الطاف الرحمن فی فقه القرآن

اشارة

سرشناسه : سبحانی تبریزی، جعفر، 1308 -

Sobhani Tabrizi, Jafar

عنوان و نام پديدآور : الطاف الرحمن فی فقه القرآن/ تالیف جعفر السبحانی.

مشخصات نشر : قم: موسسه الامام صادق (ع)، 1441ق.= 1398-

مشخصات ظاهری : ج.

فروست : موسسه امام صادق (ع)؛ 487.

شابک : دوره: 978-964-357-628-8 ؛ ج.1: 978-964-357-627-1 ؛ ج.2: 978-964-357-634-9 ؛ ج.3: 978-964-357-645-5

وضعیت فهرست نویسی : فاپا

يادداشت : عربی.

يادداشت : ج.3(چاپ اول: 1399) (فیپا).

مندرجات : ج.1. فی دراسه الآیات الوارده لبیان احکام الطهاره والصلاه والصیام والزکاه والانفال والفیء والخمس والحج.-ج.2. فی دراسه الآیات الوارده لبیان احکام: الجهاد والأمربالمعروف والنهی عن المنکر٬ والمکاسب المحرمة٬ و العقود الشرعیة والایقاعات والأحکام النکاح

موضوع : قرآن -- احکام و قوانین

Qur'an -- Law and legislation

موضوع : تفاسیر فقهی -- شیعه

Qur'an -- *Legislative hermeneutics -- Shiite

قرآن -- علوم قرآنی

Qur'an -- Qur'anic sciences

شناسه افزوده : موسسه امام صادق (ع)

رده بندی کنگره : BP99/6

رده بندی دیویی : 297/174

شماره کتابشناسی ملی : 5781015

اطلاعات رکورد کتابشناسی : فاپا

ص: 1

المجلد 1

اشارة

بسم الله الرحمن الرحيم

ص: 2

ألطاف الرحمن

في

فقه القرآن/ 1

ص: 3

ص: 4

ألطاف الرحمن

في فقه القرآن

الجزء الأوّل

في دراسة الآيات الواردة لبيان أحكام الطهارة والصلاة

والصيام والزكاة والأنفال والفيء والخمس والحجّ

تأليف

الفقيه المحقّق

جعفر السبحاني

نشر

مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

ص: 5

سبحانى تبريزى، جعفر، 1308 -

ألطاف الرحمن في فقه القرآن / تأليف جعفر السبحاني. - قم: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام، 1397.

2 ج (VOL.1) 1-627-357-964-978 ISBN

(2VOL.SET) 8-628-357-964-978 ISBN

فهرستنويسى بر اساس اطلاعات فيپا.

كتابنامه به صورت زيرنويس.

ج. 1. في دراسة الآيات الواردة لبيان أحكام الطهارة والصلاة والصيام والزكاة والأنفال والفيء والخمس والحجّ.

1. قرآن -- احكام و قوانين. 2. تفاسير فقهى -- شيعه. الف. موسسۀ امام صادق عليه السلام. ب. عنوان.

7 الف 2 س 6/99 BP 174/297

1397

اسم الكتاب:... ألطاف الرحمن في فقه القرآن / ج 1

المؤلف:... الفقيه المحقّق جعفر السبحاني التبريزي

الطبعة:... الأُولى

تاريخ الطبع:... 1397 ه ش / 1440 ه. ق / 2019 م

المطبعة:... مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

الناشر:... مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

عدد النسخ:... 1000 نسخة

القطع:... وزيري

التنضيد والإخراج الفني:... مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

تسلسل النشر: 1031 تسلسل الطبعة الأُولى: 487

حقوق الطبع محفوظة للمؤسسة

مركز التوزيع

قم المقدسة: ساحة الشهداء: مكتبة التوحيد

? 37745457؛ 09121519271

http://www.Tohid.ir

http://www.imamsadiq.org

ص: 6

تقديم

اشارة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد للّه الّذي أنزل القرآن فيه تبيان لكلّ شيء؛ والصلاة والسلام على مَن بعثه ليبيّن للناس ما أُنزل إليهم، قال تعالى: (وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ اَلذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (1)؛ وعلى آله الّذين «هُمْ مَوْضِعُ سِرِّهِ، وَلَجَأُ أَمْرِهِ، وَعَيْبَةُ عِلْمِهِ، وَمَوْئِلُ حُكْمِهِ، وَكُهُوفُ كُتُبِهِ، وَجِبَالُ دِينِهِ»(2)، صلاة دائمة متواترة مترادفة.

أمّا بعد؛

فالقرآن الكريم الحجر الأساس للتشريع الإسلامي، ويُعدّ الدعامة الأُولى واللبنة الأساسية في بناء الحضارة الإسلامية لا سيّما الجانب الاعتقادي والفقهي والأخلاقي.

بيد أنّ الذي يهمّنا هنا هو الجانب الفقهي، والذي زوّد المسلمين بالتشريع حقبة زمنية طويلة.

إنّ للتشريع القرآني ملامح نشير إلى بعضها:

1. التشريع تدريجياً

نزلت الآيات القرآنية نجوماً، على خلاف الكتب السماوية الأُخرى فإنّها نزلت جملة واحدة.

ص: 7


1- . النحل: 44.
2- . نهج البلاغة: الخطبة 2.

إنّ السبب لكون التشريع تدريجياً هو مسايرة القرآن للحوادث المستجدة التي كانت تحصل في حياة المسلمين الفردية والاجتماعية، وكانت الأحداث تأتي تباعاً واحداً بعد الآخر.

2. الاقتصار على الأحكام الكلّيّة

يتميّز التشريع القرآني في مجال العبادات والمعاملات وغيرها بعرض أُصول كلّيّة تترك تفاصيلها إلى السنّة الشريفة؛ لأنّ القرآن هو الدستور العام للمسلمين، فطبيعة الحال تقتضي ترك التفاصيل إلى السُّنّة، ومع اقتصاره على الأُصول، قلّما يتّفق في مورد لم يستمد من آية قرآنية، فكانت آيات الأحكام مع قلّتها لها مادة حيوية تعين الفقيه على التطرق إلى كافة الأبواب الفقهية.

3. مرونة التشريع

إنّ من ملامح التشريع القرآني مرونته وقابليته للانطباق على جميع الحضارات الإنسانية؛ وما ذلك إلّالأنّه جاء بتشريعات خاصّة لها دور التحديد والرقابة على سائر تشريعاته، ولهذا أعطى للدين مرونة ومنعطفاً جديداً يتمشّى مع عامّة الحضارات.

ولنقتصر بذلك في بيان الملامح فنقول: إنّ دراستنا في هذا الكتاب حول الآيات التي تتضمّن تشريعاً كلّيّاً حول العبادات والمعاملات والسياسات وغيرها، عسى أن يكون مفيداً للقارئين ومصباحاً ينير الدرب للطالبين، واللّه من وراء القصد.

جعفر السبحاني

قم المقدّسة

مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

ص: 8

تمهيد

قسّم المفسّرون الآيات القرآنية إلى أقسام ثلاثة:

الأوّل: المعارف والأُصول العقدية.

الثاني: الأحكام والأُصول الأخلاقية.

الثالث: القصص وأخبار الأُمم السالفة.

فالأوّل منها ما يرجع إلى العقل النظري، والمدرك به ما يرجع إلى واقع الأُمور من حيث الوجود والعدم.

وأمّا الثاني فهو يرجع إلى العقل العملي، والمدرك به عبارة عمّا يجب أن يفعل أو لا يفعل.

وأمّا الثالث فهو الذي يبحث عن أحوال الأُمم السالفة وقصصهم وما جرى عليهم من قضاء اللّه سبحانه.

والذي يهمنا في المقام هو القسم الثاني، أعني: الآيات المتكفّلة لبيان شأن الأفعال من حيث لزوم الإتيان بها أو تركها، إيجاباً أو تفضيلاً، وهي ما يعبّر عنه بالأحكام الشرعية، وقد قام العديد من علماء الفريقين بإفراد التأليف في هذا الصدد، فأقدم تأليف للشيعة فيه، كتاب «أحكام القرآن» لأبي النضر محمد بن

ص: 9

السائب بن بشر الكلبي من أصحاب أبي جعفر الباقر وأبي عبد اللّه الصادق عليهما السلام، والّذي توفّي عام 146 ه.

وقد توالى التأليف من عصره إلى يومنا هذا، فذكر الباحث الكبير الشيخ آقا بزرگ الطهراني في موسوعته «الذريعة» ما يناهز 30 كتاباً في هذا المضمار.(1)

وما ذكره من العناوين يرجع إلى عصر المؤلّف، وقد قام بعده غير واحد من العلماء بالتأليف حول آيات الأحكام. شكر اللّه مساعي الجميع.

كم هو عدد آيات الأحكام؟

اختلف المؤلّفون في هذا الفن في عدد الآيات الواردة فيه، والمشهور أنّها تبلغ 500 آية، حتّى أنّ الشيخ فخر الدين أحمد بن متوّج البحراني تلميذ فخر المحقّقين الّذي توفّي عام 772 ه، ألّف كتاباً أسماه «النهاية في تفسير خمسمائة آية»، وشرحه نجله بما أسماه «منهاج الهداية في تفسير خمسمائة آية».(2)

هذا هو المشهور غير أنّ بعض الباحثين من المتأخّرين قلّلوا عدد هذه الآيات، قائلين بأنّها لا تتجاوز 330 آية.

قال عبدالوهاب خلّاف - من فقهاء السنّة المعاصرين -: إنّ في العبادات بأنواعها نحو 140 آية.

وفي الأحوال الشخصية من زواج وطلاق وإرث ووصية وحجر وغيرها نحو سبعين آية.

ص: 10


1- . لاحظ: الذريعة: 2/40-44.
2- . الذريعة: 2/42.

وفي المجموعة المدنية من بيع وإجارة ورهن وشركة وتجارة ومداينة وغيرها نحو سبعين آية.

وفي المجموعة الجنائية من عقوبات وتحقيق جنايات نحو ثلاثين آية.

وفي القضاء والشهادة وما يتعلّق بها نحو عشرين آية.(1)

ولعلّ نظره إلى الآيات الصريحة في الأحكام الّتي لا تحتاج إلى الدقّة والتفكير.

تحديد عدد الآيات غير مفيد

اشارة

والّذي أظن أنّ تحديد عدد آيات الأحكام أمر غير مفيد، لا يصل الباحث فيه إلى نتيجة قطعية؛ وذلك لأنّ عدد آياتها يختلف حسب ذوق الفقيه ودرايته، فربّ فقيه يلتقط من آية حكماً شرعياً ربّما غفل عنه فقيه آخر، وما ذلك إلّالأنّ سعة آفاق دلالته على مقاصده تسبّب ذلك، كيف وقد قال سبحانه: (وَ نَزَّلْنا عَلَيْكَ اَلْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْ ءٍ وَ هُدىً وَ رَحْمَةً وَ بُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ) .(2) والذي يدلّ على ما نقول به، الأمران التاليان:

1. الذمّي الّذي نقض حكم الذمّة

قُدّم إلى المتوكلّ رجل نصراني فجر بامرأة مسلمة فأراد أن يقيم عليه الحدّ، فأسلم، فقال يحيى بن أكثم: الإيمان يمحو ما قبله، وقال بعضهم: «يضرب ثلاثة حدود»، فكتب المتوكلّ إلى الإمام الهادي عليه السلام يسأله، فلمّا قرأ الكتاب، كتب:

ص: 11


1- . خلاصة تاريخ التشريع الإسلامي: 28-29.
2- . النحل: 89.

«يضرب حتّى يموت»، فأنكر الفقهاء ذلك، فكتب إليه يسأله عن العلّة؟ فكتب:

«بسم اللّه الرحمن الرحيم: (فَلَمّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنّا بِاللّهِ وَحْدَهُ وَ كَفَرْنا بِما كُنّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اَللّهِ اَلَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَ خَسِرَ هُنالِكَ اَلْكافِرُونَ) »(1) فأمر به المتوكلّ فضرب حتّى مات.(2)

تجد أنّ الإمام الهادي عليه السلام استنبط حكم الموضوع من آية مباركة لا يذكرها الفقهاء في عداد آيات الأحكام، لعدم صراحتها في الموضوع، غير أنّ الإمام لوقوفه على سعة دلالة القرآن، استنبط حكم الموضوع من تلك الآية، وكم لها من نظير. ولو أنّ القارئ الكريم جمع الروايات الّتي استشهد بها أئمة أهل البيت على مقاصدهم استشهاداً تعليمياً لا تعبّدياً، لوقف على سعة آفاق القرآن.

وقد سمعنا عن بعض مشايخنا أنَّ من العلماء مَن استنبط من سورة المسد أكثر من عشرة أحكام فرعية، كما استنبطوا من قوله سبحانه: (قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى اِبْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ) (3) عدداً من الأحكام، الّتي منها جعل منفعة الحر مهراً، حيث جعل شعيب عليه السلام رعي الغنم مهراً لبنته، يقول صاحب الجواهر في شرح قول المحقّق في الشرائع: (يصحّ العقد على منفعة الحر، كتعليم الصنعة والسورة من القرآن، وكلّ عمل محلّل)، بل يصحّ العقد على إجارة الزوج نفسه وفاقاً للمشهور.(4)

فإن قلت: إنّ الاستدلال بمثل هذه الآية يتوقّف على كون الشرائع السابقةر.

ص: 12


1- . غافر: 84-85.
2- . مناقب آل أبي طالب: 4/403-405.
3- . القصص: 27.
4- . جواهر الكلام: 31/4؛ شرائع الإسلام: 2/323-324، في المهور.

حجّة علينا، إمّا مستقلّة أو بمعونة الاستصحاب.

قلت: إنّ القرآن الكريم كتاب هداية، فعامّة ما ورد فيه حجّة علينا، سواء أكان الوارد في الشرائع السابقة أم في شريعتنا، وليس القرآن كتاب قصّة يسرد شيئاً دون أن يفيدنا نكتة.

نعم ربّما تستنبط من الآية أحكام أُخرى غير خالية من النظر، نظير عدم لزوم تعيين المعقودة حين العقد، أو جواز جعل المهر مجملاً بين الأقل والأكثر، أو جواز تصرّف الولي في مهر البنت، غير أنّ استنباط هذه الأحكام الثلاثة من الآية مورد تأمّل، كما هو واضح للمتدبّر.

نعم قد ينقل عن بعض الناس شيئاً غير صحيح لكن يستدركه بالإنكار حتّى لا يُتلقّى شيئاً صحيحاً، كما ينقل عن إيمان فرعون في أُخريات حياته وقال:

(قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ اَلَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَ أَنَا مِنَ اَلْمُسْلِمِينَ) (1) .

فربّما يتوهّم القارئ أنّ الإيمان في هذه اللحظات يكون مؤثّراً في سعادة الإنسان، فلرد هذا التوهّم جاء البيان القرآني قائلاً: (آلْآنَ وَ قَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَ كُنْتَ مِنَ اَلْمُفْسِدِينَ) (2).

2. موضوعات خفيّت عن المؤلّفين

اشارة

والّذي يدلّ على أنّ تحديد عدد آيات الأحكام أمر غير مفيد، أنّه قد وردت في الذكر الحكيم موضوعات عديدة لها أحكام واضحة، لكن المؤلّفين فيها غفلوا

ص: 13


1- . يونس: 90.
2- . يونس: 91.

عن عنوانها، وبالتالي تركوا دراسة آياتها، وها نحن نشير إلى بعض هذه العناوين:

1. البدعة

إنّ البدعة من الموضوعات الّتي وردت فيها آيات متعدّدة ولكن لا نجد لها عنواناً فيما أُلّف حول آيات الأحكام، يقول سبحانه: (وَ لا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ اَلْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَ هذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اَللّهِ اَلْكَذِبَ إِنَّ اَلَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اَللّهِ اَلْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ) (1)، ويقول سبحانه: (يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اَللّهِ وَ لاَ اَلشَّهْرَ اَلْحَرامَ وَ لاَ اَلْهَدْيَ وَ لاَ اَلْقَلائِدَ) .(2)

2. الإسراف والتبذير

إنّ الإسراف والتبذير من الموضوعات الّتي ورد حكمها في القرآن الكريم ولم نقف على من عنونهما فيه، قال سبحانه: (إِنَّ اَلْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ اَلشَّياطِينِ) (3)، وقال تعالى: (وَ آتِ ذَا اَلْقُرْبى حَقَّهُ وَ اَلْمِسْكِينَ وَ اِبْنَ اَلسَّبِيلِ وَ لا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً) (4)، وقال تعالى: (كُلُوا وَ اِشْرَبُوا وَ لا تُسْرِفُوا) .(5)

3. التكفير

إنّ التكفير الّذي صار في زماننا هذا مشكلة عظيمة هو من الموضوعات

ص: 14


1- . النحل: 116.
2- . المائدة: 2.
3- . الإسراء: 27.
4- . الإسراء: 26.
5- . الأعراف: 31.

الّتي وردت في القرآن الكريم، قال تعالى: (وَ لا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ اَلسَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا) .(1)

4. التعزير

إنّ التعزير أحد الأساليب الّتي يحكم بها القاضي، وهو من الموضوعات الّتي ورد فيها بعض الآيات، قال سبحانه: (وَ اَللاّتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَ اُهْجُرُوهُنَّ فِي اَلْمَضاجِعِ وَ اِضْرِبُوهُنَّ) (2)، وقال تعالى: (وَ اَلَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وَ أَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اَللّهَ كانَ تَوّاباً رَحِيماً) .(3)

فقوله: (وَ اَلَّذانِ يَأْتِيانِها) إشارة إلى الزاني والزانية، فعلى الحاكم إيذاؤهما تعزيراً، لا حدّاً، لأنّ حدّ الزاني والزانية مائة جلدة. ولذلك ربما توصف الآية بالنسخ.

ثم إنّ الّذي يدلّ على أنّ عدد آيات الأحكام أكثر ممّا ذكروا هو أنّ الآيات الواردة حول الجهاد كثيرة من حيث العدد، غير أنّ المؤلّفين في آيات الأحكام يبحثون عن أُمّهات الآيات الّتي تكون مبدأً لاستنباط الحكم.

اختلاف المناهج في تفسير آيات الأحكام

إنّ الدارج عند أهل السنّة هو دراسة آيات الأحكام حسب ترتيب السور القرآنية، فما ورد في سورة البقرة يبحث فيها حتّى تتم دراسة آيات السورة، ثم

ص: 15


1- . النساء: 94.
2- . النساء: 34.
3- . النساء: 16.

يبدأون بدراسة ما ورد في سورة آل عمران، وعليه درج الجصّاص في كتابه، ومَن جاء بعده.

ولكن المنهج عند الشيعة غير ذلك، فهم يدرسون جميع الآيات الواردة في موضوع واحد من السور المختلفة في باب، ثم ينتقلون إلى موضوع آخر مثل ما تقدّم، مثلاً يُدرس جميع ما يرجع إلى الوضوء والغسل والتيمم الّتي يجمعها عنوان واحد، مرّة واحدة، وهذا أنسب بالوقوف على مقاصد الآيات. قال عبد الوهاب خلّاف: وأوّل واجب على مَن يتأهّل للاجتهاد أن يحصي آيات الأحكام في القرآن، و يجمع آيات كلّنوع منها بحيث يكون بين يديه كلّ آيات القرآن في الطلاق، وكلّ آياته في الإرث، وكلّ آياته في البيع، وكلّ آياته في العقوبات، وهكذا، ثمّ يدرس هذه الآيات دراسة عميقة ويقف على أسباب نزولها، وعلى ما ورد في تفسيرها من السنّة، ومن آثار للصحابة أو التابعين، وعلى ما فسّرها به المفسّرون، ويقف على ما تدلّ عليه نصوصها، وما تدلّ عليه ظواهرها، وعلى المحكم منها، والمنسوخ وما نسخه.(1)

أقول: إنّ ما أوجبه الأُستاذ وهو جعل آيات كلّ باب على حدة ودراستها، قد قام بتحقيقه علماء الشيعة قبل قرون.

الكتب المشهورة المؤلّفة في آيات الأحكام عند الفريقين

قد تقدّم من الباحث الكبير الشيخ آقا بزرگ الطهراني أنّه قد أُلّف في آيات الأحكام ما يناهز 30 كتاباً، غير أنّا نشير هنا إلى أشهر هذه الكتب:

ص: 16


1- . مصادر التشريع الإسلامي: 14.

1. «فقه القرآن» للشيخ الإمام قطب الدين الراوندي (المتوفّى 573 ه) وقد طبع عام 1405 ه.

2. «كنز العرفان» للشيخ جمال الدين أبي عبد اللّه المقداد السيوري (المتوفّى 826 ه) من تلامذة الشهيد الأوّل، طبع في جزأين، عام 1384 ه.

3. «زبدة البيان في أحكام القرآن» للمولى أحمد بن محمد المعروف بالمحقّق الأردبيلي (المتوفّى 993 ه)، صاحب «مجمع الفائدة والبرهان»، وقد طبع غير مرّة.

4. «مسالك الأفهام إلى آيات الأحكام» للشيخ الجواد الكاظمي، المتوفّى أواسط القرن الحادي عشر، وقد فرغ من تأليفه عام 1043 ه، طبع في أربعة أجزاء عام 1387 ه.

5. «قلائد الدرر في بيان آيات الأحكام بالأثر» تأليف الشيخ أحمد بن الشيخ إسماعيل بن الشيخ عبد النبي الجزائري النجفي (المتوفّى 1151 ه)، طبع عام 1327 ه.

وأمّا ما ألّفه أهل السنّة، فهو كالتالي:

1. «أحكام القرآن» لأبي عبد اللّه محمد بن إدريس الشافعي المتوفّى عام (204 ه) بمصر.

2. «أحكام القرآن» تأليف أبي بكر أحمد بن علي الرازي الحنفي المعروف بالجصّاص (المتوفّى 370 ه). طبع سنة 1325 ه، وأُعيد طبعه بالأُوفست عام 1406 ه، وهو كتاب قيّم استفاد منه أكثر من تأخّر عنه.

3. «أحكام القرآن» لعماد الدين بن محمد الطبري المعروف بالكياهراسي

ص: 17

(المتوفّى 504 ه) طبع في جزأين، نشرته دار الكتب العلمية، ببيروت عام 1405 ه.

4. «أحكام القرآن» لأبي بكر محمد بن عبد اللّه المعروف بابن العربي (468-543 ه) طبع في دار المعرفة، بيروت عام 1392 ه، وقدّم له علي محمد البجاوي.

5. «تفسير آيات الأحكام» للشيخ محمد علي السايس، وقد جمع مادته من أُمّهات كتب التفسير والحديث والفقه، وقد أُعيد طبعه في دار ابن كثير و دار القادر.

هذه نماذج ممّا ألّفه علماء الفريقين حول آيات الأحكام؛ ونحن نقتصر هنا بتفسير الآيات التي تضمّنت بيان حكم شرعي فقهي، وأمّا الآيات التي جاءت فيها أسماء العبادات(1) والمعاملات والحثّ عليهما وبيان آثارهما فلا نستعرضها روماً للاختصار، وقد ذكرنا ذلك ليكون عذراً عن قلّة عدد الآيات التي سندرسها في هذا الكتاب.

ونبدأ بما ورد حول الطهارة بإذن اللّه تبارك وتعالى.).

ص: 18


1- . نظير ما ورد في سورة «المؤمنون» من قوله سبحانه: (قَدْ أَفْلَحَ اَلْمُؤْمِنُونَ * اَلَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ...).

الفصل الأوّل: أحكام الطهارة في الذكر الحكيم

اشارة

1. آية الوضوء والغسل والتيمّم في الذكر الحكيم.

2. آية التيمّم.

3. أحكام الحائض في الذكر الحكيم.

4. حكم المشرك في الذكر الحكيم.

5. حكم الخمر تكليفاً ووضعاً في الذكر الحكيم.

ص: 19

ص: 20

أحكام الطهارة

1. آية الوضوء والغسل والتيمّم

اشارة

في الذكر الحكيم

قال تعالى: (يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى اَلصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَى اَلْمَرافِقِ وَ اِمْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ إِلَى اَلْكَعْبَيْنِ وَ إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَ إِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ اَلْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ اَلنِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَ أَيْدِيكُمْ مِنْهُ ما يُرِيدُ اَللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَ لكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَ لِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) .(1)

المفردات

قمتم: أردتم القيام إلى الصلاة.

المرافق: جمع مرفق، وهو من الرفق بمعنى اليُسر في الأُمور، والسهولة في

ص: 21


1- . المائدة: 6.

التوصّل إليها، وخلافه العنف، وإنّما أُطلق على مفصل الذراع بالعضد «المرفق» لأنّ الإنسان يستريح في الاتّكاء عليه، فيقال: ارتفق الرجل إذا اتّكأ على مرفقه في جلوسه.(1)

وهنا وجه آخر وهو أنّ المرفق يُريح الأمر بين الذراع والعضد، حيث يسهل الحركة في القبض والانبساط، ولولاه لما أمكنت الحركة بسهولة.

الكعبين: وفيه احتمالات ثلاثة:

1. قبّة القدم.

2. المفصل بين الساق والقدم.

3. العظمان الناتئان عند مفصل الساق من الجانبين، وسيأتي تحقيقه، كما سيأتي احتمال رابع غير معتد به.

الغائط: المكان المنخفض، وأُريد به هنا قضاء الحاجة من المخرجين.

الصعيد: المكان المرتفع من وجه الأرض. وسُمّي وجه الأرض صعيداً لأنّه نهاية ما يصعد إليه من باطن الأرض(2)، وسيأتي ما هو المراد عند التفسير. تتضمّن الآية حكم الطهارات الثلاث: الوضوء، وغسل الجنابة، والتيمّم، كما أنّ آية سورة النساء تتضمّن بيان سبب الغسل والتيمّم دون الوضوء، يقول سبحانه: (يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا اَلصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى حَتّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَ لا جُنُباً إِلاّ عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَ إِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ اَلْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ اَلنِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً1.

ص: 22


1- . التحقيق في كلمات القرآن الكريم: 196/4.
2- . مجمع البيان: 2/51.

فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَ أَيْدِيكُمْ إِنَّ اَللّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً) ،(1) والسورتان مدنيّتان، والفرق بينهما بالإيجاز والتفصيل، فما في سورة المائدة أوضح بياناً وأوسع مفاداً حيث تعرّض لحكم الوضوء أيضاً.

ويرد هنا سؤال وهو أنّ الصلاة فرضت ليلة المعراج والنبيّ صلى الله عليه و آله و سلم بَعدُ لم يهاجر، وهو والمؤمنون يصلّون مع الوضوء في الفترة المكّيّة وقسماً في الفترة المدنية قبل نزول هاتين الآيتين، فمن أين علم المسلمون لزوم تحصيل الطهارة للصلاة؟

والجواب: أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم علّمهم كيفية الصلاة وما تتوقّف عليه، فتعليم الوضوء كان بالسنّة قبل نزول الآيتين.

ثم إنّ الآية تدلّ على وجود الملازمة بين الصلاة والطهارة، بأحد الوجوه الثلاثة، إمّا الوضوء كما في قوله: (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) ، وإمّا الغسل، ويدل عليه قوله: (فَاطَّهَّرُوا) المفسّر بالغسل، أو التيمّم عند عدم وجدان الماء كما في قوله: (فَتَيَمَّمُوا) .

وعلى ذلك فيجب تبيين دلالة الآية على كلّ واحد من الوجوه الثلاثة.

كيفية الوضوء في الكتاب العزيز

بدأ سبحانه الآية بقوله: (إِذا قُمْتُمْ إِلَى اَلصَّلاةِ) : أي إذا أردتم الصلاة، نظير قوله سبحانه: (وَ إِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ اَلصَّلاةَ) (2): أي أردت أنّ تقيم لهم

ص: 23


1- . النساء: 43.
2- . النساء: 102.

الصلاة، فعبّر بالقيام إلى الفعل عن إرادة نفس الفعل، وربّما يُعكس فتوضع إرادة الفعل مكانه كما في قوله: (وَ إِنْ أَرَدْتُمُ اِسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَ آتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً) (1): أي إذا طلّقتم زوجاً وتزوّجتم بأُخرى. وبذلك ظهر أنّه ربّما يطلق القيام إلى الفعل ويراد به إرادته، وبالعكس.

ثمّ إنّ مقتضى السياق أن يقول: «وكنتم محدثين» لكن تُرك ذكره لافتراض أنّ الناس قبل تشريع الوضوء والغسل محدثون، ولا يرتفع الحدث إلّابالطهارة التي بدأت الآية ببيانها.

وأمّا حقيقة الوضوء، فتتكون من أُمور أربعة:

1. غسل الوجوه، كما يقول: (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) .

2. غسل الأيدي، كما يقول: (وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَى اَلْمَرافِقِ) .

3. مسح الرأس، كما يقول: (وَ اِمْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ) .

4. مسح الأرجل إلى الكعبين، كما يقول: (وَ أَرْجُلَكُمْ إِلَى اَلْكَعْبَيْنِ) .

فالأعمال الأربعة تشكّل حقيقة الوضوء، ونعم ما قال بحر العلوم في منظومته:

إنّ الوضوء غسلتان عندنا ***ومسحتان والكتاب معنا

فلنرجع إلى تفسير الفقرات الأربع التي تتضمّن أحكاماً كذلك.

أمّا الأوّل: وهو غسل الوجوه، في قوله تعالى: (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) فقد فسّر الراغب الوجه بأوّل ما يستقبلك، وفسّره أبو جعفر الباقر عليه السلام عندما سأله زرارة عن0.

ص: 24


1- . النساء: 20.

حدّ الوجه فقال: «ما دارت عليه الوسطى والإبهام من قصاص شعر الرأس إلى الذقن، وما جرت عليه الإصبعان مستديراً فهو من الوجه، وما سوى ذلك فليس من الوجه».(1) إلّاأنّ حدّه عند غير المالكية من الأُذن إلى الأُذن عرضاً، إلّامالكاً فالواجب عنده هو من شحمة الأُذن إلى شحمة الأُذن.(2)

ثمّ إنّ حدّ الواجب للغسل عند فقهاء الإمامية وغيرهم - إلّامالكاً - متقاربان، حيث إنّ الإمامية يغسلون شيئاً زائداً ممّا بين الإبهام والوسطى من باب المقدمة العلمية، بخلاف الآخرين فإنّهم يغسلون بما هو واجب نفسي لا مقدّمي.

ثمّ إنّ قول الإمام الصادق عليه السلام: «وما جرت عليه الاصبعان مستديراً فهو من الوجه» يفسّر بالنحو التالي:

بما أنّ شكل الوجه هو أقرب إلى الاستدارة فإمرار اليد - مفتوحة الأصابع - على الوجه من قصاص الشعر إلى آخر الذقن، يشكل دائرة على الوجه.

هذا ما فهمه المشهور من الرواية، غير أنّ شيخنا البهائي فسّر الرواية بوجه آخر، وقال: إنّ كلّاً من طول الوجه وعرضه هو ما اشتمل عليه الإبهام والوسطى، بمعنى أنّ الخط الواصل من القصاص إلى طرف الذقن، وهو مقدار ما بين الاصبعين غالباً إذا فرض إثبات وسطه وأُدير على نفسه ليحصل شبه دائرة فذلك القدر هو الوجه الذي يجب غسله، والمعنى أنّ الدوران يبدأ من القصاص منتهياً إلى الذقن أو المعنى أنّ الوجه هو القدر الذي دارت عليه الإصبعان حال كونه منً.

ص: 25


1- . الوسائل: 1، الباب 17 من أبواب الوضوء، الحديث 1.
2- . الخلاف: 1/76، كتاب الطهارة، المسألة 23. قال: وقال جميع الفقهاء: إنّ حدّه من منابت الشعر من رأسه إلى مجمع اللحية والذقن طولاً، ومن الأُذن إلى الأُذن عرضاً إلّامالكاً.

القصاص إلى الذقن، فإذا وضع طرف الوسطى مثلاً على قصاص الناحية وطرف الإبهام إلى آخر الذقن ثم أثبت وسطه انفراجهما ودار طرف الوسطى مثلاً على الجانب الأيسر إلى أسفل ودار طرف الإبهام على الجانب الأيسر إلى فوق تمّت الدائرة.(1)

يلاحظ عليه: أنّه ما ساقه إلى هذا التفسير إلّاتوغّله في العلوم العقلية عامّة والرياضيات خاصّة، وإلّا فالمعنى المذكور بعيد في نفسه بالنسبة إلى حال المخاطب.

ويجب الغسل من الأعلى إلى الأسفل؛ لأنّه المتعارف والمنصرف إليه الأمر بالغسل، والغسل على غير هذا الوجه خلاف منصرف الآية، فلا يجزي، وإطلاق الآية يقتضي كفاية الغسلة الواحدة. وأمّا حكم الأزيد فيعلم من السنّة.

وأمّا الثاني: أعني: غسل اليدين إلى المرافق كما في قوله تعالى: (وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَى اَلْمَرافِقِ) ، فذهبت الإمامية إلى وجوب البدء بالمرفقين وأبطلوا النكس، وذلك لأنّ قوله سبحانه: (إِلَى اَلْمَرافِقِ) لتحديد المغسول لا لبيان كيفية الغسل؛ وذلك لأنّ (اليد) تارة تطلق على مجموع العضو من الزند إلى رؤوس الأصابع، وأُخرى تطلق على الساعد مع الكف، وثالثة على الكف، ورابعة على الأصابع فقط، ولأجل هذه الإطلاقات جاءت الآية لتحديد المغسول لا لبيان كيفية الغسل، لأنّه أمر واضح لا يحتاج إلى بيان.

وذلك أنّ ما يحتاج إلى البيان هو بيان حدّ المغسول، وأمّا كيفية الغسل فكلّ إنسان يعرفها، فإنّه في كلّ يوم في غير حال الصلاة يغتسل ويغسل من الأعلى إلى4.

ص: 26


1- . الحبل المتين: 14.

الأسفل.

ثمّ إنّ القول بوجوب الشروع من أطراف الأصابع والانتهاء إلى المرافق مبني على أنّ قوله: (إِلَى اَلْمَرافِقِ) قيد للفعل، أي: فاغسلوا إلى المرافق، ولكن المتبادر من هذه الصيغ أنّه قيد للمتعلّق، أي قوله: (أَيْدِيَكُمْ) ، وإليك بعض الأمثلة، يقال: بعتك الأرض من هنا إلى هنا، أو: قطفت ورد الحديقة من هنا إلى هنا، ويراد تحديد الكمّ والمقدار، لا بيان الكيفية والهيئة.

ربّما يؤيّد ما ذكرنا بأنّ (إِلَى) بمعنى «مع» ما جاء في الآيتين التاليتين:

أ. قوله تعالى: (وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ) (1)، أي مع أموالكم.

ب. خطاب المسيح لحواريه، كما ذكره اللّه تعالى: (مَنْ أَنْصارِي إِلَى اَللّهِ) (2).

نعم في الاستشهاد بالآيتين تأمّل:

أمّا الأُولى فالظاهر أنّ (إِلَى) بمعناها اللغوي غير أنّ الفعل (وَ لا تَأْكُلُوا) تضمّن معنى الضمّ، أي لا تأكلوا أموالهم منضمّة إلى أموالكم.

وأمّا الآية الثانية فالظاهر أنّه أُريد من (أَنْصارِي) الذين يتقرّب بهم (إِلَى اَللّهِ) ، إلى نصر دين اللّه، فاللفظة مستعملة في نفس معناها، ونحو ذلك.

ثمّ إنّه يقع الكلام في دخول المرفق في الحكم أي وجوب الغسل، أو لا؟ والظاهر الأوّل وهو الدخول، إذ من المعروف - كما هو المنقول عن بعض علماء الأدب كسيبويه وغيره - أنّ ما بعد «إلى» إن كان من نوع ما قبلها دخل في الحدّ، وإلّا4.

ص: 27


1- . النساء: 2.
2- . الصف: 14.

فلا يدخل، وعلى هذا تدخل المرافق فيما يجب غسله لأنّها من اليد، بخلاف قوله:

(ثُمَّ أَتِمُّوا اَلصِّيامَ إِلَى اَللَّيْلِ) (1) ؛ لأنّ الليل ليس من جنس اليوم (النهار) حتى يجب صومه.

وربما يتصوّر أنّ المرفق هو حاصل تركيب أحد العظمين بالآخر ولهذا يقع موضع السؤال، هل يجب غسل المرفق أو لا؟ وقلنا: بأنّه داخل في المحدود.

ولكن الظاهر من اللغة أنّ المرفق هو مكان الاتّصال بين الذراع والعضد، قال الجوهري: المرفق موصل الذراع بالعضد، ونحوه في لسان العرب وتاج العروس، وعلى هذا يكون نقطة صغيرة يُغسل قهراً.

وأمّا الثالث: وهو مسح الرؤوس كما في قوله تعالى: (وَ اِمْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ) ، والمسح هو إمرار اليد على الشيء، وسُمّي المسيح مسيحاً لأنّه كان يمسح على الناس ويشفيهم بإذن اللّه، ويقابله الغسل، إذ يكفي في المسح إمرار اليد بما فيها من النداوة، وأمّا الغَسْل فلا يطلق إلّابعد إسالة الماء على الشيء، وبالمقارنة يُعلم أنّ الواجب في الوجه واليدين هو الغَسْل، أي إسالة الماء عليهما وأمّا المسح فيكفي إمرار اليد، ومن المعلوم بأنّ المتوضّئ بعدما فرغ من غسل اليدين، يوجد في يده نداوة الماء فيمسح بها الرأس، فيكفي مسح جزء من الرأس، والمراد من الجزء هو مقدّم الرأس. وعليه الشافعية أيضاً. وسيأتي أنّه المنصوص في روايات أئمّة أهل البيت عليهم السلام.

ويدلّ على ما ذكرنا أنّ الفعل متعدّ بنفسه، ويستعمل على وجهين تارة يقال: مسحت الشيء، وأُخرى يقول: مسحت به؛ فالأوّل ظاهر في الاستيعاب دون7.

ص: 28


1- . البقرة: 187.

الثاني. فإقرانه بالباء لابدّ أن يكون لنكتة، فأكثر المفسّرين على أنّ الباء للإلصاق، بمعنى أنّ حركة العضو الماسح ملصقاً بالممسوح مع أنّ الإلصاق مفهوم من تعلّق المسح بالرأس فلا ملزم لذكر «الباء» بمعنى الإلصاق؛ غير أنّ المرويّ عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام أنّ الباء لبيان كفاية بعض الرأس والرجلين، فحينما سأل زرارة أبا جعفر الباقر عليه السلام وقال: من أين علمت أنّ المسح ببعض الرأس وبعض الرجلين؟ فقال عليه السلام: «لمكان الباء» وبما أنّ الرواية لا تخلو من فائدة في تفسير الآية نأت بها على وجه التفصيل.

روى الشيخ عن زرارة قال: قلت لأبي جعفر عليه السلام: ألا تخبرني من أين علمت وقلت: إنّ المسح ببعض الرأس وبعض الرجلين؟ فضحك فقال: «يا زرارة، قاله رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، ونزل به الكتاب من اللّه عزّ وجلّ، لأنّ اللّه عزّ وجلّ قال:

(فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) فعرفنا أنّ الوجه كلّه ينبغي أن يغسل، ثم قال:

(وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَى اَلْمَرافِقِ) فوصّل اليدين إلى المرفقين بالوجه، فعرفنا أنّه ينبغي لهما أن يُغسلا إلى المرفقين، ثمّ فصّل بين الكلام فقال: (وَ اِمْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ) فعرفنا حين قال: (بِرُؤُسِكُمْ) أنّ المسح ببعض الرأس لمكان الباء، ثم وصل الرجلين بالرأس، كما وصل اليدين بالوجه، فقال: (وَ أَرْجُلَكُمْ إِلَى اَلْكَعْبَيْنِ) فعرفنا حين وصلهما بالرأس أنّ المسح على بعضهما، ثمّ فسّر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم للناس فضيّعوه».(1)

وعلى ذلك فكفاية المسح ببعض الرأس مقتضى الإطلاق أوّلاً، ومقتضى وجود الباء ثانياً، وما ربما يُنقل عن سيبويه إنكار كون البعض من معاني الباء، لا يضرّ بالمقصود وذلك لوجهين:1.

ص: 29


1- . الوسائل: 1، الباب 23 من أبواب الوضوء، الحديث 1.

1. أنّ الإمام عربي قرشي صميم، وهو أعرف بلسانه من غيره.

2. أنّ البعض مفهوم من الهيئة، حيث إنّ المادة مجرّدة عن الباء يفيد الإلصاق، فما هو وجه إدخال الباء عليها، فلا وجه إلّاإفادة البعض.

وأمّا كيفية المسح على الرأس، فالآية ساكتة عنها. فالمتّبع ما هو المألوف بين الناس، وما في «العروة الوثقى» من قوله: في مسح الرأس: لا فرق بين أن يكون طولاً، أو عرضاً أو منحرفاً،(1) لا يخلو عن بُعد.

وأمّا ما هو البعض الذي يجزي مسحه، فقد تضافرت الروايات عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام أنّ المراد به مقدّم الرأس. فقد جاء في كتاب الوسائل، وجوب المسح على مقدّم الرأس، كما في قولهم عليهم السلام: «يمسح على مقدّم رأسه».(2)

قال الشيخ: المسح بعض الرأس هو الواجب والأفضل ما يكون مقداره ثلاث أصابع مضمومة ويجزى مقدار اصبع واحد وقال مالك: يجب مسح الرأس كلّه، وقال الشافعي: ما يقع عليه اسم المسح يجري، وقال أبو حنيفة: يمسح قدر ثلث الرأس بثلاث أصابع.

وقال العلّامة: ويجزي أقل ما يصدق عليه الاسم للامتثال فيخرج عن العهدة، ولأنّه عليه السلام مسح ناصيته، ويستحب مقدار ثلاث أصابع. وقال بعض علمائنا:

يجب وما اخترناه قول الشافعي وابن عمر وداود.(3)1.

ص: 30


1- . العروة الوثقى: 1/384، فصل في أفعال الوضوء، المسألة 24. تحقيق مؤسسة النشر الإسلامي، قم - 1417 ه.
2- . لاحظ: الوسائل: 1، الباب 22 من أبواب الوضوء.
3- . الخلاف: 81/1-82، المسألة 29. تذكرة الفقهاء: 161/1.

ولا يخفى أنّ المساعدة مع ما اختاره الشيخ والعلّامة والشافعي مشكل، وما رواه عن النبي أنّه مسح ناصيته دليل على خلاف قوله؛ لأنّ الناصية مقدّم الرأس الذي هو مساحة خاصّة من الرأس.

والاكتفاء بإصبع واحد، يوجب كون الوضوء رمزاً من الرموز مع الغاية منه، هو الطهارة وما فضّله الشيخ هو الأحوط لو لم يكن الأقوى.

ثمّ إنّ الواجب هو مسح بشرة الرأس أو الشعر غير الخارج عن محاذاة الرأس، وأمّا الخارج عن محاذاتها كالظفيرة، فلا يجزي.

وأمّا الرابع: أعني: الرجلين، فقال سبحانه: (وَ أَرْجُلَكُمْ إِلَى اَلْكَعْبَيْنِ) فيقع الكلام في موضعين:

الأوّل: حكم الأرجل من حيث الإعراب، ويتبعه حكمها من حيث المسح، أو الغسل.

الثاني: ما هو المراد من الكعبين؟

وهذا الموضع من أهم البحوث في آية الوضوء قديماً وحديثاً، فلنبدأ بدراستهما تباعاً:

بيان إعراب «الأرجل» على رأي الإمامية

إنّ هنا قراءتين:

أ. قراءة بالنصب، وهي قراءة نافع، وابن عامر، وحفص، والكسائي، ويعقوب.

ب. قراءة بالجر، وهي قراءة ابن كثير، وحمزة، وأبي عمرو، وعاصم في

ص: 31

رواية أبي بكر عنه.

أمّا على القراءة الثانية فلا يشكّ أيّ عربي صميم في أنّ أرجلكم عطف على الأقرب إليه، أعني: (بِرُؤُسِكُمْ) . وأمّا القراءة الأُولى - بالنصب - فالمتبادر أنّها عطف على موضع (بِرُؤُسِكُمْ) لأنّه منصوب محلاً لكونه مفعولاً لقوله:

(وَ اِمْسَحُوا) .

وعلى ما ذكرنا تكون الأرجل محكومة بحكم الرؤوس، على كلتا القراءتين، فهي مطلقاً عطف على الرؤوس إمّا على ظاهرها إذا كانت مجرورة، أو على محلّها إذا كانت منصوبة، والعطف على المحلّ أمر شائع في اللغة العربية، وقد ورد أيضاً في القرآن الكريم، قال سبحانه: (أَنَّ اَللّهَ بَرِيءٌ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ وَ رَسُولُهُ) (1)فقراءة «ورسوله» بالضمّ هي القراءة الرائجة، ولا وجه لرفعه إلّاكونه معطوفاً على اسم أنّ - أعني: لفظ الجلالة - في قوله: (أَنَّ اَللّهَ) لكونه مبتدأ، وقد عقد ابن هشام فصلاً خاصّاً للعطف على المحلّ وذكر شروطه.(2)

فعلى ما ذكرنا من القراءتين يُعلم حُكمُ الأرجل من حيث المسح أو الغسل، إذ يتعيّن المسح، كما ذكرنا. ثمّ إنّ القائلين بغسل الأرجل قد وقعوا في حرج شديد في تطبيق الآية - على كلتا القراءتين - على الغسل. وهذا ما ندرسه تالياً:

قراءة النصب ورأي أهل السنّة

أمّا على النصب فقالوا: إنّ (وَ أَرْجُلَكُمْ) معطوف على قوله:

(وُجُوهَكُمْ)

ص: 32


1- . التوبة: 3.
2- . انظر: مغني اللبيب: 2/473، في أقسام العطف، الثاني: العطف على المحل.

في أوّل الآية، وهذا كماترى، لانقطاع الحكم في قوله: (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَى اَلْمَرافِقِ) بحكم آخر وهو قوله: (وَ اِمْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ) ، فطبع العربي الصميم يأبى ذلك في نظائر الآية، فإذا قال قائل: قبّلت وجه زيد ورأسه ومسحت على كتفه ويَدَه. فهل يرضى أن يكون قوله: «ويده» منصوباً عطفاً على (وجه زيد) مع انقطاع الكلام الأوّل وصلاحية قوله: «ويده»، معطوفاً على محل «كتفه» لأنّه منصوب على المفعولية.

مثال آخر: إذا قال: ضربت زيداً ومررت ببكر وعمراً، فهل يرضى بعطف «عمراً» على «زيداً» مع صلاحية كونه معطوفاً على محل «بكر»؟!

وقد اعترف بما ذكرنا جمع من علماء السنّة فلنذكر بعض كلماتهم:

1. قال ابن حزم: لا يجوز عطف أرجلكم على وجوهكم، لأنّه لا يجوز أن يحال بين المعطوف والمعطوف عليه بقضية مبتدئة.(1)

2. وقال أبو حيّان: ومن ذهب إلى أنّ قراءة النصب في (وَ أَرْجُلَكُمْ) عطف على قوله: (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ) وفصل بينهما بهذه الجملة التي هي قوله: (وَ اِمْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ) فهو بعيد، لأنّ فيه الفصل بين المتعاطفين بجملة إنشائية.(2)

3. وقال الشيخ إبراهيم بن محمد بن إبراهيم الحلبي (الحنفي) في تفسير الآية: نصب (وَ أَرْجُلَكُمْ) على المحل (أي محل الرؤوس) وجرّها على اللفظ، ولا يجوز أن يكون النصب للعطف على وجوهكم، لامتناع العطف على وجوهكم1.

ص: 33


1- . المحلّى: 56/2.
2- . تفسير النهر المارد: 558/1.

للفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بجملة أجنبية هي (وَ اِمْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ) ، والأصل أن لا يفصل بينهما بمفرد فضلاً عن الجملة، ولم يسمع في الفصيح نحو: ضربت زيداً ومررت ببكر وعمراً بعطف عمراً على زيد.(1)

4. وقال الشيخ السندي: وحمل قراءة النصب بالعطف على المحل أقرب لاطراد العطف على المحل، وأيضاً فيه خلوص عن الفصل بالأجنبي بين المعطوف والمعطوف عليه، فصار ظاهر القرآن هو المسح.(2)

وبهذا ظهر أنّه لا محيص على القول بقراءة النصب، هو العطف على المحل لا على الأبعد.

ونقل عن الأخفش في توجيه غسل الأرجل: أنّه قال: هو معطوف على الرؤوس في اللفظ، مقطوع عنه في المعنى، كقول الشاعر:

علفتها تبناً وماء بارداً ***حتى شتت همالة عيناها

أي علفتها تبناً وسقيتها ماء بارداً.(3)

يلاحظ عليه: أنّ في هذا البيت قرينة واضحة على أنّ الماء يُسقى به ولا يعلف، بخلاف المورد. وذكر الزمخشري وجهاً آخر في توجيه الغسل وقال: إنّ الأرجل من بين الأعضاء الثلاثة المغسولة تغسل بصب الماء عليها، فكانت مظنة للإسراف المذموم المنهي عنه، فعطفت على الثالث الممسوح لا لتمسح ولكن لينبّه على9.

ص: 34


1- . غنية المتملي في شرح منية المصلي المعروف بالشرح الحلبي الكبير: 16.
2- . شرح سنن ابن ماجة: 88/1.
3- . لاحظ مجمع البيان: 3/285. الهمالة: فيضان دموع العين. كما في الصحاح للجوهري: 1/319.

وجوب الاقتصاد في صب الماء عليها.(1)

ولا تعليق لنا على كلامه بشيء غير أنّه تفلسف لا يدور بخلد أحد من العرب حتى تفسّر الآية به.

قراءة الجر ورأي أهل السنّة

وأمّا على قراءة الجرّ، فالأرجل معطوفة على الرؤوس فتكون محكومة بالمسح عندنا على كلتا القراءتين، وأمّا أهل السنّة فلم يجدوا وجهاً إلّاالقول بأنّه مجرور على الجوار، أي لوقوعه في جوار (بِرُؤُسِكُمْ) المجرور، نظير قول القائل: جُحرُ ضبٍّ خربٍ... فإنّ «خرب» خبر ل «جُحر» فيجب أن يكون مرفوعاً، لكنّه صار مجروراً لأجل الجوار.

وردّه الزجاج بقوله: وهو غير صحيح، لاتّفاق أهل العربية على أنّ الإعراب بالمجاورة شاذّ نادر، وما هذا سبيله لا يجوز حمل القرآن عليه من غير ضرورة يلجأ إليها.(2)

أضف إلى ذلك ما ذكره علاء الدين البغدادي في تفسيره المسمّى ب «الخازن» فقد ردّ قراءة الجرّ لأجل المجاورة بوجهين:

الأوّل: أنّ الكسر على المجاورة إنّما يحمل لأجل الضرورة في الشعر، أو يصار إليه حيث يحصل الأمن من الالتباس كما في المثال المذكور، لأنّ الخرب لا يكون نعتاً للضب، بل للجحر.

ص: 35


1- . تفسير الكشاف: 336/1.
2- . معاني القرآن واعرابه: 153/2.

الثاني: أنّ الكسر بالجوار إنّما يكون بدون واو العطف، وأمّا معها فلم تتكلّم به العرب.(1)

إلى هنا ظهر أنّه لا مجال في تفسير القراءتين (أعني: النصب والجر) من القول بكون الأرجل معطوفاً على الرؤوس، أمّا على المحلّ أو على ظاهر اللفظ وتكون النتيجة هي المسح.

وأمّا كونه معطوفاً على الوجوه على قراءة النصب أو كونه مجروراً بالجوار على قراءة الجر فكلاهما من الأُمور التي لا يرضى بها الطبع العربي السليم، مع شذوذهما حسب القواعد. فليس للفقيه المتابع للقرآن المجيد إلّاالإفتاء بالمسح.

ثمّ إن القوم استدلّوا على صحة الجرّ بالجوار بوجهين:

الأوّل: قوله سبحانه: (فِي جَنّاتِ اَلنَّعِيمِ * ثُلَّةٌ مِنَ اَلْأَوَّلِينَ * وَ قَلِيلٌ مِنَ اَلْآخِرِينَ * عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ * مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ * يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ * بِأَكْوابٍ وَ أَبارِيقَ وَ كَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ * لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَ لا يُنْزِفُونَ * وَ فاكِهَةٍ مِمّا يَتَخَيَّرُونَ * وَ لَحْمِ طَيْرٍ مِمّا يَشْتَهُونَ * وَ حُورٌ عِينٌ * كَأَمْثالِ اَللُّؤْلُؤِ اَلْمَكْنُونِ) .(2)

وجه الاستدلال في قوله: (وَ حُورٌ عِينٌ) فالقراءة المشهورة هي الرفع معطوفاً على قوله: (وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ) : أي يطوف عليهم ولدان مخلدون وحور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون.

ويحتمل أن يكون مبتدأ محذوف الخبر، أي ولهم حور عين كأمثال اللؤلؤ3.

ص: 36


1- . تفسير الخازن: 16/2.
2- . الواقعة: 12-23.

المكنون؛ لأنّه لما تقدّم قوله: (وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ) اقتضى ذلك ذكر الحور العين.

هذا على قراءة المشهور وأمّا على قراءة أبي جعفر وحمزة والكسائي بجرّ:

(وحور عين)، فقيل: إنّه مجرور بالجوار، أي: ولحم طير ممّا يشتهون وحورٍ عين.

يلاحظ عليه: أنّه لا يحتجّ بغير القراءة المشهورة إذ لم يثبت تواترها عن النبيّ، فعلى فرض الصحّة فيمكن أن يكون معطوفاً على قوله (فِي جَنّاتِ اَلنَّعِيمِ) والتقدير: أُولئك المقرّبون في جنات النعيم وفي حور عين، أي في مقاربة الحور العين، أو معاشرة الحور العين.

الثاني: قوله سبحانه: (أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلاَّ اَللّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ) (1)، فإنّ قوله: (أَلِيمٍ) وصف لقوله: (عَذابَ) ولكنّه صار مجروراً للجوار.

أقول: ورد هذا السياق في غير واحد من الآيات كقوله سبحانه: (إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) (2)، وقوله سبحانه: (وَ إِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ) .(3)

والجواب عن الجميع: أنّ الألم وصف للعذاب حقيقة، وبما أنّ اليوم ظرف للعذاب صار هذا مسوغاً لوصف اليوم به، فالأيام في هذه الآيات موصوفة بأنّها مؤلمة باعتبار كونها ظرفاً للألم، وهذا هو المعروف في باب الإسناد المجازي في علم البلاغة.

ومن عجيب القول ما ذكره الآلوسي، قال: لو فرض أنّ حكم2.

ص: 37


1- . هود: 26.
2- . يونس: 15.
3- . هود: 2.

اللّه تعالى المسح على ما يزعمه الإمامية فالغسل يكفي عنه، ولو كان هو الغسل لا يكفي المسح عنه، فبالغسل يلزم الخروج من العهدة بيقين دون المسح؛ وذلك لأنّ الغسل محصِّل لمقصود المسح من وصول البلل وزيادة.(1)

يلاحظ عليه: أنّ المسح في الآية عبارة عن إمرار الماسح الممسوح بالنداوة الموجودة في اليد، كما هو ظاهر الآية، وهو غير الغَسْل - بمعني: إسالة الماء - فالقول بكفاية الثاني عن الأوّل، تشريع وابتداع في الأحكام. فلو أمر المولى عبده بالمسح وقام هو بالغسل لا يُعدّ ممتثلاً. فلو أراد الآلوسي العمل بالاحتياط فعليه التوضّؤ بوضوءين: تارة بالمسح وأُخرى بالغسل.

ومنه يظهر ضعف كلام آخر له، حيث قال: وأيضاً كان يلزم الشيعة الغسل؛ لأنّه الأنسب بالوجه المعقول من الوضوء وهو التنظيف للوقوف بين يدي رب الأرباب سبحانه وتعالى، لأنّه الأحوط أيضاً.(2)يلاحظ عليه: بأنّ لازمه كفاية الغسل عن المسح في الرؤوس أيضاً، مع أنّه لم يقل به أحد، فإذا رأينا أنّ الشارع يأمر بالمسح تارة وبالغسل أُخرى، نقف على أنّ للشارع غرضين: الغسل في مورد، والمسح في مورد آخر، وتجويز الغسل في مورد المسح تحريف للآية.

دراسة كلام صاحب المنار

ثمّ إنّ لصاحب المنار كلاماً زعم أنّه أقوى الحجج اللفظية لأهل السنّة على

ص: 38


1- . روح المعاني: 78/6.
2- . روح المعاني: 78/6.

الإمامية، وهو أنّ الإمامية يمسحون ظاهر القدم إلى معقد الشراك عند المفصل بين الساق والقدم، ويقولون: إنّه هو الكعب، ففي الرجل كعب واحد، على رأيهم، ولو صحّ هذا لقال: إلى الكعاب، كما في اليدين (إِلَى اَلْمَرافِقِ) لأنّ في كلّ يد مرفقاً واحداً.(1)

يلاحظ عليه: بأنّه لو قلنا بأنّ الكعب عبارة عن العظمين الناتئين في جانبي قدم الإنسان، يكون وجه التعبير بالتثنية كون كلّ رِجل ذات كعبين.

وأمّا لو كان الكعب هو معقد الشراك عند المفصل بين الساق والقدم فيكون وجه التعبير بالتثنية كون كلّ إنسان ذا كعبين. فلكلّ وجه. والظاهر أنّ الوجه هو الثاني بشهادة أنّه قال: (أَرْجُلَكُمْ) : أي أرجل كلّ متوضِّئ أو مكلّف، وأمّا وجه اختلاف التعبير هنا عمّا في غسل الأيد حيث عبّر هناك بالمرافق وفي المقام بالكعبين، فلأجل أنّ لجمال التعبير بهما تأثّراً كبيراً في فصاحة الكلام، فصار هذا سبباً للاختلاف في التعبير، واللّه العالم.

هذه هي الحجّة القوّية التي يدّعيها صاحب المنار غفر اللّه له، فكيف حال الحجج الضعيفة؟!

مسح الأرجل في أحاديث النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم

قد عرفت أنّ القراءتين سواء النصب أو الجر تدلّان بوضوح على وجوب المسح على الأرجل، وهناك روايات متضافرة عن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم تبلغ 15 رواية كلّها تدلّ على أنّ النبيّ كان يمسح الأرجل، كما أنّ هناك روايات عن الصحابة

ص: 39


1- . تفسير المنار: 233/6. وفي الصدر مرفق واحد وهو تصحيف.

والتابعين تناهز أيضاً خمسة عشر أثراً تدلّ على أنّهم كانوا يمسحون على الأرجل، وقد ذكرنا تلك النصوص في كتابنا «الإنصاف في مسائل دام فيها الخلاف»، ولأجل أن لا تخلو دراستنا عن هذه الروايات نأتي ببعض النصوص:

1. عن بسر بن سعيد قال: أتى عثمان المقاعد فدعا بوضوء وتمضمض واستنشق ثم غسل وجهه ثلاثاً، ويديه ثلاثاً ثلاثاً، ثم مسح برأسه ورجليه ثلاثاً ثلاثاً، ثم قال: رأيت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم هكذا يتوضّأ، يا هؤلاء أكذاك؟ قالوا: نعم، لنفر من أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عنده.(1)

2. عن حمران قال: دعا عثمان بماء فتوضّأ ثمّ ضحك، ثمّ قال: ألا تسألوني ممّ أضحك؟ قالوا: يا أمير المؤمنين ما أضحكك؟ قال: رأيت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم توضّأ كما توضّأت، فتمضمض واستنشق وغسل وجهه ثلاثاً ويديه ثلاثاً ومسح برأسه وظهر قدميه.(2)

3. وفي مسند عبداللّه بن زيد المازني أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم توضّأ فغسل وجهه ثلاثاً ويديه مرّتين ومسح رأسه ورجليه مرّتين.(3)

4. عن أبي مطر قال: بينما نحن جلوس مع علي في المسجد، جاء رجل إلى علي وقال: أرني وضوء رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فدعا قنبر، فقال: ائتني بكوز من ماء، فغسل يديه ووجهه ثلاثاً، فأدخل بعض أصابعه في فيه واستنشق ثلاثاً، وغسل ذراعيه ثلاثاً ومسح رأسه واحدة ورجليه إلى الكعبين، ولحيته تهطل على صدره،2.

ص: 40


1- . مسند أحمد: 1/109، الحديث 489.
2- . كنز العمال: 436/9، الحديث 26863.
3- . كنز العمال: 451/9، الحديث 26922.

ثمّ حسا حسوة بعد الوضوء ثمّ قال: أين السائل عن وضوء رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، كذا كان وضوء رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.(1)

5. عن عبّاد بن تميم، عن أبيه، قال: رأيت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم توضّأ ومسح بالماء على لحيته ورجليه.(2)

6. عن علي بن أبي طالب عليه السلام قال: كنت أرى أنّ باطن القدمين أحق بالمسح من ظاهرهما حتى رأيت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يمسح ظاهرهما.(3)

7. عن رفاعة بن رافع أنّه سمع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يقول: «إنّها لا تتم صلاة لأحد حتى يسبغ الوضوء كما أمره اللّه تعالى، يغسل وجهه ويديه إلى المرفقين، ويمسح برأسه ورجليه إلى الكعبين».(4)

8. ما روي عن عبد اللّه بن عمرو، قال: تخلّف النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم في سفرة سافرناها، فأدركنا وقد أرهقتنا الصلاة ونحن نتوضّأ فجعلنا نمسح على أرجلنا، فنادى بأعلى صوته: «ويل للأعقاب من النار» مرّتين أو ثلاثاً.(5)

ثم إنّه ربّما يستدل القائل بالغسل بهذه الرواية بأنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم حذّر الماسحين على الأرجل بقوله: ويل للأعقاب من النار.

يلاحظ عليه: أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم حذر هؤلاء لأنّ أعقابهم كانت نجسة غير صالحة للمسح، فأمرهم بأن يطهّروا الأعقاب أوّلاً ثم يمسحوا على الأرجل، فلم1.

ص: 41


1- . كنز العمال: 9/448، الحديث 26908. قوله: حساحسوة: شرب شيئاً بعد شيء.
2- . كنز العمال: 9/429، الحديث 26822.
3- . مسند أحمد: 1/95 و 114 و 124.
4- . سنن ابن ماجة: 156/1، الحديث 460.
5- . صحيح البخاري: 23/1، باب من رفع صوته بالعلم من كتاب العلم، الحديث 1.

يكن التحذير لأجل المسح على الأرجل، بل لأجل كون الممسوح غير صالح له.

وكان المسح على ظاهر الأرجل ملازماً لمسح شيء من الأعقاب.

ثم إنّ الرواية على خلاف قول الخصم أدلّ، فإنّها تدلّ على أنّ عبداللّه بن عمرو وأمثاله كانوا يمسحون إلى ذلك اليوم.

9. عن أبي مالك الأشعري أنّه قال لقومه: اجتمعوا أُصلّي بكم صلاة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، فلمّا اجتمعوا قال: هل فيكم أحد غيركم؟ قالوا: لا، إلّاابن أُخت لنا، قال:

ابن أُخت القوم منهم، فدعا بجفنة فيها ماء، فتوضّأ ومضمض واستنشق، وغسل وجهه ثلاثاً وذراعيه ثلاثاً ثلاثاً، ومسح برأسه وظهر قدميه، ثمّ صلّى بهم فكبّر بهم ثنتين وعشرين تكبيرة.(1)

10. عن عبّاد بن تميم المازني، عن أبيه أنّه قال: رأيت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يتوضّأ ويمسح الماء على رجليه.(2)

تلك عشرة كاملة نكتفي بها، ومن أراد الوقوف على الجميع فعليه الرجوع إلى كتابنا «الإنصاف في مسائل دام فيها الخلاف».(3) إلى هنا تمّ الكلام في الموضع الأوّل وهو تبيين وجه القراءتين وما يتبعه من وجوب المسح أو الغسل، إنّما الكلام في الموضع الثاني وهو: ما هو المراد من الكعب؟5.

ص: 42


1- . مسند أحمد: 342/5. الجَفنة: القصعة الكبيرة.
2- . صحيح ابن خزيمة: 1/101.
3- . لاحظ: الإنصاف في مسائل دام فيها الخلاف: 1/45.
ما هو المراد من الكعب؟

أقول: إنّ الكعب يطلق على معانٍ أربعة:

1. العظمان الناتئان في جانبي الرجل.

2. العظم المرتفع في ظهر القدم الواقع فيما بين المفصل والمِشط.

3. المفصل بين الساق والقدم. وهو خيرة صاحب القاموس، قال: الكعب كلّ مفصل للعظام.(1)

4. عظم مستدير مثل كعب البقر والغنم موضوع تحت عظم الساق، حيث يكون مفصل الساق والقدم. وهو قول محمد بن الحسن. وكان الأصمعي يختار هذا القول ويقول: الطرفان الناتئان يسمّيان المنجمين. هكذا رواه القفّال في تفسيره.(2)

أمّا الوجه الرابع فبعيد عن الاعتبار؛ لأنّ الكعب عبارة عن الارتفاع كما سيأتي.

ونظيره القول الثالث إذ ليس فيه أيّ ارتفاع، وبما أنّ الآية تتضمّن تكليفاً لكلّ مسلم، أعني: التوضّؤ لكلّ صلاة، فيجب أن يكون التعبير واضح الدلالة مبيّن المراد، بحيث لا يحتاج فهم المراد منه إلى دقّة علمية لا يقف عليها إلّاالأوحدي.

فتعيّن أن يكون المراد من الكعب أحد الوجهين:

الأوّل: قبة القدم؛ لأنّ الكعب - كما مرّ - عبارة عن الارتفاع، ومنه: جارية

ص: 43


1- . القاموس المحيط: 1/124، مادة «الكعب».
2- . تفسير الرازي: 162/6؛ ولاحظ: جامع المقاصد: 220/1؛ جواهر الكلام: 220/2.

كاعب إذا نتأ ثدياها. ومنه الكعب لكلّ ما له ارتفاع. قال سبحانه: (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً * حَدائِقَ وَ أَعْناباً * وَ كَواعِبَ أَتْراباً) (1) أي جواري تكعب ثديهن، مستويات في السنّ. وقد تضافرت الروايات عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام بأنّه قبّة القدم.(2) وقد نقل في الجواهر عن عميد الرؤساء أنّه ألّف كتاباً في الكعب وفسّره بظهر القدم الواقع بين المفصل والمِشط، وهو لغوي بارز.(3) وهذا القول هو المشهور بين أصحابنا. وهو المتعيّن لكونه مروياً عن أحد الثقلين.

الثاني: ما عليه فقهاء السنّة وهو: أنّ الكعبين هما العظمان الناتئان في جانبي الساق، ولكن يبعده ما مرّ أنّهما يقال لهما: المنجمان.

ومن أراد الاحتياط فليجمع بين الوجهين.

ثمّ إنّ الناس على صنفين: أحدهما مَن يتمكّن من الوضوء، والثاني لا يتمكّن فقد تمّ الكلام في الأوّل، وبقي الكلام في الصنف الثاني، وهذا ما يشير إليه بقوله سبحانه: (فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً) .

حكم غير المتمكّن من الماء
اشارة

ذكر سبحانه من هذا الصنف أشخاصاً أربعة:

1. المرضى، كما قال: (وَ إِنْ كُنْتُمْ مَرْضى) .

ص: 44


1- . النبأ: 31-33.
2- . لاحظ: الوسائل: 1، الباب 15 من أبواب الوضوء، الحديث 9، والباب 24 منها، الحديث 4، والباب 31 منها، الحديث 1.
3- . جواهر الكلام: 220/2؛ جامع المقاصد: 220/1. والمِشط: العظام الرقاق المفترشة فوق ظهرالقدم، وربّما يطلق على القدم أجمع.

2. المسافر، كما قال: (أَوْ عَلى سَفَرٍ) .

3. المحدث بالحدث الأصغر، كما قال: (أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ اَلْغائِطِ) .

وقد مرّ أنّ الغائط هو الأرض المنخفضة، والمجيء منه كناية عن قضاء الحاجة الملازم للحدث، وقد عبّر به سبحانه حفظاً للأدب.

4. المحدث بالحدث الأكبر، وقد عبّر عنه سبحانه: (أَوْ لامَسْتُمُ اَلنِّساءَ) كنّى به عن الجماع صوناً للّسان من التصريح بما لا يناسب الأدب في الكلام.

فهذه الطوائف الأربع يجب عليهم التيمّم بشرط خاص وهو ما يذكره سبحانه بقوله: (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً) . فعلى هؤلاء التيمّم، كما يقول: (فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً) : أي اقصدوا تراباً أو مكاناً من وجه الأرض طاهراً (فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ) : أي فاضربوا بأيديكم عليه فامسحوا بها وجوهكم (وَ أَيْدِيكُمْ مِنْهُ) . وسيوافيك ما هو المراد من الضمير في (مِنْهُ) الراجع إلى الصعيد الطيّب.

بقيت هنا أُمور ترتبط بتفسير الآية:

الأوّل: ما هو المراد من الصعيد؟

أمّا الصعيد فقد تقدّم تفسيره في المفردات إجمالاً وقد اختلف اللغويون في معناه:

1. فعن جمهرة لغة العرب: التراب الخالص الّذي لا يخالطه سبخ(1) ولا رمل.

2. وعن الزجّاج: هو وجه الأرض تراباً كان أو غيره حتّى قال: لا أعلم

ص: 45


1- . السبخ بفتح الباء وسكونها: الأرض المالحة.

اختلافاً بين أهل اللغة في ذلك فيشمل الحجر والمدر (الطين الخالص الّذي لا يخالطه الرمل) ونحوهما.

3. قال الأزهري: مذهب أكثر العلماء في قوله تعالى: (فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً) التراب الطاهر الّذي على وجه الأرض أو خرج من باطنها.(1)

والوجه الثالث يرجع إلى الوجه الأوّل إلّاأن يقال بأنّ السبخ مضرّ على الأوّل دون الثاني. ولكن الظاهر هو القول الثاني للروايات التالية الّتي تفسّر الصعيد بالأرض الشاملة للتراب والرمل والطين اليابس:

أ. ما روي: يُحشر الناس يوم القيامة عُراة حفاة على صعيد واحد - أي أرض واحدة -.(2)

ب. ما روي عن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم قال: «جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً».(3)

وقوله عليه السلام: «ربّ الماء هو ربّ الأرض».(4)

وقوله عليه السلام: «وإن فاتك الماء لم تفتك الأرض».(5)

إلى غير ذلك من الأحاديث الّتي تدلّ على جواز التيمّم على الأرض الشامل للتراب والرمل والطين اليابس وغيرها، فيكون تفسيراً للصعيد بشرط أن لا يخرج1.

ص: 46


1- . لاحظ: مجمع البحرين: 3/85، مادة «صعد».
2- . لم نعثر في المصادر على هذا النص. نعم وجدنا ما يشتمل على موضع الاستشهاد. راجع: مجمع البيان: 9/342، تفسير سورة الرحمن الآية 33.
3- . الوسائل: 2، الباب 7 من أبواب التيمم، الحديث 2 و 3.
4- . الوسائل: 2، الباب 3 من أبواب التيمم، الحديث 1.
5- . الوسائل: 2، الباب 22 من أبواب التيمم، الحديث 1.

عن كونه أرضاً كالمعادن، والتفصيل في محلّه.

الثاني: حدّ الملامسة

الظاهر أنّ الملامسة كناية عن غشيان النساء والإفضاء إليهن، وعليه المفسّرون، وحَمْلُها على إصابة البشرة للبشرة، بعيد عن سياق الآية، وقد حُكي عن الشافعي نقض الوضوء بلمس بشرة المحارم من النساء، وبه قال الزهري والأوزاعي.

يلاحظ عليه: أنّه سبحانه ذكر حكم الجنب إذا كان واجداً للماء، وقال:

(وَ إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا) ومقتضى التقابل أن يذكر حكم الجنب عند فقدان الماء، بأن يقول: وإن كنتم جنباً ولم تجدوا ماءً فلو فسّر قوله: (أَوْ لامَسْتُمُ اَلنِّساءَ) بمسّ البشرة، يلزم ترك بيان حكم الجنب عند فقدان الماء، وهذا خلاف مقتضى التقابل.

وبعبارة أُخرى: إنّه سبحانه ذكر حكم المحدث بالحدث الأصغر والأكبر عند وجدان الماء، فلازم السياق ذكر حكمهما عند فقدان الماء، فذكر حكم الأوّل بقوله: (وَ إِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ اَلْغائِطِ) ، فلا محيص من حمل قوله: (أَوْ لامَسْتُمُ اَلنِّساءَ) على بيان حكم الحدث الأكبر. أي الجنب إذا لم يجد ماءً.

أضف إلى ذلك: أنّ كون مسّ بشرة النساء من المحارم ناقضاً للوضوء، تحقير للنساء التي نزل كثير من الآيات في رفع شأنهن.

ص: 47

الثالث: حكم المريض والمسافر
اشارة

المتبادر من الآية أنّ قوله سبحانه: (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً) قيد للأصناف الأربعة: المريض، المسافر، المحدث بالحدث الأصغر، والمحدث بالحدث الأكبر، فعليهم جميعاً التيمّم إذا لم يجدوا ماءً، دونما إذا كانوا متمكّنين منه، وهذا هو المفتى به عند الفقهاء. فإذا نسب عدم وجدان الماء إلى الأصناف الثلاثة يُراد به عدم وجدان ماء حقيقة، وإذا نسب إلى المريض يُراد به كون استعمال الماء حرجياً وضررياً، وكُنيّ عن هذا القسم أيضاً بعدم وجدان الماء تغليباً للأكثر على الأقل، فإنّ كون الاستعمال ضررياً يشبّه بعدم وجود الماء؛ لأنّ وجوده وعدمه في حقّ المريض سيّان.

فإن قلت: إذا كان تيمّم المريض والمسافر مقيّداً بعدم وجدان الماء، كان ذكر كلّ من عنواني المرض والسفر أمراً مستدركاً، إذ لا دخل لهما في لزوم التيمّم وإنّما الموضوع هو عدم وجدان الماء، سواء أكان مريضاً أم مصحّاً، أكان حاضراً أم مسافراً. أو ليس هذا دليلاً على أنّ المسافر والمريض يتيمّمان مطلقاً، سواء كان الماء موجوداً أم لا؟

قلت: إنّ الموضوع كما ذكر هو فقدان الماء بالمعنى الأعم - أعني: فقدانه أو كون استعماله مضرّاً - وأمّا تخصيص المسافر والمريض بالذكر؛ لأنّه يغلب عليهما فقدان الماء خصوصاً في الأسفار السابقة التي كان السفر على آباط الإبل في المفاوز والصحارى. فالمرض والمضر أخذا طريقين لفقدان الماء أو لإضراره دون أن يكون لكلّ موضوعية.

ص: 48

أضف إلى ذلك: أنّه لو كان القيد (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً) راجعاً إلى الصنفين الأخيرين - أعني: (أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ اَلْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ اَلنِّساءَ) والمفروض بقرينة المقابلة حضورهما في بلدانهم وأوطانهم - يلزم حمل القيد على الفرد النادر؛ لأنّ الصنفين الأخيرين يتمكّنان من الماء في أغلب الموارد، وأمّا غير المتمكّن من الماء بالمعنى الأعم فهو في الدرجة الأُولى المسافر وبالتالي المريض.

وبذلك ظهر أنّ حكم المريض والمسافر مثل الصنفين الأخيرين فيتيمّمان عند فقد الماء دون وجوده في المسافر وعدم حرجه في المريض.

فتوى شاذّة لصاحب المنار وأُستاذه

إنّ صاحب المنار تبعاً لأُستاذه الشيخ عبده ذهبا إلى أنّ للسفر والمرض تأثيراً مستقلّاً في العدول إلى التيمّم حتى ولو وجدا الماء ولم يكن استعماله حرجياً. وإليك نصّ كلامهما:

إنّ حكم المريض والمسافر إذا أرادا الصلاة كحكم المحدث حدثاً أصغر أو ملامس النساء ولم يجدا الماء، فعلى كلّ هؤلاء التيمّم، وأنّ الآية واضحة المعنى تقتضي أنّ التيمم في السفر جائز ولو مع وجود الماء. ثم استظهرا بأنّه سبحانه رخّص السفر الذي منه قصر الصلاة وجمعها وإباحة الفطر في رمضان، فهل يستنكر مع هذا أن يرخّص للمسافر في ترك الغسل والوضوء وهما دون الصلاة والصيام في نظر الدين.

أو ليس من المجرّب أنّ الوضوء والغسل يشقّان على المسافر الواجد للماء في زماننا هذا، فكيف في الزمان السابق الذي كان السفر على ظهور الإبل في

ص: 49

مفاوز الحجاز وجبالها... إلى أن قال: إنّ من عجب العجاب غفلة جماهير الفقهاء عن هذه الرخصة الصريحة في عبارة القرآن، واحتمال ربط قوله تعالى: (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً) بقوله: (وَ إِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ) بعيد، بل ممنوع كما تقدّم على أنّهم لا يقولون به في المرضى لأنّ اشتراط فقد الماء في حقّهم لا فائدة له، لأنّ الأصحّاء والحاضرين مثلهم فيكون ذكرها لغواً، يتنزّه عنه القرآن.(1)

يلاحظ عليه بوجهين: الأوّل: أنّ القيد راجع إلى الجميع، وما ذكره من أنّ لازمه كون ذكر كلّ من عنواني السفر والمرض أمراً لغواً، مدفوع، لما عرفت من أنّ تخصيصهما بالذكر لأجل أنّ الغالب على حالتي السفر والمرض فقدان الماء في المسافر والحرج أو الضرر في المريض، بخلاف الحاضر والمصح إذ يتوفر الماء عند الحاضر، و لا يتحرّج المصحّ من استعمال الماء.

الثاني: أنّ تخصيص قوله: (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً) بالأخيرين، يلازم - كما مرّ - حمله على الفرد النادر، لأنّ فقدان الماء عند المجيء من الغائط أو الملامس في الوطن(2)، قليل جدّاً، بخلاف إرجاعه إلى الجميع، فقد عرفت أنّ فقدان الماء في الأوّلين أمر غالبي خصوصاً في الأسفار في الأزمان السابقة حيث يسافرون بالإبل ويقطعون الصحارى والمفاوز....

وحاصل الكلام: أنّ الأُستاذ والتلميذ مع ذكائهما خلطا بين أمرين وقالا: إنّ السفر سبب للرخصة كالمرض، والحال أنّهما أمارة لفقد الماء أو كون استعمالهة.

ص: 50


1- . تفسير المنار: 120/5-121.
2- . قلنا: في الوطن، لأجل المقابلة مع السفر الذي مرّ ذكره في الآية.

حرجياً.

ثمّ إنّ صاحب المنار نقل عن أُستاذه أنّه قد راجع خمسة وعشرين تفسيراً رجاء أن يجد فيها قولاً لا تكلّف فيه، لكن صاحب المنار قال: أنا لم أراجع عند كتابة تفسيرها إلّاروح المعاني وهو آخر التفاسير المتداولة تأليفاً وصاحبه واسع الاطّلاع، فإذا به يقول: الآية من معضلات القرآن.(1)

أقول: نحن نوافق صاحب المنار في أنّ الآية ليست من معضلات القرآن، لكن فهم الآية واستنباط الأحكام رهن التدبّر في الآية. وأنّ ذكر العنوانين:

المريض والمسافر الأوّلين لغلبة فقد الماء عليهما دون المصحّ والحاضر.

الرابع: كيفية التيمّم

هو أن يضرب يديه على الصعيد ثم يمسح الجبهة بهما من قصاص الشعر إلى طرف أنفه، ثم يمسح ظاهر الكفين. وقيل باستيعاب مسح الوجه والذراعين، والأوّل أظهر.(2)

وجه كونه أظهر أنّه تعالى عبّر بالمسح المتعدّي بالباء، فقال: (فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَ أَيْدِيكُمْ) فدلّ ذلك على أنّ المعتمد في التيمّم هو مسح بعض عضوي الغسل في الوضوء، أعني: بعض الوجه وبعض اليد إلى المرفق، فينطبق على ما ورد من طرق أئمّة أهل البيت عليهم السلام من تحديد الممسوح بالوجه ما بين الجبينين(3) والممسوح باليد بما دون الزند منها. وأمّا أنّه هل تكفي ضربة واحدة

ص: 51


1- . تفسير المنار: 120/5.
2- . شرائع الإسلام: 48/1.
3- . الجبين: ناحية الجبهة وفي مجمع البحرين: الجبين فوق الصدغ وهما جبينان عن يمين الجبهة وشمالها يتصاعدان من طرفي الحاجبين إلى قصاص الشعر فتكون الجبهة بين الجبينين.

على الصعيد، أو لا؟ فهذا على عاتق السنّة في الفقه الشريف، وظاهر الكتاب كفاية الواحدة.

ثم الظاهر من قوله سبحانه: (فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَ أَيْدِيكُمْ مِنْهُ) لزوم وجود شيء من الصعيد الطيّب في اليد، الذي يعبّر عنه بالعلوق حتى يمسح به وجهه ويديه.

قال في «الكشّاف» لا يفهم أحد من العرب من قول القائل مسحت برأسه من الدهن ومن الماء ومن التراب إلّامعنى التبعيض.(1)

وعلى هذا ف «من» في قوله: (مِنْهُ) تبعيضية لا ابتدائية، فلابدّ للمتيمّم من السعي في بقاء شيء من الصعيد على اليد، حتى يمسح به الوجه واليدين، فما ربّما يقال: ويستحب نفض اليدين بعد ضربهما على الأرض،(2) فهو محمول على نفض اليدين من الحجارة الصغيرة لا من الغبار، فما ربما يقال من جواز التيمّم على الحجر الأملس الذي ليس عليه شيء من التراب أو الغبار، فلا يساعد عليه الذكر الحكيم. ويؤيد ما ذكرنا ما في صحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه السلام وقد جاء فيها:

(وَ أَيْدِيكُمْ مِنْهُ) : أي من ذلك التيمّم؛ لأنّه علم أنّ ذلك أجمع لم يجر على الوجه لأنّه يعلق من ذلك الصعيد ببعض الكف ولا يعلق ببعضها».(3)1.

ص: 52


1- . تفسير الكشّاف: 1/529. أضف إلى ذلك: أنّ التبيينية لا تدخل على الضمير مطلقاً.
2- . شرائع الإسلام: 49/1.
3- . الوسائل: 2، الباب 13 من أبواب التيمّم، الحديث 1.
الخامس: الغاية من الوضوء

ثمّ إنّ الغاية من الوضوء هي ما يذكره سبحانه: (ما يُرِيدُ اَللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ) : أي لا يريد أن يشقّ عليكم، كيف وقد رخّص ترخيصاً إلزامياً بالتيمّم عندما كان الوضوء والغسل حرجيّين، ولكن يريد أمرين:

1. (لِيُطَهِّرَكُمْ) لأنّ الغسل والوضوء يزيل ما في الجسد من أدران، ويحتمل أن يراد به الطهارة المعنوية؛ لأنّ الوضوء واجب عبادي يجب أن يأتي به متقرّباً إلى اللّه سبحانه، ولا مانع من أن يكون الوضوء تطهيراً من الرذائل والأقذار كما في الطهارة بالماء ومزكّياً للنفوس والأرواح، كما في التيمّم بالتراب إذ هو مظهر للخضوع، ولعلّ قوله سبحانه: (وَ لِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ) إشارة إلى الجمع بين النعمتين: الطهارة الجسمية والروحية.

ويحتمل أن يُراد من النعمة: الدين، حيث إنّ الصلاة والوضوء والغسل جزء من الأحكام الشرعية.

قوله تعالى: (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) في مقابل إكمال النعمة حيث أتمّ نعمته ظاهرة وباطنة عملاً واعتقاداً.

السادس: سبب الاختلاف في حكم الأرجل
اشارة

إذا كانت الآية صريحة في مسح الأرجل، فلماذا نرى أنّ قسماً كبيراً من المسلمين يغسلون الأرجل ولا يمسحون عليها، فما هو الوجه في طروء هذا الاختلاف؟

أقول: إنّ قسماً كثيراً من الفقهاء قالوا بأنّ القرآن نزل بالمسح والسنّة

ص: 53

بالغسل، ومعنى ذلك أنّ السنّة نسخت القرآن، وهو كماترى، لأنّ سورة المائدة آخر سورة نزلت من القرآن، ولم ينسخ منها شيء.

يقول ابن عاشور: نزل القرآن بالمسح والسنّة بالغسل وهذا تأويل حسن لهذه الآية، فيكون مسح الرجلين منسوخاً بالسنّة.(1)يلاحظ عليه: أنّ نسخ القرآن بالسنّة أمر مختلف فيه خصوصاً إذا كانت السنّة متعارضة، وقد تقدّم ما يدلّ على المسح من السنّة، كيف وقد روي عن ابن عباس: أبى الناس إلّاالغسل ولا أجد في كتاب اللّه إلّاالمسح.(2)

والذي يمكن أن يقال في التوفيق بين الغسل والمسح: إنّه لا شكّ أنّ النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم توضّأ في المدينة المنوّرة على مرأى من أصحابه وأنصاره وأنّهم رأوا كيفية وضوئه من المسح أو الغسل، فلماذا حصل الاختلاف بعد رحلته؟

والجواب: أنّ الاختلاف رهن أحد أُمور ثلاثة على نحو مانعة الخلوّ:

الأوّل: الاختلاف في القراءة

قد تفرّق الصحابة بعد رحلة النبي صلى الله عليه و آله و سلم إلى بلدان قريبة أو بعيدة ولم يكونوا مجمعين على قراءة واحدة لا في هذه الآية ولا في سائر الآيات، وإن كانوا متّفقين على أنّ مابين الدفّتين هو القرآن المنزل لم ينقص منه شيء، ولم يزد عليه، فمَن قرأ بالجر رجّح المسح، ومن قرأ بالنصب رجّح الغسل.

ص: 54


1- . التحرير والتنوير: 52/5؛ تفسير الدر المنثور: 10/3.
2- . تفسير الدر المنثور: 262/2.
الثاني: النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم كان يغسل رجليه قبل نزول الآية

إنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم كان في فترة من عمره الشريف قبل نزول آية الوضوء يغسل رجليه ولمّا نزل القرآن الكريم بالمسح نُسخت السنّةُ بالقرآن، كما نسخت به في مورد القبلة، حيث إنّ الصلاة باستقبال البيت المقدّس ثبتت بالسنّة ولكنّها نسخت بآية القبلة، ولعلّ الناس أخذوا بالسنّة التي كان النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم عليها، غافلين عن أنّ القرآن هو الحاكم عليها، ويدلّ عليه ما روي عن ابن عباس أنّه قال: أبى الناس إلّا الغسل ولا أجد في كتاب اللّه إلّاالمسح.(1)

الثالث: إشاعة الغسل من قبل السلطة

إنّ القرآن نزل بالمسح ولكن المصلحة المزعومة لدى الحكّام اقتضت إلزام الناس بغسل الأرجل بدل المسح لخبث باطن القدمين، ويدلّ على ذلك بعض ما ورد في النصوص.

روى ابن جرير عن حميد، قال: قال موسى بن أنس ونحن عنده: يا أبا حمزة أنّ الحجّاج خطبنا بالأهواز، ونحن معه وذكر الطهور، فقال: اغسلوا وجوهكم وأيديكم وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم، وإنّه ليس شيء من ابن آدم أقرب من خبثه من قدميه، فاغسلوا بطونهما وظهورهما وعراقيبهما.

فقال أنس: صدق اللّه وكذب الحجّاج، قال اللّه تعالى: (وَ اِمْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ) قال: وكان أنس إذا مسح قدميه بلّها.(2)

ص: 55


1- . تفسير الدر المنثور: 262/2.
2- . تفسير ابن كثير: 27/2؛ تفسير الطبري: 82/6.

وممّا يعرب عن أنّ الدعاية الرسمية كانت تؤيّد الغسل، وتؤاخذ من يقول بالمسح، حتّى إنّ القائلين به كانوا على حذر من إظهار عقيدتهم فلا يصرّحون بها إلّا خفية، ما رواه أحمد بن حنبل بسنده عن أبي مالك الأشعري أنّه قال لقومه:

اجتمعوا أُصلّي بكم صلاة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فلمّا اجتمعوا، قال: هل فيكم أحد غيركم؟ قالوا: لا، إلّاابن أُخت لنا، قال: ابن أُخت القوم منهم، فدعا بجفنه فيها ماء فتوضّأ ومضمض واستنشق، وغسل وجهه ثلاثاً وذراعيه ثلاثاً ثلاثاً، ومسح برأسه وظهر قدميه، ثم صلّى بهم.(1)

هذه هي الوجوه التي يمكن أن يُبرر بها اختلاف المسلمين في الوضوء بعد رحيل رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، ولو أنصفنا لوجب علينا أن نقول: إنّ السبب المهمّ هو إعراضهم عن التمسّك بكلا الثقلين اللّذين أمر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم المسلمين بالتمسّك بهما للنجاة من الضلال.2.

ص: 56


1- . مسند أحمد بن حنبل: 342/5؛ المعجم الكبير: 280/3، برقم 3412.

أحكام الطهارة

2. آية التيمّم

اشارة

قال تعالى: (يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا اَلصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى حَتّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَ لا جُنُباً إِلاّ عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَ إِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ اَلْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ اَلنِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَ أَيْدِيكُمْ إِنَّ اَللّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً) .(1)

المفردات

الصلاة: تطلق ويراد بها تارة العبادة المعروفة، وأُخرى المعبد كما في قوله تعالى: (وَ لَوْ لا دَفْعُ اَللّهِ اَلنّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَ بِيَعٌ وَ صَلَواتٌ وَ مَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اِسْمُ اَللّهِ كَثِيراً) .(2)

جُنُباً: بضمتين: مُن أصابته جنابة إمّا من خروج مني أو جماع، سُمّي جنباً

ص: 57


1- . النساء: 43.
2- . الحج: 40.

لاجتنابه مواضع الصلاة، وهو يستعمل في المفرد والجمع. ونصب عطفاً على قوله: (وَ أَنْتُمْ سُكارى) حيث إنّ المعطوف عليه جملة حالية محلّها النصب.

سكارى: جمع سكران، الذي فيه الحالة التي تحول بينه وبين عقله.

عابري سبيل: يفسّر تارة بالمجتاز وأُخرى بالمسافر.

الغائط: المكان المنخفض المُعدّ لقضاء الحاجّة من المخرجين، وهذا من أدب القرآن الرفيع، حيث يعبر عمّا لا يستحسن ذكره بالكنايات. نعم صارت الكلمة - في زماننا - حقيقة في نفس الشيء.

لامستم: كناية - أيضاً - عن المباشرة الجنسية، وهو من أدب القرآن حيث يعبّر عن هذا العمل بالكناية. وما رُوي عن الشافعي: أنّ الآية تدلّ على نقض الوضوء بلمس بشرة النساء إلّاالمحارم منهن، غير تام لاستعمال المسّ الذي هو يرادف اللمس في غير واحدة من الآيات(1) في المباشرة.

صعيداً: المكان المرتفع من وجه الأرض أو وجه الأرض.

طيّباً: الطيّب: ما كان طاهراً نظيفاً خالياً عن الأذى في النفس والبدن.(2)

وبعد أن اتّضحت معاني المفردات ندخل إلى المقصود، فنقول:

وفي الآية محاور:

1. النهي عن الصلاة في حالة السكر.

2. النهي عن دخول الجنب في الصلاة حتى يغتسل، إلّاعابر السبيل.».

ص: 58


1- . لاحظ: سورة البقرة، الآية 236، 237.
2- . مجمع البحرين: 2/111، مادة «طيب».

3. حكم المريض والمسافر ومَن جاء من قضاء الحاجة أو لامس النساء إذا فقد الماء.

4. وجوب التيمّم للطوائف الأربع. وإليك دراسة كلّ محور على حدة.

أمّا الأوّل: فاللّه سبحانه يخاطب المؤمنين ألّا يدخلوا في الصلاة وهم سُكارى حتى يدركوا ما يقولون في الصلاة، يقول تعالى: (يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا اَلصَّلاةَ) : أي لا تدخلوها (وَ أَنْتُمْ سُكارى حَتّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ) :

فإنّ السكران لا يتكلّم عن عقل وشعور، فالمؤمن يواجه مقام العظمة والكبرياء ويخاطب رب العالمين فلا يصلح أن يكون سكراناً يتكلّم بلا شعور ولا عقل.

ثمّ إنّ هنا شبهة أثارها بعض المفسّرين وشرحها الرازي قائلاً: بأنّ ظاهر قوله سبحانه: (يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا) نهي المؤمنين عن القرب من الصلاة حال صيرورتهم بحيث لا يعلمون ما يقولون، وتوجيه التكليف على مثل هذا الإنسان ممتنع بالعقل والنقل.

أمّا العقل فإنّ تكليف مثل هذا الإنسان يقتضي التكليف بما لا يطاق.

وأمّا النقل فهو قوله عليه السلام: «رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ، وعن المجنون حتى يفيق، وعن النائم حتى يستيقظ»، ولأنّ مثل السكران مثل المجنون، فوجب ارتفاع التكليف عنه.(1)

أقول: عزب عن الرازي أنّ الخطاب للمؤمنين قبل أن يسكروا، فيأمرهم بالاجتناب عن شرب الخمر للحذر عن الابتلاء بهذا الأمر المحرّم.0.

ص: 59


1- . تفسير الرازي: 109/10-110.

ثمّ إنّ قوله: (حَتّى تَعْلَمُوا) ليس غاية للحكم حتى يكون معنى الآية لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى، إلى أن تعلموا ما تقولون، فإذا علمتم ما تقولون فلا بأس بالصلاة، حتى يستشمّ منه جواز القرب إلى الصلاة لدى وقت العلم بما يقولون، بل هو تعليل للحكم - أي منع الصلاة حال السكر - أي لكي تعلموا ما تقولون فإنّ شرب الخمر لا ينفك عن وقوع الصلاة في حال السكر.

تفسير قوله: (إِلاّ عابِرِي سَبِيلٍ)

وأمّا المحور الثاني وهو قوله: (وَ لا جُنُباً إِلاّ عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا) : أي لا تقربوا الصلاة جنباً إلّاعابري سبيل، فلو أُريد من الصلاة العبادة المعروفة فلابدّ من تفسير عابري سبيل بالمسافر، أي لا تقربوا الصلاة وأنتم جنب إلّا إذا كنتم مسافرين فاقدين للماء فيجوز اقترابها حتى تغتسلوا.

روى السيوطي في «الدر المنثور» عن علي عليه السلام في قوله: (وَ لا جُنُباً إِلاّ عابِرِي سَبِيلٍ) قال: «نزلت هذه الآية في المسافر، تصيبه الجنابة فيتيمّم ويصلّي»، وفي لفظ قال: «لا يقرب الصلاة إلّاأن يكون مسافراً، تصيبه الجنابة فلا يجد الماء فيتيمم ويصلّي حتى يجد الماء».(1)

فإن قلت: تفسير الفقرة بهذا النحو وإن كان يوجب انسجام الآية ولكنّه يوجب التكرار؛ لأنّ حكم المسافر يأتي - في قوله سبحانه - في آخر الآية: (أَوْ عَلى سَفَرٍ) .

والجواب: أنّ الوارد في صدر الآية هو خصوص الجنب المسافر الّذي لا

ص: 60


1- . تفسير الدر المنثور: 546/2.

يجد ماءً فيتيمّم، وأمّا الوارد في ذيل الآية فالمراد مطلق المسافر، سواء كان محدثاً بالأصغر أو الأكبر.

فإن قلت: قد مرّ الحديث عن الجنب في قوله: (وَ لا جُنُباً) ، فلماذا ذكره ثانياً في قوله: (أَوْ لامَسْتُمُ) ؟

قلت: الجُنب في صدر الآية أعمّ حيث إنّ سبب الجنابة لا يختصّ بلمس النساء، بل يحصل بالاحتلام، فصدر الآية أعمّ من ذيلها.

وربما يقال: إنّ المراد من الصلاة المعبد، وعندئذٍ يكون المعنى: أي لا تقربوا المعبد الذي بُني للصلاة حال كونكم سُكارى إلّاإذا كنتم متجاوزين دخولاً من باب وخروجاً من باب آخر، فللجنب أن يجتاز المسجد ويحرم عليه المكث فيه إلّاالمسجد الحرام ومسجد النبي صلى الله عليه و آله و سلم إذ يحرم فيهما المكث والاجتياز. وعلى هذا تدور الفقرة في بيان حكم الجنب، عند دخوله المسجد.

حكم الطوائف الأربع

وأمّا المحور الثالث: حكم الطوائف الأربع إذا فقدوا الماء، فقال سبحانه: (وَ إِنْ كُنْتُمْ) :

1. (مَرْضى) .

2. (عَلى سَفَرٍ)

3. (أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ اَلْغائِطِ) .

4. (أَوْ لامَسْتُمُ اَلنِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً) .

فظاهر الآية أنّ كلّاً من العناوين الأربعة، إذا كانوا فاقدين للماء يجب عليهم

ص: 61

التيمّم. وبعبارة أُخرى: قوله: (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً) قيد للأربعة جميعاً لا لخصوص الأخيرين.

إنّ كلّاً من العناوين الأربعة عنوان طريقي إمّا لفقدان الماء كما في العناوين الثلاثة، أو لكون استعماله حرجياً كما في المرضى، وليس للمرض والسفر موضوعية، بمعنى أنّ كلّاً من المريض والمسافر يجوز لهما التيمّم وإن وجدا الماء أو لم يكن استعماله حرجيّاً، وهذا هو الذي فهمه عامّة المفسّرين إلّامن شذّ كالشيخ عبده وقد مرّ كلامه في تفسير آية المائدة فلا نعيد. وبما ذكرنا تبيّن أنّ القيد راجع إلى العناوين الأربعة، وأنّ المسافر إذا كان واجداً للماء أو المريض إذا كان الماء غير مضر له، يجب عليهما الاغتسال.

المحور الرابع: كيفية التيمّم

ثمّ إنّه سبحانه يذكر كيفية التيمّم ويقول: (فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً) : أي تحرّوا واقصدوا أرضاً طيّبة (فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَ أَيْدِيكُمْ) والمسح بالوجوه والأيدي لا يتحقّق إلّابضرب الكفّين على الأرض، وأمّا أنّه هل تكفي ضربة واحدة أو لكلّ من الوجه والكفين ضربة خاصّة، ظاهر إطلاق الآية كفاية الواحدة للجميع إلّاأن تدلّ السنّة على التعدّد.

ثم إنّ الباء في قوله: (بِوُجُوهِكُمْ) للتبعيض فيدلّ على عدم وجوب الاستيعاب في مسح الوجوه والأيدي، وأمّا ما هو الحدّ فالآية ساكتة عنه، فيرجع فيه إلى السنّة. وقد مرّ ما هو الحدّ في غسل الوجه.

روى الكليني بسند صحيح عن زرارة قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن التيمّم؟

ص: 62

فضرب بيده إلى الأرض ثم رفعها فنفضها، ثم مسح بها جبينه وكفيّه مرّة واحدة.(1)

نعم الآية تدلّ على أنّ صلاة المصلّي بالطهارة الترابية صحيحة لا تحتاج إلى الإعادة ولا القضاء. ثم إنّ الفاضل المقداد قال: وفي الآية أحكام كثيرة... أنهاها إلى 27 حكماً.(2) وفي دلالة الآية على قسم منها تأمّل واضح، فراجع.

ثمّ إنّه سبحانه أتمّ الآية بقوله: (إِنَّ اَللّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً) فإنّه سبحانه قد رخّص لفاقد الماء عدم الاغتسال حتى يرتفع العذر. لكونه (عَفُوًّا) كثير الصفح والتجاوز، (غَفُوراً) : أي كثير الستر على عباده.

***

عليٌّ إمام المتّقين

مَن درس حياة الإمام علي عليه السلام عن وعي وبلا رأي مُسْبق، يقف على أنّه عليه السلام ترعرع في أحضان النبي صلى الله عليه و آله و سلم منذ صباه إلى أن قبض اللّه سبحانه نبيّه إليه. ونلفت نظر القارئ إلى أمرين:

عليّ ربيب بيت النبوة

إنّ فاطمة بنت أسد أُمّ أمير المؤمنين عليه السلام تقول: فولدتُ عليّاً ورسول اللّه ثلاثون سنة فأحبّه رسول اللّه حبّاً شديداً وقال لي: اجعلي مهده بقرب فراشي، وكان صلى الله عليه و آله و سلم يلي أكثر تربيته وكان يطهر عليّاً في وقت غسله، ويوجره اللبن عند

ص: 63


1- . الوسائل: 1 الباب 11 من أبواب التيمّم، الحديث 3.
2- . لاحظ: كنز العرفان: 1/30-31.

شربه ويحرك مهده عند نومه، ويناغيه(1) في يقظته، ويحمله على صدره ورقبته، ويقول: هذا أخي ووصيّي وزوج كريمتي وأميني على وصيتي وخليفتي، وكان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يحمله دائماً ويطوف به جبال مكة وشعابها وأوديتها وفجاجها، صلّى اللّه على الحامل والمحمول.(2)

عدم مفارقة عليّ رسول اللّه منذ صباه إلى رحيله

يقول ابن هشام: وممّا أنعم اللّه به على علي بن أبي طالب رضى الله عنه أنّه كان في حجر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قبل الإسلام. قال ابن إسحاق: وحدّثني عبد اللّه بن أبي نجيح، عن مجاهد بن جبر أبي الحجّاج، قال: كان من نعمة اللّه على علي بن أبي طالب، وما صنع اللّه له، وأراده من الخير، أنّ قريشاً أصابتهم أزمة شديدة، وكان أبو طالب ذا عيال كثير، فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم للعبّاس عمّه، وكان من أيسر بني هاشم، يا عبّاس: إنّ أخاك أبا طالب كثير العيال، وقد أصاب الناس ماترى من هذه الأزمة، فانطلق بنا إليه، فنخفّف عنه من عياله، آخذُ من بنيه رجلاً، وتأخذ أنت رجلاً، فنكفلهما عنه. فقال العباس: نعم. فانطلقا حتى أتيا أبا طالب، فقالا له: إنّا نريد أن نخفف عنك من عيالك حتى ينكشف عن الناس ما هم فيه، فقال لهما أبو طالب:

إذا تركتما لي عقيلاً فاصنعا ما شئتما. قال ابن هشام: ويقال: عقيلاً وطالباً. فأخذ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عليّاً فضمّه إليه، وأخذ العباس جعفراً فضمّه إليه، فلم يزل عليّ مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم حتى بعثه اللّه تبارك وتعالى نبيّاً، فاتبعه عليّ رضى الله عنه وآمن به وصدّقه،

ص: 64


1- . المناغاة: المحادثة، وقد ناغت الأُمّ صبيّها: لاطفته وشاغلته بالمحادثة والملاعبة. النهاية لابن الأثير: 5/88، مادة «نغا».
2- . كشف الغمة: 61/1-62.

ولم يزل جعفر عند العبّاس حتى أسلم واستغنى عنه.(1)

نعم كان أخذ عليّ ذريعة في الواقع لتربيته على يد النبي صلى الله عليه و آله و سلم وهذا هو الذي يذكره الإمام عليه السلام في خطبته ويقول: «وَلَقَدْ كُنْتُ أَتَّبِعُهُ اتِّبَاعَ الْفَصِيلِ أَثَرَ أُمِّهِ، يَرْفَعُ لِي فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْ أَخْلَاقِهِ عَلَماً، وَيَأْمُرُنِي بِالْإِقْتِدَاءِ بِهِ. وَلَقَدْ كَانَ يُجَاوِرُ فِي كُلِّ سَنَةٍ بِحِرَاءَ (حرّاء) فَأَرَاهُ، وَلَا يَرَاهُ غَيْرِي. وَلَمْ يَجْمَعْ بَيْتٌ وَاحِدٌ يَوْمَئِذٍ فِي الْإِسْلَامِ غَيْرَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله و سلم وَخَدِيجَةَ وَأَنَا ثَالِثُهُمَا. أَرَى نُورَ الْوَحْيِ وَالرِّسَالَةِ، وَأَشُمُّ رِيحَ النُّبُوَّةِ. وَلَقَدْ سَمِعْتُ رَنَّةَ (رَنَة) الشَّيْطَانِ حِينَ نَزَلَ الْوَحْيُ عَلَيْهِ صلى الله عليه و آله و سلم فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللّهِ مَا هذِهِ الرَّنَّةُ؟ فَقَالَ: «هذَا الشَّيْطَانُ قَدْ أَيِسَ مِنْ عِبَادَتِهِ. إِنَّكَ تَسْمَعُ مَا أَسْمَعُ، وَتَرَى مَا أَرَى، إِلَّا أَنَّكَ لَسْتَ بِنَبِيٍّ، وَلكِنَّكَ لَوَزِيرٌ وَإِنَّكَ لَعَلَى خَيْرٍ».(2)

يقول ابن أبي الحديد: فجاور رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في حراء في شهر رمضان ومعه أهله خديجة، وعلي بن أبي طالب وخادم لهم، فجاءه جبرئيل بالرسالة... إلى آخر ما ذكره.(3)

والروايات في هذا الموضوع كثيرة.

ومعنى هذا أنّ عليّاً لم يكن يفارق النبي صلى الله عليه و آله و سلم منذ صباه إلى أن رحل إلى ربه.

وأمّا النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم فاللّه سبحانه أدّبه فأحسن أدبه لم يعبد وثناً ولم يشرب خمراً، عن أبي النعيم في «الدلائل» عن علي عليه السلام: قيل للنبي صلى الله عليه و آله و سلم: هل عبدت وثناً3.

ص: 65


1- . السيرة النبويّة: 245/1-246.
2- . نهج البلاغة: الخطبة 192، «القاصعة».
3- . شرح نهج البلاغة: 208/13.

قط؟ قال صلى الله عليه و آله و سلم: لا، قالوا: هل شربت خمراً قط؟ قال: لا.(1)

تحريم الخمر في عامة الشرائع

وروى الكليني بسند صحيح عن الإمام الرضا عليه السلام: «ما بعث اللّه نبيّاً قط إلّا بتحريم الخمر».(2)

وروى الكليني أيضاً عن زرارة عن الإمام الصادق عليه السلام: «ما بعث اللّه نبيّاً قط إلّا وفي علم اللّه أنّه إذا أكمل دينه كان فيه تحريم الخمر، ولم تزل الخمر حراماً، وإنّما يُنقلون من خصلة إلى خصلة، ولو حُمل ذلك عليهم جُملة لقطع بهم دون الدين».(3)

قال الشيخ البلاغي: معنى هذه الروايات لم تزل حراماً عنداللّه وفي كلّ دين ولكن قد يستفحل الضلال وحكم الجاهلية في الأُمم إلى أن يروها حلالاً، فإذا بعث اللّه نبيّاً آخر قد لا يفاجئهم في أوّل نبوّته وتبليغه بتحريمها، لأنّ الحكمة تقتضي أن يتدرّج معهم في بيان المحرّمات ببيان خصلة خصلة، ولو حملهم دفعة على ترك جميع المحرّمات لما انقادوا إلى الدين ولقطع بهم دونه، ويشهد تدرّج القرآن الكريم ببيان أنّ فيها إثماً كبيراً وإثمها أكبر ممّا يزعمه الناس من النفع، كما مضى في سورة البقرة (الآية: 219) وأنّها رجس من عمل الشيطان ليوقع بها العداوة والبغضاء بينهم، كما في سورة المائدة [الآية 91]، وما كان كما ذكرناه لابدّ من أن يكون النبي صلى الله عليه و آله و سلم عالماً بتحريمه من أوّل الأمر، ولابدّ في كماله وعصمته وأهليته

ص: 66


1- . كنز العمال: 12/406، برقم 35439.
2- . الكافي: 115/1، برقم 15.
3- . الكافي: 395/6، برقم 3.

للنبوّة ودعوتها من أن لا يكون مدّة عمره الشريف قد لوّث قُدسه بشربها قبل النبوّة وبعدها.(1)

هذا هو النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم ومَن ربّاه في حجره، وهما كالفرقدين في سماء الفضيلة والكرامة، أفيمكن لمثل عليّ أن يفارق معلّمه ومربّيه، فيجتمع مع جماعة عبدوا الصنم في عصر الجاهلية وشربوا الخمر واستمروا عليه طالبين البيان الشافي من رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، فيشرب معهم الخمر، ويكون إماماً لهم فيقرأ قوله تعالى في سورة الكافرون، فيغلط كما رواه القوم.

إنّ لشخينا البلاغي بياناً شافياً في ذلك، حيث يقول: إذن فمن تربّى بتربية رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ونهج من صغر سنّه نهجه، وتأدّب من طفولته بآدابه، وآمن برسالته من أوّلها، وكان أطوع له صلى الله عليه و آله و سلم من ظلّه، كيف يقال في شأنه إنّه كان يشرب الخمر أُمّ الخبائث، والمُوقعة في الفواحش، والسالبة للعقل وشرف الإنسانية، والملحقة للإنسان بمجنون الوحوش.(2)

رواية مجعولة للحطّ من مقام الوصيّ

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ السيوطي نقل الرواية عن جماعة منهم الحاكم، بالنحو التالي: عن عليّ بن أبي طالب قال: صنع لنا عبد الرحمن بن عوف طعاماً، فدعانا وسقانا من الخمر، فأخذت الخمر منا، وحضرت الصلاة، فقدّموني فقرأت:

(قُلْ يا أَيُّهَا اَلْكافِرُونَ * لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ) ، ونحن نعبد ما تعبدون، فأنزل اللّه:

(يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا اَلصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى حَتّى تَعْلَمُوا ما

ص: 67


1- . آلاء الرحمن في تفسير القرآن: 417/2-418.
2- . آلاء الرحمن في تفسير القرآن: 2/417-418.

تَقُولُونَ) (1) ،(2) ولكن يا للأسف أنّ السيوطي أخطأ في روايته عن الحاكم ولم ينقلها صحيحاً، وإليك نصّ ما رواه الحاكم:

عن علي رضى الله عنه قال: دعانا رجل من الأنصار قبل تحريم الخمر فحضرت صلاة المغرب فتقدّم رجل فقرأ: (قُلْ يا أَيُّهَا اَلْكافِرُونَ) فالتبس عليه فنزلت:

(لا تَقْرَبُوا اَلصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى حَتّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ) .

[وقال بعد الرواية]: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرّجاه. وفي هذا الحديث فائدة كثيرة وهي أنّ الخوارج تنسب هذا السكر وهذه القراءة إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام دون غيره، وقد برأه اللّه منها فإنّه راوي هذا الحديث، وقال الذهبي: صحيح.(3)

أضف إلى ذلك: أنّ الحاكم يرويها عن عبد الرحمن السُّلمي وهو إنسان منحرف عن علي عليه السلام، ففي «تهذيب التهذيب» عن الواقدي من أنّ أبا عبد الرحمن السُّلَمي عبد اللّه بن حبيب شهد مع عليّ صفين ثم صار عثمانياً! أي معادياً لعلي وموالياً لمعاوية.(4)

فما قيمة رواية يرويها العدو في حقّ مَن يعاديه. هذا كلّه يرجع إلى الرواية الأُولى التي نقلها السيوطي في «الدر المنثور»، وأمّا بقية الروايات فحدّث عنها ولا حرج، ففيها تناقضاً في المتن، ففي الرواية الأُوّلى أنّ المضيّف هو عبد الرحمن5.

ص: 68


1- . النساء: 43.
2- . تفسير الدر المنثور: 2/165.
3- . المستدرك على الصحيحين: 307/2 (الطبعة القديمة)، ج 1198/3، برقم 3199، طبعة المكتبة العصرية.
4- . تهذيب التهذيب: 184/5.

ابن عوف، وعليّ هو الإمام، وفي الرواية الثانية أنّ الإمام هو عبد الرحمن، فلا يمكن الاعتماد على هذه الروايات، واللّه الحاكم.

إنّ من نسب هذا الأمر الشنيع إلى عليّ، ممّن لم يعرف عليّاً حقّ معرفته، أو عرفه ولكن عاداه، فأراد أن يقرنه إلى من كانت عادته شرب الخمر، حتى يهوّن الأمر عليه، ونعم ما قال علي عليه السلام في بعض خطبه، حيث قرنه عمر بن الخطاب مع رجال خمسة هم دون مكانته ومنزلته، قال عليه السلام: «فَيَالَلّهِ وَلِلشُّورَى! مَتَى اعْتَرَضَ الرَّيْبُ فِيَّ مَعَ الْأَوَّلِ مِنْهُمْ، حَتَّى صِرْتُ أُقْرَنُ إلَى هذِهِ النَّظَائِرِ!».(1)

ثمّ إنّ مَن حقّق الموضوع من علمائنا شيخنا البلاغي في تفسيره القيّم (آلاء الرحمن) وقد صدرنا عن بيانه وإفاضاته.3.

ص: 69


1- . نهج البلاغة: الخطبة 3.

أحكام الطهارة

3. أحكام الحائض في الذكر الحكيم

الآية الأُولى:
اشارة

قال سبحانه: (وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا اَلنِّساءَ فِي اَلْمَحِيضِ وَ لا تَقْرَبُوهُنَّ حَتّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اَللّهُ إِنَّ اَللّهَ يُحِبُّ اَلتَّوّابِينَ وَ يُحِبُّ اَلْمُتَطَهِّرِينَ) (1).

المفردات

المحيض: من الحيض، وهو في الأصل بمعنى الفيض والسيلان الخفيف من داخل الشيء، كفيضان الصمغ من الشجرة، وفيضان الدم من رحم المرأة، ثم غلب استعماله في المعنى الثاني، وعلى هذا فأُريد من المحيض دم الحيض، بشهادة رجوع الضمير إليه في قوله تعالى: (قُلْ هُوَ أَذىً) .

وعلى هذا فالمحيض مصدر كالمجيء والمبيت، بمعنى الحيض. وفي

ص: 70


1- . البقرة: 222.

الوقت نفسه فهو اسم مكان وزمان، ففي قوله: (عَنِ اَلْمَحِيضِ) أريد المعنى المصدري، وفي (فِي اَلْمَحِيضِ) المعنى الثاني أي: مكانه وزمانه.

أذى: فسّر في المفردات بالضرر، فقال: الأذى: ما يصل إلى الحيوان من الضرر.(1) ولكنّه لا ينسجم مع سائر الآيات، قال سبحانه: (إِنَّ اَلَّذِينَ يُؤْذُونَ اَللّهَ وَ رَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اَللّهُ فِي اَلدُّنْيا وَ اَلْآخِرَةِ) (2).

وقال تعالى: (وَ اَلَّذِينَ يُؤْذُونَ اَلْمُؤْمِنِينَ وَ اَلْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اِكْتَسَبُوا) (3).

وقال تعالى: (لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَ اَلْأَذى) (4).

إلى غير ذلك من الآيات التي أُريد منها معنى الإيلام والمنّة لا الضرر، وأمّا المقام فقد أُريد به القذر بشهادة قوله سبحانه في المحرم للحجّ: (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ) (5) وقد فُسّر بالقَمْل في رأس المحرم، والأذى هنا بمعنى القذارة.

وعلى هذا فقد استعمل في الإيلام والمنّة والقذارة، وأمّا الضرر الذي يدّعيه الراغب فلم نعثر عليه في موارد الآيات.

في المحيض: قد مرّ أنّه هنا اسم زمان ومكان، وأُريد مكان الحيض وزمانه، بخلاف قوله: (وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلْمَحِيضِ) فقد أُريد به دم الحيض، كما مرّ.6.

ص: 71


1- . المفردات للراغب: 15، مادة «أذى».
2- . الأحزاب: 57.
3- . الأحزاب: 58.
4- . البقرة: 263.
5- . البقرة: 196.

يطهرن: بالنقاء، عن خروج الدم، وهذا أمر طبيعي وليس فعلاً اختيارياً، بل ينتهي إليه أمر المرأة طبعاً.

تطهّرن: فعل اختياري يجب تحصيله لمن حصل لها النقاء، وأُريد به إمّا غَسْل الموضع أو الغُسْل أو الوضوء. وهذا يدلّ على أنّه لابدّ من صدور فعل اختياري منها، مضافاً إلى الطهر الخارج عنه.

التفسير

إنّ الداعي إلى السؤال عن هذا الحكم هو، اختلاف الأُمم في معاملة الرجال لزوجاتهم في أيام الحيض، فقد روي أنّ اليهود والمجوس كانوا يبالغون في التباعد عن المرأة حال حيضها، نعم كان النصارى لا يبالون بالحيض وكانوا يجامعون نساءهم، وأنّ أهل الجاهلية كانوا إذا حاضت المرأة لم يؤاكلوها، ولم يشاربوها، ولم يجالسوها على فرش، ولم يساكنوها في بيت كفعل اليهود والمجوس.(1)

وأمّا الشريعة الإسلامية فقد اتّخذت موقفاً معتدلاً (وسطاً) وهو أنّها أجازت معاشرتهن وكأنّهن في غير تلك الحالة، إلّاأنّها نهت عن اقترابهن.

قال سبحانه: (وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلْمَحِيضِ) : أي دم الحيض. ثمّ إنّ جهة السؤال مجهولة، ولعلّ السائل سأل عن كيفية المعاشرة أو المجامعة، حسب ما ذكر في الجاهلية، فوافاه الجواب بقوله: (قُلْ هُوَ أَذىً) : أي أنّ دم الحيض قذر يلزم أن

ص: 72


1- . تفسير الرازي: 63/6.

يُجتنب عنه؛ لذلك رتّب عليه قوله: (فَاعْتَزِلُوا اَلنِّساءَ فِي اَلْمَحِيضِ) : أي زمان الحيض ومكانه، وبما أنّه ربما يتوهّم منه الاعتزال التام - كما في الجاهلية - عطف عليه قوله: (وَ لا تَقْرَبُوهُنَّ) : أي اجتنبوا مجامعتهن في الفرج، فعلم من ذلك كيفية المعاشرة مع النساء في المحيض، وأنّه لا فرق بين الحالتين إلّافي أمر الدخول فيحرم ولا يحرم سائر الالتذاذات.

ثمّ إنّه سبحانه حدّد منع المقاربة بأمرين:

1. (حَتّى يَطْهُرْنَ) وهذا عمل طبيعي وحالة طارئة على المرأة بعد انقضاء أيام العادة بالنقاء.

2. (فَإِذا تَطَهَّرْنَ) وهذا فعل اختياريّ قائم بالمرأة، فيدل على أنّ المنع ينتفي بأمرين: النقاء من جانب المرأة، والثاني قيام المرأة بالتطهّر، وهو مردّد بين غسل موضع الحيض أو الوضوء أو الغُسْل، كما سيأتي.

وممّا ذكرنا يظهر أنّه لا تعارض بين الفعلين لأنّ الأوّل أمر طبيعي خارج عن الاختيار، والأمر الثاني فعل اختياري للمرأة. فعلى ظاهر الآية أنّ النقاء الذي هو فعل خارج عن الاختيار لا يكفي إلّاأن يُضم إليه فعل من جانب المرأة.

قوله تعالى: (فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اَللّهُ) إنّ لفظ (حَيْثُ) يدلّ على المكان، فيحتمل أن يكون المراد بالأمر بالاعتزال هو الوارد في قوله سبحانه:

(فَاعْتَزِلُوا اَلنِّساءَ فِي اَلْمَحِيضِ) . وعلى هذا فمعنى الفقرة: يجوز لكم إتيان النساء من المكان الذي أُمرتم بالاعتزال عنه، وهو الفرج. يقول الطبرسي: معناه:

من حيث أمركم اللّه بتجنّبه في الحيض وهو الفرج.(1)2.

ص: 73


1- . مجمع البيان: 117/2.

نعم الأمر بعد الحظر يفيد الإباحة، كقوله سبحانه: (فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَ اِبْتَغُوا ما كَتَبَ اَللّهُ لَكُمْ) (1). الوارد بعد النهي عن اقتراب النساء في ليالي شهر رمضان مطلقاً، حيث أحلّه في لياليه كما قال: (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ اَلصِّيامِ اَلرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ) .

ثمّ إنّه سبحانه ختم الآية بقوله: (إِنَّ اَللّهَ يُحِبُّ اَلتَّوّابِينَ) من الذنوب (وَ يُحِبُّ اَلْمُتَطَهِّرِينَ) إمّا طهارة ظاهرية بالماء، أو طهارة واقعية من الذنوب.

ولعلّ وصفه بأنّه (يُحِبُّ اَلتَّوّابِينَ) إشارة إلى قبول توبة مَن لم يمتلك نفسه في تلك الحالة وجامع زوجته، ثم تاب عن ذلك فاللّه يقبل توبته.

كما أنّ وصفه بأنّه (يُحِبُّ اَلْمُتَطَهِّرِينَ) إشارة إلى أنّ النهي عن اقتراب النساء في المحيض، لأجل تطهير المؤمن، واللّه يحب المتطهّرين.

الآية الثانية:
اشارة

قال سبحانه: (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنّى شِئْتُمْ وَ قَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَ اِتَّقُوا اَللّهَ وَ اِعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَ بَشِّرِ اَلْمُؤْمِنِينَ) .(2)

قبل الدخول في حكم الآية نفسّر لفظ «حرث»: وهو إلقاء البذر في الأرض وتهيئتها للزرع، ويُسمّى المحروث - أي الأرض المعدّة للحرث - أيضاً حرثاً، قال اللّه تعالى: (أَنِ اُغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ) .(3)

ص: 74


1- . البقرة: 187.
2- . البقرة: 223.
3- . القلم: 22.

وصلة الآية بما قبلها واضحة، لأنّ الآية السابقة منعت الأزواج عن مقاربة النساء وقت المحيض، فناسب أن يمنّ اللّه سبحانه على عباده برفع المنع بالتطهّر كما قال: (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ) لأنّ الغرض النهائي من النكاح ليس هو إشباع الغريزة الجنسية فقط، بل المراد منه التناسل، فإنّ لكلّ إنسان رغبة في بقاء نسله فقوله: (حَرْثٌ) يحتمل وجهين:

1. المعنى المصدري أي نثر البذور.

2. أُريد به المحروث، فيطلق على الأرض المعدّة للزرع والغرس، قال سبحانه: (وَ قالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَ حَرْثٌ حِجْرٌ) (1): أي أرض زرع محجورة على الناس أن يزرعوها.

والمعنى الثاني هو الأفضل، فإذا كانت النساء محروثة للرجال، فخاطبهم سبحانه بقوله: (فَأْتُوا حَرْثَكُمْ) : أي جيئوا إلى محروثكم، وقال الطبرسي: (فَأْتُوا حَرْثَكُمْ) أي: موضع حرثكم(2)، (أَنّى) : أي أيّ زمان (شِئْتُمْ) والقرينة على أنّ (أَنّى) هنا زمانية هو أنّهم منعوا من نثر البذور في أيام الحيض، فجاء البيان القرآني يرشد إلى أنّ المنع يختصّ بهذا الزمان، وأمّا غيره فلكم إتيانهن في أي زمان شئتم. وعلى هذا تكون (أَنّى) زمانية لا مكانية، وهذا هو المتبادر من الآية بقرينة السياق. وقد صرّح في لسان العرب ومجمع البحرين بأنّ اللفظة تطلق ويراد بها الزمان.(3)6.

ص: 75


1- . الأنعام: 138.
2- . مجمع البيان: 118/2.
3- . لسان العرب: 135/2؛ مجمع البحرين: 210/6.

وحاصل الآية: أنّكم مُنعتم من إتيان النساء في زمان خاصّ، فإذا انقضى ذلك الزمان فأتوهن في أي زمان من الأزمنة، وهذا هو مفاد الآية.

بقي هنا احتمالان بعيدان وهما:

1. أنّ (أَنّى) بمعنى من أين، كما في قوله سبحانه في خطاب زكريا لمريم: (أَنّى لَكِ هذا) (1) أي: من أين؟ وهذا القول منسوب إلى سيبويه حسب ما نقله القرطبي. وما ذكره صحيح في مورد الآية لكنّه بعيد عن سياق آيتنا، إذ ليس لسان الآية، لسان استفهام، بل مفاده الأمر.

2. أنّ (أَنّى) مكانية، ولو فسّرت بهذا يحمل على ما ورد في شأن النزول، حيث قالت اليهود: إنّ الرجل إذا أتى المرأة من خلفها في قبلها خرج الولد أحول، فكذّبهم اللّه، عن ابن عباس وجابر. وقيل: أنكرت اليهود إتيان المرأة قائمة وباركة، فأنزل اللّه إباحته، عن الحسن.(2)

وكون الآية بصدد بيان هذا بعيد عن أدب القرآن الكريم.

ربما ينسب إلى مالك أنّه استدلّ بقوله سبحانه: (فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنّى شِئْتُمْ) بجواز إتيان النساء من الدبر، قال الطبرسي: استدلّ مالك بقوله: (أَنّى شِئْتُمْ) على جواز إتيان المرأة في دبرها، ورواه نافع عن ابن عمر، وحكاه زيد بن أسلم عن محمد بن المنكدر.(3)

والمسألة يستدلّ عليها تارة بالآية، وأُخرى بالروايات.2.

ص: 76


1- . آل عمران: 37.
2- . مجمع البيان: 118/2.
3- . مجمع البيان: 120/2.

أمّا الثانية فهي خارجة عن موضوع بحثنا، إنّما الكلام هو الاستدلال بالآية، فنقول: ما نسب إليه غير تام، وذلك لما تقدّم أنّ لفظة (أَنّى) في الآية زمانية لا مكانية، والاستدلال مبني على كونها مكانية. وسياق الآية يدلّ على خلاف ما اختاره، حيث يقول: (فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنّى شِئْتُمْ) : أي فأتوا موضع حرثكم، ومن المعلوم أنّ محلّ الحرث هو القبل لا الدبر، فالاستدلال بالآية ساقط.

قوله تعالى: (وَ قَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ) فلو قلنا بأنّ المراد: الولد والنسل؛ لأنّ الولد الصالح خير الدنيا والآخرة، فيكون دليلاً آخر على أنّ المراد من قوله:

(فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنّى شِئْتُمْ) هو الإتيان في القبل في أي زمان، فإنّ تقديم ما ينفع غداً من الأولاد لا يتحقّق إلّاإذا كان المراد ما ذكرنا. نعم ربما يفسّر بالمعنى الأعمّ فيشمل العمل الصالح.

قوله تعالى: (وَ اِتَّقُوا اَللّهَ) لعلّه تحذير لمن يقع في معصية اللّه في أيام الحيض، ولذلك يقول بعده: (وَ اِعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ) : أي تلاقونه يوم القيامة، فيجازيكم على البر والإثم، وفي مقابل ذلك يأمر النبي صلى الله عليه و آله و سلم بقوله: (وَ بَشِّرِ اَلْمُؤْمِنِينَ) الذين يأتمرون أوامر اللّه تعالى ويجتنبون عن نواهيه.

جواز إتيان النساء بالنقاء عن الدم وعدمه
اشارة

هل يجوز إتيان النساء بالنقاء عن الدم؟ يمكن استظهار حكمه من الآية بالبيان التالي:

إنّ قوله سبحانه: (حَتّى يَطْهُرْنَ) قرئ بتخفيف «الطاء». نعم قرأ أهل الكوفة - غير حفص - بتشديد «الطاء» والموجود في المصحف هو التخفيف، فيكون «يطهرن» من طهرت المرأة في مقابل «طمثت» فالتقابل (بين يطهرن، و تطهّرن)

ص: 77

يؤيّد قراءة التخفيف في اللفظة الأُولى، فعلى هذا فالمنع في إتيان النساء يكون محدّداً بطهرهن في مقابل طمثهن، فإذا حصل النقاء ارتفع الطمث، وتحقّق الطهر.

والذي يصدّ المفسّر عن الإفتاء بجواز الإتيان بمجرد النقاء، الفقرة التالية بعدها حيث يقول: (فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اَللّهُ) فإنّ التشديد في الفعل يدلّ على لزوم شيء زائد وراء الطُهر، فتكون الآية دالّة على لزوم تحصيل أمر وراء النقاء، وعندئذٍ يقع الكلام ما هو هذا الشيء، فهل هو غسل الموضع أو اغتسال المرأة؟ وعلى كلّ تقدير فمجرّد النقاء لا يكفي حسب سياق الآيات، لما مرّ من الاختلاف بين (يَطْهُرْنَ) الذي هو فعل خارج عن الاختيار و (تَطَهَّرْنَ) الذي هو فعل اختياري.

هذا على ضوء الكتاب، وأمّا دراستنا على ضوء سائر الأدلّة فنطرح أقوال الفقهاء ثم نسرد الروايات.

قال الشيخ في «الخلاف»: إذا انقطع دم الحيض جاز لزوجها وطؤها إذا غسلت فرجها، سواء كان ذلك في أقلّ الحيض أو في أكثره، وإن لم تغتسل.

وقال أبو حنيفة: إن انقطع دمها لأكثر مدّة الحيض وهو عشرة أيام حلّ وطؤها، ولم يراع غسل الفرج، وإن انقطع دون العشرة أيام لم يحل ذلك إلّابعد أن توجد ما ينافي الحيض، وهو أن تغتسل أو تتيمم وتصلّي، فإن تيمّمت ولم تصل لم يجز وطؤها، فإن خرج عنها الوقت ولم تصل، جاز وطؤها.

وقال الشافعي: لا يحل وطؤها إلّابعد أن تستبيح فعل الصلاة إمّا بالغسل مع وجود الماء أو التيمّم عند عدمه، فأمّا قبل استباحة الصلاة فلا يجوز وطؤها على

ص: 78

حال.(1)

أمّا ما أفتى به أبو حنيفة فقد أورد عليه المحقّق الأردبيلي في «زبدة البيان»، فقال: أمّا مذهب أبي حنيفة على ما ذكره في الكشّاف،(2) فبعيد عن الآية كثيراً ولا وجه له، وهو أنّه إن كان لأكثر الدّم فيحرم إلى انقطاع الدّم، وفي أقلّه إلى بعد الغسل أو بعد مضيّ وقت صلاة كاملة، مع أنّه بقي حكم الوسط إلّاأن يُريد بالأقل غير الأكثر أو العكس.(3)

وأمّا فتوى الشافعي فلعلّ ما ذكره تفسير لقوله تعالى: (فَإِذا تَطَهَّرْنَ) ، ولكنّه لم يذكر مصدراً لتفسيره من حديث أو أثر، هذا كلّه حول الآية والأقوال، وأمّا المرويّ عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام فهو على أصناف ثلاثة:

الأوّل: ما يدلّ على الجواز مطلقاً،

نظير:

1. ما رواه الشيخ في «التهذيب» عن عبد اللّه بن بكير، عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «إذا انقطع الدم ولم تغتسل، فليأتها زوجها إن شاء».

ورواه أيضاً علي بن يقطين عن أبي عبد اللّه عليه السلام مثله.(4)

2. ما رواه عبد اللّه بن المغيرة، عمّن سمعه، عن العبد الصالح عليه السلام في المرأة إذا طهرت من الحيض ولم تمسّ الماء فلا يقع عليها زوجها حتّى تغتسل، وإن

ص: 79


1- . الخلاف: 228/1، المسألة 196.
2- . تفسير الكشّاف: 266/1.
3- . زبدة البيان: 65/1.
4- . الوسائل: 2، الباب 27 من أبواب الحيض، الحديث 3 وذيله.

فعل فلا بأس به، وقال: «تمسّ الماء أحبّ إلي».(1)

3. ما رواه عن علي بن يقطين، عن أبي الحسن موسى بن جعفر عليه السلام قال:

سألته عن الحائض ترى الطهر، أيقع بها زوجها قبل أن تغتسل؟ قال: «لا بأس، وبعد الغسل أحبّ إليّ».(2)

الصنف الثاني: ما يدلّ على المنع،

نظير:

1. ما رواه الشيخ عن أبي بصير، عن أبي عبد اللّه عليه السلام، قال: سألته عن امرأة كانت طامثاً فرأت الطهر، أيقع عليها زوجها قبل أن تغتسل؟ قال: «لا حتّى تغتسل»، قال: وسألته عن امرأة حاضت في السفر ثم طهرت فلم تجد ماء يوماً واثنين، أيحلّ لزوجها أن يجامعها قبل أن تغتسل؟ قال: «لا يصلح حتّى تغتسل».(3)

2. وما رواه الشيخ - أيضاً - عن سعيد بن يسار، عن أبي عبد اللّه عليه السلام، قال:

قلت له: المرأة تحرم عليها الصلاة ثم تطهر فتتوضّأ من غير أن تغتسل، أفلزوجها أن يأتيها قبل أن تغتسل؟ قال: «لا، حتّى تغتسل».(4)

وصناعة الفقه تقتضي حمل الصنف الثاني على الكراهة، بشهادة ما في الصنف الأوّل من قوله عليه السلام: «وبعد الغسل أحبّ إليّ».

ومحور كلا الصنفين هو لزوم الاغتسال وعدمه، والجمع الذي ذكره لا إشكال فيه، إنّما الكلام في تفسير قوله سبحانه: (فَإِذا تَطَهَّرْنَ) لأنّه يقتضي أنّ

ص: 80


1- . الوسائل: 2، الباب 27 من أبواب الحيض، الحديث 4.
2- . الوسائل: 2، الباب 27 من أبواب الحيض، الحديث 5.
3- . الوسائل: 2، الباب 27 من أبواب الحيض، الحديث 6.
4- . الوسائل: 2، الباب 27 من أبواب الحيض، الحديث 7.

عليها أمراً آخر وراء النقاء وهذا ما نجد جوابه في روايات الصنف الثالث.

الصنف الثالث: ما يدلّ على تقييد الجواز بغسل الموضع،

نظير:

1. ما رواه الكليني بسنده عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر عليه السلام في المرأة ينقطع عنها الدم دم الحيض في آخر أيّامها؟ قال: «إذا أصاب زوجها شبق، فليأمرها فلتغسل فرجها، ثم يمسّها إن شاء قبل أن تغتسل».(1)

2. وروى الشيخ بإسناده عن إسحاق بن عمّار قال: سألت أبا إبراهيم عليه السلام عن رجل يكون معه أهله في السفر فلا يجد الماء، يأتي أهله؟ فقال: «ما أحبّ أن يفعل ذلك إلّاأن يكون شبقاً أو يخاف على نفسه».(2)

وهاتان الروايتان صالحتان لتقييد الصنفين السابقين، فيقيّد ما دلّ على الجواز بهما، كما يقيد المنع بهما كذلك. وهذا القول لا يخلو من قوّة، وهو خيرة الشيخ الصدوق.(3) نعم أورد عليه في «الجواهر» بقوله: «لا يخفى عليك قصوره عن مقاومة ما ذكرنا من وجوه متعدّدة، لا سيما بعد كون الغالب عدم الشبق، فيبعد حمل تلك المطلقات على تقييد هذا الخبر».(4)

أمّا الشبق فليس أمراً غير غالب خصوصاً في الشباب بعد الامتناع عن الوطء أيام الحيض.

وعلى كلّ تقدير فالذي يصدّنا عن القول بالجواز مطلقاً هو قوله

ص: 81


1- . الوسائل: 2، الباب 27 من أبواب الحيض، الحديث 1.
2- . الوسائل: 2، الباب 27 من أبواب الحيض، الحديث 2.
3- . من لا يحضره الفقيه: 53/1.
4- . جواهر الكلام: 269/3.

سبحانه: (فَإِذا تَطَهَّرْنَ) ، ومن العجب أنّ الشيخ الطوسي فسّر (تَطَهَّرْنَ) وقال بمعنى طهرن؛ لأنّ تفعل يجيء بمعنى فعل.(1) وتبعه صاحب الجواهر فقال:

أن (تفعّل) بمعنى «فعل» قيل ومنه المتكبّر في أسماء اللّه تعالى، بمعنى الكبير.(2)

يلاحظ عليه: أنّ المتكبّر من أوصافه سبحانه بمعناه الحقيقي، وهو حقّ له؛ لأنّه هو الذي تلبّس بالكبرياء وظهر به، فإذا كان الكبر هو الحالة التي توجب إعجاب المرء بنفسه ورؤية ذاته أكبر من غيره، لاترى لذلك الوصف حقيقة إلّافي ذاته سبحانه، حيث له الكبرياء والعظمة دون غيره.

فخرجنا بالنتيجة التالية: إنّ الأحوط لو لم يكن الأقوى، لزوم غسل المحلّ وتطهيره قبل اللقاء، وهو القدر المتيقّن من الروايات.3.

ص: 82


1- . الخلاف: 229/1، المسألة 196.
2- . جواهر الكلام: 207/3.

أحكام الطهارة

4. حكم المشرك في الذكر الحكيم

اشارة

قال تعالى: (يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا اَلْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا اَلْمَسْجِدَ اَلْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا وَ إِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اَللّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ إِنَّ اَللّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) .(1)

المفردات

نجس: قال الفيومي: نجس - بالكسر - اسم فاعل، و - بالفتح - وصف بالمصدر. يقال: نجس الشيء نجساً فهو نجس من باب تعب، إذا كان قذراً غير نظيف.(2)

وقال الراغب: النجاسة: القذارة وذلك ضربان:

ضرب يُدرك بالحاسّة.

وضرب يُدرك بالبصيرة.

ص: 83


1- . التوبة: 28.
2- . المصباح المنير: 594/2، مادة «نجس».

والثاني وصف اللّه تعالى به المشركين، فقال: (إِنَّمَا اَلْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ) ويقال: نجّسه أي جعله نجساً.(1)

العيلة: الفقر، يقال: عال يعيل إذا افتقر. قال الشاعر:

وما يدري الفقير متى غناه ***وما يدري الغنيُّ متى يعيل

روى المفسّرون في شأن نزول الآية أنّ عليّاً عليه السلام نادى في سنة تسع من الهجرة وقال: لا يَحجّن بعد هذا العام مشرك. ثم صار ذلك ثقيلاً على المسلمين فإن منعَ المشركين عن الحجّ يوجب ضرراً اقتصادياً في تجارة أهل مكّة، فجاء الوحي الإلهي يؤمنهم بقوله: (وَ إِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً) أي فقراً وحاجة، وكانوا قد خافوا انقطاع المتاجر، بمنع المشركين من دخول الحرم (فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اَللّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ) : أي فسوف يغنيكم اللّه من جهة أُخرى، إن شاء أن يغنيكم، بأن يرغّب الناس من أهل الآفاق في حمل الميرة(2) إليكم، رحمة منه ونعمة عليكم.(3)

التفسير
اشارة

وقبل تفسير الآية نقدّم أُموراً:

الأوّل: في أصناف الكافرين

يُقسّم الكافر إلى مشرك وغير مشرك، والمشركون هم عُبّاد الأصنام

ص: 84


1- . المفردات للراغب: 483، مادة «نجس».
2- . الميرة: الطعام الذي يدخره الإنسان.
3- . مجمع البيان: 41/5.

والأوثان، من غير فرق بين كون الوثن سماوياً أو أرضياً؛ فعبّاد النجوم مشركون، كما أنّ مشركي قريش الذين كانوا يعبدون الأصنام المنصوبة على البيت، مثلهم.

ثمّ إنّ أهل الكتاب ومن في حكمهم كاليهود والنصارى والمجوس فهم - في مصطلح القرآن - ليسوا بمشركين - وإن كان شرك النصارى أشدّ من شرك عُبّاد الوثن - ومع ذلك فالقرآن يفرّق بينهما يقول سبحانه: (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ اَلنّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا اَلْيَهُودَ وَ اَلَّذِينَ أَشْرَكُوا) (1)، وقال تعالى: (لَمْ يَكُنِ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ اَلْكِتابِ وَ اَلْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتّى تَأْتِيَهُمُ اَلْبَيِّنَةُ) (2).

والذي يهمّنا بالبحث عنه هنا هو حكم المشرك من حيث الطهارة والنجاسة لاختصاص الآية به، فخرج اليهود والنصارى والمسلم المرتدّ والنواصب والخوارج عن مصبّ بحثنا. فيطلب حكم هؤلاء بالرجوع إلى المصادر الفقهية.

الأمر الثاني: في نجاسة المشرك وطهارته

إنّ فقهاء الإسلام، في نجاسة المشرك وطهارته، على أقوال:

الأوّل: ذهب فقهاء أهل السنّة - إلّاالقليل - إلى طهارتهم، ونقل الشيخ في «الخلاف» عن الشافعي قوله: لا بأس باستعمالها (الأواني) ما لم يعلم فيها نجاسة، وبه قال أبو حنيفة ومالك.(3)

قال الرازي: أمّا جمهور الفقهاء فإنّهم حكموا بكون الكافر طاهراً في جسمه. ثم إنّ الرازي أورد على الحنفية ما هذا حاصله، يقول: قال أبو حنيفة

ص: 85


1- . المائدة: 82.
2- . البينة: 1.
3- . لاحظ: الخلاف: 70/1، المسألة 167، كتاب الطهارة.

وأصحابه: أعضاء المحدث نجسة، نجاسة حكمية، وبنوا عليه أنّ الماء المستعمل في الوضوء والجنابة نجس.

ثمّ إنّهم قالوا: المشرك طاهر وزعموا أنّ المياه التي استعملها المشركون في أعضائهم بقيت طاهرة مطهرة، والمياه التي يستعملها أكابر الأنبياء في أعضائهم نجسة نجاسة غليظة، وهذا من العجائب.(1)

الثاني: أنّ نجاسة المشركين نجاسة عرضية؛ لأنّهم يتناولون الميتة والخمر ولا يجتنبون النجاسات الشرعية، وإلّا فالمشركون طاهرون بالذات نجسون بالعرض.

وقد نقل القول بها عن جماعة من أصحابنا، منهم:

1. ابن أبي عقيل العمّاني، حيث حكي عنه عدم نجاسة سؤر اليهود والنصارى.(2) وقال في «الجواهر»: لعلّه لعدم نجاسة القليل عنده بالملاقاة إذ السؤر عند الفقهاء - على ما قيل -: الماء القليل الذي لاقاه فم حيوان أو جسمه.(3)

أضف إلى ذلك: أنّ كلامه هنا إنّما في أهل الكتاب فلا يستنبط منه حكم المشرك، فإنّ نجاسة أهل الكتاب أخفّ من نجاسة المشرك.

2. ابن الجنيد، فقد حكي عن مختصر ابن الجنيد قوله: أنّه لو تجنّب من أكل ما صنعه أهل الكتاب من ذبائحهم وفي آنيتهم، وكذلك ما وضع في أواني مستحلّ 6.

ص: 86


1- . تفسير الرازي: 25/6.
2- . لاحظ: مدارك الأحكام: 295/2.
3- . جواهر الكلام: 42/6.

الميتة ومؤاكلتهم ما لم يتيقّن طهارة أوانيهم وأيديهم، كان أحوط.(1)

ولا يخفى أنّ كلامه غير صريح في النجاسة العرضية. فإنّما يدلّ على أنّ الأحوط الاجتناب عن ذبائح أهل الكتاب وأوانيهم ما لم يتيقّن طهارتها، وهو أعمّ من القول بالنجاسة الذاتية أو العرضية.

3. المفيد في المسائل الغرية، وقد حكاه المحقّق في «المعتبر» عنه، حيث قال بالكراهة.(2) وفي «الجواهر»: لعلّه أراد من الكراهة، الحرمة.(3)

4. الشيخ الطوسي في نهايته، فإنّه قال: ويُكْره أن يدعو الإنسان أحداً من الكفّار إلى طعامه فيأكل معه، فإن دعاه فليأمره بغسل يديه، ثم يأكل معه إن شاء.

وقد حمل كلامه على الطعام الجاف، كالتمر والخبز؛ وذلك لأنّه قال قبل ذلك ما هو صريح في الحكم بنجاستهم، قال: ولا تجوز مؤاكلة الكفّار على اختلاف مللهم ولا استعمال أوانيهم إلّابعد غسلها بالماء، وكلّ طعام تولّاه بعض الكفّار بأيديهم وباشروه بنفوسهم، لم يجز أكله، لأنّهم أنجاس ينجس الطعام بمباشرتهم إيّاه.(4)

5. صاحب المدارك (المتوفّى 1009 ه): حيث إنّه ناقش في دلالة قوله تعالى: (إِنَّمَا اَلْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ) ، كما أنّه بعد ما نقل كلتا الطائفتين من الروايات قال: ويمكن الجمع بين الأخبار بأحد أمرين: إمّا حمل هذه (الأخبار الدالّة على0.

ص: 87


1- . جواهر الكلام: 42/6.
2- . لاحظ: المعتبر: 96/1.
3- . جواهر الكلام: 41/6.
4- . النهاية: 580 و 590.

الطهارة) على التقيّة، أو حمل النهي في الأخبار المتقدّمة على الكراهة.

ثمّ رجّح الثاني ببعض الأُمور، وفي نهاية كلامه استظهر أنّ في صحيحة إسماعيل بن جابر إشعاراً بأنّ النهي عن مباشرتهم للنجاسة العرضية.(1)

مورد الروايات التي يشير إليها صاحب المدارك، هو أهل الكتاب، فتردّده فيهم لا يكون دليلاً على تردّده في المشرك، فتدبر.

6. الفيض الكاشاني (المتوفّى 1097 ه)، فإنّه بعد ذكر الأخبار قال: وقد مضى في باب طهارة الماء خبر في جواز الشرب من كوز شرب منه اليهودي، والتطهير من مسّهم ممّا لا ينبغي تركه.(2) وفيه دلالة على رجحان التطهير منه لا لزومه.

وربما يكون بين المتأخّرين قائل بالنجاسة العرضية، ولم نقف عليه.

***

الثالث: القول بالنجاسة الجعلية الاعتبارية

القول بالنجاسة الذاتية بالجعل الشرعي هو القول المشهور بين الإمامية، وكفى في ذلك ما ننقله عن المرتضى وغيره.

قال المرتضى: وممّا انفردت به الإمامية القول بنجاسة سؤر اليهودي والنصراني وكلّ كافر، وخالف جميع الفقهاء في ذلك، وحكى الطحاوي عن مالك في سؤر النصراني والمشرك: «أنّه لا يتوضّأ به» ووجدت المحصّلين من أصحاب مالك يقولون: «إنّ ذلك على سبيل الكراهة لا التحريم» لأجل استحلالهم الخمر

ص: 88


1- . مدارك الأحكام: 298/2-299.
2- . الوافي: 211/6، ذيل الحديث 31.

والخنزير، وليس بمقطوع على نجاسته، فالإمامية منفردة بهذا المذهب».(1)

فإن قلت: إنّ كلامه في مورد أهل الكتاب لا المشركين.

قلت: يدل بالأولوية على نجاسة المشرك.

وقال المحقّق البهبهاني: إنّ القول بالنجاسة الذاتية شعار الشيعة، يعرفه منهم علماء العامّة وعوامهم ونساؤهم وصبيانهم، بل وأهل الكتاب فضلاً عن الخاصّة.(2)

ثمّ إنّ صاحب الجواهر تلقّى كون المسألة على مرتبة من الظهور حيث قال: وكيف كان فتطويل البحث في المقام تضييع للأيام في غير ما أعدّها له الملك العلّام.(3)

ولعلّ هذا المقدار من نقل الكلمات كافٍ في إثبات الشهرة.

إنّما المهم لنا في هذا المقام استظهار الحكم من الآية، والاستدلال بها على المقصود، وإليك البيان.

فنقول: يقع الكلام في مقامين:

الأوّل: تفسير الآية وإيضاحها.

الثاني: عرض الأقوال على مفاد الآية.

أمّا الأوّل: فلأنّ قوله سبحانه: (إِنَّمَا اَلْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ) من قبيل حصر الموصوف على الصفة، وكأنّه لا ماهية ولا واقعية للمشرك سوى كونه نجساً، وأمّا6.

ص: 89


1- . الانتصار: 10.
2- . جواهر الكلام: 42/6.
3- . جواهر الكلام: 44/6.

ما ربما يظهر من الرازي أنّه من قبيل حصر الوصف على الموصوف فهو غير تام، حيث قال: إنّ قوله تعالى: (إِنَّمَا اَلْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ) يدلّ على فساد هذا القول، لأنّ كلمة (إِنَّمَا) للحصر، وهذا يقتضي أن لا نجس إلّاالمشرك، فالقول بأنّ أعضاء المحدث نجسة مخالف لهذا النصّ، والعجب أنّ هذا النص صريح في أنّ المشرك نجس وفي أنّ المؤمن ليس بنجس.(1)

يلاحظ عليه: بأنّ قول القائل: «إنّما الطائي سخيّ» بصدد بيان حصر واقع الطائي على السخاء، لا حصر السخاء على الطائي.

وعلى هذا فالمشرك بوجوده يجسد النجاسة والقذارة، وليس له واقعية غيرها، فعندئذٍ نعرض الأقوال على هذا المعنى المستفاد من الآية.

عرض الآراء على مفاد الآية

1. جعل القذارة المعنوية كجعلها على الميسر.(2)

أقول: لو أُريد هذا فمعنى ذلك أنّ المشرك مع أنّه قذر ونجس يجوز مؤاكلته ومشاربته، ومن المعلوم أنّ هذين الأمرين لا ينسجمان، إذ لا يترتّب على جعل القذارة المعنوية أي أثر، ويُعدّ الكلام الثاني نقضاً للكلام الأوّل. فأين حصر واقع المشرك بالقذارة والنجاسة ومع ذلك يجوز أن يتعامل معه كالتعامل مع المسلم الطاهر المطهَّر.

2. القذارة العرفية التي يعرفها كلّ الناس، وهذا أيضاً غير صحيح، ومخالف

ص: 90


1- . تفسير الرازي: 25/16.
2- . في قوله سبحانه: (إِنَّمَا اَلْخَمْرُ وَ اَلْمَيْسِرُ وَ اَلْأَنْصابُ وَ اَلْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ اَلشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (المائدة: 90).

للواقع، فإنّ المشركين لا يختلفون عن سائر الطوائف نظافة.

3. النجاسة العرضية، بأن يقال: بأنّ حصر حقيقتهم بالنجاسة، لكونهم يمارسون النجاسات الشرعية.

يلاحظ عليه: أنّ ظاهر الآية أنّ النجاسة لا تفارق المشركين ولو كانت عرضية لفارقت في ظرف دون ظرف.

4. النجاسة الشرعية الجعلية، فإنّ الآية وإن كانت جملة خبرية، ولكنّها بصدد إنشاء الحكم، إذ ليس الإخبار من وظائف الشرع، بل من وظائفه جعل الحكم.

فيكون معنى الفقرة: أنّ المشركين عين القذارة ظاهراً وباطناً، فلذلك منعوا من الدخول إلى المسجد الحرام؛ لأنّ المسجد مركز الطاهرين المطهّرين، لا لمثل هؤلاء.

ربما يطرح سؤالان تجب الإجابة عنهما:

الأوّل: إنّ حمل المصدر على الذات غير صحيح، فلابدّ من تقدير كلمة بأن يقال: إنّما المشركون ذوو نجس، وعلى هذا يسقط الاستدلال المبني على كون الكافر مجسِّداً للقذارة.

يلاحظ عليه: أنّ حمل المصدر على الذات لا يصحّ حقيقة، ولكن يصحّ ادعاءً ومبالغة، كقول الخنساء في صفة الناقة الفاقدة لولدها:

ص: 91

ترتاع ما نسيت حتى إذا ذكرت *** فإنّما هي إقبال وإدبار(1)

الثاني: ما ذكره صاحب المدارك - ويظهر من غيره - قال: إنّ النجس لغة المستقذر، قال الهروي في تفسير الآية: يقال لكلّ مستقذر نجس، والمستقذر أعمّ من النجس بالمعنى المصطلح عليه عند الفقهاء، والواجب حمل اللفظ على الحقيقة اللغوية عند انتفاء المعنى الشرعي، وهو غير ثابت هنا.(2)

يلاحظ عليه: أنّه ليس للنجس إلّامعنى واحد عرفاً وشرعاً، يقول ابن فارس: أصل صحيح يدلّ على خلاف الطهارة، وشيء نَجِسٌ ونَجَسٌ: قذر، والنَّجَس: القَذَر وليس ببعيد أن يكون منه قولهم: الناجس: الداء لا دواء له. قال ساعدة الهذلي:

والشيب داءٌ نجيسٌ لا دواء له ***للمرءِ كان صحيحاً صائب القُحَمِ (3)

وعلى هذا فالإشكال مبني على أنّ لها معنيين عرفي وشرعي. فالآية تدل على الأوّل دون الثاني، ولكنّه غير تام؛ لأنّ النجس والنجاسة كسائر الألفاظ مثل البيع والإجارة والرهن والنكاح والطلاق له معنى واحد، والشارع عندما أمضى هذه الحقائق العرفية أمضاها بما عند العرف من المعنى، غير أنّه أخرج مصاديقه.

ص: 92


1- . هذا البيت للخنساء ترثي بقصيدتها أخاها صخراً، ولكنّها تُشير في هذا البيت إلى ناقة فقدت ولدها بموت أو نحر، فضنّت بلبنها، فلأجل أن تدر اللبن يحشون جلد ولدها بالتبن ويقربوه منها حتى تشمه، وتظنه ولدها فيدر لبنها، ولذلك قالت: ترتاع (الضمير المستتر) يعود إلى الناقة التي عرفت وصفها (ما نسيت) ولدها (حتى إذا ذكرت) ولدها، فتتوجه إليه. فتارة تقبل به تظن انّه ولدها وتدبر إذا نسيت كونه ولدها.
2- . مدارك الأحكام: 294/2-295.
3- . المقاييس: 393/5-394، مادة «نجس». القُحَم جمع القحمة: الأمر الشاقّ والأمر المكروه.

عن تحت بعض العناوين وأدخل بعضاً آخر، فأخرج بيع الكلب والخنزير عن قوله سبحانه: (وَ أَحَلَّ اَللّهُ اَلْبَيْعَ) ، وعلى هذا فالنجس في الآية بالمعنى العرفي، ولكن الشارع تصرّف في المصاديق وجعل المشرك من مصاديق هذا المعنى، لكن العرف كان غافلاً عنه.

كما أخرج عن النجس القيح والقيء، فإنّهما قذران عرفاً دون الشرع.

وما ذكرناه هو الطريقة الواضحة في أسماء العبادات والمعاملات، فالقول بالحقيقة الشرعية مقابل الحقيقة العرفية يحتاج إلى دليل.

ويدلّ على ذلك أنّ الشرع يتكلّم بلغة العرف، قال سبحانه: (وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاّ بِلِسانِ قَوْمِهِ) (1).

الاحتجاج بالروايات(2)

احتجّ القائلون بالنجاسة بالروايات الصحيحة الدالّة على النجاسة، وفي مقابلها ما يستفاد منه الطهارة، لكن مصبّ هذه الروايات - نجاسة وطهارة - هو المجوس واليهود والنصارى، وعند ذلك لا وجه للبحث عن هاتين الطائفتين، ووجه الجمع بينهما لاختلاف موضوعهما، إنّما اللازم تفسير بقية الآية. وقد مرّ الإيعاز إليه عند نقل كلام صاحب المدارك.

قال تعالى: (فَلا يَقْرَبُوا اَلْمَسْجِدَ اَلْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا) (2).

ص: 93


1- . إبراهيم: 4.
2- . التوبة: 28.

ثمّ إنّ النهي عن الاقتراب كناية عن دخولهم نفس المسجد أو الحرم، والوجه عن النهي هو حفظ عقائد المسلمين من التأثّر بآراء المشركين وعقائدهم، ثمّ إنّ الآية تكفّلت ببيان حكم المسجد الحرام.

المنع في الآية مختصّ بالمسجد الحرام

وأمّا حكم سائر المساجد فربما يقال بأنّه يُعلم بإلغاء الخصوصية، فإنّ علّة المنع من الدخول في المسجد - مضافاً إلى ما قلناه - هو احترام المسجد الحرام عند اللّه، وليس من شكّ أنّ كلّ مسجد هو محترم عند اللّه؛ لأنّه منسوب إليه جلّت عظمته والحكم يدور مع علّته إثباتاً ونفياً.(1)

يلاحظ عليه: أنّ الغاء الخصوصية إنّما يصحّ إذا ثبت الحكم في الأضعف أو في المساوي، وأمّا إذا ثبت الحكم في الأقوى فلا يمكن القول بإلغاء الخصوصية وإسراء الحكم إلى الأضعف ولعلّ للأقوى - أعني: المسجد الحرام - خصوصية ليست في غيره من المساجد.

وعلى هذا فالآية مختصّة بالمسجد الحرام.

نعم يمكن الحكم بالمنع عن مطلق المساجد بأنّ المشرك جنب بلا إشكال ودخوله المسجد حرام - بناءً على أنّهم محكومون بالفروع - وإدخالهم وتسهيل الأمر لهم للدخول، إعانة على الإثم، ولو تمّ هذا الدليل لعمّ الحكم مطلق الكافر حتى أهل الكتاب فإنّهم كفّار وليسوا بمشركين حسب مصطلح القرآن، كما مرّ، لكن الوجه الجامع بين المشرك وغيره هو كونهم جنباً.

ص: 94


1- . التفسير الكاشف: 28/4.

ثمّ إنّه سبحانه يقول: (وَ إِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً) : أي فقراً (فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اَللّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ) .

خوف المسلمين الجُدَد من أمرين:

1. لمّا مُنع المشركون من المشاركة في الحجّ، بل حتى الدخول في المسجد، ضجّ جمع من المسلمين، بأنّ هذا المنع سوف يؤثّر على مصالحهم الاقتصادية، فجاء البيان القرآني بأنّكم إن خفتم عيلة، أي فقراً بمنع مشاركة قبائل كثيرة من الحجّ فإنّ اللّه سيغنيكم عن ذلك، وقد حقّق سبحانه وعده إذ أسلم أغلب المشركين في الجزيرة العربية، فحملوا الطعام والميرة إلى مكّة المكرّمة، خصوصاً اليمنيّين فقد جاءوا بالقوت الكثير.

2. كانوا يخافون من الاختطاف أيضاً فيقولون لو آمنا، يتخطّفنا العرب والعشائر المقيمون خارج الحرم، واللّه سبحانه يرد عليه بقوله: (وَ قالُوا إِنْ نَتَّبِعِ اَلْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا أَ وَ لَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْ ءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنّا وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (1).

والآية ترد عليهم بأنّ اللّه سبحانه يرد عنهم كيد الاختطاف، كما يضمن إجباء الثمرات عليهم.

توضيحه: أنّ جماعة من المكيّين يخاطبون النبي بأنّ قولك حقّ، ولكن يمنعنا أن نتّبع الهدى معك ونؤمن بك مخافة أن يتخطّفنا العرب من أرضنا، ولا طاقة لنا بالعرب، فقال سبحانه رادّاً عليهم هذا القول: أو لم نجعل لهم مكّة أمناً

ص: 95


1- . القصص: 57.

وأماناً ودفعنا عنهم؟ أفلا نقدر على دفع ضرر الناس عنهم لو آمنوا؟ فحالة الإيمان والطاعة أولى بالأمن والسلامة.

أو لا يرون أنّه تجبى إليهم ثمرات كلّ أرض وبلد، إعطاءً من لدنّا، ولكن أكثرهم لا يعلمون ما أنعمنا به عليهم.

ثمّ إنّه سبحانه ختم الآية بقوله: (إِنَّ اَللّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) : أي عليم بأحوال عباده وحكيم في أحكامه.

وفي نهاية المقام نذكر كلمة: إنّ جعل النجاسة عليهم والحكم بكونهم نجساً إنّما هو لغاية الحيلولة بينهم وبين المشركين ومنعاً عن الاختلاط، فإنّ التعايش والاحتكاك يؤثّر، خصوصاً إذا كان أحد الطرفين متمتّعاً بالنعم والشهوات التي تميل إليها النفوس، فينجذب الشباب إليها، فتجويز الاختلاط يجرّ المسلمين - خصوصاً شبابهم - إلى اقتراف المحرّمات شيئاً فشيئاً، ومن المعلوم أنّه لو دام هذا النوع من المعاشرة سلب المسلمين اهتمامَهم بصيانة دينهم وشريعتهم ويكونوا معتادين لما عليه العدو، فمَن قرأ تاريخ سقوط الأندلس المسلمة بيد الصليبيّين يقف على أنّهم دخلوا في حياة المسلمين عن طريق فتح باب المعاشرة والمجالسة في محافل تسود فيها الشهوات واللذائذ المادّية وتُنسى فيها الحواجز الشرعية. فالإلحاد عملاً، يؤثّر في الإلحاد عقيدة، قال سبحانه: (ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ اَلَّذِينَ أَساؤُا اَلسُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اَللّهِ وَ كانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ) (1).

***

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى اَلسَّمْعَ وَ هُوَ شَهِيدٌ) .(2)7.

ص: 96


1- . الروم: 10.
2- . ق: 37.

أحكام الطهارة

5. حكم الخمر تكليفاً ووضعاً في الذكر الحكيم

اشارة

قال تعالى: (إِنَّمَا اَلْخَمْرُ وَ اَلْمَيْسِرُ وَ اَلْأَنْصابُ وَ اَلْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ اَلشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) .(1)

المفردات

الخمر: اختلفت كلمة المفسّرين في معنى الخمر، هل هو المتّخذ من العنب، أو يعمّ كلّ مسكر؟ والأكثر على الثاني.

1. قال الطبري: الخمر كلّ شراب خمّر العقل فستره، وغطّى عليه، وهو من قول القائل: خمرتُ الإناء إذا غطّيته، ومن ذلك: خمار المرأة، وذلك لأنّها تستر به رأسها وتغطّيه.(2)

2. قال الزجّاج: وتأويل الخمر في اللغة أنّه كلّ ما ستر العقل، يقال لكلّ ما ستر الإنسان من شجر وغيره، وخمار المرأة قناعها.(3)

3. قال ابن دريد: الخمر معروفة، وإنّما سمّيت خمراً لأنّها تخامر العقل، أي

ص: 97


1- . المائدة: 90.
2- . تفسير الطبري: 276/1.
3- . معاني القرآن: 291/1.

تخالطه وتداخله.(1)

4. قال الفيّومي: ويقال: هي اسم لكلّ مسكر خامر العقل أي غطّاه.(2)

5. قال الراغب: هو عند بعض الناس اسم لكلّ مسكر، وعند بعضهم اسم للمتّخذ من العنب والتمر.(3)

6. قال الفيروز آبادي: الخمر ما أسكر من عصير العنب، أو عام كالخمرة، والعموم أصحّ؛ لأنّها حُرّمت وما بالمدينة خمر عنب، وما كان شرابهم إلّاالبسر والتمر.(4)

7. وقال الطريحي: والخمر فيما اشتهر بينهم كلّ شراب مسكر، ولا يختصّ بعصير العنب.(5)

8. وفي «مجمع اللغة»: الخمر الشراب المسكر، وقد سمّي العنب خمراً لأنّه يؤول إليها.(6)

والظاهر من الأكثر هو أنّه اسم للأعم، ويؤيّده قسم من الروايات:

1. صحيح ابن الحجّاج عن الصادق عليه السلام: «الخمر من خمسة أشياء: العصير من الكرم، والنقيع من الزبيب، والبِتع من العسل، والمزر من الشعير، والنبيذ من».

ص: 98


1- . الجمهرة: 213/2.
2- . المصباح المنير: 182/1، مادة «خمر».
3- . المفردات للراغب: 159، مادة «خمر».
4- . القاموس المحيط: 23/2، مادة «خمر».
5- . مجمع البحرين: 292/3، مادة «خمر».
6- . مجمع اللغة، مادة «خمر».

التمر».(1)

2. روى الشيخ في «التهذيب» عن الحسين الحضرمي، عمّن أخبره، عن علي بن الحسين عليهما السلام قال: «الخمر من خمسة أشياء: من التمر والزبيب والحنطة والشعير والعسل».(2)

3. روى الشيخ الطوسي في الأمالي عن النعمان بن بشير قال: سمعت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يقول: «أيّها الناس إنّ من العنب، خمراً، وإنّ من الزبيب خمراً، وإنّ من التمر خمراً، وإنّ من الشعير خمراً، ألا أيّها الناس! أنهاكم عن كلّ مسكر».(3)

إلى غير ذلك من الروايات الدالّة على أنّ (الخمر اسم لكلّ ما يُسكر)؛ نظير ما رواه عطاء بن يسار عن أبي جعفر عليه السلام، قال: «قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: كلّ مسكر حرام، وكلّ مسكر خمر».(4)

الميسر: يطلق على القمار، وأُطلق عليه ذلك لكونها عبارة عن الاستيلاء على مال الغير بيُسر.

الأنصاب: الأوثان، وهو جمع النصب؛ لأنّها كانت منصوبة للعبادة.

الأزلام: قمار خاص تكفّل ببيانه علماء التفسير، وقد ورد في القرآن الكريم مرّتين: أوّلاً في أوّل سورة المائدة، وثانياً في المقام.5.

ص: 99


1- . الوسائل: 16، الباب 1 من أبواب الأشربة المحرّمة، الحديث 1.
2- . الوسائل: 16، الباب 1 من أبواب الأشربة المحرّمة، الحديث 2.
3- . الوسائل: 16، الباب 1 من أبواب الأشربة المحرّمة، الحديث 4.
4- . الوسائل: 16، الباب 15 من أبواب الأشربة المحرّمة، الحديث 5.

رجس: قال الخليل: كلّ شيء يستقذر فهو رجس.(1)

قال الفيومي: الرجس: النتن، والرجس: القذر.

قال الفارابي: وكلّ شيء يستقذر فهو رجس. وقال النقّاش: الرجس:

النجس، قال في البارع: وربما قالوا الرجاسة والنجاسة، أي جعلوهما بمعنى واحد، وقال الأزهري: النجس القذر الخارج من بدن الإنسان، وعلى هذا فقد يكون الرجس والقذر والنجاسة بمعنى، وقد يكون القذر والرجس بمعنى غير النجاسة.(2)

وقال المديني: في الدعاء: أعوذ بك من الرجس النجس.

إنّهم إذا بدأوا بالنجس ولم يذكروا الرجس فتحوا النون والجيم، وإذا بدأوا بالرجس ثم أتبعوه بالنجس، كسروا النون، ومعنى الرجس: القذر. وقد يعبّر به عن الحرام.(3)

التفسير

اتّفق المسلمون على حرمة الخمر تكليفاً، ولم يصدّهم تعاطي ذوي الشوكة من بني أُميّة وبني العباس عن الإفتاء بالحقّ.

وبما أنّ كثيراً منهم كانوا متهالكين في شرب الخمر، ربما يجعلون عدم

ص: 100


1- . كتاب العين: 52/6، مادة «رجس».
2- . المصباح المنير: 266/1، مادة «رجس».
3- . المجمع المغيث: 739/1، ط. دارالمديني جدّة. وقد صدرنا في نقل قسم من الكلمات عن المعجم في فقه لغة القرآن وسرّ بلاغته: المجلد 23، الصادر عن مجمع البحوث الإسلامية في العتبة الرضوية، مشهد - إيران.

التنصيص بالحرمة على شرب الخمر دليلاً على عدم حرمتها. هذا علي بن يقطين قال: سأل المهديّ أبا الحسن عليه السلام عن الخمر، هل هي محرمة في كتاب اللّه؟ فإنّ الناس يعرفون النهي عنها، ولا يعرفون التحريم لها؟ فقال له أبو الحسن عليه السلام: «بل هي محرّمة في كتاب اللّه يا أمير المؤمنين»، فقال: في أيّ موضع محرّمة هي في كتاب اللّه جلّ اسمه يا أبا الحسن؟ فقال: «قول اللّه عزّ وجلّ: (قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ اَلْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَ ما بَطَنَ وَ اَلْإِثْمَ وَ اَلْبَغْيَ بِغَيْرِ اَلْحَقِّ) (1) فأمّا قوله: (ما ظَهَرَ) يعني الزنا المعلن - إلى أن قال: - وأمّا الإثم: فإنّها الخمر بعينها، وقد قال اللّه عزّ وجلّ في موضع آخر: (يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلْخَمْرِ وَ اَلْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَ مَنافِعُ لِلنّاسِ) (2)».(3)

نجاسة الخمر

إنّما الكلام في الحكم الوضعي أي النجاسة، فالمشهور بين الإمامية هي النجاسة، فذهب الشيخ المفيد والطوسي والمرتضى وأكثر الأصحاب إلى أنّها نجسة العين.(4)

وقال الشيخ بهاء الدين: أطبق علماء الخاصّة والعامّة على نجاسة الخمر إلّا شرذمة منّا ومنهم، ولم يعتدّ الفريقان بمخالفتهم.(5)

ص: 101


1- . الأعراف: 33.
2- . البقرة: 219.
3- . الوسائل: 16، الباب 9 من أبواب الأشربة المحرمة، الحديث 13.
4- . مدارك الأحكام: 290/2.
5- . الحبل المتين: 442/1.

وأراد من الشرذمة جماعة منهم:

1. ابن أبي عقيل، قال: مَن أصاب ثوبه أو جسده خمر أو مسكر لم يكن عليه غسلهما، لأنّ اللّه تعالى إنّما حرّمها تعبّداً لا لأنّهما نجسان، وكذلك سبيل العصير والخل إذا أصاب الثوب والجسد.(1)

2. الشيخ الصدوق رحمه الله قال: ولا بأس بالصلاة في ثوب أصابه خمر، لأنّ اللّه عزّ وجلّ حرّم شربها ولم يحرّم الصلاة في ثوب أصابته.(2)

3. المحقّق الأردبيلي، وصاحب المدارك، والخوانساري(3) من المتأخّرين، غير أنّ ظاهر الأوّلين هو التردّد والتشكيك.

وعلى كلّ تقدير فالمعتمد هو الدليل.

أمّا الآية فقد ثبت في قسم المفردات أنّ الرجس والنجس بمعنى واحد، وهو ما يستقذر منه.

وقد تقدّم في دراسة نجاسة المشركين أنّه ليس هناك للفظ معنيان، معنى لغوي ومعنى شرعي، بل الموضوع له واحد غير أنّ للشارع التصرّف في المصاديق بإدخال ما لا يعرفه العرف رجساً وإخراج ما يعرفه العرف نجساً.

وبما ذكرنا يتمّ الاستدلال بالآية على نجاسة الخمر؛ لأنّ الرجس يعادلة.

ص: 102


1- . مدارك الأحكام: 290/2، نقلاً عن مختلف الشيعة: 469/1.
2- . من لا يحضره الفقيه: 74/1، الباب 16.
3- . وهو الحسين بن جمال الدين (المتوفّى 1099 ه)، مؤلّف: مشارق الشموس في شرح الدروس، والتعليقة على الروضة البهية.

النجس شرعاً.

بقي الكلام في أمر واحد، وهو ما ذكره صاحب المدارك وقال: يشكل إرادة المعنى الشرعي من الآية لأنّه يقتضي نجاسة الميسر والأنصاب والأزلام لوقوعه خبراً عن الجميع، ولا قائل به.(1)

وأجاب عنه صاحب الجواهر بوجهين:

1. ولعلّه لا ينافيه وقوعه مع ذلك خبراً عن الأنصاب والأزلام، لإمكان أن يراد به بالنسبة إليهما المستقذر عقلاً من باب عموم المجاز.

2. على أنّه يمكن بل هو الظاهر دعوى كونه خبراً عن الخمر خاصّة، فيقدّر حينئذٍ لهما خبراً، ولا يجب مطابقة المحذوف والموجود وإن كان دالّاً عليه، كما في عطف المندوب على الواجب بصيغة واحدة، فيتعيّن حينئذٍ كون الرجس بمعنى النجس.(2)

وحاصل الوجه الأوّل أنّ لفظ رجس استعمل في معنيين: النجاسة الشرعية بالنسبة إلى الخمر، والاستقذار العقلي بالنسبة إلى غيرها.

وعلى كلّ تقدير فلو لم نستظهر دلالة الآية على وجه القطع على نجاسة الخمر، ففي الروايات المتضافرة بل المتواترة غنى وكفاية. وربما بلغ عددها قريباً من عشرين خبراً، وفيها الصحيح والموثّق.(3)

وها نحن نستعرض ما هو المهم من كلتا الطائفتين، ثم نشير إلى وجه6.

ص: 103


1- . مدارك الأحكام: 291/2.
2- . جواهر الكلام: 4/6.
3- . لاحظ: جواهر الكلام: 7/6.

الجمع أو الطرح بإذن اللّه سبحانه.

ما يدلّ على النجاسة

1. ما رواه الكليني باسناده عن عبد اللّه بن سنان قال: سأل أبي أبا عبد اللّه عليه السلام عن الذي يعير ثوبه لمن يعلم أنّه يأكل الجريّ أو يشرب الخمر فيرده، أيصلي فيه قبل أن يغسله؟ قال: «لا يصلّي فيه حتى يغسله».(1) وكأنّ نجاسة الخمر كانت أمراً مسلّماً بين السائل والمجيب.

2. ما رواه الكليني باسناده عن يونس، عن بعض من رواه، عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «إذا أصاب ثوبك خمر أو نبيذ مسكر فاغسله إن عرفت موضعه، وإن لم تعرف موضعه فاغسله كلّه، وإن صليت فيه فأعد صلاتك».(2)

3. ما رواه الكليني باسناده عن خيران الخادم قال: كتبت إلى الرجل عليه السلام أسأله عن الثوب يصيبه الخمر ولحم الخنزير، أيصلّى فيه أم لا؟ فإنّ أصحابنا قد اختلفوا فيه، فقال بعضهم: صلّ فيه فإنّ اللّه إنّما حرّم شربها، وقال بعضهم: لا تصلّ فيه، فكتب عليه السلام: «لا تصلّ فيه، فإنّه رجس».(3)

4. ما رواه الكليني عن هشام بن الحكم أنّه سأل أبا عبد اللّه عليه السلام عن الفقّاع؟

ص: 104


1- . الوسائل: 2، الباب 38 من أبواب النجاسات، الحديث 1. الجريّ والجرّيث نوع من السمك النهري يقال له «ثعبان الماء».
2- . الوسائل: 2، الباب 38 من أبواب النجاسات، الحديث 3.
3- . الوسائل: 2، الباب 38 من أبواب النجاسات، الحديث 4. خيران الخادم ثقة من أصحاب الإمام الهادي عليه السلام، وأُريد بالرجل، الإمام علي الهادي عليه السلام.

فقال: «لا تشربه فإنّه خمر مجهول، فإذا أصاب ثوبك فاغسله».(1)

5. ما رواه الشيخ باسناده عن عمّار، عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «لا تصلّ في بيت فيه خمر ولا مسكر، لأنّ الملائكة لا تدخله، ولا تصلّ في ثوب قد أصابه خمر أو مسكر حتى يغسل».(2)

6. وفي «قرب الإسناد» عن عبد اللّه بن الحسن، عن جدّه علي بن جعفر، عن أخيه موسى بن جعفر عليه السلام، قال: سألته عن النضوح يجعل في النبيذ، أيصلح أن تصلّي المرأة وهو في رأسها؟ قال: «لا، حتى تغتسل منه».(3)

7. ما رواه بإسناده عن عمّار بن موسى، عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: سألته عن الدنّ، يكون فيه الخمر، هل يصلح أن يكون فيه خلّ أو ماء كامخ أو زيتون؟ قال: «إذا غسل فلا بأس وعن الإبريق وغيره يكون فيه خمر، أيصلح أن يكون فيه ماء، قال: «إذا غسل فلا بأس».

وقال: في قدح أو إناء يشرب فيه الخمر، قال: تغسله ثلاث مرّات، وسئل أيجزيه أن يصبّ فيه الماء؟ قال: «لا يجزيه حتى يدلكه بيده ويغسله ثلاث مرات».(4)

8. ما رواه عبد اللّه بن جعفر في «قرب الإسناد» عن عبد اللّه بن الحسن،».

ص: 105


1- . الوسائل: 2، الباب 38 من أبواب النجاسات، الحديث 5.
2- . الوسائل: 2، الباب 38 من أبواب النجاسات، الحديث 7.
3- . الوسائل: 2، الباب 38 من أبواب النجاسات، الحديث 15. النضوح ضرب من الطيب. (مجمع البحرين)
4- . الوسائل: 2، الباب 51 من أبواب النجاسات، الحديث 1. كامخ: جمعه كوامخ، إدام يؤتدم به وخصّه بعضهم بالمخلِّلات التي تستعمل لتشهي الطعام. تاج العروس: 306/4، مادة «كمخ».

عن عليّ بن جعفر، عن أخيه موسى بن جعفر عليه السلام، قال: سألته عن الشرب في الإناء يشرب فيه الخمر قدح عيدان(1) أو باطية(2)، قال: «إذا غسله فلا بأس».(3)

9. وبالاسناد نفسه قال: وسألته عن دنّ الخمر، يجعل فيه الخل، أو الزيتون أو شبهه؟ قال: «إذا غسل فلا بأس».(4)

10. تضافرت الروايات على نزح ثلاثين دلواً إذا وقعت في البئر قطرة دم أو نبيذ مسكر.(5)

هذه عشرة كاملة اقتصرنا بها، وفيها كفاية.

وقد ذكر البحراني من الأحاديث ما يناهز 16 حديثاً.(6)

ما يدلّ على الطهارة

وفي المقام روايات تدلّ على الطهارة، نذكر منها ما يلي:

1. ما رواه الشيخ في «التهذيب» بإسناده عن أبي بكر الحضرمي، قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: أصاب ثوبي نبيذ، أُصلّي فيه؟ قال: «نعم»، قلت: قطرة من نبيذ قطّر في حبّ، أشرب منه؟ قال: «نعم، إنّ أصل النبيذ حلال، وإنّ أصل الخمر

ص: 106


1- . قدح عيدان: قدح من الخشب. (الصحاح: 514/2، مادة «عود»).
2- . الباطية من الزجاج عظيمة تُملأ من الشراب وتوضع بين الشَّرْب يغرفون منها ويشربون. (لسان العرب: 74/14، مادة «بطا»).
3- . الوسائل: 17، الباب 30 من أبواب الأشربة المحرمة، الحديث 5.
4- . الوسائل: 17، الباب 30 من أبواب الأشربة المحرمة، الحديث 6.
5- . لاحظ: الوسائل: 1، الباب 15 من أبواب الماء المطلق.
6- . لاحظ: الحدائق الناضرة: 99/5-103.

حرام».(1)

والسؤال والجواب ناظران إلى النبيذ وهو عند العامّة حلال وطاهر.

قال المجلسي: لعلّ المعنى أنّ عصير التمر والزبيب لا يحرمان بالغليان ما لم يُسكرا، بخلاف عصير العنب، فإنّه يحرم بمحض الغليان، وإن لم يكن مُسكراً، فهذا مؤيّد لحمل الشيخ، والحمل على التقيّة في هذا الحديث أظهر، لاشتهار حلّيّة النبيذ وطهارته بين العامّة، فالمراد بأصل النبيذ والخمر هما قبل خلطهما بماء القدر.(2)

2. ما رواه الشيخ عن الحسين بن أبي سارة، قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: إن أصاب ثوبي شيء من الخمر، أُصلّي فيه قبل أن أغسله؟ قال: «لا بأس، إنّ الثوب لا يسكر».(3) والتعليل حاكٍ عن التقيّة، فإنّه ظاهر أنّ الإمام عليه السلام بصدد إقناع السائل، وإن كان تعليلاً غير حقيقي.

3. ما رواه الشيخ عن عبد اللّه بن بكير قال: سأل رجل أبا عبد اللّه عليه السلام - وأنا عنده - عن المسكر والنبيذ يصيب الثوب؟ قال: «لا بأس».(4)

4. ما رواه الشيخ عن الحسين بن أبي سارة قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: إنّا نخالط اليهود والنصارى والمجوس وندخل عليهم وهم يأكلون ويشربون فيمرّ ساقيهم فيصبّ على ثيابي الخمر؟ فقال: «لا بأس به، إلّاأن تشتهي أن تغسله1.

ص: 107


1- . الوسائل: 2، الباب 38 من أبواب النجاسات، الحديث 9.
2- . ملاذ الأخيار في فهم تهذيب الأخبار: 428/2-429.
3- . الوسائل: 2، الباب 38 من أبواب النجاسات، الحديث 10.
4- . الوسائل: 2، الباب 38 من أبواب النجاسات، الحديث 11.

لأثره».(1)

5. روى الصدوق في الفقيه، قال: سُئل أبو جعفر وأبو عبد اللّه عليهما السلام فقيل لهما: إنّا نشتري ثياباً يصيبها الخمر وودك الخنزير عند حاكتها، أنصلّي فيها قبل أن نغسلها؟ فقالا: «نعم، لا بأس، إنّما حرّم اللّه أكله وشربه، ولم يحرّم لبسه ومسه والصلاة فيه».(2)

6. وروى عبد اللّه بن جعفر في «قرب الإسناد»... عن عليّ بن رئاب قال:

سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن الخمر والنبيذ المسكر يصيب ثوبي، أغسله أو أُصلّي فيه؟ قال: «صلّ فيه إلّاأن تقذّره فتغسل منه موضع الأثر، إن اللّه تعالى إنّما حرّم شربها».(3)

7. ما رواه الشيخ بإسناده عن علي الواسطي قال: دخلت الجويرية - وكانت تحت عيسى بن موسى - على أبي عبد اللّه عليه السلام، وكانت صالحة، فقالت: إنّي أتطيّب لزوجي، فيجعل في المشطة التي امتشط بها، الخمر، وأجعله في رأسي؟ قال: «لا بأس».(4)

إذا عرفت ذلك فنقول: الحقّ الذي يجب أن يتّبع هو الأخذ بالطائفة الأُولى لجهات:ً.

ص: 108


1- . الوسائل: 2، الباب 38 من أبواب النجاسات، الحديث 12.
2- . الوسائل: 2، الباب 38 من أبواب النجاسات، الحديث 13. الودك: الدسم من اللحم والشحم. و «حاكتها» أي عند من يقوم بحياكتها.
3- . الوسائل: 2، الباب 38 من أبواب النجاسات، الحديث 14.
4- . الوسائل: 17، الباب 37 من أبواب الأشربة المحرمة، الحديث 2. المِشطة: لُمّة من الصوف، يدخلها الزوج في الخمر وتجعلها الزوجة في رأسها ليبدو شعر رأسها كثيراً.

الأُولى: موافقتها للكتاب العزيز، فقد مرّت دلالته على نجاسة الخمر.

الثانية: كونها أكثر عدداً وأقوى سنداً، حتى أنّ الشيخ حسن صاحب المعالم اقتصر على ما يدلّ على النجاسة، قال صاحب الجواهر: ولقد أجاد الشيخ حسن في المنتقى على ما نقل عنه حيث اقتصر عليها في أدلّة النجاسة، وفيها تصديق لما رواه الشيخان في الصحيح عن يونس بن عبد الرحمن(1)، الذي هو ممّن أجمعت الصحابة على تصحيح ما يصحّ عنه، وأقرّوا له بالفقه والعلم.(2)

الثالثة: عمل المشهور بالطائفة الأُولى وإعراضهم عن الثانية، وقد مرّ أنّ العامل بها قليل جدّاً، كما مرّ كلام شيخنا البهائي في «الحبل المتين»، أنّه أطبق علماء الخاصّة والعامّة على نجاسة الخمر إلّاشرذمة منّا ومنهم، ولم يعتدّ الفريقان بمخالفتهم.

الرابعة: أنّ بين الروايات أقوى شاهد على أنّ الطائفة الثانية وردت تقيّة.

1. روى الكليني عن علي بن مهزيار قال: قرأت في كتاب عبد اللّه بن محمد إلى أبي الحسن عليه السلام: جعلت فداك، روى زرارة عن أبي جعفر وأبي عبد اللّه عليهما السلام في الخمر يصيب ثوب الرجل، أنّهما قالا: «لا بأس بأن يصلّي فيه، إنّما حرم شربها».

وروي عن (غير) زرارة، عن أبي عبد اللّه عليه السلام أنّه قال: إذا أصاب ثوبك خمر6.

ص: 109


1- . لاحظ: الوسائل: 2، الباب 38 من أبواب النجاسات، الحديث 3. وقد مرّ برقم 2 في أدلّة الطهارة.
2- . جواهر الكلام: 9/6.

أو نبيذ - يعني المسكر - فاغسله إن عرفت موضعه، وإن لم تعرف موضعه فاغسله كلّه، وإن صلّيت فيه فأعد صلاتك، فاعلمني ما آخذ به؟ فوقع عليه السلام بخطّه، وقرأته:

«خذ بقول أبي عبد اللّه عليه السلام».(1)

ومن المعلوم إرادة قوله المنفرد عن قول أبيه، وإلّا فكلا القولين قوله، والأخذ بهما جميعاً ممتنع، والتخيير غير مقصود، على أنّه لو كان المراد قوله مع أبيه لكان ينبغي إسناده إليهما معاً أو إلى أبي جعفر عليه السلام كما لا يخفى على العارف بأساليب الكلام.(2)

وفي الرواية إيماء إلى أنّ القول الآخر عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام تقيّة؛ وذلك لأنّ الرمي بالنجاسة من أشدّ ما يكره على الطبع وأعظم ما يرد على النفس، ولا كذلك التحريم، خصوصاً بالقياس إلى السلاطين الذين لا يتحاشون عن المحرّمات.

فإن قلت: إنّ القول بالنجاسة قول مشهور بين فقهاء العامّة، فلو كان الإفتاء بالنجاسة صدر عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام تقيّة لأجل كون الحكام في تلك الأيام مولعين بشرب الخمر والمتهالكين عليها، فلماذا لم يتق علماؤهم حيث أفتوا بالنجاسة؟

قلت: قد أجاب عنه صاحب الجواهر بقوله: واشتهار الفتوى بالنجاسة بين علمائهم لا ينافي ذلك، إذ لم يكن عليهم فيه تقية، بل كانوا يتظاهرون بخلاف ما هم عليه، ويجاهدونهم بالردّ والكفاح ولا يراقبونهم في ذلك، بل كان ذو الشوكة9.

ص: 110


1- . الوسائل: 2، الباب 38 من أبواب النجاسات، الحديث 2.
2- . جواهر الكلام: 8/6-9.

منهم يتحمّله ولا يبالى به، لعلّه بأنّ ذلك لا يحدث فتقاً في سلطانه، ولا يهدم ركناً في بنيانه، إذ لم يكن فيهم من يرشح نفسه للإمامة و الخلافة الكبرى والرئاسة العظمى إنّما كانت التقية على أئمّة الحقّ عليهم السلام المحسودين للخلق، وهم الذين لا يدانيهم في الفضل أحد، والذين ورد عليهم من حسد أئمّة الجور ما قد ورد.(1)

حكم الكحول الرائجة في الطبابة

الكحول جمع الكحل ويعبّر عنه باللغة الانجليزية ب alcohol ، فهل هو كالخمر حرام ونجس، أو حرام وليس بنجس؟

أمّا أنّه حرام فلأنّه سمّ من السموم القاتلة، فهو يقتل من شربه بلا شك.

إنّما الكلام في كونه نجساً، هنا احتمالان:

1. مقتضى القاعدة طهارته، لأنّ الحرمة علقت بالمسكر وهو في هذه الحالة ليس بمسكر، بل هو في الحقيقة سم لا يمكن شربه.

نعم لو مُزج بالماء وصار رقيقاً يوصف بالإسكار ومن المعلوم أنّ الحكم على المسكر بالفعل، لا المسكر بالقوّة، وعند الشك يحكم عليه بالطهارة، أخذاً بقوله: «كلّ شيء طاهر حتى تعلم أنّه قذر».

2. قول بالتفصيل وهو أنّه لو أخذ وصنع من مايع مسكر يحكم عليه بالنجاسة؛ وإن أخذ وصنع من جامد، فهو محكوم بالطهارة. ولعلّ هذا القول أفضل من الأوّل، إنّما الكلام في تخصيص الموجود فهل الكحل الرائج في الأدوية من

ص: 111


1- . جواهر الكلام: 10/6.

القسم الأوّل أو الثانى؟ ولابدّ من الرجوع إلى المتخصّصين في صنعها والتوقّف في إصدار الحكم بأحد الطرفين قبل الوقوف على كيفية الصنع، واللّه العالم بحقائق الأُمور.

***

تمّت آيات أحكام الطهارة

وتليها آيات أحكام الصلاة

ص: 112

الفصل الثاني: أحكام الصلاة في الذكر الحكيم

اشارة

1. أوقات الصلاة في الذكر الحكيم.

2. استقبال الكعبة في الذكر الحكيم.

3. صلاة المسافر في الذكر الحكيم.

4. صلاة الخوف في الذكر الحكيم.

5. صلاة المطاردة في الذكر الحكيم.

6. صلاة الجمعة في الذكر الحكيم.

7. الجهر والمخافتة في الصلاة.

8. التسليم على النبي صلى الله عليه و آله و سلم في التشهّد.

9. الاستماع والإنصات عند قراءة القرآن.

10. سجود التلاوة.

ص: 113

ص: 114

أحكام الصلاة

1. أوقات الصلاة في الذكر الحكيم

لزوم الاهتمام بالصلاة في أوقاتها

الصلاة فريضة موقوتة، جاءت مواقيتها في الكتاب العزيز وتفاصيلها في السنّة المطهّرة. قال سبحانه: (إِنَّ اَلصَّلاةَ كانَتْ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً) (1).

وهي عليهم فرض في وقت وجوبها(2)، ومعنى ذلك لزوم الاهتمام بإتيانها في أوقاتها.

وأمّا السنّة:

1. فقد روى الصدوق بسنده عن أبي عبد اللّه الصادق عليه السلام عن آبائه عليهم السلام، قال:

«قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: لا ينال شفاعتي غداً لمَن أخّر الصلاة المفروضة بعد وقتها».(3)

2. روى الصدوق عن الإمام الرضا، عن آبائه عليهم السلام قال: «قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:

«لا يزال الشيطان ذعراً من المؤمن ما حافظ على مواقيت الصلوات الخمس، فإذا

ص: 115


1- . النساء: 103.
2- . التبيان: 312/3-313.
3- . أمالي الصدوق: 326، برقم 15.

ضيّعهن اجترأ عليه فأدخله في العظائم».(1)

3. روى أبان بن تغلب، قال: صلّيت خلف أبي عبداللّه عليه السلام بالمزدلفة، فلمّا انصرف التفتَ إليّ، فقال: «يا أبان، الصلوات الخمس المفروضات، مَن أقام حدودهنّ، وحافظ على مواقيتهنّ لقي اللّه يوم القيامة وله عنده عهد يدخله به الجنّة؛ ومَن لم يقم حدودهن، ولم يحافظ على مواقيتهنّ، لقي اللّه ولا عهد له، إن شاء عذّبه وإن شاء غفر له».(2)

4. روى الصدوق عن جعفر بن محمد عليه السلام قال: «امتحنوا شيعتنا عند ثلاث:

عند مواقيت الصلاة، كيف محافظتهم عليها؟ وعند أسرارهم، كيف حفظهم لها عن عدونا؟ وإلى أموالهم: كيف مواساتهم لإخوانهم فيها».(3)

إلى غير ذلك من الروايات الحاثّة على المحافظة على الصلاة في أوقاتها، وأنّ مَن صلّى صلاة الفريضة لوقتها فليس هو من الغافلين، وأمّا مَن استهان بأوقاتها، فهو من الذين ذمّهم سبحانه بقوله: (اَلَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ) .(4)

فيجب على المسلم التعرّف على أوقات الصلاة: أوقات الفضيلة، وأوقات الإجزاء حتّى يكون من الذاكرين. وهذا ما نتناوله تالياً:9.

ص: 116


1- . الوسائل: 4، الباب 1 من أبواب المواقيت، الحديث 13.
2- . الوسائل: 2، الباب 1 من أبواب المواقيت، الحديث 1.
3- . الوسائل: 4، الباب 1 من أبواب المواقيت، الحديث 16.
4- . لاحظ: الوسائل: 4، الباب 1 من أبواب المواقيت، الحديث 19.
مواقيت الصلوات في الذكر الحكيم
اشارة

قد تضمّن الذكر الحكيم مواقيت الصلاة في غير واحدة من الآيات، وفسّرتها السنّة النبوية وأحاديث أئمة أهل البيت عليهم السلام، فلندرس الآيات، ثم نأتي بما في السنّة بإذن اللّه سبحانه.

الآية الأُولى:
اشارة

قال تعالى: (أَقِمِ اَلصَّلاةَ لِدُلُوكِ اَلشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اَللَّيْلِ وَ قُرْآنَ اَلْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ اَلْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً) (1).

المفردات

اللام في «دلوك الشمس» إمّا:

«لام تعليل» أي بسبب «زوال الشمس» أو بمعنى «عند» نظير قول القائل: كتبتهُ لخمس خلون من شهر كذا، أي عند الخمس، والثاني هو الأظهر.

الدلوك: بمعنى زوال الشمس عن كبد السماء، وهو قول الأكثر، وشذّ مَن فسّره بغروب الشمس. حكى القرطبي عن ابن عطية: الدلوك هو الميل - في اللغة - فأوّل الدلوك هو الزوال، وآخره هو الغروب، ومن وقت الزوال إلى الغروب يُسمّى دلوكاً لأنّها في حالة ميل.(2)

ص: 117


1- . الإسراء: 78.
2- . الجامع لأحكام القرآن: 10/304، دار الفكر.

وقال الشيخ ابن عاشور: الدلوك بمعنى زوال الشمس عن وسط قوس فرضي في طريق مسيرها اليومي.(1)

وعلى ما ذكره العلمان يصدق الدلوك ما دامت الشمس مائلةً عن وسط السماء إلى جانب الغرب، فالجميع دلوك، ولا يختص الميل بأوّل الزوال. وعلى هذا يكون وقت الظهرين ممتداً مادام الدلوك متحقّقاً.

غسق: اختلفت كلمة اللغويين والمفسّرين في تفسير الغَسَق على أقوال:

أ. ظلمة أوّل الليل، قاله في القاموس، وهو أحد القولين في اللسان، ونقل الشيخ الطوسي في «التبيان» عن ابن عباس وقتادة أنّهما قالا: هو بدءُ الليل.(2)

ب. الظلمة، ذكره قولاً واحداً في مقاييس اللغة (مادة غسق)، وفي اللسان جعله أحد القولين، وحكى الشيخ الطوسي في «التبيان» عن الجُبّائي أنّ غسق الليل ظلمته، وهو خيرة صاحب التفسير الكاشف.(3)

والفرق بين المعنيين واضح، فإنّ بدء الليل لايلازم الظلمة الكاملة الّتي يشير إليها المعنى الثاني.

ج. الظلمة الشديدة الّتي تمتد إلى نصف الليل وهو خيرة الأزهري، قال:

غسق الليل تراكم الظلمة واشتدادها(4). وفي المفردات غسق الليل: شدة ظلمته.(5) وهو المروي عن أئمة أهل البيت عليهم السلام، وهو خيرة بعض المفسّرين.».

ص: 118


1- . التحرير والتنوير: 14/144، نشر مؤسسة التاريخ.
2- . التبيان: 6/509.
3- . التفسير الكاشف: 5/73.
4- . مفاتيح الغيب: 21/27.
5- . مفردات الراغب: 360، مادة «غسق».

روى ابن إدريس عن كتاب أحمد بن محمد بن أبي نصر البزنطي، عن المفضّل، عن محمد الحلبي، عن أبي عبداللّه الصادق عليه السلام في قوله: (أَقِمِ اَلصَّلاةَ لِدُلُوكِ اَلشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اَللَّيْلِ وَ قُرْآنَ اَلْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ اَلْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً) قال:

دلوك الشمس زوالها، وغسق الليل: انتصافه، وقرآن الفجر: ركعتا الفجر».(1)

روى الشيخ الطوسي بسند صحيح عن زرارة، عن أبي جعفر الباقر عليه السلام قال:

سألته عمّا فرض اللّه من الصلاة؟ فقال: «خمس صلوات في الليل والنهار»، فقلت:

هل سمّاهنّ اللّه وبيّنهنّ في كتابه؟ فقال: «نعم، قال اللّه عزوجل لنبيه: (أَقِمِ اَلصَّلاةَ لِدُلُوكِ اَلشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اَللَّيْلِ) ودلوكها زوالها، ففي ما بين دلوك الشمس إلى غسق الليل أربعة صلوات سمّاهن وبيّنهنّ ووقّتهنّ، وغسق الليل انتصافه، وقال:

(وَ قُرْآنَ اَلْفَجْرِ) »(2).

قُرْآنَ الْفَجْرِ: منصوب بفعل مقدّر: أي أقم قرآن الفجر، أُريد به صلاة الفجر تسمية للشيء ببعض أجزائه، أعني: قراءة القرآن فيها، ولا منافاة مع لزوم القرآن في غيرها (إِنَّ قُرْآنَ اَلْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً) فإنّها تشهدها ملائكة الليل وملائكة النهار. هذا ما يرجع إلى بيان مفردات الآية وتوضيحها.

التفسير

إنّ في الآية دلالة على امتداد وقت الصلوات الأربع من الزوال إلى الغسق، فتكون أوقاتها موسّعة؛ لأنّ اللام في قوله: (لِدُلُوكِ) بمعنى «عند» و (إِلى) في قوله: (إِلى غَسَقِ اَللَّيْلِ) «للانتهاء»، فيكون معنى الآية: إنّ وقت الصلوات ممتدٌ من

ص: 119


1- . الوسائل: 4، الباب 10 من أبواب المواقيت، الحديث 10.
2- . تهذيب الأحكام: 2/24، الباب 12، الحديث 23.

الزوال إلى ذهاب الشفق أو إلى نصف الليل على الخلاف في معنى الغسق، وقد عرفت ما عليه أئمة أهل البيت عليهم السلام في معناه، فتكون النتيجة: أنّ إتيان الصلوات الأربع أداءٌ بين الحدّين، وأنّ كلّ جزء منه صالح له.

وبعبارة أُخرى: إنّ الزمان المحدّد بين زوال الشمس إلى غسق الليل وقت للصلوات الأربع، فله أن يصلي الظهر في أية ساعة من ساعات الحد المذكور، كما له أن يأتي بالعصر كذلك.

هذا هو ظاهر الآية، وهو حجّة للفقيه ما لم يدلّ دليل على التضييق، فعندئذٍ تُرفع اليد بمقدار الدليل، وفي غيره يكون الظاهر حجّة ومرجعاً.

نعم إنّ السنّة الشريفة قيّدت إطلاق الآية من جهتين:

1. خصّت ما بين الدلوك وغروب الشمس من اليوم بالظهرين، كما خصّت ما بين غروبها إلى غسق الليل بالعشائين.

2. جعلت مقدار أربع ركعات من أوّل الظهر وقتاً مختصاً بصلاة الظهر، فلا تصحّ صلاة العصر فيه، كما خصّت مقدار أربع ركعات من آخر الوقت لصلاة العصر فلا تصحّ فيه غيرها.

ونظير الظهرين العشاءان، فمقدار ثلاث ركعات من أوّل المغرب وقت مختصّ لصلاتها، كما أنّ مقدار أربع ركعات من آخر الوقت وقت مختصّ بصلاة العشاء.

الآية الثانية:
اشارة

قال تعالى: (وَ أَقِمِ اَلصَّلاةَ طَرَفَيِ اَلنَّهارِ وَ زُلَفاً مِنَ اَللَّيْلِ إِنَّ

ص: 120

اَلْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ اَلسَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذّاكِرِينَ) (1) .

المفردات

طرفي النهار: عبارة عن الغدوة والعشية، والمراد من الطرف الأوّل الفجر إلى الدلوك وفيه إشارة إلى صلاة الفجر، ومن الطرف الثاني دلوك الشمس إلى آخر النهار، وهو إشارة إلى وقتي الظهر والعصر.

الزلف: جمع زُلفى كالظُلَم جمع ظلمة. (والزلفة) من أزلفه: إذا قرّبه.

والزلف القريب من الليل الساعات الأُولى منه، سمِّيت بذلك لقربها من النهار، والمراد بها هنا المغرب والعشاء.

التفسير

هذه الآية - كالآية السابقة - تتضمّن بيان أوقات الصلوات الخمس: أمّا الفجر والظهر والعصر، فلقوله: (طَرَفَيِ اَلنَّهارِ) ، وأمّا المغرب والعشاء فلقوله (زُلَفاً مِنَ اَللَّيْلِ) .

فعلى ما ذكرنا يكون قوله: (وَ زُلَفاً مِنَ اَللَّيْلِ) عطفاً على قوله: (طَرَفَيِ اَلنَّهارِ) : أي أقم الصلاة طرفي النهار، وأقم الصلاة زلفاً من الليل.

والآية - كسابقتها - تدلّ على سعة الوقت، وأنّ طرفي النهار وقت للصلوات الثلاث، فالطرف الأوّل لصلاة الصبح، والطرف الثاني لصلاتي الظهر والعصر، وأمّا

ص: 121


1- . هود: 114.

الساعات الأُولى من الليل، فهي وقت العشاءين. وهذا الظهور حجّة ما لم يدلّ دليل على التحديد.

***

الآية الثالثة:

قال سبحانه: (فَسُبْحانَ اَللّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَ حِينَ تُصْبِحُونَ * وَ لَهُ اَلْحَمْدُ فِي اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ عَشِيًّا وَ حِينَ تُظْهِرُونَ) (1).

والمعنى: تنزيهاً للّه تعالى عمّا لا يليق به ولا يجوز عليه من صفات نقص أو ما ينافي عظمته، في الإصباح والإمساء والإظهار وفي العشيّ، وأنّ ما في السماوات والأرض من خلق وأمر، يستدعي حمده سبحانه والثناء للّه سبحانه.

وقد ذهب جملة من المفسّرين إلى أنّه سبحانه أشار في هاتين الآيتين إلى الصلوات الخمس، وفي الوقت نفسه ذهب آخرون إلى أنّها راجعة إلى مطلق التحميد والتسبيح.

قال أُستاذنا السيد محمد حسين الطباطبائي: يظهر أن المراد بالتسبيح والتحميد معناهما المطلق دون الصلوات اليومية المفروضة، كما يقول به أكثر القائلين بكون القول مقدّراً، والمعنى: (قولوا: سبحان اللّه، وقولوا: الحمد للّه)، فالتسبيح والتحميد في الآيتين إنشاء تنزيه وثناء منه تعالى لا من غيره، حتّى يكون

ص: 122


1- . الروم: 17-18.

المعنى: (قولوا: سبحان اللّه، وقولوا: الحمد للّه)، فقد تكرّر في كلامه تعالى تسبيحه وتحميده لنفسه، كقوله: (سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ اَلْعِزَّةِ عَمّا يَصِفُونَ) (1)، وقوله:

(تَبارَكَ اَلَّذِي نَزَّلَ اَلْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ) (2) .(3)

وعلى فرض صحّة ما ذهب إليه جملة من المفسّرين من أنّ الآيتين تشيران إلى الصلوات الخمس، فنقول: إنّ لهم في تفسير مفرداتها أقوالاً، نذكر منها أوضحها:

1. (حِينَ تُمْسُونَ) : أي حين تدخلون في وقت المساء، وهو ما بعد الظهر إلى قبل المغرب،(4) فيكون إشارة إلى صلاة العصر.

2. (حِينَ تُصْبِحُونَ) : أي تدخلون في الصبح فيكون إشارة إلى صلاة الفجر.

3. (حِينَ تُظْهِرُونَ) : في حين تدخلون في وقت الظهيرة، وقد يكون إشارة إلى صلاة الظهر.

4. (عَشِيًّا) : أي وفي العشيّ، وإنّما عدل من الفعل إلى الاسم؛ لأنّه لم يُبنَ منه فعل من باب الإفعال، بخلاف المساء والصباح والظهيرة حيث بني منها الإمساء والإصباح والإظهار بمعنى الدخول في المساء والصباح والظهيرة.

والعشيّ: آخر النهار.».

ص: 123


1- . الصافات: 180.
2- . الفرقان: 1.
3- . انظر: الميزان في تفسير القرآن: 16/160-161.
4- . لسان العرب: 15/281، مادة «مسى».

وعلى هذا فقوله: (عَشِيًّا) تشير إلى صلاتي المغرب والعشاء، لا إلى صلاة العصر، كما ذهب بعضهم، لأنّها لا تناسب وقت العشيّ الّذي مرّ بيانه.

فالآية تشير إلى تفريق الصلوات في الأوقات الأربعة بخلاف آية دلوك الشمس وآية طرفي النهار؛ لأنّ آيتنا هذه، أفردت الوقت لقوله تعالى: (حِينَ تُظْهِرُونَ) عن وقت العصر لقوله: (حِينَ تُمْسُونَ) أفضل دليل على جواز جمع العشائين لقوله: (عَشِيًّا) ولا ترفع اليد منها إلّابدليل.

***

الآية الرابعة:

قال تعالى: (فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ اَلشَّمْسِ وَ قَبْلَ غُرُوبِها وَ مِنْ آناءِ اَللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَ أَطْرافَ اَلنَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى) (1).

ومعنى الآية: فاصبر على ما يقولون من أنّك ساحر أو شاعر فإنّه لا يضرّك، وأقبِلْ على ما ينفعك فعله وهو ذكر اللّه، و «الباء» في: (بِحَمْدِ رَبِّكَ) للملابسة، أي سبِّح حامداً ربّك، في فترات من الليل والنهار.

وما ذُكر في الآية من التسبيح مطلق لا دلالة فيها من جهة اللفظ على أنّ المراد به الصلوات الخمس،(2) ولكن بعض المفسّرين ذهب إليه، وعلى فرض

ص: 124


1- . طه: 130.
2- . انظر: الميزان في تفسير القرآن: 14/235.

صحّة ذلك، نقول: إنّ هذه الآية على خلاف الآيتين السابقتين تتضمّن آخر أوقات بعض الصلوات الخمس، وإليك البيان:

1. قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ: إشارة إلى نهاية وقت صلاة الفجر.

2. وَقَبْلَ غُرُوبِهَا: إشارة إلى نهاية وقت صلاتي الظهر والعصر، لكونهما في النصف الأخير من النهار، كما أنّ الفجر في النصف الأوّل.(1)

3. وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ: إشارة إلى العشاءين، وآناء الليل: ساعاته، و «من» في قوله: (مِنْ آناءِ اَللَّيْلِ) للابتداء، وفيه تنبيه على أنّ ابتداء وقت العشاءين من أوّل الليل، وقدّم الظرف (آناء الليل) على الفعل «فسبح» للاهتمام بفعلها ليلاً، لعدم شغل النفس حينئذٍ، بخلاف ما سبق حيث قدّم الفعل فيه على الزمان.

4. وَأَطْرَافَ النَّهَارِ: وبما أنّه تمّ الكلام في بيان أوقات الصلوات الخمس لم يبق وجه لذكره ولذلك اختلف المفسّرون في بيانه، والظاهر أنّه تكليف مستقل لتسبيحه سبحانه في أطراف النهار - أعني: الغدو من جانب والعشاء من جانب آخر - وبذلك تستغني عن الاحتمالات المذكورة في التفاسير.

وفي الآية نص صريح على سعة وقت الصبح إلى طلوع الشمس، والظهرين إلى غروبها؛ لأنّه سبحانه ذكر أواخر أوقاتها، وعلى هذا فوقت صلاة الصبح يمتد إلى طلوع الشمس، ووقت الظهرين يمتد إلى غروبها، كما أنّ وقت العشاءين باقٍ مادام يصدق آناء الليل وساعاته.4.

ص: 125


1- . قال ابن عاشور التونسيّ: إنّ الأوقات المذكورة في هذه الآية، هي أوقات الصلوات، ثم قال وهو يعدّدها: ووقتان قبل غروبها وهما الظهر والعصر، وقيل: المراد صلاة العصر. التحرير والتنوير: 16/204.

فظاهر الآية يدلّ على سعة الوقت في هذه الصلوات وهو حجّة للفقيه ما لم يدلّ دليل على التضييق والتحديد في السنّة المطهرة وأحاديث العترة عليهم السلام.

***

الآية الخامسة:
اشارة

قال سبحانه: (وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ اَلشَّمْسِ وَ قَبْلَ اَلْغُرُوبِ * وَ مِنَ اَللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَ أَدْبارَ اَلسُّجُودِ) (1).

ومعنى الآية: سبّح حامداً ربّك قبل الطلوع وقبل الغروب، ولو حُمل التسبيح على ظاهره تُحمل الآية على استحبابه في هذه الفترات، ولو حُمل على الصلاة فالصلاة قبل طلوع الشمس: الفجر، وقبل الغروب: الظهر والعصر، والمراد بقوله: (وَ مِنَ اَللَّيْلِ) العشاءان. وفي الآية دلالة واضحة على سعة أوقات الصلوات.

أمّا قوله تعالى: (وَ أَدْبارَ اَلسُّجُودِ) فيُراد به الركعتان بعد المغرب؛ وقد روي ذلك عن: عليّ عليه السلام، والحسن بن علي عليه السلام، وابن عباس، ومجاهد، وإبراهيم النخعيّ، وغيرهم.(2) أو الركعتان بعد صلاة العشاء، أعني: المسمّى بالعتمة. والثاني أوفق بقوله: (وَ إِدْبارَ اَلنُّجُومِ) .

حصيلة الآيات: هو امتداد وقت صلاة الظهرين من الزوال إلى المغرب، وامتداد وقت صلاة العشائين من المغرب إلى غسق الليل، غير أنّ الأخذ بالإطلاق إنّما يصحّ إذا لم يرد في السنّة الشريفة ما يحدّد أوقات الصلاة على نحو تكون

ص: 126


1- . ق: 39-40.
2- . انظر: تفسير الطبري: 13/219-222؛ والتبيان في تفسير القرآن: 9/374-375.

السنّة مقيّدة لإطلاقات الكتاب، فعلى الفقيه دراسة الروايات، حتى يتبيّن مقدار التقييد.

مواقيت الصلوات في الروايات
اشارة

الروايات الواردة حول مواقيت الصلوات على أصناف بينها اختلاف في المبدأ والمنتهى:

الأوّل: زوال الشمس وقت الظهرين وغيبوبتها وقت العشائين

1. روى الصدوق باسناده عن زرارة، عن أبي جعفر عليه السلام قال: «إذا زالت الشمس دخل الوقتان: الظهر والعصر، وإذا غابت الشمس دخل الوقتان المغرب والعشاء الآخرة».(1)

2. روى الشيخ باسناده عن عُبيد بن زرارة قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن وقت الظهر والعصر؟ فقال: «إذا زالت الشمس دخل وقت الظهر والعصر جميعاً، إلّا أنّ هذه قبل هذه، ثمّ أنت في وقت منهما جميعاً حتّى تغيب الشمس».(2)

3. روى الشيخ باسناده عن داود بن فرقد، عن بعض أصحابنا، عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «إذا غابت الشمس فقد دخل وقت المغرب حتّى يمضي مقدار ما يصلّي المصلّي ثلاث ركعات، فإذا مضى ذلك فقد دخل وقت المغرب والعشاء الآخرة حتّى يبقى من انتصاف الليل مقدار ما يصلّي المصلّي أربع ركعات، وإذا بقي مقدار ذلك فقد خرج وقت المغرب وبقي وقت العشاء الآخرة إلى انتصاف

ص: 127


1- . الوسائل: 3، الباب 4 من أبواب مواقيت الصلاة، الحديث 1.
2- . الوسائل: 3، الباب 4 من أبواب مواقيت الصلاة، الحديث 5.

الليل».(1)

الصنف الثاني: القامة والقامتان آخر وقتي الظهر والعصر

أ. روى الشيخ في «التهذيب» عن محمد بن حكيم قال: سمعت العبد الصالح (موسى بن جعفر عليهما السلام): «إنّ أوّل وقت الظهر زوال الشمس وآخر وقتها قامة من الزوال، وأوّل وقت العصر قامة، وآخر وقتها قامتان». قلت: في الشتاء والصيف سواء؟ قال: «نعم».(2)

القامة من الإنسان قدّه والجمع قامات.(3) وسيوافيك بأنّ المراد ظل القامة بعد الزوال الذي يبقى على الأرض عند الزوال الذي يعبّر عنه بظل القامة وليس المراد قامة الشخص.

2. روى الشيخ الطوسي عن أبي الحسن عليه السلام قال: سألت عن وقت الظهر والعصر؟ فقال: «وقت الظهر إذا زاغت الشمس إلى أن يذهب الظل قامة، ووقت العصر قامة ونصف إلى قامتين».(4)

الصنف الثالث: الذراع والذراعان أوّل وقتي الظهر والعصر

1. روى الكليني بسنده عن أبي عبداللّه الصادق عليه السلام - في حديث - قال: «كان حائط مسجد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قبل أن يظلل قامة، وكان إذا كان الفيء ذراعاً وهو

ص: 128


1- . الوسائل: 3، الباب 17 من أبواب مواقيت الصلاة، الحديث 4.
2- . الوسائل: 4، الباب 8 من أبواب مواقيت الصلاة، الحديث 29. وسيوافيك معنى القامة عن قريب.
3- . صحاح الجوهري: 2018/5، مادة «قوم».
4- . الوسائل: 4، الباب 8 من أبواب مواقيت الصلاة، الحديث 9.

قدر مربض(1) عنز صلّى الظهر، فإذا كان ضعف ذلك صلى العصر».(2)

2. روى الشيخ الطوسي بإسناده عن أبي جعفر الباقر عليه السلام قال: «كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إذا كان فيء الجدار ذراعاً صلى الظهر، وإذا كان ذراعين صلى العصر».(3)

الصنف الرابع: القدمان وأربع أقدام أوّل وقتي الظهر والعصر

روى ذريح المحاربي عن أبي عبداللّه الصادق عليه السلام قال: سأل أبا عبداللّه أُناس وأنا حاضر - إلى أن قال: - فقال بعض القوم: إنّا نصلّي الأُولى إذا كانت على قدمين، والعصر على أربع أقدام فقال: أبو عبداللّه عليه السلام: «النصف من ذلك أَحبّ إليّ».(4)

الصنف الخامس: القدمان وأربع أقدام آخر وقتي الظهر والعصر

روى الشيخ الطوسي عن محمد بن الفرج قال: كتبت أسأل عن أوقات الصلاة؟ فأجاب: «إذا زالت الشمس فصلّ سُبحتك، وأُحبّ أن يكون فراغك من الفريضة والشمس على قدمين، ثم صلّ سُبحتك، وأُحبّ أن يكون فراغك من العصر والشمس على أربعة أقدام، فإنْ عجّل بك أمر فابدأ بالفريضتين، واقضِ بعدهما النوافل، فإذا طلع الفجر فصلّ الفريضة، ثم اقضِ بعد ما شئت».(5)

ص: 129


1- . المربض - بفتح الميم وكسر الباء - مربط العنز الأُنثى من المعز، و المراد موضع جلوسه كجلوس الإنسان.
2- . الوسائل: 4، الباب 8 من أبواب مواقيت الصلاة، الحديث 7.
3- . الوسائل: 4، الباب 8 من أبواب مواقيت الصلاة، الحديث 10.
4- . الوسائل: 4، الباب 8 من أبواب مواقيت الصلاة، الحديث 22.
5- . الوسائل: 4، الباب 8 من أبواب المواقيت، الحديث 31.

إذا وقفت على هذه الأصناف الخمسة من أوقات صلاتي الظهر والعصر، فاعلم أنّ فهم هذه الروايات يتوقّف على بيان أمرين:

الأوّل: أنّ العناوين الثلاثة: الذراع والذراعين، والقدمين والأقدام الأربعة، والقامة والقامتين، أمر واحد، وإن اختلفا لفظاً وتعبيراً. أمّا الذراع والذراعان فواضح، وأمّا القدمان والأقدام الأربعة، فيرجع إليها؛ لأنّ ذراع كلّ إنسان يساوي طول قدميه، كما أنّ ذراعيه تساوي أربعة أقدام.

إنّما الكلام في القامة، فقد جاء في الحديث عن علي بن حنظلة قال: قال لي أبو عبد اللّه عليه السلام: «القامة والقامتان، الذراع والذراعان: في كتاب علي عليه السلام». وروي أيضاً عن علي بن أبي حمزة، قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السلام يقول: «القامة هي الذراع».

وروي عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال له أبو بصير: كم القامة؟ فقال: «ذراع، إنّ قامة رحل رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ذراع».(1)

أُريد بالرحل ما يوضع على ظهر البعير كالسرج بالنسبة للفرس، ومن المعلوم أنّ المراد من قامة ليست مقدار قامة الإنسان، بل المراد ظلّ قامة الإنسان الذي يبقى على الأرض عند الزوال وهو يختلف حسب الأزمنة والبلاد مرّة يكثر ومرّة يقلّ. روى زرارة: قال لي أبو جعفر عليه السلام حين سألته عن ذلك: «إن حائط مسجد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم كان قامة (أي مقدار قدّ الإنسان)، فكان إذا مضى من فيئه ذراع صلّى الظهر، وإذا مضى من فيئه ذراعان صلّى العصر»، ثم قال: «أتدري لم يجعل الذراع والذراعان؟» قلت: لم جعل ذلك؟ قال: «لمكان النافلة، فإنّ لك أن تنتفل من زوال الشمس إلى أن يمضي الفيء ذراعاً، فإذا بلغ فيؤك ذراعاً من الزوال بدأت7.

ص: 130


1- . تهذيب الأحكام: 23/2، الحديث 15، 16 و 17.

الفريضة وتركت النافلة».(1)

إلى هنا تبيّن وحدة المعابير الثلاثة، بشرط أن يفسّر القامة بظلها عند الزوال لا بقامة الشخص وقدّه.

رفع التعارض بين الأصناف الخمسة

الصنف الأوّل: يحدّد وقت الصلاتين بزوال الشمس وغروبها.

الصنف الثاني: يحدّد آخر وقت الظهر بالقامة، والعصر بقامتين.

الصنف الثالث: يحدّد أوّل وقتي الظهر والعصر بالذراع والذراعين.

الصنف الرابع: يحدّد أوّل وقتي الظهر والعصر بالقدمين والأربعة أقدام.

الصنف الخامس: يحدّد آخر وقتي الظهر والعصر بالقدمين والأربعة أقدام.

فالصنف الثاني يتّحد مع الخامس، كما أنّ الصنف الثالث يتّحد مع الرابع.

فكيف الجمع؟

أقول: الجمع بينها واضح بالرجوع إلى بعض الروايات، فإنّ الأصل هو الصنف الأوّل أي تحديد وقتي الظهر والعصر بزوال الشمس وغروبها، وأمّا الأصناف الأربعة الباقية فإنّ التأخير إنّما هو للتنفّل كما مرّ في رواية زرارة، قال:

«أتدري لم جعل الذراع والذراعان؟» قلت: لم جعل ذلك؟ قال: «لمكانة النافلة، فإنّ لك أن تنتفل من زوال الشمس إلى أن يمضي الفيء ذراعاً، فإذا بلغ فيؤك ذراعاً من الزوال بدأت الفريضة وتركت النافلة». وهذا الجمع هو الذي ركّز عليه سيد مشايخنا المحقّق البروجردي في درسه الشريف، فقال مشيراً إلى الإشكال

ص: 131


1- . تهذيب الأحكام: 20/2، الحديث 55.

والجواب: أمّا الإشكال فقال: نعم هنا أخبار دالّة على أنّ أوّل وقته صيرورة الفيء قدماً، وأوّل وقت العصر صيرورته قدمين، وأخبار أُخر دالّة على أنّ أوّل وقت الظهر صيرورة الفيء قدمين أو ذراعاً، وأوّل وقت العصر صيرورته أربعة أقدام أو ذراعين، والمراد بالقدم سبع الشاخص وبالذراع قدمان.

وأمّا الجواب فقد قال قدس سره: الاختلاف بين الأخبار يرتفع بنفس الأخبار حيث دلّت على أنّ اعتبار القدم والقدمين ونحوهما إنّما هو للتنفّل واختلافها في القدر الموضوع للنافلة إنّما هو من جهة اختلاف المتنفّلين في التطويل والتقصير، وهذا الجمع في الجملة ممّا لا إشكال فيه، وتشهد عليه نفس الأخبار.(1)

وهنا وجه آخر للجمع وهو: أنّ الأصل المتّبع هو النصف الأوّل، وسعة الوقت للصلاتين من الزوال إلى الغروب، وأمّا الأصناف الباقية، فلكلّ معنى خاص:

1. أمّا ما يحدّد الأقدام - كما هو مفاد الصنف الثاني والخامس - فخروج وقتهما كناية عن خروج وقت نافلتهما، فلا نافلة بعد هذين الأمرين.

2. وأمّا ما يحدّد أوّل وقت الظهرين بالذراع والذراعين أو بالقدمين وأربعة أقدام، كما هو مفاد الصنفين الثالث والرابع، فيهدف إلى بيان وقت الفضيلة للصلاتين بناء على أنّ لكلّ صلاة وقت إجزاء ووقت فضيلة.

فخرجنا بالنتائج التالية:

1. أنّ بين زوال الشمس وغروبها وقت الظهرين.ى.

ص: 132


1- . كتاب الصلاة: 47، الطبعة الأُولى.

2. أنّ مقدار أربع ركعات من أوّله وأربع ركعات من آخره وقت اختصاصي للظهر والعصر، والوقت الباقي مشترك.

3. وقت فضيلة الظهر إذا كان الفيء ذراعاً، وإذا كان ضعف ذلك فقد دخل وقت فضيلة العصر، وقد مرّ أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إذا كان فيء الجدار ذراعاً صلى الظهر، وإذا كان ذراعين صلّى العصر.

4. أنّ تأخير الإتيان بالفريضة إلى الذراع والذراعين لغاية التنفّل، فلو لم يتنفّل، فله أن يصلّي عند الزوال.

5. ثمّ إنّ المراد من كون الفيء ذراعاً أو ذراعين هو الفيء الموجود في جانب الشرق، ويطلق عليه الفيء الذي هو بمعنى الرجوع لأجل أنّ الظل بعد انتقاصه يكون قد رجع، وأمّا الفيء المتخلّف أو المعدوم في جانب المغرب فليس موضوعاً لشيء.

بقي الكلام في ما هو الوجه في تأخير أهل السنّة صلاة العصر بكثير من الذراعين؟

فالظاهر أنّهم فهموا من كلام النبي صلى الله عليه و آله و سلم ظلّاً حسب قامة الإنسان، وذلك عندما قال النبي صلى الله عليه و آله و سلم: «إذا صار الفيء مثل ظل القامة فصلوا الظهر، وإذا كان مثليه فصلوا العصر» فحملوا ظلّ القامة ظلّاً بقدر القامة، مع أنّ المراد ظل القامة لا ظلاً مثل القامة.(1)3.

ص: 133


1- . لاحظ: ملاذ الأخيار في فهم تهذيب الأخبار للمجلسي: 884/3.
الجمع بين الصلاتين
اشارة

قد تبيّن ممّا سبق أنّ ما وراء الوقت المختص لكلّ من الظهرين أو العشائين، وقت مشترك، يجوز الجمع بين الصلاتين فيه، جمعاً حقيقياً كلّاً في وقته.

إنّ الجمع بين الصلاتين في الفقه الإسلامي على أقسام:

1. الجمع بين الصلاتين في عرفة ومزدلفة

اتّفقت كلمة الفقهاء على رجحان الجمع بين الصلاة في المزدلفة وعرفة من غير خلاف، قال القرطبي: أجمعوا على أنّ الجمع بين الظهر والعصر في وقت الظهر بعرفة وبين المغرب والعشاء بالمزدلفة أيضاً في وقت العشاء سنّة أيضاً، وإنّما اختلفوا في الجمع في غير هذين المكانين.(1)

2. الجمع بين الصلاتين في السفر

ذهب معظم الفقهاء، غير الحسن والنخعي وأبي حنيفة وصاحبيه، إلى جواز الجمع بين الصلاتين في السفر، فيجوز عند الجمهور - غير هؤلاء - الجمع بين الظهر والعصر تقديماً في وقت الأُولى وتأخيراً في وقت الثانية، وبين المغرب والعشاء، تقديماً وتأخيراً أيضاً.

أخرج مسلم عن نافع عن ابن عمر: أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم كان إذا جدّ به السير جمع بين المغرب والعشاء.(2)

ص: 134


1- . بداية المجتهد: 170/1، الفصل الثاني في الجمع.
2- . صحيح مسلم: 150/2، باب جواز الجمع بين الصلاتين في السفر من كتاب الصلاة.
3. الجمع بين الصلاتين في الحضر لأجل العذر

المشهور عند فقهاء السنّة جواز الجمع بين المغرب والعشاء لعذر، خلافاً للحنفية حيث لم يجوّزوا الجمع مطلقاً إلّافي الحج بعرفة والمزدلفة.

4. الجمع بين الصلاتين في الحضر اختياراً

اتّفقت الإمامية على أنّه يجوز الجمع بين الصلاتين في الحضر اختياراً، وإن كان التفريق أفضل.

روى الشيخ الطوسي باسناده عن عبيد بن زرارة قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن وقت الظهر والعصر؟ فقال: «إذا زالت الشمس دخل وقت الظهر والعصر، إلّاأنّ هذه قبل هذه، ثمّ أنت في وقت منهما جميعاً حتى تغيب الشمس».(1)

وبما مرّ يظهر أنّ الجمع بين الصلاتين ليس بمعنى كون صلاة في وقت صلاة أُخرى، بل كلّ في الوقت المشترك، غاية الأمر يفوت وقت الفضيلة لواحدة من الصلاتين، فمن جمع في وقت الظهر يفوته وقت فضيلة العصر، والروايات من أئمّة أهل البيت متوفّرة، خصوصاً ما عرفت من دلالة الآيات على الوقت المشترك... وأمّا الروايات من جانب أهل السنّة، فهناك ثلاثون رواية تدلّ على الجمع نذكر واحدة منها:

روى مسلم في صحيحه عن ابن عباس، قال: «صلّى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم الظهر والعصر جميعاً والمغرب والعشاء جميعاً في غير خوف ولا سفر».(2)

ص: 135


1- . تهذيب الأحكام: 26/2.
2- . شرح صحيح مسلم للنووي: 213/5.

ومن أراد الإحاطة بتلك الروايات فعليه الرجوع إلى كتابنا «الإنصاف في مسائل دام فيها الخلاف»(1)، فسيجد فيه ما يكفيه.1.

ص: 136


1- . الإنصاف في مسائل دام فيها الخلاف: 294/1.

أحكام الصلاة

2. استقبال الكعبة في الذكر الحكيم

اشارة

استقبال القبلة من أركان الصلاة حيث تبطل بتركه عمداً أو سهواً، قال الإمام أبو جعفر الباقر عليه السلام: «لا تُعاد الصلاة إلّامن خمسة: الطهور، والوقت، والقبلة، والركوع، والسجود».(1)

وقد جاء ذكر الاستقبال ضمن آيات في سورة البقرة، ابتداء من الآية 142 إلى الآية 151، غير أنّا نفسّر من الآيات ما لها صلة بالحكم الشرعي، ونترك ما لا صلة له به.

الآية الأُولى:
اشارة

قال سبحانه: (سَيَقُولُ اَلسُّفَهاءُ مِنَ اَلنّاسِ ما وَلاّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ اَلَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلّهِ اَلْمَشْرِقُ وَ اَلْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) .(2)

ص: 137


1- . الوسائل: 1، الباب 4 من أبواب الوضوء، الحديث 8.
2- . البقرة: 142.
المفردات

السفهاء: من السفه، وهو نقصان العقل.

قبلتهم: قال الراغب: القبلة في الأصل اسم للحالة التي عليها المقابل، نحو:

الجلسة والقعدة، وفي التعارف صار اسماً للمكان المقابل المتوجّه للصلاة.(1)

ولّاهم: ولّى: فعل ماضٍ من باب التفعيل، فلو استعمل مع لفظة «عن» يفيد معنى الإعراض والإدبار - كما في الآية - ولو استعمل مع لفظة «إلى» يفيد معنى الإقبال.

التفسير

هذه الآية ومابعدها تتعلّق بمسألة جعل الكعبة قبلة للمسلمين بعد ما كانت القبلة - بأمر اللّه سبحانه - بيت المقدس، وقد تحدّث عنها القرآن الكريم في هذه السورة ولم يأت لها ذكر في السور الأُخرى، وهي حادثة عظيمة أوجدت ضوضاء، بين المشركين واليهود الذين يعبّر سبحانه عنهم هنا بالسفهاء.

توضيح ذلك: أنّ النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم منذ أوجب اللّه الصلاة عليه وعلى أُمّته كان يصلّي بأمر اللّه سبحانه إلى بيت المقدس، وما هذا إلّاليتميّز المسلمون عن المشركين الذين كانوا يقدّسون الكعبة ويحترمونها، فلأجل التمييز صار المسلمون يصلّون إلى بيت المقدس. ولمّا هاجر النبي صلى الله عليه و آله و سلم إلى مهجره، ابتلي بعدو لدود يصلّي إلى بيت المقدس، وكان النبي أيضاً مأموراً بالصلاة إليه، فصار ذلك سبباً لإيذاء النبي وتعييره بأنّك كيف تدّعي أنّ شريعتك ناسخة لشريعة النبي

ص: 138


1- . المفردات للراغب: 582، مادة «قبل».

موسى وأنت تصلي إلى قبلتنا؟! فصار هذا هو السبب لنزول الوحي بتغيير القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة. وبما أنّ هذه الحادثة كانت ضربة لليهود استثقلوها ونشروا الأكاذيب حولها، فنزلت الآية الأُولى تخبر النبي صلى الله عليه و آله و سلم بحادثة مؤلمة سوف تقع حتى يكون النبي والمسلمون على أهبة الاستعداد للدفاع عن دينهم وكيانهم.

كلّ ذلك قبل تغيير القبلة.0.

ص: 139

المسلمون عن المشركين، لكن المصلحة بعد الهجرة إلى المدينة بشهور اقتضت التوجّه إلى الكعبة حتى يتميّز المسلمون عن اليهود والنصارى، واللّه (يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) فالأمكنة كلّها للّه، والصلاة في أي مكان إذا صدرت عن تقرّب وإخلاص، فهي عبادة للّه، وأمّا التولّي عن المسجد الأقصى إلى الكعبة لأجل أنّ الحكم الشرعي يتغيّر بتغيّر المصالح.

ولعلّ قوله: (يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) تعريض بأنّ الذي أمر اللّه به المسلمين هو الهدى دون قبلة اليهود، ولكنّه لم يصرح بذلك وإنّما اكتفى بالتعريض، نظير قوله سبحانه: (وَ إِنّا أَوْ إِيّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (1).

ثمّ إنّ الصراط جاء بصورة النكرة وقال: (صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) مشيراً به إلى الصراط الحقّ في المقام، وهو كون القبلة هي الكعبة المعظمة، وبما أنّه أمر شخصي استغنى عن الإشارة إليه بلام الجنس، بخلاف قوله: (اِهْدِنَا اَلصِّراطَ اَلْمُسْتَقِيمَ) ، فقد أُشير به إلى الشريعة الحقّة اعتقاداً وعملاً بما أنّه مؤلّف من أُمور مختلفة يقع الجميع تحت عنوان واحد، وهو الصراط المستقيم أشار بلام الجنس إليه حتى يشير إلى الجميع. واللّه العالم.

الآية الثانية:
اشارة

قال سبحانه: (وَ ما جَعَلْنَا اَلْقِبْلَةَ اَلَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلاّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ اَلرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وَ إِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاّ

ص: 140


1- . سبأ: 24.

عَلَى اَلَّذِينَ هَدَى اَللّهُ وَ ما كانَ اَللّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اَللّهَ بِالنّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) .(1)

المفردات

لنعلم: أي ليتحقّق ويظهر.

ينقلب على عقبيه: كناية عن الإعراض عن الدين.

إيمانكم: أُريد الصلوات التي صلّوها إلى بيت المقدس، فقد أطلق الإيمان وأُريد به العمل.

التفسير
ما هو السرّ لجعل بيت المقدس قبلة؟

هذا ما يشير إليه سبحانه في هذه الفقرة من هذه الآية، قال: (وَ ما جَعَلْنَا اَلْقِبْلَةَ اَلَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلاّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ اَلرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ) ، ويشير بذلك إلى ما هي المصلحة التي سبّبت كون بيت المقدس قبلة للمسلمين في فترة معيّنة، وليس هو إلّاقوله: (لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ اَلرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ) .

توضيحه: لمّا كان من المترقّب أن يختلج في صدور بعض المؤمنين سؤال، وهو: أنّه إذا كانت الكعبة هي القبلة النهائية، فلماذا جعل في فترة خاصّة بيت المقدس قبلة، ثم نُسِخَ؟ فأُجيب بوجود مصلحتين في ذلك:

1. إنّ الكعبة كانت مورد اهتمام وتكريم كافّة القبائل العربية من غير فرق

ص: 141


1- . البقرة: 143.

بين المؤمن والمشرك، فقلوب الكلّ كانت معلّقة بها، وعندئذٍ فإذا أُمروا بالتوجّه إلى بيت المقدس فالمؤمن يتبع بلا تردّد، وأمّا ضعيف الإيمان ربما لا يتحمّل ذلك فيرتدّ على عقبه، وبذلك يتميّز المؤمن الواقعي عن غيره، وإليه يشير بقوله:

(لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ اَلرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ) .

2. أنّ بالتوجّه إلى بيت المقدس يتميّز صف الموحّدين عن صف المشركين...

كلّ ذلك في الفترة المكّية.

بقي هنا سؤالان:

الأوّل: إنّ ظاهر قوله: (كُنْتَ عَلَيْها) أنّه صلى الله عليه و آله و سلم لم يكن متوجّهاً إلى بيت المقدس عند نزول هذه الآية، مع أنّ ظاهر سياق المجموعة من الآيات أنّ القبلة بعدُ لم تُنْسَخ، وأنّ النبي كان يصلّي إلى بيت المقدس كما هو ظاهر قوله في الآية التالية: (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي اَلسَّماءِ) ؟

والجواب: أنّ في الفقرة تقدير، أي ما جعلنا القبلة التي كنت عليها فصرفناك عنها إلّالنعلم، وحذف لدلالة الكلام عليه.(1)

والأولى أن يجاب: أنّ الفعل أي (كُنْتَ) ملغى من الزمان، أي أنت عليها الآن.

السؤال الثاني: ما هو المراد من قوله: (لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ اَلرَّسُولَ) ؟ فاللّه سبحانه هو العالم بكلّ شيء، يعلم غيب السماوات والأرض و ما تخفي الصدور؟1.

ص: 142


1- . مجمع البيان: 447/1.

والجواب: أنّ المراد من العلم هنا علمه الفعلي القائم بالأشياء، لا العلم الذاتي. ولهذه الفقرة نظير في القرآن الكريم، قال تعالى: (ما كانَ اَللّهُ لِيَذَرَ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتّى يَمِيزَ اَلْخَبِيثَ مِنَ اَلطَّيِّبِ وَ ما كانَ اَللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى اَلْغَيْبِ وَ لكِنَّ اَللّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ فَآمِنُوا بِاللّهِ وَ رُسُلِهِ وَ إِنْ تُؤْمِنُوا وَ تَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ) (1).

فالمراد هو التميّز في مقام الفعل وظهوره في الوجود، نظير قوله سبحانه:

(لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَ أَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَ أَحْصى كُلَّ شَيْ ءٍ عَدَداً) (2) .

ثمّ إنّه سبحانه يستثني طائفة ويقول: (وَ إِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً) : أي كون بيت المقدس قبلة ثقيلة (إِلاّ عَلَى اَلَّذِينَ هَدَى اَللّهُ) ، فهم يتّخذونه قبلة برحابة صدر لعلمهم بأنّ اللّه سبحانه هو الهادي إلى سواء السبيل. وأن كلّ تشريع منه لا يخلو عن مصلحة.

نعم ربما يتبادر إلى أذهان المسلمين أنّهم صلّوا إلى بيت المقدس قبل نسخها فما هو حالها؟ وأُجيب بأنّ القبلة قبلة ما لم تنسخ، فالصلاة إليها صلاة صحيحة واللّه سبحانه لا يضيع أعمالكم، وإليه أشار بقوله: (وَ ما كانَ اَللّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ) وأُريد من الإيمان العمل، ثم علّله بقوله: (إِنَّ اَللّهَ بِالنّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) وأنّ إيفاء أجر المؤمن من آثار رأفته ورحمته.8.

ص: 143


1- . آل عمران: 179.
2- . الجن: 28.
الآية الثالثة
اشارة

قال سبحانه:

(قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي اَلسَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرامِ وَ حَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَ إِنَّ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ اَلْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَ مَا اَللّهُ بِغافِلٍ عَمّا يَعْمَلُونَ) .(1)

المفردات

نرى: الرؤية - لغة - إدراك الشيء بالبصر، وإذا نسبت إلى اللّه تعالى تكون بمعنى حضور المبصَر لدى الباري.

تقلّب: التحوّل والتصرّف.

السماء: كلّ ما علاك وأظلّك فهو سماء، كما عن ابن عباس، والقرينة الحاليّة تدلّ عليه.

ترضاها: أي تحبُّها.

شطره: شطر المسجد الحرام أي: نحوه وجانبه (اتّجاهه).

بغافل: الغفلة: السهو عن بعض الأشياء.

ص: 144


1- . البقرة: 144. وقد ورد الأمر بالتوجّه شطر المسجد الحرام في هذه الآية وفي الآية 149 و 150، وسيوافيك وجه التكرار.
التفسير

الآية على وجازتها تتضمّن أُموراً:

1. انتظار النبي صلى الله عليه و آله و سلم إلى تحويل القبلة.

2. إجابة تمنّي النبي وترقّبه.

3. أمر النبي بالتوجّه شطر المسجد الحرام.

4. وجوب التوجّه إليه على جميع المسلمين.

5. إنّ علماء أهل الكتاب يعلمون أنّ الكعبة قبلة من اللّه.

وفي نهاية الآية ما يدلّ على أنّه سبحانه ليس بغافل عن مؤامرة المعاندين.

ما ذكرناه رؤوس ما ورد في الآية:

أمّا الأمر الأوّل: فيشير إليه بقوله: (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي اَلسَّماءِ) فإنّ لفظة (قَدْ) تدلّ على التحقيق، وقد ورد أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم كان في مبعثه يصلّي إلى بيت المقدس جميع أيام مقامه بمكّة وبعد هجرته إلى المدينة بأشهر فعيّرته اليهود وقالوا: إنّك تابع لقبلتنا، فأحزنه ذلك، وهذا صار سبباً لترقّب النبي وتقليب وجهه في السماء وكان ينتظر الوحي(1).

ثمّ إنّ تقلب وجهه في السماء لم يكن إلّاتوقعاً لنزول الوحي في أمر القبلة حتى يكرمه اللّه بقبلة تختص به، لا أنّه كان غير راض بكون بيت المقدس قبلة، حاشا رسول اللّه عن ذلك.

وأمّا الأمر الثاني: فأُشير إليه بقوله: (فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها) وهذا يدلّ

ص: 145


1- . لاحظ: الوسائل: 3، الباب 2 من أبواب القبلة، الحديث 11.

على أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم لم يكن ساخطاً لكون بيت المقدس قبلة، بل كان يترقّب تحوّل القبلة إلى غيرها حتى ينقطع بذلك تعيير اليهود، واللّه سبحانه وعده بإنجاز ما يرضاه.

وأمّا الأمر الثالث: فأُشير إليه بقوله: (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرامِ) ، وإنّما خصّ الوجه بالذكر؛ لأنّ به يظهر التوجّه، والظاهر أنّه أُريد من الشطر الجانب والناحية لا النصف، أي حوّل نفسك نحو المسجد الحرام.

وأمّا الأمر الرابع: فقد أُشير بقوله: (وَ حَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) خصّ رسول اللّه بالحكم أوّلاً، ثم عمّم الحكم لغيره من المؤمنين حتى لا يتوهّم أنّ الحكم مختصّ به كسائر خصائصه.

روى الصدوق: لمّا صلّى النبي صلى الله عليه و آله و سلم من الظهر ركعتين جاء جبرئيل عليه السلام فقال له: (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي اَلسَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرامِ) الآية، ثمّ أخذ بيد النبي صلى الله عليه و آله و سلم فحوّل وجهه إلى الكعبة، وحوّل من خلفه وجوههم حتى قام الرجال مقام النساء، والنساء مقام الرجال، فكان أوّل صلاته إلى بيت المقدس وآخرها إلى الكعبة، وبلغ الخبر مسجداً بالمدينة، وقد صلّى أهله من العصر ركعتين، فحوّلوا نحو القبلة وكان أوّل صلاتهم إلى بيت المقدس وآخرها إلى الكعبة، فسُمّي ذلك المسجد مسجد القبلتين.(1)

وأمّا الأمر الخامس: فأشار إليه بقوله: (وَ إِنَّ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ) أراد به علماء اليهود. وقيل: علماء اليهود والنصارى، (لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ اَلْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ) :

أي يعلمون أنّ تحويل القبلة إلى الكعبة حقّ مأمور به من ربّهم. وإنّما علموا ذلك لأنّه2.

ص: 146


1- . الوسائل: 3، الباب 2 من أبواب القبلة، الحديث 12.

كان في بشارة الأنبياء لهم أن يكون نبي من صفاته كذا وكذا، وكان من صفاته أنّه يصلّي إلى القبلتين.(1)

وفي ختام الآية يقول: (وَ مَا اَللّهُ بِغافِلٍ عَمّا يَعْمَلُونَ) من كتمان بشارات النبي صلى الله عليه و آله و سلم وأوصافه، وتواطؤهم على الكذب.

ثمّ إنّ النسخ في المقام ليس من قبيل نسخ القرآن بالقرآن، لأنّ جعل بيت المقدس قبلة، وإن كان بأمر اللّه سبحانه، لكن لم يكن بالقرآن الكريم، بل بإيحاء من اللّه إلى النبي أن يصلّي نحوه، فلو قيل بالنسخ يجب أن يقال: نسخ السنّة بالقرآن.

الآية الرابعة

قال سبحانه:

(وَ مِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرامِ وَ إِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَ مَا اَللّهُ بِغافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ) .(2)

الآية تأمر النبي صلى الله عليه و آله و سلم بتولّي وجهه شطر المسجد الحرام، وعندئذٍ يقع الكلام: ما هو الوجه في هذا التكرار مع أنّه سبق هذا الأمر في الآية 144، حيث ورد فيها: (فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرامِ وَ حَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) ؟ وقد ذكر المفسّرون منهم النيسابوري وجوهاً سبعة لبيان

ص: 147


1- . مجمع البيان: 452/1.
2- . البقرة: 149. وقد مرّ ورود التوجه إلى شطر المسجد الحرام في الآية 144.

الفرق بين الآيتين.(1)

والذي يمكن أن يقال: إنّ الغاية من التكرار هو الإعلان عن أنّ استقبال الكعبة في الصلاة المفروضة أمر لازم في الحضر والسفر، فالمراد من قوله:

(وَ مِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ) : أي من أي مكان خرجت أو في أي بلاد كنت(2) سواء أكنت حاضراً أم مسافراً، لأنّ السفر مظنّة المشقّة في الاهتداء لجهة الكعبة، فربما يتوهم متوهّم سقوط الاستقبال عنه.(3) وهذا هو وجه التكرار.

ويؤيّد هذا الوجه أنّه سبحانه يؤكّد بعده ويقول: (وَ إِنَّهُ) : أي استقبال الكعبة (لَلْحَقُّ) الذي يجب أن يقبل ويعمل به، حال كونه (مِنْ رَبِّكَ وَ مَا اَللّهُ بِغافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ) فهو وعد للطائعين ووعيد للعاصين.

الآية الخامسة
اشارة

قال سبحانه:

(وَ مِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرامِ وَ حَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاّ يَكُونَ لِلنّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَ اِخْشَوْنِي وَ لِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) .(4)

ص: 148


1- . لاحظ: غرائب القرآن ورغائب الفرقان: 152/2-153.
2- . التبيان: 26/2.
3- . التحرير والتنوير: 440/2.
4- . البقرة: 150. وقد مرّ أنّ التوجّه إلى شطر المسجد الحرام ورد في آيتين سابقتين هما: 144 و 149، وقد تقدّم وجه التكرار في الآية 149، ويأتي وجهه في آيتنا هذه فلاحظ.
التفسير

قوله: (وَ مِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ) : أيّ من أي مكان خرجت وفي أي مكان حللت (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرامِ) لا أنت خاصّة بل المؤمنون جمعاء حيث قال: (وَ حَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) وعندئذٍ يقع الكلام ما هو الوجه في إعادة الجملة السابقة، فإنّها تكرار لما ورد في الآية 144 و 149 حيث عمّم الخطاب للنبي صلى الله عليه و آله و سلم وللمؤمنين؟

والظاهر أنّ وجه التكرار بيان ما يترتّب عليه من العلل حيث علّل سبحانه لزوم استقبال الكعبة للنبي والمؤمنين في السفر والحضر بأُمور ثلاثة:

1. (لِئَلاّ يَكُونَ لِلنّاسِ) : أي أحبار اليهود (عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ) وذلك لأنّهم قرأوا في كتبهم أنّ النبي العربي يستقبل قبلتين، فلولا الاستقبال الثاني لصارت الحجّة عليكم حيث يقولون: إنّ علامة النبي الخاتم كونه مصلّياً إلى القبلتين، وبذلك تمّت الحجّة عليهم، وربما يؤثّر في بعضهم. نعم يستثني طائفة (إِلاَّ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) استثناء منقطع، إذ ليس لهم أي حجّة، فهم يشاغبون عليكم ويجادلون (فَلا تَخْشَوْهُمْ وَ اِخْشَوْنِي) : أي فلتكن خشيتكم لي حيث إنّ شبهاتهم وصولتهم سوف تتضاءل شيئاً فشيئاً.

2. (وَ لِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ) ومن تمام النعمة أن يكون المسلمون ذوي قبلة خاصّة مستقلّة دون أن يكونوا تبعاً لقوم آخرين.

3. (وَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) هذه هي الحكمة الثالثة لتحويل القبلة، وهي أنّه (وَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) إلى معرفة لطف اللّه بإتمام النعمة.

ص: 149

ما هو الواجب في الاستقبال؟

إلى هنا تمّ ذكر الآيات المتعلّقة بالموضوع، وذكر تفسيرها، إنّما الكلام في ما هو المستفاد من قوله: (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرامِ) ؟ قال الفاضل المقداد: في التعبير بالشَّطر بمعنى الجهة، إيماء إلى أنّ أمر القبلة مبنيّ على المساهلة والمقاربة دون التحقيق، فإنّ العراقيّ والخراساني [علامة] قبلتهم واحدة مع أنّه إذا حقّق، كان توجّه العراقي إلى غير موضع الخراساني لاختلاف البلدان في العروض.(1)

كلام المحقّق الأردبيلي في كفاية الجهة

وممّن يؤيّد جواز الاكتفاء بالجهة أي السمت الذي تقع فيه الكعبة من دون لزوم تحرٍّ أكثر من ذلك، المحقّق الأردبيلي حيث رجّح الاكتفاء باستقبال السمت قال: وبالجملة الذي يظهر لي - من الأخبار الصحيحة، والآيات الكريمة، والشريعة السمحة السهلة، وقول عظماء الأُمّة من العامّة والخاصّة - هو الوسعة، واغتفار التفاوت بين العلامات لاسيّما إذا كان يسيراً، حيث اعتبروا علامات مختلفة لأهل العراق مثلاً وأطلقوا، وكذا لغيره؛ مثل جعل بنات النعش علامة، مع كونها متعدّدة مختلفة المواضع، واعتبار مهبّ الرياح؛ واعتبروا القبور والمحاريب في كلّ بلد من بلاد المسلمين، مع أنّا نجد في أكثر بلاد المسلمين الاختلاف الكثير، بل في بلدة واحدة، خصوصاً في بلد العامّة حيث يكفي عندهم ما بين المشرق والمغرب على ما تسمع وترى. ويؤيّده ورود الأخبار مختلفة مجملة. وبُعد الإهمال من

ص: 150


1- . كنز العرفان في فقه القرآن: 86/1، كتاب الصلاة.

الشارع في مثل هذه الدقيقة التي يضرّ بالعمدة من العبادات أدنى الالتفات عنها كما يفهم من كلام الشارح والذكرى وغيره مع اعتبارهم استحباب التياسر على نحو الإجمال قدراً ومحلّاً.

وعدم طريق - إلى التحقيق لمحاذاة البيت ولا بالقرب منه لبلد ما، فكيف بكل البلاد؟! وعدم تحقّق كون غيره من المواضع قبلة، بحيث يكون الخروج عنه مضرّاً بأدنى خروج، مع عدم الأثر - ما نجده مناسباً للشريعة: اللّه يعلم والاحتياط معلوم.(1)

كفاية استقبال الجهة عند صاحب المدارك

وقال صاحب المدارك: واعلم أنّ للأصحاب اختلافاً كثيراً في تعريف الجهة، ولا يكاد يسلم تعريف منها من الخلل، وهذا الاختلاف قليل الجدوى، لاتّفاقهم على أنّ فرض البعيد استعمال العلامات المقرّرة والتوجّه إلى السمت الذي يكون المصلّي متوجّهاً إليه حال استعمالها، فكان الأولى تعريفها بذلك.

ثمّ إنّ المستفاد من الأدلّة الشرعية سهولة الخَطْب في أمر القبلة والاكتفاء بالتوجّه إلى ما يصدق عليه عرفاً أنّه جهة المسجد وناحيته، كما يدلّ عليه قوله تعالى: (فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) (2)، وقولهم عليهم السلام: «ما بين المشرق والمغرب قبلة».(3) و: «ضع الجدي في قفاك وصلّ».(4) وخلو الأخبار ممّا زاد على ذلك مع

ص: 151


1- . مجمع الفائدة والبرهان: 74/2-75.
2- . البقرة: 150.
3- . الوسائل: 2، الباب 35 من أبواب صلاة الجنازة، الحديث 1.
4- . الوسائل: 3، الباب 5 من أبواب القبلة، الحديث 1.

شدّة الحاجة إلى معرفة هذه العلامات لو كانت واجبة، وإحالتها على علم الهيئة مستبعد جدّاً؛ لأنّه علم دقيق كثير المقدّمات، والتكليف به لعامّة الناس بعيد من قوانين الشرع، وتقليد أهله غير جائز، لأنّه لا يعلم إسلامهم فضلاً عن عدالتهم.

وبالجملة: فالتكليف بذلك ممّا علم انتفاؤه ضرورة. واللّه تعالى أعلم بحقائق أحكامه.(1)

تأييد صاحب الحدائق كفاية الجهة

وممّن يؤيّد هذا القول صاحب الحدائق قال: ويؤيّد ذلك أوضح تأييد ما عليه قبور الأئمّة عليهم السلام في العراق من الاختلاف مع قرب المسافة بينها على وجه يقطع بعدم انحراف القبلة فيه مع استمرار الأعصار والأدوار من العلماء الأبرار على الصلاة عندها ودفن الأموات ونحو ذلك، وهو أظهر ظاهر في التوسعة.(2)

ويشهد على ما ذكره، جعل الجَدْي علامة لمعرفة القبلة في العراق كلّه، روى الصدوق، قال: قال رجل للصادق عليه السلام: إنّي أكون في السفر ولا أهتدي إلى القبلة بالليل، فقال: «أتعرف الكوكب الذي يقال له الجدي؟»، قلت: نعم، قال: «اجعله على يمينك، وإذا كنت في طريق الحجّ فاجعله بين كتفيك».(3)

ومن المعلوم أنّه تختلف مناطق العراق بالنسبة إلى تلك العلامة.

وإلى هذا الاختلاف يشير العلّامة الطباطبائي بحر العلوم في منظومته

ص: 152


1- . مدارك الأحكام: 121/3.
2- . الحدائق الناضرة: 387/6.
3- . الوسائل: 3، الباب 5 من أبواب القبلة، الحديث 1.

الفقهية:

فاجعله خلف المنكب الأيمن في *** أواسط العراق مثل النجف

وكربلاء وسائر المشاهد *** وما يدانيها ولم يباعد

واجعله في شرقيه(1)*** كالبصرة في الأذن اليمنى ففيه النصرة

وبين كتفيك برأي أعدل *** في الجانب الغربي نحو الموصل(2)

أقول: الشريعة الإسلامية شريعة عالمية حجّة لمن يعيش في الأقاليم السبعة، ومن المعلوم أنّ كثيراً من الناس - خصوصاً في القرون السابقة - كانوا غير مستعدين لتعيين القبلة على وجه الدقّة، مع ابتلائهم بها في صلواتهم وذبائحهم ودفن أمواتهم إلى غير ذلك، فإلزام مَن يعيش في الأقاليم البعداء من الأجهزة العلمية لتعيين القبلة، لا ينسجم مع روح الشريعة الإسلامية (بأي وجه؟).

وما ذكرنا من كلمات الأصحاب بدءاً من الفاضل المقداد إلى المحقّق الأردبيلي إلى تلميذه صاحب المدارك وغيرهم، كلام متين.

ثمّ إنّه يؤيد ما ذكره هؤلاء الأعلام الأُمور التالية:

1. ما ورد من أنّ الجاهل بالقبلة يصلّي إلى أربع جهات. روى الصدوق، قال: في مَن لا يهتدي إلى القبلة في مفازة أنّه يصلي إلى أربعة جوانب.(3)

والحديث يدلّ بالملازمة على أنّ الواجب في حال العلم الصلاة إلى إحداها، وفي حال الجهل يكفي إتيانها إلى الأربع تحصيلاً للعلم بالفراغ، فالصلاة5.

ص: 153


1- . أي شرقيّ العراق.
2- . جواهر الكلام: 366/7.
3- . الوسائل: 3، الباب 8 من أبواب القبلة، الحديث 1 و 5.

إليها محصّل للشرط الواجب في حال العلم.

2. ما رواه عليّ عليه السلام قال: قال النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم: «إذا دخلت المخرج فلا تستقبل القبلة ولا تستدبرها، ولكن شرّقوا وغرّبوا»(1)، فإنّ المستفاد منه أنّ خلاف المشرق والمغرب: إمّا قبلة أو دبرها.

3. ما رواه الفريقان أنّ ما بين المشرق والمغرب قبلة، روى زرارة عن أبي جعفر عليه السلام، قال: «لا صلاة إلّاإلى القبلة» قال: قلت: أين حدّ القبلة؟ قال: «ما بين المشرق والمغرب قبلة كلّه».(2)

ومن المعلوم أنّ الأخذ بظاهره غير ممكن؛ لأنّ معنى ذلك سعة القبلة بمقدار نصف الدائرة، وذلك في آخر الربيع الذي تكون الأيام فيه أطولها والليالي أقصر، فلابدّ من حمله على المشرق والمغرب الاعتداليين، كآخر يوم من فصل الخريف الذي تكون الأيام أقصرها والليالي أطولها، فإنّ القوس بين المشرق والمغرب يقرب من تسعين درجة، بخلاف القوس الموجود بين المشرق والمغرب في آخر فصل الربيع.

4. ما روي من جعل الجدي على اليمين، وقد مرّت الرواية، ومن المعلوم أنّ استعلام القبلة بهذا الكوكب يختلف حسب اختلاف البلاد كما مرّ في منظومة بحر العلوم.

إلى غير ذلك من العلائم التي يستفاد منها سعة القبلة للمصلّي، فما ذكره الأعلام الأربعة هو الحقّ المتّبع، وربما يوافقهم قول المحقّق في «المعتبر»، قال:ه.

ص: 154


1- . الوسائل: 1، الباب 2 من أبواب أحكام الخلوة، الحديث 5.
2- . الوسائل: 3، الباب 10 من أبواب القبلة، الحديث 1 و 4. ولاحظ سائر الأحاديث الواردة فيه.

القبلة السمت الذي فيه الكعبة لا نفس البنية، وذلك متّسع يمكن أن يوازي جهة كلّ مصلٍّ.(1)

إلى هنا تمّ ما يمكن تأييد القول بكفاية اتّجاه الجهة، وهناك نظرية أُخرى وهي أنّ القبلة هي عين الكعبة وبنيتها، وقد اتّخذها صاحب الجواهر مذهباً. وأخذ بتعداد قول القائلين بأنّ القبلة الجهة، ويقول بعد ذكر الوجوه التي عرفتها من الأعلام: إلى غير ذلك ممّا لفّقه أتباع المقدّس المزبور ممّا هو معلوم المخالفة لما أجمع عليه الأصحاب قديماً وحديثاً قولاً وعملاً منهم ومن مقلّدتهم في سائر الأعصار والأمصار، ولما هو المستفاد من الكتاب والسنّة، بل الضرورة من الدين من استقبال الكعبة للقريب والبعيد الذي لا يتحقّق عرفاً إلّاباستقبالها حقيقة الذي منه استقبال الجهة بالمعنى الذي ذكرناه سابقاً، لا الجهة العرفية المبنية على التسامح وعدم الاستقبال حقيقة.(2)

وقال في موضع آخر: وقد خفي في هذا العصر المراد بالجهة حتى أنّه التجأ متفقّهته للجهل بها إلى ما أحدثه الأردبيلي، وتبعه عليه بعض الناس ممّا هو مخالف لإجماع الأصحاب بقسميه.(3)

نظرية صاحب الجواهر

ثمّ إنّ صاحب الجواهر أصرّ على نظريته من استقبال الكعبة وحاصل كلامه يأتي في ما يلي:

ص: 155


1- . المعتبر: 66/2.
2- . جواهر الكلام: 343/7-344.
3- . جواهر الكلام: 342/7.

لمّا كان استعداد الناس وفطانتهم مختلفة أشدّ الاختلاف حتى أنّ منهم من يصل إلى كثير من نتائج العلوم المدوّنة من غير حاجة الى أهلها ومقدّماتها، ومنهم من ليس له إلّاقابلية التقليد، ناط الشارع هنا التكليف بالعلم مع التمكّن منه بلا عسر وحرج، كما يتيسّر لكثير من أفراد الناس الممارسين المتنبهين من أهل البادية والقرى، بل لعلّ اتفاق ذلك في الأوّلين أكثر، ومع عدم التمكّن فالتحرّي (العمل بالعلائم المفيدة للظن)، ومع عدمهما فالأربع جهات، فلا عسر ولا حرج في ذلك على عامّة المكلّفين، إذ لم يكلّفهم بمعرفة قواعد علم الهيئة الذي هو دقيق المقدّمات، ولا يعرفه إلّاأوحدي الناس، بل إنّما أمر بالعلم بحصول الاستقبال للمتمكّن كما هو القاعدة في كلّ موضوع، وبالظن لغيره، وبالعلم الإجمالي لفاقدهما، فمَن كان حسن الفطنة يتمكّن من حصول العلم بسبب معرفته في علم الهيئة أو بغير ذلك، وجب عليه، وإلّا أخذ بالأحرى فالأحرى على حسب استعداده أيضاً، وما يتيسّر له من أسباب الظن إلى أن يصل إلى التقليد وأدون.(1)

وحاصل كلامه: أنّ مَن تيسّر له محاذاة عين الكعبة فهو، وإلّا فيجب عليه التحرّي بالأمارات التي ذكرت في الأحاديث إذا أفادت الظن، وفي غير تلك الصورتين يصلّي إلى أربع جهات.

ولا يخفى أنّ التكليف بالصلاة إلى أربع جهات يوماً أو يومين، ليست حرجية، وأمّا إذا دامت فلا شكّ أنّها أمر حرجي.5.

ص: 156


1- . جواهر الكلام: 344/7-345.
الصف الطويل وكون القبلة عين الكعبة

ثمّ إنّه ربما يعترض على مَن جعل القبلة عين الكعبة بالصف الطويل، إذ لو قلنا بوجوب محاذاة عين الكعبة، لزم بطلان صلاة بعضهم، لافتراض أنّ الصف أوسع من مقدار عرض جدار الكعبة.

قال الشيخ: لو كُلّف التوجّه إلى عين الكعبة لوجب - إذا كان في صف طويل خلف الإمام - أن تكون صلاتهم أو صلاة أكثرهم إلى غير القبلة... إلى أن قال: ولا يلزمنا مثل ذلك؛ لأنّ الغرض التوجّه إلى الحرم والحرم طويل، يمكن أن يكون كلّ واحد من الجماعة متوجّهاً إلى جزء منه.(1)

ثمّ إنّ القائلين بأنّ اللازم هو التوجّه إلى عين الكعبة أجابوا عن الإشكال قائلين بأنّ الشيء كلّما إزداد بُعداً إزداد محاذاة.

يقول الفقيه المحقّق الهمداني في توضيح ذلك: إنّ صدق الاستقبال ممّا يختلف بالنسبة إلى القريب والبعيد، فإنّك إذا استقبلت صفّاً طويلاً بوجهك وكنت قريباً منهم جدّاً، لا تكون قبلتك من أهل الصف إلّاواحداً منها بحيال وجهك، ولكنّك إذا رجعت القهقرى بخط مستقيم إلى أنّ بعدت عنهم بمقدار فرسخ مثلاً، لرأيت أن مجموع الصفّ بجملته بين يديك بحيث لا تُميّز من يحاذيك حقيقةً عن الآخر مع أنّ المحاذاة الحقيقية لاتكون إلّابينك وبين ما كنت أوّلاً.

وإن أردت مثالاً أوضح فانظر إلى عين الشمس والكواكب التي تراها قبال

ص: 157


1- . الخلاف: 295/1 المسألة 41.

وجهك، فإنّ جرم الشمس وكذا الكواكب وما بينها من الفاصل أعظم من مساحة الأرض أضعافاً مضاعفة، ومع ذلك ترى مجموعها بين يديك حيال وجهك.(1)

ثمّ إنّ سيد مشايخنا المحقّق البروجردي أنكر القاعدة - أعني: أنّ الشيء كلما إزداد بعداً إزداد محاذاة - وحاصل كلامه في وجه تصحيح صلاة الصف الطويل هو: أنّ الصف ليس مستقيماً في الحقيقة بل له تحدّب غير محسوس، يقول في تعليقته على العروة الوثقى: إنّ الصف المذكور إذا لاحظ كلّ منهم العلامات المجعولة له بنحو الدقّة يكون في الواقع قطعة من دائرة عظيمة مركزها الكعبة، فهو في الواقع متحدّب في الجملة، إلّاأنّ عظم الدائرة يمنع عن إحساس انحداب قوسها، وهذا بخلاف الصفّ المنعقد في قرب الكعبة فإنّ انحدابه محسوس لصغر الدائرة.(2)

وأوضحه السيد المحقّق الخوئي بالبيان التالي:

إنّ استطالة الصف في البعيد لا تستلزم خروج بعضهم عن استقبال نفس الكعبة، وتوضيح ذلك إنّما يكون بتقريبين: الأوّل: أن يفرض جماعة واحدة حول الكعبة مستديرة وتكبر تلك الدائرة شيئاً فشيئاً إلى أن تصلّ إلى دائرة كبيرة منصفة لكرة الأرض، على أن يكون أحد قطبيها نفس الكعبة وقطبها الآخر النقطة المقابلة لها من الجهة الأُخرى، فكلّ قوس من هذه الدائرة وإن كان مستقيماً في نفسه إلّاأنّ كلّ جزء منه مواجه لنفس الكعبة، فلو فرض جماعة واحدة تكون استطالة صفوفهم بمقدار سعة الأرض كان كلّ واحد من أهل تلك الصفوف مستقبلاً5.

ص: 158


1- . مصباح الفقيه: 21/1-22.
2- . العروة الوثقى: 294/2-295.

حقيقة، وهكذا الكلام في الجماعة الواقعة على الدوائر المتوسطة بين تلك الدائرة وقطبيها، فإن كبر الدائرة يوجب قلّة تقوّس كلّ قوس مفروض فيها بحيث لا ينافي كونه خطاً مستقيماً في حسّ البصر، فالجماعة الذين يكونون بعيدين عن الكعبة بألف فرسخ مثلاً إذا توجّهوا إلى الكعبة في خط مستقيم في الحس لا يعلم عدم مواجهة أحد منهم لعين الكعبة؛ لاحتمال انصراف الخط ولو بمقدار شعرة، فيكون الخط حينئذٍ قوساً لا خطاً مستقيماً هندسياً.(1)

مختارنا

والذي يمكن أن يقال: إنّ القبلة للمشاهد كالمصلّي في المسجد الحرام وما حوله ممّا يمكن استقبال عين الكعبة فاللازم عليه استقبالها، وتبطل الصلاة بالانحراف عنها. وأمّا النائي فإن أمكن التوصّل إلى الجهة التي فيها عين الكعبة على وجه الدقّة، كما إذا كان عارفاً بالآلات التي تحدّد القبلة كالبوصلة وأمثالها فعليه العمل بها، وإلّا فيتحرّى ويعمل بالظن. وإلّا فالاكتفاء بالجهة التي فيها الكعبة على وجه السعة هو الأقوى. وطريق الاحتياط واضح.

ص: 159


1- . وقد اقتصرنا بذكر الوجه الأوّل فمن أراد الوقوف على الوجه الثاني فليرجع إلى فقه الصادق: 90/4.

أحكام الصلاة

3. صلاة المسافر في الذكر الحكيم

اشارة

قال سبحانه: (وَ إِذا ضَرَبْتُمْ فِي اَلْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ اَلصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ اَلْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً) .(1)

اتّفق المسلمون تبعاً للكتاب العزيز والسنّة النبوية على مشروعية القصر في السفر وإن لم يكن معه خوف.

إنّما الكلام في أنّ القصر في السفر عزيمة، أو سنّة مؤكّدة، أو رخصة؟!

هنا أقوال ثلاثة نشير إليها بالتفصيل:

ذهبت الإمامية والحنفية إلى أنّها عزيمة، وإنّ فرض المسافر في كلّ صلاة رباعية ركعتان.

وقالت المالكية: القصر سنّة مؤكّدة لفعل النبي صلى الله عليه و آله و سلم، فإنّه لم يُر منه في أسفاره أنّه أتمّ الصلاة.

ص: 160


1- . النساء: 101.

أخرج الشيخان عن ابن عمر أنّه قال: صحبت النبي فكان لا يزيد في السفر على ركعتين، وأبو بكر وعمر وعثمان كذلك.(1)

وقالت الشافعية والحنابلة: القصر رخصة على سبيل التخيير، فللمسافر أن يتمّ أو يقصّر.

قال الشيخ الطوسي في «الخلاف»: التقصير في السفر فرض وعزيمة، والواجب في هذه الصلوات الثلاث: الظهر والعصر والعشاء الآخرة ركعتان، فإن صلّى أربعاً مع العلم وجب عليه الإعادة.

وقال أبو حنيفة مثل قولنا: إلّا أنّه قال: إن زاد على ركعتين، فإن كان تشهّد في الثانية صحّت صلاته، وما زاد على اثنتين يكون نافلة، إلّاأن يأتم بمقيم فيصلي أربعاً فيكون الكلّ فريضة أسقط بها الفرض. ولعلّه أراد بالتشهد، ما هو المقرون بالسلام وإلّا فالركعة الثانية لا تنفك عن التشهّد.

والقول بأنّ التقصير عزيمة مذهب علي عليه السلام وعمر، وفي الفقهاء مذهب أبي حنيفة وأصحابه.

وقال الشافعي: وهو بالخيار بين أن يصلّي صلاة السفر ركعتين وبين أن يصلّي صلاة الحضر أربعاً، فيسقط بذلك الفرض عنه.

وقال الشافعي: التقصير أفضل.

وقال المزني: والإتمام أفضل، وبمذهبه قال في الصحابة: عثمان وعبد اللّه بن مسعود وسعد بن أبي وقاص وعائشة، وفي الفقهاء: الأوزاعي وأبو ثور.(2)1.

ص: 161


1- . شرح صحيح مسلم للنووي: 205/5، باب صلاة المسافرين وقصرها من كتاب الصلاة برقم 8.
2- . الخلاف: 569/1، كتاب الصلاة، المسألة 321.

وهناك مَن يقول بأنّه يقصّر إلّاإذا نوى إقامة عشرة أيّام كما عليه الإمامية، إلى غير ذلك من المباحث الراجعة إلى صلاة المسافر، ونحن نركِّز على موضوع آخر وهو كون القصر عزيمة أو سنّة مؤكّدة أو رخصة.

إذا عرفت ذلك فلندخل في صلب الموضوع فنقول:

ورد حكم صلاة المسافر في الكتاب العزيز، فقد قال سبحانه: (وَ إِذا ضَرَبْتُمْ فِي اَلْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ اَلصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ اَلْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً) .(1)

تفسير مفردات الآية

1. الضرب في الأرض كناية عن السفر، أي إذا سرتم فيها فليس عليكم جناح - يعني: حرج - ولا إثم أن تقصروا من الصلاة - يعني: من عددها - فتصلّوا الرباعيات ركعتين.(2)

وبهذا أيضاً فسّر القرطبي في «الجامع لأحكام القرآن».(3)

ويؤيّد ذلك استعمال الضرب في الأرض في غير واحدة من الآيات، كقوله سبحانه: (يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اَللّهِ فَتَبَيَّنُوا) .(4)

وقال سبحانه: (إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي اَلْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ اَلْمَوْتِ) (5).

ص: 162


1- . النساء: 101.
2- . التبيان في تفسير القرآن: 307/3.
3- . الجامع لأحكام القرآن: 351/5.
4- . النساء: 94.
5- . المائدة: 106.

وقال سبحانه: (إِذا ضَرَبُوا فِي اَلْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَ ما قُتِلُوا) (1).

2. وأمّا الجناح فهو بمعنى الإثم، وقد تضافر استعماله في الإثم في آيات كثيرة.

يقول سبحانه: (فَمَنْ حَجَّ اَلْبَيْتَ أَوِ اِعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما) .(2)

وقد ورد لفظة «جناح» في الكتاب العزيز 25 مرّة، والمقصود في الجميع هو ما ذكرنا.

3. إنّ قوله: (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ) جزاء للشرط المتأخّر، فكأنّه قال سبحانه: «فإن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة».

4. المراد من القصر هو تخفيف عدد الركعات من أربع ركعات إلى ركعتين.

ثمّ إنّ الآية تخصّ القصر بالسفر المرافق للخوف، وظاهرها أنّ السفر ليس موضوعاً مستقلاً، بل الموضوع هو السفر المرافق للخوف، لكنّ السنّة فسّرت الآية وأعطت للسفر استقلالاً للتقصير.

فإنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم كان يقصّر في حالتي الخوف والأمن - كما ستوافيك الروايات - وأمّا تعليق القصر على الخوف في الآية كأنّه كان لتقرير الحالة الواقعة؛ لأنّ غالب أسفار النبي صلى الله عليه و آله و سلم لم تخلو منه.8.

ص: 163


1- . آل عمران: 156.
2- . البقرة: 158.

وبعبارة أُخرى: أنّ القيد في الآية قيد غالبي بالنسبة إلى الظروف التي نزلت الآية فيها، فمَن حاول أن يحصر التقصير بسفر الخوف دون سفر الأمن، فقد أخذ بظاهر الآية وترك السنّة النبوية واتّفاق المسلمين وفي مقدمهم أئمّة أهل البيت عليهم السلام الذين عرّفهم الرسول بكونهم أعدال القرآن وقرناء الكتاب.

ثمّ إنّ من زعم أنّ القصر رخصة تمسّك بظاهر الآية، وهو قوله سبحانه: (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ) ، ولكنّه غفل عن أنّ هذا التعبير لا يدلّ على مقصوده، لأنّ الآية وردت في مقام رفع توهّم الحظر، فكأنّ المخاطب يتصوّر أنّ القصر إيجاد نقص في الصلاة وهو أمر محظور، فنزلت الآية لدفع هذا التوهّم، لتطيب النفس بالقصر وتطمئن إليه.(1)

وليس ذلك بغريب فقد ورد مثله في قوله سبحانه: (إِنَّ اَلصَّفا وَ اَلْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اَللّهِ فَمَنْ حَجَّ اَلْبَيْتَ أَوِ اِعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما وَ مَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اَللّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ) .(2)

روى الصدوق بإسناده عن زرارة ومحمد بن مسلم أنّهما قالا: قلنا لأبي جعفر عليه السلام: ما تقول في الصلاة في السفر كيف هي؟ وكم هي؟ فقال: «إنّ اللّه عزّ وجلّ يقول: (وَ إِذا ضَرَبْتُمْ فِي اَلْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ اَلصَّلاةِ) فصار التقصير في السفر واجباً كوجوب التمام في الحضر» قالا: قلنا له:

إنّما قال اللّه عزّ وجلّ: (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ) ولم يقل: افعلوا فكيف أوجب ذلك؟ فقال عليه السلام: «أو ليس قد قال اللّه عزّ وجلّ في الصفا والمروة: (فَمَنْ حَجَّ اَلْبَيْتَ أَوِ8.

ص: 164


1- . تفسير الكشّاف: 294/1، ط دار المعرفة.
2- . البقرة: 158.

اِعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما) . ألا ترون أنّ الطواف بهما واجب مفروض، لأنّ اللّه عزّ وجلّ ذكره في كتابه وصنعه نبيّه صلى الله عليه و آله و سلم، وكذلك التقصير في السفر شيء صنعه النبي صلى الله عليه و آله و سلم وذكره اللّه في كتابه.(1)

إنّ المسلمين لمّا أرادوا الطواف بين الصفا والمروة في عمرة القضاء شاهدوا وجود الأصنام فوق الصفا والمروة، فتحرّج المسلمون من الطواف بينهما، فنزل قوله سبحانه: (إِنَّ اَلصَّفا وَ اَلْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اَللّهِ) .

يقول الطبرسي: كان على الصفا صنم يقال له: اساف وعلى المروة صنم يقال له: نائلة، وكان المشركون إذا مرّوا بهما مسحوهما، فتحرّج المسلمون عن الطواف بهما لأجل الصنمين، فأنزل اللّه تعالى هذه الآية، وهو منقول عن الشعبي وكثير من العلماء، فرجع رفع الجناح عن الطواف بهما إلى تحرّجهم عن الطواف بهما لأجل الصنمين لا إلى عين الطواف، كما لو كان الإنسان محبوساً في موضع لا يمكنه الصلاة إلّابالتوجّه إلى ما يكره التوجّه إليه من المخرج وغيره، فيقال له: لا جناح عليك في الصلاة إلى ذلك المكان، فلا يرجع رفع الجناح إلى عين الصلاة، لأنّ عين الصلاة واجبة وإنّما يرجع التوجّه إلى ذلك المكان.

ورويت رواية أُخرى عن أبي عبد اللّه عليه السلام أنّه كان ذلك في عمرة القضاء، وذلك أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم شرط عليهم أن يرفعوا الأصنام، فتشاغل رجل من أصحابه حتى أُعيدت الأصنام، فجاءوا إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فقيل له: إنّ فلاناً لم يَطُف وقد أُعيدت الأصنام، فنزلت هذه الآية (فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما) :

أي2.

ص: 165


1- . الوسائل: 5، الباب 22 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 2.

والأصنام عليهما، قال: فكان الناس يسعون والأصنام على حالها.(1)

ويجري نفس هذا الكلام في المقام، فإنّ قصر الصلاة وتبديلها إلى ركعتين من الأُمور التي يتحرّج منه المسلم ويتصوّر أنّه ترك للفريضة، ففي هذه الظروف يقول سبحانه: (وَ إِذا ضَرَبْتُمْ فِي اَلْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ اَلصَّلاةِ) .

وعلى ضوء هذا فالآية لا تدلّ على العزيمة ولا على الرخصة، بل هي ساكتة عن هذا الجانب.

إلى هنا تبين أنّ الآية لا تدلّ على أحد الأقوال، فلا محيص من الرجوع إلى السنّة.

نعم ربما يظهر الوجوب بوجه آخر وهو:

أخرج مسلم عن يعلى بن أُميّة، قال: قلت لعمر بن الخطاب: (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ اَلصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا) (2) فقال:

عجبتُ ممّا عجبتَ منه، فسألت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم؟ قال: «صدقة منّ اللّه بها عليكم فاقبلوا صدقته».(3)

وربما: يقال إنّ المتصدّق عليه، لا يجب عليه قبول الصدقة.

وأجاب الشوكاني عن الاستدلال المذكور بقوله: إنّ الأمر بقبولها يدلّ على4.

ص: 166


1- . مجمع البيان: 240/1 في تفسير الآية.
2- . النساء: 101.
3- . شرح صحيح مسلم للنووي: 203/5 برقم 4.

أنّه لامحيص عنها، وهو المطلوب.(1)

وكان للشوكاني أن يرد على الاستدلال بوجه آخر أيضاً ويقول: إنّ قياس صدقة اللّه وهديته، على صدقات الناس وهداياهم قياس مع الفارق؛ وذلك لأنّ المهدى إليه أو المتصدّق عليه لا يجب عليه قبول الهدية أو الصدقة إذا كان المتصدِّق إنساناً مثله، وأمّا إذا كان المتصدِّق هو اللّه سبحانه فيجب قبولها، وذلك لأنّ صدقة اللّه أمر امتناني، وامتناناته سبحانه ليست أُموراً اعتباطية، بل هي ناشئة من الحكمة البالغة الإلهية، فحيث يعلم اللّه بأنّ المصالح الذاتية للبشر تقتضي ذلك الامتنان، يمنّ بها على العباد، فيصير القبول أمراً مفروضاً عليهم.

وربما يظهر من أحاديث أئمّة أهل البيت عليهم السلام أنّه يحرم رد صدقة اللّه، حيث قال الصادق عليه السلام: قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «إنّ اللّه عزّوجلّ تصدّق على مرضى أُمّتي ومسافريها بالتقصير والإفطار، أيسرّ أحدكم إذا تصدّق بصدقة أن تُرد عليه؟!».(2)

ثمّ إنّ سيد مشايخنا السيد محمد الحجّة الكوهكمري قدس سره كان يستدلّ بالرواية على بطلان مَن صلّى تماماً عالماً بالحكم وصحّة مَن صلّى تماماً جاهلاً به قائلاً: بأنّ المصلّي في الصورة الأُولى يرد هدية المولى على الإطلاق وهو إهانة له، دون الصورة الأُخرى.

أدلّة القول بأنّ القصر عزيمة

دلّت السنّة المتضافرة المبثوثة في الصحاح والسنن والمسانيد على أنّ

ص: 167


1- . نيل الأوطار: 201/3.
2- . الوسائل: 5، الباب 22 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 7.

القصر عزيمة، وكان النبي يقصّر في عامّة أسفاره، فنذكر من ذلك الكثير ما يلي:

1. أخرج مسلم عن عائشة زوجة النبي صلى الله عليه و آله و سلم أنّها قالت: فرضت الصلاة ركعتين ركعتين في الحضر والسفر فأُقرّت صلاة السفر وزيد في صلاة الحضر.(1)

قال الشوكاني: وهو دليل ناهض على الوجوب، لأنّ صلاة السفر إذا كانت مفروضة ركعتين لم تجز الزيادة عليها كما أنّها لا تجوز الزيادة على أربع في الحضر.(2)

2. أخرج مسلم عن عائشة أنّ الصلاة أوّل ما فرضت ركعتين فأقرّت صلاة السفر وأتمّت صلاة الحضر.

3. أخرج مسلم عن ابن عباس قال: فرض اللّه الصلاة على لسان نبيّكم صلى الله عليه و آله و سلم في الحضر أربعاً، وفي السفر ركعتين، وفي الخوف ركعة.

4. أخرج مسلم عن موسى بن سلمة الهذلي، قال: سألت ابن عباس كيف أُصلّي إذا كنت بمكّة إذا لم أُصلّ مع الإمام؟

فقال: ركعتين، سنّة أبي القاسم.

5. أخرج مسلم عن عيسى بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب، عن أبيه قال: صحبت ابن عمر في طريق مكة، قال: فصلّى لنا الظهر ركعتين.

إلى أن قال: إنّي صحبت رسول اللّه في السفر فلم يزد على ركعتين حتّى قبضه اللّه، وصحبت أبا بكر فلم يزد على ركعتين حتّى قبضه اللّه، وصحبت عمر3.

ص: 168


1- . شرح صحيح مسلم للنووي: 201/5؛ وصحيح البخاري: 55/2، باب يَقصُر إذا خرج من موضعه من كتاب الصلاة.
2- . نيل الأوطار: 246/3.

فلم يزد على ركعتين حتّى قبضه اللّه، ثمّ صحبت عثمان فلم يزد على ركعتين حتّى قبضه اللّه، فقد قال اللّه: (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اَللّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) .

6. أخرج مسلم عن أنس أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم صلّى الظهر بالمدينة أربعاً، وصلّى العصر بذي الحليفة ركعتين.

7. أخرج مسلم عن يحيى بن يزيد الهنائي قال: سألت أنس بن مالك عن قصر الصلاة؟ فقال: كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ - شعبة الشاك -(1) صلّى ركعتين. وظاهر الحديث أنّه صلى الله عليه و آله و سلم لا يقصر ما لم يصل إلى ثلاثة فراسخ، وهذا على خلاف المشهور ولذلك قال النووي: هذا ليس على سبيل الاشتراط وإنّما وقع بحسب الحاجة - إلى أن قال: - وإنّما كان يسافر بعيداً من وقت المقصورة فتدركه على ثلاثة أميال أو أكثر أو نحو ذلك فيصلّيها حينئذٍ.

8. أخرج مسلم عن جبير بن نفير قال: خرجت مع شرحبيل بن السمط إلى قرية على رأس سبعة عشر أو ثمانية عشر ميلاً، فصلّى ركعتين، فقلت له فقال:

رأيت عمر صلّى بذي الحليفة ركعتين، فقلت له فقال: إنّما أفعل كما رأيت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يفعل.(2)

والحديث دالّ على أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يقصر في السفر دائماً، وإنّما الاختلاف في أنّ مبدأ القصر هو الخروج عن البلد كما جرى عليه عمر أو بعدن.

ص: 169


1- . المراد من «شعبة الشاك»، هو: أنّ التردّد في عبارة: «مسيرة ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ» من شعبة أحد الرواة الموجودين في سند الرواية.
2- . صحيح مسلم: 142/2-145، باب صلاة المسافرين.

الخروج مسيرة ثمانية عشر ميلاً.

قال النووي: أمّا قوله: «قصر شرحبيل على رأس 17 ميلاً أو 18 ميلاً» فلا حجّة فيه، لأنّه تابعي فعل شيئاً يخالف الجمهور، أو يتأوّل على أنّها كانت في أثناء سفره لا أنّها غايته، وهذا التأويل ظاهر.(1) وقد مرّ كلامه أيضاً في الحديث المتقدّم.

وعلى كلّ تقدير فما هو موضع الخلاف، خارج عن إطار بحثنا.

9. أخرج مسلم عن أنس بن مالك قال: خرجنا مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من المدينة إلى مكّة فصلّى ركعتين ركعتين حتّى رجع، قلت: كم أقام بمكة؟ قال:

عشراً.

ثمّ إنّ قصر النبي في مكّة مع إقامته فيها عشرة أيّام وإن كان يوافق بعض المذاهب لكنّه يخالف مذهب الإمام مالك، كما يخالف مذهب الإمامية، فإنّ نية العشرة قاطعة للسفر موجبة للإتمام، ولعلّ الإقامة لم تكن عشرة كاملة بالضبط بل كانت عشرة عرفية وربما تنقص عن العشرة التامّة.

هذه الأحاديث التسعة نقلها مسلم في صحيحه، ولنذكر ما ورد من روايات أئمّة أهل البيت عليهم السلام:

1. روى الصدوق بإسناده عن زرارة، عن أبي جعفر عليه السلام قال: قلت له: صلاة الخوف وصلاة السفر تقصران جميعاً؟ قال: «نعم».(2)

2. روى الصدوق أيضاً، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «مَن صلّى في السفر أربعاً1.

ص: 170


1- . شرح صحيح مسلم للنووي: 201/5.
2- . الوسائل: 5، الباب 22 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 1.

فأنا إلى اللّه منه بريء».(1)

3. قال: وقال الصادق عليه السلام: «المتمّم في السفر كالمقصّر في الحضر».(2)

4. روى الكليني بسند صحيح عن زرارة، عن أبي جعفر عليه السلام قال: «سمّى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قوماً صاموا حين أفطر وقصّر: عصاة، وقال: هم العصاة إلى يوم القيامة، وإنّا لنعرف أبناءهم وأبناء أبنائهم إلى يومنا هذا».(3)

إلى غير ذلك من الأحاديث الكثيرة التي وردت في أبواب صلاة المسافر عن كتاب وسائل الشيعة، وفيما ذكرنا من الأحاديث وما تقدّم في تفسير آية: (لا جُناحَ) * غنى وكفاية.5.

ص: 171


1- . الوسائل: 5، الباب 22 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 3.
2- . الوسائل: 5، الباب 22 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 4.
3- . الوسائل: 5، الباب 22 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 5.

أحكام الصلاة

4. صلاة الخوف في الذكر الحكيم

الآية الأُولى:
اشارة

قال سبحانه: (وَ إِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ اَلصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَ لْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ وَ لْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَ لْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَ أَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَ أَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً وَ لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَ خُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اَللّهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً) .(1)

المفردات

أسلحتهم: جمع السلاح، كخمار وأخمرة.

ص: 172


1- . النساء: 102.

وليأخذوا حذرهم: أخذ الحذر كناية عن شدّة الاحتراز عن العدو، بالاستعداد للدفاع.

التفسير

من أنواع الصلوات صلاة الخوف، وذكر العلّامة لها أربع صور.(1) والمهم هو بيان الصورة التي جاء ذكرها في الآية.

أقول: الآية قليلة النظير في القرآن، حيث إنّها من قبيل البيان بإيراد المثال لتكون أوضح في عين أنّها أوجز وأجمل.(2)

روى الطبرسي: نزلت الآية والنبي بعُسفان والمشركون بضجنان، فتواقفوا، فصلّى النبي صلى الله عليه و آله و سلم وأصحابه الظهر بتمام الركوع والسجود، فهمّ المشركون بأن يُغيروا عليهم، فقال بعضهم: إنّ لهم صلاة أُخرى أحبّ إليهم من هذه، يعنون صلاةَ العصر، فأنزل اللّه عليه هذه الآية، فصلّى بهم العصر صلاة الخوف.(3) ومن هذا الزمان شُرّعت صلاة الخوف.

ثمّ إنّ السنّة قد تضمّنت بيان كيفية صلاة الخوف، وبها يتّضح مضمون الآية.

روى الكليني بسند صحيح عن الحلبي قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن صلاة الخوف؟ قال: يقوم الإمام وتجيء طائفة من أصحابه فيقومون خلفه، وطائفة بإزاء العدو، فيصلّي بهم الإمام ركعة، ثمّ يقوم ويقومون معه فيمثل قائماً ويصلّون هم الركعة الثانية، ثمّ يسلّم بعضهم على بعض، ثمّ ينصرفون فيقومون في مقام

ص: 173


1- . لاحظ: تذكرة الفقهاء: 422/4-435.
2- . الميزان في تفسير القرآن: 62/5.
3- . مجمع البيان: 206/3.

أصحابهم ويجيء الآخرون فيقومون خلف الإمام فيصلّي بهم الركعة الثانية، ثمّ يجلس الإمام فيقومون هم فيصلّون ركعة أُخرى، ثم يسلّم عليهم فينصرفون بتسليمه.(1)

وظاهر الرواية أنّ الصلاة إذا كانت ثنائية كالظهرين والعشاء صلّى الإمام بالأُولى ركعة وقام إلى الثانية ويسكت. فينوي مَنْ خلفه الإنفراد واجباً، ويتمّون بركعة أُخرى، ثم يستقبلون العدو، وتأتي الفرقة الأُخرى، فيحرمون ويدخلون معه في ثانية الإمام وهي أولاهم، فإذا جلس الإمام للتشهد أطال، ونهض مَنْ خلفه فأتمّوا وجلسوا وتشهد الإمام بهم وسلّم.(2)

وهل العدو كان في جانب القبلة أو في خلافها؟ و الظاهر هو الثاني لقوله سبحانه في الآية: (فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ) وعلى هذا فالآية متضمّنة بيان صورة واحدة دون الصور الباقية، وبما أنّ مهمتنا تفسير الآية، فلنقتصر على هذه الصورة.

قال سبحانه خطاباً للنبي صلى الله عليه و آله و سلم: (وَ إِذا كُنْتَ) أيّها الرسول (فِيهِمْ) : أي بين المؤمنين، وبما أنّ الحكم ليس من خصائص النبي صلى الله عليه و آله و سلم، فهذا الحكم حكم كلّ إمام في المقام (فَأَقَمْتَ لَهُمُ اَلصَّلاةَ) يحتمل أُريد ذكر الإقامة أو الأذان معها، ويحتمل أيضاً أنّه أُريد الصلاة جماعة (فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ) في الصلاة يقتدون بك ويبقى الآخرون مراقبين العدو، يحرسون المصلّين خوفاً من اعتداء العدو، ثمّ إنّ هؤلاء الذين دخلوا الصلاة مع النبي صلى الله عليه و آله و سلم أُمروا بأخذ أسلحتهم في1.

ص: 174


1- . الوسائل: 3، الباب 2 من أبواب صلاة الخوف والمطاردة، الحديث 4.
2- . شرائع الإسلام: 130/1.

حال الصلاة، كما يقول: (وَ لْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ) ولا يدعوها وحدها، فيكونوا مستعدّين للقتال، واحتمال أنّ الأمر بأخذ السلاح راجع إلى الطائفة الحارسة، بعيد، وسيأتي في نفس الآية أنّ الطائفة الثانية إذا دخلوا في الصلاة في ثانية الإمام يأخذون أسلحتهم.

(فَإِذا سَجَدُوا) : أي المصلّون معك (فَلْيَكُونُوا) : أي الطائفة الحارسة (مِنْ وَرائِكُمْ) : أي من خلفكم. يقول صاحب المنار: وأحوج ما يكون المصلّي للحراسة ساجداً لأنّه لا يرى حينئذٍ من يهمّ به، وعبّر بالسجود عن إتمام الصلاة؛ لأنّه آخر صلاة الطائفة الأُولى، ويجب حينئذٍ أن يكون الباقون مستعدّين للقيام مقامهم والصلاة مع النبي صلى الله عليه و آله و سلم كما صلّوا(1)، فعندئذٍ تصل نوبة الطائفة الحارسة حتى يصلّوا مع النبي صلى الله عليه و آله و سلم، وعندئذٍ تحرسهم الطائفة الأُولى مثل السابقين كما يقول: (وَ لْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ) لأنّ الحراسة عاقتهم عن الصلاة مع النبي صلى الله عليه و آله و سلم (وَ لْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ) : أي التيقّظ والاحتراز من المخاوف (وَ أَسْلِحَتَهُمْ) كما فعل الأوّلون.

فإن قلت: إنّ اللّه سبحانه أمر الطائفة الثانية بأمرين:

1. الأخذ بالحذر، 2. أخذ الأسلحة بخلاف الطائفة الأُولى فأمرهم بأخذ الأسلحة فقط.

قلت: إنّه سبحانه بيّن وجه الأمر بأخذ الأمرين بقوله: (وَدَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا) :

أي تمنّى الكافرون (لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَ أَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً) : أي حملة (واحِدَةً) وأنتم مشغولون بالصلاة واضعون للسلاح، وهذا هو السر لأمر5.

ص: 175


1- . تفسير المنار: 373/5.

الطائفة الثانية بالتيقّظ وأخذ السلاح.

ثمّ إنّه سبحانه استثنى صورتين:

1. إذا أمطروا، فشقّ عليهم حمل السلاح كما يقول: (إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ) .

2. (أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى) بالجرح وغيره، ففي هاتين الحالتين لا جناح (أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ) ، (وَ) مع ذلك (خُذُوا حِذْرَكُمْ) : أي كونوا متيقّظين فإنّ العدو غير غافل، ثمّ إنّه سبحانه تطييباً لنفوس المسلمين يقول: (إِنَّ اَللّهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً) .

وممّا ذكرنا يظهر النظر فيما رواه السيوطي عن أبي عياش الزرقي قال: «كنّا مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بعُسفان، فاستقبلنا المشركون عليهم خالد بن الوليد وهم بيننا وبين القبلة، فصلّى بنا النبي صلى الله عليه و آله و سلم الظهر، فقالوا: قد كانوا على حال لو أصبنا غرّتهم، ثم قالوا: يأتي عليهم الآن صلاة هي أحبّ إليهم من أبنائهم وأنفسهم، فنزل جبريل بهذه الآية بين الظهر والعصر (وَ إِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ اَلصَّلاةَ) فحضرت، فأمرهم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فأخذوا السلاح وصففنا خلفه صفين، إلى آخر ما ذكره».(1)

وجه النظر: أنّه لو صحّ ما ذكر كان اللازم على الطائفة الحارسة الوقوف أمام النبيّ والمصلّين ليدفعوا عنهم شرّ هجوم العدو عليهم حين الركوع والسجود.2.

ص: 176


1- . تفسير الدر المنثور: 659/2.

هذا فيما إذا كانت الصلاة ثنائية، وأمّا إذا كانت ثلاثية فالإمام بالخيار، إن شاء صلّى بالطائفة الأُولى ركعة وبالثانية ركعتين، وإن شاء بالعكس.(1)

صلاة الخوف ثنائيّة في السفر والحضر

ثمّ إنّ صلاة الخوف صلاة مقصورة، ولذلك عبّر المحقّق بلفظ ثنائية، وأراد رباعية المقصورة، روى الصدوق بإسناده عن زرارة، عن أبي جعفر عليه السلام، قال: قلت له: صلاة الخوف وصلاة السفر، تقصران جميعاً؟ قال: «نعم، وصلاة الخوف أحقّ أن تقصّر من صلاة السفر، لأنّ فيها خوفاً».(2)

والشاهد على ذلك أنّه لو كانت مقصورة في السفر كان اشتراط الخوف لغواً.

نعم شذّ قول الشيخ الطوسي حيث شرط في القصر الجماعة للآية، لكن إطلاق الصحيحة يخالفه، إذ لم يُقيد بالجماعة.

الآية الثانية:
اشارة

قال سبحانه: (فَإِذا قَضَيْتُمُ اَلصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اَللّهَ قِياماً وَ قُعُوداً وَ عَلى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اِطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا اَلصَّلاةَ إِنَّ اَلصَّلاةَ كانَتْ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً) .(3)

ص: 177


1- . شرائع الإسلام: 129/1-130.
2- . الوسائل: 5، الباب 1 من أبواب صلاة الخوف والمطاردة، الحديث 1.
3- . النساء: 103.
ذكر اللّه بعد إقامة الصلاة

الآية خطاب لمَن صلّى صلاة الخوف وتفرض عليهم أن لا ينسوا ذكر اللّه بعد أداء الصلاة بل يذكرونه في عامّة الحالات، قائمين، قاعدين، مضطجعين، ألا بذكر اللّه تطمئن القلوب، يقول سبحانه: (فَإِذا قَضَيْتُمُ اَلصَّلاةَ) : أي فرغتم من صلاة الخوف أيّها المؤمنون وأنتم في نفس الموقف لا تنسوا ذكر اللّه (فَاذْكُرُوا اَللّهَ قِياماً وَ قُعُوداً وَ عَلى جُنُوبِكُمْ) ، ولعل قوله: (جُنُوبِكُمْ) كناية عن الحالات الثلاث بعد ترك القعود، وهي وضع الجنب على الأرض يميناً أو يساراً وحال الاستلقاء أيضاً لعدم الخصوصية.

ثمّ إنّه سبحانه يحدّد صلاة الخوف بظروف خاصّة وهي فيما لو اشتدت الأزمة وخيف من هجوم العدو ولم تطمئن القلوب آنذاك، وأمّا إذا زال الخوف وحصلت الطمأنينة فعند ذلك يتمّون الصلاة، يقول سبحانه: (فَإِذَا اِطْمَأْنَنْتُمْ) :

أي زال الخوف... وبما أنّه يقابل قوله سبحانه: (وَ إِذا ضَرَبْتُمْ فِي اَلْأَرْضِ) (1)فأُريد به الرجوع إلى الأوطان أو ترك العدو المعركة ولم يكن هناك سبب للتقصير كأن يكونوا قريبين من الوطن فالواجب عليهم ما يقوله: (فَأَقِيمُوا اَلصَّلاةَ) : أي أتموها (إِنَّ اَلصَّلاةَ كانَتْ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً) ، فقوله: (مَوْقُوتاً) يحتمل وجهين:

1. أي فريضة مؤقّتة منجّمة تؤدّى في أوقاتها ونجومها.

2. أي موجوداً مفروضاً لا يسقط بحال حتى وجبت في الخوف والوجل، وأُمر الناس بإقامتها على وضع خاص، ما هذا إلّالأنّ الصلاة واجبة لا تسقط أبداً، وليس كالصوم حيث يسقط بالفدية.

ص: 178


1- . النساء: 101.

أحكام الصلاة

5. صلاة المطاردة في الذكر الحكيم

اشارة

قال سبحانه: (حافِظُوا عَلَى اَلصَّلَواتِ وَ اَلصَّلاةِ اَلْوُسْطى وَ قُومُوا لِلّهِ قانِتِينَ * فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اَللّهَ كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) .(1)

المفردات

قانتين: أي مطيعين، أو عابدين.

فرجالاً: الرجال: جمع راجل، وهو الكائن على رجله، واقفاً كان أو ماشياً.

ركباناً: جمع راكب كالفرسان جمع فارس، وكلّ شيء علا شيئاً فقد ركبه.(2)

التفسير

الآية ناظرة إلى صورة شدّة الخوف، وذلك عند التحام القتال وعدم التمكّن من تركه لأحد، أو اشتدّ الخوف وإن لم يلتحم القتال، فلم يأمنوا أن يهجموا عليهم

ص: 179


1- . البقرة: 238-239.
2- . مجمع البيان: 166/2.

لو ولّوا عنهم أو انقسموا، فيصلّون رجالاً ومشاةً على الأقدام وركباناً مستقبلي القبلة واجباً مع التمكّن، وغير مستقبليها مع عدمه على حسب الإمكان. فإن تمكّنوا من استيفاء الركوع والسجود، وجب، وإلّا أومأوا لركوعهم وسجودهم، ويكون السجود أخفض من الركوع. ولو تمكّنوا من أحدهما، وجب، ويتقدّمون ويتأخرون، لقوله تعالى: (فَإِنْ خِفْتُمْ) : أي يمكنكم أن تقوموا قانتين موفين الصلاة حقّها لخوف عرض لكم (فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً...) . وعن النبي صلى الله عليه و آله و سلم قال: «مستقبلي القبلة وغير مستقبليها».(1)

وقال الفاضل المقداد: الخوف إذا انتهى إلى حال لا يمكن معه الاستقرار وإيقاع الأفعال، بل إلى المسايفة والمعانقة، صلّى الناس فرادى بحسب إمكانهم.(2)

إذا عُلم ذلك فلندخل في تفسير الآية.

والآية تؤكّد على المحافظة على الصلاة وأنّها لا تسقط بحال، حتى الخوف من العدو واللص والسبع، فيصلّى مهما أمكن، كما يقول: (فَإِنْ خِفْتُمْ) من العدو وغيره (ف) صلّوا (رجالا): أي راجلين أو على أرجلكم (أَوْ رُكْباناً) على ظهور دوابكم، والآية إشارة إلى صلاة الخوف من العدو وهي ركعتان في السفر والحضر، إلّاالمغرب فإنّه ثلاث ركعات.

روى الطبرسي: أنّ عليّاً صلى ليلة الهرير خمس صلوات بالإيماء، وقيل1.

ص: 180


1- . صحيح البخاري: 38/6؛ تذكرة الفقهاء: 435/4.
2- . كنز العرفان: 188/1.

بالتكبير، وأنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم صلّى يوم الأحزاب إيماءً.(1)

هذا كلّه إذا ساد الخوف، وأمّا في حالة الأمن فيصلون حسب ما تعلّموا، يقول تعالى: (فَإِذا أَمِنْتُمْ) من العدو وغيره، (فَاذْكُرُوا اَللّهَ كَما عَلَّمَكُمْ) : أي صلّوا على السنّة المعروفة في الأمن بإتمام القيام والاستقبال فالركوع والسجود.2.

ص: 181


1- . مجمع البيان: 166/2.

أحكام الصلاة

6. صلاة الجمعة في الذكر الحكيم

الآية الأُولى
اشارة

قال تعالى: (يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ اَلْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اَللّهِ وَ ذَرُوا اَلْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) .(1)

المفردات

الجمعة: - بضمّتين - والجمعة - بضمّة - لغتان، وجمعهما جُمَع وجُمَعات، وضمّ الميم لغة جمهور العرب، وسكونها لغة عُقيل.

نودي: بصيغة المجهول فهو كناية عن عدم اختصاص النداء بمناد خاص، بل في كلّ زمان قام إنسان بالنداء مع اجتماع سائر شرائطه يجب على المكلّف السعي إليها.

ص: 182


1- . الجمعة: 9.

فاسعوا: السعي: المشي السريع وهو دون العدو، ويستعمل للجدّ في الأمر، خيراً كان أم شراً، قال تعالى: (وَ سَعى فِي خَرابِها) (1).

والظاهر أنّه كناية عن الاهتمام بالوصول إلى محل النداء، بترك ما بيده من الأُمور، وأمّا تفسيره بالإسراع دون العدو فهو مخالف لما روي من استحباب السكينة والوقار إلّامع ضيق الوقت وخوف فوت الصلاة، فلا يبعد الإسراع حينئذٍ.(2)

ويؤيّد ما ذكرنا ما روي من أنّ عبد اللّه بن مسعود قرأ: «فامضوا إلى ذكر اللّه».(3)

ذكر اللّه: أُريد به صلاة الجمعة بقرينة الآية التالية: (وَ اِبْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اَللّهِ وَ اُذْكُرُوا اَللّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) .(4)

وتفسير الذكر برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم غير تام، إذ لم يُعهد استعماله فيه، قال سبحانه: (يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَ لا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اَللّهِ وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ اَلْخاسِرُونَ) (5).

فإن قلت: جاءت كلمة «رسولاً» بعد قوله: «ذكراً» في الآيتين التاليتين، قال تعالى:

(فَاتَّقُوا اَللّهَ يا أُولِي اَلْأَلْبابِ اَلَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اَللّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً * رَسُولاً يَتْلُوا9.

