عبد الله احمد بن حنبل؛ ذكر ذلك الشيخ أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن الجوزي في تاريخه المعروف بالمنتظم، تذاكروا يوماً عند احمد خلافة أبي بكر وعلي وقالوا فأكثروا، فرفع رأسه إليهم، قال: قد أكثرتم! «إن علياً لم تزنه الخلافة! ولكنه زانها». الشرح 1 / 52
2- الشرح 1 / 51 - 52
3- الشرح 1 / 52
4- من قصيدة في (111) بيتاً، يذكر فيها مناقب أمير المؤمنين علیه السلام وهذه الأبيات موجودة في الديوان المطبوع ما عدا البيت الأخير، أنظر ديوان مهيار 3 / 109 - 116

للخلافة قائلاً(1): لو وليتها لظلت تلاطم الناس في البطحاء على الصاع(2) والمد(3). ولما أراد الإمام علي علیه السلام أن يحجز على أموال عبد الله بن جعفر لتبذيره إياها، شارك الزبير في أمواله وتجاراته، فقال الإمام علي علیه السلام أما إنه قد لاذ بملاذ، ولم يحجز عليه. كذلك كان طلحة بن عبيد الله شجاعاً، ولكنه شحيحٌ أمسك عن الانفاق حتى خلَّف من الأموال ما لا يأتي عليه الحصر(4). وكان عبد الله ابن الزبير شجاعاً، لكنه كان أبخل الناس(5)، كذلك عبد الملك بن مروان الذي ضرب به المثل في الشح، وسمي - رشح الحجر - لبخله.(6) وكان امير المؤمنين علیه السلام في الشجاعة بحال معروفة في الشجاعة والسخاء وهذه من أعاجيبه علیه السلام.(7)

ص: 303


1- الشرح 1 / 185
2- الصاع: اربعة امداد عند أهل المدينة، وثمانية عند أهل الكوفة. الخوارزمي: مفاتيح العلوم ص 11
3- المد: مكيال وهو رطل وثلث في الحجاز، ورطلان عند أهل العراق. الرازي: مختار الصحاح ص 618. الخوارزمي: مفاتيح العلوم ص 11
4- ابن سعد: الطبقات 3 / 221 - 2
5- الشرح 2 / 103. أنظر ابن عبد البر: الاستيعاب 3 / 906
6- أنظر الزمخشري: ربيع الابرار 2 / 365
7- الشرح 1 / 52 - 53

ص: 304

الفصل الرابع الإمام علی علیه السلام ونظام الحکم

ص: 305

ص: 306

الفصل الرابع الإمام علي علیه السلام ونظام الحكم

المبحث الأول الإمام علي علیه السلام قبل الخلافة

ضمَّت بعض خطب الإمام علي علیه السلام، ورسائله، وقصار كلماته الشريفة، إشارات إلى الإمامة(1)، فوظفها ابن أبي الحديد لكي يقدم رؤية الإمام علیه السلام من خلالها للإمامة، وقد تباينت طريقة ابن أبي الحديد في شرحه لتلك الإشارات، فتارة يأخذ كلام الإمام علي علیه السلام على ظاهره، وتارة يستخدم التأويل(2)، ويصرف كلامه علیه السلام عن ظاهره إلى معنى آخر ليلائم وجهة نظر المعتزلة.

ص: 307


1- الإمامة لغة مأخوذة من أمّ القوم: تقدمهم. والإمام كل من ائتم به قوم سواء كانوا على الصراط المستقيم أم ضالين. قال تعالى: «يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بإِمَامِهِمْ» سورة الإسرء: 71. وإمام كل شيء قيّمه والمصلح له، فالقرآن إمام المسلمين، والرسول صلی الله علیه و آله وسلم إمام الأئمة، والخليفة إمام الرعية، ابن منظور: لسان العرب 14 / 289 - 290
2- التأويل: صرف الكلمة عن معناها الظاهري إلى معنى مجازي، الجرجاني: التعريفات، ص 28

فبدءً يقرر ابن أبي الحديد أن الإمامة من أصول الدين (العقائد)(1)، ثم هي واجبة انطلاقاً من قوله علیه السلام للخوارج لما قالوا: «لا حكم إلا لله»، فاجأب علیه السلام:

«كلمة حق يراد بها باطل: نعم إنه لا حكم إلا لله، ولكن هؤلاء يقولون: لا إمرة [إلا لله]. وإنه لا بد للناس من أمير بر أو فاجر، يعمل في إمرته المؤمن، ويستمتع فيها الكافر، ويبلغ الله فيها الأجل، ويجمع به الفيء، ويقاتل به العدو، وتأمن به السبل، ويؤخذ به للضعيف من القوي، حتى يستريح بر، ويستراح من فاجر»(2).

إن القول بوجوب الإمامة أمرٌ أجمع عليه المعتزلة ما عدا أبي بكر الأصم الذي يرى «أنها غير واجبة: إذا تناصفت الأمة، ولم تتظالم». وهذا الرأي عدّه متأخرو المعتزلة قولا بالوجوب، وذلك لأنه في العادة لا تستقيم أمور الناس من دون رئيس يحكم بينهم(3).

وقد وظّف ابن أبي الحديد كلام الإمام علي - علیه السلام - لتقرير صحة رؤية المعتزلة «والظاهر من كلام أمير المؤمنين علیه السلام يطابق ما يقوله أصحابنا، ألّا تراه كيف علل قوله: - لا بد للناس من أمير بر أو فاجر، يعمل في إمرته المؤمن، ويستمتع فيها الكافر، ويبلغ الله فيها الأجل، ويجمع به الفيء، ويقاتل به العدو، وتأمن به السبل، ويؤخذ به للضعيف من القوي! - وهذه كلها من مصالح الدنيا»(4).

ص: 308


1- الشرح 18 / 367
2- الشرح 2 / 307. ليس في النص تلويح بوجوب الإمامة لأن كلامه في الإمارة الدنيوية سواء كان الناس أهل دين أم لا!! التستري: بهج الصباغة 10 / 410
3- الشرح 2 / 308
4- الشرح 2 / 308. أنظر رد حبيب الله الخوئي الهاشمي: منهاج البراعة 4 / 180 - 185

وتجدر الاشارة إلى أن الإمام علياً- علیه السلام - كان يرى أن الامارة مسألة ضرورية لأي مجتمع، وذلك لأن فيها:

يعمل المؤمن فيصلي ويصوم ويتصدق، وإن كان الأمير فاجراً في نفسه.

يستمتع الكافر بمدته، كما قال تعالى:

«قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ»(1).

يبلغ الله فيها الأجل، لأن إمارة الفاجر كإمارة المؤمن، في أن المدة المضروبة فيها تنتهي إلى الأجل المؤقت للإنسان.

يجمع في إمارة الفاجر الفيء، ويقاتل العدو، وتأمن السبل، ويؤخذ للضعيف من القوي، يقول الرسول صلی الله علیه و آله وسلم: «إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر»(2).

ويخلص ابن أبي الحديد للقول: «اتفقت المعتزلة على أن أمراء بني أمية كانوا فجاراً عدا عثمان وعمر بن عبد العزيز، ويزيد بن الوليد، وكان الفيء يجمع بهم، والبلاد تفتح في أيامهم، والثغور الإسلامية محصنة محوطة والسبل آمنة، والضعيف منصور على القوي الظالم، وما ضر فجورهم شيئاً في هذه الأمور»(3).

فإذا كانت الإمامة واجبة، فهل ان وجوبها يتعين أن يكون الإمام بالاختيار، أم بالنص؟

ص: 309


1- سورة ابراهيم، الآية: 30
2- اخرجه: ابن حنبل: المسند 2 / 309. البخاري: الصحيح 4 / 166
3- الشرح 2 / 309

استنتج ابن أبي الحديد من خلال كلام الإمام علي علیه السلام أن الإمامة بالاختيار(1) وليس بالنص، وهذا ما يذهب إليه المعتزلة، وقد وظف ابن أبي الحديد نصين من كلام الإمام لإثبات ذلك:

الأول: قوله علیه السلام:

«ولعمري لئن كانت الإمامة لا تنعقد حتى تحضرها عامة الناس، ما إلى ذلك سبيل؛ ولكن أهلها يحكمون على من غاب عنها ثم ليس للشاهد أن يرجع، ولا للغائب أن يختار»(2).

إذن فهنا الإمام يرى أن الإمامة لا يشترط في صحة انعقادها حضور كل الناس، لأن ذلك يعني عدم انعقاد إمامة مطلقاً لتعذر اجتماع الناس وإنما ينعقد بعقد العلماء وأهل الحل والعقد الحاضرين، وإذا عقدت فلا يجوز الرجوع عنها إلا لسبب يقتضي ذلك، أما الغائب فهو ملزم بعقد الحاضرين ولا يجوز له الاحتجاج، وعلى هذا جرت بيعة أبي بكر وعمر وعثمان، «وهذا الكلام تصريح بصحة مذهب أصحابنا في أن الاختيار طريق إلى الإمامة، ومبطل لما تقوله الإمامية من دعوى النص.. ».

الثاني: جاء في كتابه علیه السلام إلى معاوية «انه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكروعمر وعثمان على ما بايعوهم عليه، فلم يكن للشاهد أن يختار، ولا للغائب أن يردّ، وإنما الشورى للمهاجرين والأنصار، فإن اجتمعوا على رجل وسموه إماماً كان ذلك لله رضا، فإن خرج عن أمرهم بطعن أو بدعة ردُّوه إلى ما خرج عنه،

ص: 310


1- أنظر رد الصاحب بن عباد: نصرة مذاهب الزيدية ص 185 - 187
2- الشرح 9 / 328

فإن أبى قاتلوه على اتباعه غير سبيل المؤمنين وولَّاه الله ما تولى»(1).

عدّ ابن أبي الحديد هذا النص صريحاً في أن الاختيار طريق إلى الإمامة كما يذكره المعتزلة، لأن الإمام عليًّا - علیه السلام - احتج على معاوية ببيعة أهل الحل والعقد له، ولم يراع اجتماع المسلمين، كما تمت بيعة أبي بكر فانه ما روعي فيه إجماع المسلمين، لأن سعد بن عبادة وأهل بيته لم يبايعوا، والإمام علیه السلام وبنو هاشم ومن انضوى إليهم لم يبايعوا في مبدأ الأمر، ولكن لم يتوقفوا في تصحيح بيعة أبي بكر وتنفيذ أحكامه على بيعة من لم يبايع «وهذا دليل على صحة الاختيار وكونه طريقاً إلى الإمامة، وأنه لا يقدح في إمامته علیه السلام، امتناع معاوية من البيعة وأهل الشام»(2).

وردَّ ابن أبي الحديد على حمل الإمامية كلام الإمام لمعاوية - أعلاه - على التقية لأن الإمام عليًّا علیه السلام برأي الإمامية لم يمكنه التصريح بالنص عليه لأن ذلك يؤدي للطعن في من تقدمه، ثم يؤدي لفساد وخروج من بايعه عليه، قال ابن أبي الحديد: «هذا القول من الإمامية دعوى لوعضدها دليل لوجب أن يقال بها، ويصار إليها ولكن لا دليل لهم على ما يذهبون إليه من الأصول التي تسوقهم إلى حمل هذا الكلام على التقية»(3).

ويرى المعتزلة أنه لما كان الإمام علي علیه السلام قد حصل على الإمامة بالاختيار، لذا فقد وجبت طاعته فلا يعذر أحد من المكلفين في الجهل بوجوب طاعته، وهذا مصداق قوله علیه السلام «عليكم بطاعة من لا تعذرون في جهالته»(4).

ص: 311


1- الشرح 14 / 35. وانظر رد التستري: بهج الصباغة 9 / 396
2- الشرح 14 / 36
3- الشرح 14 / 36 - 37
4- الشرح 18 / 373. وانظر رؤية الإمامية عند التستري: بهج الصباغة 3 / 569 - 572

ويجدر بنا أن نوضح هنا كيف تم اختيار أبي بكر للخلافة طبقاً لمبدأ الاختيار الذي يراه المعتزلة.

بعد وفاة الرسول صلی الله علیه و آله وسلم أنكر عمر بن الخطاب وفاته قائلاً: «ما مات رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم، ولا يموت حتى يظهر دينه على الدين كله، وليرجعن، فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم ممن أرجف بموته، لا أسمع رجلً يقول: مات رسول الله إلا ضربته بسيفي. فجاء أبو بكر وكشف عن وجه رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم، وقال: بأبي وأمي: طبت حياً وميتاً، والله لا يذيقك الله الموتتين أبداً، ثم خرج والناس حول عمر، وهو يقول لهم: إنه لم يمت، ويحلف، فقال له: أيها الحالف، على رسلك:

ثم قال: من كان يعبد محمّداً فإن محمّداً قد مات. ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، قال الله تعالى:

«إنَّكَ مَيِّتٌ وَإنَّهم مَيِّتونَ»(1).

وقال:

«أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ»(2).

قال عمر فوالله ما ملكت نفسي حيث سمعتها أن سقطت إلى الارض، وعلمت ان رسول الله صلى الله عليه قد مات»(3).

وقبل أن يطرح ابن أبي الحديد رؤيته لهذا الموقف من عمر بن الخطاب،

ص: 312


1- سورة الزمر، الآية: (30)
2- سورة آل عمران ، الآية: (144)
3- الشرح 1 / 178 - 2، 9 / 40 - 1، 12 / 195. وانظر: ابن هشام: السيرة 4 / 305 - 6. ابن سعد: الطبقات 2 / 266 - 9. اليعقوبي: تاريخ 2 / 104. ابن الجوزي: مناقب عمر ص 49 - 50

طرح لنا رؤيتين:

الرؤية الاولى: رؤية اعتزالية قال بها القاضي عبد الجبار المعتزلي أحد كبار رجال الاعتزال، حيث يرى القاضي أن عمرا لم يمنع من جواز موت الرسول صلی الله علیه و آله وسلم، وإنَّما تأول قوله تعالى:

«هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ»(1).

ولذلك فقد استغرب عمر كيف يموت الرسول صلی الله علیه و آله وسلم ولم يظهر على الدين كله، فهنا قال له أبو بكر إذا ظهر دينه فقد ظهر هو، وسيظهر دينه بعد وفاته(2).

الرؤية الثانية: رؤية إمامية قال بها الشريف المرتضى(3) الذي تساءل عن إنكار عمر لموت الرسول صلی الله علیه و آله وسلم هل إنكاره كلياً أو في ذلك الوقت فقط؟ ثم كيف دخلت هذه الشبهة على عمر دون المسلمين؟ وكيف لم يوقن بوفاته صلی الله علیه و آله وسلم لما رأى ما على المسلمين من اعتقاد موته؟ ثم كان يجب عليه أن يقول للمسلمين في مرض الرسول صلی الله علیه و آله وسلم وقد رأى جزعهم عليه صلی الله علیه و آله وسلم: ما هذا الجزع والهلع، وقد آمنكم الله من موته؟ إلى غيرها من التساؤلات؟؟(4).

ص: 313


1- سورة التوبه، الآية: (33)
2- الشرح 2 / 41. 12 / 195 - 6. وانظر القاضي: المغني 20 / 2 / 9 - 10
3- هو من كبار علماء الإمامية في القرن الخامس الهجري، وممن له باع كبير في الأدب والكلام، ومن أشهر مؤلفاته: الأمالي، الشافي في الإمامة، أنظر: الثعالبي: تتمة اليتيمة ص 69 - 72. الجشمي: الطبقتان ص 383. ابن الجوزي: المنتظم 8 / 120 - 126. اليافعي: مرآة الجنان 3 / 55 - 7. السيوطي: بغية الوعاة ص 335 - 6. محي الدين: ادب المرتضى ص 3 وما بعدها
4- الشرح 2 / 41 - 2، 12 / 197 - 8

وقدَّم ابن أبي الحديد إجابتين: الأولى: تتصف بالرد على ما جاء لدى الشريف المرتضى من شبهات يرى ابن أبي الحديد أنه يمكن تبريرها، مع أنه لا يرى وقوعها. الثانية: تحليله لموقف عمر حسبما يراه.

الإجابة الأولى: إن عمر أنكر أن يموت الرسول صلی الله علیه و آله وسلم إلى يوم القيامة، واعتقد فيه كما يعتقد كثير من الناس في الخضر علیه السلام فلما حاجه أبو بكر بقوله تعالى:

«إنَكَ مَيِّتٌ وإنَّهمُ مَيِّتونَ».

وبقوله:

«أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ».

رجع عن ذلك الاعتقاد، فعمر ما كان يعتقد استحالة الموت عليه كاستحالة الموت على البارئ تعالى أي الاستحالة الذاتية.، بل اعتقد استمرار حياته إلى يوم القيامة، مع كون الموت جائزاً في العقل، وهذا لا تناقض فيه، فإبليس يبقى حياً إلى يوم القيامة مع كون موته جائزاً في العقل. ولكن عمر وقف مع شبهة أخرى، اقتضت عنده أن موته صلی الله علیه و آله وسلم يتأخر، وإن لم يكن إلى يوم القيامة، حيث تأول قوله تعالى:

«هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ باِلْهُدَى وَديِنِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ».

فجعل الضمير عائداً على الرسول صلی الله علیه و آله وسلم وليس على الدين، ولما كان الرسول صلی الله علیه و آله وسلم لم يظهر بعد على الاديان، لذا فإن حياته تستمر إلى أن يظهر عليها، فحاجَّه أبو بكر مبيناً ان المقصود هو ظهور الدين وليس الرسول صلی الله علیه و آله وسلم(1).

اما مسألة ورود الشبهة على عمر دون سائر الخلق، فهكذا تكون الشبه

ص: 314


1- الشرح 12 / 198 - 9

والاعتقادات تسبق إلى ذهن واحد دون غيره، وإلَّا فكيف دخلت الشبهة على مانعي الزكاة، أو أصحاب الجمل وصفين والنهروان وغيرهم(1).

أما بالنسبة إلى عدم إيمان عمر بموته حينما رأى من كآبة الناس وحزنهم فلأن الناس يبنون على ظاهر الأمور، أما هو فقد نظر في أمر باطن دقيق، فاعتقد ان صلی الله علیه و آله وسلم لم يمت، وإنما ألقى شبهته على غيره كما ألقى شبهة عيسى على غيره فصلب، ورفع عيسى إلى السماء(2).

في حين رد على عدم قول عمر للناس في حال مرض الرسول صلی الله علیه و آله وسلم والناس يبكون ويجزعون، أن لا تجزعوا فإن الرسول صلی الله علیه و آله وسلم لم يمت الآن!! يرى ابن أبي الحديد أن الشبهة لا يجب أن تخطر بالبال في كل الأوقات، فلعله كان وقتها غافلاً مشغول الذهن بغيرها(3).

أما الاجابة الثانية: وهي تحليل ابن أبي الحديد لموقف عمر وننقله بالنص:

«إن عمر كان أجل قدراً من أن يعتقد ما ظهر منه في هذه الواقعة ؛ ولكنه لما علم أن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم قد مات، خاف من وقوع فتنة في الإمامة، وتغلب أقوام عليها، أما من الأنصار أو غيرهم وخاف أيضاً من حدوث ردة، ورجوع عن الإسلام، فإنه كان ضعيفاً لم يتمكن، وخاف من تراتٍ تُشنّ، ودماء تراق، فإن أكثر العرب كان موتوراً في حياة رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم لقتل من قتل أصحابه منهم، وفي مثل ذلك الحال تنتهز الفرصة، وتهتبل الغرة، فاقتضت المصلحة عنده تسكين الناس بأن أظهر ما أظهره من كون رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم لم يمت، وأوقع تلك الشبهة

ص: 315


1- الشرح 12 / 199
2- الشرح 12 / 200
3- الشرح 12 / 201

في قلوبهم، فكسر بها شره كثير منهم، وظنوها حقاً، فثناهم بذلك عن حادث يحدثونه، تخيلاً منهم أن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم ما مات؛ وإنما غاب كما غاب موسى عن قومه، وليعودن فليقطعن أيدي قوم أرجفوا بموته»(1).

وأضاف ابن أبي الحديد: «ومثل هذا الكلام يقع في الوهم فيصدّ عن كثير من العزم، ألا ترى أن الملك إذا مات في مدينة وقع فيها أكثر الأمر نهب وفساد وتحريق، وكل من في نفسه حقد على آخر بلغ منه غرضه، أما بقتل أو جرح أو نهب مال، إلى أن تتمهد قاعدة الملك الذي يلي بعده، فإذا كان في المدينة وزير حازم الرأي، كتم موت الملك، وسجن قوماً ممن أرجف نداءً بموته، وأقام فيهم السياسة، وأشاع أن الملك حي، وأن أوامره وكتبه نافذة، ولا يزال يلزم ذلك الناس إلى أن يمهد قاعدة الملك للوالي بعده وكذلك عمر أظهر ما أظهر حراسة للدين والدولة، إلى أن جاء أبو بكر - وكان غائباً بالسنح، وهو منزل بعيد عن المدينة - فلما اجتمع بأبي بكر قوى به جأشه، واشتد به أزره، وعظم طاعة الناس له وميلهم إليه، فسكت حينئذ عن تلك الدعوى التي كان ادَّعاها، لأنه قد آمن بحضور أبي بكر من خطب يحدث، أو فساد يتجدد، وكان أبو بكر محبباً إلى الناس، لا سيما المهاجرين»(2).

وأردف قائلاً: «ويجوز عند الشيعة وعند أصحابنا أيضاً أن يقول الإنسان كلاماً ظاهر الكذب على جهة المعاريض، فلا وصمة على عمر إذا كان حلف أن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم لم يمت، ولا وصمة عليه في قوله بعد حضور أبي بكر وتلاوة

ص: 316


1- الشرح 2 / 42 - 43
2- الشرح 2 / 43

ما تلا: كأني لم أسمعها، أو قد تيقنت الآن وفاته صلى الله عليه، لأنه أراد بهذا القول تشييد القول الأول، وكان هو الصواب، وكان من سيئ الرأي وقبيحه أن يقول: إنما قلته تسكيناً لكم، ولم أقله عن اعتقاد، فالذي بدأ به حسن وصواب، والذي ختم به أحسن وأصوب»(1).

بعد طرحنا لهذه الرؤى حول موقف عمر نتساءل حول الأدلة التي استند إليها اولئك في رؤاهم سيما إذا علمنا أن مصادرنا التاريخية تخلو من ذلك، ولذا فإن أصحاب الرؤى اكتفوا بطرح رؤاهم دون الإشارة لمصدرها؟. فما الذي جعل القاضي عبد الجبار يفسر موقف عمر استناداً إلى قوله تعالى: ((هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودينِ الحق ليظهره على الدين كله)) ثم أوجد محاورة بين أبي بكر وعمر لم تشر لها المصادر مطلقاً؟ أما ابن أبي الحديد فهو مع عدم اعتقاده بما اورده القاضي، فأنه اندفع لرد تساؤلات الشريف المرتضى، وخلق المواقف التي يعلن بنفسه عن عدم وجودها، ولكنه لم يستبعد ان توجد في فكر عمر.

ثم تأتي إجابته الثانية عن موقف عمر التي توضح كونه كان محتاطاً على الإسلام ويخشى أن يستغل اعداؤه الفرصة، لذلك أعلن ما أعلنه لإلقاء الشبهة في نفوس من في قلبه مرض حتى جاء أبو بكر فعند ذلك علم عمر أن الخطر بعد لا يؤثر. إذن أين كان علي بن أبي طالب الذي هو بنظر المعتزلة أفضل شخص بعد رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم؟ ما موقفه من مقولة عمر؟ وما موقف باقي الصحابة؟ أتراهم كانوا مقتنعين بعدم وفاة الرسول صلی الله علیه و آله وسلم حتى جاء أبو بكر؟ وهل كان تفسير أبي بكر لموقف

ص: 317


1- الشرح 2 / 44

عمر يتطابق مع تفسير القاضي أم مع تفسير ابن أبي الحديد؟ وما الذي جعل الخليفة أبا بكر يتغيب تلك الساعة الحرجة والرسول صلی الله علیه و آله وسلم ينازع سكرات الموت؟ وحسب ما فسره ابن أبي الحديد، فإن حدس عمر قد وقع، حيث اجتمع الأنصار في سقيفة بني ساعدة لاختيار سعد بن عبادة، وهنا أسرع اثنان من الأنصار وهما «عويم بن ساعدة»(1) و «معن بن عدي»(2)، فأخبرا عمراً الذي أخبر بدوره أبا بكر فسارا نحو السقيفة. ويفسر ابن أبي الحديد موقف الانصاريان لأنهما «ذوي حب لأبي بكر في حياة الرسول صلی الله علیه و آله وسلم، واتفق مع ذلك بغض وشحناء؛ كانت بينهما وبين سعد بن عبادة»(3).

وبعد مداولات بين كبار الأنصار من جهة وبين أبي بكر وعمر وابي عبيدة ابن الجراح من جهة أخرى، وإثر ضعف موقف الأنصار اقترح الحباب بن المنذر(4): «منا أمير ومنكم أمير، إنا والله ما ننفس هذا الأمر عليكم أيّها الرهط، ولكناّ نخاف أن يليه بعدكم من قتلنا أبناءهم وآباءهم وإخوانهم»(5).

ص: 318


1- أنظر ترجمته: الحاكم: المستدرك 3 / 732. ابن عبد البر: الاستيعاب 3 / 1248. ابن حجر: الاصابة 3 / 44 - 5
2- أنظر ترجمته: الحاكم: المستدرك 3 / 254. ابن عبد البر: الاستيعاب 4 / 1441 - 2. ابن حجر: الاصابة 3 / 449 - 450
3- الشرح 6 / 19. وأشار ابن أبي الحديد ان هذا السبب مذكور في كتاب القبائل لأبي عبيدة معمر ابن المثنى، إلا أن ابن أبي الحديد لم يذكر السبب. الشرح 6 / 19
4- أحد كبار الأنصار. أنظر ترجمته: ابن عبد البر: الاستيعاب 1 / 316. ابن حجر: الاصابة 1 / 302 - 3. العبادي: ذو الرأي الحباب بن المنذر الخزرجي ص 149 - 183
5- الشرح 2 / 53. وقد علق شيخ ابن أبي الحديد وهو أبو جعفر النقيب على كلام الحباب قائلًا: لقد صدقت فراسة الحباب، فإن الذي خافه وقع يوم الحرة، واخذ من الأنصار ثأر المشركين يوم بدر، الشرح 2 / 53. اما يوم الحرة، فبعد استشهاد الامام الحسين علیه السلام في كربلاء، انتفض أهل المدينة المنورة، فأرسل يزيد بن معاوية إليهم مسلم المري فأوقع بهم. أنظر اليعقوبي: تاريخ 2 / 236 - 237. الطبري: تاريخ 5 / 482 - 495

وبعد مداولات في الرأي تمت البيعة لأبي بكر باقتراح من عمر وضعف جانب الأنصار(1)، واختلف في أول من بايع من الأنصار هل هو بشير بن سعد الخزرجي(2) أم أسيد بن حضير الأوسي(3)؟ وسبب الاختلاف لأن الفريقين تدافعوا ذلك تفادياً لسعد بن عبادة، وكراهية كل حي أن يكون نقض أمر سعد جاء من جهة صاحبه، فالخزرج أهله وقرابته لا يقرون أن بشير بن سعد هو أول من بايع أبا بكر، وأبطل أمر سعد، ويحيلون ذلك على أسيد بن حضير لأنه من الأوس خصوم الخزرج. أما الأوس فتكره نسبه ذلك إليها حتى لا ترمى بالحسد للخزرج، لأن سعد بن عبادة خزرجي فيحيلون انتقاض أمره على قبيلته - الخزرج - ويدّعون إن أول من بايع لأبي بكر هو بشير بن سعد، والذي ثبت عند ابن أبي الحديد أن أول من بايع لأبي بكر عمر، ثم بشير بن سعد، ثم أسيد بن حضير، ثم أبو عبيدة ثم سالم(4) مولى أبي حذيفة(5). إلّا أن ابن أبي الحديد لم يشر إلى دليله الذي استند إليه.

ص: 319


1- أنظر تفاصيل احداث السقيفة: الشرح 2 / 21 - 60، 6 / 5 - 52. الزبير بن بكار: الموفقيات ص 557 - 602. اليعقوبي: التاريخ 2 / 112 - 116. الطبري: تاريخ 3 / 218 - 223
2- أنظر ترجمته: ابن عبد البر: الاستيعاب 1 / 172 - 3. ابن حجر: الاصابة 1 / 158
3- أنظر ترجمته: ابن عبد البر: الاستيعاب 1 / 92 - 4. ابن حجر: الاصابة 1 / 49
4- هو الذي قال في حقه عمر لما طعن «لو كان أبو عبيدة حياً لاستخلفته، فإن قيل لي، قلت: سمعت رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم يقول: أبو عبيدة امين هذه الأمة، ولو كان سالم مولى أبي حذيفة حياً لاستخلفته، فإن قيل لي، قلت: سمعت رسول الله يقول: إن سالم شديد الحب لله تعالى.» أنظر الطبري: تاريخ 4 / 227
5- الشرح 6 / 18. وانظر: الزبير بن بكار: الموفقيات ص 578

وتجدر الاشارة إلى أن حجة الأنصار أعلاه قد فندّها الإمام عليّ علیه السلام حيث سأل ما قالت الأنصار؟ قالوا: قالت: منا أمير ومنكم أمير؛ فقال علیه السلام فهلّا احتججتم عليهم بأن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم وصّی بأن يحسن إلى محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم قالوا: وما في هذا من الحجة عليهم؟ فقال: لو كانت الإمامة فيهم لم تكن الوصية بهم(1).

إن ملاحظة موقف الأنصار في السقيفة وما بعدها من مناداتهم: «لا نبايع إلّا عليّاً»(2) تعطي انطباعاً إلى أن تأخير بيعة الإمام لأبي بكر لها علاقة بموقف الأنصار.

هذا الموقف الذي استغل للتشنيع بهم من قبل متأخري الإسلام من قريش، مماّ ولّد رد فعل لدى بعض من كبار الصحابة كالإمام عليّ علیه السلام، وخالد بن سعيد ابن العاص، ضد كل من اتخذ موقفاً سلبياً من الأنصار(3).

وقد بايع الأنصار بعد ذلك كلهم ما خلا سعد بن عبادة، الذي رفض بيعة أبي بكر ثم عمر، وترك المدينة إلى الشام، ومات هناك مقتولاً، وقد ألقيت تبعة قتلة على الجن، ولكن ابن أبي الحديد يستهزئ بفكرة قتل الجن لسعد قائلاً: «لا أعتقد أن الجن قتلت سعداً، ولا أن هذا شعر الجن(4)، ولا ارتاب أن البشر قتلوه، وأن

ص: 320


1- الشرح 6 / 3. أنظر النص في نهج البلاغة ص 97 - 98
2- الطبري: تاريخ 3 / 202، ابن الاثير: الكامل 2 / 325
3- الشرح 6 / 4- 45. وانظر: الزبير بن بكار: الموفقيات ص 577 - 602. اليعقوبي: تاريخ 2 / 117 - 118
4- حيث قيل انه سمع هاتف يقول بعد قتل سعد بن عبادة: = الشرح 17 / 223. وانظر: ابن قتيبة: المعارف 259. الحاكم. المستدرك 3 / 283 نحنُ قتلنا سيِّد الخز *** رجِ سعدَ بن عُبادةْ ورميناهُ بسهمي *** نِ فلمْ نخطِ فؤادهْ

هذا الشعر شعر البشر. ولكن لم يثبت عندي أن أبا بكر أمر خالداً، ولا أستبعد أن يكون فعله من تلقاء نفسه ليرضي بذلك أبا بكر - وحاشاه - فيكون الإثم على خالد، وأبو بكر بريء من إثمه، وما ذلك من أفعال خالد ببعيد»(1).

أما بالنسبة إلى الإمام عليّ - علیه السلام -، فقد اتخذ أولاً موقفاً سلبياً من بيعة أبي بكر، وأبدى احتجاجه في أكثر من مورد «وقد روى كثير من المحدثين أنه عقيب يوم السقيفة تألم وتظلم، واستنجد واستصرخ، حيث ساموه الحضور والبيعة، وإنه قال وهو يشير إلى القبر: يا ابن أم إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلوني(2).

وإنه قال: واجعفراه ولا جعفر لي اليوم! واحمزتاه ولا حمزة لي اليوم!»(3).

وقد أشارت بعض المصادر لموقف الصحابة السلبي من الامام وفاطمة - علیه السلام -، وقد وقف ابن أبي الحديد موقفاً وسطاً بين قبول البعض ورفض البعض الآخر حيث قال: «فأما امتناع علي علیه السلام من البيعة حتى أخرج على الوجه الذي أخرج عليه، فقد ذكره المحدثون ورواه أهل السير، وقد ذكرنا ما قاله الجوهري في هذا الباب، وهو من رجال الحديث، ومن الثقات المأمونين، وقد ذكر غيره من هذا النحو مالا يحصى كثره(4)، فأما الامور الشنيعة

ص: 321


1- الشرح 17 / 223 - 4. ولكن قتل سعد بن عبادة كان أيام الخليفة عمر بن الخطاب. أنظر: ابن عبد ربه: العقد الفريد 4 / 260
2- مأخوذة من نص قرآني جاء على لسان هارون لموسى علیه السلام، سورة الأعراف، الآية: 150
3- الشرح 11 / 111
4- ابن قتيبة: الإمامة والسياسية ص 10 - 12. اليعقوبي: التاريخ 2 / 115 - 116. الطبري: التاريخ 3 / 202 - 208، 203 - 9

المستهجنة التي تذكرها الشيعة من إرسال قنفذ إلى بيت فاطمة عليها السلام، وأنه ضربها بالسوط فصار في عضدها كالدملج وبقي أثره إلى أن ماتت، و أن عمراً أضغطها بين الباب والجدار، فصاحت يا أبتاه يا رسول الله، وألقت جنيناً ميتاً، وجعل في عنق عليّ - علیه السلام - حبل يقاد به وهو يعتل، وفاطمة خلفه تصرخ وتنادي بالويل والثبور، وابناه حسن وحسين معهما يبكيان، وأن عليّاً لما أحضر سألوه البيعة فامتنع، فتهدد بالقتل، فقال: إذن تقتلون عبد الله وأخا رسوله فقالوا: أما عبد الله فنعم، وأما أخو رسول الله فلا، وأنه طعن فيهم في أوجههم بالنفاق، وسطر صحيفة الغدر التي اجتمعوا عليها وبأنهم أرادوا أن ينفروا ناقة رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم ليلة العقبة. فكله لا أصل له عند اصحابنا، ولا يثبته أحد منهم، ولا رواه أهل الحديث، ولا يعرفونه، وإنما هو شيء تنفرد الشيعة بنقله»(1).

تجدر الاشارة إلى أن مصدر هذه الأمور هو كتاب سليم بن قيس الهلالي وهو من أجلاء أصحاب الإمام عليّ علیه السلام وقد وضع كتاباً يتحدث فيه عن احداث الصدر الأول، وفي أثناء إمارة الحجاج توفي سليم مختفياً لدى أبان بن أبي عياش(2)، لذا سلم للأخير هذا الكتاب. وقد أكدت المصادر المتقدمة على وجود هذا الكتاب ومن بينها الفهرست لابن النديم، ولكن الملاحظ أن النسخة الأصلية لهذا الكتاب فقدت أو أنها حرفت وزيد عليها، وهي النسخة المتداولة في المكتبات الآن، وقد أخضع المحققون هذا الكتاب للدراسة قديماً وحديثاً

ص: 322


1- الشرح 2 / 59 - 20، 60 / 34. وانظر كتاب سليم ص 110 - 116، 179، 330 - 335 القاضي عبد الجبار: المغني 20 / 2 / 29
2- أنظر ترجمته: الطوسي: الرجال ص 83، 106، 152

وخرجوا بنتائج متباينة(1)، وكانت رؤية ابن أبي الحديد له تتمثل ب: «فأما رواية سليم بن قيس الهلالي، فليست بشيء، وسليم معروف المذهب، ويكفي في رد روايته كتابه المعروف بينهم المسمى كتاب سليم، على أني قد سمعت من بعضهم من يذكر أن هذا الاسم غير مسمى، وأنه لم يكن في الدنيا أحد يعرف بسليم بن قيس الهلالي، وان الكتاب المنسوب إليه منحول موضوع لا أصل له، وإن كان بعضهم يذكره في إسم الرجال»(2).

على أننا لا نؤيد ابن أبي الحديد في إنكاره هذا، فالمصادر المتقدمة أكدت وجوده، والمحققون أثبتوا صحة كتابه، ولكن الإشكال في صحة نسبه النسخة الموجودة الآن إليه.

إن الطريقة التي تمت بها بيعة أبي بكر وصفت من قبل عمر بأنها «فلتة وقى الله شرها»(3)، والفلتة هي الأمر يقع بغتة بلا سابق روية أو مشاورة(4)، وأكد ابن أبي الحديد أن عمرا لم يقصد الطعن في بيعة أبي بكر كما فهم البعض، وإنما هذه اللفظة مناسبة لأسلوب عمر حيث كان مجبولاً على ذلك، مع أنه كان يحاول

ص: 323


1- أنظر: البرقي: الرجال ص 7، 4 - 9. الكشي: الرجال ص 96 - 7. ابن النديم: الفهرست ص 307 - 8. النجاشي: الرجال ص 6، 343. الطوسي: الرجال ص 68، 43، 74، 124. وأيضاً له الفهرست ص 107. المازندراني: معالم العلماء ص 58. ابن داود: الرجال ص 178. الحلي: الرجال ص 82 - 83.. الخوانساري: روضات الجنات 4 / 65 - 73. أبو القاسم الخوئي: معجم رجال الحديث 8 / 218 - 229
2- الشرح 12 / 216 - 217
3- الشرح 2 / 23. أنظر: البلاذري: انساب الاشراف 5 / 15. اليعقوبي: تاریخ 2 / 146. الطبري: تاريخ 3 / 205
4- الجوهري: الصحاح 1 / 260

أن يتلطف في الفاظه، ولكن طبعه يغلب عليه، ثم أكد أن عمراً إراد من اللفظة معناها في اللغة حيث أن الفلتة الأمر الذي يعمل فجأة من غير تردد ولا تدبر، وهكذا كانت بيعة أبي بكر، لأنها لم تكن عن شورى بين المسلمين وإنما وقعت بغتة لم تمحص فيها الآراء، ولم يتناظر فيها الرجال(1).

أما مسألة - النص - فقد انكر ابن أبي الحديد وجود - نص - سواء كان على أبي بكر أو الإمام علي - علیه السلام - حيث يقول: «إن الخبر المروي في أبي بكر في صحيحي البخاري ومسلم(2) غير صحيح، وهو ما روي عن قوله عليه الصلاة والسلام لعائشة في مرضه: أدع لي أباك، حتى أكتب لأبي بكر كتاباً، فإني أخاف أن يقول قائل، أو يتمنى متمن، ويأبى الله والمؤمنون إلّا أبا بكر»(3).

إن بيعة أبي بكر عند المعتزلة بيعة صحيحة شرعية بالاختيار، وليس بالنص وهذا الاختيار قد ثبت سواء بالاجماع أو بغير الإجماع لأنه طريق إلى الإمامة(4).

أما النص على الإمام عليّ علیه السلام فقد أنكره ابن أبي الحديد مراراً موظفاً كلام الإمام علیه السلام للاستدلال على عدم صحته، ومن هذه النصوص:

أولاً: في شرحه لكلامه علیه السلام في آل محمد صلی الله علیه و آله وسلم: «ولهم خصائص حق الولاية، وفيهم الوصية والوراثة». قال ابن أبي الحديد إن الولاية هي الإمرة، وإذا كانت الإمامية يحملونها على نص النبي صلی الله علیه و آله وسلم على عليّ وأولاده، فإن المعتزلة

ص: 324


1- الشرح 2 / 26 - 37. وانظر: القاضي: المغني 20 / 1 / 339
2- صحيح البخاري 5 / 2145 ح 5342. صحيح مسلم 5 / 10 ح 11
3- الشرح 6 / 13. وانظر الصاحب بن عباد: نصرة المذاهب الزيدية ص 59 - 61. الحاكم: المستدرك 3 / 542. ابن حزم: الفصل 4 / 478، 108. المتقي الهندي: كنز العمال 12 / 159
4- الشرح 1 / 7

يرون أن لآل الرسول صلی الله علیه و آله وسلم خصائص حق ولاية الرسول صلی الله علیه و آله وسلم على الخلق(1).

وهذا التفسير من ابن أبي الحديد غامض، فولاية الرسول على الخلق معروفة، وإذا كانت ولايتهم هي ذات خصائص حق ولاية الرسول، فإذن ولايتهم كولاية الرسول على الخلق.

ثانياً: من خلال تأمل ابن أبي الحديد في كتب الأخبار وجد «أنه لم يكن هناك نص صريح ومقطوع به لا تختلجه الشكوك، ولا تتطرق إليه الاحتمالات كما تزعم الإمامية، فإنهم يقولون: إن الرسول صلی الله علیه و آله وسلم نصّ على أمير المؤمنين علیه السلام نصاً صريحاً جلياً ليس بنص يوم الغدير(2)، ولا خبر المنزلة(3)، ولا ما شابهها من الأخبار الواردة من طرق العامة وغيرها، بل نص عليه بالخلافة، وبإمرة المؤمنين وأمر المسلمين أن يسلموا عليه بذلك، فسلموا عليه بها، وصرح لهم في كثير من المقامات بأنه خليفة عليهم من بعده، وأمرهم بالسمع والطاعة له»(4).

لكن ابن أبي الحديد يرى أن المنصف إذا ما لاحظ أحوال الصحابة بعد وفاة الرسول صلی الله علیه و آله وسلم يقطع بعدم وجود النص «ولكن قد سبق إلى النفوس والعقول انه قد كان هناك تعريض وتلويح، وكناية وقول غير صريح، وحكم غير مبتوت، ولعله صلی الله علیه و آله وسلم كان يصده عن التصريح بذلك أمر يعلمه، ومصلحة يراعيها، أو

ص: 325


1- الشرح 1 / 139 - 140
2- هو يوم 18 من ذي الحجة من العام العاشر للهجرة، حيث قال الرسول صلی الله علیه و آله وسلم للمسلمين: من كنت مولاه فهذا علي مولاه، أنظر مصادره في المدخل ص 62
3- في العام التاسع للهجرة خرج الرسول صلی الله علیه و آله وسلم إلى تبوك وترك عليّاً علیه السلام واليّاً على المدينة بعد أن قال له: [أنت مني بمنزلة هارون من موسى]. أنظر مصادره المدخل ص 63
4- الشرح 2 / 59

وقوف مع اذن الله تعالى في ذلك»(1).

إن ابن أبي الحديد يؤكد على أن للنبي صلی الله علیه و آله وسلم توجه نحو الإمام عليّ علیه السلام ولكن تصده المصلحه، فهل المصلحة فيما يراه النبَّي؟ أم فيما يراه الصحابة؟ وما هذه المصلحة التي تتنافى مع مايراه النَّبي صلی الله علیه و آله وسلم؟!! ثالثاً: من خلال احتجاج الإمام عليّ - علیه السلام - على أبي بكر استدل ابن أبي الحديد أنه لا وجود للنص، لأنه لو كان هناك نص صريح لاحتج به وإنما كان احتجاج بعضهم على الآخر بالسوابق والفضائل والقرابة ولو كان هناك نص على أبي بكر لاحتج به على الأنصار ولاحتج به الإمام عليّ علیه السلام على أبي بكر سيما وأن الإمام علیه السلام قد «كاشفهم، وهتك القناع بينه وبينهم، ألا تراه كيف نسبهم إلى التعدي عليه وظلمه، وتمنع من طاعتهم، وأسمعهم من الكلام أشده وأغلظه، فلو كان هناك نص لذكره.. وهذا هو نص مذهب المعتزلة»(2).

ولكن ما الداعي للاحتجاج بالنص والأمر قد احكم وانتهى دون الرجوع للإمام أصلا، ثم أنه بالتاكيد كان اصحاب السقيفة قد اعدوا الجواب للرد على مسالة النص!! رابعاً: وفي تحليله لدخول الإمام علي علیه السلام في الشورى يرى ابن أبي الحديد أن في هذا دليل على عدم وجود النص، إذ كيف يدخل الشورى إن كان منصوصاً عليه! لأن الشورى مبنية على الاختيار وعدم النص! أليس في هذا إيهاماً ظاهراً لأكثر المسلمين خاصة ضعفائهم ومن لا نظر له؟ فكيف يجوز له إضلال المكلفين، ويوقع

ص: 326


1- الشرح 2 / 59
2- الشرح 6 / 12 - 13

في أنفسهم عدم النص؟ وأضاف ابن أبي الحديد مؤكداً عدم وجود النص بأنه كان على اإمام أن يكني كناية لطيفة فيقول لهم «قد كان من رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم بالأمس في حقي ما تعلمون!» وتسائل قائلاً: (أتراهم كانوا في جواب هذه الكلمة يقتلونه! ما أظنهم يجتمعون على ذلك، ولا بد لو عرض بشيء من ذلك كان من كلام يدور بينهم في المعنى نحو أن يقولوا أن ذلك النص رجع عنه الرسول صلی الله علیه و آله وسلم، أو يقولوا: رأى المسلمون تركه للمصلحة، أو يجري بينه و بينهم جدال ونزاع، ولم يكن هناك خليفة يخاف جانبه، وإنما كان مجلس مناظرة وبحث، ولم يستقر الأمر لأحد»(1).

إن الإمام يرى بأن الإمامة حقه ولذا فمن حقه استخدام أي أسلوب ليصل إلى حقه وما دام هناك فرصة عن طريق الشورى فلم لا يستغلها.

خامساً: وفي معرض كلامه في تحليله لمحاججته يوم الشورى يقول إنه لو كان هناك نص لكان أقل كلفة، وأسهل طريقاً، و أيسر لما يريد تناولاً(2) أن يذكّرهم بأن العهد لم يطل، وأن الرسول صلی الله علیه و آله وسلم أمرهم بطاعته، وأنه استخلفه عليهم، وأن يذكّرهم بأنه لم يقع من الرسول صلی الله علیه و آله وسلم ما نسخ النص عليه، ولا رفعه، إذن فما الموجب الذي يدفعهم لتركه، والعدول عنه، وإذا كان السبب في عدم إشارته هذه هو خوف القتل كما يرى البعض، إذاً لماذا لم يخف وهو يمتنع من مبايعتهم ويستصرخ بالحمزة وجعفر والانصار، ويجمع الجموع في داره والبيعة قد عقدت لمن عقدت له»(3).

إنه إذا كان علیه السلام منصوصاً عليه، وإن هذا النص خولف طلباً للرئاسة

ص: 327


1- الشرح 12 / 271 - 272
2- اجاب الصاحب بن عباد على هذا التساؤل، نصرة مذاهب الزيدية ص 51 - 58
3- الشرح 11 / 111 - 112

الدنيوية، فإن حال المخالفين لا تعدو أحد أمرين: إما الكفر أو الفسوق، ولكن قرائن الأحوال وإماراتها لا تدل على ذلك، وإنما تشهد بخلافه(1).

لقد أصبح الشيخان ذوي مكانة مقدسة عند بعض المسلمين إلى درجة أن أصبحت سنتهم توضع مع كتاب الله وسنة النبي. إن طرح الإمام عليّ علیه السلام مسألة النص يوم الشورى أمر غير وارد، إذ كيف يريد القول إنه مقدَّم على الشيخين والآلاف من أهل العراق ومصر والشام وغيرها إنما دخلت الإسلام في عهد الشيخين. إن ذلك سيكون فرصة لأعداء الإمام علیه السلام للطعن فيه وتشويه سمعته، فأي احتجاج بالنص وعبد الرحمن بن عوف يطالب الامام بالسير على سيرة الشيخين مثلما يطالبه بالسير على كتاب الله وسنة نبيه لذا رأى الإمام علیه السلام أنه لافائدة من الاحتجاج بالنص، مع أننا لانجزم بعدم احتجاج الإمام علیه السلام بالنص.

السادس: والظاهر أن هناك من احتج بأن النبي صلی الله علیه و آله وسلم قد نصّ على الإمام علي علیه السلام في قوله لعائشة لما سألته: من كنت يا رسول الله مستخلفاً عليهم؟ فقال:

خاصف النعل فنظرت السيدة عائشة ولم تر إلَّا عليّاً علیه السلام، فقالت: يا رسول الله! ما أرى إلَّا عليّاً! فقال هو ذاك(2).

نفى ابن أبي الحديد أن يكون في هذا النص دلالة على النص لأنه صلی الله علیه و آله وسلم لم يقل:

قد استخلفته وانما قال: لو استخلفت، وذلك لا يقتضي حصول الاستخلاف، ويجوز أن تكون مصلحة المكلفين متعلقة بالنص عليه، لو كان النبي صلی الله علیه و آله وسلم مأموراً بأن ينص على إمام بعينه من بعده وأن يكون من مصلحتهم اختيار من شاعوا

ص: 328


1- الشرح 11 / 112
2- الشرح 6 / 218. وانظر: الحاكم: المستدرك 3 / 132. القاضي: المغني 20 / 2 / 62

إذا تركهم صلی الله علیه و آله وسلم وآرائهم ولم يعين أحداً(1).

ولكن هل كان استخلاف النبي يومذاك عن أمر من الله أم من نفسه؟ فإذا كان من الله فالله محيط بمستقبل الامور!! وإذا كان من النبي صلی الله علیه و آله وسلم فالنبي لا ينطق عن الهوى ثم أنه لم يعرف عن الإمام أنه غير وبدل حتى يتغير رأي النبي فيه.

السابع: وعند شرحه لكتاب الإمام علي علیه السلام لمعاوية «إنه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان…». استدل على كون الاختيار هو طريق الإمامة، وانتقد الإمامية في حملهم هذا الكتاب على التقية مراعاة لأصحابه علیه السلام الذي يرون صحة إمامة المتقدمين، وقال: «هذا القول من الإمامية دعوى لو عضدها دليل لوجب أن يقال بها، ويصار إليها، ولكن لا دليل لهم على ما يذهبون إليه من الاصول التي تسوقهم إلى حمل هذا الكلام على التقية»(2).

إن الإمام هنا يلزم معاوية بما ألزم به نفسه، فمعاوية وأصحابه يرون صحة بيعة أبي بكر وعمر وعثمان استنادا لبيعة أهل الحل والعقد، إذًا فبيعة الإمام صحيحة أيضاً لأنها تمت على أيدي أهل الحل والعقد ولا يعني هذا أن الإمام ينفي النص عليه.

الثامن: وبعد مقتل الخليفة عثمان طالبه كبار الصحابة بالبيعة فقال لهم:

«دعوني والتمسوا غيري». هنا أخذ المعتزلة كلام الإمام عليّ علیه السلام على ظاهره، فالإمام عليّ علیه السلام وإن كان أولى الناس بالإمامة وأحقهم بمنزلتها فإن كلامه

ص: 329


1- الشرح 6 / 218 - 219
2- الشرح 14 / 35 - 37

هذا فيه دلالة على أنه غير منصوص عليه(1). وانتقد ابن أبي الحديد الإمامية لصرفهم الكلام عن ظاهره قائلاً: «إن ما ذكروه ليس ببعيد أن يحمل الكلام عليه لو كان الدليل قد دل على ذلك، فاما إذا لم يدل عليه دليلا، فلا يجوز صرف اللفظ عن ظاهره، ونحن نتمسك بالظاهر إلا أن تقوم دلالة على مذهبهم تصدنا عن حمل اللفظ عن ظاهره ولو جاز ان تصرف الالفاظ عن ظواهرها لغير دليل قاهر يصدف ويصد عنها، لم يبق وثوق بكلام الله عز وجل وبكلام رسوله علیه السلام»(2).

التاسع: عند شرحه لكلامه علیه السلام: «حتى إذ قبض الله رسوله رجع قوم على الأعقاب، وغالتهم السبل، واتكلوا على الولائج، ووصلوا غير الرحم، وهجروا السبب الذي أمروا بمودته، ونقلوا البناء عن رص أساسه، فبنوه في غير موضعه»(3).

اوضح أن المعتزلة يحملون كلامه - علیه السلام - على أنه قصد أعداءه الذين حاربوه في صفين، فهم الذي نقلوا البناء، وهجروا السبب، ووصلوا غير الرحم، واتكلوا على الولائج، وغالتهم السبل، ورجعوا على الأعقاب، كعمرو بن العاص، والمغيرة بن شعبة، ومروان بن الحكم، والوليد بن عقبة، وحبيب بن مسلمة، وبسر بن أرطاة، وسعيد بن العاص، وحوشب، وذي الكلاع، وشرحبيل بن السمط، وابي الاعور السلمي وغيرهم، إذ أن هؤلاء

ص: 330


1- الشرح 7 / 33 - 34. أنظر رأي الإمامية عند التستري: بهج الصباغة 9 / 563 - 572
2- الشرح 7 / 34 - 35
3- الشرح 9 / 132

نقلوا الإمامة عنه علیه السلام إلى معاوية(1).

إن لفظ كلام الإمام علي علیه السلام أعلاه يشير إلى خلاف تأويل ابن أبي الحديد، فهو علیه السلام يشير إلى أن الرجوع على الأعقاب لما قبض الرسول صلی الله علیه و آله وسلم وما ذكره ابن أبي الحديد أعلاه وقع بعد أكثر من عشرين سنة، فكيف ذهب إلى هذا التفسير؟ أشار ابن أبي الحديد إلى أنه ربما رجع هؤلاء على الأعقاب بعد وفاة الرسول صلی الله علیه و آله وسلم، وأضمروا في أنفسهم مشاقة الإمام عليّ علیه السلام وأذاه، حيث كان هناك من يؤذيه ويتعرض إليه أيام أبي بكر وعمر وعثمان، وقد يقصد علیه السلام برجوعهم ارتدادهم عن الإسلام بالكلية، فإن كثيراً من المعتزلة يطعنون في إيمان بعض مما ذكر سابقًا، ويعدونهم من المنافقين، وكان سيف الرسول صلی الله علیه و آله وسلم يقمعهم عن إظهار ما في أنفسهم من النفاق، أما بعده فأظهروا نفاقهم خاصة مع الإمام عليّ علیه السلام الذي ورد في حقه «ما كنا نعرف المنافقين على عهد رسول الله إلَّا ببغض علي بن أبي طالب»(2). وأكد ابن أبي الحديد أن هذا الخبر محقق ووارد في كتب الصحاح(3).

ولقد تعرض ابن أبي الحديد للنقد في تأويله هذا «يمنعك من هذا التأويل قوله: «ونقلوا البناء عن رص أساسه، فجعلوه في غير موضعه» وذلك لأن «إذ» ظرف، والعامل فيها قوله «رجع قوم على الاعقاب» وقد عطف عليه قوله

ص: 331


1- الشرح 9 / 134. أنظر رؤية الإمامية عند التستري: بهج الصباغة 3 / 539 وما بعدها
2- الترمذي: صحيح 12 / 168. الحاكم: المستدرك 3 / 139. ابن عبد البر: الاستيعاب 3 / 1110. ابن طلحة: مطالب السئول ص 48. الهيثمي: مجمع الزوائد 9 / 132. السيوطي: تاريخ الخلفاء ص 170. الهيتمي: الصواعق ص 120، 172
3- الشرح 9 / 134 - 135

«ونقلوا البناء»؛ فإذا كان الرجوع على الأعقاب واقعاً في الظرف المذكور وهو وقت قبض الرسول صلی الله علیه و آله وسلم، وجب أن يكون نقل البناء إلى غير موضعه واقعاً في ذلك الوقت أيضاً، لأن أحد الفعلين معطوف على الآخر، ولم ينقل أحد وقت قبض الرسول صلی الله علیه و آله وسلم إلبناء إلى معاوية عن أمير المؤمنين علیه السلام، وإنما نقل عنه إلى شخص آخر، وفي إعطاء العطف حقه إثبات مذهب الإمامية صريحاً»(1).

فكان جواب ابن أبي الحديد: إذا كان الرجوع على الأعقاب واقعاً وقت قبض النّبي صلی الله علیه و آله وسلم فقد قمنا بما يجب من وجود عامل في الظرف، حيث لا يجب أن يكون نقل البناء إلى غير موضعه واقعاً في تلك الحال أيضاً، بل يجوز أن يكون واقعاً في زمان آخر، إما بأن تكون الواو للاستئناف لا للعطف، أو أن تكون للعطف في مطلق الحدث، لا في وقوع الحدث في عين ذلك الزمان المخصوص،كقوله تعالى(2):

«حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فيِهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ»(3).

الواضح من تحليلات ابن أبي الحديد أعلاه إنها للمراوغة ليس إلا، ولا أرى بأنه مقتنع بما يقول.

عاشراً: في أثناء دراسته على يد شيخه الإمامي - أبي جعفر النقيب - سأل ابن أبي الحديد شيخه قائلاً: «إن نفسي لا تسامحني أن أنسب إلى الصحابة عصيان رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم ودفع النص». وهو هنا يؤكد الرؤية الاعتزالية.

ص: 332


1- الشرح 9 / 135
2- سورة الكهف، الآية: 77
3- الشرح 9 / 135 - 136

فكان جواب النقيب: «وأنا فلا تسامحني أيضاً نفسي أن أنسب الرسول صلی الله علیه و آله وسلم إلى إهمال أمر الإمامة، وأن يترك الناس فوضى سدى مهملين، وقد كان لا يغيب عن المدينة إلا ويؤمر عليها أميراً وهو حي ليس بالبعيد عنها، فكيف لا يؤمر وهو ميت لا يقدر على استدراك ما يحدث». ثم أوضح أن الدعوة التي جاء بها النّبي صلی الله علیه و آله وسلم كانت سبباً في سفك دماء البعض على يد الإمام علي علیه السلام إذن فعلى النّبي صلی الله علیه و آله وسلم ضرورة حقن دمه وأهل بيته، وهذا يدعوه لتأمين مستقبلهم وذلك بالنص على الإمام عليّ علیه السلام(1).

وقال له مرة أخرى: «إنه لم يثبت النص عندنا بطريق يوجب العلم وما تذكرونه انتم صريحاً فأنتم تنفردون بنقله، وما عدا ذلك من الأخبار التي نشارككم فيها، فلها تأويلات معلومة» فأجاب النقيب: «لو فتحنا باب التأويلات، لجاز أن يتناول قولنا: لا إله إلّا الله محمد رسول الله. دعني من التأويلات الباردة التي تعلم القلوب والنفوس أنها غير مراده، وأن المتكلمين تكلفوها وتعسفوها»(2).

حقا ما جاء لدى الشريف النقيب أبي جعفر الذي ادرك أن مايأتي به ابن أبي الحديد هومن تعسفات المتكلمين.

إن ابن أبي الحديد مع إنكاره للنص لكنه يلمح إلى أمور أخرى كان النبّي صلی الله علیه و آله وسلم يراها في عليّ علیه السلام«فرسول الله صلی الله علیه و آله وسلم أخبره أن الإمامة حقه، وأنه أولى بها من الناس

ص: 333


1- الشرح 9 / 248 - 250. وانظر أيضاً 2 / 53. وانظر مناقشة ابن أبي الحديد للنقيب حول موقف الصحابة من النص. الشرح 12 / 82 - 90
2- الشرح 10 / 227

أجمعين»(1). ولذلك كان الإمام علي علیه السلام يقول في آل البيت «ولهم خصائص حق الولاية، وفيهم الوصية والوراثة» فالولاية هي الإمرة، ولكنها ليست إشارة للنص كما تقول الإمامية، بل تعني أن لهم خصائص حق ولاية الرسول صلی الله علیه و آله وسلم على الخلق اما الوصية «فلا ريب عندنا أن عليّاً علیه السلام كان وصي رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم، وإن خالف في ذلك ممن هو منسوب عندنا إلى العناد، ولسنا نعني بالوصية النص والخلافة، ولكن أموراً أخرى لعلها - إذا لمحت - أشرف وأجلّ»(2).

ولذا دعي الامام بعد وفاة الرسول صلی الله علیه و آله وسلم بانه وصي رسول الله، لوصايته إليه بما أراد «وأصحابنا لا ينكرون ذلك، ولكن يقولون: إنها لم تكن وصية بالخلافة، بل بكثير من المتجددات بعده، أفضى بها إليه علیه السلام»(3).

ولقد أورد ابن أبي الحديد الكثير من الشعر الذي قيل في صدر الإسلام، وفيه إشارة إلى أن الإمام عليّاً علیه السلام وصي الرسول صلی الله علیه و آله وسلم(4): فمنها قول عبد الله بن أبي سفيان بن الحارث(5):

وصَّی النّبي المصطفى وابنُ عمهِ *** فمنْ ذا يدانيهِ ومنْ ذا يقارِبُه وقال عبد الرحمن بن جعيل(6):

علياً وصيُّ المصطفى وابنُ عمِّهِ *** وأوَّل من صلَّی أخا الدَّينِ والتقى

ص: 334


1- الشرح 2 / 296
2- الشرح 1 / 139 - 140
3- الشرح 1 / 13
4- الشرح 1 / 143 - 147
5- أنظر ترجمته: ابن عبد البر: الاستيعاب 3 / 921. ابن حجر: الاصابة 2 / 320
6- لم اهتد إلى ترجمته

وقال أبو الهيثم بن التيهان أحد أصحاب بدر:

إن الوصيَّ إمامُنا ووليُّنا *** برحَ الخفاءُ وباحتِ الاسرارُ وقال رجل من الأزد في معركة الجمل(1):

هذا عليُّ وهوَ الوصِّی *** آخاه يومَ النجوةِ النَّبي وقال سعيد بن قيس الهمداني(2):

قُل للوصيِّ اقبلت قحطانها *** فأدعُ بها تكفيكَها همدانهَا وقال زياد بن لبيد الأنصاري(3):

نبُالي في الوصيِّ من غضبْ *** وإنّا الأنصار جدٌّ لا لعبْ وقال حجر بن عدي الكندي(4):

فيهِ فقد كانَ لهُ ولياً *** ثم ارتضاهُ بعدَهُ وصيّاً وقال خزيمة بن ثابت ذو الشهادتين:

يا وصيّ قد أجْلَتِ الحربُ *** الأعادي وسارتِ الأضعانُ

ص: 335


1- يقصد بالنجوة ما روي من أن النبي صلی الله علیه و آله وسلم دعا الإمام علياً علیه السلام وانتجاه، وأطال نجواه يوم الطائف، فتكلم بعض الناس، فقال صلی الله علیه و آله وسلم: ما انتجيته ولكن الله انتجاه. الترمذي: صحيح 12 / 173. ابن تيمية: منهاج السنة 3 / 13. ابن كثير: البداية والنهاية 7 / 357
2- من الدهاة والأجواد، ومن خواص الإمام علي علیه السلام. الطبري: تاريخ 5 / 54. الهمداني: الاكليل 10 / 46 - 50
3- أنظر ترجمته: الحاكم: المستدرك 3 / 681. ابن عبد البر: الاستيعاب 2 / 533 - 4. ابن حجر: الاصابة 1 / 558 - 559
4- أحد أبرز الصحابة الذي قتل بأمر معاوية بتهمة الخروج عليه وكان قتله من ضمن المأخذ الكبرى على معاوية. ابن عبد البر: الاستيعاب 1 / 329. ابن حجر: الاصابة 2 / 314 - 5

قال الأشعث بن قيس(1): الشرح 1 / 147. المنقري: صفين ص 23 رسولُ الوصيِّ وصيُّ النَّبيِ *** له السبقُ والفضلُ في المؤمنينا وقال الإمام علي علیه السلام يوم صفين(2):

يا عجباً لقدْ سَمِعتُ منكراً *** كذباً على اللهِ يشيبُ الشَّعرا ما كانَ يُرْضِی احمداً لو أخبرا *** أن يُقرُنوا وصيَّه والأبترا وقال جرير بن عبد الله البجلي(3): (4) وصيُّ رسولِ اللهِ من دونِ أهِلهِ *** وفارِسُهُ الحامي بهِ يُضرَبُ المَثَلُ وقال النعمان بن عجلان الأنصاري(5): (6) كيفَ التَّفرقُ والوصيُّ إمامُنا *** لا كيفَ إلّا حِیرَةً وتخاذلا

ص: 336


1- أمير كنده أسلم في عهد النَّبي صلی الله علیه و آله وسلم ثم امتنع عن تأدية الزكاة في عهد الخليفة أبي بكر، فعفى عنه الخليفة بعد أن طلب الأمان وزوَّجه أخته أم فروة. أنظر الشرح 1 / 291 - 297. الطبري 3 / 335 - 339
2- الشرح 1 / 148. المنقري: صفين ص 43
3- أنظر ترجمته: ابن عبد البر: الاستيعاب 1 / 236 - 240. ابن حجر: الاصابة 1 / 232
4- الشرح 1 / 149. المنقري: صفين ص 48 - 49
5- أحد الأنصار وشاعرهم، شهد صفين مع الامام وتولى البحرين، الشرح 16 / 147. ابن عبد البر: الإستيعاب 4 / 1501 - 2. ابن حجر: الاصابة 3 / 562
6- الشرح 1 / 149. المنقري: صفين ص 365

وقال عبد الرحمن بن ذؤيب الاسلمي(1) في معاوية(2):

يقودهمُ الوصيُّ إليكَ حتّى *** يَرُدُّك عن ضلالٍ وارتيابِ وقال المغيرة بن الحارث بن عبد المطلب(3): (4) فيكُم وصيُّ رسولِ اللهِ وقائِدُكُم *** وصِهرُهُ وكتابُ اللهِ قد نَشرَا وقال عبد الله بن العباس(5):

وصيُّ رسولِ اللهِ من دونِ أهلِهِ *** وفارِسُهُ إنْ قِيلَ هلْ مِن مُنازِلِ وبعد إيراده لهذه الأبيات قال ابن أبي الحديد: «ذكر هذه الاشعار والأراجيز بأجمعها أبو مخنف لوط بن يحيى(6) في كتاب وقعة الجمل. وأبو محنف من المحدثين، وممن يرى صحة الإمامة بالاختيار، وليس من الشيعة ولا معدود من رجالها»(7).

ثم عزز ابن أبي الحديد رؤيته في الوصية بما أورده نصر بن مزاحم المنقري

ص: 337


1- لم اهتد إلى ترجمته
2- الشرح 1 / 149. المنقري: صفين ص 382
3- أحد أبطال وشعراء الجاهلية والإسلام، أسلم في فتح مكة، ومات في خلافة عمر. ابن عبد البر: الاستيعاب 4 / 1445
4- الشرح 1 / 149 - 150 . المنقري: صفين ص 385
5- الشرح 1 / 150. المنقري: صفين ص 416 - 7
6- أحد رواة الأخبار في القرن الثاني للهجرة، ت 157 ه، ومن مدرسة العراق التاريخية، لمزيد من التفاصيل عنه أنظر: كفاية طارش العلي: أبو محنف ودوره في التدوين التاريخي. رسالة ماجستير غير منشورة، البصرة، 1997
7- الشرح 1 / 147

في كتاب وقعة صفين الذي قال فيه بأنه من رجال الحديث(1). وابن أبي الحديد باستخدامه مصطلح - المحدثين - ورجال الحديث إنما يعني المؤرخين.

وخلص ابن أبي الحديد للقول: «والاشعار التي تتضمن هذه اللفظة [الوصي] كثيرة جداً، ولكنا ذكرنا منها هاهنا بعض ما قيل في هذين الحربين [الجمل وصفين]، فأما ما عداهما، فإنه يجلّ عن الحصر، ويعظم عن الإحصاء والعد، ولولا خوف الملالة والإضجار لذكرنا من ذلك ما يملأ اوراقاً كثيرة»(2).

واستمراراً لرؤية النبي صلی الله علیه و آله وسلم، يرى المعتزلة أن الامام - علیه السلام - يرى نفسه احق بالأمر، ليس على أساس النص، وإنما على أساس الأفضلية والقرابة والسابقة والجهاد وغيرها من الفضائل(3)، ففي قوله علیه السلام «واعجبا أن تكون الخلافة بالصحابة، ولا تكون بالصحابة والقرابة». يشير الإمامً علیه السلام هنا إلى قول عمر لأبي بكر في السقيفة: أنت صاحب رسول الله في المواطن كلها، شدتها ورخائها، فامدد أنت يدك، فهنا يرى الإمام علي علیه السلام إذا احتج عمر على استحقاق أبي بكر الخلافة بالصحابة، فهلا سلم عمر ذلك إلى من شارك أبي بكر في ذلك وزاد عليه بالقرابة(4).

ولكن الإمام عليّاً علیه السلام يقول: «إن الأئمة من قريش، غرسوا في هذا البطن من هاشم، لا تصلح على سواهم، ولا تصلح الولاة من غيرهم». لقد واجه ابن أبي الحديد إشكالا في شرحه لهذا النص، فالمعروف أنه شرح نهج البلاغة

ص: 338


1- الشرح 1 / 147
2- الشرح 1 / 150
3- الشرح 10 / 254
4- الشرح 18 / 416

طبقاً لقواعد المعتزلة، وهذا النص يفيد ما تذهب إليه الإمامية، لذا قال: «هذا الموضع مشكل، ولي فيه نظر: وإن صح أن عليّاً علیه السلام قاله قلت كما قال، لأنه ثبت عندي أن النبي صلی الله علیه و آله وسلم قال: «إنه مع الحق، وإن الحق يدور معه حيثما دار»، ويمكن أن يتأول ويطبق على مذهب المعتزلة فيحمل على أن المراد به كمال الإمامة كما حمل قوله صلی الله علیه و آله وسلم: «لا صلاة لجار المسجد إلَّا في المسجد»(1) على نفي الكمال لا على نفي الصحة»(2).

كان الإمام عليّ علیه السلام يرى أن الإمامة لا يتولاها الفاسق، ولا بد للإمام من صفات مخصوصة، منها «إنه لا ينبغي أن يكون على الفروج والدماء والمغانم والأحكام وإمامة المسلمين البخيل، فتكون في اموالهم نهمته ولا الجاهل فيظلمهم بجهله، ولا الجافي فيقطعهم بجفائه، ولا الحائف(3) للدول فيتخذ قوماً دون قومٍ، ولا المرتشي في الحكم، فيذهب بالحقوق ويقف بها دون المقاطع، ولا المعطل للسنّة، فيهلك الأمة»(4).

فلما كان علیه السلام أول السابقين، وجب أن يكون اقرب المقربين، حيث يقول تعالى:

«وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ»(5).

ولما كان اقرب المقربين، وجب أن تنتفي عنه الموانع الستة أعلاه التي جعلها سبباً في عدم استحقاق صاحبها الإمامة، وهي البخل، والجهل، والجفاء - أي

ص: 339


1- اخرجه: الباقلاني: التمهيد 1 / 370
2- الشرح 9 / 84، 87، 88
3- هو الظالم والجائر في تقسيم الاموال فيخص قو ماً دون قوم، الشرح 8 / 266
4- الشرح 8 / 265، 264
5- سورة الواقعه، الآية: 10

الغلظة - والعصبية، تقديم قوم على آخرين، والارتشاء في الحكم، وتعطيل السنةّ، فإذا ما انتفت هذه الموانع الستة عنه علیه السلام توجب أن يكون هو الإمام، لأن شروط الإمامة موجودة فيه بالاتفاق فإذا كانت موانعها عنه منتفية، ولم يحصل لغيره اجتماع الشروط وارتفاع الموانع، وجب أن يكون هو الإمام، لأنه لا يجوز خلو العصر من إمام سواء كانت هذه المسألة عقلية أو سمعية(1) ويضع الإمام عليّ علیه السلام شرطين آخرين لمن يتولى الإمامة إذ يقول: «إن أحق الناس بهذا الأمر أقواهم عليه، وأعلمهم بأمر الله فيه». والفرق بين الاقوى والاعلم، ان الاقوى هو الاحسن سياسة، أما الاعلم فهو الاكثر علماً واجراءً للتدبير بمقتضى العلم، وبينهما فرق واضح، فقد يكون سائساً حاذقاً، ولا يكون عالماً بالفقه، وقد يكون سائساً فقيهاً، ولا يجري التدبير على مقتضى علمه وفقهه(2).

ولذا كان الإمام علیه السلام يرى ان العدول بالإمامة عنه إلى غيره اخراج لها إلى غير جهة الاستحقاق، لذلك شبه ذلك بادلاء الانسان بماله إلى الحاكم، فانه اخراج للمال إلى غير وجهه(3).

وطبقاً لهذه الرؤية فسر ابن أبي الحديد كلام الإمام الجاري في هذا المعنى، ففي شرحه للخطبة الشقشقية(4) قال: «إنه لما كان أمير المؤمنين علیه السلام هو الأفضل

ص: 340


1- الشرح 8 / 265. يقول الصاحب بن عباد: من الخیر فاحصوه فإني أعدِّدُ *** تجمَّع فيهِ ما تفرَّقَ في الوَرى ديوان الصاحب ص 34
2- الشرح 9 / 328 - 329
3- الشرح 1 / 162 - 163
4- إحدى خطب الإمام علي علیه السلام التي أوضح فيها رؤيته إلى نظام الحكم بعد الرَّسول صلی الله علیه و آله وسلم وقد أثيرت الشكوك حولها، ولكن ابن أبي الحديد أكد صحة وجودها وصدورها عن الإمام علیه السلام في مصادر غير الشريف الرضي. الشرح 1 / 151 - 206. وانظر: سبط ابن الجوزي الذي قال عنها: «ذكر بعضها صاحب النهج، وأخل بالبعض، وقد أتيت بها مستوفاة، أخبرنا بها شيخنا أبو القاسم النفيسي الانباري بإسناده عن ابن عباس…». ثم ذكر نص الخطبة. تذكرة ص 124 - 5. الشهرستاني: ما هو نهج البلاغة ص 23 - 40

والأحق، وعدل عنه إلى من لا يساويه في فضل، ولا يوازيه في جهاد وعلم، ولا يماثله في سؤدد وشرف، ساغ إطلاق هذه الالفاظ، وإن كان من وسم بالخلافة قبله عدلاً تقياً، وكانت بيعته بيعة صحيحة»(1).

وفي احتجاجه علیه السلام على أهل الشورى: «إنما أطلب حقاً لي وأنتم تحولون بيني وبينه وتضربون وجهي دونه» قال ابن أبي الحديد إن المعتزلة تحمل هذا الكلام على ادعائه علیه السلام الأمر بالافضلية والأحقية وهو الحق والصواب، لأن حمله على الاستحقاق بالنص يعني تكفير أو تفسيق وجوه المهاجرين والانصار، وانتقد الإمامية والزيدية لاخذهم هذه الالفاظ على ظاهرها «ولعمري إن هذه الالفاظ موهمة مغلبة على الظن ما يقوله القوم؛ ولكن تصفّح الأحوال يبطل ذلك الظن؛ ويدرأ ذلك الوهم، فوجب أن يجري مجرى الآيات المتشابهات الموهمة مالا يجوز على البارئ، فإنه لا نعمل بها، ولا نعول على ظواهرها، لأنّا لما تصفحنا أدلة العقول اقتضت العدول عن ظاهر اللفظ، وإن تحمل على التأويلات المذكورة في الكتب»(2).

وكذلك حمل المعتزلة كلام الإمام علي علیه السلام «اللهم إني أستعديك على قريش

ص: 341


1- الشرح 1 / 157
2- الشرح 9 / 307، 305

ومن اعانهم، فانهم قد قطعوا رحمي؛ واكفئوا إنائي، واجمعوا على منازعتي حقاً كنت اولى به من غيري، وقالوا: ألا إن في الحق أن تأخذه وفي الحق أن تمنعه، فاصبر مغموماً، أو مت متأسفاً». هذا الكلام حمله المعتزلة على تألمه وتظلمه منهم إذ تركوا الأولى والافضل(1).

ولكننا لاحظنا أن ابن أبي الحديد(2) في ايضاحه للدافع الذي دفع الامام لذكر نعم الله عليه إنما هو «من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي هو تقديم غيره عليه في الفضل، فقد نهى الله سبحانه عن ذلك بقوله:

«أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ»(3).

إذن هنا ابن أبي الحديد يؤكد على أن الله سبحانه وتعالى نهى عن تقديم المفضول على الأفضل، فكيف يعتقد ابن أبي الحديد بجواز ذلك؟ الملاحظ ان ابن أبي الحديد ادرك قوة النصوص التي توضح احتجاجات الامام علیه السلام في تأكيد حقه لذا أضطر إلى أستخدام التأويل واجراها مجرى الآيات المتشابهة هروبا من الحقيقة التي أشار إليها وهي أن الاخذ بظاهر هذه النصوص يعني تكفير أو تفسيق الصحابة.

إذا كان الإمام عليّ علیه السلام هو من أراده الرسول صلی الله علیه و آله وسلم لتولي قيادة الأمة من بعده، ليس بطريق النص وإنما بالافضلية، اذن لماذا اختار المسلمون أبا بكر للخلافة؟

ص: 342


1- الشرح 11 / 109 - 111
2- الشرح 9 / 75
3- سورة يونس، الآية: 35

وما هو موقف الإمام من هذا الاختيار حسب الرؤية الإعتزالية؟.

لدى المعتزلة قاعدة تقول بجواز إمامة المفضول مع وجود الأفضل(1)، فإمامة أبي بكر وعمر وعثمان صحيحة مع وجود الأفضل وهو الإمام عليّ علیه السلام ولكن ابن أبي الحديد لم يستقر على رأي واحد حول مصدر هذه القاعدة وإنما يشير إلى تعدد مصادر هذه القاعدة:

المصدر الأول: الله سبحانه وتعالى إذ يقول: «واقتضت حكمته أن ….قدم المفضول على الأفضل لمصلحة اقتضاها التكليف»(2).

المصدر الثاني: الله والرسول صلی الله علیه و آله وسلم: «وانه لولا ما يعلمه الله ورسوله من أن الاصلح للمكلفين تقديم المفضول عليه»(3).

المصدر الثالث: الصحابة: «فاصحابنا رحمهم الله لما أحسنوا الظن بالصحابة - وحملوا ما وقع منهم على وجه الصواب، وإنهم نظروا إلى مصلحة الإسلام، وخافوا فتنة لا تقتصر على ذهاب الخلافة فقط، بل وتفضي إلى ذهاب النبوة والملة، فعدلوا عن الأفضل الأشرف الاحق، إلى فاضل آخر دونه فعقدوا له»(4).

إن الصحابة هنا أما أن يكونوا عدلوا عن الأفضل لعلة ومانع في الأفضل، أو لا لمانع، فإن كان لا لمانع كان ذلك عقداً للمفضول بالهوى، فيكون باطلاً وإن كان لمانع فكان على الإمام عليّ علیه السلام أن يعذرهم في العدول عنه، ويعلم أن

ص: 343


1- أنظر رؤية الصاحب بن عباد لعدم صحة ذلك، الصاحب بن عباد: نصرة مذاهب الزيدية، ص 89 - 98
2- الشرح 1 / 3. وقد لاحظنا أنه استشهد بالآية القرآنية التي تنهى عن ذلك
3- الشرح 2 / 296
4- الشرح 1 / 157، 11 / 111

العقد لغيره كان مصلحة للاسلام، فكيف حسن منه أن يشكوهم بعد ذلك ويتوجد عليهم! وايضاً فما معنى قوله «فطفقت ارتأي بين أن اصول بيد جذّاء»، فإن ترك الأولى لا يصال عليه بالحرب(1).

اوضح ابن أبي الحديد الرؤية الاعتزالية حول هذه التساؤلات في أنه يجوز أن الإمام عليّاً علیه السلام لم يغلب على ظنه ما غلب على ظنون الصحابة من الشغب وثورات الفتنة، حيث أن الظنون تختلف باختلاف الإمارات، فنجد انساناً يغلب على ظنه أمر، أما غيره فيغلب على ظنه خلافه، وتفسير المعتزلة لقوله علیه السلام «ارتأي بين أن اصول» يجوز أنه أراد بها صيال الجدال والمناظرة وليس الحرب، فلو كان جادلهم فربما خصموه بأن يقولوا له: قد غلب على ظنوننا أن الفساد يعظم ويتفاقم إن وليت الأمر، ولا يجوز مع غلبة ظنوننا لذلك أن نسلم الأمر اليك، لذا قال علیه السلام: طفقت ارتأي بين أن اذكر لهم فضائلي عليهم، وأحاجّهم بها، فيجيئوني بهذا الجواب، الذي تصبح به حجتي جذّاء مقطوعة، ولا قدرة لي على تشييدها ونصرتها، وبين أن اصبر على ما آل إليه الأمر(2).

إذا كان علیه السلام لم يغلب على ظنه وجود العلة والمانع، وكان قد استراب الصحابة وشكاهم لعدولهم عن الأفضل الذي لا علة فيه عنده، اذن فقد ظلم الصحابة، ونسبهم إلى غصب حقه، فما الفرق بين ذلك وبين أن يستظلمهم لمخالفة النص؟ وكيف هرب المعتزلة من نسبته علیه السلام لهم إلى الظلم لدفع النص، ووقعوا في نسبته إلى الظلم لخلاف الاولى من غير علة في الاولى، ومعلوم أن مخالفة الاولى من غير

ص: 344


1- الشرح 1 / 158
2- الشرح 1 / 158. وانظرالهاشمي: منهاج البراعة 2 / 416 - 420

علة فيه كتارك النص لأن العقد في كلا الموضعين يكون فاسداً(1).

اوضح ابن أبي الحديد رؤية المعتزلة بان هناك فرقاً ظاهراً بين الامرين، لأن الإمام علیه السلام لو نسبهم إلى مخالفة النص، لوجب وجود النص، ولو كان موجوداً لكانوا كفاراً أو فسّاقاً لمخالفته، وأما إذا نسبهم لترك الاولى من غير علة في الاولى، فقد نسبهم إلى أمر يدعون فيه خلاف ما يدعي - علیه السلام -، وأحد الامرين لازم، وهو إما أن يكون ظنهم صحيحاً أو غير صحيح، فإن كان صحيحاً فالمسألة لا كلام فيها، وإن لم يكن صحيحاً كانوا كالمجتهد إذا ظن واخطأ فإنه معذور، ومخالفة النص أمر خارج عن هذا الباب لأن مخالفه غير معذور بحال(2).

واشار ابن أبي الحديد أن الإمام عليّاً - علیه السلام - كان أولاً يظن أن العقد لغيره كان عن غير نظر في المصلحة، وأنه لم يقصد به إلّا صرف الأمر عنه، أو الاستئثار عليه فظهر منه ما ظهر من الامتناع والقعود في بيته، إلى أن صحّ عنده وثبت في نفسه أنهم أصابوا فيما فعلوه، وأنهم لم يميلوا إلى هوى، ولا أرادوا الدنيا، وإنما فعلوا الاصلح في ظنونهم(3).

الملاحظ على ابن أبي الحديد أنه يضع آراء لتفسير الاحداث ثم يجعل من هذه الآراء وكأنها مواقف الإمام والصحابة، وهذا أمر جداً خطير والظاهر أن الذي يدفعه لذلك قوة النصوص التي تؤكد صحة النص على الإمام علي علیه السلام، وهذا يعني تفسيق الصحابة لذلك يعمل بكل جهده لتأويل هذه النصوص حسب رؤيته الاعتزالية، والاغرب ماينسبه للإمام بأنه علیه السلام ادرك فيما بعد صحة

ص: 345


1- الشرح 1 / 158 - 159
2- الشرح 1 / 159
3- الشرح 11 / 112

مافعله الصحابة ولكن لا ندري على أي نص اعتمد ابن أبي الحديد في رأيه هذا؟!!.

المصدر الرابع: الإمام عليّ علیه السلام أن الإمام عليّاً - علیه السلام - ادرك المصلحة لذا ترك حقه لغيره(1).

ولكن ما هي هذه المصلحة؟ ومن الذي اوعز للإمام بذلك؟ هنا يقدم لنا ابن أبي الحديد أربع حيثيات:

الاولى: إن الرَّسول صلی الله علیه و آله وسلم أمر الإمام بذلك، ففي قوله علیه السلام: «فنظرت في أمري، فإذا طاعتي قد سبقت بيعتي، وإذا الميثاق في عنقي لغيري»(2).

هذه الخطبة اوضح فيها الإمام عليّ - علیه السلام - حالة بعد وفاة النبي صلی الله علیه و آله وسلم وأنه كان معهوداً إليه الا ينازع في الأمر، ولا يثير فتنة، بل يطلبه بالرفق، فإن حصل له وإلا أمسك، «هكذا كان يقول علیه السلام وقوله الحق، و تأويل هذه الكلمات: فنظرت في أمري فإذا طاعتي لرَسول الله صلی الله علیه و آله وسلم أي وجوب طاعتي، فحذف المضاف، واقام المضاف إليه مقامه، قد سبقت بيعتي للقوم، أي وجوب طاعة رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم عليَّ، ووجوب امتثالي امره سابق على بيعتي للقوم، فلا سبيل ليَّ إلى الامتناع من البيعة لأنه صلی الله علیه و آله وسلم أخذ عليَّ الميثاق بترك الشقاق والمنازعة فلم يحل لي، أن أتعدى أمره، أو أخالف نهيه»(3).

وأضاف ابن أبي الحديد أن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم أخبر الإمامً علیه السلام بأن الإمامة حقه

ص: 346


1- الشرح 1 / 140. وانظر الجاحظ: استحقاق الإمامة ص 182 - 3
2- الشرح 2 / 284. وانظر نص كلام الإمام علي علیه السلام البيهقي: المحاسن ص 51
3- الشرح 2 / 295 - 296

وأنه اولى بها من كل الناس، واعلمه أن في تقديم غيره وصبره على التأخر عنها مصلحة للدين راجعة إلى المكلفين، وأنه يجب أن يمسك عن طلبها، ويغضي عنها لمن هو دون مرتبته، فامتثل ما امره به رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم، ولم يخرجه تقدم من تقدم عليه من كونه الأفضل والاولى والاحق(1).

إن ابن أبي الحديد يقرر هنا أن النبي صلی الله علیه و آله وسلم يرى بأن الإمامة حق للإمام علیه السلام، وما يراه النبي صلی الله علیه و آله وسلم هو بالتاكيد من عند الله، ولكن ذلك يتعارض مع مصلحة الدين. أليس هذا تناقضا؟!! إذ كيف يفرض الله ورسوله أمراً يتنافى مع مصلحة الدين؟!! الثانية: إن الإمامً علیه السلام ترك حقه لمّا لاحظ من حسد العرب له وكراهيتهم إياه(2). وانحرافهم عنه، وميلهم عليه، ولاحظ ثورات الاحقا د التي كانت في أنفسهم، واحتدام نيران قلوبهم، وتذكروا تراته التي وترهم بها، ثم اوضح ابن أبي الحديد الاسباب التي دفعت العرب للعدول عن الإمام عليّ علیه السلام وهي:

صغر سنه، واستهجان البعض تقديم الشباب على الكهول والشيوخ.

يرى البعض كراهية الجمع بين النبوة والخلافة في بيت واحد، فيجحفون على الناس.

استصعاب قوم شكيمته، وخوفهم شدته، وعلمهم بأنه - علیه السلام - لا يحابي ولا يداجي ولا يراقب ولا يجامل في الدين، وأن الخلافة تحتاج إلى من يجتهد برأيه، ويعمل بموجب استصلاحه.

ص: 347


1- الشرح 2 / 296
2- الشرح 1 / 140

حسد البعض إيّاه منذ عهد الرَّسول صلی الله علیه و آله وسلم لشدة اختصاصه بالرسول صلی الله علیه و آله وسلم، وتعظيم الرسول إيّاه وما قال فيه من الفضائل الدالة على رفعة شأنه، وعلو مكانه، وما اختص به من مصاهرته وأخوته، وغيرها من أحواله معه صلی الله علیه و آله وسلم.

تنكَّر البعض له ناسبين له العجب والتيه، حيث اتهموه باحتقاره البعض، واستصغاره الناس، «وإن كانوا عندنا كاذبين، ولكنه قول قيل، و أمر ذكر، وحال نسبت إليه، وأعانهم عليها ما كان يصدر منه من اقوال توهم مثل هذا، نحو قوله «فإنّا صنائِعُ ربِّنا، والناس بعدُ صنائُعٌّ لنا»(1).

ولذا فإن الإمام عليّاً علیه السلام صحَّ عنده أن الأمر لم يكن ليستقيم له يوماً واحداً، ولا ينتظم ولا يستمر، وأنه لو ولي الأمر لفتقت العرب عليه فتقاً يكون فيه استئصال شأفة الإسلام، وهدم اركانه، فأذعن بالبيعة، وجنح إلى الطاعة وأمسك عن طلب الخلافة، وإن كان على مضض. وهذه الرؤية هي رؤية متأخري معتزلة بغداد(2).

وأكد ابن أبي الحديد أن حال الإمام عليّ علیه السلام أشهر من أن يحتاج للايضاح حيث لوحظ انتقاض العرب عليه لما بويع للخلافة بعد خمس وعشرين سنة من وفاة الرَّسول صلی الله علیه و آله وسلم، وفي أقل من هذه المدة تنسى الأحقاد، وتموت الترات، وتبرد الاكباد الحامية، وتسلو القلوب الواجدة، ويمضي جيل من الناس، ويأتي جيل جديد، ولا يبقى من ارباب تلك الشحناء والبغضاء إلّا القليل، ومع كل ذلك فإن حاله مع قريش كانت كأنها حاله بعد وفاة الرَّسول صلی الله علیه و آله وسلم حيث ظهر ما

ص: 348


1- الشرح 11 / 112 - 113
2- الشرح 11 / 113 - 114

في النفوس، وهاج ما في القلوب، حتى أن الابناء والاحفاد الذين لم يشهدوا وقائعه علیه السلام وفتكاته في أسلافهم وآبائهم، فعلوا به ما لو كان الآباء موجودين لقصروا عن فعلهم، إذن يا ترى كيف يكون حاله لو تولى الخلافة بعد وفاة الرَّسول صلی الله علیه و آله وسلم مباشرة، إذن كانت تندرس أعلام الملة، وتنعفي رسوم الشريعة، وتعود الجاهلية الجهلاء، ويُفسَدُ ما أصلحه الرَّسول صلی الله علیه و آله وسلم، فكان من عناية الله بهذا الدين أن ألهم الصحابة ما فعلوه(1).

ولكن ابن أبي الحديد ناقض رأيه هذا في رده على قول معاوية للإمام عليّ علیه السلام: «لو وليتها حينئذ [بعد وفاة الرسول - صلی الله علیه و آله وسلم -] لفسد الأمر، واضطرب الإسلام».

قال ابن أبي الحديد: «لعله لو وليها حينئذ استقام الأمر وصلح الإسلام وتعهد، فإنه ما وقع الاضطراب عند ولايته بعد عثمان إلّا لأن أمره قد هان عندهم بتأخره عن الخلافة وتقدم غيره عليه، فصغر شأنه في النفوس، وقرر من تقدمه في قلوب الناس أنه لا يصلح لها كل الصلاحية، والناس على ما يحصل في نفوسهم، ولو كان وليها ابتداء وهو على تلك الحالة التي كان عليها أيام الرسول صلی الله علیه و آله وسلم وبتلك المنزلة الرفيعة، والاختصاص الذي كان له، لكان الأمر غير الذي رأيناه عند ولايته بعد عثمان»(2).

الثالثة: إن المصلحة في ترك نزاع القائمين بالأمر حيث لما وقعت بيعة أبي بكر لاحظ الإمام عليّ علیه السلام أن الأصلح للإسلام ترك النزّاع لأنه يخاف منه

ص: 349


1- الشرح 11 / 114
2- الشرح 17 / 252، 256

حدوث فتنة تحل معاقد الملة، وتزعزع اركانها، فحضر الإمام وبايع طوعاً(1).

وكذلك في قوله علیه السلام لأهل الشورى: «لقد علمتم أني أحق بها من غيري ووالله لاسلمن ما سلمت امور المسلمين، ولم يكن فيها جور إلَّا علي خاصة التماساً لأجر ذلك وفضله، وزهداً فيما تنافستموه من زخرفة وزبرجة».

يفسر ابن أبي الحديد هذا الكلام، بأن الإمام عليّاً - علیه السلام - يرى بأن الصحابة يعلمون بأنه احق بالخلافة، ومع ذلك فهو يقسم بأنه سيسالم ويترك المخالفة إذا كان في تسليمه و نزوله عن حقه سلامة امور المسلمين، ولم يكن الجور والحيف الا عليه، وهذا الكلام طبقه الإمام عليّ علیه السلام لأنه إذا علم أو غلب على ظنه أنه إن نازع وحارب دخل على الإسلام وهن وثلم، لم يختر له المنازعة، حتى وإن كان حقه، وإذا ما علم أو غلب على ظنه بالإمساك عن طلب حقه إنما يدخل الثلم والوهن عليه خاصة، ويسلم الإسلام من الفتنة، وجب عليه أن يغضي ويصبر على ما أتوا إليه من أخذ حقه علیه السلام، وكف يده، حراسة للإسلام من الفتنة(2).

إذا كان هذا هو التفسير لموقف الامام فلماذا لم يسلم الأمر لأصحاب الجمل أو معاوية، ويغض على اغتصاب حقه حفظاً للإسلام من الفتنة؟ إن الجور الداخل عليه هنا من اصحاب الجمل ومعاوية لم يكن مقتصراً عليه، بل كان يعم المسلمين جميعاً، لأنهم لم يكونوا عنده ممن يصلح لرياسة الأمة، وتحمل اعباء الخلافة، فلم يكن الشرط الذي اشترطه متحققاً وهو قوله: «ولم يكن فيه جور إلّا عليّ خاصة» وهذا الكلام يدل على أنه علیه السلام لم يكن يذهب إلى أن خلافة

ص: 350


1- الشرح 10 / 255. وانظر الصاحب بن عباد، نصرة مذاهب الزيدية ص 53
2- الشرح 6 / 166 - 167، 18 / 390

عثمان كانت تتضمن جوراً على المسلمين والاسلام، وإنما عليه فقط، وأنها وقعت على جهة مخالفة الاولى، لا على جهة الفساد الكلي والبطلان الأصلي(1).

ويخلص للقول إن ما جرى من عبد الرحمن وغيره يوم الشورى وإن كان لم يقع على وجه الأفضل، فإنه معفو عنه مغفور لفاعله، لأنه لو كان فسقاً غير مغفور، لم يقل الإمام علیه السلام: عفا الله عما سلف(2).

الرابعة: إن السبب الذي دفع الإمام لترك الأمر هو عدم وجود من ينصره حيث يقول علیه السلام: «لولا حضور الحاضر، وقيام الحجة بوجود الناصر»، أشار ابن أبي الحديد أن الإمام علیه السلام هنا يشير إلى أن الذي دفعه للقيام بالأمر بعد عثمان هووجود الناصر(3).

إذن لما اقتضت المصلحة تقديم المفضول على الأفضل، فما هو موقف المعتزلة من بيعة المفضول؟ صحيح أن الإمام عليّاً علیه السلام هو الأفضل، ولكن العدول عنه إلى من لا يساويه في فضل، ولا يوازيه في جهاد وعلم، ولا يماثله في سؤدد وشرف، فإن بيعة المفضول أيضاً صحيحة، ويضرب ابن أبي الحديد مثالاً إنه قد يوجد في بلد ما فقيهان أحدهما أعلم من الآخر، فيجعل السلطان الأقل علماً قاضياً، مما يؤدي بالآخر إلى التوجد والتألم والشكوى، ولكن ذلك لا يكون طعناً في القاضي الأقل، ولا تفسيقاً له، ولا حكمنا فيه بأنه غير صالح(4).

ص: 351


1- الشرح 6 / 167
2- الشرح 10 / 63
3- الشرح 1 / 203. وانظر: الصاحب بن عباد: نصرة مذاهب الزيدية ص 53 - 54
4- الشرح 1 / 157. قارن رؤية الأمامية. الهاشمي: منهاج البراعة 4 / 145 - 151

إن هذا المثال الذي ضربه ابن أبي الحديد لا يماثل موضوع الإمامة، فالإمامة وهي رئاسة دينية ودنيوية لشتى مناحي الحياة تختلف عن القضاء الذي لا تتعدى مهمته الفصل بين الخصوم، وإن تعدت فإلى الإشراف على بعض المسائل المالية.

ومع أن الإمام عليّاً علیه السلام - برأي المعتزلة - يرى أن الاحق بالإمامة هو الأقوى والاعلم فهذا لا ينافي صحة إمامة المفضول لأنه علیه السلام لم يقل إن إمامة غير الاقوى فاسدة، ولكنه يرى أن الاقوى احق، والمعتزلة تعترف بأنه علیه السلام احق ممن تقدمه مع قولهم بصحة امامة المتقدمين، لأنه لا منافاة بين كونه احق وبين صحة إمامة غيره(1).

ولكن بيعة المفضول يحكم بصحتها بلحاظ موقف الإمام علي علیه السلام في حالة عدم تنازعه، أمَّا لو نازع الإمام لحكم بتفسيق هذا المنازع.

يقول أبو القاسم البلخي الكعبي، أحد كبار معتزلة بغداد «لو نازع عقيب وفاة رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم، وسل سيفه لحكمنا بهلاك كل من خالفه وتقدم عليه كما حكمنا بهلاك من نازعه حين اظهر نفسه. ولكنه مالك الأمر وصاحب الخلافة إذا طلبها، وجب علينا القول بتفسيق من ينازعه فيها، وإذا امسك عنها وجب علينا القول بعدالة من اغضى له عليها، وحكمه في ذلك حكم رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم لأنه قد ثبت عنه في الاخبار الصحيحة إنه قال: «عليّ مع الحق، والحق مع عليّ يدور حيثما دار» وقال غير مرة «حربك حربيّ وسلمك سلميّ»(2).

ص: 352


1- الشرح 9 / 823
2- الشرح 2 / 296 - 297

إن المعتزلة تحمل كلام الإمام عليّ - علیه السلام - على ما يقتضيه سؤدده الجليل، ومنصبه العظيم، ودينه القويم، من الإغضاء عما سلف ممن سلف حيث صاحبهم بالمعروف دهرا، فإما أن يكون ما كانوا فيه حقهم أو حقه فتركه رفعاً لنفسه عن المنازلة أو لمصلحة رآها، وعلى كلا التقديرين رأى المعتزلة ان يطبقوا بين آخر اقواله وافعاله وأولها، فإذا ما بعد تأويل ما يتناول من كلامه، فهو ليس بأبعد من تأويل المعتزلة للآيات المتشابهات حيث لم يمنع بعدها من الخوض في تأويلها محافظة على الاصول المقررة(1)، لذا وجب على المعتزلة بعد مبايعته لأبي بكر ورضاه به ان يرضوا و يطيعوا لأنه الإمام القدوة وأفضل من تركه الرسول صلی الله علیه و آله وسلم(2)، حيث إن الإمام عليّاً عند المعتزلة بمنزلة الرَّسول صلی الله علیه و آله وسلم في تصويب قوله، والاحتجاج بفعله علیه السلام ووجوب طاعته، وإذا ما صح عن الإمام علي علیه السلام براءته من شخص ما، فإن المعتزلة تبرئ من هذا الشخص كائنا من كان بعد التأكد من صحة براءة الإمام منه، لأنه علیه السلام اكُثر من الكذب عليه، وولدت العصبية احاديث لا أصل لها، ولذلك فان براءة الامام من المغيرة وعمرو بن العاص ومعاوية من الامور المعلومة لدى المعتزلة والمتواترة، ولذا فالمعتزلة لا تتولاهم، ولكن حاشا للامام علیه السلام أن يكون ذكر من سلف من المهاجرين إلّا بالجميل والذكر الحسن بموجب ما تقتضيه رئاسته في الدين، وإخلاصه في طاعة رب العالمين «ومن أحب تتبع ما روى عنه مما يوهم في الظاهر خلاف ذلك، فليراجع هذا الكتاب، أعني شرح نهج البلاغة، فإنا لم نترك موضعاً يوهم

ص: 353


1- الشرح 9 / 136
2- الشرح 10 / 255

خلاف مذهبنا إلَّا وأوضحناه، وفسرناه على وجه يوافق الحق وبالله التوفيق»(1).

ويرى المعتزلة أيضاً ان الإمام عليّاً علیه السلام أفضل الخلق في الآخرة، وأعلاهم منزلة في الجنة، وافضلهم في الدنيا، وأكثرهم خصائص ومزايا ومناقب، وكل من عاداه أو حاربه أو ابغضه، فإنه عدو لله سبحانه وخالد في النار مع الكفار والمنافقين، إلَّا أن يكون ممن ثبتت توبته ومات على توليه وحبه، أما بالنسبة إلى الافاضل من المهاجرين والانصار الذي تولوا الخلافة قبله، فلو أنه علیه السلام أنكر خلافتهم وغضب عليهم، وسخط فعلهم، أو شهر السيف، أو دعا إلى نفسه لحكم المعتزلة بهلاكهم، كما لو غضب عليهم الرَّسول صلی الله علیه و آله وسلم، ودليل المعتزلة على ذلك قوله: «حربك حربيّ وسلمك سلميّ». وقوله صلی الله علیه و آله وسلم: «اللَّهم والِ من والاه وعادِ من عاداه»، وقوله: «لا يحبك إلَّا مؤمن، ولا يبغضك إلَّا منافق»(2).

