توظيف كلام الإمام علي في فهم النص القرآني

اشارة

رقم الإيداع في دار الكتب والوثائق العراقية ببغداد 3008 لسنة 2018 م

________________________________

مصدر الفهرسة : IQ-KaPLI ara IQ-KaPLI rda

رقم تصنيف LC : BP39.5.A4 M39 2018

المؤلف الشخصي : الميالي، رقية ناجح – مؤلف.

العنوان : توظيف كلام الامام علي عليه السلام في فهم النص القرآني /

بيان المسؤولية : تأليف المدرس المساعد رقية ناجح الميالي.

بيانات الطبع : الطبعة الاولى.

بيانات النشر : كربلاء، العراق : العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة، 2018 / 1439 للهجرة.

الوصف المادي : 240 صفحة ؛ 24 سم.

سلسلة النشر : (العتبة الحسينية المقدسة ؛ 525 ).

سلسلة النشر : (مؤسسة علوم نهج البلاغة ؛ 158 ).

سلسلة النشر : (سلسلة المعارف القرآنية في نهج البلاغة؛ 2).

تبصرة ببليوجرافية: يتضمن هوامش ، لائحة المصادر (الصفحات 223 - 236 ).

موضوع شخصي : علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة- 40 للهجرة -- أحاديث.

موضوع العنوان : القرآن – سور و آيات – تفاسير مأثورة.

مصطلح موضوعي: عقائد الشيعة الامامية – أحاديث.

مصطلح موضوعي: الفقه الجعفري (الشيعة الامامية) – أحاديث.

مؤلف اضافي : الحسني، نبيل قدوري، 1965 - ، مقدم.

اسم هيئة اضافي : العتبة الحسينية المقدسة (كربلاء، العراق). مؤسسة علوم نهج البلاغة – جهة مصدرة.

________________________________

تمت الفهرسة قبل النشر في مكتبة العتبة الحسينية

ص: 1

اشارة

بسم الله الرحمن الرحیم

توظيف كلام الامام علي عليه السلام في فهم النص القرآني

ص: 2

سلسلة المعارف القرآنية في نهج البلاغة (2)

توظيف كلام الامام علي عليه السلام في فهم النص القرآني

تأليف: المدرس المساعد رقية ناجح الميالي

إصدار

مؤسسة علوم نهج البلاغة

في العتبة الحسينية المقدسة

ص: 3

جميع الحقوق محفوظة

للعتبة الحسينية المقدسة

الطبعة الأولى

1439 ه- - 2018 م

العراق: كربلاء المقدسة - شارع السدرة - مجاور مقام علي الأكبر علیه السلام

مؤسسة علوم نهج البلاغة

هاتف: 07728243600 - 07815016633

الموقع: www.inahj.org

Email: Inahj.org@gmail.com

تنويه:

إن الآراء والأفكار الواردة في هذا الكتاب تعبر عن وجهة نظر كاتبها،

ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر العتبة الحسينية المقدسة

ص: 4

بسم اللّه الرحمن الرحيم

(وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ )

صدق اللّه العليُّ العظيم

[ آل عمران: 7]

ص: 5

ص: 6

الإهداء

إلى...

الدرِّ والذَّهب المصفَّى

إلى مَن شُفِيَ مَن لَدَيْه استَشْفى

إلى مَن صَدَقَ ما عاهدَ اللّه عليه فوَفَّی

إلى مَن لا يعرفه إلَّا اللّه والمصطفى

حرفًا أُقدِّمُهُ في سجلِ مَن أوفی

أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب علیه السلام

ألِجُ إليه من باب شبله البالغ أقصى غاية الجود، أضعها في كفه المقطوع لتبتَلّ من جود جوده الهاوي من الجواد فهو معدن الإخلاص وأخلص من أوفى أبو الفضل العباس علیه السلام

أهدي ثمرة جهدي

رقيَّة

ص: 7

ص: 8

مقدمة المؤسسة

الحمد للّه على ما أنعم وله الشكر بما ألهم والثناء بما قدم، من عموم نعم ابتدأها وسبوغ آلاء أسداها، وتمام منن والاها، والصلاة والسلام على خير الخلق أجمعين محمد وآله الطاهرين.

أما بعد:

فلم يزل كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) منهلاً للعلوم من حيث التأسيس والتبيين ولم يقتصر الأمر على علوم اللغة العربية أو العلوم الإنسانية، بل وغيرها من العلوم التي تسير بها منظومة الحياة وإن تعددت المعطيات الفكرية، إلا أن التأصيل مثلما يجري في القرآن الكريم الذي ما فرط اللّه فيه من شيء كما جاء في قوله تعالى: ﴿مَا فَرَّطْنَا الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ﴾ ، كذا نجد يجري مجراه في قوله تعالى: ﴿وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ﴾ ، غاية ما في الأمر أن أهل الاختصاصات في العلوم كافة حينما يوفقون للنظر في نصوص الثقلين يجدون ما تخصصوا فيه حاضراً وشاهداً فيهما، أي في القرآن الكريم وحديث العترة النبوية (عليهم السلام) فيسارعون وقد أخذهم الشوق لإرشاد العقول إلى تلك السنن والقوانين والقواعد والمفاهيم والدلالات في القرآن الكريم والعترة النبوية.

من هنا ارتأت مؤسسة علوم نهج البلاغة أن تتناول تلك الدراسات العلمية

ص: 9

المختصة بعلوم نهج البلاغة وبسيرة أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) وفكره ضمن سلسلة علمية وفكرية موسومة ب-(سلسلة المعارف القرآنية في نهج البلاغة) التي يتم عبرها طباعة هذه الكتب وإصدارها ونشرها في داخل العراق وخارجه بغية إيصال هذه العلوم إلى الباحثين والدارسين وإعانتهم على تبين هذا العطاء الفكري والانتهال من علوم أمير المؤمنين علي (عليه السلام) والسير على هديه وتقديم رؤى علمية جديدة تسهم في إثراء المعرفة وحقولها المتعددة.

وما هذه الدراسة التي بين أيدينا إلا واحدة من تلك الدراسات التي وفقت فيها الباحثة للغوص في بحر علم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، فقد أذن له بالدخول إلى مدينة علم النبوة والتزود منها بغية بيان أثر تلك المرويات العلوية، لا سيما في حقل توظيفها في فهم النص القرآني.

فجزى اللّه الباحثة كل خير فقد بذلت جهدها وعلى اللّه أجرها.

السيد نبيل الحسني الكربلائي

رئيس مؤسسة علوم نهج البلاغة

ص: 10

المقدِّمة

الحَمدُ لله الناَّشِرِ الخلَقِ فَضلَهُ، وَالبَاسِطِ فيِهِم بِالْجُودِ يَدَهُ، نَحمَدُهُ في جَمِيعِ أُمُورِهِ، وَنَسْتَعِينُهُ عَلَی رِعَايَةِ حُقُوقِهِ، وَنَشهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ غَيرُهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبدُهُ وَرَسُولُهُ، أَرْسَلَهُ بِأَمرِهِ صَادِعًا وَبِذِكرِهِ نَاطِقًا، فَأَدَّى أَمِيناً وَمَضَی رَشِيدًا، وَخَلَّفَ فِينَا رَايَةَ الحَقِّ مَن تَقَدَّمَهَا مَرَقَ، وَمَن تَخَلَّفَ عَنْهَا زَهَقَ، وَمَن لَزِمَهَا لَحِقَ، دَليِلُهَا مَكِيثُ الكَلَامِ، بَطِيءُ القِيَامِ سَرِيعٌ إِذَا قَامَ(1) .

اللهم اِجْعَلْ شَرَائِفَ صَلَوَاتِكَ وَنَوَامِيَ بَرَكَاتِكَ عَلَی مُحَمَّدٍ عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ اَلْخَاتِمِ لِمَا سَبَقَ وَاَلْفَاتِحِ لِمَا اِنْغَلَقَ وَ اَلْمُعْلِنِ اَلْحَقَّ بِالْحَقِّ، وعلى آله الطيبين الطاهرين.

تنوعت الموضوعات وكثُرت المؤلفات في رحاب كلام الإمام علي علیه السلام، فمن الباحثين من كتب في نهج البلاغة، ومنهم من كتب في أدعيته علیه السلام، وآخرون كتبوا في رسائله وحِكَمِهِ علیه السلام، ولذا لم أجد بُّدًّا من حثِّ الخطى على طريقهم في اختيار عنوان رسالتي، التي جاءت بحِلَّةٍ جديدة سعَيتُ فيها إلى توظيف كلام الإمام علي علیه السلام في فهم القرآن الكريم ما استطعتُ إلى ذلك سبيلًا ، فكان أن استقرَّ عنوانها موسومًا ب (توظيف كلام الإمام علي علیه السلام في فهم النصَّ القرآني).

ص: 11


1- (1) نهج البلاغة، محمد عبده: 1 / 193 .

أمَّا سبب اختياري لهذا العنوان فقد كان المنطلق الأوَّل له قولٌ للإمام علي علیه السلام جاء فيه:

«أفيضوا في ذكر الله فإنِّه أحسن الذِّكر... وتعلموا القرآن فإنَّه أحسن الحديث، وتفقهوا فيه فإنَّه ربيع القلوب، واستشفوا بنوره فإنَّه شفاء الصدور، وأحسنوا تلاوته فإنَّه أحسن القصص، فإنَّ العالم العامل بغير علمه كالجاهل الحائر الذي لا يستفيق من جهله، بل الحجة عليه أعظم، والحسرة له ألزمُ، وهو

عند الله أَلْوَمُ، إنَّا لم نحكِّم الرِّجال وإنَّما حكَّمنا القرآن، وهذا القرآن إنَّما هو خط مستور بين الدفتين لا ينطق بلسان، ولا بدَّ له من تَرجمان، وإنَّما ينطق عنه الرجال، وعليكم بكتاب اللّه فإنَّه الحبل المتين والنُّور المبين، والشفاء النافع،والرَّي الناقع والعصمة للمتمسك والنَّجاة للمتعلق، لا يَعوَجُّ فيقامَ ولا يَزِيغُ فيستعتبَ، ولا تُخلِقُهُ كثرةُ الردِّ وولوج السمع، من قال به صدق ومن عمل به سبق »(1)، فالتَّأسي والأخذ بهذا القول هو المنطلق الأول لاختيار العنوان، كي يكون التوظيف من كلام الإمام علیه السلام واستشفاء بنور كلامه لأنَّه القرآن الناطق.

أما السَّبب الآخر فهو بيان جانب من كلام الإمام علیه السلام في تفسير القرآن الكريم؛ إذ يمكن الاعتماد عليه في فهم كثير من النُّصوص القرآنية، ليس كلامه الذي في نهج البلاغة -كما هو المشهور- فحسب، بل أينما وجد كلام الإمام علیه السلام في النهج وغيره أيضًا، بعَدِّ كلام الإمام علیه السلام قراءة في كتاب اللّه تعالى؛ فالإمام هو القرآن الناطق، وظهرت في ميدان التفسير والمفسرين حاجة المفسرين إلى كلام الإمام علیه السلام في فهم النص القرآني والاستشهاد به في كثيرٍ من آياته المباركة، وبما أنَّ آيات القرآن الكريم حَوَتْ في نصوصها الفقه والعقائد وغيرها؛ لذا تطلب

ص: 12


1- (1) نهج البلاغة: 2 / 49 .

البحث بعد المقدمة تمهيدًا لبيان مفردات العنوان والمقصود منها في هذا البحث، ثم بيان أهمية كلام الإمام علي علیه السلام عن طريق توظيفه في فهم النص القرآني (1).

ولا أدَّعي أنِّ كنتُ سبَّاقةً في هذا السبيل؛ لأنَّ البحث قد ارتكز على بعض الكتابات ليستوي على سوقه؛ إذ كانت أقرب تلك الكتابات هي البحث الموسوم ب- (أثر نهج البلاغة في تفاسير الإمامية في القرن الخامس عشر الهجري) للباحث مُحسِن الخزاعي؛ إذ أكَّد الباحث فيها ضرورة اتِّخاذ نهج البلاغة مصدرًا من مصادر التفسير، وكان يهدف في بحثه إلى الكشف عن أثر نهج البلاغة في فهم النص القرآني، إلَّا أنَّه لم يتعمَّق في هذا المجال، وتناول خصوصية شخص الإمام علیه السلام في التفسير، وكان تناوله لكلام الإمام علیه السلام محدَّدًا في نهج البلاغة وفي تفاسير الإمامية في القرن الخامس عشر الهجري، ولعله أفادنا في تأكيد صحة مسار البحث في توظيف كلام أهل البيت علیهم السلام عمومًا، وفي توظيف كلام الإمام علي علیه السلام خصوصًا فزادنا همةً في السَّير في موضوعنا.

أمَّا بحث (الأثر القرآني في نهج البلاغة دراسة في الشكل والمضمون) للدكتور عبَّاس الفحَّام فيتَّضح من عنوانه أنَّه يبحث في التماس الشواهد القرآنية التي اقتبسها الإمام علیه السلام أو وَلَّد عليها كثيرًا من الصياغات، إذ يبحث عن الأثر القرآني في كلام الإمام علیه السلام في كتاب (نهج البلاغة) تحديدًا، وأنا من جهتي أبحث عن المفاهيم القرآنية التي أراد الإمام علي علیه السلام توضيحها في كلامه علیه السلام مثلًا: الحكمة ( 88 ) في النهج، قال علیه السلام:

«كان في الأرض أمانان من عذاب اللّه، وقد رُفع أحدهما فدونكم الآخر

ص: 13


1- (1) وللزيادة والتوضيح في هذا المجال، ظ: كتاب صورة النبي الأكرم صلی اللّه علیه و آله و سلم في نهج البلاغة (دراسة في ضوء منهج الأسلوبية التطبيقية) 186 - 189 .

فتمسكوا به، أمَّا الأمان الأول: الذي رُفع فهو رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله و سلم، وأمَّا الباقي

فالاستغفار قال اللّه تعالى:

(وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾ [الأنفال: 33]» (1)، سواء أكان هذا الكلام خطبةً أم دعاءً أم حديثًا.

ومن الموضوعات التي أفاد البحث منها وكانت قريبةً منها بحثٌ بعنوان (الدِّلالات التَّفسيرية في شواهد نهج البلاغة القرآنية) للدكتور عدي جواد الحجَّار، إذ كان بحثه مشروعًا لبيان المدلولات القرآنية في كلام الإمام علي علیه السلام وتحديدًا في نهج البلاغة، فأفدتُ منه في تقصِّي المعلومة وكيفية انتقاء تلك المدلولات في كلامه علیه السلام لفهم النصَّ القرآني.

ومن ثمَّ تقسم البحث على ثلاثة فصول: جاء الفصل الأول منها بعنوان (توظيف كلام الإمام علي علیه السلام في فهم آيات العقيدة) لكلام الإمام علیه السلام في فهم النصوص القرآنية المتعلقة بالعقيدة الإسلامية، ورتبت موضوعاتها على وفق أبواب كتب العقيدة أو أصول الدِّين، أي: التَّوحيد والعدل والنبوة والإمامة والمعاد.

والفصل الثَّاني بعنوان (توظيف كلام الإمام علي علیه السلام في فهم آيات الأحكام الفقهية)، أي توظيف كلام الإمام علیه السلام في فهم النصوص القرآنية المتعلِّقة بالفقه، وقد رُتِّبَت موضوعات الفصل وعنواناتها بحسب المشهور في أبواب الفقه التي قسمها الفقهاء، أي ما يتعلق بالطَّهارة وبعدها الصَّلاة ثم الصِّيام ثمَّ ما يتلوها وفق ترتيب الأبواب الفقهية التي نهجها العلماء.

ولا يعني هذا الترتيب أن نورد كل ما يتعلق بالباب أو أن نورد نصًّا من كلِّ

ص: 14


1- (1) نهج البلاغة: 4 / 19 – 20 .

باب، بل نقتصر على ما وجدناه قد فُهم من النُّصوص القرآنية بتوظيف كلام الإمام علیه السلام في هذا الغرض وإثباتًا لمدعى البحث.

وهذان الفصلان بحثا التوظيف الصريح لنثبت فيهما جدوى التوظيف في الموضوعات الخاصة، واخترنا موضوعي العقيدة والفقه لأهميتهما المعروفة في حياة المسلم، وسيرًا في طريق الكشف عن أهمية كلام الإمام علیه السلام في جميع الأبواب والموضوعات في القرآن الكريم. ثمَّ جاء الفصل الثالث لهذا الغرض، ولأنَّ البحث لا يتسع ميدانه لإتمام كل الغرض اخترنا ما يشير إلى جل الغرض

المنشود واكتفينا به تتمة لهذا البحث.

أمَّا الفصل الثَّالث فكان بعنوان (توظيفات عامَّة) وهو ما يدخل في التفسير الضِّمني للقرآن الكريم وفهمه من كلام الإمام علیه السلام، ممَّا تطلب أن يكون على ثلاثة مباحث الأول منهما بعنوان: مضامين تفسيرية للألفاظ من الخطب والأدعية، والمبحث الثاني منهما جاء بعنوان: المشاهد التَّصويرية في كلام الإمام علیه السلام، والمبحث الثالث: كلام الإمام علي علیه السلام في أمور أخلاقية متفرقة، وقد تمَّ البحث فيه عن النصُّوص القرآنية سواء أكانت ألفاظًا قرآنية أم آيات قرآنية، وتوظيف كلام الإمام علیه السلام لفهم معنى اللفظ القرآني والآية القرآنية.

ثمَّ كانت هناك خاتمة بأهم النَّتائج التي توصَّل إليها البحث، ثم قائمة بأهم المصادر والمراجع وأخيرًا كان هناك ملخَّصٌ باللغة الإنكليزية.

ولا أنسى أن أقدِّم أجمل وأسمى كلمات الشكر لمن تفضَّل بالإشراف على هذا البحث فكان أن ساهم في استوائها على ما هي عليه، أستاذي الفاضل الأستاذ الدكتور مكِّي محي عيدان الكلابي فشكرًا له مرَّات ومرَّات.

وختامًا، فإنِّي لا أدعي لنفسي كمالًا فيما كتبت فحسبي أنِّي إنسان يُخطئ

ص: 15

ويُصيب، فإن أصبت فأحمدُ اللّه على ذلك وعسى أن يكون في ميزان حسناتي، وإن أخطأت فإنَّما يعود ذلك للطبيعة البشرية القاصرة وأسأل اللّه أن يوجِّهني إلى ما فيه الصَّواب وما أستطيع عن طريقه أن أضعَ خطوةً صحيحةً في طريق البحث ينتهجها من يأتي بعدي من الباحثين.

واللّه تعالى ولي التَّوفيق والإحسان، والغفور عند الزَّلل والنسيان.

الباحثة

ص: 16

التمهيد

اشارة

ص: 17

ص: 18

أولًا: التعريف بالتوظيف.

في اللغة: «(وظف) الواو والظاء والفاء: كلمة تدلُّ على تقدير شيء»(1).

والوَظيفة من كلِّ شيء ما يُقَدَّرُ له كلَّ يومٍ من رزقٍ أو طعامٍ أو علفٍ أو شرابٍ، وجمعها الوظائف والوظفُ (2).

وفي الاصطلاح: «الإلزام أو تعيين عمل معين للشخص أو للشيء، ومنه توظيف الشخص لجباية الخراج، وتوظيف المال في تجارة كذا»(3).

هذا التعريف وما شابهه كثير قد لا يبیِّن المعنى المراد في هذا البحث، فالتوظيف الذي يرمي إليه البحث هو تفحُّص كلام الإمام علي بن أبي طالب علیه السلام سيرًا في ضوئه؛ لفهم قدر من النص القرآني في جوانب ومواضع متفرقة.

وإنَّما ذكرتُ كلمة (قدر) للوصول إلى معنى التوظيف الذي يرومه البحث وبذلك يكون التعريف الاصطلاحي متواشجا أو قريبًا من التعريف اللغوي،

ص: 19


1- (1) معجم مقاييس اللغة: ابن فارس: 6 / 93 مادة (وظف).
2- (2) ظ: تهذيب اللغة: الأزهري: 5 / 49 ، ولسان العرب: ابن منظور: 9 / 358 ، مادة(وظف).
3- (3) معجم لغة الفقهاء: محمد القلعجي: 151 .

وهو بمنزلة الصلة - التي ينشدها أهل اللغة في هذا الباب - بين التعريف اللغوي والاصطلاحي، والمقصود من القدر أي الكمية المتعينة (1) من القرآن الكريم.

ثانيًا: تعريف الكلام.

في اللغة: «الكلام: من (كلم) الكاف واللام والميم أصلانِ: أحدهما يدلُّ على نطقٍ مُفهِم، والآخَر على جراح، فالأول الكَلام تقول: كلَّمته أُكلِّمه تكليمًا...، ثمَّ يتَّسِعون فيسمُّون اللفظةَ الواحدة المُفهِمَةَ كلمة، والقِصَّةَ كلمة، والقصيدةَ بطولها كلمة، ويَجمعون الكلمةَ كلماتٍ وكَلِمًا »(2)، قال اللّه تعالى:

﴿يُحرِّفُونَ الكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ﴾ [النساء/ 46 ]، وجاء بأنَّه «اسم جنس يقع على القليل والكثير والكَلِم لا يكون أقل من ثلاث كلمات لأنَّه جمع كلمة»(3)

والكلام ما كان مُكْتَفِيًا بنفسه وهو الجملة، والقول ما لم يكن مكتفيًا بنفسه وهو الجُزء من الجملة، ومِن أَدلِّ الدليل على الفرق بين الكلام والقول الإجماعُ على قول القُرآن كلام اللّه ولا يقال القرآن قول اللّه؛ وذلك أَنَّ هذا موضع ضيِّق متحجر لا يمكن تحريفه ولا يسوغ تبديل شيء من حروفه فَعُبِّر لذلك عنه بالكلام الذي لا يكون إلا أصواتًا تامة مفيدة، وممَّا يدلُ على أَن الكلام هو الجمل المتركبة في الحقيقة فمعلوم أَن الكلمة الواحدة لا تُشجِي ولا تُحْزِنُ ولا تَتملَّك قلب السامع وإنَّما ذلك فيما طال من الكلام وأَمْتَع سامِعِيه لعُذوبة

ص: 20


1- (1) تفسير الميزان: 12 / 140 .
2- (2) معجم مقاييس اللغة: ابن فارس: 5 / 106 ، مادة (كلم).
3- (3) الصحاح: الجوهري: 5 / 2023 ، مادة (كلم).

مُسْتَمعِه ورِقَّة حواشيه(1).

أمَّا اصطلاحًا فيعرَّف الكلام بأنَّه «ما تضمن كلمتين بالإسناد»(2).

وللكلام في اللغة العربية تقسيماته الخاصة، وهي الاسم، والفعل، والحرف، هذا التقسيم عام وضعته اللغة العربية(3)، أما لفظة الكلام الواردة في عنوان الرسالة فالمقصود منها كلام الإمام علي علیه السلام بما يتضمنه من خطب وأحاديث وأدعية وحكم وشعر وغير ذلك ممَّا وصلنا عن طريق الروايات فإنَّه سيكون المحور الذي تتمحور عليه الرسالة والضوء الذي نستضيء به فهمًا لآيات من كتاب اللّه الكريم.

وسنختار من هذه الأنواع أكثرها إغناءً للرسالة وهي الأحاديث والخطب والأدعية إذ إنَّها تحوي ضمن طياتها كنوزًا من إشارات وتصريحات وقراءات تفسيرية لها ارتباط وثيق بالقرآن الكريم، هذا لا يعني أنَّ البقية من هذه الأقسام بعيدةٌ عن القرآن الكريم فلا يمكن القول بذلك؛ لأنَّ الإمام علياً علیه السلام

هو القرآن الناطق وكلامه مستمد من القرآن الكريم متصل به دائمًا وكذا فعله وتقريره تفسيرٌ عملي لكل ما يتعلق منه بالقرآن الكريم لأن الإمام علیه السلام –وكذا كل معصوم– يكون القرآن الكريم حاضرًا لديه في كل شيء من كلامه وفعله على نحو السجية والعفوية البعيدة تمامًا عن التكلف المعهود عند العامة من الناس إلَّا أن الطبيعة البحثية تحتم ذلك الاختيار؛ لذا اقتضى أن تُلِمَّ الرسالة بما يخدمها ويحقق مبتغاها وأهدافها.

ص: 21


1- (1) ظ: لسان العرب: ابن منظور: 12 / 522 ، مادة (كلم).
2- (2) التعريفات: الجرجاني: 1 / 59 .
3- (3) ظ: شرح ابن عقيل: ابن عقيل الهمداني: 1 / 13 .

فنجد في أغلب كلام الإمام علي علیه السلام الكثير من الآيات القرآنية الكريمة التي يتقدمها أو يعقبها توضيح من الإمام علیه السلام لمعناها وبيان مرادها، من أمثلة ذلك ما روي أنَّه سأله رجل، وكان نذر أن لا يكلِّم زوجته حيناً فقال علیه السلام: « إنْ نذرتَ غدوةً فتكلمْ عشيةً وإنْ نذرتَ عشيةً فتكلمْ بكرةً لقوله تعالى:

﴿فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ﴾ [الروم/ 17 ]، ففرح الرَّجل وقال: اللّهُ أعلمُ حيثُ يجعل رسالاته »(1)، أو أنَّه علیه السلام يُضَمِّنُ كلامه بالقرآن الكريم كاستعماله لبعض الألفاظ القرآنية أو اقتباسه لآيات قرآنية في سياق كلامه وما شاكله.

وقد ورد في الكثير من خطب الإمام علیه السلام جملة من تفسير الآيات والألفاظ القرآنية الكريمة، بل يمكن الإفادة من بعض الشواهد القرآنية بوصفها تمثل قواعد أولية للجانب النظري في تفسير القرآن الكريم، إذ إنَّ المفسرين قد استقوا موارد تفسيرية عديدة في مصنفاتهم التفسيرية، فمنهم من صرَّح بنسبة ذلك التفسير إلى الإمام علیه السلام، ومنهم من اكتفى بذكر التفسير منسوبًا إليه علیه السلام مع أخذه للنص التفسيري المثبت في نهج البلاغة–مثلًا – من دون الإشارة إلى المصدر(2).

وكذا في كثير من الروايات الواردة عنه علیه السلام التي يُسأل فيها الإمام علیه السلام عن آية فيجيب والتي أفاد منها المفسرون فقاموا بجمعها وتضمينها في كتبهم التفسيرية استشهادًا منهم بكلام الإمام علي علیه السلام لبيان معنى آيةٍ من آيات القرآن الكريم.

فقد لاحظت في أثناء مطالعتي لعدد من الكتب القرآنية عامة وكتب التفسير

ص: 22


1- (1) بحار الأنوار: المجلسي: 101 / 244 – 245 .
2- (2) ظ: الدلالات التفسيرية في شواهد نهج البلاغة القرآنية: الدكتور عدي الحجار، 48 .

خاصة كثيرًا ما يستشهد المفسر بكلام المعصومين علیهم السلام من حديث أو جزء من خطبة أو فقرة من دعاء أو غير ذلك و من أبرز تلك التفاسير التِّبيان للطوسي، و مجمع البيان للطبرسي، والميزان للطباطبائي، والأمثل للشيرازي وغيرها، ممَّا يبیِّن أهمية كلام المعصومين علیهم السلام في فهم النص القرآني.

ولا يخفى أنَّ كلام أهل البيت علیهم السلام أحد السبل الأساسية - إن لم يكن السبيل الأساس التي يعوَّل عليها في فهم النص القرآني، ومعرفة أسرار بلاغته، وروعة تعبيره، وتحرِّي مواضع الدقَّة فيه، ذلك لأنَّهم علیهم السلام عدل القرآن الكريم، وقرناؤه في الفضل، وشركاؤه في الهداية بنص حديث الثقلين المقطوع بصحَّة صدورهِ عند الفريقين(1).

فالمعصوم حين تَعرُضُ له حادثة أو مسألة أو فعلٌ ما يكون القرآن الكريم حاضرًا لديه بكل معانيه، نعم هكذا أهل البيت مع القرآن لأنَّهم عاشوا معه وجدانًا وسلوكًا ومفهومًا ومصداقًا وعليه فإنَّ من يريد أن يفهم كتاب اللّه العزيز، ويقف على معانيه الدقيقة، ومراميه السامية، وأسرار إعجازه، لا يمكنه الاستغناء عن كلام الراسخين في العلم وأهل الذكر في المصداق الأعلى وهم نبيُّنا محمد صلی اللّه علیه و آله و سلم والأئمة المعصومون علیهم السلام(2).

كي يستضيء به في تدبُّر معاني القرآن الكريم، والتفكُّر في مقاصده وأهدافه

ص: 23


1- (1) قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلی اللّه علیه و آله و سلم:« إِنِّ تَارِكٌ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَكْبَرُ مِنَ الآخَرِ كِتَابَ اللَّهِ حَبْلٌ مَمْدُودٌ مِنَ السَّمَاءِ إِلَی الأَرْضِ وَعِتْرَتِي أَهْلُ بَيْتِي وَإِنَّهُمَا لَنْ يَفْتَرِقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَیَّ الْحَوْضَ »مسند أحمد: أبو عبد اللّه أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني: 23 / 434 ، الأمالي: الطوسي: 255 ، بإضافة «ألا إنَّ أحدهما أكبر..».
2- (2) ظ: بصائر الدرجات: محمد بن الحسن الصفار: 222 .

وخصائصه وآثاره، لكونهم أدلَّ النَّاس على سموِّ قدره، وأعرفهم بمنزلته، وأعلمهم بفضله.

يقول الإمام علي علیه السلام:

«واللّه ما نزلت آية إلَّا وقد علمت فيمَ نزلت، وأين نزلت، وعلى من نزلت، إنَّ ربِّي وهب لي قلبًا عقولً، ولسانًا طلقًا سؤولً»(1).

ثالثًا: معنى الفهم.

لغةً: «الفاء والهاء والميم عِلْم الشيء»(2) ،«فَهِمْتُ الشَّيء فَهَمًا وفَهْمًا عَرَفْتُه وعَقَلْتُه، وفهَّمتُ فلانًا وأَفْهَمْتُه: عَرَّفْته، ورجلٌ فَهِمٌ: سريع الفَهْم»(3).

و «الفَهْمُ معرفتك الشيء بالقلب » (4)، وهو «حسن تصور المعنى وجودة استعداد الذهن للاستنباط »(5) أو تصور المعنى من اللفظ (6).

الفهم اصطلاحًا: الفهم مصدر لكلمة (مفهوم) فعرِّف المفهومُ بأنَّه ما فُهِمَ من اللفظ بغير محل النطق (7).

ص: 24


1- (1) الاحتجاج: الطبرسي: 1 / 159 من الهامش، كنز العمال: المتقي الهندي: 13 / 128 .
2- (2) معجم مقاييس اللغة: ابن فارس: 4 / 457 .
3- (3) العين: الخليل بن أحمد: 1 / 274 .
4- (4) لسان العرب: ابن منظور: 12 / 459 .
5- (5) المعجم الوسيط: إبراهيم مصطفى: 2 / 323 .
6- (6) دستور العلماء: القاضي عبد النبي: 35
7- (7) ظ: نهاية الوصول: صفي الدين الهندي: 5 / 2035 .

الفهم: تصور المعنى من لفظ المخاطب (1).

وممَّا تقدم يمكن تعريف الفهم بأنَّه المعرفة بمعنى نص من نصوص القرآن الكريم أو آية أو لفظة قرآنية كريمة في ضوء ما وُجد في كلام الإمام علي علیه السلام.

رابعًا: معنى النص:

لغة: عُرِّف النصَّ بأنَّه: الرفع، والاستقصاء، والمنتهى «ونَصَصْتُ الحديث إلى فلان نَصًّا أي رَفَعْتُه، ونَصَصْتُ الرجلَ: استَقصَيتُ مَسألتَه عن الشيءِ، يقال: نَصَّ ما عنده أي: استقصاه، ونصُّ كلِّ شيءٍ: مُنتَهاه»(2).

«رفعك الشيء، ونصَّ الحديث ينصه نصًا رفعه، وكل ما أظهر فقد نُصَّ، وأصل النصَّ: أقصى الشيء وغايته، ثمَّ سمِّي به ضرب من السَّير سريع، والنصَّ التَّوقيف، والنصَّ التَّعين على شيء ما، ونصَّ الرَّجل نصًا إذا سأله عن شيء حتى يستقصى ما عنده، ونصُّ كل شيءٍ منتهاه، ومنه قول الفقهاء: نصُّ القرآن ونص السُّنةَّ، أي ما دلَّ ظاهر لفظهما عليه من الأحكام »(3)، وقيل: معنى النص «المنتهى والاكتمال»(4).

النص اصطلاحًا:

إن مصطلح النَّص بوصفه مصطلحًا لغويًا حديث في الفكر العربي المعاصر،

ص: 25


1- (1) التعريفات: الجرجاني
2- (2) العين: الخليل بن أحمد: 2 / 31 .
3- (3) لسان العرب: ابن منظور: 7 / 97 – 98 مادة (نصص).
4- (4) القاموس المحيط: الفيروز آبادي: 331 .

وهو ليس وليد هذا الفكر وإنَّما هو كغيره من مصطلحات كثيرة في مختلف العلوم الحديثة، وافدٌ إلينا من الحضارة الغربي(1).

«ومع كل ذلك فقد عُرِّف النَّص بعدةِ تعريفات عند غير اللغويين لكن اختلفت عبارات العلماء في حقيقته فقال بعضهم هو لفظ مفيد لا يتطرق إليه تأويل، وقال بعض المتأخرين هو لفظ مفيد استوى ظاهره وباطنه»(2).

وفي التعريفات: «ما زاد وضوحًا على الظاهر لمعنى في المتكلم وهو سوق الكلام لأجل المعنى»(3).

وقيل المراد من النص: «الظاهر من اللفظ، وهو حجة في الألفاظ»(4).

وقد ذكر التَّهانوي أنَّ النصَّ له معانٍ عدة(5) وهي:

1. ملفوظ مفهوم المعنى من الكتاب والسنة ظاهرًا أو نصًا أو مفسرًا حقيقة أو مجازًا عامًا أو خاصًا.

2. النص بمعنى الظهور.

3. ما لا يتطرق إليه احتمال أصلً.

4. ما لا يتطرق إليه احتمال مقبول يعضده دليل.

5. الكتاب والسنة، والنص يختص بما هو قطعي الثبوت وقطعي الدلالة في الثوابت وفهم النص ضروري لإنزال أحكامه منازلها هو أمر لا مناص

ص: 26


1- (1) ظ: مدخل الى علم النص ومجالات تطبيقه: محمد الأخضر الصبيحي: 18 .
2- (2) البرهان في أصول الفقه: الجويني: 1 / 277 .
3- (3) الجرجاني: التعريفات: 237 .
4- (4) حاشية مجمع الفائدة والبرهان: الوحيد البهبهاني: 2 / 127 .
5- (5) ظ: كشاف اصطلاحات الفنون: التَّهانوي: 1695 – 1696 .

منه مع أي نص من النصوص قطعية الدلالة والثبوت.

وبلحاظ المعنى اللغوي والاصطلاحي تكون هناك إمكانية لإطلاق مصطلح النص على القرآن الكريم بما تحتمله اللفظة من معنى، فالنص القرآني هو كلام اللّه عز وجل، والبحث هنا عن الموارد القرآنية التي يوظَّف فيها كلام الإمام علي علیه السلام في معرفة معناها بحسب ما يتوفر في كلامه علیه السلام من فهم قلبي ومعرفة عقلية لها، كل في موضوعه الخاص به عقيدة أو فقهًا أو غيرها.

ص: 27

ص: 28

الفصل الأول : توظيف كلام الإمام علي علیه السلام في فهم آيات العقيدة

اشارة

ص: 29

ص: 30

توطئة:

من المعلوم أن العقائد قضية عقلية، يجب أن يصل إليها المكلَّف بصورة مباشرة فيعرف برهانها ويذعن لها، لا أن يأخذها تقليدًا، ومعرفة اللّه تعالى هي أفضل عمل وتفكر عقلي يقوم به كل مسلم(1).

هنا في هذا الفصل نجد أن الإمام علياً علیه السلام في كلامه واستدلالاته وبرهنته حول علم العقائد بذاته نهَجَ نهجْ القرآن الكريم ولم يشذَّ عن شيء من الأنماط التي اتَّخذها القرآن الكريم للاستدلال على المعارف الإلهية سواء أكان ذلك في أدلة النفس أو الآفاق أو العقل:

(سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ﴾ [فصلت/ 53 ]،وسيعرض البحث في هذا الفصل لكلام الإمام علیه السلام الذي يراد توظيفه مع ذكر النص القرآني الذي يراد فهمه، وسنتناول معه الأحاديث الشريفة التي وردت عن الإمام علي علیه السلام لتوضيح النص المبحوث زيادة في الفهم واستيعاب الفكرة لأن من أدق المعارف وأهمها على الإطلاق هو التوحيد، وهذه الدقة استلزمت دقة فهم النصوص القرآنية التي تتعلق بهذا الموضوع ولأن كلام الإمام علیه السلام–كما

ص: 31


1- (1) ظ: الكافي: الكليني: 2 / 130 .

أشرت في المقدمة–هو قراءة في كتاب اللّه فسيُوظف منه ما يسعف البحث في هذا الفصل للتوصل إلى موضوعات العقائد التي جاءت في كلام الإمام علیه السلام والآيات القرآنية المتعلقة بها، فنجد كل ذلك في نهج البلاغة على نسق ما هو في القرآن الكريم (1)، إذ يقول الإمام علي علیه السلام:

«القرآن حمَّالٌ ذو وجوه » (2)، لذا نحتاج إلى القرآن الناطق وهو الإمام المعصوم فقد قال تعالى:

(بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ﴾ [العنكبوت/ 49 ] والإمام هو الدِّين المجسم، إذ ورد في الزيارات: «السَّلام عليكَ يا دينَ اللّه القويم »(3)، فإن تمسَّكوا به واعتصموا به استحال وجود الخلاف والنزِّاع والتفرقة بينهم(4).

قال تعالى ﴿إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ﴾ [آل عمران/ 19 ]، (قيل المراد بالإسلام التَّسليم للّه ولأوليائه وهو التَّصديق)(5).

وروي عن الإمام علي علیه السلام في خطبة له أنَّه قال:

«لأنسبنَّ الإسلامَ نسبةً لم ينسبْها أحدٌ قبلي: الإسلامُ هو التَّسليم، والتَّسليم هو اليقين، واليقين هو التَّصديق، والتَّصديق هو الإقرار، والإقرار هو العمل،

ص: 32


1- (1) ظ: العقائد في نهج البلاغة: محسن علي المعلم: 58 - 59 .
2- (2) نهج البلاغة: محمد عبده: 3 / 137 .
3- (3) المزار: الشهيد الأول: 76 .
4- (4) ظ: أوائل المقالات في المذاهب والمختارات: المفيد: 22 / 10 .
5- (5) تفسير مجمع البيان: الطبرسي: 2 / 230 .