ص: 183


1- . البقرة: 114.
2- . بحار الأنوار: 150/89.
3- . تفسير الكشّاف: 231/3، تفسير سورة الجمعة.
4- . الجمعة: 10.
5- . المنافقون: 9.

عَلَيْكُمْ آياتِ اَللّهِ مُبَيِّناتٍ) (1) .

قلت: الظاهر أنّ رسولاً مفعول لفعل محذوف، أي: أرسل رسولاً يتلو عليكم آياته،... على أنّه لو سلمنا كونه المراد في الآية لكان لوجود القرينة دون المقام.

التفسير

يخاطب اللّه سبحانه المجتمع الإيماني بقوله: (يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا) فيكون دليلاً على أنّ ما سيأتي فريضة عامّة للمؤمنين جمعاء، ثم يقول: (إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ اَلْجُمُعَةِ) فاستخدام صيغة المجهول (نُودِيَ) كناية عن عدم اختصاص النداء بمناد خاصّ كما مرّ في تفسير المفردات، بل في كلّ زمان قام إنسان بالنداء مع اجتماع سائر شرائطه يجب السعي إليها. ثم رتّب على النداء قوله: (فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اَللّهِ وَ ذَرُوا اَلْبَيْعَ) : أي امشوا إليها مشياً سريعاً وذروا كلّ ما يلهيكم عن ذكر اللّه، وذكر البيع من باب المثال الغالب.

ثمّ أشار إلى ما في تلك الفريضة من الخير والبركة بقوله: (ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) .

الآية الثانية
اشارة

قوله تعالى: (فَإِذا قُضِيَتِ اَلصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي اَلْأَرْضِ وَ اِبْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اَللّهِ وَ اُذْكُرُوا اَللّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (2).

ص: 184


1- . الطلاق: 10-11.
2- . الجمعة: 10.
المفردات

قضيت: بمعنى الفراغ عن الصلاة.

فضل اللّه: هو ابتغاء أسباب المعاش بقرينة النهي في الآية السابقة عن البيع.

والأمر في (اِبْتَغُوا) ليس للإيجاب، بل لرفع الحظر المستفاد من قوله: (وَ ذَرُوا اَلْبَيْعَ) .

وقد ثبت في الأُصول أنّ الأمر بعد الحظر أو بعد توهّمه بمعنى رفع الحظر السابق.

التفسير

قوله تعالى: (فَإِذا قُضِيَتِ اَلصَّلاةُ) : أي إذا صلّيتم الجمعة وفرغتم منها (فَانْتَشِرُوا فِي اَلْأَرْضِ) : أي تفرّقوا (وَ اِبْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اَللّهِ) : أي الرزق في البيع والشراء وغير ذلك.

وفي الوقت نفسه (وَ اُذْكُرُوا اَللّهَ كَثِيراً) : أي غير منكبّين على طلب المال والرزق؛ بل تطلبونه بذكر اللّه كثيراً (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) فإنّ الفلاح هو في الجمع بين طلب الدنيا وطلب الآخرة، والآية دليل على وجوب رعاية التوازن بين طلب الدنيا والآخرة.

إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أقام صلاة الجمعة لأوّل مرّة في مسيره من قبا إلى المدينة، قال ابن هشام: فأدرك رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم الجمعة في «بني سالم بن عوف» فصلّاها في المسجد الذي في بطن الوادي، فكانت أوّل جمعة صلّاها بالمدينة.(1)

ص: 185


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 494/1، طبع مطبعة الحلبي.

2. نقل الطبرسي الخطبة التي خطبها رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فيها: قال: «الحمد للّه أحمده وأستعينه واستغفره وأستهديه وأؤمن به ولا أكفره، وأعادي من يكفره، وأشهد أن لا إله إلّااللّه وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله، أرسله بالهدى والنور...».(1)

ونقل في الوسائل: أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم خطب يوم الجمعة وقال: «إنّ اللّه تعالى فرض عليكم الجمعة، فمَن تركها في حياتي أو بعد موتي استخفافاً بها أو جحوداً لها، فلا جمع اللّه شمله، ولا بارك له في أمره، ألا ولا صلاة له، ألا ولا زكاة له، ألا ولا حجّ له، ألا ولا صوم له، ألا ولا بر له، حتى يتوب».(2)

الآية الثالثة
اشارة

قوله تعالى: (وَ إِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً اِنْفَضُّوا إِلَيْها وَ تَرَكُوكَ قائِماً قُلْ ما عِنْدَ اَللّهِ خَيْرٌ مِنَ اَللَّهْوِ وَ مِنَ اَلتِّجارَةِ وَ اَللّهُ خَيْرُ اَلرّازِقِينَ) .(3)

المفردات

انفضوا: من الانفضاض من باب الانفعال، مطاوع فضّه، إذا فرّقه فتفرّق، نظير قولهم: كسرته فانكسر.

اللهو: ما يلهي الإنسان، وأُريد هنا ضرب الطبل.

إليها: الضمير يرجع إلى التجارة.

ص: 186


1- . مجمع البيان: 432/9.
2- . الوسائل: 3، الباب 1 من أبواب صلاة الجمعة وآدابها، الحديث 28.
3- . الجمعة: 11.
التفسير

اتّفق المفسّرون على أنّ الآية نزلت في عير وردت المدينة بضرب الطبل والنبي صلى الله عليه و آله و سلم يخطب فترك المصلّون المسجد متوجّهين إلى التجارة واللهو.

روى البخاري عن جابر بن عبد اللّه قال: أقبلت عير يوم الجمعة ونحن مع النبي صلى الله عليه و آله و سلم، فثار الناس إلّااثنا عشر رجلاً، فأنزل اللّه: (وَ إِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً اِنْفَضُّوا إِلَيْها وَ تَرَكُوكَ قائِماً) .(1)

قيل: كان للتجّار الواردين إلى المدينة طبل يضربونه إذا وردوا فيها لإخبار الناس، فكانوا إذا سمعوا صوت الطبل تركوا النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم قائماً في الصلاة أو الخطبة وذهبوا إليها إمّا للمسارعة إلى التجارة لئلّا يفوتهم الربح، وإمّا لمحض الطبل والصوت، فنزل قوله سبحانه: (وَ اَللّهُ خَيْرُ اَلرّازِقِينَ) يعني يرزق من غير أن يسرع إلى التجارة.(2)

ثمّ إنّه سبحانه أمر نبيّه بتذكير المؤمنين بأنّ ما عند اللّه خير من التجارة التي انفضّوا إليها، قائلاً: (قُلْ ما عِنْدَ اَللّهِ خَيْرٌ مِنَ اَللَّهْوِ وَ مِنَ اَلتِّجارَةِ) فإن كان الانفضاض وترك النبي صلى الله عليه و آله و سلم وهو يخطب، لأجل الرزق (وَ اَللّهُ خَيْرُ اَلرّازِقِينَ) .

وقت صلاة الجمعة بدءاً ونهاية

وقت صلاة الجمعة وقت الظهر يوم الجمعة خاصّة وقت زوال الشمس، وهذا هو المشهور، فلا تصحّ الركعتان قبل الزوال. إنّما الكلام في مبدأ وقتها، فهل

ص: 187


1- . صحيح البخاري، برقم 4899، كتاب تفسير القرآن، تفسير سورة الجمعة.
2- . الوافي: 1080/8.

يكفي وصول الشمس إلى دائرة نصف النهار ولو لم تزل عنها؟

المشهور عدم الجواز، بل يشترط زوالها عن الدائرة؛ ففي صحيح عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يصلّي الجمعة حين تزول الشمس قدر شراك، ويخطب في الظلّ الأوّل، فيقول جبرئيل: يا محمد صلى الله عليه و آله و سلم قد زالت الشمس، فأنزل فصلّ، وإنّما جعلت الجمعة ركعتين، من أجل الخطبتين.

فهي صلاة حتّى ينزل الإمام».(1)

والشراك هو قطعة من الجلد تكون في أعلى النعل تربط من الجانبين لتوثق به القدم.

ويدلّ عليه ما ورد في «كنز العمال»: «انقطع شراك نعل رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فوصله بشيء جديد فجعل ينظر إليه...».(2)

وروى الطبرسي: عن أمير المؤمنين عليه السلام، قال: «إنّ الرجل ليعجبه شراك نعله، فيدخل في هذه الآية (تِلْكَ اَلدّارُ اَلْآخِرَةُ) »(3).

وعلى هذا يكفي أن تكون الشمس قد زالت عن الدائرة بمقدار أقل من الشبر.

وقال الطريحي: تصلّى الجمعة حين تزول الشمس قدر شراك، يعني: إذا استبان الفيّ في أصل الحائط من الجانب الشرقي عند الزوال، فصار في رؤيةص.

ص: 188


1- . الوسائل: 5، الباب 8 من أبواب صلاة الجمعة، الحديث 4. والمراد من الظلّ الأول، ظلّ قبل الزوال كما في «ملاذ الأخيار» للمجلسي، والحديث يدلّ على جواز تقديم الخطبتين على الزوال.
2- . كنزالعمال: 526/7، برقم 20085.
3- . مجمع البيان: 491/7، والآية 83 من سورة القصص.

العين قدر الشراك، وهذا أقلّ ما يعلم به الزوال.(1) بل يعلم الزوال بأقلّ من ذلك بالآلات الحديثة.

آخر وقت صلاة الجمعة

إنّما الكلام في آخر الوقت، فيعلم بملاحظة ما ورد في وقت نافلة الظهر والعصر المشهور أنّ وقت نافلة الظهر من الزوال إلى الذراع والعصر إلى الذراعين، أي سبعي الشاخص وأربعة أصابعه، فإذا خرج وقت نافلة الظهر دخل وقت فضيلة الظهر، كما أنّه إذا خرج وقت نافلة العصر دخل وقت فضيلة العصر.

إذا علم ذلك فاعلم أنّه قد تضافرت الروايات على أنّ وقت صلاة الجمعة محدّد بمقدار نافلة الظهر - أعني: الذراعين أو سبعي الشاخص - وبعبارة أُخرى:

إذا دخل وقت فضيلة الظهر يخرج وقت صلاة الجمعة.

ويدلّ عليه الروايات المتضافرة التي جمعها الشيخ الحرّ العاملي في الباب الثامن من أبواب صلاة الجمعة نأتي بقسم منها:

1. ما رواه الكليني عن أبي جعفر عليه السلام قال: «إنّ من الأشياء أشياء موسّعة وأشياء مضيّقة، فالصلاة ممّا وسّع فيه، تُقدّم مرّة وتؤخّر أُخرى، والجمعة ممّا ضيّق فيها، فإنّ وقتها يوم الجمعة ساعة تزول، ووقت العصر فيها وقت الظهر في غيرها».(2) فإذا زالت الشمس بمقدار الذراعين هو وقت الظهر في غير يوم الجمعة، وفي الوقت نفسه هو وقت صلاة العصر في يومها.

ص: 189


1- . مجمع البحرين: 276/5، مادة «شرك».
2- . الوسائل: 7، الباب 8 من أبواب صلاة الجمعة، الحديث 1.

2. ما رواه أيضاً الشيخ بسند صحيح عن زرارة قال: سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: «إنّ من الأُمور أُموراً مضيّقة وأُموراً موسّعة، وإنّ الوقت وقتان، والصلاة ممّا فيه السعة، فربما عجّل رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وربما أخّر إلّاصلاة الجمعة، فإنّ صلاة الجمعة من الأمر المضيّق، إنّما لها وقت واحد حين تزول، ووقت العصر يوم الجمعة وقت الظهر في سائر الأيّام».(1)

3. ما رواه الشيخ عن ابن سنان، عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «لا صلاة نصف النهار إلّايوم الجمعة».(2)

والرواية تشير إلى أنّ المصلّي في غير الجمعة يتنفّل عند الزوال ولكنّه في هذا الوقت يصلّي الفريضة يوم الجمعة، وقد جاء هذا المضمون في الرواية السابعة والثامنة والتاسعة والعاشرة من الباب المذكور.

وممّا يدلّ على خروج وقت صلاة الجمعة بانتهاء وقت نافلة الظهر ما رواه الصدوق عن الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السلام أنّه قال: «وقت الجمعة زوال الشمس، ووقت صلاة الظهر في السفر زوال الشمس (لسقوط النافلة في السفر)، ووقت العصر يوم الجمعة في الحضر نحو من وقت الظهر في غير يوم الجمعة».(3)

ومن المعلوم أنّ وقت الظهر من غير يوم الجمعة عند صيرورة الظل ذراعين، وهذا الحدّ في يوم الجمعة وقت صلاتها.

وبالجملة فالروايات الواردة في هذا الباب تناهز إحدى وعشرين رواية1.

ص: 190


1- . الوسائل: 7، الباب 8 من أبواب صلاة الجمعة، الحديث 3.
2- . الوسائل: 7، الباب 8 من أبواب صلاة الجمعة، الحديث 6.
3- . الوسائل: 7، الباب 8 من أبواب صلاة الجمعة، الحديث 11.

تدلّ على أُمور:

1. إنّ أوّل وقتها هو زوال الشمس.

2. إنّ آخر وقتها أوّل وقت فضيلة الظهر في غير يوم الجمعة، بمعنى أنّه يخرج بصيرورة الظل ذراعين.

3. إنّ لازم إقامة الجمعة بالزوال جواز تقديم الخطبتين عليه، وقد مرّ في رواية عبد اللّه بن سنان أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم يخطب في الظل الأوّل، وقد مرّ تفسير الظل الأوّل بالظلّ الموجود في جانب الشرق فما لم تصل الشمس إلى دائرة نصف النهار يُسمّى بالظلّ الأوّل، فإذا رجع الظلّ إلى جانب الشرق ثانياً يُسمّى فيئاً أو ظلاً ثانياً.

فإن قلنا بذلك فهو، وإلّا فيمكن أن يقال: ما تضافر من الروايات من أنّ وقت صلاة الجمعة هو الظهر أُريد به الصلاة مع خطبتيها، ولعلّ الوجه الثاني أفضل. فعلى الإمام إذا زالت الشمس بمقدار الشراك أن يخطب.

وعلى هذا فعلى أئمّة الجمعة الانتباه حتى لا تقع الصلاة بعد الذراعين، ولعلّه لما ذكرنا كانت الخطب المروية عن الرسول صلى الله عليه و آله و سلم والوصي عليه السلام خطباً قصيرة ليست بالطويلة. واللّه العالم.

كيفية صلاة الجمعة

وهي: ركعتان كصلاة الصبح، ويستحب أن يقرأ في الركعة الأُولى سورة الجمعة وفي الثانية المنافقون، بعد الحمد في كلّ من الركعتين.

وفي الجمعة خطبتان يأتي بهما الإمام قبل الصلاة، وفيها قنوتان: أحدهما

ص: 191

قبل ركوع الركعة الأُولى، والثاني بعد ركوع الركعة الثانية، إجماعاً وسنة.(1)

فلسفة كون الخطبتين قبل الصلاة

ورد في الحديث عن الإمام الرضا عليه السلام، قال: «إنّما جعلت الخطبة يوم الجمعة في أوّل الصلاة وجعلت في العيدين بعد الصلاة؛ لأنّ الجمعة أمر دائم وتكون في الشهر مراراً وفي السنة كثيراً، وإذا كثر ذلك على الناس ملّوا وتركوا ولم يقيموا عليه وتفرّقوا عنه، فجعلت قبل الصلاة ليحتبسوا على الصلاة ولا يتفرّقوا ولا يذهبوا، وأمّا العيدين فإنّما هو في السنة مرّتين، وهو أعظم من الجمعة...».(2)

قال الزمخشري: وروي عن بعضهم: قد أبطل اللّه قول اليهود في ثلاث:

1. افتخروا بأنّهم أولياء اللّه وأحباؤه، فكذّبهم في قوله: (فَتَمَنَّوُا اَلْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (3).

2. افتخروا بأنّهم أهل الكتاب والعرب لا كتاب لهم، فشبّههم بالحمار يحمل أسفاراً.

3. افتخروا بالسبت، وأنّه ليس للمسلمين مثله، فشرّع اللّه لهم الجمعة.(4)

حكم صلاة الجمعة في عصر الغيبة
اشارة

اختلفت كلمة الأصحاب في حكم صلاة الجمعة في عصر الغيبة، ونشير

ص: 192


1- . لاحظ: الوسائل: 5، الباب 6 من أبواب صلاة الجمعة، أحاديث الباب.
2- . الوسائل: 5، الباب 15 من أبواب صلاة الجمعة، الحديث 4.
3- . الجمعة: 6.
4- . تفسير الكشّاف: 231/3، تفسير سورة الجمعة.

إلى المهمّ من الأقوال:

[القول] الأوّل: القول بالتحريم
اشارة

نسب إلى جماعة من أصحابنا تحريم صلاة الجمعة في عصر الغيبة، واستظهروه من كلامهم من اشتراط إقامة صلاة الجمعة بوجود الإمام الأصل أو مَن نصبه، ونشير إلى بعض من وقفنا على كلامه:

1. قال سلّار في مراسمه: صلاة الجمعة فرض مع حضور إمام الأصل، أو مَن يقوم مقامه، واجتماع خمسة نفر فصاعداً، الإمام أحدهم.(1)

2. قال الشيخ علاء الدين أبو الحسن الحلبي في (كتاب الصلاة) في «إشارة السبق»: وتجب صلاة الجمعة إذا تكاملت شروطها، فمنها ما يخصّها وهي حضور إمام الأصل، أو مَن نصبه وناب عنه لأهليته وكمال خصاله المعتبرة.(2)

3. قال ابن إدريس: صلاة الجمعة فريضة على مَن لم يكن معذوراً بما سنذكره من الأعذار بشروط، أحدها حضور الإمام العادل أو مَن نصبه للصلاة، اجتماع خمسة نفر فصاعداً، الإمام أحدهم على الصحيح من المذهب.(3)

4. قال العلّامة في «المنتهى»: ويشترط في الجمعة الإمام العادل أي المعصوم عندنا أو إذنه، أمّا اشتراط الإمام أو إذنه فهو مذهب علمائنا أجمع.(4) فلو أُريد من إذنه، المنصوبُ للإمامة فيكون موافقاً لما ذهب إليه الأعلام الثلاثة، ولو

ص: 193


1- . المراسم العلوية: 77.
2- . إشارة السبق: 97.
3- . السرائر: 290/1.
4- . منتهى المطلب: 334/5 (الطبعة المحقّقة).

أراد من قوله: «من إذنه» الإذن العام، فهو قول آخر.

ونقل المحدّث البحراني القول بالتحريم عن ظاهر المرتضى في أجوبة المسائل «الميافارقيات، والعلّامة في جهاد التحرير، والشهيد في الذكرى.(1)

أقول: القول بالتحريم قول شاذّ بين القدماء، نعم حُكي عن بعض المتأخّرين. وقال في «مفتاح الكرامة»: وأمّا القول الثاني: وهو التحريم؛ فهو خيرة «السرائر» و «المراسم» في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حيث قال:

ولفقهاء الطائفة أن يصلّوا بالناس في الأعياد والاستسقاء، وأمّا الجُمع فلا، و «رسالة» الشيخ إبراهيم القطيفي المعاصر لمولانا الكركيّ و «رسالة» الشيخ سليمان ابن أبي ظبية، وقوّاه في صلاة «المنتهى» في آخر البحث، وجهاد «التحرير»، وجعله في جهاد «السرائر» أظهر، وفي «كشف الرموز» أشبه، وفي «كشف اللثام» أقوى، وجعله في «رياض المسائل» قويّاً، واستظهره في «المقاصد العلية» من «الألفية». وعن الكيدري: إنّه أحوط، ونقله في «مصابيح الظلام» عن الطبرسيّ والتونيّ، وقد يلوح من «جملي علم الهدى والشيخ» و «الوسيلة» وكذا «الغنيّة» المنع.(2)

إنّ القول بتحريم صلاة الجمعة في حال الغيبة أمر غريب جدّاً؛ وذلك لأنّه لو قيل بأنّ جوازها مشروط بالإمام الأصل أو مَن نصبه للإمامة، فلابدّ أن يُراد من الشرط الإمام الموصوف ببسط اليد، حيث يقيمها بنفسه وينصب النواب لإقامتها في سائر البلدان، دون الإمام المحدود من جانب الأعداء الذي ربما يقتدي بالإمام5.

ص: 194


1- . الحدائق الناضرة: 436/9.
2- . مفتاح الكرامة: 1003/5.

الجائر أو يأمر شيعته بالاقتداء حفظاً للدماء، فإذا كان الشرط - عند القائلين - الإمام المقتدر، يلزم أن يكون تشريع وجوب صلاة الجمعة محدّداً بعصر الرسالة وزمناً قليلاً من إمامة أمير المؤمنين عليه السلام وشهوراً من زمن إمامة الإمام الحسن عليه السلام. وهذا - تحديد الوجوب بزمان قليل - لا يقبله العقل الحصيف لوجوه:

1. إذ كيف يصحّ لفقيه حصر وجوب صلاة نزلت في حقّها سورة كاملة، بسنين معدودة؟!

2. إذا كان التشريع في الحقيقة محدوداً بزمن قليل، فما معنى التأكيد المتضافر في نفس الآيات، أعني قوله: (إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ اَلْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اَللّهِ) ؟ فإنّ التعبير بالسعي أبلغ تعبير لبيان الاهتمام، كما أنّ وصف صلاة الجمعة بذكر اللّه، تأكيد آخر.

3. قوله تعالى: (وَ ذَرُوا اَلْبَيْعَ) فترك البيع كناية عن ترك كلّ ما يمتّ للدنيا بصلة، والحضور في الصلاة.

4. قوله تعالى: (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) إذ فيه تشويق إلى الجمعة وتوبيخ لمن تركها.

5. قوله تعالى: (وَ إِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً) فإنّه توبيخ وذم لمن رجّح التجارة أو اللهو على ذكر اللّه.

6. أنّ الإمام يقرأ في الركعة الثانية سورة «المنافقون» وفيها قوله سبحانه: (يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَ لا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اَللّهِ وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ

ص: 195

فَأُولئِكَ هُمُ اَلْخاسِرُونَ) (1) . فاللّه سبحانه يصف مَن ألهته الأُمور الدنيوية عن ذكر اللّه، بالخسران.

7. الأحاديث الحاثّة على الاهتمام بصلاة الجمعة المذكورة في الوسائل وغيرها.(2) وسيوافيك قسم منها.

فتخصيص جميع ما ذكر بفترة محدّدة لا يقبله الذوق الفقهي.

أدلّة القائلين بشرطية الإمام المعصوم
اشارة

لا شكّ أنّ الأصل في العبادة، هو التحريم إذا لم يرد فيها الإذن، فالأصل مع القائلين بالتحريم إلّاإذا ثبت الإذن بإقامتها.

ثمّ إنّ القائلين بالحرمة في حال الغيبة قالوا بشرطية الإمام الأصل أو مَن نصبه، مستدلّين بروايات نذكرها تباعاً:

1. دعاء الإمام السجاد عليه السلام يوم الأضحى ويوم الجمعة:

«اللّهمّ إن هذا المقام لخلفائك وأصفيائك ومواضع أُمنائك في الدرجة الرفيعة التي اختصصتهم بها قد ابتزّوها وأنت المقدّر لذلك لا يُغالب أمرُك ولا يُجاوز المحتومُ من تدبيرك كيف شئت وأنّى شئت، ولما أنت أعلم به غير متّهم على خلقك ولا لإرادتك، حتى عاد صفوتك وخلفاؤك مغلوبين مقهورين مبتزّين يرون حكمك مبدّلاً، وكتابك منبوذاً، وفرائضك محرّفة عن جهات أشراعك، وسنن نبيّك متروكة، اللّهم العن أعداءهم من الأوّلين والآخرين، ومَن

ص: 196


1- . المنافقون: 9.
2- . لاحظ: الوسائل: 5، الباب 1 من أبواب صلاة الجمعة، روايات الباب.

رضي بفعالهم وأشياعهم وأتباعهم. اللّهم صل على محمد وآل محمد إنّك حميد مجيد كصلواتك وبركاتك وتحياتك على أصفيائك إبراهيم وآل إبراهيم، وعجلّ الفرج والرّوح والنصرة والتمكين والتأييد لهم».(1)

وجه الاستدلال: أنّ المشار إليه في قوله: «إنّ هذا المقام» هو مقام صلاتي الأضحى والجمعة، فهو لخلفاء اللّه تعالى.

يلاحظ عليه أوّلاً: أنّ من المحتمل أنّ المشار إليه «هذا المقام» هو مقام الإمامة والرئاسة الدينية التي من مظاهرها إقامة صلاتي الجمعة والعيدين، بشهادة قوله: «حتى عاد صفوتك وخلفاؤك مغلوبين مقهورين مبتزّين يرون حكمك مبدّلاً وكتابك منبوذاً، وفرائضك محرّفة عن جهات أشراعك، وسنن نبيك متروكة».(2)

وثانياً: تنديد الإمام عليه السلام إنّما هو لجماعة يقيمون صلاتي الجمعة والأضحى بعنوان الإمامة والخلافة، وبذلك اغتصبوا مقام صفوة أولياء اللّه، فإنّ إقامتهما بهذا العنوان من خصائصهم. وأمّا مَن أقامهما لا بهذا العنوان بل أقامهما بما أنّه من شيعة الإمام إجابة لقوله سبحانه: (إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ اَلْجُمُعَةِ) أو لقوله في أوّل الدعاء: «اللّهمّ إنّ هذا يوم مبارك ميمون، والمسلمون فيه مجتمعون في أقطار أرضك، يشهد السائل منهم الطالب والراغب والراهب وأنت الناظر في حوائجهم...». فلا يشمله تنديد الإمام وإنذاره.

وما ذكرناه ضابطة كلّية في كلّ ما يمتّ للإمامة بصلة، فلو أخذ أحد9.

ص: 197


1- . الصحيفة السجادية، الدعاء رقم 48. ابتزّ منه الشيء: سلبه قهراً.
2- . لاحظ: الحدائق الناضرة: 443/9.

الفرائض المالية بما أنّه إمام الأُمّة وخليفة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فهذا حرام، وأمّا إذا أخذها الفقيه بما أنّه من شيعة الإمام عليه السلام عملاً بقوله سبحانه: (وَ اِعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي اَلْقُرْبى) (1).

وحصيلة الكلام: أنّ كلام الإمام عليه السلام ناظر إلى مَن يزاحمونهم في هذا المقام ويسلبون حقوقهم عنهم، وأمّا مَن كان مطيعاً لأمرهم ونهيهم وأقام الصلاة بهذا العنوان، فكلام الإمام عليه السلام منصرف عنه.

2. كان زرارة تاركاً لصلاة الجمعة

ما رواه الشيخ بسند صحيح عن زرارة قال: حثّنا أبو عبد اللّه عليه السلام على صلاة الجمعة حتى ظننت أنّه يُريد أن نأتيه، فقلت: نغدو عليك؟ فقال: «لا، إنّما عنيت عندكم».(2)

وجه الاستدلال: أنّه لو كان زرارة ممّن يصلّي صلاة الجمعة، لم يكن معنى للحثّ عليها، ولذكّره بأنّي أُصلّيها.

يلاحظ عليه أوّلاً: أنّ القول بأنّ زرارة لم يكن يصلّي صلاة الجمعة، مخالف لما ذكره وليد هذا البيت الرفيع، غالب الزراري في ترجمة جدّه، قال: إنّ زرارة كان وسيماً جسيماً، وكان يخرج إلى الجمعة وعلى رأسه برنس أسود وبين عينيه سجادة وفي يده عصا، فيقوم له الناس سماطين، ينظرون إليه لحسن هيئته، وربما رجع عن طريقه، وكان خصماً جدلاً، لا يقوم أحد لحجّته، إلّاأنّ العبادة

ص: 198


1- . الأنفال: 41.
2- . الوسائل: 5، الباب 5 من أبواب صلاة الجمعة، الحديث 1.

أشغلته عن الكلام، والمتكلّمون من الشيعة تلاميذه».(1)

وثانياً: كيف يمكن القول بأنّ زرارة كان تاركاً لصلاة الجمعة مع أنّه يروي روايات عديدة عن الباقر عليه السلام ممّا يدلّ على وجوب صلاة الجمعة عيناً، وكفى في ذلك ما رواه في الوسائل في الباب الأوّل، برقم 1 و 8 و في الباب الثاني برقم 2 و 4. ونقتصر بذكر رواية واحدة وهي عن أبي جعفر عليه السلام: «فرض اللّه عزّ وجلّ على الناس من الجمعة إلى الجمعة خمساً وثلاثين صلاة، منها صلاة واحدة فرضها اللّه عزّ وجلّ في جماعة، وهي الجمعة؛ ووضعها عن تسعة: عن الصغير، والكبير، والمجنون، والمسافر، والعبد، والمرأة، والمريض، والأعمى، ومَن كان على رأس فرسخين».(2)

وثالثاً: أنّ زرارة كان يقيم الجمعة مع صلاة الآخرين، فحثّه الإمام على إقامة الجمعة بين أبناء الشيعة، وهو إمّا إذن خاص لزرارة، أو إذن عام للشيعة يعمّ الحضور وأيام الغيبة.

فإن قلت: قد ظهر مفاد حديث زرارة، فما هو مفاد حديث عبد الملك:

روى زرارة عن عبد الملك، عن أبي جعفر عليه السلام قال: قال: «مثلك يهلك ولم يصل فريضة فرضها اللّه». قال: قلت: كيف أصنع؟ قال: «صلّوا جماعة» يعني صلاة الجمعة.(3)

قلت: الظاهر أنّ عبد الملك لم يكن يشارك في صلاة المخالفين، فوبّخه2.

ص: 199


1- . رسالة أبي غالب الزراري: 27-28.
2- . الوسائل: 5، الباب 1 من أبواب صلاة الجمعة، الحديث 1.
3- . الوسائل: 5، الباب 5 من أبواب صلاة الجمعة، الحديث 2.

الإمام بأنّه يمكنه أن يقيم صلاة الجمعة بين أصحابه، والرواية كالسابقة إمّا إذن خاص له، أو إذن عام للشيعة بأن يقيموا صلاة الجمعة، وفي بعض الروايات: «فإذا اجتمع سبعة ولم يخافوا أمّهم بعضهم وخطبهم».(1) والتقييد بعدم الخوف؛ لأنّ إقامتها في تلك الظروف بلا إذن من الحكام كان يعدّ خروجاً عليهم كما سيوافيك.

3. إذن الإمام لترك صلاة الجمعة في يوم اجتمع فيه عيدان

خبر إسحاق بن عمّار، عن جعفر، عن أبيه عليهما السلام أنّ علي بن أبي طالب عليه السلام كان يقول: «إذا اجتمع عيدان للناس في يوم واحد فإنّه ينبغي للإمام أن يقول للناس في خطبته الأُولى: إنّه قد اجتمع لكم عيدان فأنا أُصلّيهما جميعاً، فمَن كان مكانه قاصياً فأحبّ أن ينصرف عن الآخر فقد أذنت له».(2)

وجه الاستدلال: أنّ الإذن في ترك صلاة الجمعة للإمام المعصوم، إذا أدرك صلاة الأضحى أو صلاة الفطر، وأنّ له أن يأذن في تركها إذا رأى مصلحة في ذلك، وهذا يدلّ على كون إقامتها حقّاً له.

يلاحظ عليه: أنّ القائل وإن كان الإمام المعصوم، ولكنّه إخبار عن تشريع عام لأئمة الجمعة جمعاء، فقوله: «ينبغي للإمام أن يقول للناس» أُريد به مطلق مقيم الجمعة، ولا يُريد نفسه. وبذلك عُلم أنّ الإذن في الترك بما أنّه حكم شرعي ليس من شؤون الإمام المعصوم، بل من شؤون إمام الجمعة وإن لم يكن معصوماً.

ثمّ إنّ الرواية بحاجة إلى توجيه؛ لأنّ التشريع بيد اللّه سبحانه ومن مراتب

ص: 200


1- . الوسائل: 5، الباب 5 من أبواب صلاة الجمعة، الحديث 4.
2- . الوسائل: 5، الباب 16 من أبواب صلاة العيد، الحديث 3.

التوحيد، التوحيد في التشريع، فليس على الإمام على الإطلاق أن يتدخّل في التشريع، بأن يأذن بترك الفريضة، وعلى هذا فلا محيص أن يقال: لمّا كان الحكم الشرعي في حقّ من كان مكانه قاصياً، له أن يُشارك في الصلاة الأُولى ويترك الصلاة الأُخرى، بيّن الإمام هذا الحكم الشرعي في تعبير عاطفي لطيف كماترى.

4. قولهم عليهم السلام لنا الجمعة

ما في «الجواهر» عن رسالة الفاضل بن عصفور عنهم عليهم السلام: «لنا الخمس، ولنا الأنفال، ولنا الجمعة، ولنا صفو المال».(1)

يلاحظ عليه: مع أنّه لم نعثر على سنده، بأنّه على خلاف المطلوب أدلّ؛ لأنّ الخمس غير مشروط بحضور الإمام، مع أنّه ذكر مع الجمعة والأنفال وصفو المال.

5. الاستدلال بروايات ضعاف

ومنها:

أ. ما في «الجواهر» أيضاً عن النبوي المشهور: «أربع للولاة: الفيء، والصدقات، والجمعة».(2)

يلاحظ عليه: بما تقدّم فقد أُريد من الصدقات الزكوات، وهي غير مشروطة بحضور الإمام عليه السلام.

ب. ما في «الجواهر» عن رسالة الفاضل بن عصفور، روى مرسلاً

ص: 201


1- . جواهر الكلام: 158/11.
2- . جواهر الكلام: 158/11.

عنهم عليهم السلام: «إنّ الجمعة لنا والجماعة لشيعتنا».(1)

ج. وفي النبوي: «إنّ الجمعة والحكومة لإمام المسلمين».(2)

د. ما روي عن «الجعفريات» عن علي عليه السلام وفيه: «العشيرة إذا كان عليهم أمير يقيم الحدود عليهم فقد وجب عليهما الجمعة والتشريق».(3)

والجواب: أنّ هذه الروايات ناظرة إلى أنّه لا يجوز لأحد مزاحمة الإمام المعصوم في إقامة الجمعة، فمَن صلّى بعنوان أنّه أمير المؤمنين وخليفة المسلمين، فهو غاصب لحقوقهم؛ وأمّا من أقام معترفاً بحقّهم ممتثلاً لقوله سبحانه (فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اَللّهِ) ، فهذه الروايات غير ناظرة إلى منعه، وسيأتي توضيحه.

ه. وعن «الجعفريات»: أنّ عليّاً عليه السلام قال: «لا يصلح الحكم ولا الحدود ولا الجمعة إلّابإمام».(4)

و. وعنها أيضاً: أنّ عليّاً عليه السلام سُئل عن الإمام يهرب ولا يخلف أحداً يصلّي بالناس، كيف يصلّون الجمعة؟ قال: «يصلّون كصلاتهم أربع ركعات».(5)

ز. وعن «دعائم الإسلام» عن جعفر بن محمد عليهما السلام: أنّه قال: «لا جمعة إلّامع إمام عدل تقيّ»(6).4.

ص: 202


1- . جواهر الكلام: 158/11.
2- . رياض المسائل: 33/4، وقال محقّق الكتاب: لم نعثر عليه.
3- . مستدرك الوسائل: 13/6، الباب 5 من أبواب صلاة الجمعة، الحديث 1.
4- . مستدرك الوسائل: 408/1، الباب 5 من أبواب صلاة الجمعة، الحديث 1.
5- . مستدرك الوسائل: 408/1، الباب 5 من أبواب صلاة الجمعة، الحديث 3.
6- . مستدرك الوسائل: 408/1، الباب 5 من أبواب صلاة الجمعة، الحديث 4.

والجواب عن هذه الأحاديث - مع غضّ النظر عن ضعف أسانيدها - هو أنّ الأُمور الدينية على وجه الإطلاق من: نصب القاضي للقضاء، وبعث الجابي لأخذ الزكاة، وتعيين الإمام للمساجد العامّة حتى المؤذّن للصلاة كان يوم ذاك بيد الخلفاء من بعد النبي صلى الله عليه و آله و سلم، وكانت الممارسة لهذه الأُمور حتى إقامة صلاة الجمعة دليلاً على أنّ الممارس خليفة وإمام للناس أو مأذون منه، سواء أكانت الممارسة حقاً أم باطلاً.

والخلفاء بعد النبي صلى الله عليه و آله و سلم كانوا يمارسون هذه الأُمور بما أنّهم خلفاء الرسول وساسة البلاد، وبذلك كانوا يغرّون ضعفاء العقول ويجلبون عواطفهم وعقائدهم بصحّة خلافتهم؛ حتّى أنّ المحقّق في «المعتبر» جعل ذلك دليلاً على شرطية إذن الإمام، قال: ومعتمدنا فعل النبي صلى الله عليه و آله و سلم فإنّه كان يعيّن لإمامة الجمعة، وكذا الخلفاء بعده كما يعيّن للقضاء، فكما لا يصحّ أن ينصب الإنسان نفسه قاضياً من دون إذن الإمام، كذا إمامة الجمعة، وليس هذا قياساً بل استدلال بالعمل المستمر في الأعصار فمخالفته خرق للإجماع.(1)

وفي هذه الظروف صدرت هذه الروايات قائلة بأنّ هذه الأُمور لإئمة الحقّ لا للأمويّين ولا للعباسيّين، وأنّهم ابتزّوها وسلبوها عنهم واستولوا عليها. وعلى هذا فبما أنّ ممارسة هذه الأُمور باسم الخلافة حقّ لأئمة أهل البيت عليهم السلام، فمَن مارسها بهذا العنوان فقد سلب حقّاً من أئمّة الحقّ.

روى الصدوق باسناده عن أبي جعفر عليه السلام قال: قال: «يا عبد اللّه ما من عيد للمسلمين أضحى ولا فطر إلّاويجدّد لآل محمد فيه حزن».2.

ص: 203


1- . المعتبر: 279/2.

قلت: ولم ذاك؟ قال: «لأنّهم يرون حقّهم في يد غيرهم».(1)

وعلى هذا فهذه الروايات تندد بكلّ مَن أقام صلاة الجمعة وأخذ الخمس والفيء وغير ذلك بما أنّه إمام وخليفة أو مأذون منهم.

وأمّا مَن أقام صلاة الجمعة في غيبة الإمام أو حضوره من غير أن يكون له هذا الادّعاء، بل كانت الغاية العمل بكتاب اللّه وسنّة رسوله وامتثالاً لما أمر به أبو جعفر عليه السلام من إقامة صلاة الجمعة بين الشيعة، فلا صلة لهذه الروايات المنددة المنكرة لمن يقيمها بما أنّه خليفة الرسول أو المأذون من خليفته.

أقول: كما أنّ لعاملي الزمان والمكان تأثيراً في استنباط الأحكام الشرعية، فهكذا للظروف السائدة حين صدور هذه الروايات تأثير في تفسير مرمى الروايات وهدفها. فمَن نظر إلى هذه الروايات مع قطع النظر عن ظروف الصدور يجعلها دليلاً على اختصاص إقامة صلاة الجمعة بهم وبإذنهم، وأمّا إذا نظر إليها مقرونةً بما ذكرنا من أنّ مَن كان يقيم صلاة الجمعة وأمثالها في تلك الظروف فإنّما كان يقيمها بما أنّه خليفة وإمام وقائد الأُمّة، أو مأذون منهم، وعلى هذا فلا صلة لهذه الروايات بعصر الغيبة الذي نفقد حضور الإمام، وإنّما نقيم الفريضة امتثالاً للكتاب بلا ادّعاء للمقيم ولا للمأمومين.

أضف إلى ذلك: أنّ في أكثر هذه الروايات ضعفاً في السند والدلالة، وهي لا تقاوم الذكر الحكيم، ولا ما دلّ على وجوب الجمعة إذا توفّرت الشروط المجمع عليها.

وربما يستدل على شرطية إذن الإمام بما رواه الشيخ عن حمّاد بن عيسى،2.

ص: 204


1- . من لا يحضره الفقيه: 175/2 برقم 2058؛ الكافي: 169/4 برقم 2.

عن جعفر، عن أبيه، عن علي عليهم السلام قال: «إذا قدم الخليفة مصراً من الأمصار جمع الناس. ليس ذلك لإحد غيره».(1)

ولا يخفى أنّ لسان الحديث يوحي صدوره عن تقية، وعلى فرض الصدور يختص بحال الحضور، وفي «الوافي» أنّ الشيخ حمله في التهذيبين على التقية؛ لأنّه مذهب كثير من العامة.

ثم أضاف: بأنّ الخليفة إن كان معصوماً فلا يجوز لأحد من الرعية التقدّم عليه، وإن كان جائراً فالتقدّم عليه يوجب الفتنة والفساد، وفي هذا الحديث دلالة بحسب المفهوم على جواز التجميع لغير الإمام المعصوم إذا لم يكن هو شاهداً في البلد.(2)

تمّ الكلام في القول الأوّل، أعني: القول بالتحريم.

***

[القول] الثاني: القول بالتخيير
اشارة

اشتهر القول بالوجوب التخييري لصلاة الجمعة في عصر الغيبة، وحكاه في «مفتاح الكرامة» عن كثير من القدامى والمتأخّرين، قال: وهو خيرة النهاية والمبسوط والمصباح وجامع الشرائع والشرائع والنافع والمعتبر والتخليص (للتلخيص) وحواشي الشهيد والبيان وغاية المراد كما سمعت، والموجز الحاوي والمقتصر وتعليق الإرشاد والميسيّة والروض والمقاصد العليّة

ص: 205


1- . الوسائل: 5، الباب 20 من أبواب صلاة الجمعة، الحديث 1.
2- . الوافي: 1129/8 و 1132.

وتمهيد القواعد والذكرى.

ثم قال: وظاهر «كشف الالتباس» و «غاية المرام» أو صريحهما، وهو المنقول عن القاضي وكذا المفيد والتقيّ على ما عرفت.(1)

وقد احتمل في «مفتاح الكرامة» أنّ لقولهم: تجب تخييراً أو لا تجب عيناً إذا صلّاها غير المعصوم والمنصوب من قبله، له معنيان:

أحدهما: - وهو المراد - أنّه لا يجب عيناً عقدها، و إذا عقدت يجب الحضور فيها.

وهذا هو الظاهر من الفيض في الرسالة الخاصّة لبيان حكم الجمعة قال: إنّ الناس بالخيار في إنشائها وجمع العدد لها وتعيين الإمام لأجلها، فإذا فعلوا ذلك وعزموا على فعلها تعيّن على كلّ مَن اجتمعت له الشرائط الأُخر، حضورها، ولا يسع لأحد التخلّف عنها حينئذ، لا أنّ لآحاد الناس حينئذٍ التخيير في حضورها وعدمه.(2)

والثاني: أنّه لا يجب الحضور وإن انعقدت، أو عَلِمَ أنّ جمعاً من المؤمنين اجتمع فيهم العددُ المعتبر وحصل لإمامهم شروط الإمامة وأنّهم يعقدونها.(3)

أقول: تحقيق القول بالتخيير يتم بالكلام في مقامين:

الأوّل: دراسة القول على ضوء القواعد الأوّلية

فنقول:

الواجب التخييري يتميّز عن الواجب التعييني، هو أنّ الشارع إذا أراد فعلاً

ص: 206


1- . مفتاح الكرامة: 1007/5، وسيوافيك أنّ المفيد والتقي أبو الصلاح من القائلين بالوجوب العيني.
2- . لاحظ: الحدائق الناضرة: 393/9.
3- . مفتاح الكرامة: 1008/5.

معيّناً، فهو تعييني، وإن أراد به الدائر بين متعدّد نوعاً فتخييري، ثمّ إنّ مقتضى القاعدة الأوّلية عدم ثبوت التخييري؛ وذلك لأنّ حضور المعصوم إمّا شرط لمشروعية الجمعة، أو شرط لوجوبها؛ فعلى الأوّل، تكون الصلاة محرّمة لعدم كونها مشروعة، وعلى الثاني - أي كون الحضور شرطاً للوجوب - فينتفي الوجوب بانتفاء شرطه، فمن أين جاء الوجوب التخييري بعد انتفاء الوجوب التعييني.

فإن قلت: إنّ الفقيه الجامع لشرائط الفتوى منصوب من قبل الإمام ولهذا تمضي أحكامه وتجب مساعدته على إقامة الحدود والقضاء بين الناس، فلتكن صلاة الجمعة من هذا القبيل.

قلت: الفقيه الجامع للشرائط منصوب من قبل الإمام لإجراء الأحكام الباقية بحالها، والمفروض في المقام احتمال انتفاء وجوب صلاة الجمعة بانتفاء شرطه، ومعه كيف صار واجباً تخييرياً.

وإن شئت قلت: إنّ قوله سبحانه: (فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اَللّهِ) يدلّ على كون الواجب أمراً معيّناً، لا كليّاً مردّداً بين الجمعة والظهر، فإذا ارتفع الوجوب التعييني بانتفاء شرطه، فتبديل التعييني إلى التخييري بحاجة إلى دليل.

فإن قلت: بدلية الظهر للجمعة كانت ثابتة في عصر الظهور، بشهادة أنّ من لم يتمكّن من الواجب تجب عليه صلاة الظهر بدلاً عنها، فليكن عصر الغيبة كذلك، فكلّ مَن لا يتمكّن من إقامة الصلاة مع الإمام المنصوب تنتقل وظيفته إلى الظهر.

قلت: بدلية الظهر ثبتت لمن فاتته صلاة الجمعة بعد وجوبها عليه، وأين هذا من بدلية الظهر لمن لم تفته وبإمكانه اقامتها؟! وأين هذا من الوجوب التخييريّ؟!

ص: 207

المقام الثاني: دراسة القول حسب الأدلة الاجتهادية

وقد استدلّ له بوجوه:

الأوّل: خبر الفضل بن عبد الملك، قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السلام يقول: «إذا كان قوم في قرية صلّوا الجمعة أربع ركعات، فإن كان لهم مَن يخطب لهم جمعوا إذا كانوا خمس نفر، وإنّما جعلت ركعتين لمكان الخطبتين».(1)

قال السيد الخوانساري قدس سره بعد ذكر الرواية حيث إنّ صدر هذه الرواية يدلّ على أنّ الساكنين في قرية من القرى يجب عليهم في يوم الجمعة صلاة الظهر أربع ركعات، ووجه التقييد بكونهم في قرية مع أنّ الأحكام لا تختصّ بأهل الأمصار، هو أنّ القرى ليس فيها السلطان أو نائبه بحيث يسوقهم إلى الاجتماع للجمعة، ولكن إقامة الجمعة باختيارهم مع إمام منهم كانت راجحة.(2)

أقول: إنّ في الرواية فقرتين: الفقرة الأُولى ناظرة إلى قرية بعيدة عمّن يخطب ولم يكن عندهم مَن يقوم بصلاة الجمعة بشرائطها وآدابها، إذ ليست الخطبتان مورد كلّ شارد ووارد، وهؤلاء يصلّون صلاة الظهر، ولذلك أخرج أهل قرية من القرى عن إقامة صلاة الجمعة لعدم وجود خطيب يقوم بأمر الخطابة. وأمّا الفقرة الثانية فهي ناظرة لجمع يتمكّن من إقامة الجمعة، فأي صلة للرواية بالوجوب التخييري في زمان الغيبة؟!

وحاصل الرواية: أنّ مَن لم يتمكّن من الخطيب يصلّي الظهر، والمتمكّن يصلّي الجمعة. نظير ما يقال: من وجد الماء يتوضّأ، ومن لم يجد يتيمّم، وما في

ص: 208


1- . الوسائل: 5، الباب 2 من أبواب صلاة الجمعة وآدابها، الحديث 6.
2- . جامع المدارك: 522/1.

ذيل كلامه: «لكن إقامة الجمعة باختيارهم مع إمام منهم كانت راجحة»، خارج عن مفهوم الرواية، وليس في الرواية ما يدلّ عليه.

الثاني: ما استند عليه غير واحد من القائلين بالتخيير، وهو أنّ مقتضى الكتاب والسنّة هو الوجوب العيني غير أنّ الإجماع الذي هو أحد الأدلّة، دلّ على عدمه، والجمع بينه وبين الكتاب والسنّة، حمل الوجوب على التخييري.

وقد طرح الشهيد الثاني هذا الدليل بصورة السؤال والجواب، وقال:

فإن قيل: الأوامر الدالّة على الوجوب إنّما استفيد منها الوجوب العيني، كما هو موضع وفاق بالنسبة إلى حالة الحضور، ومدّعاكم الوجوب التخييري، وأحدهما غير الآخر.

قلنا: أصل الوجوب ومطلقه مشترك بين العيني والتخييري، ومن حقّ المشترك أن لا يخصّص بأحد معنييه إلّابقرينة صارفة عن الآخر أو مخصّصة، والوجوب العيني منفيّ حال الغيبة بالإجماع، فيختصّ الفرد الآخر.(1)

وقال في كتاب آخر له: تخييراً لقوّة الأوامر المطلقة والعامّة بها في الكتاب والسنّة، وإجماع المسلمين على وجوبها في الجملة(2)، أمّا الوجوب العيني فمنتف إجماعاً، فيبقى التخييري.

وقال في الروضة: «ولولا دعواهم الإجماع على عدم الوجوب لكان القول به في غاية القوّة».(3)9.

ص: 209


1- . روض الجنان: 774/2.
2- . المقاصد العلية: 366.
3- . لاحظ: الحدائق الناضرة: 420/9.

وقال النراقي: أمّا ثبوت التخييري، فللأخبار المثبتة للوجوب لها عموماً، والوجوب ماهية كلّية صادقة على جميع أفرادها.(1)

وربما تقف على نظير هذه الكلمات في توجيه الوجوب التخييري.

يلاحظ عليه أوّلاً: أنّ الإجماع المحصّل على نفي الوجوب العيني غير حاصل، والمنقول منه غير طائل، وذلك لأنّ قسماً كبيراً من القدماء اختاروا الوجوب العيني، وسيوافيك ذكر كلماتهم في نهاية البحث عن الوجوب التعييني.

ومع هذه الكلمات الصريحة من قدماء الشيعة، كيف يمكن ادّعاء الإجماع على نفي الوجوب العيني، حتى تكون قرينة على التصرّف في الآية والروايات بحملها على الوجوب التخييري؟!

وفي الحدائق: قد تمحّلوا لتصحيح هذا الإجماع المدّعى في المقام فاصطنعوا له دليلاً ليجدوا إليه سبيلاً، فقالوا: إنّ الاجتماع لمّا كان مظنّة النزاع ومثار الفتن، والحكمة موجبة لحسم مادة الاختلاف، فالواجب قصر الأمر في ذلك على الإمام بأن يكون هو المباشر لهذه الصلاة، أو الإذن فيها.(2)

يلاحظ عليه: بأنّه يكفي في رفع الفتنة تصدّي الفقيه الجامع للشرائط لتعيين الإمام للجمعة في البلاد و المدن.

وثانياً: قد حقّق في علم الأُصول أنّ صيغة الأمر إذا جرّدت عن القرينة تنصرف إلى العيني والنفسي والتعييني، فقوله سبحانه: (فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اَللّهِ) أو قولهم عليهم السلام في الروايات، منصرف إلى العيني، فليس له إلّامدلول واحد، فإذا قام9.

ص: 210


1- . مستند الشيعة: 57/6.
2- . الحدائق الناضرة: 422/9.

الإجماع على عدم الوجوب العيني، تسقط الآية عن الدلالة على حكم آخر، فمن أين جاء الوجوب التخييري؟ فما استدلّ به النراقي وقبله الشهيد الثاني ناقلاً عن القائلين، مبني على أنّ مدلول الآية وجوب مجرّد عن الدلالة على العينية والتخييرية، فإذا انتفى أحد الفرضين يبقى الفرض الآخر، ومن المعلوم أنّه خلاف التحقيق.

***

الاستدلال على الوجوب التخييري بالاستبعادات

إنّ السيد الخوئي رحمه الله لمّا أذعن بأنّ مقتضى الأخبار هو الوجوب التعييني(1)قال: إلّاأنّ هنا أُموراً تمنعنا من الأخذ بظاهرها ولا مناص من حملها على الوجوب التخييري(2) يجمعها عنوان الاستبعاد، وذكر في ذلك أُموراً:

الأوّل: أنّ صلاة الجمعة لو كانت واجبة تعيينية لشاع ذلك وذاع، ولكان من المسلّمات الواضحات نظير غيرها من الفرائض اليومية... إلى أن قال: ولم ينقل القول بالوجوب التعييني من أحد من العلماء في المسألة على اختلاف آرائهم في مشروعيتها في عصر الغيبة وعدمها.(3)

يلاحظ عليه: أنّ وجوبها التعييني أمر مسلّم بين سائر الفرق الإسلامية، وأمّا الشيعة فقد ذهب جمع من القدماء إلى وجوبها التعييني كالكليني والصدوق والحلبي وغيرهم، وبما أنّ القيام بهذا الأمر من شؤون الإمام المعصوم، ولم يكن

ص: 211


1- . لاحظ: التنقيح، كتاب الصلاة: 40/1.
2- . التنقيح: 27/1.
3- . التنقيح: 26/1.

ذلك ميسوراً لأئمّة الحق عليهم السلام صار ذلك سبباً لاختلاف العلماء في وجوبها التعييني. ولو كان الأمر مفوضاً إلى الأئمّة وكانوا قائمين بنصب الإمام في البلاد لما اختلف في الوجوب اثنان.

الثاني: أنّ صلاة الجمعة لو كانت واجبة تعيينية فلماذا جرت سيرة أصحابهم عليهم السلام على عدم إقامتها في زمانهم على جلالتهم في الفقه والحديث؟! فهل يحتمل أن يكونوا متجاهرين بالفسق لتركهم واجباً تعيينياً في حقّهم وفريضة من فرائض اللّه سبحانه؟! فكيف أهملوا ما وجب في الشريعة المقدّسة ولم يعتنوا بالأخبار التي رووها بأنفسهم عن أئمّتهم عليهم السلام ولم يعملوا على طبقها؟!(1)

يلاحظ عليه: أنّه لم يثبت إعراض أصحابنا عن إقامة صلاة الجمعة، وقد عرفت حال الحديث عن زرارة وهو أنّه كان يشارك العامّة في صلواتهم. نعم كان عبد الملك بن أعين غير مشارك لشبهة أنّ الإمام ليس بعادل، فأمره الإمام بإقامتها فيما بينهم.

وإن شئت قلت: لم نجد دليلاً على إعراض الأصحاب عن إقامة صلاة الجمعة في أعصارهم، ومَن أعرض فإنّما أعرض عن شبهة ودليل وهو مثلاً عدم عدالة إمام الجمعة، مع التسليم بالحكم.

وممّا ذكرنا يظهر ما في قوله: وكيف كان فقد استفدنا من الروايات الواردة أنّ سيرة أصحاب الأئمّة عليهم السلام كانت جارية على ترك الجمعة.(2)

أقول: قد عقد الفيض في الوافي بابين تحت عنوانين:1.

ص: 212


1- . التنقيح: 27/1.
2- . التنقيح: 30/1.

1. باب صفة الجمعة معهم.

2. باب فضل الصلاة معهم.

يظهر ممّا ورد فيه من الروايات أنّ أكثر الأصحاب كانوا يصلّون الجمعة معهم وربما يعيد بعضهم الصلاة لأجل كون الإمام غير عادل.

أمّا الأوّل: فقد أورد فيه ما يدلّ على أنّهم إذا صلّوا الجمعة في وقت فصلّوا معهم.(1)

أمّا الباب الثاني فقد أورد فيه: إنّ المصلّي معهم في الصف الأوّل كالشاهر سيفه في سبيل اللّه. وقد أورد فيه ثمانية أحاديث تحثّ على الصلاة معهم، وحمل الروايات على غير صلاة الجمعة كما ترى.(2)

الثالث: الأخبار الواردة في عدم الحضور لصلاة الجمعة على مَن كان بعيداً عنها بأزيد من فرسخين، وقد عُدّ هذا من جملة المستثنيات، والوجه في دلالتها على عدم وجوب الجمعة تعييناً أنّ الحضور لها إذا لم يكن واجباً على النائي بأزيد من فرسخين وبنينا على أنّ صلاة الجمعة واجبة تعيينية لوجبت إقامتها على مَن كان بعيداً عنها بأزيد من فرسخين في محلّه.(3)

يلاحظ عليه: أنّ لازم ما ذكره عدم كون صلاة الجمعة واجبة تعييناً حتى في عصر الرسول صلى الله عليه و آله و سلم والوصي عليه السلام، وهذا خلاف المجمع عليه، فالظاهر أنّ كلمة الفقهاء متّفقة على وجوبها تعييناً في عصر الرسول والوصي إذا كان متمكّناً من1.

ص: 213


1- . الوافي: 1215/1.
2- . الوافي: 1217/8.
3- . التنقيح: 30/1.

إقامتها ونصب الإمام لها.

وأمّا ما أفاده من قوله: إنّ مفروضنا وجوبها على كلّ مكلّف تعييناً، وإمام الجماعة يوجد في كلّ قرية ومكان من بلاد المسلمين.

يلاحظ عليه: أنّه لا مانع من استثناء مَن بعد فرسخين لأجل صعوبة عودته إلى محلّ إقامة الجمعة، فلأجل ذلك سقط عنه التكليف كما سقط عن أصناف أُخرى. وأمّا عدم إقامتها في محلّه فلعدم وجود مَن يقوم بإيراد الخطبتين وإقامة الصلاة على الوجه المطلوب.

الرابع: الروايات الواردة في أنّ كلّ جماعة ومنهم أهل القرى إذا كان فيهم مَن يخطب لهم لصلاة الجمعة وجبت عليهم صلاة الجمعة، وإلّا يصلون ظهراً أربع ركعات؛ كصحيحة محمد بن مسلم، عن أحدهما عليهما السلام قال: سألته عن أُناس في قرية هل يصلون الجمعة جماعة؟ قال: «نعم (و) يصلون أربعاً إذا لم يكن مَن يخطب».(1)

وقال أيضاً: وتقريب الاستدلال بتلك الروايات أنّ المراد بمَن يخطب في هذه الأخبار ليس مجرّد مَن يتمكّن من إقامة الخطبة - شأناً - وإن لم يكن قادراً عليها فعلاً، لأنّه فرض نادر التحقّق. وحاصل المعنى: أنّه إن كان هناك مَن يقدم لإقامة الخطبة فعلاً ومتهيّئاً لذلك وجبت الجمعة، وإن لم يقدم بالفعل مع قدرته عليها سقطت وصلّوا الظهر جماعة، وهذا كما ترى لا يلائم الوجوب التعييني، إذ عليه يجب الإقدام والتصدي للخطبة تعييناً وتركها موجب للفسق.(2)1.

ص: 214


1- . التنقيح: 31/1.
2- . المستند في شرح العروة الوثقى: 26/11.

يلاحظ عليه: بأنّ الحديث بصدد بيان تنجيز التكليف على المكلّفين بأنّه لو وجد فيهم مَن يخطب فيتنجّز الوجوب على الجميع وإلّا فلا. نعم لو تخلّف الجامع للصفات عن القيام بالإمامة والخطابة فقد عصى وفسق وسقط التكليف عن الآخرين.

فإن قلت: إنّه من البعيد أن ينحصر الخطيب بفرد واحد، إذ في وسع كثير من الناس أن يؤم ويقتصر في الخطابة بأقلّ الواجب.

قلت: هذا ما أشار إليه بقوله: إنّ أقل الواجب هو التحميد والثناء وقراءة سورة والوعظ المتحقّق بقوله: يا أيّها الناس اتّقوا اللّه، فهو ليس أمراً صعباً.

لكن المعهود من صلاة الجمعة في تلك الأيام هو إقامتها بخطبتين لهما تأثير خاص في أذهان المصلين، وليس مثل هذا شأن كلّ شارد ووارد، ولذلك كثيراً ما يتّفق عدم وجوده؛ وعلى هذا فالإمام عليه السلام يفصّل بين وجود الشرط وعدمه، ففي الأوّل تجب عليهم الجمعة، وفي الثاني تجب أربع ركعات.

وفي نهاية كلامه يقول: والمتحصّل من جميع ما قدّمناه لحدّ الآن: أنّ الروايات التي استدلّ بها الخصم وإن كانت ظاهرة في الوجوب التعييني بالظهور الإطلاقي، إلّاأنّه لا يسعنا الأخذ بهذا الظهور لأجل تلكم القرائن والشواهد التي منها بعض نفس تلك الأخبار - كما عرفت - فلا مناص من حملها على الوجوب التخييري.(1)

وبذلك ظهر أنّه ليس للقول بالوجوب التخييري أي دليل صالح، إلّاإذا قلنا بأنّها كانت كذلك منذ عصر الرسالة كما عليه صريح كلامه، وهو بعيد عن ظاهر1.

ص: 215


1- . المستند في شرح العروة الوثقى: 27/11.

النصوص وكلمات العلماء.

***

القول الثالث: الوجوب التعييني في عصري الحضور والغيبة
اشارة

قال صاحب مفتاح الكرامة: وهو خيرة الشهيد الثاني في رسالته، وولده في رسالته، وسبطه والشيخ نجيب الدين والمولى الخراسانيّ في كتابيه، والكاشانيّ في المفاتيح والشهاب الثاقب والوافي، والشيخ سليمان في رسالتيه، والسيّد عبد العظيم والشيخ أحمد الخطيّ ومولانا الحرّ في الوسائل، ومولانا الشيخ أحمد الجزائري في الشافية، وصاحب الحدائق، والسيد عليّ صائغ، واحتمله احتمالاً في الذكرى.

ونسبوه إلى المفيد في المقنعة وكتاب الإشراف وإلى أبي الفتح الكراجكيّ وإلى أبي الصلاح التقيّ، وإلى ظاهر الصدوق في المقنع والأمالي، وإلى الشيخ في التهذيب، وإلى الشيخ عماد الدين الطبرسي، وقال بعضهم: إنّ في عبارة «النهاية» إشعاراً به، والإشعار في عبارة «الخلاف» أقوى.(1) وسيوافيك ذكر كلمات القدماء في نهاية البحث.

وقبل كلّ شيء فالآية ظاهرة في الوجوب التعييني حيث لم يذكر البدل لها.

وتؤيّده سيرة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم حيث إنّه لم يعدل يوم الجمعة في الحضر إلى الظهر أبداً، وهو دليل على كونها واجباً تعيينياً. والقول بأنّ عدم عدوله لأجل كون صلاة الجمعة أفضل الفردين، يحتاج إلى دليل.

ص: 216


1- . مفتاح الكرامة: 997/5.

ولنقدّم دلالة الكتاب العزيز على الحكم ثمّ ندرس الروايات بصورة طوائف أربع.(1)

أمّا الكتاب فقد مرّ تفسير الآيات وأنّ دلالتها على الوجوب التعييني واضحة حيث تدلّ على وجوب السعي إلى ذكر اللّه وترك البيع؛ وقد مرّ أنّ المراد من الذكر في الآية هو صلاة الجمعة، أو خطبتها، أو هما معاً؛ ويعضد ذلك ما رواه الكليني في «الكافي» عن جابر بن يزيد، عن أبي جعفر عليه السلام قال: قلت له: قول اللّه عزّ وجلّ: (فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اَللّهِ) ؟ قال: «اعملوا وعجّلوا، فإنّه يوم مضيّق على المسلمين فيه، وثواب أعمال المسلمين فيه على قدر ما ضيّق عليهم، والحسنة والسيئة تضاعف فيه»، قال: وقال أبو جعفر عليه السلام: «واللّه لقد بلغني أنّ أصحاب النبي صلى الله عليه و آله و سلم كانوا يتجهّزون للجمعة يوم الخميس لأنّه يوم مضيّق على المسلمين».(2)

ثمّ إنّه أُورد على الاستدلال بالآية بأُمور واهية، نذكر بعضها:

الأوّل: إنّ (إِذا) في قوله تعالى: (إِذا نُودِيَ) غير موضوعة للعموم، فلا يلزم وجوب السعي كلّما تحقّق النداء، بل يتحقّق بالمرّة، وهي عند تحقّق الشرط.(3)

يلاحظ عليه أوّلاً: أنّها وإن لم تكن موضوعة للعموم، لكن المتبادر من أمثال الموارد، هو العموم. يقول سبحانه: (يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى اَلصَّلاةِ 9.

ص: 217


1- . تصنيف الروايات بصورة طوائف أربع من إفاضات آية اللّه مرتضى الحائري قدس سره.
2- . الكافي: 415/3، برقم 10؛ الوسائل: 5، الباب 31 من أبواب صلاة الجمعة وآدابها، الحديث 1.
3- . لاحظ: الحدائق الناضرة: 399/9.

فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) (1) .

وثانياً: أنّ إيجاب السعي ولو في الجملة بحيث يتحقّق بالمرّة، على خلاف الإجماع، فلا مناص من الحمل على العموم.

الثاني: أنّ الأمر في الآية معلّق على ثبوت الأذان، فمن أين ثبت وجوب الصلاة مطلقاً؛ بل تجب إذا أذّنوا، دون ما لو لم يأذّنوا.(2)

يلاحظ عليه: أنّ تعليق السعي إلى الصلاة، على الأذان لأجل أنّ المراد دخول وقت الصلاة. فيكون المعنى: إذا دخل وقت صلاة يوم الجمعة بأن نودي بالنداء المقرر المعهود المستمر كلّ يوم، فاسعوا إلى ذكر اللّه، وصلّوا صلاة الجمعة.(3)

الثالث: اختصاص الخطابات القرآنية بالحاضرين، ولا يشمل مَن سيوجد إلّا بدليل خارجي، وليس إلّاالإجماع وهو غير موجود في المقام.(4)

يلاحظ عليه: أنّ الخطابات القرآنية أشبه بقضايا حقيقية تعمّ المكلّفين كلّاً في زمانه، فتخصيص الآيات القرآنية بجمع قليل حين نزول القرآن، حاكٍ عن أنّ القائل فرض الخطابات خطابات شخصية مع أنّه أشبه بالخطابات الواردة في الوصايا والكتب والقوانين العامّة.

هذا وهناك إشكالات أُخرى لا تليق بأن تُذكر ويجاب عنها. فإنّ هذهي.

ص: 218


1- . المائدة: 6.
2- . الحدائق الناضرة: 400/9، نقله عن المنكرين للوجوب التعييني.
3- . الوافي: 1079/8.
4- . الحدائق الناضرة: 402/9، نقله عن المنكرين للوجوب التعييني.

المناقشات إنّما نبعت من القول بتحريم الجمعة أو عدم وجوبها، فصار ذلك سبباً لمثل هذه الإشكالات.

هذا كلّه حول الكتاب العزيز.

الاستدلال بالروايات
اشارة

وقبل الدخول بالاستدلال بالروايات نذكر ما ذكره بعض الأعاظم حول الروايات.

قال المحدّث الكبير الشيخ محمد تقي المجلسي، والد العلّامة المجلسي صاحب البحار، حيث وصف مجموع الروايات الواردة حول صلاة الجمعة بالنحو التالي:

قال قدس سره: فذلكة: فصار مجموع الأخبار مائتي حديث، فالّذي يدلّ بظاهره على الوجوب خمسون حديثاً، والذي يدلّ على الوجوب بصريحه من الصّحاح والحسان والموثّقات وغيرها أربعون حديثاً، والذي يدلّ على المشروعية في الجملة أعمّ من أن يكون عينياً أو تخييرياً تسعون حديثاً، والذي يدلّ بعمومه على وجوب الجمعة وفضلها عشرون حديثاً، ثمّ الذي يدلّ بصريحه على وجوب الجمعة إلى يوم القيامة حديثان، والذي يدل على عدم اشتراط الإذن بظاهره ستة عشر حديثاً، بل أكثرها كذلك كما مرّت الإشارة إليه في تضاعيف الفصول، وأكثرها أيضاً يدل على الوجوب العيني كما أُشير إليه.(1)

ص: 219


1- . الحدائق الناضرة: 390/9، ناقلاً عنه وقال: في رسالة مبسوطة ألّفها في تحقيق المسألة.
الطائفة الأُولى: ما يذكر مَن تجب عليه صلاة الجمعة من دون أن يذكر حضور الإمام

1. صحيحة زرارة بن أعين، عن أبي جعفر الباقر عليه السلام قال: إنّما فرض اللّه عزّ وجلّ على الناس من الجمعة إلى الجمعة خمساً وثلاثين صلاة، منها صلاة واحدة فرضها اللّه عزّ وجلّ في جماعة وهي الجمعة، ووضعها عن تسعة: عن الصغير، والكبير، والمجنون، والمسافر، والعبد، والمرأة، والمريض، والأعمى، ومَن كان على رأس فرسخين».(1)

قوله: «فرضها اللّه عزّ وجلّ في جماعة» أُريد به العدد المخصوص، ودلالتهاعلى وجوبها على الناس - غير ما استثنى - واضحة جدّاً، وقد عرفت أنّ المراد من قوله: «في جماعة» العدد الخاص.

2. ما رواه الصدوق في أماليه بسند صحيح عن زرارة بن أعين، عن أبي جعفر الباقر عليه السلام قال: «صلاة الجمعة فريضة، والاجتماع إليها فريضة مع الإمام، فإن ترك رجل من غير علّة ثلاثة جُمع فقد ترك ثلاث فرائض، ولا يدع ثلاث فرائض من غير علّة إلّامنافق».(2)

ورواه من الوسائل عن عقاب الأعمال للصدوق برقم 12، وهي متّحدة مع ما تقدّم.

وعلى هذا فلزرارة في هذه الطائفة روايتان لا ثلاث.

نعم أورد عليه سيد مشايخنا بقوله: ولا يخفى أنّه ليس بصدد بيان وجوب

ص: 220


1- . الوسائل: 5 الباب 1 من أبواب صلاة الجمعة وآدابها، الحديث 1.
2- . الوسائل: 5، الباب 1 من أبواب صلاة الجمعة وآدابها، الحديث 8.

إقامة الجمعة فضلاً عن وجوبها على كلّ أحد وإن لم يؤذن له من قبل الإمام، ولا في مقام بيان شروط الانعقاد؛ بل هو بصدد بيان وجوب حضور الجمعة والسعي إليها بعد ما فرض انعقادها بشرائطها، ويشهد لذلك استثناء الذين لا يجب عليهم الحضور.(1)

وفي موضع آخر يقرر ذلك الاشكال بالنحو التالي: ليس الحديث بصدد بيان الوظيفة لنفسه أو لعمّاله بل بصدد بيان وظيفة الناس بالنسبة إلى الجمعات التي كانت تنعقد بشرائطها، أعني: وجوب الحضور والسعي إليها.(2)

يلاحظ عليه: ماذا يُريد بقوله: «بعد ما فرض انعقادها بشرائطها» أو بقوله: «الجمعات التي كانت تنعقد بشرائطها»، فإن أراد الجمعات المعقودة من قبل حكّام بني أُمية وبني العباس، فهذا على خلاف المقصود أدلّ، حيث يلازم عدم اشتراط إقامتها بإمام الأصل أو مَن نصبه.

وإن أراد - من الفقرتين - الجمعات المعقودة من الشيعة بإذنهم فإنّ المفروض عدمه، إذ لم يكن للشيعة آنذاك جمعات معقودة حتى يكون الحديث ناظراً إليها إلّانادراً.

فتعيّن أنّها بصدد بيان وجوبها على الناس إلّامَن استثني.

3. ما رواه الكليني بسند صحيح عن أبي بصير ومحمد بن مسلم جميعاً، عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «إنّ اللّه عزّ وجلّ فرض في كلّ سبعة أيام خمساً وثلاثين صلاة، منها صلاة واجبة على كلّ مسلم أن يشهدها إلّاخمسة: المريض،2.

ص: 221


1- . البدر الزاهر: 11.
2- . البدر الزاهر: 12.

والمملوك، والمسافر، والمرأة، والصبي».(1)

وقد أورد عليه سيد مشايخنا بمثل ما أورده على الرواية السابقة، من أنّ الرواية «صريحة في وجوب السعي والحضور بعد ما فرض انعقاد الجمعة وليست بصدد بيان وجوب العقد».(2)

يلاحظ عليه: بنفس ما سبق، ماذا يُريد بقوله: بعدما فرض انعقاد الجمعة، فإنّ المنعقد آنذاك بين غير صحيح - كما هو الحال في زمن الحكّام - وبين صحيح غير منعقد كصلاتهم عليهم السلام أو مَن نصبوه.

4. ما رواه الشيخ بسند صحيح عن منصور بن حازم، عن أبي عبد اللّه عليه السلام - في حديث - قال: «الجمعة واجب على كلّ أحد، لا يعذر الناس فيها إلّاخمسة:

المرأة، والمملوك، والمسافر، والمريض، والصبي».(3)

وأورد عليه أيضاً بمثل ما سبق، من أنّ الحديث بصدد بيان وجوب الحضور، بعد انعقادها بشرائطها لا وجوب عقد الجمعة وإقامتها على الناس.(4)

ولا يخفى أنّ ما ذكر من الاحتمال لا يتبادر إلى أذهان أصحاب الأئمّة عليهم السلام فضلاً عن غيرهم، بل المتلقّى هو أنّ صلاة الجمعة واجبة على الناس (سوى ما استثني) كلّ يعمل بوظيفته، فعلى الإمام إلقاء الخطبة وإقامة الصلاة، وعلىح.

ص: 222


1- . الوسائل: 5، الباب 1 من أبواب صلاة الجمعة وآدابها، الحديث 14.
2- . البدر الزاهر: 12.
3- . الوسائل: 5، الباب 1 من أبواب صلاة الجمعة وآدابها، الحديث 16.
4- . البدر الزاهر: 12، بتصرف للإيضاح.

المأمومين الحضور. فالتفكيك بين الحضور والعقد والإقامة، أمر مغفول عنه عند العرف.

5. ما رواه الفريقان عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم - في خطبة طويلة نقلها المخالف والمؤالف -: «إنّ اللّه تبارك وتعالى فرض عليكم الجمعة، فمَن تركها في حياتي أو بعد موتي استخفافاً بها أو جحوداً لها، فلا جمع اللّه شمله، ولا بارك له في أمره، ألا ولا صلاة له، ألا ولا زكاة له، ألا ولا حجّ له، ألا ولا صوم له، ألا ولا برّ له، حتى يتوب».(1)

ورواه الشهيد الثاني في رسالته مع هذا الذيل: «فمَن تركها في حياتي أو بعد مماتي (وله إمام عادل) استخفافاً...».

وأورد عليه سيد مشايخنا قدس سره بنفس ما أورده على الأحاديث الماضية بأنّه بصدد بيان وجوب السعي والحضور لا بوجوب العقد والإقامة، إضافة إلى أنّ المتبادر هو إمام الأصل.(2)

ولا يخفى ضعف كلا الوجهين، أمّا الأوّل فإنّ التفصيل بين الأمرين (وجوب السعي ووجوب العقد) بعيد عن الأذهان العرفية؛ بل المتبادر الحثّ على صلاة الجمعة كلّ حسب وظيفته؛ وأمّا الثاني - كون المراد من الإمام هو الإمام المعصوم - فهو كما ترى، لكثرة إطلاق الإمام في روايات كثيرة على غير المعصوم.

***4.

ص: 223


1- . الوسائل: 5، الباب 1 من أبواب صلاة الجمعة وآدابها، الحديث 28.
2- . البدر الزاهر: 14.
الطائفة الثانية: ما يدلّ على البعث على الإقامة مع عدم كون المقيم هو المعصوم

إنّ في الروايات الواردة حول صلاة الجمعة ما يدلّ على أنّ الإمام المعصوم كان يحثّ شيعته على إقامة صلاة الجمعة ولم يكن هو المقيم، كما لم يكن هناك أي إجازة من الحكام، وإليك ما يلي:

1. روى الشيخ بسند صحيح عن زرارة قال: حثّنا أبو عبد اللّه عليه السلام على صلاة الجمعة حتى ظننت أنّه يُريد أن نأتيه، فقلت: نغدو عليك؟ فقال: «لا، إنّما عنيت عندكم».(1)

والمتبادر من الرواية أنّ الإمام أكّد على إقامة صلاة الجمعة فيما بينهم، أو الحضور في جمعات الآخرين من الشيعة، وأمّا الحضور في جمعات المخالفين فهو بعيد جدّاً؛ وبذلك يظهر ضعف ما أُورد على الاستدلال بالرواية من أنّ المقصود الترغيب في حضور جمعات المخالفين لئلّا تظهر مخالفة الأئمّة عليهم السلام وشيعتهم لخلفاء الوقت وعمّالهم.

وجه الضعف: أنّ لفظة «إنّما عنيت عندكم» ينفي هذا الاحتمال، وإلّا اللازم أن يقول: «عنيت عند غيركم». ثم إنّ سيد مشايخنا البروجردي قدس سره أورد على الاستدلال بوجهين:

الأوّل: أن يكون المقصود ترغيبهم في حضور الجمعات التي كان يقيمها المنصوبون من قبل الأئمّة عليهم السلام، إذ من المحتمل كون أشخاص معينين منصوبين من قبلهم لإقامتها في بعض الأمكنة.

ص: 224


1- . الوسائل: 5، الباب 5 من أبواب صلاة الجمعة وآدابها، الحديث 1.

يلاحظ عليه: أنّ الظروف السائدة على أئمّة أهل البيت عليهم السلام كانت تمنع من نصب أشخاص لإقامة الجمعة من قبلهم. أضف إلى ذلك: أنّه لو كان هناك نصب لم يخف على زرارة وأضرابه، بل كان زرارة أولى بالنصب.

الثاني: أن يكون نفس هذا الكلام منه عليه السلام نصباً أو إذناً لهم، إمّا بأن يكون نصباً لأشخاص معيّنين خاطبهم بكلامه، أو بأن يكون إذناً لهم بما أنّهم فقهاء، فيعمّ جميع فقهاء الشيعة، أو بأن يكون إذناً لهم بما أنّهم مؤمنون، فيعمّ جميع المؤمنين.(1)

يلاحظ عليه: إنّ هنا احتمالاً آخر أقرب إلى اللفظ وهو تحريض زرارة وأمثاله على العمل بالفريضة الواردة في كتاب اللّه، وإقامتها وعقدها بين الشيعة حسب الإمكانات.

ولعمر القارئ لولا أنّ صلاة الجمعة صارت موضع النقاش والجدال عبر قرون عشرة، لما خطر ببال أحد أمثال هذه الاحتمالات حول هذه الروايات الحاثّة على إقامة الجمعة لشيعتهم.

ثمّ إنّ اشتمال كونه إذناً لزرارة يدفعه قوله: «إنّما عنيت عندكم» وإلّا كان اللازم أن يقول: إنّما عنيت عندك.

2. ما رواه عبد الملك بن أعين، عن أبي جعفر عليه السلام قال: قال: «مَثْلك يُهْلَك ولم يصل فريضة فرضها اللّه»، قال: قلت: كيف أصنع؟ قال: «صلّوا جماعة» يعني صلاة الجمعة.(2)2.

ص: 225


1- . البدر الزاهر: 40.
2- . الوسائل: 5، الباب 2 من أبواب صلاة الجمعة وآدابها، الحديث 2.

والسند صحيح، وأمّا عبد الملك بن أعين، يقول سيد مشايخنا البروجردي:

في وثاقته وتشيّعه خلاف. لكن الظاهر ممّا رواه الكشي كونه شيعياً ثقة؛ روى الكشي عن زرارة قال: قال لي أبو عبد اللّه عليه السلام بعد موت عبد الملك بن أعين: «اللهم إنّ أبا ضريس كنّا عنده خيرتك من خلقك، فصيّره في ثقل محمد صلواتك عليه وآله يوم القيامة»، ثم قال أبو عبد اللّه عليه السلام: «أما رأيته؟» يعني في النوم، فتذكرت، فقلتُ: لا، فقال: «سبحان اللّه مثل أبي الضريس لم يأت بعد».(1)

وقد أورد السيد البروجردي على الاستدلال بإشكالين:

1. إنّ جملة (يعني صلاة الجمعة) ليست من كلام الإمام عليه السلام، فليست الرواية ظاهرة فيما نحن فيه.

أقول: نفترض أنّ الجملة ليست من كلام الإمام، ولكن أي فريضة يحتمل أنّ عبد الملك تركها غير صلاة الجمعة؟!

2. إنّ الظاهر أنّه عليه السلام كان بينه وبين عبد الملك مكاتبات من قبل، ولعلّه كان بين تلك المكاتبات قرينة على أنّ المقصود هو التوبيخ على ترك الحضور للجمعة المنعقدة بإذن الإمام عليه السلام.(2)

يلاحظ عليه: أنّ هذا النوع من الاحتمال جارٍ في أكثر الروايات في غالب الأبواب، ولازم ذلك ترك العمل بالروايات لأجل هذا النوع من الاحتمالات.

3. احتمال صدور الكلام المذكور تقية، من عدّة كانوا حاضرين عنده.

يلاحظ عليه: أنّه لا شاهد على هذا الاحتمال.5.

ص: 226


1- . رجال الكشي: 175-176
2- . البدر الزاهر: 44-45.

4. صحيح محمد بن مسلم عن أحدهما عليهما السلام، قال: سألته عن أُناس في قرية، هل يصلون الجمعة جماعة؟ قال عليه السلام: «نعم (و) يصلون أربعاً إذا لم يكن مَن يخطب».(1)

5. موثّق الفضل بن عبد الملك، قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السلام يقول: «إذا كان قوم في قرية صلّوا الجمعة أربع ركعات، فإن كان لهم مَن يخطب لهم، جمّعوا إذا كانوا خمس نفر، وإنّما جعلت ركعتين لمكان الخطبتين».(2)

إنّ مفاد الروايتين هو كون الفريضة صلاة الظهر إذا لم يكن عندهم مَن يخطب، وصلاة الجمعة إذا كان لهم مَن يخطب، ومع ذلك فالميزان وجود الشرط الأهم، أعني: الإمام الذي يخطب، فإنّ الخطبتين ليستا أمراً سهلاً.

ثمّ إنّ السيد البروجردي احتمل أن يكون المراد بالجمعة صلاة الظهر يوم الجمعة، ويكون السؤال عن أهل القرية من جهة أنّهم لا يتمكّنون - غالباً - من إقامة الجمعة لعدم وجود الإمام أو من نصبه.

يلاحظ عليه: أنّه لو كان السؤال عن صلاة الظهر يوم الجمعة فما معنى قوله عليه السلام: «إذا كانوا خمس نفر، وإنّما جعلت ركعتين لمكان الخطبتين»؟!

***

الطائفة الثالثة: ما يركّز على الوجوب عند العدد المخصوص

روى الصدوق باسناده عن زرارة، قال: قلت لأبي جعفر عليه السلام: على مَنْ تجب

ص: 227


1- . الوسائل: 5، الباب 3 من أبواب صلاة الجمعة وآدابها، الحديث 3.
2- . الوسائل: 5، الباب 2 من أبواب صلاة الجمعة وآدابها، الحديث 6.

الجمعة؟ قال: «تجب على سبعة نفر من المسلمين، ولا جمعة لأقل من خمسة من المسلمين، أحدهم الإمام، فإذا اجتمع سبعة ولم يخافوا، أمّهم بعضهم وخطبهم».(1)

ودلالة الرواية على الوجوب التعييني عند وجود العدد المذكور، واضحة، وأنّه يأمّ بعضهم بعضاً وكذلك يخطب.

وقد أورد على الاستدلال بوجهين:

1. انصراف البعض فيه إلى البعض الخاص الذي يكون إقامة الجمعة وقراءة الخطبة من وظائفه ومناصبه. وعليه يكون المراد بالبعض الإمام الأصل أو مَن نصبه.(2)

يلاحظ عليه: أنّ الكلام لأبي جعفر عليه السلام والمخاطب هم المسلمون، فاحتمال كون المراد من البعض هو الإمام الأصل، كماترى.

2. أنّ من المظنون جدّاً أن يكون من قوله: «فإذا اجتمع سبعة... إلى آخره» من كلام الصدوق، كما احتمله (بحر العلوم).(3)

يلاحظ عليه: أنّه لا توجد أيّ قرينة على كونه من كلامه، خصوصاً أنّه يلزم أن يكون في كلام الصدوق شيء ليس في كلام الإمام، حيث قال: «أمّهم بعضهم وخطبهم».

***9.

ص: 228


1- . الوسائل: 5، الباب 2 من أبواب صلاة الجمعة وآدابها، الحديث 4.
2- . البدر الزاهر: 49.
3- . لاحظ: البدر الزاهر: 49.
الطائفة الرابعة: ما ورد في أنّ الخطيب ليس هو الإمام الأصل

قد ورد في تعليم الخطبة ما يدلّ على أنّ الخطيب غير الإمام، وهي خطبة مفصّلة رواها الفيض في «الوافي»، ونحن نقتبس منها ما يلي:

«الحمد للّه نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ باللّه من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهدي اللّه فلا مضلّ له، ومَن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلّااللّه وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله، انتجبه لولايته واختصّه برسالته وأكرمه بالنبوّة، أميناً على غيبه ورحمة للعالمين، وصلّى اللّه على محمّد وآله وعليهم السلام.

أُوصيكم عباد اللّه بتقوى اللّه وأُخوفكم من عقابه... إلى أن قال:

ثم اقرأ سورة من القرآن وادعو ربك وصلّ على النبي صلى الله عليه و آله و سلم وادعو للمؤمنين والمؤمنات، ثم تجلس، قدر ما تمكن هنيهة ثم تقوم وتقول: الحمد اللّه نحمده ونستعينه، ونستغفره ونستهديه، ونؤمن به، ونتوكّل عليه، ونعوذ باللّه من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهدي اللّه فلا مضلّ له، ومن يُضلل فلا هادِيَ له، وأشهدُ أن لا إله إلّااللّه وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّداً عبده ورسوله أرسله بالهدى ودين الحقّ ليُظهرَه على الدِّين كلّه ولو كره المشركون، وجعله رحمةً للعالمين بشيراً ونذيراً وداعياً إلى اللّه بإذنه وسراجاً منيراً، مَن يُطِعِ اللّهَ ورسوله فقد رشد، ومن يَعصيهما فقد غَوى.

أُوصيكم عباد اللّه بتقوى اللّه الّذي ينفعُ بطاعته مَن أطاعه، والّذي يَضرّ بمعصيته مَن عصاه. الّذي إليه مَعادكم وعليه حسابكم. فإنّ التقوى وصيةُ اللّه فيكم وفي الذين من قبلكم، قال اللّه تعالى: (وَ لَقَدْ وَصَّيْنَا اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ

ص: 229

وَ إِيّاكُمْ أَنِ اِتَّقُوا اَللّهَ وَ إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلّهِ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ ما فِي اَلْأَرْضِ وَ كانَ اَللّهُ غَنِيًّا حَمِيداً) (1) ، انتفعوا بموعظة اللّه وألزموا كتابه فإنّه أبلغُ الموعظة وخيرُ الأُمور في المعاد عاقبة، ولقد اتّخذ اللّه الحجّة فلا يَهلكُ مَن هلك إلّاعن بيّنة، ولا يحيى مَن حيّ إلّاعن بيّنة، وقد بلّغ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم الذي أرسل به فألزموا وصيّته وما ترك فيكم من بعده من الثقلين: كتابَ اللّه وأهل بيته، اللّذين لا يضلّ مَن تمسّك بهما ولا يهتدي من تركهما، اللّهمّ صلّ على محمّد عبدك ورسولك سيّد المرسلين وإمام المتّقين ورسول ربّ العالمين.

ثمّ تقول: اللّهمّ صلّ على أمير المؤمنين ووصيّ رسول ربّ العالمين، ثمّ تُسمّي الأئمّة حتّى تنتهي إلى صاحبك، ثم تقول: اللّهمّ افتح له فتحاً يسيراً، وانصره نصراً عزيزاً. اللّهم أظهر به دينك وسنّة نبيّك حتى لا يستَخفي بشيء من الحقّ مخافة أحدٍ من الخلق. اللّهمّ إنّا نرغب إليك في دولةٍ كريمةٍ تُعزُّ بها الإسلام وأهله، وتُذلّ بها النّفاق وأهله، وتجعلنا فيها من الدّعاة إلى طاعتك والقادة في سبيلك وترزقنا فيها كرامة الدّنيا والآخرة. اللّهمّ ما حمّلتنا من الحقّ فعرّفناهُ، وما قصرنا عنه فعلمناه.

ثمّ يدعو اللّه على عدوّه ويسأل لنفسه وأصحابه ثم يرفعون أيديهم فيسألون اللّه حوائجهم كلّها حتّى إذا فرغ من ذلك قال: اللّهمّ استجب لنا ويكون آخر كلامه أن يقول: (إِنَّ اَللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ اَلْإِحْسانِ وَ إِيتاءِ ذِي اَلْقُرْبى وَ يَنْهى عَنِ اَلْفَحْشاءِ وَ اَلْمُنْكَرِ وَ اَلْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (2).0.

ص: 230


1- . النساء: 131.
2- . النحل: 90.

ثمّ يقول: اللّهمّ اجعلنا ممّن تذكّر فتنفعه الذّكرى ثمّ ينزل.(1)

إنّ الرواية بصدد تعليم الشيعة كيفية إيراد الخطبة في جمعاتهم، عندما تمكّنوا من إقامتها، وليس الخطيب ولا الإمام الأصل أو مَن نصبه، مقصودين فيها، فلو كانت الجمعة منحصرة بعصرهم وبمن نصبوه لصارت الرواية قليلة الفائدة.

إلى هنا تمّ ما يمكن أن يستدل به على الوجوب التعييني، وهناك روايات أُخرى مبثوثة في الوسائل يمكن الاستدلال بها على المقصود، ولكن فيما ذكرنا كفاية.

***

بقيت هنا أسئلة نطرحها على طاولة البحث

السؤال الأوّل: القول بالواجب التعييني قول شاذ أعرض عنه الأصحاب عبر القرون، والأدلّة الدالّة عليه تكون أيضاً معرض عنها، فكيف أفتيتم به؟

الجواب: أنّ القول بالوجوب التعييني لم يكن قولاً شاذاً عبر القرون، بل قال به جمع كثير نذكر أسماءهم إلى سنة 1000 من الهجرة:

1. ابن أبي عقيل (المتوفّى حدود 340 ه)، قال: صلاة الجمعة فرض على المؤمنين حضورها مع الإمام في المصر الذي هو فيه، وحضورها مع إمرته في الأمصار والقرى النائية عنه، ومَن كان خارجاً من مصر أو قرية إذا غدا من أهله بعدما صلّى الغداة فيدرك الجمعة، فإتيان الجمعة عليه فرض.(2)

ص: 231


1- . كتاب الوافي للفيض الكاشاني: 1148/8-1151.
2- . راجع: رسالتان مجموعتان، فتاوى ابن أبي عقيل: 37/36.

والشاهد في قوله: ومن كان خارجاً من مصر أو قرية... إلى آخر ما ذكره.

2. الشيخ الصدوق (المتوفّى 381 ه)، قال: فرض اللّه عزّ وجلّ، من الجمعة إلى الجمعة خمساً وثلاثين صلاة، منها صلاة واحدة فرض اللّه - عزّ وجلّ - في جماعة وهي الجمعة، ووضعها عن تسعة... ومَن صلّاها وحده فليصلّها أربعاً كصلاة الظهر في سائر الأيام، فإذا اجتمع يوم الجمعة سبعة ولم يخافوا، أمّهم بعضهم وخطبهم.(1) 3. الشيخ المفيد (المتوفّى 413 ه)، قال: واعلم أنّ الرواية جاءت عن الصادقين عليهما السلام أنّ اللّه عزّ وجلّ فرض على عباده من الجمعة إلى الجمعة خمساً وثلاثين صلاة، لم يفرض فيها الاجتماع إلّافي صلاة الجمعة خاصّة. فقال - جلّ من قائل: - (يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ اَلْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اَللّهِ وَ ذَرُوا اَلْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) .(2) ففرضها - وفّقك اللّه - الاجتماع على ما قدّمناه، إلّاأنّه بشريطة حضور إمام مأمون على صفات يتقدّم الجماعة، ويخطبهم خطبتين، يسقط بهما وبالاجتماع عن المجتمعين من الأربع الرّكعات ركعتان. وإذا حضر الإمام وجبت الجمعة على سائر المكلفين إلّامَن عذّره اللّه تعالى منهم.(3)

4. أبو الصلاح الحلبي (المتوفّى 447 ه)، قال: لا تنعقد الجمعة إلّابإمام الملّة، أو منصوب من قبله، أو بمَن يتكامل له صفات إمام الجماعة عند تعذّر الأمرين،3.

ص: 232


1- . الهداية: 145، كتاب الصلاة، باب أقلّ ما يجزي في إقامة الجمعة.
2- . الجمعة: 9.
3- . المقنعة: 162-163.

وأذان و...، فإذا تكاملت هذه الشروط انعقدت جمعة وانتقل فرض الظهر من أربع ركعات إلى ركعتين بعد الخطبة.(1)

5. الشيخ الطوسي (المتوفّى 460 ه) قال في باب صلاة الجمعة: لا بأس أن يجتمع المؤمنون في زمان التقية بحيث لا ضرر عليهم فيصلّوا جمعة بخطبتين.(2)

وقال في باب الأمر بالمعروف منها «ويجوز لفقهاء أهل الحقّ أن يجمعوا بالناس في الصلوات كلّها، وصلاة الجمعة والعيدين ويخطبون الخطبتين، ويصلّون بهم صلاة الكسوف ما لم يخافوا في ذلك ضرراً، فإن خافوا في ذلك الضرر لم يجز لهم التعرّض لذلك على حال.(3)

6. الشيخ أبو الفتح الكراجكي في كتابه المسمّى ب «تهذيب المسترشدين» قال: وإذا حضرت العدّة التي تصحّ أن تنعقد بحضورها الجماعة يوم الجمعة، وكان إمامهم مرضياً متمكّناً من إقامة الصلاة في وقتها، وإيراد الخطبة على وجهها وكانوا حاضرين آمنين ذكوراً بالغين كاملي، العقول، أصحّاء، وجبت عليهم فريضة الجمعة جماعة، وكان على الإمام أن يخطب بهم خطبتين ويصلّي بهم بعدها ركعتين.(4)

7. الشهيد الأوّل (المتوفّى 787 ه)، قال: تجب صلاة الجمعة ركعتين بدلاً عن الظهر بشرط الإمام أو نائبه، وفي الغيبة تجمّع الفقهاء مع الأمن.(5)1.

ص: 233


1- . الكافي في الفقه: 151-152.
2- . النهاية: 107.
3- . النهاية: 302.
4- . لاحظ: الحدائق الناضرة: 381/9.
5- . الدروس الشرعية: 186/1.

8. الشيخ علي الكركي المعروف بالمحقّق الثاني (المتوفّى 940 ه)، قال صاحب روضات الجنات: كتب الشيخ نور الدين علي بن الحسين بن عبد العالي الكركي «رسالة في صلاة الجمعة» أو وجوبها التخييري وأنّها أفضل الأفراد ويتعيّن الوجوب مع الفقيه الجامع للشرائط، النائب للإمام على العموم.(1)

ثمّ إنّ الجدال بين المحقّق الكركي ومعاصره الشيخ إبراهيم بن سليمان القطيفي البحراني الغروي كان على أشدّه، فألّف الثاني رسالة في حرمة صلاة الجمعة في عصر الغيبة ردّاً على المحقّق الثاني.(2) 9. الشهيد الثاني (المتوفّى 966 ه)، قال: إنّ الأصحاب اتّفقوا على وجوبها عيناً مع حضور الإمام أو نائبه الخاص، وإنّما اختلفوا فيه في حال الغيبة وعدم وجود المأذون له فيها على الخصوص، فذهب الأكثر - حتى كاد أن يكون إجماعاً أو هو إجماع على قاعدتهم المشهورة من أنّ المخالف إذا كان معلوم النسب لا يقدح فيه - إلى وجوبها أيضاً مع اجتماع باقي الشرائط غير إذن الإمام (وبعد أن ذكر الأقوال قال:) والذي نعتمده من هذه الأقوال ونختاره وندين اللّه تعالى به هو المذهب الأوّل.(3)

10. الشيخ حسين العاملي والد الشيخ البهائي (المتوفّى 984 ه)، قال في رسالته الموسومة بالعقد الحسيني: وممّا يتحتم فعله في زماننا، صلاة الجمعة لدفع تشنيع أهل السنّة، إذ يعتقدون إنّنا نخالف اللّه ورسوله وإجماع العلماء في تركها،4.

ص: 234


1- . روضات الجنات: 368/4-369.
2- . الذريعة: 75/15.
3- . رسالة في صلاة الجمعة: 3 و 4.

وظاهر الحال معهم، إمّا بطريق الوجوب التخييري وإمّا بطريق وجوبها من القرآن وأحاديث النبي صلى الله عليه و آله و سلم والأئمّة عليهم السلام الكثيرة الصحيحة الصريحة....(1)

11. المحقّق الأردبيلي (المتوفّى 993 ه)، والظاهر من كلامه وجوبها، قال: إنّ الذي استفيد من الآية الشريفة (يعني الآية 9 من سورة الجمعة) هو وجوب الجمعة على كلّ مؤمن بعد النداء يوم الجمعة مطلقاً وتحريم البيع حينئذٍ ثمّ إباحته بعدها.(2)

12. السيد شمس الدين العاملي (صاحب المدارك) (المتوفّى 1009 ه) يقول بعد دراسة الأقوال: وبالجملة فالأخبار الواردة بوجوب الجمعة مستفيضة بل متواترة، وتوقّفها على الإمام أو نائبه غير ثابت، بل قد بيّنا أنّه لا دليل عليه، واللازم من ذلك الوجوب العيني إن لم ينعقد الإجماع القطعي على خلافه.(3)

هذه اثنا عشر نصّاً نقتصر بها، وأمّا الإشارة إلى مَن قال بالوجوب بعد هؤلاء فخارج عن وضع كتابنا، وكلّ ذلك يدلّ على عدم الإعراض.

السؤال الثاني

لو كانت صلاة الجمعة واجبة بالوجوب التعييني لعلمه الفقهاء من أصحاب الأئمّة عليهم السلام ووصلت إلينا بنقل السلف؟

الجواب: أنّ الفقهاء والأُصوليّين اتّفقوا على أنّ الأمر ظاهر في التعييني دون التخييري، والنفسي دون الغيري، والعيني دون الكفائي، فكفى ذلك في الدلالة4.

ص: 235


1- . العقد الحسيني: 21.
2- . زبدة البيان في أحكام القرآن: 117.
3- . مدارك الأحكام: 80/4.

على أنّ الوجوب الوارد في سورة الجمعة حول صلاتها واجب تعييني لا تخييري، نفسي لا غيري، عيني لا كفائي، ولأجل هذا الظهور لم تكن هناك حاجة بالتصريح، على أنّ الأخبار الحاثّة على السعي إلى صلاة الجمعة، بل إلى عقدها كافية في التصريح.

وأمّا عدم تصريح أصحاب الأئمّة بالوجوب التعييني فلأجل عدم وجود الخلاف بينهم في أنّها فريضة تعيينية، فكأنّ تسليمهم قلباً وعملاً أغناهم عن عنوان المسألة وبيان حكمها وإنّما ظهر الخلاف في العصور المتأخّرة بعد عصر الصدوق (306-381 ه) وقد كانوا ملتزمين بهذه الصلاة إمّا بالمشاركة في صلاة الآخرين كما ظهر ممّا نقلناه في أحوال زرارة بن أعين، أو بالانعقاد مستقلّاً، فعدم وجود فكرة الخلاف سبّب عدم التصريح بالحكم، ولذلك لاترى أي سؤال عن حكم صلاة الجمعة في الأسئلة التي طرحت على أئمّة أهل البيت عليهم السلام.

***

السؤال الثالث

لو لم يشترط حضور السلطان العادل أو مَن نصبه كان لكلّ واحد عقدها وإقامتها ولم يتكلّف الناس في تلك الأعصار على الفرسخين مع سهولة اجتماع الخمسة أو السبعة، وأقلّ الواجب من الخطبة أمر سهل يتعلّمه كلّ أحد؟

الجواب: إنّ وجود الخطيب العادل الذي تطمئن إليه نفوس البلد أو القرية، ليس من الأُمور السهلة جدّاً، ولذلك جاء في غير واحد من الأخبار بإقامة الجمعة

ص: 236

إذا فرض وجود مَن يخطب.(1)، فلو كان وجوده في كلّ مجتمع من مجتمعات المسلمين معلوماً ضرورياً، لكان الشرط المذكور ملحقاً باللغو.

وببيان آخر: إنّ المرتكز في أذهان المسلمين من صلاة الجمعة ليس مجرّد الاقتصار على صعود الخطيب المنبر والاكتفاء بقوله: أيّها الناس اتّقوا اللّه ثم ينزل مع قراءة سورة الإخلاص حتى يقال: ما أكثر الخطباء في الأمصار والقرى؛ بل المرتكز أنّها صلاة لها كيان وعظمة وللخطيب مهابة حين إلقاء الخطبة ولكلامه تأثير في المخاطبين، ولذلك كان أصحاب رسول اللّه يتهيّأون لتلك الفريضة يوم الخميس كما مرّ، فمثل هذه الصلاة والخطيب لم يكن أمراً متوفّراً في كلّ قرية، ولذلك سمحوا لسكّان الفرسخين أن يصلّوا الظهر مكان الجمعة.

***

السؤال الرابع

كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم هو بنفسه يعقد الجمعة ويقيمها، وكذلك الخلفاء من بعده حتّى أمير المؤمنين عليه السلام، فكان الخلفاء ينصبون في البلدان أشخاصاً معيّنين لإقامتها، ولم يُعهد في تلك الأعصار تصدّي غير المنصوبين لإقامتها، وصار هذا الأمر مركوزاً في أذهان جميع المسلمين حتى أصحاب الأئمّة عليهم السلام، فكان جميع الأخبار الصادرة عنهم عليهم السلام ملقاة إلى الذين ارتكز في أذهانهم كون إقامة الجهة من خصائص الخلفاء والأُمراء.(2)3.

ص: 237


1- . لاحظ: الوسائل: 5، الباب 2 من أبواب صلاة الجمعة وآدابها، الحديث 6؛ والباب 5، الحديث 3.
2- . البدر الزاهر: 23.

وقد مرّ قول المحقّق: إنّ معتمدنا فعل النبي صلى الله عليه و آله و سلم فإنّه كان يعيّن لإمامة الجمعة وكذا الخلفاء من بعده، فكما لا يصحّ أن ينصب الإنسان نفسه قاضياً من دون إذن الإمام، كذا إمام الجمعة.

الجواب: أوّلاً: أنّا لم نقف على حديث على أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم نصب شخصاً لخصوص إقامة صلاة الجمعة. نعم كان ينصّب الوالي وهو يقوم بمسؤوليات منها صلاة الجمعة. نعم أرسل رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم مصعب بن عمير إلى يثرب لتعليم الناس القرآن والصلاة وإقامتها، وما ذلك إلّالأنّ المسلمين لم يكونوا عارفين بالقرآن والصلاة وأحكامها، فالنصب في هذه الموارد التي لا يقيمها في المحل إلّا المنصوب لا يدلّ على شرطية النصب.

وثانياً: أنّ الفعل فاقد للظهور فلا يدلّ على الشرطية، ولعلّ النصب حتى في غير مورد مصعب كان لأنّ صلاة الجمعة صلاة خاصّة ولها خصوصيات لا يقوم بها إمام الجماعة في أيّام الرسالة، فلذلك كان يعيّن من يقوم بهذه الفريضة.

وثالثاً: أنّ ما ذكره المحقّق من تشبيه المقام بالقضاء تشبيه مع الفارق؛ لأنّ القضاء تصرّف في النفوس والأموال ولا يصحّ لإنسان أن ينصب نفسه للقضاء لتلك الغاية، وهذا بخلاف إمامة صلاة الجمعة إذ ليس له إلّاالأمر بالتقوى وإنذار الناس، فلو اجتمع في إنسان شيء من الثقافة وحفظ القرآن والحديث فهذا ما يقبله الناس للإمامة. وأمّا نصب الخلفاء أشخاص معيّنين لإقامة الجمعة فلأنّ منبر هذه الصلاة كانت وسيلة لدعم خلافتهم ودعوة الناس إليهم، ولا فرق في ذلك بين الأمويّين

ص: 238

والعباسيّين وغيرهم، فإنّهم اتّخذوها وسيلة لدعم منصبهم. فلا يدلّ على أنّ الإقامة منصب جمع خاص.

***

السؤال الخامس

روى الفضل بن شاذان عن الإمام الرضا عليه السلام ما يظهر منه شرطية النصب، وقد جاء في الرواية: فإن قال قائل: فَلِمَ صارت صلاة الجمعة إذا كانت مع الإمام ركعتين وإذا كانت بغير إمام ركعتين وركعتين. قيل: لعلل شتّى. منها - إلى أن قال - : «أنّ الصلاة مع الإمام أتم وأكمل لعلمه وفقهه وفضله وعدله. ومنها: أنّ الجمعة عيد، وصلاة العيد ركعتان، ولم تقصر لمكان الخطبتين، فإن قال: فلم جُعلت الخطبة؟ قيل: لأنّ الجمعة مشهد عامّ، فأراد أن يكون للإمام سبب إلى موعظتهم وترغيبهم في الطاعة وترهيبهم من المعصية، وتوقيفهم على ما أراد من مصلحة دينهم ودنياهم، ويخبرهم بما ورد عليهم من الآفات [الأوقات] ومن الأحوال التي لهم فيها المضرة والمنفعة، ولا يكون الصائرَ في الصلاة، منفصلاً وليس بفاعل غيره ممّن يؤمّ الناس في غير يوم الجمعة»(1).

استدلّ بهذه الرواية على أنّ المراد من الإمام غير إمام الجماعة الذي لا يشترط فيه إلّاالعدالة، وقد اشترط في إمام صلاة الجمعة أُمور أُخرى، وذلك بالتمسّك بالمقاطع التالية:

1. قوله: «إذا كانت مع الإمام ركعتين وإذا كانت بغير إمام ركعتين ركعتين»2.

ص: 239


1- . عيون أخبار الرضا: 118/2؛ علل الشرائع: 264/1-265، الباب 182.

حيث يدلّ على أنّ إمام الجمعة إمام مطلق غير إمام الجماعة. «فإذا صلّوا الظهر فإنّما يصلّون جماعة، ومع ذلك يصدق عليهم أنّهم صلّوا بغير إمام».

يلاحظ عليه: أنّ غاية ما يدلّ عليه، مغايرة الإمامين من حيث المقدرة على إلقاء الخطبتين، إذ ليس كلّ إمام للجماعة قادراً عليها، لما عرفت من أنّ لصلاة الجمعة كياناً خاصّاً وللإمام مهابة، ولكلامه تأثيراً، وليس ذلك فعل كلّ شارد ووارد، وأين ذلك من كونه إماماً معصوماً أو نائباً عنه؟

2. قوله: «إنّ الصلاة مع الإمام أتمّ وأكمل لعلمه وفقهه». ومن المعلوم أنّه ليس من صفات إمام الجماعة.(1)يلاحظ عليه: أنّ الرواية واردة مورد الغالب فإنّ الغالب تصدي منصب الجمعة من قبل العالم الفقيه لا العامّي العادل. مضافاً إلى أنّه يدلّ على كون الإمام موصوفاً بهذه الصفات وهي أعمّ من كونه منصوباً.

3. ما في بعض النسخ «للأمير» وهو لا يصدق على إمام الجماعة.

يلاحظ عليه: بأنّ النسخ مختلفة ففي بعضها: (للإمام لا للأمير).

4. قوله: «وليس بفاعل غيره ممّن يؤمّ الناس في غير يوم الجمعة» فإنّه أوضح تعبير على اختلاف الإمامين.

يلاحظ عليه: كما تقدّم من أنّه لا يدلّ على أزيد من كون إمام الجمعة موصوفاً بصفات خاصّة والتي لا تعتبر في إمام الجماعة، وأين هذا من المدّعى من كونه معصوماً أو منصوباً منه؟ على أنّ صاحب الوسائل ذكر أنّ تلك الفقرة غيرق.

ص: 240


1- . هذه الفقرة سقطت من قلم صاحب الوسائل وإنّما نقلناها من كتاب علل الشرائع: 348/1، الطبعة المحقّقة: سنة 1430 ه، نشر كلمة الحق.

موجودة في «عيون الأخبار».

5. قوله: «ويخبرهم بما ورد عليهم من الآفاق»، فإنّ إمام الجماعة مع المأمومين سيان في ذلك.

يلاحظ عليه: بأنّه وارد مورد الغالب، فبما أنّ صلاة الجمعة صلاة خاصّة في كلّ أُسبوع، فتكون مشروطة بخطبتين لا يقدم أحد على عقدها إلّامَن كان له اطّلاع واسع على ما يجري في الدنيا. مضافاً إلى ما مرّ من أنّه لا يدلّ على لزوم كون الإمام منصوباً، بل يدلّ على كون الإمام مطّلعاً عمّا يجري على المسلمين من الحوادث والكوارث.

***

السؤال السادس

ما ورد في رواية محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام قال: «تجب الجمعة على سبعة نفر من المسلمين، ولا تجب على أقلّ منهم: الإمام، وقاضيه، والمدعي حقّاً، والمدّعى عليه، والشاهدان، والذي يضرب الحدود بين يدي الإمام».(1)

الجواب: أنّ مضمون الحديث من المعضلات إذ لم يقل أحد من الفقهاء بشرطية حضور من ذكر في الرواية من القاضي والمدّعي والمدّعى عليه، فالحديث مردود إليهم عليهم السلام.

قال في «الوافي»: كأنّه إشارة إلى العلّة في اعتبار العدد إذ التمدّن لا يخلو9.

ص: 241


1- . الوسائل: 5، الباب 2 من أبواب صلاة الجمعة وآدابها، الحديث 9.

غالباً من مخاصمة لا تكاد تتحقّق بأقل منه. أو صدر الحديث عن تقية لاشتراطهم التمدّن في الجمعة، وذلك لعدم اشتراط وجود هذه الأشخاص بعينها في انعقاد الجمعة بالاتّفاق.(1)

***

السؤال السابع روى الشيخ بسند صحيح عن زرارة قال: قال أبو جعفر عليه السلام: «الجمعة واجبة على من إن صلّى الغداة في أهله أدرك الجمعة، وكان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إنّما يصلّي العصر في وقت الظهر في سائر الأيام، كي إذا قضوا الصلاة مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم رجعوا إلى رحالهم قبل الليل، وذلك سنّة إلى يوم القيامة».(2)

قال السيد البروجردي: ويستفاد من هذه الرواية أنّ إقامة الجمعة ليست بيد كلّ أحد، وكذلك جميع الروايات الدالّة على وجوب حضور الجمعة على من بعد عنها بفرسخين وعدم وجوبه على مَن بعد بالأزيد، كيف ولو لم تشترط بحضور السلطان العادل أو مَن نصبه وكان لكلّ أحد عقدها وإقامتها لم يتكلّف الناس في تلك الأعصار طي الفرسخين مع سهولة اجتماع الخمسة أو السبعة، وأقلّ الواجب من الخطبة أيضاً يسهل تعلّمه لكلّ أحد.(3)

يلاحظ عليه: أنّه ليس سؤالاً جديداً بل هو نفس السؤال الثالث، وقد عرفت4.

ص: 242


1- . الوافي: 1129/9-1130.
2- . الوسائل: 5، الباب 4 من أبواب صلاة الجمعة وآدابها، الحديث 1. يريد صلاة العصر يوم الجمعة في وقت الظهر في سائر الأيام.
3- . البدر الزاهر: 14.

أنّ متلّقى الناس من أنّ صلاة الجمعة لم تكن صلاة كسائر الصلوات اليومية، بل كانت عندهم لها مكانة خاصّة من حيث إيراد الخطبتين وغيرهما، ولذلك لم يكن القائم بذلك متوفّراً في القرى والقصبات وإلّا لم يسمح للمتواجد في الأزيد من الفرسخين ترك الجمعة.

إلى هنا تمّت الأسئلة المطروحة حول وجوب الجمعة تعيينياً، غير أنّ هنا أمراً لابدّ منه وهو أنّ لصلاة الجمعة وقتاً وكيفية وإماماً وخطيباً ومكاناً محدّداً بحدود، فإجراؤها بحاجة إلى أن يكون هناك مسؤول يُشرف على هذه الأُمور وينظّمها، إذ فرق بينها وبين الصلوات اليومية العادية، فالمشرف في عصر الظهور هو الإمام عليه السلام، وأمّا في عصر الغيبة فالمشرف عليها هو الفقيه الجامع للشرائط أو السلطان العادل. وعلى هذا فليست صلاة الجمعة أمراً يقيمها كلّ أحد، بل لابدّ من كون الإمام منصوباً من مقام خاص، وهو أحد المقامين.

وبذلك يعلم ضعف ما ذكره بعضهم من أنّ الاجتماع لمّا كان مظنّة النزاع ومثار الفتن، والحكمة موجبة لحسم مادة الاختلاف، فالواجب قصر الأمر في ذلك على الإمام بأن يكون هو المباشر لهذه الصلاة أو الإذن فيها، وأنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم ومَن بعده من الخلفاء كانوا يعيّنون أئمة الجمعات.(1)

ولكنّك قد عرفت أنّ رفع الفتنة، يحصل بإشراف سلطان عادل، أو فقيه جامع للشرائط يشرف على إقامة الصلاة في البلاد حتى لا تتثنى الصلاتان في مكان أقلّ من فرسخ. واللّه العالم.9.

ص: 243


1- . الحدائق الناضرة: 422/9.
فرع: تعدّد الجمعة في أقلّ من فرسخ

الغرض النهائي من دراسة آيات الأحكام هو تبيين مضامينها ومفاهيمها وأمّا الفروع المترتبة عليها المذكورة في الكتب الفقهية فغير مطروحة لنا، إلّاأنا عدلنا عن ذلك الأصل في هذا الفرع ليعلم أنّ تعدد الجمعة في أقلّ من فرسخ يعدّ بدعة أصفق عليها علماء الفريقين.

قال المحقّق: أن لا يكون هناك جمعة أُخرى، وبينهما دون ثلاثة أميال (ثلاثة أميال تساوي فرسخاً واحداً)، فإن اتّفقتا بطلتا، وإن سبقت إحداهما ولو بتكبيرة الإحرام بطلت المتأخّرة، ولو لم تتحقّق السابقة أعادا ظهراً.(1)

وربما يتصوّر أنّ هذا الحكم من خصائص الفقه الإمامي ولكن بعد الرجوع إلى ما عليه فقهاء السنّة يعلم أنّ هذه هي سنّة النبي صلى الله عليه و آله و سلم.

قال العلّامة عبد اللّه بن الصدّيق الغماري (1328-1413 ه) في كتابه: «إتقان الصنعة في تحقيق معنى البدعة» ما هذا لفظه: تعدّد الجمعة لم يكن في عهد النبي صلى الله عليه و آله و سلم ولا في عهد الصحابة والتابعين.

روى البيهقي في المعرفة من طريق أبي داود في المراسيل عن بكير بن الأشج، قال: كان في المدينة تسعة مساجد مع مسجده صلى الله عليه و آله و سلم، يسمع أهلها أذان بلال فيصلّون في مساجدهم. زاد يحيى: ولم يكونوا يصلّون الجمعة في شيء من تلك المساجد إلّامسجد النبي صلى الله عليه و آله و سلم. قال الحافظ: ويشهد له صلاة أهل العوالي مع النبي صلى الله عليه و آله و سلم الجمعة كما في الصحيح. وصلاة أهل قباء معه، كما رواه ابن ماجة وابن

ص: 244


1- . شرائع الإسلام: 690/1.

خزيمة.

وروى البيهقي: أنّ أهل ذي الحليفة كانوا يجمعون بالمدينة. قال البيهقي:

ولم ينقل أنّه أذن لأحد في إقامة الجمعة في شيء من مساجد المدينة، ولا في القرى التي يقربها. وقال الأثرم لأحمد: أجمع جمعتين في مصر؟ قال: لا أعلم أحد فعله.

وقال ابن المنذر: لم يختلف الناس أنّ الجمعة لم تكن تصلى في عهد النبي صلى الله عليه و آله و سلم وفي عهد الخلفاء الراشدين إلّافي مسجد النبي صلى الله عليه و آله و سلم. وفي تعطيل الناس مساجدهم يوم الجمعة واجتماعهم في مسجد واحد، أبين البيان بأنّ الجمعة خلاف سائر الصلوات وأنّها لا تصلى إلّافي مكان واحد. انتهى

وذكر الحافظ ابن عساكر في مقدمة «تاريخ دمشق»: أنّ عمر كتب إلى عمّاله:

إلى أبي موسى، وإلى عمرو بن العاص، وإلى سعد بن أبي وقّاص: أن يتخذ مسجداً جامعاً ومسجداً للقبائل، فإذا كان يوم الجمعة انضموا إلى المسجد الجامع، فشهدوا الجمعة.(1)

وذكر الحافظ الخطيب في «تاريخ بغداد»: أنّ أوّل جمعة أحدثت في الإسلام في بلد، مع قيام الجمعة القديمة، في أيام المعتضد في دار الخلافة، يعني بغداد، من غير بناء مسجد لإقامة الجمعة، وسبب ذلك، خشية الخلفاء على أنفسهم. وذلك في سنة ثمانين ومائتين، ثم بني في أيام المكتفي، مسجد فجمعوا فيه.(2)7.

ص: 245


1- . تاريخ دمشق لابن عساكر: 322/2، دارالفكر للطباعة والنشر والتوزيع، 1995 م.
2- . تاريخ بغداد: 403/4-407.

أحكام الصلاة

7. الجهر والمخافتة في الصلاة

اشارة

قال تعالى: (قُلِ اُدْعُوا اَللّهَ أَوِ اُدْعُوا اَلرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ اَلْأَسْماءُ اَلْحُسْنى وَ لا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَ لا تُخافِتْ بِها وَ اِبْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً * وَ قُلِ اَلْحَمْدُ لِلّهِ اَلَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي اَلْمُلْكِ وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ اَلذُّلِّ وَ كَبِّرْهُ تَكْبِيراً) .(1)

المفردات

ادعوا اللّه: أي سمّوه بأحد الاسمين: اللّه، والرحمن.

تخافت: يقال: تخافت القوم: تسارّوا فيما بينهم، واللغة الدارجة هي المخافتة. وأمّا أخفت فليست لغة دارجة، نعم هو كثير الورود في الكتب الفقهية.

أيّاً مّا: «أي» اسم استفهام في الأصل، فإذا اقترن ب «ما» الزائدة، أفادت الشرط، ولذلك جزم الفعل بعدها وهو «تدعو» شرطاً. وجاء الجواب مقروناً بالفاء،

ص: 246


1- . الإسراء: 110-111.

وهو قوله: (فَلَهُ اَلْأَسْماءُ اَلْحُسْنى) . والجملة الاسمية إذا وقعت جواباً تلزمها «الفاء» للقاعدة المعروفة: كلّ جزاء يمتنع جعله شرطاً فالفاء لازمة.

كان المشركون ينزعجون من سماع كلمة الرحمن، وقد حكاه عنهم سبحانه في قوله: (وَ إِذا قِيلَ لَهُمُ اُسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَ مَا اَلرَّحْمنُ أَ نَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَ زادَهُمْ نُفُوراً) (1).

روى أهل السِّير أنّه لمّا جرى الصلح بين قريش المشركة وبين النبي صلى الله عليه و آله و سلم في الحديبية، دعا النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم عليّاً ليكتب وثيقة الصلح، فلمّا أمره أن يكتب «بسم اللّه الرحمن الرحيم» قال سهيل بن عمرو (مندوب قريش): لا نعرف هذا، ولكن اكتب: باسمك اللهم.(2)

التفسير

قوله: (قُلِ) يا محمد (اُدْعُوا اَللّهَ أَوِ اُدْعُوا اَلرَّحْمنَ) فلا حرج في دعائه بأي اسم كان، ثم علّله بقوله: (أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ اَلْأَسْماءُ اَلْحُسْنى) فكلّ يشير إلى كمال من كمالاته سبحانه. وأمّا كيفية الدعاء فيذكره بقوله: (وَ لا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَ لا تُخافِتْ بِها) ، فيقع الكلام في ما هو المراد من الصلاة، وهل هي بمعنى الدعاء، أم العبادة المعروفة؟ والظاهر هو الأوّل، أي دعاء اللّه بأسمائه، والشاهد على ذلك تقدّم قوله سبحانه: (أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ اَلْأَسْماءُ اَلْحُسْنى) وعلى هذا فللداعي أن يتّخذ طريقاً وسطاً بين الجهر والمخافتة، وبما أنّه أُريد من المخافتة هو التسارّ، يكون المراد من الجهر هو رفع الصوت بشدّة، فيجب أن يكون الداعي داعياً للّه لا

ص: 247


1- . الفرقان: 60.
2- . لاحظ: تاريخ الطبري: 281/2.

بصورة سرّية حتى لا يسمع نفسه، ولا بصورة جهرية أي رفع الصوت عن المتعارف.

نعم الجهر في اللغة بمعنى رفع الصوت على وجه الإطلاق خفيفاً كان أو شديداً، غير أنّ المراد به في الآية بقرينة المخافتة هي رفع الصوت بشدّة، ولولا المقابلة لما فسّر الجهر برفع الصوت شديداً، وبما ذكرنا ورد التفسير عن الإمام الصادق عليه السلام، روى سماعة مضمراً عن الإمام الصادق عليه السلام قال: سألته عن قول اللّه عزّ وجلّ: (وَ لا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَ لا تُخافِتْ بِها) ، قال: «المخافتة ما دون سمعك، والجهر أن ترفع صوتك شديداً».(1)

وقد روي أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قال: «إنّ ربّكم ليس بأصم ولا غائب هو بينكم وبين رؤوس رحالكم».(2) وعن ابن عباس: أنّ معناه: لا تجهر بدعائك ولا تخافت بها ولكن بين ذلك.(3)

والمروي عن ابن عباس وإن ورد في رفع الصوت في الدعاء، ولكن يمكن أن تكون ضابطة كلّية في أكثر المجالات التي يتوجّه فيها الإنسان إلى اللّه سبحانه.

هذا ويظهر من بعض الروايات أنّ الصلاة في الآية بمعنى العبادة المعروفة، فقد روى علي بن إبراهيم بسند صحيح عن سماعة، قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام:

أعلى الإمام أن يُسمع مَن خلفه وإن كثروا؟ قال: «ليقرأ قراءة وسطاً، يقول اللّه تبارك6.

ص: 248


1- . تفسير نور الثقلين: 233/3.
2- . سنن الترمذي: 172/5.
3- . مجمع البيان: 349/6.

وتعالى: (وَ لا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَ لا تُخافِتْ بِها) ».(1)

وممّا ذكرنا يعلم أنّ كيفية صلاتنا في الظهرين لا تخالف الآية، فإنّ تلك الكيفية ليست جهراً كما هو واضح لما مرّ من أنّه هو رفع الصوت شديداً وفي الوقت نفسه ليست مخافتة أيضاً؛ لأنّها عبارة عمّا لا يسمع القارئ نفسه، والرائج هو سماع نفسه وإن لم يسمع غيره. وهذا هو الذي يصفه سبحانه بقوله: (وَ اِبْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً) .

وقريب من ذلك ما رواه أصحابنا عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «الجهر بها رفع الصوت شديداً والمخافته ما لم تسمع أُذنيك، واقرأ قراءة وسطاً ما بين ذلك وابتغ بين ذلك سبيلاً».(2)

ثمّ إنّي رأيت بعض من لم يكن له إلمام باللغة العربية كان يجهر في الظهرين بزعم أنّ الكيفية الرائجة مخافتة منهية، مع أنّك قد عرفت أنّ الآية لو كانت ناظرة إلى العبادة المعروفة فالمراد من الجهر ليس هو مطلق رفع الصوت؛ بل رفعه بشدّة فيشكّل قرينة على أنّ المخافتة هي التسارّ الذي لا يسمع حتى نفسه، وعليه تكون قراءة الصلاة على نحو الإخفات الذي يسمع المصلّي كلامه أو يسمعه الواقف إلى جانبه من مصاديق الآية فليست جهراً ولا مخافتة.6.

ص: 249


1- . تفسير نور الثقلين: 233/3.
2- . مجمع البيان: 350/6.

أحكام الصلاة

8. التسليم على النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم في التشهّد

اشارة

قال سبحانه: (إِنَّ اَللّهَ وَ مَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى اَلنَّبِيِّ يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَ سَلِّمُوا تَسْلِيماً) .(1)

المفردات

الصلاة: هي طلب الرحمة، وإذا نسبت إلى اللّه سبحانه جُرّدت عن الطلب، والغاية هي الاعتناء بشرف النبيّ ورفع شأنه، ومن هنا قال بعضهم: تشريف اللّه محمداً صلى الله عليه و آله و سلم بقوله: (إِنَّ اَللّهَ وَ مَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى اَلنَّبِيِّ) أبلغ من تشريف آدم بالسجود له.(2)

تسليماً: التسليم: فيه احتمالان:

1. الانقياد، قال تعالى: (فَلا وَ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمّا قَضَيْتَ وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) .(3)

ص: 250


1- . الأحزاب: 56.
2- . كنز العرفان في فقه القرآن: 131/1.
3- . النساء: 65.

2. المراد من التسليم هو الوارد في التشهّد، أعني: السلام عليك أيّها النبيّ ورحمة اللّه وبركاته؛ وعليه الزمخشري والقاضي في تفسيريهما، وذكره الشيخ الطوسي في تبيانه، وهو الحقّ. لقضية العطف، حيث عطف قوله: (وَ سَلِّمُوا) على (صَلُّوا) (1)، حيث يدلّ على التغاير فالآية تدلّ على طلب الرحمة للنبيّ أوّلاً والسلام عليه في التشهّد ثانياً.

ويقع الكلام في مقامين:

1. التسليم والصلاة على النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم في التشهّد.

2. الصلوات عليه خارج التشهّد عند ذكر اسمه.

أمّا المقام الأوّل: فقد اتّحدت المذاهب الأربعة مضافاً إلى الإمامية بدخول السلام على النبيّ في التشهّد، فإنّ صيغ التشهّد عند المذاهب وإن كانت تختلف، لكن الجميع يشتمل على عبارة: «السلام عليك أيّها النبيّ ورحمة اللّه وبركاته».

نعم اختلفوا في وجوب التسليم، قال الشافعية والمالكية والحنابلة: التسليم واجب، وقال الحنفية: ليس بواجب.(2)

والظاهر من الشيخ في «الخلاف» أنّ القائل بالوجوب هو الشافعي في التشهّد الأخير، والباقي على الاستحباب.(3)

وأمّا الصلاة على النبي صلى الله عليه و آله و سلم في التشهّد فقد قال الشيخ في «الخلاف»:4.

ص: 251


1- . كنز العرفان: 132/1.
2- . الفقه على المذاهب الخمسة: 114، نقلاً عن بداية المجتهد: 126/1.
3- . الخلاف: 376/1، المسألة 134.

الصلاة على النبي فرض في التشهّدين، وركن من أركان الصلاة، وبه قال الشافعي في التشهّد الأخير، وبه قال: ابن مسعود، وأبو مسعود البدري الأنصاري واسمه عقبة بن عمر، وابن عمر، وجابر، وأحمد وإسحاق. وقال مالك والأوزاعي وأبو حنيفة وأصحابه: إنّه غير واجب.(1) والمسألة فقهية فهي بحاجة إلى دراسة أدلّة التشهّد.

فالتسليم على النبيّ جزء من التشهّد، وهو غير التسليم الذي يخرج به المصلّي عن الصلاة.

الآية دالّة على أنّ النبيّ حيّ

وهنا أمر نعطف نظر القارئ إليه وهو أنّ الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر في مكّة المكرّمة والمدينة المنوّرة يمنعون من الصلاة على أولياء اللّه، قائلين بأنّ الموت صار حاجزاً بيننا وبينهم.

فنقول: قد ورد في الذكر الحكيم أنّ اللّه سبحانه يصلّي على النبي صلى الله عليه و آله و سلم وملائكته يصلّون عليه، ويأمر المؤمنين بالصلوات عليه، فلو كان الموت حاجزاً فما معنى الأمر بالصلاة والتسليم على النبي صلى الله عليه و آله و سلم؟!

والظاهر أنّ هؤلاء يرون الموت فناءً للإنسان، بحيث لا يبقى منه شيء، ولكن القرآن يرى الموت انتقال الإنسان من دار إلى دار، وعند ذلك يصبح السلام أمراً معقولاً.

ص: 252


1- . الخلاف: 369/1، المسألة 128.
المقام الثاني: الصلاة على النبيّ عند ذكر اسمه

هذا كلّه حول المقام الأوّل، وأمّا المقام الثاني وهو وجوب الصلاة على النبي صلى الله عليه و آله و سلم في غير الصلاة أو استحبابها.

قال جمال الدين المقداد: ذهب الكرخي إلى وجوبها في العمر مرّة، وقال الطحاوي: كلّما ذُكر، واختاره الزمخشري، ونقل عن ابن بابويه من أصحابنا.(1)

والظاهر من أصحابنا هو الاستحباب.

وعلى كلّ تقدير فسواء أكان واجباً أو مستحبّاً، إنّما الكلام في كيفية الصلاة عليه، فقد علّم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم المسلمين، كيفية الصلاة عليه في حديث نقله الفريقان.

أمّا محدثّو أهل السنّة، فقد رووا الحديث كما يلي:

1. روى كعب بن عجرة قال: قلت: يا رسول اللّه قد علمنا (أو عرفنا) كيف السلام عليك فكيف الصلاة؟ قال: قولوا: «اللّهم صلّ على محمّد وعلى آل محمد كما صلّيت على آل إبراهيم إنّك حميد مجيد، اللّهمّ بارك على محمد وعلى آل محمّد كما باركت على آل إبراهيم». رواه جماعة(2) إلّاأنّ الترمذي قال فيه: على إبراهيم في الموضعين.(3)

2. روى البخاري في صحيحه بإسناده عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال:

لقيني كعب بن عجرة... فقال: سألنا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فقلنا: يا رسول اللّه كيف

ص: 253


1- . كنز العرفان: 133/1.
2- . مسند أحمد: 241/4؛ سنن النسائي: 48/3.
3- . سنن الترمذي: 301/1.

الصلاة عليكم أهل البيت فإنّ اللّه قد علّمنا كيف نسلّم؟ قال: قولوا: اللّهمّ صلّ على محمّد وعلى آل محمد كما صلّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حميد مجيد، اللّهمّ بارك على محمّد وعلى آل محمّد كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم إنّك حميد مجيد».(1)

ففي قولهم: «كيف الصلاة عليكم أهل البيت؟» دلالة على أنّ المرتكز هو الصلاة على النبي وأهل بيته فما في بعض الروايات من إدخال الأزواج في قوله: «اللّهمّ صلّ على محمّد وعلى أزواجه وذرّيته» فلا يعتدّ به.(2) مع ما ورد من الذم لبعضهنّ في سورة التحريم.

أمّا الشيعة فقد رواه الشيخ الطوسي في كتاب المجالس باسناده عن كعب بن عجرة قال: قلت: يا رسول اللّه، قد علّمتنا السلام عليك، فكيف الصلاة عليك؟ فقال: «قولوا: اللّهم صلّ على محمّد (وآل محمد) كما صلّيت على إبراهيم وآل إبراهيم إنّك حميد مجيد، وبارك على محمد (وآل محمد) كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم إنّك حميد مجيد».(3)

وبذلك يُعلم أنّ الصلوات على النبي بحذف الآل يخالف ما أمر به النبي صلى الله عليه و آله و سلم، وأعجب منه أنّهم حذفوا الآل، وعندما أتوا بالآل أضافوا إليه (وصحبه) مع أنّه لم يرد في أي آية أو حديث أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم صلّى على الصحابة بما هم صحابة!!

فإن قلت: إنّه سبحانه أمر النبي صلى الله عليه و آله و سلم أن يصلّي على مَن يأخذ منهم الزكاة،2.

ص: 254


1- . صحيح البخاري: 118/4-119، كتاب بدء الخلق، باب يزفّون النسلان في المشي.
2- . صحيح مسلم: 17/2، باب الصلاة على النبي بعد التشهّد.
3- . الوسائل: 4، الباب 35 من أبواب الذكر، الحديث 2.

وقال: (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَ تُزَكِّيهِمْ بِها وَ صَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَ اَللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) .(1)

قلت: إنّ الآية ناظرة إلى الصلاة على مَن يؤدّي زكاة ماله من غير فرق بين الصحابي وغيره، وليس كلّ صحابي أدّى زكاته إلى النبي صلى الله عليه و آله و سلم، ولذلك أفتى الفقهاء باستحباب الصلاة على المؤدّي للزكاة حين أدائها، وأيّ صلة للآية بالصلاة على الصحابي في كلّ وقت؟!

الصلاة على النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم إذا لم يذكر الآل فيها:

إنّ حذف الآل - مضافاً إلى أنّه على خلاف ما رواه في تعليم النبي صلى الله عليه و آله و سلم - يخالف ما روي عنه صلى الله عليه و آله و سلم أنّه قال: «لا تصلّوا عليّ الصلاة البتراء»، فقالوا: وما الصلاة البتراء؟ قال: «تقولوا: اللّهمّ صلّ على محمد وتمسكون، بل قولوا: اللّهمّ صلّ على محمد وعلى آل محمد».

ثم نقل عن الإمام الشافعي قوله:

يا أهل بيت رسول اللّه حبكم *** فرض من اللّه في القرآن أنزله

كفاكم من عظيم القدر أنّكم *** من لم يصل عليكم لا صلاة له

فقال: فيحتمل لا صلاة له صحيحة، فيكون موافقاً لقوله بوجوب الصلاة على الآل، ويحتمل لا صلاة كاملة، فيوافق أظهر قوليه.(2)

وهنا كلام لبعض المحقّقين من أهل السنّة حول الصلاة على النبي صلى الله عليه و آله و سلم

ص: 255


1- . التوبة: 103.
2- . الصواعق المحرقة: 146، طبعة عام 1385 ه.

نأتي بنصّه، قال:

1. ومن المعلوم أنّ الصلاة المأمور بها التي وردت هي المقرونة بالآل، فقد علّم النبي صلى الله عليه و آله و سلم أُمّته الصلاة المأمور بها في كتاب اللّه مقرونة بالآل فقال: «قولوا اللّهمّ صلّ على محمد عبدك ورسولك النبي الأُمّيّ وعلى آل محمد، كما صلّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حميد مجيد».

فمَن صلّى على النبي صلى الله عليه و آله و سلم من غير أن يذكرهم في صلاته لم يأت كامل الصلاة المأمور بها. فلو جرينا على أصل «أنّ ما خالف سنّة الرسول يكون بدعة سيّئة» لكان كلّ هذه الصلوات بدعة ضلالة، أي حرام فضلاً عن أن يكون لها أجر.

أمّا على الأصل الذي قال به مخالفوهم من أنّ مخالفة السنّة ليس بدعة ضلالة، فيحصل بها ثواب أصل الصلاة وإن لم يحصل بها الثواب الكامل الذي يحصل بموافقة السنّة.

2. يلحق كثير من الناس في كلّ صلاة يصلّونها على النبي صلى الله عليه و آله و سلم الصلاة على الصحابة رضوان اللّه عليهم، ولم تجئ رواية صحيحة بالصلاة على الصحابة.

فعلى أصل هؤلاء من أنّ مخالفة فِعْل الرسول صلى الله عليه و آله و سلم ليس بدعة ضلالة»(1)يكون هذا الإلحاق مخالفاً للسنّة؛ لأنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم ترك الصلاة على الصحابة في حديث التعليم، ممّا يدلّ على أنّها مخصوصة للآل.

وأمّا على ما قرّرناه يكون قولها زيادة على المشروع لا يراد بها إلّاالدعاء لهم فيحصل به الدعاء لهم.(2)9.

ص: 256


1- . سياق العبارة يدلّ على هذه الزيادة ولعلّها سقطت عند الطبع، وإلّا فلا تستقيم العبارة.
2- . إتقان الصنعة في تحقيق معنى البدعة لعبد اللّه الصدّيق الغماري: 258-259.
ما ذا يراد من الآل؟

وأمّا ما هو المراد من الآل؟ فقد قام النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم في غير موقف من المواقف بتبيينه.

روى مسلم في صحيحه عن عامر بن سعد بن أبي وقّاص، عن أبيه، قال:

أمر معاوية بن أبي سفيان سعداً فقال: ما منعك أن تسبّ أبا التراب؟ فقال: أمّا ما ذكرت ثلاثاً قالهنّ له رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، فلن أسبّه، لأن تكون لي واحدة منهنّ أحبّ إليّ من حمر النعم... ولمّا نزلت هذه الآية: (فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَ أَبْناءَكُمْ وَ نِساءَنا وَ نِساءَكُمْ وَ أَنْفُسَنا وَ أَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اَللّهِ عَلَى اَلْكاذِبِينَ) .(1) دعا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عليّاً وفاطمة وحسناً وحسيناً فقال: «اللّهمّ هؤلاء أهلي».(2)

حتى أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم أخرج بعض أزواجه عن كونهم من أهل البيت.

روى عمر بن أبي سلمة ربيب النبي صلى الله عليه و آله و سلم قال: لمّا نزلت هذه الآية على النبي صلى الله عليه و آله و سلم: (إِنَّما يُرِيدُ اَللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ اَلرِّجْسَ أَهْلَ اَلْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) (3) في بيت أُمّ سلمة، فدعا فاطمة وحسناً وحسيناً فجلّلهم بكساء، وعليّ خلف ظهره فجلّله بكساء، ثم قال: «اللّهمّ هؤلاء أهل بيتي فاذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً». قالت أُمّ سلمة: وأنا معهم يا نبيّ اللّه؟ قال: «أنت على مكانك، وأنت على خير».(4)

ص: 257


1- . آل عمران: 61.
2- . صحيح مسلم: 1871/4 برقم 32، طبع دار الحديث، مصر، القاهرة - 1412 ه.
3- . الأحزاب: 33.
4- . سنن الترمذي: 192/5، طبع دار الحديث مصر، القاهرة - 1419 ه.

أحكام الصلاة

9. الاستماع والإنصات عند قراءة القرآن

اشارة

قال تعالى: (وَ إِذا قُرِئَ اَلْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَ أَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) .(1)

المفردات

استمعوا له: اصغوا لغاية الفهم.

أنصتوا: اسكتوا. وفي «كنز العرفان»: لم أجد أحداً من المفسّرين فرّق بين الاستماع والإنصات، فيكون معنى الآية: إذا قرئ القرآن فاستمعوا له، غير أنّ ظاهر العطف هو المغايرة بين المعنيين. والذي يظهر لي أن استمع بمعنى سمع، والإنصات توطين النفس على الاستماع مع السكوت.(2)

ولكن الظاهر من الحديث النبوي أنّ الإنصات هو السكوت، ففي الحديث:

جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه و آله و سلم فقال: يا رسول اللّه ما حقّ العلم؟ قال: «الإنصات له» قال:

ص: 258


1- . الأعراف: 204.
2- . كنز العرفان: 195/1.

ثم مه؟ قال: «الاستماع له»، قال: ثمّ مه؟ قال: «الحفظ له» قال: ثم مه؟ قال: «العمل به»، قال: ثم مه؟ قال: «نشره».(1)

وعلى هذا فمعنى الآية إذا قرئ القرآن فاستمعوا واسكتوا لأجل الاستماع، ويشهد على ما ذكرنا من أنّ الإنصات بمعنى السكوت ما يأتي من الروايات.

وعلى كلّ تقدير فظاهر المجموع هو السكوت لغاية الاستماع.

التفسير

تدلّ الآية على أنّه إذا قرئ القرآن فعليكم باستماعه والسكوت مادام القرآن يتلى. ويترتب على ذلك قوله: (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) .

والظاهر أنّ الخطاب للمؤمنين دون الكافرين؛ لأنّ عمل الكافرين على ضد هذه الآية كما حكى عنهم سبحانه بقوله: (وَ قالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا اَلْقُرْآنِ وَ اِلْغَوْا فِيهِ) (2) ومع ذلك لم يحكم بالترّحم بصورة قاطعة بل قال:

(لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) لأنّ بين العمل وقبوله، موانع وعراقيل ربما تمنع عن قبوله، ولذلك لم يقل: «وأنتم ترحمون» على سبيل القطع والجزم.

ثمّ إنّ الأمر بالاستماع والإنصات حين قراءة القرآن لغاية تكريمه، فالمتكلّم هو اللّه سبحانه عن لسان الوحي، ومقتضى ذلك حفظ الأدب في ذلك المقام، مضافاً إلى ما فيه من الهداية والرحمة للمؤمنين.

ص: 259


1- . بحار الأنوار: 28/2، برقم 8، عن الخصال.
2- . فصلت: 26.
اختصاص السكوت بحال الصلاة عند قراءة الإمام

ثمّ إنّ هنا طائفتين من الروايات:

الأُولى: ما يستظهر منها اختصاص مورد الآية هو الصلاة خاصّة خلف الإمام الذي يُؤتَّم به إذا سمعت قراءته، وفي المجمع: روي ذلك عن أبي جعفر عليه السلام قالوا: وكان المسلمون يتكلّمون في صلاتهم، ويسلّم بعضهم على بعض، وإذا دخل داخل فقال لهم: كم صلّيتم؟ أجابوه، فنهوا عن ذلك، وأُمروا بالاستماع.

1. روى السيوطي عن ابن عباس قال: صلّى النبيّ فقرأ خلفه قوم، فنزلت: (وَ إِذا قُرِئَ اَلْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَ أَنْصِتُوا) .(1)

2. أُريد به الخطبة حيث أُمروا بالإنصات والاستماع إلى خطبة الإمام يوم الجمعة.

3. إنّه في الخطبة والصلاة جميعاً.(2)

يقول الشيخ الطوسي: أقوى الأقوال الأوّل؛ لأنّه لا حال يجب فيها الإنصات لقراءة القرآن إلّاحال قراءة الإمام في الصلاة، فإنّ على المأموم الإنصات والإستماع.(3)

وظاهر بعض الروايات يؤيّد هذا القول ففي صحيحة معاوية بن وهب عن أبي عبداللّه عليه السلام: سألته عن الرجل يؤم القوم وأنت لا ترضى به في صلاة يجهر فيها

ص: 260


1- . تفسير الدر المنثور: 155/3.
2- . مجمع البيان: 455/4.
3- . التبيان في تفسير القرآن: 68/5.

بالقراءة؟ فقال: «إذا سمعت كتاب اللّه يتلى فأنصت له».(1)

وفي رواية عمرو بن الربيع النصري عن جعفر بن محمد عليهما السلام أنّه سئل عن القراءة خلف الإمام؟ فقال: «إذا كنت خلف إمام تتولّاه وتثق به يجزيك قراءته؛ وإن أحببت أن تقرأ فاقرأ فيما يخافت فيه، فإذا جهر فأنصت، قال اللّه تعالى:

(وَ أَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) ».(2)

الطائفة الثانية: ما يدلّ على وجوب السكوت مطلقاً، ويدلّ عليه أمران:

1. ما روي أنّ عليّاً كان في صلاة الصبح فقرأ ابن الكوّاء وهو خلفه: (وَ لَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَ إِلَى اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَ لَتَكُونَنَّ مِنَ اَلْخاسِرِينَ) (3) فأنصت علي عليه السلام تعظيماً للقرآن حتى فرغ من الآية، ثم عاد في قراءته، ثم أعاد ابن الكوّاء الآية فأنصت علي عليه السلام أيضاً ثم قرأ فأعاد ابن الكوّاء فأنصت علي عليه السلام ثم قال: (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اَللّهِ حَقٌّ وَ لا يَسْتَخِفَّنَّكَ اَلَّذِينَ لا يُوقِنُونَ) (4) ثم أتمّ السورة ثم ركع.(5)

ولكن في دلالته أيضاً على الوجوب تأمّل، لأنّ الفعل أعمّ من الوجوب لاحتمال كونه مستحباً.

2. روى زرارة قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السلام يقول: «يجب الإنصات للقرآن في الصلاة وفي غيرها، وإذا قرئ عندك القرآن وجب عليك الإنصات7.

ص: 261


1- . التهذيب: 35/3 برقم 127.
2- . التهذيب: 33/3 برقم 120.
3- . الزمر: 65.
4- . الروم: 60.
5- . التهذيب: 35/3-36 برقم 127.

والاستماع».(1)

أقول: لا منافاة بين الطائفتين، فيجب الإنصات عند قراءة الإمام، كما يجب عند سماع قراءة القرآن، فهنا حكمان مثبتان لموضوعين مختلفين.

نعم هذا لولا السيرة العملية على عدم الوجوب في غير حال الصلاة، مضافاً إلى شأن النزول. ومع ذلك الأحوط هو الإنصات مطلقاً.2.

ص: 262


1- . تفسير العياشي: 44/2 برقم 132.

أحكام الصلاة

10. سجود التلاوة

الآية الأُولى

قال سبحانه: (إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا اَلَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً وَ سَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَ هُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) .(1)

الآية الثانية

قال سبحانه: (وَ مِنْ آياتِهِ اَللَّيْلُ وَ اَلنَّهارُ وَ اَلشَّمْسُ وَ اَلْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَ لا لِلْقَمَرِ وَ اُسْجُدُوا لِلّهِ اَلَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيّاهُ تَعْبُدُونَ) .(2)

الآية الثالثة

قال سبحانه: (وَ تَضْحَكُونَ وَ لا تَبْكُونَ * وَ أَنْتُمْ سامِدُونَ

ص: 263


1- . السجدة: 15.
2- . فصّلت: 37.

فَاسْجُدُوا لِلّهِ وَ اُعْبُدُوا) .(1)

الآية الرابعة

قال سبحانه: (فَلْيَدْعُ نادِيَهُ * سَنَدْعُ اَلزَّبانِيَةَ * كَلاّ لا تُطِعْهُ وَ اُسْجُدْ وَ اِقْتَرِبْ) .(2)

حكم سجود التلاوة

تضافرت الروايات عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام على وجوب سجود العزيمة في السور الأربع خاصّة.

ص: 264


1- . النجم: 60-62.
2- . العلق: 17-19.

3. روى الطبرسي عن عبد اللّه بن سنان، عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «العزائم:

الم تنزيل، وحم السجدة، والنجم، واقرأ باسم ربّك، وماعداها في جميع القرآن مسنون وليس بمفروض».(1)

وأمّا الأمر بالسجود في السور التالية: الأعراف، الرعد، النحل، الإسراء، مريم، والحج في موضعين، والفرقان، والنحل، وص، والإنشقاق، فالسجود فيها مندوب حسب الروايات السابقة.

وأمّا في فقه أهل السنّة، فقد جاء في الموسوعة الفقهية الكويتية:

اتّفق الفقهاء على مشروعية سجود التلاوة، أواجب هو أو مندوب؟ فذهب الشافعية والحنابلة إلى أنّ سجود التلاوة سُنّة مؤكّدة، وليس بواجب، قائلاً بأنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم تركه وقد قُرئت عليه سورة «والنجم» وفيها سجدة. واختلف فقهاء المالكية في حكم سجود التلاوة: هل هو سنّة غير مؤكّدة أو فضيلة، وذهب الحنفية إلى أنّ سجود التلاوة وبدله كالإيماء واجب لحديث «السجدة على مَن سمعها» و «على» للوجوب، ولحديث أبي هريرة، عنه صلى الله عليه و آله و سلم: «إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي، يقول: يا ويله؛ وفي رواية أبي كريب:

يا ويلي أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة، وأُمرت بالسجود فأبيت فلي النار».(2)ة.

ص: 265


1- . الوسائل: 4، الباب 42 من أبواب قراءة القرآن، الحديث 9.
2- . صحيح مسلم: 61/1، باب بيان إطلاق اسم الكفر على مَن ترك الصلاة.
عدم جواز قراءة إحدى سور العزائم في الفريضة

اتّفقت كلمة فقهاء الإمامية على حرمة قراءة سورة من العزائم في الفريضة، روى الشيخ الطوسي بإسناده عن زرارة، عن أحدهما قال: «لا تقرأ في المكتوبة بشيء من العزائم، فإنّ السجود زيادة في المكتوبة».(1)

ص: 266


1- . الوسائل: 4، الباب 40، من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 1.

الفصل الثالث: أحكام الصيام في الذكر الحكيم

اشارة

1. الصيام فريضة مكتوبة في عامّة الشرائع.

2. الإفطار عزيمة على المريض والمسافر.

3. نزول القرآن في شهر رمضان وحكم المريض والمسافر.

4. تحليل الرفث إلى النساء في ليالي شهر رمضان.

5. حدّ الصوم زماناً.

6. حرمة مباشرة النساء في الاعتكاف.

ص: 267

ص: 268

أحكام الصيام

1. الصيام فريضة مكتوبة في عامّة الشرائع

اشارة

إنّ الصيام فريضة شرعت في الشرائع السابقة أيضاً ولها آثار بنّاءة على الصعيد الفردي والاجتماعي، وسيوافيك في ثنايا البحث ما يترتّب على هذه الفريضة من المصالح الفردية والاجتماعية. وقد نزل حول الصيام عدد من الآيات الكريمة ندرسها على التوالي:

الآية الأُولى
اشارة

قال تعالى: (يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ اَلصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) .(1)

المفردات

الصيام: وهو في اللغة مطلق الإمساك. نقل ابن منظور عن أبي عبيدة قوله:

ص: 269


1- . البقرة: 183.

كلّ ممسك عن طعام أو كلام أو سير فهو صائم.(1)

وقال الفيروزآبادي: صام، يصوم: أمسك عن الطعام والشرب والكلام والنكاح، ويؤيّد ذلك قوله سبحانه مخاطباً مريم العذراء: (فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ اَلْيَوْمَ إِنْسِيًّا) (2)، فقولها: (فَلَنْ أُكَلِّمَ اَلْيَوْمَ) ، تفسير لما نذرته من الصوم، أعني: الإمساك عن الكلام في المقام، لا الطعام والشراب، ولكن الصوم في عرف الشرع هو: الكفّ عن المفطرات من طلوع الفجر إلى الليل مع قصد القربة.

على الذين من قبلكم: أُريد به الشرائع النازلة على الأنبياء السابقين خصوصاً على النّبيّين موسى وعيسى عليهما السلام.

تتّقون: من الوقاية، وكأنّ الصوم وقاية يتّخذها الصائم عن العقوبة.

التفسير
تشريع الصوم في أيام معدودة

خاطب سبحانه المؤمنين بقوله: (يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا) وأمّا ما هي الغاية من الخطاب فهي كما يقول: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ اَلصِّيامُ) : أي فرض عليكم الإمساك عمّا تنازع إليه النفس، من طعام وشراب ونكاح، وغير ذلك، وقوله: (كُتِبَ) جملة خبرية أُريد بها الإنشاء، كقول القائل: ولدي يصلّي. ثم أخبر سبحانه عن تشريع الصوم على أهل الملل السابقة أيضاً، وقال: (كَما) : أي مثل ما (كُتِبَ عَلَى اَلَّذِينَ

ص: 270


1- . لسان العرب: 351/12.
2- . مريم: 26.

مِنْ قَبْلِكُمْ) من اليهود والنصارى. ووجه الشبه هو أصل الكتابة لا الخصوصيات.

وأمّا الغاية فيشير إليها بقوله: (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) عن المعاصي، إذ مَن قدر على ترك الشهوات المحلّلة من الطعام والشراب والنساء وغير ذلك، فيكون أكثر استعداداً على ترك المحرّمات، خصوصاً أنّ الصائم يترك المحلّلات طلباً لرضاه سبحانه وتقرّباً إليه، وهو في هذه الحالة قلّما يفكّر بالحرام. وقد دلّت الإحصاءات التي تصدرها مراكز الشرطة عن انخفاض عدد الجرائم في أيام شهر رمضان المبارك، بل ربّما تصل في ليالي القدر إلى حدّ الصفر، فكأنّ الصائم بصومه يرفع مقامه عن حدّ البهيمة إلى حدّ الملائكة، فيكون معصوماً نسبياً، ولذلك عُرّف الصوم بأنّه جُنّة من النار.(1)

وقال الإمام الصادق عليه السلام عن آبائه عليهم السلام أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم علّم أصحابه كيفية مواجهة الشيطان؟ قال: «الصوم يُسوّد وجهه، والصدقة تكسر ظهره، والحبّ في اللّه والمؤازرة على العمل الصالح يقطع دابره، والاستغفار يقطع وتينه».(2)

بقي هنا أمران:

1. ما هو الوجه لذكر أنّ الصوم كان مفروضاً على مَن سبق من الأُمم من أهل الكتاب أيضاً؟

2. بيان ما يدلّ على وجود الصوم في التوراة والإنجيل؟

أمّا الأوّل: فلعلّه: لمّا كان الصوم خصوصاً في الجزيرة العربية في فصل

ص: 271


1- . لاحظ: بحار الأنوار: 256/96.
2- . الكافي: 62/4.

الصيف أمراً شاقّاً، جاء البيان القرآني يذكر بما يُسهّل الأمر على المسلمين من أنّ فرض الصوم ليس أمراً بدعياً، بل اللّه سبحانه كتبه على مَن سبق من أهل الملل، ولعلّه إلى ما ذكر يشير السيد الطباطبائي بقوله: هداية ذهن المخاطب إلى تشريع صوم رمضان بإرفاق وملائمة بذكر ما يرتفع معه الاستيحاش والاضطراب ويحصل به تطيّب النفس، بأنّه أمر سبق فرضه على غيركم.(1)

ويؤيّد ما ذكره أنّه سبحانه يفرض وجوب الصوم بأُمور مخفّفة، فتارة يقول:

(أَيّاماً مَعْدُوداتٍ) ثم يذكر بأنّ المريض والمسافر لا يصومان وإنّما يقضيان، وأنّ المطيق يكتفي بالفدية، كلّ ذلك لأجل أن يقع الصيام موقع القبول ولا يتلقّاه المكلّف بأنّه أمر حرجي.

وأمّا الثاني: فالظاهر وجود الصيام حتى بين الوثنيّين، يقول صاحب المنار:

إنّ الصوم مشروع في جميع الملل حتى الوثنية فهو معروف عند قدماء المصريّين في أيام وثنيّتهم... إلى أن قال: ولا يزال وثنيّو الهند وغيرهم يصومون إلى الآن.(2)

إنّما الكلام في صوم اليهود والنصارى، أمّا اليهود فقد جاء في التوراة أنّ موسى عليه السلام صام أربعين يوماً، وإليك النصّ: أقمت في الجبل أربعين نهاراً وأربعين ليلة لا آكل خبزاً ولا أشرب ماء.(3)

وقال مؤلّف قاموس الكتاب المقدّس: اليهود كانوا يصومون غالباً حينما تتاح لهم الفرصة للإعراب عن عجزهم وتواضعهم أمام اللّه، ليعترفوا بذنوبهم عن9.

ص: 272


1- . الميزان في تفسير القرآن: 6/2.
2- . تفسير المنار: 143/2.
3- . التوراة، سفر التثنية، الفصل 9، الفقرة 9.

طريق الصوم والتوبة، وليحصلوا على رضاء حضرة القدس الإلهي.(1)

وأمّا النصارى فالمسيح عليه السلام صام أربعين يوماً، فقد جاء في إنجيل متى: ثمّ اصعد يسوع إلى البرية من الروح ليهرب من إبليس، فبعد ما صام أربعين نهاراً وأربعين ليلة جاء أخيراً.(2)

وأشهر صومهم وأقدمه الصوم الكبير، قبل عيد الفصح، وهو الذي صامه موسى وكان يصومه عيسى والحواريون.(3)

ويظهر من بعض الآيات في قصّة زكريا ومريم أنّهما كانا يصومان عن الكلام مع الصيام عن الطعام والشراب والنساء.(4)6.

ص: 273


1- . قاموس الكتاب المقدس: 228.
2- . إنجيل متى، الاصحاح 4، الفقرة 1 و 2.
3- . تفسير المنار: 144/2.
4- . لاحظ: سورة مريم: 10 و 26.

أحكام الصيام

2. الإفطار عزيمة على المريض والمسافر

الآية الثانية
اشارة

قال تعالى: (أَيّاماً مَعْدُوداتٍ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ وَ عَلَى اَلَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَ أَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) .(1)

المفردات

أيّاماً: منصوب بفعل مقدّر: أن تصوموا أياماً، فيكون بدلاً عمّا تقدّم من لفظ الصيام.

على سفر: لم يقل مسافراً، ولعلّه لبيان أنّ الموضوع كون الإنسان في حال

ص: 274


1- . البقرة: 184.

السفر، فخرج ما إذا كان في بلده، وهو يُريد السفر.

معدودات: محصورات، مضبوطات، وهو إشارة إلى كون الأيام قلائل، قال سبحانه في قصة يوسف: (وَ شَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ وَ كانُوا فِيهِ مِنَ اَلزّاهِدِينَ) (1).

يطيقونه: المطيق: من لا يستطيع الصوم إلّابمشقة كبيرة، وهو من الإطاقة، يقال: أطاق الشيء إذا كانت قدرته عليه في نهاية الضعف، بحيث يتحمّله مع مشقّة كثيرة.

تطوّع: مَن أطعم أكثر من مسكين واحد أو أطعم المسكين الواحد أكثر من قدر الكفاية.

التفسير

هذه الآية وما بعدها من الآيتين كسبيكة ذهب متّسقة السياق، واضحة المعنى والمرمى، نزل بها أمين الوحي على قلب سيد المرسلين في السنة الثانية من الهجرة تعليماً للعباد وأنّهم بين من يصوم الشهر إذا شهده ومن لا يصوم كالمريض والمسافر ويقضي في أيام أُخر، أو لا يصوم ويعطي الفدية كالمطيق.

دلّت الآية السابقة على أنّ الصيام فُرض على المؤمنين، وأمّا ما هو حدّه من حيث القلّة والكثرة؟ وعلى مَن يجب وعلى مَن لا يجب؟ فجاء البيان القرآني يشرح لنا هذه الأُمور، فقال: (أَيّاماً) نصب بفعل مقدّر، أي صوموا أياماً (مَعْدُوداتٍ) : أي أيّاماً قلائل، حتى لا يستثقلها بعض المؤمنين، وأمّا تعيين هذه

ص: 275


1- . يوسف: 20.

الأيام من حيث الشهور، فسيأتي في الآية التالية، أعني قوله تعالى: (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ اَلشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) .

ثمّ إنّه سبحانه يستثني من قوله: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ اَلصِّيامُ) (في شهر رمضان) طوائف ثلاثة، يقول:

1. (وَ مَنْ كانَ مَرِيضاً) .

2. (أَوْ عَلى سَفَرٍ) .

3. (وَ عَلَى اَلَّذِينَ يُطِيقُونَهُ) : إذا كان مطيقاً، يصوم بجهد كبير.

ومعنى ذلك: أنّه يجب الصوم على كلّ مكلّف إلّاهذه الطوائف الثلاث، وبذلك ارتفع الإبهام الثاني، أعني: على مَن يجب وعلى مَن لا يجب؟

أمّا الطائفتان الأوليان فقد كتب عليهم صيام عدّة من أيّام أُخر، فهم يفطرون ويقضون الصيام في تلك الأيام، كما يقول: (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ) كتب عليه صيام (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ) ، وظاهر الآية يدلّ على أنّ واجب هاتين الطائفتين هو الإفطار والقضاء بعد شهر رمضان، وأمّا ما هو حدّ المرض؟ فمناسبة الحكم والموضوع تشهد على أنّ المراد: المرض الذي يضرُّ به الصوم، دونما إذا لم يكن مضرّاً؛ وذلك لأنّ الآية في مقام الإرفاق وهي تختص بما ذكرنا. روى الصدوق عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «الصائم إذا خاف على عينيه من الرمد أفطر».(1)

وروى الصدوق مرسلاً، جازماً بصحّته: «كلّ ما أضرّ به الصوم فالإفطار له1.

ص: 276


1- . الوسائل: 7، الباب 19 من أبواب من يصحّ منه الصوم، الحديث 1.

واجب».(1)

وأمّا الطائفة الثالثة وهو المطيق فيقول سبحانه: (وَ عَلَى اَلَّذِينَ يُطِيقُونَهُ) :

أي مَن يصومون ولكن ببذل جهد كبير، وطاقة شديدة (فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ) ، يقول الراغب: المفاداة: ما يقي به الإنسان نفسه من مال يبذله في عبادة قصّر فيها.(2) فبما أنّ المطيق سقط عنه الفرض فهو بالمفاداة يجبر بها ما فاته من آثار الصيام.

فقوله: (طَعامُ مِسْكِينٍ) بدل من قوله: (فِدْيَةٌ) ، وأمّا مقدار الفدية، فالمشهور، أنّه مدّ؛ وقد روى الكليني بإسناده عن محمد بن مسلم قال: سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: «الشيخ الكبير والذي به العطاش لا حرج عليهما أن يفطرا في شهر رمضان، ويتصدّق كلّ واحد منهما في كلّ يوم بمدّ من طعام، ولا قضاء عليهما، فإن لم يقدرا فلا شيء عليهما».(3)

وقد ورد في بعض الروايات أنّه يتصدّق في كلّ يوم بمدّين من طعام، وحمل على الاستحباب.

ثمّ إنّ ما ذكر من المقدار هو أقلّ الواجب (فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ) بأن يزيد على المدّ أو المدّين شيئاً أو يزد على أكثر من مسكين واحد.

ثمّ إنّه سبحانه أتمّ الآية بقوله: (وَ أَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) وسيأتي الكلام في مرجع هذه الفقرة من الآية.1.

ص: 277


1- . الوسائل: 7، الباب 20 من أبواب من يصحّ منه الصوم، الحديث 2. ولاحظ بقية روايات الباب.
2- . المفردات للراغب: 374، مادة «فدى».
3- . الوسائل: 7، الباب 15 من أبواب من يصحّ منه الصوم، الحديث 1.

ثمّ إنّه يقع الكلام في موضعين:

الأوّل: هل الإفطار في السفر عزيمة أو رخصة؟

الثاني: هل إفطار المطيق عزيمة أو رخصة؟ وإليك دراسة الموضعين.

الموضع الأوّل: هل الإفطار في السفر عزيمة أو رخصة؟
اشارة

اتّفقت كلمة الفقهاء على مشروعية الإفطار في السفر، تبعاً للذكر الحكيم والسنّة المتواترة، إلّاأنّهم اختلفوا في كونه عزيمة أو رخصة، نظير الخلاف في كون القصر فيه واجباً أو جائزاً.

ذهبت الإمامية تبعاً لأئمّة أهل البيت عليهم السلام والظاهرية إلى كون الإفطار عزيمة لا رخصة، واختاره جمع من الصحابة والتابعين. وسيوافيك توضيح ما عليه الظاهرية في كلام الشيخ الطوسي.

وذهب جمهور أهل السنّة وفيهم فقهاء المذاهب الأربعة إلى كون الإفطار رخصة، وإن اختلفوا في أفضلية الإفطار أو الصوم.

قال الشيخ في «الخلاف»: كلّ سفر يجب فيه التقصير في الصلاة يجب فيه الإفطار، وقد بيّنا كيفية الخلاف فيه، فإذا حصل مسافراً لا يجوز له فيه أن يصوم، فإن صامه كان عليه القضاء. وبه قال أبو هريرة وستة من الصحابة.

وقال داود: هو بالخيار بين أن يصوم ويقضي وبين أن يفطر ويقضي، فوافقنا في وجوب القضاء، وخالف في جواز الصوم.

وقال أبو حنيفة والشافعي ومالك وعامّة الفقهاء: هو بالخيار بين أن يصوم ولا يقضي وبين أن يفطر ويقضي، وبه قال ابن عباس.

ص: 278

وقال ابن عمر: يكره أن يصوم، فإن صامه فلا قضاء عليه.(1)

وها نحن ندرس حكم المسألة على ضوء القرآن الكريم فنقول:

قد بيّن سبحانه حكم المريض والمسافر في موردين:

1. (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ) .(2)

2. (وَ مَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ) .(3)

والإمعان في الآيتين يثبت أنّ الإفطار عزيمة وذلك بوجوه أربعة:

الأوّل: ترتّب الوجوب على العنوانين

إنّ قوله: (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ) بمعنى أنّه يترتّب على المريض والمسافر وجوب صيام أيّام أُخر، وهذا هو الظاهر من غير واحد من المفسّرين حيث يفسّرونه بقولهم: عليه صوم أيّام أُخر.

هذا هو الطبري يقول: فعليه صوم عدّة الأيام التي أفطرها في مرضه أو في سفره من أيام أُخر.(4)

وهذا هو ابن كثير يقول: أي المريض والمسافر لا يصومان في حال المرض والسفر، لما في ذلك من المشقّة عليهما، بل يفطران ويقضيان بعدّة ذلك من أيام أُخر.(5)

ص: 279


1- . الخلاف: 201/2، المسألة 53، كتاب الصوم.
2- . البقرة: 184.
3- . البقرة: 185.
4- . تفسير الطبري: 77/2.
5- . تفسير ابن كثير: 376/1.

إنّ هذا الوجوب - أي الصوم في أيّام أُخر - وجوب تعييني لا تخييري؛ لأنّه الأصل في الوجوب دون الآخر لاحتياجه إلى البيان الزائد، فإذا وجب الصيام تعييناً في تلك الأيام يحرم الصوم عليهما في شهر رمضان، إذ لا صوم في الشريعة الإسلامية في كلّ السنة إلّاصوماً واحداً، ويصير الصيام فيه بدعة.

وإن شئت قلت: إنّ الفاء في قوله: (فَعِدَّةٌ) هي فاء الترتيب التي تدلّ على ترتّب وجوب صيام الأيام الأُخر، على كون المكلّف مريضاً أو على سفر، بحيث يكون كلّ من المرض والسفر موضوعاً مستقلّاً لوجوب الصيام في أيام أُخر، وجوباً تعيينيّاً لا يعدل به إلى غيره، ولازم ذلك حرمة الصيام في شهر رمضان؛ لعدم وجوب صومين في سنة واحدة.

الثاني: التقابل بين الجملتين

إنّ في الآية تقابلاً بين الجملتين، الأُولى تدلّ على الأمر بالصوم، والجملة الثانية تدلّ على النهي عنه، فالأمر ظاهر في الوجوب والنهي في الحرمة.

فإذا قال: كما في الآية الثالثة التي سيأتي تفسيرها، أعني قوله سبحانه:

(فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ اَلشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) و (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ) فيكون مفاد قوله: (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ) بمنزلة قوله: فمَن لم يشهد الشهر مصحّاً إمّا لكونه مريضاً أو مسافراً فلا يصمه، بل يصوم عدّة من أيام أُخر. فكأنّه يقول: تصوم الطائفة الأُولى ولا تصوم الطائفتان الثانية والثالثة، والنهي ظاهر في الحرمة التعيينية؛ وقد أُشير إلى هذا الاستدلال في رواية عبيد بن زرارة عن الإمام الصادق عليه السلام قال: قلت له: (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ اَلشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) ؟ قال

ص: 280

الإمام عليه السلام: «ما أبينها، مَن شهد الشهر فليصمه، ومَن سافر فلا يصمه».(1)

الثالث: ذكر المريض والمسافر في سياق واحد

إنّ الآية ذكرت المريض والمسافر في سياق واحد، وحكمت عليهما بحكم واحد، قال تعالى: (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ) ، فهل الرخصة في حقّ المسافر فقط؟ أو تعمّ المسافر والمريض؟

فالأوّل يستلزم التفكيك، فإنّ ظاهر الآية أنّ الصنفين في الحكم على غرار واحد لا يختلفان، فالحكم بجواز الإفطار في المسافر دون المريض لا يناسب ظاهر الآية.

وأمّا الثاني فهل يصحّ لفقيه أن يفتي بالترخيص في المريض إذا كان الصوم ضارّاً أو شاقّاً عليه؟ فإنّ الإضرار بالنفس حرام في الشريعة المقدّسة، كما أنّ الإحراج في امتثال الفرائض ليس مكتوباً ولا مجعولاً في الشرع، قال سبحانه:

(وَ ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي اَلدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) .(2)

الرابع: الواجب من أوّل الأمر هو صيام أيام أُخر

إنّ ظاهر قوله سبحانه: (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ) هو أنّ المكتوب على الصنفين من أوّل الأمر هو الصيام في أيّام أُخر، فإذا كان الصيام واجباً على عامّة المكلّفين وكان المكتوب عليهم من أوّل الأمر هو الصيام في أيام أُخر، فصيامهم في شهر رمضان يكون بدعة وتشريعاً محرّماً،

ص: 281


1- . الوسائل: 7، الباب 1 من أبواب من يصح منه الصوم، الحديث 8.
2- . الحج: 78.

لاتّفاق الأُمّة على عدم وجوب صومين طول السنة.

تقدير «فأفطر» لتطبيق الآية على المذهب

لا شكّ أنّ هذه الوجوه لم تكن خافية على مفسّري أهل السنّة، ولذلك نراهم عند تفسير الآية تفسيراً حرفياً أتوا ببعض الجمل التي تدلّ على وجوب الصيام في الأيام الأُخر لا التخيير بين الصيام والإفطار، ومع ذلك ذهب جُلّهم إلى أنّ الإفطار رخصة، وما هذا إلّالأنّهم لمّا وقفوا على أنّ مذاهب أئمتهم في الفقه على الرخصة، جنحوا إلى تأويل هذه الفقرات، فقدّروا كلمة: (فأفطر) في الآيات، وكأنّه سبحانه قال: «فمن كان منكم مريضاً أو على سفر - فأفطر - فعدّة من أيام أُخر» ومعنى ذلك أنّه لو لم يفطر لما وجب صيام تلك الأيام، ومن المعلوم أنّ الإفطار يكون رخصة لا عزيمة، لكن الكلام في التعرّف على دليلهم على ذلك التقدير المفترض.

من المتّفق عليه أنّ القرآن في مقام التشريع يجب أن يكون بيّن المراد واضح المقصود، فلو كان الحكم مفروضاً على هذا التقدير كان عليه أن يشير إليه في واحدة من الآيتين. وهذا هو الذي أشرنا إليه في صدر المقام وهو أنّ الفقيه يجب أن يفهم الآية بعيداً عن آراء مذهبه المسبقة.

والعجب أنّ صاحب تفسير المنار وقف على مفاد الآية لكنّه تأوّلها وقال:

اختلف السلف في هذه المسألة فقالت طائفة: لا يجزي الصوم في السفر عن الفرض، بل مَن صام في السفر وجب عليه قضاؤه في الحضر، لظاهر قوله تعالى:

(فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ) ... قالوا: ظاهره: فعليه عدّة، أو فالواجب عدّة، وتأوّله

ص: 282

الجمهور بأنّ التقدير: فأفطر فعدّة.(1)

ولا ينقضي تعجّبي منه، حيث إنّه يصفه بأنّه تأويل، ومع ذلك يصرّ على صحّة فتوى الجمهور، ومع أنّه يندّد في ثنايا تفسيره بجملة من المقلّدين لأئمة مذاهبهم حيث يؤوّلون ظواهر الآية تطبيقاً لها لفتوى مذهب إمامهم، ويقول في مسألة الطلاق ثلاثاً - التي اختار فيها تبعاً لظاهر القرآن بأنّه لا يقع إلّامرّة واحدة -:

ليس المراد مجادلة المقلّدين أو إرجاع القضاة والمفتين عن مذاهبهم فإنّ أكثرهم يطّلع على هذه النصوص في كتب الحديث وغيرها ولا يبالي بها، لأنّ العمل عندهم على أقوال كتبهم دون كتاب اللّه وسنّة رسوله.(2)

الموضع الثاني: هل إفطار المطيق عزيمة أو رخصة؟

أُريد من المطيق مَن يقدر على الصوم بجهد ومشقّة ببذل جميع طاقاته، قال ابن منظور: الطاقة: أقصى غايته، وهو اسم لمقدار ما يمكن أن يفعله بمشقّة منه.(3)

وفي «النهاية» عند تفسير شعر عامر بن فهيرة:

كلّ امرئ مجاهد بطوقه ***والثور يحمي أُمَّهُ بروقه

قال: أي أقصى غايته، وهو اسم لمقدار ما يمكن أن يفعله بمشقّة منه.(4)

ومصداق المطيق: في لسان الفقهاء الشيخ والشيخة وذو العطاش، والحق

ص: 283


1- . تفسير المنار: 153/2.
2- . تفسير المنار: 386/2.
3- . لسان العرب: 225/1، مادة «طوق».
4- . النهاية، لابن الأثير: 144/3، مادة «طوق». والثور: الذكر من البقر، والروق: الجماعة، يقال: جاء روق بن فلان: أي جماعتهم.

أنّه ليس لعنواني الشيخ والشيخة مدخلية في الحكم، ولذلك يقول في «الجواهر»: والتحقيق أنّ المراد بالشيخ والشيخة: من توقّف بقاء صحّة مزاجهما على تعدّد الأكل والشرب في أزمنة متقاربة للاستبانة لا لمزيد الهضم، ولا ريب في منافاته للصوم.(1) ثم يشير إلى نقد ما ذكره القاموس من التحديد بالسن.

ثمّ الظاهر: أنّ افطار المطيق عزيمة، حيث إنّ ظاهر الآية أنّ المكتوب على المطيق هو الفدية لا غير نظير ما ذكرنا في المريض والمسافر، وأمّا الروايات فيمكن استظهار العزيمة من بعضها:

1. صحيحة محمد بن مسلم، قال: سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: «الشيخ الكبير والذي به العطاش لا حرج عليهما أن يفطرا في شهر رمضان، ويتصدّق كلّ واحد منهما في كلّ يوم بمدّ».(2)

2. صحيحة عبد اللّه بن سنان، قال: سألته عن رجل كبير ضعف عن صوم شهر رمضان؟ قال: «يتصدّق كلّ يوم بما يجزي من طعام مسكين».(3)

وقد مرّ أنّ ظاهر الآية هو العزيمة حيث إنّ ظاهرها أنّ المكتوب على المطيقين هو الفدية لا غير، نظير ما ذكرنا في المريض والمسافر.

لكن أكثرها بصدد بيان الفدية، وليست بصدد بيان كونها عزيمة أو رخصة.

ومع ذلك تصحّ استفادة العزيمة وتعيّن الدية في الروايتين الماضيتين بالبيانب.

ص: 284


1- . جواهر الكلام: 150/17-151.
2- . الوسائل: 7، الباب 15 من أبواب من يصحّ منه الصوم، الحديث 1.
3- . الوسائل: 7، الباب 15 من أبواب من يصحّ منه الصوم، الحديث 5. ولاحظ الأحاديث 1، 3، 4، 7، 9، 10، 11، 12، من ذلك الباب.

التالي: أنّ قوله: «يتصدّق كلّ يوم بما يجزي من طعام مسكين» في صحيحة ابن سنان، أو قوله: «ويتصدّق كلّ واحد منهما في كلّ يوم بمدٍّ من طعام» في صحيحة محمد بن مسلم، ظاهر في كون التصدّق واجباً تعيينيّاً لا تخييرياً، إذ لو كان كذلك كان عليه أن يأتي بالعِدْل الآخر، فالسكوت مع كونه في مقام البيان آية كونه تعيينيّاً مع أنّه لم يرد في رواية ضعيفة فضلاً عن غيرها أنّه مخيّر بين الأمرين.

وبذلك لا يمكن الاعتماد على ظهور قوله في صدر رواية محمد بن مسلم: «لا حرج عليهما أن يفطرا في شهر رمضان»، لأنّه ورد في محلّ توهّم الحظر، فالهدف رفع ذلك التوهّم، أي لا يحرم الإفطار، وأمّا كونه واجباً أو رخصة فخارج عن مصبّ الكلام.

نعم ذهب جماعة منهم المحدّث البحراني والماتن إلى التخيير، قال في «الحدائق»: إنّ المراد من الآية هو من أمكنه الصوم بمشقّة، فإنّه قد جوّز له الإفطار والفدية.(1) وقد عرفت مدلول الآية.

بقي الكلام في الفقرتين التاليتين:

1. قوله تعالى: (فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ) .

2. قوله تعالى: (وَ أَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) .

أمّا الأُولى: فهي بمعنى أنّ مَن زاد في الفدية فهو خير له، فلو زاد في الإطعام على مسكين واحد، أو أطعم على أكثر من مسكين واحد فهو خير له، والمقصود من قوله: (خَيْراً) ما يقارب معنى المال مثل قوله سبحانه: (إِنْ تَرَكَ 3.

ص: 285


1- . الحدائق الناضرة: 421/13.

خَيْراً اَلْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَ اَلْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى اَلْمُتَّقِينَ) (1) .

وأمّا الثانية: أعني قوله: (وَ أَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) . فقد وقع ذريعة للقائلين بالرخصة في المريض والمسافر.

قال صاحب المنار: وأمّا مَن يقول بالرخصة في المريض والمسافر أو بخصوص المسافر يتّخذ ذلك ذريعة للرخصة ويقول: إنّ الخطاب فيها لأهل الرخص وأنّ الصيام في رمضان خير لهم من الترخّص بالإفطار.(2)

يلاحظ عليه أوّلاً: أنّ الآية الثانية تتشكّل من أربع فقرات بعد بيان أنّ الواجب لا يتجاوز عن كونه أياماً معدودات، وهي:

الأُولى: (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ) .

الثانية: (وَ عَلَى اَلَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ) .

الثالثة: (فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ) .

الرابعة: (وَ أَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) .(3)

وقد جاءت الفقرتان الثانية والثالثة بصيغة الغائب، بخلاف الأخيرة التي جاءت بصيغة الخطاب.

وهذا دليل على أنّ الفقرة الأخيرة منقطعة عن الثانية والثالثة هذا من جانب ومن جانب آخر لا يمكن أن تكون ناظرةً إلى الفقرة الأُولى فقط لما مرّ من عدم صحّة التفكيك، فيكون دليلاً على أنّه تأكيد للخطاب الأوّل بعد التفصيل، أعني4.

ص: 286


1- . البقرة: 180.
2- . تفسير المنار: 158/2.
3- . البقرة: 184.

قوله سبحانه: (يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ اَلصِّيامُ) .

وثانياً: لو كان الخطاب راجعاً لأهل الرخص فلابدّ أن يرجع إلى خصوص المسافر، لا إلى المريض، لافتراض كون الصوم مضرّاً له؛ ولا إلى المطيق لفرض كونه حرجياً، وقد رفع وجوب الصوم عنه ولم يشرع في حقّه، فإذا اختصّ رجوعه إلى المسافر كان مقتضى سياق الكلام أن يقول: وأن يصوم المسافر خير من أن يفطر، يعني بصيغة الغائب لا بصيغة الحاضر.

وعلى هذا فالفقرة ناظرة إلى عامّة الحالات على النحو المذكور فيها، فيكون المراد:

1. (أَيّاماً مَعْدُوداتٍ) للحاضر غير المريض.

2. أنّ المريض والمسافر يفطران ويصومان في أيّام أُخر.

3. أنّ المطيق يفطر ويفدي.

فإن تصوموا على النحو الماضي هو خير لكم، لأنّ فيه جمعاً بين الفريضة وعدم الحرج.

الروايات تؤيّد أنّ الإفطار عزيمة

قد عرفت أنّ الآيات تدلّ بوضوح على أنّ الإفطار عزيمة وليس برخصة، وأنّ المذكورين في الآيات هم أصحاب عزائم لا أصحاب رخص، ومن حسن الحظ أنّ الروايات الواردة عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام وما رواه أهل السنّة عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم يدلّ على العزيمة، أمّا القسم الأوّل فالمجال لا يسع لنقله فمن أراد

ص: 287

التوسّع فليرجع إلى وسائل الشيعة.(1)

وأمّا القسم الثاني - أعني: ما رواه أهل السنّة - فنذكر منه شيئاً:

أخرج مسلم عن جابر بن عبد اللّه أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم خرج عام الفتح إلى مكّة في رمضان فصام حتى بلغ كراع الغميم فصام الناس، ثمّ دعا بقدح من ماء فرفعه حتّى نظر الناس إليه، ثم شرب، فقيل له بعد ذلك: إنّ بعض الناس قد صام؟ فقال: «أُولئك العصاة، أُولئك العصاة».(2)

والمراد من العصيان هو مخالفة أمر الرسول صلى الله عليه و آله و سلم، يقول اللّه سبحانه:

(وَ مَنْ يَعْصِ اَللّهَ وَ رَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً) .(3) والعجب ممّن يريد إحياء مذهب إمامه يحمل الحديث على أنّ أمره صلى الله عليه و آله و سلم كان أمراً استحبابياً، لكنّه بمعزل من الواقع، فأين الاستحباب من قوله صلى الله عليه و آله و سلم:

«أُولئك العصاة، أُولئك العصاة»؟!

وأخرج ابن ماجة في سننه عن عبد الرحمن بن عوف قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «صائم رمضان في السفر كالمفطر في الحضر».(4)

ودلالة الحديث على كون الإفطار عزيمة، واضحة، فإنّ الإفطار في الحضر إذا كان إثماً وحراماً فيكون المنزّل منزلته - أعني: الصيام للمسافر في نفس هذا الشهر - إثماً وحراماً.7.

ص: 288


1- . لاحظ: الوسائل: 7، الباب 1 من أبواب من يصحّ منه الصوم، عامّة روايات الباب التي يناهز عددها 15 رواية.
2- . صحيح مسلم: 141/3-142، باب جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر.
3- . الأحزاب: 36.
4- . سنن ابن ماجة: 532/1، برقم 8666؛ سنن أبي داود: 217/2، برقم 2407.

أحكام الصيام

3. نزول القرآن في شهر رمضان وحكم المريض و المسافر

الآية الثالثة
اشارة

قال تعالى: (شَهْرُ رَمَضانَ اَلَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ اَلْقُرْآنُ هُدىً لِلنّاسِ وَ بَيِّناتٍ مِنَ اَلْهُدى وَ اَلْفُرْقانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ اَلشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَ مَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اَللّهُ بِكُمُ اَلْيُسْرَ وَ لا يُرِيدُ بِكُمُ اَلْعُسْرَ وَ لِتُكْمِلُوا اَلْعِدَّةَ وَ لِتُكَبِّرُوا اَللّهَ عَلى ما هَداكُمْ وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) .(1)

المفردات

شهر: جمعه أشهر، وجمع كثرته شهور.

رمضان: شدة وقع الشمس على الرمل.

الفرقان: ما يفرق بين الحقّ والباطل.

ص: 289


1- . البقرة: 185.

اليسر: ضد العسر.

التفسير

الآية تتضمّن بيان أُمور:

1. تحديد أيام الصيام في شهر رمضان.

2. نزول القرآن في شهر رمضان.

3. اشتمال القرآن على البيّنات والفرقان.

4. مَن شهد الشهر فعليه أن يصومه من الرؤية إلى الرؤية.

5. المريض والمسافر يفطران ويصومان في أيّام أُخر.

6. تعلّق إرادته سبحانه في حقّ المكلّفين على اليسر دون العسر.

7. أمره سبحانه بإكمال العدّة والتكبير.

وإليك دراسة هذه الأُمور واحداً تلو الآخر.

الأمر الأوّل: تحديد أيام الصيام في شهر رمضان

تقدّم في الآية السابقة قوله سبحانه: (أَيّاماً مَعْدُوداتٍ) : أي كتب عليكم الصيام في أيام معدودات، ولمّا كانت الفقرة مبهمة وأنّ هذه الأيام في أي شهر من الشهور الإثني عشر، جاءت آيتنا هذه ترفع الإبهام عن هذه الأيام بالقول بأنّها (شَهْرُ رَمَضانَ) ، وبذلك يُعلم وجه كونه مرفوعاً حيث إنّها خبر لمبتدأ محذوف أي هي أيام معدودات. وإنّما سُمّي هذا الشهر: (رمضان)، - كما قال الطبرسي - لأنّهم سمّوا الشهور بالأزمنة التي وقعت فيها، فوافق رمضان أيام رمض

ص: 290

الحر.(1)

أقول: يريد أنّ العرب قبل الإسلام كانوا يُسمّون الشهور بالأزمنة الّتي وقعت فيها، فسمّوا هذا الشهر رمضاناً، لأنّ التسمية بها كانت في الصيف وفي رمض الحرّ.

الأمر الثاني: نزول القرآن في شهر رمضان
اشارة

لا شكّ أنّ القرآن نزل في هذا الشهر، وقد جاء ذكره في موضعين آخرين، قال سبحانه: (إِنّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ اَلْقَدْرِ) (2)، وقال تعالى: (إِنّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنّا كُنّا مُنْذِرِينَ * فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) (3).

هذا من جانب ومن جانب آخر إنّه سبحانه يذكر نزول القرآن على النبي صلى الله عليه و آله و سلم نجوماً، ويقول في نقد من قال: (لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ اَلْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً) فقال: (كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَ رَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً) (4).

فكيف يمكن الجمع بين هاتين الطائفتين؟ أضف إلى ذلك: أنّ من الأُمور المتواترة نزول القرآن نجوماً حسب الأسئلة والحوادث، وهذا أمر ثابت فوق التواتر، فنزول القرآن في ليلة القدر كيف ينسجم مع نزوله نجوماً؟

الجواب: أنّ المفسرين أجابوا عن السؤال بوجوه مختلفة، أكثرها خالٍ عن الدليل، والذي يمكن أن يقال هو ما ذكره الشيخ المفيد في كتاب «تصحيح

ص: 291


1- . مجمع البيان: 275/2.
2- . القدر: 1.
3- . الدخان: 3 و 4.
4- . الفرقان: 32.

الاعتقاد»، ونأتي ببعض نصّه:

قال رحمه الله: إنّ المراد من نزول القرآن في ليلة القدر هو نزول جملة منه في ليلة القدر، لا كلّه، والقرآن كما يطلق على المجموع يطلق على بعض أجزائه، فأمّا أن يكون نزل بأسره وجميعه في ليلة القدر، فهو بعيد عمّا يقتضيه ظاهر القرآن، والمتواتر من الأخبار، وإجماع العلماء على اختلافهم في الآراء.(1)

توضيحه: أوّلاً: إنّا نعلم بالوجدان أنّ قسماً من الآيات لم ينزل في ليلة القدر، أعني: نفس الآيات التي تدلّ على نزول القرآن في ليلة القدر، مثل قوله سبحانه: (إِنّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ اَلْقَدْرِ) ، وقوله سبحانه: (إِنّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنّا كُنّا مُنْذِرِينَ * فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) (2).

وثانياً: أنّ قسماً من الآيات تتعلّق بحوادث وقعت في المدينة المنوّرة، كحكم الظهار، الذي يحكيه سبحانه يقول: (قَدْ سَمِعَ اَللّهُ قَوْلَ اَلَّتِي تُجادِلُكَ) (3)، والإخبار عن نصر اللّه ودخول الناس في دين اللّه: (إِذا جاءَ نَصْرُ اَللّهِ وَ اَلْفَتْحُ * وَ رَأَيْتَ اَلنّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اَللّهِ أَفْواجاً) (4)، والإخبار عن مجيء المنافقين وشهادتهم على الإيمان: (إِذا جاءَكَ اَلْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ) (5)، وكذلك الآيات التي تحكي عن تآمر اليهود والمنافقين ضد الإسلام، فهل يمكن القول بأنّها نزلت في ليلة القدر وأنّه سبحانه أخبر عن وجود الحوادث بلفظها وعينها مع أنّها لم تقع1.

ص: 292


1- . تصحيح الاعتقاد: 58. مع تصرّف يسير في العبارة.
2- . الدخان: 3 و 4.
3- . المجادلة: 1.
4- . النّصر: 1-2.
5- . المنافقون: 1.

بعد، وإنّما تقع في المستقبل، ومَن تتّبع هذا القسم من الآيات التي تخبر عن المستقبل، يقف على أنّه لا يمكن القول بنزول جميع الآيات في ليلة القدر أو في مكّة المكرّمة، فلا محيص من القول من أنّ المراد نزول قسم كبير من القرآن في ليلة القدر.

وبهذا النحو ينسجم الأمران، وهما: نزول القرآن في ليلة واحدة، أي قسم كبير منه، ونزوله نجوماً على طول ثلاث عشرة سنة.

الإجابة عن سؤال آخر

وبما ذكرنا يظهر الجواب عن سؤال آخر:

والسؤال هو: أنّ الآية الكريمة تدلّ على نزول القرآن في شهر رمضان، هذا من جانب ومن جانب آخر أنّ بعثة النبي صلى الله عليه و آله و سلم وفق روايات أهل البيت عليهم السلام كانت في اليوم السابع والعشرين من شهر رجب، ومن المعلوم أنّ البعثة كانت مرفقة بنزول عدّة من الآيات التي وردت في سورة العلق، فكيف يمكن الجمع بينهما؟

والجواب: ما عرفت من أنّ نزول عدد كبير من الآيات في ليلة القدر، لا ينافي نزول آيات معدودة في غيرها، أي في اليوم السابع والعشرين من شهر رجب، ولذلك اتّفقت الروايات على نزول آيات خمس من أوّل سورة العلق لدى البعثة، أعني قوله تعالى: (اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ اَلَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ اَلْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ * اِقْرَأْ وَ رَبُّكَ اَلْأَكْرَمُ * اَلَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ اَلْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ) (1).

ص: 293


1- . العلق: 1-5.

وما ذكرنا من وجه الجمع أوضح من جميع الوجوه التي ذكرت في المقام، فلاحظ.

وهنا وجه آخر وهو أنّ السؤال الثاني مبني على وجود المقارنة بين بعثة النبي بالرسالة ونزول القرآن في ذلك اليوم، أو نزول آيات خمس من سورة العلق في ذلك الزمان.

غير أنّ الدليل الدالّ على التقارن بين الأمرين غير نقي السند، وقد أوضحنا حاله في كتابنا «مفاهيم القرآن».(1)

ولذلك يمكن أن يقال: إنّه صلى الله عليه و آله و سلم تشرّف بالنبوّة والرسالة في اليوم السابع والعشرين، وأمّا الآيات الخمس فقد نزلت في شهر رمضان في نفس السنة، واللّه العالم.

الأمر الثالث: اشتمال القرآن على البيّنات والفرقان

أُريد من البيّنات ما هو الهادي إلى وظائف الناس عقيدة وتكليفاً، فالقرآن يهدي المجتمع الإنساني إلى ما هو الحقّ فيما يرجع إلى العقل النظري وما يرجع إلى العقل العملي، ولذلك قال: (بَيِّناتٍ مِنَ اَلْهُدى) : أي دلالات من الهدى.

وأمّا كونه فرقاناً؛ فلأنّه بدلائله الرصينة يفرّق بين الحقّ والباطل، والظاهر أنّه وصف لعامّة آيات القرآن الكريم؛ ولكن روي عن أبي عبد اللّه عليه السلام أنّه قال: «القرآن:

جملة الكتاب، والفرقان: المحكم الواجب العمل به».(2)

ص: 294


1- . مفاهيم القرآن: 102/7.
2- . الكافي: 163/2 برقم 11، باب النوادر.
الأمر الرابع: مَن شهد الشهر فعليه الصوم

لمّا كان قوله: (أَيّاماً مَعْدُوداتٍ) مجملاً من حيث الزمان والعدد، رفع الإجمال الأوّل بقوله تعالى: (شَهْرُ رَمَضانَ) في صدر الآية، وأمّا الإجمال الثاني فقد رفع بقوله: (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ اَلشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) : أي مَن شهده من هلال إلى هلال ومن رؤية إلى رؤية، فليصمه.

الأمر الخامس: المريض والمسافر يفطران ويصومان في أيام أُخر

فقد استثني من إيجاب الصوم لمَن شهد الشهر طائفتان: المريض والمسافر، فالواجب عليهم صوم عدّة من أيام أُخر، قال تعالى: (وَ مَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ) .

ثمّ إنّه يقع الكلام في ما هو الوجه في ذكر المريض والمسافر؟ فقد تقدّم حكمه في الآية السابقة. ولعلّ وجهه أنّه ربما يتوهّم من قوله: (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ اَلشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) أنّه ناسخ للترخيص المتقدّم في الآية السابقة في حقّ هاتين الطائفتين المذكورتين، فكرّر ذلك ليكون ردّاً لهذين الوهمين، فقال: (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ) .

ويمكن أن يقال: إنّ التكرار لوجه آخر (لا لرد التوهّم) وهو التأكيد على أنّ الإفطار لهذين الطائفتين عزيمة لا رخصة.

الأمر السادس: تعلّق إرادة اللّه في حقّ المكلّفين على اليسر دون العسر
اشارة

يشير قوله تعالى: (يُرِيدُ اَللّهُ بِكُمُ اَلْيُسْرَ وَ لا يُرِيدُ بِكُمُ اَلْعُسْرَ) إلى أنّ التشريع الإسلامي من الطهارة إلى الديات مبني على اليسر دون العسر، ولذلك أمر المصحّ

ص: 295

بالصوم لكونه متمكّناً منه، كما أمر المريض والمسافر بالإفطار؛ لأنّ الصوم شاق عليهما. وكأنّ قوله سبحانه: (يُرِيدُ اَللّهُ بِكُمُ اَلْيُسْرَ) إشارة إلى قوله سبحانه:

(وَ ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي اَلدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) .(1)

وقد استخرج الفقهاء من الآية الأخيرة قاعدة كلّية تستنبط منها أحكام كلّيّة، ويشهد عليها أيضاً قوله سبحانه: (لَيْسَ عَلَى اَلْأَعْمى حَرَجٌ وَ لا عَلَى اَلْأَعْرَجِ حَرَجٌ) .(2)

وقوله تعالى في آيات أُخرى: (لا يُكَلِّفُ اَللّهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَها) (3). وأراد أنّ التشريع الإسلامي منزّه عن تكليف الإنسان فوق طاقته.

سؤال وإجابة

ربما يقال: كيف يقول سبحانه: (وَ ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي اَلدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (4)، مع أنّا نلمس الحرج في التكاليف الشاقّة والأحكام الصعبة، وأهل العرف يعدّونه عسراً وحرجاً وضيقاً، كالصوم في اليوم الحار الطويل، والحجّ للنائي، ولزوم الثبات في مقاومة الكفّار، وحرمة الفرار، والتوضّؤ بالماء البارد في الشتاء وفي السفر، ومجاهدة النفس، والسعي في طلب العلم في البلاد البعيدة، وعدم الخوف من لومة لائم، في بيان أحكام اللّه وإجراء حدوده، والجهاد في سبيله، ونظائر ذلك؟!

ص: 296


1- . الحج: 78.
2- . النور: 61.
3- . البقرة: 286.
4- . الحج: 78.

وقد أجاب القوم عن هذه الشبهة بوجوه متعدّدة تعرّضنا لذكرها في كتابنا:

«الإيضاحات السنية للقواعد الفقهية»(1)، فراجع. ونأتي في المقام بموجز ما فصّلناه فيها وهو: إنّ الأحكام الشرعية على قسمين:

1. قسم بني على الحرج والعسر، بحيث يكون الحرج موضوعاً ومقوّماً لها، وهذا كالجهاد والحج، والمرابطة، فإنّ خصيصة هذه الأحكام الحرج والعسر، وقد شُرّعت لمصالح في تثبيت الأمن، فلو قال الشارع: (وَ ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي اَلدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) ، فهو يعني غير هذه الأحكام.

3. الأحكام التي ليس الحرج مقوّماً لها، بل يعرضها الحرج والضرر، وهذا كالصلاة والصوم، فإنّها بالذات ليست حرجية، وإنّما يعرضها الحرج في ظروف خاصّة، وآيات الباب ناظرة إلى هذا النوع من الأحكام.

***

الأمر السابع: أمره سبحانه بإكمال العدّة والتكبير

قوله سبحانه: (وَ لِتُكْمِلُوا اَلْعِدَّةَ) ناظر إلى قوله: (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ) والغرض تعليم كيفية القضاء بأنّهما يقضيان حسب عدد ما أفطرا فيه.

ثمّ إنّه سبحانه يعطف على إكمال العدّة قوله: (وَ لِتُكَبِّرُوا اَللّهَ عَلى ما هَداكُمْ) ويحتمل أن يراد به تكبير يوم الفطر الذي ورد استحبابه في ذلك اليوم.

قال الطبرسي: المراد به تكبير الفطر عقيب أربع صلوات: المغرب والعشاء الآخرة

ص: 297


1- . الإيضاحات السنية للقواعد الفقهية: 36/3-39.

والغداة وصلاة العيد على مذهبنا. وقال ابن عباس وجماعة: التكبير يوم الفطر.(1)

وهو إشارة إلى التكبيرات التي يردّدها المصلّون جماعة قبل وبعد صلاة العيد، وهي: اللّه أكبر اللّه أكبر لا إله إلّااللّه واللّه أكبر، اللّه أكبر وللّه الحمد، اللّه أكبر على ما هدانا.(2)

ثمّ إنّه سبحانه أتمّ الآية بقوله: (وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) والمراد لتشكروا اللّه سبحانه على نعمه، ومنها تشريع الصوم على ما فيه من المنافع والمصالح لحال الصائم. والتعبير بحرف الترجي (لعلّ) لأجل جهل حال المكلّف من حيث هوهو، من القيام بالشكر أولا، دون اللّه سبحانه فإنّه عالم بما أنّه سوف يشكر أو لا يشكر.

الآثار البنّاءة للصوم

تضمّنت الروايات بيان آثار الصوم، وقد خطب النبي صلى الله عليه و آله و سلم في آخر جمعة من شعبان خطبة، وردت فيها إشارات إلى آثار الصوم وفوائده، فمَن أراد الاطّلاع فعليه الرجوع إلى مصادرها.(3)

الآثار الاجتماعية للصوم

ومن آثار الصوم الاجتماعية أنّ الصائم يتحسّس فيه آلام الجوع والفقر، فقد سأل هشام بن الحكم أبا عبد اللّه عليه السلام عن علّة الصيام؟ فقال: «إنّما فرض اللّه عزّ وجلّ الصيام ليستوي به الغني والفقير، وذلك أنّ الغني لم يكن ليجد مسَّ الجوع

ص: 298


1- . مجمع البيان: 36/2.
2- . الوسائل: 4، الباب 20 من أبواب صلاة العيدين، الحديث 2.
3- . لاحظ: الوسائل: 7، الباب 18 من أبواب أحكام شهر رمضان، الحديث 10 و 20.

فيرحم الفقير، لأنّ الغني كلّما أراد شيئاً قدر عليه، فأراد اللّه عزّ وجلّ أن يسوّي بين خلقه وأن يذيق الغنيّ مسّ الجوع والألم، ليرقَّ على الضعيف فيرحم الجائع».(1)

هذا كلّه حول الآثار الروحية والاجتماعية، وأمّا الفوائد الصحيّة لبدن الإنسان فيكفي في ذلك قول رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «المعدة بيت الداء، والحمية هي الدواء».(2)

فالإنسان إذا استمر في الأكل والشرب على طول سنة، تتراكم المواد الغذائية الزائدة في بدنه، فالإمساك مدّة معيّنة يوجب ذوبان هذه المواد والتخلّص منها ومن أضرارها.

أضف إلى ذلك: أنّ الإمساك عن الطعام والشراب في شهر واحد يورث استراحة كافية ومناسبة لجهاز الهضم وتنظيفه، بشرط أن لا يكثر الصائم من الطعام عند الإفطار والسحور، لكي يحصل على الآثار الصحّية لهذه العبادة.

إلى غير ذلك من الآثار التي ذكرها الأطباء حول الإمساك عن الطعام.2.

ص: 299


1- . الوسائل: 7، الباب 1 من أبواب أحكام شهر رمضان، الحديث 1.
2- . الخصال: 512.

أحكام الصيام

4 و 5 و 6 1. تحليل الرفث إلى النساء في ليالي شهر رمضان 2. حد الصوم زماناً 3. حرمة مباشرة النساء في إعتكاف

الآية الرابعة
اشارة

قال سبحانه: (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ اَلصِّيامِ اَلرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَ أَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اَللّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَ عَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَ اِبْتَغُوا ما كَتَبَ اَللّهُ لَكُمْ وَ كُلُوا وَ اِشْرَبُوا حَتّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ اَلْخَيْطُ اَلْأَبْيَضُ مِنَ اَلْخَيْطِ اَلْأَسْوَدِ مِنَ اَلْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا اَلصِّيامَ إِلَى اَللَّيْلِ وَ لا تُبَاشِرُوهُنَّ وَ أَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي اَلْمَساجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اَللّهِ فَلا تَقْرَبُوها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اَللّهُ آياتِهِ لِلنّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) .(1)

ص: 300


1- . البقرة: 187.
المفردات

الرفث: قال الراغب: كلام متضمّن بما يستقبح ذكره من ذكر الجماع ودواعيه، وجُعل كناية عن الجماع، وعُدّي ب (إلى) في قوله: (اَلرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ) لتضمّنه معنى الإفضاء.(1)

لباس: لبس الثوب: استتر به، وجعل اللباس لكلّ ما يغطي الإنسان عن قبيح، وجعل الزوج والزوجة لباساً من حيث إنّه يمنعها ويصدّها عن تعاطي القبيح، كما تمنعه أيضاً عن تعاطيه.

وقد ذكر الرازي وجوهاً خمسة في تشبيه الزوجين باللباس، ثانيها ما ذكره الراغب بوجه كامل، قال: إنّما سمّي الزوجان لباساً ليستر كلّ واحد منهما صاحبه عمّا لا يحلّ كما جاء في الخبر: «مَن تزوّج فقد أحرز ثلثي دينه».(2)

وربما يقال: شبّه شدّة المخالطة والملامسة والانضمام، بمخالطة الثياب وملامستها وانضمامها لصاحبها.(3) ولا يخفى أنّ الوجه الأوّل أفضل.

ولم يقل: هن ألبسة لكم، حتّى يوافق الخبر للمبتدأ، لأجل أنّ اللّباس مصدر، يستعمل في المفرد والجمع، والغرض من التشبيه هو التعليل للتحليل المستفاد من قوله: (أُحِلَّ) .

تختانون: يقال: خانه يخونه خوناً وخيانة، إذا لم يف له، وخان الرجلُ الرجلَ إذا لم يؤدِّ الأمانة. وناقض العهد خائن، وفي الكشّاف: الاختيان من الخيانة،

ص: 301


1- . المفردات للراغب: 199، مادة «رفث».
2- . تفسير الرازي: 5/106، ولاحظ بقية الوجوه في نفس الكتاب.
3- . زبدة البيان: 234/1.

كالاكتساب من الكسب، فيه زيادة وشدّة.(1)

وأُريد من الخيانة هنا الجماع المحرّم الذي يعدّ نوع خيانة على النفس بعد ما حرّمه اللّه تعالى.

باشروهن: إذن في المباشرة، كناية عن الاستمتاع بالجماع، وهذا التعبير يدلّ على أدب القرآن الكريم. حيث لا يشير إليه إلّابالكناية كالدخول والمسّ واللمس.

الخيط: معروف وجمعه خيوط، والخياط الإبرة الّتي يخاط بها، قال تعالى:

(حَتّى يَلِجَ اَلْجَمَلُ فِي سَمِّ اَلْخِياطِ) .(2) والخيط الأبيض كناية عن تميّز بياض النهار من سواد الليل، فالفجر فجران، الفجر الكاذب وهو على شكل عمود من الضوء يظهر في السماء كذنب الثعلب، ثم يزول ويظهر بعده الفجر الصادق، وهو بياض شفَّاف أُفقي يظهر في أُفق السماء كخيط أبيض يظهر إلى جوار الخيط الأسود، أعني: سواد الليل، وهذا هو الصبح الصادق، وبه يتعلّق حكم الصوم والصلاة.

وقد روي أن عديّ بن حاتم قال للنبيّ إنّي وضعت خيطين من شعر، أبيض وأسود، فكنت أنظر فيهما فلا يتبيّن لي، فضحك رسول اللّه حتّى رؤيت نواجذه، ثم قال: «يابن حاتم، إنّما ذلك بياض النهار وسواد الليل».(3)

إنّ عَديّ بن حاتم كان عربياً صميماً، عارفاً بالاستعارات والكنايات بين3.

ص: 302


1- . تفسير الكشّاف: 1/115؛ تفسير الرازي: 5/106.
2- . الأعراف: 40.
3- . مجمع البيان: 1/43.

الأُمّة العربية، والقرآن نزل بلسان عربيّ مبين، فمن البعيد جداً أن لا يفهم مَن هذا هو شأنه، ما يفهمه غيره من أوساط الناس، حتى يقارن بين خيطين لتمييز الأسود من الأبيض.

وهذا إن دلّ على شيء، فيدلّ على أنّ الحديث مكذوب على لسان النبيّ وعديّ وإن نقله أعلام التفسير من الفريقين.

ويشهد لذلك، ما نقله الراغب في ذيل الحديث، قول رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أيضاً لعدي: «إنك لعريض القفا، إنّما ذلك بياض النهار وسواد الليل».(1) وقد أخذ هذا الكلام من صحيح البخاري.

روى البخاري عن عدي بن حاتم رضى الله عنه قال: قلت يا رسول اللّه ما الخيط الأبيض من الخيط الأسود أهما الخيطان؟ قال: «إنّك لعريض القفا إن أبصرت الخيطين» ثم قال: «لا، بل هو سواد الليل وبياض النهار».(2)

يلاحظ عليه: أن النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم هو النموذج الأكمل للخلق السامي ومن البعيد جداً ممّن وصفه الباري تعالى بقوله: (وَ إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (3)، أن يتكلّم بما مرّ، مع أنّ عدي بن حاتم كان شريفاً في قومه وعزيزاً، كيف وهو ابن حاتم الّذي ضرب به المثل في السخاء والكرم. وما وصف بهذا الوصف إلّالأنّه وابنه حجر كانا من أصحاب الإمام علي عليه السلام وقد شهد الوالد حرب الجمل وقتل ابناه فيها.4.

ص: 303


1- . المفردات للراغب: 161، مادة «خيط».
2- . صحيح البخاري: 1102، برقم 4510، كتاب تفسير القرآن، سورة البقرة.
3- . القلم: 4.

دخل عدي بن حاتم على معاوية فقال له معاوية: ما فعلت الطرفات؟ يعني أولاده، وما قصد معاوية بذلك إلّاالشماتة وجرح قلب عدي قال: قتلوا مع علي.

فقال معاوية: ما أنصفك علي قدّم أولادك وأخّر أولاده، فقال عدي: بل أنا ما أنصفته قتل وبقيت بعده حيّاً.(1)

عاكفون: العكوف: الإقبال على الشيء وملازمته على سبيل التعظيم له.

ويراد به الاحتباس في المسجد على سبيل القربة.(2) والاعتكاف في الشرع أن يقيم الإنسان في المسجد الجامع ثلاثة أيام بليلتين - على الأقل - صائماً على أن لا يخرج من المسجد إلّالحاجة ضرورية، ويعود بعد قضائها مباشرة، ويحرم على المعتكف مباشرة النساء ليلاً ونهاراً حتّى التقبيل واللمس بشهوة.

حدود: الحد: الحاجز بين الشيئين الّذي يمنع اختلاط أحدهما بالآخر، يقال: حددتُه بكذا: جعلت له حدّاً يتميّز. وسمّيت أحكام اللّه حدوداً؛ لأنّه يتميّز بها الحلال عن الحرام والواجب عن غيره.

التفسير

الآية تتضمّن بيان أحكام ثلاثة:

1. تحليل الرفث إلى النساء في ليالي شهر رمضان 2. حدّ الصوم زماناً 3. حرمة مباشرة النساء في الاعتكاف

وإليك بيان هذه الأُمور:

ص: 304


1- . أعيان الشيعة: 8/144.
2- . المفردات للراغب: 343، مادة «عكف».

أحكام الصيام

4. تحليل الرفث إلى النساء في ليالي شهر رمضان

قال الطبرسي: روي أنّه كان الأكلّ محرّماً في شهر رمضان بالليل بعد النوم، وكان النكاح حراماً بالليل والنهار في شهر رمضان، وكان رجل من أصحاب رسول اللّه يقال له مطعم بن جبير، أخو عبداللّه بن جبير [رئيس الرماة في غزوة أُحد]...

ثم قال: وكان مطعم بن جبير شيخاً ضعيفاً، وكان صائماً، فأبطأت عليه أهله بالطعام، فنام قبل أن يفطر، فلمّا انتبه قال لأهله: قد حرم عليّ الأكل في هذه الليلة، فلمّا أصبح حضر حفر الخندق، فأُغمي عليه، فرآه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فرقّ له.

ثم قال: وكان قوم من الشباب ينكحون بالليل سرّاً في شهر رمضان، فأنزل اللّه هذه الآية، فأحلّ النكاح بالليل في شهر رمضان، والأكل بعد النوم إلى طلوع الفجر.(1)

وذكر ابن كثير هذه الرواية أيضاً ولكنّه قال إنّ الرجل هو: قيس بن صرمة الأنصاري.(2)

ص: 305


1- . مجمع البيان: 2/41.
2- . تفسير الدر المنثور: 1/475.

إذا تبيّن ذلك فاعلم أنّ للنفس ميولاً لا يملك الإنسان كبح جماحها في كثير من الأحيان، ويشبعها مستخفياً من الناس، أو محرّفاً دين اللّه، فالأفضل تحليل الشيء المرغوب إن كان هناك وجه للتحليل، كي لا يتمادى الإنسان في الغيّ.(1)

فلمّا كان الإمساك عن الأكل والشرب بعد النوم في ليلة الصيام، أو الإمساك عن مباشرة النساء في الشهر كلّه، أمراً شاقّاً، استدعت الحكمة تحليل الأمرين، ولذلك قال: (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ اَلصِّيامِ) وهي الليلة الّتي يصبح المرء عنها صائماً (اَلرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ) : أي مباشرتهن، ثم علّل التحليل بقوله سبحانه: (هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَ أَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ) وقد مرّ في تفسير المفردات كيفية كون كلّ من الرجل والمرأة لباساً للآخر حيث يحفظ كلّ واحد منهما الطرف الآخر من العصيان. أو إشارة إلى شدّة المخالطة والملامسة.

ولمّا كان مسّ النساء في ليالي شهر رمضان ممنوعاً غير أنّ بعض الشباب كانوا ينكحون بالليل سرّاً، فاقتضت الحكمة تحليل الرفث في ليلة شهر رمضان إلى طلوع الفجر الصادق، كما يقول: (عَلِمَ اَللّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ) وهذه الفقرة تدلّ على استمرار العمل المحظور (تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ) وهو بمنزلة قوله سبحانه:

(وَ ما ظَلَمُونا وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (2) فالمباشر قبل التحليل يظلم نفسه ويخونها. ولمّا كان هذا الأمر مستمراً، جاء البيان القرآني بالإخبار عن العفو عمّا سبق كما يقول: (فَتابَ) اللّه (عَلَيْكُمْ) : أي رجع عليكم بالرحمة (وَ عَفا عَنْكُمْ) ، فهذان التعبيران يدلّان على صدور المعصية من هؤلاء، إذ لولا المعصية فما معنى7.

ص: 306


1- . التفسير الكاشف: 1/290.
2- . البقرة: 57.

توبة اللّه عليهم وعفوه عنهم مضافاً إلى قوله: (تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ) ؟!

قال الشريف الرضي رحمه الله عن قوله تعالى: (تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ) : هذه استعارة، لأنّ خيانة الإنسان نفسه لا تصحّ على الحقيقة، وإنّما المراد أنّه سبحانه خفّف عنهم التكليف في ليالي الصيام بأن أباحهم فيها مع أكل الطعام وشرب الشراب، والإفضاء إلى النساء، ولو منعهم من ذلك لعلم أنّ كثيراً منهم يخلع عذار الصبر ويضعف عن مغالبة النفس فيواقع المعصية بفعل ما حظر عليه من غشيان النساء، فيكون قد سبب لنفسه العقاب ونقصها الثواب، فكأنّه قد خانها في نفي المنافع عنها وجرّ المضار إليها، وأصل الخيانة في كلامهم النقص، فعلى هذا الوجه تحمل خيانة النفس.(1)

قلنا: اقتضت الحكمة تحليل ذلك فجاء البيان القرآني لبيان التحليل، وقال:

(فَالْآنَ) حيث اتّضحت المصلحة الجواز (بَاشِرُوهُنَّ) بما أنّ الأمر ورد في مورد توهّم الحظر، فهو يدلّ على الإباحة (لا الوجوب)، وهذا دليل على جواز الرفث ليلة شهر رمضان.9.

ص: 307


1- . تلخيص البيان في مجازات القرآن: 9.

أحكام الصيام

5. حدّ الصوم زماناً

هذا هو الحكم الثالث وفي الوقت نفسه الأمر الثاني الذي تضمّنت الآية بيانه، قد تقدّم أنّ الصيام أياماً معدودة، كما تقدّم أنّ تلك الأيام في شهر رمضان، بقي الكلام لبيان حدّ الصيام زماناً، وهذا هو الذي يبيّن قوله تعالى: (كُلُوا وَ اِشْرَبُوا حَتّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ اَلْخَيْطُ اَلْأَبْيَضُ مِنَ اَلْخَيْطِ اَلْأَسْوَدِ مِنَ اَلْفَجْرِ) والخيط الأبيض فوق الأُفق، والخيط الأسود يكون تحته. فمبدأ الصيام أوّل الفجر ومنتهاه أوّل الليل.

قال الشريف الرضي رحمه الله عن هذه الفقرة: وهذه استعارة عجيبة والمراد بها - على أحد التأويلات -: حتّى يتبيّن بياض الصبح من سواد الليل، والخيطان هاهنا مجاز، وإنّما شبههما بذلك لأن بياض الصبح يكون في أوّل طلوعه مشرقاً خافياً ويكون سواد الليل منقضياً موليّاً، فهما جميعاً ضعيفان إلّاأنّ هذا يزداد انتشاراً وهذا يزداد استسراراً.(1)

ص: 308


1- . تلخيص البيان في مجازات القرآن: 9.

أحكام الصيام

6. حرمة مباشرة النساء في الإعتكاف

لمّا كانت مباشرة النساء في الاعتكاف ممنوعة مطلقاً ما دام الرجل معتكفاً من غير فرق بين الليل والنهار، جاء البيان القرآني لاستثنائه قائلاً: (وَ لا تُبَاشِرُوهُنَّ وَ أَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي اَلْمَساجِدِ) .

إذا تبيّن ذلك فاللّه سبحانه يوصي المؤمنين بالتعرّف على حدود اللّه وعدم تجاوزها، وعبّر عن التجاوز بالنهي عن القرب منها، ليكون آكد في النهي عن المقصود، فقال: (تِلْكَ حُدُودُ اَللّهِ) : أي ما ورد من أوّل الآية إلى هنا تحديدات من اللّه سبحانه (فَلا تَقْرَبُوها) ، وفي آية أُخرى قال تعالى: (تِلْكَ حُدُودُ اَللّهِ فَلا تَعْتَدُوها) .(1)

ثم قال تعالى: (كَذلِكَ) مركّب من كاف التشبيه واسم الإشارة، والكاف بمعنى مثل واسم الإشارة (ذلك) إشارة إلى ما سبق من أحكام الصيام، أي مثل

ص: 309


1- . البقرة: 229.

ما سبق (يُبَيِّنُ اَللّهُ آياتِهِ) : أي أحكامه وحدوده (لِلنّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) عن المخالفة.

***

تمّت آيات أحكام الصيام

ص: 310

الفصل الرابع: أحكام الزكاة في الذكر الحكيم

اشارة

المنابع المالية للحكومة الإسلامية.

1. وجوب إخراج الزكاة من المال

2. حرمة اكتناز العملة قبل إخراج زكاتها.

3. وجوب أخذ الزكاة على النبي وعلى مَن يقوم مقامه.

4. مصارف الزكاة.

5. إخراج الطيب من الأموال للزكاة.

6. قصد التقرّب في إعطاء الزكاة.

7. أيّهما أفضل: الإبداء بالصدقات أو إخفاؤها؟

8. ما هو اللازم في الإنفاق؟

9. المنع عن إتباع الإنفاق بالمنّ والأذى.

ص: 311

ص: 312

أحكام الزكاة

قد ورد لفظ الزكاة في الذكر الحكيم - بمعنى الفريضة المالية - 26 مرّة، كما ورد لفظ الصدقات سبع مرّات، ومن المعلوم أنّ الزكاة ضريبة مالية بها قوام المجتمع، ولذلك جاء الأمر بالزكاة وراء الأمر بالصلاة في كثير من الآيات. غير أنّا نبحث عن الآيات التي تقع في طريق استنباط الحكم الشرعي. وقبل الورود في تفسير مثل هذه الآيات، نشير إلى المنابع المالية للحكومة الإسلامية، فنقول:

المنابع المالية للحكومة الإسلامية

اشارة

لا شكّ أنّ للإسلام برامج خاصّة في إدارة البلد ورفع حاجاته، إذ لا تقوم الحكومة في بلدٍ ما إلّاإذا كانت لها منابع مالية تعتمد عليها.

إنّ الإسلام أغلق في وجه حكومته كلّ السبل غير المشروعة التي تعتمد عليها الحكومات الحاضرة، كالضرائب المأخوذة على تجارة الخمور والبغاء والقمار وما شابهها، ولكنّه فتح بدلاً من ذلك منابع أُخرى ذكرنا تفصيلها في

ص: 313

موسوعتنا «مفاهيم القرآن»(1)، وإليك ذكر هذه المنابع على وجه الإجمال:

1. الأنفال

وهي كلّ أرض مُلكت بغير قتال، وكلّ أرض موات، ورؤوس الجبال وبطون الأودية، والآجام والغابات والمعادن، وميراث من لا وارث له، وما يغنمه المقاتلون بغير إذن الإمام، وكافّة المياه العامّة، والأحراش الطبيعية(2)، والمراتع التي ليست ملكاً لأحد، وقطائع الملوك وصفاياهم غير المغصوبة.

2. الزكاة

وهي ضريبة تجب في تسعة أشياء: الأنعام وهي: الإبل والبقر والغنم، والنقدين وهما: الذهب والفضة، والغلّات وهي: الحنطة والشعير والتمر والزبيب، والأدلّة عليها من الكتاب والسنّة لا تحصى، وأمّا مقدار ما يؤخذ من هذه الأشياء، فيطلب من الكتب الفقهية.

3. الغنائم المأخوذة من أهل الحرب قهراً بالقتال
4. الخمس

الخمس يجب في الأُمور الستة التالية: المعادن، الكنز، الغوص، المال الحلال المختلط بالحرام، الأرض التي اشتراها الذمّيّ من المسلم، ما يفضل من مؤونة سنّة المكتسب ومؤونة عياله من أرباح التجارات والصناعات والمكاسب،

ص: 314


1- . لاحظ: مفاهيم القرآن: 570/2-587.
2- . الأحراش: النباتات الطبيعية التي تنتشر بين أشجار الغابات وهي مرتفعة نسبيّاً، بخلاف أعلاف المراتع فهي منخفضة يخطمها الإبل والدواب.

وكلّ ذلك من المنابع المالية الّتي يخرج منها الخمس وراء خمس الغنائم.

5. زكاة الفطرة

وتُسمّى بزكاة الأبدان التي تجب على كلّ مسلم في عيد الفطر.

6. الخراج والمقاسمة

وهما ضريبتان مفروضتان على مَن يعمل في الأراضي التي فتحها المسلمون بالقتال.

7. الجزية

وهي الضريبة العادلة المفروضة على أهل الذمّة، على رؤوسهم وأراضيهم، إذا عملوا بشرائط الذمّة المقرّرة في محلّها، وتقديره تابع لنظر الحاكم.

8. ضرائب أُخرى

هناك ضرائب أُخرى ليس لها حدّ معيّن ولا زمان خاصّ، بل هي موكولة إلى نظر الحاكم الإسلامي يفرضها عند الحاجة إليها من عمران البلاد، أو الجهاد في سبيل اللّه، أو سدّ عيلة الفقراء، أو غير ذلك ممّا يحتاج إليه قوام البلاد.

ويشهد على ذلك ما رواه الكليني بسند صحيح عن محمد بن مسلم وزرارة عنهما عليهما السلام جميعاً، قال: «وضع أمير المؤمنين عليه السلام على الخيل العتاق الراعية في كلّ فرس في كلّ عام دينارين، وجعل على البراذين ديناراً».(1)

ص: 315


1- . الوسائل: 6، الباب 16 من أبواب ما تجب فيه الزكاة، الحديث 1.

هذه هي المنابع المالية الرئيسية، غير أنّ هناك منابع أُخرى متفرّقة يجوز للدولة الإسلامية التصرّف فيها نظير:

9. المظالم

وهي ما يتعلّق بذمّة الإنسان بتعدٍّ أو إتلاف في مال الغير، ولم يعرف صاحبه، فيجوز للحاكم التصرّف فيها وصرفها في المصارف المقرّرة لها.

10. الكفّارات

مثل كفّارة مخالفة النذر والعهد واليمين فيما يتعلّق بالإطعام والإكساء، فيجوز للحكومة أن تتولّى أمرها بدلاً عن صاحب الكفّارة.

11. اللقطة

وهي الضالّة من الأشياء ولم يعرف لها صاحب، فيجوز للحكومة الإسلامية التصرّف فيها حسب الشروط.

12. الأوقاف والوصايا العامة والنذور العامّة
13. الضحايا

وهي الذبائح التي يذبحها الحجّاج في منى، فيجوز للحكومة الإسلامية التصرّف فيها وصرفها في مصالح المسلمين.

14. توظيف الأموال في المجالات الاقتصادية الكبرى

وذلك من خلال القيام بإنشاء الصناعات الكبرى، والتجارة، والعمل

ص: 316

المصرفيّ، والتأمين، والشركات الزراعية، وتوفير الطاقة وإدارة شبكات الري، والمواصلات الجوية والبرية والبحرية، والخدمات البريدية والهاتفية، وما شابه ذلك... وتأمين قسم كبير من ميزانيّتها في هذه الموارد الضخمة.

ولا يُعنى بذلك جعل الممارسة بهذه الأُمور بيد الدولة الإسلامية وحرمان الشعب عنها، بل المجال مفتوح للشعب والحكومة معاً.

هذه صورة إجمالية للمنابع المالية للحكومة الإسلامية، ذكرناها ردّاً على مَن يتوهم أنّه ليس للحكومة الإسلامية منابع مالية منظمة لإجراء برامجها العمرانية والعلمية والصحّية.

إذا عرفت ذلك فلنبدأ بدراسة أحكام الزكاة، وهاهنا بحوث:

ص: 317

أحكام الزكاة

1. وجوب إخراج الزكاة من المال

اشارة

بما أنّ الزكاة هي صلة المؤمن بالمجتمع، كما أنّ الصلاة صلته باللّه سبحانه، أكّد اللّه تعالى في غير واحدة من الآيات على وجوبها، ويؤنب على مَن لا يعطيها، أو يكنزها، ولنبدأ بدراسة الآيات المتعلّقة بالزكاة وأحكامها ومصارفها.

***

الآية الأُولى
اشارة

قال تعالى: (لَيْسَ اَلْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ اَلْمَشْرِقِ وَ اَلْمَغْرِبِ وَ لكِنَّ اَلْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَ اَلْمَلائِكَةِ وَ اَلْكِتابِ وَ اَلنَّبِيِّينَ وَ آتَى اَلْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي اَلْقُرْبى وَ اَلْيَتامى وَ اَلْمَساكِينَ وَ اِبْنَ اَلسَّبِيلِ وَ اَلسّائِلِينَ وَ فِي اَلرِّقابِ وَ أَقامَ اَلصَّلاةَ وَ آتَى اَلزَّكاةَ وَ اَلْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَ اَلصّابِرِينَ فِي اَلْبَأْساءِ وَ اَلضَّرّاءِ وَ حِينَ اَلْبَأْسِ أُولئِكَ اَلَّذِينَ صَدَقُوا وَ أُولئِكَ

ص: 318

هُمُ اَلْمُتَّقُونَ) .(1)

المفردات

البر: - بكسر الباء - التوسّع في الخير، مشتقّ من البَر - بالفتح - وهو في مقابل البحر في تصوّر سعته. وأمّا شرعاً فيظهر من الآية أنّه كلّ ما يتقرّب به إلى اللّه تعالى من الإيمان والأخلاق و الأعمال الصالحة.

تولّوا: تتوجّهوا.

على حبّه: الضمير يرجع إلى حبّ المال، نظير قوله سبحانه: (وَ يُطْعِمُونَ اَلطَّعامَ عَلى حُبِّهِ) (2) أي حبّ الطعام.

الرقاب: العبيد.

البأساء: حال الفقر والشدّة.

الضرّاء: حال المرض و السقم والوجع.

البأس: شدّة الحرب.

التفسير
اشارة

كان أهل الكتاب يتصوّرون أنّ الإنسان البَر عبارة عمّن يتوجّه في صلاته قبل المشرق و المغرب، لكن القرآن الكريم يفسّر البِر بوجه آخر ويقول: إنّ للبر محاور أربعة:

ص: 319


1- . البقرة: 177.
2- . الإنسان: 8.

1. الإيمان والعقيدة.

2. خدمة المجتمع الإيماني.

3. القيام بالفرائض الشرعية.

4. الالتزام بالأخلاق الفاضلة.

أمّا الأوّل: فهو عبارة عن الإيمان باللّه واليوم الآخر والكتب والنبيّين.

وأمّا الثاني: فهو إنفاق المال على ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب.

وأمّا الثالث: فهو إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة.

وأمّا الرابع: فهو الوفاء بالعهد، والصبر في مختلف الحالات كالبأساء والضراء وحين البأس.

وفي الختام يصف اللّه سبحانه من تنطبق عليه هذه المحاور بأنّهم موصوفون بالصدق في إيمانهم والتقوى في حياتهم.

وإليك بيان هذه المحاور:

المحور الأوّل: الإيمان والعقيدة

ويشير إليه بقوله تعالى: (لَيْسَ اَلْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ اَلْمَشْرِقِ وَ اَلْمَغْرِبِ) بل المهم: الإيمان الذي يبعث الإنسان إلى هذا العمل كما يقول: (وَ لكِنَّ اَلْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ) الذي هو أساس كلّ فضيلة (وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ) الذي تُجزى فيه كلّ نفس وفق ما عملت (وَ اَلْمَلائِكَةِ) ، فالإيمان بها رمز للإيمان بالغيب وأنّ رقعة الوجود أوسع من المادّة (وَ اَلْكِتابِ) الذي أنزل اللّه سبحانه لإسعاد

ص: 320

البشر (وَ اَلنَّبِيِّينَ) فإنّ الإيمان بهم يسوق الإنسان إلى السعادة.

فالإيمان بهذه الأُمور الخمسة جامع لجميع المعارف الحقّة.

بقي هنا سؤال وهو: أنّ المعرَّف (البر) أمر معنوي، وأمُّّا المعرِّف فذات خارجية حيث قال: (وَ لكِنَّ اَلْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ) فيقع السؤال: كيف أخبر عن أمر معنوي بذات خارجية؟

يقول صاحب المنار: هذا أمر معهود في الكلام العربي الفصيح، يقولون:

ليس الكرم أن تدعو الأغنياء والأصدقاء إلى طعامك، ولكن الكرم من يعطي الفقراء العاجزين عن الكسب.(1) لكنّه لم يُشر إلى وجه العدول عن تعريف البِر إلى البَّر. نعم ذكره الشيخ البلاغي بقوله: إنّه أُسلوب فائق من البلاغة يُخرج الكلام به من صورة الفرض الذي لا يهم في البيان إلى صورة الوقوع والحجّة بالعيان... ثم استشهد بأبيات لشعراء الجاهلية منها قول الحطيئة:

وشرّ المنايا ميّت وسط أهله ***كهُلك الفتى قد استلم الحيّ حاضره(2)

المحور الثاني: خدمة المجتمع الإيماني

إنّ الإيمان باللّه واليوم الآخر شجرة طيّبة ثمرتها اليانعة اهتمام الإنسان بخدمة أبناء مجتمعه، فيقوم بالأعمال الصالحة كما يُشير: (وَ آتَى اَلْمالَ عَلى حُبِّهِ) : أي رغم كونه يحبّه، على أصناف:

ص: 321


1- . تفسير المنار: 110/2.
2- . آلاء الرحمن: 288/1.

1. (ذَوِي اَلْقُرْبى) : أي الأقارب، وقد ورد: «لا صدقة وذو رحم محتاج».(1)

2. (وَ اَلْيَتامى) وهو من مات كافله.4.

ص: 322


1- . بحار الأنوار: 58/74.

اَلْبَأْسِ) وقد مرّ معناها في المفردات.

ثمّ إنّه سبحانه لمّا أتم بيان صفات الأبرار أثنى عليهم بأمرين:

1. (أُولئِكَ اَلَّذِينَ صَدَقُوا) . 2. (وَ أُولئِكَ هُمُ اَلْمُتَّقُونَ) .

أمّا الأوّل: فمن اجتمعت فيه جميع الخصال المذكورة في المحاور الأربعة فهو صادق في عامّة شؤون حياته، صادق في الاعتقاد، صادق في القول، صادق في العمل.

وأمّا الثاني: فإنّ أعمالهم وأحوالهم تشهد على تقواهم وأنّ لهم وقاية خاصّة بينهم وبين سخط اللّه تعالى.

ثمّ إنّ الفاضل المقداد جعل الآية ممّا دلّ على وجوب الزكاة ومحلّها(1)، فلو أراد من المحلّ ما تتعلّق به الزكاة فلم يُذكر في الآية، وإن أراد المصارف فإنّما وردت قبل قوله: (وَ آتَى اَلْمالَ عَلى حُبِّهِ...) فلا يكون دليلاً على أنّ ما ذكر هو المصارف.

ثمّ إنّ قوله تعالى: (وَ وَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * اَلَّذِينَ لا يُؤْتُونَ اَلزَّكاةَ وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ) .(2)

يدلّ على أنّ الكّفار محكومون بالفروع كما هم محكومون بالأُصول، إلّاأنّ الكلام في كون المراد من الزكاة هو الفريضة المعروفة في الكتب الفقهية.7.

ص: 323


1- . لاحظ: كنز العرفان: 219/1، حيث عنون تفسير الآية بقوله: في الوجوب ومحلّه.
2- . فصّلت: 6 و 7.

أحكام الزكاة

2. حرمة اكتناز العملة قبل إخراج زكاتها

الآية الثانية

قال سبحانه: (يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ اَلْأَحْبارِ وَ اَلرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ اَلنّاسِ بِالْباطِلِ وَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اَللّهِ وَ اَلَّذِينَ يَكْنِزُونَ اَلذَّهَبَ وَ اَلْفِضَّةَ وَ لا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اَللّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) .(1)

المفردات

ليأكلون: أكل الأموال كناية عن الاستيلاء عليها والتصرّف فيها.

يصدّون: يمنعون الناس عن الدخول في الشريعة الحقّة.

يكنزون: الكنز عبارة عن جمع المال تحت الأرض أو فوقها حفظاً له. قال الطبرسي: الكنز في الأصل: الشيء الذي جمع بعضه إلى بعض. ويقال للشيء

ص: 324


1- . التوبة: 34.

المجتمع: مكتنز، فالكنز مصدر كنز يقال: كنز فلان، إذا ادّخر مالاً.

الذهب: سمّي ذهباً لأنّه يذهب ولا يبقى.

الفضّة: سمّيت فضّة لأنّها تنفضّ أي تتفرّق ولا تبقى.

في سبيل اللّه: سيأتي الكلام فيه في التفسير.

التفسير

الآية تتضمّن أمرين:

1. ما يرجع إلى عمل الأحبار والرهبان.

2. تحريم كنز الذهب والفضّة على كلّ مكلّف موسوياً كان أو عيسوياً أو محمدياً.

وصف عمل الأحبار والرهبان

أمّا الأمر الأوّل: فقد وصف سبحانه كثيراً من الأحبار والرهبان بأمرين:

1. أكل أموال الناس بالباطل، وما هذا إلّالأنّ قسماً منهم كانوا يجتنبون هذا العمل، وهذا يدلّ على موضوعية البيان القرآني.

ثمّ إنّ المراد من أكل أموال الناس بالباطل هو الرشوة حيث يأخذها صاحب السلطة الدينية لأجل الحكم أو المساعدة على إبطال حقّ أو إحقاق باطل، ويحتمل أن يُراد به الربا أيضاً، وهذان النوعان كانا أمرين فاشيين بين الأحبار، وأمّا الرهبان فيحتمل أن يُراد ما يأخذونه جُعلاً على مغفرة الذنوب.

2. الصدّ عن سبيل اللّه، ولعلّ المراد به صدّ الناس عن الدخول في الإسلام، وهو يختلف أُسلوبه حسب اختلاف الزمان والمكان، وربما لا يقتنعون بصدّ

ص: 325

الناس عن الإسلام فقط، بل يحاولون صدّ المسلمين عنه ودعوتهم إلى دينهم المشحون بالوثنية.

هذا ما يذكره القرآن الكريم قبل أربعة عشر قرناً، وأمّا اليوم فقد اتّسع نطاق صدّ الناس عن الإسلام وصدّ المسلمين عنه بأساليب مختلفة، فجاءوا تحت غطاء المشاريع الإنسانية لنشر النصرانية، وهي مستشفيات وجامعات ومعاهد علمية إلّا أنّها في الحقيقة مراكز للتبشير، فعلى المسلمين الغيارى عدم السماح بانتشار هذه المراكز التبشيرية في بلادهم، وعلى أقل التقادير عدم السماح لمؤسّسيها بنشر المسيحية عن طريق هذه المراكز.

إلى هنا تمّ ما يرجع إلى الأمر الأوّل وهو ما يتعلّق بعمل الأحبار والرهبان.

تحريم اكتناز الذهب والفضة على المسلم والكتابي

وأمّا الأمر الثاني: وهو تحريم كنز الذهب والفضة على وجه الإطلاق، من غير فرق بين أهل الكتاب أو من غيرهم وقال: (وَ اَلَّذِينَ يَكْنِزُونَ اَلذَّهَبَ وَ اَلْفِضَّةَ) : أي يكنزون الدنانير والدراهم بكلّ وسيلة ممكنة، سواء أكانت في الصناديق كما هو المرسوم في القرون السابقة أم البنوك والمصارف كما هو الرائج اليوم (وَ لا يُنْفِقُونَها) الضمير المستتر الذي تحكي عنه «الواو» يرجع إلى الموصول، أعني: (وَ اَلَّذِينَ) والضمير المؤنث عائد إلى الذهب والفضة فقد اكتفي برجوع الضمير إلى أحدهما، عن الضمير الراجع إلى الآخر نظير قوله سبحانه: (وَ إِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً اِنْفَضُّوا إِلَيْها) (1)، وقوله: (وَ مَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ

ص: 326


1- . الجمعة: 11.

اِحْتَمَلَ بُهْتاناً وَ إِثْماً مُبِيناً) (1) : أي لا ينفقون كلّاً منهما في سبيل اللّه (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) .

وربما يتوهّم أنّ الآية ناظرة إلى الأحبار والرهبان فهم الذين كانوا يأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل اللّه ويكنزون الذهب والفضة ولا يشمل غير أهل الكتاب، فعلى هذا فالنهي عن الكنز مختصّ بهم، ولكنّه وهم باطل، ولو كان كذلك كان اللازم أن يقول: (اَلَّذِينَ يَكْنِزُونَ اَلذَّهَبَ وَ اَلْفِضَّةَ) حتى يكون من أوصافهم، وعلى هذا فالآية تعمّ الناس من غير فرق بين المسلم وغيره، فالجميع أمام الآية سواء.

نزاع بين عثمان وأُبيّ في كتابة الواو

روى السيوطي عن علباء بن أحمر أنّ عثمان بن عفان قال: لمّا أراد أن يكتب المصاحف أرادوا أن يلغوا الواو التي في «براءة»: (وَ اَلَّذِينَ يَكْنِزُونَ اَلذَّهَبَ وَ اَلْفِضَّةَ) ، قال لهم أُبيّ: لتلحقنّها أو لأضعن سيفي على عاتقي، فألحقوها.(2)

ولعلّ الغاية من إلغاء «الواو» هو تبرير عمل قسم من الصحابة الذين اكتنزوا كنوزاً كثيرة من بيت المال حتى لا تشملهم الآية الكريمة، ومَن أراد أن يتعرّف على مقدار الأموال المكتنزة خلال خلافة الثالث، مِنْ قِبل كثير من حاشيته وأقاربه، فليرجع إلى كتاب «الغدير» حتى يقف على أنّ ميراث عبد الرحمن بن عوف من الذهب والفضة قد كُسّر بالفؤوس.(3)

ص: 327


1- . النساء: 112.
2- . تفسير الدر المنثور: 178/4.
3- . لاحظ: الغدير: 284/8.

إذا تبيّن ذلك فنقول ما هو متعلّق التحريم؟

أقول: إنّ متعلّق التحريم هو الكنز المقيّد، وهو كنز المال مع عدم الإنفاق في سبيل اللّه، وإلّا فلو اكتنز ومع ذلك أنفق الفريضة في سبيل اللّه، فهذا ليس بحرام.

يقول الفاضل المقداد: اعلم أنّ مَن يجمع المال للإنفاق على العيال أو بعد إخراج الحقوق المالية خارج عن هذا الوعيد؛ لأنّه تعالى قيّد الكنز بعدم الإنفاق، وإذا عُدم القيد عُدم الحكم، ولِما روي عنه عليه السلام أنّه قال: «ما أُدّي زكاته فليس بكنز وإن كان باطناً، وما بلغ أن يزكّى فلم يزكَّ فهو كنز وإن كان ظاهراً».(1) وعلى هذا فأُريد من (سَبِيلِ اَللّهِ) زكاتهما إذا بلغا النصاب، وسيأتي احتمالان آخران في معناه.

ويدلّ على ما ذكره ما رواه السيوطي عن ابن عباس في تفسير الآية: هم الذين لا يؤدّون زكاة أموالهم، وكلّ مال لا تؤدّى زكاته كان على ظهر الأرض أو في بطنها.(2)

وروى الشيخ في أماليه قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لمّا نزلت هذه الآية (وَ اَلَّذِينَ يَكْنِزُونَ اَلذَّهَبَ وَ اَلْفِضَّةَ...) : «كلّ مال تؤدّي زكاته فليس بكنز وإن كان تحت سبع أرضين، وكلّ مال لا تؤدّي زكاته فهو كنز وإن كان فوق الأرض».(3)

وحاصل الكلام: أنّ إدخار المال بعد أداء حقوقه الواجبة أمر جائز وهو من4.

ص: 328


1- . سنن أبي داود: 358/1؛ كنز العرفان: 224/1.
2- . تفسير الدر المنثور: 177/4.
3- . البرهان في تفسير القرآن: 443/4.

ضروريات الفقه الإسلامي، فالإسلام لا يوجب إنفاق كلّ ما يملكه الإنسان من الذهب والفضّة بعد إخراج ما فرض من الحقوق، بل اللازم إخراج ما فرض اللّه سبحانه من الفرائض المالية كالزكاة والخمس وغيرهما من الكفّارات، ويشهد على ذلك قوله سبحانه: (وَ مِمّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) (1)، وقوله تعالى: (وَ اَلَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسّائِلِ وَ اَلْمَحْرُومِ) (2)، وقوله سبحانه: (أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ) (3) وهذه الآيات صريحة في أنّه لا يجب على الإنسان إنفاق كلّ ما يملكه.

نعم لو سبّب اكتناز العملة حتى بعد إخراجها، أزمةً اقتصادية، واختلالاً في النظام، لحرم الاكتناز أيضاً كما سيأتي.

بقيت هنا أُمور:

الأوّل: أنّ حكم العملة الورقية حكم العملة الذهبية أو الفضية، وذلك لأنّ الإشارة إلى العملتين الأخيرتين لأجل أنّ الآية نزلت في عصر يسود فيه التعامل بها، فإذا صار التعامل بغيرهما يكون حكمه حكم العملتين. وبعبارة أُخرى: أنّ اتّخاذ الذهب والفضة موضوعاً للحكم لأجل أنّ التعامل بهما كان رائجاً في ذلك الزمان، وليس لهما أي موضوعية خاصّة في الحكم. غاية الأمر أنّ الواجب في العملة الذهبية والفضية، إخراج الزكاة وفي الورقية إخراج خمسها إذا تعلّق بها الخمس.

ص: 329


1- . البقرة: 3.
2- . المعارج: 24 و 25.
3- . البقرة: 267.

الثاني: أنّ المراد في سبيل اللّه يحتمل أحد أُمور ثلاثة:

1. ما تقدّم من أنّ المراد أداء زكاته.

2. الإنفاق في جهاد العدو؛ ويؤيّد ذلك احتمال ورود الآية إبّان غزوة تبوك، وقد أمر فيها رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أصحابه بالتهيّؤ لغزو الروم وذلك في زمان عسرة الناس، وشدّة من الحرج، وجدب من البلاد، وحاجة الناس للأموال وما يحمل عليه من الدواب في سبيل اللّه، فأنفق رجال من أهل الغنى وبَخَل آخرون. وقد جاء رجال من المسلمين للمشاركة في الجهاد وطلبوا من النبي صلى الله عليه و آله و سلم ما يحملهم فقال النبي صلى الله عليه و آله و سلم: (لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ) .(1)

3. أن يُراد به كلّ ما يتعلّق بمصالح الدين الواجب حفظها وشؤون المجتمع الإسلامي التي ينفسخ عقد المجتمع إذا انفسخت، فمَن كنز ذهباً أو فضّة والحاجة قائمة والضرورة عاكفة، فقد كنز الذهب والفضة ولم ينفقها في سبيل اللّه فليبشر بعذاب أليم، فقد آثر نفسه على ربّه وقدّم حاجة نفسه أو ولده الاحتمالية على حاجة المجتمع الديني القطعية.(2) وعلى هذا تتّسع دائرة وجوب الإنفاق.

الثالث: أنّ الآية ناظرة إلى تحريم كنز العملة، وأمّا الاحتكار فهو موضوع آخر، وله أحكام مذكورة في كتب الفقه.

الرابع: لو قلنا بالوجه الأوّل في تفسير (سَبِيلِ اَللّهِ) وإنّ تحريم الكنز مشروط بعدم إخراج الحقّ الواجب، فإذا أخرج ما هو الحقّ الواجب فليس بكنز، لكن هناك أمر آخر وهو أنّه لو أدّى هذا العمل - أي الكنز - بعد إخراج الحقّ 9.

ص: 330


1- . التوبة: 92.
2- . الميزان في تفسير القرآن: 250/9.

الواجب إلى حصول مشاكل في المجتمع الإسلامي تعرقل مسير عجلة الاقتصاد، فهذا النوع من الاكتناز حرام بالعنوان الثانوي، لأنّ حفظ النظام من أوجب الواجبات، فكلّ عمل ينتهي إلى الإخلال بالنظام، فهو محكوم بالحرمة.

إنّ اجتماع النقود (الأموال) عند واحد أو مجموعة من الناس يصيب حركة تبادل الأعيان والثروات بالشلل ويعرقلها، وهذا يعود بالضرر على أفراد المجتمع ويحرمهم من الحصول على حاجاتهم الضرورية.

ثمّ إنّه قد ينسب إلى أبي ذر الغفاري الذهاب إلى حرمة جمع المال مطلقاً سواء أُخرجت زكاته أم لا، فقد ثبت في محلّه بطلان هذه النسبة وإنّها فرية نسبت إلى هذا الصحابي الجليل، وإنّما كانت غايته من تلاوة هذه الآية منصبّة على الكنوز المكتنزة عن طريق عطايا الخليفة من بيت مال المسلمين لأقربائه ورجال بلاطه.

وما كان أبو ذر يمنع الناس عن جلب الثروة من طريقها المشروع، ولا يبغي سلب السلطة عمّن ملك شيئاً ملكاً مشروعاً، لكنّه كان ينقم على أهل الإثرة على اغتصابهم حقوق المسلمين، وخضمهم مال اللّه خضمة الإبل نبتة الربيع، وما كان يتحرّى إلّاما أراد اللّه سبحانه بقوله عزّ من قائل: (وَ اَلَّذِينَ يَكْنِزُونَ) ، وما جاء به رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في الأحكام (الإقتصادية) المالية.(1)

وعلى كلّ حال فالآية من أدلّة وجوب إخراج الزكاة من المال.م.

ص: 331


1- . لاحظ: الغدير: 502/8-534، تحت عنوان: لا شيوعية في الإسلام.

أحكام الزكاة

3. وجوب أخذ الزكاة على النبيّ وعلى مَن يقوم مقامه

الآية الثالثة
اشارة

قال سبحانه: (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَ تُزَكِّيهِمْ بِها وَ صَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَ اَللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) .(1)

المفردات

صدقة: ما ينفقه المؤمن من قربة للّه، وأُريد في الآية الزكاة الواجبة.

تطهّرهم: من دنس البخل والطمع.

تزكّيهم: من قولهم: رجل زكيّ أي زائد الخير والفضل، وأُريد بها هنا تنقية النفس وترفّعها بعمل الخيرات.

التفسير

تقدّم في الآيتين السابقتين، ما يدلّ على وجوب الزكاة، وهذه الآية تدلّ

ص: 332


1- . التوبة: 103.

على وجوب أخذ الصدقة من التائبين، بقرينة وقوع الآية بعد قوله سبحانه: (وَ آخَرُونَ اِعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ...) .(1)

ولكن المورد غير مخصّص للحكم، وإن كان السبب خاصّاً، يقول سبحانه: (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ) : أي من أموال التائبين (صَدَقَةً) أُريد بها الزكاة، لأنّ حمله على غيرها بحاجة إلى دليل، ثم علّل سبحانه حكمة أخذ الصدقة بوجهين:

أ. (تُطَهِّرُهُمْ) عن دنس البخل والرذائل الأخلاقية، ومن القسوة على الفقراء والمساكين.

ب. (وَ تُزَكِّيهِمْ بِها) : أي تزكّي أنفسهم بها، وتزرع مكانها نوعاً من السخاء ورعاية حقوق الآخرين في أنفسهم، ويحتمل أن يُراد به الإنماء، والمعنى أنّه تعالى يجعل النقصان الحاصل بسبب إخراج قدر الزكاة سبباً للإنماء.(2)

وهل الضمير المستتر في (تُطَهِّرُهُمْ) يرجع إلى الصدقة، أي تطهّرهم الصدقة، فتكون التاء للتأنيث، أو هو خطاب للنبي صلى الله عليه و آله و سلم والفعل خطاب للنبي؟ الظاهر هو الثاني بقرينة قوله: (وَ تُزَكِّيهِمْ بِها) فإنّ الضمير المجرور يرجع إلى الصدقة، وتقدير الآية: تطهّرهم بها وتزكّيهم بها.

فإن قلت: على ما ذكر يكون الفعلان جواباً للأمر، أعني: (خُذْ) ، ولازم ذلك أن يكونا مجزومين، مع أنّهما مرفوعان.

قلت: إنّ الشيخ الطوسي التفت إلى ذلك وقال: ولا يجوز أن يكون جواباً للأمر لأنّه لو كان كذلك لكان مجزوماً، فعلى هذا فجواب الأمر محذوف، نظير أن6.

ص: 333


1- . التوبة: 102.
2- . تفسير الرازي: 179/16.

يقال: خذ من أموالهم صدقة، فهو خير لهم، تطهّرهم وتزكّيهم بها.(1)

فعلى ما ذكرنا فالنبي صلى الله عليه و آله و سلم هو الذي يقوم بهذين العملين: تطهير النفوس من مساوئ الأخلاق وتزيينها بفضائلها.

ثمّ إنّه سبحانه يأمر النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم بالدعاء والصلاة لمؤدّي الزكاة ويقول: (وَ صَلِّ عَلَيْهِمْ) وقد روي أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم كان يدعو لمَن يؤدّي الزكاة، مثلاً يقول: «اللّهم صل على آل أبي أوفى» وظاهر الآية وجوب الدعاء على آخذ الزكاة إلّاأن يدلّ دليل على استحبابها.

نعم ليس للدعاء صيغة خاصّة، وفي الحقيقة الدعاء من الآخذ نوع شكر لمؤدّي الزكاة، فلو قال: آجرك اللّه فيما أعطيت وبارك لك فيما أبقيت، فقد أدى الوظيفة.

وممّا يدلّ على فضيلة التصدّق - سواء أكانت فريضة أم مندوبة - ما رواه محمد بن مسلم عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «كان علي بن الحسين عليهما السلام إذا أعطى السائل قبّل يده وشمّها، ثم وضعه في يد السائل، فقيل له: لم تفعل ذلك؟ قال: لأنّها تقع في يد اللّه قبل يد العبد» وقال: «ليس من شيء إلّاوُكِّل به ملكٌ إلّاالصدقة فإنّها تقع في يد اللّه» قال الفضل: أظنّه يقبّل الخبز أو الصدقة.(2)

ثمّ إنّه سبحانه يعلّل دعاء النبيّ لمؤدّي الزكاة بقوله: (إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ) فإنّ دعاء النبي أو الإمام يورث ارتياح قلوبهم حيث يطمئنون بقبول عملهم وغفران ذنوبهم، ويستعدّون لدفعها في وقت آخر أيضاً.7.

ص: 334


1- . لاحظ: التبيان في تفسير القرآن: 296/5.
2- . تفسير العياشي: 108/2، برقم 117.

قال الرازي في تفسير قوله: (سَكَنٌ لَهُمْ) : إنّ روح محمد صلى الله عليه و آله و سلم كانت روحاً قويّة مشرقة صافية باهرة، فإذا دعا محمد لهم وذكرهم بالخير، فاضت آثار من قوّته الروحية على أرواحهم، فأشرقت بهذا السبب أرواحهم وصفت أسرارهم، وانتقلوا من الظلمة إلى النور، ومن الجسمانية إلى الروحانية.(1)

وخُتمت الآية باسمين مباركين، هما: (وَ اَللّهُ سَمِيعٌ) لدعاء النبي (عَلِيمٌ) بكلّ شيء وبما في قلوب المتصدّقين، أو بما في الأمر بأخذ الصدقات من الخير والمصلحة.

جواز الصلاة على المؤمن مفرداً

ظاهر قوله سبحانه: (وَ صَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ) جواز الصلاة على المؤمن مفرداً، ولذلك صارت سنّة علمائنا الإمامية الصلاة بعد ذكر أحد الأنبياء والأئمّة مفرداً تبعاً للذكر الحكيم، ومع ذلك نرى أنّ بعض أهل السنّة يتردّد في ذلك أو يستشكل وربما يمنع؛ لأنّه يؤدّي إلى اتّهامه بالرفض، وإن كنت في شكّ من ذلك فأقرأ ما ذكره الزمخشري في تفسير قوله سبحانه: (إِنَّ اَللّهَ وَ مَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى اَلنَّبِيِّ) (2) قال: فإن قلت: فما تقول في الصلاة على غيره؟

قلت: القياس جواز الصلاة على كلّ مؤمن لقوله تعالى: (هُوَ اَلَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ) ، وقوله تعالى: (وَ صَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ) وقوله: اللّهم صلّ على أبي أوفى، ولكنّ للعلماء تفصيلاً في ذلك وهو أنّها إن كانت على سبيل التبع كقولك: صلى اللّه على النبي وآله، فلا كلام فيها، وأمّا إذا أفرد غيره من أهل البيت

ص: 335


1- . تفسير الرازي: 184/16.
2- . الأحزاب: 56.

بالصلاة كما يفرد هو فمكروه، لأنّ ذلك صار شعاراً لذكر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ولأنّه يؤدّي إلى الاتّهام بالرفض.(1)

والعجب من ابن حجر في فتح الباري إذ قال: اختلف في السلام على غير الأنبياء بعد الاتّفاق على مشروعيته في الحيّ، فقيل يشرع مطلقاً، وقيل: بل تبعاً ولا يفرد لواحد لكونه صار شعاراً للرافضة، ونقله النووي عن الشيخ أبي محمد الجويني.(2)

ومعنى ذلك: أنّه لم يجد مبرراً لترك ما شرعه الإسلام، إلّاعمل الرافضة بسنّة الإسلام، ولو صحّ ذلك، لوجب على القائل أن يترك عامّة الفرائض والسنن التي يعمل بها الروافض حسب زعمه.

ثمّ إنّ الرازي مع كونه إمام المشكّكين قد خضع للحقيقة في المقام وقال: إنّ أصحابنا يمنعون من ذكر «صلوات اللّه عليه» و «عليه الصلاة والسلام» إلّافي حقّ الرسول. والشيعة يذكرونه في عليّ وأولاده واحتجّوا عليه بأنّ نصّ القرآن دلّ على أنّ هذا الذكر جائز في حقّ مَن يؤدّي الزكاة. فكيف يمنع ذكره في حقّ علي والحسن والحسين (رضي اللّه عنهم)، ورأيت بعضهم قال: أليس أنّ الرجل إذا قال: سلام عليكم يقال له: وعليكم السلام، فدلّ هذا على أنّ ذكر هذا اللفظ جائز في حقّ جمهور المسلمين، فكيف يمتنع ذكره في حقّ آل بيت الرسول عليه الصلاة والسلام.(3)6.

ص: 336


1- . تفسير الكشّاف: 549/2.
2- . فتح الباري: 14/11.
3- . تفسير الرازي: 181/16.

كما أنصف صاحب المنار في المقام حيث قال: والأفضل الجمع بين الصلاة والسلام عليه صلى الله عليه و آله و سلم وعلى آله، وأكثر المسلمين يخصّ بالسلام الأنبياء والملائكة، وكذا جماعة آل بيته صلى الله عليه و آله و سلم والشيعة يلتزمون السلام على السيدة فاطمة وبعلها وولديهما والأئمّة المشهورين من ذرية السبطين ويوافقهم كثير من أهل السنّة وغيرهم في الزهراء والسبطين ووالدهما (سلام اللّه ورضوانه عليهم) إذا ذكروا جماعة أو أفراداً، وأمّا الصلاة والسلام على الآل بالتبع للرسول صلى الله عليه و آله و سلم فهو مجمع عليه، ومنه صلاة التشهّد، وكذا عطف الصحابة والتابعين على الآل ذائع في الكتب والخطب والأقوال.(1)

قال سبحانه: (أَ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اَللّهَ هُوَ يَقْبَلُ اَلتَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَ يَأْخُذُ اَلصَّدَقاتِ وَ أَنَّ اَللّهَ هُوَ اَلتَّوّابُ اَلرَّحِيمُ) .(2)

قبول التوبة بيد اللّه

ذكر الطبرسي في سبب نزول هذه الآية: أنّهم لمّا سألوا النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم أن يأخذ من أموالهم ما يكون كفّارة لذنوبهم، امتنع من ذلك انتظاراً لإذن من اللّه سبحانه فيه، فبيّن اللّه أنّه ليس قبول التوبة إلى النبي صلى الله عليه و آله و سلم وأنّ ذلك إلى اللّه عزّ اسمه، فإنّه الذي يقبلها.(3)

فنزلت الآية: (أَ لَمْ يَعْلَمُوا) أُولئك التائبون من ذنبهم (أَنَّ اَللّهَ هُوَ يَقْبَلُ اَلتَّوْبَةَ

ص: 337


1- . تفسير المنار: 26/11.
2- . التوبة: 104.
3- . مجمع البيان: 128/5.

عَنْ عِبادِهِ) ثم ضمّ إلى قبول التوبة قوله: (وَ يَأْخُذُ اَلصَّدَقاتِ) : أي يتقبّلها بأنواعها، ووجه الجمع أنّ التوبة مطهّرة وإيتاء الصدقة كما مرّ يُطهر، فالتصدّق بالصدقة، توبة ماليّة.

فعلى هذا تكون توبتهم بدفع الصدقات ويحتمل أن تكون بغيره، كتوبة النصوح. ويؤيّد الثاني ما في ذيل الآية: (وَ أَنَّ اَللّهَ هُوَ اَلتَّوّابُ) : أي يقبل التوبة (اَلرَّحِيمُ) رحيم بعباده الذي من مظاهر رحمته قبول الصدقات وصرفها في مواضعها.

ثمّ إنّه لا يخفى أنّ في هذا التعبير: (وَ يَأْخُذُ اَلصَّدَقاتِ) الكثير من اللطافة، فإنّ اللّه هو الذي يأخذ الصدقات، ومن المعلوم أنّ الآخذ هو النبي أو الإمام أو الجابي، لكن لمّا كان أخذهم بإذن من اللّه سبحانه، كأنّ الجميع يمثّل أخذ اللّه سبحانه، وقد مرّ في الحديث السابق أنّ الصدقة، لا تقع في يد العبد حتى تقع في يد الرب.(1)

تتمة

استدلّ غير واحد من الفقهاء على أنّ الزكاة تتعلّق بالعين، لا بالذمّة، لقوله سبحانه: (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً) (2)، غير أنّ تعلّقها بالعين يتصوّر على وجوه ثلاثة:

1. التعلّق على نحو الإشاعة، فيكون مستحقّ الزكاة شريك المالك في

ص: 338


1- . البرهان في تفسير القرآن: 540/4، برقم 4691.
2- . التوبة: 103.

النصاب.

2. التعلّق على نحو الكلّي في المعيّن، وهذا ما قوّاه السيّد الطباطبائي في «العروة الوثقى»، قال: الأقوى أنّ الزكاة متعلّقة بالعين، لكن لا على وجه الإشاعة، بل على وجه الكلّي في المعيّن.

وحينئذٍ فلو باع قبل أداء الزكاة بعض النصاب صحّ، إذا كان مقدار الزكاة باقياً عنده، بخلاف ما إذا باع الكلّ، فإنّه بالنسبة إلى مقدار الزكاة يكون فضولياً محتاجاً إلى إجازة الحاكم.(1)

3. التعلّق على نحو تعلّق الحقّ، ومعنى ذلك أنّ النصاب كلّه ملك للمالك غير أنّه سبحانه أمره بالتصدّق بجزء منه، وهذا الأمر أوجد حقّاً للفقير ونظيره، دون أن يكون مالكاً بالفعل شيئاً في نفس النصاب.

وبعبارة أُخرى: إنّ النصاب ملك للمالك، ولكنّه مأمور بدفع شيء إلى مستحقّي الزكاة كما أنّ ناذر الصدقة مأمور بصرف ما نذره في مورده، فيتولّد من هذا الحكم التكليفي حكم وضعي، وهو تعلّق حقّ (لا ملك) بمال المالك، فيعدّ ملك المالك وثيقة لمستحقّي الزكاة.

والذي يقرب أنّ التعلّق على نحو «الاستيثاق». وإن شئت قلت: تعلّق حقّ لمستحقّ الزكاة بمال المالك، هو الارتكاز العرفي في الضرائب العرفية، فإنّ دائرة الضرائب التي وظيفتها جباية الضرائب لاترى نفسها مالكة بالفعل على نحو الإشاعة أو الكلّي في المعيّن للأموال التي اكتسبها التاجر أو الكاسب، وإنّماترى صاحب الأرباح مكلّفاً من جانب الدولة بإخراج 20% من الأرباح التي اكتسبها من1.

ص: 339


1- . العروة الوثقى: 84/4، كتاب الزكاة، المسألة 31.

هذه السنة أو السنة الماضية، فأوجد ذلك التكليف، حقّاً لدائرة الضرائب لأن تطلب منه ما فرضته الدولة، وترى نفسها محقّة في هذا الطلب والأخذ على نحو لا تملك إلّابدفع المالك، وأخذ الجابي، والتفصيل في محلّه.(1)

وبما ذكرنا يتغيّر حكم قسم من الأحكام المذكورة في الرسائل العملية في مورد التصرّف في المال الزكوي قبل إخراج زكاتها فلاحظ.1.

ص: 340


1- . لاحظ: كتابنا: الزكاة في الشريعة الإسلامية الغراء: 454/1.

أحكام الزكاة

4. مصارف الزكاة

الآية الرابعة
اشارة

قال سبحانه: (إِنَّمَا اَلصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَ اَلْمَساكِينِ وَ اَلْعامِلِينَ عَلَيْها وَ اَلْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَ فِي اَلرِّقابِ وَ اَلْغارِمِينَ وَ فِي سَبِيلِ اَللّهِ وَ اِبْنِ اَلسَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اَللّهِ وَ اَللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) .(1)

المفردات

الصدقات: الزكوات، بقرينة الآية السابقة، حيث جاء فيها: (وَ مِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي اَلصَّدَقاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَ إِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ) .(2) ولكن يظهر من شأن النزول أنّها أعمّ من الزكوات والغنائم.

الفقراء والمساكين: ستقرأ الفرق بينهما في التفسير.

ص: 341


1- . التوبة: 60.
2- . التوبة: 58.
التفسير

الآية بصدد بيان مصارف الزكاة الثمانية، وقبل التفسير نشير إلى ما في الآية من نكات:

1. ابتدأ سبحانه الآية بأداة الحصر، وقال: (إِنَّمَا اَلصَّدَقاتُ) لأجل ردّ لمز المنافقين وغيرهم كما جاء في الآية المتقدّمة، فردّ عليهم ببيان مصارف الصدقات الثمانية وإنّها إمّا لهم أو يُصرف فيهم وليس للنبيّ صلى الله عليه و آله و سلم التجاوز عنها.

2. إنّ اللام في قوله: (لِلْفُقَراءِ) للتمليك، فالجميع يملك بحكم اللام المذكورة في المعطوف عليه، أو المقدّرة كما في المعطوف المجرّد عنها، أي (وَ اَلْمَساكِينِ وَ اَلْعامِلِينَ عَلَيْها وَ اَلْمُؤَلَّفَةِ) .

وأمّا ما قُرن بلفظة (فِي) فيدلّ على أنّه مصرف لها لا مالك، وهذا كما (وَ فِي اَلرِّقابِ) بناء على أنّ العبد لا يملك، و (فِي سَبِيلِ اَللّهِ) كالجهاد وبناء المساجد والقناطر.

3. قوله تعالى: (فَرِيضَةً) فلعلّها مفعول مطلق لفعل مقدّر يدلّ عليه قوله:

(إِنَّمَا اَلصَّدَقاتُ) : أي فرض اللّه الصدقات فريضة، ويحتمل أن تكون منصوبة لكونها حالاً، أي فريضة مؤكّدة لا تعصى.

4. وقد ختمت الآية باسمين شريفين: (عَلِيمٌ حَكِيمٌ) إشعاراً منه بأنّ تشريع هذه الضريبة، صدر عن علم وحكمة، ومحاسبة دقيقة وأنّ أصحاب الأموال لو قاموا بواجبهم، لسدّوا خلّة الفقراء في الأُمة الإسلامية.

إذا عرفت ذلك فلنرجع إلى بيان مصارف الزكاة:

الأوّل والثاني: (لِلْفُقَراءِ وَ اَلْمَساكِينِ) إنّما الكلام في الفرق بينهما، وقد

ص: 342

ذكروا في الفرق بينهما وجوهاً(1)، ويمكن استظهار الفرق بينهما بالبيان التالي:

إنّ لفظ المسكين مفرداً وجمعاً مرفوعاً ومنصوباً ورد في القرآن ثلاثاً وعشرين مرّة، كما ورد لفظ الفقير كذلك ثلاث عشرة مرّة، والإمعان في الآيات يوضح بأنّ المسكين يتميّز عن الفقير بأحد أمرين:

أ. كونه أسوأ حالاً من الفقير قال سبحانه: (يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ) (2)، أي يتيماً ذا قربى من قرابة النسب والرحم، أو مسكيناً قد لصق بالتراب من شدّة فقره وضرّه، وأمّا الفقير فيستعمل في مقابل الغني، قال تعالى: (يا أَيُّهَا اَلنّاسُ أَنْتُمُ اَلْفُقَراءُ إِلَى اَللّهِ وَ اَللّهُ هُوَ اَلْغَنِيُّ اَلْحَمِيدُ) (3)، ومن المعلوم أنّ لعدم الغنى مراتب كثيرة وليس كلّ من ليس بغني مسكيناً ذليلاً لاصقاً بالتراب بخلاف المسكين.

ب. كون المسكين من يسأل الناس دون الفقير، ويدل عليه قوله سبحانه: (لِلْفُقَراءِ اَلَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اَللّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي اَلْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ اَلْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ اَلتَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ اَلنّاسَ إِلْحافاً) (4) أي لا يسألون الناس أصلاً، كما في المجمع(5)، بخلاف المسكين فهو من يسأل الناس قال سبحانه: (فَانْطَلَقُوا وَ هُمْ يَتَخافَتُونَ * أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا اَلْيَوْمَ 2.

ص: 343


1- . لاحظ: تفسير القرطبي: 168/8-171.
2- . البلد: 15-16.
3- . فاطر: 15.
4- . البقرة: 273.
5- . لاحظ: مجمع البيان: 253/2.

عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ) (1) ، فدخول المسكين علامة السؤال.

وما استفدناه من الآية من الفرقين أُشير إليه في روايات أئمة أهل البيت عليهم السلام ونكتفي هنا بذكر واحدة منها.

روى محمد بن مسلم عن أحدهما عليهما السلام أنّه سأله عن الفقير والمسكين؟ فقال: «الفقير الذي لا يسأل، والمسكين - الذي هو أجهد منه - الذي يسأل».(2)

الثالث: قوله: (وَ اَلْعامِلِينَ عَلَيْها) وهم المنصوبون من قبل الإمام أو نائبه الخاص أو العام لأخذ الزكوات وضبطها وحسابها وإيصالها إليه، فإنّ العامل يستحقّ منها سهماً في مقابل عمله وإن كان غنياً. قال العلّامة الحلّي: يجب على الإمام أن يبعث ساعياً لتحصيل الصدقات من أربابها لأنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم كان يبعثهم في كلّ عام فيجب اتّباعه. ولأنّ تحصيل الزكاة غالباً إنّما يتمّ به وتحصيل الزكاة واجب فيجب ما لا يتم إلّابه.(3)

ويشترط فيهم: البلوغ والعقل والإيمان والعدالة، كما يشترط معرفة المسائل المتعلّقة بعملهم اجتهاداً أو تقليداً.

الرابع: (وَ اَلْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ) وهم الذين يراد من إعطائهم ألفتهم وميلهم إلى الإسلام أو إلى معاونة المسلمين في الجهاد مع الكفّار أو الدفاع، ومن المؤلّفة قلوبهم: ضعفاء العقول من المسلمين لتقوية اعتقادهم، أو لإمالتهم للمعاونة في الجهاد أو الدفاع.5.

ص: 344


1- . القلم: 23-24.
2- . الوسائل: 6، الباب 1 من أبواب المستحقّين للزكاة، الحديث 2، ولاحظ الحديث: 6 و 7.
3- . تذكرة الفقهاء: 246/5.

الخامس: (وَ فِي اَلرِّقابِ) عبّر سبحانه عن هذا الصنف: (وَ فِي اَلرِّقابِ) بتغيير السياق عن «اللام» إلى (فِي) إشعاراً بأنّ الزكاة تصرف في طريق مصالحهم من فكّهم وعتقهم دون التمليك لهم، كما مرّ. ولذلك فسّره الطبرسي بقوله: «في فكّ الرقاب من العتق». وهم ثلاثة أصناف:

الأوّل: المكاتبة مطلقاً أو مشروطاً.

الثاني: العبد تحت الشدّة.

الثالث: مطلق عتق العبد مع عدم وجود المستحقّ للزكاة.

السادس: (وَ اَلْغارِمِينَ) وهم الذين ركبتهم الديون وعجزوا عن أدائها وإن كانوا مالكين لقوت سنتهم.

السابع: (وَ فِي سَبِيلِ اَللّهِ) وهو جميع سبل الخير من الجهاد وبناء القناطر والمدارس والخانات والمساجد وتعميرها وتخليص المسلمين من يد الظالمين ونحو ذلك من المصالح كإصلاح ذات البين ودفع وقوع الشرور والفتن بين المسلمين.

الثامن: (وَ اِبْنِ اَلسَّبِيلِ) وهو المسافر الذي نفدت نفقته، أو فقد وسيلة سفره، بحيث لا يقدر مع ذلك على السفر والعودة إلى أهله، وإن كان غنيّاً في وطنه، بشرط عدم تمكّنه من الاستدانة أو بيع ما يملكه.

هذه هي المصارف الثمانية للزكاة، والتفصيل في كلّ واحد منها والشروط اللازمة في دفع الزكاة إليهم يحتاج إلى بسط في الكلام، وقد بسطنا الكلام فيها في

ص: 345

كتابنا «الزكاة في الشريعة الإسلامية الغرّاء».(1)

ثمّ إنّه سبحانه ختم الآية باسمين من أسمائه الحسنى بقوله: (فَرِيضَةً مِنَ اَللّهِ) : أي مقدّرة واجبة قدّرها اللّه وختمها بقوله: (وَ اَللّهُ عَلِيمٌ) بحاجات خلقه (حَكِيمٌ) فيما فرض عليهم.

بحوث حول الزكاة

الأوّل: أنّ الزكاة إحدى المنابع المالية للحكومة الإسلامية، وقد استأثرت باهتمام الفقهاء منذ رحيل النبي صلى الله عليه و آله و سلم إلى يومنا هذا، وقد جاء ذكرها في القرآن الكريم 32 مرّة، وقُرنت بالصلاة في موارد كثيرة، وقد تضافرت الروايات على وجوبها(2) حتى عدّ السيد الطباطبائي (صاحب العروة الوثقى) وجوبها من ضروريات الدين، ومنكره مع العلم به كافر. وكأنّه مبني على أنّ إنكار وجوبها عند المنكر يلازم إنكار الرسالة للنبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم، وقد ثبت في محلّه أنّ الإسلام شهادة أن لا إله إلّااللّه والتصديق برسول اللّه، وبه حقنت الدماء وعليه جرت المناكح والمواريث.(3)

الثاني: قد دلّت الآيات على أنّ للفقراء والمساكين سهماً في الصدقات وربما يتوهّم من ذلك تثبيت الفقر والمسكنة في المجتمع الإسلامي، إذ لولا الفقر والحاجة لما كان لسهمهما مصرف. ولكنّه توهّم باطل، لوجوه:

أوّلاً: إنّ معنى الآية أنّه لو كان في المجتمع فقير أو مسكين فتسدّ حاجاتهم

ص: 346


1- . لاحظ: الزكاة في الشريعة الإسلامية الغرّاء: 14/2-198.
2- . لاحظ: الوسائل: 6، الباب 1 من أبواب ما تجب فيه الزكاة. مضافاً إلى ما مرّ من الآيات.
3- . بحار الأنوار: 248/88، برقم 8.

عن طريق الصدقات، وقد ثبت في محلّه أنّ صدق القضايا الحقيقية أو الشرطية لا يلازم وجود الموضوع قطعاً؛ بل يكفي في صدقهما فرض الموضوع. وعلى هذا فلو وجد الفقير والمسكين فتسدّ حاجاتهما بالصدقات، وإلّا فتصرف في الموارد الستة الواردة في الآية.

ثانياً: إنّ افتراض خلوّ المجتمع من الفقير والمسكين أمر مثالي، فتاريخ الإنسان على البسيطة يشهد على أنّه لم يوجد مجتمع إلى الآن خالٍ من الفقر والحاجة.

ثالثاً: إنّ العوامل المسبّبة لوجودهما لا تنحصر بسوء تدبير الدولة أو نقصان قوانينها، بل لوجود عوامل أُخرى خارجة عن سيطرة الحكومة وتدبيرها، مثلاً ربما يموت الوالد أو يقتل أو يجرح، ويبقى الأولاد فقراء، بسبب عدم وجود الضمان الاجتماعي، أو وجوده ولكن ربما يكون غير كاف في رفع حوائجهم، أو أنّه يخسر في تجارته خسارة فادحة يضيع بها رأس ماله، فيصير فقيراً صفر اليدين، فلابد للدولة الإسلامية من ترميم وضعه، إلى غير ذلك من الحالات والأسباب.

الثالث: قد ذكرنا أنّ للمؤلّفة قلوبهم احتمالات ثلاثة غير أنّ صاحب المنار أسهب في الكلام وذكر أنّ المؤلّفة قلوبهم قسمان: كفّار ومسلمون، والكفّار ضربان والمسلمون أربعة، فمجموع الفريقين ستة، ثم بسط الكلام في بيان كلٍّ، فمن أراد فليرجع إليه.(1)

غير أنّ الذي يجب ذكره أنّ مدرسة الخلافة قد أسقطت سهم المؤلّفة6.

ص: 347


1- . لاحظ: تفسير المنار: 574/10-576.

قلوبهم وقد جرت سيرة النبي صلى الله عليه و آله و سلم على دفع السهام إليهم، لكن لمّا ولي أبو بكر جاء المؤلّفة قلوبهم لاستيفاء سهمهم هذا - جرياً على عادتهم مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم - فكتب أبو بكر لهم بذلك، فذهبوا بكتابه إلى عمر ليأخذوا خطه عليه، فمزّقه، وقال: لا حاجة لنا بكم فقد أعزّ اللّه الإسلام وأغنى عنكم، فإن أسلمتم وإلّا فالسيف بيننا وبينكم؛ فرجعوا إلى أبي بكر، فقالوا له: أنت الخليفة أم هو؟ فقال: بل هو إن شاء اللّه تعالى، وأمضى ما فعله عمر.(1)

فاستقرّ الأمر لدى الخليفتين ومَن يرى رأيهما على سقوط سهم المؤلّفة قلوبهم، وصرفه إلى مَن عداهم من الأصناف المذكورين في الآية.

ثمّ إنّ أهل السنّة برّروا عمل الخليفتين بتغيّر المصلحة بتغيّر الأزمان.

قال صاحب المنار: إنّ ذلك اجتهاد من عمر بأنّه ليس من المصلحة استمرار هذا التأليف لهذين الرجلين الطامعين وأمثالهما بعد الأمن من ضرر ارتدادهما لو ارتدّا، لأنّ الإسلام قد ثبت في أقوامهما حتى أنّه لا يترتّب على قتلهما - لو ارتدّا - أدنى فتنة.(2)

أقول: لو صحّ ما زعمه صاحب المنار من السبب لتبرير عمل الخليفة، لم يستقرّ حجر على حجر، إذ ربما يكون مدعاة لترك كثير من الأحكام بزعم فقدان المصلحة والأمن من المفسدة، وهذا يجرّ لفتح باب الاجتهاد أمام النصّ، وعلى ذلك بنى الخليفة حكمه في نفاذ الطلاق لو أُجري ثلاثاً في مجلس واحد.س.

ص: 348


1- . الجوهرة النيّرة على مختصر القدوري في الفقه الحنفي: 164/1 كما في النص والاجتهاد: 42، ولاحظ: تفسير المنار: 496/10، روح المعاني: 122/10.
2- . تفسير المنار: 496/10. وأراد من الرجلين: عيينة بن حصين، والأقرع بن حابس.

روى مسلم عن طاووس عن ابن عباس قال: كان الطلاق على عهد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر: طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر بن الخطاب: إنّ الناس قد استعجلوا في أمر قد كانت لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم، فأمضاه عليهم.(1)

الرابع: اتّفقت كلمة الفقهاء من السنّة والشيعة على حرمة الصدقات الواجبة على الهاشمي من غير خلاف.

قال الخرقي في متن المغني: ولا لبني هاشم ولا لمواليهم، والمراد من الموالي مَن اعتقهم الهاشمي، وقال ابن قدامة في شرحه: لا نعلم خلافاً في أنّ بني هاشم لا تحلّ لهم الصدقة المفروضة، وقد قال النبي صلى الله عليه و آله و سلم: «أنّ الصدقة لا تنبغي لآل محمد وإنّما هي من أوساخ الناس» أخرجه مسلم، وعن أبي هريرة، قال: أخذ الحسن تمرة من تمر الصدقة، فقال النبي صلى الله عليه و آله و سلم: «كخ كخ - ليطرحها - وقال: أما شعرت أنّا لا نأكل الصدقة»، متّفق عليه.(2)

وقد تضافرت الروايات عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام على حرمة الصدقة على بني هاشم. ولكنّه سبحانه عوّضهم برفع حاجاتهم عن طريق الخمس من الغنائم وغيرها، والتفصيل يطلب من الموسوعات الفقهية.

الخامس: لا يشترط الفقر في العاملين على الزكاة، فإنّ الزكاة كالأُجرة لعملهم، إنّما الكلام في شرطية الفقر في صرف الزكاة في سبيل اللّه كالغازي وإحجاج الغني للحج، والتفصيل يطلب من الفقه.2.

ص: 349


1- . صحيح مسلم: 184/4، باب طلاق الثلاث، الحديث 2.
2- . المغني: 519/2.

أحكام الزكاة

5. إخراج الطيّب من الأموال للزكاة

الآية الخامسة
اشارة

قال سبحانه: (يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَ مِمّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ اَلْأَرْضِ وَ لا تَيَمَّمُوا اَلْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَ لَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَ اِعْلَمُوا أَنَّ اَللّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ * اَلشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ اَلْفَقْرَ وَ يَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَ اَللّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَ فَضْلاً وَ اَللّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) .(1)

المفردات

الخبيث: ضد الطيّب وهو الرديء من كلّ شيء، وأُريد به ما لا يأخذه المنفق عليه إلّابإغماض بقرينة قوله سبحانه: (وَ لَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاّ أَنْ تُغْمِضُوا) ، وتفسير الخبيث بالحرام، بعيد عن سياق الآية.

ص: 350


1- . البقرة: 267-268.

تيمّموا: من التيمّم بمعنى القصد.

تغمضوا: غمض العين في الآية كناية عن التسامح والتساهل في البيع والشراء، فكأنّ المتساهل يغمض عينه ويقبل.

الفقر: الحاجة، وهو ضد الغنى.

الفحشاء: المعاصي.

التفسير

هاتان الآيتان ناظرتان إلى طبيعة المخرَج بعنوان الزكاة، واللّه يأمر الأغنياء أن ينفقوا أطيب الأموال لا أردأها، معلّلاً بأنّ المنفق لا يقبل الأردأ في مقام المعاملة إلّا بغمض العين.

ثم تنتقل الآية إلى غرض آخر وهو أنّ الشيطان بوسوسته، يصدّ الناس عن إنفاق المال، ويغريه بأنّه ربما يفتقر ويحتاج إليه، واللّه سبحانه يرد عليه بأمرين بمعنى أنّ الإنفاق يوجب المغفرة ووفرة المال وزيادته.

إذا تبيّن ذلك فلندخل في تفسير الآيتين:

قوله تعالى: (يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ) ما تملكون، وهو:

1. (ما كَسَبْتُمْ) في التجارة ونحوها.

2. (وَ مِمّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ اَلْأَرْضِ) من المعادن والزراعة.

هذا من غير فرق بين الإنفاق الواجب كالزكاة، أو المستحبّ كسائر الإنفاقات.

ثمّ إنّه سبحانه تأكيداً على إنفاق أطيب الأموال ينهى عن إنفاق الأردأ،

ص: 351

ويقول: (وَ لا تَيَمَّمُوا) : أي لا تقصدوا (اَلْخَبِيثَ) : أي الأردأ (مِنْهُ) : أي ما كسبتم (تُنْفِقُونَ) : من الأردأ، أي اجعلوا إنفاقكم من أفضل ما تملكون، فساووا بينكم وبين غيركم، فبما أنّكم لا تأخذون الأردأ في مقام المعاملة، فكذلك تعاملوا مع غيره معاملة النفس، كما يقول: (وَ لَسْتُمْ بِآخِذِيهِ) الواو للحال، والضمير يرجع إلى الخبيث (إِلاّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ) : أي تتنازلوا وتتساهلوا.

ثمّ ختمت الآية باسمين كريمين ويقول: (وَ اِعْلَمُوا أَنَّ اَللّهَ غَنِيٌّ) عن إنفاقكم (حَمِيدٌ) : أي محمود على نعمائه، فلو فرض عليكم الإنفاق فلمصلحتكم في الدنيا والآخرة.

روى الكليني بسنده عن أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السلام في قوله تعالى:

(أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ) فقال: «كان القوم قد كسبوا مكاسب سوء في الجاهلية، فلمّا أسلموا أرادوا أن يخرجوها من أموالهم ليتصدّقوا بها فأبى اللّه تبارك وتعالى إلّاأن يخرجوا من أطيب ما كسبوا».(1)

وروى العياشي عن الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام قال: «كان أهل المدينة يأتون بصدقة الفطر إلى مسجد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وفيه عذق يسمّى الجعرور وعذق يسمى معافارة، كانا عظيم نواهما، رقيق لحاهما في طعمهما مرارة، فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم للخارص: لا تخرص عليهم هذين اللونين لعلّهم يستحيون لا يأتون بهما، فأنزل اللّه: (يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ) .(2)

وروى الطبرسي، قال: وقيل: إنّها نزلت في قوم كانوا يأتون بالحشف5.

ص: 352


1- . الكافي: 48/4، برقم 10.
2- . تفسير العياشي: 273/1، برقم 496/597. الوسائل: 6، الباب 20 من أبواب زكاة الغلّات، الحديث 5.

فيدخلونه في تمر الصدقة؛ عن علي عليه السلام(1).

وقد روي عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم أنّه قال: «إنّ اللّه تعالى يقبل الصدقات ولا يقبل منها إلّاالطيّب».(2)

ثمّ إنّ الدافع الذي يدعو بعض المنفقين إلى إنفاق الأردأ بحفظ الأطيب إلى أنفسهم هو أنّهم يخافون الفقر في المستقبل العاجل، فيدخرون الأطيب لأنفسهم، وينفقون الأردأ الذي لا يرغب فيه إلّاالفقير المدقع، واللّه سبحانه يردّ هذه الفكرة بأنّها فكرة شيطانية لا رحمانية ويقول: (اَلشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ اَلْفَقْرَ) ويوسوس في نفوسكم ما ذُكر، (وَ يَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ) ولعلّه أُريد البخل، فإنّ البخل عند عامّة الناس من أقبح القبائح. هذا ما يعد به الشيطان، (وَ) لكن (اَللّهُ يَعِدُكُمْ) بأمرين مهمّين، هما:

1. (مَغْفِرَةً مِنْهُ) فإنّ الحسنات يذهبن السيئات.

2. (وَ فَضْلاً) يخلف عليكم خيراً من صدقتكم ويتفضّل عليكم بالزيادة في أرزاقكم، وكأنّ من سنة اللّه تعالى أن يخلف على المنفق بما يسهل له من أسباب الرزق، ويرفع من شأنه في القلوب، وأن يحرم البخيل عن مثل ذلك، وعلى هذا فاللّه سبحانه وعد المنفق بجزائين:

(مَغْفِرَةً) ترجع إلى الآخرة، (وَ فَضْلاً) يرجع إلى الدنيا.

ثم ختمت الآية بقوله: (وَ اَللّهُ واسِعٌ) : أي ذو سعة وغنى لا يحتاج إلى أحد وإنّما يأمركم بالإنفاق لأجل مصالحكم (عَلِيمٌ) بأفعال العباد وأغراضهم.2.

ص: 353


1- . مجمع البيان: 191/2، مؤسسة الأعلمي، بيروت.
2- . مجمع البيان: 208/2؛ مسند أحمد: 404/2.

أحكام الزكاة

6. قصد التقرّب إلى اللّه في إعطاء الزكاة

الآية السادسة
اشارة

قال سبحانه: (وَ ما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَ ما تُنْفِقُونَ إِلاَّ اِبْتِغاءَ وَجْهِ اَللّهِ وَ ما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَ أَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ) .(1)

التفسير

الزكاة فريضة ماليّة وفي الوقت نفسه فريضة قربية، لا عباديّة(2) يتقرب بها، وليس كسائر الواجبات التوصلية التي لا تحتاج إلى قصد التقرّب، كدفن الموتى وجواب السلام، بل يلزم أن يكون الإعطاء طلباً لمرضاة اللّه تعالى.

ص: 354


1- . البقرة: 272.
2- . إشارة إلى الفرق بين كون شيء واجباً قريباً يتقرب به إلى اللّه، دون أن يتعبّد به كالزكاة والخمس والوضوء. وبين كونه قربياً عبادياً، يُعبد به كالصلاة والصوم والحجّ. وقد أوضحنا حالهما في المبسوط عند تقسيم الأوامر إلى توصلية وقربية وتعبدية.

الآية تشتمل على مقاطع:

الأوّل: (وَ ما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ) والغاية من هذه الفقرة هي التنبيه على أنّ ساحة الداعي منزّهة عن الانتفاع بالإنفاق، وإنّما يعود نفعه إلى المدعوين.

الثاني: (وَ ما تُنْفِقُونَ إِلاَّ اِبْتِغاءَ وَجْهِ اَللّهِ) هذه الفقرة جملة حاليّة وقيد للفقرة السابقة فكأنّه يقول: وما تنفقوا من خير فلأنفسكم في حال أنّكم لا تنفقونه إلّا ابتغاء وجه اللّه. وأُريد بوجه اللّه، ذات اللّه ومرضاته، إذ يطلق الوجه ويراد به الذات، كما في قوله سبحانه: (كُلُّ شَيْ ءٍ هالِكٌ إِلاّ وَجْهَهُ) (1).

الثالث: (وَ ما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ) وهذه الفقرة إشارة إلى دفع توهّم، وهو أنّ ما سبق من قوله: (وَ ما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ) ليس مجرّد شعار بل له واقعية (وَ ما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ) من التوفية، أي يؤدّ إليكم كاملاً، ويؤيّده قوله: (وَ أَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ) : أي لا ينقص من أجوركم شيء.

ثمّ إنّ في قوله سبحانه: (وَ ما تُنْفِقُونَ إِلاَّ اِبْتِغاءَ وَجْهِ اَللّهِ) دلالة واضحة على أنّ عملية الزكاة لا تُقبل إلّاإذا كانت مقرونة بنية القربة إلى اللّه سبحانه، وبذلك يعلم أنّ العمل الصالح يتقوّم بأمرين:

1. كون العمل صالحاً وحسناً ينتفع به الناس.

2. كون الباعث للعمل هو النية الخالصة عن السمعة والرياء.

وبذلك يفترق المنهج الإصلاحي والتربوي في الإسلام عن المنهج الغربي في ذينك الأمرين. وذلك أنّ كلّ عمل يصبح مفيداً للمجتمع يتمتّع عند الغربيّين8.

ص: 355


1- . القصص: 88.

بالقبول والتقدير؛ سواء أكان الباعث نيّة هو التقرب إلى اللّه سبحانه أو لرفع الحاجة عن المستضعفين والطبقة الضعيفة، أو كان لأجل تحصيل الأصوات عند الانتخابات، فالميزان كون العمل حسناً فقط دون النية، وهذا بخلاف ما عليه المنهج الإسلامي فلو كان العمل جميلاً ولكن النيّة مشوبة بالآمال المادية، فلا يثاب فاعله ولا يقدّر عمله، ولذلك يقول سبحانه: (وَ ما تُنْفِقُونَ إِلاَّ اِبْتِغاءَ وَجْهِ اَللّهِ) .

ص: 356

أحكام الزكاة

7. أيّهما أفضل: الإبداء بالصدقات أو إخفاؤها؟

اشارة

في الإخفاء تكفير لبعض السيّئات

الآية السابعة
اشارة

قال سبحانه: (إِنْ تُبْدُوا اَلصَّدَقاتِ فَنِعِمّا هِيَ وَ إِنْ تُخْفُوها وَ تُؤْتُوهَا اَلْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَ يُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ وَ اَللّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) .(1)

التفسير

العمل الصالح الذي يتقرّب به العبد إلى اللّه سبحانه ويحصّل على رضاه به، هو العمل المجرّد عن الرياء والسمعة المرفق بالإخلاص، هذا هو ملاك العمل الصالح، سواء أبداه أو أخفاه، ولذلك يقول سبحانه: (إِنْ تُبْدُوا اَلصَّدَقاتِ) : أي تظهروها وتعلنوها (فَنِعِمّا هِيَ) : أي نعم الشيء إظهارها وإعلانها وليس فيه

ص: 357


1- . البقرة: 271.

كراهة (وَ) لكن (إِنْ تُخْفُوها) : أي تستروها (وَ تُؤْتُوهَا اَلْفُقَراءَ) : أي تؤدوها إليهم في السرّ (فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) : أي أبلغ في الثواب، ويترتّب عليه - وراء الثواب - أمر آخر (وَ) هو (يُكَفِّرُ) : أي يُمحي (عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ) : أي بعض سيئاتكم بشهادة «مِن». ولكن أُبهمت السيئات، ومن المعلوم أنّ السيئات الكبيرة لا تُكفّر بالإنفاق، بل لتكفيرها طرق أُخرى.

قوله تعالى: (وَ اَللّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) : أي لا تخفى عليه نيّاتكم في الإبداء والإخفاء. ثمّ إنّ الظاهر من الروايات التفصيل بين الإنفاق الواجب و الإنفاق المندوب. ففي النوع الأوّل الأفضل هو الإبداء، وفي النوع الثاني الأفضل الإسرار.

روى الكليني عن أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «كلّ ما فرض اللّه عليك فإعلانه أفضل من إسراره، وكلّ ما كان تطوّعاً فإسراره أفضل من إعلانه، ولو أنّ رجلاً حمل زكاة ماله على عاتقه فقسّمها علانية كان ذلك حسناً جميلاً».(1)

وروى علي بن إبراهيم بسنده عن أبي جعفر عليه السلام في قوله تعالى: (إِنْ تُبْدُوا اَلصَّدَقاتِ فَنِعِمّا هِيَ) قال: «يعني الزكاة المفروضة»، قلت: (وَ إِنْ تُخْفُوها وَ تُؤْتُوهَا اَلْفُقَراءَ) قال: «يعني النافلة، إنّهم كانوا يستحبون إظهار الفرائض وكتمان النوافل».(2)

ويمكن أن يكون وجه الإبداء في الزكاة المفروضة مرغوباً فيه، هو ترغيب الآخرين إلى العمل بالواجب مضافاً إلى أنّ الإخفاء مظنّة الاتّهام، فلذلك يقوم بأداء1.

ص: 358


1- . الكافي: 501/3، برقم 16.
2- . الكافي: 60/4، برقم 1.

هذا التكليف بشكل علني. كما أنّ الزكاة (الصدقة الواجبة) تُدفع إلى الحاكم الشرعي ويقوم نائبه بجمعها، فليس فيها أي مذلّة وتحقير للمحتاجين لها، فلا إشكال في إعلانها.

وهذا بخلاف الصدقة المندوبة، فإنّها تسلّم إلى نفس الفقير والمحتاج، فإسرارها أفضل؛ لأجل حفظ شخصيته وعدم شعوره بذلّة الحاجة.

نعم ما ورد في الآية ضابطة غالبية، فقد تقتضي المصلحة بإعلان الإنفاق المستحبّ، كما لو قام جماعة ببناء المشاريع الخيرية، كالمستشفيات والمدارس، فمن الواضح أنّ الإعلان أفضل من الإخفاء، حيث إنّه يكون باعثاً ومحفِّزاً للآخرين على المشاركة في الإنفاق.

ولعلّه يشير إلى ما ذُكر، قوله سبحانه: (اَلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَ اَلنَّهارِ سِرًّا وَ عَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ) .(1)

بقيت هنا كلمة وهي أنّ قوله سبحانه: (وَ تُؤْتُوهَا اَلْفُقَراءَ) لعلّه مطلق يعم كلّ فقير، سواء أكان موحدّاً أو لا، مسلماً أو غير مسلم، ولو قلنا بالإطلاق فهو يختصّ بالإنفاق المندوب الذي لا يشترط فيه كونه موحّداً أو مسلماً، إلّاأن يكون محارباً متعدّياً، يقول سبحانه: (لا يَنْهاكُمُ اَللّهُ عَنِ اَلَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي اَلدِّينِ وَ لَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَ تُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اَللّهَ يُحِبُّ اَلْمُقْسِطِينَ * إِنَّما يَنْهاكُمُ اَللّهُ عَنِ اَلَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي اَلدِّينِ وَ أَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَ ظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ اَلظّالِمُونَ) (2).9.

ص: 359


1- . البقرة: 274.
2- . الممتحنة: 8 و 9.

أحكام الزكاة

8. ما هو اللازم في الإنفاق؟

الآية الثامنة:
اشارة

قال سبحانه: (اَلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اَللّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَ لا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ * قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَ مَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً وَ اَللّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ) .(1)

المفردات

المنّ: أن يتطاول المعطي على مَن أعطاه بأن يقول: «ألم أعطك» أو «ألم أحسن إليك» كلّ ذلك استطالة عليه.

الأذى: هو التعيير والتوبيخ والاستخفاف.

ص: 360


1- . البقرة: 262-263.
التفسير

فرض سبحانه على المنفق في سبيل اللّه، الطالب رضاه ومغفرته، أن لا يتبع ما أنفقه بالمنّ والأذى، وقال: (اَلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اَللّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَ لا أَذىً) فجزاء هؤلاء المنفقين غير المتبعين إنفاقهم بالمن والأذى (لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ) .

وأمّا المعوِز والمعدم فيقول سبحانه في حقّه: (قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَ مَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً وَ اَللّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ) .

يُرشد سبحانه - في هذه الآية - المعوزين (أي من لا يستطيع الإنفاق) بأن يردّوا الفقراء إذا سألوهم بأحد أسلوبين:

أ. (قَوْلٌ مَعْرُوفٌ) كأن يتلطّفوا بالكلام في ردّ السائلين والاعتذار منهم والدعاء لهم.

ب. (وَ مَغْفِرَةٌ) لما يصدر منهم من إلحاف أو إزعاج في المسألة، فالمواجهة بهاتين الصورتين (خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً) .

وعلى كلّ حال فالمغني هو اللّه سبحانه، كما يقول: (وَ اَللّهُ غَنِيٌّ) : أي يغني السائل من سعته، ولكنّه لأجل مصالحكم في الدنيا والآخرة استقرضكم في الصدقة وإعطاء السائل (حَلِيمٌ) فعليكم يا عباد اللّه بالحلم والغفران لما يبدر من السائل.

ص: 361

أحكام الزكاة

9. المنع عن إتباع الإنفاق بالمنّ والأذى

الآية التاسعة:
اشارة

قال سبحانه: (يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَ اَلْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ اَلنّاسِ وَ لا يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْ ءٍ مِمّا كَسَبُوا وَ اَللّهُ لا يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلْكافِرِينَ) .(1)

المفردات

رئاء: من الرؤية، وسمّي المرائي بذلك كأنّه يفعل ليُري عمله لغيره.

صفوان: الحجر الأملس.

وابل: مطر عظيم القطر شديد الوقع الذي يزيل التراب.

ص: 362


1- . البقرة: 264.

صلداً: أي صلباً أملس.

التفسير

تتضمّن الآية أمرين:

1. أنّ المن والأذى يبطلان الصدقات.

2. يشبه هؤلاء بالمنفق رآء الناس، ويمثّل واقع عمله بمثال.

أمّا الأمر الأوّل: وهو أنّ المنّ والأذى يبطلان الصدقات. فيشير إليه بقوله: (لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَ اَلْأَذى) .

ثمّ إنّ الإبطال في الآية غير (الحبط) فإنّ معنى الحبط هو إبطال العمل السيِّئ، الثوابَ المكتوب المفروض، وهذا كالكفر إذا ارتدّ المسلم فيحبط عمله، وأمّا المقام فليس من هذا القبيل؛ وذلك لأنّ ترتّب الثواب على الإنفاق مشروط من أوّل الأمر بعدم صدوره عن رياء أو عدم متابعته بالمنّ والأذى في المستقبل، فإذا تابع عمله بأحدهما فلم يأت بالواجب أو المستحب على النحو المطلوب، فلا يكون هناك ثواب مكتوب حتى يزيله المنّ والأذى.

وأمّا استخدام كلمة الإبطال الذي يوحي إلى وجود الثواب والأجر، فيكفي في ذلك وجود المقتضي للأجر وهو الإنفاق، ولا يتوقّف على تحقّق الأجر ومفروضيته على اللّه بالنسبة إلى العبد.

وأمّا الأمر الثاني: فهو توضيح عمل المرائي بالمثال التالي:

نفترض أرضاً صفواناً ملساء عليها تراب ضئيل يخيّل لأوّل وهلة أنّها أرض نافعة صالحة للزراعة، فأصابها مطر غزير جرف التراب عنها فتركها صلدة صلبة

ص: 363

ملساء لا تصلح لشيء من الزرع، كما قال سبحانه: (كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْ ءٍ مِمّا كَسَبُوا) .

فعمل المرائي له ظاهر جميل وباطن رديء، فالإنسان غير العارف بحقيقة نية العامل يتخيّل أنّ عمله منتج، كما يتصوّر الإنسانُ الحجرَ الأملس الذي عليه تراب قليل أنّه صالح للنبات، فعندما أصابه مطر غزير شديد الوقع وأزاح التراب عن وجه الحجر تبيّن أنّه حجر أملس لا يصلح للزراعة، وهكذا عمل المرائي إذا انكشفت الوقائع ورفعت الأستار تبيّن أنّه عمل رديء عقيم غير ناتج.

قال السيد الطباطبائي: فالوابل وإن كان من أظهر أسباب الحياة والنمو وكذا التراب، لكن كون المحلّ صلداً يبطل عمل هذين السببين من غير أن يكون النقص والقصور من جانبهما، فهذا حال الصلد.(1)

فما هو سبب لإنبات النبات على النحو الأحسن صار سبباً لإزالته من رأس.

ثمّ إنّ المانّ والمؤذي بعد الإنفاق أشبه بعمل المرائي. والجامع بين الجميع عدم انتفاعهم من إنفاقهم غير أنّ المرائي يفتقد قصد القربة والمانّ والمؤذي يفقدان شرط القبول.

ثمّ إنّ الآية ختمت بقوله: (وَ اَللّهُ لا يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلْكافِرِينَ) وهي ناظرة إلى المرائي الذي مرّ وصفه في قوله تعالى: (وَ لا يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ) .

***

تمّت آيات أحكام الزكاة2.

ص: 364


1- . الميزان في تفسير القرآن: 394/2.

الفصل الخامس: أحكام الخمس والأنفال والفيء في الذكر الحكيم

اشارة

1. ما هو المراد من الأنفال؟

2. في الأسرى وأخذ الفدية.

3. الخمس في الغنائم.

4. أحكام الأنفال والفيء في الذكر الحكيم.

ص: 365

ص: 366

أحكام الخمس في الذكر الحكيم

قد تقدّم في الفصل السابق أنّ الخمس والأنفال من المنابع الماليّة للحكومة الإسلامية، وها نحن نخصّ هذا الفصل لبيان أحكامهما، وسيوافيك معنى الأنفال.

ثمّ إنّ متعلق الخمس تارة يكون من الأنفال كالكنز والمعدن، وأُخرى يكون من غيره كأرباح المكاسب والأرض التي اشتراها الذمي، وعلى كلّ تقدير فهناك آيات حول الخمس والأنفال مبثوثة في سورتي الأنفال والحشر، ونحن ندرس الجميع على وجه الإيجاز.

***

ص: 367

أحكام الخمس

1. ما هو المراد من الأنفال؟

الآية الأُولى
اشارة

قال سبحانه: (يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلْأَنْفالِ قُلِ اَلْأَنْفالُ لِلّهِ وَ اَلرَّسُولِ فَاتَّقُوا اَللّهَ وَ أَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَ أَطِيعُوا اَللّهَ وَ رَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) .(1)

المفردات

الأنفال: جمع نفل، وهو الزيادة على الشيء، يقال: نفلتك كذا، إذا زدته.

ذات: في الأصل مؤنث «ذا» بمعنى الصاحب، وهو من الأسماء الستة، ولا يستعمل إلّامضافاً، يقال: ذو مال أي صاحب مال، ولكن حصل التطوّر في استعمال اللفظ فأصبح يطلق على نفس الشيء وما به الشيء هوهو، يقال: ذات الإنسان، وذات زيد، أي واقعه الذي سُمّي بزيد، وعلى هذا فمعنى قوله: (وَ أَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ) : أي حقيقة بينكم، أو حال بينكم السيّئة.

ص: 368


1- . الأنفال: 1.
التفسير

ربما يتبادر إلى الأذهان بأنّ اللازم دراسة هذه الآية وما بعدها في قسم الأنفال، مع أنّ البحث في المقام مخصّص في الخمس، غير أنّ العدول عن ذلك لأنّ لفظ الأنفال وإن كان لا يختصّ بموارد الخمس بل سيأتي أنّه أعمّ حتى يشمل رؤوس الجبال والأودية والأنهار الكبيرة، لكن المراد من الأنفال في خصوص هذه الآية هو الغنائم الحربية التي وردت فيها أحكام الخمس في الآية السادسة، فبما أنّ المجموع ورد في غزوة بدر التي لم يكن آنذاك أي حديث عن الأنفال بالمعنى الأعمّ، ولذلك درسنا الآية في هذا المقام. فنقول:

إنّ الآية تدلّ على وجود سؤال عن الأنفال، وأمّا ما هو السؤال فلم يرد في هذه السورة ولا في غيرها، وإنّما يُعلم من الروايات، التي تضمّنت بيان وقوع الاختلاف بين الصحابة في مسألة الأنفال التي وقعت بيد المسلمين بعد معركة بدر، يقول عبادة بن الصامت: خرجنا مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فشهدت معه بدراً، فالتقى الناس، فهزم اللّه العدوّ، فانطلقت طائفة في آثارهم منهزمون يقتلون، واكبّت طائفة على العسكر يحوزونه ويجمعونه، وأحدقت طائفة برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لا يصيب العدوّ منه غرّة، حتى إذا كان الليل وفاء الناس بعضهم إلى بعض، قال الذين جمعوا الغنائم: نحن حويناها وجمعناها فليس لأحد فيها نصيب، وقال الذين خرجوا في طلب العدو لستم بأحقّ بها منّا، نحن نفينا عنها العدوّ وهزمناهم، وقال الذين أحدقوا برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: لستم بأحقّ بها منّا نحن أحدقنا برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وخفنا أن يصيب العدوّ منه غرّة واشتغلنا به، فنزلت: (يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلْأَنْفالِ...) ، فقسّمها

ص: 369

رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بين المسلمين.(1)

إذا تبيّن ذلك فعُلم وجه السؤال وترتّب الجواب عليه.

ثمّ إنّه سبحانه يأمر الحاضرين في غزوة بدر بأُمور ثلاثة:

الأمر الأوّل: قال تعالى: (فَاتَّقُوا اَللّهَ) : أي اتّقوا معصية اللّه وعقابه، واتركوا المنازعة وارضوا بما حكم به الرسول صلى الله عليه و آله و سلم.

