بينات من فقه القرآن(دراسة قرآنية تعتمد إستنباط السنن الإلهية من آيات الذکر الحکيم)

اشارة

بينات من فقه القرآن(دراسة قرآنية تعتمد إستنباط السنن الإلهية من آيات الذکر الحکيم)

نويسنده:مدرسی، محمدتقی

زبان:عربی

ناشر:مرکز العصر للثقافة و النشر

سال نشر:1431 هجری قمری

سال نشر:2010 میلادی

کد کنگره:BP 102/52 /م4ب9

ص: 1

اشارة

بسم الله الرحمن الرحیم

ص: 2

بينات من فقه القرآن(دراسة قرآنية تعتمد إستنباط السنن الإلهية من آيات الذکر الحکيم)

نويسنده:مدرسی، محمدتقی

ص: 3

ص: 4

المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم(1)

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2)

الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3)

مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)

إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)

اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)

صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ

غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ (7)

ص: 5

ص: 6

فهرس المحتویات

ص: 7

فهرس المحتویات

ص: 8

فهرس المحتویات

ص: 9

فهرس المحتویات

ص: 10

بسم الله الرحمن الرحيم

الحَمْدُ للهِ بِجَمِيع مَحَامِدِهِ كُلِّهَا، عَلَى جَمِيعِ نِعَمِهِ كُلِّهَا، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولُهُ المُصْطَفَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ الْأَتْقِيَاء.

وبعد:

كما وردة ذات ريحان فيها أوراق ذات عبق وجمال، كلما ضوعتها زادتك شذى وروعة. كذلك آيات الذكر: فكل آية هي قرآن، وهي ذات عصف وريحان، وهي ذات أوراق مطهرة.. فإذا نظرت إلى ظاهرها بهرك جمالها، وإذا تأملت باطنها زادتك علمًا، وكلما غصصت في أعماقها بتدبرك وجدتها ذات أغوار، فيها المزيد من الدرر واللئالي.

من هنا فإن عجائب القران لا تنقضي، ولا يزداد على كثرة القراءة إلا جمالًا وروعة.

وقد وفقني الرب سبحانه، وبفضل أحاديث النبي صلى الله عليه واله وأهل بيته عليهم السلام للتدبر في كتاب ربنا العزيز، وهكذا جعلته محور

ص: 11

أحاديثي وبحوثي الفلسفية والأصولية والفقهية والاجتماعية والسياسية، وذلك على مدى أربعة عقود من الزمن.

ولا زلت في الخطوة الأولى من طريق ممتد لا ينتهي، واعتقد جازمًا أن المسافة بيننا وبين كتاب ربنا تتوسع، أوليس فضل القران على سائر الكلام كفضل الله على خلقه، وأن علينا أن نكدح إلى ربنا كدحًا لنلاقيه، وقد نقترب منه بفضله ولكن لن نصل إليه؛ لأننا نحن المخلوقون وهو ربنا تعالى الخالق.

وهكذا شرعت بعد عودتي إلى مدينة جدي الإمام الحسين عليه السلام بعد سقوط نظام الطاغية، بالتدبر في آيات الكتاب في محضر علماء البحث وبعد دراسة الفقه، وكان من بين السور المباركة التي تدبرت فيها سورة النور، و كذلك تدبرت في السورة ذاتها بمحضر علماء مدينة طهران في ليالي شهر رمضان المبارك، وكان من عظيم فضل الله عليَّ أن وفقني لتحرير تلك التأملات، وأرجو أن أكون قد وفقت لخدمة القرآن، ذلك الكتاب الذي هو الشافع المشفع يوم الجزاء - كل ذلك بأمل نوال شفاعتهِ وشفاعةِ حاملِ مصباحهِ وأهل بيته حملة علمه والله المستعان.

محمّد تقي المدرسي

كربلاء المقدسة

9 جمادى الآخرة 1430ه-

ص: 12

الهدف.. لكي نتذكّر

بسم الله الرحمن الرحيم

سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1) .

* * *

1- سُورَةٌ

بصائر القرآن محاطة بسور.

فما هو ذلك السور؟.

حدود كل شيء هدفه، ولأن هدف آيات الذكر التذكر. ألم يقل ربنا في عقبى الآية الأولى: لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ؟.

لذلك فإن ما في السورة مما يحقق هذا الهدف، يعتبر سورًا له. وكذلك كل علم هدفه سور له، لأن شتات المعلومات إنما يجمعها العالم ضمن سور واحد، لأنها تحقق هدفًا محددًا.

ص: 13

وهذه البصيرة تتصل ببحث تمايز العلوم، وأنه ليس ما يجمع شتات مسائل كل علم إلا هدفه.

وهذا يتصل أيضًا بسنن الله في خلقه، فشتات حركات البشر تجمعها أهدافها. فأنت كل يوم تقوم بشتات الحركات، فما الذي يجمعها ليس إلا هدفك منها.

2- أَنزَلْنَاهَا

كيف تم الإنزال ؟ فهل يعني أن جبرائيل عليه السلام ملك الوحي حملها من الأعلى إلى النبي صلى الله عليه واله ليبلغ بها سائر الناس،أم هناك معنى أعمق لكلمة الإنزال؟.

إن حقائق العلم حقائق مطلقة وعامة، وهي غير متيسرة لفهم عامة البشر، وإنما يسر الله سبحانه القرآن للذكر حتى يتذكروا ويتم حجته عليهم بإنزالها. كيف؟.

أولًا: ببيان مصاديق الحقائق.

ثانيًا: بلسان عربي مبين.

ثالثًا: بالقصص والأمثال.

أولم يقل ربنا سبحانه:

- وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (1).

- وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (2).

ص: 14


1- سورة القمر، آية: 17.
2- سورة النحل، آية: 103.

- وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً (1).

3- وَفَرَضْنَاهَا .

كيف تم فرض القرآن للذكر؟. هل بقوة السلاح، أم بعزم الرجال، أو بأيدي السماء، أم بالتوفيق والتسديد والنصرة، أم بماذا؟. لعله بكل ذلك، كيف؟.

أولًا: حينما تستجيب فئة من الناس لحقائق القرآن، فإنهم سوف يصبحون قوة مادية للدفاع عنها.

قال ربنا سبحانه: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ (2).

ثانيًا: وهؤلاء سوف ينتصرون لدين الله. فإذا فعلوا ذلك نصرهم الله سبحانه بتأييده.

قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (3).

وقال تعالى: وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (4).

ثالثًا: إن سنن الله في خلقه تتناغم مع سننه في كتابه، وهي دومًا في عون أحكام الدين، لأنها وسنن الله في الخليقة ذات مسار واحد.

ص: 15


1- سورة الفرقان، آية: 33.
2- سورة الفتح، آية: 29.
3- سورة محمد، آية: 7.
4- سورة هود، آية: 88.

قال الله تعالى: أَلَمْ تَرَى أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ (1).

رابعًا: من الأحكام الشرعية ما هي حدود تفرض بالحديد، مثل تنظيم الأسرة وحرمة الفواحش الجنسية.

خامسًا: التيار الاجتماعي الذي تصوغه بصائر الوحي يساهم في فرض أحكام الدين، ولعل ذلك كان سببًا في ورود هذه الكلمة (فرض) هنا في هذه السورة بالذات.

4- فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ

الآية هي الحقيقة التي تهديك إلى حقائق أخرى. فالشمس والقمر آيتان، لأنهما حقيقتان تهدياننا إلى سنن الله في خلقه وإلى أسمائه الحسنى.

كذلك ما ذكر في القرآن من حقائق أنها تهدينا إلى ما وراءها من حقائق. فإذا أمرنا ربنا بجلد الزانية، فإن هذه حقيقة تهدينا إلى حقائق، مثل أهمية الأسرة وضرورة الحفاظ عليها.

ومن هنا فإن علينا عند تلاوة الآيات، أن نتأمل في آياته لعلنا نغور إلى تلك الحقائق التي وراءها. وبتعبير آخر؛ حتى نتذكر فنفقه ماوراءها من سنن راسخة في خلق الله.

ألم يقل ربنا سبحانه: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ

ص: 16


1- سورة إبراهيم، آية: 19.

أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (1) .

والآيات ليست آيات غامضة، إنها بينة، وهي كذلك مبيِّنة. أما أنها بينة، فلأنها نازلة بلغة واضحة، وأما أنها مبينة فلأنها تعكس الحقائق التي وراءها.

4- لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ

إذا كان هدف السورة الكريمة -كما سبق- رفع مستوى الانسان إلى مرحلة التذكرة، فإن علينا أن نتساءل: ما هي التذكرة؟.

التذكرة: هي استرجاع المعلومات المنسية أو المغفول عنها. ولكن لا يتم ذلك بسهولة، إذ إنها بحاجة إلى الاستماع الجيد، وإلى التفكر الحر، وإلى الموضوعية في المنهج. وهكذا تجد قليلًا من الناس هم الذين يتذكرون.. قال الله سبحانه: وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ (2).

* * *

بصائر وأحكام

1- سور كل علم هدفه وتمايز العلوم عن بعضها بأهدافها.

2- الأهداف تجمع شتات حركات البشر.

3- ولقد يسر ربنا القرآن للناس ليتذكروا به ببيان مصاديق الحقائق، وبالقصص والأمثال وأنزلها بلسان عربي مبين.

ص: 17


1- سورة محمد، آية: 24.
2- سورة الحاقة، آية: 12.

4- أيد الله رسالاته وفرضها ب-:

أولًا : المؤمنون نصروا الدين فنصرهم الله، ونصر الدين بهم .

ثانيًا : دين الله حق، وسنن الله في خلقه حق، والله يؤيد دينه بتلك السنن .

ثالثًا : بعض أحكام الدين مثل الحدود - تفرض بالحديد .

رابعًا : التيار الاجتماعي الذي تصوغه شرائع الدين قد يساهم في فرض أحكامه .

5- آيات القرآن بينة لأنها نزلت بلسان مبين، وهي مبيّنة لأنها تعكس الحقائق.

6- إنما التذكر بالاستماع الواعي والتفكر الحر والمنهج السليم.

7- العلم الذي لا ينفعك لغو، استعذ بالله منه. إن حياتك قصيرة، ولن تبلغ فيها إلى كل علم. وإنك -في الوقت ذاته- بحاجة إلى علم فيما يرتبط بأعمالك، فخذ من العلم ما يتصل بحاجتك العملية.

8- تصور مثلثًا يُشكل فكرك زاوية منه، بينما تشكل الكائنات زاوية ثانية، أما الزاوية الثالثة فهي تلك الآيات القرآنية التي نتلوها. وحاول -أبدًا- اكتشاف الرابطة بين زوايا هذا المثلث؛ أنت والحياة والآية. بذلك سوف تبلغ -بإذن الله- درجة التذكر، وهي درجة بالغة الأهمية، رفيعة المستوى، إن شاء الله.

ص: 18

لماذا الحدود الشرعية؟

الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ (2)

* * *

1- الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي

الزنا علاقة غير شرعية بين الأنثى والذكر، وعادة ما تكون ذات طرفين؛ فالزانية ترتبط بالزاني، وهكذا العكس.

بلى؛ قد يكون أحد الطرفين مكرهًا أو مستغفلًا، وهوفرض نادر الوقوع. والسؤال: ماذا تعني العلاقة غير الشرعية، ولماذا تقدم ذكر الزانية؟.

أولًا: لأن الله خلق بني آدم ليعيشوا مجتمعين، فإن ذلك يعني وجود قواعد تضبط علاقاتهم ببعضهم، ومن تلك القواعد، بل من أهمها، علاقة الذكران بالأناث. فكيف تكون هذه العلاقة؟.

الشرع ينظمها لنا، وكل قوم ينظمون نكاحًا حسب

ص: 19

عاداتهم. أما الشاذ من هذه القواعد، فهو محكوم بالخروج من النظام الاجتماعي المعترف به، وهذا بعينه الزنا.

ثانيًا: عادة ما تكون المرأة بإغرائها وإثارتها وعدم تحفظها لنفسها، تكون محور هذه العلاقة الشاذة؛ فهي التي يجب أن تدافع عن شرفها بكل وسيلة ممكنة، أولها صيانة نفسها وعدم تبذلها. ومن هنا فإن الحجاب مفروض عليها دون الرجل. وأن هذا لا يعني براءة الذكر من إثم هذه الجريمة، فهو الآخر زانٍ. وهكذا نعرف أن تجريم شخص على فعل لا يبرء شريكه فيه، بل كل مسؤول عن فعله ولوكان الفعل واحدًا.

2- فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ

لماذا كان المؤمنون جميعًا طرفًا لخطاب القرآن، ولماذا الجلد على هذه الخطيئة، ولماذا -أخيرًا- مئة جلدة؟.

أولًا: المؤمنون هم أبناء المجتمع الذين سوف يتضررون من الزنا، لأنه مخالفة لقواعد سلوكهم، ولأنه يزعزع أساس الأسرة التي هي محور علاقاتهم.. ومن هنا فعليهم جمعيًا الدفاع عن مصالحهم، وذلك بمعاقبة المتمردين.

ثانيًا: الجلد عقوبة جسدية تكفي لردع الذين تغلبهم شهوات جسدهم. فكما أن اللذة ساقتهم إلى الجريمة، فإن الألم يكون جزاءً مناسبًا لها.

ثالثًا: أما المئة جلدة، فإن هذا العدد يتناسب وامتداد لذة الجنس لفترة بما لها من تمهيدات، وما لها من معقبات.

3- وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ

ص: 20

أليس الإسلام دين الرحمة، أوليس الله خلق البشر عاطفيًا يرأف بعضهم ببعض، فلماذا القرآن منعنا من الرأفة بالزانية والزاني؟.

أولًا: الرأفة تهدف إصلاح العلاقات الاجتماعية، ليزداد الناس تماسكًا. أما الذين يفسدون هذه العلاقات باختراق قواعدها، فإن الرأفة بهم تزيدهم غيًّا وفسادًا.

ثانيًا: دين الله نظام متكامل يورث البشر فلاحًا، وفي هذا النظام قد حددت مواطن الرحمة والرأفة ومواطن الحزم والغلظة. ولا يجوز أن نستبدل هذه المواطن بتلك، لأنه سوف يكون بعيدًا عن الحكمة.

4- إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ

ما هي الصلة بين العقائد الدينية ومن أبرزها التوحيد والعدل، وبين هذه الأحكام؟.

أولًا: الإيمان بالله سبحانه، إيمان بمنظومة البصائر التي توحي بها أسماء الله. فهو تعالى العدل الذي لا يجور، وهو الرؤوف الرحيم، وهو الحكيم العليم.. ومن آمن بهذه الأسماء، كيف يتحدى أحكام الرب التي هي تعبير عن أسمائه الحسنى؟.

ثانيًا: الإيمان باليوم الآخر، حيث الميزان الحق، وحيث الحساب الدقيق، لا يناسبه الرأفة في دين الله.

وبكلمة؛ المؤمن ينظر إلى كل الحقائق من منظار بصائره المستوحاة من الإيمان؛ فرحمته ورأفته ومواقفه جميعًا تتأطر بإيمانه الراسخ بالله وصفاته وأسمائه وإيمانه بيوم الحساب وما فيه من ميزان حق.

ص: 21

5- وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ

لماذا يشهد الناس ألم الزانية والزاني، وهل شهدوا لذتهما السرية حتى يشهدوا عذابهما؟.

أولًا: لأن من أهداف الحدود الشرعية (الجلد هنا مثلًا) إصلاح المجتمع وتحصينه من حيث الشاذين. وعندما يشهد الناس مدى تألم الجناة بالعذاب، فإنهم يرتدعون عن ارتكاب الجريمة.

ثانيًا: إن في مشاهدة الجاني وهو يعذب، عذابًا نفسيًّا له، وقد يكون ذلك أشد إيلامًا من العذاب الجسدي.

ثالثًا: إن جريمة الزنا تتم عادة بسرية وبعيدًا عن رقابة المجتمع، بينما النكاح يتم بعلنية وتحت سمع وبصر المجتمع وفي ظلال رقابته. ولأن تنظيم العلاقة بين الذكر والأنثى ليس شأنًا خاصًا لهما، بل له علاقة مع المجتمع الذي لا بد أن يعترف به ويراقب الحقوق المتبادلة بين الطرفين ثم يعترف بأبنائهم وما أشبه.

فإن الشرع يأمر بإخراج ما أخفاه الجناة إلى العلن ليكون أبدًا في الضوء وبلا سرية. وهكذا أمر الإسلام بضرورة وجود شاهدي طلاق، بينما ندب الشهادة عند النكاح.

وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه واله (أَنَّهُ مَرَّ بِبَنِي زُرَيْقٍ فَسَمِعَ عَزْفًا فَقَالَ صلى الله عليه واله : مَا هَذَا؟.

قَالُوا يَا رَسُولَ الله: نَكَحَ فُلَانٌ!.

فَقَالَ صلى الله عليه واله : كَمَلَ دِينُهُ. هَذَا النِّكَاحُ لَا السِّفَاحُ، وَلَا يَكُونُ نِكَاحٌ فِي السِّرِّ حَتَّى يُرَى دُخَانٌ أَوْ يُسْمَعَ حِسُّ دَفٍّ!.

ص: 22

وَقَالَ صلى الله عليه واله : الْفَرْقُ مَا بَيْنَ النِّكَاحِ وَالسِّفَاحِ ضَرْبُ الدَّفِّ) (1).

وفي هذا إشارة إلى أن النكاح يتم تحت سمع وبصر المجتمع، ولذلك فهو علاقة شرعية معترف بها دون الآخر.

* * *

بصائر وأحكام

1- المجتمع كيان متصل أطرافه ببعضها، ولا يجوز أن يتهاون أحد من أبنائه في شأن من شؤونه. من هنا شرع الدين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وهكذا يجب على المجتمع فيما يتصل بتنظيم العلاقة بين الجنسين رعاية سلامة الأجواء من آفات السفاح والشذوذ والتفسخ.. ومن كل ماقد يؤثر سلبًا على سلامة المجتمع الخلقية.

قال الله سبحانه: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمْ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (2).

2- على المؤمن أن يضبط خلجات قلبه، كما يضبط حركات سلوكه. فالمؤمن يحب في الله، ويبغض

ص: 23


1- مستدرك الوسائل: ج14، ص305.
2- سورة التوبة، آية: 71.

في الله، ويجعل قلبه تابعًا لمرضاة ربه.

قال الله سبحانه: وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ (1). وقال تعالى: يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ (2).

3- الإسلام نظام متكامل ويؤدي كل من الرأفة والشهوة موطنًا مناسبًا فيه ولا يجوز استبدالهم ببعضها.

4- الإيمان بالله التصديق بأسمائه الحسنى التي تعكسها أحكام الدين، فلا يحاددها المؤمن بالله واليوم الآخر.

ص: 24


1- سورة البقرة، آية: 165.
2- سورة المائدة، آية: 54.

التجاذب في الخليقة

الزَّانِي لا يَنكِحُ إلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3)

* * *

1- الزَّانِي لا يَنكِحُ إلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً

هل النكاح هو الزواج، أم أنه هنا تعبير عن الممارسة الجنسية ذاتها؟ وهل الآية في معرض بيان حكم شرعي، أم سنة إلهية؟.

أولًا: قال البعض إن كلمة النكاح تحتمل أكثر من معنى، فهو تعبير عن العلاقة المستمرة، سواءً المشروعة كالزواج أو غير المشروعة، كما قال سبحانه: وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ (1)؛ أي القدرة الجنسية. وهكذا تعني الآية: إن الزنا فاحشة لا يقدم عليها إلا كل سافل. وهكذا فإن المؤمنين مترفعون عنها، ولايرغب أحدهم أن ينام مع سافلة.

ص: 25


1- سورة النساء، آية: 6.

ثانيًا: إن التناغم بين أي شخصين من جنس واحد أو من جنسين ليس فقط بسبب بعض الصفات الظاهرة، مثل الجاذبية الجنسية أو الجمال الظاهر، بل إنه يغور في الأعماق، حيث إنه متصل بالصفات النفسية والعادات السلوكية.

وهكذا فإن الزاني الذي تردى إلى حضيض الشهوة الرخيصة، بعيدًا عن جمال الروح وجاذبية السلوك، إنه يفتش عن شريكة مشابهة له. وهكذا لا يجد مثل ذلك إلا زانية أو مشركة.

وقد قال ربنا سبحانه: وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ (1).

وقال تعالى: الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُوْلَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (2).

وقد قالت العرب: إن الطيور على أشكالها تقع.

ثالثًا: إن الرغبات النفسية انعكاس لطبيعة الناس، كما أن السلوك تعبير عن نمط التفكير ونمط الشخصية، وقد قال ربنا سبحانه: قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلاً (3).

ومن هنا، فمن وجد في نفسه رغبة إلى الشذوذ عن السبيل اللاحب، فعليه ليس فقط كبح جماح نفسه، وإنما السعي جاهدًا

ص: 26


1- سورة الأنفال، آية: 73.
2- سورة النور، آية: 26.
3- سورة الإسراء، آية: 84.

لاصلاحها، وليعلم أن قلبه لا يزال فارغًا عن الإيمان الصادق.

رابعًا: إن من يختار زوجة لتكون شريكة حياته وأمًّا لأبنائه وعونًا له على أمور دينه ودنياه، فعليه أن يختار المرأة الصالحة، ولا يبحث عن خضراء الدمن، حيث النفايات القذرة، حتى ولو أعجبه حسنها.

وهكذا نهى ربنا عن اختيار الساقطات، إذ قال سبحانه: وَلا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (1).

2- وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ

أليست هذه القضية عكس تلك تمامًا، فلماذا تكرر القول؟.

أولًا: لمزيد من التأكيد. أليست هذه قضية مهمة؟.

ثانيًا: إن هناك شخصين؛ فالزاني لا يرغب إلا في امرأة تتناسب معه كالزانية والمشركة. كما أن الزانية لا يرغب فيها إلا شخص متناسب معها، مثل الزاني والمشرك.

وهكذا كان على المؤمن أن ينأى بنفسه عن الزانية والمشركة، وعلى المؤمنة أن تتجنب الزاني والمشرك.

ص: 27


1- سورة البقرة، آية: 221.

3- وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ

هل هذا مجرد تحريم تشريعي أو إنه تعبير عن سنة إلهية؟.

أولًا: فعلًا إنه تحريم تشريعي، فلا يجوز للمؤمن أن يقترن مع امرأة فاحشة إلا إذا تابت إلى الله متابًا.

ثانيًا: إن الكثير من الزيجات توفيقات ربانية، وربنا سبحانه يوفق الصالحين للصالحات، وبالعكس، وأنه فضل من الله عظيم.

* * *

بصائر وأحكام

1- الزنا فاحشة لا يقدم عليها إلاّ كل سافل.

2- إن التناغم بين كل شخصين يغور إلى حيث السلوك والصفات النفسية.

3- إن من أبرز ما يتميز به المجتمع الإيماني، نقاؤه. ومن وسائل النقاء، اجتناب العناصر الجنسيّة. وقد وردت روايات مستفيضة تؤكد على ضرورة الإنجاب الصالح، حيث جاء عن النبي صلى الله عليه واله

:(تَخَيَّرُوا لِنُطَفِكُمْ فَإِنَّ الْعِرْقَ دَسَّاسٌ) (1).

وإنه لمعروف جدًا مدى تأثير التوافق الاجتماعي في بلورة شخصية الإنسان. فإذا كان المجتمع المسلم نقيًا وبعيدًا عن الفسقة، فإن ذلك يساهم في تنمية جيل صالح بعيد عن مؤثرات المجتمع الفاسد.

ص: 28


1- المحجّة البيضاء: ج 3، ص 93.

وبالرغم من أن الزواج من أكثر المؤثرات في بناء المجتمع، لأنه يتصل بتشكيل الأسرة، إلا أنه ليس المجال الوحيد الذي شملته مفاهيم الدين، بل حتى في انتخاب الصديق والمعلم وإمام الجماعة والجار وكل من يشترك مع الفرد في حياته، قد جاءت تعاليم واضحة وشديدة التأكيد على ضرورة انتخاب الأفضل.

ص: 29

ص: 30

الأسرة أساس المجتمع

وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ (4)

* * *

1- وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ

كما الحجر مادة البناء، كذلك الأسرة أساس بنيان المجتمع، وإذا انهارت الأسرة فإن المجتمع ينهار هو الآخر. ومن هنا فقد حصنها الدين بأكثر من سور. فبعد أن عاقب على الزنا، وطرد الزناة من المجتمع الإيماني، ضرب بسور رفيع آخر، حيث منع النفوس الخبيثة والألسن البذيئة من تناول المحصنات في قلعة الأسرة، واعتبر مجرد تناول أسمائهن بالسوء عملًا شائنًا إلا بشهود أربعة. لماذا؟. للأسباب التالية:

أولًا: إن السمعة الطيبة هي رأسمال المرأة الفاضلة، وإن تناولها بالتهم الرخيصة يخل بذلك الشرف.

ثانيًا: إن الذنب يرتكب في إطار النفس أولًا وقبل أن

ص: 31

يرتكب في الخارج. وإذا أميت ذكر الذنب لم يفكر فيه أحد. وإن من كيد الشيطان هو تهوين الذنوب عند الناس، حتى لا يتورعوا منها، وذلك بتكرار ذكرها وإشاعة قصص مرتكبيها، حتى تهون عند الناس.

قال الله تعالى: الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (1).

ثالثًا: قد يفتش المحرومون جنسيًا عن مادة مثيرة، حتى يسلوا بها أنفسهم. وربما أصبحت القصص الخيالية التي تتناول المحصنات وسيلة للإثارة، مما يجعلها سريعة الانتشار في أوساط الشبيبة. إذًا لا بد من حسم مادة الجريمة سلفًا، بمنع ذلك وعدم السماح للألسنة الخبيثة بأن تلوك سمعة المحصنات.

2- ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ

الشاهد ليس الذي سمع الواقعة، وإنما الذي رأها وبكل وضوح، ومستعد تحمل المسؤولية بشهادته أمام القضاء. ولا بد من توافر أربعة من هذه الفئة للشهادة على تهمة جنسية. وإذا عرفنا أن مرتكبها يحاول دائمًا إخفاءها، ليس فقط لأن العملية الجنسية ذاتها من خصوصيات الأفراد، بل وأيضًا لأنها -عند عدم مشروعيتها- يكون إخفاؤها أهم عند مرتكبها، نعرف مدى صعوبة توفير أربعة متوافقين في الشهادة عليها.

والسؤال: لماذا طالب الشرع بأربعة شهداء، بينما في أمور أخرى أهم (مثل جريمة القتل) اكتفى بشاهدين؟.

ص: 32


1- سورة النور، آية: 19.

أولًا: إن الجنس ليس حدثًا ثابتًا كالقتل، بل هو حدث عابر. إذًا من الممكن جدًا ادعاء وقوعه وبسرية، مما يصبح أسهل عند ملفقي التهمة، وأيسر قبولًا عند الناس.

لذلك فإن مطالبتهم بأربعة شهداء يجعلهم يتورعون جدًا من تلفيق التهمة، وإشاعتها بلا تأكد من وقوع الحادثة.

ثانيًا: مجرد ادعاء رؤية أربعة شهداء لحادثة من هذا القبيل أمر صعب جدًا. فأين كان هؤلاء من مسرح العملية، وهي من أشد الأفعال مدعاة للإخفاء؟ هل يعقل أنهم كانوا في غرفة نوم الممارسين للجنس الحرام، أم أن الممارسة تمت في الفضاء المفتوح، ولماذا؟.

ومن ناحية أخرى، لو افترضنا أن الأربعة قد تآمروا لشهادة الزور، فإن تواطؤهم على كافة التفاصيل يبدو شبه مستحيل.

3- فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً

إذا كانت لذة الجنس اقتضت جلد الزاني، فماهي تلك اللذة التي تقتضي جلد القاذف؟.

أولًا: باعتبار أن تهمة الجنس قريبة من الجنس ذاته، فقد اقتضت هذه التهمة العقاب ذاته.

ثانيًا: فعلًا إن مرضى النفوس يتلذذون جنسيًا بمثل هذه التهم الرخيصة التي يسيل لها لعابهم، وذلك بتخيل تفاصيل الممارسة الجنسية، ولذلك فإن عقابهم بالجلد مناسب جدًا لتلك اللذة الحرام التي أثاروا بها غرائزهم الجنسية وأيضًا أشبعوا بها عقدهم النفسية.

ص: 33

4- وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً

كما أن الزاني والزانية طردا من المجتمع الإيماني ولحقهم العار، كذلك القاذف تلاحقه لعنة قذفه بطرده من المجتمع المؤمن، حيث لا تقبل شهادته أبدًا إلا إذا تاب.

وهكذا فإن تقادم الزمان لا يغسل ذنبه.

5- وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ

الفسق هو الخروج من الإطار الشرعي مما يعرض الفرد للفساد، تمامًا كما إذا خرجت الثمرة عن جلدها وتعرضت للفساد. فماهي مناسبة ذلك مع القاذف؟.

أولًا: عندما يصبح الكلام رخيصًا، والتهمة شائعة، فإن هيبة المجتمع تتبخر، واحترام الناس لبعضهم يتلاشى، والعلاقة تصبح جد صعبة.

وهكذا يكون مثل المجتمع مثل تلك الثمرة التي خلعت أهابها ففسقت وفسدت.

ثانيًا: إذا كانت الكلمة غير مسؤولة، فإن كثيرًا من وساوس الشيطان تتراءى وكأنها حقائق مسلمة؛ فلايعرف الحق عن الباطل، والصدق عن الكذب. لذلك وضع الإسلام حدًا صارمًا بين العدالة والفسق، بين الصدق والكذب.

فإذا كانت الكلمة معتمدة على حقائق تصدقها (شهود أربعة) فإنها صادقة، وإلا فهي مجرد وساوس شيطانية تخدع الناس.

* * *

ص: 34

بصائر وأحكام

1- الأسرة أساس بنيان المجتمع، والقاذف يزعزع هذا الأساس.

2- إشاعة الذنوب يهونها الشيطان عند الناس.

3- من تلذذ بإشاعة القذف عوقب بثمانين جلدة.

4- القاذف يطرد من المجتمع الإيماني وينعت بالفسق.

ص: 35

ص: 36

هكذا التوبة تستنزل الرحمة

إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)

* * *

1- إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ

بالرغم من خطورة الذنب، وفظاعة آثاره الاجتماعية، تطوي التوبة صفحته وتغسل عاره وشناره. كيف؟.

أولًا: كما أن الذنب انحراف كبير، فإن التوبة عمل جبار، وصاحبها إنسان في منتهى الشجاعة الأدبية، وأنه يقوم بثورة عارمة ضد تاريخه وضد أهوائه.

ثانيًا: إذا تأملت في حياة المجتمع وبالذات في حياة الفسقة فيه، تجد أن نسبة التائبين ضئيلة جدًا. مما يجعل من يتوب يقوم بعمل خطير، وهو يصبح عبرة لمن يختار التمادي في غيه، وعبرة لمن يفكر في ارتكاب الذنب، فإن ذل الاعتراف بالخطأ لا يوازيه إلا فضيلة التوبة.

ص: 37

2- وَأَصْلَحُوا

ولماذا الإصلاح بعد التوبة؟.

أولًا: لأن الذنب قد أحدث ثلمة كبيرة في جدار الوحدة الاجتماعية، وعلى من ارتكب الذنب أن يعالجه بشتى الوسائل الممكنة.

مثلًا؛ حينما يشيع جاهل تهمة القذف ضد بريء، ويتأثر كثير من الناس بشائعته، فكم نحن بحاجة إلى عمل حتى نسترجع هيبة الفرد الضحية وسمعته التي بلغت الحضيض!.

ثانيًا: قد يحتاج الإصلاح إلى بذل مال أوجهد أوحتى جاه، ولكنه ضروري ليس فقط بهدف تعويض الضحية، بل وأيضًا من أجل تزكية نفس الجاني وتطهيرها من آثار الذنب.

3- فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ

ماذا تعني هذه الخاتمة، التي تفيض أملًا؟.

أولًا: إن الآية قد أوردت اسميّ الرأفة للتذكرة، فإن الله سبحانه يغفر الذنب ويرحم المذنب ربما بالمزيد من فضله، ذلك لأن التائب من الذنب قد يُصبح محصنًا ضد ذلك الذنب وضد ذنوب أخرى لما عاناه بعد الذنب من وخز الضمير، ومن جهد في سبيل التوبة والإصلاح، فيصبح أهلًا لرحمة ربه.

ثانيًا: الآية لم تحتم على الله سبحانه قبول توبة هذا الانسان، مما يجعله أبدًا بين تياري الخوف والرجاء،

ص: 38

فيزداد نشاطًا في عمل الصالحات وفي الاستغفار.

* * *

بصائر وأحكام

* التوبة تعهد ضد الذات وفضيلة التوبة تفوق انحراف الذنب.

ص: 39

ص: 40

أثر العقوبات في تحصين الأسرة

وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلاَّ أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنْ الصَّادِقِينَ (6)

* * *

1- وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلاَّ أَنفُسُهُمْ

علاقة الزوجين ببعضهما ذات سعة وعمق وامتداد قد لا ترقى إلى مستواها أية علاقة بشرية، لأنها علاقة ذات أبعاد مختلفة؛ جسدية (فورة الجنس) ونفسية (حب متبادل) ودينية، وذات أهداف بعيدة في إنجاب ذرية وتربيتهم. ولذلك فهي عادة لا تهتز بسهولة في ظل تعاليم الإسلام. أما إذا تردت وأصبحت عرضة للتهم الرخيصة كالطعن في الشرف، فإن استمرارها يكون صعبًا وربما يصبح ضارًا.

من هنا فإن السياق القرآني ذكرّ بمشكلة قذف الزوج لامرأته، وبقدر من التفصيل، لأن الزوج أول المعنيين بمثل هذه المشكلة؛ فإذا كان صادقًا، فأي حصن زوجية هذا الذي يخترقه

ص: 41

الزنا؟ وإذا كان كاذبًا، فأي زوج هذا الذي يطعن زوجته في شرفها؟. إما سفاهة أوخبثًا؛ وسواءً هذا أوذاك، فإنه لايصلح زوجًا وربًّا لأسرة فاضلة.

2- فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنْ الصَّادِقِينَ

لماذا هذه الشهادات؟.

أولًا: لأن الزوج إذا كان لاهيًا أو سفيهًا أو مضرًا بزوجته، فسوف يدفع ثمنًا غاليًا، إما بتحمل وزر يمين كاذبة ثم خسران زوجته إلى الأبد، وربما إذا نكل عن اليمين يتعرض لعقوبة الجلد.

ثانيًا: إذا كان الزوج صادقًا، وقد شاهد مثلًا ما جرى بين زوجته والأجنبي، فإنه لن يستطيع أن يأتي بأربعة شهداء على الجريمة، فهل يصبر على زوجة خائنة أو يتعرض لعقوبة القذف أو يتصرف شخصيًا في ردع الجاني أو زوجته؟.

كل هذه الفروض غير صحيحة، فلا بد إذًا من مخرج، وأفضله أن يشهد أربع شهادات بصدقه، حتى يوازي الشهود الأربعة على الزنا، وحتى تستمر إجراءات التفريق بينه وبين زوجته.

* * *

بصائر وأحكام

* حصن الأسرة حدود دينية وحب متبادل وغرائز شديدة.

ص: 42

الأسرة كيان ميمون

وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنْ الْكَاذِبِينَ (7)

* * *

لماذا اللعنة؟.

وهي البعد عن رحمة الرب؟.

أولًا: لأن هدم بنيان الأسرة وما يتبعه من ضياع الأبناء، وشقاق الأسر المتصلة، ونزاعات في الحقوق المتبادلة.. كل ذلك ليس بالأمر الهيِّن.

أليس الشرع قد اشترط وجود شاهدين عدلين في الطلاق، بينما جعله في النكاح أمرًا مستحبًا؟.

من هنا كانت اللعنة على الذات من قبل التقاذف أمرًا ضروريًا لردعه عن توجيهه هذه التهمة جزافًا ومن دون التثبت التام.

ثانيًا: إن وجود هذه الأحكام المتشددة يشد بناء الأسرة في

ص: 43

ثقافة الأمة، كما في وعي أبنائها، ويرفع الأسرة إلى مستوى قريب من التقديس حتى لا يقترب أحد من المسّ بها.

* * *

بصائر وأحكام

* الأحكام الشديدة ترسخ بنيان الأسرة ويجعلها قريبة من القداسة.

ص: 44

الشهادة في اللعان

وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنْ الْكَاذِبِينَ (8)

* * *

العدالة الإسلامية لا تدع المرأة ضحية قذف زوجها، وطعنها في شرفها، وذلك:

أولًا: بأن أمام المرأة واحدًا من خيارين صعبين:

الأول: الاعتراف بالجريمة، مما يعرضها للإعدام رجمًا، وربما -في بعض الأحيان- للجلد.

الثاني: تكذيب الزوج وردّ إيمانها الأربع بمثلها، فتدفع عن نفسها العذاب.

وهكذا، ما دامت الزوجية شراكة بين اثنين، فإن لكل واحد منهما من الحقوق والواجبات ما للآخر.

وهذه سنة الحياة وعدالة أحكام الدين، ألاّ يتمايز أحد على الآخر في الحقوق والواجبات إلا في ظروف خاصة.

ص: 45

ثانيًا: والشهادات هنا أيضًا توازي شهود الزنا، لخطورتها ومدى تأثيرها على المجتمع إذا اهتزت تحت وقع التهم الرخيصة.

* * *

بصائر وأحكام

1- الزوجية شراكة ولكل طرف ما للآخر الحقوق والواجبات ذاتها.

2- الشهادات في اللعان بعد الشهداء في الزنا لمدى تأثير التهمة الكاذبة على بنيان الأسرة.

ص: 46

الأنتخاب الصعب

وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنْ الصَّادِقِينَ (9)

* * *

مرة أخرى جاءت كلمة الغضب لتوازي كلمة اللعنة، لماذا؟.

أولًا: إن حجم الجريمة كبير جدًا، والاختيار جدًا صعب بين التعرض للرجم أو تفكك الأسرة باللعان، وهو الاسم الذي اختير لمثل هذه الحالة.

ولذلك استدعى الحال إلى استثارة وجدان المرأة واستنفار كل ما لديها من حس ديني ووعي إيماني، حتى تدعو على نفسها بنزول غضب الله عليها إن كانت كاذبة، وكان زوجها صادقًا في قذفها.

ثانيًا: يبدو أن اللعنة هي الابتعاد عن رحمة الله، بينما الغضب نزول العذاب. لماذا؟.

ص: 47

لأن المرأة هي محور الحديث، فهي التي قد زنت حسب التهمة.. أو هي بريئة وهي أعرف بوضعها. ولذلك كان من المناسب أن تدرأ عن نفسها التهمة بأقسى الكلمات.

* * *

بصائر وأحكام

* لأن الجريمة كبيرة والانتخاب صعب، جاء القسم بأقسى الكلمات.

ص: 48

إن الله توابٌ حكيم

وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10)

* * *

1- وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ

ماذا ستصبح حياتنا من دون فضل الله ورحمته؟.

أولًا: الذنوب التي يرتكبها العباد، بمثابة شهب تحيط بنا. ورحمة الله وفضله، بمثابة الغلاف الجوي، الذي يردعها عنا. ولولا رحمة الله لصب علينا العذاب بذنوبنا صبًّا.

هكذا يقول ربنا سبحانه: وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (1).

وقال عزّ وجلّ: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا

ص: 49


1- سورة النحل، آية: 61.

كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (1) .

وإنك لتقرأ في الأدعية المأثورة:(اللّهُمَّ اغْفِرْ لِي الذُّنُوبَ الَّتي تُنْزِلُ النِّقَمَ، اللّهُمَّ اغْفِرْ لِي الذُّنُوبَ الَّتي تُغَيِّرُ النِّعَمَ، اللّهُمَّ اغْفِرْ لي الذُّنُوبَ الَّتي تَحْبِسُ الدُّعاءَ، اللّهُمَّ اغْفِرْ لِي الذُّنُوبَ الَّتي تُنْزِلُ الْبَلاءَ) (2).

ثانيًا: من الناحية الأدبية، حينما يحذف المتعلق، فإن المتلقي للخطاب يحلق بخياله في كل أفق. وهكذا هنا، حينما لم يذكر السياق جواب لَوْلا جعلنا نتخيل كل مكروه، وهو كذلك. فإن فضل الله رحمته هو ينبوع كل خير، ولولاه شقي الجميع.

2- وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ

إنه تواب وأنه حكيم، فما هي الصلة بين هذين الاسمين الكريمين لربنا الرحمن؟.

أولًا: إنه تواب. فكلما عاد العبد إلى المعصية ثم تاب، تاب الله عليه.. وفي الدعاء:(يَا وَيْلَتَا كُلَّمَا كَبِرَتْ سِنِّي كَثُرَتْ مَعَاصِيَّ، فَكَمْ ذَا أَتُوبُ وَكَمْ ذَا أَعُودُ مَا آنَ لِي أَنْ أَسْتَحْيِيَ مِنْ رَبِّي؟) (3).

وهذه التوبة هي التي جعلت حياة الناس مطمئنة بالرغم من تماديهم في الغي.

ثانيًا: إن هذه التوبة محاطة بهالة من الحكمة البالغة. فهو سبحانه لا يؤاخذ أهل الأرض بألوان العذاب، ولكنه أيضًا لم

ص: 50


1- سورة الشورى، آية: 30.
2- مفاتيح الجنان، دعاء كميل بن زياد المروي عن أميرالمؤمنين عليه السلام.
3- بحار الأنوار: ج84، ص242.

يتركهم سدى، بل إنه يتوب عليهم إذا تابوا، ويؤخرهم إن لم يتوبوا ليوم تشخص فيه الأبصار.

وقصة الإفك التي سوف تقرأ إن شاء الله ومارافقتها من حوادث، تعكس اسميّ التوبة والحكمة للرب تعالى.

* * *

بصائر وأحكام

* الله تواب، فكلما عاد العبد إلى المعصية ثم تاب، وجد الله توابًا رحيمًا.

ص: 51

ص: 52

واقعة الإفك دروس وعبر

إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنْ الإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ(11)

* * *

1- إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ

قصة الإفك في تاريخ النبي صلى الله عليه واله ذات عبر شتى، وأبرزها ما يلي:

أولًا: الإفك -فيما يبدو- تلك الكذبة المحبوكة التي تصوغها فئة مخالفة للنظام السياسي أو الاجتماعي في الأمة. إنها مؤامرة تدبر بليل وتهدف زعزعة استقرار البلاد.

ثانيًا: العصابة التي اختلقت الإفك لم تكن أجنبية، بل كانت داخلية؛ فهي إذًا تعكس الجوانب السلبية في المجتمع المسلم.

ثالثًا: حينما تسوء التربية في المجتمع، ويضعف الجهاز الأمني،

ص: 53

ويتهاون كل فرد في أداء مسؤوليته.. هنالك تنمو الطفيليات الضارة في حقل المجتمع، وتتشكل في صورة خلايا وعصابات، وتكون العاقبة إشغال القيادة طويلًا بمثل حادثة الإفك.

2- لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ

لماذا نجد القرآن الكريم يصف ما نراه شرًا بأنه خير، وما نكرهه بأنه حسن؛ مثلًا حيث يقول ربنا سبحانه: كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ (1)، ويقول سبحانه: وَلا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ (2).

أولًا: ليس كل شيء بظاهره؛ فالفتاة الجميلة الخائنة منظرها خلاب ومخبرها كارثة. والقتال في سبيل الله ينتهي في الظاهر إلى سيل من الدموع والدمار، ولكنه يقضي على الفتنة التي هي أشد من القتل.

وعلى البصير أن ينفذ بعقله إلى ما وراء الظواهر، ولايتوقف عندها.

ثانيًا: وهكذا حينما تتشكل في المجتمع فئة معارضة تتكتم على أمرها، فإنها تتسبب في تقويض أسس المجتمع. كما الورم الخبيث ينتشر في الجسم بلا ألم، حتى إذا تفاقم ظهرت آثاره حيث لاينفعه العلاج. أما إذا كشفت هذه الفئة عن نفسها سريعًا فسوف

ص: 54


1- سورة البقرة، آية: 216.
2- سورة البقرة، آية: 221.

يتسنى للقيادة معالجتها في الوقت المناسب.

وهكذا كانت الفئة المنافقة تتحين الفرصة بالنيل من الرسول وقيادته الربانية، فاختلقت الإفك عندما رزق النبي مولودًا سماه بإبراهيم من زوجته القبطية. ولكن الأمة سرعان ما تحصنت ضد هذه الفئة ومكرها، فأصبحت حادثة الإفك في مصلحة المسلمين، بينما كانت في البدء تتراءى أنها ضدهم.

ثالثًا: لأن عصر التأسيس بداية الانطلاق، وكل حادثة فيه قد تصبح دروسًا للعصور اللاحقة، كان لا بد من وجود سابقة (اجتماعية، سياسية، قضائية) تهتدي بعبرها الأجيال الواعدة فيما يتصل بالشائعات التي تهدد أمن البلاد. وسوف نرى كيف نزل القرآن الحكيم في أجواء تلك الحادثة بوصايا جدّ مهمة.وهكذا كانت الحادثة -في النهاية- لمصلحة المسلمين.

3- لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنْ الإِثْمِ

العصبة التي اختلقت الإفك لم تكن متساوية في احتمال وزره، لأن بعضهم كان قياديًا مخططًا، بينما كان الآخرون في درجات أقل، ولكن المسؤولية كانت مشتركة.

أولًا: لأن حساب الإنسان عند الله لا يمر عبر القيادات الوسيطة، بل النداء حينما يأتي يشمل الجميع، حين ينادي المنادي: وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (1).

وقال الله سبحانه: وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ

ص: 55


1- سورة الصافات، آية: 24.

وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنشُورا (1) .

أما درجة المسؤولية ومقدارها فهي غير معلومة عندنا، ولكن الله بها عليم.

ثانيًا: حينما يكون كل فرد من أبناء المجتمع محصنًا ضد المؤامرات، ويعلم أنه سوف يقف أمام القضاء كما يقف رأس المؤامرة والمسؤول الأول عنها، فإن كثيرًا من المؤامرات سوف تفشل، خصوصًا وإن إيمان كل فرد من أبناء المجتمع بالقيادة الربانية إيمان مباشر،لا علاقة له بغيره من كبير أوصغير.

وهذه ميزة أساس في المجتمعات الإسلامية، تحصنها من احتمال السقوط في هاوية المؤامرات.

4- وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ

(بالرغم من مساواة الجميع أمام القضاء، إلا أن الرأس المدبر يتحمل الوزر الأكبر)، وهذا يعني العدل بكل مناحيه. ذلك أن لكل ذنب عقابًا يناسبه في الكم والكيف، وكل امرئ رهين بما اكتسبه، لا بما اكتسبه الآخرون. ألم يقل ربنا سبحانه: وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ؟ (2).

ونستوحي من هذه الكلمة، أن على القيادة الربانية أن تعقب رؤوس المؤامرة، كما أن على الأمة محاربة أئمة الكفر. قال ربنا سبحانه: فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ

ص: 56


1- سورة الإسراء، آية: 13.
2- سورة الأنعام، آية: 164.

لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ (1) .

ذلك لأننا قد نجد أن أئمة الكفر أو المؤامرة يتسترون عادة وراء الأكمة ويحركون البسطاء من الناس. كلا؛ على القيادة أن تكتشفهم وتلاحقهم وتعاقبهم.

* * *

بصائر وأحكام

1- على المؤمن أن ينفذ بصيرته إلى غيب الظواهر ولا يكتفي بها.

2- مسؤولية الإفك مشتركة بين المختلقين لها والخائضين، كل بقدر ذنبه ووعي هذه الحقيقة يقلل من فرص نجاح الشائعات.

3- حادثة الإفك محصت الأمة من مثيلاتها وأصبحت عبرة للأجيال الواعدة.

ص: 57


1- سورة التوبة، آية: 12.

ص: 58

مسؤولية الأمة تجاه المؤامرات

وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ (12)

* * *

1- لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً

ما هي مسؤولية الأمة تجاه المؤامرات عمومًا، وتجاه مؤامرة الإفك ونشر الشائعات بالذات؟.

أولًا: متى نكشف ضعف بناء المساكن والبيوت، أليس عند تعرض البلد لهزة أرضية؟ كذلك نكشف ثغرات بناء الجيش عند القيام بحرب، وثغرات المجتمع عند حرب الشائعات.

من خلال ردود الفعل تجاه الشائعة، نعرف مدى تماسك الأمة وثقتهم بأنفسهم، وإيمانهم بقيادتهم، ومعرفتهم بالظروف السياسية المحيطة بهم.

ثانيًا: كان على المسلمين أن يسارعوا إلى تكذيب الذين يشيعون الفاحشة. لماذا؟.

ص: 59

لأن لكل إنسان معايير يعرف بها مدى صدق خبر أو كذبه. مثلًا؛ إذا قال لك البعض إن إمارة صغيرة في أوروبا أو دولة في إفريقيا أو حزبًا إرهابيًا قد امتلكوا قنبلة ذرية أو صواريخ بالستية.. إنك لن تحتاج إلى مزيد تفكير حتى تقول كلا.

من هنا جاء في الحديث الشريف المروي عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام، أنه قال:

(إِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَخْتَبِرَ عَقْلَ الرَّجُلِ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، فَحَدِّثْهُ فِي خِلَالِ حَدِيثِكَ بِمَا لَا يَكُونُ، فَإِنْ أَنْكَرَهُ فَهُوَ عَاقِلٌ وَإِنْ صَدَّقَهُ فَهُوَ أَحْمَقُ) (1) .

ثالثًا: المؤمنون يعرفون بعضهم، ويثقون بأن التورط في جريمة الزنا، وعلى أعلى المستويات (زوجة النبي صلى الله عليه واله ) مستحيل. فإن لكل حق حقيقة وعلى كل صواب نورًا، وإن هذا الخبر يتنافى وأبسط أخلاق المسلمين، فكيف ببيت الرسالة؟.

فلماذا لم يظنوا بأنفسهم خيرًا، إنهم فعلًا قد قصَّروا في مسؤوليتهم، وعليهم أن يتوبوا إلى ربهم.

2- وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ

إن ردّ الشائعة ليس هو المطلوب وحده، وإنما أيضًا التعرض لمن يبثها والهجوم عليه ببيان خطيئته. لماذا؟.

أولًا: لأنه إذا كان كل إنسان يطرح وساوس وأقاويل وتهمًا ثم يكتفي المجتمع بردها دون التعرض له، فإنّ كل مرضى النفوس يقدمون على بث الشائعات الواحدة تلو الأخرى، والمجتمع ينشغل فقط بتفنيدها. كلا؛ على المجتمع أن يصف الشائعة بالإفك،

ص: 60


1- بحار الأنوار: ج1، ص131.

ويتهجم على من يبثها حتى يفكر كل منافق مرتين قبل أن يقدم على بث الشائعات الباطلة.

ثانيًا: لأن إلقاء التهمة بذاته جرم، إلا بعد إثباتها. وهكذا فلا يجوز لأي شخص أن يستمع إلى أي متهِّم من دون رده، بل عليه أن يطالب المتهِّم بالدليل وإلاّ فيرده ردًا حاسمًا.

* * *

بصائر وأحكام

1- عندما تتعرض البلاد لهزة أرضية، تظهر ثغرات الأبنية فيها. وعندما يتعرض المجتمع لمؤامرة، تظهر ثغراتها الأمنية.

2- أودع الله سبحانه في قلب كل واحد موازين لمعرفة الحق والباطل.

3- على الإنسان أن يستفيد من معاييره الفطرية لكشف الإفك وفضح المؤامرة.

4- لا يكفي رد الشائعة التي تمس أمن البلاد وشرف الدين وكرامة الناس، بل على المؤمنين ردع من يبثها بالوسائل السلمية.

5- لا يجوز الاستماع إلى التهمة دون ردها، بل لا بد من الدفاع عن المتهم بلا دليل.

ص: 61

ص: 62

مسؤولية إنسانية

لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُوْلَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمْ الْكَاذِبُونَ (13)

* * *

1- لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ

على المسلمين أن يعرفوا حدود الله سبحانه في الكلام، وإلاّ فانهم سوف يشاركون في هدم بنيانهم من حيث يشعرون أو لا يشعرون. كيف؟.

أولًا: ربنا سبحانه يقول: فَبَشِّرْ عِبَادِي (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ (1).

هذه مسؤولية إنسانية. فأنت لست بلا تكليف تجاه ما تستمع، بل عليك مسؤولية تقييم ما تسمع، ثم اتباع أحسنه. وهكذا إذا بثت دعاية معينة (شائعة، تهمة، خبر هام، و..) فعليك أن ترجع إلى القيم العقلية التي تملكها

ص: 63


1- سورة الزمر، آية: 17-18.

ثم تعرض ما سمعته عليها وتعطي رأيًا حاسمًا فيها.

ثانيًا: لأن تهمة الفاحشة ليست كغيرها -بل هي شديدة الأهمية- فلابد أن يقام عليها أدلة كافية تتمثل في أربعة شهداء عدول. ولا يكتفى فيها فقط بشاهدين (وهذا حد الله في مثل هذا الإدعاء). لذلك كان الادعاء بلاشهود مجرد إفك، بل هو إفك مبين.

ثالثًا: هناك شائعات شديدة الانتشار، وهي التي تتناول القادة أو الجنس أو الدين. أما القادة السياسيون فلاهتمام الناس بهم عادة وبأخبارهم، وأما الجنس فلأن البعض يتلذذ بذكره، وأما الدين فلأن الناس مهتمون به وبمن يمثله. ومن هنا فإن الأفاكين يختارون مثل هذه الشائعات لكي تتداولها أفواه الرجال بلا صعوبة. وشائعة الإفك اتصلت بالرسول صلى الله عليه واله وهو أعلى قائد سياسي وأعظم مرجع ديني، وكانت تدور حول مسألة جنسية، فلذلك انتشرت بسرعة.

2- فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُوْلَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمْ الْكَاذِبُونَ

السؤال العريض: كيف يعتبر القرآن المدعي كاذبًا بمجرد عدم وجود دليل له؟.

أولًا: لأن نقل التهمة وبهذا الحجم، التي تناول مثل شخصية الرسول الأعظم صلى الله عليه واله بذاته جرم، لأن آثارها في المجتمع خطيرة. إنها تثير الشبهات في عقائد الناس وثوابتهم التي قامت عليها حياتهم.

ثانيًا: لأن القيمة المثلى في الحياة هي الصلاح والإصلاح، أما الفساد والإفساد فإنهما ضد كل قيمة. وإذا كان الكلام يؤدي

ص: 64

إلى الفساد، فإنه باطل حتى ولو كان في الظاهر صحيحًا. مثلًا؛ إذا مشى أحد بنميم وبث الفرقة بين الناس بنقل ما يقوله البعض ضد الآخر، فإن صدقه كذب، لأنه يؤدي إلى الفتنة، وهو عند الله كاذب. وبالعكس من أصلح بين الناس بكلام ظاهره كذب. مثلًا؛ حكى لزيد أن عمرًا قد مدحه. فإنه صادق عند الله وإن كان عمرو لم يقل شيئًا، لأن كلامه يؤدي إلى إصلاح ذات البين.

ولذلك جاء في الحديث الشريف عن رسول الله صلى الله عليه واله ، في وصيته للإمام علي عليه السلام قال:(يَا عَلِيُّ إِنَّ الله أَحَبَّ الْكَذِبَ فِي الصَّلَاحِ، وَأَبْغَضَ الصِّدْقَ فِي الْفَسَادِ..) (1).

ثالثًا: كثير من كلام الناس يعكس أوهامًاَ وظنونًا، وإذا كان الكلام صادقًا بمجرد قناعة المحدث به، فإن أساس المجتمع يكون على جرف هارٍ، إنما الكلمة الطيبة هي التي تعتمد الأدلة وتهدف الإصلاح.

* * *

بصائر وأحكام

1- الشائعة التي تمس قادة الدين أو السياسة هي الأشد انتشارًا، والأفاكون يختارونها لتمرير مآربهم.

2- الحياة قائمة على الصلاح والإصلاح، وكل كلمة تثير الفتنة وتنشر الفساد كذب ولو كان ظاهره صدقًا.

ص: 65


1- وسائل الشيعة: ج12، ص252.

ص: 66

رحمة الله سبب النجاة

وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (14)

* * *

1- وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ

في الآية العاشرة من سورة النور، كما في هذه الآية أيضًا جاءت هذه الكلمة الصاعقة التي تنطوي على إنذار شديد. لماذا؟.

أولًا: هناك حُذِفَ جواب لولا، بينما أثبت هنا. ونستوحي من ذلك أن الجواب الثاني هو محتوى ما حذف في المرة الأولى. وقد تخلل بينهما ذلك الوضع الذي كان يقتضي تلك العاقبة السوءى، وهو العذاب العظيم. ويتمثل ذلك الوضع في السكوت عن تلك التهمة الشنيعة، التي تناولت أسرة النبي صلى الله عليه واله بما لها من تداعيات خطيرة.

ثانيًا: لا بد أن نعرف أن سنن الله في خلقه، تقتضي الكثير من العذاب لولا رحمته التي تتدخل فتعطل تلك السنن في كثير من الأحيان. قال الله سبحانه: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا

ص: 67

كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (1) .

بل إن ذنوب العباد قد تقتضي تدمير كل ما على الأرض. قال ربنا تعالى: وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ (2).

إذًا علينا أن نشكر الله سبحانه أبدًا على رحمته التي تفصل بيننا وبين عذابه الذي تقتضيه السنن الجارية في خلقه.

إن علينا ألاّ نغتر إذ لم يؤاخذنا الرب بعذابه، ولا نأمن مكر ربنا سبحانه، بل نتقيه ونستغفره ونشكره أبدًا.

2- لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ

نستفيد من الآية؛ أنهم أفاضوا في الحديث عن ذلك الإفك المبين وبدأوا يتناقلونه فيما بينهم، وكان جزاؤهم العذاب العظيم. لماذا العذاب، وماذا كان العذاب المحتمل؟.

أولًا: إنما استحقوا العذاب لأنهم اشتركوا في نشر شائعة كاذبة تمس القيادة الربانية. أو ليس النبي صلى الله عليه واله كان أمانًا لأمته، حين قال ربنا سبحانه: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (3).

ثم إن الإنسان مسؤول عن عقائده ألاّ تتعرض لوساوس الشيطان، وهو مسؤول عن سلوكه ألاّ يتبع فيه خطوات إبليس.

ص: 68


1- سورة الشورى، آية: 30.
2- سورة النحل، آية: 61.
3- سورة الأنفال، آية 33.

وهؤلاء تعرضت عقائدهم للهزة بتلك الشائعة التي انتشرت فيهم، وأفاضوا فيها.

ثانيًا: ربما كان العذاب، متمثلًا في القحط والسنين، أو تسلط الجبارين، أو الأمراض والأوبئة، أو السيول والزلازل.. فإنها محتملة، ولكن لعل العذاب الأشد هو تفرق الناس عن قيادتهم، وتسلط الطغاة عليهم.

* * *

بصائر وأحكام

1- سنن الله في خلقه تقتضي عقوبة المذنبين، لكن رحمته تحول دون ذلك.

2- الإنسان مسؤول عن عقائده ألاّ تعصف بها وساوس الشيطان، وعن سلوكه ألاّ يتبع خطوات الشيطان.

3- من أشد ألوان العذاب للمتمردين عن طاعة الله والرسول، تسلط الطغاة وفتنة الاختلاف.

ص: 69

ص: 70

حصائد اللسان

إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15)

* * *

1- إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ

ماهو التلقي باللسان، ولماذا يعاب المؤمن بأن يقول ما ليس له علم به؟.

أولًا: حينما يكون اللسان ترجمان القلب يقوم -آنئذٍ- بدوره الحق، أما إذا أصبح سكان القلب فإنه يقوم بدور سيء. وهكذا جاء عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، أنه قال:

(لِسَانُ الْعَاقِلِ وَرَاءَ قَلْبِهِ، وَقَلْبُ الْأَحْمَقِ وَرَاءَ لِسَانِهِ) (1) .

وهكذا لا يجوز للمؤمن أن يلغي دور عقله ويسترسل مع لسانه ويردد كالببغاء ما يقوله الآخرون. ولعل هذا هو معنى التلقي باللسان من دون أن يكون للعقل والفكر وقيم الوحي دور

ص: 71


1- نهج البلاغة، حكمة رقم: 40.

في تقييم الكلام الذي يردده.

ثانيًا: ومن هنا نعرف أن المجتمع المسلم مجتمع ناقد، وكل فرد فيه يتحمل مسؤولية ما يدور فيه من كلام، فإذا كان حقًا أذاعه وإلاّ منعه ورده.

ثالثًا: ولا يجوز للإنسان أن يقول بلسانه ما ليس له به علم، إنما المؤمن هوالذي ينطق بالحق الذي يعلم أو يسكت. قال رسول الله صلى الله عليه واله :

(رَحِمَ اللهُ عَبْدًا تَكَلَّمَ فَغَنِمَ، أَوْ سَكَتَ فَسَلِمَ..) (1) .

2- وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ

لماذا يستهين الناس بحصائد ألسنتهم؟.

أولًا: حينما منّ الله على البشر بالبيان، فقال سبحانه: الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الإِنسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (2).

فليس لكي يحرك لسانه يمنة ويسرة وبلا هدف، بل لكي ينتفع بلسانه في تعلم القرآن والعلوم المفيدة. ولكن البشر، وربما بسبب يُسر البيان، يستغل هذه النعمة العظيمة في بث همومه ووساوس قلبه.

رُويَ أنهُ(جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه واله فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله أَوْصِنِي. فَقَالَ صلى الله عليه واله : احْفَظْ لِسَانَكَ.

ص: 72


1- بحار الأنوار: ج74، ص180.
2- سورة الرحمن، آية: 1-4.

قَالَ: يَا رَسُولَ الله أَوْصِنِي.

قَالَ صلى الله عليه واله : احْفَظْ لِسَانَكَ.

قَالَ: يَا رَسُولَ الله أَوْصِنِي.

قَالَ صلى الله عليه واله : احْفَظْ لِسَانَكَ وَيْحَكَ وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ فِي النَّارِ إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ) (1) .

فاللسان مثل حصادة سريعة، تحصد إما الثواب وإما العقاب. وعشرات الأعمال الصالحة حصيدة اللسان، كما أن مثيلتها أو أكثر من سيء الأعمال مصائد اللسان.

ثانيًا: لو عرف الناس ما للذنوب التي ترتكبها ألسنتهم من آثار خطيرة على حياتهم، لودَّ الواحد منهم أن يكون ملجمًا.

إن العصبيات الجاهلية والتهم والغيبة، و..و..، إنها تمزق المجتمعات المتماسكة وتعرضها لخطر الانهيار. فهل يعلم الناس ذلك؟.

* * *

بصائر وأحكام

1- لا يجوز للإنسان إلغاء دور عقله في تقييم ما يقوله الآخرون.

2- اللسان حصادة كبيرة، تحصد إما الصالحات أو السيئات.

ص: 73


1- الأصول من الكافي، ج2، ص115.

ص: 74

مسؤولية المجتمع تجاه الشائعات

وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (16)

* * *

1- وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا

لماذا تكررت هذه البصيرة وبعبارات شتى في هذا السياق؟.