ولكن المعتزلة لما رأته علیه السلام رضي بإمامة من كان قبله، وبايعهم، و صلَّی خلفهم، وانكحهم واكل من فيئهم، فلم يكن لهم أن يتعدوا فعله، أو يتجاوزوا ما علم عنه، ولذا لما برئ من معاوية ولعنه، برئ المعتزلة منه ولعنوه ولما حكم علیه السلام بضلال أهل الشام ومن فيهم من بقايا الصحابة كعمرو ابن العاص وابنه عبد الله وغيرهما حكم المعتزلة بضلالهم: «والحاصل إنَّا لم نجعل بينه وبين النبَّي

ص: 354


1- الشرح 20 / 35
2- أخرجه: مسلم: الصحيح 2 / 64. الترمذي: صحيح 12 / 168، 177. ابن ماجه: صحيح 1 / 25. الحاكم: المستدرك 3 / 145. ابن حزم: الفصل 3 / 300، 4 / 224. ابن عبد البر: الاستيعاب 3 / 1100. البلوي: ألف باء 1 / 223. ابن الجوزي: صفة الصفوة 1 / 312. ابن تيمية: منهاج السنة 3 / 13. ابن كثير: البداية 7 / 355. ابن حجر: الاصابة 2 / 509. السيوطي: تاريخ الخلفاء ص 170

إلَّا رتبة النّبوة، وأعطيناه كل ما عدا ذلك من الفضل المشترك بينه وبينه، ولم نطعن في اكابر الصحابة الذين لم يصح عندنا أنه طعن فيهم وعاملناهم بما عاملهم علیه السلام به»(1).

ولذا فأن طاعة الإمام عليّ علیه السلام واجبة عند المعتزلة سواء بالاختيار أم بالنص كما عند الإمامية «وعلى التحقيق فلا فرق بيننا وبينهم في هذا المعنى، لأن من جهل إمامة عليّ علیه السلام، وانكر صحتها ولزومها فهو عند اصحابنا مخلد في النار، لا ينفعه صوم ولا صلاة، لأن المعرفة بذلك من الاصول الكلية التي هي اركان الدين، ولكن لا نسمي منكر إمامته كافراً - بل نسميه فاسقاً وخارجيّاً ومارقاً ونحو ذلك»(2).

وقد خصَّ معتزلة بغداد الإمام عليّاً - علیه السلام - من بين سائر الأمة بالصلاة عليه شأنه في ذلك شان النبي صلی الله علیه و آله وسلم، فهم يكرهون إذا ذكروه - علیه السلام - ان يقولوا:

صلى الله عليه، ولا يكرهوا ان يقولوا: صلوات الله عليه. فجعلوا اللفظة الاولى مختصة بالرسول صلی الله علیه و آله وسلم، والثانية مشتركة بينه و بين الرسول صلی الله علیه و آله وسلم، ولم يطلقوا لفظ الصلاة إلَّا على الرَّسول صلی الله علیه و آله وسلم وعليّ علیه السلام.(3) وتذهب المعتزلة إلى عدم عصمة الإمام علي علیه السلام، حيث يجد ابن أبي الحديد في نهج البلاغة نصاً يستدل به على ذلك، إذ يقول علیه السلام: «ألا لا يرعينّ مدّعٍ على نفسه، شغل من الجنة والنار أمامه، ساع مجتهد ينجو، و طالب يرجو، ومقصر في النار؛ ثلاثة وإثنان: ملك طار بجناحيه، ونبي أخذ الله بيده - لاسادس»(4).

ص: 355


1- الشرح 20 / 221 - 222
2- الشرح 18 / 373
3- الشرح 6 / 145
4- الشرح 1 / 275

أشار ابن أبي الحديد أن تقدير هذا الكلام «المكلفون على اقسام خمسة: ساعٍ مجتهد، وطالب راج، ومقصر هالك. ثم قال ثلاثة، أي فهؤلاء ثلاثة اقسام، وهذا ينظر إلى قوله سبحانه: «ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه، ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله»(1). ثم ذكر القسمين: الرابع والخامس فقال: هما ملك طار بجناحيه، ونبي أخذ الله بيده؛ يريد عصمة هذين النوعين من القبيح، ثم قال: «لا سادس». أي لم يبق في المكلفين قسم سادس، وهذا يقتضي أن العصمة ليست إلَّا للانبياء والملائكة ولو كان الإمام يجب أن يكون معصوماً لكان قسماً سادساً، فإذن قد شهد هذا الكلام بصحة ما تقوله المعتزلة في نفي اشتراط العصمة في الإمامة، اللهم إلَّا أن يجعل الإمام المعصوم داخلاً في القسم الأول، وهو الساعي المجتهد، وفيه بعد وضعف»(2).

وفي شرحه لقوله علیه السلام «فأني لست في نفسي بفوق إن أخطأ» قال: «هذا اعتراف منه علیه السلام بعدم العصمة فأما أن يكون كلامه على ظاهره أو على سبيل الهظم لنفسه كقوله صلی الله علیه و آله وسلم: ولا أنا إلا أن يتداركني برحمته(3)»(4).

ولكن - ابن متويه - أحد معتزلة البصرة. ومن القائلين بالتفضيل يرى أن الإمام عليّاً علیه السلام معصوم، وإن لم يكن واجب العصمة، كذلك يرى أن العصمة

ص: 356


1- سورة فاطر (32)
2- الشرح 1 / 277
3- اخرجه: مسلم: الصحيح 17 / 159. ابن ماجة: صحيح 2 / 409. الشريف الرضي: المجازات النبوية ص 117. ابن حزم:الفصل 3 / 213
4- الشرح 11 / 102، 107 - 108

ليست شرطاً في الإمامة، ولكن أدلة النصوص دلت على عصمة الإمام عليّ علیه السلام، والقطع على باطنه ومغيبه، وان ذلك أمر اختص به دون الصحابة، ويرى ابن أبي الحديد ان هناك فرقاً بين قولنا «زيد معصوم» وقولنا «زيد واجب العصمة» لأنه إمام ومن شرط الإمام أن يكون معصوماً، فالاعتبار الأول هو ما يذهب إليه المعتزلة، والثاني ما تذهب إليه الإمامية(1).

إذن حسب الرؤية الاعتزالية فالإمام علي علیه السلام إذا امسك عن طلب الخلافة - فمن يتولاها يحكم المعتزلة بصحة خلافته -؟!! مع ان ابن أبي الحديد يرى أن الإمام امسك عن الخلافة لأن الظرف لم يخدمه من حيث الأنصار.

اما إذا طلب الخلافة ونازعه منازع، فهنا يحكم المعتزلة بتفسيق الخارج عليه، طبقاً لذلك لنرى رؤية الاعتزال لاحداث خلافة الإمام علیه السلام.

ص: 357


1- الشرح 6 / 376 - 377

ص: 358

المبحث الثاني خلافة الإمام علي علیه السلام

اشارة

اثر مقتل الخليفة عثمان اجتمع بعض المهاجرين والانصار في المسجد النبوي وتداولوا الرأي فيمن يلي الأمر، فاتجهت الانظار صوب الإمام عليّاً علیه السلام فاقبلوا إلى بيته، ودعوه للبيعة وبعد مداولات معهم قرر الإمام عليّاً علیه السلام أن تكون بيعته في المسجد، فتمت البيعة في ظرف من أحلك الظروف التي مرت بالدولة الاسلامية حيث اختلف الناس في هذه البيعة، فالذي عليه أكثر الناس، وجمهور ارباب السير أنَّ طلحة والزبير بايعا الإمام طائعين غير مكرهين(1).

أما المناصرون لآل الزبير كعبد الله بن مصعب، والزبير بن بكار، ومن وافق قولهم من بني تيم بن مرة الذين لهم رغبة في طلحة فاشاروا إلى أن طلحة والزبير بايعا مكرهين(2). في الوقت الذي نجد أبا مخنف يؤكد اجماع المهاجرين والانصار بعد اجتماعهم في مسجد الرَّسول صلی الله علیه و آله وسلم ما عدا بضعة اشخاص

ص: 359


1- الشرح 4 / 7
2- الشرح 4 / 7

اعتزلوا(1) وهم عبد الله بن عمر، وسعد بن أبي وقاص، واسامة بن زيد، وأن الإمام لم يكرههم على البيعة، ويرى المعتزلة أن هؤلاء لم يتخلفوا عن البيعة، وإنَّما تخلفوا عن الاشتراك بحرب الجمل(2).

إنَّ اضطراب الاوضاع، ومقتل الخليفة عثمان، ثم قبول الإمام علیه السلام بالخلافة كان موضع طعن للبعض في قبول الإمام للخلافة لأنه بمقتضى رأيهم، كان على الإمام عليّ علیه السلام بعد مقتل الخليفة أن يغلق بابه، ويمنع الناس من الدخول عليه، وعند ذلك ستضطرب العرب ثم تعود إليه، فهو علیه السلام حسب رأيهم - قد تعين للأمر بحكم الوضع الحاضر آنذاك ولكن الإمام علیه السلام فتح بيته، وبسط يده، لذلك انتقض عليه(3).

هذا الرأي يرى المعتزلة خلافه، فالإمام عليّ علیه السلام كان يرى أن القيام بالأمر واجب عليه يومذاك لعدم من يصلح في ظنه للخلافة، وكيف يغلق بابه، وهناك من يدَّعي أن عثمان عهد إليه بالخلافة كعبد الله بن الزبير وكان مروان يطمع بها بشبهة أنه ابن عم الخليفة المقتول، ومعاوية لأنه من بني أمية وابن عم الخليفة المتقول، وأمير الشام لعشرين سنة سابقة، وكيف يسوغ للإمام علیه السلام أن يمتنع عن الخلافة إذا طلبه المسلمون، ويعلم انه لو امتنع فإنَّا ستصير إلى من لا يصلح لها، ولذلك فهو علیه السلام امتنع أولاً امتناع من يريد أن يعلم ما في

ص: 360


1- أنظر تفسير الحاكم في سبب عدم اشتراك هؤلاء بمعركة الجمل، المستدرك 3 / 124 - 127. وانظر القاضي: المغني 20 / 2 / 66 - 68
2- الشرح 4 / 8 - 10، 19 / 147 - 8
3- الشرح 10 / 256

قلوبهم ولما رأى منهم التصميم وافق لوجوب الموافقة عليه(1)، إذ يقول علیه السلام:

«لولا حضور الحاضر، وقيام الحجة بوجود الناصر، وما أخذ الله على العلماء الا يقاروا على كظه ظالم، ولا سغب مظلوم لالقيت حبلها على غاربها، و لسقيت آخرها بكاس أولها»(2).

عدّ الإمام علي علیه السلام وصوله للخلافة عودة للحق إلى نصابه إذ يقول: «الآن رجع الحق إلى أهله، ونقل إلى منتقله» وقد اضطر المعتزلة لتأويل النص، بأن الإمام علياً علیه السلام كان الاولى والأحق بالأمر ليس بالنص وانما بالافضلية - كما لاحظنا - وجائز لمن كان اولى بشيء فتركه ثم استرجعه ان يقول: «قد رجع الأمر إلى أهله»(3).

وبعد بيعته اتخذ جملة اجراءات:

الاجراء الأول: توزيع الاموال بالتساوي بين جميع المسلمين:

ألقى الإمام بعد بيعته مباشرة خطبة جاء فيها: «الا لا يقولن رجال منكم غداً قد غمرتهم الدنيا فاتخذوا العقار، وفجروا الأنهار وركبوا الخيول الفارهة، واتخذوا الوصائف الروقة؛ فصار ذلك عليهم عاراً وشناراً، إذا ما منعتهم ما كانوا يخوضون فيه، واصرتهم إلى حقوقهم التي يعلمون، فينقمون ذلك، ويستنكرون ويقولون: حرمنا ابن أبي طالب حقوقنا! الا وأيَّما رجل من المهاجرين والانصار من اصحاب رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم يرى ان الفضل له على

ص: 361


1- الشرح 10 / 256 - 257
2- الشرح 1 / 202 - 203
3- الشرح 1 / 140

من سواه لصحبته، فان الفضل النير غداً عند الله، وثوابه واجره على الله، وأيَّما رجل استجاب لله وللرسول، فصدق ملتنا، ودخل في ديننا، واستقبل قبلتنا، قد استوجب حقوق الإسلام وحدوده؛ فانتم عباد الله، والمال مال الله، يقسم بينكم بالسوية، لا فضل فيه لأحد على أحد، وللمتقين عند الله غداً احسن الجزاء، وافضل الثواب، وما عند الله خير للابرار، وإذا كان غداً إن شاء الله فاغدوا علينا، فإن عندنا مالاً نقسمه فيكم، ولا يتخلفن أحد منكم، عربي ولا اعجمي، كان من أهل العطاء، أو لم يكن إلَّا حضر، إذا كان مسلماً حراً»(1).

كان توزيع الاموال بالتساوي مدعاة لتذمر بعض كبار الصحابة وغيرهم(2) لذا لم يستلموا العطاء، لأن الامام خالف طريقة الخليفة عمر القائمة على التفضيل في العطاء حسب القرابة والسابقة والغناء والحاجة في الإسلام. لذا قالوا للإمام علیه السلام: «إنَّك جعلت حقنا في القسم كحق غيرنا وسويت بيننا وبين من لا يماثلنا فيما افاء الله تعالى علينا باسيافنا ورماحنا، واوجفنا عليه بخيلنا ورجلنا، وظهرت عليه دعوتنا، واخذناه قسراً قهراً ممن لا يرى الإسلام الا كرها»(3).

اوضح الامام في اجابته ان التساوي في العطاء أمر حكم به الرسول صلی الله علیه و آله وسلم، ونطق به القرآن، واما مسألة ما افاء به الله «باسيافنا ورماحنا» فأكد الإمام عليّ علیه السلام أنه سبق إلى الإسلام قوم نصروه بسيوفهم ورماحهم فلم يفضلهم الرسول صلی الله علیه و آله وسلم،

ص: 362


1- الشرح 7 / 37. وانظرها في المحمودي: نهج السعادة 1 / 208 - 9
2- القاضي عبد الجبار: المغني 20 / 2 / 68
3- الشرح 7 / 41

لأن الله سبحانه موف السابق والمجاهد يوم القيامة(1).

تجدر الاشارة أن سياسة التساوي في العطاء كانت من جملة سياسة الخليفة أبي بكر، والتي سار بها محتذياً سياسة الرسول صلی الله علیه و آله وسلم، ولم تكن تقابل بالتذمر، إذن لماذا قوبلت سياسة الإمام عليّ علیه السلام بالتذمر؟ في الواقع إن الخليفة أبا بكر قسم محتذياً بالرسول صلی الله علیه و آله وسلم فلما تولى عمر الخلافة، وفضل قوماً على آخرين ألفِوا ذلك، ونسوا القسمة الاولى، وقد طالت خلافة عمر عشر سنوات، فاعتادت القلوب على الاموال وكثرة العطاء، ولم يكن يخطر بالبال تغير الحال، فلما تولى عثمان الخلافة لاثنتي عشرة سنة اجرى الأمر على ما كان عليه عمر، فازداد وثوق الناس بذلك، ومن الف شيئاً شق عليه فراقه، فلما جاء الامام وارجع الأمر إلى ما كان أيام الرسول صلی الله علیه و آله وسلم وابي بكر، وقد نُسي ذلك وتخلله اثنتان وعشرون سنة، شق ذلك عليهم، وأنكروه وأكبروه(2).

الاجراء الثاني: إعادة القطائع إلى بيت المال:

اتخذ الامام موقفاً متشدداً ازاء القطائع التي اقطعت لافراد الاسرة الأموية، وكان رأيه ان تعاد ملكيتها لبيت المال إذ يقول: «والله لو وجدته قد تزوج به النساء، وملك به الاماء؛ لرددته، فإن في العدل سعة، ومن ضاق عليه العدل، فالجور عليه اضيق». وقد كان الخليفة عثمان اقطع بعضاً من افراد الاسرة الأموية واصحابه قطائع من ارض الخراج، فإذا كان الخليفة عمر قد اقطع لارباب الغناء في الحرب والجهاد، ثمناً لما بذلوه من مهجهم في طاعة الله سبحانه، فان عثمان اقطع صلة لرحمه عن غير غناء في الجهاد، لذا أمر

ص: 363


1- الشرح 7 / 41 - 42
2- الشرح 7 / 42 - 43

الامام باعادة كل ذلك لبيت المال(1).

الاجراء الثالث: عزل الولاة:

صور الامام ان الدين كان عند الولاة في عهد عثمان اسيراً، لأنهم لم يقضوا بالحق، وإنما بالهوى لطلب الدنيا، لذا اتخذ قرار عزلهم بأجمعهم(2).

هذه الاجراءات زادت من حدة موقف الاسرة الأموية من الإمام علي علیه السلام وقد استغل عمرو بن العاص ذلك، فابرق إلى معاوية برسالة يحذره من نوايا الإمام عليّ علیه السلام، وانشد الوليد بن عقبة بن أبي معيط شعراً عده الخليفة العباسي المنصور السبب في التفريق بين بني عبد مناف، حيث ندد بسياسة الإمام علي علیه السلام(3).

والملاحظ ان الوضع الذي آل إليه المسلمون إلى درجة مقتل الخليفة دعا الإمام لاحداث تغيير جذري في السياسة العامة للدولة، من مسألة توزيع الاموال، والقطائع، والولاة، ما دامت هذه المسائل من الامور التي اججت الوضع.

إ ن هذه السياسة دفعت الناقمين عليها للخروج على الإمام علي علیه السلام مستغلين قميص عثمان ورقة سياسية للوصول إلى غاياتهم، لذا وجهت للامام تهمة مقتل الخليفة، أو التواطؤ مع قتلته، وكان ذلك هو المبرر لمعارك الجمل وصفين وباقي احداث خلافة الإمام علیه السلام.

ص: 364


1- الشرح 1 / 269. وانظر قول الامام: المحمودي: نهج السعادة 1 / 186 - 187
2- الشرح 17 / 6. وانظر الطبري: تاريخ 4 / 442
3- الشرح 1 / 27. وانظر المسعودي: مروج الذهب 2 / 356. أبو الفرج: الاغاني 5 / 134، 163

فيا ترى ما هو موقف الإمام علي - علیه السلام - من مقتل الخليفة عثمان حسب الرؤية الاعتزالية؟ من خلال بضعة نصوص وردت في كلام الإمام علي علیه السلام استنتج ابن أبي الحديد براءة الإمام مما نسب إليه، فالإمام علي علیه السلام كان يرى أن عثمان ضعف عن تدبير أمر الخلافة، وأن أهله غلبوا عليه، واستبدوا بالأمر دونه، واستعجزه المسلمون، واستسقطوا رأيه، لذا صار حكمه حكم الإمام إذا عمي، أو اسره العدو فإنه ينخلع من الإمامة(1).

واضطر ابن أبي الحديد لتأويل كلام الإمام علیه السلام في عثمان: «لو امرت به، لكنت قاتلاً، أو نهيت عنه لكنت ناصراً، غير أن من نصره لا يستطيع أن يقول:

خذله من أنا خير منه، ومن خذله لا يستطيع أن يقول: نصره من هو خير مني؛ وأنا جامع لكم امره، استأثر فاساء الاثرة، وجزعتم فأسأتم الجزع، ولله حكم واقع في المستأثر والجازع».

هنا لم يحمل ابن أبي الحديد الكلام على ظاهره لسببين: الأول: ثبوت عصمة دم عثمان. الثاني: ثبت في السير والاخبار أنه كان علیه السلام ينهى الناس عن قتله.

إذن يجب أن يحمل لفظ (النهي) على المنع، كما يقال: الامير ينهى عن نهب اموال الرعية، أي يمنع، فحينئذ يستقيم الكلام، لأنه علیه السلام ما أمر بقتله ولا منع عن قتله لأنه كان ينهى باللسان وليس باليد، ولكن النهي عن المنكر واجب، فهلا منع من قتله باليد؟ ترى المعتزلة «أن المنع باليد يجب إذا كان حسناً، وإنما يكون الإنكار حسناً

ص: 365


1- الشرح 9 / 152 - 154

إذا لم يغلب على ظن الناهي عن المنكر أن نهيه لا يؤثر، فإن غلب على ظنه أن نهيه لا يؤثر قبح انكار المنكر، لأنه إن كان الغرض تعريف فاعل القبيح قبيح ما أقدم عليه، فذلك حاصل من دون الانكار؛ وان كان الغرض ألّا يقع المنكر، فذلك غير حاصل؛ لأنه قد غلب على ظنه أن نهيه وإنكاره لا يؤثر، لذلك لا يحسن من الانسان الانكار على اصحاب المآصر ما هم عليه من أخذ المكوس، لما غلب على الظن أن الإنكار لا يؤثر، وهذا يقتضي أن يكون أمير المؤمنين علیه السلام قد غلب على ظنه أن انكاره لا يؤثر فلذلك لم ينكر»(1).

وأشكل على ابن أبي الحديد تأويل كلام ورد في كتاب الإمام علي علیه السلام لأهل مصر لما ولى عليهم مالكاً الاشتر إذ وصفهم بأنَّهم (غضبوا لله حين عصي في ارضه، وذهب بحقه».

قال ابن أبي الحديد: «هذا الفصل يشكل علي تأويله، لأن أهل مصر هم الذين قتلوا عثمان، وإذا شهد امير المؤمنين علیه السلام انهم غضبوا لله حين عصي في ارضه، فهذه شهادة قاطعة على عثمان بالعصيان، واتيان المنكر، ويمكن ان يقال وان كان متعسفاً: ان الله تعالى عصي في الارض لا من عثمان، بل من ولاته وامرائه واهله، وذهب بينهم بحق الله وضرب الجور سرادقه بولايتهم، وامرهم على البر والفاجر والمقيم والظاعن، فشاع المنكر، وفقد المعروف»(2).

ولكن هؤلاء الذين غضبوا لله قد آل امرهم أنهم قطعوا المسافة من مصر إلى المدينة فقتلوا الخليفة: فلا تعدوا حالتهم امرين:

ص: 366


1- الشرح 2 / 126 - 129. وانظر نص كلام الإمام: المحمودي: نهج السعادة 1 / 219
2- الشرح 16 / 156 - 157

أن يكونوا أطاعوا الله فيكون عثمان عاصياً، أو يكونوا اسخطوا الله بقتل عثمان، فعثمان على حق وهم فساق، فكيف يبجلهم الإمام ويخاطبهم خطاب الصالحين؟ هنا يرى ابن أبي الحديد أن أهل مصر لما غضبوا لله وجاءوا إلى المدينة، وأنكروا على عثمان تأميره الامراء الفساق وحصروه في داره طلباً ان يدفع لهم مروان على ما كتبه في امرهم، فلما حصر الخليفة طمع فيه مبغضوه واعداؤه من أهل المدينة، وصار معظم الناس إلباً عليه، فهنا أصبح عدد المصريين قليلاً بالنسبة إلى ما اجتمع في المدينة من الناس الذين يطالبون الخليفة بعزل نفسه، وتسليم مروان، وعزل الولاة، ولم يكونوا يطلبون الخليفة نفسه، ولكن البعض تسوَّروا داره فرماهم عبيد الخليفة، وجرحوا بعضهم، فدعاهم الحال للنزول والاحاطة بالخليفة، فتسرع إليه احدهم فقتل الخليفة، وتمكن عبيد عثمان من قتل القاتل، فلا يلزم من فسق ذلك القاتل، أن يفسق الباقون، لأنهم ما انكروا الا المنكر، واما القتل فلم يقع منهم، فجاز للامام ان يقول انهم غضبوا لله، وان يثني ويمدحهم.

وكذلك اضطر ابن أبي الحديد لتأويل كلام الإمام الذي يرويه قيس بن أبي حازم إذ يقول: سمعت علياً علیه السلام يقول: «يا ابناء المهاجرين؛ إنفروا إلى أئمة الكفر، وبقية الاحزاب، وأولياء الشيطان، إنفروا إلى من يقاتل على دم حمال الخطايا، فوالله الذي فلق الحبة، وبرأ النسمة، إنه ليحمل خطاياهم إلى يوم القيامة لا ينقص من اوزارهم شيئاً»(1).

أولاً: طعن ابن أبي الحديد في الراوي وهو قيس بن أبي حازم لأنه قال في حقِّ الإمام عليّ علیه السلام «فابغضته، فدخل بغضه في قلبي». والمعتزلة ترى بأن من

ص: 367


1- الشرح 16 / 157

يبغض الإمام عليّاً علیه السلام لا تقبل روايته(1).

ثانياً: يرى أن الاشهر في الرواية صدر الحديث، واما عجزه فليس بمشهور.

ثالثا: إذا صحت الرواية يحملها المعتزلة على أن الإمام يقصد معاوية وسمى ناصريه مقاتلين على دمه، لأنهم يحامون عن دمه، ومن حامى عن دم انسان فقد قاتل عليه(2).

لقد استغل الساخطون سياسة الإمام علي علیه السلام - دم الخليفة - وسيلة لتحقيق غاياتهم، فاتهموا الإمام عليّاً علیه السلام بقتله، أو التواطؤ مع قتلته، وقد استغرب الإمام علي علیه السلام من اتهامه بذلك من قبل الأمويين قائلاً: «أو لم ينه بني أمية علمها بي عن قرفي! أو ما وزع الجهال سابقتي عن تهمتي! ولما وعظهم الله به ابلغ من لساني».

قال ابن أبي الحديد في شرحه ان الإمام يرى أن معرفة حاله ومنزلته تفرض على بني أمية عدم اتهامه بدم الخليفة، فمنزلته - علیه السلام - التي لا يوجد أعلى منها، كالذي نطق به القرآن من طهارته، وطهارة ابنائه وزوجته، في قوله تعالى:

«إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا».

وقول النبي صلی الله علیه و آله وسلم: «أنت مني بمنزلة هارون من موسى» وهذا يقتضي عصمته عن الدم الحرام؛ كما ان هارون معصوم عن مثل ذلك، ثم أن ترادف اقوال وافعال الرسول صلی الله علیه و آله وسلم في حقه تضطر الحاضرين لها والمشاهدين إيَّاها إلى أن مِثْل الإمام لا

ص: 368


1- أشار الشريف الرضي لانحراف قيس بن أبي حازم عن الإمام علي علیه السلام. المجازات النبوية ص 48 - 9
2- الشرح 2 / 194 - 195

يجوز أن يسعى في إراقة دم مسلم، لم يحدث حدثاً يستوجب به إحلال دمه(1).

رؤية الإمام هذه أكد ابن أبي الحديد صحتها وذلك أن من يظهر ناموس الدين، ويواظب على العبادات، ويتصف بالورع والتقوى، يتقرر في نفوس الناس استشعاره الدين واعتقاده إيَّاه، مما يدفع الناس لئلا تقرفه بالعيوب الفاحشة، واستبعاد من يطعن فيه، فكيف ساغ لاعداء الإمام علي علیه السلام مع علمهم بمنزلته العالية في الدين، التي لم يصل إليها أحد من المسلمين، اطلاق السنتهم فيه، ونسبته لقتل الخليفة، أو الممالأة عليه، لاسيما وقد ثبت لديهم انه كان من المدافعين عنه قولاً وفعلاً، ويخلص المعتزلة إلى براءة الإمام من دم الخليفة(2).

يرى البعض أن من بين الاسباب التي دفعت مناوئي الإمام لاتهامه بدم الخليفة هو بقائه في المدينة في الوقت الذي حوصر فيه الخليفة، فيرى هؤلاء انه كان على الإمام مغادرة المدينة فلا يكون عذراً للطاعنين فيه.

في الواقع ان الإمام عليّاً علیه السلام لم يكن يخطر له ان يتهم بدم الخليفة مع براءته منه، وكان علیه السلام يرى ان مقامه بالمدينة في مصلحة الخليفة، حيث حضر مراراً وأبعد المحاصرين عنه، وأرسل ولديه وابن أخيه عبد الله بن جعفر يحملان له الماء، ولولا حضور الإمام علي علیه السلام في المدينة لما تأخر مقتل الخليفة، وكان لمقام الإمام دور في تراخي الناس عنه(3)، ويخلص المعتزلة إلى الحكم ببراءة الإمام من دم الخليفة، وقد صرح الإمام بذلك مراراً ومنها قوله: «والله ما قتلت عثمان،

ص: 369


1- الشرح 6 / 169 - 170
2- الشرح 6 / 170 - 171
3- الشرح 10 / 256

ولا مالأت على قتله»(1).

اما رؤية المعتزلة لموقفه علیه السلام من قتلة الخليفة، فيشار إلى أنه علیه السلام لما بويع بالخلافة قيل له: لو عاقبت قوماً ممن اجلب على عثمان فقال علیه السلام: «يا اخوتاه! إنِّی لست اجهل ما تعلمون؛ ولكن كيف لي بقوة والقوم المجلبون على حد شوكتهم يملكوننا ولا نملكهم! وهاهم هؤلاء قد ثارت معهم عبدانكم، والتفت إليهم اعرابكم، وهم خلالكم يسومونكم ما شاءوا؛ وهل ترون موضعاً لقدرة على شيء تريدونه، إن هذا الأمر أمر جاهلية؛ وإن لهؤلاء القوم ماده، ان الناس من هذا الأمر إذا حرك على امور: فرقة ترى ما ترون، وفرقة ترى ما لا ترون، وفرقة لا ترى هذا ولا هذا فاصبروا حتى يهدأ الناس، وتقع القلوب مواقعها وتؤخذ الحقوق مسمحة فاهدؤا عني وانظروا ماذا يأتيكم به امري، ولا تفعلوا فعلة تضعضع قوة، وتسقط منه، وتورث وهناً وذلة».

من خلال هذا النص استنتج ابن أبي الحديد ان الإمام عليّاً علیه السلام كان يرى عقاب الذين حصروا الخليفة، والاقتصاص من قتلته، إن كان بقي ممن باشر قتله، ولكنه علیه السلام اعتذر بعدم التمكن وذلك لوجود عالم كثير جاء من الامصار مضافاً لأهل المدينة، والبادية، فأصبح الأمر أمر جاهلية كما وصفه، ولو حرك ساكناً لاختلف الناس، فمنهم من يرى فعل الإمام علیه السلام هو الصواب، ومنهم من يراه خطأ، ومنهم من يقف لا مصوباً ولا مخطئاً، لذا فالإمام علیه السلام يخشى من تجدد فتنة كالاولى أو أعظم، فكان عليّ علیه السلام يرى أن الاصوب بالتدبير، والذي يوجبه الشرع والعقل هو الامساك إلى حين سكون الفتنة،

ص: 370


1- الشرح 1 / 200

وتفرق تلك الشعوب، وكان علیه السلام يؤمل أن يطيعه معاوية وغيره، وأن يحضر بنو الخليفة المقتول عنده يطالبون بدم ابيهم، ويعيِّنون المتهمين، فبعض للقتل واخر للحصار وثالث للتسور، وحينها يتمكن الإمام علیه السلام من العمل بحكم الكتاب، ولكن الأمر لم يقع هكذا، إذ امتنع معاوية واهل الشام، ولجأ ورثة عثمان إليه، وفارقوا الإمام متهمين إيّاه، ولم يطلبوا القصاص بصورة شرعية، وانما طلبوه مغالبة، وجعلها معاوية عصبية الجاهلية، وسبق معاوية خروج اصحاب الجمل عليه، فكان ذلك مما منع الإمام علیه السلام عن التصدي للقصاص، وقد قال علیه السلام لمعاوية «فأما طلبك قتلة عثمان، فادخل في الطاعة، وحاكم القوم اليّ احملك وإيَّاهم على كتاب الله وسنة رسوله». وهذا هو ما يراه المعتزلة «لأنه يجب دخول الناس في طاعة الإمام علیه السلام، ثم تقع المحاكمة إليه، فإن حكم بالحق استديمت امامته، وإن حكم بالجور انتفض امره وتعين خلعه»(1).

ولكن يجدر التساؤل إذا كان القصاص من قتلة الخليفة موقوفاً على ماذكره علیه السلام أمَّا كان يجب عليه من باب النهي عن المنكر الذي هو واجب على العامة فكيف على الإمام؟ ترى المعتزلة أن النهي عن المنكر يجب قبل وقوعه حتى لا يقع، فإذا وقع، فلا معنى للنهي بعد، وكان علیه السلام قد نهى أهل الامصار عن قتل الخليفة قبل قتله مراراً، ونابذهم بيده ولسانه، وبأولاده دون فائدة، حتى تفاقم الأمر إلى قتل الخليفة، ولا يجب بعد القتل الا القصاص، فإذا ما امتنع اولياء الدم من طاعة الإمام علیه السلام، لم يجب عليه أن يقتص من القاتلين، فالقصاص

ص: 371


1- الشرح 9 / 293 - 294

حق اولياء الدم، وقد سقط ببغيهم على الإمام علیه السلام ، وأكدت المعتزلة أن القصاص على من باشر القتل، والذين باشروا القتل قتلوا يوم قتل الخليفة وهما - قتيرة بن وهب، وسودان بن حمران(1)، وكلاهما قتلا يوم الدار على يد عبيد الخليفة، أمَّا الاخرون فلم يباشروا القتل، وإنَّما حصروا الخليفة، واجلبوا عليه وتوعدوه، ومنهم من تسور الدار وحضر محضر قتله أو لم يحضر، فهؤلاء عند المعتزلة لا قصاص عليهم(2).

ص: 372


1- وهما من اهالي مصر خرجا سنة 35 ه إلى المدينة، وقام سودان بقتل الخليفة عثمان بمساعدة قتيرة، فقام غلام للخليفة فقتل سودان، فثأر قتيرة وقتل الغلام فقام غلام آخر للخليفة وقتل قتيرة. أنظر الطبري: 4 / 348، 391
2- الشرح 4 / 16 - 17، 14 / 37 - 38. وانظر المنقري: وقعة صفين ص 189

معركة الجمل 36 ه / 658 م

لم تلاق السياسة التي اتبعها الإمام قبولاً لدى طلحة والزبير، فخرجا من المدينة بعد بيعة الإمام علي علیه السلام إلى مكة بعد أن سمعا بالموقف السلبي للسيدة عائشة من الإمام علي علیه السلام، ومن هناك تحركا صوب البصرة، حيث تمت لهم السيطرة التامة عليها، فاضطر الإمام علي علیه السلام للخروج إلى البصرة داعياً أهل الكوفة للخروج معه، وبعد وصوله للبصرة دخل في مفاوضات مع طلحة والزبير لم تسفر الا عن حالة الحرب، التي انتهت بمقتل طلحة في ساحة المعركة، فيما خرج الزبير من المعركة فاغتاله - ابن جرموز - في وادي السباع(1)، وبعد ذلك القى أهل البصرة السلاح، وتمت إعادة السيدة عائشة إلى المدينة(2).

ص: 373


1- وادي السباع: بين البصرة ومكة وعلى بعد خمسة اميال عن البصرة، قيل سمي باسماء اخوة يحملون اسماء السباع الحموي: معجم البلدان 5 / 343 - 4. الحميري: الروض المعطار ص 603 - 4
2- أنظر تفاصيل ذلك متناثرة في الشرح: 1 / 9، 201، 225 - 7، 230 - 6، 243 - 66، 305 - 311، 2 / 166 - 170، 187 - 8، 4 / 6 - 11، 128 - 229، 7 / 35 - 46، 9 / 39، 109 - 115، 162، 190 - 200، 293 - 4، 310 - 10، 27 / 4 - 247، 9 - 8، 11 / 10 - 20، 121 - 14، 6 / 8 -25، 17 / 254 - 255 . وانظر الطبري: تاريخ 4 / 444 - 546

هذا الحدث التاريخي المهم في تاريخ المسلمين، الذي كان فاتحة للحروب الاهلية في الإسلام، يا ترى ما هي رؤية المعتزلة له؟ ولنناقش هذه الرؤية في المباحث الاتية:

بيعة طلحة والزبير للإمام عليّ علیه السلام.

مدى اهلية طلحة والزبير للخلافة.

موقف الإمام عليَّاً إزاء اصحاب الجمل قبل وبعد المعركة.

رؤية الاعتزال لاصحاب الجمل.

أولاً: بيعة طلحة والزبير للامام علي علیه السلام.

تناقضت الروايات بشأن بيعة طلحة والزبير للامام علي علیه السلام، هل كانت طوعاً أم كرهاً؟ فقد «اختلف الناس في بيعة امير المؤمنين علیه السلام، فالذي عليه أكثر الناس وجمهور ارباب السير أن طلحة والزبير بايعاه طائعين غير مكرهين، ثمتغيرت عزائمهما…. قال الزبيريون منهم عبد الله بن مصعب، والزبير بن بكار، وشيعتهم، ومن وافق قولهم من بني تيم بن مرة، ارباب العصبية لطلحة: انهما بايعا مكرهين؛ وان الزبير كان يقول: بايعت واللج على قفى، واللج سيف الاشتر»(1).

فيما صورت روايات أبي هلال العسكري(2) وابي مخنف دور عمار والانصار في انجاح بيعة الإمام عليّ علیه السلام(3)، والظاهر أن هذا النجاح حمل طلحة والزبير

ص: 374


1- الشرح 4 / 7
2- الشرح 4 / 7 - 8. وانظر أبو هلال: الاوائل ص 162
3- الشرح 4 / 7 - 11. وانظر الطبري 4 / 427 - 430

على البيعة. ولذا كان الزبير يقول: - بايعت بيدي لا بقلبي - «وكان يدعي تارة أنه أكره، ويدعي أخرى أنه ورى في البيعة، ونوى دخيلة وأتى بمعاريض لا تحمل على ظاهرها»(1).

وقد رد الإمام عليّ علیه السلام على ادعاءات الزبير قائلاً: «يزعم انه بايع بيده، ولم يبايع بقلبه، فقد اقر بالبيعة، وادعى الوليجة، فليأت عليها بأمر يعرف، وإلَّا فليدخل فيما خرج منه». فالزبير هنا اقر بالبيعة، وادعى امراً آخر لم يقم عليه دليل، فاما ان يقيم دليلاً على فساد البيعة الظاهرة وإلَّا فليعود للطاعة»(2).

والظاهر أن الإمام كان مدركاً لنوايا الزبير لذا قال له وقت البيعة: «إنِّی لخائف أن تغدر بي، وتنكث بيعتي، قال: لا تخافن؛ فإن ذلك لا يكون منيِّ أبداً، فقال علیه السلام فلي الله عليك بذلك راع وكفيل، قال نعم: الله لك عليّ راع وكفيل.

إذا كان هكذا فلماذا أذِنَ الإمام علیه السلام لطلحة والزبير بالخروج من المدينة إلى مكة لما استئذناه لاداء العمرة؟ في الواقع ان الرواة اختلفوا في خروج طلحة والزبير من المدينة: هل كان بإذن الإمام عليّ علیه السلام أم لا؟ فإن كان الجواب بغير إذنه، فالسؤال أعلاه لامعنى له، وإذا كانا خرجاً بإذنه، فالمعروف أنَّهُ علیه السلام قال لهما: والله ما تريدان العمرة، وإنَّما تريدان الغدرة، وخوفهما بالله من التسرع إلى الفتنة، وما كان يجوز للإمام علیه السلام لا في الشرع ولا في السياسة أن يحبسهما، ففي الشرع كان محظوراً عليه معاقبة شخص بما لم يفعل بعد وربما لا يقع هذا الفعل. وأمَّا في السياسة فلأنَّهُ علیه السلام لو اظهر التهمة لهما

ص: 375


1- الشرح 1 / 230
2- الشرح 1 / 230. وانظر رد الحسن بن علي على عبد الله بن الزبير. القاضي: المغني 20 / 2 / 80

وهما من المهاجرين السابقين، لكان في ذلك من التنفير عنه ما لا يخفى، ويؤدي إلى الطعن فيه، كأن يقال: انه ليس على ثقة من إمامته فلذلك يتهم الرؤساء ولا يأمن الفضلاء، ولاسيما وطلحة أول من بايعه والزبير لم يزل معروفاً بنصرته، فلو حبسهما واظهر الشك فيهما لم يسكن أحد إلى جهته، ولتفرق الناس عنه(1).

اذن لماذا لم يستصلحهما ويوليهما، ويرتبطهما بالاجابة لاغراضهما؟ قال ابن أبي الحديد في جواب هذا التساؤل: «فحوى هذا انكم تطلبون من أمير المؤمنين علیه السلام أن يكون في الإمامة مغلوباً على رأيه، مقتاتاً عليه في تدبيره، فيقر معاوية على ولاية الشام غصباً، ويولي طلحة والزبير مصر والعراق كرهاً؛ وهذا شيء ما دخل تحته أحد ممن قبله؛ ولا رضوا أن يكون لهم من الإمامة الاسم، ومن الخلافة اللفظ، ولقد حورب عثمان وحصر على أن يعزل بعض ولاته فلم يجب إلى ذلك. فكيف تسومون عليّاً علیه السلام أن يفتتح امره بهذه الدنية ويرضى بالدخول تحت هذه الخطة! وهذا ظاهر»(2).

ثانياً: مدى اهلية طلحة والزبير للخلافة؟ إن المعتزلة يرون عدالة أكثر الصحابة ومنهم طلحة والزبير - كما سيتضح فيما بعد - ولكن الإمام علياً علیه السلام في اشارته لطلحة والزبير أكد عدم اهليتهم للخلافة إذ يقول: «لقد اتلعوا اعناقهم إلى أمر لم يكونوا أهله، فوقصوا دونه»(3). فكيف يا ترى يتم التوفيق بين كلام الإمام عليّ علیه السلام هذا وبين رؤية الاعتزال المخالفة لكلامه، خاصة إذا علمنا أن ابن أبي الحديد يعد ان كل ما جاء في نهج البلاغة

ص: 376


1- الشرح 10 / 247 - 248
2- الشرح 10 / 248
3- الشرح 11 / 123. وانظر ابن الاثير: النهاية 1 / 194

هو من كلام الإمام علي علیه السلام.

هنا يشير ابن أبي الحديد لرؤية الاعتزال إلى اهلية طلحة والزبير للخلافة في حالة عدم طلب الإمام علي علیه السلام للخلافة، اما إذا طلبها فلم يكونا لا هما ولا غيرهما اهلاً لها، ولولا طاعته علیه السلام، لمن تقدمه بالخلافة، ورضاه بهم، لم يحكم معتزلة بغداد بصحة خلافتهم(1). كما مر بنا.

ثالثاً: موقف الإمام علي علیه السلام من اصحاب الجمل قبل المعركة وبعدها:

عدّ الإمام عليّ علیه السلام خروج طلحة والزبير نكثاً للبيعة، لكنه آثر الامساك عن حربهم أولاً، «وسأمسك الأمر ما استمسك، وإذا لم اجد بداً فآخر الدواء الكي». أي امسك نفسي عن محاربة هؤلاء ما امكنني، وادفع الأيام بمراسلتهم، وتخويفهم وإنذارهم، واجتهد في ردهم إلى الطاعة ترغيباً وترهيباً، فإذا لم اجد بداً من الحرب، فآخر الدواء الكي، أي الحرب، فهي الغاية التي إليها ينتهي أمر الخارجين(2).

لكنه علیه السلام وجد أن الواجب الشرعي يحتم عليه استخدام القوة لارجاعهم إلى الطريق الصحيح «فما وجدتني يسعني إلَّا قتالهم أو الجحود بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، فكانت معالجة القتال أهون من معالجة العقاب، وموتات الدنيا أهون عَليّ من موتات الآخرة»(3).

ص: 377


1- الشرح 11 / 126. إن دعوى طاعة الإمام لمن تقدمه هي محض افتراء وتكفي الخطبة الشقشقية التي أكد ابن أبي الحديد صحتها على ان موقف الإمام يفسر لعدم وجود الناصر
2- الشرح 9 / 291، 294
3- الشرح 4 / 6. ورد معنى النص عند الحاكم: المستدرك 3 / 124 - 125، القاضي: المغني 20 / 2 / 75

ولكن كيف يكون تارك الواجب جاحداً لما جاء به النبي صلی الله علیه و آله وسلم؟.

ترى المعتزلة أنه في حكم الجاحد لأنه مخالف وعاص، لاسيما معتزلة بغداد التي ترى أن تارك الواجب مخلد في النار حتى ولو لم يجحد النبوة، وترى المعتزلة أن جهاد الخارجين عن طاعة الإمام واجب على الإمام في حالة إذا وجد انصاراً.

فإذا أخلّ بذلك يكون قد أخلّ بواجب، فيستحق العقاب(1).

والملاحظ أنَّ الإمام عليّاً علیه السلام لا يستند في قتاله على شرعية حكمه بل على احاديث تنسب للنبي صلی الله علیه و آله وسلم(2) وهذا من دلائل نبوته صلی الله علیه و آله وسلم لأنه اخبار صريح بالغيب، لا يحتمل التمويه والتدليس، كما تحمله الاخبار المجملة(3).

إن ما حدث من خروج طلحة والزبير امرٌ غير مألوف مسبقاً عند المسلمين لذلك كان من الصعب اتخاذ موقف بصددهم، وهنا كان موقف الإمام علي علیه السلام:

«فإنِّی فقأت عين الفتنة، ولم يكن ليجترئ عليها أحد غيري بعد أن ماج غيهبها، واشتد كلبها»(4).

إن الناس قبل معركة الجمل كانوا يهابون قتال أهل القبلة، ولا يعلمون كيف يقاتلونهم؟ هل يتبعون موليهم أم لا؟ وهل يجهزون على جريحهم أم

ص: 378


1- الشرح 4 / 6
2- أنظر: البيهقي: المحاسن والمساوئ ص 45. الحاكم: المستدرك 3 / 150. القاضي: المغني 20 / 2 / 74. الخطيب: تاريخ بغداد 8 / 340 - 1، 13 / 187. ابن عبد البر: الاستيعاب 3 / 1117. الشهرستاني: الملل 1/ 158. الخوارزمي: المناقب ص 110. الجويني: فرائد السمطين 1 / 150. ابن كثير: البداية والنهاية 7 / 361
3- الشرح 1 / 200 - 201
4- الشرح 7 / 44. وانظر: أبي هلال: الغارات: ص 5

لا؟ وكيف يتعاملون مع غنائمهم؟ وكانوا يستعظمون قتال من يؤذن بآذان المسلمين، ويصلي بصلاتهم، وكذلك استعظموا حرب أم المؤمنين وطلحة والزبير، لمكانهم في الإسلام، وتوقف جماعتهم عن الدخول في هذه الحرب، كالاحنف بن قيس وغيره.

فلولا أن الإمام عليّاً علیه السلام اجترأ على سل السيف ما أقدم أحد على الحرب(1).

حيث قال علیه السلام: «قد فتح باب الحرب بينكم وبين أهل القبلة، ولا يحمل هذا العلم إلَّا أهل البصر والصبر والعلم بمواقع الحق، فامضوا لما تؤمرون به، وقفوا عندما تنهون عنه، ولا تعجلوا في أمر حتى تتبينوا، فإن لنا مع كل أمر تنكرونه غيراً». فهنا الإمام علیه السلام يشير لهيبة الناس من قتال أهل القبلة، حتى أن الشافعي يقول: «لولا عليّ لما عُرِفَ شيء من احكام البغي»، وأكد الإمام عليّ علیه السلام أن مثل هذا الحال لا يعرف مواقع العمل به إلَّا من خصه الله بالبصيرة والعلم(2)، ولذا قال علیه السلام: «لو لم أكُ فيكم لما قوتل أهل الجمل واهل النهروان». وذلك لأن الشبهة كانت في أهل الجمل ظاهرة الالتباس فالزبير وطلحة موعودان بالجنة، وام المؤمنين زوجة رسول الله في الدنيا والاخرة، وحال طلحة والزبير في السبق والجهاد معروفة، وكان أهل النهروان في حالة من العبادة والزهد، وهم قراء العراق، في حين كان معاوية مشهوراً بقلة الدين وكذاك من ناصره وهو عمرو بن العاص، ومن تابعهم من أهل الشام وأعرابهم فاولئك كان حالهم معروفاً في

ص: 379


1- الشرح 7 / 44 - 46. وانظر كتاب سليم ص 207 - 208
2- الشرح 9 / 330 - 331. ولذلك لما اعترض أحد الاشخاص على الإمام، قال علیه السلام: انه ملبوس عليك، إن الحق لا يعرف بالرجال، إعرف الحق تعرف أهله، الجاحظ: البيان والتبيين 2 / 211. القاضي عبد الجبار: المختصر في اصول الدين ص 171

الانحراف فلا يستحرمون قتالهم(1).

أما عن موقف الإمام بعد المعركة، فالمعروف أن الزبير خرج منها إثر احتجاج الإمام علیه السلام عليه، فاتبعه - ابن جرموز - فاغتاله وجاء برأس وسيف الزبير للإمام علي علیه السلام، وادرك الإمام ان ابن جرموز لم يقتل الزبير مبارزة وإنَّما غدراً حيث قال له: «والله ما كان ابن صفية جباناً ولا لئيماً. ولكن الحين ومصارع السوء»، ثم أخذ سيف الزبير وقال: «سيف طالما جلَّی به الكرب عن وجه رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم» فقال ابن جرموز: الجائزة يا أمير المؤمنين! فقال علیه السلام: أما اني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: بشر قاتل ابن صفية بالنار» فخرج ابن جرموز خائباً، وقتل في النهروان مارقاً(2).

اما طلحة فقد قتل في ساحة المعركة، واتهم مروان بن الحكم بقتله، بل كان مروان يصرح بذلك، حيث لما ضعف اصحاب الجمل قال مروان: «لا اطلب ثأر عثمان من طلحة بعد اليوم! فانتحى له بسهم فاصاب ساقه»(3).

وعن موقف الإمام علي علیه السلام منه، فترى المعتزلة انه علیه السلام لما مر بساحة المعركة ومر على طلحة قال: اجلسوه، ثم قال: «أعزز علي يا أبا محمد أن اراك معفراً تحت نجوم السماء، وفي بطن هذا الوادي! ابعد جهادك في الله، وذبك عن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم! فجاء إليه انسان فقال: أشهد يا امير المؤمنين، لقد مررت عليه بعد أن اصابه السهم وهو صريع، فصاح بي، فقال: من اصحاب من أنت؟ فقلت: من

ص: 380


1- الشرح 7 / 58
2- الشرح 1 / 233 - 236. وانظر ابن حبيب: اسماء المغتالين 6 / 159. الطبراني: المعجم الكبير 1 / 123. ا لحاكم: المستدرك 3 / 414
3- الشرح 9 / 113

اصحاب امير المؤمنين علیه السلام، فقال: امدد يدك لابايع امير المؤمنين علیه السلام فمددت إليه يدي فبايعني لك. فقال علي علیه السلام: ابى الله ان يدخل طلحة الجنة الا وبيعتي في عنقه»(1).

إننا لا نستعبد موقف الإمام من طلحة، فتأسيه وتألمه لهذه العاقبة مسألة طبيعية! كيف وهو زميله في درب الجهاد منذ أن كان الإسلام لا زال بذرة في مكة، مروراً بتلك الأيام الصعاب حتى أصبح الإسلام يرفرف على انحاء الجزيرة وحوإليها. إن ذلك قطعاً سيثير الشجون لدى الإمام عليّ علیه السلام، وهو الذي تألم لأشقى الاخرين - ابن ملجم - كيف لا يتألم لأحد الصحابة.

ولكننا نتحفظ على المشهد التمثيلي الذي فبركه الراوي إذ أن آثار الوضع غير خافية؟!! اما بالنسبة إلى أم المؤمنين فقد اوكل أمير المؤمنين علیه السلام امرها لاخيها محمَّ د بن أبي بكر، ثم اعادها إلى المدينة بصحبة اربعين من نساء بني عبد القيس(2).

اما عن باقي الناس فقد «اتفقت الرواة على أنَّه - علیه السلام - قبض ما وجد في عسكر الجمل من سلاح ودابة، ومملوك ومتاع وعروض فقسمه بين أصحابه، وإنَّهم قالوا له: اقسم بيننا أهل البصرة فاجعلهم رقيقاً، فقال: لا، فقالوا: فكيف تحلُّ لنا دماؤهم وتُحَرِّمُ علينا سبيهم! فقال: كيف يحل لكم ذرية ضعيفة في دار هجرة وإسلام، اما ما اجلب به القوم في معسكرهم عليكم فهو لكم مغنم، واما ما وارت الدور واغلقت عليه الابواب فهو لاهله، ولا نصيب لكم في شيء

ص: 381


1- الشرح 1 / 248 - 249. وانظر ابن عبد ربه: العقد الفريد 4 / 321. الحاكم: المستدرك 3 / 421
2- الشرح 6 / 229. وانظر اليعقوبي: تاريخ 2 / 170

منه، فلما اكثروا عليه قال: فاقرعوا على عائشة لادفعها إلى من تصيبه القرعة! فقالوا: نستغفر الله يا امير المؤمنين: ثم انصرفوا»(1).

رابعاً: رؤية المعتزلة لخاتمة اصحاب الجمل:

تحكم المعتزلة لكل فاسق مات على فسقه بالنار، ويعدون الباغي على الإمام الحق، والخارج عليه بشبهة أو بغير شبهة فاسق(2) ومن خلال حديث للنبي صلی الله علیه و آله وسلم يرويه الصحابي حذيفة بن اليمان ذكر فيه خروج أم المؤمنين فقال صلی الله علیه و آله وسلم: «تقاتل معها مضر مضرها الله في النار، وازد عمان سلت الله اقدامها، وإنَّ قيساً لن تنفك تبغي دين الله شراً، حتى يركبها الله بالملائكة فلا يمنعوا ذنب تلعة»(3). أشار المعتزلة ان هذا الحديث يؤكد مذهب المعتزلة في فسق اصحاب الجمل، إلَّا من ثبتت توبته وهم الرؤساء فقط - طلحة والزبير وعائشة(4)- وهذه التوبة كانت بعد المعركة وان الإمام شهد لهم بالجنة بعد حرب الجمل(5).

وفي معرض نقده لطعن معاوية على الإمام علیه السلام لحربه طلحة والزبير وعائشة، قال ابن أبي الحديد: «واصحابنا يذهبون إلى أنَّهما تابا، وفارقا الدنيا نادمين على ما صنعا، وكذلك نقول نحن؛ فإن الاخبار كثرت بذلك، فهما من أهل الجنة لتوبتهما، ولولا توبتهما لكانا هالكين كما هلك غيرهما، فإن الله تعالى لا يحابي

ص: 382


1- الشرح 1 / 250
2- الشرح 1 / 9
3- ابن قتيبة: غريب الحديث 2 / 250
4- الشرح 11 / 121 - 2. فيما يرى الاشاعرة أنهم اجتهدوا، والمجتهد إذا اخطأ له اجر واحد. الشرح 14 / 24
5- الشرح 20 / 34. القاضي عبد الجبار: المغني: 20 / 2 / 84 - 89

أحداً في الطاعة والتقوى:

«لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ»(1).

واما الوعد لهما بالجنة فمشروط بسلامة العاقبة، والكلام في سلامتهما، وإذا ثبتت توبتهما فقد صح الوعد لهما و تحقق؛ وقوله «بشر قاتل ابن صفية بالنار» فقد اختلف فيه، فقال قوم من ارباب السير وعلماء الحديث، هو كلام امير المؤمنين علیه السلام غير مرفوع، وقوم منهم جعلوه مرفوعاً، وعلى كل حال فهو حق لأن ابن جرموز قتله مولياً خارجاً من الصف، مفارقاً للحرب، فقد قتله على توبة وإنابة ورجوع من الباطل، وقاتل من هذه حاله مستحق للنار»(2).

وفي دعائه علیه السلام على طلحة والزبير «وارهما المساءة فيما املا وعملا» عدّ ابن أبي الحديد هذه المساءة مساءة الدنيا لا الاخرة، لأن الله وعدهما على لسان رسوله صلی الله علیه و آله وسلم بالجنة التي استوجباها بالتوبة(3).

وبالنسبة إلى أم المؤمنين فإنها عند المعتزلة قد ندمت سيما بعد استشهاد الإمام علي علیه السلام، حيث يرى المعتزلة أنها اعترفت يوم الجمل بالخطأ لامير المؤمنين، وسألته العفو، وإن الاخبار تواترت باظهارها الندم، وإنها كانت تقول: ليته كان لي من رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم بنون عشرة، كلهم مثل عبد الرحمن بن الحارث بن هشام(4) - وثكلتهم، ولم يكن يوم الجمل! وإنها كانت تقول: ليتني مت قبل

ص: 383


1- سورة الانفال (42)
2- الشرح 17 / 254
3- الشرح 9 / 38 - 39
4- هو عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي، أسلم ابوه يوم فتح مكة، وكان صغيراً لما توفي الرسول صلی الله علیه و آله وسلم وامه فاطمة بنت الوليد اخت خالد، ولما توفي ابوه تزوج عمر بن الخطاب امه فنشأ في حجر عمر، ثم تزوج مريم بنت عثمان بن عفان، وكان أحد الاربعة الذين عهد إليهم عثمان بنسخ المصاحف، خرج مع طلحة والزبير في الجمل، توفي سنة 43 ه. أنظر مصعب الزبيري نسب قريش ص 303، 308. الطبري 4 / 112، 471، 507، 513، 5 / 67، 278، 528. الحاكم: المستدرك 3 / 313. ابن عبد البر: الاستيعاب 2 / 426. ابن حجر: الاصابة 2 / 394، 3 / 66

يوم الجمل، وإنها كانت إذا ذكرته تبكي حتى تبل خمارها(1).

إن الاخبار الواردة في توبتها أكثر من الواردة في توبة طلحة والزبير، لأنها عاشت بعدهما زماناً، فالذي جرى كان خطأ منها، وليس على امير المؤمنين ذنب، على أنه اكرمها وصانها وعظم من شأنها(2).

ولكن كلام الإمام «ولها بعد حرمتها الاولى، والحساب على الله» يدل على توقفه في امرها، فكيف الجمع بين كلامه علیه السلام، ومذهب الاعتزال؟ هنا يرى ابن أبي الحديد أنه يجوز أن كلامه هذا كان قبل تواتر الخبر بتوبتها(3)، فإن المعتزلة يرون أنها تابت بعد مقتله علیه السلام، وندمت، وقالت:

لوددت أن لي عشرة بنون من الرسول صلی الله علیه و آله وسلم، وكلهم ماتوا، ولم يكن يوم الجمل، وأنها كانت بعد مقتله تثني عليه، وتنشر مناقبه، مع أن المعتزلة أيضاً روت أنها بعد الجمل كانت تبكي حتى تبل خمارها، وتستغفر الله. ولكن لم يبلغ لأمير المؤمنين علیه السلام حديث توبتها بعد الجمل بشكل يقطع العذر ويثبت الحجة، والذي شاع من ندمها وتوبتها بعد مقتله علیه السلام إلى أن ماتت وهي على ذلك، والتائب عند

ص: 384


1- الشرح 14 / 24. البيهقي: المحاسن 297 - 8. الحاكم: المستدرك 3 / 128 - 9. القاضي: المغني 920 / 2 / 89 - 91. سبط ابن الجوزي: تذكرة: ص 81
2- الشرح 17 / 254 - 255
3- ولكن ابن أبي الحديد قد أشار إلى أنها اعترفت للإمام علیه السلام وسألته العفو.!!

المعتزلة مغفور له، وقبول التوبة واجب عند المعتزلة من باب العدل الالهي، والمعروف أنه ثبت أنها زوجة الرسول صلی الله علیه و آله وسلم في الدنيا والآخرة، إذن فيجب عند المعتزلة تكلف إثبات التوبة لها إذا لم يكن هناك ما يدل عليها، كيف وقد أكدت الروايات والأدلة على توبتها(1).

وايضاً استفاد ابن أبي الحديد في إثبات توبتها من قوله صلی الله علیه و آله وسلم: «ايتكن صاحبة الجمل الادبب، تنبحها كلاب الحوأب، يقتل عن يمينها وشمالها قتلى كثيرة، كلهم في النار، وتنجو بعدما كادت»(2).

حيث يحمل المعتزلة قوله صلی الله علیه و آله وسلم: «وتنجو» على نجاتها من النار، لأن لفظة «في النار» اقرب من لفظة «القتل»، والقرب معتبر في هذا الباب، وإن نحاة البصريين اعملوا اقرب العاملين، نظراً إلى القرب(3). ويخلص ابن أبي الحديد في أمر أم المؤمنين ان المعتزلة ترى في إنها اخطأت فيما فعلت، ثم تابت وماتت تائبة وأنها من أهل الجنة(4).

اما توبة الزبير فإنَّه رجع عن الحرب معترفاً بالخطأ لما ذكره علي علیه السلام بما مضى من حديث الرسول صلی الله علیه و آله وسلم. في حين إن طلحة مر به - وهو صريع - فارس، فقال له:

قف، فوقف قال: من أي الفريقين أنت؟ قال: من اصحاب امير المؤمنين، قال

ص: 385


1- الشرح 9 / 189، 200
2- الشرح 9 / 311. اخرجه الطبري: تاريخ 4 / 457. ابن عبد البر: الاستيعاب 2 / 745. الهيثمي: مجمع الزوائد 7 / 234، 8 / 289
3- الشرح 9 / 311
4- الشرح 6 / 214

اقعدني، فاقعده، فقال: امدد يدك ابايعك لامير المؤمنين، فبايعه(1).

هذه الروايات وإن كانت احاداً، فإن التوبة يحكم بها للمكلف على غالب الظن في جميع المواضع، وليس على القطع(2).

إن الذي يلاحظ على ابن أبي الحديد:

1 حكمه بتوبة الزعماء الثلاثة فقط مع أن العامة كانوا اتباعا وقد اعتقدوا بصحة دعواهم في حرب الامام فمن باب اولى ان يحكم للاتباع.

2 كان متناقضا في كلامه فتارة يرى بأن توبتهم كانت متواتره وتارة يرى بأنها أخبار آحاد؟!!

ص: 386


1- الشرح 14 / 24
2- الشرح 17 / 25. وأوضح البغدادي رؤية الاشاعرة بقوله «وقالوا [الاشاعرة] بتصويب علي في حروبه بالبصرة وبصفين وبالنهروان، وقالوا: بأن طلحة والزبير تابا ورجعا عن قتال علي لكن الزبير قتله عمرو بن جرموز بوادي السباع بعد منصرفه من الحرب. وطلحة لما هم بَّالانصراف رماه مروان بن الحكم وكان مع اصحاب الجمل بسهم فقتله، وقالوا: أن عائشة... قصدت الاصلاح بين الفريقين فغلبها بنو ضبة والازد على رأيها وقاتلوا علياً دون إذنها حيث كان من الأمر ما كان». الفرق بين الفرق ص 211 - 212

معركة صفين 37 ه

بعد انتهاء الإمام من معركة الجمل في البصرة توجه نحو الكوفة بدلاً من المدينة لأن الواقع يفرض عليه اعتماد قوة الامصار، ازاء الاخطار المحدقة بخلافته حيث رفض معاوية بن أبي سفيان والي الشام بيعة الإمام مستغلاً مقتل الخليفة كورقة سياسية، ومستفيداً من الموقف السلبي لطلحة والزبير وام المؤمنين من الإمام علي علیه السلام فكانت وقعة صفين سنة 37 ه، والتي احرز فيها الإمام عليّ علیه السلام نصراً عسكرياً، ولكن معاوية وباشارة من عمرو بن العاص تمكنا من ايقاف الحرب بخدعة المصاحف، والدعوة إلى الاحتكام إلى كتاب الله تعالى، وكان ذلك سبباً في انشقاق اتباع الإمام بين داع للاستمرار بالحرب، وبين من انهكه القتال ورأى في رفع المصاحب عذراً له، وازاء ذلك اضطر الإمام للقبول بالتحكيم، حيث مثّل أبو موسى الاشعري أهل العراق تلبية لطلب الداعين لوقف القتال، وإن كان الإمام عليّ علیه السلام غير راضٍ عنه. أمّا أهل الشام فرشحوا عمرو بن العاص، وانتهى الأمر بفشل التحكيم(1).

ص: 387


1- أنظر تحليل ابن أبي الحديد في الشرح 1 / 9، 2 / 206 - 260، 3 / 70 - 118، 166 - 188، 202 - 312، 215 - 338، 4 / 13 - 32، 5 / 129 - 175، 131 - 258، 6 / 302 - 317، 8 / 9 - 102، 9 / 293 - 4، 14 / 38، 40، 15 / 120 - 16، 124 / 133 - 7

وسنناقش تحليل ابن أبي الحديد لاحداث صفين في المحاور الآتية:

أولاً: دعوة الإمام معاوية للدخول في البيعة.

ثانياً: الاسس التي اعتمدها معاوية في حربه للامام.

1. نسبه.

2. ولايته للشام.

3. مقتل الخليفة.

4.الطعن في سيرة الإمام.

5. موقف الإمام من عائشة وطلحة والزبير.

ثالثاً: معركة صفين 1.موقف الإمام من معاوية واهل الشام.

2.احداث المعركة.

3.التحكيم.

رابعاً: رؤية الاعتزال لأهل صفين.

أولاً: دعوة الإمام معاوية للدخول في البيعة:

بعد انتهاء معركة الجمل، ومسير الإمام علي علیه السلام إلى الكوفة كتب لعماله بخبر أهل الجمل، ومنهم جرير بن عبد الله البجلي والي همدان، الذي بايع للامام ثم جاء إلى الكوفة فارسله الإمام رسولاً إلى معاوية، بكتاب جاء فيه «إنه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان على ما بايعوهم عليه، فلم يكن

ص: 388

للشاهد أن يختار، ولا للغائب أن يرد، وإنما الشورى للمهاجرين والانصار، فإن اجتمعوا على رجل وسموه اماماً كان ذلك لله رضاً، فإن خرج من امرهم خارج بطعن أو بدعة، ردوه إلى ما خرج منه، فإن أبى قاتلوه على اتباعه غير سبيل المؤمنين، وولاه الله ما تولى»(1).

ولما قرأ معاوية الكتاب اغتم بما فيه، وذهبت به افكاره كل مذهب وطاول جرير الجواب حتى كلم اناساً من أهل الشام في مسألة الطلب بدم عثمان، فاجابوه، ووثقوا له، واحب الزيادة في الاستظهار، فاستشار اخاه عتبة بن أبي سفيان فاشار عليه بالاستعانة بعمرو بن العاص، «فانه من قد علمت من دهائه ورأيه، وقد اعتزل عثمان في حياته، وهو لامرك أشد اعتزالاً، إلا أن تثمن له دينه، فيتبعك فإنه صاحب دنياً»(2).

كان عمرو بن العاص والياً على مصر للخليفة عمر ثم لعثمان، وبعد ذلك عزله فاتخذ منه موقفاً سلبياً، وتشير بعض الروايات لمجاهرته بنقد الخليفة عثمان وإعلأنه الصريح بأنه من وراء قتله(3). ولما جاءه كتاب معاوية استجاب لدعوته بعد طول تفكير ومناقشة مع ولديه وغلامه(4)، مع أن هناك إشارة تفيد أن عمرو بن العاص كان المحرض الأول لمعاوية على الإمام بعد مقتل عثمان قائلاً له: «ما كنت صانعاً

ص: 389


1- الشرح 3 / 70 - 118. 14 / 35. وانظر المنقري: وقعة صفين ص 51 - 61. ابن قتيبة: الإمامة والسياسة ص 71
2- الشرح 2 / 61. المنقري: وقعة صفين ص 27 - 33
3- الشرح 2 / 135 - 7، 143 - 4. وانظر الطبري: تاريخ 4 / 334، 356 - 7
4- الشرح 2 / 61 - 64، المنقري: وقعة صفين ص 34 - 36. اليعقوبي: تاريخ 2 / 172 - 3

فاصنع، إذ قشرك ابن أبي طالب من كل ما تملكه كما تقشر عن العصا لحاها»(1).

وبعد وصوله لمعاوية تداول معه الرأي بخصوص الموقف من الإمام علي علیه السلام، فقال عمرو: «والله يا معاوية: ما أنت وعلي بحملي بعير، ليس لك هجرته، ولا سابقته، ولا صحبته، ولا جهاده، ولا فقهه، ولا علمه، ووالله إن له مع ذلك لحظاً في الحرب ليس لأحد غيره، ولكني قد تعودت من الله تعالى احساناً وبلاءاً جميلاً ؛ فما تجعل لي إن أنا شايعتك على حربه، وأنت تعلم ما فيه من الغرر والخطر؟ قال: حكمك، فقال مصر طعمة، فتلكأ عليه معاوية، ثم قال: يا أبا عبد الله! اني أكره لك ان تتحدث العرب عنك إنك إنَّما دخلت في هذا الأمر لغرض الدنيا، قال عمرو: لا لعمرو الله ما مثلي يخدع لأنا اكيس من ذلك، قال معاوية: أدنُ مني اسارك، فدنا منه عمرو ليساره، فغضّ معاوية أذنه، وقال: هذه خدعة! هل ترى في البيت أحداً؟ ليس غيري وغيرك»(2).

واوضح الجاحظ السر في مطالبة عمرو بن العاص بمصر، لأنه هو الذي افتتحها في خلافة عمر، فكان لعظمها في نفسه وجلالتها في صدره، وما قد عرفه من اموالها وسعة الدنيا، لا يستعظم أن يجعلها ثمناً لدينه(3).

وبعد مداولات وتدخل عتبة بن أبي سفيان وافق معاوية على اعطاء مصر طعمه لعمرو بن العاص وكتب بذلك كتاباً جاء فيه: «على ألا ينقض شرط طاعة» فكتب عمرو: «على الا تنقض طاعه شرطاً». فكايد كل واحد منهما صاحبه، وتفسيره ان معاوية قال للكاتب: اكتب «على الا ينقض شرط طاعه».

ص: 390


1- الشرح 1 / 270
2- الشرح 2 / 65. وانظر المنقري: وقعة صفين ص 37 - 38
3- الشرح 2 / 66

يريد أخذ إقرار عمرو له أن قد بايعه على الطاعة بيعة مطلقة غير مشروطة بشيء.

وهذه مكايدة له؛ لأنه لو كتب ذلك لكان لمعاوية أن يرجع في اعطائه مصر، ولم يكن لعمرو أن يرجع عن طاعته، ويحتج عليه برجوعه عن اعطائه مصر، لأن مقتضى المشارطة المذكورة، أن طاعة معاوية واجبة عليه مطلقاً سواء كانت مصر مسلّمة إليه أم لا، ولكن عمرو انتبه للمكيدة فقال للكاتب: بل اكتب: «على الا تنقض طاعه شرطاً» يريد أخذ اقرار معاوية له بانه إذا كان اطاعه لا تنقض طاعته إياه ما شارطه عليه من تسليم مصر إليه، وهذا أيضاً مكايدة من عمرو لمعاوية، ومنع له من أن يغدر بما أعطاه من مصر(1).

ثم بدءا العمل حيث استشار معاوية عمراً في امور ثلاثة:

الأول: خروج محمد بن أبي حذيفة(2).

الثاني: تحرك قيصر الروم(3).

ص: 391


1- الشرح 2 / 67 - 68. المنقري: وقعة صفين ص 40 - 41
2- هو محمد بن أبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس، كان ممن اتخذ موقفاً من الخليفة عثمان، ثم سيطر على مصر في اواخر أيام الخليفة عثمان، وقد تم قتله على يد معاوية - الطبري: تاريخ 4 / 291 - 2، 353، 357 - 8، 399، 421، 546 - 7. ابن حزم: جمهرة انساب العرب ص 77
3- الطبري 4 / 441

الثالث: الموقف من الإمام علي علیه السلام.

وكان رأي عمرو أن يرسل مالك بن هبيرة الكندي لمحمد بن أبي حذيفة، فانفذه إليه وقتله، واما القيصر فأن يوادعه بالهدايا و الاموال في حين قال في حق الإمام: «إنه قد اتاك في طلب البيعة خير أهل العراق، ومن عند خير الناس في انفس الناس، ودعواك أهل الشام إلى رد هذه البيعة خطر شديد، ورأس أهل الشام شرحبيل بن السمط الكندي وهو خصم لجرير رسول علي، «فابعث إليه، ووطن له ثقاتك، فليفشوا في الناس أن عليّاً علیه السلام قتل عثمان وليكونوا أهل رضا عند شرحبيل، فإنها كلمة جامعة لك أهل الشام على ما تحب، وان تعلقت بقلب شرحبيل لم تخرج منه بشيء أبداً).

وفعلاً ارسل معاوية إلى شرحبيل، وتمكن من اقناعه وفق الخطة التي رسمها عمرو في رمي مسؤولية قتل الخليفة عثمان على الإمام علي علیه السلام ونتيجة لذلك اتحدت الشام في تأييدها لمعاوية، بعد استخدامه سياسة تقريب رؤساء القبائل «ان معاوية.. كان يعطي رؤساء القبائل من اليمن وساكني الشام، الاموال الجليلة، يستعبدهم بها، ويدعو اولئك الرؤساء اتباعهم من العرب فيطيعونهم، فمنهم من يطيعهم حمية، ومنهم من يطيعهم لأياد وعوارف من اولئك الرؤساء عندهم، ومنهم يطيعهم ديناً، زعموا للطلب بدم عثمان، ولم يكن يصل إلى هؤلاء الاتباع من اموال معاوية قليل ولا كثير».

وبعد حصول معاوية على تأييد أهل الشام عاد الجواب معلنا رفضه للبيعة، ومطالباً إياه بدم الخليفة: «أما بعد، فلعمري لو بايعك القوم الذين بايعوك

ص: 392

وأنت بريء من دم عثمان، كنت كأبي بكر وعمر و عثمان؛ ولكنك أ غريت بعثمان المهاجرين، وخذلت عنه الأنصار، فاطاعك الجاهل، وقوى بك الضعيف. وقد ابى أهل الشام الا قتالك، حتى تدفع إليهم قتلة عثمان، فإن فعلت كانت شورى بين المسلمين، ولعمري ليس حججك علي كحججك على طلحة والزبير لأنَّهما بايعاك، ولم ابايعك، وما حجتك على أهل الشام كحجتك على أهل البصرة، لأن أهل البصرة اطاعوك، ولم يطعك أهل الشام. فاما شرفك في الإسلام، وقرابتك من النبي صلى الله عليه، وموضعك من قريش. فلست ادفعه».

يلاحظ على هذا الكتاب ان معاوية يجعل نقطة الفصل هي مسألة عثمان، فالإمام عليّ علیه السلام وإن لم يكن القاتل، فهو الذي اغرى المهاجرين وخذل الأنصار، إذن فهو مطالب أولاً بتقديم قتلة عثمان وبعد ذلك تلغى خلافة الامام ويعاد الأمر شورى، ولكن أين يا ترى تكون الشورى، فهل في المدينة التي اتخذت موقفاً سلبياً حيال مقتل الخليفة، أم في العراق، وهذا ما لا يقبل به معاوية، اذن فمعاوية لا يقصد من الشورى الا في الشام، وهو ما يعني توليه الخلافة، ثم أكد ان الإمام ليست لديه حجة على معاوية كما كانت لديه حجة على طلحة والزبير لأنهما بايعاه، ولا له حجة على أهل الشام كما كانت له حجة على أهل البصرة، لأنهم استجابوا لأمره بعزل الوالي القديم وتولية والٍ جديد، وبايعوا للإمام.

ثانياً: الأسس التي اعتمدها معاوية في حربه للامام:

نسبه:

الملاحظ أن معاوية استند في صراعه مع الإمام على نسبه المكافئ لنسب الإمام، إذ يقول له في أحد كتبه: «فإنا بني عبد مناف، لم نزل ننزع من قليب

ص: 393

واحد، ونجري في حلبة واحدة، ليس لبعضنا على بعض فضل، ولا لقائمنا على قاعدنا فخر، كلمتنا مؤتلفة، والفتنا جامعة، ودارنا واحدة، يجمعنا كرم العرق، ويحوينا شرف النجار، ويحنو قوينا على ضعيفنا، ويواسي غنينا فقيرنا، قد خلصت قلوبنا من وغل الحسد، وطهرت انفسنا من خبث النية، فلم نزل كذلك حتى كان منك ما كان من الادهان في أمر ابن عمك…»(1).

والظاهر أن معاوية إراد التغطية على تاريخه في ظل الإسلام، فالتجأ إلى ما قبل الإسلام مؤكداً على مسألة النسب التي هي من ضرورات الجاهلية، مدعياً أنه لا يوجد فضل للامام عليّ - علیه السلام - لأنهما من أصل واحد، لكن الإمام عليّاً علیه السلام أنكر التساوي في الفضل حيث قال: «كذلك نحن، ولكن ليس أمية كهاشم، ولا حرب كعبد المطلب، ولا أبو سفيان كابي طالب، ولا المهاجر كالطليق، ولا الصريح كاللصيق، ولا المحق كالمبطل، ولا المؤمن كالمدغل، ولبئس الخلف خلفاً يتبع سلفاً هوى في نار جهنم»(2).

كان الترتيب يقتضي أن يجعل الإمام هاشماً بإزاء عبد شمس لأنهما أخوة في قعدد، وكلاهما ولد عبد مناف لصلبه، وأن يكون أمية بازاء عبد المطلب، وأن يكون حرب بإزاء أبي طالب، وأن يكون أبو سفيان بازاء أمير المؤمنين علیه السلام، لأنكل واحد منهم في قعدد صاحبة إلا أن الإمام علیه السلام لما كان في صفين بإزاء معاوية اضطر لجعل هاشم بازاء أمية بن عبد شمس(3).

إن ترتيب الإمام هو ما يلائم الواقع فعلاً، فأمية هو الذي نافر هاشماً

ص: 394


1- الشرح 17 / 251
2- الشرح 15 / 117
3- الشرح 15 / 118

واضطر للرحيل إلى الشام بعد أن غلبه هاشم، وحرب نازع عبد المطلب، اما أبو سفيان فموقفه بالنسبة للدعوة الاسلامية بالضد من موقف أبي طالب، ثم جاءت مواقف معاوية المقابلة لمواقف الإمام علیه السلام.

ان الإمام وهو يضع نفسه مقابلاً لمعاوية في تأكيده على مسالة الإيمان له ونفيها عن معاوية، وقد سبق أن قابل بين أجداده وأجداد معاوية، والملاحظ أن المقابلة حول نفس المسألة وهي الإيمان، فمثلما كان الإمام مؤمناً فكذلك اسلافه، ومثلما نفى الإمام الإيمان عن معاوية فكذلك عن اسلافه، لذلك خلص الإمام عليّ علیه السلام للقول: ((ولبئس الخلف خلفاً يتبع سلفاً هوى في نار جهنم)).

وأضاف الإمام علي علیه السلام: «وفي ايدينا بعد فضل النبوة التي اذللنا بها العزيز، ونعشنا بها الذليل، ولما ادخل الله العرب في دينه افواجاً، واسلمت له هذه الأمة طوعاً وكرهاً، كنتم ممن دخل في الدين». أي إذا فرضنا تساوي الاقدام في مآثر اسلافكم كان في ايدينا بعد الفضل عليكم بالنبوة التي نعشنا بها الخامل، واخملنا بها النبيه(1).

إن تفسير ابن أبي الحديد الأخير لا يتفق مع كلام الإمام علي علیه السلام، بل إنه علسه السلام بعد أن ذكر فضائله قبل الإسلام اضاف لذلك مأثرة جديدة وهي النبوة.

ورد الإمام علي علیه السلام على ما جاء في كتاب معاوية في مسألة توحدهما وكونهما من أصل واحد فقال: «أنّا كنا نحن وانتم على ما ذكرت من الألفة والجماعة؟!، ففرق بيننا وبينكم امس أن آمنا وكفرتم، واليوم أنا استقمنا وفتنتم، وما أسلم

ص: 395


1- الشرح 15 / 117، 119

مسلمكم الا كرهاً وبعد أن كان انف الإسلام كله لرسول الله صلی الله علیه و آله وسلم حرباً»(1).

ولكن لماذا لم يقل الإمام علي علیه السلام لمعاوية: ولا أنا كأنت؟. قال ابن أبي الحديد:

قبيح أن يقال ذلك، كما يقال: السيف امضى من العصا، بل قبيح به أن يقولها مع أحد من المسلمين كافة، نعم قد يقولها لا تصريحاً، بل تعريضاً، لأنه يرفع نفسه عن أن يقيسها بأحد»(2).

ثم أكد الإمام علي علیه السلام على ان معاوية من الطلقاء، والطليق هو: كل من دخل عليه الرسول صلی الله علیه و آله وسلم مكة عنوة فملكه بالسيف، ثم مَنَّ عليه عن إسلام أو غير إسلام، كصفوان بن أمية الذي لم يسلم، ومعاوية الذي اعلن إسلامه، وكذلك من اسر في حرب الرسول صلی الله علیه و آله وسلم فمّنَّ عليه بفداء أو غير فداء فهو أيضاً طليق، فممن امتنَّ عليه بفداء كسهيل بن عمرو وبغير فداء مثل أبي عزة الجمحي، ومن امتن عليه معاوضة مقابل اطلاق اسير من المسلمين عمرو بن أبي سفيان أخو معاوية، فهؤلاء كلهم من الطلقاء(3).

وفي وصفه علیه السلام لمعاوية اطلق عليه لفظة اللصيق، فهل في نسب معاوية شبهة؟ يرى ابن أبي الحديد أن الإمام علیه السلام هنا لم يقصد النسب، وإنَّما إراد بالصريح بالاسلام ويعني نفسه، فهو ممن أسلم اعتقاداً واخلاصاً، اما اللصيق فهو من

ص: 396


1- الشرح 17 / 250. وقد عقد ابن أبي الحديد فصلًا اوضح فيه فضل بني هاشم على بني عبد شمس قبل الإسلام وبعده، الشرح 15 / 195 - 295. وانظر الجاحظ: رسالة فضل هاشم على عبد شمس ضمن رسائل الجاحظ السياسية ص 407 - 460
2- الشرح 15 / 118
3- الشرح 15 / 119

أسلم تحت السيف، أو رغبة في دنيا، وقد جاء في أحد كتبه لمعاوية «كنتم ممن دخل في هذا الدين اما رغبة واما رهبة»(1). وختم الإمام علیه السلام كلامه «ولبئس الخلف خلفاً يتبع سلفاً هوى في نار جهنم»، فالإمام علیه السلام يعيب معاوية على اسلافه، لأنه اتبع آثارهم، واحتذى حذوهم، فهنا علیه السلام لم يعبه لأن سلفه كفار، بل لأنه كان متبعاً لهم(2).

وأشار الإمام عليّ - علیه السلام - أن معاوية ممن لم يسلم حتى رضخت له الرضائخ، والرضيخة شيء قليل يعطاه الانسان يصانع به عن شيء يطلب منه كالاجر، وذلك لأنه من المؤلفة قلوبهم، الذين رغبوا في الإسلام والطاعة، بجمال وشاء دفعت إليهم، وهم قوم معروفون كمعاوية واخيه يزيد وابيهما أبي سفيان، وحكيم ابن حزام، وسهيل بن عمرو، والحارث بن هشام بن المغيرة، حيث «كان إسلام هؤلاء للطمع والاغراض الدنياوية، ولم يكن عن أصل، ولا عن يقين وعلم»(3).

وكان الإمام يؤكد على الموقف السلبي الذي اتخذه معاوية من الإسلام في بدء الدعوة الاسلامية «ومتى كنتم يا معاوية ساسة الرعية، وولاة أمر الأمة، بغير قدم سابق، ولا شرف باسق». وهذا ينبغي أن يحمل على نفي كونهم سادة في الإسلام، وليس قبله بدليل:

المعروف رياسة عبد شمس على عدد من بطون قريش، وهم قادة يوم بدر، فكان عتبة قائد النفير، أما أبو سفيان فصاحب العير، اما في أحد والخندق

ص: 397


1- الشرح 15 / 119. وربما قصد الإمام علیه السلام ما ذكره أبو الفرج في كتابه الأغاني بأنّ أمية كان عبدا لعبد شمس ثم تبنَّاه
2- الشرح 15 / 119
3- الشرح 17 / 225 - 226

فالزعامة لأبي سفيان.

قوله علیه السلام «ولاة أمر الأمة» يفيد أنه يقصد ذلك في الإسلام، لأن لفظة - الأمة - تعني العرب في ظل الإسلام(1).

إن الإمام علیه السلام ينكر على معاوية أن يكون له الحق في قيادة الأمة لأنه لا يوجد لديه ولا أهل بيته «قدم سابق، ولا شرف باسق» أي القدم في الإسلام والجهاد في سبيله.

ولذا أنكر الإمام عليّ علیه السلام على معاوية دخوله في المفاضلة بين كبار الصحابة لأنه من الطلقاء: «وما أنت والفاضل والمفضول، والسائس والمسوس! وما للطلقاء وابناء الطلقاء، والتمييز بين المهاجرين الأولين، وترتيب درجاتهم، وتعريف طبقاتهم! هيهات، لقد حن قدح ليس منها(2)، وطفق يحكم فيها من عليه الحكم لها! الا تربع ايها الانسان على ضلعك، وتعرف قصور ذرعك، وتتأخر حيث اخرك القدر! فما عليك غلبة المغلوب، ولا ظفر الظافر، فانك لذهاب في التيه، روّاغ عن القصد»(3).

ثم أكد علیه السلام قتال معاوية واهل بيته للاسلام «فانا أبو الحسن قاتل جدك واخيك وخالك شدخاً يوم بدر، وذلك السيف معي، وبذلك القلب القى عدوي، ما استبدلت ديناً، ولا استحدثت نبياً وإنّ لعلى المنهاج الذي تركتموه طائعين، ودخلتم فيه مكرهين»(4).

ص: 398


1- الشرح 15 / 81، 79
2- يضرب مثلاً للرجل يدخل نفسه في القوم ليس منهم: أبو هلال العسكري: جمهرة الامثال 1 / 370. ابن نباتة: سرح العيون ص 296
3- الشرح 15 / 181
4- الشرح 15 / 79

وكتب له في مناسبة أخرى «فأنا ابن عبد المطلب صاحب السيف، وإن قائمه لفي يدي، وقد علمت من قتلت من صناديد بني عبد شمس، وفراعنة بني سهم، وجمح وبني مخزوم، وايتمت ابناءهم، وايمت نسائهم واذكرك مالست له ناسياً، يوم قتلت اخاك حنظلة، وجررت برجله إلى القليب، واسرت اخاك عمراً، فجعلت عنقه بين ساقيه رباطاً، وطلبتك ففررت ولك حصاص؛ فلولا اني لا اتبع فاراً لجعلتك ثالثهما، وأنا أولي لك بالله إليه برة غير فاجرة، لئن جمعتني واياك جوامع الاقدار لاتركنك مثلاً يتمثل به الناس أبداً، ولأجعجعنَّ بك في مناخك حتى يحكم الله بيني وبينك»(1).

وفي محاوره له مع شيخه النقيب سأله ابن أبي الحديد عن معاوية هل شهد بدراً؟ قال: نعم، شهدها ثلاثة من اولاد أبي سفيان: حنظلة وعمرو ومعاوية، قتل احدهم واسر الثاني، وافلت معاوية هارباً على رجليه، فقدم مكة، وقد انتفخت قدماه، وورمت ساقاه. ثم قال الشيخ: اما سمعت نادرة الاعمش ومناظرته؟ سأل رجل الاعمش - وكان قد ناظر صاحباً له -: هل معاوية من أهل بدر أم لا؟ فقال له: اصلحك الله، هل شهد معاوية بدراً؟ فقال: نعم من ذلك الجانب(2).

وقد اعتبر الإمام عليّ علیه السلام معاوية عدواً للنبي صلی الله علیه و آله وسلم: «فإنه لا سواء، إمام الهدى، وامام الردى، وولي النبي، وعدو النبي». فالإمام علیه السلام هنا يشير إلى نفسه كامام للهدى، وإلى معاوية كامام للردى، وسمى معاوية اماماً من قوله تعالى:

ص: 399


1- الشرح 15 / 84. إن اسلوب هذه الرسالة لا يتناسب مع سجايا الإمام علیه السلام وخصاله وبلاغته، فطابع التحريف واضح عليها بدليل أنها لم ترد في نهج البلاغة
2- الشرح 15 / 85 - 86

«وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمِّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ»(1).

ثم نعته بصفة أخرى الا وهي عداوته للرسول صلی الله علیه و آله وسلم، لقوله صلی الله علیه و آله وسلم لعليّ علیه السلام:

عدوك عدوي، وعدوي عدو الله»(2).

وخلص الإمام للقول: «وأعلم أنك من الطلقاء الذين لا تحل لهم الخلافة، ولا تفرض بهم الشورى»(3).

إذن كان قتل الإمام لجد واخ وخال معاوية سبباً في خلق كراهيته للامام، فكان «على اس الدهر مبغضاً لعلي علیه السلام شديد الانحراف عنه، وكيف لا يبغضه، وقد قتل اخاه حنظلة يوم بدر، وخاله الوليد بن عتبة، وشرك عمه في جده.

وقتل من بني عبد شمس نفراً كثيراً من اعيانهم واماثلهم، ثم جاءت الطامة الكبرى واقعة عثمان، فنسبها كلها إليه بشبهة امساكه عنه، وانضواء كثير من قتلته إليه علیه السلام، فتأكدت البغضة، وثارت الاحقاًد، وتذكرت تلك الترات الاولى، حتى افضى الأمر إلى ما افضى عليه»(4).

2. ولايته للشام:

اعتمد معاوية، ولايته الطويلة للشام - عذراً في صراعه مع الإمام عليّ علیه السلام.

وكان قد تولاها بعد وفاة أخيه يزيد بن أبي سفيان منذ خلافة عمر بن الخطاب

ص: 400


1- سورة القصص اية 41
2- الشرح 15 / 170 - 171. والحديث اخرجه الحاكم: المستدرك 3 / 138. الخطيب: تاريخ بغداد 4 / 41. محب الدين: الرياض 2 / 220. الذهبي: تلخيص المستدرك 3 / 138. الفيروز آبادي: فضائل الخمسة 2 / 20
3- الشرح 14 / 36
4- الشرح 1 / 338

سنة 18 ه، واستمر حتى وفاة الخليفة!! ولما جاء عثمان اقره طوال خلافته، ورغم تعرض أكثر الولاة للعزل في عهد الخليفتين، فإنه لم يعزل. ولذا لما جاء الإمام علیه السلام كان معاوية قد امضى سبعة عشر عاماً في ولايته للشام وفي هذه الفترة اجهد نفسه بالاهتمام بإقليم الشام، وكسب ود أهله. واخذ يميل نحو الترف والبذخ رغم نهي الخليفة عمر إياه، لكنه كان يعتذر بأنه في ثغر، ولذا فهو بحاجة للظهور بمظهر خاص امام الروم(1). ولما تولى عثمان ازدادت مكانة معاوية، ومع بواكير ظهور الفتنة كانت الشام المكان المناسب لنفي الثائرين، والذين دخلوا في مناقشات مع معاوية، الذي احتج عليهم قائلاً: «ليس في زماني أحد اقوى على ما أنا فيه مني، ولقد رأى عمر بن الخطاب ذلك فلو كان غيري اقوى مني لم يكن عند عمر هوادة لي ولا لغيري». ولما وثب عليه هؤلاء اخذين براسه ولحيته قال لهم: «مه! إن هذه ليست بارض الكوفة، والله لو رأى أهل الشام ما صنعتم بي وأنا امامهم، ما ملكت أن أنهاهم عنكم حتى يقتلوكم»(2). وفي هذا إشارة لمدى تمكنه من قلوب أهل الشام.

كان معاوية من اكبر ولاة عثمان ومستشاريه، وهو الذي أشار عليه بالخروج معه إلى الشام أيام الفتنة، وقد اظهر ما في نفسه مستخدماً التهديد ضد كبار الصحابة فيما إذا حصل حادث لعثمان(3)، و ((من هذا اليوم أنشب معاوية اظفاره في الخلافة؛ لأنه غلب على ظنه قتل عثمان، ورأى أن الشام بيده، وأن أهلها يطيعونه وأن له حجة يحتج بها عليهم، ويجعلها ذريعة إلى غرضه؛

ص: 401


1- الشرح 1 / 338. 8 / 299 - 300
2- الشرح 2 / 133. وانظر الطبري: تاريخ 4 / 318 - 321، 324 - 5
3- الشرح 2 / 139 . وانظر الطبري: تاريخ 4 / 344 - 5

وهي قتل عثمان إذا قتل، وأنه ليس في امراء عثمان اقوى منه، ولا اقدر على تدبير الجيوش، واستمالة العرب، فبنى امره من هذا اليوم على الطمع في الخلافة.

ألا ترى إلى قوله لصعصعة «إنه ليس أحد اقوى مني على الامارة، وإن عمر استعملني، ورضى سيرتي! أو لا ترى إلى قوله للمهاجرين الأولين: إن شرعتم في اخذها بالتغالب، وملتم على هذا الشيخ، اخرجها الله منكم إلى غيركم، وهو على الاستبدال قادر، وانما كان يعني نفسه، وهو يكني عنها، ولهذا تربص بنصرةعثمان لما استنصره ولم يبعث إليه أحداً»(1).

وكان معاوية - مع عظم قدر الإمام عليّ علیه السلام في النفوس، واعتراف العرب بشجاعته، وانه البطل الذي لا يقام له - يتهدده وعثمان بعد حي بالحرب والمنابذة، ويكاتبه من الشام برسائل شديد اللهجة، حتى قال له مرة في وجهه «إنّی اقسم بالله إن لم تتركوا شيخكم يموت على فراشه لا اعطيكم الا هذا السيف»(2).

وقد وصف ابن أبي الحديد في امارته «إنه كان كثير الهزل والخلاعة، صاحب جلساء وسمار، ومعاوية لم يتوفر، ولم يلزم قانون الرياسة الا منذ خرج على امير المؤمنين، واحتاج إلى الناموس، والسكينة، والا فقد كان في أيام عثمان شديد التهتك، موسوماً بكل قبيح، وكان في أيام عمر يستر نفسه قليلاً خوفاً منه، إلا أنه كان يلبس الحرير والديباج ويشرب في آنية الذهب والفضة، ويركب البغلات ذوات السروج المحلاة بها، وعليها جلال الديباج والوشي، وكان حينئذ شاباً، وعنده نزق الصبا، واثر الشبيبة، وسكر السلطان والامرة... ولا خلاف في انه سمع الغناء وطرب عليه، واعطى ووصل عليه»(3).

ص: 402


1- الشرح 2 / 139 - 140
2- الشرح 1 / 338 - 340. وانظر : أبو هلال العسكري: الاوائل ص 146
3- الشرح 16 / 161

3. مقتل عثمان لما بويع الإمام عليّ علیه السلام بالخلافة كتب إلى معاوية: «أما بعد، فإن الناس قتلوا عثمان عن غير مشورة مني، وبايعوني عن غير مشورة منهم، واجتماع، فإذا أتاك كتابي فبايع لي، واوفد الي اشراف الشام قبلك»(1).

كان معاوية ينتظر الفرصة المناسبة للوصول إلى الحكم، حيث لم يزل «ذا همة عالية، يطلب معالي الامور، ويرشح نفسه للرياسة» وجاءت الفرصة إثر مقتل عثمان، خاصة وإن الذي تولى من بعده، ممن يكن له معاوية أشد العداء، حيث كان على اس الدهر مبغضا لعليّ علیه السلام(2).

وقد اتخذ الإمام قرار عزل معاوية مباشرة بعد البيعة، ذلك القرار الذي جوبه بنقد من قبل البعض كابن عباس، والمغيرة، واعتبره البعض من اخطاء الإمام لأنه «لو كان حين بويع له بالخلافة في المدينة اقر معاوية على الشام إلى أن يستقر الأمر له ويتوطد، ويبايع معاوية واهل الشام ثم يعزله بعد ذلك؛ لكان قد كفى ما جرى بينهما من الحرب»(3).

في الواقع إن أمير المؤمنين - علیه السلام - علم من قرائن الأحوال أن معاوية لا يبايع له حتى لو اقره على ولاية الشام، بل إن اقراره اقوى لحال معاوية، وآكد في امتناعه عن البيعة، لأن على الإمام إمَّا أن يطالب معاوية بالبيعة ويقرن ذلك بتقليده الشام، أو يطالبه بالبيعة فقط، أو يتقدم منه الإقرار على الشام وتتأخر

ص: 403


1- الشرح 1 / 230 - 231، 18 / 68
2- الشرح 1 / 338
3- الشرح 10 / 232

المطالبة بالبيعة إلى وقت آخر، فإن كان الأول، فمن الممكن أن يقرأ معاوية كتاب التقليد على الناس، فيؤكد حاله عندهم، ويقرر في أنفسهم لولا أنه أهل لذلك لما اعتمده عليّ علیه السلام، ثم يماطله بالبيعة، وإن كان الثاني فهو عين ما فعله الإمام، وإن كان الثالث فهو كالقسم الأول بل آكد لما يريده معاوية من الخلاف والعصيان.

إذ «كيف يتوهم من يعرف السير أن معاوية كان يبايع له، لو اقره على الشام وبينه وبينه ما لا تبرك الابل عليه، من الترات القديمة والاحقاًد، وهو الذي قتل حنظلة اخاه، والوليد خاله، وعتبه جده في مقام واحد، ثم ما جرى بينهما في أيام عثمان، حتى اغلظ كل واحد منهما لصاحبه، وحتى تهدده معاوية وقالله: إني شاخص إلى الشام، وتارك عندك هذا الشيخ - يعني عثمان - والله لئن انحصت منه شعرة واحدة، لاضربنك بمائة الف سيف»(1).

ولذا عدّ ابن أبي الحديد رؤية الإمام في عزل معاوية اصح من رؤية ابن عباس والمغيرة، فالإمام عليّ علیه السلام: «كان أعلم بحاله مع معاوية، وأنها لا تقبل العلاج والتدبير، وكيف يخطر ببال عارف بحال معاوية ومكره ودهائه، وما كان في نفسه من علي علیه السلام من قتل عثمان، ومن قبل قتل عثمان، وانه يقبل اقرار علي علیه السلام على الشام، وينخدع بذلك، ويبايع ويعطي صفقه يمينه! إن معاوية لادهى من أن يكاد بذلك، وإن عليّاً علیه السلام لاعرف بمعاوية ممن ظن أنه لو استماله باقراره لبايع له، ولم يكن عند علي علیه السلام دواء لهذا المرض الا السيف؛ لأن الحال إليه كانت تؤول لا محالة، فجعل الآخر أولاً».

إن مسألة انجذاب معاوية لعلي واعطائه البيعة امر مستحيل، إذ أن مباينته

ص: 404


1- الشرح 10 / 232 - 233

لعليّ علیه السلام كمباينة السواد للبياض، لا يجتمعان أبداً، وكمباينة السلب للايجاب، فإنها مباينة لا يمكن زوالها اصلاً(1).

لقد احسن معاوية استخدام مقتل عثمان كورقة سياسية، بل كان يمهد لها قبل مقتله، إذ لما وصله كتاب مروان يخبره بحصار الخليفة، ارسل معاوية جيشاً امره بالاقامة في مكان حدده له ريثما تأتيه اوامره(2)، ولما جاء كتاب مروان الثاني يعلمه بمقتل الخليفة، اوعز للجيش بالانسحاب إلى الشام، وأكد ابن أبي الحديد أن معاوية كانت له يد في خروج طلحة والزبير، حيث ابرق لكل واحد منهما بكتاب يدعوه للسير نحو العراق، بعد الالتقاء بوالي عثمان المعزول لليمن، يعلي بن منيه - في مكة لأن الأخير أخذ اموال اليمن وسار إلى مكة، حيث وظفها لصالح الجيش الخارج للبصرة وفي رسالته إلى طلحة والزبير أكد معاوية انه ضمن لهما الشام، حيث بايع لاحدهما بالخلافة، والثاني من بعده، دون تحديد من هو الأول ومن الثاني. وهكذا اشغل معاوية الإمام عليّاً - علیه السلام - فترة من الزمن حيث معركة الجمل.

ولم يكتف معاوية بذلك، بل راسل كبار الشخصيات الأموية أو المتضررة

ص: 405


1- الشرح 10 / 233
2- الشرح 2 / 151، 16 / 154. البلاذري: انساب الاشراف 5 / 71 - 72. الطبري: تاريخ 4 / 368. وقد حمل ابن عباس معاوية مسؤولية تربصه وخذلأنه لعثمان إذ قال: فاقسم بالله لانت المتربص بقتله، والمحب لهلاكه، والحابس الناس قبلك عنه على بصيرة من امره ولقد اتاك كتابه وصريخه يستغيث بك ويستصرخ، فما حفلت به حتى بعثت إليه معذراً بآخره، أنت تعلم انهم لن يتركوه حتى يقتل، فقتل كما كنت اردت..). الشرح 16 / 154 - 155

من خلافة الإمام عليّ علیه السلام، وهم - مروان بن الحكم(1)، وسعيد بن العاص(2)، وعبد الله بن عامر الحضرمي(3)، والوليد بن عقبة(4)، ويعلى بن منيه(5).

يوضح لهم الوضع المأساوي الذي آل إليه الخليفة، والمستقبل المجهول الذي ينتظرهم، لذا دعاهم إلى رص الصفوف، والوقوف بوجه الخليفة الجديد، مؤكداً عليهم بأنهم سيقعون تحت طائلة الحساب على اعمالهم السابقة، حيث كتب لعبد الله بن عامر: «وأعلم أنَّك غير متروك ولا مهمل» وحذر الوليد بن عقبة «وعن قليل يجتث اصلك»، اما يعلى بن منيه فكتب إليه «أن القوم قاصدوك بادئ بدء لاستنطاق ما حوته يداك من المال، فاعلم ذلك واعمل على حسبه»(6).

وقد تركت هذه الكتب اثرها فيهم فكتبوا لمعاوية يحرضونه، ويغرونه، ويحركونه ويهجونه ما عدا سعيد بن العاص الذي كتب له بخلاف ذلك(7).