الأمر الثاني: (وَ أَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ) : أي أصلحوا الحالة التي بينكم، واجتنبوا عن الجدال والشقاق وكونوا إخواناً متحابّين.

الأمر الثالث: (وَ أَطِيعُوا اَللّهَ وَ رَسُولَهُ) في تقسيم الأنفال، وفي غير ذلك.

ثمّ إنّه سبحانه ذكر شرطاً لتحقق هذه الأُمور الثلاثة، وهو قوله تعالى: (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) وهو بمعنى أنّه لا يقوم بهذه الأُمور إلّاالمؤمن باللّه والمسلّم له، والشرط أشبه بالشرط المحقِّق للموضوع، نظير قولك: إن رزقت ولداً فأختنه.

ما هو المراد من الأنفال؟

وردت كلمة الأنفال في الآية الأُولى من هذه السورة، ولا شكّ أنّ الغنائم الحربية داخلة في آيتنا هذه وكأن المفهوم من الآية، يومئذ هو الغنائم فقط، لكن يظهر من الروايات أنّ للأنفال مصاديق كثيرة نذكر شيئاً منها.

ففي رواية حمّاد بن عيسى عن العبد الصالح عليه السلام، قال: «وله الخمس بعد الأنفال، والأنفال كلّ أرض خربة باد أهلها، وكلّ أرض لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب ولكن صالحوا صلحاً وأعطوا بأيديهم على غير قتال، وله رؤوس الجبال،

ص: 370


1- . تفسير الدر المنثور: 5/4.

وبطون الأودية، والآجام، وكلّ أرض ميّتة لا ربّ لها، وله صوافي الملوك ما كان في أيديهم من غير وجه الغصب، لأنّ الغصب كلّه مردود، وهو وارث من لا وارث له، يعول من لا حيلة له».(1)

وروى الكليني بسنده عن حفص بن البختري، عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «الأنفال ما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب، أو قوم صالحوا، أو قوم أعطوا بأيديهم، وكلّ أرض خربة، وبطون الأودية، فهو لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، وهو للإمام من بعده يضعه حيث يشاء».(2)

إنّما الكلام أنّ مقتضى سياق الآية والظروف التي عاشها النبي صلى الله عليه و آله و سلم يومذاك، هو القول الأوّل (أي الغنائم)؛ لأنّ إرادة غير الغنائم - حسب ما جاء في الرواية - إنّما يصحّ عرفاً فيما لو كان النبي صلى الله عليه و آله و سلم مسلطاً على بطون الأودية أو رؤوس الجبال، أو لو فتح المسلمون أرضاً بلا خيل ولا ركاب، فإنّ البحث في هذه الجهات من شأن مَن له سلطة على بلدان شاسعة ومناطق عديدة، والمفروض أنّ الآية نزلت في السنة الثانية للهجرة، ولم يقرّ للمسلمين قرار تام مثلما حصل عقيب غزوة الأحزاب. فالإصرار على إرادة العموم غير تام.

والذي يمكن أن يقال: إنّ الروايات وسّعت مصاديق الأنفال، كما مرّ.

***1.

ص: 371


1- . الوسائل: 6، الباب 1 من أبواب الأنفال، الحديث 4.
2- . الوسائل: 6، الباب 1 من أبواب الأنفال، الحديث 1.

أحكام الخمس

2. في الأسرى وأخذ الفدية

الآيتان: الثانية والثالثة
اشارة

قال سبحانه: (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتّى يُثْخِنَ فِي اَلْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ اَلدُّنْيا وَ اَللّهُ يُرِيدُ اَلْآخِرَةَ وَ اَللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اَللّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) .(1)

المفردات

أسرى: جمع أسير، كالقتلى والجرحى: جمع قتيل وجريح، يقول ابن مالك:

فَعْلى لوصفٍ كقتيلٍ و زَمِنْ ***و هالكٍ وَ مَيِّتٍ به قَمِنْ

وهو من الأسر بمعنى الشدّ، فكلّ من يؤخذ من العسكر في الحرب، يُشدّ لئلّا يهرب، ثمّ أُطلق على كلّ مأخوذ وإن لم يُشدّ.

يثخن: الثخانة بمعنى الغلظة، وثوب ثخين ضد رقيق، وأُريد في الآية

ص: 372


1- . الأنفال: 67 و 68.

«الاستقرار».

عرض الدنيا: المتاع.

كتاب من اللّه سبق: أي ما مضى من حكم اللّه أن لا يعذب اللّه قوماً حتى يبيّن لهم ما يتّقون.

التفسير

يظهر من الآية الأُولى وما روي من الروايات حولها أنّ المسلمين، قد أسروا جمعاً من المشركين لغاية الفدية قبل أن تنتهي الحرب وتُعلم نتائجها، لأنّ أسرهم لغاية أخذ الفدية منهم قبل استقرار الأمر سوف يجعلهم يلتحقون من جديد بجيش العدوّ، ولذلك نرى أنّ الآية تندد بعمل المسلمين بهذا الخصوص، وأنّه لم يكن أمراً مشروعاً، فعاتبهم اللّه سبحانه على قيامهم بهذا الأمر، وقال: (ما كانَ لِنَبِيٍّ) : أي لم يكن من شأن نبي من أنبياء السلف (أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى) من المشركين للفداء أو المنّ (حَتّى يُثْخِنَ فِي اَلْأَرْضِ) : أي حتى يقوى ويشتدّ ويغلب، فيدلّ على جواز أخذ الأسرى بعد حصول الإثخان في الأرض، والآية تحكي عن أنّ المجاهدين في غزوة بدر أخذوا الأسرى قبل الإثخان في الأرض لغاية الفداء أي تحريرهم في مقابل المال، كما يقول: (تُرِيدُونَ عَرَضَ اَلدُّنْيا) ، وسُمّيت المنافع الدنيوية بالعرض لأنّها لا ثبات لها ولا دوام على عكس نعم الآخرة، (وَ اَللّهُ يُرِيدُ اَلْآخِرَةَ) لكم، أي يُريد لكم ثواب الآخرة، الثابت الدائم (وَ اَللّهُ عَزِيزٌ) لا تغلب أنصاره، فيجب أن يكون المؤمنون غالبين، واللّه (حَكِيمٌ) : أي في أحكامه.

وهذا دليل على وجود التنازع والتشاجر والاختلاف بين الصحابة في أمر

ص: 373

الغنائم، فصار ذلك سبباً لحصر المالكية بيد اللّه سبحانه ثم بيان مصرف الأنفال في آية الخمس.

ويظهر من الآية الثالثة أنّ أخذ الأسرى لغاية الانتفاع بهم قبل نهاية الحرب، وقبل أن تضع أوزارها، كان ذنباً يستحقّ صاحبه العذاب العظيم، ولكنّه سبحانه لم يؤاخذهم بذلك وعفا عنهم بكتاب اللّه، كما قال: (لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اَللّهِ سَبَقَ) : أي سنّة من سنن اللّه، وهو عدم التعذيب قبل البيان (لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) .

وقد اختلف المفسّرون في ما هو المراد من (كِتابٌ) في قوله سبحانه: (لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اَللّهِ سَبَقَ) ، وقد ذكر الطبرسي وجوهاً مختلفة.(1)

وأوضح هذه الوجوه هو الأوّل من كلامه، أي: لو ما مضى من حكم اللّه أن لا يعذّب قوماً حتى يبيّن لهم ما يتقون، قال سبحانه: (وَ ما كُنّا مُعَذِّبِينَ حَتّى نَبْعَثَ رَسُولاً) (2) أي أنّه لولا ما كتب اللّه سبحانه وفرض على نفسه أن لا يعاقب عبداً إلّا بعد ما يبيّن له ما يتّقي، لولا هذا لمسّكم في ما أخذتم من الأسرى عذاب عظيم.

***5.

ص: 374


1- . لاحظ: مجمع البيان: 535/3-536.
2- . الإسراء: 15.

أحكام الخمس

3. الخمس في الغنائم

الآية الرابعة:
اشارة

قال سبحانه: (وَ اِعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي اَلْقُرْبى وَ اَلْيَتامى وَ اَلْمَساكِينِ وَ اِبْنِ اَلسَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللّهِ وَ ما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ اَلْفُرْقانِ يَوْمَ اِلْتَقَى اَلْجَمْعانِ وَ اَللّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ) .(1)

المفردات

غنمتم: الغُنم: الفوز بالشيء (والظفر به)، قاله الأزهري.(2)

وقال الراغب: الغَنْم معروف، والغُنم إصابته والظفر به، ثم استعمل في كلّ مظفور به من جهة العدى وغيرهم.(3) وفي مصطلح الفقهاء: ما كان من غير قتال

ص: 375


1- . الأنفال: 41.
2- . لاحظ: تهذيب اللغة، مادة «غنم».
3- . المفردات للراغب: 366، مادة «غنم».

فهو فيءٌ، وإن كان مع القتال فهو غنيمة.

يوم الفرقان: أُريد به يوم بدر، لأنّه اليوم الذي فرّق فيه بين الإيمان وأهله، وبين الكفر وأهله.

الجمعان: جمع المؤمنين وجمع المشركين.

التفسير

إنّ لفظة «ما» في قوله: (أَنَّما) اسم موصول وهو اسم «أنّ» التي هي من الحروف المشبّهة، ومقتضى قاعدة رسم الخط أن يكتبا مفصولتين «أنّ ما» ولكن لمّا كتبا في المصاحف الأُولى موصولتين بقيت كتابتهما على الرسم السابق، (غَنِمْتُمْ) : أي فزتم (مِنْ شَيْ ءٍ) بيان للموصول لئلّا يتوهّم بأنّ الحكم مخصوص بغنيمة خاصّة، وهو من القرائن الدالّة على أنّه أُريد من الغنيمة مطلق ما يغنمه الإنسان، سواء أكان في الحرب أم غيرها (فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ) لفظة (للّه) خبر مقدّم وما بعده مبتدأ مؤخّر، أي فأنّ خمسه للّه، واللام في قوله: للّه، لام التمليك، فبما أنّ مورد الآية الغنائم التي يفوز بها الإنسان في الحرب، فخمس المغنم للّه ولمن يذكر بعده من الطوائف الخمس، وأمّا الأخماس الأربعة الباقية المنقولة فهي للغزاة، فالغنائم تقسّم على خمسة أسهم: سهم للموارد الستة، والأربعة الباقية للغزاة حسب رأي الإمام، وأمّا الموارد الستة فقد مرّ المورد الأوّل منها وهو (لِلّهِ) سبحانه، وأمّا الموارد الباقية فإليك بيانها:

الثاني: (وَ لِلرَّسُولِ) .

الثالث: (وَ لِذِي اَلْقُرْبى) ، وقد تكرّر حرف الجر في الموارد الثلاثة إشارة

ص: 376

إلى أنّ لكلّ سهماً خاصّاً.

وأمّا ما هو المراد من ذي القربى؟ فإنّ ذكر الرسول قبله دليل على أنّ اللام في (لِذِي اَلْقُرْبى) : أي مَن له قرابة من الرسول، وإفراد «ذي القربى» دون أن يقول: «ذوي القربى» كما في سائر الآيات، دليل على أنّه أُريد به الفرد الخاصّ وفسّرته روايات أهل البيت عليهم السلام بالإمام بعد الرسول.

روى الكليني بسند صحيح عن الرضا عليه السلام قال: سُئل عن قول اللّه عزوجل:

(وَ اِعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي اَلْقُرْبى) فقيل له: فما كان للّه فلمَن هو؟ فقال: «لرسول اللّه وما كان لرسول اللّه فهو للإمام».(1)

وفي حديث آخر: «فأمّا الخمس فيقسّم على ستّة أسهم: سهم للّه، وسهم للرسول صلى الله عليه و آله و سلم، وسهم لذي القربى، وسهم لليتامى، وسهم للمساكين، وسهم لأبناء السبيل، فالذي للّه فلرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، فرسول اللّه أحقّ به فهو له خاصّة، والذي للرسول هو لذي القربى والحجّة في زمانه، فالنصف له خاصّة، والنصف لليتامى والمساكين وأبناء السبيل من آل محمد عليهم السلام الذين لا تحلّ لهم الصدقة ولا الزكاة عوّضهم اللّه مكان ذلك بالخمس...».(2)

وأمّا الموارد الثلاثة فقد أُوتي بها مجرّدة عن حرف الجر، كما في قوله:

(وَ اَلْيَتامى وَ اَلْمَساكِينِ وَ اِبْنِ اَلسَّبِيلِ) مشعراً بأنّ النصف من الخمس للمجموع فيجوز صرف الجميع في مورد واحد إذا اقتضت المصلحة، ولولا الروايات يمكن9.

ص: 377


1- . الوسائل: 7، الباب 1 من أبواب قسمة الخمس، الحديث 6.
2- . الوسائل: 7، الباب 1 من أبواب قسمة الخمس، الحديث 9.

أن يقال: مطلق الأيتام والمساكين وأبناء السبيل، لكن الروايات خصّتهم بيتامى أهل البيت عليهم السلام ومساكينهم وأبناء سبيلهم، وما هذا إلّاعوضاً عن الزكاة، فإنّها حُرّمت على بني هاشم وأُبدلت بالخمس. مضافاً إلى أنّ مجيئهم بعد (الرسول) قرينة على أنّ المراد يتامى ومساكين ذلك البيت.

قوله تعالى: (إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللّهِ) الظاهر أنّ الجملة الشرطية تتعلّق بما تقدّم من قوله: (وَ اِعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ) والغرض من القيد هو طلب العمل بعد العلم، والمعنى: إن كنتم آمنتم باللّه فاعلموا أنّ ما غنمتم فإنّ خمسه للّه وللرسول...، إلخ.

قوله تعالى: (وَ ما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا) : أي الرسول (يَوْمَ اَلْفُرْقانِ) والجملة عطف على لفظ الجلالة (بِاللّهِ) : أي إن آمنتم باللّه وآمنتم بما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان، وأبهم سبحانه ما أنزله يوم الفرقان الذي هو يوم بدر الذي فرّق بين الإيمان والكفر، وهنا احتمالان:

1. قوله سبحانه: (فَكُلُوا مِمّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً) (1).

2. أُريد به نزول الملائكة لنصرة المؤمنين، وقد تقدّم قوله سبحانه: (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى اَلْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا اَلَّذِينَ آمَنُوا) (2).

قوله سبحانه: (يَوْمَ اِلْتَقَى اَلْجَمْعانِ) المؤمنون والمشركون. قوله:

(وَ اَللّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ) يتعلّق ببعض ما سبق في الآية وأنّه سبحانه لو فرّق في ذلك اليوم بين الطائفتين ونصر أحدهما على الأُخرى فهو من شؤون كونه (عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ) .2.

ص: 378


1- . الأنفال: 69.
2- . الأنفال: 12.

إلى هنا خرجنا عن تفسير الآية بجملها وكلماتها، ولكن يقع البحث في أُمور:

الأمر الأوّل: ما هو المراد من الغنيمة في الآية؟
اشارة

إنّ مفسّري أهل السنّة يقولون هي عبارة عمّا يغنمه المسلمون من الكفّار بقتال، وعلى قولهم هذا تكون مسألة الخمس عبارة عمّا لا واقع له في حياتنا العملية في هذه الأيام، إذ لا دولة إسلامية تقاتل الكفّار والمشركين، وأصبحت الآية عندهم كالآيات التي ذكرت أحكام العبيد والإماء التي لا واقع لها في حياتنا العملية، وليس لديهم دليل على الاختصاص إلّاكونها واردة في قتال المشركين، لكن الفقيه أعرف بأنّ المورد لا يكون مخصّصاً إذا كان اللفظ مطلقاً.

ثمّ إنّ اللغة والكتاب العزيز والسنّة تدلّ على أنّ الغنيمة عبارة عن كلّ ما يفوز ويظفر به الإنسان، سواء أكان عن قتال أو لا؟ وإليك التفصيل:

أوّلاً: الغنيمة في معاجم اللغة

أ. قال الخليل: الغنم: الفوز بالشيء من غير مشقّة، والاغتنام انتهاز الغنم.(1)

ب. قال الأزهري: قال اللبيب: الغنم: الفوز بالشيء، والاغتنام انتهاز الغنم.(2)

ج. قال ابن فارس: غنم أصل صحيح واحد يدلّ على إفادة شيء لم يملك

ص: 379


1- . كتاب العين: 426/4، مادة «غنم».
2- . تهذيب اللغة، مادة «غنم».

من قبل، ثم يختص بما أخذ من المشركين.(1)

د. قال ابن منظور: الغنم، الفوز بالشيء من غير مشقّة.(2)

ه. قال ابن الأثير في تفسير قوله صلى الله عليه و آله و سلم: «الرهن لمن رهنه، له غنمه وعليه غرمه» غنمه زيادته ونماؤه، وفاضل قيمته.(3)

و. قال الفيروزآبادي: الغنم: الفوز بالشيء بلا مشقّة، وغنمه كذا تغنيماً نفله إيّاه، واغتنمه، وتغنّمه: عدّه غنيمة.(4)

ز. قال الزبيدي: الغُنْم: الفوز بالشيء بلا مشقّة، أو هذا الغُنْم والفيء:

الغنيمة.(5)

إلى غير ذلك من الكلمات المترادفة والمتشابهة في المعاجم، وهذه النصوص تعرب عن أنّ المادة لم توضع لما يفوز به الإنسان في الحروب فقط، بل معناها أوسع من ذلك، وإن كان يغلب استعمالها في العصور المتأخّرة عن عصر نزول القرآن، في ما يظفر به في ساحة الحرب.

ثانياً: الغنيمة في الكتاب والسنّة

أطلق الكتاب المجيد الغنيمة على أجر الآخرة، وهذا يدلّ على أنّ للفظ معنى وسيعاً يشمل كلّ ما يفوز به الإنسان في الدنيا والآخرة، قال سبحانه: (يا أَيُّهَا

ص: 380


1- . معجم مقاييس اللغة: 4/397، مادة «غنم».
2- . لسان العرب: 12/445، مادة «غنم».
3- . النهاية: 3/390، مادة «غنم».
4- . القاموس المحيط: 4/158، مادة «غنم».
5- . تاج العروس: 17/527، مادة «غنم».

اَلَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اَللّهِ فَتَبَيَّنُوا وَ لا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ اَلسَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا فَعِنْدَ اَللّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ) (1) .

والمراد بالمغانم الكثيرة: هو أجر الآخرة، بدليل مقابلته لعرض الحياة الدنيا، فيدلّ على أنّ لفظ المغنم لا يختصّ بالأُمور التي يحصل عليها الإنسان في هذه الدنيا أو في ساحات الحرب فقط، بل هو عام لكلّ مكسب وفائدة وإن كان أُخروياً.

هذا ما في الكتاب، وأمّا السنّة فقد وردت فيها اللفظة وأُريد بها مطلق الفائدة الحاصلة للإنسان، ومن ذلك:

1. روى ابن ماجة في سننه في كتاب الزكاة: أنّه جاء عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:

«اللّهمّ اجعلها مغنماً ولا تجعلها مغرماً».(2)

2. روى أحمد في مسنده عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «غنيمة مجالس الذكر، الجنّة».(3)

3. وروى في وصف شهر رمضان عنه صلى الله عليه و آله و سلم: «غنم للمؤمن».(4)

4. روى ابن الأثير في «النهاية»، عنه صلى الله عليه و آله و سلم: «الصوم في الشتاء الغنيمة الباردة» ثم قال ابن الأثير: سمّاه غنيمة لما فيه من الأجر والثواب.(5)».

ص: 381


1- . النساء: 94.
2- . سنن ابن ماجة: 1/573، كتاب الزكاة، باب ما يقال عند إخراج الزكاة، الحديث 1797.
3- . مسند أحمد: 330/2، 374 و 524.
4- . مسند أحمد: 177/2.
5- . النهاية: 3/390، مادة «غنم».

5. من له الغنم، عليه الغرم(1) وهذه القاعدة في لسان الفقهاء دليل على أنّ الغنم في اللغة هو مطلق الفائدة وإلّا لم يصحّ ترتّب قوله: «عليه الغرم» على ما تقدّم، وذكر ابن الأثير في الحديث: «الرهن لمن رهنه، له غنمه وعليه غرمه».

فقد تبيّن ممّا ذكرناه من كلمات أئمة اللغة وموارد استعمال تلك اللفظة ومادّتها في الكتاب والسنّة، أنّ العرب تستعملها في كلّ مورد يفوز به الإنسان، من جهة العدى وغيرهم، وإنّما صار حقيقة متشرّعة في الأعصار المتأخّرة في خصوص ما يفوز به الإنسان في ساحة الحرب، ونزلت الآية في أوّل حرب خاضها المسلمون تحت لواء رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، ولم يكن الاستعمال إلّاتطبيقاً للمعنى الكلّي على مورد خاصّ.

ورود الخمس في أرباح المكاسب في الحديث النبوي

ومن حسن الحظّ أنّه ورد لفظ الخمس في أرباح المكاسب في الحديث النبوي، وإليك نقل بعض ما وقفنا عليه:

قدم وفد عبد القيس على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فقالوا له: إنّ بيننا وبينك المشركين، وإنّا لا نصل إليك إلّافي شهر الحرام، فمُرنا بأمرٍ فصل، إن عملنا به دخلنا الجنة وندعو إليه مَن وراءنا، فقال صلى الله عليه و آله و سلم: «آمركم بأربع وأنهاكم عن أربع، آمركم: بالإيمان باللّه، وهل تدرون ما الإيمان؟ شهادة أن لا إله إلّااللّه، وإقام الصلاة،

ص: 382


1- . قاعدة فقهيّة.

وإيتاء الزكاة، وتعطوا الخمس من المغنم».(1)

وتفسير المغنم، بالنهب، باطل جدّاً، للنهي عنه في لسان الرسول حيث قال:

«إنّ النهبة ليست بأحلّ من الميتة»(2)، كما لم يطلب منهم غنائم الحرب، كيف وهم (أعني وفد عبد القيس) لا يستطيعون الخروج من أحيائهم في غير أشهر الحج خوفاً من المشركين. فكيف يمكن لهم الحرب مع المشركين؟!

وهناك روايات مروية عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام تدلّ على وجوب الخمس في أرباح المكاسب.(3)

وممّا يثير العجب أنّ السنّة اتّفقوا على أنّ في الركاز الخمس، وإنّما اختلفوا في المعادن، فالواجب هو الخمس لدى الحنفيّة والمالكية، وربع العُشر عند الشافعية والحنابلة، وقد استدلّت الحنفية على وجوب الخمس في المعادن بقوله سبحانه: (وَ اِعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ) .(4) وهذا دليل على سعة مفاد الآية حيث يستدلّون بها في مورد المعادن وهي ليست من الغنائم.

ولعلّ هذا المقدار من البحث يكفي في إثبات ما عليه الشيعة الإمامية من أنّ المراد كلّ ما يفوز به الإنسان حتى أرباح المكاسب.

***6.

ص: 383


1- . صحيح البخاري: 250/4، باب «واللّه خلقكم وماتعملون» من كتاب التوحيد، و ج 13/1 و 19، و ج 53/3؛ صحيح مسلم: 35/1-36، باب الأمر بالإيمان؛ سنن النسائي: 333/1؛ مسند أحمد: 318/1؛ الأموال: 52، وغيرها.
2- . كنز العمال: 390/4، برقم 1106.
3- . لاحظ: الوسائل: 6، الباب 8 من أبواب ما يجب فيه الخمس.
4- . لاحظ: الفقه الإسلامي وأدلته: 2/775-776.
الأمر الثاني: في قسمة الخمس

إنّه سبحانه ذكر المورد الثالث لتملّك الخمس بصورة الإفراد، وقال:

(وَ لِذِي اَلْقُرْبى) وهو ظاهر في أنّه شخص واحد ولا ينطبق إلّاعلى أئمة أهل البيت عليهم السلام واحداً بعد واحد.

ثم إنّ علماء السنة بما أنّهم خصّوا الآية بغنائم دار الحرب عطّلوا الآية عن العمل بها، فإنّ المسلمين عبر قرون لم يخوضوا حرباً مع غير المسلمين، فصارت الآية كأنّها خاصّة بحرب الرسول، وبعده بمدّة قليلة. وهنا يفترق الشيعة عن السنّة في تفسير الآية.

وبذلك صار الخمس عند الشيعة أصلاً مستقلّاً، عن الجهاد خلافاً، لأهل السنّة حيث جعلوه فرعاً له.

وهنا فرق آخر بين الطائفتين وهو أنّ الخمس عند الإمامية يُقسّم إلى ستة أسهم - كما في نفس الآية - وأمّا السنّة، فقال الحنفية: إنّ سهم الرسول سقط بموته، وعلى هذا فيقسّم على خمسة أسهم. بل على أربعة أسهم لإسقاط سهم ذي القربى من سهام الخمس أيضاً كما سيوافيك، بل صار ثلاثة كما سيأتي بيانه عن الزمخشري.

وأمّا الإمامية: أمّا ما يرجع إلى الرسول فهو إلى الإمام بعده، لأنّه كان يملك بما أنّه قائد الأُمّة ورئيسها، فينتقل إلى القائد بعده.

روى أحمد بن محمد بن أبي نصر عن الرضا عليه السلام قال: سُئل عن قول اللّه عزّ وجل: (وَ اِعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي اَلْقُرْبى...) ؟ فقيل له: فما كان للّه، فلمن هو؟ فقال: لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، وما كان لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم

ص: 384

فهو للإمام...».(1)

وهنا سؤال آخر وهو: أنّ تقسيم الخمس على ستة أسهم، فمنهم: اليتامى، والمساكين، وابن السبيل من أهل بيت النبوة، فعندئذٍ يصبح أصحاب الخمس من أصحاب الثروات الكبيرة، وهذا ما لا تخفى مفاسده. فكيف جعل اللّه عزَّوجلّ هذه السهام لطوائف ثلاث، مع أنّ مؤونتهم أقل بكثير من هذه السهام.

والجواب: هو ما جاء في حديث الإمام الكاظم عليه السلام، قال: «وله - يعني:

وللإمام - نصف الخمس كملاً، ونصف الخمس الباقي بين أهل بيته، فسهم ليتاماهم، وسهم لمساكينهم، وسهم لأبناء سبيلهم، يقسّم بينهم على الكتاب والسنّة ما يستغنون به في سنتهم، فإن فضل عنهم شيء فهو للوالي، فإن عجز أو نقص عن استغنائهم كان على الوالي أن ينفق من عنده بقدر ما يستغنون به، وإنّما صار عليه أن يموّنهم لأن له ما فضل عنهم».(2) فعلى هذا ينفق عليهم بمقدار حاجاتهم لا أكثر.

بل يظهر من حديث أبي علي بن راشد أنّ الجميع إنّما هو لمقام الإمامة وهو يقسّمه حسب ما يراه من المصلحة، قال: قلت لأبي الحسن الثالث عليه السلام: إنّا نؤتى بالشيء، فيقال: هذا كان لأبي جعفر عليه السلام عندنا، فكيف نصنع؟ فقال: «ما كان لأبي عليه السلام بسبب الإمامة فهو لي، وما كان غير ذلك فهو ميراث على كتاب اللّه وسنّة نبيّه».(3)6.

ص: 385


1- . الوسائل: 6، الباب 1 من أبواب قسمة الخمس، الحديث 6.
2- . الوسائل: 7، الباب 3 من أبواب قسمة الخمس، الحديث 1.
3- . الوسائل: 6، الباب 2 من أبواب الأنفال، الحديث 6.

يقول صاحب الجواهر: بل لولا وحشة الإنفراد عن ظاهر اتّفاق الأصحاب لأمكن دعوى ظهور الأخبار في أنّ الخمس جميعه للإمام عليه السلام وإن كان يجب عليه الإنفاق منه على الأصناف الثلاثة الذين هم عياله، ولذا لو زاد كان له عليه السلام، ولو نقص كان الإتمام عليه من نصيبه، وحلّلوا منه من أرادوا.(1)

الأمر الثالث: إسقاط حقّ ذي القربى بعد رحيل الرسول صلى الله عليه و آله و سلم
اشارة

إنّ الخلفاء بعد النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم اجتهدوا في مقابل النصّ في موارد عديدة منها: إسقاط سهم ذي القربى من الخمس، وذلك أنّ اللّه سبحانه وتعالى جعل لهم سهماً وافترض أداءه نصّاً في الذكر الحكيم، والقرآن الكريم يتلوه المسلمون آناء الليل وأطراف النهار، وهو قوله عزّ من قائل: (وَ اِعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي اَلْقُرْبى وَ اَلْيَتامى وَ اَلْمَساكِينِ وَ اِبْنِ اَلسَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللّهِ وَ ما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ اَلْفُرْقانِ يَوْمَ اِلْتَقَى اَلْجَمْعانِ وَ اَللّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ) .(2)

وقد أجمع أهل القبلة كافّة على أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم كان يختصّ بسهم من الخمس ويخصّ أقاربه بسهم آخر منه، وأنّه لم يَعهَد بتغيير ذلك إلى أحد حتى وفاته وانتقاله إلى الرفيق الأعلى.

فلمّا ولّى أبوبكر تأوّل الآية فأسقط سهم النبي صلى الله عليه و آله و سلم وسهم ذي القربى بموت النبي صلى الله عليه و آله و سلم، ومنع بني هاشم من الخمس، وجعلهم كغيرهم من يتامى المسلمين ومساكينهم وأبناء السبيل منهم.

ص: 386


1- . جواهر الكلام: 155/16.
2- . الأنفال: 41.

قال الزمخشري: وعن ابن عباس: الخمس على ستة أسهم: للّه ولرسوله، سهمان، وسهم لأقاربه حتى قُبض، فأجرى أبو بكر الخمس على ثلاثة، وكذلك روي عن عمر ومن بعده من الخلفاء، قال: وروي أنّ أبا بكر منع بني هاشم الخمس.(1)

وقد أرسلت فاطمة عليها السلام تسأله ميراثها من رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ممّا أفاء اللّه عليه بالمدينة وفدك وما بقي من خمس خيبر، فأبى أبو بكر أن يدفع إلى فاطمة منها شيئاً، فوجدت فاطمة عليها السلام على أبي بكر في ذلك، فهجرته فلم تكلّمه حتى توفّيت، وعاشت بعد النبي صلى الله عليه و آله و سلم ستة أشهر، فلمّا توفّيت دفنها زوجها عليّ ليلاً ولم يؤذن بها أبا بكر، وصلّى عليها، الحديث.(2)

إتمام

قال المراغي في تفسير الآية: وخصّ الرسول صلى الله عليه و آله و سلم ذلك [يعني ذي القربى] ببني هاشم وبني أخيه المطلب، المسلمين، دون بني عبد شمس ونوفل، ثم المحتاجين من سائر المسلمين، وهم اليتامى والمساكين وابن السبيل.

روى البخاري عن مُطعم بن جبير (من بني نوفل) قال: مشيت أنا وعثمان ابن عفان (من بني عبد شمس) إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فقلنا: يا رسول اللّه أعطيت بني المطلب وتركتنا، ونحن وهم بمنزلة واحدة. فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «إنّما بنو المطلب وبنو هاشم شيء واحد».

ص: 387


1- . تفسير الكشّاف: 126/2.
2- . صحيح البخاري: 36/3، باب غزوة خيبر؛ وفي صحيح مسلم: 154/5: «... وصلّى عليها عليّ».

وسرُّ هذا أنّ قريشاً لمّا كتبت الصحيفة [يعني صحيفة المقاطعة] وأخرجت بني هاشم من مكّة وحصرتهم في الشِعب لحمايتهم له صلى الله عليه و آله و سلم دخل معهم فيه بنو المطلب ولم يدخل بنو عبد شمس ولا بنو نوفل، للعداوة التي كانت بين بني أُميّة بن عبد شمس لبني هاشم في الجاهلية والإسلام، فقد ظل أبو سفيان يقاتل النبي صلى الله عليه و آله و سلم ويؤلّب عليه المشركين وأهل الكتاب، إلى أن أظفر اللّه رسوله ودانت له العرب بفتح مكّة، وكذلك بعد الإسلام خرج معاوية على عليّ وقاتله.(1)

ثمّ إنّ صديقنا المرحوم محمد جواد مغنية بعد ما نقل ما تقدّم من كلام الشيخ المراغي قال: ونعطف نحن على قول الشيخ المراغي: (وكذلك قتل يزيد حفيد أبي سفيان الحسين بن علي عليهما السلام سبط الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله و سلم)، وقال الشاعر في هذا العدوان الموروث أباً عن جد:

فابن حرب للمصطفى وابن هند ***لعلي وللحسين يزيد(2)

***

الأمر الرابع: [تخصيص خمس الغنائم للنبي وآله ليس تفرقة عنصرية]

إنّ تخصيص الذكر الحكيم النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم وأهل بيته عليهم السلام بخمس الغنائم، ليس من باب التفرقة العنصرية، وإنّما هو مقابل حرمانهم من الصدقات، فبما أنّها - أي الصدقات - تُعدّ أموالاً حكومية يتصدّى لها جماعة خاصّة، فاللّه سبحانه حرّم عليهم التصدّي لهذه الأُمور لئلّا يتّهموا ببعض التُّهم، وعوّضهم بخمس الغنائم، فحرمانهم من الأموال الحكومية صار سبباً لسدّ حاجاتهم المالية من الخمس.

ص: 388


1- . تفسير المراغي: 4/4-5.
2- . التفسير الكاشف: 3/484.

والعجب أنّ أُناساً من بني هاشم سألوا النبي صلى الله عليه و آله و سلم عن وجه حرمانهم من الصدقات، روى الإمام الصادق عليه السلام وقال: «إنّ أُناساً من بني هاشم أتوا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فسألوه أن يستعملهم على صدقات المواشي، وقالوا: يكون لنا هذا السهم الذي جعل اللّه عزّ وجلّ للعاملين عليها، فنحن أولى به، فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: يا بني عبد المطلب (هاشم) إنّ الصدقة لا تحلّ لي ولا لكم ولكنّي قد وُعدت بالشفاعة».(1)

***

الأمر الخامس: ما هو المقصود من تحليل الخمس؟
اشارة

الخمس فريضة شرعية دلّ عليها الكتاب والسنّة النبويّة والأحاديث المروية عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام وهذا الحكم الشرعي لم ينسخ أبداً، بل بقي على ما كان عليه في عصر الرسول صلى الله عليه و آله و سلم، وليس لأحد بعد رحلته صلى الله عليه و آله و سلم نسخ حكم شرعي أتى به.

وإذا كان الأمر كذلك، فكيف تُفسّر الروايات الواردة عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام، والدالّة على تحليل الخمس لشيعتهم؟

والجواب: إنّ تحليله كان حكماً ولائيّاً لا حكماً شرعيّاً وكان في ظرف خاص، ولمصلحة مؤقّتة اقتضت تجميد العمل به، ولم يكن تصرّفاً في الحكم الشرعي، بل هو باقٍ على ما كان عليه، ولن يتغيّر أبداً.

وأمّا ما هو السبب الأساسي في تحليل الخمس، فهو:

ص: 389


1- . الوسائل: 6، الباب 29 من أبواب المستحقين للزكاة، الحديث 1.

أنّ إيصال الأموال إلى الإمام المعصوم عليه السلام في بعض الأزمان كان يشكل خطراً على النظام الأموي أو العباسي، فإنّ في إرسال الخمس إلى الأئمّة المعصومين تعبيراً عن عدم الاعتراف بشرعية حكم الحاكم الأموي والعباسي.

ومن هنا لم يجد الأئمّة عليهم السلام بُدّاً من تقديم الأهم على المهمّ، فأجازوا لشيعتهم إبقاء الخُمس في أيديهم لما يترتّب على دفعه إليهم عليهم السلام من مخاطر وأضرار تلحق بهم جميعاً.

هذا هو السبب المهمّ للتحليل، وثمّة أسباب أُخرى نشير إليها:

القسم الأوّل: تحليل خمس الغنائم

كان المسلمون خلال حياة الأئمّة عليهم السلام يخوضون حروباً لنشر الإسلام في كافّة أرجاء العالم، وكان يرجعون بغنائم كثيرة (من إماء ومتاع وأموال)، وكانت تباع في الأسواق، فتتداولها الأيدي بالبيع والشراء، وكان الشيعة - وهم جزء من هذا المجتمع - يشترون الأمتعة والإماء.

ومن المعلوم أنّ خمس الغنائم الذي أوجبه اللّه وجعله من حقّ اللّه ورسوله، كان لا يُخرج من هذه الغنائم، ولا يُدفع للإمام، والتكليف بالخمس لم يكن متوجّهاً للشيعة أوّلاً وبالذات، بل يتعلّق بأموال وقعت في أيدي الشيعة، فأوجد هذا الأمر مشكلة لهم. ولأجل رفع هذه المشكلة، أحلّ الأئمّة لهم خمس الغنائم التي تقع بأيديهم(1)؛ وأكثر ما يدلّ على التحليل راجع إلى هذا القسم، وما رواه محمد بن مسلم عن أحدهما عليهما السلام - يعني الباقر أو الصادق - قال: «إنّ أشدّ ما فيه

ص: 390


1- . بل الجميع لهم عليهم السلام لأنّ كلّ غزو بلا إذن من المعصوم، يصبح أنفالاً ويخرج عن كونه غنائم.

الناس يوم القيامة أن يقوم صاحب الخمس فيقول: يا رب خمسي، وقد طيّبنا ذلك لشيعتنا لتطيب ولادتهم ولتزكوا أولادهم».(1)

فإنّ قوله: «لتطيب ولادتهم» أصدق شاهد على أنّ التحليل يتعلّق بالسراري التي يشتريها الشيعة، وهن من الغنائم الحربية.

القسم الثاني: تحليل الخمس لمَن ضاق عليه معاشه

يظهر من بعض الروايات أنّ التحليل كان لطائفة خاصّة من الناس الذين ضاق عليهم العيش، ومن روايات هذا القسم ما رواه الصدوق في «الفقيه» عن يونس بن يعقوب، قال: كنت عند أبي عبد اللّه عليه السلام فدخل عليه رجل من القمّاطين، فقال: جُعلت فداك، يقع في أيدينا الأرباح والأموال وتجارات نعلم أنّ حقّك فيها ثابت وإنّا عن ذلك مقصّرون؟ فقال أبو عبد اللّه عليه السلام: «ما أنصفناكم إن كلّفناكم ذلك، اليوم».(2)

القسم الثالث: تحليل ما ينتقل إلى الشيعة من غير المخمس

يظهر من روايات أنّ ملاك التحليل أنّ أكثر الناس كانوا غير معتقدين بوجوب التخميس في الأرباح والمكاسب، فربما تقع أموالهم عن طريق البيع والشراء بيد الشيعة، وفيها حقّهم عليهم السلام، وهذا هو الذي أباحه الأئمّة للشيعة رفعاً للحرج والضرر، ويدلّ على ذلك ما رواه أبو سلمة سالم بن مُكرم - وهو أبو

ص: 391


1- . الوسائل: 6، الباب 4 من أبواب الأنفال، الحديث 5.
2- . الوسائل: 6، الباب 4 من أبواب الأنفال، الحديث 6. القِماط: جمعه قُمُط، يقال: قَمطَ أي شدّ ويطلق على الحبل، وعلى خرقة عريضة تلفّ على الصغير إذا شدّ في المهد. (المنجد)

خديجة - عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: قال رجل وأنا حاضر: حلّل لي الفروج؟ ففزع أبو عبد اللّه عليه السلام فقال له الرجل: ليس يسألك أن يعترض الطريق، إنّما يسألك خادماً يشتريها، أو امرأة يتزوّجها، أو ميراثاً يصيبه، أو تجارة أو شيئاً أُعطيه، فقال: «هذا لشيعتنا حلال، الشاهد منهم والغائب، الميّت منهم والحيّ، وما يولد منهم إلى يوم القيامة فهو لهم حلال، أما واللّه لا يحلّ إلّالمن أحللنا له، ولا واللّه ما أعطينا أحداً ذمّة (وما عندنا لأحد عهد) ولا لأحد عندنا ميثاق».(1)

القسم الرابع: تحليل الأنفال

أُريد من الأنفال كلّ أرض ملكت بغير قتال، وكلّ أرض موات ورؤوس الجبال، وبطون الأودية، والآجام والغابات، وميراث مَن لا وارث له، وكافّة ما يغنمه المقاتلون بغير إذن الإمام، وكافّة المياه العامّة والأحراش الطبيعية والمراتع التي ليست حريماً لأحد، وقطائع الملوك وصفاياهم غير المغصوبة، فالكلّ للّه ورسوله وبعده للإمام، وقد مرّ معنى كون الأنفال للرسول وللإمام، فلا يجوز التصرّف فيها إلّابإذن. هذا من جانب ومن جانب آخر فإنّ بعض هذه الأُمور قد يقع في متناول الشيعة، وهذا ما أحلّه الأئمّة عليهم السلام لهم، خصوصاً ما يرجع إلى الأرض.(2)

وقد ظهر من هذا البحث الضافي أنّ روايات التحليل - التي وقعت ذريعة بأيدي بعض المناوئين لأئمّة أهل البيت عليهم السلام وشيعتهم، لا سيّما المرجعية الدينية التي تتولّى قيادة الشيعة في حياتهم الفردية والاجتماعية - لا صلة لها بما يرتئيه

ص: 392


1- . الوسائل: 6، الباب 4 من أبواب الأنفال، الحديث 4.
2- . لاحظ: الوسائل: 6، الباب 4 من أبواب الأنفال، الحديث 12.

البعض من تحليل الخمس في عامّة الموارد، وفي جميع الأزمنة، بل هي تدور حول الموضوعات التالية:

1. تحليل الخمس في فترة خاصّة، كان إيصاله إلى الأئمّة عليهم السلام يشكّل خطراً عليهم.

2. خمس الغنائم في الحروب التي خاضتها الدولتان (الأموية والعباسية).

3. خمس مال مَن ضاق عليه معاشه.

4. خمس الأموال غير المخمّسة المنتقلة إلى الشيعة.

5. تحليل الأنفال التي ترجع إلى اللّه ورسوله والإمام من بعده فأذنوا فيها للشيعة، خصوصاً ما يتعلّق بالأراضي الموات منها.

***

الأمر السادس

ربّما يُتصوّر أنّ آية الخمس ناسخة لما ورد في صدر سورة الأنفال، أعني قوله سبحانه: (يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلْأَنْفالِ قُلِ اَلْأَنْفالُ لِلّهِ وَ اَلرَّسُولِ فَاتَّقُوا اَللّهَ وَ أَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَ أَطِيعُوا اَللّهَ وَ رَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) .(1)

والجواب: أنّ آية الخمس بصدد بيان مصرف ما كان للّه وللرسول، وما هذا شأنه، لا يُعدّ ناسخاً.

توضيح ذلك: أنّ اختلاف أصحاب النبي صلى الله عليه و آله و سلم في غزوة بدر صار سبباً لحصر ملكية الأنفال في اللّه والرسول صلى الله عليه و آله و سلم، يقول عبادة بن الصامت: خرجنا مع

ص: 393


1- . الأنفال: 1.

رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فشهدت معه بدراً، فالتقى الناس، فهزم اللّه العدوّ، فانطلقت طائفة في آثارهم منهزمون يقتلون، واكبّت طائفة على العسكر يحوزونه ويجمعونه، وأحدقت طائفة برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لا يصيب العدوّ منه غرّة، حتى إذا كان الليل وفاء الناس بعضهم إلى بعض، قال الذين جمعوا الغنائم: نحن حويناها وجمعناها فليس لأحد فيها نصيب. وقال الذين خرجوا في طلب العدوّ: لستم بأحقّ بها منّا، نحن نفينا عنها العدو وهزمناهم. وقال الذين أحدقوا برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: لستم بأحقّ بها منّا نحن أحدقنا برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وخفنا أن يصيب العدوّ منه غرّة واشتغلنا به، فنزلت (يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلْأَنْفالِ...) فقسّمها رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بين المسلمين».(1)

ترى أنّ هذه الرواية وغيرها تدلّ على وجود الشجار والاختلاف بين الصحابة، واللّه سبحانه فصل خصومتهم، وأثبت أنّ الأنفال كلّها لذاته ولرسوله، ومن المعلوم أنّ مالكيته سبحانه أو الرسول للأنفال، لأجل صرفها في موارد تتحقّق بها مصالح الإسلام والمسلمين، فجاءت آية الخمس مبيّنة لمصارفها.

وبهذا يظهر عدم التنافي بين الآيتين.

يقول السيد الطباطبائي: أمّا قوله: (اَلْأَنْفالُ لِلّهِ وَ اَلرَّسُولِ) فلا يفيد إلّاكون أصل ملكها للّه وللرسول صلى الله عليه و آله و سلم من دون أن يتعرّض لكيفية التصرّف وجواز الأكل والتمتّع، فلا يناقضه في ذلك قوله: (وَ اِعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي اَلْقُرْبى) (2) حتى يكون بالنسبة إليه ناسخاً.(3)9.

ص: 394


1- . تفسير الدر المنثور: 5/4. قد تقدّم نقل هذه الرواية فلاحظ.
2- . الأنفال: 41.
3- . الميزان في تفسير القرآن: 10/9.

أحكام الخمس

4. أحكام الأنفال والفيء في الذكر الحكيم

اشارة

بعد أن درسنا ما يتعلّق بأحكام الخمس، حان الوقت لدراسة ما يتعلّق بالأنفال، وإليك الآيات:

الآيتان: الأُولى والثانية

قال سبحانه: (وَ آتِ ذَا اَلْقُرْبى حَقَّهُ وَ اَلْمِسْكِينَ وَ اِبْنَ اَلسَّبِيلِ وَ لا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً) (1).

وقال سبحانه: (فَآتِ ذَا اَلْقُرْبى حَقَّهُ وَ اَلْمِسْكِينَ وَ اِبْنَ اَلسَّبِيلِ ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اَللّهِ وَ أُولئِكَ هُمُ اَلْمُفْلِحُونَ) .(2)

المفردات

القربى: القرب يستعمل في المكان والزمان والنسبة، والمراد هنا هو الثالث.

ص: 395


1- . الإسراء: 26.
2- . الروم: 38.

وأُريد الأرحام الذين لهم صلة قريبة من الإنسان، وعلى هذا فالقرب والقرابة بمعنى القرب في الرحم.

حقّه: أُريد به نفقة الأقارب - كالآباء - أو الأعم وهو صلة الرحم، والبر بهم وإن لم يكونوا واجبي النفقة.

المسكين: المُعدم الذي لا مال له.

ابن السبيل: المسافر الذي نفدت نفقته وهو في وسط الطريق، وهو غنيّ في بلده.

التفسير

لو اعتمدنا في تفسير الآية على الروايات وما يُحكى عن شأن نزولها فالخطاب خاص للنبي، رواه الصدوق في ذكر مجلس الرضا عليه السلام مع المأمون، قال عليه السلام: «والآية الخامسة قول اللّه تعالى: (وَ آتِ ذَا اَلْقُرْبى حَقَّهُ) ففي الآية خصوصية خصّهم العزيز الجبّار بها واصطفاهم على الأُمّة، فلمّا نزلت هذه الآية على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قال: ادعوا لي فاطمة، فدُعيت له، فقال صلى الله عليه و آله و سلم: يا فاطمة، قالت:

لبيك يا رسول اللّه، فقال: هذه فدك هي ممّا لم يوجَف عليه بخيل ولا ركاب وهي لي خاصّة دون المسلمين، وقد جعلتها لكِ لما أمرني اللّه تعالى به، فخذيها لك ولولدك».(1)

وليس الشيعة هم الوحيدين في نقل نزول الآية في حقّ السيدة الزهراء عليها السلام بل رواه السيوطي وقال: واخرج ابن جرير عن علي بن الحسين رضى الله عنه أنّه قال لرجل

ص: 396


1- . عيون أخبار الرضا عليه السلام: 211/1، الباب 23.

من أهل الشام: أقرأت القرآن؟ قال: نعم. قال: أفما قرأت في بني إسرائيل: (وَ آتِ ذَا اَلْقُرْبى حَقَّهُ) قال: وإنكم للقرابة الذي أمر اللّه أن يؤتى حقّه؟ قال: نعم.(1)

روى الطبرسي بسند متّصل عن أبي سعيد الخدري، قال: لمّا نزل قوله: (وَ آتِ ذَا اَلْقُرْبى حَقَّهُ) أعطى رسول اللّه فاطمة فدكاً، قال عبد الرحمن بن صالح: كتب المأمون إلى عبد اللّه بن موسى يسأله عن قصة فدك، فكتب إليه عبد اللّه، بهذا الحديث، رواه الفضيل بن مرزوق عن عطية، فردّ المأمون فدكاً إلى ولد فاطمة عليها السلام.(2)

وقد أُثير هنا سؤال، وهو أنّ السورة مكّية والآية كذلك، وأمّا فدك فإنّما صالح أهلها مع النبي صلى الله عليه و آله و سلم في العام السابع من الهجرة؟

والجواب: يمكن أن تكون هذه الآية مدنيّة، ويؤيّده قول محمد عزّة دَروزة (السنّي): «والمصحف الّذي اعتمدناه ذكر في عنوان سورة الإسراء، أنّ آية الإسراء الّتي نحن في صددها مدنيّة».(3) أقول: المصحف الّذي اعتمده دَروزة في تفسيره الّذي رتّب فيه السُّوَر حسب النزول، فهو مصحف الخطّاط قَدَر أوغلي (التركي)، وعلّل اعتماده عليه بقوله: لأنّه ذكر فيه أنّه طُبع تحت إشراف لجنة خاصّة من ذوي العلم والوقوف.(4)

ويمكن أن يجاب عن السؤال المتقدّم بنزول الآية مرّتين، الأُولى في مكّة1.

ص: 397


1- . تفسير الدر المنثور: 271/5.
2- . مجمع البيان: 279/6.
3- . التفسير الحديث: 384/3.
4- . التفسير الحديث: 13/1.

المكرمة والأُخرى في المدينة المنوّرة التي لم يبق من قرباه إلّابنته فاطمة عليها السلام.

وأمّا ما جرى على فدك بعد رحيل النبي صلى الله عليه و آله و سلم فحدّث عنه ولا حرج فقد صارت أمراً سياسياً يتداولها الحكام واحداً بعد الآخر، وبما أنّ المسألة ذات شجون نترك البحث عن المسألة إلى موضع آخر.

هذا كلّه حول حقّ ذي القربى، وقد عطف عليه حقّ المسكين وابن السبيل.

وهذا يُعرب عن اهتمام الشارع بهاتين الطائفتين، كما يُعرب عن أنّ التبذير أمر محرّم خطير.

ثمّ إنّ الدليل على أنّ الآيتين الماضيتين ناظرتان إلى الأنفال، والفيء، هو أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم منح أرض فدك لبنته فاطمة عليها السلام وهي من القرى التي لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب، فتكون من مصاديق الأنفال أو الفيء التي أمرها بيد النبي صلى الله عليه و آله و سلم.

ويمكن أن يقال: إنّ الآية خطاب للنبي دون أن يختصّ حكمها به فعلى المسلمين عامّة إعطاء القربى والمسكين وابن السبيل حقّهم، غير أنّ الحقّ في يد النبي كان فيئاً ونفلاً فأعطى فاطمة فدكاً، ولكنّه في أيدي الآخرين مطلق يعمّ ما يملكون فربما يكون الإعطاء واجباً وأُخرى مستحباً فتدبّر.

الآيتان: الثالثة والرابعة

قال سبحانه: (وَ ما أَفاءَ اَللّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَ لا رِكابٍ وَ لكِنَّ اَللّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَ اَللّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ * ما أَفاءَ اَللّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ اَلْقُرى فَلِلّهِ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي اَلْقُرْبى وَ اَلْيَتامى وَ اَلْمَساكِينِ وَ اِبْنِ

ص: 398

اَلسَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ اَلْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ وَ ما آتاكُمُ اَلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَ اِتَّقُوا اَللّهَ إِنَّ اَللّهَ شَدِيدُ اَلْعِقابِ) .(1)

المفردات

أفاء: الفيء والغنيمة: يستعملان في مصطلح الفقهاء فيما يغنمه الإنسان، ولكن ما كان بلا قتال فهو الفيء، وما كان معه فهو الغنيمة. ثمّ إنّ معنى قوله: «أفاء» أي أعطى الفيء، وقوله: (وَ ما أَفاءَ اَللّهُ) مبتدأ، خبره (فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ) ، وإنّما دخلت الفاء على الخبر، لتضمّن (ما) الموصولة معنى الشرط.

من أهل القرى: اللام للعهد، والظاهر أنّ المراد: القرى التي استسلم أهلها بلا إيجاف خيل ولا ركاب، والتي منها: قريظة، وفدك، وقرى عُرينة وينبع ووادى القرى والصفراء، كلّها فتحت في عهد الرسول صلى الله عليه و آله و سلم بلا عنوة، وحُكم الجميع واحد.

دُولة - بضم الدالّ -: ما يتداوله الناس، والتداول التعاقب في التصرّف، وأمّا الدَولة - بفتح الدال - فهي بمعنى الغلبة والمُلك.

وما آتاكم الرسول: يحتمل أن يكون بمعنى: أعطاكم الرسول، ويحتمل أن يكون بمعنى: أمركم به الرسول، بقرينة ما بعده أي قوله: (وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) ، أمّا استعمال الإيتاء في مورد الأمر فكأنّه إشارة إلى أنّ جعل تشريع الرسول

ص: 399


1- . الحشر: 6 و 7.

وتبليغه كإيتاء الشيء باليد، كما في قوله سبحانه: (خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ) (1)، والآية خطاب لبني إسرائيل، حتى يأخذوا بما يأمر به موسى عليه السلام بتمام القوّة.

التفسير

صلة الآيتين بما قبلها واضحة لأنّ الجميع ناظر إلى الفيء، أعني: ما لم يوجب عليه من خيل ولا ركاب.

غادر بنو النضير أرض المدينة وأخذوا من أموالهم ما استقلت به الإبل، وبقيت بساتينهم وأراضيهم تحت يد الرسول صلى الله عليه و آله و سلم فقسّمها على المهاجرين الأوّلين دون الأنصار، وقد أثار ذلك التقسيم، التساؤلَ لدى الأنصار، لماذا لم يقسّمها رسول اللّه بين جميع الغُزاة، كما فعل ذلك في غزوة بدر؟ والآية الأُولى إجابة عن هذا السؤال، بوجود الفرق بين ما أُخذ في غزوة بدر، وبين ما أُخذ في غزوة بني النضير، فالمسلمون في غزوة بدر أوجفوا على ذلك بخيل وركاب، وقاتلوا وقتل عدد منهم، فلذلك استحقّوا أربعة أخماس الغنيمة، بخلاف غزوة بني النضير، فلم يوجفوا على ذلك بخيل ولا ركاب، وإنّما سلّطهم اللّه سبحانه عليهم بإلقاء الرعب في قلوب اليهود، فلم يروا بُدّاً من الاستسلام، ولم يكن للجيش إلّادور ضعيف من محاصرة القلاع وقطع شيء من اللينة (الأشجار).

ثمّ إنّه سبحانه جعل الفيء جميعه لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، وقال: (ما أَفاءَ اَللّهُ عَلى رَسُولِهِ) : أي ما ارجع اللّه إلى رسوله (مِنْ أَهْلِ اَلْقُرى) : أي من اليهود الذين

ص: 400


1- . البقرة: 63.

أجلاهم (فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَ لا رِكابٍ) : أي فما أوجفتم عليه خيلاً ولا إبلاً، ولم تسيروا إليها على خيل ولا إبل، وإنّما كانت ناحية من المدينة مشيتم إليها مشيّاً (وَ لكِنَّ اَللّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ) : أي يمكّنهم من عدوهم من غير قتال (وَ اَللّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ) .

ثمّ إنّه سبحانه جعل الفيء في هذه الآية للرسول صلى الله عليه و آله و سلم. وبما أنّه لم يجعل له بما هو شخص بل بما أنّه رئيس الدولة، وقائد الشعب، ثم ذكر موارد صرفها في الآية الرابعة وقال: (ما أَفاءَ اَللّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ اَلْقُرى) : أي من كفّار أهل القرى (فَلِلّهِ) يأمركم فيه بما أحبّ (وَ لِلرَّسُولِ) بتمليك اللّه إيّاه (وَ لِذِي اَلْقُرْبى) : أي أهل بيت رسول اللّه وقرابته وهم بنو هاشم (وَ اَلْيَتامى وَ اَلْمَساكِينِ وَ اِبْنِ اَلسَّبِيلِ) .

والسؤال: هل المراد أيتام بني هاشم ومساكينهم وأبناء سبيلهم، أو مطلق الأيتام والمساكين وأبناء السبيل؟ يحتمل الثاني، لأنّ سهم ذي القربى يعمّ كلّ مَنْ له وشيجة بالنبي صلى الله عليه و آله و سلم، سواء أكان يتيماً أو لا، مسكيناً أو لا، ابن سبيل أو لا، فتكون الأسهم الثلاثة الأخيرة لمطلق المسلمين.

نعم قال الشيخ الطوسي: إنّ المراد بهم الأيتام من أهل بيت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ومساكينهم وابن سبيلهم، لأنّ تقديره: ولذي قرباه ويتامى أهل بيته وابن سبيلهم، لأنّ الألف واللام تعاقب الضمير.(1)

وأمّا الروايات فهي تؤيّد القول الأوّل، فقد روى المنهال بن عمرو عن علي بن الحسين عليه السلام قال: قلت: (وَ لِذِي اَلْقُرْبى وَ اَلْيَتامى وَ اَلْمَساكِينِ وَ اِبْنِ اَلسَّبِيلِ) قال:9.

ص: 401


1- . التبيان في تفسير القرآن: 564/9.

«هم قربانا، ومساكيننا، وأبناء سبيلنا»، وروى محمد بن مسلم عن أبي جعفر الباقر عليه السلام أنّه قال: «كان أبي يقول: لنا سهم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وسهم ذي القربى، ونحن شركاء الناس فيما بقي».(1)

ثمّ إنّه سبحانه يُعلّل ما ذكره في الآية من تقسيم أموال بني النضير بين الأصناف الستة دون الأغنياء من بني الأنصار، قال: لِ (كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ اَلْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ) يتناولها الأغنياء بينهم والفقرة تهدف إلى أنّه يجب أن تكون الأموال بنحو يتناولها الفقراء والأغنياء معاً، حتى تسود العدالة في المجتمع (وَ ما آتاكُمُ اَلرَّسُولُ) : أي أعطاكم الرسول من الفيء (فَخُذُوهُ) وارضوا به، ويحتمل أن يُراد: ما أمركم الرسول به فافعلوه، ويشهد للمعنى الثاني قوله تعالى: (وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) . ثم قال: (وَ اِتَّقُوا اَللّهَ إِنَّ اَللّهَ شَدِيدُ اَلْعِقابِ) .

إلى هنا تمّ تفسير الآيتين، وتبيّن أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بأمر من اللّه سبحانه قسّم ما تركه بنو النضير بين أقربائه واليتامى والمساكين وابن السبيل، ولم يعط الأنصار منها شيئاً إلّاثلاث نفر، كانت بهم حاجة، وهم: أبو دجانة، وسهل بن حنيف، والحارث بن صمّة.

الآيتان: الخامسة والسادسة

قال سبحانه: (لِلْفُقَراءِ اَلْمُهاجِرِينَ اَلَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَ أَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اَللّهِ وَ رِضْواناً وَ يَنْصُرُونَ اَللّهَ وَ رَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ اَلصّادِقُونَ * وَ اَلَّذِينَ تَبَوَّؤُا اَلدّارَ وَ اَلْإِيمانَ مِنْ

ص: 402


1- . مجمع البيان: 431/9.

قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَ لا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمّا أُوتُوا وَ يُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَ لَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَ مَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ اَلْمُفْلِحُونَ) .(1)

المفردات

تبوءُوا: تبوّأ (المكانَ): حلّ فيه، والمراد بالدار هنا: المدينة المنوّرة، والمعنى: الذين عمروا المدينة وسكنوها.

حاجة: يراد بها المعنى المصدري، أي الاحتياج، وأُخرى المحتاج إليه، وقد تفسّر هنا بالغيظ، وهو تفسير باللازم.

والإيمان: عطف على الدار، والعامل فيه محذوف بمعنى: آثروا الإيمان، نظير قوله: علفتها تبناً وماء بارداً.

يؤثرون: الإيتاء: ترجيح شيء على غيره مع الحاجة إليه، أو تقديم الغير على النفس.

خصاصة: الفقر والحاجة، قال الراغب: خصاص البيت فُرجُه، وعبّر عن الفقر الذي لم يُسدّ بالخصاصة(2)، كأنّ الفقر فُرج في حياة الإنسان.

يُوق: فعل مضارع مجهول، من الوقاية أي الحفظ.

الشُّحّ: بخل مع حرص على ما في يد الغير، بخلاف البخيل فإنّه يبخل بما

ص: 403


1- . الحشر: 8 و 9.
2- . المفردات للراغب: 141، مادة «خصص».

في يده دون حرص على مال الغير. وفي مجمع البيان: لا يجتمع الشُّحّ والإيمان في قلب رجل مؤمن، ولا يجتمع غبار في سبيل اللّه ودخان جهنم في جوف رجل مسلم.(1)

غِلّاً: الغِلّ: بكسر الغين، الحقد والغشّ.

التفسير

صلة الآيتين بما قبلهما واضحة لأنّ الجميع ناظر إلى ما لم يوجف عليه من خيل ولا ركاب وتبيّن وجه تخصيصه بالمهاجرين دون الأنصار، فالآية الأُولى بصدد بيان إشراك المهاجرين الفقراء بالفيء، والآية الثانية بصدد بيان وجه حرمان الأنصار، عن الفيء.

قوله سبحانه: (لِلْفُقَراءِ اَلْمُهاجِرِينَ) اللام في (لِلْفُقَراءِ) متعلّقة بقوله: (وَ ما أَفاءَ اَللّهُ عَلى رَسُولِهِ) فكأنّه قال: ما أفاء اللّه على رسوله من أهل القرى فللّه وللفقراء المهاجرين، أُعيدت (اللام) لوجود فصل طويل بين البدل والمبدل منه، فإنّ قوله: (لِلْفُقَراءِ) بدل من الأصناف الثلاثة: اليتامى والمساكين وابن السبيل. ثمّ إنّه سبحانه وصف المهاجرين الذين خُصّوا بأموال بني النضير بالأُمور التالية:

1. (لِلْفُقَراءِ) كونهم فقراء.

2. (اَلَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَ أَمْوالِهِمْ) .

3. (يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اَللّهِ) : أي رزقاً من اللّه، ويمكن أن يُراد به الثواب.

ص: 404


1- . مجمع البيان: 393/9.

4. (وَ) يبتغون (رِضْواناً) من اللّه.

5. (وَ يَنْصُرُونَ اَللّهَ وَ رَسُولَهُ) في الغزوات وغيرها.

6. (أُولئِكَ هُمُ اَلصّادِقُونَ) .

وهؤلاء الذين شُرّدوا من ديارهم وأموالهم رغبة في مرضاة اللّه وثوابه ونصرة الإسلام، أولى بالفيء والزكاة لفقرهم، وجهادهم.

أوصاف الأنصار

تعرّضت الآية السابقة لذكر أوصاف المهاجرين، وأمّا الآية الثانية فقد تبنّت بيان صفات من سكن المدينة قبل نزول المهاجرين فيها وعمروها في حال كونهم مؤمنين، وبذلك صارت مهيأة لنزول المهاجرين وسكناهم فيها.

وقد عبّر سبحانه عن الأنصار بقوله: (وَ اَلَّذِينَ تَبَوَّؤُا اَلدّارَ وَ اَلْإِيمانَ) وقد سبق ذكر معنى الفقرة، والمراد تبوّءُوا الدار أي سكنوا فيها، وقوله:

(وَ اَلْإِيمانَ) : أي وآثروا الإيمان، وكأنّه يقول: والذين تبوّءُوا الدار وآثروا الإيمان فلهم أوصاف، وهي:

1. (يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ) : أي يحبون المهاجرين إلى ديارهم.

2. (وَ لا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمّا أُوتُوا) : أي لا يجد الأنصار في نفوسهم رغبة إلى أخذ شيء ممّا أُوتي المهاجرون من أموال بني النضير.

3. (وَ يُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ) : أي يقدّمون المهاجرين على أنفسهم (وَ لَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ) : أي كانوا في فاقة.

4. (وَ مَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ) : أي من تمكّن من السيطرة عليها (فَأُولئِكَ هُمُ

ص: 405

اَلْمُفْلِحُونَ) : أي الفائزون بثواب اللّه ونعيم الجنة.

وهل هذه الجمل الخبرية استعملت بصدد الإخبار عن كون الأنصار موصوفين بهذه الصفات، أو هي بصدد الانشاء والإيجاب وأنّه يجب أن يكونوا كذلك مثل قول الوالد لولده: ولدي يصلّي.

إلى هنا تمّ تفسير الآيتين، وبه تمّ تفسير الآيات التي تعرّضت لذكر الأنفال والفيء والخمس، غير أنّ هذه الآيات النازلة في الفيء تذكر فعل رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بالفيء مع أصحابه، ومورد الآية يختصّ بفيء بني النضير، وما في حكمه كفيء بني قريظة وفدك، وأمّا سائر الأفياء التي مرّ بيان أقسامها فالناس فيها سواء يتولى القائد الإسلامي كيفية تقسيمها بينهم.

***

تمّ تفسير آيات الخمس والأنفال والفيء

والحمد للّه ربّ العالمين

ص: 406

الفصل السادس: فريضة الحجّ في الذكر الحكيم

اشارة

1. في وجوب الحجّ على المستطيع فوراً.

2. أقسام الحجّ وحجّ التمتّع باق على تشريعه.

3. أعمال العمرة في الذكر الحكيم.

4. أعمال الحجّ.

5. لزوم ذكر اللّه بدل التفاخر بالآباء في منى.

6. حكم المُحصَر والمصدود.

7. زمان الحجّ وتحريم أُمور ثلاثة.

8. الابتلاء بالصيد و أحكامه.

9. الأمور الأربعة التي جُعلت قياماً للناس.

10. تكريم شعائر اللّه والشهر الحرام.

11. حكم الصدّ عن سبيل اللّه والمسجد الحرام.

ص: 407

ص: 408

تمهيد الحجّ لغة واصطلاحاً

اشارة

الحجّ في اللغة بمعنى القصد، وهو عند الشرع - أو عند المتشرّعة - اسم لمجموع المناسك المؤدّاة في المشاعر المخصوصة، كما عليه المحقّق في «الشرائع».(1)

وربما يقال: صار اسماً لقصد البيت الحرام لأداء مناسك مخصوصة في زمان خاصّ.

والفرق بين المعنيين واضح، إذ على الأوّل فاللفظ نقل من المعنى اللغوي إلى المعنى الاصطلاحي، وعلى الثاني فهو باقٍ في المعنى اللغوي غير أنّه قيّد متعلّق القصد بالبيت الحرام لأداء المناسك.

وقد ناقش الشهيد في «المسالك»،(2) في طرد التعريف وعكسه، ولا يهمّنا دراستهما.

ثمّ إنّ الفرق بين الحِجّ (بكسر الحاء) والحَج (بفتحها) هو أنّ الأوّل مصدر يُراد به القصد إلى بيت اللّه تعالى بمكة لأداء مناسك مخصوصة، وأمّا الثاني فهو

ص: 409


1- . لاحظ: شرائع الإسلام: 163/1.
2- . لاحظ: مسالك الإفهام: 119/2-120.

اسم مصدر يطلق على نفس المناسك والأعمال. ويعلم ذلك بمراجعة الآيات، فعندما يُريد سبحانه المعنى المصدري يستعمل اللفظ بكسر الحاء فيقول: (وَ لِلّهِ عَلَى اَلنّاسِ حِجُّ اَلْبَيْتِ مَنِ اِسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) (1).

وعندما يُريد نفس المناسك والأعمال يستعمل اللفظ بفتح الحاء، فيقول سبحانه: (وَ أَتِمُّوا اَلْحَجَّ وَ اَلْعُمْرَةَ لِلّهِ) (2).

الحجّ من أركان الدين

يظهر من غير واحدة من الروايات أنّ الحجّ من أركان الدين، ففي الحديث المعروف: «بُني الإسلام على خمسة: على أن يوحّد اللّه، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم (شهر) رمضان، وحجّ البيت».(3)

وفي رواية أُخرى: «بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلّااللّه وأنّ محمّداً عبده ورسوله، وإقام الصلاة، وايتاء الزكاة، والحجّ، وصوم رمضان».(4)

وقال الإمام علي عليه السلام: «فَرَضَ اللّهُ الْإِيمَانَ تَطْهِيراً مِنَ الشِّرْكِ، وَالصَّلَاةَ تَنْزِيهاً عَنِ الْكِبْرِ، وَالزَّكَاةَ تَسْبِيباً لِلرِّزْقِ، وَالصِّيَامَ ابْتِلَاءً لِإِخْلَاصِ الْخَلْقِ، وَالْحَجَّ تَقْرِبَةً لِلدِّينِ».(5)

روى الكليني في «الكافي» باسناده عن عيسى بن يونس، عن أبي عبد

ص: 410


1- . آل عمران: 97.
2- . البقرة: 196.
3- . صحيح مسلم: 34/1، باب قول النبي صلى الله عليه و آله و سلم بني الإسلام على خمس.
4- . صحيح البخاري: 1، كتاب الإيمان، برقم 8.
5- . نهج البلاغة، قصار الحكم، برقم 252.

اللّه عليه السلام - في حديث - أنّه قال: «وهذا بيت استعبد اللّه به خلقه ليختبر طاعتهم في إتيانه، فحثّهم على تعظيمه وزيارته، وجعله محلّ أنبيائه، وقبلة للمصلّين له، فهو شعبة من رضوانه، وطريق يؤدّي إلى غفرانه، منصوب على استواء الكمال ومجمع العظمة والجلال، خلقه اللّه قبل دحو الأرض بألفي عام، فأحقّ من أُطيع فيما أمر وانتهي عمّا نهى عنه وزجر، اللّه المنشئ للأرواح والصور».(1)

ثمّ إنّ للحجّ فوائد وآثاراً في تهذيب النفس وتقوية المجتمع الإسلامي وتماسكه، إلى غير ذلك من المنافع، وقد روى الفضل بن شاذان عن الإمام الرضا عليه السلام في حديث طويل قال عليه السلام: «إنّما أُمروا بالحجّ لعلّة الوفادة إلى اللّه عزّ وجلّ وطلب الزيادة، والخروج من كلّ ما اقترف العبد تائباً ممّا مضى، مستأنفاً لما يستقبل، مع ما فيه من إخراج الأموال، وتعب الأبدان، والاشتغال عن الأهل والولد، وحظر النفس (الأنفس) عن اللّذات، شاخصاً في الحرّ والبرد، ثابتاً على ذلك دائماً، مع الخضوع والاستكانة والتذلّل، مع ما في ذلك لجميع الخلق من المنافع لجميع من في شرق الأرض وغربها، ومن في البر والبحر، ممّن يحجّ وممّن لم يحجّ، من بين تاجر وجالب وبائع ومشتر وكاسب ومسكين ومكار وفقير، وقضاء حوائج أهل الأطراف في المواضع الممكن لهم الاجتماع فيها، مع ما فيه من التفقّه ونقل أخبار الأئمّة عليهم السلام إلى كلّ صقع وناحية، كما قال اللّه عزّ وجلّ: (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي اَلدِّينِ وَ لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ ه.

ص: 411


1- . الوسائل: 8، الباب 1 من أبواب وجوب الحجّ وشرائطه، الحديث 10. قوله: «منصوب على استواء الكمال: نقل المجلسي في مرآة العقول عن والده انّه فسره: كلّ فعل من أفعال الحجّ سبب لرفع رذيلة من الرذائل النفسانية وموجباً لحصول فضيلة من الفضائل العلية: مرآة العقول: 23/17. وقوله: «فأحقّ» مبتدأ، و «اللّه» خبره.

يَحْذَرُونَ) .(1) و (لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ) (2).(3)

وعلى كلّ تقدير فالحجّ مؤتمر سنوي يجتمع في أيامه رؤوساء الدين وأعلام الأُمّة للتباحث في مصالح المسلمين وما يهدّد كيانهم وبلادهم واستقلالهم، فيتّخذون موقفاً موحّداً، ثمّ ينتشرون راجعين إلى بلدانهم وينفّذون ما اتّفقوا عليه.

ولعلّ هذا المقدار كافٍ في بيان أهمية الحجّ، ومَن أراد التفصيل فليقرأ ما في جواهر الكلام:(4) والعروة الوثقى (مقدمة كتاب الحجّ) بقلم حفيد المؤلّف.

وقد ألّفنا رسالة في سالف الأيام حول الآثار البنّاءة للحج طبعت في الجزء 18 من «منية الطالبين في تفسير القرآن المبين»، فلاحظ.9.

ص: 412


1- . التوبة: 122.
2- . الحج: 28.
3- . الوسائل: 8، الباب 1 من أبواب وجوب الحجّ وشرائطه، الحديث 15.
4- . جواهر الكلام: 218/17-219.

أحكام الحج

1. في وجوب الحجّ على المستطيع فوراً

اشارة

إنّ وجوب الحجّ وجوباً فورياً على كلّ مَن استطاع، من ضروريات الفقه، لو لم يكن من ضروريات الدين، ويدلّ على وجوبه قسم من الآيات نذكر منها ما يلي:

الآية الأُولى
اشارة

قال سبحانه: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَ هُدىً لِلْعالَمِينَ) (1).

المفردات

بيت: قال الراغب: البيت مأوى الإنسان بالليل، ثم قد يقال للمسكن بيت من غير اعتبار [السكون في] الليل فيه.(2)

ص: 413


1- . آل عمران: 96.
2- . المفردات للراغب: 64، مادة «بيت».

ببكة: الأصل فيها هو البَك: وهو الزحام، يقال: بكّه، يبكّه، بكّاً: إذا زحمه، فبكّة مزدحم الناس للطواف، لأجل إقامة الفريضة خصوصاً حول الكعبة من داخل المسجد الحرام، وأمّا مكّة فيجوز أن يكون اشتقاقها كاشتقاق بكّة وإبدال الميم من الباء، نظير قولهم: ضربة لازب، ولازم، وقولهم: راتم، وراتب، وعلى ذلك فهما مترادفان، ومع ذلك ربما يقال: بكّة: المسجد، ومكّة: الحرم كلّه وتدخل فيه البيوت. وقيل: بكّة موضع البيت والمطاف، ومكّة اسم البلدة.

هدى للعالمين: لا لخصوص آل إبراهيم أو العرب، بل لكلّ مَن قصده، لما فيه من سعة الهداية إذا تأمّلوا في الآيات الموجودة فيه.

التفسير

الآية إجابة عن إشكال أثارته اليهود، قائلين بأنّ الكعبة كيف يمكن أن تكون قبلة في ملّة إبراهيم، مع أنّ اللّه جعل بيت المقدس قبلة؟ ونقل الطبرسي إشكالاً آخر قال: تفاخر المسلمون واليهود، فقالت اليهود: بيت المقدس أفضل وأعظم من الكعبة، لأنّها مهاجر الأنبياء والأرض المقدّسة، وقال المسلمون: بل الكعبة أفضل، فأنزل اللّه تعالى: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ) (1).

والوجه الأوّل مبني على امتناع النسخ في الأحكام الإلهية، والوجه الثاني مبني على أفضلية بيت المقدس على الكعبة.

ثمّ إنّ تحويل القبلة أحدث ضجّة كبيرة بين اليهود وجعلوا ذلك ضعفاً في الشريعة المحمديّة، فجاء البيان القرآني يجيب عن الشبهة، وقال: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ

ص: 414


1- . مجمع البيان: 419/2.

وُضِعَ لِلنّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ) .

وحاصل الجواب: أنّ الكعبة المعظّمة صارت قبلة بيد إبراهيم الخليل، فكونها قبلة، جزء من ملّة إبراهيم وشريعته، فالصلاة نحوها ليس خروجاً عن ملّة إبراهيم بل دعماً لها، وإنّما صار بيت المقدس قبلة في مدّة يسيرة، فلمصالح اقتضت ذلك، فلو كان الميزان هو الأخذ بشريعة إبراهيم فقد شرّع هو كون الكعبة قبلة؛ لأنّه بناها مع ابنه إسماعيل لأجل العبادة.

نعم بنى سليمان بيت المقدس بعد إبراهيم بقرون، فيقال إنّه بناه قبل الميلاد ب 800 سنة أو أزيد.

إلى هنا تمّت الإجابة عن شبهتهم.

ثمّ إنّ المراد بكون الكعبة أوّل بيت ليس بمعنى أوّل بيت بناه الإنسان ليسكن فيه، بل المراد أوّل بيت بُني للعبادة، وهذا هو المروي عن الإمام علي عليه السلام، فقد روى السيوطي عنه في تفسير قوله: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ) أنّه قال: «كانت البيوت قبله، ولكن كان أوّل بيت وضع لعبادة اللّه».(1) وأيّده ابن عاشور بقوله: أنّه أُريد بيت العبادة، إذ لو كان بيت سكني، لقيل: وضعه الناس، مع أنّه قال: (وُضِعَ) بالصيغة المجهولة.(2)

ثمّ إنّه سبحانه وصف البيت بأوصاف:

1. (مُبارَكاً) أُريد البركات الدنيوية وعمدتها وفور الأرزاق وتضافر الهمم والدواعي إلى عمرانه بالحجّ إليه.3.

ص: 415


1- . تفسير الدر المنثور: 265/2.
2- . التحرير والتنوير: 160/3.

2. (وَ هُدىً لِلْعالَمِينَ) لعلّ المراد أنّه قبلة للعالمين، ويمكن أن يقال: إنّ مَن زار البيت وطاف به وصلّى عنده محرماً معتمراً أو حاجّاً، يتجرّد من كلّ العلاقات الدنيوية، ويكتفي في حياته بثوبين أبيضين طاهرين، قائلاً بأنّ البيت بيتك والعبد عبدك، وأي هداية أفضل من ذلك.

وعلى هذا فأُريد بالعالمين مَنْ قصد البيت وزاره وتنسّك بنسكه، وأمّا من لا يشدّ الرحال إليه، فالآية منصرفة عنه.

الآية الثانية
اشارة

قال سبحانه: (فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَ مَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَ لِلّهِ عَلَى اَلنّاسِ حِجُّ اَلْبَيْتِ مَنِ اِسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اَللّهَ غَنِيٌّ عَنِ اَلْعالَمِينَ) .(1)

المفردات

آيات: جمع آية بمعنى العلامة، أي علائم أنّها من اللّه أو من إبراهيم الخليل عليه السلام. نعم ربما تطلق الآية ويراد بها المعجزة.

حِجّ: مصدر بمعنى القصد والعزم.

التفسير

الظاهر أنّ الضمير المتّصل في قوله تعالى: (فِيهِ) يرجع إلى البيت، وأمّا قوله: (آياتٌ بَيِّناتٌ) يفسّره قوله تعالى: (مَقامُ إِبْراهِيمَ) .

ص: 416


1- . آل عمران: 97.

فإن قلت: إنّ مقام إبراهيم خارج عن البيت، ولذلك رجّح بعضهم أنّ الضمير يرجع إلى (بكّة).

قلت: يحتمل أن كونه في البيت من باب المجاز، لقربه منه.

قال ابن عطية: لأنّ البيت إنّما وضع بحرمه، وجميع فضائله، فهي فيه، وإن لم تكن داخل جدرانه.(1)

ثمّ إنّه سبحانه وصفه بوصف ثان، وقال: (وَ مَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً) والفقرة إمّا تحكي عن سيرة العرب في الجاهلية حيث إنّ قبائل العرب كلّها تحترم هذا البيت بل يحترمون الحرم لنسبته إلى اللّه تعالى.

ويحتمل أن تكون الآية بصدد التشريع أي حرمة التعرّض لمن دخل فيه فلا ينتقض بفعل الحجّاج حيث قتل عبد اللّه بن الزبير وهو في جانب البيت، إلى غير ذلك من أفعال الجبابرة الذين لم يحترموا هذا البيت والحرم؛ لأنّ المنع من التعرّض تشريعي لا تكويني، ثم قال سبحانه: (وَ لِلّهِ عَلَى اَلنّاسِ حِجُّ اَلْبَيْتِ) : أي جعل الحجّ في ذمّة الناس، وهو يلازم الوجوب العيني كقوله عليه السلام:

«عليه الصوم».

ثمّ إنّ وجوبه فوري ويدلّ على ذلك الروايتان التاليتان:

1. صحيحة أبي الصباح الكناني، عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: قلت له: أرأيت الرجل التاجر ذا المال حين يسوّف الحجّ كلّ عام وليس يشغله عنه إلّاالتجارة أو الدين؟ فقال: «لا عذر له يسوّف الحجّ، إن مات وقد ترك الحجّ فقد ترك شريعة من.

ص: 417


1- . المحرر الوجيز: 475/1، طبعة دار الكتب العلمية، بيروت، 1422 ه.

شرائع الإسلام».(1)

2. رواية زيد الشحّام، قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: التاجر يسوّف الحجّ؟ قال: «ليس له عذر، فإن مات فقد ترك شريعة من شرائع الإسلام».(2)

الاستطاعة الشرعية شرط الوجوب

يدلّ قوله سبحانه: (مَنِ اِسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) أنّ الاستطاعة شرط الوجوب، والمراد الاستطاعة الشرعية لا العقلية، لأنّ الثانية شرط كلّ تكليف، فتخصيص وجوب الحجّ بها دليل على أنّه أُريد بها غير العقلية، أعني: الشرعية، فمَن حجّ متسكّعاً ثم استطاع يجب عليه الحجّ.

ثمّ إنّ الاستطاعة الشرعية رهن تحقّق أُمور أربعة:

1. الاستطاعة المالية وفسّرت بما قاله العلّامة: لا يشترط وجود عين الزاد والراحلة، بل المعتبر التمكّن منهما تملّكاً أو استئجاراً.(3) كما هو الحال في حياتنا المعاصرة.

وتشهد على ذلك السيرة المستمرة بين المسلمين، فإنّ الآفاقي البعيد لا يحمل الزاد من بلده إلى مقصده، بل كان يشتريه في طريقه، كما أنّ أكثرهم يُكرون الجمال، وقد عدّ ذلك من فوائد الحجّ، ففي حديث هشام بن الحكم: «ولينتفع بذلك المكاري والجمّال».(4)

ص: 418


1- . الوسائل: 8، الباب 6 من أبواب وجوب الحجّ وشرائطه، الحديث 4.
2- . الوسائل: 8، الباب 6 من أبواب وجوب الحجّ وشرائطه، الحديث 6.
3- . تذكرة الفقهاء: 52/7.
4- . الوسائل: 8، الباب 1 من أبواب وجوب الحجّ وشرائطه، الحديث 18.

2. الاستطاعة البدنية، فلو كان مريضاً لا يقدر على الركوب أو كان حرجاً عليه، لم يجب عليه الحجّ، مثلاً لو تمكن من السفر بالطائرة لا بالسيارة، لكن شريطة أن يرافقه خادم فإن ملك مؤونتهما، وجب عليه الحجّ، وإلّا سقط.

3. الاستطاعة الزمانية، فلو كان الوقت ضيّقاً لا يمكنه الوصول إلى الحجّ، أو أمكن ولكن بمشقّة شديدة، فلا يجب، وحينئذٍ فإن بقيت الاستطاعة إلى العام القابل، وجب، وإلّا فلا.

4. الاستطاعة السربية، وأُريد بها ألّا يكون في الطريق مانع لا يمكن معه الوصول إلى الميقات أو إلى تمام الأعمال، وإلّا لم يجب، وذلك لأنّ الاستطاعة غير متوفّرة مع وجود المانع في الطريق، ففي رواية حفص الكناسي: فإذا كان صحيحاً في بدنه، مخلّى في سربه، له زاد وراحلة، فلم يحجّ، فهو ممّن يستطيع الحجّ؟ قال: «نعم».(1)

هذا إجمال ما عليه الفقهاء في معنى الاستطاعة، وهناك فروع أُخرى محرّرة في الكتب الفقهية.

ثمّ إنّه سبحانه ختم الآية بقوله: (وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اَللّهَ غَنِيٌّ عَنِ اَلْعالَمِينَ) والظاهر أنّ الكفر هنا ليس كفر الملّة، بأن يجحد وجوب الحج، وإنّما أُريد به ترك الحجّ، ففي رواية معاوية بن عمّار عن أبي عبد اللّه عليه السلام بعد قراءة الآية، قال: «هو لمَن كان عنده مال - إلى أن قال: - وعن قول اللّه عزّ وجلّ: (وَ مَنْ كَفَرَ) يعني: مَن ترك».(2)2.

ص: 419


1- . الوسائل: 8، الباب 8 من أبواب وجوب الحجّ وشرائطه، الحديث 4.
2- . الوسائل: 8، الباب 7 من أبواب وجوب الحجّ وشرائطه، الحديث 2.

ثمّ إنّ تقسيم الكفر إلى كفر الملّة وكفر النعمة، أمر يؤيّده القرآن الكريم، أمّا الأوّل فلا حاجة لذكره، وأمّا الثاني فيشير إليه سبحانه بقوله: (إِنّا هَدَيْناهُ اَلسَّبِيلَ إِمّا شاكِراً وَ إِمّا كَفُوراً) (1).

فشكر النعمة عبارة عن صرفها في محلّها، وكفرها عبارة عن خلافه، فعلى ذلك فالمراد من كفر النعمة هو أنّه إذا لم يحجّ مع الاستطاعة المالية والبدنية، فلا يضرّ اللّه شيئاً فإنّ اللّه غني عن العالمين.

وجوب الحجّ مرّة واحدة في العمر

لا يجب الحجّ في أصل الشرع إلّامرّة واحدة في تمام العمر، وهو المسمّى بحجّة الإسلام، أي الحجّ الذي بُني عليه الإسلام مثل الصلاة والصوم والخمس والزكاة.

روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة قال: خطبنا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فقال: «أيّها الناس قد فرض اللّه عليكم الحجّ فحجّوا» فقال رجل: أكلّ عام يا رسول اللّه؟ فسكت، حتّى قالها ثلاثاً، فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «لو قلت نعم، لوجبت ولما استطعتم» ثم قال: «ذروني ما تركتكم، فإنّما هلك مَن كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه».(2)

ص: 420


1- . الإنسان: 3.
2- . التاج الجامع للأُصول: 100/2، كتاب الحج.
الآية الثالثة
اشارة

قال سبحانه: (وَ أَذِّنْ فِي اَلنّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَ عَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) .(1)

المفردات

أذّن: ناد في الناس بالحجّ والدعوة إليه.

رجالاً: مشاة.

ضامر: البعير الهزيل الذي أتعبته كثرة الأسفار.

فجٍّ: الطريق.

التفسير

أمر اللّه تعالى نبيّه إبراهيم الخليل عليه السلام بأن يؤذّن في الناس بالحجّ، وأُريد به - بشهادة فتح «الحاء» - المناسك المعلومة، لا القصد الذي هو معنى لغوي له، أي ادعهم لأداء المناسك. قال ابن عباس: إنّ إبراهيم عليه السلام قام في المقام، فنادى: «يا أيّها النّاس إنّ اللّه قد دعاكم إلى الحجّ» فأجابوا ب: لبيك اللّهمّ لبيك.(2)

وروى الحلبي عن أبي عبد اللّه (الصادق) عليه السلام، قال: سألته: لِمَ جُعلت التلبية؟ فقال: «إنّ اللّه عزّ وجلّ أوحى إلى إبراهيم عليه السلام: (وَ أَذِّنْ فِي اَلنّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً) ، فأُجيب (يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) .(3)

ص: 421


1- . الحج: 27.
2- . التبيان في تفسير القرآن: 309/7.
3- . تفسير نور الثقلين: 89/3.

قوله تعالى: (يَأْتُوكَ) جواب للأمر، كأنّه قال: إنّ دعوتهم يأتوك جماعات:

أ. (رِجالاً) : أي مشاة.

ب. (وَ عَلى كُلِّ ضامِرٍ) : أي على كلّ بعير ضامر، وهو المهزول الذي أضمره السير.

قوله: (يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) : أي من كلّ طريق بعيد.

وعلى ما ذكرنا تعود النون في (يَأْتِينَ) إلى تلك الجماعات المتشكّلة من المشاة والركبان. ويجوز أن تعود إلى كلّ ضامر لأنّه بمعنى الجمع، وبما أنّه جمع لما لا يعقل، أُنّث الفعل (يَأْتِينَ) .

وأمّا الغاية من المجيء والوفود إلى الكعبة، فهي ما تذكره الآيات الواردة في سورة الحجّ.(1) وسيوافيك تفسيرها في محلّها.0.

ص: 422


1- . لاحظ: سورة الحج: 28-30.

أحكام الحج

2. أقسام الحج وحجّ التمتع باقٍ على تشريعه

اشارة

ينقسم الحج إلى ثلاثة أقسام بالإجماع والأخبار:

1. حجّ تمتع.

2. حجّ قران.

3. حجّ إفراد.

والأوّل فرض مَن كان بعيداً عن مكّة، وحدّ البُعد الموجب لكون وظيفته حجّ تمتع 48 ميلاً من كلّ جانب، وكلّ ميل ثلث الفرسخ، وأمّا حسب الفراسخ فالحدّ 16 فرسخاً (وهو ما يساوي 86، 400 كيلومتراً)، وقد أُشير إلى هذا القسم من الحجّ في قوله سبحانه: (فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى اَلْحَجِّ) إلى أن قال: (ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرامِ) (1). فقوله: (ذلِكَ) إشارة إلى مَن أتى بالعمرة ثم تمتّع بالخروج عنها قاصداً إلى اقتراب مناسك الحجّ، فهذه وظيفة مَن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام، وقد فسّر عدم الحضور في السنة كما مرّ

ص: 423


1- . البقرة: 196.

بالابتعاد مقدار 16 فرسخاً.

وأمّا الثاني والثالث فهما وظيفة الحاضر.

وكلّ مَن كان أهله دون 86، 400 كيلومتراً أو 48 ميلاً، فوظيفته القران والإفراد، ولأجل إيضاح الحال نشير إلى المواقيت الخمسة ومقدار المسافة بينها وبين مكّة المكرّمة:

1. ذو الحليفة وهو يبعد عن مكّة مسافة 400 كيلومتر.

2. العقيق، وهو يبعد عنها مسافة 187 كيلومتراً تقريباً.

3. الجحفة، وهي تبعد عن مكّة مسافة 190 كيلومتراً.

4. يلملم، وهي تبعد عن مكّة مسافة 100 كيلومتر.

5. قرن المنازل، وهي تبعد عن مكّة مسافة 75 كيلومتراً.

ثمّ لو كان بيت المكلّف قبل الميقات فهو يحرم منه، وأمّا إذا كان بيته بين الميقات ومكّة، فهو يُحرم من دويرة أهله. هذه هي الضابطة، وأمّا تطبيقها على المسافات المذكورة، فيكون بالشكل التالي.

فكلّ مَن كان بيته بعد قرن المنازل فهو يُحرم من دويرة أهله. وأمّا غيره، فهو يحرم من إحدى المواقيت؛ وذلك لأنّ بينه وبين مكّة أحد المواقيت.

ثمّ إنّ الفرق بين حجّ التمتّع والآخرين، أنّ المتمتّع يأتي بأعمال العمرة في أشهر الحجّ ثم يتحلّل ثم يحرم. وأمّا حجّ الإفراد فهو يحجّ أوّلاً، ثمّ يُحرم بالعمرة ويأتي بأعمالها.

ثمّ إنّ القران والإفراد شيء واحد، لا يفترقان إلّافي حالة واحدة وهي أنّ القارن يسوق الهدي عند ما يحرم، فيلزمه أن يهدي ما ساقه، وأمّا من حجّ حجّة

ص: 424

الإفراد فليس عليه هدي أصلاً.

وأمّا عند غيرنا فقد اتّفق الأربعة من فقهاء السنّة على أنّ معنى القران أن يحرم بالحجّ والعمرة معاً بحيث يقول الناسك: «لبيك اللّهمّ بحجّة وعمرة»، ولكن التداخل بين الإحرامين لا يجوز عند الإمامية، ولا إتيان الحجّ والعمرة بنيّة واحدة.

كلّ ذلك ثبت بالدليل في محلّه.

أعمال العمرة والحجّ في حجّ التمتّع

العمرة: عبارة عن إحرام المكلّف من الميقات بالعمرة المتمتّع بها إلى الحج ثم يدخل مكّة فيطوف سبعة أشواط بالبيت، ويصلّي ركعتي الطواف بالمقام، ويسعى بين الصفا والمروة سبعة أشواط، ثم يقصّر، فإذا فعل ذلك فقد أحلّ من كلّ شيء أحرم منه، فله التمتّع بأي شيء شاء من الأُمور المحلّلة بالذات إلى أن ينشئ إحراماً آخر للحج.

وأمّا الحج: فهو أن ينشئ إحراماً آخر من مكّة يوم التروية أو بعد، ثمّ يمضي إلى عرفات فيقف بها من ظهر اليوم التاسع إلى الغروب، ثمّ يفيض إلى المشعر الحرام فيقف به إلى طلوع الشمس، ثمّ يفيض إلى منى ويرمي جمرة العقبة، ثمّ يذبح هديه ثم يحلق رأسه، ثمّ يأتي مكّة ليومه أو من غده، فيطوف للحج ويصلّي الركعتين، ثم يسعى سعي الحج، ثم يطوف طواف النساء ويصلي ركعتيه، ثم يعود إلى منى ليرمي ما تخلّف عليه من الجمار الثلاث، يوم الحادي عشر، والثاني عشر، والثالث عشر.(1)

ص: 425


1- . لاحظ: تحرير الاحكام: 1/557.
أعمال حجّ الإفراد والقران

والمُفرد يقدّم الحج على العمرة، فيحرم من الميقات إذا كان بيته قبله أو من حيث يصحّ له الإحرام منه بالحج، كما إذا كان بيته بعد الميقات فيحرم من دويرة أهله كما سيأتي، ثم يمضي إلى عرفات فيقف بها، ثم يقف بالمشعر الحرام، ثمّ يأتي منى فيقضي مناسكه بها، ثمّ يأتي مكّة يطوف بالبيت للحج ويصلي ركعتين ويسعى للحج ويطوف طواف النساء ويصلي ركعتين، فيخرج من الإحرام فتحل له كلّ المحرّمات، ثم يأتي بعمرة مفردة من أدنى الحلّ متى شاء.

وأمّا أعمال القارن: حجّ القران فهو نفس حج الإفراد عند الإمامية إلّاأنّ القارن يضيف إلى إحرامه سياق الهدي، وإنّما يُسمّى بالقران لسوقه الهدي، فيقرن حجّه بسوقه.

إلى هنا تمّ ما أردنا بيانه من أقسام الحجّ وأعمال كلّ قسم منها، إلّاأنّ الذي حدانا إلى عقد هذا الفصل هو بيان أنّ حجّ التمتّع باقٍ على وجوبه لم يُنسخ وقد سنّه الكتاب العزيز وعمل به النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم في حجّة الوداع، غير أنّ المشهور عن عمر بن الخطاب أنّه حرّم حجّ التمتّع في قوله: «متعتان كانتا في عهد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وأنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما: متعة الحجّ ومتعة النساء».(1)

غير أنّ الصحابة لم يُعيروا لتحريمه بالاً.

نعم كان النزاع على قدم وساق بين بعض وبعض آخر.

غير أنّ قوله سبحانه: (فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى اَلْحَجِّ) صريح في تشريع حجّ

ص: 426


1- . أحكام القرآن للجصاص: 92/1؛ تفسير القرطبي: 267/2، وغيرهما.

التمتّع وإليك البيان:

قال القرطبي في تفسيره: وذلك أن يحرم الرجل بعمرة في أشهر الحج وأن يكون من أهل الآفاق وقدم مكّة ففرغ منها ثم أقام حلالاً بمكّة إلى أن أنشأ الحج منها في عامه ذلك قبل رجوعه إلى بلده.(1)

وقال صاحب الكشّاف: وقيل إذا حلّ من عمرته انتفع باستباحة ما كان محرّماً عليه إلى أن يُحرم بالحج.(2)

وقال صاحب المنار: أي فمَن تمتع بمحظورات الإحرام بسبب العمرة، أي أداؤها بأن أتمّها وتحلّل وبقي متمتّعاً إلى زمن الحج ليحج من مكّة، فعليه ما استيسر من الهدي، أي فعليه دم.(3)

ثم إنّ عمر نهى عن متعة الحج بهذا المعنى أي التمتّع بين العمرة والحج، وقال: متعتان كانتا على عهد رسول اللّه وأنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما: متعة الحجّ ومتعة النساء.. وفي لفظ الجصّاص: لو تقدمتَ فيهما لرجمتُ. وفي رواية أُخرى: أنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما: متعة النساء ومتعة الحج.(4)

روى البخاري عن مروان بن الحكم: شهدت عثمان وعليّاً، وعثمان ينهى عن المتعة وأن يجمع بينهما، فلمّا رأى عليَّ أهلّ بهما، لبّيك بعمرة وحجّة، قال: مار.

ص: 427


1- . تفسير القرطبي: 2/291.
2- . تفسير الكشّاف: 1/121.
3- . تفسير المنار: 1/222.
4- . البيان والتبيين: 2/193؛ أحكام القرآن: 1/92-93؛ تفسير القرطبي: 2/392، طبعة دار إحياء التراث العربي، بيروت؛ زاد المعاد: 2/184، طبعة مصر.

كنت لأدع سنّة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم لقول أحد.(1) أراد بقوله عليه السلام: «لبّيك بعمرة وحجّة» إتيانهما لا جمعهما في إحرام واحد.

وروى أيضاً عن عمران أنّه قال: تمتّعنا على عهد رسول اللّه ونزل القرآن، قال رجل برأيه ما شاء.(2)

وروى أيضاً عن عمران بن حصين قال: نزلت آية المتعة في كتاب اللّه ففعلناها مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ولم ينزل قرآن يحرمه ولم ينه عنها حتّى مات، قال رجل برأيه ما شاء، قال محمد: يقال أنّه عمر.(3)

وعلى كلّ تقدير فقد طال النقاش بين الخليفة وحماته، وبين جمع من الصحابة، فاستقر الأمر على جواز حج التمتّع، بل على كونه أفضل.

المعروف أنّ الخليفة حرّم متعة الحجّ لاستلزامها التحلّل بين العمرة والحجّ، وهذا ممّا كان يستهجنه الخليفة ويعبّر عنه بقوله: إنّي أخشى أن يعرسّوا بهنّ تحت الأراك ثمّ يروحوا بهنّ حجّاجاً، وقوله: كرهت أن يظلّوا معرّسين بهنّ ثمّ يروحون في الحجّ تقطر رؤوسهم.

يلاحظ عليه: أنّه اجتهاد في مقابل النص، قال سبحانه: (وَ ما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَ لا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اَللّهُ وَ رَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ اَلْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَ مَنْ يَعْصِ اَللّهَ وَ رَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً) .(4)6.

ص: 428


1- . صحيح البخاري: 2/142، باب التمتع والإقران والإفراد بالحج.
2- . صحيح البخاري: 2/153، باب التمتّع؛ صحيح مسلم: 4/48، باب جواز التمتّع.
3- . صحيح البخاري: 5/158، كتاب تفسير القرآن، قوله تعالى: (فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى اَلْحَجِّ).
4- . الأحزاب: 36.

روى الكليني عن الحلبي عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم حين حجّ حجّة الإسلام خرج في أربع بقين من ذي القعدة حتّى أتى الشجرة وصلّى بها ثم قاد راحلته حتّى أتى البيداء فأحرم منها وأهلّ بالحجّ وساق مائة بدنة، وأحرم الناس كلّهم بالحج لا ينوون عمرة ولا يدرون ما المتعة، حتّى إذا قدم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم مكّة طاف بالبيت وطاف الناس معه ثم صلّى ركعتين عند المقام واستلم الحجر، ثم قال: أبدأ بما بدأ اللّه عزَّ وجلَّ به، فأتى الصفا فبدأ بها ثم طاف بين الصفا والمروة سبعاً، فلمّا قضى طوافه عند المروة قام خطيباً وأمرهم أن يحلّوا ويجعلوها عمرة(1)، وهو شيء أمر اللّه عزَّ وجلَّ به فأحلّ الناس، وقال رسول اللّه:

لو كنت استقبلت من أمري ما استدبرت لفعلت كما أمرتكم، ولم يكن يستطيع أن يحلّ من أجل الهدي الّذي معه، إن اللّه عزَّ وجلَّ يقول: (وَ لا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتّى يَبْلُغَ اَلْهَدْيُ مَحِلَّهُ) ، قال: قال سراقة بن جعشم الكناني: علمنا ديننا كأنّا خلقنا اليوم، أرأيت هذا الّذي أمرتنا به لعامنا أو لكلّ عام؟ فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: لا بل للأبد، وإن رجلاً قام فقال: يا رسول اللّه نخرج حجاجاً ورؤوسنا تقطر من نسائنا، فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: إنّك لن تؤمن بها أبداً».(2)

وحصيلة الكلام: أنّ عمر بن الخطاب خالف الرأي العام بين الصحابة، وما هو صريح الذكر الحكيم في موردين:

الأوّل: إفراد العمرة وفصلها عن الحج، بأن يحج المسلمون في أشهر6.

ص: 429


1- . وسيوافيك أنّهم كانوا يقدّمون بعض أعمال الحجّ على الوقوف في عرفات ولذلك قال: فاجعلوهاعمرة. أي فاجعلوا ما أتيتم به بعنوان أعمال الحجّ، عمرة نظير الطواف بالبيت أو السعي.
2- . الكافي: 4/246.

الحج، ثم يعتمرون بالعمرة في الأشهر الأُخرى، لئلّا تتعطّل أسواق مكّة، وقد عرفت ما فيه.

الثاني: المنع عن التمتّع بين العمرة والحج، حيث كره التمتّع بين العبادتين، وقد عرفت ما فيه.

وقد مرّ أن منشأ الأمر الأوّل هو كون إفراد العمرة عن الحج رسماً من رسوم الجاهلية، ولذلك كان المشركون يُحرمون إحرام الحج ابتداءً حتّى أنّ المسلمين الّذين كانوا مع النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم في حجّة الوداع أحرموا إحرام الحج، ودخلوا مكّة فطافوا وصلّوا ناوين بأعمالهم هذه، عمل الحج، إذ ربّما كانوا يقدّمون أعماله قبل الذهاب إلى عرفة، فجاء الوحي الإلهي بدخول العمرة بالحج، وأنّ على هؤلاء أن يجعلوا ما أتوا به بعنوان الحج عمرة، فثقُل ذلك على المسلمين لأنّهم أحرموا إحرام الحج، غير أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم احتجّ عليهم بأنّ هذا جبرئيل يأمرني بذلك.(1)

ميقات عمرة المفرد والقارن

قد تقدّم أنّ المتمتع يحرم من أحد المواقيت ويأتي إلى مكّة لإتمام أعمال العمرة، وأمّا للحجّ فيحرم من نفس مكّة، والأفضل المسجد الحرام.

وأمّا المفرد و القارن فيحرمان للحجّ من أحد المواقيت الخمسة إذا كان منزله قبل الميقات. وأمّا إذا كان منزله بعد الميقات فميقاته دويرة أهله، وليس عليه الرجوع إلى الميقات.

ص: 430


1- . لاحظ: مناقب ابن شهر آشوب: 1/394؛ بحار الأنوار: 30/634 و ج 38/72.

وأمّا ميقات عمرة القران والإفراد فيحرم من أدنى الحل، كالتنعيم مثلاً.

كلّ ذلك ممّا اتّفقت عليه كلمة الفقهاء.

ميقات العمرة المفردة

النائي إذا أراد أن يأتي بعمرة مفردة، فميقاته أحد المواقيت الخمسة، وأمّا إذا كان في مكّة وأراد أن يأتي بالعمرة المفردة، فميقاته أدنى الحل. رزقنا اللّه وإيّاكم الحجّ والعمرة.

الفرق بين العمرتين (المفردة وعمرة التمتّع)

يتلخّص الفرق بينهما في الأُمور التالية:

1. أنّ طواف النساء يجب في العمرة المفردة، ولا يجب في عمرة التمتّع، وقال بعضهم: لا يشرّع فيها.

2. أنّ وقت عمرة التمتّع يبتدئ من أوّل شوال إلى اليوم التاسع من ذي الحجّة، أمّا العمرة المفردة فوقتها طول أيام السنة.

3. أنّ المعتمر بعمرة التمتّع يحل بالتقصير فقط، أمّا المعتمر بعمرة مفردة فهو مخيّر بين التقصير والحلق.

4. أنّ عمرة التمتّع والحجّ يقعان في سنة واحدة، وليس كذلك في العمرة المفردة.

ص: 431

أحكام الحج

3. أعمال العمرة في الذكر الحكيم

اشارة

قد تعرّفت في الفصل السابق على أقسام الحجّ، وقد ذكر القرآن الكريم أعمال العمرة:

1. الإحرام للعمرة واتمامها إتمام العمرة.

2. الطواف بالبيت العتيق.

3. الصلاة في مقام إبراهيم.

4. السعي بين الصفا والمروة.

5. ويخرج من الإحرام بالتقصير.

أمّا الأوّل: فقد قال سبحانه: (وَ أَتِمُّوا اَلْحَجَّ وَ اَلْعُمْرَةَ لِلّهِ... ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرامِ وَ اِتَّقُوا اَللّهَ وَ اِعْلَمُوا أَنَّ اَللّهَ شَدِيدُ اَلْعِقابِ) .(1)

ص: 432


1- . البقرة: 196. ونقتصر في هذا الفصل بتفسير الفقرة الأُولى أعني قوله: (وَ أَتِمُّوا اَلْحَجَّ وَ اَلْعُمْرَةَ)، وأمّا سائر الفقرات فستأتي في فصل حكم المحصور والمصدود. ولذلك اقتصرنا بما له مساس بالمقام.

أ. قوله تعالى: (أَتِمُّوا) : أي أكملوا العمرة والحجّ وإتمامها يلازم الإحرام لها، وأُريد من الإتمام هو إنجاز العمل كاملاً لا ناقصاً، وكلّما أُطلق الإتمام في القرآن الكريم أُريد به الإكمال، كما في قوله سبحانه: (وَ إِذِ اِبْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ) (1)، وقوله سبحانه: (ثُمَّ أَتِمُّوا اَلصِّيامَ إِلَى اَللَّيْلِ) (2)، وقوله سبحانه: (وَ يَأْبَى اَللّهُ إِلاّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَ لَوْ كَرِهَ اَلْكافِرُونَ) (3)، وقوله سبحانه:

(وَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَ عَلى آلِ يَعْقُوبَ كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ) (4) ، وقوله تعالى: (اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) .(5)

تفسير الاتمام بإفراد العمرة عن الحجّ إنكار لحجّ التمتّع

وأمّا تفسير الإتمام بإفراد العمرة في حجّ التمتّع عن العمرة فممّا لا تدلّ عليه الآية. فمآله إلى إنكار حج التمتّع. نعم كان العرب في الجاهلية يفردون كُلّاً عن الآخر، وكانت سيرتهم على ذلك إلى أن أدخل النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم العمرة في الحج، حتّى أنّ مَن لبّى بالحج في الأشهر الحرم وأحرم له، أمره أن يجعله عمرة ثم يتحلّل ويحرم للحج ثانياً، وقال صلى الله عليه و آله و سلم: «دخلت العمرة في الحج إلى الأبد»، وقد تقدّم بيانه.

ثم إنّه ربّما يستدلّ بقوله: (وَ أَتِمُّوا اَلْحَجَّ وَ اَلْعُمْرَةَ) بوجوب العمرة مستقلّاً

ص: 433


1- . البقرة: 124.
2- . البقرة: 187.
3- . التوبة: 32.
4- . يوسف: 6.
5- . المائدة: 3.

فمَن استطاع إليها فقط دون الحج يجب عليه الاعتمار ولكنّه ضعيف، لأنّ الفقرة تدلّ على وجوب إكمال العمرة بما لها من الحكم حتّى وإن كان مستحباً كالعمرة المفردة لمن اعتمر وحجّ سابقاً، فهي مع استحبابها، يجب على المعتمر إكمالها، وإن كانت مستحبة. وليست الفقرة بصدد بيان وجوب العمرة لمن استطاع لها.

وأمّا الثاني: فقد قال سبحانه: (وَ لْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ اَلْعَتِيقِ) .(1) والطواف يبدأ من الحجر الأسود، فإذا أتمّ الشوط السابع يخرج من الطواف ويتوجّه إلى إنجاز الأمر الثالث.

وأمّا الثالث: فقد قال سبحانه: (وَ اِتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى) (2)وهو يشير إلى وجوب صلاة ركعتين في مقام إبراهيم بعد إتمام الطواف للمعتمر والحاج، وسيأتي تفصيله عند بيان واجبات الحجّ وأركانه.

وأمّا الرابع: فقال سبحانه: (إِنَّ اَلصَّفا وَ اَلْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اَللّهِ فَمَنْ حَجَّ اَلْبَيْتَ أَوِ اِعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما وَ مَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اَللّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ) .(3)

نعم أنّ ما ذكر من الآيات لا تشير إلى خصوص العمرة بل تعمّ العمرة والحجّ أيضاً لاشتراكهما في تلك الأعمال. والغرض الإشارة إلى أعمالها في الكتاب العزيز.

وأمّا الخامس: فقد ورد في السنّة.8.

ص: 434


1- . الحجّ: 29.
2- . البقرة: 125.
3- . البقرة: 158.

بالتفسير بعد بيان المفردات.

المفردات

الصفا: خلوص الشيء من الشوب، ومنه: الصفا للحجارة الصافية، وذلك اسم لموضع مخصوص.(1)

قال المبرد: الصفا: كلّ حجر لا يخلطه غيره من طين لازب، واشتقاقه: صفا، يصفو إذا خلص، وأصله من الواو ولأنّك تقول في تثنيته صفوان.(2)

المروة: الحجارة الصلبة. وأُريد به وبالصفا هنا، جبلان بمكة.

أمّا الصفا، فهو جبل يقع في جنوب شرق المسجد الحرام من جهة الحجر الأسود.

وأمّا المروة فهو جبل يقع في شمال شرق المسجد الحرام يقابل الركن العراقي تجاه بيت اللّه الحرام، والمسافة بينهما 766 ذراعاً ونصف. والمعتمر والحاج يسعيان بين الجبلين. وقد أصبح المسعى في هذه السنوات عبارة عن صالة كبيرة مسقّفة ذات طابقين يسعى الحجاج بينهما.

شعائر: جمع شعيرة بمعنى العلامة، يقال: أشعر الهدي أي جعل فيه علامة أنّه يهدى إلى الحرم. وأُضيف لفظ «شعائر» إلى لفظ الجلالة، فلابدّ من تقدير كلمة بينهما أي من علائم أو أعلام دين اللّه.

حجّ: الحجّ هو القصد، صار علماً للعمل المعروف بين المسلمين.

ص: 435


1- . المفردات للراغب: 450، مادة «صفو».
2- . مجمع البيان: 476/1.

اعتمر: الاعتمار الزيارة، وهو في اصطلاح الشرع العمل المعهود ويشارك الحجّ في قسم من الأعمال وليس فيه الوقوف في عرفات والمشعر ورمي الجمار والهدي.

جناح: الميل عن الحقّ والعدل نظير «جنف» في مقابل «حنف» وينطبق على الإثم، وسيأتي تفسيره في الشرح.

يطوّف: يتطوّف، ادغمت التاء في الطاء، وهو السير الذي ينتهي أوّله إلى آخره، سواء أكان على حالة الدوران أو على غيرها، أمّا الأوّل كالطواف حول الكعبة، والثاني الطواف بين الصفا والمروة.

تطوّع: من الطوع بمعنى الطاعة ويستعمل غالباً في التبرّع بعناية أنّ العمل الواجب لكونه إلزامياً كأنّه ليس بمأتي به طوعاً، بخلاف المأتي من المندوب فإنّه على الطوع من غير شائبة. ويشهد على أنّ التطوّع بمعنى التبرّع حديث الأعرابي، روى مسلم، قال: جاء رجل إلى رسول اللّه من نجد يسأل عن الإسلام. قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «خمس صلوات في اليوم والليلة». فقال: هل عليّ غيرهن؟ قال: لا... إلّا أن تطوّع، وصيام شهر رمضان، فقال: هل عليّ غيره؟ قال: لا... إلّاأن تطوّع، وذكر له رسول اللّه الزكاة. فقال الرجل: هل عليّ غيره؟ قال: لا... إلّاأن تطوّع. فأدبر الرجل وهو يقول: واللّه لا أزيد على هذا ولا أنقص منه.(1) وعلى هذا فيحتمل أن يراد: تَبرّع وراء الواجب. وسيأتي توضيحه في قسم التفسير.

خيراً: منصوب بنزع الخافض أي مَن تطوع بالخير.

شاكر: أي يجزي عمل العباد الشاكرين.؟

ص: 436


1- . صحيح مسلم: 32/1، باب ما هو الإسلام؟
تمهيد

السعي بين الصفا والمروة عبادة وفرض واجب في الحجّ والعمرة، والزائر بعمله هذا يحاكي عمل هاجر أُمّ إسماعيل عليه السلام في طريق طلب الماء لولدها؛ فعن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم أنّ هاجر أُمّ إسماعيل لمّا تركها إبراهيم بموضع مكّة ومعها ابنها وهو رضيع وترك لها جراباً من تمر وسقاء فيه ماء، فلمّا نفد ما في السقاء عطشت وعطش ابنها وجعلت تنظر إليه يتَلوّى، فانطلقت كراهية أن تنظر إليه، فوجدت الصفا أقرب جبل يليها، فقامت عليه ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحداً، فلم تر أحداً، فهبطت من الصفا وأتت المروة فقامت عليها، ونظرت هل ترى أحداً، فلم تر أحداً، ففعلت ذلك سبع مرّات، قال ابن عباس: فقال النبي صلى الله عليه و آله و سلم: فلذلك سعى الناس بينهما، فلمّا أشرفت على المروة سَمِعتْ صوتاً، فقالت: صه تُريد نفسها، ثم تسمّعت فسَمِعتْ أيضاً، فقالت: قد أسْمَعْتَ إن كان عندك غُواث، فإذا هي بالمَلك عند موضع زمزم، فبحث بعقبه حتى ظهر الماء فشربت وأرضعت ولدها.(1)

روى الكليني في «الكافي» عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «إنّ إبراهيم عليه السلام لمّا خلّف إسماعيل بمكّة، عطش الصبي فكان فيما بين الصفا والمروة شجر فخرجت أُمّه حتّى قامت على الصفا، فقالت: هل بالبوادي من أنيس؟ فلم يجبها أحد، فمضت حتى انتهت إلى المروة، فقالت: هل بالبوادي من أنيس؟ فلم تجب، ثم رجعت إلى الصفا وقالت ذلك، حتى صنعت ذلك سبعاً فأجرى اللّه ذلك سنّة».(2)

ص: 437


1- . التحرير والتنوير: 58/2، ولاحظ: الدر المنثور: 388/1. الغُواث والغَواث: المعونة.
2- . الكافي: 202/4.

من ألطافه سبحانه على عباده الشاكرين أنّه جعل مسعى «هاجر» موضعاً لعبادته، تقديراً لسعيها وتكريماً لها تكريماً لا نهاية له، وتبرّكاً بها حيث إنّ حجاج بيت اللّه الحرام ما زالوا يسعون بين الجبلين حاكين به عمل هذه المرأة الصابرة. وأين هذا التكريم من إنكار الوهابية مقامات الأولياء؟! فاعتبروا يا أولي الأبصار.

إذا عرفت ذلك فلندخل في تفسير الآية.

التفسير

قوله تعالى: (إِنَّ اَلصَّفا وَ اَلْمَرْوَةَ) : أي الجبلين، المعروفين فالصفا رأس نهاية جبل أبي قبيس، وأمّا المروة فهو رأس منتهى جبل قعيقعان، فلعل المراد أنّهما علامة أنّ المسعى محلّ عبادة اللّه سبحانه، (مِنْ شَعائِرِ اَللّهِ) : أي أنّ السعي بينهما عبادة، فاللّه سبحانه جعلهما علامتين على مكان عبادته (فَمَنْ حَجَّ اَلْبَيْتَ أَوِ اِعْتَمَرَ) فرّع على كونهما من شعائر اللّه، أي السعي بينهما من المناسك، (فَلا جُناحَ) : أي لا إثم (عَلَيْهِ) : أي على الحاج والمعتمر (أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما) وأمّا وجه التعبير بعدم الجناح مع أنّ اللازم في بادئ الأمر، أن يقول: يجب عليه أن يطوّف بهما، فسيوافيك وجهه. (وَ مَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً) : أي تبرّع وراء الواجب (فَإِنَّ اَللّهَ شاكِرٌ) لعمل عباده (عَلِيمٌ) بواقع أعمالهم.

إلى هنا تمّ تفسير الآية بمفردها بقيت هنا أُمور:

الأمر الأوّل: ما هو السبب للعدول عن وجوب الطواف بينهما إلى قوله:

(لا جُناحَ) ؟

ص: 438

أقول: هناك وجهان:

الأوّل: ما روي عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه سئل عن السعي بين الصفا والمروة فريضة أم سُنّة؟ فقال: «فريضة»، قلت: أو ليس قال اللّه عزّ وجلّ: (فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما) قال: «كان ذلك في عمرة القضاء. إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم شرط عليهم أن يرفعوا الأصنام من الصفا والمروة، فتشاغل رجل وترك السعي حتى انقضت الأيام، وأُعيدت الأصنام، فجاءوا إليه، فقالوا: يا رسول اللّه، إنّ فلاناً لم يسعَ بين الصفا والمروة، وقد أُعيدت الأصنام، فأنزل اللّه عزّ وجلّ: (فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما) : أي وعليهما الأصنام».(1)

فعلى هذا فالفقرة وردت في مورد توهّم الحظر، ومثل ذلك لا يدلّ على كون السعي ندباً أو واجباً. وإنّما يستنبط حكمه من دليل آخر.

ونظير الآية قوله سبحانه: (وَ إِذا ضَرَبْتُمْ فِي اَلْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ اَلصَّلاةِ) (2) فإنّ ظاهره عدم وجوب التقصير، وهو خلاف ما استقرّ عليه المذهب؛ ولذلك روى الصدوق عن زرارة ومحمد بن مسلم عن أبي عبد اللّه عليه السلام - في حديث قصر الصلاة - قال: قال له: إنّما قال اللّه عزّ وجلّ: (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ) ولم يقل: افعلوا، فكيف أوجب ذلك؟ كما أوجب التمام في الحضر: «أو ليس قد قال اللّه عزّ وجلّ في الصفا والمروة: (فَمَنْ حَجَّ اَلْبَيْتَ أَوِ اِعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما) ؟ ألا ترون أنّ الطواف بهما واجب مفروض، لأنّ اللّه عزّ وجلّ ذكره في كتابه، وصنعه نبيّه صلى الله عليه و آله و سلم، وكذلك التقصير في1.

ص: 439


1- . الكافي: 435/4 برقم 8؛ البرهان: 42/2، برقم 728.
2- . النساء: 101.

السفر شيء صنعه النبي صلى الله عليه و آله و سلم وذكره اللّه في كتابه...».(1)

الثاني: ما رواه معاوية بن عمّار عن أبي عبد اللّه عليه السلام في حديث حجّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم أنّه صلى الله عليه و آله و سلم بعد ما طاف بالبيت وصلّى ركعتين قال صلى الله عليه و آله و سلم: «إنّ الصفا والمروة من شعائر اللّه فأبدأ بما بدأ اللّه عزّ وجلّ به، وأنّ المسلمين كانوا يظنون أنّ السعي بين الصفا والمروة شيء صنعه المشركون، فأنزل اللّه عزّ وجلّ: (إِنَّ اَلصَّفا وَ اَلْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اَللّهِ فَمَنْ حَجَّ اَلْبَيْتَ أَوِ اِعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما) ».(2) ولا منافاة بين الخبرين بجواز أن يكون لنزول الآية سببان.

الأمر الثاني: أنّ الآية حسب الروايات نزلت إمّا في عمرة القضاء أو في حجّة الوداع.

أمّا الأُولى فكانت في السنة السابعة من الهجرة، والثانية في السنة العاشرة.

وعندئذٍ يقع السؤال عن وقوعها في هذا المورد مع أنّ سورة البقرة نزلت في السنة الثانية من الهجرة، وأين هي من السنتين الماضيتين؟

والجواب أنّ الآية وضعت في هذا الموضع بأمر الرسول، وكم لها من نظير في القرآن الكريم حيث نزلت آية وحدها أو مجموعة آيات فأمر النبي صلى الله عليه و آله و سلم أن توضع في سورة كذا بعد آية كذا.

الأمر الثالث: أنّ في قوله: (وَ مَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً) وجوه ثلاثة:

1. أنّ معناه: مَن تبرّع بالطواف والسعي بين الصفا والمروة بعد ما أدّى الواجب من ذلك، عن ابن عباس وغيره. ولكنّه بعيد إذ لم يثبت استحباب السعي1.

ص: 440


1- . الوسائل: 9، الباب 1 من أبواب السعي، الحديث 7، لاحظ: من لا يحضره الفقيه: 278/1.
2- . الكافي: 245/4، الحديث 2؛ البرهان: 42/2، برقم 729، ولاحظ أيضاً تفسير الدر المنثور: 384/1.

في نفسه خلافاً للطواف بالبيت فإنّه مستحب نفسي.

2. أنّ معناه: مَن تطوّع بالحج والعمرة بعد أداء الحجّ والعمرة المفروضين، عن الأصم.

3. أنّ معناه: مَن تطوّع بالخيرات وأنواع العبادات.(1) ولعلّ هذا الوجه أفضل.

الأمر الرابع: إنّ قوله سبحانه: (فَإِنَّ اَللّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ) من ألطف التعابير، حيث إنّه سبحانه مع كونه خالق السماوات والأرض وخالق الإنسان وما بيده من النعم، يصف نفسه شاكراً لأعمال عباده، وما هذا إلّالتلطّف خاص، نظير كونه مقترضاً من عباده، حيث قال: (مَنْ ذَا اَلَّذِي يُقْرِضُ اَللّهَ قَرْضاً حَسَناً) .(2)

وعلى هذا فظاهر الآية أنّه سبحانه شاكر لأعمال عباده، ولكنّه في الواقع قابل لإحسان عباده، فيجزي الإحسان بالإحسان، قال تعالى: (هَلْ جَزاءُ اَلْإِحْسانِ إِلاَّ اَلْإِحْسانُ) (3)، وقال تعالى: (إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَ كانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً) (4).

ولهذا التعبير نظير في القرآن الكريم كلّ ذلك لأجل إيجاد الرغبة في قلوب المسلمين يقول سبحانه: (إِنَّ اَللّهَ اِشْتَرى مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ اَلْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اَللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَ يُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي اَلتَّوْراةِ وَ اَلْإِنْجِيلِ 2.

ص: 441


1- . مجمع البيان: 479/1.
2- . البقرة: 245.
3- . الرحمن: 60.
4- . الإنسان: 22.

وَ اَلْقُرْآنِ وَ مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اَللّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ اَلَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَ ذلِكَ هُوَ اَلْفَوْزُ اَلْعَظِيمُ) (1) فاللّه سبحانه يعرّف نفسه مشترياً والمؤمنين بائعين مع أنّ كلّ ما بيد المؤمنين من النفس والنفيس ملك للّه سبحانه. ومع ذلك يصوّر أنّ المؤمنين يملكون أنفسهم وأموالهم واللّه سبحانه يشتري منهم.

ثمّ إنّ المعتمر بعمرة حجّ التمتّع يخرج من الإحرام بالتقصير بأخذ شيء من شعر رأسه أو شيء من أظافر يده، كلّ ذلك ثبت بالسنّة، وينتظر حتى يحرم مجدّداً إلى عرفات، وقد ثبت بالسنّة.

***1.

ص: 442


1- . التوبة: 111.

أحكام الحج

4. أعمال الحجّ

اشارة

قد عرفت ما يجب على المعتمر من الأعمال، فإذا فرغ عن العمرة، يُحرم إلى الحجّ من مكّة والأفضل من المسجد الحرام، ثمّ الخروج إلى عرفات، ثمّ إلى المشعر، ثمّ إلى منى لرمي الجمرات، والذبح، والحلق، ثم الرجوع إلى مكّة للطواف بالبيت مع ركعتي الطواف، ثمّ السعي بين الصفا والمروة، انتهاء بطواف النساء وركعتيه.

وها نحن نذكر ما يدلّ عليه من الآيات، وما لم يرد فيها فإنّما ثبت بالسنّة.

أمّا الأوّل: أعني: الإحرام إلى الحجّ من مكّة فقد ثبت بالسنّة.

أمّا الثاني: أعني الوقوف في عرفات من زوال اليوم التاسع إلى غروب الشمس، فتدلّ عليه الآيات التالية:

الآية الأُولى
اشارة

قوله سبحانه: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اَللّهَ عِنْدَ اَلْمَشْعَرِ اَلْحَرامِ

ص: 443

وَ اُذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَ إِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ اَلضّالِّينَ) .(1)

المفردات

جناح: الحرج.

فضلاً: الكسب الحلال.

أفضتم: اندفعتم من عرفات إلى المزدلفة باجتماع وكثرة، كفيضان الماء.

الناس: أُريد إبراهيم وإسماعيل حيث كانا يفيضان من عرفات والناس كلّهم بعدهم.

التفسير

الآية تتضمّن بيان أُمور:

1. عدم الحرج في كسب الحلال في أيام الحج.

2. الوقوف في عرفات.

3. الدعوة إلى ذكر اللّه عند المشعر الحرام.

فالأوّل ذكره سبحانه بقوله: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ) فرفع الحرج عن ابتغاء الفضل كناية عن رفعه عن التجارة في الحج الّتي تنتهي إلى طلب الفضل من اللّه سبحانه، والتعبير (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ) استدراك لما يتوهّم من حرمة الكسب في الحجّ، كما هوالحال في كلّ ما ورد فيه ذلك اللفظ أيضاً، وقد مرّ في تفسير قوله سبحانه: (فَمَنْ حَجَّ اَلْبَيْتَ أَوِ اِعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ

ص: 444


1- . البقرة: 198.

بِهِما) (1) أنّ المسلمين كانوا يتحرّجون بالطواف بين الجبلين وعليهما أصنام المشركين، فاستدرك بأنّه لا حرج عليكم. وفي المقام ربّما يسبق إلى الذهن من الأمر بالتزوّد بالتقوى أنّه لا يجوز لزائر البيت ممارسة الأُمور الدنيوية كالكسب والتجارة فنزل الوحي بأنّ ممارسة ذلك لا ينافي التقوى، فإنّ حياة الإنسان رهن توفّر الإمكانات المالية، وأنّ الكسب والربح موصوفان بفضل اللّه.

بل يمكن أن يقال: إنّ الحج ملتقى سياسي واقتصادي وراء كونه أمراً عبادياً، ففي هذا التجمع الكبير الّذي يتواجد فيه أصحاب الشركات والتجارات من الشرق والغرب إذا تدارسوا أُمور المسلمين في النواحي الاقتصادية وعقدوا الاتفاقيات والمعاهدات التجارية في مختلف الأصعدة، فقد حقّقوا أحد أهداف الحج وهي تنمية الجانب الاقتصادي في المجتمع الإسلامي، وهذا لا يتناقض مع روح الحج ومقاصده.

روى هشام بن الحكم قال: سألت أبا عبداللّه عليه السلام فقلت له: ما العلّة الّتي من أجلها كلّف اللّه العباد بالحج والطواف بالبيت؟ فقال: «إنّ اللّه خلق الخلق - إلى أن قال -: وأمرهم بما يكون من أمر الطاعة في الدين، ومصلحتهم من أمر دنياهم، فجعل فيه الاجتماع من الشرق والغرب ليتعارفوا، ولينزع كلّ قوم من التجارات من بلد إلى بلد، ولينتفع بذلك المكاري والجمّال، ولتعرف آثار رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وتعرف أخباره، ويذكر ولا يُنسى، ولو كان كلّ قوم إنّما يتّكلون على بلادهم وما فيها، هلكوا وخربت البلاد، وسقطت الجلب والأرباح، وعميت الأخبار، ولم8.

ص: 445


1- . البقرة: 158.

تقفوا على ذلك، فذلك علّة الحج».(1)

الأمر الثاني: ذكره سبحانه بقوله: (فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ) سيأتي في الآية التالية أنّ من فرائض الحج الوقوف في عرفات من ظهر اليوم التاسع إلى مغيب الشمس ثم الإفاضة منها إلى المشعر الحرام، فالإفاضة من عرفات إلى المشعر الحرام، تدلّ ضمناً على وجوب الوقوف في عرفات. بناء على أنّ الآية التالية ناظرة إلى الإفاضة من عرفات؛ لأنّ في تفسير الآية وجهاً آخر سيوافيك.

وأمّا الأمر الثالث فمن فرائض الحج أو آدابه ذكر اللّه عند المشعر الحرام، وهل ذكر اللّه سبحانه واجب كما هو لازم الأمر خصوصاً بتعليله سبحانه بقوله:

(كَما هَداكُمْ) : أي (لما) أو (مثل ما) أو أمر مستحب من آداب الوقوف في المشعر؟ والحكم القطعي يطلب من المصادر الفقهية، وطريق الاحتياط معلوم، وعلى كلّ تقدير فإنّه سبحانه يذكِّر المسلمين بأنّهم كانوا ضالّين قبل البعثة، كما قال: (وَ إِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ اَلضّالِّينَ) فلازم تلك النعمة الكبرى أي الهداية من الكفر إلى التوحيد ومن عبادة الأحجار والأصنام إلى عبادة رب العالمين ذكره سبحانه في هذه الليلة الظلماء الّتي يخيّم عليهم السكون.

وممّا ذكرنا يُعلم وجه تسمية المشعر؛ لأنّه مركز لشعائر الحج، ومعلم من معالم هذه العبادة.

الآية الثانية
اشارة

قال سبحانه: (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ اَلنّاسُ وَ اِسْتَغْفِرُوا اَللّهَ

ص: 446


1- . الوسائل: 8، الباب 1 من أبواب وجوب الحج وشرائطه، الحديث 18.

إِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) .(1)

الإفاضة من عرفات إلى المشعر الحرام

تقع عرفات خارج الحرم بخلاف المشعر فإنّه جزء من الحرم، وكان القرشيّون متغطرسين، فلا يقفون حيث يقف الناس، كما فيما روي عن عائشة أنّها قالت: كانت قريش ومَن يدين دينها، وهم الحمس، يقفون عشية عرفة بالمزدلفة يقولون نحن قطن البيت، وكان بقية الناس والعرب يقفون بعرفات فأنزل اللّه تعالى: (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ اَلنّاسُ) (2) فأمرهم بالوقوف بعرفة والإفاضة منها، كما يفيض الناس، والمراد من الناس جمهرة العرب، وربّما يفسّر بإبراهيم وولده إسماعيل.

قوله تعالى: (وَ اِسْتَغْفِرُوا اَللّهَ) لما أحدثوا بعد إبراهيم من تغيير المناسك (إِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) .

نعم بقي هنا سؤال وهو أنّ الآية السابقة دلّت على إفاضة الناس من عرفات إلى المشعر الحرام، وعلى هذا فالناس كلّهم مجتمعون في المشعر الحرام، وعندئذ كيف يبدأ بلفظة (ثم) الّتي تدلّ على الترتيب ويقول (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ اَلنّاسُ) ؟ ويفسّر بوجوب إفاضتهم من عرفات إلى المشعر الحرام، مع أنّ الناس كلّهم تركوا عرفات واجتمعوا في المشعر الحرام.

وأُجيب عن السؤال بأنّ هاهنا تقديماً وتأخيراً وتقديره: «ليس عليكم جناح

ص: 447


1- . البقرة: 199.
2- . السيرة النبوية لابن إسحاق: 2/76، أُريد من قطن البيت مكانه، من قَطنَ يَقطنُ: إذا سكن وتوطّن.

أن تبتغوا فضلاً من ربكم، ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس، فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا اللّه عند المشعر الحرام، واستغفروا اللّه إن اللّه غفور رحيم»(1)، وعلى هذا الجواب فلفظة (ثُمَّ) للترتيب في الذكر لا للترتيب في العمل، ولا يخفى ضعفه.

وهنا وجه آخر لتفسير الآية وهو أنّ المراد من الإفاضة، هي الإفاضة من مزدلفة إلى منى يوم النحر، بعد شروق الشمس، للرمي والنحر، فمجموع الآيات يدلّ على أنّ هناك إفاضتين، من عرفات إلى المشعر، ومن المشعر إلى منى.(2)

الآية الثالثة
اشارة

قال سبحانه: (وَ اُذْكُرُوا اَللّهَ فِي أَيّامٍ مَعْدُوداتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَ مَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اِتَّقى وَ اِتَّقُوا اَللّهَ وَ اِعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) .(3)

من أعمال منى الرمي وذكر اللّه في أيام معدودات

إيضاح الآية رهن بيان أُمور:

1. من فرائض الحج في الأيام الثلاثة من ذي الحجة (أعني: اليوم العاشر والحادي عشر والثاني عشر) رمي الجمرات. ففي اليوم العاشر يرمي الحاج جمرة

ص: 448


1- . مجمع البيان: 2/72.
2- . التبيان في تفسير القرآن: 2/169.
3- . البقرة: 203.

العقبة فقط، وفي اليومين الأخيرين يرمي الجمرات الثلاث.

2. ثم إنّه سبحانه يصف هذه الأيام والليالي بكونها: (مَعْدُوداتٍ) ، مشيراً إلى قلّتها، فإنّ القليل يُعدّ، وأمّا الكثير فإمّا أن لا يُعدّ أو يعسر عدّه، وبذلك يظهر معنى قوله سبحانه: (وَ شَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ وَ كانُوا فِيهِ مِنَ اَلزّاهِدِينَ) .(1)

3. إنّ الحاج مخيّر بين النفر في اليوم الثاني عشر بعد الظهر قبل مغيب الشمس، وإلّا يبيت ليلة الثالث عشر ثم يرمي في يومه الجمرات وينفر.

4. بما أنّ عمل الحج عمل عبادي فربما يشتغل الناس بأُمور تنافي العبادة، ولذا يأمرسبحانه بذكره في هذه الأيام، لأجل أن يضفي على عمل الحج الصبغة العبادية.

روى الكليني في «الكافي» في تفسير الآية عن أبي عبداللّه عليه السلام قال: «أيام التشريق كانوا إذا أقاموا بمنى بعد النحر تفاخروا، فقال الرجل منهم كان أبي يفعل كذا وكذا».(2)

وهل الذكر في قوله سبحانه: (وَ اُذْكُرُوا اَللّهَ فِي أَيّامٍ مَعْدُوداتٍ) واجب أو مستحب مؤكّد؟ جاء في صحيحة علي بن جعفر عن أخيه الكاظم عليه السلام: قال:

سألته عن التكبير في أيام التشريق، أواجب أو لا؟ قال عليه السلام: «مستحب، وإن نسي فلا شيء عليه».(3)5.

ص: 449


1- . يوسف: 20.
2- . تفسير نور الثقلين: 1/242، برقم 732.
3- . التهذيب: 5/488، رقم 1745.

إذا تبيّن ذلك فلندخل في تفسير الآية.

قوله تعالى: (وَ اُذْكُرُوا اَللّهَ فِي أَيّامٍ مَعْدُوداتٍ) وأكثر المفسّرين على أنّ المراد هو اليوم الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر من ذي الحجّة، قال في المجمع: أيام التشريق ثلاثة أيام بعد النحر، وأمّا الذكر المأمور به أن يقول الحاج عقيب خمس عشرة صلاة: اللّه أكبر اللّه أكبر، لا إله إلّااللّه واللّه أكبر، اللّه أكبر وللّه الحمد، اللّه أكبر على ما هدانا، والحمد للّه على ما أولانا، واللّه أكبر على ما رزقنا من بهيمة الأنعام.(1)

نعم أيام التشريق هي الأيام الثلاثة بعد يوم النحر، ولكن الأذكار يبدأ بها بعد صلاة الظهر من يوم النحر إلى صلاة الصبح من اليوم الثالث عشر، فيكون المجموع خمسة عشر ذكراً، هذا لمن نفر في اليوم الثالث عشر، وأمّا من نفر في اليوم الثاني عشر فيكون عدد الأذكار عشرة.

روى الكليني عن زرارة قال: قلت لأبي جعفر عليه السلام: التكبير في أيّام التشريق في دبر الصلوات؟ فقال: «التكبير بمنى في دبر خمس عشرة صلاة، وفي سائر الأمصار في دبر عشر صلوات، وأوَّل التكبير في دبر صلاة الظهر يوم النحر يقول فيه: «اللّه أكبر، اللّه أكبر، لا إله إلّااللّه واللّه أكبر، اللّه أكبر، وللّه الحمد، اللّه أكبر على ما هدانا، اللّه أكبر على ما رزقنا من بهيمة الأنعام» وإنّما جعل في سائر الأمصار في دبر عشر صلوات لأنّه إذا نفر الناس في النفر الأوَّل أمسك أهل الأمصار عن التكبير وكبّر أهل منى ما داموا بمنى إلى النفر الأخير».(2)6.

ص: 450


1- . مجمع البيان: 2/77؛ التبيان في تفسير القرآن: 2/175.
2- . الكافي: 4/516.
التخيير في النفر بين الثاني عشر والثالث عشر

ثم إنّ الحجّاج على قسمين: مكّيّ وغير مكّيّ، فالأوّل لا يسرع في ترك منى، بخلاف غير المكّيّ فلأنّ مسكنه خارج مكّة فهو يتعجّل حتّى يصل إلى مسكنه سريعاً، فلذلك نرى أنّه سبحانه يرخّص في الأمرين ويقول: (فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي) : أي ضمن (يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) ، قلنا: «في ضمن يومين» لأجل عدم جواز النفر في اليوم الأوّل بإجماع المسلمين.

ثم إنّه يجوز الاستعجال في اليوم الثاني - كما مرّ - إذا ترك منى قبل الغروب من اليوم الثاني، فلو أمسى حرم عليه النفر الأوّل.(1)

(وَ مَنْ تَأَخَّرَ) : أي في ضمن ثلاثة أيام (فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) .

ثم إنّ قوله سبحانه: (لِمَنِ اِتَّقى) بمعنى أنّ ذلك الحكم من التخيير بين الخروجين لمن اتّقى محظورات الإحرام كلّها أو بعضها وإلّا فمَن ارتكب واحداً منها أو الحرام المشدّد من المحظورات، فعليه أن ينفر في النفر الثاني، فيؤوّل المعنى: إنّ الحكم المذكور إنّما هو لمن اتّقى تروك الإحرام أو بعضها، أمّا مَن لم يتقّ فيجب أن يقيم بمنى ويذكر اللّه في أيام معدودات.

روى حمّاد عن أبي عبداللّه عليه السلام قال: «إذا أصاب المحرم الصيد، فليس له أن ينفر في النفر الأوّل، ومن نفر في النفر الأوّل فليس له أن يصيب الصيد حتّى ينفر الناس، وهو قول اللّه: (فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَ مَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اِتَّقى) قال: «اتّقى الصيد».(2)

ص: 451


1- . التبيان في تفسير القرآن: 2/176؛ كنز العرفان: 1/320.
2- . التهذيب: 5/490، برقم 404.
الآية الرابعة
اشارة

قال سبحانه: (لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَ يَذْكُرُوا اِسْمَ اَللّهِ فِي أَيّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ اَلْأَنْعامِ فَكُلُوا مِنْها وَ أَطْعِمُوا اَلْبائِسَ اَلْفَقِيرَ) .(1)

المفردات

أياماً معلومات: أيام النحر و الذبح في الحجّ.

بهيمة الأنعام: البهيمة هي ما لا صوت له، أو في صوته إبهام من البهم وتقال على الإبل والبقر والضأن والمعز.

البائس: هو الذي أصابه بؤس أي شدّة، وأضعفه الإعسار.

الفقير: الذي لا شيء له.

التفسير
من أعمال منى: الهدي والذبيحة وإطعام البائس والفقير

ما تقدّم من الآيات وردت في سورة البقرة، وقد وردت في سورة الحجّ آيات أُخرى تتضمّن أحكام فريضة الحجّ، تبتدئ من الآية 26 وتنتهي بالآية 38، غير أنّا ندرس ما يتضمّن حكماً شرعياً في الحجّ، وأمّا ما يرجع إلى الآداب وأمثال ذلك فنحيل القارئ إلى كتب التفسير.

ص: 452


1- . الحج: 28.

قوله سبحانه: (لِيَشْهَدُوا) تعليل لقوله سبحانه - خطاباً لنبيّه إبراهيم عليه السلام قبل هذه الآية (وَ أَذِّنْ فِي اَلنّاسِ بِالْحَجِّ) - لماذا؟ والجواب: (لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ) .

نسخ ما عليه المشركون عند الذبح والنحر

ثمّ إنّه سبحانه نسخ ما كان عليه المشركون حيث كانوا يذبحون أو ينحرون باسم الأصنام، فأمر سبحانه بذكر اللّه عند الذبح والنحر وقال: (وَ يَذْكُرُوا اِسْمَ اَللّهِ فِي أَيّامٍ مَعْلُوماتٍ) (أيام التشريق) لماذا؟! لأجل (عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ اَلْأَنْعامِ) فاللّه سبحانه هو المنعم فليذكر اسمه عند الذبح والنحر.

ثمّ أمرهم سبحانه بأمرين فقال: (فَكُلُوا مِنْها) : أي من الأُضحية، وظاهر الفقرة وجوب الأكل من الأُضحية، ومع ذلك ذهب الشيخ الطوسي وزميله ابن البرّاج إلى استحبابه.(1)

والظاهر هو القول الأوّل لورود الأمر بالأكل مرّتين: تارة في هذه الآية، وأُخرى في آية أُخرى حيث قال تعالى: (فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها) .(2)

اللّهمّ إلّاأن يقال: إنّ الأمر بالأكل ورد في مقام توهّم الحظر، لأنّ أهل الجاهلية ما كانوا يأكلون من أضاحيهم بل كانوا يحرّمونها على أنفسهم.(3)

قلنا: (أمر سبحانه بأمرين)، وقد عرفت الأوّل وإليك الأمر الثاني، وهو ما في قوله تعالى: (وَ أَطْعِمُوا اَلْبائِسَ اَلْفَقِيرَ) والبائس هو الذي أصابه بؤس أي شدّة وأضعفه الإعسار، والفقير الذي لا شيء له، ومع أنّ ذكر الفقير مُغنٍ عن ذكر الآخر،

ص: 453


1- . لاحظ: النهاية: 261؛ المهذّب البارع: 259/1.
2- . الحج: 36.
3- . انظر: مجمع البيان: 165/7؛ تفسير الكشّاف: 246/2.

جاء ذكرهما معاً لترقيق أفئدة الناس عليه.

الآية الخامسة
اشارة

قال سبحانه: (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَ لْيُوفُوا نُذُورَهُمْ) .(1)

المفردات

ليقضوا: ليزيلوا.

تفثهم: التّفَث: الوسخ.

نذورهم: النذر: ما يُنذر من أعمال البرّ، قال الراغب: النّذر أن توجب على نفسك ما ليس بواجب لحدوث أمر.(2)

العتيق: القديم.

التفسير
اشارة

ذكر سبحانه في هذه الفقرة، وظيفتين من وظائف المُحرم، هما:

1. القضاء على التفث

من محرّمات الإحرام حلق الشعر وتقليم الأظفار والتطيّب، حتى قتل هوام الجسد، فإذا خرج المكلّف عن الإحرام - بالذبح - وجب عليه القضاء على التفث بحلق الرأس في الحجّ، وقد أُشير إليه بقوله: (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ) .

ص: 454


1- . الحجّ: 29.
2- . المفردات للراغب: 487، مادة «نذر».

روى البزنطي عن الإمام الرضا عليه السلام أنّه قال: «التفث: تقليم الأظفار وطرح الوسخ وطرح الإحرام عنه».(1)

ومنها ما روي عن أبي الصبّاح الكناني عن الإمام الصادق عليه السلام، قال: «هو الحلق وما في جلد الإنسان».(2)

2. لزوم الوفاء بالنذور

يقول سبحانه: (وَ لْيُوفُوا نُذُورَهُمْ) ويظهر من هذه الفقرة أنّ كثيراً من الناس كانوا ينذرون الصدقات وغيرها من أعمال الخير إذا رُزقوا الحجّ، وبما أنّ النذر صار متحقّقاً فيجب عليهم الوفاء به.

الآيتان: السادسة والسابعة
اشارة

قال سبحانه: (وَ اَلْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اَللّهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اِسْمَ اَللّهِ عَلَيْها صَوافَّ فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَ أَطْعِمُوا اَلْقانِعَ وَ اَلْمُعْتَرَّ كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * لَنْ يَنالَ اَللّهَ لُحُومُها وَ لا دِماؤُها وَ لكِنْ يَنالُهُ اَلتَّقْوى مِنْكُمْ كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اَللّهَ عَلى ما هَداكُمْ وَ بَشِّرِ اَلْمُحْسِنِينَ) .(3)

ص: 455


1- . من لا يحضره الفقيه: 485/2، برقم 3035.
2- . الكافي: 503/4، باب الحلق والتقصير، برقم 8.
3- . الحج: 36 و 37.
المفردات

البُدن: واحده بدنة، وهي الناقة العظيمة. وأراد بالبُدن التي تنحر بمنى.

صواف: قائمات، قد صففن أيديهنّ وأرجلهن، واحدها صافّة.

وجبت جنوبها: سقطت على الأرض وخرجت الروح منها.

القانع: الراضي بما يُعطى له من غير سؤال.

المعترّ: مَن يتعرّض للعطيّة.

التفسير
آداب ذبح البُدن وتقسيم لحمها إلى ثلاثة أقسام

إنّ الحاجّ مخيّر بين ذبح الغنم والإبل، والآية تذكر القسم الثاني وتقول: (وَ اَلْبُدْنَ) التي هي من أقسام بهيمة الأنعام يصفها سبحانه بأُمور:

1. (جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اَللّهِ) : أي من معالم الحجّ. وسيأتي توضيحها في آخر هذا الفصل.

2. (لَكُمْ فِيها خَيْرٌ) في الدنيا والآخرة. أمّا في الدنيا فالانتفاع بلحومها، وأمّا في الآخرة فالثواب في نحرها وتقسيم لحومها بين الفقراء.

3. كيفية نحرها، فيبيّنه سبحانه بقوله: (فَاذْكُرُوا اِسْمَ اَللّهِ عَلَيْها) : أي قولوا عند النحر: بسم اللّه واللّه أكبر اللّهمّ منك وإليك. (صَوافَّ) وصف للبُدن، أي قائمات مصطفات.

ثمّ إنّ في قوله: (فَاذْكُرُوا اِسْمَ اَللّهِ عَلَيْها) ردّ على عادة الجاهلية حيث كانوا

ص: 456

يذكرون اسم آلهتهم المكذوبة.

4. الانتفاع بها بعد زهوق روحها، كما يقول: (فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها) : أي سقطت على الأرض يقال: وجب الحائط وجبة أي سقط. ثم تقسّم لحومها أقساماً ثلاثة: ثلث للأكل، وثلث للقانع، وثلث للمعتر، كما يقول:

1. (فَكُلُوا مِنْها) وفيه ردّ لعادة الجاهلية حيث كانوا يحرّمونها على أنفسهم، وبما أنّ الأمر ورد موضع توهم الحظر، فهو يفيد إباحة الأكل لا وجوبه، بخلاف الأخيرين، إذ لا وجه لحمل الأمر فيهما على الإباحة، أعني:

2. (وَ أَطْعِمُوا اَلْقانِعَ) : الذي يقنع بما أُعطي أو بما عنده ولا يسأل.

3. (وَ اَلْمُعْتَرَّ) الذي يتعرّض لك أن تطعمه من اللَّحم.

وقد روي عن أبي عبد اللّه الصادق عليه السلام أنّه قال: «القانع يقنع بما أرسلت إليه من البضعة فما فوقها، والمعترّ مَن يعتريك فيسألك».(1)

4. تذليل البُدن امتناناً، بمعنى أنّ البُدن أجسم من السباع ولكنّ اللّه سبحانه ذلّلها وسخّرها للإنسان ومكنّه من التصرّف فيها على حسب اختياره، وتلك نعمة عظيمة، فلو كانت طبيعتها كطبيعة السِّباع لما أمكن ذلك، كما يقول سبحانه: (كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) : أي لكي تشكروا.

إبطال عادات الجاهلية

كانت من عادة الجاهلية تلطيخ الأوثان وحيطان الكعبة بدماء الهدي، وكأنّهم بعملهم هذا يُريدون أن يصل ذلك إلى اللّه تعالى، فردّ اللّه تعالى بقوله:

(لَنْ

ص: 457


1- . تفسير نور الثقلين: 499/3.

يَنالَ اَللّهَ لُحُومُها وَ لا دِماؤُها) بل الذي يصل إليه ويقبله ويجازي عليه كون العمل خالصاً للّه كما يقول: (وَ لكِنْ يَنالُهُ اَلتَّقْوى مِنْكُمْ) : أي ما قمت به من العمل للّه سبحانه كذكر اسم اللّه عليها والتصدّق على القانع والمعتر.

ثمّ إنّه سبحانه كرّر ما ذكره في الآية السابقة وقال: (كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ) وذلك تذكيراً بالنعمة وتقديماً لقوله: (لِتُكَبِّرُوا اَللّهَ) : أي توحّدونه بالكبرياء، أو تقولوا: «اللّه أكبر» عند الذبح، (عَلى ما هَداكُمْ) : أي لأجل هدايته وإرشاده، حيث أرشدكم وهداكم من العادات الجاهلية إلى الدين الحنيف، وفي ختام الآية قال: (وَ بَشِّرِ اَلْمُحْسِنِينَ) : أي القائمين بإهداء البدن وإطعام الفقراء.

الآية: الثامنة
اشارة

قال سبحانه: (وَ إِذْ جَعَلْنَا اَلْبَيْتَ مَثابَةً لِلنّاسِ وَ أَمْناً وَ اِتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وَ عَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطّائِفِينَ وَ اَلْعاكِفِينَ وَ اَلرُّكَّعِ اَلسُّجُودِ) .(1)

المفردات

البيت: مأوى الإنسان بالليل، يقال: بات: أقام بالليل كما يقال: ظل بالنهار، ثم قد يقال للمسكن بيت من غير اعتبار الليل فيه.(2) ثمّ إنّ اللام في «البيت» لام العهد.

ص: 458


1- . البقرة: 125.
2- . المفردات للراغب: 151، مادة «بيت».

مثابة: قال الراغب: أصل «الثوب» رجوع الشيء إلى حالته الأُولى التي كان عليها، ثم قال: فمن الرجوع إلى الحالة الأُولى قولهم: ثاب فلان إلى داره، وسُمّي البيت مثابة لأنّه المكان الذي يثوب إليه الناس على مرور الأوقات، وقيل: مكاناً يكتسب فيه الثواب.(1)

عهدنا: أمرناهما وألزمناهما.

الطائفين والعاكفين: اختلفت كلمة المفسّرين في معنى اللفظين، فعن سعيد بن جبير: أنّ الطائفين هم الطارئون على مكّة من الآفاق، والعاكفين هم المقيمون فيها.(2)

وهنا احتمال آخر أقرب من المذكور وهو أنّه سبحانه عبّر عن العاكفين في آية أُخرى ب: (اَلْقائِمِينَ) وقال: (وَ طَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطّائِفِينَ وَ اَلْقائِمِينَ وَ اَلرُّكَّعِ اَلسُّجُودِ) (3)، وتفسيره بالمقيمين بعيد لأنّ القائم غير المقيم؛ لأنّ الأوّل لازم بخلاف الثاني، والظاهر أنّ الآية ناظرة لكلّ من دخل المسجد الحرام لغاية العبادة، فهم بين طائف حول الكعبة وبين قائم ينظر إلى الكعبة حيث إنّ النظر إليها عبادة، وبين مصلٍّ في حال الركوع والسجود. وعلى هذا فأُريد من العاكفين، القائمون الناظرون إلى الكعبة.

روى معاوية بن عمّار عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «إنّ اللّه تبارك وتعالى جعل حول الكعبة عشرين ومئة رحمة منها ستون (لِلطّائِفِينَ) وأربعون للمصلّين6.

ص: 459


1- . المفردات للراغب: 179-180، مادة «ثوب».
2- . مجمع البيان: 407/1.
3- . الحج: 26.

(الركع، السجود) وعشرون للناظرين (العاكفين)».(1)

وعن حريز عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «النظر إلى الكعبة عبادة».(2)

التفسير
الذهاب إلى مكّة لأداء فرائضها

يجب على الحاج بعد رمي جمرة العقبة أو بعد رمي الجمرات كلّها، الذهاب إلى مكة لإنجاز أعمالها، وهي عبارة عن الطواف بالبيت وركعتيه، ثمّ السعي وطواف النساء وركعتيه وقسم منها ثبت بالسنّة وقسم منها مذكور في الآيات.

أمّا الطواف فلم يذكر في الآية لكن أُشير إلى صلاته بقوله: (وَ اِتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى) (3) كما سيأتي. نعم جاء التصريح بالطواف في قوله سبحانه: (وَ لْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ اَلْعَتِيقِ) (4): أي البيت القديم؛ لأنّه أوّل بيت وضع للناس، كما في قوله تعالى: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَ هُدىً لِلْعالَمِينَ) .(5)

وروى الكليني بإسناده عن أبان، عمّن أخبره، عن أبي جعفر (الباقر) عليه السلام، قال: قلت: لِمَ سمّى اللّه البيت العتيق؟ قال: «هو بيت حُرٌّ، عتيق من الناس، لم يملكه

ص: 460


1- . الوسائل: 10، الباب 29 من أبواب مقدّمات الطواف، الحديث 2.
2- . الوسائل: 10، الباب 29 من أبواب مقدّمات الطواف، الحديث 4.
3- . البقرة: 125.
4- . الحج: 29.
5- . آل عمران: 96.

أحد».(1)

فهل المراد من الطواف بالبيت العتيق طواف الفريضة أو طواف النساء الذي به تحل النساء ويحلّ الطيب؟

ظاهر الآية هو الإطلاق. نعم يظهر من بعض الروايات أنّ المراد كليهما، حيث روى الكليني باسناده عن أحمد بن محمد قال: قال أبو الحسن في قول اللّه عزّ شأنه: (وَ لْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ اَلْعَتِيقِ) قال: «طواف الفريضة طواف النساء».(2)

والظاهر سقوط العاطف لأنّ طواف الفريضة غير طواف النساء.

هذا ما يتعلّق بالطواف وأمّا صلاة الركعتين في مقام إبراهيم عليه السلام فسيأتي التصريح بها.

إذا عرفت هذا، فلندخل في تفسير فقرات الآية.

الآية رغم وجازتها تتحدّث عن أُمور أربعة:

1. تشريف البيت بكونه مثابة للناس.

2. جعله أمناً، أي ليس لأحد أن يقصده بسوء.

3. الأمر باتّخاذ المصلّى من مقام إبراهيم.

4. تكليف إبراهيم وإسماعيل بتطهير البيت للطوائف الأربعة.

أمّا الأوّل: فقوله: (إِذْ جَعَلْنَا اَلْبَيْتَ مَثابَةً لِلنّاسِ) التاء في (مَثابَةً) للمبالغة، ومعنى كون البيت مثاباً ومرجعاً هو أنّ الناس يرجعون إليه كلّ عام خصوصاً إذا4.

ص: 461


1- . الكافي: 189/4، باب إنّ أوّل ما خلق اللّه من الأرضين موضع البيت، برقم 6.
2- . الكافي: 512/4، باب طواف النساء، برقم 1؛ تهذيب الأحكام: 252/5، الباب 16، برقم 14.

كانوا من سكان الحرم والقريبين منه، وربما قيل إنّه لا ينصرف منه أحد إلّاوينوي الرجوع إليه، وبما أنّ الناس يرجعون إليه مرّة بعد مرّة، صار البيت مرجعاً.

وأمّا الثاني: فقد أُشير إليه بقوله: (وَ أَمْناً) يأمن مَن حل فيه من الناس، رغم قسوة الأعراب وتعاديهم وعدائهم، فكأنّه سبحانه أودع في القلوب نوع تعظيم له، وهذا لا ينافي كونه أمناً تشريعياً أيضاً بمعنى أنّ مَن لجأ إلى البيت وإن كان مجرماً لا يخرج بالإكراه والقوّة، بل له طريق خاص مذكور في الفقه.

وأمّا الثالث: فقد أُشير إليه بقوله: (وَ اِتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى) :

أي اتّخذوا مقام إبراهيم محلّاً يُصلّى فيه بعد الطواف بركعتين. والمقام هو الصخرة التي قام عليها إبراهيم، فصار فيها أثر قدميه.

قال أبو طالب في لاميّته:

وَمَوْطِئ إبراهيمَ في الصَّخرِ وَطأةً ***على قدميه حافياً غير ناعل

ثمّ إنّه إذا كان المقام هو الصخرة التي قام عليها إبراهيم عليه السلام كيف يتمكّن الإنسان من الصلاة عليها، فإنّ تلك الصخرة حسب ما يقولون على شكل مكعب متساوي الأضلاع، وطول الضلع ذراع واحد بذارع اليد، أي ما يساوي 50 سنتمتراً تقريباً، وهذا المقدار لا يتّسع لأداء الصلاة، لأنّ ما يشغله المصلّي المستوي الخلقة - عادة - من المساحة الكافية لوقوفه وركوعه وسجوده وجلوسه هو 50 سم عرضاً في 100 سم طولاً(1)، وأين هذا من مساحة الحجر؟ ولذلك حاول صاحب الكشّاف تفسير مقام إبراهيم بعرفة، والمزدلفة، والجمار، لأنّه قام في هذه المواضع3.

ص: 462


1- . مبادئ علم الفقه: 210/3.

وسعى فيها، وعن النخعي: الحرم كلّه مقام إبراهيم.(1)

واحتمل بعضهم أنّ المراد من المقام المسجد الحرام لكن هذه الاحتمالات محجوجة بفعل النبي صلى الله عليه و آله و سلم حيث إنّه بعد ما طاف سبعة أشواط أتى إلى المقام فصلّاهما، وتلا قوله تعالى: (وَ اِتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى) فأفهم الناس أنّ هذه الآية تأمر بهذه الصلاة وهنا مكانها.(2) وفي صحيح مسلم بسنده عن جابر في بيان حج النبي صلى الله عليه و آله و سلم: حتّى إذا أتينا البيت معه استلم الركن فرمّل ثلاثاً ومشى أربعاً، ثم نفذ إلى مقام إبراهيم فقرأ: (وَ اِتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى) .(3)

وأمّا تفسير الآية فالظاهر أنّ قوله: (وَ اِتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى) نظير الآيات التي وردت فيها تلك المادّة، قال سبحانه: (وَ أَوْحى رَبُّكَ إِلَى اَلنَّحْلِ أَنِ اِتَّخِذِي مِنَ اَلْجِبالِ بُيُوتاً) (4)، وقال سبحانه: (تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً) .(5)

ترى أنّ شيئاً عامّاً يؤخذ منه جزء لغرض ما، فالنحل تتّخذ من الجبال جزءاً بصفة البيت، أو أنّ الناس كانوا يتّخذون من سهول الأرض قصوراً، وعلى هذا فالآية منزلة على هذا النمط من الكلام، فيراد من المقام ما يجاوره ويقاربه تسمية لما حول المقام باسمه، ضرورة أنّ المقام لا يتبعّض لأخذ المصلّى منه، فعلى الطائف أن يأخذ جزءاً من هذا المقام المجازيّ مصلّى يصلّي فيه، وإطلاق الآية يعمّ الخلف وما حوله من اليمين واليسار، ولا يختصّ مفاده بالخلف؛ لأنّ المقام4.

ص: 463


1- . تفسير الكشّاف: 287/1.
2- . سنن الترمذي: 211/3، برقم 856؛ سنن النسائي: 235/5.
3- . صحيح مسلم: 40/4-41، باب حجّة النبي صلى الله عليه و آله و سلم.
4- . النحل: 68.
5- . الأعراف: 74.

حسب ما استظهرناه هو المكان المتّسع قرب المقام الحقيقي، المسوِّغ لتسمية ذلك المكان مقاماً أيضاً، فالموضوع هو الصلاة قربه.

وأمّا الأمر الرابع فهو ما في قوله تعالى: (وَ عَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطّائِفِينَ وَ اَلْعاكِفِينَ وَ اَلرُّكَّعِ اَلسُّجُودِ) ، حيث أمر اللّه سبحانه إبراهيم وإسماعيل أن يطهّرا بيته للطوائف الأربع التي مرّ تفسيرها، ثمّ إنّ المراد من التطهير هو أعمّ من التطهير المادّي والمعنوي، ولذلك ترى أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم عندما فتح مكّة طهّر البيت من الأصنام والأوثان الموجودة في البيت.

***

وقد تمّ في هذا الفصل بيان ما يجب على الحاج من الأعمال من الوقوف في المشاعر، وإنجاز إعمال منى، والذهاب إلى مكّة لإكمال أعمال الحجّ.

ص: 464

أحكام الحج

5. لزوم ذكر اللّه بدل التفاخر بالآباء في منى

الآيات: الأُولى والثانية و الثالثة
اشارة

قال سبحانه: (فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اَللّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ اَلنّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي اَلدُّنْيا وَ ما لَهُ فِي اَلْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ * وَ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي اَلدُّنْيا حَسَنَةً وَ فِي اَلْآخِرَةِ حَسَنَةً وَ قِنا عَذابَ اَلنّارِ * أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمّا كَسَبُوا وَ اَللّهُ سَرِيعُ اَلْحِسابِ) .(1)

المفردات

قضيتم: أدّيتم.

أشدّ ذكراً: أشدّ من ذكركم آبائكم.

ص: 465


1- . البقرة: 200-202.

خلاق: النصيب من الخير.

آتنا: الإيتاء: الإعطاء.

قنا: أمر من وقى يقي، والوقاء الحاجز الّذي يُسلم به من الضرر.

نصيب: الحظ.

كسبوا: الفعل الّذي يجتلب به نفع أو يدفع به ضرر.

التفسير
إبطال سنّة الجاهلية: التفاخر بالآباء

روى المفسّرون أنّ أهل الجاهلية كانوا معتادين أن يذكروا آباءهم بأبلغ الذكر على وجه التفاخر، بعد الفراغ من أعمال الحج، فكان الحج سوقاً للتفاخر بالآباء، والأعمال، فجاء البيان القرآني مغيّراً لهذه السنّة، ويُرغّب الحجاج بذكر اللّه في هذه الأيام الثلاثة، أو بعدها ذكراً أشدّ من ذكرهم آبائهم، فصار التفاخر بالرسوم الجاهلية أمراً محرّماً، وذكر اللّه والابتهال إليه أمر مرغباً كما يقول: (فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ) وأدّيتموها (فَاذْكُرُوا اَللّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ) مثلاً بمثل، ثم يضرب عنه ويقول: (أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً) : أي أن يكون ذكركم للّه أشدّ من ذكركم الآباء، إذ هو يناسب جلال اللّه ونعماءه؛ روى منصور بن حازم عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال:

«كانوا إذا قاموا بمنى بعد النحر تفاخروا، فقال الرجل منهم: كان أبي كذا وكذا، فقال اللّه: (فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اَللّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ) .(1)

ص: 466


1- . الكافي: 4/516، برقم 3.
تقسيم الحجيج إلى نوعين

ثم إنّ الناس في حجّهم على قسمين: قسم لا يطلب إلّامتاع الحياة الدنيا، ولا همّ له إلّاهمّ الدنيا، كالبهيمة همّها علفها، وإلى هذا القسم يشير سبحانه ويقول:

(فَمِنَ اَلنّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي اَلدُّنْيا) ، فيخصّ نعيم الدنيا ولا يسأل نعيم الآخرة، ومن المعلوم أنّ هذا النوع من الناس غير مؤمن بالبعث والنشور، ولذلك يصفه سبحانه بقوله: (وَ ما لَهُ فِي اَلْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ) وحضوره في الحج لا يمنع من ذلك فإنّ عامّة المشركين كانوا يحضرون الحج من دون أن يعتقدوا بالآخرة.

يقول ابن عطية: كانت عادتهم في الجاهلية ألّا يدعوا إلّابمصالح الدنيا، إذ كانوا لا يعرفون الآخرة، فنهوا عن ذلك الدعاء المخصوص بأمر الدنيا، وجاء النهي في صيغة الخبر عنهم.(1)

وأمّا القسم الثاني فهو ما تذكره الآية التالية: (وَ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي اَلدُّنْيا حَسَنَةً وَ فِي اَلْآخِرَةِ حَسَنَةً وَ قِنا عَذابَ اَلنّارِ) .

ترى أنّ هذا الفريق من الناس يطلب خير الدنيا كما في قوله: (وَ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي اَلدُّنْيا حَسَنَةً) : أي خير الدنيا، وفي الوقت نفسه لا ينسى الآخرة فيقول: (وَ فِي اَلْآخِرَةِ حَسَنَةً وَ قِنا عَذابَ اَلنّارِ) .

ثم يضيف إلى الحسنة في الآخرة هو أنّه يطلب منه سبحانه أن يجعل بينه وبين عذاب النار حاجزاً فيقول: (وَ قِنا عَذابَ اَلنّارِ) .

ثم إنّ الإجابة كانت على وفق الدعاء فالفريق الأوّل طلبوا خيرات الدنيا

ص: 467


1- . المحرر الوجيز: 1/276.

وغفلوا عمّا في الآخرة من عذاب، فاستجاب لهم ربّهم بما سألوه؛ وأمّا الطائفة الثانية فلمّا طلبوا كلا الأمرين استجاب اللّه تعالى دعاءهم كما يأتي في الآية التالية:

(أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمّا كَسَبُوا وَ اَللّهُ سَرِيعُ اَلْحِسابِ) :

بدأ سبحانه كلامه باسم الإشارة وقال: (أُولئِكَ) للتنبيه على أنّ ما يأتي بعده جزاء من اللّه سبحانه لطلبهم وعملهم ويقول: (أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمّا كَسَبُوا) والفقرة تدلّ على أنّه سبحانه يجيب دعاءهم بشيء - لا كل ما يرغبون - تقتضيه المصلحة، ولذلك يقول: (نَصِيبٌ مِمّا كَسَبُوا) وتنكير النصيب يدلّ على ذلك (وَ اَللّهُ سَرِيعُ اَلْحِسابِ) وهو يحاسب كلا الفريقين بسرعة قال الإمام علي عليه السلام: «يحاسب الناس دفعة كما يرزقهم دفعة».(1)

وفي آية أُخرى إشارة إلى ذينك الفريقين، قال تعالى: (مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ اَلدُّنْيا وَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ اَلْآخِرَةَ) (2)، وقال تعالى: (مَنْ كانَ يُرِيدُ اَلْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً * وَ مَنْ أَرادَ اَلْآخِرَةَ وَ سَعى لَها سَعْيَها وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً) .(3)9.

ص: 468


1- . مجمع البيان: 2/76.
2- . آل عمران: 152.
3- . الإسراء: 18 و 19.

أحكام الحج

6. حكم المُحْصَر والمصدود

اشارة

قال سبحانه: (وَ أَتِمُّوا اَلْحَجَّ وَ اَلْعُمْرَةَ لِلّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اِسْتَيْسَرَ مِنَ اَلْهَدْيِ وَ لا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتّى يَبْلُغَ اَلْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى اَلْحَجِّ فَمَا اِسْتَيْسَرَ مِنَ اَلْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيّامٍ فِي اَلْحَجِّ وَ سَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرامِ وَ اِتَّقُوا اَللّهَ وَ اِعْلَمُوا أَنَّ اَللّهَ شَدِيدُ اَلْعِقابِ) .(1)

المفردات

أتمّوا: أي أكملوا الحجّ والعمرة.

ص: 469


1- . البقرة: 196. وقد تقدّم تفسير الفقرة الأُولى فقط، أعني قوله: (وَ أَتِمُّوا اَلْحَجَّ وَ اَلْعُمْرَةَ)، في فصل أعمال العمرة ونركّز هنا على تفسير سائر الفقرات.

أُحصرتم: أي منعكم حابس حاصر عن إتمام الحجّ. فالمُحصَر تارة يُحصر بالعدو، وأُخرى بالمرض. ويعبّر عن الأوّل بالصدّ.

استيسر: تيسّر.

الهدي: من الهدية، وهو ما يهديه الحاج إلى البيت الحرام من النعم ليذبح ويفرّق بين الفقراء.

ولا تحلقوا: من الحلق، وهو حلق الرأس.

أذى: كلّ ما يتأذّى به الإنسان.

نسك: جمع النسيكة وهي الذبيحة، ويجمع أيضاً على نسائك، كصحيفة وصحائف وصحف.

تمتع: من التمتع بمعنى الالتذاذ والاستمتاع.

حاضري المسجد الحرام: عبارة عمّن كان على ثماني وأربعين ميلاً من كلّ جانب إلى مكّة، فمن كان خارجاً عن هذا الحد فليس من الحاضرين. وقيل:

اثنا عشر ميلاً من كلّ جانب.

التفسير
اشارة

الآية المباركة تتضمّن أحكاماً نشرحها حسب مقاطع الجمل:

1. إتمام الحجّ والعمرة وإكمالهما

قال سبحانه: (وَ أَتِمُّوا اَلْحَجَّ وَ اَلْعُمْرَةَ لِلّهِ) وقد تقدّم عند ذكر أعمال العمرة، أنّ المراد من الإتمام انجاز العمل كاملاً للّه سبحانه، وقد مرّ توضيحه.

ص: 470

2. كيفية خروج المحصر عن الإحرام

إذا أحرم للعمرة أو الحجّ ولكن منعه المرض أو العدو عن إنجاز أعمال العمرة أو الحجّ، فقال: (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اِسْتَيْسَرَ مِنَ اَلْهَدْيِ) : أي ما تيسّر منه، والمراد من الهدي - كما مرّ - ما يهدى إلى بيت اللّه عزوجل تقرّباً إليه سبحانه، أعلاه بدنة وأوسطه بقرة وأيسره شاة.

3. لا يتحلّل قبل الذبح

إنّ المحصر من المرض لا يتحلّل من الإحرام حتّى ينحر أو يذبح، قال سبحانه: (وَ لا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتّى يَبْلُغَ اَلْهَدْيُ مَحِلَّهُ) غير أنّ المحصر بالعدو يذبح في نفس الموضع الّذي أُحصر فيه، ثمّ يحلق رأسه ويتحلّل؛ لأنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم نحر هديه بالحديبية وأمر أصحابه ففعلوا مثل ذلك ورجعوا إلى المدينة، وليست الحديبية من الحرم.

وأمّا المحصر بالمرض فهو يُرسل هديه إلى مكّة مع رفاقه وينتظر إلى أن يذبح في يوم النحر في منى، فإذا اطمأنّ بالذبح فعند ذلك يحلق ويحل.

ثمّ إنّه يقع الكلام في كفاية عمل المحصَر والمصدود عن الحجّ الواجب أو لا؟ فيرجع فيه إلى كتابنا «الحجّ في الشريعة الإسلامية الغرّاء»، ج 5، ص 449 - 470.

فدلّت الفقرة على أنّ الحلّ (من بعض المحرّمات لا كلّها كمسّ الزوجة) يكون بالحلق بعد الذبح.

ص: 471

4. حكم المريض ومَن برأسه أذى

لمّا منع سبحانه عن حلق الرأس قبل بلوغ الهدي محلّه، وأجاز ذلك لفريقين وإن لم يذبحوا:

أوّلهما: المريض الّذي يحتاج إلى الحلق للمداواة. قبل بلوغ الهدي إلى محلّه، كما قال: (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً) .

والثاني: مَن كان برأسه أذى، وقال: (أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ) فعليه الفداء، كما يدلّ عليه قوله: (فَفِدْيَةٌ) بأحد الأُمور الثلاثة التالية:

أ. (مِنْ صِيامٍ) : أي صوم ثلاثة أيام.

ب. (أَوْ صَدَقَةٍ) فيتصدّق على ستة مساكين أو عشرة، كلّ واحد بمدّ من طعام.

ج. (أَوْ نُسُكٍ) فيذبح شاة. وهو مخيّر بين الأُمور الثلاثة.

مضافاً إلى الهدي الواجب بالأصالة للحجّ. وعند ذلك يجوز لهما الحلق قبل بلوغ الهدي محلّه.

5. التمتع بالعمرة إلى الحج

يقول سبحانه: (فَإِذا أَمِنْتُمْ) : كان الكلام فيما تقدّم هو غير المأمون إمّا بالصدّ أو بالحصر، فجاء البيان القرآني لبيان مَن لم يكن محصراً ولا مصدوداً. فإذا حصل الأمن وارتفع المانع ولم يكن هناك حصر أو صدّ، وأتيتم بفريضة العمرة (فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى اَلْحَجِّ) : أي مَن تمتّع بمحظورات الإحرام بسبب أداء العمرة، فيبقى متحلّلاً متمتّعاً إلى أن يحرم للحج، فعندئذٍ يأتي بأعمال الحج

ص: 472

الّتي أشرنا إليها سابقاً، من الذهاب إلى عرفات ثم المشعر ثم إلى منى فيذبح بعد رمي الجمار. ثم يأتي ببقية أعمال الحج، لكن الآية تشير إلى فريضة واحدة من فرائض الحج وهو الهدي مع أنّه بعد الذهاب إلى عرفات، ثم إلى المشعر، ثم رمي الجمار، ثم الهدي، والحلق. وإنّما ذكر خصوص الهدي فقال: (فَمَا اِسْتَيْسَرَ مِنَ اَلْهَدْيِ) لاختصاصه بحكم خاص، وهو ما يأتي في الأمر السادس.

6. حكم الفاقد للهدي

يبيّن سبحانه حكم مَن لم يجد الهدي فيقول: (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيّامٍ فِي اَلْحَجِّ وَ سَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ) : أي أنّه يصوم بدل الهدي ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى موطنه، على وجه يكون الجميع عشرة كاملة، وأمّا أيّام الصوم فقد ذكرت في الكتب الفقهية، وهي اليوم السابع والثامن والتاسع.

7. التمتع بالعمرة إلى الحجّ وظيفة الآفاقي

إنّه سبحانه أشار كما مرّ بأنّ التمتّع بالعمرة إلى الحجّ فريضة مَن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام، وقال: (ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرامِ) قوله: (ذلِكَ) إشارة إلى ما تقدّم ذكره من التمتّع بالعمرة إلى الحجّ، ليس لأهل مكّة و مَن يجري مجراهم، وإنّما هو لمَن لم يكن أهله من حاضري مكّة، وأمّا الحاضر فهو مَن يكون بينه و بينها دون 48 ميلاً، من كلّ جانب على الاختلاف. وقد تقدّم الكلام فيه أيضاً.

ثمّ إنّه سبحانه أتمّ الآية بالأمر بالتقوى، أي تحصيل وقاية في النفس تبعثه

ص: 473

إلى العمل بما أمر والانتهاء عمّا نهى، وذلك لأنّه سبحانه شديد العقاب، فقال:

(وَ اِتَّقُوا اَللّهَ وَ اِعْلَمُوا أَنَّ اَللّهَ شَدِيدُ اَلْعِقابِ) .

ص: 474

أحكام الحج

7. زمان الحجّ وتحريم أُمور ثلاثة

اشارة

قال سبحانه: (اَلْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ اَلْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَ لا فُسُوقَ وَ لا جِدالَ فِي اَلْحَجِّ وَ ما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اَللّهُ وَ تَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ اَلزّادِ اَلتَّقْوى وَ اِتَّقُونِ يا أُولِي اَلْأَلْبابِ) .(1)

المفردات

الحجّ: أُريد به زمان أعمال الحجّ.

أشهر معلومات: وهي: شوال وذو القعدة وذو الحجّة.

فرض فيهن الحجّ: أُريد بالحجّ هنا عمله، وأُريد من فرضه على نفسه، الإحرام له بالتلبية في هذه الأشهر، أو إشعار الهدي أو تقليده.

رفث: الإفحاش بالنطق، وفُسّر في الروايات بالجماع.

ص: 475


1- . البقرة: 197.

فسوق: الخروج عن الطاقة، وفسّر في الروايات بالكذب.

جدال: المراد به الجدال في الكلام، وفسّر في الروايات بالقول: لا واللّه، ولا باللّه، وهو تفسير بالمصداق، وأُريد به التفوّق على الخصم بأي نحوٍ كان، وأمّا دراسة المسألة في جوٍّ هادئ، لتشخيص الحق، فهو خارج عنه.

في الحج: أُريد بالحج في هذه الفقرة زمانه ومكانه، فقد اعاد سبحانه لفظ الحج ثلاث مرات لافادة مقاصد مختلفة، ولذلك لم يأت بالضمير مكان الاسم الظاهر.

التفسير

أمّا الأوّل فيشير إليه بقوله: (اَلْحَجُّ) : أي وقت الحج والّذي يصحّ فيه (أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ) : أي معيّنة، يعرفها الناس، وهي الأشهر الثلاثة، لا يخرج منها. نعم ربّما يتدخّل بعض سدنة البيت أو الحج بالتقديم والتأخير الّذي يُسمّى النسيء، فهو كفر، كما سيأتي.

فإن قلت: إنّ ظاهر قوله سبحانه: (اَلْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ) أنّ كلّ جزء من أجزاء هذه الأشهر، صالح للحج، مع أنّ الصالح لفريضة الحج وحده، هو الأيام الخاصّة من الأشهر، فالحاج يحرم يوم التروية ويتمّ عمله في اليوم الثالث عشر، فكيف يقول: (اَلْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ) ؟

قلت: أُريد من العبارة أنّ الأشهر الثلاثة تصلح لعمل الحج، فالمحرم بالعمرة يجوز له أن يحرم أثناء الشهرين المتقدّمين على يوم التروية، وأمّا الحج

ص: 476

فيأتي به المحرم إلى اليوم الثالث عشر، فصار مجموع الأشهر صالحاً لعمل الحج، نظير قوله: «جاء زيد يوم الجمعة» مع أنّه أتى في جزء من هذا اليوم. وبعبارة أُخرى: مجموع الأشهر صالح لمجموع الأعمال.

قوله سبحانه: (فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ اَلْحَجَّ) : أي مَن فرض على نفسه الحج بسبب عقده للإحرام بالتلبية أو إشعار الهدي أو تقليده قبل أن يحرم، فعليه أن يحذر من الأُمور الثلاثة فإن الحج بطبيعته لا يصلح لها، ولذلك يقول: (فَلا رَفَثَ وَ لا فُسُوقَ وَ لا جِدالَ) : أي لا يرفث ولا يفسق ولا يجادل. فقوله: (فَلا رَفَثَ) قائم مقام جزاء الشرط، أعني: فليحذر في حجّه عن الرفث والفسوق والجدال. ثم إنّ نفي الموضوعات الثلاثة مكان النهي عنها يدلّ على التأكيد، فالإخبار عن عدم هذه الأُمور الثلاثة بنيّة الإنشاء، دليل على التأكيد، وشدّة الزجر.

ثم إنّه سبحانه أتمّ الآية بقوله: (وَ ما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اَللّهُ) فلا يخفى عليه شيء، وبما أنّ وصف العمل بالخير فرع كونه صادراً ممّن تزيّن بالتقوى، يقول سبحانه: (وَ اِتَّقُونِ يا أُولِي اَلْأَلْبابِ) .

ص: 477

أحكام الحج

8. الابتلاء بالصيد قتلاً واصطياداً وأحكامه

الآية الأُولى
اشارة

قال سبحانه: (يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اَللّهُ بِشَيْ ءٍ مِنَ اَلصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَ رِماحُكُمْ لِيَعْلَمَ اَللّهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اِعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ) .(1)

المفردات

ليبلونّكم: من الابتلاء بمعنى الاختبار.

الصيد: ما يصطاد من حيوانات البحر والبرّ الوحشية ولا يعمّ الأهلية.

تناله أيديكم ورماحكم: كناية عن كثرة الصيد وسهولة الأخذ.

ليعلم اللّه: ليظهر معلومه ويحقّقه.

ص: 478


1- . المائدة: 94.

بالغيب: ما غاب عن الحسّ.

التفسير
الابتلاء سنّة من سنن اللّه في عباده

جرت سنّة اللّه تعالى على اختبار عباده في مواضع حسّاسة ليتميّز المطيع عن العاصي والطيّب من الخبيث، وقد أشار سبحانه في الذكر الحكيم إلى مواضع من الاختبار، قال سبحانه: (فَلَمّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ قالَ إِنَّ اَللّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَ مَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاّ مَنِ اِغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاّ قَلِيلاً) (1) فقد أمر سبحانه طالوت أن يختبر جيشه في الصبر على العطش مع التمكّن من الماء حتى يتميّز الصامد أمام العدو عن المدبر أمامه، وليس هذا هو الموضع الوحيد لاختباره سبحانه بعض عباده، فقد اختبر جمعاً من بني إسرائيل الذين كانوا يسكنون على ساحل البحر (إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَ يَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) (2)، فصار القوم طوائف ثلاثة فمن مقترف عاصٍ لنهي اللّه سبحانه، ومن آمر بالمعروف وناهٍ عن المنكر، وإلى طائفة ثالثة لم يشاركوا القوم في الصيد ولكن سكتوا عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فعمّ عذاب اللّه العصاة والتاركين للأمر بالمعروف.

وآيتنا هذه تكشف أنّه سبحانه اختبر أصحاب النبي صلى الله عليه و آله و سلم في ظروف

ص: 479


1- . البقرة: 249.
2- . الأعراف: 163.

خاصّة كان الصيد في متناول أيديهم كما سيأتي تفسيره.

والآية وإن وردت في الحديبية، لكن الابتلاء مستمر إلى يوم القيامة، فاللّه سبحانه حرّم الاصطياد لطائفتين:

1. الاصطياد في الحرم وإن كان الصائد غير محرم.

2. الاصطياد محرماً داخل الحرم أو خارجه.

والظاهر أنّ النهي عن الاصطياد إنّما هو لأجل المحافظة على البيئة، حيث إنّ هذا العدد الكبير من الحجاج الذين يتوافدون على مكّة المكرمة لو أبيح لهم الصيد، لانقرضت هذه الحيوانات من تلك المناطق ممّا يسبب خللاً في التوازن الطبيعي الذي أودعه سبحانه الأرض، إذا عرفت ذلك فلندخل في تفسير الآية.

تخاطب الآية المؤمنين وتقول: (يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا) مع أنّ الحكم عام للمؤمن والكافر، خُصّ المؤمنون بالذكر لأنّهم المهتمّون بالعمل بهذا الحكم. ثمّ إنّه سبحانه يُقسم ويقول: (لَيَبْلُوَنَّكُمُ اَللّهُ بِشَيْ ءٍ مِنَ اَلصَّيْدِ) ، ثمّ إنِّ سبحانه يبتلي المؤمنين كما مرّ في حالتين:

1. إذا كانوا في الحرم وإن لم يكونوا محرمين.

2. إذا كانوا محرمين وإن لم يكونوا في الحرم ولعلّ (مِنَ) للتبعيض مشيراً إلى صيد البر دون البحر، ويمكن أن يكون لتبيين الجنس، والأوّل أظهر حسب سياق الآية، وسيأتي جواز صيد البحر للمحرم في الآية التالية.

وعلى كلّ تقدير فاللّه سبحانه يُقسم بأنّه يمتحنكم بشيء من الصيد أو بجنس الصيد، ثمّ يصف الصيد بشيء يعرب عن أنّه يريد البرّي (تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَ رِماحُكُمْ) أُريد بالأوّل فراخ الطير وصغار الوحش والبيض التي يمكن أن يُصاد

ص: 480

بلا آلة، وأُريد من الثاني الكبار من الصيد.

روى الكليني عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد رفعه عن أبي عبد اللّه عليه السلام في تفسير قول اللّه تبارك وتعالى: (تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَ رِماحُكُمْ) قال: «ما تناله الأيدي البيض والفراخ، وما تناله الرماح فهو ما لا تصل إليه الأيدي».(1)

وروى العياشي في تفسيره عن حريز، وزاد: كلّ هذا يتصدّق به بمكّة ومنى، وهو قول اللّه في كتابه: (لَيَبْلُوَنَّكُمُ اَللّهُ بِشَيْ ءٍ مِنَ اَلصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ) البيض والفراخ (وَ رِماحُكُمْ) الأُمّهات الكبار».(2)

فالأقرب ما في هاتين الروايتين، وأمّا سائر الاحتمالات فلا دليل عليه.(3)

ما هي الغاية من ابتلاء العباد؟

قوله تعالى: (لِيَعْلَمَ اَللّهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ) علّة لقوله: (لَيَبْلُوَنَّكُمُ اَللّهُ) :

أي ليعلم اللّه من هذا الطريق مَن يخافه ويتميّز عمّن لا يخافه، فالمراد من العلم كما ذكرنا هو تميّز الخائف من اللّه عن غيره، وأُريد من العلم علمه الفعلي لا علمه الذاتي، واللّه سبحانه عالم بالأنفس قبل أن يخلقها وبعد أن خلقها، قبل أن يصيد وبعد أن يصيد، وإنّما الغاية تميّز الخائفين عن غيرهم، نظير قوله تعالى: (لِيَمِيزَ اَللّهُ اَلْخَبِيثَ مِنَ اَلطَّيِّبِ وَ يَجْعَلَ اَلْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي

ص: 481


1- . الوسائل: 9، الباب 1 من أبواب تروك الإحرام، الحديث 4.
2- . الوسائل: 9، الباب 9 من أبواب كفّارات الصيد، الحديث 2، ولاحظ الحديث 1 من نفس الباب. يتصدّق بكفّارته بمكّة ومنى كما سيأتي.
3- . لاحظ: مجمع البيان: 489/3.

جَهَنَّمَ أُولئِكَ هُمُ اَلْخاسِرُونَ) .(1) وقد ذكر الإمام علي عليه السلام معنى اختبار اللّه سبحانه، قال عليه السلام في تفسير قوله: (وَ اِعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَ أَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) .(2)

وَمَعْنَى ذلِكَ أَنَّهُ يَخْتَبِرُهُمْ بِالْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ لِيَتَبَيَّنَ السَّاخِطَ لِرِزْقِهِ، وَ الرَّاضِيَ بِقِسْمِهِ، وَإِنْ كَانَ سُبْحانَهُ أَعْلَمَ بِهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَلكِنْ لِتَظْهَرَ الْأَفْعَالُ الَّتِي بِهَا يُسْتَحَقُّ الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ؛ لِأَنَّ بَعْضَهُمْ يُحِبُّ الذُّكُورَ وَيَكْرَهُ الْإِنَاثَ، وَبَعْضَهُمْ يُحِبُّ تَثْمِيرَ الْمَالِ، وَيَكْرَهُ انْثِلَامَ الْحَالِ.(3)

وعلى كلّ تقدير إنّه سبحانه يبلو المؤمنين ويختبرهم ليتميّز مطيعهم من عاصيهم، وقد مرّ أنّ اللّه ابتلى قوم موسى بتحريم صيد السمك يوم السبت، ثمّ إنّه كان يجيئهم ذلك اليوم حتى يدخل بيوتهم، فإذا خرج السبت لم يبق منه شيء، وكما ابتلى قوم طالوت بالنهر.(4)

ما هو المراد من الخوف بالغيب؟

وأمّا ما هو المراد من الخوف بالغيب؟ فقد فسّره الطبري بأنّ معناه في الدنيا حيث لا يرى العبد ربّه فهو غائب عنه.(5)

وفسّره ابن عطية بقوله: والظاهر أنّ المعنى: بالغيب من الناس، أي في الخلوة، فمَن خاف اللّه انتهى عن الصيد من ذات نفسه.(6)

ص: 482


1- . الأنفال: 37.
2- . الأنفال: 28.
3- . نهج البلاغة، قصار الحكم، برقم 93.
4- . كنز العرفان: 321/1.
5- . نقله ابن عطية في المحرّر الوجيز: 236/2.
6- . المحرّر الوجيز: 236/2.

وفسّره السيد الطباطبائي بما يرجع إلى ما ذكره الطبري لكن بنحو مستدل ويقول: ومعنى الخوف بالغيب، أن يخاف الإنسان ربّه ويحترز ممّا ينذره به من عذاب الآخرة، وأليم عقابه، وكلّ ذلك في غيب من الإنسان لا يشاهد شيئاً منه بظاهر مشاعره، قال تعالى: (إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اِتَّبَعَ اَلذِّكْرَ وَ خَشِيَ اَلرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ) (1)، وقال: (وَ أُزْلِفَتِ اَلْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هذا ما تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ اَلرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَ جاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ) ،(2) وقال:

(اَلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَ هُمْ مِنَ اَلسّاعَةِ مُشْفِقُونَ) (3) .(4)

قوله: (فَمَنِ اِعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ) : أي بعد ما حُذّر (فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ) : أي عقاب شديد في الآخرة، بما اجترأ على الحرم بل على الإحرام؛ لأنّ الموضوع هو القتل محرماً فيعمّ الحرم وغير الحرم، وبذلك يُعلم أنّ آيتنا هذه جاءت كالتقديم للآية التالية.

الآية الثانية
اشارة

قال سبحانه: (يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا اَلصَّيْدَ وَ أَنْتُمْ حُرُمٌ وَ مَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ اَلنَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ اَلْكَعْبَةِ أَوْ كَفّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ

ص: 483


1- . يس: 11.
2- . ق: 31-33.
3- . الأنبياء: 49.
4- . الميزان في تفسير القرآن: 138/6.

عَدْلُ ذلِكَ صِياماً لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ عَفَا اَللّهُ عَمّا سَلَفَ وَ مَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اَللّهُ مِنْهُ وَ اَللّهُ عَزِيزٌ ذُو اِنْتِقامٍ) .(1)

المفردات

حُرم: جمع حرام، ورجل حرام ومحرم بمعنى واحد. كما أنّ الحلال والمُحلّ كذلك.

النعم: هي الإبل والبقر و الغنم.

عدل: المماثل، والمعادل للشيء، إمّا حسّاً أو قيمة.

وبال: من الوبل، الشيء الثقيل، والوابل: المطر الغزير.

التفسير
حرمة قتل الصيد وكفّارته

هذه الآية تتضمّن بيان عدة أحكام:

1. تحريم قتل الصيد على المحرم أمّا اصطياده فإنّه يأتي في الآية التالية: (وَ حُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ اَلْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً) فتدبّر. يقول سبحانه: (يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا اَلصَّيْدَ وَ أَنْتُمْ حُرُمٌ) فالفقرة مطلقة تعمّ المحرم للحج وللعمرة، كانا في أرض الحرم أو خارجه، وقد تقدّم أنّ (حرم) جمع (حرام) وأُريد به المحرم على وجه الإطلاق.

ثمّ إنّ المراد من الصيد، الوحش كلّه أُكل أو لم يؤكل، وهو قول أهل العراق

ص: 484


1- . المائدة: 95.

واستدلّوا بما ينسب إلى الإمام علي عليه السلام:

صيد الملوك أرانب وثعالب ***فإذا ركبتُ فصيدي الأبطال

وخصّه الشافعي بكلّ ما يؤكل من الصيد، وإطلاق الصيد أوّلاً وإضافته إلى الأرانب والثعالب ثانياً، يدلّ على القول الأوّل.

2. الظاهر من الآية - كما سيوافيك - أنّ كفارة المتعمّد لقتل الصيد أحد الأُمور الثلاثة:

أ. أن يذبح حيواناً مماثلاً للصيد.

ب. أن يقوّم الحيوان المماثل ويشتري بقيمته طعاماً يتصدّق به.

ج. أو يلاحظ مقدار الطعام الذي يمكن اشتراءه بقيمة الحيوان المماثل، ثم يصوم أيّاماً بعدد المساكين الذين يمكن إطعامهم. كما سيأتي في قوله: (أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً) .

هذا هو مجمل ما ذكرته الآية حول كفّارة المتعمّد، وسيوافيك أنّها لا تختصّ بالمتعمّد.

إذا عرفت ذلك فنقول:

قوله سبحانه: (يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا) خطاب للمؤمنين مع أنّ التشريع عام يعمّهم وغيرهم، وذلك لأنّ المؤمن هو المهتم بالعمل (لا تَقْتُلُوا اَلصَّيْدَ وَ أَنْتُمْ حُرُمٌ) : أي وأنتم مُحرمون. (وَ مَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ) : أي فعليه جزاء، فقوله: (جزاء) مبتدأ حذف خبره (فعليه) (مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ اَلنَّعَمِ) خبر بعد خبر: أي مماثل لما قتله في الخلقة والصورة، ففي النعامة بدنة، وفي حمار الوحش وشبهه بقرة، وفي الظبي والإرنب شاة، نسبه في «مجمع البيان» إلى أهل

ص: 485

البيت عليهم السلام.(1)

أمّا الأخير فقد روي عن أبي الحسن عليه السلام. قال: سألته عن محرم أصاب أرنباً أو ثعلباً؟ فقال: «في الإرنب دم شاة». وقد ورد في حديث أبي جعفر الجواد عليه السلام أكثر تفصيلاً.(2)

ثمّ إنّ الآية تخص الكفارة بالمتعمّد، أي مَن قصد الصيد، سواء أكان ذاكراً لكونه محرماً أم ناسياً، فإنّ المتعمّد في مقابل الخاطئ، كما إذا قصد غير حيوان فصادف قتل الصيد فهو خارج عن الآية.

ومع ذلك فتجب الكفّارة في غير العمد أيضاً، وإنّما قُيّد القتل بالعمد في الآية؛ لأنّ سبب نزولها في من تعمّد.(3) أو لأنّ الأصل فعل المتعمّد وألحق به الخطاء للتغليظ، ويدلّ عليه قوله تعالى: (لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ عَفَا اَللّهُ عَمّا سَلَفَ وَ مَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اَللّهُ مِنْهُ) .(4)

وقد ثبت في الفقه أنّ الكفّارة في عامّة محرّمات الإحرام تختصّ بالعمد، إلّا الصيد فإنّه يجب في كلتا الحالتين، والتفصيل في المصادر الفقهية.

3. يرجع في تعيين المماثل إلى رجلين صالحين فيؤخذ بحكمهما في الأشبه، كما يقول: (يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ) : أي من المؤمنين.

4. إذا تعيّن الأشبه فيذبح في مكّة المكرّمة كما يقول: (هَدْياً بالِغَ اَلْكَعْبَةِ) :1.

ص: 486


1- . لاحظ: مجمع البيان: 489/3.
2- . الوسائل: 10، الباب 4 من أبواب كفّارات الصيد وتوابعها، الحديث 1، ولاحظ سائر الروايات.
3- . تفسير الكشّاف: 364/1.
4- . كنز العرفان في فقه القرآن: 324/1.

أي يهديه هدياً يبلغ الكعبة، فقيل: ذبح في الحرم بفناء الكعبة في الحزورة وتصدّق به هناك، وإن كان في إحرام الحجّ ذبح بمنى وتصدّق به فيها.

وأمّا الحزورة، قال الطريحي: موضع كان به سوق مكّة بين الصفا والمروة قريب من موضع النخاسين معروف ويؤيّده قول الصادق عليه السلام: «المنحر ما بين الصفا والمروة وهي الحزورة».(1)

وأمّا الآن فالذبح هناك غير ممكن فيذبح الأقرب فالأقرب إلى مكّة، وإلّا فبمنى.

5. فله أن يقوّم عدله من النعم ثم يشتري بقيمته طعاماً يتصدّق به على المساكين، كما يقول: (أَوْ كَفّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ) ، فقوله: (طَعامُ مَساكِينَ) بدل من قوله: «كفّارة».

6. له أن يصوم أياماً بعدد المساكين الذين يمكن إطعامهم، وإليه يشير بقوله: (أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً) . وأمّا ما هو مقدار الطعام لكلّ مسكين فهل هو المدّان أو المدّ الواحد؟ سيأتي الكلام فيه.

وعلى هذا فظاهر الآية التخيير بين الأُمور الثلاثة، وتؤيّده السنّة؛ فقد روي عن أحد الصادقين عليهما السلام أنّه قال: «وكلّ شيء في القرآن: (أو) فصاحبه بالخيار يختار ما شاء».(2)

لكن الظاهر من الأصحاب الترتيب قالوا: إذا قتل نعامة كان عليه بدنة، فإن عجز قوّمت البدنة ثم يجعل قيمته طعاماً يتصدّق به ستين مسكيناً لكلّ مسكين4.

ص: 487


1- . مجمع البحرين: مادة «حزر»
2- . الكافي: 398/4.

نصف صاع، فلو لم يف بالستين كفاه، ولو زاد لم يلزمه الزائد وكان له، فإن عجز عن الإطعام صام عن كلّ مسكين يوماً.(1) فالأخذ بالترتيب أحوط لحصول تيقّن البراءة.

إنّما الكلام في مقدار ما يطعم به المسكين فهل الميزان هو المدّان كما مرّ عن «كنز العرفان» أو (المدّ) كما عليه المحقق الأردبيلي: يقوّم الجزاء الذي هو المثل (كالبدنة) ويفضّ ثمنها على الأوسط ممّا يطعمون وهو البُّر - مثلاً - ويعطى لكلّ مسكين، مدٌّ.(2) ولكلّ رواية.

أمّا الأوّل فيدلّ عليه صحيح أبو عبيدة عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «... ثمّ قوّمت الدراهم طعاماً لكلّ مسكين نصف صاع، فإن لم يقدر على الطعام صام لكلّ نصف صاعٍ يوماً»(3).

وعلى هذا فالميزان ما يُشترى بما قوّم من الطعام، ويقسط على كلّ مسكين نصف صاع، سواء أنقص من الستين أو زاد، وإذا أراد الصيام إنّما يصوم حسب ما يمكن إطعامه بما قوّم.

أمّا الثاني فيدلّ عليه مرسلة العياشي عن الإمام الصادق عليه السلام: «وإمّا أن يقوم فيشتري به طعاماً فيطعمه المساكين يطعم كلّ مسكين مدّاً».(4)ه.

ص: 488


1- . كنز العرفان: 325/1، بتلخيص.
2- . زبدة البيان: 376/1. بل الظاهر لكلّ مسكين نصف صاع كما مرّ عن «كنز العرفان» ويدلّ عليه حديث أبي عبيدة.
3- . الوسائل: 9، الباب 2 من أبواب كفّارات الصيد، الحديث 1.
4- . الوسائل: 9، الباب 2 من أبواب كفّارات الصيد، الحديث 14، والأقوى هو الأوّل لصحّة السند دون الثاني لإرساله.

7. ثمّ إنّه سبحانه يعلّل إيجاب الكفّارة ويقول: أوجبنا عليه التكفير بأحد الأُمور (لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ) : أي ليذوق عقوبة أمره وعمله.

8. ثمّ إنّ من المؤمنين مَن صاد في الجاهلية أو قبل بيان الحكم، فاللّه سبحانه يقول: (عَفَا اَللّهُ عَمّا سَلَفَ) لعدم تشريع حرمة الصيد.

9. وأمّا (وَ مَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اَللّهُ مِنْهُ) وظاهره أنّ عمله لا يكفّر بالجزاء.

قال الفاضل المقداد: وهل هذا مانع من وجوب الكفّارة عليه، أم لا؟ قال ابن عباس: نعم، وبه قال أكثر أصحابنا، وقال الحسن وابن جبير وعامّة الفقهاء: لا، بل تجب، وبه قال بعض أصحابنا(1)، لقول الإمام الصادق عليه السلام في صحيحة ابن أبي عمير: «عليه كلّما عاد كفّارة».(2) وهي عامّة بحسب الزمان.

ثمّ إنّه سبحانه يعلّل انتقامه بقوله: (وَ اَللّهُ عَزِيزٌ ذُو اِنْتِقامٍ) : أي ينتقم ممّن تعدّى أمره وحكمه.

حرمة الإعانة على الاصطياد

ثمّ إنّ المستفاد من الآية حرمة الاصطياد وذبح المصيد وأكله، لكن المستفاد من الروايات حرمة الإشارة والدلالة والإغلاق، ففي صحيح الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السلام، قال: «لا تستحلنّ شيئاً من الصيد وأنت حرام، ولا وأنت حلال في الحرم، ولا تدلّنّ عليه مُحِلّاً ولا محرماً فيصطاده، ولا تُشر إليه فيستحلّ من أجلك، فإنّ فيه فداء لمَن تعمّده».(3)

ص: 489


1- . كنز العرفان: 327/1.
2- . الاستبصار: 210/2؛ الوسائل: 9، الباب 48 من أبواب كفّارات الصيد وتوابعها، الحديث 3.
3- . الوسائل: 9، الباب 1 من أبواب تروك الإحرام، الحديث 1.

وعلى هذا يحرم على المحرم مطلقاً مصيد البر، اصطياداً وأكلاً وذبحاً وإشارة ودلالة عليه وإغلاقاً وبيعاً وشراء وتملّكاً وإمساكاً وإغراء للحيوان به.(1)

ثمّ إنّ هنا بحوثاً في صيد المحرم، وقد ذكرنا قسماً منها في كتابنا «الحجّ في الشريعة الإسلامية الغراء».

ولصديقنا محمد جواد مغنية كلام يقول فيه: وقد أطال فقهاء المذاهب الكلام في الصيد وكفّاراته، وابتدأوا من صيد النعامة التي تشبه الناقة إلى صيد الجرادة، وفرعوا فروعاً، وافترضوا صوراً شتّى... ونحن نكتفي بما ذكرناه لعدم الجدوى من التطويل والتمثيل؛ لأنّ الذي يذهب إلى الحرمين الشريفين يذهب ناسكاً زاهداً، لا متنزّهاً صائداً.(2)

الآية: الثالثة
اشارة

قال سبحانه: (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ اَلْبَحْرِ وَ طَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَ لِلسَّيّارَةِ وَ حُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ اَلْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً وَ اِتَّقُوا اَللّهَ اَلَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) .(3)

المفردات

السيارة: جمع السائر: المسافرون.

ص: 490


1- . كنز العرفان: 329/1.
2- . الفقه على المذاهب الخمسة: 227.
3- . المائدة: 96.
التفسير

المتبادر من الآية أنّه سبحانه أحلّ لكلّ الناس أوّلاً وللمحرم ثانياً أمرين:

1. عملية الاصطياد، كما يقول: (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ اَلْبَحْرِ) ، وأُريد من الصيد المعنى المصدري بخلاف الآية السابقة فقد أُريد به المصيد، بقرينة قوله: (لا تَقْتُلُوا) .

وأُريد من (اَلْبَحْرِ) الأنهار الكبيرة والأهوار(1) والمستنقعات(2)، قال الطبرسي: عُني بالبحر جميع المياه، والعرب تُسمّي النهر بحراً.(3)

2. (وَ طَعامُهُ) : أي أكله وهو يشمل الطري والمُمْلَح.

وعن ابن عباس: (صَيْدُ اَلْبَحْرِ) : أي الصيد هو الطريّ (وَ طَعامُهُ) هو المملوح. ونسبه في كنز العرفان إلى أهل البيت.

ثمّ إنّه يقع الكلام في ما هو الميزان لكون المصيد بحرياً أو برّياً فهنا أقوال:

1. ما لا يمكن أن يعيش إلّافي الماء كلّه حلال لقوله صلى الله عليه و آله و سلم: «هو الطهور ماؤه و (حلال) أكل ميتته».(4) هو مذهب الشافعي ومالك.

2. يحل السمك وما له مثلٌ في البرّ يؤكل.

3. قال أبو حنيفة: لا يحل إلّاالسمك.

ص: 491


1- . وهي البحيرة تجري إليها مياه غياض وآجام فتتّسع. يقال: غاض الماء: أي غار.
2- . الماء المستنقع: المجتمع.
3- . مجمع البيان: 245/4.
4- . تفسير الدر المنثور: 331/2.

الظاهر أنّ الميزان هو ما يتولّد في البحر ويتّخذ لحياته من المواد الموجودة فيه فهو بحري، وصيده صيد البحر، وما ينشأ في البر ويستمد لبقائه من المواد الموجودة في البر فهو برّيّ، وعلى ذلك فالطيور المائية من صيد البرّ؛ لأنّها تبيض وتفرّخ حوالي الماء لا فيه وتعيش في البر أكثر من البحر.

قوله: (مَتاعاً لَكُمْ) : أي تمتيعاً لانتفاعكم (وَ لِلسَّيّارَةِ) : أي المسافرين يتزوّدون من السمك طرياً وقديداً.

وحاصل الآية: أنّ اللّه سبحانه أحلّ الاصطياد من البحر والأكل من طعامه المتّخذ من حيوانه سواء أصاده الإنسان أو شخص آخر، وسواء أكنتم حلّالاً أو محرمين، واللّه سبحانه أحلّ صيد البحر لتمتّع الإنسان المقيم والمسافر. وفي مقابل هذا ذكر صيد البر وقال: (وَ حُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ اَلْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً) فهنا عناوين ثلاثة:

1. (لا تَقْتُلُوا اَلصَّيْدَ وَ أَنْتُمْ حُرُمٌ) .

2. (وَ حُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ اَلْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً) .

3. (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ اَلْبَحْرِ) .

فالأوّلان حرام للمحرم، بخلاف الثالث.

قوله تعالى: (وَ اِتَّقُوا اَللّهَ اَلَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) تأكيد على حفظ ما حرّم اللّه سبحانه من الصيد وغيره فإنّكم ستحشرون إليه يوم القيامة ويحاسبكم.

ص: 492

أحكام الحج

9. الأُمور الأربعة التي جُعلت قياماً للناس

الآيتان: الأُولى والثانية
اشارة

قال سبحانه: (جَعَلَ اَللّهُ اَلْكَعْبَةَ اَلْبَيْتَ اَلْحَرامَ قِياماً لِلنّاسِ وَ اَلشَّهْرَ اَلْحَرامَ وَ اَلْهَدْيَ وَ اَلْقَلائِدَ ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اَللّهَ يَعْلَمُ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ ما فِي اَلْأَرْضِ وَ أَنَّ اَللّهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ * اِعْلَمُوا أَنَّ اَللّهَ شَدِيدُ اَلْعِقابِ وَ أَنَّ اَللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) .(1)

المفردات

الكعبة: الكعب في اللغة هو النتوء في الشيء، ومن مصاديقه الانبوبة الناتئة من القصب، وما نتأ من العظام كما في المفصل، وما نتأ وارتفع من الأعضاء كالثدي، وربما يستعمل في الشرف والمجد المعنوي. والبناء المرتفع ظاهراً وباطناً كالكعبة والغرفة.(2)

ص: 493


1- . المائدة: 97-98.
2- . التحقيق في كلمات القرآن الكريم: 78/10.

وأُطلق (الكعبة) على البناء الذي بناه إبراهيم لارتفاعه، وسُمّيت الكعبة كعبة لتربيعها، وإنّما قيل للمربع: كعبة لنتوء زواياه الأربع.(1)

قياماً: قال الراغب: أي قواماً لهم يقوم به معاشهم ومعادهم، وقال في قوله: (دِيناً قِيَماً) : أي ثابتاً مقوّماً لمعاشهم ومعادهم.(2) وعلى هذا فيكون معادلاً ل «سناداً» وعماداً لحياة الناس.

الشهر الحرام: الأشهر الحرم الأربعة، واحد فرد (كرجب) وثلاثة سُرد، (ذوالقعدة، وذو الحجّة، والمحرّم).

الهدي: مختص بما يهدى إلى البيت الحرام.

القلائد: أُريد به ذوات القلائد من الهدي، وهي الأنعام التي كانوا يقلّدونها بشيء إذا ساقوها هدياً وخصّها سبحانه بالذكر لعظم شأنها.

التفسير
كون الكعبة قياماً للناس

إنّه سبحانه أشار في الآية إلى تكريم البيت وما يمتّ له بصلّة، وعرّف الكعبة، بكونها قواماً للناس، فدلّ ذلك على أنّ تحريم الصيد في الحرم وعلى المحرم لأجل تكريم البيت وتعظيمه، ولولاه لما تعرّض سبحانه لحكم الوحوش في بقعة خاصّة.

قوله تعالى: (جَعَلَ اَللّهُ اَلْكَعْبَةَ اَلْبَيْتَ اَلْحَرامَ قِياماً لِلنّاسِ وَ اَلشَّهْرَ اَلْحَرامَ

ص: 494


1- . مجمع البيان: 494/3.
2- . المفردات: 417، مادة «قوم».

وَ اَلْهَدْيَ وَ اَلْقَلائِدَ) فقد أخبر سبحانه أنّه جعل الأُمور الأربعة قياماً للناس تقوم بها حياتهم وهي:

1. الكعبة وصفها بالبيت الحرام.

2. الشهر الحرام.

3. الهدي.

4. القلائد، يقلّد بها البعير غالباً.

فالجميع يُعدّ قياماً للناس أي قواماً لمعاشهم وحياتهم.

وعلى هذا فالبيت الحرام بدل من الكعبة، والشهر الحرام والهدي والقلائد كلّها عطف على الكعبة، ومعنى الآية أنّ اللّه سبحانه: «جعل الأُمور الأربعة قواماً للناس» وهي الكعبة المعبّر عنها بالبيت الحرام، والشهر الحرام، وهي الشهور الأربعة، والهدي أي الحيوان المُهدى إلى البيت، والقلائد وهو الهدي المقلّد بشيء يدلّ على أنّه أُهدي إلى الكعبة.

ثمّ إنّه يقع الكلام كيف يمكن عدّ هذه الأُمور الأربعة قياماً للناس؟

أمّا كون الكعبة قياماً للناس، فإن أُريد به بعض الناس أي القاطنين منها، فيكون إشارة إلى أنّها قوام المعيشة؛ لأنّ مكة بلدة ميّتة لا ضرع فيها ولا زرع، وقلّما يوجد فيها ما يحتاجون إليه. فاللّه تعالى جعل الكعبة معظمة في القلوب فيسافرون إليها من كلّ فج عميق ويأتون بكلّ ما يحتاج إليه الناس، وإليه سبحانه يشير بقوله: (أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَ يُتَخَطَّفُ اَلنّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ) (1) هذا كلّه إن7.

ص: 495


1- . العنكبوت: 67.

أُريد بالناس مَن يسكن مكّة وما حولها.

وأمّا إذا أُريد به عامّة الناس - أي المسلمون كلّهم - فتكون الكعبة قياماً للناس بمعنى آخر. فإنّ الحجّ عمل اجتماعي وملتقى ثقافي وفي الوقت نفسه مؤتمر سياسي سنوي يجتمع فيه قادة المسلمين فيتشاورون في مهام الأُمور بغية التنسيق والتعاون فيما بينهم ويشير إلى تلك الجوانب الثلاثة بقوله تعالى: (جَعَلَ اَللّهُ اَلْكَعْبَةَ اَلْبَيْتَ اَلْحَرامَ قِياماً لِلنّاسِ) .

وأمّا الثاني - أي: الشهر الحرام - فمعنى كونه سبباً لقيام الناس بمعنى أنّه لولا حرمة هذا الشهر هلك الناس واستؤصلوا من الجوع والشدّة والحرب، ففي هذه الأشهر الحرم يزول الخوف من الناس عامّة في زيارة البيت الحرام، فهم آمنون على أنفسهم وأموالهم. وهذا يناسب القول الثاني.

وأمّا الثالث - أعني: الهدي - فلأنّ الناس ينتفعون بذبحه حيث يفرّق الهدي بين الناس.

وأمّا الرابع - أي القلائد - فلأنّ القلادة في عنق الهدي آية أنّه للبيت، فلا يتعرّض له الناس ويصل إلى البيت سالماً، وبه يكون قوام المعيشة.

ثمّ إنّه سبحانه علّل ذلك أي جعل الأُمور الأربعة قواماً للناس بقوله: (ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اَللّهَ يَعْلَمُ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ ما فِي اَلْأَرْضِ وَ أَنَّ اَللّهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ) فيقع الكلام في كيفية التعليل حيث علّل جعل الأُمور الأربعة قواماً للناس، بعلمه سبحانه لما في السماوات وما في الأرض، وعلمه بكلّ شيء. وقال: (ذلِكَ) أي جعل الأُمور الأربعة قواماً للناس (لِتَعْلَمُوا أَنَّ اَللّهَ يَعْلَمُ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ ما فِي اَلْأَرْضِ وَ أَنَّ اَللّهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ) .

ص: 496

أقول: ويمكن أن يقال: إنّه سبحانه يعلم ما كان عليه العرب في الجزيرة العربية - قبل الإسلام - من الخشونة والغلظة والميل إلى النهب والسلب والأنانية والسيادة، فلو بقيت هذه الأُمور في حياتهم لقطع نسل العرب ولم يبق أحدٌ منهم ولحلّ الخراب في البلاد، فلأجل الحدّ من أنانيّتهم وميولهم العدوانية أمرهم بتكريم الكعبة وما يمّت إليها بصلة كالأشهر الحرم حيث حرّم فيها القتل والتعرّض للغير، كما أمر بتكريم القلائد والهدي اللّتان بواسطتهما يتوفّر الطعام لأهل الحرم، فتشريع هذه الأحكام لأجل أن يسود الأمن والأمان على المجتمع العربي، وهو دليل على سعة علم المشرّع وأنّ مَنْ شرّع هذه الأُمور: (يَعْلَمُ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ ما فِي اَلْأَرْضِ وَ أَنَّ اَللّهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ) ، فتأمين الناس في قطر من الأقطار وزمن من الأزمان في كلّ سنة دليل على سعة علم المشرّع، حيث حطّ بهذا التشريع من أطماعهم الجشعة، لكي يعيش الناس في هذه المجتمعات عيشة أخوية متحابّين متسالمين.

ثمّ إنّه سبحانه أشار في غير واحدة من الآيات إلى أسرار هذا التشريع، قال سبحانه: (وَ قالُوا إِنْ نَتَّبِعِ اَلْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا أَ وَ لَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْ ءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنّا وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (1)، وقال سبحانه: (أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَ يُتَخَطَّفُ اَلنّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَ فَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَ بِنِعْمَةِ اَللّهِ يَكْفُرُونَ) .(2)

وقد استجاب اللّه تعالى دعاء إبراهيم الخليل عليه السلام حيث قال: (رَبِّ اِجْعَلْ هذا7.

ص: 497


1- . القصص: 57.
2- . العنكبوت: 67.

بَلَداً آمِناً وَ اُرْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ اَلثَّمَراتِ) (1) .

كلّ ذلك صار بتدبير من اللّه سبحانه من بناء الكعبة بيد إبراهيم عليه السلام وتشريع الأشهر الحرم وإيجاب الهدي والقلائد، فلو دلّ على شيء فإنّما يدلّ على سعة علمه سبحانه بأسرار البلاد والعباد.

ثم إنّه سبحانه ختم الآية الأُولى بقوله: (وَ أَنَّ اَللّهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ) : أي يعلم ما كانت عليه العرب في الجزيرة العربية قبل الإسلام من الخشونة فلأجل الحدّ من غلظتهم، حرّم في هذه الأشهر الحرم كلّ تعرّض للغير. كما أنّه سبحانه ختم الآية الثانية بجملتين:

1. (اِعْلَمُوا أَنَّ اَللّهَ شَدِيدُ اَلْعِقابِ) : أي يجزي كلّ صانع بما صنع.

2. (وَ أَنَّ اَللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) لمَن تاب وأصلح حاله.

ثمّ إنّه سبحانه قدّم العقاب على الغفران والرحمة، يقول الرازي في سبب تقديم (شَدِيدُ اَلْعِقابِ) على الغفران والرحمة: لمّا ذكر اللّه تعالى أنواع رحمته بعباده، ذكر بعده أنّه شديد العقاب، لأنّ الإيمان لا يتمّ إلّابالرجاء والخوف كما قال الإمام علي عليه السلام: «ولو وزن خوف المؤمن ورجاؤه لاعتدلا» ثم ذكر عقيبه ما يدلّ على الرحمة وكونه غفوراً رحيماً، وذلك يدلّ على أنّ جانب الرحمة أغلب.(2)

والأولى أن يقال: إنّ الكلام فيما سبق من الآيات إنّما هو موجّه للعصاة دون المطيعين، فناسب أن يبتدئ كلامه بذكر العقاب وشدّته، ثمّ يتبعه بذكر الغفران2.

ص: 498


1- . البقرة: 126.
2- . تفسير الرازي: 102/12.

والرحمة كما هو أُسلوب القرآن - غالباً - في المقابلة. ولا دلالة في خصوص الآية على كون رحمته أغلب. نعم ورد في بعض الأدعية: «يا مَنْ سَبَقَتْ رَحْمَتُهُ غَضَبَهُ».(1)).

ص: 499


1- . الصحيفة السجادية الكاملة: 345، دعاؤه في موقف عرفة (أبطحي).

أحكام الحج

10. تكريم شعائر اللّه والشهر الحرام

اشارة

قال سبحانه: (يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اَللّهِ وَ لاَ اَلشَّهْرَ اَلْحَرامَ وَ لاَ اَلْهَدْيَ وَ لاَ اَلْقَلائِدَ وَ لاَ آمِّينَ اَلْبَيْتَ اَلْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَ رِضْواناً وَ إِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا وَ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَ تَعاوَنُوا عَلَى اَلْبِرِّ وَ اَلتَّقْوى وَ لا تَعاوَنُوا عَلَى اَلْإِثْمِ وَ اَلْعُدْوانِ وَ اِتَّقُوا اَللّهَ إِنَّ اَللّهَ شَدِيدُ اَلْعِقابِ) .(1)

المفردات

شعائر: جمع شعيرة بمعنى العلامة وسيأتي ما هو المراد منها عند التفسير.

الهَدْي: جمع هديّة، كالجَدْي جمع جديّة. وهو كناية عن كلّ ما يُهدى إلى

ص: 500


1- . المائدة: 2.

الكعبة من الأنعام ويذبح هناك، قال الشاعر:

حلفت بربّ مكّة والمصلّى ***وأعناق الهدي مقلّدات

القلائد: جمع قلادة وهي التي تُشدّ على عنق البعير وغيره، لتكون علامة على أنّه هدية إلى الكعبة.

آمّين: قاصدين.

شنآن: البغض، يقال: رجل شنآن، وامرأة شنآنة، وهي كالضربان والسريان.

البِرّ: بكسر الباء: التوسّع في فعل الخير. قال سبحانه: (لا يَنْهاكُمُ اَللّهُ عَنِ اَلَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي اَلدِّينِ وَ لَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ) (1).

والبَرّ - بفتح الباء - مَن يقوم بفعل الخير، وبهذا المعنى قالوا: (إِنَّهُ هُوَ اَلْبَرُّ اَلرَّحِيمُ) (2).

التقوى: جعل النفس في وقاية ممّا يُخاف...

الإثم: بمعنى البطء عن السير، ومنه: الناقة الآثمة، ويطلق في القرآن على الذنب الذي يبطئ الإنسان عن تكامله، وقال الراغب: الإثم والآثام اسم للأفعال المبطئة عن الثواب(3)، ويقسم إلى كبائر وصغائر، قال سبحانه: (وَ اَلَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ اَلْإِثْمِ) (4).7.

ص: 501


1- . الممتحنة: 8.
2- . الطور: 28.
3- . المفردات للراغب: 10، مادة «إثم».
4- . الشورى: 37.
التفسير

إنّ الآية على رغم اختصارها، تشتمل على أحكام مختلفة وتشريعات كثيرة تناهز عشرة تدور بين الأمر و النهي، وإليك بيانها:

الأوّل: (لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اَللّهِ) : ما هو المراد من شعائر اللّه تعالى؟ فيه احتمالات:

1. أن يُراد به خصوص البُدن، لقوله سبحانه: (وَ اَلْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اَللّهِ) (1)، أو يُراد خصوص الصفا والمروة، لقوله سبحانه: (إِنَّ اَلصَّفا وَ اَلْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اَللّهِ) (2).

يلاحظ عليه: أنّ لفظة «مِنْ» دليل على أنّ الموردين من شعائر اللّه لا أنّها منحصرة بهما.

2. أن يُراد بها المعنى الأعمّ فيشمل أرض منى وعرفات والمشعر الحرام، ويشهد على ذلك ما ورد في سورة الحجّ حيث إنّه تعالى بعد أنّ عدّد أعمال الحجّ قال: (وَ مَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اَللّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى اَلْقُلُوبِ) .(3)

3. أن يراد بها: جميع معالم دين اللّه، والبُدن والقلائد والهدي والصفا والمروة، من مصاديقه، فكلّ حكم من أحكامه سبحانه يُعدّ من علائم دين الإسلام، يجب تعظيمه، أو يستحب استحباباً مؤكّداً وجهان، فالقرآن المجيد، والمساجد الشريفة والكتب الروائية التي اشتملت على أحاديث الرسول

ص: 502


1- . الحج: 36.
2- . البقرة: 158.
3- . الحج: 32.

الأعظم صلى الله عليه و آله و سلم وصفاته، ومراقد أهل بيته الطاهرين، كلّها من شعائر دين اللّه، يجب تعظيمها، ولو قلنا بالاستحباب المؤكد، يحرم تخريبها وهتك حرمتها، وإهانتها.

ولذلك يحرم تنجيس المساجد وتجب إزالة النجاسة عنها، وكذا يحرم تخريب مراقد الأنبياء وأئمّة أهل البيت عليهم السلام وجعلها معرضاً للإهانة.

الثاني: (وَ لاَ اَلشَّهْرَ اَلْحَرامَ) : أي لا تحلّوا الشهر الحرام، وهي الشهور الأربعة أعني: المحرّم ورجب وذا القعدة وذا الحجة.

ولا يختصّ بالأخيرين الموصوفين بالحرام، حيث يقال: ذو القعدة الحرام، وذو الحجّة الحرام، لأنّ الشهر اسم جنس يفيد العموم، فيراد به تحليل الحرب في بعض هذه الشهور، بتجويز القتال فيه، كما سيوافيك تفصيله في قوله سبحانه: (إِنَّمَا اَلنَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي اَلْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ اَلَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَ يُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اَللّهُ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اَللّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ وَ اَللّهُ لا يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلْكافِرِينَ) (1).

الثالث: (وَ لاَ اَلْهَدْيَ) : أي لا تحلّوا الهدي الذي يُهدى إلى بيت اللّه من الأنعام، وإحلاله المنع من بلوغه إلى محلّه بالسرقة والذبح وغير ذلك.

الرابع: (وَ لاَ اَلْقَلائِدَ) : أي ولا تحلّوا الهدي الذي في عنقه من القلائد، كنعل ونحوه الذي يُعلم أنّه هدي للحج، والنهي عن القلائد كناية عن النهي عن ذوات القلائد، والنهي عنه تخصيص بعد تعميم، لأنّ ذات القلائد من مصاديق الهدي.

الخامس: (وَ لاَ آمِّينَ اَلْبَيْتَ اَلْحَرامَ) : أي القاصدين زيارة البيت الحرام، فلا7.

ص: 503


1- . التوبة: 37.

تتعرّضوا لأموالهم أو أنفسهم، وأُريد بالبيت الحرام هو مكّة المكرمة.

ثم يصف اللّه سبحانه هؤلاء الآمّين البيت الحرام بقوله: (يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَ رِضْواناً) : أي يأمّون البيت الحرام لإحدى الغايتين: التجارة، وإلى ذلك يشير بقوله: (فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ) ، أو الحجّ، وإلى ذلك يشير بقوله:

(وَ رِضْواناً) فالحيلولة بينهم وبين الكعبة أمر حرام. وبما أنّ الآية وردت في سورة المائدة التي هي آخر سورة نزلت على النبي صلى الله عليه و آله و سلم فتلك الفقرة تختصّ بغير المشركين، فلا يلزم فيها النسخ، بما ورد في سورة التوبة من قتل المشركين حيثما وُجدوا.

السادس: (وَ إِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا) بما أنّه مرّ في الآيات السابقة من تحريم الصيد على المُحرمين، جاءت هذه الآية مبيّنة لحدّ الحرمة وهي أنّكم إذا خرجتم عن إحرامكم بالحجّ والعمرة يجوز لكم الاصطياد، وبما أنّ الأمر ورد بعد النهي، فهو يفيد الترخيص والإباحة، نظير قوله: (فَإِذا قُضِيَتِ اَلصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي اَلْأَرْضِ) (1). حيث جاء بعد قوله سبحانه: (فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اَللّهِ وَ ذَرُوا اَلْبَيْعَ) (2)، وهذه قاعدة كلّية، وهي أنّ الأمر بعد النهي أو بعد توهّمه، لا يفيد الوجوب، بل يشير إلى الإباحة أو رفع الحرمة السابقة، والجواز محدّد بغير الحرام.

السابع: (وَ لا يَجْرِمَنَّكُمْ) : أي لا يحملنّكم (شَنَآنُ) بغضاء (قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا) : أي الاعتداء عليهم، وهي إشارة إلى منع قريش النبي صلى الله عليه و آله و سلم والمسلمين عن الذهاب إلى مكّة لأداء مناسك العمرة، كما في9.

ص: 504


1- . الجمعة: 10.
2- . الجمعة: 9.

قوله تعالى: (هُمُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوكُمْ عَنِ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرامِ) (1).

ومن المعلوم أنّ عمل هؤلاء أوجد بغضاً في قلوب المسلمين، حيث منعوهم من مراسم العمرة، واللّه سبحانه يقول: إنّ ذلك البغض لا يصير سبباً للاعتداء، فلا يحملنّكم بغض هؤلاء على الاعتداء عليهم لأجل أنّهم صدوكم عن المسجد الحرام.

قال الإمام علي عليه السلام في عهده إلى مالك الأشتر: «وَلَا تَكُونَنَّ عَلَيْهِمْ سَبُعاً ضَارِياً (ضارباً) تَغْتَنِمُ أَكْلَهُمْ، فَإِنَّهُمْ صِنْفَانِ: إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي الدِّينِ، أَوْ نَظِيرٌ لَكَ فِي الْخَلْقِ».(2)

وقال عليه السلام في وصيته للحسن والحسين عليهما السلام لمّا ضربه ابن ملجم (لعنه اللّه): «يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، لَاأُلْفِيَنَّكُمْ تَخُوضُونَ دِمَاءَ الْمُسْلِمِينَ خَوْضاً، تَقُولُونَ: قُتِلَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ.

أَلَا لَاتَقْتُلُنَّ بِي إِلَّا قَاتِلِي.

انْظُرُوا إِذَا أَنَا مِتُّ مِنْ ضَرْبَتِهِ هذِهِ، فَاضْرِبُوهُ ضَرْبَةً بِضَرْبَةٍ، وَلَا تُمَثِّلُوا بِالرَّجُلِ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه و آله و سلم يَقُولُ: إِيَّاكُمْ وَالْمُثْلَةَ وَلَوْ بِالْكَلْبِ الْعَقُورِ».(3)

فإن قيل: إنّ السورة نزلت بعد فتح مكة، لأنّ سورة «المائدة» هي آخر سورة نزلت على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ولم يكن يتوقع صدّ من أحد.7.

ص: 505


1- . الفتح: 25.
2- . نهج البلاغة: قسم الرسائل، برقم 52.
3- . نهج البلاغة: قسم الرسائل، برقم 47.

قلت: الآية تنهى عن الاعتداء على القوم الذين اعتدوا على المسلمين في الأزمنة السابقة، وإن صاروا عُزّلاً غير قادرين على الصدّ، فهي من مظاهر العدل الإسلامي وأنّ المسلم يجب أن ينسى العدوان الذي يقع عليه بعد كون المعتدي ضعيفاً غير قادر على العمل. الثامن: (وَ تَعاوَنُوا عَلَى اَلْبِرِّ وَ اَلتَّقْوى) ، يمكن تفسير الفقرة بوجهين:

الأوّل: ما ذكره الطبرسي رحمه الله وقال: أمر اللّه عباده بأن يُعين بعضهم بعضاً على البر والتقوى، وهو العمل بما أمرهم اللّه تعالى به واتّقاء ما نهاهم عنه.(1)

الثاني: يمكن أن يقال: إنّ المراد من البرّ تحلية النفس بكلّ فعل يستحسن عند الناس، كما أنّ المراد من التقوى تقوية النفس بما يصدّها عن القبيح. وعلى هذا فالفقرة تأمر الناس بأن يساعد بعضهم بعضاً في كلّ عمل من أعمال الخير التي ينتفع بها الناس في دينهم ودنياهم كما تدلّ على أنّ الإنسان يعرف البرّ عن ضدّه، والفعل الحسن عن مخالفه، خلافاً للأشاعرة الذين لا يعترفون بالتحسين والتقبيح العقليّين.

ولذلك نرى أنّ القرآن ربما يشير إلى نقد ما يتصوّر أنّه برّ ويقول: (وَ لَيْسَ اَلْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا اَلْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَ لكِنَّ اَلْبِرَّ مَنِ اِتَّقى وَ أْتُوا اَلْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وَ اِتَّقُوا اَللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) .(2)

والآية بصدد نقد ما كانوا عليه في الجاهلية حيث إنّهم يأتون البيوت من ظهورها إذا كانوا محرمين بالحج، ويتصوّرون أنّه من البر. فقوله: (وَ تَعاوَنُوا عَلَى9.

ص: 506


1- . مجمع البيان: 155/2.
2- . البقرة: 189.

اَلْبِرِّ) تشير إلى أمر اجتماعي لو كان المسلمون قائمون به عبر التاريخ لصار الوضع أفضل من ذلك. وعلى هذا فما تقوم به جمعيات البر والإحسان في مختلف بلدان العالم لأجل إيواء من لا بيت له وتأمين حوائج الأيتام والمعوّقين وغير ذلك كلّها من مصاديق التعاون على البر.

التاسع: (وَ لا تَعاوَنُوا عَلَى اَلْإِثْمِ وَ اَلْعُدْوانِ) نهاهم سبحانه أن يُعين بعضهم بعضاً على الإثم، كبيع العنب ممّن يعمل خمراً، فتكون النتيجة الإعانة على فعل الحرام كما نهاهم عن ارتكاب ما نهاهم عنه من العدوان، وهو مجاوزة ما حدّ اللّه لعباده في دينهم.(1)

ثمّ إنّ هاتين الفقرتين قاعدتان فقهيتان قد أشبعنا الكلام فيهما في كتابنا:

الإيضاحات السنية للقواعد الفقهية.(2)

قد عرفت معنى الإثم، الذي يبطئ الإنسان عن الثواب، وأمّا العدوان فهو التجاوز عن حدّ الشرع وما يحكم به العقل، أو ما هو سيرة المسلمين.

العاشر: (وَ اِتَّقُوا اَللّهَ إِنَّ اَللّهَ شَدِيدُ اَلْعِقابِ) : أي احذروا المعاصي التي نهيتم عنها، فإنّ اللّه شديد العقاب، فإنّ مصير العاصي هو النار التي لا يطفأ حرّها ولا يخمد جمرها، نستعيذ باللّه منها ومن عذابها.2.

ص: 507


1- . مجمع البيان: 155/2.
2- . لاحظ: الإيضاحات السنية للقواعد الفقهية: 79/2-92.

أحكام الحج

11. حكم الصدّ عن سبيل اللّه والمسجد الحرام وتعظيم حرمات اللّه

الآية الأُولى
اشارة

قال سبحانه: (إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اَللّهِ وَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرامِ اَلَّذِي جَعَلْناهُ لِلنّاسِ سَواءً اَلْعاكِفُ فِيهِ وَ اَلْبادِ وَ مَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) .(1)

المفردات

إنّ الذين كفروا: الموصول - اسم إنّ - مبتدأ حذف خبره، أي خسروا أو هلكوا. قال الطبرسي: الخبر محذوف يدلّ عليه قوله: (وَ مَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) فالمعنى: إنّ الذين كفروا نذيقهم العذاب الأليم(2)، وقريب منه ما في الكشّاف.(3)

ص: 508


1- . الحجّ: 25.
2- . مجمع البيان: 152/7.
3- . لاحظ تفسير الكشاف: 345/2.

المسجد الحرام: الذي يحتضن البيت الحرام أي الكعبة.

العاكف: المقيم.

الباد: أصله البادي حذفت الياء تبعاً لرسم المصحف (ولعلّ الرسم وفقاً للوقف)، ويراد به القادم إلى مكّة غير مقيم بل طارئاً عليها.

بإلحاد: الإلحاد: الميل عن القصد والعدول عن الاستقامة.

بظلم: بغير حقّ، واللفظان (بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ) حالان مترادفان.

التفسير

الآية تتضمّن أمرين:

الأوّل: صدّ الناس عن سبيل اللّه والمسجد الحرام عمل الكافر.

الثاني: ذم من مال عن الحقّ وقصد الظلم في ذاك المسجد.

أمّا الأوّل: فيقول سبحانه: (إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اَللّهِ) :

أي يمنعون الناس عن اعتناق الإسلام، وعطف المضارع (يَصُدُّونَ) على الماضي (كَفَرُوا) لأجل أنّ المراد من المضارع هو الإخبار عن الاستمرار في العمل من غير فرق بين الماضي والحال والاستقبال. (وَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرامِ) : أي يمنعون الناس عن دخول المسجد الحرام لأجل الطواف والصلاة. (اَلَّذِي جَعَلْناهُ لِلنّاسِ) وصف للمسجد الحرام فقد جعله للناس كافّة كائناً مَن كان، مكّياً كان أو آفاقيّاً (سَواءً اَلْعاكِفُ فِيهِ وَ اَلْبادِ) : أي المقيم أو الطارئ الوافد عليه، والإخبار عن التسوية دليل لذم عملهم حيث يجعلون ما شرعه اللّه لعامة الناس خاصّاً لأنفسهم، ولعل الآية

ص: 509

نزلت في العهد المكّي، حيث كان المشركون يمنعون مَن أسلم عن دخول المسجد الحرام للنسك والعبادة، كما يحتمل أنّها نزلت في العهد المدني قبل فتح مكّة، حيث كانت القدرة بيد الكافرين فيصدّون الناس عن الإيمان بدين اللّه كما يصدّون مَن أسلم عن إتيان النسك في المسجد الحرام.

وأمّا الثاني: أعني مَن أراد الظلم فيه فقد أشار إليه بقوله: (وَ مَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) .

قد تقدّم أنّ الإلحاد هو الميل عن الحقّ - كما في المفردات - والظاهر أنّ الباء في قوله: (بِإِلْحادٍ) زائدة للتأكيد، ومعنى الفقرة: ومن يُرد إلحاداً بظلم أي مائلاً عن الحقّ متلبّساً بظلم، وعلى هذا فالباء في (بِظُلْمٍ) إشارة إلى التلبّس به، وعلى هذا فاللّه سبحانه يهدّد مَن عدل عن الحقّ وتلبّس بالظلم في المسجد الحرام الذي هو من أفضل المقامات فاللّه سبحانه يعذبه أشدّ العذاب. وفي الكشّاف: ومَن يرد فيه مراداً ما، عادلاً عن القصد ظالماً، نذقه من عذاب أليم.(1)

وقد مرّ في قسم المفردات أنّ اللفظين: (بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ) حالان مترادفان.

وأمّا ما هو المراد من العدول عن الحقّ الذي يؤتيه قوله: (بِإِلْحادٍ) فلم ينصّ عليه الذكر الحكيم، فنلجأ إلى ما ورد في الروايات التي نقلها السيوطي في «الدر المنثور»: عن قتادة قال: مَن لجأ إلى الحرم ليشرك به عذّبه اللّه.

وعن مجاهد قال: أن يعبد فيه غير اللّه.

ولكن الأفضل فيه ما روي عن ابن عباس: أن تشتمل من الحرام ما حرّم اللّه2.

ص: 510


1- . تفسير الكشاف: 345/2.

عليك من لسان أو قتل فتظلم مَن لا يظلمك، وتقتل مَن لا يقتلك، فمَن فعل ذلك فقد وجب له عذاب أليم.(1)

هذا، وقد جاء في «نهج البلاغة» من كتاب لأمير المؤمنين عليه السلام إلى قُثَم بن العباس (رحمهما اللّه) وهو عامله على مكّة: ومُرْ أهل مكّة أن لا يأخذوا من ساكن أجراً.(2)

والظاهر أنّ ما ورد في الروايات هو بعض المصاديق، والمراد هو التعريف بمكانة المسجد الحرام وأنّه يجب أن يكون منزّهاً عن كلّ إلحاد وميل إلى الظلم من غير فرق بين ظلم وظلم.

ولعلّ المراد من النهي عن الأُجرة هو أخذ الأُجرة على النزول في أرض مكّة لا النزول على الدار الذي بناه المقيم على أرضها، وقد جرت السيرة على نزول الحجّاج على أرض مكّة وضرب الخيام عليها.

وفي الفقه الرضوي: فمَن همّ لمعصية (أي في مكّة) ولم يعملها كتب عليه سيئة لقوله تعالى: (وَ مَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) وليس ذلك في بلد غيره.(3)

الآية: الثانية
اشارة

قال سبحانه: (ذلِكَ وَ مَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اَللّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ

ص: 511


1- . انظر: تفسر الدر المنثور: 27/6.
2- . تفسير نور الثقلين: 480/3.
3- . جامع أحاديث الشيعة: 93/1.

وَ أُحِلَّتْ لَكُمُ اَلْأَنْعامُ إِلاّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا اَلرِّجْسَ مِنَ اَلْأَوْثانِ وَ اِجْتَنِبُوا قَوْلَ اَلزُّورِ) .(1)

المفردات

ذلك: اسم إشارة يقع للفصل بين كلامين أو لوجه من كلام واحد وأُريد به هنا: الأمر هكذا، كما في قوله تعالى: (هذا وَ إِنَّ لِلطّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ) (2). وعلى هذا فاسم الإشارة خبر لمبتدأ محذوف، كما قلنا: الأمر هكذا، أو الأمر ذلك.

حرمات: جمع حُرمة وهي ما يجب احترامه ويحرم انتهاكه.

الرجس: الخبث والقذارة، وهو تارة محسوس كما في النجاسات، وأُخرى معنوي كما في الأوثان.

الزور: الكذب، وسيوافيك الكلام في تخصيص تفسيره به في المقام.

التفسير

لمّا فرغ سبحانه عن بيان مناسك الحجّ شرع ببيان ما يجب على الحاج بل على كلّ مؤمن من أُمور:

1. تعظيم حرمات اللّه، قال: (وَ مَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اَللّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ) ويحتمل أن يراد ما ذكر من مناسك الحجّ في الآيات المتقدّمة. وربما يقال:

الحرمات خمس: الكعبة الحرام، والمسجد الحرام، والبلد الحرام، والشهر الحرام،

ص: 512


1- . الحجّ: 30.
2- . ص: 55.

والمحرم حتى يحل(1)، ولا دليل له.

وهناك احتمال ثالث أنّ المراد رعاية الحدود فيما أحلّ اللّه وحرّمه بشهادة قوله: (وَ أُحِلَّتْ لَكُمُ اَلْأَنْعامُ إِلاّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) وكأنّ قوله: (وَ مَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اَللّهِ) مقدّمة للفقرة الثانية، أي تحليل حلاله وتحريم حرامه، الوارد في قوله: (وَ أُحِلَّتْ لَكُمُ اَلْأَنْعامُ) ، وفي ذلك يكون ردّاً لما قام به عبدة الأصنام من تحريم البحيرة والسائبة وغير ذلك، وتحليل ما حرّم اللّه من أكل الموقوذة والميتة وغير ذلك، وقد حكى اللّه سبحانه عن أهل الجاهلية أنّهم حرّموا الأنعام المذكورة في قوله تعالى: (ما جَعَلَ اَللّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَ لا سائِبَةٍ وَ لا وَصِيلَةٍ وَ لا حامٍ وَ لكِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اَللّهِ اَلْكَذِبَ وَ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) (2) كما أنّهم أحلّوا قسماً من المحرّمات، أعني: ما أشار إليه سبحانه بقوله: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ اَلْمَيْتَةُ وَ اَلدَّمُ وَ لَحْمُ اَلْخِنْزِيرِ وَ ما أُهِلَّ لِغَيْرِ اَللّهِ بِهِ وَ اَلْمُنْخَنِقَةُ وَ اَلْمَوْقُوذَةُ وَ اَلْمُتَرَدِّيَةُ وَ اَلنَّطِيحَةُ وَ ما أَكَلَ اَلسَّبُعُ إِلاّ ما ذَكَّيْتُمْ وَ ما ذُبِحَ عَلَى اَلنُّصُبِ وَ أَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ) .(3)

تخصيص أمرين مهمّين بالذكر

ثمّ إنّه سبحانه يخصّ بالذكر (بعد الأمر بتعظيم حرمات اللّه وحرمة انتهاكها) أمرين، وهما الأمر الثاني والثالث من الأُمور التي أوعزنا إليها في صدر البحث:

2. (فَاجْتَنِبُوا اَلرِّجْسَ مِنَ اَلْأَوْثانِ) ذكر أهل الأدب أنّ (مَنْ) في قوله: (مِنَ اَلْأَوْثانِ) بيانية، أي الرجس الذي هو الأوثان، وهل المراد من اجتنابها هو

ص: 513


1- . لاحظ: تفسير الكشاف: 346/2.
2- . المائدة: 103.
3- . المائدة: 3.

الاجتناب عن عبادتها، أو المراد الاجتناب عن ذكر أسمائها لدى النحر والذبح؟ الظاهر هو الأخير بحكم سياق الآيات، وفي وصف الأوثان بالرجس إشارة إلى الرجس المعنوي لا الرجس الحسّي، فكأنّ انكباب المشركين عليها والتمسّح والاستشفاء بها جعلها أمراً منفوراً مرغوباً عنه كحال كلّ رجس حسّي.

3. (وَ اِجْتَنِبُوا قَوْلَ اَلزُّورِ) وهو المائل عن الحقّ.

وفسّر في الروايات بالكلام الباطل والغناء.(1) والظاهر أنّه تفسير بالمصداق الخفي. والمراد كلّ شيء مائل عن الحقّ فيشمل الكذب والغيبة والشتم والفحشاء، وفي بعض الروايات قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «عدلت شهادة الزور بالشرك باللّه» ثم قرأ: (فَاجْتَنِبُوا اَلرِّجْسَ مِنَ اَلْأَوْثانِ وَ اِجْتَنِبُوا قَوْلَ اَلزُّورِ) .(2) والذي يناسب سياق الآية هو الكلام الذي يخرج الإنسان من الإيمان إلى الكفر بشهادة قوله تعالى في الآية التالية: (حُنَفاءَ لِلّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ) (3) وعلى هذا فلا يبعد أن يكون المراد قول الجاهلية في تلبيتهم:

لبيك لا شريك لك، إلّاشريك هو لك، تملكه وما ملك.(4)

ثمّ إنّ مؤلّفي آيات الأحكام درسوا عدداً من الآيات التي ترجع إلى حياة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام حول بناء البيت ورفع قوائمه، إلى غير ذلك من الآيات التي لها صلة بالحج ولكنّها لا تتضمّن حكماً فقهياً شرعياً حتى تقع في إطار الموضوع6.

ص: 514


1- . لاحظ: تفسير نور الثقلين: 495/3.
2- . تفسير نور الثقلين: 496/3.
3- . الحج: 31.
4- . تفسير الدر المنثور: 45/6.

الذي أُلّف لأجله الكتاب، ولذلك فنحن تركناها لهذا السبب. وهكذا الكلام في سائر الأبواب والكتب فنقتصر بتفسير الآيات التي تقع ذريعة للاستنباط.

***

تمّت دراسة الآيات المتعلّقة بأحكام الحجّ

وبه يتمّ الجزء الأوّل من كتاب:

«ألطاف الرحمن في فقه القرآن»

ويليه بعونه تعالى الجزء الثاني

مبتدئاً بأحكام الجهاد

وآخر دعوانا أن الحمد للّه ربّ العالمين

ص: 515

ص: 516

فهرس المحتويات

تقديم: القرآن الكريم الحجر الأساس للتشريع... 7

1. التشريع تدريجياً... 7

2. الاقتصار على الأحكام الكلّيّة... 8

3. مرونة التشريع... 8

تمهيد... 9

كم هو عدد آيات الأحكام؟... 10

تحديد عدد الآيات غير مفيد... 11

1. الذمّي الّذي نقض حكم الذمّة... 11

2. موضوعات خفيّت عن المؤلّفين... 13

1. البدعة... 14

2. الإسراف والتبذير... 14

3. التكفير... 14

4. التعزير... 15

اختلاف المناهج في تفسير آيات الأحكام... 15

ص: 517

الكتب المشهورة المؤلّفة في آيات الأحكام عند الفريقين... 16

الفصل الأوّل

أحكام الطهارة في الذكر الحكيم

1. آية الوضوء والغسل والتيمّم في الذكر الحكيم... 21

المفردات... 21

كيفية الوضوء في الكتاب العزيز... 23

بيان إعراب «الأرجل» على رأي الإمامية... 31

قراءة النصب ورأي أهل السنّة... 32

قراءة الجر ورأي أهل السنّة... 35

دراسة كلام صاحب المنار... 38

مسح الأرجل في أحاديث النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم... 39

ما هو المراد من الكعب؟... 43

حكم غير المتمكّن من الماء... 44

الأوّل: ما هو المراد من الصعيد؟... 45

الثاني: حدّ الملامسة... 47

الثالث: حكم المريض والمسافر... 48

فتوى شاذّة لصاحب المنار وأُستاذه... 49

الرابع: كيفية التيمّم... 51

الخامس: الغاية من الوضوء... 53

السادس: سبب الاختلاف في حكم الأرجل... 53

الأوّل: الاختلاف في القراءة... 54

ص: 518

الثاني: النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم كان يغسل رجليه قبل نزول الآية... 55

الثالث: إشاعة الغسل من قبل السلطة... 55

2. آية التيمّم... 57

المفردات... 57

تفسير قوله: (إِلاّ عابِرِي سَبِيلٍ) ... 60

حكم الطوائف الأربع... 61

كيفية التيمّم... 62

عليٌّ إمام المتقين... 63

عليّ ربيب بيت النبوة... 63

عدم مفارقة عليّ رسول اللّه منذ صباه إلى رحيله... 64

تحريم الخمر في عامة الشرائع... 66

رواية مجعولة للحطّ من مقام الوصيّ... 67

3. أحكام الحائض في الذكر الحكيم... 70

الآية الأُولى... 70

المفردات... 70

التفسير... 72

الآية الثانية... 74

جواز إتيان النساء بالنقاء عن الدم وعدمه... 77

الأوّل: ما يدلّ على الجواز مطلقاً... 79

الصنف الثاني: ما يدلّ على المنع... 80

الصنف الثالث: ما يدلّ على تقييد الجواز بغسل الموضع... 81

ص: 519

4. حكم المشرك في الذكر الحكيم... 83

المفردات... 83

التفسير... 84

الأوّل: في أصناف الكافرين... 84

الأمر الثاني: في نجاسة المشرك وطهارته... 85

الثالث: القول بالنجاسة الجعلية الاعتبارية... 88

عرض الآراء على مفاد الآية... 90

الاحتجاج بالروايات... 93

المنع في الآية مختصّ بالمسجد الحرام... 94

خوف المسلمين الجُدَد من أمرين:... 95

5. حكم الخمر تكليفاً ووضعاً في الذكر الحكيم... 97

المفردات... 97

التفسير... 100

نجاسة الخمر... 101

ما يدلّ على النجاسة... 104

ما يدلّ على الطهارة... 106

حكم الكحول الرائجة في الطبابة... 111

الفصل الثاني

أحكام الصلاة في الذكر الحكيم

1. أوقات الصلاة في الذكر الحكيم... 115

لزوم الاهتمام بالصلاة في أوقاتها... 115

ص: 520

مواقيت الصلوات في الذكر الحكيم... 117

الآية الأُولى... 117

المفردات... 117

التفسير... 119

الآية الثانية... 120

المفردات... 121

التفسير... 121

الآية الثالثة... 122

الآية الرابعة... 124

الآية الخامسة... 126

مواقيت الصلوات في الروايات... 127

الأوّل: زوال الشمس وقت الظهرين وغيبوبتها وقت العشائين... 127

الصنف الثاني: القامة والقامتان آخر وقتي الظهر والعصر... 128

الصنف الثالث: الذراع والذراعان أوّل وقتي الظهر والعصر... 128

الصنف الرابع: القدمان وأربع أقدام أوّل وقتي الظهر والعصر... 129

الصنف الخامس: القدمان وأربع أقدام آخر وقتي الظهر والعصر... 129

رفع التعارض بين الأصناف الخمسة... 131

الجمع بين الصلاتين... 134

1. الجمع بين الصلاتين في عرفة ومزدلفة... 134

2. الجمع بين الصلاتين في السفر... 134

3. الجمع بين الصلاتين في الحضر لأجل العذر... 135

ص: 521

4. الجمع بين الصلاتين في الحضر اختياراً... 135

2. استقبال الكعبة في الذكر الحكيم... 137

الآية الأُولى... 137

المفردات... 138

التفسير... 138

الإخبار الغيبي عن نقاش اليهود في المستقبل... 139

الآية الثانية... 140

المفردات... 141

التفسير... 141

ما هو السرّ لجعل بيت المقدس قبلة؟... 141

الآية الثالثة... 144

المفردات... 144

التفسير... 145

الآية الرابعة... 147

الآية الخامسة... 148

التفسير... 149

ما هو الواجب في الاستقبال؟... 150

كلام المحقّق الأردبيلي في كفاية الجهة... 150

كفاية استقبال الجهة عند صاحب المدارك... 151

تأييد صاحب الحدائق كفاية الجهة... 152

نظرية صاحب الجواهر... 155

ص: 522

الصف الطويل وكون القبلة عين الكعبة... 157

مختارنا... 159

3. صلاة المسافر في الذكر الحكيم... 160

تفسير مفردات الآية... 162

أدلّة القول بأنّ القصر عزيمة... 167

4. صلاة الخوف في الذكر الحكيم... 172

الآية الأُولى... 172

المفردات... 172

التفسير... 173

صلاة الخوف ثنائيّة في السفر والحضر... 177

الآية الثانية... 177

ذكر اللّه بعد إقامة الصلاة... 178

5. صلاة المطاردة في الذكر الحكيم... 179

المفردات... 179

التفسير... 179

6. صلاة الجمعة في الذكر الحكيم... 182

الآية الأُولى... 182

المفردات... 182

التفسير... 184

الآية الثانية... 184

المفردات... 185

ص: 523

التفسير... 185

الآية الثالثة... 186

المفردات... 186

التفسير... 187

وقت صلاة الجمعة بدءاً ونهاية... 187

آخر وقت صلاة الجمعة... 189

كيفية صلاة الجمعة... 191

فلسفة كون الخطبتين قبل الصلاة... 192

حكم صلاة الجمعة في عصر الغيبة... 192

الأوّل: القول بالتحريم... 193

أدلّة القائلين بشرطية الإمام المعصوم... 196

1. دعاء الإمام السجّاد عليه السلام يوم الأضحى ويوم الجمعة... 196

2. كان زرارة تاركاً لصلاة الجمعة... 198

3. إذن الإمام لترك صلاة الجمعة في يوم اجتمع فيه عيدان... 200

4. قولهم: لنا الجمعة... 201

5. الاستدلال بروايات ضعاف... 201

الثاني: القول بالتخيير... 205

المقام الأوّل: دراسة القول على ضوء القواعد الأوّلية... 206

المقام الثاني: دراسة القول حسب الأدلة الاجتهادية... 208

الاستدلال على الوجوب التخييري بالاستبعادات... 211

القول الثالث: الوجوب التعييني في عصري الحضور والغيبة... 216

ص: 524

الاستدلال بالروايات... 219

الطائفة الأُولى: ما يذكر مَن تجب عليه صلاة الجمعة من دون أن يذكر حضور الإمام... 220

الطائفة الثانية: ما يدلّ على البعث على الإقامة مع عدم كون المقيم هو المعصوم... 224

الطائفة الثالثة: ما يركّز على الوجوب عند العدد المخصوص... 227

الطائفة الرابعة: ما ورد في أنّ الخطيب ليس هو الإمام الأصل... 229

بقيت هنا أسئلة نطرحها على طاولة البحث... 231

فرع: تعدّد الجمعة في أقلّ من فرسخ... 244

7. الجهر والمخافتة في الصلاة... 246

المفردات... 246

التفسير... 247

8. التسليم على النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم في التشهّد... 250

المفردات... 250

الآية دالّة على أنّ النبيّ حيّ... 252

الصلاة على النبيّ عند ذكر اسمه... 253

الصلاة على النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم إذا لم يذكر الآل فيها... 255

ما ذا يراد من الآل؟... 257

9. الاستماع والإنصات عند قراءة القرآن... 258

المفردات... 258

التفسير... 259

ص: 525

اختصاص السكوت بحال الصلاة عند قراءة الإمام... 260

10. سجود التلاوة... 263

الآية الأُولى... 263

الآية الثانية... 263

الآية الثالثة... 263

الآية الرابعة... 264

حكم سجود التلاوة... 264

عدم جواز قراءة إحدى سور العزائم في الفريضة... 266

الفصل الثالث

أحكام الصيام في الذكر الحكيم

1. الصيام فريضة مكتوبة في عامّة الشرائع... 269

الآية الأُولى... 269

المفردات... 269

التفسير... 270

تشريع الصوم في أيام معدودة... 270

2. الإفطار عزيمة على المريض والمسافر... 274

الآية الثانية... 274

المفردات... 274

التفسير... 275

الموضع الأوّل: هل الإفطار في السفر عزيمة أو رخصة؟... 278

الأوّل: ترتّب الوجوب على العنوانين... 279

ص: 526

الثاني: التقابل بين الجملتين... 280

الثالث: ذكر المريض والمسافر في سياق واحد... 281

الرابع: الواجب من أوّل الأمر هو صيام أيام أُخر... 281

تقدير «فأفطر» لتطبيق الآية على المذهب... 282

الموضع الثاني: هل إفطار المطيق عزيمة أو رخصة؟... 283

الروايات تؤيّد أنّ الإفطار عزيمة... 287

3. نزول القرآن في شهر رمضان وحكم المريض و المسافر... 289

الآية الثالثة... 289

المفردات... 289

التفسير... 290

الأمر الأوّل: تحديد أيام الصيام في شهر رمضان... 290

الأمر الثاني: نزول القرآن في شهر رمضان... 291

الإجابة عن سؤال آخر... 293

الأمر الثالث: اشتمال القرآن على البيّنات والفرقان... 294

الأمر الرابع: مَن شهد الشهر فعليه الصوم... 295

الأمر الخامس: المريض والمسافر يفطران ويصومان في أيام أُخر... 295

الأمر السادس: تعلّق إرادة اللّه في حقّ المكلّفين على اليسر دون العسر... 295

سؤال وإجابة... 296

الأمر السابع: أمره سبحانه بإكمال العدّة والتكبير... 297

الآثار البنّاءة للصوم... 298

الآثار الاجتماعية للصوم... 298

ص: 527

4 و 5 و 6. الرفث وزمان الصوم ومباشرة النساء في الاعتكاف... 300

الآية الرابعة... 300

المفردات... 301

التفسير... 304

4. تحليل الرفث إلى النساء في ليالي شهر رمضان... 305

5. حدّ الصوم زماناً... 308

6. حرمة مباشرة النساء في الاعتكاف... 309

الفصل الرابع

أحكام الزكاة في الذكر الحكيم

أحكام الزكاة... 313

المنابع المالية للحكومة الإسلامية... 313

1. الأنفال... 314

2. الزكاة... 314

3. الغنائم المأخوذة من أهل الحرب قهراً بالقتال... 314

4. الخمس... 314

5. زكاة الفطرة... 315

6. الخراج والمقاسمة... 315

7. الجزية... 315

8. ضرائب أُخرى... 315

9. المظالم... 316

10. الكفّارات... 316

ص: 528

11. اللقطة... 316

12. الأوقاف والوصايا العامة والنذور العامّة... 316

13. الضحايا... 316

14. توظيف الأموال في المجالات الاقتصادية الكبرى... 316

1. وجوب إخراج الزكاة من المال... 318

الآية الأُولى... 318

المفردات... 319

التفسير... 319

المحور الأوّل: الإيمان والعقيدة... 320

المحور الثاني: خدمة المجتمع الإيماني... 321

المحور الثالث: القيام بالفرائض الشرعية... 322

المحور الرابع: الالتزام بالأخلاق الفاضلة... 322

2. حرمة اكتناز العملة قبل إخراج زكاتها... 324

الآية الثانية... 324

المفردات... 324

التفسير... 325

وصف عمل الأحبار والرهبان... 325

تحريم اكتناز الذهب والفضة على المسلم والكتابي... 326

نزاع بين عثمان وأُبيّ في كتابة الواو... 327

3. وجوب أخذ الزكاة على النبيّ وعلى مَن يقوم مقامه... 332

الآية الثالثة... 332

ص: 529

المفردات... 332

التفسير... 332

جواز الصلاة على المؤمن مفرداً... 335

قبول التوبة بيد اللّه... 337

4. مصارف الزكاة... 341

الآية الرابعة... 341

المفردات... 341

التفسير... 342

بحوث حول الزكاة... 346

5. إخراج الطيّب من الأموال للزكاة... 350

الآية الخامسة... 350

المفردات... 350

التفسير... 351

6. قصد التقرّب إلى اللّه في إعطاء الزكاة... 354

الآية السادسة... 354

التفسير... 354

7. أيّهما أفضل: الإبداء بالصدقات أو إخفاؤها؟ في الإخفاء تكفير لبعض السيّئات... 357

الآية السابعة... 357

التفسير... 357

8. ما هو اللازم في الإنفاق؟... 360

ص: 530

الآية الثامنة... 360

المفردات... 360

التفسير... 361

9. المنع عن إتباع الإنفاق بالمنّ والأذى... 362

الآية التاسعة... 362

المفردات... 362

التفسير... 363

الفصل الخامس

أحكام الخمس في الذكر الحكيم

1. ما هو المراد من الأنفال؟... 368

الآية الأُولى... 368

المفردات... 368

التفسير... 369

ما هو المراد من الأنفال؟... 370

2. في الأسرى وأخذ الفدية... 372

الآيتان: الثانية والثالثة... 372

المفردات... 372

التفسير... 373

3. الخمس في الغنائم... 375

الآية الرابعة... 375

المفردات... 375

ص: 531

التفسير... 376

الأمر الأوّل: ما هو المراد من الغنيمة في الآية؟... 379

أوّلاً: الغنيمة في معاجم اللغة... 379

ثانياً: الغنيمة في الكتاب والسنّة... 380

ورود الخمس في أرباح المكاسب في الحديث النبوي... 382

الأمر الثاني: في قسمة الخمس... 384

الأمر الثالث: إسقاط حقّ ذي القربى بعد رحيل الرسول صلى الله عليه و آله و سلم... 386

الأمر الرابع: تخصيص خمس الغنائم للنبي وآله ليس تفرقة عنصرية... 388

الأمر الخامس: ما هو المقصود من تحليل الخمس؟... 389

القسم الأوّل: تحليل خمس الغنائم... 390

القسم الثاني: تحليل الخمس لمَن ضاق عليه معاشه... 391

القسم الثالث: تحليل ما ينتقل إلى الشيعة من غير المخمس... 391

القسم الرابع: تحليل الأنفال... 392

الأمر السادس... 393

4. أحكام الأنفال والفيء في الذكر الحكيم... 395

الآيتان: الأُولى والثانية... 395

المفردات... 395

التفسير... 396

الآيتان: الثالثة والرابعة... 398

المفردات... 399

التفسير... 400

ص: 532

الآيتان: الخامسة والسادسة... 402

المفردات... 403

التفسير... 404

أوصاف الأنصار... 405

الفصل السادس

فريضة الحجّ في الذكر الحكيم

تمهيد: الحجّ لغة واصطلاحاً... 409

الحجّ من أركان الدين... 410

1. في وجوب الحجّ على المستطيع فوراً... 413

الآية الأُولى... 413

المفردات... 413

التفسير... 414

الآية الثانية... 416

المفردات... 416

التفسير... 416

الاستطاعة الشرعية شرط الوجوب... 418

وجوب الحجّ مرّة واحدة في العمر... 420

الآية الثالثة... 421

المفردات... 421

التفسير... 421

2. أقسام الحج وحجّ التمتع باقٍ على تشريعه... 423

ص: 533

أعمال العمرة والحجّ في حجّ التمتّع... 425

أعمال حجّ الإفراد والقران... 426

ميقات عمرة المفرد والقارن... 430

ميقات العمرة المفردة... 431

الفرق بين العمرتين (المفردة وعمرة التمتّع)... 431

3. أعمال العمرة في الذكر الحكيم... 432

تفسير الاتمام بإفراد العمرة عن الحجّ إنكار لحجّ التمتّع... 433

المفردات... 435

تمهيد... 437

التفسير... 438

4. أعمال الحجّ... 443

الآية الأُولى... 443

المفردات... 444

التفسير... 444

الآية الثانية... 446

الإفاضة من عرفات إلى المشعر الحرام... 447

الآية الثالثة... 448

من أعمال منى الرمي وذكر اللّه في أيام معدودات... 448

التخيير في النفر بين الثاني عشر والثالث عشر... 451

الآية الرابعة... 452

المفردات... 452

ص: 534

التفسير... 452

من أعمال منى: الهدي والذبيحة وإطعام البائس والفقير... 452

نسخ ما عليه المشركون عند الذبح والنحر... 453

الآية الخامسة... 454

المفردات... 454

التفسير... 454

1. القضاء على التفث... 454

2. لزوم الوفاء بالنذور... 455

الآيتان: السادسة والسابعة... 455

المفردات... 456

التفسير... 456

آداب ذبح البُدن وتقسيم لحمها إلى ثلاثة أقسام... 456

إبطال عادات الجاهلية... 457

الآية: الثامنة... 458

المفردات... 458

التفسير... 460

الذهاب إلى مكّة لأداء فرائضها... 460

5. لزوم ذكر اللّه بدل التفاخر بالآباء في منى... 465

الآيات: الأُولى والثانية و الثالثة... 465

المفردات... 465

التفسير... 466

ص: 535

إبطال سنّة الجاهلية: التفاخر بالآباء... 466

تقسيم الحجيج إلى نوعين... 467

6. حكم المُحْصَر والمصدود... 469

المفردات... 469

التفسير... 470

1. إتمام الحجّ والعمرة وإكمالهما... 470

2. كيفية خروج المحصر عن الإحرام... 471

3. لا يتحلّل قبل الذبح... 471

4. حكم المريض ومَن برأسه أذى... 472

5. التمتع بالعمرة إلى الحج... 472

6. حكم الفاقد للهدي... 473

7. التمتع بالعمرة إلى الحجّ وظيفة الآفاقي... 473

7. زمان الحجّ وتحريم أُمور ثلاثة... 475

المفردات... 475

التفسير... 476

8. الابتلاء بالصيد قتلاً واصطياداً وأحكامه... 478

الآية الأُولى... 478

المفردات... 478

التفسير... 479

الابتلاء سنّة من سنن اللّه في عباده... 479

ما هي الغاية من ابتلاء العباد؟... 481

ص: 536

ما هو المراد من الخوف بالغيب؟... 482

الآية الثانية... 483

المفردات... 484

التفسير... 484

حرمة قتل الصيد وكفّارته... 484

حرمة الإعانة على الاصطياد... 489

الآية الثالثة... 490

المفردات... 490

التفسير... 491

9. الأُمور الأربعة التي جُعلت قياماً للناس... 493

الآيتان: الأُولى والثانية... 493

المفردات... 493

التفسير... 494

كون الكعبة قياماً للناس... 494

10. تكريم شعائر اللّه والشهر الحرام... 500

المفردات... 500

التفسير... 502

11. حكم الصدّ عن سبيل اللّه والمسجد الحرام وتعظيم حرمات اللّه... 508

الآية الأُولى... 508

المفردات... 508

التفسير... 509

ص: 537

الآية الثانية... 511

المفردات... 512

التفسير... 512

تخصيص أمرين مهمّين بالذكر... 513

فهرس المحتويات... 517

ص: 538

المجلد 2

اشارة

سرشناسه : سبحانی تبریزی، جعفر، 1308 -

Sobhani Tabrizi, Jafar

عنوان و نام پديدآور : الطاف الرحمن فی فقه القرآن/ تالیف جعفر السبحانی.

مشخصات نشر : قم: موسسه الامام صادق (ع)، 1441ق.= 1398-

مشخصات ظاهری : ج.

فروست : موسسه امام صادق (ع)؛ 487.

شابک : دوره: 978-964-357-628-8 ؛ ج.1: 978-964-357-627-1 ؛ ج.2: 978-964-357-634-9 ؛ ج.3: 978-964-357-645-5

وضعیت فهرست نویسی : فاپا

يادداشت : عربی.

يادداشت : ج.3(چاپ اول: 1399) (فیپا).

مندرجات : ج.1. فی دراسه الآیات الوارده لبیان احکام الطهاره والصلاه والصیام والزکاه والانفال والفیء والخمس والحج.-ج.2. فی دراسه الآیات الوارده لبیان احکام: الجهاد والأمربالمعروف والنهی عن المنکر٬ والمکاسب المحرمة٬ و العقود الشرعیة والایقاعات والأحکام النکاح

موضوع : قرآن -- احکام و قوانین

Qur'an -- Law and legislation

موضوع : تفاسیر فقهی -- شیعه

Qur'an -- *Legislative hermeneutics -- Shiite

قرآن -- علوم قرآنی

Qur'an -- Qur'anic sciences

شناسه افزوده : موسسه امام صادق (ع)

رده بندی کنگره : BP99/6

رده بندی دیویی : 297/174

شماره کتابشناسی ملی : 5781015

اطلاعات رکورد کتابشناسی : فاپا

ص: 1

اشارة

بسم الله الرحمن الرحيم

ص: 2

ألطاف الرحمن

في

فقه القرآن/ 1

ص: 3

ص: 4

ألطاف الرحمن

في فقه القرآن

الجزء الثاني

في دراسة الآيات الواردة لبيان أحكام الطهارة والصلاة

والصيام والزكاة والأنفال والفيء والخمس والحجّ

تأليف

الفقيه المحقّق

جعفر السبحاني

نشر

مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

ص: 5

سبحانى تبريزى، جعفر، 1308 -

ألطاف الرحمن في فقه القرآن / تأليف جعفر السبحاني. - قم: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام، 1397.

2 ج (VOL.1) 1-627-357-964-978 ISBN

(2VOL.SET) 8-628-357-964-978 ISBN

فهرستنويسى بر اساس اطلاعات فيپا.

كتابنامه به صورت زيرنويس.

ج. 1. في دراسة الآيات الواردة لبيان أحكام الطهارة والصلاة والصيام والزكاة والأنفال والفيء والخمس والحجّ.

1. قرآن -- احكام و قوانين. 2. تفاسير فقهى -- شيعه. الف. موسسۀ امام صادق عليه السلام. ب. عنوان.

7 الف 2 س 6/99 BP 174/297

1397

اسم الكتاب:... ألطاف الرحمن في فقه القرآن / ج 1

المؤلف:... الفقيه المحقّق جعفر السبحاني التبريزي

الطبعة:... الأُولى

تاريخ الطبع:... 1397 ه ش / 1440 ه. ق / 2019 م

المطبعة:... مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

الناشر:... مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

عدد النسخ:... 1000 نسخة

القطع:... وزيري

التنضيد والإخراج الفني:... مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

تسلسل النشر: 1031 تسلسل الطبعة الأُولى: 487

حقوق الطبع محفوظة للمؤسسة

مركز التوزيع

قم المقدسة: ساحة الشهداء: مكتبة التوحيد

? 37745457؛ 09121519271

http://www.Tohid.ir

http://www.imamsadiq.org

ص: 6

مقدّمة المؤلف

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد للّه ربّ العالمين.

والصّلاة والسّلام على أفضل بريّته وخاتم أنبيائه ورسله محمد وآله الطيّبين الطاهرين الذين هم موضع سرّه وعيبة علمه، هم أساس الدين وعماد اليقين، صلاة دائمة ما برح الليل والنهار.

أمّا بعد؛ فهذا هو الجزء الثاني من كتابنا «ألطاف الرحمن في فقه القرآن»، يتضمّن تفسير الآيات الواردة في بيان أحكام: الجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأحكام المكاسب المحرّمة، والعقود الشرعية كالبيع والإجارة والدين والضمان والكفالة والصلح والإيداع والوديعة والعارية والرماية والشفعة والوصية والحجر، والإيقاعات كالنذر واليمين والعتق، وأحكام النكاح.

أرجو من اللّه سبحانه أن يصدّنا عن الزلّة في تفسير آياته، ويرشدنا إلى موضع قبوله، إنّه بذلك قدير، وبالإجابة جدير.

جعفر السبحاني

قم - مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

28 ربيع الأوّل 1440 ه

ص: 7

ص: 8

الفصل السابع: أحكام الجهاد في الذكر الحكيم

اشارة

تمهيد

1. في وجوب الجهاد.

2. الطوائف الأربع الذين لا يجب عليهم الجهاد.

3. الجهاد الدفاعي.

4. الجهاد الابتدائي.

5. كيفية القتال وشروطه.

6. التعبئة والاستعداد التام للدفاع عن المجتمع المسلم.

7. الصلح في ظروف خاصّة.

8. الصلح بين طائفتين مسلمتين.

9. حرمة المبادرة إلى التكفير بلا دليل.

ص: 9

ص: 10

الجهاد في الذكر الحكيم

تمهيد

الجهاد: مصدر جاهد يجاهد جهاداً، وهو استفراغ الوسع في مدافعة العدو، فالجُهد - بضم الجيم - بمعنى الطاقة، يقول سبحانه: (وَ اَلَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلاّ جُهْدَهُمْ) (1).

أمّا الجَهد - بفتح الجيم - فهو بمعنى المشقّة، قال سبحانه: (وَ أَقْسَمُوا بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ) (2)، أي حلفوا واجتهدوا في الحلف أن يأتوا به على أبلغ ما في وسعهم.

وهو في مصطلح الفقهاء بذل النفس والمال لإعلاء كلمة الإسلام وإقامة شعائر الإيمان، فيدخل في الأوّل قتال الكفّار وفي الثاني قتال البغاة، وهو من أعظم أركان الإسلام، قال الإمام علي عليه السلام: «أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ الْجِهَادَ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ، فَتَحَهُ اللّهُ لِخَاصَّةِ أَوْلِيَائِهِ. وَهُوَ لِبَاسُ التَّقْوى، وَدِرْعُ اللّهِ الْحَصِينَةُ، وَجُنَّتُهُ الْوَثِيقَةُ، فَمَنْ تَرَكَهُ رَغْبَةً عَنْهُ أَلْبَسَهُ اللّهُ ثَوْبَ الذُّلِّ، وَشَمِلَهُ الْبَلَاءُ، وَدُيِّثَ (3) بِالصِّغَارِ(4)

ص: 11


1- . التوبة: 79.
2- . النور: 53.
3- . دُيّث: ذُلّل.
4- . الصِغار: الذُلّ والضَيم.

وَالْقَمَاءَةِ (1)، وَضُرِبَ عَلَى قَلْبِهِ بِالْإِسْهَابِ (2) (الأسداد)، وَأُدِيلَ (3) الْحَقُّ مِنْهُ بِتَضْيِيعِ الْجِهَادِ، وَسِيمَ (4) الْخَسْفَ (5)، وَمُنِعَ النَّصَفَ (6)».(7)

إنّ اللازم قبل دراسة الآيات من تقديم مقدّمة يُعلم بها أنّ جهاد العدو أمر لا محيص منه.

لا شكّ أنّ اعتداء الإنسان على مثله، أو شعب على آخر، أمر تستنكره طبيعة أغلب الناس، وخاصة أُولئك الذين لم تتلوّث فطرتهم بالشهوات والنوازع الحيوانية، وكلّما سمع الإنسان أجراس الحرب، دخله الاضطراب والقلق، وسيطر عليه الخوف والهلع، لأنّ في الحرب إراقة الدماء، وخراب البلاد، وحرقاً للحرث والنسل.

ولعلّ قوله سبحانه يشير إلى ذلك بقوله: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ اَلْقِتالُ وَ هُوَ كُرْهٌ لَكُمْ) (8)، ووجه الكُره هو ما ذكرنا. غير أنّ القتال الذي كُتب على الناس في الذكر الحكيم غير ما هو المكروه لهم، فإنّ فيما كتب عليهم، استمرار حياتهم وبقاء كيانهم؛ وذلك لأنّ مجال الجهاد هو قطع دابر الخصم الذي يُريد السيطرة على6.

ص: 12


1- . القماءَة: يقال قمؤ الرجل قماءً وقماءة: صار صغيراً ذليلاً.
2- . بالاسهاب: ذهاب العقل.
3- . أُديلَ: أُضيع.
4- . سيم: الظاهر أنّه صيغة مجهول لقولهم «سام»: كلّف.
5- . الخَسف: الذلّ والمشقة.
6- . النَّصَف: الإنصاف.
7- . نهج البلاغة: الخطبة 27.
8- . البقرة: 216.

البلاد وما فيها من خيرات وثروات طبيعية وغيرها، واستعباد الشعوب، ففي هذه الظروف الحسّاسة يرى الإنسان الغيور الجهادَ أمراً لذيذاً مطلوباً للنفس محبوباً عند العقلاء، ولذلك يبذل في طريقه كلّ غال ونفيس.

التشريع الإسلامي مبني على الفطرة الإنسانية وهي تقبّح قتل الإنسان لأجل السيطرة عليه، ولكن إذا واجه الإنسان عدوّاً يُريد استعباده ونهب ما يملكه، فهي تقضي قضاء باتاً بمواجهته والتصدي له وبذل النفس والنفيس في طريقه. فالجهاد الإسلامي مبني على قضاء الفطرة ولذلك يقول سبحانه: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَ إِنَّ اَللّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ) ،(1) حيث يعلّل الإذن في القتال لرفع الظلم عن أنفسهم واسترجاع ما نهب منهم حتى يعد المجاهدين بالنصر، ثم يقول: (اَلَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اَللّهُ) ،(2) فيصف المجاهدين بأنّهم هم الذين يُهجَّرون دون أن يرتكبوا جريمة، نعم ذنبهم الوحيد أنّهم رفضوا الوثنية وذلّة الإنسان أمام الأحجار والأخشاب الصامتة، ورجعوا إلى عبادة اللّه خالق السماوات والأرض، كما قال: (إِلاّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اَللّهُ) .

الغاية من الجهاد الابتدائي

ما ذكرنا يرجع إلى الجهاد الدفاعي، وأمّا الغاية من الجهاد الابتدائي، فهي تحرير الإنسان من الاستعباد، وإعطاء الحرية له في سماع كلمة الحقّ عن طريق أنبيائهم أو مبعوثيهم، فإنّ حكّام الجور والظلم كانوا صادّين الناس عن سماع كلمة الأنبياء والأولياء، فالغاية من الجهاد رفع هذه السدود وتحرير المجتمع من أي

ص: 13


1- . الحج: 39.
2- . الحج: 40.

منع، فعند ذلك يختار كلّ إنسان ما يختار، وما ربما يتّهم جهاد الإسلام لأجل إكراه الناس على الدين فهو أمر مفتر لا صحّة له، وقد سمعت أُذن الدنيا قوله سبحانه:

(لا إِكْراهَ فِي اَلدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ اَلرُّشْدُ مِنَ اَلْغَيِّ) (1) .

روى المفسّرون أنّها نزلت في رجل من الأنصار يُدعى أبا الحصين كان له ابنان فقدم تجار الشام إلى المدينة يحملون الزيت، فلمّا أرادوا الرجوع من المدينة أتاهم ابنا أبي الحصين فدعوهما [تجار الشام] إلى النصرانية فتنصّرا ومضيا إلى الشام، فأخبر أبو الحصين رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فأنزل اللّه تعالى: (لا إِكْراهَ فِي اَلدِّينِ) فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «أبعدهما اللّه هما أوّل مَن كفر» فوجد أبو الحصين في نفسه على النبي صلى الله عليه و آله و سلم حين لم يبعث في طلبهما، فأنزل اللّه: (فَلا وَ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ) (2).

إنّ منطق الإسلام في سبيل دعوته هو قوله سبحانه: (اُدْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَ اَلْمَوْعِظَةِ اَلْحَسَنَةِ وَ جادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (3) وإنّ طريق الإسلام في نشر دعوته هو قوله سبحانه: (وَ قُلِ اَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَ مَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) (4).

إلى غير ذلك من الآيات التي تتضمّن حرية الإنسان في اتّخاذ دينه.

نعم ومع الاعتراف بالحرية التامّة للإنسان في مجال العقيدة والتديّن، ولكن الحكومة الإسلامية لا تعترف بالوثنية وعبادة الإنسان الحجر والمدر، والتذلّل أمام6.

ص: 14


1- . البقرة: 256.
2- . النساء: 65.
3- . النحل: 125.
4- . الكهف: 29.

الأجسام الخرساء التي لا تعقل ولا تسمع، وما ذلك إلّالأنّ فيه ذلّ الإنسان ونزوله من مقامه الشامخ إلى درجة نازلة تخضع أمام الأجسام الفاقدة للشعور.

وأمّا ماوراء ذلك فالمرء وما اختار من أحد الشرائع السماوية.

إنّ صدّ الإنسان عن عبادة الأصنام ترفيع لمقامه وعلاج للداء الموجود في حياته. والموجود الوثني إنسان مريض يحتاج إلى العلاج، فالأنبياء هم الأطباء يعالجونه بأحسن وجه وإن كان المريض لا يقدّر أعمالهم وربّما يستكرهها، وهذا ليس أمراً غريباً وله نظائر في حياتنا المعاصرة.

مثال: لقد شاعت أنواع المخدّرات في المجتمع من قبل سماسرة الدول الاستعمارية ولكن الحكومات يمنعون استيرادها وبيعها وشراءها واستعمالها ويعاقبون المستوردين لها بأشدّ العقوبات، لماذا؟ لأنّ في تعاطي المخدّرات قضاءً على حياة المعتاد وإن كان هو لا يشعر بذلك، ولكن الحكومة الراشدة تشعر بذلك فتقف بوجهه بصلابة وشدّة وقوة.

مثال آخر: نفترض أن داءً مهلكاً - كالكوليرا - انتشر في البلد فوزارة الصحّة تضع سداً لانتشاره فتلزم الناس بالتلقيح الإجباري حتى يصون الناس عن أضرار هذا الداء الوبيل. وربما يوجد في المجتمع من لا يريد ذلك، غير أنّ القوّة القهرية تجبره على التلقيح مكرهاً، وما ذلك إلّالأنّه جاهل بالأضرار التي تحدق به.

فكما لا يعدّ الإكراه والجبر في هذه المواضع على خلاف الحرية، فهكذا الأمر في مورد المنع عن عبادة الحجر والمدر، إذ فيه إنقاذ لعابد الوثن من الهلاك والدمار.

إذا علمت ذلك على وجه الإجمال فنقول: في المقام فصول نذكرها حسب ما ترشدنا إليه الآيات.

ص: 15

أحكام الجهاد

1. في وجوب الجهاد(1)

الآية الأُولى
اشارة

قال سبحانه: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ اَلْقِتالُ وَ هُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَ عَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَ عَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَ هُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَ اَللّهُ يَعْلَمُ وَ أَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) .(1)

المفردات

كره: قيل: الكَره والكُره، واحد، نحو الضَعف والضُعف، وقيل: الكَره المشقّة التي تنال الإنسان من خارج فيما يحمل عليه بإكراه، والكُره ما يناله من ذاته وهو يعافه.(2)

عسى: يدل على الترجّي، واستعماله في القرآن باعتبار المخاطب فهو راج، دون اللّه، نظير قوله سبحانه: (عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ) (3).

ص: 16


1- . البقرة: 216.
2- . مفردات الراغب: 429، مادة «كره».
3- . الأعراف: 129.
التفسير

التعبير بالكتابة يدلّ على أنّ الجهاد فرض على المسلمين في السنة الثانية من الهجرة، بناء على أنّ نزول سورة البقرة التي وردت هذه الآية فيها كان في تلك السنة، وكان الجهاد قبل هذه الآية أمراً مأذوناً لا واجباً، كما يشعر به قوله سبحانه:

(أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَ إِنَّ اَللّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ) (1) . ولمّا كان المتبادر من الآية كون الجهاد أمراً مأذوناً لا واجباً نزلت الآية لبيان صعود الحكم إلى درجة الوجوب لتغيّر الظروف فقال: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ اَلْقِتالُ) ، وهل هو واجب عيني أو كفائي؟ فهذا موكول إلى علم الفقه. وممّا يورث العجب أنّ بعض السلف قال بكون الجهاد أمراً مندوباً، مستدلّاً بقوله سبحانه: (فَضَّلَ اَللّهُ اَلْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ عَلَى اَلْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَ كُلاًّ وَعَدَ اَللّهُ اَلْحُسْنى) (2)، ووهن الاستدلال واضح، لأجل أنّ المراد من القاعدين هم أصحاب الضرر العاجزون عن القتال كما يظهر من سياق الآيات، وهؤلاء لم يكتب عليهم الجهاد من أوّل الأمر.

قوله تعالى: (وَ هُوَ كُرْهٌ لَكُمْ) : أي مكروه طبعاً، إذ فيه - كما مرّ - قتل النفس وتدمير الأوطان، وهجرانها، هذا بحسب الطبع، ولكن لا ينافي أن يكون أمراً لذيذاً، في ضوء الإيمان الخالص، الذي يرى فيه حياة طيبة، وقد أطال السيد الطباطبائي الكلام في كون القتال كُرهاً، وذكر وجوهاً، والظاهر عدم الحاجة إلى الإطناب، إذ لا مانع من أن يكون شيء غير مطبوع بالذات، ومحبوباً حسب العوارض، فإنّ الإنسان يكره الدواء المرّ بالذات، لكن يصرّ على شربه لما فيه من

ص: 17


1- . الحج: 39.
2- . النساء: 95.

البرء من المرض. وما ذكره في الوجه الأوّل في كلامه هو الظاهر، قال: وكون القتال المكتوب، كُرهاً للمؤمنين؛ لأنّ القتال لكونه متضمّناً لفناء النفوس وتعب الأبدان، والمضار المالية، وارتفاع الأمن والرخص والرفاهية وغير ذلك، ممّا يستكرهه الإنسان في حياته الاجتماعية لا محالة.(1)

قوله تعالى: (وَ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) ، لأنّ الإنسان ينال في ظل الجهاد كلتا السعادتين الدنيوية والأُخروية. وقد مرّ كلام الإمام علي عليه السلام في حقّ الجهاد فلاحظ.

ثمّ إنّه سبحانه يردّ على ما ربما يستكره الإنسان شيئاً وهو غافل عن ثمراته، ويقول: (وَ عَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) : أي أحسن أثراً وعافية في الدنيا أو في الآخرة أو في كليهما. وربما يحتمل أن تكون الآية ناظرة إلى ما جرى في صلح الحديبية حيث كرهوا الصلح واستحبوا القتال لأنّهم يومئذ كانوا جيشاً عرمرماً جرّاراً، فيكون تذكيراً لهم بأنّ اللّه أعلم بمصالحهم.(2)

أقول: الظاهر أنّ الآية ضابطة كلّية لها مصاديق في عصر النبوّة وبعدها عبر الزمان، ومن مصاديقها ما جرى في الحديبية. ثمّ إنّه سبحانه لم يقتصر بما في هذه الفقرة بل أشار إلى خطأ آخر للإنسان، وهو كما قال: (وَ عَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً) وإنّ المؤمنين مع أنّهم يكرهون القتال ويحبون السَّلم (وَ) لكنّه «شَرٌّ لَهُمْ»، كما مرّت الإشارة إليه في قوله سبحانه: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا اَلْجَنَّةَ وَ لَمّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ اَلَّذِينَ 2.

ص: 18


1- . الميزان في تفسير القرآن: 167/2.
2- . التحرير والتنوير: 304/2.

خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ) (1) ، وعلى هذا فالإنسان لأجل ضآلة علمه بالمحاسن والمفاسد يقع في خطأين: تارة يكره شيئاً وهو خير له، وأُخرى يحب شيئاً وهو شرّ له، فعليه أن يتجرّد عن نوازع النفس ويستمع إلى الوحي فاللّه سبحانه عالم بمصالح العباد، كما يقول: (وَ اَللّهُ يَعْلَمُ) مصالح العباد ومفاسدهم (وَ أَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) كيف (إِنَّ اَللّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْ ءٌ) (2)، وقال تعالى: (وَ لا يُحِيطُونَ بِشَيْ ءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاّ بِما شاءَ) .(3)

الآية الثانية
اشارة

قال سبحانه: (وَ جاهِدُوا فِي اَللّهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اِجْتَباكُمْ وَ ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي اَلدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمّاكُمُ اَلْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَ فِي هذا لِيَكُونَ اَلرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَ تَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى اَلنّاسِ فَأَقِيمُوا اَلصَّلاةَ وَ آتُوا اَلزَّكاةَ وَ اِعْتَصِمُوا بِاللّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ اَلْمَوْلى وَ نِعْمَ اَلنَّصِيرُ) .(4)

المفردات

جاهدوا: قال الراغب: الجهاد والمجاهدة: استفراغ الجهد في مدافعة العدوّ،

ص: 19


1- . البقرة: 214.
2- . آل عمران: 5.
3- . البقرة: 255.
4- . الحج: 78.

والجهاد ثلاثة أضرب: مجاهدة العدوّ الظاهر، ومجاهدة الشيطان، ومجاهدة النفس، وثلاثتها تدخل في قوله تعالى: (وَ جاهِدُوا فِي اَللّهِ حَقَّ جِهادِهِ) .(1)

في اللّه: في سبيل اللّه.

اجتباكم: اختاركم.

حَرَج: ضيق، بتكليفكم ما يشقّ عليكم.

التفسير
كون الجهاد خالصاً للّه تعالى

يتابع اللّه سبحانه في هذه الآية خطابه الذي وجّهه في الآية السابقة إلى المؤمنين، مع إيراد ما يعدّ تكريماً لهم في ثناياها، فقال: (وَ جاهِدُوا فِي اَللّهِ حَقَّ جِهادِهِ) وهو عطف على قوله: (اِرْكَعُوا وَ اُسْجُدُوا) في الآية المتقدّمة. وقيّد الجهاد بقوله: (فِي اَللّهِ) أوّلاً، و (حَقَّ جِهادِهِ) ثانياً؛ أمّا الأوّل فأُريد به الجهاد في سبيل اللّه بحيث يكون الباعث هو أمره وكسب رضاه سبحانه، وأمّا الثاني أي قوله: (حَقَّ جِهادِهِ) فهو تأكيد لقوله: (فِي اَللّهِ) فيكون المعنى: جاهدوا في سبيل اللّه حقّاً خالصاً لوجهه الكريم لا تخشون فيه لومة لائم. والفقرة بمنزلة قوله تعالى: (اِتَّقُوا اَللّهَ حَقَّ تُقاتِهِ) (2).

ويحتمل أن يراد: مجاهدة العدو الظاهر ومجاهدة النفس والشيطان.

ثمّ إنّه سبحانه يخاطب المؤمنين بأُمور:

ص: 20


1- . مفردات، الراغب: 101، مادة «جهد».
2- . آل عمران: 102.

1. (هُوَ اِجْتَباكُمْ) : أي اختاركم من بين سائر الأُمم، وخصّكم بأفضل الرسل، وأكمل الشرائع، وصرتم أفضل الأُمم لو شعرتم بذلك.

2. (وَ ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي اَلدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) وهذه هي الصفة الثانية للشريعة الإسلامية حيث إنّ أحكامها سهلة سمحة، ولذلك أكّد على ذلك بقوله في سورة أُخرى، قال: (يُرِيدُ اَللّهُ بِكُمُ اَلْيُسْرَ وَ لا يُرِيدُ بِكُمُ اَلْعُسْرَ) (1).

فإن قلت: كيف يقول سبحانه: (وَ ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي اَلدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) مع أنّا نلمس الحرج في عدد من الأحكام الشرعية، كالصوم في الصيف، والحج والجهاد في سبيل اللّه، ولزوم الثبات في مقابلة الكفّار، وحرمة الفرار من الزحف، إلى غير ذلك من الأحكام الواردة في أبواب الحدود.

قلت: إنّ الأحكام الشرعية التي تقترن بالحرج على أقسام ثلاثة:

الأوّل: ما يكون الناس هم السبب في جعل تلك الأحكام حفظاً للأمن والسلام، نظير الأحكام المشرّعة في الحدود والقصاص والدّيات، إذ لولا هذه الأحكام لسادت الفوضى في المجتمع، وآية الحرج منصرفة عن هذا القسم.

الثاني: الأحكام التي أُسّست على أساس الحرج والعسر، بحيث يُعدّ الحرج موضوعاً لها، وهذا كالأمر بالجهاد والحجّ والصيام في الصيف والتوضّؤ في البرد القارص، ومن المعلوم أنّ الآية غير ناظرة إلى هذا القسم، نظير قوله صلى الله عليه و آله و سلم: «لا ضرر ولا ضرار» حيث إنّه منصرف عن الضرائب الضررية كالزكاة والخمس والكفّارات.

الثالث: توجد في الشريعة تكاليف ليس طبعها الحرج، ويتلقّاها المكلّفون5.

ص: 21


1- . البقرة: 185.

برحابة صدر كالوضوء والغسل والصلاة، ولكن ربما يطرأ عليها الحرج في بعض الأحوال الذي لا يتحمّل عادة، فالآية تكشف عن عدم تشريع استمرار الأحكام في صورة استلزام الامتثال بها الحرج.

وممّا ذكرنا يعلم أنّ لهذه القاعدة دورَ تحديدٍ لإطلاقات الأحكام التي هي ليست بطبعها حرجية، وإنّما يطرأ عليها الحرج في بعض الأحيان فتتحدّد بطروء الحرج، فعند ذلك ينقطع استمرار الحكم، ولأجل إيضاح القاعدة نذكر تطبيقات لها حتى يُعلم دورها في تحديد الأحكام:

1. العفو عن دم الجرح والقرح في حال الصلاة.

2. جواز الصلاة في ثوب المربية للصبي إذا كان تبديله حرجيّاً لها.

3. رخصة المبطون ومن في حكمه في الصلاة.

4. عدم لزوم الاحتياط في الشبهة غير المحصورة.

5. صحّة بيع الصبي فيما جرت به العادة.

6. القصر في السفر.

7. عدم لزوم قضاء الصلاة على الحائض.

8. إباحة الإفطار للحامل والمرضى والشيخ والشيخة وذي العطاش.

9. جواز قطع الصلاة لأُمور مهمّة.

10. كفاية الشاهد الواحد في الوصية.

إلى غير ذلك من التطبيقات.

فخرجنا بالنتيجة التالية: أنّ قوله سبحانه: (وَ ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي اَلدِّينِ مِنْ

ص: 22

حَرَجٍ) (1) ، ناظر إلى القسم الثالث من الأحكام ولا يشمل القسمين الأوّلين.

لمّا تقدّمت كلمة الدين في قوله: (وَ ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي اَلدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) أوضحه بقوله بأنّ المراد هو الشريعة الإبراهيمية كما قال: (مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ) . و (مِلَّةَ) منصوب بالاختصاص أي: أخصّ ملّة إبراهيم. ويحتمل أن يكون منصوباً بفعل مضمر أي: اتّبعوا ملّة إبراهيم. وقد وصف تعالى إبراهيم بالأب لأنّ العرب العدنانيّين هم الذين كانوا مسلمين، وكانوا من نسل إسماعيل. وبما أنّ أكثر المؤمنين في زمان الخطاب كانوا من ولد إبراهيم، جاز ذلك.

وهناك احتمال آخر، وهو أن يراد بالأب الأب الروحي للموحِّدين كلّهم، حيث إنّه عليه السلام بطل المناظرة مع المشركين، والداعي الوحيد يومذاك إلى التوحيد.

قوله: (هُوَ سَمّاكُمُ اَلْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ) الفقرة تدلّ على تسمية المؤمنين بالمسلمين، وأمّا من هو المسمّي؟ هل هو إبراهيم عليه السلام أو اللّه تعالى؟ ظاهر السياق هو الأوّل بشهادة أنّ الضمير أعني: (هُوَ) يرجع إلى أقرب المراجع وهو إبراهيم عليه السلام. وعلى هذا فالمراد من قوله: (مِنْ قَبْلُ) : أي قبل القرآن، فأبناء الأُمّة الإسلامية موسومون في الكتب السماوية بالمسلمين، ويدلّ على ذلك قوله تعالى: (رَبَّنا وَ اِجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ) (2)، ولا ينافي ما ذكرنا أنّه سبحانه رضي الإسلام ديناً لنا كما قال عزّ من قائل: (وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ اَلْإِسْلامَ دِيناً) (3).3.

ص: 23


1- . الحج: 78.
2- . البقرة: 128.
3- . المائدة: 3.

ويشير إلى ما ذكرنا ما ورد في سورة البقرة في قوله تعالى: (وَ مَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلاّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَ لَقَدِ اِصْطَفَيْناهُ فِي اَلدُّنْيا وَ إِنَّهُ فِي اَلْآخِرَةِ لَمِنَ اَلصّالِحِينَ * إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ اَلْعالَمِينَ * وَ وَصّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَ يَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اَللّهَ اِصْطَفى لَكُمُ اَلدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاّ وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) (1).

ثم أشار سبحانه إلى تسميتهم بالمسلمين في القرآن أيضاً بقوله: (وَ فِي هذا) : أي في القرآن كقوله: (وَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ اَلْمُسْلِمِينَ) (2). ثمّ إنّ قوله سبحانه: (لِيَكُونَ اَلرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَ تَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى اَلنّاسِ) كأنّه تعليل لقوله: (جاهِدُوا فِي اَللّهِ حَقَّ جِهادِهِ) والفقرة تدلّ على أمرين:

1. الرسول شهيد على المسلمين.

2. المسلمون شهداء على سائر الناس.

إنّما الكلام في ما هو المراد من الشهادة؟

إنّ قسماً من المفسّرين قالوا بأنّ المراد من شهادة الرسول هو شهادته يوم القيامة بأنّه قد بلّغهم عن اللّه ما أُوحي إليه، كما أنّ المراد من شهادة المسلمين على الناس هو شهادتهم على أنّ رسلهم قد بلّغوا ما أُوحي إليهم.(3)

يلاحظ عليه: أنّ شهادة النبيّ على أُمّته أمر لا سترة عليه، يقول سبحانه: (وَ قالَ اَلرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اِتَّخَذُوا هذَا اَلْقُرْآنَ مَهْجُوراً) .(4)0.

ص: 24


1- . البقرة: 130-132.
2- . يونس: 72.
3- . تفسير الكشّاف: 41/2؛ تفسير القرطبي: 101/12؛ روح المعاني: 211/17.
4- . الفرقان: 30.

وقد روي أنّ أعمال الأُمّة تُعرض عليه وهو في البرزخ في كلّ أُسبوع أو أكثر أو أقلّ، إنّما الكلام في شهادة المسلمين على سائر الأُمم، فإنّ الشهادة من الشهود وهو الإخبار عن حسٍّ، والمفروض أنّهم فاقدون لهذا العلم، والاستناد في الشهادة إلى إخبار اللّه تعالى شهادة على الشهادة لا شهادة على الأُمم. ثمّ إنّه سبحانه أعظم من أن يشهد على شهادته، غيره.

وأمّا ما هو المراد من شهادة الرسول أوشهادة الناس فليرجع إلى محلّه.(1)

ثمّ إنّه سبحانه خصّ المسلمين بالأعمال العبادية و المالية وقال: (فَأَقِيمُوا اَلصَّلاةَ وَ آتُوا اَلزَّكاةَ وَ اِعْتَصِمُوا بِاللّهِ) في جميع الأحوال (هُوَ مَوْلاكُمْ) : أي أولى بكم وبتدبيركم (فَنِعْمَ اَلْمَوْلى وَ نِعْمَ اَلنَّصِيرُ) ، فأتمّ السورة بما فيه تطييب لنفوس المؤمنين، وتقوية لقلوبهم.

الآية الثالثة
اشارة

قال سبحانه: (يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ اِنْفِرُوا جَمِيعاً) .(2)

المفردات

حِذركم: الحَذَر: احتراز من مخيف يقال: حَذَرَ حَذَراً. وأمّا الحِذْر في الآية ففيه وجهان:

1. السلاح، معناه: خذوا أسلحتكم، وسُمّيت الأسلحة حِذْراً لأنّها الآلة التي

ص: 25


1- . لاحظ: منية الطالبين في تفسير القرآن المبين: 362/18-364.
2- . النساء: 71.

بها يتقي الإنسان الحَذَر.

2. بمعنى احذروا عدوكم بأخذ السلاح كما يقال للإنسان: خذ حذرك بمعنى إحذر.

ويؤيّد الثاني أنّه استعمل الحِذر في مقابل السلاح في قوله تعالى: (وَ لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَ خُذُوا حِذْرَكُمْ) (1)، وعلى هذا فمعنى (خُذُوا حِذْرَكُمْ) : أي احذروا وتهيّئوا للدفاع وكونوا منتبهين غير غافلين عن كيد العدو وغدره.

فانفروا: النفر: الخروج إلى الغزو.

ثباتٍ: جمع ثُبة: جماعات متفرّقة، يقابله: النفر (جَمِيعاً) : أي مجتمعين.

التفسير

الآية تؤكد على المسلمين أن يستعدوا في جميع الأحوال للدفاع عن الإسلام، يقول سبحانه: (يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ) : أي إحذروا وكونوا على وجل من جانب العدو ولا تنسوا وجود عدو غاشم يريد القضاء عليكم ليل نهار.

ثمّ إنّ التهيّؤ للدفاع عن كيان الإسلام والمسلمين رهن التعرّف على العدو وطاقاته الحربية وجنوده ومن يعينهم من الخارج، فهذا الذي يقال: فلان على الحذر من العدو. وأمّا اليوم فالحذر يتحقّق بأُمور كثيرة يعرفها العسكريون ولا يعلم ذلك إلّابإرسال جواسيس مؤمنين حتى يرصدوا ما عليه العدو من نية السلم

ص: 26


1- . النساء: 102.

والحرب، وعلى فرض الحرب استعدوا بأي سلاح من الأسلحة الأرضية والهوائية، وقد كان للنبي صلى الله عليه و آله و سلم عيون كما كان للوصي كذلك. فهذا الخطاب - أعني قوله سبحانه: (خُذُوا حِذْرَكُمْ) - كما كان مهمّاً في وقته، فهو في هذه الأيام على جانب كبير من الأهمية أيضاً. فلو كانت آلة الحرب يوم ذاك، السيف والرمح وكانت الكلمة الدارجة لدى العسكريين «السيف بالسيف والرمح بالرمح»، ناظرةً إلى تلك العهود، وأمّا اليوم فقد تغيّر الوضع كما هو واضح في عامة الجهات.

ثمّ إنّ الظروف مختلفة فتارة يكون العدو ضعيفاً في الدفاع فهناك يكفي بعث جماعة خاصّة، وأُخرى يكون على استعداد شديد فلا يكفي للدفاع بعث جماعة بل يجب هناك النفر جميعاً والأخذ بعامة القوى. وإلى الأوّل يشير بقوله: (فَانْفِرُوا ثُباتٍ) : أي سرية، وإلى الثاني يشير بقوله سبحانه: (أَوِ اِنْفِرُوا جَمِيعاً) ، وقد كان للنبي حوالي 55 سرية بعثها لإخماد الفتن التي كانت تنعقد في بداية أمرها كما كانت له 27 غزوة شارك فيها بنفسه وشارك فيها أكثر من له صلاحية المشاركة.

وبما ذكرنا من أنّ لكلّ من البعثين ظرفاً خاصّاً، فظروف الجيش الكثيف غير بعث السرايا - وبما ذكرنا - يُعلم فساد ما يقال: من أنّ هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: (اِنْفِرُوا خِفافاً وَ ثِقالاً) (1)، وبقوله: (إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ) (2).(3)ه.

ص: 27


1- . التوبة: 41.
2- . التوبة: 39.
3- . تفسير القرطبي: 275/5 نقله عن بعضهم ولم يقبله.
الآية الرابعة

قال سبحانه: (فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اَللّهِ اَلَّذِينَ يَشْرُونَ اَلْحَياةَ اَلدُّنْيا بِالْآخِرَةِ وَ مَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اَللّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) .(1)

لمّا تقدّم في الآية السابقة الحثُّ على الجهاد وذم القاعد أو المبطئ عنه، جاء البيان القرآني يؤكّد الحثّ على الجهاد وذلك بأبلغ البيان، وهو بيع الأنفس، بيع الحياة الدنيا في مقابل الحياة الأُخروية كما يقول: (فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اَللّهِ) لا للفوز بالغنائم (اَلَّذِينَ يَشْرُونَ) : أي يبيعون (اَلْحَياةَ اَلدُّنْيا بِالْآخِرَةِ) ، فإنّ الشري والاشتراء كما يستعمل في مورد من يشتري متاعاً بثمن، هكذا يستعمل في بيع المتاع، وأُريد هنا المعنى الثاني لاستعماله في هذا المعنى بشهادة قوله سبحانه: (وَ شَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ وَ كانُوا فِيهِ مِنَ اَلزّاهِدِينَ) (2).

ثمّ إنّ قوله سبحانه: (وَ مَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اَللّهِ) يشير إلى أنّ أمر المقاتل في سبيل اللّه ينتهي إلى إحدى عاقبتين محمودتين:

1. (فَيُقْتَلْ) في سبيل اللّه.

2. (أَوْ يَغْلِبْ) عدو اللّه.

وعلى كلّ تقدير (فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) سواء أقتل أم غلب.

ثمّ إنّه سبحانه قدّم القتل على الغلبة، يقول السيد الطباطبائي: فالمقتول في

ص: 28


1- . النساء: 74.
2- . يوسف: 20.