والعمل هو الأداء»(1).

فالإسلام يعني التَّسليم، وهو هنا التسليم للّه تعالى، وعلى ذلك فإنَّ معنى:

﴿إِنَّ الدِّينَ عِندَ ا الإِسْلَامُ﴾ [آل عمران/ 19]، (إنَّ الدِّين الحقيقي عند اللّه تعالى هو التَّسليم لأوامره وللحقيقة، وفي الواقع لم تكن روح الدِّين في كلّ الأزمنة سوى الخضوع والتسليم للحقيقة، وإنَّما أطلق اسم الإسلام على الدِّين الذي جاء به الرَّسول الأكرم صلی اللّه علیه و آله و سلم لأنَّه أرفع الأديان)(2).

وقد سار البحث في هذا الفصل وفقًا لأصول الدين الخمسة المعروفة عند الإمامية وهي: التوحيد، والعدل، والنبوة، والإمامة، والمعاد، فكان الحديث عنها في المبحثين الأولين، ثم جاء الحديث عن بعض صفات اللّه تعالى، ومتفرقات في العقيدة في المبحثين الثالث والرابع.

ص: 33


1- (1) نهج البلاغة، 4/ 29 ، ظ: الكافي: الكليني: 2 / 46 – 47 ، مجمع البيان: الطبرسي: 2 / 259 .
2- (2) تفسير الأمثل: مكارم الشيرازي: 2 / 429 .

ص: 34

المبحث الأوَّل : كلام الإمام علي علیه السلام في التوحيد والعدل

المطلب الأول: التوحيد.

من أبرز المسائل العقدية وأهمها مسألتا التَّوحيد والنبوة، وهما من المعتقدات التي أكدَّ عليها الإسلام منذ بدايته، فالتَّوحيد قطبٌ تدور عليه كلُّ فضيلة وبه يتزكَّى الإنسان عن كلِّ رذيلةٍ، وبه نيلُ العزِّ والشَّرف، ويسعد الموجود في كلِّ ناحيةٍ وطرف؛ إذ عليه فطرته وعلى الفطرة حركته، وبالحركة وصوله إلى كماله، وبكماله سعادته، وبحرمانه عنه شقاوته وهلاكه، و لا شكَّ في أنَّ التَّوحيد هو الأصَلُ الموحد في الشَّرائع السَّماوية، ولكن يجوز إظهار الشرك تَقيَةً حفاظًا على النفَّس والنفَّيس عند الاضطرار قال تعالى:

(إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ﴾ [النحل/ 106 ]، وقال تعالى:

(إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً﴾ [آل عمران/ 28 ]، فيجوز إظهار الشرك تَقيةً حفاظًا على النفس والنفيس وعند الاضطرار.

«فالذي بينه القرآن الكريم من معنى التوحيد أول خطوة خُطيت في تعليم هذه الحقيقة من المعرفة، غير أن أهل التفسير والمتعاطين لعلوم القرآن من

ص: 35

الصحابة والتابعين ثم الذين يلونهم أهملوا هذا البحث الشريف، فهذه جوامع الحديث وكتب التفسير المأثورة منهم لا ترى فيها أثرًا من هذه الحقيقة لا ببيان شارح، ولا بسلوك استدلالي، ولم نجد ما يكشف عنها غطاءها إلا ما ورد في كلام الإمام علي بن أبي طالب عليه أفضل السلام خاصة، فإن كلامه هو الفاتح لبابها، والرافع لسترها وحجابها على أهدى سبيل وأوضح طريق من البرهان، ثم ما وقع في كلام الفلاسفة الإسلاميين بعد الألف الهجري، وقد صرحوا بأنَّهم إنما استفادوه من كلامه علیه السلام .(1).

إنَّ ذكر التَّوحيد في القرآن الكريم والاهتمام به أمرٌ لا مفرَ منه، بتلك الأساليب المختلفة حسب اختلاف العقول والأفهام والنزعات، ولقد اقتنع بها الكثير من الجاحدين فدخلوا الإسلام مؤمنين بأصوله وفروعه نتيجة لتلك الآيات البينات، وأكثر آيات التوحيد وغيره من أصول الإسلام، نزلت على

الرَّسول صلی اللّه علیه و آله و سلم وهو في مكة قبل هجرته إلى المدينة، وفي المدينة بعد هجرته إليها نزلت أكثر آيات التشريع، بعد أن وَجدَ الإيمانُ باللّه تعالى والرَّسول طريقَهُ واضحًا إلى قلوب الآلاف من البشر، ودخل النَّاس في دين اللّه أفواجًا، بفضل جهاد الرَّسول و تضحياته في سبيل تلك الدعوة. إنَّ توحيد اللّه تعالى أساس في العقيدة الصَّحيحة وهو أول أصول الدِّين، وتتجلى أهمية هذا الأصل في إثبات حقيقة التوحيد وهو التنزيه عن الشريك، وفي أجره العظيم ألا وهو الجنة، وهو

نعمة من نعم اللّه تعالى على عباده، جاء عن الإمام علي علیه السلام أنَّه قال: قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله و سلم:

ص: 36


1- (1) تفسير الميزان: الطباطبائي: 6 / 19 .

« ما جزاء من أنعم اللّه عليه بالتَّوحيد إلا الجنَّة»(1).

ويقول صلی اللّه علیه و آله و سلم :

«التَّوحيد ثمن الجنَّة، والحمد للّه وفاء شكر كل نعمة، و خشية اللّه مفتاح كل حكمة، والإخلاص ملاك كل طاعة»(2).

جاء في خطبة التوحيد للإمام علي علیه السلام التي تجمع من أصول العلم ما لم تجمعه خطبة يقول علیه السلام :

«مَا وَحَّدَهُ مَنْ كَيَّفَهُ، وَلاَ حَقِيقَتَهُ أَصَابَ مَنْ مَثَّلَهُ، وَلاَ إِيَّاهُ عَنَى مَنْ شَبَّهَهُ، وَلا صَمَدَهُ مَنْ أَشَارَ إِلَيْهِ وَتَوَهَّمَهُ كُلُّ مَعْرُوفٍ بِنَفْسِهِ مَصْنُوعٌ، وَكُلُّ قَائِمٍ فِي سِوَاهُ مَعْلُولٌ، فَاعِلٌ لاَ بِاضْطِرَابِ آلَةٍ، مُقَدِّرٌ لاَ بِجَوْلِ فِكْرَةٍ، غَنِيٌّ لاَ بِاسْتِفَادَةٍ، لاَ تَصْحَبُهُ اَلْأَوْقَاتُ، وَلاَ تَرْفِدُهُ اَلْأَدَوَاتُ، سَبَقَ اَلْأَوْقَاتَ كَوْنُهُ، وَاَلْعَدَمَ وُجُودُهُ، وَاَلاِبْتِدَاءَ أَزَلُهُ »(3)، فمعنى ما وحده أي: لم يكن موحدًا له تعالى، ومعنى من كيَّفه أي: جعل له كيفيةً «لأن من كيَّفه فقد ثنَّاهُ (4)، واللّه تعالى يقول:

﴿لَوْ كَانَ فيِهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللّهُ لَفَسَدَتاَ﴾ [الأنبياء/ 22 ]؛ إذ يبدو أن هذه الفقرة من الخطبة المباركة يمكن أن تواشج هذه الآية المباركة، لأن كلامه علیه السلام في هذه الخطبة يرتبط بكثير من النصوص القرآنية، إذ يمكن الاستعانة به لفهم بعض النصوص القرآنية في ضوء هذا الموضوع ومنها الآية آنفة الذكر.

ثم يقول علیه السلام :

ص: 37


1- (1) مشكاة الأنوار: علي الطبرسي، 1 / 4.
2- (2) الأمالي: الطوسي 2/ 51 .
3- (3) نهج البلاغة: 2 / 119 – 120 .
4- (4) بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة: التستري: 1 / 302 .

«وَلاَ حَقِيقَتَهُ أَصَابَ مَنْ مَثَّلَهُ» ،«لأنَّه ليس كمثله شيء، فمن مثَّله أخطأه تعالى وأصاب غيره »(1)، وهو منافٍ للتوحيد، وكما في الفقرة السابقة فهذه الفقرة تتآلف مع الآية الكريمة من قوله تعالى:

﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشورى/ 11]، وتبدو كأنَّها بيان لمعناها.

ومن الآيات الكريمة الأخرى التي لها صلة بهذا الموضوع قوله تعالى:

﴿وَمَا قَدَرُوا اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ﴾ [الأنعام/ 91 ، الزمر/ 67 ]، جاء في معناها «أي ما عرفوه حق معرفته وما وصفوه بما هو أهلٌ أنْ يوصف به »(2)، إذ لا بدَّ من معرفة اللّه تعالى حق المعرفة لا أن يوصف بأوصاف مخلوقاته، ولا يمكن تشبيهه – تعالى اللّه عن ذلك – فلا يكون من فعل ذلك قاصدًا له تعالى، لأنَّ هذا لا يجوز في ساحته تبارك و تعالى، كما يقول الإمام علیه السلام: «وَلا إِيَّاهُ عَنىَ مَنْ شَبَّهَهُ »أي ولا إيَّاه قصد أو عرف من شبَّهه (3).

وفي قول آخر يُجمل فيه الإمام علیه السلام الكلام عن توحيد اللّه عز وجل بكل أبحاثه وكذا ما يتعلق بالعدل، بجملة واحدة وسئل علیه السلام عن التَّوحيد والعدل فقال: «التَّوحيد أن لا تتوهمه، والعدل أن لا تتهمه»(4).

ص: 38


1- (1) بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة: التستري: 1 / 302 .
2- (2) التبيان: الطوسي: 4 / 199 .
3- (3) ظ: بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة: محمد تقي التستري: 1 / 302 .
4- (4) نهج البلاغة: 4 / 108 .

المطلب الثاني: العدل.

العدل من صفات اللّه تعالى التي تنطلق من كماله المطلق، والعدل يعني أنَّه منزه عن فعل القبيح، ولا يفعل إلَّا الحسن ولا يأمر إلَّا به، ولا تصدر أعماله سبحانه إلَّا عن مصلحة وحكمة، فلا يجور في قضائه، ولا يحيف في حكمه؛ يثيب المطيعين، وله أن يجازي العاصين، ولا يكلِّف عباده ما لا يطيقون، ولا يعاقبهم زيادة على ما يستحقُّون، واللّه سبحانه مع كل ذلك حكيم؛ لا بدَّ من أن يكون فعله مطابقًا للحكمة(1).

فبعد الإيمان بوحدانية اللّه تعالى لابد من الإيمان بعدله تعالى، فالعدل هو ثاني الأصول الاعتقادية عند الإمامية بعد التوحيد؛ لأنَّه من العدل تنبثق بقية الأصول الاعتقادية، النبوة والإمامة واليوم الآخر أي: المعاد(2).

وقد سئل الإمام علي علیه السلام عن التوحيد والعدل فقال:

«التوحيد أن لا تَتَوَهَّمَهُ، والعدل أن لا تَتَّهِمَهُ»(3).

«أن لا تتهمه أي: لا تتهمه في أنه أجبرك على القبيح ويعاقبك عليه حاشاه من ذلك، ولا تتهمه في أنَّه مكَّن الكذابين من المعجزات فأضلَّ بهم الناس، ولا تتهمه في أنَّه كلفك ما لا تطيقه، وغير ذلك من مسائل العدل، كالعوض عن الألم فإنَّه لا بد منه، والثواب على فعل الواجب فإنَّه لا بد منه، وصدق وعده،

ص: 39


1- (1) ظ: عقائد الإمامية، الشيخ محمد رضا المظفر، 40 – 41 .
2- (2) ظ: تصنيف نهج البلاغة، 63 / 1.
3- (3) نهج البلاغة، 1 / 46 .

ووعيده فإنَّه لا بد منه»(1).

وجملة الأمر أن مذهب المعتزلة في العدل مأخوذ عن الإمام علي علیه السلام(2) ، بغض النظر عن بعض نقاط الافتراق عن مذهب الإمامية في هذا المجال.

وعن عدل اللّه تعالى في الآخرة قال الإمام علي علیه السلام :

«إِذَا رَجَفَتِ اَلرَّاجِفَةُ، وَحَقَّتْ بِجَلاَئِلِهَا اَلْقِيَامَةُ، وَلَحِقَ بِكُلِّ مَنْسَكٍ أَهْلُهُ، وَبِكُلِّ مَعْبُودٍ عَبَدَتُهُ، وَبِكُلِّ مُطَاعٍ أَهْلُ طَاعَتِهِ فَلَمْ يَجْرِ فِي عَدْلِهِ، وَقِسْطِهِ يَوْمَئِذٍ خَرْقُ بَصَرٍ فِي اَلْهَوَاءِ، وَلا هَمْسُ قَدَمٍ فِي اَلْأَرْضِ إِلَّا بِحَقِّهِ»(3).

والمقصود من قوله علیه السلام أن هذه الدنيا مليئة بالفوضى والآثام والمظالم، أما إذا قامت القيامة بما فيها من أهوال ولحق كل أناس بإمامهم سواءً كان إمام حق أو إمام باطل، فعندها لا يكون ظلمٌ حتى بمقدار لا يكاد يُحسُّ كخرق البصر في الهواء أو همس القدم في الأرض(4).

وهنا يمكن مطابقة قول الإمام علیه السلام مع الآية الكريمة، قال تعالى:

﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ﴾ [الأنبياء/ 47].

ص: 40


1- (1) شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، 20 / 228 .
2- (2) ظ: شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، 20 / 228 .
3- (3) نهج البلاغة، 2 / 216 .
4- (4) العقائد من نهج البلاغة: محسن علي المعلم: 94 – 95 .

المطلب الثالث: معرفةُ اللّه تعالى

يمثل هذا الموضوع الركيزة الأساس في الخطاب الدِّيني لجميع الأديان، والمنطلق العام لنبوات الأنبياء، وعمل الأئمة والأوصياء، لأنه لا يمكن أن يتحقق الانقياد للّه تعالى والطَّاعة والعبودية إلا بالمعرفة، إذن لا بدَّ للعبد أن يتفكر ويتأمل في خلق اللّه تعالى، فإنَّ التَّفكر والتَّأمل يقودان إلى معرفة اللّه عز وجل، قال تعالى:

﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾ [آل عمران/ 190 ]، لأن أساس الدِّين هو معرفة اللّه تعالى وهذا ما نجده واضحًا في خطبة الإمام علي علیه السلام يؤكد فيها على أنَّ أساس الدِّين هو المعرفة إذ يقول علیه السلام :

«أَوَّلُ اَلدِّينِ مَعْرِفَتُهُ وَكَمَالُ مَعْرِفَتِهِ اَلتَّصْدِيقُ بِهِ وَ كَمَالُ اَلتَّصْدِيقِ بِهِ تَوْحِيدُهُ »(1)، وهذه المعرفة التي أشار إليها الإمام علیه السلام هي معرفة إجمالية و ليست كاملة تفصيلية.

ومن أبرز الأدلة على معرفة اللّه تعالى هو معرفة اللّه تعالى بآياته الدَّالة عليه، إذ يقول تعالى في كتابه الكريم:

﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾[آل عمران/ 190 ] وقوله تعالى:

﴿هُوَ الَّذِي يرُیِكُمْ آيَاَتِهِ﴾ [غافر/ 13 ]، وهذه المعرفة هي التي أشار إليها

ص: 41


1- (1) نهج البلاغة، 1 / 14 .

الإمام علي علیه السلام في دعاء الصباح إذ يقول علیه السلام: «يا من دلَّ على ذاته بذاته»(1)، يعني يا من كان نور ذاته دليلًا موصلًا للطالبين إلى ذاته المتعالية عن مدارك الأفهام ومسالك الأوهام وهذا من لطفه تبارك اسمه، وهذا الفقرة من الدعاء فيها ثناء وتمجيد بالمولى عز وجل(2).

ويقول علیه السلام :

«اعرفوا اللّه باللّه، والرَّسول بالرِّسالة، وأولي الأمَر بالمعروف والعدل والإِحسان »(3)، معنى قوله علیه السلام :

«اعرفوا اللّه باللّه، يعني أن اللّه خلق الأشَخاص والأنوار والجواهر والأعَيان، فالأعَيان الأبَدان، والجواهر الأرَواح، وهو عزَّ وجلَّ لا يُشْبِهُ جسمًا ولا روحًا، وليس لأحد في خلق الرُّوح الحساس الدَّراك أمرٌ ولا سببٌ، هو المتفرد بخلق الأرواح والأجسام فإذا نفى عنه الشبهين: شبه الأبَدان و شبه الأرَواح فقد عرف اللّه باللّه، وإذا شبهه بالرُّوح أو البدن أو النُّور، فلم يعرف اللّه باللّه»(4).

من أسماء اللّه تعالى التي جاءت في القرآن الكريم الأول والآخر قال تعالى:

(هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ﴾ [الحديد/ 3]، فلا أول قبل الوجود ولا آخر بعده، لأن الحق المطلق ليس أولًا له آخر، ولا هو آخرٌ له أوَّل بل كما قال الإمام علي علیه السلام :

«هو الأول بلا أول كان قبله، والآخر بلا آخرٍ يكون بعده»(5).

ص: 42


1- (1) الصحيفة العلوية: الأبطحي: 290 .
2- (2) ظ: شرح دعاء الصباح، الشيخ حسن الخويلدي، 26 .
3- (3) الكافي: الكليني: 1 / 85 .
4- (4) الكافي: الكليني 1 / 85 .
5- (5) بحار الأنوار: المجلسي 83 / 367 .

المبحث الثاني : كلام الإمام علي علیه السلام في صفات اللّه عزَّ وجل

المطلب الأول: نفي الجسمية عن اللّه تعالى

قال تعالى:

﴿الرَّحْمَنُ عَلَی الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ [طه/ 5] قيل في معناه قولان: أحدهما– أنّه استولى عليه، الثاني ﴿اسْتَوَى﴾ لطفه وتدبيره، فأمّا الاستواء بمعنى الجلوس على الشيء فلا يجوز عليه تعالى، لأنَّه من صفة الأجسام، والأجسام كلها محدَثة(1) . وفي بيان معنى الآية الكريمة روي عن الإمام علي علیه السلام استوى على العرش أي «استوى تدبيره وعلا أمره»(2).

(وقوله تعالى:

(وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ﴾ [الزخرف/ 84 ]، ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ﴾ [الحديد/ 4]، ﴿مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ)[المجادلة/ 7]، فإنَّما أراد بذلك استيلاء أمنائه بالقدرة التي ركبها فيهم على

ص: 43


1- (1) ظ: التبيان: الطوسي: 7 / 158 .
2- (2) بحار الأنوار: المجلسي: 3 / 310 .

جميع خلقه، وأنَّ فعله فعلهم)(1).

فمعنى الاستواء في الآية «كناية عن استيلائه تعالى على عالم الخلق، وكثيرًا ما يطلق الاستواء على الشيء على الاستيلاء عليه أو الاستعلاء عليه»(2).

ومن المعاني الأخر لصفة الاستواء على العرش التي يوصف بها الباري فإنها تعني دوام الملكية للّه تعالى والتدبير من غير زوال إذ يقول الإمام علي علیه السلام في إحدى خطبه:

«والمستوي على العرش بغير زوال »(3)، لمَّا كان المتبادر من الاستواء في أفهام القاصرين هو الاستقرار أشار الإمام علیه السلام في هذه العبارة من الخطبة إلى نفي إرادة ذلك بسلب لازمه الذي هو الزوال من حال إلى حال والانتقال من وضع إلى وضع، لأن كل مستقر على شيء شأنه جواز اتصافه بذلك بالاستواء على ذلك الشيء للتنبيه على أن المراد به معنى آخر يجوز في حقه تعالى وهو الاستعلاء والاستيلاء والغلبة، وإطلاقه على هذا المعنى أيضا شائع في العرف واللغة(4)، فخلْقُ العرشِ من دلائل قدرة اللّه تعالى لا أنَّه مكان أو مستقر للّه تعالى اللّه عن ذلك، فقد قال الإمام علیه السلام :

«إن اللّه خلق العرش إظهارًا لقدرته لا مكانًا لذاته.. قد كان ولا مكان، وهو الآن على ما كان»(5).

ص: 44


1- (1) الاحتجاج: أحمد الطبرسي: 1 / 373 .
2- (2) تفسير الميزان: الطباطبائي: 8 / 83 .
3- (3) الكافي: الكليني: 1 / 142 .
4- (4) ظ: شرح أصول الكافي: المازندراني: 7 / 396 .
5- (5) الفرق بين الفرق: النوبختي: 200 .

وترد في إطار هذا الموضوع الكثير من الآيات القرآنية التي يصعب ويشقُّ فهمها على الكثير من ذوي العقول القاصرة وقد أغنانا كلام الإمام علي علیه السلام في بيان معناها ومنها قوله تعالى:

﴿وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ﴾ [الحاقة/ 17 ]، فقد سأل أحد اليهود الإمام عليًا علیه السلام قائلً: فربُّك يَحمِلُ أویُحْمَل؟ قال علیه السلام :

«إنَّ ربِّي يَحمِل كلَّ شيء بقدرته، ولا يَحمِله شيء، قال: فكيف قوله عزَّ وجل:﴿وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ﴾ [الحاقة/ 17 ]، قال علیه السلام :

يا يهودي ألم تعلم أنَّ للّه ما في السموات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثَّرى فكلُّ شيء على الثَّرى والثَّرى على القدرة، والقدرة تحمل كلَّ شيء، قال: فأين يكون وجه ربِّك؟ فقال علي علیه السلام :

يا ابن عباس ائتني بنار وحطب فأتيته بنار وحطب فأضرمها علیه السلام، ثم قال علیه السلام :

يا يهودي أين يكون وجه هذه النَّار، قال: لا أقف لها على وجه، قال علیه السلام :

فإنَّ ربِّي عزَّ وجلَّ عن هذا المثل، وله المشرق والمغرب فأينما تولُّوا فثمَّ وجه اللّه»(1).

وفي رواية أخرى قال الإمام علي علیه السلام :

«اللّه عزَّ وجلَّ حامل العرش والسَّماوات والأرض وما فيهما وما بينهما وذلك قول اللّه عز وجل:

﴿إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا﴾ [فاطر/ 41 ] قال له: فأخبرني عن اللّه عز وجل

ص: 45


1- (1) الخصال: الصدوق: 596 – 597 .

أين هو؟ فقال علیه السلام :

هو هاهنا وهاهنا وفوق وتحت ومحيط بنا ومعنا وهو قوله:

﴿مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا﴾ [المجادلة/7]»(1).

وقال علیه السلام :

«إنَّ الملائكة تحمل العرش وليس العرش كما تظن كهيئة السَّرير، ولكنه شيء محدود مخلوق مدبر وربُّك عزَّ وجلَّ مالكُه، لا أنَّه عليه ككون الشيء على الشيء، وأمر الملائكة بحمله فهم يحملون العرش بما أقدرهم عليه»(2).

تتبين هنا في هذه الرواية مسائل عقائدية وضحها الإمام علي علیه السلام عن طريق استعانته بالقرآن الكريم وبحنكته وحكمته وبلاغته، فقد بيَّن مسألتين أولاهما: أن اللّه تعالى لا يحده مكان لأنه ليس بجسم، والأخرى: أن للّه تعالى المشرق والمغرب وأينما تولوا فثم وجه اللّه تعالى.

ويجب أَنْ يعتقد أَنَّه سبحانه وتعالى لا يُدْرَك بشيء من الحواس الظاهرة، السمع والبصر والذوق والشم واللمس، ولا من الحواس الباطنة: الحس المشترك والخيال، لأنه عز وجل لا يشبهه شيء منها ولا يجانسه، والشيء إنَّما يدرك ما هو من جنسه ويشابهه، كما قال الإمام علي علیه السلام :

«وإنما تحدُّ الأدوات أنفسها وتشير الآلات إلى نظائره »(3)، وقال تعالى:

(لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ﴾ [الأنعام/ 103 ]، وقال:﴿وَلَا

ص: 46


1- (1) الكافي: الكليني: 1 / 191 .
2- (2) بحار الأنوار: المجلسي: 55 / 9.
3- (3) نهج البلاغة: 120 .

يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا﴾ [طه/ 110]، وذلك لأَنَّ الحواس الظاهرة والباطنة إنما تدرك المحدود والمكيَّف والمصوَّر والمميَّز، وهو عز وجل لا حدَّ له ولا كيف له ولا صورة له ولا مميز له تعالى اللّه عن جميع صفات خلقه علوًا كبيرًا(1).

يُروى «عند قدوم الجاثليق(2) المدينة بعد وفاة النبي صلی الله علیه و آله و سلم وسؤاله أبا بكر عن

مسائل لم يجبه عنها، ثمَّ أُرشد إلى الإمام علي علیه السلام فسأله عنها فأجابه، فكان فيما سأله أن قال له: أخبرني عن وجه الرَّب تبارك وتعالى، فدعا علي علیه السلام بنار وحطب فأضرمه، فلما اشتعلت قال علي علیه السلام: «أين وجه هذه النار ؟!» قال النصراني: هي وجه من جميع حدودها: قال الإمام علي علیه السلام: «هذه النار مدبرة مصنوعة لا يعرف وجهها، وخالقها لا يشبهها، وللّه المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه اللّه، لا يخفى على ربنا خافية»))(3).

المطلب الثاني: نفي النسيان عن اللّه تعالى

النسيان لغة: من (نسي) (النون والسين والياء أصلانِ صحيحان: يدلُّ أحدهما على إغفال الشيء، والثاني على تَرْك شيء)(4).

أمَّا اصطلاحًا: (هو الغفلة عن معلوم في غير حالة السُّنة، فلا ينافي الوجوب،

ص: 47


1- (1) ظ: حياة النفس: أحمد الأحسائي: 1 / 25 .
2- (2) الجاثَليق: هو رئيس النصارى في بلاد الإسلام، ولغتهم السريانية. مجمع البحرين: الطريحي، 1/ 344 .
3- (3) التوحيد: الصدوق: 182 .
4- (4) مقاييس اللغة: ابن فارس: 5 / 421 .

أي نفس الوجوب، ولا وجوب الأداء)(1).

جاء في قوله تعالى:

﴿فَالْیَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا﴾ [الأعراف/ 51] الظاهر من الآية نسبة النسيان للّه تعالى عن ذلك علوا كبيرا لكن النسيان هنا هو: الترك وعدم الاستجابة والاثابة، فقد ذكر الطبرسي أنَّ معنى الآية: «أي نتركهم في العذاب كما تركوا التأهب والعمل للقاء هذا اليوم، وقيل معناه نعاملهم معاملة

المنسي في النار فلا نجيب لهم دعوة ولا نرحم لهم عبرة كما تركوا الاستدلال حتى نسوا العلم و تعرضوا للنسيان»(2).

وهذا متواشج مع ما جاء عن الإمام علي علیه السلام في تفسيره لقوله عز وجل:

﴿فَالْیَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَاء يَوْمِهِمْ هَذَا﴾ [الأعراف/51]: «يعني بالنسيان أنَّه لم يثبهم كما يثيب أولياءه الذين كانوا في دار الدُّنيا مطيعين ذاكرين حين آمنوا به وبرسله وخافوه بالغيب»(3).

وقال علیه السلام في قول اللّه تعالى:

﴿نَسُوا اللّهَ فَنَسِيَهُمْ﴾ [التوبة/67]: «فإنَّما يعني أنَّهم نسُوا اللّه في دار الدُّنيا فلم يعملوا له بالطَّاعة ولم يؤمنوا به وبرسوله فنسيهم في الآخرة أي لم يجعل لهم في ثوابه نصيبًا فصاروا منسيِّين من الخير»(4).

عن الإمام علي علیه السلام إذ سأله رجل عما اشتبه عليه من آيات الكتاب:

ص: 48


1- (1) التعريفات: الجرجاني: 234 .
2- (2) تفسير مجمع البيان: الطبرسي: 4 / 237 .
3- (3) التوحيد: الصدوق: 259 - 260 .
4- (4) التوحيد: الصدوق: 259 .

«وأما قوله: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا﴾ [مريم/ 64 ]، فإن ربَّنا تبارك وتعالى علوًا كبيرًا ليس بالذِّي ينسى، ولا يغفل بل هو الحفيظ العليم»(1).

المطلب الثالث: لقاء اللّه

وردت في القرآن الكريم آيات عدة تتكلم عن لقاء اللّه تعالى وليس المقصود من اللقاء هو الرؤية كما هو المتبادر للذهن، بل هو بمعنى البعث وهو ما أثبته الإمام علي علیه السلام في قوله جوابًا لأحد السائلين، إذ جاء في الرواية:

«سأل رجلٌ الإمام عليًّا علیه السلام عما اشتبه عليه من الآيات وذكر اللّه المؤمنين (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ﴾ [البقرة/ 46]، وقوله لغيرهم: ﴿إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ﴾ [التوبة/ 77]، فأمَّا قوله: ﴿بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ﴾ [السجدة/ 10 ]، يعني البعث فسمَّاه اللّه عز وجل لقاءه، فقوله تعالی: (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ﴾ يعني يوقنون أنَّهم يبعثون ويحشرون ويحاسبون ويجزون بالثَّواب والعقاب، فالظن ههنا اليقين خاصة، وكذلك قوله تعالى: ﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا﴾ [الكهف/ 110 ]، وقوله تعالی: (مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ﴾ [العنكبوت/ 5] يعني: من كان يؤمن بأنَّه مبعوثٌ فإنَّ وعد اللّه لآت من الثَّواب والعقاب، فاللقاء ههنا

ليس بالرؤية واللقاء هو البعث »(2)، فجميع ما في كتاب اللّه تعالى من لقائه فهو بمعنى البعث كما بيَّن الإمام علي علیه السلام بذكر آيات عدة من مواضع متفرقة في القرآن تتحدث عن لقاء اللّه تعالى وبيانه ذلك بأنَّه يعني البعث، وقد أخذ

ص: 49


1- (1) التوحيد: الصدوق: 264 .
2- (2) المصدر نفسه: 267 .

المفسرون بذلك في تفسيرهم لهذه الآية ﴿الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ) [البقرة/ 46 ]، يقول: «يوقنون أنهم مبعوثون، والظنُّ منهم يقين »(1) وقوله:

﴿بَلْ هُم بِلِقَاء رَبِّهِمْ كَافِرُونَ﴾ [السجدة/ 10 ] أي منكرون للمعاد وهو يوم البعث(2).

وسأل رجل الإمام علياً علیه السلام «فقال: هل رأيت ربَّك يا أمير المؤمنين؟ فقال علیه السلام :

أ فأعبد ما لا أرى؟ فقال: وكيف تراه؟ فقال علیه السلام: لا تراه العيون بمشاهدة العيان، ولكن تدركه القلوب بحقائق الإيمان، قريب من الأشياء غير ملامس، بعيد منها غير مباين، متكلم لا بروية، مريد لا بهمة، صانع لا بجارحة، لطيف لا يوصف بالخفاء، كبير لا يوصف بالجفاء، بصير لا يوصف بالحاسة، رحيم لا يوصف بالرقة، تعنو الوجوه لعظمته، وتجب القلوب من مخافته»(3).

ويتواشج هذا الكلام مع الآية الكريمة:

(لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ﴾ [الأنعام/ 103 ]،وقوله تعالى:

(فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾ [الحج/ 46]، أي إنَّ الرؤية معنوية لا مادية تكون عن طريق القلب، إذ يقول الإمام علیه السلام :

«ولكن تدركه القلوب.. » إذن لا يكون الإدراك بالجوارح لكن يكون بالإحساس والتفكر والإيمان.

قيل للإمام علي علیه السلام: «كيف يحاسب اللّه الخلق وهم لا يرونه؟ قال: كما

ص: 50


1- (1) تفسير العياشي: العياشي: 1 / 44 .
2- (2) ظ: المصدر نفسه: 1 / 203 .
3- (3) نهج البلاغة: 2 / 99 – 100 .

يرزقهم ولا يرونه »(1)، وقد استدل الشيخ الطوسي بهذه الرواية عند تفسيره لقوله تعالى:

(وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ﴾ [الأنعام/ 62 ]، وجاء في معنى الآية: (أنَّه تعالى أحصى الحاسبين لما أحصى الملائكة ويتوفى من الأنفس لا يخفى عليه تعالى من ذلك خافية ولا يحتاج في عدِّه إلى فكر ونظر)(2).

ومنه قوله تعالى:

(وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾ [البقرة/ 202 ] إذ يقول الإمام علي علیه السلام في معنى الآية:

«معناه أنَّه يحاسب الخلق دفعة كما يرزقهم دفعة »(3)، ﴿وَالله سَرِيعُ الْحِسَابِ) يعني في العدل من غير حاجة إلى خط ولا عقد، لأنَّه (عز وجل) عالم به، وإنَّما يحاسب العبد مظاهرة في العدل، وإحالة على ما يوجبه الفعل من خير أو شر.

وكان علیه السلام يقول:

«سبحان من إذا تناهت العقول في وصفه كانت حائرةً دون الوصول إليه، وتبارك من إذا غرقت الفطن في تكيّفه لم يكن لها طريق إليه غير الدلالة عليه»(4)، ينبِّه الإمام علیه السلام في قوله هذا إلى أنَّه لا يمكن الوصول إلى صفة اللّه تعالى أو إدراك كنهِهِ وكفى، قوله تعالى:

ص: 51


1- (1) نهج البلاغة: 4 / 72 .
2- (2) التبيان: الطوسي: 4 / 158 .
3- (3) المصدر نفسه: 2 / 175 ، تفسير الرازي: 18 / 234 - 235 ، بحار الأنوار، المجلسي، 7 / 254 .
4- (4) كنز الفوائد: أبو الفتح الكراجكي: 239 ، إرشاد القلوب: الدّيلمي: 324 ، نهج السعادة: الشيخ المحمودي: 6 / 39 .

﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الشورى/ 11].

وفي حديث طويل عن الإمام علي علیه السلام يقول فيه، وقد سأله رجل عمَّا اشتبه عليه من الآيات: «وسأل موسى علیه السلام وجرى على لسانه من حمد اللّه عز وجل:

(رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ﴾ [الأعراف/ 143]، فكانت مسألته تلك أمرًا عظيمً، وسأل أمرًا جسيمًا، فعُوقب، فقال اللّه تبارك وتعالى:

﴿لَنْ تَرَانِي﴾ [الأعراف/ 143 ]، في الدُّنيا حتى تموت فتراني في الآخرة، ولكن إن أردت أنْ تراني في الدُّنيا فانظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني، فأبدى اللّه سبحانه بعض آياته، وتجلى ربُّنا للجبل فتقطع الجبل فصار رميمًا وخر موسى صعقًا، ثم أحياه اللّه وبعثه فقال علیه السلام :

(سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الأعراف/ 143]، يعني أول من آمن بك منهم أنَّه لن يراك» (1).

ص: 52


1- (1) التوحيد: الصدوق: 263 ، تفسير نور الثقلين: الحويزي: 3 / 71 .

المطلب الرابع: معنى الصَّمد

جاء هذا الاسم الكريم في سورة الإخلاص في قوله تعالى:

﴿اللّهُ الصَّمَدُ﴾ [الإخلاص/ 2]، ومعناه الذي تحقُّ له العبادة هو الموصوف بأنَّه (الصَّمد) وقيل: في معناه قولان: أحدهما: إنَّه السَّيد المعظم، والسَّيد الصمد، والآخر: معناه الذي يصمد إليه في الحوائج ليس فوقه أحد، ألا أن في الصفة معنى التعظيم كيف تصرفت الحال، ومن قال: الصَّمد بمعنى المصمت، فقد جهل اللّه تعالى، لأن المصمت هو المتضاغط الأجزاء وهو الذي لا جوف له

وهذا تشبيه وكفر باللّه تعالى(1).

«والأصل في معنى الصَّمد القصد أو القصد مع الاعتماد، وقد فُسِّرَ الصَّمد بمعاني متعددة يرجع أكثرها إلى أنَّه السَّيد المصمودُ إليه أي المقصود في الحوائج... وإذا كان اللّه تعالى هو الموجد لكل ذي وجود مما سواه يحتاج إليه فيقصده كل ما صدق عليه أنَّه شيء غيره، في ذاته وصفاته وآثاره، فهو

الصَّمد في كل حاجة في الوجود، ومن هنا يظهر وجه دخول اللام على الصمد وأنَّه لإفادة الحصر، فهو تعالى وحده الصَّمد على الإطلاق، وهذا بخلاف أحد فی قوله:(اللّهُ أَحَدٌ﴾ [الإخلاص/ 1]، فإنَّ أحدًا بما أفاده من معنى الوحدة الخاصة لا يطلق في الإثبات على غيره تعالى، فلا حاجة فيه إلى عهد أو حصر، وأما إظهار اسم الجلالة ثانيًا إذ قال: ﴿اللّهُ الصَّمَدُ﴾ ولم يقل: هو الصَّمد، ولم يقل: اللّه أحد صمدٌ فالظاهر أن ذلك للإشارة إلى كون كل من الجملتين وحدها كافية في تعريفه تعالى إذ إنَّ المقام مقام تعريفه تعالى بصفة تختص به فقيل: ﴿اللّهُ

ص: 53


1- (1) ظ: التبيان: الطوسي: 10 / 410 .

أَحَدٌ اللّهُ الصَّمَدُ﴾ إشارة إلى أنَّ المعرفة به حاصلةٌ سواء قيل كذا أو قيل كذا، والآيتان مع ذلك تصفانه تعالى بصفة الذات وصفة الفعل جميعًا فقوله:

(اللّهُ أَحَدٌ﴾ يصفه بالأحدية التي هي عين الذَّات، وقوله: ﴿اللّهُ الصَّمَدُ﴾ يصفه بانتهاء كل شيء إليه وهو من صفات الفعل، والصَّمد بمعنى المصمت الذي ليس بأجوف فلا يأكل ولا يشرب ولا ينام ولا يلد ولا يولد، وعلى هذا يكون قوله: ﴿لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ﴾ تفسيرًا للصَّمد»(1).

وقد أوضح الإمام علي علیه السلام معنى الصَّمد فقال:

«تأويل الصَّمد لا اسم ولا جسم ولا مثل ولا شبه ولا صورة ولا تمثال ولا حدٌّ ولا حدود ولا موضع ولا مكان ولا كيْفٌ ولا أين ولا هنا ولا ثمة ولا ملا ولا خلا ولا قيام ولا قعود ولا سكون ولا حركة ولا ظلماني ولا نوراني ولا روحاني ولا نفساني ولا يخلو منه موضع ولا يسعه موضع ولا على لون ولا على خطر قلب ولا على شمِّ رائحة، منفي عنه هذه الاشياء»(2).

ص: 54


1- (1) تفسير الميزان: الطباطبائي: 20 / 222 .
2- (2) جامع الأخبار: السبزواري: 38 ، بحار الأنوار: المجلسي: 3 / 230 .