ص: 406


1- كان مستشار عثمان، وتشير الروايات انه يتحمل المسؤولية الكبرى عن مقتله. الطبري: تاريخ 4 / 339 وما بعدها
2- كان والي عثمان على الكوفة، فرفضه أهلها، وتم تولية أبي موسى الاشعري، الطبري: تاريخ 4 / 278 وما بعدها
3- والي عثمان على مكة وهو الذي ايد اصحاب الجمل وجمعهم في مكة ووحد صفوفهم. الطبري: تاريخ 4 / 448 - 50
4- والي عثمان على الكوفة، وقد عزل وجلده الإمام علي علیه السلام اثر شربه الخمر، الطبري: تاريخ 4 / 251 - 277 . أبو الفرج: الاغاني 5 / 114 - 9. الشرح
5- والي عثمان على اليمن، أخذ اموالها ووظفها في حرب الجمل. الطبري: تاريخ 4 / 443. الفيروز ابادي: تحفة الأبية في من نسب إلى غير ابيه 1 / 11
6- الشرح 10 / 336 - 340
7- الشرح 10 / 340 - 345

إذن اجتمع إلى معاوية فضلاً عن طموحه في الملك والرياسة، وعلو همته، اجتمع له تحريض المحرضين، ولو لم يكن إلَّا شعر الوليد بن عقبه:

فوالله ما هندٌ بأمِك إن مضى *** النّهارُ ولم يثأر بعثان ثائرُ أيُقتَل عبد القومِ سيدُ أهلِهِ *** ولم تقتلوهُ، ليت أمّك عاقرُ ومن عجبٍ أن بِتَّ بالشامِ وادِعاً *** قريراً وقد دارَتْ عليهِ الدوائرُ اذاً فكيف لمعاوية إطاعة عليّ وبيعته، وتسليم نفسه إليه، وهو نازل في الشام وسط قحطان «ودونه حره لا ترام؛ وهم اطوع له من نعله، والامر قد امكنه الشروع فيه، وتالله لو سمع هذا التحريض اجبن الناس واضعفهم نفسا وانقصهم همة لحركه وشحذ من عزمه؛ فكيف معاوية، وقد ايقظ الوليد بشعره من لا ينام»(1).

فيما يرى ابن أبي الحديد «وأعلم ان حقيقة الجواب هو أن عليّاً علیه السلام، كان لا يرى مخالفة الشرع لأجل السياسة سواء كانت تلك السياسة دينية أو دنيوية. اما الدنيوية فنحو أن يتوهم الإمام في انسان أنه يروم فساد خلافته من غير أن يثبت ذلك عليه يقيناً فإن عليّاً علیه السلام لم يكن يستحل قتله ولا حبسه، ولا يعمل بالتوهم وبالقول غير المحقق، واما الدينية فنحو ضرب المتهم بالسرقة، فإنه أيضاً لم يكن يعمل به، بل يقول: أن يثبت عليه باقرار أو بينة، اقمت عليه الحد، والا لم اعترضه. وغير عليّ علیه السلام قد كان منهم من يرى خلاف هذا الرأي، ومذهب مالك بن أنس العمل على المصالح المرسلة(2)، وإنه يجوز للامام أن يقتل ثلث

ص: 407


1- الشرح 18 / 68 - 69. وانظر شعر الوليد: أبو الفرج: الاغاني 5 / 112
2- هي الوصف المناسب لتشريع الحكم الذي يترتب على ربط الحكم به جلب نفع أو دفع ضرر، ولم يدل شاهد من الشارع على اعتباره أو الغائه. البهادلي: مفتاح الوصول 2 / 160. ولمزيد من التفاصيل ينظر: مذكور: مناهج الاجتهاد ص 280 - 307

الأمة لاصلاح الثلثين، ومذهب أكثر الناس أنه يجوز العمل بالرأي وبغالب الظن، وإذا كان مذهبه علیه السلام ما قلناه، وكان معاوية عنده فاسقاً، وقد سبق عنده مقدمة أخرى يقينه، وهي أن استعمال الفاسق لا يجوز، ولم يكن ممن يرى تمهيد قاعدة الخلافة بمخالفة الشريعة، فقد تعين مجاهرته بالعزل، وإن افضى ذلك إلى الحرب»(1).

رابعاً: الطعن في سيرة الإمام علي علیه السلام:

استخدم معاوية الحرب الدعائية ضد الإمام علي - علیه السلام - وذلك بتشويه سمعته، ومن هذه الطعون:

1. اظهار أن الإمام اتخذ موقفاً سلبياً من الخلفاء السابقين حيث جاء في أحد كتبه للامام عليّ علیه السلام «لقد حسدت أبا بكر، والتويت عليه، ورمت افساد امره، و قعدت في بيتك، واستغويت عصابة من الناس حتى تأخروا عن بيعته، ثم كرهت خلافة عمر وحسدته، واستطلت مدته، وسررت بقتله، واظهرت الشماتة بمصابه، حتى أنك حاولت قتل ولده لأنه قتل قاتل أبيه(2)، ثم لم تكن أشد منك حسداً لابن عمك عثمان؛ و نشرت مقابحه، وطويت محاسنه، وطعنت في فقهه، ثم في دينه، ثم في سيرته، ثم في عقله؛ واغريت به السفهاء من اصحابك وشيعتك، حتى قتلوه بمحضرتك، لا تدفع عنه بلسان ولا يد، ومامن هؤلاء الا من بغيت عليه، وتلكأت في بيعته، حتى حملت إليه قهراً، تساق بخزائم الاقتسار، كما يساق ا لفحل المخشوش، ثم نهضت الآن تطلب الخلافة،

ص: 408


1- الشرح 10 / 246
2- كان رأي الإمام علي قتل عبيد الله بن عمر لأنه قتل الهرمزان وهو ليس قاتل الخليفة عمر. البلاذري: انساب 5 / 24. الطبري: تاريخ 4 / 239

وقتلة عثمان خلصاؤك وسجراؤك والمحدقون بك، وتلك من اماني النفوس، وضلالات الاهواء»(1).

إن الإمام عليّاً علیه السلام في موقفه مع من سبقه بالخلافة كان يرى أنه احق بالأمر طبقاً للافضلية(2). هذا الموقف استغله معاوية لتصويره كموقف سلبي للامام من الخلفاء السابقين، فاخذ يندد به عسى أن يتفوه الإمام بكلمة أو تصرف يستعملها معاوية للتنديد به ليس امام أهل الشام فحسب بل حتى امام أهل العراق(3).

وكان الإمام علي علیه السلام يدرك النوايا السلبية لمعاوية لذا رد عليه منكراً دخوله في الفاضل والمفضول لأنه من الطلقاء الذين ليس لهم الحق في التمييز بين المهاجرين الأولين، وترتيب درجاتهم، وتعريف طبقاتهم، ودعاه الإمام لمعرفة نفسه وقصور ذرعه عن الوصول إلى مكانة المهاجرين(4). واستنتج ابن أبي الحديد أن كلام الإمام عليّ علیه السلام ينقض ما يقوله من يطعن في السلف، لأنَّه علیه السلام انكر عليه المفاضلة بين المهاجرين الأولين اصحاب الدرجات والطبقات الرفيعة، وإن قدر معاوية يصغر في أن يدخل نفسه في مثل ذلك، فهذه شهادة قاطعة على علو شأنهما، وعظم منزلتهما(5).

ص: 409


1- الشرح 15 / 186
2- الشرح 17 / 255 - 6. إن النصوص القرآنية والأحاديث النبوية تنص صراحة على إمامة الإمام عليّ علیه السلام
3- الشرح 15 / 185
4- الشرح 15 / 181
5- الشرح 15 / 191

أن أبن أبي الحديد يحاول أن يقتنص أي كلمة للإمام علیه السلام لتدعيم رأيه في الخلفاء السابقين، وفي النص أعلاه فإن الامام علیه السلام أنكر على معاوية أن يكون له رأي في التفاضل بين الصحابة لأنه من الطلقاء، ولم يكن في كلام الإمام علیه السلام ما يؤيد ماذهب إليه ابن أبي الحديد، بل إن الامام علیه السلام أنكر على معاوية تفضيله الشيخين قائلا «وزعمت أن أفضل الناس في الإسلام فلان وفلان..» وندد معاوية بمواقف الإمام من عثمان واتخذ من دمه ورقة سياسية ضده.

حيث كتب له «.. كان منك ما كان من الادهان في أمر ابن عمك، والحسد له، ونصرة الناس عنه، حتى قتل بمشهد منك، لا تدفع عنه بلسان ولا يد، فليتك اظهرت نصره حيث اسررت خبره، فكنت كالمتعلق بين الناس بعذر، وإن ضعف، والمتبرئ من دمه بدفع وإن وهن، ولكنك جلست في دارك تدس إليه الدواهي، وترسل إليه الافاعي، حتى إذا قضيت وطرك منه، اظهرت شماتة، وابديت طلاقة، وحسرت للامر عن ساعدك، وشمرت عن ساقك، ودعوت الناس إلى نفسك، واكرهت اعيان المسلمين على بيعتك»(1).

وقد انكر الإمام على معاوية دخوله في أمر عثمان، لأن من يحق له المطالبة بدم عثمان إنما هم ابناؤه لصلبه، فإذا زعم معاوية أنه الاقوى، فعليه أن يدخل فيما دخل به المسلمون، ثم يحاكم قتلة عثمان إلى الإمام عليّ علیه السلام(2). وانكر ابن أبي الحديد اتهامات معاوية للإمام علیه السلام فيما يخص مواقفه من الخلفاء واظهار الشماتة، وإنه دعى الناس لقتل عثمان، وكراهة طلحة والزبير على البيعة «فكله دعوى

ص: 410


1- الشرح 17 / 251 - 252
2- الشرح 3 / 89. وانظر: المنقري: صفين ص 57 - 59

والامر بخلافها، ومن نظر في كتب السيرة عرف أنه قد بهته، وادَّعى عليه مالم يقع منه»(1).

ومما عاب به معاوية الإمام علیه السلام اتهامه بالزهو والاستطالة على الاخرين «إنك الشامخ بأنفه، الذاهب بنفسه، المستطيل على الناس بلسانه ويده». وقد اسرف معاوية بما وصفه به، ولا شك أن الإمام عليّاً - علیه السلام - كان عنده زهو، ولكن ليس كما وصفه معاوية، فكان مع زهوه الطف الناس خلقاً(2).

وندد بالإمام كونه ترك المدينة المنورة واختار الكوفة: «ثم تركك دار الهجرة التي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها: إن المدينة لتنقِّي خبثها كما ينقي الكير خبت الحديد(3). فلعمري لقد صح وعده وصدق قوله، لقد نفت خبثها، وطردت عنها من ليس باهل أن يستوطنها، فاقمت بين المصرين، وبعدت عن بركة الحرمين، ورضيت بالكوفة بدلاً من المدينة، وبمجاورة الخورنق والحيرة عوضاً عن مجاورة خاتم النبوة»(4).

إنه لا مانع ولا عيب على الخليفة إذا انتقضت عليه اطراف الإسلام الخروج من المدينة، إذ ليس كل من يخرج منها كان خبثاً، فقد خرج عمر مراراً إلى الشام، وكذلك معاوية قد خرج من المدينة فهل يعد هذا نفياً له، وكذلك طلحة والزبير وعائشة وغيرهم من الصالحين، والواجب على الإمام أن يقدم الاهم على المهم، فالاقامة في الحرمين ومجاورة الرسول صلی الله علیه و آله وسلم مهمة، ولكن مصالح الإسلام، وقتال

ص: 411


1- الشرح 17 / 255
2- الشرح 17 / 252، 256. وانظر فصل خصائص الإمام علیه السلام
3- مالك: الموطأ 2 / 463 - 4. مسلم: الصحيح 9 / 153. المتقي الهندي: كنز العمال 13 / 218
4- الشرح 17 / 252. ولكن معاوية نفسه ترك المدينة واتخذ دمشق عاصمة لما تولى الحكم!!؟

أهل البغي أولى من ذلك(1).

خامساً: موقف الإمام من طلحة والزبير وام المؤمنين:

من الطعون التي وجهها معاوية للامام قتاله علیه السلام لطلحة والزبير باعتبارهما من شيوخ الإسلام وقتلهما، وتشريد أم المؤمنين، واحلالها مبتذلة بين الاعراب وفسقة الكوفة، «ترى ابن عمك بهذه لو رآه راضياً، اما كان يكون عليك ساخطاً، ولك عنه زاجراً! أن تؤذي أهله وتشرد حليلته، وتسفك دماء أهل ملته»(2).

اجاب ابن أبي الحديد «إن طلحة والزبير قتلا انفسهما… واما كونهما شيخين من شيوخ الإسلام فغير مدفوع، ولكن العيب يحدث، واصحابنا يذهبون إلى انهما تابا… واما الوعد لهما بالجنة فمشروط بسلامة العاقبة والكلام في سلامتهما، وإذا ثبتت توبتهما فقد صح الوعد لهما وتحقق» واما قوله «لو عاش رسول الله صلی الله علیه وسلم فبربك هل كان يرضى لك ان تؤذي حليلته». فلعليّ علیه السلام أن يقلب الكلام عليه، فيقول: افتراه لو عاش اكان يرضى لحليلته أن تؤذي اخاه ووصيه! وايضاً أ تراه لو عاش اكان يرضي لك يا ابن أبي سفيان أن تنازع علياً الخلافة وتفرق جماعة هذه الأمة! وايضاً أتراه لو عاش كان يرضى لطلحة والزبير أن يبايعا، ثم ينكثا لا لسبب، بل قالا: جئنا نطلب الدراهم، فقد قيل لنا: إن بالبصرة اموالاً كثيرة! هذا كلام يقوله مثلهما»(3).

بعد هذه السلسلة من الطعون هدد معاوية الإمام عليّاً علیه السلام بالحرب: «وها

ص: 412


1- الشرح 17 / 255
2- الشرح 17 / 252
3- الشرح 17 / 254 - 255. القاضي: المغني 20 / 2 / 89

أنا سائر اليك في جمع من المهاجرين والأنصار، تحفهم سيوف شامية ورماح قحطانية، حتى يحاكموك إلى الله». ولكن الإمام عليّاً علیه السلام انكر على معاوية أيوجود للمهاجرين والانصار معه، قائلاً له: «قد انقطعت الهجرة يوم اسر اخوک». فالإمام يريد أن يقول له إنه ليس معك إلَّا من الطلقاء وابنائهم الذين اسلموا بعد فتح مكة، والنَّبي صلی الله علیه و آله وسلم يقول: لا هجرة بعد الفتح، وعبَّر الإمام عليّ علیه السلام عن يوم الفتح بعبارة فيها تقريع لمعاوية واهله بالكفر، وأنهم ليسوا من أهل السوابق، فقال علیه السلام: «وقد انقطعت الهجرة يوم اسر اخوك» أي يزيد بن أبي سفيان الذي اسر يوم فتح مكة في باب الخندمة(1)، وقد خرج في عدد من قريش لمحاربة الرسول صلی الله علیه و آله وسلم، فقتل بعضهم واسر يزيد، اسره خالد بن الوليد، فخلصه أبو سفيان منه، وادخله داره، فاصبح آمناً(2).

إن هذه السلسلة من المراسلات كانت موضع استياء من ابن أبي الحديد «واعجب واطرب ما جاء به الدهر - وإن كانت عجائبه وبدائعه جمة - أن يفضي أمر عليّ علیه السلام إلى أن يصير معاوية نداً له ونضيراً مماثلاً، يتعارضان الكتاب والجواب، ويتساويان فيما يواجه به احدهما صاحبه، ولا يقول له علي علیه السلام كلمة الا قال مثلها واخشن مساً منها، فليت محمداً صلی الله علیه و آله وسلم كان شاهداً ذلك؛ ليرى عياناً لا خبراً أن الدعوة التي قام بها، وقاسى أعظم المشاق في تحملها، وكابد الاهوال في الذب عنها، وضرب بالسيوف عليها لتأييد دولتها، وشيد اركانها، وملأ الآفاق بها خلصت صفواً عفواً لاعدائه الذين كذبوه لما دعا إليه، واخرجوه

ص: 413


1- جبل بمكة تجمع فيه بعض المشركين لمحاربة المسلمين يوم الفتح، الزمخشري: كتاب الامكنة، ص 78. الحموي: معجم البلدان 2 / 382 - 3. الحميري: الروض ص 222 - 3
2- الشرح 17 / 250، 252 - 3، 256 - 257

عن - أوطانه لما حض عليها، وادموا وجهه، وقتلوا عمه واهله، فكأنه كان يسعى لهم، ويدأب لراحتهم، كما قال أبو سفيان في أيام عثمان وقد مرَّ بقبر حمزة، وضربه برجله، وقال: يا أبا عمارة! إن الأمر الذي اجتلدنا عليه بالسيف امسى في يد غلماننا اليوم يتلعبون به(1)! ثم آل الأمر إلى أن يفاخر معاوية علياً كما يتفاخر الاكفاء والنظراء:

إذا عیَّرَ الطائيَ بالبخلِ مادرٌ *** وقرَّع قَسا بالفهاهِةِ باقِلُ وقالَ السها للشمسِ: أنتِ خفيَّةٌ *** وقال الدُجى يا اصبُحُ لونُكَ حائِلُ وفاخرت الأرض السماءَ سفاهةً *** وكاثرتِ الشهبُ الحصادُ الجنادلُ فيا موتُ زُرْ إنَّ الحياةَ ذميمةٌ *** ويا نفسُ جُدّي إنَّ دهرَكِ هازِلُ ثم أقول ثانياً لأمير المؤمنين علیه السلام: ليت شعري: لماذا فتح باب الكتاب والجواب بينه وبين معاوية! وإذا كانت الضرورة قد قادت إلى ذلك، فهلا اقتصر في الكتاب إليه على الموعظة من غير تعرض للمفاخرة والمنافرة! وإذا كان لا بد منهما فهلا اكتفى بهما من غير تعرض لأمر آخر يوجب المقابلة والمعارضة بمثله. وباشد منه، «وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْوًا بِغَيرِ عِلْمٍ»(2). وهلا دفع هذا الرجل العظيم الجليل نفسه عن سباب هذا السفيه الاحمق، هذا مع انه القائل: من واجه الناس بما يكرهون قالوا فيه ما لا يعلمون! أي افتروا عليه، وقالوا فيه الباطل(3):

ص: 414


1- المقريزي: النزاع والتخاصم ص 3
2- سورة الانعام، الآية: 108
3- ابيات لعبد الرحمن بن حسان بن ثابت يهجو مسكين الدارمي الشرح 16 / 137 ه 2 (المحقق)

أيّها الشاتمي لتُحسب مثلي *** إنما أَنتَ في الضلال تَهيمُ لا تسببني فلست بسبي *** إن سبي من الرجالِ الكريمُ وهكذا جرى القنوت واللعن، قنت بالكوفة على معاوية، ولعنه في الصلاة وخطبة الجمعة، وأضاف إليه عمرو بن العاص، وابا موسى، وابا الاعور السلمي، وحبيب بن مسلمة، فبلغ ذلك معاوية بالشام، فقنت عليه ولعنه بالصلاة، وخطبة الجمعة، وأضاف إليه الحسن والحسين وابن عباس والاشتر النخعي، ولعله علیه السلام قد كان يظهر له من المصلحة حينئذ ما يغيب عنا الآن، وللهأمر هو بالغه»(1).

ثالثاً: وقائع معركة صفين بعد أن ادرك الإمام عليّ علیه السلام أنه لا فائدة من مراسلة معاوية بعد أن قدم الأدلة وردَّ ادعاءاته في مسألة مقتل عثمان، رأى علیه السلام أنه لا مناص من اللجوء للقوة، ولم يكن علیه السلام يستند في ذلك لمشروعية حكمه فحسب، وإنما أيضاً لما اثر عن الرسول صلی الله علیه و آله وسلم بأنه سيقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين، «واما الطائفة الفاسقة فاصحاب صفين وسماهم رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم القاسطين.. وهذا الخبر من دلائل نبوته صلوات الله عليه لأنه اخبار صريح بالغيب لا يحتمل التمويه والتدليس كما تحتمله الاخبار المجملة، وصدق قوله علیه السلام.. واما اصحاب صفين فإنهم عند اصحابنا رحمهم الله مخلدون في النار لفسقهم فصح بهم قوله تعالى:

«وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا»(2).

ص: 415


1- الشرح 16 / 136 - 137
2- سورة الجن، الآية: 15

ولقد تمكن جيش معاوية من الوصول إلى شريعة الفرات قبل جيش الإمام علي لذا كانت فرصة ذهبية لمعاوية أن يحرمهم من الماء ولكن السيطرة على الشريعة ما لبثت ان تحولت إلى الإمام علي وجيشه فلذا طلب اصحاب الإمام منه معاملتهم بالمثل، فقال علیه السلام: «لا افعل كما فعله الجاهلون». وسمح لهم باستخدام شريعة الفرات(1).

إن سيطرة الإمام علیه السلام على الماء، وازاحته لأهل الشام، ثم سماحه لهم باستخدامه كانت من ضمن الطعون التي اثيرت ضد سياسة الإمام علیه السلام حيث قالوا: هلا إذا ملك شريعة الفرات على معاوية، وبعد أن كان معاوية ملكها عليه، ومنعه واهل العراق منها، منع معاوية واهل الشام منها؛ فكان يأخذهم قبضاً بالايدي! فإنه لم يصبر على منعهم من الماء، بل فسح لهم في الورود، وهذا يخالف ما يقتضيه تدبير الحرب»(2).

هذه الرؤية فنَّدها ابن أبي الحديد وقدَّم الأدلة على السبب الذي دفع الإمام لذلك حيث قال: «إنه علیه السلام لم يكن يستحل ما استحله معاوية من تعذيب البشر بالعطش؛ فإن الله تعالى ما أمر في أحد من العصاة الذين أباح دماءهم بذلك، ولا فسح فيه في نحو القصاص، أو حد الزاني المحصن، أو قتل قاطع الطريق، أو قتل البغاة والخوارج، وما كان امير المؤمنين ممن يترك حكم الله وشريعته، ويعتمد ما هو محرم فيها لأجل الغلبة والقهر والظفر بالعدو، ولذلك لم يكن يستحل البيات ولا الغدر ولا النكث، وايضاً فمن الجائز أن يكون علیه السلام غلب

ص: 416


1- الشرح 3 / 312 - 331
2- الشرح 10 / 257

على ظنه أن أهل الشام إن منعوا من الماء كان ذلك ادعى لهم إلى الحملات الشديدة المنكرة على عسكره، وأن يضعوا فيهم السيوف، فيأتوا عليهم، ويكسروهم بشدة حنقهم وقوة داعيهم إلى ورود الماء، فإن ذلك من أشد الدواعي إلى أن يستميت القوم ويستقتلوا. ومن الذي يقف بين يدي جيش عظيم عرمرم حنق قد اشتد بهم العطش، وهم يرون الماء كبطون الحيات، ولا يحول بينهم وبينه الا قوم مثلهم، بل أقل منهم عدة واضعف عدة، ولذلك لما حال معاوية بين أهل العراق وبين الماء، وقال: لامنعهم وروده فاقتلهم بشفار الظمأ، قال له عمرو بن العاص: خل بين القوم وبين الماء، فليسوا ممن يرى الماء ويصبر عنه، فقال: لا والله لا اخلي لهم عنه فسفّه رأيه وقال:

أ تظن أن ابن أبي طالب واهل العراق يموتون بازائك عطشاً، والماء بمعقد الازر، وسيوفهم في ايديهم! فلج معاوية، وقال: لا اسقيهم قطرة، كما قتلوا عثمان عطشاً، فلما مس أهل العراق العطش، أشار عليّ علیه السلام إلى الاشعث أن احمل، وإلى الاشتر أن احمل، فحملا بمن معهما فضربا أهل الشام ضربا اشاب الوليد، وفرّ معاوية ومن رأى رأيه وتابعه على قوله عن الماء كما تفر الغنم خالطتها السباع، وكان قصارى امره، ومنتهى همته أن يحفظ رأسه، وينجو بنفسه، وملك أهل العراق عليهم الماء، ودفعوهم عنه فصاروا في البر القفر، وصار عليّ علیه السلام واصحابه على شريعة الفرات، مالكين لها، فما الذي كان يؤمن عليّاً علیه السلام لو عطش القوم أن يذوق هو واصحابه منهم مثل ما اذاقهم! وهل بعد الموت بالعطش أمر يخافه الانسان! وهل يبقى له ملجأ الا السيف يحمله به فيضرب خصمه إلى أن يقتل احدهما»(1).

ص: 417


1- الشرح 10 / 257 - 258

ولم يكتف الإمام بذلك الموقف؛ بل عقبه بعدة مواقف كان من خلالها الإمام يريد أن يتوصل لحل سلمي، ويهدف أن يستبصر أهل الشام بصحة موقف الإمام وبطلان موقف معاوية حيث قال لاصحابه لما استبطأوه في إذنه بالقتال «…فوالله ما دفعت الحرب يوماً الا وأنا اطمع أن تلحق بي طائفة فتهتدي بي، وتعشوا إلى ضوئي، فهو أحب إلي من أن اقتلها على ضلالها، وإن كانت تبوء بآثامها»(1).

فكانت معركة صفين التي ادت لسقوط عدد من القتلى من كلا الطرفين، فيهم عدد من كبار الصحابة، ولما ادرك معاوية ان النصر بات وشيكاً لعلي - علیه السلام - طلب فرساً لينهزم، ثم أشار عمرو بن العاص على أهل الشام برفع المصاحف، ودعوة أهل العراق إلى الاحتكام إلى كتاب الله تعالى، فهنا انقسم اصحاب الإمام عليّ علیه السلام أقساماً: «فمنهم من دخلت عليه الشبهة برفع المصاحف، وغلب على ظنه أن أهل الشام لم يفعلوا ذلك خدعة وحيلة، بل حقاً ودعاء إلى الدين وموجب الكتاب، فرأى أن الاستسلام للحجة اولى من الاصرار على الحرب، ومنهم من كان قد مل الحرب، وآثر السلم، فلما رأى شبهة ما يسوغ التعلق بها في رفض المحاربة وحب العافية اخلد إليها. ومنهم من كان يبغض علياً علیه السلام بباطنه، ويطيعه بظاهره، كما يطيع كثير من الناس السلطان في الظاهر، ويبغضه بقلبه، فلما وجدوا طريقاً إلى خذلأنه وترك نصرته، اسرعوا نحوها، فاجتمع جمهور عسكره عليه، وطالبوه بالكف وترك القتال، فامتنع امتناع عالم بالمكيدة، وقال لهم: إنها حيلة وخديعة، وإني اعرف بالقوم منكم، إنهم ليسوا

ص: 418


1- الشرح 4 / 12

اصحاب قرآن ولا دين، قد صحبتهم وعرفتهم صغيراً وكبيراً، فعرفت منهم الاعراض عن الدين، والركون إلى الدنيا، فلا تراعوا برفع المصاحف، وصمموا على الحرب، وقد ملكتموهم، فلم يبق منهم الا حشاشة ضعيفة، وذمار قليل.

فأبوا عليه والحوا واصروا على القعود والخذلان، وامروه بالانفاذ إلى المحاربين من أصحابه. وعليهم الاشتر أن يأمرهم بالرجوع، وتهددوه إن لم يفعل بإسلامه إلى معاوية. فأرسل إلى الاشتر يامره بالرجوع وترك الحرب فأبى فقال: كيف ارجع وقد لاحت امارات الظفر! ليمهلني ساعة واحدة. ولم يكن علم صورة الحال كيف قد وقعت. فلما عاد إليه الرسول بذلك. غضبوا ونفروا وشغبوا، وقالوا: انفذت إلى الاشتر سراً وباطناً، تأمره بالتصميم، وتنهاه عن الكف، وإن لم تعده الساعة، والا قتلناك كما قتلنا عثمان. فرجعت الرسل إلى الاشتر فقالوا له: أ تحب أن تظفر بمكانك وامير المؤمنين قد سل عليه خمسون الف سيف! فقال: ما الخبر؟ قال: إن الجيش يأسره وقد احدق به، وهو قاعد بينهم على الارض، تحته نطع وهو مطرق، والبارقة تلمع على رأسه، يقولون: لئن لم تعد الاشتر قتلناك! قال: ويحكم! فما سبب ذلك؟ قالوا: رفع المصاحف. قال: والله لقد ظننت حين رأيتها رفعت أنها ستوقع فرقة وفتنة، ثم كر راجعاً على عقبيه، فوجد امير المؤمنين علیه السلام تحت الخطر، قد ردده أصحابه بين امرين: إما أن يسلموه إلى معاوية، أو يقتلوه، ولا ناصر له منهم الا ولداه، وابن عمه ونفر قليل لا يبلغون عشرة. فلما رآهم الاشتر سبهم وشتمهم، وقال: ويحكم! ابعد الظفر والنصر صب عليكم الخذلان والفرقة! يا ضعاف الاحلام! يا اشباه النساء! يا سفهاء العقول! فشتموه وسبّوه، وقهروه، وقالوا: المصاحف، المصاحف! والرجوع إليها، لا نرى غير ذلك! فأجاب امير المؤمنين علیه السلام إلى التحكيم، دفعاً

ص: 419

للمحذور الاعظم بارتكاب المحضور الاضعف، فلذلك قال: كنت اميراً فاصبحت مأموراً، وكنت ناهياً فصرت منهيا»(1).

إن قبول الإمام علیه السلام التحكيم وايقاف الحرب بعد ما لاحت علائم النصر ولم يبق إلا أن يأخذ معاوية ثم ترك ذلك، واخلد إلى التحكيم، وإن تحكيمه عدَّه البعض دليلاً على شك في امره، وضعفاً في سياسته!!؟.

إن أهل الشام لما رفعوا المصاحف انخذع بها أهل العراق وقالوا: لا يحل لنا التصميم على حربهم ولا يجوز لنا الا وضع السلاح والرجوع لحكم المصاحف، فاشار الإمام بأنها خديعة، وكلمة حق يراد بها باطل ودعاهم للصبر ولو ساعة، فأبوا قائلين: ارسل إلى الاشتر، وبعد أخذٍ وردٍ عاد الاشتر وجرى بينه وبين أهل العراق المتخاذلين من السب والشتم، «فإذا كانت الحال هكذا، فأي تقصير وقع من أمير المؤمنين علیه السلام، وهل ينسب المغلوب على امره، المقهور على رأيه إلى تقصير أو فساد تدبير! اما قولهم أن التحكيم يدل على الشك في امره: لأنه إنما يدل على ذلك لو ابتدأ هو به، فأما إذا دعاه إلى ذلك غيره، واستجاب إليه أصحابه، فمنعهم وامرهم أن يستمروا على وتيرتهم وشأنهم، فلم يفعلوا، وبيَّن لهم أنها مكيدة فلم يتبينوا، وخاف أن يقتل أو يسلم إلى عدوه، فإنه لا يدل تحكيمه على شكه، بل إنه يدل على أنه قد دفع بذلك ضرراً عظيماً عن نفسه، ورجا أن يحكم الحكمان بالكتاب، فتزول الشبهة عمن طلب التحكيم من أصحابه»(2).

ولما قبل الإمام التحكيم، ووضعت صيغة الصلح رفض معاوية كتابة لفظة

ص: 420


1- الشرح 11 / 29 - 31. وانظر الطبري: تاريخ 5 / 48 - 50
2- الشرح 10 / 252 - 253

(أمير المؤمنين) للإمام عليّ علیه السلام برفعها، فاصبح ذلك من المطاعن التي وجهت إلى سياسته حيث قالوا: إن الإمام اخطأ حيث محا اسمه بالخلافة من صحيفة الحكومة، لأن ذلك مما وهنه عند أهل العراق، و قوَّى الشبهة لدى أهل الشام.

في الواقع إنه علیه السلام اقتدى في ذلك بفعل الرسول صلی الله علیه و آله وسلم في صلح الحديبية، حيث محا صلی الله علیه و آله وسلم اسمه من النبوة كما طلب سهيل بن عمرو الذي قال للرسول صلی الله علیه و آله وسلم: لو علمنا إنك رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم لما حاربناك، ولا منعناك البيت. وقد قال صلی الله علیه و آله وسلم يومها لعليّ علیه السلام وكان الكاتب لصلح الحديبية: ستدعى إلى مثلها فتجيب. وهذا من علائم نبوته صلی الله علیه و آله وسلم، ودلائل صدقه، وقد جرى للإمام ما جرى للرسول صلی الله علیه و آله وسلم حذو القذة(1) بالقذة(2).

واختير أبو موسى الاشعري حكماً عن أهل العراق، وعمرو بن العاص عن أهل الشام، وكان ذلك مما اثار الطعن في سياسة الإمام عليّ علیه السلام، إذ كيف يرضى بحكومة أبي موسى وهو فاسق عنده بتثبيطه أهل الكوفة عنه؟ وكيف رضي بتحكيم عمرو بن العاص وهو افسق الفاسقين؟ إن الإمام عليّاً علیه السلام كره أبا موسى واراد ان يجعل بدله ابن عباس فقال أصحابه: لا يكون الحكمان من مضر، فرشح الإمام الاشتر، فقالوا: وهل اضرم النار الا الاشتر! وهل جر ما ترى الا حكومة الاشتر! فأبوا الا أبا موسى، ومدحوه، فاضطر الإمام للقبول على مضض. واما تحكيمه عمراً فإنه لم يرض

ص: 421


1- القذة: الريشة التي تركب على السهم. والمثل يضرب في تشابه الشيئين. أبو هلال العسكري: جمهرة الامثال 1 / 381. النويري: نهاية الارب 3 / 26
2- الشرح 10 / 258. وانظر الطبري: تاريخ 5 / 52 - 53. وللجاحظ رأي في صحيفة الصلح حيث يرى بأنها حرفت وزيد فيها. رسالة في الحكمين ص 172 - 6

به، وإنما رضاه خصمه، وقد اجاب ابن عباس حينما قال للخوارج: أليس قد قال الله تعالى:

«فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا»(1).! أرأيتم لو كانت المرأة يهودية، فبعثت حكماً من أهلها، أكنَّا نسخط ذلك(2).

وكانت نتيجة التحكيم أن خدع عمرو بن العاص أبا موسى، وذهب للشام وبايع لمعاوية، فيما هرب أبو موسى إلى مكة، واصبحت خديعة عمرو له مضرب المثل(3).

كانت فلسفة الإمام في التحكيم مفادها: «إنا لم نحكّم الرجال، وإنما حكّمنا القرآن، هذا القرآن، إنما هو خط مسطور بين الدفتين، لا ينطق بلسان، ولا بد له من ترجمان، وإنما ينطق عنه الرجل، ولما دعانا القوم إلى أن نحكّم بيننا القرآن، لم نكن الفريق المتولي عن كتاب الله سبحانه وتعالى: وقد قال الله تعالى عز من قائل:

«فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فيِ شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ»(4).

فردوه إلى الله أن نحكم بكتابه، وردوه إلى الرَّسول صلی الله علیه و آله وسلم أن نحكم بسنته، فإذا حكم بالصدق في كتاب الله تعالى، فنحن احق الناس به، وإن حكم بسنة رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم، فنحن أحق الناس وأولاهم بها»(5).

ص: 422


1- سورة النساء، الآية: 35
2- الشرح 10 / 251، 253. وانظر الشريف المرتضى: تنزيه الانبياء ص 166 - 170
3- الشرح 10 / 56 - 57. وانظر: الزمخشري: ربيع الابرار 1 / 707
4- سورة النساء، الآية: 59
5- الشرح 8 / 103. وانظر: الطبري: التاريخ 5 / 166

إن الإمام هنا يقول: لما دعينا إلى تحكيم الكتاب، لم نكن القوم الذين قال الله تعالى فيهم:

«وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ»(1).

بل أجبنا إلى ذلك، وعملنا بقول الله تعالى:

«فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ».

ومعنى ذلك أن نحكم بالكتاب والسنة، فإذا عمل الناس بها بالحق، واطرحوا الهوى والعصبية، كنا احق بتدبير الأمة، وبولاية الخلافة من المنازع لنا عليها. وقد رفَّع علیه السلام نفسه أن يصرح بذكر الخلافة فكنَّى عنها، وقال: نحن إذا حكم بالكتاب والسنة اولى بهما، ويلزم من كونه اولى بهما من جميع الناس أن يكون أولى بالخلافة من جميع الناس، فدل على ما كنى عنه بالأمر المستلزم له(2).

ولكن يمكن التساؤل: إذا كان الرجال الذي يترجمون القرآن ويفسرونه، وقد كلفوا أن يحكموا في واقعة أهل العراق واهل الشام، بما يدلهم القرآن عليه، يجوز أن يختلفوا في تفسير القرآن وتأويله، فيدعي صاحب أهل العراق من تفسيره ما يستدل به على مراده، ويدعي وكيل أهل الشام ما يقابل ذلك ويناقضه، بطريق الشبهة التي تمسكوا بها من دم عثمان، ومن كون الإجماع لم يحصل على بيعة أمير المؤمنين علیه السلام، احتاج الحكمان حينئذ إلى أن يحكم بينهما حكمان آخران، والقول فيها كالقول في الأول إلى ما لا نهاية له؛ وإنَّما كان يكون التحكيم قاطعاً للشغب لو كان القرآن ينص بالصريح الذي لا تأويل فيه، إما

ص: 423


1- سورة النور، الآية: 48
2- الشرح 8 / 104 - 105

على أمير المؤمنين علیه السلام، وإما على معاوية، ولا نص صريح فيه، بل الذي فيه يحتمل التأويل والتجاذب، فما الذي يفيد التحكيم والحال تعود لا محالة!؟ إن اجابة ابن أبي الحديد عن هذا السؤال تكمن في «أن الحكمين لو تأملا الكتاب حق التأمل، لوجدا فيه النص الصريح على صحة خلافة أمير المؤمنين علیه السلام، لأن فيه النص الصريح على أن الإجماع حجة، ومعاوية لم يكن مخالفاً في هذه المقدمة ولا أهل الشام، وإذا كان الإجماع حجة، فقد وقع الإجماع لما توفي رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم، على أن اختيار خمسة من صلحاء المسلمين لواحد منهم وبيعته توجب لزوم طاعته وصحة خلافته، وقد بايع امير المؤمنين علیه السلام خمسة من صلحاء الصحابة بل خمسون؛ فوجب أن تصح خلافته، وإذا صحَّت خلافته نفذت احكامه، ولم يجب عليه أن يقيد بعثمان، الا إذا حضر اولياؤه عنده، طائعين له مبايعين، ملتزمين لاحكامه، ثم بعد ذلك يطلبون القصاص من قوم باعيانهم يدعون عليهم دم المقتول، فقد ثبت أن الكتاب لو تُؤُمِّل حق التامل لكان الحق مع أهل العراق، ولم يكن لأهل الشام من الشبهة ما يقدح في استنباطهم المذكور»(1).

إن الآيات القرآنية كآية الولاية والبلاغ وغيرها صريحة في صحة خلافة الإمام علیه السلام.

رابعاً: رؤية الاعتزال لأهل صفين:

ترى المعتزلة هلاك أهل صفين لاصرارهم على البغي، وموتهم عليه سواء الرؤساء أو الاتباع. لذا صح فيهم قوله تعالى: «واما القاسطون فكانوا لجهنم

ص: 424


1- الشرح 8 / 105 - 106

حطباً»(1)، ولكن الإمام عليّاً علیه السلام وصف أهل صفين بأنهم إخوان بقوله: «ولكنا إنّما أصبحنا نقاتل اخواننا في الإسلام على ما دخل فيه من الزيغ والاعوجاج».

في حين لا يصف المعتزلة المحاربين للامام من أهل صفين بالمسلمين، فكيف التوفيق في ذلك؟ في الواقع إن المعتزلة وإن كانت تذهب إلى أن صاحب الكبيرة لا يسمى مؤمناً، ولا مسلماً، ولكنهم يجيزون اطلاق لفظ الإسلام عليه إذا قصد به تمييزه عن أهل الذمة وعابدي الاصنام، فيطلق مع قرينة حالة أو لفظة تخرجه عن أن يكون مقصوداً به التعظيم والثناء والمدح، لأن لفظة «مسلم» و «مؤمن» تستعمل في أكثر الأحوال كذلك، والإمام علي علیه السلام لم يقصد بذلك إلَّا تمييزهم من كفار العرب وغيرهم من أهل الشرك، ولم يقصد مدحهم بذلك، لذا لا ينكر اطلاق لفظ المسلمين عليهم بهذا القصد(2).

ولذا فكبار قادة صفين كمعاوية وعمرو بن العاص والمغيرة لا يتولاهم المعتزلة ولا يثنون عليهم، وهم لدى المعتزلة في مقام غير محمود، اما رؤية المعتزلة لمعاوية خاصة، فهو «مطعون في دينه عند شيوخنا رحمهم الله… وقد ذكرنا في «نقض السفيانية»(3). على شيخنا أبي عثمان الجاحظ ما رواه في كتبهم الكلامية عنه... ولو لم يكن شيء من ذلك، لكان في محاربته الإمام ما يكفي في فساد حاله، لاسيما على قواعد اصحابنا، وكونهم بالكبيرة الواحدة يقطعون على

ص: 425


1- سورة الجن، الآية: 15. الشرح 1 / 9، 201
2- الشرح 7 / 299
3- هو رد على كتاب السفيانية للجاحظ. أنظر علي جواد محي الدين: ابن أبي الحديد ص 243

المصير إلى النار والخلود فيهاإن لم تكفرها التوبة»(1).

وقال في معرض مقارنته بين معاوية والخوارج: «وقد طعن كثير من اصحابنا في دين معاوية…. ونقلوا عنه في فلتات كلامه وسقطات الفاظه ما يدل على ذلك». وقد استشهد ابن أبي الحديد بما رواه الزبير بن بكار في كتابه الموفقيات(2) من موقف معاوية من النَّبي صلی الله علیه و آله وسلم في اثناء خلافته، وقد أيّد ابن أبي الحديد صحة الرواية بقوله بخصوص الزبير بن بكار: «وهو غير متهم على معاوية، ولا منسوب إلى اعتقاد الشيعة، لما هو معلوم من حالة من مجانبة عليّ علیه السلام، والانحراف عنه»(3).

وأكد ابن أبي الحديد صحة رؤيته من خلال التأكيد على افعال معاوية المجانبة للعدالة الظاهرة من لبسه الحرير، وشربه في آنية الذهب والفضة، حتى انكر عليه ذلك أبو الدرداء، حيث قال له: إني سمعت رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم يقول:

إن الشارب فيهما ليجرجر في جوفه نار جهنم(4). فردَّ معاوية: أما أنا فلا أرى بذلك بأساً. فقال أبو الدرداء: من عذيري من معاوية: أنا اخبره عن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم وهو يخبرني عن رأيه: لا اساكنك بارض أبداً(5). وأكد ابن أبي الحديد أن هذا الخبر اخرجه المحدثون والفقهاء في كتبهم في باب الاحتجاج على أن خبر الواحد معمول به في الشرع، وهذا الخبر يقدح في عدالته، كما يقدح في

ص: 426


1- الشرح 1 / 340، 10 / 101، 20 / 35. وانظر القاضي: المغني 20 / 2 / 93 - 94
2- الاخبار الموفقيات ص 576 - 577
3- الشرح 5 / 129 - 130
4- اخرجه ابن ماجه: صحيح 2 / 248
5- رواه مالك: الموطأ 2 / 512. النسائي: سنن 7 / 279. البيهقي: السنن 5 / 280

عقيدته، لأن من قال في مقابلة خبر قد روي عن الرَّسول صلی الله علیه و آله وسلم: أما أنا فلا أرى بأساً فيما حرمه الرَّسول صلی الله علیه و آله وسلم، هذا ليس بصحيح العقيدة(1).

وأضاف ابن أبي الحديد: «ومن المعلوم أيضاً من حاله استئثاره بمال الفيء، وضربه من لأحد عليه، واسقاط الحق عمن يستحق اقامة الحد عليه، وحكمه برأيه في الرعية، وفي دين الله، واستلحاقه زياداً، وهو يعلم قول رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم «الولد للفراش وللعاهر الحجر»(2). وقتله حجر بن عدي واصحابه، ولم يجب عليهم القتل، ومهانته لأبي ذر الغفاري وجبهه وشتمه، وإشخاصه إلى المدينة على قتب بغير وطاء لانكاره عليه، ولعنه علياً وحسناً وحسيناً (عليهم السَّلَام) وعبد الله بن عباس على منابر الإسلام، وعهده بالخلافة إلى ابنه يزيد، مع ظهور فسقه وشربه المسكر جهاراً، ولعبه بالنرد، ونومه بين القيان المغنيات، واصطحابه معهن، ولعبه بالطنبور بينهن، وتطريقه بني أمية للوثوب على مقام رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم وخلافته حتى افضت إلى يزيد بن عبد الملك والوليد بن يزيد، المفتضحين الفاسقين، صاحب حبابة وسلامة، والاخر رامي المصحف بالسهام، وصاحب الاشعار في الزندقة والالحاد»(3).

ص: 427


1- الشرح 5 / 130. وانظر: الجاحظ: رسالة في النابتة ص 241 - 2
2- اخرجه: الجاحظ: رسالة في الحكمين ص 368. رسالة في النابتة ص 241. مسلم: الصحيح 10 / 37. ابن ماجه: صحيح 1 / 339 - 40. أبي داود: سنن 2 / 382 - 3. الطبري: تاريخ 5 / 279. الشريف الرضي: المجازات النبوية ص 139. البيهقي: السنن 7 / 402، 412. ابن الاثير: النهاية 1 / 23 - 4
3- الشرح 5 / 130 - 131. عن فكرة الخروج على الامام الجائر عند الخوارج. أنظر: الزوار: الفكر السياسي عند الخوارج ص 58 - 73

ويرى ابن أبي الحديد أنه إذا كان الخوارج قد بريء منهم أهل الدين والحق، لأنهم فارقوا الإمام وبرئوا منه، وما عدا ذلك من عقائدهم كالقول بتخليد الفاسق في النار والخروج على امراء الجور وغيرها فالمعتزلة تعتقد بها، فلم يبق ما تقتضي البراءة منهم الا برائتهم من عليّ علیه السلام، وقد كان معاوية يلعنه على رؤوس الاشهاد على المنابر في الجمع والاعياد، سواء في المدينة أو مكة أو سائر الامصار، إذن فقد شارك الخوارج في الأمر المكروه فيهم، وامتازوا عليه باظهار الدين والالتزام بقوانين الشريعة، والاجتهاد في العبادة، وانكار المنكرات وكانوا احق بأن ينصروا عليه من أن ينصر عليهم، فاتضح بذلك قول الإمام علیه السلام«لا تقاتلوا الخوارج بعدي»، أي في ملك معاوية، ومما يؤيد هذا المعنى ان عبد الله بن الزبير استنصر بالخوارج على يزيد بن معاوية، وقال: لو شايعني الترك والديلم على محاربة بني أمية لشايعتهم، وانتصرت بهم. حتى قال فيه الشاعر(1):

يا ابنُ الزبیرِ أتهوى فتيةً قَتلوا *** ظُلماً اباكَ ولمّا تُنزَعِ الشككُ! ضَحَّوا بعثمانَ يومَ النحرِ ضاحيةً *** يا طيبَ ذاكَ الدمِ الزاكِي الذي سفَكُوا وقد وصف الإمام علي علیه السلام معاوية بأنه عدو النبي، وقد اوضح ابن أبي الحديد ذلك لأن دلائل النفاق كانت ظاهرة عليه من فلتات لسانه، ومن افعاله، ولقد أكد المعتزلة على هذه المسألة خاصة في مؤلفات أبي عبد الله البصري، وابي جعفر الاسكافي، وابي القاسم البلخي(2).

وفي اشارته لمفاوضات معاوية وعمرو بن العاص حول كيفية التعاون

ص: 428


1- الشرح 5 / 131. لم أهتد إلى قائل البيت
2- الشرح 15 / 170 - 1

ضد الامام، فطلب عمرو اقليم مصر طعمه له، فقال معاوية: «إني أكره لك أن تتحدث العرب عنك إنك إنما دخلت في هذا الأمر لغرض الدنيا». فقال عمرو بن العاص: دعني عنك قال ابن أبي الحديد: «قال شيخنا أبو القاسم البلخي رحمه الله تعالى، قول عمرو له: «دعني عنك» كناية عن الالحاد، بل تصريح به، أي دع هذا الكلام، لا أصل له؛ فإن اعتقاد الاخرة، وأنها لا تباع بعرض الدنيا من الخرافات وقال (رحمه الله تعالى): وما زال عمرو بن العاص ملحداً، ما تردد قط في الالحاد والزندقة، وكان معاوية مثله، ويكفي من تلاعبهما بالاسلام حديث السرار المروي، وأن معاوية عض اذن عمرو. أين هذا من سيرة عمر؟ واين هذا من أخلاق علي علیه السلام، وشدته في ذات الله؟ وهما مع ذلك يعيبانه بالدعابة»(1).

ويخلص للقول أن المعتزلة ترى فساد عقيدة معاوية(2).

وفي شرحه لكتاب الامام إلى عمرو بن العاص «فإنك قد جعلت دينك تبعاً لدنيا امرئ ظاهر غيّه، مهتوك ستره، يشين الكريم بمجلسه، ويسفه الحليم بخلطته، فاتبعت أثره، وطلبت فضله؛ إتباع الكلب للضرغام، يلوذ بمخالبه، وينتظر ما يلقي إليه من فضل فريسته، فاذهبت دنياك وآخرتك، ولو بالحق اخذت ادركت ما طلبت».

قال ابن أبي الحديد: إن كل ما قاله الامام هو الحق الصريح بعينه، فالإمام علي علیه السلام لم يحمله بغضه وغضبه منهما للمبالغة في ذمهما، كما يبالغ الفصحاء عند سورة الغضب «ولا ريب عند أحد من العقلاء ذوي الانصاف أن عمراً جعل دينه تبعاً لدنيا معاوية، وأنه ما بايعه وتابعه الا على جعالة جعلها له وضمان

ص: 429


1- الشرح 2 / 65
2- الشرح 15 / 115

تكفّل له بايصاله، وهي ولاية مصر مؤجلة، وقطعة وافرة من المال معجلة، ولولديه وغلمانه ما ملأ اعينهم».

اما وصفه لمعاوية بأنه ظاهر غيّه، فإن ظهور ضلالة وبغيه لا ريب فيه، فكل باغ غاو، اما مهتوك ستره فإنه كان كثير الهزل والخلاعة، صاحب جلساء وسمار، وهو لم يتوفر ويلزم قانون الرياسة، الا بعد خروجه على الامام علیه السلام، فاحتاج إلى الناموس والسكينة، واما قبل ذلك فكان شديد التهتك موصوفاً بكل قبيح، وكان في أيام عمر يستر نفسه خوفاً منه، لكنه كان يلبس الحرير والديباج ويشرب في آنية الذهب والفضة، ويركب البغلات ذوات السروج المحلاة بها، وعليها جلال الديباج والوشى، وكان حينئذ شاباً وعنده نزق الصبا، واثر الشبيبة وسكر السلطان والامرة. واما بعد وفاة الإمام عليّ علیه السلام واستقرار الأمر له ولا خلاف في أنه سمع الغناء وطرب عليه، واعطى ووصل عليه، واما قوله علیه السلام «يشين الكريم بمجلسه، ويسفه الحليم بخلطته» فلأنه لم يكن في مجلسة الا شتم بني هاشم وقذفهم، والتعرض بذكر الإسلام والطعن عليه، حتى وإن اظهر انتماءه إليه، واما طلب عمرو فضله واتباعه اثره اتباع الكلب للاسد، فامر ظاهر ولم يقل علیه السلام الثعلب، غضا من قدر عمرو، وتشبيهاً له بما هو ابلغ في الإهانة والاستخفاف(1).

وعدَّ ابن أبي الحديد معاوية وعمر بن العاص من ائمة الضلالة الذين أشار لهم الإمام عليّ علیه السلام بقوله: «فتقربوا إلى ائمة الضلالة، والدعاة إلى النار بالزور والبهتان، فولوهم الاعمال، وجعلوهم حكاماً على رقاب الناس». وذكر بعض

ص: 430


1- الشرح 16 / 160 - 162

الاحاديث الموضوعة على لسان النبي صلی الله علیه و آله وسلم كحديث في حق معاوية «اللهم قِهِ العذاب والحساب، وعلمه الكتاب»(1) وكرواية عمرو بن العاص تقرباً إلى قلب معاوية، إن الرَّسول صلی الله علیه و آله وسلم قال: «إن آل أبي طالب ليسوا لي بأولياء، إنما ولييَّ الله وصالح المؤمنين»(2). وكرواية آخرين في أيام معاوية موضوعات في فضائل عثمان تقرباً لمعاوية(3).

ويؤكد ابن أبي الحديد أن معاوية ممن أسلم رهبة لذلك كان من المؤلفة قلوبهم(4) الذين رغبوا في الإسلام والطاعة بجمال وشاء دفعت إليهم، فكان اسلامهم للطمع والاغراض الدنيوية. ولم يكن عن أصل ولا علم ويقين(5).

اما رؤية المعتزلة لعمرو بن العاص، فعند استعراضه لسيرته قال ابن أبي الحديد: إن المعتزلة تحكم على كل من شهد صفين بما يحكم به على الامام الباغي الخارج على الامام العادل، فمذهبهم في صاحب الكبيرة إذا لم يتب الحكم بالنار. ولكن عمراً بن العاص تلفظ بالفاظ في ساعاته الأخيرة فلم لا تكون دليلاً على توبته لقوله «اللهم خذ مني حتى ترضى» وقوله «امرت فعصيت، ونهيت فركبت» وقوله «ولا مستكبر بل مستغفر» فهي الفاظ تفيد الاعتراف والندم، وهو معنى التوبة. يستدل ابن أبي الحديد من قوله تعالى: (وليست التوبة للذين

ص: 431


1- رواه الهيتمي: تطهير اللسان والجنان بذكر سيدنا معاوية بن أبي سفيان ص 16
2- اخرجه مسلم: صحيح 3 / 87. الهيتمي: الصواعق ص 156
3- الشرح 11 / 39، 42
4- الذين اسلموا رهبة أو رغبة بحطام الدنيا وجعل لهم القرآن نصيباً من الزكاة كما ورد في آية الصدقات الآية 60 من سورة التوبة. أنظر الطبري: جامع البيان 10 / 161 - 163
5- الشرح 17 / 226

يعملون السيئات حتى إذا حضر احدهم الموت قال إني تبت الآن)(1). بأن هذه الآية تمنع من كون ما بدر من عمرو توبة، لأن شروط التوبة معلومة، وليس هذا الاعتراف والتأسف منها في شيء(2). فالتوبة عند المعتزلة لها شروط ثلاثة:

الأول: الندم على ما مضى من فعل قبيح.

الثاني: العزم على عدم العودة إليه.

الثالث: اللجوء إلى الذنوب السابقة فإن كانت بين العبد وربه سواء كانت في الاعتقادات أو المسائل العملية كالصلاة والصوم، فعليه تأديتها، وان كانت بين العبد والناس فعليه ارجاع كل حق إلى صاحبه(3).

يرى أبو عبد الله البصري أحد شيوخ المعتزلة: إن أول من قال بالارجاء المحض معاوية وعمرو بن العاص، كانا يزعمان أنه لا يضر مع الإيمان معصية، ولذلك قال معاوية لمن قال له: حاربت من تعلم، وارتكبت ما تعلم، فقال:

وثقت بقوله تعالى:

«إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا»(4).

وإلى هذا المعنى أشار عمرو بن العاص لابنه(5) بقوله: تركت أفضل من ذلك، شهادة أن لا إله إلَّا الله(6).

ص: 432


1- سورة النساء، الآية: 18
2- الشرح 6 / 325
3- القاضي عبد الجبار: شرح الاصول الخمسة ص 789 - 799
4- سورة الزمر،الآية 53
5- أنظر الكندي: الولاة والقضاة، ص 33
6- الشرح 6 / 325 - 326

وفي تعقيبه على قول عمرو بن العاص يوم صفين: «كم من رجل احسن في الله، عظيم الحال لم ينج من قتلة فلان وفلان» قال ابن أبي الحديد: «ليت شعري لم برأ نفسه! وكان رأساً في الفتنة بل لولاه لم تكن؛ ولكن الله تعالى انطقه بهذا الكلام واشباهه، ليظهر بذلك شكه، وإنه لم يكن على بصيرة من امره»(1).

وقال في إسلام عمرو أنه مدخول أيضاً، إلا أنه لم يكن عن رضيخة، وإنما لمعنى آخر(2). ولم يحدد ابن أبي الحديد الوأعز الذي دفع عمراً للاسلام.

وحينما أورد ما ذكره الواقدي في غزوة بدر حول ما كان يرويه عمرو بن العاص بعد إسلامه حول رؤيا عاتكة بنت عبد المطلب - في أن شخصاً أخذ صخرة من جبل أبي قبيس(3) وارسلها تهوى، فما بقي بيت في مكة الا ودخلها منه فلقة فكان عمرو بن العاص يقول: لقد رأيت كل هذا، ولقد رأيت في دارنا فلقة من الصخرة التي انفلقت من أبي قبيس، ولقد كان ذلك عبرة، ولكن الله لم يرد أن نسلم يومئذ لكنه آخَّرَ اسلامنا إلى ما أراد(4).

قال ابن أبي الحديد معلقاً: «كان بعض اصحابنا يقول: لم يكف عمراً أن يقول: رأيت الصخرة في دور مكة، فيخرج ذلك مخرج الاستهزاء باطناً على وجه النفاق، واستخفافه بعقول المسلمين زعم حتى يضيف إلى ذلك القول

ص: 433


1- الشرح 5 / 256
2- الشرح 17 / 227
3- أحد جبال مكة، ويقال عنه شيخ الجبال: البكري: معجم ما استعجم 3 / 1040. الحميري: الروض ص 452
4- الشرح 14 / 92. وانظر الواقدي: المغازي 1 / 29

بالجبر الصراح فيقول: إن الله تعالى لم يكن إراد منه الإسلام يومئذ»(1).

اما أبو موسى الاشعري فهو عند المعتزلة من ارباب الكبائر، لذا حكمه عندهم حكم من واقع كبيرة ومات عليها بلا توبة - قال فيه - ابن متويه - أحد معتزلة البصرة «اما أبو موسى الاشعري فإنه عظم جرمه بما فعله، وأدَّى ذلك إلى الضرر الذي لم يخف حاله، وكان علي علیه السلام يقنت عليه وعلى غيره، فيقول: اللهم العن معاوية أولاً، وعمراً ثانياً، وابا الاعور السلمي ثالثاً، وابا موسى الاشعري رابعاً.

روي عنه علیه السلام أنه كان يقول في أبي موسى: صبغ بالعلم صبغاً وسلخ منه سلخاً وأبو موسى هو الذي روى عن النبَّي صلی الله علیه و آله وسلم أنه قال: كان في بني اسرائيل حكمان ضالان، وسيكون في امتي حكمان ضالان، ضال من اتبعهما وأنه قيل له: ألا يجوز أن تكون احدهما؟ فقال: لا - أو كلاما ما هذا معناه - فلما بلي به، قيل فيه: البلاء موكل بالمنطق(2). ولم يثبت في توبته ما ثبت في توبة غيره، وإن كان الشيخ أبو علي [الجبائي] قد ذكر في آخر كتاب الحكمين أنه جاء إلى أمير المؤمنين علیه السلام في مرض الحسن بن عليّ، فقال له: أجئتنا عائداً أم شامتاً؟ فقال: بل عائداً، وحدَّث بحديث في فضل العبادة. وهذه إمارة ضعيفة في توبته»(3).

ص: 434


1- الشرح 14 / 92 - 93
2- قول للرسول صلی الله علیه و آله وسلم أصبح يضرب كمثل. أبو هلال العسكري: جمهرة الامثال 1 / 207. ابن منقذ: لباب الاداب ص 332
3- الشرح 13 / 315 - 316. القاضي: المغني 20 / 2 / 92. وقد اوضح البغدادي رؤية الاشاعرة. لأهل صفين: «وقالوا في صفين ان الصواب كان مع علي (رضي الله عنه)، وإن معاوية واصحابه بغوا عليه بتأويل اخطئوا فيه ولم يكفروا بخطأهم. وقالوا: إن علياً اصاب في التحكيم غير أن الحكمين اخطئا في خلع عليّ علیه السلام من غير سبب اوجب خلعه وخدع أحد الحكمين الآخر» الفرق بين الفرق ص 212

معركة النهروان 38 ه

بعد أن اضطر الإمام علیه السلام للقبول بالتحكيم تحت تخاذل أصحابه، وتمت كتابة صحيفة الهدنة بين أهل العراق والشام، وتعيين الحكمين، وإذا بطائفة من أصحابه ينادون «لا حكم الا لله». ويطالبون الإمام عليّاً علیه السلام بالاستمرار في الحرب، ولما اوضح لهم الإمام عليّ علیه السلام أن ذلك غير جائز، كفروه وخرجوا عليه معسكرين في النهروان(1)، وبعد مناظرات له علیه السلام معهم دون فائدة كانت المعركة الثالثة وهي معركة النهروان التي تمكن الامام من استئصال الخوارج فيها، لكنهم تفرقوا في البلاد(2). فيا ترى ما هو تحليل ابن أبي الحديد والمعتزلة لاحداث النهروان؟.

المعروف عن سياسة الإمام علیه السلام الحربية انتهاجه أولاً الدعوة إلى السلم، وفتح باب الحوار، اما الحرب فهي آخر الدواء، فبعد أن أكَّد لهم أنه لا بد للناس من

ص: 435


1- النهروان: نسبة إلى نهر يسمى النهروان. البكري: معجم ما استعجم 4 / 1336 - 7. الحموي: معجم 5 / 324 - 7. الحميري: الروض ص 582 - 583
2- عن احداث معركة النهروان أنظر الشرح 1 / 9، 201، 2 / 191 - 7، 265 - 83، 307 - 11، 3 / 127 - 51، 5 / 78 - 131، 6 / 129 - 32، 7 / 292 - 3، 9 / 37، 10 / 249، 251، 18 / 27، 72 - 3، 8 / 113 - 8 . وانظر الطبري: تاريخ 5 / 72 - 92

امير بر أو فاجر يعمل في امرته المؤمن ويستمتع فيها الكافر - كما اوضحنا ذلك في بدء الفصل اوفد ابن عباس لمناظرتهم موصياً إياه: «لا تخاصمهم بالقرآن فإن القرآن حمال ذو وجوه، تقول ويقولون. ولكن حاججهم بالسنة، فإنهم لن يجدوا عنها محيصاً»(1). اعتبر ابن أبي الحديد وصية الامام هذه «كلام لا نظير له في شرفه وعلو معناه». حيث أن القرآن يضم الآيات المحكمة والمتشابهة، والتي يغلب على ظن البعض أنها متناقضة نحو قوله تعالى:

«لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ»(2).

وقوله:

«إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ»(3).

ونحو قوله:

«وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ»(4).

وقوله:

«وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى»(5).

ص: 436


1- الشرح 18 / 71. وانظر مؤلف مجهول: اخبار العباس ص 39 - 40. ابن عبد البر: جامع بيان العلم 2 / 103 - 4. البيهقي: السنن 8 / 179 - 80. سبط ابن الجوزي: تذكرة ص 99. محب الدين: الرياض 2 / 320
2- سورة الانعام، الآية: 103
3- سورة القيامة، الآية: 23
4- سورة يس، الآية: 9
5- سورة فصلت، الآية: 17

ونحو ذلك، وهو كثير جداً، واما السنة فليست كذلك، وذلك لأن الصحابة كانت تسأل رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم وتستوضح منه الاحكام في الوقائع، وما عساه يشبه عليهم من كلامه؛ يراجعونه فيه، ولم يكونوا يراجعونه في القرآن الا فيما قل؛ بل كانوا يأخذونه منه تلقفاً، وأكثرهم لا يفهم معناه، لا لأنه غير مفهوم، بل لأنهم ما كانوا يتعاطون فهمه، اما اجلالاً له أو لرسول الله صلی الله علیه و آله وسلم أن يسألوه عنه، أو يجرونه مجرى الاسماء الشريفة له التي إنما يراد منها بركتها لا الاحاطة بمعناها؛ فلذلك كثر الاختلاف في القرآن، وايضاً فإن ناسخه ومنسوخه أكثر من ناسخ السنة ومنسوخها وقد كان بعض الصحابة يسأل النبي صلی الله علیه و آله وسلم عن معنى كلمة وردت في القرآن فيفسرها له تفسيراً مقتضباً، فلا يستوعب فهمها، حيث لما نزلت آية الكلالة(1)، وقال تعالى في آخرها:

«يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا»(2).

سأل عمر النبَّيّ صلی الله علیه و آله وسلم عن آية الكلالة، فاجابه صلی الله علیه و آله وسلم يكفيك منها آية الصيف، لم يزد على ذلك، فسكت عمر ولم يراجعه ولم يفهم مراد الرسول صلی الله علیه و آله وسلم حتى مات عمر، وكان يقول بعد ذلك: اللهم مهما بينت، فإن عمراً لم يتبين. يشير لقوله تعالى:

«يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا».

ولكنهم في السنةّ كانوا على خلاف ذلك من مخاطبة الرَّسول صلی الله علیه و آله وسلم وفهم ألفاظه، لذا دعا الامام ابن عباس لمحاججتهم بالسنةّ.

ص: 437


1- ابن ماجه: صحيح 2 / 115. أبي داود: سنن 3 / 120. ابن الطيب: المعتمد 1 / 302، 357. البيهقي: السنن 6 / 224، 8 / 150. القرطبي: الجامع 6 / 29
2- سورة النساء، الآية: 12

ولكن ابن عباس حاججهم بالقرآن، كقوله تعالى:

«فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا»(1).

وقوله:

«يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ»(2).

ولذلك لم يرجعوا فالتحمت الحرب. وكان غرض الإمام عليّ علیه السلام من المحاججة بالسنة هو ما اثر عن الرسول صلی الله علیه و آله وسلم من احاديث بحق الإمام عليّ علیه السلام كقوله صلی الله علیه و آله وسلم «عليّ مع الحق والحق مع عليّ يدور معه حيثما دار» وقوله «اللهم والِ من والاه وعادِ من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله». «ونحو ذلك من الاخبار التي كانت الصحابة قد سمعتها من فلق فيه صلوات الله عليه، وقد بقي ممن سمعها جماعة، تقوم الحجة وتثبت بنقلهم، ولو احتج بها على الخوارج في انه لا يحل مخالفته والعدول عنه بحال لحصل من ذلك غرض أمير المؤمنين علیه السلام في محاجتهم، واغراض أخرى أرفع واعلى منهم، فلم يقع الأمر بموجب ما إراد، وقضي عليهم بالحرب، حتى اكلتهم عن آخرهم، وكان أمر الله مفعولاً»(3).

ويروى أن الإمام عليّاً علیه السلام تمكن قبل معركة النهروان من اقناع الخوارج حينما قالوا له: أنا اذنبنا ذنباً عظيماً بالتحكيم، وقد تبنا، فتب إلى الله كما تبنا نعد لك. فقال علیه السلام: أنا استغفر الله من كل ذنب، فرجعوا معه وهم ستة الاف. لكن الاشعث جاء للامام فقال له: يا أمير المؤمنين، إن الناس قد تحدثوا إنك رأيت

ص: 438


1- سورة النساء، الآية: 35
2- سورة المائدة، الآية: 95
3- الشرح 18 / 71 - 73

الحكومة ضلالاً والاقامة عليها كفراً، فقام علیه السلام وقال: من زعم أني رجعت عن الحكومة فقد كذب، ومن رآها ضلالاً فقد ضل، فخرجت حينئذ الخوارج من المسجد فحكمت(1).

عدّ ابن أبي الحديد ان كل فساد في خلافة الامام، وكل اضطراب فاصله الاشعث، فلولا محاقته الامام في معنى الحكومة هذه المرة لما كانت معركة النهروان، ولكان علیه السلام نهض باصحابه لمعاوية، وملك الشام، فإنه صلوات الله عليه حاول أن يسلك معهم مسلك التعريض والمواربة طبقاً للمثل النبوي «الحرب خدعة» وذلك أنهم لما قالوا له: تب إلى الله مما فعلت كما تبنا ننهض معك إلى حرب الشام، فقال لهم كلمة مجملة مرسلة، يقولها الانبياء وهي قوله:

استغفر الله من كل ذنب. فرضوا بها واعتبروها اجابة لسؤالهم، وصفت له نياتهم، واستخلص بها ضمائرهم، من غير أن تتضمن تلك الكلمة اعترافاً بكفر أو ذنب، فلم يتركه الاشعث، وجاء إليه مستفسراً وكاشفاً عن الحال وهاتكاً ستر التورية والكناية، ومخرجاً لها من ظلمة الاجمال وستر الحيلة إلى تفسيرها بما يفسد التدبير، ويوغر الصدور، ويعيد الفتنة، ولم يستفسره علیه السلام عنها إلَّا بحضور من لا يمكنه أن يجعلها معه هدنة على دخن(2) ولا ترقيقاً من صبوح(3)، والجأه

ص: 439


1- الشرح 2 / 279. وانظر المبرد: الكامل 3 / 210 - 1
2- مثل يضرب على المصالح. الشريف الرضي: المجازات النبوية ص 248 – 9. الميداني: مجمع الامثال 2 / 382. الزمخشري: الفائق 3 / 196 - 7. ابن الاثير: النهاية 2 / 109. النويري: نهاية الارب 3 / 55
3- مثل يضرب لمن كنى عن شيء ويريد غيره. أبو هلال العسكري: جمهرة الامثال 1 / 29. الثعالبي: التمثيل والمحاضرة ص 37. الميداني: مجمع الامثال 2 / 21. الزمخشري: الفائق 1 / 500. ابن الاثير: النهاية 2 / 253

بتضييق الخناق عليه إلى أن يكشف ما في نفسه، ولا يترك الكلمة على احتمالها، ولا يطويها على غرها، فخطب بما صدع به عن صورة ما عنده مجاهرة، فانتقض ما دبره، وعادت الخوارج لشبهتها الاولى. وهكذا الدول التي تظهر فيها إمارات الانقضاء والزوال، يتاح لها امثال الاشعث من اولي الفساد في الارض:

«سُنَّةَ اللَّهِ فيِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا»(1).

لم يكن الإمام علي علیه السلام يستند في قتاله للخوارج على سلطته الشرعية فحسب، وانما أيضاً إلى ما أثر عن الرسول صلی الله علیه و آله وسلم في قتال الامام لهؤلاء حيث قال له علیه السلام: ستقاتل بعدي الناكثين والقاسطين والمارقين والمعروف ان المارقين هم الخوارج، وقال صلی الله علیه و آله وسلم: في وصفهم بالمارقين «يمرقون من الدين كما يمرق السهممن الرمية»(2).

وبعد أن اشتبك معهم الإمام عليّ - علیه السلام - كان يرفع رأسه إلى السماء تارة ثم يطرق للارض تارة أخرى ويقول: «ما كَذَّبت ولا كُذِّبتُ»، هذا الموقف من الامام كان موضع طعن من - ابراهيم ين سيار النظام - أحد معتزلة البصرة، الذي عدّه ايهاماً من الامام، إما بنزول الوحي عليه، أو أنه موحى عليه من قبل بشأن الخوارج بأمر. واشار النظام لسؤال الحسن لأبيه (عليهما السَّلَام):

أكان رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم تقدم إليك في أمر هؤلاء بشيء؟ فقال صلی الله علیه و آله وسلم: لا، ولكن رسول

ص: 440


1- سورة الاحزاب، الآية: 62
2- اخرجه مسلم: الصحيح 7 / 159. الملطي: التنبيه ص 182 - 3. البيهقي: السنن 8 / 169 - 71. الطبرسي: اعلام الورى ص 198. محب الدين: الرياض 2 / 318. السيوطي: الخصائص: 3 / 16 - 17. الفيروز آبادي: فضائل الخمسة 2 / 400 - 410

الله صلی الله علیه و آله وسلم أمرني بكل حق، ومن الحق أن اقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين(1).

علَّق ابن أبي الحديد على طعن النظام قائلاً: «إن النظام اخطأ عندنا في تعريضه بهذا الرجل خطأ قبيحاً، وقال قولاً منكراً، نستغفر الله له من عقابه، ونسأله عفوه عنه، وليست الرواية التي رواها عن الحسن وسؤاله لأبيه (عليهما السَّلَام) وجوابه له، بصحيحه ولا معروفة، والمشهور المعروف المنقول نقلاً يكاد يبلغ درجة المتواتر من الاخبار، ما روي عن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم في معنى الخوارج بأعيانهم، وذكرهم بصفاتهم، وقوله صلی الله علیه و آله وسلم لعليّ علیه السلام: «إنك مقاتلهم وقاتلهم وإن المخدج ذا الثدية منهم(2)، وإنك ستقاتل بعدي الناكثين والقاسطين المارقين».

فجعلهم اصنافاً ثلاثة حسب ما وقعت الحال عليه. وهذا من معجزات الرسول صلی الله علیه و آله وسلم، واخباره عن الغيوب المفصلة. فما أعلم من أي كتاب نقل النظام هذه الرواية، ولا عن أي محدث رواها، ولقد كان رحمة الله تعالى بعيداً عن معرفة الاخبار والسير منصباً فكره، مجهداً نفسه في الامور النظرية الدقيقة كمسألة الجزء، ومداخلة الاجسام وغيرها، ولم يكن الحديث والسير من فنونه ولا من علومه؛ ولا ريب أنه سمعها ممن لا يوثق بقوله، فنقلها كما سمعها»(3).

واما سبب نظر الامام علیه السلام تارة إلى السماء واخرى إلى الارض وقوله «ما كذبت ولا كُذبت»، فهذا إشارة لاستبطائه وجود المخدج (ذا الثدية) مع القتلى،

ص: 441


1- الشرح 6 / 129. وانظر الطبرسي: اعلام الورى ص 170
2- هو حرقوص بن زهير ذو الخويصرة الذي قال للرسول صلی الله علیه و آله وسلم: اعدل يا محمد. الطبري: تاريخ 5 / 88. أبي داود: سنن 3 / 245. ابن حزم: الفصل 4 / 55. البيهقي: السنن 8 / 170 - 171. الشهرستاني: الملل 1 / 157. السيوطي: الخصائص 3 / 16
3- الشرح 6 / 130

وخشي علیه السلام دخول الشبهة على أصحابه لأنه اخبرهم بأنه سيقتل، فاخذ يكرر قوله «ما كذبتُ ولا كذِّبتُ» أي إن الإمام علیه السلام لم يكذب على الرَّسول صلی الله علیه و آله وسلم، ولا الرَّسول صلی الله علیه و آله وسلم كذب فيما أخبر به الإمام علیه السلام. فكان علیه السلام حين يرفع رأسه إلى السماء يدعو ويتضرع إلى الله في تعجيل الظفر بالمخدج وحينما يطرق إلى الارض يغلبه الهم والتفكير(1).

وعدَّ النّظام قول الإمام «إذا حدثتكم عن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم فهو كما حدثتكم، فوالله لأن أخَّرَ من السماء أحب إلي من أن أكذب على رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم، وإذا سمعتموني احدثكم فيما بيني وبينكم، فإنما الحرب خدعة» يجري مجرى التدليس في الحديث، فلو لم يحدثهم عن الرسول صلی الله علیه و آله وسلم بالمعاريض، وعلى طريق الايهام لما اعتذر من ذلك. ولكن ابن أبي الحديد يرى أن النظام قد وهم ولم يفهم مقصد الإمام علیه السلام، فالإمام لشدة ورعه أراد أن يميز للسامعين ما بين ما يخبر به عن نفسه، وما يرويه عن الرسول صلی الله علیه و آله وسلم، وذلك لأن الضرورة ربما تدعوه لاستعمال المعاريض، لا سيما في الحرب القائمة على الخديعة والرأي، فأخبرهم علیه السلام أن ما يقوله لهم بلفظ قال رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم فهو سليم من المعاريض، خال من الرمز والكناية، لأنه علیه السلام لا يستجيز ولا يستحل الالغاز في حديث النبي صلی الله علیه و آله وسلم، اما ما يحدثهم به عن نفسه فلربما يستعمل علیه السلام فيه المعاريض لأن الحرب خدعة(2).

وعدَّ ابن أبي الحديد كلام الإمام علیه السلام هذا كلام من استعمل التقوى والورع

ص: 442


1- الشرح 6 / 130 - 131. فكرة ابن أبي الحديد هذه نجدها ماثلة لدى الشريف المرتضى والذي قد يكون هو مصدر ابن أبي الحديد مع عدم إشارة الأخير له. أنظر: تنزيه الانبياءص 171 - 189
2- الشرح 6 / 131. وانظر: الاربلي: كشف الغمة 1 / 127

في جميع اموره، حيث بلغ من تعظيم أمر الرسول صلی الله علیه و آله وسلم، واجلال قدره، واحترام حديثه الا يرويه الا بالفاظه لا بمعانيه، ولا بأمر يقتضي فيه إلباساً وتعمية، حتى لو كان مضطراً لذلك؛ ترجيحاً للجانب الذي على جانب مصلحته في خاص نفسه، اما إذا قال كلاماً من نفسه فيجوز استعمال المعاريض إذا اقتضت الحكمة والتدبير، كما كان يفعل الرسول صلی الله علیه و آله وسلم، ففي فتحه لمكة قال لاصحابه كلاماً يقتضي أنه يقصد بني بكر بن عبد مناة من كنانة، ولم يعرفوا الحقيقة حتى شارفوا مكة، وقال لاعرابي لما سأله ممن أنت؟ قال من ماء. فتحير الاعرابي وقال من ماء فلان أو فلان. وكان النبي صلی الله علیه و آله وسلم يقصد انه من نطفة(1).

وذهب النظام إلى أن الامام لو لم يحدث عن الرسول صلی الله علیه و آله وسلم بالمعاريض لما اعتذر من ذلك، فأنكر ابن أبي الحديد وجود اعتذار للامام، وإنما الامام نفى أن يدخل المعاريض في روايته عن الرسول صلی الله علیه و آله وسلم واجازها بالنسبة لنفسه، وهذا لا يتضمن اعتذاراً، واستدل بقوله علیه السلام: «لأن أخِرُّ من السماء» دليل على أنه علیه السلام ما فعله ولا يفعله(2).

ومن شبهات الخوارج «نهيتنا عن الحكومة، ثم امرتنا بها، فما ندري أي الامرين ارشد». ومعنى ذلك إنك نهيت عن الحكومة أولا ثم امرت بها ثانياً، فإن كانت قبيحة كنت بنهيك عنها مصيباً، وبامرك فيها مخطئاً، وإن كانت حسنة، كنت بنهيك عنها مخطئاً وبأمرك بها مصيباً، فلا بد من خطأ على كل حال.

يرى ابن أبي الحديد أن للإمام أن يعمل حسبما يغلب على ظنه من المصلحة،

ص: 443


1- الشرح 6 / 132
2- الشرح 6 / 132

فهو علیه السلام لمَّا نهاهم أولاً كان نهيه مصلحة، ولما امرهم بها كانت المصلحة في ظنه قد تغيرت، فامرهم على حسب ما تبدل وتغير في ظنه(1).

وكان الإمام علي علیه السلام قد ردَّ على قول الخارجي أعلاه: «هذا جزاء من ترك العقدة» أي الرأي الوثيق، وقد استنتج ابن أبي الحديد من هذا الكلام أن الامام قد ظهر له فيما بعد ان الرأي الاصلح كان هو الاصرار والثبات على الحرب، وإن كان ذلك مكروهاً فالله تعالى يجعل فيه الخير أي إنه علیه السلام كان يرى حملهم على الحرب وترك الالتفات لمكيدة معاوية وعمرو من رفع المصاحف، فإذا ما استقاموا له فقد اهتدوا، وإذا لم يستقيموا فسينقسموا إلى قسمين:

الأول: اعوجاجهم وعصيانهم وفتور همتهم وقلة الجد في الحرب.

والثاني: التأني والامتناع المطلق عن الحرب.

فإذا كان الأول فسيقوم الامام بتقويمهم بالتأديب والإرشاد وارهاق الهمم و العزائم بالتصبير والوعظ والتحريض والتشجيع. وإن كان الثاني: تدارك الأمر بالاستنجاد بغيرهم من قبائل العرب واهل خراسان والحجاز، فكان علیه السلام يرى انه لو فعل ذلك لكانت هي العقدة الوثقى أي الرأي الاصوب والاحزم.

ولكن هذا لا يعني أن الامام اخطأ بمعنى الاثم وإنما فعل ما غلب على ظنه أنه المصلحة، وليس الواجب عليه الا ذلك، ولكنه ترك الرأي الاصوب، فالاثم لا يلحق من غلب على ظنه في حكم السياسة أمر فاعتمده، ثم بان له أن الاصوب كان خلافه، وقد قيل انه أشار لهذا المعنى بقوله(2):

ص: 444


1- الشرح 7 / 291 - 292
2- الشرح 7 / 292 - 293. وانظر الشريف المرتضى: تنزيه الانبياء ص 170 - 171

لقد عَثَرتُ عثرةً لا تنجبِرْ *** سوف أكيسُ بعدَها واستمِر وأجمعُ الرأيَ الشتيتَ المُنتَشِر ولقد اوضح الامام السبب الذي دعاه لعدم استخدام هذا الرأي وهو لعدم وجود من يطيعه فالذين معه قد عصوه وخالفوه، اما الغائبون في البلاد البعيدة، فإلى أن يصلوا إليه يكون العدو قد بلغ منه غرضه(1).

لم يكن ابن أبي الحديد مصيبا فالامام يقصد بالذي ترك العقدة إنما أصحابه الذين اصروا على التحكيم رغم ايضاح الامام لهم انه مكيدة.

ونوّه ابن أبي الحديد برؤية أحد كبار معتزلة البصرة ألا وهو الجاحظ حول موقف الامام من التحكيم وهي: «من عرفه عرف أنه غير ملوم في الانقياد معهم إلى التحكيم، فإنه ملّ من القتل وتجريد السيف ليلاً ونهاراً، حتى ملت الدماء من اراقته لها، وملت الخيل من تقحمه الاهوال بها، وضجر من دوام تلك الخطوب الجليلة، والارزاء العظيمة، واستلاب الانفس، وتطاير الايدي والارجل بين يديه، واكلت الحرب أصحابه واعداءه، وعطلت السواعد، وخدرت الايدي التي سلمت من وقائع السيوف بها، ولو أن أهل الشام لم يستعفوا من الحرب، ويستقيلوا من المقارعة والمصادمة، لادت الحال إلى قعود الفيلقين معاً، ولزومهم الارض والقائهم السلاح، فإن الحال أفضت بعظمها وهولها إلى ما يعجز اللسان عن وصفه»(2).

إن رؤية الجاحظ هذه تبدو عليها ميوله الخاصة، إنه تناسى أن معاوية طلب

ص: 445


1- الشرح 7 / 294. أنظر رؤية الإمامية عند التستري 10 / 382 - 383
2- الشرح 7 / 293 - 294. وانظر: الصاحب بن عباد: نصرة مذاهب الزيدية ص 71 - 83

فرساً لينهزم، وهذا ما كان الا بعد أن ادرك حلول الهزيمة، وتناسى الجاحظ عبقرية عمرو بن العاص ودهائه واستخدامه المصاحف للاغراض الحربية الشخصية بدلاً من الاغراض الربانية، وتناسى أنه بعد أن القيت الشبهة على أهل العراق انسحب أكثرهم ما خلا الاشتر وثلة معه وهو يتقدم شبراً شبراً وفي هذا دلالة على هزيمة واضحة لأهل الشام، فأين يا ترى هذا من رؤية الجاحظ إنه لو لم يطلب أهل الشام ايقاف الحرب، للجأ الطرفان للجلوس على الارض وإلقاء السلاح، دلالة على تساويهما بالقتال، إن هذا الرأي من الجاحظ يفسره ميله كاحد شخصيات معتزلة البصرة!!؟.

إن الخوارج تذهب إلى تكفير مرتكب الكبيرة وقد عدوا التحكيم من الكبائر لذا كفروا الإمام علياً علیه السلام وكل من قبل التحكيم، وقد ردَّ الامام علیه السلام على اعتقادهم هذا بأن النبَّيّ صلی الله علیه و آله وسلم لم يكفر مرتكب الكبيرة، فقد رجم الزاني ثم صلى عليه، وورثه أهله، وقتل القاتل وورث ميراثه أهله، وقطع يد السارق وجلد الزاني غير المحصن ثم قسم لهما من الفيء، وزوجهما من المسلمات واحتجاج الامام هذا لازم وصحيح لأنه لو كان مرتكب الكبيرة كافر لما صلى عليه الرسول صلی الله علیه و آله وسلم، ولا ورثه، ولا زوجه المسلمات، ولا أعطاه من الفيء، ولاخرجه من لفظ الإسلام(1).

ولكن الامام اوصى بعدم قتال الخوارج من بعده قائلاً: «لا تقاتلوا الخوارج من بعدي، فليس من طلب الحق فاخطأه، كمن طلب الباطل فادركه».

فمراده علیه السلام ان الخوارج ضلوا بشبهة دخلت عليهم مع أنهم كانوا يطلبون الحق،

ص: 446


1- الشرح 8 / 112 - 114

ولهم تمسك في الدين ومحاماة عن عقيدة اعتقدوها وإن كانوا مخطئين فيها، في حين ان معاوية «لم يكن يطلب الحق، وإن كان ذا باطل، ولا يحامي عن اعتقاد قد بناه على شبهة، واحواله كانت تدلل على ذلك، فإنه لم يكن من ارباب الدين، ولا ظهر عنه نسك ولا صلاح حال، وكان مترفاً يُذهب مال الفيء في مآربه؛ وتمهيد ملكه ويصانع به عن سلطانه، وكانت احواله كلها مؤذنة بانسلاخه من العدالة، واصراره على الباطل، وإذا كان كذلك لم يجز أن ينصر المسلمون سلطانه، وتحارب الخوارج عليه، وأن كانوا أهل ضلالة؛ لأنهم احسن حالاً منه، فانهم كانوا ينهون عن المنكر، ويرون الخروج على ائمة الجور واجباً»(1).

و المعتزلة تتفق مع الخوارج في وجوب الخروج على ائمة الجور وإن الفاسق المتغلب بغير شبهة يعتمد عليها لا يجوز نصره على من يخرج عليه ممن ينتمي إلى الدين، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، بل يجب أن يُنصر الخارجون عليه، وإن كانوا ضالين في عقيدة اعتقدوها بشبهة دينية دخلت عليهم، لأنهم اعدل منه واقرب للحق، والمعروف أن الخوارج ملتزمون بالدين، وعلى العكس من معاوية(2).

وبعد سرده لاحداث وسير رجالات الخوارج(3) قال ابن أبي الحديد «فهذا يسير مما هو معلوم من حال هذا الطائفة في خشونتها في الدين، وتلزمها بناموسه، وإن كانت في أصل العقيدة على ضلالة، وهكذا قال النبي صلی الله علیه و آله وسلم، تستحقر صلاة

ص: 447


1- الشرح 5 / 78
2- الشرح 5 / 78 - 79، 131. ومن هنا سمي المعتزلة: مخانيث الخوارج لأنهم لم يحملوا السلاح. البغدادي: الفرق ص 71
3- الشرح 5 / 80 - 129

احدكم في جنب صلاتهم، وصيام احدكم في جنب صيامهم»(1).

ومعلوم أن معاوية ومن بعده من بني أمية لم تكن هذه الطريقة طريقتهم؛ ولا هذه السنةّ سنتّهم، وأنهم كانوا أهل دنيا واصحاب لعب ولهو وانغماس في الملذات، وقلة مبالاة في الدين، ومنهم من هو مرمي بالزندقة والالحاد»(2).

ولذلك قال علیه السلام ولو لم أكُ فيكم لما قوتل أهل الجمل والنهروان ولم يقل أهل صفين لأن الشبهة كانت في أهل الجمل والنهروان ظاهرة الالتباس، فكان أهل النهروان أهل قرآن وعبادة واجتهاد، وعزوف عن الدنيا وإقبال على امور الاخرة، وهم كانوا قراء العراق وزهادهم، واما معاوية «… مشهور بقلة الدين…؛ وكذلك ناصره ومظاهره على امره عمرو بن العاص؛ ومن اتبعهما من طغام أهل الشام واجلافهم وجهَّال الاعراب، فلم يكن امرهم خافياً في جواز محاربتهم واستحلال قتالهم، بخلاف حال من تقدم ذكره»(3).

ويخلص ابن أبي الحديد في ايضاحه لرؤية المعتزلة إلى الخوارج للقول:

«واما الخوارج فإنهم مرقوا على الدين بالخبر النبوي المجتمع عليه، ولا يختلف اصحابنا في أنهم من أهل النار»(4).

تجدر الاشارة إلى أن الخليفة عمر بن الخطاب استشار الإمام عليّاً علیه السلام في الخروج لغزو الروم فكان جواب الامام: «إنك متى تسر إلى هذا العدو بنفسك،

ص: 448


1- الزمخشري: ربيع الابرار 2 / 354 - 355. الشهرستاني: الملل 1 / 157 .. السيوطي: الخصائص الكبرى 3 / 16
2- الشرح 5 / 129
3- الشرح 7 / 58
4- الشرح 1 / 9

فتلقهم فتنكب، لا يكن للمسلمين كهف دون اقصى بلادهم. ليس بعدك مرجع يرجعون إليه، فابعث إليهم رجلاً محرباً، واحفز معه أهل البلاء والنصيحة، فإن أظهرْ الله فذاك ما تحب، وإن تكن الاخرى، كنت ردءاً للناس ومثابة للمسلمين».

فهنا الامام يشير على الخليفة بعدم الخروج حذراً من أن يصاب، فيذهب المسلمون كلهم لذهاب الرأس، بل يبعث اميراً ويقيم بالمدينة ردءاً لهم وفسر ابن أبي الحديد سبب خروج الرسول صلی الله علیه و آله وسلم بالحروب لأنه كان موعوداً بالنصر، وآمنا على نفسه بالوعد الالهي في قوله تعالى:

«وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ»(1).

وليس عمرٌ كذلك، اذاً فما بال الامام شارك بالحرب بنفسه في الجمل وصفين والنهروان ولم يبعث اميراً محرباً واقام هو بالمدينة ردءاً ومثابة! هنا قدم ابن أبي الحديد جوابان؛ الأول: إنه علیه السلام كان عالماً من جهة النبي صلی الله علیه و آله وسلم بألّا يقتل في هذه الحروب، ويشهد لذلك قوله صلی الله علیه و آله وسلم: ستقاتل بعدي الناكثين والقاسطين والمارقين والثاني: قد يكون غلب على ظنه علیه السلام أن لا يقوم أحد بمقامه، فلم يجد اميراً محارباً من أهل البلاء والنصيحة، فمن كان في أصحابه محرباً لم يكن من أهل النصيحة له، ومن كان من أهل النصيحة لم يكن محرباً، فدعاه ذلك لمباشرة الحرب(2).

تحليل ابن أبي الحديد لسياسة الإمام علي علیه السلام.

إن ملاحظة سير حوادث خلافة الإمام عليّ علیه السلام منذ البدء مروراً بحروبه

ص: 449


1- سورة المائدة، الآية: 67
2- الشرح 8 / 296 - 298

الثلاث ثم ما آل إليه حاله بعد معركة النهروان من تخاذل أصحابه، وفرار بعضهم إلى معاوية، أو من ترك ولاياته بعد أخذ اموالها، ثم ما قام به معاوية من شن الغارات على المدن الموالية للامام حتى فتح مصر، والامام من جانبه يستصرخ أصحابه دون جدوى(1).

هذا الحال دفع البعض للاعتقاد بأن السبب يكمن في حسن سياسة معاوية، وسوء تدبير الإمام علیه السلام، يقول ابن أبي الحديد: «إن قوماً ممن لم يعرف حقيقة فضل امير المؤمنين علیه السلام، زعموا أن عمراً كان اسوس منه، وإن كان هو أعلم من عمر، وصرح الرئيس أبو علي بن سينا بذلك في الشفاء في الحكمة(2)، وكان شيخنا أبو الحسين [البصري] يميل إلى هذا، وقد عرض به في كتاب العزر(3)، ثم زعم اعداؤه ومباغضوه أن معاوية كان اسوس منه، واصح تدبيراً»(4).

ومن خلال مقارنته بين سياسة الامام وسياسة معاوية، أورد ابن أبي الحديد اسباباً ادت إلى تغاير السياستين وما نتج عنهما، وهي:

أولاً: إن الإمام عليّاً علیه السلام اعتمد في سياسته السير على كتاب الله وسنّة رسوله صلی الله علیه و آله وسلم في الوقت الذي اعتمد معاوية سياسة الحيل والمكايد، وقد اوضح ذلك في طرحه لرؤية الجاحظ(5) وهو من كبار معتزلة البصرة، حيث يقول الجاحظ: «ربما رأيت

ص: 450


1- أنظر تفاصيل خلافة الامام عند الطبري: تاريخ 4 / 427 - 576، 5 / 5 - 157
2- لم يتسن لي وجود هذا الرأي في كتاب الشفاء
3- أحد كتبه الكلامية، وقد شرحه ابن أبي الحديد بكتاب شرح مشكلات الغرر. علي جواد محي الدين: ابن أبي الحديد ص 238
4- الشرح 10 / 212. وانظر رؤية العثمانية. رسائل الجاحظ السياسية ص 190 - 192
5- رسالة في الحكمين ضمن رسائل الجاحظ السياسية ص 365 - 368

بعض من يظن بنفسه العقل والتحصيل والفهم والتمييز - وهو من العامة ويظن أنه من الخاصة - يزعم أن معاوية كان ابعد غوراً، واصح فكراً، واجود رؤية، وابعد غاية، وادق مسلكاً؛ وليس الامركذلك، وسأرمي اليك بجملة تعرف بها موضع غلطه و المكان الذي دخل عليه الخطأ من قبله..».

ثم أبان الجاحظ الاشكال الذي وقع فيه هؤلاء إذ قال: «كان علیه السلام لا يستعمل في حربه الا ما وافق الكتاب والسنة وكان معاوية، يستعمل خلاف الكتاب والسنة؛ كما يستعمل الكتاب والسنة، ويستعمل جميع المكايد، حلالها وحرامها، ويسير في الحرب بسيرة ملك الهند إذا لاقى كسرى، وخاقان إذا لاقى رتبيل(1).

وعليّ علیه السلام يقول: لا تبدؤوهم بالقتال حتى يبدؤوكم، ولا تتبعوا مدبراً، ولا تجهزوا على جريح، ولا تفتحوا باباً مغلقاً؛ وهذه سيرته في ذي الكلاع، وفي أبي الاعور السلمي، وفي عمرو بن العاص، وحبيب بن مسلمة(2)، وفي جميع الرؤساء كسيرته في الحاشية والحشو والاتباع والسفلة واصحاب الحروب ان قدروا على البيات بيتوا، وإن قدروا على رضخ الجميع بالجندل وهم نيام فعلوا، وان امكن ذلك في طرفة عين لم يؤخره إلى ساعة، وإن كان الغرق اعجل من الخرق لم يقتصروا على الغرق ولم يؤخروا الحرق إلى وقت الغرق، وإن امكن الهدم لم يتكلفوا الحصار، ولم يدعوا أن ينصبوا المجانيق(3)، والعرادات(4)،

ص: 451


1- خاقان لقب ملوك الترك. اما رتبيل فهو اسم أحد ملوك الترك أيام الحجاج. الخوارزمي: مفاتيح العلوم ص 73. ابن نباتة: سرح العيون ص 11
2- كل هؤلاء كانوا في صف معاوية ضد الإمام علي - علیه السلام -
3- آلة ترمي الحجارة الشرح: 10 / 228
4- من الالات الحربية، واصغر من المنجنيق تستخدم لرمي الحجارة نحو الاماكن البعيدة الشرح: 10 / 228

والنقب والتسريب، والدبابات(1)، والكمين، ولم يدعوا دس السموم، ولا التضريب بين الناس بالكذب، وطرح الكتب في عساكرهم بالسعايات، وتوهيم الامور، وايحاش بعض من بعض، وقتلهم بكل آلة أو حيلة؛ كيف وقع القتل، وكيف دارت بهم الحال»(2).

وقد اوضح الجاحظ أن من يقتصر تدبيره على الكتاب والسنة يكون قد منع نفسه الطويل العريض من التدبير؛ وما لا يتناهى من المكايد لأن «الكذب - حفظك الله - أكثر من الصدق، والحرام أكثر عدداً من الحلال، ولو سمى انسان انساناً باسمه لكان قد صدق، وليس له اسم غيره، ولو قال: هو شيطان أو كلب أو حمار أو شاة أو بعير أو كل ما خطر على البال، لكان كاذباً في ذلك، وكذلك الإيمان والكفر وكذلك الطاعة والمعصية، وكذلك الحق والباطل، وكذلك السقم والصحة، وكذلك الخطأ والصواب»(3).

اذاً لما كان الامام ملجماً بالورع عن جميع القول الا ما هو رضا لله، وممنوع اليدين من كل بطش الا ما هو رضا لله، ولا يرى الرضا الا فيما يرضاه الله ويحبه، وما دل عليه الكتاب والسنة، دون ما يعتمده اصحاب الدهاء والنكراء والمكايد، لذا لما ابصرت العوام كثرة نوادر معاوية في المكايد، وغرائبه في الخداع، وما حصل عليه يده، ولم يجدوا ذلك لعليّ علیه السلام «ظنوا - بقصر عقولهم،

ص: 452


1- آلة حربية تتخذ للحصار، يدخل فيها الرجال ثم تدفع داخل الحصن، ويعمل الرجال على تنقيبه. الشرح: 10 / 228
2- الشرح 10 / 228 - 9
3- الشرح 10 / 229

وقلة علومهم - أن ذلك من رجحان عند معاوية ونقصان عند علي علیه السلام. فانظر بعد هذه كله، هل يعد له من الخدع الا رفع المصاحف! ثم أنظر هل خدع بها الا من عصى رأي علي علیه السلام، وخالف امره!»(1).

ثم أكد الجاحظ أن ما ناله معاوية من اختلاف اصحاب الامام لا يعود إلى ضعف سياسة الامام وانما إلى «غرارة اصحاب علي علیه السلام وعجلتهم وتسرعهم وتنازعهم»(2).

ويرى الجاحظ ان الصالحين لا يوصفون بالدهاء والمكر، ولذا «لا نقول ما كان انكر أبا بكر بن أبي قحافة! وما كان انكر عمر بن الخطاب! ولا يقول أحد عنده شيء من الخير: كان رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم ادهى العرب والعجم، وانكر قريش وامكر كنانة؛ لأن هذه الكلمة إنما وضعت في مديح اصحاب الارب ومن يتعمق في الرأي في توكيد الدنيا وزبرجها وتشييد اركانها، فاما اصحاب الآخرة الذين يرون الناس لا يصلحون على تدبير البشر، وإنما يصلحون على تدبير خالق البشر، فإن هؤلاء لا يمدحون بالدهاء والنكراء، ولم يمنعوا هذا الا ليعطوا أفضل منه، وضرب الجاحظ مثلاً في وصف المغيرة لعمر بن الخطاب قائلاً فيه: «كان عمر اعقل من أن يخدع، وافضل من أن يخدع». ولم يصفه المغيرة بالدهاء والنكراء، لأنه علم انه إذا اطلق على الأئمة الالفاظ التي لا تصلح في أهل الطهارة، لكان ذلك غير مقبولاً(3).

ص: 453


1- الشرح 10 / 229
2- الشرح 10 / 229
3- الشرح 10 / 229 - 230

ثم أشار الجاحظ لعذر معاوية: «أخرجوا إلينا قتلة عثمان، ونحن لكم سلم» فتسائل: فاجهد كل جهدك، واستعن بمن شايعك إلى أن تتخلص إلى صواب رأي في ذلك الوقت اضله علي، حتى تعلم أن معاوية خادع، وإن عليّاً علیه السلام كان المخدوع.. وأكد الجاحظ أن نجاح معاوية يكمن في ابتلاء الإمام عليّ - علیه السلام - باصحابه ودهره «بما لم يمتحن امام قبله من الاختلاف والمنازعة، والتشاح من الرياسة والتسرع والعجلة! وهل أتي عليّ علیه السلام الا من هذا المكان». وضرب الجاحظ مثلاً بمؤامرة الخوارج على قتل عليّ علیه السلام ومعاوية وعمراً، «فكان من الاتفاق أو من الامتحان، أن كان علي من بينهم هو المقتول»(1).

وعلق ابن أبي الحديد أنه من تأمل كلام الجاحظ بعين الانصاف، ولم يتبع الهوى علم صحة جميع ما ذكر، وأن الذي وقع للامام نتيجة اختلاف أصحابه وسوء طاعتهم له، ولأنه لزم سنن الشريعة، ومنهج العدل، في الوقت الذي خرج معاوية وعمرو بن العاص عن قاعدة الشرع في استمالة الناس إليهم رغبة أو رهبة ويخلص للقول: «فلولا أنه علیه السلام كان عارفاً بوجوه السياسة وتدبير أمر السلطان والخلافة، حاذقاً في ذلك، لم يتجمع عليه الا القليل من الناس، وهم أهل الآخرة خاصة؛ الذي لا ميل لهم إلى الدنيا، فلما وجدناه دبر الأمر حين وليه؛ واجتمع عليه من العساكر والاتباع ما يتجاوز العد والحصر، وقاتل بهم اعداءه الذي حالهم حالهم، فظفر في أكثر حروبه، ووقف الأمر بينه وبين معاوية على سواء، وكان هو الاظهر والاقرب إلى الانتصار - علمنا أنه من معرفة تدبير الدول والسلطان بمكان مكين»(2).

ص: 454


1- الشرح 10 / 230 - 231
2- الشرح 10 / 231

ويرى ابن أبي الحديد أن السائس لا يتمكن من السياسة البالغة الا إذا كان يعمل برأيه، وبما يرى فيه صلاح ملكه، سواء وافق الشريعة أم لا، وإذا لم يعمل بذلك، فبعيد أن ينتظم امره أو يستوثق حاله، ولما كان الامام مقيداً بالشريعة ومتبعاً لها ورافضاً ما يصلح اعتماده من آراء الحرب والكيد والتدبير إذا لم يكن للشرع موافقاً، لذا لم تكن قاعدته في الخلافة كقاعدة غيره(1).