سبيل اللّه يستوفي أجره حتماً، وأمّا الغالب في سبيل اللّه فأمره مراعى في استيفاء أجره إلى أن لا يرتكب ما يحبط عمله، وكلّ عمل بخواتيمه.(1)

الآية الخامسة
اشارة

قال سبحانه: (وَ أَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اَللّهِ وَ لا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى اَلتَّهْلُكَةِ وَ أَحْسِنُوا إِنَّ اَللّهَ يُحِبُّ اَلْمُحْسِنِينَ) (2).

المفردات

التهلكة: وهي الهلاك، يقال: هلك، يهلك، هلاكاً، وهلكاً، وتهلكة.(3)

التفسير

لا شكّ أنّ الجهاد مع المشركين المجهّزين بأنواع الأسلحة الفتّاكة والأموال الوفيرة، رهن كون المجاهدين مجهّزين بالسلاح والمال، ولذلك يأمر سبحانه المسلمين بشيء وينهاهم عن شيء آخر.

أمّا الأوّل: فيقول: (وَ أَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اَللّهِ) وأُريد من السبيل هو الجهاد في سبيله سبحانه، دفاعياً كان أو ابتدائياً.

وقد ورد التأكيد على الإنفاق في طريق الجهاد في سورة التوبة، قال تعالى:

(لكِنِ اَلرَّسُولُ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ وَ أُولئِكَ لَهُمُ اَلْخَيْراتُ

ص: 29


1- . الميزان في تفسير القرآن: 419/4، طبعة الأعلمي - بيروت.
2- . البقرة: 195.
3- . تفسير الرازي: 136/5.

وَ أُولئِكَ هُمُ اَلْمُفْلِحُونَ) (1) ، وفي قوله تعالى: (وَ أَعِدُّوا لَهُمْ مَا اِسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَ مِنْ رِباطِ اَلْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اَللّهِ وَ عَدُوَّكُمْ وَ آخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اَللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَ ما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْ ءٍ فِي سَبِيلِ اَللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَ أَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ) .(2)

وأمّا الثاني: فيقول سبحانه: (وَ لا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى اَلتَّهْلُكَةِ) الباء في قوله: (بِأَيْدِيكُمْ) للسببية، ومفعول الفعل محذوف، أي: ولا تلقوا أنفسكم بأيديكم إلى التهلكة، وأُريد من التهلكة هو أنّ الامتناع من الإنفاق في طريق الجهاد يُسبِّب غلبة الشرك على التوحيد، وتفوّقه عليه، فالبخل والإمساك عن إنفاق المال عند القتال يوجب بطلان القوة وذهاب القدرة، وينتهي الأمر إلى انتصار العدو على المسلمين.

ثم إنّه سبحانه أتمّ الآية بقوله: (وَ أَحْسِنُوا) أعمالكم (إِنَّ اَللّهَ يُحِبُّ اَلْمُحْسِنِينَ) . وإمداد المجاهدين وتعبئتهم عمل حسن، فاللّه سبحانه يحب عملكم.

ما هو المراد من التهلكة؟

ثمّ إنّ المراد من التهلكة ما لا تترتّب عليه أي فائدة، لا دنيوية ولا أُخروية، بل يُعدّ إضاعة للنفس والنفيس، وبذلك يُعلم أنّ المشاركة بالجهاد والاستعداد وتعريض النفس للموت في سبيل إعلاء كلمة الحقّ، لا يُعدّ إلقاء في التهلكة، وإلّا فيكون الأمر بالجهاد - حسب هذا الزعم - أمراً بالإلقاء بالهلكة، مع أنّه سبحانه يَعدُّه حياة للمجتمع، يقول سبحانه: (يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِسْتَجِيبُوا لِلّهِ وَ لِلرَّسُولِ

ص: 30


1- . التوبة: 88.
2- . الأنفال: 60.

إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ وَ اِعْلَمُوا أَنَّ اَللّهَ يَحُولُ بَيْنَ اَلْمَرْءِ وَ قَلْبِهِ وَ أَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) .(1)

وبذلك يُعلم أنّ النهضة الحسينية التي استعدّ فيها الإمام الحسين عليه السلام لبذل النفس والنفيس في سبيل إحياء منهج الحق، لا يُعدّ إلقاء في التهلكة؛ كيف وهو عليه السلام ذكر سبب قيامه وثورته، فقال: «ألا ترون إلى الحقّ لا يُعمل به، وأنّ الباطل لا يتناهى عنه، ليرغب المؤمن في لقاء اللّه محقّاً، فإنّي لا أرى الموت إلّاسعادة والحياة مع الظالمين إلّابرماً».(2)

وبذلك يُعلم أنّ ما أجاب به الشيخ الطبرسي عن ثورة الإمام الحسين عليه السلام، بعيد عن التحقيق وغير لائق بمقامه الشامخ.(3)2.

ص: 31


1- . الأنفال: 24.
2- . نفس المهموم: 95؛ اللهوف: 47.
3- . لاحظ: مجمع البيان: 57/2.

أحكام الجهاد

2. الطوائف الأربع الذين لا يجب عليهم الجهاد

اشارة

قد عرفت الآيات التي تدلّ على وجوب الجهاد، ومع ذلك فهناك طوائف لم يكتب عليهم الجهاد، وقد جاء ذكرهم في الآيتين التاليتين:

قال تعالى: (لَيْسَ عَلَى اَلضُّعَفاءِ وَ لا عَلَى اَلْمَرْضى وَ لا عَلَى اَلَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلّهِ وَ رَسُولِهِ ما عَلَى اَلْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَ اَللّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَ لا عَلَى اَلَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَ أَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ اَلدَّمْعِ حَزَناً أَلاّ يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ) .(1)

المفردات

الضعفاء: جمع ضعيف وهو مَنْ كان له وهن في القوّة البدنية من غير مرض.

المرضى: جمع مريض وهو الذي طرأ عليه اختلال في المزاج.

الحرج: الضيق، وأُريد ضيق التكليف.

نصحوا: أي أخلصوا، ويطلق على العسل الخالص «ناصح العسل». والنصح:

العمل النافع للمنصوح. والتوبة عن إخلاص هي: التوبة النصوح.

ص: 32


1- . التوبة: 91-92.

سبيل: طريق، وأُريد: السلطة والمؤاخذة والمعاقبة.

تفيض: من الفيض: الجري عن امتلاء. يقال: فاضت العين دمعاً، كأنّه جعل العين كلّها دمعاً فائضاً.

حزناً: ألم في القلب لفوت أمر.

التفسير
نفي السبيل عن الطوائف الأربع

استثنت هاتان الآيتان من لهم أعذار مقبولة، وهم طوائف أربع، وهي:

الأُولى: (لَيْسَ عَلَى اَلضُّعَفاءِ) جمع الضعيف وهو مَن لا يقدر على الجهاد لشيخوخته أو خلق ضعيفاً، كالزمنى.

الثانية: (وَ لا عَلَى اَلْمَرْضى) جمع المريض، وهو من له مقدرة على الجهاد لكن طرأت عليه حالة يشقّ معها الجهاد.

وفي «المجمع» قيل: نزلت الآية في عبد اللّه بن زائدة، وهو ابن أُمّ مكتوم، وكان ضرير البصر، جاء إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، فقال: يا نبي اللّه، إنّي شيخ ضرير، خفيف الحال، نحيف الجسم، وليس لي قائد، فهل لي رخصة في التخلّف عن الجهاد؟ فسكت النبي صلى الله عليه و آله و سلم. فأنزل اللّه الآية، عن الضحاك.(1)

وروى العياشي في حديث طويل: أنّ أمير المؤمنين عليه السلام لما أقبل من صفين، حتى وصل إلى مكان تُرى منه بيوت الكوفة، فإذا بشيخ جالس في ظل بيت وعلى وجهه أثر المرض، فأقبل إليه أمير المؤمنين ونحن معه حتى سلّم عليه وسلّمنا

ص: 33


1- . مجمع البيان: 113/5.

معه، فردّ ردّاً حسناً وظننا أنّه قد عرفه - إلى أنّ دار الحديث معه - إلى قول أمير المؤمنين: فهل شهدت معنا غزاتنا هذه؟ فقال: لا، ولقد أردتها ولكن ماترى فيّ من لجب(1) الحمّى خذلتني عنها، فقال أمير المؤمنين عليه السلام: (لَيْسَ عَلَى اَلضُّعَفاءِ وَ لا عَلَى اَلْمَرْضى وَ لا عَلَى اَلَّذِينَ لا يَجِدُونَ) إلى آخر الآية.(2)

والإمام بتمسّكه بإطلاق الآية علّمنا كيفية الاستفادة من الآية في غير مورد النزول.

الثالثة: (وَ لا عَلَى اَلَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ) ، إذ لا يجد شيئاً ينفق على عياله ونفسه، لأنّ مؤونة المجاهد آنذاك كانت على نفسه من دون أن ينفق الرسول أو من يقوم مقامه شيئاً عبر جهاده.

فاللّه سبحانه يقول: ليس على هؤلاء (حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلّهِ وَ رَسُولِهِ) : أي يكونون مخلصين في إيمانهم، قائمين على سائر وظائفهم من تشجيع الواجدين للشرائط على الجهاد والمحافظة على عاصمة الدولة الإسلامية وعيال المجاهدين وأموالهم، ثمّ إنّه سبحانه علّل نفي الحرج عن المذكورين بقوله: (ما عَلَى اَلْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ) لأنّ مَن أخلص في إيمانه وقام بسائر وظائفه فهو ممّن وقع في حصن حصين لا يصيبهم ما يكرهون.

قاعدة الإحسان

ثمّ الفقهاء اتّخذوا قوله سبحانه: (ما عَلَى اَلْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ) قاعدة رتّبوا عليها فروعاً نذكر شيئاً منها:

ص: 34


1- . لَجَبَ البحر لجباً إذا هاج واضطرب موجه.
2- . البرهان في تفسير القرآن: 521/4.

1. قال المحقّق: إنّ الولاية في مال الطفل والمجنون للأب والجدّ للأب، فإن لم يكونا فللوصي، فإن لم يكن فللحاكم.

ولمّا لم يذكر المحقّق ولاية المؤمنين بعضهم على بعض، استدرك صاحب الجواهر وقال: إنّ مقتضى قاعدة الإحسان ولاية المؤمنين بعضهم على بعض ولزوم التعطيل بل والضرر في كثير من الموارد.(1)

2. قال المحقّق: ولو اختلف في التلف فالقول قول الوكيل لأنّه أمين وقد يتعذّر إقامة البيّنة بالتلف غالباً فاقتنع بقوله دفعاً لالتزام ما تعذّر غالباً.

وعلّله صاحب الجواهر بالقواعد التالية: قاعدة العسر والحرج والإحسان والأمانة.(2)

ولكن جعل المقام من مصاديق قاعدة الإحسان لا يخلو من نظر؛ لأنّ المتيقّن من القاعدة من كان محسناً ولم يكن منتفعاً، والوكيل منتفع.

3. قال المحقّق: فالبعير لا يؤخذ إذا وجد في كلأ وماء فلو أخذه ضمنه.

وفي «الجواهر»: وفي ضمانه بنية الحفظ لمالكه قولان، من إطلاق الأخبار بالنهي، والإحسان.(3)

4. لو كانت السفينة مشحونة بأموال شخص واحد، فرأى ربّان السفينة بأنّ نجاتهم ونجاة أموال صاحب الأموال هو بإلقاء قسم من أمواله في البحر لتخفّ السفينة، فألقاها فهو ليس بضامن.ن.

ص: 35


1- . جواهر الكلام: 26/103، كتاب الحجر.
2- . جواهر الكلام: 27/433، كتاب الوكالة.
3- . جواهر الكلام: 38/221، كتاب الضمان.

5. لو افترضنا أنّ الولي حبس المبيع لغاية ارتفاع الأسعار، وكان أمراً عقلائياً، ولكن نزل السوق فلا ضمان على الولي.

6. لو قام الولي بالزراعة في أرض المولّى عليه غير أنّ الجفاف أضرّ بالمحصول، ولم يفِ حتّى بثمن ما صُرف في الزراعة، فلا ضمان على الوليّ.

إلى غير ذلك من الفروع الّتي ذكرها الفقهاء في تصرّف الأولياء وعدول المؤمنين والحكّام، إنّما لغاية دفع الضرر أو إيصال المنفعة.(1)

الرابعة: مَن لا يجد الراحلة

ثمّ إنّه سبحانه يشير في الآية الثانية إلى الذين استعدوا للمشاركة في الجهاد ولكن لم يجدوا ما يحملهم إلى أرض المعركة، فليس عليهم سبيل، وإليه يشير قوله سبحانه: (وَ لا عَلَى اَلَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَ أَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ اَلدَّمْعِ حَزَناً أَلاّ يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ) .(2)

فهذه هي الطائفة الرابعة، وقد حكى المفسّرون أنّ الآية نزلت في البكّائين الذين جاءوا إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فقالوا: يا رسول اللّه احملنا فإنّه ليس لنا ما نخرج عليه كما يحكي عنهم سبحانه: (وَ لا عَلَى اَلَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ) ، فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: (لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ) .(3) وظاهر الآية هو أنّهم سألوه الدابة أو البعير، وما في بعض المأثورات من أنّهم ما سألوا الدواب بل سألوا النعال،(4)

ص: 36


1- . لاحظ: الإيضاحات السنية للقواعد الفقهية: 84/3-93.
2- . التوبة: 92.
3- . الدر المنثور: 264/4.
4- . الدر المنثور: 265/4.

خلاف سياق الآية، ثم إنّه سبحانه يصف حال هذه الطائفة بقوله: (تَوَلَّوْا وَ أَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ اَلدَّمْعِ) : أي سحّت أعينهم من الدمع لحرمانهم من الجهاد بين يدي رسول اللّه (حَزَناً) : أي أسفاً مضافاً إلى (أَلاّ يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ) .

ظاهر قوله: (أَلاّ يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ) أنّهم كانوا يفتقدون المأكل والمشرب أيضاً وراء افتقادهم المركب وعندئذٍ يدخلون في الفقراء الذين أُشير إليهم في الآية السابقة بقوله: (وَ لا عَلَى اَلَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ) (1)، ولعلّ تخصيصهم بالذكر لأجل الإشارة بمكانتهم وإخلاصهم ومنزلتهم عند اللّه إذ لا شكّ أنّ لهؤلاء منزلة رفيعة عند اللّه حيث امتازوا عن الطوائف السابقة، بالرغبة الشديدة للجهاد وتضحية النفس من طريق إشادة كلمة اللّه العليا، فحضورهم عند النبي وإصرارهم على الحمل وبكاؤهم بعد اليأس على وجه صارت أعينهم فيّاضة بالدمع، مضافاً إلى عدم تمكّنهم من الإنفاق أفضل دليل على رسوخ إيمانهم باللّه ورسوله، فاستحقّوا بالذكر مستقلّاً بوجهين: افتقاد المركب والمأكل.

قال السيد الطباطبائي: إنّ عطف هذا الصنف على ما تقدّمه، من عطف الخاص على العام عناية بهم لأنّهم في أعلى درجة من النصح وإحسانهم ظاهر.(2)

وذلك لأنّ الطائفتين تشتركان في عدم المشاركة في أنّهم لا يجدوا ما ينفقون، غير أنّ الطائفة الثانية تتميّز عن الأُولى في أنّهم تألّموا بسبب عدم المشاركة بالجهاد على نحو قد فاضت عيونهم بالدمع.

وتظهر مكانتهم السامية ممّا رواه الواحدي في شأن الآية قال: نزلت في9.

ص: 37


1- . التوبة: 92.
2- . الميزان في تفسير القرآن: 363/9.

البكائين وكانوا سبعة: معقل بن يسار، وصخر بن خنيس، وعبد اللّه بن كعب الأنصاري، وسالم بن عمير، وثعلبة بن غنمة، وعبد اللّه بن مغفل، أتوا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فقالوا: يا نبي اللّه إنّ اللّه عزّ وجلّ قد ندبنا للخروج معك، فاحملنا على الخفاف المرقوعة والنعال المخصوفة نغزو معك، فقال: لا أجد ما أحملكم عليه، فتولّوا وهم يبكون.(1)2.

ص: 38


1- . أسباب النزول: 172.

أحكام الجهاد

3. الجهاد الدفاعي

الآية الأُولى
اشارة

قال سبحانه: (وَ قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ اَلَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَ لا تَعْتَدُوا إِنَّ اَللّهَ لا يُحِبُّ اَلْمُعْتَدِينَ) .(1)

المفردات

يقاتلونكم: من المقاتلة، وهي محاولة الرجل قتل مَن يحاول قتله، وأمّا التقاتل: فهو محاولة كلّ واحد من المتعاديين قتل الآخر. فالأُولى من باب المفاعلة، والآخر من باب «التفاعل».

ومورد الآية هو الأوّل كما سيتّضح في التفسير، ويظهر أنّ الآية ناظرة إلى الجهاد الدفاعي.

تعتدوا: من الاعتداء: تجاوز الحدّ.

التفسير
قتال مَن يقاتل المسلمين

إنّ الجهاد الدفاعي عبارة عن مقاتلة الأعداء المعتدين دفاعاً عن النفس

ص: 39


1- . البقرة: 190.

والمال وذبّاً عن الوطن والحرية، وذوداً عن الشرف والاستقلال، وآيتنا هذه من هذه المقولة. روى السيوطي عن ابن عباس: لمّا سار رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم معتمراً سنة ست من الهجرة، وحبسه المشركون عن الدخول والوصول إلى البيت، وصدّوه ومن معه من المسلمين في ذي القعدة وهو شهر حرام، حتّى قاضاهم على الدخول من قابل، فدخلها في السنة الآتية.(1)

فلمّا كان العام المقبل تجهّز المسلمون لقضاء العمرة، ولكنّهم خافوا أن لا تفي لهم قريش فيقاتلونهم، وكره النبي صلى الله عليه و آله و سلم وأصحابه قتال المشركين، في الشهر الحرام في الحرم، فأنزل اللّه هذه الآية وأذن لهم بالقتال.(2)

ثمّ إنّ الآية على وجازتها تتضمّن بيان أُمور ثلاثة:

1. ما هي الغاية من الجهاد وقتال العدو؟

2. تحديد مَن يقاتل معهم.

3. النهي عن الاعتداء وتجاوز الحدّ.

أمّا الأوّل: فقال سبحانه: (وَ قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ) : أي خالصاً لوجهه.

وأمّا الثاني: فيشير إليه بقوله: (اَلَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ) حيث قد مرّ أنّ المسلمين خافوا ألّا تفي لهم قريش ويقاتلونهم، فلو عملت قريش بما اتّفقوا عليه مع النبيّ لما بدأ المسلمون بالقتال. فصارت خيانة قريش بنقض العهد، مبرراً لقتالهم، ومن حسن الحظ لم يصدر منهم أي اشتباك في هذا الحال.

قوله: (يُقاتِلُونَكُمْ) قد عرفت أنّه وإن كان بصدد بيان حال العدو ولكنه في2.

ص: 40


1- . الدر المنثور: 497/1.
2- . مجمع البيان: 49/2.

الحقيقة شرط ومبرّر.

وأمّا الثالث: فأُشير إليه بقوله: (وَ لا تَعْتَدُوا) : أي لا تخرجوا عن الحدّ، كالابتداء بالقتال، أو بعد انتهاء العدو بالإيمان.

روى الكليني بسنده عن أبي عبداللّه عليه السلام قال: «كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إذا أراد أن يبعث سرية دعاهم فأجلسهم بين يديه ثم يقول: سيروا بسم اللّه وباللّه وفي سبيل اللّه وعلى ملّة رسول اللّه، لا تغلوا ولا تمثّلوا ولا تغدروا ولا تقتلوا شيخاً فانياً ولا صبيّاً ولا امرأة، ولا تقطعوا شجراً إلّاأن تضطرّوا إليها، وأيّما رجل من أدنى المسلمين أو أفضلهم نظر إلى أحد من المشركين، فهو جار حتّى يسمع كلام اللّه، فإن تبعكم فأخوكم في الدين، وإن أبى فأبلغوه مأمنه، واستعينوا باللّه».(1)

ما جاء في الرواية وغيرها من الآداب، يختصّ بمن يُعلم أو يظن أنّه يحترم علاقاته مع الآخرين، ولا يخون، وأمّا لو ظنّ الحاكم الشرعي، بأنّ العدو بصدد الخيانة، ورفض المعاهدة فعلى الحاكم الإسلامي المبادرة إلى رفض ما عاهدهم عليه، كما في قوله سبحانه: (وَ إِمّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اَللّهَ لا يُحِبُّ اَلْخائِنِينَ) .(2)

الآية الثانية
اشارة

قال سبحانه: (اَلشَّهْرُ اَلْحَرامُ بِالشَّهْرِ اَلْحَرامِ وَ اَلْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اِعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اِعْتَدى عَلَيْكُمْ وَ اِتَّقُوا اَللّهَ

ص: 41


1- . الوسائل: 10، الباب 15 من أبواب جهاد العدو وما يشابهه، الحديث 2.
2- . الأنفال: 58.

وَ اِعْلَمُوا أَنَّ اَللّهَ مَعَ اَلْمُتَّقِينَ) .(1)

المفردات

الشهر الحرام: عبارة عمّا يحرم فيه ما يحلّ في غيره، وهو أربعة أشهر:

رجب، وذو القعدة، وذو الحجّة، ومحرّم الحرام.

الحرمات: جمع حرمة، ما يجب حفظه ويحرم هتكه.

قصاص: الأخذ للمظلوم من الظالم بسبب ظلمه إيّاه.

التفسير
قتال المعتدين بمثل ما اعتدوا

الأشهر الحرم أربعة، ثلاثة متوالية: ذو القعدة وذوالحجّة ومحرّم، ورابع فرد وهو رجب، وقد كانت العرب يحرّمون فيها القتال، حتّى لو أن رجلاً لقي قاتل أبيه أو أخيه، لم يتعرّض له بسوء.

إذا تبيّن ذلك فقد كان المسلمون الّذين كانوا في ركاب النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم يستغربون القتال في الأشهر الحرم، فقد جاءت هذه الآية تبيّن، لهم وجه الجواز وتقول: (اَلشَّهْرُ اَلْحَرامُ) الّذي هتك المشركون حرمته وخرجوا ومنعوا النبيّ ومن معه من العُمرة (بِالشَّهْرِ اَلْحَرامِ) : أي في مقابله، فأُذن للمسلمين القتال فيه إذا ظهر منهم النقض بالنسبة إلى الوثيقة، وإذا كانت عداوة

ص: 42


1- . البقرة: 194.

المشركين للتوحيد ودين الحق ومحاربتهم للّه ورسوله لا تمنعهم حرمة هذا الشهر ولا حرمة البيت الحرام عن قتال المسلمين، فلهم معارضتهم بتجوير القتال إذا ظهر منهم النقض.

ثم إن قوله سبحانه: (اَلشَّهْرُ اَلْحَرامُ بِالشَّهْرِ اَلْحَرامِ) بيان خاص أعقبه بيان عام يشمل جميع الحرمات حيث قال: (وَ اَلْحُرُماتُ قِصاصٌ) فمَن هتك حرمة يقتص منه ولا تمنعه حرمته عن الاقتصاص، ثم جاء ببيان عام آخر وقال:

(فَمَنِ اِعْتَدى عَلَيْكُمْ) : أي ظلمكم (فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ) : أي فجازوه (بِمِثْلِ مَا اِعْتَدى عَلَيْكُمْ) ، ومن المعلوم أنّ الثاني ليس اعتداء، وتسميته بالاعتداء، من باب المشاكلة، نظير قوله سبحانه: (وَ مَكَرُوا وَ مَكَرَ اَللّهُ) (1).

ومن المعلوم أنّ هذه القاعدة (فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اِعْتَدى عَلَيْكُمْ) مخصّصة بما لا يجوز فيه التعامل بالمثل فلو قتل صبيّاً مثلاً فلا يجوز لنا قتل صبيانهم، ولذلك مضى في الرواية من المنع عن أُمور فلاحظ.

وبما أنّ المجازاة ربّما تشرف المجزي على الاعتداء بأكثر من الجريمة، يخاطب اللّه سبحانه المسلمين عامة بقوله: (وَ اِتَّقُوا اَللّهَ) في مقام الإجزاء (وَ اِعْلَمُوا أَنَّ اَللّهَ مَعَ اَلْمُتَّقِينَ) : أي يصاحبهم بالنصرة لهم، ومن المعلوم أنّ هذه المعيّة ليست معيّة مكانية أو زمانية، بل بمعنى كونه ناصراً لهم في سبيله.

الآية الثالثة
اشارة

قال سبحانه: (اَلَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اَللّهِ وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي

ص: 43


1- . آل عمران: 54.

سَبِيلِ اَلطّاغُوتِ فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ اَلشَّيْطانِ إِنَّ كَيْدَ اَلشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً) .(1)

التفسير
قتال أولياء الشيطان

الآية تتضمّن أُموراً أربعة:

1. قتال المؤمنين في سبيل اللّه.

2. قتال الكافرين في سبيل الطاغوت.

3. الأمر بقتال أولياء الشيطان.

4. وصف كيد الشيطان بالضعف.

أمّا الأوّل: فيقول سبحانه: (اَلَّذِينَ آمَنُوا) وهم الذين أمرهم اللّه سبحانه بالخروج للحرب سرايا أو كافّة (يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اَللّهِ) لنشر الدعوة الإلهية وكسر الوثنية وإنقاذ المستضعفين من مخالب المستكبرين، فهم يقاتلون للحقّ والعدل.

وأمّا الثاني: فيقول سبحانه: (وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اَلطّاغُوتِ) قد سبق أنّ الطاغوت من الطغيان، والصيغة للمبالغة في الطغيان، وعلى هذا فالذين كفروا يقاتلون في سبيل الظلم والشر ومجاوزة الحق.

ولا شكّ أنّ الفقرة الثانية جملة خبرية أي تخبر عن أحوال الكافرين بأنّ

ص: 44


1- . النساء: 76.

الداعي لقتالهم هو بسط السيطرة وحفظ القدرة، وأمّا الفقرة الأُولى فيحتمل أن تكون الجملة الخبرية بداعي الإنشاء، أي فليكونوا كذلك. كما يحتمل أن تكون خبرية محضة حفظاً لوحدة السياق.

وأمّا الثالث: أعني قوله: (فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ اَلشَّيْطانِ) لأنّ الناس على قسمين فالمؤمنون أولياء الرحمن وأمّا الكافرون فأولياء الشيطان، وأمّا عمل الشيطان فهو تزيين أعمالهم الباطلة، قال سبحانه: (وَ إِذْ زَيَّنَ لَهُمُ اَلشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَ قالَ لا غالِبَ لَكُمُ اَلْيَوْمَ مِنَ اَلنّاسِ) (1). وعمل الشيطان كلّه تمويه وتلبيس.

وأمّا الرابع: أعني قوله: (إِنَّ كَيْدَ اَلشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً) كيد الشيطان أي مكره وخدعه واحتياله ضعيفاً، ويمكن أن يقرّر بوجوه:

1. تدخل الشيطان إمّا من جانب إثارة الغضب أو تهييج الشهوة، والمؤمن بإيمانه باللّه والآخرة يقاوم هاتين الغريزتين اللّتين وراءهما الشيطان.

2. أنّ المؤمنين في جهادهم يصدرون عن ولاية اللّه تعالى فهي وراءهم، وأمّا الكافرون فهم خارجون عن ولاية اللّه ويصدرون عن ولاية الشيطان، وأين ولايته عن ولاية اللّه تعالى.(2)

3. أنّ المؤمنين في قتالهم يعتمدون على الحقّ ويطلبونه، وأمّا الكافرون فيعتمدون على الباطل ولا يصدرون إلّاعنه، والحقّ باقٍ في بقائه والباطل كالزبد يذهب جفاء. فأين جهاد من يضحي بنفسه في طريق حفظ كيانه ودينه وحرّيته عن ظلم المستكبرين، من قتال الآخرين لتسخير الناس5.

ص: 45


1- . الأنفال: 48.
2- . الميزان في تفسير القرآن: 420/5.

والاستيلاء على الأرض، فالفطرة الإنسانية تميل إلى الأوّل، وتنزجر عن الثاني فيصير مغلوباً.

الآية الرابعة
اشارة

قال سبحانه: (فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اَللّهِ لا تُكَلَّفُ إِلاّ نَفْسَكَ وَ حَرِّضِ اَلْمُؤْمِنِينَ عَسَى اَللّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ اَللّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَ أَشَدُّ تَنْكِيلاً) .(1)

التفسير
ردّ بأس الكافرين

يظهر من هذه الآية أنّ قسماً كبيراً من أصحاب النبي صلى الله عليه و آله و سلم كانوا من القاعدين أو من المثبّطين، ولذلك أمر سبحانه النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم ومن معه من المؤمنين بالقيام بواجبهم ولا يقتدوا بتقاعس الآخرين عن واجباتهم كما يقول:

(فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اَللّهِ) الفاء للتفريع، أي لا تعتد بتساهل القوم، فقم بنفسك (لا تُكَلَّفُ إِلاّ نَفْسَكَ) : أي لا تهتم بتقاعس الآخرين (وَ حَرِّضِ اَلْمُؤْمِنِينَ) :

أي حثّهم على القتال وذلك كما يقول: (عَسَى اَللّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا) وهذه الفقرة قرينة على أنّ الآية ناظرة إلى الجهاد الدفاعي، واستعمال كلمة (عَسَى) لأجل إيجاد الرجاء في قلوب المؤمنين كما قال: (وَ اَللّهُ أَشَدُّ بَأْساً) :

أي عذاباً (وَ أَشَدُّ تَنْكِيلاً) : أي عقوبة.

ص: 46


1- . النساء: 84.
الآيتان: الخامسة والسادسة
اشارة

قال سبحانه: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَ إِنَّ اَللّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * اَلَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اَللّهُ وَ لَوْ لا دَفْعُ اَللّهِ اَلنّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَ بِيَعٌ وَ صَلَواتٌ وَ مَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اِسْمُ اَللّهِ كَثِيراً وَ لَيَنْصُرَنَّ اَللّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اَللّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) .(1)

المفردات

أُذِن: رُخص.

صوامع: هي بيوت عبادة الرهبان من النصارى، واحدها صومعة.

بيع: هي بيوت عبادة النصارى عامّة، واحدها بيعة. كسدرة وسدر.(2)

صلوات: قيل هي معرّب «صلوتا» بالعبرانية، ومعناها في لغتهم المصلّى.

ويقال: الصلوات جمع صلاة، وهي مصلّى اليهود، سمّي بها تسمية للمحل باسم الحال.(3)

مساجد: هي بيوت عبادة المسلمين.

ص: 47


1- . الحج: 39-40.
2- . مجمع البحرين: 303/4، مادة «بيع».
3- . لاحظ: مجمع البيان: 167/3؛ تفسير الرازي: 40/23؛ الميزان في تفسير القرآن: 385/16.
التفسير
القتال لحفظ مراكز العبادة

قد مرّ الإيعاز إلى الآية الأُولى في مقدّمة الفصل، والآية تتضمّن سبب الإذن للمؤمنين بالدفاع، بقوله: (بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا) فجاءت هذه الآية لبيان نوعية ظلمهم وهي كونهم مشرّدين من ديارهم بغير سبب، فقال: (اَلَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ) : أي بغير سبب، وأيّ ظلم أعظم من الإبعاد القسري عن الأوطان ومعاناة مرارة الغربة والبُعد عن الأهل والأحباب!! وهؤلاء الظالمون الذين شرّدوا المؤمنين من ديارهم لا يملكون ما يسوّغ لهم ذلك. نعم السبب الذي استحقّوا لأجله الإبعاد و التغريب هو رفض الوثنية والالتزام بخط التوحيد كما يقول: (إِلاّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اَللّهُ) والتعبير مدح بصورة الذم فإنّ قولهم (رَبُّنَا اَللّهُ) شرف وعزة لهم ولكن العدو الخائن اتّخذه جريمة، نظير قول النبي صلى الله عليه و آله و سلم: «أنا أفصح من نطق بالضاد بيد أنّي من قريش»، وقول النابغة الذبياني:

ولا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم *** بهن فلول من قراع الكتائب

وعندئذٍ فقد تجلّى في دراسة هذه الآية أنّ تشريع قسم من الجهاد لم يكن لأجل الاعتداء على حقوق الناس، بل كان لأجل الدفاع عن حقوق المستضعفين وغيرهم.

إذا كان السبب الأوّل لتشريع الجهاد أو الدفاع كون المؤمنين مشرّدين، فهناك سبب آخر لتشريع الدفاع في عامّة الشرائع من غير فرق بين الموسوية والعيسوية والمحمدية، وهو أنّه لولا تشريع الجهاد ولزوم الدفاع عن التوحيد

ص: 48

والرسالات السماوية لهدّم المشركون معالم الدين ومراكز العبادة كما يقول:

(وَ لَوْ لا دَفْعُ اَللّهِ اَلنّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ) : أي دفع المشركين برجال غيارى من أهل الديانة (لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ) تتعلّق بالرهبان من النصارى (وَ بِيَعٌ) تتعلّق بعامة النصارى (وَ صَلَواتٌ) تتعلّق باليهود وقد مرّ تفسيرها، (وَ مَساجِدُ) تتعلّق بالمسلمين، فتشريع الجهاد في عامّة الشرائع لصيانة هذه المراكز المختصة للعبادة وإلّا فالمشركون في كلّ عصر يهدمونها.

ثم إنّه سبحانه ذكر المساجد بأنّها (يُذْكَرُ فِيهَا اِسْمُ اَللّهِ كَثِيراً) وبهذا تمتاز مساجد المسلمين عن معابد سائر الديانات حيث تقام فيها الصلاة خمس مرّات في اليوم والليلة.

قال السيد الطباطبائي: في الآية إشارة إلى أنّ القتال في الإسلام من فروع هذه السنة الفطرية الجارية وهي دفع الناس بعضهم بعضاً عن شؤون حياتهم، وإذا نسب إلى اللّه سبحانه يكون دفعه الناس بعضهم ببعض حفظاً لدينه عن الضياع.

وإنّما اختصّ انهدام المعابد بالذكر مع أنّ من المعلوم أنّه لولا هذا الدفع لم يقم أصل الدين على ساقه وانمحت جميع آثاره لأنّ هذه المعابد والمعاهد هي الشعائر والأعلام الدالّة على الدين المذكّرة له الحافظة لصورته في الأذهان.(1)

وفي نهاية الأمر أنّه سبحانه يعد بنصر من ينصر دينه ويقول: (وَ لَيَنْصُرَنَّ اَللّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ) : أي شريعته ودينه، وذلك ل: (إِنَّ اَللّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) : أي قادر وقاهر، فلا يستطيع أحد أن يحول بينه وبين إنجاز وعده.7.

ص: 49


1- . الميزان في تفسير القرآن: 386/17.
الآية السابعة
اشارة

قال سبحانه: (ما كانَ لِأَهْلِ اَلْمَدِينَةِ وَ مَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ اَلْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اَللّهِ وَ لا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَ لا نَصَبٌ وَ لا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اَللّهِ وَ لا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ اَلْكُفّارَ وَ لا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اَللّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ اَلْمُحْسِنِينَ) .(1)

المفردات

يرغبوا: الرغبة طلب المنفعة، يقال: رغب فيه إذا طلب المنفعة به. ورغب عنه: أعرض.

ظمأ: شدّة العطش.

نصب: تعب.

مخمصة: مجاعة.

موطئاً: الموطئ: الأرض.

يغيظ: الغيظ: الغضب.

نيلاً: أسراً وقتلاً وهزيمة.

ص: 50


1- . التوبة: 120.
التفسير
النفير العام بسبب قوّة العدو

لا شكّ أنّ الجهاد واجب كفائي، فإذا قامت عدّة لهم إمكانية الدفاع عن أرض الإسلام سقط الوجوب عن الباقين، وأمّا إذا كان العدو قوّياً على نحو لا يمكن دفعه إلّابالنفير العام، فعندئذٍ يجب على الجميع تلبية دعوة الجهاد، ولعلّ الآية تشير إلى الحالة الثانية، فقالت: (ما كانَ لِأَهْلِ اَلْمَدِينَةِ وَ مَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ اَلْأَعْرابِ) : أي ليس من شأنهم (أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اَللّهِ وَ لا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ) : أي يطلبوا نفع نفوسهم معرضين (عَنْ نَفْسِهِ) : أي نفس رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، فليس لهم أن يشتغلوا بأنفسهم طالبين نفعهم منصرفين عن نفس رسول اللّه، فيتركوه في مخاطر الأسفار ووعثاء السفر.

قال الإمام علي عليه السلام: «إذا حضرت بلية فاجعلوا أموالكم دون أنفسكم، وإذا نزلت نازلة فاجعلوا أنفسكم دون دينكم، واعلموا أنّ الهالك من هلك دينه، والحريب من سُلب دينه، ألا وأنّه لا فقر بعد الجنّة ولا غنى بعد النار».(1)

فالموحّد يضحّي بأمواله وبنفسه من أجل الحفاظ على الدين، ومن المعلوم أنّ الرسول جزء من الدين ومبيّن للشريعة فيقدّم على الأموال والأنفس، ولذلك يقول سبحانه: (وَ لا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ) .

يقول الشريف الرضي رحمه الله: قوله: (وَ لا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ) فيه استعارة، والمراد بها أنّهم لا ينبغي لهم أن يكرموا أنفسهم عمّا يبذل النبي صلى الله عليه و آله و سلم فيه

ص: 51


1- . تحف العقول: 216.

نفسه، ولا يحفظوا مهجهم في المواطن التي تحضر فيها مهجته اقتداء به واتّباعاً لأثره، فهذه لفظة يستعملها أهل اللسان كثيراً.(1)

لا شكّ أنّ حماية رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم والمشاركة في الجهاد يترتّب عليها مواجهة مشاكل ومتاعب عديدة، ذكر سبحانه منها ما يلي، وقال: (ذلِكَ) : أي النهي عن التخلّف (بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ) في هذا الطريق:

1. (ظَمَأٌ) : أي عطش شديد.

2. (وَ لا نَصَبٌ) : أي تعب في الأبدان.

3. (وَ لا مَخْمَصَةٌ) : أي المجاعة.

كلّ ذلك (فِي سَبِيلِ اَللّهِ) وما يقوم به المجاهدون من الأعمال الجهادية، نظير:

1. (وَ لا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً) : أي لا يضعون أقدامهم في موضع من أرض العدو بحيث (يَغِيظُ اَلْكُفّارَ) ويسخطهم لأنّهم يرون بأُمّ أعينهم أنّ المسلمين على مقربة من السيطرة عليهم.

2. (وَ لا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً) : أي لا يصيبون من المشركين من قتل أو جراحة أو أسر، فكلّ هذه الأُمور مقبولة عند اللّه تعالى وما يصيبون بشيء أو يقومون لعمل: (إِلاّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ) : أي بما يصيبون وما يقومون به من (عَمَلٌ صالِحٌ) : أي مقبول، واللّه يجزيهم (إِنَّ اَللّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ اَلْمُحْسِنِينَ) ، والفقرتان الأخيرتان من قبيل الصغرى والكبرى.2.

ص: 52


1- . تلخيص البيان في مجازات القرآن: 52.

أمّا الصغرى فهي كونهم أصحاب أعمال حسنة.

وأمّا الكبرى فهي: (إِنَّ اَللّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ اَلْمُحْسِنِينَ) .

ثمّ إنّه سبحانه يشير إلى ما يقدّمون من أعمال ويقول:

الآية الثامنة
اشارة

قال سبحانه: (وَ لا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَ لا كَبِيرَةً وَ لا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلاّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اَللّهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) .(1)

المفردات

وادياً: الوادي: المفرج بين الجبلين.

التفسير
الجزاء على الأعمال صغيرها وكبيرها

قوله تعالى: (وَ لا يُنْفِقُونَ) : أي في سبيل الجهاد (نَفَقَةً صَغِيرَةً وَ لا كَبِيرَةً) يريدون بها إعزاز الدين والتقرّب إلى اللّه تعالى، (وَ لا يَقْطَعُونَ وادِياً) :

أي في سيرهم بين منفرجات الجبال وأغوار الآكام، خَصَّ سبحانه من المشي إلى الجهاد خصوصَ قطع الوادي لأنّ فيه من المشقّة الشيء الكثير، فلا يترك شيء منه ولا يُنسى (إِلاّ كُتِبَ لَهُمْ) ويسجّل في صحائف أعمالهم لغاية الإجزاء كما يقول: (لِيَجْزِيَهُمُ اَللّهُ) بكتابته في صحف أعمالهم (أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) ، وهذه

ص: 53


1- . التوبة: 121.

الفقرة تحتمل وجهين:

1. أنّ لفظ (أَحْسَنَ) منصوب بنزع الخافض فيكون المعنى أنّ اللّه يجزي على أحسن أعمالهم وهو الجهاد في سبيل اللّه أو يجزي بأحسن أعمالهم، ومن المعلوم أنّ الجزاء على أحسن الأعمال لا ينافي الجزاء على غير الأحسن من أعمالهم.

2. وهو أنّ اللّه سبحانه يجزيهم بجزاء هو أحسن من أعمالهم، ويأتي الاحتمالان في قوله سبحانه: (مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَ لَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (1).

وفي الآية دليل على أنّه سبحانه كما يثيب على المقصود بالذات، فهكذا يثيب على المقدّمات التي يتوقّف عليها المقصود بالذات، فإنّ قطع الوادي أمر مقدّمي حتى يصل الإنسان إلى أرض العدو، فاللّه سبحانه يقول بأنّه يُكتب له ويجزى عليه. وذلك أنّ الأُمور المقدّمية إذا أتى بها الإنسان تقرباً إلى اللّه وكان العمل صالحاً للتقرّب به، يترتّب عليه الثواب.

حصيلة الآيات

قد عرفت جُلّ ما ورد من الآيات الواردة في الجهاد الدفاعي، وهو أمر مستحسن عقلاً وأيّده الشرع، ولا يوجد على وجه الأرض مَن ينكر هذا النوع من الجهاد، وقد تضمّنت الآيات السابقة الأسباب التي تدفع المسلمين للقيام بهذا الفرض، وهي عبارة عن الأُمور التالية:

ص: 54


1- . النحل: 97.

1. قتال مَن يقاتل المسلمين، كما في قوله تعالى: (وَ قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ اَلَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ) (1).

2. قتال المعتدين بمثل ما اعتدوا، كما في قوله: (فَمَنِ اِعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ) (2).

3. قتال أولياء الشيطان، أي قتال مَن زيّن الشيطان لهم أعمالهم الباطلة، فصاروا يكيدون المسلمين كما في قوله: (فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ اَلشَّيْطانِ) (3).

4. ردّ بأس الذين كفروا، كما في قوله تعالى: (فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اَللّهِ لا تُكَلَّفُ إِلاّ نَفْسَكَ وَ حَرِّضِ اَلْمُؤْمِنِينَ عَسَى اَللّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا) (4).

5. الجهاد لحفظ مراكز العبادة، كما في قوله تعالى: (وَ لَوْ لا دَفْعُ اَللّهِ اَلنّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَ بِيَعٌ وَ صَلَواتٌ وَ مَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اِسْمُ اَللّهِ كَثِيراً وَ لَيَنْصُرَنَّ اَللّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اَللّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) (5).

6. النفير العام لأجل قوّة العدو، كما في قوله سبحانه: (ما كانَ لِأَهْلِ اَلْمَدِينَةِ وَ مَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ اَلْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اَللّهِ) (6).

فقد ظهر ممّا ذكرنا أنّ السبب لقيام المسلمين بالقتال هو لأجل الدفاع عن أنفسهم وأموالهم وأعراضهم، فلولا تعرّض العدو لم يكن أثر من هذا الجهاد.0.

ص: 55


1- . البقرة: 190.
2- . البقرة: 194.
3- . النساء: 76.
4- . النساء: 84.
5- . الحجّ: 40.
6- . التوبة: 120.

أحكام الجهاد

4. الجهاد الابتدائي

اشارة

قد عرفت الآيات التي تحثّ المسلمين على الدفاع عن أنفسهم وأموالهم وأعراضهم وأوطانهم وحريتهم واستقلالهم، كما عرفت الدوافع التي تدفع المؤمنين للقيام بهذه الفريضة، إنّما الكلام في الجهاد الابتدائي، وهو جهاد المشركين والوثنيّين وإن لم يكونوا متعرضين ولا مقاتلين للمسلمين، غير أنّ القيادة الحكيمة للأُمة الإسلامية في الشريعة تفرض على نفسها ضرورة إنقاذ هذا المجتمع من الوثنية وذلك ببعث سرية أو سرايا لكسر العوائق التي تمنع المجتمع عن سماع كلمة الحقّ، فالاشتباك بين المجاهدين والعدو لأجل أنّ القوى الكافرة يحولون بين الناس وتبليغ آيات اللّه، فلو سكت العدو عن المعارضة وفتح الطريق لمبلّغي التوحيد، لم يكن أي اشتباك بينهما، وهذا هو الذي نسمّيه بالجهاد الابتدائي، ولأجل أنّه وقع غرضاً لطعون المستشرقين نأتي بمقدّمة، لكي يُعلم أنّ هذا النوع من الجهاد عمل عقلائي يقبله العقل الحصيف، وسيوافيك توضيح أكثر عند التفسير فنقول:

إنّ كلّ موجود حيّ يتوقّف بقاؤه على دفع المزاحم وطرد المضرّات، فالإسلام بما أنّه شريعة سماوية بحاجة في بقائه واستمرار حياته إلى دفع ما يزاحمه، فنقول: إنّ الإسلام، لكونه رسالة إلهية منزلة لهداية البشر كافّة، يسعى إلى تغيير العادات والتقاليد البالية، والأوضاع الفاسدة والنظم الباطلة... فمن الطبيعي أن

ص: 56

يواجه معارضة مَن يخالف هذا التغييرُ مصالحهم، ويتعارض مع مآربهم ومطامعهم... وعندئذٍ يجب على هذا الدين أن يقوم برفع هذه الموانع واكتساح تلكم الحواجز، ليمضي قدماً في أداء رسالته، وتحقيق أهدافه.

إنّ هناك فرقاً واضحاً بين (المذهب الفلسفي) و (الدين الإلهي).

فالفيلسوف، يكتفي ببحث الأُمور الفلسفية لمجرّد التوضيح أو النقد، وينشر أفكاره وتحليلاته بين الناس ليقفوا عليها ويعرفوها دون أن يرَ إلزامهم بشيء منها. فهو لا يهمّه سوى طرح أفكاره والدفاع عنها بواضح الدليل وقاطع البرهان.

وأمّا (الدين الإلهي) فليس مذهباً فلسفيّاً ليكتفي بمجرّد البيان والتوضيح ويحصر همّته في النقد والإشكال، إنّما هو ثورة إصلاحية، وعملية تغييريّة، تستهدف إقامة نظام صالح عادل فوق رُكام الأنظمة الفاسدة، والأوضاع المنحطّة.

وبديهي أنّه لا يتحقّق ذلك دون مواجهة الموانع، وقيام الصراعات والحروب، مع الجهات والقوى المعارضة لهذا التغيير.

فهل في العالم حركة تغييريّة استطاعت تحقيق أهدافها دون خوض الصراعات الحامية، ودون نشوب الحروب وسقوط الضحايا، أو إراقة الدماء؟

فهل استطاعت (الثورة الفرنسية) أن تتجنّب إراقة الدماء؟

ص: 57

الإمكان، ولا يلجأ إليها إلّامن باب الضرورة وفي حدود الإنسانية والرحمة، بخلاف سائر الثورات.

هذا مضافاً إلى بقيّة الفوارق التي تتجسّد في (أحكام الجهاد الإسلامي) المذكورة في محلّها.

وصفوة القول: إنّ كلّ ثورة إصلاحية وحركة تغييريّة تتطلّب - بحكم الضرورة - هذه المواجهات الساخنة، دفعاً للمزاحم ورفعاً للموانع والحواجز، وإلّا ماتت هذه الثورة في المهد، كما تموت الخليّة الحيّة إذا تركت كذلك.

وبعبارة واضحة: إنّ الإسلام نظام إجتماعي ثوري، لم ير العالم نظيراً له قطّ، وبما أنّه رسالة إلهية تضمن سعادة البشر، فإنّه يرى لنفسه حق التوسعة والتعميم.

ولأجل ذلك يسعى إلى إزالة الموانع والحواجز بأسهل الطرق وأعدلها، فيبتدئ بالتبليغ والتعليم والبحث والمجادلة والتوجيه والإرشاد، فإذا رأى أنّ الموانع لا ترتفع إلّابقوّة قاهرة سعى إلى رفعها بتلك القوّة.

وليس هذا يختصّ بالدين الإسلامي، بل كان هذا هو طريق الأنبياء ومنهاجهم في الدعوة إلى طريق الحق. وفي ذلك يقول سبحانه: (لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَ أَنْزَلْنا مَعَهُمُ اَلْكِتابَ وَ اَلْمِيزانَ لِيَقُومَ اَلنّاسُ بِالْقِسْطِ وَ أَنْزَلْنَا اَلْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَ مَنافِعُ لِلنّاسِ) .(1)

والكتاب والميزان إشارة إلى أنّهم كانوا يتوسّلون في بدء الأمر بأسهل الطرق، وهي تنوير الأفكار وإقناعها بمنطق العقل.5.

ص: 58


1- . الحديد: 25.

وأمّا إذا رأوا أنّ ذلك المنطق لا يجدي في رفع الموانع توسّلوا بمنطق القوّة، فالحديد في الآية كناية عن ذلك المنطق، وحياة الأنبياء وتاريخهم خير شاهد على ذلك.

الآية الأُولى
اشارة

قال سبحانه: (وَ ما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اَللّهِ وَ اَلْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ اَلرِّجالِ وَ اَلنِّساءِ وَ اَلْوِلْدانِ اَلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ اَلْقَرْيَةِ اَلظّالِمِ أَهْلُها وَ اِجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَ اِجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً) .(1)

المفردات

في سبيل اللّه: في سبيل دين اللّه وإعلاء كلمته لا طمعاً في غنيمة.

المستضعفين: الضعف خلاف القوّة، يقال: لقد ضعف فهو ضعيف، والمستضعفون في الآية عبارة عن المؤمنين في مكة يضطهدهم المشركون ويظلمونهم، وهم لا يستطيعون الهجرة من مكّة إلى المدينة أو غيرها. فأوجب اللّه سبحانه على المؤمنين أن يجاهدوا في طريق تحريرهم من ظلم المشركين.

القرية: أُريد بها هنا مكّة وتطلق على المدن الكبيرة أيضاً، قال سبحانه عن لسان إخوة يوسف عليه السلام: (وَ سْئَلِ اَلْقَرْيَةَ اَلَّتِي كُنّا فِيها) (2).

ص: 59


1- . النساء: 75.
2- . يوسف: 82.
التفسير
الجهاد الابتدائي لتحرير المستضعفين من ظلم المستكبرين

التدبّر في الآية يرشدنا إلى أنّ الغاية من الجهاد الابتدائي أحد أمرين:

1. نشر الدين الإلهي بين الناس وهدايتهم إلى ما فيه سعادة الدارين.

وهذا ما يشير إليه سبحانه بقوله: (فِي سَبِيلِ اَللّهِ) .

2. إنقاذ المستضعفين من مخالب المستكبرين، وهذا ما يشير إليه قوله: (وَ اَلْمُسْتَضْعَفِينَ) إلخ، وهذه أُمنية معنوية قلّما توجد في قوانين الدول العلمانية، فإنّ البنية الأساسية للقتال الموجود بين الأُمم هو التوسّع في السلطة وضم الأراضي إلى الدول والهيمنة الاقتصادية والسياسية على الجيران. وأمّا القتال لرفع الظلم عن المضطهدين فليس موجوداً في قواميسهم.

أمّا الداعي الأوّل: أي نشر الدين في المجتمع البشري كافّة، فنقول: الإنسان المثالي (النبي) الذي يتبنّى أيديولوجية إلهية، لا مناص له - في سبيل نشر دعوته وبثّ أفكاره - من السعي وراء هدفه. وهذا ما يعبّر عنه القرآن بالجهاد في سبيل اللّه، وقد جاءت الكلمة (الجهاد) ثمانية وعشرين مرّة مع مشتقاتها في الكتاب العزيز، وهذا يعرب عن أنّ مسألة الجهاد ليست مجرّد مسألة قتل وقتال وسفك دماء وتدمير بيوت، وإنّما هو سعي في نشر الأيديولوجية الإلهية بأنواع الوسائل الممكنة، فإذا واجه الداعي في طريق نشر دعوته، مقاومةً من العدو ومنعاً من الطواغيت، فلا مناص له عندئذٍ من رفع المانع بالجهاد والقتال. يقول سبحانه: (يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِسْتَجِيبُوا لِلّهِ وَ لِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ وَ اِعْلَمُوا أَنَّ اَللّهَ

ص: 60

يَحُولُ بَيْنَ اَلْمَرْءِ وَ قَلْبِهِ وَ أَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) (1) .

فلو كان المقصود هو حياة المسلمين فالآية تدلّ على إحيائهم، وأمّا لو كان المقصود المجتمع الإنساني فتكون الآية دالّة على الجهاد الابتدائي. فتدبّر.

وأمّا الداعي الثاني: وهو إنقاذ المستضعفين من ظلم المستكبرين فهذا يدلّ على أنّ الغاية من الجهاد غاية إنسانية، حيث يبذل المجاهد نفسه وماله لإنقاذ الآخرين.

وقد مرّ أنّه لا يوجد في القوانين العالمية قانون يبعث جيشاً لإنقاذ الآخرين دون أن تكون له إطماع دنيوية.

وأمّا المستضعفون في الآية فهم المؤمنون الذين آمنوا في الفترة المكية بالنبي وشاركوه في السراء والضراء، فلمّا هاجر النبي صلى الله عليه و آله و سلم إلى مكّة ضاعف المستكبرون ظلمهم لهؤلاء، ولذلك فاللّه سبحانه يحثّ المؤمنين إلى إنقاذهم مقروناً بالتعجّب ويقول: (وَ ما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اَللّهِ) وقد التفت من الغيبة في قوله: (فَلْيُقاتِلْ) إلى الخطاب في هذه الآية لزيادة الحثّ على الجهاد، حتى لا يتذرّع أحد بعذر من الأعذار، لأنّ الحثّ مع التعجب يكشف عن أنّهم في العلم الإلهي غير معذورين في إنقاذ هؤلاء أعني: (وَ اَلْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ اَلرِّجالِ وَ اَلنِّساءِ وَ اَلْوِلْدانِ) : أي في سبيل تحريرهم، وقد بلغ ظلم المستكبرين لهم إلى حدٍّ كان المستضعفون يدعون اللّه تبارك وتعالى بأدعية ثلاثة:

الأوّل: بقولهم: (رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ اَلْقَرْيَةِ اَلظّالِمِ أَهْلُها) : أي سهّل لنا الخروج من هذه القرية، فإنّ الساكنين فيها لم يزالوا يفتنون المؤمنين عن دينهم.4.

ص: 61


1- . الأنفال: 24.

الثاني: (وَ اِجْعَلْ لَنا) بألطافك وتأييدك (مِنْ لَدُنْكَ) : أي من عندك (وَلِيًّا) : أي يلي أمرنا حتى ينقذنا من أمر الظلمة.

الثالث: (وَ اِجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً) ينصرنا على من ظلمنا. وقد استجاب اللّه تعالى دعاءهم عندما فتح رسول اللّه مكّة، فقلبت الأُمور ضد المستكبرين.(1)

الآية الثانية
اشارة

قال سبحانه: (قاتِلُوا اَلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ لا بِالْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَ لا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اَللّهُ وَ رَسُولُهُ وَ لا يَدِينُونَ دِينَ اَلْحَقِّ مِنَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ حَتّى يُعْطُوا اَلْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَ هُمْ صاغِرُونَ) .(2)

المفردات

يدينون: يدين بكذا: إذا اتّخذه ديناً وعقيدة.

دين الحق: أُريد الدين الذي أنزله سبحانه على أنبيائه.

الجزية: ضرب من الخراج، تارة يضرب على الأشخاص وأُخرى على الأرض، وهو مشتق من الجزاء، وربما قيل إنّه معرّب «گزيت» الفارسية، كما في «روح المعاني».(3)

ص: 62


1- . مجمع البيان: 154/3.
2- . التوبة: 29.
3- . روح المعاني: 271/5.

عن يدٍ: عن قدرة وسعة.

صاغرون: خاضعون لأحكام الإسلام وسيادته.

التفسير

الإسلام الذي جاء به النبي محمد صلى الله عليه و آله و سلم ليس ديناً خاصّاً بفئة محدّدة ومكان معيّن وزمان محدود، بل هو دين عالمي شامل لأهل الأرض جميعاً، ولذلك يخاطب الكل بقوله: (يا أَيُّهَا اَلنّاسُ) * وكان أمام ذلك الأمل الكبير طائفتان:

المشركون، وأهل الكتاب.

أمّا المشركون فسيوافيك أنّه سبحانه أمهلهم أربعة أشهر فإن آمنوا فهو، وإلّا فمصيرهم القتل في أي موضع وجدوا فيه، وسيأتي وجهه.

وأمّا أهل الكتاب فتحدّثت عنهم هذه المجموعة من الآيات.

وأهل الكتاب هم اليهود والنصارى والمجوس، أمّا الأوّلان فقد ذكر اسمهما في الذكر الحكيم مرّة بعد مرّة، وأمّا الثالث (المجوس) فقد جاء ذكرهم في سورة الحج، أعني قوله تعالى: (إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ اَلَّذِينَ هادُوا وَ اَلصّابِئِينَ وَ اَلنَّصارى وَ اَلْمَجُوسَ وَ اَلَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اَللّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ إِنَّ اَللّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ) .(1)

وأمّا الصابئون فالفقهاء لم يحسبوهم من أهل الكتاب.

إذا علمت ذلك فاعلم أنّ الأمنية الكبرى للإسلام هو تأسيس دولة إسلامية عالمية شاملة لكافّة الشعوب والشرائع. وقد صرّح رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بهذه الأمنية

ص: 63


1- . الحج: 17.

عندما قال لصناديد قريش: «تعطوني كلمة واحدة تملكون بها العرب والعجم».(1)

وبما أنّ أهل الكتاب يختلفون عن المشركين من جهات شتّى، فلذلك كان التعامل معهم غير التعامل مع المشركين، فالمشرك إمّا أن يُؤمن أو يُقتل، وأمّا أهل الكتاب فبما أنّهم مؤمنون باللّه ورسله، ولهم طقوس خاصّة وشرائع مقتبسة من التوراة، صار التعامل معهم بشكل آخر وهو جهادهم وقتالهم إلى أن يعطوا الجزية ويتفيّئوا في ظلال الإسلام مقابل دفع ضريبة خاصّة، وعندئذٍ تتكفّل الدولة الإسلامية بحمايتهم وحفظهم عن الشر والأذى.

إذا علمت ذلك فلندخل في تفسير الآية.

أُريد من الموصول في قوله: (قاتِلُوا) أهل الكتاب (اَلَّذِينَ) جاء بهم التصريح في قوله تعالى في نفس الآية: (مِنَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ) فكأنّه يقول:

قاتلوا الذين أُوتوا الكتاب، وأُريد من الكتاب التوراة والإنجيل وغيرهما من الكتب السماوية وإن حُرّفت فيما بعد.

ثمّ إنّه سبحانه يصف أهل الكتاب بأوصاف ثلاثة وكأنّها هي الأسباب الحقيقية لقتالهم وهي عبارة عن الأُمور التالية:

1. (لا يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ لا بِالْيَوْمِ اَلْآخِرِ) .

2. (وَ لا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اَللّهُ وَ رَسُولُهُ) .

3. (وَ لا يَدِينُونَ دِينَ اَلْحَقِّ) .

ولأجل ذلك يأمر بقتالهم إلى أن (يُعْطُوا اَلْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَ هُمْ صاغِرُونَ) .2.

ص: 64


1- . السيرة الحلبية: 45/2.

وعندئذٍ يقع الكلام في تفسير كلّ من هذه الأسباب، والمفسّرون في حيرة فيما أُريد بها.

أمّا الأوّل: فاللّه سبحانه وصفهم بقوله: (لا يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ لا بِالْيَوْمِ اَلْآخِرِ) . كيف يصفهم بذلك مع أنّهم أهل الكتاب، والكتاب هو المنزل من اللّه سبحانه. وكيف يصفهم بذلك مع أنّه سبحانه أمر النبي صلى الله عليه و آله و سلم أن يدعوهم إلى أُصول مشتركة منها (قُلْ يا أَهْلَ اَلْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمْ أَلاّ نَعْبُدَ إِلاَّ اَللّهَ وَ لا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً) .(1)

أقول: إنّهم وإن آمنوا باللّه ولكن إيمانهم مقرون بالشرك: أمّا اليهود، فإنّهم أهل التجسيم والتشبيه مضافاً إلى قولهم بأنّ عزيراً ابن اللّه كما في قوله سبحانه: (وَ قالَتِ اَلْيَهُودُ عُزَيْرٌ اِبْنُ اَللّهِ) ؛ وأمّا النصارى فإنّهم أهل التثليث، فالألوهية عندهم قائمة بأُمور ثلاثة: إله الأب، وإله الابن، وإله روح القدس، ولذلك سلب عنهم الإيمان باللّه، وأمّا اليوم الآخر فقد قال المحقّقون إنّه لم يذكر في التوراة شيء يرجع إلى القول بالمعاد والحياة الأخروية. ولو قال بعضهم فإنّما يقولون به على وجه التحريف كما يحكي عنه سبحانه قولهم (وَ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا اَلنّارُ إِلاّ أَيّاماً مَعْدُودَةً) (2).

و أمّا الثاني: فإنّهم (لا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اَللّهُ وَ رَسُولُهُ) فلو أُريد من قوله: (وَ رَسُولُهُ) رسول كلّ طائفة كموسى لليهود والمسيح للنصارى، أمّا اليهود فقد أكلوا أموال الناس بالباطل كالربا وشرب الخمر وأكل الخنزير وحرّفوا ما كتب اللّه0.

ص: 65


1- . آل عمران: 64.
2- . البقرة: 80.

لهم في التوراة.

وأمّا النصارى فقد استباحوا ما حُرّم عليهم في التوراة ممّا لم ينسخه الإنجيل. وهذا أمر محسوس ملموس في أنّ حياة النصارى فإنّها لا تنطبق على أحكام التوراة.

وأمّا لو قلنا بأنّ المراد من قوله: (وَ رَسُولُهُ) هو رسول الإسلام - كما هو المتبادر من اللفظ في كافة آيات القرآن الكريم - فعندئذٍ فالمراد المحرّمات التي حرّمها اللّه ورسوله محمد صلى الله عليه و آله و سلم الصادع بالدعوة الإسلامية كشرب الخمر وأكل لحم الخنزير وأكل المال بالباطل وبما أنّ فيها فساداً كبيراً على المجتمع فالإسلام يطلب منهم ألّا يتظاهروا بهذه الأعمال، غير أنّهم كانوا يتظاهرون بها، ولأجل هذه الغاية أمر بقتالهم حتى يدخلوا في حكم الإسلام ويعملوا بأحكام الذمة التي منها عدم التظاهر بهذه المحرّمات.

و الثالث: فإنّهم (لا يَدِينُونَ دِينَ اَلْحَقِّ) : أي الدين المنسوب إلى اللّه سبحانه، أي لم يدينوا دين الحقّ الذي جاء به كتابهم وإنّما دانوا بما حرّفوا منه وهو ليس دين الحق... فهذه الأُمور الثلاثة أعدّت أرضية خاصّة لقتالهم إلى أن (يُعْطُوا اَلْجِزْيَةَ) فإنّ في إخضاعهم لأحكام الجزية تطويقاً لقسم من تأثير أعمالهم الفاسدة على المجتمع الإسلامي ومنعاً من التظاهر بها، فأُمروا بإعطاء الجزية في مقابل حقن دمائهم وتوفير أسباب الحياة الآمنة لهم.

قوله: (عَنْ يَدٍ) : في تفسيره وجهان:

1. أن يعطوا الجزية عن يد مؤاتية أي منقادين أو مقرونة بالانقياد، أو عن

ص: 66

يدهم أي مسلّمين، أو مسلّمة بأيديهم لا بأيدي غيرهم من وكيل أو رسول؛ لأنّ القصد فيها التحقير وهذا ينافيه، ولذا منع من التوكيل شرعاً.(1)

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكر من الشدّة والغلظة لا ينسجم مع روح التشريع الإسلامي.

2. أي عن قدرة وسلطة، فالمعدم والعاجز معفو عنها، وهذا هو الأظهر.

ثمّ قال سبحانه: (وَ) الحال (هُمْ صاغِرُونَ) : أي خاضعون. والدليل على تقدير لفظة (لكم) بعد لفظة «يد» هو قوله: (هُمْ صاغِرُونَ) فكونهم خاضعون يدلّ على وجود السلطة والاستعلاء للآخذين. والظاهر أنّ المراد من الذيل هو خضوعهم للحكومة الإسلامية، لا الإهانة والسخرية، فإنّه لا يناسب الحكومة الإسلامية المبنية على المثل العليا والأخلاق الحسنة.

يقول السيد الطباطبائي: والاعتبار بما ذكر في صدر الآية من أوصافهم المقتضية لقتالهم ثم إعطاؤهم الجزية لحفظ ذمّتهم يفيد أن يكون المراد بصغارهم خضوعهم للسنّة الإسلامية والحكومة الدينية العادلة في المجتمع الإسلامي فلا يكافئوا المسلمين ولا يبارزوهم بشخصية مستقلّة حرّة في بثّ ما تهواه أنفسهم وإشاعة ما اختلقته أهواؤهم من العقائد والأعمال المفسدة للمجتمع الإنساني، مع ما في إعطاء المال بأيديهم من الهوان.(2)

ونقل الرازي اعتراضاً عن ابن الراوندي على قوله سبحانه: (تَكادُ اَلسَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَ تَنْشَقُّ اَلْأَرْضُ وَ تَخِرُّ اَلْجِبالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ 9.

ص: 67


1- . روح المعاني: 78/10.
2- . الميزان في تفسير القرآن: 242/9.

وَلَداً) (1) فبيّن أنّ إظهارهم لهذا القول بلغ إلى هذا الحدّ، ومع ذلك لما أخذ منهم ديناراً واحداً قرّرهم عليه وما منعهم منه.

وأجاب عنه وقال: ليس المقصود من أخذ الجزية تقريره على الكفر، بل المقصود منها حقن دمه وإمهاله مدّة، رجاء أنّه ربما وقف في هذه المدّة على محاسن الإسلام وقوّة دلائله، فينتقل من الكفر إلى الإيمان.(2)

أخذ الجزية ومصارفها

ربما يتصوّر أنّ الجزية ضريبة مجحفة بالنسبة إلى أهل الكتاب سواء أكانت مفروضة على النفوس أم على الأراضي، ولكن ذلك تصوّر خاطئ لأنّ المسلمين أيضاً فرضت عليهم ضرائب مالية كالزكاة والخمس والكفّارات، وغيرها، مع أنّ المسلمين يشاركون في الجهاد دون أهل الكتاب وهم يُضحّون بنفسهم ونفيسهم دون الآخرين. مع أنّ الضريبة المأخوذة من أهل الكتاب تصرف في مصالحهم وتوفير أسباب الحياة لهم وحفظهم والدفاع عنهم، إلى غير ذلك من الأُمور، وليس هذا أمراً يوصف بالإجحاف. بقي أن نعرف أنّ الإسلام فرض على أهل الكتاب - بعد الغلبة عليهم - دفع ضريبة تُسمّى بالجزية، وهي - كما سبق - بمنزلة الضريبة التي تؤخذ من المسلمين تحت عناوين مختلفة من الزكاة والخمس وسائر الصدقات لتصرف في شؤون الدولة الإسلامية، ولكن لا تؤخذ الجزية من المعتوه ولا من المغلوب على عقله، ولا الصبيان ولا النساء، لأنّ الجزية إنّما هي في مقابل الدخل تقريباً. قال الإمام

ص: 68


1- . مريم: 90-91.
2- . تفسير الرازي: 32/16.

الصادق عليه السلام: «جرت السنّة أن لا تؤخذ الجزية من المعتُوه ولا من المغلوب على عقله».(1)

ثمّ إنّ الجزية تقدّر بقدر المُكنة والقدرة فقد سئل الإمام الصادق عليه السلام عن حدّ الجزية فقال: «ذلك إلى الإمام يأخذ من كلّ إنسان منهم ما شاء على قدر ماله وما يُطيقُ».(2)

كما أنّ الإمام مخيّر في الجزية في أن يضع الجزية على حسب رؤوسهم دون أرضهم أو على أرضهم دون رؤوسهم... في حين أنّه يأخذ من المسلمين الضرائب المتوجّبة عليهم من أموالهم خاصّة، وهذا إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على مدى روح التسامح والعطف والعدالة التي يتعامل بها الإسلام مع الأقليّات الأُخرى؛ فعن محمّد بن مسلم قال: سألته عليه السلام عن أهل الذمّة ماذا عليهم ما يحقنون به دماءهم وأموالهم؟ قال: «الخراج، وإن أُخذ من رؤوسهم الجزية فلا سبيل على أرضهم، وإن أُخذ من أرضهم فلا سبيل على رؤوسهم».(3)

كما أنّه لا يجوز للحكومة الإسلاميّة أن تأخذ من الأقليّات شيئاً علاوة على الجزية؛ فعن محمّد بن مسلم عن أبي جعفر الباقر عليه السلام في أهل الجزية أيؤخذ من أموالهم ومواشيهم سوى الجزية؟ قال: «لا».(4)

وبالتالي، إنّ الجزية لم تكن ضريبة شاقّة لو عرفنا مقاديرها فقد جعل4.

ص: 69


1- . الوسائل: 11، الباب 51 من أبواب جهاد العدو، الحديث 1. وراجع: تحرير الوسيلة للإمام الخميني: 532/2-533؛ باب: في مَن يؤخذ منه الجزية.
2- . الوسائل: 11، الباب 68 من أبواب، جهاد العدوّ، الحديث 1.
3- . الوسائل: 11، الباب 68 من أبواب جهاد العدو، الحديث 3.
4- . الوسائل: 11، الباب 68 من أبواب جهاد العدو، الحديث 4.

الإسلام على أغنيائهم ثمانية وأربعين درهماً، وعلى أوساطهم أربعة وعشرين درهماً، وعلى فقرائهم إثنا عشر درهماً... يؤخذ منهم كلّ سنة، راجع لمعرفة ذلك، الحديث المروي في هذا الباب.(1)

وفي الحقيقة لا تقدير خاصّ للجزية، ولا حدّ لها؛ بل تقديرها إلى الوالي، (والحكومة الإسلاميّة) بحسب ما يراه من المصالح في الأمكنة والأزمنة ومقتضيات الحال(2)، والمقدار المذكور في الرواية هو مصداق لهذا التقدير.

وبالتالي فإنّ ما تأخذه الدولة الإسلاميّة من الأقليّات باسم الجزية إنّما هو في الحقيقة لتقديم الخدمات إليهم، وحمايتهم، لا أنّه أتاوة على نحو ما يفعل الفاتحون عادة.

فالجزية إذن ضريبة ضئيلة يقابلها تأمين الإسلام لهم الحراسة والحفظ وتوفير ضروريات الحياة.

والدليل على ما ذكرنا ما رواه البلاذري في أمر «حمص»، قال: إنّ أبا عبيدة ابن الجراح قدم حمص على طريق بعلبك فنزل بباب الرستن فصالحه أهل حمص على أن أمنهم على أنفسهم وأموالهم وسور مدينتهم وكنائسهم وأرحائهم واستثنى عليهم ربع كنيسة يوحنا للمسجد واشترط الخراج على مَن أقام منهم.(3)

ثمّ يقول بعد عدّة صفحات: إنّ القائم بأُمور الخراج قال: بلغني أنّه لما جمع هرقل للمسلمين الجموع وبلغ المسلمين إقبالهم إليهم لوقعة اليرموك ردّوا على7.

ص: 70


1- . الوسائل: 11، الباب 68 من أبواب جهاد العدو، الحديث 5.
2- . تحرير الوسيلة للإمام الخميني: 533/2، المسألة 1، باب القول في كمية الجزية.
3- . فتوح البلدان للبلاذري: 137.

أهل حمص ما كانوا أخذوا منهم من الخراج، وقالوا: قد شغلنا عن نصرتكم والدفع عنكم فأنتم على أمركم، فقال أهل حمص: لَوِلايتكم وعدلكم أحب إلينا ممّا كنّا فيه من الظلم والغشم، ولندفعن جند هرقل عن المدينة مع عاملكم.(1)

وبذلك يبقى الكتابيّ على دينه ويقيم شعائره في حدود المصلحة الإسلاميّة العامّة حسب ما قُرّرت لها من شروط، وأحكام.

في شرائط الذمّة

الشرائط المقوّمة للذمّة التي تنتفي بانتفاء واحدة منها، ثلاثة:

1. أن لا يفعلوا ما ينافي الأمان مثل العزم على حرب المسلمين أو إمداد المشركين والتواطئ معهم ضد مصالح الإسلام والمسلمين.

2. أن يلتزموا بأن تجري عليهم أحكام المسلمين بمعنى وجوب قبولهم لما يحكم به المسلمون من أداء حقّ أو ترك محرّم، والمراد من الأحكام هي الأحكام الاجتماعية والجزائية كجلدهم إذا زنوا وقطع أيديهم إذا سرقوا وما شابه ذلك.

3. قبول دفع الجزية.

فهذه الشروط الثلاثة تعتبر من مقوّمات الذمّة، وأمّا غير ذلك من الشروط فإنّما يجب العمل بها من جانبهم إذ اشترطت في عقد الذمّة.(2)

وفي الختام: إنّ أهل الكتاب هم اليهود والنصارى والمجوس، ويكفي في ذلك ما روي عن أبي عبد اللّه عليه السلام حيث سُئل عن المجوس: أكان لهم نبيّ؟ فقال:

ص: 71


1- . فتوح البلدان للبلاذري: 143.
2- . لاحظ: جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام: 271/21.

«نعم. وقال: أما بلغك كتاب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إلى أهل مكّة أن أسلموا وإلّا نابذتكم بحرب؛ فكتبوا إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: أن خذ منّا الجزية ودعنا على عبادة الأوثان.

فكتب إليهم النبي صلى الله عليه و آله و سلم: إنّي لست آخذ الجزية إلّامن أهل الكتاب. فكتبوا إليه يُريدون بذلك تكذيبه: زعمت أنّك لا تأخذ الجزية إلّامن أهل الكتاب، ثم أخذت الجزية من مجوس هجر. فكتب إليهم النبي صلى الله عليه و آله و سلم: «إنّ المجوس كان لهم نبيّ فقتلوه، وكتاب أحرقوه. أتاهم نبيّهم بكتابهم في اثني عشر ألف جلد ثور».(1)

الآية الثالثة
اشارة

قال سبحانه: (يا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ جاهِدِ اَلْكُفّارَ وَ اَلْمُنافِقِينَ وَ اُغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ اَلْمَصِيرُ) .(2)

المفردات

جاهد: من الجهاد وهو استفراغ الوسع في مدافعة (دفع) العدو.

اغلظ: من الغلظة وهي الخشونة والشدّة في المعاملة.

التفسير

الآية تتضمّن أُموراً ثلاثة:

1. أمر النبي صلى الله عليه و آله و سلم بجهاد الكفّار والمنافقين.

2. أمره صلى الله عليه و آله و سلم بالتغليظ عليهم.

ص: 72


1- . الكافي: 567/3-568.
2- . التوبة: 73.

3. أنّ مأوى الكفّار والمنافقين في الآخرة هو جهنم وبئس المصير.

ما هو المراد من جهاد المنافقين؟

أمّا الأوّل: فقوله: (يا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ جاهِدِ اَلْكُفّارَ وَ اَلْمُنافِقِينَ) وقد دلّ التاريخ على أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم لم يقاتل المنافقين بل تعامل معهم معاملة المسلمين، فعلى هذا فأُريد بالجهاد معناه الوسيع، أي السعي في طريق دفع العدو؛ أمّا الكفّار، فبالتبليغ والإرشاد فإن لم ينفع فالقتال؛ أمّا المنافقون فببذل الجهد في مقاومتهم حسب اقتضاء المصلحة، فتارة المصلحة تقتضي البشاشة في الوجه، وأُخرى الوعظ باللسان، وثالثة العبوس في الوجه، إلى غير ذلك من مراتب المصلحة التي تركت إلى النبي صلى الله عليه و آله و سلم. وكون الجهاد مستعملاً في الجهاد بالسيف فهو من مصاديق الجهاد، وإلّا فالجهاد بمعنى السعي وله طرق مختلفة.

يقول السيد الطباطبائي: ربما يسبق إلى الذهن أنّ المراد بجهادهم مطلق ما تقتضيه المصلحة من بذل غاية الجهد في مقاومتهم، فإن اقتضت المصلحة هُجروا ولم يخالطوا ولم يعاشروا، وإن اقتضت وعظوا باللسان، وإن اقتضت أُخرجوا وشرّدوا إلى غير الأرض أو قتلوا إذا أخذ عليهم الردّة، أو غير ذلك.(1)

ثمّ إنّ من ألطف التعابير في طريق نشر الدعوة الإسلامية، التعبير بالجهاد دون القتال، وهذا يشعر بأنّ الغاية هي السعي في إصلاح المجتمع وأنّ القتال من باب آخر الدواء الكيّ.

وأمّا الثاني - أعني قوله: (وَ اُغْلُظْ عَلَيْهِمْ) -: أي عاملهم بالغلظة والشدّة

ص: 73


1- . الميزان في تفسير القرآن: 339/9.

حسب سوء حالهم فلا يقاتلون إلّاإذا أظهروا الكفر البواح بالردّة، وقد روي عن ابن عباس في تفسير الآية أنّه قال: جهاد الكفّار بالسيف وجهاد المنافقين باللسان.(1)

ثمّ إنّ الأمر بالتغليظ على الكفّار والمنافقين لا ينافي كونه صلى الله عليه و آله و سلم رحمة للعالمين؛ وذلك لأنّ التغليظ هنا آخر الدواء، لهذا الداء العيّاء، وقد ثبت في التاريخ أنّهم آذوا رسول اللّه بصور مختلفة كما أنّهم همّوا بقتله غيلة، واللّه سبحانه حفظه وصانه عن شرّهم، ففي مثل هذه الموارد لا محيص من قطع جذور الفساد حتى يأمن الرسول و المسلمون من شرور الأشرار وكيدهم، في الليل والنهار.

وعن ابن مسعود في تفسير قوله: (جاهِدِ اَلْكُفّارَ وَ اَلْمُنافِقِينَ) قال: بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وليلقه بوجه مكفهّر.(2) فلابدّ أن يُراد «بيده» غير القتال بالسيف.

وأمّا الثالث: أعني قوله: (وَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ اَلْمَصِيرُ) ، فيا للقوم من مصير هالك!

***

الآية الرابعة
اشارة

قال سبحانه: (فَإِذَا اِنْسَلَخَ اَلْأَشْهُرُ اَلْحُرُمُ فَاقْتُلُوا اَلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَ خُذُوهُمْ وَ اُحْصُرُوهُمْ وَ اُقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ

ص: 74


1- . تفسير الدر المنثور: 239/4.
2- . تفسير الدر المنثور: 239/4.

تابُوا وَ أَقامُوا اَلصَّلاةَ وَ آتَوُا اَلزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) .(1)

المفردات

انسلخ: السلخ: نزع جلد الحيوان، وأُريد هنا انقضاء الأشهر الحُرم.

مرصد: طريق، ومثله: المَرقَبْ والمَربى.

التفسير
الجهاد الابتدائي لقتال الناقضين لأيمانهم

كانت سيرة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قبل نزول سورة براءة أن لا يقاتل إلّامن قاتله، ولا يحارب إلّامن حاربه وأراده بسوء، امتثالاً لقوله سبحانه: (فَإِنِ اِعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَ أَلْقَوْا إِلَيْكُمُ اَلسَّلَمَ فَما جَعَلَ اَللّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً) (2) فكان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لا يقاتل أحداً قد تنحّى عنه واعتزله حتّى نزلت عليه (سورة براءة) فأمره اللّه بقتال المشركين إلّاالّذين قد عاهدهم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يوم فتح مكة إلى مدّة، منهم صفوان بن أُمية وسهيل بن عمرو،(3) ولم ينكثوا أيمانهم.

كان النبي صلى الله عليه و آله و سلم يفكّر في أمر المشركين وما نقضوا به عهودهم وأيمانهم والأعمال الشنيعة الّتي يرتكبونها في الطواف، وحينذاك نزل جبرئيل بسورة براءة

ص: 75


1- . التوبة: 5.
2- . النساء: 90.
3- . البرهان في تفسير القرآن: 4/383.

وقد أمره فيها سبحانه بأن يتبرّأ من المشركين ويرفع أي أمان أعطاهم إلّاالّذين لم ينقضوا أيمانهم فيتمّ النبيّ عهده معهم إلى مدّتهم.

ثم إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم اختار أبا بكر لرفع الأيمان عن المشركين بقراءة آيات من سورة البراءة، فخرج أبو بكر إلى مكّة لإنجاز مهمته، وبعد ذلك نزل الوحي على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم. بعزل أبي بكر ونصب عليّ مكانه.

فقام عليّ يوم النحر والمشركون والمسلمون حضور، فقرأ ست عشرة آية من أوّل السورة إلى قوله تعالى: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَ لَمّا يَعْلَمِ اَللّهُ اَلَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَ لَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اَللّهِ وَ لا رَسُولِهِ وَ لاَ اَلْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَ اَللّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) (1).

إنّ في غضون هذه الآيات نكات تشير إلى سبب رفع الأمان عن المشركين وإمهالهم مدّة أربعة أشهر، فإن تابوا وأسلموا فهو، وإلّا فيقتلون في أي طريق ومكان تواجدوا فيه. وعندئذٍ يقع الكلام في إيضاح ما هو السرّ في قتال المشركين؟ إنّه سبحانه يضيّق الأمر على المشركين لوجوه:

أوّلاً: الأنبياء من أوّلهم إلى آخرهم بعثوا لغاية واحدة وهي هدم الوثنية وإنقاذ الإنسان من عبادة الشجر والحجر أو الموجودات الغيبية، وهذا هو الأصل الأصيل في المعارف الإلهية، قال سبحانه: (وَ لَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اُعْبُدُوا اَللّهَ وَ اِجْتَنِبُوا اَلطّاغُوتَ) (2). فإذا كان هذا هو الأصل الأصيل في الشرائع السماوية، فلا يمكن لرسول السماء أن يعترف بجماعة يكون أصلهم الأصيل مناقضاً له.6.

ص: 76


1- . التوبة: 16.
2- . النحل: 36.

وليس هذا أمراً غريباً في الحكومات التي تدّعي الحرية والديمقراطية فلو تشكّلت جماعة لهم أفكار خاصّة يعتمدون في أُصولهم على فكرة تضاد الأصل الأوّلي للقانون الأساسي للبلاد التي هم فيها، لمنعتهم الحكومة ولن تسمح لهم بنشر فكرهم، ولهذا لا يمكن أن يعترف نبيّ التوحيد بجماعة يتظاهرون ليل نهار على ضد الأصل الذي بُعِثَ لأجله.

ثانياً: أنّ محاربة المشركين لم تكن لغاية إلزامهم بالاعتراف بالإسلام وإنّما كانت الغاية هي صدّهم عن العمل الجاهلي الذي يحطّ من مقام الإنسان، ولذلك يعترف الإسلام بأتباع الشرائع السماوية كاليهودية والنصرانية والمجوسية، كما أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم لم يكن معترضاً على هؤلاء، فلو كان المشرك انتقل من شركه إلى إحدى هذه الديانات لم يكن أي إلزام عليه.

ثالثاً: أنّ إكراه الناس على ترك عبادة الأصنام والأوثان، وإن كان أمراً إجبارياً وصادراً عن إكراه، لكنّه لغاية انتفاع المكرَه من هذا العمل، وعابد الوثن وإن كان يكره ذلك، لكن لمّا كان خضوع الإنسان للشجر والحجر خزياً للإنسان وإسقاطاً لكرامته فالإجبار على ترك هذا الشرك ليس أمراً قبيحاً بل يُعدّ أمراً حسناً ومطلوباً.

نفترض أنّه شاع مرض معيّن في بلدٍ ما، عندئذٍ تقوم وزارة الصحة بإجبار جميع المواطنين على التلقيح ضد هذا المرض، ومَن يرفض التلقيح يجبر عليه بالقوّة، وهذا لا يُعد مخالفةً لحرية الأفراد، وقد مرّ الإيعاز إلى ذلك فيما سبق.

ثمّ إنّ النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم عَبْر ثلاث عشرة سنة كان قد فتح باب الحوار مع المشركين وأقام الحجج وجاء بالبراهين الكافية التي تثبت أنّ الشرك أمر خرافي، ولكن القوم لم يذعنوا لذلك بل ازدادوا طغياناً وكفراً حتّى أنّهم همّوا بقتله، ولمّا

ص: 77

انتقل النبي صلى الله عليه و آله و سلم إلى المدينة حشّدوا الجيوش لمحاربته والقضاء على دولته، والنبيّ صلى الله عليه و آله و سلم كان في موضع الدفاع، ثم لمّا عُقد ميثاق المتاركة بين الطرفين خانوا عهودهم مع اللّه ورسوله، فلم يكن هناك بد إلّاالقضاء على الشرك واستئصاله من الجذور وتخريب أوكار الوثنية، إذ لم يكن من البعيد أن يستعيد المشركون قوّتهم ويتجمّعوا لمحاربة الإسلام مرّة أُخرى.

الحرية وحدودها

إنّ الحرية أحلى كلمة سمعتها أُذن الإنسان على طول الدهر، و - يا للأسف - هي من الكلمات التي تستخدم في كبح الحريات ونقضها، فالغرب وعلماؤه هم الذين يتبنّون هذا الأصل وله عندهم شرط واحد وهو أنّ الإنسان حرّ في عمله وعقيدته ما لم يزاحم الآخرين، وبذلك اعترفوا بكلّ الشرائع السماوية والمسالك البشرية التي لا صلة لها بالسماء وإن كان أكثرها أمراً خرافياً كما هو واضح.

غير أنّ الحرية في الإسلام لها شرطان:

1. ما تقدم ذكره.

2. أن لا تكون على طرف النقيض من مصلحة الإنسان وسعادته، ولذلك لا يعترف بمن يحارب المُثُلَ العليا في الأخلاق والقيم، وكذلك لو قام أحد ببيع المخدّرات على الشباب فيؤخذ بأشدّ المجازاة لأنّها على طرف النقيض من سعادة الإنسان.

وعلى هذا فالإنسان حرّ في عقيدته وعمله بشرط أن لا يكون مخالفاً لسعادته وكماله، فعبادة الأصنام على طرف النقيض من ذلك، فلو قام الإسلام بتخريب الأصنام المنصوبة على سطح الكعبة أو أرسل وفوداً لكسر الأوثان

ص: 78

الرائجة بين القبائل فلا يعدّ ذلك مخالفاً للحرية المعقولة، بل هو في رأي العقل والإنصاف خدمة جليلة للإنسان على مرّ العصور وإخراجاً له من الشقاء إلى السعادة.

يقول الإمام علي عليه السلام في وصف النبي صلى الله عليه و آله و سلم: «طَبِيبٌ دَوَّارٌ بِطِبِّهِ، قَدْ أَحْكَمَ مَرَاهِمَهُ، وَأَحْمَى (امضى) مَوَاسِمَهُ، يَضَعُ ذلِكَ حَيْثُ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ، مِنْ قُلُوبٍ عُمْيٍ، وَآذَانٍ صُمٍّ، وَأَلْسِنَةٍ بُكْمٍ؛ مُتَتَبِّعٌ بِدَوَائِهِ مَوَاضِعَ الْغَفْلَةِ، وَمَوَاطِنَ الْحَيْرَةِ».(1)

أو ليس من الجهل المطبق أن تعيش الأبقار الهندية في الشوارع والطرق تسرح وتمرح وتأكل كلّ شيء، ولكنّ قسماً كبيراً من الناس جوعى لا يملكون ما يسدّ الرمق، وما سبب ذلك إلّاأنّ للإبقار قداسة لا يمكن التعرّض لها، حتى لو أرادت أنّ تبرك على سكّة القطار فلا يسمح دينهم بإزعاجها وإزالتها عن مكانها.

***

نعم ربّما يتوهّم أنّ موقف الآية من المشركين في المقام ينافي حرية الاعتقاد الّتي نادى بها بيان منظمة الأُمم المتحدة حيث أجازت للإنسان انتخاب العقيدة الّتي يريد، ومنعت من الإكراه.

أقول: إنّ الإسلام يفترق عمّا عليه منظمة الأُمم المتحدة، فهو أيضاً يعترف بأنّ الإنسان محترم وما انتخبه أيضاً محترم مثله، بشرط أن يكون الثاني أمراً محترماً لا مخلّاً بسعادته. وما ربّما يقال من أنّ الإنسان حرّ فيما يعتقد ويختار، فهو ليس بصحيح، بشهادة أنّه لو اختار قتل نفسه لا يعدّ أمراً صحيحاً ولا يقال: إنّه كان مختاراً في إبقاء حياته وعدمها.8.

ص: 79


1- . نهج البلاغة: الخطبة 108.

وإن أردت أن تعرف موقف الإسلام من الوثنية، فاعطف نظرك إلى قوله تعالى: (هُوَ اَلَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي اَلْأَرْضِ جَمِيعاً) (1).

فهذه الآية تجعل ما في الأرض في خدمة الإنسان، أين هذا المنطق من منطق الوثنية الّتي تفرض على الناس عبادة الشجر والحجر والحيوان، وتجعلهم عبيداً والمعبودات سادة؟ فمنع الإنسان عن هذا العمل الّذي يورث ذلّته، هل يُعدّ ظلماً وتعدّياً أم أنّه يُعدّ خدمة وتكريماً له، وإن لم يدرك الإنسان نفسه ذلك؟

إلى هنا تمّت دراسة الآيات الدالّة على مشروعية الجهاد الابتدائي وظهر أنّ هذا النوع من الجهاد شُرّع لغاية صيانة كرامة الإنسان وشرفه، وهذا لا ينافي الحرية المعقولة.

***

بقيت هنا كلمة وهي: دراسة ما هي شروط الجهاد الابتدائي؟ فهل يختصّ بإذن الإمام المعصوم عليه السلام أو يكفي إذن الفقيه الجامع للشرائط؟

الجهاد الابتدائي وشروطه

المتيقّن من الآيات التي درسناها هو وجوب الجهاد الابتدائي بشرط وجود المعصوم؛ لأنّ الخطاب في هذه الآيات للنبي صلى الله عليه و آله و سلم فلا يجوز إلّامع وجود معصوم مثله، وهذا أيضاً هو الظاهر من المحقّق، يقول: وفرضه على الكفاية بشرط وجود الإمام أو مَن نصبه للجهاد.(2)

ص: 80


1- . البقرة: 29.
2- . شرائع الإسلام: 307/1.

وفي المسالك علّق على عبارة الشرائع بقوله: أراد من وجود الإمام كونه ظاهراً مبسوط اليدين متمكّناً من التصرّف.(1)

وما ذكره هو الظاهر من فقهائنا. ولكن المورد - مورد الآيات والروايات هو وجود المعصوم - ليس مخصّصاً فلو اقتضت المصلحة فللفقيه الجامع للشرائط، الدعوة إليه، والتفصيل في محلّه.

ثمّ إنّ الفقيه الأكبر الشيخ جعفر كاشف الغطاء قسّم الجهاد إلى أقسام خمسة، فالأربعة الأُولى من أصناف الجهاد الدفاعي، والخامس هو الجهاد الابتدائي، أمّا الأربعة الأُولى فقد ذكرها بشكل مبسوط ثم لخّصها بقوله:

1. ما يكون لحفظ بيضة الإسلام إذا أراد الكفّار الهجوم عليه.

2. ما يكون لدفعهم عن بُلدان المسلمين، وقُراهم، وأراضيهم، وإخراجهم منها بعد سلطانهم عليها.

3. ما يكون لدفع الملاعين عن التسلّط على دماء المسلمين، وهتك أعراضهم على نحو ما مرّ.

4. ما يكون لدفعهم عن طائفة من المسلمين التقت مع طائفة من الكفّار، فخيف من استيلائها عليهم.

ثمّ أشار إلى الجهاد الابتدائي بقوله:

5. ما يكون لأجل الدعوة إلى الإسلام وإقرارهم بشريعة خير الأنام صلى الله عليه و آله و سلم.

ثم ذكر الفروق بين القسم الخامس والأربعة المتقدّمة عليه، ونشير إلى1.

ص: 81


1- . مسالك الأفهام: 119/1.

بعضها:

1. يشترط في القسم الأخير نيّة التقرّب إلى اللّه تعالى دون باقي الأقسام.

2. يشترط في الأخير الحرية والسلامة من العمى والإقعاد والمرض و (عدم) بلوغ حدّ الهمّ، والفقر الباعث على العجز عن مسيره ونفقته ونفقة عياله.

3. عدم منع أحد الوالدين وعدم حلول الدين مع القدرة على وفائه.

4. عدم وجود مَن تقوم به الكفاية لكثرة الكفّار وقلّة المسلمين.

5. الذكورة فلا يجب على مَن عُلم خروجه عن حقيقتها أو شُكّ فيه، كالأُنثى المشكل.

6. عدم المعارضة لشيء من الواجبات الفورية من حج إسلام أو حج نيابة يجب السعي إليها فوراً.

7. أن لا تتوقّف على تخلّفه تهيئة الزاد والأسباب التي تتوقّف عليها استقامة عساكر المسلمين.(1)

ثمّ إنّه في موضع آخر عرّف الجهاد الابتدائي وجعله من خواص النبيّ والإمام والمنصوب الخاصّ منهما دون العامّ، وإليك نصّ عبارته.

قال: جهاد الكفر والتوجّه إلى محالّهم، للردّ إلى الإسلام، والإذعان بما أتى به النبيّ الأُميّ المبعوث من عند الملك العلّام، عليه وآله أفضل الصلاة والسلام.(2)

هذا هو إجمال الكلام في المقام والتفصيل يطلب من محلّه.4.

ص: 82


1- . كشف الغطاء: 337/4-339.
2- . كشف الغطاء: 289/4.

أحكام الجهاد

5. كيفية القتال وشروطه

اشارة

بما أنّ الهدف الأقصى للجهاد سواء أكان ابتدائياً أم دفاعيّاً، هو نشر المثل العليا في المجتمع الإنساني، وإنقاذه من الأوهام والخرافات وسوقه إلى الفضائل وكرائم الأخلاق، فلذلك نرى وجود ضوابط للجهاد على نحو يجب على المجاهدين رعايتها بحذافيرها.

ثمّ إنّ هذه الضوابط بين ما هي مذكورة في السنّة أو في الكتاب العزيز؛ أمّا السنة فنذكر شيئاً موجزاً منها، ثم نعود إلى الآيات القرآنية الكريمة.

روى الكليني في «الكافي» بسنده كالصحيح عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إذا أراد أن يبعث سريّة دعاهم فأجلسهم بين يديه ثم يقول: سيروا بسم اللّه وباللّه وفي سبيل اللّه وعلى ملّة رسول اللّه، لا تغلوا، ولا تمثّلوا، ولا تغدروا، ولا تقتلوا شيخاً فانياً ولا صبيّاً ولا امرأة، ولا تقطعوا شجراً إلّاأن تضطروا إليها، وأيّما رجل من أدنى المسلمين أو أفضلهم نظر إلى أحد من المشركين فهو جار حتّى يسمع كلام اللّه، فإن تبعكم فأخوكم في الدين، وإن أبى فأبلغوه مأمنه، واستعينوا باللّه».(1)

ص: 83


1- . الوسائل: 10، الباب 15 من أبواب جهاد العدو وما يناسبه، الحديث 2. ولاحظ سائر أحاديث الباب.

وبعد أن عرفت بعض ما ورد في السنّة الشريفة نعود إلى ذكر ما ورد في الذكر الحكيم من آداب القتال وشروطه.

الآيتان: الأُولى والثانية
اشارة

قال سبحانه: (يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ اَلْأَدْبارَ * وَ مَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاّ مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اَللّهِ وَ مَأْواهُ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ اَلْمَصِيرُ) .(1)

المفردات

لقيتم: من اللقاء وهو الاجتماع على وجه المقاربة وجهاً لوجه.

زحفاً: الزحف: الدنو قليلاً قليلاً كما في حبو الصبي، وأُريد في المقام مشي المقاتل إلى عدوّه في ساحات القتال باحتراس وترصّد فرصة. ثمّ إنّه يستعمل في مصطلح اليوم على الجيوش الكثيرة العدد فيقال: الفرار من الزحف، وهذا مصطلح جديد لا صلة له بالآية.

الأدبار: جمع دبر وهو الخلف وأُريد استدبار العدو واستقبال جهة الهزيمة.

وإدبار النجوم في قوله سبحانه: (وَ مِنَ اَللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَ إِدْبارَ اَلنُّجُومِ) (2)، ضد إقبالها.

متحرّفاً: الانحراف من جهة الاستواء إلى الجانب.

ص: 84


1- . الأنفال: 15 و 16.
2- . الطور: 49.

متحيّزاً: وهو أخذ الحيّز أي المكان.

فئة: الجماعة من الناس.

التفسير
حرمة التولّي عن العدو

لمّا أنعم اللّه على المؤمنين في غير واحدة من الغزوات بالنصر والغلبة مع قلّة عددهم وعدّتهم وكثرة عدد الأعداء وعُدّتهم، وأكرمهم بإنزال الملائكة لتثبّت قلوبهم، نهاهم عن الفرار من أمام العدو في ساحة القتال إلّافي موضعين كما سيأتي في الآية التالية، وقال: (يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا) الخطاب عام يشمل أهل بدر وغيرهم، وما ربما يقال من اختصاصه بأهل بدر، تردّه طبيعة الحكم إذ تقتضي أن يكون الحكم عامّاً سائداً في عامّة الأجيال، فإنّ في الثبات أمام العدو عزّة، وفي الفرار ذلّة، كما يقول: (إِذا لَقِيتُمُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً) يقتربون منكم تدريجاً (فَلا تُوَلُّوهُمُ اَلْأَدْبارَ) : أي لا تجعلوا ظهوركم ممّا يليهم، وهو كناية عن الفرار عند مواجهة العدو.

ولكن الظاهر كما قلنا كون الآية ضابطة كلّية تعمّ عامّة المواقف حالتي الزحف وعدمه، لقوله سبحانه: (يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَ اُذْكُرُوا اَللّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (1).

ثمّ إنّ قوله: (وَ مَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ) جملة شرطية جزاؤها قوله: (فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اَللّهِ) .

ص: 85


1- . الأنفال: 45.

ثم إنّ المراد من قوله: (يَوْمَئِذٍ) : أي في ذلك الوقت لا النهار في مقابل الليل، أي وقت الزحف ووقت تقابل المجاهدين مع أعدائهم. ثم إنّه سبحانه استثنى قبل بيان الجزاء طائفتين:

أ. (إِلاّ مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ) : أي تاركاً موقفاً إلى موقف آخر أصلح للقتال من الأول، وكأنّه ينحرف عن وجه العدو ويُريه أنّه بصدد الفرار لكنّه يكرّ عليه ثانياً، وقد قيل: الحرب كرّ وفرّ. ويعدُّ مثله خدعة عسكرية، وقد قيل:

الحرب خدعة.

ب. (أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ) بمعنى أن ينعطف المقاتل عن الانفراد بالعدو إلى فئة من قومه فيلحق بهم ويقاتل معهم.

وأمّا جزاء التولّي فقد بيّنه سبحانه بقوله: (فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اَللّهِ) : أي رجع بالتولّي مصحوباً بغضب من اللّه (وَ مَأْواهُ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ اَلْمَصِيرُ) .

ثمّ إنّ استثناء الطائفتين ليس تولّياً في الحقيقة، بل تولّياً في الظاهر ولكنّه مواصلة للحرب بشكل آخر يكون أفضل.

روى الكليني قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام: في كلام له: «وليعلم المنهزم بأنّه مسخط ربّه، وموبق نفسه، وأنّ في الفرار موجدَة اللّه، والذلَّ اللازم، والعار الباقي، وإنّ الفارّ لغير مزيد في عمره ولا محجوز بينه وبين يومه، ولا يرضي ربّه، ولموت الرجل محقّاً قبل إتيان هذه الخصال خير من الرضا بالتلبّس بها، والإقرار عليها».(1)1.

ص: 86


1- . الوسائل: 10، الباب 29 من أبواب جهاد العدو وما يناسبه، الحديث 1.

وروى الصدوق بإسناده عن محمد بن سنان، أنّ أبا الحسن الرضا عليه السلام كتب إليه فيما كتب من جواب مسائله: «حرّم اللّه الفرار من الزحف لما فيه من الوهن في الدين، والاستخفاف بالرسل والأئمة العادلة، وترك نصرتهم على الأعداء والعقوبة لهم على ترك ما دعوا إليه من الإقرار بالربوبية وإظهار العدل، وترك الجور وإماتة الفساد، لما في ذلك من جرأة العدوّ على المسلمين، وما يكون في ذلك من السبي والقتل وإبطال دين اللّه عزّ وجلّ وغيره من الفساد».(1)

ما ذكر في الآية جزاء مَن تولّى على العدو ليسلم، وأمّا مَن ثبت في مكانه فمصيره إلى الجنة ونعيمها.

الآيتان: الثالثة والرابعة
اشارة

قال سبحانه: (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتّى يُثْخِنَ فِي اَلْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ اَلدُّنْيا وَ اَللّهُ يُرِيدُ اَلْآخِرَةَ وَ اَللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اَللّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) .(2)

المفردات

أسرى: جمع أسير كالقتلى والجرحى، جمع قتيل و جريح، يقول ابن مالك:

فَعْلى لوصفٍ كقتيلٍ وَزَمِنْ *** وَهالكٍ وَمَيِّتٍ به قَمِنْ

وهو من الأسر بمعنى الشدّ، فكلّ مَن يؤخذ من العسكر في الحرب، يُشدّ

ص: 87


1- . الوسائل: 10، الباب 29 من أبواب جهاد العدو وما يناسبه، الحديث 2.
2- . الأنفال: 67 و 68.

لئلّا يهرب، ثم أُطلق على كلّ مأخوذ وإن لم يُشدّ.

يثخن: الثخانة بمعنى الغلظة، وثوب ثخين ضد رقيق، وأُريد في الآية «الاستقرار».

وعلى هذا فالمراد منه مواصلة الحرب والقتل حتى حصول الإثخان في الأرض بدم المقتولين من الكفّار.

عرض الدنيا: المتاع.

كتاب من اللّه سبق: أجمل سبحانه ما هو المكتوب، وسيوافيك بعض الوجوه المحتملة.

التفسير
منع أخذ الأسرى قبل انتهاء الحرب

تتحدّث هاتان الآيتان عن أحكام الأسرى، كما تحكي عن سنن النبيّين فيهم، وكأنّ السابقين من الأنبياء قد خاضوا حروباً مع الكافرين دون أن يأخذوا أسرى إلّابعد أن يظهر انتصارهم وغلبتهم على الأعداء، فإنّ في أخذ الأسرى قبل ذلك احتمالَ لحوقهم بالكافرين بعد إطلاق سراحهم بأخذ الفدية لكي يهجموا على المؤمنين مرّة أُخرى.

ويظهر من الآية الأُولى وما روي من الروايات حولها أنّ المسلمين قد أسروا جمعاً من الكافرين لغاية الفدية قبل أن تنتهي الحرب وتُعلم نتائجها، وهذا أمر ممنوع في عامّة الشرائع، لما عرفت من أنّ أسرهم لغاية أخذ الفدية منهم سوف يجعلهم يلتحقون من جديد بجيش العدو، ولذلك نرى أنّ الآية تندّد بعمل

ص: 88

المسلمين بهذا الخصوص، وأنّه لم يكن أمراً مشروعاً في عامّة الشرائع، فعاتبهم اللّه سبحانه على قيامهم بهذا العمل غير المشروع.

إذا عرفت ذلك فلندخل في تفسير الآية.

قوله تعالى: (ما كانَ لِنَبِيٍّ) : أي لم يكن شأن نبي من أنبياء السلف (أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى) من المشركين للفداء أو المنّ (حَتّى يُثْخِنَ فِي اَلْأَرْضِ) : أي حتى يقوى ويشتدّ ويغلب، فيدل على جواز أخذ الأسرى بعد حصول الإثخان في الأرض، والآية تحكي عن أنّ المجاهدين في غزوة بدر أخذوا الأسرى قبل الإثخان في الأرض لغاية الفداء أي تحريرهم في مقابل المال، كما يقول:

(تُرِيدُونَ عَرَضَ اَلدُّنْيا) وسمّيت المنافع الدنيوية بالعرض لأنّها لا ثبات لها ولا دوام على عكس نعم الآخرة، (وَ اَللّهُ يُرِيدُ اَلْآخِرَةَ) لكم، أي يريد لكم ثواب الآخرة، الثابت الدائم (وَ اَللّهُ عَزِيزٌ) لا تُغلب أنصاره، فيجب أن يكون المؤمنون أعزة غالبين (حَكِيمٌ) في أحكامه.

والآية تدلّ على التنديد بالمؤمنين في أخذهم الأسرى قبل الإثخان في الأرض، حيث إنّ أخذهم قبل ذلك أمر مبغوض إلى حدٍّ يستحقّ الآخذ العذاب العظيم، كما سيأتي في الآية التالية.

نعم بعد أن يستتب الأمر وتضع الحرب أوزارها، فيأتي أحد التكليفين كما في سورة (محمد)، أعني قوله تعالى: (فَإِذا لَقِيتُمُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ اَلرِّقابِ حَتّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا اَلْوَثاقَ فَإِمّا مَنًّا بَعْدُ وَ إِمّا فِداءً) (1) فبعد الإثخان فأُسلوب التعامل مع الأسرى يكون بوجهين:4.

ص: 89


1- . محمد: 4.

1. إمّا منّاً يطلق سراحهم بلا عوض.

2. وإمّا فداء يطلق سراحهم بعوض.

الفداء أو بيع الإنسان

قلنا: إنّه سبحانه جعل أمام المسلمين في الأسرى أحد أمرين:

1. إطلاق سراحهم بلا عوض، وهذا يدلّ على كرامتهم وتكريم الإسلام لمقام الإنسانية.

2. إطلاق سراحهم بعوض.

وقد قام المسلمون في غزوة بدر بالأمر الثاني فأطلقوا سراح الأسرى بأخذ مبلغ يتراوح ما بين 4000 درهم عن الأسير الغني و 1000 درهم عن الأسير الفقير.

وربما يتصوّر أنّ الفداء هو نوع من بيع الإنسان بعد أسره لكنّه توهّم محض، إذ في كلّ حرب إذا كان العدو مُشعِلاً لفتيلها تكون سبباً في إهدار الكثير من الطاقات في المجال الاقتصادي والإنساني، فالفداء نوع تعويض عن هذه الخسائر التي حمّلها العدو على المسلمين. أضف إلى ذلك: أنّ المسلمين تركوا أموالاً كثيرة في مكة عند هجرتهم إلى المدينة فصارت أموالهم بيد المشركين فيصح للمسلمين أخذ الفدية لتحرير الأسير ليكون عوضاً لأموالهم التي صادرتها قريش.

وهنا طريق ثالث وهو الاسترقاق وله مصالح تربوية وثقافية أوضحنا حالها في رسالة مستقلة تقرأها في ذيل تفسير سورة محمد صلى الله عليه و آله و سلم، في موسوعتنا

ص: 90

التفسيرية «منية الطالبين».(1)

العفو عن أخذ الأسرى قبل انتهاء الحرب

يظهر من الآية أنّ أخذ الأسرى لغاية الانتفاع بهم قبل انتهاء الحرب وقبل أن تضع أوزارها كان ذنباً يستحقّ صاحبه العذاب العظيم، ولكنّه سبحانه لم يؤاخذهم بذلك وعفا عنهم بكتاب من اللّه كما قال: (لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اَللّهِ سَبَقَ) :

أي سنة من سنن اللّه، (لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) .

اختلف المفسّرون في ما هو المراد من (كِتابٌ) في قوله سبحانه: (لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اَللّهِ) .

وقد ذكر الطبرسي وجوهاً مختلفة.(2)

وأوضح هذه الوجوه هو الوجه الأوّل من كلامه أي: لولا ما مضى من حكم اللّه أن لا يعذب قوماً حتى يبيّن لهم ما يتّقون، قال سبحانه: (وَ ما كُنّا مُعَذِّبِينَ حَتّى نَبْعَثَ رَسُولاً) (3) ومعنى الآية: أنّه لولا ما كتب سبحانه وفرض على نفسه أن لا يعاقب عبداً إلّابعد ما يبيّن له ما يتّقي - لولا هذا - لمسّكم في ما أخذتم من الأسرى عذاب عظيم.

إلى هنا تبيّن مفاد الآية إنّما الكلام في بيان مَن هو المخاطب في هذه الآية؟

الخطاب متوجّه إلى مَن؟!

قد اختلفت كلمة المفسّرين في تعيين المخاطب حسبما روي إلى أقوال

ص: 91


1- . لاحظ: منية الطالبين في تفسير القرآن المبين: 152/26-162.
2- . لاحظ: مجمع البيان: 535/3-536.
3- . الإسراء: 15.

مختلفة:

1. العتاب متوجّه إلى النبي والمؤمنين جميعاً.

2. العتاب متوجّه إلى النبي والمؤمنين ماعدا عمر.

3. العتاب متوجهّ إلى النبي والمؤمنين ماعدا عمر وسعد بن معاذ.

4. العتاب متوجّه إلى المؤمنين دون النبي.

5. العتاب متوجّه إلى شخص أو إلى أشخاص أشاروا إليه بالفداء بعدما استشارهم.

وهذه الأقوال ليس لها رصيد في الآية فإنّما تبنّوها لما روي في المقام من الآثار، وحاشا نبيّ العظمة أن يكون مخاطباً في هذه الآية. والشاهد على ذلك وجود خطابين متوجهين إلى غير النبي:

1. قوله: (تُرِيدُونَ عَرَضَ اَلدُّنْيا) وجلَّ نبيُّ العصمة أن يكون طالب الدنيا.

2. قوله: (لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) فهل يخطر ببال أحد أن يراد به النبي مع المؤمنين؟!

كلّ ذلك دليل على أنّ العتاب متوجّه إلى مَن أخذوا الأسرى طمعاً بالفدية.

فما في الآثار عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم أنّه استشار النبي أبا بكر وعمر، فقال أبو بكر: فادهم، وقال عمر: اقتلهم... وقال قائل: لو كان فيهم أبو عمر أو أخوه ما أمره بقتلهم...! فأخذ رسول اللّه بقول أبي بكر ففاداهم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، فأنزل اللّه: (لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اَللّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «إن كاد ليمسّنا

ص: 92

في خلاف ابن الخطاب عذاب عظيم، ولو نزل العذاب ما أفلت إلّاعمر».(1)

كلّ ذلك من الآثار المكذوبة التي تحطّ من مقام النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم الذي هو في غنى عن الاستشارة في أحكام اللّه سبحانه، ولو أُمر بالاستشارة فإنّما يستشير في الموضوعات تكريماً لشخصية صحابته، ومعنى ذلك أنّ عمر كان أعرف بمصالح الإسلام والمسلمين من النبي الخاتم صلى الله عليه و آله و سلم. أعاذنا اللّه وإيّاكم عن التعصّب بغير الحقّ.

الآية الخامسة
اشارة

قال سبحانه: (فَإِذا لَقِيتُمُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ اَلرِّقابِ حَتّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا اَلْوَثاقَ فَإِمّا مَنًّا بَعْدُ وَ إِمّا فِداءً حَتّى تَضَعَ اَلْحَرْبُ أَوْزارَها ذلِكَ وَ لَوْ يَشاءُ اَللّهُ لاَنْتَصَرَ مِنْهُمْ وَ لكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَ اَلَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اَللّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ) .(2)

المفردات

الرقاب: جمع رقبة، وهو اسم للعضو المعروف.

أثخنتموهم: ثخن الشيء فهو ثخين إذا غلظ، واستعير في الآية للقتل الكثير أو الجرح بحيث يوجب توقّف العدو وعجزه عن الحركة.

ص: 93


1- . تفسير الدر المنثور: 108/4.
2- . محمد: 4.

الوثاق: ما يُشدّ به من قيد أو حبل ونحوهما.

منّاً: أي إطلاقاً من الأسر بالمجّان.

فداء: أي إطلاقاً في مقابلة مال أو غيره.

أوزارها: الأوزار: الأحمال، ويُراد بها هنا آلات الحرب وأثقالها.

التفسير
ضوابط أخذ الأسرى

دلّت الآيات القرآنية على أنّ فئة المؤمنين على الحقّ وفئة الكافرين على الباطل، إذا تلاقوا في ساحة الحرب فعلى المؤمنين أن يُديروا على الكافرين كؤوس المنايا بوضع السيوف في رقابهم، كما قال: (فَإِذا لَقِيتُمُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ اَلرِّقابِ) . ولعلّ الحكم ورد مورد الغلبة، وإلّا فالمراد قتلهم بأي نحو كان بالرمي بالسهام أو الطعن بالرماح، ثمّ إنّ ضرب الرقاب له حدّ معيّن أوضحه بقوله:

(حَتّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ) : أي أكثرتم القتل في صفوف العدو حتى ظهر الضعف فيهم وإن لم تتم الحرب فيتوقّف ضرب الرقاب، بل يشدّ وثاق الأسرى كما يقول:

(فَشُدُّوا اَلْوَثاقَ) ، بقيد أو حبل أو نحوهما، لكي لا يفرّ أحد منهم ويعيد الكرّة على المؤمنين.

وأمّا أُسلوب التعامل مع الأسرى إذا أُخذوا بعد الأثخان فذكرت له الآية طريقين:

أ. (فَإِمّا مَنًّا) : أي يطلق سراحه بلا عوض.

ب. (وَ إِمّا فِداءً) : أي يطلق سراحه بعوض.

ص: 94

والتعامل مع الأسرى بأحد الأُسلوبين محدّد باستسلام العدو في ساحة القتال وإلقاء السلاح، كما يقول: (حَتّى تَضَعَ اَلْحَرْبُ أَوْزارَها) .

وبذلك نرى أنّه سبحانه في هذه الآية يشير إلى برامج الحرب:

أ. ضرب الرقاب عند اللقاء.

ب. استمراره إلى حدّ الإثخان واصطباغ الأرض بدماء العدو، حتى تتحطّم القوة العسكرية للعدو، ويتحطّم غروره واستعلاؤه، ويكفّ عن البغي والعدوان.

ج. أخذ الأسرى بعد الإثخان، وشدّهم.

د. التعامل مع الأسرى بأحد الوجهين مشروط باستسلام العدو، وإلقاء السلاح وترك المعركة، وهروبهم عنها بحيث لم ير أثرهم فيها.

وحاصل الكلام: أنّ في الآية غايتين:

الأُولى: قوله: (حَتّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ) .

الثانية: قوله: (حَتّى تَضَعَ اَلْحَرْبُ أَوْزارَها) .

أمّا الأُولى فهي غاية لضرب الرقاب، فعند الإثخان يتوقّف الضرب لطروء الضعف على قوّة العدو العسكرية، وفقدان القدرة على التحرّك والمواجهة، وإن لم تتمّ الحرب وكان الاشتباك مستمراً، وعند ذاك تأتي الخطوة التالية، وهي أخذ الأسرى.

وأمّا الثانية أعني: (حَتّى تَضَعَ اَلْحَرْبُ أَوْزارَها) : أي يشد الوثاق إلى نهاية وضع الحرب أوزارها. وعندئذٍ أي عند ما انتهت الحرب تماماً، إمّا يمنّ عليهم بإطلاق سراحهم أو تؤخذ منهم الفدية.

وممّا ذكرنا يظهر الضعف فيما ورد في «كنز العرفان» حيث قال: إنّ الأسير

ص: 95

إن أُخذ والحرب قائمة تعيّن قتله إمّا بضرب عنقه أو قطع يديه ورجليه ويترك حتّى ينزف ويموت، وإن أُخذ بعد تقضيّ الحرب، يتخيّر الإمام بين المنّ والفداء والاسترقاق، ولا يجوز القتل.(1)

الصحيح أن يقول: وإن أُخذ بعد الإثخان، لا بعد تقضّي الحرب.

وجه النظر: أنّ الغاية للقتل هي الإثخان وهو يتحقّق وإن كانت الحرب قائمة. وبعد الإثخان يأتي دور أخذ الأسير إلى تقضّي الحرب، وعندئذٍ يتخيّر الإمام بين المنّ والفداء، وعلى قول الاسترقاق.

إذا طالت الحرب شهوراً

وبذلك تُعلم الإجابة عن سؤال يُطرح في المقام، بأنّه ربما تطول الحرب شهوراً، فكيف يجوز قتل الأسير مادامت الحرب قائمة؟ والجواب ما قلناه من أنّ القتل محدّد بالإثخان وهو ربما يحصل قبل انتهاء الحرب وتقضّيها، وإن كانت الحرب قائمة، ولا يتوقّف على انتهائها.

وهناك احتمال آخر وهو: أنّ الآية (أي قتل الأسير قبل الإثخان) ناظرة إلى الحروب السائدة في عصر الرسالة التي كانت تتقضّى بمضي ساعات أو بضعة أيام، فيصحّ أن يقال بجواز قتل الأسير قبل الإثخان، وأمّا الحروب العالمية أو الإقليمية التي تدوم شهوراً وسنين فالآية منصرفة عنها، والمرجع هنا رأي قائد الجيش الذي يقف على مصالح الإسلام والمسلمين وسمعتهم في العالم، فربما يحكم بالمحافظة على أرواح الأسرى.

ص: 96


1- . كنز العرفان: 365/1.

ثمّ إنّ الغاية الأُولى - أعني: إيقاف ضرب الرقاب إلى حدّ الإثخان - جاء ذكرها - أيضاً - في قوله سبحانه: (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتّى يُثْخِنَ فِي اَلْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ اَلدُّنْيا وَ اَللّهُ يُرِيدُ اَلْآخِرَةَ وَ اَللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) .(1) وقد تقدّم تفسير الآية فلاحظ.

ثمّ ربّما يقال: إنّ قوله: (حَتّى تَضَعَ اَلْحَرْبُ أَوْزارَها) ناسخة لقوله تعالى: (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتّى يُثْخِنَ فِي اَلْأَرْضِ) (2)، لأنّ هذه السورة متأخّرة نزولاً عن سورة الأنفال فتكون ناسخة لها. وعلى هذا يستمر القتل إلى انتهاء الحرب تماماً.

يلاحظ عليه: أنّ القائل خلط بين الغايتين، فالإثخان غاية لضرب الرقاب وقتل العدو، وهو ينتهي بالإثخان، وإن كانت الحرب قائمة؛ وأمّا وضع الحرب أوزارها، فهو غاية لشدّ الوثاق وحبس الأسرى، وهما ينتهيان بانتهاء الحرب، وعند ذلك يطلق سراحهم بأحد الأُسلوبين.

إلى هنا تمّ ما يرجع إلى صدر الآية، وبقي الكلام في ذيلها، أي قوله تعالى:

(وَ لَوْ يَشاءُ اَللّهُ لاَنْتَصَرَ مِنْهُمْ) : أي من الكفّار بإهلاكهم وتعذيبهم بما شاء (وَ لكِنْ) يأمركم بالحرب وبذل الأرواح في إحياء الدين (لِيَبْلُوَا) : أي ليمتحن (بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ) فيظهر المطيع من العاصي.

وبعبارة أُخرى: لو كان الغرض هو هلاك الكفّار فقط فاللّه سبحانه قادر على إهلاكهم بما شاء من أنواع العذاب، ولكنّه سبحانه أراد من وراء ذلك ابتلاءكم7.

ص: 97


1- . الأنفال: 67.
2- . الأنفال: 67.

حتى يتبيّن المستحقّ للثواب من غيره، ولذلك أمركم بالقتال و الجهاد.

قوله تعالى: (وَ اَلَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اَللّهِ) متفرّع على اختبار الحاضرين في أمر القتال، أي فمن بذل روحه في إحياء الدين والدفاع عن الحقّ، (فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ) بل يقبلها ويجازيهم عليها ثواباً.

الآيات: السادسة والسابعة والثامنة والتاسعة
اشارة

قال سبحانه: (إِنَّ شَرَّ اَلدَّوَابِّ عِنْدَ اَللّهِ اَلَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * اَلَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَ هُمْ لا يَتَّقُونَ * فَإِمّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي اَلْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ * وَ إِمّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اَللّهَ لا يُحِبُّ اَلْخائِنِينَ) .(1)

المفردات

الدواب: جمع الدابة: أُريد: كلّ ما يدب في الأرض.

تثقفنّهم: قال ابن فارس: ثقفت به إذا ظفرت به، والثقافة: المهارة، استعملت في مهارة الإمساك بالعدو.

فشرّد بهم: أي فرّق وبدّد جمعهم. والتشريد: الطرد، أي عاقبهم وبالغ بالقسوة عليهم وتعذيبهم.

ص: 98


1- . الأنفال: 55-58.

فانبذ: النبذ الطرح.

على سواء: أي على طريق واضح، لا خداع فيه ولا خيانة.

التفسير
وصف الطوائف الثلاث الناقضين للعهد

تحدّثت هذه المجموعة من الآيات عن الضوابط والمقرّرات التي تثبت الأمن في المجتمع الإسلامي عند كيد من لا عهد لهم من المشركين والكافرين.

وهم بين ناقض عهده، ومَن يترقّب منه النقض، فالآيات الثلاث الأُولى ناظرة إلى المنافقين والآية الأخيرة ناظرة إلى مَن يترقّب منه النقض.

أمّا الآية الأُولى فهي تصف هؤلاء الأعداء الذين لا خير فيهم دون أن تشير إلى أعيانهم بقوله سبحانه: (إِنَّ شَرَّ اَلدَّوَابِّ) أُريد من الشر من ليس فيه أي رجاء للخير، أي الإيمان (عِنْدَ اَللّهِ) لا عند الناس وهم (اَلَّذِينَ كَفَرُوا) وصفهم بصيغة الماضي، وقال: (كَفَرُوا) مع أنّهم كانوا كافرين، ولكنّه سبحانه يخبر عن أنّهم عدلوا عن الإيمان إلى الكفر، وما ذلك إلّالأنّهم كانوا قبل بعثة النبي صلى الله عليه و آله و سلم معتقدين بأنّه سبحانه سيبعث نبيّاً من جانبه مصدقاً لمَن قبله، على حدّ كانوا (يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ) (1)، بل كانوا: (يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى اَلَّذِينَ كَفَرُوا) (2)، فلأجل تلك الحالة كانوا مؤمنين لكن (فَلَمّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ) بعد ما كانوا مؤمنين (فَلَعْنَةُ اَللّهِ عَلَى اَلْكافِرِينَ) (3).

ص: 99


1- . البقرة: 146.
2- . البقرة: 89.
3- . البقرة: 89.

وبما أنّ الكفر صار راسخاً في طبيعتهم أخبر سبحانه بقوله: (فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) .

فإن قلت: كيف يجتمع قوله سبحانه في هذه الآية في حقّ بني آدم مع قوله سبحانه في موضع آخر يصفهم بقوله: (وَ لَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَ حَمَلْناهُمْ فِي اَلْبَرِّ وَ اَلْبَحْرِ وَ رَزَقْناهُمْ مِنَ اَلطَّيِّباتِ وَ فَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً) (1).

قلت: الجواب واضح فلا شكّ أنّ الإنسان هو خليفة اللّه في الأرض وهو مكرّم بما له من فضائل الصفات وعظائم الأخلاق، فلو تجرّد عنها يصبح حيواناً ضارياً. فالإنسان الذي يعاهد ثم ينقض بلا سبب فهو إنسان صورة لا سيرة.

ثمّ إنّه سبحانه لمّا وصفهم بشرّ الدواب بيّن وجهه في الآية التالية وهي تشير إلى الطوائف الثلاث من اليهود - أعني: بني قينقاع، وبني النضير، وبني قريظة - فقد عقدوا مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم معاهدة تشتمل على بنود منها: أن لا يعينوا على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ولا على أحد من أصحابه بلسان ولا يد ولا بسلاح ولا بكراع (أي الخيل وغيرها من المراكب) في السرّ والعلانية لا بليل ولا بنهار، واللّه بذلك عليهم شهيد، فإن فعلوا فرسول اللّه في حلّ من سفك دمائهم، وسبي ذراريهم ونسائهم، وأخذ أموالهم.

وقد كتب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لكلّ قبيلة من هذه الطوائف الثلاث كتاباً على حدة على هذا الغرار، ثم وقّع عليها «حُيي بن أخطب» عن بني النضير، و «المخيريق» عن قبيلة بني قينقاع، و «كعب بن أسد» عن بني قريظة.(2)1.

ص: 100


1- . الإسراء: 70.
2- . بحار الأنوار: 110/19-111.

ومع ذلك كلّه فهذه الطوائف الثلاث جميعاً نقضوا معاهداتهم مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم كما هي مذكورة في كتب السيرة والتفاسير، بل يظهر على احتمال من الآية التالية أنّهم عاهدوا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أكثر من مرّة ثم نقضوا عهدهم كذلك.

إذا عرفت ذلك فلننتقل إلى تفسير الآية الثانية.

قوله سبحانه: (اَلَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ) الظاهر أنّ «من» تبعيضية (وما يأتي من الأوصاف يدلّ على أنّ الضمير يرجع إلى أهل الكتاب القاطنين في المدينة) يذكر سبحانه خصيصتين لهؤلاء وكأنّ طينتهم خمرت بهما.

1. (ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ) : أي أكثر من مرّة، وهل كان العهد مرّة والنقض متعدّداً أو كان كلّ متعدّداً؟ وجهان.

(وَ هُمْ لا يَتَّقُونَ) : أي لا يتّقون في نقض العهد، بل على وجه الإطلاق لا في مجال العهد ولا في غيره.

ويكفي في اهتمام الإسلام بحفظ العهد ما روي عن أبي جعفر عليه السلام قال: «ثلاث لم يجعل اللّه عزّ وجلّ لأحد فيهن رخصة: أداء الأمانة إلى البر والفاجر، والوفاء بالعهد للبر والفاجر، وبر الوالدين برّين كانا أو فاجرين».(1)

روى ابن عباس وقتادة أنّ المراد بهم بنوقريظة فإنّهم عاهدوا النبي صلى الله عليه و آله و سلم أن لا يحاربوه ولا يعينوا عليه عدوّه، ثم نقضوا عهدهم فأمدّوا المشركين بالسلاح والعُدّة يوم بدر، واعتذروا فقالوا: نسينا وأخطأنا، ثم عاهدوه أن لا يعودوا بمثل ذلك، فنكثوا عهدهم يوم الخندق، ومالوا مع الأحزاب وأمدّوهم بالسلاح5.

ص: 101


1- . الكافي: 162/3، الحديث 15.

والأدراع.(1)

وحصيلة الكلام: أنّ الطوائف الثلاث نقضوا عهدهم فتعامل معهم النبي صلى الله عليه و آله و سلم وفق ما أقرّوا به في المعاهدة.

موقف النبي صلى الله عليه و آله و سلم ممّن نقض عهده وطائفة وراءه

لمّا عرّف الذكر الحكيم الناقضين للعهد، أمر النبي صلى الله عليه و آله و سلم أن يتّخذ موقفاً شديداً تجاه مَن نقض عهده ومعه طوائف أُخرى يترقّب أن ينقضوا عهدهم، فأمره سبحانه أن ينكّل بهم متى ظفر بهم حتى يكونوا عبرة لمَن وراءهم يقول سبحانه في الآية الثالثة: (فَإِمّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي اَلْحَرْبِ) : أي إنّك إن ظفرت في الحرب بهؤلاء الكفّار الذين ينقضون العهد (فَشَرِّدْ بِهِمْ) : أي فرّق وبدّد جمعهم وعاقبهم عقاباً يؤثّر في (مَنْ خَلْفَهُمْ) حتى يكونون سبباً لشرود مَن وراءهم من الأعداء وتفرّقهم كالإبل الشاردة(2)، أو يكون عبرة حتى لا ينقضوا العهد معكم من بعد، ويخافوا أن تتعامل معهم مثل تعاملك مع من قبلهم، ويدلّ على ما ذكرنا قوله:

(لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) : أي يذكروا ما حلّ بمن قبلهم من العقوبة.

موقف النبي صلى الله عليه و آله و سلم ممّن يترقّب منه نقض العهد

قد عرفت ما هو موقف النبي صلى الله عليه و آله و سلم ممّن نقض العهد، بقي الكلام في مَن لم ينقض عهده ولم تظهر منه خيانة، ولكن القرائن تشهد على أنّهم بصدد نقض العهد، هذا ما تضمنت الآية الأخيرة لبيان حكمه فيأمر النبي صلى الله عليه و آله و سلم بأن يلقي إليهم ما

ص: 102


1- . تفسير الكشّاف: 131/2.
2- . تفسيرالمنار: 50/10.

بينه وبينهم من العهد، ويعلمهم بذلك، ليكونوا على علم بالنقض على استواء، كما يقول: (وَ إِمّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً) بمعنى ظهور بوارقها واتّصال أخبار تؤيّد ذلك ففي هذه الحالة (فَانْبِذْ) : أي فاطرح وألق (إِلَيْهِمْ) المشركين، العهد الذي بينك وبينهم ولا تنتظر تحقّق وقوع الأمر المظنون؛ لأنّ في انتظار ذلك خطراً على الأُمّة، وبما أنّ نقض العهد من جانب من دون إعلام الطرف الآخر على خلاف العدل، يأمر النبي صلى الله عليه و آله و سلم بأن يخبرهم على الطرح كما يقول: (عَلى سَواءٍ) : أي نبذاً على سواء، أي على طريق واضح لاخداع فيه، وهذا أدلّ دليل على أنّ الإسلام ملتزم بأُصول الأخلاق ورعاية العدالة في مورد خصومه وأعدائه.

فإن قلت: إنّ اللّه سبحانه يصف النبي صلى الله عليه و آله و سلم بقوله: (وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلاّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) (1) فكيف يرشده في هاتين الآيتين إلى التغليظ والتشديد؟

قلت: إنّ التشديد والتغليظ في مقابل العدو العنيد الذي نقض عهده غير مرّة أو بصدد النقض على نحو لو لم يعاقبه النبي صلى الله عليه و آله و سلم أو لم يلغ عهده لتعرّض الإسلام إلى خطر داهم وكبير. وهذا ما يسوّغه العقل الحصيف.

فقوله: (إِنَّ اَللّهَ لا يُحِبُّ اَلْخائِنِينَ) تعليل لقوله: (عَلى سَواءٍ) فإنّ نقض العهد من جانب واحد على غفلة من الخصم، يُعدّ خيانة واللّه لا يحب الخائنين.07

ص: 103


1- . الأنبياء: 107

أحكام الجهاد

6. التعبئة والاستعداد التام للدفاع عن المجتمع المسلم

اشارة

قال سبحانه: (وَ أَعِدُّوا لَهُمْ مَا اِسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَ مِنْ رِباطِ اَلْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اَللّهِ وَ عَدُوَّكُمْ وَ آخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اَللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَ ما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْ ءٍ فِي سَبِيلِ اَللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَ أَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ) .(1)

المفردات

أعدّوا: الإعداد: تهيئة الشيء للمستقبل.

رباط: الحبل الذي تربط به الدابّة، وإذا أُضيف إلى الخيل وقيل: رباط الخيل:

أُريد حبسها واقتناؤها.

التفسير

الإسلام بما أنّه نظام شامل لكافّة جوانب الحياة، فلابدّ أن يؤسّس دولة تقوم بتطبيق شرائعه جميعاً، وأن تُرفرف رايته في كلّ نقاط العالم لينعم البشر كافة

ص: 104


1- . الأنفال: 60.

بالعدالة السماوية، وتعيش كافّة الشعوب تحت ظلّه، وهذا الكيان وهذه الدولة لابدّ لها من وسائل دفاع قوية تصونها من كيد الأعداء والخصوم.

واعطف نظرك إلى كافّة الموجودات الحيّة، تجد أنّها مجهّزة بآلات للدفاع عن نفسها من غير فرق بين صغيرها وكبيرها، الوحشي منها والأهلي، وذلك لأنّ استمرار التعايش بين الأقران والأعداء لا ينفك عن تزاحم وصراع، فاللّه سبحانه خلقها وجهزها بوسائل الدفاع، فالدين الإسلامي بمنزلة موجود حيّ أحاطت به أصناف من الأعداء، من عدو ظاهر إلى آخر خفي ومبطن للعداء، فلا يكتب للدولة البقاء، أمام الأعداء إلّابالاستعداد وتهيئة أدوات الدفاع، وقد أُثر عن بعض الحكماء أنّ كلّ عهد لم يكن مقروناً بالقوّة والقدرة فهو حبر على ورق؛ لأنّ الطرف الآخر إذا أحسّ بضعف المعاهد سوف ينقض عهده معه ويرفضه. فلذلك يأمر سبحانه المجتمع الإسلامي دون شخص النبي صلى الله عليه و آله و سلم فقط بأُمور:

الأوّل: (وَ أَعِدُّوا لَهُمْ) المشركين (مَا اِسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ) : أي ما قدرتم عليه ممّا يتقوّى به على القتال من الرجال وآلات الحرب، والجملة ضابطة تامّة تستدعي تهيئة ما هي القوة في كلّ عصر، فقد روي عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم أنّه قال: ألا أنّ القوّة الرمي، ألا أنّ القوّة الرمي، قالها ثلاثاً(1)؛ فإنّما هو إشارة إلى الآلة في عصره، وأمّا عصرنا هذا فليس عصر السيوف والرماح، والأقواس والنبال، بل هو عصر الدبابات والمدافع والطائرات والصواريخ والطائرات المسيّرة التجسّسية إلى غير ذلك، لو أُريد من الرمي بما هو وسيلة، يشمل أكثر الآلات الحربية الرائجة لأنّها تقوم على الرمي.ب.

ص: 105


1- . تفسير الدر المنثور: 83/4، وقد وردت بهذا المضمون روايات أُخرى في نفس الكتاب.

الثاني: قوله: (وَ مِنْ رِباطِ اَلْخَيْلِ) من قبيل عطف الخاصّ على العام؛ لأنّ الرمي كان أداة بارزة عند المخاطبين بهذه الآية غير محتاج إلى الذكر ولو أمرهم بإعداد أسباب لا يعرفونها في ذلك الحين، لخاطبهم بمجهولات محيّرة، تعالى اللّه عن ذلك علواً كبيراً.

ثمّ إنّ الرباط حسب ما ذكره الراغب هو المكان الذي يخصّص لإقامة الخيل فيه وحفظها، وعلى هذا فالآية تخاطب المسلمين بأن يهيّئوا هذا المكان الذي تربط فيه الخيل لتكون مستعدّة للحرب والدفاع، فالدعوة إلى تهيئة الرباط دعوة إلى تهيئة المكان وما فيه.

نعم في «الكشّاف»: الرباط اسم للخيل التي تربط في سبيل اللّه.(1)

يلاحظ على ما ذكره الكشّاف: أنّه لو كان اسماً للخيل لاستغنى عن ذكر الخيل، وما ذكره في المفردات أوضح، وهنا احتمال ثالث أنّ الفقرة من مقولة إضافة الوصف إلى الموصوف، أي الخيل المربوطة في مكانها؛ وروي عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم: «الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة وأهلها معانون عليها والمنفق عليها كالباسط يده بالصدقة».(2) ولعل الآية تدلّ على أنّ الدولة الإسلامية يجب أن تنشأ معسكرات أو مخيّمات في أماكن مختلفة يتدرّب فيها الفرسان للركوب على الخيل والدفاع عن حدود الدولة وكيانها.

الثالث: قوله: (تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اَللّهِ وَ عَدُوَّكُمْ) هذا هو الواجب الثالث للمجتمع الإسلامي، وهو أنّ الغاية من إعداد القوة ورباط الخيل هو إدخال الرهبة4.

ص: 106


1- . تفسير الكشّاف: 132/2.
2- . تفسير الدر المنثور: 91/4.

في قلوب أعداء اللّه وأعداء المسلمين، ثم إنّه سبحانه يقسّم الأعداء إلى قسمين:

1. مَن يعرفهم كمشركي قريش.

2. (وَ آخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ) : أي مشركي مكّة (لا تَعْلَمُونَهُمُ اَللّهُ يَعْلَمُهُمْ) ، فعلى هذا فأعداء الإسلام على قسمين: نوع ظاهر يعرفهم المسلمون، ونوع آخر لا يعرفون عداءهم؛ وأمّا مَن هو الصنف الثاني من الأعداء فلعلّه أُريد الدول الكافرة القوية آنذاك كالفرس والروم.

ثمّ إنّ في إيجاد الرهبة نوع صيانة لدماء الإنسان الموافق والمخالف، فإنّ العدو إذا خاف من قدرة المسلمين لما تجاوز حدّه، وهذا دليل على رحمة الإسلام ومحافظته على دماء البشر جميعاً.

الرابع: قوله: (وَ ما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْ ءٍ فِي سَبِيلِ اَللّهِ) لا يخفى أنّ تهيئة الأُمور المتقدّمة بحاجة إلى ميزانية مالية يجب على المؤمنين الإنفاق في هذا الطريق، وهذا ما وصفه سبحانه بالإنفاق في سبيل اللّه، فالقوة الرادعة رهن مال يتكفّل بحاجاتها، فقوله: (يُوَفَّ إِلَيْكُمْ) بمعنى يعود عليكم بتمامه، ولعلّ الفقرة من أدلّة تجسّم الأعمال، فما أنفقه في سبيل اللّه في الحياة الدنيا يتمثّل له في الآخرة بالجنة ونعمها، ثمّ إنّه سبحانه (وَ أَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ) الظلم هنا بمعنى النقص أي لا ينقص شيء ممّا أنفقتم في الدنيا، نظير قوله سبحانه: (كِلْتَا اَلْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَ لَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً) (1) أي لم تنقص.3.

ص: 107


1- . الكهف: 33.

أحكام الجهاد

7. الصلح في ظروف خاصّة

الآية الأُولى
اشارة

قال سبحانه: (وَ إِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَ تَوَكَّلْ عَلَى اَللّهِ إِنَّهُ هُوَ اَلسَّمِيعُ اَلْعَلِيمُ) .(1)

المفردات

جنحوا: مالوا.

السلم: الاستسلام بعد الحرب.

التفسير

إنّ الدين العالمي الذي أنزله اللّه سبحانه لإسعاد البشر إلى يوم القيامة لا يمكن أن يتجهّز بقانون واحد وهو قانون الحرب والدفاع كما لا يمكن أن يحكم مستمراً بقانون السلم والاستسلام، فإنّ الظروف تختلف حسب اختلاف المصالح فلازم الخاتمية وكون الإسلام ديناً عالمياً هو وجود القانون لكلّ ظروف وشرائط.

ولذلك لمّا أمر في الآية السابقة بتهيئة لوازم الحرب مهما تمكّنوا، أمر المسلمين

ص: 108


1- . الأنفال: 61.

في هذه الآية بقبول السلم إذا مال إليه العدو وقال: (وَ إِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ) : أي الاستسلام (فَاجْنَحْ لَها) : أي أمل مثلهم، وقد أمر الإمام عليه السلام والي مصر بالصلح عند وجود شرائطه وقال: «وَلَا تَدْفَعَنَّ صُلْحاً دَعَاكَ إِلَيْهِ عَدُوُّكَ وَلِلّهِ فِيهِ رِضًى، فَإِنَّ فِي الصُّلْحِ دَعَةً لِجُنُودِكَ، وَرَاحَةً مِنْ هُمُومِكَ، وَأَمْناً لِبِلَادِكَ، وَلَكِنِ الْحَذَرَ كُلَّ الْحَذَرِ مِنْ عَدُوِّكَ بَعْدَ صُلْحِهِ، فَإِنَّ الْعَدُوَّ رُبَّمَا قَارَبَ لِيَتَغَفَّلَ فَخُذْ بِالْحَزْمِ، وَاتَّهِمْ فِي ذلِكَ حُسْنَ الظَّنِّ»(1). وتأنيث الضمير في «لها» إمّا باعتبار السلامة، أو باعتبار كونها مؤنثاً سماعياً كضدها، أعني: الحرب، يقول الزمخشري: السلم تؤنث تأنيث نقيضها وهي الحرب، ثم استشهد بالبيت التالي:

السلم تأخذ منها ما رضيت *** به والحرب يكفيك من أنفاسها جُرع(2)

وعلى ما ذكرنا فالآية غير منسوخة بقوله: (قاتِلُوا اَلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ) (3) و لا بقوله تعالى: (فَاقْتُلُوا اَلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) (4)، بل لكلّ مورد خاص حسب ما يراه الإمام من حرب أو سلم، ويشهد على ما ذكرنا أنّ قوله:

(فَاقْتُلُوا اَلْمُشْرِكِينَ) نزلت في سنة تسع، وبعث بها رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إلى مكّة، ثم صالح بعد ذلك أهل نجران على ألفي حلّة في صفر، وألف في رجب.(5)

وربما يتصوّر وجود الاختلاف بين الآية وما في قوله سبحانه: (فَلا تَهِنُوا5.

ص: 109


1- . نهج البلاغة: الخطبة 53.
2- . تفسير الكشّاف: 133/2.
3- . التوبة: 29.
4- . التوبة: 5.
5- . التبيان في تفسير القرآن: 150/5.

وَ تَدْعُوا إِلَى اَلسَّلْمِ وَ أَنْتُمُ اَلْأَعْلَوْنَ وَ اَللّهُ مَعَكُمْ)(1). فقوله: (وَ تَدْعُوا) معطوف على (فَلا تَهِنُوا) : أي لا تتوانوا ولا تضعفوا عن القتال ولا تدعوا الكفّار إلى المسالمة والمصالحة وأنتم القاهرون الغالبون.

والجواب واضح وهو أنّ قوله: (فَلا تَهِنُوا وَ تَدْعُوا إِلَى اَلسَّلْمِ) ناظر إلى خصوص الحالة التي يحكي عنها قوله: (وَ أَنْتُمُ اَلْأَعْلَوْنَ) فإنّ الدعوة إلى الصلح في هذه الحالة أي حالة علوّكم وضعف عدوّكم، يضركم وينفع عدوكم. بخلاف غير هذه الحالة فإنّ الصلح ربما ينفع كما في صلح الحديبية.

ثمّ إنّه أتمّ الآية بقوله: (وَ تَوَكَّلْ عَلَى اَللّهِ) : أي فوّض أمرك إلى اللّه في الحرب والسلم (إِنَّهُ هُوَ اَلسَّمِيعُ اَلْعَلِيمُ) الذي لا تخفى عليه خافية.

والأمر بالتوكّل في كلتا الحالتين لغاية أنّ الواجب على المسلم إعداد ما يتمكّن منه في حالتي الحرب والسلم ولكن يجب أن يعتقد بأنّ ماهيّته من قبيل العلل الاعدادية والمقتضيات وليست علّة تامّة للنصر، بل النصر من عند اللّه سبحانه فيفوض ما لم يتمكّن منه إلى اللّه سبحانه.

بقيت هنا نكتة وهي: أنّه سبحانه خاطب المسلمين في الآية السابقة بقوله: (أَعِدُّوا) ، (تُرْهِبُونَ) و (وَ ما تُنْفِقُوا) ولكنّه في هذه الآية خصّ الخطاب بالنبي وقال: (فَاجْنَحْ لَها) مشعراً بأنّ أمر الدفاع حرباً أو سلماً بيد النبي صلى الله عليه و آله و سلم والقائد، فهو الذي يتّخذ القرار النهائي في هذه الظروف، وأنّ هذه الأُمور العظيمة بيد الحاكم الأعلى.5.

ص: 110


1- . محمد: 35.

أحكام الجهاد

8. الصلح بين طائفتين مسلمتين

اشارة

قال تعالى: (وَ إِنْ طائِفَتانِ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ اِقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى اَلْأُخْرى فَقاتِلُوا اَلَّتِي تَبْغِي حَتّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اَللّهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَ أَقْسِطُوا إِنَّ اَللّهَ يُحِبُّ اَلْمُقْسِطِينَ) .(1)

المفردات

بغت: بغى عليه: استطال عليه وظَلَمهُ.

فاءت: رجعت.

أقسطوا: إعدلوا.

التفسير

تتكفّل الآية ببيان أحكام ثلاثة تضمن حماية الإنسان في دمه وعرضه، بالصلح أوّلاً، وقتال المتجاوز بعد الصلح ثانياً، ثم التصالح إن رجع عن البغي ثالثاً.

أمّا الحكم الأوّل: فيشير إلى أنّه لو حدث خصام وقتال بين طائفتين من

ص: 111


1- . الحجرات: 9.

المؤمنين فعلى سائر المؤمنين السعي للمصالحة بينهما صوناً للدماء من أن تُسفك، وحفظاً لوحدة الكلمة وجمع الشمل، ولذلك ورد عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أنّه قال: «ألا أُخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة»؟ قالوا: بلى يا رسول اللّه، قال صلى الله عليه و آله و سلم: «إصلاح ذات البين»(1). وعليه قال سبحانه: (وَ إِنْ طائِفَتانِ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ اِقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما) .

ثم إنّ التعبير بضمير الجمع في (اِقْتَتَلُوا) مع كون المرجع هو التثنية - أعني: (طائِفَتانِ) - باعتبار المعنى، فإنّ كلّاً من الطائفتين تضمّ جمعاً من الناس.

وفي وصية الإمام علي للحسن والحسين عليهم السلام بعد أن ضربه ابن ملجم (لعنه اللّه)، قال: «أُوصِيكُمَا، وَجَمِيعَ وَلَدِي وَأَهْلِي وَمَنْ بَلَغَهُ كِتَابِي، بِتَقْوَى اللّهِ، وَنَظْمِ أَمْرِكُمْ، وَصَلَاحِ ذَاتِ بَيْنِكُمْ، فَإِنِّي سَمِعْتُ جَدَّكُمَا صلى الله عليه و آله و سلم يَقُولُ: «صَلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ أَفْضَلُ مِنْ عَامَّةِ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ».(2)

وأمّا الحكم الثاني - أعني: لزوم حماية الإنسان في عامّة شؤونه -: فهو محدّد بعدم تجاوز العدل والإنصاف، وإلّا فلو تجاوزهما فقد هتك حرمته وضيّع كرامته، ولذلك يجب ردعه ودفعه إلى حدّ العدل كما يقول سبحانه: (فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى اَلْأُخْرى) : أي استطالت وتجاوزت على أُختها (فَقاتِلُوا اَلَّتِي تَبْغِي) تتجاوز وتعتدي (حَتّى تَفِيءَ) ترجع (إِلى أَمْرِ اَللّهِ) إلى ما أمر به اللّه تعالى.

وأمّا الحكم الثالث: فإنّ القتال مع الطائفة المعتدية محدّد برجوعها إلى أمر اللّه (فَإِنْ فاءَتْ) إلى أمر اللّه (فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ) : أي بإجراء أحكام اللّه على7.

ص: 112


1- . مسند أحمد: 444/6.
2- . نهج البلاغة: قسم الرسائل، برقم 47.

المعتدي على دماء المسلمين وأعراضهم وأموالهم، دون الاكتفاء بوضع السلاح وترك القتال والحيلولة بينهما.

ثم أمر سبحانه بانتهاج سبيل العدل في كلّ ما يأتون به من قول أو فعل وقال: (وَ أَقْسِطُوا إِنَّ اَللّهَ يُحِبُّ اَلْمُقْسِطِينَ) .

الظاهر أنّ مورد الآية، هو قتال طائفتين من المسلمين لأُمور دنيوية أو غيرها من دون خروجهما على الإمام المفترض طاعته، ففي هذه الصورة يدخل الإمام أو نائبه في أمرهما بالدعوة إلى التصالح أوّلاً، وقتال المتجاوز بعد الصلح ثانياً، وعلى هذا فالآية لا صلة لها بقتال البغاة المصطلح في الفقه، أعني: الخارج عن طاعة الإمام، فالاستدلال بالآية على المورد الثاني، غير تام إلّابالملاك، ولذلك جعلنا عنوان البحث الصلح بين طائفتين من المسلمين، فالبغي الوارد في الآية أُريد به المعنى اللغوي، لا البغي المصطلح، أعني: الخروج على الحاكم الشرعي.

قتال البغاة

الحكومة الإسلامية تقاتل فئتين:

1. الفئة الباغية حتى تفيء.

2. الفئة الكافرة حتى تُسلم.

فمَن خرج على إمام عادل وحاربه، وجب قتاله، لما أوجب اللّه تعالى من طاعة أولياء أمره في محكم كتابه حيث يقول: (يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اَللّهَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ وَ أُولِي اَلْأَمْرِ مِنْكُمْ) (1)، وقد أجمع أهل القبلة على فسق محاربي

ص: 113


1- . النساء: 59.

أئمة العدل وفجورهم بما يرتكبونه.(1)

وانطلاقاً من هذه القاعدة قاتل الإمام علي عليه السلام (ومعه أجلّاء المهاجرين والأنصار) البغاة من الناكثين والقاسطين والمارقين في وقائع: الجمل وصفّين والنّهروان. قال الإمام الصادق عليه السلام: «كان في قتال عليّ أهل القبلة بركة، ولو لم يقاتلهم عليّ عليه السلام لم يدر أحد بعد كيف يسير فيهم».(2)

فإن قلت: فلو كان التصالح بين الطائفتين المسلمتين أمراً وفريضة على الآخرين لزم من ذلك دعوة الخوارج علياً إلى التصالح مع معاوية أمراً موافقاً للكتاب العزيز، فلماذا امتنع علي من قبول التصالح إلّابعد الضغط من جانب جماعة من عسكره والذين صاروا بعد ذلك خوارج.

قلت: قد مرّ أنّ مصب الآية هو قتال طائفتين كلتيهما من المؤمنين المطيعين لإمامهم، غير باغين على ولي أمرهم، ففي هذا الموقف يجب على المسلمين دعوتهما إلى التصالح وإيقاف الحرب والتعامل معهم بالعدل.

وأمّا الحرب في أرض صفين فلم يكن بين طائفتين مسلمتين لإمامهم، بل كانت أحدى الطائفتين باغية خارجة عن إطاعة إمامهم الذي اتّفق المهاجرون والأنصار على إمامته وبايعوه، ففي هذا الموقف يجب على المسلمين الالتحاق بالصف الذي فيه الإمام لا التأكيد عليه بالصلح، فإنّ الصلح في هذا المقام مضر وداخل في قوله سبحانه: (فَلا تَهِنُوا وَ تَدْعُوا إِلَى اَلسَّلْمِ وَ أَنْتُمُ اَلْأَعْلَوْنَ) (3)، إذ كان5.

ص: 114


1- . النصرة لسيد العترة في حرب البصرة للشيخ المفيد: 92-93. وانظر: الأحكام السلطانية للماوردي الشافعي: 54-57.
2- . الوسائل: 12، الباب 26 من أبواب جهاد العدو وما يناسبه، الحديث 4.
3- . محمد: 35.

علي على مقربة من القضاء على العدو الباغي وجيشه، فالصلح في هذا الزمان أمر محكوم، غير أنّ رفع المصاحف من البغاة صار سبباً لاغترار طائفة من جيش علي بأنّ هؤلاء يريدون الصلح والعمل بالقرآن الكريم، وما دروا أنّهم تذرّعوا بهذا العمل ليسلموا من الموت المحقّق بعد أن بدت هزيمتهم النكراء ظاهرة للعيان.

وقد أثبت التاريخ أنّ الدعوة للتصالح كانت لعبة مكشوفة وخداعاً من أخدع الخادعين، أعني: عمرو بن العاص.

ثمّ إنّ البحث عن البغاة في المقام، بحث جانبيّ لا صلة له بالآية كما مرّ.

***

ص: 115

أحكام الجهاد

9. حرمة المبادرة إلى التكفير بلا دليل

اشارة

قال سبحانه: (يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اَللّهِ فَتَبَيَّنُوا وَ لا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ اَلسَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا فَعِنْدَ اَللّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اَللّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اَللّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) .(1)

المفردات

ضربتم: الضرب: إيقاع شيء على شيء، والضرب في الأرض الذهاب فيها وضربها بالأرجل.

ألقى إليكم السلام: حيّاكم بتحيّة أهل الإسلام.

عرض: ما لا يكون له ثبات، ولذلك يقال: إنّ الدنيا عرض حاضر.

مغانم: نعم وفواضل كثيرة.

شأن نزول الآية

اختلف المفسّرون في شأن نزول الآية والمعروف أنّها نزلت في أُسامة بن

ص: 116


1- . النساء: 94.

زيد وأصحابه، بعثهم النبي في سرية فلقوا رجلاً قد انحاز بغنم على جبل، وكان قد أسلم، فقال لهم: السلام عليكم، لا إله إلّااللّه محمد رسول اللّه، فبدر إليه أُسامة فقتله واستاقوا غنمه؛ عن السدّي.

وروي عن ابن عباس وقتادة أنّه لمّا نزلت الآية حلف أُسامة ألا يقتل رجلاً قال لا إله إلّااللّه، وبهذا اعتذر إلى عليّ لمّا تخلّف عنه، وإن كان عذره غير مقبول؛ لأنّه قد دلّ الدليل على وجوب طاعة الإمام في محاربة مَن حاربه من البغاة، لا سيّما وقد سمع النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم يقول: «حربك يا علي حربي وسلمك سلمي».(1)

ورواه أحمد في مسنده، والبخاري في صحيحه بنحو أبسط ممّا ذكر كما يلي:

حدّثنا أُسامة بن زيد قال: بعثنا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم سرية إلى الحرُّمات، فنذروا بنا فهربوا فأدركنا رجلاً فلمّا غشيناه قال: لا إله إلّااللّه، فضربناه حتى قتلناه، فعرض في نفسي من ذلك شيء فذكرته لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فقال: «مَن لك بلا إله إلّااللّه يوم القيامة؟» قال: قلت: يا رسول اللّه، إنّما قالها مخافة السلاح والقتل، فقال: «ألا شققت عن قلبه حتى تعلم من أجل ذلك أم لا؟ مَن لك بلا إله إلّااللّه يوم القيامة؟» قال: فما زال يقول ذلك حتى وددت أنّي لم أُسلم إلّايومئذٍ.(2)

وقريب منه ما ذكره الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم في قضية ذي الخويصرة، حيث اعترض عليه بقوله: اعدل، فعندئذٍ ثارت ثورة مَن كان في المجلس منهم خالد بن الوليد، قال: يا رسول اللّه، ألا أضرب عنقه؟ فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «فلعلّه يكون9.

ص: 117


1- . مجمع البيان: 190/3.
2- . مسند أحمد: 187-188، الحديث 21861؛ صحيح البخاري: 64، الباب 45، الحديث 4269.

يصلّي» فقال: إنّه رب مصلّ يقول بلسانه ما ليس في قلبه، فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «إنّي لم أُؤمر أن أنقب عن قلوب الناس ولا أشقّ بطونهم».(1)

وبعد أن عرفت شأن نزول الآية نعود إلى تفسيرها.

التفسير
وجوب الاحتياط في الدماء

لمّا حذّر سبحانه قبل هذه الآية من قتل المؤمن، وأنّ قتله جريمة كبيرة تستتبع عواقب ثقيلة، جاء البيان القرآني يعلّم المسلمين بأنّه لا يجوز لهم قتل إنسان أظهر الإسلام بظن أنّه كافر أو منافق، فإظهاره الإسلام حصن يصونه عن القتل ما لم يعلم أنّه مهدور الدم، يقول: (يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اَللّهِ) للغزو والجهاد (فَتَبَيَّنُوا) : أي تثبّتوا حتى تميّزوا بين الكافر والمؤمن، فالضابطة الكلّية في كلّ إنسان تلقونه هو الحكم بكونه محقون الدم ومصونه ما لم يثبت خلافه، خصوصاً إذا أظهر الإسلام كما يقول: (وَ لا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ اَلسَّلامَ) : أي حيّاكم بتحية أهل الإسلام أو مَن استسلم إليكم، فليس عليكم أن تقابلوه بقولكم: (لَسْتَ مُؤْمِناً) : أي أظهرت الإسلام وأخفيت الكفر. ثمّ إنّ الغاية لاتّهامه بالكفر هو الاستيلاء على ماله، كما يقول: (تَبْتَغُونَ) : أي تطلبون (عَرَضَ اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا) : أي مغانمها التي لا يكون لها ثبات، وإن كنتم تطلبون الغنائم (فَعِنْدَ اَللّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ) في جنته.

ص: 118


1- . صحيح مسلم: 171/7، برقم 1064؛ مسند أحمد: 10/4، برقم 11008؛ صحيح البخاري: 111/5، باب بعث علي بن أبي طالب وخالد بن الوليد إلى اليمن قبل حجّة الوداع.

ثمّ أتمّ الآية بقوله: (كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ) : أي كنتم تبتغون عرض الحياة الدنيا من قبل أن تدخلوا خيمة الإسلام وتؤمنوا باللّه ولكن (فَمَنَّ اَللّهُ عَلَيْكُمْ) بالإيمان الذي يبتغى منه ما عند اللّه من المغانم وينصرف عن متاع الدنيا، فعلى هذا فالواجب عليكم أن تتبيّنوا وتتثبتوا في أفعالكم (فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اَللّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) .

هذا هو مفاد الآية، والحقيقة أنّها هي العلاج الكامل لما تعانيه الأُمّة الإسلامية من فتن وبلايا ومصائب في هذه الأيام، حيث نرى أنّ ظاهرة التكفير وما يترتّب عليها من مجازر تنمو في بلادنا، وينتشر شررها إلى أكناف الدنيا وأطرافها.

ولكن فرق بين ما قام به أُسامة بن زيد ومن معه، وما تقوم به العصابات التكفيرية في هذه الأيام. فإنّ عمل أُسامة كان عملاً جزئياً موضعياً، وقد هدّده النبي صلى الله عليه و آله و سلم وقد ندم على عمله حتى قال: «وددت أنّي لم أُسلم إلّايومئذ»، وأمّا ظاهرة التكفير في أيامنا هذا فيحمل شعارها قوم وراءهم الاستكبار العالمي حيث يمدّونهم بالمال والسلاح، لضرب المسلمين ومنشآتهم حتى تصبح البلاد الإسلامية بلاداً جرداء وقوماً جوعى، ليس لهم من الحضارة إلّاالفقر والفاقة.

وممّا يؤسف له أنّ هؤلاء يدّعون أنّهم يحكمون باسم الإسلام وباسم نبي الرحمة الذي قال: «إنّ الرفق لا يكون في شيء إلّازانه، ولا يُنزع من شيء إلّا شانه».(1)، فهاهم يقتلون الأبرياء والعُزّل من الناس أطفالاً وشيوخاً ونساء ويقومون بجرائمهم وهم يكبّرون ويصلّون على النبي صلى الله عليه و آله و سلم الذي يصفه سبحانه بقوله: (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اَللّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَ لَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ اَلْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ ب.

ص: 119


1- . صحيح مسلم: 22/8، كتاب البر والصلة والآداب.

حَوْلِكَ) (1) ، ويدّعون رفع لواء الجهاد في سبيل نصرة الدين ومواجهة أعدائه، وهم يسعون في الأرض فساداً، ويحرقون الحرث والزرع، ويدّمرون المنشآت الاقتصادية، بل يخرّبون كلّ شيء؟! مع أنّ البخاري يروي عن أبي ذر أنّه سمع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يقول: «لا يرمي رجل رجلاً بالفسوق ولا يرميه بالكفر إلّاارتدّت عليه إن لم يكن صاحبه كذلك».(2) وروى الترمذي أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قال: «لاعن المؤمن كقاتله، ومَن قذف مؤمناً بكفر فهو كقاتله».(3)

وفي نهاية المقام أقول: إنّ أقل ضرر أُصيب به الإسلام هو أنّ بدعة التكفير على النحو الذي تبثّه الفضائيات صار حائلاً بين الغربيين وبين اعتناقهم الدين الإسلامي الحنيف، وكفى بذلك خسارة عظيمة.

***

تمّ كتاب الجهاد

بفضل اللّه سبحانه4.

ص: 120


1- . آل عمران: 159.
2- . صحيح البخاري: برقم 6045.
3- . سنن الترمذي: 132/4.

الفصل الثامن: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الذكر الحكيم

اشارة

1. ما يدلّ على وجوب الفريضتين.

2. هل الفريضة واجب عيني أو كفائي؟

3. الفريضتان في الشرائع السالفة.

4. في شروط النهي عن المنكر.

5. حكم التقية في الذكر الحكيم.

ص: 121

ص: 122

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

اتّفق المسلمون على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شرعاً، والمسألة لها صبغة كلامية، وفي الوقت نفسه هي مسألة فقهية، ووجه كونها كلامية هو أنّ أهل السنّة بنوا وجوب نصب الإمام بعد رحيل الرسول صلى الله عليه و آله و سلم عليها.(1)

وقالوا: بما أنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أمر واجب، وما يقوم به الواجب - وهو نصب الإمام - واجب. وبذلك صارت مسألة الإمامة عندهم من فروع هذه المسألة.

ولكنّ الشيعة ينظرون إليها بنظرة كونها أصلاً فرعياً كسائر الفروع، ومع ذلك ترى أنّ المحقّق الطوسي قد طرح القاعدة في آخر التجريد في مبحث المعاد.

وبما أنّ الفريضتين يُعدّان نوعاً من الجهاد، جعلنا البحث فيهما ذيلاً له، ووجه كونهما من أقسام الجهاد، أنّ في الأمر بالمعروف طريقاً لإصلاح المجتمع وفي النهي عن المنكر إنقاذاً من الوقوع في الفساد.

وقد وردت في الذكر الحكيم آيات تحثّ المسلمين على إقامة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نذكرها تباعاً.

ص: 123


1- . لاحظ: المواقف لعضد الدين الإيجي: 396؛ وشرح المواقف للسيد الشريف: 346/8؛ وشرح المقاصد للتفتازاني: 236/5.

أحكام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

1. ما يدلّ على وجوب الفريضتين

الآية الأُولى:
اشارة

قال سبحانه: (اَلَّذِينَ إِنْ مَكَّنّاهُمْ فِي اَلْأَرْضِ أَقامُوا اَلصَّلاةَ وَ آتَوُا اَلزَّكاةَ وَ أَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَ نَهَوْا عَنِ اَلْمُنْكَرِ وَ لِلّهِ عاقِبَةُ اَلْأُمُورِ) .(1)

المفردات

مكنّاهم: جعلنا لهم الملك والسلطة في البلاد.

المعروف: كلّ فعل حسن.

المنكر: كلّ فعل قبيح.

التفسير

قوله تعالى: (اَلَّذِينَ إِنْ مَكَّنّاهُمْ فِي اَلْأَرْضِ) وصف للموصول الوارد في الآية المتقدّمة عليها، أعني قوله: (اَلَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ) فهؤلاء هم (اَلَّذِينَ إِنْ مَكَّنّاهُمْ فِي اَلْأَرْضِ) : أي إن جعلنا لهم الملك والسلطان في البلاد، قاموا بأُمور أربعة:

ص: 124


1- . الحج: 41.

1. (أَقامُوا اَلصَّلاةَ) لعلّه أُريد دعوة الناس إلى الصلاة، إذ فرق بين القول:

يصلّون وبين قوله: (أَقامُوا اَلصَّلاةَ) ، وربّما يفسر بإتيانها بتمام شرائطها وآدابها، وعلى كلّ تقدير فهي صلة الناس بينهم وبين اللّه تعالى.

2. (وَ آتَوُا اَلزَّكاةَ) التي هي صلة السلطة بينها وبين الناس، فهؤلاء لا تدفع بهم القدرةُ إلى اللّهو واللعب، بل إلى العبادة وسدّ خلّة الناس.

3. (وَ أَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ) : أي أشاعوا المعروف بين الناس بتبليغه.

4. (وَ نَهَوْا عَنِ اَلْمُنْكَرِ) الذي يُفسد المجتمع.

والأخيران دعامتان قويّتان لبناء مجتمع إلهي، إذ بهما يتقوّم سلوك الناس وتشرق حياتهم بالاستقامة.

وفي نهاية الآية يقول سبحانه: (وَ لِلّهِ عاقِبَةُ اَلْأُمُورِ) : أي مرجع الأُمور إلى حكمه تعالى وتقديره، وفيه تأكيد لوعده سبحانه بنصر المؤمنين وخذلان أعدائهم، وقال سبحانه في موضع آخر: (وَ اَلْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (1).

الآية الثانية
اشارة

قال سبحانه: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ تَنْهَوْنَ عَنِ اَلْمُنْكَرِ وَ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ لَوْ آمَنَ أَهْلُ اَلْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ اَلْمُؤْمِنُونَ وَ أَكْثَرُهُمُ اَلْفاسِقُونَ) .(2)

ص: 125


1- . الأعراف: 128.
2- . آل عمران: 110.
المفردات

كنتم: ذكر المفسرون فيه وجوهاً، أظهرها أنّه مجرّد عن الزمان، فالمعنى:

وجدتم، وبتعبير آخر أنتم خير أُمّة.

أُخرجت: الإخراج مجاز في الإيجاد والإظهار كقوله تعالى: (فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ) (1): أي بصوغه عجلاً جسداً. ومنه يُعلم معنى قول المحدّثين: (أخرج فلان عن ابن عباس) أي أظهر الحديث منه.

الفاسقون: الفسق: الخروج، يقال: فسقت التمرة أي خرجت عن غلافها، وأُريد الخارجون عن الطاعة، ويشمل الكافر والمسلم العاصي.

التفسير

قوله سبحانه: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ) : أي أنتم خير أُمّة ظهرت للناس عبر قرون مضت، وذلك لأنّكم متحلّون بصفات ثلاث:

1. (تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ) : أي ما هو جميل عقيدة وعملاً.

2. (وَ تَنْهَوْنَ عَنِ اَلْمُنْكَرِ) : أي كلّ ما هو مرغوب عنه عقلاً وعرفاً.

3. (وَ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ) إيماناً حقيقياً، منزّهاً عن التشبيه والتجسيم.

ثمّ هل المراد أهل العصر النبوي؟ فيكون الصحابة أفضل أُمّة من الأُمم مع رسولها، أو أنّها خطاب لكلّ المسلمين عبر الزمان؟ الظاهر هو الثاني لأنّ الخطابات القرآنية من قبيل القضايا الحقيقية، لا تختصّ بزمان دون زمان، نظير الخطابات الواردة في الكتب المؤلّفة. وعلى ذلك فالأُمّة الإسلامية عبر القرون بما

ص: 126


1- . طه: 88.

أنّ القائمين فيها بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أكثر من سائر الأُمم، فقد فُضلوا بذلك. ويدلّ على ذلك (أنّهم أكثر بالقيام بالفريضتين من سائر الأُمم وبالأخصّ من اليهود) قوله سبحانه: (كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ) (1): أي لم يكن ينهى بعضهم بعضاً، ولا ينتهون أي لا يكفّون عمّا نهوا عنه، وقال سبحانه: (لَوْ لا يَنْهاهُمُ اَلرَّبّانِيُّونَ وَ اَلْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ اَلْإِثْمَ وَ أَكْلِهِمُ اَلسُّحْتَ) (2).

نعم ربما يوجد بينهم مَن يقوم بهاتين الوظيفتين كما هو الحال في أصحاب السبت حيث جاء فيها: (وَ إِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اَللّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) (3) فالآية تدلّ على وجود مَن كان يعظ القوم وينهاهم لكن كانوا أقلّية. وأمّا الأُمّة الإسلامية فالأمر بالمعروف كان أمراً شاخصاً حيث إنّ قسماً منه قائم بهذا الأمر بالسلطة والقوّة.

ثمّ إنّ الجمل الثلاث (تَأْمُرُونَ) ، (تَنْهَوْنَ) ، (تُؤْمِنُونَ) إخبار لغرض الإنشاء، أي يجب على الأُمّة تلك الأُمور، ولذلك عدّت الآية من دلائل وجوب الأمرين.

الآية الثالثة
اشارة

قال سبحانه: (وَ لْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى اَلْخَيْرِ وَ يَأْمُرُونَ

ص: 127


1- . المائدة: 79.
2- . المائدة: 63.
3- . الأعراف: 164.

بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ اَلْمُنْكَرِ وَ أُولئِكَ هُمُ اَلْمُفْلِحُونَ) .(1)

المفردات

منكم: يحتمل أن تكون «من» للتبيين كما يحتمل أن تكون للتبعيض، ولذلك سبّب الاختلاف في معنى لفظة «من» الاختلاف في أنّ الأمر بالمعروف واجب على الأعيان أو على جمع خاص.

أُمّة: مشتق من «الأَم» الذي هو القَصد، وفي اللغة تستعمل على وجوه، وأُريد هنا الجماعة التي يجمعها غرض واحد.

المعروف: اسم لكلّ فعل يُعرف بالعقل أو بالشرع حُسنه. والأولى تبديل «فعل» إلى «شيء» ليشمل العقيدة والمعارف.

المنكر: ما ينكر بالعقل أو بالشرع.

التفسير

هذه الآية على خلاف الآية السابقة، تخصّص الدعوة إلى الخير بجماعة، فتقول: مكان: (خَيْرَ أُمَّةٍ) ، (وَ لْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ) ، وستوافيك كيفية الجمع بين مفاد الآيتين. ثمّ إنّ التكليف المتوجّه إلى هذه الجماعة عبارة عن الأُمور التالية:

1. (يَدْعُونَ إِلَى اَلْخَيْرِ) ولعلّه أمر جامع بين الأمرين الأخيرين، أعني:

2. (وَ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ) : أي يُرغّبون في فعل كلّ فعل ينبغي أن يفعل أو أمر يعتقد.

ص: 128


1- . آل عمران: 104.

3. (وَ يَنْهَوْنَ عَنِ اَلْمُنْكَرِ) : أي يُرغّبون في ترك ما لا ينبغي فعله.

ثمّ إنّ قوله: (وَ أُولئِكَ) : أي القائمون بهاتين الفريضتين الكبيرتين (هُمُ اَلْمُفْلِحُونَ) في الدنيا والآخرة، أمّا الدنيا حيث إنّ صلاح الفرد لا ينفكّ عن صلاح المجتمع. وأمّا الآخرة فلأنّهم مأجورون ومثابون.

ص: 129

أحكام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

2. هل الفريضة واجب عيني أو كفائي؟

أسئلة وأجوبة

السؤال الأوّل: كيف يمكن الجمع بين الآيتين فالآية المتقدّمة (الحج: 40) جعلت الأمرين من وظائف المجتمع كلّه، والآية الثانية (آل عمران: 110) جعلتهما من وظائف مجموعة معيّنة؟

وبعبارة أُخرى: الآية الأُولى تدلّ على كونهما من وظائف الأعيان، والآية الثانية تدلّ على أنّها وظيفة جمع خاص.

الجواب: الجمع بين الآيتين واضح لأنّ قسماً من الفريضتين من وظيفة الأعيان كالإنكار في القلب والإرشاد باللسان، وقسم منهما من وظائف الحكومة الإسلامية، كإجراء الحدود، ومنع المتجرّئ من التمادي في المعصية.

فالآية الأُولى ناظرة إلى القسم الأوّل وهي وظيفة الأعيان، والآية الأُخرى ناظرة إلى القسم الثاني، فإنّ إجراء الحدود من وظائف مجموعة خاصّة، أعني: مَن له السلطة أي الحكومة؛ ويؤيّد ذلك ما رواه مسعدة بن صدقة، عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: سمعته يقول، وسُئل عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أواجب هو على الأُمّة جميعاً؟ فقال: لا، فقيل له: ولِمَ؟ قال: «إنّما هو على القوي المطاع، العالم

ص: 130

بالمعروف من المنكر، لا على الضعيف الذي لا يهتدي سبيلاً إلى أيّ من أيّ يقول من الحقّ إلى الباطل، والدليل على ذلك كتاب اللّه عزّ وجلّ: (وَ لْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى اَلْخَيْرِ وَ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ اَلْمُنْكَرِ) فهذا خاصّ غير عام، وكما قال اللّه عزّ وجلّ: (وَ مِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَ بِهِ يَعْدِلُونَ) (1) ولم يقل: على أُمّة موسى ولا على كلّ قومه، وهم يومئذٍ أُمم مختلفة».(2)

فإن قلت: أي فرق بين القول بوجوبهما على الأعيان أو على جمع خاص، وبين القول بوجوبهما عيناً أو كفاية، فهل هنا مسألتان أو مسألة واحدة بتعبيرين؟

قلت: هنا مسألتان لكلّ ملاكها، فإنّ محور البحث في المسألة الأُولى هو توجّه التكليف إلى عامّة المكلّفين، أو فريق خاص منهما كأصحاب السلطة والقدرة، وهذا ما يعبّر عنه بوجوبهما على الأعيان أو على فريق خاص.

ثم لو قلنا بوجوبها على الأعيان في غير ما يجب على أصحاب السلطة والقدرة، تطرح مسألة أُخرى، وهي هل وجوبهما عيني، بحيث يطلب من كلّ مكلّف وإن قام به الآخر كالصلاة والصوم؟ أو على نحو لو قام به الآخر وحصل الغرض يسقط التكليف عن الآخرين، وهذا يعبّر عنه بالوجوب العيني أو الكفائي؟ فالمسألة الثانية من شؤون القول بوجوبها على الأعيان.

ذهب الشيخ الطوسي في «الاقتصاد» إلى أنّهما من فروض الأعيان،(3) أي يجب على كلّ المكلّفين ولا يسقط وجوبهما بفعل الآخرين، واختاره ابن7.

ص: 131


1- . الأعراف: 159.
2- . الوسائل: 10، الباب 2 من كتاب الأمر والنهي، الحديث 1.
3- . لاحظ: الاقتصاد: 147.

حمزة(1)، وحُكي عن السيد المرتضى أنّهما من فروض الكفاية.(2)

واستدلّ القائلون بأنّهما من فروض الأعيان بالعمومات المتوجّهة إلى عامّة الناس، نظير قوله سبحانه: (اَلَّذِينَ إِنْ مَكَّنّاهُمْ فِي اَلْأَرْضِ أَقامُوا اَلصَّلاةَ وَ آتَوُا اَلزَّكاةَ وَ أَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَ نَهَوْا عَنِ اَلْمُنْكَرِ وَ لِلّهِ عاقِبَةُ اَلْأُمُورِ) .(3)

أقول: الحقّ التفصيل، فإنّ للأمر بالمعروف مراتب:

1. إنكار المنكر بالقلب وتحريم الرضا به ووجوب الرضا بالمعروف. روى الكليني عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «حسب المؤمن غيراً إذا رأى منكراً أن يعلم اللّه عزّ وجلّ من قلبه إنكاره».(4)

لا شكّ أنّه واجب عيني لا يسقط بفعل الآخرين.

2. الأمر والنهي باللسان، فقد تضافرت الروايات على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باللسان، روى سماعة عن أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السلام في قول اللّه عزّ وجلّ: (قُوا أَنْفُسَكُمْ وَ أَهْلِيكُمْ ناراً) (5) كيف نقي أهلنا؟ قال:

«تأمرونهم وتنهونهم».(6)

وقال أمير المؤمنين عليه السلام: «مَن ترك إنكار المنكر بقلبه ولسانه فهو ميّت الأحياء».(7)4.

ص: 132


1- . لاحظ: الوسيلة: 107.
2- . لاحظ: مختلف الشيعة: 457/4.
3- . الحج: 41.
4- . الوسائل: 11، الباب 5 من أبواب الأمر والنهي، الحديث 1.
5- . التحريم: 6.
6- . الوسائل: 11، الباب 9 من أبواب الأمر والنهي، الحديث 3.
7- . الوسائل: 11، الباب 9 من أبواب الأمر والنهي، الحديث 4.

لا شكّ أنّه واجب كفائي إذا قام به شخص، سقط عن الآخرين، نعم لو قامت القرينة على أنّ مرتكب المنكر ربما لا ينتهي إلّاإذا تضافر الأمر أو النهي، فيكون واجباً عينيّاً على الآخرين.

السؤال الثاني: إنّ دلالة هذه الآيات على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أمر واضح، إلّاأنّه ربما يتصوّر التعارض بينها وبين الآية التالية، أعني قوله تعالى: (يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اِهْتَدَيْتُمْ إِلَى اَللّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (1).

الجواب: أنّ الآية ليس لها صلة بالموضوع فإنّها ناظرة إلى أنّ لكلّ شخص حساباً خاصّاً ولا يحاسب بعمل غيره كما في آية أُخرى: (وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) (2)، فيوم القيامة يحاسب كلّ إنسان حسب عمله، فأين ذلك من وجوب الأمر بالمعروف وكبح جماح الفاسق عن التظاهر بالمعصية؟

وبعبارة أُخرى: إنّ الآية ناظرة إلى المجتمعات الفاسدة الغارقة في الفساد والانحراف، فإنّ الطريق الوحيد لإصلاحها هو الابتداء بإصلاح الذات وعدم توقّع أي إصلاح للغير قبل ذلك، وأن لا يترك إصلاح نفسه بحجّة أنّ المجتمع فاسد، وإليه يُشير قوله سبحانه: (لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اِهْتَدَيْتُمْ) (3).

ويؤيّد ذلك قول النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم: «بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء» فقيل: يا رسول اللّه مَن الغرباء؟ فقال: «الذين يصلحون إذا5.

ص: 133


1- . المائدة: 105.
2- . الأنعام: 164.
3- . المائدة: 105.

أفسد الناس من بعدي سنّتي».(1)

السؤال الثالث: إنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ينافي الحرية التي هي من أماني الشعوب المتحضّرة؟

والجواب: أنّ الحرية على قسمين:

1. الحرية المنتهية إلى الفوضى في المجتمع من دون اعتراف بقانون بشري أو سماوي، فهذا النوع من الحرية مرفوض عقلاً وشرعاً لأنّه أشبه بالحرية السائدة في الغابة.

2. الحرية المحدّدة بالقوانين، وهذه هي أُمنية كلّ إنسان متحضّر، لكن الأمر بالمعروف لا ينافي تلك الحرية، بل هو دعوة للعمل بالقانون ودعوة عامّة الناس للالتزام به، ولا تجد على البسيطة مَن يكون حرّاً من جميع الجهات، وإلّا يكون وضع القوانين أمراً لغواً، ولذلك نرى أنّ الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله و سلم يشبّه المجتمع بسفينة ذات طبقتين وبين أهلها تخاصم فيريد سكان الطبقة السفلى ثقب تلك الطبقة من السفينة بحجة أنّهم يثقبون ما يتعلق بهم، فقال الرسول صلى الله عليه و آله و سلم في حقّ هؤلاء: «فإن أخذوا على أيديهم نجوا جميعاً، وإن تركوهم غرقوا جميعاً».(2)

وفي رواية أُخرى قال صلى الله عليه و آله و سلم: «إنّ المعصية إذا عمل بها العبد سرّاً لم تضرّ إلّا عاملها، فإذا عمل بها علانية ولم يغيّر عليه أضرّت بالعامّة».(3)1.

ص: 134


1- . سنن الترمذي: 129/4؛ جامع الأُصول: 212/10.
2- . مسند أحمد: 268/4.
3- . الوسائل: 11، الباب 4 من أبواب الأمر والنهي، ذيل الحديث 1.

أحكام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

3. الفريضتان في الشرائع السالفة

يظهر من غير واحدة من الآيات وجود الفريضتين في الشرائع السابقة نذكر منها ما يلي:

1. يصف سبحانه النبي إسماعيل عليه السلام بقوله: (وَ اُذْكُرْ فِي اَلْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ اَلْوَعْدِ وَ كانَ رَسُولاً نَبِيًّا * وَ كانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَ اَلزَّكاةِ وَ كانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا) (1).

2. يحكي سبحانه عن لقمان الحكيم أنّه يوصي ابنه بالأمر بالمعروف ويقول: (يا بُنَيَّ أَقِمِ اَلصَّلاةَ وَ أْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَ اِنْهَ عَنِ اَلْمُنْكَرِ وَ اِصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ اَلْأُمُورِ) (2).

3. يصف سبحانه قسماً من أهل الكتاب بقوله: (لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ اَلْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اَللّهِ آناءَ اَللَّيْلِ وَ هُمْ يَسْجُدُونَ * يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ اَلْمُنْكَرِ وَ يُسارِعُونَ فِي اَلْخَيْراتِ وَ أُولئِكَ مِنَ اَلصّالِحِينَ) .(3)

ص: 135


1- . مريم: 54-55.
2- . لقمان: 17.
3- . آل عمران: 113-114.

4. يصف سبحانه النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم بصفات مختلفة ويعرّفه بقوله:

(اَلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ) من له هذه الصفات:

أ. (اَلرَّسُولَ) ب. (اَلنَّبِيَّ) ، ج. (اَلْأُمِّيَّ) .

د. (اَلَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي اَلتَّوْراةِ وَ اَلْإِنْجِيلِ) .

ه. (يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهاهُمْ عَنِ اَلْمُنْكَرِ) .

و. (وَ يُحِلُّ لَهُمُ اَلطَّيِّباتِ وَ يُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ اَلْخَبائِثَ) .

ز. (وَ يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَ اَلْأَغْلالَ اَلَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ) .(1)

إلى هنا تمّت دراسة الآيات التي يستفاد منها الوجوب.

بقي هنا بحث آخر وهو دراسة شرائط وجوب الأمر والنهي، إلّاأنّها غير مذكورة في الذكر الحكيم، وإنّما ذكرها الفقهاء في كتبهم، والمتكلّمون في فصل المعاد، ولا بأس بالإشارة إليها.7.

ص: 136


1- . الأعراف: 157.

أحكام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

4. في شروط النهي عن المنكر

قال المحقّق: ولا يجب النهي عن المنكر، ما لم تكمل شروط أربعة:

الأول: أن يعلمه منكراً، ليأمن الغلط في الإنكار.

الثاني: وأن يجوز تأثير إنكاره، فلو غلب على ظنّه، أو علم أنّه لا يؤثّر، لم يجب.

الثالث: وأن يكون الفاعل مُصِرّاً على الاستمرار، فلو لاحَت منه إمارة الامتناع أو أقلع عنه، سقط الإنكار.

الرابع: ولا يكون في الإنكار مفسَدَة، فلو ظنّ توجّه الضرر إليه [أو إلى ماله]، أو أحد من المسلمين، سقط الوجوب.(1)

ولا يخفى أنّ ما ذكره من الشروط الأربعة شرط لكلتا الفريضتين أي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فتخصيص المحقّق النهي بهذه الشروط لا يظهر وجهه.(2)

ص: 137


1- . شرائع الإسلام: 342/1.
2- . لاحظ: مسالك الأفهام: 129/1.

وقد بسطنا الكلام حول هذه الشروط في كتابنا: «الإيضاحات السنية للقواعد الفقهية».(1)

ثمّ إنّ الشيخ الأكبر جعفر كاشف الغطاء رحمه الله ذكر هنا أربعة عشر شرطاً، وإليك ما ذكره، قال: ويجب الأمر بالواجب والنهي عن المحرّم وجوباً نهائياً بشروط أربعة عشر:

أحدها: التكليف، بجمع وصفي البلوغ والعقل حين الأمر والنهي.

ثانيها: العلم بجهة الفعل من وجوب وحرمة، ومع الاحتمال يدخل في السنّة للاحتياط.

ثالثها: إمكان التأثير، ومع عدمه يلحق بالسنّة.

رابعها: عدم التقيّة ولو بمجرّد الاطّلاع.

خامسها: عدم ترتّب الفساد الدنيوي على المأمور أو غيره بسببه.

سادسها: عدم مظنّة قيام الغير به.

سابعها: مظنّة الوقوع ممّن تعلّق به الخطاب.

ثامنها: ألّا يتقدّم منه أو من غيره خطاب يظنّ تأثيره.

تاسعها: عدم البعث على ارتكاب معصية أو ترك واجب للمأمور أو غيره بسببه.

عاشرها: عدم ترتّب نقصٍ مخلٍّ بالاعتبار على الآمر.

حادي عشرها: فهم المأمور مُراد الآمر.6.

ص: 138


1- . لاحظ: الإيضاحات السنية للقواعد الفقهية: 425/3-446.

ثاني عشرها: ضيق الوقت في الوجوب الفوري.

ثالث عشرها: عدم معارضة واجب مضيّق من صلاة ونحوها.

رابع عشرها: كون المأمور ممّن يجوز له النظر إليه أو اللّمس له إذا توقّف عليهما.

ولا يجب على اللّه شيء منهما بطريق الإلجاء؛ لقبح الإلجاء منه، ولفوات ثمرة التكليف.(1)

ثمّ إنّ هذ الشروط تختص للأمر والنهي الفردي، وأمّا إذا قام بهما من لهم السلطة والقدرة، فكثير منها غير مطروح في حقّهم.4.

ص: 139


1- . كشف الغطاء: 429/4.

أحكام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

5. حكم التقية في الذكر الحكيم

اشارة

جعل الفاضل المقداد البحث في التقية ذيلاً لكتاب الجهاد(1)، ولعلّ وجهه أنّ التقيّة سلاح الضعيف في مقابل العدو الغاشم الذي لا يرحم مخالفه، وهو مجهّز بكلّ وسائل القوّة والبطش والظلم ولا يملك الضعيف سلاحاً إلّاالتقيّة، وعلى كلّ تقدير فالتقيّة من الأُصول القرآنية التي جاءت في غير واحدة من الآيات.

الآية الأُولى
اشارة

قال تعالى: (مَنْ كَفَرَ بِاللّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلاّ مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَ لكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اَللّهِ وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) .(2)

المفردات

أُكره: الإكراه هو الفعل أو القول الصادر بضغط من عامل خارجي، وأُريد به

ص: 140


1- . لاحظ: كنز العرفان: 393/1 وما بعدها.
2- . النحل: 106.

هنا التلفّظ بكلمة الكفر بضغط ممّن بيده القوّة.

مطمئنّ: من الاطمئنان، وهو سكون النفس بعد انزعاجها.

شرح بالكفر صدراً: اعتقده وطاب به نفساً.

التفسير

تفسير الآية رهن بيان إعراب مفرادتها وفقراتها:

قوله تعالى: (مَنْ كَفَرَ بِاللّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ) أنّ لفظة «من» مبتدأ، لم يُذكر خبره، وهو مقدّر يُعلم من قوله سبحانه: (فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اَللّهِ) الذي هو خبر لقوله: (مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً) . ويصير تقدير الآية بالنحو التالي:

من كفر باللّه من بعد إيمانه فعليهم غضب من اللّه.

ولكن مَن شرح بالكفر صدراً فعليهم غضب من اللّه.

ثمّ إنّ قوله: (إِلاّ مَنْ أُكْرِهَ) مستثنىً من قوله: (فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ) .

إذا عرفت ذلك فلنفسّر الآية:

قوله سبحانه: (مَنْ كَفَرَ بِاللّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ) : أي خرج من خيمة الإسلام ودخل في ظلمة الكفر (فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اَللّهِ) .

قوله سبحانه: (إِلاّ مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) استثناء لمن أُجبر على التلفّظ بالكفر، غير أنّ قلبه ممتلئ بالإيمان وهذا بعيد عن غضب اللّه، (وَ لكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً) : أي امتلأ قلبه بالكفر فيجزى بجزائين:

1. (فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اَللّهِ) .

2. (وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) .

ص: 141

فالآية بصدد تهديد فريقين:

1. مَن ارتد عن الإيمان بعد دخوله فيه.

2. مَن كفر وبقي على كفره.

وفي الوقت نفسه يسمح للمُكره إظهار الكفر مجاراة للكافرين خوفاً منهم بشرط أن يكون قلبه مطمئناً بالإيمان.

ذكر المفسّرون أنّ الآية نزلت في جماعة أُكرهوا على الكفر، وهم عمّار وأبوه ياسر وأُمّه سميّة، وقُتل الأبوان لأنّهما لم يظهرا الكفر ولم ينالا من النبي صلى الله عليه و آله و سلم وأعطاهم عمّار ما أرادوا منه فأطلقوه، ثمّ أخبر عمّار بذلك رسول اللّه، وانتشر خبره بين المسلمين، فقال قوم: كفر عمّار، فقال رسول اللّه: «كلّا إنّ عمّاراً مُلئ إيماناً من قرنه إلى قدمه، واختلط الإيمان بلحمه ودمه». وفي ذلك نزلت الآية، وكان عمّار يبكي، فجعل رسول اللّه يمسح عينيه ويقول: «إن عادوا لك فعد لهم بما قلت».(1)

وقد روى العوفي عن ابن عباس أنّ هذه الآية نزلت في عمّار حين عذّبه المشركون حتى يكفر بمحمد، فوافقهم على ذلك مكرهاً وجاء معتذراً إلى النبي صلى الله عليه و آله و سلم فأنزل اللّه هذه الآية.

وفي رواية قال النبي صلى الله عليه و آله و سلم: «كيف تجد قلبك؟» قال: مطمئن بالإيمان، قال النبي صلى الله عليه و آله و سلم: «إن عادوا فعد». وقد ذكر المفسّرون بعض ما روي في هذا الصدد.(2)

ومورد الآية هو الاتّقاء من المشرك، وسوف يوافيك أنّ المورد غير4.

ص: 142


1- . مجمع البيان: 233/6.
2- . لاحظ: تفسير ابن كثير: 587/2؛ تفسير الدر المنثور: 132/4.

مخصّص، فلو كان حال الحاكم المسلم مثل الحاكم الكافر تجوز التقيّة أخذاً بالملاك وهو صيانة النفس والنفيس من الهلاك.

وفي نهاية المقام أنّ قوله: (إِلاّ مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) استثناء منقطع؛ لأنّ المستثنى منه قوله: (مَنْ كَفَرَ بِاللّهِ) : أي قلباً، والمستثنى من آمن قلباً وتكلّم بكلمة الكفر، ولذلك لمّا جاء عمّار إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وهو يبكي فسأله النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم: «ما وراءك؟» قال: شرّ يا رسول اللّه، ما تُركت حتى نلت منك وذكرت آلهتهم بخير. فجعل رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يمسح عينيه ويقول: «إن عادوا لك فعد لهم بما قلت»، ونزلت الآية.(1)

الآية الثانية
اشارة

قال سبحانه: (لا يَتَّخِذِ اَلْمُؤْمِنُونَ اَلْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اَلْمُؤْمِنِينَ وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اَللّهِ فِي شَيْ ءٍ إِلاّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَ يُحَذِّرُكُمُ اَللّهُ نَفْسَهُ وَ إِلَى اَللّهِ اَلْمَصِيرُ) .(2)

المفردات

يتّخذ: الأخذ حوز الشيء وتحصيله، وهو يصدق بالتحصيل مرّة، ولكن أُريد في المقام بقرينة حالية، الاستمرار.

أولياء: من الولاية، والأصل فيها تولّي الأمر كما في ولاية أمر الصغير والمجنون، أي مَن يملك تدبير أُمورهم وأُمور أموالهم، ثمّ يستعمل في مورد

ص: 143


1- . مجمع البيان: 233/6-234.
2- . آل عمران: 28.

الحب بمناسبة بينه وبين المعنى الأصلي؛ لأنّ كثيراً من المتحابّين يتصرّفون في أُمورهم.

دون المؤمنين: غير المؤمنين.

فليس من اللّه: أي ليس ممّن ينتسب إلى اللّه.

تقاة: مصدر اتّقى، وأصلها وقاة إلّاأنّ الواو المضمومة أُبدلت تاء استثقالاً لها.

نفسه: أُريد ذاته العظيمة. وإطلاقه على اللّه من باب المشاكلة.

التفسير

قوله سبحانه: (لا يَتَّخِذِ اَلْمُؤْمِنُونَ اَلْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اَلْمُؤْمِنِينَ) ظاهر في النهي عن تولّي الكافرين، مكان المؤمنين، وهذا يتصوّر بإحدى الصورتين التاليتين:

1. أخذهم أولياء يتولّون أُمور المؤمنين فيكونون سادة والمؤمنون عبيداً لهم، ومن المعلوم أنّ هذا النوع من الاتّخاذ كفر وإلحاد.

2. حبّهم وودّهم المؤثّر على أعمال الإنسان وأفعاله.

وبما أنّ اتّخاذ الكافر وليّاً - بإحدى الصورتين - مؤثّراً في مصير المؤمن أمر محظور، هدّد سبحانه الموالين بوجوه ثلاثة:

1. (وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اَللّهِ فِي شَيْ ءٍ) ولعلّه كناية عن بعد الإنسان عن اللّه تعالى وانقطاع صلته باللّه فكأنّه يكون كافراً كما يقول سبحانه:

(وَ مَنْ

ص: 144

يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) (1) إمّا موضوعاً كما في الصورة الأُولى، أو منهم حكماً كما في الحب المفرط الذي يؤثّر على فكر الإنسان وعمله.

نعم ربّما تُلجئ الظروف بعض المؤمنين إلى التظاهر بالحب دفعاً لشرّهم وصوناً لأنفسهم عن أضرارهم، فهذا مستثنى عن المنهي عنه كما يقول: (إِلاّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً) وبما أنّ هذه الموالاة صورية يكون الاستثناء منقطعاً، ومعنى الآية بأنّه ليس لكم تولّي الكافرين إلّاأن تتّقوا ضررهم وتصونوا أنفسكم وأموالكم بموالاتهم. والآية من أدلّة جواز التقية.

وقد تقدّم أنّ موالاة الكافرين ذات أضرار خطيرة تسلب من المسلمين سيادتهم واستقلالهم ويؤثّر في سلوكهم الديني، عاد البيان القرآني يهدّدهم مرة ثانية.

2. (وَ يُحَذِّرُكُمُ اَللّهُ نَفْسَهُ) يطلق التحذير ويراد به الاحتراز من أمر مخيف، فتارة يكون الأمر المخيف هو العذاب كما يقول: (إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً) (2)، وأُخرى الأشخاص كقوله سبحانه: (هُمُ اَلْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ) (3)وهناك جعل سبحانه الأمر المخوف نفسه، وكأنّه ليس بينه وبين عذابه سبحانه أي حائل. ففي التحذير عن اللّه نفسه مكان التحذير عن عذابه، تهديد عظيم للموالي.

3. (وَ إِلَى اَللّهِ اَلْمَصِيرُ) وهذا هو التهديد الثالث فلا مهرب منه، وفيه أيضاً تهديد عظيم لأمر الموالاة فقد هدد سبحانه في هذه الآية الموالين بأُمور ثلاثة، كما مرّ.4.

ص: 145


1- . المائدة: 51.
2- . الإسراء: 57.
3- . المنافقون: 4.
الآية الثالثة
اشارة

قال سبحانه: (وَ إِذِ اِعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَ ما يَعْبُدُونَ إِلاَّ اَللّهَ فَأْوُوا إِلَى اَلْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَ يُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً) .(1)

المفردات

اعتزلتموهم: الاعتزال: التنحّي عن الأمر. وسمّي عمرو بن عبيد وأصحابه معتزلة، لمّا اعتزلوا حلقة الحسن البصري.

فأووا إلى الكهف: أي سيروا إليه واجعلوه مأواكم.

مرفقاً: من الرفق بمعنى اليُسر واللطف.

التفسير

إنّ قصة أصحاب الكهف معروفة لا تحتاج إلى بيان وتفسير، فقد كانوا يعيشون مع الوثنيّين مدّة، بعدما آمنوا بربّهم وشملتهم الهداية الإلهية تقيّة، ويدلّ على ذلك قوله سبحانه: (وَ إِذِ اِعْتَزَلْتُمُوهُمْ) فإنّ الاعتزال فرع أن يكون القوم معهم في حلّهم وترحالهم أي مخالطين لهم.

فعاشوا مدّة في تلك الظروف بالتقية إلى أن عزموا على مواجهة ضغط المجتمع بالخروج عليهم (فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً) .(2)

ص: 146


1- . الكهف: 16.
2- . الكهف: 14.

ثمّ الظاهر أنّ مفاد الآية كلام كبيرهم وأعقلهم.

هذا هو حال أولياء اللّه يختارون المكان المظلم الموحش ويفضّلونه على القصور الزاهرة المؤنسة لحفظ إيمانهم وعقيدتهم، وصيانة نفوسهم من الرذائل والآثام، ولذلك نرى أنّ يوسف عليه السلام آثر السجن على البقاء في القصر بثمن باهظ يدفعه من إيمانه واستقامته، وهو الاستجابة للقيام بالعمل المنكر، قال سبحانه حكاية عنه: (رَبِّ اَلسِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) (1).

الآية الرابعة
اشارة

قال سبحانه: (وَ قالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَ تَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اَللّهُ وَ قَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَ إِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَ إِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ اَلَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اَللّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذّابٌ) .(2)

المفردات

رجل مؤمن: يحتمل قويّاً أنّه كان من قرابة فرعون وخاصّته، وقيل: إنّه ابن عمّ فرعون، وهو الذي أنجى بمشيئة اللّه تعالى موسى عليه السلام من القتل، كما في قوله تعالى: (وَ جاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى اَلْمَدِينَةِ يَسْعى قالَ يا مُوسى إِنَّ اَلْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ اَلنّاصِحِينَ) ،(3) وهذا قبل أن يُبعث موسى بالرسالة،

ص: 147


1- . يوسف: 33.
2- . غافر: 28.
3- . القصص: 20.

كلّ ذلك بناء على وحدة الرجلين مصداقاً في كلتا الآيتين.

التفسير

ثمّ شخصان من آل فرعون قد آمنا بدعوة موسى عليه السلام، وكان لهما دور مؤثّر فيما جرى من أحداث، وهما: آسية زوج فرعون، وأحد أقربائه المعروف بمؤمن آل فرعون، وكان يُبطن الإيمان ويظهر الكفر عملاً بالتقية، لأنّه لو أظهر الإيمان لقُتل، ومن المعلوم أنّه لو بقي حيّاً لانتفع بوجوده موسى عليه السلام والمؤمنون أكثر، وهذه هي التقية التي جاء بها القرآن الكريم وأفتى بها الفقهاء صيانة للنفس والنفيس.

وقد عمل بها مؤمن آل فرعون، وذكر القرآن قصّته ليكون إسوة للآخرين.

إذا تبيّن ذلك فلندخل في تفسير الآية.

لمّا عزم فرعون على قتل موسى عليه السلام حاول مؤمن آل فرعون دفع الشرّ عنه، وعرض مقاله بصورة النصح لفرعون وملأه: (وَ قالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ) وهنا قد وصف القرآن الرجل بوصفين:

أ. أنّه من آل فرعون لا من بني إسرائيل.

ب. أنّه يكتم إيمانه، ليحقّق بذلك مآربه، قال: (أَ تَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اَللّهُ) والاستفهام إنكاري يريد أن يُفهم أنّه لا يجوز في منطق العقل قتل إنسان بحجّة إيمانه باللّه، خصوصاً إذا كان إيمانه مقروناً بالدلائل والبيّنات، كما قال: (وَ قَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ) التي تدلّ على صدق دعواه (مِنْ رَبِّكُمْ) .

وأضاف أنّه لو افترضنا أنّه كاذب في دعوته، فوَبال ذلك عليه وحده، كما

ص: 148

قال: (وَ إِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ) ، وقدّم هذا الاحتمال على الاحتمال الآخر للتلطُّف، لا أنّه كان شاكّاً في صدقه. ثم أضاف بأنّه في الوقت نفسه يحتمل أن يكون الرجل صادقاً في دعوته، كما يقول: (وَ إِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ اَلَّذِي يَعِدُكُمْ) وهذا القول مبالغة منه في التحذير، فإنّه إذا حذّرهم من بعض العذاب أفاد أنه مُهلكٌ مَخوف، فما بال كلّه؟ ثمّ إنّ ترديد الأمر بين الأمرين إظهار للإنصاف وعدم التعصّب.(1)

ثمّ إنّه عقّب كلامه السابق بقوله: (إِنَّ اَللّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذّابٌ) والظاهر أنّه يرجع إلى الشقّ الأوّل من كلامه - أعني: (وَ إِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ) - فهو يُريد أن يُبيّن أنّ اللّه لا يترك في هذه الدنيا المسرف المتجاوز الحدّ في المعصية والكذب على ربّه.

بقي هنا كلام، وهو: ربما يقال إنّ الاستدلال بالآية الثالثة (حول أصحاب الكهف) والآية الرابعة، فرع كون عمل هؤلاء حجّة في حقّنا.

والجواب واضح وهو أنّ مَن نظر إلى مفاد الآيتين وما حولهما من الآيات يقف على أنّه سبحانه بصدد مدح أعمال هؤلاء وأقوالهم، ومعنى ذلك أنّه كذلك في الأُمّة الإسلامية أيضاً.

مكانة أبي طالب نفس مكانة أصحاب الكهف

إنّ مكانة أبي طالب رحمه الله الذي كان يعيش في مجتمع وثني جاهلي، هي منزلة أصحاب الكهف، فقد كان يتلطّف معهم ظاهراً، ولكنّه كان يعاديهم باطناً وحقيقة.

ص: 149


1- . انظر: تفسير المراغي: 65/24.

وفي رواية عن الإمام الصادق عليه السلام: «إنّ جبرئيل عليه السلام نزل على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فقال: يا محمّد إنّ ربّك يقرؤك السلام، ويقول لك: إنّ أصحاب الكهف أسرّوا الإيمان وأظهروا الشرك، فآتاهم اللّه أجرهم مرّتين، وإنّ أبا طالب أسرّ الإيمان وأظهر الشرك فآتاه اللّه أجره مرّتين، وما خرج من الدنيا حتّى آتته البشارة من اللّه بالجنة».(1)

فإن قلت: إنّ في ديوان أبي طالب وما نقله أصحاب السير منه رحمه الله ما يدلّ على أنّه كان يصدع بالحق ويظهر إيمانه لاخصائه نظير قوله:

ليعلم خيار الناس أنّ محمداً *** نظير لموسى والمسيح بن مريم

أتانا بهدي مثل ما أتيا به *** فكلٌّ بأمر اللّه يهدي ويعصم(2)

قلت: الجواب بوجهين:

1. لعل قصائده هذه كانت في أواخر عمره، الذي تبيّن للقريب والبعيد أنّه يحمي ابن أخيه إيماناً بدينه، لا لقرابته منه.

2. يمكن أن تكون قصائده مودعة عند المؤمنين.

***

هذه هي الآيات التي استدلّ بها على جواز التقية بل على وجوبها، غير أنّ هنا سؤالاً مهماً نطرحه مع جوابه.

مورد الآيات اتّقاء المسلم من الكافر

ربما يقال: إنّ مورد تلك الآيات المذكور هو اتّقاء المسلم من الكافر لا اتّقاء

ص: 150


1- . الوسائل: 11، الباب 29 من أبواب الأمر والنهي، الحديث 17.
2- . أعيان الشيعة: 121/4.

المسلم من المسلم، فلا تشمل اتّقاء الشيعي من السنّي، ولا العكس.

الجواب: أنّ المورد ليس مخصّصاً والغرض من تشريع التقية هو صيانة النفس والنفيس من الشر، فإذا ابتلي المسلم من أخيه المسلم الذي يخالفه في بعض الفروع ولا يتردّد الطرف القوي في إيذاء الطرف الآخر، ففي تلك الظروف الحرجة لا مناص للمسلم الضعيف من اللجوء إلى التقية لصيانة نفسه ونفيسه، وهذا ممّا صرّح به علماء الإسلام في تفسير الآية، ونقتصر بثلاث كلمات لأقطاب التفسير:

1. يقول الإمام الرازي في تفسير قوله سبحانه: (إِلاّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً) :

ظاهر الآية على أنّ التقيّة إنّما تحلّ مع الكفّار الغالبين، إلّاأنّ مذهب الشافعي: أنّ الحالة بين المسلمين اذا شاكلت الحالة بين المسلمين والكافرين، حلّت التقيّة محاماة عن النفس.

وقال: التقيّة جائزة لصون النفس، وهل هي جائزة لصون المال؟ يحتمل أن يحكم فيها بالجواز لقوله صلى الله عليه و آله و سلم: «حرمة مال المسلم كحرمة دمه»، وقوله صلى الله عليه و آله و سلم: «من قتل دون ماله فهو شهيد».(1)

2. ينقل جمال الدين القاسمي عن الإمام مرتضى اليماني في كتابه «إيثار الحقّ على الخلق» ما هذا نصّه: «وزاد الحق غموضاً وخفاءً أمران: أحدهما: خوف العارفين - مع قلّتهم - من علماء السوء وسلاطين الجور وشياطين الخلق مع جواز التقيّة عند ذلك بنصّ القرآن، وإجماع أهل الإسلام، وما زال الخوف مانعاً من إظهار الحقّ، ولابرح المحقّ عدوّاً لأكثر الخلق، وقد صحّ عن أبي هريرة أنّه قال فية.

ص: 151


1- . تفسير الرازي: 14/8 في تفسير الآية.

ذلك العصر الأوّل: «حفظت من رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وعاءين، أمّا أحدهما فبثثته في الناس، وأمّا الآخر فلو بثثته لقطع هذا البلعوم».(1)

3. وقال المراغي في تفسير قوله سبحانه: (مَنْ كَفَرَ بِاللّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلاّ مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) :(2) ويدخل في التقية مداراة الكفرة والظلمة والفسقة، وإلانة الكلام لهم، والتبسّم في وجوههم، وبذل المال لهم، لكفّ أذاهم وصيانة العرض منهم، ولا يُعدّ هذا من المولاة المنهيّ عنها، بل هو مشروع، فقد أخرج الطبراني قوله صلى الله عليه و آله و سلم: «ما وقى المؤمن به عرضه فهو صدقة».(3)

***

تمّ كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر3.

ص: 152


1- . محاسن التأويل: 82/4. ومعنى ذلك أنّ أبا هريرة اتّقى وترك الواجب - أي بثّ حديث الرسول - تقية وحفظاً لنفسه.
2- . النحل: 106.
3- . تفسير المراغي: 136/3.

الفصل التاسع: المكاسب المحرّمة في الذكر الحكيم

اشارة

1. التطفيف.

2. الرشوة.

3. أكل الميتة والدم و....

4. التكسّب بالأُمور الأربعة.

5. الربا.

6. حكم الرقص في الكتاب والسنّة الشريفة.

7. الغناء.

ص: 153

ص: 154

المكاسب المحرمة

1. التطفيف

اشارة

إنّ الإسلام حثّ على التكسّب بالأُمور الحلال، وفي الوقت نفسه نهى عن التكسّب بأُمور حرام، وقد ذُكر قسم من الأُمور المحرّمة في القرآن الكريم وقسم كثير منها في السنّة، ونحن نقتصر على دراسة ما ورد من القسم الحرام في الذكر الحكيم طبقاً للحروف الهجائية.

الآية الأُولى
اشارة

قال سبحانه: (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * اَلَّذِينَ إِذَا اِكْتالُوا عَلَى اَلنّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَ إِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ) .(1)

المفردات

ويل: أي هلاك عظيم.

للمطفّفين: المطفّفين: من التطفيف وهو البخس والنقص في الكيل والوزن، والطفيف بمعنى النزر اليسير، سُمّي البخس بمعنى النقص طفيفاً لأنّ ما يبخس شيء طفيف أي حقير بالنسبة إلى مجموع المكيال والميزان وقال الزجاج: وإنّما قيل له مطفّف، لأنّه لا يكاد يسرق في المكيال والميزان إلّاالشيء اليسير

ص: 155


1- . المطففين: 1-3.

الطفيف.(1)

اكتالوا: من الاكتيال وهو الأخذ بالكيل.

كالوهم: أي كالوا للناس.

وزنوهم: وهو الأخذ بالوزن، أي وزنوا للناس.

يُخسرون: يقال: أخسرت الميزان وخسرته إذا نقصته في الوزن.

التفسير

روي أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قدم المدينة وكانوا من أخبث الناس كيلاً فنزلت، فأحسنوا. وعن ابن عباس أنّه صلى الله عليه و آله و سلم قدم المدينة وبها رجل يقال له أبو جهينة ومعه صاعان يكيل بأحدهما ويكتال بالآخر، فنزلت الآية في حقّه.(2)

وقد اهتمّت الشرائع السماوية السابقة بهذا الأمر كما سيوافيك، وما ذلك إلّا لأنّ إقامة العدل في كافّة جوانب الحياة هي الغاية التي يستهدفها المنهج الإلهي، وهي قوام الحياة النظيفة الطاهرة المستقرة الآمنة، يقول سبحانه: (وَ اَلسَّماءَ رَفَعَها وَ وَضَعَ اَلْمِيزانَ * أَلاّ تَطْغَوْا فِي اَلْمِيزانِ * وَ أَقِيمُوا اَلْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَ لا تُخْسِرُوا اَلْمِيزانَ) .(3)

إذا عرفت ذلك فلنفسّر فقرات الآية.

قال تعالى: (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ) : أي هلاك لهم؛ فهل هو دعاء عليهم، أو خبر

ص: 156


1- . مجمع البيان: 327/10.
2- . مجمع البيان: 327/10؛ تفسير الدر المنثور: 324/6.
3- . الرحمن: 7-9.

عن مصيرهم القاسي، وتحذير من التطفيف بالكيل والوزن، لأنّه نوع من أنواع الظلم الذي يلحق الفردَ والمجتمع وتجاوزٌ على ميزان العدل و الإنصاف الذي ينبغي أن يحكم حياة الناس؟ فلا شكّ أنّ في شيوع الغش والتلاعب في أمر المكيال والميزان، الذي عليه مدار معاملات الناس بشكل عام، سوف يترك آثاراً سلبية على نظام حياتهم ويزعزع أواصر الثقة التي تربط فيما بينهم.

ثمّ إنّه سبحانه يفسّر المطفّفين بقوله: (اَلَّذِينَ إِذَا اِكْتالُوا عَلَى اَلنّاسِ يَسْتَوْفُونَ) : أي إذا أرادوا أخذ شيء لأنفسهم يستوفون لأنفسهم الكيل، ويحصلون على حقّهم كاملاً دون نقص، وإنّما لم يذكر الوزن لوجهين:

1. للاستغناء عنه بذكره في الشقّ الآخر الآتي.

2. أنّ المطفّفين هم التجّار الباعة الذين يشترون الكميات الكبيرة التي تقدّر بالكيل لأجل السهولة دون الوزن لوجود العسر فيه في ذلك الزمان، واللّه العالم.

(وَ إِذا كالُوهُمْ) : أي كالوا للناس (أَوْ وَزَنُوهُمْ) : أي وزنوا لهم (يُخْسِرُونَ) : أي ينقصون حقّهم.

وبعبارة أُخرى: إذا باعوا لهم يخسرون في الكيل والوزن، فالتطفيف كان قائماً بأمرين:

1. إذا اشترى أحدهم لنفسه، يستوفي حقّه تماماً وإذا باع للغير يخسر كيلاً ووزناً.

ثمّ إنّه سبحانه يحذّرهم بقوله: (أَ لا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ) : أي إنّ المطفّف لا يظن بأنّ هناك يوماً يبعث فيه الناس، وهو الذي يصفه قوله سبحانه بقوله: (لِيَوْمٍ عَظِيمٍ) . وأمّا ما هو الهدف من البعث في ذلك اليوم العظيم، فهذا ما

ص: 157

يبينه بقوله: (يَوْمَ يَقُومُ اَلنّاسُ لِرَبِّ اَلْعالَمِينَ) : أي لأجل الحساب، فلو كان هؤلاء ظانّين بيوم الحساب لتركوا هذا العمل الذي هو من أفعال اللئام.

التطفيف مورداً أعمّ ممّا يكال ويوزن

الظاهر عدم اختصاص التطفيف بما يكال أو يوزن، بل يشمل سائر الموارد التي يقع فيها الظلم والغُبن، والبُعد عن الإنصاف، سواء في الحقوق أم في الواجبات، فمدير الشركة مثلاً، مسؤول عن إعطاء حقّ العامل، وأن يتجنّب استغلاله وغبنه، والعامل مسؤول عن أداء واجبه، بأن يتقن عمله، ولا يتهرّب منه بإضاعة الوقت في ما لا يخصّ عمله، ومثل ذلك يقال في الموظف والمعلّم والمهندس والوزير وغيرهم، فكلّ مَن اشتغل بما لا علاقة له بما تعاقد عليه، فهو مطفِّف أيضاً.

روى الطبرسي عن ابن عباس أنّه قال: الصلاة مكيال فمَن وفى، وفى اللّه له، ومَن طفّف قد سمعتم ما قال اللّه في المطفّفين.(1)

التطفيف بنفسه حرام

الظاهر من الآية وما سيوافيك من الآيات أنّ التطفيف بنفسه حرام في الكيل والوزن وكذا الإخسار في العدّ والذرع كما في فقه الراوندي.(2)

لكنّ الظاهر من المحقّق الإيرواني غير ذلك، قال: إنّ الظاهر، بل المقطوع (فيه) أنّ التطفيف بنفسه ليس عنواناً من العناوين المحرّمة، أعني: الكيل بالمكيال

ص: 158


1- . مجمع البيان: 327/10.
2- . مفتاح الكرامة: 91/4.

الناقص، وكذا البخس في الميزان مع وفاء الحقّ كاملاً، كما إذا كان ذلك لنفسه، أو تمّم حقّ المشتري من الخارج، أو أراد المقاصّة منه أو نحو ذلك، كما أنّ إعطاء الناقص أيضاً ليس حراماً، بل قد يتّصف بالوجوب، وإنّما المحرّم عدم دفع بقية الحقّ إذا لم يكن الحقّ مؤجّلاً، وإلّا لم يكن ذلك أيضاً بمحرّم، بل يكون التعجيل فيما أعطاه تفضّلاً وإحساناً.

نعم إن أظهر - ولو بفعله - أنّ ما دفعه تمام الحقّ، مع أنّه ليس بتمام الحقّ، كان محرّماً من حيث الكذب، وإن لم يظهر، لم يحرم من هذا الحيث أيضاً.(1)

يلاحظ عليه: أوّلاً: أنّ المتبادر من الدعاء على المطفِّف بالويل، أنّ التطفيف والبخس والإخسار أُمور محرّمة بنفسها، وأمّا عنوان الكذب أو عدم دفع بقية الحقّ. فهما عنوانان آخران خارجان عن عنوان البحث.

ثمّ إنّ منصرف الآية ما لو طفّف بعنوان كونه وفاءً للحقّ، ولم يضمّ إليه شيء أو لم يكن هنا تقاص، وعلى هذا فالموارد المذكورة في كلامه خارجة عن مصبّ البحث؛ مثلاً:

1. إذا كان الاكتيال لنفسه مع الإعراض عن الباقي أو لإتمام الحقّ خارجاً.

2. إذا كان الاكتيال لغيره ولكن تمّم حقّه من الخارج.

3. إذا كان الاكتيال لغيره ولكن له عليه حقّ يمتنع من أدائه وأراد المقاصّة فيجوز التطفيف لأجل التزاحم بين الحقّين لأهميته.

وحصيلة الكلام: أنّ الموضوع للتحريم هو التطفيف بما أنّه تمام الحقّ ولم2.

ص: 159


1- . تعليقة المحقّق الإيرواني: 22.

يكن كذلك ولم ينضم إليه شيء.

***

الآية الثانية
اشارة

قال سبحانه: (أَوْفُوا اَلْكَيْلَ وَ لا تَكُونُوا مِنَ اَلْمُخْسِرِينَ * وَ زِنُوا بِالْقِسْطاسِ اَلْمُسْتَقِيمِ * وَ لا تَبْخَسُوا اَلنّاسَ أَشْياءَهُمْ وَ لا تَعْثَوْا فِي اَلْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) .(1)

المفردات

المخسرين: المنقصين.

القسطاس: الميزان ويعبّر به عن العدالة كما يعبّر عنها بالميزان قال: وزنوا بالقسطاس المستقيم.(2)

تبخسوا: البخس نقص الشيء على سبيل الظلم أي لا تنقصوا.

***

التفسير

إنّ النبي شعيباً عليه السلام أمر قومه بشيئين ونهاهم عن ثلاثة أُمور:

أمّا الأمر الأوّل فقال: (أَوْفُوا اَلْكَيْلَ) .

ص: 160


1- . الشعراء: 181-183.
2- . المفردات للراغب: 595، مادة «قسط».

وأمّا الثاني فقال: (وَ زِنُوا بِالْقِسْطاسِ اَلْمُسْتَقِيمِ) .

وأمّا ما نهى عنه فهو:

1. (وَ لا تَكُونُوا مِنَ اَلْمُخْسِرِينَ) .

2. (وَ لا تَبْخَسُوا اَلنّاسَ أَشْياءَهُمْ) .

3. (وَ لا تَعْثَوْا فِي اَلْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) .

والظاهر - كما سيوافيك - أنّ كلّاً من النَّهيين متمّم لما سبقه من الأمر، وأمّا النهي الثالث أعني: (وَ لا تَعْثَوْا فِي اَلْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) فهو نهي عام يشمل كلّ جريمة وعمل محرّم من غير فرق بين الكيل والوزن وغيرهما.

إذا عرفت ذلك فلنرجع إلى تفسير الآيات.

قوله تعالى: (أَوْفُوا اَلْكَيْلَ) ذكر الكيل وهو كناية عمّا يقدّر به المبيع، فيعمّ الوزن. والمعنى: إذا بعتم فكيلوا لهم الكيل والوزن كاملاً (وَ لا تَكُونُوا مِنَ اَلْمُخْسِرِينَ) : أي المنقصين.

هذا هو الأمر الأوّل، وأمّا الأمر الثاني فهو قوله: (وَ زِنُوا بِالْقِسْطاسِ اَلْمُسْتَقِيمِ) أمر النبي شعيب أن يزِنوا للناس بالعدل في الأخذ والإعطاء، وأُريد بالقسطاس المستقيم، الميزان العدل.

هذا كلّه في الأمرين وأمّا النواهي الثلاثة فهي:

1. (وَ لا تَكُونُوا مِنَ اَلْمُخْسِرِينَ) : أي المنقصين.

2. (وَ لا تَبْخَسُوا اَلنّاسَ أَشْياءَهُمْ) : البخس - كما مرّ - نقص الشيء على سبيل الظلم، فيحتمل أن تكون الفقرة مشيرة إلى النهي عن وصف سلعة الناس بالرداءة، بأن يقول: إنّ سلعتك رديئة ليصرف عنها الراغبين حتى يشتريها هو

ص: 161

برخص.

3. (وَ لا تَعْثَوْا فِي اَلْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) وهذه كلمة جامعة تشمل المورد وغيره كالغارة وقطع الطريق والسلب والنهب.

الآية الثالثة

قال سبحانه: (فَأَوْفُوا اَلْكَيْلَ وَ اَلْمِيزانَ وَ لا تَبْخَسُوا اَلنّاسَ أَشْياءَهُمْ وَ لا تُفْسِدُوا فِي اَلْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) .(1)

هذه الآية ممّا أوصى به شعيب عليه السلام قومه، فكلامه هذا يشتمل على أمر ونهيين:

أمّا الأمر فقوله: (فَأَوْفُوا اَلْكَيْلَ وَ اَلْمِيزانَ) .

وأمّا النهيان فقوله: (وَ لا تَبْخَسُوا اَلنّاسَ أَشْياءَهُمْ) .

وقوله: (وَ لا تُفْسِدُوا فِي اَلْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها) فقد ظهر مفاد الآيات ممّا ذكرناه من تفسير ما ورد في سورة الشعراء.

الآية الرابعة
اشارة

قال سبحانه: (وَ يا قَوْمِ أَوْفُوا اَلْمِكْيالَ وَ اَلْمِيزانَ بِالْقِسْطِ وَ لا تَبْخَسُوا اَلنّاسَ أَشْياءَهُمْ وَ لا تَعْثَوْا فِي اَلْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) .(2)

وقد ظهر تفسير الآية بما تقدّم ونُكمل البحث بذكر الفرع التالي:

ص: 162


1- . الأعراف: 85.
2- . هود: 85.
فرع: لو آجر نفسه للتوزين فأخسر

إذا آجر نفسه للتوزين على الكيل بالمكيال التام ثم طفّف فالإجارة صحيحة، لكنّه لا يستحقّ الأُجرة، لعدم إتيانه بالعمل المستأجر عليه.

نعم، لو آجر نفسه مقيّداً بذلك أي التطفيف تبطل الإجارة، لأنّ المبغوضية الذاتية لا تجتمع مع الإمضاء.

ص: 163

المكاسب المحرمة

2. الرشوة

اشارة

اتّفق فقهاء المسلمين على تحريم الرشوة، ففي «جامع المقاصد» و «مسالك الأفهام»: أنّ على تحريمها إجماع المسلمين.(1)

وإليك ما يدلّ عليه من الآيات:

الآية الأُولى
اشارة

قال سبحانه: (سَمّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَ إِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَ إِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اَللّهَ يُحِبُّ اَلْمُقْسِطِينَ) .(2)

المفردات

أكّالون: صيغة مبالغة، أي أخّاذون له.

السحت: بمعنى الحرام، قال الراغب: السحت: القشر الذي يستأصل، ومنه السحت للمحذور الذي يلزم صاحبه العار، كأنّه يسحت دينه ومروءته، قال تعالى: (أَكّالُونَ لِلسُّحْتِ) : أي لما يسحت دينهم.(3)

ص: 164


1- . لاحظ: جامع المقاصد: 35/4، مسالك الأفهام: 136/3.
2- . المائدة: 42.
3- . المفردات للراغب: 225، مادة «سحت».

فعلى هذا فالآية تدلّ على حرمة كلّ محرّم يسحت دين الإنسان ومروءته، وأمّا ما هو المراد من السحت في آيتنا، فسيوافيك في التفسير.

التفسير

إنّ اللّه سبحانه يصف - حسب ما ورد في شأن النزول - يهود المدينة، أو يهود خيبر، أو كليهما بوصفين:

1. (سَمّاعُونَ لِلْكَذِبِ) والفقرة تحتمل أحد معنيين:

أ. كثير السمع لكلام النبي لغاية تكذيبه.

ب. كثير السمع لما يعلمون أنّه كذب.

2. (أَكّالُونَ لِلسُّحْتِ) وأُريد بالسحت هنا الرشوة حسب شأن نزول الآية، حيث إنّ قسماً من أحبارهم كانوا يأخذون الرشوة لتحريف حكم اللّه تعالى، وقد مرّ أنّ السحت اسم جامع لقسم من المحرّمات والرشوة منها.

ثمّ إنّه سبحانه يخبر النبي صلى الله عليه و آله و سلم بأنّ وفداً من اليهود يأتونك ويسألونك عن حكم المحصن، كما يقول: (فَإِنْ جاؤُكَ) : أي للاستفتاء عن حكم المحصن، فأنت مخيّر بين أمرين:

1. (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ) بما أنزل اللّه في التوراة.

2. (أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ) .

وهذا يدلّ على أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم مخيّر في الحكم على غير المسلمين بين الحكم والإعراض.

ولمّا كان المقام مظنّة الضرر، إذا أعرض النبي صلى الله عليه و آله و سلم عنهم، أخبر سبحانه بأنّ

ص: 165

إعراضه عنهم لا يضرّه كما قال: (وَ إِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً) ، واللّه سبحانه ناصرك وحافظك. وأمّا إذا لم يُعرض وأراد أن يحكم بينهم، فعليه أن يحكم بينهم بالعدل (وَ إِنْ حَكَمْتَ) : أي اخترت الحكم (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ) : أي العدل المطلق.

ثمّ إنّ اللّه سبحانه أتمّ الآية بقوله: (إِنَّ اَللّهَ يُحِبُّ اَلْمُقْسِطِينَ) .

الآيتان: الثانية والثالثة
اشارة

قال سبحانه: (وَ تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي اَلْإِثْمِ وَ اَلْعُدْوانِ وَ أَكْلِهِمُ اَلسُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ * لَوْ لا يَنْهاهُمُ اَلرَّبّانِيُّونَ وَ اَلْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ اَلْإِثْمَ وَ أَكْلِهِمُ اَلسُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ) .(1)

المفردات

السحت: تقدّم تفسيره في الآية السابقة.

الإثم: الجرم.

العدوان: الاعتداء على الغير.

يصنعون: أي يعملون، وفيه إشارة إلى زعم جودة العمل.

التفسير

ترشدنا الآيتان إلى أنّ اليهود مصدر أُمور ثلاثة من المفاسد، والجميع من الأُمور المشهودة، يشهد بذلك كلُّ مَن عاشرهم، ويقول سبحانه: (وَ تَرى كَثِيراً

ص: 166


1- . المائدة: 62-63.

مِنْهُمْ) : أي من اليهود (يُسارِعُونَ) : أي المسارعة في الأُمور الثلاثة:

1. (فِي اَلْإِثْمِ) وهو الكذب بقرينة ما يأتي في الآية التالية التعبير عنه ب: (قَوْلِهِمُ اَلْإِثْمَ) .

2. (وَ اَلْعُدْوانِ) : التجاوز على حقوق المسلمين والآخرين.

3. (وَ أَكْلِهِمُ اَلسُّحْتَ) وأُريد به الرشا والربا.

ثمّ إنّه سبحانه يُقبِّح عملهم هذا ويقول: (لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) فإنّ المرتكب لها غارق في الفساد، وبما أنّ من بين اليهود أُناس ربّانيون أو أحبار معلّمون كان عليهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولكنّهم سكتوا عن ذلك، فجاءت الآية توبّخهم على سكوتهم أمام هذه المعاصي الموبقة.

قوله تعالى: (لَوْ لا يَنْهاهُمُ اَلرَّبّانِيُّونَ) : أي هلّا ينهاهم المنتسبون إلى الرب (وَ اَلْأَحْبارُ) معلّموهم ومرشدوهم عن هذين الأمرين: (عَنْ قَوْلِهِمُ اَلْإِثْمَ) : أي الكذب ويشمل تحريف الكتاب (وَ أَكْلِهِمُ اَلسُّحْتَ) وقد ذكر في المقام من الأُمور الثلاثة الأمرين التاليين:

1. (عَنْ قَوْلِهِمُ اَلْإِثْمَ) .

2. (وَ أَكْلِهِمُ اَلسُّحْتَ) .

ولم يذكر «العدوان» الأمر الثالث الذي ورد في الآية السابقة، ولعلّه أدخل العدوان تحت السحت. فسكوتهم هذا عمل شنيع كما يقول: (لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ) .

ثمّ إنّ في المقام طائفتين:

1. مَن يرتكب المعاصي، وقد وصفهم في الآية السابقة بقوله: (لَبِئْسَ ما

ص: 167

كانُوا يَعْمَلُونَ) .

2. علماء اليهود الذين فرض عليهم إصلاح المجتمع ولكنّهم تهاونوا في أداء وظائفهم فوصفهم بقوله: (لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ) ولعلّ الاختلاف في التعبير - حيث عبّر عن الطائفة الأُولى ب: (يَعْلَمُونَ) * وعن الثانية ب: (يَصْنَعُونَ) - لأجل أنّ الطائفة الثانية أكبر إثماً من الأُولى. وذلك للفرق بين تنصّل العالم عن وظيفته، فهو أكبر ذنباً من عمل الجاهل في مجال ارتكاب الذنب.

وقد روي عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه يغفر للجاهل سبعون ذنباً قبل أن يغفر للعالم ذنبٌ واحدٌ.(1)

إلى هنا تمّ تفسير ما ورد حول السحت من الآيات، وقد تقدّم أنّ السحت ليس بمعنى الرشوة، بل له معنى عام يشملها وغيرها، غير أنّ مورد الآيات هو الرشوة ولذلك جعلنا هذه الآيات دليلاً على حرمة الارتشاء، مضافاً إلى ما ورد حول الرشوة من الروايات، ومنها:

1. روى الكليني عن يزيد بن فرقد، عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: سألته عن السحت؟ فقال: «الرشا في الحكم».(2)

ويظهر من بعض الروايات أنّ للسحت معنى أعم، ومنها (الرشاء).

2. روى الصدوق باسناده عن جعفر بن محمد عن آبائه عليهم السلام في وصية النبي صلى الله عليه و آله و سلم لعلي عليه السلام قال: «يا علي: من السحت: ثمن الميتة، وثمن الكلب، وثمن الخمر، ومهر الزانية، والرشوة في الحكم، وأجر الكاهن».(3)9.

ص: 168


1- . الكافي: 47/1 برقم 1، باب لزوم الحجّة على العالم وتشديد الأمر عليه.
2- . الوسائل: 12، الباب 5 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 4.
3- . الوسائل: 12، الباب 5 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 9.

وفي بعض الروايات وصف الرشا بالكفر والشرك.(1) وكأنّهم يصوّرون بأخذ الرشاء، أنّه سبحانه غير قادر على رزقهم من الحلال فصاروا إلى أكل الحرام.

الآية الرابعة
اشارة

قال سبحانه: (وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَ تُدْلُوا بِها إِلَى اَلْحُكّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ اَلنّاسِ بِالْإِثْمِ وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) .(2)

المفردات

تأكلوا: كناية عن مطلق التصرّف.

بالباطل: الباء للسببية، يقابله: الحقّ: الثابت الباقي.

تدلوا: عطف على قوله: (تَأْكُلُوا) ، أي لا تدلوا. والإدلاء، مأخوذ من إدلاء الدلو، وهو إرسالك إيّاها في البئر للاستقاء.

التفسير
اشارة

تضمّنت الآية بيان أمرين محرّمين:

1. أكل المال بالباطل

قال سبحانه: (وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ) وأُريد بالباطل كلّ تصرّف حرام، كالقمار والغصب والظلم والرشاء، وعبّر عن التصرّف بالأكل لأجل كون

ص: 169


1- . لاحظ: الوسائل: 12، الباب 5 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1 و 2 و 8.
2- . البقرة: 188.

الأكل أقرب الأفعال الطبيعية التي يحتاج الإنسان إليها وهي أقدمها، بخلاف سائر الحاجات كاللباس والمسكن والنكاح. وبعبارة أُخرى: أنّ الأكل أهمّ الحوائج.

2. أكل المال بالرشوة

خصّ سبحانه الرشوة بالذكر، وقال: (وَ تُدْلُوا) : أي لا تدلوا (بِها) : أي الأموال (إِلَى اَلْحُكّامِ) : أي لا ترسلوها إليهم، فلا تتوسّلوا بها إليهم (لِتَأْكُلُوا) بالتحاكم (فَرِيقاً) قطعة (مِنْ أَمْوالِ اَلنّاسِ بِالْإِثْمِ) : أي متلبّسين به (وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أنّكم مبطلون، والعقوبة عندئذٍ أشدّ.

***

إنّ الرشوة من المحرّمات الكبيرة التي نُهي عنها في الشريعة الإسلامية نهيّاً مؤكّداً، وهي لاتختصّ بالأموال بل تعمّ غيرها، كالخياطة، أو قضاء حاجة القاضي في موضوع آخر، أو مدحه بالشعر و الخطابة؟

ثمّ إنّ الآية تدلّ على حرمة إدلاء المال إلى الحاكم أي إرساله إليه أو تقريبه منه، ولكنّه وارد مورد الغالب، والمقصود أنّ كلّ ما يُوصل إلى الغاية المحرّمة فهو حرام، فحرمة الغاية توجب سراية الحرمة إلى كلّ سبب، مالاً كان أو منفعة، أو عملاً للقاضي.

حكم الرشا في إحقاق الحق

ما يتوصّل به الإنسان إلى مطلوبه تارة يكون في طريق الحكم بالباطل الذي فيه نفعه وصلاحه، وأُخرى لأجل الحكم لصالحه حقّاً كان أو باطلاً، فلا شكّ في حرمة الرشوة في هاتين الصورتين.

ص: 170

إنّما الكلام في الصورة الثالثة، أعني: يتوصل به ليحكم بالحقّ، فيحلّ للمعطي ويحرم على الآخذ، إذا كان قاضياً رسمياً يرتزق من بيت المال.

قال الشيخ الطوسي: وإن كان لإجرائه على واجبه لم يحرم عليه، أن يرشوه كذلك لأنّه يستنقذ ماله فيحل ذلك له ويحرم على آخذه، لأنّه يأخذ الرزق من بيت المال. وإن لم يكن له رزق كما إذا قال لهما: لست أقضي بينكما حتّى تجعلا لي رزقاً، حلّ ذلك له حينئذٍ عند قوم، وعندنا لا يجوز بحال.(1)

وقال ابن إدريس: إن كان على إجرائه على واجبه، لم يحرم عليه أن يرشوه لأنّه يستنقذ ماله، فيحلّ ذلك له ويحرم على الحاكم أخذه.(2)

ولكن الحقّ جواز أخذ الجُعل في هذه الصورة إذا كان القاضي محتاجاً ودار أمره بين العمل في الخارج لقضاء حوائج أهله وعياله، وبين ممارسة القضاء بين المتخاصمين، فيدور أمره بين أحد الواجبين، فله أن يطلب منهما قضاء حوائج يومه أو غده، حتى يتفرّغ للقضاء بينهما. ثمّ نحن أوضحنا حال جواز ارتزاق القاضي من بيت المال في بحوثنا فلاحظ،(3) والتفصيل في محلّه.(4)8.

ص: 171


1- . المبسوط: 151/8.
2- . السرائر: 166/2.
3- . راجع المواهب في تحرير أحكام المكاسب: 866-867.
4- . لاحظ: نظام القضاء والشهادات في الشريعة الإسلامية الغراء: 306/1-308.

المكاسب المحرمة

3. أكل الميتة والدم و...

اشارة

المشهور بين الفقهاء أنّ الاكتساب ببيع الميتة وما عطف عليها من الأُمور الثمانية في الآية التالية، أمر محرّم، وقد استدلّوا على حرمة عامّة التصرّفات وراء السنة بآيتين.

والكلام في دلالتهما على المقصود سيظهر أنّ الآية لا تدلّ على أزيد من حرمة الأكل وأمّا سائر الانتفاعات فهي ساكتة عنه وإنّما يطلب حكمه عن سائر الأدلّة، ولذلك جعلنا العنوان «الأكل» لا البيع ولا سائر الانتفاعات.

الآية الأُولى
اشارة

قال سبحانه: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ اَلْمَيْتَةُ وَ اَلدَّمُ وَ لَحْمُ اَلْخِنْزِيرِ وَ ما أُهِلَّ لِغَيْرِ اَللّهِ بِهِ وَ اَلْمُنْخَنِقَةُ وَ اَلْمَوْقُوذَةُ وَ اَلْمُتَرَدِّيَةُ وَ اَلنَّطِيحَةُ وَ ما أَكَلَ اَلسَّبُعُ إِلاّ ما ذَكَّيْتُمْ وَ ما ذُبِحَ عَلَى اَلنُّصُبِ وَ أَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ اَلْيَوْمَ يَئِسَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَ اِخْشَوْنِ اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ اَلْإِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اُضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اَللّهَ

ص: 172

غَفُورٌ رَحِيمٌ) .(1)

المفردات

الميتة: ما مات حتف أنفه.(2) وهو أخصّ من غير المذكّى، لأنّ الثاني يشمل ما ذكي بغير التسمية عمداً أو على غير وجه القبلة، أو كان الذابح كافراً، فإنّ الجميع غير مذكّى يحرم أكله ولكنّه ليس ميتة، فأحكام الميتة كالنجاسة لا تشمل غير المذكّى.

أُهلّ: الإهلال رفع الصوت، يقال: استهلّ الصبيّ إذا صرخ عند الولادة، وأُريد هنا ما ذبح على غير ذكر اللّه؛ بل بسم اللّات والعُزّى.

المنخنقة: وهي التي تموت اختناقاً بحبل أو بنفسها كما إذا أدخلت رأسها في مضيق فاختنقت.

الموقوذة: ما تُضرب حتى تموت.

المتردّية: وهي التي تتردّى من مكان عال.

النطيحة: وهي التي تنطحها أُخرى حتى تموت.

ما أكل السبع: أي الحيوان المفترس، أكل البعض وترك البعض الآخر.

النصب: جمعه أنصاب، وهي الأصنام. وهي الحجارة التي كانوا يعبدونها وتُسمّى الأوثان.

بالأزلام: الأزلام: جمع زُلم، قطعة من الخشب على هيئة السهم.

ص: 173


1- . المائدة: 3.
2- . الحتف بمعنى الموت: وكان الرأي السائد في الجاهلية أنّ الروح تخرج من الأنف.
التفسير

استُدلّ أنّ قوله تعالى: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ اَلْمَيْتَةُ) بإطلاقه، يدلّ على حرمة كافّة التصرّفات من الأكل والبيع والهبة وغير ذلك، غير أنّ الاستدلال لا يخلو عن ضعف.

وجه ذلك: أنّ قوله (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ اَلْمَيْتَةُ) ظاهر في حرمة الأكل بقرينة ما في ذيل الآية (فَمَنِ اُضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) والمراد من المخمصة، المجاعة، وأُريد من المتجانف، المائل إلى الإثم كما إذا تعدّى عن سدّ الجوع، كما سيوافيك في تفسير الآية الثامنة. وأمّا غير الأكل من أحكام الميتة فيرجع إلى أدلّتها في محالّها.

الآية الثانية
اشارة

قال سبحانه: (يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَ اُشْكُرُوا لِلّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيّاهُ تَعْبُدُونَ * إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ اَلْمَيْتَةَ وَ اَلدَّمَ وَ لَحْمَ اَلْخِنْزِيرِ وَ ما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اَللّهِ فَمَنِ اُضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) .(1)

المفردات

غير باغ: فُسّر بغير باغي اللّذة.

ص: 174


1- . البقرة: 172-173.

ولا عاد: غير متعدٍّ سدّ الجوع.

التفسير

استدلّ بالآية على حرمة التصرّفات عامّة ومنها الاكتساب، لما ورد فيها، غير أنّ الاستدلال مرفوض بوجهين:

1. ما في صدر الآية الأُولى، أعني قوله: (يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) فإنّه شاهد على أنّ متعلّق التحريم هو الأكل و الانتفاع به في سدّ الجوع.

2. قوله تعالى: (فَمَنِ اُضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ) فهو أيضاً شاهد على ضيق المتعلّق.

نعم لحرمة الاكتساب بالأُمور المذكورة في الآيتين دلائل في السنّة، فليرجع إليها.

ص: 175

المكاسب المحرمة

4. التكسّب بالأُمور الأربعة

اشارة

الخمر والميسر والأنصاب والأزلام

التكسّب بالخمر والميسر والأنصاب والأزلام، حرام لدى فقهاء الإسلام، إنّما الكلام في دلالة الآيتين التاليتين على الحكم المزبور، وإليك البيان.

الآيتان: الأُولى والثانية
اشارة

قال سبحانه: (يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا اَلْخَمْرُ وَ اَلْمَيْسِرُ وَ اَلْأَنْصابُ وَ اَلْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ اَلشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّما يُرِيدُ اَلشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ اَلْعَداوَةَ وَ اَلْبَغْضاءَ فِي اَلْخَمْرِ وَ اَلْمَيْسِرِ وَ يَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اَللّهِ وَ عَنِ اَلصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) .(1)

المفردات

قد تقدّم تفسير مفردات الآيتين في كتاب أحكام الطهارة عند الكلام في نجاسة الخمر وطهارته، فلا حاجة لتفسيرها إلّاالازلام فإليك بيانها.

ص: 176


1- . المائدة: 90-91.

الأزلام: القداح، وهي سهام كانوا يجيلونها للقمار، وإليك تفسيرها.

روى علي بن إبراهيم في تفسيره عن الصادقين عليهما السلام: أنّ الأزلام عشرة، سبعة لها أنصباء، وثلاثة لا أنصباء لها، فالتي لها أنصباء: الفذّ، والتوأم، والمسبل، والنافس، والحلس، والرقيب، والمعلّى، فالفذّ له سهم، والتوأم له سهمان، والمسبل له ثلاثة أسهم، والنافس له أربعة أسهم، والحلس له خمسة أسهم، والرقيب له ستة أسهم، والمعلى له سبعة أسهم. والتي لا انصباء لها: السفيح، والمنيح، والوغد، وكانوا يعمدون إلى الجزور فيجزئونه أجزاء، ثم يجتمعون عليه فيخرجون السهام فيدفعونها إلى رجل، وثمن الجزور على مَن تخرج له التي لا أنصباء لها، وهو القمار، فحرّمه اللّه تعالى.(1)

التفسير

أمّا الكلام في دلالة الآية على حرمة التكسّب بهذه الأُمور، فالظهور البدائي في جانب الخمر هو الانتفاع بالشرب، غير أنّ المتبادر من الأُمور الثلاثة: «الميسر والأنصاب والأزلام» وهو غير الشرب، وهذا يصلح لأن يكون قرينة على حرمة عامّة الانتفاعات، والآية حكمت على الجميع بالأُمور الثلاثة:

1. (رِجْسٌ) 2. (مِنْ عَمَلِ اَلشَّيْطانِ) .

3. (فَاجْتَنِبُوهُ) .

رجاء (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) ، هو حرمة الانتفاع بعامّته، خصوصاً ورود الميسر والأزلام في الآية، فإنّ الغاية منها هو حرمة عامّة الانتفاع.

ص: 177


1- . مجمع البيان: 318/3.

وإن شئت قلت: حتى أنّ المنهيّ عنه في خصوص الخمر أيضاً عامّة الانتفاع، إذ لا معنى من تحريم شرب الخمر وتحليل بيعه وشرائه وغيرهما، بل يُعدّان أمرين متناقضين.

ومنه يُعلم مفاد قوله تعالى: (إِنَّما يُرِيدُ اَلشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ اَلْعَداوَةَ وَ اَلْبَغْضاءَ فِي اَلْخَمْرِ وَ اَلْمَيْسِرِ وَ يَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اَللّهِ وَ عَنِ اَلصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) (1). فإنّ تعليل التحريم بأنّ الشيطان يُريد إيقاع العداوة والبغضاء في الخمر والميسر كما يُريد أن يصدكم عن ذكر اللّه وعن الصلاة، يُشكل قرينة على أنّ المراد حرمة الانتفاع على وجه الإطلاق خصوصاً التكسّب، إذ لا تنسجم هذه التعابير مع تحليل التكسّب في وسط المجتمع الإسلامي.

***1.

ص: 178


1- . المائدة: 91.

المكاسب المحرمة

5. الربا

تمهيد

كان الربا أمراً شائعاً في الجاهلية، فلم يكن محيص من تحريمه على وجه التدريج شأن كلّ داء اجتماعي تجذّرت جذوره في المجتمع فلا يعالج إلّاببيانات شافية حتى يتمّ الأمر على التحريم القاطع، ولذلك قد وردت في حرمته آيات أربع يختلف لحنها حسب الضعف والشدّة، ثمّ إنّ واحدة منها مكّية والبقية مدنيّات.

ينقسم الربا إلى قسمين:

1. الربا المعاوضي. 2. الربا القرضي.

فالأوّل عبارة عن بيع المتماثلين (أو مطلق معاوضة المتماثلين) بالفضل، كأن يبيع كيلو من الحنطة بكيلو من الحنطة بإضافة شيء، سواء أكانت الإضافة عينية كأن يبيع: بكيلو حنطة منضمّاً إلى درهم، أم كانت الإضافة حكميّة كما إذا باع مائة كيلو من حنطة، بمائة كيلو من حنطة وشرط معه أن يخيط له ثوباً، ومثّل لذلك - أيضاً - بما إذا كان أحد الجنسين نقداً والآخر نسيئة، وإنّما يكون كذلك إذا كان أحد الجنسين أجود من الآخر، فيدفع غير الأجود نقداً في مقابل الأجود نسيئة، فلو كانا متماثلين من جميع الجهات يصبح الأمر ديناً، ولا إشكال فيه.

ص: 179

ثمّ إنّ الربا المعاوضي عند المشهور مختصّ بالمكيل والموزون دون المعدود والمذروع خلافاً للمختار عندنا، والحقّ كون الحكم عاماً شاملاً لمطلق المعاوضة، وقد حقّقنا الموضوع في كتابنا «الربا موضوعاً وحكماً».

وأمّا الثاني - أي الربا القرضي - فهو عبارة عن إقراض مال لشخص بشرط أن يؤدّي المقترض أزيد ممّا اقترضه، سواء اشترطاه صريحاً أو أضمراه بحيث وقع القرض مبنياً عليه.

ثمّ إنّ حرمة الربا من ضروريات الفقه لو لم تكن من ضروريات الإسلام، غير أنّ لفظ الربا في الآيات القرآنية ينصرف إلى الربا القرضي، وأمّا الربا المعاوضي فهو مستفاد من السنّة.

إذا تبيّن ذلك فلنبدأ بدراسة الآيات الواردة في هذا الصدد.

الآية الأُولى
اشارة

قال تعالى: (وَ ما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ اَلنّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اَللّهِ وَ ما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اَللّهِ فَأُولئِكَ هُمُ اَلْمُضْعِفُونَ) .(1)

المفردات

الربا: لغة بمعنى الزيادة، ويشهد على ذلك قوله في نفس الآية: (لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ اَلنّاسِ) : أي ليزيد بذلك أموال الناس.

ص: 180


1- . الروم: 39.
التفسير

استدلّ المفسّرون بالآية على حكم الربا القرضي، فحملوا الربا في الآية على الربا المصطلح، أي الفائدة التي يحصل عليها صاحب المال من المقترض، ولكن هذا الاستدلال بعيد من وجهين:

1. أنّ الآية مكيّة، والبيئة المكيّة لا تناسب التشريع، إلّاأن يقال: إنّ لحن الآية لحن النصح والإرشاد، فلا ينافي كون الآية مكيّة.

2. أنّ الآية مسبوقة بآية أُخرى تأمر بالإعطاء للأرحام وذوي الحاجة، طلباً لمرضاة اللّه، قال سبحانه: (فَآتِ ذَا اَلْقُرْبى حَقَّهُ وَ اَلْمِسْكِينَ وَ اِبْنَ اَلسَّبِيلِ ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اَللّهِ وَ أُولئِكَ هُمُ اَلْمُفْلِحُونَ) .(1)، وبعد ذلك يقول:

(وَ ما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ اَلنّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اَللّهِ وَ ما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اَللّهِ) (2) ففي السياق قرينتان على أنّ المراد من الربا هو العطية من غير نيّة القربة، وهما:

القرينة الأُولى: ما تقدّم من الآية (فَآتِ ذَا اَلْقُرْبى حَقَّهُ) التي تحكي عن العطاء للّه سبحانه.

القرينة الثانية: المقابلة بين الجملتين، فقوله: (وَ ما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً) يقابله قوله: (وَ ما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ) ، فبما أنّ المراد من الزكاة هو الصدقة قربة إلى اللّه سبحانه، يكون هذا قرينة على أنّ المراد من الربا هو العطاء بلا قصد القربة.

فيكون معنى قوله: (لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ اَلنّاسِ) : أي ليزيدوا أموالهم بذلك،

ص: 181


1- . الروم: 38.
2- . الروم: 39.

(فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اَللّهِ) : أي لا يزيد ولا ينمو عنده (وَ ما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ) : أي من صدقة (تُرِيدُونَ وَجْهَ اَللّهِ فَأُولئِكَ هُمُ اَلْمُضْعِفُونَ) : أي وأُولئك الذين يضاعف لهم الثواب، فإسناد الإضعاف إليهم لأجل أنّهم قاموا بذلك الفعل القربي، فعلى هذا لا علاقة للآية بالربا المصطلح لأنّه فيها بمعنى العطية، والربا في اللغة بمعنى الفضل والزيادة.

الآية الثانية

قال تعالى: (وَ أَخْذِهِمُ اَلرِّبَوا وَ قَدْ نُهُوا عَنْهُ وَ أَكْلِهِمْ أَمْوالَ اَلنّاسِ بِالْباطِلِ وَ أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً) .(1)

الآية تذمّ اليهود بعملين:

1. أنّهم ممّن سنّوا الربا وشرّعوا تحليله، كما في قوله تعالى: (وَ أَخْذِهِمُ اَلرِّبَوا) من المستقرض (وَ قَدْ نُهُوا عَنْهُ) ، ففي سفر الخروج: إن أقرضت فضة لشعبي الفقير الذي عندك فلا تكن له كالمرابي لا تضع عليه ربا.(2) فبما أنّ الآية تذمّ اليهود، فتدلّ على كون هذا العمل مذموماً في الشريعتين الموسوية والمحمدية.

2. أكل أموال الناس بالباطل. ولعلّ المراد الرشا في القضاء أو تحليل الحرام لذوي الرتب العالية.

ص: 182


1- . النساء: 161.
2- . التوراة، سفر الخروج، الفقرة 22-25.
الآية الثالثة
اشارة

قال تعالى: (يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا اَلرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَ اِتَّقُوا اَللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) .(1)

المفردات

أضعافاً: الأضعاف جمع ضعف - بكسر الضاد - وهو معادل الشيء في المقدار، وهو يطلق على الواحد إذا كان غير معرّف ب «ال»، وإذا أُريد الجمع جيء به بصيغة الجمع.

مضاعفة: صفة للأضعاف، وأُريد أنّ الضعف يصير ضعفاً ويزيد.

التفسير

قوله سبحانه: (يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا اَلرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً) يُريد أنّه كلّما تأخّر المدين في أداء الدين عن أجل إلى غيره زيد زيادة على المال، فيُجعل الربا جزءاً من رأس المال، وهكذا إذا استمرّ التأخير يُجعل الربا جزءاً من رأس المال فربّما يزيد الربا على أصل المال، يقال: كلّما كان الرجل في الجاهلية إذا كان له على إنسان مائة درهم إلى أجل، فإذا جاء الأجل ولم يكن المديون واجداً لذلك المال، قال: زدني في المال حتى أزيد في الأجل، فربما جعله مائتين، ثمّ إذا حل الأجل الثاني فعل مثل ذلك، ثمّ إلى آجال كثيرة، فيأخذ بسبب تلك المئة أضعافها،

ص: 183


1- . آل عمران: 130.

فهذا هو المراد من قوله: (أَضْعافاً مُضاعَفَةً) .(1)

ثمّ إنّه سبحانه خصّ الأكل بالذكر لأنّه معظم الانتفاع وإن كان غيره أيضاً من التصرّقات، منهيّاً عنه.

الآية الرابعة
اشارة

قال تعالى: (اَلَّذِينَ يَأْكُلُونَ اَلرِّبا لا يَقُومُونَ إِلاّ كَما يَقُومُ اَلَّذِي يَتَخَبَّطُهُ اَلشَّيْطانُ مِنَ اَلْمَسِّ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا اَلْبَيْعُ مِثْلُ اَلرِّبا وَ أَحَلَّ اَللّهُ اَلْبَيْعَ وَ حَرَّمَ اَلرِّبا فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ وَ أَمْرُهُ إِلَى اَللّهِ وَ مَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ اَلنّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) .(2)

المفردات

لا يقومون: لا ينهضون.

يتخبَّطه: التخبّط: مطاوع خَبطهُ إذا ضربه ضرباً شديداً فاضطرب له، أي تحرّك تحرّكاً شديداً، ولمّا كان لازم هذا التحرّك عدم الاتّساق، أطلق التخبّط على اضطراب الإنسان من غير اتّساق.(3) وأراد بالاتّساق: التوازن.

المس: كلّ ما ينال الإنسان من أذى، نحو قوله تعالى: (ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ) .(4)

ص: 184


1- . تفسير الرازي: 2/9.
2- . البقرة: 275.
3- . التحرير والتنوير: 549/2.
4- . القمر: 48.

والمعنى المعروف للمس هو مسّ الجن للإنسان، يقال فيه: مس وهو ممسوس، وربما يُستعمل كصفة مدح أيضاً كما في قول النبي صلى الله عليه و آله و سلم: «لا تسبّوا عليّاً فإنّه ممسوس في ذات اللّه»(1)، وهو تعبير مبتكر للنبي صلى الله عليه و آله و سلم، معناه أنّ إيمانه بلغ حدّاً كأنّ اللّه تعالى مسّه، فهو يستحضره ولا يعصيه.

التفسير

الآية رغم وجازتها تعلّمنا الأُمور التالية:

الأوّل: يشير اللّه بقوله: (اَلَّذِينَ يَأْكُلُونَ اَلرِّبا لا يَقُومُونَ إِلاّ كَما يَقُومُ اَلَّذِي يَتَخَبَّطُهُ اَلشَّيْطانُ مِنَ اَلْمَسِّ) (2)، إلى أنّ آكل الربا لا يقوم إلّاكقيام مَن يتخبّطه الشيطان من المس، فكما أنّ قيامه على غير استواء فهكذا آكل الربا، فالتشبيه وقع بين قيام آكل الربا وقيام المتخبّط من مسّ الشيطان، فيطرح هنا سؤالان:

1. ما هو المراد من أنّ آكل الربا لا يقوم إلّاكقيام المصروع؟

2. ما هو المراد من كون التخبّط من مسّ الشيطان؟

أمّا السؤال الأوّل، فقد ذكر المفسّرون وجوهاً أوردناها في كتابنا «الربا موضوعاً وحكماً».(3)

ويمكن أن يُقال: إنّ المراد من المسّ ليس هو الصرع والجنون، وإن كان يستعمل فيه؛ بل أُريد في المقام من مسّ الشيطان دعوته وإجابة المرابي له، بشهادة أنّ المسّ ربّما يستعمل في هذا المعنى كما في قوله سبحانه: (إِنَّ اَلَّذِينَ

ص: 185


1- . المعجم الأوسط للطبراني: 142/9.
2- . البقرة: 275.
3- . لاحظ: الربا موضوعاً وحكماً: 107-109.

اِتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ اَلشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ) (1) ، أي إذا دعاهم الشيطان إلى الخلاف.

إذا تبيّن أنّ مسّ الشيطان يطلق ويراد به الدعوة إلى اللذّات والشهوات، فعلى هذا يمكن أن يقال: إنّ المراد من تخبّط المرابي إنهماكه في الاشتغال بغير اللّه، فهو أيضاً يتبعه فيعمل ليله ونهاره متهالكاً فيما دُعي إليه، فيكون عمله أشبه بعمل مَن اتّخذ الشيطان وليّاً، وعلى هذا فالمراد من قوله: (يَتَخَبَّطُهُ اَلشَّيْطانُ مِنَ اَلْمَسِّ) ، هو الذي اتّبع الشيطان واتّخذهُ ولياً فهو يسرع وراءه من غير تفكّر في غاية عمله، فهذا المرابي يعمل ليل نهار ولا يفكّر في غاية فعله.

وأمّا السؤال الثاني فهو مبنيّ على أنّ المراد من المسّ هو الصرع، وقد مرّ أنّ المراد من مسّه الشيطان واتّخذه وليّاً، حيث لا يفكّر في غاية عمله، وعلى هذا فالسؤال ساقط.

وعلى فرض كون المراد من المسّ هو الصرع فقد قلنا في محلّه أنّ العلم له حقّ الإثبات، وليس له حقّ السلب، فالعلم وإن كشف أنّ الصرع نتيجة وجود اختلالات في الجهاز العصبي، وأمّا أنّه ليس بعد ذلك من علّة أُخرى، فليس للعلم سلب ذلك، لأنّ أدواته قاصرة عن إفادة ذلك، فهو يعتمد على التجربة، والتجربة لا تنتج إلّافي الأُمور المحسوسة أو ما هو قريب منها، وأمّا عوالم المجرّدات كالأرواح والشياطين، فهي لم تنكشف أسرارها لنا حتى تؤكّد على عدم تأثيرها في الصرع وغيره.

الأمر الثاني: أنّ الفقرة (إِنَّمَا اَلْبَيْعُ مِثْلُ اَلرِّبا) هو منطق المرابي، حيث يقول:1.

ص: 186


1- . الأعراف: 201.

لا فرق بين البيع والربا، فإذا كان الأوّل حلالاً فالثاني مثله. وجه الشبه أنّ البائع يبيع ما اشتراه بالأقل، بأكثر، وهكذا المرابي يقرض الأقل ويأخذ الأكثر. وبذلك يندفع ما ربما يقال من أنّ حقّ الكلام، يقال: «إنّما الربا مثل البيع». حيث إنّ القائل تصوّر أنّه من كلامه سبحانه، بل حكاية عن كلام المرابي.

الأمر الثالث: أنّه سبحانه عبّر عن تلك المغالطة بقوله: (وَ أَحَلَّ اَللّهُ اَلْبَيْعَ وَ حَرَّمَ اَلرِّبا) وذلك لوجود الفرق الواضح بين الأمرين، وهو أنّه ليس على المشتري بعد دفع الثمن شيء آخر، وينتفع من المبيع عبر الزمان، بخلاف المديون، فعليه - وراء دفع الأصل - دفع الفائض في كلّ شهر.

ثمّ إنّه سبحانه يقول: (فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ) فالفقرة تسهّل الأمر على المرابي بالنسبة إلى ما سلف، أي يُغفر له ما اكتسب من الربا، فعن الإمام الباقر عليه السلام: «مَن أدرك الإسلام وتاب ممّا عمله في الجاهلية وضع اللّه عنه ما سلف».(1)

وظاهر الآية أنّ الجاهل بالحكم لا يردّ ما أخذ، فإنّ قوله: (فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ) ناظر إلى الجاهل، وأمّا العالم، فلا يغفر له إلّاأن يرد الربا إلى أصحابه.

ثمّ إنّه سبحانه في المقام ذيّل الفقرة المذكورة بقوله: (وَ أَمْرُهُ إِلَى اَللّهِ) ، ولعلّ الوجه هو ما قال بعده: (وَ مَنْ عادَ) إلى مضاعفة الربا بعد ما نزل القرآن الكريم بتحريمه (فَأُولئِكَ أَصْحابُ اَلنّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) .

***2.

ص: 187


1- . التبيان في تفسير القرآن: 360/2.
الآيتان: الخامسة والسادسة
اشارة

قال سبحانه: (يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِتَّقُوا اَللّهَ وَ ذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ اَلرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اَللّهِ وَ رَسُولِهِ وَ إِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَ لا تُظْلَمُونَ) .(1)

المفردات

ذروا: أي اتركوا، مَن يذر: أي يترك، وهو من الأفعال التي لم تسمع لها صيغة الماضي، كيدعُ.

التفسير

يظهر من الآيتين أنّ جمعاً ممّن آمن بالرسول صلى الله عليه و آله و سلم وكانوا من المرابين لم ينتهوا عن أعمالهم، فجاء البيان القرآني ينذرهم أشدّ الإنذار ويخاطبهم بقوله:

(يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا) إن كنتم مؤمنين حقيقة وجناناً لا لفظاً ولساناً (اِتَّقُوا اَللّهَ وَ ذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ اَلرِّبا) : أي اتركوه ولا تتعرّضوا له (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) ، فإنّ المؤمن يعمل بكل ما ورد في الكتاب العزيز بخلاف المنافق فهو يؤمن ببعض دون بعض. ولأجل إعلام الناس بأنّ هذا الحكم حكم سائد على عامّة الطوائف، قام النّبيّ صلى الله عليه و آله و سلم بوضع ربا أقرب الناس إليه، وقال صلى الله عليه و آله و سلم: «ألا إنّ كلّ ربا في الجاهلية موضوع، وأوّل ربا أضعه ربا العباس بن عبد المطلب».(2)

ص: 188


1- . البقرة: 278 و 279.
2- . عوالي اللآلي: 137/2؛ تحف العقول: 29، خطبة حجّة الوداع.

ثمّ إنّه سبحانه لم يقتصر بالبيان السابق بل أخذ يهدّد مَن كانت له رغبة بأخذ الربا، بأشدّ التهديدات التي قلّما نجد مثلها في الذكر الحكيم وقال: (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا) : أي لم تذروه بل أصررتم على أخذه (فَأْذَنُوا) : أي فاعلموا وأيقنوا (بِحَرْبٍ مِنَ اَللّهِ وَ رَسُولِهِ) : أي بقتال من اللّه ورسوله، وأنّكم تستحقون القتل.

روى الحلبي قال: قال أبو عبد اللّه عليه السلام: «كلّ الربا أكله الناس بجهالة ثم تابوا فإنّه يقبل منهم إذا عُرفت منهم التوبة».(1)

وقد قيل للإمام الصادق عليه السلام: إنّ فلاناً يأكل الربا ويُسمّيه اللبا؟ قال عليه السلام: «لأن أمكنني اللّه منه لأضربنّ عنقه».(2)

نعم لمّا كان مال المرابي مخلوطاً بالحرام والحلال فقد منعه سبحانه من أخذ الحرام، ولكن سمح له أن يأخذ رأس ماله، وهذا من مجاري العدل الذي دعا إليه الإسلام في آيات كثيرة، وقال في المقام: (وَ إِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَ لا تُظْلَمُونَ) وهذه كلمة قيّمة في الذكر الحكيم تؤدّب المسلمين بالأمرين، فهم لا يظلمون وفي الوقت نفسه لا يتحمّلون الظلم في عامّة المجالات.

إلى هنا تمّت دراسة ما ورد من الآيات حول الربا، وأمّا البحث عن الفروع وما ورد حولها من الروايات أو البحث عن الآثار السيّئة للربا على الصعيد الأخلاقي والاقتصادي، والأُمور المخلّصة من الربا، فموكول إلى محلّه، وقد قمنا بدراسة هذه الأُمور في كتابنا «الربا، موضوعاً وحكماً»، فراجع.

غير أنّا نتبرك في ختام البحث بذكر روايتين تشرح كلّ واحدة منهما ما2.

ص: 189


1- . الوسائل: 12، الباب 5 من أبواب أحكام الربا، الحديث 2.
2- . مجمع البيان: 263/2.

يترتّب على الربا من مفاسد أخلاقية، وهما:

1. روى الكليني في «الكافي» بإسناده عن سماعة، قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: إنّي رأيت اللّه تعالى قد ذكر الربا في غير آية وكرّره، فقال: «أو تدري لِمَ ذلك؟» قلت: لا، قال: «لئلّا يمتنع الناس من اصطناع المعروف».(1)

2. وروى عن هشام بن سالم عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «إنّما حرّم اللّه عزّ وجلّ الربا لكي لا يمتنع الناس من اصطناع المعروف».(2)

***8.

ص: 190


1- . الكافي: 146/5، برقم 7.
2- . الكافي: 146/5، برقم 8.

المكاسب المحرّمة

6. حكم الرقص في الكتاب والسنّة الشريفة

اشارة

6. حكم الرقص في الكتاب والسنّة الشريفة(1)

الرقص: مصدر رقص، يرقُص، رقصاً، ويرادفه الزفْن، وعُرّف بأنّه التمايل والرفع والخفض بحركات موزونة.

أقوال فقهاء السنّة

ذهبت الحنفية والمالكية والحنابلة والقفّال من الشافعية إلى كراهة الرقص، معلّلين ذلك بأنّ فعله دناءة وسفه، وأنّه من مسقطات المروءة، وأنّه من اللهو.

وذهبت الشافعية إلى أنّ الرقص لا يحرم ولا يُكره بل يباح، واستدلّوا بحديث عائشة الآتي.

وذهب ابن تيمية إلى أنّ اتّخاذ الرقص ذكراً أو عبادة، بدعة ومعصية لم يأمر اللّه به، ولا رسوله، ولا أحدٌ من الأئمّة أو السلف.(2)

إنّ قوله بالتحريم مختصّ برقص الصوفية لا مطلقاً فلا يعدّ مخالفاً للآخرين.

وكثير منهم عنونوا المسألة في باب الشهادة، ولذلك نُقل عنهم اتّفاق

ص: 191


1- . صلة هذا البحث بالكتاب لأجل استدلال القائلين بالحرمة باللهو.
2- . راجع مصادر الأقوال في الموسوعة الفقهية الكويتية: 10/23.

فقهائهم على ردّ شهادة الرقّاص لأنّه ساقط المروءة، وهي شرط من شروط صحّة الشهادة. ونصّ الشافعية والحنابلة على أنّ المعتبر في إسقاط المروءة هو المداومة والإكثار من الرقص، وهو مقيّد عند الشافعية بمن يليق به الرقص، أمّا من لا يليق به فتسقط مروءته ولو بمرّة واحدة.(1)

ولذلك نرى أنّ إمام الحرمين عنون المسألة في كتاب الشهادات، قال:

والرقص ليس محرم العين، وإنّما هو حركات على استقامة أو اعوجاج، ولكن كثيره يَخْرِم المروءة، كسائر أصناف اللّعب إذا كان على اختيار.(2)

فتلخّص أنّ الرقص مكروه في فقه السنّة، ولكنّه مزيل للعدالة إذا تكرّر ممّن يليق به كالشباب، وأمّا غيره فتزيل ولو بمرة واحدة.

أقوال فقهاء الشيعة

أمّا فقهاء الشيعة، فلم يولوا هذه المسألة كثير اهتمام، بخلاف السنّة، فإنّهم يذكرونها مع دراسة الغناء تارة والسماع أُخرى، ونفس الرقص ثالثاً.

أمّا مَن تعرض لها منهم فقال بحرمته لكونه من مقولة اللهو.

قال ابن إدريس - في ذكر المكاسب المحظورة -: وآلات جميع الملاهي، على اختلاف ضروبها، من الطبول، والدفوف، والزمر، وما يجري مجراه، والقضيب، والسير، والرقص، وجميع ما يطرب من الأصوات و الأغاني، وما جرى مجرى ذلك، والخبال على اختلاف وجوهه، وضروبه، وآلاته.(3)

ص: 192


1- . الموسوعة الفقهية الكويتية: 10/23.
2- . نهاية المطلب للجويني: 26/19.
3- . السرائر: 215/2، باب ضروب المكاسب.

وقال في «مفتاح الكرامة»: وأمّا الرقص والهلولة والرويد في غير حال الحرب، وحضُّ الرجال على القتال، فالحزم اجتنابه بل لعلّه يحرم فعله، لأنّه من اللهو أو الباطل، والحازم يجتنب الشبهات خصوصاً عند اشتباه الموضوعات.(1)

وقال صاحب الجواهر بعد أن نقل كلام «مفتاح الكرامة» من دون أن يذكر اسمه، قال: وفيه أنّه مع فرض عدم اندراجه في الغناء، يمكن فرضه فيما لا يدخل في اللعب واللهو، وأمّا مع فرض اندراجه فيه فيشكل جوازه فيه فضلاً عن غيره من الأحوال لإطلاق أدلّة النهي، بل اقترنت بمؤكّدات تقتضي إرادة جميع الأفراد على وجه أظهر دلالة من العموم اللغوي.(2)

وقال الشيخ الأنصاري: نعم، لو خُصّ اللهو بما يكون عن بطر - وفسّر بشدّة الفرح - كان الأقوى تحريمه، ويدخل في ذلك الرقص و التصفيق، والضرب بالطشت بدل الدفّ، وكلّ ما يفيد فائدة آلات اللهو.(3)

وأمّا مَن عاصرناه، فالظاهر منهم هو الاحتياط، فقد جاء في بعض الرسائل:

أمّا حكم رقص المرأة للمرأة، والرجل للرجل؟ الجواب - بشكل عام - فإنّ الرقص يُعدّ منشأ للفساد، والأحوط ترك الرقص.

نعم استثنى كثير منهم رقص المرأة لزوجها، وقد أفتوا بجوازه.

الروايات المتعلّقة بالمسألة

استدلّ علماء السنّة على الجواز بحديث عائشة، قالت: كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم

ص: 193


1- . مفتاح الكرامة: 173/12.
2- . جواهر الكلام: 51/22.
3- . كتاب المكاسب: 47/2.

جالساً فسمعنا لغطاً وصوت صبيان، فقام رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، فإذا حبشية تزفن - أي ترقص - و الصبيان حولها، فقال: يا عائشة تعالي فانظري».(1)

ولما كان الحديث لا يناسب مقام الرسالة ويحط من عظمتها، حمل غير واحد من أهل السنة حديث رقص الحبشيه على الوثب، بسلاحهم ولعبهم بحرابهم ليوافق ما جاء في رواية: «يلعبون عند رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بحرابهم».(2)

نعم ربما يستند من يقول بالحرمة إلى أنّ الرقص يخالف المروءة أو أنّه ربما يكون مبدأ للفساد.

إذا عرفت ما ذكرنا فاعلم أنّ الظاهر خروج موردين عن مقام البحث:

1. رقص المرأة للرجل وبالعكس من غير فرق بين المحرم وغيره، فهو حرام قطعاً، إذ فيه فساد الأخلاق والعفّة.

2. رقص الزوجة لزوجها أو بالعكس، وقد استثناه بعضهم عن الحرمة، ويأتي وجهه.

إنّما الكلام في رقص الرجل للرجل والمرأة للمرأة ويمكن تقريب الحرمة بوجهين تاليين:

الأوّل: ما رواه الكليني عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النوفليّ، عن السكوني، عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: أنهاكم عن الزفْن والمزمار و عن الكوبات والكبرات».(3)7.

ص: 194


1- . سنن الترمذي: 621/5، طبعة الحلبي.
2- . صحيح مسلم: 610/2، طبعة الحلبي.
3- . الكافي: 432/6، باب الغناء، الحديث 7.

قال في الصحاح: الزفن: الرقص.(1)

وقال في القاموس: الكُوبة - بالضم -: النرد و الشطرنج، والكبر - بالتحريك -: الطبل.(2)

والحديث لا بأس بسنده لأنّ الأصحاب يعتمدون على روايات النوفلي عن السكوني، وإن ضعّفه المجلسي في «مرآة العقول» وقال: ضعيف على المشهور.(3) وضعف السند غير مانع عن الاستدلال أوّلاً؛ لأنّ الأصحاب عملوا برواية السكوني، والميزان في صحّة الاستدلال كون الرواية موثوقة الصدور ثانياً.

ويؤيّد وثوق الصدور أنّ القاضي النعمان أيضاً نقله في «دعائم الإسلام» قال: وعن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أنّه قال: «أنهى أُمّتي عن الزفن و المزمار وعن الكوبات والكنارات».(4)

الثاني: اتّفاق كلمة العلماء على حرمة الغناء المطرب، ومن المعلوم أنّ الطرب يلازم الرقص عادة، فهل يمكن القول بحرمة أحدهما (الطرب) وجواز الآخر (أي الرقص)؟

مضافاً إلى قوّة دخوله في اللهو بالمعنى المشهور أوّلاً، وكونه منافياً للمروءة المعتبرة في العدالة ثانياً.

وأمّا استثناء رقص الزوجة لزوجها فلا بأس به؛ لأنّ حياة الزوجين في أوائلد)

ص: 195


1- . صحاح الجواهري: 2131/5، مادة «زفن».
2- . انظر: مرآة العقول: 302/22؛ مجمع البحرين: 164/2، مادة «كوب».
3- . مرآة العقول: 432/22.
4- . دعائم الإسلام: 207/2، برقم 754. الكنارة واحدة الكنارات وهي العيدان أو الدفوف أو الطبول. (المنجد)

حياتهما لا تخلو من لهو ولعب.

وأمّا رقص النساء للنساء مجرّداً عن غيرهنّ في الأعراس فربما يظهر من بعضهم جوازه، لوجود السيرة، ولكن الأحوط تركه، والسيرة لم تثبت.

ص: 196

المكاسب المحرمة

7. الغناء

اشارة

اتّفق علماء الإمامية - إلّامن شذّ - على حرمة الغناء، ويعلم ذلك بمراجعة كتب التفسير والحديث والفقه.

قال الشيخ الأنصاري: لا خلاف في حرمته في الجملة، والأخبار بها مستفيضة، وادُّعي في الإيضاح تواترها.(1)

والذي يهمّنا في المقام هو دراسة الآيات التي استدلّ بها على حرمة الغناء، فيقع الكلام في مقامين:

الأوّل: دراسة ما استدلّ به من الآيات على حكم الغناء.

الثاني: بيان حقيقة الغناء.

المقام الأُول: دراسة ما استدلّ به من الآيات على حكم الغناء
الآية الأُولى
اشارة

قال سبحانه: (وَ مِنَ اَلنّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ اَلْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اَللّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَ يَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) .(2)

ص: 197


1- . المكاسب المحرّمة: 285/1.
2- . لقمان: 6.
المفردات

لهو الحديث: ما يشغل الإنسان عمّا يعنيه ويهمّه، يقال: لهوتُ بكذا ولهيتُ عن كذا، إن اشتغلت عنه بلهو.

التفسير

جاءت في الآيات المتقدّمة على هذه الآية قصّة أنّ الناس على صنفين:

صنف يهتدون بهدي القرآن فيقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويوقنون بالآخرة، كما قال سبحانه: (اَلَّذِينَ يُقِيمُونَ اَلصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ اَلزَّكاةَ وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَ أُولئِكَ هُمُ اَلْمُفْلِحُونَ) .(1)

وصنف يشتغل بلهو الحديث، فيعوقه ذلك عمّا يعنيه ويهمّه، ومن ثمّ يَضلّ ويُضلّ كما يقول: (وَ مِنَ اَلنّاسِ) : أي صنف منهم (مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ اَلْحَدِيثِ) المراد بلهو الحديث نحو السمْر(2) بالأساطير والأحاديث التي لا أصل لها والتحدّث بالخرافات وفضول الكلام.

ويؤيّد ذلك ما روي في سبب نزول الآية من أنّها نزلت في النضر بن الحارث، وكان يتّجر إلى فارس فيشتري كتب الأعاجم ويحدّث بها قريشاً، ويقول: إن كان محمدٌ يحدّثكم بحديث عاد وثمود، فأنا أُحدّثكم بأحاديث رستم وبهرام والأكاسرة وملوك الحيرة، فيستملحون حديثه ويتركون استماع القرآن.(3)

ص: 198


1- . لقمان: 4-5.
2- . يقال: سامر ليلاً: تحدّث ولم ينم.
3- . تفسير الكشاف: 229/3؛ مجمع البيان: 76/8.

فعلى هذا فدلالة الآية على حرمة الغناء، لا تخلو من تأمّل، لأنّ قوله تعالى:

(لَهْوَ اَلْحَدِيثِ) من قبيل إضافة الصفة إلى الموصوف، أي الحديث اللهو، فيدلّ على تحريم اللهو الذي يُعدّ من مقولة الكلام لا ما يُعدّ بالكيفية، فالآية بنفسها تدلّ على حرمة الاشتغال، بالقصص والأحاديث الباطلة التي تُلهي الإنسان عن ذكر اللّه تعالى وعن الايمان بالرسالة، لا على حرمة الغناء الذي هو من كيفية الكلام.

نعم يمكن أن يقال: إنّ تعليق الحكم بالوصف مشعر بعلّية الوصف، فالحديث اللهوي إن كان محرّماً فإنّما هو لأجل اللهوية لا لأجل كونه حديثاً، فالعلّة المحرّمة هي اللهوية فيشمل الغناء إذا عُدّ لهواً، والظاهر أنّ اللهو بأيّ معنى فسّر يشمله.

وبذلك يُفسّر ما تضافر من الروايات على الاستدلال بالآية على حرمة الغناء؛ فعن يحيى بن عبادة، عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: قلت: قوله عزّ وجلّ: (وَ مِنَ اَلنّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ اَلْحَدِيثِ) قال: «منه الغناء». ولعلّ التعبير بلفظة «منه» إشارة إلى أنّ الغناء من «اللهو» لا لهو الحديث.

وعن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر الباقر عليه السلام، سمعته يقول: «الغناء ممّا أوعد اللّه عزّ وجلّ عليه النار»، وتلا هذه الآية.(1)

وعلى هذا فدلالة الآية على حرمة الغناء ليست دلالة مطابقية بل دلالة بالملاك الذي عرفته.4.

ص: 199


1- . تفسير نور الثقلين: 193/4-194.
الآية الثانية

قال سبحانه: (أَ فَمِنْ هذَا اَلْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَ تَضْحَكُونَ وَ لا تَبْكُونَ * وَ أَنْتُمْ سامِدُونَ) .(1)

روى القرطبي عن ابن عباس: هو الغناء بالحميرية، اسمدي لنا: أي غنّي لنا.(2)

لكنّه تفسير شاذّ، والتفسير الرائج للآية ما نقل عن ابن عباس أنّه بمعنى غافلون، لاهون، معرضون، وقال الطريحي: سامدون يعني لاهون، وقيل:

«سامدون» مستكبرون.(3) والمعنى الأخير هو المناسب للآية التالية حيث أمر فيها بالسجود للّه والعبادة له(4)، وكون هذا اللفظ بمعنى الغناء في اللغة الحميرية لا يدلّ على كونه لغة قرآنية.

الآية الثالثة
اشارة

قال سبحانه: (وَ اِسْتَفْزِزْ مَنِ اِسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَ أَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَ رَجِلِكَ وَ شارِكْهُمْ فِي اَلْأَمْوالِ وَ اَلْأَوْلادِ وَ عِدْهُمْ وَ ما يَعِدُهُمُ اَلشَّيْطانُ إِلاّ غُرُوراً) .(5)

ص: 200


1- . النجم: 59-61.
2- . تفسير القرطبي: 51/14.
3- . مجمع البحرين: 70/3، مادة «سمد».
4- . (فَاسْجُدُوا لِلّهِ وَ اُعْبُدُوا) (النجم: 62).
5- . الإسراء: 64.
المفردات

استفزز: الاستفزاز: الاستنهاض على خفة وإسراع.

أجلب: الإجلاب جمع الجيش وسوقه، مشتق من الجلبة وهي الصياح.

بخيلك: الخيل اسم جمع للفرس، والمراد هنا الفرسان.

رجلك: الرجل جمع راجل.

غروراً: تزيين الباطل بما يظن أنّه حقّ.

التفسير

لمّا استمهل الشيطان ربّه لبقائه إلى يوم اللقاء، خوطب بقوله تعالى:

(اِذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً) (1) ، وعندئذٍ جاءت هذه الآية تشير إلى أنواع الحيل التي يمكن أن يستخدمها إبليس وهي أُمور أربعة:

1. (وَ اِسْتَفْزِزْ مَنِ اِسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ) : أي انهض من استطعت منهم بدعائك ووسوستك. وربما يفسّر بالغناء والمزامير والملاهي، والجميع من مصاديق مطلق الصوت.

قال الشريف الرضي: وجعل الملاهي والمعاني صوتاً له من حيث كان الشيطان هو الداعي إليه والحامل إليه.(2) وبذلك يعلم أنّ الشيطان لا يقوم به شخصاً بل يقوم به من طريق أعوانه من البشر، فنسبة هذه الأساليب الأربعة إلى الشيطان من جهة كونه الداعي إليها، مضافاً إلى ما يقوم به أعوانه من البشر

ص: 201


1- . الإسراء: 63.
2- . تلخيص البيان في مجازات القرآن: 101.

الخاطئين.

2. (وَ أَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَ رَجِلِكَ) : أي اجمع عليهم بعامّة جيشك فرساناً ومشاة، أي اجعل كل أعوانك وذريّتك على إغوائهم. وكأنّه سبحانه يقول:

أي صِحْ (بِخَيْلِكَ) بفرسانك (وَ رَجِلِكَ) مشاتك، للاجتماع على إضلال الناس. نظير الراعي إذا أراد جمع أغنامه يصيح عليها بنحو خاصّ. ثم هل لإبليس خيلاً ورجلاً أو أنّه من باب المجاز؟ الثاني هو الأقرب، والمراد: اعمل ما شئت بكل ما تستطيع، ويحتمل أن يراد ذرّيته، واللّه العالم.

3. (وَ شارِكْهُمْ فِي اَلْأَمْوالِ وَ اَلْأَوْلادِ) ولعلّ المشاركة في الأموال كناية عن كلّ ما يؤخذ من غير حقّ، كالسلب والنهب والربا والغش، وأمّا المشاركة في الأولاد فهي كناية عن الزنا.

4. (وَ عِدْهُمْ) بالتغرير كأن يقول لهم: لا تخف من المعصية فإنّ اللّه كريم وغفّار.

ثمّ أتمّ سبحانه الآية بقوله: (وَ ما يَعِدُهُمُ اَلشَّيْطانُ إِلاّ غُرُوراً) : أي وعداً خاوياً ليس له حقيقة.

ثمّ إنّ الاستدلال بالآية على حرمة الغناء مبني على أنّ الصوت، يشمل:

الغناء والمزامير و المغاني، ولعلّها الأظهر لأنّها أقوى ما يلهي الإنسان ويضلّه.

الآية الرابعة

قال سبحانه: (وَ اَلَّذِينَ هُمْ عَنِ اَللَّغْوِ مُعْرِضُونَ) .(1)

ص: 202


1- . المؤمنون: 3.

الآية بصدد بيان أوصاف المؤمنين، وكان منها الإعراض عن اللغو. وقد استدلّ بها في الروايات على حرمة الغناء.

وجه الاستدلال: كون الغناء أمراً لغواً لا يترتّب عليه أيّة مصلحة سوى التطريب والخروج عن الحالة العادية، والمتيقّن منه ما إذا كان المضمون كالكيفية أمراً لغواً؛ لأنّه إذا كان حقّاً كالغناء بالقرآن والمراثي.

الآية الخامسة
اشارة

قال سبحانه: (فَاجْتَنِبُوا اَلرِّجْسَ مِنَ اَلْأَوْثانِ وَ اِجْتَنِبُوا قَوْلَ اَلزُّورِ) .(1)

المفردات

الزور: في اللغة هو الانحراف، يقول سبحانه: (وَ تَرَى اَلشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ اَلْيَمِينِ) (2) أي تنحرف الشمس عن كهفهم. وسمّي الكذب زوراً لأنّه انحراف عن الحقّ، ومثله: الباطل.

يلاحظ عليه: أنّ ظاهر الآية أنّ الزور صفة المضمون، حيث يقول: «قول الزور» والغناء صفة لكيفية الكلام، فتصبح الآية نظير قوله سبحانه: (وَ مِنَ اَلنّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ اَلْحَدِيثِ) (3) إشكالاً وجواباً. وبه يوجّه ما ورد في الروايات من الاستدلال بالآية على حرمة الغناء، ويكون الاستدلال بالملاك.

ص: 203


1- . الحج: 30.
2- . الكهف: 17.
3- . لقمان: 6.
الآية السادسة

قال سبحانه: (وَ اَلَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ اَلزُّورَ) .(1)

فلو قلنا بأنّ المراد لا يشهدون شهادة الزور، فتكون الآية أجنبية عن الدلالة على حرمة الغناء. وأمّا لو قلنا بأنّ المراد لا يحضرون في مجلس المعصية لأنّ العصيان زور، حيث إنّه انحراف عن الحقّ، فيشكل الاستدلال بها على حرمة الغناء، لأنّ الكبرى لا تدلّ على الصغرى، وإنّما يصحّ الاستدلال إذا ثبت في الخارج كون الغناء عصياناً.

فتلخّص: أنّ الذي يصلح لأن يستدلّ به على حرمة الغناء أحد العناوين التالية:

1. (لَهْوَ اَلْحَدِيثِ) : أخذاً بالملاك وهو اللهو.

2. (بِصَوْتِكَ) : ومن المعلوم أنّه ليس للشيطان صوت مسموع فيحمل على المزامير والغناء.

3. (اَللَّغْوِ) : لأجل أنّه لا يترتّب عليه أيّة مصلحة.

4. (قَوْلَ اَلزُّورِ) : وتفسير الزور بالانحراف عن الحقّ ومنه الغناء. فيكون الاستدلال بالملاك.

ومع ذلك فالدليل المهم هو الإجماع والروايات.

إلى هنا تمّ الكلام في المقام الأوّل، وإليك الكلام في المقام الثاني.

ص: 204


1- . الفرقان: 72.
المقام الثاني: في حقيقة الغناء

اختلفت كلمات العلماء في بيان ماهية الغناء، إلى تعاريف يناهز عددها اثنا عشر تعريفاً(1)، حتى التجأ بعضهم إلى تفسيره بألحان أهل المعاصي والكبائر الذي لا يفيد شيئاً. وسنذكر هنا بعض هذه التعاريف:

1. عرّفه الشيخ الأنصاري بقوله: الصوت المرجّع فيه على سبيل اللهو.(2)

يلاحظ عليه: أوّلاً: أنّه لا وجه لتخصيص الحرمة بالمرجّع، فإنّ الصوت اللهوي يشمله وغيره.

وثانياً: أنّ الغناء لم يخرج عن الإبهام بعده حيث إنّ تعليق الحرمة بالصوت اللهوي ليس بأوضح من تعليقه بنفس الغناء.

2. وعرّفه الشيخ محمد رضا النجفي الإصفهاني بقوله: الغناء: صوت الإنسان الذي من شأنه إيجاد الطرب بتناسبه لمتعارف الناس.

والطرب هو الخفّة التي تعتري الإنسان فتكاد أن تذهب بالعقل وتفعل فعل المسكر لمتعارف الناس أيضاً.

ويتحصّل من هذا التعريف، لزوم وجود أُمور في صدق الغناء مضافاً إلى اختصاصه بصوت الإنسان.

الأوّل: إيجاد الطرب.

الثاني: الطرب عبارة عن الخفّة التي تكاد أن تذهب بالعقل كالمسكر.

ص: 205


1- . للوقوف على هذه التعاريف، لاحظ كتابنا: المواهب في تحرير أحكام المكاسب: 537.
2- . المكاسب: 248، منشورات دار الحكمة.

الثالث: الميزان في إيجاد الطرب متعارف الناس عليه، فلا اعتبار بمَن هو كالجماد، كما لا اعتبار بمَن يطرب بأدنى سبب.

الرابع: أنّ سبب الطرب هو تناسب الصوت.(1)

يلاحظ عليه: مع أنّه من أحسن التعاريف ومع ذلك لا يخلو من بعض الملاحظات:

أمّا أوّلاً: فلأنّ تفسير الغناء بالصوت المتناسب للطرب المزيل للعقل، تعريف له بأتمّ مصاديقه وأكملها، فإنّ للغناء مراتب ودرجات، فما ذكره من إزالة العقل وأنّه يفعل كفعل المسكر، راجع إلى أكمل درجاته لا إلى كلِّها.

وثانياً: أنّه قدس سره جعل التناسب - أي تناسب الصوت في الأوصاف التي ذكرها من (بمه وزيره)(2) ونبراته وارتفاعه - العلّة الوحيدة للطرب مع أنّه ليس كذلك، فإنّ للصوت سهماً عظيماً في إيجاده، فلأجل ذلك لو كان الصوت غليظاً رديئاً وروعيت فيه الجهات لا يكون مطرباً، بل موجباً للإيذاء. ولعلّ الأولى تعريفه بما يلي:

3. الغناء: هو صوت الإنسان الذي له رقّة(3) وحُسن ذاتي ولو في الجملة وله شأنية الطرب لمتعارف الناس.

توضيحه: أنّ الغناء لا يتقوّم بالمدّ ولا بالترجيع، وإن وردا في تعريفظ.

ص: 206


1- . الروضة الغناء في معنى الغناء وتحديده وحكمه، وقد نشرت هذه الرسالة في مجلة «نور علم» السنة الثانية، العدد 4.
2- . ارتفاعه وانخفاضه.
3- . رقّ: ضد غلظ.

المشهور، بل مقوّم الغناء كونه مقتضياً للطرب والرقص، وهو يقوم بالأُمور التالية:

1. كون الصوت ذا رقة ورخامة وصفاء ولطف.

2. قوله: حسن ذاتي، حيث تلتذّ به الطبائع في مقابل ما يؤذي ويمجّ.

3. أنّ الصوت لأجل تناسب أجزائه(1) يكون مطرباً ومقتضياً له، خصوصاً إذا كان له إدامة واستمرار، وعندئذٍ فلو انتفى واحد من هذه القيود مثلاً كان الصوت ممجّاً للأسماع ومؤذياً للأرواح والأنفس، لا يتحقّق الغناء، أو لا يتمتع بالحسن أو لا يكون له شأنية الطرب، كما أنّه إذا فقد التناسب ولم تتألّف أجزاء الصوت تأليفاً ملائماً لا يتحقّق الطرب أيضاً.

وبالجملة: القدر المتيقّن من الغناء كونه مطرباً، والطرب معلول لأمرين:

1. حُسن الصوت.

2. حُسن التأليف، وحفظ التناسب بين أجزاء الصوت من نبراته ومدّه وارتفاعه وانخفاضه. وحسن الصوت أمر وجداني لا يحتاج إلى تعريف، وحسن التأليف يتحقّق بحفظ التناسب بين ارتعاشات الصوت يعرفه كلّ من له إلمام بالألحان الموسيقية.

هذا إجمال القول، ومن أراد التفصيل فليرجع إلى كتابنا «المواهب في تحرير أحكام المكاسب».

***

هذا تمام الكلام في المكاسب المحرمة، حسب ما ورد في الذكر الحكيم،ه.

ص: 207


1- . وهذا عُبر عنه في التعريف المتقدم برفع الصوت وخفضه.

ولعلّه فاتنا شيءٌ ممّا يُعدّ منها.

نعم ذكر الفاضل المقداد منها إكراه الإماء على البغاء، لقوله سبحانه: (وَ لا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى اَلْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا وَ مَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اَللّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (1)، غير أنّ الأنسب دراسة هذه الآية في باب الحدود، فانتظر.

كما ذكروا في المقام قوله سبحانه: (لَيْسَ عَلَى اَلْأَعْمى حَرَجٌ وَ لا عَلَى اَلْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَ لا عَلَى اَلْمَرِيضِ حَرَجٌ وَ لا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اَللّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً كَذلِكَ يُبَيِّنُ اَللّهُ لَكُمُ اَلْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) .(2) والأنسب دراسة الآية في باب أحكام الأحوال الشخصية.

***2.

ص: 208


1- . النور: 33.
2- . النور: 61-62.

الفصل العاشر: العقود الشرعية وشيء من الإيقاعات

اشارة

في الذكر الحكيم

العقود الشرعية

تمهيد

1. البيع.

2. الإجارة.

3. الدين أو القرض.

4. الضمان والكفالة.

5. الصلح.

6. الإيداع والوديعة.

7. العارية.

8. عقد المسابقة والرماية.

9. الشفعة.

10. الوصية.

11. في أحكام الحجر

الإيقاعات

1. النذر.

2. أحكام اليمين.

3. أحكام العتق.

ص: 209

ص: 210

العقود الشرعية

تمهيد

ندرس في هذا الفصل ما ذكره الفقهاء في أبواب الفقه من البيع والدين والرهن والصلح والهبة والجعالة، وما يحصل عليه الإنسان من إحياء الموات، إلى غير ذلك.

ونحن ندرس الآيات الواردة في هذه المجالات على وفق الكتب الفقهية خصوصاً كتب المحقّق والشهيدين، غير أنّا نقدّم البحث في أمرين ربما يُعدّ كلّ منهما الحجر الأساس في كثير من المباحث الآتية وهما: وجوب الوفاء بالعقود.

ولزوم كون التجارة عن تراض، فإنّ لتحليل كلّ منهما أثراً بارزاً في الاستنباط.

الأمر الأوّل: لزوم الوفاء بالعقود
اشارة

قال سبحانه: (يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ اَلْأَنْعامِ إِلاّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي اَلصَّيْدِ وَ أَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اَللّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ) .(1)

ص: 211


1- . المائدة: 1.
المفردات

أوفوا: من الوفاء والإتيان بالشيء تامّاً لا نقص فيه. قال سبحانه: (وَ أَوْفُوا اَلْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ) .(1)

بالعقود: من العقد: وهو نقيض الحل، وقد ذاع وشاع قولهم: أهل الحلّ والعقد، وفي اللسان: العقد نقيض الحل. وقالوا للرجل إذا لم يكن عنده غناء: فلان لا يعقد الحبل، أي يعجز عن هذا على هوانه وخفّته. وعلى هذا فمظهر العقد هو إيجاد الربط بين الحبلين، ووصلهما بالآخر الذي يعبر عنه في اللغة الفارسية ب «گره زدن» وبما ذكرنا يظهر أنّ تفسير العقد لغة بالعهد تارة، وبالعهد المشدّد أُخرى لا وجه له؛ لأنّ العهد غير الربط بين الشيئين. نعم إذا صيغ من باب التفعيل، فربما يراد به العهد المشدّد، قال سبحانه: (لا يُؤاخِذُكُمُ اَللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَ لكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ اَلْأَيْمانَ) (2)، فتعقيد الأيمان مقابل للغوها، كما يقول: لا واللّه، و: بلى واللّه، بلا التزام، وهذا ما لا يجب حفظه بخلاف ما لو عقّد الأيمان. فلو صحّ تفسير العقد بالعهد المشدّد فإنّما يصحّ في المضاعف لا مطلقاً.

بهيمة: البهيمة واحدة البهائم، وهي كلّ ذات أربع من دواب البر والبحر، وكلّ ما كان من الحيوان لا يميّز فهو بهيمة، وبهيمة الأنعام هي: الإبل والبقر والشاة، والمعز سُمّيت بهيمة لإبهامها من جهة نقص نطقها وفهمها وعدم تمييزها.(3)

الأنعام: أُريد الأنعام الأربعة، أعمّ من الأهلية أو الوحشية، بقرينة ذيل الآية،

ص: 212


1- . الإسراء: 35.
2- . المائدة: 89.
3- . مجمع البحرين: 19/6، مادة «بهم».

أعني قوله: (غَيْرَ مُحِلِّي اَلصَّيْدِ) فإنّ الوحشية موضع الصيد لا الأهلية. ومعنى قوله: (غَيْرَ مُحِلِّي اَلصَّيْدِ) : أي لا تحلّوا الصيد وأنتم محرمون.

حُرم: جمع حرام، وأُريد به المُحرم بالحج أو العمرة.

التفسير

خاطب سبحانه المجتمع الإيماني بقوله: (يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) فالعقد في الآية مصدر أُريد به المعقود، وبما أنّ اللام في قوله:

(بِالْعُقُودِ) قائمة مقام المضاف إليه، وتقدير الآية: أوفوا بعقودكم، يكون المراد بها الأمران التاليان:

1. العهود المعقودة بين المتخاصمين أو بين المتعاونين، بما أنّها عقود والشاهد على ذلك ما في القرآن من الاهتمام بهذا النوع من العهود. فتلك العهود بما أنّها عقود، يجب الوفاء بها.

وبعبارة أُخرى: المحتوى والمضمون عهد، ولكن الموجد والسبب عقد، فلا ينافي ما ذكرنا من أنّ العقد ليس بمعنى العهد، ولا العهد المشدّد، لأنّ العقد، تنشأ به كلّ المفاهيم القائمة بالطريق من غير فرق بين العهد والبيع والإجارة والرهن والدين، والنكاح... فتدبّر.

2. العقود الدارجة بين المتعاقدين بصور مختلفة كعقد البيع والإجارة والنكاح وغير ذلك، ويشهد على ذلك - أي إطلاق العقد على العقد المعاملي - قوله سبحانه: (أَوْ يَعْفُوَا اَلَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ اَلنِّكاحِ) (1).

ص: 213


1- . البقرة: 237.

وبما ذكرنا يُعلم عدم صحّة أمرين:

1. أنّ تفسير العقود بالأحكام الشرعية التي أخذ اللّه على عباده الاهتمام بها، غير تام، لما عرفت من أنّ المراد بالعقود العقود المنسوبة إلى العباد فيما بينهم، لا بين اللّه وعباده، ولذلك نرى أنّ الفقهاء يستدلّون بهذه الفقرة على لزوم المعاملات المشتملة على الإيجاب والقبول؛ بل وعلى وجه يصحّ الاستدلال بها على لزوم العمل بالعقود الجديدة الدارجة في الغرب المنتشرة أخيراً في الشرق من الشركات المختلفة، فكلّ ذلك يجب فيها العمل بالالتزام، والحاصل: أنّ الآية تركّز على العقود الدارجة بين الناس، وقد مرّ أنّ اللام في «العقود» بدل عن المضاف إليه أي عقودكم، لا عهود اللّه. 2. ما ذهب إليه بعض مشايخنا من السادة (رضوان اللّه عليهم) حيث كان يفسّر لفظ «العقود» بالعهود، ثمّ يعتمد على قول بعض اللغويّين بأنّ العقد عبارة عن العهد المشدّد، كان يستبعد الاستدلال بالآية على لزوم الوفاء في مورد المعاملات قائلاً: بأنّه ليس في موردها، العهد أوّلاً، وعدم وجود الشدّ ثانياً. وقد مرّ ضعفه فلا نعيد.

ثمّ إنّ وجوب الوفاء بالعقود على وجه الإطلاق، سواء أكان في مورد المعاملات أم في مورد المتخاصمين أو المتعاونين، أساس العدالة الاجتماعية، التي تعتمد عليه بنية المجتمع الإسلامي، فلو جاز للمتمكّن حلّ العقد فأوّل ما ينتقض به، هو العدل الذي هو أساس الحضارة الإنسانية.

نعم أصبح اليوم الوفاء بالعقود أداة طيّعة بيد القوى الكافرة والمستكبرة، فمادام العقد يدرّ عليهم بالأموال والثروات وينتفعون به، فهم يحترمونه، وأمّا إذا

ص: 214

رأوا أنّ مصلحتهم في نقضه، ينقضونه بأوهن الوجوه، وهذه هي سيرة الانتهازيّين، فالأخلاق عندهم هي ما ينفع تجارتهم وتدرّ عليهم بالأرباح، وإذا انعكست تركوها وراء ظهورهم ولم يراعوها.

***

ما هو مفاد وجوب الوفاء بالعقد؟

هل الوفاء بالعقود حكم تكليفي بحيث لو فسخ العقد ارتكب حراماً وكان الفسخ صحيحاً، وكلّ من العوضين يرجع إلى صاحبه؟ أو أنّه حكم وضعي، بمعنى الإرشاد إلى وجوب العقد ولزومه وعدم انفساخه بالفسخ؟

الظاهر هو الثاني والدليل على ذلك أنّ الحكم إذا تعلّق بالأداة - لا بالأعيان ولا بالأعمال - يكون ظاهراً في الإرشاد إلى وجوب الالتزام العملي بمفاد العقد.

فلو كان موضع العقد أداة من الأدوات كالبيع والإجارة يكون معنى ذلك هو وجوب الوفاء بمفاد العقد، ففي مورد البيع كون المثمن ملكاً للمشتري والثمن ملكاً للبائع ملكية قطعية لا تنفك عن الصحّة واللزوم.

نعم الاستدلال بالآية على صحّة المعاطاة ولزومها، ونظائرها فرع إحراز الصغرى وهو أنّ المعاطاة سبب فعلي نظير السبب القولي، والتبادل بين الجنسين بمنزلة الإيجاب والقبول، والمجموع بمنزلة العقد، فما لم تحرز الصغرى لا يمكن الاستدلال بالآية على لزوم صحّة المعاطاة ولزومها، والتفصيل في محلّه.

الأمر الثاني: كون التجارة عن تراض
اشارة

قال سبحانه: (يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاّ

ص: 215

أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ وَ لا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اَللّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً) .(1)

المفردات

تأكلوا: الأكل كناية عن أحد أمرين:

أ. التملّك. ب. مطلق التصرّفات المتوقّفة على الملكية.

بالباطل: الباء للسببية، أي بسبب باطل، كالقمار والسرقة والغصب والخيانة.

ولا تقتلوا أنفسكم: فيه وجهان:

1. نهي الإنسان عن قتل نفسه بنفسه المُسمّى بالانتحار.

2. المراد أعمّ منه كقتل بعضهم بعضاً بتصوير أنّ المجتمع شيء واحد، وأنّ هنا نفساً واحداً، وعلى كلّ تقدير فالجمع بين أكل المال بالباطل وقتل النفس، يعرب عن أنّ الأوّل في عداد الثاني من جهة عِظم المعصية.

التفسير

قوله: (يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا) يعمّ الناس جميعاً، وتخصيص المؤمنين بالخطاب لأنّهم هم المنقادون لأمره ونهيه سبحانه. ثمّ إنّه سبحانه يخاطب المؤمنين بقوله: (لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ) ففي هذه الفقرة جاء إسناد الأموال إلى المجتمع مكان أن يقول: لا تأكلوا أموال بعضكم، للتنبيه على تكافل الأُمّة في حقوقها ومصالحها، كأنّه يقول: إنّ مال كلّ واحد منكم هو مال أُمّتكم.

ص: 216


1- . النساء: 29.

ثمّ يستثني من النهي قوله: (إِلاّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ) ، ولمّا كان المستثنى منه هو الأكل بالباطل والأكل عن تجارة مقرونة بالتراضي غير داخلة فيه صار الاستثناء استثناء منقطعاً.

ثمّ إنّه سبحانه أكمل الآية بخطاب آخر وقال: (وَ لا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اَللّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً) .

إلى هنا تمّ تفسير الآية بحرفيّتها.

التجارة عن تراض مفيدة للملكية أو إباحة التصرّف؟!

بقي الكلام في أنّ الآية هل تدلّ على أنّ التجارة عن تراض مفيدة للملكية، أو مفيدة لحليّة التصرفات المتوقّفة على الملك، فلو قلنا بالأوّل يكون مفاد الآية في كلا الجانبين بالنحو التالي: لا تتملّكوا أموالكم بينكم بالباطل إلّاأن يكون التملّك ناشئاً عن تجارة عن تراض، فتكون التجارة بالتراضي مفيدة للملكية، ويصير مفاد الآية حكماً وضعياً، مدلولاً مطابقياً للآية.

وأمّا لو قلنا بالثاني يكون مفاد الآية في كلا الجانبين بهذا النحو لا تتصرّفوا في أموالكم بينكم بالباطل إلّاأن يكون التصرّف ناشئاً عن تجارة، ومن المعلوم أنّ تجويز عامّة التصرّفات بالتراضي لا ينفك عن الملك، فتكون الآية عندئذٍ بصدد بيان الحكم التكليفي (جواز عامّة التصرّفات) الملازم للحكم الوضعي (أعني:

الملكية).

وعلى ما ذكر فالآية تدلّ على أنّ التجارة عن تراضٍ تلازم الصحّة والملكية، وهذا هو المطلوب.