المبحث الثالث : فهم الآيات القرآنية المتعلقة بالنبوة والإمامة والمعاد في ضوء كلام الإمام علي علیه السلام

المطلب الأول: النبوة

من عظيم نِعم اللّه تعالى على العباد أن أرسل لهم رحمة من عنده ومنَّ عليهم بإرسال الأنبياء، فقال اللّه تعالى لنبينا محمد صلی اللّه علیه و آله و سلم ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) [الأنبياء/ 107 ]، فاختصه اللّه تعالى برحمته إذ يقول اللّه تعالى:

﴿وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ﴾ [البقرة/ 105 ]، أي یختصُّ اللّه بالنبوة مَن يشاء و لا يشاء إلَّا ما تقتضيه الحكمة، وقد فُسِّرت هذه الآية الكريمة برواية نقلت عن الإمام علي والإمام الباقر علیهماالسلام، وكلا الروايتين تقولان بأنَّ معنى الرَّحمة هنا هو النبوة، وقد اعتمد المفسرون هذه الرواية لبيان معنى هذه الآية(1) ، إذ جاء في الرواية عن الإمام علي علیه السلام وعن الإمام أبي جعفر الباقر علیه السلام قولهما:

«أن المراد برحمته هنا النبوة »(2) ، وهناك من قال بأنَّ الرّحمة في هذه الآية هي

ص: 55


1- (1) ظ: التبيان: الطوسي: 1 / 389 ، ظ: مجمع البيان: الطبرسي: 1 / 307 .
2- (2) بحار الأنوار: المجلسي، 22 / 14 .

الإسلام والقرآن، وقيل: هي كثرة الذِّكر للّه تعالى (1).

بعد أن تبين بأن النبُّوة هي رحمة من اللّه تعالى اختص بها من يشاء من خلقه، نجد أن النبوة لخاتم الأنبياء هي فضيلة خاصة قال تعالى:

﴿ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾ [الجمعة/ 4]، فهو خاتمهم وأفضل الأنبياء والمرسلين.

فما بعث اللّه من نبي قبله إلَّا وأخذ عليه عهدًا بالإيمان بنبوة محمد صلی اللّه علیه و آله و سلم، قال

تعالى:

(وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ ﴾ [آل عمران/ 81]، وما ذكره بعض المفسرين أن المراد بالآية أن اللّه أخذ الميثاق من النبيين أن يصدقوا محمدًا صلی اللّه علیه و اله و سلم، ويبشروا أممهم بمبعثه، فهو وإن كان صحيحًا إلا أنه أمر

يدل عليه سياق الآيات كما مرت الإشارة إليه دون الآية في نفسها لعموم اللفظ بل من حيث وقوع الآية ضمن الاحتجاج على أهل الكتاب ولومهم وعتابهم على انكبابهم على تحريف كتبهم وكتمان آيات النبوة والعناد والعتو مع صريح الحق(2)، الآية تنبئ عن ميثاق مأخوذ، وقد أخذ اللّه هذا الميثاق للنبيين كما يدل عليه قوله تعالى:

﴿ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ..﴾، فضلاً عن أنَّه تعالى أخذه من النبيين على ما يدل عليه قوله تعالى:

ص: 56


1- (1) ظ: روح المعاني، الألوسي، 3 / 95 .
2- (2) تفسير الميزان: 3 / 335 .

(أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي..﴾ وقوله بعد: قل آمنا باللّه إلى آخر الآية، فالميثاق ميثاق مأخوذ للنبيين ومأخوذ منهم وإنْ كان مأخوذًا من غيرهم أيضًا بوساطتهم، وعلى هذا فمن الجائز أن يراد بقوله تعالى:

﴿مِيثَاقَ النَّبیِّينَ﴾ الميثاق المأخوذ منهم أو المأخوذ لهم والميثاق واحد، إلا أن سياق قوله تعالى:

(مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ﴾ [آل عمران/ 79 ] إلى آخر الآيتين في اتصاله بهذه الآية، يؤيد كون المراد بالنبيين هم الذين أخذ منهم الميثاق، فإنَّ وحدة السِّياق تعطي أنَّ المراد: أن النبيين بعدما آتاهم اللّه الكتاب والحكم والنبوة لا يتأتى لهم أن يدعوا إلى الشَّريك، وكيف يتأتى لهم ذلك وقد أخذ منهم الميثاق على الإيمان والنصرة لغيرهم من النبيين الذين يدعون إلى توحيد اللّه سبحانه، فالأنسب أن يبدأ بذكر الميثاق من حيث أخذه من النبيين، ومن اللطائف الواقعة في الآية أنَّ الميثاق مأخوذ من النبيين للرسل على ما يعطيه قوله تعالى:

(وَ إِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبیِّينَ﴾ إلى قوله تعالى: ﴿ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ﴾، فظاهر يفيد اللفظ يكون الميثاق مأخوذًا من مقام النبوة لمقام الرسالة من غير دلالة على العكس(1).

روي عن الإمام علي علیه السلام أنَّه قال:

«إنَّ اللّه أخذ الميثاق على الأنبياء قبل نبينا صلی الله علیه و آله و سلم أن يُخبروا أممهم بمبعثه ونعته

ص: 57


1- (1) ظ: تفسير الميزان: الطباطبائي: 3 / 334 – 335 .

ويبشروهم به ويأمروهم بتصديقه»(1).

جاء في حديث للإمام علي علیه السلام: «وألزمهم الحجة بأن خاطبهم خطابًا يدل على انفراده وتوحيده و بأنَّ لهم أولياء تجري أفعالهم وأحكامهم مجرى فعله، فهم العباد المكرمون:

(لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ﴾ [الأنبياء/ 27 ]، قال السائل: من هؤلاء الحجج؟ قال: هم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله و سلم ومن حلَّ محله أصفياء اللّه الذين قال: (فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ) [البقرة/ 115 ]، الذِّين قرنهم اللّه بنفسه وبرسوله، وفرض على العباد من طاعتهم مثل الذي فرض عليهم منها لنفسه»(2).

ومن كلام له علیه السلام يصف فيه النبي الأكرم محمداً صلی اللّه علیه و آله و سلم قال:

«مُسْتَقَرُّهُ خَيْرُ مُسْتَقَرٍّ، وَمَنْبِتُهُ أَشْرَفُ مَنْبِتٍ فِي مَعَادِنِ اَلْکَرَامَةِ، وَمَماهِدِ اَلسَّلامَةِ قَدْ صُرِفَتْ نَحْوَهُ أَفْئِدَةُ اَلْأَبْرَارِ، وَثُنِيَتْ إِلَيْهِ أَزِمَّةُ اَلْأَبْصَارِ، دَفَنَ بِهِ اَلضَّغَائِنَ، وَأَطْفَأَ بِهِ اَلثَّوَائِرَ، أَلَّفَ بِهِ إِخْوَانًا، وَفَرَّقَ بِهِ أَقْرَانًا، أَعَزَّ بِهِ اَلذِّلَّةَ، وَأَذَلَّ بِهِ اَلْعِزَّةَ، كَلاَمُهُ بَيَانٌ، وَصَمْتُهُ لِسَانٌ»(3).

إنّ مراده علیه السلام ب- (مستقرِّه): المدينة، ومراده علیه السلام ب-(منبته) صلی اللّه علیه و آله و سلم مكَّة المكرمة، وقد قال تعالى:

(إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96) فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾ [آل عمران/ 96 ، 97]، فاحتلَّ دار كرامة في معشرٍ آووه في سعة المحلِّ الأرحب، ومماهد جمع ممهد: اسم مكان،

ص: 58


1- (1) تفسير مجمع البيان: الطبرسي: 2 / 297 ، بحار الأنوار 11 / 12 ، ينقل عن الطبرسي.
2- (2) الاحتجاج: الطبرسي: 1 / 375 .
3- (3) نهج البلاغة، 1 / 187 .

ويعني ب-(السلامة): البراءة من العيوب، أي: في نسب طاهر، فحمل المستقرَّ،والمنبت في كلامه علیه السلام على الأرحام والأصلاب، قد صرفت نحوه أفئدة الأبرار: فصاروا مصدِّقيه وملازميه، وثنيت أي: رفعت، من ﴿ثاَنِيَ عِطْفِهِ﴾ [الحج/ 9] إليه أزمَّة الأبصار فلا تخفض إلى غيره، كان الجلف البدوي يرى وجهه ،صلی اللّه علیه و آله و سلم فيقول: واللّه ما هذا وجه كذَّاب، وكان عظيما مهيبا في النفوس حتّى ارتاعت منه رسل كسرى، مع أنّه كان بالتواضع موصوفا، دفن به الضغائن كان بين الأوس والخزرج ضغائن من حروب كانت بينهما، وقتلى كثيرة منهما، فأماتها اللّه تعالى به صلی اللّه علیه و آله و سلم، وأطفأ به الثوائر أو النوائر جمع النار، لأنّ الإطفاء إنّما ينسب إلى النار لا إلى الثار، ألّف به إخوانًا، قال تعالى:

(وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [الأنفال/ 63]، ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا﴾ [آل عمران/ 103]، ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ﴾ [الحجرات/ 10 ]، وفرَّق به أقرانًا: بواسطة مخالفتهم في الدِّين، فكم ابن وأخ ترك أباه وأخاه به، وكم امرأة تركت زوجها بسبب الدِّين، أعزّ به الذلّة: فكم من أذلاءَّ صاروا أعزَّاء بالإيمان به، وأذلّ به العزّة، وكم من جبابرة أعزَّاء صاروا أذلَّاء بالكفر به، كلامه بيان: قال تعالى فيه:

﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَی﴾ [النجم/ 3- 4] وصمته لسان: حيث إنّ تقريره صلی اللّه علیه و آله و سلم حجّة كقوله وفعله (1).

ص: 59


1- (1) ظ: بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة: التستري: 198 – 203 .

المطلب الثاني: الإمامة.

اشارة

جعل اللّه سبحانه وتعالى أحكام الإسلام وقوانينه متقنة ومحكمة، فحين بعث الرسل والأنبياء أمرهم بهداية الناس إليه وإلى دينه القويم، وفي نهاية رسالة كل رسول لا ينتهي الدين بل يبقى مستمرًا، وذلك عن طريق خلفاء الأنبياء وهم الأوصياء الذين أمر اللّه تعالى رسله بتعيينهم وجعلهم أئمة للناس يهدون بأمر اللّه تعالى وهكذا إلى أن ختم اللّه تعالى بنبوة محمد صلی اللّه علیه و آله و سلم وبالإسلام الذي جعل له أوصياء إلى يومنا هذا، فلم تخلُ الأرض من حجة، إذ لا بد للناس من إمام يأتمرون بأمره حتى لا تكون للناس على اللّه تعالى حجة بعد الرسل.

قال الإمام علي علیه السلام :

«أصول الإسلام ثلاثة لا ينفع واحدة منهن دون صاحبتها: الصَّلاة والزَّكاة والموالاة »(1)، وهذا مستقى من قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ﴾ [المائدة/ 55]، وذلك أن اللّه تعالى أثبت الموالاة بين المؤمنين، ثمَّ لم يصفهم إلا بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة فقال:

﴿الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ﴾ فمن والى عليًّا فقد والى اللّه تعالى و رسوله، وذكر تعالى في آية أخرى أنَّه حببه إلى عباده المؤمنين فقال:

﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا﴾ [مريم/ 96 ]، فعن ابن عباس في قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا.. وُدًّا﴾ قال: نزلت في علي بن أبي

ص: 60


1- (1) المحاسن، أحمد بن محمد بن خالد البرقي: 286 ، بحار الأنوار، المجلسي: 65 / 386 .

طالب علیه السلام ما من مسلم إلَّا ولعلي في قلبه محبة(1).

والمعنى: (سيحدث لهم في القلوب مودَّة ويزرعها لهم فيها، من غير تودُّد منهم ولا تعرّض للأسباب التي توجب الود ويكتسب بها الناس مودات القلوب، من قرابة أو صداقة أو اصطناع بمبرة أو غير ذلك، وإنَّما هو اختراع منه ابتداء اختصاصًا منه لأوليائه بكرامة خاصة، كما قذف في قلوب أعدائهم

الرعب والهيبة، إعظامًا لهم وإجلالًا لمكانهم.. و روي أنَّ النبيَّ صلی اللّه علیه و آله و سلم قال لعلي

رضي الله عنه:

«يا عليُّ قل: اللهمَّ اجعل لِي عندَكَ عهدًا، واجعل لِي في صدورِ المؤمنينَ مودَّةً » فأنزل اللّه تعالى هذه الآية)(2).

اتضح من هذا القول أنَّ من أسباب نزول الآية الكريمة أنَّها نزلت بحقِّه علیه السلام وهو ما ذهب إليه أكثر المفسرين (3)، فعلى ضوء كلام الإمام علیه السلام فُهِم معنى الآية الكريمة التي تثبت للإمام هذه الخصوصية وهي المودة في قلوب المؤمنين فهي منزلة عظيمة لا يجعلها اللّه تعالى لأي أحد، فكانت دليلًا واضحًا على مقام الإمام علي علیه السلام .

إنَّ الإمام لا بدَّ من أن تجتمع فيه ثلاثة أوصاف: (الأول: الإعراض عن الدنيا ولذاتها، الثاني: المواظبة على فعل العبادات جميعها، الثالث: التصرف

ص: 61


1- (1) غاية المرام وحجة الخصام: هاشم البحراني الموسوي التوبلي: 2 / 10 ، الدر المنثور: السيوطي،293 / 2 .
2- (2) الكشاف: الزمخشري: 2 / 528 .
3- (3) ظ: تفسير مجمع البيان: الطبرسي: 6 / 454 ، التسهيل لعلوم التنزيل: ابن جزى: 3 / 10 ، الميزان: 14 / 115 .

بفكره إلى عالم الجبروت مستديما لبروق نور الحق في سره لأنه طالب للحق ولأمور الآخرة وملزم للناس بها، فيلزمه الإعراض عما سوى الحق تعالى، ولا سيما ما يشغله عن الطلب وهو لذَّات الدنيا وطيِّباتها خاصة المحرمة منها، ثم يقبل على ما يعتقد أنَّه يقربه من الحق وهو العبادات، وهذان كمال الزهد والعبادة ولا بد من دوام تصوره تعالى إذا تقرر ذلك فهو يدل على عصمة الإمام للعلم الضروري بعصمة من اجتمعت فيه هذه الصفات والإمام تكون له حالتان، الأولى: محبة اللّه تعالى وهي راجعة إلى نفسه خاصة، الثانية: حركته في طلب القرب إليه وكلاهما يتعلقان به تعالى لذاته، فلأجل اللّه تعالى أيضًا فهو يريد اللّه تعالى ومرضاته ولا يؤثر شيئًا على عرفانه ومرضاته وتعبده له فقط، ولأنَّه

مستحق للعبادة، ولأنَّها نسبة شريفة إليه لا لرغبة ولا لرهبة)(1) كما قال الإمام علي علیه السلام: «إلهي ما عبدتك خوفًا من عقابك، ولا طمعًا في ثوابك، بل وجدتك أهلًا للعبادة فعبدتك»(2).

وروي أنَّه علیه السلام قال في جمع من المهاجرين والأنصار في المسجد أيام خلافة عثمان:

«أنشدكم باللّه أتعلمون أنِّي قلت لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله و سلم في غزوة تبوك لِمَ خلَّفتني؟

فقال: إنَّ المدينة لا تصلح إلَّا بي أو بك، وأنت منِّي بمنزلة هارون من موسى إلَّا أنَّه لا نبي بعدي؟ قالوا: اللُّهم نعم»(3).

وقد تنوعت الآيات الكريمة التي تتضمن الإشارة إلى ولاية أهل البيت علیهم السلام

ص: 62


1- (1) ظ: الألفين: العلامة الحلي: 138 .
2- (2) الصحيفة العلوية: الأبطحي: 82 .
3- (3) كمال الدين وتمام النعمة: محمد بن على بن الحسين بن بابويه القمي: 278 .

وفي مقدمتهم الإمام علي علیه السلام، إذ أمر اللّه – تعالى– المسلمين بطاعة الرسول الكريم محمد صلی اللّه علیه و آله و سلم والرسول قد أمر بولاية أهل بيته وأمر باتباعهم والسير على نهجهم، فمن معاني الولاية التي جاء بها القرآن الكريم هي الموعظة إذ يقول تعالى:

(قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ﴾ [سبأ/ 46 ]، وقد قال أكثر المفسرين بأنَّ الموعظة هنا هي الطَّاعة للّه تعالى، وقيل ﴿أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ﴾ بتوحید اللّه تعالی خصلة واحدة، فقولوا: لا إله إلَّا اللّه (1)، و من مصاديق طاعة اللّه تعالى هو طاعة رسوله صلی اللّه علیه و آله و سلم وقد أمر الرسول صلی اللّه علیه و آله و سلم باتِّباع الإمام علي علیه السلام وأعطاه الخلافة من بعده وجعله وصيًا له وإمامًا للمسلمين من بعده، فمن هذا المنطلق تكون الولاية معنى من معاني الموعظة ومصداقًا لها، وقيل: «المراد بالموعظة الوصية كناية أو تضمينًا»(2).

وقال الزمخشري إنَّ معناها «خصلة واحدة وهي القيام لوجه اللّه عزَّ وجلَّ بإخلاص، فقال تعالى:

(قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ﴾ [سبأ/ 46] أي: بخصلة واحدة والمعنى قل إنَّما أعظكم بواحدة إن فعلتموها أصبتم الحق وتخلصتم، وهي: أن تقوموا لوجه اللّه خالصًا، متفرِّقين اثنين اثنين، وواحدًا واحدًا»(3).

فكل هذه التفاسير بينت لهذه الآية معاني متقاربة إلَّا أنَّ بعض المفسرين نقلوا هذه الرواية عن الإمام علي علیه السلام بل إنَّ بعضهم استدلَّ بها واكتفى بها لبيان

ص: 63


1- (1) ظ: تفسير الطبري: 20 / 417 ، ظ: التبيان: الطوسي: 8 / 392 ، ظ: مجمع البيان: الطبرسي: 8/ 196.
2- (2) تفسير الميزان: الطباطبائي: 16 / 388 .
3- (3) الكشاف: الزمخشري: 5 / 390 .

معنى هذه الآية(1)، يقول فيها علیه السلام إنَّ معنى الموعظة هنا هي الولاية، وفي كتاب الاحتجاج للطبرسي عن الإمام علي علیه السلام حديث طويل وفيه «قال المنافقون: هل بقي لربِّك علينا بعد الذي فرض علينا شيء آخر يفترضه فتذكره ولتسكن أنفسنا إلى أنَّه لم يبق غيره؟ فأنزل اللّه تعالى في ذلك:

(قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ﴾ [سبأ/ 46 ]، يعني الولاية فأنزل اللّه تعالى:

(إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ﴾ [المائدة/ 55 ]، وليس بين الأمة خلاف أنَّه لم يؤتِ الزكاة يومئذٍ أحدٌ منهم وهو راكع غير واحد، ولو ذُكِر اسمُهُ في الكتاب لأسُقط ما أسقط»(2).

ولقد رفع اللّه تعالى مقام الإمامة فأمر رسله أن يأمروا العباد بطاعتهم واتباعهم ولقد شرفهم وفضلهم واصطفاهم إذ قال عنهم في القرآن بأنهم جنب اللّه تعالى كما جاء على لسانه والأئمة من ولده أيضًا، قال تعالى:

(وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ * أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ﴾ [الزمر/ 55 - 56 ]، وقوله ﴿فِي جَنْبِ اللَّهِّ) أي فرطت في طاعة اللّه تعالى أو في أمره (3)، ومعناها يا ندامتي على ما ضيعت من ثواب اللّه تعالى أو قصرت في أمر اللّه تعالى أو في طاعة اللّه تعالى، فيكون المعنى على هذا القول على ما فرطت في طلب جنب اللّه تعالى أي في طلب جواره وقربه وهو

ص: 64


1- (1) ظ: تفسير القمي: 2 / 205 .
2- (2) الاحتجاج: الطبرسي: 1 / 379 .
3- (3) التبيان: الطوسي: 9 / 37 .

الجنة، أو تكون بمعنى فرطت في الطريق الذي هو طريق اللّه تعالى فيكون الجنب بمعنى الجانب أي قصرت في الجانب الذي يؤدي إلى رضا اللّه تعالى(1).

قال الإمام علي علیه السلام في خطبةٍ له:

«أنا الهادي، وأنا المهتدي..، وأنا ملجأ كل ضعيف ومأمن كل خائف، وأنا قائد المؤمنين إلى الجنة، وأنا حبل اللّه المتين، وأنا عروة اللّه الوثقى وكلمة التقوى، وأنا عين اللّه ولسانه الصادق ويده، وأنا جنب اللّه الذي يقول:

(أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ)[الزمر/ 56 ]، وأنا يد اللّه المبسوطة على عباده بالرحمة والمغفرة، وأنا باب حطة، من عرفني وعرف حقي فقد عرف ربَّه لأنِّ وصيُّ نبيه في أرضه، و حجته على خلقه، لا ينكر هذا إلا رادٌّ على اللّه ورسوله»(2).

فجنب اللّه جانبه وناحيته وهو ما يرجع إليه تعالى مما يجب على العبد أن يعامله ومصداق ذلك أن يعبده وحده ولا يعصيه والتَّفريط في جنب اللّه التَّقصير في ذلك (3).

وعلى هذا فإنَّ التفريط في جنب اللّه تعالى يشمل كلَّ أنواع التفريط في طاعة أوامر اللّه تعالى، واتباع ما جاء في الكتب السَّماوية، والتأسي بالأنبياء والأولياء –صلوات اللّه تعالى عليهم– ولهذا السَّبب ورد في العديد من روايات أئمَّة أهل البيت علیهم السلام أنَّ الأئمَّة الأطهار هم المقصودون ب-(جنب اللّه)، ومن تلك الروايات ما ورد في أصول الكافي نقلًا عن الإمام موسى الكاظم علیه السلام أنَّه قال في

ص: 65


1- (1) ظ: مجمع البيان: الطبرسي: 8 / 410 .
2- (2) التوحيد: الصدوق: 165 .
3- (3) ظ: تفسير الميزان: الطباطبائي: 17 / 144 .

تفسير: ﴿يَا حَسْرَتَا عَلَی مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللّهِ﴾ [الزمر/ 56 ] «جنب اللّه أمير المؤمنين وكذلك ما كان بعده من الأوصياء بالمكان الرفيع إلى أن ينتهي الأمر إلى آخرهم (1)، وعن الإمام علي بن الحسين علیهماالسلام في قوله تعالى:

﴿ياَ حَسْرَتاَ عَلَی مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللّهِ﴾ [الزمر/ 56 ]، قال:

«جنب اللّه علي وهو حجة اللّه على الخلق يوم القيامة»(2).

وروي عن الإمام أبي جعفر علیه السلام أنَّه قال:

«نحن جنب اللّه »(3)، إنَّ هذه التفسيرات إنَّما هي من قبيل بيان المصاديق الواضحة، لأنَّ من المسلَّم به أنَّ اتباع نهج الأئمَّة إنَّما هو اتباعٌ للرسول صلی اللّه علیه و آله و سلم وطاعة للّه تعالى؛ إذ إنَّ الأئمة علیهم السلام لا ينطقون بشيء من عندهم(4).

فإنَّ ما جاء في القرآن الكريم إذن عن الولاية ومقام الإمامة للإمام علي علیه السلام والمعصومين من ولده علیهم السلام يؤكد أحقيتهم بالإمامة والولاية، وكلام الإمام علي علیه السلام برهان واضح ودليل قاطع وذلك بيانه لمعاني الإمامة ومصاديقها في القرآن الكريم.

وورد عن الإمام علي علیه السلام: «فالأوصياء قوام عليكم بين الجنة والنار، لا يدخل الجنة إلا من عرفهم وعرفوه ولا يدخل النار إلا من أنكرهم وأنكروه، لأنهم عرفاء العباد عرفهم اللّه إياهم عند أخذ المواثيق عليهم بالطاعة لهم، فوصفهم في كتابه فقال عز وجل:

ص: 66


1- (1) الكافي: الكليني: 1 / 145 .
2- (2) بحار الأنوار: المجلسي: 24 / 191 .
3- (3) بصائر الدرجات: محمد بن الحسن الصفار: 83 .
4- (4) ظ: تفسير الأمثل: الشيرازي: 15 / 131 .

(وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ﴾ [الأعراف/ 46 ] وهم الشهداء على الناس والنبيون شهداؤهم بأخذهم لهم مواثيق العباد بالطاعة»(1).

(وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ)[الأعراف/ 46] «هم رجال من الملائكة، يعرفون أهل الجنةَّ وأهل الناَّر أوهم قوم علَت درجتهم كالأنبياء، والشهداء، وخيار المؤمنين »(2).

ومعنى الأعراف «المكان المرتفع »(3)، وعلى رأي أكثر المفسرين: هو أعالي ذلك السور المضروب بين الجنةَّ والناَّر، أمَّا الذين هم على الأعراف فيه قولان: أحدهما: إنَّم الأشراف من أهل الطَّاعة وأهل الثَّواب، وقيل هم الملائكة يعرفون أهل الجنةَّ وأهل الناَّر، وقيل إنَّهم الأنبياء علیهم السلام أو هم الشُّهداء، فإنَّ اللّه تعالى يجلسهم على الأعراف، وهي الأمكنة العالية الرفيعة ليكونوا مطلعين على

الكل يشهدون على كل أحد بما يليق به، ويعرفون أن أهل الثَّواب وصلوا إلى الدَّرجات، وأهل العقاب إلى الدركات، الثاني: أن يقال إنَّهم أقوام يكونون في الدرجة السافلة من أهل الثواب(4).

ومن كلام الإمام نستشف معنى عامًا يقترب من مراد الآية الذي اشتهرت به وهو أن اللّه تعالى جعل عبادًا مؤمنين شهداء على خلقه وهؤلاء المؤمنون هم محمد وآله لأن اللّه تعالى يقول:

﴿وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾ [البقرة/ 143 ]، ويقول الإمام علي علیه السلام

ص: 67


1- (1) كشف المحجة: ابن طاووس: 191 .
2- (2) تفسير القرآن العظيم: ابن كثير: 3 / 421 ، ظ: تفسير غريب القرآن: الطريحي: 399 .
3- (3) ظ: التبيان: الطوسي: 4 / 410 .
4- (4) ظ: مفاتيح الغيب: الرازي: 14 / 88 .

سمعت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله و سلم يقول:

«ثم تَرِدُ أمتي و شيعتي فيروون من حوض محمد صلی اللّه علیه و آله و سلم وبيدي عصًا عوسج

أطرد بها أعدائي طرد غريبة الإبل»(1).

فقد أشارت الآيات السابقة لذكر الأعراف ورجال الأعراف أن بين أصحاب الجنة وأصحاب النار مؤذن ينادي باللعن على الظالمين:

(وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) [الأعراف/ 44]، إذ تذكر الروايات أن المؤذن هو الإمام علي علیه السلام، جاء عن الإمام أبي الحسن الرضا علیه السلام قال:

«المؤذِّن أمير المؤمنين علیه السلام يؤذن أذانًا يُسمِعُ الخلائق كلَّها »(2)، والدليل على ذلك قول اللّه عز وجل في سورة البراءة: ﴿وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ)[التوبة/ 3]، فقال الإمام علي علیه السلام: «كنت أنا الأذان في النَّاس»(3).

(وفَعَلَه بإذْني أي بِعِلمي، ويجوز بأمري)(4).

فهذا دليل قاطع من كلام الإمام علیه السلام على أنَّه علیه السلام هو من يأذن للعباد بدخول الجنة أو النار فبولايته الفوز بالجنة وبمعاداته ومخالفته فالمصير هو النار.

ويقول علیه السلام :

«اسمعوا قولي يهدكم اللّه إذا قلتُ وأطيعوا أمري إذا أمرتُ فو اللّه لئن

ص: 68


1- (1) الخصال: الصدوق: 575 .
2- (2) بحار الأنوار: المجلسي: 36 / 64 .
3- (3) علل الشرائع: الصدوق: 2 / 442 .
4- (4) معجم مقاييس اللغة: ابن فارس: 1 / 77 .

أطعتموني لا تغووا، وإن عصيتموني لا ترشدوا »(1)، قال اللّه تعالى:

(أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾ [يونس/ 35 ]، فمحمد وآله الأطهار (عليهم الصلاة والسلام) هم من يهدي إلى الحق وأمَّا من لا يَهِدِّي إلَّا أنْ يُهْدِى فهو من خالف مِن قريش وغيرهم أهلَ بيتِ النبي صلی اللّه علیه و آله و سلم من بعده(2).

من يحتاج إلى هدايةٍ من غيره فإنَّه لا يمكن أن يُتبَع، ومن يهدي غيره إلى طريق التَّوحيد والرشد أحق أن يُتبَع أمرُهُ ونَهيُه، أم الذي لا يهدي أحدًا إلَّا يهتدي هو بغيره(3)، فمن يهدي إلى الحق يجب أن لا يكون مهتديًا بغيره إلَّا باللّه تعالى(4).

إذ إنَّ الأمَّة مجمعة على أن الإمام لا يحتاج إلى إمام، ولا خلاف بين ذوي العقول أنَّ من احتاج إلى رعيته فهو إلى الإمام أحوج وإذا ثبت حاجة أحدٍ إلى الإمام بطلت إمامته بالإجماع المنعقد على أن الإمام لا يحتاج إلى إمام(5).

إذ يقول تعالى:

(وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا﴾ [الإسراء/ 72]، يعني أعمى عن الحقائق الموجودة(6)، جاء في كتاب الخصال يقول الإمام

ص: 69


1- (1) كشف المحجة: ابن طاووس: 187 .
2- (2) تفسير القمي: القمي: 1 / 312 .
3- (3) تفسير مجمع البيان: الطبرسي: 5 / 165 .
4- (4) ظ: تفسير الميزان: الطباطبائي: 8 / 346 .
5- (5) ظ: الفصول المختارة: الشيخ المفيد: 2 / 7 – 8.
6- (6) تفسير نور الثقلين: الحويزي: 196 .

علي علیه السلام :

«أشدُّ العمى من عَمِيَ عن فضلنا أو ناصَبَنا العداوة بلا ذنبٍ سبق إليه منَّا، إلَّا أنَّا دعوناهُ إلى الحقِّ، ودعاه من سوانا إلى الفتنة والدُّنيا، فأتاهما ونصب البراءة منَّا والعداوة لنا»(1).

(ومعناه أن من كان في هذه النعِّم وعن هذه العبر أعمى فهو عمَّا غُيِّبَ عنه من أمر الآخرة أعمى، وفيها إشارة إلى الدُّنيا بمعنى أنَّ من كان في هذه الدُّنيا أعمى عن آيات اللّه تعالى ضالًّا عن الحق ذاهبًا عن الدِّين فهو في الآخرة أشدُّ تحيرًا وذهابًا عن طريق الجنةَّ أو عن الحجة إذا سُئل فإنَّ من ضلَّ عن معرفة اللّه تعالى في الدُّنيا يكون يوم القيامة منقطع الحجة، وجاء في معناها أيضًا، أنَّ من كان في الدُّنيا أعمى القلب فإنَّه في الآخرة أعمى العين يحشر كذلك عقوبة له على ضلالته في الدُّنيا وهذا كقوله تعالى:

(وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى﴾ [طه/ 124]، وتأويل قوله سبحانه:

﴿فَبَصَرُكَ الْیَوْمَ حَدِيدٌ﴾ [ق/ 22 ]، بأن معناه الإخبار عن قوة المعرفة، والجاهل باللّه سبحانه يكون عارفًا به في الآخرة وتقول العرب فلان بصيرٌ بهذا الأمر وإنَّما أرادوا بذلك العلم والمعرفة لا الإبصار بالعين وعلى هذا فلا يكون قوله تعالى:

(فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى﴾ على سبيل المبالغة والتَّعجب وإن عُطف عليه بقوله ويكون التقدير وهو أضل سبيلًا، قيل ويجوز أن يكون أعمى عبارة عمَّا يلحقه من الغم المفرط، وقيل إن معناه من كان في الدُّنيا ضالًّا فهو في الآخرة أضلُّ لأنَّه لا تقبل له توبة، وقيل تأويله إنَّه إذا عَمِيَ في الدُّنيا وقد

ص: 70


1- (1) الخصال: الصدوق: 633 .

عرَّفَهُ اللّه تعالى الهدى وجعل له إلى التوبة وصلةً فعَمِيَ عن رشدِه ولم يتبْ فهو في الآخرة أشدُّ عمىً وأضلُّ سبيلًا لأنَّه لا يجد طريقًا إلى الهداية)(1).

إذ إنَّ هذا الذي يُذكر من الهدى والضَّلالة في الدُّنيا وما يعمله الإنسان يلازمه في الآخرة في النشَّأة الأخرى على طبق النشَّأة الأولى فمن أبصر في الدُّنيا أبصر في الآخرة، ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلًا(2).

في حديث عن الإمام علي علیه السلام يذكر فيه أحوال القيامة: «فيقام الرسل فيسألون عن تأدية الرِّسالات التي حملوها إلى أممهم، فأخبروا أنَّهم قد أدوا ذلك إلى أممهم وتسأل الأمم فيجحدون، كما قال:

(فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ﴾ [الأعراف/ 6]، فيقولون:

﴿مَا جَاءَناَ مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ﴾ [المائدة/ 19]، فتشهد الرسل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله و سلم فيشهد بصدق الرِّسل ويكذب من جحدها من الأمم، فيقول لكلِّ أمَّة منهم: بلى ﴿فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [المائدة/ 19 ] أي مقتدر على شهادة جوارحكم عليكم بتبليغ الرُّسل إليكم رسالاتهم»(3).

أولًا: الأئمة هم النعمة على العباد

من نعم اللّه تعالى على عباده أن بعث لهم رسلا مبشرين ومنذرين يعلمونهم ما عليهم ومالهم من حقوق و واجبات فكانت سنة الحياة على هذا النهج وجعل اللّه تعالى لعباده نعمة أن استخلف أنبياء بأئمة هداة للناس وجعلهم أوصياء

ص: 71


1- (1) ظ: تفسير مجمع البيان: الطبرسي: 6 / 276 .
2- (2) ظ: تفسير الميزان: الطباطبائي: 13 / 152 .
3- (3) الاحتجاج: الطبرسي: 1 / 360 .

عليهم، إذ أمر اللّه تعالى بطاعة النبي صلی اللّه علیه و آله و سلم، والنبي أمر بطاعة الأئمة علیهم السلام من بعده فطاعتهم طاعة للّه ولرسوله، ومن واجب هذه النعمة شكرها أيضًا.

قال الإمام علي علیه السلام :

« ما بال أقوام غيروا سنة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله و سلم، وعدلوا عن وصيه لا يتخوفون أن

ينزل بهم العذاب ثم تلا هذه الآية:

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ(28) جَهَنَّمَ ﴾ [إبراهيم/ 28 - 29]، ثم قال: نحن النِّعمة التِّي أنعم اللّه بها على عباده وبنا يفوز من فاز يوم القيامة»(1).

الآية تذكر حال أئمة الكفر ورؤساء الضَّلال الذين كفروا نعمة اللّه تعالى بدل أن يشكروها، فقوله تعالى:

أَلَمْ تَرَ إِلَی الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا﴾ يذكر حال أئمة الكفر والضلال من الأمم السابقة ومن هذه الأمة، والمراد بدَّلوا شكر نعمة اللّه تعالى الواجب عليهم كفرًا، وذكر إحلالهم قومهم دار البوار يستلزم إحلال أنفسهم فيها لأنَّهم أئمة الضَّلال ضَلُّوا ثمَّ أَضَلُّوا و أحلوا قومهم دار الهلاك وهو الشقاء والنار، قوله تعالى: ﴿جَهَنَّمَ﴾ بيان لدار البوار(2).

وبما أن الآية مطلقة وغير مقيدة بهؤلاء الكفرة في ذلك الزمان فهي أيضا تشمل هؤلاء الذِّين كفروا بإمامة الإمام علي علیه السلام لأنَّ الولاية من أعظم النعِّم على العباد ودليل على أنَّها من النعِّم قوله تعالى:

(الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ

ص: 72


1- (1) الكافي: الكليني: 1 / 217 .
2- (2) ظ: تفسير الميزان: الطباطبائي: 12 / 55 – 56 .

دِينًا﴾ [المائدة/ 3].

ثانيًا: الشاهد مع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله و سلم :

ورد في القرآن الكريم ذكر الشاهد في مواضع عدة ففي قوله تعالى:

(أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ﴾ [هود/ 17 ]، المقصود به هو الإمام علي علیه السلام، إذ يقول علیه السلام: «لو كُسِرت ليَ الوسادة فقعدت عليها لقضيت بين أهل التوراة بتوراتهم و أهل الإنجيل بإنجيلهم و أهل الزبور بزبورهم و أهل الفرقان بفرقانهم بقضاء يصعد إلى اللّه يزهر، واللّه ما نزلت آية في كتاب اللّه في ليل أو نهار إلَّا وقد عَلمت فيمن أنزلت، ولا ممن مر على رأسه المواسي من قريش إلَّا وقد نزلت فيه آية من كتاب اللّه تسوقه إلى الجنَّة أو إلى النَّار فقام إليه رجل فقال يا أمير المؤمنين ما الآية التي نزلت فيك؟ قال له: أمَا سمعت اللّه تعالى يقول:

(أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ﴾ [هود/ 17 ] فرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله و سلم على بينة من ربِّه وأنا شاهد له منه وأتلوه معه»(1).

فمعنى هذه الآية الكريمة:

(أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ﴾ أي هل الذي كان على برهان وحجة من اللّه تعالى والمراد بالبينة هنا القرآن والمعنى بقوله تعالى:

(أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ﴾ النبي صلی اللّه علیه و آله و سلم وقيل المعني به كل محق يدين بحجة وبينة لأنَّ من يتناول العقلاء وقيل هم المؤمنون من أصحاب محمد صلی اللّه علیه و آله و سلم، ﴿ و يَتْلُوهُ

ص: 73


1- (1) بصائر الدرجات: محمد بن الحسن الصفار: 1 / 132 .

شَاهِدٌ مِنْهُ﴾ أي ويتبعه من يشهد بصحته منه واختلف في معناه فقيل الشَّاهد جبرائيل علیه السلام يتلو القرآن على النبي صلی اللّه علیه و آله و سلم من اللّه تعالى أو شاهد من اللّه تعالى محمد صلی اللّه علیه و آله و سلم أو هو شاهد منه لسانه أي يتلو القرآن بلسانه، أو الشَّاهد منه علي بن أبي طالب علیه السلام يشهد للنبي صلی اللّه علیه و آله و سلم وهو منه (1).

ثالثًا: آية النجوى

أجمعت الأمة على أن في كتاب اللّه تعالى آية ما عمل بها سوى الإمام علي ،علیه السلام ولا يعمل بها أحد من بعده الى يوم القيامة؛ ألا وهي آية النجوى في الآية الثانية عشرة من سورة المجادلة قال تعالى:

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾، ولا عجب فقد كانت لأمير المؤمنين علیه السلام عند اللّه تعالى وعند رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله و سلم منزلة رفيعة فهو وزيره ونجيه ووصيه وصهره (2).