وفي معرض مقارنته بين سياسة عمر بن الخطاب - رض - وسياسة الإمام علي علیه السلام قال ابن أبي الحديد: «كان [عمر] مجتهداً يعمل بالقياس والاستحسان والمصالح المرسلة، ويرى تخصيص عمومات النص بالآراء وبالاستنباط من اصول تقتضي خلاف ما يقتضيه عموم النصوص، ويكيد خصمه، ويأمر امراءه بالكيد والحيلة، ويؤدب بالدرة والسوط من يتغلب على ظنه أن يستوعب ذلك، ويصفح عن اخرين قد اجترموا ما يستحقون به التأديب، كل ذلك بقوة اجتهاده وما يؤديه إليه نظره»(2).

هذا المنهج يرى ابن أبي الحديد لا يطابق منهج الإمام عليّ علیه السلام لأنه: «كان يقف مع النصوص والظواهر، ولا يتعداها إلى الاجتهاد والاقيسة، ويطبق امور الدنيا على امور الدين، ويسوق الكل مساقاً واحداً، ولا يضع ولا يرفع الا بالكتاب والنص، فاختلفت طريقتاهما في الخلافة والسياسة، وكان عمر مع ذلك شديد الغلظة والسياسة، وكان عليّ علیه السلام كثير الحلم والصفح والتجاوز، فازدادت خلافة ذاك قوة، وخلافة هذا لينا؛ ولم يُمنَ عمر بما مُنِيَ به عليّ علیه السلام من فتنة عثمان؛ التي احوجته إلى مداراة أصحابه وجنده ومقاربتهم، للاضطراب

ص: 455


1- الشرح 10 / 212
2- الشرح 10 / 212 - 213

الواقع بطريق تلك الفتنة ثم تلا ذلك فتنة الجمل، وفتنة صفين، وفتنة النهروان، وكل هذه الامور مؤثرة في اضطراب الوالي وانحلال معاقد ملكه، ولم يتفق لعمر شيء من ذلك، فشتان بين الخلافتين فيما يعود إلى انتظام المملكة وحتى تدبير الخلافة»(1).

ولكن إذا كان السير على النصوص هو السبب في ما عاناه الإمام علیه السلام، فلماذا انتظمت سياسة الرَّسول صلی الله علیه و آله وسلم وهو أيضاً ممن كان يعمل بالنصوص ولا يتعداها؟ أكد ابن أبي الحديد أنه لا يمكن المقارنة بين سياسة النبي صلی الله علیه و آله وسلم وغيره لأنه معصوم لا تتطرق الغفلة إلى افعاله، ولا واحد من هذين الرجلين بواجب العصمة عندنا وايضاً فان كثيراً من الناس ذهبوا إلى أن الله أذن للرَّسول صلی الله علیه و آله وسلم للحكم بالشرعيات برأيه، وحتى إذا كان الرسول صلی الله علیه و آله وسلم مجتهداً كما يرى البعض، فان اجتهاد الامام لا يرقى إلى اجتهاده(2).

ويخلص ابن أبي الحديد للقول: «فقد بان بما اوضحنا فساد قول من قال:

إن تدبيره علیه السلام وسياسته لم تكن صالحة، وبان أنه اصح الناس تدبيراً واحسنهم سياسة، وإنما الهوى والعصبية لا حيلة فيهما!»(3).

ثانياً: الاموال: إن سياسة توزيع الاموال كانت سبباً في ابتعاد الناس عن الامام وانجذابهم إلى معاوية، حيث ان سياسة الإمام علیه السلام قائمة على اساس

ص: 456


1- الشرح 10 / 213
2- الشرح 10 / 213 - 214. ولكن الا تدلل آية التطهير والمباهلة وحديث المنزلة وغيرها من النصوص القرآنية والأحاديث النبوية على عصمة الإمام علي$، والقول بالعصمة قال به أيضاً ابن متويه من معتزلة البصرة كما مر بنا قبل قليل
3- الشرح 10 / 260

توزيع الاموال بالتساوي وذلك بالرجوع إلى سياسة الرسول صلی الله علیه و آله وسلم وابي بكر. في حين ان سياسة معاوية قائمة على دس الاموال لرؤساء القبائل لكسب ودهم، ففي شرحه لكلام الإمام «أوليس عجباً أن معاوية يدعو الجفاة الطغام فيتبعونه على غير معونة ولا عطاء، وأنا ادعوكم وانتم تريكة الإسلام وبقية الناس إلى المعونة أو طائفة من العطاء، فتتفرقون عني، وتختلفون علي!».

اوضح ابن أبي الحديد أن معاوية لم يكن يعطي جنده على وجه المعونة والعطاء، وإنما كان يعطي رؤساء القبائل اليمنية، وسكان الشام من الوجهاء الاموال الجليلة، يستعبدهم بها، ثم يقوم اولئك الرؤساء بدعوة اتباعهم فيطيعونهم اما حمية، أو لاياد وعوارف من اولئك الرؤساء عندهم، ومنهم من يطيعهم تديناً بدعوى الطلب بدم عثمان، إلا أنه لا يصل لهؤلاء الاتباع من اموال معاوية لا قليل ولا كثير. في الوقت الذي يقسم فيه الإمام علي علیه السلام العطاء والارزاق على وجه المساواة بين الرؤساء والاتباع، ولا يرى شرفاً لشريف على مشروف «فكان من يقعد عنه بهذا الطريق أكثر ممن ينصره ويقوم بامره، وذلك لأن الرؤساء من أصحابه كانوا يجدون في أنفسهم من ذلك اعني المساواة بينهم وبين الاتباع فيخذلونه علیه السلام باطناً، وإن اظهروا له النصر، وإذا احس اتباعهم بتخاذلهم وتواكلهم تخاذلوا وتواكلوا أيضاً، ولم يُدِ علي (صلوات الله عليه) ما اعطى الاتباع من الرزق، لأن انتصار الاتباع له وقتالهم دونه لا يتصور وقوعه، والرؤساء متخاذلون، فكان يذهب ما يرزقهم ضياعاً»(1).

إن مسالة سبب تقاعد العرب عن نصرة الإمام عليّ علیه السلام هو أمر المال،

ص: 457


1- الشرح 10 / 67، 70 - 71

لأن الامام لم يكن يفضل شريفاً على مشروف، ولا عربياً على اعجمي، ولا يصانع الرؤساء وامراء القبائل كما يفعل الاخرون، ولا يستميل أحداً لنفسه، كما يفعل معاوية، لذا ترك الناس علياً والتحقوا بمعاوية، وقد شكا الإمام علیه السلام ذلك لمالك الاشتر أحد المقربين إليه، فقال الاشتر: يا امير المؤمنين؛ إنا قاتلنا أهل البصرة باهل البصرة واهل الكوفة، ورأي الناس واحد، وقد اختلفوا بعد وتعادوا وضعفت النية، وقل العدد، وأنت تاخذهم بالعدل، وتعمل فيهم بالحق، وتنصف الوضيع من الشريف فليس للشريف عندك فضل منزلة على الوضيع، فضجت طائفة ممن معك من الحق إذ عموا فيه، واغتموا من العدل إذ صاروا فيه، ورأوا صنائع معاوية عند أهل الغناء والشرف، فتاقت أنفس الناس إلى الدنيا، وقل من ليس للدنيا بصاحب، وأكثرهم يجتوي الحق ويشتري الباطل، ويؤثر الدنيا، فإن تبذل المال يا أمير المؤمنين تمل اليك اعناق الرجال، وتصفُ نصيحتهم لك وتستخلص ودهم، صنع الله لك يا امير المؤمنين! وكبت اعداءك، وفض جمعهم.

فكان جواب الإمام علي علیه السلام: «اما ما ذكرت من عملنا وسيرتنا بالعدل فإن الله عز وجل يقول: «من عمل صالحاً فلنفسه، ومن اساء فعليها وما ربك بظلام للعبيد»(1)، وأنا من اكون مقصراً اخوف. واما ما ذكرت من أن الحق ثقل عليهم ففارقونا لذلك، فقد علم الله أنهم لم يفارقونا من جور، ولا لجاؤا إذ فارقونا إلى عدل، ولم يلتمسوا الا دنيا زائلة عنهم، وكأن قد فارقوها، وليسألن يوم القيمة؛ اللدنيا أرادوا أم لله عملوا؟ واما ما ذكرت من بذل الاموال، واصطناع الرجال، فإنه لا يسعنا أن نؤتي امرءاً من الفيء أكثر من حقه، وقد

ص: 458


1- سورة فصلت، الآية: 46

قال الله سبحانه وتعالى:

«كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ»(1).

وقد بعث الله محمداً صلى الله عليه وحده فكَّثره بعد القلة، وأعزّ فئته بعد الذلة، وأن يرد الله أن يولينا هذا الأمر يذلل لنا صعبة، ويسهل لنا حزنه»(2).

ويخلص ابن أبي الحديد للقول أن أمير المؤمنين علیه السلام لم يكن يذهب في خلافته كالملوك الذين يصانعون بالاموال، ويصرفونها في مصالح ملكهم وملاذ أنفسهم، ولم يكن - علیه السلام - من أهل الدنيا، وإنما كان رجلاً متألهاً صاحب حق، لا يريد بالله ورسوله بدلاً(3).

ثالثاً: الاصحاب: لقد ابتلي الإمام عليّ علیه السلام باصحاب يدعوهم فلا يستجيبون، ويكلمهم فيكذبونه، في الوقت الذي كان فيه معاوية لا يجد من أصحابه الا السمع والطاعة، فيصدقونه إذا قال، ويطيعونه إذا أمر، ويصور لنا الجاحظ موقف الإمام عليّ علیه السلام بأنه قد امتحن في أصحابه وفي دهره بما لم يمتحن امام قبله من اختلاف أصحابه ونزاعهم. وكان علیه السلام لا يريد من طاعة أصحابه الا نصرة دين الله والقيام بحدوده، وحقوقه، لا يريدهم لحظ نفسه، اما هم فيريدونه لحظوظ أنفسهم من العطاء والتقريب، والاسباب الموصلة لمنافع الدنيا، ولذا كان علیه السلام يقول: «إني اريدكم لله، وانتم تريدونني لانفسكم»(4).

وكان الامام مدركاً أن اصلاحهم لا يكون إلَّا بالسيف «وإني لعالم بما

ص: 459


1- سورة البقرة، الآية: 249
2- الشرح 2 / 197 - 198
3- الشرح 2 / 202 - 203
4- الشرح 9 / 31 - 32

يصلحكم، ويقيم اودكم، ولكني والله لا ارى اصلاحكم بافساد نفسي». لأنه لا يستحلّ من دماء أصحابه ما يستحله من يريد الدنيا وسياسة الملك(1)، ويتساءل ابن أبي الحديد: اليست نصرة الامام واجبة؟ فلم لا يقتلهم إذا اخلوا بهذا الواجب؟ ترى المعتزلة انه ليس كل اخلال بواجب عقوبته القتل، كالحج مثلاً، ولربما تكون عاقبة القتل فسادهم عليه وشغبهم الذي يفضي لقتلهم إياه وقتل أولاده أو تسليمه لمعاوية، وإذا علم ذلك أو غلب على ظنه لا يجوز أن يسوسهم بالقتل، فلو ساسهم والحال هذه لكان آثماً ومواقعاً لقبيح وفي ذلك افساد لدينه(2).

ونتيجة لهذه المعاناة منهم أشار الإمام عليّ علیه السلام إلى أنه لم يأتهم اختياراً وإنما اضطراراً لأنه لولا يوم الجمل لم يحتج للخروج من المدينة إلى العراق استنجاداً باهل الكوفة على أهل البصرة - لأن جيشه الحجازي لم يكن وافياً باهل البصرة، فخروجه من المدينة وهي دار الهجرة، ومفارقته لقبر الرَّسول صلی الله علیه و آله وسلم وقبر فاطمة علیها السلام ليس عن إيثار ومحبة، ولكن الأحوال تحكم وتسوق الناس إلى ما لا يختارونه ابتداءً(3).

واشار الإمام علیه السلام لنكتة لطيفة فقال: «ولقد اصبحت الامم تخاف ظلم رعاتها، واصبحت أخاف ظلم رعيتي» حيث من تأمل احواله - علیه السلام - في خلافته، علم أنه كان كالمحجور عليه، ولا يتمكن من بلوغ ما في نفسه، لأن العارفين بحقيقة حاله اقلية، اما السواد الاعظم فلا يعتقدون فيه الأمر الذي يجب اعتقاده فيه، ويرون تفضيل من تقدمه من الخلفاء عليه، ويظنون أن الافضلية بالخلافة، ويرون أنه

ص: 460


1- الشرح 9 / 102 - 4
2- الشرح 6 / 104
3- الشرح 6 / 127 - 128

لولا أن الاوائل علموا فضل المتقدمين عليه لما قدَّموهم، ولا يرونه إلا بعين التبعية لمن سبقه، وأنه كان رعية لمن سبقه، وكان أكثرهم يحارب معه حمية وبنخوة العربية لا بالدين والعقيدة، نتيجة لذلك اضطر علیه السلام لمداراتهم ومقاربتهم؛ ولم يكن قادراً على واظهار ما عنده، «ألا ترى إلى كتابه إلى قضاته في الامصار وقوله: فاقضوا كما كنتم تقضون، حتى تكون للناس جماعة، واموت كما مات اصحابي»(1).

وهذا الكلام لا يحتاج إلى تفسير، ومعناه واضح، وهو انه قال لهم: اتبعوا دعاتكم الآن بعاجل الحال في الاحكام والقضايا التي كنتم تقضون بها إلى أن يكون للناس جماعة، أي إلى أن تستقر هذه الامور والخطوب عن الاجتماع وزوال الفرقة وسكون الفتنة وحينئذ اعرفكم ما عندي في هذه القضايا والاحكام التي قد استمررتم عليها… ألا ترى إلى قوله على المنبر في امهات الاولاد «كان رأيي ورأي عمر الا يبعن، وأنا أرى الآن بيعهن». فقام إليه عبيدة السلماني، فقال له: «رأيك مع الجماعة أحب إلينا من رأيك وحدك، فما عاد عليه حرفا، فهل يدل هذا على القوة والقهر، أم على الضعف في السلطان والرخاوة! وهل كانت المصلحة والحكمة تقتضي في ذلك الوقت غير السكون والامساك!». وأضاف ابن أبي الحديد مثالا آخر على أن الإمام علیه السلام كان يصلي صلاة الصبح جماعة، فقرأ احدهم رافعاً صوته مخالفة لقراءة الإمام عليّ علیه السلام:

«إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ»(2).

فلم يضطرب الإمام عليّ علیه السلام ولم يقطع صلاته، ولم يلتفت وراءه، بل قرأ

ص: 461


1- اورده البخاري 5 / 90
2- سورة الأنعام، الآية: 57

معارضاً على البديهة:

«فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ»(1).

وهذا صبر عظيم وأناة عجيبة وتوفيق بيّن.(2) وبهذا وامثاله استدل المعتزلة على حسن سياسة الامام وصحة تدبيره، لأن من مني بهذه الرعية المختلفة الاهواء، وهذا الجيش العاصي له والمتمرد عليه، ثم كسر بهم الأعداء، وقتل الرؤساء، فليس يبلغ أحد في حسن السياسة وصحة التدبير مبلغه ولا قدره، ويرى بعض المعتزلة أن سياسة الإمام عليّ علیه السلام إذا تأملها المنصف متدبراً لها فضلاً عن احواله التي دفع إليها مع اصحابه، فإنها جرت مجرى المعجزات، لصعوبة الأمر وتعذره، لأن أصحابه كانوا فرقتين:

الاولى: ترى أن عثمان قتل مظلوماً - وتتولاه وتبرأ من اعدائه.

والثانية: وهم جمهور اصحاب الحرب واهل الغناء والبأس، فيعتقدون أن عثمان قتل لاحداث اوجبت قتله.

وكل من هاتين الفرقتين تعتقد أنه يتفق معها في الرأي، وتطالبه بابداء رأيه في قتل الخليفة عثمان، فكان علیه السلام يعلم أنه متى ما وافق إحدى الفرقتين تركته الاخرى، وخذلته، فاخذ - علیه السلام - يعتمد في كلامه ما تظن كل واحدة أنه يوافقها في الرأي كقوله: «الله قتله وأنا معه» وقوله: «ما امرت به ولا نهيت عنه» وقوله:

«لو امرت به لكنت قاتلاً، ولو نهيت عنه لكنت ناصراً». واخذت كل فرقة تؤول

ص: 462


1- سورة الروم، الآية: 60
2- الشرح 7 / 72 - 73. وانظر الجاحظ: رسالة في الحكمين ضمن رسائل الجاحظ السياسة ص 382

كلامه بما يوافق توجهها، واستمر على هذا الحال حتى وفاته «فلو لم يكن له من السياسة الا هذا القدر - مع كثرة خوض الناس حينئذ في أمر عثمان والحاجة إلى ذكره في كل مقام - لكفاه في الدلالة على أنه اعرف الناس بها، واحذقهم فيها، واعلمهم بوجوه مخارج الكلام وتدبير أحوال الرجال»(1).

ونتيجة لهذا التخاذل من اصحابه تنبأ بأن أهل الشام يتغلبون على أهل العراق، ليس لأن أهل الشام على حق، وإنما لأنهم اطوع لاميرهم، ومدار النصرة في الحرب هو طاعة الجيش وانتظام امره، لا اعتقاد الحق، فإنه ليس يغني في الحرب أن يكون الجيش محقاً في العقيدة إذا كان مختلف الآراء غير مطيع لأمر المدبر له(2).

وقد تباينت وجهة نظر الامام لأهل الكوفة بين المدح والذم، فلما حقق بهم الانتصار على أهل البصرة مدحهم مدحاً ليس باليسير ولا بالمستصغر، وقال في الكوفة وأهلها: أهلاً بك وبأهلك، ما ارادك جبار بكيد الا قصمه الله، ويثني عليها وعلى أهلها حسب ذمّه للبصرة وعيبه لها، ودعائه عليها وعلى أهلها، ولكن لما خذله أهل الكوفة يوم التحكيم، وتقاعدوا عن نصرته، وخرج منهم الخوارج، واستنفرهم فلم يخرجوا معه، ورأى منهم دلائل الوهن وإمارات الفشل، انقلب المدح ذماً وذلك الثناء استزاده تقريعاً وتهجيناً فقال لهم «يا أهل الكوفة، لقد ضربتكم بالدرة التي اعظ بها السفهاء فما اراكم تنتهون! ولقد ضربتكم بالسياط التي أقيم بها الحدود، فما اراكم ترعوون!! فلم يبق إلا أن اضربكم بسيفي، وإني

ص: 463


1- الشرح 7 / 73 - 74
2- الشرح 7 / 72

لاعلم بما يقوّمكم، ولكنّي لا أحب أن ألي ذلك منكم»(1).

ولقد فسد حال أهل الكوفة اواخر خلافته، فكان الرجل يخرج من منازل قبيلته فيمر بمنازل قبيلة أخرى وينادي باسم قبيلته يقصد الشر والفتنة، فيتآلب عليه فتيان القبيلة التي يمر بها ويهتفون باسم قبيلتهم، فيضربوه، وتسل السيوف وتثار الفتن، وهي لا أصل لها سوى تعرض الفتيان بعضهم لبعض. لذا خطب بهم الامام قائلاً: «فإن كان لا بد من العصبية، فليكن تعصبكم لمكارم الخصال ومحامد الافعال، ومحاسن الامور، التي تفاضلت فيها المجداء والنجداء من بيوتات العرب، ويعاسيب القبائل، بالاخلاق الرغيبة، والاحلام العظيمة، والاخطار الجليلة، والاثار المحمودة»(2).

إن سياسة الامام في السير على احكام الكتاب والسنة، والشدة على الولاة بضرورة السير عليها، ومعاملته للجميع بالتساوي وخاصة في توزيع الاموال، دفع البعض من أصحابه لتركه والالتحاق بمعاوية، أو الخروج على طاعته مستغلين الظرف السلبي له، لذا كان من جملة الانتقادات الموجهة لسياسته «أن جماعة من اصحابه علیه السلام فارقوه؛ وصاروا إلى معاوية، كعقيل بن أبي طالب أخيه، والنجاشي شاعره؛ ومصقلة بن هبيرة أحد الوجوه من أصحابه؛ ولولا أنه كان يوحشهم، ولا يستميلهم لم يفارقوه ويصيروا إلى عدوه، وهذا يخالف حكم السياسة، وما يجب من تآلف قلوب الاصحاب والرعية»(3).

إن الذي يرغب في حطام الدنيا وزخرفها، ويحب العاجل من ملاذها

ص: 464


1- الشرح 2 / 195 - 196
2- الشرح 13 / 166 - 168
3- الشرح 10 / 249 - 250

وزينتها فلا ينكر ميله لمعاوية الذي يبذل من الدنيا كل مطلوب، ويسمح بكل مأمول، ويطعم خراج مصر لعمرو بن العاص، ويضمن لذي الكلاع، وحبيب ابن مسلمة، ما يوفي على الرجاء والاقتراح والإمام علي - علیه السلام - لا يعدل فيما هو امين عليه من مال المسلمين عن قضية الشريعة وحكم الملة، حتى قال خالد بن معمر السدوسي(1) لعلباء بن الهيثم(2) وهو يريده على مفارقته الامام واللحاق بمعاوية: اتق الله يا علباء في عشيرتك، وانظر لنفسك ولرحمك: ماذا تؤمل عند رجل اردته على أن يزيد في عطاء الحسن والحسين (عليهما السَّلَام) دريهمات يسيرة ريثما يرأبان ظلف عيشهما، فأبى وغضب ولم يفعل(3).

عقيل بن أبي طالب:

وهو الابن الثاني لأبي طالب إذا صح وجود طالب - وهو اكبر من الإمام عليّ علیه السلام بعشرين سنة، خرج في بدر مع المشركين، ووقع اسيراً فاطلقه الرَّسول صلی الله علیه و آله وسلم بفداء، ثم أسلم قبيل فتح مكة، يعد من نسابي العرب، وقد قال في حقه الرَّسول صلی الله علیه و آله وسلم إني احبك حبين حب لك وحب لحب أبي طالب لك(4).

تشير الروايات أن عقيلاً كان يرتاد مجلس معاوية فسأله ذات مرة قائلاً:

«يا أبا يزيد: أخبرني عن عسكري وعسكر اخيك، فقد وردت عليهما، قال:

ص: 465


1- هو أحد قادة الإمام علي علیه السلام في معركة صفين. أنظر الطبري: تاريخ 4 / 574، 5 / 33 - 5
2- هو من أهل الكوفة واشترك مع الامام في حرب الجمل وقتل فيها. أنظر: الطبري: تاريخ 4 / 493 - 4، 513، 542
3- الشرح 10 / 250. وانظر الجاحظ: رسالة في الحكمين ضمن رسائل الجاحظ السياسية ص 350
4- أنظر ترجمته: ابن عبد البر: الاستيعاب 3 / 1078 - 9. ابن حجر: الاصابة 2 / 494

أخبرك، مررت والله بعسكر اخي، فإذا ليل كليل رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم ونهار كنهار رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم، إلا أن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم ليس في القوم، ما رأيت الا مصلياً، ولا سمعت الا قارئاً ومررت بعسكرك فاستقبلني قوم من المنافقين ممن نفر برسول الله ليلة العقبة». ثم أخبر معاوية وجلساءه كل واحد منهم حول نسبه(1).

ولكن هل كان هذا الالتحاق بمعاوية في خلافة الإمام علي علیه السلام أو في حكم معاوية، فهناك من يرى أنه في خلافة الامام، وأن معاوية قال يوماً وعقيل عنده: هذا أبو يزيد، لولا علمه أني خير له من أخيه لما اقام عندنا وتركه. فقال عقيل: اخي خير لي في ديني، وأنت خير لي في دنياي، وقد آثرت دنياي، اسأل الله خاتمة الخير(2).

وهناك من يرى أنه التحق بمعاوية بعد وفاة الإمام عليّ علیه السلام، واستدلوا على ذلك بالكتاب الذي كتبه إليه عقيل في آخر حياة الامام، وجواب الإمام عليه حول غارة الضحاك على نواحي الكوفة كما سنرى(3)، حيث جاء في كتاب عقيل: «فأفٍ لحياة في دهر جرأ عليك الضحاك! وما الضحاك؟ فقع بقرقر! وقد توهمت حيث بلغني ذلك أن شيعتك وانصارك خذلوك، فاكتب الي يا

ص: 466


1- الشرح 2 / 124 - 125
2- الشرح 11 / 252
3- الشرح 11 / 252. وقد سها ابن أبي الحديد في اثناء شرحه لكتاب الامام أعلاه لعقيل قائلًا: «قد تقدم ذكر هذا الكتاب في اقتصاصنا ذكر حال بسر بن ارطأة وغارته على اليمن في أول الكتاب». والصحيح أنها غارة الضحاك، وفعلاً أشار لها ابن أبي الحديد. الشرح 2 / 118 - 125، 16 / 148

ابن امي برأيك، فإن كنت الموت تريد، تحملت اليك ببني اخيك، وولد ابيك، فعشنا معك ما عشت، ومتنا معك إذا مت؛ فوالله ما أحب أن ابقي في الدنيا بعدك فواقاً، واقسم بالأعز الاجل إن عيشاً نعيشه بعدك في الحياة لغير هني، ولا مري ولا نجيع». فاجابه الإمام علیه السلام: «اما ما عرضت به من مسيرك الي ببنيك، وبني ابيك، فلا حاجة لي في ذلك، فاقم راشداً محموداً، فوالله ما أحب أن تهلكوا معي إن هلكت، ولا تحسبن ابن امك - ولو اسلمه الناس - متخشعاً ولا متضرعاً»(1).

واشارت الروايات ان عقيلاً جاء للكوفة في خلافة الامام وقد كف بصره، فانتظر الامام عطاءه، فاعطاه إياه، و لكنه لما التحق فيما بعد بمعاوية أعطاه معاوية مائة الف دينار(2).

ويخلص ابن أبي الحديد للقول: «الصحيح الذي اجتمع ثقات الرواة عليه أنه لم يجتمع مع معاوية الا بعد وفاة أمير المؤمنين علیه السلام، ولكنه لازم المدينة، ولم يحضر حرب الجمل وصفين، و كان ذلك بإذن أمير المؤمنين علیه السلام، و قد كتب عقيل إليه بعد الحكمين يستأذنه في القدوم عليه الكوفة بولده وبقية أهله، فأمره علیه السلام بالمقام، وقد روي خبر مشهور، أن معاوية وبّخ سعيد بن العاص على تأخيره عنه في صفين، فقال سعيد: لو دعوتني لوجدتني قريباً، ولكني جلست بمجلس عقيل وغيره من بني هاشم ولو اوعبنا لاوعبوا»(3).

ص: 467


1- الشرح 2 / 119 - 120، 16 / 148. وانظر ابن قتيبة: الإمامة والسياسة ص 43 - 5. الزمخشري: ربيع الابرار 2 / 527
2- الشرح 2 / 124 - 125
3- الشرح 10 / 250

النجاشي الشاعر:

السبب الذي دفعه لترك الامام و الالتحاق بمعاوية أنه شرب الخمر في شهر رمضان، فأقام الإمام عليّ علیه السلام الحد عليه، وزاده عشرين جلدة، فقال النجاشي: ما هذه العلاوة؟ قال علیه السلام لجرأتك على الله في شهر رمضان، فهرب إلى معاوية(1).

مصقلة بن هبيرة(2):

ارتد بنو ناجية(3) وحاربوا الامام، و قد تمكن قائد الامام من القضاء عليهم وسبيهم، فاشترى مصقلة السبي وعتقهم، ولما طالبه الامام بالأموال هرب إلى معاوية، فقال علیه السلام: فعل فعل السادة وأبق إباق العبيد(4).

قال ابن أبي الحديد وليس تعطيل الحدود واباحة حكم الدين، وإضاعة مال المسلمين، من التآلف والسياسة، لمن يريد وجه الله تعالى، والتلزم بالدين، ولايظن بعليّ علیه السلام التساهل والتسامح في صغير من ذلك ولا كبير(5).

الوالي المجهول:

وتوقف ابن أبي الحديد في اصدار حكم بحق شخص من اقرب المقربين للامام عليّ علیه السلام الذي استغل الظرف السيئ للامام، فاخذ اموال ولايته وتركها، فكتب له الامام: أما بعد، فإني كنت اشركتك في امانتي، وجعلتك شعاري

ص: 468


1- الشرح 10 / 250 - 251. وانظر ترجمته أبي هلال: الغارات ص 365
2- من ولاة الإمام علي علیه السلام، الشرح 3 / 127
3- عن بني ناجية: أنظر: ابن حزم: جمهرة انساب العرب ص 13
4- الشرح 3 / 119 - 148، 10 / 74، 16 / 175
5- الشرح 10 / 251

وبطانتي، ولم يكن في اهلي رجل اوثق منك في نفسي لمواساتي وموازاتي، واداء الامانة الي؛ فلما رأيت الزمان على ابن عمك قد كلب، والعدو قد حرب، وامانة الناس قد خزيت، وهذه الأمة قد تنكبت وشغرت، قلبت لابن عمك ظهر المجن، ففارقته مع المفارقين، وخذلته مع المتخاذلين، وخنته مع الخائنين، فلا ابن عمك آسيت، ولا الامانة اديت، وكأنك لم تكن الله تريد بجهادك، وكأنك لم تكن على بينة من ربك وكأنك إنما كنت تكيد هذه الأمة عن دنياهم، وتنوي غرتهم عن فيئهم فلما امكنتك الشدة في خيانة الأمة اسرعت الكرة، وعاجلت الوثبة، واختطفت ما قدرت عليه من اموالهم المصونة لاراملهم واتباعهم، اختطاف الذئب الازل دامية المعزى الكبيرة، فحملته إلى الحجاز رحيب الصدر بحمله، غير متأثم من اخذه، كأنك - لا أبا لغيرك - حدرت إلى اهلك تراثك من ابيك وامك. فسبحان الله! اما تؤمن بالمعاد! أو ما تخاف نقاش الحساب! ايها المعدود كان عندنا من أولي الالباب، كيف تسيغ طعاماً وشراباً، وأنت تعلم أنك تأكل حراماً، وتشرب حراماً، وتبتاع الإماء، وتنكح النساء من اموال اليتامى والمساكين والمؤمنين والمجاهدين، الذين أفاء الله عليهم هذه الاموال، واحرز بهم هذه البلاد! فاتق الله واردد إلى هؤلاء القوم اموالهم؛ فانك ان لم تفعل ثم امكنني الله منك لأعذرن إلى الله فيك، ولاضربنك بسيفي الذي ما ضربت به أحداً الا دخل النار، ووالله لو أن الحسن والحسين (عليهما السَّلَام) فعلا مثل الذي فعلت، ما كانت لهما عندي هوادة، ولا ظفرا مني بإرادة، حتى آخذ الحق منهما، و أزيح الباطل عن مظلمتهما، وأقسم بالله رب العالمين، ما يسرني أن ما اخذته من اموالهم حلال لي، أتركه ميراثاً لمن بعدي فضح رويداً، فكأنك قد بلغت المدى، ودفنت تحت الثرى، وعرضت

ص: 469

عليك اعمالك بالمحل الذي ينادي الظالم فيه بالحسرة، ويتمنى المضيع فيه الرجعة، ولات حين مناص»(1).

لقد انقسمت الآراء في المكتوب إليه إلى قسمين، قسم يرى انه ابن عباس وقسم لا يرى ذلك. وقد استدل القائلون بأنه ابن عباس بالأدلة:

أولاً: الفاظ الكتاب، فإنها تشير إلى شخص مقرب من الإمام علیه السلام وهي تنطبق على ابن عباس، كقوله علیه السلام: «اشركتك في امانتي، وجعلتك بطانتي وشعاري، وإنه لم يكن في اهلي رجل اوثق منك». وقوله علیه السلام: «على ابن عمك قد كلب» وقوله علیه السلام: «قلبت لابن عمك ظهر المجن». وقوله علیه السلام: «فلا ابن عمك آسيت». وقوله علیه السلام: «لا أبا لغيرك» وهذه كلمة لا تقال لمثله، فاما غيره من افناء الناس، فإن الإمام علیه السلام كان يقول له: لا أبا لك. وقوله علیه السلام: «أيها المعدود كان عندنا من اولي الالباب». وقوله علیه السلام: «لو أن الحسن والحسين وهذا يدل على أن المكتوب إليه هذا الكتاب قريب من أن يجري مجرى الحسن والحسين عند الامام.

ثانياً: استدل القائلون بأنه ابن عباس بوجود روايات تشير لتبادل رسائل بين الامام وابن عباس، حيث كتب ابن عباس للامام: «قد أتاني كتابك تعظم عليّ ما اصبت من بيت مال البصرة، ولعمري إن حقي في بيت المال أكثر مما اخذت، والسلام» فرد الامام: «إن من العجب أن تزين لك نفسك أن لك في بيت مال المسلمين من الحق أكثر من رجل واحد من المسلمين، فقد أفلحت إن كان تمنيك الباطل، وادعائك ما لا يكون ينجيك من المآثم، ويحل لك المحرم إنك لأنت المهتدي السعيد إذا! وقد بلغني أنك اتخذت مكة وطناً، وضربت بها

ص: 470


1- الشرح 16 / 167 - 168. وانظر: الكشي: رجال ص 58 - 60

عطناً، تشتري بها مولدات مكة والمدينة والطائف، تختارهن على عينك، وتعطي فيهن مال غيرك، فارجع هداك الله إلى رشدك، وتب إلى الله ربك، واخرج إلى المسلمين من اموالهم، فعما قليل تفارق من الفت، وتترك ما جمعت، وتغيب في صدع من الارض، غير موسد ولا ممهد، قد فارقت الاحباب، وسكنت التراب، وواجهت الحساب، غنياً عمّ خلفت، فقيراً إلى ما قدمت».

فكتب إليه ابن عباس: «قد اكثرت عليّ، ووالله لأن القى الله قد احتويت على كنوز الأرض كلها، وذهبها وعقيانها ولجينها، أحب إلي من القى الله بدم امريء مسلم»(1).

أما القسم الثاني وهم الاقل، فانكروا وقوع ذلك من ابن عباس وأكدوا انه لم يفارق الامام علیه السلام ولا خالفه، وأنه لا زال اميراً على البصرة حتى قتل الإمام عليّ علیه السلام، واستدلوا بما رواه أبو الفرج في كتابه مقاتل الطالبيين(2)، بأن ابن عباس كتب لمعاوية وهو في البصرة كتاباً بعد استشهاد الإمام علي علیه السلام، واستدلوا أيضاً بأن معاوية قد خدع أكثر اصحاب الامام علیه السلام وجذبهم إليه بالاموال، فما باله وقد علم النبوة بين الامام وابن عباس لم يجذب الأخير إليه، ثم أن الروايات التاريخية تؤكد مشاقة ابن عباس لمعاوية بعد وفاة الإمام علیه السلام، وما كان يلقاه به من قوارع الكلام وشديد الخصام، وكان يمدح الإمام علیه السلام امام معاوية، ويذكر فضائله، ويمدح بمناقبه «فلو كان بينهما غبار أو كدر لما كان الأمر كذلك، بل كانت الحال تكون بالضد لما اشتهر به من امرهما». وقد

ص: 471


1- الشرح 16 / 169 - 171
2- ص 34

أيّد ابن أبي الحديد آراء هذا الفريق.

ويرى قطب الدين الراوندي(1) أحد شراح نهج البلاغة أن المكتوب له هو عبيد الله بن عباس وليس عبد الله، وقد رد ابن أبي الحديد على ذلك لأن عبيد الله كان والي الامام على اليمن وفي سنة 40 ه غزا بسر بن أرطأة(2) اليمن، وهرب منها عبيد الله، ولم ترد رواية أو خبر يفيد ان عبيد الله أخذ اموالاً أو خالف الامام(3).

ويخلص ابن أبي الحديد القول: «وقد اشكل علي أمر هذا الكتاب،فإن أنا كذبت النقل، وقلت: هذا كلام موضوع على أمير المؤمنين علیه السلام، خالفت الرواة، فإنهم قد اطبقوا على رواية هذا الكلام عنه وقد ذكر في أكثر كتب السير. وإن صرفته إلى عبد الله بن عباس صدّني عنه ما اعلمه من ملازمته لطاعة امير المؤمنين علیه السلام في حياته وبعد مماته، وإن صرفته إلى غيره، ولم أعلم إلى من اصرفه من أهل امير المؤمنين علیه السلام، والكلام يشعر بأن الرجل الخاطب من أهله وبني عمه، فأنا في هذا الموضع من المتوقفين»(4).

إن هذا الموقف من ابن عباس قد أشارت له المصادر الاخرى،فقد

ص: 472


1- هو سعيد بن هبة الله أحد اعلام الإمامية ت 573 ه. أنظر مصادر ترجمته: الزركلي: الأعلام 3 / 104
2- من الصحابة الذين وقفوا إلى جانب معاوية ضد الامام وقد احدث مذابح رهيبة في الحجاز واليمن. أنظر ترجمته: ابن حجر: الاصابة 1 / 147 - 8
3- الشرح 16 / 171 - 172
4- الشرح 16 / 172. وانظر: ابراهيم الخوئي: الدرة النجفية ص 328

أورد كل من البلاذري(1) والطبري(2) نص الرسائل المتبأدلة بين الإمام علي - علیه السلام - وابن عباس وتفاصيلها، فبعد معركة الجمل ولّی الإمام علیه السلام ابن عباس البصرة، وولّی أبا الاسود الدؤلي على بيت المال، فمر ابن عباس ذات مرة على أبي الاسود وقال له: «لو كنت من البهائم كنت جملاً، ولو كنت راعياً ما بلغت من المرعى واحسنت مهنته في المشتى». فكتب أبو الاسود إلى الامام علیه السلام: «أما بعد، فإن الله جلّ وعلا جعلك والياً مؤتمناً، وداعياً مسؤولاً، وقد بلوناك فوجدناك عظيم الامانة، ناصحاً للرعية، توفر لهم فيئهم وتظلف نفسك عن دنياهم فلا تأكل اموالهم، ولا ترشي في احكامهم، وإن عاملك وابن عمك قد اكل ما تحت يده بغير علمك، ولا يسعني كتمانك ذلك، فانظر رحمك الله فيما قبلنا من امرك، واكتب الي برأيك إن شاء الله والسلام».

فأجابه الإمام علیه السلام: «قد فهمت كتابك، ومثلك نصح الامام والامة، ووالى على الحق، وفارق الجور، وقد كتبت إلى صاحبك فيما كتبت الي فيه من امره ولم اعلمه بكتابك الي فيه، فلا تدع إعلامي ما يكون بحضرتك مما النظر فيه للامة صلاح، فإنك بذلك محقوق، وهو عليك واجب، والسلام».

وكتب الامام لابن عباس: «قد بلغني عنك أمر إن كنت فعلته فقد أسخطت ربك، وأخزيت أمانتك، وخنت المسلمين، بلغني أنك جردت الارض، وأكلت

ص: 473


1- انساب الاشراف 2 / 169 - 171. وانظر: التوحيدي: البصائر والذخائر 1 / 490 - 493. سبط ابن الجوزي: تذكرة ص 107
2- الطبري 5 / 141 - 2. وايدها من المحدثين: يوليوس: تاريخ الدوله العربيه ص 95، 105. طه حسين: علي وبنوه 2 / 133 - 142. علي الوردي: مهزلة العقل البشري ص 57 - 58

ما تحت يديك، فارفع الي حسابك، وأعلم أن حساب الله أشد من حساب الناس. والسلام» فكتب ابن عباس: «إن الذي بلغك عني باطل، واني لما تحت يدي اضبط واحفظ فلا تصدق عليّ الأضناء، والسلام».

فكتب له الامام علیه السلام: «إنه لا يسعني تركك حتى تعلمني ما اخذت، من الجزية؟ ومن أين اخذته، وفيما وضعت ما انفقت منه، فاتق الله فيما أئتمنت عليه، واسترعيتك حفظه، فإن المتاع بما أنت رازيء منه قليل وتباعه ذلك شديد والسلام».

فلما رأى ابن عباس أن الإمام لا يعفيه كتب إليه: «قد فهمت تعظيمك علي مرزأة مال بلغك اني رزأته من أهل هذه البلاد، والله لأن القى الله بما في بطن هذه الارض من عقيانها ولجينها وبطلاع ما على ظهرها أحب إلي من أن القاه وقد سفكت دماء الأمة لأنال بذلك الملك والامارة، فابعث إلى عملك من احببت، فإني ضاعن عنه، والسلام».

قال البلاذري والطبري:(1) «ولما أراد ابن عباس الخروج، دعا اخواله من بني هلال بن عامر ليمنعوه فجاء الضحاك بن عبد الله الهلالي، وهو كان على شرطة البصرة، وعبد الله بن رزين الهلالي، وقبيصة بن عون الهلالي وغيرهم من الهلاليين، فقال الهلاليون:

لا غناء بنا عن اخواننا من بني هوازن، ولا غناء بنا عن اخواننا من بني سليم، فاجتمعت قيس كلها، وصحب ابن عباس أيضا سنان بن سلمة بن المحيق

ص: 474


1- (1) انساب الاشراف 2 / 171 - 4. تاريخ 5 / 142

الهذلي، والحصين ابن أبي الحر العنبري، والربيع بن زياد الحارثي، فلما رأى عبدالله من معه حمل المال وهو ستة الاف الف في الغرائر(1) ثم سار، واتبعه اخماس البصرة كلهم فلحقوا بالطف(2) على أربع فراسخ(3) من البصرة، إرادة أخذ المال منه، فقالت قيس: والله لا يصلون إليه ومنا عين تطرف.

فقال صبرة بن شيبان بن عكيف الحداني وهو رأس الازد يا قوم إن قيساً اخواننا وجيراننا في الدار، واعواننا على العدو، ولو رد عليكم هذا المال كان نصيبكم منه الاقل فانصرفوا. وقالت بكر بن وائل: الرأي والله ما قال صبرة بن شيبان، واعتزلوا أيضاً، فقالت بنو تميم: والله لنقاتلهم عليه. فقال لهم الاحنف: انتم والله احق أن لا تقاتلونهم، وقد ترك قتالهم من هو ابعد منهم رحماً. فقالوا: والله لنقاتلهم عليه فقال الاحنف: والله لا اساعدكم وانصرف عنهم. فرأسوا عليهم رجلاً يقال له ابن المجاعة وهو من بني تميم، فحمل عليهم الضحاك بن عبد الله الهلالي فطعن ابن المجاعة فصرعه، وحمل سلمة بن ذؤيب على الضحاك فطعنه، فاعتنقه عبد الله بن رزين الهلالي فسقطا إلى الارض يعتركان... وكثرت الجرحى بينهم، ولم يقتل من الفريقين أحد، فقال من اعتزل من الاخماس: والله ما صنعتم شيئاً حيث اعتزلتموهم، وتركتموهم يتناحرون فجاؤا حتى صرفوا وجوه بعضهم عن بعض، وحجزوا بينهم، وقالوا لبني تميم: والله لنحن اسخى انفساً منكم،

ص: 475


1- جمع غرارة وهي الجوالق التي يوضع فيها التبن. ابن منظور: لسان العرب 6 / 321
2- وهي ما اشرفت من ارض العرب على العراق، وسمي بالطف لقربه من الريف. أنظر: الزمخشري: كتاب الامكنة ص 125 الحموي: معجم البلدان 4 / 35 - 36. الحميري: الروض 396
3- الفرسخ هو ثلاثة اميال أو سته. ابن منظور:لسان العرب 2 / 1073 - 1074 (مادة فرسخ)

تركنا لبني عمكم شيئاً انتم تقاتلونهم عليه، فخلوا عن القوم، وعن ابن اختهم، ففعلوا ذلك… ومضى عبد الله بن عباس ومعه وجوههم نحوا من عشرين سوى موإليهم وموإليه، ولم يفارقه الضحاك بن عبد الله، وعبد الله بن رزين حتى وافاه مكة.. وكان ابن عباس يعطي في طريقه من سأله ومن لم يسأله من الضعفاء حتى قدم مكة. ويقال إنه كان استودع حصين بن الحر مالاً فاداه إليه. قالوا: ولما قدم ابن عباس مكة ابتاع من حبيرة مولى بني كعب من خزاعة ثلاث مولدات حوراء وفنور وشادن بثلاثة الاف دينار فكتب إليه عليّ بن أبي طالب علیه السلام: «أما بعد، فإني كنت اشركتك في امانتي ولم يكن في أهل بيتي رجل…». نص الكتاب الذي ذكرناه في صدر الموضوع. ثم أشار البلاذري لرد ابن عباس ثم ردَّ الإمام علیه السلام عليه الذي ذكرناه سابقاً(1).

فيما يرى اخرون أن ابن عباس لم يغادر البصرة حتى صلح الحسن، فذهب إلى الكوفة، وشهد الصلح ثم رجع إلى البصرة فحمل اثقاله، ومالاً قليلاً من بيت المال ادعى بأنها ارزاقه(2).

وقد ذكر أبو الفرج انه بعد تخاذل عبيد الله بن عباس(3) وميله لمعاوية - وكان قائد جيش الحسن الموجه لحرب معاوية - قام قيس بن سعد بن عبادة(4)

ص: 476


1- انساب الاشراف 2 / 174 - 176
2- البلاذري: انساب الاشراف 2 / 176. الطبري: تاريخ 5 / 143
3- أنظر ترجمته ابن عبد البر: الاستيعاب 3 / 1009. ابن حجر: الاصابة 2 / 437 - 8
4- من أشد اصحاب الامام اخلاصاً له. الشرح 6 / 57 - 65. وانظر ابن عبد البر: الاستيعاب 3 / 1289 - 1293. ابن حجر: الاصابة 3 / 249

خطيباً في أصحابه قائلاً: ايها الناس، لا يهولنكم ولا يعظمن عليكم ما صنع هذا الرجل الوله الورع أي الجبان، إن هذا وأباه واخاه لم يأتوا بيوم خير قط، إن اباه عم الرسول صلی الله علیه و آله وسلم خرج يقاتله ببدر فاسره أبو اليسر كعب بن عمرو الانصاري(1) فأتى به رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم، فاخذ فداه فقسمه بين المسلمين وإن اخاه ولاه علي امير المؤمنين على البصرة فسرق مال الله ومال المسلمين فاشترى به الجواري وزعم أن ذلك له حلال. وإن هذا ولَّاه اليمن فهرب من بسر بن ارطأة وترك ولده حتى قتلوا، وصنع الآن هذا الذي صنع»(2).

تجدر الاشارة إلى أن عبد الله بن عباس كان ذا علاقة وثيقة جداً بالإمام علي علیه السلام إلى درجة انه يعتبر تلميذ الإمام علي علیه السلام، ولما سئل عن مقدار علمه من علم الإمام علي علیه السلام، أكد أن نسبة علمه إلى علم الإمام علي علیه السلام كالقطرة إلى البحر المحيط(3)، وكان ابن عباس الناطق باسم الهاشميين جميعاً، والإمام علي علیه السلام خاصة في مناظراته مع الخليفتين عمر بن الخطاب(4)، وعثمان بن عفان(5)، حيث تظهره الروايات بمظهر المدافع والمثبت لحق الهاشميين في الإمامة. ولما تولى الامام الخلافة كان لابن عباس دور مشهور في احداث خلافته، فهو رسول

ص: 477


1- أنظر ترجمته: ابن حجر: الاصابة 3 / 300
2- مقاتل الطالبيين ص 42
3- الشرح 1 / 19
4- الشرح 12 / 20 - 1، 46، 50 - 55، 78 - 82. وانظر اخبار العباس، ص 33، 128 - 9. البلاذري: انساب 5 / 16 - 7. اليعقوبي: تاريخ 2 / 146 - 7. ابن عبد البر: الاستيعاب 3 / 1119 - 20. الجويني: فرائد 1 / 334 - 6
5- الشرح 9 / 8- 22

الامام إلى كل من طلحة والزبير(1)، ثم أم المؤمنين عائشة(2)، وبعد نهاية معركة الجمل أصبح والياً على البصرة للامام(3)، واشار الطبري(4) أنه تولاها طيلة أيام خلافة الامام علیه السلام، وإذا ما طلبه الامام فكان يعين بدله والياً من قبله. وكان الامام قد عيّن على قضاء البصرة وبيت المال أبا الاسود الدؤلي.

اما في معركة صفين، فمسألة وجوده فيها معروفة، فكان هو الذي أشارعلى الامام أن يكون ممثله في التحكيم، إلا أن الاشعث واصحابه لم يوافقوا عليه قائلين للامام: كأنك تبعث نفسك، إذ لا يجدون فرقاً بين الامام وابن عباس، وكان ضمن الوفد الذي ارسل للتحكيم برئاسة أبي موسى الاشعري وانه كان ينصح أبا موسى ويحذره من مكيدة عمرو بن العاص(5).

ثم كان رسول الامام علیه السلام إلى الخوارج، حيث اوصاه الامام بأن يناظرهم بالسنة وليس بالقران وقد اوضحنا ذلك من قبل. وبعد ذلك عاد ابن عباس إلى البصرة.

وفي سنة 38 ه تمت لمعاوية السيطرة على مصر وتم تسليمها إلى عمرو بن العاص حسب الاتفاق المبرم، وقد قتل وإليها - من قبل الامام - محمد بن أبي

ص: 478


1- الشرح 2 / 166 - 170
2- الجاحظ: رسائل الجاحظ السياسية ص 215 - 6. مؤلف مجهول: اخبار العباس وولده 125 - 127. ابن عبد ربه: العقد الفريد 4 / 328 - 9
3- الطبري 4 / 543
4- تاريخ 5 / 93، 132، 155
5- الشرح 2 / 246. وانظر: مؤلف مجهول: اخبار العباس ص 36 - 7. الطبري: 5 / 51، 67، 70 - 71. سبط ابن الجوزي: تذكرة ص 102 - 3

بكر(1)، والواضح من الروايات أن الامام خص ابن عباس باهتمام كبير إذ كتب له رسالة يخبره بمقتل محمد بن أبي بكر موضحاً اثر ذلك في نفس الامام.

مما دعا ابن عباس لاعادة الجواب معزياً الامام بمقتل محمد الذي هو ابن الامام من صلب أبي بكر(2)، ولم يكتف ابن عباس بذلك بل سار إلى الكوفة بنفسه لتعزية الامام تاركاً زياد بن أبيه في البصرة لادارة شؤونها، فاستغل انصار معاوية ذلك فارسلوا إلى معاوية يدعونه لاستغلال الفرصة، فأرسل معاوية ابن الحضرمي - مما دعا زياداً لمراسلة ابن عباس الذي اطلع امير المؤمنين علیه السلام وهنا لا نجد الروايات تشير لاي دور لابن عباس، فهو لم يرجع إلى البصرة بل إن الامام علیه السلام كان يكاتب زياد، وزياد يشرح له الحال وارسل الامام من جانبه رسولين لمعالجة الوضع حتى تم قتل ابن الخضرمي بجهود زياد(3).

وفي السنة نفسها 38 ه خرج الخريت بن راشد في بني ناجية(4) على سلطة الامام وتشير الروايات ان ابن عباس كان والياً على البصرة، فكتب له الامام علیه السلام بان يرسل من قبله رجلاً صليباً ومعه الفي رجل لمساندة قائد الامام معقل بن قيس الذي تمكن من تصفية تمرد الخريت(5). وكان معقل قد اسر وسبى اناساً كانوا على دين النصرانية فاشتراهم والي الامام مصقلة بن هبيرة واعتقهم، فطالبه الامام بالمال، فجاء مصقلة إلى البصرة، فطالبه ابن عباس بالاموال، لأن عمال

ص: 479


1- الشرح 6 / 65 - 100. وانظر: الطبري: تاريخ 5 / 94 - 105
2- الشرح 6 / 53، 92 - 3، 16 / 145. الطبري:تاريخ 5 / 109. أبي هلال: الغارات ص 196
3- الشرح 4 / 34 - 53. وانظر الطبري 5 / 110 - 113. أبي هلال: الغارات 255 - 284
4- الشرح 3 / 127 - 148. وانظر الطبري 5 / 113 - 129. أبي هلال: الغارات 219 - 245
5- الشرح 3 / 136. وانظر الطبري 5 / 121

البصرة كانوا يحملون الاموال لآبن عباس الذي يقوم بدوره بحمل الاموال إلى الامام علیه السلام، وثم سيره للامام علي علیه السلام(1).

واشار الطبري ان خلافة الإمام علي - علیه السلام - واجهت تحدياً واضطرابات داخلية بعد معركة النهروان في بلاد فارس حيث اخرجوا والي الامام سهل بن حنيف فاشار ابن عباس على الامام بأن يرسل زياد بن أبيه، حيث يقول: فقال ابن عباس لعلي علیه السلام اكفيك فارس بزياد، فأمره الإمام عليّ علیه السلام أن يوجهه إليها، فقدم ابن عباس البصرة ووجه زياد إلى فارس في جمع كثير تمكن من تصفية التمرد في سنة 39 ه(2).

واوضح الطبري ان ابن عباس في سنة 39 ه لم يكن في البصرة «كان شخص عن عمله بالبصرة، فاستخلف زياداً على الخراج، وابا الاسود على القضاء»(3) ولكن الطبري لم يوضح سبب شخوص ابن عباس، وربما طلبه الامام للمشاورة في أمر الاضطرابات في بلاد فارس وغيرها.

ثم تأتي السنة الأخيرة من خلافة الامام 40 علیه السلام ه وهي السنة التي أشارت الروايات لاخذ ابن عباس اموال البصرة، والتي ادت لتلك المراسلات الشديدة اللهجة بين الطرفين، والتي لا تناسب علاقتهما مع بعضهما البعض، وتترك الروايات هذه العلاقة بهذا الوضع السلبي دون أن تضع لها نهاية، لكننا نجد روايات أبي الفرج توضَّح أنه بعد استشهاد الإمام عليّ علیه السلام كان ابن عباس ممن

ص: 480


1- الشرح 3 / 143 - 148. وانظر الطبري 5 / 129
2- الطبري: تاريخ 5 / 122، 137
3- الطبري: تاريخ 5 / 136. الجهشياري: الوزراء والكتاب ص 23

غسل الإمام(1)، ورثاه(2)، ودعا إلى بيعة الحسن(3)، وقد يكون هذا تصحيفاً وربما الذي قام بذلك هو اخوه عبيد الله، لأننا نجد ابن عباس يكتب رسالة إلى الامام الحسن يدعوه للقيام بالأمر(4)، ورسالته فيها دلالة على أن ما جاء في الرسائل المتبأدلة بين الامام وابن عباس أمر مبالغ فيه، واوضحت الروايات ان معاوية لما تولى الخلافة كتب لابن عباس برسالة يهدده، فرد عليه ابن عباس برسالة مماثلة(5).

واشار أبو الفرج أن معاوية دس جواسيساً في خلافة الحسن إلى الكوفة والبصرة، فقبض على الجواسيس، وكتب ابن عباس من البصرة إلى معاوية يندد بفعله هذا(6).

وذكر الطبري ان ابن عباس شخص إلى الكوفة وشهد الصلح بين الحسن ومعاوية ثم رجع للبصرة، فحمل اثقاله، وبعضاً من مال بيت المال وارتحل للحجاز(7).

وهنا نطرح الحيثيات التالية:

أولاً: ما طبيعة العلاقة بين أبي الاسود الدؤلي وابن عباس؟ إن الوقوف

ص: 481


1- الشرح 6 / 122
2- الشرح 6 / 125 - 126
3- الشرح 16 / 22 - 23، 30 - 31
4- الشرح 16 / 23 - 24
5- الشرح 16 / 154
6- الشرح 16 / 32. أبو الفرج: مقاتل الطالبيين ص 34
7- تاريخ 5 / 143

عليها قد يكون فيه اضاءة للموضوع؟ وهذا ما لم نجده.

ثانياً: ماهي ميول رواة تلك المراسلات وخروج ابن عباس وترك ولايته؟ ثالثاً: إن من يقرأ الالفاظ التي تبودلت بين الامام وابن عباس سيجد أنها لا تتطابق مع تلك العلاقة الودية والحميمة وذلك الاعتقاد الذي يحمله ابن عباس للامام عليّ علیه السلام.

فهل يعقل أن يكتب ابن عباس للامام: «والله لأن القى الله بما في هذه الارض من عقيانها ولجينها وبطلاع من على ظهرها أحب إلي من أن القاه وقد سفكت دماء الأمة لانال بذلك الملك والامارة»؟! إذا كان ابن عباس يرى هذا الرأي، فلماذا نجده العضد الايمن للامام في معاركه الثلاثة، وفي مناظراته مع خصوم الامام كان يحاول بما اوتي من قوة جدال إثبات صحة مواقف الامام وامامته والتأكيد على خطأ خصومه. ولذلك نجد الامام يرشحه ليمثله في التحكيم، ويرسله للخوارج، ومن قبل إلى طلحة والزبير وام المؤمنين، وكل ذلك ليشير إلى مدى الثقة التي يكنّها الامام لابن عباس.

ثم ان ابن عباس يجعل سر حروب الامام هو الوصول إلى الحكم والملك، وهذا أمر لم يفعله خصوم الامام، فأنّى لابن عباس أن يعتقده، وإذا كان الإمام علیه السلام يريد الوصول إلى الحكم بأية طريقة، ولو بسفك الدماء، فما باله رفض شرط عبد الرحمن بن عوف وهو يقول له: أبايعك على كتاب الله وسنة رسوله وسيرة الشيخين(1).

وقد علق المحمودي على ذلك قائلاً: «الظاهر أن هذا الكتاب وضعه بعض

ص: 482


1- الطبري 4 / 233، 238

اتباع الأموية كي يكثروا سواد معاوية وامثاله ممن باع الاخرة بالدنيا، واذهب طيباته في نيل الارذل والادنى، ويلقوا في روع الناس واذهانهم أن حروب امير المؤمنين علیه السلام وقيامه بالأمر، لم تكن دينية، وإنما كانت دنيوية محضة كي ينفرد بالملك وينال السلطة والرئاسة وكيف يمكن أن يكتب ابن عباس هذا إلى امير المؤمنين ويعتقده مع أن احتجاجاته الكثيرة على النواصب والخوارج مشحونة بتبرير عمل أمير المؤمنين علیه السلام، وأنه كان في جميع أعماله على الحق وأن اعداءه على الباطل»(1).

ثم كتب الامام لابن عباس «فلما رأيت الزمان على ابن عمك كلب… إلى نهايته» فيه من المبالغات مما لا يتناسب مع شخصية الامام ونظرته لابن عباس، منها قوله «فاتق الله واردد إلى هؤلاء القوم اموالهم، فأنك ان لم تفعل ثم امكنني الله منك لأعذرن إلى الله فيك، ولاضربنك بسيفي هذا الذي ما ضربت أحداً الا دخل النار».

هب أن ابن عباس أخذ الاموال فهل عقوبته القتل، ثم ان الروايات، لا تشير لاعادة ابن عباس الاموال، فهل هذا يعني أن الإمام علیه السلام يقول بأن ابنعباس من أهل النار!؟ رابعاً: إن طريقة خروج ابن عباس من البصرة حسبما توضحه الروايات، تشير إلى سلوك غير طبيعي لا يتناسب مع ابن عباس، وإنه طلب حماية الاخرين للخروج، وإذا فهو مقتنع بأن تصرفه غير صحيح، ولذا طلب معونة الاخرين من اخواله، وقد بالغت الروايات في أمر المال المأخوذ وهو ستة ملايين، دون

ص: 483


1- البلاذري: انساب الاشراف 2 / 171 ه 3 (المحقق)

أن تحدد دراهم أو دنانير، وهذا شيء لا يمكن ان يقع من ابن عباس، ولم تترك الروايات خروج ابن عباس حتى جعلته وكأنه رغماً على أهل البصرة وبالقوة، رغم محاولات بني تميم الحيلولة دون ذلك.

خامساً: لماذا تصور الروايات ان بني تميم فقط اخذوا موقفاً متشدداً من ابن عباس فهل هذا يعود لتشدده مع بني تميم أبان ولايته إلى درجة أن كتب له الامام ينهاه عن ذلك لأن بني تميم كلما غاب منهم نجم ظهر لهم آخر حسب تعبير الامام(1).

سادساً: لم تترك الروايات ابن عباس وامواله دون أن تحدد موارد صرفها التي لم تتجاوز (الجواري)، وكأن الروايات تريد أن تؤكد على دنيوية ابن عباس وميله للنساء، فأشارت لاسماء الجواري (حوراء وفنور وشادن) إلَّا إنها لم تشر الا إلى صرف ثلاثة الآف دينار فقط.

سابعاً: تجدر الاشارة إلى أن معاوية كان يفتعل الكتب، وينشر الاخبار غير الصحيحة على السن اصحاب الامام في محاولة منه اما لجذبهم إليه أو تشويه سمعتهم، أو لادخال الشك في نفس الامام منهم، كما فعله مع قيس بن سعد(2) والاشتر، وغيرهما، اذن يا ترى ما باله لم يوظف هذا الشرخ الكبير الذي ظهر من ابن عباس خاصة وان ابن عباس هو الساعد الايمن للامام علیه السلام، فإننا لمنجد أي إشارة لا في خلافة الامام ولا بعده، ونحن نعلم بأن ابن عباس كان لسان الهاشميين في مجلس معاوية(3) ولم يتردد يوماً في الثناء على الامام والطعن

ص: 484


1- الشرح 15 / 125
2- الشرح 6 / 61 - 62
3- الشرح 6 / 298 - 304. وانظر: البيهقي: المحاسن والمساوئ ص 88 - 91

على معاوية بل الاكثر من ذلك ان معاوية اشرك ابن عباس في اللعن مع الامام والحسن الحسين علیهم السلام وجعل ابن عباس رابعهم(1)؟!!.

ثامناً: إن رسالة ابن عباس للامام الحسن علیه السلام علیه السلام بعد استشهاد(2) الإمام علي علیه السلام، توضح أن ابن عباس كان يحمل ذلك الاعتقاد الراسخ والمعروف عنه للامام، خاصة وأن رسالته جاءت بعد أشهر من مسالة أخذ الاموال إن صحت؟!! تاسعاً: إننا لا نستبعد أن يكون ابن عباس قد أخذ الاموال، فهو ليس معصوماً من الخطأ، ولا نستبعد موقف الامام هذا، فالمعروف عنه علیه السلام شدته في تطبيق الاحكام، ولو كان مع اقرب المقربين إليه، كأولاده مثلاً، ولكن هل إن غلظة الامام وشدته على ولاته توجب عليهم مفارقته، فلماذا لم يفارقه عثمان بن حنيف وإليه على البصرة الذي حاسبه على استجابته لمأدبة طعام(3)، وقاضيه شريح القاضي الذي ندد به لشراءه داراً بثمانين ديناراً(4) إذن إذا كان الامام قد تشدد مع ابن عباس وهذا ما لا نستبعده فهذا لا يعني انه قد فارق الامام(5).

إن قراءتنا لما جاء لدى اليعقوبي حول هذه المسألة التي اطلنا الحديث فيها تعطينا انطباعاً إلى أي مدى بولغ في هذه المسألة؟ ولماذا بولغ؟ فلنقرأ ما جاء

ص: 485


1- الشرح 6 / 137 الطبري: تاريخ 5 / 71
2- الشرح 16 / 23 - 24
3- الشرح 16 / 205 وانظر الزمخشري: ربيع الابرار 2 / 719
4- الشرح 14 / 27 - 28
5- أنظر ميثم البحراني: شرح نهج البلاغة 5 / 90

لدى اليعقوبي: «وكتب أبو الاسود الدئلي [كذا] كان خليفة عبد الله بن عباس بالبصرة إلى علي علیه السلام يعلمه أن عبد الله أخذ من بيت المال عشرة الاف درهم فكتب إليه يأمره بردها فامتنع، فكتب يقسم له بالله لتردنها، فلما ردها عبد الله أو رد اكثرها، كتب إليه علي علیه السلام: أما بعد فإن المرء يسرُّهُ دَرْكُ ما لم يكن ليفوته ويسوؤه فوت ما لم يكن ليدركه، فما اتاك من الدنيا، فلا تكثر به فرحاً، وما فاتك منها، فلا تكثر به جزعاً، واجعل همك لما بعد الموت، والسلام». فكان ابن عباس يقول: ما اتعظت بكلام قط اتعاظي بكلام امير المؤمنين»(1).

والظاهر أن ابن عباس كان يعتقد ان له الحق في أخذ المال ولا ندري بالضبط ما هو طبيعة اعتقاد ابن عباس هذا، حيث نجده يبرر للإمام أسباب اخذه المال بقوله: «إن حقي في بيت المال لاعظم مما اخذت»(2) فهل اعتقاد ابن عباس من باب العاملين عليها؟ أم من باب ذوي القربى؟ أم شيء آخر؟ هذا التخاذل من اصحاب الامام دفع معاوية لاستغلال الفرصة ومهاجمة عدد من الولايات اثارة للشغب والفتنة، كما فعل في ارساله دعاة إلى مكة يدعون إلى طاعته، وتثبيط الناس عن نصرة امير المؤمنين علیه السلام ويوقعون في أنفسهم انه قاتل لعثمان أو خاذل، وان الخلافة لا تصلح فيمن قتل أو خذل، وينشرون عندهم محاسن معاوية وأخلاقه وسيرته، فكتب الامام علیه السلام لعامله على مكة قثم

ص: 486


1- التاريخ 2 / 193. وانظر ابن الجوزي: صفة الصفوة 1 / 327. ابن الاثير: المثل السائر 1 / 394. سبط ابن الجوزي: تذكرة ص 15. محب الدين: الرياض 2 / 295
2- البلاذري: انساب الاشراف 2 / 175

بن العباس(1) ينبهه لذلك ليعتمد فيه ما تقتضيه السياسة(2).

وبعد معركة النهروان إراد الامام السير باصحابه صوب الشام اثر فشل التحكيم ولكنهم تقاعسوا وتخاذلوا، وعادوا للكوفة فلما علم معاوية بذلك ارسل الضحاك بن قيس(3) للاغارة على نواحي الكوفة، فتمكن من نشر الخوف، فدعا الامام أصحابه للخروج لكنهم تثاقلوا وخرج اخيراً حجر بن عدي الذي اضطر الضحاك للهرب(4).

وبعدها ارسل معاوية - النعمان بن بشير الانصاري(5) إلى عين التمر(6) فاستصرخ الامام أصحابه للخروج لنجدة وإليها مالك بن كعب الارحبي(7)

ص: 487


1- أنظر ترجمته ابن الاثير: اسد الغابة 4 / 197 - 8 ابن حجر: الاصابة 3 / 226 - 7
2- الشرح 16 / 138 - 139
3- هو من خواص معاوية حيث شارك في صفين وتولى الكوفة في ايامه ثم صلى على معاوية بعد وفاته واصبح صاحب شرطة يزيد ثم قتل في مرج راهط بعد وفاة يزيد. الطبري: 5 / 12، 71، 98، 135، 298، 300، 309، 323، 327، 530 - 7
4- الشرح 2 / 113 - 125. وانظر اليعقوبي: تاريخ 2 / 12 - 183. الطبري: تاريخ 5 / 135
5- يقال هو أول مولود للانصار في الإسلام بعد الهجرة، وهو الذي حمل قميص عثمان مخضباً بدمه إلى معاوية، وقد تولى الكوفة لمعاوية ويزيد، ثم عزل أيام يزيد في أمر الإمام الحسين (علیه السلام) وقتل بعد وفاة يزيد. الطبري 2 / 401، 4 / 430، 562، 5 / 133 - 4، 315، 338، 539، 531، 481، 462، 359
6- حصن في العراق افتتحه خالد ابن الوليد وهو قريب من الانبار. الهمذاني: مختصر كتاب البلدان ص 135 / 165 الحموي: معجم البلدان 4 / 176 - 177. الحميري: الروض ص 423
7- من أهل الكوفة شارك في القادسية وشهد صفين مع الإمام علي علیه السلام ثم تولى له عين التمر. الطبري: تاريخ 4 / 9، 5 / 54، 107 - 8، 133

دون جدوى، ولكن مالك تمكن بعد ذلك من صد غارة النعمان الذي عاد دونان يحقق اهدافه(1).

ومن الغارات التي ارسلها معاوية مستغلاً تخاذل اصحاب الامام، غارة سفيان بن عوف الغامدي(2) على الانبار، الذي تمكن من دخولها وقتل اميرها وحمل اموالها. ورغم دعوة الامام أصحابه إلا أنه لم يجد نفعاً وسار بعد ذلك سعيد بن قيس الذي لم يدرك سفيان(3).

ثم كان فتح مصر ومقتل محمد بن أبي بكر على يد عمرو بن العاص والمعروف ان مصر هي الشرط الذي اشترطه عمرو مقابل دخوله مع معاوية الصراع مع الإمام علي علیه السلام، فتمكن من اثارة الشغب في مصر، ثم دخولها، ومقتل وإليها محمد بن أبي بكر(4) وكان الامام قد ولى مصر أولًا قيس بن سعد ثم عزله وولى محمد بن أبي بكر، فاثار عزله انتقاداّ لسياسة الامام، فاجاب عنه ابن أبي الحديد قائلاً: «ان ليس من الممكن ان يقال: ان محمد رحمه الله لم يكن باهل لولاية مصر، لأنه كان شجاعاً زاهداً فاضلاً، صحيح العقل والرأي، وكان مع ذلك من المخلصين في محبة امير المؤمنين علیه السلام، والمجتهدين في طاعته، وممن لا يتهم عليه ولا يرتاب بنصحه وهو ربيبه وخريجه، ويجري مجرى اولاده علیه السلام،

ص: 488


1- الشرح 2 / 301. وانظر اليعقوبي: تاريخ 2 / 182. الطبري 5 / 133 - 4. أبي هلال: الغارات ص 311 - 7
2- أنظر ترجمته. الطبري: تاريخ 5 / 134، 234. الحاكم: المستدرك 3 / 505
3- الشرح 2 / 85 - 90. وانظر الطبري: تاريخ 5 / 134
4- الشرح 6 / 65 - 101 / 16 / 142 - 143. وانظر الطبري 5 / 4 - 105. أبو هلال: الغارات ص 184 - 7

لتربيته له واشفاقه عليه»(1).

وأضاف: «كان المصريون على غاية المحبة له، والايثار لولايته، ولما حاصروا عثمان، وطالبوه بعزل عبد الله بن سعد بن أبي سرح عنهم، اقترحوا تأمير محمد بن أبي بكر عليهم. فكتب له عثمان بالعهد على مصر وصار مع المصريين حتى تعقبه كتاب عثمان إلى عبد الله بن سعد في امره وامر المصريين بما هو معروف(2). فعادوا جميعاً، وكان من قتل عثمان ما كان، فلم يكن ظاهر الرأي ووجه التدبير الا تولية محمد بن أبي بكر على مصر لما ظهر ميل المصرين إليه، وايثارهم له، واستحقاقه لذلك بتكامل خصال الفضل فيه، فكان الظن قوياً باتفاق الرعية على طاعته وانقيادهم إلى نصرته واجتماعهم على محبته فكان من فساد الأمر واضطرابه عليه حتى كان ما كان»(3).

وأردف قائلاً: «ليس ذلك بعيب على امير المؤمنين علیه السلام، فأن الامور إنما يعتمدها الامام على حسب ما يظن فيها من المصلحة، ولا يعلم الغيب الا الله تعالى، وقد تولى رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم في مؤته جعفراً فقتل، وولى زيداً فقتل، وولى عبد الله بن رواحة فقتل، وهزم الجيش، وعاد من عاد منهم إلى المدينة باسوء حال، فهل لأحد ان يعيب رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم بهذا ويطعن في تدبيره»(4).

واستغل انصار معاوية في البصرة غياب والي البصرة - عبد الله بن عباس - الذي ذهب للكوفة لتعزية الامام بمقتل محمد بن أبي بكر - فكتبوا لمعاوية، الذي ارسل - ابن

ص: 489


1- الشرح 10 / 248 - 249
2- إشارة إلى كتاب عثمان بقطع ايدي وارجل المصرين. الشرح 2 / 149 - 151. البلاذري: انساب 5 / 65 - 7. الطبري: تاريخ 4 / 373. الجهشياري: الوزراء الكتاب ص 21 - 22
3- الشرح 10 / 249
4- الشرح 10 / 249

الحضرمي - لاثارة البصرة ضد الامام، إلا أنه اخفق في تأدية مهمته حيث قتل»(1).

وافضع الغارات التي ارسلها معاوية هي غارة - بسر بن ارطأة - على المدينة ومكة والطائف، واليمن، وكانت في السنة الأخيرة من خلافة الامام علیه السلام، حيث تشير الروايات لعدد كبير من القتلى الذي طال حتى الاطفال(2) وادخل الرعب والخوف في قلوب الناس، وقد وصف ابن أبي الحديد علاقة بسر بمعاوية: «كان مسلم بن عقبة ليزيد، وما عمل بالمدينة في وقعة الحرة(3) كما كان بسر لمعاوية، وما عمل بالحجاز واليمن، ومن اشبه اباه فما ظلم»(4).

ومع حالة التخاذل هذه، والتي نجم عنها التصعيد الذي قام به معاوية من شن الغارات على الولايات الموالية للامام، لكن الامام علیه السلام لم يتخل عن فكرة ضم بلاد الشام وأعادتها إلى حضيرة الدولة، لذا تشير الروايات انه في اواخر خلافته تمكن من اعداد جيش كبير لاستعادة الشام، إلا أن استشهاده المفاجيء حال دون ذلك(5).

ان اعداد هذا الجيش فيه دلالة على إن ما تشير إليه بعض الروايات من ان الإمام علي علیه السلام هادن معاوية على أن يكون العراق له، والشام لمعاوية(6) ليس له من الصحة شيء.

ص: 490


1- الشرح 4 / 34 - 53. أبي هلال: الغارات ص 255 - 284
2- أنظر قصة طفلي عبيد الله بن عباس. الشرح 2 / 13 الطبري: تاربخ 5 / 140
3- وقعت في أيام يزيد بن معاوية في أهل المدينة لما رفضوا بيعته، أنظر تفاصيلها: الطبري: التاريخ 5 / 482 - 494
4- أي لم يضع الشيء في غير موضعه. الميداني مجمع الامثال 2 / 300
5- الشرح 2 / 90، 7 / 93 - 4. وانظر الزمخشري: ربيع الابرار 4 / 242 - 243
6- الطبري: تاريخ 5 / 140

الفصل الخامس الإمام علی علیه السلام مصدر الفکر العربی الإسلامی

ص: 491

ص: 492

الفصل الخامس الإمام علي علیه السلام مصدر الفكر العربي الاسلامي

المبحث الأول الإمام علي علیه السلام مدينة العلم

كانت تربية الإمام علي علیه السلام في بيت الرسالة البداية لتفتح ذهنيته وقدرتها على استيعاب حقائق الكون واسراره بعد الهجرة المباركة حيث كان علیه السلام مخصوصاً بخلوات يخلو بها مع رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم، لا يطلع أحد من الناس على ما يدور بينهما، وكان علیه السلام كثيرا ما يسأل النبي صلی الله علیه و آله وسلم عن معاني القرآن ومعاني كلامه صلی الله علیه و آله وسلم وإذا لم يسأل ابتدأه النبي صلی الله علیه و آله وسلم بالتعليم والتثقيف(1)، وروي انه قال: (كنت إذا سألت رسول الله اعطاني، وإذا سكت ابتدأني)(2).

ص: 493


1- الشرح: 11 / 48
2- الترمذي: الصحيح 12 / 170. 175. الحاكم: المستدرك 3 / 135. ابن طلحة: مطالب السؤول ص 49. السيوطي: تاريخ الخلفاء ص 170

ولم يكن أحد من اصحاب النبي صلی الله علیه و آله وسلم كذلك، إذ كانوا اقساما:

منهم من يهاب الرسول صلی الله علیه و آله وسلم أن يسأله وهم الذين يحبون ان يأتي الاعرابي أو الطارئ فيسأله وهم يسمعون.

منهم من كان بليدا بعيد الفهم قليل الهمة في البحث والنظر.

منهم من كان مشغولا عن طلب العلم.

منهم المعاني اما بعبادة أو دنيا.

منهم المقلد الذي يرى أن فرضه السكوت وترك السؤال.

منهم المبغض الشانئ الذي ليس للدين عنده من الموقع ما يضيع وقته وزمانه بالسؤال عن دقائقه وغوامضه(1).

واضيف إلى اختصاص الإمام عليّ علیه السلام بالنبي صلی الله علیه و آله وسلم (ذكاءه وفطنته، وطهارة طينته واشراق نفسه وضوئها، وإذا كان المحل قابلا متهيئا، كان الفاعل المؤثر موجودا، والموانع مرتفعة، حصل الاثر على أتم ما يمكن فلذلك كان علیه السلام كما قال الحسن البصري (ربانيَّ هذه الأمة، وذا فضلها، ولذا تسميه الفلاسفة: امام الأئمة وحكيم العرب)(2).

فكان علیه السلام سيد أهل النظر كافة وامامهم حيث لم يكن علیه السلام مقتصرا على اوائل الأدلة في تكليفه بالعقليات، وقد اشاد النبي صلی الله علیه و آله وسلم بمكانته العلمية إذ قال: (أنا

ص: 494


1- الشرح: 11 / 48
2- الشرح: 11 / 48. وانظر ما جاء لدى جورج جرداق: الإمام علي صوت العدالة الانسانية ص 103 - 108

مدينة العلم وعلي بابها، فمن إراد المدينة فليأتها من بابها)(1).

ومن هنا كان علیه السلام يؤكد على ضرورة أخذ العلم من مصدره الا وهو نفسه الشريفة، إذ يقول: (فالتمسوا ذلك من عند أهله فإنهم عيش العلم وموت الجهل هم الذين يخبركم حكمهم عن علمهم، وصمتهم عن منطقهم، وظاهرهم عن باطنهم، لا يخالفون الدين ولا يختلفون فيه، فهو بينهم شاهد صادق، وصامت ناطق). وهذا القول كناية عن نفسه علیه السلام فكان علیه السلام كثيرا ما يسلك هذا المسلك ويعرض هذا التعريض وهو الصادق الامين العارف بالاسرار الإلهية(2).

ولذا نجده الوحيد الذي تجرأ وقال: (سلوني قبل أن تفقدوني(3) فلأنا بطرق

ص: 495


1- الترمذي: صحيح 12 / 171. الملطي: التنبيه والرد ص 25. الطبراني: المعجم الكبير 11 / 55. ابن اخي تبوك: مناقب ص 427. الحاكم: المستدرك: 3 / 137 - 8. الخطيب: تاريخ بغداد 2 / 377، 4 / 348، 7 / 173، 11 / 49. 204. ابن عبد البر: الاستيعاب 3 / 1102. ابن الاثير: اسد الغابة 4 / 22. البلوي: الف باء 1 / 222. سبط ابن الجوزي: تذكرة ص 47 - 48. النووي: تهذيب الاسماء 1 / 1 / 348. الكنجي: كفاية الطالب ص 220 - 3. ابن طلحة: مطالب السئول ص 35. محب الدين: ذخائر العقبى ص 87. الرياض 2 / 255. الجويني: فرائد السمطين ص 98 - 100. الذهبي: تذكرة الحفاظ 4 / 1231. ابن كثير: البداية والنهاية 7 / 359. الهيثمي: مجمع الزوائد 9 / 114. الدميري: حياة الحيوان 1 / 55. ابن حجر: تهذيب التهذيب 7 / 337. السيوطي: تاريخ الخلفاء ص 170. الجامع الصغير 3 / 46.المتقي الهندي: كنز العمال 12 / 201 - 212. الهيتمي: الصواعق ص 120. المحمودي: ترجمة الإمام علي$ 2 / 457 - 499
2- الشرح: 9 / 106 - 107
3- أبو نعيم: حلية الاولياء 1 / 67 - 8. ابن عبد البر: جامع بيان العلم 1 / 114. الخوارزمي: المناقب ص 46 - 47. سبط ابن الجوزي: تذكرة ص 27. محب الدين: ذخائر العقبى ص 93. ابن تيمية: منهاج السنة 4 / 159. الجويني: فرائد 1 / 341. ابن حجر: الاصابة 2 / 509. تهذيب التهذيب 7 / 338. السيوطي: تاريخ الخلفاء ص 171 - 185

السماء أعلم مني بطرق الارض). وقد تأول البعض كلامه علیه السلام هذا (أراد أنا بالاحكام الشرعية والفتاوي الفقهية أعلم مني بالامور الدنيوية، فعبر عن ذلك بطرق السماء، لأنها احكام الهية، وعبر عن هذه بطرق الارض لأنها من الامور الارضية)(1).

وكان علیه السلام يقول: (نحن شجرة النبوة ومحط الرسالة ومختلف الملائكة ومعادن العلم، وينابيع الحكم…) أي الحكم الشرعي، فإنه وإن عنى بها نفسه علیه السلام وذريته، فإن الأمر فيها ظاهر جدا كما نجده في حديث الرسول صلی الله علیه و آله وسلم أعلاه (أنا مدينة العلم وعلي بابها). وقوله صلی الله علیه و آله وسلم: (أقضاكم عليّ)(2). والمعروف أن القضاء يستلزم علوماً عدة(3).

واشار ابن أبي الحديد(4) إلى عدد من الآيات القرانية النازلة في حق الإمام عليّ علیه السلام في هذا المجال كقوله تعالى (وتعيها اذن واعية). قال صلی الله علیه و آله وسلم سألت الله أن يجعلها اذنك ففعل(5). وقوله تعالى:

ص: 496


1- الشرح: 13 / 101. 106
2- ابن سعد: الطبقات 2 / 338 - 9. الحاكم: المستدرك 3 / 145. ابن عبد البر: الاستيعاب 3 / 1102. الخوارزمي: المناقب ص 39 - 41. الشهرستاني: الملل 1 / 221. النووي: تهذيب الاسماء واللغات 1 / 1 / 346. الجويني: فرائد 1 / 166. ابن كثير: البداية والنهاية 7 / 360. ابن حجر: تهذيب التهذيب 7 / 337. السيوطي: تاريخ الخلفاء ص 170. الهيتمي: الصواعق ص 121
3- الشرح: 7 / 218 - 219
4- الشرح: 7 / 220، 18 / 235
5- سورة الحاقة: 12. أنظر: الطبري: جامع البيان 29 / 55. الواحدي: أسباب النزول ص 294. الطوسي: التبيان 10 / 98. الزمخشري: الكشاف 4 / 600. القرطبي: الجامع 18 / 264. الخوارزمي: المناقب ص 199. الكنجي: كفاية الطالب ص 108 - 9. ابن تيمية: منهاج السنة 4 / 46، 140. السيوطي: الدر المنثور 6 / 260

«أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ».

أنها نزلت في الإمام علي علیه السلام لما خص به من العلم(1). وقوله تعالى:

«أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ».

أن الشاهد هو الإمام علي علیه السلام(2).

وأكد هذا المعنى بعدد من الاحاديث النبوية كقوله صلی الله علیه و آله وسلم لفاطمة علیها السلام:

(زوجتك اقدمهم سلما، واعظمهم حلما، واعلمهم علماً). وقال صلی الله علیه و آله وسلم: (من أراد أن ينظر إلى نوح في عزمه، وموسى في علمه، وعيسى في ورعه، فلينظر إلى علي ابن أبي طالب)(3).

وإلى هذا المعنى كان علیه السلام يشير بقوله: (وعندنا - أهل البيت - ابواب الحكم، وضياء الأمر). فالحكمة هنا الشرعيات والفتاوى، وضياء الأمر هي العقليات والعقائد (وهذا مقام عظيم لا يجسر أحد من المخلوقين أن يدّعيه سواه علیه السلام، ولو اقدم أحد على ادعائه لكذب(4) وكذبه الناس)(5).

ص: 497


1- سورة النساء، الآية: 54. الطوسي: التبيان 3 / 227 - 8. محمد الصبان: اسعاف الراغبين ص 109
2- سورة هود: 17. الطبري: جامع البيان 12 / 15. الطوسي: التبيان 5 / 461
3- الشرح: 7 / 220، 9 / 168. الخوارزمي: المناقب ص 40 - 41، 220. ابن المغازلي: مناقب ص 212. الكنجي: كفاية الطالب ص 122. محب الدين: الرياض 2 / 290. الجويني: فرائد السمطين 1 / 172 - 3. ابن كثير: البداية 7 / 357. الصفوري: نزهة المجالس 2 / 240. المحمودي: ترجمة الإمام علي 2 / 506
4- أنظر بعض ذلك في الشرح 13 / 107 - 9. الخطيب: تاريخ بغداد 13 / 163 - 166. الذهبي: طبقات الحفاظ 2 / 755
5- الشرح: 7 / 289

وكان علیه السلام على درجة من اليقين إذ يقول: (وما شككت في الحق منذ أريته).

فالإمام علي علیه السلام هنا يشير لنعمة الله عليه في أنه لم يشك بالله منذ عرفه، أو منذ عرف الحق في العقائد الكلامية، والاصولية والفقهية (وهذه مزية له ظاهرة على غيره من الناس فإن أكثرهم أو كلهم يشك في الشيء بعد أن عرفه وتعتريه الشبه والوساوس ويران على قلبه، وتختلجه الشياطين عما ادي إليه نظره)(1).

لذا نجده علیه السلام يقول: (بل اندمجت على علم لو بحت به، لاضطربتم اضطراب الارشية(2) في الطوى البعيدة)(3).

وقد انكر الإمام علي علیه السلام ادعاء البعض العلم دونه بقوله: (أين الذين زعموا انهم الراسخون في العلم دوننا كذبا وبغيا علينا، أن رفعنا الله ووضعهم، واعطانا وحرمهم، وادخلنا واخرجهم، بنا يستعطى الهدى، ويستجلى العمى).

وهذا الكلام كناية وإشارة لمن ينازعه الفضل، فهناك من يقال عنه أنَّه افرض، أو أقرأ، أو اعرف بالحلال والحرام(4)، مع تسليم الكل له علیه السلام، ولكنه لم يرض بذلك وعدَّ هذا الكلام موضوعا حسدا(5).

لذا كان للامام علي علیه السلام نعمتان على الصحابة نعمة الجهاد ونعمة (علومه

ص: 498


1- الشرح: 18 / 274
2- الارشية: هي الحبال، والطوى البعيدة: البئر البعيدة القعر. الشرح 1 / 215
3- الشرح: 1 / 213. وانظر سبط ابن الجوزي: تذكرة ص 128. ابن طلحة: مطالب السئول ص 39
4- ابن ماجة: صحيح 1 / 31. الحاكم: المستدرك 3 / 305 - 6. البيهقي: السنن الكبرى 6 / 210. الشهرستاني: الملل 1 / 221. الهيثمي: مجمع الزوائد 1 / 135
5- الشرح: 9 / 84. 86

التي لولاها حكم بغير الصواب في كثير من الاحكام، وقد اعترف له عمر بذلك، والخبر المشهور، (لولا علي لهلك عمر)(1).

واجمالا فحاله علیه السلام حال رفيعة لم يلحقه أحد ولا قاربه، لذا حقَّ له علیه السلام أن يصف نفسه بأنه معادن العلم وينابيع الحكم، فلا أحد احقَّ بها منه بعد الرسول صلی الله علیه و آله وسلم(2).

لذا اخذت كل فرقة تنتسب إليه وتتجاذبه كل طائفة لأنه رئيس الفضائل وينبوعها وأبو عذرها، وسابق مضمارها، ومجل حليتها، فكل من بزغ فيها بعده فمنه أخذ وله اقتفى، وعلى مثاله احتذى(3).

ص: 499


1- الشرح: 1 / 141
2- الشرح: 7 / 220
3- الشرح: 1 / 17

ص: 500

المبحث الثاني الإمام علي علیه السلام والعلم الالهي

العلم الالهي هو العلم الذي يختص بدراسة الذات الإلهية وصفاتها، لذا يعد اشرف العلوم لأن شرف العلم بشرف المعلوم، ومعلومه اشرف الموجودات، فكان هو اشرف العلوم(1).

يعد الإمام علي عللیه السلام امام المتكلمين، ولم يعرف علم الكلام(2) ممن سبقه من العرب، ولا نقل في ما جاء من الاكابر والاصاغر منه شيء، وهو فن انفرد به أولا اليونان، اما من العرب فأول من خاض به منهم هو الإمام علي علیه السلام، ولهذا نجد المباحث الدقيقة في التوحيد والعدل مبثوثة عنه في فرش كلامه وخطبه، ولا نجد في كلام أحد من الصحابة والتابعين كلمة واحدة من ذلك، ولا يتصورونه، بل حتى لو فُهموه لم يفهموه(3).

وهذا الفن هو الذي بان به امير المؤمنين علیه السلام عن العرب في زمانه قاطبة،

ص: 501


1- الشرح: 1 / 17. 9 / 257. وانظر: ابن خلدون:المقدمة ص 826
2- عن علم الكلام أنظر: صبحي احمد محمود: في علم الكلام 1 / 1 - 101
3- الشرح: 6 / 370 - 1. 10 / 6

ولذا استحق التقدم والفضل عليهم اجمعين (وذلك لأن الخاصة التي يتميز بها الانسان عن البهائم هي العقل والعلم، ألا ترى انه يشاركه غيره من الحيوانات في اللحمية والدموية والقوة والقدرة، والحركة الكائنة على سبيل الارادة والاختيار فليس الامتياز الا بالقوة الناطقة، اي العاقلة العالمة، فكلما كان الانسان أكثر حظاً منها كانت انسانيته أتم، ومعلوم أن هذا الرجل انفرد بهذا الفن، وهو اشرف العلوم، لأن معلومه اشرف المعلومات، ولم ينقل عن أحد من العرب غيره في هذا الفن حرف واحد، ولا كانت اذهانهم تصل إلى هذا، ولا يفهمونه بهذا الفن فهو منفرد فيه، وبغيره من الفنون، وهي العلوم الشرعية مشارك لهم وراجح عليهم، فكان اكمل منهم لأنّا قد بيَّناَّ أن الاعلم ادخل في صوره الانسانية وهذا هو معنى الافضلية)(1).

وفي شرحه للخطبة رقم (90) عقّب ابن أبي الحديد (لو سمع النظر ابن كنانة(2) هذا الكلام لقال لقائله، ما قاله علي بن العباس بن جريج(3)، لاسماعيل بن بلبل(4). (5):

ص: 502


1- الشرح: 9 / 256 - 257
2- النظر بن كنانة بن خزيمة أحد اجداد النبي صلی الله علیه و آله وسلم وسمي بالنظر لجماله. أنظر ابن حبيب: المحبر ص 50. الطبري: تاريخ 2 / 264 - 5. النويري: نهاية الارب 16 / 13 - 15
3- هو الشاعر (ابن الرومي). 221 - 283 ه أنظر ترجمته: المرزباني: معجم الشعراء ص 289. الخطيب: تاريخ بغداد 12 / 23 - 6. ابن خلكان: وفيات 3 / 358 - 62
4- هو كاتب الموفق العباسي سنة 272 ه. الطبري: تاريخ 10 / 10. الهمذاني: تكملة تاريخ الطبري ص 231
5- الشرح: 7 / 32. لم أجد الأبيات في ديوان ابن الرومي

قالوا أبو الصقرِ من شيبانَ قلتُ لَهمْ *** كلاّ، ولكن لعمري منهُ شيبانُ وَكَمْ أبٍ قد علا بابنٍ ذرى شرفٍ *** كما عَلا برَسولِ اللهِ عدنَانُ إذ كان يفخر به على عدنان وقحطان بل كان يقر به عين أبيه ابراهيم خليل الرحمن، ويقول له: إنه لم يعف ما شيدت من معالم التوحيد، بل اخرج الله لك من ظهري ولدا ابتدع من علوم التوحيد في جاهلية العرب ما لم تبتدعه أنت في جاهلية النبط، بل لو سمع هذا الكلام ارسطو طاليس(1)، القائل بأنه تعالى لا يعلم الجزيئات، لخشع قلبه ووقف شعره واضطرب فكره، ألا ترى ما عليه من الرواء والمهابة، والعظمة والفخامة، والمتانة والجزالة! مع ما قد اشرب من الحلاوة والطلاوة واللطف والسلاسة، لا ارى كلاما يشبه هذا الا أن يكون كلام الخالق سبحانه، فإن هذا الكلام نبعه من تلك الشجرة وجدول من ذلك البحر، وجذوة من تلك النار وكأنه شرح قوله تعالى:

«وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ»(2).

ويخلص ابن أبي الحديد للقول (إن التوحيد والعدل والمباحث الشريفة الإلهية، ما عرفت الا من كلام هذا الرجل، وإن كلام غيره من اكابر الصحابة

ص: 503


1- ارسطو طاليس: أنظر: ترجمته: ابن النديم: الفهرست ص 345 - 352. الشهرستاني: الملل والنحل 3 / 37 - 53. القفطي: تاريخ الحكماء ص 27 - 53. ابن أبي اصيبعة: عيون الانباء ص 86 - 105. ابن نباته: سرح العيون ص 141 - 144
2- سورة الانعام الآية: 59

لم يتضمن من ذلك اصلا، ولا كانوا يتصورونه ولو تصوروه لذكروه، وهذه الفضيلة عندي أعظم فضائله علیه السلام(1).

وقد اثار ذلك استغراب ابن أبي الحديد فعلّق قائلا: (فسبحان من منح هذا الرجل هذه المزايا النفيسة والخصائص الشريفة! أن يكون غلام من ابناء عرب مكة، ينشأ بين أهله، لم يخالط الحكماء وخرج اعرف بالحكمة ودقائق العلوم الإلهية من افلاطون(2) وارسطو، ولم يباشر ارباب الحكم الخلقية والآداب النفسانية، لأن قريشا لم يكن أحد منهم مشهورا بمثل ذلك وخرج اعرف بهذا الباب من سقراط(3)) الشرح: 16 / 146.

ولهذا انتسب المتكلمون الذين لججوا في بحار المعقولات إليه خاصة دون غيره، وسموه استاذهم ورئيسهم، واجتذبته كل فرقة من الفرق إلى نفسها (فالمعتزلة الذين هم أهل التوحيد والعدل وارباب النظر، ومنهم تعلم الناس هذا الفن، تلامذته واصحابه، لأن كبيرهم واصل بن عطاء تلميذ أبي هاشم عبد

ص: 504


1- الشرح: 6 / 346
2- هو افلاطون بن ارسطو من فلاسفة اليونان. درس على يد سقراط وفيثاغورس وتتلمذ على يديه ارسطو طاليس. أنظر ابن النديم: الفهرست ص 343 - 4. الشهرستاني الملل 2 / 190 - 193. القفطي: تاريخ الحكماء ص 17 - 27. ابن أبي اصيبعة: عيون الانباء ص 79 - 86. ابن نباته: سرح العيون ص 140 - 141. ابن منقذ: لباب الاداب ص 447 - 467
3- من اهالي اثينا: ومن اوائل من تكلم بالفلسفة وقد قتله اليونانيون بسبب ارائه. أنظر ابن النديم: الفهرست ص 343. الشهرستاني: الملل 2 / 185 - 190. القفطي: تاريخ الحكماء ص 197 - 206. ابن أبي اصيبعة: عيون الانباء ص 70 - 9

الله بن محمد بن الحنفية، وأبو هاشم تلميذ أبيه، وابوه تلميذه علیه السلام)(1).

وقد أشار الحاكم الجشمي(2) إلى سند المعتزلة واتصاله بالإمام علي علیه السلام:

(وبيان اتصاله (سند المعتزلة) بواصل وعمرو، أنه اخذه القاضي عن أبي عبد الله البصري وأبو عبد الله اخذه عن أبي اسحق بن عياش(3) وأبو اسحق اخذه عن أبي هاشم وطبقته، وأبو هاشم اخذه عن أبيه أبي علي الجبائي، وأبو علي اخذه عن أبي يعقوب الشحام، والشحام اخذه عن أبي الهذيل وأبو الهذيل اخذه عن عثمان الطويل(4)، وطبقته، وعثمان اخذه من واصل وعمرو، وهما اخذاه عن عبد الله بن محمد، وعبد الله اخذه عن أبيه محمد بن علي (ابن الحنفية)، ومحمد اخذه عن أبيه علي علیه السلام، وعلي علیه السلام اخذه عنه صلی الله علیه و آله وسلم وسلم وما ينطق عن الهوى)(5).

واما الاشعرية الذين ينتمون لأبي الحسن الاشعري(6) الذي هو تلميذ أبي علي الجبائي أحد كبار، رجال المعتزلة، وأبو علي تلميذ أبي يعقوب الشحام، والشحام تلميذ أبو الهذيل وأبو الهذيل تلميذ أبو عثمان الطويل، وأبو عثمان

ص: 505


1- الشرح: 1 / 17. 6 / 371. 10 / 60. 13 / 47
2- هو من متأخري المعتزلة. أنظر: ابن المرتضى: طبقات المعتزلة ص 116
3- أنظر ترجمته: القاضي: فرق طبقات المعتزله ص 113
4- أنظر ترجمته: ابن المرتضى: طبقات المعتزلة ص 42
5- ابن المرتضى: طبقات المعتزلة ص 7
6- كان معتزلياً ثم ترك الاعتزال مؤسساً مذهباً توفيقياً حيث أخذ افكار التيار السلفي واثبتها بأدلة التيار العقلي. محاضرات القاها د. محمد جواد الموسوي على طلبة الدكتوراه عام 1999 - 2000. وانظر ترجمته: السمعاني: الانساب 1 / 266 - 7. حمودي غرابة: أبو الحسن الاشعري ص 2 وما بعدها. الحفني: موسوعة الفرق ص 66 - 68

تلميذ واصل فعاد الأمر إلى انتهاء الاشعرية إلى علي علیه السلام(1).

واما الإمامية(2) والزيدية(3) والكيسانية(4) فانتماؤهم إليه ظاهر، وكذلك الخوارج، مع طعنهم فيه، لأنهم كانوا أصحابه، وانحرفوا عنه، بعد ان تعلموا منه، وهم انصاره في الجمل وصفين، ولكن الشيطان ران على قلوبهم واعمى ابصارهم(5).

وتنتهي مقالة الكرامية(6) إلى الإمام علّي علیه السلام عن طريقين:

الأول: إنهم يسندون اعتقادهم عن شيخ بعد شيخ حتى ينتهون إلى سفيان الثوري وهو من الزيدية.

الثاني: إن مشايخ الكرامية ينتهون إلى علماء الكوفة من اصحاب الإمام

ص: 506


1- الشرح: 1 / 17. 6 / 371
2- هم القائلين بامامة اثني عشر اماماً من الإمام علي علیه السلام إلى محمد بن الحسن العسكري: أنظر. الاشعري: مقالات الاسلاميين 1 / 87 - 88.البغدادي: الفرق بين الفرق ص 40. الشهرستاني: الملل والنحل 1 / 218 - 224. 2 / 2 - 5. الحفني: موسوعة الفرق ص 89 - 95
3- هم القائلون بامامة زيد بن علي بن الحسين. أنظر الملطي: التنبيه والرد ص 33.البغدادي: الفرق ص 22 - 26. الشهرستاني: الملل 1 / 207 - 218
4- هم القائلين بامامة محمد بن الحنفية. أنظر مؤلف مجهول: اخبار العباس ص 165.البغدادي: الفرق ص 26 - 34. الشهرستاني: الملل 1 / 196 - 7
5- الشرح: 1 / 17. 6 / 371 - 372
6- اصحاب محمد بن كرام: الاشعري: مقالات الاسلاميين 1 / 205 - 215. البغدادي: الفرق ص 130 - 137. ابن حزم: الفصل 2 / 5، 111، 3 / 288، 233، 260. الشهرستاني: الملل والنحل 1 / 144 - 154. الحفني: موسوعة الفرق ص 530 - 532

عليّ علیه السلام وهم سلمة بن كهيل(1) وحبه العرني(2) وسالم بن الجعد(3) والفضل ابن دكين(4) وشعبة والاعمش(5) وعلقمة(6) وهبيرة بن مريم(7) وابي اسحق السبيعي(8) وغيرهم. وهؤلاء كلهم اخذوا عن الإمام علي علیه السلام فهو رئيس الجماعة واقوالهم منقولة عنه ومأخوذة منه(9).

ص: 507


1- أنظر ترجمته: الطبري: المنتخب ص 644. الكشي: رجال ص 205
2- هو حبه بن جوين بن علي بن عبد تميم العرني. يعد من الصحابة. البرقي: رجال ص 6. ابن حجر: الاصابه 1 / 372 - 3
3- سالم بن الجعد الاشجعي الكوفي. أنظر: البرقي: رجال ص 33. ابن داود الحلي: رجال ص 166
4- هو من محدثي الكوفه ومن شيوخ البخاري ومسلم. أنظر ترجمته: الخطيب: تاريخ بغداد 12 / 364 - 357. الذهبي: تذكرة الحفاظ 1 / 372 - 373
5- هو سليمان بن مهران الاعمش: الطبري: المنتخب ص 652. أبو نعيم: حلية الاولياء 5 / 46 - 60. الذهبي: تذكرة الحفاظ 1 / 154
6- علقمة بن قيس بن عبد الله بن مالك النخعي الكوفي ت بين 61 - 73 ه. أنظر ترجمته: أبو نعيم: حلية الاولياء 2 / 98 - 102. الخطيب: تاريخ بغداد 12 / 296 - 300. ابن الجوزي: صفة الصفوة 3 / 27 - 28. الذهبي: تذكرة الحفاظ 1 / 48 - 49
7- هبيرة بن مريم أو بريم الحميري. البرقي: رجال ص 6
8- أنظر ترجمته: الطبري: المنتخب ص 647. أبو نعيم: حلية الاولياء 4 / 338 - 350. الذهبي: تذكرة الحفاظ 1 / 114
9- الشرح: 6 / 371 - 372

ص: 508

المبحث الثالث الإمام علي علیه السلام مصدرا للتصوف الاسلامي

من خلال ما ورد في نهج البلاغة من اشارات إلى أحوال التصوف(1) حيث (بين علیه السلام من مقامات العارفين التي يرمز إليها في كلامه ما لا يعقله الا العالمون ولا يدركه الا الروحانيون)(2) لذا عدّ ابن أبي الحديد الإمام عليّاً علیه السلام مصدر التصوف الاسلامي إذ يقول: (إن ارباب هذا الفن في جميع بلاد الإسلام إليه ينتهون وعنده يقفون، وقد صرح بذلك الشبلي(3) والجنيد(4) ................................