ص: 217

هل المعاطاة داخلة في الآية أو لا؟

وبما ذكرنا يُعلم أنّ المعاطاة داخلة في الآية لكونها تجارة عن تراض، فسواء أقلنا: إنّ الفقرة بصدد بيان الحكم الوضعي أو الحكم التكليفي فهي محكومة بهذين الحكمين، ولا أظن أحداً يشكّ في أنّ المعاطاة خصوصاً في جلائل الأُمور، من مصاديق التجارة، وليست داخلة في الباطل كالقمار والسرقة والخيانة.

وربما يستشكل على الاستدلال بالآية على صحّة المعاطاة قائلاً بأنّ الاستدلال إنّما يتمّ إذا كان المراد بالباطل، هو الباطل العرفي كما في السرقة والخيانة والغش، وعندئذٍ تكون كلّ تجارة مقرونة بالتراضي خارجة عن المستثنى منه وداخلة في المستثنى ومنه المعاطاة، وأمّا إذا أُريد به الباطل الشرعي (كالربا) تكون الآية مجملة، إذ من المحتمل أن تكون التجارة بالمعاطاة من الباطل الشرعي، وإن لم تكن كذلك عند العرف، نظير الربا فهو باطل شرعاً وليس باطلاً عرفاً.(1)

يلاحظ عليه: أنّ الآية بصدد تعليم الناس التجارة الحلال، وتمييزها عن المحرّمة، فلابدّ أن تكون الآية واضحة المراد مبيّنة المقصود، فلو أُريد به الباطل عند الشرع، تصبح الآية مجملة غير مفيدة.

فإن قلت: قد نقل في «مجمع البيان» عن أبي جعفر عليه السلام أنّ الربا من مقولة الأكل بالباطل(2) مع أنّه ليس باطلاً عرفياً بل باطل شرعي؟

ص: 218


1- . زبدة البيان: 427.
2- . مجمع البيان: 59/3.

قلت: لعلّ المراد إنّه داخل في الباطل حكماً وتعبّداً كقوله: «التراب أحد الطهورين يجزيك عشر سنين». وإن شئت قلت: إرشاد إلى مصداق مجهول لدى العرف، وقد عبّر الشيخ الأنصاري عن مثل هذه الروايات بتخطئة العرف.(1) وعلى كلّ حال فالآية في كلا الجانبين قابلة للتمسّك في كلّ مورد يُعد من مصاديق أحدهما.

فإن قلت: إنّ المستثنى منه ليس في مقام البيان، بشهادة أنّه يحل التصرّف بالهبة والوقف والصدقة والوصية وأرش الجناية والإباحة الشرعية والمالكية، فإنّ الجميع غير مشتمل على التجارة بمعنى التبادل وإن اشتمل على التراضي.

قلت: إنّ كونه في مقام البيان لا يلازم كونه في مقام الحصر؛ فإنّ الأوّل ناظر إلى كون التجارة عن تراض تمام الموضوع للحلية أو للملكية، وأمّا كونه الموضوع المنحصر فلا يدلّ عليه، وكفى في الاستدلال كونها تمام الموضوع.

فخرجنا بالنتيجة التالية: أنّ الآية في كلا الجانبين تصلح للاستدلال، فلو كانت هناك تجارة عن تراض فهو حلال وهو صحيح، ولو كان المقام مشتملاً على السبب الباطل عرفاً فهو غير صحيح وغير مفيد للتملّك والتصرّف.

***

إلى هنا تمّ ما أردناه من التمهيد الذي له تأثير خاص في أكثر الأحكام، وحان الوقت للبحث عن الآيات الواردة في العقود الشرعية والمكاسب المحلّلة حسب الكتب الفقهية الرائجة.

***م.

ص: 219


1- . لاحظ: كتاب المكاسب: 20/16، كتاب البيع، حقيقة البيع، طبعة تراث الشيخ الأعظم.

العقود الشرعية

1. البيع
اشارة

قال تعالى: (وَ أَحَلَّ اَللّهُ اَلْبَيْعَ وَ حَرَّمَ اَلرِّبا) .(1)

قد تقدّم منّا أنّ الحكم الشرعي إذا نسب إلى الأدوات كالبيع يفيد التمليك أو حليّة عامّة التصرّفات الملازمة للملكية، وعلى هذا فقوله: (وَ أَحَلَّ اَللّهُ اَلْبَيْعَ) فيه دلالة على إباحة سائر أقسامه من النقد والنسيئة والسلف وأنواعه من بيع المرابحة والمواضعة والتولية والمساومة وأنواع المبيعات من الثمار والحيوان والصرف وغير ذلك، ممّا ورد في الروايات.(2) وإليك التوضيح.

المرابحة: هي أن يبيع المبيع بنفس القيمة التي اشتراه بها، لكن بزيادة معينة.

المواضعة: هي أن يبيع المبيع بنقيصة معينة عمّا اشتراه.

التولية: هي أن يبيع المبيع بنفس القيمة التي اشتراه بها.

المساومة: هو البيع بما يتفقان عليه من غير تعرّض للإخبار بالثمن الذي اشترى به.

وربما يتصوّر أنّ الآية ليست في مقام بيان حلّية البيع بعامّة أشكاله، بل

ص: 220


1- . البقرة: 275.
2- . كنز العرفان: 37/2.

بصدد بيان نفي التسوية بين البيع والربا حيث إنّ المشركين ساووا بينهما وقالوا:

(إِنَّمَا اَلْبَيْعُ مِثْلُ اَلرِّبا) (1) وأنّ الربح العائد إلى الإنسان من جانب الربا، كالربح العائد له من جانب البيع، فنزل الوحي بنفي هذه التسوية، وإنّهما ليسا بمتساويين، وقال: (وَ أَحَلَّ اَللّهُ اَلْبَيْعَ وَ حَرَّمَ اَلرِّبا) ، وربما يستظهر ذلك المعنى من الإمعان في الآية صدراً وذيلاً. ويؤيّد ذلك أنّ حلية البيع لم تكن محطّ كلامهم حتّى ينزل الوحي لحلّيته.

يلاحظ عليه: أنّه لو كان سبحانه في مقام نفي التسوية فقط لصحّ أن يقول:

ليس البيع مثل الربا، أو: ليسا بمتساويين نظير قول امرأة عمران: (وَ لَيْسَ اَلذَّكَرُ كَالْأُنْثى) (2) مع أنّا نرى أنّه في مقام نفي التسوية أتى بشيء زائد وهو حلّية البيع وحرمة الربا، فيعلم من ذلك أنّ الغاية ليست نفي التسوية فقط، بل هي أمر ضمني، والمقصود هو الحكم بتشريع أحدهما وعدم تشريع الآخر.

وبذلك يُعلم أنّ الآية هي أحد المصادر لاستنباط كثير من أحكام البيوع.

وبما أنّ البيع من الأُمور الرائجة عبر القرون قبل الإسلام، وفي عصر الرسالة وبعدها، اكتفى الذكر الحكيم بهذه الآية وبالآية الثانية.

الكتابة والإشهاد في البيع

لما تقدّم قبل هذه الفقرة استحباب كتابة الدين والإشهاد عليه، انتقل إلى البيع ويستحب فيه أيضاً كتابته والإشهاد عليه، إلّاأنّه استثنى مورداً واحداً (إِلاّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ) : أي يداً بيد من غير غيبة لأحد العوضين

ص: 221


1- . البقرة: 275.
2- . آل عمران: 36.

(فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلاّ تَكْتُبُوها) : أي تلك المعاملة، لأنّه لا يتوقّع فيها شكّ استقبالي.

ومع ذلك أمر بالإشهاد حتى في مثل هذه المعاملة وقال: (وَ أَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ) إرشاد إلى مصلحتها لأنّه لولاها لجاز أن يندم أحد المتبايعين على البيع أو يقع نزاع في كمية أحد العوضين أو في شرط أو خيار أو غير ذلك، فالأمر هنا للإرشاد.

ولا يخفى أنّ مصبّ هذه الفقرات والأحكام في المعاملات الكبيرة ذات الأهمية، وأمّا المعاملات العادية البسيطة، فالآية منصرفة عنها.

***

ص: 222

العقود الشرعية

2. الإجارة
اشارة

الإجارة أحد الأُمور الرائجة بعد البيع، وقد عُرّفت بتعاريف نذكر منها ما يلي:

1. هي تمليك المنفعة المعيّنة مدّة معيّنة بعوض معلوم مع بقاء الملك على أصله.(1)

2. أنّها شرعت لنقل المنفعة بعوض آخر ولو حكماً.(2)

ولا يخفى ما في التعريفين من الضعف وإن عدّ صاحب الجواهر التعريف الثاني أحسن التعاريف، فإنّ مفاد التعريفين لا ينطبق على ما هو الموجود في الخارج، فالذي ينطبق على الخارج هو التعريف التالي:

«تسليط المستأجر على العين المستأجرة لينتفع بها مدّة معيّنة في مقابل أُجرة مشخصّة».

قلنا: إنّ هذا التعريف ينطبق على الخارج، وذلك لأنّ صاحب الدار أو السيارة يسلّط المستأجر على العين لأن ينتفع بها بالسكن أو السياقة في مقابل

ص: 223


1- . جامع المقاصد: 80/7.
2- . جواهر الكلام: 204/27.

أُجرة معيّنة محدّدة بزمان خاص.

وبما ذكرنا يظهر ضعف التعريفين السابقين.

أمّا الأوّل: فلأنّ تمليك المنفعة المعيّنة، أثر للإجارة ونتيجتها.

وأمّا التعريف الثاني فهو تعريف بالغاية، فإن نقل المنفعة بعوض هو الغاية القصوى من الإجارة. نعم ما ذكرناه من التعريف ناظر إلى إجارة الأعيان وأمّا تأجير الأشخاص والعمّال فلابدّ من تعريفه بشكل آخر، أو إدخاله في التعريف بنحو خاصّ.

وعلى أيّ حال فلندرس ما ورد في مورد الإجارة من الآيات في الذكر الحكيم:

الآيتان: الأُولى والثانية
اشارة

قال سبحانه: (قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اِسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اِسْتَأْجَرْتَ اَلْقَوِيُّ اَلْأَمِينُ * قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى اِبْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَ ما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اَللّهُ مِنَ اَلصّالِحِينَ) .(1)

المفردات

تأجرني: تعمل لي.

ص: 224


1- . القصص: 26-27.

حجج: سنين، واحدها حِجّة. وهي مشتقّة من اسم الحج، لأنّ الحجّ يقع كلّ سنّة، وموسم الحجّ يقع في آخر شهر من السنة العربية.

أشقّ عليك: أوقعك في المشقّة.

لا عدوان عليّ: لا ظلم عليّ بأن أُكلَّف أكثر منهما وأطالب بالزيادة عليها.

التفسير

أدرك موسى عليه السلام أنّ مقامه في مصر يحيطه الخطر، ولذلك خرج نحو «مدين»، ولمّا ورد ماء مدين وجد عليه جماعة يسقون مواشيهم، ووجد على مكان بعيد امرأتين تطردان أغنامهما بعيداً عن الماء أو عن أغنام بقية الرعاة، فلمّا رآهما موسى عليه السلام كذلك تأثّر لحالهما، فتقدّم نحوهما وقال: ما شأنكما لا تسقيان مع الناس، أجابتا: لا نسقي حتى ينصرف الرعاة مع مواشيهم رغبة عن مزاحمة الرجال.

ولمّا رأى موسى الوضع المُحْرِج للمرأتين أحسّ من أعماق ضميره بوجوب مساعدتهما فسقى لهما وانصرف إلى ظل شجرة واستراح إليها من شدّة الحرّ والجوع. ثمّ إنّ المرأتين رجعتا إلى أبيهما في ساعة كانتا لا ترجعان فيها وسألهما أبوهما، فأخبرتاه الخبر، فقال لإحداهنّ عليّ به، فرجعت إلى موسى وقالت له: (إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ) ليكافئك على (ما سَقَيْتَ لَنا) فاستجاب موسى للدعوة وجاء إلى بيت أبيها.

ولما قصّ موسى القصص وأنّه فرّ من جلاوزة فرعون قال المضيّف: (لا

ص: 225

تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ اَلْقَوْمِ اَلظّالِمِينَ) .(1)

و (قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اِسْتَأْجِرْهُ) وطبع الحال يقتضي أنّ تلك المرأة تكلمت مع أبيها سرّاً لا بحضور موسى عليه السلام، ثم علّلت سبب اقتراحها بقولها: (إِنَّ خَيْرَ مَنِ اِسْتَأْجَرْتَ اَلْقَوِيُّ اَلْأَمِينُ) فأشارت إلى أنّ قوام الاستئجار أمران:

1. كون الأجير قوياً قادراً على أداء العمل.

2. كونه أميناً غير خائن.

وقد شعرتْ بهذين الأمرين، أمّا قوّته، فقد استقى بالدلو الكبير وحده، وأمّا أمانته فإنّه بعد ما سقى لهما ابتعد عنهما إلى ظل شجرة هناك ليستريح دون أن يجتمع بهما، وكأنّه لم يعمل لهما شيئاً، كما حكى سبحانه وقال: (فَسَقى لَهُما ثُمَّ تَوَلّى إِلَى اَلظِّلِّ فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) .(2)

ولمّا تبيّن للأب أنّ موسى رجل مؤمن، (قال) مخاطباً موسى (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى اِبْنَتَيَّ هاتَيْنِ) شريطة (عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي) : أي تخدمني وترعى أغنامي (ثَمانِيَ حِجَجٍ) : أي سنوات (فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً) :

أي زدتها إلى عشر سنين (فَمِنْ عِنْدِكَ) : أي هبة من عندك غير مُلزم بها.

ولمّا كان في قوله: (عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ) إبهام من حيث كيفية العمل، وربّما يكون أمراً باهظاً وتكليفاً لا يُطاق، رفع الشيخ هذا الإبهام بقوله:

(وَ ما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اَللّهُ مِنَ اَلصّالِحِينَ) وليس هذا من قبيل تزكية النفس المنهي عنها، لأنّ موردها ما إذا كان بصدد الفخر والاستعلاء، وأمّا إذا كان4.

ص: 226


1- . القصص: 25.
2- . القصص: 24.

الهدف توضيح الحال للمخاطب حتى يطمئن إليه، فليس فيه إشكال، نظيره ما في سورة يوسف عليه السلام حيث قال للملك: (اِجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ اَلْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) .(1)

قال الفاضل المقداد: الآيتان قوله تعالى: (يا أَبَتِ اِسْتَأْجِرْهُ) وقوله تعالى:

(عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ) دلّتا على مشروعية الإجارة، وإن كانت في شرع غيرنا لأصالة عدم النسخ مع اشتمال عقدها على كونه من متمّمات (مهمات) نظام النوع، لأنّه ممّا يضطر إليه، لما تقرّر في العلوم الحقيقية أنّ الإنسان لا يمكن أن يعيش وحده، فيفتقر إلى التعاضد وذلك غير واجب على الغير القيام به، فيجوز أخذ العوض عليه، فتشرع المعاوضة على المنفعة وذلك هو المطلوب. وفي الآية الثانية إشارة إلى وجوب ضبط العمل بالمدّة إن قدِّر بها وإلّا فبغيرها من الضوابط.(2)

يلاحظ عليه: أنّ الفقرة الأُولى دليل على مشروعية الإجارة في الشرائع السابقة دون الفقرة الثانية، وسيأتي بيانه فانتظر.

***

وفي الآية الثانية أُمور فقهية نلفت نظر القارئ إليها:

1. إنّ قوله: (أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ) يدلّ على أنّ النكاح ينعقد بهذا اللفظ، نعم لا يدلّ على عدم انعقاده بغيره كالتزويج.

2. إنّ قوله هذا، عرض واقتراح حيث لا يُعلم أنّ المخاطب موافق أو لا،2.

ص: 227


1- . يوسف: 55.
2- . كنز العرفان: 73/2.

وعلى هذا فالظاهر أنّه صدر بعد هذا، عقد من الشيخ وقبول من موسى.

3. إنّ قوله: (إِحْدَى اِبْنَتَيَّ هاتَيْنِ) عرض، لا عقد وإلّا لعيّن المعقود عليها، إذ لا يجوز نكاح غير المعيّن، فلا دلالة في الآية على جواز نكاح غير المعيّن، كما لا دلالة في الآية على جواز نكاح غير المعيّن في الشرائع السابقة حتى يحتجّ به بالاستصحاب.

4. الظاهر أنّ العمل كان مهراً للزوجة ولا إشكال فيه. فإنّ العمل يقع مهراً.

روى الفريقان أنّ امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه و آله و سلم فقالت: زوِّجني، فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: مَنْ لهذه؟ فقام رجل فقال: أنا يا رسول اللّه زوِّجنيها، فقال: ما تعطيها؟ فقال: ما لي شيء، فقال: لا، قال: فأعادت فأعاد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم الكلام، فلم يقم أحد غير الرجل، ثم أعادت، فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في المرّة الثالثة: أتحسن من القرآن شيئاً؟ قال: نعم، فقال صلى الله عليه و آله و سلم: «قد زوّجتكها على ما تحسن من القرآن فعلِّمها إياه».(1)

5. تقدّم أنّ كلّ ما في هذه الآية كان اقتراحاً وحواراً تمهيدياً لما سيتّفقان عليه بعد، وبما ذكرنا ظهر أنّه ليس في الآية اجتماع إجارة ونكاح، بل كان هناك نكاح وكان العمل مهراً.

نعم يقع الكلام في أنّ المهر من حقّ الزوجة دون أبيها.

والجواب: إنّ صحّة ذلك رهن إذن البنت، والمفروض أنّ حياة الجميع كانت حياة واحدة في بيت واحد، وظاهر ذلك رضا الزوجة بذلك.ر.

ص: 228


1- . الكافي: 380/5، كتاب النكاح، باب نوادر المهور.

فخرجنا بالنتيجة التالية: أنّه ليس قوله: (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى اِبْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ) (1) على جواز الإجارة وصحّتها، لما عرفت من أنّه لم يكن هنا عقدان، عقد إجارة وعقد نكاح، بل عقد واحد وهو النكاح والمهر هو العمل، وعلى هذا فمعنى (أَنْ تَأْجُرَنِي) : أي تعمل لي، مهراً للنكاح. نعم قد تقدّم أنّ قول البنت لأبيها: استأجره، دليل على وجود الإجارة في الشرائع السابقة.

ما ذكرناه من عدم صحّة الاحتجاج بالآية هو الإشكال، وأمّا ما أفاده الفاضل الجواد من أنّ الاستدلال بالآية على المشروعية، فرع حجّية ما في الشرائع السابقة لنا، وفيه تأمّل لعدم الحجّية، ولا تكفي فيها أصالة عدم النسخ.(2)

فيلاحظ عليه: بأنّ الغاية من سرد القصص في القرآن الكريم، ليس هو التسامر؛ بل الغاية: التدبّر والاعتبار؛ وعلى ذلك فكلّ ما يذكره أو ينقله من الآخرين إنّما هو لغاية الاعتبار، إلّاإذا كان مقروناً بالردّ والنقد أو كان ظاهر الغيّ، فلا يتبع.

ولمّا كان ظاهر قول فرعون: (قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ اَلَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَ أَنَا مِنَ اَلْمُسْلِمِينَ) (3) أنّ الإيمان في حالة الاضطرار يؤثّر في نجاة الإنسان الكافر، عاد الذكر الحكيم يردّ عليه: (آلْآنَ وَ قَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَ كُنْتَ مِنَ اَلْمُفْسِدِينَ) (4).1.

ص: 229


1- . القصص: 27.
2- . مسالك الافهام إلى آيات الأحكام: 90/3.
3- . يونس: 90.
4- . يونس: 91.

وبذلك يعلم أنّ الاحتجاج بما ورد في الشرائع السابقة ليس رهن الاستصحاب، بل كتاب اللّه حجّة إلّاإذا ثبت كون ما ورد فيه منسوخاً أو حكماً خاصّاً لأهل زمان خاص.

الآية الثالثة

قال سبحانه: (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَ لا تُضارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَ إِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَ أْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَ إِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى) .(1)

الآية بصدد بيان أحكام المطلّقات فذكرت منها ما يلي:

1. إسكان المطلّقة في بيوت الأزواج ممّا يملكون أو يقدرون عليه:

(أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ) .

2. تحريم الاضرار بهن بالتضييق عليهن في النفقة والمسكن لغاية إلجائهنّ إلى ترك البيت والخروج منه كما يقول: (وَ لا تُضارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ) .

3. أنّ المطلقات الحاملات ينفق عليهن حتى يخرجن من العدة ولا يخرجن منها إلّابوضع حملهن، كما يقول: (وَ إِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) .

4. إذا وضعت الحامل من المطلّقات تخرج عن العدة، غير أنّ للولد حقّاً

ص: 230


1- . الطّلاق: 6.

على الأب والأُمّ، فعلى الأُمّ أن تقوم بإرضاعه وعلى الأب أن يقوم بدفع أُجرة الرضاع للأُمّ، كما قال سبحانه: (فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ) ولعلّ قوله: (لَكُمْ) دليل على أنّ الانقاق على الأُمّ في حال الرضاع من واجبات الأب.

دلّت الآية على مشروعية الإجارة وثبوت الأُجرة بها.

ثمّ إنّ الفاضل الجواد ذكر في المقام إشكالاً وهو أنّ الإجارة تمليك منفعة، واللبن عين، ثم أجاب عنه قائلاً: بأنّ الإجارة على الحضانة واللبن تابع، فصح كونها على المنفعة، ثم أمر بالتأمّل.(1)

أقول: قد عرفت أنّ الإجارة ليست من مقولة تمليك المنفعة، حتى يرد عليه الإشكال، بل عبارة عن تسليط المستأجر على العين المستأجرة، وعلى هذا لا موضوع للإشكال حتى يجاب عنه.

ثمّ إنّ المحقّق صاحب العناوين ذكر نظائر أُخرى لما ذكره الفاضل الجواد:

1. الاستحمام في الحمام.

2. استئجار الأرض للرعي.

3. استئجار البئر للسقي.

وما ينتفع به في هذه الموارد، إنّما هو عين من الأعيان كاللبن والماء.

ثمّ أجاب قدس سره بأجوبة أربعة، والأفضل ما ذكره في الثالث، قال: إنّ المنفعة أمر لا يكال بمكيال منضبط حتى يختصّ بما يقابل العين بل يدور مدار العرف ومنفعة3.

ص: 231


1- . مسالك الأفهام: 90/3.

كلّ شيء بحسبه، ولا ريب أنّ اللبن منفعة للمرضعة والماء منفعة للبئر.(1)

وبعبارة أُخرى: إنّ المنفعة في مصطلح الفقهاء غير المنفعة في مصطلح الحكماء المتكلّمين فإنّها في مصطلح هؤلاء هو الأعراض القائمة بالموضوع، فلا تصدق على لبن المرضعة ولا على ماء الحمام، لكنّها في مصطلح الفقهاء أعمّ، والميزان عندهم كون شيء أصلاً والآخر فرعاً، وكأنّ المرضعة عندهم هي الأصل واللبن تابع وهكذا الآخرين، فتدبّر.

وإن شئت قلت: المنفعة أمر عرفي ومنفعة كلّ شيء بحسبه، ومنفعة المرضعة لبنها، والأرض رعيها، وهكذا.ن.

ص: 232


1- . العناوين الفقهية: 230/2، العنوان الحادي والأربعون.

العقود الشرعية

3. الدين أو القرض
اشارة

الدّين: ما وجب في الذمّة بعقد أو استهلاك، أو باستقراض، فهو أعم من القرض.(1)

وأمّا القرض: ضرب من القطع، وسمّي به ما يدفع إلى الإنسان من المال بشرط ردّ بدله.(2)

والبحث في المقام إنّما هو في الدَّين المتحقّق بالاستقراض، وندرس ما ورد فيه من الآيات.

الآية الأُولى

قال تعالى: (يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَ لْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَ لا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اَللّهُ فَلْيَكْتُبْ وَ لْيُمْلِلِ اَلَّذِي عَلَيْهِ اَلْحَقُّ وَ لْيَتَّقِ اَللّهَ رَبَّهُ وَ لا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كانَ اَلَّذِي عَلَيْهِ اَلْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ

ص: 233


1- . حاشية ردّ المحتار لابن عابدين: 282/5.
2- . لاحظ: المفردات للراغب: 400، مادة «قرض».

يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَ اِسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَ اِمْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ اَلشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا اَلْأُخْرى وَ لا يَأْبَ اَلشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا وَ لا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اَللّهِ وَ أَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَ أَدْنى أَلاّ تَرْتابُوا إِلاّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلاّ تَكْتُبُوها وَ أَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ وَ لا يُضَارَّ كاتِبٌ وَ لا شَهِيدٌ وَ إِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَ اِتَّقُوا اَللّهَ وَ يُعَلِّمُكُمُ اَللّهُ وَ اَللّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ) .(1)

المفردات

تداينتم: التداين من باب التفاعل، وهو رهن وجود شخصين لكلّ فعل، مع أنّ الدين فعل واحد يصدر من الدائن، ويمكن أن يقال: إنّ باب المفاعلة ربما يستعمل في غيرها، بشهادة ما سيأتي في قوله سبحانه: (وَ لا يُضَارَّ كاتِبٌ وَ لا شَهِيدٌ) في آيتنا هذه، مع أنّه ليس فيه إضرار إلّامن جانب واحد، لا من الجانبين.

نعم ذكر ابن عاشور وجهاً آخر وقال: إنّ المخاطب هو مجموع الأُمّة، وفي المجموع دائن ومدين، فصار المجموع مشتملاً على جانبين.(2) ولا يخفى أنّه تفسير ذوقي.

ص: 234


1- . البقرة: 282.
2- . التحرير والتنوير: 264/2.

بدين: جيء بهذا القيد مع عدم الحاجة إليه، لكونه مفهوماً من الفعل، جيء به ليكون مرجعاً للضمير في الفعل الواقع بعده أي (فَاكْتُبُوهُ) ، ولولا ذكره لزم أن يقول: فاكتبوا الدّين.

مسمّى: أُريد تعيين آجال الديون لقطع المخاصمة عند الاختلاف، والأجل اسم والمصدر: التأجيل.

بالعدل: بالحق.

فليملل: الإملال: الإملاء، يقال: أملّ عليه وأملى عليه: بمعنى واحد.

يبخس: البخس: النقص ظلماً، يقال: بخسه حقّه: يبخسه بخساً، وثمن بخس: ناقص عن حقّه.

سفيهاً: السفيه: من له الخفّة في العقل.

ضعيفاً: الضعيف: الصغير، قال سبحانه: (وَ لَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ) .(1)

أقسط: أعدل، والقسط: العدل، فإذا قيل: أقسط: يكون بمعنى أعدل، وإذا قيل: قسط، يقسط يكون بمعنى (جار).

التفسير
اشارة

الآية تتضمّن أحكاماً كثيرة ربما يختلف عددها حسب اختلاف الأنظار وفي «كنز العرفان»: في الآية أحد وعشرون حكماً (وربما ينقص لأجل إدخال بعضها في القصص كما سيوافيك في التفسير)؛ بل ربّما يُذكر فيها فوائد تزيد على

ص: 235


1- . البقرة: 266.

ذلك.(1)

وهذه الآية أطول آية في القرآن الكريم وتشتمل على تعاليم كثيرة في باب الدين والتي تنظم الشؤون المالية، وقد جاء بهذا البيان رجل أُمّي لم يدرس ولم يدخل مدرسة ولا كلّية اقتصادية.

ولمّا دلّت الآيات المتقدّمة عليها في سورة البقرة على تحريم الربا ربما يتبادر إلى الذهن أنّ الشارع أبطل التداين فجاء البيان القرآني بالتفريق بين الربا والتداين الذي له موقع في التجارة والصناعة والزراعة على نحو لو سدّ هذا الباب لاختلّ النظام، ولأجل ذلك حثّ على التداين وبيّن حدوده وما يجب على الدائن والمدين رعايته من التوثقات المالية والإشهاد عليها وفي ظروف خاصّة الرهن.

أضف إلى ذلك: أنّ في القرض مواساة الفقير وإغاثة الملهوف. وقد مرّ أنّ الآية بنفسها تتضمّن أحكاماً كثيرة من أحكام اللّه سبحانه في موضوع التداين، وهي:

1. التوثّق للدين بالكتابة

قال تعالى: (يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ) لأنّ القلب يتّكل على الكتابة. وظاهر الفقرة كتابة الدين، أعني: القرض، ولكن يمكن استفادة حكم البيع نسيئة حيث إنّ المشتري يكون مديناً بالنسبة إلى ثمن المبيع. وقد روي عن ابن عباس أنّ الآية نزلت في السَلم في الحنطة في كيل معلوم إلى أجل معلوم، وعنه أيضاً، قال: قدم النبي صلى الله عليه و آله و سلم المدينة وهم يسلفون في الثمار السنتين والثلاث، فقال: «ومَن أسلف فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى

ص: 236


1- . كنز العرفان: 46/2.

أجل معلوم».(1) وعلى هذا فلا مانع من إسراء الحكم إلى غير القرض حتى أنّ الفاضل المقداد فسّر الآية بغير القرض وقال: أي تفاعلتم بالدين إما بالسلم أو بالنسيئة أو الإجارة(2) وهو بعيد حسب السياق.

ثمّ إنّ الأمر في قوله: (فَاكْتُبُوهُ) أمر إرشادي وليس مولوياً، ويشهد على ذلك قوله: (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ اَلَّذِي اُؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ) (3)، فإنّ معناه:

فإن أمن صاحب الحقّ الذي عليه الحقّ ولم يتوثّق منه بصك ولا رهن، فلينصف (فَلْيُؤَدِّ اَلَّذِي اُؤْتُمِنَ) : أي الذي عليه الحقّ (أَمانَتَهُ) : أي ما أخذه ديناً بأن لا يجحد حقّه، ولا يبخس منه شيئاً، فلو كانت الكتابة واجبة، لما أرشد اللّه سبحانه إلى هذا النوع من التداين الذي لا يكتب ولا يرهن عليه.

2. كتابة شخص ثالث

بما أنّ الأُمّيّة كانت سائدة في الجزيرة العربية وقلّما يتّفق أن يكون المتداينان عارفين بالكتابة، وإلّا فلو كانا عارفين بها، تكفي كتابتهما، وإلّا فيمارس الكتابة شخص ثالث، كما يقول: (وَ لْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ) فيكتب الثالث ما تعاقدا عليه، وأمّا ما هي صيغة المكتوب ووصفه فيأتي بيانها في الحكم التالي.

3. رعاية العدل في الكتابة

يؤكّد سبحانه على أنّ الكاتب يجب عليه رعاية الحقّ، أي أن

ص: 237


1- . الدر المنثور: 117/2-118.
2- . كنز العرفان: 44/2.
3- . البقرة: 283.

يكتب (بِالْعَدْلِ) : أي ما هو الواقع من دون نقص وزيادة، هذا إذا كان الكاتب غيرهما، ولو كان الكاتب أحد المتداينين فعليه أيضاً أن يكتب ما هو الحقّ، خصوصاً إذا كان الطرف المقابل، أُمّياً.

4. عدم امتناع الكاتب عن الكتابة

لمّا كانت الكتابة موهبة من اللّه سبحانه إلى مَن تعلّمها، فعليه أن لا يمتنع عن كتابة العقد عندما لا يستطيع المتداينان عليها، أو مطلقاً، فاللّه سبحانه نهى عن امتناع من تطلب منه الكتابة عنها كما يقول: (وَ لا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اَللّهُ فَلْيَكْتُبْ) ولعلّ المراد من قوله: (كَما عَلَّمَهُ اَللّهُ) أن يكتب ما يعتقده حقّاً ولا يجحف ولا يبخس.

والآية تدلّ على أنّ كلّ نعمة وهبها اللّه سبحانه عباده، تلازم الشكر، ومن مظاهره إعانة المتعاقدين اللّذين لا يعرفان الكتابة وكأنّه سبحانه يقول: (وَ أَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اَللّهُ إِلَيْكَ) (1).

بقي الكلام في قوله: (فَلْيَكْتُبْ) فقد تكرّر في الآية في موضعين:

أحدهما: قوله: (وَ لْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ) أمر به لأجل التأكيد على قوله المتقدّم: (فَاكْتُبُوهُ) .

ثانيهما: قوله: (فَلْيَكْتُبْ وَ لْيُمْلِلِ اَلَّذِي عَلَيْهِ اَلْحَقُّ) جيء به لأن يترتّب عليه قوله: (وَ لْيُمْلِلِ) .

ص: 238


1- . القصص: 77.
5. إملاء مَن عليه الحقّ على الكاتب

يجب على مَن عليه الحقّ أن يملي ويعترف بتفاصيل ما عليه من الحقّ، فإنّ الكاتب غير واقف على ما هو الواقع، وإنّما الاعتبار على اعتراف المدين وإمضائه ورقة السند، يقول سبحانه: (وَ لْيُمْلِلِ اَلَّذِي عَلَيْهِ اَلْحَقُّ) .

6. رعاية التقوى لمَن عليه الحقّ

على مَن عليه الحقّ أن يجعل نفسه أمام اللّه سبحانه، فهو يراه، فيجب أن يملي ما عليه من قليل وكثير وحقير وجليل، كما يقول: (وَ لْيَتَّقِ اَللّهَ رَبَّهُ) : أي يجعل لنفسه وقاية عن عذاب ربّه (وَ لا يَبْخَسْ مِنْهُ) : أي من الحقّ (شَيْئاً) .

7. قيام إملاء الولي مكان المولّى عليه

ربما يكون المدين غير متمكّن عقلاً أو شرعاً عن بيان ما عليه من الحقّ، كما لو كان سفيهاً، قاصراً في فكره أو مجنوناً أو صغيراً، فيقوم الولي مقام المولى عليه، وعندئذٍ يجب على الولي نفس ما وجب على المدين العاقل أي الإملاء بالحقّ كما يقول سبحانه: (فَإِنْ كانَ اَلَّذِي عَلَيْهِ اَلْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً) كالصغير (أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ) كأن يكون أبكم أو أصم، فعندئذٍ يقوم الولي مقامه.

8. إملاء الولي بالعدل

إذا كان المولّى عليه معذوراً (فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ) : أي بالحقّ، فعلى الولي أن يملي بالحقّ كما كان على المولّى عليه أن يملي كذلك، فيكون الولي قائماً مقام المولّى عليه ويكون مكلّفاً بنفس ما وجب على المولّى عليه.

ص: 239

إلى هنا تمّ توثيق الدين عن طريق الكتابة، ولكن تأكيداً على الحقّ وقطع دابر الخلاف تأتي مرحلة أُخرى، لاكتساب الثقة، وهي:

9. الاستشهاد بشهيدين

ربما يقع الاختلاف في مفاد الكتابة، أو يُفقد ويضيع الكتاب فلأجل اكتساب الثقة، يأمر سبحانه المتداينين بالاستشهاد بشهيدين، كما يقول: (وَ اِسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ) .

10 و 11. اشتراط البلوغ والإسلام

ثمّ إنّه يشترط أن يكون الشاهدان بالغَين مسلمَين، ويدلّ على هذين الشرطين قوله تعالى: (مِنْ رِجالِكُمْ) فالصغير لا يوصف بالرجولية، وغير المسلم ليس (مِنْ رِجالِكُمْ) .

12. قيام امرأتين مكان رجل واحد

ربما تقتضي الحال الاستشهاد بالنساء كما إذا لم يكن الشاهدان رجلين، بحيث لم يحضر حين التداين رجلان، بل حضر رجل واحد، فعندئذٍ يستشهد برجل وامرأتين، كما يقول: (فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَ اِمْرَأَتانِ) .

13. اعتبار الوثاقة في الشهداء

تعتبر الوثاقة في الشهداء من غير فرق بين الرجلين أو رجل وامرأتين، كما يقول: (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ اَلشُّهَداءِ) ، وعلى ما ذكرنا فهو قيد للشهداء على وجه الإطلاق، يقول الطبرسي: وهذا يدلّ على أنّ العدالة شرط في الشهود،

ص: 240

ويدلّ أيضاً على أنّا لم نُتعبد بإشهاد مرضيّين عند اللّه لقوله: (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ) لأنّه لا طريق لنا إلى معرفة من هو مرضي عند اللّه تعالى، وإنّما تعبّدنا بإشهاد مَن هو مرضي عندنا في الظاهر وهو مَن ترضى دينه وأمانته وتعرفه بالستر والصلاح.(1)

ثمّ إنّ قيام المرأتين مقام الرجل ليس مشروطاً بفقدان الرجلين، فقوله:

(فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ) بيان للواقع، وإلّا فلو اقتضت المصلحة الاستشهاد برجل وامرأتين مع وجود الرجلين فلا مانع منه، وعلى كلّ تقدير فالشارع أدخل المرأة في شؤون الحياة بعدما كانت بعيدة عنها في الجاهلية.

وربما يطرح سؤال، وهو أنّه لماذا شرط التعدّد في المرأتين؟ وهذا ما يجاب عنه بأنّ المرأة إنسان عاطفي أوّلاً ربما تحول العاطفة بينها وبين إظهار الواقع، وثانياً أنّ الأُمور الواقعة على عاتق المرأة من إدارة البيت وتربية الأطفال ربما تكون سبباً لتطرّق النسيان عليها وقلّة حفظها، ولذلك يقول سبحانه:

(أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما) : أي تنسى إحدى المرأتين (فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا اَلْأُخْرى) :

أي حذّر أن تضلّ إحداهما وتخطأ فتذكر كلّ منهما الأُخرى بما كان، فتكون شهادتها متمّمة لشهادتها، أي أنّ كلّ منهما عرضة للخطأ والضلال فاحتيج إلى قيام الثنتين مكان الرجل الواحد، لأنّهما بتذكير كلّ منهما للأُخرى يقومان مقام الرجل.(2)

ثمّ إنّ المفسّرين المتأخّرين طرحوا هنا سؤالاً وهو: لماذا قال: (فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا اَلْأُخْرى) بتقديم الفاعل على المفعول ولم يقل: فتذكرها الأُخرى،3.

ص: 241


1- . مجمع البيان: 275/2.
2- . تفسير المنار: 123/3.

بتقديم المفعول على الفاعل وقد ذكروا للعدول عن الإضمار إلى الإظهار وجوهاً مختلفة أطالوا الكلام فيها حتى أنّ بعضهم صاغ السؤال في أبيات، كالخفاجي، وأجاب عنه الآخر كالغزنوي، وقد نقل كلا الأمرين صاحب المنار وابن عاشور في تفسيريهما.(1)

ثمّ إنّ العلّامة الطباطبائي ذكر وجهاً للعدول، نأتي بنص ما قال: وفي قوله:

(إِحْداهُمَا اَلْأُخْرى) وضع الظاهر موضع المضمر، والنكتة فيه اختلاف معنى اللفظ في الموضعين، فالمراد من الأوّل إحداهما لا على التعيين، ومن الثاني إحداهما بعد ضلال الأُخرى، فالمعنيان مختلفان.(2)

وعندي أنّ وجه العدول من الإضمار إلى الإظهار هو إناقة اللفظ، فإن لها سهماً في الفصاحة، وكم فرق بين أن يقول: فتذكّر إحداهما الأُخرى، وأن يقول:

فتذكّرها الأُخرى، فالتعبير الأوّل أسهل تلفّظاً من الثاني.

14. وجوب الحضور على الشهود عند الدعوة

يجب على الشهود إذا دعوا إلى الشهادة أن يحضروا من غير تأخير ولا عذر كما يقول: (وَ لا يَأْبَ اَلشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا) . نعم يشترط في لزوم الحضور أن لا يكون الحضور عليهم حرجياً واقعاً في غير موقعه، كما سيوافيك.

15. كتابة الدين جليله وحقيره

ربما يتسامح الكاتب في كتابة الدين فيكتب ما هو الجليل ويسأم من كتابة

ص: 242


1- . لاحظ: تفسير المنار: 123/3-125؛ والتحرير والتنوير: 575/2-577.
2- . الميزان في تفسير القرآن: 440/2.

غيره تصوّراً بعدم الاهتمام، ولكنّه سبحانه يأمر بكتابة كلّ ما على المدين من الحقّ من غير فرق بين الصغير والكبير، يقول سبحانه: (وَ لا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ) .

ثمّ إنّه سبحانه يشير إلى جهة ضبط الحقوق بأجمعها بقوله: (ذلِكُمْ) : أي كتابة الدين أو الشهادة (أَقْسَطُ) : أي أعدل (عِنْدَ اَللّهِ) ، لأنّه سبحانه أمر به (وَ أَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ) : أي أصوب للشهادة وأبعد من الزيادة والنقصان والسهو والغلط والنسيان (وَ أَدْنى أَلاّ تَرْتابُوا) : أي أقرب إلى أن لا تشكّوا في مبلغ الحقّ وأجله وغير ذلك.

16. استثناء التجارة الحاضرة

استثنى سبحانه التجارة الحاضرة، من الكتابة، وقال: (إِلاّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلاّ تَكْتُبُوها) ووجهه واضح، وأنّ الكتابة للوثيقة، ولا يحتاج للوثيقة إلّافي النسيئة دون النقد. والظاهر أنّ الاستثناء منقطع، لأنّ الكلام فيما إذا كان هناك دين بنحو من الأنحاء، فالإتّجار مع حضور الثمن والمثمن لم يكن داخلاً حتى يستثنى.

17. الاستشهاد في المعاملة النقدية

مع أنّ المعاملة النقدية غنية عن الكتابة، مع ذلك يستحب فيها الاستشهاد خصوصاً إذا كانت المعاملة جليلة، ربما تقع في معرض الشكّ والترديد بأنّه اختلسه أو سرقه أو اشتراه.

ويستفاد من بعض الروايات الاهتمام بأحد الأمرين: الكتابة والاستشهاد،

ص: 243

فقد روى مسعدة بن صدقة عن أبي عبد اللّه عليه السلام، قال: «قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: أصناف لا يستجاب لهم، منهم: من أدان رجلاً ديناً إلى أجل فلم يكتب عليه كتاباً ولم يشهد عليه شهوداً».(1)

18. عدم إيقاع الضرار على الكاتب والشهيد

لمّا دلّ قوله سبحانه: (وَ لا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ) على لزوم ممارسة الكتابة للكاتب، ودلّ قوله سبحانه: (وَ لا يَأْبَ اَلشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا) على لزوم الحضور، جاء البيان القرآني على أنّ طلب الأمرين منهما محدّد بعدم إدخال الضرر عليهما بأن يُوقع المتعاقدان الكاتب والشاهدين في الحرج والخسارة، كأن طلب منهما الأمرين في غير موقعهما العرفي، أو كانت المسافة بينهما وبين المتعاقدين بعيدة، كما يقول: (وَ لا يُضَارَّ كاتِبٌ وَ لا شَهِيدٌ) .

وعلى كلّ تقدير فإن أوجب ذلك أي الإضرار فهو من الإثم كما يقول:

(وَ إِنْ تَفْعَلُوا) : أي الإضرار (فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ) : أي خروج عن أمر اللّه سبحانه، ولعلّ الباء في قوله: (بِكُمْ) للسببية، أي فسق بسببكم، ثمّ إنّ الآية ختمت بفقرتين:

1. (وَ اِتَّقُوا اَللّهَ وَ يُعَلِّمُكُمُ اَللّهُ) .

2. (وَ اَللّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ) .

أمّا الأُولى فقوله: (وَ اِتَّقُوا اَللّهَ) بإنجاز جميع أوامره ونواهيه، (وَ يُعَلِّمُكُمُ اَللّهُ) ما فيه خير لكم ديناً ودنياً، وتعليمه سبحانه عن طريق الوحي إلى أنبيائه.

وممّا ذكرنا يظهر أنّ ما قيل: وفي عطف التعليم على الأمر بالتقوى إيماء إلى

ص: 244


1- . الوسائل: 5، الباب 50 من أبواب الدعاء، الحديث 7.

أنّ التقوى سبب إفاضة العلوم، غير تام.

أمّا أوّلاً: فلو أُريد هذا كان الأنسب حذف العاطف بأن يقول: «واتّقوا اللّه يعلمكم اللّه».

وثانياً: أنّ ما ذُكر مبني على أنّ المراد من تعليم اللّه إفاضة العلوم على النفس من جانب الغيب، والظاهر أنّ المراد من التعليم هو التعليم عن طريق الأنبياء والأولياء.

وإلى ما ذكرنا يشير السيد الطباطبائي بقوله: وما قيل: إنّ قوله: (وَ اِتَّقُوا اَللّهَ وَ يُعَلِّمُكُمُ اَللّهُ) يدلّ على أنّ التقوى سبب للتعليم الإلهي، فيه أنّه وإن كان حقّاً يدلّ عليه الكتاب والسنّة، لكن هذه الآية بمعزل عن الدلالة عليه لمكان واو العطف، على أنّ هذا المعنى لا يلائم سياق الآية وارتباط ذيلها بصدرها.(1)

ومع ذلك كلّه فقد ورد في بعض الآيات أنّ للتقوى أثراً خاصّاً كما في الآيتين التاليتين:

1. قوله تعالى: (يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اَللّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً) (2)، فرعاية التقوى تؤثّر في تمييز الإنسان الحقّ عن الباطل.

2. قوله تعالى: (وَ مَنْ يَتَّقِ اَللّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً) (3)، وقال: (وَ مَنْ يَتَّقِ اَللّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً) (4).4.

ص: 245


1- . الميزان في تفسير القرآن: 440/2.
2- . الأنفال: 29.
3- . الطلاق: 2.
4- . الطلاق: 4.

فلا شكّ أنّ لطهارة النفس عن الذنوب والدنس يعطي الإنسان أرضية صالحة لأن تُفاض عليه قوة قدسية يميّز بها الحقّ عن الباطل، أو يسهل اللّه عليه أمره.

وأمّا الفقرة الثانية، فقوله: (وَ اَللّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ) فيشرّع ما فيه صلاحكم.

ثمّ إنّه كُرر لفظ الجلالة في الفقرتين وقال: (وَ اِتَّقُوا اَللّهَ وَ يُعَلِّمُكُمُ اَللّهُ وَ اَللّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ) ، والظاهر أنّ التكرار لأجل التأكيد.

نقل الطبرسي عن تفسير علي بن إبراهيم القميّ أنّه قال: إنّ في البقرة خمسمائة حكم وفي هذه الآية خمسة عشر حكماً.(1) ولعلّ تقليل العدد لإدخال بعض الأحكام في البعض الآخر، كما أنّ تكثيره إلى أحد وعشرين على العكس.

الآية الثانية

قال سبحانه: (وَ إِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَ لَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ اَلَّذِي اُؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَ لْيَتَّقِ اَللّهَ رَبَّهُ وَ لا تَكْتُمُوا اَلشَّهادَةَ وَ مَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَ اَللّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) .

المفردات

فرهان: الرهان: جمع رهن ويجمع على رُهن، وهو مصدر أُريد به الشيء المرهون، تسمية للمفعول بالمصدر، كالخلق يُراد به المخلوق، ومعنى الرهن أن يُجعل شيء من متاع المدين بيد الدائن توثقة له في دينه، على نحو لو لم يؤدّ

ص: 246


1- . مجمع البيان: 277/2، نقلاً عن تفسير القمي.

الراهن دينه، فعلى المرتهن استنقاذ حقّه من العين المرهونة بإذن الحاكم.

مقبوضة: أي مأخوذة من الراهن لتقع في يد المرتهن. والقبض شرط صحّة الرهن، أو شرط لزومه، والتفصيل على عاتق الفقه.

وعلى كلّ تقدير فالعين المرهونة أمانة مالكية فلا ينتفع المرتهن من الرهن إلّا إذا امتنع الراهن عن قضاء الدين.

أمانته: أُريد به الدين في ذمّة المدين.

التفسير

تبيّن ممّا سبق أنّ طريق التوثّق بالدين هو الكتابة منضمّاً إلى الاستشهاد. ثم إنّه يقع الكلام فيما إذا لم يوجد كاتب فيقوم الرهن مقامهما، كما يقول سبحانه:

(وَ إِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ) ، فالسفر قيد غالبي وليس مقوّماً للحكم، بل يجوز الرهان حتى إذا كان المتداينان في الحضر.

روى عبد اللّه بن جعفر (في قرب الإسناد) بسنده عن جعفر بن محمد عن آبائه عليهم السلام قال: «لقد قبض رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وإنّ درعه لمرهونة عند يهودي من يهود المدينة بعشرين صاعاً من شعير استلفها نفقة لأهله».(1)

ثمّ إنّ صاحب الحقّ لو ائتمن الذي عليه الحقّ ولم يستوثق لا بصك ولا رهن فعلى من عليه الحقّ أداء الحقّ بتمامه، كما يقول: (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) أُريد من البعض الأوّل الدائن ومن الثاني المديون، فالفقرة كالتكملة لصورة الرهن في السفر، والمعنى إنّ أمن صاحب الحقّ الذي عليه الحقّ، ووثق به وأتمنه على

ص: 247


1- . الوسائل: 12، الباب 2 من أبواب الدين والقرض، الحديث 9.

حقّه ولم يستوثق منه بصك ولا رهن، (فَلْيُؤَدِّ اَلَّذِي اُؤْتُمِنَ) : أي المديون الذي عليه الحقّ، يؤد (أَمانَتَهُ) الدين ولا يبخس منها شيئاً (وَ لْيَتَّقِ اَللّهَ رَبَّهُ) ولا يتّخذ اعتماد الدائن ذريعة لبخس حقّه.

ثمّ إنّ المنساق من الآية هو أنّ الدائن إذا أمن المديون فعليه ترك أخذ الرهن في السفر، ولكن المقصود هو الأعم، من غير فرق بين السفر والحضر، فمن جانب يرخص للدائن أن يترك أخذ الوثيقة بنحو من الأنحاء، ومن جانب آخر يوصي المؤتمن بأداء الحقّ واتّقاء ربّه.

ثمّ إنّه سبحانه ختم الآية بقوله: (وَ لا تَكْتُمُوا اَلشَّهادَةَ) في أي مورد من الموارد (وَ مَنْ يَكْتُمْها) : أي الشهادة مع علمه بالمشهود به (فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ) ، نسب الإثم إلى القلب لأنّ العزم على الكتمان يقع بالقلب، ولعلّ القلب كناية عن النفس الإنسانية، وهويته الواقعية (وَ اَللّهُ بِما تَعْمَلُونَ) : أي ما تسرّونه وتكتمونه (عَلِيمٌ) .

الآية الثالثة

قال سبحانه: (وَ إِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَ أَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) .(1)

المفردات

فنظرة: النظرة: التأخير، وهو اسم قام مقام «الإنظار»، نظير «الآخرة» تقوم مقام «الآخر»، يقال: رأيت فلاناً في آخرة الناس، أي في آخرهم.

ميسرة: بمعنى السعة والغنى.

ص: 248


1- . البقرة: 280.
التفسير

لمّا تقدّم في الآية السابقة على آيتنا هذه قوله: (وَ إِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ) وأنّ للمرابي أن يأخذ رأس ماله فقط ويترك الربا، فناسب بيان حكم الغريم المعسر الذي لا يستطيع ردّ رأس المال، فبيّن أنّ للدائن أحد خيارين:

الأوّل: إنظاره إلى ميسرة كما قال: (وَ إِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ) ، (كانَ) هنا تامّة لا تفتقر إلى خبر كقول الربيع بن ضبع الفزاري:

إذا كان الشتاء فأدفئوني *** فإنّ الشيخ يهدمه الشتاء

أي إن وجد ذو عسرة (فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ) الفاء جواب الشرط، بمعنى يمهل حتى يتمكّن من أداء الدين، والمراد بالمعسر مَن يعجز عن أداء ما عليه من الدين، فإذا تحقّق العجز وجب الإنظار وحرمت المطالبة والحبس.

ومع القدرة تحلّ المطالبة ويجوز الحبس لقوله صلى الله عليه و آله و سلم: «ليّ الواجد يُحلّ عرضه وعقوبته ما لم يكن دينه فيما يكره اللّه عزّ وجلّ».(1)

واللي: المطل، والعقوبة: الحبس، والعرض: المطالبة.(2)

وأمّا ما هو حدّ الإعسار فقد روي عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «هو إذا لم يقدر على ما يفضل من قوته وقوت عياله على الاقتصاد».(3)

ثمّ إنّ الإمهال لا يختص بمورد القرض بل يعمّ كلّ دين، وقد نسبه الطبرسي إلى أبي جعفر عليه السلام. ثمّ لو افترضنا أنّ المديون لم يستطع أداء دينه فقد روي عن

ص: 249


1- . الوسائل: 13، الباب 8 من أبواب الدين والقرض، الحديث 4.
2- . كنز العرفان: 57/2.
3- . مجمع البيان: 265/2.

الإمام الباقر عليه السلام أنّه قال: (إِلى مَيْسَرَةٍ) معناه: إلى أن يبلغ خبره الإمام فيقضي عنه من سهم الغارم إذا أنفقه في المعروف.(1)

ثمّ إنّ ما ذكره الطبرسي فهو المروي في «الكافي» عن محمد بن سليمان عن رجل من أهل الجزيرة يكنّى أبا محمد، قال: سأل الرضا عليه السلام رجلٌ وأنا أسمع، فقال له: جعلت فداك إنّ اللّه عزّ وجلّ يقول: (وَ إِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ) أخبرني عن هذه النظرة التي ذكرها اللّه عزّ وجلّ في كتابه، لها حدّ يُعرف، إذا صار هذا المعسر إليه لابدّ له من أن ينتظر، وقد أخذ مال هذا الرجل وأنفقه على عياله، وليس له غلّة ينتظر إدراكها، ولا دين ينتظر محلّه، ولا مال غائب ينتظر قدومه؟ قال: «نعم، ينتظر بقدر ما ينتهي خبره إلى الإمام فيقضي عنه ما عليه من سهم الغارمين إذا كان أنفقه في طاعة اللّه عزّ وجل، فإن كان أنفقه في معصية اللّه عزّ وجلّ فلا شيء له على الإمام»، قلت: فما لهذا الرجل الذي ائتمنه وهو لا يعلم فيما أنفقه؟ في طاعة اللّه أم في معصيته؟ قال: «يسعى له في ماله فيردّه عليه وهو صاغر».(2)

الثاني: على الدائن مسامحة المدين بإسقاط الدين عنه وإبرائه، وقد أُشير إليه بقوله: (وَ أَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ) : أي إن تتصدّقوا فهو خير لكم (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) ما في هذا العمل من الفوائد، ويعلم أثر هذا العمل من رواية رواها معاوية بن عمّار الدهني، قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السلام يقول: «قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:

مَن أراد أن يظلّه اللّه في ظلّ عرشه يوم لا ظلّ إلّاظلّه، فلينظر معسراً أو ليدع له من5.

ص: 250


1- . مجمع البيان: 265/2.
2- . الكافي: 94/5، برقم 5.

حقّه».(1)

فلو فُسّر التصدّق في الآية بالإبراء تكون النتيجة أنّه لا رجوع بعده، لأنّ إسقاط الدين بمعنى إخلاء ذمّته عنه، ومعه كيف يمكن الرجوع. نعم لا يشترط فيه القبول ولا حضور المديون، لأنّ الدين حقّ للدائن فله أن يطالبه وله أن يسقطه.

ثمّ إنّ قوله سبحانه: (خَيْرٌ لَكُمْ) لعلّه إشارة إلى أنّ الطريق الثاني أفضل من الأوّل لأنّ استيفاء الدين لا يترتّب عليه الثواب بخلاف التصدّق فإنّه يكون مقروناً بالثواب إذا قصد القربة، ولذلك أتمّ سبحانه الآية بقوله: (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) .8.

ص: 251


1- . تفسير العياشي: 279/1، برقم 618.

العقود الشرعية

4. الضمان والكفالة
تمهيد

عُرّف الضمان بأنّه عقد شرّع للتعهّد بمال أو نفس(1)، والتعهّد بالمال قد يكون ممّن عليه للمضمون عنه مال، وقد لا يكون، والضمان المطلق ينصرف إلى مَن ليس عليه للمضمون عنه مال.(2)

فهل الضمان عبارة عن نقل المال من ذمّة المضمون عنه إلى ذمّة الضامن، فليس للمضمون له إذا قبل الضمان إلّامطالبة الضامن لبراءة ذمّة المضمون عنه؟ أو هو عبارة عن ضمّ ذمّة إلى ذمّة؟ فالإمامية على الأوّل، والفقهاء الأربعة على الثاني، واستدلّ للقول الأوّل بما رواه الشيخ في «الخلاف» عن أبي سعيد الخدري، قال:

كنّا مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في جنازة، فلمّا وضعت قال: هل على صاحبكم من دين؟ قالوا: نعم درهمان، فقال: صَلُّوا على صاحبكم، فقال علي عليه السلام: هما عليّ يا رسول اللّه وأنا لهما ضامن، فقام رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فصلى عليه، ثمّ أقبل على عليّ عليه السلام، فقال:

«جزاك اللّه عن الإسلام خيراً، وفكّ رهانك كما فككت رهان أخيك».(3)

ص: 252


1- . قوله: «أو نفس» لأجل إدخال الكفالة في التعريف فالضمان في مقابل المال، والكفالة في مقابل النفس.
2- . لاحظ: شرائع الإسلام: 107/2.
3- . الخلاف: 8/2؛ الوسائل: 13، الباب 3 من أبواب كتاب الضمان، الحديث 2.

غير أنّ السائد في أكثر المجتمعات هو ضمّ الذمّتين احتياطاً، حتى إذا لم يتمكّن الدائن من استيفاء دينه من الضامن، يرجع إلى المضمون عنه.

وعلى كلّ تقدير فهو عقد مشروع تدور عليه رحى التجارة في غالب الأوقات. ويظهر من الآيات التالية كونه مشروعاً في الأُمم السالفة.

الآية الأُولى

قال سبحانه: (قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ اَلْمَلِكِ وَ لِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَ أَنَا بِهِ زَعِيمٌ) .(1)

المفردات

صواع الملك: إناء يُشرب به ويُكال، وهو يذكّر ويؤنّث.

زعيم: الزعيم: المتكفّل، وربما يطلق على الرئيس، وهي من الزعامة بمعنى الكفالة.

لمّا أراد يوسف أن يحتفظ بأخيه إلى جنبه، فألهمه اللّه سبحانه من أجل تحقيق بغيته تدبيراً محكماً، ولأجل ذلك أمر يوسف عليه السلام بعض فتيانه بدسّ الوعاء الذي يُسقى به في الرحل الخاص بأخيه بنيامين عند تجهيزهم بالطعام، قال سبحانه: (فَلَمّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ اَلسِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ) ، ولمّا أراد أبناء يعقوب الانصراف، نادى المنادي في القافلة: (أَيَّتُهَا اَلْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ) وعندئذٍ صعق أبناء يعقوب لهذا الخبر الذي يُسيء إلى سمعتهم ويغلق عليهم باب

ص: 253


1- . يوسف: 72.

الحصول على الطعام في هذه الظروف العصيبة، ولذا سارعوا إلى فتيان يوسف ليسألوهم عن حقيقة الأمر: (قالُوا وَ أَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ما ذا تَفْقِدُونَ) فأجابهم الفتيان:

(قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ اَلْمَلِكِ) وأضافوا (وَ لِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ) : أي ما يحمله البعير من الطعام بالإضافة إلى ما يستحقّ (وَ أَنَا بِهِ زَعِيمٌ) : أي ضمين وكافل.

الاستدلال بالآية على مشروعية الضمان في الأُمم السابقة، مبني على أنّ عاقد الجعالة، غير الضامن، حتى يتعدّد المضمون عنه والمضمون له، وإلّا فلا يصحّ الاستدلال لدى الاتّحاد.

وقد دلّت هذه الفقرة على مشروعية الضمان في الأُمم السابقة حيث إنّ النبيّ يوسف عليه السلام كان له إشراف على عمل فتيانه. وقد مرّ منّا سابقاً أنّ القرآن الكريم إذا نقل شيئاً من الأحكام السائدة في الأُمم المتقدّمة، فهو حجّة علينا ما لم يثبت نسخه، وهذا ممّا لم يثبت نسخه، فإنّ القرآن كتاب هداية، فما يذكره إنّما هو لأجل العبرة والاعتبار.

إلى هنا تمّ تفسير الآية بحرفيتها. وقد قال الفاضل المقداد: في صدر الآية حكمان:

1. مشروعية الجعالة، أعني قوله: (وَ لِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ) ، والجعالة تقع على كلّ عمل محلّل مقصود وإن كان مجهولاً.

2. مشروعية ضمان مالها لأنّه وإن لم يكن لازماً لكنّه آل إليه.(1)

أقول: قوله أخيراً «لكنّه آل إليه» بصدد تصحيح الضمان في المورد، حيث2.

ص: 254


1- . كنز العرفان: 66/2.

إنّه اشتهر بينهم بطلان ضمان ما لم يثبت أو بطلان ضمان ما لم يجب، والمورد من هذا القبيل حيث لم يثبت لمن جاء به شيء ما لم يؤت بالصواع حتى يضمنه المؤذن، فأجاب عنه قدس سره بأنّه آل إليه إلى لزوم العقد ووجدان الصواع.

ولكن الحقّ أنّ باب الضمان أوسع من ذلك فكما يصحّ الضمان على ما وجب وتحقّق، يصحّ على ما فيه اقتضاء الثبوت كالضمان فيما يحتمل أن يكون المبيع مستحقّاً للغير، نفترض أنّ زيداً يشتري لباساً من عمرو، ولكنّه يحتمل أن يكون مسروقاً أو مغصوباً، فيضمنه الثالث، فهو صحح بلا إشكال، لكفاية المقتضي، أعني: البيع الذي هو في مظنة ثبوت الضمان.

الآية الثانية

قال سبحانه: (سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ) (1).

لمّا تقدّم في الآيات السابقة الحديث عن عدم مساواة المسلمين مع المجرمين يوم القيامة كما في قوله تعالى: (أَ فَنَجْعَلُ اَلْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ) (2)، وكان الظاهر من المشركين هو التسوية، ولذلك ردّ عليهم بقوله: (ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) ، أمر النبي صلى الله عليه و آله و سلم أن يسألهم بقوله: (سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ) : أي سلهم يا محمد أيّهم بذلك زعيم، أي أيّهم كفيل بأنّ لهم في الآخرة ما للمسلمين.(3) فتدلّ الآية على مشروعية الكفالة حين نزول الآية، وأنّ الآية تحاكمهم بأنّه ليس فيكم أحدّ يضمن تلك التسوية ويتكفّلها.

ص: 255


1- . القلم: 40.
2- . القلم: 35.
3- . مجمع البيان: 105/10.

العقود الشرعية

5. الصلح
تمهيد

الصلح: عقد شُرّع لقطع التجاذب، وليس فرعاً على غيره، ولو أفاد فائدته.(1)

والحقيقة أنّ الصلح رابطة بين شخصين، كما أنّ البيع نوع رابطة بين المالين، ولذلك يقول سبحانه: (فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) (2) بخلاف البيع فإنّه مبادلة مال بمال. ولذلك فلو أفاد الصلح معنى (فائدة) البيع، أي تمليك شيء بشيء، لا يكون دليلاً على كون الصلح فرع البيع؛ بل هو أمر مستقل تختلف نتائجه حسب اختلاف الموارد، ولذلك قال المحقّق: «وليس فرعاً على غيره».

وأمّا الآيات التي ذكرت الصلح، فهي على قسمين: 1. ما يدلّ على الصلح مع المعتدي أي التصالح بالعقد، 2. ما يدلّ على حسن التعامل نظير قوله في مورد الأنفال: (وَ أَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ) (3)، وكان اللازم الاقتصار على القسم الأوّل، لكنّنا اقتفينا أثر المشايخ الذين درسوا باب الأحكام كالفاضل المقداد في كنزه، فلاحظ.

ص: 256


1- . شرائع الإسلام: 121/2.
2- . الحجرات: 10.
3- . الأنفال: 1.
الآية الأُولى

قال سبحانه: (وَ إِنْ طائِفَتانِ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ اِقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى اَلْأُخْرى فَقاتِلُوا اَلَّتِي تَبْغِي حَتّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اَللّهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَ أَقْسِطُوا إِنَّ اَللّهَ يُحِبُّ اَلْمُقْسِطِينَ) .(1)

قد مرّ تفسير الآية في كتاب الجهاد عند دراسة أحكام البغاة فلاحظ.

الآية الثانية

قال سبحانه: (إِنَّمَا اَلْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَ اِتَّقُوا اَللّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) .(2)

هذه الآية تصف المجتمع الإيماني بأنّه مجتمع أخويّ أي أنّ الرابطة بين أفراده هي رابطة الإخوّة، ووجه التعبير بها هو أنّ العلاقة القوية التي ليس فوقها علاقة مثلها بين إنسانين يعيشان في مستوى واحد هي علاقة الإخوّة، وأمّا علاقة الأُبوّة والبنوّة أو الأُمومة والبنتية وإن كانت أشدّ من علاقة الإخوّة والأُختية، لكن الأب والابن لا يعيشان في مستوى واحد، وهكذا الأُم والبنت، ولذلك اختار سبحانه في الدعوة إلى الوحدة والانسجام علاقة الإخوّة وقال: (إِنَّمَا اَلْمُؤْمِنُونَ

ص: 257


1- . الحجرات: 9.
2- . الحجرات: 10.

إِخْوَةٌ) .

ثم إنّ هنا سؤالاً وهو: لماذا خصّ المؤمنين بتلك العلاقة القوية، ولم يوسّع موضوعها حتى يصفَ المجتمع الإنساني كلّه بهذه الرابطة، كما نراها في المادّة الأُولى من بيان منظمة الأُمم المتحدة؟

والجواب عن ذلك واضح وهو: أنّ هذه العلاقة التي يصوِّرها الإسلام بين المؤمنين ليست عنواناً تشريفياً وإنّما هي عنوان تترتّب عليه تكاليف ووظائف، ولذلك يقول في المقام بعد بيان الإخوّة (فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) مشعراً بأنّ هذه الإخوّة ليست أمراً لفظياً مبنياً على المجاملة، وإنّما هي عنوان يفرض تكاليف على عاتق الأُمة الإسلامية، ولذلك وردت الإخوّة الإسلامية موضوعاً لتكاليف كثيرة في الكتاب والسنّة.

وهذا إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على لزوم وجود الوحدة الفكرية عقيدة وهدفاً بين الأَخوين، فهذا هو الذي يبعثهما على التعاون والتكاتف، وإلّا فلو اختلفا عقيدة وهدفاً، لَما وجد المؤمن في نفسه حافزاً للتعامل بهذا الأُسلوب.

وحصيلة الكلام: أن كلّ مجتمع يدور على محور واحد وهو الرؤية الكونية الواحدة (الإيمان باللّه واليوم الآخر)، يجد في نفسه ميلاً إلى التعاون مع الآخرين وبناء علاقات سليمة معهم، وعلى العكس من ذلك فلو تخلّى المجتمع عن هذا الأساس الفكري الموحّد لرأيته متّحداً ظاهراً، متفسّخاً من الداخل، وإن نادوا بالوحدة فإنّما يقولون ذلك بألسنتهم، وقلوبهم شتّى، ولذلك خصّ اللّه سبحانه تلك الأُخوّة بالمؤمنين لا بكلّ الناس، ومع ذلك يرى لكل إنسان وإن كان كافراً حقوقاً خاصّة يتمتّع بها داخل المجتمع الإسلامي، ومن هنا قال الإمام علي عليه السلام في

ص: 258

عهده لمالك الأشتر: «فَإِنَّهُمْ - يعني الرعيّة أو الناس - صِنْفَانِ: إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي الدِّينِ، أَوْ نَظِيرٌ لَكَ فِي الْخَلْقِ»(1).

إنّ تنزيل المؤمنين منزلة الإخوة لا يريد به القرابة الشرعية كما لا يريد به عنواناً حزبياً يجمع الأفراد في خط سياسي، بل هي تشريع مبني على أساس وجود الإيمان فيهم، تترتّب عليه آثار وأحكام كلّها تشير إلى أنّ الاخوّة ليست شعاراً أجوف أو رمزاً حزبياً، بل هي أُلفة بين المؤمنين وتحابٌّ في اللّه، وتواصل بينهم، ولذلك قال الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم: «مثل المؤمنين في توادّهم وتعاطفهم وتراحمهم مثل الجسد إذا اشتكى منه شيء تداعى له سائر الجسد بالسهر والحُمّى»(2).

وورد عنه أيضاً صلى الله عليه و آله و سلم: «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يسلمه»(3).

وقال صلى الله عليه و آله و سلم أيضاً: «مثل الأخوين مثل اليدين تغسل إحداهما الأُخرى».(4)

الآية الثالثة
اشارة

قال سبحانه: (وَ إِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَ حَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اَللّهُ بَيْنَهُما إِنَّ اَللّهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً) .(5)

ص: 259


1- . نهج البلاغة: قسم الرسائل، برقم 53.
2- . مسند أحمد: 4/270.
3- . المحجّة البيضاء: 3/332.
4- . الكافي: 2/133، باب إخوّة المؤمنين بعضهم لبعض.
5- . النساء: 35.
المفردات

شقاق: الشقّ: الخرم الواقع في الشيء، يقال: شققته نصفين. وأُريد هنا المخالفة، وكونه في شق، والزوجة في شقّ آخر.

التفسير

كان الموضوع في الآية المتقدّمة على هذه الآية هو نشوز المرأة، فأمر سبحانه بأن يكون العلاج بالهجر في المضاجع أو الضرب غير المبرح.

وستوافيك دراسة الآية في كتاب النكاح.

وأمّا آيتنا هذه فهي تعالج مرحلة خطيرة في حياة الأُسرة وهي مرحلة حصول الشقاق بين الزوج والزوجة، بحيث ينشق كلّ إلى جانب مباين، فلا يتمكّن الزوج ولا الزوجة من علاجها.

وإلى هذه المرحلة يشير سبحانه بقوله: (وَ إِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما) ففي هذه الحالة يقوم الحاكم - أو من يقوم مقامه الذي أُنيط به تنفيذ الأحكام - بتشكيل محكمة صالحة يحضر فيها من كلا الطرفين ممّن لهم فكر صالح لحفظ بناء الأُسرة، كما يقول: (فَابْعَثُوا) الخطاب للإمام أو لمَن يقوم مقامه (حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَ حَكَماً مِنْ أَهْلِها) . ثم إنّ القيام بتشكيل هذه المحكمة تارة يكون بمباشرة الإمام وأُخرى بمَن يأمره الإمام أن يشكّلها، ففي «الدر المنثور» عن عبيدة السلماني أنّ أمير المؤمنين علي عليه السلام أمر الفئامين(1) الّذين جاءوا مع الرجل والمرأة «أن يبعثوا

ص: 260


1- . الجماعة الكثيرة.

حكماً من أهله وحكماً من أهلها».(1)

قلنا إنّ الخطاب في قوله: (فَابْعَثُوا حَكَماً) لمَن بيده نظام الأُمور، الّذي له كلمة نافذة، ولذلك يقول الشيخ الطوسي: إنّ المأمور ببعث الحكمين هو السلطان الّذي يترافعان إليه.(2)

ثم إنّه سبحانه قيّد المبعوث بالأهل لأنّهم أقرب إلى الاطّلاع على الخفايا ومناهج الإصلاح، والظاهر عدم الانحصار بهم خصوصاً مع عدمهم أو عدم صلاحيتهم.(3)

ثم إنّه يشترط في المبعوث الكفاءة لهذا الأمر وهي تختلف حسب موارد اختلاف الزوجين، فلابدّ أن يكونا بالغين عاقلين، بعيدين عن إعمال الغرض، متحرّين رفع الشقاق وإيجاد الوئام.

نعم ظاهر الآية الإطلاق من غير فرق بين الذكر والأُنثى.

قوله: (إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اَللّهُ بَيْنَهُما) الظاهر أنّ الضميرين يرجعان إلى الزوجين، أي إن أراد الزوجان نوعاً من الإصلاح من غير عناد ولجاج يوفق اللّه بينهما.

وربّما يقال: إنّ الضميرين يرجعان إلى الحكمين، فإن أرادا إصلاح شأن الزوجين دون تحيّز إلى جانب دون جانب فاللّه سبحانه يوفّق بينهما، ويجمع رأيهما على الصواب (إِنَّ اَللّهَ كانَ) ولا يزال (عَلِيماً) بحقائق الأُمور (خَبِيراً)1.

ص: 261


1- . تفسير الدر المنثور: 2/525؛ تفسير العياشي: 1/241.
2- . التبيان في تفسير القرآن: 3/192.
3- . آلاء الرحمن: 2/401.

بالسرائر والنيّات.

ثم إنّ صاحب الجواهر ممّن رجّح القول الثاني ورتّب عليه قوله: وينبغي للحكمين إخلاص النيّة في السعي وقصد الإصلاح فمَن حسنت نيّته فيما تحرّاه أصلح اللّه مسعاه، وكان ذلك سبباً لحصول مسعاه، كما ينبّه عليه قوله تعالى: (إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اَللّهُ بَيْنَهُما) ومفهوم الشرط يقتضي أنّ عدم التوفيق بين الزوجين يدلّ على فساد قصد الحكمين وأنّهما لم يجتمعا على قصد الإصلاح، بل في نية أحدهما أو هما فساد، فلذلك لم يبلغا المراد، والظاهر أنّه هو السبب في الفساد في تحكيم ابن العاص وأبي موسى الأشعري في أيّام صفين.(1) فإنّ نيّة كلّ منهما كانت فاسدة وإن كان الأوّل أشدّ من الثاني، ولذا ترتّب عليه ما ترتّب. واللّه العالم.(2)

لو اتّفقا على الفراق

ثم إن اتّفقا على بقاء علقة الزوجية فهو، وإلّا فلو رأوا أنّ الصلاح في التفريق بينهما بالطلاق، فهو يحتاج إلى إذن الزوج.

روى محمد بن مسلم عن أحدهما عليهما السلام؛ قال: سألته عن قول اللّه عزّوجلّ:

(فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَ حَكَماً مِنْ أَهْلِها) ؟ قال: «ليس للحكمين أن يفرّقا حتّى يستأمرا».(3)

ولكن يعارضه ما رواه أبو بصير عن أبي عبداللّه عليه السلام في قول اللّه عزّوجلّ:

ص: 262


1- . الكامل لابن الأثير: 2/318.
2- . جواهر الكلام: 31/217-218.
3- . الوسائل: الباب 12 من أبواب القسم والنشوز والشقاق، الحديث 1.

(فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَ حَكَماً مِنْ أَهْلِها) قال: «الحكمان يشترطان، إن شاءا فرّقا وإن شاءا جمعا، فإن جمعا فجائز، وإن فرّقا فجائز».(1)

الآية الرابعة
اشارة

قال سبحانه: (وَ إِنِ اِمْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَ اَلصُّلْحُ خَيْرٌ وَ أُحْضِرَتِ اَلْأَنْفُسُ اَلشُّحَّ وَ إِنْ تُحْسِنُوا وَ تَتَّقُوا فَإِنَّ اَللّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) .(2)

المفردات

نشوزاً: النشز: المرتفع من الأرض، ونشوز البعل هو رفع نفسه عليها.

الشح: الإفراط في الحرص على الشيء، من غير فرق بين تعلّقه بالمال أو غيره، يقال: شحيح بمودّتك.

التفسير

إنّ الاختلاف بين الزوجين تارة يحصل من ترفّع الزوجة على الزوج، وتصير النتيجة عدم طاعتها له، وهذا ما ذكره سبحانه في الآية 34 من سورة النساء، وأمر بعلاج النشوز بوجوه ثلاثة. ويأتي الكلام فيها في كتاب النكاح؛ وأُخرى يكون من ترفّع البعل على الزوجة، وتظهر أماراته من معاشرته لها، فهذا ما تذكره آيتنا هذه؛ وثالثة يكون من ترفّع كلّ على الآخر، وقد مرّ الحديث عنه في الآية

ص: 263


1- . الوسائل: الباب 12 من أبواب القسم والنشوز والشقاق، الحديث 2.
2- . النساء: 128.

الثالثة.

وعلى هذا يقول سبحانه: (وَ إِنِ اِمْرَأَةٌ خافَتْ) : أي علمت أو ظنّت (نُشُوزاً) : أي إظهار التفوّق والخشونة قولاً وفعلاً، أو أقل من النشوز وإليه يشير بقوله: (أَوْ إِعْراضاً) : أي السكوت عن الخير والشرّ على نحو يحكي عن تنفّره، فاللّه سبحانه لا يرضى بالتفرّق وانحلال الأُسرة، فيشير إلى نوع تصالح بينهما ويقول: (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما) : أي لا تثريب عليه ولا عليها (أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما) ويتّفقا على الصلح وتبقى العصمة، وذلك بتنازل المرأة عن بعض مالها من الحقوق.

نعم إنّما يحلّ للرجل ما يأخذه منها إذا كان برضاها، حيث تعتقد بأنّه خير لها من أن يطلّق. ثمّ إنّه سبحانه يظهر رضاه بالصلح ويقول: (وَ اَلصُّلْحُ خَيْرٌ) من الطلاق والفراق. واللام في قوله: (وَ اَلصُّلْحُ) إشارة إلى الصلح بين الزوجين وهو خير من التفرقة، لا أنّ الصلح مطلقاً جائز.

نعم الصلح خير، هذا من جانب ومن جانب آخر أنّ كلّ إنسان حريص على ماله وحقوقه، فالنساء حريصات على حقوقهن، كما أنّ الرجال حريصون على أموالهم كما في قوله تعالى: (وَ أُحْضِرَتِ اَلْأَنْفُسُ اَلشُّحَّ) : أي جُعل الشحّ حاضراً لها لا يغيب عنها أبداً، ولا تنفك عنه، إذ هي مطبوعة له، فيكون كناية عن أنّ الأنفس مطبوعة على الشح، مجبولة عليه. فتعديل الشح في المقام، أصلح لحالهما.

ثمّ إنّ الحرص والطمع بنفسهما من أسباب الحياة والبقاء، إذ لولا الحرص لما اكتسب الإنسان لغده شيئاً ولما ادّخر لأولاده مالاً، ولكن يجب أن تُعدّل هذه

ص: 264

الغريزة كما يقول: (وَ مَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ اَلْمُفْلِحُونَ) (1) وأمّا المقام فعلى الزوجة أن تتنازل عن بعض حقوقها وتعدّل حرصها على مالها، فالتنازل هنا لا يُعدُّ عيباً بل كمالٌ؛ لأنّها تبذل مالها وحقوقها في سبيل تحقيق هدف أعلى وأنبل، ولذلك يقول سبحانه: (وَ إِنْ تُحْسِنُوا) المعاشرة (وَ تَتَّقُوا) النشوز والإعراض (فَإِنَّ اَللّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) .

والآية تدلّ على اهتمام التشريع الإسلامي بحفظ العلاقة الزوجية وعدم انقطاعها مهما أمكن من بذل بعض الحقوق، إلّاإذا تقطّعت الأسباب وبلغت كراهة كلّ من الرجل والمرأة إلى حدّ لا يرجى اتّفاقهما على استمرار الحياة المشتركة.

ودراسة هذه الآيات في المقام أغنانا عن دراستها في كتابي النكاح والطلاق.

الآية الخامسة
اشارة

قال سبحانه: (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلاّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ اَلنّاسِ وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ اِبْتِغاءَ مَرْضاتِ اَللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) .(2)

المفردات

نجواهم: النجوى: هو اسم مصدر يقوم مقام المصدر وهو السرّ بين الاثنين.

ص: 265


1- . الحشر: 9.
2- . النساء: 115.

المعروف: كلّ ما استحسنه العقل أو الشرع، وذكره بعد الصدقة من قبيل ذكر العام بعد الخاص، وإنّما أفرد الصدقة بالذكر رغم أنّها من أقسام المعروف لأنّها الفرد الكامل في الحاجة إلى النجوى بالطبع.

التفسير

الآية ناظرة إلى المسارّة في أُمور الناس أو أُمور المسلمين لغاية التخطيط للإضرار بهم، ولذلك نهى عنها سبحانه وقال: (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ) السرّ بين الاثنين، لأنّ الغالب عليه هو الإضرار بالآخرين، ثمّ استثنى موارد ثلاثة:

1. (إِلاّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ) فإنّ إظهارها قد يؤذي المتصدّق عليه ويضع من كرامته.

2. (أَوْ) أمر ب (مَعْرُوفٍ) فالذي يأمر بالمعروف على مسمع من الناس، يورث الإيذاء، ولأجل ذلك كانت النجوى به أبعد عن الأذية، وأقرب إلى القبول والإمضاء.

3. (أَوْ) أمر ب (إِصْلاحٍ بَيْنَ اَلنّاسِ) ، فالإصلاح بينهم - أيضاً - من الخير الذي قد يترتّب على إظهاره والتحدّث به في الملأ شرّ كثير، فالإصلاح بين الناس يحتاج فيه إلى الكتمان.(1)

بقي هنا كلام وهو أنّ المستثنى منه هو النجوى الذي هو السرّ بين الاثنين، وأمّا المستثنى منه فهو الشخص، كما قال: (إِلاّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ) ، فتكون الآية نظير قوله تعالى: (وَ لكِنَّ اَلْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ) (2)، فإنّ البرّ مصدر أُخبر عنه

ص: 266


1- . تفسير المنار: 206/5-207 بتصرف.
2- . البقرة: 177.

بالشخص. وقد مرّت الإجابة عن ذلك في البحوث السابقة. وذكرت في المقام وجوه أوضحها تقدير كلمة «نجوى» بأن يقال: (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلاّ) نجوى (مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ اَلنّاسِ) .

الآية السادسة
اشارة

قال سبحانه: (يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلْأَنْفالِ قُلِ اَلْأَنْفالُ لِلّهِ وَ اَلرَّسُولِ فَاتَّقُوا اَللّهَ وَ أَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَ أَطِيعُوا اَللّهَ وَ رَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) .(1)

المفردات

الأنفال: جمع نفل وهو الزيادة على الشيء، وأُريد هنا الغنائم الحربية.

التفسير

الآية تدلّ على أمرين:

1. وجود السؤال عن حكم الأنفال.

2. وجود الشقاق والاختلاف بين المجاهدين. و الأمر بالتقوى وإصلاح الحال.

أمّا الأوّل فيدلّ عليه قوله سبحانه: (يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلْأَنْفالِ) : أي لمَن هي، وبيد من تقع؟ فأُجيبوا بقوله سبحانه: (قُلِ اَلْأَنْفالُ لِلّهِ وَ اَلرَّسُولِ) وبذلك قطع النزاع في أمر الأنفال. ثم جاء في آية الخمس ما يبيّن مصارف الخمس من الغنائم،

ص: 267


1- . الأنفال: 1.

فالأخماس الأربعة للمجاهدين والخمس الخامس للأصناف الستة.

وأمّا الثاني فقوله: (فَاتَّقُوا اَللّهَ وَ أَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ) وتدلّ هذه الفقرة على حصول النزاع والتخاصم بين القوم في أمر الأنفال، ولذلك يقول: (فَاتَّقُوا اَللّهَ) : أي اتركوا المنازعة وارضوا بما حكم به الرسول (وَ أَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ) : أي الحال الذي بينكم، واجتنبوا الجدال، والشقاق وكونوا إخواناً متحابّين. وقد مرّت دراسة الآية على وجه التفصيل في مبحث الجهاد.

إلى هنا تمّ الكلام في دراسة الصلح بالمعنى الأعم، سواء أكان عقداً أو غيره.

وكان اللازم الاقتصار على الأمر الأوّل لأنّ موضوع البحث هو العقود، وقسم من هذه الآيات وإن ورد في الصلح ولكن أُريد به التصالح العملي والأخلاقي والاجتناب عن الجدال، غير أنّا اقتفينا في ذلك كتاب «كنز العرفان» وغيره.

***

تنبيه

قوله تعالى: (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ يُقِيما حُدُودَ اَللّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا اِفْتَدَتْ بِهِ) (1). له علاقة بموضوع الصلح، كما له علاقة بالطلاق، فلنترك البحث فيها إلى كتاب أحكام الطلاق، فانتظر.

ص: 268


1- . البقرة: 229.

العقود الشرعية

6. الإيداع والوديعة
تمهيد

وربما يعبّر عنه بالوديعة وتعرّف بأنّها عبارة عن استنابة في الحفظ، ويفتقر إلى إيجاب وقبول ويقع بكلّ عبارة دلّت على معناها، ويكفي الفعل الدالّ على القبول. ولو طرح الوديعة عنده لم يلزمه حفظها إذا لم يقبلها، وكذلك لو أكره على قبضها لم تصر وديعة ولا يضمنها لو أهمل.(1)

لما كانت الحياة في القرون السابقة حياة بسيطة، هذا من جانب ومن جانب آخر عدم توفّر الأمن في البيوت خصوصاً إذا كان صاحب البيت شخصاً مغموراً، فلم يكن بد لأصحاب الأمانات إلّاأن يودعوها عند الأُمناء من الناس الذين كان بإمكانهم حفظ الودائع. فصار ذلك سبباً لتشريع أحكام الوديعة. ولذلك فعلينا دراسة ما ورد من الآيات حول هذا العقد.

الآية الأُولى
اشارة

قال سبحانه: (إِنَّ اَللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا اَلْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَ إِذا

ص: 269


1- . شرائع الإسلام: 163/2.

حَكَمْتُمْ بَيْنَ اَلنّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اَللّهَ نِعِمّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اَللّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً * يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اَللّهَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ وَ أُولِي اَلْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْ ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اَللّهِ وَ اَلرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَ أَحْسَنُ تَأْوِيلاً) .(1)

المفردات

الأمانات: يتبادر من الأمانة الوديعة المالية عند الغير، غير أنّ مقتضى صلة الآية بما قبلها إرادة الأعم، ويشمل الأُمور المعنوية المودعة عند الإنسان، كما لو كان سرّاً أو نصيحة وغير ذلك.

التفسير

الأمانة مشتقّة من الأمن الحاصل من حسن الظن بالمستأمن فيجب عليه أن يكون كذلك فتحرم عليه الخيانة والتعدّي والتفريط بإهمال أسباب حفظها من المؤذيات، ويختلف ذلك بحسب اختلاف الأمانة في كيفية حفظها عرفاً.(2)

تتضمّن هذه الآية بيان أمرين:

1. وجوب أداء الأمانة إلى أهلها.

2. وجوب القضاء بالعدل والحكم به.

إنّ هذه الآية ومابعدها التي تأمر بإطاعة اللّه وإطاعة الرسول وأُولي الأمر

ص: 270


1- . النساء: 58.
2- . كنز العرفان: 76/2.

«منكم» من غرر الآيات في سورة النساء، وفي الحقيقة يُعدّ مضمونهما أساساً للحكومة الإسلامية، ويشكّلان اللحمة والسداة لها.

إنّ الحكومة التي تضمن نجاة الشعب ورُقيّه وتقدّمه، مبنية على أمرين:

1. قانون رصين.

2. حاكم عادل.

فالآية الأُولى تشير إلى الأمر الأوّل وهو ردّ الأمانات إلى أهلها والحكم بين الناس بالعدل، والآية الثانية تأمر بإطاعة اللّه والرسول وأُولي الأمر، وعلى هذا فعلى الباحث أن يتدبّر في مضمون الآيتين حتى يصل إلى ما أراده اللّه سبحانه من الخير للأُمّة.

فلنفسّر الآية الأُولى فقط لأنّها هي مورد الدراسة.

إنّ في هذه الآية احتمالين:

الأوّل: أنّ الآية بحكم صلتها بما قبلها تهدّد اليهود، حيث إنّهم لم يؤدّوا الأمانات الإلهية إلى أهلها، فيكون الغرض من الخطاب للمؤمنين، الردّ على علمائهم وأحبارهم حيث كتموا أحكام اللّه سبحانه فراج بينهم الربا مع أنّهم نهوا عنه وكتموا بشائر النبي صلى الله عليه و آله و سلم فخانوا أمانات اللّه سبحانه، ولذلك يقول تعالى: (إِنَّ اَللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا اَلْأَماناتِ إِلى أَهْلِها) ، وأمّا قوله سبحانه: (وَ إِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ اَلنّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) ففيه أيضاً ردّ على اليهود حيث إنّ كعب بن الأشرف وغيره جاروا في الحكم، فرجّحوا الوثنية على التوحيد.

وعلى هذا الاحتمال فيكون نطاق الآية ضيّقاً إذ أنّها تكون ناظرة إلى رد عمل اليهود وقضائهم وحكمهم. ودعوة المؤمنين على خلافهم في مورد

ص: 271

الأمانات. ويكون المقصود: الدعوة إلى العمل بما في الكتب السماوية من الأحكام لأنّها أمانات اللّه سبحانه وردّها عبارة عن تبليغها والعمل بها.

الثاني: أنّ الآية ضابطة كلّية في مجال الأمانات من غير فرق بين عقيدة وتشريع كما مرّ في الاحتمال الأوّل، أو سرّ من الأسرار، أو أمر مالي، حتى الأولاد فهم أمانات اللّه بيد الوالدين، كما أنّ الفقرة الثانية كذلك، دعوة إلى القضاء بالحقّ في أي مجال من المجالات، فيكون نطاق الآية وسيعاً ويشكّل أساساً للمجتمع الراقي المزدهر. وفي الوقت نفسه لا مانع من أن تكون ردّاً على اليهود لكن تلويحاً لا تصريحاً.

والذي يؤيّد المعنى الثاني عمل النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم وتطبيق الآية على عمله، قال السيوطي: لمّا فتحَ رسولُ اللّه مكّة دعا عثمان بن أبي طلحة، فلمّا أتاه قال: أرني المفتاح. فأتاه به، فلمّا بسط يده إليه قدم العباس فقال: يا رسول اللّه بأبي أنت وأُمّي اجعله لي مع السقاية. فكفّ عثمان يده، فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: أرني المفتاح يا عثمان. فبسط يده يعطيه، فقال العباس كلمته الأُولى. فكفّ عثمان يده، ثم قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «يا عثمان إن كنت تؤمن باللّه واليوم الآخر فهاتني المفتاح». فقال:

هاك بأمانة اللّه. فقام ففتح باب الكعبة...

ثم قال صلى الله عليه و آله و سلم: «يا أيّها الناس هذه القبلة، ثم خرج فطاف بالبيت»، ثم نزل عليه جبريل - فيما ذكر لنا - برد المفتاح، فدعا عثمان بن أبي طلحة فأعطاه المفتاح، ثم قال: (إِنَّ اَللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا اَلْأَماناتِ إِلى أَهْلِها) ».(1)

والظاهر أنّ الآية نزلت قبل فتح مكّة، وإنّما استدلّ بها النبي صلى الله عليه و آله و سلم على فعله،2.

ص: 272


1- . تفسير الدر المنثور: 570/2.

وأنّه دفع المفتاح إلى عثمان بن أبي طلحة ولم يدفعه إلى عمّه العباس، لأجل أنّه سبحانه أمر بدفع الأمانات إلى أهلها.

وممّا يدلّ على أنّ المراد من الأمانات أعمّ من الأمانة المالية، قوله سبحانه:

(وَ إِذْ أَخَذَ اَللّهُ مِيثاقَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنّاسِ وَ لا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَ اِشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ) (1) ، وعلى ذلك فقد خان علماء أهل الكتاب وذلك بكتمانهم صفات النبي صلى الله عليه و آله و سلم ولم يؤدّوا الأمانة إلى الناس.

وأمّا ما رواه المعلّى بن خنيس عن أبي عبد اللّه عليه السلام في تفسير الآية من أنّ اللّه أمر الإمام الأوّل أن يدفع إلى الإمام الذي بعده كلّ شيء عنده.(2) فهو من باب تطبيق الكلّي على مورده، وليس معنى ثالثاً.

نفثة مصدور(3)

قد تقدّم أنّ المراد من الأمانات (في الآية) هو أعمّ من المالية وغيرها، فتعمّ الأحكام الشرعية فهي أمانات عند العلماء والوعّاظ، فعليهم أن يبلغوها إلى الناس ويجسّدوا بذلك ردّ الأمانات إلى أهلها.

ومن تلك الأحكام أنّه سبحانه نهى عن تولّي مَن أخرج المسلمين من ديارهم وظاهروا على إخراجهم، وصرّح به في كتابه وقال: (إِنَّما يَنْهاكُمُ اَللّهُ عَنِ اَلَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي اَلدِّينِ وَ أَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَ ظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ

ص: 273


1- . آل عمران: 187.
2- . البرهان في تفسير القرآن: 131/3.

تَوَلَّوْهُمْ وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ اَلظّالِمُونَ) .(1)

فعلى حملة الكتاب والسنّة من العلماء الواعين أن يبلّغوا الحكّام والقادة ما نهى عنه سبحانه في هذه الآية حتى يقوموا بوظائفهم التي على عاتقهم فإنّهم أُمناء اللّه في أرضه على كتابه وسنّة رسوله بعد العترة الطاهرة.

وقد شهد التاريخ على أنّ الطغمة الصهيونية المحتلّة حاربوا المسلمين وقتلوهم من كبيرهم إلى صغيرهم ودمّروا بلادهم وأخرجوهم من عقر دارهم، فعلى العلماء والوعّاظ بيان كلّ ذلك موضوعاً وحكماً، أمّا الموضوع فالتاريخ المعاصر شاهد عليه، ولم تزل أراضي المسلمين بيدهم، بل يتوسّعون في كلّ يوم.

ولكن يا حسرة على علماء المسلمين في الديار المقدّسة حيث إنّهم بصدد تبرير جواز إقامة العلاقات الرسمية مع الطغمة الغاصبة لفلسطين تزلّفاً إلى حكّامهم وطمعاً بهداياهم، وهذه خيانة واضحة لأمانات اللّه، وقد نهى اللّه سبحانه عنها، فهؤلاء وعّاظ السلاطين وعلماء الدنيا، لا وعّاظ الإسلام وعلماء الدين.

ونعم ما يقول سبحانه في ختام الآية، أعني قوله تعالى: (إِنَّ اَللّهَ نِعِمّا يَعِظُكُمْ بِهِ) : أي نعم الشيء الذي يعظكم به لصلاح دنياكم وآخرتكم، ذلك (إِنَّ اَللّهَ كانَ سَمِيعاً) : أي عالماً بأقوالكم (بَصِيراً) بأفعالكم.

ثمّ إنّ موقع (كانَ) في قوله: (إِنَّ اَللّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً) لبيان استمرار هذا الوصف، أي كان سميعاً وهو مستمر إلى الآن، وليس شيئاً زائداً.

وأمّا الأمر الثاني، أعني: القضاء بالعدل، فلعلّه يأتي الكلام فيه في كتاب9.

ص: 274


1- . الممتحنة: 9.

القضاء بإذن اللّه سبحانه.

الآية الثانية
اشارة

قال سبحانه: (وَ مِنْ أَهْلِ اَلْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَ مِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاّ ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي اَلْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَ يَقُولُونَ عَلَى اَللّهِ اَلْكَذِبَ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ) .(1)

المفردات

بقنطار: القنطار، جمعه قناطير، وزن اختلف في مقدار موزونه مع الأيام، والجميع يتّفق في أنّه المال الكثير، والذي يجمع جميع الأقوال تقسيم أهل الكتاب إلى صنفين: أمين وخائن.

بدينار: الدينار أصله دنّار بنونين فقلبت إحدى النونين ياء لكثرة الاستعمال طلباً للخفّة، وجمعه دنانير وأُريد هنا المال القليل.

الأُميّين: جمع الأُمّي منسوب إلى الأُمّ، ويراد مَن لا يقرأ ولا يكتب، بقي على الحالة التي وضعته أُمّه.

التفسير

الآية تبيّن لنا حالة من أحوال قسم من أهل الكتاب، ولعلّ المراد هم اليهود،

ص: 275


1- . آل عمران: 75.

فإنّهم يخونون أموال مَن ليس إسرائيلياً ويستحلّونها غروراً بعقائد باطلة من أنّهم أبناء اللّه تعالى أوّلاً، والشعب المختار ثانياً، وليس عليهم سبيل في الأُميّين - أي العرب - ثالثاً. ثمّ إنّهم ينسبون عملهم القبيح إلى اللّه تعالى.

إذا عرفت ذلك فلندخل في تفسير الآية.

أهل الكتاب بين أمين وخائن

قوله سبحانه: (وَ مِنْ أَهْلِ اَلْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ) الخطاب في قوله: (تَأْمَنْهُ) غير متوجّه إلى مخاطب معيّن؛ بل هو كناية عن أي مخاطب يمكن أن يكون مخاطباً له. وفي تقسيمه سبحانه أهل الكتاب إلى قسمين منهم مَن يحترم أموال الناس قليلة كانت أو كثيرة، دليل على النَّصفَة وإعطاء كلّ حقّه، وأمّا القسم الآخر الذي سيق له الكلام ما يشير إليه بقوله: (وَ مِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ) والدينار كناية عن المال القليل فكيف إذا كان المال كثيراً؟!

جُعل الاسم الظاهر في الآية (أَهْلِ اَلْكِتابِ) مكان الضمير «منهم» لأجل التنديد بهم، فإنّهم مع كونهم من أهل الكتاب الذين يأمرهم كتابهم بدفع الأمانات إلى أهلها يعملون على خلاف ذلك حتى يخونون بالمال القليل ولا يردّونه على صاحبه (إِلاّ) في حالة خاصّة أي قوله: (إِلاّ ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً) : أي قائماً على رأسه تطلب منه مالك بالإلحاح وربّما برفع الأمر إلى القضاء.

ثمّ إنّه سبحانه يشير إلى مبدأ هذا العمل مع الآخرين: (ذلِكَ) : أي وجه الخيانة لأموال الناس (بِأَنَّهُمْ) : أي (ب) سبب (أنهم قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي اَلْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ) : أي ليس علينا أيّ تبعة وذنب، فغرورهم بأنّهم الشعب المختار صار سبباً لهذا الاعتقاد الفاسد، فهم بعملهم هذا يخونون الناس ويأكلون أموالهم بلا هوادة،

ص: 276

وفي الوقت نفسه يخونون اللّه ويكذبون عليه وينسبون عملهم إلى اللّه كما يقول:

(وَ يَقُولُونَ عَلَى اَللّهِ اَلْكَذِبَ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ) .

إنّ الخيانة على وجه الإطلاق وبالنسبة إلى أموال الناس عمل قبيح يذمّه العقلاء والفطرة، يقول سبحانه: (يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اَللّهَ وَ اَلرَّسُولَ وَ تَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) .(1) وبما أنّ مورد الخيانة هو الأموال غالباً يقول سبحانه بعد هذه الآية: (وَ اِعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَ أَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَ أَنَّ اَللّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) (2).

روى الطبرسي قال: روي عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم أنّه لمّا قرأ هذه الآية قال: «كذب أعداء اللّه ما من شيء كان في الجاهلية إلّاوهو تحت قدمي إلّاالأمانة، فإنّها مؤدّاة إلى البر والفاجر».(3)

وقد عقد صاحب الوسائل في كتابه باباً أسماه «وجوب أداء الأمانة إلى البر والفاجر» فقد روى فيه عن الحسين بن مصعب الهمداني قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السلام يقول: «ثلاث لا عذر لأحد فيها: أداء الأمانة إلى البر والفاجر، والوفاء بالعهد للبر والفاجر، وبر الوالدين برّين كانا أو فاجرين».(4)

وروى أيضاً عن الحسين بن أبي العلا عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «إنّ اللّه عزّ وجلّ لم يبعث نبياً إلّابصدق الحديث وأداء الأمانة إلى البر والفاجر».(5)7.

ص: 277


1- . الأنفال: 27.
2- . الأنفال: 28.
3- . تفسير نور الثقلين: 422/1، برقم 191.
4- . الوسائل: 19، الباب 2 من أبواب كتاب الوديعة، الحديث 1.
5- . الوسائل: 19، الباب 2 من أبواب كتاب الوديعة، الحديث 7.

وروى الصدوق في أماليه عن أبي حمزة الثمالي قال: سمعت سيد العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام يقول لشيعته: «عليكم بأداء الأمانة، فوالذي بعث محمداً بالحقّ نبيّاً لو أنّ قاتل أبي الحسين بن علي عليهما السلام إئتمنني على السيف الذي قتله به لأدّيته إليه».(1)

الآية الثالثة
اشارة

قال سبحانه: (وَ إِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَ لَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ اَلَّذِي اُؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَ لْيَتَّقِ اَللّهَ رَبَّهُ وَ لا تَكْتُمُوا اَلشَّهادَةَ وَ مَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَ اَللّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) .(2)

التفسير

قد سبق في البحث عن أحكام الدين تفسير هذه الآية وبيان معاني مفرداتها، وقلنا إنّ المراد بالأمانة في الآية هو الدين الذي على المدين، فإذا ائتمن الدائن المديون ولم يأخذ منه الرهن، فعلى المديون أن يؤدّي إلى الذي أؤتمن أمانته.

إلى هنا تمّ الكلام فيما يرجع إلى الأمانة، حيث إنّ الأمانة تنقسم إلى أمانة مالكية استأمنها المالك كالوديعة والعارية والرهن والإجارة وغيرها، وإلى شرعية

ص: 278


1- . الوسائل: 19، الباب 2 من أبواب كتاب الوديعة، الحديث 13.
2- . البقرة: 283.

(أي استأمنها الشارع) وهي المسمّاة بالأمانة الشرعية.

وقد ذكر الفاضل المقداد أقسامها وقال:

الأُولى: إطارة الريح الثوب إلى داره، فيجب الإعلام أو أخذه وردّه إلى مالكه.

الثانية: انتزاع الصيد من المحرم أو من مُحلّ أخذه من المحرم.

الثالثة: انتزاع المغصوب من الغاصب بطريق الحسبة.

الرابعة: أخذ الوديعة من صبيّ أو مجنون خوف إتلافها.

الخامسة: تخليص الصيد من جارح ليداويه أو من شبكة في الحرم.(1)2.

ص: 279


1- . كنز العرفان: 77/2.

العقود الشرعية

7. العارية

العارية: عقد ثمرته التبرّع بالمنفعة، ويقع بكلّ لفظ، يشتمل على الإذن في الانتفاع، وليس بلازم لأحد المتعاقدين.(1)

ويشترط في العين المعارة ما يصحّ الانتفاع به مع بقاء عينه كالثوب والدابّة.

وتصحّ إستعارة الأرض للزراعة والغرس والبناء، ويقتصر المستعير على القدر المأذون. لما مرّ من أنّ منفعة كلّ شيء بحسبه، كما تجوز استعارة الشاة للحلب وهي «المنحة».

ولم نجد في القرآن الكريم ما يدلّ على صحّة هذا العقد إلّاما أُشير إليه في «كنز العرفان» في قوله تعالى: (وَ يَمْنَعُونَ اَلْماعُونَ) .(2) وفيه تأمّل، لاختلاف كلماتهم في تفسير «الماعون» على أقوال، فقد فُسّر بوجوه، هي:

1. الزكاة المفروضة.

2. ما يتعاوره الناس بينهم، من الدلو والفأس والقدر والماء والملح.

ص: 280


1- . شرائع الإسلام: 171/2.
2- . الماعون: 7.

3. هو القرض تقرضه والمعروف تصنعه ومتاع البيت تعيره، ومنه الزكاة، وهذا هو المروي عن الإمام الصادق عليه السلام.(1)

وفسّره في «كنز العرفان» بأنّه عبارة عمّا يتعاون به عادة، فإذا كان المنع مذموماً، يكون عدم المنع في معرض المدح، وذلك هو المطلوب.(2)

ثمّ إنّ العارية أمانة مالكية لا تضمن إلّاعند التفريط، وأمّا لو شرط الضمان، فهل يصحّ أو لا؟ أو يختصّ إذا كانت العين المعارة ذهباً أو فضة؟ فالتفصيل في محلّه.2.

ص: 281


1- . لاحظ: تفسير نور الثقلين: 679/5.
2- . كنز العرفان: 79/2.

العقود الشرعية

8. عقد المسابقة و الرماية
اشارة

عقد المسابقة يفتقر إلى إيجاب وقبول، فعلى هذا فهو عقد لازم كالإجارة ثم إنّ العقد يتوقّف على وجود المتسابقين أوّلاً، والسَبَق (بفتح الباء) أي المال المبذول للسابق، ثانياً، وبه فُسّر الحديث المعروف: «لا سبق إلّافي نصل أو خفٍ أو حافر».(1) والنصل حديدة السهم والمراد من ذي نصل وذي خف وذي حافر وأمّا السّبْق - بسكون الباء - فهو بمعنى المسابقة.

ثمّ إنّ المال المبذول تارة يبذله غير المتسابقين، وهو صحيح إجماعاً، ولو بذله أحدهما، يقول المحقّق: صحّ عندنا، ولو بذله الإمام من بيت المال، جاز.(2)

ويمكن الاستدلال عليها ببعض الآيات:

الآية الأُولى

قوله تعالى حاكياً عن إخوة يوسف: (قالُوا يا أَبانا إِنّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَ تَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ اَلذِّئْبُ وَ ما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَ لَوْ كُنّا صادِقِينَ) .(3)

ص: 282


1- . مستدرك الوسائل: 81/14، الحديث 8، الباب 3 من أبواب كتاب السبق والرماية.
2- . شرائع الإسلام: 237/2، في عقد المسابقة والرماية.
3- . يوسف: 17.

ويمكن أن يقال: إنّ الاستدلال بإطلاق قولهم: (نَسْتَبِقُ) فرع حجّية ما في الشرائع السابقة علينا، ولا تتم إلّابالاستصحاب.

قد تقدّم منّا أنّ هذه الشبهة غير صحيحة جدّاً؛ لأنّ الكتاب العزيز كتاب هداية لعامّة القرون، وما ورد فيها إنّما ورد لأجل العبرة والاعتبار، فلا معنى لنقل ما كان باطلاً في شريعتنا، ولذلك نأخذ لكلّ ما ورد فيها من الأحكام في الشرائع السابقة، إلّاإذا قام الدليل القطعي على النسخ أو على بطلانه.

إنّما الكلام في وجود الإطلاق في الآية، إذ لم يثبت أنّ استباقهم كان بالرمي وغيره، لعلّه كان بالعدو أو صعود الجبل والهبوط منه أو برفع الحجر الكبير وحمله.

الآية الثانية
اشارة

قال سبحانه: (وَ أَعِدُّوا لَهُمْ مَا اِسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَ مِنْ رِباطِ اَلْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اَللّهِ وَ عَدُوَّكُمْ) .(1)

المفردات

أعدّوا: من الإعداد: اتّخاذ الشيء لغيره، ممّا يحتاج إليه في أمره.

استطعتم: قدرتم.

رباط: ربط الفرس أي شدّه في مكان للحفظ، ومنه رباط الخيل، وسمّي المكان الذي يُخصّ بإقامة حفظة فيه: رباطاً.

ص: 283


1- . الأنفال: 60. قد مرّت دراسة الآية في كتاب الجهاد أيضاً بلا تكرار في منهج التفسير.

ترهبون: من الإرهاب: إزعاج النفس بالخوف.

التفسير

وجه الاستدلال: أنّ الآية تبعث الأُمّة الإسلامية إلى إعداد القوّة ما استطاعوا إلى ذلك، ومن المعلوم أنّ السبق والرماية هما من أساليب التربية العملية للمجاهدين لتهيئتهم لخوض الحرب والقتال.

يقول المحقّق: وفائدة السبق والرماية بعث العزم على الاستعداد للقتال، والهداية لممارسة النضال.(1)

ثمّ إنّه يقع الكلام فيما يُسابق به، فهل يقتصر على ما ورد في الروايات، ففي الحديث: «إنّ الملائكة لتنفر من الرهان وتلعن صاحبه إلّافي النصل والريش والخفّ والحافر».(2)

ويدخل في النصل: الرمح والسيف والسهم، وفي الخف: الإبل والفيلة، وفي الحافر: الفرس والبغل والحمار.(3)

أو يمكن التعدّي إلى غير ما ورد في الحديث؟

يظهر من المحقّق الاقتصار في الجواز على النصل والخف والحافر، وقوفاً على مورد الشرع.(4)

ثمّ إنّ الشهيد الثاني بنى المسألة (الاقتصار وعدمه) على قراءة السبق في

ص: 284


1- . شرائع الإسلام: 235/2.
2- . من لا يحضره الفقيه: 216/2.
3- . لاحظ: كنز العرفان: 80/2، وشرائع الإسلام: 236/2.
4- . لاحظ: شرائع الإسلام: 236/2.

الحديث بالسكون أو بالفتح، فلو قرأ بالسكون يُراد به (عقد المسابقة وفعلها) فتكون النتيجة لا يقع إلّافي الثلاثة، فيكون ماعداها غير جائز؛ وأمّا لو قرأ بالفتح يُراد به المال لا العمل، فتدلّ على وجوب الاقتصار في المال على الثلاثة دون العمل.

ثمّ إنّ الشهيد الثاني استقرب الجواز لكونه موافقاً للأصل خصوصاً مع ترتّب غرض صحيح على تلك الأعمال.(1)

أقول: لو قلنا بالاقتصار على النصل والخف والحافر تصبح الآية مختصّة بالعصور السالفة، حيث كانت الحرب معتمدة على هذه الوسائل، وهذا بعيد عن شأن الكتاب الخالد والشريعة الخاتمة، ولذلك نرى أنّ الأُمم المتحضرة يُقيمون مناورات عسكرية تشترك فيها الطائرات المقاتلة والسفن الحربية وأنواع الآليات والدبابات وقاذفات الصواريخ.

ويقسّمون جيوشهم إلى قسمين، بافتراض قسم منهم يمثّلون العدو، وقسم آخر يمثّلون المدافعين عن البلاد، وتجري المناورات والمسابقات بين القسمين ويحدّد الفائز، والمنتصر حسب تحقيقه للأهداف المرسومة له، وكلّ هذا يدخل في الإعداد والتهيّؤ للقتال والدفاع.

أقول: يقع الكلام في هذه المناورات أو المسابقات في موردين:

1. لو خلت عن أي رهان وسَبْق، فلا إشكال في جوازه بل هي تجسيد لقوله سبحانه: (وَ أَعِدُّوا لَهُمْ مَا اِسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ) مضافاً إلى أنّه فعل عقلاني له آثار بنّاءة لغاية الدفاع عن النظام والبلد الإسلامي.6.

ص: 285


1- . لاحظ: مسالك الأفهام: 70/6.

وما في كلام النبي «لا سبق إلّافي ثلاث»، نظرٌ إلى المسابقات الباطلة في زمانه كعقدها في رفع الحجر الثقيل. أو الصعود إلى الجبل الرفيع إلى غير ذلك ممّا لا يترتّب عليه أثر عقلاني وليس ناظراً إلى الرائج في زماننا مضافاً إلى أنّ الأصل العملي هو الجواز.

2. إذا كانت مع الرهان، فبما أنّ من المحتمل قراءه السبق بالفتح، فالأحوط ترك الرهان.

***

ص: 286

العقود الشرعية

9. الشُفعة
تمهيد

عُرفت الشُّفعة بأنّها: استحقاق أحد الشريكين حصّة شريكه بسبب انتقالها بالبيع.(1)

وموضوعها عند الإمامية: كلّ عقار مشترك بين اثنين فيبيع أحدهما حصّته لغيره فللآخر الانتزاع من المشتري مع بذل الثمن له، ولها شروط مذكورة في الكتب الفقهية، وفائدتها إزالة الضيق والضرر الحاصل من الشركة الجديدة.

هذه هي حقيقة الشفعة، ولم نجد في القرآن الكريم نصّ عليها، غاية ما يمكن الاستدلال على أصل الشفعة لا على خصوصياتها بالآيات النافية للحرج وأنّه سبحانه يُريد اليسر لا العسر، قال تعالى: (وَ ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي اَلدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (2)، وقال تعالى: (يُرِيدُ اَللّهُ بِكُمُ اَلْيُسْرَ وَ لا يُرِيدُ بِكُمُ اَلْعُسْرَ) (3).

***

خاتمة
اشارة

إلى هنا تمّ ما يرجع إلى العقود، بقي في المقام أُمور لا صلة لها بالعقود لكن

ص: 287


1- . شرائع الإسلام: 253/3.
2- . الحج: 78.
3- . البقرة: 185.

لها صلة بأموال الناس وإليك دراستها:

1. اللقطة: الشيء الذي يجده الإنسان من غير قصد

قال الشيخ: أخذ اللقيط (المال الملقوط) واجب على الكفاية؛ لأنّه تعاون على البر، ولأنّه دفع لضرورة المضطر، ويقول المحقّق بعد نقل هذا الكلام:

والوجه الاستحباب.(1) ويشير الشيخ بقوله: «تعاون على البر» إلى قوله سبحانه:

(وَ تَعاوَنُوا عَلَى اَلْبِرِّ وَ اَلتَّقْوى) (2) والأولى التركيز في الكتب المؤلّفة حول آيات الأحكام، الاقتصار على الموضوعات التي ورد فيها النص في الذكر الحكيم، والإشارة إلى الموضوعات التي لم يرد فيها نصّ إلّاالعمومات والإطلاقات كما هو الحال في السبق والرماية والشفعة واللقطة.

2. حكم الغصب

عُرّف الغصب بأنّه الاستيلاء على مال الغير بغير حقّ.

وعرّفه المحقّق بقوله: هو الاستقلال بإثبات اليد على مال الغير عدواناً، ولا يكفي رفع يد المالك ما لم يُثبت الغاصب يده.(3) ويمكن استنباط حكمه من بعض العمومات، كما في قوله: سبحانه: (وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ) (4)، وقوله تعالى: (إِنَّ كَثِيراً مِنَ اَلْأَحْبارِ وَ اَلرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ اَلنّاسِ بِالْباطِلِ) (5).

***

ص: 288


1- . شرائع الإسلام: 285/3، في أحكام اللقيط.
2- . المائدة: 2.
3- . شرائع الإسلام: 235/2.
4- . البقرة: 188، والنساء: 28.
5- . التوبة: 35.
العقود الشرعية
10. الوصية
تمهيد

عُرّفت الوصية بأنّها تمليك عين أو منفعة بعد الوفاة، وتفتقر إلى إيجاب وقبول، والإيجاب كلّ لفظ دلّ على ذلك القصد كقوله: اعطوا فلاناً كذا بعد وفاتي، أو لفلان، كذا بعد وفاتي، أو أوصيت له. وينتقل بها الملك إلى الموصى له بموت الموصي وقبول الموصى له ولا ينتقل بالموت منفرداً عن القبول على الأظهر.(1)

هذا ما ذكره المحقّق، وهو ناظر إلى قسم من أقسام الوصية لأنّها على أقسام ثلاثة: إمّا تمليكيّة، كأن يوصي بشيء من تركته لزيد، ويلحق بها الإيصاء بالتسليط على حقّ.

وإمّا عهدية، كأن يوصي بما يتعلّق بتجهيزه، أو باستئجار الحجّ أو الصلاة أو نحوهما له.

وإمّا فكّية تتعلّق بفكّ ملك كالإيصاء بالتحرير.(2)

ونحن ندرس ما جاء من الأقسام في الذكر الحكيم.

ص: 289


1- . شرائع الإسلام: 243/2.
2- . تحرير الوسيلة: 581/2، كتاب الوصية.
الآيات: الأُولى والثانية والثالثة
اشارة

قال سبحانه: (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ اَلْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً اَلْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَ اَلْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى اَلْمُتَّقِينَ * فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) .(1)

المفردات

كتب: فيه دلالة على الاهتمام والتأكيد على المكتوب. كما مرّ في قوله سبحانه: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ اَلْقِصاصُ) .(2)

حضر: أُريد من حضور الموت، ظهور علائمه وأماراته من مرض وهرم وغيرهما لوضوح أنّ الإيصاء عند حضور الموت أمر غير ممكن.

خيراً: الخير: ما يرغب فيه الناس، وضدّه الشر، وأُريد به هنا المال. نقل الراغب عن بعض العلماء أنّه سُمّي المال هاهنا خيراً تنبيهاً على معنى لطيف، وهو أنّ الذي يحسن الوصية به ما كان مجموعاً من المال من وجه محمود، وعلى هذا قوله: (قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ) (3)، وقوله: (وَ ما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اَللّهُ) (4).(5)

ص: 290


1- . البقرة: 180-182.
2- . البقرة: 178.
3- . البقرة: 215.
4- . البقرة: 197.
5- . المفردات للراغب: 160، مادة «خير».

بالمعروف: الشيء الذي لا جور فيه ولا حيف وقد عرفه الناس بهذا الوصف.

حقّاً: منصوب بفعل مقدّر أي حقّ حقّاً، وهو آية التأكيد على الوصية.

يبدلونه: من التبديل: تغيير الوصية.

جنفاً: جوراً، وانحرافاً عن الحقّ كالإيصاء بأزيد من الثلث.

إثماً: إيصاءً بالمعصية كصرف المال في المورد المحرّم.

التفسير

الإيصاء أمر حسن في كافّة فترات العمر، وليس الإيصاء علامة على دنوّ الأجل والاقتراب من الموت، بل هو وقاية عن ضياع المال والحقوق. نعم خُصّ بالذكر عند حضور أسباب الموت كالمرض الشديد والتقدّم في العمر.

روى الإمام الصادق عليه السلام عن آبائه في وصية النبي صلى الله عليه و آله و سلم للإمام علي عليه السلام أنّه قال: «يا علي أُوصيك بوصية فأحفظها فما تزال بخير ما حفظت وصيتي... إلى أن قال: يا عليّ! مَن لم يُحسن وصيته عند موته كان نقصاً في مروءته ولم يملك الشفاعة».(1)

سعة رقعة الوصية

إنّ متعلق الوصية أمر غير مقيّد بشيء، فالوصية تارة للوارث وأُخرى لغيره، وآيتنا هذه تذكر كلا الموردين.

ص: 291


1- . الوسائل: 13، الباب 6 من أبواب الوصايا، الحديث 2.

قال تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمْ) : أي فُرض عليكم (إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ اَلْمَوْتُ) : أي علائمه وأسبابه من مرض وهرم (إِنْ تَرَكَ خَيْراً) : أي مالاً، وأمّا المكتوب فهو قوله: (اَلْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ) فهما من مقولة الوصية للوارث (وَ اَلْأَقْرَبِينَ) أعمّ من الوارث وغيره. ثمّ إنّه سبحانه يقيّد الوصية لهما بقوله:

(بِالْمَعْرُوفِ) الظاهر أنّ القيد راجع إلى الموصى له فليس له أن يوصي للغني ويترك الفقير ويوصي للقريب، ويترك الأقرب، ويحتمل أن يرجع إلى مقدار الوصية، فالإيصاء بدرهم - مثلاً - لا يُعدّ معروفاً.

ثمّ إنّ قوله: (حَقًّا عَلَى اَلْمُتَّقِينَ) بمعنى حقّ حقاً لازماً على مَن تمسّك بالتقوى. وهذا التعبير يعرب عن كونه حكماً لازماً غير منسوخ.

ثمّ إنّ الاهتمام بالوصية للوارث مع أنّه يرث التركة حسب سهمه، لأجل أنّه ربما يوجد بين الورثة مَن تعسّرت ظروفه المالية وأقعدته الحاجة، خلاف بقية الورثة. فالحكمة تقتضي أن يخصّ الموّرث شيئاً من ثلث ما يملك له، وبذلك يسدّ خلّته وتتحسّن ظروفه.

نعم هنا كلام وهو أنّه ربما توهم أنّ الآية منسوخة بآية المواريث أو منسوخة بالسنة على ما رواه أصحاب السنن من أنّه لا وصية للوارث، وسنناقش هذا الموضوع بعد الفراغ من تفسير الآية.

النهي عن تبديل الوصية

الآية تدلّ على أنّ الإيصاء إذا كان جامعاً للشرائط، غير خارج عن الحدود التي حدّدها الشارع، يجب العمل به ويحرم تغييره، كما يقول: (فَمَنْ بَدَّلَهُ) ، الضمير يرجع إلى الإيصاء الذي يدلّ عليه ذكر الوصية، ولذلك جاءت الضمائر

ص: 292

كلّها مذكّرة (بَعْدَ ما سَمِعَهُ) وعلم به ولو بعد البيّنة (فَإِنَّما إِثْمُهُ) : أي إثم التبديل (عَلَى اَلَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ) : أي على المبدلين، دون الميّت، فلو أوصى الميّت بحقوق الآخرين، لكن الوصي بدّل وغيّر وحرّف، فلم يصل الحقّ إلى أصحابه، فالميّت بريء والمغيّر مأثوم.

ثمّ إنّه سبحانه أتمّ الآية بقوله: (إِنَّ اَللّهَ سَمِيعٌ) لوصاياكم (عَلِيمٌ) بأفعالكم... ويكفي في قبح هذا الفعل ما روي عن محمد بن مسلم أنّه قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن رجل أوصى بماله في سبيل اللّه؟ قال: «أعطه لمن أوصى له، وإن كان يهودياً أو نصرانياً، إنّ اللّه يقول: (فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى اَلَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ) .(1)

وروى الحسين بن سعيد عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «لو أنّ رجلاً أوصى إليَّ أن أضع في يهودي أو نصراني لوضعت فيهم إنّ اللّه يقول: (فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى اَلَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ) .(2)

ثمّ إنّ الحكم عام يشمل كلّ مبدل، سواء أكان الوصي أم غيره.

إذا أوصى بغير الحقّ

لمّا تقدّم في الآية السابقة من حرمة تبديل الوصية جاء البيان القرآني لاستثناء صورة خاصّة من هذا التبديل، وهو ما إذا عدل الموصي عن طريق الحقّ، سهواً كما يقول: (فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً) انحرافاً عن الحقّ، كما إذا أوصى

ص: 293


1- . الوسائل: 13، الباب 35 من أبواب الوصايا، الحديث 5.
2- . الوسائل: 13، الباب 35 من أبواب الوصايا، الحديث 6.

بأزيد من الثلث، ولا يكون ذلك إلّابالغفلة والسهو (أَوْ إِثْماً) وعمداً، كما إذا أوصى بصرف الثلث في أُمور محرّمة (فَأَصْلَحَ) الوصي. والجملة الخبرية كناية عن إنشاء الإصلاح وإلزامه (بَيْنَهُمْ) : أي بين الموصي والموصى لهم (فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) ، والتعبير بعدم الإثم لأجل دفع توهّم الحظر، ولا ينافي كونه أمراً واجباً، فلو قام بذلك فاللّه سبحانه يقول: (إِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ) للذنوب (رَحِيمٌ) بالمذنبين.

قلنا: إنّ المراد من الجنف هو الإيصاء بما زاد عن الثلث، والإثم صرف الثلث في المحرّمات، وقد صدرنا في ذلك عمّا رواه القمّي عن الصادق عليه السلام قال: «مثل رجل يكون له ورثة فيجعل المال كلّه لبعض ورثته ويَحرم بعضاً، فالوصي جائز له أن يردّه إلى الحقّ وهو قوله: (جَنَفاً أَوْ إِثْماً) فالجنف الميل إلى بعض ورثته دون بعض، والإثم أن يأمر بعمارة بيت من بيوت النيران واتّخاذ المسكر، فيحلّ للوصيّ أن لا يعمل بشيء من ذلك».(1)

اتّفقت المذاهب الخمسة على أنّ الوصية التبرّعيّة تنفذ في مقدار الثلث فقط، مع وجود الوارث، سواء أصدرت في المرض أم في الصحّة، وما زاد عن الثلث يفتقر إلى إجازة الورثة. وإن كان الأفضل في بعض المذاهب أن لا يستوعب الثلث بالوصية.(2)

وأمّا في مقدار الثلث فتنفذ وصيّته عند الإمامية في الأقرب والأجنبي، ومن غير فرق في الأقرب، بين الوارث وغيره. وأمّا المذاهب الأربعة فأجازت الوصية للأقرب بشرط أن لا يكون وارثاً، وأمّا الوارث فلا تجوز الوصية له، سواء أكان6.

ص: 294


1- . تفسير القمّي: 65/1.
2- . المغني لابن قدامة: 78/6.

بمقدار الثلث أم أقل أم أكثر، إلّابإجازة الورثة.

الإيصاء للوارث غير منسوخ
اشارة

قال السيد المرتضى: وممّا ظنّ انفراد الإمامية به، ما ذهبوا إليه من أنّ الوصية للوارث جائزة، وليس للوارث (غير الموصى له) ردّها. وقد وافقهم في هذا المذهب بعض الفقهاء(1) وإن كان الجمهور والغالب، على خلافه.(2)

وقال الشيخ الطوسي: تصحّ الوصية للوارث مثل الابن والأبوين. وخالف جميع الفقهاء في ذلك وقالوا: لا وصية للوارث.(3)

وقال الخرقي في متن المغني: «ولا وصية لوارث إلّاأن يجيز الورثة ذلك».

وقال ابن قدامة في شرحه: إنّ الإنسان إذا أوصى لوارثه بوصية فلم يُجزها سائر الورثة، لم تصحّ، بغير خلاف بين العلماء. قال ابن المنذر وابن عبد البرّ: أجمع أهل العلم على هذا، وجاءت الأخبار عن رسول اللّه بذلك، فروى أبو أُمامة قال:

سمعت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يقول: «إنّ اللّه قد أعطى كلّ ذي حقّ حقّه فلا وصية لوارث». رواه أبو داود وابن ماجة والترمذي.(4)

ومع أنّ الكتب الفقهية للمذاهب الأربعة تنفي جواز الوصية للوارث، إلّاإذا أجاز الورثة، حتى أنّ بعضهم يقول بأنّ الوصية باطلة وإن أجازها سائر الورثة إلّاأن يعطوه عطية مبتدأة(5) - ومع هذا التصريح - ينقل الشيخ محمد جواد مغنية: كان

ص: 295


1- . سيوافيك التصريح به من صاحب المنار أيضاً.
2- . الانتصار: 308.
3- . الخلاف: 4/135، المسألة 1، كتاب الوصايا.
4- . المغني: 79/6-80.
5- . المصدر نفسه.

عمل المحاكم في مصر على المذاهب الأربعة، ثمّ عدلت عنها إلى مذهب الإمامية، وما زال عمل المحاكم الشرعية السنّيّة في لبنان على عدم صحّة الوصية للوارث، ومنذ سنوات قدّم قضاتها مشروعاً إلى الحكومة يجيز الوصية للوارث ورغبوا إليها في تبنّيه.(1)

والأولى عرض المسألة على الكتاب والسنّة، أمّا الكتاب فيكفي في جواز الوصية قوله سبحانه: (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ اَلْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً اَلْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَ اَلْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى اَلْمُتَّقِينَ) .(2)

المراد من حضور الموت: ظهور أماراته من المرض والهرم وغيره، ولم يرد إذا عاين ملك الموت، لأنّ تلك الحالة تشغل الإنسان عن الوصيّة، وأيضاً يجب أن يراعى جانب المعروف في مقدار الوصية والموصى له، فمَن يملك المال الكثير إذا أوصى بدرهم فلم يوص بالمعروف، كما أنّ الإيصاء للغني دون الفقير خارج عن المعروف، فإنّ المعروف هو العدل الذي لا ينكر، ولا حيف فيه ولا جور.

والآية صريحة في الوصية للوالدين، ولا وارث أقرب للإنسان من والديه، وقد خصّهما بالذكر لأولويتهما بالوصيّة ثم عمّم الموضوع وقال: (وَ اَلْأَقْرَبِينَ) ليعمّ كل قريب، وارثاً كان أم لا.

وهذا صريح الكتاب ولا يصحّ رفع اليد عنه إلّابدليل قاطع مثله. وقد أجاب القائلون بعدم الجواز، عن الاستدلال بالآية بوجهين:0.

ص: 296


1- . الفقه على المذاهب الخمسة: 465.
2- . البقرة: 180.
1. الآية منسوخة بآية المواريث

إنّها منسوخة بآية المواريث، فعن ابن عباس والحسن: نُسِختْ الوصيةُ للوالدين بالفرض في سورة النساء، وتثبت (الوصية) للأقربين الذين لا يرثون، وهو مذهب الشافعي وأكثر المالكيين وجماعة من أهل العلم.(1)

2. المراد الوالدان الكافران اللّذان لا يرثان

إنّ الآية محكمة ظاهرها العموم ومعناها الخصوص في الوالدين اللّذين لا يرثان كالكافرين والعبدين، وفي القرابة غير الورثة.

والفرق بين القولين واضح إذ مرجع الأوّل إلى نسخ جواز الإيصاء للوالدين، وأنّه لا يوصى لهما مطلقاً وارثين كانا أو ممنوعين من الإرث لأجل الكفر والرقّ، وتقييد جواز الإيصاء للأقربين بما إذا كانوا غير وارثين.

ومرجع الثاني إلى إنكار النسخ، لكن تقييد جواز الإيصاء للوالدين بما إذا كانا ممنوعين من الإرث.

ويشارك هذا القول الوجه الأوّل في تقييد الأقربين بغير الورثة.

يلاحظ على الأوّل: بوجوه ثلاثة:

1. لسان الآية آب عن النسخ حيث عبّر عن الحكم بأنّه حكم مُحكم مستحكم لا يزول، وأتمّ الآية بقوله: (حَقًّا عَلَى اَلْمُتَّقِينَ) .

2. يشترط في النسخ تقدّم المنسوخ على الناسخ أوّلاً، وكون النسبة بينهما هو الإثبات والنفي، وكلا الشرطين غير محرزين، أو غير موجودين:

ص: 297


1- . تفسير القرطبي: 2/262-263.

أمّا الأوّل فإنّه لم يثبت تقدّم الإيصاء للوالدين على آية المواريث حتى يكون الثاني ناسخاً للأوّل. فآية الإيصاء وردت في سورة البقرة وهي مدنيّة وآية المواريث وردت في سورة النساء وهي أيضاً مدنيّة ولم يحرز تقدّم الأُولى على الثانية نزولاً.

وأمّا الثاني فإنّ النسبة بين الآيتين نسبة الإثبات دون أن تكون إحداهما مثبتة والأُخرى نافية.

وقد عرفت أنّه لا منافاة أن يكتب سبحانه على الإنسان وراء الإرث، الإيصاء للوالدين والأقربين، بما لا يتجاوز الثلث.

3. أنّ الإرث بعد الإيصاء، فالميراث في طول الوصية، ولا يصحّ للمتأخّر أن يعارض المتقدّم، وأنّ الورّاث يرثون بعد إخراج الدين والوصية، قوله سبحانه:

(مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ) (1) ، وقوله تعالى: (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَ لَهُنَّ اَلرُّبُعُ مِمّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ اَلثُّمُنُ مِمّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَ إِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ اِمْرَأَةٌ وَ لَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا اَلسُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي اَلثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ) (2)، فلا موضوع للنسخ ولا للتخصيص.

وممّن اعترف بما ذكرنا الشيخ محمد عبده، كما حكى عنه تلميذه، قال: إنّه لا دليل على أنّ آية المواريث نزلت بعد آية الوصية هنا، وبأنّ السياق ينافي النسخ،2.

ص: 298


1- . النساء: 11.
2- . النساء: 12.

فإنّ اللّه تعالى إذا شرّع للناس حكماً، وعلم أنّه مؤقّت، وأنّه ينسخه بعد زمن قريب، فإنّه لا يؤكّده ويوثّقه بمثل ما أكّد به أمر الوصيّة هنا من كونه حقّاً على المتقين، ومن وعيدٍ لمن بدّله.(1)

نقد القول بتخصيص الآية بالكافرين

هذا كلّه حول القول الأوّل من ادّعاء النسخ، وأمّا القول الثاني وهو تخصيص الوالدين بالممنوعين من الإرث من كفر أو رقّ، فهو أيضاً كالقول بالنسخ؛ لأنّه إذا كان المراد الممنوعين من الوراثة فما معنى هذا التأكيد والاهتمام في الآية مع ندرة المصداق أو قلّته بالنسبة إلى غير الممنوعين، إذ عندئذٍ تكون الآية بمنزلة قولنا: «الوصية للوالدين، إلّاالمسلمين»، فيكون الباقي تحت العام قليلاً جداً، ويكون من قبل التخصّص المستهجن، فلا محيص عن القول بعموم الآية، لكلّ والد ووالدة، والأقربين ممنوعين كانوا أم غيرهم.

آية الوصيّة منسوخة بالسنّة

قد علمت أنّ آية الوصيّة محكمة لم تنسخ بالكتاب ولم يقيّد إطلاقها، بل هي آية محكمة مطلقة يجب الأخذ بها، إلّاأنّه ربما يقال: إنّ آية الوصيّة نسخت بالسّنّة التي رواها أصحاب السنن ولم يروها الشيخان: البخاري ومسلم في صحيحيهما، وإليك نقل الرواية سنداً ومتناً عن سنن الترمذي، حيث روى في باب: ما جاء «لا وصية لوارث» هذين الحديثين:

1. حدّثنا علي بن حجر وهنّاد قالا: حدّثنا إسماعيل بن عيّاش، حدّثنا

ص: 299


1- . تفسير المنار: 136/2.

شرحبيل بن مسلم الخولاني، عن أبي أُمامة الباهلي، قال: سمعت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يقول في خطبته عام حجّة الوداع: «إنّ اللّه قد أعطى لكلّ ذي حقّ حقّه فلا وصية لوارث، الولد للفراش وللعاهر الحجر».(1)

2. حدّثنا قتيبة، حدّثنا أبو عوانة، عن قتادة، عن شهر بن حوشب، عن عبد الرحمن بن غنم، عن عمرو بن خارجة: أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم خطب على ناقته وأنا تحت جِرانها(2) وهي تقصع(3) بجرّتها(4)، وإن لعابها يسيل بين كتفي، فسمعته يقول:

«إنّ اللّه أعطى كلّ ذي حقّ حقّه، ولا وصية لوارث، والولد للفراش وللعاهر الحجر».(5)

ملاحظات على القول بنسخ الآية بالسنّة

يلاحظ على هذا القول بوجوه:

1. الكتاب العزيز، قطعيّ السند، وصريح الدلالة في المقام، وظاهر الآية كون الحكم أمراً حتميّاً وأنّه مكتوب على المؤمنين، وهو حقّ على المتّقين، أفيصحّ نسخه أو تخصيصه برواية واحدة، لم تخلو أسانيدها من خلل ونقاش، فرواتها من مخلّط، إلى أروى الناس عن الكذّابين، إلى مَن لا يرى ما يخرج من رأسه، إلى ضعيف أُختتن في كبر سنّه، إلى بائع دينه بخريطة، إلى مسنِد ولم ير

ص: 300


1- . سنن الترمذي: 4/293، باب ما جاء «لا وصية لوارث»، رقم الحديث: 2203.
2- . الجران: مقدّم عنق البعير، جمعه «جُرن».
3- . تقصع: قصعت الناقة بجرتها أي ردّتها إلى جوفها، وقيل: أخرجتها وملأت بها فاهها.
4- . الجرّة: ما يجترّه البعير من بطنه.
5- . سنن الترمذي: 293/4، باب ما جاء «لا وصية لوارث» رقم الحديث 2204.

المسند إليه، إلى محدود أُجري عليه الحد في مكّة، إلى خارجي يضرب به المثل، إلى...، إلى...، إلى....(1)

ولو قلنا بجواز نسخ الكتاب فإنّما نقول به إذا كان الناسخ، دلالة قرآنية أو سنّة قاطعة.

2. كيف يمكن الاعتماد على رواية تدّعي أنّ النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم خطب في محتشد كبير لم ينقل لنا التاريخ له مثيلاً في حياة النبي إلّافي وقعة الغدير، وقال:

إنّه لا وصية لوارث، ولم يسمعه أحد من الصحابة إلّاأعرابي مثل عمرو بن خارجة الذي ليس له رواية عن رسول اللّه سوى هذه(2)، أو شخص آخر كأبي أُمامة الباهلي، وهذا ما يورث الاطمئنان على وجود الخلل فيها سنداً أو دلالة.

3. لو سلم أنّ الحديث قابل للاحتجاج، لكنّه لا يعادل ولا يقاوم ما تواتر عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام من جواز الوصية للوارث. فهذا هو محمد بن مسلم أحد فقهاء القرن الثاني، من تلاميذ أبي جعفر الباقر عليه السلام يقول: سألت أبا جعفر عن الوصيّة للوارث؟ فقال: «تجوز»، ثم تلا هذه الآية: (إِنْ تَرَكَ خَيْراً اَلْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَ اَلْأَقْرَبِينَ) .

وهذا أبو بصير المرادي شيخ الشيعة في عصر الصادق عليه السلام يروي عنه أنّه سأله عن الوصية للوارث؟ فقال: «تجوز».(3)ث.

ص: 301


1- . لاحظ: الإنصاف في مسائل دام فيها الخلاف: 166/2-177، ترى أنّ في عامة الأسانيد ضعفاً. وأنّ بعض رواتها موصوفون بما ذكرنا وفقاً لقول أهل الجرح والتعديل.
2- . الإصابة: 527/2؛ تهذيب الكمال: 599/21؛ الثقات: 271/3.
3- . الوسائل: 13، الباب 15 من أبواب أحكام الوصايا، الحديث 2 و 3، وفيه ثلاثة عشر حديثاً تصرِّح بجواز الوصية للوارث.

4. أنّ التعارض فرع عدم وجود الجمع الدلالي بين نصّ الكتاب والحديث، إذ من المحتمل جدّاً أنّ الرسول صلى الله عليه و آله و سلم ذكر قيداً لكلامه، ولم يسمعه الراوي، أو سمعه وغفل عن نقله، أو نقله ولم يصل إلينا، وهو أنّه مثلاً قال: «ولا تجوز وصية للوارث» إذا زاد عن الثلث أو بأكثر منه. ومن حسن الحظ أنّ الدارقطني نقل الحديث بهذا القيد، قال: خطبنا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بمنى فقال: «إنّ اللّه عزّ وجلّ قد قسّم لكلّ إنسان نصيبه من الميراث فلا يجوز لوارث وصية إلّا من الثلث».(1)

وقد ورد من طرقنا عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم أنّه قال في خطبة الوداع: «أيّها الناس إنّ اللّه قد قسّم لكلّ وارث نصيبه من الميراث، ولا تجوز وصية لوارث بأكثر من الثلث».(2)

وبعد هذه الملاحظات الأربع لا يبقى أيّ وثوق بالرواية المنقولة بالصورة الموجودة في كتب السنن.

أضف إلى ذلك: أنّ الإسلام دين الفطرة، ورسالته خاتمة الرسالات، فكيف يصحّ أن يسد باب الإيصاء للوارث، مع أنّه ربّما تمسّ الحاجة إلى الإيصاء للوارث، بعيداً عن الجور والحيف، من دون أن يثير عداء الباقين وحسد الآخرين كما إذا كان طفلاً، أو مريضاً، أو معوّقاً، أو طالب علم، لا تتسنّى له الدراسة إلّا بمساعدة الآخرين.

كلّ ذلك يدعو فقهاء المذاهب في الأمصار، إلى دراسة المسألة من الأصل،4.

ص: 302


1- . سنن الدارقطني: 4/154، الوصايا، الحديث 12 و 13.
2- . تحف العقول: 34.

عسى أن يتبدّل المختلَف إلى المؤتَلف، والخلاف إلى الوفاق، بفضله وكرمه سبحانه.

***

الآية الرابعة
اشارة

قال سبحانه: (وَ لِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا اَلسُّدُسُ مِمّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَ وَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ اَلثُّلُثُ فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ اَلسُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ) .(1)

التفسير
تقديم الوصية والدين على تحديد التركة

هذه الآية ناظرة إلى مَن مات عن أب وأُمٍّ ولم يكن له ولد كما يقول: (فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَ وَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ اَلثُّلُثُ) والباقي (أي الثلثان) للأب.

نعم إنّ للأُمّ الثلث إذا لم يكن لها حاجب، بمعنى أنّه إذا كان للميّت إخوة من الأبوين أو من الأب فهؤلاء لا يرثون ولكنّهم يحجبون الأُمّ عن الثلث وينزل فرضها من الثلث إلى السدس كمايقول: (فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ اَلسُّدُسُ) والأسداس الخمسة الباقية للأب. كلّ ذلك أي هذه التقسيمات والفرائض (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ) فتقسيم التركة بعد إخراج الوصية والدين. فالآية تدلّ

ص: 303


1- . النساء: 11.

على تقديم الوصية والدين على التقسيم.

ربّما يطرح السؤال وهو: أنّ الميت إذا مات عن أب وأمّ فللأُمّ الثلث إذا لم يكن للميت أخ وإلّا فيحجب الأخ الأُمّ فيكون سهم الأُمّ هو السدس، والسؤال هو أنّ الأخ لا يرث الميّت بل يحجب الأُمّ فما هو السبب في ذلك؟

والجواب: أنّ الأخ وإن كان لا يرث ولكن نفقته على الأب دون الأُمّ، ولذلك ازداد سهم الأب ونقص سهم الأُمّ فللأُمّ السدس والأسداس الخمسة للأب.

ومعنى الآية: تقسّم التركة على الوجه الذي ذكر بعد قضاء الدين والوصية التي أوصى بها، ومعنى (أَوْ) الإباحة، وفيها إشارة إلى أنّه لو كان أحدهما أو كلاهما، قُدّم على قسمة الميراث.

ثمّ إنّ ظاهر الآية كون الدين والوصية في درجة واحدة، لكن الأخبار دلّت على أنّ الدين إن كان مستغرقاً للتركة قُدّم على الوصية، وعلى الإرث، وإن لم يكن مستغرقاً كانت الوصية نافذة في ثلث الباقي بعد إخراج الدين.

***

الآية الخامسة
اشارة

قال سبحانه: (وَ لَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ اَلرُّبُعُ مِمّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَ لَهُنَّ اَلرُّبُعُ مِمّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ اَلثُّمُنُ مِمّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَ إِنْ كانَ رَجُلٌ

ص: 304

يُورَثُ كَلالَةً أَوِ اِمْرَأَةٌ وَ لَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا اَلسُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي اَلثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اَللّهِ وَ اَللّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ) .(1)

التفسير
تقديم الوصية والدين على تحديد التركة

يؤكّد اللّه سبحانه على تقديم الوصية والدين على تقسيم الورثة في موارد ثلاثة: نقتصر على مواضع الحاجة:

1. إرث الزوج من الزوجة، يقول سبحانه: (فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ اَلرُّبُعُ مِمّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ) .

2. إرث الزوجة من الزوج، قال سبحانه: (فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ اَلثُّمُنُ مِمّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ) .

3. إرث الأخوين أو الأُختين من الأُمّ، قال سبحانه: (وَ إِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ اِمْرَأَةٌ وَ لَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا اَلسُّدُسُ) أي فلو مات رجل أو امرأة ولكلّ أخ أو أُخت من الأُمّ فلكلّ السدس، ذلك الفرض لكن لو كانوا أكثر من ذلك فللجميع الثلث كما يقول: (فَهُمْ شُرَكاءُ فِي اَلثُّلُثِ) إلّاأنّه (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ) وأمّا تفسير مجموع الآيات الواردة في الميراث فيأتي على وجه التفصيل في دراستنا لكتاب الميراث، فانتظر.

ص: 305


1- . النساء: 12.
الآية السادسة
اشارة

قال سبحانه: (يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ اَلْمَوْتُ حِينَ اَلْوَصِيَّةِ اِثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي اَلْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ اَلْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ اَلصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللّهِ إِنِ اِرْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَ لَوْ كانَ ذا قُرْبى وَ لا نَكْتُمُ شَهادَةَ اَللّهِ إِنّا إِذاً لَمِنَ اَلْآثِمِينَ) .(1)

المفردات

ضربتم في الأرض: سافرتم.

مصيبة الموت: علائم الموت.

تحبسونهما: تقفونهما، كما تقول: مرّ بي فلان على فرس، فحبس على دابته، أي وقف.

ارتبتم: شككتم في صدق الشهادة.

التفسير

إنّ الآية بوجازتها تؤكّد على الوصية كما تؤكّد على الشهادة عليها، وتتضمّن بيان أُمور أربعة:

1. إذا أحسّ الإنسان بعلائم الموت فعليه الإيصاء والإشهاد على الوصية،

ص: 306


1- . المائدة: 106.

فلو تمكّن من الإشهاد بالمؤمنين فهو، بشرط أن يكونا عدلين.

2. لو كان في سفر ولم يتمكّن من الإشهاد على الوصية بمؤمنين، فعليه أن يُشهد عليها باثنين من أهل الكتاب.

فإذا جاء الشاهدان إلى ورثة الميّت ودفعوا إليهم ما أوصى به ولم يكن هناك ريب فيقبل قولهم. وهذا هو المفهوم من الآية وإن لم يذكر منطوقاً، لعدم الحاجة إلى ذكره لكونه معلوماً.

3. فإن كان هناك ريب في صدق قولهما، وإن لم يقطعوا بالخيانة عليهم، فعلى الورثة إقسامهما بعد الصلاة على صدق الشهادة وأنّهما غير خائنين.

هذا هو مفهوم الآية فلندخل في تفسيرها.

أمّا الأمر الأوّل - أي الإيصاء عند الموت والإشهاد على الوصية بعدلين - فيستفاد من قوله سبحانه: (إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ اَلْمَوْتُ حِينَ اَلْوَصِيَّةِ اِثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ) ، حيث تبحث الآية عن عدد الشهود عند الإيصاء والإشهاد، وهو يدلّ على التأكيد على أصل الإيصاء والإشهاد بعدلين.

وأمّا الأمر الثاني وهو إذا لم يتمكّنوا من ذلك، كما إذا كنتم في سفر ولم يكن معكم أحد من المسلمين، فليأخذ شاهدين من أهل الكتاب فيشير إليه بقوله: (أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ) : أي من غير المسلمين لا من غير عشيرتكم (إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي اَلْأَرْضِ) : أي كنتم في السفر (فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ اَلْمَوْتِ) ونزلت بكم مقدّمات الموت وأردتم الإيصاء.

وأمّا الأمر الثالث، أعني: إذا كان هناك ريب في صدق الشاهدين وشككتم وخشيتم أن يكونا قد غيّرا أو بدّلا أو كتما أو خانا فيجب إيقافهما إلى ما بعد صلاة

ص: 307

العصر وحلفهما على صدق الشهادة، وعدم الخيانة كما يقول: (تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ اَلصَّلاةِ إِنِ اِرْتَبْتُمْ) : أي تقفونهما بعد الصلاة أو مطلق الصلاة أو بعد صلاة العصر عند فراغ الناس عن العمل عند وجود الريب في صدق شهادتهما. وأمّا المقسم به فيشير إليه بقوله: (فَيُقْسِمانِ بِاللّهِ) : أي تحليف الشاهدين على الوصية إن شككتم في صدقهما.

وأمّا المقسم عليه فكما هو في قوله: (لا نَشْتَرِي بِهِ) : أي باليمين (ثَمَناً) ولا نجعل يمين اللّه كالسلعة التي تبذل لأجل ثمن ينتفع به في الدنيا، حتى (وَ لَوْ كانَ) المقسم له (ذا قُرْبى) : أي من أقربائنا، لأنّ اللّه سبحانه أمر بالعدل وإن لم يتم بصالح ذوي القربى، أو تمّ على ضرره كما قال: (وَ إِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَ لَوْ كانَ ذا قُرْبى) .(1)

ثم يؤكّدان على صدقهما في الشهادة على الوصية بقولهما (وَ لا نَكْتُمُ شَهادَةَ اَللّهِ) التي أوجبها اللّه تعالى علينا، وإلّا صرنا (إِنّا إِذاً لَمِنَ اَلْآثِمِينَ) .

ثمّ إنه إذا ظهر كذب الشاهدين فالآية الثانية تتكفّل ببيان حكم هذا الحال، وسيأتي تفصيل ذلك في دراستنا لآيات كتاب الشهادات.

وفي الختام نذكر بعض ما ورد من الروايات حول الآية:

1. روى الكليني عن هشام بن الحكم بسند صحيح عن أبي عبد اللّه عليه السلام في قول اللّه تبارك وتعالى: (أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ) قال: «إذا كان الرجل في أرض غربة لا يوجد فيها مسلم جازت شهادة مَن ليس بمسلم على الوصية».(2)4.

ص: 308


1- . الأنعام: 152.
2- . الكافي: 354/2، باب شهادة أهل الملل، الحديث 6؛ الوسائل: 13، الباب 20 من أبواب كتاب الوصايا، الحديث 4.

2. وروى أيضاً عن يحيى بن محمد، قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن قول اللّه عزّ وجلّ: (يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ اَلْمَوْتُ حِينَ اَلْوَصِيَّةِ اِثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ) ، قال: «اللّذان منكم مسلمان، واللّذان من غيركم من أهل الكتاب، فإن لم تجدوا من أهل الكتاب فمن المجوس، لأنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم سنّ في المجوس سنّة أهل الكتاب في الجزية».(1)

وممّا ذكرنا يظهر أنّ تفسير قوله سبحانه: (اِثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ) بالأقارب، وتفسير قوله: (أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ) بالأجانب، غير صحيح لما عرفت من الروايات، خصوصاً بالنسبة إلى ما روى الفريقان في شأن نزول الآية.(2)

ثمّ إنّ الظاهر أنّ اشتراط السفر في جواز شهادة الذميّين من باب القيد الوارد في الغالب، فإنّ الإنسان إنّما يفقد المسلم لتحمّل الشهادة، في الأسفار غالباً لا في الأوطان، يقول الفاضل الجواد: والأكثر من الأصحاب على عدم اعتبار السفر، قالوا:

والتقييد في الآية والأخبار من حيث إنّه خرج مخرج الأغلب لا من حيث إنّه شرط.(3)

ويؤيّده ما رواه ضريس الكناسي عن الباقر عليه السلام قال: سألته عن شهادة أهل الملل، هل تجوز على رجل مسلم من غير أهل ملّتهم؟ فقال: «لا، إلّاأن لا يوجد3.

ص: 309


1- . الكافي: 235/2، باب الإشهاد على الوصية، الحديث 6؛ الوسائل: 13، الباب 20 من أبواب كتاب الوصايا، الحديث 6.
2- . لاحظ: الوسائل: 13، الباب 21 من أبواب كتاب الوصايا، ما أخرجه الكليني عن علي بن إبراهيم عن رجاله.
3- . مسالك الأفهام إلى آيات الأحكام: 124/3.

في تلك الحال غيرهم، وإن لم يوجد غيرهم جازت شهادتهم في الوصية؛ لأنّه لا يصلح ذهاب حقّ امرئ مسلم ولا تبطل وصيته».(1)

والرواية لا تخلو من قوّة لأنّ الراوي عن ضريس الكناسي هو أبو أيوب الخزّاز وهو من أعاظم أصحابنا، فلو لم تثبت وثاقة ضريس الكناسي؛ لتعدّده بين الثقة والمهمل، فيكفي نقل الخزّاز عنه في الاعتماد على الرواية.

***1.

ص: 310


1- . الوسائل: 13، الباب 20 من أبواب كتاب الوصايا، الحديث 1.

العقود الشرعية

11. في أحكام الحجر
اشارة

الحجر هو المنع، والمحجور شرعاً هو الممنوع من التصرّف في ماله، ثمّ ذكر أنّ موجباته ستة: الصغر، والسفه، والرق، والمرض المتصل بالموت، والفلس، والجنون.(1)

والذي ورد في الذكر الحكيم هو: الصغر، والسفه، والرق، وأمّا الأسباب الأُخرى فإنّما ورد حكمها في السنّة. فلندرس ما ورد حولها من الآيات.

أوّلاً: الحجر بسبب الصغر
اشارة

إنّ من موجبات الحجر هو الصغر غير أنّ الآيات التي سندرسها تركّز على قسم من الصغار وهو اليتيم الذي مات أبوه.

الآية الأُولى
اشارة

قال سبحانه: (وَ آتُوا اَلْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَ لا تَتَبَدَّلُوا اَلْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً) .(2)

ص: 311


1- . شرائع الإسلام: 99/2.
2- . النساء: 2.
المفردات

اليتامى: جمع اليتيم، واليتم: انقطاع الصبي عن أبيه قبل بلوغه، أي موت أبيه قبل بلوغه، وربما يطلق على البالغ الذي انقضى عنه اليتم، ولعلّه هو المراد في الآية بقرينة دفع أمواله إليه فيكون إطلاقه عليه بعلاقة من مضى.

الخبيث: يطلق على الرديء.

الطيّب: الجيّد، حيث كان الأولياء يأخذون الجيّد من أموال اليتيم ويجعلون مكانه الرديء.

حوباً: الحوب: الإثم.

التفسير

تدلّ الآية على محجورية اليتيم عن التصرّف في أمواله التي هي تحت يد أوليائه، بشهادة أنّه سبحانه يأمر بدفع أموال اليتامى إليهم، بعد البلوغ، ومعنى ذلك المحجورية قبله.

والآية تتحدّث عن أُمور ثلاثة:

1. دفع أموال اليتامى إليهم.

2. النهي عن تبديل الخبيث بالطيّب.

3. النهي عن ضمّ أموال اليتامى إلى أموال الأولياء تملّكاً وغصباً.

أمّا الأوّل فيقول سبحانه: (وَ آتُوا اَلْيَتامى أَمْوالَهُمْ) لا مطلقاً؛ بل إذا بلغوا

ص: 312

النكاح والرشد، كما يأتي في الآية التالية.(1)

والفقرة تدلّ على أنّ الواجب على أولياء اليتامى صيانة أموالهم من الضياع والحفاظ عليها حتى يسلّموها إليهم، إذا كانوا مؤهّلين للأخذ والحفظ.

وأمّا الثاني فيقول سبحانه: (وَ لا تَتَبَدَّلُوا اَلْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ) : أي لا تجعلوا الخبيث بدلاً من الطيّب.

غير أنّ الكلام ما هو المراد من الخبيث والطيّب؟ وأُريد من الخبيث مال الصبي، وقد وصف به لأجل حرمته، والطيّب هو مال الولي وصف به لأجل حلّيته.

ومعنى الجملة: لا تستبدلوا ما حرّم اللّه تعالى عليكم من أموال اليتامى بما أحلّه اللّه لكم من أموالكم. وما ذكرناه لا ينافي من أنّ الأولياء كانوا يأخذون الجيّد من أموال اليتيم ويجعلون الرديء بدلاً عنه، فالجيّد مع جودته خبيث لكونه حراماً، والرديء لرداءته طيّب لكونه حلالاً.

وأمّا الثالث: فقوله: (وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ) منضمة (إِلى أَمْوالِكُمْ) ، وأطلق الأكل وأُريد به الأخذ والغصب، وهذا النوع من الاستعمال كثير، لأنّ الأكل هو الغاية القصوى من أفعال الناس.

ثمّ إنّه سبحانه علّل حكمه هذا بقوله: (إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً) ولعلّه علّة للأحكام الثلاثة.

أكل مال اليتيم من الكبائر

إنّ التصرّف في مال اليتيم تصرّف في مال مَن لا يستطيع أن يدافع عن ماله

ص: 313


1- . لاحظ: النساء، الآية 6.

وشؤونه، وهو موجود ضعيف يعيش في أحضان الولي، الذي يترقّب منه الاهتمام بماله، لكنّه يا للأسف لا يحترم ماله ويغصبه وكأنّه ماله.(1)

ولأجل ذلك نرى أنّه سبحانه ينهى عن الاقتراب إلى مال اليتيم فضلاً عن التجاوز والتصرّف فيه، كما يقول: (وَ لا تَقْرَبُوا مالَ اَلْيَتِيمِ إِلاّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (2).

ومع ذلك فاللّه سبحانه لا يعزل الولي عن مال اليتيم على وجه الإطلاق؛ بل يسمح له بالتصرّف بالمال بما يصلحه وينميه، كما في قوله سبحانه: (وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَ إِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ) (3).

الآية الثانية
اشارة

قال سبحانه: (وَ اِبْتَلُوا اَلْيَتامى حَتّى إِذا بَلَغُوا اَلنِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَ لا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَ بِداراً أَنْ يَكْبَرُوا وَ مَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَ مَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَ كَفى بِاللّهِ حَسِيباً) .(4)

المفردات

ابتلوا: من الابتلاء بمعنى الاختبار.

ص: 314


1- . يلاحظ: الأنعام: 151-152.
2- . الأنعام: 151.
3- . البقرة: 220.
4- . النساء: 6.

النكاح: الزواج: أي الوصول إلى السن التي يكون بها الغلام مستعدّاً للزواج ومن علائمه الاحتلام ولذلك يقول سبحانه: (وَ إِذا بَلَغَ اَلْأَطْفالُ مِنْكُمُ اَلْحُلُمَ) (1)أي إنزال الماء الدافق المتحقّق في الاحتلام والجماع. نعم للبلوغ علامات أُخرى أفضلها هو الاحتلام، ومنها السن المخصوص في الإناث والذكور، ونبات الشعر الخشن على العانة.

آنستم: عرفتم أو أبصرتم أو أحسستم.

رُشداً: الرشد: أُريد الرشد الاقتصادي لا في مجالات أُخرى، كأن يميّز ما يُصلح ماله عمّا يفسده. ويكفي ذلك ولا يشترط الرشد الذي لا علاقة له بصلاح ماله. ويؤيّد ذلك تنكير الرشد أي رشداً خاصّاً ماليّاً، لا سياسياً ولا اجتماعياً.

إسرافاً: الإسراف: التجاوز عن قدر الحاجة.

بداراً: تسرّعاً.

فليستعفف: بترك الانتفاع بمال اليتيم ويقتنع بما رزقه اللّه من الغنى اشفاقاً على اليتيم.

بالمعروف: أي بقدر الحاجة.

إعراب فقرات الآية

بما أنّ لتبيين إعراب الآية تأثيراً في إيضاح مفادها نذكر شيئاً منه:

1. قوله: (إِذا بَلَغُوا اَلنِّكاحَ) ، ف (إِذا) في الفقرة ظرفية لا شرطية ولا تحتاج إلى الجواب، والمعنى: واختبروا اليتامى إلى زمان بلوغهم النكاح (فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ

ص: 315


1- . النور: 59.

رُشْداً) ، وبما أنّه يتضمّن معنى الشرط فهو بحاجة إلى الجزاء، وهو قوله:

(فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ) .

2. الظاهر أنّ قوله: (إِسْرافاً وَ بِداراً) مصدران لبيان نوع الأكل.

3. قوله: (أَنْ يَكْبَرُوا) مفعول به لبداراً، بتقدير «خوفاً من أن» والمعنى لا تأكلوها إسرافاً وبداراً خوفاً من أن يكبروا فيأخذوه منكم.

4. قوله: (فَلْيَسْتَعْفِفْ) ، قال الزمخشري: واستعفّ أبلغ من عفّ كأنّه طالب زيادة العفّة.(1)

بالسين زيادة العفّة.

أقول: وقد تنظّر فيه الفاضل المقداد قائلاً بأنّ السين يطلب بها الفاعل أصل الفعل لا زيادته نحو: استكتب.(2)

أقول: لكن الغالب هو الأوّل.

التفسير

أمر سبحانه في آيتنا بدفع أموال اليتامى إليهم، واقتضى ذلك أن يذكر الوقت الذي يدفع فيه أموالهم، لكونهم محجورين لصغرهم فيلزم ضرب أمد خاص لحجرهم، وليس اليتامى كالسفهاء الذين ربما يمتدّ حجرهم إلى آخر أعمارهم.

ثمّ إنّ الآية تحوم على محاور أربعة:

1. بيان الأوان الذي يصلح شرعاً لدفع أموالهم إليهم حتى يستقلّوا في البيع

ص: 316


1- . تفسير الكشّاف: 502/1.
2- . كنز العرفان: 101/2.

والشراء وسائر التصرّفات الاقتصادية.

2. النهي عن تصرّفات الولي غير الصالحة في أموال اليتيم مخافة أن يكبر وينتزع أمواله منه.

3. إذا كان الولي غنياً فاللائق بحاله أن يقتنع بما آتاه اللّه من الغنى والرزق، ولايأكل من مال اليتيم شيئاً. نعم لو كان فقيراً يتناول بقدر الحاجة.

4. الإشهاد حين دفع أموال اليتامى إليهم.1.

ص: 317

1. أن يكون المراد: (فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً) من بدء الاختبار إلى زمان البلوغ (فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ) في ذلك الظرف.

2. أن يكون المراد: (فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ) بعد البلوغ.

فلو صحّ المعنى الأوّل يكون الموضوع لدفع الأموال هو الرشد، ففي أي زمان أثبت الاختبارُ رشدهم تدفع إليهم أموالهم، سواء أكان قبل البلوغ أم بعده.

وأمّا على الثاني فبما أنّه تفريع على الابتلاء مع البلوغ يكون الموضوع لدفع المال أمران: رشدهم مع البلوغ.

ولكن الاحتمال الأوّل مردود بوجهين:

أمّا أوّلاً: لو كان الموضوع هو الرشد تماماً فلا وجه لذكر البلوغ، إذ لا مدخلية له.

وثانياً: إنّ قوله سبحانه: (وَ بِداراً أَنْ يَكْبَرُوا) يُرشد إلى أنّ الموضوع لدفع المال هو بلوغهم وكبرهم، غاية الأمر دلّت الآية على انضمام الرشد فتعيّن المعنى الثاني وهو شرطية الرشد مع ضمّ البلوغ.

فإن قلت: إذا كان الموضوع للدفع هو اجتماع الوصفين بحيث لا يجوز الدفع قبلهما، فلماذا أوجب الابتلاء قبل البلوغ (من زمان يحتمل فيه الرشد) إلى أوّل زمان بعد البلوغ؟

قلت: يحتمل أن يكون ذلك لأحد وجهين أو كليهما:

1. أهمية الموضوع واحتياج كشف الرشد وإيناسه من زمان معتدّ به يُجرَّب فيه الطفل ويعلم منه العقل والتدبير، وهو ممّا لا يمكن الاطلاع عليه بشهر أو

ص: 318

شهرين.

2. لعل الأمر بالابتلاء قبل البلوغ - حين احتمال الرشد - إلى أوّل زمان البلوغ، لأجل عدم التأخير في ردّ المال إلى صاحبه في أوّل زمان اجتمع فيه الشرطان.(1)

رأي أبي حنيفة في تفسير الفقرة

ذهب أبو حنيفة إلى شرطية البلوغ في صحّة المعاملة لكنّه يستثني ما يقصد الابتلاء قبل البلوغ ويقول: إذا كان الابتلاء في زمان احتمال الرشد وقبل البلوغ فالعقود الصادرة منه في هذه الفترة تكون محكومة بالصحّة (إذا كان مقروناً بالرشد)، وعندئذٍ لا يكون البلوغ شرطاً للصحّة؟ وإليك كلام الرازي في تبيين نظر أبي حنيفة:

استدلّ أبو حنيفة بالآية على صحّة البيع في فترة الاختبار وقال: إنّ قوله:

(وَ اِبْتَلُوا اَلْيَتامى حَتّى إِذا بَلَغُوا اَلنِّكاحَ) يقتضي أنّ هذا الابتلاء إنّما يحصل قبل البلوغ، والمراد من هذا الابتلاء اختبار حاله في أنّه هل له تصرّف صالح للبيع والشراء؟ وهذا الاختبار إنّما يحصل إذا أذن له في البيع والشراء، وإن لم يكن هذا المعنى نفس الاختبار (لكونه أعمّ منه)، فهو داخل في الاختبار بدليل أنّه يصحّ الاستثناء، يقال: وابتلوا اليتامى إلّافي البيع والشراء، وحكم الاستثناء إخراج ما لولاه لدخل، فثبت أنّ قوله: (وَ اِبْتَلُوا اَلْيَتامى) أمر للأولياء بأن يأذنوا لهم في البيع والشراء قبل البلوغ، وذلك يقتضي صحّة تصرّفاتهم.(2)

ص: 319


1- . منية الطالب: 170/1؛ كتاب البيع: 17/2.
2- . تفسير الرازي: 188/9.

وأجاب عنه الشافعي، بأنّه ليس المراد من قوله: (وَ اِبْتَلُوا اَلْيَتامى) الإذن لهم بالتصرّف (في أموالهم) حال الصغر، بدليل قوله تعالى بعد ذلك: (فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ) فإنّما أمر بدفع المال إليهم بعد البلوغ وإيناس الرشد، وإذا ثبت بموجب هذه الآية أنّه لا يجوز دفع المال إليه حال الصغر وجب أن لا يدفع إليه المال ولو للاختبار ويجوز تصرفه حال الصغر، لأنّه لا قائل بالفرق (بين دفع المال إليه على وجه الإطلاق وبين دفعه للاختبار).

أقول: ما أجاب به الشافعي في ذيل كلامه غير تام، لأنّ دفع المال إلى الصبي على قسمين:

1. دفع شيء يسير من ماله ليتّجر به ويختبر حاله، فهذا غير مشروط بالبلوغ.

2. دفع مجموع أمواله إليه وإطلاق يده في التصرّف بها بما يشاء.

والّذي اتّفق الفقهاء على بطلانه هو الثاني لا الأوّل، فادّعاء عدم الفرق بين القسمين غير صحيح. نعم ما ذكره في صدر كلامه من أنّه ليس المراد من الاختبار هو التصرّف في الأموال هو المتعيّن بأن يقال:

أوّلاً: بأنّ الابتلاء الّذي هو مقدّمة لإيناس الرشد لا يتوقّف على دفع شيء من ماله إليه ليتّجر به، بل يتحقّق بالأُمور الكثيرة في داخل البيت وخارجه حتّى يعلم مدى رشده. ويمكن التوصّل إلى معرفة ذلك من خلال علم النفس.

ثانياً: يمكن أن يقوم الطفل بمقدّمات المعاملة مع حضور الولي، فإذا كان العمل الّذي اتّفق عليه مفيداً غير ضارّ، يقدم الولي على إنجاز هذا العقد.

وحصيلة الكلام: إنّ كلام أبي حنيفة مبني على أنّ المراد من الابتلاء هو

ص: 320

تجارة الصبي بنفسه بشيء من ماله مع أنّه غير صريح ولا ظاهر في الابتلاء بالتجارة، فإنّ لإيناس الرشد طرقاً أُخرى، وعلى فرض كون المراد التجارة، لا دليل على استقلاله في حال الابتلاء. بل يكون الولي وراءه فينفذ إذا كان العمل نافعاً ويردّ إذا كان ضاراً.

***

وأمّا المحور الثاني فيشير إلى العادة السائدة في الجاهلية وهي أنّ الأولياء كانوا يستعجلون ببعض التصرّفات في أموال اليتيم مخافة أن يكبر وينتزع أمواله من الولي، فإليه يشير بقوله تعالى: (وَ لا تَأْكُلُوها إِسْرافاً) أكلاً تجاوزاً عن الحدّ المباح؛ لأنّ للولي - إذا كان فقيراً - أن يأكل على قدر الحاجة أو على قدر عمله.

روى الكليني عن سماعة عن أبي عبد اللّه عليه السلام في قول اللّه عزّ وجلّ: (وَ مَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ) . قال: «مَن كان يلي شيئاً لليتامى وهو محتاج ليس له ما يُقيمه فهو يتقاضى أموالهم، ويقوم في ضيعتهم، فليأكل بقدر الحاجة ولا يُسرف، فإذا كانت ضيعتهم لا تشغله عمّا يُعالج لنفسه فلا يرزأن(1) أموالهم شيئاً»(2)(وَ بِداراً أَنْ يَكْبَرُوا) : أي أكلاً تسرّعاً خوفاً من أن يكبر اليتيم ويطلب ماله.

وأمّا المحور الثالث فيقسّم الأولياء إلى غني وفقير، أمّا الأوّل فالأولى لهم التنزّه عن مال اليتيم، وأن يقتنعوا بما أعطاهم اللّه من الغنى والرزق. قال سبحانه:

(وَ مَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ) .

وأمّا الولي الفقير فيأكل بالمعروف، أي بقدر حاجته ولا يتجاوز ما يستحقّه،1.

ص: 321


1- . رزأ ماله: أصاب منه شيئاً.
2- . الكافي: 129/5، برقم 1.

قال سبحانه: (وَ مَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ) .

وأمّا المحور الرابع فهو الإشهاد عند دفع أموال اليتامى إليهم كما يقول: (فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ) دفعاً للتهمة، وهل الأمر وجوبي أو إرشادي؟ الظاهر هو الثاني لما علمت من أنّ الغاية دفع التهمة.

الآية الثالثة
اشارة

قال سبحانه: (وَ لْيَخْشَ اَلَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اَللّهَ وَ لْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً) .(1)

المفردات

وليخش: الخطاب موجّه إلى ولي اليتيم.

خافوا: الفعل جزاء للشرط المتقدّم أعني: «لو تركوا».

التفسير

ذكر المفسّرون في تفسير الآية وجوهاً متعدّدة.(2) والمختار عندنا أنّه سبحانه يخوّف أولياء اليتامى ويحذّرهم من التجاوز على أموالهم بأنّهم لو تركوا ذرية ضعافاً يُصنع بهم مثل ما صنعوا بأيتام غيرهم، ويوضح ذلك الحديث المروي عن الإمام موسى الكاظم عليه السلام: «إنّ اللّه أوعد في مال اليتيم عقوبتين اثنتين:

أمّا إحداهما: فعقوبة الآخرة النار، وأمّا الأُخرى فعقوبة الدنيا، قوله: (وَ لْيَخْشَ

ص: 322


1- . النساء: 9.
2- . لاحظ: مجمع البيان: 27/3-28.

اَلَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اَللّهَ وَ لْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً) قال: يعني بذلك ليخش أن أُخلفه في ذريته كما صنع بهؤلاء اليتامى».(1)

وقال الإمام علي عليه السلام: «أَحْسِنُوا فِي عَقِبِ غَيْرِكُمْ تُحْفَظُوا فِي عَقِبِكُمْ».(2)

إذا تبيّن ذلك فلندخل في تفسير الآية بحرفيتها.

قوله تعالى: (وَ لْيَخْشَ اَلَّذِينَ) بيدهم أموال اليتامى (لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً) وصارت أموالهم بيد أوليائهم (خافُوا) : أي لخافوا (عَلَيْهِمْ) : أي على الذرية بأن يتعامل الأولياء مع أموالهم معاملة جائرة مثل معاملاتهم مع الأيتام.

وعلى ما ذكرنا فالآية تدلّ على انعكاس عمل الإنسان ومعاملته مع أيتام الغير في أيتام نفسه لو ترك مالاً وأولاداً فيعامل معهم كمعاملته مع غيرهم.

فإن قلت: إنّه تشترط الصلة والملازمة بين الشرط والجزاء، فيقال: إن أكرمك أكرمه، فيكون إكرام الرجل للشخص سبباً لإكرامه له، وأمّا المقام فلا ملازمة بين ظلم أحد لأيتام شخص، وبين ظلم الآخرين لأيتام ذلك الجائر.

قلت: لا ملازمة بين ظلم أحد على يتيم وبين ظلم الآخرين على يتيم ذلك الظالم، ولكن إذا صار هذا العمل أمراً رائجاً شائعاً، يكون سنّة اجتماعية سائدة في جميع الأحوال، فيعامل مع أموال اليتامى معاملة جائرة لا فرق بين يتيم أحد وأيتام الآخرين. وبذلك تظهر الملازمة بين التجاوزين.

يقول السيد الطباطبائي: الناس يتسالمون في الجملة أنّ الإنسان إنّما يجني ثمرة عمله، وأنّ المحسن الخيّر من الناس يسعد حياته والظالم الشرير لا يلبث4.

ص: 323


1- . البرهان في تفسير القرآن: 36/3-37، عن تفسير العياشي: 223/1 برقم 38.
2- . نهج البلاغة: قصار الحكم، برقم 264.

دون أن يذوق وبال عمله. ثم استشهد بعدد من الآيات، فقال: إنّ عمل الإنسان خيراً أو شراً ربما عاد إليه في ذريته وأعقابه، قال تعالى: (وَ أَمَّا اَلْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي اَلْمَدِينَةِ وَ كانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما وَ كانَ أَبُوهُما صالِحاً فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَ يَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) (1)، فظاهر الآية أنّ لصلاح أبيهما دخلاً فيما أراده اللّه رحمة بهما.(2)

وفي نهاية الآية يأمر سبحانه الأولياء بأمرين:

1. (فَلْيَتَّقُوا اَللّهَ) : أي عن مخالفته أو عن عقابه في الأموال التي للأيتام وهي تحت أيديهم.

2. (وَ لْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً) : أي قولاً صواباً عدلاً موافقاً للشرع والحقّ والسديد من القول هو القول السليم من خلل الفساد، وأصله من سدّ الخلل.(3)

ويحتمل أن يُراد به القول المعروف الخالي عن الخشونة المقرون بالعطف والحنان فإنّ الأيتام أشدّ حاجةً للتودّد والترحّم نظير استحقاقهم إلى الكسوة والطعام. نظير قوله سبحانه: (وَ قُولُوا لِلنّاسِ حُسْناً) .(4)

الآية الرابعة
اشارة

قوله سبحانه: (إِنَّ اَلَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ اَلْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي

ص: 324


1- . الكهف: 82.
2- . الميزان في تفسير القرآن: 202/4.
3- . مجمع البحرين: 65/3، مادة «سدد».
4- . البقرة: 83.

بُطُونِهِمْ ناراً وَ سَيَصْلَوْنَ سَعِيراً) .(1)

المفردات

سيصلون: الصلي: الإيقاد بالنار، يقال: صلي بالنار، وصليت الشاة: شويتها.

وربما يفسّر بالدخول في النار، يقال: صلى النار: دخل فيها، قال تعالى: (فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً) .(2)

سعيراً: السعير: الحميم. فالفعيل بمعنى المفعول.

التفسير

أكّد سبحانه على الأمانة في مورد أموال اليتامى في قوله تعالى: (وَ آتُوا اَلْيَتامى أَمْوالَهُمْ) ولم يقتصر بذلك حتى أكّد في الآية المتقدّمة بأنّ عمل كلّ إنسان في ذرية شخص ينعكس على ذريته حتى جاء البيان القرآني، يهدّد الظالمين المتجاوزين على حقوق اليتامى أشدّ التهديد، ويقول: (إِنَّ اَلَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ اَلْيَتامى ظُلْماً) : أي أكلاً على طريق الظلم، خرج ما إذا كان فقيراً يأكل بمقدار حاجته في طريق حفظ أموال اليتامى وتنميتها (إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً) فالمفسّرون في تفسير الفقرة على رأيين:

أحدهما: أنّ المراد بأكل النار أكل ما يوجب العذاب بالنار، فهو من باب إطلاق المسبّب - وهو النار - على السبب - وهو أكل الحرام -. وفي الحديث: أنّ أمير المؤمنين عليه السلام اشتكى عينه فعاده النبي صلى الله عليه و آله و سلم... إلى أن قال: «يا علي إنّ ملك

ص: 325


1- . النساء: 10.
2- . النساء: 30.

الموت إذا نزل لقبض روح الكافر نزل معه سفود من نار فينزع روحه به فتصيح جهنّم» فاستوى علي عليه السلام جالساً... ثم قال: هل يصيب أحداً من أُمّتك؟ قال: «نعم، حاكم جائر، وآكل مال اليتيم ظلماً، وشاهد زور».(1) وهذا هو خيرة السيد الشريف الرضي، يقول: والمعنى لما أكلوا المال المؤدّي إلى عذاب النار شبّهوا من هذا الوجه بالآكلين من النار.(2)

الثاني: أنّ الآية من مقولة تجسّم الأعمال وأنّ قوله: (إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً) كلام على الحقيقة دون المجاز، فهو عمل واحد ولكن له تجلّيان:

تجلٍّ في الدنيا وهو أكل مال اليتيم ظلماً، وتجلٍّ في الآخرة وهو الظهور بصورة أكل النار.

وبعبارة أُخرى: إنّ لعمل واحد سواء أكان خيراً أم شرّاً وجودين، بالنسبة إلى الظروف التي يقع فيها، فأكل مال اليتيم له وجود دنيوي واضح، وله وجود أُخروي وهو أكل النار.

ثمّ إنّ لأصحاب السلوك والمعرفة بحوثاً قيّمة في تجسّم الأعمال، وأنّ شيئاً واحداً له ظهور دنيويّ وله ظهور أُخروي، غير أنّ الظهور الأُخروي لا يدرك في الدنيا لأنّه يحتاج إلى حسّ خاص يفقده الإنسان الدنيوي، يقول تعالى: (يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَ جُنُوبُهُمْ وَ ظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ) (3). فإنّ قوله: (هذا ما كَنَزْتُمْ) إشارة إلى5.

ص: 326


1- . الكافي: 254/3، برقم 10، باب النوادر.
2- . تلخيص البيان في مجازات القرآن: 18.
3- . التوبة: 35.

الدراهم والدنانير التي اكتنزوها في الحياة الدنيا فهي في تلك الحياة دنانير صفراء فاقع لونها تسرّ الناظرين، وفي الحياة الأُخروية نار تكوى بها الجباه والجنوب.

قوله تعالى: (وَ سَيَصْلَوْنَ سَعِيراً) : أي يدخلون النار.

روي عن الإمام الباقر عليه السلام أنّه قال: «قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: يُبعث أناسٌ من قبورهم يوم القيامة تؤجّج أفواههم ناراً، فقيل له: يا رسول اللّه مَن هؤلاء؟ قال: (اَلَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ اَلْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَ سَيَصْلَوْنَ سَعِيراً) (1).

وروى الكليني عن الإمام الباقر عليه السلام [في حديث طويل]: «إنّ آكل مال اليتيم يجيء يوم القيامة والنار تلتهب في بطنه، حتّى يخرج لهب النار من فيه حتى يعرفه كلّ أهل الجمع أنّه آكل مال اليتيم».(2)

***

ثانياً: الحجر بسبب السفه
اشارة

قد مرّ الحجر بسبب الصغر وإليك دراسة الحجر بسبب السفه.

قال سبحانه: (وَ لا تُؤْتُوا اَلسُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ اَلَّتِي جَعَلَ اَللّهُ لَكُمْ قِياماً وَ اُرْزُقُوهُمْ فِيها وَ اُكْسُوهُمْ وَ قُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً) .(3)

المفردات

ص: 327


1- . تفسير العياشي: 35/1، برقم 47.
2- . الكافي: 31/2.
3- . النساء: 5.

السفهاء: جمع السفيه، والسفه هو الخفة في العقل والطيش(1) ووضع الأُمور في غير موضعها، ومنه التبذير في صرف المال.

جعل اللّه لكم: فعل «جعل» يتعدّى إلى مفعولين: الأوّل: الضمير أي جعلها اللّه. الثاني قوله: (قِياماً) .

قياماً: مأخوذ من القِوام بكسر القاف، وقِوام الأمر: عِماده الذي يقوم به وينتظم، أو يعتمد عليه.

وارزقوهم: ممّا يحتاجون إليه من المأكول.

واكسوهم: ممّا يحتاجون إليه من اللبس، فالفعلان: (اُرْزُقُوهُمْ) و (اُكْسُوهُمْ) كناية عن كلّ ما يحتاجون إليه، غير أنّ ما هو مظهر الحاجة - غالباً - الأكل واللبس.

قولاً معروفاً: قولاً لطيفاً لا غلظة فيه ولا شدّة.

التفسير

الآية بصدد المنع عن إيتاء المال لمن فيه خفّة عقل وطيش لا يعرف ما يصلح له عمّا يفسد، فلذلك نهى عن دفع أموال السفهاء إليهم فقال: (وَ لا تُؤْتُوا اَلسُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ) . نعم يضيف سبحانه أموال السفهاء إلى الأولياء ويقول: (وَ لا تُؤْتُوا اَلسُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ) مكان أن يقول: ولا تؤتوا السفهاء أموالهم. ولذلك خاطب

ص: 328


1- . طاش، يطيش طيشاً فهو طائش. الطيش: خفة العقل، وفي الصحاح: النزق والخفّة. وطاش السهم عن الهدف: جاز عنه ولم يصبه. وأنشد سيبويه: ولقد علمت لتأتين منيتي إنّ المنايا لا تطيش سهامها لاحظ: مجمع البيان: 72/9؛ لسان العرب: 312/6، مادة «طيش».

الأولياء بقوله: (وَ اُرْزُقُوهُمْ فِيها وَ اُكْسُوهُمْ) وكأنّ الأموال لهم لا للسفهاء ولكن المجوّز لهذا النوع من النسبة مع أنّ الأموال في الحقيقة لغيرهم، هو: أنّ الأموال لما كانت بأيدي الأولياء يتصرّفون فيها حسب مصالح المحجورين، فصحّت نسبة الأموال إليهم بأن يقال: «أموالكم» بنحو من التجوّز.

ومع ذلك فإنّ للسيد الطباطبائي رأياً آخر لبيان هذه النسبة يقول: وفي الآية دلالة على حكم عام موجّه إلى المجتمع، وهو: أنّ المجتمع ذو شخصية واحدة له كلّ المال الذي أقام اللّه به صلبه وجعله له معاشاً، فيلزم على المجتمع أن يدبّره ويصلحه ويعرضه معرض النماء ويرتزق به ارتزاقاً معتدلاً مقتصداً ويحفظه عن الضياع والفساد، ومن فروع هذا الأصل أنّه يجب على الأولياء أن يتولّوا أمر السفهاء فلا يؤتوهم أموالهم فيضيعوها بوضعها في غير ما ينبغي أن توضع فيه، بل عليهم أن يحبسونها عنهم ويصلحوا شأنها، وينمّوها بالكسب والاتّجار والاسترباح ويرزقوا أُولئك السفهاء من فوائدها ونمائها دون أصلها حتى لا ينفد رويداً رويداً وينتهي إلى مسكنة صاحب المال وشقوته.(1)

فعلى هذا فالأموال لها نسبتان نسبة إلى السفهاء بما أنّهم ورثوها من آبائهم، ونسبة إلى المجتمع من غير فرق بين أموالهم وأموال غيرهم، فاللّه سبحانه خلق الأموال لحياة المجتمع، فتصحّ كلتا النسبتين، فهذه الفقرة تدلّ على أنّ للإسلام اهتماماً كبيراً بمعاش الناس وحياتهم الدنيوية، حتى أنّه سبحانه قد ساوى بين الأنفس والأموال في العديد من الآيات، فقال: (إِنَّ اَللّهَ اِشْتَرى مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ اَلْجَنَّةَ) (2)، كما أنّه سبحانه وصف المال بالخير وقال:

(إِنْ تَرَكَ 1.

ص: 329


1- . الميزان في تفسير القرآن: 170/4.
2- . التوبة: 111.

خَيْراً) .(1)

والروايات في هذا المجال كثيرة.

ثمّ إنّه سبحانه بعد ما يأمر بحفظ أموال السفهاء يرخّص لهم في إعطاء ما يقوم به عيشهم من الرزق والكسوة، ويقول: (وَ اُرْزُقُوهُمْ فِيها وَ اُكْسُوهُمْ) وأشار إلى المهم من الحاجات.

وفي ختام الآية يأمر سبحانه الأولياء أن يتعاملوا معهم بالعطف والشفقة ويقول: (وَ قُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً) ردّاً على الخشونة التي يبديها بعض الأولياء في تعاملهم مع هؤلاء، وكأنّ من تحت ولايتهم عبيد لهم، فيتعاملون معهم على هذا النحو.

ثمّ إنّ هنا سؤالاً وهو أنّه سبحانه قال: (وَ اُرْزُقُوهُمْ فِيها وَ اُكْسُوهُمْ) وكان المفروض في اللغة أن يقول: وارزقوهم منها، أي من الأموال، فلماذا عدل إلى حرف (في)؟ وهذا ما يجيب عنه صديقنا الفقيد الشيخ مغنية رحمه الله بقوله: لو قال «منها» لكان المعنى أن يأكل السفيه من أصل ماله، فينقص المال بذلك، وربما استهلكه كلّه إن طال المدى، أمّا «في» فإنّها ظرف، ويكون المعنى: أنّ المال يكون محلاً للرزق، وذلك أن يتّجر به الولي، ويستثمره وينفق على السفيه من الناتج، لا من أصل المال.(2) وربما يشير إليه في «كنز العرفان» بقوله: في قوله: (وَ اُرْزُقُوهُمْ فِيها وَ اُكْسُوهُمْ) دون «منها» فائدة، وهي أن يرزقوهم من ربحها لا من أصلها لئلّا يأكلها الإنفاق.(3)2.

ص: 330


1- . البقرة: 180.
2- . التفسير الكاشف: 255/2.
3- . كنز العرفان: 111/2.

فإن قلت: إنّ قوله سبحانه: (وَ اُرْزُقُوهُمْ) لا ينسجم في الظاهر مع قوله تعالى: (إِنَّ اَللّهَ هُوَ اَلرَّزّاقُ ذُو اَلْقُوَّةِ اَلْمَتِينُ) (1).

قلت: إنّ النسبة تختلف، فنسبة الرزق إلى اللّه نسبة استقلالية، فاللّه تعالى من دون أن يستعين بشخص يرزق الناس جميعاً، وأمّا الأولياء فهم يرزقون المحجورين برزق يرزقهم اللّه إيّاه، وكم لهاتين النسبتين من نظائر في القرآن الكريم، يقول سبحانه: (اَللّهُ يَتَوَفَّى اَلْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها) .(2) وفي آية أُخرى يقول: (حَتّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ اَلْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا) (3)، فالتوفّي بمعنى الأخذ منسوب إلى اللّه سبحانه في الآية الأُولى وإلى الرسل الذين أُريد بهم الملائكة في الآية الثانية، وهناك شيء واحد منسوب إلى اللّه وجنوده بنسبتين مختلفتين.

وأخيراً أنّ الآية في الظاهر تحرّم على الولي أن يدفع أموال السفيه إليه، ولكن بما أنّه سبحانه أضاف الأموال إلى الناس وقال: (وَ لا تُؤْتُوا اَلسُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ) فيدلّ على أنّه يحرم على الوليّ أن يدفع إليهم أي شيء من الأموال، سواء أكانت مالاً للسفيه أم كانت لغيره، فيكون المعنى: لا تؤتوا أموال الناس - الذين أنتم منهم - للسفهاء.

وفي الختام نشير إلى أمرين:

1. إنّ الحجر هنا معلّق على السفيه، من غير فرق بين أن يكون صبياً أو بالغاً، طارئاً بعد البلوغ أو قبله، خلافاً لأبي حنيفة فإنّه لا يحجر على البالغ العاقل إذا طرأ عليه السفه، مع أنّه على خلاف إطلاق الآية.1.

ص: 331


1- . الذاريات: 58.
2- . الزمر: 42.
3- . الأنعام: 61.

2. إنّ الحجر في الآية مختص بالتصرّف المالي، وأمّا تصرّفه في غير المال كاستيفاء القصاص والطلاق وغيرهما فخارج عن مفاد الآية، ويقع منه، على خلاف الصبي فإنّه ممنوع التصرّف مطلقاً.

***

ثالثاً: الحجر بسبب الرّق

قال تعالى: (ضَرَبَ اَللّهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْ ءٍ وَ مَنْ رَزَقْناهُ مِنّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَ جَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ اَلْحَمْدُ لِلّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) .(1)

قوله سبحانه: (عَبْداً) : أي للّه (مَمْلُوكاً) : أي للناس (لا يَقْدِرُ عَلى شَيْ ءٍ) : أي على أي شيء من التصرّفات، والجملة صفة للمملوك، صفة تخصيص ليخرج المكاتب والمأذون في التصرّفات، فإنّهما يقدران على التصرّف في المال.

ثمّ إنّه يقع الكلام: هل أنّه لا يملك شيئاً سواء ملّكه مولاه أو لا، أو يملك إذا ملّكه مولاه؟ وبما أنّا نفقد الموضوع في حياتنا المعاصرة، فلنتقصر على هذا المقدار.

***

تمّ الكلام في العقود الشرعية ولواحقها وحان البحث عن بعض الإيقاعات الواردة في الذكر الحكيم.

ص: 332


1- . النحل: 75.

الإيقاعات

1. النذر
اشارة

النذر: - كما في المفردات -: أن توجب على نفسك ما ليس بواجب لحدوث أمر، يقال: نذرت للّه أمراً.(1)

قال المحقّق: النذر إمّا برّ أو زجر أو تبرّع. فالبر: قد يكون شكراً للنعمة، كقوله: إن أُعطيت مالاً أو ولداً أو قدم المسافر فلله عليّ كذا... وقد يكون دفعاً لبلية، كقوله: إن برئ المريض أو تخطّأني المكروه فللّه عليّ كذا.

والزجر: أن يقول: إن فعلت كذا فللّه عليّ كذا، أو إن لم أفعل كذا فللّه عليّ كذا.

والتبرّع: أن يقول: للّه عليّ كذا.

و لاريب في انعقاد النذر بالأُوليَيَن، وفي الثالثة خلاف، والانعقاد أصح.(2)

وقد وردت أحكام النذر في عدد من الآيات سندرسها تالياً:

الآية الأُولى
اشارة

قال سبحانه: (وَ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اَللّهَ يَعْلَمُهُ وَ ما

ص: 333


1- . المفردات للراغب: 487، مادة «نذر».
2- . شرائع الإسلام: 185/3-186.

لِلظّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ) .(1)

المفردات

نفقة: ما ينفق، يشمل القليل والكثير.

نذرتم: مرّ تفسيره آنفاً، وفي المجمع: عقد المرء على النفس فعل شيء من البر بشرط، ولا ينعقد ذلك إلّابقوله: للّه عليّ كذا.(2)

التفسير

تشير الآية إلى وجود إنفاقين:

1. ما فرضه اللّه على الإنسان، وإليه يشير بقوله: (وَ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ) ف «ما» موصولة أُريد بها الإنفاق. وعلى هذا فالفقرة ناظرة إلى كلّ إنفاق صحيح، خلافاً ل «كنز العرفان»، فقد فسّره بقوله: (وَ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ) في الطاعات أو في المعاصي.(3)

2. ما فرضه الإنسان على نفسه عن طريق النذر، وإليه يُشير قوله: (أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ) كما لو نذر إنفاق شيء في سبيل اللّه على الإطلاق أو مشروطاً بأمر، فالجميع معلوم للّه سبحانه كما يقول: (فَإِنَّ اَللّهَ يَعْلَمُهُ) .

بقي الكلام في ذيل الآية، أعني قوله: (وَ ما لِلظّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ) ففيه احتمالات ثلاثة:

ص: 334


1- . البقرة: 270.
2- . مجمع البيان: 244/2.
3- . لاحظ: كنز العرفان: 114/2.

1. ربما يجعل قرينة على الأعم، أي سواء كان الإنفاق في الطاعة أو في المعاصي.

2. يحتمل أن يكون الصدر - كما قلنا - خاصّاً بالإنفاق بطريق الطاعة بأمر من اللّه. وأمّا الذيل فيمكن أن يكون ناظراً إلى مَن لم ينفق، فإنّه لعدم إنفاقه ظلم الفقراء والمساكين.

3. يراد من الظالم من لم يف بنذره.

إنّما الكلام في دلالة الآية على وجوب الوفاء بالنذر، فربما يقال: في ذكر العلم بعد الإنفاق والنذر، وإردافه بالظلم بسبب المخالفة، دلالة على وجوب الوفاء بالنذر، وذلك هو المطلوب.(1)

الآية الثانية
اشارة

قال سبحانه: (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَ يَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً) .(2)

المفردات

مستطيراً: المستطير: اسم فاعل من استطار إذا فشا وانتشر في الأقطار غاية الانتشار، وهو في المقام كناية عن بلوغ شدائده وأهواله غايتها.

التفسير

يصف اللّه سبحانه طائفة معيّنة (وهم الأبرار) في هذه الآية بوصفين:

ص: 335


1- . كنز العرفان: 114/2.
2- . الدهر: 7.

1. (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ) : أي يحترمون عهودهم مع اللّه سبحانه مهما ثقلت عليهم، ولا يسأمون تكاليفها.

2. (وَ يَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً) : أي يطيعون اللّه خوفاً من يوم يعمّ شرّه العظيم كلّ مَن عصى اللّه وخالفه في حكم من الأحكام. والمراد بالشرّ، هنا، أهوال يوم القيامة وشدائده.

ووجه دلالة الآية على وجوب الوفاء، أمرين:

1. أنّها خرجت مخرج المدح لهم (أعني: أهل البيت عليهم السلام)، وذلك دليل رجحان الوفاء بالنذر.

2. إرداف الوفاء بخوف شرّ يوم القيامة، وفيه دلالة على وجوب الوفاء إذ المندوب لا يخاف من تركه العقاب و «المستطير» هو المنتشر.(1)

ويمكن أن يقال في وجه الوجوب هو أنّ المنذور في الأقسام الثلاثة لا يخلو من رجحان مساو للنذر والاستحباب، فعلى هذا يجب أن تكون الغاية من النذر شيئاً وراء الرجحان، وهو وجوب الوفاء.

ثمّ إنّ لزوم الكفّارة على عدم الوفاء دليل خارجي على وجوبه.

بقي الكلام في القسم الثالث الذي أشار إليه المحقّق وهو التبرّع، كأن يقول:

للّه عليّ كذا، بلا شرط، فهل يجب الوفاء به أو لا؟

نقل عن المرتضى رحمه الله بعدم انعقاده مدّعياً الإجماع، ولأنّ غلام ثعلب نقل أنّ النذر - لغة - وعدٌ بشرط، فيكون كذلك شرعاً لأنّه جاء بلغتهم، والأصل عدم2.

ص: 336


1- . كنز العرفان: 115/2.

النقل.(1)

وأُجيب عنه بمنع الإجماع لعدم تحقّقه، ومنع النقل، بل هو موضوع للالتزام الجامع بين الشرط وعدمه وقد استدلّ بقول الشاعر:

فليت رجالاً فيك قد نذروا دمي *** وهمّوا بقتلي يا بُثين لقوني

قوله: «يا بُثين» منادى مرخم(2) أصله: «يا بُثينة».(3)

***ل.

ص: 337


1- . كنز العرفان: 115/2.
2- . الترخيم: حذف آخر المنادى: يقول ابن مالك: ترخيماً احذف آخر المنادى كيا سعا فيه مَن دعا سعادا
3- . وبثينة عشيقة الشاعر جميل.

الإيقاعات

2. أحكام اليمين
اشارة

اليمين أصله الجارحة، وإطلاقه على الحلف، مستعار من اليد اعتباراً بما يفعله المعاهد والمحالف وغيره.(1)

لكن اليمين بمعنى الحلف أمر مطلق غير مقيّد بشيء، إلّاأنّه في الشرع مقيّد بالحلف باللّه أو بأسمائه التي لا يُشركه فيها غيره، أو مع إمكان المشاركة ينصرف إطلاقها إليه، فالأوّل كقولنا: ومقلب القلوب، والذي نفسي بيده، والذي خلق الحب وبرأ النسمة.

ثمّ إنّ اليمين لا ينعقد إلّابالنيّة، فلو حلف من غير نيّة لم تنعقد سواء كان بصريح أو بكناية.(2)

إذا عرفت ذلك فلنذكر ما ورد حول أحكام اليمين من الآيات:

الآية الأُولى
اشارة

قال سبحانه: (وَ لا تَجْعَلُوا اَللّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَ تَتَّقُوا

ص: 338


1- . المفردات للراغب: 552-553، مادة «يمن».
2- . شرائع الإسلام: 169/3-170.

وَ تُصْلِحُوا بَيْنَ اَلنّاسِ وَ اَللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) .(1)

المفردات

عُرضة: العُرضة - بالضم - كالغُرفة، يطلق على معنيين:

1. المانع المعترض دون الشيء، والحاجز بين الأمرين، وربما يطلق على المعترض في كلام الغير بهذا المعنى.

2. من العرض، كإراءة الشيء للشيء، حتى يظهر صلوحه وفساده، كعرض المال للبيع، وعرض المنزل للنزول، وعرض الفتاة الصالحة للزواج، والنكاح، يقول الشاعر:

دعوني أنح وجداً كنوح الحمائم *** ولا تجعليني عُرضةً للّوائم

أي دعوني أبك أحبابي، وانح نوح الحمائم حزناً عليهم، ولا تعرضوني للوم اللّوائم فإنّي لا أبالي بالملام.(2)

التفسير

اختلف المفسّرون في تفسير الآية وذكروا لها وجوهاً ثلاثة:

1. أنّ الآية بصدد بيان حكم مَن يحلف باللّه لترك الأُمور الراجحة، وقد ورد في شأن النزول أنّها نزلت في عبد اللّه بن رواحة حين حلف ألّا يدخل على ختنه ولا يكلمه، ولا يصلح بينه وبين امرأته، فكان يقول: إنّي حلفت بهذا فلا يحلّ لي

ص: 339


1- . البقرة: 224.
2- . مجمع البيان: 123/2.

أن أفعله، فنزلت الآية.(1)

وعلى هذا فقوله: (أَنْ تَبَرُّوا) مفعول الأيمان، بتقدير «لا» فيكون المعنى:

لا تجعلوا اللّه عرضة وتحلفوا على أن لا تبرّوا ولا أن تتّقوا ولا أن تصلحوا. نظير قوله سبحانه: (فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ اَلْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اَللّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَ اَللّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ) (2)، أي أن لا تضلّوا، فتكون الآية نهياً عن الحلف باللّه، على ترك الواجبات والمستحبّات، ولفظ الجلالة أعظم وأعلى من أن يقع معرضاً لهذا النوع من الحلف، ففي مثل ذلك على الحالف أن يرجع عن يمينه ويكفّر.

2. أنّها بصدد النهي عن الجرأة على اللّه بكثرة الحلف به؛ لأنّ مَن أكثر ذكر شيء فقد جعله عرضة له، وقد قيل: مَن أكثر الحلف قلّت مهابته وكثر حنثه، واتّهم بالكذب، ولأجل ذلك ينهى اللّه سبحانه عن جعل لفظ الجلالة معرضاً لليمين وقال: (وَ لا تَجْعَلُوا اَللّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ) فنهانا سبحانه عن الحلف به إلّا لضرورة، ثمّ ذكر وجه النهي وهو: (أَنْ تَبَرُّوا وَ تَتَّقُوا وَ تُصْلِحُوا بَيْنَ اَلنّاسِ) : أي لأن تبرّوا ولتكونوا بررة، أتقياء، مصلحين في الأرض غير مفسدين. وعلى هذا فالأفعال الثلاثة مفعول لأجله للنهي عن جعل اللّه عرضة للأيمان، وكأنّ مَن كثر حلفه يجعل اللّه عرضة ليمينه يكون بعيداً عن البر والتقوى والإصلاح. وعلى هذا فلابدّ من تقدير اللام في قوله: (أَنْ تَبَرُّوا) : أي لأن تبرّوا، وهذا القول هو خيرة صديقنا المرحوم الشيخ مغنية رحمه الله، ويؤيّد ما ذكره من أنّ الغاية من المنع من الإكثار من اليمين، الآيةُ التالية حيث تقسّم اليمين إلى قسمين: بين كونه لغواً وكونه عقدياً،6.

ص: 340


1- . مجمع البيان: 122/2.
2- . النساء: 176.

فالأوّل لا يترتّب عليه الأثر دون الثاني.(1)

ولكن يُبعّده أنّه لو كان المراد ما ذكر لأصبحت عبارة (بَيْنَ اَلنّاسِ) زائدة، إذ المراد من «تصلحوا» أن تكونوا صالحين، ومعه لا حاجة إلى قوله: (بَيْنَ اَلنّاسِ) بخلاف المعنى الثالث الآتي ذكره فإنّ لقوله: (بَيْنَ اَلنّاسِ) مدخلية في النهي عن الحلف.

3. إنّ (عُرْضَةً) بمعنى مانعاً وحاجزاً. فيكون المعنى: لا تجعلوا اللّه تعالى مانعاً بينكم وبين عمل الخير، بأن تحلفوا به على تركه، تعظيماً لاسمه.

وإلى هذا الوجه يرجع ما يقال: المراد جعل الحلف باللّه مانعاً عن عمل الخير، وهذا الوجه يتّحد مع الأوّل نتيجة.

واللّه سبحانه يتمّ الآية بقوله: (وَ اَللّهُ سَمِيعٌ) لما تحلفون به (عَلِيمٌ) بما يترتّب على كثرة الحلف من الآثار.

الآية الثانية
اشارة

قال سبحانه: (لا يُؤاخِذُكُمُ اَللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَ لكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَ اَللّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ) .(2)

المفردات

يؤاخذكم: المؤاخذة مفاعلة من الأخذ بمعنى العدّ والمحاسبة، يقال: أخذه

ص: 341


1- . لاحظ: التفسير الكاشف: 338/1-339.
2- . البقرة: 225.

بكذا، عدّه عليه ليعاتبه أو ليعاقبه. وأُريد بالمؤاخذة باليمين هو الإلزام بالوفاء بها وعدم الحنث.

باللغو: اللغو: الكلام الذي لا فائدة فيه، يقال: لغى يلغو، لغواً: إذا أتى بكلام لا فائدة فيه، وأُريد في المقام: اليمين الصادر من الإنسان بلا قصد، بل عن اعتياد في الكلام.

أيمانكم: جمع اليمين، بمعنى القسم والحلف.

كسبت قلوبكم: مقابل اليمين اللغو، التي لا قصد فيها إلى الحلف، فيكون المراد الحلف المقصود، ويفسّره قوله سبحانه: (لا يُؤاخِذُكُمُ اَللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَ لكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ اَلْأَيْمانَ) (1)، وسيأتي تفسيرها تالياً.

التفسير

لمّا نهى اللّه سبحانه عن جعله عرضة للأيمان، ونهى عن التسرّع بالحلف، اقتضى المقام بيان حكم اليمين التي تجري على الألسن، فالآية تقسّم الحلف إلى قسمين:

الأوّل: ما أشار إليه بقوله: (لا يُؤاخِذُكُمُ اَللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ) وأُريد باللغو ما يجري على الألسن بلا اختيار وقصد، وإنّما اعتاد أن يقول في كلامه: بلى واللّه، لا واللّه. وهذا النوع من الحلف بما أنّه يصدر عن الإنسان بلا قصد، ليس موضوعاً لحكم شرعي لأنّ المتكلم لم يقصد به الحلف، بل جرى على لسانه.

الثاني: ما أشار إليه بقوله: (وَ لكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ) يفسّره

ص: 342


1- . المائدة: 89.

قوله في آية أُخرى: (وَ لكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ اَلْأَيْمانَ) (1) وعقد اليمين عبارة عن عقد القلب به، في مقابل يمين اللغو، فهو صادر من دون عقد القلب بخلاف ما تكسب القلوب، فإنّه صادر عن قصد وعزم وإرادة، وأمّا وجه المؤاخذة فسيأتي في الآية التالية.

ثمّ إنّه سبحانه أتمّ الآية بقوله: (وَ اَللّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ) فهو غفور يغفر الذنوب، وحليم يمهل نزول العقوبة على الذنب، ولا يعجّل بها، ولعلّه إشارة إلى غفران ذنب من حلف وحنث وكفّر.

ومع ذلك يحتمل أن يكون راجعاً إلى اللغو في الأيمان، إذ فيه اقتضاء المؤاخذة، لأنّه يلعب بيمينه، فيستحق العقاب ولكنّه سبحانه عفا عنه لأنّه غفور حليم.

الآية الثالثة
اشارة

قال سبحانه: (لا يُؤاخِذُكُمُ اَللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَ لكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ اَلْأَيْمانَ فَكَفّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيّامٍ ذلِكَ كَفّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ وَ اِحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اَللّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) .(2)

ص: 343


1- . المائدة: 89.
2- . المائدة: 89.
المفردات

يؤاخذكم: المؤاخذة بمعنى العدّ والمحاسبة.

باللغو: اللغو: ما لا يعتدّ به، وهو الذي يورد لا عن روية وفكر.

عقّدتم: العقد الجمع بين أطراف الشيء، وأُريد هنا ما صمّمتم عليه وقصدتم، وقد عبّر عنه في الآية السابقة بقوله: (بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ) .

التفسير

الآية تقسّم الأيمان إلى قسمين:

1. اليمين اللغو غير المقصود.

2. اليمين المعقّد المقصود.

ثمّ تذكر إنّ اللّه سبحانه لا يؤاخذ بالقسم الأوّل، وإنّما يؤاخذ بالقسم الثاني، فعلى الحالفين أن يحترموا أيمانهم ولا يحنثوا، فلو حنث فهو مخيّر في كفارته بين أُمور ثلاثة، وأمّا من لم يجد واحداً من هذه الثلاثة فيصوم ثلاثة أيام. والأيمان جمع اليمين، وأُريد به هنا اليمين باللّه تعالى، ولا ينعقد إلّابكمال العقل والاختيار والقصد، ثمّ إنّ اليمين على قسمين:

1. ما إذا حلف كاذباً على الأمر الماضي، فقد ارتكب الحرام، لا كفّارة له، فلو قال: واللّه قد قرأت القرآن وأدّيت ديوني، وكان كاذباً ارتكب حراماً دون أن تتعلّق به الكفّارة، وإنّما تتعلّق الكفّارة بفعل غير مكروه ولا حرام وأنّه سيفعله، فلو برّ بحلفه فهو، وإلّا يكفّر.

2. اليمين على المستقبل وهو على قسمين:

ص: 344

يمين يقصده الإنسان عن وعي وجدّ، ويمين يحلف به الإنسان دون أن يقصد، إنّما الكلام في تمييز أحد القسمين عن الآخر. روى الكليني عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: سمعته يقول في قول اللّه عزّ وجلّ: (لا يُؤاخِذُكُمُ اَللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ) قال: قول الرجل: «واللّه، وبلى واللّه، ولا يعقد على شيء».(1)

وعلى ذلك فكلّ يمين كان الحالف قاصداً به عن عزم وجدٍّ، فهذا هو اليمين الذي يؤاخذ اللّه سبحانه على حنثه كما يقول: (لا يُؤاخِذُكُمُ اَللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ) لكونها صادرة عن لا قصد ولا عزم، والشاهد على ذلك قوله: (وَ لكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ اَلْأَيْمانَ) وبما أنّ «ما» في قوله: (بِما عَقَّدْتُمُ) موصولة، يكون معنى الآية: يؤاخذكم بالذي عقّدتم وقصدتم، فعلى المؤمن أن يحفظ إيمانه ويبرّ بحلفه، فلو حلف على الفعل يعمل به، ولو حلف على الترك وكان راجحاً يستمرّ عليه.

ثمّ إنّ في قوله: سبحانه: (عَقَّدْتُمُ اَلْأَيْمانَ) قراءتين تارة بالتخفيف وأُخرى بالتشديد. وربما يفسّر التشديد للتكرير مرّة بعد مرّة، والظاهر خلافه بل المراد الحلف عن عزم قطعيّ بقلبه ولسانه، لا مرّة بعد مرّة، بشهادة قوله سبحانه: (وَ غَلَّقَتِ اَلْأَبْوابَ) .(2)

فبما ذكرنا ظهر أنّ الأيمان على أقسام ثلاثة:

1. يمين صادق أو كاذب بالنسبة للماضي، فلو كان كاذباً فلا كفّارة فيه.

2. يمين للمستقبل لكن بلا قصد ولا عزم جدّي، وهذا ما لا كفّارة له.3.

ص: 345


1- . الكافي: 443/7.
2- . يوسف: 23.

3. يمين عن جدّ وعزم فيجب حفظه تكريماً للفظ الجلالة (اللّه سبحانه)، وهذا ما سمّاه القرآن بقوله: (بِما عَقَّدْتُمُ اَلْأَيْمانَ) ، قرأ بالتشديد وقيل - كما مرّ - إشارة إلى أنّه متى أعاد اليمين على وجه التكرار بمحلوف عليه واحد، لم يلزمه إلّا كفّارة واحدة، والمراد من المؤاخذة هي المؤاخذة في الدنيا وهي الإثم والكفّارة.

ثمّ إنّه سبحانه يبيّن المؤاخذة في الدنيا بقوله: (فَكَفّارَتُهُ) : أي إذا حنث بيمينه فكفّارته أحد الأُمور الثلاثة وهو مخيّر بالعمل بواحد منها:

1. (إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ) فاللازم هو الإطعام. فلو دفع نقداً يشتري به الطعام وعمل به يكفي، دون ما لم يشتر وصرف النقد في حاجاته الأُخرى، ثم إنّه سبحانه قيّد الإطعام بقوله: (مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ) ، والظاهر أنّه أُريد الأوسط كمّاً وكيفاً، أي يعطيهم كما يعطي أهله في العسر واليسر من حيث الكميّة والكيفية.

روى الكليني عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال في كفّارة اليمين: «عتق رقبة أو إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم، والوسط الخل والزيت، وأرفعه الخبز واللحم».(1)

ويظهر من الرواية أنّ الأوسط في الآية بمعنى الوسط بين الرفيع وضدّه نظير قولهم: خير الأُمور أوسطها، ويمثل بقولهم: السخاء وسط بين البخل والتبذير.

وفي رواية أُخرى عن أبي بصير قال: سألت أبا جعفر الباقر عليه السلام عن (أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ) ، فقال: «ما تقوتون به عيالكم من أوسط ذلك»، قلت: ومان.

ص: 346


1- . الكافي: 452/7، برقم 5، باب كفّارة اليمين.

أوسط ذلك؟ فقال: «الخل والزيت والتمر والخبز تشبعهم به مرّة واحدة».(1)

والظاهر أنّ الرواية ناظرة إلى الظروف الخاصّة في المدينة وما حولها، وأمّا اليوم، فربما لا يكفي الخبز والخل، فيتبع ما هو الرائج والدارج في الوقت الحاضر.

والمورد من مصاديق تأثير الزمان والمكان في تعيين المصداق.

ثمّ إنّ الظاهر أنّ المجزي إطعام عشرة أشخاص خلافاً لأبي حنيفة الذي قال: إنّه لو أطعم مسكيناً واحداً عشرة أيام جاز.(2)

2. (أَوْ كِسْوَتُهُمْ) وأُريد بالملابس التي تغطي الجسم حسب العادة، فلابدّ أن تكون ثوباً مع السروال. نعم روي عن الإمام الباقر عليه السلام أنّه ثوب واحد(3)، فهو ناظر إلى القميص العربي الذي يستر الإنسان إلى القدمين، ومع ذلك فالرواية عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «لكلّ إنسان ثوبان»(4)، مئزراً وقميصاً، وعلى كلّ تقدير فيتبع المرسوم في البيئة التي يكفّر فيها.

3. (أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) .

وقد أخّر سبحانه العتق تنبيهاً على أنّ هذه الكفّارة وجبت على التخيير لا على الترتيب، إذ لو كان كذلك لوجبت البدأة بالأغلظ. ثم إنّه قدّم الإطعام على الأخيرين لأنّه أسهل لكون الطعام أعمّ وجوداً، والمقصود منه التنبيه على أنّه تعالى يراعي التخفيف والتسهيل في التكاليف.0.

ص: 347


1- . الكافي: 454/7، برقم 14، باب كفّارة اليمين.
2- . تفسير الرازي: 76/12.
3- . لاحظ: الوسائل: 15، الباب 15 من أبواب الكفّارات، الحديث 1 و 2 و 4.
4- . لاحظ: الوسائل: 15، الباب 14 من أبواب الكفّارات، الحديث 10.

نعم لا يجب التكفير إلّابعد الحنث ولو كفّر قبله لم يجزه، ضرورة أنّه امتثال للأمر المتوجّه إليه، والمفروض أنّه غير مكلّف بالتكفير.

حكم غير الواجد للأُمور الثلاثة

هذا كلّه للواجد أحد الأُمور الثلاثة، فأمّا من لم يجد فحكمه ما يقول عنه:

(فَمَنْ لَمْ يَجِدْ) : أي مَنْ لم يتمكّن من التكفير بأحد الأُمور الثلاثة (ف) كفّارته عليه (صيام ثلاثة أيام) متوالية لقول الصادق عليه السلام: «كلّ صوم يفرّق إلّا ثلاثة أيام في كفّارة اليمين»،(1)(ذلِكَ كَفّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ) وحنثتم، ضرورة أنّ الكفّارة لا تجب بنفس اليمين، وإنّما تجب بشرط حنثها، وقد تقدّم أنّ التكفير قبل الحنث لا يجزي، خلافاً للشافعي كما قيل.

ثمّ إنّه سبحانه يشير إلى أهمية الموضوع ويقول: (وَ اِحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ) عن الحنث، وربما يقال: المراد قلّلوا الأيمان ولا تكثروا منها، والظاهر هو الأوّل (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اَللّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) .

قوله: (كَذلِكَ) كأنّه يتضمّن تشبيه أمر بأمر، وهذا ما يظهر من الطبرسي، يقول: معناه كما بيّن أمر الكفّارة، وجميع الأحكام، يبيّن لكم آياته وفروضه، لتشكروه على تبيينه لكم أُموركم، ونعمه عليكم.(2)

ص: 348


1- . الكافى: 140/4، برقم 1، باب صوم كفّارة اليمين.
2- . مجمع البيان: 478/3.

الإيقاعات

3. أحكام العتق
تمهيد

الإسلام يدعو إلى الحرّية وأنّ الأصل في الإنسان كونه حرّاً في أعماله، وإنّما تعرض الرقيّة لأسباب خاصّة لحفظ دماء العبيد، قال الإمام علي عليه السلام: «بعث اللّه محمداً ليخرج عباده من عبادة عباده إلى عبادته، ومن عهود عباده إلى عهوده، ومن طاعة عباده إلى طاعته، ومن ولاية عباده إلى ولايته».(1)

وقال عليه السلام: «وَلَا تَكُنْ عَبْدَ غَيْرِكَ وَقَدْ جَعَلَكَ اللّهُ حُرّاً».(2)

وقال عليه السلام: «أيّها الناس إنّ آدم لم يلد عبداً ولا أمة، وإنّ الناس كلّهم أحرار، ولكنّ اللّه خوّل بعضكم بعضاً».(3)

إنّ الحاكم في الجزيرة العربية كان هو منطق القوّة، فالقويّ يسترقّ الضعيف ويتملّكه ويتعامل معه معاملة سائر مملوكاته كبعيره وفرسه، فمَن كان قويّاً فله الحرية ومَن كان ضعيفاً فهو محكوم بالرقّية.

ص: 349


1- . الكافي: 386/8، برقم 586؛ الوافي: 142/3، برقم 22.
2- . نهج البلاغة: قسم الرسائل، برقم 31.
3- . الكافي: 69/8، برقم 26؛ بحار الأنوار: 134/32، برقم 107.

ففي هذا الجو المظلم وضع الإسلام للرقّ نظاماً خاصّاً يتمّ لمصلحة الرقيق، وهو أنّه إذا وضعت الحرب أوزارها واستولى المسلمون على العدو الذي كان يقاتلهم، حكم عليهم بالرقيّة حفظاً لحياتهم، وكان هذا الأُسلوب هو الذي حفظ به دمهم وحياتهم؛ وذلك لأنّ أمام الحاكم الإسلامي خمسة خيارات، ليس الصالح منها إلّاخامسها:

1. أن يقتلهم جميعاً ويسفك دماءهم عن آخرهم، وهي قسوة تتنافى مع روح الإسلام الرحيمة المحبّة للسلام.

2. أن يسجنهم جميعاً، وذلك يكلّف الدولة تكاليف باهظة وميزانية ضخمة، مضافاً إلى أنّ السجن ممّا يعقّد السجين، ويزيده اندفاعاً في الشرور والفساد.

3. أن يتركهم ليعودوا إلى بلادهم سالمين، وهذا رجوع إلى المؤامرة والاحتشاد والعدوان مرّة أُخرى.

4. أن يتركهم ليسرحوا في بلاد الإسلام وهذا يعني تعريضهم لسفك دمائهم على أيدي المسلمين، انتقاماً منهم.

ولما لم يكن اختيار شيء من هذه الطرق اختياراً عقلائياً، يبقى أمام الإسلام طريق خامس وهو:

5. استرقاقهم، بمعنى جعلهم تحت ولاية المسلمين، وليتسنّى لهم من خلال العيش في ظل الحياة الإسلامية أن يتعرّفوا على تعاليم الدين وينشأوا نشأة إسلامية، وبهذا الطريق يكون الإسلام قد حافظ على حياتهم ومنع من سفك دمائهم، لأنّ مالكهم سوف يحرص عليهم أشدّ الحرص ويحافظ على حياتهم

ص: 350

أشدّ المحافظة بخلاف مَن لا يملكهم، ولا يرجو منهم نفعاً.

وقد ورد ذكر ظاهرة الرقيّة في الذكر الحكيم في آيات عديدة نشير إليها:

الآية الأُولى
اشارة

قال سبحانه: (وَ إِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اَللّهُ عَلَيْهِ وَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَ اِتَّقِ اَللّهَ وَ تُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اَللّهُ مُبْدِيهِ وَ تَخْشَى اَلنّاسَ وَ اَللّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ فَلَمّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَ كانَ أَمْرُ اَللّهِ مَفْعُولاً) .(1)

المفردات

أنعم اللّه عليه: بالإسلام.

أنعمت عليه: بالعتق.

أمسك عليك زوجك: أن لا تطلقها.

التفسير
شأن النزول

كان زيد بن حارثة الكلبي قد اختطف في الجاهلية وهو غلام يافع، وعُرض

ص: 351


1- . الأحزاب: 37.

للبيع في سوق عكاظ، فاشتراه حكيم بن حزام لعمّته خديجة بنت خويلد، فأهدته خديجة إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بعد زواجها منه. وقد دفعت سيرة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم الحسنة وأخلاقه الفاضلة زيداً هذا إلى أن يتعلّق برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم تعلّقاً شديداً، حتّى أنّه عندما جاء أبوه إلى مكّة وأراد أن يفاديه لكي يعود إلى أهله ووطنه، أبى زيد أن يترك رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، بالرغم من أنّه خيّره بين المكث عنده أو الرحيل مع أبيه. وكان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يحب زيداً لنباهته وأدبه حتى أعتقه وتبنّاه، وقد وقف رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ذات يوم بين القرشيّين وقال: «يا مَن حضر اشهدوا أنّ زيداً هذا ابني».(1)

وبما أنّ الآية لها صلة بباب العتق كما أنّ لها صلة بالآيات الواردة في نساء النبي صلى الله عليه و آله و سلم فقد اقتصرنا بما ذكر بالنسبة إلى الأمر الأوّل، أي قوله: (وَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِ) فقد فسّر بالعتق وأمّا الأمر الثاني فسوف يأتي في الآيات الواردة في حقّ نسائه وأزواجه صلى الله عليه و آله و سلم.

الآية الثانية
اشارة

قال سبحانه: (وَ اَلَّذِينَ يَبْتَغُونَ اَلْكِتابَ مِمّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَ آتُوهُمْ مِنْ مالِ اَللّهِ اَلَّذِي آتاكُمْ وَ لا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى اَلْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا وَ مَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اَللّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ) .(2)

ص: 352


1- . انظر: الطبقات الكبرى: 40/3-42؛ الاستيعاب (بهامش الإصابة): 545/1-547؛ أُسد الغابة: 225/2.
2- . النور: 33.
المفردات

الكتاب: المكاتبة، وسيأتي تفصيلها في التفسير.

فتياتكم: جمع فتاة، وأُريد هنا الإماء.

البغاء: الزنا مع الأُجرة.

تحصّناً: التحصّن: العفّة.

لتبتغوا: لتكسبوا.

التفسير

اعلم أنّ العتق يحصل بأُمور:

1. العتق منجّزاً بغير عوض بأن يخاطب عبده بقوله: أنت حرّ لوجه اللّه.

2. مكاتبة معلّقة على الموت بغير عوض، وهو المسمّى في اصطلاح الفقهاء (تدبيراً)، وليس في الكتاب العزيز ما فيه دلالة عليه، بل هو مستفاد من السنّة الشريفة.

3. مكاتبة بأمد منجّم، كما يقول السيد: كاتبتك على أن تؤدّي إليّ كذا إلى وقت كذا، فإذا أدّيته فأنت حرّ.

إذا علمت ذلك فلندخل في تفسير الآية، وهي ناظرة إلى القسم الثالث.

نقل السيوطي: أنّ حويطب بن عبد العزى كان له عبد يُسمّى «صبيحاً» سأله أن يكاتبه، فأبى، فنزلت الآية.(1)

ص: 353


1- . تفسير الدر المنثور: 45/5.

قوله تعالى: (وَ اَلَّذِينَ يَبْتَغُونَ اَلْكِتابَ) : أي المكاتبة (مِمّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) بيان للضمير المرفوع في (يَبْتَغُونَ) ، أي الأرقّاء من العبيد والإماء الذين يقترحون على مواليهم المكاتبة على النحو المذكور، فيجب على الموالي، أو يستحب، أن يلبّوا رغبتهم كما يقول: (فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً) : أي كونهم قادرين على أداء حقّ المكاتبة.

ويمكن أن يقال: إنّ المراد من العلم بالخير فيهم أنّهم بذلك العقد يريدون تحرير أنفسهم دون أن يتّخذوا ذلك وسيلة للإباق.

ثمّ إنّه سبحانه يأمر الموالي بشيء آخر ويقول: (وَ آتُوهُمْ مِنْ مالِ اَللّهِ اَلَّذِي آتاكُمْ) : أي يأمركم بالإعانة، ويحتمل وجهين:

1. أي حطّوا عنهم من نجوم الكتابة شيئاً.

2. ردّوا عليهم يا معشر السادة شيئاً من المال الذي أخذتم منهم.

وهناك احتمال ثالث، وهو أنّه خطاب للمؤمنين الميسورين عامّة، بمعونة المكاتبين على تخليص أنفسهم من أسر الرق، كلّ ذلك قابل لأن يراد من الفقرة مفرداً أو جمعاً.

ثم إنّه سبحانه قال بعد ذلك: (وَ لا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى اَلْبِغاءِ) .

فلا شكّ أنّ الزنا أمر محرّم أوّلاً والإكراه عليه حرام مثله. والفقرة تشير إلى ظاهرة سيئة كانت سائدة في عصر الجاهلية، وهي أنّ الموالي الذين كانوا يملكون الإماء ربما يتاجرون بهن ويأمرونهنّ بالبغاء لكسب المال، مع أنّ الإماء كنّ مُكرهات على ذلك غير راضيات به، ولكن تحت سياط السادة وضغطهم يستجبن لذلك، واللّه سبحانه ينهى عن ذلك العمل الشنيع، ويقول: (وَ لا تُكْرِهُوا

ص: 354

فَتَياتِكُمْ عَلَى اَلْبِغاءِ) الذي يجرّ المال للموالي (إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً) : أي تعفّفاً، ومن المعلوم أنّ أمرهن بالبغاء حرام مطلقاً، سواء أردن تحصّناً أم لا، وإنّما ورد القيد هنا لبيان الواقع، أعني: وجود تلك الظاهرة الشنيعة في المجتمع يوم ذاك والاكتساب بالبغاء حرام مطلقاً، سواء أردن التحصّن أم لا، لكنّه مع إرادة التحصّن أشدّ حرمة وعقوبة، وبذلك يعلم أنّ الشرط (أَرَدْنَ تَحَصُّناً) سيق لتحقّق الموضوع، إذ لا يتصوّر الإكراه على تقدير عدم التحصّن، فاللّه سبحانه كشف عن الغاية من الإقدام على هذا الأمر الشنيع، وهي التجارة والاكتساب كما يقول:

(لِتَبْتَغُوا عَرَضَ اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا) : أي لا تكرهوهنّ لهذه العلّة.

ثمّ إنّه سبحانه يعذر هؤلاء الإماء المكرهات ويقول: (وَ مَنْ يُكْرِهْهُنَّ) :

أي ومَن يجبرهنّ على البغاء من سادتهنّ (فَإِنَّ اَللّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ) للمكرهات (رَحِيمٌ) بهنّ.

وقد اعترض عبد الكريم الخطيب على هذا التفسير للفقرة الأخيرة بحجّة أنّ المغفرة والرحمة إنّما تُطلب لمن كان منه ذنب، والأمة في تلك الحال مكرهة، ولا ذنب عليها.(1)

وهذا الاعتراض مردود أمّا نقضاً بقوله تعالى: (فَمَنِ اُضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) .(2)

وأمّا حلّاً فوجه المغفرة والرحمة هو أنّ هذا العمل القبيح له أثر يبقى في نفس الأمة (حتى إذا كانت مكرهة) وله نتائج سلبية على سلوكياتها، واللّه بمغفرته3.

ص: 355


1- . التفسير القرآني للقرآن: 1276/9.
2- . البقرة: 173.

ورحمته يمحو هذه الآثار. ومع ذلك فيحتمل أن يكون المرجع الولي بقرينة قوله:

(وَ مَنْ يُكْرِهْهُنَّ) فهو قرينة على أنّ المغفرة متعلّقة بمن يكره، فتدبّر.

الآية الثالثة

قال سبحانه: (إِنَّمَا اَلصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَ اَلْمَساكِينِ وَ اَلْعامِلِينَ عَلَيْها وَ اَلْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَ فِي اَلرِّقابِ وَ اَلْغارِمِينَ وَ فِي سَبِيلِ اَللّهِ وَ اِبْنِ اَلسَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اَللّهِ وَ اَللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) .(1)

قد سبق منّا أنّ الأصل الأوّلي في الإسلام هو الحرية، ولذلك نرى أنّه سبحانه شرّع أحكاماً وسنناً ينعتق بها الرقيق، ونشير إلى موارد منها:

1. ملك الرجل أحد العمودين، أي الأب والأُمّ، فينعتق قهراً بلا عوض.

2. إذا كان العبد مشتركاً بين شخصين، فأعتق أحد الشريكين نصيبه، فعمله هذا يوجب عتق الباقي عليه وتلزمه القيمة، وقد روي عنه صلى الله عليه و آله و سلم أنّه قال: «مَن أعتق شقصاً له من مملوك وله مال قوّم عليه الباقي».(2)

3. لو نكّل بعبده، عتق عليه.

4. إذا عمي العبد أو أُقعد، عتق عليه.

5. إذا أسلم العبد وخرج إلى دار الإسلام، عتق من سيده.

ص: 356


1- . التوبة: 60.
2- . مستدرك الوسائل: 40/3، الباب 16 من أبواب كتاب العتق، الحديث 5. والشقص: النصيب والجزء والقسم والسهم من العين المشتركة من كلّ شيء. لاحظ تاج العروس: 298/9، مادة «شقص».

إلى غير ذلك من أسباب العتق التي ذكرها الفقهاء في كتبهم الفقهية.

والذي يشهد على أنّ الأصل في الإسلام هو الحرية، أنّه سبحانه جعل أحد مصارف الزكاة، تحرير العبيد.

قال سبحانه: (إِنَّمَا اَلصَّدَقاتُ) : أي الواجبة وهي الزكاة (لِلْفُقَراءِ) تمليكاً (وَ اَلْمَساكِينِ وَ اَلْعامِلِينَ عَلَيْها وَ اَلْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ) كلّ ذلك بالتمليك، ويشهد على ذلك وجود اللام في (لِلْفُقَراءِ) وما عطف عليه تقديراً.

وأمّا الموارد الأُخرى فقد قرنت بلفظ (وَ فِي) فتدل على أنّهم مصارف لها لا أنّهم مالكون، كما يقول: (وَ فِي اَلرِّقابِ) حيث إنّ مَن بيده الزكاة ولاية أو إجازة من الوصي، يشتري العبد تحريراً، (وَ فِي سَبِيلِ اَللّهِ) كالجهاد وبناء المساجد والقناطر.

ثمّ إنّه سبحانه يُشير إلى أنّ ما جاء في هذه الآية أمر مفروض كما يقول: (فَرِيضَةً) : أي فرض اللّه الصدقات فريضة (وَ اَللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) إشعاراً بأنّ تشريع هذه الضريبة صدر عن علم وحكمة ومحاسبة دقيقة، وأنّ أصحاب الأموال لو قاموا بواجبهم، لسدّوا خلّة الفقر بين كافّة أبناء الأُمّة.

ثمّ إنّ حول الآية بحوث ذكرناها في كتابنا «منية الطالبين في تفسير القرآن الكريم» في تفسير الآية 60 من سورة التوبة، فلاحظ.

***

ص: 357

ص: 358

الفصل الحادي عشر: أحكام النكاح في الذكر الحكيم

اشارة

1. آداب النكاح والحثّ عليه والترغيب فيه.

2. أحكام معاشرة النساء.

3. النساء اللاتي يحرم نكاحهن.

مَن يحرم نكاحهنّ نسباً ورضاعاً وصهراً.

حكم المطلّقة ثلاثاً.

حكم المتزوّجات من النساء.

حكم الزواج المؤقّت.

في نكاح الأمة.

النهي عن نكاح المشركات ونكاح المشركين.

نكاح العفائف من أهل الكتاب.

في حرمة نكاح الزانية.

4. أحكام المهور في الذكر الحكيم.

5. أحكام النشوز في الذكر الحكيم.

6. حقوق الزوجة على الزوج في الذكر الحكيم.

7. الآيات النازلة في نساء النبي صلى الله عليه و آله و سلم.

ص: 359

ص: 360

أحكام النكاح

1. آداب النكاح والحثّ عليه والترغيب فيه

تمهيد

من الغرائز الطبيعية في ولد آدم هو ميل الرجل إلى المرأة وبالعكس، حتى يتمّ بذلك بقاء النسل على وجه الأرض، فلا تجد إنساناً سالماً إلّاوهو يحسّ بتلك الحاجة من صميم ذاته، وبما أنّ التعاليم الإسلامية شرّعت منسجمة مع الفطرة، فقد ندب الكتاب والسنّة إلى النكاح والتزويج، أمّا الكتاب فسيأتي الكلام فيه، وأمّا السنّة الشريفة فنذكر منها شيئاً موجزاً:

1. روى الصدوق في «الفقيه» عن أبي جعفر عليه السلام قال: «قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: ما بني بناء في الإسلام أحبّ إلى اللّه عزّ وجلّ من التزويج».(1)

2. روى الكليني في «الكافي» عن كُليب بن معاوية الأسديّ، عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: مَن تزوّج أحرز نصف دينه، فليتّق اللّه في النصف الآخر (أو: الباقي)».(2)

3. روى الكليني عن محمد بن مسلم، عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «قال أمير

ص: 361


1- . الوسائل: 14، الباب 1 من أبواب مقدّمات النكاح وآدابه، الحديث 4.
2- . الوسائل: 14، الباب 1 من أبواب مقدّمات النكاح وآدابه، الحديث 11 و 12 و 13.

المؤمنين عليه السلام: تزوّجوا فإنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قال: مَن أحب أن يتّبع سنّتي، فإنّ من سنتي التزويج».(1)

إلى غير ذلك من الروايات الواردة التي بثّها الحرّ العاملي في أبواب مختلفة من كتاب الوسائل.

وممّا يؤسف له أنّ النظام الدراسي في المدارس والجامعات، صار سبباً لتأخّر النكاح في الناشئة حيث إنّه يتخرّج من الدراسة الثانوية وله من العمر 18 سنة أو أكثر فلو تمكّن من دخول الجامعة في السنة التالية إلى أن يتخطّى المراحل الدراسية التخصيصية هناك، يكون قد بلغ من العمر 30 سنة قضى زهرة شبابه وهو أعزب، ومن المعلوم أنّ صيانة النفس في تلك المدّة التي تبلغ قوّة الباه (الغريزة الجنسية) أقصى مراحلها، أمر شاقّ لا يقوم به إلّاالقليل من الشباب.

فعلى الدول الإسلامية أن يرتّبوا الأُمور على نحو يتمكّن الشباب من الجمع بين الدراسة والزواج في فترة الدراسة.

إذا علمت ذلك فلندخل في دراسة ما ورد من الآيات في مورد النكاح.

الآية الأُولى
اشارة

قال سبحانه: (وَ أَنْكِحُوا اَلْأَيامى مِنْكُمْ وَ اَلصّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَ إِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اَللّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَ اَللّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) .(2)

ص: 362


1- . الوسائل: 14، الباب 1 من أبواب مقدّمات النكاح وآدابه، الحديث 14.
2- . النور: 32.
المفردات

أنكحوا: زوّجوا.

الأيامى: جمع أيِّم، وهي المرأة التي لا زوج لها، سواء أكانت بكراً أم ثيّباً، وربّما يطلق على الزوج الذي لا زوجة له، ولكنّ المراد هنا أعمّ من الذكر والأُنثى، في مقابل الصالحين الشامل للعبيد والإماء، بشهادة قوله: (مِنْ عِبادِكُمْ وَ إِمائِكُمْ) تفسيراً للصالحين.

الصالحين: من العبيد والإماء، وأتى بجمع المذكّر تغليباً.

واسع: أُريد هنا الواسع إحسانه وفضله.

التفسير

لمّا نهى اللّه سبحانه الرجال والنساء عن الزنا والفحشاء، ومن المعلوم أنّ النهي لا يكفي في تطهير المجتمع من الفساد؛ بل يجب وراء ذلك فتح باب آخر حتى يصون به عفّته وكرامته، وليس هو إلّاالزواج، فلذلك أمر بتزويج مَن لا زوج له من الأحرار والحرائر، وكذلك العبيد والجواري حتّى يصونوا به نفوسهم ويتقوّوا به على غضّ الأبصار عمّا حرّم اللّه عليهم.

قال تعالى: (وَ أَنْكِحُوا اَلْأَيامى مِنْكُمْ) : أي زوّجوا غير المتزوّجين من أحرار رجالكم ونسائكم (وَ) أيضاً زوّجوا (اَلصّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَ إِمائِكُمْ) : أي ما تملكون من العبيد والإماء.

إنّما الكلام في تقييد الفقرة الثانية بالصالحين، فهنا وجهان:

1. المراد الصالحون للتزويج، لا الصالحون في الأعمال.

ص: 363

2. يحتمل أن يُراد مَن يتحمّل المسؤولية في أمر الزواج.

قوله سبحانه: (إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اَللّهُ مِنْ فَضْلِهِ) لعلّه لدفع أحد توهّمين:

1. إنّ ولي الزوجة قد يطلب أن يكون الزوج ذا ثروة ونعمة، فاللّه سبحانه يَعد هؤلاء الذين يرغبون عن نكاح الفقير لأجل فقره بأنّ اللّه يغنيه من فضله.

2. ربما يتصوّر الزوج أنّه لا يقدر على توفير معيشة كريمة للزوجة، وذلك بسبب فقره، ولكنّ اللّه يذكّره بأنّه سيغنيه من فضله.

ثمّ إنّه سبحانه يعلّله بقوله: (وَ اَللّهُ واسِعٌ) النعمة (عَلِيمٌ) بحال عباده.

أقول: إنّه سبحانه وعد وعداً قطعياً بإغناء الزوج الفقير، وذلك لأنّه يختلف حال الشاب قبل الزواج عمّا بعده، فإنّ الزواج يبعث الزوج على العمل والكدح، بخلاف ما لو بقي مجرّداً لا يفكّر إلّافي حياته الخاصّة به، فوعد اللّه سبحانه يتحقّق عن ذلك الطريق، فإغناء اللّه إيّاهم عبارة عن تمكينهم بالتمسّك بأسباب الرزق ويفتح أمامهم أبواباً للرزق غير التي كانوا قد اعتادوها.

بقيت هنا أُمور:

الأوّل: أنّ الفاضل المقداد تلقّى قوله سبحانه: (إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اَللّهُ مِنْ فَضْلِهِ) قضية مهملة في قوّة القضيّة الجزئية، أي: إذا كانوا فقراء قد يغنهم اللّه من فضله، لا كلّ ما كانوا فقراء يغنهم اللّه.

يلاحظ عليه: أنّ الآية بصدد تعليل ما حثّ عليه من تزويج الأيامى والصالحين، والغاية من التعليل إعطاء الاطمئنان للزوجين وأنّ اللّه سيغنيهما، وهذا

ص: 364

النوع من التعليل يقتضي أن يكون قضية كليّة لا مهملة، والآية ناظرة لمن يملك النفقة والمهر بالقوّة ولكن الولي يمتنع من تزويج بنته لفقره.

ثمّ إنّ المراد من الإغناء هو تمكّنهما من توفير الحاجات الضرورية للعيشة المعتدلة، وهذا لا يختلف في كلّ زواج وقع على موازين العقل والعرف.

الثاني: إنّ الأمر في قوله: (وَ أَنْكِحُوا اَلْأَيامى مِنْكُمْ) خطاب للأولياء، فالظاهر أنّه يجب عليهم القيام بتزويج غير المتزوّجين من أحرار الرجال والنساء أو العبيد والإماء، غير أنّ الظاهر من الفقهاء أنّ الأمر للاستحباب المؤكّد.

وربما يحتمل عدم الاستحباب لقوله تعالى في وصف النبي يحيى عليه السلام:

(وَ سَيِّداً وَ حَصُوراً) (1) ، حيث مدحه على الترك فيكون راجحاً، وتنظّر فيه في «كنز العرفان» بقوله: وفيه نظر، لاحتمال اختصاصه بشرع غيرنا.(2)

يلاحظ عليه: بما نبهنا عليه - غير مرّة - بأنّ القرآن الكريم كتاب القرون والأجيال، وما جاء فيه، دروس وعبر وهداية إلى الحقّ، ولا معنى لاختصاص ما ينقله عمّن عاش في عصر الشرائع السابقة بهم فقط، وقد قلنا بأنّه كلّما حكى اللّه سبحانه عن الشرائع السابقة فهو حجّة بلا حاجة إلى استصحابها إلّاما دلّ الدليل على نسخه.

وأمّا قوله سبحانه في حقّ النبي يحيى عليه السلام من وصفه بالحصور، فالمراد منه بأنّه كان مالكاً لنفسه عن الشهوات أو ما يقرب من ذلك.

نعم لم يكن ذلك عن عجز عن إتيان النساء، فإنّه عيب منفّر يجب تنزيه2.

ص: 365


1- . آل عمران: 39.
2- . كنز العرفان: 136/2.

الأنبياء عنه، وربما رأى أنّه يكون مانعاً عن تفرّغه للعبادة.

الثالث: هل لفظ النكاح بمعنى العقد، أو بمعنى الوطء، أو مشترك لفظي بينهما؟ يظهر من ابن فارس في «المقاييس» أنّه بمعنى الأوّل دون الثاني، ويظهر من ابن منظور في لسانه، العكس، ونقل أنّه خيرة الأزهري، وقبله الجوهري في صحاحه، واستشهد بأمثلة ادّعى أنّها ظاهرة في الوطء، وهو مختار الجواهر. ولا شكّ أنّه استعمل في العقد، كما يبدو من الآيات التالية:

1. قال سبحانه: (وَ لا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ اَلنِّكاحِ حَتّى يَبْلُغَ اَلْكِتابُ أَجَلَهُ) (1)أي لا تعقدوا عقدة النكاح حتى تنقضي العدّة.

2. قال سبحانه: (إِلاّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا اَلَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ اَلنِّكاحِ) (2).

فإنّ إضافة العقدة إلى النكاح تعرب عن كونه موضوعاً لمسبب العقد، أعني:

المنشأ به، فعندئذٍ يأتي ما ذكره الراغب الذي يُنكر كونه موضوعاً للوطء قائلاً: إنّه محال أن يكون في الأصل للجماع ثمّ استعير للعقد، وذلك لأنّ أسماء الجماع كلّها كنايات لاستقباحهم ذكره كاستقباح تعاطيه، ومحال أن يستعير من لا يقصد فحشاً اسم ما يستفظعونه لما يستحسنونه.(3)

الآية الثانية
اشارة

قال سبحانه: (وَ لْيَسْتَعْفِفِ اَلَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتّى يُغْنِيَهُمُ اَللّهُ مِنْ فَضْلِهِ) .(4)

ص: 366


1- . البقرة: 235.
2- . البقرة: 237.
3- . المفردات للراغب: 526، مادة «نكح».
4- . النور: 33.
المفردات

ليستعفف: أي يطلب العفّة، وأُريد هنا أن يجتهد في العفّة وصون النفس ويصبر حتى يغنيه اللّه من فضله.

التفسير

الفقرة تدلّ على لزوم العفّة لمَن لا يقدر على المهر والنفقة، وأمّا بقية فقرات الآية فتدلّ على حكم العبد المكاتب، أو حرمة إكراه الإماء على البغاء إن أردن تحصّناً، وقد درسنا هذين الأمرين في أحكام العتق.

وإليك الكلام في مفهوم هذه الفقرة:

ربما يتصوّر وجود المنافاة بين مضمونها وما تقدّم من وعده سبحانه أنّه يغني الفقير، فكيف الجمع بينهما؟

الجواب: أنّ الآية المتقدّمة ناظرة إلى الفقير الذي يقدر على النفقة والمهر ولكن ضيق الرزق صار سبباً لوليّ البنت أن لا ينكحه، فهذا هو الّذي أمر اللّه بتزويجه وأنّه تعالى سيغنيه من فضله.

وأمّا الأمر بالصبر - في المقام - فموجّه إلى الذي لا يملك شيئاً حتّى المهر ولا يتمكّن من الإنفاق، فهو مأمور بالصبر حتّى يشمله سبحانه بفضله.

الآية الثالثة
اشارة

قال سبحانه: (وَ إِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تُقْسِطُوا فِي اَلْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ

ص: 367

لَكُمْ مِنَ اَلنِّساءِ مَثْنى وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلاّ تَعُولُوا) .(1)

المفردات

تقسطوا: القسط هو النصيب بالعدل، فلو قيل: أقْسَطَ يُراد إذا عَدَلَ، ولو قيل:

قسط يُراد إذا جار.

مثنى وثلاث ورباع: هذه الأعداد معدولة عن اثنتين اثنتين، وثلاث ثلاث، وأربع أربع، ولذلك منعت من الصرف، ولم يسمع من العرب خماس مخمس، وهكذا.

تعولوا: في تفسير هذه اللفظة وجوه:

1. المراد أن تجوروا، والشاهد عليه قول أبي طالب عليه السلام في لاميّته مادحاً النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم:

بميزان قسط(2)*** لا يغلّ (3) شعيرة له شاهد من نفسه غير عائل(4)

2. المراد: أن لا تحتاجوا، والشاهد عليه قول الشاعر:

فما يدري الفقير متى غناه *** وما يدري الغني متى يعيل

يلاحظ عليه: أنّ تفسير الآية بما في البيت، خطأ واضح، لأنّ الفعل في الآية

ص: 368


1- . النساء: 3.
2- . النصيب بالعدل، كما مرّ في المتن.
3- . أي: لا يخون مقدار شعيرة.
4- . أي غير جائر.

ماضي (عال، يعول) وفي البيت يائي (عال، يعيل) فأين هذا من ذاك؟!

3. المراد أن تخرجوا عن الحدّ، كما يقال: عالت الفريضة، وذلك عند قصور التركة عن سهام ذوي الفروض والمراد: لئلّا تخرجوا عن الحدّ، والقدر اللازم.

4. نقل عن الشافعي أنّه قال: معناه: ألا يكثر من تعولون، فمعنى الآية اقتصروا بالواحد ليقل عدد من تعولون من البنين والبنات.

قال الشريف الرضي: وهذا خطأ بيّن لأنّ الأمر لو كان على ما ظنّ لكان وجه الكلام ألّا تُعيلوا، أي: تكثروا عيالكم، يقال: أعال الرجل إعالة إذا كثر عياله.(1)

والظاهر من هذه الوجوه هو المعنى الأوّل ويشهد عليه مضمون الآية حيث أمر من يخاف ألّا يعدل بين النساء المتعدّدات بالاكتفاء بالواحدة، ثم يعلّله بأنّه أقرب من ألا تجوروا في أمر النفقة لقلّة العوائد وتعدّد الموارد، فالمعنى الأوّل أقرب إلى مضمون الآية.

التفسير

توضيح مفاد الآية رهن بيان ما كان عليه العرب في الجاهلية في أمر النساء اليتامى، فقد كانوا يرغبون في نكاحهن طمعاً في أموالهن، فجاء الوحي الإلهي ينهى عن نكاحهن لغاية التعرّض لأموالهن عن طريق نكاحهن، فمعنى قوله:

(وَ إِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تُقْسِطُوا فِي اَلْيَتامى) هذه جملة شرطية بحاجة إلى جزاء، وهو مقدّر، نظير: فلا تنكحوهن، قام مقامه قوله: (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ اَلنِّساءِ) غير اليتامى.

ص: 369


1- . حقائق التأويل: 294.

وحصيلة الفقرة: أنّه إذا صعب عليكم صيانة حقوق النساء اليتامى، وأموالهن فلا حرج عليكم، إذ في وسعكم أن تتزوّجوا غيرهن.

وممّا ذكرنا يظهر أمران:

1. أنّ المراد من اليتامى هو النساء اليتامى اللاتي بلغن وصرن مستعدات للنكاح، وليس المراد هو اليتيم الصغير الذي لم يبلغ بعد.

2. أنّ الجزاء محذوف قامت مقامه الفقرة المتأخّرة.

ثمّ إنّ الأمر في (فَانْكِحُوا) ليس للإيجاب لما ثبت في الأُصول من أنّ الأمر بعد الحظر، أو بعد توهّمه، للترخيص لا للإيجاب، كما في قوله سبحانه: (وَ إِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا) (1).

قوله تعالى: (مَثْنى وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ) بمعنى اثنتين اثنتين وثلاثاً ثلاثاً وأربعاً أربعاً، حسب ما تريدون وتتمكّنون، والفقرات بدل تفسيري من قوله: (ما طابَ) . ثمّ إنّ الواو فيها لبيان التنويع لا للجمع بمعنى أنّ الرجل حسب إمكانه يتخيّر بين اثنتين اثنتين، وبين ثلاث ثلاث، وبين أربع أربع.

ويشهد على ما ذكرنا من أنّ الواو للتنويع لا للجمع، قوله سبحانه في وصف الملائكة: (جاعِلِ اَلْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ) (2).

هل القرآن يبيح نكاح تسع نساء؟

ومن هنا يُعلم فساد ما يتوهّم بأنّ القرآن يبيح نكاح تسع نساء، وهو حاصل

ص: 370


1- . المائدة: 1.
2- . فاطر: 1.

جمع المثنى والثلاث والرباع، لما عرفت من أنّ الواو ليست للجمع بل للتنويع، كما يقال: جاء الضيوف مثنى مثنى، وثلاثاً ثلاثاً، وأربعاً أربعاً. يُريد أنّهم لم يأتوا مرّة واحدة بل أتوا بصور مختلفة.

وما ذكرناه من الجواب من أنّ الواو للتنويع لا للجمع أظهر ممّا أجاب به الفاضل المقداد، حيث قال: فإنّ الجمع في الحكم لا يستلزم الجمع في الزمان، لأنّك تقول: رأيت زيداً اليوم، وعمراً أمس.

ولو قال بلفظ «أو» لتوهّم أنّه لا يجوز لمن يقدر على عدد منها، أن ينتقل إلى عدد آخر، وليس كذلك لأنّ مَن زاد تمكّنه، فله أن يزيد ما لم يتجاوز الأربع، ومن نقص تمكّنه فله أن ينقص بلا حرج، لكون الواو للجمع بخلاف «أو» فافهم ذلك، فيجوز للرجل أن ينكح الأعداد المذكورة في أزمنة متعاقبة.(1)

ثمّ إنّ تجويز النكاح بأكثر من واحدة مشروط بعدم الخوف من رعاية العدالة بينهن كما يقول: (فَإِنْ خِفْتُمْ) من عدم القيام برعاية العدالة (ف) اللازم نكاح (واحدة أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) وذلك أنّ الاقتصار على نكاح الواحدة أو ملك اليمين لأجل أنّه أبعد عن الوقوع في خلاف العدل في ذوات الحقوق، إذ ليس في هاتين الصورتين ذوات حقوق، أمّا الحرّة فلأنّها واحدة، وأمّا الإماء فليس لها حقوق لازمة.

ثمّ إنّ الفاضل المقداد قال: أجمع أصحابنا على جواز نكاح المتعة وأنّه لا حصر لها.(2)2.

ص: 371


1- . كنز العرفان: 141/2.
2- . كنز العرفان: 142/2.

يلاحظ عليه: بأنّ الحكم ليس إجماعياً، وسيوافيك ما هو الحقّ في مبحث الزواج الموقّت، فانتظر.

ثمّ إنّه سبحانه يعلّل الاكتفاء بنكاح الواحدة بقوله: (ذلِكَ) الاقتصار على واحدة (أَدْنى) : أي أقرب إلى (أَلاّ تَعُولُوا) : أي تجوروا أو لا تميلوا إلى مخالفة العدل.

إلى هنا تمّ تفسير الآية بمفرداتها وجملها. ولكن بقيت هنا أُمور:

الأوّل: وجه الصلة بين الشرط (فَإِنْ خِفْتُمْ) والجزاء (فَانْكِحُوا)

قد ظهر بما ذكرنا وجود الصلة بين قوله: (وَ إِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تُقْسِطُوا فِي اَلْيَتامى) وقوله: (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ اَلنِّساءِ) لما عرفت من سيرة العرب حيث كانوا ينكحون اليتامى المستعدات للنكاح لغاية الاستيلاء على أموالهن، فمن لم يتمكّن من العدالة فلينصرف عنهن وينكح غيرهن من النساء، ما طاب له مثنى وثلاث ورباع مشروطاً برعاية العدالة وإلّا فليقتصر على الواحدة.

والذي يشهد على ما ذكرنا قوله سبحانه: (وَ يَسْتَفْتُونَكَ فِي اَلنِّساءِ قُلِ اَللّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي اَلْكِتابِ فِي يَتامَى اَلنِّساءِ اَللاّتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ وَ تَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَ اَلْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ اَلْوِلْدانِ وَ أَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ وَ ما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اَللّهَ كانَ بِهِ عَلِيماً) (1) و الشاهد في قوله: (لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ وَ تَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ...) أي لاتؤتونهن حقوقهن ومع ذلك ترغبون في نكاحهن.

ص: 372


1- . النساء: 127.

ثمّ إنّ بعض مَن لم يدرك وجود الصلة تصوّر سقوط شيء أو آية بين الفقرتين، وقد عرفت الصلة بينهما.

الثاني: القرطبي يتّهم الشيعة بإباحة العقد على التسع!!

إنّ القرطبي حكى في تفسيره عمّن بَعُدَ فهمه عن الكتاب والسنّة وأعرض عمّا كان عليه سلف هذه الأُمّة فزعم أنّ الآية تدلّ على إباحة التسع، وعضد ذلك بأنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم نكح تسعاً، وجمع بينهن في عصمته. ثم إنّه نسب هذه المقالة إلى الرافضة.(1)

أقول: اللّه يتعامل مع القرطبي بما يقتضيه عدله، فإنّ الشيعة برآءُ عن هذه التهمة، وقد اتّفقت كلمة أئمتهم وفقهائهم على أنّه إذا استكمل الحر أربعاً بالعقد الدائم حرم عليه ما زاد، ولا يحلّ له من الإماء بالعقد أكثر من اثنتين... إلخ.(2)

نعم حكي عن القاسمية (إحدى فرق الزيدية) جواز التسع لمكان الواو، قال العلّامة: وحكي عن القاسم بن إبراهيم أنّه أجاز العقد على التسع، وإليه ذهب القاسمية من الزيدية، ثمّ إنّه بعد ما نقل عن الشيخ هذه الحكاية قال: لم أجد أحداً من الزيدية يعترف بذلك.(3)

الثالث: المراد التسوية في الحقوق لا العلائق القلبية

أنّه سبحانه يشترط في الزواج بأكثر من واحدة بشرط التسوية بينهن في

ص: 373


1- . لاحظ: تفسير القرطبي: 7/5.
2- . شرائع الإسلام: 292/2.
3- . لاحظ: حقائق التأويل: 309 (الهامش). تحقيق محمد رضا آل كاشف الغطاء، نشر دار المهاجر، بيروت.

الحقوق من دون أن يقوم في بيت واحدة منهن أكثر من ليلة واحدة، أو يوسّع في حياتها أكثر من الباقيات، ولذلك يقول: (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) فمَن يريد الزواج بأكثر من واحدة فعليه القيام بهذا الشرط.

ثمّ إنّ بعض الزنادقة في عصر الإمام الصادق عليه السلام تخيّل أنّ بين هذه الآية والآية الأُخرى، تعارض، وهو قوله سبحانه في نفس السورة: (وَ لَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ اَلنِّساءِ وَ لَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ اَلْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ) (1).

روى الكليني عن نوح بن شعيب وعمر بن الحسن قال: سأل ابن أبي العوجاء هشام بن الحكم فقال: أليس اللّه حكيماً؟ قال: بلى، هو أحكمُ الحاكمين.

قال: فأخبرني عن قوله عزّ وجلّ (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ اَلنِّساءِ مَثْنى وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً) أليس هذا فرض؟ قال: بلى. قال: فأخبرني عن قوله عزّ وجلّ: (وَ لَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ اَلنِّساءِ وَ لَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ اَلْمَيْلِ) (2) أي حكيم يتكلّم بهذا؟ فلم يكن عنده جواب...

ثم إنّ هشام بن الحكم ذهب إلى المدينة ودخل على الإمام الصادق عليه السلام وسأله المسألة، فأجابه الإمام عليه السلام: «أمّا قوله عزّ وجلّ: (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ اَلنِّساءِ مَثْنى وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً) في النفقة، وأمّا قوله:

(وَ لَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ اَلنِّساءِ وَ لَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ اَلْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ) يعني في المودّة» قال: فلمّا قدم عليه هشام بهذا الجواب وأخبره، قال:9.

ص: 374


1- . النساء: 129.
2- . النساء: 129.

واللّه، ما هذا من عندك.(1)

كلمات غير صحيحة حول الآية

نقل شيخنا البلاغي عن كتاب «تحرير المرأة» لبعض المصريين أنّه قال حول الآية: والذي يطيل البحث في النصوص القرآنية يجد أنّها تحتوي إباحة وحظراً في آن واحد، وذكر الآيتين، ثم خرج بالنتيجة التالية: أنّ تعدّد الزوجات كان جائزاً للصدر الأوّل إذ كانوا يستطيعون العدل ولم تكن آية: (وَ لَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا) جارية في شأنهم، وأمّا أهل العصور المتأخّرة فالعدل غير مستطاع لهم.(2) ومعنى ذلك تحريم نكاح أكثر من واحدة.

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره من التوهّم رهن كون العدل في كلتا الآيتين، متعلّقاً بشأن واحد، ولو وقف على ما فسّر به الإمام الصادق عليه السلام العدل في الآيتين لما قال ما قال.

ثمّ إنّ صاحب المنار نقل ذلك التوهّم عن أُستاذه، فقال: قال الأُستاذ في الدرس الثاني: تقدّم أنّ إباحة تعدّد الزوجات مضيّق، قد اشترط فيها ما يصعب تحقّقه من كثرة الأزواج.(3) وأساس التوهّم أنّه زعم أنّ متعلّق العدل في الآيتين أمر واحد.

أقول: ما يصعب تحقّقه هو العدل في المحبّة وليس بشرط، وأمّا الشرط - أعني: العدل في الإنفاق - فهو أمر سهل لمَن أراد أن يعمل بالشريعة.

ص: 375


1- . الكافي: 392/5، برقم 1؛ البرهان في تفسير القرآن: 18/3.
2- . لاحظ تحرير المرأة: 138، طبع مصر - 1316 ه.
3- . تفسير المنار: 350/4.
الآيات الرابعة والخامسة والسادسة
اشارة

قال سبحانه:

(وَ اَلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ * إِلاّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ اِبْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ اَلعادُونَ) .(1)

المفردات

فروجهم: الفرج: سوأة الرجل والمرأة.

حافظون: الحفظ: التعفّف عن الحرام.

ابتغى: طلب.

العادون: المتجاوزون للحدود بالعدوان.

التفسير

نزلت الآية لبيان أوصاف المؤمنين الذين يرثون الجنة بلا تعب، ومن أوصافهم التعفّف عن الحرام.

أمر سبحانه في هذه الآيات بحفظ الفروج - أعمّ من الذكر والأُنثى - عن الحرام، وهذا يشمل الزنا واللواط والسحاق والعادة السرية أو الاستمناء.

والتعبير بالحفظ في قوله تعالى: (وَ اَلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ) كناية عن

ص: 376


1- . المؤمنون: 5-7.

أنّ الشهوة تثور وتدفع الإنسان إلى ما لا تحمد عقباه، فعليه إمساكها وحفظها.

ثمّ إنّه سبحانه استثنى من قوله: (لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ) صنفين:

1. (إِلاّ عَلى أَزْواجِهِمْ) من غير فرق بين الدائم والمؤقّت، كما سيأتي.

2. (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) يعني الإماء وملك اليمين، كناية عن الإماء التي يتملّكها الإنسان بوجه شرعي.

ثمّ إنّ الذين يصونون الفروج إلّاعن الموردين يصفهم سبحانه بقوله:

(فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ) : أي لا يلامون شرعاً باللوم الموجود في حقّ غيرهما.

قوله: (فَمَنِ اِبْتَغى وَراءَ ذلِكَ) ، وأُشير بلفظ الإشارة إلى الموردين، أعني:

الزواج وملك اليمين، ولعلّ التذكير باعتبار الزواج (فَأُولئِكَ هُمُ اَلعادُونَ) : أي متجاوزون الحدود الإلهية.

فإن قلت: إنّه سبحانه استثنى نكاح الأزواج وملك اليمين، فأين المتعة من هذا الاستثناء؟

قلت: المزوّجة متعة داخلة في قوله سبحانه: (إِلاّ عَلى أَزْواجِهِمْ) فهي زوجة حقيقية لها من الأحكام ما للزوجة الدائمة إلّاما استثني بالدليل، وانتفاء بعض الأحكام في مورد المؤقّتة لا يسلب عنها عنوان الزوجية، وسيوافيك شرح ذلك في تفسير مَن يجوز نكاحهن ومَن لا يجوز الواردة في الآيات.

بقي الكلام في الأُمور الثلاثة: الزنا واللواط والعادة السرية.

أمّا الأوّل ففيه انحلال النظام الأُسري، مضافاً إلى انتشار الأمراض الجنسية الخطرة، وصيرورة المجتمع الإنساني مجتمع الغابة لا يعرف الابن أباه ولا العكس.

ص: 377

وأمّا اللواط فيكفي في قبحه أنّه ينتهي إلى انقطاع النسل، فإنّ الإنسان لو اقتصر في إطفاء الشهوة بالجنس المماثل فلا يبقى على وجه الأرض أي بشر.

وأمّا العادة السرية فهي محرّمة عند الفقهاء، وقد استدلّ الإمام مالك على حرمتها بهذه الآية وقال: إنّ المستمني بيده قد ابتغى لشهوته شيئاً وراء ذلك.

والتفصيل في كتب الفقه.

ص: 378

أحكام النكاح

2. أحكام معاشرة النساء

اشارة

قد تقدّم حثّ القرآن الكريم على نكاح الأيامى من البنين والنساء وهكذا العبيد والإماء، كلّ ذلك استجابة للغريزة الجنسية التي تدفع الإنسان إلى المعاشرة والمخالطة مع الجنس الآخر، غير أنّ الإسلام حدّد المعاشرة بحدود تكفّلت ببيانها الآيات التالية:

الآية الأُولى
اشارة

قال سبحانه: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَ يَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اَللّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ) .(1)

المفردات

يغضُّوا: الغضّ: ربّما يقال: إطباق الجفن على الجفن، ويكون مرادفاً للغمض، ولكن الصحيح أنّه عبارة عن نقصان النظر مقابل التحديق إلى الشيء، أي تحديق النظر إلى ما يحرم النظر إليه.

ص: 379


1- . النور: 30.

وعلى هذا يكون كناية عن توجيه النظر إلى غير المرأة كالجوانب والأطراف أو إلى أسفل كالأرض.

ويدلّ على ما ذكرنا من أنّ الغض هو نقصان النظر لا الغمض والستر أمران:

1. كلمة (مِنْ) في قوله تعالى: (يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ) فلو كان الغضّ بمعنى الغمض لقال: يغضوا أبصارهم.

2. قوله سبحانه حاكياً عن لقمان: (وَ اُغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ) (1): أي انقص من صوتك.

التفسير
ضوابط النظر بين الرجل والمرأة الأجنبيين

تتضمّن الآية الأمر بشيئين:

1. (يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ) .

2. (يَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ) .

ثم يعلّل ذلك بقوله: (ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ) .

ثم يصف نفسه بقوله: (إِنَّ اَللّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ) .

أمّا الأمر الأوّل: فاللّه سبحانه يأمر نبيّه بقوله: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ) : أي يخفضوا أبصارهم غير محدّقين النظر إلى ما يحرُم النظر إليه.

والمتعلّق وإن لم يُذكر في الآية لكنّه معلوم وهو غير المحارم، فإنّ التساهل في

ص: 380


1- . لقمان: 19.

النظر ربّما يؤدِّي إلى ما لا تُحمد عاقبتُه، ففي غضّ البصر سدّ لباب الشرّ ومنع للعواقب غير المحمودة.

وما قلناه من أنّ النظر إلى غير المحارم ربّما يجرّ إلى الشرّ، قد أوضحه الشاعر بقوله:

نظرة فابتسامة فسلام *** فكلام فموعد فلقاءُ

فلأجل أن لا يقع الرجال في حبائل الشيطان، أمرهم سبحانه بأن (يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ) والفعل المضارع بمعنى الأمر. وقد ورد في الروايات ما يشرح لنا سبب نزول الآية. روى سعد الإسكاف عن أبي جعفر [الباقر] عليه السلام قال: «استقبل شابّ من الأنصار امرأة بالمدينة وكان النساء يتقنّعنَ خلف آذانهنّ، فنظر إليها وهي مقبلة، فلمّا جازت نظر إليها ودخل في زقاق قد سمّاه ببني فلان، فجعل ينظر خلفها واعترض وجهه عظم في الحائط أو زجاجة فشقّ وجهه، فلمّا مضت المرأة نظر فإذا الدماء تسيل على ثوبه وصدره، فقال: واللّه لآتينّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ولأخبرنّه، فأتاه فلّما رآه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قال: ما هذا؟ فأخبره، فهبط جبرئيل عليه السلام بهذه الآية: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَ يَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اَللّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ) .(1)

وروي عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: «النظرة سهم من سهام إبليس مسموم، مَن ترَكها للّه عزّ وجلّ لا لغيره أعقبه اللّه أمناً وإيماناً يجد طعمه»(2).

وفي حديث آخر: «النظرة بعد النظرة تزرع في القلب الشهوة وكفى بها5.

ص: 381


1- . الوسائل: 14، الباب 104 من أبواب مقدّمات النكاح وآدابه، الحديث 4.
2- . الوسائل: 14، الباب 104 من أبواب مقدّمات النكاح وآدابه، الحديث 5.

لصاحبها فتنة»(1).

وعن الإمام علي الرضا عليه السلام فيما كتبه في جواب مسائل محمد بن سنان:

«وحُرّم النظر إلى شعور النساء المحجوبات بالأزواج وإلى غيرهنّ من النساء لما فيه من تهييج الرجال، وما يدعو إليه التهييج من الفساد والدخول فيما لا يحلّ ولا يجمل، وكذلك ما أشبه الشعور إلّاالذي قال اللّه تعالى: (وَ اَلْقَواعِدُ مِنَ اَلنِّساءِ اَللاّتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ) (2): أي غير الجلباب فلا بأس بالنظر إلى شعور مثلهنّ»(3).

هذا كلّه حول الأمر الأوّل.

وأمّا الأمر الثاني: فهو قوله سبحانه: (وَ يَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ) فإطلاق الآية يدلّ على حفظ الفروج بالستر عن الأنظار أو بحفظها عن الزنا نظير قوله سبحانه:

(وَ اَلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ) (4) .

لكنّ الروايات تخصّ هذه الفقرة بالستر، فعن أبي بصير عن أبي عبداللّه عليه السلام قال: «كلّ آية في القرآن في ذكر الفروج فهي من الزنا، إلّاهذه الآية فإنّها من النظر...»(5).

وفي حديث آخر عن أبي عبداللّه عليه السلام في تفسير الآية: «فنهاهم أن ينظروا إلى7.

ص: 382


1- . الوسائل: 14، الباب 104 من أبواب مقدّمات النكاح وآدابه، الحديث 6.
2- . النور: 60.
3- . الوسائل: 14، الباب 104 من أبواب مقدّمات النكاح وآدابه، الحديث 12.
4- . المؤمنون: 5.
5- . تفسير القمي: 77/2؛ تفسير نور الثقلين: 3/587.

عوراتهم، وأن ينظر إلى فرج أخيه، ويحفظ فرجه أن ينظر إليه»(1).

وأمّا الفقرة الثالثة فهي تختصّ بتعليل غضّ الأبصار وحفظ الفروج، أعني قوله تعالى: (ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ) : أي أطهر من دنس الريبة وأنفع ديناً ودنياً فقد قالوا: النظر بريد الزنا ورائد الفجور.(2)

يقول صديقنا المغفور له الشيخ محمد الكرمي: فإذا ملكت النظرة ذاك الشاب الأنصاري في خبرنا السابق ففاضت دماؤه على صدره وثيابه من حيث لا يشعر بما أصابه لانشغاله التام عن نفسه بمنظوره، على أن مطمح نظره كان في جمال سائر طبيعي لم تنفض عليه الأصابيغ بهجتها ولا الثياب الحريرية المزركشة بتقطيعها الفني جلوتها، فأحرى به أن يذوب من حينه ومكانه إزاء هذه النظرات الخلّابة والجمال الفتّان.(3)

وأمّا الفقرة الرابعة من الآية، أعني قوله تعالى: (إِنَّ اَللّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ) ، فهي بصدد التنبيه إلى استشعار رقابة اللّه تعالى فيما يأتي به الرجال من أعمال سيئة مثل إجالة النظر والتحديق إلى المحرّمات وكشف السَّوأة، فاللّه سبحانه مطّلع عليها ولا يخفى عليه شيء منها.

فعلى هذا فليكن كلّ إنسان على حذر لأنّ اللّه ناظر مطّلع.

إلى هنا تمّ ما أمر به تعالى الرجال، وأمّا ما هو تكليف النساء فهذا ما تحدّثت عنه الآية التالية.8.

ص: 383


1- . تفسير نور الثقلين: 3/587.
2- . تفسير الرازي: 205/23.
3- . أُصول الدين الإسلامي: 88.
الآية الثانية
اشارة

قال سبحانه: (وَ قُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَ يَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَ لا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاّ ما ظَهَرَ مِنْها وَ لْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ وَ لا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ أَوِ اَلتّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي اَلْإِرْبَةِ مِنَ اَلرِّجالِ أَوِ اَلطِّفْلِ اَلَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ اَلنِّساءِ وَ لا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَ تُوبُوا إِلَى اَللّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا اَلْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) .(1)

المفردات

يغضضنّ: من الغضّ أي ينقصن من أبصارهن وهو غير الغمض الذي هو بمعنى: إطباق الجفن، وربما يفسّر الأوّل بالثاني وهو غير صحيح.

بخُمُرهن: الخُمُر واحده «الخمار» وهو ما تغطي به المرأة رأسها.

جيوبهن: الجيوب جمع جيب وهو - كما قيل - فتحة في أعلى القميص يبدو منها بعض الجسد.

بعولتهن: البعولة جمع «بَعْل»: الزَّوج.

ص: 384


1- . النور: 31.

التابعين: فسّره قوله: (غَيْرِ أُولِي اَلْإِرْبَةِ مِنَ اَلرِّجالِ) : أي من لا شهوة له في النساء.

الإربة: الحاجة. يقول الراغب: الأرَب: فرطْ الحاجة المقتضي للاحتيال في دفعه.(1) وأُريد بها الحاجة إلى النكاح.

يظهروا: مَن ظهر على الشيء: إذا اطّلع، أي لا يعرفون ما العورة ولا يميّزون بينها وبين غيرها، والظاهر أنّهم لم يبلغوا أوان القدرة على الوطء.

التفسير
الأحكام الستة في مورد النساء
اشارة

لمّا فرغ سبحانه من بيان تكاليف المؤمنين في أمر المعاشرة، أمر المؤمنات أيضاً بنفس الأحكام أو أكثر، والحكمة في الجميع واحدة. وقد فرض اللّه على النساء الأُمور التالية:

1. غضّ الأبصار.

2. حفظ الفروج.

3. عدم إبداء الزينة إلّاما ظهر منها.

4. إلقاء الخُمُر على الجيوب.

5. عدم إبداء الزينة إلّالأشخاص خاصّة.

6. عدم الضرب بالأرجل لإثارة الرجال برنين خلاخيلهنّ.

ص: 385


1- . المفردات للراغب: 15، مادة «أرب».

7. وفي نهاية الآية أمر الرجال والنساء بالتوبة إلى اللّه لغاية الفلاح.

هذا هو إجمال الآية، وإليك التفصيل.

الحُكم الأوّل: غضّ الأبصار

جاء غضّ الأبصار في قوله سبحانه: (وَ قُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ) وهو كناية عن عدم تحديق النظر إليهنّ وبالتالي صرف النظر عنهن إلى غيرهن، وملاك الحكم واضح لما عرفت من المفاسد المترتّبة على تحديق النظر، من غير فرق بين نظر الرجل إلى المرأة أو المرأة إلى الرجل، إلّاما جرت السيرة عليه، من نظر النساء إلى الواعظ أو المعلّم نظرة عابرة لا نظرة فاحصة.

وما ربّما يُتصوّر من جواز نظر النساء إلى الرجال، وتحديق النظر إليهم فهو على خلاف الآية، لما عرفت من أنّ الحكمة في الجميع واحدة إلّاما استثني.

الحكم الثاني: حفظ الفروج

جاء حفظ الفروج في قوله تعالى: (وَ يَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ) فيفسّر حسب ما مرّ في الآية المتقدّمة من سترها.

الحكم الثالث: عدم إبداء الزينة إلّاما ظهر منها

أُشير إلى عدم إبداء الزينة في قوله تعالى: (وَ لا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاّ ما ظَهَرَ مِنْها) .

والزينة كما قال الراغب بالقول المجمل ثلاثة: زينة نفسية كالعلم والاعتقادات الحسنة، وزينة بدنية كالقوّة وطول القامة، وزينة خارجية كالمال

ص: 386

والجاه.(1)

والظاهر أنّ الراغب خلط بين الجمال والزينة، فما يرجع إلى الخلقة فهو جمال، وأمّا ما يعرض على الخلقة فهو زينة، فبعض ما ذكره جمال لا زينة. نعم ربّما يقال: الزينة قسمان: خَلقية ومكتسبة؛ فالخَلقية: الوجه والكفّان أو نصف الذراعين، والمكتسبة، وهي سبب التزيّن: اللباس الفاخر والحُليّ والكحل والخضاب وغير ذلك.

وأمّا القرآن الكريم فالظاهر منه أنّه يستعمل الزينة في الأمر الطارئ على الشيء، نظير:

1. زينة السماء بالكواكب، نظير قوله تعالى: (إِنّا زَيَّنَّا اَلسَّماءَ اَلدُّنْيا بِزِينَةٍ اَلْكَواكِبِ) .(2)

2. زينة السماء بالمصابيح، نظير قوله تعالى: (وَ زَيَّنَّا اَلسَّماءَ اَلدُّنْيا بِمَصابِيحَ) .(3)

3. زينة القلوب بالإيمان، قال تعالى: (وَ لكِنَّ اَللّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ اَلْإِيمانَ وَ زَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ) .(4)

وقد استعمل لفظ الزينة في المال والجاه نظير قوله: (فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ) ،(5) وفي الزينة الخارجية كما في قوله: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اَللّهِ اَلَّتِي أَخْرَجَ 9.

ص: 387


1- . مفردات الراغب: 218، مادة «زين».
2- . الصافات: 6.
3- . فصلت: 12.
4- . الحجرات: 7.
5- . القصص: 79.

لِعِبادِهِ) (1) .

وعلى ذلك فنحن نشكّ في إطلاق الزينة على أعضاء الإنسان، وإنّما توصف الأعضاء بالجمال. ويؤيّد ذلك ما جاء عن أبي عبد اللّه الصادق في تفسير (إِلاّ ما ظَهَرَ مِنْها) قال عليه السلام: «الزينة الظاهرة: الكحل والخاتم».(2) والسند معتبر، وإن كان فيه القاسم بن عروة، الذي لم يوثّق صريحاً في الكتب الرجالية، لكنّه من مشايخ المحدّث الجليل ابن أبي عمير. وروى أبو بصير قال: سألته عن قول اللّه عزّ وجلّ: (وَ لا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاّ ما ظَهَرَ مِنْها) قال: «الخاتم والمَسَكة وهي القُلب»(3). وعلى هذا فتفسير ما ظهر من الزينة بالوجه والكفين غير تامّ، لما عرفت من أنّهما من الجمال لا الزينة، ثمّ إنّ عدم وجوب ستر الكحل والخاتم على المرأة لا يلازم جواز نظر الرجال إليهما ومحالّهما.

وبما ذكر يظهر: أنّ تفسير الاستثناء بالوجه والكفين، غير تام لما عرفت من أنّ الزينة عبارة عن الأمر الطارئ على الجمال، وهما من الأُمور الخلقية للإنسان.

وإنّما يرجع في حكمهما إلى الروايات والفتاوى المأثورة، ودراسة حكم الأمرين خارجة عن موضوع بحثنا.).

ص: 388


1- . الأعراف: 32.
2- . الوسائل: 14، الباب 109 من أبواب مقدّمات النكاح وآدابه، الحديث 3.
3- . الوسائل: 14، الباب 109 من أبواب مقدّمات النكاح وآدابه، الحديث 4. قال الطريحي: والمسَك: أسورة من ذبل أو عاج، والذبل: شيء كالعاج. (مجمع البحرين: 288/5، مادة «مسك»).
الحكم الرابع: إلقاء الخُمُر على الجيوب
اشارة

فقد جاء في قوله تعالى: (وَ لْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ) والخُمُر جمع خِمار، ويظهر من الآية أنّ النساء كنّ يغطّين رؤوسهنّ بالخُمُر ويسدلنها من وراء الظهر فتبدو نحورهنّ وبعض صدورهنّ كعادة الجاهلية، ونُهين عن ذلك وأُمرن بضرب الخُمُر على الجيوب حتى تكون الرؤوس والجيوب مستورة بالخُمُر.

ثمّ إنّه يظهر من الآية التالية أنّه يجب على النساء، وراء ضرب الخمر على الجيوب إدناء الجلباب عليهن، قال سبحانه: (يا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَ بَناتِكَ وَ نِساءِ اَلْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلاَبِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَ كانَ اَللّهُ غَفُوراً رَحِيماً) (1).

وكان سيد مشايخنا آية اللّه السيّد حسين البروجردي قدس سره يستدلّ بها على لزوم ستر الوجه في درسه الشريف عند البحث عن مقدار ما يجب ستره للمرأة في الصلاة، ويقول بأنّ إدناء الجلباب وإرخاءه يلازم ستر الوجه، والمراد: يُدنين جلابيبهنّ إلى جانب وجوههنّ، فتكون النتيجة إسدالها عليها.

فإن قلت: إنّ لسان الآية، لسان الإرشاد بشهادة أنّ الغاية من إدناء الجلباب هي التميّز عن الإماء حتى لا يؤذين في الطرق و الشوارع حيث كان الفساق يزاحمون الإماء فيها، لتجرّدهن من الستر اللازم، فأمر اللّه الحرائر بإدناء الجلباب مرشداً إلى أنّ ذلك أدنى أو أقرب إلى أن يعرفن بزيّهن أنّهن حرائر ولسن بإماء.

قلت: ما ذكر في الآية من قبيل الحكم، لا العلل، والحكم فيها لا يدور

ص: 389


1- . الأحزاب: 59.

مدارها وإن كان من فوائد تميّزهن عن الإماء، بل يجب مطلقاً، سواء كانت هناك إماء أو لا، وإلّا يلزم اختصاص مفاد الآية بفرض خاص، وهو كماترى.

فخرجنا بالنتائج التالية:

1. أنّ قوله سبحانه: (إلا ما خرج منها) ناظر إلى الطوارئ من الزينة ولا يعمّ الوجه والكفين، وإنّما يطلب حكمها من السنّة وكلمات الفقهاء. 2. أنّ ما تعرض له الكتاب العزيز في أمر الحجاب للمرأة هو ضرب الخمار على الصدر، وإدناء الجلباب إلى جانب الوجه وأمّا الباقي فيطلب من السنّة.

3. أنّ النساء في عصر الرسالة كنّ يلبسن القميص الواسع الأطراف فيستر جميع البدن من الأكتاف إلى الأبدان، وهذا وراء ما كان لهن خمار وجلباب، ويظهر من بعض اللغويين أنّ الجلباب كان يستر جميع البدن وكان كالشادر في زماننا، قال ابن الأعرابي: الجلباب: الإزار فيجلّل جميع الجسد.(1)

وفي كتاب التحقيق: الملحفة والرداء هو الذي يستر تمام البدن ويلبس فوق الثيات والجلباب: أنّه ما يغطّي الثياب ويستر جميع البدن والثيات معاً».(2)

4. أنّ القضاء البات في مقدار ما يجب ستره، رهن دراسة الروايات الواردة في المقام و كلمات الفقهاء، والغرض في المقام هو دراسة ما ورد في الآيات.

وفي ختام تفسير هذه الآية نذكر ما قاله الشريف الرضي رحمه الله حول قوله تعالى: (وَ لْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ) : وهذه استعارة، والمراد بها: إسبال الخُمُر التي هي المقانع على فرجات الجيوب لأنّها خصاصات(3) إلى الترائبع.

ص: 390


1- . لسان العرب: 273/1، مادة «جلب».
2- . التحقيق في كلمات القرآن الكريم: 95/2.
3- . جمع خصاصة وهو الخرق في الباب أو البرقع.

والصدور والثّديّ والشعور، وأصل الضرب من قولهم: ضربت الفسطاط إذا أقمته، بإقامة أعماده وضرب أوتاده، فاستعير هاهنا كناية عن التناهي في إسبال الخُمُر وإضفاء(1) الأُزر.(2)

وجه فرض الحجاب على النساء

هناك سؤال يطرحه النشء الجديد متأثّراً بما ينشره أعداء الإسلام حول الأحوال الشخصية: لماذا فرض اللّه سبحانه الحجاب على النساء دون الرجال، فإنّ المفسدة ترتفع بأحد الأمرين، فلماذا خُصّت النساء به؟

والجواب: إنّ وجه التخصيص واضح وهو أنّ جسم المرأة، من حيث التركيب، أكثر إغراء وإثارة للغريزة. ثمّ إنّ المرأة بطبيعتها تحافظ على عفّتها ولا تُظهر ما في نفسها للرجل، وإن كانت تميل إليه، ولكن قلّما تنبس ببنت شفة؛ بخلاف الرجل فإنّه بطبيعته يميل إلى المرأة ويعرض نفسه عليها ويدعوها إلى نفسه، وربّما يهجم عليها استجابة للشَّبَق المسيطر عليه، فلأجل ذلك فرض الإسلام الحجاب على المرأة لتصون نفسها عن هجوم الرجال وتعرضهم لها، وإنّما أجاز عدم وجوب ستر الوجه والكفّين فلضرورة اقتضت الجواز، لأنّ المرأة ليست في معزل عن المجتمع، فهي تعمل كالرجل ولو في مجالات خاصّة، فلأجل رفع الحرج سوّغ لها عدم الستر بشروط مذكورة في الفقه، أهمها عدم التزيّن، وبذلك ظهر وجه تخصيص الستر بالمرأة.

إلى هنا تمّ الحكم الرابع وإليك الكلام في الحكم الخامس.

ص: 391


1- . كذا في المطبوعة، وفي هامشها: لعلّ الأصل: وإعفاء الأُزر، ويُراد به إطالتها.
2- . تلخيص البيان في مجازات القرآن: 157.
الحكم الخامس: حرمة إبداء الزينة إلّافي موارد خاصّة
اشارة

ثم إنّه سبحانه بعد أن حرّم على النساء إبداء الزينة، استثنى المحارم وأخرجهم من تحت هذا الحكم، وهم الطوائف التالية:

1. (وَ لا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاّ لِبُعُولَتِهِنَّ) ، فلكلٍّ من الزوجين أن يرى من صاحبه ما يشاء.

2. (أَوْ آبائِهِنَّ) ويدخل فيهم الأجداد من الأب والأُم.

3. (أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ) ويدخل في آباء الأزواج، الأجداد من الأب والأُم.

4. (أَوْ أَبْنائِهِنَّ) وولد الولد، ذكراً كان أو أُنثى.

5. (أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ) وإنْ نزلوا.

6. (أَوْ إِخْوانِهِنَّ) من الأُمّ والأب أو من أحدهما.

7. (أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ) وإن نزلوا.

8. (أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ) كذلك.

9. (أَوْ نِسائِهِنَّ) ، إضافة النساء إلى ضمير المؤمنات تدلّ على نساء خاصّة، لهنّ صلة بالمرأة، فأقرب المعاني هو النساء المؤمنات لا الكافرات، نظير قوله تعالى: (وَ اِسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ) (1): أي من رجال دينكم.

روى الصدوق عن حفص بن البختري عن أبي عبداللّه [الصادق] عليه السلام قال:

«لا ينبغي للمرأة أن تنكشف بين يدي اليهودية والنصرانية فإنهنّ يصفن ذلك

ص: 392


1- . البقرة: 282.

لأزواجهن»(1).

10. (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ) من الإماء والجواري. أمّا العبد فلا يجوز أن ينظر إلى سيّدته إلّاالوجه والكفّين.

روى عبداللّه بن جعفر الحِمْيري في «قرب الإسناد» بسنده عن علي عليه السلام أنّه كان يقول: «لا ينظر العبد إلى شعر سيّدته»(2).

وقال الشيخ الطوسي: روى أصحابنا في قوله تعالى: (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ) : أنّ المراد به الإماء دون العبيد الذُّكران(3). وفي مقابل هذا توجد روايات ترخّص، والتصديق الفقهي يتوقّف على دراسة الروايات سنداً ومتناً.

11. (أَوِ اَلتّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي اَلْإِرْبَةِ مِنَ اَلرِّجالِ) أُريد بهم أُولئك الذين يخالطون الأُسرة ويتبعونها في أكثر الأحيان، ولا شهوة لهم في النساء، بسبب بدني كالهرم والعَنَن، أو عقلي كالعَتَه. قال ابن عباس: التابع، هو الذي يتبعك ليصيب من طعامك ولا حاجة له في النساء.(4) وقال علي بن إبراهيم القمّي: هو الشيخ الكبير الفاني الذي لا حاجة له في النساء.(5)

12. (أَوِ اَلطِّفْلِ اَلَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ اَلنِّساءِ) : أي الذين لا يفرّقون بين العورة وغيرها من أعضاء البدن، والمراد بالطفل هو الجنس، ولذلك صارت النسبة إليه بالجمع وقال (اَلَّذِينَ) .2.

ص: 393


1- . من لا يحضره الفقيه: 561/3، برقم 4928؛ تفسير نور الثقلين: 3/593.
2- . الوسائل: 14، الباب 124 من أبواب مقدّمات النكاح وآدابه، الحديث 8.
3- . الخلاف: 2/204، المسألة 5.
4- . التبيان في تفسير القرآن: 430/7.
5- . تفسير القمي: 77/2.

ولعلّ المراد أوسع من ذلك، فربّما يراد به الطفل الذي لم يبلغ الحلم وليس له شهوة.

علّة عدم ذكر العمّ والخال

اتّفق الفقهاء على أن العمَّ والخال من المحارم لكن الآية ساكتة عنهما، مع أنّهما وردا في عداد من يجوز الأكل من بيوتهم، حيث قال: (لَيْسَ عَلَى اَلْأَعْمى حَرَجٌ وَ لا عَلَى اَلْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَ لا عَلَى اَلْمَرِيضِ حَرَجٌ وَ لا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ) (1).

والجواب بوجهين: أوّلاً: أنّ الآية بصدد بيان من يكثر تردّده إلى البيت ويدخل على النساء كثيراً، والعمّ والخال في درجة ثانية بالنسبة إلى هؤلاء المذكورين.

ثانياً: أنّه سبحانه استثنى ابن الأخ وابن الأُخت في قوله: (أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ) وهذا يدلّ على أنّ الانتساب إلى المرء من جانب واحد كافٍ في المحرّمية، فيدخل فيه العمّ والخال، لأنّهما ينتسبان إلى المرأة من جانب واحد.

أمّا العمّ فمن جانب الأب، وأمّا الخال فمن جانب الأُمّ، فاكتفى بذكرهما عنهما اختصاراً في البيان.

الحكم السادس: حرمة الضرب بالأرجل

وبعد أن تمّ ما استثناه اللّه سبحانه من حرمة إبداء الزينة، عاد البيان القرآني

ص: 394


1- . النور: 61.

إلى ذكر حكم سادس على النساء وهو قوله تعالى: (وَ لا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ) ويظهر من الآية أنّ النساء كنّ يلبسن الخلاخيل في عصر النزول، وكان بعضهنّ يضربن الأرض بأرجلهن لتهييج الرجال، فنهاهنّ اللّه عن ذلك. ولعلّ في هذه الفقرة إشارة إلى النهي عن كلّ حركة تثير الشهوة وتوقظ مشاعر الرجال.

وفي ختام الآية يأمر سبحانه المجتمع الإسلامي بالإنابة إلى اللّه ويقول:

(وَ تُوبُوا إِلَى اَللّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا اَلْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) : أي تفوزون. ولعلّ المراد هو الإنابة عمّا سبق من المعاصي، أو المراد الانقطاع إلى اللّه، ففي الحديث أنّه صلى الله عليه و آله و سلم قال: «يا أيّها الناس توبوا إلى بارئكم فإنّي أتوب إلى اللّه في كلّ يوم مئة مرّة»(1).

ومن لطائف هذه الآية أنّها اشتملت على خمسة وعشرين ضميراً ترجع إلى المؤمنات، كما أنّ سورة الشمس تشتمل على ضمائر كثيرة تعود إلى مراجع مختلفة.

الآية الثالثة
اشارة

قال سبحانه: (وَ اَلْقَواعِدُ مِنَ اَلنِّساءِ اَللاّتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ وَ أَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَ اَللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) .(2)

ص: 395


1- . مجمع البيان: 7/250.
2- . النور: 60.
المفردات

القواعد: جمع قاعد، والمراد العجائز لأنّهن قعدن عن النكاح.

لا يرجون نكاحاً: لا يطمع أحد بنكاحهن.

متبرّجات: التبرّج: إظهار المرأة محاسنها وما يجب عليها ستره، مشتق من البرج وهو البناء العالي لظهوره.

التفسير
حكم القواعد من النساء في أمر الحجاب

إنّ الآية السابقة لمّا فرضت على النساء ضرب الخُمُر على الجيوب، وإدناء الجلباب عليهن ومن ثمّ أمرتهنّ بالستر، استثنت منهنّ القواعد من النساء (وهي جمع قاعد كالحامل والحائض اللّتين لا يستعملان إلّافي النساء)، وعرّف القواعد بقوله: (لا يَرْجُونَ نِكاحاً) . وهل المراد القعود عن المحيض، أو هو أكثر من ذلك؟ وهو أن تبلغ النساء مبلغاً من العمر لا يطمعنَ في الرجال ولا الرجال فيهن، وإلّا فمجرد القعود عن المحيض لا يكفي ما لم يصل إلى تلك الدرجة الّتي يشير إليها قوله: (لا يَرْجُونَ نِكاحاً) فبروزهنّ وعدم سترهنّ لا يثير الشهوة ولا الريبة في الرجال، وعلى ذلك (فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ) : أي إثم (أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ) التي تلبس في الشوارع والأسواق، وقد فُسّر في الروايات بالخِمار والجلباب، فقد روى الحلبي عن أبي عبداللّه [الصادق] عليه السلام أنّه قرأ: (أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ) قال:

«الخمار والجلباب».(1)

ص: 396


1- . تفسير نور الثقلين: 3/623.

كلّ ذلك مشروط بما يذكر (غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ) : أي لا يقصدن بذلك إظهار زينتهنّ للرجال لينظروا إليهنّ، وإن لم تكن لذلك أهلاً. يقول الطبرسي: أي غير قاصدات من وضع ثيابهنّ إظهار زينتهنّ، ولكن يقصدنَ به التخفيف عن أنفسهن، فإظهار الزينة لهنّ ولغيرهنّ محظور.(1)

ويحتمل أن يراد أنّه يجوز لهنّ أن يخرجنَ إلى الشارع دون التزيُّن بزينة من تحمير وتبييض في الوجوه، وغير ذلك ممّا تتزيَّن به المرأة.

فبما أنّ الآية تحتمل كلا المعنيين، فالواجب هو الجمع بين السترين: ألّا يبدين زينتهنّ من السوار والقلادة والساعة، وألّا يخرجنَ وهن متزيّنات بالكحل ونحوه.

ومع ذلك فهذا الحكم حكم إرفاقي، والأفضل لهنّ أيضاً هوما في قوله تعالى: (وَ أَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ) فالأَولى بالعجوز ألّا تخلع ثيابها أمام الأجانب وإن جاز لها ذلك، لأنّ الترك أبعد عن التّهمة (وَ اَللّهُ سَمِيعٌ) يسمع أقوالكم (عَلِيمٌ) بما في صدوركم.

الآية الرابعة
اشارة

قال سبحانه: (يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ اَلَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَ اَلَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا اَلْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ اَلْفَجْرِ وَ حِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ اَلظَّهِيرَةِ وَ مِنْ بَعْدِ صَلاةِ اَلْعِشاءِ ثَلاثُ

ص: 397


1- . مجمع البيان: 7/289.

عَوْراتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَ لا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ طَوّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اَللّهُ لَكُمُ اَلْآياتِ وَ اَللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) .(1)

المفردات

ملكت أيمانكم: ملك اليمين، وهو عبارة عن العبيد والإماء.

الحُلُم: زمان البلوغ ووقته.

تَضَعون: تخلعون.

الظهيرة: وقت اشتداد الحرّ حين ينتصف النهار

عورات: جمع عورة والمراد الأوقات التي يسوء الإنسان مشاهدة الغير له.

جناح: إثم وذنب.

طوّافون عليكم: يدخلون عليكم للخدمة والمخالطة الضرورية.

التفسير
أحكام العشرة والمخالطة

كلّف سبحانه العبيد والإماء كما كلّف الأطفال غير البالغين عن طريق إلزام الوالدين إيّاهم بأن لا يدخلوا على البيت المختصّ بالوالدين في أوقات خاصّة، وقال: (يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ اَلَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) عبيداً كانوا أم إماء،

ص: 398


1- . النور: 58.

وإن كان الأمر في العبيد أشدّ (وَ اَلَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا اَلْحُلُمَ مِنْكُمْ) : أي الصبيان الّذين لم يبلغوا شرعاً ولكنّهم يميّزون بين العورة وغيرها، يجب عليهم الاستئذان (ثَلاثَ مَرّاتٍ) : أي في ثلاثة أوقات:

1. (مِنْ قَبْلِ صَلاةِ اَلْفَجْرِ) وخصّ هذا الوقت بالاستئذان، إذ ربّما يكون الإنسان عرياناً أو في حال لا يحبّ أن يراه أحد عليها، والآية تدلّ بالدلالة الالتزامية على أنّه لا نوم بعد صلاة الفجر وإلّا للغى التقييد بما قبل صلاة الفجر.

2. (وَ حِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ اَلظَّهِيرَةِ) وخصّ هذا الوقت بالاستئذان أيضاً؛ لأنّ الإنسان يضع فيه ثيابه فيكون في حال لا يحبّ أن يراه الناس عليها.

3. (وَ مِنْ بَعْدِ صَلاةِ اَلْعِشاءِ) : أي حين يأوي الرجل إلى امرأته ويخلو بها.

فأمر اللّه سبحانه المؤمنين أن يأمروا الصبيان الذين لم يبلغوا الحلم لكن يميزون ما لا يُحسن كشفه عن غيره والمملوكين بأن يستأذنوا في هذه الساعات الثلاث.

نعم يجوز لهم الدخول بلا استئذان في غير هذه الأوقات الثلاثة، وما ذلك إلّا لأنّ العبيد والإماء أو الأطفال إمّا يخدمون المؤمنين والمؤمنات أو يدخلون عليهم لبعض الحاجات فيشقّ عليهم الاستئذان في كلّ وقت، وما هذا إلّالوجود الفرق بين الأوقات الثلاثة وغيرها، فإنّ الأوقات الثلاثة مظنّة انكشاف ما لا يحبّ كشفه، وأمّا غير هذه الأوقات فيقول: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَ لا عَلَيْهِمْ جُناحٌ) : أي إثم (بَعْدَهُنَّ) : أي بعد هذه الأوقات، لماذا؟ لأنّهم (طَوّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ) : أي تتردّدون عليهم ويتردّدون عليكم ولا غنى لأحدكم عن الآخر، فيتعذّر عليهم الاستئذان في كلّ وقت.

ص: 399

وحاصل الكلام: أنّ هؤلاء يتقلّبون فيكم ليلاً ونهاراً بعضكم على بعض، فالتكليف بالاستئذان أمر شاقّ (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اَللّهُ لَكُمُ اَلْآياتِ) الدالّة على الأحكام (وَ اَللّهُ عَلِيمٌ) بما يصلحكم (حَكِيمٌ) في تشريعه.

إلى هنا تمّ بيان أحكام العبيد والإماء والأطفال غير البالغين في مورد الاستئذان، حيث أُمروا به في أوقات ثلاثة ورُخّص لهم الدخول بلا استئذان في غير هذه الأوقات لكثرة المخالطة والمعاشرة والدخول والخروج.

الآية الخامسة
اشارة

قال سبحانه: (وَ إِذا بَلَغَ اَلْأَطْفالُ مِنْكُمُ اَلْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اِسْتَأْذَنَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اَللّهُ لَكُمْ آياتِهِ وَ اَللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) .(1)

التفسير
حكم الأطفال البالغين

أكّدت الآية المتقدّمة على استئذان الأطفال غير البالغين في أوقات ثلاثة، وأمّا الأطفال الذين بلغوا الحلم فهؤلاء حكمهم غير حكم مَن لم يبلغ الحلم فعليهم الاستئذان في كلّ الأوقات عند الدخول على غرفة الوالدين كما يقول:

(وَ إِذا بَلَغَ اَلْأَطْفالُ مِنْكُمُ اَلْحُلُمَ) : أي الذين عرفوا الشعور الجنسي فهم مكلّفون في جميع الأوقات (فَلْيَسْتَأْذِنُوا) إذا كان الوالدان في غرفة مخصّصة دونما إذا كانوا في غرفة عامّة، فالآية منصرفة عنه.

ص: 400


1- . النور: 59.

(كَمَا اِسْتَأْذَنَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) إشارة إلى الكبار الذين يجب عليهم الاستئذان من الوالدين حين الدخول إلى غرفتهما أو كانوا يستأذنون قبل الأمر به.

فيكون الإخبار بمنزلة إمضاء السيرة السائدة.

فتحصّل أنّ الطفل والعبد والأمة يستأذنون في الأوقات الثلاثة، والبالغ من الأطفال يستأذن في كلّ الأوقات نظير الكبار تماماً (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اَللّهُ لَكُمْ آياتِهِ) الدالّة على أحكام المعاشرة (وَ اَللّهُ عَلِيمٌ) بما تفعلون (حَكِيمٌ) في تشريعه.

الآية السادسة
اشارة

قال سبحانه: (لَيْسَ عَلَى اَلْأَعْمى حَرَجٌ وَ لا عَلَى اَلْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَ لا عَلَى اَلْمَرِيضِ حَرَجٌ وَ لا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اَللّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً كَذلِكَ يُبَيِّنُ اَللّهُ لَكُمُ اَلْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) .(1)

ص: 401


1- . النور: 61.
المفردات

حرَج: ضيق وأُريد به هنا الإثم.

ما ملكتم مفاتحَه: ما يقع تحت تصرّفكم بطريق الوكالة أو الحفظ.

جميعاً: مجتمعين.

أشتاتاً: جمع شتيت، أي متفرّقين.

على أنفسكم: أي أهل البيوت والسكنة فيها.

طيِّبة: تطيب بها نفس الساكنين فيها.

التفسير

الآية تتضمّن بيان أدبين من آداب المعاشرة:

1. يجوز للطوائف الأربع الأكل من بيوت خاصّة بلا استئذان من أصحابها وتبتدئ لبيانه من قوله: (لَيْسَ عَلَى اَلْأَعْمى حَرَجٌ وَ لا عَلَى اَلْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَ لا عَلَى اَلْمَرِيضِ حَرَجٌ وَ لا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً) .

2. يستحب التسليم على أهل البيوت عند الدخول وتشير إليه بقوله: (فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اَللّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً كَذلِكَ يُبَيِّنُ اَللّهُ لَكُمُ اَلْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) .

وقد تحدّثت الآيات السابقة في هذه السورة عن لزوم الاستئذان حين

ص: 402

الدخول إلى منازل الآخرين وقالت: (يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتّى تَسْتَأْنِسُوا وَ تُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (1)ولم يقتصر سبحانه بهذا، بل أمر بعدم الدخول إذا لم يجدوا فيها أحد، قال سبحانه:

(فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَ إِنْ قِيلَ لَكُمُ اِرْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ وَ اَللّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) (2) والموضوع في هاتين الآيتين منازل غير الأقرباء، وهنا عاد البيان القرآني، إلى القول بجواز الدخول إلى منازل الأقرباء وأمثالهم بلا استئذان وحتّى يجوز لهم الأكل فيها دون استئذان، فذكر الطوائف الأربع بقوله:

1. الأعمى، قال: (لَيْسَ عَلَى اَلْأَعْمى حَرَجٌ) .

2. الأعرج، قال: (وَ لا عَلَى اَلْأَعْرَجِ حَرَجٌ) .

3. المريض، قال: (وَ لا عَلَى اَلْمَرِيضِ حَرَجٌ) .

4. (وَ لا عَلى أَنْفُسِكُمْ) : أي ليس عليكم حرَج في أنفسكم.

وأمّا ما هو متعلّق رفع الحرج عن الجميع فهو الأكل بلا استئذان، فرخّص سبحانه للطوائف الأربع الأكل من بيوت خاصّة بلا استئذان، وأمّا ما هو الوجه لتخصيص الطوائف الثلاث بالذكر فسيأتي الكلام فيه في نهاية البحث، وأمّا البيوت الّتي يجوز الأكل منها بلا استئذان فهي البيوت التالية:

1. (بُيُوتِكُمْ) والمراد بيوت الأولاد الّتي تُعدّ بيوتاً للإنسان أيضاً للصلة القوية بين الإنسان وأصحاب هذا البيت وما يليه من البيوت، ولذلك وصفها8.

ص: 403


1- . النور: 27.
2- . النور: 28.

ببيوت الأنفس، وقد ورد في الحديث: «أنت ومالك لأبيك».(1)

2. (أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ) . 3. (أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ) .

4. (أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ) . 5. (أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ) .

6. (أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ) . 7. (أَوْ بُيُوتِ عَمّاتِكُمْ) .

8. (أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ) . 9. (أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ) .

10. (أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ) .

11. (أَوْ) بيوت (صَدِيقِكُمْ) ، قال الزمخشري: وعن جعفر بن محمد الصادق (رضي اللّه عنهما): «من عظم حرمة الصديق أن جعله اللّه من الأُنس والثقة والانبساط وطرح الحشمة بمنزلة النفس والأب والأخ والابن»(2).

فصار هنا أحد عشر بيتاً يجوز للإنسان الأكل منها بلا استئذان.

إلى هنا تمّ تفسير ما يتعلّق بالأكل من هذه البيوت.

بقي هنا كلام، وهو أنّ قوله: (لَيْسَ عَلَى اَلْأَعْمى حَرَجٌ...) يدلّ على أنّه كان في البيئة العربية عرفٌ خاصٌّ يخالف ما في هذه الآية، فجاءت الآية ترخيصاً في ترك العُرف، وهذا هو الرائج في القرآن الكريم إذا تحدّث بعدم الحرج فهو ناظر إلى ردّ العادات السائدة.

ما هو الوجه لتخصيص الطوائف الثلاث بالذكر؟

وثمّة سؤال يُطرح في المقام، وهو: لماذا خصّ سبحانه الطوائف الثلاث

ص: 404


1- . الوسائل: 12، الباب 78 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 2 و 8.
2- . تفسير الكشّاف: 3/85.

بالذكر، ثمّ ذكر الباقي بقوله: (وَ لا عَلى أَنْفُسِكُمْ) ؟ فلكلّ وجه.

أمّا ذكر الطوائف الثلاث فقد تعدّدت الأقوال في الجواب عن هذا السؤال أنهاها في «مجمع البيان» إلى خمسة، نذكر منها وجهين:

1. إنّ العرب كانوا يتحرّجون من الأكل مع الأعمى ويقولون إنّه لا يبصر فنأكل جيّد الطعام دونه، كما يتحرّجون من الأكل مع الأعرج لأنّه لا يتمكّن من الجلوس والموائد كانت يومذاك ممتدّة على الأرض، كما كانوا يتحرّجون من الأكل مع المريض حيث إنّ المصحّ ينتهي من الأكل قبله والمريض يبقى وحده فيخجل من الانفراد، فجاءت الآية لنسخ هذا.(1)

2. وربما يقال: كانت العرب ومن بالمدينة قبل البعثة تجتنب الأكل مع أهل هذه الأعذار لمكان جولان يد الأعمى، وانبساط جلسة الأعرج، وعدم خلوّ المريض من رائحة تؤذي، فنزلت الآية.(2)

ولا يخفى أنّ الوجهين مع تقاربهما على خلاف سياق الآية؛ لأنّ الحرج في كلا القولين على الأصحّاء، فكان اللازم أن يقول: ليس عليكم حرج، لا أن يقول:

(لَيْسَ عَلَى اَلْأَعْمى حَرَجٌ) .

نعم هنا وجه ثالث يناسب ظاهر الآية، وهو أنّ هذه الطوائف نفسها كانوا يتحرّجون من مؤاكلة الأصحّاء حذار استقذارهم إيّاهم وخوفاً من تأذّيهم بأفعالهم وأوضاعهم، فنزلت الآية أنّه ليس على هذه الطوائف ضيق في المؤاكلة مع غيرهم.

حيث قال: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً) : أي لا حرج عليكم أن8.

ص: 405


1- . مجمع البيان: 7/291.
2- . روح المعاني: 18/218.