قال تعالى:

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً) [المجادلة/ 12 ]، والمعنى: قبل مناجاتكم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله و سلم فليقدِّم الرَّجل أمام حاجته صدقة فيَسْتَمطِرَ به الكريم ويستنزل به اللئيم قبل حاجته ﴿ذَلِكَ﴾ التقدیم (خَيْرٌ لَكُمْ﴾ في دینکم (وَأَطْهَرُ) لأنَّ الصدقة طهرة، روي أنَّ الناَّس أكثروا مناجاة رسول اللّه تعالى صلی اللّه علیه و آله و سلم بما يريدون حتى أملُّوه وأبرموه، فأريد أن

ص: 74


1- (1) تفسير مجمع البيان: الطبرسي: 5 / 226 .
2- (2) ظ: المراجعات: السيد شرف الدين: 310 .

يكفوا عن ذلك، فأُمِرُوا بأنَّ من أراد أن يناجيه قدَّم قبل مناجاته صدقةً ,... قال علي رضي اللّه عنه: إنَّ في كتاب اللّه لآية ما عمل بها أحد قبلي ولا يعمل بها أحدٌ بعدي: كان لي دينار فصرَّفته، فكنت إذا ناجيته تصدقت بدرهم، قيل: تصدق به في عشر كلمات سألهنَّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله و سلم وعن ابن عمر: كان لعليٍّ ثلاث: لو كانت لي واحدة منهنَّ كانت أحب إليَّ من حمر النعم: تزوجه فاطمة، وإعطاؤه الراية يوم خيبر، و آية النجوى(1).

وقيل أن سبب نزول الآية أن الاغنياء كانوا يختلون بالنبي صلی اللّه علیه و آله و سلم فيشاورونه بما يريدون، والفقراء لا يتمكنون من النِّبي تمكنهم، ففرض اللّه تعالى عليهم الصَّدقة قبل النجَّوى ليمتنعوا من ذلك، وتعبدهم بأن لا يناجي أحد رسول اللّه إلا بعد أن يتصدق بشيء ما قل أو كثر، فلم يفعل أحد ذلك، فاستقرض أمير المؤمنين علي علیه السلام دينارًا وتصدَّق به، ثمَّ ناجى النبي صلی اللّه علیه و آله و سلم، فنسخ اللّه تعالى ذلك الحكم بالآية التي بعدها(2).

قال الإمام علي بن أبي طالب علیه السلام: «لقد علم المستحفظون من أصحاب النبي محمد صلی اللّه علیه و آله و سلم إنَّه ليس فيهم رجلٌ له منقبة إلَّا وقد شركتُه فيها وفضلته وليَ سبعون منقبة لم يشركني فيها أحدٌ منهم... فقال علیه السلام : إن أول منقبة.... وذكر السبعين وقال علیه السلام في ذلك: وأمَّا الرابعة والعشرون فإنَّ اللّه عز وجل أنزل على رسوله

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً) [المجادلة/ 12 ]، فكان لي دينار فبعتُه بعشرة دراهم فكنتُ إذا ناجيتُ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله و سلم أتصدقُ قبل ذلك بدرهم فو اللّه ما فعل هذا أحدٌ غيري من الصَّحابة

ص: 75


1- (1) ظ: الكشاف: الزمخشري: 4 / 76 – 77 .
2- (2) التبيان: الطوسي: 9 / 537 ، ظ: مجمع البيان: الطبرسي: 9 / 379 .

قبلي ولا بعدي فأنزل اللّه عز وجل:

(أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)[المجادلة/ 13]] فهل تكون التَّوبة إلَّا من ذنب كان ؟ »(1)، وفي رواية: «بي خفف اللّه عن هذه الأمَّة، فلم ينزل في أحدٍ بعدي»(2).

رابعًا: ولاية علي علیه السلام حسنة

قال تعالى: ﴿مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ * وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [النمل/ 89 - 90 ]، قال الإمام علي علیه السلام:

«يا أبا عبد اللّه ألا أحدِّثك بالحسنة التي من جاء بها أَمِنَ من فزع يوم القيامة وبالسيئة التي من جاء بها أكَبَهُ اللّه على وجهه في النَّار؟ قلت: بلى، قال: الحسنة حبُّنا والسَّيئة بغضنا »(3)، وسُئل الإمام أبو جعفر الباقر علیه السلام عن معنى هذه الآية قال: «الحسنة ولاية علي وحبُّه والسَّيئة عداوة علي وبغضه»(4).

المطلب الثالث: المعاد.

(الاعتقاد بالمعاد أمرٌ أساسي في كل شريعة لها صلة بالسماء إذ تصبح الشرائع مسالك بشرية مادية لا تمتُ إلى اللّه تعالى بصلة، وقد بيَّن الذكر الحكيم وجود

ص: 76


1- (1) الخصال: الصدوق 1 / 572 – 574 .
2- (2) بحار الأنوار: المجلسي: 35 / 379 .
3- (3) المحاسن: أحمد بن خالد البرقي: 1 / 150 .
4- (4) روضة الواعظين: الفتال النيسابوري، 106 .

تلك العقيدة في الشرائع السماوية من لدن آدم إلى المسيح علیهماالسلام، وقد اهتم القرآن الكريم بالمعاد اهتمامًا بالغًا يكشف عنه كثرة الآيات التي تتحدث عن المعاد، والمعاد هو الوجود الثاني للأجسام المرئية في الدنيا المحسوسة الملموسة بعد فنائها وتلاشيها وتفرق أجزائها)(1).

ويسمى يوم المعاد بتسميات عدة منها يوم القيامة ويوم الحساب وغيرها، وكلها ذكرت في القرآن الكريم وفي روايات أهل البيت (عليهم الصلاة والسلام)، ولهذا اليوم أهوال ومواقف خاصة، إذ يُروى في حديث طويل للإمام علي علیه السلام يذكر فيه بعضًا من أحوال يوم القيامة وكيف أن الإنسان يختم على فمه وتصير جوارحه هي التي تتكلم، إذ يقول علیه السلام في خطبة يصف فيها أهوال يوم

القيامة: «ختم على الأفواه فلا تكلم، وقد تكلمت الأيدي، وشهدت الأرجل، ونطقت الجلود بما عملوا فلا يكتمون اللّه حديثًا»(2).

يذكر الإمام بعض صفات ذلك اليوم فقال إنَّه بمقدار خمسين ألف سنة، وفيه أحوال الإمام في هذا الحديث الذي يسأل فيه الإمام عن آيات من القرآن الكريم اشتبه عليه فهمها تتحدث عن يوم القيامة جاء فيه، «أتى عليًا علیه السلام رجل فقال: يا أمير المؤمنين إنِّ شككتُ في كتاب اللّه المنزل، فقال له علي علیه السلام: ثكلتك أمُّك وكيف شككتَ في كتاب اللّه المنزل؟ فقال له الرجل: لأني وجدت الكتاب يكذب بعضه بعضًا وينقض بعضه بعضًا، قال علیه السلام: فهاتِ الذي شككتَ فيه، فقال: لأنَّ اللّه يقول:

(يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ

ص: 77


1- (1) ظ: محاضرات في الإلهيات: جعفر السبحاني: 403 .
2- (2) بحار الأنوار: المجلسي: 7 / 313 . ينقل عن تفسير العياشي: 1 / 242 .

صَوَاباً﴾ [النبأ/ 38 ]، ويقول حيث استُنطِقوا: ﴿قَالوُا وَاللّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِکِینَ)[الأنعام/ 23 ]، ويقول: ﴿يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا﴾ [العنكبوت/ 25 ]، ويقول: ﴿إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ﴾ [ص/ 64 ]، ويقول: ﴿لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ) [ص/ 64]، ويقول: ﴿الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ [يس/ 65 ]، فمرةً يتكلمون ومرةً لا يتكلمون، ومرةً ينطق الجلود والأيدي والأرجل، ومرةً لا يتكلمون إلَّا من أذنَ له الرَّحمن وقال صوابًا، فأنَّى ذلك يا أمير المؤمنين؟ فقال له علي علیه السلام: إنَّ ذلك ليس في موطن واحدٍ، هي في مواطن في ذلك اليوم الذي مقداره خمسون ألف سنة، فجمع اللّه الخلائق في ذلك اليوم في موطن يتعارفون

فيه فيُكلم بعضهم بعضًا ويستغفر بعضهم لبعض... ثمَّ يُجمعون في موطن يَفِرُّ بعضهم من بعض وذلك قوله:

(يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ﴾ [عبس/ 34 - 36 ]، إذا تعاونوا على الظلم والعدوان في دار الدُّنيا ﴿لِكُّلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ﴾ [عبس/ 37 ]، ثم يجمعون في موطن يبكون فيه فلو أنَّ تلك الأصوات بدت لأهل الدُّنيا لأذهلت جميع الخلائق عن معائشهم، وصدعت

الجبال إلَّا ما شاء اللّه، فلا يزالون يبكون حتَّى يبكون الدَّم، ثمَّ يجتمعون في موطن يستنطقون فيه فيقولون: ﴿وَاللّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾ [الأنعام/ 23 ]، ولا يقرُّون بما عَمِلوا فيُختم على أفواههم ويستنطق الأيدي والأرجل والجلود فتنطق فتشهدُ بكلِّ معصيةٍ بدتْ منهم، ثمَّ يرفع الخاتم عن ألسنتهم فيقولون لجلودهم وأيديهم وأرجلهم: ﴿لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا﴾ [فصلت/ 22 ]، فتقول:

(أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ﴾ [فصلت/ 23 ]، ثمَّ يُجمعون في موطن

ص: 78

يستنطق فيه جميع الخلائق فلا يتكلم أحدٌ إلَّا من أذِنَ لهُ الرَّحمنُ وقالَ صوابًا، ويجتمعون في موطن يختصمون فيه ويُدان لبعض الخلائق من بعض وهو القول، وذلك كله قبل الحساب، فإذا أخذ بالحساب شغل كلٌّ بما لديه»(1).

فقد قال تعالى:

(الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ [يس/ 65 ]، فالمقصود من هذا اليوم في الآية الكريمة هو يوم القيامة، ومعنى ذلك: «إنَّه يجوز أن تخرج الألسنة ويختم على الأفواه ويجوز أن يكون الختم على الأفواه في حال شهادة الأيدي والأرجل»(2).

ذُكرتْ أهوال يوم القيامة في موارد عدة في القرآن الكريم منها أحوال القبر والبرزخ ويوم القيامة وغيرها، فقد جاء في قوله تعالى:

(يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ﴾ [الحج/ 2]، وقوله تعالى:

﴿فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا * السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا﴾ [المزمل/ 17 ، 18 ]، هذه الأحداث مما يحث بعد الموت و في يوم القيامة، والقبر إما روضة من الجنان، أو حفرة من النيران، كما يقول الإمام علي علیه السلام :

«ألا إنَّ القبور روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران، ألا وإنَّه يتكلم في كل يوم ثلاث مرات أنا بيت الوحشة أنا بيت الدود، ألا وإن وراء ذلك

ص: 79


1- (1) تفسير العياشي: 1 / 357 – 358 ، بحار الأنوار: المجلسي: 7 / 313 – 314 .
2- (2) تفسير مجمع البيان: الطبرسي: 7 / 235 .

يوما تذهل فيه كل مرضعة عمَّا أرضعت، ويكون الولدان شيبًا السماء منفطرٌ به، وتضع كل ذات حملٍ حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب اللّه شديد، ألا إن من وراء ذلك جنة ﴿عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ) [آل عمران/133]»(1).

ص: 80


1- (1) مشكاة الأنوار: علي الطبرسي: 1 / 235 .

المبحث الرابع : كلام الإمام علي علیه السلام في مسائل عقائدية متفرقة

المطلب الأول: أولوا الأمر في القرآن الكريم.

قال الإمام علي علیه السلام: «وقد جعل اللّه للعلم أهلاً و فرض على العباد طاعتهم بقوله:

(أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ﴾ [النساء/ 59 ]، وبقوله:

(وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ)[النساء/ 83[، وبقوله:

﴿اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونوُا مَعَ الصَّادِقيِنَ﴾ [التوبة/ 119 ]، وبقوله:

(وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ﴾ [آل عمران/ 7]، وبقوله:

(وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا﴾ [البقرة/ 189 ]، والبيوت هي بيوت العلم الذي استودعته الأنبياء، وأبوابها أوصياؤهم، فكل عمل من أعمال الخير يجري على غير أيدي أهل الاصطفاء وعهودهم وحدودهم و رائعهم وسننهم ومعالم دينهم مردود غير مقبول، وأهله بمحلِّ كفر، وإنْ شملتهم صفة الإِيمان»(1).

ص: 81


1- (1) ا احتجاج: الطبرسي: 1 / 369 .

وجاء في معنى أولي الأمر في قوله تعالى:

(وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ﴾ [النساء/ 59 ] للمفسرين قولان: أحدهما: أنَّهم الأمراء، والآخر: أنَّهم العلماء، وقيل لأنَّهم الذِّين يُرجع إليهم في الأحكام ويجب الرُّجوع إليهم عند التنازع من دون الولاة و روي عن الإمامين الباقر والصَّادق علیهماالسلام :

«أنَّ أولي الأمر هم الأئمة من آل محمد أوجب اللّه طاعتهم بالإطلاق كما أوجب طاعته وطاعة رسوله »(1)، ولا يجوز أنْ يوجب اللّه تعالى طاعة أحدٍ على الإطلاق إلَّا من ثبتت عصمته وعُلِمَ أنَّ باطنه كظاهره وأُمِن منه الغلط والأمر بالقبيح، وليس ذلك بحاصل في الأمراء ولا العلماء سواهم جلَّ اللّه عن أن يأمر بطاعة من يعصيه أو بالانقياد للمختلفين في القول والفعل لأنَّه محالٌ أن يطاع

المختلفون كما أنَّه محال أن يجتمع ما اختلفوا فيه وممَّا يدل على ذلك أيضًا أن اللّه تعالى لم يقرن طاعة أولي الأمر بطاعة رسوله كما قرن طاعة رسوله بطاعته إلَّا وأولوا الأمر فوق الخلق جميعًا، كما أنَّ الرَّسول فوق أولي الأمر وفوق سائر الخلق، وهذه صفة أئمة الهدى من آل محمد صلی اللّه علیه و آله و سلم الذِّين ثبتت إمامتهم وعصمتهم واتفقت الأمَّة على علو رتبتهم وعدالتهم ﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ﴾ [النساء/ 59 ] معناه فإن اختلفتم في شيء من أمور دينكم فردُّوا التنازع فيه إلى كتاب اللّه وسنة الرسول الكريم صلی اللّه علیه و آله و سلم والردُّ إلى الأئمةِ القائمين مقام الرَّسول بعد وفاته هو مثل الردِّ إلى الرَّسول في حياته لأنَّهم الحافظون لشريعته وخلفاؤه في

أمته فجروا مجراه فيه، ثمَّ أكدَّ سبحانه ذلك وعظَّمه بقوله تعالى:

﴿إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْیَوْمِ الْآخِرِ﴾ فما أبيَن هذا وأوضحه ذلك إشارة إلى

ص: 82


1- (1) بحار الأنوار: المجلسي: 23 / 284 .

طاعة اللّه تعالى وطاعة رسوله وأولي الأمر والردّ إلى اللّه تعالى والرسول:

﴿ذَلِكَ خَيْرٌ وَأحْسَنُ تَأوِيلًا﴾ أي أحمدُ عاقبة (1)، ولذلك قال تعالى في آية أخری: (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾ [النساء/ 83 ]، ولأنَّه إذا كان قولهم حجة من حيث كانوا معصومين حافظين للشرع جروا مجرى الرَّسول في هذا الباب(2).

المطلب الثاني: آية التطهير

قال الإمام علي علیه السلام :

«أيُّا النَّاس أتعلمون أنَّ اللّه عزَّ وجلَّ أنزل في كتابه: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾ [الأحزاب/ 33 ] فجمعني وفاطمة وابني حسناً وحسيناً ثم ألقى علينا كساءً، وقال: اللُّهم إنَّ هؤلاء أهل بيتي ولحمتي يؤلمني ما يؤلمهم، ويجرحني ما يجرحهم، فأذهب عنهم الرِّجس وطهرهم تطهيرًا. فقالت أم سلمة: وأنا يا رسول اللّه؟ فقال: أنت إلى خيرٍ، إنَّما نزلت فيَّ وفي أخي علي وفي ابنتي فاطمة وفي ابنيّ وفي تسعة من ولد الحسين خاصة وليس معنا أحد غيرنا»(3) .

المطلب الثالث: بيوت اللّه تعالى

سئل الإمام علي علیه السلام: يا أمير المؤمنين مَنْ البيوت في قول اللّه عزَّ وجلَّ:

ص: 83


1- (1) ظ: تفسير مجمع البيان: الطبرسي: 3 / 99 .
2- (2) ظ التبيان: الطوسي: 3 / 235 .
3- (3) الاحتجاج: الطبرسي: 1 / 215 .

(وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا﴾ [البقرة/ 189]، قال الإمام عليّ علیه السلام:

«نحن البيوت التي أمر اللّه بها أن تؤتى من أبوابها، نحن باب اللّه وبيوته التي يؤتى منه، فمن تابعنا وأقرَّ بولايتنا فقد أتى البيوت من أبوابها ومن خالفنا وفضَّل علينا غيرنا فقد أتى البيوت من ظهورها»(1).

وكان الإمام علي علیه السلام قد تطرق إلى إمامة الإمام المهدي علیه السلام إذ جاء عنه علیه السلام أنَّه قال:

«والذِّي فلق الحبة وبرأ النَّسمة لتعطفنَّ الدُّنيا علينا بعد شماسها عطف الضروسِ على ولدها، وتلا عقيب ذلك: ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ﴾ [القصص/5]»(2)، المعنى أنَّ فرعون كان يريد إهلاك بني إسرائيل وإفناءهم ونحن نريد أن نَمُنَّ عليهم ﴿وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً﴾ أي قادةً ورؤساء في الخير يقتدى بهم، وهو ما أفدناه من قول الإمام علي علیه السلام آنف الذكر(3).

جاء في القرآن الكريم تسمية النبي محمد صلی اللّه علیه و آله و سلم ب-(يس) وآله آل ياسين في قوله

تعالى: ﴿سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ﴾ [الصافات/ 130]، فعن الإمام علي علیه السلام يقول في قوله تعالى: ﴿سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ﴾ لأنَّ الله سمَّى النبي صلی اللّه علیه و آله و سلم بهذا الاسم إذ يقول:

﴿يس * وَالْقُرْآنِ الْحَکِيمِ * إِنَكَّ لَمِنَ الْمُرْسَليِنَ﴾ [يس/ 1- 3]، لعلمه تعالى أنَّهم يسقطون قول: سلام على آل محمد، كما أسقطوا غيره، وكذلك قال:

ص: 84


1- (1) الاحتجاج: الطبرسي: 1 / 338 .
2- (2) نهج البلاغة: 4 / 47 .
3- (3) ظ: تفسير مجمع البيان: الطبرسي: 7 / 374 .

(يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ﴾ [الإسراء/ 71]، ولم يسمِّ بأسمائهم وأسماء آبائهم وأمهاتهم»(1).

ومن الألفاظ الأخرى التي جاء بها القرآن الكريم وقد جاء بيانها في أحاديث الإمام علي علیه السلام بأنَّها تعني محمداً وآل محمد (صلوات اللّه عليهم) هي تسميتهم بالمتوسمين في قوله تعالى:

﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ للآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ﴾ [الحجر/ 75 ]، واختلفت عبارات المفسرين في تفسير المتوسمين فذكروا لها معاني عدة منها أنَّها بمعنى المتفرسين، أو الناظرين، أو المتفكرين، والمتوسمون المتثبِّتون حتَّى يعرفوا سِمَة الشيء وصفته وعلامته (2).

أمَّا ما جاء عن الإمام علي علیه السلام في معنى المتوسمين في قوله تعالى:

﴿إِنَِ فِي ذَلِكَ لآياَتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ﴾ [الحجر/ 75 ] قال علیه السلام :

«كان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله و سلم المتوسِّم وأنا من بعده، والأئمة من ذريتي المتوسِّمون » (3). وقد ذكر بعض المفسرين هذا القول(4).

وقد أخبر الإمام علي علیه السلام عن أن متبعي أهل البيت هم النَّاجون يوم القيامة، إذ قال المقصود بهذه الآية ﴿وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ)[الأعراف/ 181]، هم فرقة واحدة من بين ثلاث وسبعين فرقة من أمة محمد صلی اللّه علیه و آله و سلم إذ يقول علیه السلام :

ص: 85


1- (1) الاحتجاج: الطبرسي: 1 / 377 .
2- (2) ظ: تفسير الرازي: 9 / 327 ، ظ: تفسير الآلوسي: 10 / 54 .
3- (3) الكافي: الكليني: 1 / 219 .
4- (4) تفسير فرات الكوفي: فرات الكوفي، 229 ، التفسير الصافي: الكاشاني، 3 / 118 .

«والذِّي نفسي بيده لتفترقنَّ هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلُّها في النَّار إلَّا فرقة واحدة ﴿وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) فهذه التي تنجو، وقد قال النبي صلی اللّه علیه و آله و سلم من قبل إنَّ هذه الآية أعطيت لأمتي كما أعطي موسى علیه السلام مثلها، قال صلی اللّه علیه و آله و سلم : «هذه لكم وقد أعطي قوم موسى مثلها »(1)، ودلت الأخبار الكثيرة على أنَّ المراد بالذين يهدون بالحق هم الأئمة وشيعتهم(2).

فمن اتبع أهل البيت إذن وكان من شيعتهم فبذلك فليفرحوا ففيه نجاتهم وفوزهم يوم القيامة، كما قال اللّه تعالى:

﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا﴾ [يونس/ 58 ]، قال الإمام علي في هذه الآية علیه السلام: «فليفرح شيعتُنا هو خيرٌ ممَّا أعطي عدونا من الذَّهب والفضة»(3).

المطلب الرابع: البداء.

البداء هو: أنَّ اللّه يظهر للناس ما كان قد أخفاه عنهم سابقًا، وبتعبير آخر أنَّ المراد من البداء هو تغيير المصير في ظل الدُّعاء والأعمال الصَّالحة كالصَّدقة والاستغفار وصلة الرحم كما اتَّفق لقوم يونس، فأظهر اللّه ما خفي عليهم من الفرج والتحرّر من الشدَّة حيث غيَّروا مصيرهم بالأعَمال الصالحة، قال

سبحانه: ﴿فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ﴾ [يونس/ 98 ] فظهر

ص: 86


1- (1) كنز العمال: المتقي الهندي: 2 / 413 .
2- (2) بحار الأنوار: المجلسي: 54 / 318 .
3- (3) بحار الأنوار: المجلسي: 35 / 423 .

لهم ما أخفى اللّه عنهم حيث كانوا مذعنين بالعذاب والهلاك، فظهرت لهم النجاة(1).

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ * يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾ [الرعد/ 38 - 39 ] ﴿يَمْحُو اللّهُ..﴾ (هذه الآية متصلة بما تقدم و وجه اتصالها هو أنه لما قال تعالى:

(لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ﴾ اقتضى أن يدخل فيه أعمال العباد، فبين أن اللّه تعالى يمحو ما يشاء ويثبت، لئِلَّا يتوهم أنَّ المعصية مثبتة بعد التَّوبة، كما هي قبل التَّوبة، وقيل: إنَّ مما يمحى ويثبت الناسخ والمنسوخ، وقيل يمحو ما يشاء ويثبت، مما يثبته الملكان، لأنَّه لا يثبت إلَّا الطَّاعات والمعاصي دون المباحات، وقيل معناه يمحو ما يشاء من معاصي من يريد التفضل عليه بإسقاط عقابه، ويثبت معاصي من يزيد عقابه والحسنة يثبتها اللّه تعالى قبل فعلها، بمعنى أنَّهم سيعملونها، فإذا عملوها أثبتها بأنهم عملوها، فلذلك أثبت في الحالين، والوجه في إثباته ما يكون فيه من المصلحة والاعتبار لمن يفكر فيه بأن ما يحدث على كثرته وعظمه، قد أحصاه اللّه تعالى وكتبه، وذلك لا سبيل إليه إلا من جهة علّام الغيوب الذي يعلم ما يكون قبل أنْ يكون، واعتبار المشاهدة له من الملائكة إذا

قابل ما يكون بما هو مكتوب، مع أنَّه أهول في الصدور، وأعظم في النفُّوس مما يتصور معه، حتى كان المفكر فيه مشاهداً له، و(المحو) إذهاب أثر الكتابة، والإثبات الإخبار بوجود الشيء، ونقيضه النفي، وهو الإخبار بعدمه، وقال ابن عباس ومجاهد: إنَّه تعالى لا يمحو الشقاء والسعادة، وقيل: هما يمحيان مثل

ص: 87


1- (1) الإيمان والكفر: الشيخ جعفر السبحاني: 75 .

سائر الأشياء، وقوله تعالى:

(وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾ معناه أصل الكتاب، لأنَّه يُكتب أولًا: سيكون كذا وكذا، لكل ما يكون، فإذا وقع كتب أنَّه قد كان ما قيل أنَّه سيكون)(1).

جاء في معنى المحو والإثبات أقوال: أحدها: إن ذلك في الأحكام من الناسخ والمنسوخ، والثاني: أنَّه يمحو من كتاب الحفظة المباحات وما لا جزاء فيه ويثبت ما فيه الجزاء من الطَّاعات والمعاصي، والثَّالث: أنَّه يمحو ما يشاء من ذنوب المؤمنين فضلًا فيسقط عقابها ويثبت ذنوب من يريد عقابه عدلًا، الرابع: أنَّه عام في كل شيء فيمحو من الرزق ويزيد فيه ومن الأجل ويمحو السعادة والشقاوة ويثبتهما، والخامس: أنَّه في مثل تقتير الأرزاق والمحن والمصائب يثبته في أم الكتاب ثم يزيله بالدعاء والصدقة وفيه حثٌّ على الانقطاع إليه سبحانه، والسَّادس: إنَّه يمحو بالتَّوبة جميع الذُّنوب ويثبت بدل الذنوب حسنات يبيِّنه قوله تعالى:

(إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) [الفرقان/ 70 ]، والسَّابع: أنَّه يمحو ما يشاء من القرون ويثبت ما يشاء منها كقوله:

(ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ﴾ [المؤمنون/ 31] وقوله ﴿كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ﴾ [طه/ 128 ] وروي ذلك عن الإمام علي علیه السلام، والثَّامن: إنَّه يمحو ما يشاء يعني القمر ويثبت يعني الشمس وبيانه فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهَّار مبصرة(2).

ص: 88


1- (1) ظ: التبيان: الطوسي: 6 / 258 .
2- (2) ظ: تفسير مجمع البيان: الطبرسي: 6 / 42 .

في قول الإمام علیه السلام أعلاه أثبت نفي البداء عن اللّه تعالى بل إنَّه علیه السلام قد عدَّه كفرًا، روي عن الإمام الرِّضا علیه السلام قال: قال الإمام علي بن الحسين، والإمام علي ابن أبي طالب علیه السلام :

«كيف لنا بالحديث مع هذه الآية ﴿يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾ [الرعد/ 39]، فأمَّا من قالوا: بأنَّ اللّه تعالى لا يعلم بشيء إلَّا بعد كونه، فقد كفر وخرج عن التَّوحيد»(1).

المطلب الخامس: قدرة اللّه تعالى

جعل اللّه سبحانه وتعالى لخلقه سبلًا للوصول إليه ولمعرفته وتنوعت تلك السبل فمنها أن جعل لخلقه علامات وآيات فأمرهم بالتفكر والتدبر، إذ يقول تعالى:

(إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ)[آل عمران/ 190]، قال تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ﴾ [الزخرف/ 84 ]، أي يحق له العبادة في السَّماء ويحق له العبادة في الأرض(2).

«أي هو الذَّي هو في السَّماء إله مستحق للمعبودية وهو في الأرض إله أي هو المستحق لمعبودية أهل السَّماوات والأرض وحده، ويفيد تكرار (إله) كما قيل التأكيد والدلالة على أن كونه تعالى إلها في السَّماء والأرض، بمعنى تعلق ألوهيته بهما لا بمعنى استقراره فيهما أو في أحدهما، وفي الآية مقابلة لما يثبته الوثنية لكل من السَّماء والأرض إلها أو آلهة، وفي تذييل الآية بقوله:

ص: 89


1- (1) الغيبة: الطوسي: 430 .
2- (2) ظ التبيان: الطوسي: 9 / 215 .

(وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ﴾ [الزخرف/ 84 ] الدَّالُ على الحصر إشارة إلى وحدانيته في الربوبية التي لازمها الحكمة والعلم وهذه الآية نظير قوله تعالى: ﴿وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ﴾ [الأنعام/ 3] و مفادها انبساط حكم ألوهيته تعالى في السماوات وفي الأرض من غير تفاوت أو تحديد))(1).

أمَّا قوله تعالى: ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أيْنَ مَا كُنْتُمْ﴾ [الحديد/ 4]، المراد به المعية من حيث العلم بما يتناجون به والمشاركة لهم فيه فإنَّها معية الإحاطة والقيمومة، بخلاف المعية مع الصَّابرين، فإنها معية إعانة(2).

قوله تعالى: ﴿مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ﴾ [المجادلة/ 7]، والمعنى «أنَّه عالم بأحوالهم وجميع متصرفاتهم فرادى ومجتمعين، لا يخفى عليه شيء منها، فكأنَّما هو معهم فهو مشاهدٌ لهم، وعلى هذا يقال: إنَّ اللّه تعالى مع الإنسان حيث ما كان، لأنَّه عالم لا يخفى عليه شيء من أمره حتى أنَّه ظاهر له أتم الظهور لمن شاهده ممن هو معه في المكان، وحسن هذا لما فيه من البيان، فأمَّا

أن يكون معهم على طريق المجاورة فمحال، لأنَّ ذلك من صفات الأجسام، واللّه تعالى ليس بجسم»(3)(3).

«وبذلك يظهر أنَّ المراد بكونه تعالى رابع الثَّلاثة المتناجين وسادس الخمسة المتناجين، معيته لهم في العلم ومشاركته لهم في الاطلاع على ما يسارُّون، لا مماثلته لهم في تتميم العدد، فإنَّ كلً منهم شخص واحد جسماني يكوِّن بانضمامه إلى مثله

ص: 90


1- (1) تفسير الميزان: الطباطبائي 7 / 5.
2- (2) ظ: تفسير الميزان: الطباطبائي: 1 / 345 ، 19 / 184 .
3- (3) التبيان: الطوسي: 9 / 533 .

عدد الاثنين وإلى مثليه الثَّلاثة واللّه سبحانه منزهٌ عن الجسمية بريء من المادية»(1).

ممَّا تقدم يلحظ أن الإمام علياً علیه السلام بيَّن مبادئ العقيدة الإسلامية أوضح بيان، فبيَّن الصفات الإلهية، فضلًا عن توضيحه علیه السلام لأصول الدِّين الأخرى من النبوة، والإمامة، والمعاد فكان هذا لأنَّه متصلٌ بالقرآن الكريم، وبالنبي صلی اللّه علیه و آله و سلم الذي أنزل عليه القرآن الكريم.

ص: 91


1- (1) تفسير الميزان: الطباطبائي: 19 / 184 .

ص: 92

الفصل الثاني : توظيف كلام الإمام علي علیه السلام في فهم آيات الأحكام الفقهية

اشارة

ص: 93

ص: 94

توطئة

انتهجت الكتب الفقهية بصورة عامة تقديم مسألة الطهارة على غيرها من موضوعات العبادات الأخرى بل لا تكاد تجد كتابًا في الفقه إلَّا ويبدأ بأحكام الطهارة ثم أحكام الصلاة؛ ذلك لأن الطهارة من أهم العبادات، والطهارة مقدمة وأساس لها، بل هي الشرط الذي يقدم على المشروط أو هي علاقة تلازم بين وجوب الشيء و وجوب مقدمته فكلما حكم الشارع بوجوب فعل حكم عقيب ذلك مباشرة بوجوب مقدماته(1).

ثمَّ إن الفقهاء قدموا العبادات كالصَّلاة، والصِّيام، والزَّكاة، على غيرها من موضوعات الفقه الأخر؛ لأن العبادة سبب للتقرب إلى اللّه تعالى، وسبب لصلاح القلوب والنفوس أيضًا، وإذا صلحت القلوب والنفوس صلحت المعاملات، التي تأتي بعد العبادات كالمعاملات المالية، التي يحتاج إليها الناس

في كلِّ يوم، ثمَّ تأتي أحكامُ الزَّواج أو النّكاح، التي لا يستغني عنها الإنسان؛ لأنَّها من الحاجات الفطرية، ثمَّ يأتي غير ذلك من موضوعات الفقه المرتبة ترتيبًا منطقيًا محْكماً بين سابقه و لاحقه.

ص: 95


1- (1) ظ: المعالم الجديدة للأصول: محمد باقر الصدر: 1 / 152 .

جاء في دعاء كميل الذي علمه الإمام علي علیه السلام للصحابي الجليل كميل بن زياد قوله علیه السلام:

«فإنَّك قضيت على عبادك بعبادتك »(1)، فكأنَّ هذا القول مرآة للآية الكريمة:

(وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات/56]، «العبادة هي الخضوع اللفظي أو العملي الناشئ عن الاعتقاد بألوهية المخضوع له »(2)، أي الاعتقاد بألوهية المعبود أو ربوبيته أو الاعتقاد باستقلاله في فعله بأنَّه يملك شأنًا من شؤون وجوده وحياته على وجه الاستقلال (3)، والعبادة هي أداء تعاليم اللّه في العقيدة والعمل(4).

قال الإمام علي علیه السلام :

«فرض اللّه تعالى الإيمان تطهيرًا من الشِّرك والصلاة تنزيها عن الكبر، والزكاة تسبيبًا للرزق، والصِّيام ابتلاء لإخلاص المحق أو (الخلق)، والحج تقوية للدِّين، والجهاد عزًا للإسلام، والأمر بالمعروف مصلحة للعوام، والنهي عن المنكر ردعًا للسفهاء، وصلة الأرحام منماة للعدد، والقصاص حقنًا للدماء، وإقامة الحدود إعظامًا للمحارم، وترك شرب الخمر تحصينًا للعقل، ومجانبة السرقة إيجابًا للعفة، وترك الزنا تحقيقًا للنسب، وترك اللواط تكثيرًا للنسل، والشهادات استظهارًا على المجاحدات، وترك الكذب تشريفًا للصدق، والسلم أمانًا من المخاوف،

ص: 96


1- (1) الصحيفة العلوية: الأبطحي: 251 .
2- (2) الإلهيات: السبحاني: 430 .
3- (3) ظ: الانتصار: العاملي: 5 / 317 .
4- (4) ظ: شرح دعاء كميل: عز الدين الجزائري: 25 .

والإمامة نظامًا للأمة والطاعة تعظيمًا للسلطان»(1).

نلحظ في هذا الحديث الشريف للإمام علي علیه السلام الكثير من أساسيات الدِّين الإسلامي إذ يبدأ علیه السلام بذكر الإيمان الذي هو أساس عقيدة المسلم ويعلل سبب فرضه بالطَّهارة من الشرك وبذلك يخرج المسلم نفسه من الظلم قال تعالى:

﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [ لقمان/ 13 ] ثمَّ ينتقل علیه السلام إلى العبادات الواجبة كالصلاة والصيام مع ذكر أهميتهما ثم يأتي بذكر بعض الواجبات الأخرى كصلة الرحم ثمَّ إلى بعض المحرمات وعلى هذا النسق، كأنَّه علیه السلام في هذا الحديث يجمع أغلب أساسيات الإسلام من أصول الدين وفروعه.

جاء في وصية الإمام علي علیه السلام لمحمد بن الحنفية يحثه على طاعة اللّه:

«وفرض على الرِّجلين أن تُثْقِلَهما في طاعته وأنْ لا تمشي بهما مشية عاصٍ، وقال عز وجل: ﴿وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا﴾ [الإسراء/ 37 ]، فأخبر عنها أنَّها تشهد على صاحبها يوم القيامة»(2).

ص: 97


1- (1) نهج البلاغة: 4 / 55 – 56 .
2- (2) وسائل الشيعة: العاملي: 15 / 171 .

ص: 98

المبحث الأول : كلام الإمام علي علیه السلام في العبادات

أولًا: الطَّهارة.

اشارة

إن كلمة الطهارة قد نقلت في العرف إلى معنى مناسب للمعنى اللغوي، وهي حقيقة رعية و الطهارة هي كل واحد من الوضوء والغسل والتيمم(1) .

الطهارة: من طهر، الطاء والهاء والراء أصلٌ واحدٌ صحيح يدلُّ على نقاءٍ و زوالِ دَنَسٍ(2) ، واصطلاحًا: النقاء، رفع النجاسة، سواء من حدث أو غيره وهي اسم للوضوء أو الغسل أو التيمم على وجه له تأثير في استباحة الصلاة فهي حالة تحصل بعد الوضوء والغسل والتيمم تبيح لصاحبها أحكام

الطاهرين(3) .

اهتم الإسلام بالطهارة على وجه مخصوص، ومما شرعه في هذا المجال: الوضوء، والغُسل، ونظافة الفم والأنف، وقص الأظافر، والابتعاد عن

ص: 99


1- (1) ظ: مفتاح الكرامة: السيد محمد جواد العاملي: 1 / 20 – 21 .
2- (2) مقاييس اللغة: ابن فارس: 3 / 428 .
3- (3) ظ: معجم ألفاظ الفقه الجعفري: الدكتور أحمد فتح اللّه: 1 / 272 .

الخبائث والدنَس والدَرَن، وذلك رعاية لحق اللّه تعالى، وبَرًّا بعبيده وخلقه، وتحقيقًا لمقاصد دينية واجتماعية وصحية، إذ إنَّ هناك عبادات لا يصح أداؤها إلَّا بعد أن يتطهر لها المكلف من الخبث الحسي، والحدث الحكمي المعنوي.

الوضوء.

الوضوء مفتاح من مفاتيح الطَّهارة التي توصل إلى العبادة، أو كما يسميه علماء الأصول بالواجب الغيري أي واجب لأجل غيره كأن يكون مقدمة لغيره من العبادات كما في الصلاة أو الطواف وغيرها(1).

تحكي لنا آية الوضوء كيفيته بإجمال فلم توضِّح الآية تفصيل كيفية الوضوء مثلًا مقدار الأعضاء التي يجب غسلها أو مسحها في الوضوء، لكنَّ الرِّوايات التي وردت عن أهل البيت علیهم السلام قد بيَّنت بصورة مفصلة طريقة الوضوء التي كان النَّبي صلی اللّه علیه و آله و سلم يعمل بها(2).

فعن الإمام علي علیه السلام قال:

«والمحكم من القرآن مما تأويله في تنزيله، مثل قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ﴾ [المائدة/ 6]، وهذا من المحكم الذي تأويله في تنزيله، لا يحتاج تأويله إلى أكثر من التنزيل، ثم قال: وأما حدود الوضوء: فغسل الوجه واليدين، ومسح الرأس و الرجلين، وما يتعلق بها، و يتصل، سنة واجبة على

ص: 100


1- (1) ظ: المعالم الجديدة للأصول: محمد باقر الصدر: 1 / 152 .
2- (2) تفسير الأمثل: مكارم الشيرازي: 3 / 610 .