ص: 509


1- عن معنى التصوف أنظر عمر فروخ: تاريخ الفكر العربي ص 470 - 471. السامرائي: تاريخ الفكر العربي ص 277 - 8
2- الشرح: 1 / 5
3- أبو بكر دلف بن جحدر ت 334 ه. نشأ في بغداد وتفقه على مذهب مالك. السلمي: طبقات الصوفية ص 337 - 348. أبو نعيم: حلية الاولياء 10 / 366 - 375. ابن الجوزي: صفة الصفوة 2 / 456 - 461. ابن فرحون: الديباج المذهب ص 116 - 117
4- أبو القاسم الجنيد بن محمد الخزاز اصله من نهاوند ت 297 ه. السلمي: طبقات الصوفية ص 155 - 163. أبو نعيم: حلية الاولياء 10 / 255 - 287. ابن الجوزي: صفة الصفوة 2 / 416 - 24. السبكي: طبقات الشافعية 2 / 28 - 37

.......................................وسرى(1) وأبو يزيد البسطامي(2) وأبو محفوظ معروف الكرخي(3) وغيرهم، ويكفيك دلالة على ذلك الخرقة(4) التي هي شعارهم إلى اليوم وكونهم يسندونها باسناد متصل إليه علیه السلام)(5).

وقال في شرحه لكلام الإمام علي علیه السلام في شعب الإيمان والكفر(6): (هذا الفصل اخذت منه الصوفية واصحاب الطريقة والحقيقة كثيرا من فنونهم في علومهم، ومن تأمل كلام سهل بن عبد الله التستري(7) وكلام الجنيد والسري وغيرهم رأى هذه الكلمات في فرش كلامهم تلوح كالكواكب الزاهرة)(8).

ومن خلال قوله علیه السلام: (إن من أحب عباد الله إليه عبد أعانه الله على نفسه،

ص: 510


1- سرى ابن المغلس السقطي من مدرسة بغداد الصوفية وامامها في وقته ت 251 ه. السلمي: طبقات الصوفية ص 48 - 55. أبو نعيم: حلية الاولياء 10 / 116 - 127. ابن الجوزي: صفة الصفوة 2 / 371 - 386
2- طيفور بن عيسى من أهل بسطام بلده بقومس ت 261 ه. السلمي: طبقات الصوفية ص 67 - 74. أبو نعيم: حلية الاولياء 10 / 33 - 40. ابن الجوزي: صفة الصفوة 4 / 107 - 114
3- معروف بن علي من كبار المتصوفة وهو استاذ السري. وكان قد أسلم على يد علي بن موسى الرضا علیه السلام توفي وقبره معروف ببغداد. أنظر: السلمي: طبقات الصوفية ص 83 - 90. أبو نعيم: حلية الاولياء 8 / 360 - 8. ابن الجوزي: صفة الصفوة 2 / 318 - 324
4- عن الخرقة عند الصوفيه أنظر: الواسطي: طبقات خرقة الصوفية (الصفحات جميعها)
5- الشرح: 1 / 19
6- الشرح: 18 / 142 - 143
7- من أهل تستر ولد في 200 ه وتوفي 283 ه. أنظر: أبو نعيم. حلية الأولياء 10 / 189 - 212. ابن خلكان: وفيات الأعيان 2 / 429 - 430
8- الشرح: 18 / 143

فاستشعر الحزن، وتجلبب الخوف، فزهر مصباح الهدى في قلبه، واعدّ القرى ليومه النازل به، فقرب على نفسه البعيد، وهون الشديد).

من هذا الكلام أخذ اصحاب علم الطريقة والحقيقة علمهم، وهو تصريح بحال العارف، ومكانته من الله تعالى، والعرفان درجة حال رفيعة شريفة جدا مناسبة للنبوة ويختص الله تعالى بها من يقربه إليه من خلقه. والعارف هو الواصل إلى الله سبحانه بنفسه لا ببدنه، والباري سبحانه متمثل في نفسه تمثل المعشوق في ذات العاشق، ويستلزم أن يكون العارف زاهدا حيث لا يمكن تصور العرفان مع تعلق النفس بملاذ الدنيا. وقد يحصل بعض العرفان لبعض العلماء والفضلاء مع تعلقهم بشهوات الدنيا، لكنهم لا يكونون كاملين في احوالهم، لأن الحالة الكاملة قد تحصل لمن رفض الدنيا، والتي تستلزم أن يكون العارف عابدا عبادة ما، ولكن لا يشترط في حصول العرفان أن يكون على قدم عظيمة من العبادة، بل الاكثار من العبادة حجاب لكن لابد من القيام بالفرائض وقليل من النوافل. والعارف هو العارف بالله تعالى وصفاته وملائكته ورسله وكتبه وبالحكمة المودعة في نظام العالم لاسيما الافلاك والكواكب وتركيب طبقات العناصر والاحكام وفي تركيب الابدان الانسانية(1).

وأكد ابن أبي الحديد أن هذه الصفات والشروط التي ذكرها في شرح حال العارف إنما يعني بها نفسه علیه السلام فهذا من الكلام الذي له ظاهر وباطن، فظاهره ان يشرح حال العارف المطلق، وباطنه ان يشرح حال عارف معين، وهو نفسه علیه السلام. ثم ذكر ابن أبي الحديد هذه الصفات وهي ستة عشر آخرها العدالة وهي مَلكة تصدر

ص: 511


1- الشرح: 6 / 365 - 6

بها عن النفس الافعال الفاضلة خلقا لا تخلقا، وهذه العدالة لها اقسام ثلاث هي الاصول وما عداها تعد من الفروع الاولى: الشجاعة ويدخل فيها السخاء لأنه شجاعة وتهوين المال، كما أن الشجاعة الاصلية تهوين للنفس، فالشجاع بالحرب جواد بنفسه، والجواد بالمال شجاع في انفاقه. ولهذا يقول أبو تمام الطائي(1):

أيقنت أنَّ مِنَ السماحةِ شجاعة *** تدمى، وأنَّ مِنَ الشجاعةِ جُودا والثانية: الفقه ويدخل فيها القناعة والزهد والعزلة، والثالثة: الحكمة وهي اشرفها(2).

يعد ابن أبي الحديد العدالة الكاملة لم تحصل لأحد من البشر بعد الرسول صلی الله علیه و آله وسلم الا للامام علي علیه السلام (ومن انصف علم صحة ذلك فإن شجاعته وجوده، وعفته وقناعته وزهده، يضرب بها الامثال. واما الحكمة والبحث في الامور الإلهية، فلم يكن من فن أحد من العرب، ولا نقل في جهاد اكابرهم واصاغرهم شيء من ذلك اصلا، وهذا فن كانت اليونان واوائل الحكماء واساطين الحكمة ينفردون به، وأول من خاض فيه من العرب علي علیه السلام ولهذا تجد المباحث الدقيقة في التوحيد والعدل مبثوثة عنه في فرش كلامه وخطبه ولا تجد في كلام أحد من الصحابة والتابعين كلمة واحدة من ذلك ولا يتصورونه ولو فهموه لم يفهموه وأنّى للعرب ذلك!)(3).

وأكد ابن أبي الحديد من خلال شرحه خطبة للامام أشار فيها إلى اولياء الله

ص: 512


1- ديوانه. ص 18
2- الشرح: 6 / 367 - 370
3- الشرح: 6 / 370 - 371

بأن الامام هو مصدر التصوف إذ يقول (أعلم أن الكلام في العرفان لم يأخذه أهل الملة الاسلامية الا عن هذا الرجل، ولعمري لقد بلغ منه اقصى الغايات وابعد النهايات، والعارفون هم القوم الذين اصطفاهم الله تعالى، وانتجبهم لنفسه واختصهم بأنسه، احبوه فاحبهم وقربوا منه وتقرب منهم)(1).

وقد أشار الإمام علي علیه السلام إلى مقامين من مقامات الصوفية وهما الولاية والمحبة بقوله: (يتواصلون بالولاية ويتلاقون بالمحبة)(2).

واشار ابن أبي الحديد أن مسألة (البروق اللامعة) التي يقول بها الحكماء والمتصوفة اخذوها عن الإمام علي علیه السلام ففي قوله: (قد احيا عقله، وامات نفسه، حتى دق جليله، ولطف غليظه، وبرق له لامع كثير البرق، فأبان له الطريق، وسلك به السبيل، وتدافعته الابواب إلى باب السلامة، ودار الاقامة، وثبتت رجلاه بطمأنينة بدنه في قرار الامن و الراحة بما استعمل قلبه، وارضى ربه)(3).

فقوله علیه السلام: (وبرق له لامع كثير البرق) هو حقيقة مذهب الحكماء وحقيقة قول الصوفية اصحاب الطريقة والحقيقة، وقد صرح به الرئيس أبو علي بن سينا فقال في ذكر السالك إلى مرتبة العرفان: (إنه إذا بلغت به الارادة والرياضة حدا ما عنت له خلسات من اطلاع نور الحق إليه لذيذة كأنها بروق تومض إليه ثم تخمد عنه، وهي التي تسمى عندهم اوقاتا، وكل وقت يكتنفه، وجد إليه، ووجد

ص: 513


1- الشرح: 11 / 72
2- الشرح: 11 / 75
3- الشرح: 11 / 127

عليه… ثم انه لتبلغ به الرياضة مبلغا ينقلب له وقته سكينة فيصير المخطوب مألوفا، والوميض شهابا بيناً، ويحصل له معارف مستقرة، كأنها صحبة مستمرة، ويستمتع فيها ببهجته، فإذا انقلب عنها انقلب حيران اسفاً)(1).

قال ابن أبي الحديد: (فهذه الفاظ الحكيم أبي علي بن سينا في الاشارات، وهي كما تراها مصرح فيها بذكر البروق اللامعة للعارف)(2).

وأضاف: (وقال القشيري في الرسالة(3) لما ذكر الحال والأمور الواردة على العارفين قال: هي بروق تلمع ثم تخمد، وانوار تبدو ثم تخفى، ما احلاها لو بقيت مع صاحبها! ثم تمثل بقول البحتري(4):

خَطَرَتْ في النَّومِ مِنها خَطْرَة *** خَطرَةَ البرقِ بدا ثم اضمَحَلْ أي زور لك لو قصدا سرى *** وملّمٍ بكَ لو حَقاً فَعَلْ فهو كما تراه يذكر البروق اللامعة حسبما ذكره الحكيم وكلاهما يتبع الفاظ امير المؤمنين علیه السلام لأنه حكيم الحكماء، وعارف العارفين، ومعلم الصوفية، ولولا اخلاقه وكلامه وتعليمه للناس هذا الفن تارة بقوله، وتارة بفعله، لما اهتدى أحد من هذه الطائفة ولا علم كيف يورد ولا كيف يصدر)(5).

وبعد أن أورد نصوصا للقشيري(6) علق في آخرها (أفلا ترى كلام القوم

ص: 514


1- الشرح: 11 / 137 - 8. ابن سينا: الاشارات 4 / 828 - 830
2- الشرح: 11 / 138
3- الرسالة القشيرية ص 272
4- ديوانه 3 / 1715 - 1716
5- الشرح: 11 / 138 - 139
6- الشرح: 11 / 139 - 141. الرسالة القشيرية ص 67 - 69

كله مشحون بالبروق واللَّمعان)(1).

وقال ابن أبي الحديد في شرحه لأحد خطبه علیه السلام بأن ظاهر كلامه علیه السلام شرح حال القصاص، وارباب المواعظ في المجامع والطرقات، والمتصدين لانكار القبائح، اما باطنه فهو شرح حال العارفين الذين هم صفوة الله تعالى من خلقه، وهو علیه السلام دائماً يكني عنهم ويرمز إليهم، على أنه في هذا الموقع قد صرح بهم في قوله (حتى كأنهم يرون ما لا يرى الناس، ويسمعون ما لا يسمعون). وقد ذكر من مقامات العارفين في هذا الفصل مقام الذكر، ومحاسبة النفس، والبكاء والنحيب، والندم والتوبة والدعاء والفاقة، والذلة، والحزن وهو الأسى الذي ذكرانه جرح قلوبهم بطوله(2).

ص: 515


1- الشرح: 11 / 141
2- الشرح: 11 / 180

ص: 516

المبحث الرابع الإمام علي علیه السلام وعلم الفقه

الفقه لغة: فهم غرض المتكلم من كلامه(1). قال تعالى:

«قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثيِرًا مِمَّا تَقُولُ»(2).

اصطلاحا: العلم بالاحكام الشرعية العملية المكتسبة من ادلتها التفصيلية وهو علم يستنبط بالرأي والاجتهاد، ويحتاج فيه إلى النظر والتأمل ولهذا لا يسمى الله فقيها، لأنه لا يخفى عليه شيء(3).

كان الإمام علي علیه السلام أصل علم الفقه واساسه، وكل فقيه في الإسلام فهو عيال عليه، ومستفيد من فقهه(4) وقد بدأت بواكير ذلك في عهد الرَّسول صلی الله علیه و آله وسلم حيث ارسله إلى اليمن داعيا له: (اللهم اهد قلبه، وثبت لسانه) فقال الإمام

ص: 517


1- الرازي: مختار الصحاح ص 509. الجرجاني: التعريفات ص 90
2- سورة هود، الآية: 91
3- ابن خلدون: المقدمة ص 804. الجرجاني: التعريفات ص 90. البهادلي: مفتاح الوصول 1 / 22 - 24
4- الشرح: 1 / 18. وانظر: رد ابن تيمية على ذلك: منهاج السنة 4 / 143 - 4

عليّ علیه السلام: (فما شككت بعدها في قضاء بين اثنين)(1) ولذا قال صلی الله علیه و آله وسلم: (اقضاكم علي)، كما مر بنا، والقضاء يحتاج صاحبه لأن يكون ملما بالفرائض، والقران والحلال والحرام وغيرها(2).

وكان jعلیه السلام يقول: (فلأنا أعلم بطرق السماء مني بطرق الارض). أي أنه علیه السلام أعلم بالاحكام الشرعية والفتاوى الفقهية من الامور الدنيوية فعبّر عن تلك بطرق السماء لأنها احكام الهية، وهذه بطرق الارض لأنها من الامور الارضية(3).

وأكد علیه السلام أن الاحكام الشرعية لا يجوز أن تنقض باجتهاد(4) أو قياس(5) بعد ثبوت الأدلة عليها عن طريق النص (القرآن والسنةّ) حيث (كل ما ورد به النص تتبع مورد النص فيه، فما استحللته عام أول، فهو في هذا العام حلال لك، وكذلك القول في التحريم). إذ يقول علیه السلام (إن ما احدث الناس لا يحل لكم شيئا

ص: 518


1- الشرح: 1 / 18. 7 / 289. واخرجه: ابن سعد: الطبقات 2 / 337. ابن ماجة: صحيح 2 / 33. أبو داود: سنن 3 / 301. الحاكم: المستدرك 3 / 146. ابن عبد البر: الاستيعاب 3 / 1100. الخوارزمي: المناقب ص 41. سبط ابن الجوزي: تذكرة ص 44. الجويني: فرائد السمطين ص 167. ابن حجر: تهذيب التهذيب 7 / 337. السيوطي: تاريخ الخلفاء ص 170. المتقي الهندي: كنز العمال 12 / 220. الهيتمي: الصواعق ص 121
2- الشرح: 9 / 84
3- الشرح: 13 / 101. 106
4- هو بذل الجهد في استنباط الاحكام الشرعية من ادلتها التفصيلية. مذكور: مناهج الاجتهاد ص 337
5- القياس هو التسوية بين الفرع والاصل في الحكم لاشتراكهما في علته. الخوارزمي: مفاتيح العلوم ص 7 - 8. ابن الطيب: المعتمد 2 / 697

مما حرم عليكم، أي ما احدثوه من القياس والاجتهاد، حيث يمنع من تقديم القياس على النص)(1).

واشار علیه السلام أن الشرعيات مصالح للمكلفين، فإذا فعل سبحانه بنا ما فيه صلاحنا فقد احسن إلينا، ومن جملة صلاحنا تعريفنا من الشرعيات ما فعله لطف ومفض إلى الثواب، وهذا ابلغ ما يكون من الاحسان، والمحسن يجب تعظيمه وشكره، والله سبحانه وتعالى لم يترك شيئا الا وجعل له نصا ظاهرا يدل عليه أو علما يستدل به عليه، اما منصوص عليه صريحا أو يمكن استنباط حكمه من القرآن اما بذكره أو بتركه، فيبقى على البراءة الاصلية(2) وحكم العقل، اما إذا لم ينص عليه صريحا، بل هو في محل النظر فليس يجوز للعلماء أن يجتهدوا فيه، فيحله بعضهم ويحرمه اخرون، مع أن رضا الله واحد، وكذلك سخطه، فلا يجوز أن يكون شيء يفتي فيه البعض بالحل وآخرون بالحرمة، وهنا كأن الإمام عليّاً علیه السلام يقول بتحريم الاجتهاد ثم أن الله لا يرضى من عباده الاختلاف في الفتاوى والاحكام، كما اختلفت الامم السابقة، فسخط الله اختلافهم (إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شِيعَاً لستَ منهم في شيء(3)) (4).

وقد استنتج ابن أبي الحديد من كلام للامام علي علیه السلام(5) أنه يرد على أهل

ص: 519


1- الشرح: 1 / 290. 10 / 30 - 31
2- هي الوظيفة المؤمنة من قبل العقل عند عجز المكلف عن بلوغ حكم الشارع أو وظيفته. البهادلي: مفتاح الوصول: 2 / 251
3- سورة الانعام، الآية: 159
4- الشرح: 10 / 118
5- الشرح: 1 / 882

الاجتهاد في الاحكام الشرعية وافساد قول من قال: كل مجتهد مصيب.

ويتلخص احتجاجه علیه السلام في خمسة وجوه:

الأول: لما كان الاله واحداً، والرسول صلی الله علیه و آله وسلم واحداً والكتاب واحداً وجب أن يكون الحكم في الواقعة واحداً.

الثاني: لا يخلو الاختلاف الذي ذهب إليه المجتهدون أن يكون مأمورا به أو منهيا عنه. والاول باطل حيث ليس في الكتاب والسنة ما يشير لذلك، والثاني حق ويلزم منه تحريم الاختلاف.

الثالث: اما أن يكون دين الإسلام ناقصا أو تاما، فإن كان ناقصا فإن الله سبحانه استعان بالمكلفين لاتمامه سواء على سبيل النيابة أو المشاركة، وهذا كفر، وإن كان تاماً فإما أن يكون الرَّسول صلی الله علیه و آله وسلم قصر عن تبليغه أو إنه بلغه على كماله وتمامه، والاول كفر وإن كان الثاني بطل الاجتهاد لأن الاجتهاد إنما يكون فيما لم يتبين.

الرابع: الاستدلال بقوله تعالى:

«مَا فَرَّطْنَا فيِ الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ»(1).

وقوله:

«تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ»(2).

وقوله:

«وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فيِ كِتَابٍ مُبيِنٍ»(3).

ص: 520


1- سورة الأنعام، الآية: 38
2- سورة النحل، الآية: 99
3- سورة الأنعام، الآية: 59

ففيها دلالة على اشتمال الكتاب على كل الاحكام فكل ما ليس في الكتاب وجب أن لا يكون في الشرع.

الخامس: قوله تعالى:

«وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فيِهِ اخْتِلَافًا كَثيِرًا»(1).

فجعل الاختلاف دليلا على أنه ليس من الله تعالى، لكن القرآن من عند الله بالأدلة القاطعة الدالة على صحة النبوة فوجب أن لا يكون فيه اختلاف.

وخلص ابن أبي الحديد للقول (إن هذه الوجوه هي التي يتعلق بها الإمامية وتفاة القياس والاجتهاد في الشرعيات، وقد تكلم(2) عنها اصحابنا في كتبهم وقالوا: ان امير المؤمنين علیه السلام كان يجتهد ويقيس، وادَّعوا اجماع الصحابة على صحة الاجتهاد والقياس ودفعوا صحته هذا الكلام المنسوب في هذا الكتاب إلى امير المؤمنين علیه السلام وقالوا: إنه من رواية الإمامية، وهو معارض بما ترويه الزيدية عنه وعن ابنائه علیه السلام في صحة القياس والاجتهاد ومخالطة الزيدية لأئمة

ص: 521


1- سورة النساء، الآية: 82
2- لكي نعرف موقف الإمامية من الاجتهاد يجب أن نعرف أن هذه الكلمة مرت بمصطلحات عديدة في تاريخها، فقد كانت هذه الكلمة عند بعض المذاهب السنيّة تعني بالاصطلاح بما يرادف الرأي (التفكير الشخصي) فيكون الاجتهاد عند ذلك دليلاً من أدلة الفقيه بعرض الأدلة الأخرى كالقرآن والسنّة وعلى هذا المصطلح نحمل الروايات الواردة عن أئمتنا في ذم الاجتهاد، ولكن الكلمة (الاجتهاد) تطورت عند فقهائنا العظام إلى ما دل اصطلاحاً على (الاستنباط) فخرج عن كونه دليلاً إلى ما يعني بذل الجهد في استخراج الحكم الشرعي من أدلته وخرج عن كونه مصدراً من مصادر الاستنباط إلى كونه نفس عملية الاستنباط وهو جائز بداهةً (أنظر الحلقة الأولى من دروس في علم الأصول للشهيد الصدر، التمهيد)

أهل البيت علیهم السلام كمخالطة الإمامية لهم، ومعرفتهم باقوالهم واحوالهم ومذاهبهم كمعرفة الإمامية لا فرق بين الفئتين في ذلك. والزيدية قاطبة جاروديتها(1) وصالحيتها(2) تقول بالقياس والاجتهاد، وينقلون في ذلك نصوصا عن أهل البيت علیهم السلام وإذا تعارضت الروايتان تساقطتا وعدنا إلى الأدلة المذكورة في هذه المسألة وقد تكلمت في اعتبار الذريعة للمرتضى(3) على احتجاجه في إبطال القياس والاجتهاد بما ليس هذا موضع ذكره)(4).

واضطر ابن أبي الحديد إلى تخصيص كلام الإمام علیه السلام: (ما اختلفت دعوتان الا كانت احداها ضلالة). فقال: (ولا يحمل اصحابنا كلامه علیه السلام على عمومه لأن المجتهدين في فروع الشريعة، وان اختلفوا وتضادت اقوالهم، ليسوا ولا واحد منهم على ضلال). ولذا خصص ابن أبي الحديد كلامه علیه السلام هنا باختلاف الدعوة في اصول الدين(5).

كان الامام علیه السلام مرجع الصحابة في كثير من الاحكام الفقهية ومنهم الخليفة عمر بن الخطاب، وعبد الله بن عباس، فأما الخليفة عمر فتواتر عنه رجوعه إليه

ص: 522


1- اتباع أبي الجارود زياد بن أبي زياد إحدى فرق الزيدية. الملطي: التنبيه ص 23 - 24. البغدادي: الفرق ص 22 - 24. الشهرستاني: الملل والنحل 1 / 211 - 4
2- اتباع الحسن بن صالح بن حي: إحدى فرق الزيدية.. الشهرستاني: الملل والنحل 1 / 216 - 8. الجرجاني: التعريفات ص 69
3- كتاب الذريعة إلى اصول الشريعة للشريف المرتضى. شرحه ابن أبي الحديد في ثلاث مجلدات. أنظر محي الدين: ابن أبي الحديد ص 239
4- الشرح: 1 / 289 - 290
5- الشرح: 18 / 367

في كثير من المسائل التي اشكلت عليه، وعلى غيره من الصحابة حتى قال مرارا (لولا علي لهلك عمر)(1) وقوله (لا بقيت لمعضلة ليس لها أبو الحسن)(2).

وقوله (لا يفتينَّ أحد في المسجد وعلي حاضر)(3).

ومن فتاواه المشهورة فتواه في المرأة التي ولدت لستة أشهر فاراد الخليفة رجمها وقد استنبط الإمام علي علیه السلام من النص القرآني صحة الحمل حيث يقول تعالى:

«وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا»(4).

ثم جاءت آية أخرى حددت مدة الفطام:

«وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ»(5).

ص: 523


1- أنظر القاضي: المغني 20 / 2 / 13. ابن عبد البر: الاستيعاب 3 / 1103. الخوارزمي: مناقب ص 39. سبط ابن الجوزي: تذكرة ص 147. ابن تيمية: منهاج السنة 4 / 160. الجويني: فرائد السمطين ص 337 - 351. ابن الصباغ: الفصول المهمة ص 17. المناوي: فيض القدير 4 / 357
2- أنظر: ابن سعد: الطبقات 2 / 339. ابن عبد البر: الاستيعاب 3 / 1103. البلوي: الف باء 1 / 222. ابن الجوزي: صفة الصفوة 1 / 314. الاربلي: كشف الغمه 1 / 116. الجويني: فرائد ص 344 - 5. ابن كثير: البداية والنهاية 7 / 359 - 360. ابن حجر: الاصابة 2 / 509. تهذيب التهذيب 7/ 337. ابن الصباغ: الفصول المهمة ص 17. السيوطي: تاريخ الخلفاء ص 171. الهيتمي: الصواعق ص 125. القسطلاني: إرشاد الساري 3 / 195. قال ابن المسيب: ولهذا القول سبب وهو ان ملك الروم كتب إلى الخليفة عمر يساله عن مسائل فلم يجد جوابا الا عند عليّ علیه السلام. أنظر نص المسائل في سبط ابن الجوزي: تذكرة ص 133 - 147
3- الشرح: 15 / 247
4- سورة الاحقاًف، الآية: 15
5- سورة البقرة، الآية: 233

أي اربعة وعشرين شهرا، فيبقى ستة أشهر مدة الحمل.(1) وايضا فتواه في الحامل الزانية التي إراد رجمها فقال له الإمام عليّ علیه السلام هذا سلطانك عليها فما سلطانك على ما في بطنها! فتركها حتى ولدت ثم رجمها(2).

واراد الخليفة عمر أخذ حلي الكعبة لتوظيفها في الجهاد واستشار الإمام عليّاً علیه السلام فقال علیه السلام: (إن هذا القرآن أنزل على محمَّدٍ صلی الله علیه و آله وسلم والاموال اربعة: اموال المسلمين فقسمها بين الورثة في الفرائض، والفيء وقسمه على مستحقيه، والخمس فوضعه الله حيث وضعه، والصدقات فجعلها الله حيث جعلها، وكان حلي الكعبة فيها يومئذ، فتركه الله على حاله، ولم يتركه نسيانا، ولم يخف عنه مكانا، فأقرّه حيث أقرَّه الله ورسوله).

هذا الاستدلال قال المعتزلة بصحته إذ يمكن أن يورد بوجهين:

الأول: أصل الأشياء الحظر والتحريم كما هو مذهب أكثر معتزلة بغداد فلا يجوز التصرف في شيء من الأموال والمنافع إلا بإذن شرعي، ولم يوجد إذن شرعي في حلي الكعبة، فبقيت على الاصل.

ص: 524


1- الشرح: 1 / 18 - 19. وانظر: المفيد: الإرشاد ص 80. ابن عبد البر: الاستيعاب 3 / 1103. البيهقي: السنن 7 / 442. الخوارزمي: مناقب ص 50. الصنعاني: المصنف 7 / 349 - 351. سبط ابن الجوزي: تذكرة ص 148. محب الدين: ذخائر العقبى ص 92. الرياض النظرة 2 / 256. الجويني: فرائد ص 346 - 7. السيوطي: الدرة المنثورة 1 / 288. 6 / 40. ابن الديبغ: تيسير الوصول 2 / 2
2- الشرح: 1 / 18 - 19. وانظر: المفيد: الإرشاد ص 80. الخوارزمي: مناقب ص 39.القرطبي: الجامع 16 / 193. ابن طلحة: مطالب السئول ص 36 - 7. الاربلي: كشف الغمة 1 / 110. محب الدين: ذخائرالعقبى ص 91. الجويني: فرائد ص 350 - 351

الثاني: إن حلي الكعبة مال مختص بها، ويجري مجرى ستورها وبابها، فكما لا يجوز التصرف في الستور والباب الا بنص، فكذلك حلي الكعبة، والجامع بينهما الاختصاص الجاعل كل واحد من ذلك كالجزء من الكعبة(1).

ويشار إلى أن الخليفة عمر خاطب الحجر الاسود: (إني لاعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم قبَّلك واستلمك لما قبلتك ولا استلمتك) فقال له الإمام علي علیه السلام: (إنه ليضر وينفع، ولو علمت تأويل ذلك من كتاب الله لعلمت أن الذي أقول لك كما أقول، قال الله سبحانه وتعالى:

«وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى»(2).

فلما اشهدهم واقروا له أنه الرب عزّ وجلّ وأنهم العبيد كتب ميثاقهم في رق ثم القمه هذا الحجر، وإن له لعينين ولسانا وشفتين، تشهد لمن وافاه بالموافاة فهو امين الله عز وجل في هذا المكان، فقال عمر: «لا ابقاني الله بارض لستَ بها يا أبا الحسن»(3).

اما ابن عباس فهو تلميذه وأكثر علمه مأخوذ عن الإمام علي علیه السلام سواء في الفقه أو تفسير القرآن(4).

ص: 525


1- الشرح: 19 / 158 - 159. وانظر: الزمخشري: ربيع الابرار 4 / 26
2- سورة الاعراف، الآية: 172
3- الشرح: 12 / 101. وانظر: ابن ماجة: صحيح 2 / 160. ابن الجوزي: مناقب ص 122 - 3. الحلبي: السيرة الحلبية 1 / 175 - 6. القسطلاني: إرشاد الساري 3 / 195
4- الشرح: 15 / 247

وكان الإمام علي علیه السلام يذهب إلى مخالفة الصحابة في بعض الاحكام الشرعية كقطع يد السارق من رؤوس الاصابع، وبيعه امهات الاولاد، إلا أن الذي يمنعه من تغييرها انشغاله بالحرب أيام خلافته، ولذا كان يقول لقضاته: (اقضوا كما كنتم تقضون حتى يكون للناس جماعة). ولفظة (حتى) تعني أنه أباح لهم اتباع عادتهم في القضايا والاحكام التي يعهدونها إلى أن يصير للناس جماعة (وحدة) وما بعد (إلى وحتى) ينبغي أن يكون مخالفا لما قبلها ويرى المعتزلة أن الإمام علیه السلام كان مجتهدا في احكامه ويجوز لغيره من المجتهدين مخالفته(1).

ومن فتاواه علیه السلام المسألة المنبرية(2) حيث سئل وهو على المنبر عن حصة امرأة معها ابوين وابنتين فقال: صار ثمنها تسعا (وهذه المسألة لو فكر فيها الفرضي

ص: 526


1- الشرح: 19 / 161. اما عند الإمامية فالإمام غير مجتهد وإنما لديه المعرفة بالأحكام الواقعية بعينها وأحكامه كأحكام الرسول صلی الله علیه و آله وسلم
2- سأل رجل الإمام علي علیه السلام وهو على المنبر: ان ابنتي قد مات زوجها ولها من تركته الثمن وقد اعطوها التسع. فاسألك الانصاف. فقال علیه السلام: خلف صهرك بنتين. قال: نعم. قال: وابواه باقيان. قال: نعم. قال: قد صار ثمنها تسعا. فلا تطلب سواه ارثا. أنظر: ابن الاثير: النهاية 3 / 139. الاربلي: كشف الغمة 1 / 130. ابن منظور: لسان العرب 13 / 512 - 513. التوحيدي: البصائر والذخائر 2 / 1 / 148 - 9. سبط ابن الجوزي: تذكرة ص 121. ومن فتاواه أيضاً المسألة الدينارية حيث قالت له امرأة: يا أمير المؤمنين إن اخي مات وخلف ستمائة دينار. وقد دفعوا لي من ماله دينارا واحدا. فقال علیه السلام خلف اخوك بنتين؟ قالت: نعم. قال: لهما الثلثان اربعمائة. وخلّف أماً؟: قالت: نعم. قال: لها السدس مائة. وخلف زوجة؟ قالت: نعم. قال: لها الثمن خمسة وسبعون. وخلف معك اثني عشر اخا. قالت: نعم. قال: لكل اخ ديناران ولك دينار واحد. فقد أخذت حقك فانصرفي. فسميت بالمسألة الدينارية. أنظر: الاربلي: كشف الغمة 1 / 130

طويلا لاستحسن منه بعد طول النظر هذا الجواب، فما ظنك بمن قاله بديهة، واقتضبه ارتجالا)(1).

ومما يؤثر من احكام الإمام عليّ علیه السلام أن العبد التابع إلى بيت المال إذا سرق لا تقطع يده، واما البعيد عنه فتقطع، وهذا مطابق لرؤية الإمامية في أن عبد المغنم إذا سرق من المغنم لا تقطع يده، اما العبد الغريب إذا سرق منه فتقطع إذا كان ما سرقه زائدا عما يستحقه من القيمة بمقدار النصاب الذي يجب فيه القطع، وهو ربع دينار، وكذلك الحر إذا سرق من المغنم حكمه هذا الحكم بعينه فوجب أن يحمل كلام الإمام علیه السلام على ان العبد المقطوع كان قد سرق ازيد من حقه من القيمة بمقدار النصاب المذكور أو أكثر(2).

ومن خلال كتابه لقاضيه شريح القاضي(3) اوضح فيه كيفية بيع الاملاك، أشار ابن أبي الحديد ان طريقته تطابق ما موجود في عصر ابن أبي الحديد (وهذا يدل على أن الشروط المكتوبة الآن قد كانت في زمن الصحابة تكتب مثلها أو نحوها الا أنا ما سمعنا من أحد منهم أنه نقل صيغة الشرط الفقهي إلى معنى آخر، كما قد نظمه هو علیه السلام، ولا غرو فما زال سباقاً إلى

ص: 527


1- الشرح: 1 / 18 - 19
2- الشرح: 19 / 160
3- أبو أمية شريح القاضي ادرك الجاهلية. ويعد من التابعين تولى القضاء في الكوفة منذ عهد الخليفة عمر وحتى وفاته أيام الحجاج سنة 87 ه مما يثير ذلك الاستغراب. أنظر ابن عبد البر: الاستيعاب 2 / 701 - 2. ابن حجر: الاصابة 2 / 146. وانظر الدوري: القاضي شريح وآراؤه الفقهية. رسالة ماجستير ص 5 - 224

العجائب والغرائب)(1).

وكان علیه السلام يجيز اقامة وكيل عن الشخص في الخصومة وهو شاهد(2) ويرى علیه السلام انه لا قربة بالنوافل إذا اضرت بالفرائض، حيث لا يصح التنفل ممن عليه قضاء فريضة فاتته لا في صلاة ولا في غيرها(3).

وبذلك أصبح الإمام علي علیه السلام أصل المذاهب الفقهية، فإن اصحاب الامام أبي حنيفة كابي يوسف(4) ومحمد بن الحسن(5) اخذوا عن أبي حنيفة. والشافعي قرأ على محمد بن الحسن فيرجع فقهه لأبي حنيفة، اما احمد بن حنبل فقرأ على الشافعي، فيرجع أيضاً لأبي حنيفة، وأبو حنيفة قرأ على الإمام جعفر الصَّادق علیه السلام، والصَّادق علیه السلام قرأ على أبيه محمَّد الباقر علیه السلام حتى ينتهي الأمر إلى الإمام عليّ بن أبي طالب علیه السلام، اما مالك بن أنس فقد قرأ على

ص: 528


1- الشرح: 14 / 27، 31
2- الشرح: 19 / 107
3- الشرح: 18 / 158
4- هو يعقوب بن ابراهيم الانصاري (113 - 182 ه) تلميذ الامام أبي حنيفة وأول من نشر مذهبه. تولى القضاء حتى وفاته واشتهر بكتابة الخراج. أنظر ابن النديم: الفهرست ص 286. القرشي: الجواهر المضية 2 / 220 - 2. ابن قطلو بغا: تاج التراجم ص 81. اللكنوي: الفوائد البهية ص 226
5- تلميذ الامام أبي حنيفة وممن نشر مذهبه (131 - 189) تولى القضاء ومات في الري. ابن النديم: الفهرست ص 287 - 8. الخطيب: تاريخ بغداد 2 / 172 - 182. القرشي: الجواهر المضية 2 / 42 - 44. اللكنوي: الفوائد البهية ص 163

ربيعة الرأي(1)، وربيعه قرأ على عكرمة(2) وعكرمة قرأ على ابن عباس والمعروف ان ابن عباس هو تلميذ الإمام علي علیه السلام، وكذلك فإن الشافعي، درس من طريق آخر على مالك ومالك يرجع فقهه للامام علي علیه السلام. واما فقه الشيعة فرجوعه إليه واضح(3).

هذه الاضاءات القليلة تنبئ على ان نهج البلاغة يعد مصدراً للفقيه الذي يرغب في أن يكون نافذ الفكر مستنير البصيرة(4).

ص: 529


1- ربيعة بن فروخ التيمي ت 136 ه. لقب بربيعة الراي لأنه يقول برأيه إذا لم يجد حديثا. ابن النديم: الفهرست ص 285. ابن الجوزي: صفة الصفوة 2 / 177. الخطيب: تاريخ بغداد 8 / 420. ابن خلكان: وفيات الاعيان 1 / 288 - 290. الذهبي: تذكرة الحفاظ 1 / 157 - 8
2- عكرمة بن عبد الله البربري مولى بن عباس (25 - 105) من التابعين طاف البلدان. واستقر فترة في المغرب حيث الخوارج هناك ثم عاد ومات بالمدينة. ابن سعد: الطبقات 2 / 385. أبو نعيم: حلية الاولياء 3 / 326 - 347
3- الشرح: 1 / 18. طرحت العثمانية فكرة مغايرة لذلك وانتقدت القائلين بأسبقية الإمام علیه السلام في علم الفقه. أنظر رسائل الجاحظ السياسية ص 185 - 190. وقال أيضاً برأي العثمانية. ابن تيمية: منهاج السنة 4 / 143 - 4
4- العزيزي: الإمام علي علیه السلام اسد الإسلام ص 225

ص: 530

المبحث الخامس الإمام علي علیه السلام وعلوم القرآن

كان الإمام علي علیه السلام المنظور إليه في هذا الباب، حيث اتفق الكل على حفظه للقران على عهد النبي صلی الله علیه و آله وسلم وهو أول من جمعه بعد وفاة النبَّيّ صلی الله علیه و آله وسلم حيث يرى أهل الحديث انه تشاغل بجمع القرآن، وهذا يدل على أنه أول من جمعه، لأنه لو كان مجموعا في حياة الرسول صلی الله علیه و آله وسلم لما احتاج أن يتشاغل بجمعه(1).

لقد اولى الإمام علي علیه السلام القرآن الكريم عنايته في التأكيد عليه، وايضاح اهميته ومكانته فمن اقواله فيه: (إن الله سبحانه وتعالى أنزل كتابا هاديا بیّن فيه الخير والشر، فخذوا نهج الخير تهتدوا، واصدفوا عن سمت الشر تقصدوا)(2).

وقال أيضاً: (واعلموا أن هذا القرآن هو الناصح الذي لا يغش، والهادي الذي لا يضل، والمحدث الذي لا يكذب، وما جالس هذا القرآن أحداً إلَّا قام عنه بزيادة أو نقصان، زيادة في هدى، أو نقصان من عمى، واعلموا أنه ليس

ص: 531


1- الشرح: 1 / 27. ولمزيد من التفاصيل عن علاقة الامام بالقرآن. أنظر التستري: بهج الصباغة 13 / 1 - 94
2- الشرح: 9 / 288

على أحد بعد القرآن من فاقة، ولا لأحد قبل القرآن من غنى، فاستشفوه من ادوائكم، واستعينوا به على آرائكم، فإن فيه شفاء من اكبر الداء وهو الكفر والنفاق، والغي والضلال، فأسالوا الله به، وتوجهوا إليه بحبه، ولا تسألوا به خلقه، إنه ما توجه العباد إلى الله بمثله، واعلموا أنه شافع ومشفع، وقائل ومصدق، وانه من شفع له القرآن يوم القيامة شفع فيه، ومن محل به القرآن يوم القيامة صدق عليه، فإنه ينادى منادٍ يوم القيامة: ألا إن كل حارث مبتلى في حرثه وعاقبة عمله، غير حرثة القرآن. فكونوا من حرثته واتباعه، واستدلوه على ربكم، واستنصحوه على انفسكم، واتهموا عليه ارائكم، واستشفعوا فيه اهوائكم)(1).

وقال أيضاً: (فالقرآن آمر زاجر، وصامت ناطق، حجة الله على خلقه، أخذ عليهم ميثاقهم، وارتهن عليهم أنفسهم، أتم نوره، واكرم به دينه، وقبض نبيه صلی الله علیه و آله وسلم وقد فرغ إلى الخلق من احكام الهدى به)(2).

وقال بعد تلاوته لقوله تعالى:

«يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ»(3).

و (إن الله سبحانه وتعالى جعل الذكر جلاء للقلوب تسمع به بعد الوقرة، وتبصر به بعد العشوة، وتنقاد به بعد المعاندة)(4).

ص: 532


1- الشرح: 10 / 18 - 19
2- الشرح: 10 / 115
3- سورة النور، الآية: 36 - 37
4- الشرح: 11 / 176

وقال أيضاً: (وكتاب الله بين اظهركم ناطق لا يعيا لسانه وبيت لا تهدم اركانه، وعز لا تهزم اعوانه)(1).

وقال: (كتاب الله تبصرون به، وتنطقون به، وتسمعون به، وينطق بعضه ببعض، ويشهد بعضه على بعض، ولا يختلف في الله، ولا يخالفه بصاحبه عن الله)(2).

هذه الملامح فيها إشارة إلى مدى العلاقة الوثيقة بين الامام والنص القرآني، وقد اتضحت في خصوصية فهمه علیه السلام إلى درجة يصورها في قوله لمن سأله: (هل عندكم شيء من الوحي؟ فقال: لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، إلا أن يعطي الله عبدا فهما في كتابه). وإنعام النظر في قوله علیه السلام يثبت أن أقل ما يدل عليه إن ما نقل عنه من اعاجيب المعارف الصادرة عن مقامه العلمي الذي يدهش العقول مأخوذ من القرآن الكريم، لذا أصبح علیه السلام دائرة معارف القرآن(3).

ومن خلال ملاحظة ما جاء في كلامه علیه السلام عن القرآن، نجد فيه احسن ما ورد في تعظيمه واجلاله(4). وقد شهد النبي صلی الله علیه و آله وسلم بتلك العلاقة الوثقى، بين القرآن والإمام علي علیه السلام بقوله: (عليّ مع القرآن، والقران مع عليّ لا يفترقان حتى يردا عَلَیَّ الحوض)(5).

ص: 533


1- الشرح: 8 / 273
2- الشرح: 8 / 287
3- الاعرجي: منهج المتكلمين في فهم النص القرآني ص 18 - 19
4- الشرح: 10 / 2
5- اخرجه: الحاكم: المستدرك 3 / 134. الخوارزمي: المناقب ص 110 - 111. الذهبي: تلخيص المستدرك 3 / 134. السيوطي: تاريخ الخلفاء ص 173. السيوطي: الجامع الصغير 4 / 356. المتقي الهندي: كنز العمال 12 / 203. الهيتمي: الصواعق ص 122. 124

لذا نجد الإمام عليّاً علیه السلام أصبح مصدرا لعلوم القرآن كعلم القراءات حيث أن أئمة القراءات يرجعون إليه مثل أبي عمرو بن العلاء(1) وعاصم بن أبي النجود(2) وغيرهما لأنهما يرجعان لأبي عبد الرحمن السلمي(3) القارئ، وهو تلميذ الإمام علي علیه السلام وعنه أخذ القرآن فصار فن القراءات من الفنون التي تنتهي إلى الإمام علي علیه السلام(4).

اما في علم التفسير فكان المعوّل عليه، حيث عنه أخذ ابن عباس (وقد علم الناس حال ابن عباس في ملازمته له، وانقطاعه إليه، وأنه تلميذه وخريجه، وقيل له: أين علمك من علم ابن عمّك؟ فقال: كنسبة قطرة من المطر إلى البحر المحيط)(5).

وكان علیه السلام يقول: (لقد علمت تبليغ الرسالات، وإتمام العدات، وتمام الكلمات…) والمقصود بعلم تمام كلمات الله تعالى أي تأويلها وبيانها الذي يتم

ص: 534


1- هو زبان بن العلاء المازني أخذ عنه مشايخ البصريين. أنظر ابن النديم: الفهرست ص 42 - 46. الذهبي: معرفة القراء الكبار 1 / 83
2- الكوفي الاسدي بالولاء ت 127 أو 128 ه. يعد في التابعين. أنظر ابن النديم: الفهرست ص 43. الذهبي: العبر 1 / 128. الذهبي: معرفة القراء الكبار 1 / 73. ميزان الاعتدال 2 / 357 - 8. الجزري: غاية النهاية 1 / 346
3- عبد الله بن حبيب الكوفي تصدر الاقراء أيام عثمان بن عفان حتى توفي سنة 73 ه. أبو نعيم: حلية الاولياء 4 / 191 - 195. السمعاني: الانساب 7 / 181. الذهبي: تذكرة الحفاظ 1 / 58. الذهبي: معرفة القراء الكبار 1 / 45
4- الشرح: 1 / 27 - 28
5- الشرح: 1 / 19. 15 / 247

به، لأن في كلامه تعالى المجمل الذي لا يستغني عن متم ومبيّن يوضحه(1).

ولما كان الإمام عليّ علیه السلام ملمّاً بأساليب القرآن لذا نصح رسوله للخوارج (ابن عباس) بان لا يحاججهم بالقران (لأن القرآن حمال ذو وجوه) حيث أنه كثير الاشتباه، فهناك ايات تفيد رؤية الله(2) واخرى تنفيها(3) وايات تشير إلى أن الهداية والضلالة من الله(4) واخرى تنسبها للانسان(5). ثم أن القرآن ناسخ ومنسوخ، ومن اجل ذلك دعا الإمام عليّ علیه السلام ابن عباس للمحاججة بالسنّة النبوية لخلوها من هذه الاشكالات(6).

وفي علم أسباب النزول أشار الإمام علي علیه السلام إلى أن أول آية من سورة العنكبوت وهي (الم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا امنا وهم لا يفتنون…).

إنها نزلت بعد معركة بدر، في الوقت الذي أشار المفسرون أنها مكية(7)، والملاحظ أن هذه الآية ربما تكون وحدها نزلت بعد معركة بدر، وكذا الحال في سورة النحل(8) التي هي مكية ما عدا الآيات الثلاث الأخيرة التي نزلت

ص: 535


1- الشرح: 7 / 289
2- كقوله تعالى: «وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ». سورة القيامة، الآية: 23
3- كقوله تعالى: «لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ». سورة الانعام، الآية: 103
4- كقوله تعالى: «فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ». سورة ابراهيم، الآية: 4
5- كقوله تعالى: «فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ». سورة الزلزال 7 - 8
6- الشرح: 18 / 71 - 73
7- أنظر: الطوسي: التبيان 8 / 185. القرطبي: الجامع 13 / 323
8- أنظر: الطوسي: التبيان 6 / 357. القرطبي: الجامع 10 / 65

بالمدينة بعد معركة أحد(1).

وكان علیه السلام يؤكد معرفته باسباب النزول بقوله: (سلوني عن كتاب الله، والله ما من آية إلَّا أنا أعلم إنَّها بليل نزلت أم بنهار أم بسهل نزلت أم بجبلٍ)(2).

ص: 536


1- الشرح: 9 / 207
2- أنظر: ابن سعد: الطبقات 2 / 338. الأزرقي: اخبار مكة 1 / 50. البلاذري: انساب 2 / 99. ابن عبد البر: الاستيعاب 3 / 1107. جامع بيان العلم وفضله 1 / 114. الخوارزمي: المناقب ص 49. البلوي: الف باء 1 / 222. محب الدين: الرياض النظرة 2 / 262. ابن حجر: الاصابة 2 / 509. تهذيب التهذيب 7 / 338. السيوطي: تاريخ الخلفاء ص 185. الهيتمي: الصواعق ص 126

المبحث السادس الإمام علي علیه السلام والنحو والبلاغة

اشارة

علم النحو:

يعد علم النحو من علوم اللغة العربية التي ابتدعها الإمام علیه السلام، فالمعروف أنه أملى على أبي الأسود الدؤلي جوامعه وأصوله التي منها: الكلام على ثلاثة أقسام:

اسم وفعل وحرف. والكلمة: إما نكرة أو معرفة. وتقسيم وجوه الإعراب من حيث الرفع والنصب والجر والجزم. إن هذا الإلمام «يكاد يلحق بالمعجزات لأن القوة البشرية لا تفي بهذا الحصر، ولا تنهض بهذا الاستنباط»(1).

كان أبو الأسود الدؤلي أول من وضع علم النحو بإشارة من الإمام علي علیه السلام(2). قال الأنباري «وقال أبو عبيدة معمر بن المثنى وغيره: أخذ أبو

ص: 537


1- ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة 1 / 20. أبو هلال العسكري: الأوائل ص 296 - 298. الحموي: معجم الأدباء 14 / 42 - 49. ابن الأثير: المثل السائر 1 / 61. ابن تيمية: منهاج السنة 4 / 142. السيوطي: تاريخ الخلفاء ص 181
2- أبو الطيب: مراتب النحويين ص 20، أبو هلال: الأوائل ص 267، ابن النديم: الفهرست ص 45، المفيد: الفصول المختارة ص 91، القفطي: أنباه الرواة 1 / 39 - 40، المازنداني: شرح أصول الكافي 2 / 298، المجلسي: بحار الأنوار 41 / 142، الشيرازي: كتاب الأربعين ص 415

الأسود النحو عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه»(1).

ويذكر الانباري أيضا(2): «أعلم أيدك الله تعالى بالتوفيق، وأرشدك إلى سواء الطريق، أن أول من وضع علم العربية، وأسس قواعده، وحدّ حدوده، أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، واخذ عنه أبو الأسود... وسبب وضع علي رضي الله عنه لهذا العلم، ما روى أبو الأسود، قال: دخلت على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فوجدت في يده رقعة، فقلت: ما هذه يا أمير المؤمنين؟ فقال: إني تأملت كلام الناس فوجدته قد فسد بمخالطة هذه الحمراء - يعني الأعاجم - فأردت أن أضع لهم شيئا يرجعون إليه، ويعتمدون عليه، ثم ألقى إليه الرقعة، وفيها مكتوب، الكلام كله اسم، وفعل، وحرف، فالاسم ما أنبأ عن المسمى، والفعل ما أنبأ به، والحرف ما جاء لمعنى، وقال لي: انح هذا النحو، وأضف إليه ما وقع إليك، وأعلم يا أبا الأسود، إن الأسماء ثلاثة، ظاهر، ومضمر، واسم لا ظاهر ولا مضمر، وإنما يتفاضل الناس يا أبا الأسود فيما ليس بظاهر ولا مضمر، وأراد بذلك الاسم المبهم.

قال أبو الأسود: فكان ما وقع إلي «إن» وأخواتها ما خلا «لكن». فلما عرضتها على علي رضي الله عنه، قال لي: وأين لكن؟ فقال: ما حسبتها منها، فقال: هي منها فألحقها، ثم قال: ما أحسن هذا النحو الذي نحوت! فلذلك سمي النحو نحوا».

وذكر الأنباري أيضا «وروي أن سبب وضع علي رضي الله عنه لهذا العلم

ص: 538


1- الأنباري: نزهة الالباء في طبقات الأدباء ص 18 - 19
2- الأنباري: نزهة الالباء في طبقات الأدباء ص 14 - 15

أنه سمع أعرابيا يقرأ «لا يأكله إلا الخاطئين»(1)، فوضع النحو(2).

وبعد أن يستعرض الأنباري الآراء في من هو صاحب الريادة في وضع علم النحو يخلص للقول: «والصحيح أن أول من وضع النحو علي بن أبي طالب رضي الله عنه، لأن الروايات كلها تسند إلى أبي الأسود، وأبو الأسود يسند إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فإنه روي عن أبي الأسود أنه سئل فقيل له: من أين لك هذا النحو؟ فقال: لفقت حدوده من علي بن أبي طالب رضي الله عنه»(3).

البلاغة:

البلاغة هي مطابقة الكلام لمقتضى الحال مع فصاحته، والمقصود بالمطابقة أن يكون الكلام مناسبا لحال السامع حيث ان الناس طبقات ولذلك تختلف اساليب الكلام تبعا لاختلاف حال السامع، اما الفصاحة فهي أن تكون الالفاظ سهلة واضحة عذبة خفيفة الحركات جارية على القياس الصرفي، وليس هناك تنافر بين حروفها، وأن يكون التركيب (الكلام المؤلف) خاليا من الغموض والتعقيد والتكرار(4).

كان الإمام علي علیه السلام من الفصاحة بمكان فهو امام الفصحاء وسيد البلغاء

ص: 539


1- الصحيح «لا يأكله إلا الخاطئون». سورة الحاقة، الآية: 37
2- الأنباري: نزهة الالباء في طبقات الأدباء ص 17
3- الأنباري: نزهة الالباء في طبقات الأدباء ص 19 - 20
4- أنظر معاني متعددة في ابن رشيق: العمدة 1 / 241 - 250. الجرجاني: التعريفات ص 26. الحلاوي: البلاغة والتطبيق ص 7 - 8

وفي كلامه قيل (دون كلام الخالق، وفوق كلام المخلوقين). ومنه تعلم الناس الخطابة والكتابة حيث حفظ عبد الحميد بن يحيى الكاتب(1) سبعيناً من خطبه علیه السلام. وحفظ ابن نباتة(2) (كنزا لا يزيده الانفاق الا سعة وكثرة، حيث حفظ مائة فصل من مواعظه(3).

وقد شهد معاوية له بهذا الامتياز فلما دخل عليه محفن بن أبي محفن قائلا له:

(جئتك من عند اعيا(4) الناس. فقال معاوية: ويحك! كيف يكون اعيا الناس! فوالله ما سن الفصاحة لقريش غيره)(5).

ويكفي كتاب نهج البلاغة في الاشارة على أنه علیه السلام لا يجارى في الفصاحة، ولا يبارى في الفصاحة، حيث لم يدون لأحد من فصحاء الصحابة(6) العشر ولا نصف العشر مما دوَّن له، وقد حفظ الجاحظ أحد معتزلة البصرة، في كتابه

ص: 540


1- هو عبد الحميد بن يحيى بن سعد العامري بالولاء اختص بمروان بن محمد وقتل معه، وكان يضرب به المثل في البلاغة، أنظر الجهشياري: الوزراء والكتاب ص 72 - 83. ابن خلكان: الوفيات 3 / 228 - 232. ابن نباتة: سرح العيون ص 162 - 5
2- عبد الرحيم بن محمد بن اسماعيل بن نباتة الفارقي (335 - 374 ه) ولد في ميافارقين وسكن حلب ودخل في خدمة سيف الدولة الحمداني وكان الأخير كثير الغزوات فاكثر ابن نباتة من الخطب الجهادية. أنظر ابن خلكان: الوفيات 3 / 156 - 8. الذهبي: العبر 2 / 143
3- الشرح: 1 / 24 - 25
4- العي ضد البيان أي ليست لديه القدرة على الكلام الفصيح، الرازي: مختار الصحاح ص 467
5- الشرح: 1 / 24 - 25، 15 / 247
6- قال المدائني: كان أبو بكر خطيبا وكان عمر خطيبا وكان عثمان خطيبا وكان علي اخطبهم، أنظر الجاحظ: البيان والتبين 1 / 353

البيان والتبين(1) الكثير من خطبه(2).

فلما أورد الجاحظ قوله علیه السلام: (قيمة كل امريءٍ ما يحسن) علق قائلا: (لو لم نقف من هذا الكتاب الا على هذه الكلمة لوجدناها شافية، ومجزئة مغنية، بل لوجدناها فاضلة عن الكفاية، وغير مقصرة عن الغاية. واحسن الكلام ما كان قليله يغنيك عن كثيره، ومعناه في ظاهر لفظه، وكأن الله عزّ وجلّ قد البسه من الجلالة، وغشاه من نور الحكمة على حسب نية صاحبه وتقوى قائله. فإذا كان المعنى شريفا، واللفظ بليغا، وكان صحيح الطبع بعيدا من الاستكراه، ومنزها عن الاختلال، مصونا عن التكلف، صنع في القلوب صنع الغيث في التربة الكريمة، ومتى فصلت الكلمة على هذه الشريطة، ونفذت من قائلها على هذه الصفة، اصحبها الله من التوفيق، ومنحها من التأييد، ما لا يمتنع معه من تعظيمها صدور الجبابرة، ولا يذهل عن فهمها معه عقول الجهلة)(3).

لقد كان الإمام علي علیه السلام افصح من كل ناطق بلغة العرب من الأولين والآخرين، الا كلام الله سبحانه وكلام رسوله صلی الله علیه و آله وسلم: (وذلك لأنّ فضيلة الخطيب والكاتب في خطابته وكتابته تعتمد على امرين هما: مفردات الالفاظ ومركباتها. اما المفردات، فأن تكون سهلة سلسة غير وحشية ولا معقدة، والفاظه علیه السلام كلها كذلك، واما المركبات فحسن المعنى وسرعة وصوله إلى

ص: 541


1- 1 / 83، 202، 256، 297. 2 / 14، 20 - 22، 50 - 56، 77 - 78، 88، 99، 101، 106، 165، 172، 190، 197، 200، 274، 279، 285، 311، 316، 350، 3 / 98، 141، 148، 155، 211، 260، 274 - 5، 285، 301، 4 / 8، 93
2- الشرح: 1 / 25
3- البيان والتبيين 1 / 83. وانظر كلمة الامام لدى سبط ابن الجوزي: تذكرة ص 154

الافهام، واشتماله على الصفات التي باعتبارها فضل بعض الكلام على بعض، وتلك الصفات هي الصناعة التي سماها المتأخرون البديع من المقابلة والمطابقة، وحسن التقسيم، وردّ آخر الكلام على صدره، والترصيع(1) والتسهيم(2) والتوشيح(3) والمماثلة، والاستعارة، ولطافة استعمال المجاز، والموازنة، والتكافؤ، والتسميط(4) والمشاكلة).

إن هذه الاساليب كلها موجودة في خطبه علیه السلام وكتبه مبثوثة ومتفرقة في فرش كلامه علیه السلام وليس يوجد هذان الامران في كلام أحد غيره، فإن كان علیه السلام قد تعلمها، وفكر فيها، واعمل رويته في رصفها ونثرها، فقد أتى بالعجب العجاب، لذا وجب أن يكون امام الناس في ذلك، لأنه المبتكر له، ولم يعرف من قبله، اما إذا كان قد اقتضبها ابتداء، وفاضت على لسانه مرتجلة، وجاش بها طبعه بديهه، من غير روية، ولا اعتمال فأعجب وأعجب! وعلى كلا الامرين فلقد جاء مجليا، والفصحاء تنقطع انفاسهم على اثره (وأعلم أن تكلف الاستدلال على أن الشمس مضيئة يتعب، وصاحبه منسوب

ص: 542


1- هو أن تكون الالفاظ مستوية الاوزان متفقة الاعجاز كقوله تعالى: «إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ». وقوله تعالى: «إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ». أنظر ابن رشيق: العمدة 2 / 26. الخوارزمي: مفاتيح العلوم ص 47. الجرجاني: التعريفات ص 30
2- هو أن يكون معنى البيت مقتفيا قافيته وشاهدا بها دالا عليها. ابن رشيق: العمدة 2 / 32 - 34
3- هو نفس التسهيم. ابن رشيق: العمدة 2 / 31
4- هو تصيير كل بيت اربعة اقسام ثلاثتها على سجع واحد مع مراعاة القافية في الرابع حتى تنقضي القصيدة، الخوارزمي: مفاتيح العلوم ص 61. الجرجاني: التعريفات ص 31، 700

إلى السفه، وليس جاحد الامور المعلومة علما ضروريا، باشد سفها مما رام الاستدلال بالأدلة النظرية عليها)(1) لقد اطلق على بعض خطبه علیه السلام اسماء لشهرتها، كخطبة الاشباح أي الملائكة، التي اثارت اعجاب ابن أبي الحديد فقال عنها: (هذا موضع المثل (إذا جاء نهر الله بطل نهر معقل»(2) إذا جاء هذا الكلام الرباني واللفظ القدسي بطلت فصاحة العرب، وكانت نسبة الفصيح من كلامها إليه، كنسبة التراب إلى النضار الخالص، وحتى لو افترضنا أن العرب تقدر على الالفاظ الفصيحة المناسبة أو المقاربة لهذه الالفاظ لكن من أين لهم المادة التي عبرت هذه الالفاظ عنها! ومن أين تعرف الجاهلية بل الصحابة المعاصرون للرَّسول صلی الله علیه و آله وسلم هذه المعاني الغامضة السمائية، ليتهيأ لها التعبير عنها! اما الجاهلية فإنهم إنما كانت تظهر فصاحتهم في صفة بعير أو فرس أو حمار وحش أو ثور فلاة، أو صفة جبال، أو فلوات، ونحو ذلك.

اما بالنسبة للصحابة، فالمذكور منهم بفصاحة إنما كان منتهى فصاحة احدهم كلمات لا تتجاوز السطرين أو الثلاثة، إما في موعظة تتضمن ذكر الموت، أو ذم الدنيا، أو ما يتعلق بحرب أو قتال ترغيبا أو ترهيبا)(3).

في حين ان الكلام في الملائكة وصفاتها، وصورها وعباداتها، وتسبيحها ومعرفتها بخالقها وحبها له، وولهها إليه، وما جرى مجرى ذلك لما يتضمنه كلام

ص: 543


1- الشرح: 6 / 278 - 279
2- الميداني: مجمع الامثال 1 / 88. نسبة إلى الصحابي معقل بن يسار المزني، حيث لما حفر زياد نهراً بالبصرة وأراد فتحه، أشهد معقل بن يسار فنسب النهر إليه. الزمخشري: ربيع الابرار 1 / 226 - 227
3- الشرح: 6 / 425 - 426

الإمام في هذه الخطبة، فإذا لم يكن معروفا عند الجاهلية ولا الصحابة تفصيل بهكذا وقد يكونوا علموه جملة غير مقسمة هذا التقسيم ولا مرتبة هذا الترتيب، بما سمعوه من ذكر الملائكة في القرآن العظيم(1).

اما من كان له علم بهذا الموضوع كعبد الله بن سلام(2) - أحد إليهود - وامية بن أبي الصلت(3) فلم تكن لهم هذه العبادة، ولا قدروا على هذه الفصاحة، إذن ثبت أن هذه الامور الدقيقة في مثل هذه العبادة الفصيحة، لم تحصل ألا للإمام علیه السلام وحده «واقسم ان هذه الكلام إذا تأمله اللبيب، اقشعر جلده، ورجف قلبه، واستشعر عظمة الله في روعه وجلده، وهام نحوه، وغلب الوجد عليه، وكاد أن يخرج من مسكه شوقاً، وأن يفارق هيكله صبابة ووجدا)(4).

كان علیه السلام على درجة من التمكن في استخدام الألفاظ في ما يناسبها، فيعطي المتباعدات لفظه (مقرب)، لأن البعد بإزاء القرب ويعطي المتباينات لفظه (مقارن) لأن البينونة بإزاء المقارنة، واعطى المتعاديات لفظه (مؤلف) لأن الإتلاف بإزاء التعادي(5).

ص: 544


1- الشرح: 6 / 426
2- هو عبد الله بن سلام بن الحارث ممن أسلم من إليهود في عصر النبي صلی الله علیه و آله وسلم توفي سنة 43 ه. أنظر: ابن سعد: الطبقات 2 / 352 - 1. مسلم: صحيح 16 / 41. الحاكم: المستدرك 3 / 467 - 471. ابن عبد البر:الاستيعاب 3 / 921. ابن حجر: الإصابة 2 / 320 - 321
3- أمية بن عبدالله أبي الصلت بن أبي ربيعة الثقفي، كان ممن نبذ عبادة الأصنام، وحرم على نفسه الخمر، وادرك الإسلام ولم يسلم. ت 5ه. ابن قتيبة: الشعر والشعراء 369 - 372. النووي تهذيب الاسماء 1 / 1 / 126 الآلوسي: بلوغ الارب 2 / 253، 3 / 21
4- الشرح 6 / 426
5- الشرح 13 / 74 - 75

ووقف ابن أبي الحديد معجباً بأسلوب كتاب ارسله الامام لابن عباس بعد مقتل محمد بن أبي بكر قائلاً «أنظر إلى الفصاحة كيف تعطي هذا الرجل قيادها، وتملكه زمامها، واعجب لهذه الالفاظ المنصوبة، يتلو بعضها بعضاً كيف تواتيه وتطاوعه، سلسة سهلة، تتدفق من غير تعسف ولا تكلف، حتى انتهى إلى آخر الفصل فقال «يوماً واحداً ولا التقي بهم أبداً» وأنت وغيرك من الفصحاء، إذا شرعوا في كتاب أو خطبه، جاءت القرائن أو الفواصل تارة مرفوعة، وتارة منصوبة، فإن أرادوا قسرها بإعراب واحد. ظهر منها في التكلف أثر بيّن، وعلامة واضحة»(1).

هذا الصنف من البيان هو أحد انواع الاعجاز القرآني، (أنظر إلى سورة الناس وبعدها سورة المائدة، الاولى منصوبة الفواصل والثانية ليس فيها منصوب اصلا ولو مزجت إحدى السورتين بالاخرى لم تمتزجا، وظهر أثر التركيب والتأليف بينهما)(2).

ثم إن هذه الفواصل في كلام الإمام علي علیه السلام تساق سياقة بمقتضى البيان الطبيعي لا حسب الصناعة التكليفية. «ثم أنظر إلى الصفات والموصوفات في هذا الفصل كيف قال: (ولداً ناصحاً) و (عاملا كادحاً) و (سيفا قاطعاً) و (ركناً دافعاً) ولو قال: (ولداً كادحاً) و (عاملا ناصحاً) وكذلك ما بعده لما كان صوابا، ولا في الموقع واقعا»(3).

إن هذه البلاغة جعلت من أبي الحديد يتعجب قائلا (فسبحان من منح هذا الرجل هذه المزايا النفيسة، والخصائص الشريفة! أن يكون غلام من ابناء عرب

ص: 545


1- الشرح: 16 / 145 - 146
2- الشرح: 16 / 146
3- الشرح: 16 / 146

مكة، ينشأ بين أهله… وخرج افصح من سحبان(1) وقس(2)، ولم تكن قريش بافصح العرب، كان غيرها افصح منها، قالوا افصح العرب جرهم، وإن لم تكن لهم نباهة…. ولا غرو فيمن كان محمد صلی الله علیه و آله وسلم مربيه ومخرجه، والعناية الإلهية تمده وترفده أن يكون منه ما كان)(3).

وكان علیه السلام أيضاً مقتدرا على التصرف في المعنى فعلى سبيل المثال نجده دائما يذم الدنيا ولكنه أيضاً احيانا يمدحها، وهو صادق في المدح والذم(4).

وقد لاقى كلامه علیه السلام استحسانا لدى من كان له باع مشهود في البلاغة حيث يقول الشريف الرضي عن الخطبة الحادية والعشرين: (إن هذا الكلام لو وزن بعد كلام الله سبحانه، وبعد كلام رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم بكل كلام لمال به راجحا وبرز عليه سابقا)(5). ووصف الخطبة رقم (48) بأن فيها (من غريب العبارات وعجيبها)(6). وقد خصص الشريف الرضي آخر كتابه نهج البلاغة(7) لقصار

ص: 546


1- سحبان بن زفر بن اياس ت 54 ه، أحد خطباء العرب. خطب امام معاوية من الظهر حتى العصر. أبو هلال العسكري: جمهرة الامثال 1 / 248 - 9. ابن حجر: الاصابة 2 / 109. الآلوسي: بلوغ الارب 3 / 156
2- قس بن ساعدة الايادي أول من خطب على عصا، ت 23 ق ه. الجاحظ: البيان والتبين 1 / 42 - 3. 45، 52، 308 - 309. أبو هلال العسكري: جمهرة الامثال 1 / 249. المرزباني: معجم الشعراء ص 338
3- الشرح: 16 / 146 - 147
4- الشرح: 18 / 326
5- الشرح: 1 / 301
6- الشرح: 3 / 200
7- نهج البلاغة ص 469 - 559

كلمات الامام والتي كانت على ايجازها في منتهى الفصاحة، وقد وصف ابن أبي الحديد هذا الباب بأنه: (كالروح من البدن، والسواد من العين، وهو الدرة المكنونة التي سائر الكتاب صدفها)(1). لذا نجده يعلق على بعض من هذه الكلمات بالثناء ومنها:

كلام الإمام تعليق ابن أبي الحديد الصفحة ملكتني عيني من فصيح الكلام يريد علیه السلام غلبني النوم. 6 / 12 ونسأله المعافاة في الأديان كما نسأله المعافاة في الأبدان لقد اظرف علیه السلام وابدع، وذلك لأن للاديان سقماً وطباً وشفاءً، كما أن للابدان سقماً وطباً وشفاءً.

7 / 81 افأعبد ما لا أرى! مقام رفيع جداً لا يصلح أن يقوله غيره. 10 / 64 العار أمامكم والجنة أمامكم. هذا كلام شريف جداً. 9 / 303 فإن البخل والحرص غرائز شتى يجمعها سوء الظن بالله.

هذا كلام شريف من كلام الحكماء. 17 / 41

ص: 547


1- الشرح: 18 / 81

المرء مخبوء تحت لسانه.

هذه اللفظة لا نظير لها في الايجاز والدلالة على المعنى وهي من ألفاظه علیه السلام المعدودة.

18 / 353 تكلموا تُعرفوا، فإن المرء مخبوء تحت لسانه.

هذه إحدى كلماته التي لا قيمة لها، ولا يقدر قدرها. 19 / 340 هلك امرؤ لم يعرف قدره هذه الكلمة من كلماته المعدودة. 18 / 355 ما أكثر العبر وأقل الاعتبار ما اوجز هذه الكلمة وما أعظم فائدتها! 19 / 203 الناس أعداء ما جهلوا هذه من الفاظه الشريفة التي لا نظيرلها. 20 / 86 أو تعتدل على عقول أهل الدنيا هذا كلام لطيف فصيح غامض، ومعناه أن غمرات الموت واهواله عظيمة جداً، لا تستقيم على العقول، ولا تقبلها إذا شرحت لها، ووصفت كما هي على الحقيقة بل تنبو عنها ولا تصدق بما يقال فيها فعبر عن عدم استقامتها على العقول، بقوله: (أو يعتدل) كأنه جعلها كالشيء المعوج عند العقل فهو غير مصدق به.

11 / 167 - 8

ص: 548

واحيانا يكون كلامه علیه السلام ليس بحاجة لتفسير، كما في كلامه (219) حيث أن معانيه ظاهرة، والفاظه الفصيحة تعطيها وتدل عليها بما لو إراد المفسر أن يعبر عنه بعبارة غير عبارته علیه السلام لكان لفظه علیه السلام أولى أن يكون تفسيرا لكلام ذلك المفسر(1). وكذلك كلامه ذو الرقم (183) الذي هو من فصيح الكلام ونادره، ويتضمن من توحيد الله تعالى وتمجيده، والثناء عليه ما يشهد لنفسه(2).

وكان علیه السلام يستخدم الالفاظ المناسبة لبعضها البعض، بحيث لو ذكر غيرها لما انطبقت عليها، ولا استقرت في قرارها(3). وكان علیه السلام يكرر المعنى، ولكن بالفاظ مختلفة وذلك لاقتداره على العبارة وسعة مادة النطق عنده(4).

ومن اساليبه علیه السلام الجواب الاقناعي (وهي اجوبة إذا بحث عنها لم يكن وراءها تحقيق، وكانت ببادئ النظر مسكتة للخصم صالحة لمصادمته في مقام المجادلة)(5). فلما سئل علیه السلام: كم بين السماء والارض؟ أجاب: دعوة مستجابة.

وسئل أيضاً: ما بين المشرق والمغرب؟ فقال: مسيرة يوم للشمس(6).

وهي اجوبة صحيحة لا ريب فيها لأن السائل سأل بحضور العامة، تحت المنبر فلو اجابه الامام بمقدارها عددا، لربما طالبه السائل بالدليل، والدليل

ص: 549


1- الشرح: 11 / 144
2- الشرح: 10 / 88
3- الشرح: 7 / 271 - 272
4- الشرح: 18 / 360
5- الشرح: 2 / 172
6- الشرح: 2 / 172 - 173، 19 / 199. وانظر الجاحظ: البيان والتبين 3 / 274 - 275. الزمخشري: ربيع الابرار 1 / 663

يصعب حصوله على البديهة، وحتى لو حصل لشق ايصاله إلى فهم السائل والحاضرين، ولصار فيها خلاف وربما فتنة، لذا عدل الامام إلى جواب اجمالي صحيح اسكت السائل واقتنع السامعون به واستحسنوه، وهذا من نتائج حكمته علیه السلام(1).

ولما كان كلام الإمام علي علیه السلام متميزا عمن سواه، لذا لم يجد ابن أبي الحديد مشقة في تمييزه عن غيره، ففي شرحه لخطبة الامام الرابعة قال: (هذه الكلمات والامثال ملتقطة من خطبة طويلة منسوبة إليه علیه السلام فقد زاد فيها قوم اشياء حملتهم عليها اهواؤهم، لا توافق الفاظها طريقته علیه السلام في الخطب، ولا تناسب فصاحتها فصاحته ولا حاجة إلى ذكرها فهي شهيرة، ونحن نشرح هذه الالفاظ لأنها كلامه علیه السلام لا يشك في ذلك من له ذوق ونقد ومعرفة بمذاهب الخطباء والفصحاء في خطبهم، ورسائلهم ولأن الرواية لها كثيرة، ولان الرضي رحمة الله تعالى عليه قد التقطها ونسبها إليه علیه السلام وصححها وحذف ما عداها)(2).

ولما نسبت بعض خطبه وكلامه علیه السلام للغير تمكن علماء البيان من إعادة نسبتها للامام علیه السلام فمثلا الخطبة رقم (32) التي نسبها من لا علم له إلى معاوية مع إنها من كلام الإمام علیه السلام الذي لا يشك فيه، إذ أين الذهب من الرغام! واين العذب من الاجاج! وقد دل على ذلك الخريت، ونقده الناقد البصير، عمرو بن بحر الجاحظ حيث ذكرها في كتابه البيان والتبين(3)، واشار إلى أن هناك من نسبها لمعاوية ثم انكر ذلك قائلا: (وهذا الكلام بكلام عليّ علیه السلام أشبه، وبمذهبه في تصنيف الناس، وفي

ص: 550


1- الشرح: 19 / 199
2- الشرح: 1 / 208
3- 2 / 59 - 61

الاخبار عما هم عليه من القهر والإذلال، ومن التقية والخوف أليق، ومتى وجدنا معاوية في حال من الأحوال يسلك في كلامه مسلك الزهاد، ومذاهب العباد!)(1).

ونسب الجاحظ خطبة الامام رقم (110) إلى قطري بن الفجاءة(2) والمعروف أنها للإمام حيث رواها المرزباني في كتابه (المونق)(3) وهي بكلام الإمام علیه السلام اشبه، وليس يبعد عند ابن أبي الحديد أن يكون قطري خطب بها بعد أن اخذها من اصحاب الإمام علیه السلام الذين صاروا فيما بعد خوارج(4).

ومما يؤثر عن الامام علیه السلام قوله: (لا تظنن بكلمة خرجت من أحد سوءا، وأنت تجد لها في الخير محتملا) إلا أن هناك من رواها للخليفة عمر بن الخطاب(5).

ونسب (أبو حامد الغزالي)(6) قوله علیه السلام: (من هوان الدنيا على الله أنه لا يعصى إلَّا فيها، ولا ينال ما عنده الا بتركها) إلى أبي الدرداء(7)، والصحيح

ص: 551


1- الشرح: 2 / 175 - 176، ونسبها لمعاوية أيضاً الأبي: نثر الدرر 3 / 19 - 21
2- هو قطري بن الفجاءة بن مازن التميمي من رؤساء الازارقة من الخوارج، وتولى امرة الخوارج ثلاث عشرة سنة، وقتل في حروبه. الجاحظ: البيان والتبين 1 / 341 - 2، 2 / 126، 9 / 310 - 1. ابن قتيبة: المعارف ص 411. الطبري: تاريخ 6 / 126 - 7، 169، 259، 300 - 310، 318
3- لم اعثر على هذا الكتاب
4- الشرح: 7 / 236. وانظر الجاحظ: البيان والتبين 2 / 126 - 9. ابن قتيبة: عيون الاخبار 2 / 250 - 1. النويري: نهاية الارب 7 / 250 - 3. القلقشندي: صبح الاعشى 1 / 223 - 5
5- الشرح: 19 / 277
6- لم أهتد إليها في كتابه إحياء علوم الدين
7- عويمر بن مالك بن قيس بن أمية الانصاري الخزرجي أحد الصحابة الذين عرفوا بالعبادة، تولى القضاء للخليفة عمر في دمشق توفي سنة 32 ه. أبو نعيم: حلية الاولياء 1 / 208 - 227. ابن عبد البر: الاستيعاب 4 / 1646 - 8. الذهبي: معرفة القراء الكبار 1 / 38. ابن حجر: الاصابة 3 / 45 - 46

أنها من كلام الإمام عليّ علیه السلام حيث ذكر ذلك الجاحظ(1) وهو اعرف بكلام الرجال(2).

وذكر المبرد(3) خطبة الاعرابي بالبادية (وأكثر الناس يرون أنها من كلام الإمام علیه السلام ويجوز أن يكون الاعرابي حفظها وأوردها كما يورد الناس كلام غيرهم)(4).

ووجد ابن أبي الحديد كلمة الامام (نفس المرء خطاه إلى اجله) منسوبة إلى عبد الله بن المعتز(5) فعلق قائلا: (فلا ادري هل هي لابن المعتز أم اخذها من امير المؤمنين علیه السلام! والظاهر أنها لأمير المؤمنين علیه السلام فإنها بكلامه اشبه، ولأن الرضي قد رواها عنه، وخبر العدل معمول به)(6).

اساليب البيان:

البيان: هو النطق الفصيح المعرب، أي اظهار المعنى وايضاح ما كان مستورا قبله، ليتم اظهار المراد للسامع(7) وموضوع علم البيان هو الفصاحة

ص: 552


1- لم اهتد إليها في أي من مؤلفات الجاحظ
2- الشرح: 19 / 326
3- الكامل في اللغة والادب 4 / 108
4- الشرح: 11 / 3 - 4
5- هو عبد الله بن محمد المعتز بالله بن الخليفة العباسي المتوكل كان شاعرا وله مجموعة من الكتب الادبية. تولى الخلافة بعد المقتدر يوماً وليلة ثم عزل وتوفي سنة 296 ه مخنوقا، الخطيب البغدادي: تاريخ بغداد 10 / 95 - 101. القفطي: المحمدون من الشعراء ص 255. الكتبي: فوات الوفيات 2 / 239 - 246
6- الشرح: 18 / 221
7- ابن رشيق: العمدة 1 / 254. الجرجاني: التعريفات ص 26، 83

والبلاغة(1)، ويجب على صاحب علم البيان الألمام بعلوم تسمى (ادوات علم البيان) وهي: النحو والتصريف والفاظ اللغة وامثال العرب وايامهم (التاريخ) والاحاطة بالمؤلفات السابقة التي كتبت في علم البيان، والاحكام السلطانية وحفظ القرآن الكريم والسنةّ النبَّوية(2).

لقد تنوعت اساليب البيان التي استخدمها الإمام عليّ علیه السلام في ثنايا كلامه ومنها:

أولاً: الاستعارة: نقل المعنى من لفظ إلى لفظ لمشاركة بينهما مع طي ذكر المنقول إليه(3) وقد استخدم الامام علیه السلام هذا الاسلوب على نطاق واسع.

- قوله علیه السلام: (شقوا امواج الفتن بسفن النجاة… وضعوا تيجان المفاخرة.

افلح من نهض بجناح). قال ابن أبي الحديد: (إن احسن الاستعارات ما تضمن مناسبة بين المستعار والمستعار منه كهذه الاستعارات… وذلك لأن الفتن قد تتضاعف وتترادف فحسن تشبيهها بامواج البحر المضطربة. ولما كانت السفن الحقيقية تنجي من امواج البحر. حسن أن يستعار لفظ السفن لما ينجي من الفتن. وكذلك قوله (وضعوا تيجان المفاخرة) لأن التاج لما كان مما يعظم به قدر الانسان استعارة لما يتعظم به الانسان من الافتخار وذكر القديم. وكذلك استعارة النهوض بالجناح لمن اعتزل الناس، كأنه لما نفض يديه عنهم صار

ص: 553


1- ابن الاثير: المثل السائر 1 / 51
2- ابن الاثير: المثل السائر 1 / 57 - 86
3- ابن رشيق: العمدة 1 / 268. الخوارزمي: مفاتيح العلوم ص 47. ابن الاثير: المثل السائر 1 / 88. الجرجاني: التعريفات ص 13

كالطائر الذي ينهض من الارض بجناحيه)(1).

وأكثر الامام من الاستعارة في خطبه له يصف اصحاب القبور إذ يقول (سلكوا في بطون البرزخ سبيلا سلطت الارض عليهم فيه، فاكلت من لحومهم، وشربت من دمائهم، فاصبحوا في فجوات قبورهم جمادا لا ينمون، وضمارا لا يوجدون، لا يفزعهم ورود الاهوال، ولا يحزنهم تنكر الأحوال، ولا يحفلون بالرواجف، ولا يأذنون للقواصف، غيبا لا ينتظرون وشهودا لا يحضرون، وإنما كانوا جميعا فشتتوا، والافا فافترقوا، وما عن طول عهدهم ولا بعد محلهم، عميت اخبارهم وصمت ديارهم، ولكنهم سقوا كأسا بدلتهم بالنطق خرسا، وبالسمع صمما، وبالحركات سكونا، فكأنهم في ارتجال الصفة، صرعى سبات، جيران لا يتأنسون، واحياء لا يتزاورون، بليت بينهم عرى التعارف وانقطعت منهم أسباب الاخاء، فكلهم وحيدا وهم جميع وبجانب الهجر وهم أخِلّاء)(2).

قال ابن أبي الحديد: (هذه كلها استعارات لطيفة مستحسنة)، فإشارته للبرزخ أي الحاجز ويجوز أن يقصد به القبر لأنه حجز بين الميت واهل الدنيا ويجوز أن يقصد به الوقت الذي بين حال الموتى إلى حال النشور. ولفظتا (اكلت الارض من لحومهم وشربت من دمائهم). مستعارتان والمقصود بالفجوة أي الفرجة المتسعة بين الشيئين. (وجمادا لا ينمون) أي خرجوا عن صورة الحيوانية إلى صورة الجماد الذي لا ينمى ولا يزيد وقوله: (لا يحفلون بالرواجف) أي لا

ص: 554


1- الشرح: 1 / 215. وانظر نص كلام الإمام علیه السلام، سبط ابن الجوزي: تذكرة ص 28
2- الشرح: 11 / 150

يكترثون بالزلازل، وقوله: (ولا يأذنون للقواصف) أي لا يسمعون الاصوات الشديدة، وقوله: (غيبا لا ينتظرون) أي شهود في الصورة وغير حاضرين في المعنى، وقوله: (وبالسمع صمما) أي لم يسمعوا فيها نداء المنادي ولا نوح النائح أو لم يسمع في قبورهم صوت منهم. وقوله: (كأنهم صرعى سبات) وهو النوم حيث لا فرق في الصورة بين الميت حال موته، والنائم المسبوق)(1).

- وقال علیه السلام: (وبادروا للموت وغمراته، وامهدوا له قبل حلوله) فامهدوا له اتخذوا مهادا وهو الفراش(2).

- وقال علیه السلام: (وأنا اطمع أن تلتحق بي طائفة فتهتدي بي، وتعشوا إلى ضوئي). شبه به علیه السلام من يلتحق به من أهل الشام بمن يعشوا ليلا إلى النار، وذلك لأن بصائرهم ضعيفة، فهم من الاهتداء بهداه علیه السلام كمن يعشو ببصر ضعيف إلى النار في الليل(3).

- وقوله علیه السلام في الخفافيش: (يقبضها الضياء الباسط لكل شيء، ويبسطها الظلام القابض لكل حي، وكيف عشيت أعينها من أن تستمد من الشمس المضيئة نورا تهتدي به في مذاهبها، وتتصل بعلانية برهان الشمس إلى معارفها، وردعها بتلؤلؤ ضيائها، عن المضي في سبحات اشراقها). فعبارة (وتتصل بعلانية برهان الشمس) كلام جيد في مذاهب الاستعارة(4).

ص: 555


1- الشرح: 11 / 154 - 155
2- الشرح: 13 / 112
3- الشرح: 4 / 12 - 13
4- الشرح: 9 / 181 - 182

- قوله علیه السلام: (وجلب اسيافهم) أي ما اجلبته اسيافهم، وساقته إليهم، والجلب:

المال المجلوب، وجناه الثمر ما يجنى منه. وهذه استعارة فصيحة(1).

- قوله علیه السلام: (من أحدَّ سنان الغضب لله قَوِيَ على قتل اشداء الباطل) وهذه الكلمة تتضمن استعارة تدل على الفصاحة(2).

- وفي خطبة الاشباح من حسن الاستعارة وبديع الصنعة ما لا خفاء به كقوله علیه السلام: (ولو وهب ما تنفست عنه معادن الجبال). ووجه الاستعارة هنا، كأن الجبال لما اخرجت المعادن، شبهها بولادة الحيوان يتنفس فيخرج من صدره ورئته الهواء، وقوله: (وضحكت عنه الاصداف) أي تفتحت عنه وانشقت، يقال للطلع حيث ينشق: الضحك بفتح الضاد، وانما سمي الضاحك ضاحكا لأنه يفتح فاه(3).

وقوله في الخطبة أعلاه: (أنت الله الذي لم تتناه في العقول، فتكون في مهب فِكرها مكيَّفا). فعبارة مهب فكرها استعارة حسنة(4).

قال ابن أبي الحديد في نهاية شرحه لهذه الخطبة: (لما تأمل العلماء شعر امريء القيس ووجدوا فيه من الاستعارة بيتا أو بيتين نحو قوله يصف الليل(5):

فقُلتُ لهُ لما تمطّى بصُلبِهِ *** وأردَفَ إعجازاً وناءَ بكَلْكَلِ

ص: 556


1- الشرح: 13 / 11
2- الشرح: 18 / 405
3- الشرح: 6 / 403
4- الشرح: 6 / 413 - 415
5- ديوانه ص 18

وقوله(1):

وإن يكُ قد ساءَتْكِ مِنِّي خليقةٌ *** فسلّي ثيابي من ثيابِكِ تنسلي ولم ينشدوا مثل ذلك في اشعار الجاهلية، حكموا له بأنه امام الشعراء ورئيسهم، وهذا الفصل من كلام أمير المؤمنين علیه السلام قد اشتمل من الاستعارة العجيبة، وغيرها من ابواب البديع على ما لو كان موجودا في ديوان شاعر مكثر أو مترسل مكثر لكان مستحق التقديم بذلك. ألا تراه كيف وصف الامواج بأنها مستفحلة وأنها ترغو رغاء فحول الابل، ثم جعل الماء جماحا، ثم وصفه بالخضوع وجعل للارض كلكلا، وجعلها واطئة للماء به، ووصف الماء بالذل والاستخذاء لما جعل الارض متمعكة عليه كما يتمعك الحمار أو الفرس وجعل لها كواهل، وجعل للذل حكمة وجعل الماء في حكمه الذل منقاداً أسيراً وساجيا مقهورا، وجعل الماء قد كان ذا نخوة وبأو واعتلاء فردَّته الارض خاضعا مسكينا، وطأطأت من شموخ انفه وسمو غلوائه وجعلها كأعمة له، وجعل الماء ذا كظة بامتلائه، كما تعتري الكظة المستكثر من الاكل، ثم جعله هامدا بعد أن كانت له نزقات، ولابدا بعد أن كانت له وثبات، ثم جعل الارض اكتافا وعرانين وانوفا وخياشيم، ثم نفى النوم عن وميض البرق وجعل الجنوب مادية درد السحاب، ثم جعل للسحاب صدرا وبوانا، ثم جعل الارض مبتهجة مسرورة مزدهاة، وجعل لها ريطاً من لباس الزهور وسموطاً تحلى بها)(2).

وأردف ابن أبي الحديد قائلاً: (فيا لله وللعجب من قوم زعموا أن الكلام

ص: 557


1- ديوانه ص 13
2- الشرح: 6 / 451 - 452

إنما يفضل بعضه بعضا لاشتماله على امثال هذه الصنعة فإذا وجدوا في مائة ورقة كلمتين أو ثلاثا منها، اقاموا القيامة ونفخوا في الصور وملئوا الصحف بالاستحسان لذلك والاستطراف ثم يمرون على هذا الكلام المشحون كله بهذه الصنعة على الطف وجه، وارصع وجه، وارشق عبارة وادق معنى واحسن مقصد ثم يحملهم الهوى والعصبية على السكوت عن تفضيله إذا اجملوا واحسنوا ولم يتعصبوا لتفضيل غيره عليه! على أنه لا عجب، فإنه كلام عليّ علیه السلام وحظ الكلام حظ المتكلم وأشبه امرؤ بعض بزه(1)) (2).

- ومن كلماته التي استخدم فيها الاستعارة قوله: (وخلق الاجال فاطالها وقصرها وقدمها وأخَّرها، ووصل بالموت اسبابها، وجعله خالجا لأشطانها، وقاطعا لمرائر اقرانها). والقرائن هي الحبال جمع قرن، ومرائر القرائن جمع مرير، وهو ما لطف وطال من الحبال واشتد فتله، وهذا الكلام من باب الاستعارة)(3).

ثانيا: التجنيس: هو أن يتفق اللفظ ويختلف المعنى ولا يكون احدهما حقيقة والاخر مجازا، بل يكونان حقيقيين، وهو سبعة اقسام.

منها التجنيس الحقيقي ويسمى (الجناس التام) وهو الذي تتساوى حروف الفاظه في تركيبها ووزنها كقوله تعالى:

ص: 558


1- قاله سهيل بن عمرو أو ذو الاصبع العدواني. أبو هلال العسكري: جمهرة الامثال 1 / 25، 504. ابن نباته: سرح العيون ص 288
2- الشرح: 6 / 452
3- الشرح: 7 / 2

«وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ»(1)، (2).

ومما ورد من هذا النوع في كلام الإمام عليّ علیه السلام قوله: (فالبصير منها شاخص والاعمى إليها شاخص). فهو من مستحسن التجنيس فالشاخص الأول الراحل والشاخص الثاني من شخص بصره بالفتح إذا فتح عينيه نحو الشيء مقابلا له، وجعل لا يطرق(3). اما الاقسام الستة الاخرى فهي من متشابه التجنيس ولم اجد لها نماذجا في شرح ابن أبي الحديد لكلام الإمام علي علیه السلام(4).

ثالثا: البديع: هو المطابقة بين المعاني وهو الجمع بين الشيء وضده كالسواد والبياض، والليل والنهار واسماه ابن الاثير مقابلة لأنه لا يخلو الحال فيه من وجهين، إما يقابل الشي بضده أو يقابل بما ليس ضده. والاول مقابلة الشيء بضده كالسواد والبياض ينقسم إلى قسمين، احدهما مقابلة في اللفظ والمعنى، والآخر مقابلة في المعنى دون اللفظ. فمثال المقابلة في اللفظ والمعنى قوله تعالى:

«فَلْيَضْحَكُوا قَليِلًا وَلْيَبْكُوا كَثيِرًا»(5) وقول الإمام عليّ علیه السلام: (إن الحق ثقيل مري، والباطل خفيف وبي، وأنت رجل إن صدقت سخطت وإن كذبت رضيت). مقابل الحق بالباطل والثقيل

ص: 559


1- سورة الروم، الآية: 55
2- الشرح: 8 / 276. وانظر ابن رشيق: العمدة 1 / 321 - 2. ابن الاثير: المثل السائر 1 / 379 - 380
3- الشرح: 8 / 276
4- ابن الاثير: المثل السائر 1 / 386 - 397
5- سورة التوبة، الآية: 82

المري بالخفيف الوبي والصدق بالكذب، والسخط بالرضا. وهذه خمسة مقابلات في هذه الكلمات القصار(1) وكذلك قوله علیه السلام للخوارج: (كلمة حق أُريد بها باطل)(2) وقوله علیه السلام في الخطبة الغراء: (الحمد لله الذي علا بحوله، ودنا بطوله، مانح كل غنيمة وفضل، وكاشف كل عظيمة وازل، احمده على عواطف كرمه، وسوابغ نعمه، وأؤمن به أولاً بادياً، واستهديه قريبا هاديا، واستعينه قاهرا قادرا، واتوكل عليه كافيا ناصرا)(3).

هذه الخطبة التي اعتبرها الشريف الرضي من خطب الامام العجيبة فيها ضروب من البديع، فمنها ان لفظة (دنا) في مقابلة (علا) لفظا ومعنى، وكذلك (حوله) و (طوله) ووجه المقابلة بين الحول والطول، لأن الحول هو القوة وهي مشعرة بالسطوة والقهر، ومنه منشأ الانتقام، والطول: الافضال والتكرم وهو نقيض الانتقام والبطش، ومنها ان (مانحا) في وزن (كاشف) و (غنيمة) بازاء (عظيمة) في اللفظ، وضدها في المعنى، وكذلك (فضل) و (ازل) ومنها ان (عواطف) بازاء (سوابغ) و (نعمة) بازاء (كرمه). ومنها - وهو الطف ما يستعمله ارباب هذه الصناعة - أنه جعل قريبا هاديا مع قوله (استهديته) لأن الدليل القريب منك اجدر بأن يهديك من البعيد النازح، ولم يجعله مع قوله (واستعينه) وجعل مع الاستعانة (قاهرا قادرا) لأن القادر القاهر يليق ان يستعان ويستخدم به، ولم يجعله قادرا قاهرا مع التوكل عليه، وجعل مع التوكل

ص: 560


1- ابن الاثير: المثل السائر 3 / 171 - 173. الجرجاني: التعريفات ص 83
2- ابن الاثير: المثل السائر 3 / 173
3- الشرح: 6 / 241

(كافيا ناصرا) لأن الكافي الناصر أهلٌ لأن يتوكل عليه(1).

وفي قوله علیه السلام: (اتقوا الله تقاة من شمَّر تجريدا، وجدّ تشميرا) فلو قال:

(وجرد تشميرا) لكان قد أتى بنوع مشهور من انواع البديع لكنه لم يحفل بذلك، وجرى على مقتضى طبعه من البلاغة الخالية من التكلف والتصنع(2).

واشتملت خطبته الرقم (236) على الكثير من صناعة البديع الرائقة المستحسنة البريئة من التكلف ما لا يخفى(3).

ومن انواع البديع (لزوم ما لا يلزم) وهو من اشبق هذه الصناعة مذهبا، وابعدها مسلكا، وذلك لأن مؤلفه يلتزم ما لا يلزم، فإن اللازم في هذا الموضع وما جرى مجراه إنما هو للسجع الذي هو تساوي اجزاء الفواصل من الكلام المنثور في قوافيها، وهذا فيه زيادة على ذلك وهو أن تكون الحروف التي قبل الفاصلة حرفا واحدا(4).

وفي ذلك قوله علیه السلام: (أحمده استتماما لنعمته… فإنه ارجح ما وزن وأفضل ما خزن) فلفظتا وزن وخزن بلزوم الزَّاي من باب لزوم ما لا يلزم(5).

ويخلص ابن أبي الحديد للقول على أن فن البديع لا يوجد منه في كلام غير

ص: 561


1- الشرح: 6 / 242 - 243
2- الشرح: 19 / 30
3- الشرح: 13 / 114
4- الشرح: 1 / 133. وانظر: ابن الاثير: المثل السائر 1 / 401 - 2. وقد وضع أبو العلاء المعري كتابا تحت عنوان (لزوم ما لا يلزم) جاء فيه بالجيد والرديء. الشرح: 1 / 135. المثل السائر: 1 / 402. وقد طبع الكتاب في بيروت سنة 1961
5- الشرح: 1 / 133

الامام ممن تقدمه الا الفاظا يسيرة غير مقصودة، ولكنها واقعة بالاتفاق كما وقع التجنيس في القرآن العزيز اتفاقا غير مقصود كقوله تعالى:

«يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ»(1).

وقوله تعالى:

«وَالسَّمَاءَ رَفَعهَا وَوَضَعَ الميِزَانَ»(2).

على أنها ليست مقابلة في المعنى بل في اللفظ فقط(3).

ويقول باحث معاصر عن موقف ابن أبي الحديد من البديع عند الإمام علي:

(يبدو ان موقفه من الإمام علي علیه السلام في جعله امام ارباب صنعة البديع، موقف نقدي انفرد به عمن سبقه من النقاد)(4).

رابعا: الكناية: هي من اقسام المجاز، وهي ابدال لفظة عرض في النطق بها مانع بلفظة لا مانع من النطق بها(5). لقوله علیه السلام في الخوارج: (إنهم نطف في اصلاب الرجال وقرارات النساء) فإنه لما وجد الناس قد تواضعوا على استهجان لفظة (ارحام النساء) استخدم لفظة قرارات النساء كناية عن الارحام(6).

وقوله علیه السلام: (فالتمسوا ذلك عند أهله) كناية عن نفسه علیه السلام حيث كان علیه السلام كثيرا

ص: 562


1- سورة يوسف، الآية: 84
2- سورة الرحمن، الآية: 7
3- الشرح: 19 / 30
4- حسن حميد محسن فياض: ابن أبي الحديد ناقداً. ص 60 - 61
5- الشرح: 5 / 15، 59. ابن رشيق: العمدة 1 / 313. ابن الاثير: المثل السائر 3 / 59، 83. الجرجاني: التعريفات ص 99
6- الشرح: 5 / 59

ما يسلك هذا المسلك ويعرض هذا التعريض وهو الصادق الامين العارف بالاسرار الإلهية(1) وقوله علیه السلام: (احمده استتماما لنعمته، واستسلاما لعزته، واستعصاما من معصيته) فالفاظ (إستتماما، إستسلاما، إستعصاما) من لطيف الكناية وبديعها، فسبحان من خصه بالفضائل التي لا تنتهي السنة الفصحاء إلى وصفها، وجعله امام كل ذي علم، وقدوة كل صاحب خصيصة(2).

خامسا: الاعتراض: هو كل كلام ادخل فيه لفظ مفرد أو مركب لو سقط لبقي الأول على حاله(3). كقوله علیه السلام: (الا وفي غد - وسيأتي غد بما لا تعرفون - يأخذ الوالي من غيرها عمالها على مساوئ اعمالها).

فقوله علیه السلام: (الا وفي غد) تمامه (يأخذ الوالي). وبين الكلام جملة اعتراضية وهي قوله (وسيأتي غد بما لا تعرفون) والمراد تعظيم شان الغد الموعود بمجيئه(4).

وقوله علیه السلام: (يتنافسون في دنيا دنية، ويتكالبون على جيفة مريحة، وعن قليل يتبرأ التابع من المتبوع، والقائد من المقود، فيتزايلون بالبغضاء، ويتلاعنون عند اللقاء، ثم يأتي بعد ذلك طالع الفتنة الرجوف، والقاصمة الزحوف…)(5).

لما ذكر علیه السلام تنافس الناس على الجيفة المنتنة وهي الدنيا، أراد أن يقول بعدها

ص: 563


1- الشرح: 9 / 107
2- الشرح: 1 / 133
3- الخوارزمي: مفاتيح العلوم ص 61. ابن الاثير: المثل السائر 3 / 47. الجرجاني: التعريفات ص 18
4- الشرح: 9 / 41 - 42
5- الشرح: 9 / 137

بلا فصل (ثم يأتي بعد ذلك طالع الفتنة الرجوف) لكنه علیه السلام لما تعجب من تزاحم الناس وتكالبهم على تلك الجيفة، أراد أن يؤكد ذلك التعجب، فجاء بجملة اعتراضية بين الكلاميين، لتأكيد معنى تعجبهم منهم، فقال: إنهم على ما قد ذكرنا من تكالبهم عليها، عن قليل يتبرأ بعضهم من بعض، ويلعن بعضهم بعضا، وذلك أدعى لهم لو كانوا يعقلون - إلى أن يتركوا التكالب والتهارش على هذه الجيفة الخسيسة، ثم عاد علیه السلام إلى نظام الكلام فقال: (ثم يأتي بعد ذلك طالع الفتنة الرجوف)(1).