أولًا: إذا تأملناها نجد أنها ليست بصيرة واحدة، بل هي بصائر شتى. ففي البدء كان العتاب بسبب انعدام الثقة بين المسلمين، وأنه كان عليهم أن يحسنوا ظنهم بأنفسهم. وأن الأمة التي لا تصمد ثقتها بنفسها (ببعضها البعض أو بالقيادة) أمام شائعة، لهي أمة تستحق العذاب. قال الله سبحانه: لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (1).

ثم بيّن السياق الحد الفاصل بين الادعاء والحقيقة. قال الله سبحانه: لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ

ص: 75


1- سورة النور، آية: 12.

فَأُوْلَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمْ الْكَاذِبُونَ (1) .

وأنذرهم السياق بعدئذٍ بالعذاب الذي ينتظر مثل هؤلاء الذين شاركوا في بث الشائعة وأفاضوا فيه. قال الله سبحانه: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (2).

وبين السياق بصيرة مهمة، أنه لا يجوز أن يردد الإنسان أقوال الآخرين من دون علم، وأنه ليس هذا أمرًا هينًا، بل هو عند الله عظيم. قال الله سبحانه: إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (3).

أما هنا، فإن القرآن الحكيم أمر، وبنص لا يقبل التأويل، ضرورة المجاهرة برد الشائعة.

ثانيًا: إن كثيرًا من الإشاعات الباطلة تتلاشى عندما يحاصرها المجتمع الواعي، ويطالب المشتغلين بها بالبرهان ويقول لهم اسكتوا ما دمتم لا تملكون أدلة كافية وحقًا.

هذه المعالجة الجذرية لأعقد مشكلة اجتماعية، وهي مشكلة الشائعات، تحفظ وحدة الأمة، وهي بمثابة سور منيع لبنيانها المتماسك.

2- سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ

ص: 76


1- سورة النور، آية: 13.
2- سورة النور، آية: 14.
3- سورة النور، آية: 15.

في الآية (12) من سورة النور أمر المسلمين بأن يقولوا هذا إفك مبين، وهنا ذكرت بأنه بهتان عظيم. لماذا؟.

أولًا: لأن الإفك يشبه المؤامرة، فهو يتصل بالجانب السياسي، بينما البهتان يتصل بالجانب الأخلاقي. وكثيرًا ما يتورع البعض عن الأول، فيما لا يتورع عن الثاني، وعلينا أن نردعهم عنهما جميعًا.

ثانيًا: لعل الحديث هناك عن جانب الوضوح وأنه إفك مبين، وهنا الحديث عن جانب الخطورة وأن هذا البهتان عظيم. والله العالم.

* * *

بصائر وأحكام

* الإشاعات الباطلة تتلاشى عند محاصرتها من قبل المجتمع الواعي.

ص: 77

ص: 78

كذلك وعظنا ربنا

يَعِظُكُمْ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ (17)

* * *

1- يَعِظُكُمْ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً

إذا اعتبر المسلمون بمؤامرة الإفك، واكتشفوا ثغرات المجتمع النفسية والاجتماعية، وعرفوا العصابات المنافقة المندسة بينهم، فإنهم سوف يتحصنون من الوقوع في أمثالها. وربما لهذا ذكر السياق: إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنْ الإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (1).

ولكن كيف يتم ذلك؟.

أولًا: إن في الكائنات المخلوقة ثوابت ومتغيرات. فالأنظمة التي تسودها والتي نسميها بالسنن الإلهية، مثل قانون الجاذبية

ص: 79


1- سورة النور، آية: 11.

أنها ثوابت. أما الموجودات التي تتحكم فيها تلك الأنظمة فهي متغيرات.

فالجاذبية قد تكون في صخرة أو في جبل أو في كوكب، وهكذا..وكذلك الأنظمة التي تسود المجتمعات (سنن الله في الناس، أو قل القوانين الاجتماعية) إنها ثوابت. وأما الأشخاص التي تسودهم هذه الأنظمة فهم يتغيرون.

وعلينا دائمًا أن نكتشف من خلال الظواهر الاجتماعية تلك السنن التي تجري فيها والتي تتكرر في أشخاص آخرين، وهذه هي عبرة التاريخ. وقصة الإفك هي الأخرى جزء من تلك الأنظمة.

من هنا جاء في الحديث الشريف عن الإمام محمد الباقر عليه السلام، أنه قال:

(إِنَّ الْقُرْآنَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ، وَالْآيَةَ حَيَّةٌ لَا تَمُوتُ، فَلَوْ كَانَتِ الْآيَةُ إِذَا نَزَلَتْ فِي الْأَقْوَامِ مَاتُوا مَاتَتِ الْآيَةُ لَمَاتَ الْقُرْآنُ، وَلَكِنْ هِيَ جَارِيَةٌ فِي الْبَاقِينَ، كَمَا جَرَتْ فِي الْمَاضِينَ) (1) .

ثانيًا: وليس وعي عبرة التاريخ وحده كافيًا، وإنما الأهم التسلح بإرادة قوية للانتفاع بتلك العبرة، وإلا فما أكثر العبر وأقل المعتبر.

2- إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ

ما هي صلة الإيمان بالعبر التاريخية؟.

أولًا: الإيمان منظومة معرفية متكاملة. فليس المؤمن من يغلق قلبه دون آيات الله في كتابه وآياته في الآفاق، وإنما ذلك الكافر الذي يقول عنه ربنا سبحانه:

ص: 80


1- بحار الأنوار: ج35، ص403.

لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا (1) .

وهكذا المؤمن ينفتح ببصائره على التاريخ، فيمتص بوعيه دروسه عبرة عبرة، ويستخلص سنن الله الجارية فيه سنة سنة. أولم يقل ربنا سبحانه: سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً (2).

ثانيًا: الإيمان يشد عزائم الناس حتى يتغلبوا على ضعفهم وإهمالهم، وحتى يأخذوا الأمور بجدٍّ وحيوية، ولا يتهاونوا في سد الذرائع التي تنفذ من خلالها الأخطار على الأمة.

ومن هنا فإن صلة الإيمان بالاعتبار من قصص الغابرين ذات وجهين: علمية، وسلوكية. والله المستعان.

* * *

بصائر وأحكام

* في الخليقة ثوابت تتمثل في سنن الله الحاكمة عليها، ومتغيرات تتمثل في مصاديقها، وعلينا أن نبحث من خلال المصاديق عن تلك السنن الثابتة.

ص: 81


1- سورة الأعراف، آية: 179.
2- سورة الفتح، آية: 23.

ص: 82

من تجليات آيات الرب

وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18)

* * *

ماهي الآيات، وكيف بينها ربنا العليم الحكيم؟.

أولًا: الآية هي العلامة، والحقائق ذات سمات وعلامات. ومن الحقائق سنن الله في خلقه. وحقائقها تظهر من خلال حوادث التاريخ، أو من خلال الظواهر الاجتماعية التي تترى أمام أعيننا كل يوم، إلا أننا غافلون عنها.

ثانيًا: وعندما يذكِّرنا ربنا سبحانه من خلال الوحي بتلك الآيات، فنتأمل فيها وننفذ ببصائرنا إلى أغوارها حتى نعرفها، عندئذٍ تكون الآيات نافذة لأنها تخترق إلى ما ورائها. أرأيت كيف أن الألفاظ التي نتداولها، هل هي إلا جسر نصل من خلالها إلى المعاني؟ كذلك الآيات.

ثالثًا: إن لكل آية يهدينا بها الله إلى الحقائق جانبين:

1- جانبًا علميًّا، حيث نعرف سنن الله بها .

ص: 83

2- جانبًا سلوكيًّا، حيث ننظم حياتنا وفق تلك المعرفة . وآنئذٍ نصل إلى الحكمة . وهكذا كان من المناسب أن يذكرنا ربنا سبحانه باسميه؛ العليم الحكيم.

* * *

بصائر وأحكام

* لكل حقيقة نور يتجلى لنا عبر آياتها، والمؤمن يدرك بها الحقائق ثم ينظم سلوكه وفقها.

ص: 84

العذاب عقبى اشاعة الفاحشة

إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (19)

* * *

1- إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ

عاد السياق يذكرنا بإشاعة الفاحشة. لماذا، أولم يستوف الحديث عنها آنفًا؟

أولًا: لكل ذنب ظاهر يتمثل في السلوك، وباطن يتمثل في الحالة النفسية. فحب الفاحشة هو ذلك الجانب النفسي، وعلى المؤمنين أن يطهروا نفوسهم من حب إشاعة الفاحشة، وذلك بأن يكرهوا الفاحشة ويبغضوا من يذكرها.

ومن هنا فإن أدنى ما يفعله المؤمن عندما يواجه ما يخالف الدين، أن ينكره بقلبه وذلك أضعف الإيمان.

ص: 85

ثانيًا: إنّ من يحب إشاعة الفاحشة فهو لا ينكرها، وإذا شاعت شملته وشملت أحبته. فمن أحب مثلًا شيوع الزنا، فإنه معرض لارتكابه أو وقوع محارمه فيه. وهذا نوع من عذاب الدنيا الذي ينتظره.

إن مئة ألف من أصحاب السبت عذَّبهم الله في الدنيا -قبل الآخرة- لأن أربعين ألفًا منهم ارتكبوا الصيد الحرام في يوم السبت، أما الستون ألفًا منهم فلم يتناهوا عنه، فعمَّهم ربهم بالعذاب.

وهكذا فإن مجرد حب إشاعة الفاحشة حرام، سواءً كان بصورة مباشرة واضحة أم غير مباشرة. مثلًا؛ من أحب تورط سلطان يعارضه في قتل الناس حتى يفتضح ويسرع إلى السقوط، أو تمنى لو وقع معارضوه في أخطاء قاتلة أو حتى أحب لو أن الشخص الفلاني الذي يحسده يقع في خطأ فاضح.. إنهم جميعًا ربما انتظرهم العذاب في الدنيا، ومنه وقوعهم بأنفسهم في تلك المهالك التي تمنوها لغيرهم. والله العالم.

2- وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ

إن سنن الله التي تحيط بنا كثيرة، ولسنا نعلمها جميعًا. فعلينا ألاّ ننكرها بمجرد جهلنا بها، وإنما علينا أن نسلّم لما بيَّنه ربنا لنا. لماذا؟.

أولًا: لأن غرور العلم كان وراء الكثير من جهالات البشرية عبر التاريخ، وحسبما ذكره إمام الحكماء أميرالمؤمنين عليه السلام:(مَنْ ادَّعَى مِنْ الْعِلْمِ غَايَتُهُ، فَقَدْ أَظْهَرَ مِنْ جَهْلِهِ نِهَايتُهُ) (1).

ص: 86


1- غرر الحكم ودرر الكلم، ص46، حكمة رقم: 192.

وقال عليه السلام:

(غَايَةُ الْعَقلِ الاعتِرَافُ بِالجَهْلِ) (1) .

ولذلك فإن مواجهة غرور الذات بداية الدخول في رحاب المعرفة.

ثانيًا: وكلما اعترفنا بجهلنا بحثنا عن مصدر أمين للعلم. فمن أين نجده؟.

إنه ربنا سبحانه، وهو يوحي إلينا عبر كتابه، ويلهمنا عبر نور العقل، ويوفقنا له عند الاستعانة به والدعاء إليه.

* * *

بصائروأحكام

* حب الفواحش خطوة إليها، وحب إشاعتها حرام ويقتضي العذاب.

ص: 87


1- غرر الحكم ودرر الكلم، ص52، حكمة رقم: 394.

ص: 88

فضل الله حصن

وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (20)

* * *

ليس من السهل أن يتحرر البشر من مصائد إبليس، وإنما المرء بحاجة إلى توفيق من الرب سبحانه وفضل ورحمة.

والسؤال: لماذا -إذًا- يفضل الله قومًا على آخرين؟.

أولًا: مَن آمن بالله حقًا وبرسوله فإن الله يتفضل عليه برحمته ويعطيه كفلين.

قال الله تعالى: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً (1).

وقال الله سبحانه: وَأَقِمْ الصَّلاةَ طَرَفِي النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنْ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (2).

ص: 89


1- سورة النساء، آية: 31.
2- سورة هود، آية: 114.

ثانيًا: لأن اجتناب بعض الذنوب، مثل ذنوب القلب صعب. فإن الله سبحانه يتفضل على عباده بأن يعصمهم منها برأفته ورحمته. فمن وفق لذلك فلا يغتر بنفسه، ولا يترك التوكل على الله والاستعاذة به من شر نفسه والشيطان.

ويبدو أن جواب هؤلاء يأتي في الآية التالية: * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1).

* * *

بصائر وأحكام

* تحرر البشر من مصائد إبليس صعب مستصعب لا يناله إنسان إلا بفضل من الله ورحمة.

ص: 90


1- سورة النور، آية: 21.

لكي لانتبع خطوات الشيطان

* يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21)

* * *

1- * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ

كما أن سبيل الهدى يمر عبر مراحل، ابتداءً من النية الصادقة ومرورًا بالعمل الصالح وانتهاءً ببلوغ مرحلة اليقين؛ كذلك سبيل الغي فإنه يتسافل عبر دركات، كلما هبط الضال دركة استسهل الهبوط إلى أسوأ منها. كيف ذلك؟.

أولًا: لقد خلق الله الإنسان في أحسن تقويم، على فطرة التوحيد، وخلق الصدق، وسلامة السلوك.. فكيف يغويه إبليس؟.

ص: 91

إنه يضع أمامه خطوات، كلما اتبع خطوة منها استدرجه إلى أسوأ منها. ألا نجد كيف أغوى أبانا آدم عليه السلام وزوجته، كما قال الله سبحانه: فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنْ الْخَالِدِينَ (1).

وهكذا على الإنسان أن يتسلح بالوعي لكي لا يغره الشيطان، بل يتحداه منذ أول لحظة.

ثانيًا: وإنما يستطيع الإنسان تحدي غرور الشيطان وعدم اتباع خطواته التي تستدرجه إلى النار بالتفكر في العاقبة. فإن من يهوي من فوق جبل لا يستقر به المقام إلا في قعر الوادي.

كذلك الذي يقع في استدراج الشيطان يهوي إلى حيث الفحشاء والمنكر. وعلى الإنسان أن يكتشف مبكرًا غرور الشيطان، ويفكر لماذا يحب أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا؟ واذا انتشرت الفاحشة، أوَليس تعمّ كل أبناء المجتمع؟ ولماذا الإفك، ولماذا التهم الرخيصة؟.

إذا عرف الإنسان نهاية الطريق، يتصرف بحكمة، ونهاية طريق الشيطان النار، والعياذ بالله.

2- وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً

بادئ ذي بدء، يظن المرء أن بامكانه أن يتخلص من مصائد إبليس بسهولة، ولكن كلا؛ فمن دون توفيق الله سبحانه لا يزكى أحد أبدًا. كيف ذلك؟.

ص: 92


1- سورة الأعراف، آية: 20.

أولًا: إن الشيطان يجري من أحدنا مجرى الدم، وأنه يرانا من حيث لا نراه، وأنه يأتينا من أطرافنا ويستخدم كل أساليب الخداع والمنكر، وأنه يثير ما في نفوسنا من ركائز الجهل وشهوات الدنيا، وأنه قد يتمثل في شياطين الإنس من طغاة القوة ومترفي الثروة وشعراء الغرور.

فكيف يتسنى لنا أن نتخلص منه؟.

إنما بفضل الله المتمثل في وحيه؛ في كتابه الكريم وسنة نبيه صلى الله عليه واله وأهل بيته الأطهار عليهم السلام والانتماء إلى حزبه، وبالتالي الاستفادة من كل التعاليم والوصايا التي جاء بها دين الله. وكذلك استدرار رحمته عبر الدعاء إليه، والاستعاذة به، والتوكل عليه.

تصور أنك في حقل ألغام والعدو يلاحقك، والليل والظلام والإرهاق يحيط بك، فكيف تنجو من الهلاك من دون بذل أقصى الجهد واتباع خريطة النجاة والتسلح بالحذر الشديد؟.

ثانيًا: نظرة الإنسان السلبية إلى نفسه مسؤولة عن أكثر أخطائه. فليس الإنسان حيوانًا متطورًا، وإنما هو الذي حمل أمانة أشفقت منها السماوات والأرض والجبال الراسيات. ولذلك فإما هو نزيل نار لا رحمة فيها ولا نجاة منها، وإما ضيف جنات عدن في مقعد صدق عند مليك مقتدر. ولكي يصل إلى هذه الذروة، فهو بحاجة إلى قوة دفع هائلة تتمثل في التمسك بحبل الله.

إن لحظة الغرور والاعتقاد بأن شخصًا يمكنه الاعتماد على نفسه، هي بالذات لحظة النهاية.

3- وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ

ص: 93

لله سبحانه السلطان التام، والمشيئة الفعالة. فإليه يتأله المتحيرون، وبه يستعين المحتاجون. وأبرز حاجات البشر الهداية إلى السبيل القويم. والله هو الذي يهدي من يشاء، ويضل من يشاء، وهو الذي يزكي من يشاء. فما هي التزكية، وماذا علينا نحن المخلوقين أن نفعل؟.

أولًا: علينا أن نصل أنفسنا إلى حقيقة العبودية، ونتضرع إليه وحده غير مشركين به في دعائنا غيره. وهذه الضراعة هي المعراج إلى درجات السمو، ومنطلقها تزكية النفس.

إن النفس التي تصل إلى هذه المرحلة المتقدمة من التوحيد، هي التي تفوز -بإذن الله- إلى حيث التزكية.

فعلينا أن نجعل دعاءنا كالحريق الذي تحيط به ألسنة اللهب ويرجو النجاة بدعائه، أو كالغريق الذي تحتوشه أمواج المياه ولا يرجو غير ربه لخلاصه. هكذا أمرنا بالدعاء مثل الغريق. فقد جاء في الدعاء المأثور عن الإمام علي بن الحسين زين العابدين عليهما السلام، أنه قال

:(.. أَدْعُوكَ دُعَاءَ مَنِ اشْتَدَّتْ فَاقَتُهُ، وَقَلَّتْ حِيلَتُهُ، وَضَعُفَتْ قُوَّتُهُ، دُعَاءَ الْغَرِيقِ الْغَرِيبِ الْمُضْطَرِّ الَّذِي لَا يَجِدُ لِكَشْفِ مَا هُوَ فِيهِ إِلَّا أَنْتَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ) (1).

وروي فيما وعظ الله عز وجل به النبي عيسى عليه السلام، قال

:(يَا عِيسَى ادْعُنِي دُعَاءَ الْغَرِيقِ الحَزِينِ الَّذِي لَيْسَ لَهُ مُغِيثٌ) (2).

ولعل هذا هو معنى الضراعة حقًا، حيث يقول ربنا سبحانه: وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ

ص: 94


1- الأصول من الكافي، ج2، ص560.
2- روضة الكافي، ج8، ص138.

لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (1) .

ثانيًا: حيث إن الحديث كان عن حب إشاعة الفاحشة، فإن الذي يتناسب معه ذكره هو تطهير القلب بتزكيته عن الفواحش الباطنة، مثل الحقد والحسد والعصبية وغيرها. وهذا هو أصل التزكية.

والله سميع لما يقوله البشر من تهم كالإفك، وعليم بما في القلوب، وهو المستعان على أنفسنا.

* * *

بصائر وأحكام

* الشيطان يستدرج البشر بخطوات متسلسلة، وعلى الإنسان أن يتسلح بالتفكير في نهاية الطريق، ويتضرع إلى الله سبحانه أن يزكيه ويعيذه من كيد إبليس.

ص: 95


1- سورة الأعراف، آية: 94.

ص: 96

اعفُوا واصفحُوا

وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22)

* * *

1- وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ

ثلاث فئات اجتماعية يستحقون العطف والعطاء، سواءً كانوا يوافقونك المذهب أم لا، وهؤلاء يستثنون مما يفرق المجتمع المسلم؛ مثل حادثة الإفك التي عصفت بالمجتمع المدني، وفرقت وحدتهم لحين، لماذا الاستثناء؟.

أولًا: من أهداف المجتمع الإسلامي إقامة حكومة الصالحين، التي بشر بها ربنا سبحانه، حيث قال: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِي الصَّالِحُونَ (1).

وهدف الصالحين من الحكم نشر العدل وتنمية الفضيلة

ص: 97


1- سورة الأنبياء، آية: 105.

وإقامة الإحسان إلى الناس جميعًا. ومن هنا فإن على عباد الله الصالحين ألاّ يتوانوا في خدمة عموم الناس، وليس فئة خاصة منهم. وليس هدفهم أبدًا الاستيثار بخيرات الأرض من أجل أنفسهم.

وهكذا نجد أن النبي إبراهيم عليه السلام حينما دعا ربه أن يرزق من عباده من آمن بالله، استجاب الرب دعوته فيهم وفي غيرهم إلى حين. قال ربنا سبحانه: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنْ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (1).

ثانيًا: حينما تمزق الأمة فتنة عمياء، فعلى القيادة الربانية السعي وراء إعادة لحمتها، لكي لا يطمع فيها العدو المتربص من الخارج. ولعله لذلك جاء أمر القرآن بضرورة الإنفاق من قبل أولي الفضل والسعة على الطبقات المحرومة بعد حادثة الإفك.

وقد خص أولي القربى بينهم، لأنهم الحلقة الأقرب إلى الأسرة التي تدور آيات سورة النور حولها. فالأسرة الفاضلة هي التي يفيض منها الخير إلى محيطها، فإذا كان لديهم فضل (نفل، عفو، خير إضافي) من أرض أو متاع أو مال أو.. أو.. فلا يبخلون عنه لأقاربهم والمساكين والمهاجرين. أما إذا كانوا أهل سعة ومكنة، فالأمر أوضح.

2- وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ

بالرغم من أن العفو والغفران صفة حسنة للكل، إلا أن

ص: 98


1- سورة البقرة، آية: 126.

الأسر الفاضلة (المؤمنة والغنية) هم أولى بهما، لماذا؟ وما هي الصلة بين هذه الصفة وطلب المغفرة من الرب سبحانه؟.

أولًا: العفو والصفح والمغفرة والرحمة، وبالتالي أية صفة أخلاقية فاضلة منشؤها التعالي عن روح الانتقام والحقد والعداء، لأنها من الهوى الذي ينهى المؤمن نفسه عنه، ومن حب الذات والله سبحانه يؤدبنا بحبه وحب عباده.

ثانيًا: إن هناك صلة وثيقة بين عفو الله سبحانه والتعافي وبين الناس. فمن أحب عفو ربه، فعليه أن يعتمد منهج العفو عن الناس. فيما يراه ضياعًا لحقه.

ثالثًا: إن أسماء الله الحسنى هي المثل العليا، التي لو انعكست على نفس البشر لأصبحت حياتهم سعيدة. وهكذا علينا أن نتخلق بأخلاق الله تعالى. كما جاء في الحديث الشريف

:(تَخَلَّقُوا بِأَخْلَاقِ الله) (1).

* * *

بصائر وأحكام

1- هدف الصالحين من السلطة نشر العدل والإحسان إلى الناس جميعًا.

2- عندما تمزق الفتن صف الأمة على قيادتها إعادة لحمتها بالصفح وتأليف القلوب.

3- الأسماء الإلهية حينما تتجلى في سلوك المؤمنين تورثهم الفلاح في النشأتين.

ص: 99


1- بحارالأنوار، ج58، ص129.

ص: 100

كيف يزعزع القذف الأمن الاجتماعي

إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (23)

* * *

ما هذه اللعنة الماحقة؟ ولماذا؟.

أولًا: حينما يقذف شخص امرأة ذات ثلاث صفات، فهو قد اقترف لكل صفة ذنبًا.

فالصفة الأولى: هي أنها محصنة، ويبدو أن حصنها هو بيت الزوجية. والقذف هنا يهتك حصنًا اجتماعيًا ذات قيمة حضارية، وهو هتك ذو أطراف ثلاثة: فالمرأة وزوجها وأبناؤها كلهم سوف يلحقهم أذى القذف، بالإضافة إلى زعزعة استقرار الأسرة وأمنها، وهي من أمن المجتمع.

أوَلا يستحق القاذف الطرد من المجتمع ومن رحمة الرب؟.

أما الصفة الثانية: فإن الغفلة التي تعيشها هذه المرأة بسبب تسترها وابتعادها عن الخلافات الاجتماعية تجعل ظلمها أفحش،

ص: 101

لأنها من المفروض أن تكون في مأمن من أذى الظالم.

إنها في الوضع الاجتماعي تشبه المدني في الوضع العسكري، كيف لا يجوز أن يمس بأذى.

الصفة الثالثة والأخيرة: الإيمان، حيث إن المؤمنة التي لا يصل أذاها لأحد، كيف تقذف؟.

ثانيًا: واللعنة محور حديث البعض، حيث إن هناك من يتحرج منها بالنسبة إلى الظالم.

ولا ريب أن هذه الوسوسة هي من صنع الطغاة الذين أرادوا عبر التاريخ إسكات المعارضة، ألاّ يفكر هؤلاء المتحرجون من لعنة هؤلاء الظالمين. إنهم يشجعون بذلك على الظلم ويضيعون حق المظلومين، وعملهم هذا يسهم في نشر الفساد في الأرض.

ثالثًا: وهكذا يستحق مثل هؤلاء عذابًا عظيمًا.

هل هذا عذاب اللعنة الاجتماعية (حيث يطردون من رحاب المجتمع المسلم) أم عذاب الضمير، أم عذاب المرض النفسي والجسدي، أم عذاب النار؟.

يمكن أن يكون أي واحد منها، أو حتى جميعها، والله المستجار.

* * *

بصائر وأحكام

1- الإحصان والغفلة والإيمان ثلاث قيم إذا اتسمت بها

ص: 102

المرأة جعلت قذفها أشد حرمة.

2- اللعنة جزاء الظالمين، ومن يتحرج منها قد يساهم بذلك في الجريمة.

3- النهي عن المنكر درجات أضعفها الإنكار بالقلب وأوسطها الإنكار باللسان ولعل اللعنة تشملهما.

ص: 103

ص: 104

هكذا تشهد الجوارح!

يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24)

* * *

لأن الجريمة أنى كان نوعها، خلاف فطرة البشر، ومحكومة بوجدان البشر؛ فإن الإنسان لا يقدم عليها إلا بعد تبريرها والظن بأنه سيبقى آمنًا من عقابها. وهكذا جاءت الآية الكريمة صاعقة في وجه من يفكر بارتكابها. كيف؟.

أولًا: لأن أقرب الجوارح إلى القلب اللسان الذي ينطق عن الإنسان، فإذا انقلب اللسان فلم يعبر عن الكذب الذي يحاول المجرم إلقاءه إليه، بل عن الحق الذي يعكسه وجدان الإنسان. ولا تدري هل لأن اللسان يومئذٍ لا يعبر عن النفس الأمارة بالسوء، بل عن النفس اللوامة، أو لأنه أساسًا لا يعكس إلا إرادة الرب التي هي فوق إرادة القلب؟.

ثانيًا: أما الأيدي، وهي الجوارح التي يبطش بها الإنسان عادة وتقوم بالكثير من أفعاله، فهي التي لا تنطق في الدنيا ولكنها تأمر

ص: 105

اليوم للقضاء الفطري الحق، وكذلك الأرجل التي هي الأخرى أدوات الجريمة.

وهكذا لا يمكن لأحد أن يتهرب من العذاب العظيم.

* * *

بصائر وأحكام

* على الانسان أن يتمسك بالصدق ولا يدع فجوة بين الحق وبين ما يقوله أو يمارسه، لكي لا تشهد عليه جوارحه.

ص: 106

يومئذ يوفّيهم اللهُ دينهُم الحقّ

يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمْ اللَّهُ دِينَهُمْ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25)

* * *

يسمى الإسلام دينًا، ويوم القيامة يوم الدين، والجزاء دينًا.

ما هو الجامع بين معاني هذه الكلمات؟ وما هو جزاء هؤلاء الحق، وما هي العلاقة بينه وبين البصيرة المعرفية الأولى أن الله هو الحق المبين؟.

أولًا: إذا كان الجزاء هو الدين، فإن هذا الجزاء الحق يعتمد معايير سليمة، وإلاّ لم يكن حقًا. ويجمع دين الله الحنيف تلك المعايير (القيم الميزان الأحكام).

وهكذا الدين الإسلامي منظومة من الأحكام الثابتة التي على أساسها تتم مجازاة الناس؛ إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر.

أما يوم القيامة فهو يوم الجزاء، فهو يوم الدين.

ثانيًا: ميزان الجزاء يعكس تمامًا وبدقة متناهية سنن الله

ص: 107

سبحانه الحاكمة بإذنه تعالى على الكائنات.

إن ما تعرّفه علمنا من قوانين منطقية ورياضية وفيزيائية وكيمائية واقتصادية وغيرها مما يبحث عنها العلم في سائر حقوله، جزء بسيط من السنن التي قدرها الرب تعالى للكائنات التي خلقها. وتلك السنن (الأنظمة الكونية التي قدرها ويجريها الرب) تمثل -في الوقت ذاته- تجليًّا لأسماء الله. فالله مقدر ومدبر ومهيمن وقائم بالقسط، وكل هذه الأسماء الحسنى تتجلى في تلك الأنظمة (السنن) التي نجدها جارية وحاكمة في الكائنات من أصغر ذرة إلى أكبر مجرة.

إذًا؛ الله سبحانه وتعالى هو الحق، لأن له الأسماء الحسنى، ولأنه تتجلى أسماؤه في سننه التي قدرها ويدبرها لحظة بلحظة في كل شيء، وأنه حق مبين.

ثالثًا: يوم القيامة وحينما يصل كل إنسان إلى جزائه العادل، في ذلك اليوم تبلو السرائر وترتفع الغشاوة التي حجبت مشاعرنا هنا في الدنيا، فإذا بهؤلاء المجرمين الذين انتهكوا ستر الغافلات واتهموهن، إذا بهؤلاء الذي ظنوا بأن لا جزاء يطالهم، إنهم ليس فقط يواجهون الجزاء، بل يعلمون ما وراء ذلك الجزاء من أسماء الله الحسنى، وأنه هو الحق المبين.

* * *

بصائر وأحكام

1- القيم المثلى وميزان العقل وبصائر الوحي وأحكامه، هي

ص: 108

معايير للجزاء يوم الدين، وهي تعكس سنن الرب في خلقه، وتلك السنن هي تجليات لأسمائه الحسنى.

2- على الإنسان أن يعتمد معايير الدين الحق في منهج تفكيره وبرنامج حياته، لكي لا يضل عن الحق فيلقى جزاءً لم يكن يحسبه.

ص: 109

ص: 110

الطيبات للطيبين

الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُوْلَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26)

* * *

1- الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ

أكثر من تفسير مطروح لهذه الآية وما فيها من حقائق، فما هي؟.

أولًا: الكلمات التي يطلقها الناس على بعضهم لا تخضع لأهوائهم، بل لمعايير الحق؛ فلو اتهم أحدهم عالمًا بالجهل، أو بريئًا بالسرقة، أو رسولًا بالكذب، أو عفيفةً بالفاحشة.. فإن السب سوف يرجع إلى الساب. لماذا؟ لأن الله سبحانه هو الحق المبين، وهو قائم بالعدل، وهو يعيد كل شيء إلى أصله.

وهكذا الكلمات الخبيثة تليق بالخبيث ذكرًا أو أنثى.

ثانيًا: كما الكلمات كذلك الأشخاص، فإن الرجال الخبيثين

ص: 111

يختارون نساءً خبيثات، وكذلك العكس. أوَليس الطيور على أشكالها تقع؟ كذلك النفوس تميل إلى شاكلتها.

2- وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُوْلَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ

لماذا هذا التكرار في بيان هذه المفارقة، هل أنه فقط للتأكيد،أم وراءه أمر آخر؟.

قد يكون الأمر كذلك، ولكن هناك بصائر أخرى نستفيدها من الآيات:

أولًا: المؤمن عزيز بالله سبحانه، ويهتم بسمعته اهتمامًا كبيرًا، حتى إننا نجد أن من دعاء النبي إبراهيم عليه السلام هذه الكلمة الرائعة وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ (1)، ذلك أن المؤمن يسعى جاهدًا ليعيش نظيفًا بعيدًا عن أي شائبة أو شين.