من عرفها، وقدر على فعلها »(1)، وعنه علیه السلام أيضا أنَّه قال: «ما أنزل القرآن إلا بالمسح» (2).

إذ بيَّنت هذه الآية أحكامًا كالوضوء، التي تكون سببًا في طهارة الجسم وصفاء الرُّوح الإِنسانية(3).

فالوضوء والغسل واجبان لمن وجد الماء، وأما التيمم بالتراب فرخصة لمن لم يجد الماء، روي عن الإمام علي علیه السلام :

«الرخصة هي الإطلاق بعد النَّهي فإنَّ اللّه تعالى فرض الوضوء على عباده بالماء الطاهر، وكذا الغسل من الجنابة، فقال:

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [المائدة/ 6]، فالفريضة من اللّه عز وجل الغسل بالماء عند وجوده لا يجوز غيره، والرخصة فيه إذا لم يجد الماء التيمم بالتراب من الصعيد الطيب»(4).

«كان الإمام علي علیه السلام إذا توضأ لم يدع أحدًا يصب عليه الماء، فقيل له: يا أمير المؤمنين، لمَ لا تدعهم يصبون عليك الماء؟ فقال: لا أحبُّ أن أشرك في صلاتي أحدًا »، وقال اللّه تبارك وتعالى:

ص: 101


1- (1) وسائل الشيعة: العاملي: 27 / 18 .
2- (2) تهذيب الأحكام: الطوسي: 1 / 63 .
3- (3) تفسير الأمثل: مكارم الشيرازي: 3 / 610 .
4- (4) بحار الأنوار: العلامة المجلسي: 90 / 28 .

(فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا) [الكهف/ 110](1).

وسُئل الإمام علي علیه السلام عن المسح على الخفين، فقال علیه السلام :

«بعد كتاب اللّه تسألني ؟ »قال اللّه تعالى:

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ﴾ إلى قوله تعالى: (إِلَى الْكَعْبَيْنِ)[المائدة/ 6](2).

وعنه علیه السلام: «الاستنجاء بالماء في كتاب اللّه وهو قول اللّه عز وجل:

﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾ [البقرة/ 222]، وهو خلق كريم وإزالة النجاسة واجبة وليس لأحد تركها »(3)، أي أن اللّه يحب جميع أنواع التوبة سواء كانت بالاستغفار أو بامتثال كل أمر ونهي من تكاليفه أو باتخاذ كل اعتقاد من الاعتقادات الحقة، ويحب جميع أنواع التَّطهر سواء كان بالاغتسال والوضوء أو التطهر بالأعمال الصالحة أو العلوم الدينية، ويحب تكرار التوبة و تكرار التطهر(4).

ثانيًا: الصَّلاة.

اشارة

الصلاة: عمود الدين، وأول ما يحاسب المرء عليه يوم القيامة هي الصلاة،

ص: 102


1- (1) من لا يحضره الفقيه: الصدوق: 1 / 43 .
2- (2) بحار الأنوار: المجلسي: 77 / 285 .
3- (3) مستدرك الوسائل: ميرزا حسين النوري: 1 / 189 .
4- (4) ظ: تفسير الميزان: الطباطبائي: 2 / 122 .

فقد كانت على المؤمنين كتابًا موقوتًا، وكان من آدابها و واجباتها الخشوع وحضور القلب والإقبال عليها برغبة فإنَّ المصلي يكون بين يدي اللّه تعالى وهذا ما جاء مُؤكدًا عليه في كتاب اللّه تعالى وسنة أهل البيت علیهم السلام .

(ولعل هذا هو ما جاء ذكره في الآية الآتية، فقبول العبادات ومن ضمنها الصَّلاة يحتاج إلى إخلاص النية للّه تعالى وتطهير القلب من آفة الرياء والنفاق:

(وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ﴾ [التوبة/ 54 ]، فالقرآن الكريم يعوّل كثيرًا على أنَّ قبول الأعمال الصالحة مشروط بالإِيمان)(1)، فما يمنع هؤلاء المنافقين أن يثابوا على نفقاتهم إلا كفرهم باللّه تعالى وبرسوله صلی اللّه علیه و آله و سلم وذلك مما يحبط الأعمال ويمنع من استحقاق الثواب عليها ﴿وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى﴾ [التوبة/ 54 ]، أي متثاقلين والمعنى لم يؤدوها على الوجه الذي أُمِروا أن يؤدوها عليه:

﴿وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ﴾ [التوبة/ 54 ]، لأنهم إنَّما يصلون وينفقون للرياء والتستر بالإسلام لا لابتغاء مرضاة اللّه تعالى وفي هذا دلالة على أنَّ الكفار مخاطبون بالشرائع لأنَّه سبحانه ذمهم على ترك الصلاة والزكاة ولولا وجوبهما عليهم لم يذموا بتركهما(2).

وهذا تعليل تفصيلي لعدم تقبل نفقاتهم، وبعبارة أخرى بمنزلة بيان فسقهم، وقد عَدت الآية الكفر باللّه تعالى ورسوله والكسل في إقامة الصَّلاة والكره في

ص: 103


1- (1) تفسير الأمثل: الشيرازي: 6 / 81 .
2- (2) ظ: تفسير مجمع البيان: الطبرسي: 5 / 58 .

الإنفاق أركانًا لنفاقهم(1).

وقد نهى الإمام علي علیه السلام عن التكاسل عند القيام للصلاة قائلًا:

«لا يقومنَّ أحدكم في الصَّلاة متكاسلًا ولا ناعسًا، ولا يفكرنَّ في نفسه فإنَّه بين يدي اللّه عز وجل، وإنَّما للعبد من صلاته ما أقبل عليه منها»(2).

أمَّا في القرآن الكريم فقد نهى اللّه سبحانه أنْ تقوموا إلى الصلاة و أنتم سكارى فقيل منه سكر النوم، وهي تفيد التعميم لغير النوم، أي بكم نعاس يمنعكم أن تعلموا ما تقولون في ركوعكم وسجودكم وتكبيركم(3).

وقد بيَّن الإمام علي علیه السلام هيئة الخشوع في الصلاة:

«ليخشع الرجل في صلاته فإنَّه من خشع قلبه للّه عز وجل، خشعت جوارحه فلا يعبث بشيء»(4)، وهذا مصداق للمؤمن كما جاء في الآية الكريمة:

(قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ﴾ [المؤمنون/ 1- 2]، فالخشوع في الصلاة خشية القلب، وإلزام البصر موضع السجود أي حضور القلب وتأثره وخوفه وطمعه، ويظهر ذلك بالتوجه التام إلى الصلاة، وإلى اللّه تعالى، إذ يظهر أثر البكاء في العين، والاضطراب في القلب، وترك المكروهات، مثل العبث بالثياب أو الجسد، والالتفات يميناً وشمالًا، والتثاؤب، والفرقعة، وغير ذلك(5).

ص: 104


1- (1) ظ: تفسير الميزان: الطباطبائي: 9 / 174 .
2- (2) الخصال: الصدوق: 613 .
3- (3) ظ: التفسير الأصفى: الكاشاني: 1 / 248 .
4- (4) بحار الأنوار: المجلسي: 10 / 106 .
5- (5) ظ: الدرر الملتقطة في تفسير الآيات القرآنية: محمد المازندراني: 175 .

يقول الإمام علیه السلام :

«ليس عملٌ أحبُّ إلى اللّه عز وجل من الصَّلاة فلا يشغلنَّكم عن أوقاتها شيء من أمور الدُّنيا، فإنَّ اللّه عز وجل ذمَّ أقوامًا فقال:

﴿الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ﴾ [الماعون/ 5]، يعني أنَّهم غافلون استهانوا بأوقاتها، اعلموا أنَّ صالحِي عدوكم يُرائي بعضهم بعضًا، ولكنَّ اللّه عز وجل لا يوفقهم ولا يقبل إلَّا ما كان له خالصًا»(1) .

فقوله تعالى: ﴿فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ﴾[الماعون/ 4]، تهديدٌ لمن يصلي على وجه الرَّياء والسمعة، إنَّما أُطلق مع أنَّه رأس آية يقتضي تمام الجملة، لأنه معرف بما يدل على أنه أراد من يصلي على جهة الرِّياء والنفاق، ثمَّ بيَّن ذلك بقوله:

﴿الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ﴾ [الماعون/ 5] أي يؤخِّرونها عن وقتها، وقيل: معناه غافلون لَاهُونَ كأنَّهم يسهون لِلَهوِهم عنها واللهو يوجب تأخيرها عن وقتها لأنَّه قال عن صلاتهم(2).

وعنه علیه السلام في قول اللّه عز وجل:

(فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ﴾ [الكوثر/ 2]، قال: «النحر رفع اليدين في الصلاة نحو الوجه »(3)، وقال علیه السلام في بيان معنى تكبيرة الإحرام:

«من لم يعرف تأويل الصلاة فصلاته خداج (4)، يعني ناقصة قيل له: ما

ص: 105


1- (1) بحار الأنوار: المجلسي: 10 / 100 .
2- (2) ظ: التبيان: الطوسي: 10 / 395 .
3- (3) بحار الأنوار: المجلسي: 81 / 376 .
4- (4) خِداج: نقصان، أي مقصِّة عن بلوغ تمامها. لسان العرب: ابن منظور: 2/ 248 ، جمهرة اللغة: ابن دريد: 1 / 215 .

معنى تكبيرة الافتتاح «اللّه أكبر »فقال: هو أكبر من أن يلمس بالأخماس، ويدرك بالحواس، ومعنى اللّه هو الذي ذكرناه أنَّه يخرج الشيء من حد العدم إلى الوجود، وأكبر أكبر من أن يوصف»(1).

ظاهر السياق في تفريع الأمر بالصلاة والنحر على الامتنان في قوله:

(فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ﴾ إنَّه من شكر النعمة والمعنى إذا مننا عليك بإعطاء الكوثر فاشكر لهذه النعمة بالصلاة والنحر، والمراد بالنحر... إذ قال الإمام علیه السلام وروي هذا الحديث عن الإمام الصادق علیه السلام وغيره من الأئمة هو «رفع اليدين في تكبير الصلاة إلى النحر، وقيل: معنى الآية صل لربك صلاة العيد وانحر البدن، وقيل: يعني صلِّ لربك واسْتَوِ قائمًا عند رفع رأسك من الركوع وقيل

غير ذلك»(2).

وفي قوله تعالى: ﴿وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا﴾ [الجن/ 18]، قال: «ما سجدت به من جوارحك للّه تعالى فلا تدعو مع الله أحدًا»(3)، (الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ) «قيل: أنَّه السجود وقيل: إنَّه المواضع من الجسد التي يسجد عليها واحدها مسجد أمَّا المسجد من الأرض فهو موضع السجود»(4).

قال رجل للإمام علي علیه السلام: ما معنى قولِ الإمام في الصلاة: السلام عليكم؟ فقال: «إنَّ الإمام يُترجم عن اللّه عزَّ وجلَّ، ويقول في ترجمته لأهل الجماعة: أمانٌ

ص: 106


1- (1) علل الشرائع: الصدوق، 1 / 320 ، بحار الأنوار: العلامة المجلسي: 81 / 380 .
2- (2) ظ: تفسير الميزان: الطباطبائي: 20 / 211 .
3- (3) ميزان الحكمة: الريشهري: 3 / 278 .
4- (4) التبيان: الطوسي: 1 / 146 .

لكم من عذاب اللّه يوم القيامة»(1).

لمَّا أوجب اللّه تعالى الصلاة أوجب المحافظة عليها بشروطها وواجباتها وأركانها إلَّا أنَّه تعالى رخَّص للمصلين أداء الصلاة مع فقدها لبعض شروطها في بعض الحالات كالخوف من العدو أو في حال المرض، كأن تُصلى بالإيماء من قيام أو من جلوس أو ركوب وغير ذلك كل حال لها حكمها الخاص.

وفي حديث له علیه السلام قال في قوله عزَّ وجلَّ:

﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ﴾ [البقرة/ 238 ]، «فالفرض أنْ يصلي الرجل صلاة الفريضة على الأرض، بركوعٍ وسجودٍ تام، ثم رخَّص للخائف »(2) فقال تعالى: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا)[البقرة/ 239 ]، ومثله قوله عز وجل: ﴿فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ﴾ [النساء/ 103 ]، ومعنى الآية أنَّ الصحيح يصلي قائمًا والمريض يصلي قاعدًا ومن لم يقدر أن يصلي قاعدًا صلى مضطجعًا ويُومئ نائمًا، فهذه رخصة جاءت بعد العزيمة»(3).

معنى ذلك أن اللّه تعالى لما أوجب المحافظة على الصلوات والقيام على أدائها بأركانها وشروطها، بين من بعد أن هذه المحافظة على هذا الحد لا تجب إلا مع الأمن دون الخوف، فقال:

﴿فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا) فإن خفتم عدوًّا فحذف المفعول لإحاطة العلم به، قيل: فإن كان بكم خوف من عدوٍّ أو غيره، وهذا القول أصح لأن

ص: 107


1- (1) وسائل الشيعة: العاملي: 6 / 417 .
2- (2) مستدرك الوسائل: حسين النوري: 6 / 403 .
3- (3) بحار الأنوار: المجلسي: 90 / 29 .

هذا الحكم ثابت عند حصول الخوف سواء كان الخوف من العدو أو من غيره، وقيل إن المعنى: فإن خفتم فوات الوقت إن أخرتم الصلاة إلى أن تفرغوا من حربكم فصلوا رجالًا أو ركبانًا، وعلى هذا التقدير الآية تدل على تأكيد فرض الوقت حتى يترخص لأجل المحافظة عليه بترك القيام والركوع والسجود(1).

صلاة الجمعة.

قال الإمام علي علیه السلام أنَّه سُئل عن قول اللّه عز وجل:

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ)[الجمعة/ 9] قال علیه السلام :

«ليس السَّعي الاشتداد ولكن يمشون إليها مشيًا »(2)، وأنَّه علیه السلام كان يمشي إلى الجمعة حافيًا تعظيمًا لها ويعلق نعليه بيده اليسرى ويقول: إنَّه موطن للّه وهذا تواضع من الإمام علیه السلام للّه عزَّ وجل لا على أنَّ ذلك شيء واجبٌ شرعًا ولا يجزي غيره، ولا بأس بالانتعال والركوب إلى الجمعة (3).

يوضح الإمام علیه السلام معنى السعي الذي في الآية بأنه الذهاب إلى الصلاة مشيًا، بل إنَّه علیه السلام يمشي إليها حافيًا تعظيمًا لها.

وعنه علیه السلام :«النَّاس في الجمعة على ثلاث منازل رجل شهدها بإنصات وسكون قبل الإمام وذلك كفارة لذنوبه من الجمعة إلى الجمعة الثانية وزيادة ثلاثة أيام لقول اللّه تعالى: ﴿مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا﴾ [الأنعام/ 160]، ورجلٌ

ص: 108


1- (1) ظ: تفسير الرازي: 3 / 386 .
2- (2) دعائم الاسلام: القاضي النعمان: 1 / 182 .
3- (3) دعائم الإسلام: النعمان: 1 / 167 .

شهدها بلغط وقلق فذلك حظه، ورجل شهدها والإمام يخطب وقام يصلي، فقد أخطأ السُّنة، وذلك ممن إذا سأل اللّه تعالى إن شاء أعطاه، وإن شاء حرمه»(1).

يتضح من قول الإمام علیه السلام هنا أن صلاة الجمعة حسنة بعشر أمثالها، وكفارة لذنوب عشرة أيام بعدها، فهي سُنَّة، ومن تركها فقد أخطأ السُنةَّ.

ثالثًا: الصيام وشهر رمضان.

إنَّ من الأفضل عند ذكر هذا الشهر الفضيل هو قول شهر رمضان لا رمضان فقط، وذلك لعظمة هذا الشهر واحترامه وقدسيته وتأسيًا بالقرآن الكريم فإنَّه تعالى يقول:

﴿شَهْرُ رَمَضَانَ﴾ [البقرة/ 185] أو الشهر ﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾[البقرة/ 185]، وهذا ما جاء في كلام الإمام علي علیه السلام إذ يقول:

«لا تقولوا رمضان، فإنَّكم لا تدرون ما رمضان؟(2) فمن قاله فليتصدق وليصم كفارةً لقوله ولكن قولوا كما قال اللّه عزّ وجلّ(3) ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ﴾ [البقرة/ 185]»،« وإن كان حمله على الاستحباب متعينًا»(4).

ومن ثمَّ يذكر لنا الإمام علي علیه السلام الصِّيام المستحب وتخصيصه بأيام دون غيرها لحكمة فيها وهي سلامة الجسم وتزكيته من الأمراض، فضلًا عن تعظيم

ص: 109


1- (1) الأمالي: الطوسي: 1 / 489 .
2- (2) الكافي: الكليني: 4 / 69 .
3- (3) وسائل الشيعة: العاملي: 10 / 320 .
4- (4) هذا مَّما أضافه الشيخ الكليني والعلامة المجلسي إلى هذا الحديث، الكافي: 4 / 100 ، مرآة العقول: 16 / 214 .

الأجر ومضاعفته بعشرة أمثاله إذ يقول علیه السلام :

«صيام شهر الصبر(1) وثلاثة أيام في كل شهر يذهبن ببلابل الصدر(2) وصيام ثلاثة أيام في كل شهر صيام الدهر »(3) ﴿مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا﴾ [الأنعام/ 160 ]، إذ إنَّ صيام رمضان ثلاثون يومًا وصيام ثلاثة أيام من كل شهر من بقية الأشهر الأحد عشر فيكون مجموعها ثلاثة وثلاثين يومًا

وبجمعها مع أيام شهر رمضان تكون ثلاثة وستين يومًا والحسنة بعشر أمثالها فبذلك تكون الثلاث والستون ثلاثمائة وستين وبذلك يعادل صيام الدهر كما ذكر الإمام علیه السلام ذلك في قوله.

ثم تأتي تفصيلات أحكام الصيام ومنها الوقت فقد جاء في القرآن الكريم اجمال ذلك ووضح الإمام علیه السلام المراد منه، إذ قال علیه السلام :

«لما أنزلَ اللّه تعالى: ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ﴾ [البقرة/ 187]، جعل الناس يأخذون خيطين أبيض وأسود فينظرون إليهما ولا يزالون يأكلون ويشربون حتى يتبين لهم الخيط الأبيض من الخيط الأسود فبين اللّه ما أراد بذلك »(4)، فقال: ﴿مِنَ الْفَجْرِ﴾ [البقرة: 187 ].

وعنه علیه السلام أنَّه قال في قول الله تعالى:

(رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا﴾ [البقرة/ 286 ]، قال:

«استجيب لهم ذلك في الذي ينسى فيفطر في شهر رمضان، وقد قال رسول

ص: 110


1- (1) شهر الصبر: أي شهر رمضان، من لا يحضره الفقيه: الصدوق: 83 .
2- (2) بلبلة الصدر: وسوسته. مجمع البحرين: الطريحي: 1 / 236 .
3- (3) بحار الأنوار: المجلسي: 94 / 100 .
4- (4) المصدر نفسه: 93 / 311 .

اللّه صلی اللّه علیه و آله و سلم: رفع اللّه عن أمتي خطأها ونسيانها وما أكرهت عليه فمن أكل ناسيا

في شهر رمضان فليمض في صومه ولا شيء عليه واللّه أطعمه »(1)، (ولعل الاستجابة لما قالوا في مقام إجابة الدعوة سمعنا وأطعنا وهو قول ينبئ عن الإجابة المطلقة من غير تقييد ثم التفتوا إلى ما عليه وجودهم من الضعف والفتور، والتفتوا أيضا إلى ما آل إليه أمر الذين كانوا من قبلهم وقد كانوا أمما أمثالهم استرحموا ربهم وسألوه أن لا يعاملهم معاملة من كان قبلهم من المؤاخذة والحمل والتحميل لأنهم علموا بما علمهم اللّه أن لا حول ولا قوة إلا باللّه، وأن لا عاصم من اللّه إلا رحمته، والنبي صلی اللّه علیه و آله و سلم وإن كان معصومًا من الخطأ والنسيان لكنه إنما يعتصم بعصمة اللّه تعالى، ويصان به تعالى فصح له أن يسأل ربه ما لا يأمنه من نفسه، ويدخل نفسه لذلك في زمرة المؤمنين)(2).

وفي قضاء ما فات من شهر رمضان قال علیه السلام :

«يقضي شهر رمضان من كان فيه عليلًا أو مسافرًا عدة ما اعتلَّ أو سافر فيه إن شاء متصلًا وإن شاء مفترقًا قال اللّه عز وجل:

(فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ [البقرة/ 184]، إذا أتى بالعدة فهو الذي عليه»(3).

وفي بيان حد المرض الموجب لصاحبه الإفطار قال علیه السلام :

«حد المرض الذي يجب على صاحبه فيه الإفطار كما يجب عليه في السفر لقول اللّه عز وجل:

(فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ أن يكون العليلُ

ص: 111


1- (1) دعائم الإسلام: النعمان المغربي: 1 / 274 .
2- (2) تفسير الميزان: الطباطبائي: 2 / 257 .
3- (3) دعائم الإسلام: النعمان: 1 / 274 .

لا يستطيع أن يصوم أو يكون إن استطاع الصوم زاد في علته وخاف منه على نفسه وهو مؤتمن على ذلك ومفوض إليه فيه فإن أحسَّ ضعفا فليفطر وإن وجد قوة على الصوم فليصم كان المرض ما كان، فإذا أفاق العليل من علته واستطاع الصوم صام كما قال اللّه عز وجل:

(فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ بعدد ما كان عليلا لا يقدر على الصوم أفطر في ذلك أو أمسك عن الطعام على ما ذكرناه في باب السفر، فإنْ كانت علته علة مزمنة لا يرجى منها إفاقة أو تمادت به إلى أن أهلّ عليه شهر رمضان آخر فليطعم عن كل يوم مضى له من شهر رمضان وهو فيه مريض مسكينًا واحدًا نصف صاع من طعام»(1).

رابعًا: الحج.

من خطبة له عیله السلام يبين فيها فريضة الحج وحكمتها يقول فيها:

«وفرض عليكم حج بيته الحرام الذي جعله قبلة للأنام يردونه ورود الأنعام ويألهون إليه ولوه الحمام وجعله سبحانه علامة لتواضعهم لعظمته وإذعانهم لعزته واختار من خلقه سماعًا أجابوا إليه دعوته وصدقوا كلمته ووقفوا مواقف أنبيائه وتشبهوا بملائكته المطيفين بعرشه يحرزون الأرباح في متجر عبادته ويتبادرون عنده موعد مغفرته جعله سبحانه وتعالى للإسلام علما وللعائذين حرمًا فرض حقه وأوجب حجه وكتب عليه عليكم وفادته »(2)، فقال سبحانه:

﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ

ص: 112


1- (1) المصدر نفسه: 1 / 278 .
2- (2) نهج البلاغة: 1 / 27 .

عَنِ الْعَالَمِينَ﴾ [آل عمران/ 97].

وسئل الإمام علي علیه السلام عن قول اللّه عز وجل:

﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ.. فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾ الآية، فقال علیه السلام :

«هذا فيمن ترك الحج وهو يقدر عليه، والسبيل: الزاد والراحلة(1)، وقال علیه السلام: ما عبد اللّه بشيء أفضل من المشي إلى بيته»(2).

وقال الإمام علي علیه السلام في بيان معنى الحج الأكبر:

«الحج الأكبر يوم النحر، واحتج بقول اللّه عز وجل:

(فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ﴾ [التوبة/ 2]، فهي عشرون من ذي الحجة والمحرم وصفر وشهر ربيع الأول وعشر من شهر ربيع الآخر، ولو كان الحج الأكبر يوم عرفة لكان السيح أربعة أشهر ويومًا (3)، واحتج بقول اللّه عز وجل (وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ﴾ [التوبة/ 3]، وكنت أنا الأذان في الناس فقيل له: فما معنى هذه اللفظة الحج الأكبر؟ فقال علیه السلام: إنَّما سمي الأكبر لأنها كانت سنة حجَّ فيها المسلمون والمشركون، ولم يحج المشركون بعد تلك السنة»(4).

وسميت الأيام العشر من ذي الحجة في القرآن الكريم بالأيام المعلومات، قال الإمام علي علیه السلام:

ص: 113


1- (1) دعائم الإسلام: النعمان: 1 / 288 .
2- (2) بحار الأنوار: المجلسي: 96 / 21 .
3- (3) الكافي: الكليني: 4 / 290 .
4- (4) بحار الأنوار: المجلسي: 96 / 322 .

«في قول اللّه عز وجل ﴿وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ﴾ [الحج/ 28 ]، قال: الأيام العشر، وقال علیه السلام في قوله تعالى:

(وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ﴾ [البقرة/ 203]، قال: التكبير في أيام التشريق في دبر الصلوات، وفي قول اللّه عز وجل:

﴿ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ﴾ [الحج/ 29]، قال علیه السلام: التفث الرمي والحلق، والنذور من نذر أن يمشي والطواف هو طواف الزيارة بعد الذبح، والحلق يوم النحر وهذا الطواف هو طواف واجب»(1).

وفي كيفية إحرام المريض جاء عنه علیه السلام أنَّه قال:

« المريض إذا أراد الإحرام وهو متخوف على نفسه من البرد، فليحرم وعليه ثيابه من الثياب، وليكفر بما سماه اللّه تبارك وتعالى في كتابه ﴿فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ﴾ [البقرة/196]»(2).

وفي بيان كفارة صيام الأيام العشر التي وردت في قوله تعالى:

(فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ﴾ [البقرة/ 196]، قال الإمام علي علیه السلام :

«قبل التروية بيوم، ويوم التروية، ويوم عرفة، فمن فاته ذلك فليتسحر ليلة الحصبة _ يعني ليلة النفر _، ويصبح صائمًا، ويومين بعده، وسبعة إذا رجع»(3).

ومن كتاب له علیه السلام كتبه إلى عامله على مكة المكرمة:

ص: 114


1- (1) بحار الأنوار: المجلسي: 96 / 309 - 312 .
2- (2) مستدرك الوسائل: النوري: 9 / 214 .
3- (3) وسائل الشيعة: العاملي: 14 / 198 .

«أما بعد فأقم للناس الحج وذكرهم بأيام اللّه واجلس لهم العصرين فأفت المستفتي وعلم الجاهل وذاكر العالم ولا يكن لك إلى الناس سفير إلا لسانك ولا حاجب إلا وجهك ولا تحجبن ذا حاجة عن لقائك بها فإنَّها إن ذيدت عن أبوابك في أول وردها لم تحمد فيما بعد على قضائها وانظر إلى ما اجتمع عندك من مال اللّه فاصرفه إلى من قبلك من ذوي العيال والمجاعة مصيبا به مواضع المفاقر الفاقة والخلات وما فضل عن ذلك فاحمله إلينا لنقسمه فيمن قبلنا ومر أهل مكة ألا يأخذوا من ساكن أجرا فإنَّ اللّه سبحانه يقول:

﴿سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ﴾ [الحج/ 25]، فالعاكف المقيم به والبادي الذي يحج إليه من غير أهله .»(1).

خامسًا: الخمس.

«هو حق مالي يثبت لبني هاشم في مال مخصوص بالأصالة عوضًا عن الزكاة»(2).

قال الإمام علي علیه السلام :

«وأما ما جاء في القرآن من ذكر معايش الخلق وأسبابها فقد أعلمنا سبحانه ذلك من خمسة أوجه: وجه الإمارة، ووجه العمارة، ووجه الإجارة، ووجه التجارة، ووجه الصدقات، فأما وجه الإمارة، فقوله:

(وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ﴾ [الأنفال/ 41 ]، فجعل للّه خمس الغنائم، والخمس يخرج من أربعة

ص: 115


1- (1) نهج البلاغة: 3 / 127 – 128 .
2- (2) مسالك الأفهام، الشهيد الثاني، 1 / 457 .

وجوه: من الغنائم التي يصيبها المسلمون من المشركين، ومن المعادن، ومن الكنوز، ومن الغوص»(1).

وقد قسم الفقهاء الأموال التي يجب فيها الخمس إلى عدة أموال وهي: غنائم الحرب، والمعادن، والكنوز، ومن الغوص، ما يفضل عن مؤونة السنة، لو اشترى الذمي أرضًا من مسلم، الحلال إذا اختلط بالحرام وجب فيه الخمس(2).

إذ أضاف الفقهاء ثلاثة أقسام أخرى إلى التقسيم الذي ذكره الإمام علیه السلام في قوله آنف الذكر، ومما يبدو أن الأقسام الثلاثة الأخيرة قد تفرعت من قسم الكنوز لأنها يمكن أن تعدَّ من الأموال المكنوزة لأنه قد مضى عليها الحول فلذلك وجب فيها الخمس.

والخمس نصفان: نصف للإمام المنتظر عجّل اللّه تعالی فرجه الشریف يُصرف في الأمور التي يُضمن

أو يُحرز رضا الإمام في صرفها فيها، وبإجازة من الحاكم الشرعي، أو يدفع إليه، والنصف الآخر للفقراء وأبناء السبيل من الهاشميين المؤمنين وكذلك أيتام الفقراء المؤمنين منهم العاملين بفرائض دينهم القويم، ويقصد بالهاشميين الذين ينتسبون من جهة الأب إلى هاشم جد النبي الكريم محمد صلی اللّه علیه و آله و سلم(3)، من الأصناف المستحقين للخمس القائمين بأمور المسلمين قال الإمام علي علیه السلام: «إنَّ للقائم بأمور المسلمين بعد ذلك الأنفال التي كانت لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله و سلم، قال اللّه عزَّ

ص: 116


1- (1) وسائل الشيعة: العاملي: 9 / 490 .
2- (2) ظ: شرائع الإسلام، المحقق الحلي، 1 / 134 – 135 . ظ: مسالك الإفهام، الشهيد الثاني، 467/1.
3- (3) الفتاوى الميسرة، السيد عبد الهادي محمد تقي الحكيم وفق فتاوى السيد السيستاني، 239 .

وجلَّ:

(يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ﴾ [الأنفال/ 1]، وإنَّما سألوا الأنفال ليأخذوها لأنفسهم فأجابهم اللّه بما تقدم ذكره، والدليل على ذلك قوله تعالى:

(فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)[الأنفال/ 1]، أي ألزموا طاعة اللّه في أن لا تطلبوا ما لا تستحقونه، فما كان للّه ولرسوله فهو للإمام وله نصيب آخر من الفيء، والفيء يقسم بقسمين: فمنه ما هو خاص للإمام وهو قول اللّه عزّ وجلّ في سورة الحشر:

(مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ﴾ [الحشر/ 7]، وهي البلاد التي لا يوجف(1) عليها بخيل ولا ركاب، والضرب الآخر ما رجع إليهم ممَّا غُصبوا عليه في الأصل،قال اللّه تعالى:

(إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ [البقرة/ 30 ]، فكانت الأرض بأسرها لآدم، ثم هي للمصطفين الذين اصطفاهم اللّه وعصمهم فكانوا هم الخلفاء في الأرض، فلما غصبهم الظلمة على الحق الذي جعله اللّه ورسوله لهم وحصل ذلك في أيدي الكفار وصار في أيديهم على سبيل الغصب حتى بعث اللّه رسوله محمدًا صلی اللّه علیه و آله و سلم فرجع له ولأوصيائه، فما كانوا غصبوا عليه أخذوه منهم بالسيف فصار ذلك مما أفاء اللّه به، أي ممَّا أرجعه اللّه إليهم»(2).

ص: 117


1- (1) (فما أوجفتم على تحصيله وتغنمه خيلًا ولا ركابًا، ولا تعبتم في القتال عليه، وإنَّما مشيتم إليه على أرجلكم) الكشاف: الزمخشري: 7 / 26 .
2- (2) وسائل الشيعة: العاملي: 9 / 531 .

وفي سهم أولي القربى بيّن الإمام علي علیه السلام من هم القربى قائلاً:

«نحن واللّه الذِّين عنى اللّه بذي القربى، الذين قرنهم اللّه بنفسه ونبيه صلی اللّه علیه و آله و سلم، فقال تعالى:

(مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ﴾ [الحشر/ 7]، منا خاصة ولم يجعل لنا سهما في الصدقة، أكرم اللّه نبيه وأكرمنا أن يطعمنا أوساخ ما في أيدي الناس»(1).

سادسًا: الزكاة.

من أخلاق الإسلام وآدابه أن حفظ للمسلم ماء وجهه فجعل له حقوقًا و واجبات ومن تلك الواجبات الإنفاق بشتى صوره، ومن صوره الزكاة، وهي أحد أركان الإسلام، قال الإمام علي علیه السلام :

«في قوله تعالى: ﴿وَآتَى الزَّكَاةَ﴾ [البقرة/ 177 ]، الواجبة عليه لإخوانه المؤمنين، فإنَّ لم يكن له مال يزكيه فزكاة بدنه وعقله وهو أن يجهر بفضل علي والطيبين من آله إذا قدر، ويستعمل التقية عند البلايا إذا عمَّت، والمحن إذا نزلت، ولأعدائنا إذا غلبوا أو يعاشر عباد اللّه بما لم يثلم دينه ولا يقدح في عرضه

وبما يسلم معه دينه ودنياه»(2).

وقد بیَّن الإمام مقدار المال الذي تجب فيه الزكاة ومعنى الكنز في قوله تعالى:

﴿وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ﴾ [التوبة/ 34 ]، عن الإمام علي علیه السلام :

ص: 118


1- (1) الكافي: الكليني: 1 / 539 .
2- (2) بحار الأنوار: المجلسي: 24 / 385 .

«ما زاد على أربعة آلاف فهو كنز أدى زكاته أو لم يؤدِّ، وما دونها فهي نفقة»(1).

وقد نهى اللّه تعالى عن الإنفاق مما خَبُثَ من المال في قوله عزَّ وجلَّ:

(وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ﴾ [البقرة/ 267]، وقد بيَّن الإمام علي علیه السلام ما المقصود من المال الخبيث قائلًا:

«كان النَّاس حين أسلموا عندهم مكاسب من الرِّبا ومن أموال خبيثة وكان الرَّجل يتعمدها من بين ماله فيتصدق بها فنهاهم اللّه عز وجل عن ذلك»(2).

ومن صور الانفاق الأخرى: الصدقة، إذ علّمنا النبي الكريم صلی اللّه علیه و آله و سلم وأهل بيته

(عليهم الصلاة والسلام) كيف أن لا نرد سائلً كما أمر اللّه تعالى:

(وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ﴾ [الضحى/ 10]، ومن الآداب التي علمنا الإمام علي علیه السلام عند التصدق على السائل يقول علیه السلام :

«وإذا ناولتم السَّائل شيئًا فسلوه أن يدعو لكم، فإنَّه يجاب له فيكم ولا يجاب في نفسه.. وليردَّ الذي يناوله يده إلى فيِهِ فيقبلها، فإنَّ اللّه عز وجل يأخذها قبل أن تقع في يده كما قال عزَّ وجل:

(أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ [التوبة/ 104]، تصدقوا بالليل فإنَّ الصَّدقة بالليل تطفِئ غضب الربِّ جلَّ جلاله»(3).

في هذه الآية استفهام إنكاري بداعي تشويق الناس إلى إيتاء الزكاة، وذلك

ص: 119


1- (1) المصدر نفسه: 8 / 243 .
2- (2) دعائم الإسلام: النعمان: 2 / 329 .
3- (3) الخصال: الصدوق: 619 .

أنهم إنما يؤتون الصدقة للّه تعالى وإنَّما يسلمونها إلى الرسول أو إلى عامله وجابيه بما أنه مأمور من دون اللّه تعالى في أخذها فإيتاؤه إيتاءٌ للّه تعالى، وأخذه أخذ من اللّه تعالى فاللّه سبحانه هو الآخذ لها بالحقيقة، وقد قال اللّه تعالى في أمثاله:

(إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ﴾ [الفتح/ 10 ]، وقال:

﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى﴾ [الأنفال/ 17]، وقال قولًا عاما:

(مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ﴾ [النساء/ 80 ]، فإذا ذكَّر الناَّس بمثل قوله:

(أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ [التوبة/ 104 ]، انبعثت رغباتهم واشتاقوا أن يعاملوا ربَّهم فيصافحوه ويمسُّوا بأيديهم يدهُ تنزهَ عن عوارض الأجسام وتعالى عن ملابسة الحدثان(1).

سابعًا: الجهاد.

في بيان وجوب الجهاد جاء عن الإمام علي علیه السلام أنَّه قال: «الجهاد فرض على جميع المسلمين لقول اللّه تعالى:

﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ﴾ [البقرة/ 216 ]، فإنْ قامت بالجهاد طائفة من المسلمين وسع سائرهم التَّخلف عنه ما لم يحتج الذين يلون الجهاد إلى المدد فإنْ احتاجوا لزم الجميع أن يمدوهم حتى يكتفوا قال اللّه تعالى:

ص: 120


1- (1) ظ: تفسير الميزان: الطباطبائي: 9 / 213 .

﴿وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً﴾ [التوبة/ 122 ] فإن دهم أمر يحتاج فيه إلى جماعتهم نفروا كلهم » (1)، قال اللّه عز وجل:

(انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) [التوبة/ 41].ومن أنواع الجهاد ما ذكره الإمام علي علیه السلام قال:

«الحجُّ جهاد كل ضعيف، جهاد المرأة حسن التبعل، لا يخرج المسلم في الجهاد مع من لا يؤمن على الحكم ولا ينفذ في الفيء أمر اللّه عزَّ وجلَّ، فإن مات في ذلك كان معينًا لعدونا في حبس حقوقنا والاشاطة بدمائنا وميتته ميتة جاهلية»(2).

وعنه علیه السلام يقول:

«والجهاد على أربع شعب: على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصدق في المواطن و شنآن الفاسقين، فمن أمر بالمعروف شد ظهر المؤمن ومن نهى عن المنكر أرغم أنف الشيطان، ومن صدق في المواطن قضى الذى عليه ومن غضب للّه تعالى غضب الله له»(3).

وفي بيان حكم الفرار من الزحف قال الإمام علي علیه السلام مبيِّنا قوله تعالى:

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ)[الأنفال/ 15 ] «من فرَّ مِن رجلين في القتال من الزَّحف فقد فرَّ من الزحف، ومن فرَّ من ثلاثة رجال في القتال من الزَّحف فلم يفر .»(4)

ص: 121


1- (1) دعائم الإسلام: النعمان: 1 / 341 .
2- (2) الخصال: الصدوق: 621 ، 625 .
3- (3) الكافي: الكليني: 2 / 51 .
4- (4) المصدر نفسه: 5 / 34 ، تهذيب الأحكام: الطوسي: 6 / 174 .