سادسا: التخلص: هو أن يأخذ مؤلف الكلام في معنى من المعاني، فبينما هو فيه إذ أخذ في معنى آخر غيره، وجعل الأول سببا إليه، فيكون بعضه آخذ برقاب بعض، من غير أن يقطع كلامه ويستأنف كلاما آخر، بل يكون جميع كلامه كأنما افرغ افراغا. وذلك مما يدل على حذق الشاعر وقوة تصرفه من اجل ان نطاق الكلام يضيف عليه، ويكون متبعا للوزن والقافية، فلا تواتيه الالفاظ على حسب ارادته، واما الناثر فهو مطلق العنان يمضي حيث شاء، فلذلك يشق التخلص على الشاعر أكثر من الناثر(2).

ومما جاء في كلام الإمام علیه السلام قوله في ذكر ملك الموت: (هل يحس به إذا دخل منزلا، أم هل تراه إذا توفى أحدا! بل كيف يتوفى الجنين في بطن امه! ايلج عليه من بعض جوارحها، أم الروح اجابته بإذن ربها، أم هو ساكن معه في احشائها!)(3).

ص: 564


1- الشرح: 9 / 142
2- ابن الاثير: المثل السائر 3 / 147
3- الشرح: 7 / 237

ثم خرج علیه السلام لأمر آخر أعظم واشرف مما ابتدأ به، فقال: (كيف يصف الهه من يعجز عن وصف مخلوق مثله!). وإلى هذا الغرض كان يترامى، وإياه كان يقصد وإنما مهّد حديث الملك والجنين توطئه لهذا المعنى الشريف، والسر الدقيق)(1).

سابعا: الالتفات: هو الانتقال في الكلام من صيغة إلى صيغة كانتقال من خطاب حاضر إلى غائب، أو من خطاب غائب إلى حاضر، أو من فعل ماضٍ إلى مستقبل، أو من مستقبل إلى ماضٍ، ويسمى (شجاعة عربية) لأن الشجاعة هي الإقدام، والرجل الشجاع يركب ما لا يستطيعه غيره، وكذلك الالتفات في الكلام فان اللغة العربية تختص به دون باقي اللغات(2).

ومما ورد في كلام الإمام قوله علیه السلام: في توحيد الله تعالى: (كل شيء خاشع له، وكل شيء قائم به، غنى كل فقير، وعز كل ذليل، وقوة كل ضعيف، ومفزع كل ملهوف، من تكلم سمع نطقه، ومن سكت علم سره، ومن عاش فعليه رزقه، ومن مات فعليه منقلبه) ثم انتقل من أسلوب الغيبية إلى أسلوب الخطاب، فقال: (لم ترك العيون، فتخير عنك، بل كنت قبل الواصفين من خلقك)(3).

ثامنا: باب حسن التوصيل بايراد كلام غير مزعج، عوضا عن لفظ يتضمن جبها وتقريعا، كقوله علیه السلام لاصحابه: (وقد رأيت جولتكم، وانحيازكم عن صفوفكم). فمراد الامام من جولتكم أي هزيمتكم، فأجمل علیه السلام في اللفظ وكنى

ص: 565


1- الشرح: 7 / 239
2- الشرح: 2 / 181. أنظر: الخوارزمي: مفاتيح العلوم ص 60. ابن رشيق: العمدة 2 / 45 - 47. ابن الاثير: المثل السائر 2 / 81. الجرجاني: التعريفات ص 20
3- الشرح: 7 / 194 - 196

عن اللفظ المنفر، عادلا عنه إلى لفظ لا تنفير فيه، وكذلك قوله علیه السلام: وانحيازكم عن صفوفكم، كناية عن الهرب أيضاً، وهو مأخوذ من قوله تعالى:

«إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ»(1).

تاسعاً: الاستدراج: هو استمالة واستدراج المقابل إلى الاذعان والتسليم، ويرى ابن الاثير أن مدار البلاغة كلها عليه لأنه لا انتفاع بايراد الالفاظ المليحة الرائقة، ولا المعاني اللطيفة الدقيقة، دون أن تكون مجلية لبلوغ غرض المخاطب بها(2).

ومثال ذلك قول الامام لابن عباس لما ارسله للزبير: (يقول لك ابن خالك عرفتني بالحجاز، وانكرتني بالعراق) وهو لطيف جدا من باب الاستمالة والاذكار بالنسب والرحم(3).

عاشرا: السجع: هو تواطؤ الفواصل في الكلام المنثور على حرف واحد، مثل (الغريب، القريب، النسيب)(4)، وقد جاء السجع في كلام الإمام علي علیه السلام كقوله: (وفرض عليكم حج بيته الحرام، الذي جعله قبلة للانام، يردونه ورود الانعام، ويولهون إليه وله الحمام، وجعله سبحانه علامة لتواضعهم لعظمته، واذعانهم لعزته، واختار من خلقه سماعاً اجابوا إليه دعوته، وصدقوا كلمته ووقفوا مواقف أنبيائه، وتشبهوا بملائكته المطيفين بعرشه، ويحرزون الارباح في متجر عبادته، ويتبادرون إليه موعد مغفرته، جعله سبحانه وتعالى للاسلام علما،

ص: 566


1- سورة الانفال، الآية: 16
2- ابن الاثير: المثل السائر 2 / 259
3- الشرح: 2 / 162 - 3، 170
4- الشرح: 3 / 154. ابن الاثير: المثل السائر 1 / 308. الجرجاني: التعريفات ص 63

وللعائذين حرما، وفرض حقه، واوجب حجه، وكتب عليكم وفادته)(1).

تجدر الاشارة إلى أن هناك من عاب السجع(2)، لأن الخطب الخالية منه برأيهم هي المستحسنة والخالية من التكلف، وهي خطب العرب كخطبة النبي صلی الله علیه و آله وسلم في حجة الوداع. ولكن إذا كان السجع عيبا لكان كلام الله (القرآن) معيبا لأنه مسجوع كله ذو قرائن وفواصل، ويكفي هذا دليلا في بطلان ما ذهب إليه هؤلاء، وكذلك فإن خطب الرسول صلی الله علیه و آله وسلم اكثرها مسجوع، كقوله صلی الله علیه و آله وسلم (ان مع العز ذلا، وان مع الحياة موتا، وإن مع الدنيا اخرة، وإن لكل شيء حسابا، ولكل حسنة ثوابا، ولكل سيئة عقابا، وإن على كل شيء رقيبا، وإنه لا بد من قرين يدفن معك هو حي وأنت ميت، فإن كان كريما اكرمك، وإن كان لئيما اسلمك، ثم لا يحشر إلّا معك، ولا تبعث إلّا معه، ولا تسأل إلّا عنه، فلا تجعله الا صالحا، فانه ان صلح انست به، وإن فسد لم تستوحش إلّا منه، وهو عملك)(3).

فالملاحظ أن كلام النبَّيّ صلی الله علیه و آله وسلم أعلاه اكثره مسجوع، اما بالنسبة إلى السجع المذموم من التكلف فهو الذي تظهر سماجته وثقله للسامعين، في حين لا عيب في التكلف المستحسن، فالملاحظ أن الشعر لا بد فيه من تكلف اقامة الوزن، وليس يوجد من يطعن في ذلك. وكان مما احتج به عائبو السجع قوله صلی الله علیه و آله وسلم:

(اسجعا كسجع الكهان) فقالوا: لولا أن السجع منكر لما انكر صلی الله علیه و آله وسلم سجع الكهان وامثاله والواقع أنه علیه السلام أنكر سجع الكهان لا مطلق السجع، وكان صلی الله علیه و آله وسلم قد ابطل الكهانة والتنجيم والسحر، ونهى عنها، ولو كان صلی الله علیه و آله وسلم أنكر السجع مطلقا لما قاله

ص: 567


1- الشرح: 1 / 123
2- ابن الاثير: المثل السائر 1 / 308
3- الشرح: 1 / 126 - 128

كما هو واضح في خطبته أعلاه(1).

حادي عشر: الموازنة: وهي أن تكون الفاظ الفواصل من الكلام المنثور، متساوية في الوزن وأن يكون صدر البيت الشعري وعجزه تساوي الالفاظ وزنا، والموازنة اخت السجع في المعادلة دون المماثلة، لأن في السجع اعتدالا وزيادة على الاعتدال وهي تماثل اجزاء الفواصل لورودها على حرف واحد واما الموازنة ففيها الاعتدال الموجود في السجع، ولا تماثل في فواصلها، فيقال إذا: (كل سجع موازنة، وليس كل موازنة سجعا) وعلى هذا فالسجع اخص من الموازنة(2). والموازنة مطلوبة في الكلام الذي يقصد فيه الفصاحة لأجل الاعتدال الذي هو مطلوب الطبع في جميع الاشياء(3).

ومثال الموازنة في القرآن قوله تعالى:

«وَآَتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبيِنَ * وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ»(4).

وقوله:

«وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا * كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا * أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا * رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ»(5)، (6).

ص: 568


1- الشرح 1 / 128 - 129
2- الشرح: 3 / 154. ابن الاثير: المثل السائر 1 / 414 - 415. الجرجاني: التعريفات ص 124
3- الشرح: 3 / 154
4- سورة الصافات، الآية: 118
5- سورة مريم، الآيات 81 - 84
6- الشرح: 3 / 154. ابن الاثير: المثل السائر 1 / 415

اما في كلام الإمام علیه السلام ففي الخطبة رقم (45) جاء بألفاظ (غير منقوط) موازنا بلفظه (ولا مخلو) فكل واحدة منهما على وزن مفعول ولفظة (ولا ميئوس) على وزن مفعول، لكنه في الفقرة الرابعة لم يمكنه من الاتيان بلفظه ما امكنه في الاولى فجاء بلفظه (ولا مستنكف) على وزن مستفعل وهو وإن كان خارجا عن الوزن، لكنه غير خارج عن المفعولية لأن (مستفعل) مفعول في الحقيقة، كقولك: (زيد مستحسن)، ثم وازن علیه السلام بين قوله (لا تبرح) وقوله (لا تفقد) وبين (رحمة) و (نعمة) فاعطت هذه الموازنات الكلام من الطلاوة والصنعة ما لا نجده عليه لو قال: (الحمد لله غير مخلو من نعمته، ولا مبعد من رحمته) لأن (مبعد) بوزن (مفعل) وهو غير مطابق، ولا مماثل لمفعول، بل هو بناء آخر، وكذلك لو قال: (لا تزول منه رحمة) فإن (تزول) ليست في المماثلة والموازنة ل(تفقد) ك(تبرح) حيث أنها معتلة، وتلك صحيحة! وكذلك لو قال:

(لا تبرح منه رحمة ولا يفقد له إنعام) فإن (إنعام) ليس في وزن (رحمة)(1).

ثاني عشر: التقسيم: هو ما يقتضيه المعنى مما يمكن وجوده من غير أن يترك منها قسم واحد، وإذا ذكرت قام كل قسم منها بنفسه. ولم يشارك غيره، فتارة يكون التقسيم بلفظة (إما) وتارة بلفظة (بين) كقولنا: (بين كذا وكذا) وتارة بلفظ (منهم) كقولنا (كذا ومنهم كذا) وتارة بأن يذكر العدد المراد أولا بالذكر ثم يقسم، كقولنا (فانشعب القوم شعبا اربعا، فشعبة ذهبت يمينا، وشعبة ذهبت شمالا، وشعبة وقفت بمكانها، وشعبة رجعت إلى ورائها) ومما جاء في القرآن من التقسيم (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا، فمنهم ظالم

ص: 569


1- الشرح: 3 / 153 - 154

نفسه، ومنهم مقتصد، ومنهم سابق بالخيرات(1)) (2).

ومما جاء في كلام الإمام علیه السلام قوله: (طبيب دوار بطبه، قد احكم مراهمه، واحمى مراسمه، يضع ذلك حيث الحاجة إليه، من قلوب عمي، وآذانٍ صمٍّ، والسنة بكم، متتبع بدوائه مواضع الغفلة، ومواطن الحيرة).

وهذا التقسيم صحيح حاصر، لأن الضلال ومخالفة الحق يكون بثلاثة امور: اما بجهل القلب، أو بعدم سماع المواعظ والحجج، أو بالامساك عن شهادة التوحيد وتلاوة الذكر، فهذه الضلال(3).

وقال علیه السلام في ذكر ملك الموت وكيفية قبضه لروح الجنين في بطن امه: (ايلج عليه من بعض جوارحها، أم الروح اجابته بإذن ربها، أم هو ساكن معه في احشائها!).

وهذا التقسيم حاصر لأنه مع فرضنا إياه جسما يقبض الارواح التي في الاجسام، اما أن يكون مع الجنين في جوف امه لقبض روحه عند حضور اجله أو خارجا عنها، والقسم الثاني ينقسم قسمين احدهما أن يلج جوف أمه لقبض روحه فيقبضها. والثاني: أن يقبضها من غير حاجة إلى الولوج إلى جوفها.

وذلك بان تطيعه الروح وتكون مسخرة إذا إراد قبضها امتدت إليه فقبضها.

وهذه القسمة لا يمكن الزيادة عليها، ولو قسمها واضع المنطق لما زاد(4).

ثالث عشر: التكرار: هو دلالة اللفظ على المعنى مرددا وينقسم على قسمين

ص: 570


1- سورة فاطر، الآية: 32
2- الخوارزمي: مفاتيح العلوم ص 48. ابن الاثير: المثل السائر 3 / 195. الجرجاني: التعريفات ص 34
3- الشرح: 7 / 183 - 184
4- الشرح: 7 / 237 - 239

يوجد في اللفظ والمعنى، كقولك لمن تستدعيه (اسرع اسرع) والثاني يوجد في المعنى دون اللفظ، كقولك (اطعني ولا تعصني) فإن الأمر بالطاعة نهي عن المعصية فحصل التكرار(1).

وقد اشتبه ذلك على البعض وتصوروا أنه اطناب أو تطويل(2) كما أُخذ على الإمام علیه السلام في ذكره كلمة الاجل مرتين، والملاحظ أنه علیه السلام استعمل هذه اللفظة في موضعين مختلفين المعنى، فقوله (استقربوا الاجل) يعني المدة وقوله: (فلاحظوا الاجل) يعني الموت(3).

رابع عشر: الامثال: المثل هو الشبه، لأن المثل يقارن بين الحادثة موضع الكلام وبين الحادثة التي ضرب من اجلها المثل(4).

أشار ابن أبي الحديد أن الإمام عليّاً علیه السلام سبق لاختراع ثلاثة امثال وإن كان قد سبق بمعناها، وهي قوله: (لا تجتمع عزيمة ووليمة) و (ما انقض النوم لعزائم اليوم) (أمحى الظلم لتذاكير الهمم)(5).

أورد الامام علیه السلام الغريب(6) من الالفاظ في كلماته ولما كان الشريف الرضي لم يورد الا القليل(7)، فآثر ابن أبي الحديد أن ينقل ما آثر من غريب كلام الإمام

ص: 571


1- ابن رشيق: العمدة 2 / 73 - 78. ابن الاثير: المثل السائر 3 / 7. الجرجاني: التعريفات ص 35
2- ابن الاثير: المثل السائر 3 / 7
3- الشرح 7 / 255
4- ابن رشيق: العمدة 1 / 277 - 286
5- الشرح: 11 / 143
6- كون الكلمة وحشية غير ظاهرة المعنى ولا مأنوسة الاستعمال. الجرجاني: التعريفات ص 86
7- نهج البلاغة 517 - 520. الشرح: 19 / 117

من المصنفات السابقة للشريف الرضي ككتاب غريب الحديثين لأبي عبيد القاسم بن سلام(1) وكتاب غريب الحديث لابن قتيبة(2). فعلى سبيل المثال قوله علیه السلام (والله لا أكون كالضبع تسمع اللدم حتى تخرج فتصاد)، واللدم صوت الحجر(3) وقوله علیه السلام: (لا جمعة ولا تشريق الا في مصر جامع). والتشريق صلاة العيد لأنها بعد شروق الشمس(4).

وقد حفل كلام الإمام علي علیه السلام بكثير من المواعظ(5) الزهدية والزواجر الدينية، ففي شرحه للخطبة رقم (216) قال ابن أبي الحديد: (هذا موضع المثل - ملعا يا ظليم والا فالتخوية(6) - من أراد أن يعظ ويخوف، ويقرع صفاة القلب، ويعرف الناس قدر الدنيا وتصرفها باهلها، فليأت بمثل هذه الموعظة في مثل هذا الكلام الفصيح، والا فليمسك، فإن السكوت استر، والعي خير من منطق يفضح صاحبه، ومن تأمل هذا الفصل علم صدق معاوية في قوله فيه:

(والله ما سنَّ الفصاحة لقريش غيره) وينبغي لو اجتمع فصحاء العرب قاطبة في مجلس، وتلي عليهم أن يسجدوا كما سجد الشعراء لقول عدي بن الرقاع قلم اصاب من الدواة مدادها(7)

ص: 572


1- غريب الحديثين: 2 / 129 - 159
2- غريب الحديث: 2 / 88 - 151
3- الشرح: 19 / 117. وانظر أبو عبيد: غريب الحديثين: 2 / 130
4- الشرح: 19 / 120. وانظر أبو عبيد: غريب الحديثين: 2 / 139
5- الوعظ: هو التذكير بالخير فيما يرق له القلب. الجرجاني: التعريفات ص 123 - 132
6- لم اجد معنى هذا المثل في كتب الامثال
7- لم اجده في ديوانه

فلما قيل لهم في ذلك قالوا: إنا نعرف مواضع السجود في الشعر كما تعرفون مواضع السجود في القرآن)(1).

وقال أيضاً: (واقسم بمن تقسم به الامم كلها، لقد قرأت هذه الخطبة منذ خمسين سنة وإلى الآن أكثر من الف مرة، ما قرأتها قط الا واحدثت عندي روعة وخوفا وعظة، واثرت في قلبي وجيبا، وفي اعضائي رعدة، ولا تأملتها الا وذكرت الموت من اهلي واقاربي، وارباب ودي، وخيلت في نفسي اني أنا ذلك الشخص الذي وصف علیه السلام حاله)(2).

وأردف قائلا: (وكم قد قال الواعظون والخطباء والفصحاء في هذا المعنى! وكم وقفت على ما قالوه وتكرر وقوفي عليه! فلم اجد لشيء منه مثل تأثير هذا الكلام في نفسي، فإما أن يكون ذلك لعقيدتي في قائله، أو كانت نية القائل صالحة، ويقينه كان ثابتا، واخلاصه كان محضا خالصا، فكان تأثير قوله في النفوس أعظم، وسريان موعظته في القلوب ابلغ)(3).

ولما قرأ ابن أبي الحديد - في أيام صباه - وصية الإمام علي علیه السلام لولده الحسن على ابن الفرج محمد بن عباد(4)، حيث كان ابن أبي الحديد يحفظها، وقد تضمنت من المواعظ، فلما وصل إلى قوله علیه السلام (رويدا يسفر الظلام كأن قد وردت الاضعان! يوشك من اسرع أن يلحق!) فصاح أبو الفرج صيحة شديدة

ص: 573


1- الشرح: 11 / 152 - 153
2- الشرح: 11 / 153
3- الشرح: 11 / 153 - 154
4- لم اعثر على ترجمته

وسقط، وكان جبارا قاسي القلب)(1).

واستنكر ابن أبي الحديد شغف الناس في المواعظ بابن الشخباء العسقلاني(2) وهو كاتب محدث، أورد له ابن أبي الحديد احسن ما وجده له (ليعلم الفرق بين الكلام الاصيل والمولد) وعلق قائلا: (هذه احسن خطبة خطبها هذا الكاتب، وهي كما تراها ظاهرة التكلف بينة التوليد، تخطب على نفسها)(3).

إذن فرجل الوعظ المسلم الذي يريد أن يكون واسع الافاق محتاج إلى نهج البلاغة وإن لم يفعل فإنه ظلَّام لنفسه، قليل الاحترام لعقله(4).

في الواقع إن كلامه علیه السلام الوارد في النهج ما هو الا شيء قليل جمعه الشريف الرضي لأنه كان يقصد إلى النادر من الفصيح من كلام الإمام، ولو أورد كل كلامه لجاء اضعاف كتاب النهج(5)، وقد أشار البحراني أحد شراح النهج: (قال قطب الدين الراوندي رحمه الله: سمعت بعض العلماء بالحجاز يقول: إني وجدت بمصر مجموعا من كلام عليّ علیه السلام في نيف وعشرين مجلدا)(6).

لذا حاول ابن أبي الحديد أن يجمع ما استطاع من كلام الإمام وخطبه وقصار كلماته في ثنايا شرحه للنهج وفي ختامه للشرح قال: (ونحن الآن

ص: 574


1- الشرح: 6 / 90 - 91
2- هو الحسن بن عبد الصمد بن أبي الشخباء العسقلاني ت 482 ه له خطب ورسائل وديوان شعر، قتل بالقاهرة مسجونا. ابن خلكان: وفيات الاعيان 2 / 89 - 91
3- الشرح: 10 / 126 - 127
4- العزيزي: الإمام علي ص 228
5- الشرح: 3 / 153
6- البحراني: شرح نهج البلاغة 1 / 101

ذاكرون ما لم يذكره الرضي مما نسبه قوم إليه، فبعضه مشهور عنه، وبعضه ليس بذلك المشهور، لكنه قد روي عنه وعزي إليه، وبعضه من كلام غيره من الحكماء، ولكنه كالنظير لكلامه والمضارع لحكمته، ولما كان ذلك متضمنا فنونا من الحكمة نافعة رأينا الا نخلي هذا الكتاب منه، لأنه كالتكملة والتتمة لكتاب نهج البلاغة وقد عددنا ذلك كله فوجدناه الف كلمة) لكنه أورد 998 فقط(1).

إن هذه الفصاحة اصبحت موضع استشهاد واقتباس الاخرين لاشتقاق كلام آخر منها، فقد أورد المبرد خطبة لاعرابي هي في الواقع من خطب الإمام علي علیه السلام وكان هذا الاعرابي يحفظها(2). واقتبس زياد بن أبيه والحجاج بن يوسف من الفاظ الامام في خطبه(3).

واخذ عبد الله بن الزبير قوله علیه السلام: (لوددت والله ان معاوية صارفني بكم صرف الدينار بالدرهم). فقال ابن الزبير على هذا المنوال:

(فوالله لوددت ان لي بكل عشرة من أهل العراق واحدا من أهل الشام صرف الدينار بالدراهم).(4) واقتبس من كلامه أيضاً (اطرح عنك واردات الهمّ بحسن الصبر وكرم العزاء) فقال ابن الزبير لما بلغه مقتل مصعب: (لقد جاءنا من العراق خبر احزننا واسرنا، جاءنا خبر مقتل مصعب فاما سرورنا فلأن ذلك كان له شهادة، وكان لنا إن شاء الله خِيرَة، واما الحزن فلوعة يجدها الحميم عند فراقه حميمه، ثم يرعوي بعدها ذوي الرأي إلى حسن الصبر وكرم العزاء)(5).

ص: 575


1- الشرح: 20 / 252 - 349
2- الشرح: 11 / 3 - 4. وانظر المبرد: الكامل في اللغة والادب 4 / 108
3- الشرح: 1 / 278 - 279
4- الشرح: 7 / 57
5- الشرح: 16 / 117

واخذ الفرزدق قوله علیه السلام: (وصار دين احدكم لعقة على لسانه) فقال للإمام الحسين علیه السلام (اما قلوبهم فمعك واما سيوفهم فعليك، والدين لعقة على السنتهم، فإذا محصوا قل الديانون»(1).

واخذ يزيد بن المهلب(2) لفظ الامام: «اعر الله جمجمتك» فقال: «اعيروني سواعدكم ساعة»(3). ونظر الحسن البصري إلى قوله علیه السلام: «من استغنى فيها فتن، ومن افتقر فيها حزن». فقال في مولود له: «لا مرحباً بمن إن كان غنياً فتنني، وإن كان فقيراً احزنني، وإن عاش كدّني، وإن مات هدّني»(4). واخذ أيضاً قوله علیه السلام: «ولا تسخط الله برضا أحد من خلقه، فإن في الله خلقاً من غيره، وليس من الله خلق في غيره». فقال لعمر بن هبيرة(5) امير العراق: «إن الله مانعك من يزيد، ولم يمنعك يزيد من الله»(6).

واخذ الخليفة الأموي الوليد بن يزيد بن عبد الملك: قوله علیه السلام: «على اثر الماضي من يمضي الباقي» فقال بعد موت مسلمة بن عبد الملك: «إن عقبي من بقي لحوق من مضى، وقد افتقد بعد مسلمة الصيد لمن رمى، واختل الثغر

ص: 576


1- الشرح: 7 / 249
2- هو أحد الامراء الأمويين في العراق والمشرق، ولكنه بعد ذلك ثار على يزيد بن عبد الملك وقتل في حروبه مع مسلمة بن عبد الملك. سنة 102 ه. الشرح 4 / 144 - 225. أنظر: اليعقوبي: تاريخ 3 / 44. الطبري: تاريخ 6 / 325 - 604. صفحات متفرقة
3- الشرح 1 / 242
4- الشرح 6 / 239
5- هو أحد الامراء الأمويين، تولى العراق وخرسان والجزيرة. توفي سنة 110 ه. أنظر الطبري: تاريخ 6 / 296 - 9، 523 - 622، 7 / 10 - 40
6- الشرح 15 / 167 - 168

فوهى، وارتج الطود فهوى، وعلى اثر من سلف ما يمضي من خلف، فتزودوا فإن خير الزاد التقوى»(1).

ومن دعائه علیه السلام: «اللهم إنا نشكو اليك غيبة نبينا، وكثرة عدونا وتشتت اهواءنا». اخذه سديف مولى أبي جعفر المنصور فقال: «اللهم أنا نشكو اليك غيبة نبينا، وتشتت اهوائنا، وما شملنا من زيغ الفتن، واستولى علينا من غشوة الحيرة، حتى عاد فيئنا دولة بعد القسمة». وقد وجد ابن أبي الحديد هذا الدعاء منسوباً إلى عليّ بن الحُسَين زَين العَابِدِين علیه السلام(2)، ولعله من كلامه وكان سديف يدعو به(3).

ومن قوله «لا مرحباً بوجوه لا ترى الا عند كل سوءة» اخذه المستعين بالله فقال لما دخل عليه ابن أبي الشوارب القاضي ومعه الشهود ليشهدوا عليه أنه قد خلع نفسه من الخلافة وبايع للمعتز فقال: «لا مرحباً بهذه الوجوه التي لا ترى الا يوم سوء»(4).

واشهر من اقتبس من كلام الإمام علیه السلام، الخطيب عبد الرحيم بن نباته الذي قال: «حفظت من الخطابة كنزاً لا يزيده الانفاق الا سعة وكثرة، حفظت مائة فصل من مواعظ علي بن أبي طالب»(5). وقد أخذ من خطبة الامام رقم (236) الكثير من الفاظها، واودعها خطبه، كقوله علیه السلام: «شديد كلبها، عال لجبها،

ص: 577


1- الشرح 7 / 83
2- لم اعثر عليه في الصحيفة السجادية
3- الشرح 15 / 112 - 113
4- الشرح 19 / 20
5- الشرح 1 / 24

ساطع لهبها، متغيظ زفيرها، متأجج سعيرها، بعيد خمودها، ذاكٍ وقودها، مخوف وعيدها، عم قرارها، مظلمة اقطارها، حامية قدورها، فظيعة امورها». «فإن هذه الالفاظ كلها قد اختطفها، واغار عليها واغتصبها، وسمَّط فيها خطبه، وشذّر بها كلامه»(1).

واستفاد ابن نباته من قوله علیه السلام: «فلو مثلتهم بعقلك، أو كشف عنهم محجوب الغطاء لك». اخذه وقال: «فلو كشفتم عنهم اغطية الاجداث، بعد ليلتين أو ثلاث، لوجدتم الاحداق على الخدود سائلة، والالوان من ضيق اللحود حائلة، وهوام الارض في نواعم الابدان جائلة، والرؤوس الموسدة على الإيمان زائلة، ينكرها من كان لها عارفاً، ويفر عنها من لم يزل لها آلفاً»(2).

كان ابن نباته ملازماً لسيف الدولة(3) لذا كثرت خطبه في الجهاد، وكانت مشابهة لخطب الامام علیه السلام، إلَّا أن هناك فرقاً في بلاغة الامام عن ابن نباته، فحينما أورد ابن أبي الحديد خطبة ابن نباته في الجهاد(4) علق قائلًا: «هذه آخر خطبة ابن نباته، فانظر إليها وإلى خطبته علیه السلام بعين الانصاف، تجدها بالنسبة إليها كمخنث إلى فحل، أو كسيف من رصاص بالاضافة إلى سيف من حديد، وانظر

ص: 578


1- الشرح 13 / 114
2- الشرح 11 / 162
3- هو الامير علي بن عبد الله بن حمدان التغلبي الملقب بسيف الدولة (303 - 356)، عرف بالشجاعة وكثرة وقائعه مع الروم البيزنطيين. أنظر الثعالبي: يتميه الدهر 1 / 37 - 56. ابن خلكان: وفيات الاعيان 3 / 401 - 406
4- الشرح 2 / 80 - 82. وقارن خطبته بخطبة للامام. الشرح 2 / 74 - 5. الجاحظ: البيان والتبين 2 / 53 - 55

ما عليها من اثر التوليد، وشين التكليف، وفجاجة كثير من الالفاظ، ألا ترى إلى فجاجة قوله «كأن أسماعكم تمج ودائع الوعظ، وكأن قلوبكم بها استكبار على الحفظ». وكذلك ليس يخفى نزول قوله: «تندون من عدوكم نديد الابل، وتدرعون له مدارع العجز والفشل»(1).

وفضلاً عن أن خطبة ابن نباته. يغلب عليها التوليد والتكلف، فإن الفاظها مسروقة من كلام امير المؤمنين علیه السلام: «ألا ترى إلى قوله علیه السلام: أما بعد فإن الجهاد باب من ابواب الجنة. وقد سرقه ابن نباته فقال: فإن الجهاد اثبت قواعد الإيمان، واوسع ابواب الرضوان، وارفع درجات الجنان. وقوله - علیه السلام -: من اجتماع هؤلاء القوم على باطلهم، وتفرقكم عن حقكم. سرقه أيضاً، فقال:

صرخ بهم الشيطان إلى باطله فاجابوه، وندبكم الرحمان إلى حقه فخالفتموه.

وقوله علیه السلام: قد دعوتكم إلى قتال هؤلاء القوم … إلى آخره، سرقه أيضاً فقال:

كم تسمعون الذكر فلا تعقلون! وتقرعون بالزجر فلا تقلعون، وقوله علیه السلام: حتى شنتَّ عليكم الغارات، وملكت عليكم الاوطان. سرقه أيضاً وقال: وعدوكم يعمل في دياركم عمله، ويبلغ بتخلفكم عن جهاده امله»(2).

ثم أكّد ابن أبي الحديد أن باقي خطب ابن نباته مسروقة أيضاً من خطب أخرى للامام ثم اوضح مقياساً للتمييز بين كلام الإمام علیه السلام وغيره قائلاً:

«نسبة شعر أبي تمام والبحتري وابي نؤاس ومسلم(3) إلى شعر امريء القيس

ص: 579


1- الشرح 2 / 82
2- الشرح 2 / 82
3- شعراء من العصر العباسي. أنظر تراجمهم في: ابن المعتز: طبقات الشعراء ص 193 - 217، 235 - 240، 283 - 7، 394 - 5

والنابغة وزهير والاعشى(1)، هلا إذا تأملت اشعار هؤلاء واشعار هؤلاء، تجد نفسك حاكمة بتساوي القبيلتين! وبتفضيل أبي نؤاس واصحابه عليهم؟ ما اظن أن ذلك مما تقوله أنت ولا قاله غيرك، ولا يقوله الا من لا يعرف علم البيان، وماهية الفصاحة، وكنه البلاغة، وفضيلة المطبوع على المصنوع، ومزية المتقدم على المتأخر، فإذا اقررت من نفسك بالفرق والفضل، وعرفت فضل الفاضل ونقص الناقص، فأعلم أن نسبة كلام أمير المؤمنين علیه السلام إلى هؤلاء هذه النسبة، بل اظهر، لأنك تجد في شعر امريء القيس واصحابه من التعجرف. والكلام الحوشي، واللفظ الغريب المستكره شيئاً كثيراً، ولا تجد من ذلك في كلام امير المؤمنين علیه السلام شيئاً، وأكثر فساد الكلام ونزوله إنما هو باستعمال ذلك»(2).

وأضاف قائلاً: «فان شئت ان تزداد استبصاراً فانظر إلى القرآن العزيز وأعلم أن الناس قد اتفقوا على أنه في أعلى طبقات الفصاحة، وتأمله تأملاً شافياً، وانظر إلى ما خصّ به من مزية الفصاحة والبعد عن التقعير والتقعيب(3)، والكلام الحوشي الغريب، وانظر كلام أمير المؤمنين علیه السلام، فإنك تجده مشتقاً من الفاظه، ومقتضباً من معانيه ومذاهبه، ومحذواً به حذوه، ومسلوكاً به في منهاجه، فهو وإن لم يكن نظيراً ولا نداً، يصلح أن يقال أنه ليس بعده كلام افصح منه، ولا أجزل، ولا اعلى ولا افخم ولا انبل، إلّا أن يكون كلام ابن عمه علیه السلام، وهذا أمر لا يعلمه الا من ثبتت له قدم راسخة في علم هذه الصناعة، وليس كل الناس يصلح لانتقاد

ص: 580


1- شعراء من عصر ما قبل الإسلام. أنظر معلقاتهم، وتراجمهم في ابن قتيبة: الشعر والشعراء 1 / 48 - 88، 92 - 109، 178 - 186
2- الشرح: 2 / 83
3- أي التعمق في الكلام والتشدق به. أنظر الجوهري:الصحاح 1 / 204، 2 / 797

الجوهر، بل ولا لانتقاد الذهب، ولكل صناعة أهل، ولكل عمل رجال»(1).

ثم أورد ابن أبي الحديد خطبة أخرى لابن نباته في الجهاد، واخذ يقارن بينها وبين خطب الامام داعياً القارئ للتامل حيث أن ابن نباته، وإن كان قد أخذ من صناعة البديع بنصيب، لكنه بالمقارنة مع بلاغة الامام نجد كلامه في حضيض الارض بينما كلام الإمام في اوج السماء، فلو قورن ما جاء في استخدام ابن نباته لزوم ما لا يلزم الذي نجده فيه مقتدراً قوة وكتابة نحو قوله «كنز» بازاء «حوز» و «عز» وقوله «مشاهدة» بازاء «مجاهدة» و «مغالبة» بازاء «محاربة» و «وحدوده» بازاء «تشييده»(2).

لكن هذا الكلام إذا قورن بكلام الإمام عليّ علیه السلام يكون كدار مبنية من اللبن والطين، مموهة الجدران بالنقوش والتصاوير مزخرفة بالذهب من فوق الجص والاستيداج، قياساً إلى دار مبنية بالصخر الاصم الصلد المسبوك بينه عمد الرصاص والنحاس المذاب، وهي مكشوفة غير مموهة ولا مزخرفة، حيث بين هاتين الدارين بوناً بعيداً وفرقاً عظيماً، فقد اقتبس ابن نباته من كلام الإمام عبارة: «ما غزي قوم في عقر دارهم الا ذلوا»، فكانت هذه العبارة «تصيح من بين الخطبة صياحاً، وتنادي على نفسها نداءاً فصيحاً، وتعلم سامعها أنها ليست من المعدن الذي خرج باقي الكلام منه، ولا من الخاطر الذي صدر ذلك السجع منه، ولعمر الله لقد جملت الخطبة وحسنتها وزانتها، وما مثلها فيها الا كآية من الكتاب العزيز يتمثل بها في رسالة أو خطبة، فإنها تكون كاللؤلؤة المضيئة تزهر

ص: 581


1- الشرح 2 / 83
2- الشرح 2 / 84

وتنير، وتقوم بنفسها وتكتسي الرسالة بها رونقاً، وتكتب بها ديباجة»(1).

وأضاف: وإذا اردت تحقيق ذلك، فانظر إلى السجعة الثانية التي تكلفها ليوازنها بها، وهي قول: «ولا قعدوا عن صون ديارهم الا اضمحلوا» فانك إذا نظرت إليها وجدت عليها من التكلف والغثاثة ما يقوى عندك صدق ما قلته لك(2).

على أن بعض من كلام ابن نباته ليس بجيد: «وحرز طهر الله به اجسادكم» فإنه لا يقال في الحرز إنه يطهر الاجسام، وكان الأليق أن يقول: «حصن الله به اجسامكم». ولكنه ذكر «طهر» ليكون بازاء «وقر» واظهر» فأدّاه حب التقابل إلى ما ليس بجيد(3).

ولما كان ابن نباته الفائز بقصبات السبق من الخطباء في عصره فكان للناس غرام بخطبه، لذا أورد ابن أبي الحديد فصولاً من خطبه بوصفه الخطيب الذي وقع الإجماع على خطابته وحسنها، وان مواعظه هي الغاية التي ليس بعدها غاية.

وبعد ايراده لخطبة، قال ابن أبي الحديد: «فلينظر المنصف هذا الكلام، وما عليه من اثر التوليد، أولاً بالنسبة إلى ذلك الكلام العربي المحض، ثم لينظر فيما عليه من الكسل والرخاوة، والفتور والبلادة، حتى كأن ذلك الكلام لعامر بن الطفيل، مستلئماً كته، راكباً جواده، وهذا الكلام للدلال المديني المخنث(4) آخذ زمارته، متابطاً دفه»(5). وأضاف: «والمح ما في قوله «بوق الرحيل» من السفسفة واللفظ

ص: 582


1- الشرح 2 / 84 - 85
2- الشرح 2 / 85
3- الشرح 2 / 85
4- اسمه ناقد، وكنيته أبو زيد من أهل المدينة. أبو الفرج: الاغاني 4 / 266 - 295
5- الشرح 7 / 211 - 213

العامي الغث، وأعلم انهم كلهم عابوا على أبي الطيب المتنبي قوله(1):

فإن كانَ بعضُ الناسِ سيفاً لدولةٍ *** ففيِ الناسِ بوقاتٌ لها وطبولُ وقالوا: لا تدخل لفظة «بوق» في كلام يفلح أبداً. والمح ما على قوله: «القهقري، القهقري» متكررة من الهجنة، واهجن منها (أم حبو كرى) وأين هذا اللفظ الحوشي، الذي تفوح منه روائح الشيح والقيصوم وكأنه من اعرابي قح قد قدم من نجد لا يفهم محاورة أهل الحضر، ولا أهل الحضر يفهمون حواره؛ من هذه الخطبة اللينة الالفاظ التي تكاد أن تنثني من لينها، وتتساقط من ضعفها!»(2).

«ثم المح هذه الفقرة والسجعات التي اولها «القرى» ثم «المرا» ثم «يفترى» ثم «الكرى» إلى قوله «عبرت لمن يرى» هل ترى تحت هذا الكلام معنىً لطيفاً، أو مقصداً وشيقاً! أو هل تجد اللفظ نفسه لفظاً جذلاً فصيحاً، أو عذباً معسولاً! وإنما هي الفاظ قد ضم بعضها إلى بعض، والطائل تحتها قليل جداً. وتأمل لفظة «مرا» فإنها محدودة في اللغة، فإن كان قصرها فقد ركب ضرورة مستهجنة وإن إراد جمع مرية، فقد خرج من الصناعة، لأنه يكون قد عطف الجمع المفرد، فيصير مثل قول القائل «ما اخذت منه ديناراً ولا دراهم» في أنه ليس بالمستحسن في فن البيان»(3).

وقال في وصفه كلاماً آخر لابن نباته: فليتأمل أهل المعرفة بعلم الفصاحة

ص: 583


1- ديوانه ص 225
2- الشرح 7 / 213
3- الشرح 7 / 213 - 214

والبيان هذا الكلام بعين الانصاف، يعلموا أن سطراً واحداً من كلام نهج البلاغة يساوي الف سطر منه، بل يزيد ويربى على ذلك، فإن هذا الكلام ملزق عليه اثار كلفة، وهجنة ظاهرة يعرفها العامي فضلاً عن العالم(1).

وقال أيضاً: هل يجد من يتصفح كلام ابن نباته هذا عذوبة أو معنى يمدح الكلام لاجله؟ وهل هو الا الفاظ مضموم بعضها لبعض، ليس لها حاصل، كما قيل في شعر ذي الرمة(2)، «بعر ظباء ونقط عروس»(3) ويخلص للقول «إن كلام ابن نباته يتميز بالركاكة والتكلف، ولو قاله خطيب من خطباء السواد، لم يستحسن منه، بل ترك واسترذل»(4).

ولكن أليس مما يعاب عليه أن نوازن بين كلام الإمام علي علیه السلام وكلام ابن نباته، وما هذا الا بمنزلة القول: «السيف امضى من العصا». وفي هذا غضاضة على السيف!؟.

وفي الواقع انه قد اشتملت كتب المتكلمين على المقايسة بين كلام الله تعالى وبين كلام البشر ليبينوا فضل القرآن، وزيادة فصاحته على فصاحة كلام العرب، نحو مقايستهم بين قوله تعالى:

«وَلَكُمْ فيِ الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوليِ الْأَلْبَابِ»(5).

ص: 584


1- الشرح 7 / 214
2- هو غيلان بن عقبة بن نهيس بن مسعود العدوي (77 - 87) أحد الشعراء في العصر الأموي. ابن قتيبة: الشعر والشعراء 2 / 437 - 447. ابن خلكان: وفيات الاعيان 4 / 11 - 17
3- هو وصف جرير لشعر ذي الرمة. أنظر ابن قتيبة: الشعر والشعراء 2 / 437
4- الشرح 2 / 215
5- سورة البقرة، الآية: 179

وبين قول القائل «القتل أنفى للقتل» وبين قوله تعالى:

«خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ باِلْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ»(1).

وبين قول الشاعر(2):

فإن عَرَضوا بالشعرِ فاصفَحْ تكرُّماً *** وإن كَتَموا عنكَ الحديثَ فلا تَسَلْ وكذلك عند مقايسة كلام مسيلمة، واحمد بن سليمان المعري، وعبدالله بن المقفع بالقرآن الكريم، لبيان أنه لا يبلغ كلامهم درجة القرآن، ولا يقاربها.

اذن فلا مانع من ذكر كلام ابن نباته مع كلام الإمام عليّ علیه السلام لتظهر فضيلة كلام الإمام علیه السلام، بالنسبة إلى هذا الخطيب الفاضل الذي اتفق على أنه اوحد عصره في فنه. وهذا أمر لا ينكر «ولكن قوماً من أهل العصبية والعناد، يزعمون أن كلامه يساوي كلام أمير المؤمنين علیه السلام ويماثله، وقد ناظر بعضهم في ذلك فاحببت أن أبيّن للناس في هذا الكتاب انه لا نسبة لكلامه إلى كلام الإمام علیه السلام وأنه بمنزلة شعر الأبله(3) وابن المعلم(4) مقارنة بشعر زهير والنابغة»(5).

ويخلص ابن أبي الحديد للقول: «إن معرفة الفصيح والافصح، والرشيق

ص: 585


1- سورة آل عمران، الآية: 199
2- لم يتسن لي معرفة قائله
3- هو محمد بن بختيار بن عبدالله أحد شعراء بغداد ت 579 ه، وسمي بالابله لقوة ذكائه. القفطي: المحمدون من الشعراء ص 235 - 6. ابن خلكان: وفيات الاعيان 4 / 463 - 5. الصفدي: الوافي 2 / 242. ابن تغري: النجوم الزاهرة 6 / 95
4- هو محمد بن علي بن فارس الهرثي من شعراء واسط، ت 592 ه. ابن خلكان: وفيات الاعيان 5 / 5 - 9. ابن تغري: النجوم الزاهرة 6 / 102، 104
5- الشرح 7 / 215 - 216

والارشق، والحلو والاحلى، والعالي والاعلى من الكلام أمر لا يدرك الا بالذوق(1)، ولا يمكن إقامة الدلالة المنطقية عليه، وهو بمنزلة جاريتين:

احدهما بيضاء مشربة بحمرة دقيقة الشفتين، نقية الثغر، كحلاء العينين، اسيلة الخد، دقيقة الانف، معتدلة القامة. والاخرى دونها في هذه الصفات والمحاسن؛ ولكنها احلى في العيون والقلوب منها، واليق واصلح، ولا يدرى لاي سبب كان ذلك، ولكنه بالذوق والمشاهدة يعرف ولا يمكن تعليله، وهكذا الكلام.

نعم يبقى الفرق بين الموضعين إن حسن الوجوه وملاحتها، وتفضيل بعضها على بعض يدركه كل من له عين صحيحة، واما الكلام فلا يعرفه الا أهل الذوق، ليس كل من اشتغل بالنحو واللغة أو بالفقه كان من أهل الذوق، وممن يصلح لانتقاد الكلام؛ وإنما أهل الذوق هم الذين اشتغلوا بعلم البيان، وراضوا أنفسهم بالرسائل والخطب والكتابة والشعر، وصارت لهم بذلك دربة وملكة تامة(2)، فالى اولئك ينبغي أن نرجع في معرفة الكلام وفضل بعضه على بعض ان كنت عادماً لذلك من نفسك»(3).

من خلال ما أشار إليه ابن أبي الحديد أعلاه يتضح أنه ليس باستطاعة أي شخص أن يرجع النص إلى النصوص السابقة عليه، التي أخذ منها، إذ أن شخصاً مثل هذا يجب أن يكون واسع المعرفة والاطلاع والحفظ، وممتلكاً قابلية ذوق عالية كي يكشف النصوص المعدلة، وهذا النوع من النقاد هو الذي يتمكن من كشف المصادر التي استعان بها مؤلفو النصوص دون الاشارة إليها، إذ كثيراً ما يسرق بعض المؤلفين نصوصاً كاملة دون التنبيه إلى مصدرها الاصلي، ومعرفة

ص: 586


1- عن معنى الذوق عند ابن أبي الحديد أنظر: حامد الظالمي: ابن أبي الحديد ص 72 - 76
2- أنظر حامد الظالمي: ابن أبي الحديد ص 73 - 75
3- الشرح 7 / 216 - 217

هذه النصوص المسروقة من اهم ما يجب على الباحث معرفته لئلا يقع في خطأ الاستنتاج وإن الانتباه لهذه النصوص المسروقة يعود أولاً للتطابق التام بين النصوص. ولكنه احياناً يسرق الثاني من الأول نصاً معيناً يحاول إخفاء هذه السرقة بتعديل أو تغيير الالفاظ في النص، وقد لاحظنا ابن أبي الحديد قد قارن بين النصوص، وأكد على وجود التناص الموجود بينهما، والتناص هو التقاطع والتعديل المتبادل بين وحدات عائدة لنصوص مختلفة وقد استخدم ابن أبي الحديد عدة الفاظ تدل على وجود التناص أو السرقة وهي «سرقة،مصاله، اخذه، بعينه، اختطفها، أغار عليها، اغتصبها» وهذه الكلمات تطلق على اقبح انواع السرقات حيث لمح ابن أبي الحديد أن السارق كان ياخذ النص بعينه أو بمعناه(1).

- واخذ الحريري(2) ت 516 ه كلمته علیه السلام: «كم من اكلة تمنع اكلات» فقال في المقامات «رب اكلة هاضت الآكل، ومنعته مآكل»(3) - وأثبت ابن أبي الحديد معنى قوله علیه السلام: «أهل الدنيا كركب يسار بهم وهم نيام» في رسالة كتبها إلى أحد اصدقائه يعزيه فقال: «لو تأمل الناس احوالهم، وتبينوا مآلهم، لعلموا ان المقيم منهم بوطنه، والساكن إلى سكنه، أخو سفر يسري به وهو لا يسري، وراكب بحر يجري به وهو لا يدري»(4).

- اما الشعراء فقد اقتبسوا من كلامه علیه السلام ووظفوه في شعرهم فقد نظر

ص: 587


1- حامد الظالمي: ابن أبي الحديد وجهوده النقدية ص 56 - 57
2- هو القاسم بن علي بن محمد الحريري البصري (446 - 516 ه) صاحب المقامات الحريرية ومؤلفات آخر. ابن خلكان: وفيات الاعيان 4 / 63 - 68. السبكي: طبقات الشافعية 4 / 295 - 7. البغدادي: خزانة الأدب 3 / 117 - 118
3- الشرح 18 / 397. وانظر المقامات ص 43
4- الشرح 18 / 209

الفرزدق ت 110 ه إلى قوله علیه السلام: ((وفرّوا إلى الله من الله» فقال يمدح سعيد بن العاص(1):

اليك فَرَرتُ منكَ ومن زيادٍ *** ولم أحسب دمي لَكُم حَلالاً - ومن قوله علیه السلام: «وظهرت آثار صنعته، ودلائل حكمته في مخلوقاته فكانت وهي صامتة في الصورة ناطقة في المعنى بوجوده وربوبيته سبحانه» فنظر إلى ذلك أبو العتاهية ت 211 وقال(2):

فوا عجباً كيف يُعصى الإلهُ *** أم كيفَ يجحدُهُ الجاحدُ وفي كلِّ شيءٍ لهُ آيةٌ *** تدلُّ على أنَّهُ واحِدُ ونظر أبو العتاهية أيضاً لقوله علیه السلام:» وقد مضت اصول نحن فروعها فما بقاء فرع بعد ذهاب اصله» فصرح بنفس معناه قائلا(3):

كلُّ حياةٍ إلى مماتِ *** وكلُّ ذيِ جدة يحولُ كيفَ بقاءُ الفروعِ يوماً *** وقد ذوتِ قَبلهَا الأصولُ! وكذلك نظر لقوله علیه السلام: «لا جاءٍ يرد ولا ماض يرتد» فقال أبو العتاهية(4):

فلا أنا راجعٌ ما قَدْ مَضَى لي *** ولا أنا دافعٌ ما سوفَ يأتي ومن قول الامام علیه السلام يعزي الاشعث بن قيس «يا اشعث! إن صبرت جرى عليك القدر وأنت مأجور، وان جزعت جرى عليك القدر وأنت مأزور» فقال

ص: 588


1- الشرح 1 / 133. وانظر ديوان الفرزدق 2 / 07
2- الشرح 6 / 214. وانظر ديوان أبي العتاهية ص 221
3- الشرح 9 / 39. لم اجده في ديوان أبي العتاهية
4- الشرح 6 / 652. لم اجده في ديوان أبي العتاهية

أبو العتاهية لمن يعزيه في ولد له: ولا بد من جريان القضاء اما مثاباً واما اثيما(1).

ولما قال علیه السلام لمن سأله: ما أكثر حب الناس للدنيا! فقال علیه السلام: هم ابناؤها؛ ايلام الانسان على حب امه. فقال محمد بن وهب الحميري ت 225 ه(2):

ونحنُ بنو الدنيا خُلِقْنا لغَيرِها *** وما كنتَ منهُ فهوَ شيءٌ محبّبُ ومن قوله علیه السلام للاشعث: إن صبرت صبر الاكارم، والا سلوت سلوّ البهائم.

قال أبو تمام ت 231 (3):

وقال عليُّ في التعازي لاشعثٍ *** وخافَ عليه بعضَ تلكَ المآثمِ اتصبرُ للبلوى عزاءً وحِسبةً *** فتؤجرُ أم تَسلو سُلوُّ البهائمِ ونظر البحتري لقوله علیه السلام: «علا بحوله، ودنا بطوله» فقال(4):

دنوتَ تواضُعاً وعلوتَ قَدْراً *** فشاناكَ انخفاضٌ وارتفاعُ كذاكَ الشمسُ تبعدُ إن تسامى *** ويدنو النورُ مِنها والشعاعُ -واخذ أبو العلاف(5) الشاعر ت 318 ه كلمته علیه السلام «كم من اكلة تمنع اكلات» فقال يرثي سنوّره(6):

أردت أن تأكلَ الفِراخَ ولا *** يأكُلُكَ الدهرُ أكلَ مضطهدِ

ص: 589


1- الشرح 19 / 192. لم اجده في ديوان أبي العتاهية
2- الشرح 8 / 290
3- الشرح 20 / 5. وانظر إلى ديوان أبي تمام ص 282
4- الشرح 6 / 242. وانظر ديوان البحتري 2 / 1247
5- هو أبو بكر هبة الله بن الحسين. أنظر: الثعالبي: يتيمة الدهر 3 / 485 - 487
6- الشرح 18 / 397. وانظر الزمخشري: ربيع الابرار 4 / 428 - 9

يا مَن لذيذُ الفِراخ أوقَعَهُ *** ويحَكَ هلّا قنَعتَ بالقدرِ كَمْ أكلةٍ خارتْ حشَا شَرِهٍ *** فأخرجَتْ روحَهُ منَ الجَسَدِ واقتبس المتنبي من قوله علیه السلام «واكتحلت ابصارهم بالتراب» فقال(1):

ويَدفُنُ بعضُنا بعضاً ويمشي *** آواخِرُنا على هامِ الاوالي وكَمْ عن مقبَّلَةِ النواصي *** كحيلٍ بالجنادلِ والرمالِ ومغضٍ كانَ لا يُغضي لخطبٍ *** وبالٍ كانَ يفكرُ في الهزالِ وكذلك نظر لقوله علیه السلام: «مقاربة الناس في أخلاقهم أمن من غوائلهم» فقال(2):

وخِلَةٌ في جليسٍ أتّقيهِ بها *** كيما يرى أننا مثلانِ في الوَهنِ وكلمةٍ في الطريقِ خِفتُ أعرِبُها *** فيهتدي لي فَلم أقدِر على اللحنِ ومن وصفه علیه السلام للدنيا: «أولها عناء وآخرها فناء» اقتبس الشريف الرضي ت 406 ه فقال(3):

وأوَّلُنا العناء إذا طَلَعنا *** إلى الدنيا وآخرُنا الذهابُ وكذلك اقتبس من كلامه: «لكل امرئ في ماله شريكان: الوارث والحوادث». فقال(4):

ص: 590


1- الشرح 11 / 163. وانظر ديوانه ص 204
2- الشرح 20 / 30. وانظر ديوانه ص 349 - 350
3- الشرح 6 / 238. وانظر ديوانه 1 / 101
4- الشرح 19 / 251. وانظر ديوانه 1 / 228

خُذْ من تُراثِكَ ما استطعتَ فإنما *** شركاؤك الأيامُ والورَّاثُ لم يقضِ حقَ المالِ إلَّا معشرٌ *** نَظروا الزمانَ يُعثَ فيهِ فَعاثوا واخذ الطغرائي(1) قوله علیه السلام: «خيار خصال النساء شرار خصال الرجال:

الزهو والجبن والبخل، فإذا كانت المرأة مزهوة لم تمكن من نفسها، وإذا كانت بخيلة حفظت مالها ومال بعلها، وإذا كانت جبانة فرقت من كل شيء يعرض لها». فقال الطغرائي(2):

الجودُ والاقدامُ في فِتيانِهم *** والبخلُ في الفتياتِ والإشفاقُ والطعنُ في الاجداثِ دآبُ رُماتِهِم *** والرَّامياتُ سِهامُها الأحداقُ اما ابن أبي الحديد فقد أشار لعدة اقتباسات له من كلام الإمام علیه السلام وتوظيفه في شعره، فمن قوله علیه السلام: «ومن ابصر بها بصرته، ومن ابصر إليها اعمته». فقال ابن أبي الحديد(3):

دنياكَ مثلَ شمسٍ تُدني اليكَ *** الضوءَ لكن دعوةَ المهلِكِ إن أنتَ ابصرتَ إلى نورِها *** تعش وإن تُبصرِ بهِ تُدرِكِ ومن قوله علیه السلام: «لا يزهدنّك في المعروف من لا يشكره لك، فقد يشكرك عليه من لا يستمتع بشيء منه، وقد يدرك من شكر الشاكر أكثر مما اضاع الكافر،

ص: 591


1- هو الحسين بن علي بن محمد (455 - 513) شاعر ومن الوزراء والكتّاب لدى السلاجقة في الموصل. ابن خلكان: وفيات الاعيان 2 / 185 - 190. الأعلام: الزركلي 2 / 146
2- الشرح 19 / 65. أنظر ديوان الطغرائي ص 261
3- الشرح 6 / 239

والله يحب المحسنين». فقال ابن أبي الحديد(1):

لا تُسديَّن إلى ذي اللؤمِ مَكرُمَةً *** فإنه سبخٌ لا يُنبتُ الشَجرا فإن زرعتَ فمحفوظ بمضيعةٌ *** واكلُ زرعِكَ شكر الغير إن كَفَرا ومن قوله علیه السلام: «إذا قدرت على عدوك، فاجعل العفو عنه شكراً للقدرة عليه» فقال ابن أبي الحديد(2):

إن الامانيَ أكسابُ الجهولِ فلا *** تقنَعْ بها واركب الأهوال والخطرا واجعل من العقلِ جهلاً واطَّرح نَظَرا *** في الموبقاتِ ولا تستشعِرِ الحَذَرا وإن قَدَرتَ على الأعداءِ مُنتصراً *** فاشكر بعفوِكَ عن اعدائِكَ الظَفَرَا ومن قوله علیه السلام «والله إن امرءاً يمكّن عدوه من نفسه، يعرق لحمه ويفري جلده، لعظيم عجزه، ضعيف ما ضمت عليه جوانح صدره، أنت فكن ذاك إن شئت، فاما أنا فوالله دون أن اعطى ذلك ضرباً بالمشرفية …» قال ابن أبي الحديد(3):

إن امرءاً امكَنَ من نفسهِ *** عدوُّه يجدحُ آرابَهُ لا يدفَعُ الضيمَ ولا ينكُر الذُّ *** ل ولا يحصِنُ جلبابَهُ لفائِلُ الرأيِ ضعيفُ القِوى ***قد صَرَمَ الخذلانُ أسبابَهُ أنتَ فكُنْ ذاك فإنّی امرؤٌ *** لا يرهَبُ الخطبَ إذا نابهُ

ص: 592


1- الشرح 19 / 24. وانظر عبد الجبار سالم عبد الكريم: شعر عبد الحميد هبة الله ص 202
2- الشرح 18 / 109
3- الشرح 2 / 189، 192. عبد الكريم: شعر عبد الحميد بن هبة الله ص 148

إن قالَ دهرٌ لم يُطع اوشحا *** له فم ادرد انيابهُ أو سامه الخسف أبي وانتضى *** دونَ مرامِ الخسُفِ قرضابهُ اخزَرُ غضبانَ شديدَ السطا *** يقدِرُ أن يَترُكَ ما رابهُ وكذلك اقتبس من قولين للامام احدهما: «فاعل الخير خير منه، وفاعل الشر شر منه» والاخر: «ليس شيء بشر من الشر الا عقابه، وليس شيء بخير من الخير الا ثوابه». فقال ابن أبي الحديد(1):

خرُ البضائعِ للانسانِ مكرمةٌ *** تُنمي وتزكو إذا بارَت بضائِعُهُ فالخیرُ خیرٌ وخیرُ منهُ فاعِلُهُ **** والشرُّ شرُّ وشُّر منهُ صانعهُ ومن وصيته علیه السلام لابنه الحسن علیه السلام: «اياك ومصادقة الاحمق، فإنه يريد أن ينفعك فيضرك». قال ابن أبي الحديد(2):

حياتَك لا تصحبَنَّ الجهوُل *** فلا خیرَ في صحبةِ الاخرقِ يظنُّ أخو الجهلِ أنَّ الضلالَ *** عنُ الرشادِ فلا يتّقِي ويُكسِبُ صاحِبَهُ حُمقَهُ *** فيسرُقُ منهُ ولا يَسرُقِ واقُسِمُ أنَّ العدوَ اللبيبَ *** خیرٌ من المشفِقِ الأحمقِ واشار ابن أبي الحديد إلى اقتباس عدد من الشعراء من كلمات الامام وتوظيفها في اشعارهم، لكنه لم يذكر اسماء الشعراء.

فمن قوله علیه السلام في مصقلة بن هبيرة أحد ولاته حينما هرب لمعاوية: «قبح الله

ص: 593


1- الشرح 7 / 257، 18 / 149. وانظر عبد الكريم: شعر عبد الحميد هبة الله ص 219
2- الشرح 18 / 157. وانظر عبد الكريم: شعر عبد الحميد هبة الله ص 225

مصقلة! فعل فعل السادة وفرّ فرار العبيد، فما انطق مادحه حتى اسكته، ولاصدق واصفه حتى بكته، ولو اقام لاخذنا ميسورة، وانتظرنا بما له موفورة».

اقتبس أحد الشعراء(1):

يا مَنْ مدحناهُ فأكذَبَنا *** بِفِعاله وأثابَنا خَجَلا بَرداً قشيباً من مدائِحِنا *** سربلتُ فاردُدْهُ لنا سَمِلا إنَّ التجاربَ تهتكُ المستوَر مِن *** ابنائِها وتُبهرِجُ الرَّجُلا ونظر أحد الشعراء لقوله علیه السلام «في حلالها حساب وفي حرامها عقاب»، فقال(2):

الدهرُ يومانِ فيومٌ مضى *** عنك با فيه ويومٌ جديدْ حلالُ يومَيك حسابٌ وفي *** حرامِ يومَيك عذابٌ شديدْ تجمَعُ ما يأكُلُهُ وارثٌ *** وأنت في القبرِ وحيدٌ فريدْ إني لغري واعظٌ تاركٌ *** نفسي وقولي من فعالي بعيدْ حلاوةُ الدُنيا ولذّاتُها *** تكلِّفُ العاقلَ ما لا يريدْ وقال أحد الشعراء مقتبساً من قوله علیه السلام «يجمع ما لا ياكل، ويبني ما لا يسكن»(3).

اموالنا لذوي المیراث نجمعُهَا *** ودورُنا لخرابِ الدهر نبنيها

ص: 594


1- الشرح 3 / 119
2- الشرح 6 / 239
3- الشرح 6 / 256

ومن قوله علیه السلام: «ما اقرب الحي من الميت للحاق به، وما ابعد الميت من الحي لانقطاعه عنه» اقتبس أحد الشعراء فقال(1):

يا بعيد عني وليسَ بعيداً *** من لحِاقي بهِ سميعٌ قريبُ حُدْتَ بینَ الورى غريباً كما *** إنَّك تحتَ الثرى وحيدٌ غريبُ واخذ شاعر قوله علیه السلام في الحرب: (حلواً رضاعها، علقماً عاقبتها) فقال(2):

الحربُ أول ما تكونُ فتيةً *** تسعى بزينَتِها لكلِ جَهولِ حتى إذا اشتعَلَتْ وشبَّ ضِرامُها *** عادت عجوزاً غير ذاتِ حلِيلِ شمطاءَ جزَّتْ رأسَها وتنكَرَتْ *** مكروهةً للشمِّ والتقبيلِ ومن قوله علیه السلام: «جديد بلى» أخذ شاعر فقال(3):

يا دارُ غادرتي جليلَ بلاكِ *** رثَّ الجديدُ فهلْ رتبتِ لذاكِ وقال شاعر مقتبساً من كلامه علیه السلام: «شتان ما بين عملين، عمل تذهب لذته، وتبقى تبعته، وعمل تذهب مؤونته، ويبقى اجره»(4):

تَفنى اللذاذَةُ مِمَّنْ نالَ بُغيَتَهُ *** من الحرامِ ويبقى الاثمُ والعارُ تَبقى عواقبُ سوءٍ في مَغَبَّتِها *** لا خيَر في لذّةٍ من بعدِها النارُ وقال علیه السلام ساعة دفنه للنَّبيّ صلی الله علیه و آله وسلم: «إن الصبر لجميل الا عنك وإن الجزع لقبيح

ص: 595


1- الشرح 6 / 256 - 257
2- الشرح 9 / 12، 41 / 119
3- الشرح 11 / 163
4- الشرح 11 / 163

الا عليك، وإن المصاب بك لجليل وإنه بعدك لقليل». فقال أحد الشعراء(1):

امسَت بجَفنيَ للدموعِ كُلُومُ *** حُزناً عليكَ وفي الخدودِ رسومُ والصَّبر يُحمَدُ في المواطنِ كُلِّها *** إلَّا عليك فإنهُ مَذمومُ وقال احدهم مقتبساً من كلامه علیه السلام: «ما لابن آدم والفخر! اوله نطفة، وآخره جيفة، لا يرزق نفسه، ولا يدفع حتفه»(2).

ما بالُ من اوله نطفةٌ *** وجيفةٌ اخرهُ يَفْخَرُ يُصبحُ ما يَملكُ تقديرَ ما *** يرجو ولا تأخیرَ ما يحذُرُ لقد كان مصدر الإمام علیه السلام الأول في هذه القمة من الفصاحة هو كلام الله وكلام رسوله صلی الله علیه و آله وسلم، فكان علیه السلام كثيراً ما يستشهد بالآيات القرآنية والاحاديث النبوية، ويوظفها في خطبه ورسائله، وقد أكد على ذلك الشريف الرضي بقوله: «لأن كلامه علیه السلام الكلام الذي عليه مسحة من العلم الالهي، وفيه عبقة من الكلام النبوي»(3).

فعلى سبيل المثال قوله علیه السلام: «وما كل ذي قلب بلبيب، ولا كل ذي سمع بسميع، ولا كل ذي ناظر ببصير». فانه مأخوذ من قوله تعالى:

«لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا»(4)، (5).

ص: 596


1- الشرح 19 / 195. ونسبها المبرد الى محمد بن عبد الله العتبي مع اختلاف باللفظ.الكامل 2 / 41
2- الشرح 20 / 150
3- الشرح 1 / 45
4- سورة الاعراف، الآية: 179
5- الشرح 6 / 385 - 386

وقوله علیه السلام: «فاعتبروا بنزولكم منازل من كان قبلكم وانقطاعكم عن اوصل إخوانكم». مأخوذ من قوله تعالى:

«وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ»(1)، (2).

ومن قوله تعالى:

«وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا»(3).

اقتبس علیه السلام فقال: «فاعلم ان لكل ظاهر باطناً على مثاله، فما طاب ظاهره، طاب باطنه، وما خبث ظاهره، خبث باطنه»(4).

اما قوله علیه السلام: «وقد ادبرت الحيلة، واقبلت الغيلة، ولات حين مناص».

فالعبارة الأخيرة لفظة قرآنية بعينها(5). وكذلك قوله علیه السلام:

«فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ»(6).

وقوله علیه السلام: «كن سمحاً ولا تكن مبذراً، وكن مقدّراً ولا تكن مقتراً».

مأخوذ من قوله تعالى:

«وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ

ص: 597


1- سورة ابراهيم، الآية: 45
2- الشرح 7 / 282 - 283
3- سورة الاعراف، الآية: 58
4- الشرح 9 / 178
5- سورة ص، آية: 3. الشرح 1 / 125
6- سورة الدخان 29 . الشرح 13 / 126

مَلُومًا مَحْسُورًا»(1).

وقوله تعالى:

«إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطيِنِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا»(2).

اما اقتباساته من كلام الرسول صلی الله علیه و آله وسلم. فعلى سبيل المثال قوله علیه السلام «فليعمل العامل منكم في أيام مهله، قبل ارهاق اجله، وفي فراغه قبل اوان شغله، وفي متنفسه قبل ان يؤخذ بكظمه، وليعهد لنفسه وقدمه، وليتزود من دار ظعنه لدار اقامته». فهذا مأخوذ من خطبة للرسول صلی الله علیه و آله وسلم: «ايها الناس إن لكم معالم فانتهوا إلى معالمكم، وان لكم غاية فانتهوا إلى غايتكم. إن المؤمن بين مخافتين، بين اجل قد مضى لا يدري مالله صانع به، واجل قد بقى لا يدري ما الله قاض فيه، فليأخذِ العبد قبل الموت، فوالذي نفس محمد بيده، ما بعد الموت من مستعتب، وما بعد الدنيا من دار الا الجنة أو النار»(3).

ولما تحدث عن الملائكة ذكر «منهم في حظائر القدس»(4) وهي لفظة وردت في حديث النَّبيّ صلی الله علیه و آله وسلم(5). وقوله علیه السلام: «إنّی احذركم الدنيا فإنها حلوة خضرة»(6) مأخوذ من قوله صلی الله علیه و آله وسلم: «إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها، فناظر كيف تعملون!»(7).

ص: 598


1- سورة الاسراء 27
2- سورة الاسراء 29
3- الشرح 6 / 350 - 351
4- الشرح 6 / 426
5- لم اهتد إليه في كتب الحديث
6- الشرح 7 / 228
7- اخرجه الجاحظ: البيان والتبين 2 / 21.مسلم: الصحيح 4 / 2098. اليعقوبي: التاريخ 2 / 80

وكان من دعاء النبي صلی الله علیه و آله وسلم: «اللهم إني اعوذ بك من وعثاء السفر وكآبة المنقلب، وسوء المنظر في الأهل والمال والولد. اللهم أنت الصاحب في السفر، وأنت الخليفة في الأهل». وقد دعا به لما عزم على المسير إلى الشام، ولكنه اضاف إليه: «ولا يجمعهما غيرك، لأن المستخلف لا يكون مستصحبا، والمستصحب لا يكون مستخلفا»(1).

اما في نطاق الشعر، فقد كان الامام علیه السلام على معرفة بالشعر والشعراء ففي محاورة بينه وبين أبي الاسود الدؤلي حول اشعر الشعراء، وكان رأي الأخير أنه أبو دواد الايادي(2). اما الامام فيرى أن اشعرهم هو الذي لم يقل عن رغبة ولا رهبة، الملك الضليل ذو القروح امرؤ القيس(3).

وقد احتوى شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد على طائفة من الأبيات الشعرية، قرر ابن أبي الحديد صحة نسبة بعضها للإمام، فيما شكك بالبعض الآخر، وبعضها جاء على شكل اراجيز في الحرب.

وسوف نرتب هذا الشعر على اساس القوافي:

قافية الباء لقد أتانا كاشفاً عن نابِهِ *** يهمطُ الناسَ على اعتذابِهِ فليأتنا الدهرُ بما أتى بِهِ(4)

ص: 599


1- الشرح 3 / 165 - 166. وذكر الشريف الرضي هذا الدعاء للنبي صلی الله علیه و آله وسلم المجازات النبوية ص 141
2- هو جارية بن الحجاج أو حنظلة بن الشرفي من قبيلة اياد من شعراء قبل الإسلام ابن قتيبة: الشعر والشعراء 1 / 161 - 163
3- الشرح 20 / 153 - 4. وانظر ابن رشيق: العمدة / 41 - 42. الزمخشري: ربيع الابرار 4 / 272
4- قاله لما رأى نزول معاوية في صفين. الشرح 3 / 314. أنظر المنقري: صفين ص 159

أنا عليٌّ وابنُ عبدِ المطلبْ *** نحنُ لعمرُ الِ اولى بالكتبْ مِنْا النبي المصطفى غيرُ كَذِبْ *** أهلُ اللواءِ والمقامِ الحجُبْ نحنُ نصرناه على كلِ العرب(1) فإن كنتَ بالشورى ملكت امورَهُم *** فكيف بهذا والمُشرونَ غُيَّبُ وإن كنت بالقُربى حجبت خصيمهم *** فغرك اولى بالنبي واقرب(2) ومن لم يغمض عينه عن صديقه *** وعن بعض ما فيه يمت وهو عاتب ومن يتبع جاهداً كل عثرة *** يجدها ولا يسلم له الدهر صاحب(3) ألم تر قومي ان دعاهم اخوهمهم *** اجابوا، وان يغضب على القوم يغضبوا حفظوا غيبي كما كنت حافظاً *** لقومي أخرى مثلها ان يغيبوا بنو الحرب لم تقعد بهم امهاتهم *** وآباؤهم آباء صدق فانجبوا(4) قافية الدال إطعن بها طعن ابيك تحمد *** لا خير في الحرب إذا لم توقد بالمشرفی والقنا المسدد(5)

ص: 600


1- قاله يوم صفين لما برز إلى حريث مولى معاوية: الشرح 5 / 215 - 216. وانظر المنقري: صفين ص 272 - 273
2- قاله يوم السقيفة. الشرح 18 / 416. الشريف الرضي: نهج البلاغة ص 503
3- الشرح 19 / 34
4- قاله في جواب له على كتاب لمعاوية. الشرح 3 / 314. المنقري: صفين ص 160
5- قاله لولده محمد بن الحنفية يوم الجمل حيث كان يحمل اللواء. الشرح 1 / 243. وانظر: البغدادي: الفرق ص 26. الخوارزمي: المناقب ص 119

يا شاهدا الله علي فاشهد *** إني على دين النبي أحمد من شك في الله فإني مهتد(1) قافية الراء من أي يوم من الموت أفر *** أيوم لم يقدر أم يوم قدرْ فيوم لا يقدر لا ارهبه *** ويوم قد قدَّر لا يغني الحذرْ(2) كنت السواد لناظريّ *** فبكى عليك الناظرُ من شاء بعدك فليمُت *** فعليك كنت احاذرُ(3) لقد عثرت عثرة لا أعتذرْ *** سوف اكيس بعد ها و ا ستمرْ وأجمع الأمر الشتيت المنتشرْ(4) يا عجباً لقد سمعت منكرا *** كذباً على الله يشيب الشعرا

ص: 601


1- قاله للخوارج لما طلبوا منه أن يقر بالكفر ويعلن توبته. الشرح 2 / 278. وانظر المبرد: الكامل 3 / 189. المرزباني: معجم الشعراء ص 280
2- قاله يوم صفين حينما حمل على أهل الشام. الشرح 5 / 132، 8 / 55. أنظر المنقري: وقعة صفين ص 392. ابن عبد ربه: العقد الفريد 1 / 123
3- قاله يوم وفاة الرسول صلی الله علیه و آله وسلم. الشرح 19 / 197
4- قاله بعد إن علم أن الكتاب الذي كتبه لمحمد بن أبي بكر وقع بيد معاوية بعد مقتل محمد بن أبي بكر. الشرح 6 / 73. بينما ذكر الطبري انه قاله بعد مبايعته بالخلافة. تاريخ 4 / 436 - 437. وانظر: ابن تيمية: منهاج السنة 4 / 180

يسترق السمع ويغشي البصرا *** ما كان يرضي أحمدًا لو اخبرا أن يقرنوا وصيه والأبترا *** شاني الرسولِ واللعينِ الأخزرا كلاهُما في جنده قد عسكرا *** قد باع هذا دينه فأفجرا من ذا بدنيا بيعه قد خسرا *** بمُلكِ مصر إن أصاب الظفرا! إني إذا الموتُ دنا وحضرا *** شمَّرتُ ثوبي ودعوت قنبرا قدم لوائي لا تؤخر حذرا *** لا يدفعُ الحذارُ ما قد قُدرا لما رأيتُ الموتَ احمرا *** عبأتُ همدانَ وعبوا حْمِیَرا حي يمان يعظمون الخطرا *** قرن إذا ناطح قرن كسرا قل لابن حرب لا تدب الخمرا *** أرود قليلاً أبد منك الضجرا لا تحسبنَّ يا ابن هندٍ عمرا *** وسل بنا بدراً معا وخيبرا يوم جعلناكم ببدر جزرا *** لو أن عندي يا ابن هندٍ جعفرا أو حمزة القرم الهمام الأزهرا *** رأت قريش نجم ليل ظُهُرا(1) فإن للحرب عراما شررا *** إن عليها قائداً عشتررا ينصف من أحجر أو تنمرا *** على نواصيها مزجاً زمجرا إذا ونين ساعة تغشمرا(2) ألا ترون قد حفرتُ حفرا *** إني رأيت أمراً منكرا

ص: 602


1- قاله بعد إن علم بالإتفاق الذي جرى بين معاوية وعمرو بن العاص على حربه. الشرح 1 / 148، 2 / 69 - 70. وانظر: المنقري: صفين ص 43 - 44
2- قاله في جواب له على كتاب معاوية. الشرح 3 / 314. المنقري: صفين ص 159

أوقدت ناري ودعوت قنبرا(1) أنا الذي سمتني أمي حيدرة *** كليث غابات كريهِ المنظرة أوفيهم بالصاع كيل السندرة(2) قافية الزاي لا تعجلنّ فقد أتا *** كَ مجيب صوتك غیر عاجزْ ذو نيَّةٍ وبصیرة *** يٍرجو الغداة نجاة فائزْ إني لأرجو أن أقي *** م عليك نائحة الجنائزْ من ضربة تفنى ويب *** قى ذكرها عند الهزاهزْ(3) يخوض اناس في الكلام ليوجزوا *** وللصمت في بعض الاحايين أوجزْ إذا كنت عن أن تحسن الصمت عاجزاً *** فأنت عن الابلاغ في القول أعجزْ(4) قافية الصاد لأوردن العاصي بن العاصي *** سبعين الفا عاقدي النواصي مستحقبین حلق الدلاص *** قد جنبوا الخيل مع القلاص

ص: 603


1- قاله بحق الغلاة الذين ألهوه. الشرح 5 / 5، 8 / 19. الملطي: التنبيه والرد ص 18. ابن تيمية: منهاج السنة 1 / 7
2- قاله يوم خيبر لما برز إلى مرحب إليهودي. الشرح 1 / 12، 19 / 127. وانظر: الطبري: تاريخ 3 / 13. الحاكم: المستدرك 3 / 41. المرزباني: معجم الشعراء ص 280. ابن المغازلي: مناقب ص 178، 182. الكنجي: كفاية الطالب ص 102
3- قاله في معركة الخندق سنة 5ه لما برز إلى عمرو بن عبد ود العامري. الشرح 13 / 292، 19 / 63. وانظر الاسكافي: نقض العثمانية ص 338 - 339
4- قاله في معنى الكلام والصمت. الشرح 19 / 265

اسوّد غيل حين لا مناص(1) قافية العين اتأمرني بالصبر في نصر أحمد *** ووالله ما قلت الذي قلت جازعاً ولكنّي أحببت أن ترى نُصرتی *** وتعلم أني لم أزل لك طائعاً سأسعى لوجه الله في نصر أحمدٍ *** نبي الهدى المحمود طفلاً ويافعاً(2) قافية الكاف إنَّ أخاك الحق من كان معك *** ومن يضر نفسه لينفعك ومن إذا ريب الزمان صدعك *** شتت فيك شمله ليجمعك(3) قافية اللام غر جهولاً أمله *** يموت من جا أجلهْ ومن دنا من حتفه *** لم تغن عنه حيلهْ ما بقاء آخر *** قد غاب عنه أولهْ والمرء لا يصحبه *** في القبر إلا عملهْ(4) سمحت بأمر لا يطاق حفيظة *** وصدقا وإخوان الوفاء قليلُ

ص: 604


1- قاله يوم صفين رداً على عمرو بن العاص. الشرح 3 / 669. المنقري: صفين ص 136 - 137. الطبري: تاريخ 4 / 56
2- قاله لأبيه أبي طالب لما امره اباه بنصرة النبي صلی الله علیه و آله وسلم. الشرح 14 / 64
3- في معنى الاخوة. الشرح 18 / 113
4- في إتباع الهوى وصده عن تذكر الآخرة. الشرح 4 / 320

جزاك اله الناس خراً فأنه *** لعمرك فضل ما هناك جزيلُ(1) يا مرحباً بالقائلن عدلا *** وبالصاة مرحباً واهلا(2) يا حار همدان من يمت يرني *** من مؤمن أو منافق قبلاً(3) قافية الميم فلو أني اطعت عصمت قومي *** إلى ركن اليمامة أو شمامِ ولكني متى أبرمت أمراً *** منيت بخلف آراء الطعامِ(4) دعوت فليأتي من القوم عصبة *** فوارس من همدان غیر لئام فوارس من همدان ليسوا بعزلٍ *** غداة الوغى من شاكر وشام بكل رديني وغصب تخاله *** إذا اختلف الاقوام شعل ضرام لهمدان أخاق كرام تزينهم *** وبأس إذا لاقو وحد خصام وجد وصدق في الحروب ونجده *** وقوم إذا قالوا بغیر آثام متى تأتهم في دارهم تستضيفه *** تبت ناعماً في خدمة وطعام مجزى الله همدان الجنان فانها *** سمام العدا في كل يوم زحام

ص: 605


1- قاله يوم صفين إلى عبد العزيز بن الحارث الجمحي. الشرح 5 / 243. المنقري: صفين ص 308
2- قاله يوم صفين في مدح أصحابه. الشرح 8 / 14 . المنقري: صفين ص 330
3- خاطب به الحارث بن عبدالله الهمداني وهو من أصحاب الإمام. الشرح 18 / 43
4- قاله بعد خديعة معاوية لاصحابه في الارتحال من اماكنهم خوف الغرق. الشرح 4 / 19. وانظر: المنقري: وقعة صفين ص 191

فلو كنت بواباً على باب جنة *** لقلت لهمدان ادخلوا بسلام(1) جزى الله خیراً عصبة أسلمية *** صباح الوجوه صرعوا حول هاشم يزيد وسعدان وبشر ومعبد *** وسفيان، وابنا معبد ذي المكارم وعروه لا يبعد ثناه وذكره *** إذا اخترطت يوماً خفاق الصوارم(2) أفاطم ها السيف غر ذميم *** فلست برعديد ولا بلئيم لعمري لقد جاهدت في نصر أحمد *** وطاعة رب بالعباد رحيم(3) أخوك الذي إن اجرضتك ملمة *** من الدهر لم يبرح لها الدهر واجماً وليس اخوك بالذي ان تشعبت *** عليك امور ظل يلحاك لائماً(4) يا رب إن الحارث بن الصمة *** كان رفيقاً وبنا ذا ذمة قد ظل في مهامه مهمة *** يلتمس الجنة فيها شمة(5)

ص: 606


1- قاله في مدح همدان يوم صفين. الشرح 5 / 217، 8 / 78. المنقري: وقعة صفين ص 274. ابن رشيق العمدة 1 / 34 - 35
2- قاله في قتل هاشم بن عتبة بن أبي وقاص يوم صفين وكان من اصحاب الامام. الشرح 8 / 35. المنقري: وقعة صفين ص 356
3- قاله للسيدة فاطمة الزهراء - علیها السلام - بعد معركة أحد. الشرح 15 / 35. ابن هشام: السيرة 3 / 106. الطبري: تاريخ 2 / 533. الحاكم: المستدرك 3 / 27. المرزباني: معجم الشعراء ص 280. الخوارزمي: المناقب ص 107. سبط ابن الجوزي: تذكرة ص 164 - 165
4- في معنى الاخوة. الشرح 18 / 114
5- قاله يوم أحد بعد ان ذهب الحارث يلتمس حمزة بأمر الرسول صلی الله علیه و آله وسلم. الشرح 15 / 16. أنظر: الواقدي: المغازي 1 / 289

محمد النبي اخي وصهري *** وحمزة سيد الشهداء عمي سبقتكم إلى الإسلام طرا *** غلاماً ما بلغت اوان حلمي(1) قافية الياء أضربهم ولا أرى معاوية *** الأخزر العینِ العظيمِ الحاوية هوت به النار بأم هاوية(2) هذا هو كل ما جاء في شرح ابن أبي الحديد لنهج البلاغة من شعر الإمام علي علیه السلام، والملاحظ ان ابن أبي الحديد كان معجباً بشعر الامام إلى درجة إنه لما أورد شعراً فصيحاً نادراً للشريف الرضي علق عليه قائلاً: «لا عجب لأن هذه الورقة من تلك الشجرة، وهذا القبس من تلك النار».(3)

ص: 607


1- الشرح 4 / 122. وانظر: الطبرسي: الاحتجاج 1 / 112. سبط ابن الجوزي: تذكرة ص 107 - 108. الحموي:معجم الادباء 14 / 48. الجويني: فرائد السمطين ص 427
2- قاله يوم صفين. الشرح 8 / 59. وانظر: المنقري: وقعة صفين ص 404. الطبري 5 / 42. وقد نسبه ابن أبي الحديد في موضع آخر لمجزأة بن ثور. الشرح 5/ 240. وانظر المنقري: وقعة صفين 305. المازندراني: مناقب 2 / 19
3- الشرح 11 / 266

ص: 608

إشكالية نهج البلاغة والوضع

تجدر الإشارة إلى أن هناك رؤية لدى البعض بخصوص كتاب نهج البلاغة فحواها ان هذا الكتاب كلاً أو جزءاً ليس للامام علي - علیه السلام - بل هو من وضع الشريف الرضي أو اخيه الشريف المرتضى، هذه الرؤية التي اقدم من وجدنا يثيرها هو ابن خلكان (ت 681 ه) إذ قال في ترجمة الشريف المرتضى: «وقد اختلف الناس في كتاب نهج البلاغة المجموع من كلام الإمام عليّ بن أبي طالب - رضي الله عنه - هل هو جمعه؟! أم جمع أخيه الرضي؟ وقد قيل: إنه ليس من كلام عليّ، وإنما الذي جمعه ونسبه إليه هو الذي وضعه. والله أعلم»(1) وقد ذكر اليافعي(2) نص ابن خلكان هذا حرفياً. واشار له ابن كثير(3). وجاء الذهبي فقال في ترجمة الشريف المرتضى: «وهو المتهم بوضع كتاب نهج البلاغة وله مشاركة قوية في العلوم، ومن طالع كتابه نهج البلاغة جزم انه مكذوب على امير المؤمنين علي رضي الله عنه ففيه … من التناقض والاشياء الركيكة

ص: 609


1- وفيات الاعيان 3 / 313
2- مرآة الجنان 3 / 55
3- البداية والنهاية، 12 / 53

والعبارات التي من له معرفة بنفس القرشيين الصحابة وبنفس غيرهم ممن بعدهم من المتأخرين جزم بأن الكتاب اكثره باطل».(1) وممن أشار لذلك الصفدي في الوافي بالوفيات(2)، وابن حجر في لسان الميزان(3).

وقد ايد هذا الرأي من المحدثين بروكلمان(4). وجرجي زيدان(5)، وشوقي ضيف(6). والملاحظ أن هذه التهمة، سابقة لابن خلكان، حيث كانت ماثلة لدى ابن أبي الحديد، ولكننا لم نجد في المصادر السابقة له، التي ترجمت للشريف المرتضى من أشار لذلك كتاريخ بغداد للخطيب البغدادي(7)، والمنتظم لابن الجوزي(8)، وانباه الرواة للقفطي(9).

هذه التهمة جوبهت بالنقد الشديد من قبل مجموعة من الباحثين يأتي في مقدمتهم ابن أبي الحديدي الذي اتخذ موقفاً متشدداً حيال القائلين بالتهمة، إذ قال: «إن كثيراً من ارباب الهوى يقولون: إن كثيراً من نهج البلاغة كلام محدث،

ص: 610


1- ميزان الاعتدال 3 / 124. ونوّه بالفكرة أيضاً في كتابة تذكرة الحفاظ 3 / 1109
2- حيث قال (والناس يزعمون أن نهج البلاغة من أنشايه (الرضي)، سمعت الشيخ الامام العلامة تقي الدين أحمد بن تيمية يقول: ليس كذلك بل الذي فيه من كلام علي بن أبي طالب معروف والذي فيه للشريف الرضي معروف) 2 / 375
3- 4 / 223
4- تاريخ الأدب العربي 2 / 64
5- تاريخ اداب اللغة العربية 1 / 189، 2 / 598 - 599
6- الفن ومذاهبه في النثر العربي ص 62
7- 11 / 402 - 3
8- 8 / 120 - 126
9- 2 / 249 - 250

صنعه قوم من فصحاء الشيعة، وربما عزوا بعضه إلى الرضي أبي الحسن وغيره، وهؤلاء قوم اعمت العصبية اعينهم، فضلّوا عن النهج الواضح، وركبوا بنيات الطريق، ضلالة وقلة معرفة باساليب الكلام».

ثم قال: ((وأنا اوضح لك بكلام مختصر ما في هذا الخاطر من الغلط. فأقول:

لا يخلو إما أن يكون كل نهج البلاغة مصنوعاً منحولاً، أو بعضه، والاول:

باطل بالضرورة لانا نعلم بالتواتر صحة اسناد بعضه إلى امير المؤمنين علیه السلام وقد نقل المحدثون كلهم أو جلّهم، والمؤرخون كثيراً منه، وليسوا من الشيعة لينسبوا إلى غرض في ذلك.

والثاني: يدل على ما قلناه، لأن من قد أنس بالكلام والخطابة وشدا طرفا من علم البيان، وصار له ذوق في هذا الباب لا بد أن يفرق بين الكلام الركيك والفصيح، وبين الفصيح والافصح، وبين الاصيل والمولّد، وإذا وقف على كراس واحد يتضمن كلاماً لجماعة من الخطباء، أو لاثنين منهم فقط، لا بد أن يفرق بين الكلامين، ويميز بين الطريقتين. ألا ترى أن مع معرفتنا بالشعر ونقده، لو تصفحنا ديوان أبي تمام، فوجدناه قد كتب في اثنائه قصائد أو قصيدة واحدة لغيره، لعرفنا بالذوق مباينتها لشعر أبي تمام ونفسه، وطريقته ومذهبه في القريض، ألا ترى أن العلماء بهذا الشأن حذفوا من شعره قصائد كثيرة منحولة إليه، لمباينتها لمذهبه في الشعر، وكذلك حذفوا من شعر أبي نؤاس شيئاً كثيراً، لما ظهر لهم أنه ليس من الفاظه، ولا من شعره وكذلك غيرهما من الشعراء، ولم يعتمدوا في ذلك الا على الذوق خاصة».

طبقاً لذلك قال ابن أبي الحديد: ((وأنت إذا تأملت نهج البلاغة وجدته كله ماءاً واحداً، ونفساً واحداً، واسلوباً واحداً، كالجسم البسيط الذي ليس بعض

ص: 611

من ابعاضه مخالفاً لباقي الابعاض في الماهية، وكالقرآن العزيز، اوله كاوسطه واوسطه كآخره، وكل سورة منه، وكل اية مماثلة في المأخذ والمذهب والفن والطريقة والنظم لباقي الآيات والسور، ولو كان بعض نهج البلاغة منحولاً وبعضه صحيحاً لم يكن ذلك كذلك، فقد ظهر لك بهذا البرهان الواضح ضلال من زعم ان هذا الكتاب أو بعضه منحول إلى امير المؤمنين علیه السلام.

ثم اضاف: ((وأعلم ان قائل هذا القول يطرق على نفسه ما لا قبل له به لأنا متى فتحنا هذا الباب، وسلطنا الشكوك على انفسنا في هذا النحو، لم نثق بصحة كلام منقول عن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم وسلم أبداً، وساغ لطاعن أن يطعن ويقول:

هذا الخبر منحول، وهذا الكلام مصنوع، وكذلك ما نقل عن أبي بكر وعمر من الكلام، والخطب والمواعظ والادب وغير ذلك كل أمر جعله هذا الطاعن مستنداً له فيما يرويه عن النبي صلی الله علیه و آله وسلم، والائمة الراشدين، والصحابة والتابعين، والشعراء والمترسلين، والخطباء، فلناصري أمير المؤمنين علیه السلام أن يستندوا إلى مثله فيما يرونه عنه من نهج البلاغة وغيره وهذا واضح»(1).

هنا يمكن القول بما أن ابن أبي الحديد كان معتزلياً يعتمد تحكيم العقل في النصوص، ويعتمد التجربة، والممارسة، والذوق في النقد لذا نراه يبعد كل نص يبعده العقل أو التجربة، والذوق المنطلق من الممارسة والمران، لا الذوق العادي بل المستند إلى الخبرة. فهو هنا لا يقصد بالذوق الذوق الفطري الساذج، بل الذوق العلمي الذي اصلته الممارسة والدربة، وكثرة الرواية والحفظ. والواضح أن المقياس العقلي والذوقي ليسا في مرتبة المقياس النقلي في درجة اقرب إلى

ص: 612


1- الشرح 10 / 126 - 129

اليقين. وهذا المقياس الذوقي قد اشترك مع المقياس التصنيفي كما في قوله «إما أن يكون كل النهج مصنوعاً أو بعضه، والأول باطل بالضرورة». وذلك بسبب التواتر. اذن المقياس الذوقي هنا استند إلى أساس المقياس العقلي التصنيفي ثم الاستدلال بالمقياس النقلي وجاء فيما بعد دور المقياس الذوقي(1).

وعلينا الآن طرح بعض الحيثيات في المسألة أعلاه:

أولاً: إن من يستطيع أن يضع مثل هذا الكلام، والذي له هذا القدم الثابت في العلم بالله واياته، كيف تطاوعه نفسه ان يحلي بمثل هذا الكلام غيره، ويعطل نفسه، بحيث يبقى هو مهملاً في زوايا الخمول، إلا أن يكون مصاباً في عقله، والمصاب في عقله عن صنع مثل هذا الكلام ووضعه اعجز، وعن الورود في شرعة هذه الفلسفة المتعالية ابعد(2).

ثانياً: إن كتاب نهج البلاغة هو مجموعة من الخطب والحكم والمواعظ، الواضح عليها أنها قيلت في مناسبات مختلفة، فمنها ما كان جواباً لسؤال، أو خطاباً للاصحاب أو وصفاً للجنة والنار أو موعظة وغير ذلك، فهل تتبع جامعه كل هذه الحوادث والمناسبات واحصاها ووضع لكل حادثة خطبة أو كلاما يلائمها(3).

ثالثا: إن تصفحاً لمؤلفات الشريف الرضي تعطينا دليلاً على أن الشريف الرضي هو الجامع لنهج البلاغة ولا دخل للشريف المرتضى بذلك، وأن دور الشريف الرضي هو مجرد تجميع هذه النصوص وترتيبها اخذاً بنظر الاعتبار اكثرها بلاغة.

ص: 613


1- الظالمي: ابن أبي الحديد ص 55
2- الطباطبائي: علي والفلسفة الإلهية ص 37
3- مغنية: فضائل الإمام علي علیه السلام ص 73 - 74

ففي كتابه - المجازات النبوية. ذكر الرضي كتاب نهج البلاغة خمس مرات وهي:

1. عند كلامه على قوله صلی الله علیه و آله وسلم «أغبط الناس عندي مؤمن خفيف الحاذ، ذو حظ من صلاة» - قال «وبيّن ذلك قول أمير المؤمنين علي علیه السلام في كلام له: «تخفّفوا تلحقوا» وقد ذكرنا ذلك في كتابنا الموسوم ب «نهج البلاغة» الذي أوردنا فيه مختار جميع كلامه»(1).

2. في كلامه عن الحديث «أسرعكن لحاقاً بي، اطولكن يداً» قال: ومثل ذلك قول أمير المؤمنين علیه السلام «ومن يعط باليد القصيرة يعط باليد الطويلة»… وقد ذكرنا ذلك في كتابنا الموسوم «بنهج البلاغة»(2) 3. في قوله صلی الله علیه و آله وسلم: «الا وإن الدنيا قد ارتحلت مدبرة، وإن الاخرة قد ارتحلت مقبلة». قال: ((ويروى هذا الكلام على تغيير في الفاظه لامير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه الصلاة والسلام وقد اوردناه في كتابنا الموسوم بنهج البلاغة وهو المشتمل على مختار كلامه علیه السلام في جميع المعاني والاغراض، والاجناس والاعراض»(3).

4. في كلامه عن القرآن: «إن القرآن يتقلب وجوها، ويحتمل من التأويلات ضرورباً كما وصفه امير المؤمنين علي علیه السلام في كلام له فقال: «القرآن حمال

ص: 614


1- ص 39 - 40 الشرح 1 / 301. الشريف الرضي: خصائص الأئمة، ط النجف، ص 87.نهج البلاغه ص 62 - 63
2- ص 67. الشرح 19 / 59. نهج البلاغة، ص 509
3- ص 199. الشرح 2 / 91. نهج البلاغة، ص 71

ذو وجوه» أي يحتمل التصريف على التأويلات، والحمل على الوجوه المختلفات، وقد ذكرنا هذا الكلام في كتابنا الموسوم بنهج البلاغة.(1) 5. قوله صلی الله علیه و آله وسلم: «القلوب أوعية بعضها أوعى من بعض». قال «بما نسب هذا الكلام إلى أمير المؤمنين علیه السلام على خلاف في لفظه، وقد ذكرنا في جملة كلامه لكميل بن زياد النخعي في كتاب نهج البلاغة»(2).

ومثلما أشار مؤلف المجازات النبوية بأنه مؤلف نهج البلاغة فان مؤلف نهج البلاغة قد أشار إلى أن له كتاباً باسم المجازات النبوية(3)، اذاً فصاحب المجازات النبوية وهو صاحب نهج البلاغة ألا وهو الشريف الرضي، ولا دخل للمرتضى هنا.

ومن كتب الشريف الرضي كتاب حقائق التأويل الذي لم يصل إلينا منه الا الجزء الخامس، وقد وردت فيه إشارة إلى نهج البلاغة، إذ قال في اشارته لعلو بلاغة القرآن: «لو كان كلام يلحق بغباره أو يجري في مضماره بعد كلام رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم لكان ذلك كلام امير المؤمنين علیه السلام، إذ كان منفرداً بطريقة الفصاحة، لا تزاحمه عليه المناكب، ولا يلحق فيها الكادح الجاهد، ومن أراد أن يعلم برهان ما أشرنا إليه فليمعن النظر في كتابنا الذي ألفناه ووسمناه ب (نهج البلاغة)، ويشمل على مختار جميع الواقع إلينا من كلام أمير المؤمنين علیه السلام، في جميع الأنحاء والأغراض، والأجناس والأنواع، من خطب وكتب، وموعظ وحكم، وبوبناه

ص: 615


1- ص 251. الشرح. 18 / 71. نهج البلاغة ص 1 465
2- ص 391، الشرح. 18 / 346. نهج البلاغة ص 495
3- الشرح 20 / 186. نهج البلاغة ص 557

أبواباً ثلاثة تشتمل على هذه الاقسام مميزة مفصلة، وقد عظم الانتفاع به وكثر الطالبون له، لعظيم ما ضمنه من عجائب الفصاحة وبدائعها، وشرائف الكلم ونفائسها…»(1).

وللشريف الرضي كتاب رابع يسمى «الخصائص» وهو خاص بخصائص الإمام علي- علیه السلام -، وقد وردت الإشارة لهذا الكتاب مرتين في كتاب نهج البلاغة، مما يدل على أن مؤلف الخصائص هو نفسه مؤلف النهج، ففي المرة الأولى قال مؤلف النهج في المقدمة: «فإني كنت في عنفوان السن وغضاضة الغصن، ابتدأت بتأليف كتاب في خصائص الأئمة علیهم السلام يشتمل على محاسن اخبارهم، وجواهر كلامهم حداني عليه غرض ذكرته في صدر الكتاب، وجعلته امام الكلام ولما فرغت من الخصائص التي تخص امير المؤمنين علياً صلوات الله عليه وعاقت عن اتمام بقية الكتاب محاجزات الأيام…» (48).

اما المرة الثانية فقد أشار إليه عند قوله - علیه السلام - «تخففوا تحلقوا» إذ قال: فما سمع كلام أقل منه مسموعاً، ولا أكثر محصولاً، وما ابعد غورها من كلمة وانفع نطفتها من حكمة وقد نبهنا في كتاب الخصائص على عظم قدرها وشرف جوهرها(2).

رابعاً: هل إن ما ورد في نهج البلاغة من خطب الإمام وكلامه لم يرد في مصادر أخر؟ في الواقع إن ما ورد في نهج البلاغة ما هو إلا يسير مما ورد في مصادر التراث العربي الاسلامي ولذلك قام عدد من الباحثين بجمع خطب الامام وكلماته من هذه المصادر وفي مقدمة أولئك كان ابن أبي الحديد الذي

ص: 616


1- حقائق التأويل ص 167
2- الشرح 1 / 301

اتخذ منهجاً في شرحه للنهج الا وهو ذكر المصدر الذي وردت فيه الخطبة فعلى سبيل المثال بالنسبة إلى الخطبة الشقشقية(1)، فقد قال في آخر شرحها:

«حدثني شيخي أبو الخير مصدقاً بن بيب الواسطي في سنة ثلاث وستمائه، قال: قرأت على الشيخ أبي محمد عبد الله بن احمد المعروف بابن الخشاب(2)، المتوفى سنة خمسمائة وثمان وستين هذه الخطبة… وكان ابن الخشاب صاحب دعابة وهزل، قال: فقلت له: أتقول إنها منحولة؟! فقال: لا والله وإني لأعلم إنها كلامه كما أعلم انك مصدق، قال: فقلت له: ان كثيراً من الناس يقولون:

إنها من كلام الرضي- (رحمة الله تعالى) - فقال: إنى للرضي ولغير الرضي هذا النفس وهذا الاسلوب؟! قد وقفنا على رسائل الرضي وعرفنا طريقته وفنه في الكلام المنثور وما يقع من هذا الكلام في خل ولا خمر. ثم قال: والله لقد وقفت على هذه الخطبة في كتب صنفت قبل أن يخلق الرضي بمائتي سنة، ولقد وجدتها مسطورة بخطوط أعرفها وأعرف خطوط من هو من العلماء واهل الأدب قبل ان يخلق النقيب أبو احمد الرضي. قلت [ابن أبي الحديد]: وقد وجدت أنا كثيراً من هذه الخطبة في تصانيف شيخنا أبي القاسم البلخي إمام البغداديين من المعتزلة. وكان في دولة المقتدر قبل أن يخلق الرضي بمدة طويلة، ووجدت أيضاً كثيراً منها في كتاب أبي جعفر بن قبة(3)، أحد متكلمي الإمامية وهو

ص: 617


1- مأخوذة من قوله - علیه السلام - تلك شقشقة هدرت ثم قرت، الشرح 1 / 203
2- أحد علماء اللغه العربيه في عصره وله المام بالفلسفه والحساب والهندسه. توفي 567 ه. أنظر: الشرح: 1 / 205، 7/ 265، 10 / 67، 11 / 135، 19 / 251. الخوانساري: روضات الجنات 5 / 22
3- أنظر ترجمته، ابن النديم: الفهرست: ص 250

الكتاب المشهور المعروف بكتاب الإنصاف، وكان أبو جعفر هذا من تلامذة الشيخ أبي القاسم البلخي (ومات في ذلك العصر قبل أن يكون الرضي - رحمة الله - موجوداً»(1). ثم قام مجموعة من الباحثين بالبحث عن مصادر نهج البلاغة كما فعل عبد الزهراء الحسيني الخطيب في كتابة مصادر نهج البلاغة واسانيده والذي صدر في أربعة أجزاء وقسم هذه المصادرعلى أربعة اقسام:

أولاً: مصادر الفت قبل سنة 400 ه، وهي سنة صدور نهج البلاغة. ولا زالت موجودة إلى الآن.