تأكلوا جماعات وفرادى.

أقول: إنّ الوجه الثالث وإن كان خالياً عن الإشكال المذكور، لكن يرد عليه أوّلاً: أنّ لازمه التفكيك بين فقرات الآية ووقوع جمل معترضة، أعني: (وَ لا عَلى أَنْفُسِكُمْ) إلى قوله: (أَوْ صَدِيقِكُمْ) بين الموضوع - أعني: الطوائف الثلاث - وبين ما يرجع إليهم من قوله: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً) .

وثانياً: أنّ لازم هذا الوجه وجود الاختلاف في متعلّق الحرج بين الطوائف الثلاث وغيرهم، أعني: (عَلى أَنْفُسِكُمْ) ، فمتعلّقه في الأُولى تحرجهم من مواكلة الأصحّاء وفي الثاني عدم الحرج من بيوت خاصة بلا استئذان.

فالأولى جعل الطوائف الثلاثة مع الرابعة - أعني: (وَ لا عَلى أَنْفُسِكُمْ) - في صف واحد موضوعاً لأمر فارد وهو جواز الأكل من البيوت الخاصّة.

وأمّا وجه تخصيص هؤلاء الثلاثة بالذكر فهذا ما يذكره السيد الطباطبائي ويقول: يمكن أن تكون وجهاً لذكر الطوائف استقلالاً، قال: إنّ عدّ المذكورين ليس لاختصاص الحقّ بهم، بل لكونهم أرباب عاهات يشكل عليهم أن يكتسبوا الرزق بعمل أنفسهم أحياناً، وإلّا فلا فرق بين الأعمى والأعرج والمريض وغيرهم في ذلك(1). ولعلّه يريد أنّ هؤلاء لشدّة حاجتهم إلى الأكل من بيوت هؤلاء المذكورين في الآية، ذُكروا مستقلّين لمزيد الاهتمام بهم.

ما هي الوظيفة عند الدخول للبيوت؟

ثم إنّه سبحانه يذكر أدباً آخر لمن يريد الدخول في هذه البيوت لئلّا يظن

ص: 406


1- . الميزان في تفسير القرآن: 15/164.

السامع بأنّ القرابة والصداقة تُسقط الآداب، فقال: (فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ) يريد يسلّم بعضكم على بعض، نظير قوله سبحانه: (وَ لا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) (1).

روى الصَّدوق بإسناده عن أبي الصباح قال: سألت أبا جعفر [الباقر] عليه السلام عن قول اللّه عزّ وجلّ: (فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ) ، فقال: «هو تسليم الرجل على أهل البيت حين يدخل ثم يردّون عليه، فهو سلام على أنفسكم».(2)

ومع ذلك يمكن أن يكون معنى الآية أعمّ من ذلك، وهو أنّ الداخل إذا لم يجد أحداً فيسلّم على نفسه، ولعلّ هذا أقرب لأنّ المفروض هو الأكل من هذه البيوت بلا استئذان.

ويدلّ عليه ما عن أبي جعفر عليه السلام قال: «إذا دخل الرجل منكم بيته فإذا كان فيه أحد يسلّم عليه، وإن لم يكن فيه أحد فليقل: السلام علينا من عند ربّنا، يقول اللّه عزّ وجلّ: (تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اَللّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً) »(3).

فقوله: (تَحِيَّةً) مفعول مطلق لفعل محذوف أي: فسلّموا تحية، نظير قوله: قعدت جلوساً، وفرحت جذلاً.

قوله: (مُبارَكَةً) : أي يرجى بها زيادة الخير.

قوله: (طَيِّبَةً) : أي تطيب بها نفس المُسلِّم أو المستمع.

قوله: (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اَللّهُ لَكُمُ اَلْآياتِ) : أي الآيات القرآنية (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) : أي تتفكّرون في أنّ هذه الأحكام والسُّنن كلّها لصلاح المجتمع وطهارته.).

ص: 407


1- . النساء: 29.
2- . معاني الأخبار: 162-163.
3- . تفسير القمّي: 85/2 (وهي من رواية أبي الجارود عن الباقر عليه السلام).

أحكام النكاح

3. النساء اللاتي يحرم نكاحهن

اشارة

بعث النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم ولم يكن للنكاح ضوابط ونظام محدّد، فجاء البيان القرآني ليبيّن من يحرم نكاحهن ومن يحل، بياناً رائقاً قلّما يتّفق في هذا المورد.

الآية الأُولى:
اشارة

قال سبحانه:

(وَ لا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ اَلنِّساءِ إِلاّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَ مَقْتاً وَ ساءَ سَبِيلاً) .(1)

المفردات

فاحشة: كلّ أمر قبيح فظيع غايته.

مقتاً: هو البغض عن أمر قبيح.

ص: 408


1- . النساء: 22.
التفسير
حكم منكوحة الأب

ذكر اللّه سبحانه محرّمات النكاح في الآية التالية على وجه التفصيل لكن خصّ ذكر حرمة نكاح نساء الآباء بآية مستقلّة، لفظاعته وقبحه، وأُريد من قوله:

(وَ لا تَنْكِحُوا) هو عقد الزواج، ثمّ إنّه سبحانه عدل عن أن يقول لا تنكحوا نساء آبائكم إلى قوله: (ما نَكَحَ آباؤُكُمْ) ليكون دليلاً على أنّ عقد الأب على المرأة كاف في حرمة التزويج. لما مرّ من أنّ النكاح حقيقة في العقد لا في الوطء.

روى السيوطي، وقال: أخرج ابن سعد عن محمد بن كعب القرظي قال:

«كان الرجل إذا توفّي عن امرأته كان ابنه أحقّ بها، أن ينكحها إن شاء إن لم تكن أُمّه، أو يُنكحها مَن شاء. فلمّا مات أبو قيس بن الأسلت قام ابنه محصن فورث نكاح امرأته، ولم ينفق عليها ولم يورثها من المال شيئاً.

فأتت النبي صلى الله عليه و آله و سلم، فذكرت ذلك له فقال: «ارجعي لعل اللّه ينزل فيك شيئاً» فنزلت:

(وَ لا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ اَلنِّساءِ) ونزلت: (لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا اَلنِّساءَ كَرْهاً) (1).(2)

ثمّ إنّه سبحانه استثنى من النهي عن نكاح ما نكح الآباء مورداً خاصّاً وقال:

(إِلاّ ما قَدْ سَلَفَ) وقد أطال المفسّرون في تفسير الاستثناء، وحملوه على الاستثناء المنقطع، والأولى أن يقال: الغاية من الاستثناء دفع توهّم وجود الإثم لمَن

ص: 409


1- . النساء: 19.
2- . تفسير الدر المنثور: 469/2.

نكح سابقاً، فأُريد لا إثم عليكم ممّا قد سلف، فإنّ الإسلام يجبّ ما قبله. وقد رفع عن أُمّتي ما لا يعلمون.

***

الآية الثانية
اشارة

قال سبحانه: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَ بَناتُكُمْ وَ أَخَواتُكُمْ وَ عَمّاتُكُمْ وَ خالاتُكُمْ وَ بَناتُ اَلْأَخِ وَ بَناتُ اَلْأُخْتِ وَ أُمَّهاتُكُمُ اَللاّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَ أَخَواتُكُمْ مِنَ اَلرَّضاعَةِ وَ أُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَ رَبائِبُكُمُ اَللاّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اَللاّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ وَ حَلائِلُ أَبْنائِكُمُ اَلَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَ أَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ اَلْأُخْتَيْنِ إِلاّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّ اَللّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) .(1)

المفردات

ربائبكم: جمع ربيبة وهي بنت زوجة الرجل من غيره، سمّيت بذلك لتربيته إيّاها، فهي بمعنى مربوبة، نحو قتيلة بمعنى مقتولة.

حلائل: جمع حليلة مشتقة من الحلال، والذكر حليل، سمّيا بذلك لأنّ كلّ واحد منهما يحل له مباشرة صاحبه.

أصلابكم: أي الذين من أصلابكم، خرجت زوجة المتبنّى به، فهي لا تحرم

ص: 410


1- . النساء: 23.

على المتبنّي.

وقد مرّ وسيأتي(1) أنّ النبي أُمر بنكاح مطلّقة متبنّاه: زيد بن حارثة إبطالاً للسنّة الجاهليّة حيث كانت تنزّل المتبنّى منزلة الابن الصلبي في حرمة تزويج زوجته بعد الطلاق.

التفسير
مَن يحرم نكاحهن نسباً:

1. (أُمَّهاتُكُمْ)

قال تعالى: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ) فإذا نسب التحريم إلى الذوات يُراد ما هو المتوقّع منها، فإذا قيل: حُرّمت عليكم الخمر، أُريد به شربها، وفي المقام أُريد نكاح الأُمّ، وهي مَن اتّصل إليها نسب الإنسان بالولادة كمن ولدته من غير واسطة أو بواسطة كأُمّ الأب وأُمّ الأُمّ.

2. (وَ بَناتُكُمْ)

البنت مَن اتّصل نسبها بالإنسان بسبب ولادتها منه كالمولودة من صلبه بلا واسطة، أو معها كبنت الابن وبنت البنت فنازلاً.

3. (أَخَواتُكُمْ)

الأُخت مَن اتّصل نسبها بالإنسان من جهة ولادتهما معاً من الأب أو الاٌُمّ، أو منهما جميعاً بلا واسطة، وتُسمّى الأُولى الشقيقتان.

ص: 411


1- . لاحظ: ص 351 و 523 من هذا الكتاب.

4. (عَمّاتُكُمْ)

العمّة أُخت الأب، وكذا أُخت الجدّ، من غير فرق بين كونها أُختاً من جهة الأب أو الأُمّ أو كليهما.

5. (خالاتُكُمْ)

الخالة هي أُخت الأُمّ وكذا أُخت الجدّة، من جهة الأب أو الأُمّ أو كليهما.

6. (بَناتُ اَلْأَخِ)

بنات الأخ وهي كلّ امرأة تنتمي بالولادة إلى أخ الإنسان بلا واسطة أو معها، فتحرم عليه بنت أخيه وبنت ابنه وبنت ابن ابنه كما تحرم بنت ابنته وبنت بنت ابنته وبنت ابن ابنته.

7. (بَناتُ اَلْأُخْتِ)

كلّ أُنثى تنتمي إلى أُخت الإنسان بالولادة على النحو الذي ذكر في بنات الأخ.

إلى هنا تمّ ذكر المحرّمات النسبيات السبعة، وقد روي عن ابن عباس أنّه قال: «حرّم اللّه من النساء سبعاً بالنسب، وتلا الآية».(1)

مَنْ يحرم نكاحهن بالرضاع

وهن ما يلي:

8. الأُم الرضاعية

9. الأُخت الرضاعية

ص: 412


1- . مجمع البيان: 61/4، طبعة مصر.
مَنْ يحرم نكاحهن بالمصاهرة

وهن ما يلي:

10. أُمّهات النساء

11. الربائب

12. حلائل الأبناء

13. الجمع بين الأُختين

موارد أُخرى ممّن يحرم نكاحهنّ
اشارة

ذكر سبحانه في هذه الآية ثلاثة عشر مورداً ممّن يحرم نكاحهن، نسباً ورضاعاً وصهراً وهناك موارد أُخرى يحرم نكاحهن نظير:

1. منكوحة الأب وقد سبق بيانها في الآية الأُولى.

2. المطلقة ثلاثاً، سيأتي حكمها في الآية الثالثة.

3. المحصنات من النساء أي المتزوّجات، وسيأتي حكمهنّ في الآية الخامسة.

4. نكاح المشركة، وسيأتي حكمها في الآية السابعة.

5. نكاح العفائف من أهل الكتاب دائماً على القول المشهور، وسيأتي حكمها في الآية السابعة.

6. نكاح الزانية ما لم تتب، وسيأتي حكمهافي الآية الثامنة.

7. الملاعنة بين الزوج والزوجة توجب انفساخ عقد النكاح بينهما وتحرم الزوجة على الزوج دائماً، وهذا هو المنصوص في الروايات.

فيبلغ عدد المحرمات إلى عشرين مورداً.

ص: 413

فلندخل في تفسير الآية على سبيل الإيجاز، وبعد الانتهاء من تفسير الآية، نعود لبيان ما لهذه الأسباب من الأحكام:

الأُولى: مَنْ يحرم نكاحهن رضاعاً

1. (وَ أُمَّهاتُكُمُ اَللاّتِي أَرْضَعْنَكُمْ)

الآية ظاهرة في قيام العلاقة الرضاعية مقام العلاقة النسبية، فكما أنّ الأُمّ الحقيقية تحرم، فهكذا المرأة التي أرضعت الإنسان «بشروط الرضاع المحدّدة شرعاً».

2. (وَ أَخَواتُكُمْ مِنَ اَلرَّضاعَةِ)

لو ارتضع صبي من أُمّ غير حقيقية ولها بنت تُعد الثانية أُختاً للمرتضع لاشتراكهما في اللبن والفحل، ثمّ إنّ المحرّم بالرضاع لا يختصّ بهذين العنوانين، أعني: الأُمّ والأُخت الرضاعيتين. بشهادة أنّه إذا حرمت الأُخت الرضاعية، كما في قوله: (وَ أَخَواتُكُمْ مِنَ اَلرَّضاعَةِ) فالبنت الرضاعية أولى بالتحريم ولذلك عُمّم التحريم لكلّ عنوان من النسب.

بل كلّ عنوان محرّم من جهة النسب هو بنفسه محرّم من جهة الرضاع. فلو حصل بالرضاع أحد العناوين النسبية كالعمّة والخالة وبنات الأخ وبنات الأُخت، تحرم.

نعم المذكور في الآية اثنتان من هذه العناوين غير أنّ قوله صلى الله عليه و آله و سلم: «يحرم بالرضاع ما يحرم من النسب» وسّع التحريم. وإليك بيان هذه العناوين إذا حصل الرضاع:

ص: 414

1. الأُمّ من الرضاعة وهي مَن أرضعت الرجل أو ولدت مَن أرضعته، أو أرضعت من وَلَدَها، أو أرضعتها، أو أرضعت من ولدها بواسطة أو بوسائط، فكلهن بمنزلة أُمّ الرجل، وكما يحرمن من جانب النسب، يحرمن من جانب الرضاع، فالرضاع قائم مقام النسب.

2. البنت من الرضاعة، وهي كلّ بنت رضعت بلبن الرجل، أو لبن من ولدته، أو أرضعتها امرأة ولدتها، وكذلك بناتها من النسب والرضاع، فكلّهن بمنزلة بنات الرجل.

3. الأُخت من الرضاعة، وهي كلّ امرأة أرضعتها أُمّ الرجل، أو رضعت بلبن أبيه، وكذا كلّ بنت ولدتها مرضعته أو فحلها.

4 و 5. العمّات والخالات من الرضاعة، وهن أخوات الفحل والمرضعة، وأخوات من ولدهما، من النسب أو الرضاع، وكذا كلّ امرأة أرضعتها واحدة من جدّات الرجل، أو رضعت من لبن أجداده، من النسب والرضاع.

6 و 7. بنات الأخ وبنات الأُخت من الرضاعة، وهن بنات أولاد المرضعة والفحل من الرضاع والنسب، وكذا كلّ أُنثى أرضعتها أُخت الرجل أو بناتها أو بنات أولادها من الرضاع والنسب. وبنات كلّ ذكر أرضعته أُمّ الرجل أو رضع بلبن أخيه، وبنات أولاده من الرضاع والنسب، فكلّهن بنات أخيه وأُخته.

فهذه جملة المحرّمات من الرضاع والنسب، فكلّ مَن يصدق عليه أحد هذه المذكورات في الآية الكريمة، يحرم التزويج بينهما، لقيام الرضاع مقام النسب.

ص: 415

الثانية: مَنْ يحرم نكاحهنّ بالمصاهرة

تحرم بالمصاهرة نساء أربع:

1. (وَ أُمَّهاتُ نِسائِكُمْ)

وهي تعمّ جميع الأُمّهات دانيتها وعاليتها، والمشهور عند علمائنا حرمة أُمّ المعقودة على العاقد مطلقاً وإن لم يدخل بها، إلّاما روي عن ابن أبي عقيل من الذهاب إلى عدم الحرمة إلّابالدخول، ولكن الآية في جانب الأُمّ مطلقة، حيث قال: (وَ أُمَّهاتُ نِسائِكُمْ) دون جانب البنت كما سيأتي. 2. (وَ رَبائِبُكُمُ)

لو عقد على امرأة مجرداً عن الوطء حرمت بنتها على العاقد جمعاً لا عيناً، فلو فارق الأُمّ ولم يدخل بها جاز تزويج البنت، دون ما لو دخل بها فإنّها تحرم عليه مطلقاً فارق أُمّها أو لا، كما يقول سبحانه: (وَ رَبائِبُكُمُ اَللاّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اَللاّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ) .

ثمّ إنّ قوله: (فِي حُجُورِكُمْ) قيد غالبي؛ لأنّ المرأة المطلقة أو المتوفّى عنها زوجها لو تزوّجت وكانت لها بنت لا تفارقها وتأتي معها إلى بيت الزوج الثاني. فعلى هذا فقوله: (فِي حُجُورِكُمْ) قيد غالبي وليس قيداً احترازياً.

3. (وَ حَلائِلُ أَبْنائِكُمُ اَلَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ)

لو عقد الابن على امرأة، حرمت المعقودة على أب العاقد، لكونه من مصاديق قوله سبحانه: (وَ حَلائِلُ أَبْنائِكُمُ) من غير فرق بين المدخول بها وغيرها،

ص: 416

وقوله: (مِنْ أَصْلابِكُمْ) يُخرج ولد التبنّي.

4. (وَ أَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ اَلْأُخْتَيْنِ)

من توابع المصاهرة تحريم أُخت الزوجة لأب وأُمّ أو أحدهما جمعاً لا عيناً، من غير فرق بين كونهما سببيّين أو رضاعيّين.

وعلى هذا فلو فارق الرجل زوجته بموت أو طلاق جاز الزواج بأُختها بعد انقضاء العدّة، إذا كان الطلاق رجعياً، نعم لو طلقها بائناً يجوز أن يتزوّج الأُخت أثناء العدّة، لأنّ الطلاق البائن يقطع العصمة، هذا عند الإمامية، وأمّا عند غيرهم فلا يفرقون بين الطلاقين، فلا يجوزون النكاح إلّابعد انقضاء العدّة، والتفصيل في محلّه.

ثمّ إنّه سبحانه استثنى بقوله: (إِلاّ ما قَدْ سَلَفَ) ومن المعلوم أنّ استثناء النهي عن الماضي من النهي عن المستقبل غير صحيح، فلذلك قالوا إنّ الاستثناء منقطع لدفع توهّم كون من جَمَعَ بين الأُختين في الماضي آثماً مستحقّاً للعقوبة، فجاء الوحي الإلهي لدفع هذا التوهّم.

ثمّ إنّه سبحانه أتمّ الآية بقوله: (إِنَّ اَللّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) ولعلّه إشارة إلى أنّه سبحانه لا يؤاخذكم بحكم ما قد سلف من هذه الأنكحة قبل نزول التحريم، فيكون تأكيداً للاستثناء.

***

الآية الثالثة:
اشارة

قال سبحانه: (اَلطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ

ص: 417

وَ لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاّ أَنْ يَخافا أَلاّ يُقِيما حُدُودَ اَللّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ يُقِيما حُدُودَ اَللّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا اِفْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اَللّهِ فَلا تَعْتَدُوها وَ مَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اَللّهِ فَأُولئِكَ هُمُ اَلظّالِمُونَ) .(1)

المفردات

مرّتان: تثنية المرّة بمعنى الدفعة.

فإمساك: خلاف الإطلاق.

تسريح: الإطلاق.

افتدت: بذلت.

التفسير
حكم نكاح المطلّقة مرّتين

هذه الآية تحدّد جواز الطلاق، مع الرجوع، بمرّتين، يقول سبحانه:

(اَلطَّلاقُ مَرَّتانِ) وأمّا بعدهما فأمام الرجل أحد الطريقين التاليين: (فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ) : أي الرجوع عن الطلاق (أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) : أي إطلاقها وعدم الرجوع إليها.

وبما أنّ التسريح يجب أن يكون بمعروف فليس للزوج طلب ما أعطاه لها باسم المهر، كما يقول: (وَ لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً) ، ثمّ

ص: 418


1- . البقرة: 229.

استثنت صورة واحدة وهي فيما لو كانت الزوجة كارهة ومبغضة للزوج ولا تريد العيش معه، فعندئذٍ لا جناح عليهما عطاء وأخذاً كما يقول: (إِلاّ أَنْ يَخافا أَلاّ يُقِيما حُدُودَ اَللّهِ) لوجود البغضاء في البين فعندئذٍ (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا اِفْتَدَتْ بِهِ) لأنّها الطالبة لقطع العصمة، ثمّ إنّه سبحانه يتمّ الآية بقوله: (تِلْكَ حُدُودُ اَللّهِ) : أي أوامره ونواهيه (فَلا تَعْتَدُوها) : أي حدود اللّه (وَ مَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اَللّهِ فَأُولئِكَ هُمُ اَلظّالِمُونَ) .

الآية الرابعة
اشارة

قال سبحانه: (فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا إِنْ ظَنّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اَللّهِ وَ تِلْكَ حُدُودُ اَللّهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) .(1)

التفسير
حكم المطلقة ثلاثاً

لمّا بين سبحانه حكم الطلاق مرّتين وأنّ الزوج بعد الطلاق الثاني مخيّر بين الإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، جاء البيان القرآني يبيّن حكم الطلاق الثالث وهو أنّه لو طلّق مرّة ثالثة تحرم عليه حتى تنكح زوجاً غيره؟ فالآية تبيّن حكم المطلّقة ثلاثاً، فقوله: (فَإِنْ طَلَّقَها) : أي طلّقها ثالثة، فيعاقب، لئلّا يجعل

ص: 419


1- . البقرة: 230.

الطلاق وسيلة للإضرار (فَلا تَحِلُّ لَهُ) للزوج المطلّق (حَتّى تَنْكِحَ) الزوجة (زَوْجاً غَيْرَهُ) . وفي قوله: (فَلا تَحِلُّ لَهُ) : أي لا تحلّ الزوجة للزوج (حَتّى تَنْكِحَ (1) زَوْجاً غَيْرَهُ) ، وبما أنّ نكاح المحلّل ليس صرف العقد بل العقد المعروف بالوطء، أشار سبحانه إليه بقوله: (حَتّى تَنْكِحَ) تحرّزاً عن التصريح بالوطء، وعندئذٍ فإن وقعت الزوجة في حبالة الزوج الثاني فلا طريق للزوج الأوّل إليها، إن لم يطلّقها كما يقول: (فَإِنْ طَلَّقَها) الزوج الثاني (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما) :

أي الزوج الأوّل والزوجة (أَنْ يَتَراجَعا) استخدم التراجع لا الرجوع، وقال: (أَنْ يَتَراجَعا) إشعاراً بأنّه حقّ لكليهما لا للزوج السابق فقط، فعلى كلّ حال فيجب أن يفكّرا في مستقبلهما فلهما التراجع والزواج بعقد جديد (إِنْ ظَنّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اَللّهِ وَ تِلْكَ حُدُودُ اَللّهِ) بأن يكونا مطمئنّين على إجرائها، فلا يبخس الزوج حقوق زوجته، وبالعكس، ثمّ إنّه سبحانه يؤكّد على حفظ الحدود قائلاً (وَ تِلْكَ حُدُودُ اَللّهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) : أي يعقلون. وغير خفي على اللبيب أنّ تعليق تجديد العقد بعد التطليقة الثالثة على أن تنكح زوجاً غيره الذي يُعبّر عنه بالفقه بالمحلّل إنّما هو لغاية الحماية للزوجة وإغلاق الطريق أمام الزوج عن الطلاق الثالث.

وبما أنّ بعض الجهلة لم يقفوا على فلسفة المحلّل ربما اعترضوا عليه اعتراضاً غير لائق للإجابة.

***ء.

ص: 420


1- . لو أُريد من الفعل الدخول يكون دليلاً على أنّ مادة النكاح استعملت في القرآن الكريم في الوطء.
الآية الخامسة
اشارة

قال سبحانه: (وَ اَلْمُحْصَناتُ مِنَ اَلنِّساءِ إِلاّ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ كِتابَ اَللّهِ عَلَيْكُمْ وَ أُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ فَمَا اِسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَ لا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ اَلْفَرِيضَةِ إِنَّ اَللّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً) .(1)

المفردات

المحصنات: المتزوّجات، بشهادة أنّه عطف على ما سبق من النساء المحرّمات، والمعنى أي حُرّم عليكم المحصنات من النساء. وبما أنّ التزويج يوجب الحصانة والعفاف، فيطلق لفظ المحصنات على المتزوّجات.

واعلم أنّ للإحصان، إطلاقات مختلفة، فتارة يراد به التزويج كما في الآية، وأُخرى يراد به الحرائر كما في قوله: (وَ مَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ اَلْمُحْصَناتِ اَلْمُؤْمِناتِ) (2)، وثالثة العفائف كما في قوله: (مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ) .(3) فلها معنى واحداً ومصاديق متعدّدة.

محصنين: الإحصان: العفّة وتحصين النفس من الوقوع في الحرام.

ص: 421


1- . النساء: 24.
2- . النساء: 25.
3- . النساء: 25.
التفسير
حكم المتزوّجات من النساء

نحن نفسّر هذه الآية في مقاطع أربعة:

الأوّل: قوله سبحانه: (وَ اَلْمُحْصَناتُ مِنَ اَلنِّساءِ إِلاّ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ كِتابَ اَللّهِ عَلَيْكُمْ) .

قوله: (وَ اَلْمُحْصَناتُ) عطف على قوله: (أُمَّهاتُكُمْ) في الآية السابقة، أعني: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ) وأُريد منها المتزوّجات، ثمّ إنّه سبحانه استثنى من تزويج النساء المتزوجات الإماء التي يملكها الإنسان وقال: (إِلاّ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) والمراد ما إذا زوج السيد أمته من غيره ثم باعها من آخر فإنّ بيعها إبطال لنكاحها، وبما أنّ هذا الحكم حكم قطعي وصفه سبحانه بأنّه (كِتابَ اَللّهِ عَلَيْكُمْ) .

الثاني: قوله سبحانه: (وَ أُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ) .

أعطى البيان القرآني ضابطة كلّية وهي أنّ وراء ما ورد في الآية المتقدّمة (أعني الآية 23 من سورة النساء) من المحرّمات النسبية أو السببية، حلائل إمّا بالشراء بثمن كما في مورد الإماء، أو نكاح بصداق، كما في مورد الزواج، فيقول:

(وَ أُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ) : أي ما سوى المذكورات في الآية السابقة، وفي هذه الآية، حلال لكم الزواج منهن، إنّما الكلام في إعراب الفقرة.

المراد من الموصول «ما» هو النساء، وهو نائب فاعل لقوله: (أُحِلَّ) .

قوله: (ذلِكُمْ) مركب من «ذا» و «كم» فالأوّل إشارة إلى النساء المذكورات، وتذكير اسم

ص: 422

الإشارة باعتبار الموصول، أعني: ما وراء، والثاني أعني: «كم» خطاب للمؤمنين، والمعنى: أُحل لكم أيّها المؤمنون وراء ما مرّ ذكره من النساء.

بما أنّ النكاح رهن بذل المال، قال: (أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ) وهو عطف بيان لقوله: (ما وَراءَ ذلِكُمْ) أو بدل اشتمال منه. (مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ) :

أي تطلبوا بأموالكم نكاح النساء في حال أنّكم تُريدون العفّة لا السفاح والزنا، ومعنى الجملة: متعفّفين لا زانين.

الثالث: قوله سبحانه: (فَمَا اِسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ) فلو كان لفظة «ما» موصولة، يكون معنى الفقرة: فاللّاتي استمتعتم به منهن فآتوهنّ أُجورهنّ. ولو كانت شرطية فقوله: استمتعتم شرط وجزاؤه (فَآتُوهُنَّ) ، أي: إن استمتعتم به منهن فآتوهنّ أُجورهنّ. (فَرِيضَةً) حال من أُجورهن.

ثمّ إنّ المهم في تفسير هذا المقطع بيان ما هو المراد من قوله: (فَمَا اِسْتَمْتَعْتُمْ) فهل يُريد الزواج الدائم، أو المؤقّت من الحرائر، أو زواج الأمة؟

والاحتمال الثالث مندفع لأنّه يأتي بيان حكم الأمة في الآية التالية، فالأمر يدور بين الزواج الدائم والمؤقّت.

أقول: هناك قرائن في نفس الآية وما بعدها على أنّ المراد هو الزواج المؤقّت، خلافاً للعديد من مفسّري السنّة، وسنعود إلى بيان ذلك بعد إتمام تفسير الفقرة الرابعة.

الرابع: قوله سبحانه: (وَ لا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ اَلْفَرِيضَةِ) يشير إلى أنّ الزوجين بعدما فُرض الأجر في متن العقد، ربّما يتراضيان بعد العقد على إسقاط جزء ممّا فرضا عند العقد، فلا جناح عليهما بعد التراضي.

ص: 423

ثمّ إنّه سبحانه يصف نفسه بقوله: (إِنَّ اَللّهَ كانَ عَلِيماً) بحاجات الإنسان (حَكِيماً) في تشريعه.

***

حكم الزواج المؤقّت
اشارة

بعد أن تمّ تفسير فقرات الآية، بقي الكلام في تعيين المراد من قوله سبحانه: (فَمَا اِسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ) هل أُريد به الزواج الدائم أو المؤقّت؟

أقول: إنّ القرائن تدلّ على أنّ المراد هو الثاني. ولا يعدل عن تلك القرائن إلّا المتعصّب على مذهبه الفقهي. وإليك بيانها:

القرينة الأُولى: المراد من قوله: (فَمَا اِسْتَمْتَعْتُمْ) هو عقد الاستمتاع لا التلذّذ

أقول: الاستمتاع يطلق ويُراد به أحد المعنيين:

أ. (فَمَا اِسْتَمْتَعْتُمْ) : أي تلذّذتم بالنساء بالنكاح (فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ) .

ب. المراد به عقد الاستمتاع.

والمعنى الثاني هو المتعيّن لأنّ اللّه علّق وجوب إعطاء المهر بالاستمتاع، وذلك يقتضي أن يكون معنى هذا هو العقد المخصوص دون الجماع والالتذاذ، لأنّ الأجر يجب بالعقد، لا بالالتذاذ والجماع.

وإن شئت قلت: إنّ ترتّب دفع الأُجرة على الاستمتاع أشبه بترتّب الجزاء على الشرط، فلو أُريد بالاستمتاع العقد لصحّ الترتّب لأنّ المهر كلّه يجب بمجرّد العقد، غاية الأمر يُردّ النصفُ بالطلاق قبل الدخول إلى الزوج في العقد الدائم،

ص: 424

ص: 425

يجب علينا إمعان النظر فيما تهدف إليه جملة: (فَمَا اِسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ) ، فهنا احتمالات:

أ. تحليل النكاح الدائم.

ب. التأكيد على دفع المهر بعد الاستمتاع.

ج. نكاح المتعة.

أمّا الأول فالحمل عليه يستلزم التكرار بلا وجه؛ لأنّه سبحانه بيّن حكمه في الآية الثالثة من تلك السورة، أعني قوله سبحانه: (وَ إِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تُقْسِطُوا فِي اَلْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ اَلنِّساءِ مَثْنى وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً) .(1)

وأمّا الثاني فهو كالأوّل بيّنه عزّ وجل في الآية الرابعة من هذه السورة، أعني قوله تعالى: (وَ آتُوا اَلنِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً) (2)، بل بيّنه في آيتين أُخريين أيضاً، أعني قوله تعالى: (يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا اَلنِّساءَ كَرْهاً وَ لا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ) (3)، وقوله سبحانه:

(وَ إِنْ أَرَدْتُمُ اِسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَ آتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَ تَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَ إِثْماً مُبِيناً) (4) ، فلم يبق من الوجوه المحتملة التي تهدف إليها هذه الفقرة من الآية، إلّانكاح المتعة.0.

ص: 426


1- . النساء: 3.
2- . النساء: 4.
3- . النساء: 19.
4- . النساء: 20.
القرينة الثالثة: الجملتان المتقدّمتان على قوله:

(فَمَا اِسْتَمْتَعْتُمْ)

إنّ في الجملتين المتقدّمتين على قوله: (فَمَا اِسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ) أعني:

1. (أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ) 2. (مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ) ، دليلاً على أنّ المراد هو الزواج المؤقّت، وأنّ المراد من الاستمتاع هو نكاح المتعة والعقد على المتمتّع بها.

أمّا الجملة الأُولى فتدلّ على أنّها بصدد بيان النكاح الذي للمال فيه دور، بحيث لولاه لبطل، وليس هو إلّانكاح المتعة الذي عُرّف بقوله: أجل مسمّى وأُجرة مسمّاة، فالأُجرة في نكاح المتعة ركن وإلّا لبطل، بخلاف النكاح الدائم إذ لا يجب ذكرها في العقد، يقول سبحانه: (لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ اَلنِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً) (1)، فقوله: (أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً) :

فلفظة «أو» بمعنى «الواو» أي قبل أن تفرضوا لهنّ فريضة، وهذا يدلّ على جواز النكاح مع عدم فرض المهر.

وأمّا الجملة الثانية أي: (مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ) فاللّه سبحانه يؤكّد قبل الأمر بعقد الاستمتاع على كون الزوجين محصنين غير مسافحين، بأن يكون اللقاء بنيّة التعفّف لا الزنا، وبما أنّ عقد المتعة ربّما ينحرف عن مجراه فيتّخذ لنفسه لون السفاح لا الزواج، أمر سبحانه بأن يكون الهدف هو الزواج لا السفاح.

وبعبارة أُخرى: أنّ النكاح الدائم لا يتصوّر فيه السفاح، والذي يحتمل فيه قصد السفاح هو النكاح المؤقّت، فنهى اللّه سبحانه أن يكون العقد بتلك النيّة، بل

ص: 427


1- . البقرة: 236.

بنيّة التعفّف والزوجية.

ومن حسن الحظ أنّ هذا القيد جاء في نكاح الإماء أيضاً، في قوله تعالى:

(مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَ لا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ) ، فتقدّم هاتين الجملتين على قوله: (فَمَا اِسْتَمْتَعْتُمْ) دليل على أنّ هذه الفقرة ناظرة إلى النكاح المؤقّت لا الدائم.

فإن قلت: إنّ «الفاء» في قوله: (فَمَا اِسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ) فاء التفريع، ولا تستعمل إلّاإذا سيق الكلام في الموضوع قبله ولو إجمالاً، ولازم ذلك وجود الإشارة إلى العقد المؤقّت قبل تلك الفقرة.

قلت: الإشارة موجودة وهي قوله سبحانه: (مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ) وقد مرّ أنّ عقد المتعة ربما ينحرف عن مجراه الشرعي فيتّخذ لنفسه لون السفاح، فلذلك أمر سبحانه بأن يكون العمل على أساس الإحصان والعفاف لا السفاح والزنا، فرتّب على ذلك الأساس قوله: (فَمَا اِسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ) .

إلى هنا ثبت أنّ الآية ليست مجملة، وإنّما هي صريحة في العقد المؤقّت.

نعم ادّعى مَن قال بتحريم المتعة بأنّ الآية منسوخة وهو بحث آخر، لا نحوم حوله.

حقيقة الزواج المؤقّت في القرآن الكريم

وبما أنّ قسماً من الباحثين من أهل السنّة، غير عارفين بحدود الزواج المؤقّت، فربما يتصوّرون أنّه عبارة عن مباشرة النساء المبتذلات في دور الفحشاء، نأتي بتعريفه حتى يتبيّن أنّ واقع الزواج المؤقّت لا يختلف عن الدائم إلّا في بعض الأحكام، فنقول:

ص: 428

الزواج المؤقّت: عبارة عن تزويج المرأة الحرّة الكاملة، نفسها إذا لم يكن بينها وبين الزوج مانع - من نسب أو سبب أو رضاع أو إحصان أو عدّة أو غير ذلك من الموانع الشرعية - بمهر مسمّى إلى أجل مسمّى بالرضا والاتّفاق، فإذا انتهى الأجل تبين منه من غير طلاق، ويجب عليها بعد الدخول بها - إذا لم تكن يائسة - أن تعتد عدّة الطلاق إذا كانت ممّن تحيض، وإلّا فبخمسة وأربعين يوماً.

إنّ الزواج المؤقّت كالزواج الدائم لا يتمّ إلّابعقد صحيح دالّ على قصد الزواج، وكلّ مقاربة تحصل بين رجل وامرأة من دون عقد فلا تكون متعة حتى مع التراضي والرغبة، ومتى تمّ العقد كان لازماً يجب الوفاء به.

هذا هو تعريف الزواج المؤقّت، وقد اتّفقت المذاهب الفقهية على أنّه كان حلالاً أحلّه رسول اللّه صلى الله عليه و آله بوحي من اللّه في برهة من الزمن، وإنّما اختلفوا في استمرار حليّته، فالشيعة الإمامية ولفيف من الصحابة والتابعين على بقاء الحليّة، خلافاً للمذاهب الأربعة فهي على التحريم.

الزواج المؤقت في صدر الإسلام

بزغت شمس الإسلام وكانت المتعة أمراً رائجاً بين الناس غير أنّ الإسلام حدّ لها حدوداً وجعل لها شروطاً كما مرّ، ويكفيك في ذلك دراسة تاريخها وذلك بملاحظة ما يلي:

1. ما رواه ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: كانت متعة النساء في أوّل الإسلام، كان الرجل يقدم البلدة ليس معه من يصلح له ضيعته ولا يحفظ متاعه، فيتزوّج المرأة إلى قدر ما يرى أنّه يفرغ من حاجته، فتنظر له متاعه وتصلح له

ص: 429

ضيعته.(1)

2. أخرج الطبراني والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال: كانت المتعة في أوّل الإسلام... فكان الرجل يقدم البلدة ليس له بها معرفة فيتزوّج بقدر ما يرى أنّه يفرغ من حاجته لتحفظ متاعه وتصلح له شأنه.(2)

3. أخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة والبخاري ومسلم عن ابن مسعود قال:

كنّا نغزو مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وليس معنا نساؤنا فقلنا: ألا نستخصي؟ فنهانا عن ذلك ثمّ رخّص لنا أن ننكح المرأة بالثوب إلى أجل، ثمّ قرأ عبد اللّه (يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اَللّهُ لَكُمْ) (3).(4)

4. أخرج عبد الرزاق وأحمد ومسلم عن سبرة الجهني قال: أذن لنا عام فتح مكة في متعة النساء فخرجت أنا ورجل من قومي ولي عليه فضل في الجمال وهو قريب من الدمامة....(5) 5. أخرج البخاري في صحيحه بسنده عن جابر بن عبد اللّه وسلمة بن الأكوع، قال: كنّا في جيش فأتانا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فقال: إنّه قد أذن لكم أن تستمتعوا فاستمتعوا.(6)ح.

ص: 430


1- . تفسير الدر المنثور: 139/2-140.
2- . تفسير الدر المنثور: 139/2-140.
3- . المائدة: 87.
4- . صحيح مسلم: 130/4، باب نكاح المتعة؛ صحيح البخاري: 119/6، باب ما يكره من التبتل والخصاء من كتاب النكاح.
5- . تفسير الدر المنثور: 140/2؛ صحيح مسلم: 132/4، باب نكاح المتعة.
6- . صحيح البخاري: 129/6، كتاب النكاح.

6. أخرج مسلم في صحيحه بسنده: خرج علينا منادي رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فقال: إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قد أذن لكم أن تستمتعوا، يعني متعة النساء.(1)

7. أخرج مسلم في صحيحه أيضاً بسنده عن سلمة بن الأكوع، وجابر بن عبد اللّه انّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أتانا فأذن لنا في المتعة.(2)

والأحاديث الأخيرة - بشهادة ما تقدّمها - تكشف عن كون الاستمتاع بالمرأة في ظروف خاصّة لغايات عقلائية، كان أمراً معروفاً، والنبي صلى الله عليه و آله و سلم أرشد بإذنه إليه، لا أنّه صلى الله عليه و آله و سلم ابتكره.

فإذا كان مثل هذا الزواج أمراً رائجاً بين الناس في عصر الرسالة فلا منتدحَ للشارع عن التعرّض له من خلال الإمضاء أو الرد، ولا يصحّ غض النظر عنه، بعد عدم كونها من قبيل السفاح، وإلّا فمن المستحيل أن يحلّله النبيّ ولو في فترة خاصّة: (قُلْ إِنَّ اَللّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَ تَقُولُونَ عَلَى اَللّهِ ما لا تَعْلَمُونَ) .(3)

صدور المنع في عصر الخليفة لثاني

قد عرفت دلالة الذكر الحكيم على حلية الزواج المؤقّت، كما وقفت على قسم قليل من السنّة النبوية التي صرّحت بشرعية المتعة في عصر النبوّة، إلى أن دال الأمر وقبض زمام الخلافة عمر بن الخطاب فنهى عن متعتين، متعة الحج (الإتيان بالعمرة والحج في زمن واحد)، ومتعة النساء، وبما أنّ بحثنا مركّز على الثانية نذكر ما يدلّ على صدور النهي في عصر خلافة الثاني:

ص: 431


1- . صحيح مسلم: 130/4، باب نكاح المتعة.
2- . صحيح مسلم: 130/4-131، باب نكاح المتعة.
3- . الأعراف: 28.

1. أخرج مسلم عن ابن جريج، قال: أخبرني أبو الزبير قال: سمعت جابر بن عبد اللّه يقول: كنّا نستمتع بالقبضة من التمر والدقيق الأيام على عهد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وأبي بكر حتّى نهى عنه عمر في شأن عمرو بن حُريث.(1)

2. وأخرج عن أبي نضرة، قال: كنت عند جابر بن عبد اللّه، فأتاه آت فقال:

ابن عباس وابن الزبير اختلفا في المتعتين، فقال جابر: فعلناهما مع رسول اللّه ثمّ نهانا عنهما عمر فلم نعد لهما.(2)

3. أخرج الترمذي أنّ رجلاً من أهل الشام سأل ابن عمر عن المتعة؟ فقال:

هي حلال، فقال الشامي: إنّ أباك قد نهى عنها؟ فقال ابن عمر: أرأيت إن كان أبي قد نهى عنها وقد صنعها رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أأمر أبي نتّبع، أم أمر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.(3)

بقيت هنا أُمور:

الأوّل: أنّه ربما يتصوّر بعض الكتاب أنّ العقد المؤقّت لا يختلف عن الفحشاء والزنا حتى قال قائلهم:

قول الروافض نحن أطيب مولد *** قول أتى بخلاف قول محمد

نكحوا النساء تمتعاً فولدن من *** ذاك النكاح فأين طيب المولد

وهذا المعترض إنّما اعترض بشعره لا بشعوره، حيث نسب إلى النبي صلى الله عليه و آله و سلم بلا استشعار أن نكاح المتعة يضاد طيب المولد، مع أنّ المفسّرين والفقهاء اتّفقوا على أنّه صلى الله عليه و آله و سلم أحلّ نكاح المتعة ولو في فترة قصيرة - كغزوة خيبر - فلو فرضنا أنّ 4.

ص: 432


1- . صحيح مسلم: 131/4، باب نكاح المتعة.
2- . صحيح مسلم: 131/4، باب نكاح المتعة.
3- . سنن الترمذي: 186/3، برقم 824.

التمتع يضاد طيب المولد فمعنى ذلك أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم أحل الفحشاء.

فنذكر في هذا الصدد رواية واحدة نموذجاً، حتى يظهر أنّ نكاح المتعة ليس مضاداً لطيب المولد.

أخرج مسلم عن جابر بن عبد اللّه وسلمة بن الأكوع، قال: خرج علينا منادي رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فقال: إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قد أذن لكم أن تستمتعوا (يعني متعة النساء). وفي لفظ: إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أتانا فأذن لنا في المتعة.(1)

فلو أمر النبي صلى الله عليه و آله و سلم بنكاح المتعة فإنّما أمر بأمر من اللّه سبحانه، فلو كان نكاح المتعة يعادل الزنا والفحشاء فمعنى ذلك أنّه سبحانه أمر بذلك!! (قُلْ إِنَّ اَللّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَ تَقُولُونَ عَلَى اَللّهِ ما لا تَعْلَمُونَ) .(2)

الثاني: أنّ بعض المفسّرين والفقهاء قالوا بدلالة الآية على جواز نكاح المتعة لكن الآية منسوخة بالسنّة.

أقول: القرآن قطعي ولا ينسخ إلّابدليل قطعيّ، فهل الناسخ آية قرآنية أو سنّة قطعية؟ وكلاهما منفيان، وأفضل شاهد على أنّ التحريم لم يصدر من النبي صلى الله عليه و آله و سلم بل عن بعض الخلفاء، ما رواه مسلم عن عمران بن حصين: نزلت آية المتعة في كتاب اللّه وأمرنا بها رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، ثمّ لم تنزل آية تنسخ آية متعة الحج ولم ينه عنها رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم حتى مات، قال رجل برأيه بعد ما شاء.(3)ن.

ص: 433


1- . صحيح مسلم: 130/4، باب نكاح المتعة من كتاب النكاح؛ صحيح البخاري: 13/7، باب نهي الرسول عن نكاح المتعة من كتاب النكاح. فمن أراد الوقوف على هذه الروايات فليرجع إلى صحيح مسلم، باب نكاح المتعة من كتاب النكاح.
2- . الأعراف: 28.
3- . صحيح مسلم: 49/4، باب جواز التمتع، وفي الحديث إشارة إلى كلتا المتعتين.

الثالث: أنّ فقهاء السنّة يجوّزون النكاح الدائم لكن بنيّة الطلاق بعد سنة أو سنتين مثلاً.

فنقول: أي فرق بين نكاح المتعة بأجل معيّن مذكور في نفس العقد وبين ذلك النكاح المحدّد بأجل واقعاً غير مذكور في العقد؟! ومن المعلوم أنّ الثاني أشبه بالنفاق حيث إنّ العبارة ظاهرة في الدوام مع أنّ المنوي والمقصود هو المؤقّت.

الرابع: أنّ الشريعة الإسلامية شريعة خاتمة وكتاب اللّه خاتم الكتب، ومن المعلوم أنّ شريعة بهذا الوصف تُعالج كلّ المشاكل التي تواجه الأُمّة المرحومة إلى يوم القيامة، وها نحن نطرح على فقهاء أهل السنّة السؤال التالي وننتظر جوابهم:

إنّ النكاح المؤقّت دواء وليس بطعام، علاج لضرورات مقطعية، يحول دون انتشار الفساد في المجتمع الإسلامي، إذ ربما تطرأ على الإنسان ظروف لا يتيسّر من خلالها الزواج الدائم فلا يبقى أمامه سوى الأُمور الأربعة التالية:

1. كبت جماح الشهوة.

2. التردّد على بيوت الدعارة والفساد.

3. النكاح الدائم.

4. النكاح المؤقّت بالشروط التي وضعها الإسلام.

أمّا الأوّل: فمن المستحيل عادة أن يصون به أحد نفسه - إلّامن عصمه اللّه - ولا يطرق ذلك الباب إلّاالأمثل فالأمثل من الناس، وأين هو من عامّة الناس؟!

وأمّا الثاني: ففيه - مضافاً إلى هدم الكرامة الإنسانية - شيوع الفساد والأمراض وتداخل الأنساب.

ص: 434

وأمّا الثالث: فلأنّه رهن نفقات كثيرة، لا يقدر على توفيرها؛ بل ربما يكون الرجل في مرحلة الدراسة لا يُريد الإقامة في ذاك البلد بل ينوي الرجوع إلى بلده حتى يعيش عند عشيرته وعائلته فيتزوّج هناك.

وأمّا الطريق الرابع: فهذا هو الدواء الذي قلنا إنّه ليس بطعام، بل هو علاج لضرورات مقطعية، فهو أروع السنن الإسلامية التي سنّها الإسلام وأراد بها صون كرامة الإنسان، ونعم ما قال الإمام علي عليه السلام: «لولا أنّ عمر نهى الناس عن المتعة ما زنا إلّاشقي».(1)

وبما أنّ دراستنا قرآنية فقد اقتصرنا على هذا المقدار، ومن أراد التفصيل فليرجع إلى كتابنا: «الإنصاف في مسائل دام فيها الخلاف»(2)، وقد أجبنا عن عامّة الشبهات التي طرحت بوجه هذا الحكم الشرعي.

***1.

ص: 435


1- . تفسير الطبري (جامع البيان): 19/5؛ المصنّف لعبد الرزّاق الصنعاني: 500/7 برقم 14029؛ كنز العمال: 522/16، برقم 45728.
2- . لاحظ: الإنصاف في مسائل دام فيها الخلاف: 475/1-551.
في نكاح الأمة
الآية السادسة
اشارة

قال سبحانه: (وَ مَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ اَلْمُحْصَناتِ اَلْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ اَلْمُؤْمِناتِ وَ اَللّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَ آتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَ لا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى اَلْمُحْصَناتِ مِنَ اَلْعَذابِ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ اَلْعَنَتَ مِنْكُمْ وَ أَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَ اَللّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) .(1)

المفردات

طولاً: الطُول - بضم الطاء - خلاف العرض، وجمعه أطوال، وأمّا الطَول - بفتح الطاء - فهو القدرة والتمكّن، والظاهر أنّ المعنيين من باب واحد. يقول الشيخ الطوسي: الطَول الغِنى، وهو مأخوذ من الطُول خلاف القصر، فشُبّه الغِنى به لأنّه

ص: 436


1- . النساء: 25.

يُنال به معالي الأُمور.(1)

فتياتكم: يقال للأمة فتاة وإن كانت مسنّة.

المحصنات: بمعنى الحرائر، محصنات: العفيفات بقرينة ما بعده، أعني قوله: (غَيْرَ مُسافِحاتٍ) .

أخدان: جمع خدن، وهم الأخلّاء السرِّيّون.

أُحصنّ: تزوّجن.

على المحصنات: وأُريد به أيضاً الحرائر.

العنت: الجهد والمشقّة.

التفسير
نكاح الأمة بشروط خمسة

لمّا بيّن سبحانه في الآية السابقة مَن يحلّ ومَن لا يحلّ من النساء الحرائر - الّتي هي الأكثرية الساحقة في المجتمع - جاء البيان القرآني لبيان تزويج الإماء بغير المالك، وإلّا فإنّ المالك يستمتع بها من غير عقد، وذكر أنّ في تزويج الإماء شروطاً خمسة:

اثنان منها في الناكح، والثلاثة في المنكوحة.

أمّا الناكح فيجوز له تزويج إماء الغير بإذن مالكهنّ بشرطين:

1. عدم التمكّن من التزويج بالحرّة، لأجل النفقة وغيرها، ممّا يستلزم

ص: 437


1- . التبيان في تفسير القرآن: 3/168.

إنفاقها قبل العقد وبعده، وإليه يشير سبحانه بقوله: (وَ مَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ اَلْمُحْصَناتِ) .

2. إذا خشي العنت، والشبق الشديد الّذي ربّما يحمل الإنسان إلى الزنا أو يؤدّي بالإنسان إلى الأمراض الصعبة، أو المشقّة الشديدة التي لا تتحمّل عادة.

والوجه الأخير هو الأقوى، وإليه يشير سبحانه بقوله: (ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ اَلْعَنَتَ مِنْكُمْ) .

وأمّا الشروط المعتبرة في المنكوحة فهي أُمور ثلاثة:

1. مؤمنات لا كافرات، لقوله: (مِنْ فَتَياتِكُمُ اَلْمُؤْمِناتِ) .

2. عفائف غير زانيات، لقوله: (مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ) .

3. غير زانيات سرّاً، لقوله: (وَ لا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ) .

ثم انتقلت الآية إلى الأمة المتزوّجة إذا أتت بفاحشة فحدّها نصف ما على الحرائر من العذاب، فقال: (فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى اَلْمُحْصَناتِ مِنَ اَلْعَذابِ) .

وفي نهاية الآية يأمر اللّه سبحانه مَن يريد نكاح الأمة بالصبر ويصفه بأنّه خير؛ لأنّ في نكاح الإماء عواقب يُرغب عنها لأنهنّ مملوكات لمالكهنّ، فربّما يريد إبطال نكاحهنّ ببيعهنّ لغيره. هذه هي خلاصة مضمون الآية إجمالاً. ولنرجع إلى تفسيرها حرفياً.

قوله تعالى: (وَ مَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً) ربّما يتصوّر أنّ قوله:

(طَوْلاً) مفعول به لقوله: (وَ مَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ) وهو غير صحيح إذ يكون معنى الآية: فمَن لم يقدر منكم على القدرة، بل هو مفعول لأجله للفعل، يُبيّن جهة الاستطاعة

ص: 438

المذكورة في الآية. أي لا يستطيع من الناحية المالية (أَنْ يَنْكِحَ اَلْمُحْصَناتِ اَلْمُؤْمِناتِ) : أي نكاح الحرائر العفائف، فعندئذٍ يحلّ له نكاح الإماء كما يقول (فَمِنْ ما) : أي فلينكح ممّا (مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ اَلْمُؤْمِناتِ) والخطاب للمسلمين المخاطبين لا للناكح، وقد أُضيف نسبة ملك اليمين إلى المؤمنين لاتّحادهم في الدين واتحاد مصالحهم كأنّهم شخص واحد، كما يقول: (بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ) .

وبما أنّ نكاح الإماء يُعدّ أمراً غير محمود بين الناس جاء البيان القرآني يرفع شأن الإماء المؤمنات ويساوي بينهن وبين الأحرار في الخلقة والدين ويقول: (بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ) كما قال سبحانه: (وَ اَلْمُؤْمِنُونَ وَ اَلْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) (1)، فلا ينبغي للمؤمن إذا تزوّج بالإماء أن يتصوّر أنّه عمل عملاً خارجاً عن شأنه، فإنّ المؤمنين والمؤمنات بعضهم من بعض، وقد مرّ أن المراد تزويج الإنسان بملك يمين غيره لا نفسه.

ثم إنّ تقييد المحصنات بالمؤمنات يدلّ على عدم جواز غير المؤمنات من أمة كتابية أو مشركة.

ثم إنّ التعبير عن الإماء بالفتيات نوع تكريم لهنّ مع أنّ قسماً منهنّ مسنّات.

ولمّا كان المستفاد من قوله: (اَلْمُحْصَناتِ اَلْمُؤْمِناتِ) هو المؤمنة واقعاً، ومن المعلوم أنّ إحراز الشرط ربّما يكون مشكلاً، جاء البيان القرآني بأنّه لا سبيل لكم إلى العلم بإيمانهن (وَ اَللّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ) فإنّكم مكلّفون بالجري على الأسباب الظاهرية الدالّة على الإيمان كالشهادتين والدخول في جماعة المسلمين والقيام1.

ص: 439


1- . التوبة: 71.

بالوظائف الدينية، فهذا هو الملاك في تزويجهنّ، وهو أمر سهل.

قوله سبحانه: (فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ) المراد من الأهل: المالك، فإنّ تزويج الأمة بغير إذن مالكها تزويج فضولي كتزويج الحرة بغير إذن وليها، وفي هذه الفقرة دليل على أنّ الإسلام نظر إلى المسألة نظرة واقعية، فبما أنّ الناكح ليس له بدّ إلّاالزواج من الإماء رخّص له زواجهن، غير أنّ التزويج من الإماء لمّا كان أمراً مذموماً غير محمود رفع منزلتهن. ولكن الأمة لمّا كانت ملكاً للغير شرط التزويج بإذن المالك (وَ آتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) حسب شأنها، فعلى الناكح دفع مهورهن: إمّا إليهنّ كما هو ظاهر الآية أو إلى المالك، كما عليه الفقهاء من أنّ الرق لا يملك شيئاً.(1)

ثم إنّه سبحانه بعد أن رخّص في التزويج من الأمة أشار إلى لزوم وجود أوصاف أربعة في الأمة:

1. من فتياتكم المؤمنات.

2. محصنات: أي العفائف.

3. غير مسافحات: أي غير مستأجرات للبغاء جهراً.

4. غير متخذات أخدان: أي غير زانيات سرّاً.

ولك إرجاع الوصفين الأخيرين إلى الوصف الثاني، فإذا كنّ محصنات أي عفائف، فلازم ذلك أن يكنّ غير مسافحات ولا متخذات أخدان. وأُريد من الأوّل البغاء جهراً، ومن الثاني البغاء سرّاً، واللّه سبحانه نهى عن كلا القسمين، وقال:

(وَ لاء.

ص: 440


1- . لاحظ: الوسائل: 14، الباب 87 من أبواب نكاح العبيد والإماء.

تَقْرَبُوا اَلْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَ ما بَطَنَ) .(1)

ولمّا كانت الغاية من تزويج الإماء تشكيل الأُسرة والإنجاب وحفظ النسل، ألزم سبحانه وجود العفّة في الإماء الّتي تلازم الاجتناب عن البغاء جهراً وسرّاً، وهذا يدلّ على عدم جواز نكاح الغانيات الأحرار إذا لم يتبن، والتفصيل في محلّه.

ثم إنّه سبحانه يذكر حدّ الأمة المحصنة المتزوّجة ويقول: (فَإِذا أُحْصِنَّ) بالتزويج (فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ) فالحدّ المقرّر لهن ما في قوله: (فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى اَلْمُحْصَناتِ مِنَ اَلْعَذابِ) فالفقرة ناظرة إلى قوله سبحانه: (اَلزّانِيَةُ وَ اَلزّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ) (2) وعلى ذلك فعليهنّ خمسون جلدة، والشاهد على أنّ الآية ناظرة إلى الجلد دون الرجم، أمران:

1. أنّ الجلد هو الّذي يقبل التنصيف لا الرجم.

2. قوله: (مِنَ اَلْعَذابِ) : أي نصف ما هو عذاب مع بقاء الحياة، وهو يختصّ بالجلد، لكن بما أنّه سبحانه فرض أنّ الأمة متزوّجة وخصّ حدّها بما يقبل النصف فهو دليل على أنّ الرجم مرفوع عنها، وأنّه مختص بالحرائر، وعليه الفتوى.

قال المحقّق «في الشرائع»: والمملوك يجلد خمسين محصناً كان أو غير محصن ذكراً أو أُنثى.(3)

ويؤيّده ما رواه الشيخ بإسناده عن بريد العجلي، عن أبي عبداللّه عليه السلام، في5.

ص: 441


1- . الأنعام: 151.
2- . النور: 2.
3- . شرائع الإسلام: 4/155.

الأمة تزني، قال: «تجلد نصف الحدّ كان لها زوج أو لم يكن لها زوج».(1)

وعنه عن البرقي عن زرارة عن الحسن بن السري، عن أبي عبداللّه عليه السلام قال:

«إذا زنى العبد والأمة وهما محصنان فليس عليهما الرجم، وإنّما عليهما الضرب خمسين، نصف الحد».(2)

قوله: (ذلِكَ) : أي نكاح المؤمنات من إماء المسلمين لمن لم يجد طولاً أن ينكح الحرائر المؤمنات إنّما هو (لِمَنْ خَشِيَ اَلْعَنَتَ مِنْكُمْ) والمفسّرون على أنّ المراد من العنت هو الزنا، مع أنّه في اللغة بمعنى الشدّة والمشقّة، والأَولى تفسيره بمَن خشي الشدّة والمشقّة بسبب العزوبة أو خشي عرضاً من العوارض الجسمية والروحية. وقد مرّ ما هو الأقوى في تفسير المفردات.

وفي ختام الآية يأمر بالصبر عن نكاحهن ويقول: (وَ أَنْ تَصْبِرُوا) : أي أن تكفّوا عن نكاح الإماء فهو خير لكم لا لنقص في المنكوحة أو حزازة فيها لما مرّ قوله سبحانه: (بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ) بل لأجل ما يترتّب عليها من جانب الموالي، حيث مرّ أنّ بيعهن طلاق لهنّ، فبما أنّ نكاحهنّ في معرض الفسخ، فالاجتناب عنه مهما أمكن أفضل. ثم قال تعالى: (وَ اَللّهُ غَفُورٌ) لمن خالف التشريع الإلهي فيما سبق (رَحِيمٌ) بعباده.

ثمّ إنّ في نكاح الإماء أبحاثاً تعرّض لها الفقهاء في كتبهم الفقهية، وبما أنّ الموضوع خارج عن الابتلاء في حياتنا المعاصرة، اقتصرنا بذلك.ب.

ص: 442


1- . الوسائل: 18، الباب 31 من أبواب حدّ الزنا، الحديث 2.
2- . الوسائل: 18، الباب 31 من أبواب حدّ الزنا، الحديث 3، ولاحظ: أحاديث الباب.
في حرمة نكاح المشركات والمشركين
الآية السابعة
اشارة

قال سبحانه: (وَ لا تَنْكِحُوا اَلْمُشْرِكاتِ حَتّى يُؤْمِنَّ وَ لَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَ لَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَ لا تُنْكِحُوا اَلْمُشْرِكِينَ حَتّى يُؤْمِنُوا وَ لَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَ لَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى اَلنّارِ) .(1)

المفردات

ولا تَنكحوا (بفتح التاء): يطلق النكاح على العقد، وقد بيّنا وجه ذلك في تفسير قوله سبحانه: (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ اَلنِّساءِ) (2).

ولا تُنكحوا (بضمّ التاء): خطاب للأولياء إذا أرادوا تزويج بناتهم.

المشركات والمشركين: هو في المصطلح القرآني من يشرك باللّه شركاً ظاهرياً كعبادة الأصنام والأوثان والكواكب، وهذا ما يُسمّى بالشرك العظيم، وأمّا الشرك الصغير فهو مراعاة غير اللّه معه في بعض الأُمور كالرياء والنفاق، وبهذا فُسّر قوله سبحانه: (وَ ما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاّ وَ هُمْ مُشْرِكُونَ) (3).

وعلى هذا فالمشركون غير أهل الكتاب، ولذلك نرى أنّه سبحانه يفرّق بينهما ويقول: (لَمْ يَكُنِ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ اَلْكِتابِ وَ اَلْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتّى

ص: 443


1- . البقرة: 221.
2- . النساء: 3.
3- . يوسف: 106.

تَأْتِيَهُمُ اَلْبَيِّنَةُ) (1) ، وفي آية أُخرى، قال: (إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ اَلْكِتابِ وَ اَلْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أُولئِكَ هُمْ شَرُّ اَلْبَرِيَّةِ) .(2)

يدعون: الدعوة إلى النار يمكن أن تكون قولية ويمكن أن تكون سلوكية، كما سيأتي توضيحه في تفسير الآية.

التفسير
النهي عن نكاح المشركات ونكاح المشركين

إنّ قسماً كبيراً من آيات سورة البقرة يرجع إلى بيان الأحكام الشرعية، حيث إنّ المسلمين لمّا استقرّوا في المدينة اقتضى ذلك بيان كثير من الأحكام التي يجب عليهم الالتزام بها، وممّا يلفت النظر أنّ القرآن الكريم أخذ لبيان نظام الأُسرة من آيتنا هذه(3) إلى الآية 242، والجميع يرجع إلى نظام الأُسرة ويعتمد على معين الفطرة، وبذلك يُعلم أنّ مَنْ جاء به قد عاش في بيئة أُمّية، فمن أين جاء بهذا النظام الفائق الذي يذكر حاجات الإنسان وعلاجها؟!

إنّه سبحانه نهى في الآية عن نكاح المشركات ونكاح المشركين، وقد ورد النهي في موردين:

1. قوله: (وَ لا تَنْكِحُوا اَلْمُشْرِكاتِ حَتّى يُؤْمِنَّ) وذلك لأنّ النكاح ليس مجرّد ضمّ إنسان إلى إنسان وإن كان بينهما - في العقيدة والسلوك - بعد المشرقين؟

ص: 444


1- . البيّنة: 1.
2- . البيّنة: 6.
3- . البقرة: 221.

بل هو بناء بيت وأُسرة يكون بين الزوجين كمال الأُلفة، ومن المعلوم أنّ الرجل المسلم على عقيدة والمرأة المشركة على عقيدة أُخرى، وإذا لم تكن صلة بين قلبين فلا تتحقّق بينهما الأُلفة، ولذلك رجّح سبحانه نكاح الأمة المؤمنة على نكاح المشركة الحرّة، وإن أعجبت المشركة بجمالها ومالها وأُسرتها لما عرفت من أنّ في زواج المشركة ضم إنسان إلى إنسان فقط بخلاف المؤمنة وإن كانت دونها في الجمال والمال فهو اجتماع إنسانين بينهما كمال الأُلفة في الفكر والعقيدة، وحاصل هذه الفقرة هو النهي عن نكاح المشركة والأمر بنكاح الأمة المؤمنة وتفضيلها على المشركة.

2. ثم يأتي دور النهي الثاني واللّه سبحانه ينهى عن إنكاح البنت المسلمة للرجل المشرك ويقول: (وَ لا تُنْكِحُوا اَلْمُشْرِكِينَ حَتّى يُؤْمِنُوا) الخطاب للأولياء ووجهه واضح، لأنّ للرجل نوع تفوّق على المرأة باعتبار أنّه المنفق والمدير فتؤثّر عقيدته على المرأة المؤمنة، ولذلك نرى أنّه سبحانه يفضل إنكاحها للعبد المؤمن على المشرك الحر ويقول: (وَ لَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَ لَوْ أَعْجَبَكُمْ) ماله ومكانته الاجتماعية.

نعم هذا النهي محدّد إلى بقائهم على الشرك، وأمّا إذا آمنوا فيرتفع النهي.

وبما أنّ في نكاح الرجل المشركة، وتزويج المؤمنة بالمشرك، الأنس بالشرك والبعد عن اللّه سبحانه بخلاف نكاح المؤمنة والمؤمن، ففي هذا النكاح أُنس بالإيمان والتقرّب من اللّه سبحانه - لأجل ذلك يقول سبحانه -: (أُولئِكَ) يعني: المشركون، (يَدْعُونَ إِلَى اَلنّارِ) : أي إلى الشرك الذي هو سبب دخول النار، خصوصاً إذا كان الزوج مشركاً والزوجة مؤمنة، فيؤثر في دين الزوجة (وَ اَللّهُ يَدْعُوا

ص: 445

إِلَى اَلْجَنَّةِ) : أي إلى عمل يوجب الجنة والمغفرة وهو عقد النكاح بين المؤمن والمؤمنة، ولأجل أن يبيّن أنّ ما ذكر من التحريم أبدي قطعي لا ينسخ فيقول:

(وَ يُبَيِّنُ آياتِهِ) : أي حججه (لِلنّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) : أي يتّعظون، ولعلّ في قوله: (يَتَذَكَّرُونَ) إشارة إلى أنّ النهي عن نكاح المشرك والابتعاد عنه والأمر بنكاح المؤمن والقرب منه أمر فطري تدعو إليه الفطرة أيضاً لما أنّ في الأوّل اجتماع إنسانين لغاية إثارة الشهوة لا التعارف بين الروحين، بخلاف الثاني.

ثمّ إنّ الآية تنهى عن زواج المشرك زوجاً وزوجة، وأمّا الكتابي فهو موضوع آخر سيأتي الكلام فيه في تفسير الآية التالية.

عثرة لا تستقال لمؤلف «الفقه على المذاهب الأربعة»

وفي ختام البحث نشير إلى هفوة بيّنة لمؤلّف كتاب «الفقه على المذاهب الأربعة»، حيث فتح باباً بعنوان: (مبحث المحرّمات لاختلاف الدين) فقال:

المخالفون للمسلمين في العقيدة ثلاثة أنواع:

الأوّل: لا كتاب لهم سماوي ولا شبهة كتاب، وهؤلاء هم عُبّاد الأوثان... - إلى أن قال -: ويلحق بهؤلاء المرتدّون الذين ينكرون المعلوم من الدين الإسلامي بالضرورة، كالرافضة الذين يعتقدون أنّ جبريل غلط في الوحي، فأوحى إلى محمد مع أنّ اللّه أمره بالإيحاء إلى عليّ. أو يعتقدون أنّ عليّاً إلهاً، أو يكذب(1)بعض آيات القرآن فيقذف عائشة.(2)

ص: 446


1- . هكذا في المصدر ومقتضى سياق العبارة: أو يكذبون.
2- . الفقه على المذاهب الأربعة: 75/4.

أقول: إنّ الشيخ الجزيري افترى في كلامه هذا على الشيعة ثلاثة افتراءات:

1. أنّ الشيعة يعتقدون بأنّ الأمين خان.

2. أنّ الشيعة يؤلّهون عليّاً.

3. يكذّبون بعض آيات القرآن فيقذفون عائشة.

وإليك دراسة هذه الافتراءات:

أمّا الأوّل فنحن نسأله:

أوّلاً: ما هو دليلكم على أنّ الرافضة يعتقدون بأنّ جبرئيل خان في الوحي.... إلخ.

ونحن نطلب منه دليلاً واحداً حتى ولو في كتاب مهمل وغير معروف من كتب الشيعة، فإنّ الشيعة بُراء من هذه التهمة، كبراءة يوسف عليه السلام ممّا اُتّهم به.

وثانياً: أنّ هذه النسبة قد وردت في غير محلّها، فإنّ اليهود هم الذين يعتقدون بأنّ جبرئيل غلط في إبلاغ الوحي، وهذا ما ينقله الرازي في تفسيره في تفسير قوله تعالى: (قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ...) (1)، حيث قال: قال مقاتل: زعمت اليهود أنّ جبرئيل عليه السلام عدوّنا، أُمر أن يجعل النبوّة فينا فجعلها في غيرنا، فأنزل اللّه هذه الآيات.(2)

ولعل مَن قرّظ كتاب «الصراع بين الإسلام والوثنية»، قد اعتمد على هذا الكتاب في التقوّل بهذه التهمة، حيث مدح الكتاب بشعره لا بشعوره وقال:3.

ص: 447


1- . البقرة: 97.
2- . تفسير الرازي: 195/3.

ويحمل قلبهم بغضاً شنيعاً *** لخير الخلق ليس له دفاعُ

يقولون الأمينُ حبا بوحيٍ *** وخانَ وما لَهم عن ذا ارتداعُ

هذا حول التهمة الأُولى، وأمّا الثانية من أنّهم يؤلّهون عليّاً، فنمرّ على هذا الافتراء مرار الكرام، جزاه اللّه جزاء المفترين.

وأمّا التهمة الثالثة - أعني: تكذيب بعض آيات القرآن النازلة في حقّ عائشة - فيكفي في بطلان هذه التهمة ما ذكره مفسر الشيعة الشيخ الطبرسي في «مجمع البيان» حول قصة الإفك، فإنّ الشيعة عامّة ينزّهون أزواج الأنبياء عن الفحشاء.

قال: ما بغت امرأة نبيّ قط، وإنّما كانت خيانة زوجتي نوح ولوط في الدين، لأنّهما كانتا كافرتين فقط.(1)

ولنا رسالة خاصّة حول الموضوع في كتابنا «رسائل ومقالات» تحت عنوان «موقف الشيعة الإمامية من حديث الإفك».(2)4.

ص: 448


1- . مجمع البيان: 69/10، تفسير سورة التحريم.
2- . راجع: رسائل ومقالات: 231/1-234.
نكاح العفائف من أهل الكتاب
الآية الثامنة
اشارة

قال سبحانه: (اَلْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ اَلطَّيِّباتُ وَ طَعامُ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَ طَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَ اَلْمُحْصَناتُ مِنَ اَلْمُؤْمِناتِ وَ اَلْمُحْصَناتُ مِنَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَ لا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ وَ مَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَ هُوَ فِي اَلْآخِرَةِ مِنَ اَلْخاسِرِينَ) .(1)

المفردات

المحصنات: العفائف.

محصنين: أعفّاء غير زانين.

أخدان: جمع الخدن بمعنى الصديق يطلق على الذكر والأُنثى، وربما يكنّى عن الزنا في السرّ.

حبط: الإحباط ضياع العمل وعدم استحقاق الثواب.

ص: 449


1- . المائدة: 5.
التفسير

تتضمّن الآية أحكاماً أربعة:

1. حليّة الطيبات في اليوم المعيّن.

2. حليّة طعام المسلمين لأهل الكتاب.

3. حليّة المحصنات المؤمنات، وقد كانت المحصنات المؤمنات حلالاً قبل نزول السورة فكيف صرن حلالاً في نفس اليوم، وسيوافيك وجهه.

4. حليّة نكاح المحصنات من الذين أُوتوا الكتاب.

والذي له صلة بمقامنا هنا هو الحكم الرابع، والحكم الثالث بحثنا عنه سابقاً وما بقي نبحث عنه في كتاب الأطعمة والأشربة، إن شاء اللّه تعالى.

نكاح العفائف من أهل الكتاب

لمّا تقدّمت حرمة نكاح المشركات(1) جاء البيان القرآني يحلّل نكاح نساء أهل الكتاب إذا كُنّ محصنات أي عفائف مجتنبات عن السفاح، وأُريد بالمحصنات (الذي تكرّر ذكرها في هذه الآية ثلاث مرّات) العفائف.

أحلّ سبحانه في هذه الآية نكاح موردين:

1. (وَ اَلْمُحْصَناتُ مِنَ اَلْمُؤْمِناتِ) .

2. (وَ اَلْمُحْصَناتُ مِنَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ) .

ثمّ ذكر شروطاً ثلاثة وقال:

ص: 450


1- . لاحظ: البقرة: 221، والمشهور أنّ سورة المائدة آخر ما نزل على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.

أ. (إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ) .

ب. (مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ) .

ج. (وَ لا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ) .

والظاهر أنّ القيود الثلاثة ترجع إلى نكاح المحصنات من المؤمنات ومن أهل الكتاب. ثمّ إنّ المراد من قوله: (مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ) : أي أعفّاء غير زانين، ولعلّ المراد أن يكونوا قاصدين النكاح والتزويج ويكون دفع الأجر بعنوان المهر، لا أُجرة السفاح.

قوله: (وَ لا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ) : أي اتّخاذهم صديقات يفجرون بهنّ.

ثمّ إنّه سبحانه يختم الآية بقوله: (وَ مَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ) أُريد بالإيمان:

الأحكام التي سبق ذكرها في هذه الآية وما قبلها. فالإيمان مصدر أُريد به معنى المفعول، أي ما يؤمن به كالخلق يطلق على المخلوق، والأكل بمعنى المأكول، ومَن كفر (فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ) فلا يستحقّ أجراً على أعماله الصالحة (وَ هُوَ فِي اَلْآخِرَةِ مِنَ اَلْخاسِرِينَ) : أي الهالكين.

حكم نكاح المسلم الكتابية

إنّ ظاهر الآية هو جواز نكاحها بالشروط الموجودة في الآية، وقد تقدّم أنّ المراد من الأجر في الآية هو المهر... غير أنّ لأصحابنا في نكاحهن أقوالاً: قال الشيخ الطوسي: المحصلون من أصحابنا يقولون: لا يحلّ نكاح من خالف الإسلام، لا اليهود ولا النصارى ولا غيرهم. وقال قوم من أصحاب الحديث من

ص: 451

أصحابنا: يجوز ذلك.(1)

وقال المحقّق: لا يجوز للمسلم نكاح غير الكتابية إجماعاً، وفي تحريم الكتابية من اليهود والنصارى روايتان أشهرهما المنع في النكاح الدائم والجواز في المؤجّل، وكذا حكم المجوس على أشبه الروايتين.(2) وعلى هذا ففي المسألة أقوال ثلاثة:

1. التحريم مطلقاً.

2. الجواز مطلقاً.

3. التفصيل بين الدائم والمؤقّت، فلا يجوز دواماً ويجوز مؤقّتاً.

وهناك قول رابع وهو خيرة صاحب الجواهر، قال: التحقيق: هو الجواز مطلقاً على كراهية متفاوتة في الشدّة والضعف بالنسبة إلى الدائم والمنقطع، وبالنسبة إلى مَنْ يستطيع نكاح المسلمة وغيره، وبالنسبة إلى مَنْ يكون عنده المسلمة وغيره، وبالنسبة إلى البُله منهن إلى غيرهنّ، مستدلّاً على الجواز بقوله سبحانه: (وَ اَلْمُحْصَناتُ مِنَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) وهي آية محكمة لا نسخ فيها، قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «إنّ سورة المائدة آخر القرآن نزولاً، فأحلّوا حلالها وحرّموا حرامها» ثم استدلّ بالروايات التي تدلّ على أنّ سورة المائدة آخر ما نزل على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ولم ينسخ منها شيء.(3)

إنّ ما اختاره المحقّق من التفصيل هو ما يمكن استنباطه من الآية، والقرائن0.

ص: 452


1- . الخلاف: 314/4، المسألة 84.
2- . شرائع الإسلام: 254/2.
3- . جواهر الكلام: 31/30.

الدالّة عليه عبارة عن الأُمور التالية:

1. التعبير عن المهر بالأجر، فإنّ الأجر وإن كان يطلق على المهر أيضاً، لكن انتخاب لفظ الأجر على المهر في الآية يصلح أن يكون قرينة على أنّ المراد هو النكاح المؤقّت.

2. أن يكون النكاح لغاية الإحصان أي العفّة لا السفاح كما يقول:

(مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ) ، فإنّ الانحراف قد يتطرّق إلى العقد المؤقّت لا إلى الدائم، ولذلك جوّز نكاحهن بما ذكر.

3. (وَ لا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ) فإنّ اتّخاذ الخدن أكثر احتمالاً في المؤقّت دون الدائم. فتكون خدنا لكن بصورة النكاح المؤقت، ولأجل ما ذُكر فالقول بالتفصيل أفضل. بقي الكلام فيما استدلّ به على حرمة نكاح نساء أهل الكتاب.

ما استدلّ به على حرمة نكاح الكتابيّة
اشارة

استدلّ على ذلك بما يلي:

1. النهي عن نكاح المشركات

إنّ الآيات الناهية عن نكاح المشركات ناسخة لآيتنا كقوله سبحانه: (وَ لا تَنْكِحُوا اَلْمُشْرِكاتِ حَتّى يُؤْمِنَّ وَ لَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَ لَوْ أَعْجَبَتْكُمْ) .(1)

يلاحظ عليه: أنّ الكتابية ليست مشركة حسب تعبير القرآن الكريم؛ لأنّه سبحانه يعدّهم في مقابل المشركين، كما في قوله تعالى: (إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ اَلَّذِينَ

ص: 453


1- . البقرة: 221.

هادُوا وَ اَلصّابِئِينَ وَ اَلنَّصارى وَ اَلْمَجُوسَ وَ اَلَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اَللّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ) (1) ، وعلى غرار هذه الآية ومفهومها آيات عديدة كقوله تعالى: (لَمْ يَكُنِ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ اَلْكِتابِ وَ اَلْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتّى تَأْتِيَهُمُ اَلْبَيِّنَةُ) (2).

2. النهي عن نكاح الكوافر

دلّ قوله سبحانه: (وَ لا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ اَلْكَوافِرِ) (3) على عدم إبقاء العلاقة بين المسلم والكافرة، فإنّ إطلاقها يشمل المشركة والذمّية.

يلاحظ عليه: الظاهر أنّ المراد من الكوافر هنّ المشركات؛ وذلك لأنّه لمّا نهى سبحانه عن إبقاء العلاقة بين المسلمة والكافر كان ثمّة رجال من قريش قد أسلموا فهاجروا إلى المدينة، بينما بقيت نساؤهم على الكفر في مكّة، فجاءت الآية لبيان تكليف هؤلاء الأزواج، فقال سبحانه: (وَ لا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ اَلْكَوافِرِ) :

أي لا تمسكوا بنكاح الكافرات المشركات.

ويشهد على ذلك أنّ الآية نزلت في كفّار قريش ونسائهم، ولم يكن يوم ذاك أي كافرة كتابية أسلم زوجها وبقيت هي على الكفر. ومَن قرأ سورة الممتحنة يذعن بذلك.

3. عموم التعليل في مورد نكاح المشركة

ذكر سبحانه وجه المنع عن نكاح المشركة وهو: (أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى

ص: 454


1- . الحج: 17.
2- . البيّنة: 1.
3- . الممتحنة: 11.

اَلنّارِ) (1) ، وهذا الوجه موجود في نكاح الكتابية أيضاً.

أقول: وهذا الوجه وجيه لولا أنّ قوله: (وَ اَلْمُحْصَناتُ مِنَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) أظهر في الجواز، فيكشف عن ضيق التعليل واختصاصه بالمشركة. هذا وبما أنّ المسألة فقهية لا يصحّ القضاء البات فيها، إلّابدراسة الروايات كلّها، فنحيل إتمام البحث إلى الكتب الفقهية.

***1.

ص: 455


1- . البقرة: 221.
في حرمة نكاح الزانية
الآية التاسعة
اشارة

قال سبحانه: (اَلزّانِي لا يَنْكِحُ إِلاّ زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَ اَلزّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلاّ زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَ حُرِّمَ ذلِكَ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ) .(1)

التفسير

الآية تشتمل على فقرات ثلاث:

الفقرة الأُولى: تحكي عن حال الزاني وأنّه لا ينكح إلّازانية أو مشركة.

الفقرة الثانية: تحكي عن حال الزانية وأنّه لا ينكحها إلّازانٍ أو مشرك.

الفقرة الثالثة: تحكم بحرمة ذلك على المؤمنين، أي حرمة نكاح الزانيات والمشركات على المؤمنين.

أمّا الفقرتان الأُوليان فربما يقال: إنّهما ليستا بصدد التشريع، بل مسوقتان للإخبار عن مرتكبي هذه الفاحشة، وأنّ من خبثت فطرته لا يميل إلّالمن يشابهه في الخباثة والتجانس في الفساد، والزاني لا يميل إلّاإلى الزانية ومَنْ هي أفسد منها وهي المشركة، وكذلك الزانية لا تميل إلّاإلى مثلها كالزاني أو مَن هو أفسد منه

ص: 456


1- . النور: 3.

كالمشرك.

وحصيلة هذا الوجه: أنّ الفقرة خرجت مخرج الذم، لا التحريم نظير ما جاء في قوله سبحانه: (اَلْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَ اَلْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ) (1).

يلاحظ عليه: أوّلاً: أنّه لو لم تكن الفقرة بصدد التشريع، يلزم القول بكراهة تزويج المسلم الزاني، المشركة، مع أنّ نكاح المشركة حرام قطعاً لما مرّ من قوله سبحانه: (وَ لا تَنْكِحُوا اَلْمُشْرِكاتِ حَتّى يُؤْمِنَّ) (2).

وثانياً: أنّ الفقرتين ليستا بصدد الإخبار لوضوح عدم صحّته؛ لأنّ الزاني ربما يعقد على المؤمنة العفيفة الطاهرة، كما أنّ الزانية ربما تتزوّج عفيفاً طاهراً، فيلزم التخلّف في الخطاب، إلّاأن يُحمل على الغالب.

وعلى هذا فالفقرتان بصدد التشريع والتحريم، وهو أنّه يحرم على الزاني، نكاحُ الزانية والمشركة، كما يحرم على الزانية تزويج نفسها بالزاني والمشرك، ولا يعدل عنه إلّابدليل.

وثالثاً: لو قلنا بأنّ الفقرة بصدد الذم، لا التحريم تكون النتيجة عدم الدلالة على التحريم، لا الدلالة على الخلاف.

الوجه الآخر: أنّ الفقرتين بصدد التحريم، أي لا يجوز للزاني نكاح الزانية والمشركة، كما لا يجوز على الزانية تزويج نفسها بالزاني أو المشرك.

فإن قلت: فإذا كانت الفقرتان بصدد التحريم والتشريع، فما معنى قوله1.

ص: 457


1- . النور: 26.
2- . البقرة: 221.

سبحانه: (وَ حُرِّمَ ذلِكَ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ) (1) لأنّ المفروض أنّ النكاحين حرام مطلقاً على المؤمنين وغيرهم، فما هو الوجه بتخصيص الحرمة على المؤمنين؟

قلت: إنّ وجه التخصيص هو وجود روح الامتثال في المؤمنين دون غيرهم، فالمسلم الزاني يحرم عليه نكاح الصنفين، كما أنّ المسلمة الزانية يحرم عليها تزويج نفسها بالصنفين، ولكن روح العصيان في الموردين سبّب تخصيص الحكم بالمؤمنين.

فخرجنا بالنتيجة التالية: أنّ نكاح الزانية والمشركة حرام يدلّ عليه صدر الآية وذيلها.

دليل المخالفين على الجواز

ثمّ إنّ المخالفين استدلّوا على القول بالجواز بتأويل الآية بأحد الوجهين التاليين:

1. أنّ النكاح في الآية ليس بمعنى العقد بل بمعنى الوطء، وأنّ اسم الإشارة في قوله: (وَ حُرِّمَ ذلِكَ) يشير إلى النكاح لكن المقصود منه الوطء المساوق في المقام مع الزنا، لا التزويج. ومعنى الآية: الزاني والمشرك يطأ الزانية والمشركة، ولكن وطؤهما حرام على المؤمن لكونه زناً.

وبعبارة أُخرى: المراد أنّ الزّاني لا يزني إلّابزانية أو بمثلها وهي المشركة، وإنّ الزانية لا تزني إلّابزانٍ أو بمثله وهو المشرك، وأمّا المؤمن فهو ممتنع عن ذلك؛ لأنّ الزنا محرّم وهو لا يرتكب ما حرّم عليه.(2)

ص: 458


1- . النور: 3.
2- . البيان في تفسير القرآن: 384.

يلاحظ عليه: أنّ النكاح لم يستعمل في القرآن إلّافي التزويج، فقد ورد اللفظ فيه حوالي 23 مرتبة بمشتقّاتها المختلفة. والمتبادر في الجميع هو العقد حتّى في قوله سبحانه: (وَ لا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ) (1) فحمل اللفظ (النكاح) الذي أُشير إليه بلفظ: (وَ حُرِّمَ ذلِكَ) في المورد على الوطء، بعيد جدّاً.

2. حمل «التحريم» في قوله تعالى: (وَ حُرِّمَ ذلِكَ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ) على الكراهة، وهو أبعد، مع عدم استعماله في الذكر الحكيم إلّافي الحرمة القطعية، وليس التصرّف في دلالة الذكر الحكيم مع كونه نصّاً في مفاده، أمراً سهلاً، فالقول بالحرمة أقوى وأحوط، إلّاإذا قدر على منعها عن العهر فيجوز، لانصراف الآية عن هذه الصورة، ولعلّ ما دلّ على الجواز محمول على هذه الصورة.

فعلى ما ذكرنا فمقتضى الآية أنّه لا يجوز للمؤمن العقد على الزانية ونكاحها، أمّا المشركة فقد مرّ تحريم نكاحها فيما سبق.

نعم القدر المتيقّن من التحريم في كلٍّ من جانب الزاني والزانية هو مَنْ لم يتب، فلأجل أنّ التائب من ذنبه كمن لا ذنب له، فلا مانع من الإفتاء بهذا وإن خالف فيه بعض الفقهاء.

هذا هو مفهوم الآية، غير أنّ الروايات في المقام مختلفة.

يقول صاحب الحدائق: والأخبار في هذا المقام كثيرة، إلّاأنّها مختلفة جدّاً على وجه يعسر انطباقها لا سيّما على القول المشهور، وأصحابنا (رضوان اللّه عليهم)، لم يستوفوها كملاً في الكتب الاستدلالية، ولم يجمعوا بينها على وجه0.

ص: 459


1- . الممتحنة: 10.

يحسم مادّة الإشكال في هذا المجال.

ثمّ قال: ولا يخفى على مَن راجعها أنّها قد خرجت على أقسام ثلاثة.(1)

أقول: إنّ وجه الجمع بين الروايات هو حمل الروايات المجوّزة على ما إذا قدر على منعها عن العهر، فيجوز لانصراف الآية عن هذه الصورة، وسواء أصحّ الجمعُ بين الروايات المختلفة بما ذكرناه أم لا، فصريح الآية، هو الحجّة الكبرى لا يعدل عنه إلّابدليل قطعي كاشف عن كونها منسوخة، ومن أراد التفصيل فليرجع إلى المصادر التالية:

1. الحدائق الناضرة.(2)

2. جواهر الكلام.(3)

3. نظام النكاح في الشريعة الإسلامية الغرّاء.(4)

***

إلى هنا تمّت دراسة مَن يحرم نكاحهن ومن يحلّ.

فإن قلت: إنّ نكاح الخامسة يحرم على مَن عنده زوجات أربعة.

قلت: المقصود من الموصول - أعني «من يحرم» - هو العنوان الخاص، كالبنت والأُخت، ونكاح الخامسة ليس من تلك العناوين وإنّما هو عنوان عام.

وبما ذكرنا يظهر حال بعض ما لم نذكره.

***2.

ص: 460


1- . الحدائق الناضرة: 491/23.
2- . الحدائق الناضرة: 491/23-501.
3- . جواهر الكلام: 439/29-444.
4- . نظام النكاح في الشريعة الإسلامية الغرّاء: 60/2-62.

أحكام النكاح

4. أحكام المهور في الذكر الحكيم

اشارة

إنّ المرأة الكريمة تنتقل من بيت والديها إلى بيت زوجها وليس معها إلّا جمالها وأخلاقها وروحها الشفّافة، مع ما يهبها أهلها من وسائل المنزل ونحو ذلك. ومقتضى الحال وجود مبادلة من جانب الزوج وهو تكريمها بتقديم المهر لها.

وعلى هذا فليس المهر ثمناً للمرأة، حتى يشتريها الزوج بذلك الثمن، ورغم أنّ بعض الروايات اشتملت على عبارة «يشتريها بأغلى الثمن» لكنّها تُعدّ نوعاً من أنواع المطايبة، ولذلك نرى البيان القرآني يصف المهر بالنحلة التي هي بمعنى العطية، فأمر اللّه سبحانه الأزواج أن يتبرّعوا بإعطاء المهور عطية منهم لزوجاتهم. وإليك دراسة الآيات في هذا الصدد:

الآية الأُولى
اشارة

قال سبحانه: (وَ آتُوا اَلنِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْ ءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً) .(1)

ص: 461


1- . النساء: 4.
المفردات

صدُقاتهنّ: قال ابن فارس: أصل يدلّ على قوّة في الشيء قولاً وغيره، ومن ذلك الصدق: خلاف الكذب، سُمّي لقوّته في نفسه؛ ولأنّ الكذب لا قوّة له، وهو باطل.(1) وسُمّي مهر المرأة صداقاً لقوّته وأنّه حقّ يلزم.

نحلة: أي عطية، وقد أمر اللّه سبحانه الأزواج أن يتبرّعوا بإعطاء المهور عطية منهم لزوجاتهم.

نفساً: تمييز لقوله: (طِبْنَ) أي طابت أنفسهن بهبة شيءٍ من الصداق لكم.

هنيئاً: نعمة بلا كدّ ولا تبعة.

مريئاً: سائغاً، كالطعام السائغ ينزل في المريء بسهولة ولا غُصّة.(2)

التفسير
وجوب إيتاء الصداق (المهور) إلى النساء

إنّ سورة النساء تتكفّل ببيان ما للنساء وما عليهن من الحقوق والواجبات، ومن آيات هذه السورة، الآية الرابعة، وهي تتضمّن الالتزام بأمرين:

1. ما جُعل في العقد مهراً للنساء يجب دفعه إليهنّ بتمامه، بلا نقص.

2. جواز أخذ شيء منه إذا طابت أنفسهنّ به.

واختتم سبحانه الآية بخطاب للأزواج، بقوله: (فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً) : أي إذا

ص: 462


1- . معجم مقاييس اللغة: 339/3، مادة «صدق».
2- . المفردات مادة «مري».

وهبن مهورهن لكم بطيب النفس.

أمّا الأمر الأوّل فالظاهر أنّ قوله سبحانه: (وَ آتُوا اَلنِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ) عطف على قوله في الآية قبلها: (وَ آتُوا اَلْيَتامى أَمْوالَهُمْ) والصلة بين الفقرتين واضحة لوجود صفة الاستضعاف فيهما. فالأقوياء في الجاهلية كانوا يأكلون أموال اليتامى كأنّها أموالهم، وكانوا أيضاً يبخسون حقوق الزوجات، وكأنّهم لم يتعهّدوا لهنّ بشيء، فجاء البيان القرآني برفع الاستضعاف عنهما بدفع أموالهم إليهم كاملة.

ثمّ إنّه سبحانه يصف مهورهن بوصفين:

أ. صَدُقة. ب. نحلة.

ولعلّ وجه الأوّل ما نقلناه من المقاييس من أنّ الصدقة من الصدق بمعنى الحقّ، فكأنّها حقّ لهنّ بلا منازع.

وأمّا وجه الثاني فيحتمل أن تكون نحلة بمعنى أنّه عطية من اللّه عزّ وجلّ أو من الأزواج لهنّ، وليس لهم منعهنّ عنها.

ثمّ إنّ الخطاب في قوله: (وَ آتُوا اَلنِّساءَ) يحتمل وجهين:

أ. أن يكون الخطاب لأولياء النساء، ويؤيّده ما روي عن أبي صالح قال: كان الرجل إذا زوّج أيمته أخذ صداقها دونها فنهاهم اللّه عن ذلك ونزلت: (وَ آتُوا اَلنِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً) .(1)

وعلى هذا فأولياء المرأة كانوا يأخذون مهور النساء ولا يدفعونه إليهنّ أبداً، والأزواج كانوا يدفعون المهور إليهم كثمن الشاة، الذي يدفع إلى مالكها، وكان2.

ص: 463


1- . تفسير الدر المنثور: 431/2.

الزوج يقوم بذلك لكي يستخلصها من يد وليها.

ب. أن يكون الخطاب للأزواج لا للأولياء بقرينة قوله سبحانه: (وَ إِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تُقْسِطُوا فِي اَلْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ) فهو خطاب للأزواج، وتصلح لأن تكون قرينة على أنّ الخطاب في آيتنا أيضاً لهم، وتشهد على ذلك أيضاً الفقرة التالية للآية، أعني قوله: (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْ ءٍ مِنْهُ) فإنّ الخطاب في قوله:

(لَكُمْ) موجّه للأزواج.

وأمّا الأمر الثاني: فيشير إليه بقوله: (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْ ءٍ مِنْهُ نَفْساً) وهو أنّه ربما تحسّ الزوجة محبّة شديدة من زوجها لها، فترغب في أن تهب شيئاً من مهرها له بطيب من نفسها، فهذا هو المستثنى من الفقرة الأُولى، يقول سبحانه:

(فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْ ءٍ مِنْهُ نَفْساً) فقوله: (مِنْهُ) يمكن أن يكون للتبيين، كما يمكن أن يكون للتبعيض. والثاني هو الظاهر؛ لأنّ «من» لغاية التبيين لا تدخل على الضمير، فلو قامت بذلك فيقول سبحانه خطاباً للموهوب له: (فَكُلُوهُ) أكلاً (هَنِيئاً) : أي سائغاً (مَرِيئاً) لا غصص فيه.

وعلى كلّ حال فلا يحلّ للزوج أن يأكل من مال الزوجة إلّاإذا أحرز أنّها راضية بذلك، ولا يكفي إذا أظهرت الرضا خوفاً أو مجاملة.

الآية الثانية
اشارة

قال سبحانه: (يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا اَلنِّساءَ كَرْهاً وَ لا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَ عاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً

ص: 464

وَ يَجْعَلَ اَللّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً) .(1)

المفردات

تعضلوهن: تضيّقون عليهن، حتى ينتهي الأمر إلى رضاهنّ ببذل ما أعطيتم لهنّ.

بفاحشة: فسّرت تارة بالزنا، وأُخرى بالنشوز، وثالثة بكلّ معصية. والوجه الأخير غير واضح فإنّ الكذب من الفواحش لكنّه لا يبرر للزوج أن يضيّق على الزوجة ليأخذ بعض مهرها، بل المراد الذنوب التي تجلب الهون على الأُسرة وتبرّر للزوج لأن يُضيّق عليها.

مبيّنة: أي قطعية، في مقابل الظنّة والشبهة.

التفسير
المحاور الخمسة في الآية

الآية تتضمّن بيان أحكام تُشكِّل أركان النظام الأُسري في المجتمع الإسلامي، ويمكن تلخيص هذه الأحكام بما يلي:

1. الآية تخاطب المؤمنين بأنّه لا يحل لهم إرث النساء كَرْهاً، وسيأتي تفسيره.

2. الآية تخاطب المؤمنين بالنهي عن التضييق لغاية الاستيلاء على بعض ما آتوهنّ من المهر والنفقة.

ص: 465


1- . النساء: 19.

3. تستثني صورة خاصّة من النهي إذا أتت المرأة بفاحشة مبيّنة. فيجوز للزوج العضل و التضييق حتى تتنازل عن صداقها أو بعضه.

4. الآية تأمر الزوج بمعاشرة زوجته بالمعروف حسب قدرته ومكنته، وحسب ما لها من الشأن والمكانة.

5. الآية في نهايتها تخاطب المؤمنين ألّا يعجّلوا بمفارقتهنّ (فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَ يَجْعَلَ اَللّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً) .

هذه هي المحاور الخمسة التي تشتمل عليها الآية، فلنفسّرها تباعاً:

أمّا المحور الأوّل فيشير إليه بقوله عزّ وجلّ: (يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا) باللّه ورسوله ودانوا باتّباع شريعة اللّه. والأحكام الواردة في الآية وإن كانت لا تخصّ المؤمنين لكن لمّا كان العاملون بها هم المؤمنون خصّهم بالخطاب وقال: (لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا اَلنِّساءَ كَرْهاً) تنهى الآية عن وراثة النساء وفيه احتمالات:

1. ليس للوارث إذا مات الزوج أن يتملّك زوجة المتوفّى، وتصير مالاً موروثاً كما يورث الإماء والعبيد.

2. إرث نكاح الزوجة بأن يكون زمام أمرها بعد موت المورِّث بيد الوارث فتكون الآية ردّاً على سنّة جاهلية من أنّ الرجل إذا مات وترك امرأته قال قريب الرجل - لا ابنه -: ورثتُ امرأته كما ورثتُ ماله، فإن شاء تزوّجها بالصداق الأوّل ولا يعطيها شيئاً، وإن شاء زوّجها وأخذ صداقها إذا كان الوارث ابنها.

ويؤيّده ما رواه القمّي إنّه كان في الجاهلية في أوّل ما أسلموا من قبائل

ص: 466

العرب إذا مات حميم(1) الرجل وله امرأة ألقى الرجل ثوبه عليها، فورث نكاحها بصداق حميمه الذي كان أصدقها، أو يرث نكاحها (صداقها) كما يرث ماله.(2)

3. أنّ الرجل يحبس المرأة عنده ولا حاجة له بها، وينتظر موتها حتى يرثها، حكاه الطبرسي في «مجمع البيان» عن أبي جعفر عليه السلام.(3) وهذا هو الظاهر من السيد الطباطبائي يقول: الظاهر أنّ الآية في مقام الردع عن هذا الإرث على كره.(4)

أمّا الوجه الأوّل فبعيد جدّاً، إذ لم يُعهد في الجاهلية إرث ذات المرأة نظير إرث الأموال.

وأمّا الوجه الثاني فهو الأقرب، والفعل «ترثوا» وإن نسب إلى إرث النساء أنفسهنّ، لكن يُراد به الأثر المناسب من تعلّق النهي بها، وليس هو إلّانكاحهنّ، نظير قوله سبحانه: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ) ، وسيأتي كلام السيد الطباطبائي في نقد هذا الوجه.

وأمّا الوجه الثالث فلا دليل عليه مضافاً إلى أنّ الزوج من أين علم أنّ الزوجة تموت قبله. والرواية في «مجمع البيان» مرسلة لا يحتجّ بها.

وعلى كلّ تقدير فلو أُريد جميع الاحتمالات فالمجموع حرام تكليفاً كما هو حرام وضعاً، حيث إنّ الوارث لا يملك ما يصل إليه من المال عن هذا الطريق.

بقي الكلام في قوله: (كَرْهاً) والكره - بالفتح أو بالضم -: الكراهية، والظاهر4.

ص: 467


1- . الحميم: القريب الذي يهتمّ بأمره.
2- . البرهان في تفسير القرآن: 59/3.
3- . مجمع البيان: 52/3.
4- . الميزان في تفسير القرآن: 254/4.

أنّه ليس قيداً للتحريم حتى يكون ذا مفهوم، بل هو بيان للواقع الذي كانوا عليه فإنّهم كانوا يرثونهنّ بغير رضاهنّ، وكأنّ القيد توضيحي.

ثمّ إنّ السيد الطباطبائي أورد على الوجه المختار (الثاني) بقوله: إنّ قوله سبحانه في ذيل الجملة (كَرْهاً) لا يلائم ذلك (الوجه) سواء أخذ قيداً توضيحياً أو احترازياً. فإنّه لو كان قيداً توضيحياً أفاد أنّ هذه الوراثة تقع دائماً على كره من النساء وليس كذلك، وهو ظاهر، ولو كان قيداً احترازياً أفاد أنّ النهي إنّما هو إذا كانت الوراثة على كره من النساء دون ما إذا كانت على رضا منهنّ، وليس كذلك.(1)

يلاحظ عليه: بما ذكرنا من أنّ القيد لبيان الواقع وأنّ إرث نكاح الزوجة وكون نكاحها بيد الوارث إن شاء تزوّجها بلا صداق أو زوّجها لغيره مع الاستيلاء على صداقها، يكون حسب الطبع أمراً مكروهاً للمرأة، ولا ينافي خروج الموارد الشاذّة من رضاها بهذا.

إلى هنا تمّ الكلام في المحور الأوّل.

وأمّا المحور الثاني: فيشير إليه بقوله: (وَ لا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ) فالفقرة ناظرة إلى سنّة بين بعض الرجال من أنّه إذا لم يكن للرجل رغبة في المرأة، ويريد فك عقدة النكاح الملازم لدفع المهر فيضيّق عليها في المعيشة حتى تصبح المرأة مستعدة لأن تتنازل عن مهرها لكي تتخلّص من ضيق العيشة، فالتضييق بهذا القصد حرام على الزوج، تكليفاً ووضعاً، بمعنى أنّه إذا رضيتْ ببذل شيء من الصداق فالزوج لا يحقّ له أن يتملّكه.4.

ص: 468


1- . الميزان في تفسير القرآن: 254/4.

وأمّا المحور الثالث: فالآية تستثني صورة خاصّة من حرمة العضل والتضييق، وهي أن تأتي المرأة بفاحشة يُعد المقام عليها إهانة للأُسرة، فيجوز للزوج العضل والمنع ليفارقها بالبذل. غير أنّه لا يحلّ له العضل إلّاإذا كانت الفاحشة مبيّنة ثابتة، ولا يعتد بالظنّة والشبهة.

فإن قيل: كيف يجوز للزوج العضل والتضييق عند ارتكاب المرأة فاحشة مبيّنة حتى يخلّيها بأخذ بعض صداقها، أو ليس هذا تعدّياً على حقوقها؟

قلنا: إنّ هذا الحكم يُعد وقاية للمرأة حتى تجتنب عن ارتكاب الفاحشة لعلمها بأنّ للزوج الحقّ في أن يضيّق عليها ويخلّيها ببذل صداقها، فالحكم الشرعي يُعد مانعاً عن توغّل المرأة في مستنقع المعاصي والآثام. نعم ليس للرجل التضييق بمطلق الفاحشة كالغيبة والكذب بل بارتكاب الأُمور التي تبرر عند العقلاء أن يطلّقها ويخليها بالنحو المذكور.

وربما يتصوّر وجود المنافاة بين آيتنا هذه وما في سورة البقرة حيث جاء فيها قوله: (وَ لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاّ أَنْ يَخافا أَلاّ يُقِيما حُدُودَ اَللّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ يُقِيما حُدُودَ اَللّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا اِفْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اَللّهِ فَلا تَعْتَدُوها) (1).

فإنّ الآية الثانية تجيز للرجل التضييق وإن لم تأت الزوجة بفاحشة مبيّنة.

والجواب أنّ النسبة بينهما نسبة المطلق والمقيّد فتقيّد الآية الثانية بالآية الأُولى ويختص التقييد بصورة الإتيان بالفاحشة المبيّنة، ولعلّ في قوله فيها (إِلاّ أَنْ يَخافا أَلاّ يُقِيما حُدُودَ اَللّهِ) إشارة إلى هذا القيد، فتكون الآيتان متوافقتي المضمون،9.

ص: 469


1- . البقرة: 229.

واللّه العالم.

وأمّا المحور الرابع: فيشير إليه بقوله تعالى: (وَ عاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) :

أي يجب على المؤمنين أن يحسنوا معاشرتهم مع النساء كما هو المعروف عند العقلاء.

وأمّا المحور الخامس: فأشير إليه بقوله: (فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَ يَجْعَلَ اَللّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً) والآية تثير عطف الزوج وحنانه على الزوجة التي لا رغبة له فيها، لسوء في الخُلق أو في الخَلق، فيريد طلاقها، وعندئذٍ تذكّره الآية وترشده إلى الإمساك عن الطلاق عسى أن يكون في الإمساك خيرٌ كثير غافلاً عنه الزوج. إذ قد يكره الرجل من زوجته بعض صفاتها، ولا يصبر عليها، فيطلقها ويتزوّج بأُخرى، فإذا هي أسوأ حالاً، وأقبح أعمالاً، فيندم حيث لا ينفع الندم...

قال صاحب الأغاني: طلّق الفرزدق النوال، ثم ندم، وتزوّج بعدها امرأة مطلقة، وكان يَسْمعها تئنّ وتحنّ إلى زوجها الأوّل، وتعدّد، وتردّد، فأنشأ يقول:

على زوجها الماضي تنوح وإنّني *** على زوجتي الأُخرى كذاك أنوح(1)

أقول: وأطلق القرآن الكريم ولم يخصّ الخير الكثير بمورد دون مورد ليذهب ذهن السامع إلى كلّ خير متصوّر. وربما تنجب المرأة التي لا رغبة للزوج فيها أولاداً صالحين يكونوا له عاقبة حسنة من الباقيات الصالحات.2.

ص: 470


1- . التفسير الكاشف: 281/2.
الآيتان: الثالثة والرابعة
اشارة

قال سبحانه: (وَ إِنْ أَرَدْتُمُ اِسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَ آتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَ تَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَ إِثْماً مُبِيناً * وَ كَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَ قَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَ أَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً) .(1)

المفردات

استبدال: إقامة امرأة مقام امرأة أُخرى.

قنطاراً: هو المال الكثير. يقال: قنطر في الأمر يقنطر إذا عظّمه بتكثير الكلام فيه من غير حاجة إليه، ويطلق على الجسر الكبير القنطرة لعُظْمِها.

بهتاناً: من البهت بمعنى التحيّر، فلو أطلق على الكذب فلأنّه يحيّر المكذوب عليه.

أفضى: الإفضاء إلى الشيء هو الوصول إليه، وهو كناية عن العمل الجنسي القائم بالطرفين، وهذا التعبير العاطفي يثير عطف الزوج إلى رعاية العدل.

ميثاقاً غليظاً: قيل: كان ذلك يؤخذ عند عقدة النكاح، فيقال: اللّه عليك لتمسكنّ بمعروف أو تسرحنّ بإحسان، ويحتمل أن يكون مشيراً إلى قوله سبحانه: (فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) (2).

ص: 471


1- . النساء: 20 و 21.
2- . البقرة: 229.
التفسير

الآية الأُولى تحكي عن وجود سُنّة جاهلية وهي: أنّ الزوج عندما يرغب عن زوجته مريداً الزواج بامرأة أُخرى، كان يضيّق الأمر على الأُولى ليأخذ منها شيئاً ممّا آتاها من المهر حتى يجعله مهراً للزوجة الثانية، فالآية تنهى عن تلك السنّة الجاهلية. بقوله: (وَ إِنْ أَرَدْتُمُ اِسْتِبْدالَ زَوْجٍ) .

ثمّ إنّ الأخذ محرّم مطلقاً، سواء استبدل زوجاً مكان زوج أم لم يستبدل، وأمّا وجه ذكر الاستبدال بالخصوص إنّما هو لوجود تلك السنّة بينهم، ويمكن أن يكون الوجه هو توهّم أنّ له أخذ المهر من الأُولى ليدفعه إلى الثانية لأنّها تقوم مقامها، فيكون لها كلّ ما كان لتلك لأنّ الدفع إلى الاثنين يُثقل كاهله، فأزال اللّه سبحانه هذا الوهم بالنصّ على الاستبدال بالذات.(1)

ثمّ إنّه سبحانه يعلّل حرمة هذا العمل بأمرين تاليين:

1. (أَ تَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً) .

2. (وَ إِثْماً مُبِيناً) . الظاهر أنّ كلّ واحد من قوله سبحانه: (بُهْتاناً) و (إِثْماً) حال من الضمير المتّصل في قوله: (أَ تَأْخُذُونَهُ) : أي أتأخذونه باهتين وآثمين إثماً مبيناً، وقد مرّ أنّ البهتان من البهت بمعنى التحيّر، وإطلاقه على الكذب لأنّه يُسبّب حيرة المكذوب عليه وبهته، وأمّا المقام فإن أخذ ما آتاه الزوج إلى زوجته التي عاشت معه فترة بعطف وحنان يسبّب بهت الزوجة وحيرتها، إذ كيف يُقدم الزوج على هذا العمل

ص: 472


1- . التفسير الكاشف: 282/2.

مع أنّها ملكته بالعقد الشرعي. فالقائم بهذا العمل البعيد عن العاطفة باهت وآثم إثماً مبيناً، وكيف لا يكون كذلك فهي خدمتْ الرجلَ بما لها من القوّة والقدرة فعندما يخرجها من بيته ويُخلّيها كان المتوقع أن يقدّر عملها وحياتها ويكافأها، ولكن يا للأسف فإنّه يُحْرِمُها من حقّها المقرّر لها.

وهنا احتمال آخر وهو أن يراد من قوله: (بُهْتاناً) هو المعنى المعروف له أي الكذب، وذلك إنّه كان من دأبهم أنّهم إذا أرادوا تطليق الزوجة رموها بفاحشة حتى تخاف وتشتري نفسها منه بذلك المهر، فيكون المراد أنّكم تأخذون ما آتيتموهنّ مباهتين وكاذبين.(1)

قداسة عقد الزواج وأنّه ليس من مقولة البيع

ثمّ إنّه سبحانه بعد ما شدّد الأمر على هذا النوع من العمل الذي وصفه بالبهتان والإثم عاد إلى إثارة عطف الزوج على زوجته حتى يصدّه بذلك عن هذا العمل القبيح، وذلك بوجهين:

1. (وَ كَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَ قَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ) : أي وصل بعضكم إلى بعض، يقال: أفضى فلان إلى فلان أي وصل إليه، وهذا التعبير أي وصول كلّ إلى الآخر إشارة إلى أنّ كلّاً من الزوجين بعد العقد، صار جزءاً متمماً لوجود الآخر، بعد ما كانا منفصلين فصارا متّصلين كشيء واحد، وهذا الأمر أي وجود الوحدة بينهما يقتضي الفضل والعطف والمفارقة عن رأفة ورحمة، وعلى الزوج إذا أراد المفارقة بعد المعاشرة فترة أن لا ينسى الفضل وحكم الأخلاق، كما إذا أراد الزوج الطلاق قبل المس، فإنّ الواجب نصف المهر ولكن عليه أن لا ينسى الفضل

ص: 473


1- . تفسير الرازي: 14/10.

والعطف، قال: (وَ إِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَ قَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ إِلاّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا اَلَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ اَلنِّكاحِ وَ أَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَ لا تَنْسَوُا اَلْفَضْلَ بَيْنَكُمْ) (1)، فإذا كانت هذه هي الضابطة فعلى الزوج عدم نسيان الفضل مطلقاً سواء أطلّق قبل الدخول أم بعده.

2. (وَ أَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً) وهذه الفقرة تدلّ على أنّ الزوجة تأخذ ميثاقاً غليظاً عند العقد، فالتعبير عن عقد النكاح بالميثاق يدلّ على قداسة عقد الزواج وأنّه ليس نظير البيع الذي هو مبادلة مال بمال، أو نظير الإجارة من تسليط المستأجر على العين، بل هو نوع ميثاق بين الطرفين بأن يعيش الزوج مع الزوجة معيشة رحمة ومودّة.

ومن المعلوم أنّ عضل المرأة على بذل ما أخذت يُعد نقضاً للميثاق والعهد (وَ أَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ اَلْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً) (2) كما أنّه سبحانه وصف الميثاق بقوله:

(غَلِيظاً) ليدلّ على سموّ ومكانة هذا الميثاق. والغليظ صفة مشبهة من - غلظ - بضم اللام إذا صلب، والغلظة في الحقيقة صلابة الذوات ثم استعيرت إلى صعوبة المعاني وشدّتها في أنواعها.(3)

نقل عن الشيخ محمود شلتوت في تفسيره: إذا تنبّهنا إلى أنّ كلمة ميثاق لم ترد في القرآن الكريم إلّاتعبيراً عمّا بين اللّه وعباده من موجبات التوحيد(4)،).

ص: 474


1- . البقرة: 237.
2- . الإسراء: 34.
3- . التحرير والتنوير: 74/4.
4- . يشير إلى قوله سبحانه: (أَ لَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا اَلشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) (يس: 60).

والتزام الأحكام،(1) وأمّا بين الدولة والدولة من الشؤون العامة الخطيرة،(2) علمنا مقدار المكانة التي سما القرآن بعقد الزواج إليها، وإذا تنبّهنا مرّة أُخرى إلى أنّ وصف الميثاق بالغليظ لم يرد في موضع من مواضعه إلّافي عقد الزواج(3)تضاعف لدينا سمو هذه المكانة التي رفع القرآن إليها هذه الرابطة السامية عن كلّ ما أُطلق عليه كلمة ميثاق.(4)

لا حدّ للمهر في الإسلام

يستحب أن لا يتجاوز المهر مهر السنّة، وهو خمسمائة [أربعمائة] درهم، وعلى ذلك زوّج رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وتزوّج نساءه، وهذه هي السنّة، ومع ذلك فالمشهور أنّه ليس للمهر حدّ أخذاً بقوله سبحانه: (وَ آتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً) (5)، وستوافيك دلالة الآية على جواز جعل المهر أكثر فأكثر.

روى السيوطي قال: وأخرج سعيد بن منصور وأبو يعلى بسند جيّد عن مسروق قال: ركب عمر بن الخطاب المنبر ثم قال: أيّها الناس ما إكثاركم في صداق

ص: 475


1- . إشارة إلى قوله: (اَلَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اَللّهِ وَ لا يَنْقُضُونَ اَلْمِيثاقَ) (الرعد: 20).
2- . نظير قوله سبحانه: (وَ إِنِ اِسْتَنْصَرُوكُمْ فِي اَلدِّينِ فَعَلَيْكُمُ اَلنَّصْرُ إِلاّ عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ مِيثاقٌ وَ اَللّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (الأنفال: 72).
3- . يلاحظ عليه: أنّه ورد وصف الميثاق بالغليظ في موضعين آخرين، قوله تعالى: «وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا» (الأحزاب: 7)، وقوله سبحانه في أُمّة من بني إسرائيل الذين كانوا يصطادون الأسماك يوم السبت، قال تعالى: «وَقُلْنَا لَهُمْ لَاتَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا» (النساء: 154). نعم كان الشيخ شلتوت من رجال التقريب، صادق النية والعمل. حباه ربّه من أهنأ النزل.
4- . لاحظ: التفسير الكاشف: 283/2. نقلاً عن تفسير الشيخ شلتوت.
5- . النساء: 20.

النساء، وقد كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وأصحابه والصدقات فيما بينهم أربعمائة درهم فما دون ذلك، ولو كان الإكثار في ذلك تقوى عند اللّه أو مكرمة لم تسبقوهم إليها، فلا أعرفنّ مازاد رجل في صداق امرأة على أربعمائة درهم. ثم نزل، فاعترضته امرأة من قريش فقالت له: يا أمير المؤمنين نهيت الناس أن يزيدوا النساء في صدقاتهنّ على أربعمائة درهم؟ قال: نعم. فقالت: أما سمعت ما أنزل اللّه يقول:

(وَ آتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً) فقال:... اللّهم غفراً...! كلّ الناس أفقه من عمر. ثم رجع فركب المنبر فقال: يا أيّها الناس إنّي كنت نهيتكم أن تزيدوا النساء في صدقاتهنّ على أربعمائة درهم، فمَن شاء أن يعطي من ماله ما أحب.(1)

الآية الخامسة
اشارة

قال سبحانه: (لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ اَلنِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَ مَتِّعُوهُنَّ عَلَى اَلْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَ عَلَى اَلْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى اَلْمُحْسِنِينَ) .(2)

المفردات

جناح: الجناح من جنحت السفينة: إذا مالت إلى أحد جانبيها، وسمّي الإثم المائل بالإنسان عن الحقّ، جُناحاً، ثمّ سُمّي كلّ إثم جُناحاً.

تمسّوهن: المسّ كناية عن الدخول.

ص: 476


1- . تفسير الدر المنثور: 466/2.
2- . البقرة: 236.

الموسع: الوسع: الجِدة والطاقة، يقال: ينفق على قدر وسعه.

المقتر: القتر: تقليل النفقة.

التفسير

تختلف أحكام المهور مع اختلاف المطلّقات، ونشير إلى أقسامها:

1. مطلّقة قد فرض لها المهر وهي مدخول بها، فلها صداقها المقرر في العقد، وإليه يُشير قوله سبحانه: (وَ لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً) (1)، فلا يجب على الزوج غير ما فرض عليه عند العقد.

2. مطلّقة غير مدخول بها ولا مفروض لها المهر، وهذا هو الموضوع في آيتنا هذه، والتي سنشرحها عن قريب.

3. مطلّقة مفروض لها المهر غير مدخول بها، فسيأتي حكمها في قوله سبحانه: (وَ إِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَ قَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ) (2).

4. مطلّقة مدخول بها، غير مفروض لها المهر عكس الصورة الثالثة، لجواز العقد بلا فرض المهر بشرط العزم على الاتّفاق عليه فيما بعد، ففيه مهر المثل.

روى الشيخ الطوسي بإسناده عن منصور بن حازم قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام في رجل يتزوّج امرأة ولم يفرض لها صداقاً. قال: «لا شيء لها من الصداق

ص: 477


1- . البقرة: 229.
2- . البقرة: 237.

فإن كان دخل بها فلها مهر نسائها».(1) وفي رواية الحلبي: «لها مثل مهور نسائها ويمتعها».(2)

إذا تبيّن ذلك فقد أشرنا إلى أنّ آيتنا هذه ناظرة لمَن لم يدخل بها ولم يفرض لها فرض، فسيأتي أنّ الواجب على الزوج تمتيع الزوجة متاعاً لائقاً بشأنها، إلّاأنّ الكلام في تفسير الآية خصوصاً قوله: (أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً) ففي تفسير الفقرة وجهان: الأوّل: أنّ لفظة (أَوْ) بمعنى الواو، وتقدير الآية: إن طلقتم النساء، ما لم تمسّوهن ولم تفرضوا لهنّ فريضة، وهذا هو الذي أشرنا إليه، ففي هذه الصورة يجب على الزوج تمتيع الزوجة حسب وسعه، كما سيأتي. واستعمال (أَوْ) بمعنى الواو غير بعيد كما في قوله سبحانه: (وَ أَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ) (3).

وهذا الوجه غير مرضي عند الرازي ووصفه بكونه تكلّفاً بل خطأ قطعاً.(4)

الوجه الثاني: أنّ لفظة (أَوْ) بمعنى: إلّا، والمعنى: لا جناح عليكم إن طلّقتم النساء، ما لم تمسّوهنّ فلا مهر لها وإنّما تستحقّ عليه المتعة (أَوْ) : أي إلّا أن (تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً) وعندئذٍ يجب عليه نصف ما هو المفروض، وسيأتي حكم الموضوع في الآية السادسة، وعلى هذا الفرض تكون الفقرة متعرّضة لحكم موضوع آخر، بخلاف ما إذا قلنا بالوجه الأوّل. وعلى هذا فالفقرة بمنزلة قول6.

ص: 478


1- . الوسائل: 14، الباب 12 من أبواب المهور، الحديث 2.
2- . الوسائل: 14، الباب 12 من أبواب المهور، الحديث 1. قوله: «لا شيء لها من الصداق» في الرواية السابقة لا ينافي ما يأتي من التمتع في هذه الرواية فلاحظ.
3- . الصافات: 147.
4- . تفسير الرازي: 138/6.

القائل: لألزمنّك أو تقضيني، أي إلّاأن تقضيني حقّي.

والنتيجة على كلا التفسيرين واحدة، فالواجب على الزوج فيما إذا لم يفرض لها فريضة ولم يدخل بها، هو ما يذكره قوله سبحانه: (وَ مَتِّعُوهُنَّ) : أي اعطوهن من مالكم مايتمتعنّ به (عَلَى اَلْمُوسِعِ قَدَرُهُ) : أي على الغني الذي هو في سعة لغناه، على قدر حاله (وَ عَلَى اَلْمُقْتِرِ) : أي الفقير الذي هو في ضيق (قَدَرُهُ) أي بقدر إمكانه.

روى الصدوق أنّ الغني يمتع بدار أو خادم، والوسط بثوب، والفقير بدرهم أو خاتم.(1)

وما ذكر في هذه الرواية وغيرها على سبيل المثال، ولذلك يختلف حسب اختلاف البيئات والظروف.

قوله سبحانه: (مَتاعاً) منصوب بفعل محذوف، أي متّعوهنّ متاعاً (بِالْمَعْرُوفِ) صفة للمتاع (حَقًّا عَلَى اَلْمُحْسِنِينَ) أي: حقّ الحكم حقّاً على المحسنين.

وأمّا إذا فرض لهنّ فريضة فالواجب ما هو المفروض.

بقي هنا أمر:

هل التمتيع واجب أو مندوب؟

هل التمتيع واجب أو مندوب مؤكّد؟ فيه خلاف، والظاهر هو الوجوب، فإنّ لسان الآية كونه (حَقًّا عَلَى اَلْمُحْسِنِينَ) للمطلّقات، هو الطلب المؤكّد، واستظهر

ص: 479


1- . من لا يحضره الفقيه: 327/3، برقم 1582.

السيد الطباطبائي الوجوب عن طريق آخر، قال: ولعلّ الوجه فيه ما مرّ من قوله تعالى: (اَلطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) الآية، فأوجب الإحسان على المسرِّحين وهم المطلِّقون فهم المحسنون، وقد حق الحكم في هذه الآية على المحسنين وهم المطلِّقون، واللّه أعلم.(1)

وأمّا القائل بالندب فيستدلّ بأنّ قوله سبحانه: (حَقًّا عَلَى اَلْمُحْسِنِينَ) دليل الندب ولو كانت واجبة لجعلها حقّاً على جميع الناس، ومفهوم جعلها حقّاً على المحسنين، أنّها ليست حقّاً على جميع الناس.(2)

ويمكن تقريب الوجوب بوجوه:

1. أن يكون المراد من المحسن مَن يُحسن لنفسه بالإطاعة والامتثال، وتعليق الحكم على المحسن بهذا المعنى خالٍ عن المفهوم. ولذلك يفسّره الطبرسي في «المجمع» بقوله: أي واجباً على الذين يحسنون الطاعة ويجتنبون المعصية.

2. أنّه إنّما خصّ المحسنين بذلك تشريفاً لهم، لا أنّه لا يجب على غيرهم، ودلّ ذلك على وجوب الإحسان على جميعهم، فإنّ على كلّ إنسان أن يكون محسناً.(3)

واستقرب صاحب المنار الوجوب بوجهين:

3. أنّ آية الأحزاب - التي سيأتي ذكرها - آمرة بالتمتيع أمراً لم يذكر معه لفظ2.

ص: 480


1- . الميزان في تفسير القرآن: 249/2.
2- . التحرير والتنوير: 440/2، نقلاً عن القائلين بالندب.
3- . مجمع البيان: 159/2.

المحسنين.

4. إنّ اللّه تعالى ذكر الإحسان والمحسنين في مقام الأعمال الواجبة، كقوله:

(لَيْسَ عَلَى اَلضُّعَفاءِ وَ لا عَلَى اَلْمَرْضى وَ لا عَلَى اَلَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلّهِ وَ رَسُولِهِ ما عَلَى اَلْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ) (1) .

وفي آية أُخرى، قال تعالى: (ما كانَ لِأَهْلِ اَلْمَدِينَةِ وَ مَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ اَلْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اَللّهِ وَ لا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَ لا نَصَبٌ وَ لا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اَللّهِ وَ لا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ اَلْكُفّارَ وَ لا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اَللّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ اَلْمُحْسِنِينَ) (2)، وأوضح من الآيتين - في أنّ المحسن هو المطيع - قوله سبحانه: (أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى اَلْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ اَلْمُحْسِنِينَ) (3).

5. أنّ مناسبة الحكم والموضوع تقتضي وجوب التمتيع، وذلك أنّ الزوج إذا عقد على المرأة فطبيعة الأمر تقتضي أنّه يعاشرها ويتمتع بها من غير دخول، فتجويز طلاق مثل هذه بغير التمتيع، نوع تحقير وإهانة لها.

***

إنّ الموضوع للتمتيع - في آيتنا هذه - غير المفروضة والممسوسة، وعليها يُحمل بعض المطلّقات كالآيتين التاليتين:2.

ص: 481


1- . التوبة: 91.
2- . التوبة: 120.
3- . الزمر: 58. لاحظ: تفسير المنار: 431/2.

الأُولى: (وَ لِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى اَلْمُتَّقِينَ) فمقتضى الجمع بين الآيتين حمل المطلّقات على ما ورد في آيتنا، أي إذا لم يفرض لها فرض ولم يدخل بها.

الثانية: قوله سبحانه: (يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ اَلْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها فَمَتِّعُوهُنَّ وَ سَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلاً) .(1) فالآية ناظرة إلى حكم الاعتداد دون المهر، لكن مقتضى الذيل، أعني: (فَمَتِّعُوهُنَّ) و (وَ سَرِّحُوهُنَّ) ، قرينة على أنّ المراد هو من لم يفرض لها المهر أيضاً، وإلّا فالواجب هو المهر.

الآية السادسة
اشارة

قال سبحانه: (وَ إِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَ قَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ إِلاّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا اَلَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ اَلنِّكاحِ وَ أَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَ لا تَنْسَوُا اَلْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اَللّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) .(2)

المفردات

تمسّوهنّ: المسّ: كناية عن الدخول.

ص: 482


1- . الأحزاب: 49.
2- . البقرة: 237.
التفسير
المطلّقة غير المدخول بها المفروض لها المهر

موضوع الحكم في الآية السابقة هي المطلّقة غير المفروض لها المهر ولا المدخول بها، وقد مرّ أنّ الحكم هو التمتيع، وأمّا الموضوع في آيتنا هذه هي المفروض لها المهر لكن غير المدخول بها، فقد صار هذا موضوعاً لحكمين:

1. أنّ اللازم على الزوج دفع نصف المهر، دون الجميع، ولذلك قال الفقهاء: الزوجة تملك المهر كلّه، لكن النصف الآخر مشروط بالدخول، وإلّا فالنصف الأوّل تملكه بلا شرط، كما يقول سبحانه: (وَ إِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَ قَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً) : أي قدّرتم لهنّ مهراً (ف) عليكم (نصف ما فَرَضْتُمْ) : أي نصف المهر المسمّى.

2. أنّ تقدير الواجب على الزوج بالنصف مشروط بأن لا يكون هناك عفوٌ، وإلّا يتغيّر ما هو الواجب على الزوج في الصورتين التاليتين:

الأُولى: (إِلاّ أَنْ يَعْفُونَ) .

توضيحه: أنّه وجب على الزوج دفع نصف المهر إلى الزوجة المطلّقة إذا طلّقها قبل المسّ، ولكن ربّما تقتضي المصلحة أن تتنازل المرأة عن ذلك النصف، وتترك بيت الزوجية بدون أن تأخذ شيئاً، وهذا إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على كرامة الزوجة وعلوّ همّتها حيث تترك أخذ ما هو الواجب.

الثانية: (أَوْ يَعْفُوَا اَلَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ اَلنِّكاحِ) وقد اختلف فيه، أي من هو المراد به؟ وهنا قولان:

ص: 483

الأوّل: ولي الزوجة من الأب والجدّ، إذا اقتضت المصلحة العفو، فيترك النصف المفروض في الآية.

وعلى هذا فالفقرتان ناظرتان إلى عفو الزوجة إمّا بنفسها أو بوليّها، وكون الأب والجدّ من مصاديق مَن بيده عقدة النكاح، لأنّه لا نكاح إلّابولي. فتخرج المرأة من بيت زوجها صفر اليدين إشعاراً بعلوّ همّتها.

الثاني: أنّ المراد به الزوج، وعندئذٍ يرجع عفو الزوج إلى عدم أخذ النصف إذا أقبضها تمام المهر قبل الطلاق، وبهذا تخرج المرأة من البيت بأخذ تمام مهرها.

وعندئذٍ يقع الكلام في رفع إجمال الآية، فهل المراد ممّن بيده عقدة النكاح هو وليّ الزوجة، أو هو الزوج؟

أقول: إنّ سياق الآية يدلّ على صحّة القول الأوّل دون الثاني، وذلك بوجوه:

الأوّل: أنّ اللّه سبحانه كلّما وجّه الكلام إلى الزوج استعمل صيغة الخطاب، وإليك الخطابات الموجودة في الآية الموجّهة إلى الزوج، وهي:

1. (وَ إِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ) . 2. (مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ) .

3. (وَ قَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً) . 4. (فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ) .

5. (وَ أَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) .

ولكن حين أراد الكلام عن العفو عدل عن الخطاب إلى الغيبة وقال: (إِلاّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا اَلَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ اَلنِّكاحِ) ، فلو أُريد من الثاني هو الزوج فما هو الوجه للعدول من الخطاب الوارد في صدر الآية - أعني قوله سبحانه: (وَ إِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ) - إلى الغيبة، إذ السياق يقتضي أن يقول: «أو تعفون»؟... وهذا دليل على أنّ المراد به غير الزوج.

ص: 484

الثاني: أنّه سبحانه يخاطب الزوج في ذيل الآية بالعفو حينما دفع كلّ المهر قبل الطلاق، ويقول: (وَ أَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) فلو أُريد من قوله: (أَوْ يَعْفُوَا اَلَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ اَلنِّكاحِ) نفس الزوج، يلزم التكرار.

هذا هو مقتضى تحليل الآية، ويؤيّده ما روي عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام:

1. ما رواه الشيخ بإسناده عن الحسين بن سعيد، عن النضر بن سويد، عن عبد اللّه بن سنان، عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «(اَلَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ اَلنِّكاحِ) هو ولي أمرها».(1)

2. وعنه بإسناده عن فضالة، عن رفاعة، قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن الذي بيده عقدة النكاح؟ قال: «الوليّ الذي يأخذ بعضاً ويترك بعضاً، وليس له أن يدع كلّه».(2) ولو صحّ الحديث يدلّ على أنّ الوليّ، لا يعفو عن كلّ النصف بل يترك بعضه.

3. وعنه باسناده عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن البرقي، أو غيره، عن صفوان، عن ابن مسكان، عن أبي بصير، عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: سألته عن الذي بيده عقدة النكاح؟ قال: «هو: الأب و الأخ والرجل يوصى إليه، والذي يجوز أمره في مال المرأة فيبتاع لها ويشتري، فأي هؤلاء عفا فقد جاز».(3)9.

ص: 485


1- . الوسائل: 14، الباب 8 من أبواب عقد النكاح وأولياء العقد، الحديث 2؛ تفسير البرهان: 229/1، برقم 7.
2- . الوسائل: 14، الباب 8 من أبواب عقد النكاح وأولياء العقد، الحديث 3؛ تفسير البرهان: 1/229، برقم 8.
3- . الوسائل: 14، الباب 8 من أبواب عقد النكاح وأولياء العقد، الحديث 4؛ تفسير البرهان: 229/1، برقم 9.

فخرجنا بالنتيجة التالية: أنّ الفقرة بصدد بيان عفو الزوجة عن أخذ النصف إما مباشرة أو بواسطة وليّها.

وأمّا عفو الزوج عن النصف لو أعطاها الكل فقد أُشير إليه بقوله: (وَ أَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) . واللّه العالم

ص: 486

أحكام النكاح

5. أحكام النشوز في الذكر الحكيم

تمهيد

قد تقدّم منّا أنّ الإسلام يؤكّد على حفظ عقد الزوجية، وأنّه ما بني بناء في الإسلام أحبّ إلى اللّه من النكاح، ومع ذلك ربما تطرأ على حياة الأُسرة أُمور تُسبِّب البرودة بين الزوجين، أو إظهار الترفع من أحدهما على الآخر، وهذا ما يعبّر عنه بالنشوز، فجاءت الآيات القرآنية لمعالجة هذه الظاهرة التي ربما تؤدّي - لو لم تُعالج - إلى الفرقة والطلاق، ولذلك فتح الفقهاء باباً في المصنّفات الفقهية باسم باب النشوز، من غير فرق بين نشوز المرأة أو نشوز الرجل، فكلّ داء ولكلّ دواء.

فلندرس الآيات الواردة في هذا المجال.

الآية الأُولى: في نشوز المرأة
اشارة

قال سبحانه: (اَلرِّجالُ قَوّامُونَ عَلَى اَلنِّساءِ بِما فَضَّلَ اَللّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَ بِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ فَالصّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اَللّهُ وَ اَللاّتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَ اُهْجُرُوهُنَّ فِي اَلْمَضاجِعِ وَ اِضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اَللّهَ كانَ

ص: 487

عَلِيًّا كَبِيراً) .(1)

المفردات

قوّامون: جمع قوّام على وزن فعّال مبالغة قيام، وأُريد هنا الزوج الّذي يقوم بشؤون المرأة في كافّة المجالات.

صالحات: صلاحهنّ هو الاستقامة فيما يراد منهنّ.

قانتات: جمع قانتة وهي المطيعة.

حافظات: جمع حافظة، وهي المرأة الّتي تحفظ شؤون الزوج في النفس والنفيس.

نشوزهنّ: النشوز: الارتفاع، وأُريد هنا الترفع على الزوج بمخالفته.

اهجروهنّ: الهجر: الترك.

المضاجع: جمع المضجع وأُريد هنا الفراش.

والهجر مع حفظ المضجع يتحقّق بالاستدبار وترك الملاعبة ونحوها، ويحتمل أن يكون كناية عن ترك المضاجعة.

شقاق: البينونة والعداوة.

التفسير

الآية تتضمّن أحكاماً:

الأوّل: إنّ (اَلرِّجالُ قَوّامُونَ عَلَى اَلنِّساءِ) ، فلهم عليهنّ قيام الولاية وإدارة

ص: 488


1- . النساء: 34.

البيت، وعلّل ذلك بأمرين:

1. أمر طبيعيّ وهو ما يشير إليه بقوله: (بِما فَضَّلَ اَللّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) من كمال العقل وحُسن التدبير، وصلابة الرجل وقدرته البدنية على القيام بالأعمال الشاقّة.

2. أمر كسبي، وهو ما يشير إليه بقوله: (وَ بِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ) : أي ينفقون عليهنّ ويعطوهنّ المهور.

وبذلك تبيّن أنّ الباء في كلا الموردين: (بِما فَضَّلَ اَللّهُ) و (وَ بِما أَنْفَقُوا) هي باء السببية.

وهناك نكتة نقلها الفاضل المقداد(1) عن بعض الفضلاء، وهي أنّه سبحانه لم يقل: بما فضّلهم عليهن، لأنّه لم يفضل كلّ واحد من الرجال على كلّ واحدة من النساء، إذ كم من امرأة أفضل بكثير من الرجال، وإنّما جاء بالضمير المذكّر (بَعْضَهُمْ) تغليباً.

الثاني: لما فضّل اللّه الرجال، أراد جبر قلوب النساء، فقال:

(فَالصّالِحاتُ) : أي المستقيمات فيما يراد بهنّ، وهي مبتدأ خبره، قوله:

(قانِتاتٌ) : أي مطيعات للّه ولأزواجهن (حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ) : أي لما يكون بينهنّ وبين أزواجهن في الخلوات من الأسرار، أو لفروجهن أو أموال أزواجهن في حال غيبتهم، ثم أتمّ ذلك بقوله: (بِما حَفِظَ اَللّهُ) «ما» مصدريّة أي بما حفظهنّ اللّه حين أوصى بهنّ الأزواج، وأوجب لهنّ المهر والنفقة. وبذلك صارت الحقوق متبادلة، فلو جعل السيادة والإدارة للرجل، فقد جعل على عاتقه حفظ الزوجة برفع وتأمين حاجاتها.2.

ص: 489


1- . لاحظ: كنز العرفان: 212/2.

الثالث: ثمّ إنّه سبحانه يشير إلى طروء نفرة النشوز في بناء البيت، ويذكر أُسلوب ترميم هذه الثغرة، فيقول سبحانه: (وَ اَللاّتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ) : أي مخالفتهن، فيعالجه بأساليب ثلاثة:

الأوّل: (فَعِظُوهُنَّ) بما في الكتاب والسنّة على نحو يؤثّر في نفس الزوجة، وتعلم ما للنشوز من عواقب سيئة ترجع عليها وعلى أُسرتها.

فإن لم ينفع هذا الأُسلوب يلجأ الزوج إلى الأُسلوب الثاني.

الثاني: (وَ اُهْجُرُوهُنَّ فِي اَلْمَضاجِعِ) إمّا بالنوم في نفس المضجع مع الرغبة عنها، أو بترك المضجع معها، والظاهر هو الأوّل.

فإن ينفع هذا الأُسلوب فيؤخذ به، وإلّا يأتي دور الأُسلوب الثالث. الثالث: (وَ اِضْرِبُوهُنَّ) ضرباً غير مبرّح (أي غير مؤذٍ أذيّة شديدة) كالضرب بقصبة صغيرة.

فإن أثرت هذه الأساليب وحصلت الطاعة كما يقول: (فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً) : أي لا تتّخذوا نشوزهنّ سبباً لإيذائهنّ بعد ما صرن مطيعات.

ثمّ إنّه سبحانه أتمّ الآية بقوله: (إِنَّ اَللّهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً) : أي متعالياً عن أن يكلّف فوق الطاقة، فهو مع علوّه وكبريائه لم يكلّفكم إلّاما تطيقونه، فعليكم أن تتعاملوا معهنّ بهذا الأُسلوب الحكيم.

قيمومة الرجال على النساء وحدودها

هذه الآية جعلت القيمومة للرجال على النساء، وذكرت لذلك سببين:

1. صلابة الرجل وقدرته البدنية على القيام بالأعماله الشاقّة.

ص: 490

2. كونه منفقاً على العائلة وعليه أن يسعى سعياً حثيثاً في رفع حاجات البيت كافّة.

إنّما الكلام في حدود قيمومة الزوج على الزوجة، فربما يتصور أنّ قيمومة الزوج على الزوجة محدّدة بوجوب طاعته في التمتع الجنسي، ولكن الظاهر أنّ دائرتها أوسع من ذلك فإنّ حياة الزوجين لا تتلخّص في التمتّع والتلذّذ؛ بل تكون أوسع من ذلك، ففي الأُمور المشتركة للزوج القيمومة عليها كما يجب عليها إطاعته.

نعم الأُمور الفردية والشخصية بما يختصّ بالمرأة - إذا لم يكن أمراً منكراً - فالزوجة وما اختارت، وبذلك افترقت قيمومة الرجل على الزوجة، عن قيمومته على صغار الأولاد، فالقيمومة في الثاني على عامّة الأُمور، بخلاف قيمومته عليها في الأُمور المشتركة.

النشوز وحدوده

النشوز عبارة عن الخروج عن الطاعة الواجبة ومن أماراته أن تتقطّب في وجهه أو تتبرّم وتتضجّر من حوائجه المتعلّقة بالاستمتاع، أو تغيّر عاداتها في أدبها معه.

وفي الجواهر: النشوز يتحقّق بالعبوس والإعراض والتثاقل وإظهار الكراهة له بالقول والفعل ونحوهما ممّا ينقص استمتاعه وتلذّذه بها.(1)

وفي هذه الحالات يجب على الزوج أن يقوم بعلاج النشوز بالأُمور الثلاثة

ص: 491


1- . جواهر الكلام: 205/31.

المذكورة.

ثمّ إنّ ظاهر الآية أنّ القيام بالأُمور الثلاثة عند ظهور أمارات النشوز لا نفس النشوز، ولكن مقتضى التدبّر عدم اختصاص مضمون الآية بظهور الأمارات، وإنّما خصّ ظهور الأمارات بالذكر لأجل أن يعالج المشكلة قبل حصولها حتى يطفئ الفتنة قبل اشتعالها.

الآية الثانية: في نشوز الزوج
اشارة

قال سبحانه: (وَ إِنِ اِمْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَ اَلصُّلْحُ خَيْرٌ وَ أُحْضِرَتِ اَلْأَنْفُسُ اَلشُّحَّ وَ إِنْ تُحْسِنُوا وَ تَتَّقُوا فَإِنَّ اَللّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) .(1)

المفردات

نشوزاً: نشوز البعل: رفع نفسه عليها.

أُحضرت: أي طبعت.

الشُحّ: الإفراط في الحرص على الشيء، من غير فرق بين تعلّقه بالمال أو غيره، يقال: فلان شحيح بمودتك.

ص: 492


1- . النساء: 128.
التفسير
نشوز الزوج على زوجته

إنّ سورة النساء - كما يحكي اسمها - نزلت لأجل تحكيم العلاقات الأُسرية وحفظها من التفكّك والتلاشي، كلّ ذلك ببيان ما للزوجين من حقوق وما عليهما من الواجبات، ولمّا كان النشوز أحد الظواهر التي تُبدّد نظام الأُسرة، سواء أكان من جانب الزوجة أم من جانب الزوج، جاء الوحي لعلاجه. أمّا الأوّل فقد مرّ حكمه في قوله سبحانه: (وَ اَللاّتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَ اُهْجُرُوهُنَّ فِي اَلْمَضاجِعِ وَ اِضْرِبُوهُنَّ...) (1) ولم يرض التشريع الإلهي بتفرّق الأُسرة وفي أحلك الأحوال وأظلمها، لذلك أمر بإنشاء محكمة عائلية تقضي بينهما بالحقّ، وأنّهما لو أرادا إصلاحاً يوفّق اللّه بينهما.

وأمّا آيتنا هذه فتبيّن حكم نشوز الرجل وتعاليه على المرأة بنحو يظهر كراهته لزوجته، فيقول سبحانه: (وَ إِنِ اِمْرَأَةٌ خافَتْ) علمت أو ظنّت (نُشُوزاً) : أي إظهار التفوّق والتعالي قولاً وفعلاً، أو إظهار ما هو أقل من النشوز وإليه يشير بقوله: (أَوْ إِعْراضاً) : أي السكوت عن الخير والشرّ على نحو يحكي عن تنفّره، فاللّه سبحانه لا يرضى بالتفرّق وانحلال الأُسرة، فيشير إلى نوع تصالح بينهما ويقول: (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما) : أي لا تثريب عليه ولا عليها (أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما) ويتّفقا على الصلح وتبقى العصمة وذلك بتنازل المرأة عن بعض ما لها من الحقوق.

نعم إنّما يحلّ للرجل ما يأخذه منها إذا كان برضاها، حيث تعتقد بأنّه خير

ص: 493


1- . النساء: 34.

لها من أن يطلّق. ثمّ إنّه سبحانه يظهر رضاه بالصلح ويقول: (وَ اَلصُّلْحُ خَيْرٌ) من الطلاق والفراق. واللام في قوله: (وَ اَلصُّلْحُ) إشارة إلى الصلح بين الزوجين وهو خير من التفرقة، لا أنّ الصلح مطلقاً جائز.

وعلى هذا فلا مانع من أن تتنازل عن بعض حقوقها وتعدّل حرصها على مالها، فالتنازل هنا لا يُعدّ عيباً بل كمال؛ لأنّها تبذل مالها وحقوقها في سبيل تحقيق هدف أعلى وأنبل، وهو بقاء علقة الزوجية وصيانة البيت من السقوط والانهدام، ومع ذلك (وَ أُحْضِرَتِ اَلْأَنْفُسُ اَلشُّحَّ) : أي أُحضرت أنفس كلّ واحد من الرجل و المرأة الشحّ بحقّه قبل صاحبه، قال الطريحي: معنى إحضارها إيّاه كونها مطبوعة عليه، فلا تكاد تسمح المرأة بالإعراض عنها، والتقصير في حقّها، ولا الرجل بالإمساك لها والإنفاق عليها مع كراهيته لها،(1) ولذلك يقول سبحانه: (وَ إِنْ تُحْسِنُوا) المعاشرة (وَ تَتَّقُوا) النشوز والإعراض ولو ببذل بعض الأموال والحقوق (فَإِنَّ اَللّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) .

والآية تدّل على اهتمام التشريع الإسلامي بحفظ العلاقة الزوجية وعدم انقطاعها مهما أمكن من بذل بعض الحقوق، إلّاإذا تقطّعت الأسباب وبلغت كراهة كلّ من الرجل والمرأة إلى حدّ لا يرجى اتّفاقهما على استمرار الحياة المشتركة.

وعندئذٍ فآخر الدواء الكيّ وهو الفراق والطلاق.

ثمّ إنّ الأحاديث الشريفة تشرح لنا مفاد الآية بنحو أوضح:

روى الصدوق بإسناده عن زيد الشحّام عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «النشوز يكون من الرجل والمرأة جميعاً، فأمّا الذي من الرجل فهو ما قال اللّه عزّ وجلّ في».

ص: 494


1- . مجمع البحرين: 272/3، مادة «حصر».

كتابه: (وَ إِنِ اِمْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَ اَلصُّلْحُ خَيْرٌ) وهو أن تكون المرأة عند الرجل لا تعجبه فيريد طلاقها فتقول: إمسكني ولا تطلّقني وأدع لك ما على ظهرك، وأُحلّ لك يومي وليلتي، فقد طاب له ذلك».(1)

الآية الثالثة: إعمال العدالة بين النساء في النفقة
اشارة

قال سبحانه: (وَ لَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ اَلنِّساءِ وَ لَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ اَلْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ وَ إِنْ تُصْلِحُوا وَ تَتَّقُوا فَإِنَّ اَللّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) .(2)

المفردات

تستطيعوا: الاستطاعة: القدرة.

كالمعلّقة: المرأة التي يهجرها زوجها هجراً طويلاً، فلا هي مطلّقة ولا هي مزوّجة.

التفسير
النهي عن ترك الزوجة كالمعلّقة

قد تقدّم في صدر سورة النساء قوله سبحانه: (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ اَلنِّساءِ مَثْنى وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً) (3)، وتقدّم آنفاً قوله

ص: 495


1- . الوسائل: 14، الباب 11 من أبواب القسم والنشوز والشقاق، الحديث 4.
2- . النساء: 129.
3- . النساء: 3.

سبحانه: (وَ إِنْ تُحْسِنُوا) المعاشرة (وَ تَتَّقُوا) عن النشوز والإعراض، فصار ذلك سبباً لبيان حقيقة العدل والإحسان الذي أُشير إليهما في الآيتين السابقتين، فبيّن سبحانه أنّه يجب على الزوج أن يقوم بما يمكنه من التساوي بين الزوجتين، فعليه أن يسوي بينهما في بذل الحقوق والمعاشرة الحسنة كالبشاشة والأُنس وما يشبههما، دون أن يقوم بشيء يظهر منه كراهة الزوج بالنسبة إليها و تفضيل إحداهما على الأُخرى.

نعم هناك ما لا يتمكّن الزوج من إجراء العدالة فيه، كالمحبّة وميل القلب، فإنّ المساواة فيهما بين الزوجتين أمر غير مستطاع، فالمرأة الجميلة تجذب ميل الزوج إليها أكثر ممّا ليست كذلك، ولذلك يقول سبحانه: (وَ لَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ اَلنِّساءِ) في الحب والمودّة وميل القلب (وَ لَوْ حَرَصْتُمْ) ولكن (فَلا تَمِيلُوا كُلَّ اَلْمَيْلِ) إلى الزوجة المحبوبة وتحرم الأُخرى من حقوقها الواجبة التي في إمكانكم (فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ) لا مزوّجة لها ما للزوجات من الحقوق، ولا مطلّقة تستطيع الزواج بمَن تريد. وقد جاء مضمون الآية في موضع آخر، قال تعالى: (اَلطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ) (1)، ومضمون الآية هو العدل الوسط حيث يأمر الزوج ببذل ما يمكنه من الإنفاق وحسن المعاشرة، ولا يأمر بالمساواة بما ليس في إمكانه كالحب والميل.

لا اختلاف بين الآيتين

ربما يتوهّم وجود الاختلاف بين قوله سبحانه في صدر السورة: (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً) التي تدلّ على إمكان رعاية العدالة بين الزوجين، وبين آيتنا

ص: 496


1- . البقرة: 229.

هذه التي يستظهر منها عدم إمكان رعايتها بينهنّ.

غير أنّ الاستظهار في غير محلّه نابع عن عدم الدقّة في مفاد الآيتين، أمّا الأُولى فيأمر بالعدالة فيما يمكن للمرء من القيام به كالنفقة وحسن المعاشرة.

وأمّا الآية الثانية فتخبر عن عدم إمكانها فيما لا يملكه المرء، كالميل القلبي والحب والنشاط، ويشترط في التناقض وحدة الموضوع، ويظهر من الروايات أنّ ابن أبي العوجاء سأل هشام بن الحكم عن الآية وقال: أخبرني عن قوله عزّ وجلّ: (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ اَلنِّساءِ مَثْنى وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً) .(1) أليس هذا فرض؟ قال: بلى، قال: فأخبرني عن قوله عزّ وجلّ:

(وَ لَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ اَلنِّساءِ وَ لَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ اَلْمَيْلِ) ، أيُّ حكيم يتكلّم بهذا؟ فلم يكن عنده جواب، فرحل إلى المدينة إلى أبي عبد اللّه عليه السلام فقال: «يا هشام في غير وقت حج ولا عمرة؟» قال: نعم جعلت فداك لأمر أهمّني، إنّ ابن أبي العوجاء سألني عن مسألة لم يكن عندي فيها شيء، قال: وما هي؟ قال:

فأخبره بالقصة، فقال له أبو عبد اللّه عليه السلام: «أمّا قوله عزّ وجلّ: (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ اَلنِّساءِ مَثْنى وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً) يعني في النفقة، وأمّا قوله: (وَ لَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ اَلنِّساءِ وَ لَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ اَلْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ) يعني في المودّة» فلمّا قدم عليه هشام بهذا الجواب وأخبره، قال: واللّه ما هذا من عندك.(2) وقد مرّ الكلام في ذلك فلاحظ.

***3.

ص: 497


1- . النساء: 3.
2- . الكافي: 362/5، الحديث 1؛ تفسير نور الثقلين: 156/2، برقم 603.

أحكام النكاح

6. حقوق الزوجة على الزوج في الذكر الحكيم

تمهيد

نظرة الإسلام إلى الزواج هو أنّه عبارة عن بناء بيت مقدّس يُرجى بقاؤه مادام الزوجان على قيد الحياة، ولأجل ذلك جعل لهما حقوقاً متبادلة، فللزوج على زوجته حقّ، كما أنّ لها على الزوج حقّ كلّ ذلك ضمن فقرتين:

1. قوله سبحانه: (وَ لَهُنَّ مِثْلُ اَلَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ) (1)، وهذه الفقرة أروع جملة سمعت بها آذان البشر، حيث تضمّنت ما هو الدعامة لحفظ كيان النظام الأُسري. فليس الزوج سيداً على الزوجة على الإطلاق، ولا الزوجة خادمة له كذلك، بل كلّ منهما يخدم الآخر، ولكلّ منهما حقّ على الآخر.

2. قوله سبحانه: (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اِكْتَسَبُوا وَ لِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اِكْتَسَبْنَ) (2).

ولهذه النظرة يرى الإسلام حرية الزوجين في التصرّف بأموالهما.

كما أنّ للأولاد أيضاً حقوقاً على الزوجين، وقد أشار إليها سبحانه في الآية التالية.

ص: 498


1- . البقرة: 228.
2- . النساء: 32.
الآية الوحيدة في أحكام الرضاع
اشارة

قال سبحانه: (وَ اَلْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ اَلرَّضاعَةَ وَ عَلَى اَلْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَ كِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاّ وُسْعَها لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَ لا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَ عَلَى اَلْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ فَإِنْ أَرادا فِصالاً عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَ تَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما وَ إِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَ اِتَّقُوا اَللّهَ وَ اِعْلَمُوا أَنَّ اَللّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) .(1)

المفردات

الوالدات: جمع الوالدة، عبّر بها دون الأُمّهات، لأنّ الثانية تشمل الجدّة أيضاً، وهي ليست بمرادة في المقام فعبّر بالوالدات مشعراً بأنّ ما سيذكر من الأحكام لأجل كون المرأة قد ولدت الطفل مباشرة.

يرضعن: من الرضع وهو عبارة عن مصّ الثدي لشرب اللبن.

حولين: عبّر به دون السنة والعام، لأنّ العام والحول يطلقان على صيفة وشتوة كاملتين، وأمّا السنة فهي تبدأ من أي يوم عددته من العام إلى مثله، فلا يجب أن تشتمل على صيفة وشتوة كاملتين.(2) لأنّه ربما يتولّد الطفل في وسط

ص: 499


1- . البقرة: 233.
2- . تفسير المنار: 410/2، نقلاً عن مصباح اللغة.

الصيف أو الشتاء.

كسوتهنّ: مصدر كسوته ثوباً وكسوةً، ألبسته، والمراد اللباس.

وسعها: الوسع: مقدار القدرة.

لا تضارّ: فعل مجهول: أي لا تضارر، واللام، ناهية جازمة.

فصالاً: من الفصال: العظام، لانفصال المولود عن الارتضاع بثدي أُمّه إلى غيره من الأقوات.

تشاور: التشاور مأخوذ من الشور، وأُريد: استخراج الرأي من المستشار.

تسترضعوا: تطلبوا لهم مراضع غير أُمّهاتهم، لإباء أُمّهاتهم الرضاع أو لقلّة لبنهنّ.

التفسير
اشارة

هذه الآية هي الآية الوحيدة التي تتضمّن أحكام الرضاع من الجوانب الثلاثة: الوالد والوالدة والولد، وهي في إيجازها تتكفّل بيان سبعة أحكام من أحكام الرضاع. إنّما الكلام ما هو المراد من قوله: (وَ اَلْوالِداتُ) فربما يقال: إنّ المراد هو المطلّقات؛ لأنّ الآية وردت في عداد أحكامهنّ، وربما يؤيّد بما ورد في ثنايا الآية من قوله سبحانه: (وَ عَلَى اَلْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَ كِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) ، فلو أُريد الوالدات المزوّجات، يلزم الاستغناء عن ذلك لوجوب الإنفاق على الزوجات مطلقاً سواء ولدن أم لا.

يلاحظ عليه: أنّه لا مانع من أن يراد نفقة زائدة على الزوجة بلا ولد، فإنّ الزوجة إذا صارت ذات ولد تزيد نفقتها، على أنّه سيأتي في تفسير الآية من أنّ

ص: 500

للوالدين الاسترضاع عن تشاور بمعنى طلب المرضعة، وهذا النوع من الكلام يناسب ظرف بقاء عصمة الزوجية بينهما حتى يسترضعوا بالتشاور.

وعلى كلّ تقدير فالآية تشتمل على أحكام بديعة:

1. إرضاع الأولاد حولين كاملين

يقول سبحانه: (وَ اَلْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ) : أي أربعة وعشرين شهراً (كامِلَيْنِ) تماماً حذراً من التسامح حيث إذا نقصت أيام عديدة يُقال: ارتضع حولين. وهل الإرضاع على وجه الإيجاب أو الندب؟

والذي يؤيّد الأوّل استخدام صيغة الخبر، حيث قال: (يُرْضِعْنَ) ولم يقل: أرضعوا، والجملة الخبرية في مقام الإنشاء آكد في بيان المطلوبية، غير أنّ المعروف بين الفقهاء هو الاستحباب، إلّافي بعض الصور كما إذا لم توجد ظئر أو إذا لم يقبل الطفل غير صدر أُمّه، كما يعهد من بعض الأطفال، أو كان الوالد عاجزاً عن استئجار مرضعة ترضعه.

ثمّ خصّ الأمر بإرضاع الولد حولين كاملين (لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ اَلرَّضاعَةَ) وذلك ربما تقتضي المصلحة إرضاعه أقل من حولين، كالطفل الذي كان نموّه سريعاً، أو يستغني عن اللبن، قبل تمام الحولين ببضع أشهر.

وربما يُقال: إنّ الأقل واحد وعشرون شهراً، وذلك اعتماداً على قوله سبحانه: (وَ حَمْلُهُ وَ فِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً) (1) فإذا طرحت تسعة أشهر التي هي أكثر الحمل، يبقى واحد وعشرون شهراً.

ص: 501


1- . الأحقاف: 15.
2. ما تستحقه الوالدة خلال فترة الرضاع

يقول سبحانه: (وَ عَلَى اَلْمَوْلُودِ لَهُ) وهو الأب، فالتعبير به دون قوله الأب، للتنبيه على علّة وجوب النفقة، كأنّه يقول: إنّ هؤلاء الوالدات قد حملن وولدن لك أيّها الرجل، وهذا الولد الذي يرضعنه ينسب إليك، فعليك أن تنفق عليهنّ ما يكفيهنّ حاجات المعاش من الطعام واللباس، ليقمن بذلك حقّ القيام.(1)

وما ذكرناه هو المتعيّن دون ما ذكره صاحب الكشّاف، حيث قال: فإن قلت:

لم قيل المولود له، دون الوالد؟ قلت: ليعلم أنّ الوالدات إنّما ولدن لهم لأنّ الأولاد للآباء، ولذلك ينسبون إليهم لا إلى الأُمّهات، وأنشد للمأمون بن الرشيد:

فإنّما أُمّهات الناس أوعية *** مستودعات وللآباء أبناء(2)

والعجب أنّ صاحب الكشّاف قد استدلّ بشعر جاهلي مبني على أمر باطل، وهو تخصيص الانتساب بالآباء، دون الأُمّهات، مع أنّ القرآن الكريم يصف المسيح من ذرية إبراهيم عليه السلام مع أنّه يصل إليه عن طريق الأُمّ، يقول سبحانه: (وَ وَهَبْنا لَهُ) : أي إبراهيم (إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ) ثم يقول في الآية التالية: (وَ زَكَرِيّا وَ يَحْيى وَ عِيسى) (3).

وقد مرّ أنّ إيجاب الرزق والكسوة على الوالد للوالدة، لا يدلّ على كونها مطلّقة، لأنّ الإيجاب ربما يستدعي نفقة أكثر فلاحظ.

ص: 502


1- . تفسير المنار: 411/2.
2- . تفسير الكشّاف: 281/1، ط مصر.
3- . الأنعام: 84 و 85.
3. التكليف على حدّ القدرة

قال تعالى: (لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاّ وُسْعَها) : أي لا تكلّف نفس إلّاما تتّسع له القدرة، ولذلك يختلف حدّ الإنفاق كمّاً وكيفاً حسب التفاوت في قدرة الزوج ضيقاً وسعة، ويوضح معنى هذه الفقرة قوله سبحانه: (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَ مَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمّا آتاهُ اَللّهُ لا يُكَلِّفُ اَللّهُ نَفْساً إِلاّ ما آتاها سَيَجْعَلُ اَللّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً) (1).

4. منع الزوجين عن اتّخاذ الولد ذريعة للإضرار

قال سبحانه: (لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَ لا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ) . والقراءة المعروفة هي ضم التاء، تبعاً لقوله: (لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ) فيكون بمعنى لا تُضار والدة بولدها ولا يُضار مولود له بولده، وبما أنّ «الباء» في الموردين للسببية فيكون المعنى هو أنّه يحرم على كلّ من الطرفين استخدام الولد ذريعة للإضرار بالآخر.

أمّا الفقرة الأُولى - أي عدم الإضرار بالوالدة، بولدها - كمنع الرجل المرأة من إرضاع ولدها وهي له أعطف من غيرها، وهذا هو الإضرار بها بسبب ولدها حتى يكون سبباً للتضييق عليها في النفقة مع الإضرار، كأن يقول: أنا أدفع هذا المقدار فإن شئت أرضعيه وإن شئت أعطيني ولدي لأُسلّمه إلى ظئر ترضعه بهذا المقدار.

وأمّا الفقرة الثانية - أي عدم الإضرار بالمولود له، بولده - فهو كامتناع الأُمّ من إرضاع الولد لغاية طلب نفقة فوق وسعه وقدرته، فهذا إضرار به بسبب ولده،

ص: 503


1- . الطلاق: 7.

ونتيجة هذين الحكمين أنّ الولد ثمرة كلا الطرفين، فعليهما إنفاق ما بيديهما من القدرة لتربيته بعيداً عن المشاكل والاختلافات.

5. استمرار وجوب النفقة على وارث الوالد

قال تعالى: (وَ عَلَى اَلْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ) ، والفقرة عطف على قوله:

(وَ عَلَى اَلْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ) ، فلو كان المولود له حيّاً ينفق من سعته، ولو توفّي فعلى وارثه الإنفاق على الزوجة ممّا ترك، حتى تُتمّ مدّة الرضاعة. وهذا الإنفاق وجب لكون المرأة قائمة بحضانة الولد، وهي لا تفترق عن الإنفاق بالمال.

نعم الزوجة المتوفّى عنها زوجها تعتد أربعة أشهر وعشراً، من دون نفقة، وما اخترناه في معنى الفقرة هو المتبادر.

6. فطام الولد يتمّ عن طريق التشاور بين الزوجين

قوله تعالى: (فَإِنْ أَرادا فِصالاً عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَ تَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما) .

ربما يُريد الوالدان فطام الولد قبل الحولين، فاللّه سبحانه يأمر بأنّه يجب أن يتمّ ذلك بعد توفر شرطين:

1. (عَنْ تَراضٍ مِنْهُما) : أي من الأب والأُمّ، واتّفاق بينهما على الفطام.

2. (وَ تَشاوُرٍ) : أي مشاورة، مع الآخرين الذين لهم خبرة في الموضوع، فعندئذٍ (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما) : أي لا حرج عليهما. نعم فإن تنازعا رجعا إلى الحولين.

7. استئجار المرضعة

قال تعالى: (وَ إِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ

ص: 504

ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ) ربما تدفع الحاجة أحد الأبوين أو كليهما إلى استئجار ظئر لإرضاع الطفل، فلو أرادا ذلك عن رغبة وتشاور (فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ) .

نعم هذا مشروط بما يلي:

1. (إِذا سَلَّمْتُمْ) للزوجة (ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ) : أي قمتم بما هو الواجب للأُمّ الذي مرّ في قوله سبحانه: (وَ عَلَى اَلْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَ كِسْوَتُهُنَّ) ، فلا يكون استئجار الظئر سبباً لنكران ما قامت به الأُمّ من الخدمة للولد.

وفسّره الطبرسي بنحو آخر وقال: إذا سلّمتم إلى الأُمّ أُجرة المثل مقدار ما أرضعت(1).

ثمّ إنّه سبحانه ختم الآية بقوله: (وَ اِتَّقُوا اَللّهَ) : أي التزموا بالعمل بالأحكام بأنّه وقاية لكم عن العذاب (وَ اِعْلَمُوا أَنَّ اَللّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) .

بقي هنان بحثان:
1. أهمية لبن الأُمّ للمولود

اتّفق الأطباء على أنّ حليب الأُمّ هو أفضل ما يحتاجه المولود في أوّل سنوات عمره، حيث إنّ الولد حينما كان في رحم أُمّه، يتغذّى على دمها، وبعد ولادته ينقلب دمها لبناً فيتغذّى عليه المولود، وعندئذٍ يكون الولد مادام يعيش من لبنها كجزء من الأُمّ ولا يختلف عنها في العواطف والروحيات، بخلاف ما إذا تركته الأُمّ ودفعته إلى دور الحضانة، فعندئذٍ يرتضع على الحليب المجفّف، وبينه وبين لبن الأُمّ فرق شاسع، فلا بُعد أن يختلف الولد مع الأُمّ في العواطف

ص: 505


1- . مجمع البيان: 150/2.

والروحيات. ولذلك يوصي القرآن الكريم الوالدات بإرضاع الأولاد حولين كاملين.

2. شروط المرضعة

إذا اضطر الوالدان إلى استئجار ظئر فيجب عليهما الاحتياط في انتخاب المرضعة؛ لأنّ لبن الظئر يؤثّر في خَلْق الولد وأدبه، وبما أنّ حياة الإنسان رهن كون لبنه طاهراً، فقد أكّد الشرع على الاجتناب عن لبن الظئر التي صارت ذات لبن عن زنا، وإليك بعض ما رُوي في ذلك:

1. روى الكليني عن علي بن جعفر، عن أخيه أبي الحسن عليه السلام، قال: سألته عن امرأة ولدت من الزنى، هل يصلح أن يُسترضع بلبنها؟ قال: «لا يصلح ولا لبن ابنتها التي ولدت من الزنى».(1)

2. وروى أيضاً عن سعيد بن يسار عن أبي عبد اللّه عليه السلام، قال: «لا تسترضع الصبيّ المجوسية، وتسترضع له اليهودية والنصرانية ولا يشربن الخمر، يمنعن من ذلك».(2)

3. وروى أيضاً عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «قال أمير المؤمنين عليه السلام: انظروا مَن يرضع أولادكم فإنّ الولد يشبّ عليه».(3)

4. وفي رواية أُخرى عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام: «لا تسترضعوا الحمقاء فإنّ اللبن يغلب الطباع». قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «لا تسترضعوا الحمقاء فإنّ اللبن يُشب عليه».(4)

ص: 506


1- . الوسائل: 14، الباب 75 من أبواب أحكام الأولاد، الحديث 1.
2- . الوسائل: 14، الباب 76 من أبواب أحكام الأولاد، الحديث 1.
3- . الوسائل: 14، الباب 78 من أبواب أحكام الأولاد، الحديث 1.
4- . الوسائل: 14، الباب 78 من أبواب أحكام الأولاد، الحديث 3.

أحكام النكاح

7. الآيات النازلة في نساء النبي صلى الله عليه و آله و سلم

اشارة

إنّ الغاية من دراسة آيات الأحكام هي العثور على الأحكام المشتركة بين عامّة المكلّفين من الرجال والنساء، وأمّا الآيات المتعلّقة بصنف خاص من النساء فدراستها وإن كانت أهم لما فيها من النكات الأخلاقية والاجتماعية لكنّها تفقد ما هي الغاية من الدراسة (أعني: الوقوف على الأحكام المشتركة)، ومع ذلك نحن نشير إلى نفس الآيات مع تفسير إجمالي، ومن أراد الوقوف على تفسيرها فليرجع إلى كتب التفسير.

لمّا رجع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من غزاة خيبر وأصاب كنز آل أبي الحقيق، قلن أزواجه: أعطنا ما أصبت، فقال لهنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «قسمته بين المسلمين على ما أمر اللّه عزّ وجلّ»، فغضبن من ذلك وقلن: لعلّك ترى أنّك إن طلّقتنا أن لا نجد الأكفّاء من قومنا يتزوّجوننا؟ فأنف اللّه عزّ وجلّ لرسوله، فأمره اللّه أن يعتزلهنّ، فاعتزلهنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في مشربة أُمّ إبراهيم تسعة وعشرين يوماً حتى حضن وطهرن، ثم أنزل اللّه عزّ وجلّ هاتين الآيتين وهما آيتي التخيير.(1)

ص: 507


1- . لاحظ: تفسير القمي: 192/2. وفي المصدر: هذه الآية وهي آية التخيير.
الآية الأُولى

قال سبحانه: (يا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اَلْحَياةَ اَلدُّنْيا وَ زِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَ أُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً) .(1)

الآية الثانية

قال سبحانه: (وَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اَللّهَ وَ رَسُولَهُ وَ اَلدّارَ اَلْآخِرَةَ فَإِنَّ اَللّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً) .(2)

إنّ كثيراً من الناس ينظر لمن له صلة بالنبي صلى الله عليه و آله و سلم بنفس النظرة إليه ويتصوّر أنّ أفراد أُسرته يجب أن يكونوا إسوة مثله، فلو صدرت من أحدهم معصية فسرعان ما تنتقل إلى الآخرين، ومن هنا هدّد سبحانه أزواج النبي صلى الله عليه و آله و سلم بالآية التالية.

الآية الثالثة

قال سبحانه: (يا نِساءَ اَلنَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا اَلْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَ كانَ ذلِكَ عَلَى اَللّهِ يَسِيراً) .(3)

الآية الرابعة

قال سبحانه: (وَ مَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلّهِ وَ رَسُولِهِ وَ تَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها

ص: 508


1- . الأحزاب: 28.
2- . الأحزاب: 29.
3- . الأحزاب: 30.

مَرَّتَيْنِ وَ أَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً) .(1)

الآية الخامسة

ثمّ إنّه سبحانه أخبر أنّ مَن تخضع للّه ورسوله منهنّ وتواظب على طاعتهما وتعمل عملاً صالحاً يعطها سبحانه مثلي ثواب غيرها، ويهيّئ لها رزقاً كريماً وهو الجنة.

ثمّ إنّ مفاد الآية لا يختصّ بنساء النبي بل يعمّ كلّ مَن له صلة بالأولياء والعلماء والقادة الدينيّين ومَن حولهم، فإنّ الناس ينظرون إليهم نفس النظرة إلى أُولئك، ولعلّه إلى ذلك يشير بعض الأحاديث، كقوله عليه السلام: «إنّما يُداقّ اللّه العباد في الحساب يوم القيامة على قدر ما آتاهم من العقول في الدنيا».(2) وفي بعض الروايات: «يغفر للجاهل سبعون ذنباً قبل أن يُغفَر للعالم ذنب واحد».(3)

قال سبحانه: (يا نِساءَ اَلنَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ اَلنِّساءِ إِنِ اِتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ اَلَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَ قُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً) .(4)

الآية السادسة
اشارة

ثمّ إنّه سبحانه كلّفهنّ بتكليف ثالث حيث يأمرهن اللّه سبحانه بالاستقرار في البيوت وعدم الخروج منها إلّالضرورة حفظاً لعفافهنّ.

ص: 509


1- . الأحزاب: 31.
2- . الكافي: 11/1، برقم 7.
3- . الكافي: 47/1، برقم 1، باب لزوم الحجّة على العالم.
4- . الأحزاب: 32.

قال سبحانه: (وَ قَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَ لا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ اَلْجاهِلِيَّةِ اَلْأُولى وَ أَقِمْنَ اَلصَّلاةَ وَ آتِينَ اَلزَّكاةَ وَ أَطِعْنَ اَللّهَ وَ رَسُولَهُ

إِنَّما يُرِيدُ اَللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ اَلرِّجْسَ أَهْلَ اَلْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) (1) .

قوله: (إِنَّما يُرِيدُ اَللّهُ...) هل هو ناظر إلى نساء النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم أوهو آية مستقلة وضعت بأمر النبي في ثنايا الآيات التي وردت في نسائه؟

الحقّ هو الثاني وتدلّ على ذلك الأُمور التالية:

1. إفراد البيت في مقابل البيوت

عندما يخاطب اللّه سبحانه نساء النبي صلى الله عليه و آله و سلم يأتي بصيغة الجمع ويقول:

(وَ قَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ) (2) ، وقال: (وَ اُذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ) (3)، وعندما يصل إلى آل النبي صلى الله عليه و آله و سلم يفرد اللفظ ويقول: (أَهْلَ اَلْبَيْتِ) . وهذا دليل على أنّ المقصود من أهل البيت، غير أهل البيوت.

2. اللام في أهل البيت للعهد

إنّ اللام إشارة إلى بيت معهود بين المتكلّم والمخاطب، فلا يمكن أن تكون مشيرة إلى بيوت الأزواج لما عرفت من إفراد البيت، ولا إلى بيت خاص مستقل للنبي من بيوت أزواجه، إذ لم يكن له ذلك البيت، ولم يبق إلّاأن تكون مشيرة إلى بيت فاطمة التي هي من أهله وأولاده.

ص: 510


1- . الأحزاب: 33.
2- . الأحزاب: 33.
3- . الأحزاب: 34.

وأمّا مشكلة السياق حيث وقعت الآية في ثنايا الآيات المتعرضة لشأن نسائه صلى الله عليه و آله و سلم، فهو أنّ الروايات المتضافرة بل المتواترة تدلّ على أنّ قوله سبحانه:

(إِنَّما يُرِيدُ اَللّهُ) آية مستقلّة ولم تكن عندما نزلت جزءاً من الآية.

ويدلّ على ذلك قول الطبري وأمثاله يقول: (إِنَّما يُرِيدُ اَللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ اَلرِّجْسَ أَهْلَ اَلْبَيْتِ) فهم أهل بيت طهّرهم اللّه من السوء وخصهم برحمة منه.

وروى عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: نزلت هذه الآية في خمسة: فيّ، وفي علي، وحسن، وحسين، وفاطمة.

كما روى عن عائشة قالت: خرج النبي صلى الله عليه و آله و سلم ذات غداة وعليه مرط مرحّل من شعر أسود، فجاء الحسن فأدخله معه، ثم قال: (إِنَّما يُرِيدُ اَللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ اَلرِّجْسَ) .

كما روى أيضاً عن أنس أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم كان يمر ببيت فاطمة ستة أشهر كلّما خرج إلى الصلاة فيقول: الصلاة، السلام عليكم أهل البيت (إِنَّما يُرِيدُ اَللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ اَلرِّجْسَ أَهْلَ اَلْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) .(1)

أضف إلى ذلك: أنّ عكرمة كان يمشي في الأسواق ويقول إنّه مستعد للمباهلة في مورد نزول الآية أي قوله سبحانه: (إِنَّما يُرِيدُ اَللّهُ لِيُذْهِبَ...) فكان موضوع المباهلة عنده نفس الآية، مستقلة.

والقارئ الكريم إذا قرأ تفسير الطبري لهذه الآية يجد بوضوح أنّ قوله:

(إِنَّما يُرِيدُ اَللّهُ لِيُذْهِبَ...) الآية مستقلّة، من غير فرق بين نزولها في الخمسة الطاهرة أو في غيرهم، فعلى هذا يسقط الاستدلال بالسياق، لأنّها لم تكن جزءاً من8.

ص: 511


1- . لاحظ: تفسير الطبري: 10/12-14؛ الكشف والبيان (تفسير الثعلبي): 35/8.

الآية الواردة فيها عند نزولها وإنّما نزلت مستقلة، ووضعت بأمر النبي في محلّها، وقد كان النبي صلى الله عليه و آله و سلم يقول: ضعوا آية كذا في موضع كذا.(1)

وأمّا ما هو وجه المناسبة في جعل آية مستقلّة في ثنايا آية أُخرى وجعل الجميع آية واحدة، فليس هذا أمراً بديعاً.

يقول الطبرسي: من عادة الفصحاء في كلامهم أنّهم يذهبون من خطاب إلى غيره ويعودون إليه، والقرآن من ذلك مملوء وكذلك كلام العرب وأشعارهم.(2)

وقال الشيخ محمد عبده: إنّ من عادة القرآن أن ينتقل بالإنسان من شأن إلى شأن، ثم يعود إلى مباحث المقصد الواحد المرّة بعد المرّة.(3)

ولأجل أن يقف القارئ على صحّة ما قاله هؤلاء الأكابر نأتي بشاهد، فنقول:

قال سبحانه ناقلاً عن «العزيز» مخاطباً زوجته: (إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ * يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا وَ اِسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ اَلْخاطِئِينَ) .(4) نرى أنّ العزيز يخاطب أوّلاً امرأته بقوله: (إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ) وقبل أن يفرغ من كلامه معها، يخاطب يوسف بقوله: (يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا) ... ثم يرجع إلى الموضوع الأوّل ويخاطب زوجته بقوله: (وَ اِسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ) ... فقوله:

(يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا) جملة معترضة وقعت بين الخطابين، والمسوّغ لوقوعها بينهما كون المخاطب الثاني أحد المتخاصمين، وكانت له صلة تامّة بالواقعة التي رفعت إلى العزيز.9.

ص: 512


1- . الإتقان في علوم القرآن: 194/1، الفصل الثامن عشر.
2- . مجمع البيان: 357/4.
3- . تفسير المنار: 45/2.
4- . يوسف: 28-29.

والضابطة الكلّيّة لهذا النوع من الكلام هي وجود التناسب المقتضي للعدول من الأوّل إلى الثاني، ثم منه إلى الأوّل، وهي أيضاً موجودة في المقام، فإنّه سبحانه يخاطب نساء النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم بالخطابات التالية:

1. (يا نِساءَ اَلنَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا اَلْعَذابُ ضِعْفَيْنِ) .

2. (يا نِساءَ اَلنَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ اَلنِّساءِ إِنِ اِتَّقَيْتُنَّ) .

3. (وَ قَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَ لا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ اَلْجاهِلِيَّةِ اَلْأُولى) .

فعند ذلك صحّ أن ينتقل إلى الكلام عن أهل البيت الذين أذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً وذلك لوجهين:

1. تعريف نسائه بصفوةٍ بلغوا في الورع والتقوى، الذروة العليا، وفي الطهارة عن الرذائل والمساوئ، القمّة. وبذلك استحقّوا أن يكونوا أُسوة في الحياة وقدوة في مجال العمل، فيلزم عليهنّ أن يقتدينّ بهم ويستضيئنّ بضوئهم.

2. التنبيه على أنّ حياتهنّ مقرونة بحياة صفوةٍ طاهرة من الرجس ومطهّرة من الدنس، ولهنّ معهم لحمة القرابة ووصلة الحسب، واللازم عليهنّ الحفاظ على شؤون هذه القرابة بالابتعاد عن المعاصي والمساوئ، والتحلّي بما يرضيه سبحانه، ولأجل ذلك يقول سبحانه: (يا نِساءَ اَلنَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ اَلنِّساءِ) ، وما هذا إلّا لقرابتهنّ منه صلى الله عليه و آله و سلم وصلتهنّ بأهل بيته. وهي لا تنفكّ عن المسؤولية الخاصّة، فالانتساب للنبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم ولبيته الرفيع، سبب المسؤولية ومنشؤها، وفي ضوء هذين الوجهين صحّ أن يطرح طهارة أهل البيت في أثناء المحاورة مع نساء النبيّ

ص: 513

والكلام حول شؤونهنّ.

ونعزّز هذا المعنى بما كتبه العلّامة محمد حسن المظفر، قال: وإنّما جعل سبحانه هذه الآية في أثناء ذكر الأزواج وخطابهنّ، للتنبيه على أنّه سبحانه أمرهنّ ونهاهنّ وأدّبهنّ إكراماً لأهل البيت وتنزيهاً لهم عن أن تنالهم بسببهنّ وصمة، وصوناً لهم عن أن يلحقهم من أجلهنّ عيب، ورفعاً لهم عن أن يتّصل بهم أهل المعاصي، ولذا استهلّ سبحانه الآيات بقوله: (يا نِساءَ اَلنَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ اَلنِّساءِ) ضرورة أنّ هذا التميّز إنّما هو للاتصال بالنبيّ وآله، لا لذواتهنّ فهنّ في محلّ، وأهل البيت في محلّ آخر، فليست الآية الكريمة إلّاكقول القائل: يا زوجة فلان لست كأزواج سائر الناس فتعفّفي، وتستّري، وأطيعي اللّه تعالى، إنّما زوجك من بيت أطهار يريد اللّه حفظهم من الأدناس وصونهم عن النقائص.(1)

الآية السابعة

قال سبحانه: (وَ اُذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اَللّهِ وَ اَلْحِكْمَةِ إِنَّ اَللّهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً) .(2)

الآية الثامنة

قال سبحانه: (يا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ إِنّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اَللاّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَ ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمّا أَفاءَ اَللّهُ عَلَيْكَ وَ بَناتِ عَمِّكَ وَ بَناتِ عَمّاتِكَ وَ بَناتِ خالِكَ وَ بَناتِ خالاتِكَ اَللاّتِي هاجَرْنَ مَعَكَ وَ اِمْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ

ص: 514


1- . دلائل الصدق: 72/2.
2- . الأحزاب: 34.

اَلنَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ اَلْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَ كانَ اَللّهُ غَفُوراً رَحِيماً) .(1)

الآية ترشدنا إلى أُمور ثلاثة:

الأوّل: تذكر الآية النساء اللّاتي يجوز للنبي صلى الله عليه و آله و سلم أن ينكحهنّ بالمهر وتبتدئ ببيان ذلك بقوله: (إِنّا أَحْلَلْنا لَكَ) إلى قوله: (اَللاّتِي هاجَرْنَ مَعَكَ) .

الثاني: ما يشير إلى أنّه يجوز للنبيّ صلى الله عليه و آله و سلم أن يتزوج بامرأة بغير صداق ومهر إذا وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه و آله و سلم وإليه يشير بقوله: (وَ اِمْرَأَةً مُؤْمِنَةً) إلى قوله:

(خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ اَلْمُؤْمِنِينَ) وهذا يدلّ على أنّ هذا الحكم مختصّ بالنبي صلى الله عليه و آله و سلم ولا يعمّ المؤمنين.

الثالث: قوله: (قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَ كانَ اَللّهُ غَفُوراً رَحِيماً) .

أقول: الفقرة الأُولى والثانية ترجعان إلى الشروط التي فرضها الوحي على تزويج المؤمنين ويقول:

1. (قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ) : أي قد علمنا ما قد أخذنا على المؤمنين من شروط في أزواجهم كلزوم المهر والحصر في عدد كلّ ذلك لمصلحة العائلة.ا؟

ص: 515


1- . الأحزاب: 50. الآية تدلّ على أنّه يجوز للنبي صلى الله عليه و آله و سلم أن يتزوّج بامرأة مؤمنة إذا وهبت نفسها للنبي بغير صداق ومهر، إن أراد النبي صلى الله عليه و آله و سلم نكاحها، ولكنّ هذا الحكم خاص بالنبي صلى الله عليه و آله و سلم فقط، إنّما الكلام هل تزوّج النبي صلى الله عليه و آله و سلم امرأة ممن وهبت نفسها له، أو لا؟

2. (وَ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) : أي علمنا ما أخذنا عليهم من الشروط في ملك اليمين بأن يكون التملك بأسباب شرعية من الشراء والهبة والإرث.

3. (لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ) تعليل من تجويز التزويج بالهبة وعدم لزوم المهر وعدم الحصر بأربعة نساء.

4. (وَ كانَ اَللّهُ غَفُوراً) : أي غفوراً لذنوب عباده (رَحِيماً) بك لرفع الحرج.

الآية التاسعة

قال سبحانه: (تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَ تُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وَ مَنِ اِبْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَ لا يَحْزَنَّ وَ يَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَ اَللّهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَ كانَ اَللّهُ عَلِيماً حَلِيماً).(1)

هذه الآية تتضمّن حكماً خاصّاً بالنبي صلى الله عليه و آله و سلم وهو أنّ الرجل إذا كان له أكثر من زوجة يجب عليه تقسيم المضاجعة بينهن ففي كلّ ليلة عند واحدة منهنّ، وأمّا النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم فقد استثني من هذا الحكم لحكمة وهي: أنّ تقسيم المضاجعة بين هؤلاء المناهز عددهن تسعاً يوجب اختلالاً في حياته الاجتماعية والسياسية إذ ما من شهر إلّاوتفرض عليه حرب ولا من شهر إلّاويخرج في غزوة أو مواجهة مؤامرة تحاك ضده، ففي هذه الأجواء كان حفظ حق القسمة بين الأزواج يوجد مشاكل في حياة النبي صلى الله عليه و آله و سلم ولأجل ذلك حكم سبحانه بأنّه مختار في أمر المضاجعة وقال: (تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ) : أي تؤخّر مضاجعة مَن تشاء، من نسائك (وَ تُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ) : أي تضاجع من تشاء ولا يجب عليك أن تقسّم

ص: 516


1- . الأحزاب: 51.

بينهنّ، بل الأمر في ذلك إليك، حتى أنّه سبحانه خيّره بدعوة وإيواء من عزلها وقال: (وَ مَنِ اِبْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ) : أي لا ضيق عليك، فصار النبي صلى الله عليه و آله و سلم مخيّراً بين تأخير مضاجعة من شاء، وتقديم مضاجعة من شاء ودعوة من عزلها عن المضاجعة.

قوله تعالى: (ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ) الظاهر أنّ لفظ الإشارة في قوله:

(ذلِكَ) مشير إلى القسم الثالث أي طلب من عزل فلو كان للنبي ذلك الحق يوجب قرّة عين من عزلها الرسول صلى الله عليه و آله و سلم.

وأمّا الفعلان الآخران - أعني: (وَ لا يَحْزَنَّ وَ يَرْضَيْنَ) - فراجعان إلى الاختيار بين الإرجاع والإيواء لأنّهن إذا علمن أنّه حكم من اللّه سبحانه في حق الرسول صلى الله عليه و آله و سلم بين الإرجاع والإيواء ربما لا يحزنّ ويرضين، لأنّه ليس لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى اللّه ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة.

الآية العاشرة

قال سبحانه: (لا يَحِلُّ لَكَ اَلنِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَ لا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَ لَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلاّ ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَ كانَ اَللّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ رَقِيباً) .(1)

قوله سبحانه: (لا يَحِلُّ لَكَ اَلنِّساءُ) الآية ناظرة إلى أنّ كثيراً من المهاجرين والأنصار أو من حول المدينة كانوا يرغبون في تزويج بناتهم من النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم ومن المعلوم أنّ ذلك يورث مشاكل للنبي، ولذلك لم يجوَّز له تبديل إحداهن بامرأة أُخرى وإن كانت أجمل، ويظهر من الأخبار أنّ قسماً من المؤمنين يصفون

ص: 517


1- . الأحزاب: 52.

بناتهم بالجمال حتى يوجدوا رغبة عند النبي صلى الله عليه و آله و سلم، ولكن جاء الوحي الإلهي لسد هذا الباب والاقتصار على ما اختار.

الآية الحادية عشرة

قال سبحانه: (يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ اَلنَّبِيِّ إِلاّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ (1) وَ لكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَ لا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي اَلنَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَ اَللّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ اَلْحَقِّ وَ إِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَ قُلُوبِهِنَّ وَ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اَللّهِ وَ لا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اَللّهِ عَظِيماً) .(2)

الآية تتضمّن أحكاماً:

1. عدم دخول بيوت النبي إلّابعد الاستئذان.

2. عدم الحضور في بيت النبي صلى الله عليه و آله و سلم قبل أن يدرك الطعام وينضج.

3. الدخول عند الدعوة (الإذن).

4. التفرّق بعد إتمام الطعام.

5. عدم إطالة الجلوس أُنساً بالحديث وسروراً به بعد تناول الطعام.

6. عدم تكليم نساء النبي صلى الله عليه و آله و سلم إلّامن وراء حجاب.

ص: 518


1- . الضمير يرجع إلى الطعام بمعنى نضجه، يقال: أُنيَ الطعام أدرك وحان نضجه، والمعنى: أي لاتدخلوا بيوت النبي صلى الله عليه و آله و سلم قبل نضج الطعام.
2- . الأحزاب: 53.

7. حرمة التزوّج بزوجاته بعد رحيله صلى الله عليه و آله و سلم.

ثمّ إنّ الظاهر من النهي أنّ النبي كان له مكانة سامية في قلوب المؤمنين وبالطبع أولاده وزوجاته، فلو جاز للناس بعد رحيل الرسول صلى الله عليه و آله و سلم تزويج زوجة من زوجاته، ربما يتخذ الزوج من تلك القرابة وسيلة سياسية واجتماعية على خلاف مصالح المؤمنين، ولأجل ذلك منع الوحي الإلهي من التزويج بهن حتى لا يكنّ طيّعات في أيدي السياسيّين.

الآية الثانية عشرة

قال سبحانه: (لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَ لا أَبْنائِهِنَّ وَ لا إِخْوانِهِنَّ وَ لا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَ لا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَّ وَ لا نِسائِهِنَّ وَ لا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ وَ اِتَّقِينَ اَللّهَ إِنَّ اَللّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيداً) .(1)

لمّا أمر سبحانه الرجال أن يخاطبوا نساء النبي صلى الله عليه و آله و سلم من وراء حجاب حين يسألوهنّ متاعاً، استثنى من ذلك الطوائف التالية:

1. الآباء، 2. الأبناء، 3. الأُخوة، 4. أبناء الأخوة، 5. أبناء الأخوات، 6.

نسائهنّ (المؤمنات)، 7. الجواري.

الآية الثالثة عشرة

قال سبحانه: (يا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَ بَناتِكَ وَ نِساءِ اَلْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلاَبِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَ كانَ اَللّهُ

ص: 519


1- . الأحزاب: 55.

غَفُوراً رَحِيماً) .(1)

هذه الآيات تتضمن إمّا أحكاماً عامّة أو أحكاماً خاصّة بأزواجه، نعم بين هذه الآيات ما يمكن أن يكون دليلاً على الجميع وذلك في فقرتين:

1. قوله سبحانه: (يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلاَبِيبِهِنَّ) ، وقد مرّ الاستدلال بها في لزوم الستر على المرأة.

2. قوله سبحانه: (وَ إِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ) (2).

بقيت هنا ثلاث آيات، وإن كانت تتعلق بالنبي صلى الله عليه و آله و سلم لكن نتيجتها تعمّ كافة المكلفين، وهي آية حليّة أزواج الأدعياء بعد الطلاق، وهذا ما ندرسه تالياً.

الآيات: الرابعة عشرة والخامسة عشرة والسادسة عشرة
اشارة

قال سبحانه: (وَ ما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَ لا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اَللّهُ وَ رَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ اَلْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَ مَنْ يَعْصِ اَللّهَ وَ رَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً * وَ إِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اَللّهُ عَلَيْهِ وَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَ اِتَّقِ اَللّهَ وَ تُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اَللّهُ مُبْدِيهِ وَ تَخْشَى اَلنّاسَ وَ اَللّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ فَلَمّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ

ص: 520


1- . الأحزاب: 59.
2- . الأحزاب: 53.

لا يَكُونَ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَ كانَ أَمْرُ اَللّهِ مَفْعُولاً * ما كانَ عَلَى اَلنَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اَللّهُ لَهُ سُنَّةَ اَللّهِ فِي اَلَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَ كانَ أَمْرُ اَللّهِ قَدَراً مَقْدُوراً).(1)

المفردات

ما كان لمؤمن: أي ليس من شأن المؤمن والمؤمنة، نظير قوله سبحانه:

(وَ ما كانَ اَللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَ أَنْتَ فِيهِمْ) (2) أي: لا ينبغي للّه أن يعذّبهم.

أنعم اللّه عليه: بالإسلام.

أنعمت عليه: بالعتق والحرية.

واتّق اللّه: في حقّ زوجتك ولا تطلّقها.

وتخشى الناس: تخاف من أن يعترض عليك الناس بزواجك من مطلّقة ابنك بالتبنّي.

وطراً: الوطَر: الحاجة.

زوجناكها: جعلناها لك زوجة.

حرج: الحرَج: المشقّة.

فرض اللّه: أوجب اللّه أو قدّر.

ص: 521


1- . الأحزاب: 36-38.
2- . الأنفال: 33.

سنّة اللّه: أي ما سنّ من الأحكام.

خلَوا: مضَوا.

التفسير

كان زيد بن حارثة الكلبي قد اختُطف في الجاهلية وهو غلام يافع، وعُرض للبيع في سوق عكاظ، فاشتراه حكيم بن حزام لعمّته خديجة بنت خويلد، فأهدته خديجة إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بعد زواجها منه. وقد دفعت سيرة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم الحسنة وأخلاقه الفاضلة زيداً هذا إلى أن يحب رسول اللّه حبّاً شديداً، حتّى أنّه عندما جاء أبوه إلى مكّة وأراد أن يفاديه لكي يعود إلى أهله ووطنه، أبى زيد أن يفارق رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، بالرغم من أنّه خيّره بين المكث عنده أو الرحيل مع أبيه.

وكان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يحب زيداً لنباهته وأدبه حتّى أعتقه وتبنّاه، وقد وقف رسول اللّه ذات يوم وقال لقريش: يا من حضر اشهدوا أنّ زيداً هذا ابني(1).

النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم يزوّج زيداً بنت عمّته

من أهداف رسالة الإسلام إزالة الفواصل بين طبقات المجتمع ليعيش جميع أبنائه تحت لواء الإنسانيّة والتقوى، إخوة متحابّين، ولذلك قام صلى الله عليه و آله و سلم بتزويج عتيقه زيد بن حارثة من امرأة شريفة النسب وهي بنت عمّته زينب بنت جحش الأسدية (من بني أسد بن خزيمة)، وأُمّها أُميمة بنت عبدالمطلب، ليعلّم الناس أنّه يجب عليهم الإقلاع عن تلك التقاليد الجاهلية، لكن زينب وأخاها (كما

ص: 522


1- . انظر: الطبقات الكبرى: 3/40-42؛ الاستيعاب (بهامش الإصابة): 1/545-547؛ أُسد الغابة: 2/225.

ورد في بعض الروايات) لم يبديا رغبة في هذا الأمر للوهلة الأُولى، وكان الردّ على النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم أمراً صعباً وقد اعتذرا بعبودية زيد السابقة، حتّى نزل قوله سبحانه يندّد برفض زينب وأخيها طلب النبيّ، وهو ما في قوله سبحانه: (وَ ما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَ لا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اَللّهُ وَ رَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ اَلْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَ مَنْ يَعْصِ اَللّهَ وَ رَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً) .

فلمّا تلاها رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عليهما نزلا عند رغبة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وطاعة لأمره، ورضيا بهذا الزواج، فتزوّجت ذات الحسب والنسب الرفيع بعتيق رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.

تطليق زيد زوجته

ثم إنّ هذا الزواج لم يدم طويلاً، وأمّا ما هو السبب لتطليقه زينب، فليس معلوماً لدينا، وليس هذا الطلاق وحيداً في حياته فقد اتّخذ أزواجاً متعدّدة وطلّقهنّ، ولمّا وقف رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم على نيّة زيد خاطبه بقوله: (أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ) : أي لا تطلّقها (وَ اِتَّقِ اَللّهَ) في أمرها.

وهذا يشير إلى إصرار زيد على مفارقتها. وعلى كلّ تقدير فقد طلّق زيد زينبَ وافترقا.

زواج النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم بمطلقة متبنّاه لإبطال سنّة جاهلية

يوجد في المجتمع العربي الجاهلي أبناء لا يعرف لهم آباء، أو لهم آباء معروفون، لكن الرجل الأجنبي يعجبه أحد هؤلاء فيتبنّاه ويلحقه بنسبه، وتصير له حقوق البنوّة وملحقاتها، ولمّا كان هذا شذوذاً في الأساس أبطله الإسلام؛ لأنّ الولد

ص: 523

الحقيقي ينتمي إلى أبيه بجذور تكوينية فيكون وجود الولد امتداداً طبيعياً لوالده، وأين هذا من الولد المتبنّى الذي ينتمي إلى أبيه لا إلى مَن تبنّاه؟ ولأجل إبطال هذه العادة الجاهلية قال سبحانه: (وَ ما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَ اَللّهُ يَقُولُ اَلْحَقَّ وَ هُوَ يَهْدِي اَلسَّبِيلَ * اُدْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اَللّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي اَلدِّينِ وَ مَوالِيكُمْ وَ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَ لكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَ كانَ اَللّهُ غَفُوراً رَحِيماً) .(1) لقد كان هذا التقليد أمراً سائداً في المجتمع العربي بحيث لم يكن أحد يجرؤ على نقضه، إلى أن أمر اللّه سبحانه رسوله أن يتزوّج مطلّقة دعيّه حتّى يثبت بهذا العمل أنّ متبنّاه ليس ولداً حقيقياً كما سيوافيك تفصيله عند تفسير الآيات.

وقد أثار عمل النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم هذا بين المنافقين ومَن في قلوبهم مرض، ضجّةً وصخباً فاتّهموا النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم بأنّه تزوّج مطلّقة ابنه المتبنّى جهلاً وغفلةً، ولم يعلموا أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم استهدف تهديم سنّة جاهلية مقيتة، وإعادة العلاقات العائلية إلى مسارها الصحيح.

إذا وقفت على ذلك فلنرجع إلى تفسير الآيات:

قوله تعالى: (وَ ما كانَ لِمُؤْمِنٍ).

صيغة (وَ ما كانَ) تارة تستعمل في نفي الإمكان، كما في قوله سبحانه:

(وَ ما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ) (2) .

ص: 524


1- . الأحزاب: 4 و 5.
2- . المؤمنون: 92.

وأُخرى تستعمل في نفي الصلاحية، كما في قوله سبحانه: (وَ ما كانَ اَلْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي اَلدِّينِ وَ لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) (1).

فقوله هنا: (وَ ما كانَ لِمُؤْمِنٍ) * بالمعنى الثاني أي ليس من شأن مؤمن ولا مؤمنة إذا قضى اللّه ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم، فحكمه وقضاؤه سبحانه نافذ على الجميع. وما ذلك إلّالأنّ الإسلام هو التسليم، فردّ قضاء اللّه سبحانه ينافيه، كما قال: (يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اَللّهِ وَ رَسُولِهِ) (2)، فإنّ التقدّم عليهما معصية كبيرة (وَ مَنْ يَعْصِ اَللّهَ وَ رَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً) واشترى سخط اللّه باتّباع الهوى، وقد مرّ أنّ الآية نزلت في ردّ زينب وأخيها طلب النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم، على ما مرّ.

وفي نهاية تفسيرنا لهذه الآية أحبُّ الإشارة إلى ما وقع في مؤتمر أُقيم في المدينة المنوّرة حول خطب النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم في حجّة الوداع، وقد أُلقيت فيه خطب ومحاضرات وقرئت مقالات، ولكن لم ينبس أحد حول خطبة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم في غدير خمّ ببنت شفة، وقد بعثنا برسالتنا حول خطب النبيّ إلى المؤتمر وقام بعض الصلحاء باستنساخها وتوزيعها بين الحضور، إلّاأنّ رئاسة المؤتمر حالت بينهم وبين إلقائها.

ولمّا اتّصل بعض المشاركين من الشيعة برئيس المؤتمر وسأله عن سبب امتناعه عن ذكر خطبة الغدير قال: إنّ الخطبة صدرت عن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم إلّاأنّ الأُمّة لم1.

ص: 525


1- . التوبة: 122.
2- . الحجرات: 1.

تقبلها.

وعند ذلك قلت لصديقي: لماذا لم تقرأ عليه هذه الآية: (وَ ما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَ لا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اَللّهُ وَ رَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ اَلْخِيَرَةُ) ؟

ولاشك أنّ العمل بالمصالح المزعومة كانت حاكمة على النصوص، والحديث بعد ذو شجون.

ثمّ إنّ الآية الثانية تشير إلى ما مرّ من أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم لمّا وقف على أنّ زيداً بصدد تطليق زوجته وعظه ونصحه كما يقول: (وَ إِذْ) : أي اذكر (تَقُولُ لِلَّذِي) : أي زيد (أَنْعَمَ اَللّهُ عَلَيْهِ) بالإيمان والخلاص من أيدي المشركين (وَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِ) بالعتق والتبنّي والمحبّة (أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ) : أي لازم عشرتها.

قوله تعالى: (وَ تُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اَللّهُ مُبْدِيهِ) : أي تخفي الوحي الإلهي الذي أنزله اللّه عليك في «زيد»، حيث إنّ اللّه قد فرض على النبي صلى الله عليه و آله و سلم أن يتزوّج مطلّقة زيد الذي تبنّاه ليرتفع بذلك الحرج عن المؤمنين في التزوّج بمطلّقات أبنائهم بالتبنّي، وكان صلى الله عليه و آله و سلم يخفي ذلك الأمر في نفسه إلى حينٍ، مخافة سوء أثره في الناس، فأمّنه اللّه من ذلك وقال: (وَ تَخْشَى اَلنّاسَ وَ اَللّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ) .

كان النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم يعلم أنّ ثمّة في المجتمع مَن يتصيّد في الماء العكر، ويسارع - في مثل هذه الأحوال - إلى بثّ الإشاعات المغرضة والأقاويل الباطلة، الأمر الّذي يؤثّر على منزلته صلى الله عليه و آله و سلم السامية في النفوس، ومن ثمّ على دوره كنبيّ داعٍ إلى الحقّ، وإلى الاستقامة عليه في القول والفعل والسلوك. ومن هنا كان صلى الله عليه و آله و سلم

ص: 526

يتريّث في إظهار ما ألهمه اللّه من الحكم في أمر زيد وامرأته، حذراً من أن تخوض فيه بالباطل تلك الألسنة الآثمة، فجاءت هذه الفقرة من الآية (وَ تَخْشَى اَلنّاسَ وَ اَللّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ) حاثّة له على عدم الالتفات إلى ما سيقولونه، وأنْ يمضي قُدُماً في تنفيذ ما فُرض عليه.

ثم إنّه يدلّ على ما ذكرنا من أنّ المراد من قوله: (وَ تُخْفِي فِي نَفْسِكَ) الوحي الذي نزل عليك في تزوّج امرأة زيد بعد فراقه إيّاها، قوله سبحانه:

(فَلَمّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً) فهذا يدلّ على أنّه سبحانه قضى بأن يتزوّج النبيّ بزوجة زيد بعد طلاقها، ليكون القدوة على مستوى الممارسة العملية في كسر التقاليد الجاهلية، ولم يكن تزوّجه إيّاها من تلقاء نفسه أو من جهة أُخرى وإنّما كان امتثالاً لأمر اللّه، كما يقول: (وَ كانَ أَمْرُ اَللّهِ مَفْعُولاً) :

أي نافذاً وواقعاً.

ثم إنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم لمّا كان في حرج نفسي من هذا الأمر، أوحى إليه سبحانه بالآية التالية أعني قوله تعالى: (ما كانَ عَلَى اَلنَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اَللّهُ لَهُ) :

أي ليس على النبيّ حرج ومنع فيما أحلّ اللّه له من نكاح امرأة مَن تبنّاه بعد فراقه إيّاها، وليس هذا أمراً خاصّاً بالنبي بل هو (سُنَّةَ اَللّهِ فِي اَلَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ) :

أي سنّة الأنبياء الذين مضَوا من قبل، وهل المراد حلّيّة زوجة المتبنّى بعد التطليق، أو المراد كثرة الزوجات والسراري؟ والأوّل أرجح.

قوله تعالى: (وَ كانَ أَمْرُ اَللّهِ قَدَراً مَقْدُوراً) هذه الفقرة كالتي سبقتها - أعني قوله تعالى: (وَ كانَ أَمْرُ اَللّهِ مَفْعُولاً) - والمراد أنّ تشريع اللّه هو الذي قُدّر، ولا محال

ص: 527

هو كائن.

ولمّا تقدّم قوله: (اَلَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ) فلابد من توضيح صفات وبيان مَن هم؟ وهذا ما تكفّلت به الآية اللاحقة.(1)

***

تمّ الكلام في الجزء الثاني من كتاب «ألطاف الرحمن في فقه القرآن»

ويليه الجزء الثالث مبتدأ بآيات الطلاق إلى آخر آيات

الحدود والقصاص بإذن اللّه سبحانه.

والحمد للّه ربّ العالمين).

ص: 528


1- . لاحظ: منية الطالبين في تفسير القرآن المبين: 154/22، تفسير الآية 39 (سورة الأحزاب).

فهرس المحتويات

مقدّمة المؤلف... 7

الفصل السابع

أحكام الجهاد في الذكر الحكيم

الجهاد في الذكر الحكيم... 11

تمهيد... 11

الغاية من الجهاد الابتدائي... 13

1. في وجوب الجهاد... 16

الآية الأُولى... 16

المفردات... 16

التفسير... 17

الآية الثانية... 19

المفردات... 19

التفسير... 20

كون الجهاد خالصاً للّه تعالى... 20

الآية الثالثة... 25

المفردات... 25

ص: 529

التفسير... 26

الآية الرابعة... 28

الآية الخامسة... 29

المفردات... 29

التفسير... 29

ما هو المراد من التهلكة؟... 30

2. الطوائف الأربع الذين لا يجب عليهم الجهاد... 32

المفردات... 32

التفسير... 33

نفي السبيل عن الطوائف الأربع... 33

قاعدة الإحسان... 34

مَن لا يجد الراحلة... 36

3. الجهاد الدفاعي... 39

الآية الأُولى... 39

المفردات... 39

التفسير... 39

قتال مَن يقاتل المسلمين... 39

الآية الثانية... 41

المفردات... 42

التفسير... 42

قتال المعتدين بمثل ما اعتدوا... 42

الآية الثالثة... 43

ص: 530

التفسير... 44

قتال أولياء الشيطان... 44

الآية الرابعة... 46

التفسير... 46

ردّ بأس الكافرين... 46

الآيتان: الخامسة والسادسة... 47

المفردات... 47

التفسير... 48

القتال لحفظ مراكز العبادة... 48

الآية السابعة... 50

المفردات... 50

التفسير... 51

النفير العام بسبب قوّة العدو... 51

الآية الثامنة... 53

المفردات... 53

التفسير... 53

الجزاء على الأعمال صغيرها وكبيرها... 53

حصيلة الآيات... 54

4. الجهاد الابتدائي... 56

الآية الأُولى... 59

المفردات... 59

التفسير... 60

ص: 531

الجهاد الابتدائي لتحرير المستضعفين من ظلم المستكبرين... 60

الآية الثانية... 62

المفردات... 62

التفسير... 63

أخذ الجزية ومصارفها... 68

في شرائط الذمّة... 71

الآية الثالثة... 72

المفردات... 72

التفسير... 72

ما هو المراد من جهاد المنافقين؟... 73

الآية الرابعة... 74

المفردات... 75

التفسير... 75

الجهاد الابتدائي لقتال الناقضين لأيمانهم... 75

الحرية وحدودها... 78

الجهاد الابتدائي وشروطه... 80

5. كيفية القتال وشروطه... 83

الآيتان: الأُولى والثانية... 84

المفردات... 84

التفسير... 85

حرمة التولّي عن العدو... 85

الآيتان: الثالثة والرابعة... 87

ص: 532

المفردات... 87

التفسير... 88

منع أخذ الأسرى قبل انتهاء الحرب... 88

الفداء أو بيع الإنسان... 90

العفو عن أخذ الأسرى قبل انتهاء الحرب... 91

الخطاب متوجّه إلى مَن؟!... 91

الآية الخامسة... 93

المفردات... 93

التفسير... 94

ضوابط أخذ الأسرى... 94

إذا طالت الحرب شهوراً... 96

الآيات: السادسة والسابعة والثامنة والتاسعة... 98

المفردات... 98

التفسير... 99

وصف الطوائف الثلاث الناقضين للعهد... 99

موقف النبي صلى الله عليه و آله و سلم ممّن نقض عهده وطائفة وراءه... 102

موقف النبي صلى الله عليه و آله و سلم ممّن يترقّب منه نقض العهد... 102

6. التعبئة والاستعداد التام للدفاع عن المجتمع المسلم... 104

المفردات... 104

التفسير... 104

7. الصلح في ظروف خاصّة... 108

الآية الأُولى... 108

ص: 533

المفردات... 108

التفسير... 108

8. الصلح بين طائفتين مسلمتين... 111

المفردات... 111

التفسير... 111

قتال البغاة... 113

9. حرمة المبادرة إلى التكفير بلا دليل... 116

المفردات... 116

شأن نزول الآية... 116

التفسير... 118

وجوب الاحتياط في الدماء... 118

الفصل الثامن:

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الذكر الحكيم

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر... 123

1. ما يدلّ على وجوب الفريضتين... 124

الآية الأُولى... 124

المفردات... 124

التفسير... 124

الآية الثانية... 125

المفردات... 126

التفسير... 126

الآية الثالثة... 127

ص: 534

المفردات... 128

التفسير... 128

2. هل الفريضة واجب عيني أو كفائي؟... 130

أسئلة وأجوبة... 130

3. الفريضتان في الشرائع السالفة... 135

4. في شروط النهي عن المنكر... 137

5. حكم التقية في الذكر الحكيم... 140

الآية الأُولى... 140

المفردات... 140

التفسير... 141

الآية الثانية... 143

المفردات... 143

التفسير... 144

الآية الثالثة... 146

المفردات... 146

التفسير... 146

الآية الرابعة... 147

المفردات... 147

التفسير... 148

مكانة أبي طالب نفس مكانة أصحاب الكهف... 149

مورد الآيات اتّقاء المسلم من الكافر... 150

ص: 535

الفصل التاسع:

المكاسب المحرّمة في الذكر الحكيم

1. التطفيف... 155

الآية الأُولى... 155

المفردات... 155

التفسير... 156

التطفيف مورداً أعمّ ممّا يكال ويوزن... 158

التطفيف بنفسه حرام... 158

الآية الثانية... 160

المفردات... 160

التفسير... 160

الآية الثالثة... 162

الآية الرابعة... 162

فرع: لو آجر نفسه للتوزين فأخسر... 163

2. الرشوة... 164

الآية الأُولى... 164

المفردات... 164

التفسير... 165

الآيتان: الثانية والثالثة... 166

المفردات... 166

التفسير... 166

الآية الرابعة... 169

ص: 536

المفردات... 169

التفسير... 169

1. أكل المال بالباطل... 169

2. أكل المال بالرشوة... 170

حكم الرشا في إحقاق الحق... 170

3. أكل الميتة والدم و...... 172

الآية الأُولى... 172

المفردات... 173

التفسير... 174

الآية الثانية... 174

المفردات... 174

التفسير... 175

4. التكسّب بالأُمور الأربعة: الخمر والميسر والأنصاب والأزلام... 176

الآيتان: الأُولى والثانية... 176

المفردات... 176

التفسير... 177

5. الربا... 179

تمهيد... 179

الآية الأُولى... 180

المفردات... 180

التفسير... 181

الآية الثانية... 182

ص: 537

الآية الثالثة... 183

المفردات... 183

التفسير... 183

الآية الرابعة... 184

المفردات... 184

التفسير... 185

الآيتان: الخامسة والسادسة... 188

المفردات... 188

التفسير... 188

6. حكم الرقص في الكتاب والسنّة الشريفة... 191

أقوال فقهاء السنّة... 191

أقوال فقهاء الشيعة... 192

الروايات المتعلّقة بالمسألة... 193

7. الغناء... 197

المقام الأُول: دراسة ما استدلّ به من الآيات على حكم الغناء... 197

الآية الأُولى... 197

المفردات... 198

التفسير... 198

الآية الثانية... 200

الآية الثالثة... 200

المفردات... 201

التفسير... 201

ص: 538

الآية الرابعة... 202

الآية الخامسة... 203

المفردات... 203

الآية السادسة... 204

المقام الثاني: في حقيقة الغناء... 205

الفصل العاشر:

العقود الشرعية وشيء من الإيقاعات في الذكر الحكيم

العقود الشرعية... 211

تمهيد... 211

الأمر الأوّل: لزوم الوفاء بالعقود... 211

المفردات... 212

التفسير... 213

ما هو مفاد وجوب الوفاء بالعقد؟... 215

الأمر الثاني: كون التجارة عن تراض... 215

المفردات... 216

التفسير... 216

التجارة عن تراض مفيدة للملكية أو إباحة التصرّف؟!... 217

هل المعاطاة داخلة في الآية أو لا؟... 218

1. البيع... 220

الكتابة والإشهاد في البيع... 221

2. الإجارة... 223

الآيتان: الأُولى والثانية... 224

ص: 539

المفردات... 224

التفسير... 225

الآية الثالثة... 230

3. الدين أو القرض... 233

الآية الأُولى... 233

المفردات... 234

التفسير... 235

1. التوثّق للدين بالكتابة... 236

2. كتابة شخص ثالث... 237

3. رعاية العدل في الكتابة... 237

4. عدم امتناع الكاتب عن الكتابة... 238

5. إملاء مَن عليه الحقّ على الكاتب... 239

6. رعاية التقوى لمَن عليه الحقّ... 239

7. قيام إملاء الولي مكان المولّى عليه... 239

8. إملاء الولي بالعدل... 239

9. الاستشهاد بشهيدين... 240

10 و 11. اشتراط البلوغ والإسلام... 240

12. قيام امرأتين مكان رجل واحد... 240

13. اعتبار الوثاقة في الشهداء... 240

14. وجوب الحضور على الشهود عند الدعوة... 242

15. كتابة الدين جليله وحقيره... 242

16. استثناء التجارة الحاضرة... 243

ص: 540

17. الاستشهاد في المعاملة النقدية... 243

18. عدم إيقاع الضرار على الكاتب والشهيد... 244

الآية الثانية... 246

المفردات... 246

التفسير... 247

الآية الثالثة... 248

المفردات... 248

التفسير... 249

4. الضمان والكفالة... 252

تمهيد... 252

الآية الأُولى... 253

المفردات... 253

الآية الثانية... 255

5. الصلح... 256

تمهيد... 256

الآية الأُولى... 257

الآية الثانية... 257

الآية الثالثة... 259

المفردات... 260

التفسير... 260

لو اتّفقا على الفراق... 262

الآية الرابعة... 263

ص: 541

المفردات... 263

التفسير... 263

الآية الخامسة... 265

المفردات... 265

التفسير... 266

الآية السادسة... 267

المفردات... 267

التفسير... 267

تنبيه... 268

6. الإيداع والوديعة... 269

تمهيد... 269

الآية الأُولى... 269

المفردات... 270

التفسير... 270

نفثة مصدور... 273

الآية الثانية... 275

المفردات... 275

التفسير... 275

أهل الكتاب بين أمين وخائن... 276

الآية الثالثة... 278

التفسير... 278

7. العارية... 280

ص: 542

8. عقد المسابقة و الرماية... 282

الآية الأُولى... 282

الآية الثانية... 283

المفردات... 283

التفسير... 284

9. الشُّفعة... 287

تمهيد... 287

خاتمة... 287

1. اللقطة: الشيء الذي يجده الإنسان من غير قصد... 288

2. حكم الغصب... 288

10. الوصية... 289

تمهيد... 289

الآيات: الأُولى والثانية والثالثة... 290

المفردات... 290

التفسير... 291

سعة رقعة الوصية... 291

النهي عن تبديل الوصية... 292

إذا أوصى بغير الحقّ... 293

الإيصاء للوارث غير منسوخ... 295

ملاحظات على القول بنسخ الآية بالسنّة... 300

الآية الرابعة... 303

التفسير... 303

ص: 543

تقديم الوصية والدين على تحديد التركة... 303

الآية الخامسة... 304

التفسير... 305

تقديم الوصية والدين على تحديد التركة... 305

الآية السادسة... 306

المفردات... 306

التفسير... 306

11. في أحكام الحجر... 311

أوّلاً: الحجر بسبب الصغر... 311

الآية الأُولى... 311

المفردات... 312

التفسير... 312

أكل مال اليتيم من الكبائر... 313

الآية الثانية... 314

المفردات... 314

إعراب فقرات الآية... 315

التفسير... 316

رأي أبي حنيفة في تفسير الفقرة... 319

الآية الثالثة... 322

المفردات... 322

التفسير... 322

الآية الرابعة... 324

ص: 544

المفردات... 325

التفسير... 325

ثانياً: الحجر بسبب السفه... 327

المفردات... 327

التفسير... 328

ثالثاً: الحجر بسبب الرّق... 332

الايقاعات... 333

1. النذر... 333

الآية الأُولى... 333

المفردات... 334

التفسير... 334

الآية الثانية... 335

المفردات... 335

التفسير... 335

2. أحكام اليمين... 338

الآية الأُولى... 338

المفردات... 339

التفسير... 339

الآية الثانية... 341

المفردات... 341

التفسير... 342

الآية الثالثة... 343

ص: 545

المفردات... 344

التفسير... 344

حكم غير الواجد للأُمور الثلاثة... 348

3. أحكام العتق... 349

تمهيد... 349

الآية الأُولى... 351

المفردات... 351

التفسير... 351

شأن النزول... 351

الآية الثانية... 352

المفردات... 353

التفسير... 353

الآية الثالثة... 356

الفصل الحادي عشر:

أحكام النكاح في الذكر الحكيم

1. آداب النكاح والحثّ عليه والترغيب فيه... 361

تمهيد... 361

الآية الأُولى... 362

المفردات... 363

التفسير... 363

الآية الثانية... 366

المفردات... 367

ص: 546

التفسير... 367

الآية الثالثة... 367

المفردات... 368

التفسير... 369

هل القرآن يبيح نكاح تسع نساء؟... 370

الأوّل: وجه الصلة بين الشرط (فإن خفتم) والجزاء (فانكحوا)... 372

الثاني: القرطبي يتّهم الشيعة بإباة العقد على التسع!!... 373

الثالث: المراد التسوية في الحقوق لا العلائق القلبية... 373

كلمات غير صحيحة حول الآية... 375

الآيات الرابعة والخامسة والسادسة... 376

المفردات... 376

التفسير... 376

2. أحكام معاشرة النساء... 379

الآية الأُولى... 379

المفردات... 379

التفسير... 380

ضوابط النظر بين الرجل والمرأة الأجنبيين... 380

الآية الثانية... 384

المفردات... 384

التفسير... 385

الأحكام الستة في مورد النساء... 385

الحُكم الأوّل: غضّ الأبصار... 386

ص: 547

الحكم الثاني: حفظ الفروج... 386

الحكم الثالث: عدم إبداء الزينة إلّاما ظهر منها... 386

الحكم الرابع: إلقاء الخُمُر على الجيوب... 389

وجه فرض الحجاب على النساء... 391

الحكم الخامس: حرمة إبداء الزينة إلّافي موارد خاصّة... 392

علّة عدم ذكر العمّ والخال... 394

الحكم السادس: حرمة الضرب بالأرجل... 394

الآية الثالثة... 395

المفردات... 396

التفسير... 396

حكم القواعد من النساء في أمر الحجاب... 396

الآية الرابعة... 397

المفردات... 398

التفسير... 398

أحكام العشرة والمخالطة... 398

الآية الخامسة... 400

التفسير... 400

حكم الأطفال البالغين... 400

الآية السادسة... 401

المفردات... 402

التفسير... 402

ما هو الوجه لتخصيص الطوائف الثلاث بالذكر؟... 404

ص: 548

ما هي الوظيفة عند الدخول للبيوت؟... 406

3. النساء اللاتي يحرم نكاحهن... 408

الآية الأُولى... 408

المفردات... 408

التفسير... 409

حكم منكوحة الأب... 409

الآية الثانية... 410

المفردات... 410

التفسير... 411

مَن يحرم نكاحهن نسباً... 411

موارد أُخرى ممّن اللّواتي يحرم نكاحهنّ... 413

الأُولى: مَنْ يحرم نكاحهن رضاعاً... 414

الثانية: مَنْ يحرم نكاحهنّ بالمصاهرة... 416

الآية الثالثة... 417

المفردات... 418

التفسير... 418

حكم نكاح المطلّقة مرّتين... 418

الآية الرابعة... 419

التفسير... 419

حكم المطلقة ثلاثاً... 419

الآية الخامسة... 421

المفردات... 421

ص: 549

التفسير... 422

حكم المتزوّجات من النساء... 422

حكم الزواج المؤقّت... 424

القرينة الأُولى: المراد من قوله: (فما استمتعتم) هو عقد الاستمتاع لا التلذّذ... 424

عقد الاستمتاع حقيقة في العقد المؤقّت... 425

القرينة الثانية: الحمل على النكاح الدائم أو الصداق يستلزم التكرار... 425

القرينة الثالثة: الجملتان المتقدّمتان على قوله: (فما استمتعتم)... 426

حقيقة الزواج المؤقّت في القرآن الكريم... 428

الزواج المؤقت في صدر الإسلام... 429

صدور المنع في عصر الخليفة لثاني... 431

في نكاح الأمة... 436

الآية السادسة... 436

المفردات... 436

التفسير... 437

نكاح الأمة بشروط خمسة... 437

في حرمة نكاح المشركات والمشركين... 443

الآية السابعة... 443

المفردات... 443

التفسير... 444

النهي عن نكاح المشركات ونكاح المشركين... 444

عثرة لا تستقال لمؤلّف «الفقه على المذاهب الأربعة»... 446

نكاح العفائف من أهل الكتاب... 449

ص: 550

الآية الثامنة... 449

المفردات... 449

التفسير... 450

حكم نكاح المسلم الكتابية... 451

ما استدلّ به على حرمة نكاح الكتابيّة... 453

1. النهي عن نكاح المشركات... 453

2. النهي عن نكاح الكوافر... 454

3. عموم التعليل في مورد نكاح المشركة... 454

في حرمة نكاح الزانية... 456

الآية التاسعة... 456

التفسير... 456

دليل المخالفين على الجواز... 458

4. أحكام المهور في الذكر الحكيم... 461

الآية الأُولى... 461

المفردات... 462

التفسير... 462

وجوب إيتاء الصداق (المهور) إلى النساء... 462

الآية الثانية... 464

المفردات... 465

التفسير... 465

المحاور الخمسة في الآية... 465

الآيتان: الثالثة والرابعة... 471

ص: 551

المفردات... 471

التفسير... 472

قداسة عقد الزواج وأنّه ليس من مقولة البيع... 473

لا حدّ للمهر في الإسلام... 475

الآية الخامسة... 476

المفردات... 476

التفسير... 477

هل التمتيع واجب أو مندوب؟... 479

الآية السادسة... 482

المفردات... 482

التفسير... 483

المطلّقة غير المدخول بها المفروض لها المهر... 483

5. أحكام النشوز في الذكر الحكيم... 487

تمهيد... 487

الآية الأُولى: في نشوز المرأة... 487

المفردات... 488

التفسير... 488

قيمومة الرجال على النساء وحدودها... 490

النشوز وحدوده... 491

الآية الثانية: في نشوز الزوج... 492

المفردات... 492

التفسير... 493

ص: 552

نشوز الزوج على زوجته... 493

الآية الثالثة: إعمال العدالة بين النساء في النفقة... 495

المفردات... 495

التفسير... 495

النهي عن ترك الزوجة كالمعلّقة... 495

لا اختلاف بين الآيتين... 496

6. حقوق الزوجة على الزوج في الذكر الحكيم... 498

تمهيد... 498

الآية الوحيدة في أحكام الرضاع... 499

المفردات... 499

التفسير... 500

1. إرضاع الأولاد حولين كاملين... 501

2. ما تستحقه الوالدة خلال فترة الرضاع... 502

3. التكليف على حدّ القدرة... 503

4. منع الزوجين عن اتّخاذ الولد ذريعة للإضرار... 503

5. استمرار وجوب النفقة على وارث الوالد... 504

6. فطام الولد يتمّ عن طريق التشاور بين الزوجين... 504

7. استئجار المرضعة... 504

بقي هنان بحثان:... 505

1. أهمية لبن الأُمّ للمولود... 505

2. شروط المرضعة... 506

7. الآيات النازلة في نساء النبي صلى الله عليه و آله و سلم... 507

ص: 553

الآية الأُولى... 508

الآية الثانية... 508

الآية الثالثة... 508

الآية الرابعة... 508

الآية الخامسة... 509

الآية السادسة... 509

1. إفراد البيت في مقابل البيوت... 510

2. اللام في أهل البيت للعهد... 510

الآية السابعة... 514

الآية الثامنة... 514

الآية التاسعة... 516

الآية العاشرة... 517

الآية الحادية عشرة... 518

الآية الثانية عشرة... 519

الآية الثالثة عشرة... 519

الآيات: الرابعة عشرة والخامسة عشرة والسادسة عشرة... 520

المفردات... 521

التفسير... 522

النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم يزوّج زيداً بنت عمّته... 522

تطليق زيد زوجته... 523

زواج النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم بمطلقة متبنّاه لإبطال سنّة جاهلية... 523

قوله تعالى: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ)... 524

فهرس المحتويات... 529

ص: 554

المجلد 3

اشارة

سرشناسه : سبحانی تبریزی، جعفر، 1308 -

Sobhani Tabrizi, Jafar

عنوان و نام پديدآور : الطاف الرحمن فی فقه القرآن/ تالیف جعفر السبحانی.

مشخصات نشر : قم: موسسه الامام صادق (ع)، 1441ق.= 1398-

مشخصات ظاهری : ج.

فروست : موسسه امام صادق (ع)؛ 487.

شابک : دوره: 978-964-357-628-8 ؛ ج.1: 978-964-357-627-1 ؛ ج.2: 978-964-357-634-9 ؛ ج.3: 978-964-357-645-5

وضعیت فهرست نویسی : فاپا

يادداشت : عربی.

يادداشت : ج.3(چاپ اول: 1399) (فیپا).

مندرجات : ج.1. فی دراسه الآیات الوارده لبیان احکام الطهاره والصلاه والصیام والزکاه والانفال والفیء والخمس والحج.-ج.2. فی دراسه الآیات الوارده لبیان احکام: الجهاد والأمربالمعروف والنهی عن المنکر٬ والمکاسب المحرمة٬ و العقود الشرعیة والایقاعات والأحکام النکاح

موضوع : قرآن -- احکام و قوانین

Qur'an -- Law and legislation

موضوع : تفاسیر فقهی -- شیعه

Qur'an -- *Legislative hermeneutics -- Shiite

قرآن -- علوم قرآنی

Qur'an -- Qur'anic sciences

شناسه افزوده : موسسه امام صادق (ع)

رده بندی کنگره : BP99/6

رده بندی دیویی : 297/174

شماره کتابشناسی ملی : 5781015

اطلاعات رکورد کتابشناسی : فاپا

ص: 1

اشارة

بسم الله الرحمن الرحيم

ص: 2

ألطاف الرحمن

في

فقه القرآن/ 1

ص: 3

ص: 4

ألطاف الرحمن

في فقه القرآن

الجزء الثالث

في دراسة الآيات الواردة لبيان أحكام الطهارة والصلاة

والصيام والزكاة والأنفال والفيء والخمس والحجّ

تأليف

الفقيه المحقّق

جعفر السبحاني

نشر

مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

ص: 5

سبحانى تبريزى، جعفر، 1308 -

ألطاف الرحمن في فقه القرآن / تأليف جعفر السبحاني. - قم: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام، 1397.

2 ج (VOL.1) 1-627-357-964-978 ISBN

(2VOL.SET) 8-628-357-964-978 ISBN

فهرستنويسى بر اساس اطلاعات فيپا.

كتابنامه به صورت زيرنويس.

ج. 1. في دراسة الآيات الواردة لبيان أحكام الطهارة والصلاة والصيام والزكاة والأنفال والفيء والخمس والحجّ.

1. قرآن -- احكام و قوانين. 2. تفاسير فقهى -- شيعه. الف. موسسۀ امام صادق عليه السلام. ب. عنوان.

7 الف 2 س 6/99 BP 174/297

1397

اسم الكتاب:... ألطاف الرحمن في فقه القرآن / ج 1

المؤلف:... الفقيه المحقّق جعفر السبحاني التبريزي

الطبعة:... الأُولى

تاريخ الطبع:... 1397 ه ش / 1440 ه. ق / 2019 م

المطبعة:... مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

الناشر:... مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

عدد النسخ:... 1000 نسخة

القطع:... وزيري

التنضيد والإخراج الفني:... مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

تسلسل النشر: 1031 تسلسل الطبعة الأُولى: 487

حقوق الطبع محفوظة للمؤسسة

مركز التوزيع

قم المقدسة: ساحة الشهداء: مكتبة التوحيد

? 37745457؛ 09121519271

http://www.Tohid.ir

http://www.imamsadiq.org

ص: 6

الفصل الثاني عشر: في أحكام الطلاق وغيره من الإيقاعات في الذكر الحكيم

اشارة

1. أحكام الطلاق في الذكر الحكيم.

2. تطليق الزوجة ثلاثاً دفعة واحدة.

3. أحكام العدد.

4. أحكام الظهار في الذكر الحكيم.

5. أحكام الإيلاء في الذكر الحكيم.

6. أحكام اللعان في الذكر الحكيم.

7. أحكام الارتداد في الذكر الحكيم.

ص: 7

ص: 8

أحكام الطلاق

1. أحكام الطلاق في الذكر الحكيم

اشارة

النكاح والطلاق لفظان أشبه بالمتضايفين وكلّ مَن سمع النكاح ربما يتبادر في ذهنه الطلاق وبالعكس، فالأوّل سماعه حلو والثاني سماعه مرّ، فالنكاح بناء بيت للمعاشرة وإبقاء النسل، والطلاق تهديم ذلك البيت وتخريبه، فالإسلام دعا إلى النكاح دعوة حثيثة وذمّ الطلاق، فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في وصف الأوّل: «ما بني في الإسلام بناء أحبّ إلى اللّه عزّ وجلّ من التزويج».(1)

وفي الوقت نفسه وصف الطلاق بأنّه أبغض الأشياء، فقد روى الكليني بسنده عن صفوان بن مهران، عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «تزوّجوا وزوّجوا، ألا فمن حظّ امرئ مسلم إنفاق قيمة أيّمة [أي التي لا زوج لها، بكراً كانت أو ثيباً]، وما من شيء أحبّ إلى اللّه عزّ وجلّ من بيت يعمر في الإسلام بالنكاح، وما من شيء أبغض إلى اللّه عزّ وجل من بيت يُخْرب في الإسلام بالفرقة، يعنى الطلاق» ثمّ قال أبو عبد اللّه عليه السلام: «إنّ اللّه عزّ وجلّ إنّما وكّد في

ص: 9


1- . بحار الأنوار: 222/100، برقم 40.

الطلاق وكرّر القول فيه من بغضه الفرقة».(1)

ومع ذلك كلّه ربما يكون حفظ العلاقة بين الزوجين أمراً شاقّاً لسوء الخلق من أحد الزوجين أو عدم انسجامهما وكثرة المشاكل بينهما أو غير ذلك، ففي مثل هذه الظروف ربما يكون حفظ العلاقة بين الزوجين منتهياً إلى ما لا تحمد عقباه، فلذلك شرّع الإسلام الطلاق، بما أنّ آخر الدواء الكيّ، ولكن جعل له شروطاً وحدوداً، تحفظ بها كرامة الزوجة. إنّ تشريع الطلاق في بعض الأزمنة دليل على أنّ رسالة النبي وشريعته شريعة خاتمة، فإنّ سدّ باب الطلاق كما في بعض الفرق من المسيحيّين على خلاف المصلحة العامّة، إذ ربما يكون بقاء الزوجين على ما هما عليه موجباً للحرج والضيق.

إذا تبيّن ذلك فلندرس ما ورد حول الطلاق من الآيات التي تتضمّن تشريعات سماوية تحفظ كرامة البيت.

الوظائف الخمس عند الطلاق وبعده
اشارة

قال سبحانه: «يا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ اَلنِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَ أَحْصُوا اَلْعِدَّةَ وَ اِتَّقُوا اَللّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَ لا يَخْرُجْنَ إِلاّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَ تِلْكَ حُدُودُ اَللّهِ وَ مَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اَللّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اَللّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ

ص: 10


1- . الوسائل: 14، الباب 1 من أبواب مقدمات النكاح وآدابه، الحديث 10. قوله: وكّد: اشتدّ، ولعلّ المراد من قوله: «إنفاق قيمة أيّمة» إنفاق ما يوازي قيمة ائمة «ايمة» في طريق زواجه، امّا جعلها صداقاً، أو إنفاقها وليمة ليله العرس، لكنّ العلّامة المجلسي أعلى اللّه مقامه - فسّره بوجه آخر. لاحظ مرآة العقول: 19/2.

ذلِكَ أَمْراً».(1)

المفردات

أحصوا: الإحصاء: معرفة العدّ وضبطه، أُخذ من الحصاة لأنّهم كانوا إذا كثرت أعداد شيء جعل لكلّ معدود حصاة، ثم عدّوا ذلك الحصى.

العدّة: الشيء المعدود، والمراد الأيام، وعدّة المرأة هي الأيام التي بانقضائها يحلّ لها التزوّج. والاعتداد: قعود المرأة عن الزوج حتى تنقضي المدّة المرتبة في الشريعة.

بفاحشة: الفاحشة: الزنا أو كلّ فعل سوء يؤذي الزوج ومَن في البيت.

حدود: الحدود: الحدّ: الحاجز بين الشيئين الذي يمنع اختلاط أحدهما بالآخر.

التفسير

ابتدأ سبحانه كلامه في سور ثلاث بخطاب النبي صلى الله عليه و آله و سلم وهي: سورة الأحزاب حيث قال: «يا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ اِتَّقِ اَللّهَ» ، والثانية سورتنا هذه، والثالثة: سورة التحريم. حيث قال: «يا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اَللّهُ لَكَ».

وعلى كلّ تقدير فقد خاطب سبحانه النبي صلى الله عليه و آله و سلم بقوله: «إِذا طَلَّقْتُمُ اَلنِّساءَ» أطلق الفعل «طَلَّقْتُمُ» وأُريد به قصده، نظير قوله سبحانه: «يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى اَلصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ...»(2) : أي إذا أردتم الصلاة.

ص: 11


1- . الطلاق: 1.
2- . المائدة: 6.

ثم إنّه سبحانه بدأ الآية بخطاب النبي صلى الله عليه و آله و سلم والخطاب بالتطليق بالمؤمنين كما قال: «إِذا طَلَّقْتُمُ اَلنِّساءَ» وما هذا إلّالأنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم هو المبيّن للأحكام، وأنّه صلى الله عليه و آله و سلم لم يطلّق زوجة طيلة حياته ثمّ إنّه سبحانه أمر المؤمنين بعدّة أُمور:

1. «فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ» : أي طلّقوهن لغاية اعتدادهنّ، أو عند عدّتهنّ.

2. «وَ أَحْصُوا اَلْعِدَّةَ» بضبط أيّامها، وعدم التساهل فيها، حتى لا يكون على الزوجين في أمر الإمساك أو التسريح حرج.

3. «وَ اِتَّقُوا اَللّهَ رَبَّكُمْ» لم يذكر متعلّق التقوى ليعمّ جميع المقامات ولا سيّما في ضبط أيام العدّة؛ لأنّ التساهل في هذا الأمر ينتهي إلى ما لا تحسن عاقبته.

4. «لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ» : أي لا يجوز للزوج أن يخرج المطلّقة المعتدّة من مسكنها التي كانت تسكن فيه قبل الطلاق. والنهي عن إخراجها من بيتها لمصلحة الزوجين؛ لأنّ بقاءهما في نفس البيت الذي يسكن فيه الزوج ربما يؤثّر في رجوع الزوج عن الفراق وعدوله عن الطلاق، وبما أنّ المعتدّة بحكم الزوجة يجوز لها التزيّن لجلب نظر الزوج.

5. «وَ لا يَخْرُجْنَ» : أي لا يجوز للمرأة أن تخرج في عدّتها من بيتها إلّا لضرورة ظاهرة، وذلك لأنّ المعتدّة بمنزلة الزوجة فلا تخرج إلّابإذن زوجها، فإن خرجت أثمت.

6. «إِلاّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ» الاستثناء يتعلّق بما مرّ من قوله: «لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ» : أي ليس للزوج أن يخرج المعتدّة من مسكنها إلّاإذا أتت بفاحشة، أي ما عظم قبحه من الأقوال، أي ليس للزوج أن يخرج المعتدّة من مسكنها «إِلاّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ».

ص: 12

روى الكليني بسند منقطع عن الإمام الرضا عليه السلام في تفسير الآية، قال: أذاها لأهل الرجل وسوء خلقها.(1)

ثمّ إنّه سبحانه أتمّ الآية بقوله: «وَ تِلْكَ حُدُودُ اَللّهِ» : أي ما تقدّم من الأحكام في حدود اللّه التي حدّد بها حياة الزوجين، «وَ مَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اَللّهِ» : أي بتجاوزها «فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ» لأنّ كلّ ما حدّده فهو لصالح الإنسان، ومن خالف وهدم الحدود فإنّه سيتضرّر وإن لم يقف على عاقبة الأمر حين المخالفة.

وفي ختام الآية يخلق الأمل في نفس الزوجين قائلاً «لا تَدْرِي» المخاطب كلّ مَن هو في هذا الصدد «لَعَلَّ اَللّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً» فتنقلب البغضاء إلى المحبّة، والكدورة إلى الصفاء.

إلى هنا تمّ تفسير الآية بحرفيّتها، وإليك الكلام في أحكام أُخرى تتعلّق بالموضوع.

1. حكم الطلاق في الحيض

اتّفقت الإمامية على بطلان الطلاق في الحيض وأنّه لا يصحّ إلّافي حال الطهر من الحيض، وذهب فقهاء السنّة إلى أنّ الطلاق في الحيض إثم ويُسمّى عندهم طلاقاً بدعياً، ولكنّهم قالوا بصحّته، ومع ذلك لا تحسب هذه الحيضة من عدّة المطلقة فتنتظر حتّى تطهر من حيضتها وتنقضي مدّة طهرها ثم تبدأ العدّة من الحيضة التالية.(2)

ص: 13


1- . الكافي: 97/6، الحديث 1؛ الوسائل: 15، الباب 23 من أبواب العدد، الحديث 1، وفسّر في بعض الروايات بالزنا، لاحظ الحديث 3 من الباب الماضي من الوسائل.
2- . لاحظ: نظام الطلاق في الشريعة الإسلامية الغرّاء: 46. والعدة عندهم هي الحيضات الثلاث كما ستأتي.

أقول: إنّ المستفاد من الآية بطلان الطلاق في الحيض، فإنّ ظاهر قوله سبحانه: «إِذا طَلَّقْتُمُ اَلنِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ» أنّ الزوج إذا أراد أن يطلّق زوجته فعليه أن ينتظر الوقت المناسب للدخول في العدّة، بحيث يكون الوقت الّذي تطلّق فيه جزءاً من العدّة، والمفروض أنّها لو طلّقت في حالة الحيض لا تحسب منها بالاتّفاق.

وهذا هو الظاهر من القرطبي حيث فسّر اللام ب «في» وقال: معنى:

«فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ» : أي في الزمان الّذي يصلح لعدّتهن، وقد حصل الإجماع على أنّ الطلاق في الحيض ممنوع وفي الطهر مأذون فيه.(1)

إنّ اللام في قوله: «لِعِدَّتِهِنَّ» بمعنى لام الغاية فمعنى قوله: «فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ» : أي لغاية أن يعتددن، على نحو يترتّب الاعتداد على الطلاق بلا فصل ولا تريّث، والمفروض أنّ الحيض فاصل بين الطلاق والاعتداد. فيكون المعنى:

طلّقوهن لغاية اعتدادهن، والمفروض أنّ تلك الحالة لا تصلح لتحقّق هذه الغاية في جميع المذاهب.

فإذا طلّق الرجل زوجته في الحيض والنفاس فلا تحسب تلك الحيضة من الأقراء الثلاثة عند القائلين بصحّة الطلاق، بل تحسب الحيضة الثانية بعد انقضاء الأُولى بالدخول في طهرها. وعلى هذا الأصل ذهب بعض الباحثين(2) بأنّ الحكمة في المنع من الطلاق في الحيض هو أن ذلك يُطيل على المرأة العدّة، فإنّها إن كانت حائضاً لم تحتسب الحيضة من عدّتها، فتنتظر حتّى تطهر من حيضها.

ص: 14


1- . تفسير القرطبي: 18/153.
2- . نظام الطلاق في الإسلام لأحمد محمد شاكر: 27، طبعة مصر 1389 ه.

وتتمّ مدّة طهرها، ثم تبدأ العدّة من الحيضة التالية.(1)

***

2. بُطلان الطلاق في طهر المواقعة

اتّفقت الإمامية على بطلان الطلاق في طهر المواقعة، وإنّ الطلاق فيه كالطلاق في الحيض والنفاس في بطلانه، فلو جامع الزوج زوجته وهي طاهرة وأراد طلاقها فلابدّ أن يصبر حتّى تحيض ثم تطهر فيطلّقها. ولكن الطلاق في طهر المواقعة عند الحنفية والمالكية حرام، ومكروه عند غيرهما ولكنّه صحيح عندهم، ومع ذلك لا يحسب ذلك الطهر من الأطهار الثلاثة إذا فسّرت القروء في قوله سبحانه: «وَ اَلْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ»(2) ، بالأطهار، كما أنّ الحيضة الّتي بعدها لا تحسب من الحيضات الثلاث إذا فسّرت القروء بالحيضات، كما هو مذهب أهل السنّة.

هذا هو مذهبهم فلنعرض المسألة على الآية، فالآية كما دلّت على بطلان الطلاق في الحيض، دلّت أيضاً على بطلان الطلاق في طهر المواقعة؛ وذلك لأنّ اللام في قوله سبحانه: «فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ» إمّا بمعنى (في)، فيكون المراد إيقاع الطلاق في الزمان الّذي يصلح للاعتداد، والمفروض أنّ المرأة في طهر المواقعة لا يصحّ منها الاعتداد كما هو مذهبهم، فإنّهم قالوا بصحّة الطلاق ولكن اتّفقوا على أنّ ذلك الطهر والحيضة الّتي بعده لا تحسبان من القروء الثلاثة، سواء أفسّرت بالأطهار أو بالحيضات الثلاث.

ص: 15


1- . لاحظ: نظام الطلاق في الشريعة الإسلامية الغرّاء: 46.
2- . البقرة: 228.

وإمّا بمعنى الغاية، فيكون المعنى: طلّقوهن لغاية اعتدادهن، والمفروض أنّ تلك الحالة لا تصلح لتحقّق هذه الغاية في جميع المذاهب.

فالآية الواحدة تضمّنت بيان بطلان الطلاق في كلتا المرحلتين: كونها حائضاً، أو في طهر المواقعة.

ص: 16

أحكام الطلاق

2. تطليق الزوجة ثلاثاً دفعة واحدة

تمهيد

من المسائل التي أوجبت انغلاقاً وتعسّفاً في الحياة الاجتماعية وأدّت إلى تمزيق الأُسر وتقطيع صلة الأرحام في كثير من البلاد، مسألة تصحيح الطلاق ثلاثاً، دفعة واحدة، بأن يقول: أنت طالق ثلاثاً، أو يكرّره ثلاث دفعات ويقول في مجلس واحد: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق، حيث تحسب ثلاث تطليقات حقيقة، وتحرم المطلّقة على زوجها حتى تنكح زوجاً غيره.

فربّما يتغلّب الغضب على الزوج فيطلّق الزوجة ثلاثاً في مجلس واحد، ثم يندم على عمله ندماً شديداً، ويحاول إيجاد مخرج لمشكلته فلا يجد عند أئمّة المذاهب الأربعة ولا الدعاة إليها مخرجاً فيقعد ملوماً محسوراً، ولو رجع الرجل إلى فقه الإمامية المأخوذ من الكتاب والسنّة وأحاديث أئمّة أهل البيت عليهم السلام لوجد مخرجاً وهو بطلان الطلاق الثلاث في مجلس واحد.

ويدلّ على المقصود آيات ثلاث:

ص: 17

الآية الأُولى
اشارة

قال سبحانه: «اَلطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ وَ لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاّ أَنْ يَخافا أَلاّ يُقِيما حُدُودَ اَللّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ يُقِيما حُدُودَ اَللّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا اِفْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اَللّهِ فَلا تَعْتَدُوها وَ مَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اَللّهِ فَأُولئِكَ هُمُ اَلظّالِمُونَ».(1)

المفردات

مرّتان: تثنية المرّة بمعنى الدفعة مأخوذة من المرور للدلالة على الواحد من الفعل كما أنّ الدفعة والكرّة والنزلة مثلها، وزناً ومعنى واعتباراً.(2)

فإمساك: الإمساك خلاف الإطلاق، والمُمسك: البخيل.

تسريح: مأخوذ من السرح بمعنى الإطلاق، يقال: سرّح الماشية في المرعى سرحاً إذا أطلقها، والمِسرَح المَشْط لإطلاق الشعر به.

افتدت: الفِدي والفداء: حفظ الإنسان عن النائبة بما يبذله عنه، يقال: فديته بمال، أي بذلت له مالاً لإطلاقه.

جناح: الجناح: الإثم.

ص: 18


1- . البقرة: 229. وسيوافيك تفسير قوله سبحانه: «وَ لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا...» في محلّه فانتظر.
2- . الميزان في تفسير القرآن: 237/2.
التفسير

هذه الآية تتضمّن حكم الزوجات بعد طلاقهن، فإنّ الرجل بعد إيقاع الطلاق مخيّر بين الرجوع والإمساك بالمعروف، أو تركها وتسريحها لحالها حتّى تنقضي عدّتها، والأوّل مفاد قوله: «فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ» بمعنى الرجوع بعد الطلاق الثاني، والثاني مفاد قوله: «أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ» بمعنى ترك المطلّقة مرّتين حتّى تبين بانقضاء العدّة.

ولمّا لم يكن للعرب في الجاهليّة في الطلاق عدد معيّن فربّما طلّق الرجل امرأته مرّات عديدة وراجعها، وكانت المرأة بذلك أُلعوبة بيد الرجل يضارّها بالطلاق والرجوع متى شاء، أنزل اللّه سبحانه: «اَلطَّلاقُ مَرَّتانِ...» : أي أنّ الطلاق الذي شرع فيه الرجوع هو الطلاق الأوّل والثاني، وأمّا الثالث فقد ذكر حكمه في الآية التالية.

قال سبحانه: «فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا إِنْ ظَنّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اَللّهِ وَ تِلْكَ حُدُودُ اَللّهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ».(1)

قوله: «فَإِنْ طَلَّقَها» : أي فلو رجع بعد التطليقتين وطلقها ثالثة، فلا تحلّ له من بعد.

فدلّ قوله: «حَتّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ...» على الحرمة الأبدية، نعم لو طلّقها الزوج الثاني لا بأس أن يتراجعا بعقد جديد كما قال: «فَإِنْ طَلَّقَها» : أي الزوج الثاني «فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا».

ص: 19


1- . البقرة: 230.

إذا عرفت ذلك فلنرجع إلى دراسة دلالة الآية على بطلان الطلاق ثلاثاً دفعة.

لزوم فصل كلّ طلاق عن الآخر

قوله سبحانه: «اَلطَّلاقُ مَرَّتانِ» ، اللام للجنس لا للعهد، فإذا كانت للجنس يعمّ مطلق الطلاق.

ثمّ إنّ قوله: «مَرَّتانِ» ظاهر في لزوم وقوعه مرّة بعد أُخرى لا دفعة واحدة، وإلّا يصير مرّة ودفعة، ولأجل ذلك عبّر سبحانه بلفظ «المرّة» ليدلّ على كيفية الفعل وأنّه عبارة عن الواحد منه، والدفعة والكرّة والنزلة، مثل المرّة وزناً ومعنىً واعتباراً.

وعلى ما ذكرنا فلو قال المطلّق: «أنتِ طالق ثلاثاً» لم يطلّق زوجته مرّة بعد أُخرى، ولم يطلّق مرّتين، فإنّ قوله: (ثلاثاً) لا يصير سبباً لتكرّره، وتشهد على ذلك أُمور:

1. أنّه اعتبر في اللعان شهادات أربع، فلا تجزي عنها شهادة واحدة مشفوعة بقوله: أربعاً.

2. لا يكفي في فصول الأذان إذا قال: اللّه أكبر وأردفه بقوله: اثنان.

3. لا يكفي في القسامة عندما يجب أن يحلف خمسين مرّة أن يقول:

«أُقسم باللّه خمسين يميناً».

4. يعتبر في رمي الجمرات، الرمي بعد الرمي إلى سبع مرّات، فلا يجزي رمي الحصيّات السبع مرّة واحدة.

5. في تكبيرات الصلاة سبعاً أو خمساً لا يجزي أن يقول: اللّه أكبر سبع مرّات.

ص: 20

وعلى هذا فالقول بوقوع الطلاق الثلاث بلفظ واحد يضادّ صريح الآيات، حتى أنّ الجصّاص الحنفي اعترف بذلك وقال: إنّ قوله: «اَلطَّلاقُ مَرَّتانِ» يقتضي التفريق لا محالة؛ لأنّه لو طلّق اثنتين معاً لما جاز أن يقال: طلّقها مرّتين. وكذلك لو دفع رجل إلى آخر درهمين، لم يجز أن يقال: أعطاه مرّتين.(1)

فإن قلت: إنّ ما ذكر إنّما يأتي إذا عبّر عن التطليق ثلاثاً بصيغة واحدة، وأمّا لو كرّر الصيغة كما إذا قال: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق، فهناك طلاق بعد طلاق.

قلت: إنّ الصيغة الثانية والثالثة تقعان باطلتين لعدم الموضوع للطلاق، فإنّ الطلاق إنّما هو لقطع العلقة الزوجية، فلا زوجية مستقرّة بعد الصيغة الأُولى حتى تقطع، ولا رابطة قانونيّة حتى تصرم وتخرم.

وحصيلة الكلام: أنّ الطلاق يحلّ عقد الزواج، فكيف يمكن أن يتعدّد دون أن تتخلّل بينهما عقد الزواج؟ فقول الزوج: «أنت طالق» بمعنى حلّ العقدة وقطع الربط، ومثله لا يمكن أن يتكرّر إذ هو أشبه بتحصيل الحاصل.

***

الآية الثانية
اشارة

قوله سبحانه: «وَ إِذا طَلَّقْتُمُ اَلنِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَ لا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ».(2)

ص: 21


1- . أحكام القرآن: 378/1.
2- . البقرة: 231.
المفردات

أجلهنّ: الأجل: آخر المدّة وعاقبة الأُمور. والمراد: قاربن انقضاء العدّة، لأنّ بعد انقضاء العدّة ليس للزوج الإمساك، وهذا كما تقول: بلغت البلد: إذا قربت منه.

فأمسكوهن بمعروف: أي راجعوهن قبل انقضاء العدّة بما تقبله النفوس.

سرحوهن بمعروف: اتركوهن حتى تنقضي عدّتهن.

ضراراً: أي لا تراجعوهن لا لرغبة فيهن، بل لطلب الإضرار بهن.

لتعتدوا: أي لتظلموهن.

ظلم نفسه: أي أضرّ بنفسه وعرّضها لعذاب اللّه.

التفسير
اشارة

إنّ هذه الآية وإن وقعت بعد التطليقة الثالثة(1)، لكن كثيراً من المفسّرين قالوا بأنّها ترجع إلى الآية الأُولى، أي قوله سبحانه: «اَلطَّلاقُ مَرَّتانِ» ، فإنّه سبحانه يأمر بأنّ المطلّق مطلقاً يجب أن لا يتخذ الطلاق وسيلة لايذاء المرأة بل إذا طلق يجب أن يراعى أحد الأمرين في كلّ طلاق:

1. إمّا أن يمسك بمعروف، أي يرجع عن الطلاق ويأخذها بعنوان أنّها زوجته.

2. أو يترك حتى تخرج من العدّة كما يقول: «أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ» إذا علمت هذا فاعلم انّ الآية فعندئذٍ فالآية تكون دليلاً ثابتاً على بطلان الطلاق الثلاث مرّة واحدة؛ وذلك لأنّ معناها أنّ كلّ مرّة من المرّتين يجب أن يتبعها أحد

ص: 22


1- . قوله سبحانه: «فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ...» (البقرة: 230)

أمرين: إمساك بمعروف، أو تسريح بإحسان، والطلاق الثلاث مرّة واحدة فاقد لهذا. هذا إذا قلنا برجوع الآية إلى قوله: «اَلطَّلاقُ مَرَّتانِ» ، وامّا إذا قلنا برجوع الآية إلى مَن طلّق مرّتين فالحكم هنا أيضاً نفس الحكم السابق، فليس أمامه إلّاأحد طريقين إمّا الإمساك، وإمّا التسريح حتى لا يتنهي إلى الطلاق الثالث.

قال ابن كثير: أي إذا طلّقتها واحدة أو اثنتين، فأنت مخيّر فيها مادامت عدّتها باقية، بين أن تردّها إليك ناوياً الإصلاح بها والإحسان إليها، وبين أن تتركها حتى تنقضي عدّتها، فتبين منك، وتطلق سراحها محسناً إليها، لا تظلمها من حقّها شيئاً ولا تضارّ بها.(1)

وقد تقدّم أنّ الآية دليل آخر على بطلان الطلاق ثلاثاً دفعة واحدة، وأين هذا من الطلاق ثلاثاً بلا تخلّل واحد من الأمرين: الإمساك أو تركها حتى ينقضي أجلها، سواء طلّقها بلفظ: أنت طالق ثلاثاً؛ أو: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق؟!

***

3. لزوم الاعتداد بعد كلّ تطليقة

ظاهر قوله سبحانه: «يا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ اَلنِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ»(2) ، أنّ الطلاق يجب أن يكون في زمن يصلح للاعتداد أو لغاية الاعتداد، وهو لا يتحقّق إلّابفصل الأوّل عن الثاني والآية دليل ثالث على بطلان الطلاق ثلاثاً، لأنّه يكون الطلاق الأوّل بلا عدّة ولا إحصاء لها إذا طلّق اثنتين مرّة واحدة، ولو طلّق ثلاثاً يكون الأوّل والثاني كذلك. وقد استدلّ بعض أئمّة أهل البيت عليهم السلام بهذه الآية

ص: 23


1- . تفسير ابن كثير: 53/1.
2- . الطلاق: 1.

على بطلان الطلاق الثلاث.

روى صفوان الجمّال عن أبي عبد اللّه عليه السلام: أنّ رجلاً قال له: إنّي طلّقت امرأتي ثلاثاً في مجلس واحد؟ قال: «ليس بشيء، ثم قال: أما تقرأ كتاب اللّه «يا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ اَلنِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ» - إلى قوله سبحانه: - «لَعَلَّ اَللّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً» ثم قال: كلّما خالف كتاب اللّه والسنّة فهو يرد إلى كتاب اللّه والسنّة».(1)

رجاء

بعد كلّ تطليقة

ومعنى قوله سبحانه: «لَعَلَّ اَللّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً»(2) هو: ولعلّ الزوج يندم من طلاقها ويرجع إلى زوجته، وهذا إمّا يتصوّر إذا كان بعد الطلاق الأوّل عدّة، وإلّا فلو أوقع الطلاق الثلاث مرّة واحدة فليس هناك أمر يترقّب لأنّها صارت محرّمة إلى أن تنكح زوجاً غيره.

هذا كلّه في الاستدلال بالكتاب وأمّا السنّة فهي خارجة عن موضوع بحثنا، فقد تضافرت السنّة من الفريقين على البطلان، ومع ذلك فأئمّة المذاهب الأربعة على القول بالصحّة! ولأجل أن يقف القارئ على تاريخ تصحيح هذا النوع من الطلاق نشير إلى شيء منه:

1. روى مسلم عن طاووس عن ابن عباس، قال: كان الطلاق على عهد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر: طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر بن الخطاب: إنّ الناس قد استعجلوا في أمر قد كانت لهم فيه أناة، فلو أمضيناه

ص: 24


1- . قرب الإسناد: 30؛ الوسائل: 15، الباب 29 من أبواب مقدّمات الطلاق، الحديث 25.
2- . الطلاق: 1.

عليهم، فأمضاه عليهم.(1)

2. وروى مسلم عن ابن طاووس عن أبيه: أنّ أبا الصهباء قال لابن عباس:

أتعلم إنّما كانت الثلاث تجعل واحدة على عهد النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم وأبي بكر وثلاثاً من (خلافة) عمر؟ فقال: نعم.(2)

3. وروى مسلم عن طاووس أيضاً: أنّ أبا الصهباء قال لابن عباس: هات من هناتك، ألم يكن الطلاق الثلاث على عهد رسول اللّه وأبي بكر واحدة؟ قال: قد كان ذلك فلمّا كان في عهد عمر تتايع الناس في الطلاق فأجازه عليهم.(3)

4. روى البيهقي، قال: كان أبو الصهباء كثير السؤال لابن عباس، قال: أما علمت أنّ الرجل كان إذا طلّق امرأته ثلاثاً قبل أن يدخل بها، جعلوها واحدة على عهد النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم وأبي بكر وصدراً من إمارة عمر، فلمّا رأى الناس قد تتابعوا (تتايعوا) فيها، قال: أجيزوهن عليهم.(4)

5. أخرج الطحاوي من طريق ابن عباس أنّه قال: لمّا كان زمن عمر قال: يا أيّها الناس قد كان لكم في الطلاق أناة، وإنّه مَن تعجّل أناة اللّه في الطلاق ألزمناه إيّاه.(5)

6. عن طاووس قال: قال عمر بن الخطاب: قد كان لكم في الطلاق أناةح.

ص: 25


1- . صحيح مسلم: 184/4 باب الطلاق الثلاث، الحديث 1. «أناة»: عدم العجلة.
2- . صحيح مسلم: 184/4 باب الطلاق الثلاث، الحديث 2.
3- . صحيح مسلم: 184/4 باب الطلاق الثلاث، الحديث 3. الهنات: الشر و الفساد، والتتايع: بمعنى التتابع في الشر.
4- . سنن البيهقي: 339/7؛ تفسير الدر المنثور: 279/1.
5- . عمدة القاري: 537/9، وقال: اسناده صحيح.

فاستعجلتم أناتكم، وقد أجزنا عليكم ما استعجلتم من ذلك.(1)

7. عن الحسن: أنّ عمر بن الخطاب كتب إلى أبي موسى الأشعري: لقد هممت أن أجعل إذا طلّق الرجل امرأته ثلاثاً في مجلس أن أجعلها واحدة، ولكنّ أقواماً جعلوا على أنفسهم، فألزِمْ كلّ نفس ما ألزَمَ نفسه؟ مَن قال لامرأته: أنت عليَّ حرام، فهي حرام؛ ومَن قال لامرأته: أنت بائنة، فهي بائنة؛ ومَن قال: أنت طالق ثلاثاً، فهي ثلاث.(2)

هذه النصوص تدلّ على أنّ عمل الخليفة لم يكن اجتهاداً فيما لا نصّ فيه، ولا أخذاً بروح القانون الذي يعبّر عنه بتنقيح المناط وإسراء الحكم الشرعي إلى المواضع التي تشارك النصوص في المسألة، كما إذا قال: الخمر حرام، فيسري حكمه إلى كلّ مسكرٍ أخذاً بروح القانون، وهو أنّ علّة التحريم هي الإسكار الموجود في المنصوص وغير المنصوص، وإنّما كان عمله من نوع ثالث وهو الاجتهاد مقابل النص ونبذ الدليل الشرعي، والسير وراء رأيه وفكره وتشخيصه، وقد ذكروا هنا تبريرات لحكم الخليفة ذكرناها في كتابنا «الإنصاف في مسائل دام فيها الخلاف» فلاحظ.(3)

الآية الثالثة
اشارة

قال سبحانه: «وَ إِذا طَلَّقْتُمُ اَلنِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ

ص: 26


1- . كنز العمال: 676/9، برقم 27943.
2- . كنز العمال: 676/9، برقم 27944.
3- . لاحظ: الإنصاف في مسائل دام فيها الخلاف: 2/61.

كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَ أَطْهَرُ وَ اَللّهُ يَعْلَمُ وَ أَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ».(1)

المفردات

تعضلوهن: من العضل بمعنى المنع.

أزكى: الزكاة النماء والبركة في الشيء، ولعلّه أُريد صلاح حالهم.

التفسير
النهي عن منع المطلّقة عن الزواج بشخص آخر

الآية تتكلّم في الزوجة المطلّقة التي خرجت عن العدّة، وصارت مستعدّة للزواج من رجل آخر، فربما يتمسّك الزوج المطلّق بشتّى الحيل حتى يمنع زواجها من رجل آخر، وهذا هو الذي تتكلّم عنه الآية. قال سبحانه: «وَ إِذا طَلَّقْتُمُ اَلنِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ» : أي خرجن عن العدّة، «فَلا تَعْضُلُوهُنَّ» : أي لا تمنعوهن «أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ» : أي لا تمنعوهن عن النكاح. ثمّ إنّ الفعل المنهي عنه مشروط بالشرط الوارد في قوله: «إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ» كمهر المثل وحسن المعاشرة، ثمّ إنّه سبحانه يصف وجه المنع عن الفصل بقوله: «ذلِكَ» : أي النهي عن العضل «يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ».

وتخصيص المؤمن لأجل أنّه هو المتّعظ بالنهي، والسبب لهذا النهي هو ما يشير إليه بقوله: «ذلِكُمْ» إشارة إلى النهي عن العضل، ولفظة «كم» خطاب

ص: 27


1- . البقرة: 232.

للمؤمنين «أَزْكى لَكُمْ» أيّها المؤمنون «وَ أَطْهَرُ» لنفوسهن «وَ اَللّهُ يَعْلَمُ» صلاح العباد «وَ أَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ».

هذا كلّه إذا كان المانع هو الزوج المطلّق، المانع عن تزوّجها من شخص آخر، وهنا احتمال آخر وهو أن يكون المانع أولياء المرأة كالأب والجد، يصدّون بينها وبين زوجها الأوّل عن الزواج المجدّد به. وعندئذٍ يكون معنى الآية المنع من زواج المرأة بالزوج الأوّل، زواجاً بعقد جديد، ولكن الظاهر هو الوجه الأوّل بقرينة الخطاب في صدر الآية «وَ إِذا طَلَّقْتُمُ اَلنِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ» الظاهر في أنّ المانع هو المطلّق، لا الأبوان.

ص: 28

أحكام الطلاق

3. أحكام العدد

تمهيد

يجب على المطلّقة والمتوفّى عنها زوجها صيانة النفس عن التزويج إلى مدّة محدّدة وذلك لوجهين:

1. ربما تكون المرأة ذات حمل خفيّ، فالتزويج بلا فصل يورث اختلاط النسل، خصوصاً إذا كان الحمل في أوائله، فيجب عليها الصبر حتى يظهر حالها من حيث وجود الحمل وعدمه فلو بان الحمل تخرج من العدّة بوضعها الحمل، ولو بان عدمه فالمطلّقة المدخول بها تخرج من العدّة بثلاثة قروء، والمتوفّى عنها زوجها بمضي أربعة أشهر وعشرة أيام.

فإن قلت: فلو كان التربّص لأجل استظهار حالها من حيث احتمال الحمل، فعلى هذا يلزم عدم وجوبه إذا كنّا قاطعين بعدمه، كما إذا طال الفراق بينه وبين زوجه قرابة سنة، أو علمنا بعدم وجود الرحم بعملية جراحية.

قلت: ما ذكرناه من أنّ التربّص لأجل استظهار الحال من قبيل الحكمة لا العلّة، ففي الثانية يدار الحكم مداره. كما في قولنا: الخمر حرام لإسكاره فإذا تبدّل

ص: 29

إلى الخلّ يحلّ. وأمّا الأُولى فالحكم يكون أعمّ منه على أنّ تجويز عدم العدّة في هاتين الصورتين ربما ينتهي الأمر الى ما لا يحمد عقباه، فربما يدّعي أحد الزوجين كذباً عدم وجود الحمل لأجل أحد الأمرين، فلأجل سدّ هذا الباب حكم على الجميع بالتربّص؛ على أنّ للتربّص وجهاً آخر نذكره تالياً.

2. إنّ الأمر بالتربّص في المطلّقة لأجل احتمال طروء الندم على الزوج، ففي خلال ثلاثة قروء إذا ندم على عمله يصحّ له الرجوع، ولولا التربّص لربما يفوت هذا الأمر المهم على الزوج.

نعم الأمر بالتربّص في المتوفّى عنها زوجها إذا لم تكن حاملاً لأجل تكريم الزوج وتعظيمه، ولذلك يحرم عليها الزينة ويجب عليها الحداد، وهذا الأمر يفوت بجواز التزويج بعد الموت مباشرة.

إذا علمت ذلك فلندرس الآيات الواردة في أحكام العدد.

الآية الأُولى
اشارة

قال سبحانه: «وَ اَلْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَ لا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اَللّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَ بُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً وَ لَهُنَّ مِثْلُ اَلَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَ لِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَ اَللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ».(1)

ص: 30


1- . البقرة: 228.
المفردات

قروء: جمع القُرء، وعُدّ من الأضداد، فيقع على الطهر والحيض، فلو أُريد الأوّل يجمع جمع كثرة ويقال: قروء، ولو أُريد الثاني يجمع جمع قلّة، ويقال:

إقراء.(1) والمشهور أنّه حقيقة فيهما. وسيوافيك ما هو المراد عند التفسير.

أرحامهن: الرحم: مستودع الجنين في أحشاء الحُبلى.

بعولتهن: جمع البعل، زوج المرأة، وربما يفرّق بينهما باشتراط الدخول في صدق البعل دون الزوج، وفي الحديث: «جهاد المرأة حسن التبعّل» أي حسن العشرة وحسن الصحبة مع بعلها.(2)

درجة: منزلة، ويعبّر بها عن المنزلة الرفيعة.

التفسير
عدّة المطلقة الرجعية

إنّ الآية من غرر الآيات وأغزرها، حيث إنّها تتضمّن بيان أحكاماً خمسة، كلّها تتعلّق بحقوق الرجل والمرأة(3)، وكيفية معاشرتها أو مفارقتها في بعض الأحوال، وإليك بيانها تدريجاً:

الأوّل: «وَ اَلْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ».

قوله: «وَ اَلْمُطَلَّقاتُ» وهي تعمّ كلّ مطلقة، ولكن القرآئن الموجودة في الآية

ص: 31


1- . قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «دعي الصلاة أيام أقرائك». سنن الدار قطني: 22/1، برقم 811؛ الوسائل: 1، الباب 8 من أبواب الحيض، الحديث 2.
2- . مجمع البحرين: 322/5، مادة «بعل».
3- . أو ما يُسمّى بالأحوال الشخصية.

تشهد على خروج الموارد التالية: 1. مَن لا تعتدّ، 2. مَن تعتدّ بأقل من ثلاثة قروء، 3. أو تعتد ثلاثة أشهر، 4. أو تعتد بوضع الحمل.

فاللّواتي لا يعتددن هنّ: أمّا اليائسة، لأنّ الغاية من العدّة هو كشف ما في الأرحام، واليائسة يئست من الحمل.

أو المطلّقة قبل الدخول، قال سبحانه: «إِذا نَكَحْتُمُ اَلْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها»(1).

أو الصغيرة دون التسع.

وأمّا مَن تعتدّ بقرأين فهي الأمة المملوكة.

ومَن تعتدّ بثلاثة أشهر لا بثلاثة قروء، وهي الشابة في سن مَن تحيض ولا تحيض.

والمسترابة: وهي الطاعنة في السن والتي لا تحيض لاحتمال عارض أو لكبر سنّها.

ويدلّ على حكم الخامسة والسادسة قوله سبحانه: «وَ اَللاّئِي يَئِسْنَ مِنَ اَلْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ اِرْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَ اَللاّئِي لَمْ يَحِضْنَ»(2) . قوله:

«وَ اَللاّئِي لَمْ يَحِضْنَ» ناظرة إلى الصورة الخامسة.

وأمّا مَن تعتدّ بوضع الحمل، فلقوله سبحانه: «وَ أُولاتُ اَلْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ».(3)4.

ص: 32


1- . الأحزاب: 49.
2- . الطلاق: 3.
3- . الطلاق: 4.

وبالنظر إلى هذه الآيات فيكون المراد من المطلّقات مَن دخل بها الزوج بعد أن أكملت التسع ولم تكن حاملاً ولا آيسة وكانت من ذوات الحيض، ولم تكن مملوكة.

وأمّا ما هو المراد من ثلاثة قروء، فسيأتي الكلام فيه بعد الفراغ عن تفسير الآية.

ثمّ إنّه سبحانه يذكر التربّص في المقام مقيّداً بأنفسهنّ فيقول: «يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ» وفي الوقت نفسه يذكر التربّص في الإيلاء مجرّداً عن هذا القيد، يقول:

«لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ»(1) والفرق واضح، فإنّ التربّص في الإيلاء فعل الزوج وهو معرض عن زوجته، غير راغب فيها، بخلاف المقام فإنّ التربّص هنا فعل الزوجة، وبما أنّ لها رغبة في الزواج بعد طلاق زوجها لها، يذكر سبحانه بأنّهن - مع وجود الرغبة والميل إلى الزواج بعد الطلاق - «يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ» : أي يحبسن أنفسهن عن الزواج حذراً عن اختلاط المياه، فأنفسهنّ راغبة في الزواج ولكن يجب عليهن تمكين الأنفس عن التربّص ثلاثة أشهر، وإلى ما ذكرناه يشير إليه صاحب الكشاف بعبارة موجزة، قال: في ذكر الأنفس تهييج لهنّ على التربّص وزيادة بعث؛ لأنّ فيه ما يستنكفن منه فيحملهن على أن يتربّصنّ وذلك أنّ أنفس النساء طوامح إلى الرجال فأُمرن أن يقمعن أنفسهن ويغلبنها على الطموح ويجبرنها على التربّص.(2)

الثاني: «وَ لا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اَللّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ».1.

ص: 33


1- . البقرة: 226.
2- . تفسير الكشّاف: 137/1.

وهذا أمر للزوجة أن لا تكتم الولد الموجود في رحمها، وذلك أنّ المطلّقة إذاكانت من أُولات الأحمال، فلا تخرج من العدّة إلّابعد وضعها الحمل، وهذا ربما يوجب طول مدّة الاعتداد، هذا من جانب ومن جانب آخر تستعجل المطلقة في الزواج أو في الإضرار بالزوج فتكتم ما في رحمها حتى لا يتسنّى للزوج الرجوع، حتى تخرج عن العدّة بمضي ثلاثة قروء، واللّه سبحانه ينهى عن ذلك نهيّاً أكيداً بشهادة قوله: «إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ» . نعم الاعتداد لغاية ظهور ما في أرحامهن من قبيل الحِكَم، فالحُكم عام يشمل ما علم أنّها حائل، والتي ليست بحائل، إذ لا يشترط في الحِكَم وجودها في عامّة المصاديق.

الثالث: «وَ بُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً»

الضمير في «وَ بُعُولَتُهُنَّ» يرجع إلى المطلقات إلّاأنّ الحكم خاص بالرجعيات، ولا يشمل البائنات، والتشريع الإسلامي راغب في بقاء البيت الذي أنشأ بعنوان بيت الزواج، ولذلك يعطي للزوج حقّاً في الرجوع عن طلاقه، مادامت المرأة في عدّتها، «أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ» وصيغة «افعل» مجرد عن إفادة التفصيل لأنّه بمعنى أنّه ذو حقّ دون غيره نظير قول يوسف: «رَبِّ اَلسِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ»(1) . ثمّ إنّ كون الزوج أحقّ بالردّ: «إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً» لا إضراراً، أي إصلاح حاله معها، وعدم قصد الإضرار بها من الرجعة، وما ذلك إلّالأنّ المعتدّة الرجعية باقية على العصمة الزوجية، ولذلك يُنفق عليها ولا يجوز له معها أن يتزوّج بأُختها أو أن يتزوّج بخامسة، فهي بعد زوجة على نحو لو لم يرجع3.

ص: 34


1- . يوسف: 33.

الزوج في المدّة لبانت، وهذا دليل على اهتمام الشريعة الإسلامية بحفظ حقوق الزوج والزوجة، فمن جانب ترغّب في حفظ بناء الزواج، وترخّص للزوج الرجوع في المدّة، وفي الوقت نفسه تشترط أن يكون الرجوع بقصد المعاشرة، لا الإضرار.

الرابع: «وَ لَهُنَّ مِثْلُ اَلَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ».

أي للنساء على أزواجهنّ مثل الذي للأزواج عليهنّ من الحقّ بالمعروف، يقول الشيخ الطبرسي: وهذا من الكلمات العجيبة، الجامعة للفوائد الجمّة، وإنّما أراد بذلك ما يرجع إلى حسن العشرة وترك المضارّة والتسوية في القسم والنفقة والكسوة، كما أنّ للزوج حقوقاً عليها مثل الطاعة التي أوجبها اللّه عليها له، وألّا تُدخل فراشه غيره، وأن تَحفظ ماءه فلا تحتال في إسقاطه. وروي أنّ امرأة معاذ قالت: يا رسول اللّه ما حقّ الزوجة على زوجها؟ قال صلى الله عليه و آله و سلم: «ألا يضرب وجهها، ولا يقبحها، وأن يطعمها ممّا يأكل، ويلبسها ممّا يلبس، ولا يهجرها».

وروي عنه صلى الله عليه و آله و سلم أنّه قال: «اتّقوا اللّه في النساء، فإنّكم أخذتموهنّ بأمانة اللّه، واستحللتم فروجهنّ بكلمة اللّه، ومن حقّكم عليهنّ ألّا يوطئن فراشكم مَن تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهنّ ضرباً غير مبرَّح، ولهنّ عليكم رزقهنّ وكسوتهنّ بالمعروف».(1)

فقوله سبحانه: «بِالْمَعْرُوفِ» ربما يختلف حسب اختلاف الظروف والأزمان، يقول صاحب المنار: وقد أحال في معرفة ما لهنّ وما عليهنّ، على المعروف بين الناس في معاشرتهم ومعاملتهم في أهليهم وما يجري عليه عرف).

ص: 35


1- . مجمع البيان: 134/2. يقال: برح به الأمر: أتعبه وجهده وآذاه أذىً شديداً أو أذية شديدة (المنجد).

الناس.(1)

وكان عليه أن يذيّل كلامه بالقول: إلّاما حرّم في الشريعة الإسلامية، فإنّ المعروف يختلف في البيئات العلمانية، ولكونه معلوماً لم يذكره. وعلى كلّ تقدير فهذه الفقرة كلمة جليلة وقاعدة كليّة تبيّن أنّ الحقوق بين الزوجين متبادلة، ومتماثلة، وقد روي أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم قضى على ابنته بخدمة البيت وعلى عليّ ما كان خارجاً من البيت من عمل، وفي الوقت نفسه قال: «لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها».(2)

وهذه الفقرة يجب أن تكون مقياساً في معاملة الزوجين حتى لا يأخذ أحد الزوجين الآخر في خدمته دون أن يبادل بخدمة أُخرى، فلو أنّ المتجدّدين الذين ينادون بشعار تحرير المرأة، اتخذوا هذه الفقرة ميزاناً للحكم، لعمّت السعادة كلّ بيوت الزوجية.

الخامس: «وَ لِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ».

لمّا سبق أنّ لكلّ من الزوجين على الآخر حقّاً متماثلاً، جاء البيان القرآني مشيراً إلى نكتة أُخرى وهو أنّ إدارة البيت والعائلة ترجع إلى الزوج، وذلك لأنّ لكلّ مجتمع مديراً ينفذ حكمه في الموارد المختلفة، فإنّ كل بيت، مجتمع مصغّر ولبنة للمجتمع الكبير، فكما أنّ المجتمع الكبير بحاجة إلى حاكم مدير فهكذا المجتمع الصغير، والصالح لذلك هو الرجل، لا الزوجة ولا الأولاد. وقد ذكر وجه ذلك في آية أُخرى، قال تعالى: «اَلرِّجالُ قَوّامُونَ عَلَى اَلنِّساءِ بِما فَضَّلَ اَللّهُ بَعْضَهُمْ 2.

ص: 36


1- . تفسير المنار: 375/2.
2- . تفسير المنار: 379/2؛ الوسائل: 115/14، الباب 81 من أبواب مقدّمات النكاح، الحديث 1؛ سنن ابن ماجة: 595/1، برقم 1852.

عَلى بَعْضٍ وَ بِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ»(1)، وجه كونهم قوامين أمران: 1. بما فضل الرجال على النساء في قوة التعقّل فيهم، والقوة والطاقة على شدائد الأعمال، فإنّ حياة النساء، حياة إحساسية عاطفية مبنية على الرقة واللطافة. 2. بما أنفقوا من أموالهم، فبما أنّ قوام البيت بالإنفاق ورفع حاجاته فهو أنسب لأن يكون مديراً للبيت نافذاً حكمه فيه لأنّ المهور والنفقات على الرجال.

ثمّ إنّه سبحانه ختم الآية بقوله: «وَ اَللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» ، أمّا كونه عزيزاً فقد حدّد حقوق كلّ من الرجل والمرأة وصارت المرأة حرّة غير مهضومة الحقوق، وأمّا كونه حكيماً فإن جعل الرجل ذا درجة على النساء ومديراً للبيت ورئيساً له فإنّما هو عن حكمة يُضمن بها بقاء البيت وبناؤه.

ما هو المراد من القرء في الآية؟

بعد أن تمّ تفسير الآية بعامّة فقراتها، بقي الكلام في بيان معنى «القرء» فهل هو بمعنى الطهر، فالاعتداد بثلاثة أطهار، أو بمعنى الحيض، فالاعتداد بحيضات ثلاث؟ فيه اختلاف، فالشيعة الإمامية تبعاً لأئمّة أهل البيت عليهم السلام أنّها بمعنى الطهر، وعلى كلّ تقدير الفقهاء أجمعوا على أنّ الثلاثة يجب أن تكون من جنس واحد (أمّا الأطهار الثلاثة أو الحيضات الثلاث)، ثم اختلفوا فذهب الشافعي إلى أنّها الأطهار، ويُروى ذلك عن ابن عمر وزيد وعائشة، ومالك وربيعة وأحمد في رواية، وقال عمر، وعلي، وابن مسعود: هي الحيض، وهو قول أبي حنيفة والثوري والأوزاعي وابن أبي ليلى.(2)

ص: 37


1- . النساء: 34.
2- . غرائب القرآن ورغائب الفرقان: 2/457.

وتظهر فائدة الاختلاف في أنّ مدّة العدّة على القول بأنّها ثلاثة أطهار أقصر من القول بأنّها حيضات ثلاث، لأنّه تكفي الطهارات الثلاث مع حيضتين اثنتين وذلك فيما لو طلّقها في طهر - لم يواقع فيه - ثم حاضت ثم طهرت ثم حاضت ثم طهرت، ففي ظهور الطهر الثالث تخرج من العدّة، مع وقوع حيضتين في الوسط، بخلاف ما إذا قلنا بأنّ الميزان الحيضات الثلاث، ففي مثل ذلك لا يكفي الطهر الثالث بل يجب أن تحيض مرّة ثالثة.

وأمّا أنّ هذه الثلاثة من أي جنس فهي بحاجة إلى التدبّر في الآيات الّتي تأمر المرأة بالاعتداد، وما روي من الروايات عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام، ويمكن تقريب كون المراد هو الطهر بوجوه:

الأوّل: قوله سبحانه: «يا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ اَلنِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ» ، ظاهر في أنّ الطلاق لغاية اعتدادهنّ، ومعنى ذلك عدم وجود الفاصل الزماني بين الطلاق والاعتداد، فعلى هذا إذا طلق في طهر لم يواقع زوجته فيه، الّذي هو طلاق صحيح في جميع المذاهب الفقهية، تكون الزوجة مأمورة بالاعتداد، فيدلّ بالملازمة على أنّ هذا الطهر من إحدى الثلاثة، فيكون الثاني والثالث مثله؛ بخلاف القول الثاني إذ عندئذٍ يجب عليها التربّص حتّى تحيض وتعتد، وهذا على خلاف سياق الآية، الظاهر في عدم الفاصل الزماني بين التطليق والاعتداد.

ثمّ إنّ صاحب الكشّاف لمّا وقف على أنّ ذلك لا ينطبق على المذهب الرائج بينهم أوّل الآية، وقال: فطلّقوهنّ مستقبلات لعدّتهنّ (1)، فيكون الطهر الّذي وقع فيه الطلاق خارجاً من الثلاثة، بل المعدود منها ما يأتي بعده من الحيض.7.

ص: 38


1- . تفسير الكشّاف: 1/137.

وأنت ترى أنّه تأويل للآية، لغاية التطبيق على المذهب.

ونظير الآية، آيتنا هذه حيث إنّ المتبادر منه أنّ المطلّقات يتربّصن بأنفسهنّ ثلاثة قروء، أنّ التربّص يقع بعد الطلاق، فلو طلّقها في طهر فيكون أحد القروء.

فلو قلنا بأنّ القرء هو الحيض فلازم ذلك التربّص حتّى تحيض.

الثاني: أنّه لو كان المراد من القروء هي الحيضات الثلاث، كان الأنسب أو اللازم أن يقول: ثلاث قروء؛ لأنّ الحيض مؤنّث، وإذا كان المعدود مؤنثاً يعبّر عنه بالعدد المذكّر، بخلاف ما إذا قلنا بأنّ المراد هو الطهر، فهو مذكّر يعبر عنه بالعدد المؤنّث.

الثالث: أنّه سبحانه عبّر هنا على جمع الكثرة، وقال: ثلاثة قروء دون جمع القلّة، الّتي هي الأقراء، مع أنّ الوارد في كلام النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم هو الأقراء حيث قال:

«دعي الصلاة أيام أقرائك»، ومن المعلوم أنّ أيام الحيض في الشهر أقلّ من أيام الطهر، وهذا يؤيّد كون المراد هو الطهر وإلّا لم يعدل عن جمع القلّة الّتي هي الأنسب في المقام إلى جمع الكثرة.

الرابع: اتّفاق أئمّة أهل البيت عليهم السلام على أنّ المراد من القرء هو الطهر، كما في الروايتين التاليتين:

1. روى زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال: قلت له: إنّي سمعت ربيعة الرأي يقول: إذا رأت الدم من الحيضة الثالثة بانت منه، وإنّما القرء ما بين الحيضتين، وزعم أنّه أخذ ذلك برأيه، فقال أبو جعفر عليه السلام: «كذب لعمري ما قال ذلك برأيه ولكنّه أخذه من علي عليه السلام قال: قلت له: وما قال فيها عليّ عليه السلام؟ قال: «كان يقول: إذا رأت الدم من الحيضة الثالثة فقد انقضت عدّتها، ولا سبيل عليها، وإنّما القرء ما

ص: 39

بين الحيضتين».(1)

قوله: «إذا رأت الدم من الحيضة الثالثة فقد انقضت عدّتها» يكشف عن أنّه جعل الطهر الثالث بتمامه جزء من العدة، فجعل رؤية الدم من الحيضة الثالثة كاشفاً عن انقضائه.

وأمّا المختار عند الإمامية، هو خروجها من العدة بانقضاء الحيضة الثانية الذي لا يعلم إلّابالنقاء وظهور الطهر.

فما اختاره ربيعة الرأي قريب ممّا ذكرنا، نعم ذيل كلامه يدلّ على الموافقة تماماً حين قال: «وإنّما القرء ما بين الحيضين» فإنّه عبارة أُخرى عن الطهرين، بشرط محاسبة الطهر الذي وقع الطلاق فيه من العدة فيكون ثلاثة أطهار.

2. وروى زرارة، قال: قلت لأبي عبداللّه عليه السلام: سمعت ربيعة الرأي يقول: من رأيي أنّها تبين عند أوّل قطرة، فقال: «كذب ما هو من رأيه إنّما هو شيء بلغه عن علي عليه السلام.».(2)

***

الآية الثانية
اشارة

قال سبحانه: «يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ اَلْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها فَمَتِّعُوهُنَّ وَ سَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلاً».(3)

ص: 40


1- . الوسائل: 15، الباب 15 من أبواب العدد، الحديث 4.
2- . الوسائل: 15، الباب 15 من أبواب العدد، الحديث 8.
3- . الأحزاب: 49.
المفردات

نكحتم المؤمنات: عقدتم عليهنّ.

تمسُّوهنّ: المسّ: أُريد به الدخول، ومن أدب القرآن التعبير عنه بالمسّ.

عدّة: العدّة: الأيام الّتي بانقضائها يحلّ بها التزوّج، ويُعلم خلوّ رحمها من الجنين.

فمتِّعوهنّ: أي أُعطوهنّ ما يتمتعنّ به.

سرِّحوهنّ: خلُّوا سبيلهنّ. والسراح الجميل الّذي ليس فيه إضرار ولا إيذاء.

التفسير
لا عدّة لغير المدخول بها

لمّا دلّ إطلاق قوله سبحانه: «وَ اَلْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ»(1) على لزوم العدّة لكلّ مَن عقد عليها تكون هذه الآية مخصّصة لها، بل يمكن أن يقال: إنّ الآية المذكورة ظاهرة في المدخول بها لما ورد في ذيلها قوله: «وَ لا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اَللّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ».

ثمّ إنّ السبب لعدم العدّة لأنّ الاعتداد لأجل تبيّن حال الرحم من حيث الحمل وعدمه، والمفروض أنّه عُقد عليها ولم يدخل بها، فتكون العدّة أمراً غير لازم كما تقول: «يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ اَلْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها».

ثمّ إنّ قوله: «فَما لَكُمْ» يدلّ على أنّ العدّة حقّ للزوج على الزوجة ليتبيّن

ص: 41


1- . البقرة: 228.

وضع الرحم، غير أنّه سبحانه يأمر الزوج بتمتيعها فيقول: «فَمَتِّعُوهُنَّ وَ سَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلاً» بغير جفوة ولا أذى.

وأمّا كيفية التمتّع فيختلف حسب إمكانية الزوج، وسيأتي حكم المطلّقة قبل المسّ وقبل فرض المهر.

وعلى كلّ تقدير فظاهر الآية هو وجوب التمتيع سواء أفرض لها المهر أو لا. لكنّه إطلاق يمكن أن يُقيّد بما في قوله سبحانه: «وَ إِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَ قَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ»(1) ، فالمتبادر من هذه الآية أنّ الواجب فيما فرض لهنّ فريضة هو نصف ما فُرض لا شيء آخر، وعلى هذا فيختصّ التمتيع بغير ما فرض لها المهر.

الآية الثالثة

قال سبحانه: «لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ اَلنِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَ مَتِّعُوهُنَّ عَلَى اَلْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَ عَلَى اَلْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى اَلْمُحْسِنِينَ».(2)

هذه الآية لها صلة بباب الطلاق، لأنّ الموضوع فيها هو المطلّقة، كما لها صلة بباب المهور حيث تتضمّن مهر المطلّقة قبل الدخول مع عدم فرض المهر عند العقد، وبما أنّا استوفينا الكلام فيها في باب المهور، وأوضحنا المراد من قوله:

«أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً» الذي اختلف فيه كلام المفسرين، اقتصرنا بنقل الآية

ص: 42


1- . البقرة: 237.
2- . البقرة: 236.

فقط، حذراً من التكرار.

الآية الرابعة
اشارة

قال سبحانه: «وَ اَللاّئِي يَئِسْنَ مِنَ اَلْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ اِرْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَ اَللاّئِي لَمْ يَحِضْنَ وَ أُولاتُ اَلْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَ مَنْ يَتَّقِ اَللّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً»(1).

المفردات

المحيض: الحيض، ووقت الحيض، وموضعه. قال الراغب: على أنّ المصدر في هذا النحو من الفعل يجيء على «مَفْعِل».(2)

ارتبتم: شككتم، والمرتابة على قسمين:

1. المرتابة التي لم يُعلم أنّ انقطاع حيضها لكبر سنّها أو لعارض آخر.

2. المرأة التي لم تحض وهي في سنّ مَن تحيض.

التفسير

الآية على وجازتها تتضمّن بيان عدد أصناف ثلاثة من النساء:

1. عدّة المرتابة التي لم يُعلم أنّ انقطاع حيضها لكبر سنّها أو لعارض آخر، وإلى هذا القسم يشير بقوله: «وَ اَللاّئِي يَئِسْنَ مِنَ اَلْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ اِرْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ».

ص: 43


1- . الطلاق: 4.
2- . المفردات للراغب: 136، مادة «حيض».

2. النساء اللّاتي لم يحضن وهي في سن مَن تحيض وإليه يشير بقوله:

«وَ اَللاّئِي لَمْ يَحِضْنَ» فعدّتهن أيضاً ثلاثة أشهر.

3. عدّة أولات الأحمال وضعهنّ حملهنّ، كما يقول: «وَ أُولاتُ اَلْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ».

ثمّ إنّه سبحانه أتمّ الآية بقوله: «وَ مَنْ يَتَّقِ اَللّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً».

إلى هنا تمّ بيان أحكام عدد النساء الأربع، بقي الكلام في الأقسام التالية:

1. عدّة المتوفّى عنها زوجها.

2. عدّة اليائسة إيجاباً وسلباً.

3. عدّة الصغيرة إذا طلّقت قبل الدخول.

وإليك دراسة هذه الأقسام:

الآية الخامسة
اشارة

قال سبحانه: «وَ اَلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَ يَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَ عَشْراً فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَ اَللّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ».(1)

المفردات

يذرون: يتركون.

بلغن أجلهن: أي خرجن عن العدّة.

ص: 44


1- . البقرة: 234.
التفسير
عدّة المتوفّى عنها زوجها

الآية تتضمّن بيان حكمين شرعيّين:

1. اعتداد المرأة المتوفّى عنها زوجها أربعة أشهر وعشرة أيام.

2. إذا خرجن عن العدّة جاز لهن التزويج.

أمّا الأوّل فقوله سبحانه: «وَ اَلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ» فاللّه سبحانه هو المتوفّي والآخر هو المتوفّى، أي الذين تُقبض أرواحهم «وَ يَذَرُونَ أَزْواجاً» : أي يتركون زوجات، فعليهن كما يقول: «يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَ عَشْراً» وقد مرّ ما هي النكتة من التعبير بالتربّص بأنفسهنّ، حيث لو كانت لهنّ رغبة بالزينة والزواج وغير ذلك، لكن عليهنّ إمساك أنفسهن عن ذلك ما دِمن في العدّة.

ثمّ إنّ التشريع الإسلامي لا يخلو عن حكمة ومصلحة، فما هي المصلحة في المقام؟ ويمكن بيانه بوجهين:

1. أنّ احتمال كون الزوجة حاملاً أمر قريب فالتربّص يُظهر حالها.

2. أنّ التربّص والاعتداد بترك الزينة وعدم الزواج نوع تكريم للزوج المتوفّى، حيث تعبِّر الزوجة بتربّصها عن عدم نكرانه ونسيانه، فكأنّها تراه حيّاً بعد في البيت، ولذلك تعامل معاملة الزوجة.

ثمّ إنّ في جعل فترة التربّص أربعة أشهر وعشراً، هدم للسنن الجاهلية السائدة أيام نزول الآية بين سائر الأمم، فقد حكى السيد الطباطبائي أنّ الأُمم كانوا على أهواء شتّى في المتوفّى عنها زوجها، بين مَن يحكم بإحراق الزوجة الحيّة مع زوجها الميّت أو إلحادها وإقبارها معه، وبين مَن يقضي بعدم جواز زواجها ما

ص: 45

بقيت بعده إلى آخر عمرها كالنصارى، وبين مَن يوجب اعتزالها عن الرجال إلى سنة من حين الوفاة كالعرب الجاهلية، أو ما يقرب من السنّة كتسعة أشهر، كما هو كذلك عند بعض أصحاب الملل الراقية.(1)

كما أنّ التشريع الإسلامي مبني على العدل والإنصاف فمن خلال التربّص بالحدّ المذكور يُعلم حال المرأة أوّلاً، ويتحقّق تكريم المتوفّى ثانياً، وبعدئذٍ فللمرأة وما اختارت، هذا كلّه حول الحكم الأوّل.

جواز التزوّج بمَن شاءت بعد الخروج عن العدّة

وأمّا الحكم الثاني: وهو أنّ المرأة إذا خرجت من العدّة فلها أن تتزوّج بمَن شاءت بالمعروف، فيشير إليه بقوله: «فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ» : أي تمّ الأجل بكماله «فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ» : أي لا محظور عليكم أي الأولياء «فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ» فلهنّ التزيّن وجاز للآخرين خطبتهنّ، فبالخروج عن العدّة يرتفع المحذور تماماً «وَ اَللّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ» : أي عليم، يعلم من يلتزم بما هو اللازم ومن لا يلتزم.

إلى هنا تمّ تفسير الآية بحرفيّتها، ولكن يبقى هنا كلام، وهو بيان الفرق بين عدّة المطلّقة وعدّة الأرملة، فهناك فوارق بينهما نذكرها تالياً:

الفوارق بين عدّة المطلّقة والأرملة

1. عدّة المطلقة ثلاثة قروء، كما في قوله تعالى: «وَ اَلْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ» هذا إذا لم تكن حاملاً، وإلّا فعدتها إلى حين وضع حملها

ص: 46


1- . الميزان في تفسير القرآن: 246/2.

كما قال: «وَ أُولاتُ اَلْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ».(1)

وأمّا عدّة الأرملة فلو كانت غير حامل فهي كما قال سبحانه: «أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَ عَشْراً» وأمّا إذا كانت حاملاً فعدّتها أبعد الأجلين، من وضع الحمل أو المدّة المذكورة. روى الكليني بسند صحيح عن الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السلام أنّه قال: «في الحامل المتوفّى عنها زوجها تنقضي عدّتها آخر الأجلين».(2)

2. إنّ المطلّقة تعتد من أوّل يوم طلّقت فيه، لا من يوم يبلغها الخبر، فإن لم تعلم متى طلّقت وعلمت بعدما مضت عليها ثلاثة قروء منذ طلّقها، خرجت عن العدّة. فعن أبي جعفر الباقر عليه السلام: «إذا طلّق الرجل وهو غائب فليشهد على ذلك، فإذا مضى ثلاثة أقراء، من ذلك اليوم فقد انقضت عدّتها».(3) بخلاف عدّة المتوفّى عنها زوجها فإنّ اعتدادها من يوم يبلغها الخبر ولو كانت بعد موته بسنين. روى محمد بن مسلم عن أحدهما عليهما السلام: «في الرجل يموت وتحته امرأة وهو غائب، تعتدّ من يوم يبلغها وفاته»(4). ولعلّ الوجه أنّ اعتداد المتوفّى عنها زوجها لأجل تكريم الزوج وحفظ علقتها به، وهو رهن كونها عالمة بوفاته، حتى لا تتزيّن إلى غير ذلك من آداب الاعتداد.

3. إنّ المطلّقة غير المدخول بها ليس عليها الاعتداد، بخلاف عدّة الوفاة التي تجب أيضاً حتى على المرأة التي لم يدخل بها. روى الكليني عن محمد بن مسلم عن أحدهما عليهما السلام في الرجل يموت وتحته امرأة لم يدخل بها؟ قال: «لها1.

ص: 47


1- . الطلاق: 4.
2- . الوسائل: 15، الباب 31 من أبواب العدد، الحديث 1، ولاحظ: بقية روايات الباب.
3- . الوسائل: 15، الباب 26 من أبواب العدد، الحديث 1.
4- . الوسائل: 15، الباب 28 من أبواب العدد، الحديث 1.

نصف المهر ولها الميراث كاملاً وعليها العدّة كاملة».(1)

4. اليائسة إذا كانت مطلّقة سقطت عنها عدّة الطلاق، بخلاف ما لو توفّى عنها زوجها فعليها عدّة الوفاة للأخذ بإطلاق قوله سبحانه: «وَ اَلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَ يَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَ عَشْراً» مضافاً إلى أنّ الغاية من الاعتداد هي تكريم الزوج بعد رحيله، على أنّه إذا وجبت على غير المدخول بها، كما مرّ، فعلى اليائسة التي عاشت مع الزوج فترة، بطريق أولى.

5. المفقود عنها زوجها إذا طلّقها الحاكم، ففي صحيحة بريد بن معاوية تعتد عدّة الطلاق.(2) وفي رواية الصدوق: «تعتدّ عدّة الوفاة».

وقال في رواية أُخرى: إن لم يكن للزوج ولي طلّقها الوالي ويُشهد شاهدين عدلين، فيكون طلاق الوالي، طلاق الزوج، وتعتدّ أربعة أشهر وعشراً.(3)

والجمع بين الروايتين موكول إلى محلّه.

الآية السادسة
اشارة

قال سبحانه: «وَ لا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ اَلنِّساءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اَللّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَ لكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاّ أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً وَ لا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ اَلنِّكاحِ حَتّى يَبْلُغَ اَلْكِتابُ أَجَلَهُ وَ اِعْلَمُوا أَنَّ اَللّهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَ اِعْلَمُوا

ص: 48


1- . الوسائل: 15، الباب 35 من أبواب العدد، الحديث 1، ولاحظ بقية الروايات.
2- . لاحظ: الوسائل: 15، الباب 23 من أبواب أقسام الطلاق وأحكامه، الحديث 1.
3- . الوسائل: 15، الباب 23 من أبواب أقسام الطلاق وأحكامه، الحديث 2.

أَنَّ اَللّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ».(1)

المفردات

عرّضتم: التعريض، ضد التصريح.

خطبة: - بكسر الخاء - من الخطاب، وهو توجيه الكلام للإفهام، وأُريد هنا طلب الرجل المرأة للزواج بالنحو المعروف. وأمّا الخُطبة - بالضم - فهو ما يوعظ به من الكلام.

أكننتم: أي أسررتم وأضمرتم في أنفسكم.

عقدة النكاح: العقدة عبارة عن اتّصال حبلين بالعقد بينهما، وكأنّ عقد النكاح يوصل كلّ من الزوجين بالآخر ويرفع الحاجز بينهما وكأنّهما شخص واحد.

الكتاب: أُريد المكتوب، أعني قوله: «يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَ عَشْراً».

التفسير
أقسام الخطبة وأحكامها

إنّ خطبة النساء تنقسم إلى قسمين:

1. مَن لا تجوز خطبتها لا تصريحاً ولا تعريضاً، نحو المتزوّجة، والمطلّقة رجعية، فإنّهما بحكم الزوجة، ولذلك لو توفّي زوجها وهي في أثناء العدّة، تعتد

ص: 49


1- . البقرة: 235.

عدّة الوفاة، ولو تُوفّي أحدهما فإنّ الآخر يرثه.

2. من تجوز خطبتها تعريضاً لا تصريحاً، وهي التي توفّي عنها زوجها، وهذا هو المستفاد من قوله تعالى: «وَ لا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ اَلنِّساءِ» : أي تعرّضتم لخطبة النساء، دون التصريح، كما إذا قال: رب راغب فيك، أو إذا حللت فأريدني، أو إنّك لجميلة وإنّك لصالحة، إلى غير ذلك من الألفاظ التي تختلف تعريضاً وتصريحاً حسب اختلاف اللغات والبيئات.

وأمّا التصريح فمعلوم ولا حاجة لذكر المثال.

وأمّا وجه التفصيل بين التصريح والتعريض هو مقتضى الأدب في عدم خطبة زوجة الميّت، لكن لمّا كان المنع على وجه الإطلاق ثقيلاً على مَن يريد الزواج من المرأة، فقد فصل الذكر الحكيم بين التعريض والتصريح.

وكما أنّه يجوز التعريض، يجوز عقد القلب على الزواج من المرأة بعد خروجها من عدّتها، كما يقول: «أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ» : أي أسررتم وأضمرتم في أنفسكم من نكاحهنّ بعد مضيّ عدّتهن، فتبيّن من ذلك أنّ الحفاظ على حرمة الزوج أمر لازم إلّاما خرج من التعريض.

ثمّ إنّه سبحانه يحذّر عباده عن مخالفة ما شرّع لهم ويقول: «وَ اِعْلَمُوا أَنَّ اَللّهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ» كما يعلم الأعمال التي تدفع إليها الأنفس، ومعنى ذلك أنّه يعلم السرّ والجهر، فما في الأنفس من مصاديق السرّ، وما تبعث عليه الأنفس هو الجهر، «فَاحْذَرُوهُ» من أن تخالفوه، وبما أنّ السنّة جرت على ذكر الإنذار مع التبشير، فيقول: «وَ اِعْلَمُوا» مع ذلك «أَنَّ اَللّهَ غَفُورٌ» يقبل توبتكم «حَلِيمٌ» لا يعاجل بالعقوبة بل يمهلكم إلى أن تتوبوا إليه.

ثمّ إنّه سبحانه يستثني، ويقول: «إِلاّ أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً» ففي تفسير هذه

ص: 50

الفقرة وجهان، أوضحهما هو:

أنّه استثناء منقطع لا صلة له بما سبق من المواعدة سرّاً، بل هي تؤكّد على ما سبق من التفصيل بين التعريض والتصريح، والمراد من القول المعروف هو التعريض، وربما يشير إلى ما ذكرنا ما روي عن الإمام الصادق عليه السلام حيث فسّر قوله تعالى: «إِلاّ أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً» يقول: «يلقاها فيقول: إنّي فيك لراغب وإنّي للنساء لمكرم، فلا تسبقيني بنفسك».(1)4.

ص: 51


1- . الوسائل: 15، الباب 37 من أبواب ما يحرم بالمصاهرة، الحديث 4.

أحكام الطلاق وتوابعه

4. أحكام الظهار في الذكر الحكيم

تمهيد

قد تقدّم في صدر كتاب النكاح تأكيد الشريعة الإسلامية على المحافظة على الأُسرة وصيانة عقد النكاح، وأنّه لا يرضى بانحلال عقد الزوجية نتيجة بعض المشاكل التي تطرأ على حياة الزوجين، ولذلك وضع علاجاً لرفع هذه المشاكل وذلك بأُمور مرّ بيانها.

نعم إذا انقطعت الأسباب وبلغت كراهة الزوجين أو الزوج أو الزوجة مرحلة لا يمكن لهما العيش تحت سقف واحد، فعندئذٍ ذكر أنّ حلّ عقدة النكاح إنّما هو بالطلاق فقط، ولكن كان الظهار في الجاهلية من أحد أنواع الطلاق، وهذا هو الذي جاء البيان القرآني لتوضيح حقيقته وما على الزوجين من وظائف عنده، ضمن الآيات التالية:

الآية الأُولى
اشارة

قال سبحانه: «قَدْ سَمِعَ اَللّهُ قَوْلَ اَلَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَ تَشْتَكِي

ص: 52

إِلَى اَللّهِ وَ اَللّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اَللّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ».(1)

المفردات

سمع: من السماع، الظاهر انّ الفعل بمعناه اللغوي وتفسيرية «استجاب بعيد، لانّه يتعدى باللام، ويقال سمع اللّه لمن حمده ويشهد لما ذكره قوله: «سَمِيعٌ بَصِيرٌ» فالسمع هنا بمعناه اللغوي.