فالقتال في سوح الحرب ضد أعداء الدِّين والوطن فهذا هو الجهاد الأصغر كما وصفه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله و سلم(1) وأمَّا الجهاد الأكبر وهو جهاد النفس فقد جاء في وصية للإمام علي علیه السلام لوُلْدِه وشيعته:

«اللّه اللّه في الجهاد للأنفس فهي أعدى العدو لكم فإنَّه قال اللّه تعالى:

(إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي﴾ [يوسف/ 53 ]، وإنَّ أول المعاصي تصديق النَّفس والركون إلى الهوى»(2).

فالجهاد إذن على أنواع أشهرها القتال في الحرب، وهو أول ما يتبادر إلى الأذهان من هذه اللفظة، لكنَّ للجهاد أنواعًا أخرى إذ جاء بيانها عن الإمام علي علیه السلام في أحاديثه آنفة الذكر، فمنه الحج ومنه حسن معاملة الزوج بالنسبة للمرأة، ومنه وهو أهمها وكما سماه أهل البيت علیهم السلام بالجهاد الأكبر ألا هو جهاد النفس.

ثامنًا: الأمر بالمعروف.

قال تعالى:

(وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [آل عمران/ 104]، فالأمَر بالمعروف والنهَّي عن المنكر ببعض مراتبهما واجبان كفائيان، إذا قام بهما البعض سقط الإثم عن الباقين، فإذا لم يأمر بالمعروف ولم ينه عن المنكر أحد، أُثِمَ الجميع، وتعرَّضوا

ص: 122


1- (1) قال الإمام علي علیه السلام: «إنَّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله و سلم بعث سرية فلما رجعوا قال: مرحبًا بقوم قضوا الجهاد الأصغر وبقي عليهم الجهاد الأكبر، قيل يا رسول اللّه وما الجهاد الأكبر؟ قال: جهاد النفس » مشكاة الأنوار: علي الطبرسي: 245 .
2- (2) دعائم الإسلام: النعمان: 2 / 352 .

لغضب اللّه عزَّ وجلَّ وعقابه وسخطه، أمَّا إذا قام بالأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر بعض المسلمين، فقد سقط عن الجميع(1).

قال الإمام علي علیه السلام :

«لا تتركوا الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر فيولَّی عليكم شراركم ثم تدعون فلا يستجاب لكم»(2).

وعنه علیه السلام قال في قوله تعالى:

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ﴾ [البقرة/ 207]،« إن المراد بالآية الرجل يقتل على الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر»(3).

وجاء عن الإمام علیه السلام أنَّه قال لرجل:

«إيَّاك أن تضرب مسلمًا أو يهوديًا أو نصرانيًا في درهم خراج أو تبيع دابَّة عمل في درهم، فإنَّا أمرنا أن نأخذ منه العفو»(4)، لعلَّ في هذا القول إشارة إلى قوله تعالى:

(وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ﴾ [البقرة/ 219 ]، وقوله تعالى:

(خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ﴾ [الأعراف/ 199 ](5).

«عفو المال ما يفضل من النفقة، وأمر بالعرف أي بالمعروف الجميل من الأفعال، والحميد من الأخلاق، وأعرض عن الجاهلين لا تمارِ السفهاء، ولا

ص: 123


1- (1) الفتاوى الميسرة، السيد عبد الهادي الحكيم، 326 .
2- (2) نهج البلاغة، 3 / 77 .
3- (3) ميزان الحكمة: الريشهري: 3 / 1952 .
4- (4) بحار الأنوار: المجلسي: 41 / 128 .
5- (5) ظ: مستدرك سفينة البحار: النمازي: 4 / 296 .

تكافئهم بمثل سفههم»(1).

تاسعًا: الدعاء.

يطول الكلام عن الدعاء لما له من عظيم الفضل عند اللّه تعالى فقد كثر الكلام في شأن الدعاء من بيان فضله والحثّ على المداومة عليه وأنَّه يردُّ القضاء فهو سبيل من سبل التواصل مع الباري جلَّ شأنه فقد جاء القرآن الكريم حاثًّا على الدعاء وكذلك أهل البيت (عليهم الصلاة والسلام) فقد قال الإمام علي علیه السلام :

«أحبُّ الأعمال إلى اللّه تعالى في الأرض الدعاء »(2)، ثمَّ تلا هذه الآية:

(قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ﴾ [الفرقان/ 77 ]، ومن ثمَّ بيَّن الإمام علیه السلام الحكمة من تأخير إجابة الدُّعاء قال:

«ربُّما أُخِّرَتْ عن العبد إجابة الدعاء ليكونَ أعظم لأجر السَّائل وأجزل لإعطاء الآمل»(3).

عاشرًا: التوبة.

ذكر القرآن الكريم التوبة في آيات متفرقة وأحداث مختلفة، وذكرت التوبة بصورة عامة إذ يقول تعالى:

﴿يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ﴾ [النساء/ 17]،« أي يتوبون قبل الموت لأن ما بين

ص: 124


1- (1) التفسير الصافي: الكاشاني: 2 / 308 .
2- (2) الكافي: الكليني: 2 / 467 ، جامع الأخبار: السبزواري: 364 .
3- (3) بحار الأنوار: المجلسي: 90 / 372 .

الإنسان وبين الموت قريب، فالتَّوبة مقبولة قبل اليقين بالموت، وقيل: القريب ما لم يعاين الموت، وقيل: هو ما دام في الصحة قبل المرض والموت »(1)، وروي عن الإمام علي علیه السلام أنَّه قيل له: فإنْ عاد وتاب مرارًا؟ قال علیه السلام :

«يغفر اللّه له، قيل: إلى متى؟ قال: حتى يكون الشيطان هو المحسور»(2)، و عنه علیه السلام :

«من تابَ تابَ اللّهُ عليه وأمر جوارحه أن تستر عليه وبقاع الأرض أن تكتم عليه وأنسيت الحفظة ما كانت تكتبه عليه»(3).

ص: 125


1- (1) تفسير مجمع البيان: الطبرسي: 3 / 35 .
2- (2) بحار الأنوار: المجلسي: 6 / 15 .
3- (3) بحار الأنوار: المجلسي: 6 / 84 .

ص: 126

المبحث الثاني : كلام الإمام علي علیه السلام في المعاملات

أولًا: أحكام النكاح والشفاعة فيه:

هناك جملة من المستحبات ترتبط بالنكاح ومقدماته من قبيل الشفاعة في الزواج والسعي للتزويج وغيرها، قال الإمام علي علیه السلام في الشفاعة في النكاح:

«أفضل الشفاعات أن تشفع بين اثنين في نكاح حتى یجمع اللّه بينهما »(1)، من الممكن أن يكون قول الإمام علیه السلام هذا ممَّا يدخل في معنى الآية الكريمة:

﴿مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا﴾ [النساء/ 85 ]، الشفاعة الحسنة: هي التي رُوعِيَ بها حق مسلم، ودفع بها عنه شر أو جلب إليه خير(2) ، وابتغي بها وجه اللّه ولم تؤخذ عليها رشوة، وكانت في أمر جائز لا في حدٍّ من حدود اللّه و لا في حق من الحقوق. عن الإمام علي علیه السلام أنه كان يقول: إذا تزوج الرجل المرأة فدخل بها أو لم يدخل بها حرمت عليه أمها وذلك لقول اللّه تعالى:

(وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ﴾ [النساء/ 23 ]، وفي قول اللّه عز وجل:

ص: 127


1- (1) وسائل الشيعة: العاملي: 20 / 46 .
2- (2) الكشاف: الزمخشري: 1 / 440 .

﴿وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ﴾ [النساء/ 22 ]، قال علیه السلام :

إذا نكح رجل امرأة ثم توفي عنها أو طلقها لم تحل لأحد من ولده إن دخل بها أو لم يدخل بها ولا يتزوج الرجل امرأة جده وهي محرمة على ولده ما تناسلوا:

(وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ﴾ [النساء/ 23 ]، قال علیه السلام :

ولو أنَّ رجلًا نكح امرأة ثمَّ أتى أرضًا أخرى فنكح أختها وهو لا يعلم فعليه إذا علم أن ينزع عنها»(1).

وعنه علیه السلام :

«لا يجوز للمسلم التزوج بالأمة اليهودية ولا النصرانية لأن اللّه تعالى قال:

﴿مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ﴾ [النساء/ 25 ]، وقال: كرِهَ ذلك رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله و سلم التزويج بها لئلا يسترق ولده اليهودي والنصراني»(2)، لكن اللّه أباح نكاح المشركات في حال لو قلّت النساء المسلمات وقد بيّنه الإمام علي علیه السلام بقوله:

«إنَّما أحلَّ اللّه نساء أهل الكتاب للمسلمين إذا كان في نساء الإسلام قلَّة فلما كثر المسلمات قال اللّه عز وجل:

(وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ﴾ [البقرة/ 221 ]، وقال تعالى:

﴿وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ﴾ [الممتحنة/10]»(3).

سئل الإمام علي علیه السلام عن قول اللّه تعالى:

(وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا

ص: 128


1- (1) دعائم الإسلام: النعمان: 2 / 232 – 233 – 234 .
2- (2) بحار الأنوار: المجلسي: 100 / 380 .
3- (3) دعائم الإسلام: النعمان: 2 / 249 – 250 .

بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ﴾ [النساء/ 128 ]، فقال علیه السلام :

«ذلك الرجل يكون له امرأتان فيعجز عن إحداهما أو تكون دميمة فيميل عنها ويريد طلاقها وتكره هي ذلك فتصالحه على أن يأتيها وقتا بعد وقت أو على أن تضع له حظها من ذلك »(1)، وأمَّا قوله تعالى:

(وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا﴾ [النساء/ 35 ]، فقال علیه السلام :

«ليس للحكمين أن يفرقا حتى يستأمرا الرجل والمرأة، ويشترطان عليهما إن شاءَا جمعَا، وإن شاءَا فرقَا، فإن جمعا فجائز، وإن فرقا فجائز»(2).

ثانيًا: أحكام المهر.

كانت في الجاهلية بعض الطرق في النكاح غير صحيحة لأن فيها غبنًا لحق المرأة ومنه حقها في المهر فجاء الإسلام ناهيًا عن ذلك ومحرمًا له.

روي عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله و سلم :

«أنَّه نهى عن نكاح الشغار وهو أن ينكح الرجل ابنته من رجل على أن ينكحه الآخر ابنته، وليس بينهما صداق وقال لا شغار في الإسلام»(3)، و قال الإمام علي علیه السلام معرِّفا نكاح الشغار ثم يبيِّن صحة العقد دون تسمية أو ذكر المهر لكن لا يصح الزواج إلا بإعطاء المرأة شيئا، قال علیه السلام :

ص: 129


1- (1) مستدرك الوسائل: حسين النوري: 15 / 78 .
2- (2) وسائل الشيعة: العاملي: 21 / 348 .
3- (3) دعائم الإسلام: النعمان: 2 / 223 .

«هو نكاح كانت الجاهلية تعقده على هذا ولا بأس بعقد النكاح على غير تسمية ولكن لا يدخل بها حتى يعطيها شيئًا، قال اللّه عز و جل:

(لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً)[البقرة/236]» ، وقال علیه السلام في قول اللّه عزَّ وجل في قصة موسى علیه السلام :

(إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ﴾ [القصص/ 27 ]، فقال علي علیه السلام :

عَقَدَ النكاح على أجرة سمَّاها ولا يحلُّ النكاح في الإسلام بأجرة لولي المرأة لأن المرأة أحقُّ بمهرها»(1).

وقال الإمام علي علیه السلام في قوله تعالى:

﴿وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً﴾ [النساء/4]،« أعطوهن الصداق الذي استحللتم به فروجهن، فمن ظلم المرأة صداقها الذي استحل به فرجها فقد استباح فرجها زنًا»(2).

قوله تعالى:

﴿وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا﴾ [النساء/ 4]، (يقصد من الآية لو تنازلت الزوجة عن شيء من المهر و وهبته للزوج عن طيب نفسها جاز للزوج أكل الموهوب له، وإِنَّما أقرَّ الإِسلام هذا المبدأ لكيلا تكون البيئة العائلية والحياة الزوجية ميدانًا لسلسلة من القوانين العصيبة والمقررات الجافة، بل يكون مسرحًا للتلاقي العاطفي الإِنساني،

ص: 130


1- (1) دعائم الإسلام: النعمان: 2 / 223 – 225 .
2- (2) بحار الأنوار: المجلسي: 100 / 352 .

وتسود في هذه الحياة المحبّة والمودة في إطار ما أباحته الأحكام والقوانين الإسلامية)(1)، وقد جاء ذلك الحكم واضحا صريحا في حديث الإمام علي علیه السلام إذ روي «أن رجلًا أتى الإمام علياً علیه السلام فشكا إليه وجع بطنه فقال علیه السلام :

أَ لكَ زوجة؟ قال نعم فقال علیه السلام: له استوهب منها شيئًا طيِّبةً به نفسها من مالها ثم اشترِ به عسلًا... إلى أن قال علیه السلام قال سبحانه:

﴿فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا﴾ [النساء/4]»(2) فقد قرن المفسرون شرحهم وتفسيرهم لهذه الآية بهذه الرواية(3).

ثالثًا: الرضاع:

ورد في القرآن الكريم الحديث عن الرضاع وأحكامه إذ يقول تعالى:

(وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) [البقرة/ 233].

هذه الآية في الواقع استمرار للموضوعات المتعلِّقة بمسائل الزَّواج والطلاق، وتبحث مسألة مهمَّة هي مسألة الرّضاع، وتذكر بعبارات مقتضبة

ص: 131


1- (1) تفسير الأمثل: الشيرازي: 3 / 101 .
2- (2) عوالي اللآلي: الأحسائي: 2 / 36 .
3- (3) ظ: تفسير مجمع البيان: 3 / 11 ، ظ: تفسير العياشي: 1 / 233 ، ظ: تفسير الميزان: 4 / 25 .

في الوقت نفسه معنىً عميق الجزئيات متعلِّقاً بأحكام الرِّضاع المختلفة، من مدة ونفقة وغيرها(1)، ففي بيان مدة الرضاع قال الإمام علي علیه السلام :

«ما كان في الحولين فهو رضاع ولا رضاع بعد الفطام قال اللّه عز وجل:

(وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ) [البقرة/233]»(2).

وفي قول اللّه عز وجل:

﴿وعَلَی الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ﴾ قال علیه السلام :

«نهى اللّه عزَّ وجل أن يضار بالصبي أو يضار بأمِّه في رضاعه وليس لها أن تأخذ في رضاعه فوق حولين كاملين ﴿فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا) کما قال اللّه عز وجل كان ذلك إليهما والفصال الفطام ولا ينبغي للوارث أن يضار المرأة فيقول لا أدع ولدها يأتيها»(3).

أمَّا فضل رضاعة الصبي من لبن أمه وما لَهُ من البركة، فقد روي في ذلك عن الإمام علي علیه السلام أنَّه قال:

«ما من لبن رضع به الصَّبي أعظم بركة عليه من لبن أمِّه»(4)، (وقد يجب عليهن كما إذا لم يرتضع إلا من أمه أو لا يعيش إلا بلبنها أو لا يوجد غيرها حولين كاملين تامين أكده به لأنَّه مما يتسامح فيه لمن أراد أن يتم الرضاعة هذا الحكم لمن أراد إتمام الرضاع أو متعلق ب(يرضعن) أي لأجل أزواجهن فإن

ص: 132


1- (1) ظ: تفسير الأمثل: الشيرازي: 2 / 175 .
2- (2) دعائم الإسلام: النعمان: 2 / 241 .
3- (3) المصدر نفسه: 290 .
4- (4) وسائل الشيعة: العاملي: 21 / 452 .

نفقة الولد على والده و فيه تحديد لأقصى مدة الرضاع وتجويز للنقص عنه (و على المولود له) الذي وُلدَ له وهو الوالد وفيه إشارة إلى أن الولد للأب ولهذا ينسب إليه وإنما لم يقل على الزوج لأنه قد يكون غير الزوج كالمطلق و للتنبيه على المعنى المقتضي لوجوب الإرضاع ومُؤن المرضعة على الأب (رزقهن) مأكولهن وكسوتهن إذا أرضعن ولده بالمعروف بما يعرفه أهل العرف (لا تكلف نفس إلا

وسعها) تعليل لإيجاب المؤن والتقييد بالمعروف وما بعده تفصيل له وتقرير أي لا يكلف كل منهما الآخر ما ليس في وسعه ولا يضاره بسبب الولد (لا تضاروالدة) زوجها بولدها بسبب ولدها بأن تترك ارضاعه تعنتًا أو غيظًا على أبيه ولا سيما بعد ما ألفها الولد أو تطلب منه ما ليس بمعروف أو تشغل قلبه في شأن الولد، أو لا مولود له أي لا يضار المولود له أيضًا امرأته بولده بسبب ولده بأن ينزعه منها ويمنعها عن إرضاعه إن أرادته ولا سيما بعدما ألفها الولد أو يكرهها عليه أو يمنعها شيئًا مما وجب عليه)(1).

روي «أن عمراً أتي بامرأة وضعت لستة أشهر فَهَمَّ برجمهِا، فبلغ ذلك عليًا فقال علیه السلام :

ليس عليها رجم، فبلغ ذلك عمراً فأرسل إليه يسأله، فقال علي علیه السلام :

(وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ) [البقرة/ 233] ، وقال:

﴿وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا﴾ [الأحقاف/ 15]، فستة أشهر حمله وحولان تمام، لاحدَّ عليها ولا رجم عليها، قيل: فخلَّی عنها»(2).

ص: 133


1- (1) التفسير الصافي: الكاشاني: 1 / 286 .
2- (2) بحار الأنوار: المجلسي: 40 / 180 .

ومن هذا يتضح لنا بجلاء لا غبار معه وباطمئنان لا ريب فيه أن الإمام علیه السلام ينطق والقرآن الكريم حاضر عنده من أوله إلى آخره فإنَّ جمع الآيات مع بعضها والخروج بنتيجة الحكم الصائب الموافق لما يريده القرآن الكريم وما يقتنع به الجميع أنَّه نابع من القرآن الكريم ولا يخرج إلَّا ممن سار المعنى القرآني في عروقه سير الدِّماء فيها والمصداق قد حضر في ذهنه حضورًا تامًّا وهو باكورة الباحث في توظيف كلامه في فهم هذا الكتاب الكريم الذي يسّره اللّه لمن يدِّكر مع أنَّه في أمِّ الكتاب علي حكيم.

وهذا ما أدى إلى أن استشهد بهذه الرواية كثير من العلماء في تفاسيرهم، في تفسير القمي وتفسير الصافي وتفسير نور الثقلين، وغيرهم (1)، وجاء أيضًا عن الإمام علي علیه السلام أنَّه قال:

«لا تلد المرأة لأقل من ستة أشهر»(2).

رابعًا: الطلاق.

جاء عن الإمام علي علیه السلام قال:

«إذا أراد الرجل الطلاق طلقها من قبل عدتها في غير جماع، فإنَّه إذا طلقها واحدة ثم تركها حتى يخلو أجلها وشاء أن يخطب مع الخطاب فعل، فإن راجعها قبل أن يخلو الأجل أو العدة فهي عنده على تطليقة، فإن طلقها الثانية فشاء أيضًا أن يخطب مع الخطاب إن كان تركها حتى يخلو أجلها وإن شاء راجعها قبل أن ينقضي أجلها فإن فعل فهي عنده على تطليقتين ﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ

ص: 134


1- (1) ظ: تفسير القمي: 2 / 297 ، تفسير الصافي: الكاشاني: 5 / 14 ، نور الثقلين: الحويزي: 5/ 14 .
2- (2) وسائل الشيعة: العاملي: 21 / 382 .

حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ﴾ [البقرة/230](1).

وعنه علیه السلام في قول اللّه تعالى:

﴿وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ﴾ [البقرة/ 231 ]، قال علیه السلام :

«هو الرَّجل يريد أن يطلق امرأته فيطلقها واحدة ثمَّ يدعها حتَّى إذا كاد أن يخلو أجلها راجعها وليس له بها حاجة ثم يطلقها كذلك ويراجعها حتى إذا كان أجلها أن يخلو ولا حاجة له بها إلا ليطول العدة عليها ويضر في ذلك بها فنهى اللّه عزَّ وجل عن ذلك»(2).

«سُئل الإمام علي علیه السلام عن رجلٍ تزوج أمَة فطلقها طلاقًا لا تحلُّ له إلَّا بعد زوج ثمَّ اشتراها هل يحلُّ له أن يطأها بملك اليمين قال علیه السلام :

أحلتها آية وحرمتها آية أخرى فأمَّا التي حرمتها فقوله تعالى:

(فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ﴾ [البقرة/ 230 ]، وأمَّا التي أحلتها فقوله:

(أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ [النساء/ 3]، وأنا أكره ذلك وأنهى عنه نفسي و وُلدي»(3).

وروي عن الإمام علیه السلام في حكم المرأة المطلقة التي تدعي الحمل، قال علیه السلام :

«إذا طلق الرجل امرأته فادعت أنَّها حبلى انتظرت تسعة أشهر فإن ولدت

ص: 135


1- (1) الكافي: الكليني: 6 / 69 .
2- (2) دعائم الإسلام: النعمان: 2 / 295 .
3- (3) دعائم الإسلام: النعمان: 298 .

وإلَّا فاعتدَّت ثلاثة أشهر ثمَّ قد بانت منه فهذا إذا لم يكن يتبين حملها، فأمَّا إن تعينَ أنَّها حامل أنفقَ عليها حتى تضع حَملها كما قال اللّه تعالى:

(وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ﴾ [الطلاق/6](1).

خامسًا: الميراث.

«رُفع إلى الإمام علي علیه السلام أن شريحًا القاضي قد قضى في امرأة ماتت وخلفت زوجًا وابني عمٍّ أحدهما أخ لأم وقد أعطى الزوج النصف من تركتها وأعطى الباقي لابن عمِّها الذي هو أخوها من أمِّها وحرم الآخر فأحضره علي علیه السلام قال له: ما أمرك بلِّغني عن قضائك في قضية المرأة المتوفاة قال: يا أمير المؤمنين قضيتُ بكتاب اللّه تعالى وأجريتُ ابن العم بكونه أخًا من أمٍّ مجرى أخوين أحدهما من أبٍّ والآخر من أمٍّ فأنكر عليه علي علیه السلام، وقال:

أَ في كتاب اللّه تعالى أن الباقي بعد الزوج لابن العمِّ الذي هو أخٌ من أمٍّ؟ قال: لا، قال علیه السلام: فقد قال اللّه تعالى:

(وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ﴾ [النساء/ 12] فجعل للزَّوج النِّصف وأعطى الأخ من الأم السُّدس ثم قسم الباقي بين ابني العمِّ فحصل لابن العم الذي هو أخ من الأم ثلث ولابن العم الذي ليس بأخٍ سدس وللزوج نصف فتكملت الفريضة وردَّ قضاء شريح واستدركه»(2).

ص: 136


1- (1) المصدر نفسه: 290 .
2- (2) كشف الغمة: ابن أبي الفتح الإربلي: 1 / 129 .

سادسًا: الوصية.

جرت سنة الكون على أن لكل المخلوقات نهاية ولا بد من الفناء، فاللّه تعالى وحده الذي لا يفنى فكانت نهاية الإنسان في الدنيا الموت ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ﴾ [الرحمن/ 26 ]، وقد جاء الإسلام بتعاليم وآداب تختص بكتابة الوصية وتقسيم الإرث وما شاكلها من أحكام في هذا المجال إما عن طرق القرآن الكريم مجملًا أو عن طريق أهل البيت علیهم السلام مفصلًا.

فقد جاء عن الإمام علي علیه السلام بعض تفصيلات أحكام الوصية منها، قوله علیه السلام :

«إنَّ الجنف في الوصية من الكبائر»(1). فالجنف «الجور و هو الميل عن الحق»(2) في الوصية جاء في قوله تعالى:

(فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [البقرة/ 182]، فمن خاف من موص توقع وعلم جنفًا أو إثمًا ميلًا عن الحق بالخطأ أو التعمد يعني إذا اعتدى في الوصية، فأصلح بينهم (بين الورثة) والموصى لهم فلا إثم عليه في التبديل لأنَّه تبديل باطل إلى الحق إنَّ الله غفورٌ رحيم وعد للمصلح وذكر المغفرة لمطابقة ذكر الإثم(3)، بيَّن الكاشاني معنى هذه الآية معززًا ذلك بقول الإمام علي علیه السلام آنف الذكر.

إذ تقسم التركة بعد قضاء الديون وإقرار الوصية ولا خلاف في أنَّ الدَيْن مقدم على الوصية والميراث وإن أحاط بالمال، إذ روي عن الإمام علي علیه السلام في قوله تعالى:

ص: 137


1- (1) من لا يحضره الفقيه: الصدوق: 4 / 136 .
2- (2) زبدة البيان: المحقق الأردبيلي: 473 .
3- (3) ظ: التفسير الصافي: الكاشاني: 1 / 217 – 218 .

(مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ﴾ [النساء/ 11 ]، قال علیه السلام :

«إنَّكم لتقرأون في هذه، الوصية قبل الدَيْن وإن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله و سلم قضى بالدَيْن

قبل الوصية»(1)، فأمَّا الوصية فقد قيل إنَّها مقدمة على الميراث وقيل بل المُوصى له شريك الوارث له الثلث و لهم الثلثان، والوجه في تقديم الدَّيْن على الوصية في الآية إن لفظ (أو) إنَّما هو لأحد الشيئين أو الأشياء ولا يوجب الترتيب فكأنَّه قال من بعد أحد هذين مفردًا أو مضمومًا إلى الآخر(2).

سابعا: أحكام البيع.

عن الإمام الحسين علیه السلام خطبنا الإمام علي علیه السلام قال:

«سيأتي على الناس زمان عضوض يعض المؤمن على ما في يده ولم يؤمر بذلك، قال اللّه تعالى:

﴿وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ [البقرة/ 237 ]، وسيأتي زمان يقدم فيه الأشرار وينسى فيه الأخيار، ويبايع المضطر، وقد نهى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله و سلم عن بيع المضطر وعن بيع الغرر»(3).

وقال علیه السلام في قوله تعالى:

(لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [الأنفال/ 27 ] قال:

ص: 138


1- (1) وسائل الشيعة: الحر العاملي: 19 / 331 .
2- (2) ظ: تفسير مجمع البيان: الطبرسي: 3 / 25 .
3- (3) بحار الأنوار: المجلسي: 70 / 304 .

«من الخيانة الكذب في البيع والشراء»(1).

وعن الإمام علي علیه السلام، أنَّه قال:

«لا حبس على مفلس، قال اللّه عز وجل:

﴿وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ﴾ [البقرة/ 280 ]، والمعسر إذا ثبت عدمه لم يكن عليه حبس، وإن كان عليه دين من شيء وصل إليه، فالبينة عليه في دعوى العدم إن دفع ذلك خصمهُ،وإن كان في شيء لم يصل إليه كدين لزمه من جناية أو كفالة أو حوالة أو صداق امرأة أو ما أشبه ذلك، فالقول قوله مع يمينه ما لم يظهر له مال أو تقوم عليه بينة»(2).

ثامنًا: الإجارة.

عن الإمام علي علیه السلام في بيان معايش الخلق قال:

«وأمَّا وجه الإجارة فقوله عزَّ وجل: ﴿نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾ [الزخرف/ 32 ]، فأخبرنا سبحانه أنَّ الإجارة أحد معايش الخلق؛ إذ خالف بحكمته بين هممهم وإرادتهم وسائر حالاتهم، و جعل ذلك قواما لمعايش الخلق، وهو الرجل يستأجر الرجل في ضيعته وأعماله وأحكامه وتصرفاته وأملاكه، ولو كان الرجل منا يضطر إلى أن يكون بناء لنفسه أو نجارًا أو صانعًا في شيء من جميع أنواع الصنائع لنفسه ويتولى جميع ما يحتاج إليه من إصلاح الثياب وما يحتاج إليه من الملك فمن دونه ما استقامت أحوال العالم

ص: 139


1- (1) مسند الإمام علي: حسن القبنجي: 6 / 71 .
2- (2) مستدرك الوسائل: النوري: 13 / 367 .

بذلك، ولا اتسعوا له، ولعجزوا عنه ولكنه أتقن تدبيره لمخالفته بين هممهم، وكل ما يطلب مما تنصرف إليه همته مما يقوم به بعضهم لبعض، وليستغني بعضهم ببعض في أبواب المعايش التي بها صلاح أحوالهم»(1).

تاسعًا: التنمية والعمارة وأهدافها:

إنَّ الاسلام نظام حياة لا يدانيه أي نظام وضعي فقد كان هدفه الأول والأخير الإنسان وتحقيق الرفاهية والعدالة ورفع قيم الإنسانية إلى أكمل وجه فكان الفكر الإسلامي الذي انتزعت أسسه من النصَّ الإلهي الذي هو المصدر الأول بعد السُّنة المطهرة لذا كان هذا الفكر غزيرًا في عطائه أصيلًا في مضمونه عميقًا في نظرته فنشأت النَّظريات الاقتصادية والتنظيمية لحياة الإنسان ولو تهيأت الفرصة لتنفيذها لعاش الإنسان في عز وكرامة، ونجد مثل ذلك واضحًا في نهج البلاغة إذ يعد باكورة المؤلفات وأولى المصنفات الإسلامية التي عالجت مشكلة الفقر والتخلف، فقد رسم الإمام علي علیه السلام في نهجه المناهج الواضحة والشروط المحددة لتستقيم أمور الرعية و تتحقق عوامل التطور وتحقيق العدالة وفقا لما جاء بها القرآن الكريم، بما في ذلك مفهوم الدولة ودورها في تطبيق الأحكام ولولا الحروب والفتن التي واجهت حكمه أبان توليه الخلافة لكانت الفرصة واسعة لتطبيق نظراته الإنمائية العميقة لواقع الحياة بما يعد تفسيرًا عمليًا للقرآن الكريم؛ لذا تعد التنمية والعمارة من أهم ما تناوله الإمام علیه السلام في كلامه في نهج البلاغة من جهة المفهوم والأهداف والوسائل وكيفية تطبيقها ودور الدولة في ذلك وغيرها بما يصنع صورة كاملة وعادلة ينعم بها الإنسان في ظل الدولة

ص: 140


1- (1) وسائل الشيعة: العاملي: 19 / 103 – 104 .

الإسلامية وطبقا لما جاء في الذكر الحكيم ففي قوله تعالى:

(هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ﴾ [هود/ 61 ]، أي جعلكم قادرين على عمارة الأرض، ومكنكم من عمارتها(1)، (والحاجة إلى سكناها)(2)، وهي إشارة إلى أنَّ الوسائل معدَّة فيها لكل شيء و عليكم إعمارها بالعمل والسعي المتواصل والسيطرة على مصادر الخيرات فيها، ومن دون ذلك لاحظَّ لكم في الحياة الكريمة، إذ أنَّه ينبغي من أجل الإعمار أن يعطى المجال لأُمّة معينة في العمل، و تجعل الأسباب والوسائل اللازمة تحت تصرفها وفي اختيارها، قال تعالى:

(وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ﴾ [هود/ 61 ]، فكما أنَّ اللّه سبحانه ربَّ البقاع والبهائم ومدبِّرها ; فإنَّ الخليفة مسؤول عنها ومسؤول عن العناية بها أيضًا كما قال الإمام عليّ علیه السلام:

«فإنَّكم مسؤولون حتَّى عن البقاع والبهائم»(3)، ومثله ورد في الروايات التي تؤكد هذا المعنى إذ قال الإمام علي علیه السلام :

«مَنْ أَحْيا أرْضًا مِنَ المؤمنين فَهيَ لَهُ، وَعَلَيْهِ طَسْقُها(4) يؤدِّيهِ إلى الإمام في حَالِ الهدْنَةِ(5)، فَإِذَا ظَهَرَ القَائِمُ عليه السلام فَلْيوطِّن نَفْسَهُ علَی أنْ تُؤخَذَ

ص: 141


1- (1) (الإعمار: يعني تفويض عمارة الأرض لأي كان، مفردات غريب القرآن: الأصفهاني: 347 ، وطبيعي أنّ لازم ذلك يجعل الوسائل والأسباب في اختيار من يفوّض إليه ذلك تحت تصرفه، الأمثل: الشيرازي: 6 / 583 ).
2- (2) التبيان: الطوسي: 6 / 12 .
3- (3) نهج البلاغة: 2 / 80 .
4- (4) (الطسق: خراج الأرض، فارسي معرَّب)، صحاح اللغة: الجوهري: 4 / 1517 .
5- (5) (الُهدْنة: الصُّلْحُ والسُّكُون)، المحيط في اللغة: الصاحب بن عباد: 1 / 299 .

مِنْهُ »(1)، وعنه علیه السلام أنَّه قال:

«إنَّ معايش الخلق خمسة: الإمارةُ، والعمارةُ، والتِّجارةُ، والإجارةُ، والصّدقاتُ.. إلى أن قال: وأمَّا وجه العمارة فقوله تعالى:

(هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾ فأعلمنا سبحانه أنّه قد أمرهم بالعمارة، ليكون ذلك سببًا لمعايشهم بما يخرج من الأرض من الحب والثمرات وما شاكل مما جعله اللّه معايش للخلق»(2).

ولكن بشرط أن يكون الكسب من حلال والإعمار في الخير ومصالح العباد، فعن الإمام علي علیه السلام أنَّه قال:

«من توفيق المرء اكتسابه المال من حله »(3)، وكذلك نجده علیه السلام أكد على ضرورة الكسب الحلال، في نهج البلاغة: ومن كلامه علیه السلام فيما رده على المسلمين من قطائع عثمان:

«واللّه لو وجدته قد تزوج به النساء وملك به الإماء، لرددته على مستحقيه فإنَّ في العدل سعة، ومن ضاق عليه العدل فالجور عليه أضيق »(4)، وكذلك جاء المعنى نفسه الذي أكدته الآية الكريمة في مقدمة عهده لمالك الأشتر حين ولاه مصر «جباية خراجها وجهاد عدوها واستصلاح أهلها وعمارة بلادها»(5) ، إذ بيَّن وظائف الولاة ومنها عمارة البلاد وتحقيق سبل الرفاهية والتمتع بأعلى

ص: 142


1- (1) موسوعة أحاديث الإمام علي علیه السلام: اللجنة العليا للتحقيق في مؤسسة نهج البلاغة: 1 / 310 .
2- (2) وسائل الشيعة: العاملي: 13 / 195 .
3- (3) غرر الحكم ودرر الكلم: الآمدي: 354 ، مستدرك الوسائل: الميرزا النوري: 13 / 66 .
4- (4) مستدرك الوسائل: 31 / 47 .
5- (5) نهج البلاغة: 3 / 83 .

مستويات السكن والملبس والأكل وسائر أنواع الطيبات مع الالتزام بالتقوى،قال تعالى:

(يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ)[الأعراف/ 31 ].

كذلك ما جاء في كتابه علیه السلام إلى محمد بن أبي بكر إذ أمره بذلك وأوضح ما جاء عنه علیه السلام من بيان لإعمار الأرض هو قوله علیه السلام :g

«واعلموا يا عباد اللّه أن المتقين جازوا عاجل الخير وآجله، أباحهم اللّه في الدنيا ما كفاهم به وأغناهم، قال اللّه عز وجل:

(قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ [الأعراف/ 32 ]، سكنوا الدنيا بأفضل ما سكنت، وأكلوها بأفضل ما أكلت، شاركوا أهل الدنيا في دنياهم ولم يشاركهم أهل الدنيا في آخرتهم فأكلوا معهم من طيبات ما يأكلون وشربوا من طيبات ما يشربون، ولبسوا من أفضل ما يلبسون

وسكنوا من أفضل ما يسكنون، وتزوجوا من أفضل ما يتزوجون، وركبوا من أفضل ما يركبون، وأصابوا لذة الدنيا مع أهل الدنيا وهم غدًا جيران اللّه تعالى، يتمنون عليه فيعطيهم ما يتمنون لا ترد لهم دعوة، ولا ينقص لهم نصيب من اللذة، فإلى هذا يا عباد اللّه يشتاق إليه من كان له عقل »(1)، وهو أن الدين مبني على الفطرة والخلقة، وأن ما يدعو إليه الدين هو الطيب من الحياة، وما ينهى عنه هو الخبيث، وأنَّ اللّه لم يحل إلَّا الطيبات ولم يحرم إلَّا الخبائث، وهذا الأمر أيضًا بينته الروايات الصادرة عن الأئمة، فعن الإمام الصادق علیه السلام قال:

ص: 143


1- (1) تفسير نور الثقلين: الحويزي: 2 / 24 .

«إنَّ اللّه يحب الجمال والتجمل، ويكره البؤس والتباؤس، فإنَّ اللّه إذا أنعم على عبد نعمة أحب أن يرى عليه أثرها، قيل: كيف ذلك؟ قال: ينظف ثوبه، ويطيب ريحه، ويجصص داره، ويكنس أفنيته، حتى أن السراج قبل مغيب الشمس ينفي الفقر ويزيد في الرزق»(1)، وهذا يتضمن في بعضه إعمارًا.

وعن أبي عبد اللّه علیه السلام قال: بعث الإمام علي علیه السلام عبد اللّه بن عباس إلى الخوارج،

وعليه قميص رقيق وحلة، فلما نظروا إليه قالوا: يا بن عباس، أنت خيرنا في أنفسنا، وأنت تلبس هذا اللباس ؟! فقال: وهذا أول ما أخاصمكم فيه:

(قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ﴾، وقال اللّه عز وجل:

﴿خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ﴾ فعن الإمام جعفر بن محمد علیه السلام أنَّه قال:

«أنَّ أمير المؤمنين عليًا علیه السلام لما بعث ابن عباس إلى الخوارج، لبس أفضل ثيابه،وتطيب بأفضل طيبه، وركب أفضل مراكبه، ثم خرج إليهم فوافاهم، فقالوا: يا بن عباس بينا أنت خير الناس، إذ أتيتنا في لباس الجبارين ومراكبهم ! فتلا عليهم:

﴿قُلْ مَن حَرّمَ...﴾ الآية»(2).

عاشرًا: إقرار الأمن والنظام:

يعطي الإمام علي علیه السلام أهمية كبرى للأمن والنظام، فهما قوام الحكم وأمل الرعية وهما ضروريان لتحقيق العمارة والتنمية إذ يقول علیه السلام :

ص: 144


1- (1) وسائل الشيعة: العاملي: 5 / 7.
2- (2) مستدرك الوسائل: النوري: 3 / 239 .