من هنا يسعى الأعداء إيذاءه بالكلمة الخبيثة في محاولة لمنعه من ممارسة دوره الجهادي. ومن هنا كان من أعظم صفات حزب الله أنهم لا يخافون لومة لائم.

قال الله تعالى: يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ (2).

ثانيًا: وهكذا أعلن الرب عز وجل براءة المؤمنين من تلك التهم الرخيصة، وأضاف أن لهم -جزاء صبرهم على أذى التهم- مغفرةً ورزقًا كريمًا. فكأن شماتة الأعداء تحط ذنوبهم، وأذاهم

ص: 112


1- سورة الشعراء، آية: 84.
2- سورة المائدة، آية: 54.

يصبح للمؤمنين رزقًا فيه الكرامة، تلك الكرامة التي تقابل الإهانة التي حاول الأعداء النيل منها.

* * *

بصائر وأحكام

1- السبب يعود إلى من يستحقه، فإن لم يشخص الهدف ارتد على قائله.

2- لأن المؤمن عزيز بالله فإنه يحافظ أبدًا على سمعته ولكنه -مع ذلك- لا يأبه بلوم اللائمين.

3- لا بد أن يختار الطيب الطيبة، والطيبة تختار الطيب، لأن الله سبحانه خلقهما لبعضهما.

ص: 113

ص: 114

من آداب دخول البيوت

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27)

* * *

1- يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا

إذا تدبرنا في سياق آيات الذكر في سورة النور نجد أن الكتاب الحكيم، شرّع في تحصين الأسرة ببيان حرمة الزنا وحدّه، ثم بأحكام القذف وحدّه، وألحقه بحكم اللعان عند قذف الزوج لزوجته، وفصل الحديث بعدئذٍ ببيان حرمة الإفك، وهو الآن يحدثنا عن حريم البيت، فما هو هذا الترتيب، وما هو حدّ البيت كموقع مادي للأسرة؟.

أولًا: إذا انتشرت الفاحشة في المجتمع وانهارت قيمة التخصص، فهل ينفع استحكام أسوار الدور؟.

ص: 115

من هنا كان الحديث أولًا عن حرمة الزنا، الذي يهدم أساس الخصوصية في العلاقة الجنسية، وبعد ذلك جاء الحديث عن حصانة الأسرة ضد القذف (سواءً من خارج الأسرة أو من داخلها) لكي تبقى حرمة البيت في النفوس سليمة عن ألسنة العابثين.

وجاءت قصة الإفك وعبرتها لمواجهة المؤامرات السياسية التي تتخذ من الجنس وسيلة لزعزعة استقرار المجتمع. والآن حيث اكتملت أركان الأسرة القانونية، بيّن أدب أحكام البيوت وحرمة التسلل إليها، لتبقى الأسرة آمنة داخل حصن الزوجية.

ثانيًا: باستثناء بيت الإنسان نفسه، لا يجوز دخول أي بيت من دون استيناس وسلام. فما هو الفرق بين السلام والاستيناس؟.

ألف: الاستيناس (من مادة الأنس) هدفه تعريف الأسرة بوجود غريب يريد دخول البيت، وقد يكون رفع الصوت بالتكبير والتهليل، أو بدق الباب والجرس، أو بأي نوع آخر من الإخبار.

باء: بينما السلام -عادة يكون عند معرفة صاحب البيت بوجود شخص، فيهدف إلقاء السلام تعريف شخصية الطارق كما يهدف الاستيذان؛ لأن الذي يسلم ينتظر الجواب، فإن ردوا عليه وأذنوا له دخل.

ثالثًا: السلام هو شعار الإسلام، وهو يعكس روح السكينة والأمن والتسليم للنظام الحاكم.

والذي يسلم على أهل البيت، يبعث في نفوسهم دواعي

ص: 116

الاستقرار. لماذا؟.

لأن أي تلاقٍ بين اثنين ذات هيبة وزخم عصبي، ومع التحية والسلام سوف يستريح الطرف الثاني وتهدأ فورة أعصابه ويكون اللقاء بلا توتر عصبي إن شاء الله تعالى.

2- ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ

التذكر يعني استعادة المعلومة التي غفل عنها الشخص أو نسيها، فماذا تعني هنا؟.

أولًا: بعض الأحكام الشرعية هي واضحة للعقل، بحيث لا تحتاج معرفتها إلا إلى لفت نظر أو التذكرة، وهذا الحكم منها.

ثانيًا: إن النظام الاجتماعي القائم على أساس احترام الناس بعضهم بعضًا خير للجميع، لأنك اليوم زائر وغدًا مزور؛ فاذا التزمت بآداب العشرة فلم تفزع الناس، بل استأنست معهم؛ وما اقتحمت دورهم، بل سلمت أولًا، فإنك ستبقى آمنًا في بيتك وتعرف أنه لا يفزعك أحد ولا يقتحم عليك دارك.

ونحن اليوم، حيث انتشرت أمراض الأعصاب، نعرف مدى أهمية مثل هذه الوصايا التي تبعث السكينة في النفوس، وتجعل البيوت كهفًا للراحة وذات حرمة اجتماعية.

* * *

بصائر وأحكام

1- على المجتمع محاربة الفاحشة أولًا، ثم تحصين البيوت

ص: 117

بالأسوار والأنظمة.

2- السلام شعار الإسلام، ويعكس التسليم للأنظمة والأعراف المرعية.

3- لا يجوز اقتحام بيوت الناس من دون إذنهم، ومن الأدب الاستيناس أولًا ثم السلام ليعيش الجميع في هدوء بعيدًا عن الضوضاء وعن التوتر.

ص: 118

حرمة البيت ركن المسؤولية

فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَداً فَلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمْ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28)

* * *

1- فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَداً فَلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمْ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا

قد يكون البيت فارغًا فلا يجوز دخوله إلا بعد استيذان من أصحابه، وقد يكون شاغلًا بمن لا يأذن لدخوله، وفي كل هذه الحالات يجب احترام حق الناس. والسؤال: ما هي فوائد هذا الحكم؟.

أولًا: النظام الاجتماعي لن يستقر من دون إحترام الملكية الفردية، التي من أبعادها احترام ملكية حق التصرف في البيت. وهذا الحق هو الذي قد لا ينتبه إليه كثير من الناس، فإذا التزم الناس به فمن الأولى أنهم سوف يحترمون سائر الحقوق.

ص: 119

ثانيًا: المسؤولية التي لا بد أن يتبعها كل فرد فرد من أبناء المجتمع، تتجلى أول الأمر في مسؤولية رب البيت عن أسرته. وكل مسؤولية لا بد أن تكون بإزائها صلاحيات وحقوق. وهكذا إذا عرف الناس أنهم مسؤولون عن بيوتهم، وأنهم قد أوتوا من الصلاحية ما يكفي للقيام بهذه المسؤولية، فإنهم عادة سوف يستطيلون إلى مستواها، والاعتراف بحرمة البيت أحد أركان المسؤولية، حتى يكون رب البيت كما ملك في دولته.

2- هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ

ما هذه الزكاة التي نجدها هنا وفي الآية ما بعد التالية، والتي قرنت بالفلاح في قوله سبحانه: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (1).

أولًا: الزكاة هي الطهر، وحينما ينشر المسلم الزكاة، فعليه أن يبقى بعيدًا عن عوامل التلوث. وإذا كانت البيوت مفتوحة أمام الناس فقد يؤدي إلى ما لا تحمد عقباه، فقد يقع النظر إلى حيث يستدرج الفرد إلى الفساد.

ثانيًا: لأن للشيطان مكرًا خفيًا، فقد يتلوث الفرد حتى بعد صد الأبواب. من هنا حذر ربنا سبحانه وتعالى من أنه عليم بما تعمل.

* * *

بصائر واحكام

1- الملكية الفردية واحترام خصوصيات الأفراد، هي ركيزة

ص: 120


1- سورة الشمس، آية: 9.

النظام الاجتماعي ومحورها حرمة البيوت.

2- في مسؤولية الفرد عن أسرته أجلى صور المسؤولية، وإزاء كل مسؤولية صلاحية بقدرها.

3- على المسلم أن يستأذن قبل الدخول في بيوت الناس، وألاّ يتردد في الرجوع إذا لم يؤذن له، وأن يتجنب خائنة الأعين عند الاقتراب من البيوت.

ص: 121

ص: 122

المنافع هدف الأبنية العامة

لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (29)

* * *

حينما يشرّع الإسلام حكمًا، ينظر إلى أبعاده، ليكون قابلًا للتنفيذ. كيف؟.

أولًا: حينما يأمر الإسلام بالصوم يضعه عن المريض والمسافر، وحينما يأمر بالصلاة يشرّع صلاة الخوف في الحرب، ويأمر بقصر الصلاة في السفر، وحتى يأمر بذكر الله عند الضرورة في المضاجع.

وهنا حين نهى عن دخول البيوت من دون إذن أهلها، ذكر بأن هناك بيوتًا جلا عنها أهلها، أو هي أساسًا مبنية للناس جميعًا؛ مثل المنازل في الطرق الخارجية.

ثانيًا: الهدف من استخدام البيوت، المنافع المتوخاة منها؛ مثل الاستراحة فيها والتحصن بها مخافة العدو وما أشبه. ولكن

ص: 123

يجب أن يعرف العبد أن الرب محيط به علمًا، فلا يتجاوز حدّه في الانتفاع بالبيوت، وعدم استخدامها بغير أغراضها، وأيضًا لعدم إلحاق الضرر بها.

* * *

بصائر وأحكام

* هدف دخول البيوت غير المسكونة توخي المنافع، مثل الاستراحة وتوقّي الحرو البرد والعدو.

ص: 124

لكي يبقى المجتمع طاهراً

قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30)

* * *

لكي يبقى المجتمع نظيفًا من العلاقة الجنسية غير الشرعية (الزنا اللواط)، لا بد أن تُصد كل الأبواب التي قد تؤدي إليه؛ مثل النظر المريب، أو التبرج، أو اقتحام البيوت بلا استئذان، أو ما أشبه. لماذا هذا التشديد؟.

أولًا: بناء الأسرة صعب، ومهامه كبيرة، ووسوسة الشيطان وضغوط المعيشة وغيرها عقبات في سبيل إقامة الأسرة وتحمل مسؤولياتها، ولكن من جهة أخرى شهوة الجنس عارمة. وهكذا تتغلب هذه على تلك الصعاب، شريطة ألا تجد مجالًا لإشباعها إلا في إطار بناء الأسرة.

أما إذا استطاع الفتى والفتاة إشباع الشهوة الجنسية بسهولة من دون تحمل أعباء الأسرة، فإن ذلك ينتهي إلى الزهد فيها،

ص: 125

وبالتالي إلى زعزعة أهم بناء اجتماعي.

ثانيًا: النظر أول تواصل بين الجنسين، وإذا تحقق النظر الحرام اتصل بالتحدث ومن ثم بالعلاقة غير المشروعة.

ومن هنا سد الإسلام هذا الباب رأسًا واعتبر النظر سهمًا من سهام إبليس.

كما جاء في حديث شريف مروي عن أبي عبد الله الإمام جعفر بن محمد الصادق عليهما السلام، حيث قال:(النَّظَرُ سَهْمٌ مِنْ سِهَامِ إِبْلِيسَ مَسْمُومٌ وَكَمْ مِنْ نَظْرَةٍ أَوْرَثَتْ حَسْرَةً طَوِيلَةً) (1).

ولعل الآية تشير إلى ذلك، حيث جاء الحديث عن حفظ الفرج بعد تحريم النظر، وكأنه بتجنب النظر يحفظ الفرج.

وهناك احتمال آخر، أن المراد من حفظ الفرج ستره، فيكون المعنى: أن على المؤمن أن يغض نظره حتى لا يركز على الأجنبية، وعليه أيضًا أن يحفظ فرجه عن الناس.

ثالثًا: العين الخائنة التي توزع النظرات المريبة يمنة ويسارًا، كما الفم النهم الذي يبتلع ما يضر ولا ينفع شيئًا. فكما أن هذا الفم يملأ المعدة بالسموم، كذلك هذه العين تملأ القلب بالوساوس.

فأنى له أن يتذكر، وأنى له أن يستوعب حبًا خالصًا وودًا ساميًا؟.

ص: 126


1- بحار الأنوار: ج101، ص40.

إذا أردت قلبًا نظيفًا، فتجنب النظرات الخائنة. ومن أجل ذلك راقب ربك الذي هو خبير بما تصنع.

* * *

بصائر وأحكام

1- لأن مسؤولية الأسرة كبيرة، فإن الإسلام صد أبواب الشهوة إلاّ من باب النكاح.

2- النظر فاتحة العلاقة بين شخصين، ولا بد من اجتناب النظر المحرم، لأنه قد يورث حسرة طويلة.

3- يجب على المؤمنين غض النظر الذي قد يتوقف على تجنب مواطن الوقوع في النظر المحرم، ويجب عليه حفظ الفرج وستره عن الأعين، ويجب التحفظ على الفرج من الوقوع في الحرام.

ص: 127

ص: 128

المرأة والاثارات الجنسية

وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوْ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ مِنْ الرِّجَالِ أَوْ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)

* * *

1- وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ

لماذا القرآن الكريم بيّن حكم النساء منفصلًا عن حكم الرجال، بالرغم من قاعدة المشاركة في الأحكام؟.

ص: 129

أولًا: لأن أشد ما يتمايز الذكر والأنثى إنما هو في المسائل الجنسية، ولعل شخصًا يزعم بوجود فارق بينهما. كلا؛ المرأة عليها ألاّ تنظر إلى الرجال بريبة، كما أن عليها أن تصون فرجها عن الرجال وعن النظر حتى من قبل النساء.

ثانيًا: والغض لا يعني الغمض، بل عدم التركيز وعدم الريبة.

ثالثًا: ولقد استثنى الكتاب ما ظهر من الزينة. ويبدو من بقية الآية، أن الظاهر ليس سوى الوجه والكفين حسبما نذكره إن شاء الله لاحقًا. وهذا الاستثناء جعل حكم الحجاب مرنًا واقعيًا، مع أوامر الشريعة التي تعم الرجال والنساء من القيام بتسخير ما في الأرض لمصلحة البشر ومن العمل الصالح ومن الحج والصلاة وإقامة الشعائر وغيرها.

وما يظهر من الزينة مما على الحاجب والعين أو في اليد مثل الخاتم، أمر مشترك عادة بين الذكر والأنثى. فالعينان والخد والحاجبان وما أشبه من الزينة الظاهرة للمرأة، هي بعينها موجودة عند الرجل. وإذا كانت العين عند الفتاة ساحرة مما تغري الرجال، فقد تكون أيضًا جميلة عند الفتى مما تغري النساء.

ولذلك جاء في الحديث الشريف المروي عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام حين سئل:(مَا يَحِلُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يَرَى مِنَ الْمَرْأَةِ إِذَا لَمْ يَكُنْ مَحْرَمًا؟.

قَالَ عليه السلام: الْوَجْهُ وَالْكَفَّانِ وَالْقَدَمَانِ) (1).

ص: 130


1- الفروع من الكافي: ج5، ص521.

وروي عن أبي عبد الله عليه السلام،(فِي قَوْلِ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى: إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا ،

قَالَ عليه السلام: الزِّينَةُ الظَّاهِرَةُ الْكُحْلُ وَالْخَاتَم ) (1) .

رابعًا: إذا كان الخمار هو ما يوضع على الرأس ويسدل على طرفي الوجه، فإن حكم الله بجمعه حول الصدر بحيث يستر أيضًا الفتحة التي قد تبدو منها زينة الصدر وما فيه من النهدين، فإن الآية قد أوضحت كلما يجب ستره من مظاهر الزينة؛ مثل الشعر والصدر.

وباعتبار أن الثياب المعتادة عند الناس في كل زمان تستر الذراعين والرجلين وسائر أقسام الجسد، فإن الصورة تكتمل عندنا فيما يجب ستره من الرأس والشعر والصدغين وفتحة الصدر (الجيب) وسائر أبعاد الجسد؛ مثل الظهر والبطن والرجلين واليدين إلاّ بقدر الحاجة.

2- وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ

هذه الجملة من الأقارب يشكلون الحلقة الأولى للأسرة، فما الذي يدعو إلى جواز إبداء الزينة؟.

أولًا: كما أن المصلحة تقتضي إبعاد المرأة عن محيط الذكران لتنظيم العلاقة الجنسية وتحديدها الدقيق، كذلك المصحلة تقتضي

ص: 131


1- الفروع من الكافي: ج5، ص521.

إيجاد محيط عائلي للمرأة للتواصل مع الأقارب والتعاطي معهم في شؤون الحياة المختلفة وليكونوا أدوات وصل بينها وبين المجتمع الكبير، وهم الذين نسميهم بالمحارم.

وهكذا وسّع الإسلام إطار إبداء الزينة في إطار الأسرة (من الآباء والأبناء) باعتبار الدين الحنيف دين واقعي ينظر إلى كافة المصالح.

ثانيًا: الملاحظ وحدة التعبير في إبداء الزينة بين البعولة والآباء والأبناء، بالرغم من وجود حدود فاصلة بينهما. فالزوج يجوز له ما لا يجوز لغيره من المحارم، ولكن الحديث عنها لا يشمل المضاجعة، بل المعايشة التي تتم في الأسرة بين الرجال وحدهم أو بينهم وبين المحارم من النساء، وبالعكس بين النساء لوحدهن وبينهن وبين محارمهن من الرجال.

والتعايش هذا يجعل من الأسرة الكبيرة كما الأسرة الصغيرة محور اهتمام الإسلام، مما تقتضي المصحلة التعايش والتكامل والتعاون فيما بين أفرادها، وهذا سر يجب تفهمه ومعرفة أبعاد الحكمة فيه.

فكما لا يجوز التبرج، لا يجوز التزمت، لأن لكل من إبداء الزينة وإخفائها حكمة في الإسلام يجب الاهتمام بها.

3- أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوْ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ مِنْ الرِّجَالِ أَوْ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ

المحيط الأوسع للأسرة يتمثل في الذين يلتحقون بها من

ص: 132

الخدم والأطفال، فما هي حكمة ذكر هؤلاء؟.

أولًا: النساء اللاتي يترددن على الأسرة من صديقاتهن أو قريباتهن أو جاراتهن أو المختلطات بهن، إنهن وفي محيط البيت أو المكان الذين يجمعهن مع بعضهن، تبدي المرأة زينتها لهن. ويبدو أن معنى ذلك: أن المرأة تبدي زينتها في محيط مغلق، والله العالم.

ثانيًا: كانت الإماء يخدمن النساء ويتعايشن أيضًا معهن، وكانت المرأة تبدي زينتها لهن. وكذلك على قول البعض العبيد باعتبار ضرورة التعايش معهم في محيط الأسرة، والله العالم.

ثالثًا: في المجتمعات القديمة كانت تتواجد فئة البُلْه، وهم الذين لم تكن لديهم حاجة جنسية بسبب المرض أو الإخصاء، وكانوا يتداخلون مع العائلة، وكانت ضرورات التعايش تفرض عدم الاحتراز منهم من قبل المرأة. فتسهيلًا لأمر التعايش سمح الإسلام للمرأة إبداء زينتها لهم.

رابعًا: كان الأطفال الذين يعيشون في محيط الأسرة، هم بدورهم وبسبب عدم انفتاحهم على قضايا الجنس، كانوا يتداخلون في محيط البيت مع النساء، وسمح الإسلام للمرأة إبداء زينتها لهم.

خامسًا: عند التأمل في موارد جواز إبداء الزينة، هنا نجد أن المحور هو ضرورة التعايش مع عدم خوف الفتنة بسبب عدم وجود حاجة جنسية. ولعل الفقهاء عند دراسة معمقة لهذه الحكمة، يجدون مصاديق أخرى لها، خصوصًا عند التدبر في قوله سبحانه: غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ مِنْ الرِّجَالِ ، وكذلك قوله الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ ، والله العالم.

ص: 133

4- وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ .

ما هذا الضرب بالأرجل، ولماذا الأمر بالتوبة في خاتمة الآية؟.

أولًا: هناك من الزينة ما تخفى على الناس. وقد تدفع شهوة الإثارة عند المرأة بإظهارها، كما إذا هي قد لبست الأساور والأحجال، وبشدة ضربها للرجل على الأرض قد تثير الرجال بصوت زينتها.

ونستفيد من الآية: إن كل ما يثير الرجال من الزينة يجب عليها سترها؛ فمثلًا إذا كانت قد تعطرت فعليها ألاّ تثير الرجال به، وكذلك إذا لبست ما يستر ظاهر جسدها إلا أنه يبرز مواضع الزينة منه؛ مثل الصدر والخصر والسيقان، وكذلك إذا لبست الأزياء المثيرة.. والله العالم.

ثانيًا: إن جماح الشهوة الجنسية قد تعصف حتى بالمؤمنين الأتقياء، فإذا بالنظرة المريبة أو المنظر الفاتن أو الابتسامة المثيرة أو التفكه بالكلمة الصلفة.. وغيرها كثير، فاذا بها توقع المؤمن في المعصية. وهكذا كان لزامًا على المؤمنين الاستمرار في التوبة إلى الله طلبًا للفلاح.

وواضح أن الأمر يشمل المؤمنات، لقاعدة الاشتراك، والله المستعان.

* * *

بصائر وأحكام

1- لأن الدين نهج وسط بين التشدد والميوعة، فقد أمر بستر

ص: 134

الزينة إلا ما ظهر منها من الوجه والكفين، كما استثنى المحيط العائلي من الستر لمصالح في التواصل مع المجتمع عبر الأسرة (المحارم)، ومن تلك المصالح التعاون بين الناس على البر والتقوى. ومن النهج الوسطي السماح للطفل والتابعين غير أولي الإربة بالتواصل مع النساء محيط البيت.

2- لا فرق بين النساء والرجال في وجوب الغض (وعدم النظر ريبة) وفي وجوب حفظ الفروج.

3- لقد استثنى الكتاب ما ظهر من الزينة من الوجه والكفين (وفي بعض الروايات إضافة القدمين).

4- والخمار الذي يغطي الرأس ويسدل على الطرفين ثم يجمع تحت الذقن ليستر جيب الصدر، وهكذا تستر المؤمنة كل جسدها من الأجنبي.

5- أبناء الأسرة الذين ذكرهم القرآن، كما التابعون من الطفل وغير أولي الاربة من التابعين للأسرة (كالبله) هم أيضًا محور استثناء الكتاب من وجوب ستر الزينة، حيث نعرف أن سائر الناس كلهم يدخلون في إطار وجوب الستر.

6- لا يجوز أن تضرب المرأة برجلها الأرض، ليعلم ما تخفي من زينتها. ولعله يلحق به كل ما يثير الرجال.

ص: 135

ص: 136

النكاح سنة فطرية

وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (32)

* * *

1- وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ

النكاح سنة فطرية، ولكن القرآن يبين أحكامه التي تؤكد هذه السنة وتشذبها وتجعلها منسجمة مع سائر السنن والأحكام، ومن ذلك الأمر بالسعي للتزويج. كيف؟.

أولًا: بالرغم من أن المستفيد الأول من النكاح هما الزوجان، إلا أن للمجتمع نصيبًا في منافع الزواج، ومنها استقراره وضمان أمن الأسر فيه. وهكذا كان لزامًا عليه السعي وراء التزويج للأيامى المطلقات واللاتي مات عنهن أزواجهن أو فاتهن قطار الزواج لسبب أو آخر.

حقًا إن المجتمع الذي يرعى حال الحلقات الضعيفة فيه لجدير بالاحترام والتقدير.

ص: 137

ثانيًا: الإماء والعبيد في المجتمع الإسلامي كانوا أشبه شيء بالأجانب والمهاجرين واللاجئين وغيرهم في المجتمعات الحديثة، وهم أيضًا بحاجة إلى الزواج وتكوين الأسرة ومحاولة دمجهم بالمجتمع من خلال اختيار الصالحين منهم لمساعدتهم في الزواج.

وهذا -لعمري- يمثل منتهى الحكمة والرحمة في النظام القرآني. أما الحكمة، فإن مثل هؤلاء لو شملتهم رعاية المجتمع الإسلامي شجع أقرانهم باتباع نهجهم في الصلاح. وبالتالي سوف تبدأ عملية الاندماج بيسر، بينما إذا تركوا وشأنهم فإنهم سوف يشكلون مادة قلق دائم في المجتمع.

وأما الرحمة، فإن الإسلام دين رب العالمين الذي لا يفرق بين شعب وآخر، وإنما يعتبر أكرمهم عند الله أتقاهم، لا قومية معينة ولا شعب ولا جماعة.

2- إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ .

لماذا ذكر السياق بقدرة الله على الإغناء هنا، وما هي علاقة ذلك بالانكاح والتزويج؟.

أولًا: تبقى عقبة الفقر هي العقبة الكأداء أمام الزواج، وإذا كان الأمر يتعلق بغير الزوجين فالمشكلة أعقد، إذ قد يحجم الشخص عن تشجيع الزواج ويبرر ذلك بالقول: أنى لهؤلاء الأيامى أو المهاجرين من إدارة شؤونهم بعد الزواج، وربما أصبحوا عالة على غيرهم. كلا؛ إن الله يغنيهم عند فقرهم.

ثانيًا: كيف يغني الرب سبحانه الفقراء بعد الزواج؟.

الجواب: إن ربنا قادر على ما يشاء، ولكن الحكمة التالية قد

ص: 138

تكون جوابًا لعامة الناس:

إن القوة المحركة للاقتصاد الحاجة، وكلما كانت الحاجات أكثر إلحاحًا كانت أكثر فاعلية، والزواج وتكوين الأسرة هي -في النهاية- مسؤولية وإحساس عميق بالحاجة، لا أقل عند الزواج، مما يدفعه للعمل ويرزقه الله سبحانه. أوَلم يقولوا الحاجة أمّ الاختراع؟.

ثالثًا: والله واسع، وفضله يشمل الناس جميعًا، وهو عليم بمواقع الحاجة وكيفية قضائها وإبرامها.

* * *

بصائر وأحكام

1- الزواج ليس فقط حاجة شخصية لكل فرد، بل هو أيضًا مسؤولية اجتماعية لأنه يساهم في استقرار المجتمع وازدهاره.

2- من خلال انتخاب الصالحين من الطبقات الضعيفة (الأيامى- العبيد- اللاجئين) يساهم المجتمع في دمجهم معه ومن ثم تحويلهم إلى طاقة إيجابية.

3- تكوين الأسرة يحرك عجلة الاقتصاد، ولأنه يثير الحاجة الكامنة عند الرجال.

4- على المجتمع الإسلامي أن يساهم في ترويج الزواج وبناء الأسرة الفاضلة.

ص: 139

ص: 140

ثلاثة أحكام

وَلْيَسْتَعْفِفْ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33)

* * *

1- وَلْيَسْتَعْفِفْ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ

ثلاثة أحكام نستفيدها من هذه الكلمات، فما هي؟.

أولًا: إن على الإنسان أن يبحث عن وسائل العفة، فإذا كان أعزب فلا يختلط بالنساء ولا يشاهد الأفلام المثيرة، بل وأيضًا يصوم حتى يكبح جماح الشهوة.

وهكذا جاء في الحديث:(

يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ عَلَيْكُمْ بِالْبَاهِ فَإِنْ لَمْ

ص: 141

تَسْتَطِيعُوهُ فَعَلَيْكُمْ بِالصِّيَامِ فَإِنَّهُ وِجَاؤُهُ) (1).

ثانيًا: لا تتاح فرصة النكاح لكل إنسان، فقد يكون الفرد في سفر أو مشغولًا بدراسة صعبة أو مجاهدًا مطاردًا أو يمنعه الفقر أو لم يجد الكفؤ.. وعلى أي حال فإن النكاح (الزواج) غير مقدور له، فإنه يعمل جاهدًا من أجل الحصول على وسائل العفة.

ثالثًا: إن الله سبحانه هو الرزاق، فليكن سعي الإنسان عن طريق صحيح، ولا يجوز أن يبحث عن سبل ملتوية للحصول على المال. وهكذا كل حاجة أنى كانت ضرورية لا تسوِّغ للمؤمن أن يجترح السيئات أو يتجاوز حدود الشرع، بل عليه أن يُصبِّر نفسه حتى يتسنى له السبيل المشروع إلى الغنى، وهو فضل الله عليه.

2- وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ

لماذا جاء حكم الرقيق في كتاب ربنا الذي لا يتغير حسب الظروف، ألم ينقرض هذا الوضع بقانون تحرير العبيد الدولي، وما هو هذا الكتاب الذي يجب لمن يريده ويكون صالحًا؟؟ لنقرأ بعض البصائر في هذا الأمر:

أولًا: صحيح إن العبودية -بمفهومها العام- قد أصبحت من التاريخ الأسود، خصوصًا فيما يتصل بالواقعية الجاهلية الغربية

ص: 142


1- الفروع من الكافي، ج4، ص180.

التي استعبدت أحرار أفريقيا ليجعلهم أيدٍ عاملة في أمريكا بعد إبادة الهنود الحمر في تلك الأراضي المحتلة من قبل مجرمي إسبانيا المطرودين من بلادهم بقيادة كلمبوس.

بلى؛ صحيح ذلك إلا أن العبودية كجوهر لا تزال موجودة بأشكال أخرى. فلا تزال أفواج المهاجرين واللاجئين التي تحملهم القوارب وبطريقة غير قانونية إلى البلاد الغربية، ولا يزالون يُعاملون كالرقيق، حيث يحرمون مما جاء في ميثاق حقوق الإنسان.

أوَليس من أساسيات هذه الحقوق حرية السكن في الأرض، فلماذا يطردون، ولماذا لا يمنحون حق المواطنة، وما الفرق بين إنسان غريب جاء من أوربا واحتل أراضي أمريكا وطرد منها أهلها وآخر يأتي اليوم من إفريقيا مسالمًا هاربًا من الجوع والمرض؟.

ناهيك عن الشعوب التي تضطهد جملة واحدة، أليس هذا في جوهرها أسوأ من الرق حسب المفهوم القديم؟.

ثانيًا: حينما استوعبت الحضارة الإسلامية عشرات الشعوب، ودخل الملايين من البشر (مما يسمون اليوم بالأجانب) في الدول الإسلامية، كان لا بد من نظام لدمجهم في الحياة الجديدة. ونظام المكاتبة كان واحدًا من الأساليب الناجحة، حيث إن السيد الذي هو من أهل البلاد والمتكفل بالأجنبي كان عليه أن يربي اللاجئ وينمي طاقاته، فإذا وجد فيه خيرًا وعرف أنه قد أصبح كفئًا ومواطنًا من الدرجة الأولى، هنالك يكاتبه، حيث يفرض عليه مالًا معينًا، ويدعه يعمل حتى يؤدي ذلك المقدار ثم يشتري حريته ويصبح مواطنًا كسيده تمامًا، له ما لغيره من الحقوق والواجبات.

ثالثًا: قد لا يستطيع هذا المكاتب أن يؤدي ما عليه من المال،

ص: 143

فعلى الدولة أو المجتمع المسلم أوحتى سيده أن يدفع إليه من الحقوق الشرعية (مثل الزكوات) لمساعدته. وهذا المال، مال الله، ولا منة لأحد عليه.

رابعًا: لو أخذت الدول الحديثة بهذا النظام، وهو تأهيل اللاجئين والمهاجرين عبر فرض مقدار من المال عليهم بهدف تنشيطهم ومن ثم دمجهم في المجتمع، لكان في ذلك فوائد كبيرة للمجتمع، لأن اللاجئين والمهاجرين يملكون -عادة- روحًا وثابة تساهم في تطوير الحضارة.

3- وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ

ما هي علاقة هذه البصيرة بالسياق العام للسورة من تنظيم الأسرة، ولماذا ختمت الآية برجاء مغفرة الرب؟.