تجادلك: المجادلة وهي المحاورة، ويدلّ على ذلك قوله: «يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما» والتحاور: التراجع، وهو من المحاورة، يقال: حاوره محاورة: أي راجعه الكلام، وتحاورا.

تشتكي: من الاشتكاء وهو إظهار ما بالإنسان من مكروه، والشكاية: إظهار ما صنعه به غيره من المكروه.(2)

التفسير

روى المفسّرون أنّ خولة بنت ثعلبة، امرأة من الأنصار، ظاهر منها زوجها، فقال: أنتِ عليّ مثل ظهر أُمّي، فأتت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فقالت: إنّ زوجي كان تزوّجني وأنا أحبّ (الناس إليه) حتى إذا كبرت ودخلت في السنّ، قال: أنت عليّ كظهر أُمّي، فتركني إلى غير أحد، فإن كنت تجد لي رخصة يا رسول اللّه تنعشني وإيّاه بها فحدِّثني بها، فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «ما أُمرت في شأنك بشيء حتى الآن، ولكن إرجعي إلى بيتك، فإن أُؤمر بشيء لا أغمِمه عليك إن شاء اللّه»، فرجعت إلى

ص: 53


1- . المجادلة: 1.
2- . مجمع البيان: 456/9.

بيتها، وأنزل اللّه على رسوله صلى الله عليه و آله و سلم في الكتاب رخصتها ورخصة زوجها: «قَدْ سَمِعَ اَللّهُ قَوْلَ اَلَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها» إلى قوله: «وَ لِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ».

إذا عرفت شأن نزول الآية نشرع بتفسير فقراتها:

قوله تعالى: «قَدْ سَمِعَ اَللّهُ» مرّ تفسيره «قَوْلَ اَلَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها» : أي أظهرت ما في نفسها من الألم «وَ تَشْتَكِي إِلَى اَللّهِ» : أي تطلب من اللّه سبحانه أن يحلّ مشكلتها «وَ اَللّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما» : أي محاورة المرأة مع النبي صلى الله عليه و آله و سلم «إِنَّ اَللّهَ سَمِيعٌ» لمحاورتكما «بَصِيرٌ» بمشكلة المرأة.

الآية الثانية
اشارة

قال سبحانه: «اَلَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلاَّ اَللاّئِي وَلَدْنَهُمْ وَ إِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ اَلْقَوْلِ وَ زُوراً وَ إِنَّ اَللّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ».(1)

المفردات

يظاهرون: أي مَن شبّه ظهر زوجته بظهر أُمّه، وقال: أنتِ عليّ كظهر أُمّي.

وكانوا يقولون هذا في الجاهلية يُريدون به تحريم نكاحها وبثّ عصمته.

التفسير

تذكر الآية أنّ الزوجة بمجرّد تشبيهها بالأُم لا تصير أُمّاً، كما يقول: «اَلَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلاَّ اَللاّئِي وَلَدْنَهُمْ».

ص: 54


1- . المجادلة: 2.

ثمّ إنّه سبحانه يصف قولهم هذا بقوله: «وَ إِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ اَلْقَوْلِ» :

أي ينكره الشرع ولم يعتبره. «وَ زُوراً» : أي كذب لا يوافق الواقع. وبما أنّ هذا التشبيه أمر حرام فاللّه سبحانه يعد المكلّفين بالمغفرة ويقول: «وَ إِنَّ اَللّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ».

وحاصل الآية: أنّ الأُمومة أمر تكويني لا تتحقّق بالقول والإنشاء، ولذلك يصف سبحانه هذا الأمر في آية أُخرى بقوله: «وَ ما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اَللاّئِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ»(1).

وبما أنّ المرأة المشتكية طلبت من النبي حلّ مشكلتها، جاء البيان القرآني لحلّها ضمن الآيتين التاليتين.

الآية الثالثة
اشارة

قال سبحانه «وَ اَلَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسّا ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَ اَللّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ».(2)

المفردات

ثم يعودون: أي يُريدون العود، كما في قوله: «إِذا قُمْتُمْ إِلَى اَلصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ»(3) أي: إذا أردتم القيام، فعلى هذا يكون المراد: يُريدون العود

ص: 55


1- . الأحزاب: 4.
2- . المجادلة: 3.
3- . المائدة: 6. البقرة: 237.

إلى ما حرّموه على أنفسهم.

يتماسّا: المسّ كناية عن المواقعة، وهو ظاهر في غير واحدة من الآيات، قال سبحانه: «وَ إِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ».(1)

التفسير

قوله تعالى: «وَ اَلَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ» الفقرة ظاهرة أو صريحة في أنّ المظاهرة منها يجب أن تكون متزوّجة، ولا تصحّ المظاهرة قبل الزواج، خلافاً لمالك وأبي حنيفة حيث قالا بالصحّة.(2)

قوله تعالى: «ثُمَّ يَعُودُونَ» : أي يُريدون العود لما حرّموه على أنفسهم، فتجب عليهم الكفّارة، قبل العود وهي أحد أُمور ثلاثة بالترتيب:

1. «فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسّا» بأن يقول المالك لمَن يملكه: أنت حرّ، ثم إنّه سبحانه يعلّل التغليظ في الكفّارة بقوله: «ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ» : أي ذلك التغليظ أيّها المؤمنون في الكفّارة توعظون به حتى تتركوا الظهار «وَ اَللّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ» : أي عليم بأعمالكم، فلا تَدَعوا ما وعظتم به من الكفّارة قبل الوطء، فيعاقبكم عليه.

إلى هنا تمّ بيان إحدى خصال الكفّارة وإليك الخصلتين الباقيتين:

الآية الرابعة
اشارة

قال سبحانه: «فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ

ص: 56


1- . البقرة: 237.
2- . لاحظ: الخلاف: 528/4، المسألة 7.

يَتَمَاسّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللّهِ وَ رَسُولِهِ وَ تِلْكَ حُدُودُ اَللّهِ وَ لِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ».(1)

المفردات

متتابعين: أي أن يوالي أيام الشهرين الهلاليين، أو يصوم ستين يوماً، وقالت الإمامية: إنّه إذا صام شهراً ومن الثاني شيئاً ولو يوماً واحداً ثم أفطر لغير عذر يبني عليه ولا يلزمه الاستئناف.

التفسير

ثمّ إنّه ربما لا توجد الرقبة أو لا يتمكّن المظاهر من عتقها، جاءت الآية الكريمة لبيان هذا.

2. قال سبحانه: «فَمَنْ لَمْ يَجِدْ» : أي لم يجد الرقبة «فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ» قبل الوطء.

3. قال سبحانه: «فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ» : أي لم يطق الصوم «فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً» . وظاهر الفقرة اعتبار العدد، ولا يكفي إطعام شخص واحد ستين مرّة، لكن حُكي عن أبي حنيفة أنّه قال: إن أعطى مسكيناً واحداً كلّ يوم حقّ مسكين في ستين يوماً، أجزأه.(2)

ثمّ إنّه سبحانه يتمّ الآية بقوله: «ذلِكَ» : أي ما افترضناه عليكم «لِتُؤْمِنُوا بِاللّهِ وَ رَسُولِهِ» : أي لتصدّقوا بما أتى به الرسول صلى الله عليه و آله و سلم «وَ تِلْكَ حُدُودُ اَللّهِ» : أي ما وصفناه

ص: 57


1- . المجادلة: 4.
2- . لاحظ: الخلاف: 559/4، المسألة 59.

من الكفّارات من حدوده «وَ لِلْكافِرِينَ» : أي الجاحدين «عَذابٌ أَلِيمٌ».

ثمّ إنّه يستفاد من الآية أنّ الكفّارات الثلاث على وجه الترتيب لا التخيير.

والدليل على أنّ الخصال الثلاث على وجه الترتيب لا التخيير هو أنّه قيّد الثانية بعدم وجدان الأُولى وقال: «فَمَنْ لَمْ يَجِدْ» : أي لم يجد تحرير الرقبة «فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ» ، كما قيّد الثالثة بعدم التمكّن من الثانية وقال: «فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ» : أي صيام شهرين «فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً».

ثمّ إنّ الظاهر من الآيات هو حرمة الوطء قبل مضي صيام الشهرين المتتابعين، وعلى هذا فلا يمسّ زوجته حتى يُتمّ الشهرين المتتابعين، فإن مسّها في خلال الشهرين ليلاً أو نهاراً أثم ووجب عليه إعادة الشهرين، ومن عجيب القول ما نقل عن الشافعي أنّه قال: إذا كان الوطء ليلاً لم يبطل التتابع، لأنّ الليل ليس محلّاً للصوم.(1)

ولكن خفي عليه أنّ جواز الوطء مقيّد بصيام شهرين متتابعين، فمَن لم يُتمّ الشهرين ولم يُحصِّل الشرط لا يحلّ له الوطء، وكون الليل ليس محلّاً للصيام وإن كان صحيحاً، لكنّه لا يوجب تجويز الوطء، لأنّه مشروط بصيام شهرين متتابعين والمفروض أنّه لم يحصل.

ولذلك ردّ عليه ابن عربي بكلام فيه قسوة، وقال: إنّه كلام مَن لم يذق طعم الفقه، لأنّ الوطء الواقع في خلال الصوم ليس بالمحلّ المأذون فيه بالكفّارة، فإنّه وطء تعدٍّ، فلابدّ من الامتثال للأمر بصوم لا يكون في أثنائه وطء.

هذه بعض الفتاوى الشاذّة عن ظواهر الكتاب.5.

ص: 58


1- . كتاب الأُمّ: 285/5. ولاحظ: الخلاف: 562/4، المسألة 65.

وعلى كلّ تقدير: لو صبرت المُظاهرة على ترك وطئها فلا اعتراض، وإن لم تصبر رفعت أمرها إلى الحاكم الشرعي، فيحضره ويخيّره بين الرجعة بعد التكفير وبين طلاقها، فعليه اختيار، أحدهما، وإلّا أنظره ثلاثة أشهر من حين المرافعة، فإن انقضت المدة ولم يختر أحدهما حبسه وضيق عليه في المأكل والمشرب حتى يختار أحدهما.

ص: 59

أحكام الطلاق وتوابعه

5. أحكام الإيلاء في الذكر الحكيم

الآيتان: الأُولى والثانية
اشارة

قال سبحانه: «لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَ إِنْ عَزَمُوا اَلطَّلاقَ فَإِنَّ اَللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ».(1)

المفردات

يؤلون: من الإيلاء وهو لغةَ آلى الرجل من امرأته يولي إيلاء: من الأليَّة والإلُوّة وهي الحلف، قال الشاعر:

كَفَيْنا من تَغَيَّبَ من نزارٍ ***وأحثنا أليّةَ مُقْسِمينا(2)

التفسير

الإيلاء في القرآن الكريم عبارة عن الحلف بأسماء اللّه تعالى ألّا يجامع زوجته إضراراً، فلو حلف لصلاح اللبن أو لتدبير في المرض، لم يكن له حكم

ص: 60


1- . البقرة: 226 و 227.
2- . مجمع البيان: 126/2.

الإيلاء وكان كالأيمان.(1)

وقال الشهيد الثاني في «المسالك»: اشتراط وقوع الإيلاء، بقصد الإضرار بالزوجة، بالامتناع من وطئها هو المشهور. فلو قصد بذلك مصلحتها، بأن كانت مريضة أو مرضعة لصلاحها أو صلاح ولدها، لم يقع الإيلاء؛ بل يقع يميناً يعتبر فيه ما يعتبر فيه.(2)

لا ينعقد الإيلاء حتى يكون التحريم مطلقاً أو مقيّداً بالدوام، أو مقروناً بمدّة، تزيد عن أربعة أشهر، فلو آلى بمدّة أقلّ من أربعة أشهر لا يقع إيلاءً، بل يقع يميناً.

قلنا: (تزيد على أربعة أشهر) لأنّ للزوجة على الزوج حقّ المواقعة مرّة كلّ أربعة أشهر على الأقل، فلو آلى الزوجُ ثمّ رجع في أربعة أشهر يكفّر ويرتفع المانع كأن لم يكن شيء، وإن مضى أكثر من أربعة أشهر ولم يطء، فهنا حالتان:

1. فإن صبرتْ ورضيتْ، فلها ذلك.

2. إن لم تصبر فعليها رفع أمرها إلى الحاكم الشرعي، فيجبره على الرجوع ضمن أربعة أشهر من موعد رفع أمرها إليه، فإن رجع فهو، وإلّا فيلزم بالطلاق، وإلى هذا يشير سبحانه بقوله: «لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ» ويحلفون على الاعتزال عن وطء نسائهم إضراراً بهن «تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ» : أي انتظار تلك الأشهر، فكأنّ هذه المدّة نوع إمهال للزوج في أن يتدبّر في أمر زوجته، وعندئذٍ «فَإِنْ فاؤُ» : أي رجعوا عن قصدهم «فَإِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ» للزوج إذا تاب من إضراره بامرأته، كما أنّه «رَحِيمٌ» به.3.

ص: 61


1- . شرائع الإسلام: 83/3-84.
2- . مسالك الأفهام: 82/3.

غير أنّ رجوع الزوج حنث لليمين بحاجة إلى التكفير.

ثمّ إنّ قوله سبحانه: «وَ إِنْ عَزَمُوا اَلطَّلاقَ فَإِنَّ اَللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ» هذا بيان للشقّ الآخر لما يجب على الزوج فإنّ فاء ورجع فهو، وإلّا فعليه الطلاق يقول: «وَ إِنْ عَزَمُوا اَلطَّلاقَ» لأجل اليأس من إمكان المعاشرة بالمعروف، فهو مغفور، وعلى كلّ تقدير فعلى الزوج حسم النزاع إمّا بالرجوع وإمّا بالطلاق، وليس له إيذاء النساء فلا هي مزوّجة، ولا هي مطلّقة.

واختتم سبحانه الآية بقوله: «فَإِنَّ اَللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ» : أي أنّه سميع لإيلائهم وطلاقهم، عليم بنيّاتهم.

ثمّ إنّ الإيلاء أخو الظهار داعياً ونتيجة، إذ ربما تبلغ كراهة الزوج لزوجته مرحلة يريد إيذاءها بالحلف على ترك المواقعة مطلقاً أو مقيّداً بزمان أكثر من أربعة أشهر. وبما أنّه حلف بأسماء اللّه هذا من جانب ومن جانب آخر أنّ إمضاء حلفه وعدم علاجه يضرّ بالزوجة، جاء التشريع حافظاً لكرامة كلا الطرفين، أمّا الأوّل فلا يعود إلى الزوجة إلّابالتكفير الذي مضى في الظهار، وأمّا الثاني فلأنّه إذا لم يعد، يجبر من جانب الحاكم على الطلاق.

***

ويفترق الإيلاء عن الظهار بأنّ كفّارته، كفّارة يمين، يقول المحقّق في كتاب الكفّارات: الثالثة: كفّارة الإيلاء، مثل كفّارة اليمين.(1)

وعلّله في الجواهر بقوله: لأنّه من اليمين وإن اختصّ بأحكام لكن غير الاتّحاد في الكفّارة.(2)3.

ص: 62


1- . الشرائع: 77/3، في الكفّارات.
2- . الجواهر: 277/33.

وعليه المفيد في المقنعة(1)، والشيخ في النهاية(2)، وابن البراج في المهذب(3)، وابن إدريس في السرائر(4)، فإن تمّ الإجماع فهو، وإلّا ففيه تأمّل.3.

ص: 63


1- . المقنعة: 569.
2- . النهاية: 573.
3- . المهذب: 42/2.
4- . السرائر: 77/3.

أحكام الطلاق

6. أحكام اللعان في الذكر الحكيم

تمهيد

كرامة الإنسان تقتضي أن يصان دمه وماله وعرضه من كلّ سوء، حتى لا يظن به ظن السوء، وقد وردت الأُصول الأربعة في كلام مرويّ عن النبي الأعظم صلى الله عليه و آله و سلم قال: «إنّ اللّه حرّم من المسلم دمه، وماله، وعرضه، وأن يظن به ظن السوء».(1)

هذا بالنسبة إلى المسلم وعلى هذا فمَن رمى امرأة مسلمة محصنة بالزنا، ولم يأت بأربعة شهداء، فيجلد ثمانين جلدة، ولا تقبل شهادته أبداً.

وما هذا إلّالحفظ الحرمات الطاهرة وصيانة الكرامات من عبث مَن قد يستغل عرض المرأة وبذلك يُريد إسقاطها في أعين الناس، فلأجل سدّ هذا الباب بوجه هؤلاء الذين يلعبون بأعراض العفائف قال سبحانه: «وَ اَلَّذِينَ يَرْمُونَ اَلْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَ لا تَقْبَلُوا لَهُمْ

ص: 64


1- . بحار الأنوار: 201/75.

شَهادَةً أَبَداً وَ أُولئِكَ هُمُ اَلْفاسِقُونَ».(1)

هذا كلّه إذا رمى المحصنات الأجنبيات، ويشتدّ الأمر إذا رمى الرجل زوجته بالزنا أو بنفي الولد مع كونه متولّداً على فراشه. فقد عالج هذا الأمر باللعان، وهو أشبه بالمباهلة بين زوج يقذف زوجته بالزنا، ولا شهود لديه على دعواه، وبين زوجة تنفي تهمة الزنا عن نفسها، والغاية من اللعان سقوط الحدّ عن الزوج بسبب القذف (الذي مرّ الحديث عنه في رمي المحصنة الأجنبية) أو نفي الولد. وعلى كلّ تقدير فمَن رمى زوجته بالزنا أو بنفي الولد فعليه حدّ القذف إلّافي صورتين:

1. أن يقيم البيّنة، وهو نادر.

2. يلاعن، وإليك شرحه، من خلال دراسة ما نزل فيه من الذكر الحكيم.

الآية الأُولى
اشارة

قال سبحانه: «وَ اَلَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلاّ أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللّهِ إِنَّهُ لَمِنَ اَلصّادِقِينَ».(2)

المفردات

يرمون أزواجهم: يقذفونهن بتهمة الزنا.

التفسير

قوله سبحانه: «وَ اَلَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلاّ أَنْفُسُهُمْ»

ص: 65


1- . النور: 4.
2- . النور: 6.

يُركِّز على عدم وجود الشهداء على ما يدّعون، وإلّا فلو كان عندهم شهداء سوى أنفسهم لانتفى موضوع اللعان، إنّما اللعان فيما لو كان المدّعي هو الزوج وحده.

وظيفة الزوج عند اللعان

يجب على الزوج أن يشهد أربع شهادات باللّه قائلاً: أشهد باللّه إنّي لمن الصادقين فيما رميت به زوجتي فلانة، يقول ذلك أربع مرات.

يقول سبحانه: «فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ» : أي شهادة الزوج التي تدفع عنه حدّ القذف «أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللّهِ» ليقوم مقام الشهداء الأربعة في رمي المرأة بالزنا. وأمّا متعلّق الشهادة فقوله: «إِنَّهُ لَمِنَ اَلصّادِقِينَ».

ثمّ إنّه لا يكفي في دفع حدّ القذف إلّاإذا قام بواجب خامس، وهو ما تذكره الآية التالية.

الآية الثانية
اشارة

قال سبحانه: «وَ اَلْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اَللّهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ اَلْكاذِبِينَ».(1)

المفردات

لعنة اللّه: الطرد من رحمة اللّه.

التفسير

أي بعدما أشهد اللّه على أنّه من الصادقين يقول في المرتبة الخامسة: «أَنَّ لَعْنَتَ اَللّهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ اَلْكاذِبِينَ» وبهذه الشهادات الأربع على صدقه والأمر

ص: 66


1- . النور: 7.

الخامس باللعن عليه إن كان كاذباً يدفع حدّ القذف عن نفسه.

إلى هنا تمّت وظيفة الزوج في المقام.

وظيفة الزوجة في دفع الحدّ عن نفسها

إنّ الزوجة تقوم بنفس ما قام به الزوج، غاية الأمر تُشهد اللّه أربع مرّات على أنّ الزوج من الكاذبين، كما في الآية التالية:

الآية الثالثة
اشارة

قال سبحانه: «وَ يَدْرَؤُا عَنْهَا اَلْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللّهِ إِنَّهُ لَمِنَ اَلْكاذِبِينَ».(1)

المفردات

يدرأ: يدفع.

العذاب: الحدّ.

التفسير

تقول الزوجة على غرار قول الزوج، غاية الأمر أنّ الزوج كان يركّز على صدقه، وهي تركّز على كذبه كما يقول سبحانه: «وَ يَدْرَؤُا عَنْهَا اَلْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللّهِ إِنَّهُ لَمِنَ اَلْكاذِبِينَ» فقوله: «أَنْ تَشْهَدَ» مؤوّل بالمصدر، فاعل يدرأ، أي شهادتها، أربع شهادات، ومع ذلك كلّه فشهادتها أربع مرات على كذب

ص: 67


1- . النور: 8.

الزوج لا يكفي إلى أن تأتي بأمر خامس، كما في الآية التالية.

الآية الرابعة
اشارة

قال سبحانه: «وَ اَلْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اَللّهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ اَلصّادِقِينَ».(1)

المفردات

غضب اللّه: البعد عن رحمة اللّه.

التفسير

قلنا: إنّ شهادة الزوجة على كذب الزوج لا تكفي إلّاأن تلحقها باللعن عليها إذا كان الزوج صادقاً فيما رماها به كما يقول سبحانه: «وَ اَلْخامِسَةُ» منصوب معطوف على أربع شهادت، أي أن تشهد شهادة خامسة وتقول: «أَنَّ غَضَبَ اَللّهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ اَلصّادِقِينَ».

ففي كيفية اللعان توازن خاصّ، فالزوج يشهد أربع مرّات على أنّه من الصادقين، ويلعن نفسه لو كان من الكاذبين؛ والزوجة تشهد أربع مرّات على أنّ الزوج من الكاذبين، ثم تلعن نفسها لو كان الزوج من الصادقين.

يقول الفقهاء: يجب أن يكونا قائمين عند الملاعنة، ومتى تمّت الملاعنة بشروطها ينفسخ عقد الزواج. وبهذين الأمرين يدفع كلّ من الزوج و الزوجة عن أنفسهما الحدّ، بل تحرم المرأة على زوجها الملاعن لها حرمة مؤبّدة، وينتفي

ص: 68


1- . النور: 9.

الولد عن الزوج شرعاً لا عن الزوجة، فلا يتوارثان ولا تجب نفقة أحدهما على الآخر، وأمّا بالنسبة للمرأة فهو ولدها الشرعيّ، وهي أُمّه الشرعيّة.

ما هو السرّ لتشريع اللعان

وممّا يجب التنبيه عليه هو أنّ في هذه الأحكام الخاصّة بتشريع اللعان سترٌ لهذا الأمر الشائن على الزوجين، إذ لو لم يشرّع فإمّا أن تُردّ شهادة الزوج، فعندئذٍ يجب عليه الحدّ، ولو قبلت على الزوجة فتلزم بإقامة الحدّ عليها، وفي كلا الأمرين تكدير لحياة الزوجين إذا بقيا على ما كانا عليه، ولكنّه سبحانه بتشريع اللعان حفظ كرامتهما مع الفصل بينهما، وبذلك يظهر معنى قوله تعالى في الآية التالية: «وَ لَوْ لا فَضْلُ اَللّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ وَ أَنَّ اَللّهَ تَوّابٌ»(1) : أي يقبل توبة المذنب «حَكِيمٌ» في شريعته.

ص: 69


1- . النور: 10.

أحكام الطلاق وتوابعه

7. إذا أسلم أحد الزوجين، أو ارتدّ أحدهما

تمهيد
اشارة

الارتداد: لغة من الردّة وهي الرجوع عن الشيء، وفي الاصطلاح: كفر المسلم بقول صريح أو لفظ يقتضيه أو فعل يتضمّنه...

وحاصل الكلام: الارتداد هو الكفر المتعقِّب للإيمان.

اتّفق الفقهاء على أنّ الكفر بعد الإسلام يوجب الارتداد، وضابط الكفر إنكار أحد الأُمور الثلاثة:

1. إنكار اللّه سبحانه، أو إنكار بعض صفاته القطعية.

2. إنكار نبوّة النبي صلى الله عليه و آله و سلم أو رسالته، أو تكذيبه في بعض ما جاء به منها.

3. إنكار ما هو ضروري من الدين، كالصلاة والصيام ونحو ذلك.

ثمّ إنّ ارتداد كلّ من الزوج أو الزوجة يوجب ارتفاع النكاح وانقطاع العصمة بينهما، وهذا ما يستفاد من دراسة الآية التالية:

قال سبحانه: «يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ اَلْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اَللّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا

ص: 70

تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى اَلْكُفّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَ لا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَ آتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا وَ لا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَ لا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ اَلْكَوافِرِ وَ سْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَ لْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا ذلِكُمْ حُكْمُ اَللّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَ اَللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ».(1)

المفردات

مهاجرات: حال من قوله: «اَلْمُؤْمِناتُ».

مؤمنات: مفعول ثان ل «عَلِمْتُمُوهُنَّ».

فلا ترجعوهن: أي لا تردّوهنّ، بشهادة تعدّيه ب «إلى».

بعصم: العصم من العصمة، وهي لغة: المنع، قال تعالى: «لا عاصِمَ اَلْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اَللّهِ»(2) . والعِصَم جمع العصمة وهو ما يعتصم به من عقد وسبب، والمعنى: لا تتمسّكوا بنكاح الكافرات، وسمّي النكاح عصمة لأنّ المرأة بالنكاح ممنوعة من غير زوجها.(3)

الكوافر: جمع الكافرة.

التفسير

قبل البدء بتفسير الآية نذكر شأن نزولها، حيث روي أنّها نزلت بعد صلح الحديبية، فقد عقد النبي صلى الله عليه و آله و سلم مع المشركين صلحاً يشتمل على مواد وبنود، منها

ص: 71


1- . الممتحنة: 10.
2- . هود: 43.
3- . مجمع البحرين: 116/6، مادة «عصم».

أنّه مَن أتى محمداً من قريش بغير إذن وليّه ردّه عليهم، ومَن جاء قريشاً ممّن مع محمد لم يردّوه عليه.

ثمّ إنّه بعد ما تمّت هذه المعاهدة هاجرت المؤمنات من نساء المشركين إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، ولمّا طلب المشركون نساءهم المهاجرات من النبي حتى يردّهنّ قال: «الشرط بيننا في الرجال لا في النساء» ويشهد على ذلك أنّ المرأة إن أسلمت لم تحلّ لزوجها الكافر فكيف تُردّ عليه.

أقول: الآية تتضمّن بيان أُمور:

الأوّل: حرمة ردّهن إلى أزواجهن

إنّ المؤمنات المهاجرات يجري في حقّهنّ الامتحان، فلو ثبت أنّ الداعي لهجرتهن هو إيمانهن، فلا يُرجعن إلى أزواجهن، وإلى هذا يشير سبحانه بقوله: «يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ اَلْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اَللّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى اَلْكُفّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَ لا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ».

الثاني: ردّ ما أُخذ من المهور إلى أزواجهن

إنّ المرأة المسلمة إذا تركت زوجها المشرك والتحقت بالإسلام والمسلمين، وانقطعت الصلة بينهما يتوجّه ضرر إلى زوجها المشرك، لأنّه نكحها بمهر تمّ تسليمه لها. فلأجل ذلك أمر سبحانه بردّ المهر الذي بذله لها «وَ آتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا» . والقائم بهذا الأمر هو الحاكم الإسلامي فيدفع من بيت المال ما يساوي مهرها. وفي التعبير عن المهر ب «ما أَنْفَقُوا» دلالة على انقطاع الصلة بينهما، فلم يسمّه «مهراً» بخلاف الفقرة اللاحقة حيث سمّاه فيها: «أجراً».

ص: 72

الثالث: جواز نكاحهنّ مع المهر

فإذا أسلمت الزوجة المشركة والتحقت بدار الإسلام فهي بحاجة إلى مَن يحميها بنكاح وإنفاق، واللّه سبحانه يسوّغ للمسلمين تزويج هؤلاء بشرط جعل المهر لها حتى لا تتصوّر المرأة بخلوّ نكاحها عن المهر، فقال: «وَ لا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ» فلا يتصوّر أنّ ما دفع للزوج السابق مسقط لاستحقاق المرأة المهر من الزوج الثاني، أو أنّ ما أخذته المرأة من زوجها السابق مسقط لأخذ المهر من الزوج الثاني. نعم يجوز نكاحهنّ مع جعل المهر بعد الاستبراء وانقضاء العدّة من المشرك إذا كان قد دخل بها.

الرابع: إذا أسلم الزوج دون الزوجة

لمّا نهى سبحانه عن إبقاء الصلة بين المسلمة والكافر، كان ثمّة رجال قد أسلموا وهاجروا إلى المدينة، بينما بقيت نساؤهم على الكفر في قلّة، فجاءت الآية لبيان تكليف هؤلاء الأزواج، فقال سبحانه: «وَ لا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ اَلْكَوافِرِ» : أي لا تمسكوا بنكاح الكافرات من غير فرق بين كونها كافرة أو ذمّية، وإن كان نزول الآية في مورد المشركات، لكن المعيار إطلاق الآية، فخرجنا بما يلي:

1. أنّ الآية تنهى عن إبقاء النكاح إذا كانت الزوجة كافرة، كما هو مفاد قوله:

«وَ لا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ اَلْكَوافِرِ».

2. إذا أسلمت الزوجة وكان الزوج كافراً فحكمه يُعلم من قوله: «لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَ لا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ» وتترتّب على ذلك الأُمور التالية:

1. لو كان الزوجان كافرين وأسلم هو من دونها، حرمت عليه لانقطاع العصمة بينهما.

2. إذا أسلمت هي من دونه، حرمت على الزوج. وتردّ مهرها إليه وتتزوّج

ص: 73

من غيره بعد الاستبراء.

3. إذا كانا مسلمين وارتدّ أحدهما عن الإسلام، يحرم كلّ على الآخر.

وهذه الصور الثلاث من مصاديق قوله سبحانه: «وَ لا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ اَلْكَوافِرِ» ، هذا هو المستفاد من الذكر الحكيم، وتؤيّدهُ السنّة في غير واحد من أبواب الفقه.

1. روى الكليني عن أبي بكر الحضرمي عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «إذا ارتدّ الرجل المسلم عن الإسلام بانت منه امرأته كما تبين المطلّقة».(1)

2. وروى أيضاً عن محمد بن مسلم، قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن المرتدّ؟ فقال: «مَن رغب عن الإسلام، وكفر بما أنزل اللّه على محمد صلى الله عليه و آله و سلم بعد إسلامه، فلا توبة له، وقد وجب قتله، وبانت امرأته منه، فليقسّم ما ترك على ولده».(2)

فإن قلت: إنّ الموضوع في قوله: «وَ لا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ اَلْكَوافِرِ» هو الكفر، فهل هناك دليل على أنّ المرتدّ يوصف بالكفر؟

قلت: يكفي في ذلك قوله سبحانه: «وَ مَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَ هُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي اَلدُّنْيا وَ اَلْآخِرَةِ وَ أُولئِكَ أَصْحابُ اَلنّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ»(3).

الخامس: «وَ سْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَ لْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا» تتميم لقوله: «وَ لا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ» ، وذلك لأنّ المرأة إذا أسلمت والتحقت بدار الإسلام، يكون ذلك ضرراً للزوج المشرك، حيث إنّه دفع مهرها عند زواجه منها. وهكذا العكس فإذا أسلم الزوج والتحقت الزوجة بدار الكفر7.

ص: 74


1- . الوسائل: 17، الباب 6 من أبواب موانع الإرث، الحديث 4.
2- . الوسائل: 17، الباب 6 من أبواب موانع الإرث، الحديث 5.
3- . البقرة: 217.

يتضرر الزوج المسلم، وذلك لأنّه تزوّجها بمهر مسلّم إليها.

ففي هذه الفقرة يأمر سبحانه كلّ زوج أن يسأل عمّا أنفق، وقدّم حكم الصورة الثانية. أعني: إذا التحقت الزوجة المسلمة بدار الكفر. وقال: «وَ سْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ» والمسؤول بالاتّفاق هو الحكومة الإسلامية، كما بيّن حكم الصورة الأُولى وقال: «وَ لْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا» ، والشاهد على ما ذكرنا من التفصيل هو توجيه الكلام في الصورة الثانية بالخطاب وتوجيهه في الصورة الأُولى بالغيبة فلاحظ. ومعنى الفقرتين أنّهم إذا أعطوا ما عليهم، أعطوهم ما عليكم.

ثمّ إنّه سبحانه يشير إلى أنّ هذه الأحكام هي مقتضى العدل بين الفريقين ويقول: «ذلِكُمْ» أي: ذا، إشارة إلى الأحكام الماضية والضمير المتصل «كم» خطاب للمؤمنين، أي ما ذكر أيّها المؤمنون «حُكْمُ اَللّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ» وحكمه ناشئ عن علم وحكمة، ولذلك قال: «وَ اَللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ».

بقي هنا شيء وهو ربما يختلج في بعض الأذهان أنّ ما ورد حول الارتداد من الأحكام لا ينسجم مع الحرية التي هي أعزّ ما تنشده البشرية قديماً وحديثاً وتبذل من أجلها النفوس والدماء، وقد عملنا رسالة حول تلك الشبهة وغيرها ممّا يثار بين الشباب، والذي يمكن أن يقال على حسب الإجمال:

إنّ الحرية الدينية شيء وتجويز ارتداد الإنسان عن الإسلام شيء آخر، فللإنسان أن لا ينتحل ديناً، ويبلغ كافراً ولا يزاحم إنساناً آخر، أو يبقى على النصرانية و اليهودية ويخلّي بين نفسه وما فيها. لكن إذا اختار الإسلام عن بصيرة ووعي، ثم عدل عنه وتظاهر بذلك، فإنّه يوجب التزعزع في سائر المعتقدين بالإسلام، وينتهي إلى ما لا تحمد عقباه، ولذلك فالإسلام يحاربه بشدّة وبلا هوادة؛ وذلك لأنّ عمله هذا يُعتبر نوع محاربة للدّين الإسلامي، إذ الارتداد والتشهير به ليس أمراً فردياً يتسامح فيه، بل هو محاربة للدّين بنحو سرّي.

ص: 75

توضيح ذلك: أنّ الأنظمة على قسمين:

1. أنظمة قائمة على أُسس مادّية، وقوانين اجتماعية مستمدة منها، ولا علاقة لها بالدين، وما وراء الطبيعة، ومثالها الأنظمة السائدة في الغرب، فإنّ اللازم على كلّ مواطن في تلك البلدان، هو العمل على وفق القوانين السائدة فيها، من دون أن يكون للدين والعقيدة، تأثير في تلك الأنظمة، ومن ثم فلو تحوّل المواطن المسيحي إلى بوذيّ، مثلاً، أو تحوّل البوذي إلى مسيحي، لا يكون مؤثراً في النظام ولا في استقرار المجتمع؛ لأنّ أعمدة النظام، هي تلك الأُسس المادّية الّتي يقوم عليها النظام، وهي معزولة عن أي فكر ديني أو عقيدة إلهية.

2. أنظمة قائمة على أُسس دينية وعقائد إلهية، مرتبطة بما وراء الطبيعة، ففي هذه الأنظمة، يُعدّ اعتقاد المواطن بالدين وأحكامه، ركناً ركيناً في حفظ النظام، كما أنّ الخروج عن العقيدة، والتظاهر به، يعدّ خروجاً عن أصل النظام، خصوصاً إذا أعلن المرتدّ عن فكرته، وفي المجتمع ضعفاء العقول سمّاعون لكلّ صوت، ففي هذه الحالة، يعدّ الشخص محارباً للنظام، داعياً إلى نقده وهدمه.

فهل يُتصوّر أن يمهل مدير النظام ورئيسه من يحاول إلغاء وجوده وسلب أثره عن المجتمع؟ كلا، ولا، ولذلك لاترى في أي مجتمع - وإن كان ينادي بالحرية - يسمح لأحد أفراده أن يعمد إلى خلخلة النظام، وتعكير أمن المجتمع، والّذي يشهد لذلك أنّ الجاسوس في عامّة الأنظمة، يعاقب بأشدّ العقوبات، وما ذلك إلّاأنّه يحارب النظام ويعاديه.

***

تمّت دراسة الآيات المتعلّقة بأحكام الطلاق وتوابعه.

ص: 76

الفصل الثالث عشر: أحكام الأطعمة والأشربة في الذكر الحكيم

اشارة

1. الأطعمة المحرّمة.

2. الأطعمة المحلّلة.

حكم ذبائح أهل الكتاب.

3. الأشربة المحلّلة.

4. الأشربة المحرّمة.

5. أحكام اللباس.

6. أحكام الصيد والذبائح.

ص: 77

ص: 78

أحكام الأطعمة والأشربة

في الذكر الحكيم

لا شكّ أنّ الإنسان بحاجة - في حياته اليومية - إلى الطعام والشراب، وذلك أمر واضح ليس بحاجة إلى الاستدلال عليه.

هذا من جانب ومن جانب آخر أنّه ليس كلّ طعام وشراب يسدّ جوعه ويروي عطشه، بل ربما يضرّه ويقتله، فصار ذلك سبباً لبيان ما هو الحلال والحرام من الطعام والشراب، وما هو الطيب والخبيث منهما، ولذلك فتح الفقهاء في المقام بابين:

1. الأطعمة والأشربة.

2. الصيد والذباحة.

وإن كان الجميع في طريق سدّ حاجاته بصورة تنفعه ولا تضرّه.

ثمّ إنّ الأُصوليين فتحوا باباً باسم «الأصل في الأشياء الحليّة» واستدلّوا عليه بالآيات التالية، وأرادوا بالأصل أنّه يجوز للإنسان أن ينتفع بكلّ ما في الأرض ما لم يصل إليه دليل يصدّه عن الانتفاع، وإليك هذه الآيات.

ص: 79

الآية الأُولى

اشارة

قال سبحانه: «هُوَ اَلَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي اَلْأَرْضِ جَمِيعاً».(1)

التفسير

«اللام» في قوله: «لَكُمْ» إمّا للانتفاع أو للغاية، وعلى كلّ تقدير فالآية تدلّ على أنّ ما في الأرض خلق لانتفاع الإنسان به على وجه الإجمال، وأمّا كيفية الانتفاع وحدوده فهو موكول إلى سائر الآيات والسنّة.

وبعبارة أُخرى: الآية بصدد بيان أصل التشريع، وأمّا حدوده وخصوصياته فلا يعلم إلّابالرجوع إلى سائر الأدلّة، وهذا نظير قول مَن حفر بئراً وأجرى الماء إلى القرية ثم خاطب أهلها بقوله: حفرت البئر لكم، وأمّا كيفية الانتفاع فهو بحاجة إلى بيان آخر حتى لا ينجر إلى الفوضى.

الآية الثانية

اشارة

قال سبحانه: «يا أَيُّهَا اَلنّاسُ كُلُوا مِمّا فِي اَلْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً».(2)

المفردات

كلوا: الأكل في اللغة: هو البلع عن مضغ، وأُريد هنا مطلق الانتفاع، سواء أكان بالأكل أم بغيره.

حلالاً: هو حال أي حال كونه حلالاً.

ص: 80


1- . البقرة: 29.
2- . البقرة: 168.

طيباً: الطيب: خلاف الخبيث، ويراد به المستلذّ.

التفسير

دلالة هذه الآية أضيق من الآية الأُولى حيث تأمر بالأكل من بعض ما في الأرض، حيث إنّ قوله: «ممّا» هو «من ما». ولفظة «من» للتبعيض.

ودلالة الآية على أصالة الحلّيّة، كما هو الحال في الآية السابقة، لا يتمسّك بها إلّابعد الرجوع إلى سائر الأدلّة.

الآية الثالثة

اشارة

قال سبحانه: «يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَ اُشْكُرُوا لِلّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيّاهُ تَعْبُدُونَ».(1)

المفردات

مضى تفسير الأكل والطيب في تفسير الآية السابقة. بقي الكلام في معنى الشكر.

الشكر هو الاعتراف بالنعمة مع ضرب من التعظيم، والأولى أن يضاف إليها صرف النعمة في محلّها بشهادة قوله سبحانه: «وَ اَللّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَ جَعَلَ لَكُمُ اَلسَّمْعَ وَ اَلْأَبْصارَ وَ اَلْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ»(2)

ص: 81


1- . البقرة: 172.
2- . النحل: 78.

أي استعمال أدوات المعرفة في محالّها، والاجتناب عن إعمالها في غير محلّها.

التفسير

الآية تتضمّن أمرين:

1. يخاطب اللّه سبحانه المؤمنين بتناول الطيبات التي رزقهم اللّه بها، ويقول:

«يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ»(1) والأمر بالأكل يُراد به الإباحة في المقام وتقييد المأكول بالطيب حذراً من الخبيث.

2. الأمر بشكر المنعم إذا كانوا يعرفونه كما يقول: «وَ اُشْكُرُوا لِلّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيّاهُ تَعْبُدُونَ» لأنّ العقل يستقل بتقدير المنعم حيث إنّه يدلّ على استشعار العبد قيمة النعمة ومبدأها، وربما يصير ذلك سبباً لتواتر النعم واحدة بعد الأُخرى، وأنّ المراد من قوله: «إِيّاهُ تَعْبُدُونَ» أي إياه تعرفون، كما يحتمل أن يكون المراد هو الملازمة بين حصر العبادة للّه وحصر الشكر له.

ص: 82


1- . البقرة: 172.

أحكام الأطعمة والأشربة

1. الأطعمة المحرّمة

اشارة

لمّا استثنى سبحانه من قوله: «أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ اَلْأَنْعامِ» بقوله: «إِلاّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ»(1) نزلت آيات عديدة حول هذا المستثنى. وها نحن ندرس في هذا الفصل ما هو المستثنى.

ثمّ إنّ ما حرّمه الشارع فإنّما هو لمفسدة في أكله وشربه، سواء أوقف الإنسان على ذلك عن طريق التجربة أم لا؛ فإنّ الوحي لا يخطأ، ومن حسن الحظ أنّه كلّما مرّ زمان وتقدّم فيه الإنسان في كشف الحقائق ورفع الستر عن أسرار الخلقة تظهر حكمة كلّ ما حكم الشارع بحرمته ووجوب الاجتناب عنه، وكفانا في ذلك كلمات المكتشفين حول المحرّمات الإسلامية.

وعلى كلّ تقدير فاللّه سبحانه أشار إلى حرمة عشرة أشياء مضافاً إلى حرمة الاستقسام بالازلام وقال:

ص: 83


1- . المائدة: 1.
الآية الأُولى
اشارة

«حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ اَلْمَيْتَةُ وَ اَلدَّمُ وَ لَحْمُ اَلْخِنْزِيرِ وَ ما أُهِلَّ لِغَيْرِ اَللّهِ بِهِ وَ اَلْمُنْخَنِقَةُ وَ اَلْمَوْقُوذَةُ وَ اَلْمُتَرَدِّيَةُ وَ اَلنَّطِيحَةُ وَ ما أَكَلَ اَلسَّبُعُ إِلاّ ما ذَكَّيْتُمْ وَ ما ذُبِحَ عَلَى اَلنُّصُبِ وَ أَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ».(1)

المفردات

الميتة: ما مات حتف أنفه، وهو أخصّ من غير المذكّى، لأنّ الثاني يشمل ما ذُكّي بغير التسمية عمداً، أو على غير وجه القبلة، أو ذبح من قبل الكافر، فإنّ الجميع غير مذكّى يحرم أكله، ولكنّه ليس ميتة، فأحكام الميتة كالنجاسة لا تشمل غير المذكّى.

أُهلّ: الإهلال رفع الصوت، يقال: استهل الصبي إذا صرخ عند الولادة، وأُريد هنا ما ذبح على غير ذكر اللّه، بل باسم اللات والعزّى، وسيأتي ذكر معنى سائر المفردات عند التفسير.

التفسير

قوله: «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ» : أي حُرّم أكلها حسب مناسبة الحكم والموضوع، الأُمور التالية:

1. «اَلْمَيْتَةُ» وهي ما مات حتف أنفه أي بدون عامل خارجي، وتقدير الآية حُرّمت عليكم البهيمة الميتة. وأمّا تفسير بعض الفقهاء بالحيوان غير المذكّى فهو تفسير بالأعمّ، لأنّ أكثر ما يشير إليه بعد الميتة قسيم لها، لأنّ الموت فيها بفعل

ص: 84


1- . المائدة: 3.

فاعل. فكيف يمكن أن يكون قسماً لها.

نعم يحرم أكل الميتة؛ لأنّ الحيوان الذي مات حتف أنفه فإنّما يموت لمرض سبّب موته، ولحم مثل هذا الحيوان لا يخلو من سموم ومواد أثرت في حياة الحيوان فمات.

2. «وَ اَلدَّمُ» أُريد به الدم المسفوح الذي يخرج بقوّة، ويتميّز عن اللحم، ويشهد على ما ذكرنا، قوله سبحانه: «إِلاّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ»(1).

نعم الدم الذي هو كاللحم كما في الكبد فهو حلال، وأمّا ما يختلط باللحم فهو طاهر، وأمّا جواز أكله فيعلم حكمه من البحوث الفقهية.

3. «وَ لَحْمُ اَلْخِنْزِيرِ» ولعلّ وجه حرمته ملازمته للقاذورات ورغبته فيها، ولهذا السبب أيضاً نُهي عن أكل لحوم الحيوانات الجلّالة وحتى عن شرب لبنها.

4. «وَ ما أُهِلَّ لِغَيْرِ اَللّهِ بِهِ» : أي ذبح على غير ذكر اللّه، حيث كانوا يذبحون لأصنامهم فيرفعون أصواتهم قائلين: بسم اللات والعزى.

ثمّ إنّ تحريم هذا القسم لأجل أنّه ترويج للشرك، والظاهر أنّه أُريد ب «لِغَيْرِ اَللّهِ» أعمّ من الأصنام والأوثان حتى أسماء الملائكة والأنبياء، وكأنّ الإهلال عند الذبح عبادة يجب الإخلاص فيها للّه سبحانه.

5. «وَ اَلْمُنْخَنِقَةُ» فلو فسّرت بالموصوفة بالاختناق، تختصّ بما لو اختنقت الشاة بفعل نفسها، كما لو أدخلت رأسها بمضيق فاختنقت. وأمّا لو قلنا بأنّها المنخنقة أو بعامل، فيراد ما لو خنقت الشاة بحبل أو غيره. ويؤيد ذلك ما قيل من5.

ص: 85


1- . الأنعام: 145.

أنّ أهل الجاهلية كانوا يخنقون الشاة حتى إذا ماتت أكلوها.

والظاهر هو المعنى الثاني، لأنّ الموصوفة بالانخناق دون خنق غيرها لها يدخل في الميتة التي عرفت أنّها الحيوان الذي مات حتف أنفه.

6. «وَ اَلْمَوْقُوذَةُ» وهي المقتولة بالضرب، كما قال الراغب. وكأنّ العرب كانوا يأكلونها، فهي محرّمة، لأنّ هذا العمل تعذيب للحيوان.

7. «وَ اَلْمُتَرَدِّيَةُ» وهي التي تقع من جبل أو مكان عال أو تقع في بئر فتموت.

8. «وَ اَلنَّطِيحَةُ» هي التي تنطحها غيرها فتموت.

9. «وَ ما أَكَلَ اَلسَّبُعُ» : أي حرم عليكم ما أكله السبع، أي قتله، وهي فريسة السبع، سواء أكل منها أو لا، وذكر الأكل قيد غالبي لأنّ السباع خصوصاً الأسد يأكل البعض ويترك البعض الآخر، والآية تدلّ على أنّ أهل الجاهلية يأكلون بعض فرائس السباع.

ثمّ إنّه سبحانه يستثني من الأصناف الخمسة الأخيرة ما يُدرك حيّاً فإنّه يحل بالذبح الشرعي، ولذلك يقول: «إِلاّ ما ذَكَّيْتُمْ» . وقد روي عن الصادقين عليهما السلام: «إنّ أدنى ما يدرك به الذكاة أن تدركه يتحرك أذنه أو ذنبه أو تطرف عينه».(1)

وأمّا حقيقة التذكية فهي قطع تمام الأوداج(2) الأربعة: المريء، وهو مجرى الطعام، والحلقوم، وهو مجرى النفس، ومحلّه فوق المريء، والودجان(3) وهما».

ص: 86


1- . مجمع البيان: 316/3.
2- . الأوداج جمع «الودَج».
3- . «ودَجان» أيضاً جمع «الوَدَج».

عرقان محيطان بالحلقوم، فلا يجزي قطع بعضها، والتفصيل في الكتب الفقهية.

ثمّ إنّ الظاهر كما قلنا: إنّ الاستثناء «إِلاّ ما ذَكَّيْتُمْ» من الخمسة المتأخّرة، أعني: «وَ اَلْمُنْخَنِقَةُ وَ اَلْمَوْقُوذَةُ وَ اَلْمُتَرَدِّيَةُ وَ اَلنَّطِيحَةُ وَ ما أَكَلَ اَلسَّبُعُ» خلافاً لصاحب المنار الذي جعل الاستثناء يشمل الستة حيث أدخل فيه «وَ ما أُهِلَّ لِغَيْرِ اَللّهِ بِهِ».(1)

إذ لا يبقى بعد الذبح شيء من الأوداج الأربعة حتى تقع عليها التذكية.

يلاحظ عليه: أنّ ما يذبح لغير اسم اللّه لا تصدق عليه الحالتان، حركة الأُذن والذنب أو طرف العين، حتى يحلّ بالتذكية في الحالة الثانية.

وهنا احتمال ثالث وهو رجوع الاستثناء إلى الأخير فقط أعني: «وَ ما أَكَلَ اَلسَّبُعُ» فلاحظ.

10. «وَ ما ذُبِحَ عَلَى اَلنُّصُبِ» ، قال الطبري: النُّصب هي حجارة حول الكعبة يذبح عليها أهل الجاهلية، وقال: النُّصب ليست بأصنام، الصنم يصوّر وينقش، وهذه حجارة تنصب ثلاثمائة وستون حجراً، منهم من يقول: ثلاثمائة منها لخزاعة، فكانوا إذا ذبحوا نضحوا الدم على ما أقبل من البيت.(2)

لكن كونها متميّزة عن الأصنام لكونها غير منقوشة، لا يخرجها عن كونها معبودة، قال الراغب: وكان للعرب حجارة تعبدها وتذبح عليها.(3) وقد يقال في جمعه أنصاب، كما سيأتي في قوله تعالى: «وَ اَلْأَنْصابُ وَ اَلْأَزْلامُ»(4).

قال الأعشى الذي أنشد قصيدة وجاء إلى مكّة المكرّمة ليُسلم، والقصيدة0.

ص: 87


1- . لاحظ: تفسير المنار: 140/6.
2- . تفسير الطبري: 100/6.
3- . المفردات للراغب: 709، مادة «نصب».
4- . المائدة: 90.

مفصّلة مذكورة في سيرة ابن هشام ومنها قوله:

وذا النصب المنصوب لا تنسكنّه ***ولا تعبد الأوثان واللّه فاعبدا(1)

وعلى ما ذكرنا فيتميّز عمّا «أُهِلَّ لِغَيْرِ اَللّهِ بِهِ» لكون الأوّل ما ذكر عليه اسم غير اللّه كالعزّى أو هبل، ولكن أُريد بالثاني ما ذبح على الحجر الذي كانوا يعبدونه، من دون اسم صنم أو غيره.

وعلى كلّ تقدير فالغرض من تحريم هذه الأقسام الأخيرة هو النهي عن إيذاء الحيوان، فالإسلام يتحرّى أسهل أنواع التذكية حتى يكون الألم المتوجّه للحيوان أقل ما يمكن.(2)

وقد روي عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم: إنّ اللّه كتب الإحسان على كلّ شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح، وليحدّ أحدكم شفرته، وليُرح ذبيحته.(3)

إلى هنا تمّ بيان ما هو المحرّم من اللحوم وهي عشرة، بقي في المقام بيان قسم آخر، لا يمتّ إلى حرمة اللحم، وإنّما الحرام هو استقسام ما ذبح بالمقامرة وهذا ما يقول فيه سبحانه:

11. «وَ أَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ» وهو عطف على «اَلْمَيْتَةُ» : أي حُرّم عليكم أن تستقسموا بالأزلام. وللمفسّرين في تفسير تلك الفقرة وجهان:

أ. قيل: الأزلام جمع «زُلم» وهو قطعة من الخشب على هيئة السهم، وكان أهل الجاهلية إذا أراد أحدهم أن يقدم على أمر يهمه أخذ ثلاثة من الأزلام، وكتب6.

ص: 88


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 260/1.
2- . ومن آداب الذبح هو أن تكون آلة الذبح حادّة.
3- . تفسير القرطبي: 56/6.

على واحد منها أمرني ربّي، وعلى ثان نهاني ربي، وأهمل الثالث، ثم يغطيها بشيء، ويدخل يده ويخرج أحدها، فإن كان أمراً فعل، وإن كان نهياً ترك، وإن كان مهملاً أعاد، حتى يخرج الأمر، أو النهي.(1)

ويرد عليه: أنّ سياق الآية يأبى عن حمل اللفظ على الاستقسام بهذا المعنى، وذلك أنّ الآية - وهي في مقام عدّ محرمات الأطعمة، وقد أُشير إليها قبلاً في قوله: «إِلاّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ» - تُعدّ من محرّماتها عشراً، وهي الميتة والدم ولحم الخنزير وما أُهل لغير اللّه به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع وما ذبح على النصب، ثم تذكر الاستقسام بالأزلام الذي من معناه قسمة اللحم بالمقامرة، ومن معناه استعلام الخير والشر في الأُمور، فكيف يشكّ - بعد ذلك السياق الواضح والقرائن المتوالية - في تعيّن حمل اللفظ على استقسام اللحم قماراً؟ وهل يرتاب عارف بالكلام في ذلك؟(2)

ب. ما رواه علي بن إبراهيم في تفسيره عن الصادقين عليهما السلام: أنّ الأزلام عشرة، سبعة لها أنصباء، وثلاثة لا أنصباء لها. فالتي لها أنصباء: الفذ(3) والتوأم(4)والمسبل(5) والنافس(6) والحلس(7) والرقيب(8) والمعلى (9)؛ فالفذ له سهم،ء.

ص: 89


1- . تفسير الطبري: 99/6؛ مجمع البيان: 317/3.
2- . الميزان في تفسير القرآن: 166/5.
3- . الفذّ: مصدر جمعه «افذاذ» بمعنى الفرد.
4- . التوأم: المولود مع غيره في بطن واحد.
5- . المُسْبِل: والمُسبَل والمسبَّل من السَبَلة: مقدم اللحية والمراد الرجل كثير الشعر على شاربها.
6- . الحاسد يقال: تنافس القوم في الأمر: بالغوا وزايدوا.
7- . الحِلْس: الملازم الذي لا يبرح.
8- . الرقيب: الحارس.
9- . المعلّى من العلو أي الارتفاع. كلّ هذه السبعة من سهام الميسر التي بها انصباء.

والتوأم له سهمان، والمسبل له ثلاثة أسهم، والنافس له أربعة أسهم، والحلس له خمسة أسهم، والرقيب له ستة أسهم، والمعلى له سبعة أسهم. والتي لا أنصباء لها:

السفيح(1) والمنيح(2) والوغد(3)، وكانوا يعمدون إلى الجزور فيجّزئونه أجزاء، ثم يجتمعون عليه فيخرجون السهام ويدفعونها إلى رجل، وثمن الجزور على من تخرج له التي لا أنصباء لها. وهو القمار، فحرّمه اللّه تعالى.(4)

والعجب أنّ هذا المعنى الذي يناسب سياق الآية لم يأت ذكره في أغلب التفاسير على وجه التفصيل حتى أنّ بعضهم وصفه بقوله: «قيل»، كما هو الحال في كشّاف الزمخشري قال: وقيل هو الميسر وقسمتهم الجزور على الأنصباء المعلومة.(5)

ثمّ إنّ اللحوم المحرّمة على قسمين:

1. قسم تكون الحرمة فيه ذاتية كما في الميتة وما عطف عليها.

2. قسم آخر تكون الحرمة عرضية كما هو الحال في الاستقسام بالأزلام، فإنّ الحرام هو نفس الاستقسام بالأزلام، أي حُرّم عليكم الاستقسام بالأزلام لا نفس اللحوم، وعلى هذا فلو ذكي الحيوان تذكية صحيحة واستقسموا عليه1.

ص: 90


1- . السفيح: من سفح الدم سفكه واراقه.
2- . المُنيح: لو كان مأخوذاً من «نوح» بمعنى مَن ينيح يبكي بصياح. ولو كان مأخوذ من «نيح» بمعنى المشدّد، يقال: «عظّم، نيّح».
3- . الوغد: ضعيف العقل. وأمّا ما هو المناسبة لتسمية سهام الميسر بهذه الأسماء، فيعلم بالتدبّر في معانيها. ثمّ القِدْح: السهم قبل أن يتّصل.
4- . مجمع البيان: 318/3، نقلاً عن تفسير القمي.
5- . تفسير الكشّاف: 322/1.

بالأزلام ولكن ندموا ودفعوا لكلّ مشترك سهمه، فلا يحرم الأكل من هذه الذبيحة عندئذٍ.

ثمّ إنّه سبحانه ختم ذكر المحرّمات بقوله: «ذلِكُمْ فِسْقٌ» والظاهر أنّ اسم الإشارة في قوله: «ذلِكُمْ» يرجع إلى جميع ما حُرّم أكله، ولا يختص بالاستقسام بالأزلام، وكونه فسقاً لأنّه خروج عن أمر اللّه تعالى. خلافاً للرازي حيث جعله راجعاً إلى الأخير، غير أنّ التعليل ينافيه لأنّ الجميع خروج عن طاعة اللّه وإعراض عن شرعه.

الآية الثانية
اشارة

قال سبحانه: «إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ اَلْمَيْتَةَ وَ اَلدَّمَ وَ لَحْمَ اَلْخِنْزِيرِ وَ ما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اَللّهِ فَمَنِ اُضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ».(1)

المفردات

غير باغ: فُسّر بغير باغي اللّذة.

ولا عاد: أي غير متعدٍ سدّ الجوع.

التفسير

اهتمّ الذكر الحكيم بطعام المسلمين، فتعرّض لبيان المحرّمات في صور

ص: 91


1- . البقرة: 173.

مختلفة، وربما يؤكّد تحريم شيء من المحرّمات فقد حرّم اللّه سبحانه في هذه الآية الأُمور التالية:

1. الميتة. 2. الدم. 3. لحم الخنزير. 4. وما أهل به لغير اللّه.

وقد مرّ تفسير هذه الأُمور الأربعة.

ثمّ إنّه سبحانه استثنى صورة الاضطرار، وقال: «فَمَنِ اُضْطُرَّ» يجوز له أكل ما حرّم عليه ولكن بشرطين:

1. «غَيْرَ باغٍ» : أي غير باغي اللذّة.

2. «وَ لا عادٍ» : أي ولا متعد سدّ الجوع.

وربما فُسّر بغير هذا الوجه أيضاً.

ثمّ إنّه سبحانه ختم الآية بقوله: «إِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» . أمّا قوله: «غَفُورٌ» فربما يتبادر إلى الذهن بعدم وجود الصلة بينه وبين مضمون الآية من تحليل المحرمات لأنّ المضطر لم يرتكب حراماً حتى يغفر له، إلّاأنّ السيد الطباطبائي ذكر وجهه وقال: إنّ التجويز تخفيف ورخصة منه تعالى للمؤمنين، وإلّا فمناط النهي موجود في صورة الاضطرار أيضاً.(1)

وبعبارة أُخرى: المقتضي للعقاب موجود، وإن كان مقروناً بالمانع، فصار المقام مناسباً للتجلّي بالغفران.

وأمّا قوله: «رَحِيمٌ» فواضح، فإنّ تحليل الحرام لأجل الاضطرار وحفظ النفس من مظاهر رحمته.

روى المفضل بن عمر قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: أخبرني جعلني اللّه فداك1.

ص: 92


1- . الميزان في تفسير القرآن: 426/1.

لِمَ حرّم اللّه الخمر والميتة والدم ولحم الخنزير؟ قال: «إنّ اللّه تبارك وتعالى لم يحرّم ذلك على عباده، وأحل لهم ما سواه من رغبة منه فيما حرّم عليهم، ولا زهد فيما أحلّ لهم، ولكنّه خلق الخلق فعلم ما تقوّم به أبدانهم وما يصلحهم، فأحلّه لهم، وأباحه تفضّلاً منه عليهم به لمصلحتهم. وعلم ما يضرّهم فنهاهم عنه، وحرّمه عليهم. ثمّ أباحه للمضطر وأحلّه له في الوقت الذي لا يقوّم بدنه إلّابه، فأمره أن ينال منه بقدر البلغة لا غير ذلك، ثمّ قال: أمّا الميتة فإنّه لا يُدْمنها أحد إلّا ضَعُفَ بدنه ونحل جسمُه وذهبت قوّته وانقطع نسله ولا يموت آكل الميتة إلّا فجأة».(1)

بقي هنا سؤال وهو أنّ المحرّمات لا تنحصر بهذه الأُمور الأربعة بشهادة ورود محرّمات أُخرى في بقية السور، وقد مضى بعضها، مضافاً إلى أنّه سبحانه حرّم السباع وكثيراً من الحيوانات البحرية.

أقول: سيأتي الجواب عنه في تفسير الآية التالية.

الآية الثالثة
اشارة

قال سبحانه: «قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اَللّهِ بِهِ».(2)

ص: 93


1- . الوسائل: 16، الباب 1 من أبواب الأطعمة المحرّمة، الحديث 1. وقد روي بأسانيد مختلفة تورث الاطمئنان بصدور الحديث.
2- . الأنعام: 145.
المفردات

ميتة: ما مات حتف أنفه.

مسفوحاً: مصبوباً.

رجس: اسم لكلّ شيء مستقذر، منفور عنه.

فسقاً: وصف لموصوف مقدّر: أي لحماً فسقاً، ومع أنّ الفسق وصف للفعل ولكن لأجل المبالغة حتى جعل وصفاً للّحم.

أُهِلّ: الإهلال رفع الصوت بشيء.

التفسير

أشار سبحانه في هذه الآية إلى المحرّمات الأربع، ومرّ تفسير جميعها عند دراسة الآية الأُولى، والمهم الإجابة عن سؤال مرّ ذكره وهو أنّ المحرمات لا تنحصر بهذه الأُمور الأربعة، والشاهد على ذلك ورود محرمات أُخرى في نفس الآية الأُولى.

والجواب: أنّ التحريم هنا نسبيّ إضافي وليس مطلقاً، والآية بصدد الردّ على ما حرّمه المشركون من اللحوم على أنفسهم، من المحلّلات، قال سبحانه:

«ما جَعَلَ اَللّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَ لا سائِبَةٍ وَ لا وَصِيلَةٍ وَ لا حامٍ وَ لكِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اَللّهِ اَلْكَذِبَ وَ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ»(1) ، فالآية ردّ على تحريم هذه المحلّلات، وأنّ اللّه لم يحرّم منها إلّاالأُمور الأربعة، وأمّا تحريم هؤلاء فهو كذب على اللّه

ص: 94


1- . المائدة: 103.

سبحانه.

الآية الرابعة
اشارة

قال سبحانه: «إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ اَلْمَيْتَةَ وَ اَلدَّمَ وَ لَحْمَ اَلْخِنْزِيرِ وَ ما أُهِلَّ لِغَيْرِ اَللّهِ بِهِ فَمَنِ اُضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ فَإِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ».(1)

المفردات

قد مرّ تفسير مفردات الآية في الآيات السابقة، ونضيف هنا أنّ المراد من قوله: «وَ اَلدَّمَ» : أي الدم المسفوح منه، لقوله تعالى في آية أُخرى: «أَوْ دَماً مَسْفُوحاً»(2) أي مصبوباً.

التفسير

قوله تعالى: «إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ» الأُمور الأربعة:

1. «اَلْمَيْتَةَ».

2. «وَ اَلدَّمَ».

3. «وَ لَحْمَ اَلْخِنْزِيرِ».

4. «وَ ما أُهِلَّ لِغَيْرِ اَللّهِ بِهِ» : أي ذبح باسم الأصنام.

ثمّ إنّه سبحانه استثنى من حرمة تناول تلك المآكل صورة الاضطرار، وقال:

ص: 95


1- . النحل: 115.
2- . الأنعام: 145

«فَمَنِ اُضْطُرَّ» فلا بأس بشرط أن يكون «غَيْرَ باغٍ» : أي غير طالب للّذة، وربما يفسّر غير ظالم «وَ لا عادٍ» عن حدّ الضرورة.

ثمّ إنّ المهم بيان أمرين:

الأوّل: قد مرّ أنّ الحصر في هذه الآية وما تقدّمها حصر إضافي في مقابل تحريم المشركين، غير هذه الأُمور، ولا ينافي وجود محرّمات في الحيوانات غير ما ذكر كالسباع، كما مرّ بيانه.

وبذلك يُعلم أنّ ما نقل عن مالك من تحليل لحم الكلاب مستدلّاً بهذه الآية وغيرها من عدم ذكرها في عداد المحرمات، غير تام لما عرفت من أنّ الحصر ليس حقيقياً، بل هو حصر إضافي في مقابل تحريم المشركين ما أحلّه اللّه، قال سبحانه: «ما جَعَلَ اَللّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَ لا سائِبَةٍ وَ لا وَصِيلَةٍ وَ لا حامٍ وَ لكِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اَللّهِ اَلْكَذِبَ وَ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ».(1)

1. البُحَيْرة: هي الناقة التي نتجت خمسة أبطن وكان آخرها ذكراً مجرداً (شقّوا) أُذنها وامتنعوا من ركوبها ونحرها ولا يطرد من ماء ولا تمنع من مرعى.

السائبة: من سببت الدابة: أي تركتها تسيب حيث شاءت، والرجل إذا جاء من السفر أو البرء من علّة فقال: ناقتي سائبة فكانت كالبُحيرة.

الوصيلة: وهي الشاة إذا ولدت أُنثى فهو لهم وإذا ولدت ذكراً جعلوه لآلهتم.

الحام: وهو الذكر من الإبل كانت العرب إذا نتجب من صلب الفحل عشرة أبطن قالوا قد حمى ظهره فلا يُحمل عليه ولا يمنع من ماء ولا من مرعى.3.

ص: 96


1- . المائدة: 3.

وقد قيل في معاني هذه الألفاظ وجوه أُخرى ذكرها الطبرسي في «مجمع البيان».(1)

الثاني: أنّ تحريم الأُمور الأربعة لمفسدة كاملة فيها، وقد جاء سرّ التحريم في روايات أئمّة أهل البيت عليهم السلام وغيرها.

أمّا الميتة: فلأنّها مرتع لأنواع الجراثيم والميكروبات، ولذلك اعتبر الإسلام الميتة نجسة لكي يبتعد عنها المسلم، فضلاً عن عدم تناولها.

قال الإمام الصادق عليه السلام: «أمّا الميتة فإنّه لم ينل منها أحد إلّاضعف بدنه، ووهنت قوّته، وانقطع نسله، ولا يموت آكل الميتة إلّافجأة».(2)

وأمّا الدم، فهو بيئة مستعدّة لتكاثر أنواع الميكروبات المضرّة التي عندما تدخل البدن تتّجه أوّلاً إلى الدم وتتّخذه مركزاً لنشاطها، ولذلك فإنّ الكريات البيض حينما تموت بموت الحيوان يصبح الدم بذلك وسطاً صالحاً لتكاثر الميكروبات.

وأمّا لحم الخنزير، فقد كشف الطب عن مضار أكل هذا اللحم:

أوّلاً: أنّ هذا الحيوان مولع بأكل العذرة.

ثانياً: أنّ الدودة الشريطية (الوحيدة) التي تتواجد بيوضها في لَحم هذا الحيوان وتعيش في أمعائه تتكاثر بسرعة مدهشة، وهي تضع في الشهر خمسة عشر ألف بيضة، وتسبب للإنسان أمراضاً متنوّعة كفقر الدم، والإسهال، وآلام المفاصل، وتوتر الأعصاب، والحكّة، وتجمع الشحوم داخل البدن، والإحساس1.

ص: 97


1- . لاحظ مجمع البيان: 505/3-506.
2- . الوسائل: 16، الباب 1 من أبواب الأطعمة المحرّمة، الحديث 1.

بالتعب، وصعوبة مضغ الطعام وبلعه، وصعوبة التنفس.

وأمّا ما أهل به لغير اللّه، فهو الحيوان الذي يذبح على اسم غير اسم اللّه كالأصنام ونحوها ممّا يعبده المشركون، وأمّا سرّ التحريم فوجهه معلوم، حيث إنّ الإسلام يحارب الوثنية، فتجويز أكل لحم هذا الحيوان، إمضاء لها.

***

ص: 98

أحكام الأطعمة والأشربة

2. الأطعمة المحلّلة

اشارة

قد وقفت على قسم من الأطعمة المحرّمة التي ورد ذكرها في الكتاب العزيز؛ وإن كان المحرّم منها أوسع ممّا ورد فيه، وإليك الكلام في المحلّل من الأطعمة.

الآية الأُولى
اشارة

قال سبحانه: «يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ اَلْأَنْعامِ إِلاّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي اَلصَّيْدِ وَ أَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اَللّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ».1,(1)

المفردات

بهيمة: من الإبهام، لما في صوت البهائم من الإبهام.

ص: 99


1- . وسيوافيك حكم الأشربة حلالها وحرامها فانتظر.

قوله سبحانه: «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ اَلْأَنْعامِ».

يقع الكلام في موضعين:

1. ما هو المراد من العقود؟

2. ما هو وجه الصلة بين المعطوفين؟

أمّا الأوّل فنقول: إنّ العقد ضدّ الحل، فلا تعريف أوضح من جعله في مقابل ضدّه، فوصل الحبلين أحدهما بالآخر بإيجاد الربط (عقد)، وحلّه بالبنان ضده، وعلى هذا الفقرة، تركّز على كلّ مورد فيه ربط بين شيئين وإيجاد صلة بين أمرين، وما ربما يفسّر العقد بالعهد، فهو تفسير بالمورد، وإلّا فهما مفهومان مختلفان ربما يفترقان وقد يجتمعان، فمَن باع شيئاً واشتراه الآخر بالثمن فهو عقد وليس بعهد، ومن نذر وحلف على شيء فهو عهد وليس بعقد، وربما يجتمعان كالاتفاقية بين المتخاصمين أو المتعاونين، فعليك ألّا تجعلهما أمراً واحداً.

إنّ اللام في قوله تعالى: «العقود» عوض عن المضاف إليه، أي عقودكم فهي تختص بما إذا كان الطرفان إنساناً، وأمّا التكاليف الشرعية التي يقال إنّ اللّه تعالى اهتمّ بها أو تعاهد على العمل بها فهو خارج عن مصب الآية. ومَن فسّر العقد بالعهد فقد غفل عن هذه النكتة.

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ الفقرة تشتمل على الموردين التاليين:

1. العهود المتعاقدة بين المتخاصمين أو بين المتعاونين. وقد مرّ أنّ العقد والعهد ربما يجتمعان.

2. العقود الدارجة بين المتعاقدين صور مختلفة كعقد البيع والإجارة والنكاح وغير ذلك، ويشهد على استعماله في المورد الثاني قوله سبحانه في

ص: 100

المتوفّى عنها زوجها: «وَ لا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ اَلنِّكاحِ حَتّى يَبْلُغَ اَلْكِتابُ أَجَلَهُ» ، قوله سبحانه: «أَوْ يَعْفُوَا اَلَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ اَلنِّكاحِ»(1).

إنّ الفقهاء منذ عصور يستدلّون بهذه الفقرة على لزوم المعاملات المشتملة على الإيجاب والقبول إلّاما خرج بالدليل، بل وعلى وجه يصحّ الاستدلال بها على لزوم العمل بالعقود الجديدة الدارجة في الغرب المنتشرة أخيراً في الشرق من الشركات المختلفة.

نعم أصبح اليوم الوفاء بالعقود أداة طيّعة للقوى الكافرة الاستكبارية فمادام العقد يدرّ عليهم بالأموال والثروات وينتفعون به فهم يحترمونه، وأمّا إذا رأوا أنّ مصلحتهم في نقضه، ينقضونه بأوهن الوجوه، وهذه هي سيرة الانتهازيين، فالأخلاق عندهم هي ما ينفع تجارتهم وتدرّ عليهم بالأرباح، وإذا انعكست تركوها وراء ظهورهم ولم يراعوها.

إلى هنا تمّ الكلام في الأمر الأوّل، وأمّا الأمر الثاني فلم نعثر فيه بشيء يسكن له القلب إذا فسّر العقد بالمعنى الذي مرّ. نعم إذا فُسّر «العقد» بالعهد ربما يصحّ بعض الوجوه لكن المبنى غير مرضيّ عندنا.

التفسير

ثمّ إنّ الذي يرجع إلى ما نحن فيه هو تفسير قوله تعالى: «أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ اَلْأَنْعامِ» ، والبهيمة هي كلّ حيوان لا نطق له، لما في صوته من الإبهام، ومع ذلك لا تطلق على السباع ولا على الطيور. وأُريد هنا خصوص الأنعام، فإضافتها إليها إضافة بيانية، أي البهيمة التي هي الأنعام، كقولك: خاتم فضّة، ومتعلّق الحلّية هو

ص: 101


1- . البقرة: 237.

الأكل بمناسبة الحكم والموضوع، أو أعمّ من الأكل، كالبيع والشراء، إنّما الكلام:

هل المراد الأنعام الإنسية وهي أربعة: الإبل، والبقر، والغنم، والمعز، أو المراد أعمّ منها ومن الوحشية، وهي ما يشبه البهائم كالضبي، والبقر والحمر الوحشية؟ وجهان.

وعلى كلّ تقدير فالآية مجملة لا يمكن التمسّك بها إلّابعد إخراج ما ورد في الآية الثالثة، تفسيراً لقوله سبحانه: «إِلاّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ» ، أعني قوله: «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ اَلْمَيْتَةُ وَ اَلدَّمُ وَ لَحْمُ اَلْخِنْزِيرِ وَ ما أُهِلَّ لِغَيْرِ اَللّهِ بِهِ وَ اَلْمُنْخَنِقَةُ وَ اَلْمَوْقُوذَةُ وَ اَلْمُتَرَدِّيَةُ وَ اَلنَّطِيحَةُ وَ ما أَكَلَ اَلسَّبُعُ إِلاّ ما ذَكَّيْتُمْ وَ ما ذُبِحَ عَلَى اَلنُّصُبِ وَ أَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ اَلْيَوْمَ يَئِسَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَ اِخْشَوْنِ اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ اَلْإِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اُضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ».

الآية الثانية
اشارة

قوله سبحانه: «وَ اَلْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْ ءٌ وَ مَنافِعُ وَ مِنْها تَأْكُلُونَ»(1).

المفردات

الأنعام: جمع نعم، وقد مرّ أنّ المراد النعم الأربعة.

دفء: خلاف البرد.

التفسير

هذه الآية كالآية السابقة صريحة في حلّية لحوم الأنعام الأربعة. وأمّا حكم

ص: 102


1- . النحل: 5.

الفرس و الحمار والبغل، فيطلب من السنّة الشريفة، والمعروف فيها جواز الأكل مع الكراهة.

الآيات: الثالثة والرابعة والخامسة
اشارة

قوله سبحانه: «وَ مِنَ اَلْأَنْعامِ حَمُولَةً وَ فَرْشاً كُلُوا مِمّا رَزَقَكُمُ اَللّهُ وَ لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ اَلشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ اَلضَّأْنِ اِثْنَيْنِ وَ مِنَ اَلْمَعْزِ اِثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ اَلْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اِشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ اَلْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ * وَ مِنَ اَلْإِبِلِ اِثْنَيْنِ وَ مِنَ اَلْبَقَرِ اِثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ اَلْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اِشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ اَلْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصّاكُمُ اَللّهُ بِهذا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ اِفْتَرى عَلَى اَللّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ اَلنّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اَللّهَ لا يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلظّالِمِينَ».(1)

المفردات

حَمولةً: أُريد من «حمولة»: الإبل والبقر. بشهادة أنّه عطف البقر على الإبل حيث قال: «وَ مِنَ اَلْإِبِلِ اِثْنَيْنِ وَ مِنَ اَلْبَقَرِ اِثْنَيْنِ» ووصفها بالحمولة لأنّها تحمل عليها الأثقال.

كما أنّه أُريد من قوله «فَرْشاً» الضأن والمعز بنفس الدليل أعني: عطف المعز على الضأن والحكم عليهما بأمر واحد، وأمّا وصفهما لأجل أنّهما - على

ص: 103


1- . الأنعام: 142-144.

خلاف الإبل والبقر - أقرب إلى الأرض حتى يتراءى القطيع منهما من بعيد، كأنّهما فرش منبسطة على الأرض.

خطوات: جمع خطوة وهي المسافة بين القدمين، وأُريد اتّباع الشيطان.

أزواج: الزوج يطلق في اللغة على كلّ واحد من الذكر والأُنثى في الحيوانات، وعلى كلّ قرينين كالخف والنعل، قال سبحانه: «وَ أَنَّهُ خَلَقَ اَلزَّوْجَيْنِ اَلذَّكَرَ وَ اَلْأُنْثى»،(1) فسمّى كلّ من الذكر والأُنثى زوجاً.

الضأن: ذوات الصوف من الغنم.

المعز: ذوات الشعر من الغنم.

التفسير

لمّا أكّد سبحانه في الآيات السابقة على حلّية النعم، هذا من جانب، ومن جانب آخر أنّ المشركين حرّموا قسماً من الإبل والأجنّة - أعني: البحيرة والسائبة والوصيلة والحام - جاء البيان القرآني يندّد بهم في أنّ هذا التحريم بدعة ما نزّل اللّه بها من سلطان، وإليك تفسير الآيات.

قوله: «وَ مِنَ اَلْأَنْعامِ» : أي أنشأ من الأنعام، «حَمُولَةً» ما يحمل عليه من الإبل والبقر، «وَ فَرْشاً» : أي ما يفرش من أصوافها وأوبارها «كُلُوا مِمّا رَزَقَكُمُ اَللّهُ» استحلّوا الأكل ممّا أعطاكم اللّه «وَ لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ اَلشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ» في التحريم والتحليل. والخطوة ما بين قدمي الماشي كناية عن اتّباعه في التشريع.

قوله: «ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ» : أي أنشأ ثمانية أزواج «مِنَ اَلضَّأْنِ اِثْنَيْنِ» هما الكبش والنعجة (الأُنثى منه)، «وَ مِنَ اَلْمَعْزِ اِثْنَيْنِ» هما التيس والعنز (الأُنثى منه)، ثم أمر

ص: 104


1- . النجم: 45.

النبي صلى الله عليه و آله و سلم أن يسألهم عن أي قسم من هذين الصنفين حرّم اللّه وقال: «قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ» اللّه من كلّ واحد من الزوجين «أَمِ اَلْأُنْثَيَيْنِ» من كلّ واحد «أَمَّا اِشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ اَلْأُنْثَيَيْنِ» : أي الأجنّة التي تشتمل على الذكور والإناث، وبما أنّ الاستفهام إنكاري فيكون معنى الآية أنّه سبحانه لم يحرم شيئاً من هذه الثلاثة لا الذكور ولا الإناث ولا الأجنّة بكلا قسميها.

ثم قال: «نَبِّئُونِي» : أي خبّروني هل أنتم حكمتم بحرمتها «بِعِلْمٍ» : أي بحجّة عقلية أو نقلية «إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» فأتوا ببرهانكم وإلّا فحكمكم بالتحريم بدعة وضلالة.

إلى هنا تمّ الكلام في أربعة أزواج، والجميع من قبيل قوله: «وَ فَرْشاً» وقد مرّ وجه وصفها ب «فرشاً» في المفردات.

قوله: «وَ مِنَ اَلْبَقَرِ اِثْنَيْنِ» الثور والبقرة، ويظهر من الآية أنّ «اَلْبَقَرِ» يطلق على الذكر والأُنثى. ثم إنّه سبحانه أمر نبيّه أن يسألهم استفهاماً إنكارياً بقوله: «قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ» اللّه منهما «أَمِ اَلْأُنْثَيَيْنِ» منهما «أَمَّا اِشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ اَلْأُنْثَيَيْنِ» من الأجنّة. وقد تقدّم في السؤال السابق قوله سبحانه: «نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ» وأمّا في المقام فقال: «أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ» : أي حضوراً «إِذْ وَصّاكُمُ» : أي أمركم «اَللّهُ بِهذا» : أي حرّمه، فإنّ التحريم يجب أن يستند إمّا إلى علم أو نقل، فلم يكن هنا شيء منهما.

الآية السادسة
اشارة

قال سبحانه: «وَ هُوَ اَلَّذِي أَنْشَأَ جَنّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَ غَيْرَ مَعْرُوشاتٍ وَ اَلنَّخْلَ وَ اَلزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَ اَلزَّيْتُونَ وَ اَلرُّمّانَ مُتَشابِهاً وَ غَيْرَ مُتَشابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَ آتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وَ لا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ

ص: 105

اَلْمُسْرِفِينَ».(1)

المفردات

معروشات: مرفوعات، العرش: الرفع، ويُسمّى السرير عرشاً لارتفاعه.

غير معروشات: وهي القائمة من الشجر المستغني باستوائه وذهابه علوّاً لقوّة ساقه عن التعريش.

متشابهاً: في الطعم واللون والصورة.

غير متشابه: ما يخالف في الأُمور الثلاثة.

أُكله: الأُكل كلّ ما يؤكل وأُريد هنا: طعمه.

حصاده: وهو مخصوص بالزرع كما أنّ الجَني مختصّ بالثمار، وتفسير الحصد بالقطع لا تساعد عليه اللغة ولا الاستعمال.

لا تسرفوا: الإسراف: الخروج عن الحدّ، وأُريد هنا إنفاق جميع ما حُصد.

التفسير

لعلّ الآية نزلت لردّ ما كان المشركون عليه من تحريم بعض المحلّلات، ويدلّ عليه قوله سبحانه: «وَ جَعَلُوا لِلّهِ مِمّا ذَرَأَ مِنَ اَلْحَرْثِ وَ اَلْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا لِلّهِ بِزَعْمِهِمْ وَ هذا لِشُرَكائِنا فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اَللّهِ وَ ما كانَ لِلّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ».(2)

توضيح الآية: انّهم كانوا يزرعون عنه زرعاً، وللأصنام زرعاً فكان إذا زكا

ص: 106


1- . الأنعام: 141.
2- . الأنعام: 136.

الزرع الذي زرعوه للّه ولم يزكّ الزرع الذي زرعوه للأصنام جعلوا بعضه للأصنام وصرفوه إليها، ويقولون: إنّ اللّه غني والأصنام أحوج، وإليه يشير قوله سبحانه:

«وَ ما كانَ لِلّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ» وإن زكا الزرع الذي جعلوه للأصنام ولم يزكّ الزرع الذي زرعوه للّه لم يجعلوا منه للّه شيئاً، وقالوا: هو غني وإليه يشير قوله سبحانه: «فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اَللّهِ».(1)

وحكى سبحانه أيضاً عنهم بعض المحرّمات.(2)

فجاء البيان القرآني يردّ على زعمهم، وقال: «وَ هُوَ اَلَّذِي» : أي اللّه سبحانه «أَنْشَأَ» : أي خلق «جَنّاتٍ مَعْرُوشاتٍ» هي بساتين الكرم التي ترفع أغصانها بعضاً على بعض بدعائم «وَ غَيْرَ مَعْرُوشاتٍ» . وهو قسم من الكرم ما يترك منبسطاً على الأرض. وعلى هذا فإنّ كلّاً من المعروشات وغير المعروشات يختصّ بالكروم، فإنّ بعض أشجار العنب يعرش وبعضها لا يعرش فيبقى على وجه الأرض منبسطاً. وعلى هذا فيكون ذكر النخل من قبيل عطف المباين على المباين. نعم لو فسّر غير المعروش بما يرتفع أعضاؤه بعضاً على بعض بدعائم وغير المعروش بما لا يعتمد على الدعائم، يدخل النخل وأمثاله فيه كما يعم غير المعروش من الكرم أيضاً.

ثمّ عطف سبحانه عليه قوله: «وَ اَلزَّرْعَ» وهو النبات الذي يكون بحرث الناس كالحنطة والشعير والعدس والحمّص، وكلا اللفظين - أعني: النخل والزرع - معطوفان على «جَنّاتٍ»: أي وهو الذي أنشأ النخل والزرع «مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ» : أي طعمه. والظاهر أنّ قوله: «مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ» يرجع إلى الكرم والنخل والزرع ويراد9.

ص: 107


1- . لاحظ: مجمع البيان: 169/4.
2- . الأنعام: 138-139.

اختلاف طعمها.

ولعلّ التركيز على الاختلاف فيه إشارة إلى التوحيد في الربوبية فإنّ التراب واحد والماء واحد، ولكنّ الأثمار مختلفة، قال سبحانه: «وَ فِي اَلْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَ جَنّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَ زَرْعٌ وَ نَخِيلٌ صِنْوانٌ وَ غَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَ نُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي اَلْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ»(1).

وهذا يدلّ على أنّ وراء العلل الطبيعية التي لها تأثير في وجود الاختلاف، قوّة غيبية تؤثّر في تنوّع الثمار.

ثمّ إنّه سبحانه ذكر بعد النخل والزرع إنشاء الزيتون والرمان وقال: «وَ اَلزَّيْتُونَ وَ اَلرُّمّانَ» وهي الأشجار القائمة على أُصولها من غير دعائم.

ثم قال تعالى: «مُتَشابِهاً وَ غَيْرَ مُتَشابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ» والأمر هنا للإباحة لوقوعه بعد توهّم الحظر مثل قوله سبحانه: «وَ إِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا»(2) .

فلو صحّ إطلاق الثمر على الزرع يكون معنى الآية: كلوا من ثمر كلّ ما ذُكر من أوّل الآية إلى هنا، فليس لأحد أن يحرّم ذلك على أحد لأنّ التشريع للّه سبحانه. وأمّا تحريم بعض هذه الأثمار في بعض الأحوال كما إذا كان مريضاً لا يساعد وجوده لبعضها فليس هو تحريماً شرعياً بل إرشاد إلى تجنب الضرر، فإنّ الإنسان إذا كان يرغب في دوام صحّته يلزمه الإمساك عن بعض الثمار.

ثمّ إنّ قوله: «إِذا أَثْمَرَ» وتقييد الأمر بالأكل بالإثمار حمل على الغالب، وإلّا فيجوز أكل العنب إذا كان حصرماً، والتمر إذا كان بُسراً.2.

ص: 108


1- . الرعد: 4.
2- . المائدة: 2.

وبما أنّ اللّه سبحانه أنعم على العباد بهذه النعم الكبرى، فيلزم العباد شكره سبحانه، ومن مظاهر الشكر عدم الاستئثار بالجميع لنفسه، فهو من مظاهر البخل، فعلى الإنسان دفع شيء ممّا يحصل عليه إلى المحتاجين، ولذلك يقول: «وَ آتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ» والظاهر أنّ الضمير في «حَقَّهُ» يرجع إلى الثمر، وأُضيف إليه «الحق» لتعلّقه به كما يضاف الحقّ أيضاً إلى الفقراء لارتباطه بهم، فالآية تدلّ على أنّه سبحانه جعل حقّاً للفقراء يؤدّى إليهم يوم الحصاد.

ثمّ إنّ ما يؤدّى يوم الحصاد غير الزكاة التي شُرّعت في الفترة المدنية، فإنّ الآية مكيّة والزكاة بالمعنى المعروف شُرّعت في المدينة. وقد ختم سبحانه الآية بقوله: «إِنَّهُ لا يُحِبُّ اَلْمُسْرِفِينَ» في الأكل، وقد نُهي عن الإسراف في غير واحدة من الآيات.(1)

الآيتان السابعة والثامنة
اشارة

قال سبحانه: «هُوَ اَلَّذِي أَنْزَلَ مِنَ اَلسَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَ مِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ * يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ اَلزَّرْعَ وَ اَلزَّيْتُونَ وَ اَلنَّخِيلَ وَ اَلْأَعْنابَ وَ مِنْ كُلِّ اَلثَّمَراتِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ».(2)

المفردات

تسيمون: أي ترعون، يقال: اسمت الإبل إذا رعيتها.

ص: 109


1- . لاحظ: الأعراف: 31، والفرقان: 67.
2- . النحل: 10-11.

والآيتان واضحتا المعنى تكرّر مضمونهما في الآيات السابقة.

الآية التاسعة
اشارة

قال سبحانه: «اَلْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ اَلطَّيِّباتُ وَ طَعامُ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَ طَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَ اَلْمُحْصَناتُ مِنَ اَلْمُؤْمِناتِ وَ اَلْمُحْصَناتُ مِنَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَ لا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ وَ مَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَ هُوَ فِي اَلْآخِرَةِ مِنَ اَلْخاسِرِينَ».(1)

التفسير

الآية تتضمّن أحكاماً ثلاثة:

1. حلّية طعام أهل الكتاب.

2. حلية زواج العفائف من المؤمنات.

3. حلية العفائف من الكتابيات.

والذي يهمّنا في المقام هو الحكم الأوّل، وأمّا الثاني والثالث فقد مرّ بيانهما في كتاب النكاح.

نعم في الآية بحوث أُخرى أشرنا إليها في تفسيرنا «منية الطالبين»، فلنعرّج على ما يهمّنا في المقام.

ص: 110


1- . المائدة: 5.
حكم ذبائح أهل الكتاب

اتّفقت كلمة علماء أهل السنّة على أنّه لا يشترط في الذابح الإسلام بل يكفي أحد الأمرين: أن يكون مسلماً أو كتابياً. حيث قالوا: إنّه يشترط لصحّة الذبح في الجملة شرائط راجعة إلى الذابح، وهي: أن يكون عاقلاً، وأن يكون مسلماً أو كتابياً... إلى آخر ما ذكروه».(1)

وأمّا المشهور بين فقهاء الشيعة، فهو اشتراط الإسلام في الذابح.

قال الشيخ الطوسي: لا تجوز ذبائح أهل الكتاب - اليهود والنصارى - عند المحصّلين من أصحابنا، وقال شُذّاذ منهم أنّه يجوز أكله، وخالف جميع الفقهاء في ذلك.(2)

وأراد من الشُذّاذ ابن أبي عقيل وابن الجنيد.

ثم إنّ البحث مركّز على مقدار دلالة لفظ الطعام في الآية حيث قال: «وَ طَعامُ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ» ، فإن فُسّر بالمأكول فيعمّ الحبوب واللحوم، وأمّا لو فُسّر بالبُرّ والشعير فيختصّ بغير اللحوم.

الطعام في لغة أهل الحجاز هو البرّ

وبما أنّ القرآن نزل بلغة أهل الحجاز فالطعام عندهم عند الإطلاق يستعمل في البُرّ، وقد نصّ عليه أهل اللغة.

1. وقال الخليل: والعالي في كلام العرب: أنّ الطعام هو البر خاصّة، ويقال له

ص: 111


1- . لاحظ: الموسوعة الفقهية الكويتية: 21/136، مادة «ذبح».
2- . الخلاف: 6/23، المسألة 23.

وللخبز المخبوز، ثم يُسمّى بالطعام ما قرب منه، وصار في حدّه، وكلّ ما يسدّ جوعاً فهو طعام.(1)

2. يقول ابن فارس: طعم: أصل مطرد منقاس في تذوّق الشيء، يقال:

طعمت الشيء طعاماً. والطعام هو المأكول، وكان بعض أهل اللغة يقول: الطعام هو البر خاصّة.(2)

3. وقال الفيّومي ناقلاً عن التهذيب: الطُعم: الحب الّذي يُلقى للطير، وإذا أطلق أهل الحجاز لفظ الطعام عنوا به البُر خاصّة.(3)

4. وقال ابن منظور: وأهل الحجاز إذا أطلقوا اللفظ بالطعام عنوا به البُر خاصّة، وفي حديث أبي سعيد: كنّا نخرج صدقة الفطر على عهد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم صاعاً من طعام أو صاعاً من شعير. وأُريد من الطعام البُر بقرينة مقابلته بالشعير.(4)

5. وقال ابن الأثير في «النهاية»: وفي حديث أبي سعيد: كنّا نخرج زكاة الفطر صاعاً من طعام، أو صاعاً من شعير. قيل: أراد به البُر، وقيل: التمر، وهو أشبه؛ لأنّ البر كان عندهم قليلاً لا يتّسع لإخراج الزكاة.(5)

ويؤيّد قول أهل اللغة من أنّ الطعام في مصطلح أهل الحجاز هو البُر ما ورد في الذكر الحكيم، في موارد أربعة:».

ص: 112


1- . كتاب العين: 2/25، مادة «طعم».
2- . معجم مقاييس اللغة: 3/410، مادة «طعم».
3- . مصباح اللغة: 2/373، مادة «طعم».
4- . لسان العرب: 12/364، مادة طعم.
5- . النهاية: 3/137، مادة «طعم».

1. قوله تعالى: «وَ عَلَى اَلَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ».(1)

2. «يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا اَلصَّيْدَ وَ أَنْتُمْ حُرُمٌ وَ مَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ اَلنَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ اَلْكَعْبَةِ أَوْ كَفّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ».(2) فلو قتل نعامة ففيها بدنة، وهو مخير بين البدنة أو تقوم ثم يجعل قيمته طعاماً وهو البرّ أو طحينه.

ولذلك اتّفقت كلمة الفقهاء على أنّ الطعام هو البر أو طحينه.

3. وقال سبحانه: «وَ يُطْعِمُونَ اَلطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَ يَتِيماً وَ أَسِيراً» .(3)

وكان طعامهم الخبز.

4. قال تعالى في أصحاب الكهف: «فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى اَلْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ».(4) أريد الخبز، لا اللحم، إذ ليس الكهف مناسباً لطبح اللحم.

هذا مضافاً إلى ما تضافر عن أئمة أهل البيت عليهم السلام من أنّ المراد من الطعام هو الحبوب.

روى الكليني عن قتيبة الأعشى في حديث أنّ اللّه تعالى قال: «اَلْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ اَلطَّيِّباتُ وَ طَعامُ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ» فقال له أبو عبداللّه عليه السلام: وكان أبي عليه السلام يقول: «إنّما هو الحبوب وأشباهها».(5)1.

ص: 113


1- . البقرة: 184.
2- . المائدة: 95.
3- . الإنسان: 8.
4- . الكهف: 19.
5- . الوسائل: 16، الباب 26 من أبواب الذبائح، الحديث 1.

وإنّما نسب الإمام عليه السلام التفسير إلى أبيه عليه السلام للمصلحة؛ لأنّ الرأي العام عند ذاك هو حلية ذبيحة الكتابي، ولأجل حفظ الوئام نسب التفسير إلى أبيه. وفي نفس الباب وأبواب أُخر روايات تدلّ على أنّ المراد بالطعام الحبوب.

ثم إنّ حلية البُرّ أو مطلق الحبوب يشمل ما هو المطبوخ كالهريسة وغيرها من أنواع الطعام من الخبز وغيره. فمَن فسّر الآية بما ذكرنا فقد قال بشرطية الإسلام في الذابح، وأمّا مَن فسّره بكلّ مأكول فقد عمّم الحليّة لذبائح أهل الكتاب.

اعتراضات صاحب المنار على المختار ونقدها
اشارة

بقيت هنا إشكالات وجّهها صاحب المنار(1) إلى هذا القول، نأت بها تباعاً.

الأوّل: استعمال الطعام في القرآن في مطلق المأكول

إنّ لفظ الطعام استعمل في مطلق المأكول في الذكر الحكيم أيضاً:

1. قال سبحانه: «أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ اَلْبَحْرِ وَ طَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَ لِلسَّيّارَةِ»(2) ، ولا يقول أحد: إن الطعام من صيد البحر هو البر أو الحبوب.

2. قال سبحانه: «كُلُّ اَلطَّعامِ كانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلاّ ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ اَلتَّوْراةُ».(3) والمحرّم هو اللحوم لا البرّ أو الحبوب.

3. قال سبحانه: «فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا»(4) : أي أكلتم.

ص: 114


1- . لاحظ: تفسير المنار: 6/677.
2- . المائدة: 96.
3- . آل عمران: 93.
4- . الأحزاب: 53.

4. قال سبحانه: «قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً».(1)

كلّ ذلك قرينة على أنّ المراد من الطعام هو اللحوم.

أقول: أمّا الاستدلال بالآيتين الأُولتين على أنّ المراد هو اللحوم فلوجود القرينة في صيد البحر، وتحريم إسرائيل على نفسه، ولا إشكال أنّه يُعدل عن الأصل بالقرينة.

وأمّا الآيتان الثالثة والرابعة، فلأنّ المنصرف إلى البُر هو لفظ «الطعام» لا كُلّ ما يُشتق منه كقوله: «طعمتم» أو «يطعمه».

ونحن نضيف آية أُخرى، وهي قوله سبحانه حاكياً عن طالوت: «فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَ مَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي»(2) ، ففيها قرينة واضحة على أنّ المراد هو شرب الماء.

وحصيلة الكلام: أنّ انصراف الطعام إلى البُر مختص، بلفظ «الطعام» لا بما يشتقّ منه، وبالمجرد عن القرينة.

الثاني: أنّ اللحم مظنّة التحريم

إنّ الحبّ ليس مظنّة التحليل والتحريم، بل اللحم هو الّذي يعرض له ذلك لوصف حسيّ كموت الحيوان حتف أنفه.

يلاحظ عليه: بأنّ موضوع التحليل والتحريم هو أفعال المكلّفين لا الأعيان الخارجية حتّى في مثل قوله سبحانه: «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَ بَناتُكُمْ وَ أَخَواتُكُمْ

ص: 115


1- . الأنعام 145.
2- . البقرة: 249.

وَ عَمّاتُكُمْ وَ خالاتُكُمْ وَ بَناتُ اَلْأَخِ وَ بَناتُ اَلْأُخْتِ وَ أُمَّهاتُكُمُ اَللاّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَ أَخَواتُكُمْ مِنَ اَلرَّضاعَةِ وَ أُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَ رَبائِبُكُمُ اَللاّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اَللاّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ وَ حَلائِلُ أَبْنائِكُمُ اَلَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَ أَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ اَلْأُخْتَيْنِ إِلاّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّ اَللّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً».(1) وعليه لا فرق بين اللحوم والحبوب فالكلّ صالح لعروض الحكم الشرعي باعتبار الأكل.

الثالث: إضافة الطعام إلى الكتابي، دليل على أنّ له دخلاً في التحريم

إنّ إضافة الطعام إلى قوله: «اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ» دليل على أنّ لهم دخلاً في صنع الطعام مباشرة، والحبوب والبر المجرّدان من كلّ شيء لا يطلق عليه الطعام المضاف.

يلاحظ عليه: أنّه يكفي في صدق الإضافة مجرّد النسبة، مضافاً إلى أنّ الحلّية ليست مختصّة بالمجرد؛ بل تعمّ صنع الهريسة والخبز وألوان الأغذية المصنوعة من البر وبقية الحبوب.

الرابع: ما هو الوجه لحلّية البر في اليوم الخاص؟

يظهر من قوله سبحانه: «اَلْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ اَلطَّيِّباتُ وَ طَعامُ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَ طَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ» أنّ طعام أهل الكتاب صار حلالاً في يوم خاص وهو في السنة العاشرة من الهجرة الّتي نزلت فيها سورة المائدة، وهذا يناسب حلّية اللحوم.

ص: 116


1- . النساء: 23.

والجواب: هو أنّ المسلمين في بدايات الدعوة الإسلامية كانوا مأمورين بالابتعاد عن المشركين والكافرين لئلّا يتأثّروا بما عندهم من العقائد الفاسدة، ولكن عندما سيطرت الدولة الإسلامية على الحجاز وصارت القوة والقدرة حليفة المسلمين أُجيز لهم أمران:

1. تزويج نساء أهل الكتاب كما في قوله: «وَ اَلْمُحْصَناتُ مِنَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ».

2. حلّية طعامهم من بيع وشراء وأكل، وأكل ما يعمل منه، كما في قوله تعالى: «وَ طَعامُ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ».

والشاهد على ما ذكرنا تصدّر الآية بقوله: «اَلْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ اَلطَّيِّباتُ» مشعراً بأنّ الحلّيّة أمر طارئ.

وقد روي عن قتادة أنّه قال: ذكر لنا أنّ رجالاً قالوا: كيف نتزوّج نساءهم وهم على دين ونحن على دين، فأنزل اللّه: «وَ مَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ»(1) ومثله المقام فقد كان في أذهان البعض نفس هذا السؤال: كيف نعاشرهم بالبيع والشراء والمؤاكلة وهم على دين ونحن على دين، فأنزل اللّه قوله سبحانه: «وَ طَعامُ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ».

والّذي يُبعد كون الموضوع هو اللحوم، أنّ الآية في سورة المائدة وهي آخر سورة نزلت على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في أُخريات حياته، أعني: السنة العاشرة، مع أنّ أحكام اللحوم قد سبق بيانها في سورتي البقرة والأنعام، قال تعالى: «إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ اَلْمَيْتَةَ وَ اَلدَّمَ وَ لَحْمَ اَلْخِنْزِيرِ وَ ما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اَللّهِ فَمَنِ اُضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍظ.

ص: 117


1- . تفسير الدر المنثور: 2/261. لم يظهر وجه صلة الآية بسؤال القوم فلاحظ.

فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ».(1)

وقال سبحانه: «وَ قالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَ حَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلاّ مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ وَ أَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَ أَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اِسْمَ اَللّهِ عَلَيْهَا اِفْتِراءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ».(2)

فدلالة الآية على مذهب أهل البيت عليهم السلام لا غبار عليها.8.

ص: 118


1- . البقرة: 173.
2- . الأنعام: 138.

أحكام الأطعمة والأشربة

3. الأشربة المحلّلة أمّا الأشربة المحلّلة

فمنها: الماء،
اشارة

ولولاه لما سادت الحياة على الإنسان والحيوان والأشجار، يقول سبحانه: «هُوَ اَلَّذِي أَنْزَلَ مِنَ اَلسَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَ مِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ * يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ اَلزَّرْعَ وَ اَلزَّيْتُونَ وَ اَلنَّخِيلَ وَ اَلْأَعْنابَ وَ مِنْ كُلِّ اَلثَّمَراتِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ».(1)

المفردات

تُسيمون: تَرعَون، يقال: أسأم الماشية وسوّمها جعلها ترعى.

زرع: قال ابن منظور: قد غلب على البُرّ والشعير، وجمعه زروع، وقيل:

الزرع نبات كلّ شيء يحرث.(2)

وقد جاء ذكر الماء في القرآن المجيد قرابة 60 مرّة، ويقول سبحانه: «هُوَ اَلَّذِي أَنْزَلَ مِنَ اَلسَّماءِ ماءً لَكُمْ» قسم «مِنْهُ شَرابٌ» للإنسان والحيوان، وقسم منه

ص: 119


1- . النحل: 10-11.
2- . لسان العرب: 141/8، مادة «زرع».

ما يشير إليه بقوله: «وَ مِنْهُ» أي ماء المطر يحصل «شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ» أي ترعون فيه أنعامكم، فإنّ الأنعام ترعى أوراق الأشجار، وعلى هذا أُريد من الشجر مطلق ما ينبت على الأرض فيشمل الكلأ والعشب وأوراق الأشجار.

ثمّ إنّ الآية الثانية تشير إلى فائدة ثالثة لماء السماء وراء الفائدتين المتقدّمتين: الشراب وإنبات الزرع والشجر، والآية صريحة في تأثير الأسباب والعلل الطبيعية في معاليلها وآثارها حيث يقول: «يُنْبِتُ» اللّه «لَكُمْ بِهِ» : أي بسبب الماء وتأثيره، أي بإذن اللّه وإرادته حيث جعل لكلّ سبب، سبباً خلافاً للأشاعرة وأهل الحديث حيث جعل الآثار المادية، مخلوقاً للّه بلا واسطة سبب ويقول:

ومن يقل بالطبع أو بالعلة ***فذاك كفر عند أهل الملة

وعلى أيّة حال فالذي ينبت بالماء عبارة عن «اَلزَّرْعَ» : من الحبوب والفواكه، «وَ اَلزَّيْتُونَ وَ اَلنَّخِيلَ وَ اَلْأَعْنابَ» ولمّا كانت الفواكه كثيرة قال: ينبت به «وَ مِنْ كُلِّ اَلثَّمَراتِ» وأمّا الغاية من ذكره هو «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً» على توحيده سبحانه «لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ».

ومنها: شهد النحل
اشارة

قال سبحانه: «وَ أَوْحى رَبُّكَ إِلَى اَلنَّحْلِ أَنِ اِتَّخِذِي مِنَ اَلْجِبالِ بُيُوتاً وَ مِنَ اَلشَّجَرِ وَ مِمّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ اَلثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ».(1)

ص: 120


1- . النحل: 68-69.
المفردات

أوحى: الوحي هو الإشارة السريعة، وهو إمّا تشريعي، كالوحي إلى الأنبياء، وإمّا تكويني كما في الوحي إلى الحيوانات والجمادات. وربما يعبّر عنه بالغريزة.

نعم للوحي أسباب أُخرى قد استوفينا بيانها في تفسيرنا «منية الطالبين».(1)

يعرشون: يرفعون من الكروم.

ذُللاً: جمع ذلول وهو الطائع المنقاد.

التفسير

إنّ اللّه سبحانه يشير في الآية الأُولى إلى الأعمال التي تقوم بها النحلة، ولأجل عظمة أعمالها وبديع أمرها وجّه الخطاب إلى النبي صلى الله عليه و آله و سلم وقال: «وَ أَوْحى رَبُّكَ إِلَى اَلنَّحْلِ» . وأمّا ما هو الموحى إليه فأُمور ثلاثة وهو أنّها تتّخذ بيوتاً في أحد أماكن ثلاثة:

1. «أَنِ اِتَّخِذِي مِنَ اَلْجِبالِ بُيُوتاً» . والتعبير ب «مِنَ اَلْجِبالِ» بدل: في الجبال لأنّها لا تبني بيوتها في كلّ جبل.

2. ومثله قوله سبحانه: «وَ مِنَ اَلشَّجَرِ» لأنّها لا تبني بيوتها في كلّ شجر، بل في مساكن وأشجار توافق مصالحها وتليق بها.

3. «وَ مِمّا يَعْرِشُونَ» : أي فيما يعرش الناس ويرفعون من السقوف والكروم ونحوها.

إلى هنا تمّ ما هو العمل الأوّل للنحل وهو بناء البيوت. ثم أشار سبحانه إلى

ص: 121


1- . منية الطالبين في تفسير القرآن المبين: 157/16-159.

الأعمال الأُخرى في الآية التالية:

امتصاص رحيق الأزهار

بعدما تمّ اتّخاذ البيوت حان وقت العمل الثاني، وقد ذكره سبحانه بلفظ ثمّ وقال: «ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ اَلثَّمَراتِ» ولأجل هذا الأمر يمصّ النحل الرحيق من الأزهار، قبل أن تصير ثمرات.

فما في الآية من أكل الثمرات مجاز بعلاقة الأُوّل، فإنّ الازهار تصير في المستقبل ثمرات.

العمل الثاني: إذا لم تجد النحلة زهرة انتقلت من مكان إلى آخر ومن روضة إلى أُخرى، وهذا ما أُشير إليه بقوله تعالى: «فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً».

العمل الثالث: إذا امتصت النحلة رحيق الأزهار فينزل ويجتمع في كيس بطنها وهناك يمتزج بعصارة خاصّة فيتحول إلى عسل فتفرز العسل من فمها إلى البيوت الشمعية التي خصصت لتخزين العسل، وإلى هذا أشار سبحانه بقوله:

«يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنّاسِ» يتراوح لونه بين الأبيض والأصفر، وبما أنّ في عمل النحل من آيات تدل على قدرة الباري وحكمته ختم سبحانه الآية بقوله: «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ».

ومن الأشربة المحلّلة: اللبن
اشارة

قال سبحانه: «وَ إِنَّ لَكُمْ فِي اَلْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَ دَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشّارِبِينَ».(1)

ص: 122


1- . النحل: 66.
المفردات

لَعِبرة: العِبرة: العِظة.

فرث: ما يبقى في الكرش بعد الهضم، ويسمّى الثُّفل، وما يدفع إلى الخارج يسمّى الرَّوث.

سائغاً: السائغ ما سهل مروره في الحلق.

التفسير

«وَ إِنَّ لَكُمْ فِي اَلْأَنْعامِ» يعني الإبل والبقر والغنم «لَعِبْرَةً» اعتباراً ودلالة على قدرة الخالق «نُسْقِيكُمْ مِمّا فِي بُطُونِهِ» : أي بطون الأنعام «مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَ دَمٍ» نسقيكم «لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشّارِبِينَ».

ثمّ إنّ المراد من كون اللبن، بين الفرث والدم، هو أنّ الغذاء يتحوّل إلى فرث، وعصارته تتحوّل إلى الدم الذي يذهب إلى كلّ خلية في الجسم فيتحوّل في عروق الضَّرع إلى لبن خالص سائغ للشاربين.

وبهذا يتبيّن لنا أنّ كلمة «بَيْنِ» استعملت في مكان مجازي، وهي كثيراً ما تستعمل في إرادة الوسط بين مرتبتين كقولهم: الشجاعة صفة بين التهوّر والجبن، فمن بلاغة القرآن هذا التعبير القريب للأفهام لكلّ طبقة من الناس، بحسب مبالغ علمهم مع كونه موافقاً للحقيقة.(1)

ثمّ إنّه سبحانه وصف اللَّبن بوصفين:

1. «لَبَناً خالِصاً» لا يشوبه شيء، لا من الفرث ولا من الدم.

ص: 123


1- . انظر: التحرير والتنوير: 160/13؛ روح المعاني: 178/20.

2. «سائِغاً لِلشّارِبِينَ» : أي لا يغصّ الشارب به. وقد حكي أنّه لم يغصّ باللبن أحد قط.(1) وربّما يكون الماء غير سائغ «روى السكوني عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: ليس أحد يغصّ بشرب اللّبن لأنّ اللّه عزّ وجلّ يقول: «سائِغاً لِلشّارِبِينَ».(2)

***

إلى هنا تمّت الإشارة إلى الأشربة المحلّلة في القرآن الكريم، ومن المعلوم أنّ هناك أشربة تابعة لها من حيث الحلّيّة.3.

ص: 124


1- . تفسير الطبري: 133/14.
2- . تفسير نور الثقلين: 62/3.

أحكام الأطعمة والأشربة

4. الأشربة المحرّمة

اشارة

قد وقفت على بعض عناوين الأشربة المحلّلة، وأمّا العنوان المحرّم الوارد في الذكر الحكيم من الأشربة المحرّمة فليس هو إلّاالخمر، وقد ذكر حكمها في الآيات التالية:

الآية الأُولى
اشارة

قال سبحانه: «يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا اَلْخَمْرُ وَ اَلْمَيْسِرُ وَ اَلْأَنْصابُ وَ اَلْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ اَلشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ».(1)

المفردات

الخمر: وهو في اللغة: ستر الشيء، ويقال لما يستر به: خمار، وسمّيت الخمر خمراً لكونها خامرة لمقرّ العقل، وهو عند بعض الناس اسم لكلّ مسكر، وعند بعضهم اسم للمتّخذ من العنب والتمر. وعلى كلّ تقدير فسواء أكان الخمر

ص: 125


1- . المائدة: 90.

هو المتّخذ عن العنب خاصّة أو هو مع التمر، فقد دلّ الدليل على حرمة كلّ مسكر، ففي رواية صحيحة: «إنّ اللّه حرّم الخمر بعينها وحرّم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم المسكر من كلّ شراب».(1)

الأنصاب: الأصنام واحدها «النصب» سمّي بذلك لأنّها كانت تنصب للعبادة.

والأزلام: السهام.

وأمّا سائر المفردات فقد استوفينا بيان معانيها عند البحث عن القمار. كما استوفينا في مبحث النجاسات حكم الخمر من حيث الطهارة والنجاسة، ونركّز في المقام على حرمة شربها. والآية لا تدلّ على نجاستها؛ لأنّ لفظة «الرجس» محمول عليها وعلى الميسر والأنصاب بمعنى واحد، ومن المعلوم أنّهما غير محكومين بها.

التفسير

قال سبحانه: «إِنَّمَا اَلْخَمْرُ وَ اَلْمَيْسِرُ وَ اَلْأَنْصابُ وَ اَلْأَزْلامُ» هذه الأُمور الأربعة «رِجْسٌ» : أي أمر مستقذر، حسّاً أو عقلاً، مضافاً إلى أنّها «مِنْ عَمَلِ اَلشَّيْطانِ» كما سيأتي بيانه في الآية التالية «فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» . وأمّا أنّه من عمل الشيطان فتذكره الآية التالية:

الآية الثانية
اشارة

قال سبحانه: «إِنَّما يُرِيدُ اَلشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ اَلْعَداوَةَ وَ اَلْبَغْضاءَ

ص: 126


1- . أُصول الكافي: 266/1، الحديث 4.

فِي اَلْخَمْرِ وَ اَلْمَيْسِرِ وَ يَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اَللّهِ وَ عَنِ اَلصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ».(1)

ما هو السبب لتحريم الخمر والميسر؟

لمّا تقدّم في الآية السابقة من أنّ الخمر والميسر من عمل الشيطان جاءت هذه الآية تذكر سبب التحريم، ومنه يظهر كون تعاطيهما من عمل الشيطان، وتذكر لذلك أسباباً أربعة:

1. العداوة: والعداوة هي تجاوز الحدّ فإنّ السكران يقدم على كثير من القبائح ولا يبالي، وإذا صحا ندم على ما فعل. يقول السيد الطباطبائي: إنّ شرب الخمر يهيج سلسلة الأعصاب تهيجاً يخمر العقل ويستظهر العواطف العصبية فإن وقعت في طريق الغضب جوّزت للسكران أي جناية فرضت، وإن وقعت في طريق الشهوة زيّنت للإنسان أي شناعة وفجور في نفسه أو ماله أو عرضه وكلّ ما يحترمه ويقدّسه من نواميس الدين وحدود المجتمع من سرقة أو خيانة أو هتك محرّم أو إفشاء سر.(2)

2. البغضاء: الظاهر أنّها من آثار الميسر فإنّ الرجل قد يقامر حتى لا يبقى له شيء، وتنتهي به المقامرة إلى ما يقامره بولده وأهله، فيؤدّي به ذلك إلى أن يصير أعدى الأعداء لمن قمره وغلبه.(3)

3. الصدّ عن ذكر اللّه: قد تقدّم ذكر المفاسد الدنيوية للخمر والميسر، وهذه

ص: 127


1- . المائدة: 91.
2- . الميزان في تفسير القرآن: 122/6-123.
3- . روح المعاني: 16/7.

هي المفسدة الدينية لهما. فالصدّ عن ذكر اللّه لأجل غيبوبة العقل والاستغراق في الملاذ الجسمانية، هذا في الخمر، وأمّا الميسر فهو يستغرق وقته لطلب الربح، ولا يفكّر إلّافي هذا الموضوع وكثيراً ما يمضي الوقت عن ذكر اللّه وهو شاغل ولاعب.

4. الصدّ عن الصلاة: وقد ذكر بعد الصدّ عن ذكر اللّه، إشعاراً بأهميتها.

ثم ختم الآية بقوله: «فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ» : أي بعدما ظهرت لكم مفاسد الخمر والميسر، وغيرهما، فهل تنتهون، وهل هذا البلاغ كافٍ في انتهائكم؟ وهذا مشعر بأنّ البيان بلغ الغاية وأنّ الأعذار منقطعة فلم يبق للخمّار إلّاالاجتناب وللاعب إلّاترك الميسر، ولأجل أنّ البيان بلغ الغاية صدر من بعضهم قوله: قد انتهينا، قد انتهينا.

ومن أراد أن يلمس مضار الخمر والميسر عن كثب فعليه الرجوع إلى الإحصاءات التي تذكر الجرائم التي تقع بسبب شرب الخمر ولعب القمار.

الآية الثالثة
اشارة

قال سبحانه: «لَيْسَ عَلَى اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اِتَّقَوْا وَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ ثُمَّ اِتَّقَوْا وَ آمَنُوا ثُمَّ اِتَّقَوْا وَ أَحْسَنُوا وَ اَللّهُ يُحِبُّ اَلْمُحْسِنِينَ».(1)

ص: 128


1- . المائدة: 93.
المفردات

طعموا: من الطعم: وأصله الأكل، قال سبحانه: «فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا»(1) ، والشراب ليس من الطعام، ومع ذلك ربما يستعمل بمعنى ذاق وهو يعم الأكل والشرب. يقول سبحانه حاكياً عن عبده طالوت، «فَلَمّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ قالَ إِنَّ اَللّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَ مَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي».(2)

التفسير

ربما يجعل بعض الجهّال هذه الآية دليلاً على جواز طعم الخمر إذا لم تحصل معه المفاسد التي مرّ ذكرها، فلذلك يجب نقل شأن النزول.

قال الطبرسي: لمّا نزل تحريم الخمر والميسر، قالت الصحابة: يا رسول اللّه ما تقول في إخواننا الذين مضوا وهم يشربون الخمر؟ فأنزل اللّه هذه الآية - عن ابن عباس وأنس بن مالك والبراء بن عازب ومجاهد وقتادة والضحّاك - وقيل:

إنّها نزلت في القوم الذين حرّموا على أنفسهم اللحوم وسلكوا طريق الترهب كعثمان بن مظعون وغيره، فبيّن اللّه لهم أنّه لا جناح في تناول المباح مع اجتناب المحرمات.(3)

قال سبحانه: «لَيْسَ عَلَى اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ» : أي المسلمين والمؤمنين «جُناحٌ» : أي إثم «فِيما طَعِمُوا» : أي شربوا، ولكن مرّوا بمراحل ثلاثة:

ص: 129


1- . الأحزاب: 53.
2- . البقرة: 249.
3- . مجمع البيان: 481/3.

1. «إِذا مَا اِتَّقَوْا وَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ».

2. «ثُمَّ اِتَّقَوْا وَ آمَنُوا».

3. «ثُمَّ اِتَّقَوْا وَ أَحْسَنُوا».

فيقع الكلام في موضعين:

1. ما هو السبب لتكرار الإيمان ثلاث مرّات؟ مرّتين مقروناً بالعمل الصالح، ومرّة ثالثة مقروناً بالتقوى؟

2. ما هو السبب لتكرار التقوى ثلاث مرّات؟ حيث ذكرت مقرونة أوّلاً مع الإيمان والعمل الصالح، وثانياً مع الإيمان فقط، وثالثة مع الإحسان؟

هذا وقد ذكر الرازي وجوهاً خمسة(1)، غير أنّ جميع هذه الوجوه تتعلّق ببيان سبب تكرار التقوى دون الإيمان.

أقول: أمّا الموضع الأوّل أعني تكرار الإيمان ثلاث مرات فيمكن أن يقال:

إنّ قوله: «إِذا مَا اِتَّقَوْا وَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ» إعادة لنفس الموضوع المتقدّم أعني: «لَيْسَ عَلَى اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ جُناحٌ» للدلالة على مدخلية الوصف (أعني: الإيمان والعمل الصالح) في الحكم الذي هو نفي الجناح. وعلى هذا فيمكن أن يقال: إنّ المراد من الإيمان في كلتا الفقرتين بما أنّهما شيء واحد، هو الإيمان الإجمالي بما أنزل اللّه، وأمّا المراد من الإيمان في الفقرة الثالثة أعني قوله: «ثُمَّ اِتَّقَوْا وَ آمَنُوا» هو الإيمان التفصيلي بكلّ ما جاء به النبي من غير ردّ ولا امتناع، والتسليم للرسول فيما يأمر به وينهى عنه، نظير قوله سبحانه: «يا أَيُّهَا2.

ص: 130


1- . لاحظ: تفسير الرازي: 84/12.

اَلَّذِينَ آمَنُوا اِتَّقُوا اَللّهَ وَ آمِنُوا بِرَسُولِهِ»(1).

وأمّا ذكر الإحسان بعد الإيمان في قوله: «وَ آمَنُوا ثُمَّ اِتَّقَوْا وَ أَحْسَنُوا» لعلّه إشارة إلى أن يكون إتيان العمل الصالح مقروناً بنيّة حسنة لا بنيّة فاسدة، كما قال سبحانه: «إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ إِنّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً»(2) . فتلخّص ممّا ذكرنا أنّ قوله: «وَ آمَنُوا» في الفقرة الثانية ليس شيئاً جديداً بل تأكيد لما جاء في الفقرة الأُولى، وأُريد منهما الإيمان الإجمالي، كما أُريد من الإيمان في الفقرة الثالثة الإيمان التفصيلي مقروناً بعمل صالح حسن في ذاته.

هذا كلّه حول الموضع الأوّل.

وأمّا الموضع الثاني، أعني: تكرار التقوى ثلاث مرات وتقييد المراتب الثلاث جميعاً به، فهنا وجوه:

الأوّل: هو للتأكيد على وجوب مقارنة المراتب (مراتب الإيمان) جميعاً للتقوى الواقعية، من غير غرض آخر غير ديني. فيكون معنى الآية ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما ذاقوه من خمر أو غيره من المحرّمات بشرط أن يكونوا ملازمين للتقوى في جميع أطوارهم ومتلبّسين بالإيمان باللّه ورسوله ومحسنين في أعمالهم عاملين للواجبات وتاركين كلّ محرّم نُهوا عنه، فإن اتّفق لهم أن ابتلوا بشيء من الرجس الذي هو من عمل الشيطان قبل وقوفهم على تحريمه لم يضرهم ذلك شيئاً.(3)2.

ص: 131


1- . الحديد: 28.
2- . الكهف: 30.
3- . تفسير الرازي: 83/12.

الثاني: أنّ المراد من الأوّل أصل الاتّقاء، ومن الثاني الدوام عليه، ومن الثالث استناد جميع المعاصي مع ضم الإحسان.(1)

الثالث: أنّه سبحانه يقسّم المؤمنين في الذكر الحكيم إلى صنفين:

الأوّل: مَن ليس لهم ثبات في الإيمان باللّه ورسوله، فيوماً يؤمنون، ويوماً آخر يكفرون وهكذا، وهؤلاء هم المحرمون من غفران اللّه سبحانه كما يقال: «إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ اِزْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اَللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَ لا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً».(2)

الثاني: مَن لهم ثبات قدم في الإيمان وزادوا في إيمانهم وتقواهم يوماً فيوم، والدليل على ذلك كونهم ذوي أعمال صالحة وحسنات، فهؤلاء هم الذين لا جناح عليهم فيما طعموا قبل تحريم الخمر.

***

بقي الكلام في نقد بعض مَن استدلّ بالآية على جواز شرب الخمر، إذا لم يقترن بالمفاسد المذكورة في الآية.

والجواب: أنّ الآية تتضمّن بيان حكم الجاهل بالحكم إذا آمن وعمل الصالحات واتّقى عن المحارم في سائر الموارد، فهو معذور عند اللّه سواء شرب الأقل أو الأكثر. وأين هذا من تجويز شرب الخمر بوجه قليل بعد العلم بتحريمها، وبعدما ورد عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم قوله: «أنهاكم عن قليل ما أُسكر كثيره».(3)ه.

ص: 132


1- . مجمع البيان: 481/3.
2- . النساء: 137.
3- . سنن الدارقطني: 165/4، برقم 4593، وغيره.

وفي رواية أُخرى أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم نهى عن قليل ما أُسكر كثيره.(1)

وقد عقد صاحب الوسائل باباً بعنوان: «ما أُسكر كثيره فقليله حرام» أورد فيه 12 رواية، وفيها أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قال: «كلّ مسكر حرام وما أُسكر كثيره فقليله حرام».(2)1.

ص: 133


1- . السنن الكبرى للنسائي: 217/3، برقم 5119.
2- . الوسائل: 16، الباب 17 من أبواب الأشربة المحرّمة، الحديث 1.

أحكام الأطعمة والأشربة

5. تحليل الطيبات وصيد الجوارح المعلّمة

اشارة

قال تعالى: «يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ اَلطَّيِّباتُ وَ ما عَلَّمْتُمْ مِنَ اَلْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمّا عَلَّمَكُمُ اَللّهُ فَكُلُوا مِمّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَ اُذْكُرُوا اِسْمَ اَللّهِ عَلَيْهِ وَ اِتَّقُوا اَللّهَ إِنَّ اَللّهَ سَرِيعُ اَلْحِسابِ».(1)

المفردات

الجوارح: الكلاب المعلّمة للصيد.

مكلّبين: مفرده مكلّب: أي مؤدّب الكلب للصيد.

التفسير

لمّا نزل قوله سبحانه: «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ اَلْمَيْتَةُ وَ اَلدَّمُ وَ لَحْمُ اَلْخِنْزِيرِ وَ ما أُهِلَّ

ص: 134


1- . المائدة: 4.

لِغَيْرِ اَللّهِ بِهِ وَ اَلْمُنْخَنِقَةُ وَ اَلْمَوْقُوذَةُ وَ اَلْمُتَرَدِّيَةُ وَ اَلنَّطِيحَةُ وَ ما أَكَلَ اَلسَّبُعُ إِلاّ ما ذَكَّيْتُمْ وَ ما ذُبِحَ عَلَى اَلنُّصُبِ وَ أَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ اَلْيَوْمَ يَئِسَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَ اِخْشَوْنِ اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ اَلْإِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اُضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ»(1) ، صار ذلك أرضية صالحة للسؤال عمّا يحلّ، فأُجيبوا بأمرين، وأنّه يحلّ لكم الأمران التاليان:

1. الطيبات كما يقول: «يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ اَلطَّيِّباتُ».

2. «وَ ما عَلَّمْتُمْ مِنَ اَلْجَوارِحِ» ، وسيأتي تفصيل الأمر الثاني.

تحليل الطيبات

أمّا الأوّل، فهو أنّ الضابطة في الحلال والحرام كون الشيء طيّباً وكونه خبيثاً، فهذه ضابطة كلّية يمكن أن تكون مصدراً للحكم الشرعي اعتماداً على الآية.

وقد جاء نظير هذه الضابطة في التعريف بالنبي صلى الله عليه و آله و سلم، قال سبحانه: «اَلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ اَلرَّسُولَ اَلنَّبِيَّ اَلْأُمِّيَّ اَلَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي اَلتَّوْراةِ وَ اَلْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهاهُمْ عَنِ اَلْمُنْكَرِ وَ يُحِلُّ لَهُمُ اَلطَّيِّباتِ وَ يُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ اَلْخَبائِثَ»(2).

غير أنّ الإشكال في التعرّف على مصداق الطيّب والخبيث، ولذلك قال المحقّق الأردبيلي: معنى الخبيث غير ظاهر، إذ الشّرع ما بيّنه، واللغة غير مرادة،

ص: 135


1- . المائدة: 3.
2- . الأعراف: 157.

والعرف غير منضبط.(1)

غير أنّ الظاهر من الشهيد الثاني إمكان التعرّف عليها حيث قال: والمراد بالعرف الذي يرجع إليه في الاستطابة عرف الأوساط من أهل اليسار في حالة الاختيار، دون أهل البوادي وذوي الاضطرار من جفاة العرب، فإنّهم يستطيبون ما دبّ ودرج، كما سُئل بعضهم عما يأكلون؟ فقال: كلّ ما دبّ ودرج إلّاأُم حُبَيْن:

فقال بعضهم: لتهنأ أُمّ حبين العافية لكونها أمنت أن تؤكل.(2)

والحقّ أنّ قسماً من الحيوانات ما هو طيب عند أغلب الناس وخبيث كذلك، ولكن قسماً منها مختلف فيه، فرب حيوان لذيذ الأكل عند قوم، كالضّب، وخبيث عند آخرين. حتّى أنّ قسماً من الحشرات طيّبة الطعم عند بعض الشعوب، مثل السرطان،(3) وخبيثة عند الآخرين، ولذا فيجب العودة إلى المصدرين (الكتاب والسنّة) مضافاً إلى ما عليه اتّفاق الفقهاء.

تحليل صيد الجوارح المعلّمة

ممّا أحله اللّه سبحانه ما صاده الكلب المعلّم: قال المحقّق تحت عنوان: «ما يؤكل صيده وإن قتل»: ويختصّ من الحيوانات بالكلب المعلّم، دون غيره من جوارح السباع والطير، فلو اصطاد بغيره كالفهد والنمر أو غيرهما من السباع لم يحلّ منه إلّاما يُدرك ذكاته، وكذا لو صاد بالبازي و العقاب والباشق وغير ذلك من

ص: 136


1- . جواهر الكلام: 238/36، نقلاً عن مجمع الفائدة والبرهان: 157/1.
2- . مسالك الأفهام: 9/12.
3- . وهو حيوان من القشريات، تُسمّيه العامّة: السلطعون، عشاري الأقدام، قصير الذيل، يوجد منه أنواع عديدة يعيش أغلبها على شواطئ البحر وبعضها في المياه العذبة. المنجد: مادة «سرط». وبالفارسية «خرچنگ».

جوارح الطير، معلّماً أو غير معلّم.

ثمّ إنّه ذكر في حليّة ما صاده الكلب المعلّم بأنّه يشترط فيه أُمور ثلاثة:

1. أن يسترسل إذا أرسله.

2. وينزجر إذا زجره.

3. وأن لا يأكل ما يمسكه.

ويشترط في المرسِل أُمور أربعة:

1. أن يكون مسلماً.

2. أن يرسله للاصطياد.

3. أن يُسمّي عند إرساله.

4. أن لا يغيب الصيد (عن المرسِل) وحياته مستقرّة.(1)

إنّ ما صاده الكلب فهو حلال، غاية الأمر إن وجده مجروحاً قابلاً للتذكية يذكّيه، وإلّا فهو حلال، بخلاف ما لو صاده غير الكلب من الجوارح، فإنّه يحلّ في القسم الأوّل بشرط التذكية دون الثاني.

إذا عرفت ذلك فلنرجع إلى تفسير الآية.

قوله سبحانه: «وَ ما عَلَّمْتُمْ مِنَ اَلْجَوارِحِ» : أي أكل الصيد الذي تصطاده الجوارح المعلّمة، والقرينة على أنّ المراد الأكل، قوله سبحانه بعده «فَكُلُوا مِمّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ».

ثمّ إنّ صيد الجوارح إنّما يحلّ بشروط أربعة:6.

ص: 137


1- . شرائع الإسلام: 200/3. لاحظ: الجواهر: 37/36.

1. «مُكَلِّبِينَ» حال من قوله: «عَلَّمْتُمْ» ، والمكلّب هو مؤدّب الجوارح، ومعلّمها بالصيد لصاحبها ومروضها لذلك بما علم من الحيل وطرق التأديب.

ثمّ إنّ في قوله: «مُكَلِّبِينَ» دليل على اختصاص حليّة الصيد - سواء جاء به حيّاً أو ميّتاً بالكلب، فلا يجوز بسائر الجوارح كالفهْد والصَقْر، كما مرّ. وعلى هذا فيكون معناه صائدين بالكلب. وهنا احتمال آخر وهو كونهم حاذقين في تعليم الكلب وهو خيرة صاحب الكشّاف، وعلى أي حال قبل كلّ طائر يصيد إلّاالنسر والعقاب.

2. «تُعَلِّمُونَهُنَّ» : أي تؤدّبون الجوارح فتعلّمونهنّ طلب الصيد. وقد دلّت الآية على اشتراط كون كلاب الصيد معلّمة كيفية الصيد من جانب صاحبها أو غيره، فلا يحلّ صيد غير المعلّم إلّاإذا أُدرك حيّاً ويكون قابلاً للتذكية.

هنا كلام لطيف يقول الزمخشري في قوله: «تُعَلِّمُونَهُنَّ» فائدة جليلة: وهي أنّ على كلّ آخذ علماً أن لا يأخذه إلّامن [كان] أقتل أهله علماً، وأنحرهم دراية، وأغوصهم على لطائفه وحقائقه، وإن احتاج إلى أن يضرب إليه أكباد الإبل، فكم من آخذٍ عن غير متقنٍ قد ضيع أيّامه، وعضّ عند لقاء النحارير أنامله.(1)

وأمّا كيفية التعليم فيذكره سبحانه بقوله: «مِمّا عَلَّمَكُمُ اَللّهُ» : أي ممّا ألهمكم إيّاه، وهداكم إليه من ترويضها والانتفاع بتعليمها بالفطرة.

3. الإمساك لصاحب الصيد، كما في قوله: «فَكُلُوا مِمّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ» : أي كلوا ممّا تصيده لأجلكم فتحبسه، ويُعلم ذلك بعدم أكلها منه، فإن أكلت منه يُعلم».

ص: 138


1- . تفسير الكشّاف: 323/2. قوله: من أقتل أهله علماً، مبالغة في العلم. وقوله: أكثرهم دراية، كناية عن نحر الجهل، وقتله. لاحظ المعجم الوسيط، مادة «قتل».

أنّها لم تمسكه لصاحب الصيد، فالظاهر أنّه لا يجوز أكله.

ثمّ إنّ قوله سبحانه وإن كان يدلّ على جواز الأكل ممّا أمسكته الجوارح لكن لا يجوز الأكل إلّابعد غسل موضع العض من أسنانه.

فإن قلت: إنّ إطلاق الآية وعدم تقييده بالغسل يدلّ على طهارة تلك المواضع.

قلت: ما ذكرته ممّا نقله الشيخ الأنصاري عن الشيخ الطوسي من التمسّك بالإطلاق والحكم بجواز الأكل من دون غسل، إلّاأنّ التمسّك بالإطلاق مشروط بكون المتكلّم في مقام البيان حتى يُستدلّ بترك ذكره على عدم مدخليته، ولكن الآية ليست في مقام بيان حكم هذه الحالة وإنّما هي بصدد بيان توسعة أمر التذكية وهو عدم اختصاصه بقطع الأوداج الأربعة بالسكين، بل يتحقّق بإمساك الجوارح وجرحها، فلو وجده الصائد مقتولاً فهو مذكّى، وإلّا فيذكّيه، ولذلك لا يمكن التمسّك بالإطلاق.

4. ذكر اسم اللّه عند إرساله كما في قوله: «وَ اُذْكُرُوا اِسْمَ اَللّهِ عَلَيْهِ» قبل الإرسال، فإذا أرسل الكلب مقروناً بالتسمية فأخذ فقتل أو لم يقتل فيؤكل منه بشرط التذكية عند عدم القتل.

ثمّ إنّه سبحانه في نهاية الآية يأمر بالتقوى ويقول: «وَ اِتَّقُوا اَللّهَ» : أي اجتنبوا محارم اللّه مع وجود الطيبات، وأكل ما جاز من الصيد «إِنَّ اَللّهَ سَرِيعُ اَلْحِسابِ» :

أي إنّ اللّه يحاسب الناس كلّهم يوم القيامة، في يوم واحد.

هذا تفسير الآية بحرفيّتها.

فلو أردنا أن نفسّر الآية بلسان الفقه فنقول: إنّ ما يؤكل صيده بالكلب

ص: 139

المعلّم تُشترط فيه شروط:

1. الصيد بالكلب فقط، فلو صاد بغير الكلب، كالفهد أو النمر أو غيرهما من السباع، لم يحل إلّاإذا أدرك ذكاته، فغير الكلب من الأصناف سواء أكانت معلّمة أو غير معلّمة لا يؤكل صيدها إذا قُتل، نعم يحلّ إذا أدركه الصيّاد حيّاً وذكّاه. ودلّ على هذا الشرط قوله: «مُكَلِّبِينَ».

روى الكليني في «الكافي» بسند صحيح عن الحلبي قال: قال أبو عبد اللّه عليه السلام: «كان أبي عليه السلام يُفتي وكان يتّقي، ونحن نخاف في صَيْد البُزاة والصُقورة، فأمّا الآن فإنّا لا نخاف، ولا نحلّ صيدها إلّاأن تدرك ذكاته، فإنّه في كتاب علي عليه السلام: أنّ اللّه عزّ وجلّ قال: «وَ ما عَلَّمْتُمْ مِنَ اَلْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ» في الكلاب».(1)

وروى القمي في تفسيره عن أبي بكر الحضرمي، عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال:

سألته عن صيد البُزاة والصُقورة والفهود والكلاب؟ قال: «لا تأكلوا إلّاما ذكّيتم إلّا الكلاب».(2) قلت: فإن قتله؟ قال: كُل فإنّ اللّه يقول: «وَ ما عَلَّمْتُمْ مِنَ اَلْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمّا عَلَّمَكُمُ اَللّهُ فَكُلُوا مِمّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ» . ثم قال عليه السلام: «كلّ شيء من السباع تُمسك الصيد على نفسها، إلّاالكلاب المُعلّمة، فإنّها تمسك على صاحبها» قال: «وإذا أرسلت الكلب المُعلّم فاذكر اسم اللّه عليه، فهو ذكاته».(3)

2. أن يكون معلّماً ومعناه أن يسترسل إذا أرسله، وينزجر إذا زجره، ويدلّ 1.

ص: 140


1- . الكافي: 207/6، الحديث 1. قوله: «وكان أبي عليه السلام يُفتي» أي بالجواز يشهد على ذلك ما رواه أبان بن تغلب، قال سمعت أبا عبد اللّه عليه السلام يقول: «كان أبي عليه السلام يفتي في زمن بني أُمية انّ ما قتل البازي والصقر فهو حلال». (الكافى: 208/6).
2- . أي إلّاما أمسكته الكلاب.
3- . تفسير القمي: 162/1.

عليه قوله: «تُعَلِّمُونَهُنَّ».

3. أن يكون المرسل مسلماً على المشهور. وهذا هو القدر المتيقّن من الآية حيث إنّ الخطاب للمؤمنين. روى عبد الرحمن بن سيابة قال: قلت لأبي عبد اللّه:

إنّي استعير كلب المجوس فاصيد، فقال عليه السلام: لا تأكل من صيده إلّاأن يكون علمه مسلم فتعلّمه.(1)

4. أن يرسله للاصطياد، فلو استرسل من نفسه لم يحلّ مقتوله. نعم لو جرحه الكلب وأدركه الصيّاد وذكّاه، يحل.

5. التسمية عند الإرسال، كما قال سبحانه: «وَ اُذْكُرُوا اِسْمَ اَللّهِ عَلَيْهِ».

روى الكليني في «الكافي» عن القاسم بن سليمان قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن كلب أفلت ولم يرسله صاحبه فصاد فأدركه صاحبه وقد قتله، أيأكل منه؟ فقال: «لا». وقال عليه السلام: «إذا صاد وقد سمّى فليأكل، وإن صاد ولم يسمّ فلا يأكل، وهذا ممّا «ما عَلَّمْتُمْ مِنَ اَلْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ».(2)

6. أن يكون القتل مستنداً إلى الكلب، فلو وجد مقتولاً واحتمل أن يكون القتل من غيره، فلا يحل.

هذه هي الشروط التي ذكرها الفقهاء في محلّه، قسم منه يستفاد من الآية والآخر يستفاد من السنّة، والتفصيل في محلّه.(3)3.

ص: 141


1- . الكافي: 209/6.
2- . الكافي: 206/6، الحديث 16.
3- . لاحظ: شرائع الإسلام: 200/3.

أحكام اللباس والزينة

6. أحكام اللباس والزينة

اشارة

لا شكّ أنّ اللباس من ضروريات الحياة، فهو وقاية من الحر والبرد أوّلاً، وستر للعورة ثانياً، إلى غير ذلك ممّا له من المنافع. كما أنّ التزيّن من كماليّاته التي يرغب إليها كلّ شاب وشابة، بل الإنسان مطلقاً فندرس حكم الموضوعين حسب ما ورد في الذكر الحكيم.

الآية الأُولى
اشارة

«يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَ رِيشاً وَ لِباسُ اَلتَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ ذلِكَ مِنْ آياتِ اَللّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ».(1)

المفردات

يواري يستر.

ص: 142


1- . الأعراف: 26.

سوأتكم: عوراتكم.

وريشاً: الريش كسوة الطائر وزينته فهو للطائر كالشعر لغيره من الحيوان.

ويقسّم الريش في جناح الطائر إلى أقسام: منها الريشات الكبار: التي في مقدم الجناح، وأُريد في الآية منه: اللباس الفاخر.

زينتكم: قال الراغب: الزينة - بالقول المجمل - ثلاثة: زينة نفسية كالعلم والاعتقادات الحسنة، وزينة بدنيّة كالقوّة وطول القامة، وزينة خارجية كالمال والجاه.(1)

والظاهر أنّ الراغب خلط بين الجمال والزينة، فما يرجع إلى الخلقة فهو جمال، وما يعرض الخلقة فهو زينة. فالوجه الحسن جمال، واللباس الفاخر زينة.

والقرآن الكريم لم يستعمل الزينة إلّافيما يطرأ على الخلقة فلاحظ مواردها في السور.

المسرفين: المتجاوزين الحدّ. والفرق بين الإسراف والتبذير، أنّ الأوّل تجاوز الحد، من غير فرق بين ما ينبغي وما لا ينبغي، والتبذير يختصّ بالتجاوز في الذي لا ينبغي، وما ربما يقال من اختصاص الأوّل بالتجاوز فيما ينبغي.(2) غير تام؛ لأنّه سبحانه وصف عمل قوم لوط بالإسراف وقال: «بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ»(3)1.

ص: 143


1- . المفردات للراغب: 218، مادة «زين».
2- . الطريحي في مجمع البحرين، مادة «سرف»؛ والموسوعة الفقهية الكويتية في نفس المادة.
3- . الأعراف: 81.
التفسير

قال تعالى: «يا بَنِي آدَمَ» ، هذا الخطاب من خطابات أوّل الخليقة، وقد جاء في هذه السورة كراراً نظير:

1. «يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً».(1)

2. «يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ اَلشَّيْطانُ».(2)

3. «يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ».(3)

4. «يا بَنِي آدَمَ إِمّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ».(4)

فقد خاطب اللّه سبحانه بهذه الخطابات عامّة بني آدم حين هبط آدم وزوجه الأرض، محذِّراً أولاده من فتن الوقوع في شبكة الشيطان ومرغّباً إلى اتّباع الرسل الذين سيبعثهم اللّه إليهم فيما يأتي.

وبما ذكرنا يعلم بطلان ما تمسّكت به الفرقة الضالّة البهائية على استمرار بعث الأنبياء بعد النبي الخاتم تمسّكاً بالخطاب الرابع، غافلين عن الظروف التي صدر هذا الخطاب وأمثاله فيها، فقد خاطب اللّه بها أوّل الخليقة، حين هبط آدم الأرض والمفروض أنّه جاءت الرسل بعده تترى إلى أن تمّت حلقة البعث بالنبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم.

قوله سبحانه: «أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً» ، عبّر سبحانه عن هذه النعمة التي يستر

ص: 144


1- . الأعراف: 26.
2- . الأعراف: 27.
3- . الأعراف: 31.
4- . الأعراف: 35.

عوراتنا كما قال: «يُوارِي سَوْآتِكُمْ» ، عبّر بالإنزال، كما عبّر عن الحديد به أيضاً، وقال سبحانه: «وَ أَنْزَلْنَا اَلْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ»(1) ، للدلالة على أنّ ما في عالم الطبيعة من النعم، لها جذور في فوق المادة، قال سبحانه: «وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلاّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَ ما نُنَزِّلُهُ إِلاّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ».(2) وأنّ كلّ ما في عالم الشهادة، ظلّ ما في عالم الغيب.

وعلى كلّ تقدير، فمن فوائد اللباس المنزول من اللّه سبحانه، هو ستر العورات.

ثمّ إنّه سبحانه أشار إلى نعمة أُخرى قائلاً: «وَ رِيشاً» وقد مر في تفسير المفردات أنّه كناية عن اللباس الفاخر الذي يلبسه الإنسان في مواقع خاصّة.

ثم إنّه سبحانه يعطف نظر بني آدم إلى لباس معنوي هو خير من اللباس المادي ويقول: «وَ لِباسُ اَلتَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ» لأنّ اللباس المادي شيء داثر واللباس المعنوي قائم بالإنسان غير داثر ويجتنى ثمره في الحياتين: البرزخية والأُخروية، قال سبحانه: «لَعَلَّهُمْ» بني آدم «يَذَّكَّرُونَ» ولم يقل «يعلمون» لعدم جهل الإنسان بما في اللباسين من الآثار، لكنّه لغفلته عن كون الجميع من نعم اللّه، لا يعبده بل يعبد غيره، ولذلك أمر بالتذكر.

***

الآية الثانية:
اشارة

«يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَ كُلُوا وَ اِشْرَبُوا وَ لا تُسْرِفُوا

ص: 145


1- . الحديد: 25.
2- . الحجر: 21.

إِنَّهُ لا يُحِبُّ اَلْمُسْرِفِينَ».(1)

المفردات

خذوا: كناية عن الأمر باللُبس.

التفسير

الآية خطاب للمكلّفين وتتضمّن تكليفين:

1. «يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ» : أي خذوا ثيابكم التي تتزيّنون بها للصلاة في الجمعات والأعياد، وقيل: عند كلّ صلاة. روى العيّاشي: أنّ الحسن بن علي عليهما السلام كان إذا قام إلى الصلاة لبس أجود ثيابه، فقيل له: يابن رسول اللّه، لم تلبس أجود ثيابك؟ فقال: «إنّ اللّه جميل يحب الجمال، فأتجمّل لربي».(2)

إنّ الإسلام ينهى عن التقشّف وترك النعم، مطلقاً، قائلاً بأنّ اللّه سبحانه خلقها للمؤمنين خاصّة الذين يعرفون نعمة اللّه ويشكرون له، دون الكافرين كما يقول:

«قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اَللّهِ اَلَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَ اَلطَّيِّباتِ مِنَ اَلرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا» وإن كان الكافرون يشاركونهم بالتنعّم بالطيبات في الدنيا ولكنّها في الآخرة تكون لهم «خالِصَةً يَوْمَ اَلْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ اَلْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ».(3)

ص: 146


1- . الأعراف: 31.
2- . مجمع البيان: 369/4.
3- . الأعراف: 32.

2. ينهى الخطاب في الآية عن الإسراف وتجاوز الحدّ ويقول: «وَ كُلُوا وَ اِشْرَبُوا وَ لا تُسْرِفُوا» وسيوافيك حكم الإسراف في خاتمة الجزء بإذن اللّه تعالى، فإنّه من الموضوعات التي غفل عن دراسته كّل مَن ألف كتاباً في آيات الأحكام ولذلك استدركناها بدراستها في آخر هذا الجزء بإذن اللّه.

***

وقد وردت في السنّة روايات كثيرة حول الألبسة حلالاً وحراماً وكراهة ومن أراد التفصيل فليرجع إلى الكافي.(1)ل.

ص: 147


1- . الكافى: 438/6-534، كتاب الزيّ والتجمل.

ص: 148

الفصل الرابع عشر: أحكام المواريث في الذكر الحكيم

اشارة

تمهيد

1. نزول آية المواريث.

2. في نصيب الرجال والنساء من الميراث.

3. في إرث الأولاد والأبوين.

4. في إرث الزوجين والكلالة.

ميراث كلالة الأُمّ.

5. في إعطاء ذوي القربى والفقراء من التركة.

6. إرث المسلم من الكافر.

7. ميراث أولاد الأنبياء.

ص: 149

ص: 150

تمهيد

المواريث جمع الميراث الذي هو بمعنى اسم المصدر أعني: «الإرث»، أو بمعنى اسم المفعول أي الموروث، ويعرّف بأنّه ما يستحقّه إنسان بموت آخر، وربما يعبّر عن المواريث بالفرائض، جمع الفريضة بمعنى التقدير، أخذاً من قوله سبحانه: «نَصِيباً مَفْرُوضاً»(1).

قلّما يتّفق أن يموت إنسان ولا يترك شيئاً من الأموال والحقوق، كيف وأنّ الإنسان يجنح حسب طبعه إلى جمع المال، وزينة الحياة الدنيا، فيترك بموته ثروة قليلة أو كثيرة، فيقع الكلام في مَنْ يرثه؟ أمّا الجاهلية فكانوا يتوارثون بالعقد الذي يعبّر عنه بضمان الجريرة، يقول العاقد: دمك دمي، وثأرك ثأري، وحربك حربي، وسلمك سلمي، ترثني وأرثك، وتطلب بي وأُطلب بك، وتعقل عنّي وأعقل عنك.(2)

ثمّ إنّ الإسلام الحنيف لم يبطل هذه السنّة من أساسها، بل جعلها في نهاية الأمر، فإذا لم يكن للميّت قريب نسبي أو سببي ولا ولاء عتق، يورث بضمان الجريرة.

ولمّا هاجر النبي صلى الله عليه و آله و سلم إلى المدينة وآخى بين الأنصار والمهاجرين، كان المسلمون يتوارثون بالإيمان والهجرة، فكان ملاك الميراث الدين والهجرة. ثمّ إنّه سبحانه نسخ هذا الحكم بالآيات التالية:

ص: 151


1- . النساء: 7.
2- . كنز العرفان: 324/2.

أحكام المواريث

1. نزول آية المواريث

الآية الأُولى
اشارة

قال سبحانه: «اَلنَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَ أَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَ أُولُوا اَلْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اَللّهِ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ وَ اَلْمُهاجِرِينَ إِلاّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً كانَ ذلِكَ فِي اَلْكِتابِ مَسْطُوراً».(1)

التفسير

اشتملت الآية على أحكام ثلاثة:

1. «اَلنَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ».

2. «وَ أَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ».

3. «وَ أُولُوا اَلْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اَللّهِ».

والذي يهمّنا في المقام هو دراسة الفقرة الثالثة.

وإنّما يتّضح معنى الآية بذكر أمرين:

1. ما تقدّم في تاريخ الميراث أنّ المسلمين بعدما هبطوا المدينة المنوّرة

ص: 152


1- . الأحزاب: 6.

كان محور الميراث هو الإيمان والهجرة.

2. انّ لفظة «أولى» في قوله تعالى: «أَوْلى» صيغة تفضيل تحتاج إلى المفضل عليه، وهو قوله: «مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ وَ اَلْمُهاجِرِينَ» وتقدير الآية: أُولو الأرحام أولى بالميراث في كتاب اللّه من المؤمنين والمهاجرين.

إذا علمت ذلك فلنبدأ بتفسير هذه الفقرة.

قوله: «وَ أُولُوا اَلْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اَللّهِ» ، وجه الأولوية هو القرابة. وأمّا المفضّل عليه فهو قوله: «مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ وَ اَلْمُهاجِرِينَ»(1) فهذه الآية وغيرها نسخت ما كان يورّثهم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بالهجرة والدين لا بالقرابة، تأليفاً لقلوبهم، كإسهام الكفّار من الصدقة. أعني: المؤلّفة قلوبهم في تقسيم الصدقات.

ولمّا كان معنى ذلك أنّ جميع التركة تتعلّق بأُولي الأرحام، استثنى سبحانه صورة واحدة، وهي الإيصاء بشيء من ماله إلى أصدقائه، وقال: «إِلاّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً» والمراد بالأولياء المؤمنون - للولاية في الدين - فالأجانب لا يرثون الإنسان إلّاإذا أوصى الرجل بشيء ممّا ترك له، ومن المعلوم أنّ الوصية لغير الوارث نافذة في مقدار ثلث التركة، وعندنا كذلك حتى في حقّ الوارث. وقد مرّ في كتاب الوصية معنى المأثور عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم: «لا وصيّة لوارث». وأنّه لو صحّ أُريد الزائد على الثلث كما مرّ في محلّه.ر.

ص: 153


1- . نعم خلا قوله سبحانه: «وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَ هاجَرُوا وَ جاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ وَ أُولُوا اَلْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اَللّهِ إِنَّ اَللّهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ» (الأنفال: 75) من ذكر المفضّل عليه، فتدبّر.
الآية الثانية
اشارة

قال سبحانه: «وَ لِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمّا تَرَكَ اَلْوالِدانِ وَ اَلْأَقْرَبُونَ وَ اَلَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اَللّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيداً».(1)

المفردات

موالي: جمع المولى، وليس له إلّامعنى واحد، وهو: الأولى، ويختلف المقصود باختلاف متعلّقه، والمراد هنا: القريب لأنّه أولى بإرث المورّث.

أيمانكم: جمع اليمين، وهو اسم يقع على الجارحة، وبما أنّ الإنسان عند التعاقد والتعاهد يتصافح باليد ولذلك سُمّي القسم يميناً، تسمية الشيء باسم سببه.

التفسير

لمّا تقدّم في الآية السابقة أنّ أُولي الأرحام أولى بالميراث من غيرهم من المؤمنين و المهاجرين، جاء البيان القرآني تفصيلاً لما أُجمل في الآية السابقة، غير أنّ للمفسّرين في تفسير الآية بيانين:

الأوّل: أنّ المقصود من الموالي في الآية هم مَنْ يرث، ومن قوله: «والوالدان والأقربون والذين عقدت إيمانكم»، تفسير للموالي، والضمير في قوله: «ترك» يرجع إلى الميت، وعلى هذا يكون تقدير الآية بالنحو التالي: ولكلّ ميّت جعلنا

ص: 154


1- . النساء: 33.

موالي وارثين، يرثون ممّا ترك الميّت، ولمّا كان هنا موضع سؤال: من هم الموالي الذين يرثون؟

فقيل: 1. الوالدان. 2. والأقربون. 3. والّذين عقدت أيمانكم أي الزوجات.

فهؤلاء هم الموالي الّذين يرثون كلّاً من الرجال والنساء الّذين اكتسبوا نصيباً.

هنا تمّ بيان الفقرة. ثم إنّه سبحانه يأمر المؤمنين بإتيان نصيب الموالي فيقول: «فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ» والضمير في كلا الموردين يرجع إلى الموالي الوارثين في صدر الآية.

ثم إنّه سبحانه يصف نفسه بأنّه رقيب عليكم حاضر يشهد تصرّفكم في التركة وغيرها فلا يحملكم الطمع على أن تأكلوا من نصيب الموالي شيئاً كما يقول: «إِنَّ اَللّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيداً» .

إنّ صاحب المنار يصف هذا المعنى بأنّه المتبادر والّذي لا يعثر فيه الفكر، ولا يكبو في ميدانه جواد الذهن، ولا يحتاج فيه إلى تكلّف في الإعراب.(1)

وحاصل النظرية:

1. أنّ الموالي هم الذين يرثون.

2. أنّ الطوائف الثلاث: الوالدان والأقربون والذين عقدت أيمانكم، تفسير للموالي، فيرثون باعتبار أنّهم هم الموالي.

3. قوله: «فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ» يرجع إلى الطوائف الثلاث، فيأمر سبحانه بإتيانهم نصيبهم.4.

ص: 155


1- . تفسير المنار: 5/64.
نقد النظرية

أوّلاً: أنّ لازم إرجاع الضمير في قوله: «مِمّا تَرَكَ» إلى الميّت، فقد الانسجام في الآية، حيث يستلزم شبه الوقف على قوله: «مِمّا تَرَكَ» ثمّ يقدّر سؤالاً يسأل عن الموالي فيأتيه الجواب بقوله: هم «الوالدان والأقربون والّذين عقدت أيمانهم».

وثانياً: أنّ إرجاع الضميرين في قوله: «فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ» إلى الموالي بعيد لوجود الفواصل بين المرجع والضميرين.

نظرية أُخرى

إنّ المراد من الموالي في الآية هم الوارثون - كما في القول الأوّل - غير أنّ فاعل ترك هم الطائفتان: الوالدان والأقربون.

وأمّا قوله: «وَ اَلَّذِينَ عَقَدَتْ» فقرة مستقلة والواو للاستئناف، وهؤلاء يجب إعطاؤهم نصيبهم، وعلى ما ذكرنا فالضميران يرجعان إلى الموصول أعني:

«وَ اَلَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ» فيكون معنى الآية: والموالي يرثون ممّا ترك الوالدان والأقربون.

وأمّا الذين عقدت أيمانكم يجب عليكم إعطاؤهم نصيبهم.

والآية ناظرة لبيان سببين من أسباب الإرث، وهما النسب والسبب، واكتفى من الأوّل على عمودين، ثمّ إنّ الذي يشهد على ما ذكرنا من أنّ الموالي هم الذين يرثون، وأنّ الوالدين والأقربين هم المورّثون، هو قوله سبحانه: «لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمّا تَرَكَ اَلْوالِدانِ وَ اَلْأَقْرَبُونَ وَ لِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمّا تَرَكَ اَلْوالِدانِ وَ اَلْأَقْرَبُونَ مِمّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً»(1) . ولفظة «لِلرِّجالِ» و «وَ لِلنِّساءِ» تعبير عن

ص: 156


1- . النساء: 7.

«الموالي» في آيتنا، فتدبّر وسيأتي تفسير هذه الآية عن قريب.

فعلى هذا فالوالدان والأقربون ممّن يُورّثون وليسا ممّا يَرثُون، فهذه الآية تفسّر آيتنا هذه.

نعم الفرق بين الآيتين أنّ الثانية بصدد بيان سبب واحد للإرث وهو النسب، ولكن آياتنا تذكر سبباً آخر، ويقول سبحانه مستأنفاً: «وَ اَلَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ» فالضمير في كلا الموردين يرجع إلى الموصول.

وأمّا ما هو المراد من عقد الأيمان؟ ففي تفسيره وجهان:

1. أُريد به عقد الزواج بين الزوج والزوجة، ويأتي نصيبهم من الميراث.

2. ويحتمل أن يراد الإرث بولاءٍ وهو على ثلاثة وجوه:

أ. إرث المعتَق، فَمَن أعتق إنساناً لوجه اللّه ومات ولم يكن له وارث، فهو للمعتق.

ب. عقد ضمان الجريرة، وهو أن يتّفق اثنان على أن يضمن كلّ منهما جناية الآخر، فإذا تمّ الاتّفاق بينهما حسب الشروط المقرّرة في الفقه كان على الضامن بدل الجناية وله ميراث الآخر إذا مات ولم يكن له وارث.

ج. عقد الإسلام، وهو العهد العام بين النبيّ ومَن آمن به، فإذا مات ولم يكن له وارث إطلاقاً فميراثه للنبيّ وبعده للإمام بعده.

ثم إنّه سبحانه أتمّ الآية بقوله: «إِنَّ اَللّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيداً» : أي رقيب على أعمالكم يشهد تصرّفاتكم في التركة، وقد مرّ في السابق أنّ لفظة «كانَ» ربّما تُحمل على كونها زائدةً، كما يحتمل أن لا تكون كذلك لبيان كون الرقابة أمراً مستمراً.

ص: 157

أحكام المواريث

2. في نصيب الرجال والنساء من الميراث

الآية الثالثة
اشارة

قال سبحانه: «لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمّا تَرَكَ اَلْوالِدانِ وَ اَلْأَقْرَبُونَ وَ لِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمّا تَرَكَ اَلْوالِدانِ وَ اَلْأَقْرَبُونَ مِمّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً».(1)

المفردات

نصيب: الحظ المعيّن، قال تعالى: «أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ اَلْمُلْكِ»(2)،

مفروضاً: ثابتاً، فليس للمورّث أن يقلّل أو يكثّر، كما ليس للوارث الاعتراض عليه.

التفسير

قوله تعالى: «لِلرِّجالِ نَصِيبٌ» : أي حظ وسهم «مِمّا تَرَكَ اَلْوالِدانِ وَ اَلْأَقْرَبُونَ» : أي من تركة الوالدين والأقربين، فللوراثة سببان:

ص: 158


1- . النساء: 7.
2- . النساء: 53.

1. الولادة، فلذلك يرث الوالد الولد وبالعكس، والأُمّ ولدها، والولد أُمّه.

2. القرابة، وإن لم يكن فيه عنوان الولادة، فلو مات الأخ يرثه أخوه إذا لم يكن أقرب منه. وإذا مات الرجل يرثه عمه، إذا لم يكن أقرب منه، ولأجل إبطال عادة أهل الجاهلية فقد ساوى النساء مع الرجال، وفي الحقيقة يساوي الإناث مع الذكور، فإنّ النساء والرجال في الآية كناية عن الجنسين: الذكر والأُنثى، ويقول:

«وَ لِلنِّساءِ نَصِيبٌ» : أي سهم «مِمّا تَرَكَ اَلْوالِدانِ وَ اَلْأَقْرَبُونَ» ، فالبنت ترث أباها، كما أنّ الأب يرث بنته، فهكذا البنت ترث أُمّها والأُمّ ترث بنتها.

قوله: «مِمّا قَلَّ مِنْهُ» الضمير يرجع إلى الموصول في قوله: «مِمّا تَرَكَ» الذي أُريد به المال فالوارث يرث تركة مورّثه، سواء أكانت التركة كثيرة أم قليلة، وليس لمَن بيده التركة تخصيص الإرث بواحد دون آخر بحجّة أنّ التركة قليلة، ثمّ إنّه سبحانه يصف هذا النوع من النصيب بقوله:

«نَصِيباً مَفْرُوضاً» : أي فرض اللّه سبحانه تسليمه إلى مستحقّه.

وحاصل الآية: أنّ الأُناث تشترك مع الذكور كتفاً إلى كتف في الوراثة، فقوله:

«وَ لِلنِّساءِ نَصِيبٌ» : أي كما للرجال نصيب فللنساء كذلك، فالآية تدلّ على بطلان أمرين:

الأوّل: التعصيب في بعض صوره يخالف مضمون الآية

الآية تدلّ على مشاركة الرجال والنساء في الإرث إذا كانا في درجة واحدة ولكن القول بالتعصيب يستلزم توريث الرجال دون النساء، في بعض الحالات، مع أنّ الجميع في درجة واحدة، وإليك بيانها:

ص: 159

1. إذا كان للميت بنت وابن أخ وبنت أخ.

أمّا الإمامية فيقولون: ترث البنت النصف فرضاً والنصف الآخر قرابة، إذ ليس في درجتها مَن يرث.

وأمّا فقهاء السنّة: يعطون النصف للبنت والنصف الآخر لابن الأخ، دون بنت الأخ، مع أنّهما في درجة واحدة.

2. إذا كانت للميّت أُخت وعمّ وعمّة، أمّا الإمامية فيقولون أنّ التركة جميعها للأُخت نصفها فرضاً والنصف الآخر قرابة.

وأمّا فقهاء السنّة فيعطون البنت النصف، والنصف الآخر للعم دون العمة.

مع أنّ القرآن الكريم يورّث النساء والرجال إذا كانوا في درجة واحدة، وهؤلاء يورّثون الرجال دون النساء!!

نعم للتعصيب صور أُخرى، مذكورة في محلّها.

الثاني: حرمان أولاد الأنبياء من الإرث
اشارة

إنّ إطلاق الآية وما تقدّم، يقتضي أنّ الأولاد يرثون الآباء من غير فرق بين كون الأب نبياً أو غير نبيّ، وسيأتي بيانه مستقلّاً.

***

ما تقدّم من الآيات الثلاث تضمّنت أحكام الإرث على وجه الإجمال، أمّا التفصيل فسيأتي الكلام فيه في ضمن الآيات التالية.

ولأجل إيضاح الموضوع لابدّ من بيان أُمور:

ص: 160

1. موجبات الإرث في الإسلام

إنّ موجبات الإرث التي أقرّها الإسلام هي أحد أمرين: إمّا نسب، وإمّا سبب.

وللنسب: مراتب ثلاث:

الأُولى: الأبوان، والولد وإن نزل.

الثانية: الإخوة وأولادهم وإن نزلوا، والأجداد وإن علوا.

الثالثة: الأخوال، والأعمام.

وللسبب: مرتبتان، وهما: زوجية، وولاء. وللولاء ثلاث مراتب: ولاء العتق، ثم ولاء تضمّن الجريرة، ثم ولاء الإمامة.(1)

2. مراتب الإرث وملاكاتها

يظهر من التدبّر في مضمون هذه الآية والآية التي تتلوها، أنّه سبحانه رتب مراتب الإرث حسب قربهم من الميّت، فالأقرب إليه يمنع الأبعد، وبذلك يظهر وجه المراتب الثلاث التي مرّت قبل قليل، وإليك بيان ملاكات التقديم.

1. أقرب المراتب إلى الميّت طوائف أربع:

الأب والأُمّ والابن والبنت، فهما يمنعان الأبعد أعني الجد والجدّة وأولاد الابن والبنت. فلا يرثون مع وجوب الابن والبنت.

2. ثم الأقرب إلى الميّت الجدّ والجدّة وإخوة الميّت وأخواته، لأنّ الجميع يتّصلون بالميّت عن طريق الأب والأُمّ.

ص: 161


1- . شرائع الإسلام: 9/4.

3. ثمّ الأقرب: أعمام الميت وعمّاته وأخواله وخالاته، فإنّ بينهم وبين الميت واسطتين وهما الجدّ وأبو الميّت في الأعمام والعمّات، والجدّة وأُمّ الميّت في الأخوال والخالات، ولذلك اتّفقت كلمة الإمامية على أنّ الأقرب يمنع الأبعد، عملاً بقوله تعالى: «وَ أُولُوا اَلْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اَللّهِ»(1) ، فإنّ ملاك الأولوية هو الأقربية.

وعلى هذا الأساس تقدّم كلالة الأبوين على كلالة الأب بمعنى أنّه إذا كان للميّت أخ أو إخوة من جانبين وأخ من جانب الأب فقط، فالأوّل يقدّم على الثاني.

نعم خرج عن تلك القاعدة كلالة الأُمّ فالإخوة والأخوات من الجانبين لا تزاحم كلالة الأُمّ، أي الأخ أو الأُخت من جانب الأُمّ فقد جاءت أحكام الكلالة في موردين من سورة النساء.(2)

وعلى هذا الأساس لا تعصيب في الإرث بمعنى أنّه إذا زادت التركة على السهام، يُرد الباقي أيضاً على صاحبها، مثلاً: لو مات عن بنت فقط، فسهمها النصف، والباقي يرد إليها قرابة، لأنّ الأقرب يمنع الأبعد. ولو مات وله أُخت، فترث النصف فرضاً والباقي ردّاً وقرابة، بذلك الملاك، أيضاً.

وأمّا غير الإمامية فيردّون الباقي إلى عصبة الميّت وإن كانوا بُعداء، وهذا يخالف ما ذكرنا من الملاك.

3. السهام المنصوصة في كتاب اللّه

وهي ستة سهام:

ص: 162


1- . الأحزاب: 6.
2- . لاحظ: النساء: 12 و 176.

أ. النصف، وله موارد ثلاثة:

1. الزوج إذا لم يكن للزوجة ولد.

2. البنت الواحدة.

3. الأُخت الواحدة للأب والأُمّ أو الأُخت للأب.

ب. الربع، وله موردان:

1. الزوج إذا كان للزوجة ولد.

2. الزوجة إذا لم يكن للزوج ولد.

ج. الثمن، وله مورد واحد وهو الزوجة إذا كان للزوج ولد.

د. الثلثان، وله موردان:

1. البنتان فصاعداً.

2. الأُختان للأب والأُمّ، أو للأب، فصاعداً.

ه. الثلث، وله موردان:

1. الأُمّ إذا لم يكن للميّت ولد، ولا إخوة من الأبوين أو من الأب.

2. الانثيان فصاعداً من الأُمّ، ويسمّون بكلالة الأُمّ.

و. السدس، وله موارد ثلاثة:

1. كلّ واحد من الأب والأُمّ إذا كان للميّت ولد.

2. الأُمّ إذا لم يكن للميّت ولد بل كان له إخوة من الأبوين أو الأب.

3. سهم الواحد ممّن يتّصل بالميّت عن طريق الأُمّ ذكراً كان أم أُنثى.

ثمّ إنّ الزائد على السهام يُرد على صاحب السهم قرابة لا فرضاً، ولا يرد

ص: 163

على الطبقة المتأخّرة.

4. الحاجب عن الإرث

الحجب عن الإرث على قسمين:

تارة يمنع عن أصل الإرث فلا يرث أبداً، وهي ثلاثة:

أ. الكفر، إذا كان المورّث مسلماً والوارث كافراً.

ب. الرق، إذا كان المورث حرّاً، والوارث مملوكاً.

ج. القتل، إذا قتل الوارث المورّث، فيُحرم من الإرث إرغاماً.

وتارة أُخرى يكون الحجب عن قسم من الإرث؟ وهذا كما في مورد الأُمّ، فلو مات ولدها بلا ولد، مع الأبوين، فإن لم يكن للميّت إخوة ترث الأُمّ الثلث والباقي للأب، وأمّا إذا كان للميّت إخوة، فترث الأُمّ السدس والباقي للأب، وما هذا إلّالأنّ إخوة الميّت أولاد للأب إمّا من الجانبين أو من جانب واحد، فنفقتهم عليه، فاقتضى ذلك تقليل سهم الأُمّ إلى السدس، ويعطى الباقي إلى الأب.

5. إرث أولاد الأولاد

ولد الولد يقوم مقام الولد، فإذا مات الرجل وليس له ولد بل ولد الولد، فيقوم الثاني مقام الولد، ويأخذ كلّ واحد نصيب مَن يتقرّب به إلى الميّت، فولد البنت يقوم مقام البنت ذكراً كان أو أُنثى و سهمه هو الثلث وولد الابن يقوم مقام الابن ذكراً كان أو أُنثى وسهمه هو الثلثان.

فعلى ما ذكرنا فولد الولد مطلقاً كولد الصلب يشارك الأبوين مثل ولد الصلب. ويدلّ عليه روايات عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام؛ ففي صحيحة عبد الرحمن

ص: 164

بن الحجاج عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «ابن الابن إذا لم يكن من صلب الرجل أحد قام مقام الابن، قال: وابنة البنت إذا لم يكن من صلب الرجل أحد قامت مقام البنت».(1)

إذا تبيّن ما تقدّم من المقدّمات فلنذكر الآيات التي تتضمّن أحكام المواريث حسب الطبقات والمراتب على وجه التفصيل:5.

ص: 165


1- . الوسائل: 17، الباب 7 من أبواب ميراث الأبوين والأولاد، الحديث 5.

أحكام المواريث

3. في إرث الأولاد والأبوين

الآية الرابعة

قال سبحانه: «يُوصِيكُمُ اَللّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ اَلْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اِثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ وَ إِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا اَلنِّصْفُ وَ لِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا اَلسُّدُسُ مِمّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَ وَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ اَلثُّلُثُ فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ اَلسُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ آباؤُكُمْ وَ أَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اَللّهِ إِنَّ اَللّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً».(1)

الآية تتضمّن بيان إرث الأولاد والأبوين فقط، بمعنى إرث المرتبة الأُولى من المراتب الثلاثة، وتبيّن إرث ما يلي:

1. إذا مات وله أولاد، ذكوراً وإناثاً.

2. إذا مات وله أزيد من بنتين. وأمّا البنتان فيستخرج حكمها من التدبر في الآية كما سيأتي.

ص: 166


1- . النساء: 11.

3. إذا مات وله بنت واحدة.

إلى هنا تمّ بيان إرث الأولاد، وأمّا الأبوان:

1. لو مات عن أب وأُمّ مع كونه ذا ولد.

2. لو مات عن أب وأُمّ ولم يكن له ولد.

ففيه صورتان:

أ. إمّا أن لا يكون للميّت إخوة.

ب. أن يكون له إخوة.

ثم تذكر الآية بأنّ تقسيم التركة بعد إخراج ما أوصى به الميت وبعد أداء دينه.

وإليك تطبيق مقاطع الآيات على ما ذكر.

أمّا الأوّل: أعني إذا مات عن أولاد ذكوراً وإناثاً فهؤلاء يقتسمون ما ترك فللذكر سهمان وللأُنثى سهم واحد، ولكنّه سبحانه يعبّر عن هذا المعنى بقوله: «يُوصِيكُمُ اَللّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ اَلْأُنْثَيَيْنِ» فهو بتعبيره هذا يشير إلى أمرين:

1. جعل إرث الأُنثى أصلاً، وإرث الذكر فرعاً فقال: إنّ الذكر الواحد يرث إرث الأُنثيين، وبذلك تحفظ كرامة المرأة على خلاف الجاهلية حيث كانت محرومة من الإرث.

2. أنّه بتعبيره هذا يشير إلى حكم فرع سيأتي ذكره، وهو أنّه لو مات الميّت ولم يكن له إلّابنتان فترثان ثلثي التركة، لأنّ لكلّ أُنثى في مقابل الذكر الثلث وللثنتين ثلثان، فاحفظ ذلك.

ص: 167

وأمّا الثاني: إذا مات عن ثلاث بنات فصاعداً، فيشير إليه بقوله: «فَإِنْ كُنَّ» :

أي الأولاد «نِساءً فَوْقَ اِثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ» : أي للجميع «ثُلُثا ما تَرَكَ» وأمّا الثلث الآخر فيُردّ إليهنّ قرابة لا فرضاً.

ثمّ إنّ الآية تذكر حكم ما فوق الاثنتين ولم تذكر حكم الثنتين يعني إذا مات عن بنتين، فيمكن استفادة هذا الفرض من الفرع الأوّل، لأنّ اللّه تعالى فرض للأُنثيين سهمين في مقابل الذكر، فيستنبط أنّ سهم الأُنثيين مطلقاً، وإن لم يكن معهما ذكر، هو الثلثان. وإلى ما ذكرنا يشير السيد الطباطبائي بقوله: ولم يذكر سهم الأُنثيين فإنّه مفهوم من قوله: «لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ اَلْأُنْثَيَيْنِ» فإنّ ذكراً وأُنثى إذا اجتمعا كان سهم الأُنثى الثلث للآية، وسهم الذكر الثلثين وهو حظ الأُنثيين، فحظ الأُنثيين الثلثان، فهذا المقدار مفهوم من الكلام إجمالاً - إلى أن قال -: على أنّ كون حظهما الثلثين هو الذي عمل به النبي صلى الله عليه و آله و سلم وجرى العمل عليه منذ عهده صلى الله عليه و آله و سلم إلى عهدنا بين علماء الأُمّة سوى ما نقل من الخلاف عن ابن عباس.(1)

ثمّ إنّه قدس سره ينقله عن الكليني في «الكافي» ويقول: إنّ اللّه جعل حظ الأُنثيين الثلثين بقوله: «لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ اَلْأُنْثَيَيْنِ» وذلك أنّه إذا ترك الرجل بنتاً وابناً فللذكر مثل حظ الأُنثيين وهو الثلثان فحظ الأُنثيين الثلثان، واكتفى بهذا البيان أن يكون ذكر الأُنثيين بالثلثين.(2)

وأمّا الثالث: أعني إذا مات عن بنت واحدة، فيشير إليه بقوله: «وَ إِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا اَلنِّصْفُ» فرضاً والباقي يُرد إليها ردّاً وقرابة، لما قلنا أنّ الأقرب يحجب الأبعد.4.

ص: 168


1- . الميزان في تفسير القرآن: 208/4.
2- . الميزان في تفسير القرآن: 208/4.

كلّ ذلك في إرث الأولاد، ويأتي بعده بيان إرث الأبوين.

وأمّا الرابع: أعني إرث الأبوين فله صورتان:

1. إذا مات الميّت عن أبوين وكان له ولد، فيشير إليه بقوله: «وَ لِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا اَلسُّدُسُ مِمّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ» ، وأمّا الأسداس الأربعة فهي للأولاد للذكر مثل حظ الأُنثيين، إن كانا من الجنسين، وإلّا فيقتسمان الباقي بالتساوي.

2. إذا مات الميّت عن أبوين ولم يكن له ولد، فيشير إليه بقوله: «فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَ وَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ اَلثُّلُثُ» والثلثان للأب.

نعم إنّ للأُم الثلث إذا لم يكن لها حاجب، بمعنى أنّه إذا كان للميّت إخوة من الأبوين أو الأب، فهؤلاء يحجبون الأُمّ عن الثلث وينزل فرضها إلى السدس كما يقول: «فَإِنْ كانَ لَهُ» للميّت «إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ اَلسُّدُسُ» . والاسداس الخمسة للأب.

تحديد الحاجب

ظاهر قوله سبحانه: «فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ اَلسُّدُسُ» هو أن لا يكون الحاجب أقلّ من ثلاثة، فحجب الاثنين من الإخوة يحتاج إلى الدليل، ولذلك اختلف ابن عباس مع عثمان في الأمر الأوّل حيث قال له: ليس الأخَوَان إخوة في لسان قومك فلم تحجب بهما الأُمّ؟ فقال عثمان: لا أستطيع أن أرد شيئاً كان قبلي.

قال ابن قدامة - بعد نقل هذا -: ومضى في البلدان وتوارث الناس به.(1)

وهذا يعرب عن أنّ الحكم السائد في زمن الرسول صلى الله عليه و آله و سلم وبعده هو حجب الأخوَين حيث يتعاملون مع التثنية معاملة الجمع.

ص: 169


1- . المغني: 234/5.

أقول: ظاهر الكتاب يوافق ما روي عن ابن عباس، ولكنّ السنّة تدلّ على العموم في كلا الجانبين، أي من حيث العدد ومن حيث الجنسية. وإن كان اختلاف ابن عباس مع عثمان في خصوص العدد، أمّا ما يدلّ على حجب الأخوَين أو أربع أخوات ففي صحيحة أبي العباس،(1) عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «إذا ترك الميّت أخوين فهم إخوة مع الميّت حجبا الأُمّ عن الثلث، وإن كان واحداً لم يحجب الأُمّ.

وقال: إذا كنّ أربع أخوات حجبن الأُمّ عن الثلث لأنّهن بمنزلة الأخوَين وإن كنّ ثلاثاً لم يحجبن».(2)

ثمّ إنّ لازم التعليل - أعني: قوله: «لأنهنّ بمنزلة الأخوَين» - حجب الأخ والأُختين أيضاً، لأنّهما بمنزلة الأخ. نعم ورد النصّ على عدم حجب الأخ والأُخت الواحدة.

روى أبو العباس قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السلام يقول: «لا يحجب عن الثلث، الأخ والأُخت حتى يكونا أخوين أو أخاً وأُختين فإنّ اللّه يقول: «فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ اَلسُّدُسُ»(3).

كما أنّ السنّة دلّت على كفاية أربع أخوات.

روى أبو العباس البقباق قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن أبوين وأُختين لأب وأُمّ هل يحجبان الأُمّ عن الثلث؟ قال: «لا» قلت: فثلاث؟ قال: «لا» قلت: فأربع؟ قال: «نعم».(4)1.

ص: 170


1- . هو الفضل بن عبد الملك البقباق، ثقة عين من أصحاب الصادقين عليهما السلام.
2- . الوسائل: 17، الباب 11 من أبواب ميراث الأبوين والأولاد، الحديث 1.
3- . الوسائل: 17، الباب 11 من أبواب ميراث الأبوين والأولاد، الحديث 7.
4- . الوسائل: 17، الباب 11 من أبواب ميراث الأبوين والأولاد، الحديث 1.

فظهر ممّا ذكرنا أنّ السنّة وسّعت الحاجب من حيث العدد إلى اثنين، ومن حيث الجنسية إلى أربع أخوات كما لا يخفى.

وقد مضى الإيعاز إلى فلسفة الحجب بأنّ وجود الإخوة للميّت من جانب الأبوين أو الأب يسبّب كون نفقتهم على الأب لا على الأُمّ، ولذلك نزل سهم الأُمّ من الثلث (عند عدم الإخوة) إلى السدس (عند وجود الإخوة).

تقديم الوصية والدين على التقسيم

ثمّ إنّه سبحانه يؤكّد على أنّ الوارث يرث ما تركه الميّت بعد إفراز ما أوصى به وأداء ديونه. فلو أوصى بصرف ثلث ماله في وجوه الخير والمبرّات فهو خارج عن التركة التي يرثها الوارث، كما أنّه لو كان له دين أو ديون فتخرج الديون ثم تقسّم التركة، وإلى ذلك يشير قوله سبحانه: «مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ».

ثمّ إنّه سبحانه قدّم الوصية على الدين مع أنّ الثاني هو الأهم، ولعلّ وجهه أنّ الوارث ربما لا يهتم بتنفيذ الوصيّة ويتساهل فيها، دون الدين فإن له طالباً من الخارج، ولذلك قدّم الوصيّة على الدين.

وأمّا كيفية العمل والإخراج فقد روى السكوني عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «أوّل شيء يُبدأ به من المال، الكفن، ثم الدين، ثم الوصية، ثم الميراث».(1)

وروى محمد بن قيس عن أبي جعفر عليه السلام قال: «قال أمير المؤمنين عليه السلام: إنّ الدين قبل الوصية، ثم الوصية على أثر الدين، ثم الميراث بعد الوصية، فإنّ أولى القضاء كتاب اللّه».(2)

ص: 171


1- . الوسائل: 13، الباب 28 من أبواب كتاب الوصايا، الحديث 1.
2- . الوسائل: 13، الباب 28 من أبواب كتاب الوصايا، الحديث 2.

ثمّ إنّه سبحانه ختم الآية بالفقرة التالية:

«آباؤُكُمْ وَ أَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً» فقد ذكر الطبرسي في تفسيرها وجوهاً خمسة.(1)

ويحتمل أن تكون الفقرة ناظرة إلى نقد ما ربّما يخطر ببال الإنسان بأنّه لو كان التقسيم بغير هذا الوجه لكان أصلح أو أنفع، فجاء البيان القرآني ينكر لهم هذا بأنّ عقولكم لا تحيط بالمصالح، فاللّه أعلم ما هو الأقرب لكم نفعاً من الآباء والأبناء، فلذلك فرض التقسيم على ما ذكر.

ويؤيّد ما ذكرنا من المعنى للفقرة قوله سبحانه: «فَرِيضَةً مِنَ اَللّهِ» : أي لا تبدّلوه ولا تتصرّفوا فيه، لماذا؟ «إِنَّ اَللّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً» فكونه عليماً يلازم كونه عالماً بمصالحنا، كما أنّ كونه حكيماً يلازم كون ما يحكم به وفق الحكمة.

ويُستشم من توفير سهام الأبناء على الآباء، أنّهم أقرب نفعاً من غيرهم.

ثمّ إنّ المراد من الأقربية يحتمل أن يكون أنفع مادياً أو أنفع روحياً خصوصاً إذا صار الولد يستغفر له ويعمل الصالحات نيابة عن الأب قال رسول اللّه: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلّامن ثلاث:.. ولد صالح يدعو له».(2)6.

ص: 172


1- . مجمع البيان: 35/3.
2- . مستدرك الوسائل: 12، الباب 15 من أبواب الأمر بالمعروف، الحديث 6.

أحكام المواريث

4. في إرث الزوجين والكلالة

الآية الخامسة
اشارة

قال سبحانه: «وَ لَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ اَلرُّبُعُ مِمّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَ لَهُنَّ اَلرُّبُعُ مِمّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ اَلثُّمُنُ مِمّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَ إِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ اِمْرَأَةٌ وَ لَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا اَلسُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي اَلثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اَللّهِ وَ اَللّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ».(1)

المفردات

كلالة: الكلالة: الإحاطة مأخوذ من الإكليل. والإكليل: التاج شبه عصابة تزيّن بالجواهر. وأُريد هنا قرابة الإنسان من غير والديه وأولاده، كالإخوة والأخوات كأنّهم يحيطون بالميّت، وقد جاءت لفظ الكلالة في آيتين من القرآن: الأُولى هي

ص: 173


1- . النساء: 12.

آيتنا هذه والمراد إخوة الميّت من أُمّه. والآية الثانية هي: (يُفْتِيكُمْ فِي اَلْكَلالَةِ»(1) والمراد فيها إخوة الميّت لأبيه وأُمّه أو لأبيه فقط. وعلى كلّ تقدير فتسمية الإخوة بالكلالة إمّا لإحاطتهم بالميت، أو لكونهم ثقلاً عليه لقيامه بمصالحهم مع عدم التولّد الذي(2) يؤدّي إلى مزيد الإقبال والخفة على النفس. وفي الحديث: «ملعون من ألقى كَلّه على الناس».

ثمّ إنّ الكلالة ربّما يوصف بها الميّت الموروث على معنى أنّه أخ أو أُخت للورثة الأحياء. كما يوصف بها الحي الوارث على معنى أنّ الوارث أخ أو أُخت للميت. والمورد من المتضايفين اللّذين هما متلازمان وقد قالوا: المتضايفان متكافئان قوة وفعلاً.

غير مضار: الإضرار في الدين أن يقرّ بأنّ عليه ديناً بقصد الإضرار بالورثة مع أنّه ليس كذلك. وأمّا الإضرار في الوصية فهو أن يوصي بدفع مال إلى شخص لغاية الإضرار بالورثة أيضاً.

التفسير

هذه الآية تتضمّن بيان إرث الطوائف التالية:

1. إرث الزوج من الزوجة إذا لم يكن لها ولد.

2. إرث الزوج من الزوجة إذا كان لها ولد.

3. إرث الزوجة من الزوج إذا لم يكن له ولد.

4. إرث الزوجة من الزوج إذا كان له ولد.

ص: 174


1- . النساء: 176.
2- . الموصول وصف التولّد.

5. إرث الأخ الواحد أو الأُخت الواحدة من الأُمّ.

6. إرث الأخوين أو الأُختين من جانب الأُمّ.

ثمّ يذكر سبحانه أنّ التركة التي تقسّم بين الورثة هي التي تبقى بعد إخراج الوصية والدين.

إذا عرفت ذلك فلندخل في تفسير الآية.

أمّا الطائفة الأُولى: أي إرث الزوج من زوجته إن لم يكن لها ولد، فيشير إليه بقوله: «وَ لَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ» : أي زوجاتكم «إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ» لا ذكر ولا أُنثى ولا ولد الولد.

وأمّا الثانية: تلك الصورة ولكن كان لها ولد، فيشير إليها بقوله: «فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ اَلرُّبُعُ مِمّا تَرَكْنَ» : أي من ميراثهن. ثمّ إنّ سهم الزوج مطلقاً في كلتا الصورتين من ميراث زوجته إنّما هو «مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ» فالميراث ما يبقى بعد إخراج الوصية والدين، حتى بعد إخراج تجهيز الميّت من الكفن وغيره.

وأمّا الثالثة: أي ميراث الزوجة من الزوج اذا لم يكن له ولد، فيشير إليه بقوله: «وَ لَهُنَّ اَلرُّبُعُ مِمّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ» واحدة كانت الزوجة أو اثنتين أو ثلاثاً أو أربع، فليس لهن أكثر من ذلك، فلو مات الزوج عن أربع زوجات، فيقسّم الربع بينهن، بالسوية.

وأمّا الرابعة: تلك الصورة لكن يكون للزوج ولد فيشير إليه بقوله: «فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ اَلثُّمُنُ مِمّا تَرَكْتُمْ» من الميراث مثل الصورة السابقة. نعم ما ذكر من الميراث إنّما هو «مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ» فيقدّمان على الميراث.

ص: 175

إلى هنا تمّ بيان ميراث الأزواج الذي يجتمع مع عامّة الطبقات الثلاث، وهو من خصائص هذه الطبقة؛ وذلك لأنّ الترتيب في الطبقات الثلاث كان على الأقربية، فيمنع الأقربُ الأبعدَ، وأمّا المقام فملاك الميراث هو السببية، أي الزوجية التي تجتمع مع عامّة المراتب.

ثمّ إنّ اللّه سبحانه ذكر الرجال في هذه الآية على سبيل المخاطبة، وذكر النساء على سبيل الغيبة، وأيضاً خاطب اللّه الرجال في هذه الآية سبع مرّات وذكر النساء فيها على سبيل الغيبة أقلّ من ذلك، وهذا يدلّ على تفضيل الرجال على النساء. هذا ما ذكره الرازي.(1)

أقول: لا شكّ أنّ اللّه سبحانه فضّل الرجال على النساء في القرآن المجيد وذكر وجه التفضيل وقال: «اَلرِّجالُ قَوّامُونَ عَلَى اَلنِّساءِ بِما فَضَّلَ اَللّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَ بِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ»(2) ، غير أنّ ما ذكره الرازي في الاستدلال على التفضيل ليس بصحيح، فإنّ خطاب الرجال بالمخاطبة لأنّ الأموال بيدهم حتى أنّ أموال النساء في أيديهم، وهذا هو الذي سبّب خطاب الرجال بالمخاطبة وغيرهم بالغيبة.

كما أنّ كثرة الخطاب لا تدلّ على التفضيل، وليست ملاكاً له، كما عرفت.

ميراث كلالة الأُمّ

قد تقدّم منّا أنّه سبحانه ذكر كيفية ميراث الكلالة في موردين: أحدهما في المقام الذي يخصّ كلالة الأُمّ واحداً أو كثيراً، والثاني في آخر هذه السورة الذي

ص: 176


1- . تفسير الرازي: 220/9.
2- . النساء: 34.

يخصّ كلالة الأب.

أمّا المقام فيقول: «وَ إِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ اِمْرَأَةٌ» وتقدير الآية: وإن كان رجل أو امرأة يورثان كلالة، وقد مرّ أنّ الكلالة يوصف بها المورّث والوارث وهنا صورتان:

1. الوارث إمّا أخ أو أُخت فقط، فلكلّ واحد منهما السدس.

2. الوارث أكثر من أخ واحد أو أخت واحدة، كما يقول: «فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي اَلثُّلُثِ» فيقتسمان بالسوية سواء كانوا اثنين أو أزيد.

نعم هذا المورد كسائر الموارد تقسّم التركة بعد إخراج الوصية والدين، كما يقول: «مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ».

ثمّ إنّه سبحانه يصف الوصية بقوله: «غَيْرَ مُضارٍّ» : أي غير موص وصيةٍ تضرّ بالورثة، ولعلّ المراد الوصية لغاية الإضرار بالورثة، فيحتمل أن يكون وصفاً للدين أيضاً بأن أوصى بدين ليس عليه، يريد بذلك ضرر الوارث.

ثمّ إنّه سبحانه أتم الآية بقوله: «وَصِيَّةً مِنَ اَللّهِ وَ اَللّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ» وقد ختم الآية السابقة بقوله: «فَرِيضَةً مِنَ اَللّهِ إِنَّ اَللّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً».

أمّا وجه التعبير في الآية السابقة بالفريضة وهنا بالوصية فقد ذكر الرازي: أنّ لفظ الفرض أقوى وآكد من لفظ الوصية، وهذا يدلّ على أنّ الكل وإن كان واجب الرعاية إلّاأنّ القسم الأوّل، أي رعاية حال الأولاد، أولى.(1)

يلاحظ عليه: أنّه سبحانه بدأ بتقسيم ميراث الأولاد في نفس الآية بقوله:

«يُوصِيكُمُ اَللّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ اَلْأُنْثَيَيْنِ» فلا فرق بين اللفظين،9.

ص: 177


1- . تفسير الرازي: 226/9.

خصوصاً أنّ الوصية في آيتنا مقيّدة بقوله: «مِنَ اَللّهِ».

إنّما الكلام في تبديل «الحكيم» الوارد في ختام الآية السابقة بالحليم في هذه الآية، وقد ذكر ابن عاشور أنّ الأحكام المتقدّمة [يعني في هذه الآية] إبطال لكثير من أحكام الجاهلية، وقد كانوا شرّعوا مواريثهم تشريعاً مثاره الجهل والقساوة؛ أمّا الجهل فواضح، وأمّا القساوة فحرمانهم الصغار من الميراث قساوة منهم.(1) فصار ذلك سبباً لأن يصف تعالى نفسه بالعلم والحلم وأنّ الأحكام الصادرة صدرت عن علم وحلم، واللّه العالم.

الآية السادسة
اشارة

قال سبحانه: «يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اَللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي اَلْكَلالَةِ إِنِ اِمْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَ لَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وَ هُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ فَإِنْ كانَتَا اِثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا اَلثُّلُثانِ مِمّا تَرَكَ وَ إِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَ نِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ اَلْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اَللّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَ اَللّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ».(2)

المفردات

الكلالة: قد تقدّم أنّ الكلالة هي الإحاطة من الإكليل وهو التاج، أي العصابة التي تزيّن بالجواهر. ثمّ إنّ لفظ «الكلالة» جاء في القرآن الكريم في آيتين، هذه

ص: 178


1- . التحرير والتنوير: 54/4.
2- . النساء: 176.

الآية وفي الآية الثانية عشرة من سورة النساء، والمراد هنا إخوة الميّت لأبيه وأُمّه أو لأبيه فقط.

التفسير

قبل الدخول في تفسير الآية نقدّم أُموراً:

الأوّل: يظهر من غير واحدة من الروايات أنّ الصحابة بعد رحيل النبي صلى الله عليه و آله و سلم اختلفوا في معنى الكلالة.

أخرج الحاكم وصحّحه عن محمد بن طلحة عن عمر بن الخطاب أنّه قال:

لئن أكون سألت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عن ثلاث أحبّ إليّ من حُمر النعم:

1. من الخليفة بعده؟

2. وعن قوم قالوا نقرّ بالزكاة في أموالنا ولا نؤدّيها إليك، أيحلّ قتالهم؟

3. وعن الكلالة.(1)

ويظهر من بعض الروايات أنّ عمر سأل النبي صلى الله عليه و آله و سلم ومع ذلك خفي عليه المراد، حيث روى مسلم في صحيحه عن معدان بن أبي طلحة اليعمري قال: إنّ عمر بن الخطاب خطب يوم الجمعة فذكر نبي اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وذكر أبا بكر فقال: ثمّ إنّي لا أدع بعدي شيئاً أهمّ عندي من الكلالة، ما راجعت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في شيء ما راجعته في الكلالة، وما أغلظ لي في شيء ما أغلظ لي فيه، حتى طعن بإصبعه في صدري، وقال: يا عمر ألا يكفيك آية الصيف التي في آخر سورة النساء.(2)

ص: 179


1- . المستدرك: 303/2، وفي طبعة أُخرى: 332/2، الحديث 3186.
2- . تُسمّى هذه الآية بآية الصيف لنزولها في الصيف في حجّة الوداع. (لاحظ: صحيح مسلم، كتاب الفرائض: 3/2[428/3، مج 9]).

الثاني: اتّفقت الإمامية على أنّ المراد من الكلالة هو الإخوة والأخوات بشرط أن لا يكون للميّت ولد ولا والد، وإلّا فلا تصل النوبة إلى الكلالة.

ومن حسن الحظ أنّ في روايات الجمهور ما يشهد على ذلك.

أخرج البيهقي في «السنن الكبرى» عن الشعبي قال: قال عمر: الكلالة ماعدا الولد، قال أبو بكر: الكلالة ماعدا الولد والوالد، فلما طُعن عُمر قال: إنّي لأستحيي أن أخالف أبا بكر الكلالة ماعدا الولد والوالد.(1)

الثالث: قد تقدّم أنّه سبحانه ذكر الكلالة في كتابه المجيد مرّتين مرّة في صدر هذه السورة وجعل الفريضة فيها الثلث، سواء كانت اثنين أو أكثر فقال: «وَ إِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ اِمْرَأَةٌ وَ لَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا اَلسُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي اَلثُّلُثِ»(2).

والمرّة الثانية هو ما في آخر هذه السورة التي سمّاها النبي صلى الله عليه و آله و سلم بآية الصيف، وجعل فريضة الكلالة هو النصف إذا كان منفرداً والثلثين إذا كانا اثنين حيث قال: «إِنِ اِمْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَ لَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وَ هُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ فَإِنْ كانَتَا اِثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا اَلثُّلُثانِ مِمّا تَرَكَ وَ إِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَ نِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ اَلْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اَللّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَ اَللّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ» ، فعندئذٍ يقع الكلام في موضع الآيتين حيث جعلت الفريضة في إحداهما السدس والثلث وفي الأُخرى النصف و الثلثان، فقد روي عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام أنّ الآية الأُولى ناظرة إلى مَن ينتسب إلى الميّت عن طريق الأُمّ فيكون المراد الأخ والأُخت2.

ص: 180


1- . السنن الكبرى: 223/6.
2- . النساء: 12.

الأُميّين، والآية الثانية ناظرة إلى مَن ينتسب إلى الميّت من جانب الأب أو الأب والأُم، فيكون المراد هنا الأخ والأُخت المنتسبين للميّت من جانب الأب فقط، أو الأب والأُمّ.

روى العياشي عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام في قوله: «يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اَللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي اَلْكَلالَةِ إِنِ اِمْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَ لَهُ أُخْتٌ» : «إنّما عنى اللّه الأُخت من الأب والأُمّ، أو أُخت لأب، فلها النصف ممّا ترك، وهو يرثها إن لم يكن لها ولد...».(1)

على أنّ هناك دليلاً آخر لاختصاص الآية الأُولى بالكلالة من جانب الأُمّ والثانية بالكلالة من جانب الأب، وهو أنّ كلّاً من الكلالتين يرث إرث مَن يتقرّب به، فكلالة الأُمّ ترث ما ترثه الأُمّ وكلالة الأب ترث ما يرثه الأب، هذا وأنّ الأُمّ عند عدم الولد للميّت ترث الثلث، والأب يرث الثلثين بشهادة قوله سبحانه: «فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَ وَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ اَلثُّلُثُ»(2) ، والباقي أعني الثلين للأب، ولذلك صارت الفريضة في كلالة الأُمّ هي الثلث لأنّهم يرثون فريضة الأُمّ وهي الثلث، وصارت الفريضة في كلالة الأب هي الثلثان لأنّهم يرثون فريضة الأب.

إذا تبيّنت هذه الأُمور فلندخل في تفسير الآية، فقد ذكر سبحانه فيها أحكام بعض الصور:

قوله تعالى: «يَسْتَفْتُونَكَ» حذف متعلّق الاستفتاء للاستغناء عنه بما يأتي من قوله: «قُلِ اَللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي اَلْكَلالَةِ» : أي يسألونك في الكلالة قل اللّه يفتيكم1.

ص: 181


1- . تفسير العياشي: 286/1، برقم 312.
2- . النساء: 11.

فيها، فذكر لها حكم صور أربع:

1. «إِنِ اِمْرُؤٌ هَلَكَ» مات «لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ» ولا أب ولا أُمّ - حسب ما مرّ من الروايات - «وَ لَهُ» من الورثة «أُخْتٌ» فقط، «فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ».

2. إذا ماتت الأُخت ولها أخٌ فهو يرث الأُخت إن لم يكن لها ولد، لأنّ الطبقة المتقدّمة تمنع عن المتأخّرة، والولد في الطبقة الأُولى كما يقول: «وَ هُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ» . ولم يذكر المقدار وهو حاك انّ المال كلّه له.(1)

3. إذا مات رجل وله أُختان فقط، فلهما الثلثان، كما يقول: «فَإِنْ كانَتَا اِثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا اَلثُّلُثانِ مِمّا تَرَكَ».

4. تلك الصورة ولكن كان الورثة نساء ورجالاً فلهما الثلثان لكن للذكر مثل حظ الأُنثيين، كما يقول: «وَ إِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَ نِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ اَلْأُنْثَيَيْنِ».

هذه هي الصور المذكورة في الآية، وهناك صور أُخرى يظهر حكمها من التدبّر في الآية.

ثمّ إنّه سبحانه يتمّ الآية - بل السورة - بقوله: «يُبَيِّنُ اَللّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا» : أي كراهة أن تضلّوا، أو لئلّا تضلّوا «وَ اَللّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ» في ما شرّع لكم من الأحكام فقد صدر عن علم.

ثمّ إنّ التعبير ب «أَنْ تَضِلُّوا» مكان «كراهة أن تضلّوا» شائع في لغة العرب، قال عمرو بن كلثوم:

فعجلنا القرى أن تشتمونا...

يعني: لئلّا تشتموننا.3.

ص: 182


1- . مجمع البيان: 297/3.

وفي نهاية السورة نذكر ما ورد في شأن نزول الآية.

قال الطبرسي: اختلف في سبب نزول الآية، فروي عن جابر بن عبد اللّه أنّه قال: اشتكيت وعندي تسع أخوات لي أو سبع، فدخل عليّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم فنفخ في وجهي فأفقت، فقلت: يا رسول اللّه ألا أُوصي لأخواتي بالثلثين؟ قال: «أحسن»، قلت: الشطر؟ قال: «أحسن»، ثم خرج وتركني ورجع اليّ، فقال: «يا جابر إنّي لا أراك ميتاً من وجعك هذا، وإنّ اللّه تعالى قد أنزل في الذي لأخواتك فجعل لهنّ الثلثين»، قالوا: وكان جابر يقول: أنزلت هذه الآية فيّ.(1)3.

ص: 183


1- . مجمع البيان: 296/3.

أحكام المواريث

5. في إعطاء ذوي القربى والفقراء من التركة

الآية السابعة
اشارة

قال سبحانه: «وَ إِذا حَضَرَ اَلْقِسْمَةَ أُولُوا اَلْقُرْبى وَ اَلْيَتامى وَ اَلْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَ قُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً».(1)

التفسير
دفع شيء لطائفتين لدى القسمة

ربما يحضر عند قسمة التركة طائفتان وهما:

1. أُولو القربى أي أقرباء الميّت ولكن ليسوا بوارثين.

2. اليتامى والمساكين، غير أُولي القربى.

فاللّه سبحانه يأمر الأولياء أو الوارثين أن يتصدّقوا على هؤلاء بشيء.

مثلاً: إذا مات الرجل وله أولاد وأخ فقير، وهو لا يرث إلّاأنّه من أقرباء الميّت، فدفع شيء إليه تودّداً واستمالة أمر مطلوب، ولذلك يقول: «وَ إِذا حَضَرَ اَلْقِسْمَةَ أُولُوا اَلْقُرْبى» : أي أقرباء الميّت المحجوبون من الميراث، كالأخ مع الابن

ص: 184


1- . النساء: 8.

«وَ اَلْيَتامى وَ اَلْمَساكِينُ» من غير أُولي القربى، كما إذا كانوا من عشيرة واحدة أو من الجيران «فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ» : أي من المال المتروك، والخطاب موجّه إلى الورثة أو إلى الأولياء، فهل الأمر هنا للوجوب أو للندب؟ وجهان.

قوله تعالى: «وَ قُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً» الظاهر أنّه ناظر إلى صورة عدم دفع شيء إليهم، وعلى كلّ حال فالآية ليست منسوخة بآية المواريث كما ربما يتوهّم؛ لأنّ النسخ فرع وجود التناقض بينهما، وذلك لأنّ آية المواريث تعيّن فرائض الورثة، وهذه الآية تدلّ على أنّ الورثة - بعد ما يتسلم كلّ منهم سهمه - ينبغي أن يدفعوا شيئاً ممّا ورثوا إلى أقرباء الميّت أو اليتامى والمساكين من حولهم، سواء أكان الإعطاء واجباً أو ندباً.

ص: 185

أحكام المواريث

6. إرث المسلم من الكافر

اشارة

اتّفقت الإمامية على أنّ المسلم يرث الكافر مطلقاً، ولم يختلف فيه اثنان.

قال الشيخ الطوسي: والكافر لا يرث المسلم بلا خلاف، والمسلم يرث الكافر عندنا، سواء كان حربياً أو ذمّيّاً، أو كافر أصل أو مرتدّاً عن الإسلام.(1)

ترى مثل هذه الكلمة في عامّة الكتب الفقهية للإمامية، وتضافرت روايات أئمة أهل البيت عليهم السلام على الإرث، ونقتصر بذكر روايتين منها:

1. أخرج الصدوق عن الحسن بن صالح، عن أبي عبداللّه عليه السلام قال: «المسلم يحجب الكافر ويرثه، والكافر لا يحجب المسلم ولا يرثه».(2)

2. وأخرج أيضاً بسند معتبر عن محمد بن قيس، عن أبي جعفر عليه السلام قال:

«سمعته يقول: لا يرث اليهودي والنصراني المسلمين، ويرث المسلمون اليهود والنصارى».(3) إلى غير ذلك من الروايات.

ونحن نعرض المسألة على الكتاب العزيز، فإن إطلاقاته دليل على إرث المسلم من الكافر، خرج منه إرث الكافر من المسلم دون العكس، وأمّا إطلاق الآيات فمنها قوله سبحانه: «يُوصِيكُمُ اَللّهُ فِي أَوْلادِكُمْ» وإليك غيرها.

ص: 186


1- . المبسوط: 4/79.
2- . الوسائل: 17، الباب 1 من أبواب موانع الإرث، الحديث 2.
3- . الوسائل: 17، الباب 1 من أبواب موانع الإرث، الحديث 7.

1. قال سبحانه: «وَ لَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ اَلرُّبُعُ مِمّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ» .(1)

2. قال سبحانه: «يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اَللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي اَلْكَلالَةِ إِنِ اِمْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَ لَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ».(2)

فإنّ مقتضى إطلاق الآيات عدم الفرق بين كون المورّث مسلماً أو كافراً، ومثله الوارث، خرجت منه صورة واحدة وهي عدم إرث الكافر من المسلم وبقي الباقي تحت الإطلاق، فلا يعدل عنه إلّابدليل قطعي.

ويؤيّد ذلك أنّ حرمان المسلم من إرث الكافر خلاف الامتنان، فإنّ الحرمان من الإرث في بعض الموارد إمّا للإرغام، أو لضعف الوارث؛ فالأوّل كما في القاتل، فلا يرث المقتول، وذلك لأنّه حاول بقتله أن يرثه معجّلاً، فانعكس الأمر وصار محروماً بتاتاً، والثاني كما في الرقّ حيث لا يرث العبدُ الحرَّ لضعف مرتبته ودرجته، فعلى ضوء ما ذكرنا يجب أن يرث المسلم الكافر، وإلّا يلزم أن يكون حرمان المسلم من إرث الكافر إمّا إرغاماً له أو آية ضعفه، وكلاهما مردودان في الشرع.

وإن شئت قلت: إنّ التشريع الإسلامي قائم على الترغيب والترهيب، ففي الموضع الّذي يكون المورِّث كافراً والوارث على وشك اعتناق الإسلام، فلو قيل له: أنت لو أسلمت يكون جزاء إسلامك هو حرمانك من عطايا والدك وأُمّك، فهو يتراجع عن قراره ويتعجّب من هذا التشريع الّذي يُرهّب مكان أن يُرغّب، ويُبعِّد6.

ص: 187


1- . النساء: 12.
2- . النساء: 176.

بدل التقريب إلى الإسلام، ويوعده على طرف النقيض من الترغيب.

وقد ورد بعض ما ذكرنا في روايات أئمة أهل البيت عليهم السلام، منها: ما رواه عبدالرحمن بن أعين قال: قال أبو جعفر عليه السلام: «لا نزداد بالإسلام إلّاعزّاً، فنحن نرثهم ولا يرثونا».(1)

وأمّا غير الإمامية فقد قال الشيخ الطوسي: قال الشافعي: لا يرث المسلم الكافر، وحكوا ذلك عن علي عليه السلام، وعمر، وعبداللّه بن مسعود، وعبداللّه بن العباس، وزيد بن ثابت، والفقهاء كلّهم.(2)

وقال ابن رشد: ذهب جمهور العلماء من الصحابة والتابعين وفقهاء الأمصار إلى أنّه لا يرث المسلم الكافر.(3)

وأمّا ما هو الدليل فقد استدلّوا بطائفتين من الروايات:

الطائفة الأُولى: ما يدلّ على عدم التوارث

وردت روايات على عدم التوارث، منها ما أخرجه أبو داود بسنده عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه عبداللّه بن عمرو، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:

«لا يتوارث أهل ملّتين شتّى».(4)

يلاحظ عليه: أنّ الحديث بصدد نفي التوارث لا الإرث من كلّ جانب، فلو قيل ما تضارب زيد وعمرو، كفى في صدقه عدم الضرب من جانب واحد،

ص: 188


1- . الوسائل: 17، الباب 1 من أبواب موانع الإرث، الحديث 19.
2- . الخلاف: 4/23، المسألة 16.
3- . بداية المجتهد: 5/430.
4- . سنن أبي داود: 3/126، برقم 2911.

ولذلك يقال: لم يكن هناك تضارب، بل ضرب من جانب واحد، فالنبيّ صلى الله عليه و آله و سلم بصدد نفي التوارث وهو لا ينافي الإرث من جانب واحد، وبذلك فسّر الإمام الصادق عليه السلام الحديث، فقد أخرج الكليني عن جميل وهشام عن أبي عبداللّه عليه السلام أنّه قال: «فيما روى الناس عن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم أنّه قال: لا يتوارث أهل ملّتين، قال: نرثهم ولا يرثونا، إن الإسلام لم يزده في حقّه إلّاشدّة».(1)

الطائفة الثانية: ما يصرّح على عدم إرث المسلم

أخرج البخاري عن أُسامة بن زيد أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم قال: «لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم».(2)

يلاحظ عليه: أنّه خبر واحد لا يُقيّد به الكتاب العزيز، فتفرّد أُسامة بنقل هذا الحديث مع كثرة الابتلاء به في عصر بدء الرسالة، أمر بعيد.

وربّما يُستدلّ بوجه ثالث، قال ابن حجر: إنّ التوارث يتعلّق بالولاية ولا ولاية بين المسلم والكافر، لقوله تعالى: «لا تَتَّخِذُوا اَلْيَهُودَ وَ اَلنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ».(3)

يلاحظ عليه بوجهين:

أوّلاً: أنّ الإرث من آثار الولاية في العتق وضمان الجريرة، وأمّا الوراثة في غير هذين الموردين فهي من آثار النسب والسبب، ولذلك فإنّ الفقهاء يذكرون عند بيان أسباب الإرث السبب والنسب، مقابل الولاء.

ص: 189


1- . الوسائل: 17، الباب 1 من أبواب موانع الإرث، الحديث 14.
2- . صحيح البخاري: 8/11، باب لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم.
3- . المائدة: 51.

أسباب ميراث الورى ثلاثة *** كلّ يفيد ربّه الوراثة

وهي نكاح وولاء ونسب *** ما بعدهن من مواريث سبب(1)

وثانياً: أنّ كون الولاية هي السبب للميراث يخالف ما عليه الحنفية ومن تبعهم من أنّ المسلم يرث المرتدّ مع انقطاع الولاية بين المسلم والمرتدّ.

قال النووي في شرح المهذّب: قال أبو حنيفة والثوري: ما اكتسبه قبل الردّة ورث عنه، وما اكتسب بعد الردّة يكون فيها.(2)7.

ص: 190


1- . المجموع: 17/48.
2- . المجموع: 17/57.

أحكام المواريث

7 ميراث أولاد الأنبياء

تمهيد

ممّا فطر اللّه سبحانه به النوع الإنساني سواء في ذلك الصالح والطالح والنبيّ وغيره إذا لم ينحرف طبعه هو انسياقَه إلى طلب الولد، ويرى أنّ وجود الولد بعده بقاء لنفسه. والشرائع الإلهية لم تبطل هذا الحكم الفطري، ولا ذمّت هذا الدافع الغريزي، بل مدحته وكفى في ذلك قول إبراهيم الخليل عليه السلام: «رَبِّ هَبْ لِي مِنَ اَلصّالِحِينَ»(1) ، وقوله تعالى عن المؤمنين: «هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَ ذُرِّيّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ»(2).

ثم إنّ الرغبة القوية لدى عامّة الناس في أن تنتقل ممتلكاتهم بعد موتهم إلى أولادهم. وبما أنّ الشريعة الإسلامية شريعة الفطرة جعلت الفرائض المالية حسب ما تطلبه الفطرة، وجعلت متملّكات الوالدين لأولادهما من غير فرق بين أولاد الأنبياء وغيرهم، قال تعالى: «يُوصِيكُمُ اَللّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ اَلْأُنْثَيَيْنِ»(3) ، وقال سبحانه: «لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمّا تَرَكَ اَلْوالِدانِ وَ اَلْأَقْرَبُونَ وَ لِلنِّساءِ

ص: 191


1- . الصافات: 100.
2- . الفرقان: 74.
3- . النساء: 11.

نَصِيبٌ مِمّا تَرَكَ اَلْوالِدانِ وَ اَلْأَقْرَبُونَ مِمّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً».(1)

هذا كلّه حول الإطلاق الشامل لأولاد الأنبياء.

وقد ورد في الذكر الحكيم ما يدعم هذا الإطلاق وإليك البيان:

الآية الأُولى
اشارة

قال سبحانه: «قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ اَلْعَظْمُ مِنِّي وَ اِشْتَعَلَ اَلرَّأْسُ شَيْباً وَ لَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا * وَ إِنِّي خِفْتُ اَلْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَ كانَتِ اِمْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَ يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَ اِجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا».(2)

ما هو المراد من الوراثة في قصة زكريا؟

في هذه الآيات الواردة في قصّة زكريا عليه السلام دليلان واضحان على أنّ المراد من الوراثة هي الوراثة المالية لا وراثة النبوّة، ولا وراثة العلم أو ما يشبههما، وأنّه طلب الولد من اللّه لكي يرثه ما يترك من الأُموال، وإليك الدليلين:

الدليل الأوّل: أنّ قوله: «وَ إِنِّي خِفْتُ اَلْمَوالِيَ» ظاهر في أنّه كان هناك أمر يخاف منه، فلو رزق الولد لارتفع خوف زكريا، ولو مات بلا عقب لبقي الخوف على حاله.

فلو أُريد من الخوف خوف الوراثة، فهذا هو الّذي يرتفع مع وجود الولد، إذ

ص: 192


1- . النساء: 7.
2- . مريم: 4-6.

أنّ الموالي حينئذٍ لا يرثونه مع وجود الولد؛ وهذا بخلاف ما لو أُريد من الوراثة وراثة النبوّة أو العلم أو ما يشبهه، فإنّه عندئذٍ لا يخاف لو مات بلا عقب؛ لأنّ النبوّة والعلم ليسا من الأُمور الوراثية، فسواء أكان له ولد أم لا؟ أو صار ذا ولد أم لا؟ فهذا ليس ممّا يخاف منه؛ لأن اللّه سبحانه أعلم حيث يجعل رسالته.

وبعبارة أُخرى: يجب أن نحدّد خوف زكريا بأنّه يرتفع مع وجود الولد ويبقى مع عدمه، وهو ليس إلّاالوراثة المالية حيث لو رزق الولد لورث المال وحرم الموالي، ولو لم يرزق ورثه الموالي وهم غير مرضيين.

وأمّا وراثة النبوّة والعلم فلا خوف عندئذٍ سواء أنجب أم لا؟ لأن اللّه يضع رسالته في مَن له أهلية.

الدليل الثاني: أنّ في كلتا السورتين (آل عمران ومريم) اللّتين تحدّثتا عن الموضوع جاء وصف الولد الموهوب بكونه «رَضِيًّا» كما في المقام أو «ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً» كما في سورة آل عمران، فلو كان طلب الولد لوراثة النبوّة والقيادة الدينية لَكان هذا القيد في الطلب أمراً لغواً، لأنّ الأنبياء كلّهم راضون مرضيّون طاهرون مطهَّرون. وتوهُّم كون التقييد لأجل التأكيد، في غير مورده، إذ لا شكّ في أنّ النبيّ يكون مرضيّاً قطعاً.

كلام للسيد الآلوسي في أنّ الوراثة، هي وراثة العلم

إنّ السيد الآلوسي من المصرّين على أنّ الوراثة ليست وراثة ماليّة، وذكر لتأييد رأيه ثلاثة وجوه:

الأوّل: قال: ممّا يؤيّد حمل الوراثة هنا على وراثة العلم ونحوه دون المال، أنّه ليس في الأنظار العالية والهمم العلياء للنفوس القدسية التي انقطعت من

ص: 193

تعلّقات هذا العالم المتغيّر الفاني واتّصلت بالعالم الباقي، ميل للمتاع الدنيوي قدر جناح بعوضة، لا سيما جناب زكريا عليه السلام فإنّه كان مشهوراً بكمال الانقطاع والتجرّد، فيستحيل عادة أن يخاف من وراثة المال والمتاع الذي ليس له في نظره العالي أدنى قدر، أو يظهر من أجله الكلَف والحزن والخوف، ويستدعي من حضرة الحقّ سبحانه وتعالى ذلك النحو من الاستدعاء، وهو يدلّ على كمال المحبّة وتعلّق القلب بالدنيا.(1)

يلاحظ عليه: بأنّ خوف زكريا من وراثة الأغيار لم يكن لأجل تعلّق نفسه بالمال حتى يقال إنّ الهمم العلياء للنفوس القدسية انقطعت من تعلّقات هذا العالم، وإنّما خوفه أن تقع هذه الأموال التي تأتي إليه يوماً بعد يوم، بيد أشرار الناس فتُصرف في غير محلّها، ولذلك ورد في سيرة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم أنّه كان يصرف ما يقع تحت يده من الغنائم بأسرع وقت. وليس هذا النوع من الخوف دليلاً على التعلّق بالدنيا ومتاعها؛ بل دليل على ورعه وتقواه، وخشيته من أن تُصرف الأموال في غير جهتها الشرعية.

الثاني: أنّ ذلك لا يُخاف منه، إذ الرجل إذا مات وانتقل ماله بالوراثة إلى آخر صار المال مال ذلك الآخر، فصرفه على ذمّته صواباً أو خطأ، ولا مؤاخذة على الميّت من ذلك الصرف، بل لا عتاب أيضاً.(2)

يلاحظ عليه: بأنّ الإنسان المؤمن شديد الحسّاسيّة من أي شرّ أو ظلم أو فساد يظهر في الناس، ويستشعر المسؤولية بتطهير جوّ الحياة منه، فيعمل على استئصاله من جذوره، أو على تجفيف المنابع التي تمدّه بأسباب القوّة والبقاء6.

ص: 194


1- . روح المعاني: 64/16.
2- . روح المعاني: 65/16.

والانتشار. وزكريا عليه السلام إذ خاف من وقوع الأموال، بعد رحيله عن الدنيا، بأيدي الأشرار، فرضَ عليه إيمانه وتقواه واشمئزازه من المنكر وأصحابه، أن يفكّر في أمر المستقبل، وأن يدبّر له بما يحول بين هؤلاء وبين الأموال التي سوف ينفقونها في السُّبُل البعيدة عن مرضاة اللّه تعالى. وعلى هذا فالقول بأنّ المال مالهم والوزر عليهم، قول مَن لم يقف على خصائص النبيّ وعلى ما يحسّه من مسؤولية تجاه ما سوف يملكه الأشرار من الأموال التي بيدهم.

الثالث: بأنّه كان في إمكان زكريا أن يصرف ما يملك قبل موته ويتصدّق به كلّه في سبيل اللّه، ويترك بني عمّه الأشرار خائبين.(1)

أقول: هذا الكلام أغرب من سابقَيه، وهو بمعنى أنّ زكريا كان يعلم بأجله متى يموت، فيتصدّق بماله قبل ذلك بسنة، مثلاً، وقد مرّ أنّ الأموال كانت تجبى إليه وقتاً بعد وقت.

ولعمري إنّ الداعي لنسج هذه الوجوه وصرف الآية عن ظاهرها هو تصحيح ما رواه أبو بكر في هذا المقام: (نحن معاشر الأنبياء لا نُورث) ولولا هذا لما خطر في بال أحد واحدٌ من هذه الوجوه!!

وبما أنّ ابن عاشور التونسي وقف على الحقّ وقوفاً نسبياً، فقد أنصف في المقام وقال: فقوله: «يَرِثُنِي» يعني به وراثة ماله. ويؤيّده ما أخرجه عبد الرزاق عن قتادة عن الحسن [البصريّ] أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم قال: «يرحم اللّه زكريا ما كان عليه من وراثة ماله». والظواهر تؤذن بأنّ الأنبياء كانوا يورَثون، قال تعالى: «وَ وَرِثَ سُلَيْمانُ 6.

ص: 195


1- . روح المعاني: 65/16.

داوُدَ»(1)، وأمّا قول النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم: «نحن معشر الأنبياء لا نورّث ما تركنا صدقة» فإنّما يريد به رسول اللّه نفسه، كما حمله عمر في حديثه مع العباس وعلي في «صحيح البخاري» إذ قال عمر: «يريد رسول اللّه بذلك نفسه» فيكون ذلك من خصوصيات محمد صلى الله عليه و آله و سلم.(2)

أقول: إنّ ابن عاشور وإن اعترف بظهور الآية في الوراثة المالية، لكنّه احتمل أن يكون ما في الرواية من خصائص النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم، ولكن غفل عن أنّ الرواية - على فرض صحّتها - تعدّ وراثة المال من خصائص الأنبياء، لقوله فيها: «نحن معشر الأنبياء» لا من خصائص نبي الإسلام.

فخرجنا بالنتيجة التالية: أنّ زكريا طلب الولد للوراثة وأنّ الأنبياء يورثون كسائر الناس، وإن إطلاقات القرآن الّتي تقدّم بيانها محكمة غير مخصّصة، فإنّ الوارث يرث مطلقاً إلّافي موارد ثلاثة:

1. الكفر، فإنّ الكافر لا يرث من المسلم في عامّة المذاهب: الإمامية وغيرهم.

2. القتل، فإنّ القاتل لا يرث من المقتول.

3. الرقّيّة، فهي مانعة عن الإرث في الوارث والموروث، فإنّه لا يرث الرقّ من الحر، ولا بالعكس، والتفصيل في المصادر الفقهية.

فإذا كان أحد المعايير في تمييز الحديث الصحيح عن الزائف هو موافقة الكتاب ومخالفته، فهذه الآية الدالّة على أنّ زكريا الّذي هو أحد الأنبياء طلب من2.

ص: 196


1- . النمل: 16.
2- . التحرير والتنوير: 11/16-12.

اللّه أن يرزقه ولداً حتّى يرثه، فعندئذٍ فما نسب إلى النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم أنّه قال: «لا نُورّث، ما تركناه صدقة»(1) مخالف للقرآن الكريم.

ثمّ إنّ السيد الآلوسي استدلّ على ما تبنّاه برواية الشيخ الكليني، قال: روى الكليني في «الكافي» عن أبي البختري، عن أبي عبد اللّه جعفر الصادق رضي اللّه عنه أنّه قال: «إنّ العلماء ورثة الأنبياء، وذلك أنّ الأنبياء لم يورّثوا درهماً ولا ديناراً وإنّما ورثوا أحاديث من أحاديثهم، فمَن أخذ بشيءٍ منها فقد أخذ بحظّ وافر».(2)

أقول: إنّ الآلوسي غفل عن مرمى الحديث ومفاده، فالحديث بصدد بيان أنّه ليس من شأن الأنبياء إيراث ورثتهم أموالاً طائلة وكنوزاً مكتنزة، وإنّما شأنهم التبليغ ومسؤوليتهم الإرشاد والتعليم وقد قاموا بها من خلال أحاديثهم.

وأمّا لو فرض أنّ نبيّاً ما، مات وعنده سجّادة أو إبريق أو عنده عباءة وقباء، فهذا لا يورَث؟ فالرواية غير ناظرة إليه.

حرمان أولاد الأنبياء من الميراث على خلاف الفطرة

ومن ميزات أحكام الشريعة الإسلامية أنّها تطابق الفطرة الإسلامية والعقل الحصيف، ولذلك يقول سبحانه: «فِطْرَتَ اَللّهِ اَلَّتِي فَطَرَ اَلنّاسَ عَلَيْها»(3) ولأجل هذا التطابق تبقى الشريعة الإسلامية خالدة مستمرة مادام بنو آدم باقين على سطح الأرض، هذا من جانب.

ص: 197


1- . صحيح البخاري: 4/264، برقم 6727، كتاب الفرائض؛ سنن أبي داود: 568، برقم 2976، كتاب الخراج.
2- . روح المعاني: 64/16.
3- . الروم: 30.

ومن جانب آخر أنّ كلّ إنسان يجد في نفسه رغبة لأن يرث ما تركه من الأموال أولاده وفلذّات كبده وأقاربه لأنّه يراهم استمراراً لوجوده، وقد أقر الإسلام هذا الميل، حيث قال: «يُوصِيكُمُ اَللّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ اَلْأُنْثَيَيْنِ»(1) .

فبملاحظة هذين الأمرين يجب أن يكون حكم الأنبياء كحكم سائر الناس، فالأولى بتركتهم أولادهم وأقاربهم ومن لهم به صلة من حيث القرابة، فإذا قيل:

«نحن معاشر الأنبياء لا نورث»!!؟ يطرأ العجب على هذا الحكم، لماذا؟ أفيهم أحد موانع الإرث من الكفر والإرتداد والقتل؟ قطعاً لا، فلذلك ما لم يكن هناك دليل قاطع متواتر من النبي صلى الله عليه و آله و سلم يرد هذا النحو من الأحكام ردّاً باتّاً.

لو فرضنا أنّ الأنبياء لا يورَثون من غير استثناء، أفليس من واجب النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم أن يذكر ذلك على رؤوس الأشهاد أو لا أقلّ من أن يذكره لأولاده وورثته قبل أن يذكره لأبي بكر، حتى لا يحصل نزاع بينهم بعد وفاته صلى الله عليه و آله و سلم؟! ولذلك نرى أنّ سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء عليها السلام تحتجّ على أبي بكر في حرمانها من الإرث وتخاطبه بقولها: «يا ابن أبي قحافة أفي كتاب اللّه أن ترث أباك ولا أرث أبي؟ لقد جئت شيئاً فرياً؟ أفعلى عَمْد تركتم كتابَ اللّه ونبذتموه وراء ظهوركم، إذ يقول فيما اقتصّ من خبر يحيى بن زكريا عليه السلام: «فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَ يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ» ».(2)

الآية الثانية
اشارة

قال تعالى: «وَ وَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ وَ قالَ يا أَيُّهَا اَلنّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ

ص: 198


1- . النساء: 11.
2- . تفسير نور الثقلين: 324/3.

اَلطَّيْرِ وَ أُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ اَلْفَضْلُ اَلْمُبِينُ»(1).

التفسير

ذكر سبحانه في سورة النمل لسليمان أُموراً:

1. وراثة سليمان أباه داود.

2. علمهما بمنطق الطير.

3. أنّ اللّه أعطاه وأباه من كلّ شيء.

4. تسخير الجنّ والإنس والطير لخدمته.

5. عبوره وادي النمل وسماع كلام النملة.

6. قصته مع الهدهد وملكة سبأ.

نعم جاءت في غير هذه السورة أُمور أُخرى، كتسخير الريح وغير ذلك، فالجميع خارج عمّا هو المقصود في المقام سوى وراثته من داود عليهما السلام.

وراثة سليمان أباه داود

أمّا الأمر الأوّل - أعني: وراثة سليمان لداود - فقد أشار إليه سبحانه بقوله: «وَ وَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ» ، وقد كان داود يتمتّع بأُمور أربعة:

1. العلم.

2. النبوّة.

3. المُلك.

ص: 199


1- . النمل: 16.

4. المال.

أمّا الأوّل: فلم يرثه سليمان من داود؛ وذلك لأنّ العلم غير قابل للإيراث، مضافاً إلى قوله سبحانه: «وَ لَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَ سُلَيْمانَ عِلْماً وَ قالاَ اَلْحَمْدُ لِلّهِ اَلَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ اَلْمُؤْمِنِينَ»(1) ، صرّحت بأنّه سبحانه أفاض عليهما العلم من دون أن يرث أحدهما الآخر.

وأمّا الثاني - أعني: النبوّة - فهي أيضاً غير قابلة للإيراث؛ لأنّها رهن ملَكات وقابليات خاصّة حتّى يختاره اللّه سبحانه للنبوّة، فلو كان فاقداً لها يمتنع أن يكون نبيّاً، ولو كان واجداً لاختاره اللّه للنبوّة من دون حاجة إلى أن يرثها عن الآخر.

وأمّا الثالث - أعني: الملك - فإن أُريد به الإمامة - كما هو الظاهر - المتمثّلة في تدبير أمر الأُمّة دنيوياً وأُخروياً، فهو أيضاً مقام تنصيصي يفاض من اللّه سبحانه، قال تعالى: «وَ إِذِ اِبْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنّاسِ إِماماً قالَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي اَلظّالِمِينَ»(2) ، فليست هي قابلة للإيراث لما ذكر في أمر النبوّة.

ولو فرضنا أنّ المراد بالمُلك هو التدبير بلا تنصيب من اللّه سبحانه فهو قابل للوراثة.

وأمّا الرابع - أعني: المال - فهو من أظهر مصاديق الوراثة، فكلّما أُطلقت الوراثة ينصرف إليه، ولو استعمل في غيره فإنّما هو نوع من التشبيه كما في قوله تعالى: «وَ تِلْكَ اَلْجَنَّةُ اَلَّتِي أُورِثْتُمُوها»(3) ، وعلى هذا فمقتضى إطلاق الآية أنّ 2.

ص: 200


1- . النمل: 15.
2- . البقرة: 124.
3- . الزخرف: 72.

سليمان ورث من داود المال، أو هو مضافاً إلى مقام الملك، ولا وجه لتخصيصه بالملك.

قال السيد الطباطبائي: وأمّا قول بعضهم: المراد به وراثة النبوّة والعلم، ففيه:

أنّ النبوّة لا تقبل الوراثة لعدم قبولها الانتقال، والعلم الذي يختصّ به الأنبياء والرسل كرامة من اللّه لهم، والنبيّ لا يرث علمه من نبيّ آخر ولا من غير نبيّ.(1)

ثمّ إنّ كثيراً من مفسّري مدرسة الخلفاء لمّا تلقّوا ما نُسب إلى النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم من قوله: «لا نُورّث، ما تركناه صدقة»(2)، حديثاً صحيحاً عمدوا إلى تأويل الآية، فيقول الراغب الإصفهاني، مثلاً، في تفسير قوله تعالى: «وَ يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ»(3) فإنّه يعني: وِراثة النبوّة والعلم والفضيلة دون المال، فالمال لا قَدْر له عند الأنبياء حتى يتنافسوا فيه، بل قلّما يقتنون المال ويملكونه.(4)

وتبعه ابن عاشور ففسّر الآية بقوله: فخلفه سليمان فهو وارث ملكه والقائم مقامه في سياسة الأُمّة وظهور الحكمة ونبوءة بني إسرائيل والسمعة العظيمة بينهم، فالإرث هنا مستعمل في معناه المجازي.(5)

ونسأل هؤلاء ومن تبعهم: هل النبوّة أو العلم ممّا يورثان؟ فكيف تقولون:

قام سليمان مقام داود في الحكمة والنبوّة؟!4.

ص: 201


1- . الميزان في تفسير القرآن: 349/15.
2- . صحيح البخاري: 264/4، برقم 6727، كتاب الفرائض؛ سنن أبي داود: 568 برقم 2976، كتاب الخراج والإمارة والفيء.
3- . مريم: 6.
4- . المفردات للراغب: 519، مادة «ورث».
5- . التحرير والتنوير: 19/234.

إنّ الأمر يدور بين تفسير الوراثة بوراثة المُلك وسياسة الأُمّة أو هو مع المال، والوراثة في الثاني أظهر، والقول بالجمع هو المتّبع، فلا دليل على خروج المال من تحت الوراثة.

وأمّا قول الراغب: إنّ المال لا قدر له عند الأنبياء، فهو يناقض قوله سبحانه، الذي يصف فيه المال بالخير: «إِنْ تَرَكَ خَيْراً اَلْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَ اَلْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ».(1) نعم إنّ المال يوصف بالخير إذا كان بيد الصالحين وأنفقوه في وجوه البِرّ والإحسان والمعروف، وبالشرّ إذا كان بيد الطالحين وعملوا به في المعاصي والآثام.

أضف إلى ذلك: أنّ قول سليمان في ذيل آيتنا: «وَ أُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ» أفضل دليل على وراثة ما كان يملكه داود، وإلّا لكان معدماً غير غنيّ، ومعه كيف يقول: «وَ أُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ»؟

ثم إنّ مقتضى إطلاقات الكتاب كما مرّت أنّ الأنبياء يورثون قال تعالى:

«يُوصِيكُمُ اَللّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ اَلْأُنْثَيَيْنِ»(2) فإنّ إطلاقه حجّة ما لم يدلّ دليل قاطع على إخراج الأنبياء من الإطلاق، وليس هناك دليل صالح، فالخبر المذكور خبر واحد لا يخصّص به العموم القرآني.

نعم ربّما يتصوّر أنّ الآيات منسوخة بما نسب إلى النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم أنّه قال بصور ثلاثة:

1. إنّ الأنبياء لا يوّرثون.1.

ص: 202


1- . البقرة: 180.
2- . النساء: 11.

2. إنّ النبي لا يورّث.

3. لا نورّث، ما تركناه صدقة.

والجواب عنه بوجهين:

1. لو صحّت الرواية، فالمراد هو أنّ شأن الأنبياء هو إيراث الإيمان والحكمة والعلم والسنّة لا المال، وهذا غير أنّه إذا ترك حصيراً أو إناء أو سجادة فهو ينتقل إلى الأُمّة لا إلى الأولاد، فإنّ موقف هذه الرواية هو تفكيك شأن الأنبياء عن سائر الملوك وطلّاب الدنيا فهم يتركون الأموال المكدّسة والكنوز الممتلئة، ويدلّ على ذلك ما روي عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم: «نحن معاشر الأنبياء لا نورّث ذهباً ولا فضة ولا أرضاً ولا عقاراً ولا داراً ولكنّا نورّث الإيمان والحكمة والعلم والسنّة».(1)

ويؤيّد هذا المضمون ما رواه الكليني عن أبي عبد اللّه الصادق عليه السلام: «إنّ العلماء ورثة الأنبياء، وذاك أنّ الأنبياء لم يورّثوا درهماً ولا ديناراً وإنّما أَورثوا أحاديث من أحاديثهم...».(2)

كلّ ذلك يرشدنا إلى أنّ مصبّ الروايات هو مصبّ السلب النسبي، وهو تبيين شأن الأنبياء عن غيرهم من أصحاب الدنيا، لا أنّه لا يُورّث مطلقاً حتى ما ملكه من الحوائج الأوّلية التي لا مناص للإنسان منها.

2. انّ قوله: «لا نورث» متوجّه إلى الأُمّة، لا إلى الأولاد بشهادة قوله: «ولكنّا نورّث الإيمان والحكمة والعلم والسنّة» ومن المعلوم أنّ هذه التركة لا تختصّ بالأولاد والأحفاد وإنّما تنتفع منها الأُمّة الإسلامية جمعاء، فتدبّر.م.

ص: 203


1- . شرح نهج البلاغة: 213/16.
2- . الكافي: 32/1، برقم 2، كتاب فضل العلم.

ثمّ إنّ هنا تأمُّلاً واضحاً في صحّة صدور الحديث عن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم، إذ لو كان النبيّ بصدد الإخبار عن أنّ الأنبياء لا يورّثون المال، لأخبر صلى الله عليه و آله و سلم كما مرّ بذلك من يرثه، أعني: ابنته فاطمة عليها السلام، ولَما تركها تبتلي بما ابتليت به في قصة ميراثها من النبي صلى الله عليه و آله و سلم وانصرافها من مجلس أبي بكر مغضبة متظلِّمة، فعدم إخبار بضعته الطاهرة بذلك، وإخبار غيرها، أمر لا ينسجم مع شأن النبوّة.

نقل ابن أبي الحديد عن كتاب السقيفة لأبي بكر الجوهري: إنّ فاطمة والعباس أتيا أبا بكر يلتمسان ميراثهما من رسول اللّه، وهما حينئذٍ يطلبان أرضه بفدك وسهمه بخيبر، فقال لهما أبو بكر: إنّي سمعت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يقول: «لا نورث، ما تركنا صدقة»، إنّما يأكل آل محمد صلى الله عليه و آله و سلم من هذا المال، وإنّي واللّه لا أُغيّر أمراً رأيتُ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يَصنعه إلّاصنعته. قال: فهجرته فاطمة فلم تكلّمه حتى ماتت.(1)

وفي نهاية المثال انّ الحديث على فرض صدوره فيه احتمالان:

1. ما عليه أهل السنّة من انّ الموصول «ما» مبتدأ وصدقة خبره: أي لا نورث، ما ركناه صدقة.

2. الموصول مفعول لقوله: «لا نورّث» وصدقة حال: أي لا نورث ما تركناه صدقة كالزكوات والغنائم فتدبّر.

فدك صودرت وبيوت الأزواج لم تصادر

ثمّ لا شكّ أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم ترك بيوتاً لأزواجه وهي ملك له ولكن بقيت في

ص: 204


1- . شرح نهج البلاغة: 218/16. ورواه البخاري بإسناده عن عروة عن عائشة، لاحظ صحيح البخاري: 264/4، برقم 6725 و 6726.

يد أزواجه دون أن تُصادَر، كما كان عند عليّ سيف رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وخاتمه وبعض ما يختص به، فلم يُطلب ولم يُصادَر، وهذا دليل على أنّ مصادرة فدك كانت ترتبط بقضية سياسية، ولذلك اختلفت سيرة الخلفاء بين ردّها إلى أولاد فاطمة وبين أخذها، يقول ابن أبي الحديد: ولمّا ولي الأمر معاوية بن أبي سفيان أقطع مروان بن الحكم ثلثها، وأقطع عمرو بن عثمان بن عفان ثلثها، وأقطع يزيد بن معاوية ثلثها، وذلك بعد موت الحسن بن علي عليهما السلام، فلم يزالوا يتداولونها حتّى خلصت كلّها لمروان بن الحكم أيام خلافته، فوهبها لعبد العزيز ابنه، فوهبها عبد العزيز لابنه عمر بن عبد العزيز.

فلمّا ولي عمر بن عبد العزيز الخلافة كانت أوّل ظُلامة ردّها، دعا الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام - وقيل: دعا علي بن الحسين عليهما السلام - فردّها إليه، وكانت بيد أولاد فاطمة عليها السلام مدّة ولاية عمر بن عبد العزيز، فلمّا ولي يزيد بن عاتكة قبضها منهم، وكان الأمر على هذا النحو إلى أيام العباسيّين.

رسالة المأمون إلى عامله بالمدينة يردّ فدك إلى أولاد فاطمة

وكان الأمر في عهد العباسيّين مثله أيام الأمويّين، فتارة كانت بيد الحاكم وأُخرى بيد أبناء فاطمة عليها السلام إلى أن جاء عصر المأمون فكتب إلى عامله على المدينة قثم بن جعفر الرسالة التالية:

أمّا بعد؛ فإنّ أمير المؤمنين بمكانة من دين اللّه، وخلافة رسوله صلى الله عليه و آله و سلم والقرابة به أولى من استنّ سنّته، ونفّذ أمره وسلّم لمن منحه منحة وتصدّق عليه بصدقة، منحته وصدقته، وباللّه توفيق أمير المؤمنين وعصمته، وإليه - في العمل بما يقرّبه إليه - رغبته، وقد كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أعطى فاطمة بنت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فدكاً وتصدّق بها عليها، وكان ذلك أمراً ظاهراً معروفاً لا اختلاف فيه بين آل رسول

ص: 205

اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، ولم تزل تدّعي منه ما هو أولى به من صدق عليه.(1)

فرأى أمير المؤمنين أن يردّها إلى ورثتها ويسلّمها إليهم تقرّباً إلى اللّه تعالى بإقامة حقّه وعدله وإلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بتنفيذ أمره وصدقته، فأمر بإثبات ذلك في دواوينه والكتاب به إلى عمّاله، فلأن كان ينادى في كلّ موسم بعد أن قبض اللّه نبيّه صلى الله عليه و آله و سلم أن يذكر كلّ من كانت له صدقة أو هبة أو عدة ذلك فيقبل قوله وينفذ عِدته، أنّ فاطمة رضي اللّه عنها لأولى بأن يصدَّق قولها فيما جعل رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لها. وقد كتب أمير المؤمنين إلى المبارك الطبري مولى أمير المؤمنين يأمره بردّ فدك على ورثة فاطمة بنت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بحدودها وجميع حقوقها المنسوبة إليها وما فيها من الرقيق والغَلّات وغير ذلك وتسليمها إلى محمد بن يحيى بن الحسين بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، ومحمد بن عبد اللّه بن الحسن بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب لتولية أمير المؤمنين إيّاهما القيام بها لأهلها، فاعلم ذلك من رأي أمير المؤمنين وما ألهمه اللّه من طاعته ووفقه له من التقرّب إليه وإلى رسوله صلى الله عليه و آله و سلم واعلمه من قبلك، وعامل محمد بن يحيى ومحمد بن عبد اللّه بما كنت تعامل به المبارك الطبري، وأعنهما على ما فيه عمارتها ومصلحتها ووفور غلّاتها إن شاء اللّه والسلام. وكتب يوم الأربعاء لليلتين خلتا من ذي القعدة سنة عشر ومائتين، فلمّا استخلف المتوكّل على اللّه أمر بردّها إلى ما كانت عليه قبل المأمون.(2)

وبذلك تقف على صحّة ما في خطبة الزهراء عليها السلام حيث كانت تقول: «يا ابن أبي قحافة أفي كتاب اللّه أن ترث أباك ولا أرث أبي؟ لقد جئت شيئاً فريّاً. أفعلى7.

ص: 206


1- . يريد أنّ فاطمة الزهراء عليها السلام لم تزل تدّعي منه ما هو أولى بالتصديق ممّن صدق على خلافه.
2- . فتوح البلدان للبلاذري: 46-47.

عمد تركتم كتاب اللّه فنبذتموه وراء ظهوركم و... وزعمتم أن لا حظوة لي ولا إرث من أبي ولا رحم بيننا؟ أفخصّكم اللّه بآية أخرج أبي منها؟ أم هل تقولون: إنّ أهل ملَّتين لا يتوارثان؟ أو لست أنا وأبي من أهل ملّة واحدة، أم أنتم أعلم بخصوص القرآن وعمومه من أبي وابن عمّي؟ فدونكهما مخطومة مرحولة تلقاك يوم حشرك، فنعمَ الحكم اللّه، والزعيم محمد، والموعد القيامة، وعند الساعة يخسر المبطلون».(1)

وللعالم المصري الشيخ محمود أبوريّة كلمة قيّمة في هذا الموضوع، يقول فيها:

بقي أمر لابدّ من أن نقول فيه كلمة صريحة، ذلك هو موقف أبي بكر من فاطمة بنت الرسول رضي اللّه عنها، وما فعل معها في ميراث أبيها، لأنّنا إذا سلّمنا بأنّ خبر الآحاد الظنّي يخصّص الكتاب القطعيّ، وأنّه قد ثبت أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم قد قال إنّه لا يورّث، وإنّه لا تخصيص في عموم هذا الخبر، فإنّ أبا بكر كان يسعه أن يعطي فاطمة رضي اللّه عنها بعض تركة أبيها كأن يخصّها بفدك، وهذا من حقّه الذي لا يعارضه فيه أحد، إذ يجوز للخليفة أن يخصّ مَن شاء بما شاء، وقد خصّ هو نفسه الزبير بن العوام ومحمد بن مسلمة وغيرهما ببعض متروكات النبيّ، على أنّ فدكاً التي منعها أبو بكر من فاطمة لم تلبث أن أقطعها الخليفة عثمان لمروان.(2)

***

تمّ الكلام في أحكام المواريث7.

ص: 207


1- . شرح نهج البلاغة: 251/16؛ الاحتجاج للطبرسي: 138/1.
2- . مجلة الرسالة المصرية، العدد 518، السنة 11، ص 457.

ص: 208

الفصل الخامس عشر: أحكام القضاء في الذكر الحكيم

اشارة

* القضاء ودوره في استتباب الأمن واستقرار العدل

* القضاء من ضروريات الحياة الاجتماعية

* هل القضاء منصب إلهي؟

* حرمة التحاكم إلى مَن ليس له ولاية القضاء

* احتكام غير المسلم إلى المحاكم الإسلامية

ص: 209

ص: 210

القضاء ودوره في استتباب الأمن واستقرار العدل

تمهيد

تقوم الحكومة الإسلامية على دعائم ثلاث، يلعب كلّ منها دوراً مهمّاً في تشييد معالمها وهي عبارة عن:

1. السلطة التشريعيّة.

2. السلطة التنفيذيّة.

3. السلطة القضائيّة.

فللسلطة التشريعية مراحل نشير إليها على وجه الإيجاز:

أ. مرحلة التشريع: أي سنّ القوانين وجعلها، وهو مختصّ باللّه سبحانه، وليس لأحد حقّ التقنين والتشريع، وهذا ما يعبّر عنه بالتوحيد في التقنين.

والواسطة بين اللّه والناس هو النبي وأوصياؤه الطاهرين.

ب. مرحلة الاستنباط: أي استنباط ما شرّعه اللّه سبحانه في الكتاب والسنّة وغيرهما من مصادر التشريع، ويقوم بتلك المهمة الفقهاء العظام.

ج. مرحلة التخطيط: وهي وظيفة المجلس النيابي الذي يضم نواب الأُمّة من ذوي الاختصاص، وتطرح فيه البرامج المختلفة في مجالات شتّى على ضوء القوانين الإسلامية.

ص: 211

هذا كلّه حول السلطة التشريعية.

وأمّا السلطة التنفيذية فهي التي تأخذ على عاتقها إدارة البلاد بصورة مباشرة دون أن يكون هناك التزام بأُسلوب وصورة خاصة لإدارتها غير كونه موافقاً للشرع، ولأجل ذلك تتبع كلّ ما تجده صالحاً حسب مقتضيات الزمان. فإنّ المطلوب من صاحب الشريعة هو التركيز على لزوم السلطة ومواصفات القائمين عليها، وأمّا أساليب التنفيذ فإنّما تتبع متطلّبات الزمان شريطة أن لا تكون مخالفة لما سنّه الإسلام.

وأمّا السلطة القضائية التي هي موضوع بحثنا في هذا التقديم، فتمثّل مكان الصدارة في استتاب الأمن والنظام، واستقرار العدل، وصيانة الحقوق والحرّيات من التعسّف والتعدّي، وبذلك يسود التوازن والقسط والعدل ربوع ذلك المجتمع.

ويكفي في الإشارة إلى منزلة القضاء الرفيعة أنّه من شؤون الأنبياء، كما نلاحظه في قوله سبحانه: «يا داوُدُ إِنّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي اَلْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ اَلنّاسِ بِالْحَقِّ وَ لا تَتَّبِعِ اَلْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اَللّهِ».(1)

وكان الأنبياء يصدرون في فصل الخصومات عن الكتب السماوية دون أن يتعدّوها قيد شعرة، قال سبحانه: «إِنّا أَنْزَلْنَا اَلتَّوْراةَ فِيها هُدىً وَ نُورٌ يَحْكُمُ بِهَا اَلنَّبِيُّونَ اَلَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا».(2)

ويخاطب اللّه سبحانه نبيّه الخاتم بقوله: «وَ أَنِ اُحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اَللّهُ وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَ اِحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اَللّهُ إِلَيْكَ».(3)9.

ص: 212


1- . ص: 26.
2- . المائدة: 44.
3- . المائدة: 49.

هذه هي مكانة القضاء وهؤلاء هم القضاة (الأنبياء) وهذه برامجهم، فليس للقاضي القضاء طبقاً للقوانين الوضعية التي لا تمتُّ إلى أحكام السماء بصلة، ولا القضاء بالهوى، وقد نوّه سبحانه إلى ذينك الأمرين بقوله: «فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اَللّهُ وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمّا جاءَكَ مِنَ اَلْحَقِّ».(1)

القضاء من ضروريات الحياة الاجتماعية

اشارة

الحياة الفردية لا تثير أي اختلاف ونزاع بين الشخصين حتى يحتاج إلى القضاء وفصل الخصومة، بخلاف الحياة الاجتماعية فإنّ الاختلاف فيها وافر، نابع من جهات عديدة فتثير التزاحم والتصادم في الحقوق والأموال، إمّا طمعاً في حقوق الآخرين وأموالهم، أو جهلاً بالحكم والوظيفة واعتقاداً بملكيّة ما ليس يملكه أو بحقّ ليس يستحقّه، فلا مناص من وجود قوّة قضائية وسلطة نافذة فاصلة للخصومات، محلّة للعُقد، ببنان العدل و الإنصاف وفي ضوء القانون النازل من اللّه سبحانه، وإلى ذلك تشير الآيات الواردة في سورة المائدة من الآية الثانية والأربعين إلى الآية الخمسين.

إذا عرفت ذلك فلندرس الآيات التي يمكن أن تكون سنداً للقضاء ودليلاً على الاستنباط.

الآية الأُولى
اشارة

قال سبحانه: «يا داوُدُ إِنّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي اَلْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ اَلنّاسِ بِالْحَقِّ وَ لا تَتَّبِعِ اَلْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اَللّهِ إِنَّ اَلَّذِينَ

ص: 213


1- . المائدة: 48.

يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اَللّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ اَلْحِسابِ».(1)

التفسير
تكريم النبي داود بأمرين كبيرين

دلّ قوله سبحانه في حقّ داود: «وَ شَدَدْنا مُلْكَهُ» أي قوّينا ملكه بالحرس والجنود وكثرة العدد والعدّة «وَ آتَيْناهُ اَلْحِكْمَةَ وَ فَصْلَ اَلْخِطابِ»(2) : أي تمتّع بفضل من اللّه سبحانه بالنعمتين الكبيرتين: الحكمة وفصل الخطاب، فصار ذلك سبباً للخطابات الثلاثة؛ لأنّ لكلّ نعمة شكراً، وتزويده بالحكمة وفصل الخطاب لا يقتضي ذلك، وإليك الخطابات:

1. جعله خليفة في الأرض كما قال: «يا داوُدُ إِنّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي اَلْأَرْضِ» والخليفة هو من يخلف غيره ويقوم مقامه، والذي يمكن أن يقال: إنّه سبحانه خوّله أمر تدبير المجتمع وإدارة شؤونه في إطار الأحكام والضوابط التي جاء بها الدين.

2. «فَاحْكُمْ بَيْنَ اَلنّاسِ بِالْحَقِّ» فهو يدلّ على أنّ أساس القضاء هو العدل والحقّ، سواء اكتسب تأييد الناس أم لا، وبهذا يفترق عن مبنى القضاء في البلاد الغربية.

3. «وَ لا تَتَّبِعِ اَلْهَوى» لأنّ اتّباع الهوى يسبّب العدول عن الحقّ والانحراف عن العدل، وقد تقدّم أنّ الأمرين هما الأساس للقضاء.

ص: 214


1- . ص: 26.
2- . ص: 20.

ثمّ إنّه سبحانه يبيّن وجه النهي عن اتّباع الهوى ويقول: «فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اَللّهِ» . كما أنّه سبحانه يهدّد كل مَن يضلّ عن سبيل اللّه بالعذاب الشديد ويقول: «إِنَّ اَلَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اَللّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ» إنّما الكلام فيما هو المبدأ للانحراف عن سبيل اللّه، وهذا ما بيّنه قوله تعالى في آخر الآية: «بِما نَسُوا يَوْمَ اَلْحِسابِ» فنسيان الآخرة ونسيان يوم الحساب - وأنّ كلّ إنسان مجزيٌّ بعمله إن خيراً فخير وإن شرّاً فشر - يجعل القاضي مطلق العنان يحكم بما يمليه عليه هواه ومصالحه، بخلاف المعتقد بدار الجزاء، فإنّه يكون عادلاً، عاملاً بأُصول الشرع، موضوعياً في أحكامه.

هل القضاء منصب إلهي؟

ثمّ إنّه يقع الكلام في أنّ القضاء هل هو منصب إلهي لا يتصدّى له إلّا المأذون من اللّه سبحانه، أو منصب اجتماعي يمكن فيه انتخاب الأفضل والأنسب للقضاء وفقاً للشريعة؟ والظاهر هو الأوّل، لوجهين:

الأوّل: أنّ القضاء لا ينفكّ عن التصرّف في الأموال والأنفس والأعراض، ومن المعلوم فإنّ الأصل عدم ولاية أحد على أحد إلّااللّه سبحانه، فلا يكون أي حكم من الأحكام، ولو كان على وفق الشريعة، نافذاً إلّابإذن من اللّه سبحانه، حتى يكون القتل و الطلاق والتصرّف في الأموال بإذن من اللّه سبحانه.

الثاني: أنّ السرّ في نفوذ قضاء داود هو كونه خليفة من اللّه، فلولا الخلافة لما جاز هذا الأمر الخطير، وأنّه هو السبب في نفوذ حكمه، وعلى هذا يجب أن يكون القاضي مأذوناً ممّن له الخلافة، إما مباشرة (كالأنبياء والرسل، والمعصومين من أهل بيت النبي) أو غير مباشرة كالمأذون من قبلهم، ولذلك يقول الإمام

ص: 215

علي عليه السلام: «يا شريح قد جلست مجلساً لا يجلسه إلّانبيّ أو وصي نبي أو شقيّ».(1)

والقدر المتيقّن من المأذون هو المجتهد المطلق الجامع للشرائط حسب ما أفادته مقبولة عمر بن حنظلة، والتفصيل في محلّه.

الآيتان الثانية والثالثة
اشارة

قال سبحانه: «وَ داوُدَ وَ سُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي اَلْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ اَلْقَوْمِ وَ كُنّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ * فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَ كُلاًّ آتَيْنا حُكْماً وَ عِلْماً وَ سَخَّرْنا مَعَ داوُدَ اَلْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَ اَلطَّيْرَ وَ كُنّا فاعِلِينَ».(2)

المفردات

نفشت: النفش: رعي الماشية في الليل بلا راع. شاهدين: حاضرين.

التفسير

لمّا ذكر سبحانه أنّه جعل النبي داود خليفة في الأرض ليحكم بين الناس، جاءت آيتنا هذه تذكر شيئاً من قضائه، لكن الآية أجملت كيفية حكم الوالد والولد، وإنّما تذكر قصّة الحكم في مسألة الحرث بشكل موجز، وقال: «وَ داوُدَ وَ سُلَيْمانَ» : أي آتينا داود وسليمان حكماً وعلماً «إِذْ يَحْكُمانِ فِي اَلْحَرْثِ» : أي

ص: 216


1- . الوسائل: 18، الباب 3 من أبواب صفات القاضي، الحديث 2.
2- . الأنبياء: 78-79.

في الزرع «إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ اَلْقَوْمِ» : أي في الوقت الذي تفرّقت فيه (يعني في الزرع) غنم القوم ليلاً حتى أفسدته «وَ كُنّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ» : أي حاضرين، فلا يغيب عن علمنا شيء منه. هذا وقد ذُكرت القصة بصورة موجزة، وأمّا ما هو موضع الحكومة وما كان حكمهما فقد سكت عنه البيان القرآني. نعم يظهر من الآية التالية أنّ حكم سليمان عليه السلام في هذه المسألة كان بتفهيم من اللّه سبحانه.

ثمّ إنّ قوله سبحانه: «فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ» : أي علّمناه الحكم في ذلك «وَ كُلاًّ آتَيْنا حُكْماً وَ عِلْماً» : أي الحكمة وعلم الشريعة.

والقرآن الكريم - كما ترى - لم يتناول قضية الحرث بتفصيل، ولم يُشر إلى ما قضى به سليمان وداود عليهما السلام فيها، وإنّما تناولت ذلك الروايات، وخلاصتها:

أقبل رجلان، أحدهما صاحب زرع، والآخر صاحب غنم، إلى داود عليه السلام للتقاضي عنده، فقال الأوّل: إنّ غنم هذا قد نفشت في زرعي(1)، أي رعته ليلاً، فلم تُبقِ منه شيئاً، فحَكَم داود عليه السلام - بعد أن ثبت له ذلك - لصاحب الزرع أن يأخذ غنم خصمه عِوضَ ما أفسدته من زرع.

فلمّا علم سليمان، قال لأبيه: الحُكم أن يأخذ صاحبُ الزرع الغنمَ، وصاحب الغنم الأرضَ، فينتفع بها الأوّل، ويتعهّدها الثاني إلى أن ينمو الزرع ويصبح كما كان، ثم يردّ كلٌّ منهما إلى خصمه ما تحت يده، فأقرَّ داود عليه السلام حكم ولده، الذي ألهمه اللّه تعالى وجهاً آخر في القضاء، كما يقول: «فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ».(2)

إنّ قوله تعالى: «وَ كُلاًّ آتَيْنا حُكْماً وَ عِلْماً» يدلّ على أنّ ما قضيا به كان قضاءً 5.

ص: 217


1- . كان الزرع كرماً قد بدت عناقيده كما في مجمع البيان والروايات. لاحظ: الميزان في تفسيرالقرآن: 318/24.
2- . التفسير الكاشف: 291/5.

صحيحاً جابراً للضرر من طريقين. وكان قضاء داود حقّاً لأنّه مستند إلى تحميل المُتسبِّبين في إهمال الغنم مسؤولية ما لحق بالزرع من ضرر، وإلزامهم بدفع الغرامة، كما أنّ حكم سليمان كان حقّاً، لأنّه مستند إلى إعطاء الحقّ لذويه مع إرفاق، فهو يشبه الصلح.

وبتعبير آخر: إنّ الضرر الوارد على أصحاب الحرث يساوي قيمة الغنم الّتي تفرّقت في الزرع وأتلفته، وعلى هذا الأساس قضى داود قضاءً باتّاً، وأمّا حكم سليمان فإنّما كان مبنياً على أساس أنّ فوائد الغنم في سنة كاملة تساوي ما تضرّر به أصحاب الحرث، فلو أخذوا الغنم واستفادوا من ألبانها وأصوافها لمدة سنة، فإنّه يساوي الضرر الوارد عليهم. مضافاً إلى تعهد صاحب الغنم على أن يسعى في نموّ الزرع ويصح كما كان.

والفرق بين القضاءين أنّ أصحاب الحرث في قضاء داود يملكون الأصل (الغنم)، وبالتَّبَع يملكون منافعه، فيكون القضاء قضاءً باتّاً غير تدريجي، بخلاف ما قضى به سليمان فالأصل يبقى على ملك أصحاب الغنم، وإنّما تنقل المنافع إلى أصحاب الحرث، فيكون جبر الخسارة برفق ولين وبصورة تدريجية.

الأمر دائر بين الصواب والأصوب

يقول الفاضل المقداد: ظاهر الكلام أنّ الحكمين صوابان لقوله تعالى:

«وَ كُلاًّ آتَيْنا حُكْماً وَ عِلْماً» مع أنّ بينهما منافاة، والصواب لا يكون في المتنافيين.

والجواب: المنع من المنافاة، لجواز أن تكون قيمة الغنم بقدر ما فات من الحرث، ولذلك حكم بتسليم الغنم إذ لا يجب عليه الصبر فيكون حكمه صواباً.

لكن حكم سليمان كان أصوب لأنّه راعى مصلحة الجانبين، والصبر وإن لم يكن

ص: 218

واجباً لكنّه ندبٌ من قسم التفضّل، فلا منافاة كما لا منافاة بين المصلحة والأصلح، والفصيح والأفصح.

***

الآية الرابعة
اشارة

قال سبحانه: «أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى اَلطّاغُوتِ وَ قَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَ يُرِيدُ اَلشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً».(1)

المفردات

يزعمون: الزعم: حكاية قول يكون مظنّة للكذب، ولهذا جاء في القرآن في كلّ موضع ذُمّ القائلون به.(2)

الطاغوت: مبالغة في الطغيان، الذي هو مصدر لفعل طغى، وربما يستعمل في الفاعل الطاغي تجوّزاً وقد صار حقيقة، وأُريد في المقام هو الثاني.

التفسير
حرمة التحاكم إلى مَن ليس له ولاية القضاء

قد تقدّم أنّ القضاء منصب إلهي لا يتصدّى له إلّاالمأذون من اللّه سبحانه

ص: 219


1- . النساء: 60.
2- . المفردات للراغب: 213، مادة «زعم».

مباشرة أو بالواسطة، فالرجوع إلى غير المأذون، على خلاف ما قضى به العقل والشريعة.

والآية تحكي أنّ جماعة من المتظاهرين بالإيمان حاولوا التحاكم إلى الطاغوت بدل أن يتحاكموا إلى الرسول وهو المأذون من اللّه.

فالآية تذكر ذلك باستنكار وتقول: «أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا» بأمرين:

1. «بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ».

2. «وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ».

ومع ذلك «يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى اَلطّاغُوتِ» إلى مظهر الطغيان، ولعلّ التعبير بالزعم دليل على أنّه لم يؤمن بالأمرين جدّاً، وإنّما تظاهر به فيكون منافقاً.

ثمّ إنّ مَن تُحاكم عنده إمّا كان يهودياً أو كاهناً، وكلاهما من مظاهر الطغيان «وَ قَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ» : أي أُمروا بالاجتناب، قال سبحانه: «وَ لَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اُعْبُدُوا اَللّهَ وَ اِجْتَنِبُوا اَلطّاغُوتَ»(1) فهؤلاء أو هذا الشخص عمله يناقض قوله. ثمّ إنّ الشيطان يُمدّهم أو يدعوهم أو يزيّن لهم عملهم كما قال: «وَ يُرِيدُ اَلشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ» حتى يضلّوا عن الحقّ «ضَلالاً بَعِيداً».

فإذا كان التحاكم إلى الطاغوت ضلالاً بعيداً يكون اجتنابه هداية، قال سبحانه: «وَ اَلَّذِينَ اِجْتَنَبُوا اَلطّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وَ أَنابُوا إِلَى اَللّهِ لَهُمُ اَلْبُشْرى».(2)7.

ص: 220


1- . النحل: 36.
2- . الزمر: 17.

وقد روى الطبرسي في شأن نزول هذه الآية - عن أكثر المفسّرين - قال:

كان بين رجل من اليهود ورجل من المنافقين خصومة، فقال اليهودي: أحاكم إلى محمد، لأنّه علم أنّه لا يقبل الرشوة، ولا يجور في الحكم. فقال المنافق:

لا بل بيني وبينك كعب بن الأشرف، لأنّه علم أنّه يأخذ الرشوة، فنزلت الآية.(1)

روى عمر بن حنظلة، قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث، فتحاكما إلى السلطان أو إلى القضاة، أيحلّ ذلك؟ فقال: «مَن تحاكم إليهم في حقّ أو باطل، فإنّما تحاكم إلى طاغوت، وما يحكم له فإنّما يأخذ سحتاً وإن كان حقّه ثابتاً، لأنّه أخذه بحكم الطاغوت، وقد أمر اللّه أن يكفر به، قال اللّه تعالى: «يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى اَلطّاغُوتِ وَ قَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ».(2)

الآية الخامسة
اشارة

قوله سبحانه: «وَ لا تَرْكَنُوا إِلَى اَلَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ اَلنّارُ وَ ما لَكُمْ مِنْ دُونِ اَللّهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ».(3)

المفردات

تركنوا: يقال: ركن إليه: مال وسكن ووثّق به.

ص: 221


1- . مجمع البيان: 135/3.
2- . الوسائل: 18، الباب 1 من أبواب صفات القاضي، وما يجوز أن يقضي به، الحديث 4.
3- . هود: 113.
التفسير

الإحتكام إلى الطاغوت سكون ووثوق بقوله وفعله، وقد نُهي عنه، فلا يجوز للمسلم أن يتحاكم إلى غير القاضي العدل. هذا وإنّ الحرمة مختصّة بما إذا أمكن الرجوع إلى القاضي الحقّ واسترداد ما يستحقّ.

فلو توقّف تحصيل الحقّ على الرجوع إلى الطاغوت لامتناع خصمه عن الرجوع إلى القاضي الحقّ، جاز، فيكون المقام من قبيل الاستعانة بالظالم على تحصيل الحقّ المتوقّف على ذلك، ويتوجّه الإثم على الخصم، يقول الشهيد الثاني: ويستثنى منه ما لو توقّف حصول حقّه عليه، فيجوز كما تجوز الاستعانة على تحصيل الحقّ بغير القاضي، والنهي في هذه الأخبار وغيرها محمول على الترافع إليهم اختياراً مع إمكان الغرض بأهل الحقّ، وقد صرّح به في خبر أبي بصير الماضي.(1)

الآية السادسة
اشارة

قال سبحانه: «سَمّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَ إِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَ إِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اَللّهَ يُحِبُّ اَلْمُقْسِطِينَ».(2)

ص: 222


1- . مسالك الأفهام: 335/13.
2- . المائدة: 42.
المفردات

أكّالون: صيغة مبالغة، أي أخّاذون للسحت.

السحت: أُريد به الحرام، المتحقّق في المقام بالربا والرشوة وأكل مال اليتيم، ويحتمل أن يُراد في المقام خصوص الرشوة.

التفسير
احتكام غير المسلم إلى المحاكم الإسلامية

إذا تخاصم ذمّيان سواء كانا من ملّة واحدة، كأهل التوراة، أم من ملّتين كأهل التوراة والإنجيل، فما هو الواجب على القاضي المسلم عند رجوعهما إليه؟

المعروف أنّ القاضي مخيّر بين القضاء والترك، قال الشيخ: إذا تحاكم ذمّيان إلينا، كنّا مخيّرين بين الحكم بما يقتضيه شرع الإسلام، وبين ردّهم إلى أهل ملّتهم.

وللشافعي فيه قولان: أحدهما ما قلناه، وهو أصحّهما عندهم. والآخر: يجب عليه أن يحكم بينهما، وهو اختيار المزني.(1) ويدلّ على القول الأوّل ما تلوناه من الآية.

روى المحدّثون أنّ امرأة من خيبر ذات شرف بينهم زنت مع رجل من أشرافهم وهما محصنان فكرهوا رجمهما، فسألوا النبي صلى الله عليه و آله و سلم عن طريق يهود المدينة عن حدّهما؟ فقال الرسول صلى الله عليه و آله و سلم: هل ترضون بقضائي في ذلك؟ قالوا:

نعم، فنزل جبرئيل بالرجم، فأخبرهم بذلك فأبوا أن يأخذوا به.

إذا عرفت ذلك فلندخل في تفسير الآية.

ص: 223


1- . الخلاف: 336/4، المسألة 116.

الآية تصف رؤساء اليهود بوصفين:

1. «سَمّاعُونَ لِلْكَذِبِ» : أي كثيرو السمع لكلام النبي لغاية تكذيبه، أو كثيرو السمع لما يعلمون أنّه كذب.

2. «أَكّالُونَ لِلسُّحْتِ» : أي الرشوة.

قوله تعالى: «فَإِنْ جاؤُكَ» : أي للاستفتاء عن حكم المحصن فاحكم بينهم أو أعرض عنهم أي فأنت مخيّر بين الحكم والإعراض، والظاهر أنّه ليس من خصائص النبي صلى الله عليه و آله و سلم فلو تحاكم إلينا ذمّيان كان الحاكم مخيّراً بين الحكم عليهما بحكم الإسلام وبين الإعراض عنهما.

ثمّ إنّه سبحانه يثبّت قلب النبي بقوله: «وَ إِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً» لأنّك تحت عنايتنا. وعلى كلّ تقدير «وَ إِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اَللّهَ يُحِبُّ اَلْمُقْسِطِينَ».

فالتخيير هو المتعيّن عند الإمامية، لكنّ المحكي عن الشافعي في أحد قوليه والمزني، إيجاب الحكم بينهم.(1) مستدلّين بالآية التالية:

«وَ أَنِ اُحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اَللّهُ وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَ اِحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اَللّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اَللّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَ إِنَّ كَثِيراً مِنَ اَلنّاسِ لَفاسِقُونَ».(2)

حيث استظهرا من قوله سبحانه: «وَ أَنِ اُحْكُمْ بَيْنَهُمْ» لزوم الحكم.

يلاحظ عليه: أنّه لا منافاة بين الآيتين، فإنّ الآية الثانية تبيّن كيفية الحكم9.

ص: 224


1- . لاحظ: جواهر الكلام: 318/21-319.
2- . المائدة: 49.

وأنّه لو اختار أحد الشقّين أي الحكم، وجب أن يحكم بما أنزل اللّه، لا أنّه يجب عليه أن يحكم.

قال المحقّق: إذا فعل أهل الذمّة ما هو سائغ في شرعهم، وليس بسائغ في الإسلام، لم يُتعرضوا، وإن تجاهروا به عُمِل بهم ما تقتضيه الجناية، بموجب شرع الإسلام، وإن فعلوا ما ليس بسائغ في شرعهم، كالزنا واللواط، فالحكم فيه كما في المسلم. وإن شاء الحاكم دَفَعَهُ إلى أهل نحلته، ليقيموا عليه الحدّ فيه، بمقتضى شرعهم.(1)

وممّا يلفت النظر أنّه سبحانه يؤكّد في كثير من الآيات على أنّ أساس القضاء يجب أن يكون ما هو الحقّ أي ما أنزل اللّه على النبي صلى الله عليه و آله و سلم في محكم آياته، وإليك نصّ هذه الآيات:

1. قال تعالى: «إِنّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ اَلْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ اَلنّاسِ بِما أَراكَ اَللّهُ وَ لا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً»(2).

2. قال تعالى: «وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اَللّهُ فَأُولئِكَ هُمُ اَلْكافِرُونَ».(3)

3. قال تعالى: «وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اَللّهُ فَأُولئِكَ هُمُ اَلظّالِمُونَ».(4)

4. قال تعالى: «وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اَللّهُ فَأُولئِكَ هُمُ اَلْفاسِقُونَ».(5)

أمّا وصفهم بالكفر فلأنّهم رغبوا عن أحكام اللّه وفقاً لهواهم أو لأجل أخذ7.

ص: 225


1- . شرائع الإسلام: 334/1، في لواحق أهل الذمّة.
2- . النساء: 105.
3- . المائدة: 44.
4- . المائدة: 45.
5- . المائدة: 47.

الرُّشا، فكفروا بكتاب اللّه المنزل وآياته.

وأمّا وصفهم بالظلم فلأنّ القضاء على وفق الهوى وعلى أساس الرشوة يسبّب هضم حقوق الآخرين، فيكون القاضي وفق الرشوة، ظالماً.

وأمّا وصفهم بالفسق فلأنّهم خارجون عن طاعة اللّه سبحانه، والفاسق هو من خرج عن طاعة اللّه عزّ وجلّ.

تمّت دراسة آيات أحكام القضاء

***

ص: 226

الفصل السادس عشر: أحكام الشهادات في الذكر الحكيم

اشارة

تمهيد

1. شهادة المرأتين تعادل شهادة رجل واحد.

2. الأمر بالقسط والشهادة للّه.

3. شهادة الولد على والده.

ص: 227

ص: 228

أحكام الشهادات في الذكر الحكيم

تمهيد

الشهادة اسم من المشاهدة، وهي الاطّلاع على الشيء عياناً، يقال: شهدت الشيء: اطّلعت عليه وعاينته فأنا شاهد، والجمع: أشهاد وشهود.

ومنه قوله سبحانه: «فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ اَلشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ»(1) وكأنّ المقيم يعاين الشهر، فيجب عليه الصوم، بخلاف المسافر.

وأمّا في الاصطلاح فقد عرّفها الشهيد بقوله: إخبار جازم عن حقٍّ لازم للغير واقع من غير حاكم.(2)

وقال أيضاً: الشهادة والرواية تشتركان في الجزم وينفردان في أنّ المخبر عنه إن كان أمراً عامّاً لا يختصّ بمعيّن فهو الرواية كقوله عليه السلام: «لا شفعة فيما لا يُقسم» فإنّه شامل لجميع الخلق إلى يوم القيامة، وإن كان لمعيّن فهو الشهادة كقوله عند الحاكم أشهد بكذا لفلان.(3)

ثمّ إنّه يشترط في حجّية شهادة الشاهد أُمور:

1. البلوغ. 2. كمال العقل. 3. الإسلام. 4. الإيمان 5. العدالة.

ص: 229


1- . البقرة: 185.
2- . القواعد والفوائد: 247/1، القاعدة 114.
3- . نفس المصدر يلاحظ.

قلنا: إنّه يعتبر الإسلام والإيمان والعدالة، فلا يحتجّ بقول شاهد يفقد هذه الأوصاف الثلاثة أو واحداً منه، خرج منه صورة واحدة، وهو أنّه إذا حضر الموت وأحسّ الإنسان بموته قريباً ولم يجد مسلماً مؤمناً عادلاً لأن يوصيه، فيجوز الإيصاء للكافر ويكون قوله حجّة وشهادته مقبولة، وهذا هو الذي درسناه في باب الوصية في قوله تعالى: «يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ اَلْمَوْتُ حِينَ اَلْوَصِيَّةِ اِثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي اَلْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ اَلْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ اَلصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللّهِ إِنِ اِرْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَ لَوْ كانَ ذا قُرْبى وَ لا نَكْتُمُ شَهادَةَ اَللّهِ إِنّا إِذاً لَمِنَ اَلْآثِمِينَ»(1) ، فلا نعود إليه.

ثمّ إنّ الداعي إلى تجديد البحث هو ما ورد في الآية التي بعدها وهو أنّه إذا تبيّن ودلّت القرائن على كذب هؤلاء الشهود، فعندئذٍ يجوز للوارث أن يحتجّ عليهم بما ورد في الآية التالية.

الآية الأُولى

اشارة

قال سبحانه: «فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اِسْتَحَقّا إِثْماً فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ اَلَّذِينَ اِسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ اَلْأَوْلَيانِ فَيُقْسِمانِ بِاللّهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَ مَا اِعْتَدَيْنا إِنّا إِذاً لَمِنَ اَلظّالِمِينَ».(2)

المفردات

ص: 230


1- . المائدة: 106.
2- . المائدة: 107.

عُثر: عثر الرجل على شيء إذا اطّلع على أمر لم يطّلع عليه غيره.

استحقّا: الاستحقاق الاستيجاب، يقال: استحق عليه كأنّه ملك عليه حقّاً.

ما اعتدينا: ما جاوزنا الحقّ فيما طلبناه.

التفسير
اشارة

تفسير الآية رهن بيان أُمور:

1. الآية من الآيات المشكلة حسب اعتراف المفسّرين

نقل الآلوسي عن الشهاب أنّه قال: ليس في القرآن أعظم إشكالاً وحكماً وإعراباً وتفسيراً من هذه الآية والتي قبلها يعني: «يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا...» * إلخ، وقوله تعالى: «فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا» حتّى صنّفوا فيها تصانيف مفردة، قالوا: ومع ذلك لم يخرج أحدٌ من عهدتها.(1)

أقول: إنّ الصعوبة في الآية الثانية لا الأُولى، وقد مرّ تفسيرها.

ونقل الطبرسي عن الزجّاج أنّ قوله: «فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا» من أصعب ما في القرآن من الإعراب.(2) ثم قال: «وهذه الآية مع الآية التي قبلها من أعوص آيات القرآن إعراباً ومعنى وحكماً، ولست تجدهما في شيء من مظانّهما أوفر فائدة، وأغزر عائدة، وأجمع علماً، وأوجز لفظاً ومعنى، ممّا لخّصته لك، وسقته إليك وباللّه التوفيق».(3) غير أنّ الآلوسي بخس حقّ الطبرسي، وقال: وافتخر بما

ص: 231


1- . روح المعاني: 68/7.
2- . مجمع البيان: 516/3.
3- . مجمع البيان: 521/3.

أتى فيهما ولم يأت بشيء.(1) واللّه الحاكم.

نعم اعترف الرازي بصعوبة الآية في تفسيره،(2) ونقل عن عمر بن الخطاب أنّه قال: هذه الآية أعضل ما في هذه السورة من الحكم.

وقال السيد الطباطبائي: وقد ذكر المفسّرون في تركيب أجزاء الآية وجوهاً كثيرة جدّاً لو ضرب بعضها في بعض للحصول على معنى تمام الآية ارتقت إلى مئين من الصور.(3)

2. وجه كون الآية من أعوص الآيات

إنّ اختلاف القرّاء في موردين سبب ذلك، وإليك بيان الموردين:

1. «اِسْتَحَقَّ» استحقّ، فقرئ تارة بصيغة المعلوم، كما هي قراءة الجمهور.

وأُخرى بصيغة المجهول.

2. «اَلْأَوْلَيانِ» ، فتارة قرئ تثنية ل (الأوْلى) الذي هو (أفعل التفضيل) فيكون المراد الأولى بالميّت، وأُخرى قرئ بصورة كونه تثنية للأُولى مقابل الثانية.

3. إعراب الآية

أ. قوله: «فَآخَرانِ» مبتدأ خبره «يَقُومانِ مَقامَهُما» ووجه دخول الفاء على المبتدأ لأنّ الجملة جزائية وهي إحدى مسوّغات الابتداء بالنكرة.

ب. «مِنَ اَلَّذِينَ اِسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ» بيان لقوله: «فَآخَرانِ» جاء بعد الخبر،

ص: 232


1- . روح المعاني: 53/7.
2- . لاحظ: تفسير الرازي: 121/12.
3- . الميزان في تفسير القرآن: 198/6.

أعني: «يَقُومانِ مَقامَهُما».

ج. أُريد من الموصول: «اَلَّذِينَ» : أقرباء الميّت.

د. قوله: «اَلْأَوْلَيانِ» فإن كان مأخوذاً من «الأولى» صيغة التفضيل يكون بدلاً من آخران.

كلّ ما ذكرنا من الإعراب على أساس قراءة «اِسْتَحَقَّ» بصيغة المعلوم، التي هي القراءة المشهورة وكون الأولى بصيغة أفعل التفضيل.

وأمّا على القراءة الأُخرى فيتغير تفسير اعراف الآية ويعلم ذلك في التفسير.

4. مضمون الآية

الآية تشير إلى صورة تبيّن كذب الشاهدين وأنّهما لم يؤدّيا تمام التركة، وقد ورد في شأن النزول أنّه كان مع المتوفّى جام من فضّة مخوص بالذهب ولم يكن فيما دفعوا من تركته، فأحلفهما رسول اللّه باللّه: ما كتمتماها ولا اطّلعتما. ثم وجدوا الجام بمكّة. فقيل اشتريناه من تميم وعدي، وعند ذلك يقوم رجلان من ورثة المتوفّى يقسمان باللّه وانّ شهادتهما أحقّ من شهادة ا لسابقين، أي نحن على حقّ وهما على باطل.

إذا عرفت ذلك فلندخل في تفسير الآية.

فنقول: نفسّر الآية أوّلاً فيما لو كان الفعل «اِسْتَحَقَّ» بصيغة المعلوم و «اَلْأَوْلَيانِ» تثنية «الأولى» صيغة التفضيل كما هي قراءة المصاحف الموجودة.

ثمّ تفسّر الآية على الوجه الآخر وهو قراءة الفعل «اِسْتَحَقَّ» على صيغة المجهول، وقراءة «اَلْأَوْلَيانِ» تثنية للأولى، وإليك بيان الوجهين:

وقبل بيان الوجهين نشير إلى أنّ محلّ الإبهام هو قوله: «اِسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ

ص: 233

اَلْأَوْلَيانِ»، وأمّا سائر الفقرات فليس فيه إبهام.

قوله تعالى: «فَإِنْ عُثِرَ» : أي اطّلع «عَلى أَنَّهُمَا» : أي الشاهدين «اِسْتَحَقّا» اكتسبا «إِثْماً» : أي ذنباً بأيمانهما الكاذبة، فعندئذٍ يأتي دور الورثة الذين أظهروا كذب الشاهدين، وهذا ما تتكفّل ببيانه الفقرة التالية.

قوله: «فَآخَرانِ» فشاهدان آخران «يَقُومانِ مَقامَهُما» : أي مقام الأوّلين «مِنَ اَلَّذِينَ اِسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ» بيان لآخران، أي هذان الآخران من أهل الميّت الذين استحقّ عليهم الإثم، فيكون فاعل الفعل لفظة «الإثم» ومعناه: من الذين جُني عليهم وهم أهل الميّت وعشيرته، وعندئذٍ يكون المقام مظنة سؤال: مَنْ هذان الآخران اللّذان يقومان مقام ما قبلهما؟ فيجاب: «اَلْأَوْلَيانِ»: أي الأوليان بالميّت. فإذا قاما مقامهما «فَيُقْسِمانِ بِاللّهِ» على خيانة الشاهدين وأنّهما «أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما» لاطّلاعهما على حقيقة الحال «وَ مَا اِعْتَدَيْنا» : أي ما تجاوزنا عن الحقّ فيما طلبناه من حقّنا، فإن اعتدينا «إِنّا إِذاً لَمِنَ اَلظّالِمِينَ» . تمّ التفسير على الوجه الأوّل.

وأمّا تفسير الآية على الوجه الثاني وهو كون الفعل «استحقّ» على صيغة المجهول لكن «الأوليان» تثنية الأُولى ضد الثانية فنقول: قوله تعالى: «فَآخَرانِ» : أي شاهدان آخران «يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ اَلَّذِينَ اِسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ» فيكون الموصول أي قوله:

«مِنَ اَلَّذِينَ» بياناً للضمير المتّصل في قوله: «مَقامَهُما» . ومعنى «اِسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ» : أي خانوا بهم. وأمّا من الخائن فهو «اَلْأَوْلَيانِ» : أي الشاهدان الأوّلان. فعلى هذا يكون «اَلْأَوْلَيانِ» بدلاً من فاعل الفعل: أي استحق، ويؤيّد هذه القراءة، قراءة الحسن حيث قرأ «الأولان». ووجه التعبير عن الشاهد المذكّر بالمؤنث أي الأولى باعتبار الشهادة أي الشهادتان الأوليان.

إلى هنا تمّ تفسير الآية على كلتا القراءتين، وأمّا القراءة الثالثة والرابعة، أعني:

ص: 234

قراءة استحق بصيغة المجهول و «الأوليان»، تارة بصيغة التعجّب وأُخرى تثنية الأولى ضد الثانية فنوكله إلى القارئ اللبيب، وبما أنا لا نعتقد بكثرة القراءات وأنّ القرآن واحد نزل من عند واحد، فالمعتبر هو القراءة الموجودة في المصاحف كلّها.

ثمّ إنّه سبحانه يشير إلى فلسفة التشديد بالشهادة في الآية التالية.

الآية الثانية

اشارة

قال سبحانه: «ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ وَ اِتَّقُوا اَللّهَ وَ اِسْمَعُوا وَ اَللّهُ لا يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلْفاسِقِينَ».(1)

التفسير

إنّه سبحانه يشير إلى فلسفة التشديد بالشهادة، ويقول: «ذلِكَ» : أي تكليف المؤتمن على الوصية بالقيام على مشهد من الناس بعد الصلاة وإقسامه تلك الأيمان المغلّظة «أَدْنى» : أي أقرب الوسائل إلى «أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها» بلا تغيير ولا تبديل، وذلك لأحد وجهين:

أ. خوفاً من اللّه ورهبة منه، وهذا مفهوم من قوله: «عَلى وَجْهِها» للّه سبحانه.

ب. خوفاً من الفضيحة، أن يرد أيمان إلى الورثة بعد أيمانهم كما يقول: «أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ» إلى الورثة «بَعْدَ أَيْمانِهِمْ» ، وفي كلا الطريقين يغلق باب

ص: 235


1- . المائدة: 108.

الكذب على الشهداء إمّا خوفاً من اللّه أو خوفاً من الناس، وفي نهاية الآية يخاطب المؤمنين بأمرين:

1. «وَ اِتَّقُوا اَللّهَ» من الشهادة بالزور.

2. «وَ اِسْمَعُوا» سماع قبول وعمل «وَ اَللّهُ لا يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلْفاسِقِينَ» لخروجهم عن طاعة اللّه.

ما يستفاد من الآية

يستفاد من الآية الأُمور التالية:

1. أنّ الشاهد العادل يستحلف، فعلى هذا فما دلّ من عدم استحلاف الشاهد العادل يخصّص بمورد الآية، وهو إذا كان الشاهد العادل ذميّاً في أمر مالي.

فإن قلت: قد اتّفقت كلمة الفقهاء على عدم جواز إقامة الدعوى بعد الإحلاف، لقوله عليه السلام: «ومَن حلف فليصدق ومَن حلف له فليرض».(1) مع أنّ الذميّين قد حلفا كما في قوله: «فَيُقْسِمانِ بِاللّهِ» ، ومع ذلك لم يصدق حيث قام الآخران بتكذيبهما.

قلت: فإنّ الحديث مطلق، يخصّص بمورد خاص وهو إذا كان الحالف من أهل الذمّة.

2. انّ التحليف بعد الصلاة على النحو الوارد في الآية دليل على جواز التغليظ في اليمين، ولكن يختصّ بمورد الآية.

3. يستفاد من الآية على ردّ اليمين من المنكر على المدّعي، ولكن في مورد

ص: 236


1- . الكافي: 437/7.

خاص، وهو إذا دلّت القرائن على كذب الشاهد المنكر.(1)

شهادة المرأتين تعادل شهادة رجل واحد

يقول سبحانه في مسألة التداين: «وَ اِسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَ اِمْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ اَلشُّهَداءِ».(2)

ولا بُعد في ذلك، فإنّ سهم الرجل ضعف سهم الأُنثى، والرجل أقوى ذاكرة من المرأة، وأقوى أيضاً من سائر الجهات.

الآية الثالثة

اشارة

قال سبحانه: «يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلّهِ وَ لَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ اَلْوالِدَيْنِ وَ اَلْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللّهُ أَوْلى بِهِما فَلا تَتَّبِعُوا اَلْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا وَ إِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اَللّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً»(3).

المفردات

قوّامين: جمع قوّام بمعنى المبالغ في القيام بالشيء، وهذا التعبير أبلغ من أن يقال: كونوا قائمين بالقسط، لأنّ الأوّل يفيد المبالغة دون الثاني.

ص: 237


1- . لاحظ: في الوقوف على الأحكام المستفادة من هذه الآيات: كنز العرفان في فقه القرآن للشيخ جمال الدين المقداد: 100/2-101.
2- . البقرة: 282.
3- . النساء: 135.

بالقسط: أُريد به العدل، وفي كونه عربياً أو دخيلاً في اللغة العربية، كلام بين اللغويين.

شهداء: جمع شهيد، من المشاهدة بمعنى الحضور وهو قول صادر عن علم حصل بمشاهدة بصيرة أو بصر.(1)

الهوى: ميل النفس إلى الشهوة، ولذلك يُعدّ الهوى مزلة الأقدام.

تلووا: الليّ هو ليّ اللسان، وأُريد به تحريف الشهادة.

التفسير
وجوب اتباع الحق في الشهادة

الآية تأمر باتّباع الحقّ وتنهى عن اتّباع الهوى وميل النفس إلى ما فيه إزاحة للحقوق، فتأمر بالعدل إلى حدّ حتى لو كانت الشهادة مضرّة بحال الشاهد أو بحال الوالدين أو الأقربين، لأقام الشهادة، والآية تتضمّن أُموراً:

1. الأمر بالقسط في الشهادة.

2. أن تكون الشهادة للّه سبحانه.

3. لو تمّت الشهادة على الأنفس والأقربين لأقام الشهادة وإن تمّت على ضرره.

4. تمنع عن ليّ اللسان في الشهادة أو الإعراض عنها، وإليك البيان:

الأوّلان: الأمر بالقسط والشهادة للّه

قوله تعالى: «يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوّامِينَ بِالْقِسْطِ» : أي مستمرّين على

ص: 238


1- . مفردات الراغب، مادة «شهد».

القيام بالعدل على نحو يكون القيام به صفة راسخة في نفوسكم كما يدلّ عليه التعبير بالقوّامين الذي هو آكد الصيغ في الدعوة إلى القسط، ثم إنّه سبحانه رتّب على هذا قوله: «شُهَداءَ لِلّهِ» : أي طلباً لمرضاة اللّه وتقرّباً إليه وهو نتيجة كون الشاهد قوّاماً بالقسط، فليكونوا شهداء طلباً لمرضاة اللّه.

أمّا الثالث: فهو ما يشير إليه بقوله: «وَ لَوْ» تمت الشهادة «عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ اَلْوالِدَيْنِ وَ اَلْأَقْرَبِينَ» : أي لو توقّف ثبوت الحقّ للمشهود له على الشهادة على الأنفس والوالدين والأقربين تقدّم الشهادة وإن بلغت ما بلغت، نعم أُمر الإنسان ببرّ الوالدين وصلة الأرحام لكنّه مقوّم بما فيه رضا اللّه تبارك وتعالى لا بما فيه سخطه «غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً» : أي المشهود عليه.

ثمّ إنّ الإنسان ربما يشهد - ظلماً - لغني طمعاً بغناه، أو لفقير عطفاً ورحمة به، فاللّه سبحانه يمنع عن هذه الشهادة إذا كانت ظالمة، فقال: «إِنْ يَكُنْ» فلا تشهدوا لهما «فَاللّهُ أَوْلى بِهِما» : أي أولى بالغني والفقير، وأرحم بحالهما، ومن رحمته أنّه جعل الحقّ هو المتَّبع، والشهادة لغني طمعاً في ماله أو لفقير رحمة له، تُميت العدل ويتلوه موت الإنسانية، فلأجل ذلك يقول خطاباً للشهداء: «فَلا تَتَّبِعُوا اَلْهَوى» :

أي ميل النفس إلى ما فيه لذّته وإن كان على خلاف الحقّ «أَنْ تَعْدِلُوا» فيه وجهان:

1. مخافة: أي تنحرفوا عن الحقّ. فأُريد من الفعل «أَنْ تَعْدِلُوا» ، العدول عن الحقّ.

2. «فَلا تَتَّبِعُوا اَلْهَوى» لغاية أن تعدلوا في الشهادة، فأُريد من الفعل القسط في الشهادة.

أمّا الرابع: من أقسام العدول عن الحقّ الشهادة فهو يتصوّر بصورتين

ص: 239

التاليتين:

1. ليّ اللسان وتحريف الشهادة، كما يقول: «وَ إِنْ تَلْوُوا».

2. الإعراض عن الشهادة ومغادرة المحكمة كما يقول: «أَوْ تُعْرِضُوا».

فالفقرتان جملة شرطية حذف جزاؤهما، ولعلّه قوله: فيجازيكم عليهما، قام مقامه قوله: «فَإِنَّ اَللّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً».

والآية مشهد من المشاهد المشرقة في القوانين الإلهية حيث يأمر باتّباع الحقّ وينهى عن اتّباع الهوى وميل النفس بما فيه إزاحة للحقوق، فيأمر بالعدل إلى حدٍّ حتى لو كانت الشهادة مضرّة بحال الشاهد أو بحال الوالدين أو الأقربين، ولا يقوم الشاهد بهذا العبء الثقيل إلّامَن كان اتّباع العدل ملكة راسخة في نفسه، وأمّا غيره، فيقوم بأحد أمرين: إمّا بليّ اللسان وتحريف الشهادة، أو تركها أساساً، انظر كيف أتى هذا النبي الأُمّي بهذا التقنين المشرق الذي لا يُدرس ولا يُنسخ، بل يبقى بقاء الدهر والزمان إلى أن يرث اللّه الأرض ومن عليها، وما هذا إلّالأنّ الآية وحي من اللّه سبحانه على قلب سيد المرسلين.

ثمّ إنّ الآية وإن لم تذكر شرطية العدالة في الشاهد؛ بل اكتفت بلزوم الشهادة على الحقّ ولو على نفسه وأقاربه، ولكن تقدّم قولِه سبحانه: «كُونُوا قَوّامِينَ بِالْقِسْطِ» يُعد دليلاً على اعتبارها في الشاهد، فإنّ القوّامين بالقسط لا ينفكّون عن العدالة، مضافاً إلى قوله سبحانه: «يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ اَلْمَوْتُ حِينَ اَلْوَصِيَّةِ اِثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ»(1) . وإلى ما في صحيح عبد اللّه بن يعفور قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: بم تُعرف عدالة الرجل بين المسلمين حتّى6.

ص: 240


1- . المائدة: 106.

تقبل شهادته لهم وعليهم؟(1)، فإنّ السؤال ظاهر في مفروغية شرطية العدالة، وإنّما طلب الراوي أن يتعرّف على طريقها.

شهادة الولد على والده

صريح قوله سبحانه: «شُهَداءَ لِلّهِ وَ لَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ اَلْوالِدَيْنِ وَ اَلْأَقْرَبِينَ» جواز شهادة الولد على الوالدين، ولكن الظاهر من غير واحد من فقهائنا عدم الجواز، كالشيخ المفيد في مقنعته،(2) والسيد المرتضى في انتصاره،(3) إلى غير ذلك من الفقهاء.

وهذا يدلّ على وجود شهرة فتوائية بين القدماء، وكأنّهم اعتمدوا في منع شهادة الولد على الوالد على قوله سبحانه: «وَ صاحِبْهُما فِي اَلدُّنْيا مَعْرُوفاً»(4) بدعوى أنّ رد قول الوالد وتكذيبه، يضاد المصاحبة بالمعروف، واعتمدوا على أنّه نوع عقوق، والجميع كماترى، لا يعادل صريح الكتاب، أمّا المصاحبة بالمعروف أو الاجتناب عن العقوق فهو ناظر إلى ما هو مباح وحلال بالذات، فلو كان ارتكاب الحلال، على خلاف المصاحبة بالمعروف أو موجباً للعقوق فيتغيّر حكمه بعنوان ثانوي فيكون ممنوعاً، وأمّا المحرّم كترك الشهادة، أو الواجب كالشهادة على خلاف مصالحهما عن حقّ، فلا يتغيّر حكمهما وإن استلزما خلاف المصاحبة بالمعروف أو أدّت إلى العقوق.

ونظير المقام، النذر فإنّ العمل به واجب للّه إذا كان المنذور حلالاً، دون ما

ص: 241


1- . الوسائل: 18، الباب 41 من أبواب الشهادات، الحديث 1.
2- . لاحظ: المقنعة: 726.
3- . لاحظ: الانتصار: 244.
4- . لقمان: 15.

إذا كان حراماً، فلا يوصف بالحلال لأجل تعلّق النذر به.

حاصل الكلام: أنّ الحرام أو الواجب لا ينقلب عمّا هو عليه بهذه الطوارئ والعوارض.

الآية الرابعة

«يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوّامِينَ لِلّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلاّ تَعْدِلُوا اِعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَ اِتَّقُوا اَللّهَ إِنَّ اَللّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ»(1).

ومفاد الآية، نفس الآية السابقة فلا حاجة إلى التفسير.

الآية الخامسة

«وَ إِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَ لَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ اَلَّذِي اُؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَ لْيَتَّقِ اَللّهَ رَبَّهُ وَ لا تَكْتُمُوا اَلشَّهادَةَ وَ مَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَ اَللّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ».(2)

تدلّ الآية على حرمة كمال الشهادة صريحاً، ويستفاد الحرمة من الآيات السابقة أيضاً، وقد مرّ بيان الآية في مبحث الدين.

ص: 242


1- . المائدة: 8.
2- . البقرة: 283.

الفصل السابع عشر: الحدود في الذكر الحكيم

اشارة

1. حدّ الزنا

2. حدّ القذف

3. حدّ السرقة

4. حدّ المحارب

ص: 243

ص: 244

الحدود

اشارة

سُمّيت أحكام اللّه حدوداً لأنّها خطوط يحرم تجاوزها، يقول سبحانه: «تِلْكَ حُدُودُ اَللّهِ فَلا تَقْرَبُوها»(1) ، وقال سبحانه: «وَ مَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اَللّهِ فَأُولئِكَ هُمُ اَلظّالِمُونَ»(2) ، وقال أيضاً: «اَلْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَ نِفاقاً وَ أَجْدَرُ أَلاّ يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اَللّهُ عَلى رَسُولِهِ»(3).

والحدّ في مصطلح الشرع عبارة عن: العقوبة التي عيّنها الشارع كمّاً وكيفاً في مورد العصاة، وهو في مقابل التعزير عقوبة لا تقدير لها بأصل الشرع؛ بل أوكلها الشارع إلى نظر الحاكم. وعلى هذا فالحدّ والتعزير تأديبان مقدّر وغير مقدّر. وتظهر الثمرة بينهما في الأُمور التالية وهو اختصاص الحدّ بأُمور:

1. درء الحدّ بالشبهة.

2. عدم اليمين في الحدّ.

3. عدم الكفالة فيه.

4. للإمام العفو عن الحدّ الثابت بالإقرار دون البيّنة.

5. عدم الشفاعة فيه.

ص: 245


1- . البقرة: 187.
2- . البقرة: 229.
3- . التوبة: 97.

وقد دلّت السنّة الشريفة على هذه الخصوصيات في الحدّ دون التعزير، كما دلّت على أنّ التعزير يجب أن يكون دون الحدّ.

ونحن ندرس الحدود التي وردت في الذكر الحكيم، وأمّا ما ورد في السنّة فهو موكول إلى الكتب الفقهية.

ص: 246

الحدود والتعزيرات

1 حدّ الزنا
الآية الأُولى
اشارة

قال سبحانه: «اَلزّانِيَةُ وَ اَلزّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَ لا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اَللّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَ لْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ».(1)

المفردات

الزانية: من الزناء وهو من المفاهيم العرفية الواضحة التي لا يتأمّل في فهم معناها أحد من الناس، فلا تحتاج إلى التعريف.

وقد روي أنّ ماعز بن مالك لمّا أقرّ بالزنا أربعاً، قال له النبي صلى الله عليه و آله و سلم: أتعرف الزنا؟ فقال: هو أن يأتي الرجل حراماً كما يأتي حلالاً.(2)

ومع ذلك فقد عرّفه المحقّق بقوله: إيلاج الرجل ذكره في فرج امرأة محرّمة

ص: 247


1- . النور: 2.
2- . جواهر الكلام: 260/41، والحديث مرويّ عن طريق العامّة. لاحظ سنن البيهقي: 237/8.

من غير عقد ولا ملك ولا شبهة، ويتحقّق ذلك بغيبوبة الحشفة قبلاً أو دبراً.(1)

فقوله: «من غير عقد...» تفسير للمحرّمة.

فاجلدوا: الجَلد: ضرب الجِلْد، والجِلْد قشر البدن، وقد شاع فعل الثلاثي من أسماء الأعيان يقال: رأَسَه وظَهَره وبَطَنه إذا ضرب رأسه وظهْره وبطْنه، وعلى كلّ تقدير فالمراد بالجَلد هو الضرب بالسوط.

جَلدة: مصدر بمعنى ضربة.

رأفة: أشدّ الرحمة.

دين اللّه: حُكم اللّه.

التفسير
اشارة

تضمنّنت الآية أحكاماً ثلاثة:

1. جلدهما مائة جلدة

فرض اللّه سبحانه على: «اَلزّانِيَةُ وَ اَلزّانِي» الحدَّ، وبيّنه بقوله: «فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ» ولعلّ الحكمة في تقديم الزانية على الزاني هي أنّ الزنا المستحقّ للحدّ لا يمكن أن يتمّ إلّابموافقة المرأة، إذا لم يكن بإكراه الرجل لها، فتكون والحالة هذه سبب الإثم فاستحقّت أن تُذكر قبل الرجل.(2) وقدّم العنوان على الحكم وقال: «اَلزّانِيَةُ وَ اَلزّانِي فَاجْلِدُوا» لأنّ في تقديم العنوان إيجاد رغبة لسماع الحكم، نظير قوله تعالى: «وَ اَلسّارِقُ وَ اَلسّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما»(3).

ص: 248


1- . شرائع الإسلام: 149/4.
2- . التفسير الحديث: 364/8.
3- . المائدة: 38.

ثم إنّ الآية تخاطب المؤمنين بإجراء الحدّ كما هو الحال أيضاً في آية السرقة، وهذا يدلّ على أنّ للمجتمع، مع غضّ النظر عن الفرد، موضوعية في الأحكام يُخاطَب ويؤمر بشيء من الأحكام.

فإن قلت: المجتمع أمر اعتباري محض ولا واقعية له.

قلت: ما ذكرته صحيح إذا نظرنا إليهما (أعني: الأفراد والمجتمع)؟! بمنظار فلسفي، فللفرد وجود وليس للمجتمع وجود آخر وراء وجود الأفراد.

وأمّا إذا نظرنا إليهما من منظار التقنين والتشريع فيصحّ أن يقال: إنّ للمجتمع في عالم الحقوق واقعية وله وعليه أحكام، وبما أنّ الزنا كان جريمة بحقّ المجتمع، لذلك أُمر بأن يقيم الحدّ على مرتكبي هذه الفاحشة. نعم، الأحكام المتوجّهة إلى المجتمع إنّما يقوم بها الحاكم نيابة عن الجميع.

ثم إنّ إطلاق الآية يعمّ الأعزب والمتزوّج، وبتعبير آخر: المحصَن وغير المحصَن، وأُريد بالمحصَن البالغ العاقل المتزوّج المتمكّن من وطء زوجته متى شاء. ولكن الحكم في الآية مختصّ بغير المحصَن، أي غير المتزوّج أو المتزوّج الّذي ليس له هذا الشأن. وعلى هذا فإطلاق الآية مقيّد بإجماع المسلمين فيكون الجلد مختصّاً بغير المحصَن وغير المحصَنة، وأما حُكم هذين فهو الرجم حسب السنّة، ولم يأت في القرآن.

ثم إنّ الزنا في مصطلح الجاهلية يقابل البغاء، فلو كان العمل الشنيع بداعي المحبّة وبلا عوض فيسمّونه بالزنا، وأمّا لو كان بداعي العوض فهو البغاء، وإلى هذا القسم يشير قوله سبحانه: «وَ لا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى اَلْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ

ص: 249

تَحَصُّناً»(1) وكان هذا في الإماء أكثر، وكانت الطائف والمدينة تعجّان بذوات الأعلام، وهنّ اللواتي كنّ ينصبن على بيوتهن أعلاماً تدلّ على أنّها بيوت مَن يكتسبن بأعمال الفجور (البغايا).