«ولا يكوننَّ المحسن والمسيء عندك بمنزلة سواء فإنَّ في ذلك تزهيدًا لأهل الإحسان في الإحسان وتدريبًا لأهل الإساءة على الإساءة وألزم كلًّا منهم ما ألزم نفسه»(1)، فكان الإمام علیه السلام يهدف إلى تحقيق الأمن داخل المجتمع وعُدَّ أن حفظة الأمن هم الحصون التي يتحصن بها المجتمع بقوله علیه السلام:

«فالجنود بإذن اللّه حصون الرَّعية وزين الولاة وعزُّ الدِّين وسبل الأمن وليس تقوم الرَّعية إلَّا بهم»(2)، فإقامة النظام يتمثل بإقامة العدل والمساواة وضروري لحفظ الحياة واستمرار البقاء والإطعام من جوع:

(الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ﴾ [قريش/ 4]، فيعد قيام مجتمع على مستوى عال من الإشباع المادي ومن ثم تأمين حاجات الفرد الاجتماعية والروحية والاقتصادية وعلى الدولة القيام بذلك، ففي الزراعة نجد أن الرسول صلی الله علیه و آله و سلم أعطى عناية لهذه الحرفة لما لها الأثر على الاستقرار والأمن إذ روي عن النبي الأكرم صلی اللّه علیه و آله و سلم :

«من زرع زرعًا فأكل منه الطير أو العافية(3) كان له به صدقة»(4).

ص: 145


1- (1) نهج البلاغة: 3 / 88 .
2- (2) المصدر نفسه: 3 / 90 .
3- (3) العافیة: کل طالب رزق من إنسان أو بهیمة أو طائر (النهایة: 3 / 266).
4- (4) مسند أحمد: أحمد بن حنبل: 27 / 93 .

ص: 146

المبحث الثالث : كلام الإمام علي علیه السلام في الجنايات

أولًا: الحدود

أ: حكم السحر وحده.

(الحد الحاجز بين الشيئين الذي يمنع اختلاط أحدهما بالآخر، يقال حددت كذا جعلت له حدًا يميز وحد الدار ما تتميز به عن غيرها وحد الشيء الوصف المحيط بمعناه المميز له عن غيره، وحد الزنا والخمر سمي به لكونه مانعًا لمتعاطيه عن معاودة مثله ومانعًا لغيره أن يسلك مسلكه، قال اللّه تعالى:

﴿وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ﴾ [الطلاق: 1]، وقال تعالى:

﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا﴾ [البقرة: 229 ]، وقال:

(الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ)[التوبة: 97 ]، أي أحكامه وقيل حقائق معانيه وجميع حدود اللّه على أربعة أوجه:

إما شيء لا يجوز أن يتعدى بالزيادة عليه و لا القصور عنه كأعداد ركعات صلاة الفرض، وإما شيء تجوز الزيادة عليه و ا يجوز النقصان عنه، وإما شيء يجوز

ص: 147

النقصان عنه ولا تجوز الزيادة عليه)(1).

عن الإمام علي علیه السلام أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله و سلم قال:

«ساحر المسلمين يقتل ولا يقتل ساحر الكفار قيل يا رسول اللّه ولم ذلك؟قال: لأن الشرك والسحر مقرونان والذي فيه من الشرك أعظم، قال علي علیه السلام :

فإذا شهد رجلان عدلان على رجل من المسلمين أنه سَحرَ قُتلِ لأنه كَفرَ والسحر كُفْرٌ وقد ذكره اللّه عز وجل في كتابه فقال جل ذكره:

﴿وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ﴾ [البقرة/ 102 ]، فأخبر جل ذكره أن السحر كفر فمن سحر كفر فيقتل ساحر المسلمين لأنَّه كَفرَ وساحر المشركين لا يقتل لأنه كافرٌ بعد، كما جاء عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله و سلم قال علي علیه السلام وهذا شاهد من القرآن»(2).

ب: حد الزنا

عن الإمام علي علیه السلام في إقامة الحدود:

(الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [النور/ 2] قال:

«فإنَّ الإيمان يقتضي الجد في طاعة اللّه والاجتهاد في إقامة أحكامه»(3).

ص: 148


1- (1) مفردات غريب القرآن: الأصفهاني: 109 .
2- (2) دعائم الإسلام: النعمان: 2 / 482 .
3- (3) التفسير الصافي: الكاشاني: 4 / 428 .

وروي عنه علیه السلام: «أنَّه قضى في المحصن والمحصنة إذا زنيَا، بالرجم على كل واحد منهما، وقال الإمام علیه السلام :

إذا زنى المحصن والمحصنة، جلد كل واحد منهما مائة جلدة، ثم رجم وعنه علیه السلام: أنَّه سئل عن حد الزانيين البكرين، فقال علیه السلام :

جلد مائة، لقول اللّه عز وجل:

﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ﴾ [النور/2]»(1).

وقال الإمام علیه السلام في قول اللّه عز وجل:

﴿وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [النور/ 2]، قال علیه السلام :

«الطائفة واحد »(2)، وقال علیه السلام في معنى الطَّائفة أيضًا:

«الطائفة من واحد إلى عشرة، وقال علیه السلام في قول اللّه تعالى:

(لَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ﴾ [النور/ 2]، قال: إقامة الحدود إن وجد الزاني عريانًا ضُرب عريانًا وإن وجد وعليه ثياب ضُرب وعليه ثيابه ويجلد أشدَّ الجلد ويضرب الرَّجل قائمًا والمرأةُ قاعدة... كأشدِّ ما يكون من الضرب»(3).

أما حكم المرأة لو كانت حاملًا وزنت فتُنتظر حتى تلد، فقد أُتي عمر بامرأة حامل قد زنت فأمر برجمها فقال له الإمام علي علیه السلام :

«هبْ لك سبيل عليها فهل لك سبيل على ما في بطنها؟ واللّه تعالى يقول:

(وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾ [الأنعام/ 164]، قال: فما أصنع بها؟ قال علیه السلام :

ص: 149


1- (1) مستدرك الوسائل: النوري: 18 / 25 .
2- (2) وسائل الشيعة: العاملي: 28 / 93 .
3- (3) دعائم الإسلام: النعمان: 2 / 452 .

احتَطْ عليها حتى تلد، فإذا وَلدت ووجد لولدها من يكفله فأقم الحدَّ عليها، فلمَّ ولدت ماتت، فقال عمر: لولا علي لهلك عمر»(1).

ج: حدُّ شارب الخمر.

أُتي برجلٍ وقد شرب الخمر وقامت عليه البيِّنة، «فسُئل علي علیه السلام فأمر أن يجلده ثمانين، فقال الرجل: يا أمير المؤمنين ليس عليَّ حدٌّ، أنا من أهل هذه الآية:

﴿لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا﴾ [المائدة/ 93]، فقال علي علیه السلام: لستَ من أهلها؛ إنَّ طعام أهلها لهم حلال ليس يأكلون ولا يشربون إلَّا ما أحلَّه اللّه لهم، ثمَّ علیه السلام: إنَّ الشارب إذا شرب لم يدرِ ما يأكل ولا ما يشرب، فاجلدوه ثمانين جلدة»(2).

وروي أنَّه لمَّا حدَّ الإمام علي علیه السلام النجاشي غضب لذلك من كان مع علي من اليمانية، وكان أخصَّهم به طارق بن عبد اللّه بن كعب بن اُسامة النهدي، فدخل على الإمام علي علیه السلام فقال: يا أمير المؤمنين ! ما كناَّ نرى أنَّ أهل المعصية والطاعة، وأهل الفرقة والجماعة، عند ولاة العدل ومعادن الفضل سِيَّان في الجزاء، حتى رأيت ما كان من صنيعك بأخي الحارث، فأوغرتَ صدورنا، وشتَّتَّ اُمورنا، وحملتَنا على الجادَّة التي كناَّ نرى أنَّ سبيل من ركبها النار، فقال علي علیه السلام :

(إِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ﴾ [البقرة/ 45 ]، يا أخا بني نهدٍ، وهل هو إلَّا رجل من المسلمين انتهك حرمة من حُرَم اللّه، فأقمنا عليه حدّاً كان كفّارته ! إنَّ اللّه تعالى يقول:

ص: 150


1- (1) وسائل الشيعة: العاملي: 28 / 108 .
2- (2) بحار الأنوار: المجلسي: 76 / 156 .

(وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى)[المائدة/8]»(1).

د: حد السرقة.

الآية الكريمة التي بينت حد السارق بصورة مجملة قوله تعالى:

(وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا﴾ [المائدة/ 38 ]، معنى السَّرقة: أخذَ مال الغير في خفية ومقدارها الذي يستوجب الحد هو ربع دينار(2)، أمَّا مقدار القطع الذي ينفذ فيه الحدُّ قال الإمام علي علیه السلام أنَّه:

«كان إذا قطع السارق ترك له الإبهام والراحة فقيل له يا أمير المؤمنين تركت عامة يده فقال علیه السلام: فإن تاب فبأي شيء يتوضأ»(3)، لأن اللّه تعالى يقول:

(وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ » [المائدة/ 38 - 39 ].

أما حكم السَّرقة إذا اشترك فيها أكثر من واحد فقد قال الإمام علیه السلام :

«إذا اشترك النفر في السرقة قطعوا جميعًا»(4).

ص: 151


1- (1) موسوعة الإمام علي بن أبي طالب علیه السلام في الكتاب والسنة والتاريخ: محمد الريشهري: 1 / 131 .
2- (2) ظ: التفسير الصافي: الكاشاني: 2 / 34 .
3- (3) بحار الأنوار: المجلسي: 76 / 189 .
4- (4) دعائم الإسلام: النعمان: 2 / 476 .
ه-: حدُّ المرتدِّ.

الارتداد: أي الرُّجوع، وإنَّما يقع اسم المرتد على من خرج من شيء ثمَّ رجع إليه، وهذا كالمشرك يكون على دينه ثمَّ يسلم ثمَّ يرتد إلى الدِّين الذي كان عليه وهو الذي يُستتاب، «كان الإمام علي علیه السلام لا يزيد المرتد على تركه ثلاثة أيام يَستتيِبه فإذا كان اليوم الرابع قتله من غير أن يُستتاب »(1). ثمَّ يقرأ علیه السلام :

﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ﴾ [النساء/ 137 ].

ثانيًا: القصاص.

القصاص بالكسر هو اتباع أثر الجاني ومعاقبته بمثل فعله، فيُقتل كما قَتلَ ويُجرح كما جَرحَ وكذا في الضرب أو القطع(2).

عن الإمام علي علیه السلام قال في حديث:

«وأمَّا الرخصة التي صاحبها فيها بالخيار، فإنَّ اللّه تعالى رخص أن يعاقب العبد على ظلمه، فقال اللّه تعالى:

(وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ) [الشورى/ 40 ]، وهذا هو فيه بالخيار، فإن شاء عفا، وإن شاء عاقب»(3).

ص: 152


1- (1) دعائم الإسلام: النعمان: 2 / 480 .
2- (2) ظ: رياض المسائل: السيد علي الطباطبائي: 14 / 35 .
3- (3) وسائل الشيعة: العاملي: 27 / 373 – 374 .

عن الإمام علي علیه السلام في حديث قال:

«ومن الناسخ ما كان مثبتا في التوراة من الفرائض في القصاص، وهو قوله تعالى:

(وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ﴾ [المائدة/ 45 ]، فكان الذكر والأنثى والحرُّ والعبد شرعًا، فنسخ اللّه تعالى ما في التوراة بقوله:

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى﴾ [البقرة/ 178 ]، فنسخت هذه الآية:

(وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ﴾»(1).

ثالثًا: الدِّيَّات.

(الدية هي: المال المفروض في الجناية على النفس أو الطرف أو الجرح أو نحو ذلك)(2).

عن الإمام علي علیه السلام قال:

«جعل ديَّة الجنين مئة دينار، وجعل مني الرَّجل إلى أن يكون جنينًا خمسة أجزاء، فإذا كان جنينًا قبل أن تلِجَها الرُّوح مئة دينار، وذلك أنَّ اللّه عزَّ وجل خلق الإنسان من سلالة وهي النُّطفة، فهذا جزء ثمَّ علقة فهو جزآن، ثمَّ مضغة ثلاثة أجزاء، ثمَّ عظمًا فهو أربعة أجزاء، ثمَّ يكسى لحمًا فحينئذ تمَّ جنينًا فكملت

ص: 153


1- (1) المصدر نفسه: 29 / 86 .
2- (2) مباني تكملة المنهاج: السيد الخوئي: 2 / 186 .

له خمسة أجزائه مئة دينار، والمئة دينار خمسة أجزاء، فجعل للنطفة خمس المئة عشرين دينارًا، وللعلقة خمسي المئة أربعين دينارًا، وللمضغة ثلاثة أخماس المئة ستين دينارًا، وللعظم أربعة أخماس المئة ثمانين دينارًا، فإذا كسى الَّلحم كانت له مئة كاملة، فإذا نشأ فيه خلق آخر وهو الرُّوح فهو حينئذ نفس ألف دينار كاملة إذا كان ذكرًا وإن كان أنثى فخمس مئة دينار»(1)، بيَّن الإمام دية الجنين على

وفق مراحل تكوين الجنين متسلسلة وفقا لما ورد ذكره في القرآن الكريم في الآية الكريمة:

﴿ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾ [المؤمنون/ 14 ].

رابعًا: الشَّهادة.

الشهادة بمعنى الحضور لمشاهدة ما يعقد بين طرفين أو أكثر كما في الدَيْن وغيره، فقد حدد القرآن الكريم للشهداء عددًا من الرجال والنساء، جاء في بيان ذلك قول الإمام علي علیه السلام في قوله تعالى:

(فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ﴾ [البقرة/ 282 ]، قال:

«عدلت امرأتان في الشهادة برجل واحد، فإذا كان رجلان، أو رجل وامرأتان أقاموا الشهادة، قُضي بشهادتهم»(2).

وفي قوله تعالى:

(أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى﴾ [البقرة/ 282 ] قال علیه السلام :

ص: 154


1- (1) تفسير نور الثقلين: 6 / 78 .
2- (2) وسائل الشيعة: العاملي: 27 / 272 .

«إذا ضلّت إحداهما عن الشهادة فنسيتها، ذكرت أحداهما الأخرى بها فاستقاما في أداء الشهادة عند اللّه شهادة امرأتين بشهادة رجل لنقصان عقولهن ودينهن، ثم قال: معاشر النساء، خلقتن ناقصات العقول، فاحترزن من الغلط في الشهادات، فإنَّ اللّه يعظم ثواب المتحفظين والمتحفظات في الشهادة، ولقد سمعت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله و سلم يقول: ما من امرأتين احترزتا في الشهادة، فذكرتْ إحداهما الأخرى حتى تقيما الحق وتنفيا الباطل إلا وإذا بعثهما اللّه يوم القيامة

عظم ثوابهما»(1).

(وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا﴾ [البقرة/ 282 ]، قال الإمام علي علیه السلام في هذه الآية:

«أي من كان في عنقه شهادة فلا يأب إذا دُعي لإقامتها وليقمها ولينصح فيها ولا يأخذه فيها لومة لائم، وليأمر بالمعروف، ولينهَ عن المنكر، وفي خبر آخر (وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا﴾ قال: نزلت فيمن إذا دعي لسماع الشهادة أبى، ونزلت فيمن امتنع عن أداء الشهادة إذا كانت عنده ﴿وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ﴾ [البقرة/ 283]، يعني كافرٌ قلبه»(2).

وفي قوله تعالى:

﴿مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ﴾ [البقرة/ 282]، قال علیه السلام :

«ممن ترضون دينه وأمانته وصلاحه وعفته وتيقظه فيما يشهد به وتحصيله وتمييزه، فما كل صالح مميزا، ولا محصلا، ولا كل محصل مميز صالح»(3).

ص: 155


1- (1) وسائل الشيعة: العاملي: 335 .
2- (2) بحار الأنوار: المجلسي: 101 / 313 .
3- (3) وسائل الشيعة: العاملي: 27 / 399 .

مما تقدم في هذا الفصل يتبيَّن أن الإمام علیه السلام بيَّن نكتًا فقهية دقيقة، قد يغفل عنها الكثيرون، إذ كان الإمام علیه السلام يقف على صغائر المسائل مستلهمًا لها المعاني والحلول من القرآن الكريم.

إذ لم يقتصر تفسير الآية الواحدة على معنى واحد، بل نجد أن الإمام علیه السلام قد استعمل الآية الواحدة في أكثر من موضع.

ص: 156

الفصل الثالث : توظيفات عامّة

اشارة

ص: 157

ص: 158

المبحث الأوَّل : مضامين تفسيرية للألفاظ من الخطب والأدعية

اشارة

تناول البحث في الفصلين الأول والثاني عددًا من روايات الإمام علي علیه السلام وأحاديثه، موضِّحا فيها معنى آية من القرآن الكريم، أو مستدلًا على كلامه بآية وما أشبه، مماَّ يُعَدُّ فَهمًا صريحًا للقرآن الكريم لكونه مباشرًا، أما في هذا ش الفصل فسأتناول ما تضمَّن من كلامه علیه السلام فَهْمًا أو تفسيرًا وبيانًا لآياتٍ من القرآن الكريم، فبعد قراءتي لكثيرٍ من أدعية الإمام علیه السلام ألفيتُ كلام الإمام

ممزوجًا بالقرآن الكريم ومستمدًا منه، كأنَّه علیه السلام أعادَ صياغة القرآن الكريم بلفظٍ آخر. فقد اخترتُ عددًا من الألفاظ القرآنية الكريمة التي استعملها الإمام علیه السلام في كلامه وقد رتبتُ هذه الألفاظ وفقًا لكثرة ورودها في القرآن الكريم فقدمت الأكثر ورودًا على أقلها ورودًا.

القنوط واليأس:

جاء هذان اللفظان في أحد أدعية الإمام علي علیه السلام يدعو به في يوم الفطر:

«والحمدُ للّه لا مقنوطًا من رحمتِهِ، ولا مخلوًّا من نعمتِهِ ولا مؤيسًا من

ص: 159

رَوْحِهِ»(1). يلحظ هنا أن الإمام استعمل لفظين قرآنين هما: القنوط واليأس،وقد وردت لفظة القنوط ومشتقاتها ستَ مرات في القرآن الكريم، ولفظة اليأس ومشتقاتها إحدى عشرة مرة(2).

ومعنى القنوط في اللغة: الإياس(3)، «وهو اليَأْسُ من الخَيْرِ »(4)، وهو من«(قنط) القاف والنون والطاء كلمةٌ صحيحة تدلُّ على اليأس من الشَّيء، يقال: قَنطَ يَقْنطِ، وقَنِطَ يقْنطَ، قال اللّه تعالى:

﴿قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ﴾ [الحجر/56]»(5)، وقال ابن منظور القنوط: «أشدُّ اليأسِ من الشيء »(6)، وقنط قنوطًا: يئس أشدّ اليأس، وفي التنزيل العزيز:

﴿وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا﴾ [الشورى / 28 ] فهو قانطٌ وقَنوط (قنط) قنوطًا وقناطة يئس، وفي التنزيل العزيز:

﴿لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ) [الزمر/ 53](7).

ص: 160


1- (1) الصحيفة العلوية: محمد باقر الموحد: 287 .
2- (2) وردت لفظة القنوط ومشتقاتها في سورة (الروم/ 36 ، الزمر/ 53 ، الشورى/ 28 ، الحجر/ 55 - 56 ، فصلت/ 49 )، ولفظة اليأس في سورة (يوسف / 80 ، 87 ، 110 ، المائدة/ 3، هود/ 9، الإسراء/ 83 ، العنكبوت/ 23 ، فصلت/ 49 ، الممتحنة/ 13 ، الطلاق/ 4).
3- (3) ظ: العين: الفراهيدي: 5/ 105 مادة (قنط).
4- (4) المحيط في اللغة: الصاحب بن عباد: 1 / 457 .
5- (5) معجم مقاييس اللغة: ابن فارس، 5 / 26 مادة (قنط).
6- (6) لسان العرب: ابن منظور: 7 / 386 مادة (قنط).
7- (7) المعجم الوسيط: إبراهيم مصطفى، وأحمد الزيات، وحامد عبد القادر، ومحمد النجار: 2 / 441 مادة (قنط).

ومعنى اليأس لغةً: «نقيض الرجاء»(1)، و «اليَأْس القُنوط»(2)، وقيل إنَّ «الياء والهمزة والسين كلمتان: إحداهما اليأس: قَطْعُ الرَّجاء، ويقال إنَّه ليستياء في صَدرِ كلمةٍ بعدها همزة إلا هذه، والكلمة الأخرى: ألم تَيْأَس، أي ألم تَعْلَم، وقالوا في قوله تعالى:

(أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [الرعد/ 31 ] أي أفلم يَعلَمْ»(3)، و «كلُّ يأس في القرآن فهو قنوط إلا التي في الرعد فإنَّا وردت بمعنى العلم:

(أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا)[الرعد/31](4).

و «الفرق بين القنوط واليأس: اليأس: انقطاع الطمع من الشيء، والقنوط: أخص منه، فهو أشد اليأس، ويدل عليه قول سيد الساجدين في دعاء الصحيفة السجادية الشريفة: «تفعل ذلك يا إلهي بمن خوفه منك أكثر من طمعه فيك، وبمن يأسه من النجَّاة أوكَدُ من رجائه للخلاص لا أن يكون يأسُه قنوطًا»(5)، وقال الراغب: «القنوط: اليأس من الخير»(6)، فهو أخصُّ من مطلق اليأس،

ويدل عليه قوله تعالى:

ص: 161


1- (1) العين: الفراهيدي: 7/ 331 مادة (أيس).
2- (2) لسان العرب: 6 / 259 مادة (يأس).
3- (3) معجم مقاييس اللغة: ابن فارس: 6 / 153 مادة (يأس).
4- (4) كتاب الكليات: أبو البقاء الكفوي: 1 / 1562 .
5- (5) الصحيفة السجادية: الأبطحي: 190 .
6- (6) مفردات غريب القرآن: الأصفهاني: 413 .

﴿لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ﴾ [الزمر/ 53 ](1)، استدل أبو هلال العسكري بكلام الإمام السجاد علیه السلام في كون القنوط أخص من اليأس، وأشد اليأس، وهذاخير برهان على أحقيَّة كلام أهل البيت علیهم السلام بجعله مصدرًا يُرجَع إليه سواء في اللغة أم التفسير، فهُم أهل اللغة وعدل القرآن الكريم.

وجاءت إحدى مشتقات الأصل (قنط) في قوله تعالى:

(قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ * قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ﴾ [الحجر/ 55 - 56 ]، فمعنى القانطين، أي الآيسين أو اليائسين، وهو خطاب موجه إلى نبي اللّه إبراهيم علیه السلام فأجابهم عند ذلك بأن قال:

﴿وَمَنْ﴾ الذي ﴿يَقْنَطُ﴾ أي ييأس ﴿مِنْ رَحْمَةِ﴾ اللّه وحسن إنعامه(2).

وجاء في تفسير (يقنطون) في قوله تعالى:

(وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ﴾ [الروم/36]،«أي ييأسون من رحمة اللّه، والقنوط اليأس من الفرج»(3). ومن ذلك أنَّ تفسير ﴿إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ﴾ أي ييأسون من الرَّحمة والفرج(4).

ومعنى القنوط في بقية الآيات كان بمعنى اليأس أيضًا قال تعالى:

(قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ)[الزمر/ 53 ]، وقوله تعالى:

ص: 162


1- (1) الفروق اللغوية: أبو هلال العسكري: 1 / 436 .
2- (2) ظ: التبيان: الطوسي: 6 / 343 .
3- (3) التبيان: الطوسي: 8 / 253 .
4- (4) تفسير القرطبي: 14 / 33 .

(وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ)[الشورى/ 28 ]، كلا اللفظين (تقنطوا، قنطوا) قد جاءا بمعنى اليأس(1).

وقد ورد لفظ القنوط تابعًا للفظ اليأس في قوله تعالى:

(لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ) [فصلت/ 49]، ففي هذه الآية يقول الطوسي «أي يقنط من رحمة اللّه وييأس من روحه»(2)، إلَّا أنَّ العلَّامة الطباطبائي يرى أنَّهما بمعنى واحد وأن التكرار للتأكيد، إذ يقول: «واليأس والقنوط بمعنى وهو انقطاع الرجاء، والدعاء الطلب»(3).

وذهب الطبرسي إلى أنَّ لكلٍّ منهما معنىً، ﴿يَؤُوسٌ﴾ تعني شديد اليأس من الخير، وأمَّا ﴿قنَوُطٌ﴾ فتعني اليأس من الرحمة(4)، أمَّا الرَّازي فيرى أنَّ اليأس من صفة القلب، وأمَّا القنوط فهو أن تظهر علامات اليأس وآثاره في الوجه والحال(5).

ويبدو أنَّ من ذهب إلى وجود اختلاف – وإن كان بسيطًا – بين اللفظتين هو الأرجح، إذ ليس من المعقول أن ترد في القرآن الكريم لفظتان مختلفتان تحملان المعنى نفسه، فبعد الرجوع إلى أصل اللفظتين في اللغة–كما فصَّلتُ–تبيَّن أنَّ القنوط أعلى درجة اليأس، ومماَّ يدلُّ على أن اللفظتين ليستا بمعنىً واحد، لأن

ص: 163


1- (1) ظ: التبيان: الطوسي: 9 / 36 ، ظ: تفسير القمي: القمي: 2 / 276 .
2- (2) التبيان: الطوسي: 9 / 132 .
3- (3) تفسير الميزان: الطباطبائي: 17 / 206 .
4- (4) ظ: تفسير مجمع البيان: الطبرسي: 9 / 32 .
5- (5) ظ: التفسير الكبير: الفخر الرازي: 27 / 137 ، ظ: روح المعاني: الآلوسي: 25 / 4.

الإمام جمع بينهما في جملةٍ واحدة في قوله علیه السلام :

«إلهي لم أسلِّط على حسن ظني بك قنوط الآيسين»(1)، وقوله:

«إلهي لم أسلِّط على حسن ظني قنوط الأياس»(2) وفقًا لما جاء في القرآن الكريم في الآية الكريمة:

(لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ)[فصلت/ 49].

مما يبدو للنظر أنَّ معنى اليأس مختلف عن معنى القنوط إذ لو كان اللفظان بالمعنى نفسه فلِمَ جُمِعا في الجملة نفسها.

2- معنى الوسيلة:

قال الإمام علي علیه السلام في دعاء الأمان:

«إلهي وسيِّدي دللتني على سؤال الجنة وعرَّفتني فيها الوسيلة إليك وأنا أتوسَّل إليك بتلك الوسيلة محمد وآله صلَّی اللّه عليهم أجمعين»(3)، وردت لفظة الوسيلة في القرآن الكريم في موضعين: الأول في سورة المائدة، والآخر في سورة الإسراء.

جاء في أصل اللغة «وسل: وسلت إلى ربي وسيلة، أي: عملت عملًا أتقرُّب به إليه»(4)، و «الوَسيلَةُ: ما يُتقرَّب به إلى الغير، والجمع الوَسيلُ والوَسائِلُ،

ص: 164


1- (1) الصحيفة العلوية: محمد باقر الموحد الأبطحي: 59 .
2- (2) المصدر نفسه: 283 .
3- (3) الصحيفة العلوية: الأبطحي: 72 – 73 .
4- (4) العين: 7 / 298 ، (وسل).

والتوسيل والتَوَسُّلُ واحد، يقال: وَسَّلَ فلانٌ إلى ربّه وَسيلَةً، وتوَسَّلَ إليه بوَسيلَةٍ، أي تقرَّب إليه بعمل»(1).

وجاءت الوَسِيلةُ بمعنى المَنْزِلة عند المَلِك، والوَسِيلة الدَّرَجة، والوَسِيلة القُرْبة، ووَسَّل فلانٌ إلِى اللّه وسِيلةً إذِا عَمِل عملاً تقرَّب به إلِيه، وتوَسَّل إلِيه بوَسيلةٍ إِذ تقرَّب إِليه بعَمَل، والوَسِيلةُ الوُصْلة والقُرْبى وجمعها الوسائل، قال اللّه تعالى:

(أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ﴾ [الإسراء/ 57]، وفي حديث الأذَان «اللهمَّ آتِ محمدًا الوَسِيلَة»(2)، هي في الَأصل ما يُتَوَصَّل به إلِى الشيء ويُتَقَرَّب به، والمراد به في الحديث القُرْبُ من اللّه تعالى، وقيل هي الشفاعةُ يوم القيامة، وقيل هي منزلة من مَنازِل الجنة كما جاء في الحديث(3).

فلفظة الوسيلة إذن تطلق في اللغة على كل شيء يؤدي إلِى التقرب.

أمَّا الموضع الأوَّل الذي وردت فيه الوسيلة في القرآن الكريم فهو قوله تعالى:

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [المائدة/ 35 ]، جاء في تفسير القمِّي مبيِّناً قوله تعالى:

﴿وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ﴾ أي «تقربوا إليه بالإمام»(4)، وذهب الطبرسي في معناها أي اطلبوا إليه القربة بالطاعات، فكأنه قال تقرَّبوا إليه بما يرضيه من

ص: 165


1- (1) الصحاح في اللغة: الجوهري: 5 / 1841 ، مادة (وسل).
2- (2) صحيح البخاري: البخاري: 1/ 152 ، بحار الأنوار: المجلسي: 94 / 212 .
3- (3) ظ: لسان العرب: ابن منظور: 11 / 724 .
4- (4) تفسير القمي: علي بن إبراهيم القمي: 1 / 168 .

الطاعات، وقيل الوسيلة أفضل درجات الجنة(1)، وقد روي عن النبي صلی الله علیه و آله و سلم أنَّه قال:

«سلوا اللّه لي الوسيلة فإنَّا منزلة في الجنة لا تنبغي إلَّا لعبدٍ من عباد اللّه وأرجو أن أكون أنا هو فمن سأل لي الوسيلة حلَّت له الشفاعة»(2)، وروي عن الإمام علي علیه السلام أنَّه قال:

«في الجنة لؤلؤتان إلى بطنان العرش إحداهما بيضاء والأخرى صفراء في كل واحدة منهما سبعون ألف غرفة أبوابها وأكوابها من عرقٍ واحدة فالبيضاء الوسيلة لمحمَّد صلی الله علیه و آله و سلم وأهل بيته والصفراء لإبراهيم وأهل بيته»(3).

ويبدو ممَّا تقدَّم أنَّ الوسيلة في أصل اللغة تطلق على كلِّ شيءٍ يؤدِّي إِلى التقرُّب، وفي السياق القرآني جاءت لتدلَّ على التقرُّب والتوصُّل وما ماثلهما، وهذا ما صرَّح به الإمام في المقطع المذكور من دعائِهِ علیه السلام وهو قوله:

«إلهي وسيدي دلَلْتَني على سُؤالكِ الجنَّة وعرَّفتني فيها الوسيلةَ إليكَ وأنَا أتوسَّل إليك بتلكَ الوسيلة محمد وآله صلى اللّه عليهم أجمعين»(4)، إذ أكَّد فيه أنَّ معنى الوسيلة هم محمدٌ وآلُّ محمَّد علیهم السلام .

وفي الميزان التقرُّب يكون بطاعته قال علیه السلام: في قوله تعالى:

﴿وَابْتَغُوا إِلَیهِ الْوَسِيلَةَ﴾ «أنا وسيلته »(5)، وبعد التدبر والتأمُّل في الحديث،

ص: 166


1- (1) ظ: مجمع البيان: الطبرسي: 3 / 327 .
2- (2) صحيح مسلم: مسلم النيسابوري: 2 / 4.
3- (3) العمدة: ابن بطريق: 38 .
4- (4) الصحيفة العلوية: الأبطحي: 73 – 74 .
5- (5) مناقب آل أبي طالب: ابن شهر آشوب: 2 / 273 .

وانطباق معنى الآية عليه تبيَّن عند صاحب الميزان أن الوسيلة هي مقام النبي صلی اللّه علیه و آله و سلم من ربِّه الذي به يتقرب إليه تعالى، ويلحق به آلُهُ الطاهرون ثم الصالحون من أمَّته(1)، وقد ورد في بعض الروايات: «عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال:

يجيء رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله و سلم يوم القيامة آخذًا بحجزة ربه، ونحن آخذون بحجزة

نبينا، وشيعتنا آخذون بحجزتنا»(2).

إذن الوسيلة تأتي بمعنى التقرُّب إلى اللّه بالطاعات، بل تشمل كل عمل أو شيء يؤدِّي إلِى التقرب إلِى اللّه سبحانه وتعالى، وهي أفضل درجات الجنة، وقيل هي محمد وآل محمد كما جاء في تفسير هذه الآية الكريمة، بل هي أهم الوسائل وأفضلها كما جاء في قوله علیه السلام الذي أورده صاحب التفسير الأمثل، وفيه عدَّد أفضل الوسائل التي يتقرَّب بها العبد إلى اللّه سبحانه وتعالى،(3) إذ قال علیه السلام :

«إِنَّ أفضلَ ما توسَّلَ بِهِ المتوسلون إلِى اللّه سبحانه وتعالى، الإِيمان بِهِ وَ بِرَسُولِهِ، والجهادُ في سبيله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وَصومُ شهرِ رمضان، وَحجُّ البيت واعتمارُه، وَصِلة الرحم، وصدقة السِّر، وصدقة العلانية، وَصنائعُ المعروف فإنَّها تقي مصارع الهوان»(4).

فيتبین أنَّ لكلمة (الوسيلة) مفهومًا واسعًا جدًّا يشمل كلَّ عمل جميل ولائق يُتَقَربُ به إلى اللّه تعالى، وتدخل في مفهومها كل صفة بارزة؛ لأنَّ كل هذه الأمُور

ص: 167


1- (1) ظ: تفسير الميزان: الطباطبائي: 5 / 191 .
2- (2) بحار الأنوار: العلامة المجلسي: 4 / 25 .
3- (3) تفسير الأمثل: مكارم الشيرازي: 3 / 687 .
4- (4) نهج البلاغة، 1 / 215 – 216 ، الأمالي: الطوسي، 216 .

تكون سببًا في التقرب مِن اللّه تعالى(1).

وفي العودة إلى مواضع ورود الوسيلة في القرآن الكريم نذكر هنا الموضع الآخر، وهو في قوله تعالى:

(أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا﴾ [الإسراء/ 57 ].

ففي هذه الآية جاءت الوسيلة بمعنى القرب والتوصُّل إلى المُتَوَسَّل به أيضًا، لكنَّ السياق الذي جاءت فيه جعل لها معنى آخر، إذ جاء في تفسيرها «إنَّ هؤلاء المشركين يدعون هؤلاء الَّذين اعتقدوا فيهم أنَّهم أرباب ويبتغي المدعوون أربابًا إلى ربهم القربة والزلفة لأنَّهم أهل إيمان به والمشركون باللّه يعبدونهم من دون اللّه، أيُّم أقرب عند اللّه بصالح أعماله واجتهاده في عبادته، فهم يرجون بأفعالهم

رحمته ويخافون عذابه بخلافهم إيَّاه»(2).

والوسيلة على ما فسروه هي التوصُّل والتقرُّب، وربما استُعمِلَت بمعنى ما به التوصل والتقرب، ولعلَّه الأنسب للسياق، بالنظر إلى تعقيبه بقوله تعالى:

(أَيُّهُمْ أَقْرَبُ﴾، ومعنى الآية هنا أن جماعة من المشركين كانوا يشركون في دعائهم الملائكة والجن والإنس لطلب القرب إلى اللّه تعالى فيختارون أيَّهم أقرب فيتَّخذونه وسيلة، والتوسل إلى اللّه ببعض المقرَّبين إليه على ما في الآية الكريمة قريب منه قوله تعالى:

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ﴾ [المائدة/ 35]، وهو غير ما يرومه المشركون من الوثنيين فإنَّهم يتوسَّلون إلى اللّه ويتقرَّبون بالملائكة الكرام

ص: 168


1- (1) ظ: تفسير الأمثل: الشيرازي: 9 / 36 .
2- (2) التبيان: الطوسي: 6 / 484 .

والجن والأولياء من الإنس فيتركون عبادته تعالى ولا يرجونه ولا يخافونه وإنَّما يعبدون الوسيلة ويرجون رحمته ويخافون سخطه. وبالجملة يدَّعون التقرُّب إلى اللّه ببعض عباده أو أصنام خلقه ثم لا يعبدون إلا الوسيلة مستقلَّةً بذلك، ويرجونها ويخافونها مستقلَّةً بذلك من دون اللّه، فيشركون بإعطاء الاستقلال لها في الربوبية والعبادة(1).

وقال الزمخشري في معنى الآية: «يعني أن آلهتهم أولئك يبتغون الوسيلة وهي القربة إلى اللّه تعالى، و﴿أيُّهُمْ﴾ بدل من واو ﴿يَبْتَغُونَ﴾ وأي موصولة أي يبتغي من هو أقرب منهم وأزلف الوسيلة إلى اللّه فكيف بغير الأقرب؟ أو ضمن ﴿يَبْتَغُونَ إِلَی رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ﴾ [الإسراء/ 57 ] معنى يحرصون فكأنَّه

قيل: يحرصون أيُّهم يكون أقرب إلى اللّه وذلك بالطاعة وازدياد الخير والصلاح ويرجون ويخافون كما غيرهم من عباد اللّه فكيف يزعمون أنَّهم آلهة»(2).

والمعنيان لا بأس بهما لولا أنَّ السياق لا يلائمهما كلَّ الملاءمة وثانيهما أقرب إليه من أولهما. وقيل: إنَّ معنى الآية أولئك الذين يدعونهم ويعبدونهم ويعتقدون أنَّهم آلهة يبتغون الوسيلة والقربة إلى اللّه تعالى بعبادتهم ويجتهد كل منهم ليكون أقرب من رحمته، وهو معنى لا ينطبق على لفظ الآية البتة(3).

وكذلك فإن شفاعة الأنبياء والأئمة والأولياء الصالحين تُقرِّب أيضًا إلِى اللّه تعالى على وفق ما نصَّ عليه القرآن الكريم، وهي داخلة في المفهوم الواسع لكلمة الوسيلة وكذلك اتِّباع النَّبي والإِمام والسير على نهجهما، كلُّ ذلك يوجب

ص: 169


1- (1) ظ: تفسير الميزان: الطباطبائي، 13 / 130 – 131 .
2- (2) الكشاف: الزمخشري: 2 / 454 .
3- (3) ظ: تفسير الميزان: الطباطبائي: 13 / 130 .

التقرُّب إلِى الساحة الإِلهية المقدسة، والجدير بالذكر هنا أنَّ المراد من التوسل لا يعني طلب شيء من شخص النبَّي أو الإِمام، بل معناه أن يبادر الإِنسان المؤمن عن طريق الأعمال الصالحة والسير على نهج النبَّي والإِمام بطلب الشفاعة منهم إلِى اللّه تعالى، أو أن يُقسِم بجاههم ودينهم، وهذا يعدُّ نوعًا من الاحترام لمنزلتهم، وهو نوع من العبادة للّه تعالى أيضًا، ويطلب من اللّه بذلك حاجته، وليس في هذا المعنى أيُّ أثر للشرك، كما لا يخالف الآيات القرآنية الأخُر(1).