أولًا: الإماء، كما العبيد، كانوا ملحقين بالأسرة في النظام الاجتماعي، وكان لا بد من تنظيم العلاقة معهم وبيان ما خفي من أمورهم. فبالنسبة إلى العبيد كان لا بد من بيان الجانب الأساس وهو محاولة إصلاحهم ثم بيان ما ينبغي أن يعمل به، وهو دمجهم في الحياة الاجتماعية.

وأما بالنسبة إلى الإماء فإن نقطة الضعف العامة كانت استغلالهن جنسيًا، الذي لا يزال مع الأسف مشهودًا في بعض البلاد مع الخادمات أو الفقيرات أو ما أشبه.

ثانيًا: ليس مفهوم الإكراه محدودًا بالاغتصاب أو الضغط على الأمة بأن تمارس الجنس لمصلحة سيدها أو سيدتها، بل الإكراه

ص: 144

قد يعني دفع الأمة إلى هذا الطريق الملتوي عبر حرمانها من حقوقها أو عدم تربيتها على مفاهيم الدين في النظام الاجتماعي الجديد أو حرمانها من الزواج عندما تكون محتاجة إليه، وهكذا..

ثالثًا: لا بد من التأمل في قوله سبحانه: إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً ، والذي أستفيده من الآية الكريمة؛ أن الفتاة -أنى كان جنسها- عفيفة بفطرتها، تريد صون نفسها من عبث المنحطين، وإنما تقع في الفاحشة بسبب إكراه المحيط، إما بتجويعها أومنعها من الزواج أو حتى اغتصابها.

وأنى كان فإن الفتاة لا تقع في فساد الجنس إلا بسبب المحيط، ولعله لذلك فتح الله لها باب التوبة حيث جعلها تطمع في غفران الرب ورحمته بعد الإكراه، والله العالم.

* * *

بصائر وأحكام

1- إصلاح العبيد (وكل ملحق بالأسرة) يكون بمكاتبتهم وتفعيل طاقاتهم، وإصلاح الإماء يكون بتزويجهن وعدم اتخاذهن سلعة جنسية.

2- الفتاة -أنى كانت- تعتز بنفسها، ولا تريد أن تكون سلعة جنسية، إلا أن المحيط قد يجبرها على ذلك.

3- على المسلم أن يتعفف -إن لم يتزوج- بإقصاء ما يثير فيه الجنس، وبالصيام فإن الصوم وجاء.

4- ليكن سعي المسلم نحو الرزق عن طريق حلال، الذي بالرغم من صعوبته إلا أنه ممكن.

ص: 145

5- على المجتمعات أن تستوعب اللاجئين والمهاجرين بإعدادهم تربويًّا واقتصاديًّا للمواطنة التامة تمهيدًا لدمجهم في المجتمع.

ص: 146

آيات القرآن آفاق المعرفة

وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلاً مِنْ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (34)

* * *

تكررت في هذه السورة هذه الكلمات المضيئات التي ذكرت بآيات الله وما فيها من البيان والمثل والموعظة، لماذا؟.

أولًا: عند افتتاح السورة ذكَّرنا الرب بتلك الآيات وأحقيتها بجملة من البصائر التي اتصلت بالأسرة وسورها، وهنا ذكرتنا بالأسرة الفاضلة التي تمثلت في بيت النبوة حيث مشكاة نور الوحي. وفي الآية (45) بعد اثنتي عشرة آية حيث ذكرتنا ما بعدها من الآيات بالمجتمع الإيماني المتمايز عن المجتمع المنافق، وكأن الأسرة هي لبنة في بنيان المجتمع؛ إن صلحت صلح، وإن فسدت فسد.

ثانيًا: ليس القرآن كسائر الكتب يقرأ ظاهره فحسب، بل ينبغي أن نتدبر فيما وراء الظاهر من الحقائق، لأن ما فيه آيات مبينات، وعلينا أن نستنبط منها الأحكام والمعارف، وبالتالي أن

ص: 147

نجعلها -عبر التدبر- مفاتح للعلوم ونوافذ إلى حقائق الخلق.

ثالثًا: وفي القرآن أمثلة للقرون الخالية، كيف عاشوا، وبماذا عاشوا، وكيف انقرضوا، ولماذا.. والمهم عند دراسة تلك الأمم وعي عبرها، وفهم دروس حياتها، وتلك السنن التي جرت عليهم وسوف تجري على أمثالهم.

رابعًا: وليس الهدف من دراسة التاريخ فهم عبره فقط، وإنما تطبيقها والاتعاظ بها، وإنما يتعظ بالعبر من أوتي روح التقوى، والله المستعان.

* * *

بصائر وأحكام

* آيات القرآن مبيّنات تفتح أمامنا آفاق المعرفة، وعلينا أن نتعرف بها سنن الحياة لنتعظ بها ونزداد تقوى.

ص: 148

اللّه نورُ السماوات والأرض

* اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (35)

* * *

1- * اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ

حينما وصف اللغويون النور، قالوا إنه:(ظاهر بنفسه ومظهر لغيره). فكيف وصف القرآن رب العزة بنور السماوات؟.

أولًا: لم يتم وصف الرب بأنه نور، حيث لم يقل اللَّهُ نُورُ ، بل وصف بأنه نور السماوات والأرض، فهو الذي ابتدعهما وخلقهما وأضاءهما، فهو نور النور ومنور النور.

ص: 149

ثانيًا: عند الحديث عن الرب لا يجوز أن نفكر في معدن العظمة، حيث الذات وحيث الاسم المكنون الذي لم يخرج منه إلا إليه، لأن عقولنا قاصرة ليس فقط عن معرفة ذاته، بل حتى عن معرفة الكثير من أسمائه، بل وعن معرفة مخلوقاته إلا بقدر ما يفيض ربنا علينا من العلم.

ثالثًا: إن كل شيء مخلوق هو آية خلقه، ودليل العقول إلى أسمائه، وهو الذي جعلها كذلك وأعطى خلقه القدرة على معرفة ذلك بإذنه. وقد جاء في دعاء الصباح لأمير المؤمنين عليه السلام

:(يَا مَنْ دَلَّ عَلَى ذَاتِهِ بِذَاتِهِ وَتَنَزَّهَ عَنْ مُجَانَسَةِ مَخْلُوقَاتِهِ وَجَلَّ عَنْ مُلَائَمَةِ كَيْفِيَّاتِه) (1).

وفي المناجات الشعبانية تقرأ

:(وَأَنِرْ أَبْصَارَ قُلُوبِنَا بِضِيَاءِ نَظَرِهَا إِلَيْكَ حَتَّى تَخْرِقَ أَبْصَارُ الْقُلُوبِ حُجُبَ النُّورِ فَتَصِلَ إِلَى مَعْدِنِ الْعَظَمَةِ وَتَصِيرَ أَرْوَاحُنَا مُعَلَّقَةً بِعِزِّ قُدْسِكَ) (2).

رابعًا: إن الله الذي يفيض علينا لحظة بلحظة نور الوجود ونور 52القدرة ونور العلم، إنه إذًا نور السماوات والأرض. وهكذا نعرف أن الخلق لا ولن يستغني في وجوده وبقائه عن الرب المنان. وهكذا جاء في الدعاء المأثور

:(أَعُوذُ بِنُورِ وَجْهِكَ الَّذِي أَشْرَقَتْ لَهُ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَكُشِفَتْ بِهِ الظُّلْمَةُ وَصَلُحَ عَلَيْهِ أَمْرُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ مِنْ أَنْ يَحُلَّ عَلَيَّ غَضَبُكَ أَوْ يَنْزِلَ بِي سَخَطُك) (3).

خامسًا: إن أول واجب علينا لدراسة المعارف الالهية أن

ص: 150


1- مفاتيح الجنان، دعاء الصباح.
2- بحار الأنوار: ج91، ص98.
3- بحار الأنوار : ج83، ص211.

نرفع مستوانا العلمي إلى منهج معرفة الشيء بآياته وأسمائه، وأن نفرق جذريًا بين منهج معرفة الخالق عن منهج معرفة المخلوق، وأن نقدس ربنا سبحانه عن القياس بمخلوقاته.

وقد جاء في دعاء الإمام الحسين عليه السلام في يوم عرفة

:(إِلَهِي تَرَدُّدِي فِي الْآثَارِ يُوجِبُ بُعْدَ الْمَزَارِ فَاجْمَعْنِي عَلَيْكَ بِخِدْمَةٍ تُوصِلُنِي إِلَيْكَ. كَيْفَ يُسْتَدَلُّ عَلَيْكَ بِمَا هُوَ فِي وُجُودِهِ مُفْتَقِرٌ إِلَيْكَ؟. أَ يَكُونُ لِغَيْرِكَ مِنَ الظُّهُورِ مَا لَيْسَ لَكَ حَتَّى يَكُونَ هُوَ المُظْهِرَ لَكَ؟. مَتَى غِبْتَ حَتَّى تَحْتَاجَ إِلَى دَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَيْكَ؟ وَمَتَى بَعُدْتَ حَتَّى تَكُونَ الْآثَارُ هِيَ الَّتِي تُوصِلُ إِلَيْكَ؟. عَمِيَتْ عَيْنٌ لَا تَرَاكَ عَلَيْهَا رَقِيبًا وَخَسِرَتْ صَفْقَةُ عَبْدٍ لَمْ تَجْعَلْ لَهُ مِنْ حُبِّكَ نَصِيبا) (1).

إن هذا المستوى الرفيع من عرفان الرب بحاجة إلى عروج روحي عند الفرد وتحول عقلي عظيم، والله المستعان.

2- مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ

في بيان مفصل يضرب ربنا مثلًا رائعًا لنوره البهي، الذي أشرق السماوات والأرض. فما هو ظاهر هذا المثل، وما هو تأويله الباطن؟.

أولًا: المشكاة التي كانت تضيء الدرب وساحة البيت (شق في الحائط) أول مفردات المثل القرآني.

والنور المنبعث من المشكاة ليس منها، بل من المصباح. وأما

ص: 151


1- مفاتيح الجنان، دعاء الإمام الحسين عليه السلام في يوم عرفة.

المصباح فهو ذلك الجزء المتوهج الذي يضيء، ولكن المصباح بحاجة إلى زجاجة تحفظه من الريح أن تطفئه، وكذلك أنه بحاجة إلى زيت يمده بالوقود. وكلما كان الزجاج أصفى والزيت أنقى، يكون الضياء أبهى. وهكذا وصف ربنا الزجاج كأنه كوكب دري، ووصف الزيت أنه متخذ من شجرة في مرتفع؛ فلا شرقية تحرم من ضياء الشمس عند المغيب، ولا غربية تحرم منه عند الشروق. ومن الصفاء يكون بحيث يكاد زيته يضيء ولو لم تمسسه نار.

ثانيًا: ما هو تأويل هذا المثل؟.

يبدو إن المشكاة هي المحل الذي ينتشر منه نور، وأظهر تأويل له يتمثل في قلب النبي صلى الله عليه واله ، وأفئدة من أهل البيت الذين أذهب الله عنهم رجس الجهل وطهرهم تطهيرًا، وكذلك أفئدة العلماء بالله الذين اتبعوهم. لماذا؟.

لأن نور الوحي هو مثل نور الله سبحانه. قال الله سبحانه: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (45) وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً (1).

أما المصباح فهو الوحي الذي عبّر القرآن عنه بالضياء والنور، بيد أن المصباح بحاجة إلى زجاجة تحميه، والزجاجة هو النبي والإمام علي وأهل بيت الرسالة الذين حموا الرسالة بما أوتوا من قوة.

أما الزيت الذي اتقد بنور الوحي، فهو ذلك القلب الذي قال عنه الرب: وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (2).

ص: 152


1- سورة الأحزاب، آية: 45-46.
2- سورة الشعراء، آية: 219.

وجاء في دعاء الصباح،

(صَلِّ اللَّهُمَّ عَلَى الدَّلِيلِ إِلَيْكَ فِي اللَّيْلِ الْأَلْيَلِ وَالْمَاسِكِ مِنْ أَسْبَابِكَ بِحَبْلِ الشَّرَفِ الْأَطْوَلِ وَ النَّاصِعِ الْحَسَبِ فِي ذِرْوَةِ الْكَاهِلِ الْأَعْبَلِ وَالثَّابِتِ الْقَدَمِ عَلَى زَحَالِيفِهَا فِي الزَّمَنِ الْأَوَّل) (1).

إن ذلك النسب الشريف هو كما الزيت المستخرج من شجرة لا شرقية ولا غربية، وذلك القلب الطاهر كان كما الزيت الذي يكاد يضيء ولو لم تمسسه نار.

إن الله سبحانه قد اختار لرسالاته أطهر خلقه، وفي آية كريمة قال سبحانه: إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (2).

ثالثًا: وإذا أردنا أن نتمثل هدى رسول الله وأهل بيته، فإن علينا أن نقتدي بهم في كل تلك المراحل. أما المشكاة، فعلينا أن نطهر قلوبنا وأسرنا وبيوتنا من كل دنس، حتى تصبح هذه البيوت مشكاة لمصباح الوحي.

كما يجب أن نحمي الوحي من لوث الشرك والشك ومن عواصف الشهوات والحميات ومن طغاة الأرض وشياطينها الذين يبثون ثقافات الجاهلية.

ومن جهة أخرى علينا أن نجعل قلوبنا طاهرة عن الفواحش الباطنية؛ مثل الحسد والحقد والعصبيات، وكلما يمنع من نفاذ نور الوحي إلينا.

ص: 153


1- مفاتيح الجنان، دعاء الصباح لأميرالمؤمنين عليه السلام.
2- سورة الأحزاب، آية: 33.

وفيما يلي من الآيات المزيد من تفسير وتأويل هذه الكلمات المضيئة إن شاء الله تعالى.

3- نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ

أي نور يضاف إلى نور الوحي، وماذا يعني هداية الله لنوره من يشاء؟.

أولًا: نور العقل الذي أودعه الرب في قلب عباده، إنه كما الزيت النقي الذي يتقد حينما تمسسه نار. وإذا تأملت علمت أن في الزيت نارًا خفيّة تتقد بالنار الظاهرة، ولولا تلك النار (قابلية الاشتعال) لكانت كالرماد. كذلك العقل البشري فيه قابلية الإضاءة بعد أن يستنير بنور الوحي.

وهكذا نقرأ في كلمة الإمام علي عليه السلام حول الوحي الذي يبشر به الأنبياء عليهم السلام

:(لِيَسْتَأْدُوهُمْ مِيثَاقَ فِطْرَتِهِ، وَيُذَكِّرُوهُمْ مَنْسِيَّ نِعْمَتِهِ، وَيَحْتَجُّوا عَلَيْهِمْ بِالتَّبْلِيغِ وَيُثِيرُوا لَهُمْ دَفَائِنَ الْعُقُولِ) (1).

وهكذا العقول المدفونة في ركام الغفلة والأساطير يثيرها الوحي، فإذا بنور الوحي يضاف على نور العقل، وهما ينبعان من مشكاة واحدة. وقد جاء في وصية الإمام موسى الكاظم عليه السلام لهشام، قال

:(يَا هِشَامُ إِنَّ لله عَلَى النَّاسِ حُجَّتَيْنِ؛ حُجَّةً ظَاهِرَةً، وَحُجَّةً بَاطِنَةً. فَأَمَّا الظَّاهِرَةُ فَالرُّسُلُ وَالْأَنْبِيَاءُ وَ الْأَئِمَّةُ عليهم السلام وَأَمَّا الْبَاطِنَةُ فَالْعُقُولُ) (2).

ص: 154


1- نهج البلاغة، خطبة رقم: 1.
2- بحار الأنوار: ج1، ص137.

ثانيًا: وهكذا يهدي الله من عباده لنوره من يشاء سبحانه، ومن يشاء يضلله. فالوحي والعقل ليسا بالضرورة ينتجان الهدى للإنسان، إنما الهداية من الله سبحانه مباشرة، وعلى الإنسان أن يكرر أبدًا هذا الدعاء:(

اللَّهُمَّ اهْدِنِي مِنْ عِنْدِكَ، وَأَفِضْ عَلَيَّ مِنْ فَضْلِكَ، وَانْشُرْ عَلَيَّ مِنْ رَحْمَتِكَ، وَأَنْزِلْ عَلَيَّ مِنْ بَرَكَاتِك) (1).

وقد قال ربنا سبحانه: مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي (2).

ثالثًا: ويضرب الله هذه الأمثال التي تقرب الحقائق لهم وتفتح لهم نافذة على غيب علمه من خلال الأمثال. وإذا تأملنا في كل مثل، فلعل ربنا يهدينا إلى ما وراءه من الحقيقة. فإذا أردت أن تعرف كيف ينير الرب السماوات والأرض، فتأمل في مشكاة فيها مصباح يتقد بزيت صافٍ، وفي قلب فيه عقل يتقد بنور الوحي، وببيت يضيئه ذكر الله ويسمو أهله بتعاليم الله.

* * *

بصائر وأحكام

1- وصف الكتاب الرب بأنه نور السماوات، فهو الذي أعطاهما الخلق والهدى، وهو الذي أمسكهما بيد قدرته.

2- لا يجوز أن نتحدث عند الحديث عن الرب عن ذاته سبحانه، لأن عقولنا قاصرة عن التسامي إليه.

3- وكل شيء إنما هو آية خلقه ودليل العقل إلى معرفته.

ص: 155


1- بحار الأنوار: ج83، ص19.
2- سورة الكهف، آية: 17.

4- علينا أن نسموا بمستوانا العلمي إلى حيث نستدل بالآيات إلى الحقائق، ونميز بين منهج معرفة المخلوق ومنهج معرفة الخالق.

5- ومشكاة النور قلب النبي صلى الله عليه واله وأفئدة أهل البيت عليهم السلام، وينتشر منها ضياء الوحي. والنبي وأهل بيته والذين اتبعوهم بإحسان هم كالزجاجة، كانوا حماية الوحي.

6- ولكي نقتدي بهم نجعل القلب طاهرًا من الغل، وبيوتنا نظيفة من الفواحش والإثم، لنصبح مشكاة نور الوحي.

7- ثم نحمي الوحي من رواسب الشرك والشك وعواصف الشهوات والحميات الجاهلية، ومن طغاة السلطة والثروة، ومن شياطين الثقافة الكافرة.

8- وكما في الزيت نار خفية، كذلك في القلب نور خفي. وكما النار الظاهرة تستخرج نار الزيت، كذلك نور الوحي يثير نور العقل. وإذا كان الوحي حجة الله الظاهرة، فإن العقل حجته الباطنة.

9- ومن الله الهدى، وعلى الإنسان أن يلجأ إليه ليرزقه إياه.

10- على المسلم أن يسعى جاهدًا ليجعل قلبه نظيفًا من الحسد والحقد والصفات الرذيلة، ويجعل بيته نظيفًا من لوث الذنوب، كالغيبة والتهمة والغناء والمحرمات.

ص: 156

بيوت النور

فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ (36)

* * *

1- فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ

ما هي صلة هذه الآية بما جاء في السابقة؟.

أولًا: تلك المشكاة التي يتقد فيها مصباح نور الله قد تتجلى في تلك البيوت التي أذن الله لها أن ترفع، فهي التي توفر لمن فيها كهفًا إيمانيًا آمنًا من فتن المجتمع المحيط وضغوطه. هناك يرفع الأذان في مواقيت الصلاة، وتقام الصلوات في أوقاتها، وتتلى آيات الكتاب، ويتواصى الآباء والأبناء على تعاهد أحكام الشرع. وهكذا البيوت تصبح مشكاة لمصباح الوحي وما فيه من أنوار المعرفة.

ثانيًا: إن أهم ما يتميز به المؤمن هو ذكر الله؛ ذكر الله عند المصيبة للصبر عليها، وعند الطاعة لتعاهدها، وعند المعصية لتجنبها، وبالتالي ذكر الله سبحانه عند النعمة لشكرها.

ص: 157

ثالثًا: أسماء الله سبحانه صفاته، فهو الله الواحد الأحد الصمد، الفعال لما يشاء، غياث المستغيثين.

وهكذا سائر أسمائه الحسنى التي يدعوه بها الصالحون من عباد الله، وهذه الأسماء هي -بالتالي- مفاتيح معارف الدين وأبواب علوم الحق وسبل الوصول إلى الحقائق. وربما لذلك جاء في الآية الكريمة: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ (1)، فأهل الذكر هم أهل العلم حقًا.

وقال الله سبحانه وتعالى: أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ (2).

ألا ترى كيف يتصل العلم الإلهي بالقنوت آناء الليل والحذر من الآخرة ورجاء رحمة الله؟.

2- يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ

لماذا التسبيح عند الغداة وفي وقت الأصيل؟.

أولًا: لأن البشر يتفاعل من الطبيعة، فطورًا: يرهب منها ويدعوه ذلك إلى التسليم لها، وطورًا: يرغب فيها ويدعوه طمعه إلى الخضوع لها. وثالثًا: يعجب به فيدعوه إلى الانجذاب إليها، لذلك تراه بحاجة إلى التسبيح ليعرف أنه عبد الله تعالى وليس عبد الطبيعة، بل إن الرب قد سخر له ما في الأرض جميعًا.

وهكذا يسبح لله عند اختلاف الليل والنهار حينما تشرق

ص: 158


1- سورة النحل، آية: 43-44.
2- سورة الزمر، آية: 9.

الشمس ويتنفس الصباح على الطبيعة وعندما تغيب فيجلجل الليل.

ثانيًا: إن الطبيعة هي جزء منا وليست كلنا، بل نحن مخلوقون بنفحة من الروح. وهكذا علينا أن نتكامل ونتسامى إلى أفق الروح، لا أن نهبط ونتسافل إلى حيث الطبيعة وحدها.

ثالثًا: إن في الطبيعة آيات الرب، ومن يسبح لله دائمًا يجعل الحياة مدرسة له ومعراجًا إلى معرفة ربه والتقرب إليه، بينما الذين ينظرون إلى الطبيعة مجردة عن أسماء الله الحسنى إنهم محجوبون عن ربهم وبهاء أسمائه وجميل صفاته، وبالتالي يعيشون في ظلمات بعضها فوق بعض.

رابعًا: إن البيت الذي يسمو على سائر البيوت لا بد أن يختاره الله ليكون مشكاة لنور الوحي. فليس كل بيت يصلح لحمل الرسالة، وليس أمر الرسالة منوطًا باختيار الناس. قال الله سبحانه: * إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1).

* * *

بصائر وأحكام

1- ذكر الله من أبرز ما يتسم به المؤمنون؛ فهم يذكرون ربهم عند المصيبة للصبر عليها، وعند الطاعة للاستقامة عليها، وعند

ص: 159


1- سورة آل عمران، آية: 33-34.

دواعي المعصية لتحديها والاعتصام بالله منها.

وبيوت النور هي التي يُذكر فيها الله، ويتعاهد أهلها الطاعات ويتجنبون المعاصي ويرفع فيها الأذان والصلوات ويتواصى أهلها بالحق والصبر.

وأسماء الله مفاتح معرفته وأبواب علمه وسبل العروج إليه.

2- وعند الغدو ووقت الأصيل يسبح المؤمنون ربهم، لكي لا ينبهروا بجواذب الطبيعة، ولا يخشون عواديها، ولا يخضعوا لها. ومن يسبح لله يجعل الحياة مدرسة ومعراجًا إلى ربه، بينما الآخر يلفه ظلام الجهل والغفلة.

ص: 160

الذين لاتُلهيهم الدنيا

رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ (37)

* * *

1- رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ

لماذا ذكر الرجال في آية منفصلة، وماذا يتميز به هؤلاء؟.

أولًا: ليس مجرد التسبيح يجعل مثل تلك البيوت رفيعة وذات قيمة سامية، بل نوعية تسبيحهم حيث نذكره لاحقًا. وهكذا فصل السياق بين أهل التسبيح وبين من يُسبح.

ثانيًا: يتميز هؤلاء في أنهم يجعلون صلتهم بالدين فوق علاقاتهم مع الدنيا. فهم رجال يعيشون على الأرض ويأكلون الطعام ويمشون في الأسواق طلبًا للرزق وابتغاء فضل الله ويمارسون التجارة والبيع، ولكنهم لا ولن يفضلوا ما في الدنيا على

ص: 161

الآخرة، بل ذكر الله والصلاة والزكاة همهم الأول.

ثالثًا: ماذا يعني ذكر الله عند التجارة؟ إنه يعني أنهم لا يتجاوزون فيها حدود الشرع، وكذلك أنهم عند البيع يراعون أحكام الدين، وإذا نودي للصلاة سعوا إلى ذكر الله وتركوا البيع، وإذا أغناهم الله فهم للزكاة فاعلون. كل هذه الصفات تجعلهم متميزين، ويختارهم الله لقيادة عباده، لأن نور الله يشع من بيوتهم.

رابعًا: عند التدبر نجد أن هؤلاء الرجال من بيوت أذن الله لها أن ترفع. ومن هنا فهم من أسرة واحدة، أصولهم خير الأصول، وفروعهم نعم الفروع، ذرية بعضها من بعض، نور على نور. زيتهم نقي، وشجرتهم مباركة غنية بالقيم السامية، لا تعصف بهم الحميات الجاهلية؛ ولا يتطرفون شرقًا أو غربًا، بل هي مستقيمة عادلة على الصراط المستقيم.

2- يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ

بالرغم من ذلك النعت الفاضل، تجد هؤلاء الرجال في ذروة الخشية من الله، والخوف من يوم ما. فما هو ذلك اليوم، ولماذا ذلك الخوف الدائم؟.

أولًا: أما ذلك اليوم فقد يكون يوم القيامة، حيث تبلو فيه السرائر. ولكن لأن ذلك اليوم انعكاس للدنيا وما فيها من حقائق، فقد يكون المراد أن هؤلاء لا يغترون بما لديهم من زهادة وعبادة، بل هم حذرون أبدًا من العافية. فهم أبدًا بين الخوف والرجاء، وهم في ضراعة دائمة إلى الله أن يحفظ إيمانهم ودعاءهم، هو ما قال الله تعالى: رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ

ص: 162

أَنْتَ الْوَهَّابُ (1) .

ثانيًا: عرفانهم بالله ويقينهم بما عند الله من ثواب عظيم وعقاب أليم يجعلهم في ذروة الخوف وذروة الرجاء، ولذلك فهم يذكرون الله ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ومع ذلك يخافون.

وكما جاء في كلمة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام

:(فَهُمْ وَالجَنَّةُ كَمَنْ قَدْ رَآهَا فَهُمْ فِيهَا مُنَعَّمُونَ وَهُمْ وَالنَّارُ كَمَنْ قَدْ رَآهَا فَهُمْ فِيهَا مُعَذَّبُون) (2).

ثالثًا: أين تقع هذه البيوت في أمتنا، وهذا التاريخ وهذه الأحاديث أمامنا؟ إننا لا نجد بيتًا رفيعًا فيه هؤلاء الرجال مثل بيت النبوة، حيث أهل البيت عليهم السلام الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرًا.

ففي قول الله تعالى: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ (3) أسند الثعلبي إلى أنس وبريدة أنها بيوت الأنبياء عليهم السلام.

(فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ الله هَذَا الْبَيْتُ مِنْهَا؟ -لَبَيْتُ عَلِيٍّ وَفَاطِمَةَ عليهما السلام- قَالَ صلى الله عليه واله : نَعَمْ، مِنْ أَفَاضِلِهَا) (4).

إن سيرة النبي صلى الله عليه واله وأهل بيته عليهم السلام، حسب إجماع المسلمين وتواتر أخبارهم تجعلنا نعرف يقينًا أن ذلك البيت هو المثل الأعلى لهذه الآية، وبه يقاس أي بيت يتبع نهجه ويتمثل بعض أخلاقهم. والله المستعان.

ص: 163


1- سورة آل عمران، آية: 8.
2- نهج البلاغة، خطبة رقم: 193.
3- سورة النور، آية: 36.
4- بحار الأنوار: ج36، ص117.

* * *

بصائر وأحكام

1- يعايش المؤمن الدنيا والآخرة في كل لحظات حياته، وإذا تعارضتا يفضل الآخرة أبدًا.

2- بيوت الذكر الرفيعة بإذن الله تتمثل في تلك الشجرة الطيبة أصولهم، المتكاملة فضائلهم، المتوسطة سبلهم، فلا هي شرقية ولا هي غربية، وهي على صراط الله المستقيم.

ص: 164

جزاء الأعمال

لِيَجْزِيَهُمْ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (38)

* * *

1- لِيَجْزِيَهُمْ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ

لكل عمل في الدنيا نوعان من الجزاء؛ فنوع هو ذات العمل بعد أن يتجسد، ونوع ثوابه وعقابه المقدرين عند الله سبحانه. كيف؟.

أولًا: حينما يأكل الواحد أموال اليتامى، فإنما يأكل نارًا في بطنه، ولكنها لا تشتعل إلا بعد الموت. قال الله سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً (1).

فالنار هنا كما النار الكامنة في الوقود، ولكنها تشتعل هناك سعيرًا.

ص: 165


1- سورة النساء، آية: 10.

وقال سبحانه: إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14) يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ (1).

وهكذا فإن الأبرار -الآن كما في القيامة- هم في النعيم. فالصلاة ذاتها معراج، وهي قربان، وهي سكينة، وهي تتمثل يوم القيامة في أحسن صورة. كذلك الجحيم تحيط الآن بالكافرين، كما قال ربنا سبحانه: وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (2).

ولكن لا يعني ذلك أن هذا التجسيم للأعمال هو وحده الجزاء، بل هناك جزاء آخر للكافر يتمثل في عقابه للمعصية لما فيها من تحدٍّ للرب سبحانه، وجزاء آخر للمؤمن بطاعته وبفضل ربه.

2- وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ

كل شيء عند ربنا بمقدار، ويوم القيامة يوم الحساب. فما هو السرّ في أن الله يرزق من يشاء بغير حساب؟.

أولًا: إن الرزق الإلهي يفيض من رحمته الواسعة، وتلك الرحمة لا تحدها حدود السنن التي قدرها والتي يجريها ربنا في خلقه. فقدرته غير محدودة كما نحن المخلوقين بحسابات السنن والأنظمة والأقدار، لأنه سبحانه محيط بها وهو فعال لما يشاء. وهنا نعرف مدى الخطأ الذي وقع فيه اليهود، حيث قالوا: يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ (3).

ص: 166


1- سورة الإنفطار، آية: 13-15.
2- سورة التوبة، آية: 49.
3- سورة المائدة، آية: 64.

لأنهم غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا (1).

أوتدري لماذا؟.

لأنهم زعموا، ربما تقليدًا للأفكار الفلسفية الشركية، أن السنن الإلهية تحدد ربنا سبحانه، وأن خلقه للكائنات فيض حتمي منه كما شعاع الشمس من عينها، والأمواج من البحار الهائجة.

كلا؛ إن الله خالق الأشياء خلقًا ومبدعها إبداعًا بلا لغوب ولا علاج، سبحانه.

لذلك قال ربنا سبحانه: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ (2).

وهكذا الدعاء يرفع البلاء ويدفع القضاء، وقال الله سبحانه: وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ (3). وهكذا قال الله سبحانه: فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (4).

ثانيًا: الرزق الإلهي ليس بلا حكمة، بل إن الذين يطيعونه ويرضى عنهم الرب يحظون برزق يقتضيه فضل الله، وهو أعظم من ذلك الرزق الذي يقتضيه ما قدره لعباده المطيعين من جزاء محسوب لأعمال، حيث قال سبحانه: يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ

ص: 167


1- سورة المائدة، آية: 64.
2- سورة المائدة، آية: 64.
3- سورة غافر، آية: 60.
4- سورة آل عمران، آية: 37.

أَشْتَاتاً لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (6) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَه (1) .

وهكذا يرغب المؤمن في ذلك الفضل العظيم الذي لا يحده حساب، ويتعرض لنفحاته التي تتجاوز التصور والخيال.