ثانياً: مصادر الفت قبل سنة 400 ه، ولكنها فقدت، وتم النقل عنها بالواسطة.

ثالثاً: كتب ألفت بعد زمان الرضي ولكنها روت كلام الإمام علي - علیه السلام - بإسناد متصل دون المرور بالشريف الرضي ولا على كتابه نهج البلاغة.

رابعاً: كتب صدرت بعد زمان الرضي ولكنها نقلت كلام الإمام علي علیه السلام بصورة تختلف عما في نهج البلاغة مما يعتقد أن مصدرها غير نهج البلاغة(2).

ثم استدرك مجموعة من الباحثين قديماً وحديثاً على نهج البلاغة وذكروا خطباً ورسائل وكلاماً للإمام لم يرد في نهج البلاغة، كما فعل عبد الله بن اسماعيل بن أحمد الحلبي(3) في كتابه «التذييل على نهج البلاغة»(4) والشيخ هادي آل

ص: 618


1- الشرح 1 / 205 - 206. وانظر كذلك ابراهيم الخوئي: الدرة النجفية ص 61، 62
2- عبد الزهراء الخطيب: مصادر نهج البلاغة واسانيده 1 / 26 - 27، 48 - 92
3- لم أجد له ترجمة
4- الشرح 18 / 225

كاشف الغطاء في كتابه مستدرك نهج البلاغة(1)، والشيخ محمد باقر المحمودي في كتابه - نهج السعادة في مستدرك نهج البلاغة، وهو في ثمانية مجلدات(2).

خامساً: اما بالنسبة إلى الاشكالات التي أثيرت حول بعض مما ورد في نهج البلاغة فقد تكفل بالاجابة عنها عدد من الباحثين يأتي في مقدمتهم ابن أبي الحديد(3)، ومن المعاصرين عبد الزهراء الخطيب(4)، وحسن آل ياسين(5)، والشهرستاني(6)، وهادي آل كاشف الغطاء(7) ومغنية(8)، وحسين بستانة(9)، والفرطوسي(10)، والصائغ(11)، والأبياري(12).

ص: 619


1- ص 2 ومابعدها
2- طبع في بيروت 1976
3- أنظر مثلاً 1 / 205 - 6، 10 / 126 - 129
4- مصادر نهج البلاغة واسانيده 1 / 133 - 222
5- نهج البلاغة.. لمن؟ ص 31 - 49
6- ماهو نهج البلاغة؟ ص 52 - 61
7- مدارك نهج البلاغة ودفع الشبهات عنه ص 195 - 268
8- فضائل الإمام علي ص 73 - 77. وايضاً له: في ضلال نهج البلاغة 1 / 8 - 10
9- أدب الإمام علي بن أبي طالب ونهج البلاغة ص 195 - 203
10- غرر الفوائد ودرر القلائد، الشريف المرتضى دراسة منهجية ص 20 - 22
11- علي - علیه السلام - بين أمه وأبيه ص 105 - 110
12- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، مجلة تراث الانسانية مج 2، ص 133 - 4

ص: 620

المبحث السابع الإمام عليّ - علیه السلام - وعلم الفلك

من خلال شرحه لنهج البلاغة اثبت ابن أبي الحديد أن الامام علیه السلام سبق الفلكيين في التوصل لبعض المسائل الفلكية. كإشارته إلى أن منطقة الابلة هي ابعد موضع في الارض عن السماء. فقد جاء في خطبة له عن البصرة إنها: «بعيدة عن السماء» فأكد أن الامام يشير إلى ما توصل إليه علماء الفلك في أن ابعد موضع في الارض عن السماء هو «الابلة». ومعنى البعد هنا، هو بعد تلك الارض المخصوصة عن دائرة معدل النهار والبقاع، والبلاد تختلف في ذلك، وأكد ابن أبي الحديد أن الالات الفلكية والارصاد دلت على ان ابعد موضع في المعمورة عن دائرة معدل النهار هو الابلة.(1) إن الاشارة أعلاه تعد من خصائص امير المؤمنين - علیه السلام - لأنه أخبر عن أمر لا تعرفه العرب، ولا تهتدي إليه، وهو أمر خاص بالمدققين من الحكماء، لذا عدت هذه الاشارة من اسراره وغرائبه البديعة.(2)

ص: 621


1- الشرح 1 / 267. وعن الابلة، أنظر الحموي: معجم البلدان 1 / 76 - 78
2- الشرح 1 / 268. وانظر كلام الإمام في: الزمخشري: ربيع الابرار 1 / 308

وفي قوله علیه السلام: «الحمد لله الذي لا تواري عنه سماء سماء، ولا ارض ارضا».

فإنه يدل على إثبات ارضين بعضها فوق بعض كالسموات السبع. لكن القرآن الكريم لم يشر لعدد الارضين حيث قال تعالى: «الله الذي خلق سبع سموات، ومن الارض مثلهن»(1)، ولذا قيل أنها ارض واحدة، ولكنها على سبعة اقاليم، فالمثلية التي أشار لها القرآن الكريم من هذا الوجه، وليس من تعدد الارضين وقد يحمل كلام الإمام على ذلك، فيقصد علیه السلام أنها ارض واحدة، لكنها اقطار واقاليم مختلفة، وهي كروية الشكل، فمن كان على حدبة الكرة لا يرى من تحته، والذي تحت لا يرى من فوق، والذي على أحد الجانبين لا يرى من على الجانب الآخر(2).

ولاحظ ابن أبي الحديد أنه لا منافاة بين قول الإمام علیه السلام: «سماء ذات ابراج» وبين ما يقوله الحكماء والمتكلمين ان السماء كرة لا زاوية فيها ولا ضلع، لأن الفلك وإن كان كرة لكنها فيه من المتممات ما يجري مجرى اركان الحصن أو السور. فصح اطلاق لفظة الابراج عليه، والمتممات اجسام في حشو الفلك تخف في موضع، ولا مانع من حمل لفظة الابراج على ما يقوله الحكماء إن الفلك يقسم لاثني عشر قسماً كل قسم يسمى برجاً، والإمام - علیه السلام - أخذ اللفظة من القرآن في قوله تعالى: «والسماء ذات البروج»(3). (4) اما بالنسبة إلى موقفه علیه السلام من التنجيم فهو ذو شقين الأول: إذا كان الهدف

ص: 622


1- سورة الطلاق، الآية: 12
2- الشرح 9 / 304
3- سورة البروج، الآية: 1
4- الشرح 6 / 393

من التنجيم معرفة الطرق البرية والبحرية فهذا لا باس به، الثاني: إذا كان لأغراض أخرى فهو محرم، حيث يقول علیه السلام: «اياكم وتعلم النجوم الا ما يهتدي به في بر أو بحر، فإنَّها تدعو إلى الكهانة؛ المنجم كالكاهن، والكاهن كالساحر، والساحر كالكافر، والكافر في النار». واشار علیه السلام أنه من صدق المنجمين فقد كذب القرآن، واستغنى عن الاستعانة بالله، ثم أنه سيحمد المنجم بدل الله سبحانه وتعالى.(1)

ص: 623


1- الشرح 6 / 199

ص: 624

المبحث الثامن الإمام عليّ علیه السلام وعلم الحيوان

ابدى الإمام علي علیه السلام بعض الآراء في عدد من الطيور مثل الخفاش الذي يبصر ليلاً ولا يبصر نهاراً، ثم إن طيرانها باجنحة من لحم وليس من ريش، وهي تحمل ولدها ملاصقاً لها فلا يقع حتى يكبر. وقد اتى علیه السلام بالعلم الطبيعي في عدم ابصارها نهاراً، وهو انفعال حاسة بصرها عن الضوء الشديد، وقد يعرض مثل ذلك لبعض الناس، وهو المرض المسمى (روز كور)، أي اعمى النهار، ويكون ذلك عن افراط التحلل في الروح النوري فإذا لقي حر النهار، اصابه قمر، ثم يستدرك ذلك برد الليل فيزول، فيعود الابصار.(1) واشار إلى الطاووس وكيفية لقاحه الانثى مشيراً أن وصفه جاء لمعاينته علیه السلام للطاووس، وقد اثار ذلك طعن البعض إذ أين رأى الإمام علي علیه السلام الطاووس؟ والواقع أنه علیه السلام رآه بالكوفة وليس بالمدينة، حيث كانت الكوفة عاصمة الدولة العربية الاسلامية تجبى لها الاموال والهدايا من الاصقاع.(2)

ص: 625


1- الشرح 9 / 183. وانظر نص كلام الإمام علیه السلام في بداية هذا الفصل
2- الشرح 9 / 268

وقد رد علیه السلام على: «من يزعم أنه يلقح بدمعة تسفحها مدامعه، فتقف في ضفتي جفونه، وأن انثاه تطعم ذلك، ثم تبيض لا من لقاح فحل سوى الدمع المنبجس، لما كان ذلك باعجب من مطاعمة الغراب».

حيث يرى البعض أن الذكر تدمع عينه، فتقف الدمعة بين اجفانه، فتاتي الانثى فتطعمها فتلقح من تلك الدمعة(1). وقد انكر الإمام علیه السلام ذلك بالنسبة للطاووس، ولكنه أشار إلى مطاعمة الغراب، حيث يرى البعض أن لقاح الغراب يكون بانتقال جزء من الماء الموجود في قانصة الذكر إلى الانثى عن طريق منقارها.(2) واشار علیه السلام إلى بعض الحشرات كالنملة التي قال فيها: «انظروا إلى النملة في صغر جثتها، ولطافة هيئتها، لا تكاد تنال بلحظ البصر، ولا بمستدرك الفكر، كيف دبّت على ارضها، وصبّت على رزقها، تنقل الحبة إلى جحرها، وتعدها في مستقرها، تجمع في حرها إلى بردها، وفي وردها لمصدرها؛ مكفول برزقها، مرزوقة بوقتها، لا يغفلها المنان، ولا يحرمها الديان، ولو في الصفا اليابس، والجحر الجامس، ولو فكرت في مجاري اكلها، وفي علوها وسفلها، وما في الجوف، من شراسيف بطنها، وما في الراس من عينها واذنها لقضيت من خلقها عجباً، ولقيت من وصفها تعبا».(3) تجدر الاشارة ان للجاحظ تحليلاً للنملة ربما يكون أخذ فكرته من الامام علیه السلام

ص: 626


1- الجاحظ: الحيوان 3 / 177، 464. ويرى الدميري أن الغراب يتستر في لقاحه الانثى. حياة الحيوان الكبرى 2 / 173
2- الشرح 9 / 268 - 270
3- الشرح 3 / 55. وانظر الزمخشري: ربيع الابرار 4 / 481 - 482

وزاد في تحليله.(1) وتطرق الإمام عليّ علیه السلام للجرادة فقال عنها:

«خَلَقَ لها عينين حمراوين، واسرج لها حدقتين قمراوين، وجعل لها السمع الخفي، وفتح لها الفم السوي، وجعل لها الحس القوي، ونابين بهما تقرض، ومنجلين بهما تقبض، يرهبها الزراع في زرعهم، ولا يستطيعون ذبها ولو اجلبوا بجمعهم، حتى ترد الحرث في نزواتها، وتقضي منه شهواتها، وخلقها كله لا يكون اصبعاً مستدمة»(2).

ص: 627


1- الشرح 13 / 57 - 63. وانظر الجاحظ: الحيوان 5 / 542 - 573
2- الشرح 13 / 56 - 66. وانظر الجاحظ: الحيوان 5 / 543 - 573. الزمخشري: ربيع الابرار 4 / 459

ص: 628

المبحث التاسع الإمام علي علیه السلام وعلم التاريخ

كان الإمام علي علیه السلام يوجه عناية فائقة إلى الاستفادة من التاريخ حتى أصبح التاريخ عنصراً بارزاً في مختلف الموضوعات التي اثارت اهتمامه وعنايته علیه السلام ولكنها ليست كعناية القاص أو السياسي الباحث عن الحيل السياسية واساليب التمويه ليعالج بها تذمر الشعب، وانما هي عناية رجل الرسالة والعقيدة والقائد الحضاري والمفكر المستقبلي. فهو يبحث ليجد في التاريخ جذور المشكل الانساني، وينفض جهود الانسانية على التكامل الروحي والمادي، ويعزز قدرته في تامين قدر من السعادة مع الحفاظ على الطهارة الانسانية. ولذا فهو لم يتوقف عند جزئيات الوقائع الا بمقدار ما تكون شواهداً ورموزاً، وانما تناول المسألة التاريخية بنظرة كلية شمولية والامام - علیه السلام - ليس مؤرخاً لذا لا نجد عنده نظرة المؤرخ واسلوبه في سرد الوقائع، وتحليلها والحكم عليها، وانما هو رجل دولة وحاكم، ورجل عقيدة ورسالة فهو يتعامل مع التاريخ باعتباره حركة تكون شخصية الانسان الحاضرة والمستقبلية، ولذا فهي تشكل حيزاً هاماً، على درجة

ص: 629

كبيرة من الخطورة في عملية التربية والتحرك السياسي.(1) وتتضح عنايته علیه السلام بالتاريخ من خلال وصيته لولده الحسن علیه السلام إذ يقول:

«أي بني؛ اني وان لم اكن عمرت عمر من كان قبلي فقد نظرت في اعمالهم، وفكرت في اخبارهم، وسرت في آثارهم حتى عدت كاحدهم، بل كأني بما انتهى الي من امورهم، قد عمرت من اولهم إلى اخرهم، فعرفت صفو ذلك من كدره، ونفعه من ضرره»(2).

واوضح علیه السلام الهدف من دراسة التاريخ: «احي قلبك بالموعظة … واعرض عليه اخبار الماضين، وذكره بما اصاب من كان قبلك من الأولين وسر في ديارهم وآثارهم فانظر فيما فعلوا وعما انتقلوا، واين حلوا ونزلوا، فانك تجدهم قد صرت كاحدهم»(3).

ولكن يا ترى من أين استقى الإمام علي علیه السلام معرفته التاريخية؟ من خلال نصوص النهج وسيرة الإمام علي علیه السلام يتضح ان مصادره كانت متنوعة وهي:

أولاً: القرآن الكريم: حيث تضمن القرآن دعوى لدراسة التاريخ «قل سيروا في الارض فانظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلكم»(4). ثم شمول القرآن لمادة تاريخية مثلت ثلث القرآن حيث أشار القرآن لقصة خمسة وعشرين نبياً، وإلى عدد من الاقوام السابقة وبعض الشخصيات، ثم اشارته لاحداث العرب قبل الإسلام ولما كان علیه السلام على علم بالقرآن، حيث قال صلی الله علیه و آله وسلم:

ص: 630


1- محمد مهدي شمس الدين: حركة التاريخ عند الإمام علي علیه السلام. ص 31 - 32
2- الشرح 16 / 67
3- الشرح 16 / 62. وانظر: الشريف الرضي: نهج البلاغة 392
4- سورة الروم 42

«علي مع القرآن، والقرآن مع علي»(1). وقال علیه السلام: «ولا تسألوني عن آية ابليل نزلت أم بنهار أم بسهل أم بجيل»(2).

ولذا نجد التأثير القرآني واضحاً في فكر الامام التاريخي منهجاً وموضوعاً.(3) ثانياً: تربية الإمام علي علیه السلام في بيت النبي كان لها الاثر في ثقافته التاريخية حتى تميز من بين أصحابه بأنه يملك تسعة اعشار العلم(4)، وشارك الآخرون في العشر العاشر، وقد قال فيه صلی الله علیه و آله وسلم: «أنا مدينة العلم وعلي بابها» كما مر بنا أول الفصل.

ثالثاً: السنة النبوية الشريفة: اشتملت السنة النبوية على مادة تاريخية متنوعة شكلت مصدراً افاد الامام في المعرفة التاريخية.

رابعاً: قراءات الامام لما وجد من مؤلفات سواء باللغة العربية أو بغيرها وخاصة في تنقلاته بين الحجاز والعراق واليمن.(5) خامساً: الاثار القديمة: مر الامام علیه السلام في تنقلاته بين الاقاليم ببعض الاثار القديمة وهذا واضح من كلامه «وسرت في اثارهم» وكان علیه السلام قد عاش في اربعة اقاليم، وهي الحجاز واليمن والعراق وسوريا، فالحجاز هو مهده الأول حيث

ص: 631


1- أنظر مصادره فيما سبق من هذا الفصل
2- أنظر مصدره في مبحث الإمام علي وعلوم القرآن
3- محمد المهدي: حركة التاريخ عند الإمام علي ص 34
4- اخرجه ابن المغازلي:مناقب ص 286 - 287 ابن عبد البر: الاستيعاب 3 / 1104.البلوي: الف باء 1 / 222. النووي: تهذيب الاسماء 1 / 1 / 346. ابن كثير: البدايه والنهايه 7 / 360
5- محمد المهدي: حركة التاريخ ص 34 - 37

مكة والمدينة وما حوإليهما في خيبر و الطائف وغيرها من مدن وسط الجزيرة.

اما اليمن ففي اثناء ولايته قضاءها أيام النبي صلی الله علیه و آله وسلم. في حين كان العراق أيام خلافته متنقلاً بين البصرة والكوفة واخيراً سوريا في اثناء حرب صفين.(1) سادساً: لقاءاته مع علماء الثقافات الاخرى ومناظراته معهم شكلت مصدراً للامام. ففي شرحه لخطبة الامام «ولا همامه نفس اضطرب فيها» قال ابن أبي الحديد: «فيه رد على المجوس والثنوية القائلين بالهمامة، ولهم فيها خبط طويل يذكر اصحاب المقالات، وهذا يدل على صحة ما يقال: ان امير المؤمنين علیه السلام كان يعرف آراء المتقدمين والمتأخرين، ويعلم العلوم كلها، وليس ذلك ببعيد من فضائله ومناقبه علیه السلام»(2).

لقد أشار الإمام علي علیه السلام إلى سنة من سنين التاريخ الإلهية «سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا»(3). فاشار علیه السلام ان الذنب لا يلزم من اقترفه فقط، بل يشمل من رضى به، ولذلك إذا نزل العذاب شمل الجميع كما حصل لقوم ثمود لما عقروا الناقة، فكان العاقر شخصاً واحداً، ولكنهم رضوا به لذا شملهم العذاب، يقول علیه السلام «ايها الناس؛ إنما يجمع الله بالعذاب لما عموه بالرضا»(4).

ومن اشاراته التاريخية الاجمالية، أشار إلى هذه الاقوام القديمة كالعمالقة(5)،

ص: 632


1- محمد المهدي:حركة التاريخ ص 37 - 38
2- الشرح 1 / 80
3- سورة الاحزاب 62
4- الشرح 10 / 261 - 264
5- الشرح 1 / 93 - 94

والفراعنة(1)، واصحاب مدين(2). وكان هدفه علیه السلام من اشاراته اهذه الاقوام هو العظة والعبرة بحالهم إذ يقول: «وان لكم في القرون السالفة لعبرة! أين العمالقة، وابناء العمالقة! أين الفراعنة، وابناء الفراعنة! أين اصحاب مدائن الرس الذين قتلوا النبيين، واطفئوا سنن المرسلين، واحيوا سنن الجبارين! أين الذين ساروا بالجيوش، وهزموا الالوف، وعسكروا العساكر، ومدنوا المدائن»(3).

والمح علیه السلام في إحدى خطبه لحياة العرب قبل الإسلام. كيف كانوا تحت تسلط الاكاسرة والقياصرة، حيث يبعدون العرب عن الارض ذات الخصب والزرع، فازاح الاكاسرة العرب عن بحر العراق (دجلة والفرات)، وطرد القياصرة عرب الشام عن مراعي ومنتجعات الشام، فالجؤهم إلى منابت الشيح - وهو من نباتات الصحراء - وإلى ضيق العيش وقلته، فكان ذلك له اثره في تركهم فقراء، ليس لهم الا الاعتماد على الجمل والضأن، مما جعلهم «اذل الامم داراً»، وفيه إشارة لعدم وجود معاقل وحصون منيعة فيها، «واجدبهم قرارا» لعدم الزرع والشجر والنخل بها. وعلل - علیه السلام - سبب فرقة العرب لعدم وجود دعوة دينية أو غيرها ينتمون إليها، ولا هناك «ظل الفه يعتمدون على عزها»، وهذا ادى إلى «الأحوال مضطربة، والايدي مختلفة، والكثرة متفرقة» وهذا ترك آثاراً سلبية كان من جملتها: «بلاء ازل، واطباق جهل، من بنات مؤودة، واصنام معبودة، وارحام مقطوعة، وغارات مشنونة»(4).

ص: 633


1- الشرح 10 / 94
2- الشرح 10 / 94 - 95
3- الشرح 10 / 92
4- الشرح 13 / 171 - 177

واشار إلى معتقدات العرب قبل الإسلام حيث يقول: «واهل الارض يومئذ ملل متفرقة). فاوضح ابن أبي الحديد(1) مراد الامام علیه السلام في شرحه لعقائد العرب قبل الإسلام حيث قسمهم إلى العرب المعطلة وغير المعطلة.

فكان المعطلة يقسمون إلى:

1- من انكر الخالق والبعث والاعادة. وقالوا: «ما هي الا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا الا الدهر»(2)، حيث جعلوا الجامع لهم الطبع والمهلك الدهر.

2- من اعترف بالخالق وانكر البعث، وهم الذين قال عنهم القرآن «قال من يحيي العظام وهي رميم»(3). وقال احدهم(4):

ايخرنا ابن كبشه ان سنحيا *** وكيف حياة اصداء وهام إذا ما الرأس مال بمنكبيه *** فقد شبع الانيس من الطعام ايقتلني إذا ما كنت حياً *** ويحيني إذا رمت عظامي 3- من اقر بالخالق ونوع من الاعادة، وانكروا الرسل، وعبدوا الاصنام، وزعموا إنها شفعاء عند الله في الآخرة، وحجوا لها ونحروا الهدي، وقربوا

ص: 634


1- الشرح 1 / 117 - 120. وانظر الشهرستاني: الملل: 3 / 219. الآلوسي: بلوغ الارب: 2 / 197 - 252
2- سورة الجاثية 24
3- سورة يس 78
4- قالها شداد بن الاسود في رثاء قتلى معركة بدر. ابن هشام: السيره 3 / 29. الشهرستاني: الملل 3 / 221

القرابين، وحللوا وحرموا وهم جمهور العرب الذين قال عنهم القرآن «وقالوا ما لهذا الرسول ياكل الطعام ويمشي في الاسواق»(1)، وكانوا للاصنام ذوي آراء مختلفة فمنهم من يجعلها شريكة لله، فيقولون في التلبية: «اللهم لبيك، لا شريك لك، الا شريكا هو لك، تملكه وما ملك». ومنهم من لا يطلق عليه لفظ الشريك، ويجعلها وسائل وذرائع إلى الله سبحانه، وهم الذين قالوا: «وما نعبدهم الا ليقربونا إلى الله زلفى»(2).

4- المشبهة والمجسمة: ومنهم أمية بن أبي الصلت الذي من شعره:

من فوق عرش جالس قد حط رجل يه إلى كرسيه المنصوب(3) 5- ومنهم من يعتقد بالتناسخ، وتنقل الارواح في الاجساد، ومنهم ارباب الهامة، والهامة شيء يخرج من القبر على شكل صوت، وقد انكره الرسول صلی الله علیه و آله وسلم بقوله: «لا عدوى ولا هامة ولا صفر»(4). وهذا الاعتقاد بقي سارياً حتى العصر الأموي.(5) 6- ومن العرب من مال إلى إليهودية كجماعة من التبابعة(6)، وملوك اليمن. أو إلى النصرانية كبني تغلب، والعبادين رهط عدي بن زيد، ونصارى

ص: 635


1- سورة الفرقان 7
2- سورة الزمر 3
3- الشرح 1 / 119. وانظر ديوانه ص 164
4- اخرجه ابن ماجه: صحيح 1 / 21، 2 / 270. الطحاوي: شرح معاني الاثار 4 / 307 - 308 الشهرستاني: الملل والنحل 3 / 221
5- الشرح 1 / 119. وانظر ديوان توبة بن حمير ص 48. السيوطي: شرح شواهد المغني 2 / 644
6- لمزيد من التفاصيل عن التبابعة أنظر: محسن مشكل الحجاج: دولة التبابعه ص 9 ومابعدها

نجران، ومنهم من مال للصابئة والقول بالنجوم.(1) اما غير المعطلة فهم المتألهون اصحاب الورع والتحرج عن القبائح وهم عبد المطلب وولديه عبدالله وأبو طالب، وزيد بن عمرو بن نفيل(2)، وقس بن ساعدة الايادي وغيرهم.(3) واشار علیه السلام إلى حي من احياء العرب عرف بالشجاعة وهم «بنو فراس بن غنم بن ثعلبة بن مالك بن كنانة»(4). حيث تمنى علیه السلام أن يكون له الف فارس منهم بدلاً من كل هذه الالوف التي معه. ومن بني فراس كان حامي الضعن حياً وميتاً وهو - ربيعة بن مكدم بن حرتان بن جذيمة بن علقمة بن فراس».

حيث لم يحم الحريم ميتاً غيره، فبعد ان اصيب نصب رمحاً واتكأ عليه، واشار على الضعائن بالرواح، ومات، وتصور اعدائه انه حي فلم يهاجموا الضعائن حتى سلمت.(5) والمح علیه السلام إلى بعض من سيرة الاشعث بن قيس، حيث اسر مرتين الاولى قبل الإسلام حيث اسره بنو الحارث بن كعب، وتم فداؤه بثلاثة الاف بعير.

والثاني: اسر في الإسلام، وذلك لما ارتدت بنو وليعة.، وهزمو امام زياد بن لبيد والي الخليفة أبو بكر فذهبوا مستنجدين بالاشعث فابى مساعدتهم إلا أن يملكوه عليهم، فملكوه عندها سار إلى زياد فانهزم امام زياد، وطلب الامان له

ص: 636


1- الآلوسي: بلوغ الارب 2 / 197 - 252
2- أحد الاحناف قبل الإسلام. أنظر الشهرستاني: الملل والنحل 13 / 227، 235
3- الآلوسي: بلوغ الارب 2 / 223 - 224
4- هم انجد العرب، والواحد يعدل بعشرة. ابن عبد ربة: العقد الفريد 1 / 136
5- الشرح 1 / 233، 341 - 2. وانظر المبرد: الكامل 4 / 89. أبو الفرج: الاغاني 16 / 66

ولعشرة من أصحابه، مقابل تسليم الحصن، فقبل زياد وارسله إلى الخليفة الذي عفا عنه وزوجه اخته أم فروة، ولذلك عرف الاشعث بعرف النار وهو اسم للغادر عند قومه(1).

وقد قال الامام بحقه «ان امرؤ دل على قومه السيف، وساق إليهم الحتف، لحري ان يمقته الاقرب، ولا يأمنه الا بعد»(2).

ص: 637


1- الشرح 1 / 292 - 297
2- الشرح 1 / 291

ص: 638

المبحث العاشر الإمام علي علیه السلام والغيبيات

الغيب لغة: ما غاب عنك(1). والغيبيات هي الحوادث التي تقع في المستقبل. أما علم الغيب فهو العلم الذي يلم به إنسان تنقشع من أمام عينيه حجب القرون، وتنطوي المسافات فيقرأ المستقبل البعيد أو الحاضر المحجوب كما يقرأ في كتاب مفتوح، ويعي حوادثه كأنها بنت الساعة التي هو فيها.(2) وقد جاء في كلام الإمام - علیه السلام - اشارات مستقبلية تنبأ بها؛ إذ أن كلامه علیه السلام.

«داخل في باب المعجزات المحمدية لإشتمالها على الاخبار الغيبية وخروجها عن وسع الطبيعة البشرية»(3).

إن معرفة الإمور الغيبية أمر غير مستحيل فبعض الأنفس يمكن أن تختص بخاصية تدرك بها المغيبات، ولكن ليس كل المغيبات، لأن القوة المتناهية لا تحيط بأمور غير متناهية، وكل قوة في نفس فهي حادثة فهي متناهية، إذن وجب

ص: 639


1- الرازي: مختار الصحاح ص 485. ابن منظور: لسان العرب 2 / 147
2- محمد المهدي شمس الدين: دراسات في نهج البلاغة ص 12
3- الشرح 1 / 4 - 5

أن يحمل كلام الإمام - علیه السلام - في معرفته الغيب لاعلى إنه يريد به العالمية، بل يعلم أموراً محدودة من المغيبات مما أقتضت حكمة الله سبحانه وتعالى تأهله لعلمه، وكذا الحال بالنسبة إلى الرسول صلی الله علیه و آله وسلم(1).

ويقول ابن أبي الحديد: «أنا لا ننكر أن يكون في نوع البشر أشخاص يخبرون عن الغيوب ولكن كل ذلك مستند إلى البارئ سبحانه باقداره وتمكينه، وتهيئة أسبابه، فان كان المخبر عن الغيوب ممن يدعي النبوة لم يخبر أن يكون ذلك الا بان الله سبحانه وتمكينه وأن يريد به تعالى أستدلال المكلفين على صدق مدعي النبوة، لأنه لو كان كاذباً لكان يجوز أن يمكن الله تعالى الجن من تعليمه ذلك إضلالاً للمكلفين وكذلك لا يجوز ان يمكن الله سبحانه الكاذب في ادعاء النبوة من الأخبار عن الغيب بطريق السحر، وتسخير الكواكب(2) والطلسمات(3) ولا بالزجر(4) ولا بالقيافة(5) ولا بغير ذلك من الطرق المذكورة لما فيه من

ص: 640


1- الشرح 10 / 12 - 1
2- أي ما عرف بعلم احكام النجوم وهو علم يتعرف منه الاستدلال بالتشكلات الفلكية من اوضاعها، على الحوادث الواقعة في عالم الكون والفساد من أحوال الجو والمعادن والنبات والحيوان. أنظر طاش كبرى زادة: مفتاح السعادة: 1 / 337
3- معنى الطلسم: عقد لا ينحل، وهو علم يبحث عن كيفية تمزيق القوى السماوية الفعالة بالقوى الارضية المنفعلة في ازمنة مناسبة مع بخورات مناسبة قوية جالبة لروحانية ذلك الطلسم. طاش كبرى: مفتاح السعادة 1 / 339 - 40
4- الزجر عكس الفأل ويراد منه طلب الهرب عن الأمر وهو تشاؤم الانسان بشيء يراه أو يسمعه. خاصة في سفره أو اقدامه على أمر. طاش كبرى زادة: مفتاح السعادة: 1 / 362 - 3
5- علم يبحث عن تتبع اثار الاقدام أو الاستدلال بهيئات اعضاء الانسان على صحة نسبه. طاش كبرى زادة: مفتاح السعادة: 1 / 353 - 4

استفساد البشر وإغوائهم، وأما إذا لم يكن المخبر عن الغيوب مدعيا للنبوة نظر في حاله، فإذا كان ذلك من الصالحين الأتقياء نسب ذلك إلى إنه كرامة أظهرها الله تعالى على يده ابانة له وتمييزا من غيره كما في حق علي علیه السلام وان لم يكن كذلك امكن أن يكون ساحرا أو كاهنا أو نحو ذلك، وبالجملة فصاحب هذه الخاصية أفضل واشرف ممن لا تكون فيه، من حيث اختصاصه بها، فان كان للانسان منها مزية أخرى يختص بها توازيها، أو تزيد عليها، فترجع إلى التمييل والترجيح بينهما، والا فالمختص بهذه الخاصية ارجح واعظم من الخالي منها على جميع الأحوال)(1).

كان علیه السلام يخبر عن امتلاكه المعرفة بحوادث ومستقبل الأيام إذ يقول:

(فاسئلوني قبل ان تفقدوني، فوالذي نفسي بيده لا تسألوني عن شيء فيما بينكم وبين الساعة، ولا عن فئة تهدي مائة وتضل مائة الا انبأتكم بناعقها، وقائدها وسائقها، ومناخ ركابها، ومحط رحالها، ومن يقتل من أهلها قتلاً، ومن يموت منهم موتاً، ولو قد فقدتموني ونزلت بكم كرائه الامور وحوازب الخطوب لاطرق كثير من السائلين وفشل كثير من المسؤولين)(2).

وقال أيضاً: (والله لو شئت ان أخبر كل رجل منكم بمخرجه ومولجه وجميع شأنه لفعلت، ولكن أخاف ان تكفروا في برسول الله صلی الله علیه و آۀه وسلم). ولذلك اضطر علیه السلام إلى أن يبلغه فقط إلى (الخاصة ممن يؤمن ذلك منه)(3) وكان علیه السلام يكيل العلم كيلا بلا

ص: 641


1- الشرح: 5 / 12 - 13
2- الشرح: 7 / 44. وانظر المفيد: الإرشاد ص 17. الطوسي: آمالي الطوسي ط. النجف 1 / 58. الطبرسي: اعلام الورى ص 174
3- الشرح: 10 / 10

ثمن، ولكنه لا يجد حملة لهذا العلم)(1).

قد اسند الإمام علیه السلام غيبياته إلى الرسول صلی الله علیه و آله وسلم باعتباره المصدر الإصيل له، حيث بعد أن أشار إلى بعض الغيبيات قام إليه أحد أصحابه وقال: (لقد اعُطيت يا أمير المؤمنين علم الغيب!) وهنا ضحك الإمام علیه االسلام واوضح للسائل ما اشكل عليه، قائلاً: «ليس هو بعلم غيب وانما هو تعلم من ذي علم، وإنما علم الغيب علم الساعة، وما عند الله سبحانه وتعالى بقوله: «ان الله عنده علم الساعة…(2) فهذا علم الغيب الذي لا يعلمه أحد الا الله، وما سوى ذلك فعلم علمه الله لنبيه فعلمنيه، ودعا لي بان يعيه صدري وتضطم عليه جوانحي»(3).

ولكن لماذا ضحك الإمام علیه السلام من قول الرجل: لقد اوتيت علم الغيب؟ الا يعد هذا زهواً في النفس وعجباً بالحال؟ واقعا ان ذلك حدث للنبي صلی الله علیه و آله وسلم حينما دعا الله سبحانه وتعالى ان يسقيهم فكثر المطر في المدينة، فأخذ صلی الله علیه و آله وسلم يشير على السحاب لينساب عن المدينة، فأخذ صلی الله علیه و آله وسلم يضحك سرورا بنعمة الله سبحانه وتعالى عليه(4)، حيث ان السرور احيانا يؤدي إلى الضحك وذلك ليس بمذموم إذا خلا من التيه والعجب، وقد قال تعالى في صفة اوليائه:

ص: 642


1- الشرح: 6 / 134. وانظر ابن الجوزي: صفة الصفوة 2 / 330
2- سورة لقمان 34. وتكملتها (ان الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الارحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس باي ارض تموت ان الله عليم خبير)
3- الشرح: 8 / 215
4- الشرح: 14 / 80 - 81. وانظر ابن هشام: السيرة 1 / 300

«فَرِحِينَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ»(1)»(2).

وكان من جملة الأمور الغيبية الخمسة التي أشار لها القرآن: «وما تدري نفس ماذا تكسب غداً» أفلا يتعارض هذا بما كان يعلمه النبي صلی الله علیه و آله وسلم من الله تعالى عن أمور سيكسبها مستقبلا كفتح مكة، واعلامه صلی الله علیه و آله وسلم للإمام بقتاله للناكثين والقاسطين والمارقين. إن المراد بالآية بأنه لا تدري نفس جميع ما تكسبه في مستقبل زمانها، وذلك لا ينفي جواز ان يعلم الانسان بعض ما يكسبه في مستقبل زمانه.(3) لم يُعرف أحد قال: «سلوني قبل ان تفقدوني» لا من الصحابة ولا غيرهم سوى الإمام علي علیه السلام حتى ان أحد الوعاظ قال ذلك على المنبر فتعرض للسخرية والاستهزاء(4). وقد أكد علیه السلام «فانا أعلم بطرق السماء مني بطرق الارض» فيه إشارة إلى ما اختص به من العلم بمستقبل الامور لا سيما الملاحم والدول، وقد صدق هذا القول عنه ما تواتر من الاخبار الغيبية لا مره ولا مائه مرة، حتى زال الشك والارتياب في انه اخبار عن علم وليس اتفاقا.(5) ولكن قصور أدراك بعض الناس جعلهم يشكون بل ويكذبون الامام علیه السلام، وقد صارحوه بذلك مرارا، فكان علیه السلام يرد على تكذيبهم فقال: «لقد بلغني انكم

ص: 643


1- سورة آل عمران 170
2- الشرح: 8 / 217
3- الشرح: 8 / 217 - 218
4- الشرح: 13 / 107 - 109. وانظر: الخطيب: تاريخ بغداد 13 / 163 - 166.الذهبي: تذكرة الحفاظ 2 / 755. الدميري: حياة الحيوان الكبرى 2 / 368
5- الشرح: 13 / 106

تقولون: علي يكذب، قاتلكم الله تعالى، فعلى من اكذب! اعلى الله فانا أول من امن به، أم على نبيه؟ فانا أول من صدق به». ثم قال علیه السلام: «كلا والله، لكنها لهجة غبتم عنها، ولم تكونوا من أهلها». ويحتمل ان الامام يقصد لهجة رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم بتعليمه إياه، أو يقصد لهجته هو علیه السلام فيقول: «إنها لهجة غبتم عن منافعها، واعدمتم انفسكم ثمن مناصحتها»(1). وقال أيضاً: «لا تتراموا بالابصار عندما تسمعونه مني، فوالذي فلق الحبة، وبرأ النسمة، ان الذي انبأكم به عن النبي الامي صلی الله علیه و آله وسلم ما كذب المبلغ ولا جهل السامع»(2).

بل ان وجهات نظر سامعيه قد تناقضت بعد ما سمعوا كلامه فحينما قال:

«لو كسرت لي وسادة لحكمت بين أهل التوراة بتوراتهم وبين أهل الانجيل بانجيلهم وبين أهل الفرقان بفرقانهم، وما من اية في كتاب الله انزلت في سهل أو جبل الا وأنا عالم متى انزلت، وفيمن نزلت». فقال رجل: يالله والدعوة الكاذبة! وقال آخر: أشهد انك أنت رب العالمين. وقال قوم: لله ابوه ما افصحه كاذباً.(3) وبعد إن أوضح علیه السلام مصدر معلوماته قال لهم: «ولتعلمن نبأه بعد حين»(4)، وفيه إشارة إلى أن هذه الحقائق التي يخبر بها الإمام لا يدرك حقائقها الناس في حياته وإنما بعد وفاته(5). قال ابن أبي الحديد «لقد إمتحنا إخباره فوجدناه

ص: 644


1- الشرح: 6 / 133
2- الشرح: 7 / 98
3- الشرح: 6 / 136. وانظر المفيد: الإرشاد ص 17
4- سورة ص 88
5- الشرح: 6 / 134

موافقاً، فاستدللنا بذلك على صدق الدعوى المذكورة… وكم له من الأخبار عن الغيوب الجارية هذا المجرى بما لو أردنا استقصائه، لكسرنا له كراريس كثيرة وكتب السير تشتمل عليها مشروحة»(1).

اذن هذه النصوص صريحة بأن علمه علیه السلام بالمغيبات مأخوذ من النبي صلی الله علیه و آله وسلم ولكن هل يمكن التصور إنه صلی الله علیه و آله وسلم أفضى للإمام علیه السلام بتفاصيل كل الحوادث، فالظرف الزماني الذي جمع النبي بالإمام لا يسع ذلك فالإمام علیه السلام يقول: «فوالذي نفسي بيده لا تسألوني عن شيء فيما بينكم وبين الساعة، ولا عن فئة تهدي مائة، وتظل مائة، إلا أنبأتكم…»(2) ويقول: «فلأنا بطرق السماء أعلم مني بطرق الارض…»(3) ويقول: «والله لو شئت أن أخبر كل رجل منكم بمخرجه ومولجه وجميع شأنه لفعلت… »(4) فهذا علم واسع لا يسعه الظرف الزماني الذي قضاه الإمام مع النبي صلی الله علیه و آله وسلم ولكن الإمام يصرح بأن علمه مستقى من النبي صلی الله علیه و آله وسلم فكيف التوفيق في ذلك؟ الظاهر إنه صلی الله علیه و آله وسلم أفضى للإمام علیه السلام بكليات الأمور، ثم كان نشاط القوة الخفية المودعة للإمام فتكشف له ما محجوب من أحشاء الزمان وثنايا المكان، لأن الإمام علیه السلام كان على درجة من الصفاء العقلي والطهارة الروحية والنقاء الوجداني وهذه القوى أنشط في النفوذ إلى المغيب المحجوب، وكان صلی الله علیه و آله وسلم بعد أن أوضح للإمام علیه السلام الكليات هداه للسبل التي تؤدي به إلى أرفع درجات الحالة الروحية

ص: 645


1- الشرح: 7 / 48 - 50
2- الشرح: 7 / 44
3- الشرح: 13 / 101
4- الشرح: 10 / 10

التي تتيح لقواه الخفية ان تعمل عملها الخارق فيعي بسببها تفصيل ما اجمله الرسول صلی الله علیه و آله وسلم(1).

وفي تحليله للخطب التي يرد فيها ذكر الإمور الغيبية (الملاحم) وجد ابن أبي الحديد إن هناك خطبا تجوز نسبتها للإمام علیه السلام وأخرى لا يجوز لذا لم يوردها(2).

ومن هذه الخطب والتنبؤات(3):

أولاً: في خلافته علیه السلام:

- لما طلب منه علیه السلام الناس البيعة بعد مقتل الخليفة عثمان قال: «دعوني والتمسوا غيري، فإنا مستقبلون أمرا له وجوه والوان، لا تقوم له القلوب ولا تثبت عليه العقول، وإن الآفاق قد أغامت والمحجة قد تنكرت». فكلامه هذا له باطن وغور عميق ومعناه الأخبار عن غيب يعلمه علیه السلام هو ويجهلونه هم، وهو الإنذار بحرب المسلمين بعضهم لبعض، وإختلاف الكلمة وظهور الفتنة(4).

_ وخطب علیه السلام في الجمعة الثالثة من خلافته فقال: «وإن محمداً… خلف فينا راية الحق… دليلها مكيث الكلام… فإذا أنتم النتم له رقابكم، وأشرتم إليه بأصابعكم، جاءه الموت فذهب به…». هنا علیه السلام كنى عن نفسه، وإعلمهم بأنه سيفارقهم، بعد إجتماعهم عليه وطاعتهم له، وهكذا وقع الأمر فان أهل

ص: 646


1- محمد المهدي شمس الدين. دراسات في نهج البلاغة ص 138 - 141
2- الشرح: 10 / 14
3- لقد نقل الهاشمي أكثر ما جاء لدى ابن أبي الحديد في موضوع المغيبات. عند شرح الأول نهج البلاغة كتاب اسماه منهاج البراعة. أنظر 4 / 340 - 50، 375 - 80، 7 / 82 - 4، 171 - 2، 215 - 44، 298، 8 / 93، 204، 210، 346 - 361، 9 / 165، 10 / 183 - 7، 347
4- الشرح: 7 / 33 - 34

العراق لم يكونوا أشد اجتماعا عليه من الشهر الذي قتل فيه، حيث عقد لابنه الحسن على عشرة الاف، ولأبي ايوب الانصاري على عشرة الاف حتى اجتمع له مائة الف، واخرج مقدمته للشام فضربه ابن ملجم فانفضت تلك الجموع(1).

_ وفي أثناء مراسلاته مع معاوية قبيل معركة صفين كتب الإمام قائلاً:

«كأني بجماعتك يدعونني جزعا من السيف إلى كتاب الله». وهذا أما أن يكون فراسة نبوية صادقة وهذا عظيم، أو أخبار عن غيب مفصل وهو أعظم وأعجب وعلى كلا الأمرين فهو غاية العجب(2).

_ وفد غالب بن صعصعة(3) على الإمام علیه السلام ومعه ولده الفرزدق فقال له الإمام: يا أبا الاخطل(4) من هذا الغلام معك؟ قال: ابني وهو شاعر، قال: علمه القرآن فهو خير له من الشعر.

فتحت قوله علیه السلام: (يا أبا الأخطل) قبل أن يعلم إن ذلك الغلام ولده وهو شاعر، سر غامض، ويكاد يكون أخبارا عن غيب.(5) _ كان علیه السلام جالسا في مسجد الكوفة فأقبلت امرأة مختمرة لا تعرف، فقالت

ص: 647


1- الشرح: 7 / 84، 93 - 94
2- الشرح: 15 / 83
3- هو ابن صاحب المواقف المعروفة في مسألة وأد البنات. فكان ابوه صعصعة يشتري البنت من أبيها لذا قال الفرزدق: وجدي الذي منع الوائدات *** واحيا الوئيد فلم يوأد ديوان الفرزدق 1 / 173
4- الاخطل: هو الخفيف السريع، والمتفوه في القول. ابن منظور: لسان العرب 13 / 221 - 2
5- الشرح: 10 / 21 - 22. وانظر الزمخشري: ربيع الابرار 2 / 78

للامام علیه السلام: يا من قتل الرجال، وسفك الدماء، وايتم الصبيان، وارمل النساء! فقال علیه السلام: وإنها لهي هذه السلقلقة(1) الجلعة(2) المجعة(3)، وإنها لهي هذه شبيهة الرجال والنساء! التي ما رأت دما قط. فولت هاربة منكسة رأسها، فتبعها أحدهم فقال لها: لقد سررت بما كان منك اليوم إلى هذا الرجل فادخلي منزلي حتى أهب لكِ واكسوكِ، فلما دخلت منزله أمر جواريه بتفتيشها وكشفها ونزع ثيابها لينظر صدق قول الامام علیه السلام فبكت وسألته الا يكشفها، وقالت: أنا والله كما قال لي، لي ركب النساء، وانثيان كأنثى الرجال، وما رأيت دما قط.

فتركها ورجع للامام واخبره، فقال الإمام علیه السلام: إن خليلي رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم أخبرني بالمتمردين علي من الرجال والنساء حتى تقوم الساعة(4).

ثانيا: مصير أصحابه:

كان للإمام علیه السلام عدد من الإصحاب يفضي إليهم بأسراره وعلومه لذا كان السبيل لوصول بعض معارف الإمام علیه السلام إلينا، وأولئك الصحابة كانوا موضع انتقام من الدولة الأموية التي استلمت مقاليد الحكم. لذلك كان الإمام علیه السلام قد تنبأ بمصيرهم:

قال علیه السلام لعمر بن الحمق الخزاعي(5): «إنك لمقتول بعدي، وان رأسك

ص: 648


1- من السلق وهو شدة القول باللسان، قال تعالى (سلقوكم بالسنة حِداد) سورة الأحزاب (19). الرازي: مختار الصحاح ص 310. ابن منظور: لسان العرب 12 / 25
2- هي المرأة التي تترك الحياء وتتكلم بالقبيح. ابن منظور: لسان العرب 9 / 402
3- هي المرأة المتكلمة بالفحش والقليلة الحياء. ابن منظور: لسان العرب 10 / 210
4- الشرح: 2 / 288
5- أسلم بعد الحديبية وهاجر إلى المدينة، وقد شهد حروب الإمام علي علیه السلام. أنظر ابن قتيبة: المعارف ص 291. الطبري: تاريخ 4 / 326، 372 - 3، 393 - 4، 5 / 179، 236، 258 - 9، 265. الكشي: رجال ص 46 - 48. ابن حجر: الاصابة 2 / 532 - 3

لمنقول، وهو أول رأس ينقل في الإسلام، والويل لقاتلك! اما انك لا تنزل بقوم الا اسلموك برمتك، الا هذا الحي من بني عمرو بن عامر من الازد، فانهم لن يسلموك ولن يخذلوك، قال: فوالله ما مضت الا أيام حتى تنقل عمرو بن الحمق في خلافة معاوية في بعض احياء العرب، خائفا مذعورا حتى نزل في قومه من بني خزاعة، فاسلموه، فقتل وحمل رأسه من العراق إلى معاوية بالشام وهو أول راس حمل من بلد إلى آخر في الإسلام».(1) قال علیه السلام: لجويرية بن مسهر العبدي(2): «أما والذي نفسي بيده لتعتلن إلى العتل الزنيم، فليقطعنَّ يدك ورجلك وليصلبنك تحت جذع كافر، قال: فوالله ما مضت إلا أيام على ذلك حتى أخذ زياد بن أبيه جويرية، فقطع يده ورجله وصلبه»(3).

وقال علیه السلام لميثم التمار(4): «إنك تؤخذ بعدي وتصلب، فإذا كان اليوم الثاني أبتدر منخراك وفمك دما، حتى تخضب لحيتك، فإذا كان اليوم الثالث طعنت بحربة يقضى عليك فانتظر ذلك، والموضع الذي تصلب فيه على باب دار عمرو

ص: 649


1- الشرح: 2 / 289 - 290. وانظر ابن حبيب: المحبر ص 490. البيهقي: المحاسن والمساوئ ص 366
2- أنظر ترجمته: الكشي: رجال ص 98
3- الشرح: 2 / 290 - 291. وانظر ابن المفيد: الإرشاد ص 120. الطبري: اعلام الورى ص 172
4- هو ميثم التمار الاسدي، كان مولى لإمرأة فاشتراه الإمام علي علیه السلام واعتقه واصبح من اخلص أصحابه. أنظر: ابن حجر: الاصابة 3 / 504 - 5

ابن حريث(1)، انك لعاشر عشرة أنت اقصرهم خشبة واقربهم إلى المطهرة - يعني الأرض - ولأرينك النخلة التي تصلب على جذعها».

وقد قبض على ميثم أيام ولاية عبيد الله بن زياد الكوفة، فلما رفع على الخشبة أجتمع الناس حوله على باب دار عمرو بن حريث، فأخذ ميثم يحدثهم بفضائل آل البيت، فأمر ابن زياد بإلجامه، فكان أول مخلوق يلجم في الإسلام، فلما كان في اليوم الثاني فاضت منخراه وفمه دما، فلما كان في اليوم الثالث طعن بحربة فمات.(2) وقبض زياد بن أبيه على رشيد الهجري(3) فقال له زياد: ما قال خليلك لك؟ قال: تقطعون يدي ورجلي وتصلبونني. فقال زياد: اما والله لاكذبن حديثه. ثم قال: ردوه لا نجد شيئا اصلح مما قال لك صاحبك، انك لا تزال تبغي لنا سوءاً إن بقيت، أقطعوا يديه ورجليه، ثم قال: اصلبوه خنقا في عنقه، ثم قطعوا لسانه.(4) وكان مزرع(5)، أحد أصحاب الإمام علیه السلام يحدث في أيام معاوية؛ ليؤخذن رجل فليقتلن، وليصلبن بين شرفتين من شرف المسجد، فقيل له: انك لتحدث

ص: 650


1- عمرو بن حريث من أهل الكوفة روى عن النبي صلی الله علیه و آله وسلم. ابن حجر: الاصابة 2 / 531
2- الشرح: 2 / 291 - 294. وينظر ابن المفيد: الإرشاد ص 120 - 121. الطبرسي: اعلام الورى ص 172 - 174
3- رُشيد بضم الراء. أنظر، الكشي: رجال ص 71 - 73
4- الشرح: 2 / 294. وانظر ابن المفيد: الإرشاد ص 36. الطوسي: الامالي 1 / 167 - 168. الطبرسي: اعلام الورى ص 174
5- هو مزرع بن عبد الله أحد اصحاب الإمام علي علیه السلام. المفيد: الإرشاد ص 121 - 122

بالغيب. فقال: حدثني الثقة علي بن أبي طالب - قال: فما أتت جمعة حتى أخذ مزرع وقتل وصلب بين شرفتين من شرف المسجد(1).

- كان مالك بن ضمرة الرؤاسي(2) يدعو: اللهم لا تجعلني أشقى الثلاثة، فيقال له: وما الثلاثة؟ فيقول: رجل يرمى من فوق طمار ورجل تقطع يداه ورجلاه ولسانه ويصلب، ورجل يموت على فراشه، فكانت الناس تستهزأ به وتقول: هذا من أكاذيب أبي تراب، لأنه كان من خواصه، وان هانيء بن عروة قد رمي من قصر طمار(3) لوقوفه مع مسلم بن عقيل سفير الحسين علیه السلام إلى الكوفة أيام عبيد الله بن زياد، ورُشيد الهجري قطع وصلب، أما مالك بن ضمرة فمات على فراشه(4).

ثالثاً: الدولة الأموية:

تنبأ الإمام علي علیه السلام بقيام الدولة الأموية من بعده، حيث قال لأصحابه «أما إنه سيظهر عليكم من بعدي رجل رحب البلعوم، مندحق البطن يأكل ما يجد، ويطلب ما لا يجد، فاقتلوه ولن تقتلوه، إلا إنه سيأمركم بسبي والبراءة مني،

ص: 651


1- الشرح 2 / 294 - 295. وانظر المفيد: الإرشاد، ص 121 - 122
2- ينظر ابن حجر: الاصابة 3 / 383 - 4
3- هو قصر بالكوفة. البغدادي: مراصد الاطلاع 2 / 982. وإلى ذلك يقول الشاعر في مسلم بن عقيل وهاني بن عروة الشيباني: إذا كنت لاتدرين ما الموت فأنظري *** إلى هانئ في السوق وابن عقيل إلى بطل قد هشم السيف وجهه *** واخر يهوي من طمار قتيل مقاتل الطالبييين: ص 72
4- الشرح 2 / 295

فاما السب فسبوني، فأنه لي زكاة ولكم نجاة، واما البراءة فلا تتبرؤا مني، فإني ولدت على الفطرة وسبقت إلى الإيمان والهجرة»(1).

والإمام هنا يقصد تولي معاوية للحكم، حيث كان موصوفاً بالنهم وكثرة الأكل، وكان بطيناً يقعد بطنه إذا جلس على فخذيه، وكان يحب كثرة الأكل، حتى قال فيه الشاعر(2):

وصاحبٌ لي بطنُهُ كالهاوية *** كأن في أحشائه معاويةْ هذا التنبؤ قد وقع، حيث لما تولى معاوية الحكم أمر في جميع الأقاليم بسب الإمام والبراءة منه، وإستمر ذلك حتى خلافة عمر بن عبد العزيز(3)، ولذلك مدحه الشريف الرضي(4):

يا ابن عبد العزيز لو بكت العينَ *** فتى من أمية لبكيتكْ غیر أني أقول إنك قد طبتَ *** وإن لم يطب ولم يزل بيتك أنت نزهتنا عن السب والقذفَ *** فلو أمكن الجزاء جزيتكْ واستمر خلفاء بني أمية وولاتهم على هذا المنوال(5).

قال الاسكافي - أحد معتزلة بغداد-: ((إن معاوية وضع قوماً من الصحابة وقوماً من التابعين على رواية أخبار قبيحة في علي علیه السلام، تقتضي الطعن فيه، والبراءة

ص: 652


1- الشرح 4 / 54، 108. وانظر أبو الفرج الأصفهاني: مقاتل الطالبيين. ص 44. الطبرسي: أعلام الورى ص 172
2- الشرح 4 / 54 - 55. الميداني: مجمع الامثال 1 / 87
3- الشرح 4 / 56 - 63. وانظر كتاب سليم بن قيس ص 144 - 149
4- الشرح 4 / 60. لم أجده في الديوان المطبوع
5- الشرح 4 / 56 - 63

منه، وجعل لهم على ذلك جعلاً يرغب في مثله. فاختلقوا ما أرضاه، منهم عمرو بن العاص، والمغيرة بن شعبة، ومن التابعين عروة بن الزبير»(1).

وتنبأ علیه السلام لوصول مروان بن الحكم إلى تولي الحكم إذ يقول علیه السلام: «يحمل راية ضلالة بعدما يشيب صدغاه، وإن له امرء كلعقة الكلب انفه، وهو أبو الأكبش الأربعة. وستلقي الأمة منه ومن ولده يوماً أحمر»(2).

إن ما أشار إليه الإمام علیه السلام قد وقع، فمروان وصل للحكم بعد ان بلغ الخامسة والستين، وقد فسر البعض - الأكبش الأربعة - بأولاد عبد الملك الأربعة الذين تولوا الخلافة - الوليد، سليمان، يزيد، هشام - فيما يرى ابن أبي الحديد إن الأكبش الأربعة هو أولاد مروان لصلبه وهم عبد الملك، وعبد العزيز، وبشر، ومحمد، حيث تولى عبد الملك الخلافة، وأما عبد العزيز فتولي مصر، فيما تولى بشر العراق، في حين تولى محمد أقليم الجزيرة(3).

_ وتنبأ علیه السلام لعبد الملك بن مروان حيث جاء في إحدى خطبه: «لكأني أنظر إلى ضليل قد نعق بالشام، وفحص براياته في ضواحي كوفان، فإذا فغرت فاغرته، واشتدت شكيمته، ونقلت في الأرض وطأته، وعضت الفتنة أبناءها بأنيابها، وماجت الحرب بأمواجها، وبدأ من الأيام كلوحها، ومن الليالي كدوحها فإذا أينع زرعه، وقام على ينعه، وهدرت شقائقه، وبرقت بوارقه، عقدت رايات

ص: 653


1- الشرح 4 / 63
2- الشرح 6 / 146. وانظر: ابن سعد: الطبقات 5 / 43. الشريف الرضي: نهج البلاغة. ص 102. الطبرسي: اعلام الورى ص 172
3- الشرح 6 / 147 - 148

الفتن المعظلة، وأقبلن كالليل المظلم والبحر الملتطم»(1).

كلام الإمام أعلاه كناية عن الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان (64 - 86 ه)، لأن هذه الصفات والإمارات فيه أتم منها في غيره - لأنه قام في الشام حين دعا إلى نفسه، وهو معنى نعيقه وفحصت راياته بالكوفة. تارة حين شخص بنفسه إلى العراق، وقتل مصعباً، وتارة لما أستخلف الإمراء على الكوفة كبشر من مروان أخيه وغيره حتى أنتهى الأمر إلى الحجاج وهو زمان أشتداد شكيمة عبد الملك وثقل وطأئه، وحينئذ صعب الأمر جداً، وتفاقمت الفتن مع الخوارج وعبد الرحمن بن الأشعث، فلما كمل أمر عبد الملك - وهو معنى «أينع زرعه» هلك، وعقدت رايات الفتن المعظلة من بعده، كالحروب التي دارت بين أولاده وبين بني المهلب، وزيد بن علي، وفتن الكوفة أيام يوسف بن عمرو وخالد القسري وعمر بن هبيرة وغيرهم، وما جرى من استئصال الأموال والأنفس(2).

ونفى ابن أبي الحديد أن يكون قصد الإمام أعلاه هو معاوية لأن الأخير كان في أيام الإمام نعق بالشام، ودعاهم لنفسه، والكلام يدل على إنسان ينعق فيما بعد، حيث يقول علیه السلام: «كأني أنظر إلى ضليل قد نعق بالشام»(3).

وأكد ابن أبي الحديد ذلك بكلام آخر للإمام أشار به إلى عبد الملك إذ قال علیه السلام:» كأني به قد نعق بالشام، وفحص براياته في ضواحي كوفان، فعطف عليهما عطف الضروس وفرش الارض بالرؤوس، قد فغرت فاغرته، وثقلت

ص: 654


1- الشرح 7 / 98
2- الشرح 7 / 99
3- الشرح 7 / 100

في الأرض وطأته، بعيد الجولة، عظيم الصولة والله ليشردنكم في أطراف الأرض حتى لا يبقي منكم إلا قليل كالكحل في العين، فلا تزالون كذلك حتى تؤوب إلى العرب عوازب أحلامها»(1).

وهذا إخبار عن عبد الملك بن مروان وظهوره بالشام، وملكه بعد ذلك العراق، وما قتل من العرب فيها أيام عبد الرحمن بن الأشعث ومصعب بن الزبير(2).

- ودل كلامه «أما والله ليسلطن عليكم غلام ثقيف الذيال الميال، يأكل خضرتكم ويذيب شحماتكم، اية أبا وذحة». على الحجاج فهو غلام ثقيف، وكان - علیه السلام - يعلم من حال الحجاج ونجاسته بالمعاصي والذنوب، التي لو شوهدت بالبصر لكانت بمنزلة البعر الملتصق بشعر الشاة، لذا كنّاه «أبا وذحة»، وهذه الكنية إما لدمامته في نفسه، وحقارة منظره، وتشويه خلقته، حيث كان قصيراً ذميماً نحيفاً، أخفش العينين معوج الساقين، قصير الساعدين، مجدور الوجه، أصلع الرأس، فكناه الإمام علیه السلام بأحقر الأشياء وهو البعرة(3).

- وحينما كان الإمام علیه السلام يخطب بذكر بعض الملاحم، قال له أعشى همدان(4)

ص: 655


1- الشرح 9 / 46 - 47
2- الشرح 9 / 47، 89
3- الشرح 7 / 277 - 8، 280 - 281
4- هو عبد الرحمن بن عبد الله بن الحارث، يكنى أبا المصبح، شاعر من أهل الكوفة في العصر الأموي، خرج مع ابن الاشعت فوقع اسيراً بيد الحجاج وقتله صبرا. أبو الفرج: الاغاني 6 / 41 - 71

«يا أمير المؤمنين، ما أشبه هذا الحديث بحديث خرافة»(1) فقال علیه السلام: «إن كنت آثماً فيما قلت ياغلام، فرماك الله بغلام ثقيف، ثم سكت، فقام رجال فقالوا: ومن غلام ثقيف يا أمير المؤمنين؟ قال: غلام يملك بلدتكم هذه لا يترك لله حرمة إلا انتهكها يضرب عنق هذا الغلام بسيفه، فقالوا: كم يملك يا أمير المؤمنين؟ قال: عشرين إن بلغها، قالوا: يقتل قتلاً أم يموت موتاً؟ قال: بل يموت حتف أنفه بداء البطن، يثقب سريره لكثرة ما يخرج من جوفه». وفعلاً فقد أسر أعشى همدان بعد خروجه مع عبد الرحمن بن الأشعث، وأمر به الحجاج فقتل»(2).

- وتنبأ علیه السلام لما قام به عبد الله بن الزبير في الحجاز بعد مقتل الإمام الحسين علیه السلام فقال: «صنب صنب، يروم أمراً، ولا يدركه، ينصب حباله الدين لإصطياد الدنيا، وهو بعد مصلوب قريش»(3).

- وأشار علیه السلام إلى الوالي الأموي - يوسف بن عمرو الثقفي بقوله:» …يأتيكم صاحب اليمن، حتى يحل بين أظهركم، فيأخذ العمال وعمال العمال، رجل يقال له يوسف بن عمرو، ويقوم عند ذلك رجل منا أهل البيت فانصروه فإنه داع إلى الحق». وقيل إن قصد الإمام هذا هو زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب - علیه السلام -(4).

ص: 656


1- هو رجل من عذرة استهوته الجن، ولما رجع أخذ يكلم عنهم فكذب وسمي حديثه حديث خرافة: الميداني: مجمع الامثال 1 / 195
2- الشرح 2 / 289. ابن حبيب: اسماء المغتالين 7 / 265 - 7 وذكرها أبو الفرج مع الاشعث: مقاتل الطالبين ص 20
3- الشرح 7 / 48
4- الشرح 2 / 306. روي الاصفهاني أن الإمام علياً - علیه السلام - قال: يخرج بظهر الكوفة رجل يقال له زيد في أبهة (والابهة الملك) لا يسبقه الأولون ولا يدركه الأخرون إلا من عمل بمثل عمله، يخرج يوم القيامة هو وأصحابه معهم الطوامير أو شبه الطوامير حتى يتخطوا أعناق الخلائق فتلقاهم الملائكة فيقولون هؤلاء خلف الخلف ودعاة الحق، ويستقبلهم رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم فيقول: يابني قد عملتم ما أمرتم به فادخلوا الجنة بغير حساب. مقاتل الطالبيين ص 88 وانظر الصاحب بن عباد: عنوان المعارف ص 50

- وصف علیه السلام الولاة الأمويين: «اثروا عاجلاً، وأخروا آجلاً وتركوا صافياً، وشربوا أجنا، كأني أنظر إلى فاسقهم، وقد صحب المنكر فألفه، وبسى به ووافقه، حتى شابت عليه مفارقه، وصبغت به خلائقه، ثم أقبل مزبداً كالتيار لا يبالي ماغرق أو كوقع النار في الهشيم لا يحفل ما حرق»(1).

ثالثاً: كربلاء:

كانت كربلاء قد شغلت آل البيت كثيراً لأنه رغم تعدد الفجائع التي حلت بآل البيت النبوي، لم يشهدوا فاجعة كفاجعة كربلاء، إذ تعرض بيت زعيم الدولة الاسلامية للسبي في دولته، وكأنهم في ذلك يجازون النبي مقابل تبليغه للدعوة.

[قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِی الْقُرْبَى](2) ومثلما تنبأ النبي صلی الله علیه و آله وسلم بأحداث كربلاء(3). نجد الإمام علياً علیه السلام تشغله تلك الفاجعة فيذكرها بمزيد من الألم.

- فلما توجه إلى صفين وقف علیه السلام في موضع كربلاء وقال: ذات كرب وبلاء.

وأومأ بيده إلى مكان، فقال: هاهنا موضع رحالهم، ومناخ ركابهم، ثم أومأ إلى

ص: 657


1- الشرح 9 / 88
2- سورة الشورى، 23. وأنظر تفسيرها القرطبي: الجامع 16 / 21 - 23
3- أنظر في ذلك المحب الطبري: ذخائر العقبى ص 156 - 158. وأنظر الحاكم: المستدرك 3 / 194، 196. المتقي الهندي: كنز العمال 13 / 108، 111 - 114

مكان آخر، فقال: ها هنا مراق دمائهم. فسأله رجل: وما ذاك يا أمير المؤمنين؟ قال: ثقل لآل محمد ينزل ها هنا، فويل لهم منكم، وويل لكم منهم، فقال الرجل: ما معنى ذلك يا أمير المؤمنين؟ قال: ويل لهم منكم تقتلونهم، وويل لكم منهم يدخلكم الله بقتلهم النار(1).

- لما نزل الإمام كربلاء أخذ من ترابها فشمها ثم قال: واهاً لك ياثرى! ليحشرن منك قوم يدخلون الجنة بغير حساب، فسمعه هرثمة بن سليم، فلما كان أيام ابن زياد كان ضمن الجيش الخارج لحرب الحسين - علیه السلام -، فلما وصل كربلاء عرف المكان وتذكر قول الإمام - علیه السلام - فترك الجيش وأنسحب(2).

- وفهم ابن أبي الحديد من قول الإمام علیه السلام «فالأرض لكم شاغرة وأيديكم فيها مبسوطة وأيدي القادة عنكم مكفوفة، وسيوفكم عليهم مسلطة، وسيوفهم عنكم مقبوضة» بأنه علیه السلام يرمز إلى ما سيقع من قتل الحسين علیه السلام وأهله، وكأنه يشاهد ذلك عياناً، ويخطب عليه ويتكلم على الخاطر الذي سنح له، والأمر الذي كان أخبر به(3).

- قال علیه السلام للبراء بن عازب(4): يابراء: أيقتل الحسين وأنت حي فلا تنصره!

ص: 658


1- الشرح 3 / 170 - 1، 7 / 48. وأنظر: المنقري: صفين 141 - 2. المفيد: الإرشاد ص 123. ابن طاووس: الملاحم والفتن ص 92 - 93. المحمودي: نهج السعادة 1 / 131 - 132
2- الشرح 3 / 169 - 170. المنقري: صفين ص 140 - 141. المفيد: الإرشاد ص 123
3- الشرح 7 / 117، 120. وأنظر النص في نهج البلاغة ص 151
4- هو من الأنصار ويعد من الصحابة، غزا مع الرسول صلی الله علیه و آله وسلم أربع عشرة غزوة، وفتح الري، وشهد الجمل وصفين والنهروان مع الإمام علي - علیه السلام - ومات أيام مصعب بن الزبير: الكشي:رجال 45 - 46. ابن حجر: الاصابة 1 / 142 - 3

فقال البراء لا كان ذلك يا أمير المؤمنين. فلما قتل الحسين علیه السلام كان البراء يذكر ذلك: ويقول: أعظم بها حسرة! إذ لم أشهده وأقتل دونه(1).

- وخطب علیه السلام قائلاً: «سلوني قبل أن تفقدوني، فو الله لا تسألوني عن فئة تضل مئة أو تهدي مائة إلا أنبأتكم بناعقها وسائقها، ولو شئت لأخبرت كل واحد منكم بمخرجه ومدخله، وجميع شأنه». فقام إليه - تميم بن أسامة بن زهير بن دريد التميمي - فقال: فكم في رأسي طاقة شعر؟ فقال علیه السلام: أما والله إني لأعلم ذلك، ولكن أين برهانه لو اخبرتك به؟ ولقد أخُبرت بقيامك ومقالك، وقيل لي: إن على كل شعرة من شعر رأسك ملكاً يلعنك وشيطان يستفزك واية ذلك ان في بيتك سخلاً يقتل ابن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم ويحض على قتله.

إن ما أخبر به الإمام علیه السلام قد وقع حيث كان وقتها لتميم ولد يدعى - حصين(2) - طفلًا يرضع اللبن، وأصبح فيما بعد صاحب شرطة عبيد الله بن زياد فأرسله الأخير إلى عمر بن سعد يأمره بمحاربة الحسين علیه السلام فقتل الحسين علیه السلام صبيحة اليوم الذي ورد فيه الحصين بالرسالة في ليلته(3).

- ولما قال علیه السلام: «سلوني قبل أن تفقدوني» قال له أنس النخعي: أخبرني ما في رأسي ولحيتي من طاقة شعر، فقال علیه السلام: «والله لقد حدثني خليلي إن على كل طاقة شعر من رأسك ملكاً يلعنك، وان كل طاقة شعر من لحيتك شيطاناً يغويك، وان في بيتك سخلاً يقتل ابن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم، ولقد كان ابنه سنان(4)

ص: 659


1- الشرح 10 / 15. وانظر المفيد: الإرشاد ص 123. الاربلي: كشف الغمة 1 / 282
2- ينظر الطبري: تاريخ 5 / 372، 392 - 405، 434، 449 (متفرقة)
3- الشرح 10 / 14 - 15. وانظر: الطبرسي: اعلام الورى ص 174
4- ينظر: الطبري: تاريخ 5 / 45 - 4 / 468

يومها صغيراً وهو من اشترك في قتل الحسين علیه السلام(1).

- قال رجل للإمام علیه السلام: «يا أمير المؤمنين، إني مررت بوادي القرى(2)، فوجدت خالداً بن عرفطة(3) قد مات، فاستغفر له». فقال علیه السلام والله ما مات ولا يموت حتى يقود جيش ضلالة، صاحب لوائه حبيب بن حمار)، فقام رجل وقال: يا أمير المؤمنين: أنا حبيب بن حمار، واني لك شيعة ومحب. فقال علیه السلام أنت حبيب بن حمار؟ قال: نعم. فقال له ثانية: والله انك لحبيب بن حمار؟ فقال: أي والله. قال علیه السلام: أما والله إنك لحاملها ولتحملنها، ولتدخلن بها من هذا الباب - وأشار إلى باب الفيل بمسجد الكوفة. قال الراوي: فوالله ما مت حتى رأيت ابن زياد، وقد بعث عمر بن سعد إلى الحسين علیه السلام وجعل خالد بن عرفطة على مقدمته، وحبيب بن حمار صاحب رايته فدخل بها من باب الفيل(4).

رابعاً: الخوارج:

حفل كلام الإمام الوارد في نهج البلاغة بالإشارات لمستقبل الخوارج منذ

ص: 660


1- الشرح 2 / 286. وانظر المفيد: الإرشاد ص 123. الطبرسي: اعلام الورى ص 174 - 175
2- وادي القرى: بين المدينة والشام وهو من اعمال المدينة، الحموي: معجم البلدان 338 - 9، 5 / 345
3- هو من بني عذرة وحالف بني زهرة، شارك في القادسية. الطبري، تاريخ 3 / 489، 530 - 2، 537، 565، 574، 578، 619، 4 / 53، 5 / 268، 6 / 19، 7 / 84. الحاكم: المستدرك 3 / 316. ابن حجر: الاصابة 1 / 410
4- الشرح 2 / 286 - 7. وانظر المفيد ص 122 - 123. الطبرسي: اعلام الروى ص 175. ابن طاووس: الملاحم ص 92. ابن حجر: الاصابة 1 / 410 وذكر الاصفهاني على إنها راية معاوية لما دخل الكوفة. مقاتل الطالبيين ص 46 - 47

عصره علیه السلام إلى العصر العباسي.

- في لقاءه علیه السلام بالخوارج يوم النهروان، قال له أصحابه: ان القوم قد عبروا جسر النهروان فقال: مصارعهم دون النطفة، والله لا يفلت منهم عشرة، ولا يهلك منكم عشرة(1).

هذا الخبر من الأخبار التي تكاد تكون متواترة بالإشتهار ونقل الناس كافة له، لذا أصبح من معجزات الإمام علیه السلام، وأخباره المفصلة عن الغيوب، والأخبار تنقسم على قسمين، فهناك الأخبار المجملة التي لا أعجاز فيها كما يفعل الملوك والإمراء عادة حيث يعدون أصحابهم بالنصر، فلا يدل وقوع ذلك على اخبار عن غيب يتضمن إعجازاً، أما الأخبار المفصلة عن الغيوب مثل هذا الخبر، فانه لا يحتمل التلبيس لتقيده بالعدد المعين في أصحابه وفي الخوارج، وقد وقع الأمر بعد المعركة كما أخبر به - علیه السلام - من غير زيادة أو نقص «وذلك أمر الهي عرفه من جهة رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم وعرفه رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم من جهة الله سبحانه وتعالى والقوة البشرية تقصر عن إدراك مثل هذا، ولقد كان له من هذا الباب مالم يكن لغيره»(2).

- بعد معركة النهروان أمر أصحابه بالبحث عن جثة - المخدج ذي الثدية فلم يجده أصحابه، فقال: «ما كذبت ولا كذبت» وهذه إشارة لما أخبره الرسول صلی الله علیه و آله وسلم: «إنك مقاتلهم، وقاتلهم، وإن المخدج ذا الثدية منهم، وأنك ستقاتل بعدي الناكثين والقاسطين والمارقين فلما إستبطأ الإمام علیه السلام وجود

ص: 661


1- الشرح 5 / 3. وانظر: المفيد: الإرشاد ص 118 - 119. الشريف الرضي: نهج البلاغة. ص 93. الخوارزمي: المناقب ص 185
2- الشرح 5 / 3 - 4، 7 / 48

المخدج مع القتلى، وأشفق من دخول شبهه على أصحابه لما كان أخبرهم بقتله قال: «ما كَذَبْتُ ولا كُذَّبتُ» أي ما كذبت على رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم. ولا كذبني رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم(1).

- وقال علیه السلام للخوارج: «أما إنكم ستلقون بعدي ذلاً شاملاً وسيفاً قاطعاً، وأثره يتخذها الظالمون فيكم سنة». إن هذا الأخبار عن مستقبل الخوارج قد وقع، حيث سلط الله عليهم بعد الإمام الذل الشامل، والسيف القاطع، والأثر من السلطان، وما زال حالهم يضمحل، حتى فني أكثرهم بسيف المهلب وبنيه(2).

ولما قال أصحاب الإمام بعد النهروان «هلك القوم بأجمعهم» فقال علیه السلام:

«كلا والله، إنهم نطف في أصلاب الرجال، وقرارات النساء وكلما نجم منهم قرن قطع حتى يكون اخرهم لصوصاً سلأبين»(3).

وهذا إخبار صحيح فإن الخوارج لم يهلكوا جميعهم في النهروان، وان دعوتهم سيدعو بها قوم لم يخلقوا أيام الإمام، وتحققت أيضاً نبؤة الإمام بأن آخرهم لصوصٌ سلأبين، فإن دعوتهم اضمحلت، وفني رجالهم، حتى انقضى الأمر بهم إلى أن صاروا قطاعاً للطرق متظاهرين بالفساد والفسوق مثل الوليد

ص: 662


1- الشرح 6 / 130. وانظر: الطبرسي: اعلام الورى ص 170
2- الشرح 4 / 132. ولمزيد من التفاصيل الشرح 4 / 132 - 278، 5 / 80 - 129. وانظر المبرد: الكامل 3 / 403 - 414، الطبري التاريخ 6 / 119 - 127، 174، 195 - 199، 211 - 215، 216 - 256، 257 - 284، 300 - 311
3- الشرح 5 / 14. وانظر المحمودي: نهج السعادة 2 / 316

ابن طريف الشيباني أيام الرشيد(1)، وابن عمرو الخثعمي(2) أيام المتوكل (232 - 247) الذي ذمه البحتري(3) في إحدى قصائده(4).

قال ابن أبي الحديد: «ومن المشهورين برأي الخوارج الذين تم بهم صدق قول أمير المؤمنين علیه السلام: (إنهم نطف في اصلاب الرجال، وقرارات النساء):

عكرمة مولى ابن عباس(5) … والمنذر بن الجارود العبدي(6) ومنهم يزيد بن أبي مسلم(7) مولى الحجاج… ومنهم صالح بن عبد الرحمن(8) صاحب ديوان العراق. وممن ينسب إلى هذا الرأي من السلف جابر بن زيد(9) وعمرو بن

ص: 663


1- الشرح 5 / 73 - 4. وانظر: الطبري: تاريخ 8 / 256. ابن خلكان: وفيات 6 / 31 - 34
2- الشرح 5 / 74 - 76
3- ديوان البحتري 2 / 1373
4- الشرح 5 / 74 - 76
5- ذكر الشهرستاني انه من الخوارج. الملل 1 / 285
6- الشهرستاني: الملل 1 / 218. الطوسي:الفهرست ص 70. الكشي: رجال ص 199
7- هو مولى الحجاج وتولى خراج الكوفة والبصرة أيام الوليد بن عبد الملك سنة 95 حتى عزله سليمان سنة 96 وقتل في افريقيا سنة 102 ه الطبري: 6 / 374، 493، 506، 617
8- ولاه سليمان بن عبد الملك سنة 96 ه على خراج العراق: الطبري 6 / 506، 508، 522 - 3، 525
9- الطبري:المنتخب ص 646، 679. أبو نعيم: حلية الاولياء 3 / 85 - 91. الطوسي: الفهرست ص 70. الذهبي: تذكرة الحفاظ ص 1 / 72

دينار(1) ومجاهد(2) وأبو عبيدة معمر بن المثنى التميمي(3)، يقال: إنه كان يرى رأي الصفرية(4)، ومنهم اليمان بن رباب(5)، وكان على رأي البيهسية(6)، وعبد الله بن يزيد(7)، ومحمد بن حرب(8) ويحيى بن كامل(9)، وهؤلاء

ص: 664


1- هو راو وفقیه وممن خرج على الحجاج مع ابن الاشعث. الطبري: تاريخ 1 / 115، 225، 344، 366، 2 / 219، 384، 389 - 90، 3 / 240، 32، 4 / 39، 5 / 345، 6 / 488
2- هو مجاهد بن جبر من الرواة في الفقه والتفسير، خرج على الحجاج مع ابن الاشعت، فحبسه الحجاج حتى مات الحجاج. وشارك في غزوة القسطنطينية عام 98 مع مسلمة. الطبري 6 / 488، 530
3- هو صاحب المؤلفات في اللغة والأخبار. ابن قتيبة: المعارف ص 543. الاشعري: مقالات الإسلاميين 1 / 184. ابن النديم: الفهرست ص 79 - 80. ابن خلكان: وفيات 5 / 235 - 243
4- هي إحدى فرق الخوارج تنسب إلى زياد بن الاصفر. الأشعري: مقالات الاسلاميين 1 / 169. الملطي: التنبيه والرد ص 52، 178. الشهرستاني: الملل 1 / 183 - 5
5- هو من زعماء الخوارج وله مؤلفات في ذلك اكثرها ردود على مخالفين. أنظر ابن النديم: الفهرست ص 258. الشهرستاني: الملل 1 / 185
6- نسبة إلى أبي بيهس الهيصم بن جابر الذي قتل أيام الوليد. الأشعري: مقالات الاسلاميين 1 / 177 - 182. الملطي: التنبيه ص 180. الشهرستاني: الملل 1 / 169 - 172
7- هو من الخوارج الأباضية، وله كتب في الرد على المعتزلة. ابن النديم: الفهرست ص 258. الشهرستاني: الملل 1 / 185
8- هو من متكلمي الخوارج وله مؤلفات. ابن النديم: الفهرست ص 258. الشهرستاني: الملل 1 / 185
9- كان مرجئياً ثم أصبح خارجياً وله مؤلفات في الرد على المخالفين. ابن النديم: الفهرست ص 258. الشهرستاني: الملل 1 / 185

اباضية(1). وقد نسب إلى هذا المذهب أيضاً من قبل أبو هارون العبدي(2)، وأبو الشعثاء(3)، واسماعيل بن سميع(4) وهبيرة بن بريم(5) …. ونسب أبو العباس محمد بن يزيد المبرد(6)، إلى رأي الخوارج لاطنا به في كتابه المعروف ب - الكامل - في ذكرهم وظهور الميل منه إليهم(7)).

خامساً: زوال الدولة الأموية وقيام الدولة العباسية في أكثر من نص نجد الإمام قد أشار إلى أن الدولة الأموية ستزول وتقوم مقامها الدولة العباسية، ومنها:

- «إن لبني أمية مروداً يجرون فيه، ولو قد أختلفوا فيما بينهم، ثم لو كادتهم الضباع لغلبتهم».

إن الأخبار أعلاه هو عن غيب صريح، فالأمويون لم يزل ملكهم منتظماً حينما لم يكن هناك أختلاف بينهم، بل حروبهم مع غيرهم كحرب معاوية للإمام في صفين، وحرب يزيد لأهل المدينة في موقعة (الحرة)، وعبد الله بن الزبير في

ص: 665


1- نسبة إلى عبد الله بن اباض وهي إحدى فرق الخوارج. الشهرستاني: الملل: 1 / 180 - 182. الملطي: التنبيه ص 52، 178
2- الشهرستاني: الملل 1 / 185
3- هو جابر بن زيد.الطبري 5 / 224، 237، أبو نعيم: حلية الاولياء 3 / 85 - 91. الشهرستاني: الملل 1 / 185
4- هو اسماعيل بن سميع. الطبري: تاريخ 5 / 73. الشهرستاني: الملل 1 / 185
5- ترجمناه ص 253 في نهاية موضوع الإمام علي علیه السلام والعلم الالهي
6- هو صاحب كتاب - الكامل في الأدب - وقد تحدث كثيراً عن الخوارج لذا اعتمده ابن أبي الحديد كمصدر عن الخوارج. أنظر الكامل 3 / 164 414
7- الشرح 5 / 76 - 77

مكة، وحرب مروان بن الحكم للضحاك، وحرب عبد الملك بن مروان مع ابن الأشعث وابن الزبير، وحرب يزيد بن عبد الملك لبني المهلب، وحرب هشام بن عبد الملك لزيد بن علي، لكنه لما تولى الوليد بن يزيد وخرج عليه ابن عمه يزيد بن الوليد وقتله، أختلفت بنو أمية فيما بينها وجاء الوعد، وصدق من وعد به، فإنه منذ قتل الوليد دعت دعاة بني العباس بخراسان، وأقبل مروان بن محمد من الجزيرة يطلب الخلافة، فخلع إبراهيم بن الوليد، وقتل قوماً من بني أمية، وكان زوال ملكهم على يد أبي مسلم، وكان في بدايته أضعف خلق الله، وأعظمهم فقرا ومسكنة، وفي ذلك تصديق قوله - علیه السلام - ثم لو كادتهم الضباع لغلبتهم(1).

- وقال علیه السلام بالمعنى نفسه: «فأقسم بالله يابني أمية عما قليل لتعرفنها في أيدي غيركم، وفي دار عدوكم». وقد وقع الأمر بموجب ما أخبر به علیه السلام، فان الخلافة بقيت بأيديهم تسعين سنة ثم عادت للهاشميين، وإنتقم الله منهم بأيدي أشد الناس عداوة لهم(2).

- وأشار ثالثة: فعند ذلك لا يبقى بيت مدر ولا وبر الا وأدخله الظلمة ترحة، وأدلجوا فيه نقمة، فيومئذ لا يبقى لهم في السماء عاذر ولا في الأرض ناصر… فأقسم ثم أقسم لتنخمنها أمية من بعدي كما تلفظ النخامة، ثم لا تذوقها ولا تتطعم بطعمها أبداً، ما كرّ الجديدان».

وهذا النص أيضاً إخبار عن الدولة الأموية، وزوال أمرهم بعد تفاقم

ص: 666


1- الشرح 20 / 182 - 183
2- 7 / 117، 120 - 121. وانظر المحمودي: نهج السعادة 1 / 222 - 3

أحوالهم.(1).

- وفي نص تنبأ الإمام لزوال الدولة الأموية وقيام الدولة العباسية إذ يقول:

«ألا وإن أخوف الفتن عندي عليكم فتنة بني أمية فإنها فتنة عمياء مظلمة عمت خطتها، وخصت بليتها، وأصاب البلاء من أبصر فيها، وأخطأ البلاء من عمي عنها، وأيم الله لتجدون بني أمية لكم أرباب سوء بعدي كالناب الضروس، تعذم بفيها، وتخبط بيدها، وتزين برجلها، وتمنع درها، ولا يزالون بكم حتى لا يتركوا منكم إلا نافعاً لهم، أو غير ضائر بهم. ولا يزال بلاؤهم عنكم حتى لا يكون انتصار أحدكم منهم إلا مثل انتصار العبد من ربه، والصاحب من مستصحبه ترد عليكم فتنتهم شوهاء مخشية، وقطعاً جاهلية، ليس فيها منار هدى ولا علم يرى، نحن أهل البيت منها بنجاة، ولسنا فيها بدعاة، ثم يفرجها الله عنكم كتفريج الاديم، بمن يسومهم خسفاً، ويسوقهم عنفا، ويسقيهم بكأس مصبرة لا يعطيهم إلا السيف، ولا يحلسهم إلا الخوف، فعند ذلك تود قريش بالدنيا وما فيها لو يرونني مقاما واحداً، ولو قدر جزر لأقبل منهم ما أطلب اليوم بعضه فلا يعطونيه»(2).

- إنَّ كلام الإمام أعلاه إشارة إلى أن فتنة بني أمية، سوف تعم الكل من حيث كانت رياسة شاملة لكل أحد، وحظ أهل البيت وشيعتهم من بلاءها أعظم، والذين لا يزالون بالناس قتلاً حتى لا يتركوا الأمن ينفعهم أبقاؤه، أو لا يضرهم تركه، حتى يكون إنتصار الناس منهم كانتصار العبد من مولاه، هذا يعني انهم لا ينتصرون منهم لأن العبد لا ينتصر من مولاه

ص: 667


1- الشرح 9 / 218
2- الشرح 7 / 45

أبداً. ولا يزال الأمر كذلك حتى ينفرج عنكم بمن يسومهم خسفا ويوليهم ذلاً، وهذا الكلام أخبار عن ظهور المسودة ورايات بني العباس، وانقراض الدولة الأموية، وقد وقع الأمر كما أخبر - علیه السلام - وصدق في قوله «لقد تود قريش ….» حيث إن الخليفة الأموي الأخير مروان بن محمد قال يوم الزاب لما شاهد عبد الله بن علي بإزائه في صف خراسان: لوددت أن علي بن أبي طالب تحت هذه الراية بدلا من هذا الفتى(1).

- وبعد أن أشار علیه السلام إلى «ضليل قد نعق بالشام» وهو إشارة إلى عبد الملك ابن مروان قال: «وعن قليل تلتف القرون بالقرون، ويحصد القائم، ويحطم المحصود». وهو كناية عن ظهور الدولة العباسية، وقوله علیه السلام (يحصد القائم ويحطم المحصود) كناية عن قتل الأمراء الأمويين في الحرب، وقتل المأسورين صبراً، فحصد القائهم هو قتل المحاربة، وحطم الحصيد هو القتل صبراً، وهكذا وقعت الحال مع عبد الله بن علي والسفاح(2).

سادساً: الدولة العباسية:

- ويرى بعض المعتزلة أن قوله علیه السلام «لتعطفن الدنيا علينا بعد شماسها عطف الضروس على ولدها» في هذا إشارة إلى خلافة أبي العباس السفاح وأبي جعفر المنصور، حيث أزالوا الدولة الأموية، وبهم عطفت الدنيا على بني عبد المطلب عطف الضروس(3).

- أخبر علیه السلام عبد الله بن عباس بانتقال الأمر لأولاده، حيث لما ولد لعبد الله

ص: 668


1- الشرح 7 / 53 - 57
2- الشرح 7 / 98، 101
3- الشرح 19 / 29

حنكه الإمام بتمرة قد لاكها ثم دفعه لأبيه قائلاً: «خذ اليك أبا الأملاك»(1).

- أشار علیه السلام إلى مقتل محمد ذي النفس الزكية في «إنه يقتل عند أحجار الزيت»(2). وقوله عن أخيه ابراهيم قتيل باخمرى(3) «يقتل بعد أن يظهر، ويقهر بعد أن يقهر» وقوله فيه أيضاً «يأتيه سهم غرب يكون فيه منيته فيا بؤساً للرامي: شلت يده ووهن عضده»(4).

- وتنبأ للأئمة من ولده في طبرستان(5) كالناصر(6) والداعي(7) وغيرهما بقوله: «وإن لآل محمد بالطالقان(8) كنزاً سيظهره الله إذا شاء، دعاؤه حق، يقوم بأذن الله فيدعو إلى دين الله»(9).

ص: 669


1- الشرح 7 / 49 - 50. وانظر: مؤلف مجهول: اخبار العباس، ص 134
2- احجار الزيت: موضع بالمدينة المنورة. الحموي: معجم البلدان 1 / 109
3- باخمرى: موضع بين الكوفة وواسط. الحموي: معجم البلدان 1 / 316
4- الشرح 7 / 48. وانظر 3 / 307 - 312. الاصفهاني: مقاتل الطالبيين 157 - 256
5- طبرستان: من أقاليم بلاد فارس فتحت مدنها منذ عهد الخليفة عثمان. الحموي: معجم البلدان 4 / 13 - 16. الحميري: الروض ص 383 - 5
6- هو الداعي ناصر الحق الحسن بن علي بن الحسن بن زيد بن عمر بن الحسين بن علي. ابن النديم. الفهرست ص 273 - 4. الشهرستاني: الملل 1 / 218. ابن المرتضى طبقات المعتزلة ص 117
7- هو الحسن بن زيد بن محمد بن اسماعيل بن الحسين بن الحسن بن الحسين بن علي أنظر: الهمذاني: تكملة تاريخ الطبري ص 344. ابن النديم: الفهرست ص 274. الشهرستاني: الملل 1 / 218. ابن المرتضى: طبقات المعتزلة، ص 117
8- الطالقان: بلدتان في خراسان. الحموي: معجم البلدان 4 / 6 - 8. الحميري: الروض ص 380 - 1
9- الشرح 7 / 48

- وأشار إلى قتلى - وج(1) - وقولهم فيهم «هم خير أهل الارض»(2).

- وتنبأ علیه السلام لقيام الدولة الفاطمية(3)، واشار ابن أبي الحديد أن الإمام علیه السلام صرح بذكر قبيلة كتامة(4) التي كان لها الدور الأكبر في مناصرة الدولة الفاطمية - إلا أنه لم يشر إلى النص الذي ذكرها - وقوله علیه السلام في أبي عبد الله المهدي: «ثم يظهر صاحب القيروان الغض البض، والنسب المحض، المنتجب من سلالة ذي البداء، المسجى بالرداء». وقد كان عبيد الله المهدي أبيض مترفاً مشرباً بحمرة، وخص البدن، ناء الاطراف، أما ذو البداء فهو اسماعيل بن جعفر الصادق علیه السلام وهو المسجى بالرداء، لأن أباه الصادق علیه السلام قد سجاه بردائه لما مات، وادخل إليه وجوه أصحابه ليعلموا موته وتزول الشبهة عليهم في امره(5).

ص: 670


1- أسم يطلق على الطائف قديما، نسبة إلى وج بن عبد الحي من العمالقة، ولما أحاطها قسي وهو ثقيف بطوف سميت الطائف. أنظر: الهمداني: مختصر كتاب البلدان، ص 22. الشريف الرضي: المجازات النبوية ص 63. الحموي: معجم البلدان 4 / 9، 5 / 361. الحميري: الروض المعطار ص 17، 379، 608
2- الشرح 7 / 48. لم يتسن لي معرفة قصد الإمام، ولم يوضح ابن أبي الحديد مراد الإمام من قتلى - وج -، وقد ذكر أبو عدي عبد الله بن عمر بن عبد الله العبلي الأموي القرشي ت 145، وهو شاعر مخضرم في الدولتين الأموية والعباسية، ومن أهل المدينة، وكان في أيام الدولة الأموية يذمهم ويميل لبني هاشم ولما آل الأمر إلى العباسيين اكرموه. وقد ذكر «وج» في شعر له إذ = =يقول: وقتلى بوجٍ وباللابتين *** من يثرب خيرما انفس أبو الفرج: الأغاني 4 / 332 - 3. ولم يتضح لي المقصود بقتلى وج
3- لمزيد من التفاصيل عنها، أنظر: المقريزي، أتعاظ الخلفا بذكر الأئمة الفاطميين الخلفا. المقريزي: الخطط 1 / 348 - 496. حسن ابراهيم حسن: تاريخ الدولة الفاطمية
4- إحدى القبائل المغربية، أنظر موسى لقبال: دور كتامة في تاريخ الدولة الفاطمية
5- الشرح 7 / 48 - 49

- وتنبأ علیه السلام لبعض الحركات في العصر العباسي كحركة القرامطة بقوله:

«ينحلون لنا الحب والهوى، ويضمرون لنا البغض والقلى، واية ذلك قتلهم وارثنا وهجرهم احداثنا».

إن ما أخبر به علیه السلام قد وقع - لأن القرامطة قتلت من آل بني طالب عدداً كثيراً. ويذكر أن - أبا طاهر سليمان بن الحسن الجنابي(1) - مر بجيشه بارض الغري(2) والحائر(3)، ولم يزر اياً منهما ولا دخل ولا وقف. واشار - علیه السلام - إلى ما يفعلونه بالحجر الاسود: «كأني بالحجر الأسود منصوباً هاهناً، ويحهم إن فضيلته ليست في نفسه، بل في موضعه واسمه، يمكث ها هنا برهة - وأشار إلى البحرين - ثم يعود إلى مأواه، وام مثواه» وقد وقع الأمر في الحجر الاسود حسبما أخبر به علیه السلام(4).

- وفي كلامه علیه السلام للأحنف بن قيس أشار لبعض ما سيجري في البصرة، ومنها اشارته إلى ظهور حركة(5) الزنج «يا احنف، كأني به وقد سار بالجيش

ص: 671


1- هو أحد زعماء القرامطه. أنظر ترجمته: أبن خلكان: وفيات الاعيان 2 / 148 - 150. ابن تغرى: النجوم الزاهره 3 / 225
2- هو القطعة من الجبل، والشيء الحسن، وسمي الموقع الذي فيه مرقد الإمام علي علیه اللام. بالغري. الحموي: معجم البلدان 4 / 198 - 200
3- هو الموضع الذي يتحير فيه الماء. وسمي مرقد الحسين - علیه السلام - بالحائر. الحموي: معجم البلدان 2 / 208 - 9
4- الشرح 10 / 13 - 14. وعن اخذهم الحجر الاسود ثم ارجاعه أنظر: الهمداني: تكملة تاريخ الطبري ص 263 - 4، 371
5- لمزيد من التفاصيل أنظر الطبري: تاريخ 9 / 410 - 661. ناجي: تاريخ الطبري مصدراً عن ثورة الزنج ص 37 - 92. التنظيم العسكري لجيش صاحب الزنج ص 116 - 157. صاحب الزنج، ص 11 - 23.: فوزي: التاريخ الاسلامي ص 323 - 366

الذي لا يكون له غبار ولا لجب، ولا قععقة لجم، ولا حمحمة خيل، يثيرون الارض بأقدامهم كانها اقدام النعام» أشار الشريف الرضي: ان الامام يقصد بذلك حركة الزنج التي ظهرت في العصر العباسي (255 - 270)، وقد ترك ظهورها اثاراً سلبية على مدينة البصرة حيث يقول الامام: «ويل لسككم العامرة، والدور المزخرفة التي لها اجنحة كاجنحة النسور! وخراطيم كخراطيم الفيلة؛ من اولئك الذين لا يندب قتيلهم، ولا يفقد غائبهم»(1).

وتنبأ علیه السلام بفتن تترك اثار سلبية على مدينة البصرة(2) إذ يقول: «فتن كقطع الليل المظلم، لا تقوم لها قائمة، ولا ترد لها راية، تأتيكم مزمومة مرحولة يحفزها قائدها، ويجندها راكبها، أهلها قوم شديد كلبهم، قليل سلبهم، يجاهدهم في الله قوم اذلة على المتكبرين، في الارض مجهولون، وفي السماء معروفون فويل لك يا بصرة عند ذلك من جيش من نقم الله! لا رهج له ولا حس، وسيبتلى اهلك بالموت الاحمر، والجوع الاغبر».

وقد اختلفت الآراء في طبيعة هذا الجيش، ورأى البعض أن الإمام يقصد به حركة الزنج. ولكن ابن أبي الحديد لا يرى ذلك، لأن جيش الزنج كان ذا حس ورهج خلاف ما وصفه الإمام أعلاه، ولأنه انذر البصرة بهذا الجيش عند حدوث تلك الفتن، حيث لم يكن قبل خروج صاحب الزنج فتن شديدة على

ص: 672


1- الشرح 8 / 125. ابن طاووس: الملاحم ص 101، 109. تجدر الاشارة إلى أن ابن أبي الحديد تحدث بالتفصيل عن حركة الزنج واقتبس ما جاء لدى الطبري ولكن يشار إلى انه حذف كثيراً مما جاء لدى الطبري ولم يأت بشي جديد ولم يبد أي تحليل للموضوع لذا فلا فائدة مما جاء به خاصة وان الطبري موجود لدينا. أنظر: الشرح 8 / 126 - 214.. ناجي: تاريخ الطبري ص 81 - 82
2- ينظر سنن أبي داود 4 / 113 - 4

الصفات التي ذكرها الإمام علیه السلام(1).

- وتنبأ علیه السلام لظهور البويهيين بقوله: «يخرج من ديلمان بنو الصياد» حيث كان أبوهم صياد سمك وهي مهنته التي يتقوت منها، فأخرج الله من صلبه ثلاثة ملوك، وأنتشرت ذريته، ثم أشار علیه السلام لزيادة امرهم «ثم يستشري أمرهم حتى يملكوا الزوراء، ويخلعوا الخلفاء». فقال له قائل: فكم مدتهم يا أمير المؤمنين؟ قال: مائة أو تزيد قليلاً. وقال علیه السلام فيهم: «المترف ابن الأجذم، يقتله ابن عمه على رجله» وفي هذا إشارة إلى عز الدولة بختيار(2) بن معز الدولة أبي الحسين، وكان معز الدولة أقطع اليد، قطعت يده للنكوص في الحرب، وكان ابنه عز الدولة بختيار مترفاً، صاحب لهو وشرب قتله - عضد الدولة فننا خسرو - ابن عمه بقصر الجص على دجلة في الحرب، وسلبه ملكه(3). واما خلعهم للخلفاء العباسيين، فقد خلع معز الدولة - الخليفة العباسي المستكفي ورتب بدله المطبع(4)، وبهاء الدولة أبو نصر بن عضد الدولة خلع الطائع ووضع مكانه القادر، أما مدة حكمهم فكان كما ذكر - علیه السلام - بلغت مائة سنة وثلاث عشرة (334 - 447)(5).

- وقد تنبأ علیه السلام لظهور التتار بقوله «كأني اراهم قوماً كأن وجوههم المجان المطرقة، يلبسون السرق والديباج، ويعتقبون الخيل العتان، ويكون هناك استحرار

ص: 673


1- الشرح 7 / 104
2- عن بختيار أنظر: ابن الاثير: الكامل 8 / 575 - 6، 631 - 6، 643، 651، 691. الثعالبي: تيمية الدهر 2 / 260، أبو حيان: الامتاع والمؤانسة، 3 / 78، 152، 154، 157
3- ينظر ذلك في ابن الاثير: الكامل 8 / 691
4- ينظر ذلك في ابن الاثير: الكامل 8 / 450 - 451
5- الشرح 7 / 49

قتل حتى يمشي المجروح على المقتول ويكون المفلت أقل من المأسور»(1).

قال ابن أبي الحديد: «وأعلم أن هذا الغيب الذي أخبر علیه السلام عنه قد رأيناه نحن عياناً، ووقع في زماننا، وكان الناس ينتظرونه من أول الإسلام، حتى ساقه القضاء والقدر إلى عصرنا وهم التتار»(2).