روى أبو موسى المديني عن تمام بن جُراشة الثقفي، قال: قدمت على النبي صلى الله عليه و آله و سلم في وفد ثقيف فأسلمنا وسألناه أن يكتب لنا كتاباً فيه شروط، فقال:

اكتبوا ما بدا لكم ثم إيتوني به، فسألناه في كتابه أن يحلّ لنا الرِّبا والزِّنا، فأبى عليّ رضى الله عنه أن يكتب لنا، فسألناه خالد بن سعيد بن العاص فقال له عليّ: تدري ما تكتب؟ قال: أكتب ما قالوا ورسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أَولى بأمره. فذهبنا بالكتاب إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فقال للقارئ: إقرأ، فلمّا انتهى إلى الرِّبا قال: ضع يدي عليها في الكتاب فوضع يده فقال: «يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِتَّقُوا اَللّهَ وَ ذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ اَلرِّبا»(2) ، ثم محاها وأُلقيت علينا السكينة فما راجعناه، فلمّا بلغ الزِّنا وضع يده عليها «وقال»:

«وَ لا تَقْرَبُوا اَلزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً»(3) ثم محاه وأمر بكتابنا أن ينسخ لنا.(4)

ففي هذه الأجواء الفاسدة نزل قوله سبحانه: «اَلزّانِيَةُ وَ اَلزّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ» وما هذا إلّالصيانة المجتمع من الفساد والضلال.

2. إجراء الحدّ بلا نقص ولا زيادة

ربّما تستولي الشفقة على مَن يُجري الحدّ فينقص من المئة شيئاً بتصوّر أنّه

ص: 250


1- . النور: 33.
2- . البقرة: 278.
3- . الإسراء: 32.
4- . أُسد الغابة: 1/216.

يعمل إحساناً للمجلود، غافلاً عن أنّه خيانة للمجتمع؛ لأنّ التخفيف ربّما يغري المجرم بارتكاب العمل مرّة أُخرى، ولذلك يقول سبحانه: «وَ لا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اَللّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ» والمراد من قوله: «فِي دِينِ اَللّهِ» : أي في شريعة اللّه وأحكامه، وتقدير الآية: إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ... وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ.

روى الرازي في الحديث: يؤتى بوالٍ نقص من الحدّ سوطاً، فيقال له: لِمَ فعلت ذلك؟ فيقول: رحمة لعبادك، فيقال له: أنت أرحم بهم منّي؟! فيؤمر به إلى النار، ويؤتى بمَن زاد سوطاً فيقال له: لِمَ فعلت ذلك؟ فيقول: لينتهوا عن معاصيك، فيقول: أنت أحكم به منّي؟! فيؤمر به إلى النار.(1)

إنّ تنفيذ الأحكام الإلهية حسب ما أمر اللّه تعالى أوضح دليل على إيمان مَن يقوم بتنفيذها، بالوحي وبمن جاء به، كما أنّ التدخّل في تشريعه والتأثّر بالعاطفة أمام النصّ، أوضح دليل على ضعف الإيمان بالوحي وبمن جاء به.

3. إجراء الحدّ في مشهد علنيّ

هذا هو الحُكم الثالث بعد الحُكمين اللّذين مرّا من الجلد وعدم الخضوع للعاطفة، وهو أن يقام الحدّ بحضور جمع من الناس، كما يقول: «وَ لْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ» ، وما هذا إلّالأنّ إجراء الحدّ خفاءً وإن كان يؤثّر على المجرم ولكن لا يتّعظ به غيره ممّن غاب عن إجراء الحدّ، وذلك لأنّ حضور عدد من المؤمنين معاقبة الزاني سوف يؤدّي إلى شيوع الخبر بانتقاله من جماعة إلى أُخرى، الأمر الذي يساهم في ردع الآخرين عن ممارسة هذه الفاحشة، وبذلك

ص: 251


1- . تفسير الرازي: 23/149.

يصان المجتمع من العدوان على كرامته، ومن الفوضى والفساد، ومن أهمّ عوامل التفكّك والانحلال، ولذلك أوجب سبحانه حضور عدد من المؤمنين في ساحة إجراء الحدّ.

وربّما يتصوّر أنّ حضور ذلك العدد يوجب إهراق ماء وجه الزاني الذي ربّما لم يطّلع على فعلته أحد، فإحضار الجماعة على طرف النقيض من صيانة كرامته، ولكن الإجابة واضحة؛ لأنّ الكلام فيمن ثبتت جريمته بالبيّنة، أعني:

شهادة أربعة، ولابدّ في قبول الشهادة به من التصريح بالمشاهدة لوقوع الفعل على وجه لا ريبة فيه بأن يشهدوا بمعاينة الإيلاج، فهذا الزاني هو الذي أراق ماء وجهه بيده، وخرق ستره، قبل أن يريقه غيره.

وعلى كلّ تقدير فما جاء في هذه الآية من الأحكام الثلاثة أحكام فرضها اللّه سبحانه، ومن حسن الحظ أنّها جاءت في سورة سُمّيت بسورة النور.

الآيتان: الثانية والثالثة
اشارة

قال سبحانه: «وَ اَللاّتِي يَأْتِينَ اَلْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي اَلْبُيُوتِ حَتّى يَتَوَفّاهُنَّ اَلْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اَللّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً * وَ اَلَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وَ أَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اَللّهَ كانَ تَوّاباً رَحِيماً».(1)

ص: 252


1- . النساء: 15-16.
المفردات

اللّاتي: جمع الّتي، جمع سماعي.

يأتين: أي يفعلن، يقال: أتى الصلاة أي صلّاها، قال الأعشى:

ليعلم كل الورى أنّني ***أتيت المروءة من بابها(1)

الفاحشة: الفعل الشديد القبح كالزنا، واللواط، والسحاق.

حتى يتوفاهنّ الموت: حتى يأخذهن الموت، وقد طرح الرازي هنا سؤالاً وقال:

ما معنى يتوفاهنّ الموت، والموت والتوفّي بمعنى واحد، فصار في التقدير أو يميتهن الموت، ثم أجاب بأنّ المراد حتى تتوفاهنّ ملائكة الموت، كقوله: «اَلَّذِينَ تَتَوَفّاهُمُ اَلْمَلائِكَةُ»2.(2)

يلاحظ عليه: أنّ التوفّي ليس بمعنى الإماتة، بل هو بمعنى الأخذ، يقال: توفّيت ديني أي أخذته بكماله، قال سبحانه: «اَللّهُ يَتَوَفَّى اَلْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَ اَلَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها»(3) ترى أنّه سبحانه يستعمل التوفّي في صنفين: مَن كتب عليه الموت، ومَن نام ولم يكتب عليه الموت، فكلا الصنفين ممّن تعلّق به التوفّي، فلو كان بمعنى الإماتة فلا معنى لتعلّقه بالصنف الثاني، أعني: النوم. كلّ ذلك دليل على أنّ التوفّي بمعنى الأخذ، فيكون معنى «حَتّى يَتَوَفّاهُنَّ اَلْمَوْتُ» حتى يأخذهنّ الموت.

ص: 253


1- . ديوان الأعشى: 173، طبع مصر.
2- . تفسير الرازي: 233/9.
3- . الزمر: 42.

ومن هنا يعلم مفاد قوله سبحانه حاكياً عن عيسى «فَلَمّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ اَلرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَ أَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ»(1) . حيث إنّ المراد من قوله: «تَوَفَّيْتَنِي» هو الأخذ: أي لما أخذتني وهو لا يلازم الموت ويكفي في رفعه إليه حيّاً وبقاؤه كذلك إلى أن ينزل عند خروج الإمام الثاني عشر عجّل اللّه فرجه الشريف.

التفسير

اختلفت كلمة المفسّرين في تفسير الآيتين على قولين:

القول الأوّل: حمل الآية الأُولى على المساحقة، والآية الثانية على اللواط.

القول الثاني: حمل الآية الأُولى على زناء المحصنات أي ذوات الأزواج، وحمل الآية الثانية على زنا المرأة والرجل من غير إحصان.

فعلى القول الثاني فالآيتان لهما صلة بالموضوع بخلاف القول الأوّل، فإنّ الآيتين لا صلة لهما بالزنا؛ بل ناظرتان إلى المساحقة واللواط، وإليك كلا التفسيرين.

تفسير الآيتين على وفق القول الأوّل

«وَ اَللاّتِي يَأْتِينَ اَلْفاحِشَةَ» الفاحشة وإن كانت تطلق على الزنا واللواط والسحاق ولكنّ تخصيص الموضوع بالنساء حيث قال: «مِنْ نِسائِكُمْ» يكون هذا دليلاً على أنّ العمل الشنيع قائم بهنّ فقط، فيحمل على المساحقة. فلإجراء الحدّ المناسب لظروف نزول الآية هو أنّه سبحانه يأمر بالاستشهاد ويقول: «فَاسْتَشْهِدُوا

ص: 254


1- . المائدة: 117.

عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ» فإن لم يشهدوا خُلِّي سبيلهن «فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي اَلْبُيُوتِ» وأُريد من البيوت البيوت المسكونة تحت نظر العائلة، خلافاً لابن عاشور الذي قال: المراد بالبيوت، البيوت التي يعيّنها ولاة الأمر لذلك، وليس المراد إمساكهن في بيوتهن.(1)

لكنّه خلاف إطلاق الآيتين وخلاف الظروف التي نزلتا فيها، إذ لم يكن عند نزولهما بيوت خاصّة تحت نظر ولاة الأُمور، وإنّما حدث ذلك بعد مضيّ سنين.

ثمّ إنّهنّ محكومات بالإمساك في البيوت لا الحبس المؤبّد، إذ بينهما فرق واضح فهنّ محكومات بالإمساك إلّاأن يشاء اللّه، أعني: «أَوْ يَجْعَلَ اَللّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً» بأن يسهل اللّه لهنّ قضاء الشهوة عن طريق النكاح، أي بأن تتزوّج ويسهّل اللّه لها قضاء الشهوة عن هذا الطريق، فيكون «أو» بمعنى «إلّا».

وأمّا الآية الثانية فبما أنّ الآية تتحدّث عن العمل المختصّ بالذكر فيدلّ على أنّ العمل الشنيع قائم بهم فقط، فيحمل على اللواط أعني قوله تعالى: «وَ اَلَّذانِ يَأْتِيانِها» اللواط «مِنْكُمْ» . وأمّا الجزاء «فَآذُوهُما» بالقول والفعل «فَإِنْ تابا وَ أَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اَللّهَ كانَ تَوّاباً رَحِيماً».

فعلى ما ذكر تكون الآية الأُولى ناظرة إلى مساحقة النساء، والثانية إلى لواط الرجال. فجزاء الأُولى الإمساك في البيت، وجزاء الثاني: الإيذاء بالقول والفعل.

وهذا ما روي عن أبي مسلم واختاره صاحب المنار وقال: فالحقّ إنّ ما ذهب إليه أبو مسلم هو الراجح في الآيتين.(2)4.

ص: 255


1- . التحرير والتنوير: 57/4.
2- . لاحظ: تفسير المنار: 439/4.

نعم نقله الرازي أيضاً مع ما يؤيّده وما يردّه من دون ترجيح لأحد الطرفين.(1)

***

ملاحظات حول القول الأوّل

إنّ هذا التفسير - وإن كان ربما يوافق في بدء النظر ظاهر الآيتين - إلّاأنّه غير خال عن الإشكال.

يلاحظ عليه أوّلاً: إذا كان المراد من الفاحشة هو المساحقة فلماذا جاء الموصول في الآية الأُولى بصيغة الجمع وفي الثانية بصيغة التثنية والسحق قائم باثنتين منهنّ، كما أنّ اللواط أيضاً قائم باثنين منهم؟!

وثانياً: أنّ الفاحشة وإن كانت بمعنى الفعل الشنيع القبيح وهو حسب الظاهر يشمل الزنا واللواط والمساحقة، غير أنّه لم يستعمل في القرآن إلّافي الأوّلين.

أمّا الأوّل، فقوله سبحانه: «وَ لا تَقْرَبُوا اَلزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَ ساءَ سَبِيلاً».(2) وأمّا الثاني، فقوله سبحانه: «وَ لُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَ تَأْتُونَ اَلْفاحِشَةَ وَ أَنْتُمْ تُبْصِرُونَ»(3) ، وحملها في الآية الأُولى على خصوص المساحقة يحتاج إلى دليل قاطع وإن كان اللفظ بمفرده مع قطع النظر عن الآيات يشملها بإطلاقه.

وثالثاً: إذا فسّرت الآية الأُولى بالمساحقة والثانية باللواط يلزم أن يكون حكم اللواط أسهل عقوبة من الأُولى حيث جاء فيها «فَآذُوهُما» وفسّر الإيذاء

ص: 256


1- . لاحظ: تفسير الرازي: 231/9.
2- . الإسراء: 32.
3- . النمل: 54.

بالتعيير باللسان والضرب بالنعال.(1) وأين هذان العملان من إمساك المرأة في البيوت إلى أن يُجعل لها سبيلاً؟!

رابعاً: أنّ لازم ذلك أنّ الآية لم تهتم بالعمل الشنيع الشائع عصر نزول الآية، أعني: الزنا، وإنّما اهتمّت بغير الشائع. وإن اهتمّ به بعده في سورة أُخرى بقوله: «اَلزّانِيَةُ وَ اَلزّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ»(2).

خامساً: أنّ هذا التفسير يخالف ما تضافرت الروايات التي ستوافيك في التفسير الثاني عليه. حتّى أنّ الطبرسي عدّ هذا القول مخالفاً للإجماع ولما عليه المفسّرون.(3)

تفسير الآيتين وفق القول الثاني

إنّ الآية الأُولى تتضمّن بيان حكم زنا المحصنات أي ذوات الأزواج، دون الرجال يدلّ عليه تخصيص الآية النساءَ بالذكْر دون الرجال، وإطلاق النساء على الأزواج شائع في اللغة، وخاصّة إذا أُضيفت إلى الرجال كما في قوله: «نِسائِكُمْ» في نفس الآية، وقوله: «وَ آتُوا اَلنِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً»(4) ، وقوله: «مِنْ نِسائِكُمُ اَللاّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ»(5) فالنساء ذات الأزواج حكم عليهن بالإمساك في البيوت، «حَتّى يَتَوَفّاهُنَّ اَلْمَوْتُ» لئلّا تنتشر الجريمة في أوساط المجتمع، وعلى هذا ليس الحبس جزاء بل سد لانتشار الجريمة «أَوْ يَجْعَلَ اَللّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً» بتشريع حكم،

ص: 257


1- . مجمع البيان: 46/4.
2- . النور: 2.
3- . مجمع البيان: 20/3.
4- . النساء: 4.
5- . النساء: 23.

وعلى ماذكرنا فليست الآية منسوخة لما عرفت من فلسفة الحبس.

وأمّا الآية الثانية فناظرة إلى حكم زنا المرأة والرجل من غير إحصان، فحكم عليه بالإيذاء، وهو الضرب بالنعال أو التعيير بالقول.

والذي يدل على أنّ الآية الأُولى ناظرة إلى المحصنات من النساء حتى يتوفاهنّ الموت، والآية الثانية إلى غير المحصنين هو تشديد العقوبة في الأُولى دون الثانية، ولأجل هذا صار القول المشهور هو أنّ الآية الأُولى للمحصنات والثانية لغير المحصنين، فيكون المراد من «اللذان» هما الرجل والمرأة، غير المحصنين.

وبما ذكرنا يظهر وجه الجمع في الآية الأُولى، والتثنية في الآية الثانية.

فإنّ الموضوع في الآية الأُولى هو خصوص المحصنات من النساء فقط، دون الرجال منهم بشهادة أنّ الجزاء (الإمساك في البيوت) يختصّ بهنّ ولا يشمل الرجال المحصنين بمعنى انّ الآية ساكتة عن حكمهم فلزم التعبير عنهنّ بالجمع.

ولكن الموضوع في الآية الثانية، هو الزنا بغير إحصان وهو قائم بالطرفين، فعبّر عنها بالتثنية وقال: «اللَّذانِ» تغليباً للرجال على النساء والجزاء بالتعبير وهو يشملهما.

إنّ هذا التفسير تؤيّده الروايات من الفريقين وقد تضافر عنه صلى الله عليه و آله و سلم: قوله:

عن عبادة بن الصامت قال: كان رسول اللّه إذا نزل عليه الوحي كرب لذلك وتربّد(1) وجهه «فأنزل اللّه عليه» ذات يوم فلمّا سرى عنه قال: «خذوا عني قد جعل اللّه لهن سبيلاً، الثيّب جلد مئة ورجم بالحجارة، والبكر جلد مئة ثم نفيه.

ص: 258


1- . كرب من الكرب قال: ونجيناه (نوح) من الكرب العظيم بمعنى الغم، وتربّد أي تغير وجهه.

سنة». وقد روى السيوطي في هذا المضمون روايات كثيرة لا يمكن تركها والاكتفاء بظاهر الآية.(1) والظاهر أنّه قد أُريد بالثيب المحصنة، لا مطلق الثيبوبة إذ لم تكن ذات زوج.

وأمّا من طرقنا فنكتفي برواية واحدة عن أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال:

سألته عن هذه الآية «وَ اَللاّتِي يَأْتِينَ اَلْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ» ، قال: «هذه منسوخة» أي بحكم الرجم. إلخ.(2)

ثمّ إنّ حول الآيات بحوث استوفينا بيانها في تفسيرنا «منية الطالبين» فمن أراد التفصيل فليرجع إليه.(3)

وبما ذكرنا يظهر أنّه لم يرد حدّ السحق واللواط في القرآن الكريم إلّاعلى القول بالتفسير الأوّل، والمفروض أنّه غير معمول به.

***6.

ص: 259


1- . لاحظ: الدر المنثور: 455/2-457.
2- . تفسير العياشي: 227/1 برقم 61.
3- . لاحظ: منية الطالبين في تفسير القرآن المبين: تفسير سورة النساء، الآيتين 15-16.

الحدود والتعزيرات

2 حدّ القذف
الآية الأُولى
اشارة

قال سبحانه: «وَ اَلَّذِينَ يَرْمُونَ اَلْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَ لا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَ أُولئِكَ هُمُ اَلْفاسِقُونَ».(1)

المفردات

يرمون: يقذفون.

المحصنات: العفائف.

التفسير

لمّا بيّن سبحانه حكم الزاني والزانية من حيث العقوبة، بدأ سبحانه ببيان حكم ثانٍ من الأحكام المفروضة، والغاية من هذا الحكم حفظ الحرمات الطاهرة وصيانة الكرامات من عبث مَن قد يستغلّ عقوبة الزاني والزانية فيتّهم العفائف

ص: 260


1- . النور: 4.

بهذا العمل الشنيع وبذلك يسقطهنّ من أعين الناس، فلأجل سدّ هذا الباب في وجوه هؤلاء الذين يسيئون الظنّ أو يطلقون التُّهم جُزافاً، قال: «وَ اَلَّذِينَ يَرْمُونَ اَلْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ».

إنّ البيّنة حجّة في الدعاوي والمرافعات، ولكنّ الشريعة الإسلامية شرطت في ثبوت الزنا أربعة شهداء مع أنّه يكفي في ثبوت القتل شهادة عدلين، ولعلّ الوجه فيه أنّ الناس يتعجّلون في الرمي بالزنا بخلاف القتل، ولذلك شدّدت الشريعة على الشهادة في هذا الأمر حفاظاً على حرمات الناس وصيانة لسمعتهم؛ مضافاً إلى ما ورد في رواية إسماعيل بن حمّاد عن أبي حنيفة، قال: قلت لأبي عبداللّه [الصادق] عليه السلام: أيّهما أشدّ الزنا أم القتل؟ قال: فقال: «القتل». قال: فقلت: فما بال القتل جاز فيه شاهدان ولا يجوز في الزنا إلّاأربعة؟ فقال لي: «ما عندكم فيه يا أبا حنيفة؟» قال: قلت: ما عندنا فيه إلّاحديث عُمر أنّ اللّه أجرى في الشهادة كلمتين على العباد، قال: «ليس كذلك يا أبا حنيفة ولكن الزنا فيه حدّان ولا يجوز أن يشهد كلّ اثنين على واحد، لأنّ الرجل والمرأة جميعاً عليهما الحدّ، والقتل إنّما يقام الحدّ على القاتل، ويدفع عن المقتول».(1)

ثم إنّه سبحانه حكم على هؤلاء الذين يتلاعبون بسمعة النساء اللّواتي ربّما يكنّ طاهرات إلى آخر العمر بعقوبات ثلاث:

1. «فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً».

2. «وَ لا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً».

3. «وَ أُولئِكَ هُمُ اَلْفاسِقُونَ».4.

ص: 261


1- . تفسير نور الثقلين: 3/574.

فهذه العقوبات بين ما هي عقوبة مادّية، أو عقوبة معنوية. أمّا الأُولى فهي الجلد ثمانين جلدة «فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً» ليذوق القاذف ألم السِّياط كما آلم العفائفَ باتّهامهنّ بالزِّنا.

وأمّا الفقرة الثانية فهي عقوبة معنوية وإليها يشير قوله سبحانه: «وَ لا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً» فلا تقبل شهادتهم في الموضوعات التي لا تثبت إلّابالبيّنة العادلة، كحضورهم في الطلاق أو شهادة على رؤية الهلال أو غير ذلك.

وأمّا الفقرة الثالثة - أعني قوله تعالى: «وَ أُولئِكَ هُمُ اَلْفاسِقُونَ» - فهل هي عقوبة ثالثة أو تعليل للعقوبة الثانية؟ وتظهر الثمرة فيهما - لو قلنا هي عقوبة ثالثة - فيما لو تاب، فعندئذٍ يزول فسقه وتترتّب عليه آثار العدالة، ولكن لا تُقبل شهادته لأنّها عقوبة مستقلّة لا تدور حول الفسق، وأمّا لو قلنا بأنّ الفقرة الثالثة ليست عقوبة مستقلّة بل هي تعليل لعدم قبول الشهادة فعندئذٍ يدور عدم قبول شهادته مدار صدق الفسق، فإذا زال الفسق زال عدم القبول، وجهان. وسيوافيك ما هو المختار.

الآية الثانية
اشارة

قال سبحانه: «إِلاَّ اَلَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَ أَصْلَحُوا فَإِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ».(1)

المفردات

أصلحوا: أصلحوا أعمالهم.

ص: 262


1- . النور: 5.
التفسير

للاستثناء في هذه الآية احتمالات ثلاثة:

1. أنّ قوله: «إِلاَّ اَلَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَ أَصْلَحُوا» يرجع إلى العقوبات الثلاث، فإذا تاب وأصلح يرتفع عنه الجلد وتقبل شهادته ويحكم عليه بالعدالة. وهذا الوجه لم يقل به أحد.

2. أنّه يرجع إلى الأخيرين، فلو تاب تُقبل شهادته ويُحكم عليه بعدم الفسق.

3. أنّه يرجع إلى الأخير فلو تاب وأصلح يُحكم عليه بعدم الفسق فتجوز الصلاة وراءه ويُقبل قضاؤه ولكن لا تقبل شهادته أبداً، وهذا هو الظاهر.

وقلنا: هذا هو الظاهر؛ لأنّ الفقرة الثانية قيّدت بالتأبيد، أعني قوله:

«أَبَداً» ، وما ذلك إلّالأجل صيانة كرامة الناس حتى لا يعجل أحدٌ في رمي مؤمن أو مؤمنة بالفجور بلا دليل.

ولكن الظاهر من غير واحدة من الروايات الصحيحة قبول شهادته بالتوبة.

روى الكليني بسند صحيح عن أبي الصباح الكناني قال: سألت أبا عبداللّه [الصادق] عليه السلام عن القاذف بعدما يُقام عليه الحدّ، ما توبته؟ قال: «يكذّب نفسه».

قلت: أرأيت إن كذّب نفسه وتاب، أتُقبل شهادته؟ قال: «نعم».

وروى أيضاً عن القاسم بن سليمان قال: سألت أبا عبداللّه عليه السلام عن الرجل يقذف الرجل فيجلد حدّاً ثم يتوب ولا يعلم منه إلّاخير، أتجوز شهادته؟ قال:

«نعم»، ما يقال عندكم؟ قال: يقولون: توبته فيما بينه وبين اللّه، ولا تقبل شهادته أبداً، فقال: «بئس ما قالوا، كان أبي يقول: إذا تاب ولم يعلم منه إلّاخير، جازت

ص: 263

شهادته».(1) ولو صحّت الروايتان يحمل التأبيد على ما إذا لم يتب.

بقي الكلام في قوله تعالى: «وَ أَصْلَحُوا» ، فما هو المراد منه؟

يقول السيد الطباطبائي: أي أصْلَحوا أعمالهم، ويُحتمل أن يراد أنّه يكذّب نفسه عند الحاكم؛ ففي مرسلة يونس [بن عبد الرحمن] قال: يجيء فيكذِّب نفسه عند الإمام ويقول: قد افتريت على فلانة ويتوب ممّا قال.(2) إذ لا تُعاد كرامة مَن توجّهت لها التهمة - حتّى وإن أُقيم عليه الحدّ - إلّابتكذيب القاذف نفسه.7.

ص: 264


1- . الوسائل: 18، الباب 36 من أبواب كتاب الشهادات، الحديث 1 و 2؛ ولاحظ سائر روايات الباب، وكذا روايات الباب 37.
2- . الوسائل: 18، الباب 36 من أبواب كتاب الشهادات، الحديث 4؛ ولاحظ روايات الباب 37.

الحدود والتعزيرات

3 حدّ السرقة
الآيتان: الأُولى والثانية
اشارة

قال سبحانه: «وَ اَلسّارِقُ وَ اَلسّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اَللّهِ وَ اَللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَ أَصْلَحَ فَإِنَّ اَللّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ».(1)

المفردات

فاقطعوا: القطع يستعمل تارة في فصل العضو عن مكانه، وأُخرى في جرحه كما في قوله تعالى: «فَلَمّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَ قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ».(2) وأُريد في المقام، الوجه الأوّل.

أيديهما: جمع اليد، وهو عضو من بدن الإنسان يطلق إمّا على الأصابع، أو الكف، أو المجموع من المرفق إلى أطراف الأصابع، بل ربما يطلق على المجموع ابتداء من المنكب، وعلى ذلك فالآية تكون مجملة من حيث موضع القطع، ولا

ص: 265


1- . المائدة: 38-39.
2- . يوسف: 31.

يعلم ما هو الواجب إلّابالسنة.

نكالاً: النكل: المنع، ويطلق على قيد الدابة وحديدة اللجام لكونهما مانعين ويكون المراد عبرة للآخرين ومانعاً عن ارتكابهم. قال الخليل: النكال اسم لما جعلته نكالاً لغيره إذا بلغه، أو رآه خاف أن يعمل عمله.(1)

التفسير
اشارة

قبل الدخول في تفسير الآيتين نذكر النكات المهمّة التالية:

أوّلاً: الظاهر أنّ «الواو» استئنافية وكلّ من «السارق والسارقة» مبتدأ، خبرهما «فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما» ، وأمّا وجه دخول الفاء في الخبر، لأنّ اللام في المبتدأ لام الموصول، فكأنّه قال: مَن سرق، أو مَن سرقت فاقطعوا أيديهما، وقد قُرر في محلّه أنّ المبتدأ إذا تضمّن معنى الشرط يجوز دخول الفاء في خبره.

ثانياً: أنّ الأيدي جمع اليد وأُضيف إلى التثنية، ولو أخذنا بظاهره يجب قطع كلتا اليدين من كلّ من السارق والسارقة، غير أنّ الظاهر أنّ الإتيان بصيغة الجمع لأجل تعدّد المورد، فلو سرق أربعة أشخاص وقطعت يد كلّ واحد منهم لصدق أنّه قطعت أيديهم.

ثالثاً: أنّ الخطاب في قوله سبحانه: «فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما» في الواقع موجّه للحاكم الشرعي، وتوضيح ذلك: أنّ في نظام الإسلام أمرين:

1. أُمور فردية كالصلاة والصيام وإكرام الوالدين، إلى غير ذلك من الأُمور المطلوبة من الفرد.

2. سلسلة تكاليف وواجبات موجهة إلى المجتمع الإسلامي، فاللّه سبحانه

ص: 266


1- . العين للفراهيدي: 372/5، مادة «نكل».

يأمر المجتمع بقوله: «وَ اَلسّارِقُ وَ اَلسّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما» كما يأمر بجلد الزاني والزانية ويقول: «اَلزّانِيَةُ وَ اَلزّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ»(1) ، كما يأمر بالمرابطة والدفاع عن ثغور الوطن الإسلامي ويقول: «يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِصْبِرُوا وَ صابِرُوا»(2) ، ويأمر بقتال البغاة والطغاة حتى يفيئوا إلى الحقّ ويكفّوا عن البغي، قال سبحانه: «وَ إِنْ طائِفَتانِ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ اِقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى اَلْأُخْرى فَقاتِلُوا اَلَّتِي تَبْغِي حَتّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اَللّهِ»(3) ، إلى غير ذلك من الآيات التي تأخذ المجتمع الإيماني موضوعاً للحكم، ومن المعلوم أنّ هذه التكاليف والواجبات المتوجّهة شرعاً إلى المجتمع ممّا لا يمكن القيام بها وأداؤها دون جماعة متفرّغة لذلك، ودون جهاز مقتدر يتولّى تنفيذها، وهذا يوجب على المجتمع الإسلاميّ أن يقوم بتشكيل حكومة تتقبّل مسؤولية القيام بهذه التكاليف، وتطبيق النظم الاجتماعية الإسلامية، والوظائف المتوجّهة إلى المجتمع أساساً، صيانة للمجتمع من الانهيار، وحفظاً لمصالحه وشؤونه، إذ بغير هذه الصورة لن يكون هناك إلّاالهرج والمرج والفوضى والفساد الذي يأباه الإسلام بشدّة، وترفضه تعاليم السماء أشدّ الرفض.

كلّ ذلك إذا لم يكن هناك حاكم منصوص من اللّه سبحانه، كالنبيّ والإمام لقوله سبحانه: «وَ ما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَ لا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اَللّهُ وَ رَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ اَلْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ»(4) وإلّا فلا تصل النوبة إلى المجتمع، وبما أنّ المجتمع غير6.

ص: 267


1- . النور: 2.
2- . آل عمران: 200.
3- . الحجرات: 9.
4- . الأحزاب: 36.

عارف بالحدود الشرعية للحكومة، يجب أن يكون النظام مؤيداً بفقيه جامع للشرائط عارف بالكتاب والسنّة والظروف السائدة على المجتمع، فتكون الحكومة شعبية من جانب وإلهية من جانب آخر، والتفصيل في محلّه.

رابعاً: ذكر السارق والسارقة لئلّا يتوهّم أنّ الحكم مختصّ بالرجال دون النساء، وقدّم الرجال على النساء، لأنّ هذه الجريمة ممّا يُقدم عليها الرجال أكثر من النساء، على خلاف الزنا. والآية تتضمّن حكماً جزائياً لكلّ من السارق والسارقة لأجل استقرار الأمن المالي في المجتمع، والآية وإن كانت مطلقة ولكن الفقهاء تبعاً للسنّة الشريفة قيّدوا إطلاقها بقيود كثيرة فلا تقطع يد السارق والسارقة إلّا بعد شروط نذكر منها ما يلي:

1. البلوغ، فلو سرق الطفل لم يُحدّ، ولكن يؤدّب.

2. العقل، فلا يقطع المجنون، بل يؤدّب.

3. ارتفاع الشبهة، فلو توهّم المُلك، فبان غير مالك لم يقطع. وكذا لو كان المال مشتركاً فأخذ ما يظن أنّه قدر نصيبه سرّاً.

4. هتك الحرز، أي كون المال محرزاً موضوعاً في محلّ يمنع من الضياع والتلف، فلا قطع فيما ليس بمحرز.

5. إخراج المال بالمباشرة والتسبيب على نحو ينسب الفعل فيه إلى ذي التسبيب.

6. ألّا يكون السارق والداً يأخذ من مال ولده.

7. أن يأخذه سرّاً. فلو هتك قهراً ظاهراً وأُخذ، لم يقطع، كما هو الحال في قُطّاع الطريق.

ص: 268

هذا كلّه في السارق، وأمّا المسروق:

8. لا قطع فيما نقص عن ربع دينار، ويقطع فيما بلغه ذهباً خالصاً مضروباً عليه السكّة.

9. ألا يكون في مجاعة، فلا قطع على مَن سرق مأكولاً في عام المجاعة.

وهناك شروط أُخرى ذكرها الفقهاء في كتاب الحدود.(1)

ومن الشبه المتداولة حول مسألة القطع والتي نشرها بعض الملحدين، قائلاً بأنّ دية اليد في الشريعة الإسلامية هي 500 دينار، ولكنّها إذا سرقت تقطع بربع دينار، وهذا تناقض واضح. ولكنّ الملحد غفل عن أنّ الدية المقرّرة إنّما هي لليد الأمينة لا الخائنة، فإذا خانت فلا قيمة لها، ولا احترام، ولذلك لما أنشد الملحد قوله:

يد بخمس مئين عسجد فديت ***ما بالها قطعت في ربع دينار

أجابه السيد المرتضى رحمه الله بقوله:

عِزّ الأمانة أغلاها، وأرخصها ***ذلُّ الخيانة فافهم حكمة الباري(2)

خامساً: موضع القطع

اختلفت كلمة الفقهاء في موضع القطع، فالإمامية على أنّ موضعه قطع الأصابع الأربعة من اليد اليمنى وترك الراحة والإبهام، وقال جميع الفقهاء: إنّ القطع في اليد من الكوع، وهو المفصل الذي بين الكفّ والذراع. وقالت الخوارج:

ص: 269


1- . لاحظ كتابنا: الحدود والتعزيرات في الشريعة الإسلامية الغرّاء: 289-393.
2- . القواعد والفوائد للشهيد الأوّل: 42/1. يلاحظ أنّ الآلوسي قد نسب هذا البيت إلى علم الدين السخاوي. لاحظ: روح المعاني: 134/6.

يقطع من المنكب لأنّ اسم اليد يقع على هذا.(1)

ويدلّ على قول الإمامية ما تضافر عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام في هذا الباب، فلنتبرّك بنقل بعض ما يدلّ عليه:

1. روى الحلبي، عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: قلت له: من أين يجب القطع؟ فبسط أصابعه وقال: «من هاهنا»، يعني: من مفصل الكف.(2)

2. وروى أبو بصير، عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «القطع من وسط الكف، ولا يقطع الإبهام، وإذا قطعت الرِّجْل تُرِك العقب لم يقطع»(3).

روى محمد بن عبد اللّه بن هلال عن أبيه، عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: قلت له:

أخبرني عن السارق لِمَ تقطع يده اليمنى ورجله اليسرى ولا تقطع يده اليمنى ورجله اليمنى؟ فقال عليه السلام: «ما أحسن ما سألت، إذا قطعت يده اليمنى ورجله اليمنى، سقط على جانبه الأيسر، ولم يقدر على القيام، فإذا قطعت يده اليمنى ورجله اليسرى، اعتدل واستوى قائماً. قلت له: جعلت فداك وكيف يقوم وقد قطعت رجله؟ قال: إنّ القطع ليس من حيث رأيت يقطع، إنّما يقطع الرجل من الكعب ويترك من قدمه ما يقوم عليه يصلي ويعبد اللّه. قلت له: من أين تقطع اليد؟ قال: تقطع الأربع أصابع وتترك الإبهام يعتمد عليها في الصلاة ويغسل بها وجهه للصلاة...».(4)

والتفصيل يجده القارئ في البحوث الفقهية.7.

ص: 270


1- . الخلاف: 437/5؛ شرائع الإسلام: 176/4.
2- . الوسائل: 18، الباب 4 من أبواب حدّ السرقة، الحديث 1.
3- . الوسائل: 18، الباب 14 من أبواب حدّ السرقة، الحديث 2.
4- . الكافي: 225/7.
سادساً: سقوط الحدّ بالتوبة قبل ثبوته

إنّ حدّ السرقة يسقط بالتوبة كغيره من الحدود، قبل أن يثبت عند الحاكم، ففي صحيح عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «السارق إذا جاء من قبل نفسه تائباً إلى اللّه عزّ وجلّ، تُرد سرقته إلى صاحبها ولا قطع عليه».(1)

ويمكن أن يستدل عليه بما ورد في المحارب، فإنّه إن تاب قبل رفع أمره إلى الحاكم يسقط الحدّ، فكيف في المقام، يقول سبحانه في حقّ المحارب «إِلاَّ اَلَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اَللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ»(2) والاستدلال من قبيل القياس الأولوي، مضافاً إلى قوله سبحانه في المقام: «فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَ أَصْلَحَ فَإِنَّ اَللّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» .

سابعاً: ردّ المسروق إلى صاحبه

يجب ردّ المسروق إلى صاحبه، سواء أُقيم الحدّ على السارق أم لا. ونقل صاحب المنار عن بعض الفقهاء من عدم الجمع بين الحدّ وغرامة المال المسروق، وردّ عليه بقوله: فإنّ الحدّ حقّ اللّه تعالى لمصلحة عباده عامّة، والمال حقّ من سُرق منه خاصّة.(3)

وقد ورد في روايات أئمّة أهل البيت عليهم السلام: «السارق يتبع بسرقته وإن قطعت يده ولا يترك أن يذهب بمال امرئ مسلم» وورد أيضاً في صحيح سليمان بن

ص: 271


1- . الوسائل: 18، الباب 16 من أبواب مقدمات الحدود، الحديث 1.
2- . المائدة: 34.
3- . تفسير المنار: 382/6.

خالد قال: قال أبو عبد اللّه عليه السلام: «إذا سرق السارق قطعت يده وغرم ما أخذ».(1)

ثامناً: شبهة حول حدّ السرقة

أثار بعض الغربيّين وتابعهم بعض الشرقيّين، شبهة حول حدّ السرقة وهي القطع، فقالوا: إن جعل القطع حدّاً وعقاباً للسرقة، يُسبّب أثرين غير مرضيين، وهما:

الأوّل: إنّ اللّه سبحانه خلق اليد للعمل حتى يعيش الإنسان بكدّ يمينه، فإذا قطعت اليد عجز عن العمل، وبهذا يكون عالة على المجتمع.

الثاني: إنّ في قطع اليد أثراً نفسياً سيّئاً على السارق حيث إنّه إذا خرج إلى المجتمع مقطوع اليد يورث عدم الثقة به وعدم احترامه من قبل الناس، وبالتالي يصير إنساناً معقّداً، كما أنّه يخرج إلى المجتمع بصورة إنسان مشوّه.

يلاحظ على الأوّل: أنّ قطع أحد اليدين لا يمنع الإنسان من العمل خصوصاً على قول الإمامية من أنّ موضع القطع هو الأصابع الأربعة، فإنّ العمل ممكن بما بقي في اليد اليمنى والكف اليسرى.

ويلاحظ على الثاني: أنّ القائل به ينظر إلى الحكم من منظار الفرد (السارق) فيترحّم عليه، ولكنّه غفل عمّا هو المهم وهو تقديم مصالح المجتمع على مصالح الفرد، لأنّها أهمّ، فالشارع بتشريعه هذا يُريد قطع هذه الظاهرة الخطرة من الجذور.

ويشهد على ما ذكرنا أنّ القوانين الوضعية وما شرّعته من عقوبات للسرقة، لم تنتج إلّاانتشار السرقة وتنوّع وسائلها وأساليبها، على نحو أصبحت السجون تغصّ بالسرّاق، وهم يتعلّمون فيها أساليب جديدة لهذه الجريمة، ويتعلّمون كيفية

ص: 272


1- . الوسائل: 18، الباب 10 من أبواب حدّ السرقة، الحديث 4، ولاحظ الحديث 1.

التخلّص عن المتابعة القانونية لهم.

ثمّ إنّ ما يترتّب على قطع اليد من العقد النفسية أو تشويه الخلقة، فإنّما هو نتيجة اكتسبها الإنسان بسرقة الأموال والإخلال بالأمن في المجتمع ولا يلومنّ إلّا نفسه.

تاسعاً: ختام الآية

ختم اللّه سبحانه الآية بذكر اسمين من أسمائه الحسنى وقال: «وَ اَللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» * مشعراً بأنّ المقام مقام العزّة والقدرة، فالحاكم الإسلامي مظهر عزّ اللّه سبحانه وقدرته، يقطع يد السارق التي أخلّت بأمن المجتمع، وهو حكيم في تشريعه هذا.

ومن لطيف ما روي عن الأصمعي أنّه قال: كنت أقرأ سورة المائدة ومعي أعرابي فقرأت هذه الآية فقلت: «وَ اَللّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ» * سهواً. فقال الأعرابي: كلام مَن هذا؟ فقلت: كلام اللّه. قال: أعد. فأعدت «وَ اَللّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ» * ثم تنبّهت فقلت: «وَ اَللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» * فقال: الآن أصبت. فقلت: كيف عرفت؟ قال: يا هذا «عَزِيزٌ حَكِيمٌ» * فأمر بالقطع. فلو غفر ورحم لما أمر بالقطع.(1)

وهذا إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على أنّ فواصل الآيات التي تختتم بأسماء اللّه الحسنى لها صلة بمضمون الآية، وهذا أيضاً من معاجز القرآن الكريم وأنّه وحي من اللّه تعالى، وإلّا فالإنسان العادي الذي عاش وسط المجتمع الأُمّي يغفل عن التناسب بين الصدر والذيل من كلماته خصوصاً إذا تلا كثيراً من الآيات وهو يخوض معارك الحرب و القتال.

ص: 273


1- . تفسير الرازي: 229/11؛ تفسير المنار: 384/6.
عاشراً: فتح باب الأمل للمجرم بالتوبة

يفتح اللّه سبحانه أمام السارق باب الأمل والعودة إلى المجتمع، وهو أنّه لو تاب وندم على عمله فسوف يغفر اللّه له كما قال: «فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ» : أي أقلع وندم على ما صدر منه من فعل الظلم بالسرقة، «وَ أَصْلَحَ» ولعلّه إشارة إلى صدور فعل جميل منه، ويكون مفاد الآية من أصلح باطنه وظاهره «فَإِنَّ اَللّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ» : أي يقبل توبته، فإنّ باب التوبة مفتوح للعصاة «إِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» فكونه غافراً للذنوب ورحيماً بعباده، يقبل توبة مَن ندم وأصلح ظاهره، وقد مضى الكلام في حكم التائب قبل الثبوت عند الحاكم في الآية السابقة.

قال السيوطي: أخرج أحمد وابن جرير وابن أبي حاتم عن عبد اللّه بن عمر:

إنّ امرأة سرقت على عهد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فقطعت يدها اليمنى، فقالت: هل لي من توبة يا رسول اللّه؟ قال: نعم، أنت اليوم من خطيئتك كيوم ولدتك أمّك، فأنزل اللّه في سورة المائدة: «فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَ أَصْلَحَ فَإِنَّ اَللّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ»(1).

ص: 274


1- . الدر المنثور: 74/3.

الحدود والتعزيرات

4 حدّ المحارب
الآية الأُولى
اشارة

قال سبحانه: «إِنَّما جَزاءُ اَلَّذِينَ يُحارِبُونَ اَللّهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَسْعَوْنَ فِي اَلْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ اَلْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي اَلدُّنْيا وَ لَهُمْ فِي اَلْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ».(1)

المفردات

يحاربون اللّه: أُريد الاعتداء على الناس، فكأنّه اعتداء على اللّه وعلى الرسول صلى الله عليه و آله و سلم.

يصلّبوا: الصُلب هو الظهر، ويراد هنا: تعليق الإنسان للقتل وهو شدّ صلبه على الخشب حتى يموت جوعاً وعطشاً. ويقال: إنّ الصلب يكون بعد القتل لأجل العبرة، والأوّل أفضل إذ لا يكون الصلب حينئذٍ عقوبة ثانية. إلّاإذا كانت الغاية من

ص: 275


1- . المائدة: 33.

الصلب هو الخزي كما في قوله: «لَهُمْ خِزْيٌ فِي اَلدُّنْيا» وإن لم يكن عقوبة.

من خلاف: إذا قطعت اليد اليمنى تقطع الرجل اليسرى، والعكس بالعكس.

خزي: الذُّلّ والفضيحة.

التفسير

لمّا أشارت الآية السابقة إلى تغليظ الإثم في قتل النفس بشرطين، أي «مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي اَلْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ اَلنّاسَ جَمِيعاً وَ مَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا اَلنّاسَ جَمِيعاً»(1) جاءت هذه الآية لبيان الشقّ الثاني، أعني: الفساد في الأرض الذي يبرّر القتل.

ولنذكر شأن نزول الآية ليكون كالتوضيح لمفادها.

روى الطبري بسنده عن أنس، قال: قدم ثمانية نفر من عُكلٍ على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، فأسلموا، ثم اجتووا المدينة، فأمرهم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أن يأتوا إبل الصدقة (يخرجوا إلى إبل الصدفة) فيشربوا من أبوالها وألبانها، ففعلوا (فصحّوا)، فقتلوا رعاتها، واستاقوا الإبل. فأرسل رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في أثرهم قافة، فأُتي بهم، فقطع أيديهم وأرجلهم، وتركهم فلم يحسمهم حتى ماتوا.(2)

ثمّ إنّه يقع الكلام في تفسير الآية في موضعين:

الأوّل: تعريف المحارب

الثاني: حدّه الوارد في الآية

ص: 276


1- . المائدة: 32.
2- . تفسير الطبري: 270/4، برقم 11818. وفيه روايات أُخرى بهذا المضمون. قوله: «اجتووا» أي كرهوا. ولكن لفظ الطبرسي أوضح. لاحظ: مجمع البيان: 188/2.
الموضع الأوّل: تعريف المحارب
اشارة

فهو وإن كان عنواناً لغوياً لكنّه من مصطلحات القرآن أيضاً، ولا يعرف المراد منه إلّاباجتماع أمرين ذكرا في الآية، وهما:

1. محاربة اللّه ورسوله

المحاربة من باب المفاعلة ولم ترد في القرآن الكريم إلّافي موردين: الأوّل في المقام والثاني في قصة مسجد الضرار، قال تعالى: «وَ اَلَّذِينَ اِتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَ كُفْراً وَ تَفْرِيقاً بَيْنَ اَلْمُؤْمِنِينَ وَ إِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اَللّهَ وَ رَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ»(1) ، وبهذه الآية يمكن استكشاف المراد من قوله سبحانه: «يُحارِبُونَ اَللّهَ وَ رَسُولَهُ» وهو عدم الإذعان لدينه وشرعه في كافّة المجالات وحاولوا القضاء على ما جاء به النبي صلى الله عليه و آله و سلم... فما روي عن الجصّاص من أنّ الآية على حذف المضاف أي يحاربون أولياء اللّه ورسوله، ليس بجيّد، فإنّ ذكر لفظ الجلالة والرسول رمز دينه وشرعه، فإنّ أبا عامر الراهب أراد القضاء على الإسلام باجتماع أنصاره في مسجد الضرار وتخطيط الأمر على ذلك.

2. الإفساد في الأرض

قال تعالى: «وَ يَسْعَوْنَ فِي اَلْأَرْضِ فَساداً» وأُريد به النهب والقتل وإحراق المزارع وانتهاك الأعراض بشهادة قوله سبحانه: «وَ إِذا تَوَلّى سَعى فِي اَلْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَ يُهْلِكَ اَلْحَرْثَ وَ اَلنَّسْلَ»(2).

ص: 277


1- . التوبة: 107.
2- . البقرة: 205.

وقد فسّر الطبرسي قوله: «لِيُفْسِدَ فِيها» بقطع الرحم وسفك الدماء وإهلاك الحرث والنسل، أي البنات والأبناء.(1)

إذا عرفت ذلك فظاهر الآية لا ينطبق إلّاعلى طائفة خاصّة، وهم مَن يحاربون النظام الإسلامي في العهد النبوي أو العلوي، وأشاعوا الإرهاب في الطرق والبلاد، بقتل الأبرياء والإغارة على أموالهم وممتلكاتهم، وهذا ما يقال عنه:

هؤلاء يحاربون اللّه ورسوله يريدون القضاء على النظام الإسلامي كالمارقين في العهد العلوي ويفسدون في الأرض بإشاعة الإرهاب بين الناس وقتل الأبرياء.

لكن الظاهر من الفقهاء كون الموضوع أوسع من ذلك.

قال المحقّق: المحارب: كلّ مَن جرّد السلاح لإخافة الناس، في برّ أو بحر، ليلاً كان أو نهاراً، في مصر وغيره.(2)

وقال الشيخ: المحارب الذي ذكره اللّه تعالى في آية المحاربة هم قُطّاع الطريق الذين يشهرون السلاح ويخيفون السبيل.(3)

وقال ابن إدريس: المحارب كلّ مَن شهر السلاح لإخافة الناس في برٍّ كان أو في بحر، في العمران والأمصار، أو في البراري والصحاري.(4)

فلو تمّ الإجماع على ذلك فهو، وإلّا فشموله لبعض هذه الأقسام موضع تأمّل. والظاهر لزوم وجود شرطين: 1. التمرّد على النظام. 2. السعي في الفساد.3.

ص: 278


1- . مجمع البيان: 55/2.
2- . شرائع الإسلام: 180/4.
3- . الخلاف: 457/5، المسألة 1.
4- . السرائر: 505/3.

ثمّ إنّ الأصحاب لمّا وسّعوا معنى المحارب فرّعوا عليه فرعين:

هل يثبت هذا الحكم للطليع وهو المراقب للمارّة، ليخبر قُطاع الطريق، أو الردء، أعني: المعين لقطاع الطريق في ضبط الأموال ونحوها؟ المشهور عن الأصحاب عدم الشمول. قال المحقّق: فلا يثبت هذا الحكم للطليع ولا للردء.(1)

هذا كلّه حول تعريف المحارب.

نعم هنا عنوان آخر غير المحارب، وهو عنوان «المفسد في الأرض» الذي جاء في قوله سبحانه: «وَ مِنَ اَلنّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا وَ يُشْهِدُ اَللّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَ هُوَ أَلَدُّ اَلْخِصامِ»(2) ، و «وَ إِذا تَوَلّى سَعى فِي اَلْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَ يُهْلِكَ اَلْحَرْثَ وَ اَلنَّسْلَ وَ اَللّهُ لا يُحِبُّ اَلْفَسادَ»(3).

وهل العنوانان متعدّدان مصداقاً أو متحدان فيه؟ يظهر من الطبرسي التوحّد:

قال: «سَعى فِي اَلْأَرْضِ»: أي أسرع في المشي من عندك «لِيُفْسِدَ فِيها» قيل: ليقطع الرحم ويسفك الدماء، وقيل: ليظهر الفساد ويعمل بالمعاصي، «وَ يُهْلِكَ اَلْحَرْثَ وَ اَلنَّسْلَ» : أي البنات والأولاد، وروي عن الصادق أنّ الحرث في هذا الموضع:

الدين، والنسل: الناس.(4)

الموضع الثاني: حدّ المحارب

المستفاد من الآية أنّ حدّ المحارب هو أحد الأُمور التالية:

ص: 279


1- . شرائع الإسلام: 180/4.
2- . البقرة: 204.
3- . البقرة: 205.
4- . مجمع البيان: 80/2، ط مصر.

1. «أَنْ يُقَتَّلُوا» من باب التفعيل بالتشديد مكان أن يقول: «يُقتلوا»، ولعلّه إشارة إلى أنّ القتل حتم لابد منه حتى ولو أنّ المفسد قتل نفساً وعفا عنه ولي المقتول، فلا يُعفى عنه، قيل للإمام أبي جعفر عليه السلام: أرأيت إن أراد أولياء المقتول أن يأخذوا منه الدية ويدعونه ألهم ذلك؟ قال: «لا، عليه القتل».(1)

قال المحقّق: إذا قتل المحارب غيره طلباً للمال، تحتّم قتله فوراً، إن كان المقتول كفواً، ومع عفو الولي حُدّ، سواء كان المقتول كفواً أو لم يكن.(2)

2. «أَوْ يُصَلَّبُوا» والمبالغة فيه كالمبالغة في القتل.

3. «أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ» وقد ذكرنا تفسير القطع من خلاف في المفردات. وفي موضع القطع إجمال، ويمكن أن يقال: الميزان ما يقطع في حدّ السرقة وهل يترك حتى ينزف ويموت كما عليه بعض الأصحاب استناداً إلى رواية «طلحة بن زيد» في مورد الأُسارى بأنّهم إذا أخذ الأسير قبل أن تضع الحرب أوزارها، تقطع يديه وأرجله من خلاف وترك يتشخط في دمه حتى يموت.(3)

أقول: إنّ طلحة بن زيد عامي لا يمكن الاحتجاج بروايته في مقابل ظاهر الآية في أنّ حكمه نفس حكم السارق، بل يمكن استظهار الخلاف من الآية حيث جاء الحد الثالث بعد القتل والصلب، أو يحمل على ما إذا لم يقتل نفساً وإنّما أخذ المال، فيجري فيه حكم السرقة بأشد الصور.

4. «أَوْ يُنْفَوْا مِنَ اَلْأَرْضِ» . وهذا إذا لم يقتل نفساًمحرمة ولم يأخذ مالاً بل1.

ص: 280


1- . الوسائل: 18، الباب 1 من أبواب حدّ المحارب، الحديث 1 و 2.
2- . شرائع الإسلام: 181/4.
3- . الوسائل: 11، الباب 23 من أبواب جهاد العدو، الحديث 1.

شهر سيفه وأخاف.

وحصيلة الكلام: أنّ القتل والصلب محمول على ما إذا قتل نفساً محرمة مع أخذ المال، وقطع الأيدي والأرجل محمول على ما إذا لم يقتل نفساً بل أخذ المال.

والنفي محمول على ما إذا أشهر سيفه وأخاف من دون قتل وأخذ مال، كلّ ذلك استظهاراً بالترتيب الوارد في الآية من الأشدّ إلى الأخف.

قال الطبرسي: الذي يذهب إليه أصحابنا الإمامية أن ينفوا من بلد إلى بلد حتى يتوب ويرجع، وقال أبو حنيفة وأصحابه: إنّ النفي هو الحبس والسجن.

وعلّق عليه صاحب المنار وقال: وهو أغرب الأقوال، فالحبس عقوبة غير عقوبة النفي، والإخراج من الأرض (والحمل) يحتاج إلى دليل. والمقام مقام بيان حدود اللّه لا التعزير المفوّض إلى أُولي الأمر.(1)

ومع ذلك فقد استدلّ له بأنّ العرب تستعمل النفي بذلك المعنى، لأنّ الشخص بالسجن يفارق بيته وأهله، وقد قال بعض المسجونين:

خرجنا من الدنيا ونحن من أهلها *** فلسنا من الأموات فيها ولا الأحيا

إذا جاءنا السُّجّان يوماً لحاجة *** عجبنا، وقلنا: جاء هذا من الدنيا(2)

يلاحظ عليه: بأنّ الظاهر نفيه من الأرض التي يعيش عليها إلى أرض أُخرى، وأمّا اعتقاله في مكان خاصّ في نفس البلد لا يوصف بالنفي إلّامجازاً وتخيّلاً كما في شعر الشاعر.6.

ص: 281


1- . تفسير المنار: 361/6.
2- . مجمع البيان: 380/3؛ روح المعاني: 119/6.
هل العقوبات على وجه التخيير أو الترتيب أو التفصيل؟

استدلّ للقول الأوّل بأنّ لفظ «أَوْ» في لسان العرب حقيقة في التخيير، وقد حمل عليه حكم كفّارة اليمين، كما في قوله تعالى: «لا يُؤاخِذُكُمُ اَللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَ لكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ اَلْأَيْمانَ فَكَفّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيّامٍ ذلِكَ كَفّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ وَ اِحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اَللّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ»(1) ، وقد حُمل على التخيير حكم كفّارة الصيد للمحرم كما في قوله تعالى: «يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا اَلصَّيْدَ وَ أَنْتُمْ حُرُمٌ وَ مَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ اَلنَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ اَلْكَعْبَةِ أَوْ كَفّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ عَفَا اَللّهُ عَمّا سَلَفَ وَ مَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اَللّهُ مِنْهُ وَ اَللّهُ عَزِيزٌ ذُو اِنْتِقامٍ».(2)

يلاحظ عليه: أنّ الجزاء على قدر الجناية فيزداد بزيادة الجناية وينقص بنقصانها بمقتضى العقل والسمع، فالتخيير بالجزاء بمعنى التساوي بين الجناية القليلة والجناية الكثيرة، خلاف المعهود في الشرع، ومن المعلوم أنّ الإفساد في الأرض ذو درجات مختلفة فأين من قتل نفساً ممّن أباد طائفة؟!

ولذلك نرى أنّ بعض القائلين بالتخيير فسّره بقوله: ولا يبعد أن يكون الأولى للحاكم أن يلاحظ الجناية ويختار ما يناسبها، فلو قتل، أختار القتل أو الصلب، ولو أخذ المال اختار القطع، ولو شهر السيف وأخاف فقط اختار

ص: 282


1- . المائدة: 89.
2- . المائدة: 95.

النفي.(1)

وأمّا القائل بالترتيب فقد استدلّ بأنّ السبب إذا كان واحداً والجزاء مختلفاً يحمل «أو» على التخيير كما في كفّارة اليمين وكفّارة جزاء الصيد، فالسبب واحد وهو نقض اليمين أو الصيد مُحرماً، فيكون المكلّف مخيّراً بين الأحكام المترتّبة على السبب.

وأمّا إذا كان السبب مختلفاً بالذات - كما في المقام - فتارة يأخذ المال فقط، وأُخرى يقتل، وثالثة يجمع بين أخذ المال والقتل، ورابعة يمارس مجرّد التخويف فقط، فلا يحمل لفظ «أو» في مثله على التخيير، وذلك لأنّ الاختلاف في السبب يقتضي الاختلاف في المسبب - العقاب - فيُحمل قوله: «أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا» على ما إذا قتلوا وأخذوا المال، ويُحمل قوله: «أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ» على ما إذا أخذوا المال فيقطعوا، مثل ما يقطع في السرقة كما يُحمل قوله: «أَوْ يُنْفَوْا مِنَ اَلْأَرْضِ» على ما إذا أخاف الطريق فقط، ولم يقتل نفساً ولم يأخذ مالاً.

هذا كلّه بالنظر إلى الآية، وأمّا بالنظر للروايات فالمتضافر هو الترتيب.(2)

وتمام الكلام في المصادر الفقهية.

ثمّ إنّه سبحانه أكمل الآية بأنّ لهم مضافاً إلى هذا الحدّ أمرين:

1. «ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي اَلدُّنْيا» : أي فضيحة وهوان في الدنيا.

2. «وَ لَهُمْ فِي اَلْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ».

والفقرة الأخيرة تدلّ على عظمة الجريمة بحيث لا يُكفّرها الحدّ.1.

ص: 283


1- . تحرير الوسيلة: 444/2، المسألة 5.
2- . لاحظ: الوسائل: 18، الباب 1 من أبواب حدّ المحارب، الحديث 5، 6 و 11.
الآية الثانية

قال سبحانه: «إِلاَّ اَلَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اَللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ».(1)

إنّ من مظاهر رحمة اللّه تعالى هو استثناء مَن تاب وندم على عمله قبل أن يُؤخذ ويُقدر عليه، فإنّ الندامة في تلك الحالة آية أنّ توبته توبة نصوح نابعة عن وعي باطني، بخلاف ما لو تاب بعد وقوعه في يد الإمام وقيام البيّنة على جريمته إذ أنّ توبته في هذه الحالة نابعة عن الخوف من إجراء الحدّ، دون تطهير النفس من أدران المعصية، وإلى ما ذكرنا يشير قوله تعالى: «إِلاَّ اَلَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ» :

أي يقعوا في يد الإمام «فَاعْلَمُوا أَنَّ اَللّهَ غَفُورٌ» يقبل توبتهم «رَحِيمٌ» لا يعذّبهم في الآخرة.

إنّ هذا الاستثناء من حقوقه تعالى، أمّا حقّ الآدمي من القتل والجرح والمال، فلا يسقطه إلّاالقصاص والأداء، سواء أكان المال موجوداً بعينه أو تلف فليزمه حينئذٍ قيمته، وقال بعضهم: الاستثناء من كلّ حقّ، إلّاأن يوجد عين المال فيؤخذ منه، وتقييد التوبة بكونها قبل القدرة يدلُّ على أنّها لو حصلت بعد القدرة لم يسقط الحدّ وإن سقط العقاب الأُخروي.(2) والمساعدة معه مشكلة كيف يمكن أن يسقط حق القصاص، أو اشتغال ذمّته بمال الغير، باتلافه، والظاهر انّ الاستثناء ناظر إلى العذاب الأُخروي بشهادة وقوعه بعد قوله: «وَ لَهُمْ فِي اَلْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ» . واللّه العالم

ص: 284


1- . المائدة: 34.
2- . كنز العرفان: 353/2.

الفصل الثامن عشر: أحكام القصاص في الذكر الحكيم

اشارة

تمهيد

تشريع القصاص والتخيير بينه وبين الدية.

القصاص فيه حياة المجتمع.

شبهات حول القصاص.

الجزاء على قدر الجريمة.

موقف خالد لأمير المؤمنين عليه السلام

التعامل بالمثل عند الاعتداء.

ص: 285

ص: 286

القصاص في الذكر الحكيم

ربما يتبادر إلى الأذهان أنّ القصاص أيضاً حدّ من حدود اللّه تعالى، شرّعه لوارث من قُتل مظلوماً، وعلى ذلك فكان اللازم دراسته تحت باب الحدود، دون فتح باب مستقلّ له.

ومع ذلك يمكن أن يُقال بوجود الفرق بين الحدّ والقصاص، فإنّ الأوّل من حقوق اللّه سبحانه، إثباتاً ونفياً، وأمّا القصاص فإنّه وإن كان حكماً شرعياً لكن إجراؤه بيد الوارث، فله العفو على الجاني، وله القصاص.

وبعبارة أُخرى: الحدود بيد اللّه سبحانه، وأمّا القصاص فبعد التشريع بيد الوارث، ولذلك جعلناه فصلاً مستقلاً.

تمهيد

لا شكّ أنّ الشارع اهتمّ بالدماء أتمّ الاهتمام، فقد شرّع التقية لصيانة الدماء، فلو بلغت التقيّة حدّ إراقة الدماء فلا تقيّة. ويكفي في اهتمام الشارع بذلك أنّه جعل قتل نفس واحدة بمنزلة قتل الناس جميعاً، وإحياءها إحياء الناس جميعاً، لذلك قال سبحانه: «مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي اَلْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ اَلنّاسَ جَمِيعاً وَ مَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا اَلنّاسَ جَمِيعاً وَ لَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي اَلْأَرْضِ

ص: 287

لَمُسْرِفُونَ»(1)، وقد ورد حكم القصاص في الذكر الحكيم في الآيات التالية:

الآية الأُولى

اشارة

قال سبحانه: «يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ اَلْقِصاصُ فِي اَلْقَتْلى اَلْحُرُّ بِالْحُرِّ وَ اَلْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَ اَلْأُنْثى بِالْأُنْثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْ ءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَ أَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ رَحْمَةٌ فَمَنِ اِعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ».(2)

المفردات

كتب: في التعبير عن حكم الشيء بالكتابة، دلالة أكيدة على تثبيته.

القصاص: تتّبع الأثر، قال سبحانه: «فَارْتَدّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً»(3) ، وكأنّ المجني عليه يتبع الجاني حتّى يأخذ منه ثأر الجناية.

عُفي: من العفو، بدّلت الواو ياء لكسر ما قبله.

فاتّباع: خبر لمبتدأ محذوف، أي فعليه [المجني عليه] اتّباع بالمعروف.

أداء: أي على الجاني أداء الدية إلى المجني عليه بإحسان وبلا مماطلة.

التفسير
تشريع القصاص والتخيير بينه وبين الدية

روى المفسّرون أنّ الآية نزلت في حيّين من العرب، لأحدهما طول على

ص: 288


1- . المائدة: 32.
2- . البقرة: 178.
3- . الكهف: 64.

الآخر، وكانوا يتزوّجون نساءهم بغير مهور، وأقسموا: لنقتلن بالعبد منا، الحرّ منهم، وبالمرأة منا، الرجل منهم، وبالرجل منا، الرجلين منهم، وجعلوا جراحاتهم على الضعف من جراح أُولئك حتى جاء الإسلام، فأنزل اللّه هذه الآية.(1)

وربما قالوا: إنّ واحداً قتل إنساناً من الأشراف، فاجتمع أقارب القاتل عند والد المقتول، وقالوا: ماذا تريد؟ فقال إحدى ثلاث، قالوا: وما هي؟ قال: إما تحيون ولدي، أو تملأون داري من نجوم السماء، أو تدفعوا إليّ جملة قومكم حتى أقتلهم، ثم لا أرى أني أخذت عوضاً.(2)

هذا هو حال العرب المشركين في عصر ما قبل البعثة النبوية، وأمّا اليهود فقد كان القصاص أمراً مكتوباً عليهم، قال سبحانه: «وَ كَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ اَلنَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَ اَلْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَ اَلْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَ اَلْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَ اَلسِّنَّ بِالسِّنِّ وَ اَلْجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفّارَةٌ لَهُ وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اَللّهُ فَأُولئِكَ هُمُ اَلظّالِمُونَ»(3) . وأمّا النصارى فكانت الدّية أمراً مسلّماً عندهم، وعلى هذا فقد جاء الإسلام بحكم وسط بين حتمية القصاص وحتمية الدّية وهو أنّ الخيار بيد ولي الدم، فله أن يقتص وله أن يقنع بالدية، إذا اقتنع بها المجنيّ عليه.

وقد بدأ القرآن الكريم في هذه الآية وما بعدها من الآيات ببيان أحكام اجتماعية بها يحفظ كيان المجتمع وحياته وأمنه وأمانه، خصوصاً في إفراط العرب، في إراقة الدماء، فرب قبيلة قوية إذا قُتِل واحد منهم يسعى رئيس القبيلة في استئصال القبيلة الأُخرى، ولذلك آل الأمر في أغلب القبائل إلى الاحتماء5.

ص: 289


1- . لاحظ: مجمع البيان: 12/2؛ تفسير البيضاوي: 102/1.
2- . تفسير الرازي: 46/5.
3- . المائدة: 45.

بالولاء والحلف والنصرة إلى قبيلة أُخرى، ولولا أنّ الإسلام انقذهم من الهلاك العاجل ربّما ينتهي الأمر إلى استئصال العرب كلّهم، قال سبحانه: «وَ اُذْكُرُوا نِعْمَتَ اَللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَ كُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ اَلنّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اَللّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ»(1) ، فقوله: «وَ كُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ اَلنّارِ» لعلّه إشارة إلى أمر الإبادة «فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها» بإيجاد الأُخوّة وإنساء المحن وتشريع القصاص.

ومن أراد أن يعرف حرصهم على إراقة الدماء لأمر جزئي فله أن يقرأ قصة حرب البسوس في كتاب «بلوغ الإرب» وغيره حتى أصبحت مضرباً للمثل في التشاؤم وقيل: أشأم من البسوس.(2)

إذا عرفت ذلك فلندخل في تفسير الآية.

قوله: «يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ اَلْقِصاصُ فِي اَلْقَتْلى» الخطاب في الآية للمؤمنين، وهو دليل على اختصاص الحكم بالمؤمنين، وأمّا حدّ القصاص فيذكره سبحانه بقوله: «اَلْحُرُّ» يُقتل «بِالْحُرِّ» ، «وَ اَلْعَبْدُ» يُقتل «بِالْعَبْدِ» ، «وَ اَلْأُنْثى» تُقتل «بِالْأُنْثى» . ومعنى الفقرة واضح، إنّما الكلام فيما تهدف الآية إليه؛ وهنا احتمالان:

1. أنّ الآية بصدد بيان شرطية وحدة الصنف في القصاص، وعلى هذا فلا يقتل الحرّ بالعبد، والأُنثى بالذكر.

2. أنّ الآية بصدد بيان عدم التفاضل في أفراد الصنف الواحد، وإبطال ما7.

ص: 290


1- . آل عمران: 103.
2- . لاحظ: بلوغ الإرب في معرفة أحوال العرب: 151/2-157.

عليه أمر الجاهلية من ترك القصاص لشرف أو لقلّة اكتراث، فجاءت الآية تنادي بالتسوية «اَلْحُرُّ بِالْحُرِّ وَ اَلْعَبْدُ بِالْعَبْدِ» : أي لا فضل لحرّ شريف على حرّ ضعيف، ولا لعبيد السادة على عبيد العامّة، فالتقييد لبيان عدم التفاضل في أفراد الصنف، ولا مفهوم له فيما عدا ذلك من تفاضل الأصناف إثباتاً ولا نفياً، وإنّما يُعلم حكم اختلاف أفرادها من دليل آخر.(1)

وحصيلة الكلام: هل الآية بصدد بيان شرطية وحدة الصنف في القصاص، وعلى هذا بما أنّ الحرّ والعبد من صنفين والذكر والأُنثى كذلك، فلو قتل الحر عبداً أو الذكر أُنثى، فلا يقتص من القاتلين؟

أو أنّ الآية بصدد بيان أمر آخر، وهو بيان عدم الفرق بين أفراد الصنف الواحد، فالحرّ الشريف لو قَتَل حُرّاً وضيعاً يُقتل، أو أنّ عبداً مولى شريف قَتَلَ عبداً مولى ضعيف يقتصّ منه، وهكذا الأُنثى الشريفة لو قتلت أُنثى دونها في الشرف، فتقتل بها؟ والظاهر هو المعنى الثاني.

وعلى هذا الاحتمال فالآية لا تدلّ على أنّ الحرّ لا يقتل بالعبد، والذكر بالأُنثى كما لا تدلّ على عكسه فإنّما يؤخذ بالمفهوم حيث لم يذكر للتخصيص غرض سوى الحكم وتبيين ما هو الغرض.(2)

نعم في فقه الإمامية: إذا قتل الحرّ عبداً لا يقتل به، بل يُضرب ضرباً شديداً ويغرم دية العبد؛ وإذا قتلت المرأة رجلاً عمداً كان ولي المقتول بالخيار بين أن يأخذ منها الدية إن رضيت هي وبين أن يقتلها، فإن اختارت القتل فلا يغرم أهلها1.

ص: 291


1- . التحرير والتنوير: 136/2، بتحرير منّا.
2- . تفسير البيضاوي: 102/1.

شيئاً؛ وإذا قتل الرجل امرأة كان وليها بالخيار بين أن يأخذ الدية إن رضي القاتل، وبين أن يقتله الولي على أن يدفع لورثة القاتل نصف دية الرجل.

هذا كلّه في فقه الإمامية، وأمّا عند غيرهم، فقال مالك والشافعي وابن حنبل:

إن الحرّ لا يقتل بالعبد، وقال أبو حنيفة بل يقتل الحرّ بعبد غيره، ولا يقتل بعبده، واتّفق الأربعة على أنّ الرجل يقتل بالمرأة وبالعكس.

وقد خالف أبو حنيفة فقه الإمامية في موردين: 1. قتل الحرّ بعبد غيره، 2.

قتل الرجل بالمرأة على وجه الإطلاق.

وقد تقدّم أنّ المحتّم في مذهب اليهود هو القصاص كما أنّ المحتم عند النصارى هي الدية، ولكن الحكم الإسلامي هو الخيار بين القصاص والدية، أمّا الأوّل فقد مرّ بيانه، وأمّا الدية فهذا ما تذكره الفقرة التالية وهي قوله تعالى: «فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْ ءٌ» قد اختلف المفسّرون في تفسير هذه الفقرة، قال القرطبي: اختلف العلماء في تأويل «مِنْ» و «عُفِيَ» على تأويلات خمس، ثم ذكر الجميع.(1)

ونحن نذكر ما هو الواضح من تلك الوجوه، فنقول:

1. «فَمَنْ» أُريد بالموصول: القاتل.

2. «عُفِيَ لَهُ» الضمير يرجع إلى الموصول، وأُريد من العفو حقّ القصاص وعزم ولي الدم بأن لا يقتصّ.

3. «مِنْ أَخِيهِ» ولي الدم، ووصفه بالأخ إمّا لأنّ الجميع إخوة في الدين أو لإثارة الرأفة، والإشارة إلى أنّ العفو أحبّ عند اللّه.2.

ص: 292


1- . لاحظ: تفسير القرطبي: 253/2.

4. «شَيْ ءٌ» : أي الصلح بالدية. والتعبير عن عوض الدم بشيء لأنّ العوض يختلف بين كونه نقداً أو عروضاً أو غير ذلك، خصوصاً يوم نزول الآية حيث كان النقد قليلاً.

أي عند ما عُفي «ف» على العافي «اتباع بالمعروف»: أي يتبع في مقام الصلح المعروف فلا يشدّد على الجاني ولا يطلب منه ما لا يقدر.

«وَ» على الجاني «أَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ» : أي يؤدّي الدية من دون مماطلة فيها إيذاؤه.

روى الكليني بسنده عن الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السلام، قال:... وسألته عن قول اللّه عزّ وجلّ: «فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْ ءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَ أَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ» قال: «ينبغي للذي له الحقّ أن لا يعسّر أخاه إذا كان قد صالحه على دية، وينبغي للذي عليه الحقّ أن لا يمطل أخاه إذا قدر على ما يعطيه ويؤدّي إليه بإحسان».(1)

فبتيسير ولي الدم في عوض الدم من جانب، وقيام القاتل بدفع العوض بصورة حسنة يرأب الصدع، ولذلك يقول سبحانه: «ذلِكَ» : أي تشريع العفو بدلاً عن القصاص «تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ» للجاني «وَ رَحْمَةٌ» منه له لوضوح أنّ استبدال القتل بالتعويض المادّي نوع تخفيف للجاني ورحمة له.

نعم بعدما تمّ الصلح وأُخذت الدية، فليس لولي الدم الانتقام من القاتل بقتله، كما يقول: «فَمَنِ اِعْتَدى» : أي ولي الدم «بَعْدَ ذلِكَ» : أي بعد المصالحة «فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ» ، لأنّ اعتداءه عليه يُعدّ اعتداء ابتدائياً.

روى الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السلام، قال:... وسألته عن قول اللّه عزّ7.

ص: 293


1- . الكافي: 358/7.

وجلّ: «فَمَنِ اِعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ» فقال: «هو الرّجل يقبل الدّية أو يعفو أو يصالح، ثمّ يعتدي فيقتل فله عذاب أليم، كما قال اللّه عزّ وجلّ».(1)

الآية الثانية

اشارة

قال سبحانه: «وَ لَكُمْ فِي اَلْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي اَلْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ».(2)

القصاص فيه حياة المجتمع

إنّ قتل النفس المحترمة عن عمد من الكبائر ومن المعاصي الموبقة، يقول سبحانه «وَ مَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَ غَضِبَ اَللّهُ عَلَيْهِ وَ لَعَنَهُ وَ أَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً»(3) ، وقال سبحانه: «وَ لا تَقْتُلُوا اَلنَّفْسَ اَلَّتِي حَرَّمَ اَللّهُ إِلاّ بِالْحَقِّ»(4).

ثمّ إنّ القرآن الكريم تلقّى قتل نفس واحدة، كقتل جميع الناس، قال: «مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي اَلْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ اَلنّاسَ جَمِيعاً»(5).

كما أنّ إحياء نفس محترمة من أعظم الطاعات حتى تلقّاها الذكر الحكيم كإحياء جميع الناس، كما قال: «وَ مَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا اَلنّاسَ جَمِيعاً»(6).

ص: 294


1- . الكافي: 358/7.
2- . البقرة: 179.
3- . النساء: 93.
4- . الأنعام: 151.
5- . المائدة: 32.
6- . المائدة: 32.

وهذا النوع من التأكيد والتشديد لغاية صدّ الناس عن هذه الجريمة، ما مرّ فقد عالج الشارع المقدّس هذا الداء المنتشر بتشريع القصاص تحت ضوابط معيّنة، قال سبحانه: «وَ لا تَقْتُلُوا اَلنَّفْسَ اَلَّتِي حَرَّمَ اَللّهُ إِلاّ بِالْحَقِّ وَ مَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي اَلْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً»(1) ، فشرّع سبحانه القصاص في إطار خاص، وهو ألّا يُسرف في القتل ولا يأخذ البريء بجرم الجاني، فالغاية من تشريع القصاص المحافظة على دماء الناس.

قال الإمام علي عليه السلام: «فَرَضَ اللّهُ الْإِيمَانَ تَطْهِيراً مِنَ الشِّرْكِ، وَالصَّلَاةَ تَنْزِيهاً عَنِ الْكِبْرِ، وَالزَّكَاةَ تَسْبِيباً لِلرِّزْقِ، وَالصِّيَامَ ابْتِلَاءً لِإِخْلَاصِ الْخَلْقِ، وَالْحَجَّ تَقْرِبَةً لِلدِّينِ، وَالْجِهَادَ عِزّاً لِلْإِسْلَامِ، وَالْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ مَصْلَحَةً لِلْعَوَامِّ، وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ رَدْعاً لِلسُّفَهَاءِ، وَصِلَةَ الرَّحِمِ مَنْمَاةً لِلْعَدَدِ، وَالْقِصَاصَ حَقْناً لِلدِّمَاءِ».(2)

نعم لم يكن تشريع القصاص في الإسلام أوّل تشريع سماوي جاء في القرآن الكريم، بل هو جاء في التوراة، قال سبحانه: «وَ كَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ اَلنَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَ اَلْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَ اَلْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَ اَلْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَ اَلسِّنَّ بِالسِّنِّ وَ اَلْجُرُوحَ قِصاصٌ»(3).

أقول: كما أنّ لصدّ الناس عن التجاوز على الأعراض والأموال قوانين رادعة، بها تصان الأعراض والأموال عن التعدّي، فهكذا النفوس وهي أغلى الأشياء فلابدّ أن يكون لصدّ الناس عن اقتراف هذه الجريمة قانون يصدّ أكثر الناس عن اقتحامها، وهو ليس إلّاتربية المجتمع على هذا التشريع، وهو أنّ من5.

ص: 295


1- . الإسراء: 33.
2- . نهج البلاغة: قصار الحكم، برقم 252.
3- . المائدة: 45.

يَقتل يُقتَل بلا هوادة، فهذا النوع من التفكير يصدّ أكثر الناس عن اقتراف الجريمة، وبذلك يتّضح معنى الآية: «وَ لَكُمْ فِي اَلْقِصاصِ حَياةٌ» أُريد من الحياة صيانة الناس عن القتل «يا أُولِي اَلْأَلْبابِ» فمَن كان يعلم بوجود القصاص يتّقي عن هذه الجريمة كما يقول: «لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ».

إنّ أشدّ ما تتوقّاه نفوس البشر من الحوادث، هو الموت فلو علم القاتل أنّه لا يقتل قصاصاً بل يعاقب بصورة أُخرى لأقدم على القتل مرّة أُخرى، مستخفّاً بسائر العقوبات، فالطريق الوحيد لصيانة نفوس الناس هو تشريع القصاص وتطبيقه في المجتمع.

ثمّ إنّ قوله سبحانه: «وَ لَكُمْ فِي اَلْقِصاصِ حَياةٌ» من جوامع الكلم وأفصحه، وأين هو من الكلمة المعروفة عند العرب: «القتل أنفى للقتل». ثمّ إنّ المفسّرين ذكروا وجوهاً كثيرة لأفضلية الآية على الكلام المعروف، يقول السيد الطباطبائي: إنّ الجملة، أعني قوله تعالى: «وَ لَكُمْ فِي اَلْقِصاصِ حَياةٌ» على اختصارها وإيجازها وقلّة حروفها وسلاسة لفظها وصفاء تركيبها، من أبلغ آيات القرآن في بيانها، وأسماها في بلاغتها، فهي جامعة بين قوّة الاستدلال وجمال المعنى ولطفه، ورقّة الدلالة وظهور المدلول، وقد كان للبلغاء قبلها كلمات في القتل والقصاص تعجبهم بلاغتها وجزالة أُسلوبها ونظمها كقولهم: قتل البعض إحياء للجميع، وقولهم:

أكثروا القتل ليقّل القتل... إلى أن قال: غير أنّ الآية أنست الجميع ونفت الكل.(1)

ثمّ إنّ الآلوسي ذكر لفضل هذا الكلام وجوهاً، فلاحظ.(2)5.

ص: 296


1- . الميزان في تفسير القرآن: 433/1.
2- . لاحظ: روح المعاني: 50/25.
شبهات حول القصاص
اشارة

إنّ بعض الكتّاب المتأثّرين بالحضارة الغربية يطرحون شبهات حول هذا التشريع السماوي، وها نحن نذكرها على وجه الإيجاز ثم نجيب عنها:

1. القصاص علاج جريمة بجريمة مثلها

إذا صدر القتل من إنسان فضّ القلب، فقد ارتكب جناية، فقيام الآخرين بقتله تكرار للجريمة.

وبعبارة أُخرى: إنّ المجتمع الذي خسر (أو نقص) أحد أفراده، يجب ألّا نحمّله خسارة أُخرى بقتل فرد آخر من أفراده.

الجواب: إنّ المعترض ينظر إلى المجتمع بنظر انفرادي، فيصف القصاص من المجرم إعداماً لفرد صالح من المجتمع، وتكراراً للجريمة، وأمّا إذا نظرنا إلى المجتمع بنظرة جماعية كلّية، فقتل المجرم أشبه بقطع عضو زائد مضرّ يحصل في بدن الإنسان ربما يوجب هلاك صاحبه، ففي هذا المقام يقوم الجرّاح بقطع هذا العضو الفاسد لئلّا يسري فساده إلى سائر الأعضاء السالمة ويودي بالحياة، والعجب أنّه يصف القتل الثاني نظير القتل الأوّل في أنّ كليهما جريمة، مع أنّ الأوّل جريمة، ولكن الثاني تخليص للمجتمع من هذا الفرد الجاني الذي ربما لو بقي حيّاً لانتشر الفساد في المجتمع، أي أنّه سوف يقدم على الجريمة مرّة أُخرى.

2. القصاص ينافي الرحمة والرأفة

إنّ الرحمة والرأفة من الأوصاف المحمودة، فقد ورد عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم أنّه قال: «مَن لا يَرحم لا يُرحم» فالإقدام على إعدام الجاني على طرف النقيض من

ص: 297

الرأفة والرحمة التي تنافي التشريع الإسلامي.

الجواب: أنّه ليس كلّ رأفة محمودة وكلّ رأفة فضيلة، فإنّ الترحّم على الجاني المتمرّد ظلم على المجتمع وتعدٍّ بالنسبة إليه، فإنّ الترحّم على الجاني أشبه بالترحّم على الذئب الذي ينتهي إلى ظلم الأغنام.

3. القسوة وحبّ الانتقام أمر مذموم

القسوة وحبّ الانتقام من الصفات المذمومة، فالإنسان الكامل هو مَن يملك قلباً رحيماً ليّناً محباً للناس جمعاء، فإعدام الجاني آية القسوة ونوع انتقام.

الجواب: أنّ تشريع القصاص لا ينطلق من القسوة وحب الانتقام، بل ينطلق من حب بقاء النظام وصيانة الدماء.

4. الجاني مريض يجب علاجه

إنّ مبدأ الجناية وقتل الإنسان البريء رهن عُقد روحية في الجاني، فلابدّ أن يعالج في مراكز العلاج النفسي بحلّ عقده وجعله إنساناً سالماً منها.

الجواب: أنّ كثيراً من الجنايات لا تصدر من إناس يعانون نقصاً أو مرضاً نفسيّاً، وإنّما منطلقها هو حبّ الجاه والمال، وها هم قطّاع الطرق والمحترفون من السرقة يملكون الأموال الطائلة ومع ذلك لا يتوقّفون عن اقتراف الجرائم.

5. ردع الجاني بأعمال إجبارية

آخر ما في كنانة هؤلاء المعترضين هو أنّ تنبيه المجرمين ومعاقبتهم يجب أن يكون بواسطة فرض الأعمال الشاقّة عليهم، أو حبسهم ومنعهم من الاختلاط بالمجتمع مدى الحياة.

ص: 298

الجواب: أنّه لو صحّ ذلك فيجب إلغاء عقوبة الإعدام في عامة الموارد مع أنّا نرى أنّ أصحاب هذه الفكرة لا يعترضون على إعدام الجواسيس وغيرهم، على أنّ التجربة قد أثبتت أنّ السجن إذا طال على المجرم تكون الحياة فيه أمراً معتاداً ولا يؤثّر في خلقه شيء، فلو حُرّر وخرج من السجن يعود إلى الجريمة مرّة، ومرّات.

وحصيلة الكلام: أنّ إلغاء حكم القصاص أشبه بإعطاء الضوء الأخضر أمام المجرمين ليرتكبوا جرائم القتل بقلب مطمئن، فيصبح عدد هذه الجنايات أضعاف مضاعفة.

الآية الثالثة

اشارة

قال تعالى: «وَ لا تَقْتُلُوا اَلنَّفْسَ اَلَّتِي حَرَّمَ اَللّهُ إِلاّ بِالْحَقِّ وَ مَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي اَلْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً».(1)

المفردات

سلطاناً: قدرة واستيلاء.

فلا يسرف: لا يتجاوز الحدّ.

منصوراً: مؤيَّداً، حيث إنّ اللّه سمح للوليّ أن يقتصّ أو يأخذ الدّيَة.

التفسير

الآية تتضمّن أُموراً:

ص: 299


1- . الإسراء: 33.

1. تنهى عن قتل النفس المحترمة وتقول: «وَ لا تَقْتُلُوا اَلنَّفْسَ اَلَّتِي حَرَّمَ اَللّهُ» حيث إنّه سبحانه كرّمها وجعلها محترمة.

2. استثنى سبحانه من حرمة القتل صورة واحدة وهي قوله: «إِلاّ بِالْحَقِّ» : أي أن يكون القتل مصحوباً وملابساً للحقّ، كالقتل لقود أو لغيره من الأسباب الشرعية.

3. إنّ قتل النفس المحترمة على قسمين: قتل خطائي، وقتل عمْدي.

أمّا الأوّل: فبما أنّ القاتل لم يكن بصدد القتل وإنّما أصابه بلا سبق إصرار، فاللّه سبحانه عوّضه بالدِّيَة تدفع إلى أهل المقتول وورثته، وسيوافيك بيانه في الآية التالية.

وأمّا القسم الثاني: وهو القتل عن عمْد وإصرار، فاللّه سبحانه سلّط الوليّ على القاتل وخيّره بين تحريره بلا عوض، أو أخذ الدِّيَة، أو القصاص منه، وقال: «وَ مَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً» : أي بلا سبب «فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً» : أي قدرة واختياراً، فهو مخيّر بين الأُمور الثلاثة، الّتي يدلّ عليها قوله: «وَ جَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا وَ أَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اَللّهِ»(1) ، فقوله: «وَ جَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها» ربّما يشير إلى القصاص أو الدِّيَة، ووصفها بالسيِّئة من باب المشاكلة، وقوله: «فَمَنْ عَفا» إشارة إلى العفو.

الجزاء على قدر الجريمة

إنّ الإسلام، مع تأكيده على حرمة دم الإنسان، فإنّه يؤكّد أيضاً على أن يكون

ص: 300


1- . الشورى: 40. ستوافيك دراسة الآية تحت رقم 6 فانتظر.

الجزاء على قدْر الجريمة، ويقول: «وَ إِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ»(1) ويقول في آيتنا هذه: «فَلا يُسْرِفْ فِي اَلْقَتْلِ» والضمير في «يُسْرِفْ» يرجع إلى الوليّ، وهذا الحكم شُرّع ردّاً على ما كان شائعاً في الجاهلية، حيث كان من عادة عدد من القبائل آنذاك أن يقتل الوليّ غير القاتل، أو يقتل معه غيره، ولذلك يقول: «فَلا يُسْرِفْ فِي اَلْقَتْلِ».

ثمّ إنّه سبحانه يعلّل إعطاء السلطة للوليّ بقوله: «إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً» : أي نصرناه وأعطينا له السلطة في القصاص. وفي الوقت نفسه يحتمل أن يكون تعليلاً للنهي عن الإسراف، أي أنّ وليّ المقتول منصور بحكم القوَد، فلماذا يتجاوز الحدّ من النصر إلى الاعتداء؟ قال الزمخشري: حسْبُه أنّ اللّه قد نصره بأن أوجب له القصاص، فلا يستزد على ذلك.(2)

موقف خالد لأمير المؤمنين عليه السلام

من مناقب الإمام علي السنيّة، تلك الوصيّة التاريخية التي سجّل فيها أروع موقف ينطق بعدله وإنصافه، وتحكيمه للقيم والمبادئ التي آمن بها حتى مع عدوّه اللّدود، الذي فلق رأسه الشريف بسيفه الغادر المسموم، قال عليه السلام من وصيّة له لمّا ضربه ابن ملجم لعنه اللّه: «يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، لَاأُلْفِيَنَّكُمْ تَخُوضُونَ دِمَاءَ الْمُسْلِمِينَ خَوْضاً، تَقُولُونَ: قُتِلَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ.

أَلَا لَاتَقْتُلُنَّ بِي إِلَّا قَاتِلِي. انْظُرُوا إِذَا أَنَا مِتُّ مِنْ ضَرْبَتِهِ هذِهِ، فَاضْرِبُوهُ ضَرْبَةً بِضَرْبَةٍ، وَلَا تُمَثِّلُوا بِالرَّجُلِ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه و آله و سلم يَقُولُ: إِيَّاكُمْ وَالْمُثْلَةَ وَلَوْ

ص: 301


1- . النحل: 126.
2- . تفسير الكشّاف: 232/2.

بِالْكَلْبِ الْعَقُورِ».(1)

هذا، ولعلّ في قوله تعالى: «فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً» دون أن يقول: وله أن يقتل، إشارة إلى أنّ وليّ المقتول لا يقوم بذلك بنفسه وإنّما ينفّذ هذا الحكم مَن بيده السلطة والقدرة لإجراء الأحكام في مواضع مختلفة، وليس ذلك إلّاالحاكم صاحب القدرة والسلطة والدولة، ولا يخفى أنّ قيام الوليّ بنفسه لأخذ الثأر فيه من الفساد ما لا حدود له، ويؤدّي إلى نشر الفوضى في المجتمع.

أين منطق الإسلام الظاهر في قوله: «مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي اَلْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ اَلنّاسَ جَمِيعاً وَ مَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا اَلنّاسَ جَمِيعاً»(2) ، من الأمر الرائج هذه الأيام من بدايات القرن الحادي والعشرين إلى يومنا هذا من جريان أنهار الدماء في الشوارع والسجون والأماكن العامّة، والحروب المصطنعة، حيث يُقتل في كلّ يوم المئات من البشر بأنواع وسائل القتل، وما ذلك إلّابتخطيط الدول الاستكبارية وصنائعها لضرب المسلم بالمسلم وتخريب المنشآت الحيوية من أجل أن تبقى المجتمعات الإسلامية متخلّفة في كافّة المجالات العلمية والاقتصادية وغيرها.

الآية الرابعة

اشارة

قال سبحانه: «وَ كَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ اَلنَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَ اَلْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَ اَلْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَ اَلْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَ اَلسِّنَّ بِالسِّنِّ وَ اَلْجُرُوحَ قِصاصٌ

ص: 302


1- . نهج البلاغة: قسم الرسائل، برقم 47.
2- . المائدة: 32.

فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفّارَةٌ لَهُ وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اَللّهُ فَأُولئِكَ هُمُ اَلظّالِمُونَ».(1)

المفردات

كتبنا: الكتابة دليل على ثبوت الحكم ولزومه، وعُدّي ب «على» لتضمّنه معنى الحكم، أي حكمنا عليهم بذلك، والباء في قوله: «بِالنَّفْسِ» ، «بِالْعَيْنِ» ، «بِالْأَنْفِ» ، و...» للبدلية، كقولك: هذا بهذا. وتقدير الكلام: كتبنا على بني إسرائيل - في التوراة - أنّ النفس تكون بدل النفس المعصومة إذا قُتلت، وكذا البواقي.

التفسير

قوله تعالى: «وَ كَتَبْنا عَلَيْهِمْ» : أي فرضنا على بني إسرائيل «فِيها» التوراة «أَنَّ»:

1. «اَلنَّفْسَ بِالنَّفْسِ» : أي أنّ النفس تعادل النفس في باب القصاص.

2. «وَ اَلْعَيْنَ بِالْعَيْنِ» : أي العين تقابل العين.

3. «وَ اَلْأَنْفَ بِالْأَنْفِ» : أي يقابل كل الآخر.

4. «وَ اَلْأُذُنَ بِالْأُذُنِ» هكذا.

فالباء في الجميع للمقابلة.

6. «وَ اَلْجُرُوحَ قِصاصٌ» : أي الجروح ذات قصاص، تعتبر فيها المساواة بقدر الاستطاعة. فعلى هذا فالنفس تقتل بالنفس إذا قتلت عمداً بغير حقّ، والعين تفقأ بالعين، والأنف يجدع بالأنف، والأُذن تصلم بالأُذن، والسن تقلع بالسن، لأنّ

ص: 303


1- . المائدة: 45.

الكلّ متماثل في مقابل الآخر. نرى انّ التعبير في الجروح يختلف عما سبق وإلّا كان اللازم أن يقول: والجرح وبالجرح، وذلك لما سيأتي من أنّ القصاص في شجاج الرأس والوجه والصدر والبطن يجري في موارد خمسة من الحارصة إلى الموضحة، ولا يجري في الأربعة الباقية من «الهاشمة إلى الحاكفة. وهذا النوع من التعبير الدقيق أية اعجاز القرآن وانّه كلام منزل من اللّه سبحانه. وأضاف سبحانه أنّ حكم القصاص إجراء بيد الولي، فله أن يقتصّ وله أن يعفو، «فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ» أي بالقصاص «فَهُوَ» : أي التصدّق «كَفّارَةٌ لَهُ» والضمير هنا يرجع إلى المتصدّق، لأنّه المالك للقصاص، فيغفر اللّه ذنوبه.

فمن حكم بحكم اللّه فهو، وأمّا مَن أعرض عن حكم اللّه كما يقول: «وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اَللّهُ فَأُولئِكَ هُمُ اَلظّالِمُونَ» . وبما أنّ النفس بالنفس فلو قتل الرفيعُ الوضيعَ، يُقتل الرفيعُ، والاستنكاف عن إجراء القصاص في هذه الصورة دليل على تفضيل القاتل على المقتول مع أنّ الجميع أمام اللّه سواء، فالقاضي عندئذٍ ظالم، هضم حق المقتول.

ثمّ إنّ حكم القصاص موجود في التوراة الحالية التي بأيدينا رغم ما جرى عليها من تحريف وتغيير، وإليك نص ما ورد فيها:

وإن حصلت أذية تُعطي نفساً بنفس، وعيناً بعين، وسناً بسنٍ، ويداً بيد، ورجلاً برجل، وكيّاً بكيّ، وجُرحاً بجُرح، ورضّاً برضّ.(1)

بقي هنا أمران:

1. ما جاء في هذه الآية معمول به في الشريعة الإسلامية، هذا من جانب1.

ص: 304


1- . الكتاب المقدّس، سفر الخروج، الإصحاح 23، صفحة 121.

ومن جانب آخر أنّ التوراة منسوخة فكيف يعمل بما هو منسوخ؟ وقد طرح هذا الإشكال الفاضل المقداد وأجاب عنه بأنّ النسخ لم يتعلّق بكلّ واحد واحد من الأحكام الموجودة في التوراة، وإنّما المنسوخ بعضها، ورفع المجموع من حيث المجموع لا يستلزم رفع كلّ واحد؛ بل واحد منها لا بعينه.(1)

أقول: يمكن أن يقال - كما سبق بيانه منّا في بعض المواضع - أنّ القرآن كتاب هداية للبشر عامّة، فما يذكره في القرآن من الكتب السماوية أو غيرها، فيؤخذ به إلّاإذا دلّ دليل على كونه منسوخاً أو كان الكلام كلاماً باطلاً. وليس كتاب اللّه كتاب القصص والحكايات حتى يشتغل الناس بسماعها، بل كتاب أُنزل لهداية الناس إلى صراط اللّه المستقيم.

2. أنّ القصاص محدود بما لم يكن فيه تغرير بنفس أو طرف، ولذلك يقول الفقهاء: لا يثبت القصاص فيما فيه تغرير بنفس أو طرف، وكذا فيما لا يمكن الاستيفاء بلا زيادة ونقيصة، ويثبت في كلّ جرح لا تغرير في أخذه بالنفس وبالطرف وكانت السلامة معه غالبة، فيثبت في الموارد التالية:

1. الحارصة: وهي التي تسلخ الجلد من غير إدماء، ولا تأخذ من اللحم شيئاً.

2. الدامية: وهي التي تدخل اللحم يسيراً ويخرج منها الدم.

3. المتلاحمة: وهي التي تدخل اللحم كثيراً ولكن لا تبلغ السمحاق.

4. السمحاق: وهي التي تقطع اللحم وتبلغ الجلد الرقيق الذي يغشي العظم، وهو بين اللحم والعظم.

5. الموضحة: وهي التي تقطع الجلد الذي يغشّي العظم وتوضحه.2.

ص: 305


1- . كنز العرفان: 370/2.

ولا يثبت في الأربعة الباقية:

1. الهاشمة: وهي التي تهشم العظم وتكسره.

2. المنقّلة: وهي التي تنقل العظم من الموضع الذي خلقه اللّه تعالى إلى موضع آخر.

3. المأمومة: وهي التي تبلغ أُمّ الدماغ.

4. الجائفة: وهي التي تصل الجوف بطعنة أو رمية، ولا تختصّ بما يدخل جوف الدماغ، بل تعمّ الداخل في الصدر والبطن.

حتّى أنّه لا يثبت في كسر شيء من العظام، وفي رواية صحيحة إثبات القود في السن والذراع، إذا كسرا عمداً، والعامل بها قليل.(1) ومَن أراد التفصيل فليرجع إلى كتابنا: «أحكام القصاص في الشريعة الإسلامية الغرّاء».(2)

الآية الخامسة

اشارة

قال سبحانه: «وَ لَمَنِ اِنْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ».(3)

المفردات

سبيل: أُريد به هنا اللوم والمؤاخذة.

ص: 306


1- . تحرير الوسيلة: 542/2، كتاب القصاص، المسألة 9.
2- . أحكام القصاص في الشريعة الإسلامية الغرّاء: 536.
3- . الشورى: 41.
التفسير

الآية تدلّ على أنّ من أُوقع به ظلم في نفس أو طرف أو شجاج أو مال، فانتصر بعد ظلمه، أي استوفى حقّه، فليس عليه اللوم، كما يقول: «وَ لَمَنِ اِنْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ» وأخذ ما له على الآخر من حق «فَأُولئِكَ» : أي الآخذون لحقوقهم «ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ» : أي من لوم.

الآية السادسة

اشارة

قال سبحانه: «وَ جَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا وَ أَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اَللّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ اَلظّالِمِينَ».(1)

التفسير
التعامل بالمثل عند الاعتداء

تؤكد الآية على الانتصار وفي الوقت نفسه على الاعتدال في الانتقام، ومع ذلك تحثّ على العفو والصلح.

إنّ جزاء المعتدي ليس سيئة إذا كان معادلاً للظلم، وإنّما وُصف بالسيئة هنا لأجل المشاكَلة، ولذلك قال: «وَ جَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها» ، وفي الوقت الذي يؤكّد فيه سبحانه على الانتصار وعلى الاعتدال في الانتقام، يحثّ أيضاً على التحلّي بخصلة سامية، وهي العفو والصلح لأجله سبحانه، حيث قال: «فَمَنْ عَفا وَ أَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اَللّهِ» ، ونحو ذلك قوله سبحانه: «وَ إِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ

ص: 307


1- . الشورى: 40.

بِهِ وَ لَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصّابِرِينَ»(1).

الإصلاح والعفو إجابة لأمره سبحانه

للمجنيّ عليه الانتصار والأخذ بحقّه ممّن اعتدى عليه، ومع ذلك «فَمَنْ عَفا وَ أَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اَللّهِ» ، وهذا يختصّ بما إذا كان الباغي مؤمناً، بقرينة قوله: «فَأَجْرُهُ عَلَى اَللّهِ» ، إذ لا أجر لمَن عفا عن الباغي المشرك وأصلح وتركه على فعله.

ولمّا كانت هناك مظنّة وهْم، وهي أنّ في هذه الخصلة حماية للظالم بشهادة أنّه يؤكّد على العفو والصلح، جاء البيان القرآني لردّ هذا الوهم قائلاً: «إِنَّهُ لا يُحِبُّ اَلظّالِمِينَ» وإنّما أمر بالعفو والصلح لأجل ترغيب المظلوم فيما وراء العفو من أجر جزيل، وليس في ذلك إلغاء لحقّ انتصاره، فالمؤمن مخيّر بين أمرين:

1. الانتصار والانتقام.

2. العفو والصلح.

ولكلٍّ مزيّة، ولكلٍّ مقام، فلو كان الانتصار مؤثّراً في قلع الظلم وضرره، يقدَّم على العفو والصلح، وإذا كان العفو والصلح مؤثّراً في شمول الصلح على المجتمع وثباته، فهو مقدّم.

ص: 308


1- . النحل: 126.

الفصل التاسع عشر: أحكام الديات في الذكر الحكيم

اشارة

أحكام قتل المؤمن خطأ.

تعريف الدية.

في الكفّارات.

ص: 309

ص: 310

أحكام الديات في الذكر الحكيم

الآية

اشارة

قال سبحانه: «وَ ما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاّ خَطَأً وَ مَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَ دِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلاّ أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَ إِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اَللّهِ وَ كانَ اَللّهُ عَلِيماً حَكِيماً».(1)

المفردات

خطأ: خلاف الصواب، يقال: أخطأ في الأمر أي لم يُصب الصواب.

فتحرير: التحرير: مصدر تفعيل من الحرية بمعنى إخراج العبد من الرق إلى الحرية.

دية: الدية بتخفيف الياء، والتاء في آخره عوض عن الواو المحذوفة في

ص: 311


1- . النساء: 92. لم يرد حول الدية في الذكر الحكيم الآية واحدة ولذلك لم نرقمها.

أوّلها، والأصل (ودى) حذفت الواو وأبدل مكانها التاء، مثل عِدة أصلها وعد، وعلى هذا فهو مصدر.

يصدّقوا: أصله يتصدّقوا، وأُدغمت التاء في الصاد لقرب مخرجهما.

التفسير

قوله سبحانه: «وَ ما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاّ خَطَأً». ذهب أكثر المفسّرين إلى أنّ الاستثناء منقطع، نظير قوله سبحانه: «لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ»(1).

وعلى هذا فقد تمّ الكلام في قوله: «أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً» ثمّ قال فإن كان القتل خطأ فحكمه كذا. وجه كونه منقطعاً أنّه لو كان متّصلاً يعود معنى الآية إلى أنّه لا يجوز قتل المؤمن عمداً ولكن يجوز خطأ، مع أنّ قتل المؤمن لا يجوز مطلقاً، إذ لا يسمح سبحانه لأحد قتل المؤمن في كلتا الحالتين، يقول الشيخ الطوسي، قوله: «إِلاّ خَطَأً» استثناء منقطع - في قول أكثر المفسّرين - وتقديره: إلّاأنّ المؤمن قد يقتل المؤمن خطأ وليس ذلك ممّا جعل اللّه له.(2)

غير أنّ بعض المفسّرين ذهبوا إلى كونه متّصلاً، قال الرازي: معنى الآية يؤاخذ الإنسان على قتل المؤمن إلّاإذا كان القتل خطأ فإنّه لا يؤاخذ به.(3)

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره إخراج للآية عن ظاهر لفظها. والمهم جعله متّصلاً مع حفظ ظاهر الآية.

ص: 312


1- . النساء: 29.
2- . التبيان في تفسير القرآن: 289/3.
3- . تفسير الرازي: 228/10.

ويمكن أن يقال: إنّ الاستثناء متّصل لا منقطع، لكن لا بالمعنى الذي ذكره الرازي، يُعلم وجه ذلك بالتأمّل في قوله: «وَ ما كانَ لِمُؤْمِنٍ» * فإنّ مثل هذه الصيغة يُراد بها عدم الإمكان أو عدم الشأنية، قال سبحانه: «وَ ما كانَ اَللّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ»(1) ، وقال سبحانه: «وَ ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اَللّهُ»(2) ، وقوله تعالى: «وَ ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ»(3) إلى غير ذلك ممّا ورد في القرآن الكريم، وأُريد منه إمّا نفي الإمكان أو نفي الشأن، وعلى هذا فمعنى قوله سبحانه: «وَ ما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً» : أي لا يمكن للمؤمن أن يقتل أخاه المؤمن، أو ليس من شأن المؤمن ذلك، إلّاخطأ أي يكون غافلاً أو جاهلاً في الموضوع، فإنّه يصدر منه خطأ.

وعلى هذا فالآية بصدد رفع مقام المؤمن من أن يحوم حول قتل أخيه المؤمن. نعم يدلّ بالملازمة على الحرمة التكليفية.

أحكام قتل المؤمن خطأ

ثمّ إنّه سبحانه يذكر في هذه الآية أنواعاً ثلاثة لقتل المؤمن مؤمناً، وهي:

1. تارة يقتل المؤمن مؤمناً وهو جزء من المجتمع الإسلامي كمن كان في المدينة المنورة يقتل مؤمناً بزعم أنّه كافر، فأوجب فيه الدية والكفّارة.

2. وأُخرى يقتل المؤمن مؤمناً وهو يعيش في قومه الكافرين ولم يتوفّق للهجرة إلى المدينة، فأوجب فيه الكفّارة دون الدية.

3. تلك الصورة لكن بين الدولة الإسلامية وبين قوم هذا المؤمن - المقتول -

ص: 313


1- . البقرة: 143.
2- . الشورى: 51.
3- . آل عمران: 161.

عهد وأمان، ففيه أيضاً الدية والكفّارة.

وبذلك يعلم وجوب الكفّارة في الأقسام الثلاثة لأنّها تكفير للجريمة التي ارتكبها المؤمن، وأمّا الدية فشرطها أحد أمرين: إمّا أن يكون مهاجراً ويعيش في المجتمع الإسلامي، أو يعيش بين قومه، لكن بين المسلمين وقومه الكافرين عهد وأمان.

إذا عرفت ذلك فلندخل في تفسير الآية.

قلنا: إنّ الآية ذكرت أنواعاً ثلاثة لقتل المؤمن، وإليك بيانها:

النوع الأوّل: «وَ مَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَ دِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلاّ أَنْ يَصَّدَّقُوا» الفقرة ناظرة إلى قتل المؤمن إنساناً مؤمناً في المجتمع الإسلامي، بظن أنّه باقٍ على كفره، مع أنّه أسلم وهاجر من الشرك إلى الإسلام ودخل المدينة المنوّرة، لكن القاتل يتصوّر أنّه باقٍ على شركه فقتله... فكفّارته أمران:

1. «فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ» : أي يحرّر القاتل عبداً مسلماً.

2. «وَ دِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ» : أي يدفع الدية عن دم القتيل إلى أهله إذا كان القتيل ينتمي إلى عائلة مسلمة، إلّاإذا وهب أهل القتيل الدية وتصدّقوا بها عليه، وقد جاء في شأن نزولها أنّها نزلت في عيّاش بن أبي ربيعة المخزومي أخي أبي جهل لأُمّه، لأنّه كان أسلم وقتل بعد إسلامه رجلاً مسلماً وهو لا يعلم إسلامه، والمقتول الحارث بن يزيد أبو نبشة العامري.(1)

ثمّ إنّه يقع الكلام فيما هو الوجه لإيجاب الأمرين التاليين:3.

ص: 314


1- . مجمع البيان: 180/3.

أمّا الأوّل، أعني: «فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ» : أي عبد مؤمن يُعدّ تعويضاً عن خسارة اجتماعية ناتجة عن القتل الواقع لإنسان مؤمن، إذ خسر المجتمع فرداً نافعاً من أفراده بسبب وقوع القتل عليه، فجاء التحرير ليقوم مقامه.

وأمّا الثاني أي الدية فواضح، فهو مقابل الخسارة المادية اللاحقة بأهل القتيل نتيجة فقدهم إيّاه، والحقيقة أنّ الدية ليست ثمناً لدم القتيل المسلم البريء لأنّ دمه لا يعادل قيمته، بل هي نوع تعويض عن خسارة مادّية لاحقة بعائلة القتيل، بسبب فقدانه.(1)

النوع الثاني: يشير إليه بقوله: «فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ» الضمير في قوله: «وَ هُوَ مُؤْمِنٌ» يرجع إلى المقتول، ويريد أنّ المسلم قتل شخصاً باعتقاد أنّه كافر ثم تبيّن أنّه مسلم لكن يقيم بين قومه الكفّار، على خلاف النوع الأوّل فإنّه كان يقيم بين المسلمين.

ففي هذه الصورة أوجب سبحانه شيئاً واحداً وهو تحرير رقبة دون الدية.

أمّا تحرير الرقبة، فلما مرّ وجهه من أنّه تكفير لجريمة ارتكبها القاتل، مضافاً إلى أنّه أعدم مسلماً فعليه أن يحرّر عبداً مسلماً يقوم مقامه، وله الحرية التامّة في العمل.

فإن قيل: لماذا لم تجب الدية مع أنّه قتل مسلماً؟

قيل له: إنّه لو دفعت الدية فإنّما تصير تعزيزاً لأعداء المسلمين، لافتراض أنّ قومه كلّهم كفّار.

النوع الثالث: ما أشار إليه بقوله: «وَ إِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ مِيثاقٌ 3.

ص: 315


1- . الأمثل في تفسير كتاب اللّه المنزل: 336/3.

فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ» ، فيشير سبحانه إلى ما إذا كان المسلم المقتول خطأ من قوم كافرين ولكنّهم غير محاربين بل بينهم وبين المسلمين عقد مسالمة وأمان، فأوجب سبحانه في هذه الحالة أمرين:

1. إعطاء دية المقتول إلى أهله كما قال: «فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ» وإن كانوا كفرة، لأنّهم لأجل الميثاق صاروا بحكم المسلمين من حيث وجوب الدية.

2. أن يكفّر عن عمله بعتق نسمة، وقد مرّ ما هو الوجه لتحرير الرقبة.

ثمّ إنّه سبحانه أشار إلى تسهيل في المقام وهو أنّ من لم يتمكّن من تحرير رقبة فعليه صيام شهرين متتابعين، كما يقول: «فَمَنْ لَمْ يَجِدْ» الرقبة «فَ» عليه «صيام شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ» : أي إذا لم يجد نفس الرقبة أو المال الذي يشتريها به من مالكها، فعليه صيام شهرين قمريّين متتابعين لا يفصل بيوم من أيامهما إفطار في النهار.

ثمّ إنّه سبحانه أتمّ الآية بقوله: «تَوْبَةً مِنَ اَللّهِ» : أي شرّع اللّه تعالى هذه الكفّارة على القتل لتكون «تَوْبَةً مِنَ اَللّهِ» منه على العبد بالرحمة «وَ كانَ اَللّهُ عَلِيماً» بكلّ شيء «حَكِيماً» بما يأمر به وينهى عنه.

بقيت هنا أُمور:

الأوّل: الدية هي المال الواجب بالجناية على الحرّ في النفس أو فيما دونها كالأطراف والمنافع.

ثمّ إنّ الدية في العمد والخطأ واحدة لا يختلفان إلّافي خصوصيات الإبل.(1)5.

ص: 316


1- . لاحظ في الوقوف على هذه الخصوصيات كتابنا «أحكام الديات»: 45.

إنّ الدية في قتل العمد على القاتل، وفي الخطأ على العاقلة.

فإن قلت: كون الدية على العاقلة ينافي قوله سبحانه: «أَلاّ تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى»(1) .

قلت: العاقلة ليس شخصاً واحداً بل هم كلّ عصبة سوى الوالدين والمولودين، وهم: الإخوة، وأبناؤهم، إن كانوا من جهة أب وأُمّ، أو من جهة أب، والأعمام وأبناؤهم، وأعمام الأب وأبناؤهم(2)، وهم - كماترى - جماعة كثيرة يشاركون في دفع الدية، فهو تعاون من داخل العشيرة ليخف أمر الدية على الجاني. وأمّا قوله سبحانه: «أَلاّ تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى» فلا صلة له بتحمّل العاقلة، إذ المراد من الوزر: العقوبة الأُخروية، كما يظهر من سياق الآيات، وأين هذا من مساعدة الأقرباء للدين الباهض المتعلّق بذمّة الجاني.

الثاني: لو ارتكب القتل في الأشهر الحرم أو في حرم مكّة المكرّمة تغلّظ الدية فعليه الدية وثلثها.

الثالث: في كفّارة القتل عمداً يجب مع تحرير الرقبة، صيام شهرين متتابعين وإطعام ستين مسكيناً.(3)

وأمّا القتل خطأ ففيه كفّارة واحدة كما عليه الآية المباركة، غير أنّها مرتّبة فالواجب أوّلاً تحرير رقبة مؤمنة، وإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين.

الرابع: دية قتل المرأة نصف دية قتل الرجل وربما يتوهم أنّه على خلافت.

ص: 317


1- . النجم: 38.
2- . المبسوط: 173/7؛ الخلاف: 227/5، المسألة 98.
3- . شرائع الإسلام: 204/1، كتاب الصوم، القول في صوم الكفّارات.

العدل الذي دعا إليه الإسلام في كثير من آياته، مع أنّها كالرجل، إنسان تام يقوّم كلّ بشيء واحد.

والجواب: أنّ الغاية من تشريع الدية، هو جبر الخسارة المالية التي وردت على ورثة المقتول، ومن المعلوم أنّها عند قتل الرجل أكثر من قتل المرأة، حيث إنّ الرجل هو المنفق على العائلة عامّة، دون غيره يقول سبحانه: «اَلرِّجالُ قَوّامُونَ عَلَى اَلنِّساءِ بِما فَضَّلَ اَللّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَ بِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ»(1).

والإشكال مبني على تصوّر خاطئ وهو أنّ الدية عوض عن نفس الإنسان المقتول وعندئذٍ يتوجّه السؤال بأنّه لا فرق بين إنسان دون إنسان.

ثمّ إنّه يشترط في تحرير الرقبة كونها مؤمنة في هذا المقام دون الظهار، قال سبحانه: «وَ اَلَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسّا»(2) .

وأمّا سائر الموارد فالمتّبع هو ما في الروايات والنصوص.(3)ت.

ص: 318


1- . النساء: 34.
2- . المجادلة: 3.
3- . بلغ الكلام إلى هنا في اليوم الثامن والعشرين من شهر شوال المكرّم عام 1439 ه، وتمّ في ليلة ذلك اليوم، العقد الثاني والتسعون من عقود عمر المؤلف. الحمد للّه الذي بنعمته تتمّ الصالحات.

خاتمة

اشارة

آيات غفل عن عناوينها وتفسيرها مؤلّفو آيات الأحكام:

1. الإسراف

2. التبذير

3. البدعة

4. التكفير

5. نسخ الأحكام الشرعية

6. التعزير

7. التسليم

ص: 319

ص: 320

إكمال

قد تقدّم في مقدّمة الجزء الأوّل من كتابنا هذا، أنّه قد وردت في الكتاب العزيز، موضوعات عديدة، ولها أحكام فيه، ولكن لم نجد في كتب الأصحاب ولا في غيرهم ذكراً منها، نظير:

1. الإسراف. 2. التبذير. 3. البدعة. 4. التكفير.

5. نسخ الأحكام الشرعية. 6. التعزير. 7. التسليم.

فاقتضت الحال دراستها على غرار ما سبق من الموضوعات، مقتصرين بذكر الآيات التي تضمّنت بيان الأحكام الشرعية، دون ما تجرّدت عنها. فلنبدأ بدراستها.

ص: 321

1. حكم الإسراف ومواضعه في الذكر الحكيم

اشارة

قد وردت مادة الإسراف بالصيغ المختلفة إحدى وعشرين مرّة؛ بينما وردت مادة التبذير ثلاث مرّات: تارة بصورة المصدر «تَبْذِيراً» ، و أُخرى بصيغة اسم الفاعل «اَلْمُبَذِّرِينَ» ، وثالثة بصورة الفعل «تُبَذِّرْ» . وبما أنّ الإسراف أكثر ابتلاءً من الآخر جاء التأكيد عليه أكثر من التبذير.

الإسراف لغة وشرعاً
اشارة

قال الراغب: «الإسراف»: تجاوز الحدّ في كلّ فعل يفعله الإنسان، وإن كان ذلك في الإنفاق أشهر.(1)

وقال الجرجاني: «الإسراف»: إنفاق المال الكثير في الغرض الخسيس.

وقيل: الإسراف: تجاوز الحدّ في النفقة، ثم ذكر وجوهاً أُخرى.(2)

وقال الطريحي: «الإسراف»: أكل ما لا يحلّ. وقيل: مجاوزة القصد في الأكل ممّا أحلّ اللّه.(3) إلى غير ذلك من التعريفات.

ص: 322


1- . المفردات للراغب: 230، مادة «سرف».
2- . التعريفات: 33.
3- . مجمع البحرين: 69/5، مادة «سرف».

إنّما المهم، هو الوقوف على ما أُريد به في الذكر الحكيم، والمتبادر منه من الآيات المتضمّنة لحكمه، هو مجاوزة القصد، وتجاوز الحدّ، وعندئذٍ يختلف حكمه بحسب متعلّقه، فربما يكون تجاوزه مباحاً أو مكروهاً، وأُخرى حراماً؛ فالإسراف مثلاً في الإنفاق مكروه، ولكنّه في القتل والقصاص حرام، كما سيوافيك.

وأضعف الأقوال في تعريفه ما نقله الجرجاني والطريحي وغيرهما من أنّ «الإسراف صرف الشيء فيما ينبغي زائداً على ما ينبغي، بخلاف التبذير، فإنّه صرف الشيء فيما لا ينبغي».

وجه الضعف أنّه سبحانه يصف قوم لوط بالمسرفين ويقول: «قالُوا إِنّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ * لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ * مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ».(1) ويصف فرعون بأنّه من المسرفين ويقول: «مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ اَلْمُسْرِفِينَ»(2) ، مع أنّ عملهم كان فيما لا ينبغي، وأمّا التبذير فسيأتي الكلام فيه في محلّه.

إذا تمهد ذلك فلنبدأ بدراسة حكم الإسراف في الكتاب العزيز، ببيان مواضعه فيه:

1. الإسراف في الأكل والشرب
اشارة

قال سبحانه: «يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَ كُلُوا وَ اِشْرَبُوا وَ لا

ص: 323


1- . الذاريات: 32-34.
2- . الدخان: 31.

تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ اَلْمُسْرِفِينَ».(1)

التفسير

أشار سبحانه الى بعض نعمه في الآيات التي سبقت هذه الآية وقال: «يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَ رِيشاً»(2) ، كما صرّح ببعض آخر من نعمه بعد هذه الآية وقال: «قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اَللّهِ اَلَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَ اَلطَّيِّباتِ مِنَ اَلرِّزْقِ».(3)

إنّ الآية من أغزر الآيات، مفاداً، وإن قلّت ألفاظها، وفي الوقت نفسه تجسيد لقوله تعالى: «قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ»(4) : أي الحدّ الوسط. ولمّا أمر سبحانه في نفس السورة بالتزيُّن والتنعُّم بالطيّبات، فلربما تكون الآية ذريعة للإفراط فيهما فيفضي الأوّل إلى الاختيال والإحساس بالكبْر، ويفضي الثاني إلى الإتخام أو إلى انحراف المزاج عن الصحّة، جاءت الفقرة تؤكد أنّ خير الأُمور - حتى التزيُّن والتنعُّم بالطيِّبات - هو أوسطها، كما يقول: «وَ كُلُوا وَ اِشْرَبُوا وَ لا تُسْرِفُوا».

ثمّ إنّ الإنسان لو عمل بهذا القانون الإسلامي طيلة حياته، لقلّما يتّفق أن تنحرف حالته الصحية، وقد حُكي أنّ الرشيد كان له طبيب نصراني حاذق، فقال ذات يوم لعليّ بن الحسين بن واقد: ليس في كتابكم من علم الطبّ شيء، والعلم علمان: علم الأديان، وعلم الأبدان؟ فقال له عليّ: قد جمع اللّه الطب كلّه في نصف آية من كتابه، وهو قوله: «وَ كُلُوا وَ اِشْرَبُوا وَ لا تُسْرِفُوا» وجمع نبيُّنا صلى الله عليه و آله و سلم الطبّ في

ص: 324


1- . الأعراف: 31.
2- . الأعراف: 26.
3- . الأعراف: 32.
4- . الأعراف: 29.

قوله: «المعدة بيت الداء والحِميةُ رأس كل دواء، وأعطِ كلّ بدن ما عوّدته»، فقال الطبيب: ما ترك كتابكم ولا نبيّكم لجالينوس طبّاً.(1)

وقال الإمام عليّ عليه السلام: «كَمْ مِنْ أَكْلَةٍ مَنَعَتْ أَكَلَاتٍ!».(2)

وللحكيم طائر الصيت ابن سينا، أُرجوزة حول الموضوع يقول:

اسمع جميع وصيّتي واعمل بها ***فالطب مجموع بنظم كلامي

إلى أن يقول:

واجعل غذاءَك كلّ يوم مرّة *** واحذر طعاماً قبل هضم طعام

لا تشربنّ عقيب أكل عاجلاً *** فتقود نفسك للأذى بزمام(3)

***

2. الإسراف في الإنفاق
اشارة

قد وردت حول الإسراف في الإنفاق آيات ثلاث:

الآية الأُولى
اشارة

قال سبحانه: «وَ اَلَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَ لَمْ يَقْتُرُوا وَ كانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً».(4)

ص: 325


1- . مجمع البيان: 268/4.
2- . نهج البلاغة: قصار الحكم، برقم 171.
3- . ريحانة الأدب: 46/7. الزمام «المقود»: ما تُقاد به الدابّة.
4- . الفرقان: 67.
المفردات

يقتروا: التقتير: التضيق.

قواماً: وسطاً وعدلاً.

التفسير

الإنفاق سنّة كونية إذ كلّ موجود يُنفق ما يزيد عن حاجته ممّا يملك، فهذه الشمس تنفق ملايين الأطنان من الضوء والحرارة إلى المجموعة الشمسية، وهذه الأرض تعطي ما على ظهرها من الأشجار والأعشاب بما تملك من المواد الغذائية، وهذه الأشجار والأزهار لهما دور في حياة الإنسان والحيوان، ويتجلّى دورهما في الإنفاق ببذل الفواكه والأزهار، كما أنّ للأزهار دوراً في هذا المضمار حيث إنّ النحل يمتصّ رحيقَها ويصنع منه العسل، إلى غير ذلك من مظاهر الإنفاق الّتي يلمسها كلّ إنسان إذا نظر نظرة سطحية، فكيف إذا نظر بنظر عميق؟!

فإذا كان الإنفاق سنّة كونية فليقتد الإنسان بها، ولذلك صار الإنفاق فريضة مالية في الإسلام وضريبة، فأمر بالزكاة والخُمس والصدقة والكفّارات وإغاثة اللاجئين وإعانة المحتاجين بصور مختلفة؛ روى السَّكوني عن جعفر بن محمد [ الصادق] عن أبيه، عن آبائه عليهم السلام، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «السخيّ قريب من اللّه، قريب من الناس، قريب من الجنة؛ والبخيل بعيد من اللّه، بعيد من الناس، قريب من النار».(1)

وكان العرب في الجاهلية يسرفون في الإنفاق في اللَّذات وفي الوقت نفسه

ص: 326


1- . بحار الأنوار: 70/308، برقم 37، باب البخل (136). وروي نحوه عن الإمام عليّ الرضا عليه السلام، لاحظ: عيون أخبار الرضا للصدوق: 2/15، برقم 27.

يقتِّرون على المساكين والضعفاء، فصار عملهم بين الإسراف والإقتار، ولذلك يذكر سبحانه أنّ عمل عباد اللّه على خلافهم ويقول: «وَ اَلَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا» : أي لا يتجاوزون الحدّ الذي يقتضيه الإنفاق «وَ لَمْ يَقْتُرُوا» : أي لا يمسكون ولا يقبضون أيديهم مع ما أعطوا من الثروة «وَ كانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً» : أي عدلاً متوسطاً. أي كان الإنفاق بين الإسراف والقَتْر «قَواماً» عدلاً إذا قرئ بفتح القاف، وإذا قرئ بكسر القاف: أي ما يدوم عليه الأمر ويستقرَ.

الآية الثانية
اشارة

قال تعالى: «وَ لا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَ لا تَبْسُطْها كُلَّ اَلْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً»(1).

المفردات

مغلولة: مقيّدة بالغُلّ.

تبسطها: تتوسَّع في الإنفاق.

محسوراً: منهوك القُوَى. والمراد: غير قادر على إقامة شؤونك.

التفسير

إنّ سياق الآية يحكي أنّ المراد من الإنفاق هو الإنفاق غير الواجب، أعني:

المندوب، ففي الإنفاق الواجب يتبع ما فرض عليه، وأمّا في المندوب فيجب أن يراعي فيه الطريق الوسط بين الإسراف والإقتار.

ص: 327


1- . الإسراء: 29.

روى الكليني بسنده عن عبد الملك بن عمرو الأحول قال: تلا أبو عبد اللّه عليه السلام هذه الآية، ثم ذكر الآية وقال: فأخذ قبضة من حصى وقبضها بيده، فقال:

«هذا الإقتار الذي ذكره اللّه عزّ وجلّ في كتابه»، ثم قبض قبضة أُخرى فأرخى كفّه كلّها. ثم قال: «هذا الإسراف»، ثم أخذ قبضة أُخرى فأرخى بعضها وأمسك بعضها، وقال: «هذا القَوام».(1)

وعلى كلّ تقدير، يجب في الإنفاق غير الواجب الاقتصاد إذ التخلّي عن الدنيا ومواهبها وترك لذّاتها تماماً خلاف الوسط، كما أنّ التوغّل فيها ونسيان الآخرة كذلك، وقد ذمّ سبحانه الطائفة الأُولى بقوله: «قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اَللّهِ اَلَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَ اَلطَّيِّباتِ مِنَ اَلرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ اَلْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ اَلْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ»(2).

وهذا هو إمام المتّقين علي عليه السلام قد دخل على العلاء بن زياد الحارثي وهو من أصحابه يعوده، فلمّا رأى سعة داره قال: «مَا كُنْتَ تَصْنَعُ بِسِعَةِ هذِهِ الدَّارِ فِي الدُّنْيَا، وَأَنْتَ إِلَيْهَا فِي الْآخِرَةِ كُنْتَ أَحْوَجَ؟ وَبَلَى إِنْ شِئْتَ بَلَغْتَ بِهَا الْآخِرَةَ: تَقْرِي فِيهَا الضَّيْفَ، وَتَصِلُ فِيهَا الرَّحِمَ، وَتُطْلِعُ مِنْهَا الْحُقُوقَ مَطَالِعَهَا(3)، فَإِذَاً أَنْتَ قَدْ بَلَغْتَ بِهَا الْآخِرَةَ».

فقال له العلاء: يا أمير المؤمنين، أشكو إليك أخي عاصم بن زياد، قال: وما له؟ قال: لبس العباءة وتخلّى عن الدنيا. قال: عليَّ به، فلمّا جاء قال: يَاعُدَيَّ نَفْسِهِ!ا.

ص: 328


1- . تفسير نور الثقلين: 29/4.
2- . الأعراف: 32.
3- . تُوقِعُها في مظان استحقاقها.

لَقَدِ اسْتَهَامَ (1) بِكَ الْخَبِيثُ! أَمَا رَحِمْتَ أَهْلَكَ وَوَلَدَكَ؟! أَتَرَى اللّهَ أَحَلَّ لَكَ الطَّيِّبَاتِ، وَهُوَ يَكْرَهُ أَنْ تَأْخُذَهَا؟! أَنْتَ أَهْوَنُ عَلَى اللّهِ مِنْ ذلِكَ!.(2)

قال: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، هذَا أَنْتَ فِي خُشُونَةِ مَلْبَسِكَ وَجُشُوبَةِ مَأْكَلِكَ!

قَالَ: وَيْحَكَ، إِنِّي لَسْتُ كَأَنْتَ، إِنَّ اللّهَ تَعَالى فَرَضَ عَلَى أَئِمَّةِ الْعَدْلِ (الحق) أَنْ يُقَدِّرُوا أَنْفُسَهُمْ بِضَعَفَةِ النَّاسِ، كَيْلَا يَتَبَيَّغَ بِالْفَقِيرِ فَقْرُهُ!».(3)

وبذلك يُعلم أنّ المعيار في تقييم الفضائل الخلقية هو التوسّط والاعتدال، فلقد نهى الإسلام - مثلاً - عن الرهبانية وأمر بالنكاح وفي الوقت نفسه نهى عن كون الدنيا وزخارفها أكبرَ هموم الإنسان، وإلى عدم تجاوز الحدّ يشير قول النبي صلى الله عليه و آله و سلم في حقّ عليّ عليه السلام: «يا عليّ هلك فيك اثنان: محبّ غالٍ، ومبغض قالٍ»(4)، وفي الوقت نفسه قال: «عنوان صحيفة المؤمن حبّ علي بن أبي طالب».(5)

ولأمير البيان عليه السلام في المقام كلمة قيّمة حول الانتفاع بالدنيا، حيث قال: «وَمَنْ أَبْصَرَ بِهَا بَصَّرَتْهُ، وَمَنْ أَبْصَرَ إِلَيْهَا أَعْمَتْهُ»(6). والشقّ الأوّل يرشد إلى النظر إلى الدنيا بما أنّها وسيلة لكسب الآخرة، وهذا يورث البصيرة للإنسان، والشقّ الثاني يرشد إلى النظر إليها بما أنّها هدف ومقصد نهائي، وهذا يورث العمى له.2.

ص: 329


1- . جعلك هائما ضالّاً. والباء زائدة.
2- . إنّ اللّه أحلّ لك وأنت تكره حلاله، فأنت أهون من هذا الأمر.
3- . نهج البلاغة: الخطبة 209.
4- . شرح إحقاق الحق: 341/14.
5- . حلية الأولياء: 86/1.
6- . نهج البلاغة: الخطبة 82.
الآية الثالثة:
اشارة

قال تعالى: «وَ هُوَ اَلَّذِي أَنْشَأَ جَنّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَ غَيْرَ مَعْرُوشاتٍ وَ اَلنَّخْلَ وَ اَلزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَ اَلزَّيْتُونَ وَ اَلرُّمّانَ مُتَشابِهاً وَ غَيْرَ مُتَشابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَ آتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وَ لا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ اَلْمُسْرِفِينَ».(1)

المفردات

أنشأ: من الإنشاء: وهو إحداث الفعل ابتداءً لا على مثال سابق.

معروشات: من العرش وهو الرفع وعرش الكرم، رفع بعض أغصانها على بعض.

حصاده: الحصد هو قطع الزرع بالمِنْجل.

التفسير

الآية تتضمّن بيان أُمور:

1. أنّه سبحانه خالق هذه البساتين التي فيها الأشجار المختلفة فهي بين معروشات وغير معروشات، وفيها فواكه مختلفة اللون والطعم والصورة كما يقول: «وَ هُوَ اَلَّذِي أَنْشَأَ جَنّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَ غَيْرَ مَعْرُوشاتٍ وَ اَلنَّخْلَ وَ اَلزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَ اَلزَّيْتُونَ وَ اَلرُّمّانَ مُتَشابِهاً وَ غَيْرَ مُتَشابِهٍ».

2. الأمر بأكل الثمرات كما في قوله تعالى: «كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ» والأمر

ص: 330


1- . الأنعام: 141.

هنا للإباحة لوقوعه بعد توهم الحظر. وإطلاق الثمر على الزرع من باب أنّ معنى الفقرة هو: كلوا من ثمر ونتاج كلّ ما ذُكر من أوّل الآية إلى هنا. كما أنّ تقييد الأكل بوقت الإثمار حمل على الغالب وإلّا فيجوز أكل العنب إذا كان حصرماً، والتمر إذا كان بُسراً.

3. وجوب شكر اللّه سبحانه على هذه النعم، كما يقول: «وَ آتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ» وفيه احتمالان:

ألف. إخراج الصدقة الواجبة، فيكون المراد العشر ونصف العشر، ولو أُريد هذا يكون المتبع ما هو المفروض.(1)

ب. الإنفاق على المحتاجين والمساكين ممّا يحصل عليه الإنسان من ثمرات البساتين والمزارع. والظاهر أنّ الضمير في «حَقَّهُ» يرجع إلى الثمر. ويؤيد ذلك الأمر بعدم الإسراف.

4. النهي عن الإسراف في الأكل وفي الإنفاق والصدقة، فقال تعالى: «وَ لا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ اَلْمُسْرِفِينَ» فالمراد عدم التصدّق بجميع ما حصل عليه من مزرعته وبستانه، على وجه يسبب فقر المعطي وعدم إبقاء شيء للعيال، فيكون المعنى النهي عن الإسراف في الإنفاق. ويحتمل أن يكون النهي عامّاً بمعنى ذم الإسراف في كلّ شيء.

التأكيد على الاقتصاد في الروايات

لو دلّت الآيات (ولو من باب الأخذ بروحها) على لزوم الاقتصاد في الحياة ففي الروايات المأثورة عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام تأكيد عليه؛ روى الصدوق في

ص: 331


1- . لاحظ: الكافي: 564/3.

«الخصال» بسنده عن إبراهيم بن ميمون قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السلام، يقول:

«ضمنت لمن اقتصد أن لا يفتقر».(1)

وروى أيضاً عن داود الرقّي عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «إنّ القصد أمر يحبه اللّه عزّ وجل، وإنّ السرف يبغضه، حتى طرحك النواة فإنّها تصلح لشيء، وحتى صبّك فضل شرابك».(2)

وروى أيضاً عن علي عليه السلام أنّه قال: «ما عال امرؤ اقتصد».(3)

***

3. الإسراف في أخذ الثار بالقصاص
اشارة

قال سبحانه: «وَ لا تَقْتُلُوا اَلنَّفْسَ اَلَّتِي حَرَّمَ اَللّهُ إِلاّ بِالْحَقِّ وَ مَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي اَلْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً».(4)

المفردات

سلطاناً: قدرة واستيلاء.

فلا يسرف: لا يتجاوز الحدّ.

منصوراً: أي مؤيّداً حيث سُمح للولي أن يقتصّ أو يأخذ الدية.

التفسير

تقدّم تفسير الآية في باب القصاص، وإعادة دراستها هنا لأجل النهي

ص: 332


1- . بحار الأنوار: 346/68، عن الخصال: 9.
2- . بحارالأنوار: 346/68، عن الخصال: 11.
3- . بحار الأنوار: 347/68، عن الخصال: 620.
4- . الإسراء: 33.

عن الإسراف في القتل الذي ورد في آخرها. وقد تقدم أنّ الإسلام يحترم دم الإنسان على حدّ يصف قتل واحد منه كقتل الناس جميعاً، كما مرّ في قوله سبحانه: «مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي اَلْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ اَلنّاسَ جَمِيعاً»(1) وفي آيتنا هذه ينهى عن قتل النفس التي حرم اللّه إلّاإذا كان بالحقّ كما إذا قتل نفساً بظلم ويقول: «وَ مَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً» : أي ولاية لإعمال القصاص، ومع ذلك يؤكّد على أن يكون الجزاء على قدْر الجريمة، ويقول: «وَ إِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ»(2) ويقول في آيتنا هذه: «فَلا يُسْرِفْ فِي اَلْقَتْلِ» والضمير في «يُسْرِفْ» يرجع إلى الوليّ، وهذا الحكم شُرّع ردّاً على ما كان شائعاً في الجاهلية، حيث كان من عادة عدد من القبائل آنذاك أن يقتل الوليّ غير القاتل، أو يقتل معه غيره، ولذلك يقول: «فَلا يُسْرِفْ فِي اَلْقَتْلِ».

ثمّ إنّ في قوله سبحانه: «فَلا يُسْرِفْ فِي اَلْقَتْلِ» وجهين:

1. أنّه تعليل لإعطاء السلطة للوليّ بقوله: «إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً» : أي نصرناه وأعطينا له السلطة في القصاص. قال الزمخشري: حسْبُه أنّ اللّه قد نصره بأن أوجب له القصاص، فلا يستزد على ذلك.(3)

2. أنّه تعليل للنهي عن الإسراف، أي أنّ وليّ المقتول منصور بحكم القوَد، فلماذا يتجاوز الحدّ أي القصد إلى الاعتداء؟2.

ص: 333


1- . المائدة: 32.
2- . النحل: 126.
3- . تفسير الكشّاف: 232/2.
4. الإسراف في قتال العدو
اشارة

قد وردت في النهي عن الإسراف في قتال العدو آيتان:

الآية الأُولى:
اشارة

قال تعالى: «وَ قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ اَلَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَ لا تَعْتَدُوا إِنَّ اَللّهَ لا يُحِبُّ اَلْمُعْتَدِينَ».(1)

المفردات

يقاتلونكم: من المقاتلة وهي محاولة الرجل قتل من يحاول قتله.

تعتدوا: تتجاوزوا الحدّ.

التفسير

الآية على وجازتها تتضمّن بيان أُمور ثلاثة:

1. ما هي الغاية من الجهاد وقتال العدو؟

2. تحديد من يقاتَل.

3. النهي عن الاعتداء وتجاوز الحدّ.

أمّا الأوّل: فقال سبحانه: «وَ قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ» : أي لإعلاء كلمة التوحيد، دون الاستيلاء على أموال الناس وأعراضهم ودون السيطرة على أسواقهم، فعلى هذا فالعامل المحرّك لجند الإسلام إلى القتال، هو تحرير الإنسان الوثني عن

ص: 334


1- . البقرة: 190.

الشرك والخرافة، وإيصاله إلى التوحيد ورفض الأنداد. وأين هذا من الحروب الدامية الّتي ترتكبها الدول الّتي وقّعت على وثيقة الأُمم المتحدة، حيث إنّ غايتهم حطّ كرامة الإنسان وسيادة الظلم والعدوان، والسيطرة على مصائر العباد.

وأمّا الثاني: فيشير إليه بقوله: «اَلَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ» حيث قد ورد في شأن نزول الآية: أنّ المسلمين خافوا ألّا تفي لهم قريش ويقاتلونهم، فلو عملت قريش بما اتّفقوا عليه مع النبيّ لما بدأ المسلمون بالقتال، فكانت خيانة قريش بنقض العهد مبرراً لقتالهم، ومن حسن الحظ لم يصدر من المسلمين قبل نقض العدو العهد، أي اشتباك في هذا الحال.

قوله: «يُقاتِلُونَكُمْ» قد عرفت أنّه وإن كان بصدد بيان حال العدو ولكنّه في الحقيقة شرط ومبرر.

وأمّا الثالث: فأُشير إليه بقوله: «وَ لا تَعْتَدُوا» : أي لا تخرجوا عن الحد، كالابتداء بالقتال، أو بعد انتهاء العدو بالإيمان.

روى الكليني بسنده عن أبي عبداللّه عليه السلام قال: «كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إذا أراد أن يبعث سرية دعاهم فأجلسهم بين يديه ثم يقول: سيروا بسم اللّه وباللّه وفي سبيل اللّه وعلى ملّة رسول اللّه، لا تغلوا ولا تمثلوا ولا تغدروا ولا تقتلوا شيخاً فانياً ولا صبيّاً ولا امرأة ولا تقطعوا شجراً إلّاأن تضطروا إليها، وأيّما رجل من أدنى المسلمين أو أفضلهم نظر إلى أحد من المشركين، فهو جار حتّى يسمع كلام اللّه، فإن تبعكم فأخوكم في الدين، وإن أبى فأبلغوه مأمنه، واستعينوا باللّه».(1)

ما جاء من هذه الآداب في هذه الرواية وغيرها، من تخصيص قتال العدو،2.

ص: 335


1- . الوسائل: 11، الباب 15 من أبواب جهاد العدو وما يشابهه، الحديث 2.

بمن يقاتل يختصّ بمن يُعلم أو يظن أنّه يحترم علاقاته مع الآخرين، ولا يخون، وأمّا لو ظن الحاكم الشرعي، بأن العدو بصدد الخيانة، ورفض المعاهدة فعلى الحاكم الإسلامي المبادرة إلى رفض ما عاهدهم عليه، كما في قوله سبحانه: «وَ إِمّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اَللّهَ لا يُحِبُّ اَلْخائِنِينَ»:(1) أي خفت من قوم بينك وبينهم عهد، خيانة فيه «فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ» : أي فألق إليهم ما بينك وبينهم من العهد واعلمهم بأنّك قد نقضت ما شرطت لهم، وذلك لأنّ اللّه لا يحب الخائنين، ولذلك أوجب عليك إعلامهم بنقض العهد.

الآية الثانية
اشارة

قال تعالى: «اَلشَّهْرُ اَلْحَرامُ بِالشَّهْرِ اَلْحَرامِ وَ اَلْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اِعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اِعْتَدى عَلَيْكُمْ وَ اِتَّقُوا اَللّهَ وَ اِعْلَمُوا أَنَّ اَللّهَ مَعَ اَلْمُتَّقِينَ».(2)

المفردات

الشهر الحرام: عبارة عمّا يحرم فيه ما يحل في غيره، وهن أربعة أشهر: رجب وذو القعدة وذو الحجّة ومحرم الحرام.

الحرمات: جمع حرمة، ما يجب حفظه ويحرم هتكه.

قصاص: الأخذ للمظلوم من الظالم بسبب حكمه إيّاه.

ص: 336


1- . الأنفال: 58.
2- . البقرة: 194.
التفسير

كان العرب يحرّمون القتال في الأشهر الحرم، حتّى لو أنّ رجلاً لقي قاتل أبيه أو أخيه، لم يتعرّض له بسوء، إذا تبيّن ذلك فقد كان المسلمون الّذين كانوا في ركاب النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم يستغربون القتال في الأشهر الحرم، فقد جاءت هذه الآية تبيّن لهم وجه الجواز وتقول: «اَلشَّهْرُ اَلْحَرامُ» الّذي هتك المشركون حرمته وخرجوا ومنعوا النبيّ ومن معه من العُمرة «بِالشَّهْرِ اَلْحَرامِ» : أي في مقابله، فأُذن للمسلمين القتال فيه إذا ظهر من المشركين النقض بالنسبة إلى الوثيقة، وإذا كانت عداوة المشركين للتوحيد ودين الحقّ ومحاربتهم للّه ورسوله لا تمنعهم حرمة هذا الشهر ولا حرمة البيت الحرام عن قتال المسلمين، فلهم معارضتهم بتجويز القتال إذا ظهر منهم النقض.

ثم إن قوله سبحانه: «اَلشَّهْرُ اَلْحَرامُ بِالشَّهْرِ اَلْحَرامِ» بيان خاص أعقبه بيان عام يشمل جميع الحرمات حيث قال: «وَ اَلْحُرُماتُ قِصاصٌ» فمن هتك حرمة يقتص منه ولا تمنعه حرمته عن الاقتصاص، ثم جاء ببيان عام آخر وقال: «فَمَنِ اِعْتَدى عَلَيْكُمْ» :

أي ظلمكم «فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ» : أي فجازوه «بِمِثْلِ مَا اِعْتَدى عَلَيْكُمْ» ، ومن المعلوم أنّ الثاني ليس اعتداء، وتسميته بالاعتداء، من باب المشاكلة، نظير قوله سبحانه:

«وَ مَكَرُوا وَ مَكَرَ اَللّهُ»(1) .

ص: 337


1- . آل عمران: 54.

معيّة مكانية أو زمانية، بل بمعنى كونه ناصراً لهم في سبيله. فالآية من أدلّة حرمة الإسراف في قتال العدوّ.

5. الإسراف على الأنفس
اشارة

قال سبحانه: «قُلْ يا عِبادِيَ اَلَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اَللّهِ إِنَّ اَللّهَ يَغْفِرُ اَلذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ اَلْغَفُورُ اَلرَّحِيمُ».(1)

المفردات

تقنطوا: القنوط: اليأس من الخير قال تعالى: «فَلا تَكُنْ مِنَ اَلْقانِطِينَ»(2) : أي من اليائسين.

التفسير

الآيات السابقة لهذه الآية في سورة الزمر تمثّل مشهد العذاب والزجر والعقاب، وهذه الآية تُمثِّل الرجاء والغفران فاللّه تبارك وتعالى يتجلّى - تارة - باسم العزيز المنتقم، فيوعد عباده، ويأخذهم بسيّئات أعمالهم؛ وأُخرى يتجلّى باسم الغفور الرحيم، كما في آيتنا هذه، فيخاطب عباده العصاة بقوله: «قُلْ يا عِبادِيَ اَلَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ» وفي تعدية الإسراف بلفظ «على» بدل «في» إشارة إلى أنّ الإسراف في الأعمال وإكثارها تثقل به النفس، كما يقال في مَن كلّم شخصاً مرّة بعد أُخرى، يقال له: وأكثرت على فلان. و المعنى أكثروا من الذنوب والمعاصي فتحمّلوها، فهؤلاء مع وصفهم هذا ليس لهم القنوط من رحمة اللّه كما

ص: 338


1- . الزمر: 53.
2- . الحجر: 55.

يقول: «لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اَللّهِ» لماذا، ل «إِنَّ اَللّهَ يَغْفِرُ اَلذُّنُوبَ جَمِيعاً» ويتجلّى ب «إِنَّهُ هُوَ اَلْغَفُورُ اَلرَّحِيمُ».

ما جاء في هذه الآية جزاء مَن تنبّه وندم، وأمّا مَن بقي إلى نهاية العمر على الإسراف على النفس فهذا ما يذكره قوله سبحانه: «وَ كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَ لَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَ لَعَذابُ اَلْآخِرَةِ أَشَدُّ وَ أَبْقى»،(1) فقوله: «وَ كَذلِكَ» إشارة إلى المعيشة الضنك التي وردت في الآية السابقة، أي «نَجْزِي» بالمعيشة الضنك، أي الضيق و الشدة «مَنْ أَسْرَفَ» وجاوز الحد «وَ لَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ» التي عرضت عليه، هذا جزاؤهم في الدنيا وأمّا في الآخرة «وَ لَعَذابُ اَلْآخِرَةِ أَشَدُّ» من عذاب الدنيا «وَ أَبْقى» لكونه دائماً.

ولا منافاة بين هذه الآية التي تمثّل مشهد العذاب والآية السابقة التي تمثّل الرجاء، فإنّ مورد السابقة هو من تنبّه وندم على أعماله المثقلة على نفسه، بخلاف هذه الآية التي تبيّن حال مَن يصرّ على الشرك وأعماله السيئة.

إلى هنا تمّ تفسير الآيات التي جاء الإسراف فيها وصفاً للأعمال الذي هو محور الدراسة في آيات الأحكام.

وهناك آيات وصفت أُناساً بكونهم مسرفين، نظير قوله سبحانه: «مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ اَلْمُسْرِفِينَ»(2) وهذه الآيات بما أنّه لا تتضمّن بالدلالة المطابقية حكماً شرعياً، وإن دلّت التزاماً على حكم الأعمال التي لأجلها وصفوا بالمسرفين، ولأجل ذلك نترك دراستها إلى مظانّها في التفاسير.1.

ص: 339


1- . طه: 127.
2- . الدخان: 31.

كما أنّ إضرار الوارث لأجل إيصاء فوق الثلث الذي أُشير إليه بقوله سبحانه:

«مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضارٍّ»(1) نوع من الإسراف أي تجاوز الحد في الإيصاء، وقد تقدّمت دراستها في باب الوصية فلاحظ.2.

ص: 340


1- . النساء: 12.

2. حكم التبذير في الذكر الحكيم

الآية الأُولى:
اشارة

قال تعالى: «وَ آتِ ذَا اَلْقُرْبى حَقَّهُ وَ اَلْمِسْكِينَ وَ اِبْنَ اَلسَّبِيلِ وَ لا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً».(1)

المفردات

تبذيراً: التبذير: لغة كما قال الراغب: التفريق، وأصله إلقاء البذر وطرحه، فاستعير لكلّ مضيّع لماله، فتبذير البذر تضييع في الظاهر لمَن لم يعرف مآل ما يلقيه.(2)

وقال الطبرسي: التبذير، التفريق بالإسراف، وأصله أن يفرّق كما يفرّق البذر، إلّاأنّه يختصّ بما يكون على سبيل الإفساد، وأمّا ما كان على وجه الإصلاح

ص: 341


1- . الإسراء: 26.
2- . المفردات للراغب: 40، مادة «بذر».

لا يُسمّى تبذيراً.(1)

ويدلّ على ما ذكره الطبرسي هو وجود التشديد في التشبيه في التبذير حيث عدّ المبذِّر أخاً للشيطان. فيختصّ بصرف المال في جانب الفساد.

التفسير

الآية تتضمّن البذل المحمود والبذل المذموم.

أمّا الأوّل فهو إيتاء ذي القربى حقّه والمسكين وابن السبيل، فإنّ الإنفاق في حقّ هذه الطوائف الثلاث من أفضل القربات، فقد أعطى النبي صلى الله عليه و آله و سلم فاطمة فدكاً، والخطاب وإن كان للنبيّ لكن لا يقتضي اختصاص الحكم به.

وأمّا الثاني فقد نهى عن البذل المذموم الرائج عند العرب يوم ذاك، وهو التبذير والذي يعرّف بأنّه التفريق، وأصله أن يفرّق ماله كما يفرّق البذر، إلّاأنّه يختصّ بما كان على سبيل الإفساد والمعصية وصرف المال في غير وجهه، كما مرّ.

وعلى هذا فالآية تتضمّن حكمين مختلفين، إيجابي وسلبي، فالإنفاق على الطوائف الثلاثة، محبوب ومثاب، وبذل المال في الأُمور المحرّمة المورثة للفساد مذموم محرّم.

قوله: «وَ لا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً» : أي لا تفرّق ما أعطاك اللّه من المال في الفساد والمعصية، كصرفه في الخمر واللّذات المحرّمة وليالي السمر، إلى غير ذلك من الموارد التي يصرف المال فيها ولا يعود بخير على الفرد ولا على المجتمع.

ووجه النهي واضح، لأنّه سبحانه جعل المال لرفع الحاجات والضروريات

ص: 342


1- . مجمع البيان: 278/6.

وما يقع في حدود تطوير وسائل العيش، فصرفُه في غير هذه المواضع إضاعة للمال وموجب للحرمان، ولذلك تؤكّد الآية وتقول: «وَ لا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً».

ثمّ إنّ النسبة بين الإسراف والتبذير هو العموم والخصوص، ويظهر ذلك بعد الوقوف على أنّ التبذير هو صرف المال في جانب الفساد، وعلى هذا فكلّ تبذير إسراف، وصرف المال في اللَّهو والشهوة والخمر والميسر تبذير وإسراف، ولكن بعض الإسراف ليس تبذيراً، كما إذا اشترى ثوباً بمئة دينار للُّبس مع إمكانه أن يشتري ثوباً بخمسين ديناراً، وكلّ من الثوبين يؤمّن حاجاته الفردية والاجتماعية، غير أنّ شراء الثوب الغالي إسراف وخروج عن الاعتدال، لأنّ ما اشتراه يعادل الثمن الذي بذله في مقامه، حتى أنّ الإنفاق الأكثر إسراف وليس بتبذير، إذ ليس من قبيل صرف المال في الفساد.

الآية الثانية:
اشارة

قال تعالى: «إِنَّ اَلْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ اَلشَّياطِينِ وَ كانَ اَلشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً».

المفردات

إخوان الشياطين: قرناءهم وأصدقاءهم.

التفسير

قوله تعالى: «إِنَّ اَلْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ اَلشَّياطِينِ» وظاهر صيغة الجمع في قوله: «إِخْوانَ اَلشَّياطِينِ» هو أنّ لكلّ مبذِّر أخاً خاصّاً به من الشياطين، وهذا ما يستفاد من بعض الآيات، قال تعالى: «وَ قَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ

ص: 343

وَ ما خَلْفَهُمْ وَ حَقَّ عَلَيْهِمُ اَلْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ اَلْجِنِّ وَ اَلْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ»(1).

وأمّا وجه التنزيل أو الاشتراك فهو أنّه سبحانه أعطى كلّ شيطان نِعماً ليصرفها في طاعة اللّه، ولكنّه يجحد نعمة اللّه ويصرفها في سبيل إغواء الناس وحملهم على المعصية، فيعد مبذِّراً للنعمة، ويكون أخاً لمن يصرف المال في غير وجهه.

وأمّا كون الشيطان كفوراً، فواضح بنفس البيان، حيث إنّ الشيطان يصرف ما أُوتي من القوى في غير طاعة اللّه، وأخو الشيطان وأولاده كلّهم قد جحدوا نعمة اللّه بصرفها في غير محلّها.

يقول الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام: «أَلَا وَإِنَّ إِعْطَاءَ الْمَالِ فِي غَيْرِ حَقِّهِ تَبْذِيرٌ وَإِسْرَافٌ، وَهُوَ يَرْفَعُ صَاحِبَهُ فِي الدُّنْيَا وَيَضَعُهُ فِي الْآخِرَةِ، وَيُكْرِمُهُ فِي النَّاسِ وَيُهِينُهُ عِنْدَ اللّهِ».(2) وأُريد من التبذير هو صرف المال في جانب الفساد.

***6.

ص: 344


1- . فصّلت: 25.
2- . نهج البلاغة: الخطبة 126.

3. البدعة والتشريع في الذكر الحكيم

اشارة

البدعة والتشريع تناولهما المفسّرون بالدراسة ضمن آيات متعدّدة، ولكن مؤلّفي آيات الأحكام قد غفلوا عن عنوانهما وبيان حكمهما، وسيوافيك الفرق بين التشريع والبدعة ونحن ندرسهما ضمن مباحث، ولنقدّم البحث عن معنى البدعة في اللغة والكتاب والسنّة:

المبحث الأوّل: في تفسير البدعة لغة وكتاباً وسنّة
البدعة لغة
اشارة

قال الخليل: البَدع: إحداث شيء لم يكن له من قبلُ خلق ولا ذكر ولا معرفة... والبِدع الشيء الذي يكون أوّلاً في كلّ أمر كما قال اللّه تعالى: «ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ اَلرُّسُلِ» : أي لست بأوّل مرسل.(1)

فالخليل بيّن معنى اللفظين المشتقين من مادّة واحدة.

وقال ابن فارس: البَدع: له أصلان، إبتداع الشيء وصنعه لا عن مثال،

ص: 345


1- . كتاب العين: 54/2، مادة «بدع».

والآخر: الانقطاع والكلال.(1)

وقال الراغب: الإبداع: إنشاء صنعة بلا إحتذاء ولا اقتداء، والبدعة في المذهب إيراد قول لم يستنّ قائلها وفاعلها فيه بصاحب الشريعة وأماثلها المتقدّمة وأُصولها المتقنة.(2)

إلى غير ذلك من الكلمات المماثلة للغويين.

والإمعان في هذه الكلمات يثبت بأنّ للبدعة في اللغة معنى عامّاً يشمل كلّ جديد لم يكن له مماثل، سواء كانت في العادات كالأطعمة والألبسة والأبنية والصناعات أو في الدين.

معنى البدعة في الكتاب والسنّة

لكن البدعة في الكتاب والسنّة تختصّ بما استحدث بعد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من الأهواء والأعمال في أُمور الدين، وقد مرّ عليك قول الراغب: «البدعة في المذهب إيراد قول لم يستن قائلها وفاعلها فيه...». كلّ ذلك يُعرب عن أنّ إطار البدعة المحرّمة، هو الإحداث في الدين، ويؤيّده قوله سبحانه في نسبة الابتداع إلى النصارى بإحداثهم الرهبانية وإدخالهم إيّاها في الديانة المسيحية، قال سبحانه:

«وَ رَهْبانِيَّةً اِبْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ»(3).

فقوله سبحانه: «ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ» يعني ما فرضناها عليهم ولكنّهم نسبوها إلينا عن كذب.

ص: 346


1- . مقاييس اللغة: 209/1، مادة «بدع».
2- . المفردات للراغب: 38-39، مادة «بدع».
3- . الحديد: 27.

وأمّا التطوير في ميادين الحياة وشؤونها فإن كان بدعة لغة فليس بدعة شرعاً، بل يتبع التطوير في الحياة جوازاً ومنعاً الحكمَ الشرعي بعناوينه، فإن حرّمه الشرع ولو تحت عنوان عام فهو محرّم، وإلّا فهو حلال، لحاكمية أصل البراءة ما لم يرد دليل على الحرمة.

البدعة في كلمات العلماء

قد عرّف أصحابنا البدعة بتعاريف كثيرة مترادفة غير أنّ أوضح التعاريف هو ما يلي:

قال السيد المرتضى رحمه الله: البدعة: الزيادة في الدين أو نقصان منه مع إسناد إلى الدين.(1)

وقال الطريحي (المتوفّى 1086 ه): البدعة: الحدث في الدين وما ليس له أصل في الكتاب والسنّة. وإنّما سُمّيت بدعة لأنّ قائلها ابتدع هو نفسه.(2)

وقال المحقّق الآشتياني (المتوفّى 1322 ه): البدعة: إدخال ما علم أنّه ليس من الدين في الدين ولكن يفعله بأنّه أمر به الشارع.(3)

وقال السيد محسن الأمين (المتوفّى 1371 ه): البدعة: إدخال ما ليس من الدين في الدين كإباحة محرّم أو تحريم مباح، أو إيجاب ما ليس بواجب، أو ندبه.(4)

ص: 347


1- . الرسائل للشريف المرتضى: 224/2.
2- . مجمع البحرين: 298/4، مادة «بدع».
3- . بحر الفوائد: 80.
4- . كشف الارتياب: 143.

غير أنّ الذي ينقص بعض هذه التعاريف هو تقييد البدعة بما لم يرد فيه نصّ على الخصوص ولا يكون داخلاً في بعض العمومات، وهذا ما ذكره المجلسي (المتوفّى 1111 ه) إذ قال: البدعة في الشرع: ما حدث بعد الرسول صلى الله عليه و آله و سلم ولم يرد فيه نصّ على الخصوص، ولا يكون داخلاً في بعض العمومات، أو ورد نهي عنه خصوصاً أو عموماً، فلا تشمل البدعة ما دخل في العمومات مثل بناء المدارس وأمثالها، الداخلة في عمومات إيواء المؤمنين وإسكانهم وإعانتهم، وكإنشاء بعض الكتب العلمية، والتصانيف التي لها مدخل في العلوم الشرعية، وكالألبسة التي لم تكن في عهد الرسول صلى الله عليه و آله و سلم والأطعمة المحدثة، فإنّها داخلة في عمومات الحلّية، ولم يرد فيها نهي(1).(2)

هذه كلمات أصحابنا، وإليك كلمات أهل السنّة فقد عرفوها بتعاريف كثيرة نذكر بعضها:

1. قال ابن رجب الحنبلي [البدعة]: ما أُحدث ممّا لا أصل له في الشريعة يدلّ عليه، أمّا ما كان له أصل من الشرع يدلّ عليه فليس ببدعة شرعاً، وإن كان بدعة لغة.(3)

2. وقال ابن حجر: المحدثات جمع محدثة، والمراد بها - أي في حديث:

«من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردّ» -: ما أُحدث وليس له أصل في الشرع ويُسمّى في عرف الشرع بدعة، وما كان له أصل يدلّ عليه الشرع فليسد.

ص: 348


1- . قلنا: بعض هذه التعاريف لأنّ في تعريف الطريحي إشارة إلى كلتا الصورتين حيث قال: ما ليس له أصل في الكتاب والسنّة.
2- . بحار الأنوار: 202/71، طبعة مؤسسة الوفاء - بيروت.
3- . جامع العلوم والحكم: 160، ط الهند.

ببدعة.(1)

وهذه التعاريف تحدّد البدعة تحديداً وتصوّر لها قسماً واحداً وهو التداخل في أمر التقنين والتشريع، وهناك من حدّدها ثمّ قسّمها إلى: محمودة ومذمومة، فقد روى هرملة بن يحيى، قال: سمعت الشافعي يقول: البدعة بدعتان: بدعة محمودة وبدعة مذمومة، فما وافق السنّة فهو محمود، وما خالف السنّة فهو مذموم. وعلى ما ذكرنا من أنّ البدعة هي التدخّل في الدين بما لم يرد فيه دليل خاص أو عام، يُعلم أنّ تقسيم البدعة إلى محمودة ومذمومة وسيئة وحسنة أمر لا يوافقه الكتاب والسنّة، وسيوافيك الكلام فيه.

إلى هنا تمّ كلامنا في بيان البدعة لغة واصطلاحاً بقي الكلام في حكم البدعة في الكتاب العزيز.

تقديم

تُعدّ البدعة في الدين من المعاصي الكبيرة التي دلّ على حرمتها الكتاب والسنّة، لأنّ المبتدع ينازع سلطان اللّه تبارك وتعالى في التشريع والتقنين ويتدخّل في دينه ويشرِّع ما لم يشرّعه، فيزيد عليه شيئاً وينقص منه شيئاً في مجالي العقيدة والشريعة، كلّ ذلك افتراء على اللّه عزّ وجلّ.

إنّ المسلمين بعد رحيل الرسول صلى الله عليه و آله و سلم تفرّقوا إلى أُمم ومذاهب مختلفة، ولم يكن ذلك إلّاإثْر تلاعب المبتدعين في الدين والشريعة، بإدخال ما ليس من الدين، في الدين، وكان عملهم تغييراً لصميم العقيدة الإسلامية وشريعتها، فلولا البدعة والمبتدعون وانتحال المبطلين، لكانت الأُمّة الإسلامية أُمّة واحدة، لها

ص: 349


1- . فتح الباري: 212/13.

سيادتها على جميع الأُمم والشعوب في أنحاء المعمورة، وما أثنى ظهورهم إلّا دبيبُ المبتدع بينهم، فشتتهم وفرّقهم بعدما كانوا صامدين كالجبل الأشمّ.

إنّ صراط النجاة في الإسلام هو صراط واحد مستقيم دعا اللّه إليه المؤمنين عامّة وقال: «وَ أَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَ لا تَتَّبِعُوا اَلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ»(1) فاللّه سبحانه أمر المسلمين أن يدعوا اللّه سبحانه، لكي يثبتهم على هذا الصراط كي لا ينحرفوا يميناً ولا شمالاً كما يقول سبحانه تعليماً لعباده: «اِهْدِنَا اَلصِّراطَ اَلْمُسْتَقِيمَ»(2) ولكن المبتدع يسوق الناس إلى سبل منحرفة لا تنتهي إلى السعادة التي أرادها اللّه سبحانه لعباده.

إذا عرفت ذلك فلنذكر حكم البدعة في الأدلّة الأربعة.

المبحث الثاني: أدلّة حرمة البدعة في المصادر الأربعة
اشارة

اتّفقت المصادر الأربعة على حرمة البدعة، أعني: الكتاب والسنّة والعقل والإجماع.

[حرمة البدعة في الكتاب العزيز...]
اشارة

أمّا الكتاب العزيز، فقد اتّفقت فيه الآيات على حرمتها، نظير:

1. البدعة تقدّم على اللّه ورسوله في التشريع

كان في عصر الرسالة مَن يتقدّم على اللّه ورسوله، لا مشياً وإنّما يقدّم رأيه على الوحي فنزل الوحي مندِّداً بهم وقال: «يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ

ص: 350


1- . الأنعام: 153.
2- . الفاتحة: 6.

اَللّهِ وَ رَسُولِهِ وَ اِتَّقُوا اَللّهَ إِنَّ اَللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ»(1).

2. البدعة كذب على اللّه

الكذب من المحرّمات الموبقة التي أوعد اللّه عليها بالنار، والبدعة من أفحش الكذب، لأنّها افتراء على اللّه ورسوله، قال سبحانه: «وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ اِفْتَرى عَلَى اَللّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ اَلظّالِمُونَ»(2) . فالمبتدع يظهر بزيّ المُحقّ عند المسلمين، فيفتري على اللّه تعالى دون أن يكشفه الناس فيضلّهم عن الصراط المستقيم.

3. البدعة تصرّف في حلال اللّه وحرامه

المبتدع يتصرّف في التشريع الإسلامي فيجعل منه حلالاً وحراماً بدون إذن منه سبحانه في ذلك، يقول اللّه تعالى: «قُلْ أَ رَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اَللّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَ حَلالاً قُلْ آللّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اَللّهِ تَفْتَرُونَ»(3) فالآية واردة في عمل المشركين، حيث جعلوا ما أنزل اللّه لهم من الرزق بعضه حراماً وبعضه حلالاً، فحرّموا السائبة والبحيرة والوصيلة ونحوها، لذا يردّ عليهم سبحانه: «آللّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اَللّهِ تَفْتَرُونَ» :

أي أنّه لم يأذن لكم في شيء من ذلك؛ بل أنتم تكذبون على اللّه، ثمّ يهدّدهم بالعذاب فيقول: «وَ ما ظَنُّ اَلَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اَللّهِ اَلْكَذِبَ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ إِنَّ اَللّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى اَلنّاسِ وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ»(4) ، ويؤكد عليه

ص: 351


1- . الحجرات: 1.
2- . الأنعام: 21.
3- . يونس: 59.
4- . يونس: 60.

في آية أُخرى ويقول: «وَ لا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ اَلْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَ هذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اَللّهِ اَلْكَذِبَ إِنَّ اَلَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اَللّهِ اَلْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ»(1).

ولعلّ هذا المقدار من الآيات كاف في المقام.

وأمّا السنّة الشريفة

روى الفريقان عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم حول البدعة والتشديد عليها روايات كثيرة، نكتفي بالقليل عن الكثير:

1. روى أحمد بن حنبل عن جابر قال: خطبنا رسول اللّه فحمد اللّه وأثنى عليه بما هو أهل له ثم قال: «أمّا بعد فإنّ أصدق الحديث كتاب اللّه، وإنّ أفضل الهدى هدى محمد، وشرّ الأُمور محدثاتها، وكلّ بدعة ضلالة».(2)

وقد تكرّر مضمون الحديث في غير واحدة من الروايات، ولذلك اقتصرنا بصورة واحدة منها.

2. روى ابن ماجة: قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «لا يقبل اللّه لصاحب بدعة صوماً ولا صلاة ولا صدقة ولا حجّاً ولا عمرة ولا جهاداً».(3)

3. وروى مسلم في صحيحه، قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «مَن أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه، فهو ردّ».(4)

هذا ما رواه المحدّثون من أهل السنّة، وإليك بعض ما رواه أصحابنا عن

ص: 352


1- . النحل: 116.
2- . مسند أحمد: 310/3، ط دار الفكر، بيروت.
3- . سنن ابن ماجة: 19/1.
4- . صحيح مسلم: 133/5، كتاب الأقضية، الباب 8؛ مسند أحمد: 270/6.

أئمّة أهل البيت عليهم السلام:

1. روى الكليني عن محمد بن جمهور، رفعه قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «إذا ظهرت البدع في أُمّتي فليظهر العالم علمه، فمَن لم يفعل فعليه لعنة اللّه».(1)

2. وبهذا الإسناد قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «مَن أتى ذا بدعة فعظّمه فإنّما يسعى في هدم الإسلام».(2)

3. وبهذا الاسناد قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «أبى اللّه لصاحب البدعة التوبة»، قيل: يا رسول اللّه وكيف ذلك؟ قال: «إنّه قد أُشرب قلبه حبّها».(3)

وأمّا الإجماع فقد كفانا فيه ما مرّ من كلمات علماء الفريقين في تعريف البدعة الدالّة على اتّفاقهم على الحرمة.

وأمّا العقل، فإنّ التشريع من خصائص مَن له الولاية على المولّى عليه، ولا ولاية لأحد على أحد إلّااللّه سبحانه، فالناس جميعاً - في النظام التوحيدي - متساوون كأسنان المشط كما قال الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله و سلم، فلا فضل لأحد على أحد ولا امتياز.

وبعبارة أُخرى: إنّ التشريع والتقنين من شؤون الربوبية، فمَن كان ربّاً فله تدبير المربوب تكويناً وتشريعاً، فالتدخل في حق الرب، نوع ظلم وتجاوز على حقوقه.

وإن شئت قلت: إنّ التقنين والتشريع من الأفعال الإلهية التي يقوم بهاع.

ص: 353


1- . الكافي: 54/1، ح 2، باب البدع.
2- . الكافي: 54/1، الحديث 3، باب البدع.
3- . الكافي: 54/1، الحديث 4، باب البدع.

سبحانه فحسب، فلو أنّ أحداً اعتقد بأنّ غير اللّه يملك هذا الحقّ إلى جانب اللّه، وإنّ الحبر اليهودي أو الراهب النصراني مثلاً أو من يشاكلهما له الحقّ في أن يسنّ للناس القوانين، ويعيّن من لدن نفسه لهم الحلال والحرام، فقد اتّخذ سوى اللّه ربّاً، وبذلك نسب فعل اللّه إلى غيره، وتجاوز حدّ التوحيد بتعميم هذا الحقّ على غيره سبحانه، وصار بذلك مشركاً. فلو اعتقد أحدٌ بأنّ لغيره سبحانه حقّ التقنين وأنّ بيده زمام التحليل والتحريم ومصير العباد في حياتهم الاجتماعية والفردية فقد اتّخذه ربّاً، أي مالكاً لما يرجع إلى عاجل العباد وآجلهم، فلو خضع مع هذا الاعتقاد أمامه صار خضوعه عبادة، وعمله شركاً.

ولأجل هذا نجد القرآن يقول: إنّ اليهود والنصارى اتّخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً، إذ معنى الربوبية في هذا المورد هو امتلاك الأمر وامتلاك زمام الاختيار في التحليل والتحريم، في حين أنّ اللّه سبحانه لم يعط لأحد مثل هذا الاختيار.

ص: 354

المبحث الثالث: في مقومات البدعة
اشارة

قد مرّت تعاريف مختلفة في مورد البدعة، والذي يستنتج منها أنّ البدعة تتقوّم بأُمور ثلاثة تؤيّدها النصوص، وإليك تلك المقوّمات، مع دلائلها في الكتاب والسنّة:

1. التدخل في الدين عقيدة وحكماً بزيادة أو نقيصة

البدعة لغة وإن كانت بمعنى الإحداث والإبداع، لكن المتفاهم من التعاريف اختصاص البدعة في المصطلح على التدخل في الدين، وأمّا التدخل في غيره فخارج عن مصطلح القوم ومصبّ الأدلّة.

أمّا الأوّل: فيكفي فيه التأمّل فيما مرّ من الكلمات للفريقين.

وأمّا الثاني: فيتّضح من التأمّل في أدلّة حرمة البدعة، وقد مرّ بعضها في المبحث الثاني، وإليك بيانها:

1. تضافرت الآيات على ذمّ عمل المشركين حينما كانوا يقسّمون رزق اللّه إلى ما هو حلال وحرام، فجاء الوحي مندِّداً بقوله: «قُلْ آللّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اَللّهِ

ص: 355

تَفْتَرُونَ»(1) وفي آية أُخرى يعدّ عملهم افتراءً على اللّه كما يقول: «وَ لا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ اَلْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَ هذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اَللّهِ اَلْكَذِبَ»(2) ، ومن المعلوم أنّ المشركين كانوا ينسبون الحكمين إلى اللّه سبحانه، وأنّه عزّ وجلّ قد جعل منه حلالاً وحراماً، فكان عملهم بدعة في الدين.

2. إنّ اللّه سبحانه يصف من لم يحكم بما أنزل اللّه بكونه كافراً وظالماً وفاسقاً، ومن المعلوم أنّ أحبار اليهود كانوا يحرّفون الكتاب فيصفون ما لم يحكم به اللّه، بكونه حكم اللّه، قال سبحانه: «فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ اَلْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اَللّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَ وَيْلٌ لَهُمْ مِمّا يَكْسِبُونَ»(3) ، فقوله «هذا مِنْ عِنْدِ اَللّهِ» صريح في أنّهم كانوا يتدخّلون في الشريعة الإلهية فيعرِّفون ما ليس من عند اللّه على أنّه من عند اللّه، وهذا يؤكّد بأنّ الموضوع في هذه الآية وأمثالها هو البدعة في الدين لا مطلقها.

3. ذمّ اللّه سبحانه الرهبان لابتداعهم ما لم يكتب عليهم، قال سبحانه:

«وَ رَهْبانِيَّةً اِبْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلاَّ اِبْتِغاءَ رِضْوانِ اَللّهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها»(4) ومعنى الآية أنّهم كانوا ينسبون الرهبانية إلى شريعة المسيح مدّعين بأنّه هو الذي شرّع لهم ذلك العمل، والقرآن يردّهم بقوله: «ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ».

4. أنّه سبحانه وصف أهل الكتاب بأنّهم اتّخذوا رهبانهم وأحبارهم أرباباً من دون اللّه، وقد فسّره النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم بأنّهم كانوا يحرّمون ما أحلّ اللّه7.

ص: 356


1- . يونس: 59.
2- . النحل: 116.
3- . البقرة: 79.
4- . الحديد: 27.

فيتبعونهم أتباعهم، أو يحلّلون ما حرّم اللّه عليهم فيقبلونه بلا تردّد، ومن المعلوم أنّ الأحبار والرهبان كانوا يعرِّفون ما تخيّلوه من الحرام والحلال على أنّه حكم اللّه سبحانه، وليس هذا إلّابدعة في الشرع، وتدخلاً في أمر الشريعة.

وإذا تدبّرت في هذه الآيات وأمثالها يتّضح لك أنّها تدور حول محور واحد هو البدعة في الدين لا مطلقها، ولا يضرّ عدم ذكر القيد في اللفظ؛ إذ هو مفهوم من القرائن القطعية.

2. الإشاعة والدعوة إلى التمسّك بها

الإشاعة والدعوة إلى التمسّك بالبدعة هي المقوّم الثاني لماهيّة البدعة، من غير فرق بين مجالي العقيدة والشريعة، فلا يتحقّق مفهومها بقيام الشخص بذلك العمل، وحده في بيته ومنزله، كأن يزيد في صلاته ما ليس فيها أو ينقص منها شيئاً، فعمله هذا ليس ببدعة وإن كان باطلاً ويصير بفعله عاصياً؟ بل البدعة تتوقّف على إشاعة فكرة خاطئة في العقيدة، أو عمل غير مشروع في المجتمع ودعوتهم إليه بعنوان أنّه من الشرع، ولك أن تستظهر ذلك القيد من الآيات والروايات، فإنّ عمل المشركين في التحليل والتحريم لم يكن عملاً شخصياً في الخفاء، بل إنّ المُبدع قد أحدث فكرة وأشاعها ودعا الناس إليها، كما كان الحال كذلك في الرهبان والأحبار، ويشهد على ذلك بوضوح ما رواه مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أُجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أُجورهم شيئاً، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من يتبعه، لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً».(1)

ص: 357


1- . صحيح مسلم: 62/8، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار.

ويدلّ عليه قول القائل يوم القيامة: «إنّهم قد بدّلوا بعدك»(1)، فإنّ تبديل الدين، ليس عملاً شخصياً، بل هو عمل جماعي، إلى غير ذلك من القرائن الموجودة في الروايات.

3. عدم وجود أصل للمبتدع في الدين

المقوّم الثالث لمفهوم البدعة هو فقدان الدليل على جواز العمل بها، لا في الكتاب ولا في السنّة، وذلك ظاهر، إذ لو كان هناك دعم من الشارع للعمل، لما كان أمراً جديداً في الدين أو تدخّلاً في الشرع، وبذلك يُعلم أنّ أفضل التعاريف هو قولهم: «إدخال ما ليس من الدين، في الدين» أو «إدخال ما لم يُعلم من الدين، في الدين».

وبعبارة واضحة: البدعة في الشرع: ما حدث بعد الرسول صلى الله عليه و آله و سلم، ولم يرد فيه نصّ من النصوص، ولم يكن داخلاً في بعض العمومات.

وبما ذكرنا تنحل عويصة المصاديق التي ربما تُعدّ من البدعة، لعدم ورود نصّ خاص فيها ولكن تشملها العمومات بصورة كليّة، فهذه لا تكون بدعة، وذلك لأنّه لو كان هناك نصّ خاص، لأخرجها عن البدعة، وهذا واضح جدّاً، أمّا إذا لم يكن هناك نصّ خاصّ، ولكن العمومات تشمله بعمومها فهذا ما نوضحه بالمثال التالي:

إنّ الدفاع عن بيضة الإسلام وحفظ استقلاله وصيانة حدوده عن الأعداء، أصل ثابت في القرآن الكريم، قال سبحانه: «وَ أَعِدُّوا لَهُمْ مَا اِسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَ مِنْ

ص: 358


1- . صحيح مسلم: 151/1؛ مسند أحمد: 408/2، وج 297/6.

رِباطِ اَلْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اَللّهِ وَ عَدُوَّكُمْ»(1)، فإنّ قوله: «مِنْ قُوَّةٍ» مفهوم كلّي يشمل كيفية الدفاع، ونوعيّة السلاح، وشكل الخدمة العسكرية المتبعة في كلّ عصر ومصر، فالجميع برمّته هو تطبيق لهذا المبدأ، وتجسيد لهذا الأصل، فالتسلّح بالغوّاصات والأساطيل البحرية والطائرات المقاتلة إلى غير ذلك من وسائل الدفاع، ليس بدعة، بل تجسيد لهذا الأصل.

ثمّ إنّ من يعدّ التجنيد العسكري بدعة فهو غافل عن حقيقة الحال، فإنّ الإسلام يأمر بالأصل، ويترك الصور والأشكال لمقتضيات العصور. وكم لهذا من نظائر في حياتنا الاجتماعية والسياسية، فتدبّر.0.

ص: 359


1- . الأنفال: 60.
المبحث الرابع: الابتداع في تفسير البدعة
اشارة

قد تقدّم أنّ البدعة عبارة عن التدخّل في الدين في مجالي العقيدة والشريعة بالزيادة أو النقيصة إذا لم يكن له أصل في الدين، من غير فرق بين أن يكون التدخّل بالنحو المذكور في عصر الرسول أو بعده بقليل أو كثير، غير أنّ جماعة ابتدعوا في تفسير البدعة وقالوا: البدعة ما لا يكون في القرون الثلاثة.

إنّ هؤلاء جاءوا بتحديد ليس له دليل في الشريعة، ومع ذلك فقد أصرّوا وقالوا: إنّ المقياس في تمييز البدعة عن السنّة هو العصور الثلاثة الأُولى بعد رحيل الرسول، فما حدث فيها هو سنّة، وما حدث بعدها فهو بدعة، وإن تعجب فإليك نصّ القائل: «وممّا نحن عليه، أنّ البدعة - وهي ما حدثت بعد القرون الثلاثة - مذمومة مطلقاً خلافاً لمَن قال: حسنة وقبيحة ولمن قسّمها خمسة أقسام».(1)

وهذه النظرية الشاذّة عن الكتاب والسنّة نظرية خاصّة استنتجها القائل مما رواه الشيخان في باب فضائل أصحاب النبيّ وإليك نصّهما:

1. روى البخاري عن زهرم بن مضرب قال: سمعت عمران بن الحصين

ص: 360


1- . الهدية السنية: 51، الرسالة الثانية.

يقول: قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «خير أُمّتي قرني ثمّ الذين يلونهم ثمّ الذين يلونهم» قال عمران: فلا أدري أذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثة، «ثمّ إنّ بعدكم قوماً يشهدون ولا يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون، وينذرون ولا يفون (يوفون)، ويظهر فيهم السمن».(1)

2. وروى أيضاً عن عبد اللّه بن مسعود رضى الله عنه أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم قال: «خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثمّ يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمينه شهادته»، قال: قال إبراهيم: وكانوا يضربوننا على الشهادة والعهد ونحن صغار.(2)

إنّ الاحتجاج بهاتين الروايتين على أنّ الميزان في تمييز البدعة عن السنّة، هو أنّ كلّ ما حدث في القرون الثلاثة الأُولى ليس ببدعة، وأمّا الحادث بعدها فهو بدعة، باطل بوجوه:

أمّا أوّلاً: فإنّ الاستدلال مبني على تفسير القرن بمئة عام، وهذا مصطلح جديد لا يصحّ حمل الحديث عليه.

وثانياً: أنّ لفظ القرن في اللغة هو النسل(3)، وهو الأُمّة بعد الأُمّة، وبهذا المعنى استعمل في القرآن الكريم، قال سبحانه: «فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ»(4).6.

ص: 361


1- . صحيح البخاري: 189/4، باب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه و آله و سلم؛ صحيح مسلم: 186/7.
2- . صحيح البخاري: 151/3، وج 189/4. قال الطحاوي: أي يكثرون الأيمان في كلّ شيء حتى يصير لهم عادة فيحلف أحدهم حيث لا يُراد منه اليمين ومن قبل أن يستحلف. لاحظ: فتح الباري: 473/11.
3- . لاحظ: لسان العرب: 333/13، مادة «قرن».
4- . الأنعام: 6.

وعلى هذا بما أنّ المتعارف أنّ عمر كلّ نسل (أو جيل) يتراوح بين الستين والسبعين، وبما أنّ عصر النبي صلى الله عليه و آله و سلم قد انقضى برحيله ويبقى عصر الآخرين فيكون المراد مجموع عمر النسلين الذي يتراوح بين 120 أو 140 سنة.

فإن قلت: لعلّ المراد من القرنين الآخرين هو مجموع الأشخاص الذين عاشوا في تينك الفترتين، وعلى هذا فيجب أن يلاحظ آخر من مات من النسل الثاني والثالث.

قلت: أمّا النسل الثاني - أعني: الصحابة - فآخر مَن مات من الصحابة هو أبو الطفيل، وقد اختلفوا في تاريخ وفاته على أقوال: فقيل: إنّه توفّي سنة 120 أو دونها أو فوقها بقليل(1)، وأمّا نسل التابعين فآخر من توفّي منهم كان عام 170، أو 180، فيقلّ أيضاً مائة وعشرون سنة.

فإن قلت: إنّ أوّل القرون في كلامه صلى الله عليه و آله و سلم هو عصر النبي، ومن عاصره من الصحابة إلى أن يموت آخرهم، كما أنّ ثاني القرون هو عصر التابعين إلى آخر من مات منهم. وثالثها عصر تابعي التابعين هكذا.

قلت: مع أنّ هذه المحاسبة على خلاف ظاهر كلام النبي صلى الله عليه و آله و سلم أنّها غير مثمرة إذ مات آخرهم سنة 220 ه، وعندئذٍ ينقص أيضاً بثمانين سنة أيضاً.

ولأجل عدم انطباقه على ثلاثمائة سنة، قال ابن حجر القسطلاني: «وفي هذا الوقت 220 ه ظهرت البدع ظهوراً فاشياً، وأطلقت المعتزلة ألسنتها، ورفعت الفلاسفة رؤوسها، وامتُحن أهل العلم ليقولوا بخلق القرآن، وتغيّرت الأحوال3.

ص: 362


1- . فتح الباري: 5/7؛ الثقات لابن حبّان: 291/3.

تغيّراً شديداً، ولم يزل الأمر في نقص إلى الآن».(1)

ما هو الملاك في وصف القرن بالخير؟
اشارة

هناك احتمالات:

1. اتّفاقهم في الأُصول والعقائد

إنّ الملاك في وصف القرن بالخير، عدم دبيب الاختلاف بين المسلمين في الأُصول والعقائد. وأنّ المسلمين كانوا متمسّكين جملة واحدة بمعتقد واحد صحيح في القرون الثلاثة الأُولى ثمّ ظهرت رؤوس الشياطين ودبّت فيهم المناهج الكلامية الفاسدة.

فإن كان هذا هو الملاك، فتاريخ الملل والنحل لا يؤيّد ذلك بل ويكذّبه، فإنّ الخوارج ظهروا بين الثلاثين والأربعين من القرن الأوّل، وكانت لهم ادّعاءات وشبهات وعقائد سخيفة خضّبوا في طريقها وجه الأرض، ولم يتمّ القرن الأوّل إلّا وظهرت المرجئة، الذين دعوا المجتمع الإسلامي إلى التحلّل الأخلاقي، رافعين عقيرتهم بأنّه لا تضر مع الإيمان معصية، فقد ضلّوا وأضلوا كثيراً حتى دبّ الإرجاء بين المحدّثين وغيرهم في القرن الثاني، وقد ذكر أسماءهم جلال الدين السيوطي في «تدريب الراوي»(2)، حيث كان الإرجاء يقود المجتمع الإسلامي إلى التحلّل الأخلاقي، والفوضى في سلوكيات الأفراد.

إلى أن ظهرت المعتزلة في أوائل القرن الثاني عام 105 ه قبل وفاة الحسن

ص: 363


1- . فتح الباري في شرح صحيح البخاري: 5/7.
2- . لاحظ: تدريب الراوي: 328/1.

البصري بقليل، فتوسّع الشقاق بين المسلمين وانقسموا إلى فرق كثيرة، حيث كان النزاع قائماً على قدم وساق منذ أن ظهر الاعتزال على يد واصل بن عطاء حتى أواسط القرن الخامس الذي قضي فيه على هذه الفرقة.

هذا كلّه حول القرن الأوّل، وأمّا القرن الثاني فصار ميداناً لتضارب الأفكار واختلاف المناهج فانقسم العلماء:

إلى محكّم يكفر كلّ الطوائف الإسلامية غير أهل نحلته.

إلى مرجئي يكتفي بالإيمان بالقول، ويقدّمه ويؤخّر العمل.

إلى معتزلي يؤوّل الكتاب والسنّة بما يوافق عقائده وعقليّته.

إلى جهميّ ينفي صفات اللّه كلّها ويحكم بفناء الجنة والنار، وقد هلك جهم بن صفوان عام 128 ه.

إلى كراميّ مجسّم (وقد هلك كرّام عام 255 ه)، إلى غير ذلك من المناهج الباطلة التي أفسدت على المسلمين عقائدهم.

2. سيادة السلم والصلح على المسلمين

إنّ الملاك هو صفاء المجتمع من حيث السلم والصلح وسيادة الأمن على المسلمين.

فلو كان هذا هو الملاك فقد كان القرن الأوّل قرناً دموياً لم ير التاريخ مثله، فكيف يكون خير القرون؟! وأيّ يوم فيه كان يوم الصفاء والصلح؟! أيوم قُتل فيه عثمان بن عفان في عقر داره بمرأى ومسمع من المهاجرين والأنصار؟

أم يوم فتنة الجمل الذي قتلت فيه عشرات الآلاف من الطرفين بين صحابي وتابعي، وقد عقب ذلك ترميل النساء وإيتام الأطفال، وحدوث الأزمة الشديدة.

ص: 364

أم يوم صفّين الذي خرج فيه أمير الشام بوجه الإمام عليّ عليه السلام، الذي بايعه المهاجرون والأنصار بيعة لم ير لها نظير في التاريخ، فوقع صِدَام بين طائفتين من المسلمين كانت نتيجته إراقة دماء عشرات الأُلوف، إلى أن انتهى إلى التحكيم؟

أم يوم ظهر الخوارج على الساحة الإسلامية يَغيرون ويقتلون الأبرياء إلى أن انتهت فتنتهم بقتل مشايخهم في النهروان؟

أم يوم أُغير على آل رسول اللّه بكربلاء، حيث قتل فيه أبناء المصطفى، وفيهم سبطه وريحانته سيد شباب أهل الجنّة، وسُبيت بنات الزهراء ومن معهنّ من نساء أهل البيت حتى لم يبقَ بيت له برسول اللّه صلة إلّاوقد ضجّت فيه النوائح وعمّته الآلام والأحزان؟

أم يوم أُبيحت فيه مدينة رسول اللّه في وقعة الحرّة الشهيرة فقُتل الأصحاب والتابعون، ونهبت الأموال، وبقرت بطون الحوامل وهتكت الأعراض حتى ولدت الأبكار دون أن يعرفن آباء أولادهن؟(1)

أم يوم حاصر جيش بني أُميّة مكّة المكرّمة والبيت العتيق ورموه بالحجارة، لأجل القضاء على عبد اللّه بن الزبير؟

أم يوم تسنّم عبد الملك بن مروان منصّة الخلافة، وقد عيّن الحجاج بن يوسف عاملاً على العراق، فسفك دماءً طاهرة، وقتل الأبرياء، وزجّ بالسجون رجالاً ونساءً من دون أن تظلّهم مظلّة تقيهم حرّ الشمس وبرد الليل القارص؟

فكلّ تلك الحوادث الدموية قد وقعت قبل أن ينقضي القرن الأوّل، فكيف يمكن أن يكون خير القرون وأفضلها؟!7.

ص: 365


1- . منهج في الانتماء المذهبي: 277.

وإن كان صاحب القرن هو الرسول الأعظم أفضل الخلق؟ إلّاأنّ سيرته، تختلف عن سيرة أُمّته التي وقفْتَ على صورة مجملة من أفعالها الدموية.(1)

3. تمسّكهم بالدين في مجال الفروع

إنّ الملاك هو تمسّكهم بالدين في مجال الأحكام والفروع ولو فرض الملاك فهو أيضاً لم يتحقّق، وإن شئت فارجع إلى ما حدث بعد رحيل النبي في نفس عام الرحلة، فإنّ كثيراً ممّن رأى النبيّ الأكرم وأدركه وسمع حديثه أصبح يمتنع عن أداء الزكاة، بل وارتدّ بعض عن دين الإسلام.

لكن لا ندري هل نصدق هذا الحديث أم نؤمن بما حدّث القرآن الكريم، حيث يعتبر قوماً أعرف بمواقع الإسلام ويفضّلهم على مَن كان في حضرة النبيّ من الصحابة الكرام وقد ارتدّ، يقول سبحانه: «يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اَللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَ يُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى اَلْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اَللّهِ وَ لا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اَللّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَ اَللّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ»(2).

قل لي: مَن هؤلاء الذين يعتز اللّه بهم سبحانه ويفضّلهم على أصحاب النبي؟ فلاحظ التفاسير.(3)

لا ندري هل نؤمن بهذا الحديث الذي رواه الشيخان أم نؤمن بما روياه

ص: 366


1- . للوقوف على هذه الحوادث المرّة، لاحظ تاريخ الطبري، تاريخ اليعقوبي، مروج الذهب للمسعودي، الكامل في التاريخ للجزري، والإمامة والسياسة لابن قتيبة، إلى غير ذلك من المعاجم التاريخية المعتبرة.
2- . المائدة: 54.
3- . لاحظ: تفسير الرازي: 427/3؛ تفسير النيسابوري بهامش تفسير الطبري: 165/6.

نفسهما في باب آخر، قالا: قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «يرد عليّ يوم القيامة رهط من أصحابي فيُجلون عن الحوض فأقول: يا ربّ أصحابي، فيقول: إنّه لا علم لك بما أحدثوا بعدك، إنّهم ارتدّوا على أدبارهم القهقرى».(1)3.

ص: 367


1- . جامع الأُصول: 120/11، برقم 7973.
المبحث الخامس: في تقسيم البدعة إلى حسنة وسيئة
اشارة

يظهر من غير واحد من الفقهاء تقسيم البدعة إلى حسنة وسيئة، والأصل في ذلك قول عمر بن الخطاب، وقد ظهر على لسانه في السنة الرابعة عشرة من الهجرة، عندما جمع الناس للصلاة بإمامة أُبيّ بن كعب في شهر رمضان ووصف الجماعة بقوله: «نِعْمَ البدعة هذه»، كما رواه البخاري.

قال عبد الرحمن بن عبد القارئ: خرجت مع عمر بن الخطاب ليلة رمضان إلى المسجد فإذا الناس أوزاع متفرّقون يصلّي الرجل لنفسه، ويصلّي الرجل فيصلّي بصلاته الرهط، فقال عمر: إنّي أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل، ثمّ عزم فجمعهم على أُبيّ بن كعب، ثمّ خرجت معه ليلة أُخرى والناس يصلّون بصلاة قارئهم، قال عمر: «نعم البدعة هذه والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون» يريد آخر الليل، وكان الناس يقومون أوّله.(1)

إنّ إقامة صلاة التراويح جماعة لا تخلو من صورتين:

الأُولى: إذا كان لها أصل في الكتاب والسنّة، فعندئذٍ يكون عمل الخليفة

ص: 368


1- . صحيح البخاري: 58/3، كتاب الصوم، باب فضل من قام رمضان.

إحياء لسنّة متروكة، سواء أراد إقامتها جماعة أو جمعهم على قارئ واحد، فلا يصحّ قوله: «نعم البدعة هذه» إذ ليس عمله تدخّلاً في الشريعة.

الثانية: إذا لم يكن هناك أصل في المصدرين الرئيسيّين، لا لإقامتها جماعة أو لجمعهم على قارئ واحد، وإنّما كره الخليفة تفرّق الناس، ولأجل ذلك أمرهم بإقامتها جماعة، أو بقارئ واحد، وعندئذٍ تكون هذه بدعة قبيحة محرّمة.

وبعبارة أُخرى: أنّ البدعة التي تحدّث عنها الكتاب والسنّة هي التدخّل في أمر الدين بزيادة أو نقيصة، والتصرّف في التشريع الإسلامي، وهي بهذا المعنى لا يمكن أن تكون إلّاأمراً محرّماً ومذموماً ولا يصحّ تقسيمها إلى حسنة وقبيحة، وهذا شيء واضح لا يحتاج إلى استدلال.

سؤال وجواب

وهنا سؤال يطرح نفسه، وهو: أنّه إذا كانت البدعة قسماً واحداً وأمراً محرّماً مقابل السنّة، لا تقبل التقسيم إلى غيره، فما معنى قوله صلى الله عليه و آله و سلم: «مَن سنّ في الإسلام سنّة حسنة فعُمل بها بعده، كُتب له أجر مَن عمل بها ولا ينقص من أُجورهم من شيء؛ ومَن سنّ سنّة سيئة فعُمل بها بعده كُتب له مثل وزر مَن عمل بها ولا ينقص من أوزارهم شيء».(1)

والجواب: أنّ الشقّ الأوّل راجع إلى المباحات العامّة المفيدة للمجتمع، كإنشاء المدارس والمكتبات وسائر الأعمال الخيريّة، فلو أنّ رجلاً قام بإنشاء مدرسة أو مكتبة وصار عمله أُسوة للغير، فقام الآخرون بإنشاء مدارس في سائر الأمكنة، فهو سنّة حسنة.

ص: 369


1- . صحيح مسلم: 61/8، كتاب العلم.

وأمّا الشقّ الثاني فهو راجع إلى الأُمور المحرّمة بالذات، فلو قام أحد بعقد احتفال أشرك فيه النساء السافرات المتبرّجات، ثمّ صار عمله قدوة للآخرين، فعلى هذا المسنّن وزر عمله ووزر مَن عمل بسنته.

وعلى ضوء ذلك فالحديث لا يمتّ بصلة إلى البدعة المصطلحة.

نعم يصحّ تقسيم البدعة بالمعنى اللغوي - أي إذا لم يكن فيه تدخّل بالشرع - إلى حسنة وقبيحة، مثلاً إذا احتفل المواطنون بيوم استقلال بلدهم كلّ عام، يُعدّ بدعة حسنة من دون انتسابه إلى أمر الشارع به، وأمّا من أحدث أمراً كدخول النساء السافرات المتبرّجات في مجالس الرجال في الضيافات، فهذه بدعة قبيحة، مضافاً إلى أنّه أمر حرام.

ص: 370

المبحث السادس الاحتفال في ميلاد النبي ليس بدعة
اشارة

قد عرفت أنّه إذا كان للشيء الجديد أصل في القرآن والسنّة وإن لم يكن للصورة الجديدة دليل خاص فيهما، فليس هذا بدعة، مثلاً: الاحتفال بميلاد النبي صلى الله عليه و آله و سلم وعترته الطاهرة عليهم السلام وإن كان أمراً حديثاً لم يكن في عصر الرسول صلى الله عليه و آله و سلم بالكيفية الرائجة في زماننا، لكنّه ليس بدعة؛ لأنّ الاحتفال في الميلاد - إذا تجرّد عن الأُمور المحرّمة - من مصاديق حبّ النبيّ وإظهار حبه، ومن المعلوم أنّ حبّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم أصل من أُصول الإسلام.

نعم لا ينحصر حب النبي بالاحتفال، بل الحب له مظاهر منها الاحتفال وقراءة الاشعار في حقّه وتلاوة الآيات النازلة في تكريمه ومدحه، وإن كان له صورة أُخرى وهي الاتباع والاستنان بسنته.

وبذلك يظهر أنّ تشديد الوهابيين على أُمور ترجع إلى حب النبي صلى الله عليه و آله و سلم بحجّة أنّها لا دليل عليها بالخصوص في الكتاب والسنّة، نابع عن عدم تحديد البدعة كما هو حقّها.

وهناك حديث ظريف ننقله ليكون عبرة لهؤلاء القوم.

ص: 371

لقد كان في التاريخ الإسلامي أُناس يفهمون - بصفاء أذهانهم وخلوص قرائحهم - أنّ ما ورد في الكتاب والسنّة من وصفه سبحانه بصفات الجمال والكمال أُسوة لما لم يرد، فللمسلم أن يدعو ربّه بأوصاف جميلة وإن لم ترد حرفيّاً في الكتاب والسنّة.

روى الطبراني: أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم مرّ على أعرابي وهو يدعو في صلاته ويقول:

يا من لا تراه العيون، ولا تخالطه الظنون، ولا يصفه الواصفون، ولا تغيّره الحوادث، ولا يخشى الدوائر، يعلم مثاقيل الجبال، ومكاييل البحار، وعدد قطر الأمطار، وعدد ورق الأشجار، وعدد ما أظلم عليه الليل، وأشرق عليه النهار، لا تواري سماء منه سماء، ولا أرض أرضاً، ولا بحرٌ ما في قعره، ولا جبل ما في وعره، إجعل خير عمري آخره، وخير عملي خواتمه، وخير أيّامي يوم ألقاك.

فوكّل رسول اللّه بالأعرابي رجلاً، وقال: إذا صلّى فأتني به، وكان قد أُهدي بعض الذهب إلى رسول اللّه، فلمّا جاء الأعرابي وهب له الذهب، وقال له: تدري لم وهبت لك؟

قال الأعرابي: للرحم التي بيني وبينك.

قال الرسول الكريم: «إنّ للرحم حقّاً، ولكن وهبت لك الذهب لحسن ثنائك على اللّه».(1)

وأين هذا الكلام ممّا روي عن الشاذلي أنّه قال: مَن دعا بغير ما دعا به رسول اللّه فهو مبتدع.(2)9.

ص: 372


1- . المعجم الأوسط للطبراني: 172/9؛ تراثنا الفكري في ميزان الشرع والعقل لمحمد الغزالي: 102.
2- . تفسير روح البيان للبروسوي: 385/9.
في البدع التي حدثت بعد رحيل النبي صلى الله عليه و آله و سلم

1. قبض اليد اليمنى باليُسرى بصور مختلفة.

2. صلاة الضحى.

3. إقامة صلاة التراويح جماعة.

4. الطلاق ثلاثاً دفعة أو دفعات في مجلس واحد.

5. النهي عن متعة الحج (حج التمتع).

6. الإتمام في السفر.

7. الصوم في السفر.

وقد مرّت دراسة الأُمور الأربعة الأخيرة في محالّها فلاحظ.

هذا كلّه في الفروع، وأمّا الأُصول والعقائد فنقتصر بذكر أمر واحد وهو:

8. جعلت رؤية اللّه تعالى في الآخرة من الأُصول والعقائد، على نحو لو أنكر ذلك أحد المسلمين لربما يُكفّر، مع أنّ الرؤية وأخواتها - أي التجسيم والتشبيه والجهة - كلّها أفكار مستوردة وبدع يهودية.

هذا آخر الكلام في البدعة فمَن أراد

التفصيل والتبسّط فليرجع إلى كتابنا: «البدعة:

مفهومها وحدّها وآثارها ومواردها»

واللّه الهادي

ص: 373

4. التكفير في الذكر الحكيم

اشارة

التكفير في اللغة التغطية والستر، يقال للزارع كافرٌ لأنّه يغطّي الحبّ تحت التراب، قال سبحانه: «كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ اَلْكُفّارَ نَباتُهُ»(1).

والكفر في الشرع نقيض الإيمان ويُراد من الثاني التصديق، يقول سبحانه حاكياً عن أبناء يوسف: «وَ ما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَ لَوْ كُنّا صادِقِينَ»(2) ، فيكون الكفر - بحكم التضاد - بمعنى الجحد، ومنه قوله تعالى: «إِنّا بِكُلٍّ كافِرُونَ»(3) : أي جاحدون.

وأمّا التكفير الذي هو موضوع بحثنا فهو نسبة أحد من أهل القبلة إلى الكفر.

وأمّا الفسق فهو في اللغة خروج الشيء من الشيء، يقال: فسقت الرطبة، إذا خرجت عن قشرتها.

وأمّا شرعاً فهو الخروج عن طاعة اللّه كما يقول سبحانه حاكياً عن

ص: 374


1- . الحديد: 20.
2- . يوسف: 17.
3- . القصص: 48.

إبليس: «فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ»(1) ، وعلى هذا فهو أعمّ من الكفر، إذ ربما يكون إثماً ولا كفراً، باللّه أسمائه وصفاته وآياته وأنبيائه فمَن كذب فقد أثم دون أن يكفر.

خطورة التكفير

إنّ مَن نسب أحداً إلى الكفر، أو قذفه بوصف يتضمّن معنى الكفر، دون أن يأتي ببيّنة، فحكمه أن يُعزّر.

وقد روي عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم أنّه قال: «إذا قال الرجل لأخيه يا كافر باء بها أحدهما، فإن كان كما قال، وإلّا رجعت عليه».(2)

كيف لا يكون كذلك فإنّ الآثار السلبية المترتّبة على التكفير خطيرة جدّاً ويكفي في خطورتها: أنّها تزيل عصمة النفس والنفيس، فالنفوس تُقتل والأعراض تُهتك والأموال تُسلب بلا دليل، وتنشر الفوضى في المجتمع الإسلامي وتجعله شيعاً، والذي يعدّه سبحانه من ألوان العذاب، ويقول: «أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً»(3) ، إذا عرفت ذلك فلنرجع إلى جذور التكفير في عصر النبي صلى الله عليه و آله و سلم.

التكفير في عصر النبي صلى الله عليه و آله و سلم
اشارة

أوّلاً: روى المفسّرون في تفسير قوله تعالى: «يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اَللّهِ فَتَبَيَّنُوا وَ لا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ اَلسَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً»(4) ، أنّها نزلت

ص: 375


1- . الكهف: 50.
2- . صحيح البخاري: 97/7، كتاب الأدب، باب مَن كفّر أخاه، برقم 6103؛ صحيح مسلم: 57/1.
3- . الأنعام: 65.
4- . النساء: 94.

في أُسامة بن زيد وأصحابه، بعثهم النبي صلى الله عليه و آله و سلم في سرية فلقوا رجلاً قد انحاز بغنم له إلى جبل، وكان قد أسلم، فقال لهم: السلام عليكم، لا إله إلّااللّه محمّد رسول اللّه، فبدر إليه أُسامة فقتله واستاقوا غنمه؛ عن السدي.(1)

ثانياً: ذكر المفسرون - أيضاً - أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بعث الوليد بن عقبة بن أبي معيط في صدقات بني المصطلق فخرجوا يتلقّونه فرحاً به، وكانت بينهم عداوة في الجاهلية، فظن أنّهم همّوا بقتله، فرجع إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وقال: إنّهم مَنَعُوا صدقاتهم، وكان الأمر خلافه، فغضب النبي صلى الله عليه و آله و سلم وهمّ أن يغزوهم، فنزل قوله تعالى: «يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ»2.(2)

كلّ ذلك يدلّ على أنّ التكفير بلا دليل وحجّة، أمر منكر، ولذلك ثبت عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم أنّه قال: «من صلّى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا فذلك المسلم، الذي له ذمّة اللّه وذمّة رسوله».(3)

وقال صلى الله عليه و آله و سلم: «إنّ الرفق لا يكون في شيء إلّازانه، ولا ينزع من شيء إلّا شانه».(4)

إذا عرفت ذلك فيجب علينا أن نبحث في ملاك الإيمان والكفر أي ما يجب التصديق به الذي يستلزم إنكاره الكفر، وإليك بيانه:ب.

ص: 376


1- . مجمع البيان: 190/3.
2- . مجمع البيان: 241/9-242.
3- . صحيح البخاري: 102/1، باب فضل استقبال القبلة.
4- . صحيح مسلم: 22/8، كتاب البر والصلة والآداب.
1. التوحيد في الذات

ويُراد به توحيده سبحانه وتنزيهه عن المثل وعن التركيب، فاللّه سبحانه واحد لا مثيل ولا نظير له، موجود بسيط لا جزء له ولا تركيب في ذاته، وسورة الإخلاص تتكفّل ببيان ذينك التوحيدين.

أمّا الأوّل فيبينه قوله تعالى: «وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ».

وأمّا الثاني - أي بسيط لا جزء له - فيكفي فيه قوله تعالى: «قُلْ هُوَ اَللّهُ أَحَدٌ».

2. التوحيد في الخالقية

ويُراد به أنّه لا خالق في صحيفة الوجود على وجه الاستقلال إلّااللّه سبحانه، وقد تضافر التنصيص عليه في الذكر الحكيم، قال سبحانه: «قُلِ اَللّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ وَ هُوَ اَلْواحِدُ اَلْقَهّارُ»(1).

قلنا: إنّ الخالقية على وجه الاستقلال منحصرة باللّه سبحانه، خرجت الخالقية على وجه التبعية وبإقدار من اللّه سبحانه كما هو الحال في خلق الإنسان ما بدا له من الصنائع، ويكفي في ذلك أنّه سبحانه ينسب خلق الطير وإبراء المريض وإحياء الموتى إلى نبيّه المسيح عليه السلام ويقول: «وَ إِذْ تَخْلُقُ مِنَ اَلطِّينِ كَهَيْئَةِ اَلطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَ تُبْرِئُ اَلْأَكْمَهَ وَ اَلْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَ إِذْ تُخْرِجُ اَلْمَوْتى بِإِذْنِي»(2).

ص: 377


1- . الرعد: 16.
2- . المائدة: 110.
3. التوحيد في الربوبية

«الرب» بمعنى الصاحب، ورب البستان مَن يدبّر ويدير حاجاته، كما أنّ رب الدار يحمي الدار من الخراب، فاللّه سبحانه خالق السماوات والأرض وفي الوقت نفسه مديرها ومدبّرها، ولذلك نرى أنّه سبحانه بعدما يذكر خلق السماوات والأرض يصف نفسه بالتدبير، قال: «اَللّهُ اَلَّذِي رَفَعَ اَلسَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اِسْتَوى عَلَى اَلْعَرْشِ وَ سَخَّرَ اَلشَّمْسَ وَ اَلْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ اَلْأَمْرَ يُفَصِّلُ اَلْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ»(1) ، إلى غير ذلك من الآيات التي تنصّ على حصر تدبير الكون باللّه.

ثمّ إنّ مشركي عصر الرسالة كانوا موحّدين في الخالقية دون الربوبية، فزعموا أنّ تدبير العالم والإنسان موكول إلى الآلهة المكذوبة من الملائكة والجن والأصنام والأوثان، ويدلّ على ذلك قوله تعالى: «وَ اِتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اَللّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا»(2) ، وقوله تعالى: «وَ اِتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اَللّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ»(3) ، فكانوا يرون العزّ في الحياة والنصرة في الحرب بيد الآلهة، وبذلك يُعلم أنّ ما ذهب إليه محمد بن عبد الوهاب(4) من أنّ مشركي عصر الرسالة كانوا موحّدين في الربوبية والمدبّرية، أمر لا يصدقه الكتاب الكريم ولا التاريخ الذي يصف عادات الجاهلية.

وعذره في ذلك لأنّه فسر الربوبية بالخالقية، وخلط بينهما.

ص: 378


1- . الرعد: 2.
2- . مريم: 81.
3- . يس: 74.
4- . لاحظ: كشف الشبهات: 4-6، طبعة مصر بتصحيح محبّ الدين الخطيب.
4. التوحيد في العبودية

العبادة عبارة عن الخضوع بالجوارح أمام مَن بيده مصير العابد في الحياة على جميع الأصعدة، اعتقاداً صحيحاً أو باطلاً، فقد بعث الأنبياء كلّهم لأجل نشر هذا الأصل وأنّه لا معبود إلّاإيّاه، فقال سبحانه: «وَ لَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اُعْبُدُوا اَللّهَ وَ اِجْتَنِبُوا اَلطّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اَللّهُ»(1).

وجه الحصر أنّه سبحانه هو المؤثّر الواحد في الكون خلقة وتدبيراً، فكان هو اللائق بالعبادة، وأمّا المنحرفون عن أصحاب رسالات السماء فبما أنّهم وزّعوا أمر التدبير على آلهتهم المكذوبة، لا يرون حصر العبادة باللّه سبحانه؛ بل كانوا يعبدون غيره لكي يتقرّبوا بعبادتهم إلى اللّه سبحانه.

5. الإيمان بالمعاد

الإيمان بالمعاد وأنّه سبحانه يحيي الناس بعد مماتهم يوم القيامة ويحاسبهم ويجزيهم حسب أعمالهم، من صميم الإيمان، ولذلك كثيراً ما يجمع القرآن الكريم بين الإيمان باللّه والمعاد معاً، ويقول: «مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ»(2) .

والإيمان بالمعاد أمر دعت إليه عامّة الشرائع السماوية، فلا توصف دعوة بالدين إذا خلت عن الدعوة إلى الإيمان بالحياة بعد الممات.

6. رسالة النبيّ الخاتم صلى الله عليه و آله و سلم

كان شعار الإسلام وشعار مَن يدخل تحت خيمته هو الاعتراف بتوحيده

ص: 379


1- . النحل: 36.
2- . البقرة: 62.

سبحانه ورسالة نبيّه محمد صلى الله عليه و آله و سلم، وهذا أمر واضح لا سترة فيه. وأنّه خاتم الأنبياء والرسل وقد ختم به باب النبوّة، يقول سبحانه: «ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَ لكِنْ رَسُولَ اَللّهِ وَ خاتَمَ اَلنَّبِيِّينَ وَ كانَ اَللّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيماً»(1).

7. القرآن وحي منزل

إنّ مركز النزاع ومحوره بين رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ومشركي قريش كان يتمثّل في كون القرآن وحياً منزلاً من اللّه على رسوله، فقد كانوا منكرين لذلك أشدّ الإنكار وينسبونه إلى السحر تارة، والكهانة أُخرى، أو أخذه من أهل الكتاب ثالثة.

وبهذا يتّضح أنّ الإقرار والإيمان بأنّ القرآن وحي من اللّه هو من صميم الإيمان، ويكفي في ذلك قوله سبحانه: «آمَنَ اَلرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَ اَلْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَ مَلائِكَتِهِ وَ كُتُبِهِ وَ رُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَ قالُوا سَمِعْنا وَ أَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَ إِلَيْكَ اَلْمَصِيرُ».(2)

كيف لا يكون من صميم الإيمان والقرآن هو المعجزة الكبرى للنبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم والبرهان الخالد على رسالته عبر الزمان، إلى قيام القيامة، يقول اللّه سبحانه: «قُلْ لَئِنِ اِجْتَمَعَتِ اَلْإِنْسُ وَ اَلْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا اَلْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً».(3)

ص: 380


1- . الأحزاب: 40.
2- . البقرة: 285.
3- . الإسراء: 88.
8. الاعتقاد بالضروريات

لا شكّ أنّ قسماً من الأحكام الشرعية يُعدّ من ضروريات الشريعة الإسلامية كوجوب الصلاة والزكاة وحجّ بيت اللّه الحرام، إلى غير ذلك من الأحكام التي يعرفها كلّ مسلم على وجه الإجمال، فقد ذكر الفقهاء أنّ إنكار الحكم الضروري يُسبّب خروج الإنسان عن خيمة الإيمان والإسلام، لأنّ إنكار حكم الضروري يلازم إنكار رسالة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم فهو بنفسه وإن لم يكن سبباً للخروج والارتداد، لكنّه بما أنّه يلازم إنكار رسالة النبي صلى الله عليه و آله و سلم يكون سبباً للكفر.

إنّما الكلام في ظرف الملازمة، فهل الميزان هو وجود الملازمة بين الإنكارين في نظر المنكر، أو وجود الملازمة في نظر المسلمين؟

المحقّقون على الأوّل فلو كان المنكر يعيش بين المسلمين فترة طويلة ووقف على وضوح هذه الأحكام ومع ذلك أنكر واحداً منها عناداً ولجاجاً، فيحكم بكفره وخروجه، لأنّ مثل هذا الإنكار يلازم إنكار رسالة الرسول ونبوّته.

وأمّا إذا لم تكن الملازمة بين الإنكارين إلّاعند المسلمين لا عند المنكر، كما إذا كان جديد الإسلام أو نزيلاً في البوادي، فإنكار مثل هذا لا يسبّب الكفر إذ ليس عنده تلك الملازمة.

ثمّ إنّ من الضروريات حُبّ أهل البيت عليهم السلام وأنّ بغضهم أمر محرّم بالضرورة، فمن بغض أهل البيت فقد أنكر أحد الأُمور الضرورية، فيكون محكوماً بالكفر كالنواصب.

هذه الأُصول التي يجب الإيمان بها، وأمّا من أنكر واحداً من هذه الأُصول إنّما يكفّر بعد اجتماع الشرائط التالية:

ص: 381

[الشروط اللازمة للتكفير...]
1. إقامة الحجّة على المنكر

اتّفق العلماء على أنّه ليس لأحد أن يكفّر أحداً من المسلمين وإن أخطأ وغلط حتى تُقام عليه الحجّة، وتتبيّن له المحجّة، ومن ثبت إسلامه بيقين لم يزل ذلك عنه بالشكّ، بل لا يزول إلّابعد إقامة الحجّة وإزالة الشبهة.(1)

ويترتّب على ذلك أنّ منكر الضروري إذا كان جديد الإسلام أو من أهل البادية البعيدة لا يُحكم عليه بالكفر؛ لأنّ المفروض أنّه لم تتم عليه الحجّة لحداثة دخوله في الإسلام، أو بعد محلّه عن العلم والعلماء.

روى النسائي أنّ رجلاً قال للنبي صلى الله عليه و آله و سلم: «ما شاء اللّه وشئت»، قال النبي صلى الله عليه و آله و سلم: «أجعلتني نداً للّه، فقل: ما شاء اللّه ثم ما شئت».(2)

2. كونه قاصداً للمعنى المخرج

إذا كان تعبير الرجل ذا احتمالات ووجوه، وهي بين صحيح وباطل فلا يحكم عليه بالكفر بعبارة ذات وجوه، مثلاً: لا يحكم على القائل بوحدة الوجود إلّا إذا ثبت أنّه أراد عينية وجود الواجب مع الوجود الإمكاني.

3. كونه مختاراً في البيان والعمل

إذا كان الإنسان مكرهاً على الكفر، كما هو في قضية عمار رحمه الله فلا يحلّ تكفيره، وقد مضى بيانه في مبحث التقيّة.

4. لم يكن الإنكار عن شبهة خارجة عن الاختيار

ربما يتّفق لبعض الناس إنكار حكم ضروري لشبهة طرأت على ذهنه

ص: 382


1- . مجموع الفتاوى لابن تيمية: 466/12.
2- . السنن الصغرى للنسائي: 304/4.

بسبب وسائل الإعلام المعادية التي تنشر كلّ يوم وليلة عشرات الشبهات، فإذا أُحضر إلى الحاكم فعليه أن يحيله إلى أُستاذ يعرف الداء والدواء، حتى يُزيل ما طرأ على ذهنه من جانب الأعداء. نعم لو استمر على الإنكار بعد إتمام الحجّة يحكم عليه بالكفر آنذاك.

5. عدم احتمال التأويل

إذا تكلّم الإنسان بشيء عن جدٍّ بما يخالف أحد الأُصول لكن كان كلامه على وجه يقبل التأويل، مثلاً لو قال أحد: «الحمد للّه الذي خلق الأشياء وهو عينها»(1)، ربما يقصد من عبارته هذه شدّة تعلّق الممكنات بالواجب لذاته، تعلّق المعنى الحرفي بالاسمي، على نحو لو انقطعت الصلة بينهما لعمّ العدم صفحة الوجود الإمكاني. وهذا النوع من الاحتمال في حقّ القائل يصدّنا عن التسرّع في تكفيره.

وفي ختام البحث نشير إلى الذرائع الباطلة التي اتّخذت ذريعة من بعض الفرق لتكفير المسلمين، وهي عبارة عن الأُمور التالية:

1. طلب الشفاعة من النبي صلى الله عليه و آله و سلم كقولنا: اشفع لنا عند اللّه. وهذا النوع من الدعاء لا ينافي قوله سبحانه: «قُلْ لِلّهِ اَلشَّفاعَةُ جَمِيعاً»(2) لأنّه معناه أنّ شفاعة الشفعاء بإذن اللّه سبحانه فالقائل: اشفع لنا عند اللّه، أي بإذن اللّه سبحانه.

2. التوسّل بدعائه صلى الله عليه و آله و سلم في قضاء الحاجات.

3. الاستغاثة بدعائه صلى الله عليه و آله و سلم في الشدائد والمصائب.

ص: 383


1- . صدّر محيي الدين العربي كتابه المسمّى بالفصوص بهذه العبارة.
2- . الزمر: 44.

4. الصلاة عند قبور الأنبياء والأولياء. لأجل التبرّك بمقابرهم، هذا وانّ اللّه سبحانه يحكي عن الموحّدين: أنّهم بعدما تعرّفوا على أصحاب الكهف وموتهم فيه قالوا: «لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً».(1)

5. النذر للّه سبحانه وإهداء ثواب المنذور للنبي والإمام.

6. التبرّك بآثار الأنبياء.

هذه أُمور يُكفّر بها الوهابية جميع المسلمين مع أنّ هذه المسائل فروع فقهية والاختلاف فيها لا يوجب التكفير بل للمصيب أجران، وللمخطئ أجر واحد!!

ثمّ إنّ هناك ذرائع يكفّر بها خصوص الشيعة، كلّها أكاذيب ومفتعلات يعزّر شرعاً من نسبها إلى الإمامية.

1. تأليه الشيعة لعليّ وأولاده وأنّهم يعبدونهم ويعتقدون بألوهيتهم.

2. إنكار ختم النبوة برحيل سيدنا محمد وأنّ الوحي ينزل على عليّ وأولاده.

3. أنّ النبوة كانت لعلي ولكنّ جبريل خان الأمانة وأعطاها لمحمد.

4. بغض أصحاب النبي.

5. القول بتحريف القرآن الكريم.

أقول: كلّ ذلك دعايات لا تجد منها أثراً في معتقدات الشيعة.

نعم للشيعة في مجال العقائد بعض الأُصول ربما يختلفون فيها مع سائر الفرق لفظاً لا معنى، وأخصّ بالذكر ما يلي:1.

ص: 384


1- . الكهف: 21.
[بعض العقائد المختلف فيها بين الفريقين...]
1. القول بالبداء

وهو من صميم العقيدة الإسلامية ولكنّ له تفسيرين:

أحدهما: أنّ معنى بدا للّه أي ظهر الصواب للّه سبحانه بعد الخلاف. والبداء بهذا المعنى كفر وزندقة، واللّه سبحانه هو العالم بالشهود والمغيبات.

ثانيهما: تغيير مصائر العباد بالأعمال الصالحة أو الطالحة، وهذا أمر مسلّم بين المسلمين، قال سبحانه: «يَمْحُوا اَللّهُ ما يَشاءُ وَ يُثْبِتُ وَ عِنْدَهُ أُمُّ اَلْكِتابِ»(1) ، وقال تعالى:

«وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ اَلْقُرى آمَنُوا وَ اِتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ اَلسَّماءِ وَ اَلْأَرْضِ وَ لكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ»(2).

ومن حسن الحظ أنّه وردت لفظة «بدا للّه» في صحيح البخاري بالمعنى الثاني، قال: عن أبي هريرة أنّه سمع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قال: «إنّ ثلاثة في بني إسرائيل أبرص وأقرع وأعمى بدا للّه أن يبتليهم فبعث إليهم ملكاً فأتى الأبرص... إلى آخر ما ذكره».(3)

وأمّا التعبير في لسان النبي صلى الله عليه و آله و سلم: «بدا للّه» فإنّه من قبيل المشاكلة نظير قوله سبحانه: «وَ يَمْكُرُونَ وَ يَمْكُرُ اَللّهُ وَ اَللّهُ خَيْرُ اَلْماكِرِينَ»(4).

2. الإيمان بخلافة الخلفاء

الإيمان بخلافة الخلفاء من الفروع، والاختلاف في الفروع لا يوجب

ص: 385


1- . الرعد: 39.
2- . الأعراف: 96.
3- . صحيح البخاري: 405/2-406، كتاب أحاديث الأنبياء، الباب 53، برقم 2464.
4- . الأنفال: 30.

التكفير، قال التفتازاني: لا نزاع في أنّ مباحث الإمامة بعلم الفروع أليق لرجوعها إلى أنّ القيام بالإمامة ونصب الإمام الموصوف بالصفات المخصوصة من فروض الكفايات.(1)

وقال الجرجاني: الإمامة ليس من أُصول الديانات والعقائد، بل هي عندنا من الفروع المتعلّقة بأفعال المكلّفين، إذ نصب الإمام عندنا واجب على الأُمة سمعاً.(2)

فإذا كانت الإمامة من الفروع فما أكثر الاختلاف في الفروع، فلا يكون الاختلاف بها موجباً للكفر.

3. علم الأئمّة بالغيب

لا شكّ أنّ العلم بالغيب علماً ذاتياً غير مكتسب وغير محدّد بحدٍّ، يختصّ باللّه سبحانه، ولكن لا مانع من أن يُعلِّم سبحانه شيئاً من الغيب لبعض أوليائه فيخبر عن الملاحم لأجل كونهم محدَّثين، والمحدَّث يسمع صوت الملك ولا يراه، وهو ليس أمراً بدعيّاً في مجال العقيدة، فقد رواه البخاري في صحيحه عن أبي هريرة، قال النبي صلى الله عليه و آله و سلم: «لقد كان فيمن كان قبلكم من بني إسرائيل رجال يُكلّمون من غير أن يكونوا أنبياء».(3)

4. التقية من المسلم

وممّا يخطئون به الشيعة هو تقيتهم من المخالف المسلم زاعمين

ص: 386


1- . شرح المقاصد: 232/5.
2- . شرح المواقف: 344/8.
3- . صحيح البخاري: 194/2، باب مناقب المهاجرين وفضلهم.

اختصاص التقية بالكافر مع أنّها أعمّ من الكافر.

قال الرازي في تفسير قوله سبحانه: «إِلاّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً»(1) : ظاهر الآية على أنّ التقية إنّما تحلّ مع الكفّار الغالبين، إلّاأنّ مذهب الشافعي أنّ الحالة بين المسلمين إذا شاكلت الحالة بين المسلمين والكافرين حلّت التقيّة محاماة عن النفس.(2)

5. تكفير الصحابة

سبحانك اللّهم، فما هذا إلّابهتان عظيم، فإنّ تكفير الصحابة من الإفتراءات التي تشهد الضرورة ببطلانها، كيف، وثمّة طائفة من الصحابة هم من روّاد التشيّع؟! ثم كيف وهذا كلام إمامهم، بل إمام المسلمين عامّة، أعني: علي بن أبي طالب عليه السلام يقول في حقّ الصحابة: «أَيْنَ إِخْوَانِي الَّذِينَ رَكِبُوا الطَّرِيقَ، وَ مَضَوْا عَلَى الْحَقِّ؟ أَيْنَ عَمَّارٌ؟ وَأَيْنَ ابْنُ التَّيِّهَانِ؟ وَأَيْنَ ذُو الشَّهَادَتَيْنِ؟ وَأَيْنَ نُظَرَاؤُهُمْ مِنْ إِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ تَعَاقَدُوا عَلَى الْمَنِيَّةِ، وَأُبْرِدَ بِرُؤُوسِهِمْ إِلَى الْفَجَرَةِ!

أَوِّهِ عَلَى إِخْوَانِي الَّذِينَ تَلَوُا الْقُرْآنَ فَأَحْكَمُوهُ، وَتَدَبَّرُوا الْفَرْضَ فَأَقَامُوهُ، أَحْيَوُا السُّنَّةَ وَ أَمَاتُوا الْبِدْعَةَ. دُعُوا لِلْجِهَادِ فَأَجَابُوا، وَوَثِقُوا بِالْقَائِدِ فَاتَّبَعُوهُ».(3)

***

ص: 387


1- . آل عمران: 28.
2- . مفاتيح الغيب: 13/8.
3- . نهج البلاغة: الخطبة 182.

5. نسخ الأحكام في الذكر الحكيم

اشارة

قبل الدخول في صلب الموضوع نقدّم أُموراً:

الأوّل: النسخ لغة واصطلاحاً

النسخ - لغة - هو إبطال شيء وإقامة شيء آخر مكانه، يقال: نسخت الشمس الظلّ، أي: أذهبته وحلّت محلّه، كما يقال: انتسخ الشيب الشباب.

والتناسخ في الفرائض والمواريث هو أن يموت أحد الورثة وأصل الميراث قائم لم يقسّم.

وربّما يطلق النسخ لجعل البدل، وبهذا المعنى يقال: نسختُ الكتابَ أي استنسخته.

وبهذا المعنى أيضاً يطلق الاستنساخ على التجارب الّتي تسعى لإنتاج الشبيه والمثل في الحيوانات.

وأمّا النسخ - إصطلاحاً - فهو رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متأخّر على وجه لولاه لكان سائداً.

ص: 388

فإن قلت: إذا كان الحكم مؤقّتاً في الواقع فلماذا خرج بصورة الحكم المؤبّد؟

قلت: إنّ الحكم الشرعي خرج بصورة المطلق من دون تصريح بالتأبيد، وأمّا التأبيد فهو نتيجة فهم المكلّف. نعم اقتضت المصلحة عدم التصريح بالتوقيت.

الأمر الثاني: الفرق بين الأحكام الشرعية والقوانين الوضعية

لا شكّ أنّ النسخ يتطرق إلى كلا القسمين من الأحكام مع وجود فارق بين الأمرين، فالحكم الوضعي الموضوع في مجلس النواب حكم شُرّع للتأبيد زاعمين وجود المصلحة كذلك، ولمّا ظهر الخلاف عادوا إلى النسخ، فيكون عملهم هذا بداءً بمعنى ظهور ما خفى.

وأمّا النسخ في الشريعة الإسلامية، فاللّه سبحانه عالم بعواقب الأُمور، وأنّ الحكم مؤقت لا مؤبّد، غير أنّ المصلحة اقتضت عدم التصريح بالتوقيت، وإن كان المخاطب ينتزع التأبيد.

ومن هنا يُعلم أنّ النسخ في الأحكام الوضعية من قبيل الرفع، لأنّ الحكم شُرّع من أوّل يومه على وجه التأبيد عند المقنّنين، فيكون النسخ رفعاً للحكم الذي شُرّع على وجه الاستمرار، وأمّا النسخ في الأحكام الشرعية فهو من قبيل الدفع لأنّه شرّع من يومه الأوّل على وجه التوقيت، فالنسخ حقيقة إعلام بانتهاء الحكم ونهايته.

ص: 389

الأمر الثالث: في بيان ما يخضع للنسخ

إنّ بعض الأحكام الشرعية يخضع للنسخ، وهناك قسم آخر من الأحكام غير خاضع لذلك، وأخصّ بالذكر الأحكام المطابقة للفطرة الإنسانية، فبما أنّ وجود الإنسان مستمر إلى يوم القيامة، فإنّ هذا النوع من الأحكام لا ينفكّ عن مقتضيات الفطرة ومتطلباتها، نحو قوله تعالى: «إِنَّ اَللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ اَلْإِحْسانِ وَ إِيتاءِ ذِي اَلْقُرْبى وَ يَنْهى عَنِ اَلْفَحْشاءِ وَ اَلْمُنْكَرِ وَ اَلْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ»(1).

ونظيره أيضاً قوله تعالى: «وَ أَنْكِحُوا اَلْأَيامى مِنْكُمْ وَ اَلصّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَ إِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اَللّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَ اَللّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ».(2)

ومنه يظهر عدم إمكان تطرّق النسخ إلى الأُصول والعقائد لأنّها أُمور تكوينية غير خاضعة للجعل والتشريع حتى يُشرّع ثم يُنسخ. فكونه سبحانه عادلاً حكيماً قادراً، من هذا القبيل.

الأمر الرابع: في إمكان النسخ

اتّفق أصحاب الشرائع السماوية على إمكان نسخ بعض الأحكام، إلّااليهود فقد قالوا بامتناعه، وقد استدلّوا لذلك بالوجه التالي:

إنّ الدليل لا يخلو من حالات ثلاث:

أ. أن يدلّ على الدوام.

ب. أن يدلّ على كونه مؤقّتاً.

ص: 390


1- . النحل: 90.
2- . النور: 32.

ج. أن يكون مهملاً ومبهماً لا يدلّ على شيء.

فالأوّل منها لا يمكن نسخه، لاستلزامه كذب الدليل الأوّل، والأنبياء معصومون عن الكذب.

وأمّا الثاني فلا يُعدّ نسخاً، لأنّ المفروض أنّ الدليل مؤقّت ومحدّد.

وأمّا الثالث فمثله، إذ المفروض أنّه مهمل ومبهم لا يدلّ على الاستمرار وعدمه، فجعل حكم آخر مكانه لا يوصف بالنسخ، إذ لم يكن الحكم ثابتاً حتى يُرفع.(1)

قلت: إنّ الدليل ظاهر في الاستمرار في نظر المخاطب، وإن لم يكن في الواقع كذلك، ولأجل هذا الظهور يُعدّ الدليل الثاني ناسخاً للدليل الأوّل، وإن لم يكن في الواقع كذلك. وقد مرّ أنّ النسخ في الشريعة السماوية من قبيل الدفع لا الرفع.

ولليهود دليل آخر لامتناع النسخ، أوضحنا حاله في «المبسوط».(2)

ثمّ إنّه ربما يُستدلّ من بعض المنحرفين على امتناع النسخ بأنّه يستلزم تبديل آيات اللّه مع أنّه سبحانه يقول: «وَ اُتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ»(3).

والجواب: يتوقّف على توضيح معنى كلمات اللّه التي لا تخضع للتبدّل، فنقول: استعمل مصطلح كلمات اللّه أو كلمته في موارد مختلفة نذكر منها ما يلي:7.

ص: 391


1- . مفاتيح الغيب: 228/2-229.
2- . لاحظ: المبسوط في أُصول الفقه: 507/2، الفصل 14، في حالات العام والخاص.
3- . الكهف: 27.

1. عالم الخلقة، كما في قوله سبحانه: «وَ لَوْ أَنَّ ما فِي اَلْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَ اَلْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اَللّهِ إِنَّ اَللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ».(1)

2. المسيح، كما في قوله سبحانه: «إِنَّمَا اَلْمَسِيحُ عِيسَى اِبْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اَللّهِ وَ كَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ».(2)

إلى غير ذلك ممّا يجده المتتبع في القرآن الكريم، غير أنّ المراد منها في الآية الشريفة هو القرآن بقرينة صدرها حيث قال: «وَ اُتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ» ويؤيّد ذلك أنّ المشركين كانوا يقترحون على النبي أن يأتي بشيء غير هذا وأن يبدله بقرآن آخر، كما يدلّ عليه قوله سبحانه: «قالَ اَلَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا اِئْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاّ ما يُوحى إِلَيَّ».(3)

ولذلك وافاهم الجواب بأن يأمر النبي أن يقول لهم: «ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي».

وأين هذا من تبديل حكم شرعي إلى حكم شرعي آخر؟!

فقوله: «لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ» * ناظر إلى زعم المشركين حتى يأتي النبي في الأصل والفروع ما يوافق أهواءهم.

إذا تبيّنت هذه الأُمور فلندخل في صلب الموضوع.5.

ص: 392


1- . لقمان: 27.
2- . النساء: 171.
3- . يونس: 15.
قلّة النسخ في القرآن الكريم

اختلف العلماء في وجود النسخ في الآيات القرآنية الكريمة، فهم بين مكثر ومقلّ، ونافٍ بتاتاً، ونحن من المتوسطين، فلا تجد في القرآن حكماً منسوخاً إلّا في موارد أربعة ستوافيك في آخر البحث، ولذلك ندرس الآيات التي تُوهّم فيها النسخ مع أنّها من المحكمات عندنا ولم تنسخ.

الآية الأُولى: عدم الإكراه في الدين
اشارة

قال سبحانه: «لا إِكْراهَ فِي اَلدِّينِ»(1).

فربما يُقال بأنّها منسوخة بآيات السيف والجهاد حيث نُسب إلى ابن عباس وابن زيد.(2) والحق أنّ آيتنا هي من المحكمات وذلك يظهر بعد التدبّر في شأن النزول، فقد روى الطبرسي أنّها نزلت في رجل من الأنصار يدعى (بالحصين) وكان له إبنان، فقدم تجار الشام إلى المدينة يحملون الزيت، فلمّا أرادوا الرجوع من المدينة آتاهم ابنا أبي الحصين فدعوهم إلى النصرانية فتنصّرا ومضيا إلى الشام، فأخبر أبو الحصين رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فأنزل اللّه تعالى الآية، فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: أبعدهما اللّه، هما أوّل من كفر، فوجد أبو الحصين في نفسه على النبي صلى الله عليه و آله و سلم حين لم يبعث في طلبهما.(3)

إذا عُلم ذلك فنقول: إنّ الآية محكمة غير منسوخة، وهي تحكي عن حقيقة واقعية وهو أنّ الدين بمعنى الاعتقاد الجازم باللّه سبحانه وأسمائه وصفاته

ص: 393


1- . البقرة: 256.
2- . لاحظ: مجمع البيان: 206/2.
3- . مجمع البيان: 205/2.

والشريعة المحمدية، أمر لا يخضع للإكراه، وإن بُذل في طريقه آلاف الجوائز، وذلك لأنّ عمل الإنسان على قسمين:

1. عملٌ جوارحيٌّ، وهذا يخضع للإكراه، كأن يأمر المكرِّه لمن هو تحت أمره، أن يفعل كذا وكذا، وإن كان الفعل غير مرضي عند الفاعل.

2. العمل الجوانحي، وإن شئت سميّته (العمل القلبي) وهو أن يأمر المكره أحد الأفراد أن يعتقد اعتقاداً جازماً وهو جازم على خلافه أو شاكّ فيه. فهذا النوع من الإكراه لا يثمر ولا ينتج إلّاإذا تحقّقت مبادئ الاعتقاد عند المكرَه.

إذن فالآية ناظرة إلى تلك الحقيقة الواقعية بأنّ التصديق بالمفاهيم الدينية والتديّن ليس عملاً جوارحياً حتى يلزم به، بل هو عمل قلبي لا يتحقّق إلّابوجود مبادئه.

سؤال وجواب
اشارة

إنّه سبحانه أمر بقتال المشركين، وقال: «فَإِذَا اِنْسَلَخَ اَلْأَشْهُرُ اَلْحُرُمُ فَاقْتُلُوا اَلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَ خُذُوهُمْ وَ اُحْصُرُوهُمْ وَ اُقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ»(1).

قلت: إنّ قتال المشركين لم يكن لإخضاعهم للدين ولا لأجل إكراههم على الاعتقاد بالإسلام؛ بل كان لأجل الأمرين التاليين:

1. نكث الأيمان

فإنّهم عقدوا المعاهدات مع النبي صلى الله عليه و آله و سلم ولكنّهم نكثوا عهودهم، قال سبحانه: «أَ لا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَ هَمُّوا بِإِخْراجِ اَلرَّسُولِ وَ هُمْ بَدَؤُكُمْ

ص: 394


1- . التوبة: 5.

أَوَّلَ مَرَّةٍ أَ تَخْشَوْنَهُمْ فَاللّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ».(1)

2. إلزام المجتمع المشرك على رفض الشرك خدمة لهم

إنّ الشرك مرض روحي خطير، ربما يبتلي به الجاهل، فالسعي لإخراج هذا المرض من نفوس الناس، يُعدّ نوع خدمة لهم، فالأمر بقتالهم لأجل ترك عبادة الحجر والأخشاب، وليس لأجل الدخول تحت خيمة الإسلام. نفترض أنّ مرضاً مهلكاً سارياً حلّ في بلد من البلدان، فنرى وزارة الصحّة تُصدرُ تحذيراً وتعليمات للناس جملة من التعاليم وأوجبت على جميع المواطنين التلقيح ضد الإصابة بهذا المرض الساري، فمَن استجاب ولقّح نفسه فهو الذي سيسلم من المرض، وأمّا مَن امتنع عن ذلك، فبما أنّ عمله يوجب هلاكه وهلاك الآخرين تقوم وزارة الصحّة بتلقيحه بالقوة والإكراه. وهذا النوع من الإكراه يُعدّ أمراً مستحسناً عند العقل ينقذ المُكره من الموت الحتمي.

وبهذا يظهر أنّ الإكراه على ترك عبادة الأصنام والأوثان يُعدّ خدمة للفرد وللمجتمع. أو ليس عاراً على الإنسان الذي يعد خليفة اللّه في أرضه، أن يتخضع أمام الحجر والشجر والحيوان.

فإن قلت: إنّ الآية مذيّلة بقوله تعالى: «فَإِنْ تابُوا وَ أَقامُوا اَلصَّلاةَ وَ آتَوُا اَلزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ»(2).

قلت: إنّ هذا الاشتراط لأجل استظهار أنّهم خرجوا من الشرك واقعاً، ولذلك نرى أنّ الشريعة المحمدية تركت أهل الكتاب بحالهم ولم تلزمهم

ص: 395


1- . التوبة: 13.
2- . التوبة: 5.

بالصلاة والزكاة، لاجتنابهم عن الشرك.

دراسة مفاد آية القتال

ربما يتوهّم أنّ الآية الآمرة بالقتال ناسخة لآية نفي الإكراه، ولكنّه توهّم غير صحيح؛ لأنّه سبحانه يأمر بقتال من يقاتِلون المسلمين، قال سبحانه: «أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَ إِنَّ اَللّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ».(1)

فقوله: «يُقاتَلُونَ» بصيغة المجهول، فهؤلاء بما أنّهم مقاتلون في عقر دارهم وأعتُدِيَ عليهم، فقد أُذن لهم الدفاع عن أنفسهم، بشهادة أنّه يعلل الإذن بأنّهم ظلموا...

وأمّا تولي الكفّار فاللّه سبحانه يفصل بين كافر لم يعتد على المسلمين، وكافر آخر قد اعتدى عليهم، ففي الأوّل يأذن بالبرّ بهم، قال تعالى: «لا يَنْهاكُمُ اَللّهُ عَنِ اَلَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي اَلدِّينِ وَ لَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَ تُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اَللّهَ يُحِبُّ اَلْمُقْسِطِينَ»(2).

وفي الوقت نفسه ينهى المسلمين عن تولّي مَن يقاتلهم ويخرجهم من ديارهم ويظاهر الأعداء ضدهم، قال تعالى: «إِنَّما يَنْهاكُمُ اَللّهُ عَنِ اَلَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي اَلدِّينِ وَ أَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَ ظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ اَلظّالِمُونَ».(3)

فظهر ممّا ذكرنا أنّ آية عدم الإكراه آية محكمة لم يمسّها النسخ والتبدّل.

***

ص: 396


1- . الحج: 39.
2- . الممتحنة: 8.
3- . الممتحنة: 9.
الآية الثانية: إمساك الزانية في البيت

من الآيات التي توهم تطرّق النسخ إليها، قوله سبحانه في حقّ الزانية:

«وَ اَللاّتِي يَأْتِينَ اَلْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي اَلْبُيُوتِ حَتّى يَتَوَفّاهُنَّ اَلْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اَللّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً».(1)

فقد زعم القائل أنّ قوله سبحانه: «فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي اَلْبُيُوتِ حَتّى يَتَوَفّاهُنَّ اَلْمَوْتُ» كان حكماً تشريعياً جزاءً للزانية آنذاك، ثمّ نُسخ هذا النحو من الجزاء بالجلد، أعني قوله سبحانه: «اَلزّانِيَةُ وَ اَلزّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ»(2).

إنّ النسخ مبنيّ على أنّ الإمساك في البيوت جزاء للزانية المحصّنة، ولكن الظاهر أنّ الإمساك في البيوت لم يكن جزاء للزانية، بل كان إمساكهنّ في البيوت من أجل سدّ ومنع انتشار هذه الجريمة في أوساط المجتمع، حتى يأتي الحكم الشرعي بحقّها، ويشهد على ذلك قوله سبحانه في آخر الآية: «أَوْ يَجْعَلَ اَللّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً» فالآية تخبر عن تشريع آخر سيوافيهن، وهو الرجم إذا كانت محصنة أو الجلد إذا لم تكن.

وبذلك تبيّن أنّه سبحانه أمر بالإمساك لصيانة المجتمع عن الجريمة ثم أخبر عن تشريع حكم الزانية، وقد وافاهم في سورة النور التي جاء فيها الأمر بالجلد، والرجم في السنّة.

***

ص: 397


1- . النساء: 15.
2- . النور: 2.
الآية الثالثة: تعدد الزوجات مشروط بالعدالة

قال سبحانه: «فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ اَلنِّساءِ مَثْنى وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلاّ تَعُولُوا».(1)

زعم القائل بالنسخ بأنّ النكاح بأكثر من واحدة مشروط بتحقيق العدالة بين الزوجتين، والآية التالية تحكي عن عدم إمكان تحقّق هذا الشرط، وبذلك تصير ناسخة للآية الأُولى، حيث قال تعالى: «وَ لَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ اَلنِّساءِ وَ لَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ اَلْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ وَ إِنْ تُصْلِحُوا وَ تَتَّقُوا فَإِنَّ اَللّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً».(2)

فقوله: «وَ لَنْ تَسْتَطِيعُوا» إخبار عن عدم إمكان العمل بالشرط وبانتفائه ينتفي المشروط.

أقول: يظهر من بعض الروايات أنّ ابن أبي العوجاء أحد الملحدين في عصر الإمام الصادق عليه السلام نشر هذه الفكرة والتقى بتلميذ الإمام الصادق عليه السلام - أعني:

هشام بن الحكم - فقال له: أليس اللّه حكيماً؟ قال: بلى وهو أحكم الحاكمين، قال:

فأخبرني عن قول اللّه عزّ وجلّ: «فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ اَلنِّساءِ مَثْنى وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً» أليس هذا فرض؟ قال: بلى، قال: فأخبرني عن قوله عزّ وجلّ: «وَ لَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ اَلنِّساءِ وَ لَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا

ص: 398


1- . النساء: 3.
2- . النساء: 129.

كُلَّ اَلْمَيْلِ»(1) أي حكيم يتكلّم بهذا؟ فلم يكن عنده جواب، فرحل إلى المدينة إلى أبي عبد اللّه عليه السلام فقال: «يا هشام في غير وقت حجّ ولا عمرة؟» قال: نعم جعلت فداك لأمر أهمّني، إنّ ابن أبي العوجاء سألني عن مسألة لم يكن عندي فيها شيء، قال: «وما هي؟» قال: فأخبره بالقصّة فقال له أبو عبد اللّه عليه السلام: «أمّا قوله عزّ وجلّ: «فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ اَلنِّساءِ مَثْنى وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً» يعني في النفقة، وأمّا قوله: «وَ لَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ اَلنِّساءِ وَ لَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ اَلْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ» يعني في المودّة». فلمّا قدم عليه هشام بهذا الجواب وأخبره، قال:

واللّه ما هذا من عندك.(2)

ويشهد على ما ذكره الإمام - من أنّ المراد من العدالة اللازمة هو العدالة في النفقة - أمران: قول اللّه سبحانه في ذيل الآية «ذلِكَ أَدْنى أَلاّ تَعُولُوا» : أي لا تجوروا ولا تظلموا، فالاكتفاء بالواحدة لأجل أنّه أقرب إلى عدم الميل بالجور، وهذا يشهد أنّ النهي لغاية الاقتصاد في النفقة، فلو قام الرجل بالعدل فيه فلا مانع من أن يختار أزيد من واحدة.

2. قوله تعالى: «فَلا تَمِيلُوا كُلَّ اَلْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ» فهو يُشعر بأنّ المنهيّ عنه هو صرف الميل إلى إحداهن دون الأُخريات، وعندئذ تصبح لا مزوّجة ولا مطلّقة، وهذا إنّما يتحقّق بصرف الميل القلبي إلى إحداهنّ دون الأُخريات.

وأمّا إذا حفظ العلقة القلبية بين الزوجتين وإن كانت في إحداهن أكثر وأشدّ،3.

ص: 399


1- . النساء: 129.
2- . الكافي: 362/5-363.

فعندئذٍ لا تترتّب على ذلك مفسدة من صيرورة المرأة (كالمعلّقة)، أي لا مزوّجة ولا مطلّقة.

***

الآية الرابعة: تمتع الأرملة ببيتها إلى حول كامل

قال سبحانه: «وَ اَلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَ يَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى اَلْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَ اَللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ».(1)

فربما يقال: إنّ قوله سبحانه: «مَتاعاً إِلَى اَلْحَوْلِ» لبيان حدّ العدّة، أي يتمتعن في البيوت إلى أن ينتهي الحول، وعندئذٍ يخرجن من العدّة، فنسخت الآية بقوله سبحانه: «وَ اَلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَ يَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَ عَشْراً»(2).

وربما يؤيّد ذلك بما رواه العياشي عن أبي بكر الحضرمي عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: لما نزلت هذه الآية: «وَ اَلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَ يَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَ عَشْراً» جاءت النساء يخاصمن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وقلن: لا نصبر، فقال لهن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «كانت إحداكن إذا مات زوجها أخذت بعرة فألقتها خلفها في دويرها في خدرها ثم قعدت، فإذا كان مثل ذلك اليوم من الحول

ص: 400


1- . البقرة: 240.
2- . البقرة: 234.

أخذتها ففتتها، ثم اكتحلت بها ثم تزوّجت فوضع اللّه عنكنّ ثمانية أشهر».(1)

يلاحظ عليه: أنّ اللام في قوله: «إِلَى اَلْحَوْلِ» وإن كانت إشارة إلى ذلك الحول، ولكن لا دليل على أنّ التمتّع بالحول ظرف للعدة؛ بل هو أمر للأزواج أن يوسعوا على زوجاتهم بالترخيص لهن بالتمتع بالبيت إلى الحول حتى يتزوّجن.

فعلى ما ذكرنا فكلا الحكمين سائدان.

وأقصى ما يمكن أن يقال: إنّ النسخ أمر محتمل كما أنّ بقاء الآيتين في الاستمرار محتمل أيضاً، بأن تكون مدّة الاعتداد أربعة أشهر وعشرة أيام، وفي الوقت نفسه يأمر الزوج أن يسمح للزوجة أن تتمتّع بالبقاء في البيت إلى حول كامل.

***

الآية الخامسة: وجوب اتّقاء اللّه حقّ تقاته

قال تعالى: «يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِتَّقُوا اَللّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَ لا تَمُوتُنَّ إِلاّ وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ».(2)

فربما يقال: إنّ هذه الآية قد نسخت بقوله تعالى: «فَاتَّقُوا اَللّهَ مَا اِسْتَطَعْتُمْ وَ اِسْمَعُوا وَ أَطِيعُوا وَ أَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ وَ مَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ

ص: 401


1- . تفسير العياشي: 121/1، برقم 386.
2- . آل عمران: 102. التقاه اسم كالتقوى، والجمع تُقىً، والمعنى: اتقوا اللّه كما يحق ويليق أن يحترس من عذابه.

اَلْمُفْلِحُونَ»(1)، حيث روي عن قتادة أنّه قال: إنّها ناسخة لقول اللّه تعالى: «اِتَّقُوا اَللّهَ حَقَّ تُقاتِهِ» ، قال الطبرسي: كأنّه يذهب إلى أنّ فيه رخصة لحال التقيّة، وما جرى مجراها ممّا تعظم فيه المشقّة وإن كانت القدرة حاصلة معه.(2)

أقول: إنّ قول قتادة ليس حجّة، فشرط النسخ غير موجود في المقام، إذ لا تضادّ ولا تنافي بين الآيتين، لأنّ للتقوى مراتب مختلفة:

1. العمل بالواجبات وترك المحرّمات.

2. المحافظة على المستحبات كصلاة الليل وقراءة القرآن في الأسحار.

3. ترك المكروهات.

4. ترك المشتبهات.

فالآية الأُولى تشمل عامّة المراتب، والآية الثانية تحدد تكليف كلّ شخص بقدر الاستطاعة، وكأنّ الآية الثانية نظير قوله تعالى: «لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاّ وُسْعَها»(3) ، أو قوله سبحانه: «وَ ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي اَلدِّينِ مِنْ حَرَجٍ»(4).

وإلى ما ذكرنا يشير الطبرسي بعبارة مختصرة حاكياً عن بعضهم أنّه قال:

ليس بناسخ وإنّما هو مبيّن لإمكان العمل بهما جميعاً.(5)

***0.

ص: 402


1- . التغابن: 16.
2- . مجمع البيان: 35/10.
3- . البقرة: 233.
4- . الحج: 78.
5- . مجمع البيان: 35/10.
الآية السادسة: قيام الليل بمراتب مختلفة

قال تعالى: «يا أَيُّهَا اَلْمُزَّمِّلُ * قُمِ اَللَّيْلَ إِلاّ قَلِيلاً * نِصْفَهُ أَوِ اُنْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَ رَتِّلِ اَلْقُرْآنَ تَرْتِيلاً»(1).

أمر سبحانه النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم في هذه الآيات بقيام الليل إلّاقليلاً، وبما أنّ المستثنى منه (الليل) صار بعد الاستثناء مجملاً، رُفع إجماله بالآية التالية، حيث قال: «نِصْفَهُ أَوِ اُنْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَ رَتِّلِ اَلْقُرْآنَ تَرْتِيلاً».

والظاهر أنّ ضمير «نِصْفَهُ» يرجع إلى الليل، وضمير «مِنْهُ» و «عَلَيْهِ» يرجعان إلى النصف، والمعنى: قم نصف الليل أو أقلّ من النصف بقليل، أو أكثر من النصف بقليل، وعلى هذا تكون كلمة: «نِصْفَهُ...» بدل من الليل. وأمّا الترديد بين المقادير الثلاثة فيحتمل وجوهاً:

1. للتخيير.

2. لاختلاف حالات النبي صلى الله عليه و آله و سلم فقد تقتضي الحال أن يقوم نصف الليل، وتارة أقلّ، وأُخرى أكثر.

3. لاختلاف الليالي في الطول والقصر.

ثمّ إنّ الأمر الموجَّه إلى النبي بالقيام في الليل في الساعات المعيّنة، خاصّ بما إذا لم يُوجد هناك واجب أهمّ كجهاد العدو ذهاباً وعودة ومكوثاً، فربما يقوم بالصلاة دون هذا التفصيل.

ثمّ إنّ الأمر إنّما هو للنبي فقط دون المؤمنين، ومع ذلك يظهر من الآية التالية

ص: 403


1- . المزمل: 1-4.

أنّ طائفة من المؤمنين - لا جميعهم - كانوا يقومون مع النبي صلى الله عليه و آله و سلم كما يقول سبحانه: «إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اَللَّيْلِ وَ نِصْفَهُ وَ ثُلُثَهُ وَ طائِفَةٌ مِنَ اَلَّذِينَ مَعَكَ»(1) .

فقوله: «وَ طائِفَةٌ» يحكي عن عدم وجوبه على المؤمنين.

إذا علمت ذلك فربما يقال إنّ بقية الآية ناسخة للآية الأُولى حيث قال سبحانه: «وَ اَللّهُ يُقَدِّرُ اَللَّيْلَ وَ اَلنَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ اَلْقُرْآنِ»(2).

حاصل الآية: أنّ تقدير هذه الأوقات وضبطها كان أمراً متعسّراً لعدم وجود الساعات التي يعرف بها مقدار الوقت (نصف الليل أو أقلّ منه أو أكثر) فجاء البيان القرآني يشير إلى هذا بقوله: «وَ اَللّهُ يُقَدِّرُ اَللَّيْلَ وَ اَلنَّهارَ» : أي يقدّر أوقاتهما إذ خلقهما بهذا النظام والإتقان، ولكن «عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ» : أي علم أنّكم لا تطيقون إحصاءه على الحقيقة «فَتابَ عَلَيْكُمْ» : أي رجع عليكم بالرحمة بالتخفيف عنكم.

ثمّ إنّ بقية الآية تشير إلى وجود مشاكل أُخرى في تحديد هذه الأوقات الثلاثة، غيرما سبق من وجود العسرة في تقدير الليل، إجمالها كالتالي:

أ. «سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى».

ب. «وَ آخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي اَلْأَرْضِ».

ج. «يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اَللّهِ».0.

ص: 404


1- . المزمل: 20. قوله: «أدنى»: فسّره الطبرسي بوجهين: أقرب وأقل، فينطبق على قوله في الآية الأُولى «أَوْ زِدْ عَلَيْهِ»: أي على النصف، فيكون المراد أقرب إلى الثلثين أو أقل منهما، وانطباق سائر الفقرات على الآية الأُولى واضح.
2- . المزمل: 20.

فهذه الجهات الثلاث وما تقدّم من عُسر معرفة هذه الأوقات صار سبباً لرفع الحكم المذكور.

إلى هنا تمّ بيان الآية، فقد زعم القائل بالنسخ أنّ القيام كان فريضة على النبي صلى الله عليه و آله و سلم والمؤمنين، فنُسخ لأجل هذه الوجوه الأربعة.

فالقائل بالنسخ يجعل قوله سبحانه: «عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ» ، ناسخاً للقيام للتهجد على إحدى التقديرات الثلاثة.

يلاحظ عليه: أوّلاً: أنّ الرفع لو ثبت كان مختصّاً بالمؤمنين دون النبي صلى الله عليه و آله و سلم حيث قال: «عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ اَلْقُرْآنِ» ، فالحكم بالنسبة إلى النبي صلى الله عليه و آله و سلم باق بحاله (على حاله) دون أن يُنسخ.

وثانياً: أنّ الحكم بالنسبة إلى المؤمنين لم يكن إلزامياً عليهم، بشهادة قوله:

«وَ طائِفَةٌ مِنَ اَلَّذِينَ مَعَكَ» إذ لو كان إلزامياً لما جاز للطوائف الأُخرى أن يتخلّفوا عن هذا الأمر.

ثمّ إنّ المرفوع ليس هو أصل الحكم بشهادة أنّ المؤمنين لو تحمّلوا الحرج وقاموا إلى العبادة بالنحو المذكور في الآية لكان جائزاً، بل المرتفع هو التأكيد على القيام لا أصله.

فخرجنا بالنتيجة التالية: أنّ الحكم بالنسبة للنبي صلى الله عليه و آله و سلم باق بحاله، وأمّا بالنسبة إلى سائر المؤمنين فالترخيص جاء للتأكيد على العمل لا أصل العمل، فلا يوصف هذا النوع من الرفع، نسخاً.

***

وبهذا عرفت أنّ هذه الآيات الست آيات محكمة غير منسوخة، وإليك

ص: 405

دراسة ما ثبت عندنا كونها منسوخة، وهي أربع آيات، لكنّ واحدة منها جاء المنسوخ والناسخ في نفس القرآن الكريم، وأمّا الأُخريان فالناسخ في الذكر الحكيم والمنسوخ في السنّة الشريفة.

[في الآيات المنسوخة...]
الآية الأُولى: وجوب التصدّق قبل مناجاة الرسول صلى الله عليه و آله و سلم

قال تعالى: «يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ اَلرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَ أَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ».(1)

أمر اللّه سبحانه المؤمنين بتقديم الصدقة قبل مناجاة الرسول صلى الله عليه و آله و سلم لأجل أنّ الأغنياء من الصحابة كانوا يُكثرون من مناجاة النبي صلى الله عليه و آله و سلم ويظهرون بذلك نوعاً من التقرّب إليه، فأُمروا بأن يتصدّقوا بين يدي نجواهم على فقرائهم.

قلنا: إنّ ذلك الحكم كان مكتوباً على الأغنياء دون الفقراء، بشهادة قوله في ذيل الآية: «فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» .

ولمّا نزلت الآية توقّف الأثرياء عن مناجاة النبي صلى الله عليه و آله و سلم وخلا مجلسه من أي سائل وسامع منهم، وما ذاك إلّالأنّ الصدقة ولو بدرهم كانت عندهم أكثر قيمة من مناجاتهم النبي صلى الله عليه و آله و سلم ومحاورته.

وهذا إن دلّ فإنّما يدلّ على أمرين:

أ. أنّ ما كانوا يتناجون به لم يكن أمراً مهماً يسوّغ شَغْلَ وقت النبي صلى الله عليه و آله و سلم، ولذلك كفّوا عن مناجاته صلى الله عليه و آله و سلم لامتناعهم من التصدّق.

ص: 406


1- . المجادلة: 12.

ب. لم يكن أكثر الصحابة على درجة رفيعة بحيث يغتنم مجلس النبي صلى الله عليه و آله و سلم وسماع كلامه، بدفع الصدقة على فقراء المدينة. وإذا لم تكن هذه الضابطة منطبقة على أكثرهم، فهي تنطبق على كثير منهم، وهذا يعني أنّ محبّة المال أقوى عندهم من محبّة استماع كلام النبي صلى الله عليه و آله و سلم ومناجاته.

ثمّ إنّ هذا الحكم - أعني: وجوب الصدقة قبل المناجاة - كان حكماً امتحانياً مؤقّتاً ليعلم مبلغ تعلّق هؤلاء الرجال بنبيهم صلى الله عليه و آله و سلم، هذا من جانب، ومن جانب آخر كان خلو مجلس النبي صلى الله عليه و آله و سلم من السؤال والإجابة، يعود بالضرر على المجتمع الإسلامي ويفوِّت عليه فرصة التعلّم.

ولذا جاء الوحي الإلهي بنسخ ذلك الحكم بعد أن عُمل به لمدة قصيرة، وقد روى الطبرسي في «الاحتجاج» عن أمير المؤمنين عليه السلام حديثاً طويلاً يقول فيه للقوم بعد موت عمر بن الخطاب: أنشدكم باللّه هل فيكم أحد نزلت فيه هذه الآية: «إِذا ناجَيْتُمُ اَلرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً» فكنت أنا الذي قدّم الصدقة، غيري؟ قالوا:

لا.(1)

وروى الصدوق في «الخصال» في مناقب أمير المؤمنين عليه السلام وتعدادها، قال:

وأمّا الرابع والعشرون فإنّ اللّه أنزل على رسوله: «يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ اَلرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً» ، فكان لي دينار فبعته بعشرة دراهم فكنت إذا ناجيت رسول اللّه أتصدق قبل ذلك بدرهم، فواللّه ما فعل هذا أحد من أصحابه قبلي ولا بعدي فأنزل اللّه عزّ وجلّ: «أَ أَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَ تابَ اَللّهُ عَلَيْكُمْ» الآية، فهل تكون التوبة إلّامن ذنب5.

ص: 407


1- . تفسير نور الثقلين: 264/5، نقلاً عن الاحتجاج: 1/205.

كان؟(1)

وروى الطبرسي في «مجمع البيان» عن علي عليه السلام أنّه قال: «بي خفّف اللّه عن هذه الأُمّة، لم تنزل في أحد قبلي ولم تنزل في أحد بعدي».(2)

وأخرج الحاكم وصحّحه، وابن المنذر، وعبد بن حُميد وغيرهم عن عليّ عليه السلام أنّه قال: «إنّ في كتاب اللّه لآية ما عمل بها أحد قبلي، ولا يعمل بها أحد بعدي، آية النجوى...».(3)

وروى الطبريّ بإسناده عن مجاهد، في قوله: «فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً» ، قال: نُهوا عن مناجاة النبي صلى الله عليه و آله و سلم حتى يتصدّقوا، فلم يناجهِ إلّاعليّ بن أبي طالب رضى الله عنه، قدّم ديناراً فتصدّق به، ثم أُنزلت الرخصة في ذلك.(4)

الآية الثانية: إيذاء الزاني غير المحصن

قال تعالى: «وَ اَلَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وَ أَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اَللّهَ كانَ تَوّاباً رَحِيماً».(5)

وقد تقدّم في كتاب الحدود أنّ الآية ناظرة إلى حكم زنا المرأة والرجل من غير إحصان، فحكم عليهما بالإيذاء، وهو الضرب بالنعال أو التعيير بالقول.

نعم ما جاء في الآية تعزير غير أنّ هذا الحكم نُسخ بالقرآن، أعني قوله

ص: 408


1- . الخصال: 574.
2- . مجمع البيان: 467/9.
3- . مستدرك الحاكم: 2/482؛ روح المعاني للآلوسي: 28/31. وانظر: جامع البيان (تفسير الطبري): 14/28، برقم 33794.
4- . جامع البيان: 14/27، برقم 33791-33793.
5- . النساء: 16.

سبحانه: «اَلزّانِيَةُ وَ اَلزّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ»(1).

الآية الثالثة: نسخ التوجّه إلى بيت المقدس حين الصلاة

قال تعالى: «قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي اَلسَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرامِ وَ حَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَ إِنَّ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ اَلْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَ مَا اَللّهُ بِغافِلٍ عَمّا يَعْمَلُونَ».(2)

لمّا فرضت الصلاة على المؤمنين كان النبي صلى الله عليه و آله و سلم ومن معه يتجهون في صلاتهم إلى بيت المقدس، فصلّى صلى الله عليه و آله و سلم والمؤمنون إليه في مكة المكرمة وفي المدينة المنوّرة بعد الهجرة إلى سبعة عشر شهراً.

ولمّا انتشر الإسلام في دار الهجرة بدأ اليهود بالتشكيك فقالوا: ما درى محمد وأصحابه أين قبلتهم. فصار ذلك سبباً لتحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة المعظمة، ولذلك يقول سبحانه: «وَ حَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ» وهذه الآية ناسخة لفرض التوجه إلى بيت المقدس.

والمورد - كما يقول الطبرسي - ممّا نسخ من السنّة بالقرآن، لأنّه ليس في القرآن ما يدل على التعبّد بالتوجّه إلى بيت المقدس.

***

ص: 409


1- . النور: 2.
2- . البقرة: 144.
الآية الرابعة: نسخ تحريم مسّ الزوجة في ليالي شهر رمضان
اشارة

قال تعالى: «أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ اَلصِّيامِ اَلرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَ أَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اَللّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَ عَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَ اِبْتَغُوا ما كَتَبَ اَللّهُ لَكُمْ وَ كُلُوا وَ اِشْرَبُوا حَتّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ اَلْخَيْطُ اَلْأَبْيَضُ مِنَ اَلْخَيْطِ اَلْأَسْوَدِ مِنَ اَلْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا اَلصِّيامَ إِلَى اَللَّيْلِ وَ لا تُبَاشِرُوهُنَّ وَ أَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي اَلْمَساجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اَللّهِ فَلا تَقْرَبُوها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اَللّهُ آياتِهِ لِلنّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ».(1)

المفردات

الرفث: الجماع.

اللباس: الثياب التي من شأنها أن تستر الأبدان.

الخيط الأبيض: بياض الفجر.

الخيط الأسود: سواد الليل.

التفسير

روي أنّ النكاح كان حراماً بالليل والنهار في شهر رمضان، وكان عدداً من الشباب ينكحون في الليل سرّاً في شهر رمضان فأنزل اللّه هذه الآية، وقال: «أُحِلَّ

ص: 410


1- . البقرة: 187.

لَكُمْ لَيْلَةَ اَلصِّيامِ اَلرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ» ثم قال: «هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَ أَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ» والظاهر أنّ المراد أنّ كلّاً من الزوجين يصون الآخر من الوقوع في الحرام فيكون ساتراً للآخر.

وعلى كلّ تقدير فالناسخ في القرآن الكريم والمنسوخ في السنة الشريفة.

إلى هنا تبيّن من هذه الدراسة المفصّلة، اختصاص النسخ بموارد أربعة فقط، في اثنين منها جاء الناسخ والمنسوخ في الذكر الحكيم، وفي موردين آخرين جاء الناسخ في القرآن الكريم والمنسوخ جاء في السنّة الشريفة.

***

بقي هنا أمران:
اشارة

الأوّل: توهّم إنساء بعض الآيات

الثاني: تقسيم النسخ إلى أقسام ثلاثة

وإليك دراسة كلّ منهما على حدّة.

توهّم إنساء بعض الآيات

ربما يُدّعى أنّ قسماً من الآيات القرآنية قد أنساها سبحانه عن ذهن النبي صلى الله عليه و آله و سلم ولعلّ فيها آيات منسوخة، مستدلين بقوله تعالى: «ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اَللّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ»(1).

توضيح ذلك: أنّ في قوله: «أَوْ نُنْسِها» قراءتين:

الأُولى: أنّ هذا الفعل من «النسيان»، والأصل «ننسيها» ولمّا وقع جزاءً

ص: 411


1- . البقرة: 106.

للشرط حذفت الياء بأداة الجزم في آخر الفعل.

القراءة الثانية: أنّ هذا الفعل من «نسأ» بمعنى أخّر. إلّاأنّ القراءة المتواترة هي الأُولى.

وأمّا القراءة الثانية فهي غير صحيحة لوجهين:

1. لو كان الفعل مأخوذاً من «نسأ» يجب أن يُقرأ: ننسأها، لأنّ الهمزة من الحروف الأصلية التي لا تُحذف، عند عامل الجزم، وعمل الجزم يتحقّق بسكونها «ننسأها» مع أنّ القراءة بلا همزة.

2. أنّه لو كان المراد تأخير الآية لما ترتّب عليه قوله: «نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها» لأنّ الآية عند التأخير موجودة لا حاجة إلى مجيء آية أُخرى، وإنّما الحاجة فيما لو حذفت الآية من رأس.

إلى هنا تمّ توضيح مفاد الآية، إنّما الكلام ما هو المراد من إنساء الآية.

فنقول: أوّلاً: إنّه - على القراءة المشهورة - لا دليل على تحقّق الإنساء، لأنّه سبحانه أتى بالفعل مقروناً ب «ما» المتضمّنة معنى الشرط لا ب «إذا»، فلو كان الشرط محقّق الوقوع يأتي مقروناً بإذا، كما في قوله تعالى: «إِذا وَقَعَتِ اَلْواقِعَةُ»(1) فإنساء الآية ليس أمراً محتملاً.

ثانياً: لو فرضنا تحقّق الإنساء فالنبي صلى الله عليه و آله و سلم مستثنى منه لقوله سبحانه:

«سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى * إِلاّ ما شاءَ اَللّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ اَلْجَهْرَ وَ ما يَخْفى»(2).

فإن قلت: إنّ قوله: «إِلاّ ما شاءَ اَللّهُ» يدلّ على خلاف ما ادُّعي، فإنّه سبحانه7.

ص: 412


1- . الواقعة: 1.
2- . الأعلى: 6-7.

يستثني صورة مشيئته إذ عندئذٍ ينسي النبي أيضاً ما أُنزل إليه من الآيات.

قلت: إنّ قوله سبحانه: «إِلاّ ما شاءَ اَللّهُ» بمنزلة قوله: «وَ أَمَّا اَلَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي اَلْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ اَلسَّماواتُ وَ اَلْأَرْضُ إِلاّ ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ»(1) ، فإنّ الاستثناء ليس بمعنى أنّه سبحانه يخرج السعداء من الجنة؛ بل بمعنى أنّ خلودهم في الجنّة ليس بمعنى خروج القدرة عن يده سبحانه، بل مع القول بخلودهم في الجنّة فمشيئة اللّه فوق ذلك، فلو أراد أخرجهم ولكنّه لا يريد. ومثله الآية المباركة فإنّ الإخبار عن عدم نسيان النبي ليس بمعنى أنّه سبحانه لا يقدر على إنسائه؛ بل القدرة في جميع الحالات بيد اللّه سبحانه، فلو شاء لأنساه ولكنّه لا يشأ.4.

ص: 413


1- . هود: 108.

فاللّه سبحانه يحتجُّ عليهم بأنّه لو أنسى ما في التوراة عن قلوبهم يجيء بخير منها، أعني: الشريعة المحمدية الخاتمة لكلّ الشرائع.

والذي يدلّ على ذلك أنّ المراد من إنساء الآية هو وقوع الآية في ثنايا الآيات التي يحتجّ بها اللّه سبحانه في سورة البقرة على بني إسرائيل مبتدأ بالآية 40 وخاتماً بالآية الثالثة والعشرين بعد المئة، فمجموع تلك الآيات يحتجّ بها على بني إسرائيل، فوقوع آيتنا هذه في ثنايا هذه الآيات أفضل دليل على أنّ المراد من النسيان هو نسيان ما عندهم من الكتاب.

الأمر الثاني: أقسام النسخ

ذكر المفسّرون أنّ للنسخ أقساماً:

القسم الأوّل: نسخ التلاوة والحكم

نسخ الآية المتضمّنة للتشريع ورفعها من القرآن الكريم تلاوة وحكماً، وقد مثّلوا لذلك في حديث صحيح الإسناد إلى عائشة قالت: «كان فيما أُنزل من القرآن:

«عشر رضعات معلومات يحرّمن» ثم نُسخن بخمس معلومات، قالت: وتوفّي رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وهنّ فيما يُقرأ من القرآن».(1)

والحق بطلان هذا النوع من النسخ فإنّه لا يفارق القول بالتحريف، فإنّ معنى ذلك أنّه كانت آية ذات حكم تشريعي، وكانت تُتلى في حياة رسول اللّه ثم نسيت، وأيّ تحريف أوضح من ذلك، ولذلك حكى القاضي أبو بكر في الانتصار عن قوم إنكار هذا القسم لأنّ الأخبار فيه أخبار آحاد، ولا يجوز القطع على إنزال قرآن ونسخه بأخبار آحاد لا حجّة فيها.(2)

ص: 414


1- . صحيح مسلم: 167/4، كتاب الرضيع
2- . البرهان في علوم القرآن: 47/2.

ومن هذا القسم ما ذكره القرطبي من أنّ سورة الأحزاب تعدل سورة البقرة التي يبلغ عدد آياتها 286 آية.(1)

أقول بصراحة تامّة: إنّ القول بنسخ التلاوة والحكم تعبير آخر عن التحريف ولكن بحيلة معسّلة، وهو في المقام محال عاديّ، إذ كيف يمكن أن يبلغ عدد آيات سورة الأحزاب ما يقرب من عدد آيات سورة البقرة وقد نزلت في السنة الخامسة من الهجرة، فرفع أكثر آيات السورة (إمّا في زمن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم) أو بعد رحيله حتى لم يبق شيء منها في ذاكرة أحد من المسلمين والصحابة الكرام، ليُلحق بالقرآن عند تأليفه وجمع آياته، وهو أمر لا يقبله العقل الحصيف ولا ينسجم مع ما عرف عن جمع من الصحابة من اهتمام شديد بحفظ القرآن الكريم.

ولو فرضنا وقوع هذا القسم من النسخ في السنة الخامسة من الهجرة، لأحدث هزة في أذهان المسلمين، إذ ليس المرفوع آية واحدة أو اثنتين، بل فوق المئتين، ولو وقعت هذه الهزة لنقلها المحدّثون والمؤرّخون.

كلّ هذه الشواهد تدل على أنّ الزنادقة والملحدين أشاعوا هذه الفكرة بين المسلمين.

القسم الثاني: نسخ التلاوة دون الحكم

يُشير العنوان إلى أنّ آية من القرآن الكريم كانت تحمل حكماً تشريعياً ثم نُسيت ومُحيت عن صفحة الوجود لكن بقي الحكم مستمراً معمولاً به غير منسوخ، وقد ذهب إلى جواز هذا القسم فريق من علماء أهل السنّة.

قال الزرقاني: أمّا نسخ التلاوة دون الحكم، فيدلّ على وقوعه ما صحّت

ص: 415


1- . لاحظ: تفسير القرطبي: 113/14.

روايته عن عمر بن الخطاب وأُبيّ بن كعب، أنّهما قالا: كان فيما أنزل من القرآن:

الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة.(1)

ثمّ يقول: وأنت تعلم أنّ هذه الآية لم يَعُدْ لها وجود بين دفتي المصحف ولا على ألسنة القرّاء مع أنّ حكمها باق على إحكامه لم ينسخ.(2)

ثمّ إنّ عبارة: «الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة» نوع اقتباس من قوله تعالى: «اَلزّانِيَةُ وَ اَلزّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَ لا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اَللّهِ»(3) ، ومع ذلك فإنّ أُسلوبها بعيد عن أُسلوب القرآن الخلاب للعقول، على أنّ مضمون الآية المزعومة على خلاف ما أجمعت الأُمّة عليه، فإنّ الرجم لا يختصّ بالشيخ والشيخة بل هو حكم المحصن والمحصنة.

القسم الثالث: نسخ الحكم دون التلاوة

وهذا القسم هو المشهور بين العلماء والمفسّرين، وقد عرفت أنّ ما ثبت منه أقل بكثير ممّا اشتهر، وقد مرّ أنّ المقبول من هذا القسم لا يتجاوز الثلاث آيات، إحداها ورد الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم، واثنتان ورد الناسخ فيه دون المنسوخ.

***

تمّ الكلام في الناسخ والمنسوخ

ص: 416


1- . رواه ابن ماجة في سننه: 853/2، برقم 2553؛ وأحمد بن حنبل في المسند: 153/5.
2- . مناهل العرفان في علوم القرآن: 233/2.
3- . النور: 2.

6. التعزير في الذكر الحكيم

اشارة

التعزير لغة: التأديب، وشرعاً: عقوبة أو إهانة لا تقدير لها بأصل الشرع. وفي الشرائع: كلّ ما له عقوبة مقدّرة يُسمّى حدّاً، وما ليس كذلك يُسمّى تعزيراً.(1)

ومقدار التعزير إلى الإمام ولكن لا يبلغ به حدّ الحُرّ في الحر وهو الثمانون، ولا حدّ العبد في العبد وهو الأربعون.

وقد قال العلّامة الحلّي في قواعده: ويقتصر على ما يرجو الرجوع به، ولا يبرح ولا يدمي، ولو تلف بالضرب شيء ضمن.(2)

وعلى كلّ تقدير فلم يرد التعزير في القرآن الكريم إلّافي موردين:

الآية الأُولى: في تأديب الزوجة الناشز

قال سبحانه: «وَ اَللاّتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَ اُهْجُرُوهُنَّ فِي

ص: 417


1- . شرائع الإسلام: 174/2.
2- . قواعد الأحكام: 96/3.

اَلْمَضاجِعِ وَ اِضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اَللّهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً»(1).

روى الحسن بن علي بن شعبة في «تحف العقول» عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم أنّه قال في خطبة الوداع: «إنّ لنسائكم عليكم حقّاً ولكم عليهنّ حقّاً، حقّكم عليهنّ أن لا يوطئن فُرشَكم ولا يُدخلن بيوتكم أحداً تكرهونه إلّابإذنكم، وأن لا يأتين بفاحشة، فإن فعلن فإنّ اللّه قد أذن لكم أن تعضلوهن وتهجروهن في المضاجع وتضربوهن ضرباً غير مبرح، فإذا انتهين وأطعنكم فعليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف».(2)

يقال: ضرب مبرح - بكسر الراء - أي شاقّ. وفي «مجمع البيان»: وقيل في معنى غير المبرح أن لا يقطع لحماً ولا يكسر عظماً.(3)

ونسبته إلى القيل إشارة إلى ضعفه، ثمّ نقل عن أبي جعفر الباقر عليه السلام: أنّه الضرب بالسواك(4)، وعلى كلّ تقدير فالقدر المتيقّن أن لا يكون الضرب شاقّاً.

الآية الثانية: في إيذاء الزاني غير المحصن

قال تعالى: «وَ اَلَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وَ أَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اَللّهَ كانَ تَوّاباً رَحِيماً».(5)

ص: 418


1- . النساء: 34.
2- . الوسائل: 15، الباب 6 من أبواب النفقات، الحديث 2.
3- . مجمع البيان: 92/2.
4- . لاحظ: من لا يحضره الفقيه: 521/3.
5- . النساء: 16.

وقد تقدّم في كتاب الحدود أنّ الآية ناظرة إلى حكم زنا المرأة والرجل من غير إحصان، فحكم عليهما بالإيذاء، وهو الضرب بالنعال أو التعيير بالقول.

نعم ما جاء في الآية تعزير غير أنّ هذا الحكم نسخ بالقرآن كما مرّ.

وبما أنا استوفينا البحث عن كلا الموردين: ضرب النساء عند النشوز، وإيذاء الزانيين غير المحصنين في كتاب الحدود، فلنقتصر الكلام في المقام.

***

ص: 419

7. التسليم في الذكر الحكيم

اشارة

التسليم: هو التحية عند اللقاء، لكنّه يختلف التعبير عند الأقوام، ويظهر من بعض الروايات أنّ التسليم عند أهل الجاهلية كان بلفظ: أنعم صباحاً، حيث روي أنّ أسعد بن زرارة اجتمع مع النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم قبل الهجرة وكان وثنيّاً، فقال لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: أنعم صباحاً، فرفع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم رأسه إليه وقال: قد أبدلنا اللّه به ما هو أحسن من هذا، تحيّة أهل الجنّة: السلام عليكم».(1)

وأمّا ما ورد حول التسليم من الآيات القرآنية الكريمة، فهي كما يلي:

الآية الأُولى

قال تعالى: «يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتّى تَسْتَأْنِسُوا وَ تُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ».(2)

ص: 420


1- . بحار الأنوار: 8/19-9؛ إعلام الورى: 35-40.
2- . النور: 27.

الآية تتضمّن حكمين:

1. الاستئذان عند دخول بيوت الغير.

2. التسليم على أهلها.

أمّا الأوّل، فيقول سبحانه: «يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتّى تَسْتَأْنِسُوا» : أي تستأذنوا.

وأمّا الثاني: أي التسليم على الأهل، قال سبحانه: «وَ تُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها» : أي تقولوا: «السلام عليكم».

ثمّ إنّه سبحانه يصف ذلك بقوله: «ذلِكُمْ» : أي الاستئذان والتسليم «خَيْرٌ لَكُمْ» من الدخول بلا إذن، فربما يوجب كراهته لاستلزامه الاطّلاع على ما لا يحبّ الاطّلاع عليه.

ثمّ إنّه سبحانه أتمّ الآية بقوله: «لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ» : أي لتتعظوا وتعملوا بموجب هذه الآداب الرفيعة، وإنّما قال: «تَذَكَّرُونَ» لأنّ هذا أمر يدركه كلّ إنسان اذا رجع إلى عقله وفطرته.

الآية الثانية

قال تعالى: «... فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اَللّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً كَذلِكَ يُبَيِّنُ اَللّهُ لَكُمُ اَلْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ».(1)

والظاهر أنّ المراد من التسليم على الأنفس هو تسليم الرجل على أهل البيت حين يدخل، روى الصدوق بإسناده عن أبي الصباح قال: سألت أبا جعفر

ص: 421


1- . النور: 61.

الباقر عليه السلام عن قول اللّه عزّ وجلّ: «فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ» فقال: «هو تسليم الرجل على أهل البيت حين يدخل ثم يردّون عليه، فهو سلام على أنفسكم».(1)

ومع ذلك يمكن أن يكون معنى الآية أعمّ من ذلك، وهو أنّ الداخل إذا لم يجد أحداً فيسلّم على نفسه، ولعلّ هذا أقرب لأنّ المفروض هو الأكل من هذه البيوت بلا استئذان.

وقد وردت بهذا الوجه أيضاً رواية عن أبي جعفر عليه السلام قال: «إذا دخل الرجل منكم بيته، فإذا كان فيه أحد يسلّم عليه، وإن لم يكن فيه أحد فليقل: السلام علينا من عند ربّنا، يقول اللّه عزّ وجلّ: «تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اَللّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً».(2)

الآية الثالثة

قال تعالى: «وَ إِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها إِنَّ اَللّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ حَسِيباً»(3).

يأمر اللّه سبحانه المسلمين بقوله: «وَ إِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ» فعليكم ردّها بأفضل ما حييتم كما يقول: «فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها» هذا إذا كان السلام للمسلمين «أَوْ رُدُّوها» إذا كان لغير المسلمين، قال النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم: «السلام تطوّع والردّ فرض، وجواب سلام الذميّ: وعليكم، وجواب المسلم: وعليكم ورحمة اللّه (وبركاته)

ص: 422


1- . معاني الأخبار: 162-163.
2- . تفسير القمي: 85/2، وهي من روايات أبي الجارود عن الباقر عليه السلام.
3- . النساء: 86.

فهي أحسن من الأوّل».(1)

وهنا احتمال آخر وهو أن يقال - واللّه العالم -: إنّ الآية ناظرة لكلّ حسنة أسداها المسلم لأخيه المسلم فيلزم أن يقابلها بأفضل ما يمكن أو بمثلها. وقد روي عن أنس أنّ جارية جاءت للحسن بن علي عليهما السلام بطاقة ريحان فقال لها: «أنت حرّة لوجه اللّه... فقلت له: في ذلك؟ فقال: أدبنا اللّه تعالى فقال: «وَ إِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ...» وكان أحسن منها إعتاقها».(2)

ويؤيّد ذلك قوله سبحانه: «هَلْ جَزاءُ اَلْإِحْسانِ إِلاَّ اَلْإِحْسانُ»(3).

فإن قلت: إنّ المتبادر من التحية هو التسليم عند اللقاء، قال الراغب: فالتحية أن يقال: «حياك اللّه»: أي جعل لك حياة، يقال: حيّاً فلان فلاناً تحيّة، إذا قال له ذلك فلا يعمّ غير حالة اللقاء.(4)

قلت: لا منافاة، فإنّ التحيّة مصدر حيّاه، ثم صارت التحيّة اسماً لكلّ حسنة يقوم بها المؤمن، وهو كما يتحقّق باللفظ هكذا يتحقّق بالأفعال التي تدلّ على تكريم الرجل، فلا مانع من أن يكون للتحية في الآية معنى واسع.

وعلى كلّ تقدير فالآية تدلّ على شمولية دين الإسلام وأنّه أتى بأدب رفيع، حتى لم يغفل عمّا يرجع إلى حياة المسلمين الاجتماعية، فذكر التحية وكيفية أدائها.

ثمّ إنّه سبحانه أتمّ الآية بقوله: «إِنَّ اَللّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ حَسِيباً» : أي».

ص: 423


1- . تفسير الطبري: 588/8-590.
2- . مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب: 21/4.
3- . الرحمن: 60.
4- . المفردات للراغب: 140، مادة «حيّى».

يحاسب كلّ إنسان بكافّة أعماله.

***

قد تمّ ما أردناه في هذا الجزء من تفسير آيات الأحكام على ضوء مؤلّفات الأصحاب، واستدركنا بأُمور سبعة، ومع ذلك فهناك آيات ترجع إلى فقه الأخلاق وهي بين ما تبيّن الفضائل والرذائل وبين ما يجب أو يستحب أو يحرم، فكان اللازم تفسير هذه الآيات في كلا الحقلين، غير أنّنا أخذنا دراسة هذه الآيات بالتأليف وأسميناه ب: «الآداب والأخلاق في القرآن الكريم» فمَن أراد الإحاطة بهذه الآيات فعليه الرجوع إليه.

***

نحمده سبحانه على أن وفقنا لإتمام هذا المشروع

ونشكره على ما منّ به علينا من النعم الجسيمة،

وقد لاح بدر تمامه في شهر جمادى الأُولى

من شهور عام 1441 من الهجرة النبوية.

حرّره مؤلّفه جعفر السبحاني

الراجي رحمة الباري.

***

والحمد للّه الذي بنعمته تتمّ الصالحات

ص: 424

فهرس المحتويات

الفصل الثاني عشر

في أحكام الطلاق وغيره من الإيقاعات في الذكر الحكيم

1. أحكام الطلاق في الذكر الحكيم... 9

الوظائف الخمس عند الطلاق وبعده... 10

المفردات... 11

التفسير... 11

1. حكم الطلاق في الحيض... 13

2. بُطلان الطلاق في طهر المواقعة... 15

2. تطليق الزوجة ثلاثاً دفعة واحدة... 17

تمهيد... 17

الآية الأُولى... 18

المفردات... 18

التفسير... 19

لزوم فصل كلّ طلاق عن الآخر... 20

ص: 425

الآية الثانية... 21

المفردات... 22

التفسير... 22

لزوم الاعتداد بعد كلّ تطليقة... 23

رجاء بعد كلّ تطليقة... 24

الآية الثالثة... 26

المفردات... 27

التفسير... 27

النهي عن منع المطلّقة عن الزواج بشخص آخر... 27

3. أحكام العدد... 29

تمهيد... 29

الآية الأُولى... 30

المفردات... 31

التفسير... 31

عدّة المطلقة الرجعية... 31

ما هو المراد من القرء في الآية؟... 37

الآية الثانية... 40

المفردات... 41

التفسير... 41

لا عدّة لغير المدخول بها... 41

ص: 426

الآية الثالثة... 42

الآية الرابعة... 43

المفردات... 43

التفسير... 43

الآية الخامسة... 44

المفردات... 44

التفسير... 45

عدّة المتوفّى عنها زوجها... 45

جواز التزوّج بمَن شاءت بعد الخروج عن العدّة... 46

الفوارق بين عدّة المطلّقة والأرملة... 46

الآية السادسة... 48

المفردات... 49

التفسير... 49

أقسام الخطبة وأحكامها... 49

4. أحكام الظهار في الذكر الحكيم... 52

تمهيد... 52

الآية الأُولى... 52

المفردات... 53

التفسير... 53

الآية الثانية... 54

ص: 427

المفردات... 54

التفسير... 54

الآية الثالثة... 55

المفردات... 55

التفسير... 56

الآية الرابعة... 56

المفردات... 57

التفسير... 57

5. أحكام الإيلاء في الذكر الحكيم... 60

الآيتان: الأُولى والثانية... 60

المفردات... 60

التفسير... 60

6. أحكام اللعان في الذكر الحكيم... 64

تمهيد... 64

الآية الأُولى... 65

المفردات... 65

التفسير... 65

وظيفة الزوج عند اللعان... 66

الآية الثانية... 66

المفردات... 66

ص: 428

التفسير... 66

وظيفة الزوجة في دفع الحدّ عن نفسها... 67

الآية الثالثة... 67

المفردات... 67

التفسير... 67

الآية الرابعة... 68

المفردات... 68

التفسير... 68

ما هو السرّ لتشريع اللعان... 69

7. إذا أسلم أحد الزوجين، أو ارتدّ أحدهما... 70

تمهيد... 70

المفردات... 71

التفسير... 71

الأوّل: حرمة ردّهن إلى أزواجهن... 72

الثاني: ردّ ما أُخذ من المهور إلى أزواجهن... 72

الثالث: جواز نكاحهنّ مع المهر... 73

الرابع: إذا أسلم الزوج دون الزوجة... 73

الفصل الثالث عشر

أحكام الأطعمة والأشربة في الذكر الحكيم

الآية الأُولى... 80

ص: 429

التفسير... 80

الآية الثانية... 80

المفردات... 80

التفسير... 81

الآية الثالثة... 81

المفردات... 81

التفسير... 82

1. الأطعمة المحرّمة... 83

الآية الأُولى... 84

المفردات... 84

التفسير... 84

الآية الثانية... 91

المفردات... 91

التفسير... 91

الآية الثالثة... 93

المفردات... 94

التفسير... 94

الآية الرابعة... 95

المفردات... 95

التفسير... 95

ص: 430

2. الأطعمة المحلّلة... 99

الآية الأُولى... 99

المفردات... 99

التفسير... 101

الآية الثانية... 102

المفردات... 102

التفسير... 102

الآيات: الثالثة والرابعة والخامسة... 103

المفردات... 103

التفسير... 104

الآية السادسة... 105

المفردات... 106

التفسير... 106

الآيتان السابعة والثامنة... 109

المفردات... 109

الآية التاسعة... 110

التفسير... 110

حكم ذبائح أهل الكتاب... 111

الطعام في لغة أهل الحجاز هو البرّ... 111

اعتراضات صاحب المنار على المختار ونقدها... 114

ص: 431

الأوّل: استعمال الطعام في القرآن في مطلق المأكول... 114

الثاني: أنّ اللحم مظنّة التحريم... 115

الثالث: إضافة الطعام إلى الكتابي، دليل على أنّ له دخلاً في التحريم... 116

الرابع: ما هو الوجه لحلّية البر في اليوم الخاص؟... 116

3. الأشربة المحلّلة... 119

1. الماء... 119

المفردات... 119

2. شهد النحل... 120

المفردات... 121

التفسير... 121

امتصاص رحيق الأزهار... 122

3. من الأشربة المحلّلة: اللبن... 122

المفردات... 123

التفسير... 123

4. الأشربة المحرّمة... 125

الآية الأُولى... 125

المفردات... 125

التفسير... 126

الآية الثانية... 126

ما هو السبب لتحريم الخمر والميسر؟... 127

الآية الثالثة... 128

ص: 432

المفردات... 129

التفسير... 129

5. تحليل الطيبات وصيد الجوارح المعلّمة... 134

المفردات... 134

التفسير... 134

تحليل الطيبات... 135

تحليل صيد الجوارح المعلّمة... 136

6. أحكام اللباس والزينة... 142

الآية الأُولى... 142

المفردات... 142

التفسير... 144

الآية الثانية... 145

المفردات... 146

التفسير... 146

الفصل الرابع عشر

أحكام المواريث في الذكر الحكيم

تمهيد... 151

1. نزول آية المواريث... 152

الآية الأُولى... 152

التفسير... 152

ص: 433

الآية الثانية... 154

المفردات... 154

التفسير... 154

نقد النظرية... 156

نظرية أُخرى... 156

2. في نصيب الرجال والنساء من الميراث... 158

الآية الثالثة... 158

المفردات... 158

التفسير... 158

الأوّل: التعصيب في بعض صوره يخالف مضمون الآية... 159

الثاني: حرمان أولاد الأنبياء من الإرث... 160

1. موجبات الإرث في الإسلام... 161

2. مراتب الإرث وملاكاتها... 161

3. السهام المنصوصة في كتاب اللّه... 162

4. الحاجب عن الإرث... 164

5. إرث أولاد الأولاد... 164

3. في إرث الأولاد والأبوين... 166

الآية الرابعة... 166

تحديد الحاجب... 169

تقديم الوصية والدين على التقسيم... 171

ص: 434

4. في إرث الزوجين والكلالة... 173

الآية الخامسة... 173

المفردات... 173

التفسير... 174

ميراث كلالة الأُمّ... 176

الآية السادسة... 178

المفردات... 178

التفسير... 179

5. في إعطاء ذوي القربى والفقراء من التركة... 184

الآية السابعة... 184

التفسير... 184

دفع شيء لطائفتين لدى القسمة... 184

6. إرث المسلم من الكافر... 186

الطائفة الأُولى: ما يدلّ على عدم التوارث... 188

الطائفة الثانية: ما يصرّح على عدم إرث المسلم... 189

7. ميراث أولاد الأنبياء... 191

تمهيد... 191

الآية الأُولى... 192

ما هو المراد من الوراثة في قصة زكريا؟... 192

كلام للسيد الآلوسي في أنّ الوراثة، هي وراثة العلم... 193

ص: 435

حرمان أولاد الأنبياء من الميراث على خلاف الفطرة... 197

الآية الثانية... 198

التفسير... 199

وراثة سليمان أباه داود... 199

فدك صودرت وبيوت الأزواج لم تصادر... 204

رسالة المأمون إلى عامله بالمدينة يردّ فدك إلى أولاد فاطمة... 205

الفصل الخامس عشر

أحكام القضاء في الذكر الحكيم

القضاء ودوره في استتباب الأمن واستقرار العدل... 211

تمهيد... 211

القضاء من ضروريات الحياة الاجتماعية... 213

الآية الأُولى... 213

التفسير... 214

تكريم النبي داود بأمرين كبيرين... 214

هل القضاء منصب إلهي؟... 215

الآيتان الثانية والثالثة... 216

المفردات... 216

التفسير... 216

الأمر دائر بين الصواب والأصوب... 218

ص: 436

الآية الرابعة... 219

المفردات... 219

التفسير... 219

حرمة التحاكم إلى مَن ليس له ولاية القضاء... 219

الآية الخامسة... 221

المفردات... 221

التفسير... 222

الآية السادسة... 222

المفردات... 223

التفسير... 223

احتكام غير المسلم إلى المحاكم الإسلامية... 223

الفصل السادس عشر

أحكام الشهادات في الذكر الحكيم

تمهيد... 229

الآية الأُولى... 230

المفردات... 230

التفسير... 231

1. الآية من الآيات المشكلة حسب اعتراف المفسّرين... 231

2. وجه كون الآية من أعوص الآيات... 232

3. إعراب الآية... 232

ص: 437

4. مضمون الآية... 233

الآية الثانية... 235

التفسير... 235

ما يستفاد من الآية... 236

شهادة المرأتين تعادل شهادة رجل واحد... 237

الآية الثالثة... 237

المفردات... 237

التفسير... 238

وجوب اتباع الحق في الشهادة... 238

الأوّلان: الأمر بالقسط والشهادة للّه... 238

الشاهد قوّاماً بالقسط، فليكونوا شهداء طلباً لمرضاة اللّه.... 239

شهادة الولد على والده... 241

الآية الرابعة... 242

الآية الخامسة... 242

الفصل السابع عشر

الحدود في الذكر الحكيم

الحدود... 245

1. حدّ الزنا... 247

الآية الأُولى... 247

المفردات... 247

ص: 438

التفسير... 248

1. جلدهما مائة جلدة... 248

2. إجراء الحدّ بلا نقص ولا زيادة... 250

3. إجراء الحدّ في مشهد علنيّ... 251

الآيتان: الثانية والثالثة... 252

المفردات... 253

التفسير... 254

تفسير الآيتين على وفق القول الأوّل... 254

ملاحظات حول القول الأوّل... 256

تفسير الآيتين وفق القول الثاني... 257

2. حدّ القذف... 260

الآية الأُولى... 260

المفردات... 260

التفسير... 260

الآية الثانية... 262

المفردات... 262

التفسير... 263

3. حدّ السرقة... 265

الآيتان: الأُولى والثانية... 265

المفردات... 265

ص: 439

التفسير... 266

موضع القطع... 269

سقوط الحدّ بالتوبة قبل ثبوته... 271

ردّ المسروق إلى صاحبه... 271

شبهة حول حدّ السرقة... 272

ختام الآية... 273

فتح باب الأمل للمجرم بالتوبة... 274

4. حدّ المحارب... 275

الآية الأُولى... 275

المفردات... 275

التفسير... 276

الموضع الأوّل: تعريف المحارب... 277

1. محاربة اللّه ورسوله... 277

2. الإفساد في الأرض... 277

الموضع الثاني: حدّ المحارب... 279

هل العقوبات على وجه التخيير أو الترتيب أو التفصيل؟... 282

الآية الثانية... 284

الفصل الثامن عشر

أحكام القصاص في الذكر الحكيم

تمهيد... 287

ص: 440

الآية الأُولى... 288

المفردات... 288

التفسير... 288

تشريع القصاص والتخيير بينه وبين الدية... 288

الآية الثانية... 294

القصاص فيه حياة المجتمع... 294

شبهات حول القصاص... 297

1. القصاص علاج جريمة بجريمة مثلها... 297

2. القصاص ينافي الرحمة والرأفة... 297

3. القسوة وحبّ الانتقام أمر مذموم... 298

4. الجاني مريض يجب علاجه... 298

5. ردع الجاني بأعمال إجبارية... 298

الآية الثالثة... 299

المفردات... 299

التفسير... 299

الجزاء على قدر الجريمة... 300

موقف خالد لأمير المؤمنين عليه السلام... 301

الآية الرابعة... 302

المفردات... 303

التفسير... 303

ص: 441

الآية الخامسة... 306

المفردات... 306

التفسير... 307

الآية السادسة... 307

التفسير... 307

التعامل بالمثل عند الاعتداء... 307

الإصلاح والعفو إجابة لأمره سبحانه... 308

الفصل التاسع عشر

أحكام الديات في الذكر الحكيم

الآية... 311

المفردات... 311

التفسير... 312

أحكام قتل المؤمن خطأ... 313

خاتمة

1. حكم الإسراف ومواضعه في الذكر الحكيم... 322

الإسراف لغة وشرعاً... 322

1. الإسراف في الأكل والشرب... 323

التفسير... 324

2. الإسراف في الإنفاق... 325

الآية الأُولى... 325

ص: 442

المفردات... 326

التفسير... 326

الآية الثانية... 327

المفردات... 327

التفسير... 327

الآية الثالثة... 330

المفردات... 330

التفسير... 330

التأكيد على الاقتصاد في الروايات... 331

3. الإسراف في أخذ الثار بالقصاص... 332

المفردات... 332

التفسير... 332

4. الإسراف في قتال العدو... 334

الآية الأُولى... 334

المفردات... 334

التفسير... 334

الآية الثانية... 336

المفردات... 336

التفسير... 337

5. الإسراف على الأنفس... 338

ص: 443

المفردات... 338

التفسير... 338

2. حكم التبذير في الذكر الحكيم... 341

الآية الأُولى... 341

المفردات... 341

التفسير... 342

الآية الثانية... 343

المفردات... 343

التفسير... 343

3. البدعة والتشريع في الذكر الحكيم وفيها مباحث... 345

المبحث الأوّل: في تفسير البدعة لغة وكتاباً وسنّة... 345

البدعة لغة... 345

معنى البدعة في الكتاب والسنّة... 346

البدعة في كلمات العلماء... 347

المبحث الثاني: أدلّة حرمة البدعة في المصادر الأربعة... 350

حرمة البدعة في الكتاب العزيز... 350

1. البدعة تقدّم على اللّه ورسوله في التشريع... 350

2. البدعة كذب على اللّه... 351

3. البدعة تصرّف في حلال اللّه وحرامه... 351

السنّة الشريفة وتحريم البدعة... 352

ص: 444

المبحث الثالث: في مقومات البدعة... 355

1. التدخل في الدين عقيدة وحكماً بزيادة أو نقيصة... 355

2. الإشاعة والدعوة إلى التمسّك بها... 357

3. عدم وجود أصل للمبتدع في الدين... 358

المبحث الرابع: الابتداع في تفسير البدعة... 360

ما هو الملاك في وصف القرن بالخير؟... 363

1. اتّفاقهم في الأُصول والعقائد... 363

2. سيادة السلم والصلح على المسلمين... 364

3. تمسّكهم بالدين في مجال الفروع... 366

المبحث الخامس: في تقسيم البدعة إلى حسنة وسيئة... 368

سؤال وجواب... 369

المبحث السادس: الاحتفال في ميلاد النبي ليس بدعة... 371

في البدع التي حدثت بعد رحيل النبي صلى الله عليه و آله و سلم... 373

4. التكفير في الذكر الحكيم... 374

خطورة التكفير... 375

التكفير في عصر النبي صلى الله عليه و آله و سلم... 375

1. التوحيد في الذات... 377

2. التوحيد في الخالقية... 377

3. التوحيد في الربوبية... 378

4. التوحيد في العبودية... 379

ص: 445

5. الإيمان بالمعاد... 379

6. رسالة النبيّ الخاتم صلى الله عليه و آله و سلم... 379

7. القرآن وحي منزل... 380

8. الاعتقاد بالضروريات... 381

الشروط اللازمة للتكفير... 382

1. إقامة الحجّة على المنكر... 382

2. كونه قاصداً للمعنى المخرج... 382

3. كونه مختاراً في البيان والعمل... 382

4. لم يكن الإنكار عن شبهة خارجة عن الاختيار... 382

5. عدم احتمال التأويل... 383

بعض العقائد المختلف فيها بين الفريقين... 385

1. القول بالبداء... 385

2. الإيمان بخلافة الخلفاء... 385

3. علم الأئمّة بالغيب... 386

4. التقية من المسلم... 386

5. تكفير الصحابة... 387

5. نسخ الأحكام في الذكر الحكيم... 388

الأوّل: النسخ لغة واصطلاحاً... 388

الأمر الثاني: الفرق بين الأحكام الشرعية والقوانين الوضعية... 389

الأمر الثالث: في بيان ما يخضع للنسخ... 390

ص: 446

الأمر الرابع: في إمكان النسخ... 390

قلّة النسخ في القرآن الكريم... 393

الآية الأُولى: عدم الإكراه في الدين... 393

سؤال وجواب... 394

1. نكث الأيمان... 394

2. إلزام المجتمع المشرك على رفضه الشرك خدمة لهم... 395

دراسة مفاد آية القتال... 396

الآية الثانية: إمساك الزانية في البيت... 397

الآية الثالثة: تعدد الزوجات مشروط بالعدالة... 398

الآية الرابعة: تمتع الأرملة بيتها إلى حول كامل... 400

الآية الخامسة: وجوب اتّقاء اللّه حقّ تقاته... 401

الآية السادسة: قيام الليل بمراتب مختلفة... 403

في الآيات المنسوخة... 406

الآية الأُولى: وجوب التصدّق قبل مناجاة الرسول صلى الله عليه و آله و سلم... 406

الآية الثانية: إيذاء الزاني غير المحصن... 408

الآية الثالثة: نسخ التوجّه إلى بيت المقدس حين الصلاة... 409

الآية الرابعة: نسخ تحريم مسّ الزوجة في ليالي شهر رمضان... 410

بقي هنا أمران:... 411

الأوّل: توهّم إنساء بعض الآيات... 411

الأمر الثاني: أقسام النسخ... 414

ص: 447

القسم الأوّل: نسخ التلاوة والحكم... 415

القسم الثاني: نسخ التلاوة دون الحكم... 415

القسم الثالث: نسخ الحكم دون التلاوة... 416

6. التعزير في الذكر الحكيم... 417

الآية الأُولى: في تأديب الزوجة الناشز... 417

الآية الثانية: في إيذاء الزاني غير المحصن... 418

7. التسليم في الذكر الحكيم... 420

الآية الأُولى... 420

الآية الثانية... 421

الآية الثالثة... 422

فهرس المحتويات... 425

ص: 448

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
هَلْ یَسْتَوِی الَّذِینَ یَعْلَمُونَ وَالَّذِینَ لَا یَعْلَمُونَ
الزمر: 9

عنوان المکتب المرکزي
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.