* * *

بصائر وأحكام

1- للعمل -إن خيرًا وإن شرًا- نوعان من الجزاء -إذ العمل ذاته يتجسد- يوم الدين؛ فإن كان صالحًا يتجسد نعيمًا، وإن كان سيئًا يتجسد عذابًا أليمًا. ثم العمل الصالح طاعة والرب سبحانه يثيب عليها بفضله، كما العمل السيء معصية تستوجب العقاب بعدله سبحانه.

2- قدرة الرب واسعة لا تحدها حسابات خلقه، لأنهم خاضعون لسنن الله، وهو سبحانه محيط بتلك السنن قدرة وتدبيرًا.

ص: 168


1- سورة الزلزلة، آية: 6-8.

أعمال الكافرين سراب

وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39)

* * *

1- وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً

ما هي هذه الأعمال التي يجعلها الله هباءً منثورًا، أو هي كسراب في صحراء يظن الكافر أنه ماء وهو لا شيء؟.

أولًا: لأن الإيمان قاعدة العمل الصالح، فالكفر ينسف العمل نسفًا كما الملح يذوب في كف المحيط؛لأن العالم خلق الله سبحانه، وعلى العبد طاعته، ومن دون الطاعة لا قيمة لأي عمل، لأنه يقع خارج دائرة الشرعية، فلا يغني عن صاحبه شيئًا.

ثانيًا: السراب في أرض قاحلة يغري الظمآن، وحاجته إلى الماء قد تساهم في تصوره أنه ماء. كذلك الكافر بحاجة إلى عمله،

ص: 169

ولكنه حين قام به من دون إيمان كان كمن يسير في طريق خطأ. فكلما سار فيه ازداد عن هدفه بعدًا. وكذلك الكافر حينما يسعى وراء السراب ويزيد من أعمال لا أساس لها من إيمان، فإنه لا يحصد من عمله شيئًا. ومن هنا اشترط القرآن الإيمان ليكون السعي نافعًا، فقال تعالى: وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً (1).

أما العمل الذي لا يبنى على أساس الإيمان، فيقول عنه ربنا سبحانه: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً (2).

ثالثًا: ويبدو أن المراد من العمل هنا ليس السيئات الظاهرة، بل حتى الحسنات التي يظن الكافر أنها تنجيه، ولكنها تتلاشى بسبب كفره وتكون مثل السراب.

2- وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ

حينما تحولت صالحاتهم إلى سراب، بقيت سيئاتهم ماثلة أمامهم فحوسبوا عليها، وكان الله سريع الحساب. وذلك لأنه:

أولًا: سيئاتهم كانت متوافقة مع نفوسهم الخبيثة، فكانت الأدلة ضدهم كافية والجزاء حاضرًا.

ثانيًا: لأن الله سبحانه كان محيطًا بهم علمًا وقدرة، ولأن أعمالهم كانت في ميزان العدل مكتوبة في سجل أعمالهم ومشهود

ص: 170


1- سورة الإسراء، آية: 19.
2- سورة الفرقان، آية: 23.

عليها من قبل الشهود، فلم يستغرق جزاؤهم وقتًا طويلًا، بل كان الله سبحانه سريع الحساب بالنسبة إليهم.

* * *

بصائر وأحكام

* الإيمان قاعدة العمل الصالح، ومن دونه ينسف العمل نسفًا، ولله سبحانه ملكوت السماوات والأرض. فالعمل من دون الإيمان يقع خارج دائرة الشرعية.

ص: 171

ص: 172

مصدر النور

أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (40)

* * *

1- أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ

ما هذا المثل، وكيف يتقابل مع المثل السابق لنور الرب، وما مغزى الظلمات؟.

أولًا: كما النور الإلهي يتجلى في بيت الذكر الرفيع، فإن ظلام الكفر يغشى وجوه فريق من الناس.

أرأيت البحار الهائجة التي تتراكم فيها المياه (لأن البحر لجي)؟ فالموج يعلو موجًا، مما يشكل حاجزًا عن النور والسحاب يزيدهما ظلامًا.

ص: 173

وحينما نقابل نور الله في السموات والأرض بذلك الظلام المتراكم، فسوف نزداد معرفة بمدى حاجتنا إلى نور الرب، وعمومًا المقابلة ميزان يعتمد عليه العقل في معرفة الحقائق.

ثانيًا: القلب المحجوب بالشهوات والمحاط بالثقافات التبريرية والمبتلى بسبات العقل، هذا القلب مثل للظلمات المتراكمة.

ثالثًا: حينما يكفر الإنسان بربه، تحيط بقلبه وساوس الشيطان، كما يحيط به الكفار الذين يزيدونه ظلامًا فوق ظلامه، ويصبح عبدًا للطغاة مما يزيدونه خسرانًا.

وهكذا يصعب عليه الخروج من دوامة الكفر.

2- إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ

فهذه بصيرة مهمة وسنة إلهية جارية في كل البشر، كيف؟.

أولًا: أقرب الأشياء إلى الإنسان نفسه، كما أن أقرب الجوارح إليه يده. وهذا الإنسان المحاط بأسباب الظلمة (من نفس أمارة وشهوات مطاعة ووساوس تترى على قلبه) إنه لا يكاد يرى نفسه. إنه يستطيع أن يراها بصعوبة بالغة وبعزم شديد. كذلك لا يستطيع الكافر أن يعرف نفسه، وهي أقرب شيء إليه، بل ينساها في خضم المؤثرات الخارجية، كما قال الله سبحانه: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ

ص: 174

أَنْفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ (1) .

ثانيًا: الذي يبحث عن النور في الثقافات البشرية أو في الأساطير الجاهلية أو بالاعتماد على نفسه، بعيدًا عن هدى الوحي، إنه كمن يبحث في الماء عن جذوة نار.

إنما النور، كل النور في هدى الرب. في ذلك العقل المتقد بضوء الوحي، كما يتقد الزيت النقي بالنار. أما جهالات البشر وتصوراتهم وظنونهم وثقافاتهم، فهي مجرد حجب سميكة تضاف إلى نفوس المتعلقين بها، كما ظلمات بعضها فوق بعض.

وهكذا نجد البشر حينما خرج عن رحاب النور الإلهي المتمثل في بيوت الرسالة، إلى أيّ مدى غرق في بحر لجي يحيط به موج التقليد وموج الغرور وموج التبرير، ظلمات بعضها فوق بعض. أعاذنا الله منها.

* * *

بصائر وأحكام

1- المقارنة (والمقابلة) ميزان يعتمده العقل لمعرفة الحقيقة.

2- الكفر ظلام، وبيئة الكفر ظلام، ووساوس الشيطان ظلام، ظلمات بعضها فوق بعض.

ص: 175


1- سورة الحشر، آية: 19.

ص: 176

كيف تُسبحُ الخلائق لربها

أَلَمْ تَرَى أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (41)

* * *

1- أَلَمْ تَرَى أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ

ما هذا التسبيح الذي يشترك في أدائه من في السماوات والأرض، وكيف يُرى إن كان تسبيحًا لسانيًا ولا يُسمع، وهل هذه الرؤية بالعين أو بالعلم؟.

أولًا: حينما يكون العلم محيطًا بشيء، وشواهده ظاهرة للشخص، نستخدم كلمة الرؤية. وكأن النظر بالعين أقرب الحواس إلى القلب، كما قال سبحانه: أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1).

ومن هنا نستوحي من الآية؛ أن باستطاعة البشر إذا كشفت

ص: 177


1- سورة الماعون، آية: 1.

عنه حجب العناد والغفلة، أن يحيط علمًا بروح الخليقة وكأنه يرى تسبيحها كما لو سمعها بأذنه، ولامسها بجوارحه، واستشعر بها بجوانحه.

ثانيًا: في آيات عديدة نقرأ قوله سبحانه: هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1).

وقوله سبحانه: يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2).

وقوله سبحانه: يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (3).

فلماذا هنا خص التسبيح ب- مِنْ إشارة إلى ذوي العقول. وفي تلك ب- مَا إشارة إلى العموم؟.

يبدو أن التسبيح هنا من كل شيء مخلوق، ولكن الناس لا يفقهون لغات الكائنات. بينما الممكن للبشر وبصورة أيسر الاستماع إلى تسبيح الناطقين من البشر والطير وسائر الأحياء. قال الله سبحانه: تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً (4).

ثالثًا: كيف يتسنى لنا رؤية تسبيح خلق الله؟.

ص: 178


1- سورة الحشر، آية: 24.
2- سورة الجمعة، آية: 1.
3- سورة التغابن، آية: 1.
4- سورة الإسراء، آية: 44.

علينا أن ننظر إلى عدة أبعاد من حياتهم:

ألف : نتأمل مواطن الضعف لديهم . فكل مخلوق محدود بالزمان والمكان والإمكانات .. مما يهدينا إلى خالقه وأنه قدوس متعالٍ عن تلك المواطن، ولو كانت لديه أمثالها لكان مخلوقًا مثلهم، بل إن ضعفهم دليل حاجتهم إلى خالق قوي، وذلتهم دليل حاجاتهم إلى رب عزيز، وجهلهم دليل حاجتهم إلى عليم، وهكذا ..

باء : ونتأمل في الوقت ذاته إلى مدى تفاعل كل مخلوق مع سائر الخلائق وانتظام الجميع في تدبير حكيم، مما يهدينا إلى الرب المهيمن العليم الذي قدر شؤونهم ودبّر علاقاتهم .

جيم : ثم ندرك بنور العقل وشهادة الوجدان أن كلماتهم الناطقة تلهج بالدعاء والصلاة، لأنهم لا يزالون يستمدون القوة من الله لجبر ضعفهم . والعطاء منه لتأمين رزقهم والحفظ منه لدرء الأخطار عنهم . وقد قال سبحانه : وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (1).

إن كلماتنا هنا عاجزة عن تفسير هذا التسبيح الذي يصدر ممن في السماوات والأرض، ومما في السماوات والأرض.. والسبب

ص: 179


1- سورة الذاريات، آية: 56-58.

أن ما يهدينا إليه ليست كلمات، وإنما حالة عرفانية تحدث عند المؤمن وهو يسير بأوهام قلبه في أرجاء ملكوت السماوات والأرض.

رابعًا: وهذا الطير التي تصف في السماوات معتمدة على توازن دقيق بين جاذبية الأرض وبين قوة الرياح، إنها تسبح بحمد الله.

بلى؛ ليس كل بشر يسمع هذا التسبيح أو يراه، بل من أوتي حسًّا إيمانيًّا وقلبًا عرفانيًّا. رزقنا الله إياه.

2- كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ

لماذا ذكرت الصلاة هنا والحديث كان عن التسبيح، وما السر في تغيير التعبير فهنا ذكر عَلِمَ ثم ذكر عَلِيمٌ ؟.

أولًا: يبدو أن التسبيح هو تقديس الخالق المهيمن على تدبير الكائنات من أي نقص، لا في ذاته ولا في أسمائه ولا في أفعاله. فكل فعل تراه في غاية الجودة والإتقان، وذلك يهدينا إلى أسمائه الحسنى، وأنه عزيز عليم، حكيم قدير. فكلما تأملنا في الخليقة وآثار اللطف الإلهي فيها انفتحت علينا نافذة على أسمائه الحسنى.

قال سبحانه: الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعْ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعْ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ (1).

ثانيًا: أما الصلاة فهي ذكر الله والتوسل إليه بالدعاء، إذ

ص: 180


1- سورة الملك، آية: 3-4.

أن المخلوق حين يجد آيات الرحمة من ربه وهو يشعر بالخوف من فقدان نعمه، ويتطلع إلى المزيد من فضله، ويعلم يقينًا أن ربه فعال لما يشاء، يدعو ربه إما بلسان المقال أو بلسان الحال.

قال الله سبحانه: يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (1).

ثالثًا: ولأن الصلاة فعل متجدد من المخلوق كما التسبيح، فناسب التعبير ب عَلِمَ . بينما الصفة الأساس للرب، الإحاطة علمًا بأفعال خلقه من قبل ومن بعد الصلاة والتسبيح. وربنا سبحانه محيط بلغات خلقه المختلفة؛ فالطيور كل له تسبيحه وصلاته بلغة خاصة به، وكذلك الملك والجن والإنس.

وجاء في دعاء الإمام الحسين عليه السلام في يوم عرفة

:(وَتَغَمَّدْنَا بِعَفْوِكَ عَنَّا فَإِلَيْكَ عَجَّتِ الْأَصْوَاتُ بِصُنُوفِ اللُّغَات) (2).

رابعًا: ومن التدبر في الآية قد نستوحي أن كل فعل يقوم به خلقه ذات مردود سلبي أو إيجابي عليه، حيث إن علم ربنا به ليس سدى، خصوصًا وأن الفعل لا ينسب إلى فاعله إلا لأنه مسؤول عنه.

وقد جاء في حديث شريف عن أبي عبد الله عليه السلام، قال

:(مَا مِنْ طَيْرٍ يُصَادُ فِي بَرٍّ وَلَا بَحْرٍ وَلَا يُصَادُ شَيْ ءٌ مِنَ الْوُحُوشِ إِلَّا بِتَضْيِيعِهِ التَّسْبِيحَ) (3).

ص: 181


1- سورة الرحمن، آية: 29.
2- مفاتيح الجنان، من دعاء الإمام الحسين عليه السلام في يوم عرفة.
3- بحار الأنوار: ج61، ص24.

وقصة الهدهد الذي غاب فتوعده النبي سليمان عليه السلام مذكورة في كتاب ربنا، حيث قال الله تعالى: وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِي لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنْ الْغَائِبِينَ (20) لأعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (1).

* * *

بصائر وأحكام

1- إذا أحاط القلب بآيات الحقيقة علمًا، رأه بوضوح، وحين يطهر المرء من حجب الهوى، وينظر إلى آيات الله بنوره البهي، يرى كيف تسبح ما في السماوات والأرض لربها.

2- كلما تفكرنا في خلق الله وآيات اللطف الإلهي فيها، فتحت بفضل الله أمام بصائرنا نافذة على أسمائه الحسنى.

ص: 182


1- سورة النمل، آية: 20-21.

للّه مُلك السماوات والأرض

وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (42)

* * *

تذكرنا آيات القرآن بمالكية الله للسماوات والأرض، وأن إليه سبحانه المصير. ماذا تعني هذه الكلمات، ولماذا هذا التأكيد؟.

أولًا: ناصية الكائنات بيد الله سبحانه وتعالى، وهو مهيمن عليها يقلبها كيف يشاء، ومتى يشاء، وهو الذي قد استوى على عرش القدرة والسلطان والتدبير. ذلك أن ربنا سبحانه قد ابتدع الخلائق لا من شيء كان قد سبق، ولا احتذاء لمثال كان قد تحقق، وهو بقدرته التي لا تحد يمسك السماوات والأرض بيده، ولولا ذلك لزالتا. فهو الرزاق من فيض رحمته عليهما، والمجري لسنن الحكمة فيهما، ولولا أنه قائم بنظامهما لفسدتا وبطلتا.

فابتداءً من نواة الذرة وما يدور في تلك المملكة المتناهية في الصغر كما في العظمة، وانتهاء بالمجرة المتناهية في السعة كما في العظمة خلقًا ونظامًا وتقديرًا وتدبيرًا كل ما في الخلق، لولا رزق

ص: 183

الله ولولا تدبيره ولولا سلطانه لتلاشى وعاد عدمًا كما هو ذاته. فهذا الملك حقًا، والسلطان حقًا.

ثانيًا: وقد يتساءل المرء: إلى أين ينتهي هذا الخلق؟. هل إلى نهاية عدمية تامة، أم إلى تطور كبير كما يزعم بعض علماء الفيزياء الكونية، حيث يزعمون وجود دورة للخلق في كل مدة قد تطول خمسة عشر ألف مليون عام أو أكثر أو أقل، حيث تمددت المادة بزعمهم بانفجار كبير ثم تعود تنكمش خلال مدة طويلة، أم ماذا؟.

الإجابة ببساطة: إن السماوات والأرض وما فيهما تصير إلى الله سبحانه. فهو الذي يحكم فيهما بحكمه، وهو الذي يفعل ما يشاء، ولا يحد قدرته ومشيئته شيء.

ثالثًا: هذه الحقيقة هي التي لو عرفناها حقًا، لأصبح تفسيرنا للخليقة ولأنفسنا تفسيرًا حكيمًا وحقًا. وتأكيد الكتاب عليها باستمرار يصلح فينا منهج التفكير حتى نعرف حقائق الكائنات وحوادثها وما ينبغي أن نفعله معرفة سليمة. لماذا؟.

لأن الذي يجهل الحقائق الكبرى، كيف يستطيع أن يحلل الحقائق المحدودة تحليلًا سليمًا؟. إنه كمن يمشي في غير الاتجاه الصحيح، فإن سرعة مشيه أو سلامة مشيه لا تنفعانه.

إن حسابات البشر سوف تكون في ضلال بعيد، إذا لم يؤمن الإنسان بربه وبملكه للسماوات والأرض، وبسلطانه.. ومن هنا تجد الفلاسفة وعلماء الطبيعة المهتمين بالمسائل الأساس لا يزالون يدورون في حلقة مفرغة، حينما يفسرون غيب الكون وسرّ

ص: 184

الموجودات وبدايتها ومصيرها.

إن علينا إذا أردنا فهم الحقائق وفهم أنفسنا جيدًا أن نسلك منهجًا سليمًا يبدأ من الإيمان بالخالق، وإلاّ فقاعدة المعرفة قائمة على جرف هارٍ.

رابعًا: من هنا فان كل شيء يسبح بحمده ويصلي له ويدعو لحفظه وليزداد منه رحمة.

إن كل ذي لب يدرك بفطرته أن الذي أعطى أولًا يمكن أن يسلب ما أعطاه ويمكن أن يزيد من عطائه، بل إذا فطن الحقيقة أكثر فأكثر، وخاض في غور المعرفة أعمق فأعمق، شعر بأن استمراره رهين العطاء. فلو انقطع الفيض الرباني عن المخلوق لحظة، عاد إلى حقيقته العدمية، وفنى فناءً تامًا، وأصبح نسيًا منسيًا كأن لم يكن أبدًا.

* * *

بصائر وأحكام

* كمن يسير في اتجاه خطأ، لا يستطيع من يجهل الحقائق الكبرى فقه الحقائق المحدودة، ومن تلك الحقائق: أن الله قد استوى على العرش يدبر الأمر كما يشاء، لانّه لا من شيء خلق الأشياء ولا احتذاء مثل سابق ابتدعها، وفيض رحمته يمسكها وإلا لزالت، فهو فعّال فيها بما يريد.

ص: 185

ص: 186

لننظر إلى صنع الرب

أَلَمْ تَرَى أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ (43)

* * *

1- أَلَمْ تَرَى أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ

ما هي الصلة السياقية بين هذه الآية والتي سبقتها بالنبرة ذاتها أَلَمْ تَرَى ، وما هي دلالة الغيث على تدبير الرب؟.

أولًا: إن تسبيح من في السماوات والأرض للرب نابع من حاجتهم إلى ربهم المدبر لشؤونهم، ومن تدبيره تسخير الرياح لنشر السحب ومن ثم لهطول الغيث. فإذا نظرت إلى كل ذلك بلا حجب من غفلة أو شك لرأيت آثار رحمته سبحانه، وأنه كيف يزجي قطعات الغيوم من أعالي البحار إلى الأراضي البعيدة وكأنها قطعان ماشية تساق في اتجاه واضح لغاية محدودة. ثم إذا وصلت

ص: 187

الغاية تراكمت السحب بأمر ربها الذي ألف بينها، لم تدعها تتراكم هنا وتخف هناك، بل جعلها في مستويات متقاربة، وألفّ بين باردها وحارها وأخرج منها شحنات كهربائية هائلة نرى أثرها في البرق ونسمع صوتها في الرعد، ثم خلق منها كميات هائلة من النتروجين الضرورية للنبات، وهكذا استخرج الودق من خلاله.

ثانيًا: إن هذا يجري في السماء حيث ننظر جميعًا إلى آثار التدبير، مما يجعلنا ندعو الرب لينزل علينا رحمته. فإذا هطلت الأمطار كانت بكميات معقولة، لا قليلة عديمة الفائدة للزرع، ولا كثيرة تسبب الفيضانات والسيول المدمرة.

وهذا التسبيح الفطري الذي قد يجري على ألسنتنا هو التسبيح ذاته الذي يلهج به كل من السماوات والأرض والطير صافات كل بلسانه وحسب مستواه.

أوَليست دواب الأرض وهوامها هي الأخرى بحاجة إلى الغيث وتصلي لربها لكي يسقيها من السماء ماء طهورًا، بل حتى الأشجار والمروج وكل ذي شعور، كل ذلك مثل ظاهر للتسبيح والصلاة والدعاء الذي يعكس حاجة الجميع إلى رحمة الرب وعطائه.

2- وَيُنَزِّلُ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ

ما هذه الجبال التي يُنزل الله البرد، وما هي آثار التدبر في إصابة الغيث أو البرد بعضها وصرفه عن البعض الآخر؟.

ص: 188

أولًا: أرأيت هذه الجبال التي تحيط بنا لو انعدمت الجاذبية في الأرض لأصبحت كثيبًا مهيلًا. ثم تصور لو أن السحب التي تتراكم في السماء كما الجبال في الأرض، لو أنها كانت في كرة شديدة الجاذبية، ألم تكن كما الجبال على الأرض؟ وهكذا نجد التعبير في غاية الدقة عما في السماء من تراكمات السحب التي يشهدها من في الطائرة كما يشهد الجبال في ترتيبها وتداخلها وتعاضدها. بلى؛ كل هذا من صنع الله الذي أتقن كل شيء صنعه.

ثانيًا: عندما تعصف الرياح الشديدة بتلك الجبال التي تكونت بفعل تراكم الغيوم في السماء، فإذا بحبات المطر تتقلب في كف الرياح الشديدة صاعدة نازلة، وبفعل البرد الشديد تتحول إلى بَرَد مثلّج مصنوع في تضاعيف هذه الجبال، حتى إذا تكاثفت وثقلت وقعت على الأرض. فربما كانت نعمة، وربما تحولت نقمة.

إذا كانت الرياح شديدة ولم تسمح لوقوعها إلا بعد أن أصبحت مثل كرة المضرب أو حتى أكبر، أهلكت الأحياء، وربما هدمت المباني، وأفسدت الأرض.

ثالثًا: عندما نتأمل في مواطن هطول الأمطار، نجد أنها لا تضبط بحدود مفهومة لنا سلفًا، ولا يستطيع أحد أن يتنبأ بها، ولكنها في النهاية تهطل بحكمة بالغة مما يصيب قومًا يستحقونها ويُصرف عن آخرين، إما لأنهم قد ظلموا أنفسهم وجار قضاؤهم، وتمادوا في عصيان ربهم، أو لأي سبب آخر.

وهكذا نجد آثار التدبير الرباني جلية واضحة.

وعند التفكر نجد أن تدبير الله تعالى لرزق عباده أو لتقدير شؤونهم هو كتدبيره في هطول الأمطار، وهكذا في سائر آفاق الخلق.

ص: 189

إن العلم قديمًا وحديثًا حاول أن يحيط بكل الأنظمة التي تسود الكائنات من أجل التنبؤ بالمستقبل، وهكذا تسخيرها لمصالحه ومآربه. وقد نجح العلم في كثير من الآفاق، ولكنه بقي عاجزًا عن معرفة المستقبل بكل تفاصيله. لماذا؟.

لأن هناك هامشًا من التدبير لا يطلع عليه أحد، وبذلك عرف الناس وفي طليعتهم العلماء، والأعلم منهم قبل غيره، بأن من يدبر الخلق لا يزال مهيمنًا عليه، ولا أحد يتحداه في علمه وقدرته وحكمته سبحانه.

ولذلك حينما سئل الإمام أمير المؤمنين عليه السلام عن دليله إلى ربه، قال:

(عَرَفْتُ اللَّهَ سُبْحَانَهُ بِفَسْخِ الْعَزَائِمِ وَحَلِّ الْعُقُودِ..) (1).

وقال الله تعالى: وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (2).

وقال سيد الشهداء الإمام الحسين عليه السلام

:(إِلَهِي عَلِمْتُ بِاخْتِلَافِ الْآثَارِ وَتَنَقُّلَاتِ الْأَطْوَارِ أَنَّ مُرَادَكَ مِنِّي أَنْ تَتَعَرَّفَ إِلَيَّ فِي كُلِّ شَيْ ءٍ حَتَّى لَا أَجْهَلَكَ فِي شَيْ ء).

وقال عليه السلام

:(إِلَهِي حُكْمُكَ النَّافِذُ وَمَشِيَّتُكَ الْقَاهِرَةُ لَمْ يَتْرُكَا لِذِي مَقَالٍ مَقَالًا وَلَا لِذِي حَالٍ حَالًا. إِلَهِي كَمْ مِنْ طَاعَةٍ بَنَيْتُهَا وَحَالَةٍ شَيَّدْتُهَا هَدَمَ اعْتِمَادِي عَلَيْهَا عَدْلُكَ بَلْ أَقَالَنِي مِنْهَا فَضْلُك).

ثم قال عليه السلام

:(إِلَهِي أَغْنِنِي بِتَدْبِيرِكَ لِي عَنْ تَدْبِيرِي وَ بِاخْتِيَارِكَ عَنِ اخْتِيَارِي) (3).

ص: 190


1- نهج البلاغة: حكمة رقم: 250.
2- سورة لقمان، آية: 34.
3- بحار الأنوار: ج95، ص225.

وهذا هو قمة العبودية لله سبحانه، أن تراه في كل تدبير، وتجده عند كل حالة عندك، أو ظاهرة في الخليقة، وتسأله كل حاجة وتفوض أمورك إليه في كل حالة. والله المستعان.

* * *

بصائر وأحكام

1- لأن من في السماوات والأرض يشعرون بحاجتهم إلى رزق الله، فإنهم يسبحونه ويدعونه؛ ومثل ذلك حاجتهم إلى الغيث الذي يدبره الرب تدبيرًا حكيمًا.

2- وقد أتى الرب عباده بعضًا من العلم، إلا أنه يحيط به علمًا بالغيب. وهكذا لا يقدر أحد أن يعرف كل ما في ضمير المستقبل.

3- ينبغي للمؤمن أن ينظر إلى تحولات الطبيعة، ومنها سُقيا الغيث للأرض بما فيها من نبات وأحياء، لكي يرى كيف يزجي الرب سبحانه ثم يدبره حتى يسقي الحرث والنسل برحمته وبقدر حسب تقدير حكيم.

ص: 191

ص: 192

عبرة لأولى الأبصار

يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأَبْصَارِ (44)

* * *

1- يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَار

أليس الليل والنهار هي التي تتقلب، فما هو دور الرب وتدبيره؟.

أولًا: في تقلب الليل والنهار آيتان:

- آية التقدير للرب الذي أتقن كل شيء صنعه.

- آية التدبير الحكيم.

فأما آية التقدير، فإنك تجد دقة متناهية في نظام الشمس التي تجري لمستقرلها، ذلك تقدير العزيز العليم. فلا تحيد عن مسارها، لا في الزمان ولا في الموقع. مَن ضبط هذه الكتلة النارية الهائلة، وسخرها في مسارها، أوَليس العزيز العليم؟.

ثم مسافة الشمس عن الكواكب المحيطة بها، ومسافاتها فيما

ص: 193

بينها وهي تتحرك في مسارات مختلفة وحركات متنوعة وكلها تسبح في فضاء مع ملايين الملايين من الأجرام المضبوطة جميعًا في تقدير.

ومن حركات الشمس والأرض قدر ربنا اختلاف الليل والنهار. كيف تتداخل في الساعات، يزيد هذا على حساب ذاك وبالعكس بدقة تصل إلى أدق من جزء من مليون جزء من الثانية. تلك آية الصنع المتقن.

وأما آية التدبير، فبالرغم من كل تلك الدقة في ضبط السيارات والأرض، فإن متغيرات كثيرة تتحرك في إطارها متأثرة بعوامل نعرف بعضها ونجهل الكثير.

فهناك اختلاف الأنواء والرياح والأمطار وما يتصل بقرارات البشر غير المضبوطة وما يتصل بالرزق والخصب والجفاف وغيرها كثير.

وهكذا تجد في كل شيء حولك ثوابت ومتغيرات، وعليك أن تنظم حياتك وفقهما كليهما. وفي الوقت الذي تسعى جاهدًا للوصول إلى هدفك عبر التنبؤ بالثوابث، عليك أن تتوقع غيرها بسبب المتغيرات.

ومن خلال ذلك تعيش بين الرجاء والخوف؛ والرجاء يدعوك إلى حمد الله وشكره، بينما يدعوك الخوف إلى الصلاة والدعاء للتوفيق، وما هو إلا بالله سبحانه، مثلما قال الله عزّ وجلّ على لسان نبيه الكريم شعيب عليه السلام: وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (1).

ثانيًا: ولأن الله يقلب الليل والنهار، ولأن التغير ممكن فإن المؤمن يبقى حذرًا لا يطمئن إلى خير يصيبه فقد يفاجئه شر، ولا

ص: 194


1- سورة هود، آية: 88.

ييأس من شر يحيط به، فلعل الله سبحانه قضى له من بعده خيرًا كثيرًاَ.

وهكذا جاء في دعاء عرفة

:(إِلَهِي إِنَّ اخْتِلَافَ تَدْبِيرِكَ وَسُرْعَةَ طَوَاءِ مَقَادِيرِكَ مَنَعَا عِبَادَكَ الْعَارِفِينَ بِكَ عَنِ السُّكُونِ إِلَى عَطَاءٍ وَالْيَأْسِ مِنْكَ فِي بَلَاء) (1).

2- إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأَبْصَارِ

لماذا يبقى بعض الناس في عمى مما يحيط بهم من آيات الله في الكائنات في تقليب الليل والنهار؟.

لكي يفقه الإنسان شيئًا، فهو بحاجة إلى أداة للفهم. فمن دون الأذن كيف يسمع؟ ومن دون العين كيف يبصر؟ كذلك القلب المحجوب كيف يفهم الحقائق؟.

من هنا فإن العبرة التي تعني التحرك من المعلوم إلى المجهول، لا تنفع من لا يملك البصيرة النافذة.

* * *

بصائر وأحكام

* قلب المؤمن -ذو البصيرة النافذة- يتقلب بين الخوف والرجاء، فلا يطمئن إلى نفع قد لا يطول، ولا يقنط عند ضرر قد ينقضي.

ص: 195


1- مفاتيح الجنان، من دعاء الإمام الحسين عليه السلام في يوم عرفة.

ص: 196

هكذا تتجلى قدرة الرب

وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (45)

* * *

1- وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ

بالرغم من وحدة معدن الخلق، ما هذا الاختلاف في المخلوقات، وعلى أية حقيقة تدلنا؟

أولًا: لو كان خلق الله للكائنات فيضًا كما الفرات تفيض منه الروافد، وكما الشمس تفيض منها أشعتها، لكان المخلوق واحدًا نوعًا. ولكن الخالق أوجد بقدرته التي لا تحد الأشياء، ودلنا باختلافها على تلك القدرة، وأنه فعال لما يشاء.

وبلغ من اختلاف الصنع حدًّا لا يتوهم متوهم نوعًا من

ص: 197

الخلق إلا وسبقت خلقته خياله وتوهمه...

وقد روي عن علي بن الحسين بن فضال، عن أبيه، عن أبي الحسن الرضا عليه السلام، قال:(قُلْتُ لَهُ لِمَ خَلَقَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ الْخَلْقَ عَلَى أَنْوَاعٍ شَتَّى وَلَمْ يَخْلُقْهُمْ نَوْعًا وَاحِدًا؟.