وقد استنتج ابن أبي الحديد من كلام الإمام «ويكون هناك استحرار قتل» بأن الإمام أتى بالكاف، حيث إذا وقعت عقيب الإشارة أفادت البعد، فنقول للقريب هنا، وللبعيد هناك كما هو في لغة العرب إذ لو كان لهم استحرار قتل في العراق فلا يقول: هناك، بل المفروض أن يقول: هنا لأنه - علیه السلام - خطب خطبته هذه في البصرة وهي وبغداد ضمن بلد واحد وهو العراق. وعلق قائلاً: «فليمح هذا الموضع فإنه لطيف»(3).

إن ابن أبي الحديد كان وقت إحاطة المغول لبغداد يكتب شرح نهج البلاغة، وقد لاحظ أن جند بغداد قد حققوا بعض الانتصارات على المغول مما ادى لانسحاب المغول عن بغداد قبيل عام 649 ه وهي السنة التي انتهى بها من الشرح. وقد تناسى ابن أبي الحديد أن بغداد أيام الإمام لم تكن موجودة، وانه لا

ص: 674


1- الشرح 8 / 215. وانظر التفاصيل الشرح 8 / 218 - 243. وورد كذلك في سنن أبي داود 4 / 112. ابن طاووس: الملاحم ص 109. وتجدر الاشارة ان ابن أبي الحديد اعتمد في ما جاء لديه عن التتار على ما جاء لدى ابن الاثير في الكامل في التاريخ وإن كان ابن أبي الحديد قد اغفل الاشارة عنها في ذلك، وادعى أنه لم يسبقه أحد للكتابة عن التتار، وبعد المقارنة وجدنا ابن أبي الحديد ينقل مادته من ابن الاثير حتى سنة 627 ه، اما ما جاء في الفترة (627 - 643) وهي قليلة جداً فلم يشر للمصادر ويمكن أن يكون هو مصدرها. قارن: الكامل في التاريخ 10 / 358 - 504
2- الشرح 8 / 218
3- الشرح 8 / 241

يمكن أستخدام ضمير الإشارة القريب لمكان يبعد حوالي (600) كم عن البصرة.

- وتنبأ علیه السلام لغرق مدينة البصرة بقوله: «كأني أنظر إلى قريتكم هذه قد طبقها الماء، حتى ما يرى منها إلا شرف المسجد كأنه جؤجؤ طير في لجة بحر»(1).

قال ابن أبي الحديد في شرحه: «أما أخباره علیه السلام بأن البصرة تغرق عدا المسجد الجامع بها، فقد رأيت من يذكر إن كتب الملاحم تدل على أن البصرة تهلك بالماء الأسود ينفجر من أرضها فتغرق ويبقى مسجدها. والصحيح إن المخبر به قد وقع، فإن البصرة غرقت مرتين، مرة في أيام القادر بالله، ومرة في أيام القائم بأمر الله غرقت باجمعها ولم يبقَ منها إلا مسجدها الجامع بارزاً بعضه كجؤجؤ الطائر، حسب ما أخبر به أمير المؤمنين علیه السلام، جاءها الماء من بحر فارس من جهة الموضع المعروف الآن بجزيرة الفرس،ومن جهة الجبل المعروف بجبل السنام(2)، وخربت دورها، وغرق كل ما في ضمنها، وهلك كثير من أهلها وأخبار هذين الغرقين معروفة عند أهل البصرة، يتناقلها خلفهم من سلفهم»(3).

- وتنبأ علیه السلام لظهور العناصر الأجنبية وكثرتها بعد بناء مدينة بغداد، وما يتبع ذلك من تطور في الجوانب العمرانية إذ يقول: «إذا كثرت فيكم الأخلاط، وأستولت الأنباط، دنا خراب العراق، ذلك إذا بنيت مدينة ذات أثل وأنهار، فإذا غلت فيها الأسعار، وشيد فيها البنيان، وحكم فيها الفساق، وأشتد البلاء، وتفاخر الغوغاء؛ دنا خسوف البيداء، وطاب الهرب والجلاء، وستكون قبل الجلاء أمور يتشيب منها الصغير، ويعطب الكبير، ويخرس الفصيح، ويبهت

ص: 675


1- الشرح 1 / 251. الخوارزمي: المناقب، ص 121. ابن طاووس: الملاحم ص 102
2- هو جبل قريب من البصرة، الحموي: معجم البلدان 3 / 260
3- الشرح 1 / 253. وانظر، الخوئي: الدرة النجفية ص 71

اللبيب، يعاجلون بالسيف صلتا، وقد كانوا قبل ذلك في غضارة من عيشهم يمرحون، فيالها مصيبة حينئذ! من البلاء العقيم، والبكاء الطويل، والويل والعويل، وشدة الصريخ، في ذلك أمر الله - وهو كائن»(1).

- واشار علیه السلام إلى ما يجري في مستقبل الزمان مما يكون سبباً في عدم الأمان:

«ذلك عند تمرد الإشرار، وطاعة أولى الخسار، ذاك أوان الحتف والدمار، ذاك ادبار أمركم، وإنقطاع أصلكم، وتشتت الفتكم؛ وإنما كان ذلك عند ظهور العصيان، وانتشار الفسوق، حيث يكون الضرب بالسيف اهون على المؤمنين من اكتساب درهم حلال؛ حين لا تنال المعيشة إلا بمعصية الله في سمائه، حين تسكرون من غير شراب، وتحلفون من غير اضطرار، وتظلمون من غير منفعة وتكذبون من غير إحراج. تتفكهون، وتبادرون بالمعصية، قولكم البهتان، وحديثكم الزور، واعمالكم الغرور، فعند ذلك لا تأمنون البيات، فياله من بيات ما أشد ظلمته! ومن صائح ما افظع صوته! ذلك بيان لا ينمي صاحبه، فعند ذلك تقتلون، وبانواع البلاء تضربون، وبالسيف تحصدون، وإلى النار تصيرون، ويعظكم البلاء كما يعض الغارب القتب(2). ياعجباً كل العجب، بين جمادى ورجب(3). من جمع أشتات، وحصد نبات، ومن أصوات بعدها أصوات… سبق القضاء.. سبق القضاء»(4).

- وأشار أنه سيأتي على الناس زمان تتقلب فيه الأمور الدينية إلى أضدادها

ص: 676


1- الشرح 6 / 134 - 135
2- الغارب: كاحل البعير. والقتب: رحل صغير على قدر السنام: ابن منظور: لسان العرب 2 / 136
3- أول من قالها عاصم بن المقشعر. حيث لما قتل الخسفي بن حشرم الشيباني أخو عاصم وأسمه أبيده، في آخر يوم من أيام جمادى الأخرى، أراد عاصم أن يقتل الخنسفي قبل هلال رجب فأدركه وقتله وقال المثل الميداني: مجمع الأمثال 2 / 24
4- الشرح 6 / 135

ونقائضها، وقد شهد ذلك ابن أبي الحديد في عصره إذ يقول علیه السلام «سيأتي عليكم زمان يكفأ فيه الإسلام كما يكفأ فيه الإناء بما فيه»(1). وقال أيضاً: «انه سيأتي عليكم من بعدي زمان ليس منه شيء أخفى من الحق. ولا أظهر من الباطل، ولا أكثر من الكذب على الله ورسوله، وليس عند أهل ذلك الزمان سلعة أبور من الكتاب إذا تلي حق تلاوته، ولا أنفق منه إذا حرف عن مواضعه…» وقد وقعت هذه المواصفات على عصر ابن أبي الحديد وعصر من كان قبله بشهادته.(2) وقال علیه السلام أيضاً: «يأتي على الناس زمان لا يقرب فيه إلا الماحل ولا يظرف فيه إلا الفاجر، ولا يضعف فيه إلا المنصف، يعدون الصدقة فيه عزماً، وصله الرحم مناً، والعبادة أستطالة على الناس، فعند ذلك يكون السلطان بمشورة الإماء، وإمارة الصبيان وتدبير الخصيان»(3).

- وتنبأ - علیه السلام - لخروج جيش حتى إذا كان بالبيداء خسف به(4).

سابعاً: الامام المهدي:

شغلت فكرة الإمام المهدي(5) حيزاً في كلام الإمام علي علیه السلام وهو علیه السلام وإن لم

ص: 677


1- الشرح 7 / 100 - 113
2- الشرح 9 / 104 - 105
3- الشرح 18 / 260. وانظر الخوئي: الدرة النجفية ص 362
4- الشرح 2 / 295. وانظر: أبي داود: سنن 4 / 108. ابن طاووس: الملاحم ص 53
5- عن فكرة المهدي: أنظر أبي داود: سنن 4 / 106 - 109. الطبرسي: اعلام الورى ص 380 - 478. سبط ابن الجوزي: تذكرة 363 - 5. ابن طاووس: الملاحم ص 13 - 150. الاربلي: كشف الغمة 3 / 233 - 263. ابن كثير: البداية والنهاية 1 / 37 - 41. الهيتمي: الصواعق المحرقة ص 160 - 167. الصبان: اسعاف الراغبين ص 133 - 148. الشبلنجي: نور الابصار ص 168 - 172

يصرح به ولكن أشار له بالرمز، وقد وظف ابن أبي الحديد كلام الإمام بما يطابق وجهة نظر الإعتزال وإذا ما أشكل عليه يلجأ إلى التأويل أو طرح الإحتمالات.

ومن النصوص الواردة في النهج بخصوص الإمام المهدي:

- «وبنا تختم لا بكم»(1).

- «فيا بن حرة الاماء، متى تنتظر، أبشر بنصر قريب من رب رحيم إلا فويل للمتكبرين، عند حصاد الحاصدين وقتل الفاسقين، عصاة ذي العرش العظيم، فبأبي وأمي من عدة قليلة أسماؤهم في الإرض مجهولة. قد دنا حينئذ ظهورها»(2).

- «فأنصروا أهل بيت نبيكم، فإن لبدوا فألبدوا، وإن أستنصروكم فإنصروهم، فليفرجن الله الفتنة برجل منا أهل البيت، بأبي ابن خيرة الإماء، لا يعطيهم الا السيف، هرجاً هرجاً، موضوعاً على عاتقه ثمانية أشهر، حتى تقول قريش: لو كان هذا من ولد فاطمة لرحمنا يغريه الله ببني أمية حتى يجعلهم حطاماً ورفاتاً، ملعونين اينما ثقفوا اخذوا وقتلوا تقتيلاً، سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلاً(3)» (4).

وبعد أن أشار الإمام - علیه السلام - إلى نفسه كناية قال: «فلبثتم بعده ما شاء الله، حتى يطلع الله لكم من يجمعكم ويضم نشركم»(5).

ص: 678


1- الشرح 1 / 281
2- الشرح 6 / 135
3- مأخوذة من قوله تعالى في سورة الاحزاب اية 62
4- الشرح 7 / 58. وانظر سليم ص 211 - 212
5- الشرح 7 / 84. وانظر سليم ص 212

«يعطف الهوى على الهدى، إذا عطفوا الهدى على الهوى ويعطف الرأي على القرآن، إذا عطفوا القرآن على الرأي»(1).

يا قوم هذا إبان ورود كل موعود، ودنو من طلعة ما لا تعرفون. ألا وإن من أدركها منا يسري فيها بسراج منير، ويحذر فيها على مثال الصالحين، ليحل فيها ربقاً، ويعتق منها رقاً، ويصدع شعباً، ويشعب صدعاً، وفي ستره على الناس لا يبصر القائف(2) أثره، ولو تابع نظره»(3).

«قد لبس للحكمة جنتها، واخذها بجميع ادبها، من الاقبال عليها، والمعرفة بها، والتفرغ لها، فهي عند نفسه ضالته التي يطلبها، وحاجته التي يسأل عنها، فهو مغترب إذا اغترب الإسلام، وضرب بعسيب ذنبه، والصق الارض بجرانه، بقيه من بقايا حجته وخليفة من خلائف انبيائه»(4).

«إن الدنيا تسع البر والفاجر حتى يبعث الله أمام الحق من آل محمد صلی الله علیه و آله وسلم»(5).

«لتعطفن الدنيا علينا بعد شماسها عطف الضروس على ولدها»(6).

«فإذا كان ذلك ضرب يعسوب الدين بذنبه، فيجتمعون الي كما يجتمع فزع

ص: 679


1- الشرح 9 / 4
2- هو الذي يتبع الاثار ويعرفها ويعرف شبه الرجل باخيه وابيه. ابن منظور: لسان العرب. 11 / 202
3- الشرح 9 / 126
4- الشرح 10 / 95
5- الشرح 13 / 45. وانظر أبو الفرج: مقاتل الطالبيين 44
6- الشرح 19 / 29. وانظر الزمخشري: ربيع الابرار، 1 / 80

الخريف»(1).

من خلال النصوص السابقة يطرح ابن أبي الحديد وجهة نظر المعتزلة في فكرة المهدي، فهو من ولد فاطمة الزهراء علیه السلام اسمه اسم الرسول صلی الله علیه و آله وسلم، ولكنه لم يخلق بعد - كما تقول الإمامية(2) - وانما سيخلقه الله آخر الزمان(3). ومن صفاته انه من ولد الحسين علیه السلام وانه اجلى(4) الجبين، اقنى(5) الانف، ضخم البطن، أزيل(6) الفخذين، أبلج الثنايا، بفخذه الأيمن شامة(7)، اما أمه فهي أم ولد حيث يقول علیه السلام «يابن خيرة الاماء»(8).

إنَّ الفترة السابقة لظهور المهدي تتميز بالفتن والإضطرابات كخروج دابة الأرض، وفتنة الدجال، وظهور السفياني(9)، ولذا نجد الإمام المهدي في بدء أمره

ص: 680


1- الشرح 19 / 104
2- عن رؤية الإمامية للمهدي أنظر المفيد: الإرشاد ص 240 - 254
3- الشرح 1 / 281، 7 / 59، 94، 10 / 96، 16 / 45، 19 / 29، 105
4- الاجلى: الخفيف الشعر والذي انجلى الشعر عن جبهته. ابن منظور: لسان العرب 8 / 164 - 165
5- هو ارتفاع في اعلى الانف، واحديداب في وسطه وسبوغ في طرفه. ابن منظور: لسان العرب 20 / 65
6- الازل: هو الخفيف الوركين، ابن منظور: لسان العرب 13 / 328
7- الشرح 281 - 2. وانظر: ابن قتيبة: غريب الحديث 2 / 117. أبي داود: سنن 4 / 107. ابن طاووس: الملاحم ص 113. ابن منظور: لسان العرب 18 / 164. ابن كثير: نهاية البداية والنهاية 1 / 39
8- الشرح 7 / 58
9- الشرح 6 / 134 - 5، 9 / 128 وانظر أبي داود: سنن 4 / 11518. وابن كثير: نهاية البداية والنهاية 1 / 50 - 165، 190

مستتراً فترة من الزمن، وهذا ما يذهب إليه الإمامية، ولكن ابن أبي الحديد يرى أن هذا الإستتار يتكون في آخر الزمان بعد أن يخلق إذ يقول: «ليس ذلك بنافع للإمامية في مذهبهم، إن ظنوا أنه تصريح بقولهم، وذلك لأنه من الجائز أن يكون هذا الإمام يخلقه الله تعالى في آخر الزمان، ويكون مستتراً مدة وله دعاء يدعون إليه، ويقدرون امره ثم يظهر بعد ذلك الاستتار. ويملك الممالك: ويقهر الدول ويعهد الارض»(1).

أكد الإمام علي علیه السلام ان المهدي لا يبصره القائف، ولا يعرف اثره حتى لو تابع النظر والتأمل(2).

وفي إشارته إلى أن المهدي سيقضي على الأمويين يأتي التساؤل: وهل هناك وجود لبني أمية آخر الزمان؟ هنا ابن أبي الحديد يطرح رؤيتين: الاولى: رؤية الإمامية. حيث يقولون بالرجعة(3)، ويرون إنه سيعاد قوم باعيانهم إلى الدنيا من الأمويين وغيرهم، إذا ظهر المهدي فيقطع أيدي وارجل البعض ويسمل عيون آخرين ويصلب وينتقم من أعداء ال البيت - علیهم السلام -.

الثانية: رؤية الاعتزال: إنَّ المهدي يظهر بعد ظهور السفياني الوارد في الأخبار الصحيحة(4) وهو من ولد أبي سفيان بن حرب بن أمية فيسيطر على كثير من ممالك الإسلام، فيظهر المهدي ويقتله ويقتل أنصاره، ثم ينزل السيد المسيح علیه السلام وتبدو أشراط الساعة، وتظهر دابة الأرض، ويبطل التكليف -

ص: 681


1- الشرح 9 / 128 - 9
2- الشرح 9 / 126
3- عن فكرة الرجعة، أنظر: الخوارزمي: مفاتيح العلوم ص 18
4- عن السفياني أنظر. سنن أبي داود 4 / 107 - 108

ويتحقق قيام الأجساد عند النفخ في الصور(1).

ويشير الإمام علي علیه السلام علیه السلام إلى أن أمر المهدي يكون أولاً مضطرباً ثم يستقر وفي هذا ما يؤيد رؤية الإمامية، إلا أن ابن أبي الحديد يرى، «لا يبعد على مذهبنا أن يكون الإمام المهدي الذي يظهر آخر الزمان مضطرب الأمر، منتشر الملك في أول مرة لمصلحة يعلمها الله تعالى ثم بعد ذلك يثبت ملكه وتنتظم اموره»(2).

وقد اطلق الامام لفظة حجة على المهدي وهو أيضاً ما يطابق رؤية الإمامية، فيما يرى ابن أبي الحديد إن لفظة (حجة) غير مقتصرة على الإمامية، بل يطلقها أهل التصوف على اصحابهم، ويستخدمها أيضاً الفلاسفة، اما المعتزلة فيطلقوها على العلماء المؤمنين في كل عصر، لأنهم حجج الله(3).

وأشار علیه السلام إلى بعض من سياسة المهدي، ومنها العمل بالقرآن وترك الرأي والقياس(4) وقد أتفقت الفرق الاسلامية على أن الدنيا والتكليف لا تنقضي إلا بعد ظهور المهدي(5).

تجدر الاشارة إلى أن بعض ما تنبأ به الإمام - علیه السلام - وفسره ابن أبي الحديد، لم يشر إلى مصدر معلوماته، ولم يشر للدليل الذي يثبت قصد الإمام- علیه السلام - بأن هذا عبد الملك، أو الزنج أو التتار.

ص: 682


1- الشرح 7 / 59
2- الشرح 19 / 105
3- الشرح 10 / 98 - 99. وانظر رد ابراهيم الخوئي: الدرة النجفية ص 212 - 213
4- الشرح 9 / 40
5- الشرح 10 / 96

وبعد هذا العرض لفكر الإمام علي - علیه السلام - يخلص ابن أبي الحديد(1) للقول: «إن قيل جهاد وحرب فهو سيد المجاهدين والمحاربين، وإن قيل وعظ وتذكير، فهو أبلغ الواعظين والمذكرين، وإن قيل: فقه وتفسير فهو رئيس الفقهاء والمفسرين وإن قيل عدل وتوحيد فهو إمام أهل العدل والموحدين (2).

ليس على الله بمستنكر *** ان يجمع العالم في واحدِ

ص: 683


1- الشرح 7 / 203
2- بيت لأبي نؤاس: ديوان أبي نؤاس ص 454. الثعالبي: التمثيل والمحاضرة ص 80

ص: 684

ملحق رقم (1) قصيده لابن أبي الحديد في مدح الإمام علي علیه السلام

يارسم لارسمتك ريح زعزعُ *** وسرت بليل في عراصك خروعُ لم الف صدري من فؤادي بلقعا *** الا وأنت من الاحبة بلقعُ جارى الغمام مدامعي بك فأنثنت *** جون السحائب فهي حسرى ضلعُ لايمحك الهتن الملث فقد محا *** صبري دثورك مذ حتك الادمعُ ما تم يومك وهو أسعد أيمن *** حتى تبدل فهو أنكد أشنعُ شروى الزمان يضيىء صبح مسفر *** فيه فيشفعه ضلام أسفعُ لله درك والضلال يقودنی *** بيد الهوى فأنا الحرون فأتبعُ يقتادني سكر الصبابه والصبا *** ويصيح بي داعي الغرام فأسمعُ دهرا تقوض راحلا ما عيب من *** عقباه إلا أنه لايرجعُ يا أيها الوادي أجلك واديا *** وأعز إلا في حماك فأخضعُ واسوف تربك صاغرا وأذل *** في تلك الربى وأنا الجليد فأخنعُ

ص: 685

(أسفي على مغناك إذ هوغابة *** وعلى سبيلك و هي لحب مهيعُ) أيام أنجم قضعب دريه *** في غير اوجه مطلع لا تطلعُ والبيض تورد في الوريد فترتوي *** والسمر تشرع في الوتين فتشرعُ والسابقات الاحقاًت كأنها *** العقبان تردى في الشكيم وتمزعُ والربع أنور بالنسيم مضمخ *** والجو أزهر بالعبير مردعُ ذاك الزمان هو الزمان كأنما *** قيظ الخطوب به ربيع ممرعُ وكأنما هو روضة ممطوره *** أو مزنه في عارض لاتقلعُ قد قلت للبرق الذي شق الدجى *** فكأن زنجيا هناك يجدعُ يابرق إن جئت الغري فقل له *** أتراك تعلم من بارضك مودع فيك ابن عمران الكليم وبعده *** عيسى يقفيه وأحمد يتبعُ بل فيك جريل وميكال واس- *** -رافيل والملآ المقدس أجمعُ بل فيك نور الله جل جلاله *** لذوي البصائر يستشف ويلمعُ فيك الإمام المرتضى فيك الوصي *** المجتبى فيك البطين الانزعُ الضارب الهام المقنع في الوغى *** بالخوف للبهم الكاة يقنعُ والسمهريه تستقيم وتنحني *** فكأنها بين الاضالع أضلعُ والمترع الحوض المدعدع حيث لا *** واد يفيض و لا قليب يترعُ ومبدد الأبطال حيث تألبوا *** ومفرق الاحزاب حيث تجموا والحبر يصدع بالمواعظ خاشعا *** حتى تكاد لها القلوب تصدعُ حتى إذا أستعر الوغى متلظيا *** شرب الدماء بغله لا تنقعُ متجلببا ثوبا من الدم قانيا *** يعلوه من نقع الملاحم برقعُ

ص: 686

زهد المسيح وفتكة الدهر الذي *** أودى به كرى وفوز تبعُ هذا ضمير العالم الموجود عن *** عدم وسر وجوده المستودعُ هذي الأمانه لايقوم بحملها *** خلقاء هابطه واطلس أرفعُ تأبى الجبال الشم عن تقليدها *** وتضج تيهاء وتثفل يولعُ هذا هو النور الذي عذباته *** كانت بجبهة آدم تتطلعُ وشهاب موسى حيث أظلم ليلهُ *** رفعت له لالاؤه تتشعشعُ يامن له ردت ذكاء ولم يفز *** بنظيرها من قبل إلا يوشعُ ياهازم الاحزاب لايثنيه عن *** خوض الحمام مدجج ومدرعُ يا قالع الباب الذي عن هزها *** عجزت أكف أربعون وأربعُ لولا حدوثك قلت انك جاعل *** الأرواح في الاشباح والمتنزعُ لولا مماتك قلت انك باسط *** الأرزاق تقدر في العطا وتوسعُ ما العالم العلوي الا تربة *** فيها لجثتك الشريفه مضجعُ ما الدهر إلا عبدك القن الذي *** بنفوذ امرك في البريه مولعُ أنا في مديحك الكن لا اهتدي *** وأنا الخطيب الهزبري المصقعُ أأقول فيك سميدع كا ولا *** حاشا لمثلك أن يقال سميدعُ بل أنت في يوم القيامة حاكم *** في العالمين وشافع ومشفعُ ولقد جهلت وكنت احذق عالم *** اغرار عزمك أم حسامك اقطع وفقدت معرفتي فلست بعارف *** هل فضل علمك أم جنابك اوسع لي فيك معتقد ساكشف سره *** فليصغ ارباب النهى وليسمعوا هي نفثة المصدور يطفىء بردها *** حر الصبابة فاعذلوني أو دعوا

ص: 687

والله لولا حيدرٍ ما كانتِ *** الدُنيا ولا جَمُعَ الريه مجمعُ من أجله خلق الزمان وضوئت *** شهب كنسن وجن ليل أردعُ علم الغيوب إليه غر مدافع *** والصبح ابيض مسفر لايدفعُ وإليه في يوم المعاد حسابنا *** و هو الملاذ لناغدا والمفزعُ هذا إعتقادي قد كشفت غطاءه *** سير معتقدا له أو ينفعُ يا من له في أرض منزلي منزل *** نعم المراد الرحب و المستربعُ أهواك حتى في حشاشة مهجتي *** نار تشب على هواك و تلذعُ وتكاد نفسي ان تذوب صبابه *** خلقا وطبعا لا كمن يتطبعُ ورأيت دين الإعتزال و أنني *** أهوى لأجلك كل من يتشيعُ ولقد علمت أنه لابد من *** مهديكم وليومه اتوقعُ يحميه من جند الإله كتائب *** كاليم اقبل زاخر ايتدفعُ فيها لال أبي الحديد صوارم *** مشهوره ورماح خط شرعُ ورجال موت مقدمون كانهم *** اسد العرين الربد لا تتكعكعُ تلك المنى اما اغب عنها فلي *** نفس تنا زعني وشوق ينزعُ ولقد بكيت لقتل آل محمد *** بالطف حتى كل عضو مدمعُ عقرت بنات الاعوجيه هل درت *** ما يستباح بها وماذا يصنعُ وحريم آل محمد بين العدا *** نهب تقاسمه اللئام الرضعُ تلك الضعائن كالاماء متى تسق *** يعنف بها والسياط تقنعُ من فوق أقطاب الجال يشلها *** لكع على حنق وعبد اكوعُ مثل السبايا بل أذل تشق من- *** -هن الخمار ويستباح البرقعُ

ص: 688

فمصفد في قيده لايفتدي *** وكريمة تسبى وقرط ينزعُ تالله لا أنسى الحسن وشلوه *** تحت السنا بك بالعراء موزعُ متلفعا حمر الثياب وفي غد *** بالخضر من فردوسه يتلفعُ تطأ السنابك صدره وجبينه *** والأرض ترجف خيفة وتضعضعُ والشمس ناشرة الذوائب ثاكل *** والدهر مشقوق الرداء مقنعُ لهفي على تلك الدماء تراق في *** أيدي أمية عنوة و تضيعُ بأبي أبو العباس أحمد أنّه *** خير الورى من أن يطل ويمنعُ فهو الولي لثارها وهو الحمو *** لُ لعبئها إذ كل عود يضلعُ الدهر طوع والشبيبة غضةٌ *** والسيف عضب والفؤاد مشيعُ

ص: 689

ص: 690

فهرس المصادر والمراجع

ص: 691

ص: 692

فهرس المصادر والمراجع

أولاً: المصادر الأولية - القرآن الكريم 1. الإنجيل، دار الكتاب المقدس في الشرق الأوسط، ط 4، بيروت، 1993 الآبي: أبو سعيد منصور بن الحسين ت 1421 ه.

2. نثر الدرر، تح: محمد علي قرنة، الهيئة المصرية للكتاب، 1984.

ابن الأثیر: عز الدين أبو الحسن علي بن محمد ت 630 ه.

3. أسد الغابة في معرفة الصحابة، ب. محق. المكتبة الإسلامي، طهران، ب. ت.

4. الكامل في التاريخ، ب. محق. دار صادر، بيروت، 1965.

5. اللباب في تهذيب الأنساب، ب. محق. القاهرة، 1386 ه. ابن الأثیر:

أبو الفتح نصر الله بن آبي الكرم ضياء الدين الشيبا ي 558 - 637 ه.

6. المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر، تح: احمد الحوفي - بدوي طبانة، ط 2، دار الرفاعي، الرياض، 83 - 1984 / 1403 — 1404.

ابن الأثر: مجد الدين أبو السعادات المبارك بن محمد 554 — 606 ه.

ص: 693

7. النهاية في غريب الحديث والأثر، تح: طاهر احمد الزاوي - محمود الطناحي، ط 1، القاهرة، 1963.

ابن أخي تبوك: أبو الحسين عبد الوهاب بن محمد بن الوليد ت 396 ه.

8. مناقب علي بن أبي طالب، تح، محمد باقر البهبودي، المكتبة الاسلامية، طهران، 1394 ه.

الاربلي: أبو الحسن علي بن عيسى ت 693 ه.

9. كشف الغمة في معرفة لأئمة، مط النجف، 1384 ه.

الازدي: أبو زكريا يزيد بن محمد ت 334 ه / 945 ه.

10. تاريخ الموصل، تح: علي حبيبه، القاهرة، 1967.

الأزرقي: أبو الوليد محمد بن عبد الله (كان حيا في 248 ه) 11. أخبار مكة، تح: رشدي الصالح ملحس، دار الأندلس، مكة المكرمة، 1385 ه.

ابن إسحاق: محمد ت 151 ه.

12. السير والمغازي، تح: سهيل زكار، دار الفكر للطباعة، دمشق، 1978.

الاسكافي: أبو جعفر محمد بن عبدالله ت 240 ه.

13. نقض العثمانية منشور مع كتاب العثمانية للجاحظ، تح: محمد عبد السلام هارون، دار الكتاب العربي، مصر، 1955.

الأشعري: أبو الحسن علي بن إسماعيل ت 334 ه 14. مقالات الإسلاميين واختلاف المصليين، تح: محمد محي الدين عبد الحميد، مصر، 1950.

ابن أبي أصيبعة: موفق الدين أبو العباس أحمد بن القاسم ت 668 ه.

ص: 694

15. عيون الأنباء في طبقات الأطباء: شرح وتحقيق: د. نزار رضا، منشورات دارمكتبة الحياة، بيروت، 1965.

الآلوسي: أبو الثناء شهاب الدين محمود بن عبد الله الحسيني 1217 - 1270 / 1802 - 1854.

16. سرح الخريدة الغيبية في شرح القصيدة العينية، ب. محق. ط حجريه، شرحها في 1270 ه. ب. مكا. ب. ت.

امريء القيس بن حجر بن الحارث 80 ق. ه / 5 54 م.

17. ديوان امرؤ القيس، تح: محمد أبو الفضل، ط 2، دار المعارف، مصر، 1958.

ابن أنس: الإمام مالك (93 - 179) ه.

18. الموطأ، تح: بشار عواد معروف، دار الغرب الإسلامي، ط 2، بيروت، 1997.

الأنصاري: حسان بن ثابت ت 54 ه / 674 م.

19. ديوان حسان بن ثابت، ب. محق، بيروت، 1966.

الأنصاري: كعب بنمالك ت 50 ه / 670 م.

20. ديوان كعب بن مالك، دراسة وتح، سامي مكي العاني، بغداد، ط 1، 1966.

21. الباقلاني: أبو بكرمحمد بن الطيب ت 403 ه.

22. البحتري: تصحيح: الأب ريتشارد يوسف مكارثي اليسوعي، بيروت، 1957.

البحتري: الوليد بن عبيد 204 - 284 ه.

23. ديوان البحتري، تح: حسن كامل الصيرفي، ط 2، دار المعارف، القاهرة،، 1963.

ص: 695

البحراني: ميثم بن علي ت بعد 681 ه / 1282 م.

24. شرح نهج البلاغة، ب. محق، مؤسسة النصر، طهران، 1378 – 1384 ه.

البحراني: يوسف بن أحمد ت 1186 ه.

25. لؤلؤة البحرين: تح: محمد صادق بحر العلوم، مط النعمان، النجف، ب. ت.

البخاري: أبو عبد الله محمد بن إسماعيل (194 - 256 ه).

26. الصحيح، الطباعة المنيرية، مصر، ب. ت.

البرقي: أبو جعفر احمد بن أبي عبد الله ت 274 ه / 887 م.

27. الرجال، تح: السيد كاظم المياموي، طهران، 1383 ه.

البغدادي: أبومنصور عبد القاهر بن طاهر ت 429 ه.

28. الفرق بين الفرق، تح: محمد زاهد الكوثري، ب. مكا. 1327 ه.

البغدادي: صفي الدين عبد المؤمن بن عبد الحق ت 739 ه.

29. البغدادي: لاع، تح: علي محمد البجاوي، ط 1، القاهرة، 1955، البغدادي: عبد القادر بن عمر 1030 - 1093 ه.

30. خزانة الأدب ولب لباب لسان العرب، ط 1، بولاق، ب. ت.

ابن بكار: الزبير (172 - 256 ه) 31. جمهرة نسب قريش وأخبارها، تح، محمود محمد شاكر، مط المدني، القاهرة، 1381 ه.

32. الأخبار الموفقيات، تح: سامي مكي العاني، بغداد، 1972.

البكري: أبو عبيد عبد الله بن عبد العزيز ت 487 ه.

33. .معجم ما أستعجم، تح: مصطفى السقا، ط 1، القاهرة، 1945 — 1949.

البلاذري: احمد بن يحيى بن جابر ت 279 ه.

ص: 696

34. أنساب الأشراف، ج 1، تح: محمد حميد الله، دار المعارف، مصر، ب. ت.

35. انساب الأشراف، ج 2، تح: محمد باقر المحمودي، ط 1، مؤسسة الاعلمي، بيروت، 1974.

36. انساب الأشراف، ج 3، تح: محمد باقر المحمودي، ط 1، بيروت، 1977.

37. انساب الأشراف، ج 5، تح: جوتن، بريس، 1936.

38. .فتوح البلدان، تح: علي بهجت، ط 1، القاهرة، 1901.

البلخي: أبي القاسم الكعبي ت 319 ه.

39. باب ذكر المعتزلة من كتاب مقالات الإسلاميين، تح: فؤاد سيد، تونس، 1974.

40. البلوي: أبو الحجاج يوسف بن محمد 529 - 604 ه / 1135 — 1207.

41. ألف باء، ب. محق، المطبعة الوهبيه، مصر، 1287 ه.

البيضاوي: ناصر الدين أبي سعيد عبد الله بن عمر ت 791 ه.

42. تفسير البيضاوي، ب. محق، ط 1، دار الكتب العلمية، بيروت، 1988.

البيهقي: إبراهيم بن محمد ق 4 ه.

43. المحاسن والمساوئ، ب. محق، بيروت، 1380 ه / 1960 م.

البيهقي: أبو بكر احمد بن الحسين بن علي ت 458 ه.

44. السنن الكبرى. بلامحقق، ط 1، حيدر آباد الدكن، الهند، 1352 ه.

الترمذي:محمد بن عيسى (209 – 279).

45. صحيح الترمذي بشرح ابن العربي المالكي، ب. محق. ط 1، الأزهر، 31 - 1934.

التستري: محمد تقي

ص: 697

46. بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة، طهران، ط 1، 1418 ه.

ابن تغري بردي: جمال الدين أبو المحاسن يوسف 813 - 874 ه 47. النجوم الزاهرة، ط 1، تح: احمد العدوي، دار الكتب، القاهرة، 1929 — 1956.

أبو تمام الطائي: حبيب بن أوس ت 231 ه / 846 م.

48. ديوان أبي تمام، شرح وتعليق: د. شاهين عطية، ط 1، بيروت، 1968.

التهانوي: محمد أعلى بن علي ت 1158.

49. كشاف اصطلاحات العلوم، بيروت، 1966.

ابن تيمية: أبو العباس احمد بن تيمية الحراني ت 728 ه.

50. منهاج السنة النبوية، ط 1، المطبعة الأميرية بولاق، مصر، 1321 ه.

الثعالبي: أبومنصور عبد الملك (350 - 429 ه).

51. تتمة يتيمة الدهر، شرح وتح: مفيد محمد قميحة، ط 1، بيروت، 1983، 52. التمثيل والمحاضرة، تح: عبد الفتاح الحلو، القاهرة، 1381 ه / 1961 م.

53. يتيمة الدهر، شرح وتح: مفيد محمد قميحة، ط 1، بيروت، 1983.

الثعالبي: عبد الرحمن بن محمد بن مخلوف ت 875 ه.

54. الجواهر الحسان في تفسير القرآن، ب. محق، مؤسسة الاعلمي، بيروت، ب.

ت.

الجاحظ: أبو عثمان عمرو بن بحر (150 - 255 ه) 55. البيان والتبيين، تح: عبد السلام محمدهارون، ط 5، القاهرة، 1985.

56. .الحيوان، تح: عبد السلام محمد هارون، ط 1، مصر، 1938 - 1945.

57. رسائل الجاحظ، تح: السندوبي، ط 1، القاهرة، 1933.

ص: 698

58. رسائل الجاحظ السياسية، تح: علي أبوملحم، ط 1، بيروت، 1987.

59. رسائل الجاحظ الكلامية، تح: علي أبوملحم، ط 1، بيروت، 1987.

60. رسالة استحقاق الإمامة، ضمن رسائل الجاحظ الكلامية، تح: علي أبوملحم، ط 1، بيروت، 1987.

61. رسالة الأوطان والبلدان، ضمن رسائل الجاحظ السياسية، تح: علي أبوملحم، ط 1، بيروت، 1987.

62. رسالة الحكمين، ضمن رسائل الجاحظ السياسية، تح: علي أبوملحم، ط 1، بيروت، 1987.

63. رسالة صناعة الكلام، ضمن رسائل الجاحظ الكلامية، تح: علي أبوملحم، ط 1، بيروت، 1987.

64. رسالة العثمانية، ضمن رسائل الجاحظ السياسية، تح: علي أبوملحم، ط 1، بيروت، 1987.

65. رسالة في فضل بني هاشم على عبد شمس، ضمن رسائل الجاحظ السياسية، تح: علي أبوملحم، ط 1، بيروت، 1987، 66. رسالة في فضل بني هاشم على بني عبد شمس، ضمن رسائل الجاحظ للسندوبي، ط 1، 1933، ص 67 116.

67. رسالة في خلق القرآن، ضمن رسائل الجاحظ الكلامية، تح: علي أبوملحم، ط 1، بيروت، 1987.

68. رسالة في النابتة، ضمن رسائل الجاحظ الكلامية، تح: علي أبوملحم، ط 1، بيروت، 1987.

69. العثمانية، تح وشرح: عبد السلام محمدهارون، دار الكتاب العربي، مصر

ص: 699

1955.

الجرجاني: أبو الحسن علي بن محمد بن علي 740 - 816 ه / 1340 - 1413 م.

70. التعريفات، ب. محق. الدار التونسية للنشر، تونس، 1971.

الجزري: شمس الدين أبو الخیر محمد بن محمد ت 833 ه 71. غاية النهاية في طبقات القراء، عني بنشره بر جستراسر، 1352 هم 1933 م.

الجهشياري: أبو عبد الله محمد بن عبد ربه ت 331 ه/ 943 م.

72. الوزراء والكتاب، تح: مصطفى السقا وآخرين، ط 1، القاهرة، 1938.

ابن الجوزي: جمال الدين: أبو الفرج عبد الرحمن بن علي ت 510 - 597 ه 73. صفة الصفوة، تح: محمود فاخوري محمد رواسي قلعه جي، ط 2، دار المعرفة، 1979.

74. مناقب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، تح: زينب القاروط، ط 1، بيروت، 1980.

75. المنتظم في تاريخ الملوك والأمم، ب. محق، الدار الوطنية، بغداد، 1990.

الجوهري: إسماعيل بن حماد ت 393 ه / 1003 م.

76. الصحاح، تح: احمد عبد الغفور عطار، دار الكتاب العربي، مصر، 1956.

الجويني: إبراهيم بن محمد ت 644 - 730 ه 77. فرائد السمطين، تح: محمد باقر المحمودي، ط 1، بيروت؛ 1978 م.

ابن أبي حاتم: أبومحمد عبد الرحمن ت 327 ه 78. كتاب الجرح والتعديل، ط 1، حيدر آباد الدكن، الهند، 1952 1953.

حاجي خليفة: مصطفى بن عبد الله ت 1061 ه.

79. كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون، تصحيح: محمد شرف الدين

ص: 700

بالتقايا رفعت بيلكه الكلبيسي، ب. مكا، 1941.

الحاكم الجشمي: أبو السعد المحسن بن محمد ت 494 ه 80. الطبقتان الحادية عشره والثانية عشرة من كتاب سرح العيون، نشرمع كتاب فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة، تح: فؤاد سيد، تونس، 1974.

الحاكم النيسابوري: أبو عبد الله محمد بن عبد الله 321 - 405 ه / 933 - 1014.

81. المسحبيب: لى الصحيحين، دراسة وتحقيق مصطفى عبد القادر عطا، ط 1، بيروت، 1990.

ابن حبيب:محمد البغدادي تما بعد 279 ه 82. أسماء المغتالين من الأشراف في الجاهلية والإسلام، منشور ضمن نوادر المخطوطات، المجموعة السادسة، تح: عبد السلام هارون، ط 1، القاهرة، 1954 ص 106 - 235.

83. المحبر، تح: أيلزه ليختن شتير، المكتب التجاري للطباعة والنشر، بيروت، 1942.

84. المنمق، تح: خورشيد احمد فاروق ؛ ط 1، حيدر اباد الدكن الهند، 1384 ه / 1964 م.

ابن حجر العسقلاني: أحمد بن علي ت 773 - 852 ه.

85. الاصابة في تمييز الصحابة، ط 1 مطبعة السعادة، مصر 1328 ه 86. تقريب التهذيب، ت؛ عبد الوهاب عبد اللطيف، المدينه المنورة، 1382 ه.

87. تهذيب التهذيب، ط 1، ب. محق، حيدر اباد - الدكن، الهند، 1325 - 1327 ه 88. لسان الميزان، ب. محق، ط 1، حيدر اباد الدكن، الهند، 1330 - 1331 ه.

ص: 701

89. ابن أبي الحديد: عز الدين عبد الحميد بن هبة الله المدائني (576 656 ه) 90. شرح نهج البلاغة، تح: محمد أبو الفضل، ط 1، دار الجيل، بيروت، 1987.

91. القصائد السبع العلويات، شرح: محمد صاحب المدارك، دار الفكر، بيروت، 1955.

الحريري: أبو القاسم بن علي ت 446 - 516 ه 92. المقامات، تح: عيسى سابا، بيروت، 1965.

ابن حزم: ابومحمد بن أحمد ت 456 ه 93. جمهرة انساب العرب، ت؛ عبد السلام محمد هارون، دار المعارف، القاهره، 1971.

94. الفصل في الملل والاهواء والنحل، تح: محمد ابراهيم نصر عبد الرحمن عميرة، ط 1، الرياض، 1982.

الحلبي: علي بن برهان الدين الشافعي 975 1044 ه / 1567 - 1635 م.

95- السيره الحلبية، ب. محق، مطبعة الاستقامة، القاهرة، 1971.

الحلي: الحسن بن يوسف بن علي بن المطهر (648 - 726 ه) 96. رجال العلامة الحلي، تح: السيدمحمد صادق بحر العلوم، ط 2، النجف، 1961.

97. كشف اليقين، ط 1، وزارة الثقافة والإرشاد الاسلامي، 1411 ه.

الحموي: ياقوت 626 ه 98. معجم الادباء، ط الاخيره، مكتبة عيسى الحلبي، مصر 1936.

99. معجم البلدان، ب. محق، ب. ط. بيروت، 1955 - 1957.

الحميدي: أبو عبد الله محمد بن أبي نصر فتوح (420 488 ه)

ص: 702

100. جذوة المقتبس في تاريخ علماء الاندلس، تح: ابراهيم الأبياري، ط 2، بيروت، 1989.

ابن يرحم: توبة ت 85 ه 101. ديوان توبة بن حمير، تح: خليل العطيه، بغداد، 1968.

الحميري: السيد إسماعيل بن محمد (105 173 ه) 102. ديوان السيد الحميري، جمع وتح: شاكرهادي شكر، دارمكتبة الحياة، بيروت، ب. ت.

الحميري: محمد بن عبد المنعم ت 727 ه 103. الروض المعطار في خبر الاقطار، تح: احسان عباس، بيروت، 1975.

ابن حنبل: أبو عبد الله احمد (164 - 241 ه) 104. المسند، ب. محق. القاهره، 1896 م.

الحنبلي: أبو الفلاح عبد الحي بن العماد ت 1089 ه.

105. شذرات الذهب في اخبارمن ذهب، ب. محق. مكتبة القدسي، 1350 - 1351 ه أبو حيان التوحيدي: علي بن محمد ت نحو 400 ه 106. الامتاع والمؤانسة، صححه: احمد امين و احمد الزين، بيروت، 1950 - 1951.

الخطيب البغدادي: أبو بكر أحمد بن علي ت 463 ه 107. تاريخ بغداد، ب. محق. مط السعادة، القاهرة، 1931.

ابن خلدون: عبد الرحمن بن محمد ت 808 ه / 1406 م.

108. العبر وديوان المبتدأ و الخبر، دار الكتاب اللبناني، بيروت، 1959.

ص: 703

109. المقدمه، ب. محق. ط 2، بيروت، 1961.

ابن خلكان: أبو العباس احمد بن محمد (608 - 681 ه).

110. وفيات الاعيان، تح: احسان عباس، دار الثقافة، بيروت، 68 - 1971.

الخوارزمي: أبو عبدالله محمد بن احمد بن يوسف 387 ه 111. مفاتيح العلوم، ب. محق. ط 1 مصر، 1342 ه.

الخوارزمي: أبو المؤيد الموفق بن احمد بن محمد البكري (ت القرن السادس الهجري) 112. المناقب، قدم له: محمد رضا الخرسان، النجف، 1385 ه.

الخوانساري: محمد باقر الموسوي ت 1313 ه.

113. روضات الجنات، تح: أسد الله إسماعيليان، بيروت، 1390 - 1391 ه.

الخياط: أبو الحسين عبد الرحيم بن محمد (ت 300 ه) 114. الانتصار، تصحيح: نيبرج، بيروت، 1957.

ابن داود الحلي: تقي الدين الحسن بن علي (فرغمن الكتاب 707 ه).

115. الرجال، نشر: جلال الدين الحسيني، طهران، 1383 ه.

أبو داود: سليمان بن الاشعث (202 - 275 ه) 116. سنن أبي داود، تح: محمد محي الدين عبد الحميد، بيروت، ب. ت.

الداوودي: شمس الدين محمد بن علي بن احمد 945 ه 117. طبقات المفسرين، ط 1، بيروت، 1983.

دحلان: احمد زيني ت 1304 / 1886 م.

118. أسنى المطالب في نجاة أبي طالب، تعليق: علي بن الحسين الهاشمي، طهران، 1382 ه 119. السيره النبوية والاثار المحمدية، بهامش السيرة الحلبية، ب. محق. القاهره،

ص: 704

1971.

الدميري: كمال الدين ت 806 ه.

120. حياة الحيوان الكبرى ب. محق. المكتبة التجارية، مصر، 1956.

الديار بكري: حسين بن محمد بن الحسن ت 966 هم 1559 م.

121. تاريخ الخميس في أحوال أنفس نفيس، بيروت، 1283 ه.

ابن الديبغ: عبد الرحمن بن علي ت 944 هت 122. تيسير الوصول إلى جامع الاصول، ب. محق. مصر، 1934.

الديلمي: الحسن بن أبي الحسن ت 841 ه 123. إرشاد القلوب، دار الشريف الرضي، 1412 ه.

الديلمي: مهيار ت 428 ه 124. ديوان مهيار الديلمي، تح: احمد نسيم، ط 1، القاهرة، 1925.

الذهبي: شمس الدين محمد بن احمد 748 ه / 1347 م.

125. تذكرة الحفاظ، تح: عبد الرحمن بن يحيى المعلمس، ط 4، دار إحياء التراث العربي، 1974.

126. تجريد أسماء الصحابة، بمحق، دار المعرفة، بيروت، ب ت.

127. تلخيص المستدرك على الصحيحين، ط 1، بهامش المستدرك، تح مصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، بيروت، 1990.

128. دول الإسلام، ب. محق، ط 2، حيدر آباد الدكن، الهند، 1364 ه.

129. العبر في خبرمن غبر، تح: ابو هاجر محمد السعيد بيروت، دار الكتب العلمية، ب. ت.

130. معرفة القراء الكبار، تح: محمد سيد جاد الحق، ط 1، القاهرة،

ص: 705

1378 ه / 1967 م.

131. ميزان الاعتدال، تح: علي محمد البجاوي، ط 1، دار إحياء الكتب العربية، 1963.

الرازي: محمد بن أبي بكر بن عبد القادر ت بعد 666 ه / 1268 م.

132. مختار الصحاح. ب. محق، دار الرسالة، الكويت، 82 19 الراوندي: قطب الدين ت 573 ه.

133. الخرائج والجرائح، مؤسسة الإمام المهدي، قم، ب. ت.

134. أبو رشيد النيسابوري: سعيد بن محمد بن سعيد ت حوالي 400 ه.

135. المسائل في الخلاف بين البصريين والبغداديين، تح: د. معن زياده رضوان السيد، ط 1، بيروت، 1979.

ابن رشيق: أبو علي الحسن ت 463 ه / 1071 م.

136. العمدة، تح: محمد محي الدين عبد الحميد، ط 4، دار الجيل، بيروت، 1972.

ابن زباله: محمد بن الحسن ت 199 ه.

137. منتخب من كتاب أزواج النبي صلی الله علیه و آله وسلم تح: اكرم ضياء العمري، ط 1، المدينه المنورة، 1981.

الزبيري أبو عبد الله مصعب بن عبد الله (156 - 236 ه) 138. نسب قريش، تح: ليفي برو فنسال، دار المعارف، القاهرة، 1953.

أبو زرعه الرازي: عبيد الله بن عبد الكريم 200 - 246 ه/ 815 - 878 م.

139. الضعفاء، دراسة وتح: سعدي الهاشمي، ط 1، المدينة المنورة، 1982.

الزمخشري: جار الله محمود بن عمر ت 528 ه 140. ربيع الابرار ونصوص الاخبار، تح: سليم النعيمي، مط العاني، بغداد،

ص: 706

1982.

141. الفائق في غريب الحديث، تح: علي محمد البجاوي محمد أبو الفضل ابراهيم، ط 1، القاهره، 1945 - 1948.

142. كتاب الامكنة والمياه، تح: ابراهيم السامرائي، بغداد، 1947.

143. الكشاف عن حقائق وغوامض التنزيل وعيون الاقاويل، دار الكتاب العربي، بيروت، ب. ت.

زين العابدين: علي بن الحسين 38 - 95 ه 144. الصحيفة السجادية، بخط الحاج يحيى سلوم السامرائي، بغداد، ب. ت.

ابن الساعي: أبو طالب علي بن أنجب 674 ه / 1275 م.

145. الجامع المختصر، تح: مصطفى جواد، بغداد، 1934.

سبط ابن الجوزي: يوسف بن قرا غلي بن عبد الله البغدادي 581 - 654 ه.

146. تذكرة الخواص، قدم له: محمد صادق بحر العلوم، النجف، 1383 ه / 1964 م.

السبكي: تاج الدين أبو نصر عبد الوهاب ت 771 ه 147. طبقات الشافعية الكبرى، ب. محق. ط 2، دار المعرفة، بيروت، 1324 ه.

ابن سعد: محمد ت 230.

148. الطبقات الكبرى: تح: احسان عباس، بيروت، 1978.

السكتواري: علي دده بن مصطفى الملقب بشيخ التربة، ت 1007 ه / 1598 م.

149. محاضرة الاوائل ومسامرة الاواخر، ب. محق. ط 1، المطبعة العامرية الشرقية، 1311 ه.

السلمي: عرام بن الاصبغ ت نحو 275 ه / 888 م.

ص: 707

150. أسماء جبال تهامة وسكانها، تح: عبد السلام هارون، ط 1، 1955، منشور ضمن نوادر المخطوطات، المجموعه الثامنة، ص 374 - 388.

السلمي: ابوعبد الرحمن محمد بن الحسين ت 412 ه 151. طبقات الصوفية، تح: نور الدين شريبة، ط 1 دار الكتاب العربي، مصر، 1372 ه / 1953 م.

السمعاني: أبو سعد عبد الكريم بن محمد بن منصور ت 562 ه / 1166 م.

152. الانساب، تصحيح: عبد الرحمن بن يحيى المعلمي، ط 1، حيدر آباد الدكن، لهند، 1962 - 1978.

السهيلي: أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الله 501 - 581 ه.

153. الروض الآنف، مط الجمالية، مصر، 1332 ه / 1914.

ابن سينا: أبو علي الحسين بن عبد الله (370 - 428 ه / 980 - 1073 م).

154. الاشارات والتنبيهات، تح: سليمان دنيا، دار المعارف، مصر، 1975 - 1958.

السيوطي: جلال الدين عبد الرحمن ت 849 – 911 ه 155. الإتقان في علوم القرآن، ب. محق، القاهره، 1368 ه.

156. بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة، ط 1، تصحيح: محمد أمين الخانجي، القاهرة، 1326 ه 157. تاريخ الخلفاء، تح: محمدمحي الدين عبد الحميد، ط 1، بيروت، 1952.

158. التعظيم والمنة في أن أبوي رسول الله في الجنة، ب. محق. ط 2، حيدر آباد الدكن، الهند، 1334 ه.

159. الجامع الصغير، شرح: محمد عبد الرؤوف المناوي، ط 1، مصر، 1938 م.

ص: 708

160. الخصائص الكبرى، تح: محمد خليل هواس، مط المدني، مصر، 1967.

161. الدر المنثور في التفسير بالمأثور، ب. محق. بغداد، 1377 ه.

162. الدرج المنيفة في الاباء الشريفة، ب. محق، ط 2، حيدر آباد الدكن، الهند، 1334 ه.

163. السبل الجلية في الاباء العلية، ب. محق. ط 2، حيدر آباد الدكن، الهند، 1334.

164. شرح شواهد المغني، تعليق: احمد ظافر كوجان، لجنة التراث العربي، ب. مكا، ب. ت.

165. مسالك الحنفا في والدي المصطفى صلی الله علیه و آله وسلم، ب. محق. ط 2، حيدر اباد الدكن الهند، 1334 ه.

166. المقامه السندسية في النسبة المصطفوية، ط 2، حيدر آباد الدكن، الهند، 1334 ه.

167. الوسائل الى مسامرة الاوائل، ب. محق. مط النجاح، بغداد، 1950.

168. نشر العلمين المتيقن في إحياء الابوين، ب. محق. ط 2، حيدر آباد الدكن الهند، 1334 ه الشابشتي: أبو الحسن علي بن محمد ت 338 ه / 998 م.

169. الديارات، تح: كوركيس عواد، مط المعارف، بغداد، 1951 م.

الشافعي:محمد بن ادريس (150 204 ه) 170. الام، تصحيح: محمد النجار، ط 2، بيروت، 1973.

أبو شامه المقدسي: شهاب الدين ابومحمد عبد الرحمن بن اسماعيل ت 665 ه.

171. ذيل الروضتين، تح: محمد زاهد الكوثري، ط 1، دار الكتب الملكيه، القاهرة، 1947.

ص: 709

الشريف الرضي: أبو الحسن بن الحسين (359 - 406 ه / 970 - 1015 م.

172. حقائق التاويل في متشابه التنزيل، شرح: محمد رضا آل كاشف الغطاء، بيروت، ب. ت.

173. خصائص الأئمة، ب. محق، مجمع البحوث الإسلامية، 1406 ه.

174. خصائص الأئمة، ب. محق، النجف، 1396 ه.

175. ديوان الشريف الرضي، ب. محق، بيروت، 1961.

176. المجازات النبوية، تح: طه محمد الزيني، القاهرة، مؤسسة الحلبي، 1967.

177. نهج البلاغة، ضبط نصه: صبحي الصالح، ط 1، بيروت، 1387 / 1967.

الشريف المرتضى: أبو القاسم علي بن الحسين علم الهدى (355 - 436 ه) 178. تنزيه الأنبياء والائمة، ط 3، النجف، 1974.

179. الشافي في الامامة، ب. محق. ط حجرية، ب. مكا، 1301 ه.

180. القصيدة المذهبة للسيد الحميري، تح: محمد الخطيب، ط 1، دار الكتاب الجديد، بيروت، 1970.

الشهرستاني: أبو الفتح محمد بن عبد الكريم ت 548 ه 181. الملل والنحل، بهامش الفصل في الملل والاهواء والنحل، ب. محق. ب. مكا.

ب. ت.

الصاحب بن عباد اسماعيل (326 - 385 ه) 177.

182. ديوان الصاحب بن عباد، تح: محمد حسن آل ياسين، ط 1، بغداد، 1965.

183. عنوان المعارف وذكر الخلائف، منشور ضمن نفائس المخطوطات ص 61 - 63) تح: محمد حسن آل ياسين ط 2، بغداد، 1383 ه / 1963 م، 184. نصرة مذاهب الزيدية، تح: ناجي حسن، بغداد، 1975.

ص: 710

ابن الصباغ المالكي: نور الدين علي بن محمد (784 - 855 ه / 1383 1451 م.

185. الفصول المهمة. ب. محق، ط 2، النجف، ب. ت.

الصبان: محمد بن علي ت 1206 ه / 1792 م.

186. اسعاف الراغبين، بهامش: نور الابصار للشبلنجي، بيروت، ب. ت.

الصدوق: ابو جعفر محمد بن علي (305 - 381 ه).

187. الامالي. ب. محق. ط 1، النجف، 1970.

188. علل الشرائع، مكتبة الداوودي، قم، ب. ت.

189. معاني الاخبار، مؤسسة النشر الاسلامي، قم، 1403 ه.

الصفدي: صلاح الدين خليل بن أيبك ت 764 ه.

190. الوافي بالوفيات، ج 1، ط 2، باعتناء: هلموتريتر، فيسبادن، 1381 ه / 1961.

191. الوافي بالوفيات، ج 2، باعتناء: س. دريدينغ، مط وزارة المعارف، استانبول، 1949.

192. الوافي بالوفيات، ج 3، باعتناء: س. دريد ينغ، مط الهاشمية، دمشق، 1953.

193. الوافي بالوفيات، ج 4، باعتناء: س. دريد ينغ، مط الهاشمية، دمشق، 1959.

الصفوري الشافعي: عبد الرحمن بن عبد السلام 894 ه / 1489 م.

194. نزهة المجالس ومنتخب النفائس، ب. محق، دار الكتب العلمية، بيروت، 1346 ه.

ابن أبي الصلت: أمية 195. ديوان اميه ابن أبي الصلت، دراسة وتح: بهجة الحديثي، ط 2، بغداد، 1991.

ص: 711

الصنعاني: أبو بكر عبد الرزاق بن همام ت 211 ه / 827 م.

196. المصنف، تح: حبيب عبد الرحمن الاعظمي، ط 1، بيروت، 1970 - 1972.

الطائي: حاتم ت 605 م.

197. ديوان حاتم الطائي، تح: كرم البستاني، بيروت، 1963.

طاش كبرى زادة: احمد بن مصطفى ت 968 ه / 1561 م.

198. مفتاح السعادة ومصباح السيادة، تح: كامل كامل بكري عبد الوهاب لبو النور، دار الكتب الحديثه، ب. ت.

أبو طالب بن عبد المطلب ت 3 قه.

199. ديوان أبي طالب، جمع: ابي هفان عبد الله بن احمد المهزمي العبدي، تصحيح: محمد صادق ال بحر العلوم، النجف، 1356 ه.

200. ديوان أبي طالب، صنعه: علي بن حمزة البصري ت 375 ه، تح: محمد حسن آل ياسين، ب. مكا، ب. ت.

ابن طاووس: رضي الدين أبو القاسم علي بن موسى الحسني ت 664 ه 201. الملاحم والفتن، ط 4، مط الحيدرية النجف، 1972 الطبراني: أبو القاسم سليمان بن احمد (260 - 360 ه) 202. المعجم الكبير، تح: حمدي السلفي، ط 2، دار إحياء التراث العربي الاسلامي، الموصل، 1986.

الطبرسي: عماد الدين أبو جعفرمحمد بن أبي القاسم ت بعد 553 ه 203. بشارة المصطفى، ط 2، المكتبه الحيدرية، النجف، 1963.

الطبرسي: ابي منصور: احمد بن علي بن أبي طالب نحو 560 ه / 1165 م.

204. الاحتجاج، ب. محق، مؤسسة الاعلمي، بيروت، ب. ت.

ص: 712

الطبرسي: أبو علي الفضل بن الحسن ت 548 ه.

205. إعلام الورى بأعلام الهدى، قدم له: السيد محمد مهدي، ط 3، النجف 1، 1970 الطبري: أبو جعفر محمد بن جرير ت 310 ه.

206. تاريخ الرسل والملوك، تح: محمد أبو الفضل ابراهيم، ط 4، دار المعارف، 61 - 1968. 202. جامع البيان عن تأويل آي القرآن، ب. محق، ط 3، 1978.

207. المنتخب من كتاب ذيل المذيل، ط 2، تح: أبو الفضل ابراهيم، دار المعارف، القاهره، 1982.

الطحاوي: أبو جعفر احمد بن محمد ت 321 ه.

208. شرح معاني الاثار، تح: محمد زهدي النجار، ط 1، دار الكتب العلميه، بيروت، 1979.

209. مشكل الاثار، ب. محق، ط 1، حيدر اباد الدكن، الهند، 1333 ه. الطغرائي:

أبو اسماعيل الحسين بن علي (453 - 515 ه) 210. ديوان الطغرائي، تح: علي جواد الطاهر يحيى الجبوري، بغداد، 1972.

ابن الطفيل: عامر ت 11 ه.

211. ديوان عامر بن الطفيل، تح: كرم البستاني، بيروت، 1963.

ابن الطقطقى: محمد بن علي طباطبات 709 ه / 1309 م.

212. الفخري في الاداب السلطانية والدول الإسلامية، ب. محق، بيروت، 1960.

ابن طلحه الشافعي: كمال الدين أبو سالم محمد 652 ه / 1254 م.

213. مطالب السؤول في مناقب آل الرَّسول، ب. محق، النجف، ب. ت.

الطوسي: أبو جعفرمحمد بن الحسن ت 460 ه / 1067 م.

ص: 713

214. الامالي، قدم له: السيد محمد صادق بحر العلوم، مط النعمان، النجف، 1964.

215. الامالي، ب. محق، دار الثقافه للنشر، قم، 1414 ه.

216. التبيان في تفسير القرآن، تح: احمد حبيب العاملي، دار الاندلس، بيروت، ب. ت.

217. تلخيص الشافي، تح: السيد حسين آل بحر العلوم، النجف، 1383 ه / 1963 م.

218. الرجال، تح: محمد صادق ال بحر العلوم، ط 1، النجف، 1961.

219. الرسائل العشر، تح: واعظ زادة الخراساني، جماعة المدرسين، قم، 1404 ه.

220. الفهرست، صححه وعلق عليه: محمد صادق ال بحر العلوم، ط 2، النجف، 1960.

221. مصباح المتهجد، ب. محق، بيروت، 1411 ه. ابن الطيب البصري: أبو الحسن محمد بن علي ت 436 ه.

222. المعتمد في اصول الفقه، تح: محمد حميد الله، وآخرين، دمشق، 64 - 1965.

العامري: عماد الدين يحيى بن أبي بكر (816 - 893 ه( 223. بهجة المحافل وبغية الاماثل، ب. محق، المدينه المنورة، 1331 ه.

ابن عبد البر: أبو بكر يوسف ت 463 ه.

224. الاستيعاب في معرفة الاصحاب، تح: علي محمد البجاوي، القاهرة، 1960.

225. جامع بيان العلم وفضله، ب. محق، المكتبة العلمية، المدينة المنورة، ب. ت.

ابن عبد ربه: أبو عمر احمد بن محمد ت 334ه.

226. العقد الفريد، تح: احمد امين وآخرين، القاهره، 1940.

ص: 714

أبو عبيد: القاسم بن سلام الهروي ت (157 224ه / 774 - 838 م) 227. غريب الحديثين، ب. محق، بيروت، 1964.

أبو العتاهيه: اسماعيل بن القاسم ت 221 ه / 826 م.

228. ديوان أبي العتاهية، تح: كرم البستاني، بيروت، 1964.

ابن عدي: أبو احمد عبد الله الجرجاني (277 - 365 ه) 229. الكامل في ضعفاء الرجال، تح: عادل احمد عبد الموجود وآخرين، ط 1، دار الكتب العلمية، بيروت، 1997.

ابن عذاري: أبو العباس احمد بن محمد (كان حيا في 712 ه / 1312 م.

230. البيان المغرب في اخبار الاندلس والمغرب، تح: كولان بروفنسال، ط 2، بيروت، 1981.

العراقي: الحافظ زين الدين أبو الفضل عبد الرحيم (725 - 806 ه) 231. طرح التثريب في شرح التقريب، بيروت، دار إحياء الكتاب العربي، ب. ت.

ابن العربي المالكي: محمد بن عبدالله (468 - 543 ه) 232. صحيح الترمذي بشرح ابن العربي، ب. محق. ط 1، المطبعة المصرية بالازهر، 31 - 1934.

ابن عطاء: واصل (80 - 131 ه) 233. كتاب خطبة واصل بن عطاء، منشور ضمن نوادر المخطوطات، المجموعة الثانية، ط 2، 1973، تح: عبد السلام محمدهارون، ص 118 - 136.

أبو العلاء المعري: .احمد بن عبد الله بن سليمان (363 - 449 ه / 973 - 1057 م) 234. شروح سقط الزند، تح: مصطفى السقا وآخرين، نسخة مصورة عن نسخة دارالكتب، 1964.

ص: 715

235. لزوم ما لا يلزم، ب. محق، بيروت، 1961.

العمري: عبد الباقي (1204 - 1278 ه).

236. ديوان عبد الباقي العمري، تصحيح: الحافظ عثمان الموصلي، الموصل، 1316 ه.

ابن عنبه: السيد جمال الدين احمد بن علي الحسيني ت 828 ه / 1424 م.

237. عمدة الطالب في أنساب آل أبي طالب، دار الاندلس، النجف، 1358 ه.

الغزالي: أبو حامد محمد بن محمد ت 505 ه 238. المستقصى من علم الاصول، ط 2، بيروت، دار الكتب العلميه، ب. ت.

ابن فارس: أبو الحسن احمد ت 395 ه / 1004 م.

239. المجمل، دراسة وتح: زهير عبد المحسن سلطان، ط 1، بيروت، 1984.

الفتال: أبو جعفر محمد بن الحسن ت 508 ه 240. روضة الواعظين، ب. محق، دار الرضي، ب. ت.

أبو الفداء: الملك المؤيد عماد الدين اسماعيل ت 732 ه 241. المختصر في اخبار البشر، ب. محق، ط 2، المطبعه الحسينيه، ب. ت.

أبو الفرج الاصفهاني: علي بن الحسين ت 356 ه / 966 م.

242. الاغاني، شرح: عبد علي وسمير جابر، ط 1، بيروت، دار الكتب العلميه، 1986.

243. مقاتل الطالبيين، ب. محق، مط الديواني، بغداد، 1965.

ابن فرحون: برهان الدين ابراهيم بن علي بن محمد ت 779 ه / 1397 م.

244. الديباج المذهب في معرفة اعيان علماء المذهب، ط 1، مصر، 1351 ه.

الفرزدق: همام بن غالب ت 114 ه / 733 م.

ص: 716

245. ديوان الفرزدق، تح: كرم البستاني، دار صادر، بيروت، 1966.

الفيروز آبادي: مجد الدين محمد بن يعقوب ت 817 ه.

246. تحفة الأبيه فيمن نسب إلى غير أبيه، منشور ضمن نوادر المخطوطات، المجموعة الاولى، تح: عبد السلام هارون، ط 2، 1972. ص 97 - 110.

247. القاموس المحيط، بيروت، دار الفكر، 1983.

الفيروز آبادي:

248. فضائل الخمسة من الصحاح الستة، النجف، 1383 1384 ه.

249. القاضي عبد الجبار عماد الدين أبي الحسن بن احمد ت 415 ه.

250. شرح الاصول الخمسة، تح: عبد الكريم عثمان، ط 1، القاهرة، 1965.

251. فرق وطبقات المعتزله، تح: علي سامي النشار و عصام الدين محمد علي، الاسكندرية، 1972.

252. فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة ومباينتهم لسائر المخالفين، تح: فؤاد السيد، تونس، 1974.

253. المختصر في اصول الدين، ضمن رسائل العدل والتوحيد، تح: محمد عماره، دار الهلال، 1971.

254. المغني في ابواب العدل والتوحيد، تح: عبد الحليم النجار وسليمان دينا، الدار المصرية، ب. ت.

255. القالي: أبو علي اسماعيل بن القاسم (288 - 356 ه / 901 - 967 م) 256. ذيل الامالي والنوادر، ب. محق، دار الفكر للطباعة والنشر، ب. ت.

ابن قتيبه: ابومحمد عبد الله بن مسلم ت 276 ه.

257. الامامة والسياسة (المنسوب)، ب. محق، القاهرة، ب. ت.

ص: 717

258. الشعر والشعراء، ب. محق، دار الثقافة، بيروت، 1384 ه / 1964 م.

259. عيون الاخبار، مطبعة دار الكتب المصرية، القاهرة، 25 - 1930.

260. غريب الحديث، تح: عبد الله الجبوري، ط 1، بغداد، 1977.

261. المعارف، تح: ثروت عكاشة، ط 2، دار المعارف، مصر، 1969.

القرشي: عبد القادر بنمحمد ت 775 ه / 1373 م.

262. الجواهر المضية في طبقات الحنفية، حيدر آباد الدكن، الهند، 1332 ه.

القرطبي: أبو عبد الله محمد بن احمد الانصاري ت 671 ه / 1273 م.

263. الجامع لاحكام القرآن، ط 2، القاهره، دار الكتب المصرية، 1960.

القسطلاني: احمد بن محمد بن أبي بكر ت 851 - 923 ه.

264. إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري، ب. محق، بولاق، 1293 ه.

القشيري: أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن (376 - 465 ه) 365. الرسالة القشيرية في علم التصوف، ب. محق. بغداد. ب. ت.

ابن قطلو بغا: أبو العدل زين الدين قاسم ت 879 ه.

266. تاج التراجم في طبقات الحنفية، ب. محق، بغداد، 1962.

القفطي: جمال الدين أبي الحسن علي بن يوسف ت 446 ه / 1248 م.

267. إنباه الرواة على أنباة النحاة، تح: محمد أبو الفضل ابراهيم، القاهرة، 1950 - 1955.

268. تاريخ الحكماء، تح: يوليوس ليبرت، لايبزك، 1903.

269. المحمدون من الشعراء، تح: رياض عبد الحميدمراد، دمشق، 1395 ه / 1975 م.

القلقشندي: أبو العباس احمد بن علي ت 821 ه

ص: 718

270. صبح الاعشى في صناعة الانشا، ب. محق، القاهره، 1963.

اللكنوي الهندي: أبو الحسنات محمد عبد الحي 271. الفوائد البهية في تراجم الحنفية، ط 1، مصر، 1324 ه.

272. الكتبي:محمد بن شاكر 273. فوات الوفيات، تح: احسان عباس، بيروت، 1973 1974.

ابن كثير: عماد الدين أبو الفداء اسماعيل بن عمر القرشي ت 764 ه.

274. البداية والنهاية، ط 2، مكتبة المعارف، بيروت، 1977.

275. تفسير ابن كثير، ب. محق، دار احياء الكتب العربية، ب. ت.

276. نهاية البداية والنهاية، تح: محمد فهيم، ط 1، الرياض، 1968.

الكشي: أبو عمرو محمد بن عمر بن عبد العزيز ت 340 ه / 951 م.

277. الرجال، تح: السيد احمد الحسيني، مؤسسة الأعلمي، كربلاء، ب. ت.

الكنجي الشافعي: أبو عبد الله محمد بن يوسف بن محمد (استشهد في 658 ه).

278. كفاية الطالب في مناقب عليّ بن أبي طالب علیه السلام، تح: محمد هادي الأميني، ط 2، النجف، 1970 الكندي: أبي عمرمحمد بن يوسف 283 - 350 ه 279. الولاة والقضاة، تصحيح: رفن كست، بيروت، 1908.

ابن ماجه: محمد بن يزيد (209 273 ه).

280. صحيح سنن ابن ماجه، تح: محمد ناصر الالباني، ط 1، بيروت، 1986.

المازندراني: رشيد الدين أبي عبد الله محمد بن علي (489 588 ه) 281. معالم العلماء، ب. محق، ط 2، النجف، 1961.

282. مناقب آل أبي طالب، المطبعة الحيدرية، النجف، 1376 ه / 1956 م.

ص: 719

المبرد: أبي العباس محمد بن يزيد ت 285 ه 283. الكامل في اللغة والادب، تح: محمد أبو الفضل والسيد شحاته، دار النهضة، القاهرة، ب. ت.

المتقي الهندي: علاء الدين بن علي ت 975 ه / 1567 م.

284. كنز العمال في سنن الاقوال والافعال، ط 2، حيدر آباد الدكن، الهند، 1950 - 1967.

المتنبي: أبو الطيب ت 354 ه 285. ديوان المتنبي، شرح: عبود احمد الخزرجي، بغداد، 1988.

ابن متويه: أبو محمد الحسن بن احمد ت 469 ه / 1076 م.

286. التذكرة في احكام الجواهر والاعراض، تح: سامي نصر فيصل عون، القاهره، 1975.

مؤلف مجهول (ق 3 ه) 287. اخبار العباس وولده، تح: عبد العزيز الدوري وعبد الجبار المطلبي، دار الطليعة، بيروت، 1971.

288. العيون والحدائق في اخبار الحقائق، تح: د ي غويه، بريل، 1871.

289. كتاب الحوادث وهو الكتاب المسمى وهما بالحوادث الجامعة والتجارب النافعة والمنسوب لابن الفوطي، تح: بشار عوادمعروف و عماد عبدالسلام رؤوف، ط 1، دار الغرب الاسلامي، 1997.

المجلسي:محمد باقر ت 1111 ه 290. بحار الأنوار، دار الرضا، بيروت، ب. ت.

محب الدين الطبري: أبو جعفر احمد بن عبد الله 615 694 ه.

ص: 720

291. ذخائر العقبى في مناقب ذوي القربى، تقديم ومراجعه: جميل ابراهيم حبيب، بغداد، 1984.

292. الرياض النضرة، تح: سليمان حسن عبد الوهاب، ط 2، مصر، 1372 ه / 1953 م.

ابن المرتضى: احمد بن يحيى ت 840 ه.

293. طبقات المعتزلة، تح: مؤسسة ديفلد فلزر، استانبول، 1960.

المرزباني: أبو عبيد الله محمد بن عمران (297 - 384 ه).

294. معجم الشعراء، تهذيب: سالم الكونكوري، القاهره، 1354 ه.

المرصفي: سيد بن علي 1349 ه / 1931 م.

295. رغبة الآمل من كتاب الكامل، ط 1، مطبعة النهضة، مصر، 1927 - 1930).

المسعودي: ابوالحسن علي بن الحسين ت 346 ه.

296. مروج الذهب ومعادن الجوهر، تح: محمدمحيي الدين، مصر، 1967.

مسلم بن الحجاج النيسابوري (204 - 261 ه) 297. صحيح مسلم، تح: محمود توفيق، مطمجازي، القاهرة، ب. ت.

ابن المعتز: عبد الله (247 - 296 ه) 298. طبقات الشعراء، تح: عبد الستار احمد فراج، دار المعارف، مصر، 1956.

ابن معد: شمس الدين أبو علي فخار ت 603 ه. 290.

299. الحجه على الذاهب إلى تكفير أبي طالب، تح محمد السيد بحر العلوم، ط 2، بغداد، ب. ت، (كانت ط 1 في 1965.

ابن المغازلي: أبو الحسن علي بنمحمد الشافعي ت 483 ه.

300. مناقب عليّ بن أبي طالب علیه السلام، تح: محمد باقر البهبودي، المكتبه الإسلامية،

ص: 721

طهران، 1394 ه.

المفيد: أبو عبد الله محمد بن محمد بن النعمان (388 - 413 ه) 301. الإرشاد، تح: حسين الاعلمي، ط 5، مؤسسة الاعلمي، بيروت، 2001.

302. إيمان أبي طالب، تح: محمد حسن آل ياسين، منشور ضمن نفائس المخطوطات، ط 2، بغداد، 1963.

303. مسار الشيعة ب. محق. المؤتمر العالمي للشيخ المفيد، قم، 1413 ه.

304. المقنعة، ب. محق، المؤتمر العالمي للشيخ المفيد، قم، 1413 ه.

المقريزي: تقي الدين أبو العباس احمد بن علي ت 845 ه / 1442 م.

305. اتعاظ الحنفا باخبار الأئمة الفاطميين الخلفا، ت؛: جمال الدين الشيال ومحمد حلمي احمد، القاهرة، 67 - 1971.

306. الخطط المقريزية، ب. محق، بولاق، 1294 ه.

307. النزاع والتخاصم، فيما بين بني امية وهاشم، ليدن، 1888.

الملطي: أبو الحسين محمد بن احمد الشافعي ت 377 ه / 987 م.

308. التنبيه والرد على أهل الاهواء والبدع، تح: محمد زاهد الكوثري، بيروت، 1968.

المناوي: محمد بن عبد الرؤوف 952 - 1031 ه 309. فيض القدير بشرح الجامع الصغير، ط 1، مصر، 1938.

المنذري: زكي الدين ابومحمد عبد العظيم بن عبد القوي (581 - 656 ه).

310. تهذيب الترغيب والترهيب، تح: عوني نعيم، الزرقاء، الاردن، 1990.

311. التكمله لوفيات النقلة، تح: بشار عواد، النجف، 1968 - 1969.

ابن منظور: أبو الفضل جمال الدين محمد بن مكرم 630 - 711 ه.

ص: 722

312. لسان العرب، الدار المصرية، القاهره. ب. ت.

ابن منقذ: الامير اسامه بن مرشد بن علي ت (488 584 ه).

313. لباب الاداب، تح: احمدمحمود شاكر، القاهرة، 1935.

المنقري: نصر بنمزاحم ت 212 ه.

314. وقعة صفين، تح: محمد عبد السلام هارون، القاهرة، 1382 ه.

الميداني: أبو الفضل احمد بن محمد ت 518 ه.

315. مجمع الامثال، تح: محمد محيي الدين عبد الحميد، ط 2، مط السعادة، مصر، 1959.

النابغة الذبياني ت 602 م.

316. ديوان النابغة، تح وشرح: كرم البستاني، بيروت، 1953.

الناشيء الأكبر: أبو العباس عبد الله بن محمد 293 ه / 906 م.

317. مسائل الإمامه، تح: يوسف فان آس، بيروت، 1971.

ابن نباته، جمال الدين محمد بن محمد ت 768 ه.

318. سرح العيون في شرح رسالة ابن زيدون، ط 4، مصر، 1321 ه.

النباهي: أبو الحسن علي بن عبد الله المالقي (القرن الثامن الهجري).

319. تاريخ قضاة الاندلس، المكتب التجاري، بيروت، ب. ت.

النجاشي: احمد بن علي بن احمد بن العباس (372 - 450 ه).

320. الرجال، تصحيح: جلال الدين الاملي، ب. مكا، ب. ت.

ابن النديم: محمد بن اسحق (ت مطلع القرن الخامس الهجري).

321. الفهرست، ب. محق، دار المعرفة، بيروت، 1398 ه / 1978 م.

النسائي: أبو عبد الرحمن احمد بن شعيب ( 215 - 303 ه).

ص: 723

322. خصائص أمير المؤمنين علي بن أبي طالب علیه السلام، تح: محمد هادي الأميني، النجف، 1969.

323. سنن النسائي بشرح السيوطي، المطبعة المصرية بالازهر، ط 1، 1348 ه / 1930.

أبو نعيم: احمد بن عبد الله الاصبهاني ت 430 ه.

324. حلية الاولياء وطبقات الاصفياء، ب. محق، ط 2، دار الكتاب العربي، بيروت، 1967.

325. دلائل النبوة، ب. محق، مكتبة النهضة، بغداد، 1977.

أبو نؤاس: الحسن بن هانىء 136 - 195 أو 197 ه 326. ديوان أبي نؤاس، تح: احمد عبد المجيد الغزالي، دار الكتاب العربي، بيروت، 1953.

النووي: أبو زكريا محيي الدين ت 656 ه.

327. تهذيب الاسماء واللغات، ب. محق، ب. ط، دار الكتب العلمية، بيروت.

النويري: شهاب الدين احمد بن عبد الوهاب (677 - 733 ه) 328. نهاية الارب، تح: محمد أبو الفضل، القاهره، 1977.

الهاشمي: حبيب الله 329. منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة، تصحيح: ابراهيم الميانجي، المكتبة الإسلامية، طهران، 1378 - 1383 ه.

ابن هشام: عبد المللك ت 218 ه..

330. السيرة النبوية، تح: مصطفى السقا وآخرين، دار الفكر، ب. ت.

ابن هلال الثقفي: أبو اسحق ابراهيم بن محمد بن سعيد ت 283 ه / 896 م.

ص: 724

331. الغارات، تح: عبد الزهراء الخطيب، ط 1، دار الكتاب الاسلامي، 1990.

ابوهلال العسكري: الحسن بن عبد الله بن سهيل ت 395 ه.

332. الاوائل: ، تح: محمد السيد الوكيل، طنجة، المغرب، 1966 333. جمهرة الامثال، تح: محمد أبو الفضل و عبد المجيد قطامش، ط 1، القاهره، 1964.

الهلالي: سليم بن قيس العامري ت حدود 90 ه.

334. كتاب سليم بن قيس، حرره الحسني، ب. مكا. ب. ت.

الهمداني: أبو محمد الحسن بن احمد بن يعقوب ت 334ه.

335. الاكليل، تح: محب الدين الخطيب، ج 10، القاهره، 1368 ه.

الهمذاني: أبو بكر احمد بن محمد 336. مختصر كتاب البلدان، تح: د ي غويه، بريل، 1885 م.

الهمذاني: محمد بن عبد الملك ت 521 ه / 1127 م.

337. تكملة تاريخ الطبري، (ضمن ذيول تاريخ الطبري) ط 2، تح: محمد أبو الفضل، دار المعارف، 1982.

الهيتمي: احمد بن حجر المكي ت 974 ه.

338. تطهير الجنان واللسان، تح: عبد الوهاب عبد اللطيف، القاهره، 1375 ه.

339. الصواعق المحرقة، تح: عبد الوهاب عبد اللطيف الحسني، القاهرة، 1375 ه.

الهيثمي: نور الدين علي بن أبي بكر ت 807 ه.

340. مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، مكتبة القدسي، القاهرة، 1352 - 1353 ه.

الواحدي: أبو الحسن علي بن احمد ت 468 ه.

ص: 725

341. أسباب النزول، ب.محق، القاهرة، 1968.

الواسطي: تقي الدين أبو الفرج (670 744 ه).

342. طبقات خرقة الصوفية، ب. محق، القاهرة، 1305.

الواقدي: محمد بن عمر بن واقد ت 207 ه.

343. المغازي، تح: مارسدن جونس، أكسفورد، 1966.

اليافعي: ابومحمد عبد الله بن أسعد بن علي ت 768 ه.

344. مرآة الجنان وعبرة اليقظان، مؤسسة الاعلمي، بيروت، 1970.

اليعقوبي: احمد بن أبي يعقوب ت بعد 292 ه.

345. التاريخ، تح محمد صادق بحر العلوم، ط 4، النجف، 1974.

ثانيا: المراجع الثانوية الآلوسي: محمود شكري البغدادي ت 1342 ه / 1924 م.

346. بلوغ الارب في معرفة أحوال العرب، تصحيح: محمد بهجت الاثري، ط 3، مصر، 1342 ه.

الامين: محسن العاملي ت 1371 ه / 1951 م.

347. أعيان الشيعة، تح: حسن الامين، بيروت، ب. ت.

الأميني: عبد الحسين بن احمد النجفي ت 1390 ه / 1970 م.

348. الغدير في الكتاب والسنة والادب، مركز الغدير للدراسات الإسلامية، ط 1، 1995.

بدوي: عبد الرحمن 349. مذاهب الاسلاميين، ط 3، دار العلم للملايين، 1983.

بروكلمان: كارل

ص: 726

350. 341. تاريخ الأدب العربي، نقله إلى العربية: عبد الحليم النجار، دار المعارف، مصر، 1961.

بنت الشاطىء: عائشة عبد الرحمن 351. بنات النبي عليه الصلاة والسلام، دار الهلال، مصر الجديدة، 1963.

البهادلي: احمد كاظم 352. مفتاح الوصول إلى علم الاصول، ط 1، بغداد، 1994.

بينيس 353. مذهب الذره عند المسلمين وعلاقته بمذاهب اليونان والهنود، نقله عن الألمانية: محمد عبد الهادي أبو ريده، القاهره، 1365 ه / 1946.

الجابري: محمد عابد 354. العقل السياسي العربي، ط 2، بيروت، 1991.

جار الله: زهدي 355. المعتزلة، ط 2، بيروت، 1974.

جرداق: جورج 356. الإمام عليّ علیه السلام صوت العدالة الانسانية، قدم له: ميخائيل نعيمة، دار الفكر، بيروت، 1958.

الجميلي: خضير عباس 357. قبيلة قريش وأثرها في الحياة العربية قبل الإسلام، بغداد، 2002.

جواد: مصطفى 358. أبو جعفر النقيب، مط الهلال، بغداد، 1949.

حسن: حسن ابراهيم

ص: 727

359. تاريخ الدولة الفاطمية، ط 3، الجيزة، 1964.

الحسيني: هاشم معروف 360. سيرة الأئمة الاثني عشر (عليهم السَّلَام)، دار التعارف، بيروت، 1986.

حسين: طه 361. الفتنه الكبرى (علي وبنوه)، دار المعارف، مصر، 1956.

الحفني: عبد المنعم 362. موسوعة الفرق والجماعات والمذاهب والاحزاب والحركات الإسلامية، ط 2، ب. مكا، 1999.

الحلاوي: ناصر (وآخرين) 363. البلاغة والتطبيق، ط 1، بغداد، 1988.

الخزرجي: عبود احمد 364. روائع الحكم في أشعار الإمام علي علیه السلام، بغداد، 1988.

الخطيب: عبد الزهراء 365. مصادر نهج البلاغة واسانيده، ط 1، النجف، 1386 ه / 1966 م.

الخنيزي: عبد الله 366. أبو طالب مؤمن قريش، ط 2، بيروت، 1964.

الخوئي: ابراهيم ت 1325 ه / 1907 م.

367. الدرة النجفية في شرح نهج البلاغة، ط حجرية، ب. مكا، 1325 ه.

الدسوقي: عمر 368. الفتوة عند العرب، القاهرة، 1370 ه / 1951 م.

الراوي: عبد الستار عز الدين

ص: 728

369. ثورة العقل (دراسة فلسفية في فكرمعتزلة بغداد)، ط 2، بغداد، 1986.

الربيعي: احمد 370. العذيق النضيد بمصادر ابن أبي الحديد، مط العاني، بغداد، 1987.

الزركلي: خير الدين 371. الأعلام، ط 8، دار العلم للملايين، بيروت، 1989.

الزنجاني: ابراهيم 372. عقائد الإمامية، ط 2، مؤسسة الاعلمي، بيروت، 1973.

زيدان: جرجي ت 1332 ه.

373. تاريخ آداب اللغة العربية، دارمكتبة الحياة، بيروت، ب. ت.

السامرائي: خليل ابراهيم 374. دراسات في تاريخ الفكر العربي، الموصل، ب. ت.

الشبلنجي: مؤمن بن حسن مؤمن (1252 بعد 1308 ه / 1836 بعد 1891 م).

375. نور الابصار، ب. محق، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ب. ت.

الشرهاني: حسين علي 376. حياة السيدة خديجة بنت خويلدمن المهد إلى اللحد، بيروت، 2005.

شمس الدين: محمدمهدي 377. حركة التاريخ عند الإمام عليّ علیه السلام، ط 1، مؤسسة نهج البلاغة، 1405 ه.

378. دراسات في نهج البلاغة، المطبعه العلمية، النجف، 1376 ه / 1956 م.

الشهرستاني: السيدهبة الدين 379. ما هو نهج البلاغة ، ط 2، دار الثقافة، النجف، 1380 ه / 1961 م.

الشنقيطي: محمد حبيب الله بن عبد الله (1295 - 1363 ه / 1878 - 1944 م).

ص: 729

380. كفاية الطالب لمناقب عليّ بن أبي طالب علیه السلام، تح: محمد علي صالح، ط 1، مط الاستقامة، 1963.

الصائغ: مجيد 381. عليّ علیه السلام بين أمه وأبيه، بيروت، 1422 ه / 2001 م.

صالحيه: محمد عيسى 382. المعجم الشامل للتراث العربي المطبوع، معهد المخطوطات العربية، القاهرة، 1992 - 1995.

صبحي: احمد محمود 383. في علم الكلام، ط 2، دار الكتب الجامعية، 1976.

صليبا: جميل 384. المعجم الفلسفي، ط 1، دار الكتاب اللبناني، بيروت، 1973.

صفوت: احمد زكي 385. جمهرة رسائل العرب، ط 1، القاهرة، 1937.

ضيف: شوقي 386. الفن ومذاهبه في النثر العربي، ط 9، دار المعارف، مصر، ب.ت.

الطباطبائي: محمد حسين 387. عليّ علیه السلام والفلسفة الالهية، الدار الإسلامية، 1349 ه.

العاملي: السيد محمد علي شرف الدين 388. شيخ الابطح، مط دار السلام، بغداد، 1349 ه.

عثمان: عبد الكريم 389. قاضي القضاة عبد الجبار بن احمد الهمداني، بيروت، 1967.

ص: 730

العزيزي: روكس بن زائد 390. الإمام عليّ علیه السلام أسد الإسلام وقديسه، مط النجف، ب.ت.

العسكري: مرتضى 391. معالم المدرستين، المجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السَّلَام)، 1424 ه، 2003.

العقاد: عباس محمود 392. عبقرية الإمام عليّ علیه السلام، دار الفكر، بغداد، ب.ن.

393. فاطمة الزهراء والفاطميون (عليهم السَّلَام)، دار الهلال، ب.ت.

عمر: فاروق 394. التاريخ الاسلامي وفكر القرن العشرين، ط 2، مكتبة النهضة، بغداد، 1985.

395. العباسيون الاوائل، ط 2، بغداد، 1977.

أبو علم: توفيق (رئيس مجلس ادارة مسجد السيِّدة نفيسة (عليها السَّلَام)) 396. أهل البيت، ط 1، بمكا، 1970.

الغالي: د. بلقاسم 397. الجانب الاعتزالي عند الجاحظ، ط 1، بيروت، 1999.

غرابه: حمودي 398. أبو الحسن الاشعري، بيروت، ب. ت.

غربال: محمد شفيق 399. الموسوعة العربية الميسرة، دار نهضة لبنان، 1980.

فروخ: عمر

ص: 731

400. تاريخ الفكر العربي إلى أيام ابن خلدون، ط 4، بيروت، 1983.

أبو القاسم الخوئي 401. معجم رجال الحديث، ط 2، النجف، 1398 ه / 1978 م.

كاشف الغطاء: الهادي 402. مدارك نهج البلاغة ودفع الشبهات عنه، مكتبة الاندلس، بيروت، ب.ت.

403. مستدرك نهج البلاغة، مكتبة الاندلس، بيروت، ب.ت.

كحاله: عمر رضا 404. اعلام النساء، ط 3، بيروت، 1977.

405. معجم قبائل العرب، بيروت، 1968.

لقبال. موسى 406. دور كتامه في تاريخ الدولة الفاطمية، الجزائر، 1979.

متز: آدم 407. الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري، ترجمة: محمد عبد الهادي أبو ريدة، القاهرة، 1940.

محفوظ: حسين علي 408. الصحيفة السجاديَّة، بغداد، 1967.

محمد السيد، د. محمد صالح 409. أبو جعفر الاسكافي وآراؤه الكلامية والفلسفية، دار إحياء الكتب، القاهرة، 1998.

المحمودي: محمد باقر 410. ترجمة الإمام عليّ بن أبي طالب علیه السلام من تاريخ دمشق لابن عساكر، ط 1،

ص: 732

بيروت، 1975.

411. نهج السعادة في مستدرك نهج البلاغة، بيروت، 1976.

محيي الدين: عبد الرزاق 412. ادب المرتضى في سيرته وآثاره، ط ، مط المعارف، بغداد، 1957.

مدكور: محمد سلام 413. مناهج الاجتهاد في الإسلام، ط 2، الكويت، 1977.

مغنية: محمد جواد 414. فضائل الإمام عليّ علیه السلام، ط 2، بغداد، 1964.

415. في ظلال نهج البلاغة، ط 2، دار العلم للملايين، بيروت، 1978.

416. المكتبة العلمية 417. ديوان أمير المؤمنين علیه السلام، بغداد، ب.ت.

الملاح: محمود 418. تشريح شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، بغداد، 1954.

الملاح:هاشم يحيى 419. الوسيط في تاريخ العرب قبل الإسلام، الموصل، 1994.

منغم: اميل دور 420. حياة محمد، ترجمة: عادل زعيتر، دار الكتب العلميه، بيروت، ب. ت.

النعيمي: د. عماد 421. مدرسة البصرة الاعتزإلية، دار الحكمة، البصرة، 1990.

نقدي: جعفر 422. زهرة الادباء في شرح لامية شيخ البطحاء، النجف، 1356 ه.

ص: 733

الوردي: علي 423. مهزلة العقل البشري، ب. مكا، 1956.

ياسين: نجمان 424. تطور الاوضاع الاقتصادية في عصر الرسالة والراشدين، الموصل، 1990.

اليوسف: عبدالقادراحمد 425. الامبراطورية البيزنطينية، بيروت، 1966.

يوليوس، فلهاوزن 426. تاريخ الدولة العربية، ترجمة: عبد الهادي أبو ريدة، القاهرة، 1958.

ثالثا: الرسائل الجامعية الاعرجي: ستار جبرمحمود 427. منهج المتكلمين في فهم النص القرآني، أطروحة دكتوراه غيرمنشورة، كلية الاداب، جامعة الكوفة، 2000 م.

البطاط: أخلاص مرتضى 428. قاضي القضاة عبد الجبار المعتزلي، رسالة ماجستير غيرمنشورة، كلية الاداب، جامعة البصره، 1999.

الحجاج: محسن مشكل فهد 429. دولة التبابعه في اليمن، رسالة ماجستير غيرمنشورة، كلية الاداب، جامعة البصرة، 1999.

حمادي: عبد الخضر 430. الحركة الفكرية في القرن الأول الهجري، رسالة ماجستير، الجامعة المستنصرية، 1984.

ص: 734

الحياني: مظفر شاكرمحمود 43431. الامام الدارقطني وجهوده في الحديث وعلومه، رسالة ماجستير غيرمنشورة، كلية الشريعة، جامعة بغداد، 1988.

الدخيلي: مهدي عريبي 432. بسطام بن قيس ذو الجدين، رسالة ماجستير، كلية التربية، جامعة البصرة، 1989.

الدوري: مزاحم مهدي ابراهيم 433. قاضي شريح واراؤه الفقهية، رسالة ماجستير غيرمنشورة، كلية الشريعة، جامعة بغداد، 1988.

الراوي: عبد الستار عزالدين محمود 434. قاضي عبد الجبار بن أحمد المعتزلي وفكره الاسلامي، اطروحة دكتوراه غيرمنشورة، الاسكندرية، 1977.

الزوار: منعم عبد الرحيم حميد 435. الفكر السياسي عند الخوارج، رسالة ماجستير غيرمنشورة، كلية الاداب، جامعة البصرة، 2000.

الظالمي: حامد ناصر عبود 436. ابن أبي الحديد جهوده النقدية والبلاغية، رسالة ماجستير غيرمنشورة، كلية الاداب، جامعة البصرة، 1996.

عبد الكريم: عبد الجبار سالم 437. شعر عبد الحميد بن هبة الله المدائني الشهير بابن أبي الحديد ت 656 ه، جمع وتح ودراسة، اطروحة دكتوراه غيرمنشورة، كلية الاداب، جامعة بغداد،

ص: 735

1996.

عبد الله: محمد رمضان 438. الباقلاني واراؤه الكلاميه، اطروحة دكتوراه غيرمنشورة، كلية اصول الدين، جامعة الازهر، 1978.

ال عجيل: عبد الواحد خلف وساك 439. جهود ابن أبي الحديد النحوية في شرح نهج البلاغة، رسالة ماجستير غيرمنشورة، كلية الاداب، جامعة البصرة، 1997.

العلي: كفاية طارش 440. ابومخنف ودوره في التدوين التاريخي، رسالة ماجستير غيرمنشورة، كلية الاداب، جامعة البصرة، 1997.

الفحام: عباس علي 441. التصوير الفني في خطب الإمام عليّ علیه السلام، رسالة ماجستير غيرمنشورة، كلية التربية، جامعة الكوفة، 1999.

الفرطوسي: سعد وحيد عيسى 442. غرر الفوائد ودرر القلائد للشريف المرتضى دراسة منهجية، رسالة ماجستير غيرمنشورة، كلية الاداب، جامعة البصرة، 1993.

فياض: حسن حميد محسن 443. ابن أبي الحديد ناقدا، رسالة ماجستير غيرمنشوره، كلية القائد للتربية للبنات، جامعة الكوفة، 1997.

كاظم: شاكرمجيد 444. التنشئة الاجتماعية عند العرب قبل الإسلام، اطروحة دكتوراه غيرمنشورة،

ص: 736

كلية الاداب، جامعة البصرة، 2002 م.

محيي الدين: علي جواد 445. ابن أبي الحديد سيرته واثاره الادبية والنقدية، رسالة ماجستير غيرمنشورة، القاهرة، 1977.

المشهداني: يحيى محمود احمد 446. فلسفة أبي القاسم الكعبي، اطروحة دكتوراه غيرمنشورة، جامعة الكوفة، 1997.

النصرالله: جواد كا ظم 447. المقريزي دراسة في سيرته الشخصية وآرائه في الازمات الاقتصادية، رسالة ماجستير غيرمنشورة، كلية الاداب، جامعة البصرة، 1998.

رابعا: الدوريات الأبياري: ابراهيم 448. شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، مجلة تراث الانسانية، المؤسسة العربية، مج 2، ص 125 - 139.

بستانة: حسين 449. أدب الإمام عليّ علیه السلام ونهج البلاغة، مجلة الاعتدال، ع 4، س 5، النجف، 1939، ص 189 203.

الجادر: د. محمود عبد الله 450. الرؤى الاجتماعية والاخلاقية في شعر الشريف الرضي، مجلة آفاق عربية، ع 7، 1985، ص 95 140.

الجنابي: د. احمد نصيف

ص: 737

451. لغة الشريف الرضي، مجلة افاق عربية، ع 7، 1985، ص 311 328.

جواد:مصطفى 452. بعض مستندات ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة، مجلة لغة العرب، مج 9، ع 7، 1931، ص 543 - 546.

453. عبد الحميد بن أبي الحديد المدائني شارح نهج البلاغة، مجلة المعرفة، بغداد، س 2، ع 29، 1962، ص 604 - 634.

خلوصي: صفاء 454. مصادرشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، مجلة المجمع العلمي العراقي، مج 9، س 1961، ص 340 - 348 455. الكنوز الدفينة في شرح نهج البلاغة، مجلة المعلم الجديد، مج 24، ج 3 - 4، س 1961، ص 1 - 22.

الشيبي: د. كامل مصطفى 456. حجازيات الشريف الرضي، مجلة افاق عربية، ع 7، 1985، ص 23 26.

الصائغ: د. عبد الإله 457. الصورة الفنية في شعر الشريف الرضي، مجلة افاق عربية، ع 7، 1985، ص 247 310.

الصفار: د. ابتسام مرهون 458. المؤثرات العامة في شعر الشريف الرضي، مجلة افاق عربية، ع 7، 1985، ص 63 93.

العبادي: علي غانم جثير 459. ذو الرأي الحباب بن المنذر الخزرجي، مجلة مؤتة للبحوث والدراسات، مج

ص: 738

13، ع 7، 1998، ص 149 - 186.

العسلي: د. خالد صالح 460. عام الفيل صورة من الصراع العربي الحبشي، مجلة دراسات في التاريخ والاثار، ع 2، 1982، ص 171 192.

العطية: مروان 461. الشريف الرضي الشاعر الأبي والاديب العبقري، مجلة ثقافة الهند، نيودلهي، الهند، مج 43، ع 2، 1992، ص 40 - 62.

العمر: سمير صالح حسن 462. موقف كبار الصحابة من مقتل عثمان، مجلة اداب الرافدين، ع 35، 2002 م.

ص 149 - 160.

عواد: كور كيس 463. الشريف الرضي في اثار الدارسين، مجلة افاق عربية، ع 7، 1985، ص 329 353.

ناجي: عبد الجبار 464. تاريخ الطبري مصدرا عن ثورة الزنج في القرن الثالث للهجرة، مجلة المورد، مج 7، ع 2، 1978، ص 37 - 92.

465. التنظيم العسكري لجيش صاحب الزنج، مجلة المؤرخ العربي، ع 7، 1978، ص 116 - 157.

466. صاحب الزنج، مجلة المورد، مج 1، ع 3 - 4، 1972، ص 11 - 23.

آل ياسين: حسن 467. نهج البلاغة لمن؟ مجلة البلاغ، ع 3، س 5، 1975، ص 31 - 49.

ص: 739

خامسا: المحاضرات الموسوي: د. محمد جواد

468. محاضرات ألقاها على طلبة الدكتوراه عام 1999 - 2000.

ص: 740

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
هَلْ یَسْتَوِی الَّذِینَ یَعْلَمُونَ وَالَّذِینَ لَا یَعْلَمُونَ
الزمر: 9

عنوان المکتب المرکزي
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.