فَقَالَ عليه السلام: لِئَلَّا يَقَعَ فِي الْأَوْهَامِ أَنَّهُ عَاجِزٌ فَلَا تَقَعُ صُورَةٌ فِي وَهْمِ مُلْحِدٍ إِلَّا وَقَدْ خَلَقَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهَا خَلْقًا وَلَا يَقُولُ قَائِلٌ: هَلْ يَقْدِرُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ عَلَى صُورَةِ كَذَا وَكَذَا إِلَّا وَجَدَ ذَلِكَ فِي خَلْقِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فَيَعْلَمُ بِالنَّظَرِ إِلَى أَنْوَاعِ خَلْقِهِ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ) (1) .

ثانيًا: لو تأملت في صنوف الخلائق من سماء تزحم بملايين المجرات التي تحتوي على ألوف الملايين من الشموس والأجرام، لا يمكننا حسابها، بل ولا توهمها، فكيف بإحاطتها علمًا؟ ويكفيك من عظيم خلقه سبحانه، أنهم اكتشفوا أخيرًا حفرة سوداء في وسط مجرة طريق التبانة التي تقع شمسنا فيها أكبر من هذه الشمس بأربعة ملايين ضعف.

هذه السماء، أما في الأرض فإنها تعج بصنوف الخلق لم يعرف لحد الآن العلماء عدد أنواع الأحياء، فبين من قال أنها ثلاثون مليون نوع، وبين من رقاها إلى مئة مليون نوع، والإنسان نوع واحد منها.

هذا عدا الموجودات المختلفة من غير الأحياء. فسبحانك يارب قادر لا يعجزه شيء.

وهذه الأحياء لو تأملت فيها لرأيتها قد خلقت من ماء، كيف تنوعت وتعددت، ثم هذه الكائنات في الأرض كيف تعددت

ص: 198


1- بحارالأنوار، ج3، ص41.

واختلفت، وتلك الأجرام كيف تعددت حجمًا ومادة وفلكًا و... و... وكلها من جوهر واحد؟!.

وهذا التعدد العظيم يخدم هدفًا مشتركًا، حيث تتعامل فيما بينها، ويخدم بعضها بعضًا في دائرة عظيمة من الأسباب والمسببات، وفي تبادل غريب في الأخذ والعطاء، وفي حلقات متداخلة لا توصف. من ذا الذي نظم علاقاتها وقدرها بقدر معلوم وضبط كل واحد منها بالآخر ولم يدع واحدًا يطغى على المجموع، بل جعلها محتاجة إلى بعضها في حلقات متكاملة؟.

كل ذلك ليدلنا على عظيم قدرته وواسع هيمنته وأنه محيط بكل شيء علمًا وقدرة ورحمة، سبحانه سبحانه.

2- يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ

الدلالة الظاهرة لاختلاف الخلق هي القدرة الإلهية، وهي دلالة على مشيئته التي لا تخضع لضوابط من خلقه. كيف؟.

أولًا: إن النظرية الشركية التي تسربت إلى بعض الفلسفات البشرية والتي سميت بنظرية (الفيض) لا يمكنها أبدًا تفسير الاختلاف والتعدد في المخلوق، خصوصًا وقد قالوا بأن الواحد لا يصدر منه إلا الواحد، لأن المولود لا بد أن يتجانس مع الوالد ما دام يصدر عنه.

ثانيًا: بصيرة الخلق هي التفسير الوحيد لوجود الكائنات، وأن الله سبحانه كان وحده لا شريك له، وشاء أن يخلق الخلق برحمته

ص: 199

فأنشأه بقدرته من دون أن تحدث في ذاته سبحانه حركة أو تغيير أو تطور. فهو سبحانه لم يلد الخلق ولم يولد من والد سابق سبحانه.

وكما يقول الإمام أمير المؤمنين عليه السلام

:(لَمْ يَلِدْ فَيَكُونَ مَوْلُودًا) (1).

ثالثًا: صفة الخالقية لربنا سبحانه تقتضي صفة المشيئة التي لا تحد، بل هي هي، فهو فعال لما يشاء. وهكذا تعددت واختلفت أشكال خلقه وأنواع الكائنات ودلت باختلافها على وحدة خالقها.

رابعًا: وهذه المشيئة المطلقة والفاعلة التامة تهدينا إلى أنه على كل شيء قدير، لأن عقولنا القاصرة المحجوبة بكينونتها باعتبارها مخلوقة ترى أن الخلق بذاته مستحيل، وإذا كان الرب قادرًا عليه وعلى أنواع منه، وإذا كان كل شيء مخلوقًا ومحكومًا بالخالقية المطلقة إذًا لا شيء يحد قدرة الرب.

وهكذا إذا تأملنا الآية وجعلناها وسيلة لرؤية الحقائق المحيطة بنا. وبتعبير آخر؛ جعلناها آية نعبر من خلالها إلى فقه المخلوقات وما فيها من سمات تدلنا على بارئها، إذا نفذت بصيرتنا بإذن الله تعالى إلى عمق حقائق الكون.

* * *

بصائر وأحكام

* لأن حقيقة الخلق هي الإنشاء، فإن تنوع الكائنات -بالرغم من وحدة جوهرها- دليل قدرته سبحانه التي لا تحد.

ص: 200


1- نهج البلاغة، من خطبة له عليه السلام في التوحيد.

الله يهدي من يشاء

لَقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (46)

* * *

ما هي صلة هذه الآية بالتي قبلها وبالسياق العام لهذه السورة المباركة، وما هو دور الهداية الربانية؟.

أولًا: حينما يقرن القلب بسلطان الرب ويسمو إلى حيث القدرة التي لا تحد، قد يسأل إذًا: كيف لنا العروج إلى ذلك الأفق الأسمى؟.

بلى؛ السبيل هو التقرب إليه عبر حبل أنزله إليك متمثلًا في كتابه وفيه آيات مبينات.

وقد سبق في فاتحة السورة أنها آيات بينات، وفي الآية (33) ذكر أنها آيات مبينات. لماذا؟.

لعل السرّ في ذلك أن القرآن نور، والنور بيّن بذاته ومبين لغيره. كذلك آيات القرآن بيّنة واضحة، بيّنها ربها، كما قال تعالى

ص: 201

في الآية (18): وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ، وهي تبين لنا الحقائق.

وهكذا فإن آياته بينات ببيان الله سبحانه، ومبيّنات توضح لنا الحقائق.

ثانيًا: لأن آيات الله في كتابه تعكس آياته في خلقه، فعلينا أن ننظر من خلال تلك إلى هذه. وهكذا نقوم بواجبين عندما نتلو الكتاب:

ألف : دراسة ما فيه والتدبر في كل آية آية وفي السياق العام، لنعرف الآية معرفة كافية .

باء : دراسة الأشياء من خلال الآيات؛ بمعنى تطبيقها على الكائنات وظواهرها؛ مثلًا إذا قرأنا آية عن الشمس درسنا الآية ودرسنا الشمس من خلالها، وكذلك القمر والنجوم والسماء والأرض وما في الطبيعة من عجائب الخلق . وهكذا إذا مررنا بآية عن المؤمن درسنا أحوال الناس من خلال تلك الآية لنعرف المؤمنين، أو في المنافق أو عن ظواهر الطبيعة مثل ما يصيب البشر من خير أو شر، من مرض أو هلاك جماعي أو حرب أو ما أشبه .

ثالثًا: بالرغم من أن آيات الله مبينات، إلا أنها لا تكفي البشر هدى، وإنما يلزمهم لبلوغ الحقيقة توفيق من ربهم ونور مباشر يشرق على قلوبهم، ويد غيبية تمتد إلى الأفئدة فتجذبها إلى حيث النور، إلى أسماء الله، وإلى معرفة العظمة. ولذلك تجد المؤمنين يدعون ربهم

ص: 202

باستمرار وإصرار: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (1).

وجاء في الدعاء

(وَأَنِرْ أَبْصَارَ قُلُوبِنَا بِضِيَاءِ نَظَرِهَا إِلَيْكَ حَتَّى تَخْرِقَ أَبْصَارُ الْقُلُوبِ حُجُبَ النُّورِ فَتَصِلَ إِلَى مَعْدِنِ الْعَظَمَةِ) (2).

أما الآيات فهي توفر الفرصة لمن شاء أن يستقيم على الصراط، وهي حجة الله البالغة على خلقه. وهكذا لا يكفي للإنسان الطالب للهدى مجرد النظر في آيات الله، بل عليه أن يسأله ويتضرع إليه ليهديه، ولكي يثبته على الهداية حتى لا يضل بعد أن هداه الله.

* * *

بصائر وأحكام

1- آيات الله بينات، وهي توفر فرصة الهدى للإنسان، وعليه أن يتضرع إلى الله تعالى ليهديه، ولولا ذلك ظل في ضلال.

2- علينا أن نقوم -حين تلاوة الكتاب- بأمرين:

أولًا : التدبر في الآيات .

ثانيًا : التفكر في الخليقة في ضوء تلك الآيات .

ص: 203


1- سورة الفاتحة، آية: 6.
2- بحار الأنوار: ج91، ص98.

ص: 204

الطاعة ميراث الأيمان

وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47)

* * *

هذه منظومة من الآيات تتكون مع التي سبقتها اثنتي عشرة آية تذكر بالطاعة للرسول، وإنها ركن أساس للإيمان. فما هي الصلة بينها وبين إطار السورة، ولماذا نفى السياق إيمان من يتولى عن الطاعة؟.

أولًا: حينما بيّنت هذه السورة صفات الأسرة الصالحة والبيت الإيماني الرفيع وهو كمشكاة لنور الرب، وكانت من تلك الصفات دوام ذكر الله حتى عند التجارة والبيع، فها هي الصفة الثانية (الطاعة) التي هي علامة للصفة الأولى. فليس هناك إيمان صادق بالله تعالى من دون الطاعة للرسول.

ثانيًا: ليس الإيمان أبدًا بالادعاء والتمني أو الترجي، إلا أنه وقر في القلب وسكينة في النفس وقول صادق وسلوك يعكس قيمًا راسخة في القلب.

ص: 205

وهكذا لا يكفي ادعاء الإيمان ثم عند مواجهة الحقيقة في مواطن الصراع مع النفس وشهواتها أو مع الأعداء وضغوطهم، ينهار ويتلاشى. إنه -في الحقيقة- ليس إيمانًا، بل مجرد ادعاء الإيمان.

ثالثًا: ليس هذا واقع كل المؤمنين، بل من واقع بعضهم، وعلى الانسان أن يسعى أبدًا ليكون في صف أولئك الصادقين، وذلك بطلب الهدى من الله وبالاجتهاد من أجل أن يكون إيمانه وقرًا في القلب وليس تمنيًا في النفس فحسب.

* * *

بصائر وأحكام

* للأسرة الإيمانية صفتان:

- ذكر الله على كل حال، - والطاعة للرسول صلى الله عليه واله في كل موطن.

ص: 206

لماذا الاعراض عن حكم اللّه؟

وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48)

* * *

هذه سمة أساس لهؤلاء الذين يدّعون الإيمان، وينفي عنهم الرب هذه الصفة. كيف أصبح هذا الأمر معيارًا؟. ولماذا فريق منهم (وليس كلهم) يعرض ومع ذلك يحكم عليهم جميعًا بالنفاق؟.

أولًا: من الغايات الرئيسة للشرائع الإلهية، توحيد الناس. أوَليس في التفرقة عشرات الذنوب؛ مثل الحمية والبغي والقتال؟ أوَليست الوحدة قوة للمؤمنين وبها تتحقق أهداف الأمة السامية، بل وتتحقق أيضًا غايات الدين؟.

والقضاء العادل الذي يمثله الدين وأهله هو الكفيل بإزالة أسباب الخلاف، سواءً كانت في أمور الدين أو مصالح الدنيا. فإذا لم يخضع هؤلاء المدّعون لهذا القضاء، فما هي فائدة إيمانهم، بل كيف نعرف أنهم فعلًا مؤمنون؟.

وهكذا جاء في آية كريمة: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى

ص: 207

يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً (1) .

ثانيًا: فيما يختلف فريقان من المؤمنين ثم يتقاضيان عند النبي أو الإمام، فلا بد أن يحكم لأحدهما على الآخر إن لم يتصالحا. فهناك يتمرد الفريق الذي كان الحكم ضده، وهذا في حد الشرك بالله العظيم.

ثالثًا: الأمة الإسلامية عزيزة مقتدرة ذات قاعدة صلبة تتحدى أعاصير الحوادث. وهكذا فهي متماسكة إلى أبعد مدى. ومثل هذه الأمة هي التي يريدها كتاب الله المجيد، وعلينا أن نسعى جاهدين للارتفاع إلى مستواها، لا أن نحاول إخضاع قيم الدين لمراكز ضعفنا وأسباب تفرقنا وعوامل الهزيمة فينا.

وقد صاغ القرآن الكريم بقدر كبير هذه الأمة. وذلك شاهد على إمكانية صياغته لنا بمثل ذلك إن كنا نستجيب لنداء القرآن ونسلم لتعاليمه، وذلك فضل عظيم من الله علينا أن وفقنا له.

* * *

ص: 208


1- سورة النساء، آية: 65.

خطر الانتقائية على الايمان

وَإِنْ يَكُنْ لَهُمْ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49)

* * *

الإيمان بالحق يعني جعله محور السلوك، أما من يؤمن به حين تقتضي مصلحته، ويعرض عنه حين تتعارض مع الحق مصالحه، فإن المصلحة وليس الحق محوره. ولهذه الانتقائية في الإيمان مضاعفتها الخطيرة.

أولًا: الحق لا يتعارض ومصالح البشر العليا، إنما تتعارض مع بعض المنافع المؤقتة أو حتى مع بعض ما يزعم الفرد أنه مصلحته وليست كذلك.

أوَليست الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد الحقيقية؟.

إذًا فقصر النظر عند هذه الفئة هوالذي يجعلهم يعرضون عن الحق حينًا، ويذعنون له حينًا. وهذا هو الفرق بين مؤمن وغيره. إن الأول يرى أن الله سبحانه قد قدر له كل خير، وأن الدين هو دليل ذلك الخير وليس غيره.

ص: 209

ثانيًا: إن المطلوب هو الإذعان للحق أبدًا، وهذا الإذعان هو التسليم الذي لايقتصر على القبول الظاهري له، وإنما التسليم النفسي أيضًا. وهذا ما أشار إليه الذكر في آية المائدة، ألا يجدوا في أنفسهم حرجًا من قضاء الرسول صلى الله عليه واله . قال الله تعالى: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً (1).

ولعل السبب أن من يعترض على الحق بقلبه، فهو يعترض أيضًا على مصدر الحق والأمر به وهو الدين، مما يجعل هذا الشخص مجردًا عن أي التزام وأي دين.

ثم إنه لا يزال يحايل على الحق حتى يعارضه علنًا، أو يراوغ في تطبيقه. وقد قال الله سبحانه: ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوءَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُون (2).

* * *

بصائر وأحكام

1- من قيم الدين الوحدة، والقضاء العادل وسيلتها، ومن لا يسلّم له يخسر الوحدة ودينه معًا.

2- علينا التسامي إلى حيث يريد منا الدين، وليس صياغة الدين بحيث يتناسب ومستوانا الداني.

ص: 210


1- سورة النساء، آية: 65.
2- سورة الروم، آية: 10.

دركات التسافل إلى هاوية النفاق

أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمْ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ (50)

* * *

أربع حقائق ساقها القرآن هنا، التي قد تكون وراء رفض الحق بعد القضاء.

أولًا: النفاق مرض، والسبب أنه ازدواجية متعمدة..

إنّه معالجة سيئة للصراع بين الضمير الإنساني والفطرة الإيمانية والعقل الموهوب للبشر، وبين الشهوات العاجلة والنفس الأمارة بالسوء. كيف هي معالجة سيئة؟.

لأنها تتمثل في إخفاء الواقع الفاسد المرير. فلا أمل في إصلاحه وإظهار ما يخالفه، كالذي يخفي القاذورات تحت فراش نومه، فأنى له كنسها، وهل يتخلص من جراثيمها؟.

ص: 211

ثم إن المنافق يبقى أبدًا في صراع مع ضميره، ويحاول أبدًا خداع الناس، كما يحاول دائمًا حبك أكاذيب من أجل ذلك، وهو في هلع دائم وتوتر مستمر. فهل هذه حياة؟ فأين سكينة الإيمان، وأين راحة الضمير؟.

وهذا التوتر يؤثر شيئًا فشيئًا في جسده ويحوله إلى مريض جسدي أيضًا. وهكذا يكون قد خسر الدنيا والآخرة.

يقول ربنا سبحانه: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمْ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (1).

ويقول سبحانه: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (2).

ثانيًا: هناك من لا يعاني فعلًا من مرض النفاق ولكنه ضعيف الإيمان، فإذا واجه ظرفًا صعبًا فقد إيمانه وطفق يشك في مبادئه وطفق يتهاوى إلى درك النفاق.

وقد قال الإمام الحسين عليه السلام وهو يصف مثل هؤلاء الناس

:(إِنَّ النَّاسَ عَبِيدُ الدُّنْيَا وَالدِّينُ لَعْقٌ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ يَحُوطُونَهُ مَا دَرَّتْ مَعَايِشُهُمْ فَإِذَا مُحِّصُوا بِالْبَلَاءِ قَلَّ الدَّيَّانُون) (3).

ثالثًا: وطائفة ثالثة قد لا تفقد الإيمان رأسًا، ولكنها تخشى أن ينالها ظلم بسبب حكم الله القاضي ضد مصالحها. ولعل هؤلاء

ص: 212


1- سورة البقرة، آية: 10.
2- سورة المنافقون، آية: 3.
3- بحار الأنوار: ج75، ص116.

هم الذين يفرقون بين العقائد والأحكام، لذلك تراهم يتظاهرون بالإيمان بالمبادئ ولكنهم عند التطبيق يهربون من الحكم الإلهي إلى التشريع الجاهلي.

وقد قال الله سبحانه: يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ (1).

رابعًا: الذي يجمع هؤلاء في سياق واحد هو الظلم. لماذا؟ لأن هؤلاء يريدون أن يأكلوا أموال الناس بالباطل، فتراهم يتوسلون بأحكام الطاغوت حينًا، وبالريب والشك حينًا، ويتخذون نهج النفاق أحيانًا.

إن البغي هو أساس كثير من المفاسد الاجتماعية والأخلاقية، وإذا قرر الإنسان بألاّ يأكل من أموال الناس شيئًا بالباطل، كما قال ربنا سبحانه: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (2).

أقول: إذا فعل ذلك فإنه يتخلص من كثير من أسباب الضلالة. وقد قال الإمام أبو عبد الله الصادق عليه السلام

:(حُبُّ الدُّنْيَا رَأْسُ كُلِّ خَطِيئَةٍ) (3).

ولعل الآية التالية توضح هذه الآية الكريمة، حيث يقول ربنا سبحانه: يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا

ص: 213


1- سورة النساء، آية: 60.
2- سورة البقرة، آية: 188.
3- وسائل الشيعة: ج16، ص9.

نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ (13) يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمْ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (1) .

حيث نستفيد من هذه الآية أن دركات التسافل إلى النفاق هي التالية:

1-

خداع الذات فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ . 2-

التردد وعدم الإقدام وَتَرَبَّصْتُمْ . 3-

الشك وَارْتَبْتُمْ . 4-

التشبث بالأماني وَغَرَّتْكُمْ الأَمَانِيُّ . * * *

بصائر وأحكام

* النفاق مرض خطير ومعالجة خاطئة للصراع بين النفس اللوامة والأخرى الأمارة بالسوء، وصاحبه في توتر مستمر وهلع من فضح سريرته.

ص: 214


1- سورة الحديد، آية: 13-14.

ميزات المؤمن الصادق

إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ (51)

* * *

عبر المقابلة يعرف المرء الحقائق. فأنت لا تعرف المنافق حقًّا، إلا إذا عرفت المؤمن الصادق، لماذا؟.

أولًا: من أشد وساوس إبليس تاثيرًا على الناس بعث اليأس وإضعاف العزم، فيقول مثلًا لا يمكن أن تصبح مؤمنًا. كيف تقدر على ترك مصالحك وتسلِّم للحق؟.

والبرهان الدامغ ضده هو وجود المؤمن المسلِّم كاملًا للقضاء الإسلامي، ذلك لأنه مثلك من لحم ودم وله مصالحه وفي قلبه شيطان يوسوس إليه، ولكنه بقوة إيمانه يردع نفسه ويكبح هواه ويقمع شيطانه.

ثانيًا: المؤمن يسمع أولًا ثم يطيع، وسماعه لا يكون تعنتًا أو بخلفية معينة، إنما يسمع ليعقل وليطبق. أما المنافق فإنه لا يسمع

ص: 215

الحق، بل يراوغ؛ وحتى إذا صك أذنه شيء من الحق أوَّله لما يناسب هواهَ تأويلًا. من هنا كان واجب المؤمن الأول هو: البحث عن الحق بتجرد لتطبيقه بتسليم.

ثالثًا: وهؤلاء قد يخسرون القضاء مؤقتًا، ولكنهم يربحون الحياة ويكون من نصيبهم السعادة والفلاح.

رابعًا: نستفيد من الآية ضرورة الاستجابة عند الدعوة إلى التحاكم إلى الله ورسوله صلى الله عليه واله ، وكلمات الله في كتابه وأهل بيت النبي عليهم السلام، ولخلفائهم من الفقهاء رضي الله عنهم، لأنهم اليوم السبيل إلى الله ورسوله صلى الله عليه واله .

وليس الخلاف الذي يجب أن ننهيه بالرجوع إلى الثقلين؛ ليس هو الخلاف حول حدود أرض أو شجار حول عقد تجاري أو ما أشبه. ليس ذلك فقط، وإنما يشمل كل شيء يثير النزاع بين المؤمنين، من قضية سياسية أو نهج ثقافي أو إستراتيجيات اقتصادية أو ما أشبه.

وبكلمة؛ الرجوع إلى الدين يجب أن يكون بحيث يوحد الأمة ولا يدعها عرضة للصراعات المدمرة، والله المستعان.

* * *

بصائر وأحكام

* وحدة المؤمنين قيمة سامية، وسبيل تحقيقها الرجوع إلى الله والرسول ( الكتاب والعترة) في كل ما يسبب الخلاف من أصغر الشؤون إلى أعلاها.

ص: 216

لكي نكون من الفائزين

وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقِيهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَائِزُونَ (52)

* * *

لكي نفوز لا بد من ثلاثة شروط:

- الطاعة.

-وخشية الرب.

-وتقواه.

فما هو الفوز، وما هي أبعاد تلك الشروط؟.

أولًا: كل بشر ينطوي قلبه على تطلعات سامية، لا يعرف أكثر الناس كيف يحققونها فيحبطون وتتحول أمانيهم إلى أحلام أو كوابيس أو حتى عوامل للفساد. وإذا عرفنا كيف تحقق تلك الطموحات، فإن ذلك هو الفوز. وربنا سبحانه وبواسع رحمته بعباده يدلنا على السبيل اللاحب للفوز.

ثانيًا: الطاعة تعني ارتفاع البشر إلى مستوى تطبيق المناهج

ص: 217

الإلهية. ولاريب أن كثيرًا من الناس تخونهم العزيمة، ويقعد بهم الكسل، وتعاجزهم الظروف من أن يسمو بأنفسهم إلى حيث الطاعة لله وتطبيق مناهج الرب.

ثالثًا: الطاعة قد تكون عادة، كما يصلي ويصوم ويزكي ويحج، ولكنه يفعل كل ذلك استرسالًا منذ صغره، واستجابة للمجتمع المؤمن من حوله.

إنما الطاعة عند التحديات الصعبة هي ميزان الفوز، وأساسها الخشية من الله، وهي ميراث المعرفة بالرب؛ لأن الطاعة بلا أساس الخشية، قد تتلاشى عند مواجهة التحديات.

رابعًا: والتقوى بدورها ميراث الخشية، فمن خشي الرب اتقاه. والتقوى زاد المؤمن عند تعرضه لأمواج الفتن، وعند مقاومته لشهوات النفس، وعند خور عزمه وفشل إرادته.

يقول ربنا سبحانه: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى (1).

خامسًا: في هذه المنظومة من الآيات وآيات قرآنية أخرى اقترنت طاعة الله بطاعة الرسول. لماذا؟. هل لأن طاعة الله تعالى إنما تعرف بطاعة النبي، أم لأن الطاعة لله تتمثل في ثوابت الشرعية بينما طاعة الرسول تتصل بالمتغيرات (مثل الحرب والسلم والقضاء و.. و..)، أم لأن طاعة الله تتجلى في التسليم لكتابه الكريم وطاعة الرسول تتجلى في سنته وعترته؟.

ص: 218


1- سورة البقرة، آية: 197.

كل ذلك صحيح وحق، ولكن تجدر الإشارة أن التعبير هنا وفي أمثاله عن النبي يأتي ب- (الرسول) لعله لبيان أن طاعة الرسول ليست في عرض طاعة الله، بل في طولها؛ أي إنها امتداد، لكي يطرد وسوسة الشرك. فلأن النبي صلى الله عليه واله يحمل رسالة الله تجب طاعته، والله المستعان.

* * *

بصائر واحكام

* الخشية ميراث الإيمان، وهي أساس التقوى، وثمرتها الطاعة لله وللرسول عند التحديات الكبرى.

ص: 219

ص: 220

متى وكيف يتبين صدق الإيمان

* وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (53)

* * *

لماذا تقدم هؤلاء باليمين قسمًا بالخروج للحرب عندما يأمرهم النبي صلى الله عليه واله والقيادة الربانية؟.

أولًا: من أهم ما يميّز المؤمن عن المنافق طاعته عند الاختلاف وفي القتال. وهكذا بعد أن ذكرنا الرب بالأول، ذكرنا بالثاني. فمن صدق الله فيما عاهده كان مؤمنًا. أما الذي يبايع في السلم ويخون عند الحرب، فإنه ليس مؤمنًا حقًا، فلعله حلف يمينًا من أجل الاستفادة من مزايا المقاتلين، أو لكي لا يطرد من المجتمع المسلم الذي يعتبر كله مقاتلًا، أو لأنه كان يتمنى الإيمان ولايعرف حقيقته وإنما يظنه أنه مجرد الادعاء.

ثانيًا: ردهم السياق بأن طاعتكم معروفة سلفًا، ويمينكم لا يغير من الواقع شيئًا، وإنما الذي يغيره العمل.

ص: 221

وقد قال ربنا عن رجال مؤمنين حقًا: مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (1).

ثالثًا: بين القول والعمل، بين التمني والتحدي، مسافة طويلة لا يطويها إلا من عقد كل عزمات قلبه على قطع المسافة بالتوكل على الله سبحانه.

رابعًا: كيف يستطيع الإنسان انتزاع جذور النفاق من نفسه حتى لا يقول إلا ما يعمل به، ولايتولى عندما لا يكون الحق معه عند القضاء، وعندما يؤمر بالقتال؟.

الطريق إلى ذلك هو الإيمان بالله وبأسمائه الحسنى واستحضار عرفانه عند كل حالة وظاهرة. فمن يقول شيئًا يسجل عليه ويطالب به إذا عاهد عليه، ومن يعمل عملًا صغيرًا أو كبيرًا يكتب عند الله ويحاسب عليه.

* * *

بصائر وأحكام

* عند القتال -كما عند الاختلاف- يتبين صدق الأيمان، ولا تنفع اليمين إلا إذا صدقها العمل بالعهد عند المواطن.

ص: 222


1- سورة الأحزاب، آية: 23.

أطيعُوا اللّه وأطيعُوا الرسول

قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (54)

* * *

على الرسول أن يبلغ الرسالة، وعلى الناس أن يستمعوا ويستجيبوا، وكل يُسأل -يوم القيامة- عما كلّف به. ماذا تعني هذه البصيرة في واقعنا؟.

أولًا: إن إبليس قد يوسوس في الصدور بأن الرسول هو المسؤول عن هداكم وعن نجاتكم وأنكم غير مسؤولين. ولعل أكثر من ينتظر آيات خارقة، أو يتوقع إجبار الهداة له على الهدى، أو يريد أن يكون للرسول جنة يأكل منها، أو قرين من ملك، أو يكون له كنز..

أقول: لعل الكثير من هؤلاء هم ممن زعم أن الهداية هي مسؤولية الرسول.

كلا؛ إنما على الرسول صلى الله عليه واله البلاغ وبقية المسؤولية على الناس. وما المسؤولية إلا التبعة التي تلحق الإنسان جراء فعل شيء

ص: 223

أو ترك آخر. وعلينا جميعًا هذه المسؤولية، حيث إننا حملنا الرسالة كما الرسول، بفارق أنه حملها حتى يبلغها إيانا ونحن حملناها حتى نستجيب لها ونعمل بها.

ثانيًا: والاستجابة للرسالة إنما تتم بعد طاعة الرسول طاعة مستمدةً من طاعة الله بصفتها استمرارًا لها؛ طاعة في ثوابت الشريعة كالصلاة والزكاة، وطاعة في متغيرات الحياة كالسلم والحرب.

ثالثًا: وطاعة الرسول سبيل إلى الهدى، حيث إن الله سبحانه جعل الرسول وسيلته التي قال عنها: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (1).

والرسول يدعو لمن يطيعه بالهداية، حيث كان يقول صلى الله عليه واله

:(اللَّهُمَّ اهْدِ قَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) (2). والرسول يأمر بإقامة الشعائر كالصلاة والزكاة والحج وهي وسائل هداية.

كما أن النبي صلى الله عليه واله قد أمر بمنظومة متكاملة من التعاليم الأخلاقية والآداب الاجتماعية وغيرها، وهي كلها وسائل هداية.

وكلمة أخيرة؛ الهداية هدف عظيم، وبلوغها صعب مستصعب، ولن يصل المرء إليها إلا بجهد بالغ ومشقة كبيرة.

* * *

بصائر وأحكام

* الاهتداء إلى الحق مسؤولية كل انسان، وليس على الرسل إلا البلاغ، وبعده على الناس الاستجابة والطاعة في الثوابت والمتغيرات.

ص: 224


1- سورة المائدة، آية: 35.
2- بحار الأنوار: ج 20، ص 20.

شروط الاستخلاف في الأرض

وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ (55)

* * *

1- وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً

ما هي صلة هذه الآية الكريمة بما سبقتها وبإطار السورة، وما هي شروط الاستخلاف في الأرض حسب الآية، وما هي أبعاده؟.

ص: 225

أولًا: إطار سورة النور الأسرة التي هي مشكاة نور الله، والأسرة هذه قاعدة المجتمع الفاضل الذي يتكامل حتى يبلغ مرحلة الاستخلاف في الأرض.

وقد بيّن السياق في الآية السابقة أهم شروط الاستخلاف المتمثل في طاعة الله وطاعة الرسول حتى يبلغ المرء درجة الهداية.

وبقي أن نعرف أن الطاعة التامة المتمثلة في الإيمان والعمل الصالح قد يصل بالمجتمع إلى حالة التمكين في الأرض.

ثانيًا: وعوامل الاستخلاف؛ الطاعة لله والطاعة للرسول، وثم التسليم للقيادة الربانية.

والعمل الصالح بعد الإيمان لا يقتصر فقط على العبادات، وإنما يتسع ليشمل كل الواجبات؛ مثل أمور المعاش من زراعة وتجارة وصناعة وعمران وتقدم في كافة حقول الحياة، كما يشمل أمورًا تتصل بالدفاع، مما قال ربنا سبحانه فيه: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمْ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ شَيْ ءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (1).

وقال سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (2).

وأخيرًا يشمل التقدم العلمي في كافة الحقول، حيث قال

ص: 226


1- سورة الأنفال، آية: 60.
2- سورة آل عمران، آية: 200.

ربنا سبحانه: يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ (1).

ولك أن تتصوَّر أمة تطيع الله وتطيع الرسول وتسلم أمرها لقيادة ربانية وتعمل الصالحات، وبذلك المعنى الواسع لها لك أن تتصور أين تصل هذه الأمة، وكيف تتحدى العقبات ثم تطوي المسافات بين هوة التخلف وقمة الحضارة؟.

ثالثًا: هناك طموحات ثلاثة لكل مجتمع إيماني:

ألف : التغلب على العدو واستخلافه .

باء : التمكن والسلطة السياسية .

جيم : الاستقرار والأمن .

وهذه هي التي يتفضل الله بها على الصالحين من عباده. أما الاستخلاف فقد أنذر الله الظالمين بأنهم يهلكون إذا تمادوا في غيهم ولم يستجيبوا للرسل.

قال الله سبحانه: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمْ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ (2).

وشهادة التاريخ على هذه البصائر كافية لمن ألقى السمع وهو

ص: 227


1- سورة المجادلة، آية: 11.
2- سورة إبراهيم، آية: 13-14.

شهيد، بالرغم من أن المستضعفين وهم يعيشون في أشد الظروف وأعتاها يصعب عليهم تصديق هذه الحقيقة، ولكنها الحقيقة التي دلت عليها عشرات شواهد التاريخ، وقد أشار ربنا إلى ذلك بقوله سبحانه: كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ .

أما الدين المرتضى وما فيه من المبادئ والأحكام والوصايا والتعاليم فإنه يُصبح هو الحاكم القوي في الأرض، بديلًا عن أحكام الشرك وقوانين الكفر.

ولعل في الآية إشارة إلى نعمة الاستقلال التي يمنّ بها ربنا على عباده الصالحين، حيث لا يخضعون للطغاة والجبابرة ولا يستسلمون للضغوط المختلفة سواء كانت من الداخل والخارج.

بقيت النعمة الثالثة وهي الأمن، التي قلّما تنعم بها الدول الأخرى، حيث إننا لا نجد دولة إلا ويهددها عدو من الداخل أو الخارج، بينما الدولة الإسلامية التي يبشر بها ربنا سبحانه تبلغ من العدالة والحرية والاستقرار في الداخل، ومن المنعة والقوة في الخارج، مستوى يجعل أعداءها أضعف من أن يهددوها ويشكلوا خطرًا عليها.

رابعًا: ونعمة الأمن الداخلي والخارجي تبقى ما دامت الصفة الأساس لهذه الدولة باقية، وهي الإيمان بالله سبحانه.

إن الله سبحانه بيّن في آية كريمة، أن الأمن من نصيب المؤمنين الصادقين. قال الله سبحانه: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (1).

ص: 228


1- سورة الأنعام، آية: 82.

2- وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ

لماذا هذا الإنذار هنا؟.

أولًا: لأن الناس قد تتراخى إرادتهم عند النعمة، وينامون على حرير الأماني.

كلا؛ إن النعم موجودة بوجود عواملها، وقد قال ربنا سبحانه: إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ (1).

ثانيًا: الفسق هو الخروج من إطار التقوى، والفاسق يلحقه جزاء فسقه عاجلًا أو آجلًا، فكلما ابتعد عن الشرائع نالته بقدره الصعاب.

ويبدو أن الكفر هنا يقابل الشكر، وهكذا كان نعت الكافر بالفاسق. وكما أن شكر كل نعمة يتناسب وطبيعتها، كذلك الكفر بها. فشكر نعمة الاستخلاف ترك الظلم وتجنب الطغيان والفساد، وقد قال ربنا سبحانه لبني اسرائيل (ولكل من كان مثلهم) بعد نجاتهم من آل فرعون: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (2).

أما شكر نعمة الدين، فهو الاستقامة عليه والاستجابة لتعاليمه في الثقافة والتشريع والأخلاق. والكفر بها عكس ذلك، حيث ذكرنا ربنا بأولئك الذين ورثوا الكتاب فضيعوه، حيث قال سبحانه:

ص: 229


1- سورة الرعد، آية: 11.
2- سورة إبراهيم، آية: 7.

* فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً (1) .

وشكر الأمن الطاعة لولاة الأمر والرجوع إليهم في حلّ الخلافات والصبر والمصابرة، والاستعداد أبدًا للدفاع عن القيم.

* * *

بصائر وأحكام

1- الأسرة قاعدة المجتمع المؤمن، وكلما تكاملت تكامل المجتمع، حتى يبلغ المسلمون مستوى الاستخلاف في الأرض.

2- و من أسباب الاستخلاف والتمكن في الأرض، الطاعة لله وللرسول وللقيادة الربانية والعمل الصالح في كل الحقول.

3- أمن المجتمع الإسلامي رهين عدالته وقوته.

ص: 230


1- سورة مريم، آية: 59.

ركائز الشريعة بين الصلاة والزكاة

وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56)

* * *

دعامتا ثوابت الشريعة؛ الصلاة والزكاة، ودعامة متغيراتها الطاعة. كيف؟.

أولًا: الصلاة توثق علاقة البشر بربهم، وتبرمج حياتهم وفق دينهم، وتصوغ شخصياتهم أفرادًا ومجاميع في بوتقة الإيمان، وترسخ فيهم القيم المثلى.

ولذلك فهي عمود الدين وقربان كل تقي ومعراج المؤمن وخير موضوع، وهي كما قال ربنا: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ (1).

أما الزكاة فهي تنظم علاقات الناس ببعضهم وتخفف من حدّة الطبقية وتؤسس للمجتمع وللدولة، إلى جانب أنها تطهير

ص: 231


1- سورة العنكبوت، آية: 45.

للنفوس من المادية.

قال الله سبحانه: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ (1).

ثانيًا: وطاعة النبي والأئمة عنوان المجتمع الفاضل، لأنها تؤمن الوحدة وتطلق التنافس الحر في المجتمع بعد فكه من أغلال الخلافات والصراعات العقيمة.

وهكذا تستدر الرحمة الطاعة للقيادة الربانية بعد الصلاة والزكاة. والرحمة الإلهية تتمثل حينًا في الاستخلاف في الأرض -كما سبق- وقد تكون في حفظ الأمة من عوادي الدهر ومن فتنة الظالمين.

* * *

بصائرو أحكام

* الصلاة والزكاة ركائز الشريعة، لأنهما تبرمجان صلة الإنسان بربه وبالآخرين، والطاعة ركيزة الوحدة ووسيلة التنافس على الخيرات وسبب الرحمة.

ص: 232


1- سورة التوبة، آية: 103.

كلا، لايعجز الكافرون

لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَمَأْوَاهُمْ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (57)

* * *

بعد ما أكد السياق استخلاف الصالحين في الأرض، كان السؤال: كيف أن قوى الكفر تهيمن على البلاد؟.

فجاء الجواب: كلا، إنهم غير معجزين في الأرض. كيف؟

أولًا: بما أن الإيمان بالله واتباع نهج الدين قاعدة راسخة للحياة الاجتماعية، باعتبارها متوافقة مع سنن الله سبحانه في خلقه، ونظام الكائنات المحيطة بنا، فإن الكافرين يفقدون هذه القاعدة الصلبة، ولذلك فإن بنيانهم على جرفٍ هارٍ، وأيّ هزة يتعرض لها كفيلة بإنهائه.

ثانيًا: ولذلك فإن مظاهر القوة والعزة عند الكفار ينبغي ألاّ تغرنا ولا تحبط عزائمنا في مواجهتهم، ولا يوسوس إبليس في نفوسنا بأنه كيف يستخلف الله الصالحين في الأرض مع تلك القوى التي يملكها أعداؤهم.

ص: 233

كلا؛ إن هذه الوسوسة لا تجد طريقًا إلى قلوب المؤمنين الواثقين من نصر الله سبحانه، بينما تجد كثيرًا من الناس تخدعهم هذه المظاهر عن دينهم، وتجعلهم يستسلمون لليأس أو يخضعون لضغوط الكفار.

ثالثًا: حتى هذه الأيام التي يعيش الكفار خلالها في أمن ظاهر ونعمة نسبية، سوف تعقبها نارجهنم. فما فائدة نعمة زائلة تعقبها نار خالدة، والعياذ بالله؟.

* * *

بصائر وأحكام

* الإيمان بالله وما نزل من الحق والسنن المهيمنة على الخلق، إنه قاعدة صلبة للصالحين يفقدها الكفار، ولذلك فإن بناءهم على جرفٍ هارٍ، وهكذا فإنهم غير معجزين في الأرض.

ص: 234

البيت الإسلامي ومواعيد الخلوة

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمْ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنْ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58)

* * *

1- يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمْ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنْ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ

ابتدأ سياق هذه السورة بالأسرة، وأفاض الحديث فيه، ثم انتقل من الآية (41) إلى الآية (57) إلى بيان ملامح المجتمع الإسلامي، وعاد السياق إلى بيان بصائر عن الأسرة. لماذا، وما هي تلك الحقائق؟.

ص: 235

أولًا: الأسرة هي الوحدة الاجتماعية، وتتأثر الأمة الإسلامية بها سلبًا وإيجابًا، وعلينا -ونحن نصوغ الأسرة- أن نهتم بواقع الأمة لنعرف ما هي ملامحها التي لا بد أن نصوغها من خلال صياغة الأسرة.

ثانيًا: هناك حرمتان للبيت؛ حرمة خارجية، حيث لا يجوز اقتحامه من دون إذن. وحرمة داخلية، لا يجوز لأعضائها أن يطوَّفوا داخله إلا ضمن حدود. والسبب أن الحكمة التي اقتضت حرمة البيت عن الغرباء قد تقتضي حرمته عن بعضهم بعضا. ما هي تلك الحكمة؟.

تتمثل الحكمة في الحرية التي ينشدها البشر في إطار حكم الله وقيم الحق. فلأن المسلم الملتزم محتشم، فلا يجوز الدخول على بيته من دون إذنه. وللسبب ذاته أيضًا، لا يجوز لأبنائه الدخول عليه في غرفة نومه في ساعات خلوته إلا بإذنه.

ثالثًا: هذه الأوقات -الثلاثة- قبل الفجر وبعد العشاء وعند الظهيرة لمن يضع ثيابه، هي التي ينبغي أن يختارها الفرد لراحته. أما عند الفجر فإن الكائنات تستيقظ ويجدر بالانسان أن يتناغم معها.

وفي الحديث عن الإمام محمد الباقر عليه السلام، قال

:(... فَعَلَيْكُمْ بِالدُّعَاءِ فِي السَّحَرِ إِلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ فَإِنَّهَا سَاعَةٌ تُفَتَّحُ فِيهَا أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَتُقَسَّمُ فِيهَا الْأَرْزَاقُ وَتُقْضَى فِيهَا الْحَوَائِجُ الْعِظَامُ) (1).

ص: 236


1- الأصول من الكافي، ج2، ص478.

أما بعد العشاء فإنه أفضل ساعة للنوم والاستراحة. وهكذا نستفيد من هذه الآية أفضل تنظيم للوقت بين النوم واليقظة. فساعات الصباح الأولى، ثم من بعد النوم عند الظهيرة، هي أفضل أوقات الشغل. أما الاستراحة فمن بعد صلاة العشاء وعند الظهيرة.

رابعًا: الإسلام دين التعاون الذي يبدأ من محيط الأسرة، حيث يختلط أبناؤها فيما بينهم بلا تكلف، فهم يطوفون بينهم باستمرار وبكثافة للتعاون في أداء مهام البيت؛ مثل إعداد الطعام والشراب وسائر مستلزمات الحياة؛ مثل البناء والتنظيف والترتيب والإنتاج الزراعي والصناعي، وما أشبه.

بلى؛ يجب أن يكون هذا الطوفان في ساعات معينة، حتى لا يسبب أي إزعاج لأبناء الأسرة، خصوصًا الكبار في السن منهم الذين يحتاجون إلى الراحة والخلوة أكثر من غيرهم.

وهكذا لا يحبذ الإسلام حسبما يبدو لنا من هذه الآية ومن منهاج الإسلام في العيش المشترك، لا يحبذ العيش الانفرادي الذي قد نجده عند الإنسان الغربي من العيش في الشقق الضيقة والخاصة بعائلة صغيرة.

وحينما ننظر إلى طبيعة حياة الأسرة المؤمنة، نجد هذا الخط الإسلامي الذي يحفل بمعاني التعاون والتكامل والتكافل.

2- كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ

العلم هو الكشف المباشر والمحيط بالحقائق، والحكمة هي تنظيم الحياة وفق الأسس العلمية والقيم الفطرية. فما هي هذه

ص: 237

الآيات التي بينها الرب وزادنا بها علمًا من علمه الواسع، وحكمة من حكمته البالغة؟.

أولًا: ما بيّنه ربنا من تنظيم الحياة الاجتماعية في الأسرة -لو تدبرنا فيه عميقًا- فقد ننفذ من خلالها إلى حقائق أوسع مدى وأعمق غورًا. ذلك لأن الآية تعني العدالة التي تهديك إلى حقيقة ربما كانت غامضة عليك. فليست الآية هي ذاتها حقيقة فقط، بل هي سبيل إلى معرفة أوسع؛ مثلًا حينما رفع الإسلام الحرج عن الأطفال والتابعين بالطواف بين البيوت (وهي كانت غرف النوم عادة) بعد الفجر، يعني ذلك أن ساعات الصباح الأولى هي ساعات مميزة للنشاط الاجتماعي. أليست الطبيعة كلها تستيقظ معك؟ فأسراب الطيور تراها تملأ السماء مسبحة بحمد ربها، ساعية وراء رزقها. ألا ترى الأنعام كيف تبدأ برعيها، وحتى الحشرات (مثل النملة والنحلة) تنشط في تلك الساعات.

وإذا بحثنا عن السبب، فنجده في مدى غنى هذه الساعة بالمواد النافعة للجسم، إضافة إلى أنها تأتي بعد راحة طويلة واستيقاظ للخلايا واستعداد من قبل أجهزة الجسد للعمل. وهكذا يكتشف العلم اليوم الكثير من أسرار هذه الساعة، حتى إن الأطباء يعتقدون أنها أفضل ساعة للرياضة وتناول الأطعمة التي لا تضر الجسد أبدًا.

ثانيًا: من هنا نعرف أن آيات القرآن التي ظاهرها حكم وباطنها علم، هي إثارات للبحث، وعلينا أن نفتح بها مغاليق الفكر ونثير بها دفائن العقول. كيف؟.

حينما تسمع آية تدبر فيها أولًا حتى تفهم ظاهرها، ثم احملها

ص: 238

كمصباح أزهر إلى محيطك، واسْعَ لفهم الزوايا الغامضة فيه بتلك الآية. ثم طبقها على الواقع الخارجي، وتأمل عميقًا في ذلك الواقع على ضوء تلك الآية، وشيئًا فشيئًا تتكشف أمامك من تلك الحقائق المزيد.

ولا تنسى أن مفتاح فهم الواقع بالآيات هو الإيمان بحكمة الرب، وأنه لم يقل هذه الكلمة، بل هذا الحرف بلا سبب. هناك تصبح بإذن الله قادرًا على الفهم ولو بعد حين، حيث إنك قد لا تفهم ما تعني الآية في الواقع الخارجي في الوهلة الأولى، ولكن مع الإلحاح تتوضح لك الحقائق بإذن الله تعالى.

* * *

بصائر وأحكام

1- الأسرة هي لبنة واحدة في بنيان المجتمع، وكلما ابتغينا في المجتمع ينبغي أن نوفره أولًا في الأسرة.

وهدف الإسلام بناء مجتمع متعاون، يحافظ الفرد على خصوصيته، في الوقت ذاته الذي يتعاون مع الآخرين في الشؤون العامة، وكذلك الأسرة.

2- أفضل تنظيم لوقت الراحة بعد العشاء وعند الظهيرة والاستيقاظ مبكرًا عند السحر.

3- القرآن ظاهره حكم (وحكمة) وباطنه علم (ومعرفة). وعلينا أن نتدبر في ظاهر القرآن لمعرفة حكمه، ثم نستثير به عقولنا لمعرفة الحقائق على ضوئها.

ص: 239

ص: 240

كيف نتعامل مع الأطفال

وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمْ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59)

* * *

شرّف ربنا هذه الآيات دون سابقتها بأنها آياته. لماذا؟.

أولًا: هناك حدود حاسمة يجب الاهتمام بها، ولا يجوز أن تهمل بسبب العادة والاسترسال. فالطفل حينما يبلغ يدخل في حد جديد، ولا بد من التعامل معه على ذلك الأساس. ومن الخطأ ما نجده عند بعض الأسر من اللامبالاة فيما يتصل بالأطفال، والإسترسال في التعامل معهم كأطفال صغار حتى بعد بلوغهم، مما يسبب لهم مشاكل شتى، منها مثلًا: العلاقة غير المشروعة بين الجنسين في محيط الأسرة أو العكس وهو الإشباع العاطفي مما يفقدهم فرصة الاقتران بالزواج فيما بينهم أو حتى الارتباط العاطفي بين الجيل الناشيء والجيل السابق، مما يدعو إلى خلخلة في العلاقة الزوجية السابقة والإشباع الجنسي بالجيل الناشيء.

ص: 241

وهكذا هناك مفاسد شتى تلحق عدم الاهتمام ببلوغ الأطفال والسماح لهم بالطواف بين غرف النوم بحرية وبلا استيذان.

ثانيًا: إذا كان تنظيم أوقات النوم والعمل مما سبق بيانه يهدينا إلى آيات الله في خلقه، فإن استيذان البالغين يهدينا إلى آيات الله في الدين، وهي أهم من الأولى، وربما لذلك شرّف ربنا هذه الآيات بالنسبة إليه تأكيدًا عليها وبيانًا لوجوبها، بينما ذكرنا هنا كما في الآية السابقة بعلمه وحكمته لأنهما مشتركتان فيما بينهما.

* * *

بصائر وأحكام

* يجب التوقف عند حدود الله لما في تجاوزها من عواقب سيئة. ومن الحدود التعامل مع الأطفال عند بلوغهم كبارًا، خصوصًا في علاقاتهم بالأسرة.

ص: 242

حكم وضع الثياب للقواعد من النساء

وَالْقَوَاعِدُ مِنْ النِّسَاءِ اللاَّتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60)

* * *

في محيط البيت قد تتواجد كبار السن من النساء، ومن الصعب عليها أن تتحجب، فما هو المعيار للحكم لها بالسماح في عدم الحجاب؟.

أولًا: مثل هذه المرأة يجوز لها ترك الحجاب بشرطين:

ألف : ألاّ ترجو نكاحًا .

باء : ألاّ تتبرج بزينة .

وعند التأمل نجد هدف الشرطين واحدًا، وهو تجنب الإثارة الجنسية. فهو الحكمة في السماح لها بوضع الثياب. وواضح أن المراد منها تلك التي يجب على غيرها لبسها، وهي ثياب الخروج

ص: 243

من البيت، وهي الخمار.

ثانيًا: إن هذا الحكم يعكس واقعية التشريع الإسلامي، وأنه يلاحظ الظروف الواقعية للمكلّف ألاّ يكون الحكم عليه سببًا للحرج، كما يعكس تمحور أحكام الدين حول الحكم والمصالح.

ثالثًا: ومع ذلك فإن العفة مطلوبة لمثلهن. لماذا؟ لأنهن بوضع الثياب قد يسببن في بعض الإثارة عند مرضى القلوب والشبقين جنسيًّا أو المحرومين منه.

وخاتمة الآية تدل على ضرورة التقّيد بأحكام الشرع خوفًا من الله سبحانه، وعدم تبرير التبرج ببعض الأعذار غير الواقعية.

* * *

بصائر واحكام

* محور أحكام التشريع في حرمة التبرج الإثارة الجنسية، والحكم الإسلامي يعدل بين القيم والواقعية.

ص: 244

آداب الإسلام في العلاقات الاجتماعية

لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلَى أَنفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (61)

* * *

1- لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلَى أَنفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ

ص: 245

ما هي هذه البيوت التي أذن الله لنا الأكل منها، وما هي حكمة هذا الحكم؟.

أولًا: إن القيمة الأساس في الدين احترام حقوق الناس، وعدم أكل أموالهم بغير حق. ولكن هذه القيمة يجب ألاّ تتحول إلى عائق للتلاحم الاجتماعي، وللنظام القويم؛ مثلًا الإسلام يأمر بالاختلاط مع الأيتام بالرغم من احتمال تجاوز جزئي على بعض حقوقهم، مما يجعل البعض يتحرج من اختلاطهم. كما أن الإسلام يأمر بالرقابة على أموال السفهاء والقصّر، وهنا ومن أجل المزيد من التلاحم بين الأقارب أجاز الدين الأكل من البيوت لكي لا يتحرج الواحد من تناول الطعام في هذه البيوت مما قد يتسبب في القطعية.

ثانيًا: خص السياق بيت الشخص بالذكر، مما طرح سؤالًا عند البعض: أليس الإنسان يأكل من بيته؟.

بلى؛ ولكن قد يتحرج البعض فلا يأكل حتى يسأل عن مصدر هذا الطعام، فلعله هدية لزوجته من أهلها أو هو من أموال أولاده أو ما أشبه.

كلا؛ ما دام الطعام في بيتك فكل منه هنيئًا حتى تعرف أنه حرام عليك.

ثالثًا: الطبقة المحرومة في المجتمع، كالأعمى والأعرج وسائر المعوقين الذين أطلق السياق عليهم اسم المريض حسب الظاهر، إن هذه الطبقة ذات حق في أموال المجتمع. أوَليس لكل إنسان الحق في الطعام والعيش الكريم؟ وما دام الفرد عاجزًا عن تأمينه لنفسه فحقه في أموال الناس جميعًا.

ص: 246

2- أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً

ماذا يعني هذا الترتيب في سرد البيوت؟.

أولًا: إن هذا الترتيب هو بالضبط ترتيب الإرث وفرائضه في الإسلام، وهو يعكس سنة الله في العلاقات الأسرية.

ثانيًا: السماح بالأكل من هذه البيوت يرفع الحرج من التطواف بينها من قبل الأسرة الكبيرة التي كانت تتشكل منها التجمعات السكنية سابقًا، مما يزيد من التلاحم الاجتماعي الذي هو هدف أساس من أهداف المجتمع المسلم.

ثالثًا: رفع الكلفة بين المرء وأصدقائه أو بينه وبين الأمناء، إنه هو الآخر يساهم في المزيد من التلاحم الاجتماعي، مما يؤدي إلى صلابة قاعدة المجتمع وزيادة قدراته لمواجهة التحديات.

رابعًا: لعل المراد من قوله سبحانه: جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً الإشارة إلى حالتين:

الأولى : عندما تجتمع الأسرة بمناسبة معينة فيما بينهم، حيث يقدم الطعام للجميع .

الثانية : حالة الزيارات الخاصة أو الخاطفة لبعض أبناء الأسرة الكبيرة لبعضهم . والله العالم .

3- فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ

ص: 247

مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ

في ختام الآية التي تضمنت آداب التعامل داخل الأسرة، نجد عدة آداب، فما هي؟.

أولًا: أدب السلام الذي يتبادله المؤمنون عند التلاقي، والذي يعكس جملة أحكام الشرع في العلاقات الاجتماعية القائمة على أساس الاحترام المتبادل، كما يعكس الروح الإيجابية التي تنضح بالحب والإكرام.

ثانيًا: هذه التحية هي من عند الله، وهي مباركة تسبب في استدرار الرحمة الربانية، وهي تطيب حياة الأمة، لأنها تضفي علينا مسحة معنوية توصلها إلى رحاب الرب، حيث يشترك المؤمنون في حبه والتقرب إليه وكأنهم عنده في مقعد صدق عند مليك مقتدر.

ثالثًا: إن هذه الآيات توفر لنا فرصة للتفكر ومن ثم للتعقل، حيث إنها تفتح أمامنا آفاق المعرفة، وتجعلنا نكتشف الحقائق مباشرة ونستفيد منها في شتى حقول الحياة بإذن الله تعالى.

* * *

بصائر وأحكام

1- ينبغي ألا يصبح إحترام أموال الآخرين عائقًا أمام التلاحم الاجتماعي.

2- للمحرومين حق الرزق في أموال المجتمع، والتحية هي صبغة المجتمع المسلم وتعكس روح المحبة بينهم وتضفي على المجتمع مسحة إلهية.

ص: 248

طاعة القيادة معيار الإيمان

إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (62)

* * *

1- إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ

أول سؤال: لماذا الحديث عن صفات المؤمنين مرة أخرى؟.

والسؤال الثاني: ما هي فاعلية هذه القيمة في قياس إيمان الناس؟.

أولًا: الأسرة الفاضلة التي يبدو أنها محور هذه السورة

ص: 249

المباركة ليست هدفًا بذاتها، بل هي منطلق لبناء مجتمع إيماني فاضل. وهكذا يجري الحديث عنه بين الحين والآخر، إلا أن الكلام هنا يبدو يتناول جانبًا من المجتمع ذات أهمية قصوى وهي الطاعة للقيادة.

ثانيًا: في ثوابت الشريعة قد يتعود المؤمن عليها؛ مثل الصلاة والصيام. أما فيما يتصل بالمتغيرات التي تمس مصالح الناس مباشرة، وكثيرًا ما تضادها، فإن الطاعة ليست سهلة. من هنا تعتبر هذه الطاعة مقياسًا لمدى رسوخ الإيمان في النفس. أوَليس الإيمان وقر في القلب، تصدقه الأركان؟.

ثالثًا: حينما يتكرر ذكر الإيمان، فإن الثاني يعني إيمانًا حقًا. فكأن السياق جاء هكذا، إنما المؤمنون هم الذين آمنوا حقًا بالله ورسوله إيمانًا تصدقه مواقفهم، ومنها أنهم إذا كانوا مع رسوله في أمر جامع؛ مثل القتال والدفاع أو النهضة العمرانية وما أشبه.. فإنهم لن يتركوه إلا بعد الاستيذان.

وواضح أن بعض المؤمنين ظاهريًا تراهم يتسللون لواذًا ويخالفون أمر الله سبحانه وأمر رسول الله صلى الله عليه واله .

2- فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ

كأن الاستيذان ذاته منقصة مما استدعى الاستغفار. لماذا؟.

أولًا: حينما يكون الرسول أو أي قائد رباني يستخلفه حقًا مشغولًا بأمر جامع في حرب أو سلم، كيف يجوز لمسلم أن يتركه

ص: 250

وشأنه ويهتم بما يخصه من شأن أو يكون شأنه أهم من قضايا الأمة؟.

لذلك فأصل الاستيذان خطأ. ولو كان لا يبلغ خطأ التسلل لواذًا من دون استيذان، والله سبحانه تفضل على مثل هؤلاء حينما أمر النبي صلى الله عليه واله بالاستغفار لهم.

ثانيًا: من المفروض أن يكون للإستيذان سبب معقول، الذي عبر عنه السياق بقوله: لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ والرسول هو المفوض من قبل الله سبحانه ليأذن لمن شاء حسب تقييم الوضع. والرسول صلى الله عليه واله يطبق أحكام الدين، ولكنه يلاحظ ظروف الناس الواقعية، لأنه رسول رب غفور رحيم. وهكذا دين الإسلام هو دين الرحمة والمغفرة.

* * *

بصائر وأحكام

* قد تصبح الطاعة في ثوابت الشريعة عادةً للمسلم، بينما الطاعة لله وللرسول (وللقيادة الربانية) التي قد تتعارض مع مصالح الفرد معيار دقيق لمدى الإيمان الحق، ومن ذلك عدم تقديم الشأن الخاص على الشأن العام.

ص: 251

ص: 252

طاعة الرسول أمان من الفتنة

لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذاً فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63)

* * *

1- لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً

يبدو هذه مرحلة متقدمة في الإيمان. كيف؟.

حينما يغمر القلب بحب النبي صلى الله عليه واله واحترامه، ينعكس ذلك على ملامح الوجه وأسلوب التعبير. وهكذا أمر الرب بأن يكون التعامل مع النبي صلى الله عليه واله مختلفًا عن التعامل مع سائر الناس، بأن يكون باحترام بالغ يليق بمقامه.

2- قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذاً

أولًا: لماذا استخدم السياق كلمة قد، التي إذا دخلت على صيغة المضارع أفادت الاحتمال؟.

ص: 253

لأن الله يعلم دائمًا، ولكنه حتى ولو اختصر علمه على بعض الأحايين، كان يكفي رادعًا للبشر أو يكون أمرًا سهلًا اطلاع جبار السماوات والأرض على معصية العبد، وهو الذي حسب الحديث الشريف المروي عن أبي عبد الله عليه السلام، قال:(

مَنْ هَمَّ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يَعْمَلْهَا فَإِنَّهُ رُبَّمَا عَمِلَ الْعَبْدُ السَّيِّئَةَ فَيَرَاهُ الرَّبُّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فَيَقُولُ وَعِزَّتِي وَجَلَالِي لَا أَغْفِرُ لَكَ بَعْدَ ذَلِكَ أَبَدًا) (1).

ثانيًا: التسلل لواذًا للهروب من الساحة تحت جنح الظلام أو باسم تبريرات مختلفة.

3- فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ

ما هي تلك الفتنة؟.

أولًا: من أعظم منافع الأمة عند طاعة الرسول وحدتهم. فإذا تراجعت الطاعة ابتليت بفتنة الصراع، وهي سوف تلهيهم عن أهدافهم، وتذهب ريح عزتهم وصيت قوتهم عند الأعداء، وهي تكون حالقة لدينهم، ومفسدة لأخلاقهم.

ثانيًا: الرسول رحمة الله لعباده، وطاعته أمان من العذاب، فإذا خالفوه عمهم عذاب أليم. ليس فقط لأنهم يتخلفون عن ركب الحضارة ويصيبهم التخلف ويحيط بهم الذل، وإنما أيضًا لأنهم سوف يجازون بذنوبهم في الدنيا قبل الآخرة.

ص: 254


1- المحاسن: ج 1، ص 117.

ألم يقل ربنا سبحانه: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (1).

* * *

بصائر وأحكام

* احترام الرسول صلى الله عليه واله (ومن يمثله حقًا) دليل إيمان المسلم، وكذلك الإخلاص في طاعته (وعدم التسلل عنه لواذًا) وطاعته أمان من الفتنة ومن العذاب الأليم في الدنيا والآخرة.

ص: 255


1- سورة الأنفال، آية: 33.

ص: 256

التقوى ميراث الايمان

أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (64)

* * *

الآية الأخيرة من سور الذكر عادة قد تختصر بصائر السورة، أو تشير إلى أبرزها، فما هي بصائر هذه الآية؟.

أولًا: قدرة الله مهيمنة على الكائنات التي تخضع لمشيئته سبحانه.

ووعي هذه البصيرة تجعل القلب أقرب إلى التقوى. فما دامت السماوات والأرض خاضعة تمامًا لهيمنة الرب، وتدبيره ساعة بعد ساعة، فأين المؤمن لحكومته؟.

أوَليس التسليم للرب هوالسبيل الوحيد للنجاة؟.

إن مالكية الرب لما في السماوات والأرض لا تعني فقط خالقيته، بل وأيضًا تدبيره الدائم لها. فمن خرج عن سلطان الرب

ص: 257

فإنه يعرض نفسه لمواجهة كل ما في السماوات والأرض.

ثانيًا: وعلم الله سبحانه محيط بما يفعله البشر، وما يوسوس به صدره. وهكذا كان حقًا علينا مراقبته في سرّ أسرارنا، وفي يوم القيامة ينتظرنا الحساب، الذي لا يمكن لأحد أن ينكر فعله هناك، حيث الذي يحاسب وينبأ الإنسان بعمله هو رب العزة الشاهد على كل شيء.

وهكذا لا يصلح الإنسان إلا إحساسه أولًا بمالكية الرب ما في السماوات والأرض، وعلمه بما يفعله، وأنه سوف يخبره بما فعل لأنه بكل شيء عليم.

* * *

بصائر وأحكام

* وعي قدرة الرب وهيمنته التامة يزيد القلب تقوى ومراقبة الرب في السر كما في العلن.

ص: 258

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
هَلْ یَسْتَوِی الَّذِینَ یَعْلَمُونَ وَالَّذِینَ لَا یَعْلَمُونَ
الزمر: 9

عنوان المکتب المرکزي
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.