وإِنَّ الروايات التي وردت من طرق الشيعة والسنةَّ تفيد بوضوحٍ أنَّ التوسل بالمعنى الذي ذُكر آنفًا لا ريب فيه ولا شبهة، بل إنَّه يعدُّ عملًا جيدًا أيضًا، وهذه الروايات كثيرة، ومنها ما ورد في مصادر جمهور السنةَّ، إِنَّ طلب العون والشفاعة من النَّبي صلی اللّه علیه و آله و سلم أو التوسل إلِى اللّه بجاه النبَّي وشخصه جائز حتى قبل أن يولدَ صلی اللّه علیه و آله و سلم وبعد ولادته ووفاته وفي عالم البرزخ وفي يوم القيامة، وفي رواية عن عمر بن الخطاب تتحدث عن توسل آدم علیه السلام إِلى اللّه بالنبي محمَّد صلی اللّه علیه و آله و سلم وذلك لعلم آدم بأنَّ هذا النَّبي سيأتي إِلى الوجود في المستقبل، ولعلمه بالمنزلة العظيمة التي يحظى بها عند اللّه عزَّ وجلَّ(2)، فيقول آدم: «ربِّ إِنِّ أسألكَ بحقِّ محمَّد لمَّا غفرت لي»(3).

3- معنى الغِيبة:

جاء في قولٍ للإمام علیه السلام ينهى فيه عن سماع الغِيبة:

ص: 170


1- (1) تفسير الأمثل: الشيرازي: 3 / 687 – 688 .
2- (2) ظ: الأمثل: الشيرازي: 3 / 697 .
3- (3) الغدير: الشيخ الأميني، 5 / 435 و 7 / 39 .

«أيُّها النَّاس من عرف مِن أخيهِ وثيقةَ دِينٍ وسداد طريق فلا يسمعَنَّ فيه أقاويل الرِّجال، أمَّا إنَّه قد يرمي الرَّامي ويُخطئِ السِّهام ويحيل الكلام، وباطل ذلك يبور، واللّه سميع وشهيد، أما إنَّه ليس بين الحق والباطل إلَّا أربع أصابع فسئل علیه السلام عن معنى قوله هذا فجمع أصابعه ووضعها بين أذنه وعينه ثم قال الباطل أن تقول سمعتُ والحق أن تقول رأيتُ»(1)، وقد ورد النهي عن الغِيبة في موضع واحد من القرآن الكريم وهو الآية الثانية عشرة من سورة الحجرات.

والغِيبةَ في اللغة: من الاغْتيِابِ، واغْتابَ الرجلُ صاحبَه اغْتيِابًا إذِا وَقَع فيه، وهو أَن يتكلم خَلْفَ إنسان مستور بسوء أَو بما يَغُمُّه لو سمعه وإِن كان فيه، فإِن كان صدقًا فهو غِيبةٌ، وإنِ كان كذبًا فهو البَهْتُ والبُهْتانُ، ولا يكون ذلك إِلَّا من ورائه، وفي التنزيل العزيز: ﴿وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا﴾ أَي لا يَتَناوَلْ أحدًا بظَهْرِ الغَيْبِ بما يَسُوؤه ممَّا هو فيه، وإذِا تناوله بما ليس فيه فهو بَهْتٌ وبُهْتانٌ(2)، والاسم الغيبةُ، وهو أن يتكلم خلف إنسانٍ مستور بما يَغُمُّه لو سمعه، فإن كان صدقاً سُمِّيَ غيبَةً، وإن كان كذبًا سمِّي بُتانًا(3).

والغيبة واحدة من الأخلاق الذميمة التي أمر القرآن الكريم باجتنابها وشنعَّ فعلها حتى جعله بمثابة أكل لحم المِيتة، قال تعالى:

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا

ص: 171


1- (1) نهج البلاغة: 2 / 289 .
2- (2) ظ: العين: الفراهيدي: 1 / 364 ، لسان العرب: ابن منظور: 1 / 654 ، مجمع البحرين: الطريحي: 3 / 343 .
3- (3) الصحاح في اللغة: الجوهري: 1 / 196 ، مادة (غيب).

اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ﴾ [الحجرات/ 12]، ومعنى قوله تعالى:

﴿وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا﴾ أي: «لا يقل بعضكم في بعض بظهر الغيب ما يكره المقول فيه ذلك أن يقال له في وجهه»(1).

وقال الطبرسي: «الغِيبة ذكر العيب بظهر الغيب على وجه تمنع الحكمة منه»(2).

وسئل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله و سلم عن الغيبة فقال: أن تذكر أخاك بما يكره «إن كان فيه

ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه فقد بهته»(3)، (وعن ابن عباس رضي اللّه عنهما: الغِيبة إدام كلاب الناس، ﴿أیُحِبُّ أَحَدُكُمْ..﴾ في الآية تمثيل وتصوير لما يناله المغتاب من عرضه على أفظع وجه وأفحشه، وفيه عدَّة مبالغات منها: الاستفهام الذي معناه التقرير، ومنها جعل ما هو في الغاية من الكراهة موصولًاا بالمحبة، ومنها إسناد الفعل إلى أحدكم والإشعار بأنَّ أحدًا من الأحدين لا يحب

ذلك، ومنها أن لم يقتصر على تمثيل الاغتياب بأكل لحم الإنسان، حتى جعل الإنسان أخًا، ومنها أن لم يقتصر على أكل لحم الأخ حتى جعل ميتًا)(4).

(﴿فَكَرِهْتُمُوهُ﴾ فنسب الكراهة إلى الجميع ولم يقل: فكرهه، وبالجملة محصلة أن اغتياب المؤمن بمنزلة أن يأكل الإنسان لحم أخيه حال كونه ميتًا، وإنَّما كان لحم أخيه لأنه من أفراد المجتمع الإسلامي المؤلف من المؤمنين ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ [الحجرات/ 10]، وإنما كان ميتا لأنه غافل عن غيبته لا يشعر بما يقال

ص: 172


1- (1) جامع البيان: الطبري: 22 / 305 .
2- (2) تفسير مجمع البيان: الطبرسي: 9 / 228 .
3- (3) صحيح مسلم: مسلم النيسابوري: 8/ 21 ، الأمالي: الطوسي: 537 .
4- (4) الكشاف: الزمخشري: 3 / 568 .

فيه، وفي قوله: ﴿فَكَرِهْتُمُوهُ﴾ ولم يقل: فتكرهونه إشعار بأن الكراهة أمر ثابت محقق منكم في أن تأكلوا إنسانا هو أخوكم وهو ميت فكما أن هذا مكروه لكم فليكن مكروها لكم اغتياب أخيكم المؤمن بظهر الغيب فإنه في معنى أكل أحدكم أخاه ميتا، إنَّ ما في قوله تعالى: ﴿أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ﴾ من التعليل جارٍ في التجسُّس أيضًا كالغيبة، وإنما الفرق أن الغيبة هو إظهار عيب الغير للغير أو التوصُّل إلى الظهور عليه من طريق نقل الغير، والتجسُّس هو التوصُّل إلى العلم بعيب الغير من طريق تتبع آثاره، ولذلك لم يبعد أن يكون قوله تعالى:

(أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا﴾ إلى آخر الآية تعليلً لكلٍّ من الجملتين، أي قوله تعالى: ﴿وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا﴾، ففي الآية إشعارٌ أو دلالة على اقتصار الحرمة في غِيبَة المسلمين، ومن القرينة عليه قوله في (لَحْمَ أَخِيهِ﴾ فالأخوة إنَّما هي بين المؤمنين)(1).

(﴿وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا﴾ نزلت هذه الآية المباركة في رجلين من أصحاب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله و سلم اغتابا رفيقهما وهو سلمان بعثاه إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله و سلم ليأتي لهما بطعام، فأرسل النبيُّ صلی اللّه علیه و آله و سلم –سلمانَ–إلى أسامة بن زيد، وكان خازن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله و سلم على رحله، فقال: ما عندي شيء، فعاد إليهما فقالا: بخل أسامة، وقالا

لسلمان: لو بعثناه إلى بئر سميحة لغار ماؤها، ثمَّ انطلقا يتجسسان هل عند أسامة ما أمر لهما به رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله و سلم، فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله و سلم لهما: مالي أرى خضرة اللحم في أفواهكما؟ قالا: يا رسول اللّه ما تناولنا يومنا هذا لحمًا، قال صلی اللّه علیه و آله و سلم: ظللتم تأكلون لحم سلمان وأسامة، فنزلت الآية ونهت المسلمين عن الاغتياب)(2).

ص: 173


1- (1) الميزان: الطباطبائي: 18 / 325 .
2- (2) تفسير مجمع البيان: 9 / 225 .

وبعقد الصِّلة بين المعاني المتقدِّمة ومعناها عند الإمام علیه السلام في قوله:

«أيُّا النَّاس... والحق أن تقول رأيتُ»(1) يتَّضح أنَّ في هذا الكلام نهيٌ عن التسرُّع في تصديق ما يقال من عيبٍ أو قدح في حق إنسان مستور ظاهر معروف بالصلاح والخير، وهو على ما يبدو خلاصة قوله سبحانه وتعالى:

(إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾ [الحجرات/6]، ثم ضرب علیه السلام لذلك مثلًا فقال: قد يرمي الرَّامي فلا يُصيب الغرض، وكذلك قد يطعن الطَّاعن فلا يكون طعنه صحيحًا وربَّما كان لغرض فاسد أو سمعة ممَّن له غرض فاسد كالعدو و الحسود، وقد يشتبه الأمر فيظن المعروف منكرًا فيعجل الإنسان بقول لا يتحققه كمن يرى غلام زيد

يحمل في إناء مستور مغطَّى خلًّا فيظنُّهُ خمرًا، قال علیه السلام: ويحيل الكلام: أي يكون باطلًا، ومن النَّاس من يرويه ويحيك الكلام أي ما أثر، يعني أنَّ القول يؤثِّر في العرض وإن كان باطلًا، وقوله (وباطل ذلك يبور) مثل قولهم للباطل جولة وللحق دولة وهذا من قوله تعالى:

(وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا﴾ [الإسراء/ 81 ]، وقد يرد سؤالًا عن كيفية كون الباطل ما يُسمع والحق ما يُرى وإنَّ أكثر ما يصلنا إنَّما هو من طريق السَّماع كعلمنا الآن بنبوة النبي محمَّد صلی اللّه علیه و آله و سلم بما بلغنا من معجزاته التي لم نرها وإنَّما سمعناها؟ فالجواب إنَّ كلامه علیه السلام ليس فيما جاء متواترًا من الأخبار وإنَّما يقصد الإمام علیه السلام الأقوال الشَّاذة الواردة من طريق الآحاد التي تتضمن القدح فيمن قد غلبت نزاهته فلا يجوز العدول عن المعلوم بالمشكوك(2).

ص: 174


1- (1) نهج البلاغة: 2 / 289 .
2- (2) ظ: شرح نهج البلاغة: ابن أبي الحديد: 9 / 72 – 73 .

ويقصد به ما كان صادرًا من أحدٍ يريد السوء بآخر أو طعنه وذمه ممَّا لايَصدُقُ عليه لنزاهته مثلًا و بذلك لا ندع مجالًا لسوء الظن أو الغيبة وغير ذلك من الأفعال المحرَّمة التي نهى عنها القرآن الكريم والنبي صلی اللّه علیه و آله و سلم .

وذكر السيِّد الخوئي في شرح قول الإمام علیه السلام في الغيبة: (أنَّ المقصود بهذا الكلام النهَّي عن التسرُّع إلى التصديق بما يقال في حقِّ الإنسان الموصوف بحسن الظاهر المشهور بالوثوق والصَّلاح والتديُّن ممَّا يعيبه ويقدحه... وإليه أُشير في قوله سبحانه:

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾ [الحجرات/ 6]، ذلك فأقول قوله علیه السلام :

«أيُّا النَّاس من عرف مِن أخيهِ وثيقةَ دِينٍ وسَداد طريق»(1)، أي دِيناً محكمًا وطريقًا صوابًا، قيل المراد بوثيقة الدِّين اللُّزوم للأحكام الشرعيَّة والتقييد، لا كمن يعبد اللّه على حرف فإن أصابه خير اطمأنَّ به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه، ولعلَّ المراد بوثيقة الدِّين العقيدة وبسداد الطريق حسن العمل كما يشعر به ما روي عن أمير المؤمنين علیه السلام أنّه قال لابنه الحسن علیه السلام: يا بنيَّ ما السَّداد؟ فقال: يا أبتي السداد دفع المنكر بالمعروف، أي من عرف من أخيه المؤمن حسن الاعتقاد

والعمل «فلا يسمعنَّ فيه أقاويل الرِّجال»(2) أي أقاويلهم التي توجب شَينَهُ وتهدم مروَّته وتسقطه عن أعين الناَّس)(3).

روى الصَّدوق في ثواب الأعمال... عن أبي الحسن موسى بن جعفر عليهما

ص: 175


1- (1) نهج البلاغة: 2 / 289 .
2- (2) المصدر نفسه.
3- (3) منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة: الخوئي: 395 .

السَّلام قال: قيل له: جعلت فداك الرَّجل من إخواني بلغني عنه الشيء الذي أكرهه فأسأله عنه فينكر ذلك وقد أخبرني عنه قوم ثقات، فقال علیه السلام:... كذِّب سمعك وبصرك عن أخيك وإن شهد عندك خمسون قسّامة وقال لك قولًا فصدِّقه وكذِّبهم، ولا تذيعنَّ عليه شيئًا تشينه به وتهدم به مروَّته فتكون من الَّذين قال اللّه عز وجل(1):

(إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾ [النور/ 19 ].

وممَّا سبق يتضح أنَّ الغِيبة لا تَصدُقُ إلَّا بين المسلمين، وحُدَّد قول الغيبة بالأقاويل، والمقصود بها كما استعملت في القرآن الكريم لتصغير وتحقير القول لأنَّها مُتَقَوَّلَة وتعني الأقوال الباطلة أي الأكاذيب(2)؛ لأنَّ الشخص يتقوَّل على أخيه المسلم.

وذِكْرُ الإمام علیه السلام للرَّمي والرَّامي تشبيهٌ بما تُحدِثُهُ هذه الأقاويل في نفس المؤمن، الذي هو أشبه ما يكون بسهام الرَّامي حين تُصيب الهدف، وينتهي إلى أنَّ هذا الكلام لا يبقى ويزول بسرعة لأنَّه من غيرِ صحَّة، وعليه يجب على الإنسان المؤمن أن لا يُسارِع إلى تصديق مثل هذه الأقوال.

أمَّا تعامل الإمام علیه السلام مع الغيبة عن طريق قرنهما بالسَّمع والبصر–وهو ممَّا أفاض المفسِّرون والشرَّاح فيه – فيلتقي مع الآية الكريمة الخاصَّة بالغيبة، فكما ذكر اللّه تعالى التجسُّس قبل الاغتياب، كذلك ذكر الإمام السمع قبل البصر، فالظاهر أنَّ الأولى هي الطريق الأوَّل إلى الثانية.

ص: 176


1- (1) ثواب الأعمال وعقاب الأعمال: الصدوق: 247 .
2- (2) ظ: جامع البيان في تأويل القرآن: الطبري: 29 / 82 والكشاف: الزمخشري: 4 / 155 .

4- معنى حبل اللّه:

ذكر هذا اللفظ في دعاء الصَّباح للإمام علي علیه السلام :

«صَلِّ اللّهُمَّ عَلَ الدَّليلِ اِلَيْكَ فِي اللَّيْلِ الألْيَلِ، وَالْماسِكِ مِنْ اَسْبَابِكَ بِحَبْلِ الشَّرَفِ الأطْوَلِ... إلهي أتراني ما أتيتك إلا من حيث الآمال، أم عَلِقْتُ بأطراف حبالك إلا حين باعدتني ذنوبي عن دار الوصال... إلهي قرعت باب رحمتك بيد رجائي، وهربت إليك لاجئًا من فرط أهوائي و علقت بأطراف حبالك أنامل ولائي»(1).

جاء في هذه المقاطع الثلاث لفظ (حبل اللّه) وهو لفظ وارد في القرآن الكريم وجاء لفظ آخر (السبب) وهو لفظ مرادف للفظ الحبل.

قال تعالى:

﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا﴾ [آل عمران/ 103]، وقوله:

(مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ﴾ [الحج/ 15].

إذا نظرنا قليلًا في بعض المصطلحات التي لها ارتباط بمعنى (حبل اللّه) منها لفظة الاعتصام إذ جاءت مِن عصم: العصم الإمساك، والاعتصام الاستمساك، قال تعالى:

(لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ﴾ [هود/ 43 ]، أي لا شيء يمنعُ منه،.. والاعتصام التمسك بالشيء قال تعالى:

ص: 177


1- (1) المصدر نفسه: 291 .

﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا﴾ [آل عمران/ 103]، ﴿وَمَنْ يَعْتَصِمْ باللَّهِ﴾[آل عمران/ 101 ](1).

(السَّبَبُ: الحَبْلُ)(2)، (والسُّبوبُ الحِبال... قوله تعالى:

﴿فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ﴾ والسَّبَبُ هنا الحَبْل، والسَّماءُ السَّقْف أَي فلْيَمْدُدْ حَبْلً في سَقفِهِ ثم ليَقْطَعْ أَي ليَمُدَّ الحَبْل حتى ينْقَطِع فيَموتَ مخْتَنِقًا، والسَّببُ كلُّ حَبْل حَدَرْتَه من فوق وقيل السَّبَب من الحِبال القويُّ الطويلُ)(3).

(والمعنى: واجتمعوا على استعانتكم باللّه ووثوقكم به ولا تفرقوا عنه، أو واجتمعوا على التمسك بعهده إلى عباده وهو الإيمان والطاعة؛ أو بكتابه لقول النبي صلی اللّه علیه و آله و سلم: القرآن حبل اللّه المتين لا تنقضي عجائبه، ولا يخلق عن كثرة الردّ، من قال به صدق؛ ومن عمل به رشد، ومن اعتصم به هدي إلى صراط مستقيم)(4).

«وتعلقوا بأسباب اللّه جميعًا، وتمسَّكوا بدين اللّه الذي أمركم به، وعهده الذي عَهده إليكم في كتابه إليكم، من الألفة والاجتماع على كلمة الحق، والتسليم لأمر اللّه، وأما (الحبل)، فإنَّه السَّبب الذي يُوصَل به إلى البُغيةِ والحاجة، ولذلك سمِّيَ الأمان حبلًا، لأنَّه سببٌ يُوصَل به إلى زوال الخوف، والنجَّاة من الجزَع والذُّعر»(5).

«﴿وَاعْتَصِمُوا﴾ امتنعوا بحبل اللّه واستمسكوا به أي بعهد اللّه تعالى، لأنه

ص: 178


1- (1) ظ: المفردات غريب القرآن: الراغب: 1 / 336 – 337 .
2- (2) العين: الخليل: 7 / 203 .
3- (3) لسان العرب: ابن منظور: 1/ 458 - 459 .
4- (4) الكشاف: الزمخشري: 1 / 450 - 451 .
5- (5) جامع البيان: الطبري: 4/ 42 .

سبب النجاة كالحبل الذي يتمسك به للنجاة من بئر أو نحوها ومنه الحبل الأمان، لأنه سبب النجاة»(1) ، «وقيل في معنى قوله تعالى: ﴿بِحَبْلِ اللّه﴾ أقوال: أحدها: أنَّه القرآن، وثانيها: أنَّه دين اللّه الإسلام، وثالثها: ما رُوي عن الإمام جعفر بن محمد علیهماالسلام قال:

«نحن حبل اللّه الذي قال تعالى: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا﴾ [آل عمران/ 103]» ، والأَوْلَی حَمْلُهُ على الجميع والذي يؤيده ما رُوي عن النبي صلی اللّه علیه و آله و سلم أنَّه قال:

«أيُّهَا النَّاس إنِّ قد تركت فيكم حبلين إن أخذتم بهما لن تَضلوا بعدي أحدهما أكبرُ مِن الآخر كتاب اللّه حبلٌ ممدودٌ من السَّماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي ألَا وإنَّهما لن يفترقَا حتى يردَا عليَّ الحوض»(2).

في قوله تعالى:

(مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ﴾ ]الحج/ 15]، «المعنى من كان يظن أن اللّه لن ينصر نبيه محمدًا صلی اللّه علیه و آله و سلم ولا يعينه على عدوه ﴿فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ﴾ [الحج/ 15 ]، أي فليَشدُد حبلا في سقفه ﴿ثُمَّ لْيَقْطَعْ﴾ أي ليمدد ذلك الحبل حتى ينقطع فيموت مختنقا والمعنى فليختنق غيظا حتى يموت فإن اللّه ناصره ولا ينفعه غيظه وهو قوله ﴿فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ﴾ أي صنعه وحيلته»(3).

ص: 179


1- (1) التبيان: الطوسي: 2 / 545 .
2- (2) تفسير مجمع البيان: الطبرسي: 2 / 357 .
3- (3) المصدر نفسه: 7 / 119 .

محل الشاهد هنا هو قوله تعالى:

﴿فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ﴾إذ جاء السبب بمعنى الحبل وذلك دلالة على التوصل وهو ما ذكره علیه السلام في قوله: والماسك من أسبابك بحبل الشرف الأطول.

يلحظ في الآية الكريمة لفظ (الاعتصام) و(حبل اللّه) ومن معاني الاعتصام الاستمساك ومن معاني الحبل السبب وقول الإمام علیه السلام في الدعاء:

«والماسك من أسبابك بحبلِ الشَّف الأطول » فكأنَّه يبيِّن معنى الاعتصام والاتِّصال مع اللّه أو التَّقرب إليه بقوله الماسك إذ الاستمساك من معاني الاعتصام ففي قوله من أسبابك وكأن هناك أسبابا وطرقا عدة ومنها حبل اللّه، إذ يبدو للنظر أن هذا القول من دعائه علیه السلام فيه بعض البيان لقوله تعالى:

﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ) من هذا الوجه.

5 - معنى السائق والشهيد:

ورد هذان اللفظان متلازمين مرة واحدة في القرآن الكريم في سورة ق وفي كلام الإمام علي علیه السلام جاءا في الخطبة المباركة إذ يقول علیه السلام :

« فَاتَّعِظُوا عِبَادَ اَللَّهَ باِلْعِبَرِ اَلنَّوَافِعِ وَاعْتَبِرُوا باِلآيِ اَلسَّوَاطِعِ وَاِزْدَجِرُوا باِلنُّذُرِ اَلْبَوَالِغِ وَاِنْتَفِعُوا باِلذِّكْرِ وَاَلْمَوَاعِظِ فَكَأَنْ قَدْ عَلِقَتْكُمْ مَخَالِبُ اَلْمَنِيَّةِ وَاِنْقَطَعَتْ مِنْكُمْ عَلاَئِقُ اَلْأُمْنِيَّةِ وَدَهِمَتْكُمْ مُفْظِعَاتُ اَلْأُمُورِ وَاَلسِّيَاقَةُ إِلَی اَلْوِرْدُ اَلْمَوْرُودُ وَكُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ سَائِقٌ يَسُوقُهَا إِلَی مَحْشَرِهَا وَشَاهِدٌ يَشْهَدُ عَلَيْهَا بِعَمَلِهَا»(1).

جاء في قوله علیه السلام اسمان مشتقان من فعلهما فكلاهما سمِّي بحسب عمله

ص: 180


1- (1) نهج البلاغة: 1 / 135 .

الموكل إليه من لدن اللّه تعالى وهما: (السَّائق، الشهيد) وقد وردا في القرآن الكريم في قوله تعالى:

﴿وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ﴾ [ق/21]،« (سوق) السَّوق معروف ساقَ الإبلَ وغيرَها يَسُوقها سَوْقًا وسِياقًا وهو سائقٌ وقوله تعالى:

﴿وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ﴾ [ق/ 21 ]، قيل في التفسير سائقٌ يَسُوقها إلى محشرها وشَهِيد يشهد عليها بعملها وقيل الشهيد هو عملها نفسه»(1).

وتعددت التفسيرات في بيان معنى اللفظين وقد أجمل الإمام علیه السلام في ختام قوله هذا بيان معنى السائق والشهيد بهذه العبارة «سائقٌ يسوقها إلى محشرها وشاهد يشهد عليها بعملها»(2) فهذا التعقيب على لفظي السائق والشهيد هو بيان لمعنييهما إذ جاء في بيان معنييهما أنَّهما: ملكان أحدهما يسوق الإنسان ويحثه على السَّير، والآخر يشهد عليه بما يعلمه من حاله ويشاهده منه وكتبه عليه، فهو يشهد بذلك على ما بيَّنه اللّه ودبَّره(3).

ومن المفسرين من قال: «السياقة حث الماشية على المسير من خلفها بعكس القيادة فهي جلبها من أمامها»(4).

إذ لم يصرح اللّه تعالى بكونهما من الملائكة أو بكونهما هما الكاتبين أو من غير الملائكة، غير أن السابق إلى الذهن من سياق الآيات أنهما من الملائكة، وكذا

ص: 181


1- (1) لسان العرب: ابن منظور: 10 / 166 .
2- (2) نهج البلاغة: 1 / 135 .
3- (3) ظ: التبيان: الطوسي: 9 / 366 .
4- (4) تفسير الميزان: الطباطبائي: 18 / 184 .

لا تصريح بكون الشهادة منحصرة في هذا الشاهد المذكور في الآية بل الآيات الواردة في شهداء يوم القيامة تقضي بعدم الانحصار، وكذا الآيات التالية الذاكرة لاختصام الإنسان وقرينة دالة على أنَّ مع الإنسان يومئذ غير السائق والشهيد(1).

وقد صوَّر صاحب الأمثل تصويرًا رائعًا لمعنى السائق والشهيد إذ يعني في قوله تعالى بيان حال الناس يوم المحشر بهذه الصورة:

﴿وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ﴾ (فالسائق يسوقه نحو محكمة عدل اللّه، والشهيد يشهد على أعماله، وهي كمحاكم هذا العالم إذ يسوق المأمورون المتَّهمين ويأتون معهم للمحكمة ويشهد عليهم الشهود واحتمل بعض المفسِّرين أنَّ السائق هو من يسوق الصالحين نحو الجنّة والطالحين نحو جهنَّم، ولكن مع ملاحظة كلمة (الشهيد) معها يكون المعنى الأوّل وهو السوق نحو محكمة

عدل اللّه أنسب، ولكن من هما السائق والشهيد؟ أهما (ملكان) من الملائكة أو سواهما، هناك تفاسير متعدّدة، قال بعضهم: إنّ (السائق) هو الملك الذي يكتب الحسنات، و(الشهيد) هو الملك الذي يكتب السيّئات، فيكون المراد بهما الملكين الوارد ذكرهما في الآيات المتقدِّمة، ويستفاد من بعض الرّوايات أنّ السائق ملك الموت والشهيد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله و سلم ولكن هذه الرّواية مع ملاحظة لحن الآيات تبدو ضعيفة، وقال بعضهم: (السائق) الملك الذي يسوق كلّ إنسان و(الشهيد)

عمل الإنسان، كما قيل أنّ السائق ملك والشهيد أعضاء جسم الإنسان أو صحيفة أعماله أو الكتاب الذي في عنقه)(2).

ص: 182


1- (1) المصدر نفسه: 18 / 185 .
2- (2) تفسير الأمثل: مكارم الشيرازي: 17 / 33 .

بعد اطلاعي على هذه التفاسير(1) وجدت أن أكثر المفسرين قد استدلوا بقول الإمام علي علیه السلام الذي بيَّن فيه معنى السائق والشهيد، حتى أنَّ بعض المفسرين قد اكتفى بهذا القول لبيان معنى اللفظين.

ص: 183


1- (1) ظ: تفسير الميزان: الطباطبائي: 18 / 357 .

ص: 184

المبحث الثاني : المشاهد التصويرية في كلام الإمام علي علیه السلام

اشارة

إذا كان المبحث المتقدِّم قد عرض لألفاظ تضمَّنت مضامينَ تفسيرية عند الإمام علي علیه السلام فإنَّ هذا البحث سيقدِّم صورًا تفسيريةً كاملةً من كلامه علیه السلام، فعلى الرَّغم ممَّا يلحظ في القرآن الكريم من الصور المتعدِّدة لمشاهد كاملة فإنَّ بعضًامنها يقتضب فيها القرآن ليترك القارئ يسرح في فكره لحكمةٍ معيَّنة، ولعلَّ هذا يُشعر–وعلى نحوٍ أكبر–الحاجة إلى المعصوم الذي قيل فيه إنَّه القرآن الناَّطق، فالصور التي استعرضها الإمام علي علیه السلام لا يمكن الإحاطة بها بالفكر، و لا سيَّما أنَّ القرآن الكريم قد ذكر أجزاءها في مواضع متعدِّدة وآيات متفرقة فعمدَ علیه السلام بما يمتلكه من أدواتٍ تفسيرية إلى لملمة تلك الجزئيات وعرضها في مشهدٍ متكاملٍ لا يمكن أن نتصوَّره في مخيِّلتنا، وتظهر روعة تلك المشاهد على نحوٍ أبرز بوساطة تلك الصور التي عرضَ لها الإمام علیه السلام في كلامه وتوظيفها لفهم النَّص القرآني.

في وصف الملائكة:

قال الإمام علي علیه السلام من خطبةٍ له (يذكر فيها ابتداء خلق السَّماء والأرض

ص: 185

وخلق آدم):

«ثُمَّ فَتَقَ مَا بَيْنَ اَلسَّمَوَاتِ اَلْعُلاَ فَمَلَأَهُنَّ أَطْوَارًا مِنْ مَلاَئِكَتِهِ مِنْهُمْ سُجُودٌ لاَ يَرْكَعُونَ وَرُكُوعٌ لاَ يَنْتَصِبُونَ وَصَافُّونَ لاَ يَتَزَايَلُونَ وَمُسَبِّحُونَ لاَ يَسْأَمُونَ لاَ يَغْشَاهُمْ نَوْمُ اَلْعَيْنِ وَلاَ سَهْوُ اَلْعُقُولِ وَلاَ فَتْرَةُ اَلْأَبْدَانِ وَلاَ غَفْلَةُ اَلنِّسْيَانِ وَمِنْهُمْ أُمَنَاءُ عَلَی وَحْيِهِ وَأَلْسِنَةٌ إِلَ رُسُلِهِ وَمُخْتَلِفُونَ بِقَضَائِهِ وَأَمْرِهِ وَمِنْهُمُ اَلْحَفَظَةُ لِعِبَادِهِ وَاَلسَّدَنَةُ لِأَبْوَابِ جِنَانِهِ وَمِنْهُمُ اَلثَّابِتَةُ فِ اَلْأَرَضِينَ اَلسُّفْلَی أَقْدَامُهُمْ وَاَلْمَارِقَةُ مِنَ اَلسَّمَاءِ اَلْعُلْيَا أَعْنَاقُهُمْ وَاَلْخَارِجَةُ مِنَ اَلْأَقْطَارِ أَرْكَانُهُمْ وَاَلْمُنَاسِبَةُ لِقَوَائِمِ اَلْعَرْشِ أَكْتَافُهُمْ نَاكِسَةٌ دُونَهُ أَبْصَارُهُمْ»(1).

لفت الإمام الانتباه إلى أنَّ للملائكة أصنافًا وأشكالً متعددة حين قسَّم الملائكة وجعلهم أربعة أقسام، الأول: أرباب العبادة ومنهم الرَّاكع والساجد والصَّافُّ والمسبح، والقِسْم الثاني: الأمناء على وحي اللّه لأنبيائه والألسنة الناطقة في أفواه رسله والمختلفون بالأقضية إلى العباد، والقِسْم الثالث: حفظة

العباد كأنهم قوى مودعة في أبدان البشر ونفوسهم، ومنهم سدنة الجنان جمع سادن وهو الخادم، والقِسْم الرابع حملة العرش كأنهم القوة العامة التي أفاضها اللّه في العالم الكلي(2)، وقد وصف الإمام علیه السلام وقدَّم صورًا متكاملة لأنواع الملائكة وهو ما سمَّاه بالأطوار في قوله علیه السلام:

«فَمَلَأَهُنَّ أَطْوَارًا مِنْ مَلاَئِكَتِهِ »(3)، إذ يقول اللّه تعالى:

(وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا﴾ [نوح/ 14 ]، جاء في معنى الأطوار قولان: «الأول:

ص: 186


1- (1) نهج البلاغة: 1 / 38 – 40 .
2- (2) ظ: المصدر نفسه، 1 / 39 ، الهامش.
3- (3) نهج البلاغة: 1 / 38 – 40 .

الطَوْرة التارة، يعني حالًا بعد حال.. نطفة ثم علقة إلى آخر التَّارات، الثاني: الطور الحال، والمعنى خلقكم أصنافًا مختلفين لا يشبه بعضكم بعضًا»(1) ، والقول الثاني ربما يكون أقربها معنى من لفظة (أطوارًا) التي جاءت في سياق قول الإمام علیه السلام، وفي مجمع البيان «أطوارًا: أحوالًا، حالًا بعد حال وقيل: صبيانًا ثم شبَّانًا ثم شيوخًا وقيل: خلقكم مختلفين في الصفات أغنياء وفقراء وزمناء وأصحاء وطوالًا وقصارًا والآية محتملة للجميع»(2)، وقيل: الأطوار «الضروب والأجناس»(3).

ووصف كل نوع منهم وصفًا يختلف عن الآخر مثال المشهد الأول للقِسْم الأول من الملائكة قوله علیه السلام :

«مِنْهُمْ سُجُودٌ لا يَرْكَعُونَ»(4) إذ يَوْقَرُ في الذهن أن هؤلاء الملائكة ساجدون وكأنَّ حالة السجود ملازمة لهم حتى أنَّه جاء في أقوال عن أهل البيت علیهم السلام ذلك، قال الإمام الصادق علیه السلام :

«وإنَّ للّه ملائكة ركعًا إلى يوم القيامة، وإنَّ للّه ملائكة سجدًا إلى يوم القيامة»(5)، فهذا يدل على ديمومة عبادتهم للّه تعالى كما وصفهم سبحانه في قوله:

﴿إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ﴾[الأعراف/206]، «بیَّن اللّه تعالى إنَّ الذين عنده، وهم الملائكة، ومعناه أنَّهم

ص: 187


1- (1) تفسير الرازي: 30 / 139 .
2- (2) مجمع البيان: الطبرسي: 10 / 134 .
3- (3) منهاج البراعة: الراوندي: 1 / 68 .
4- (4) نهج البلاغة: 1 / 38 – 40 .
5- (5) بحار الأنوار: المجلسي: 56 / 175 .

عنده بالمنزلة الجليلة لا بِقُرْبِ المسافة، لأنَّه تعالى ليس في مكان ولا جهة فيقرب غيره منه، لأنَّ ذلك من صفات الأجسام، وهذا حثٌّ منه على الطَّاعة والاستكانة والخضوع له، لأنَّ الملائكة مع فضلها وارتفاع منزلتها إذ كانت لا تستكبر عن عبادته بل تسبحه دائمًا وتسجد مثل ذلك، فبنوا آدم بذلك أولى وأحق ولهم أوجب وألزم»(1).

وفي تقديم السجود على غيره كأول عبادة من العبادات التي تتعبد بها الملائكة حكمة فلربما أراد الإمام أن يدل على عظمة السجود أو بيان أهميته وعظم ثوابه لأنَّه أحب العبادة للّه تعالى وأعظم ما يُتَعَبَدُ به له تعالى، قال الإمام الرضا علیه السلام :

«أقرب ما يكون العبد من اللّه عز وجل وهو ساجد، وذلك قوله عز وجل:

(وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ﴾ [العلق/19]»(2).

ومن ثمَّ ذكر الإمام الركوع في قوله علیه السلام :

«وَرُكُوعٌ لا يَنْتَصِبُونَ » وربما فيه إشارة أو دليل على أن الركوع يأتي بعد السجود من حيث مرتبة العبادة، وفي الوقت نفسه يصور لنا المشهد الذي نتخيل فيه هؤلاء الملائكة وهم ركوع للّه تعالى وكأنَّ ركوعهم دائمٌ لا يقومون منه وكما في قول الإمام الصادق علیه السلام الآنف الذكر.

أمَّا قوله علیه السلام :

«وَصَافُّونَ لا يَتَزَايَلُونَ»(3) فهنا تتمثل صورة هؤلاء الملائكة وكأنَّهم

ص: 188


1- (1) التبيان: الطوسي: 5 / 69 – 70 .
2- (2) الكافي: الكليني: 3 / 265 .
3- (3) نهج البلاغة: 1 / 38 – 40 .

صفوف لا يتفارقون طرفة عين أبدًا مُصطَفِّينَ للعبادة فقد ورد ذكر هذه الطَّائفة من الملائكة في القرآن الكريم في قوله تعالى:

﴿وَالصَّافَّاتِ صَفًّا﴾ [الصافات/ 1] وقوله تعالى:

﴿وَإنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ﴾ [الصافات/ 165]، إذ أورد المفسرون أقوالًا عدة في معنى الصَّافَّات جاء في مجمع البيان «اختلف في معنى الصَّافات على وجوه أحدها: أنَّها الملائكة تَصف أنفسها صفوفًا في السَّماء كصفوف المؤمنين في الصلاة، وثانيها: أنَّها الملائكة تصف أجنحتها في الهواء إذا أرادت النزُّول إلى الأرض واقفة تنتظر ما يأمرها اللّه تعالى، وثالثها: أنَّهم جماعة من المؤمنين يقومون مصطفين في الصلاة وفي الجهاد»(1) وروي أنَّهم أهل البيت قال الإمام علي علیه السلام في بعض خطبه:

«إنَّا آل محمد كنَّا أنوارًا حول العرش، فأمرنا اللّه بالتسبيح فسبحنا فسبحت الملائكةُ بتسبيحنا، ثمَّ أهبَطنا إلى الأرض فأمرنا اللّه بالتَّسبيح فسبحنا فسبحتْ أهلُ الأرضِ بتسبيحنا، فإنَّا لنحنُ الصَّافون وإنَّا لنحن المسبحون»(2).

وقيل هم «الملائكة والأنبياء ومن صفَّ للّه وعبده»(3)، وإنَّ الصَّافَّات هم «الملائكة مصطفون في السَّماء يسبحون اللّه»(4) ، «والصَّافَّات قسمًا بالملائكة المصطفين لإطاعة أوامر اللّه»(5) ، «يعني الملائكة صفوفا في السماء يسبحون

ص: 189


1- (1) تفسير مجمع البيان: الطبرسي: 8 / 296 .
2- (2) بحار الأنوار: المجلسي: 24 / 88 .
3- (3) تفسير القمي: القمي: 2 / 218 .
4- (4) التبيان: الطوسي: 8 / 481 – 482 .
5- (5) تبيين القرآن: محمد الحسيني الشيرازي: 458 .

اللّه تعالى كصفوف الناس للصلاة، ﴿وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ﴾ أي نصفُّ أقدامنا في الصلاة وأجنحتنا حول العرش داعين المؤمنين»(1).

وجاء ذكر (الصَّافون) في الآية الكريمة «﴿وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ﴾ [الصافات/ 164 ] هذا قول جبرائيل للنَّبي صلی اللّه علیه و آله و سلم وقيل إنَّه قول الملائكة وفيه مضمرٌ أي وما منَّا معشر الملائكة ملك إلَّا له مقام معلوم في السماوات يعبد اللّه فيه وقيل معناه أنَّه لا يتجاوز ما أُمر به ورتب له كما لا يتجاوز صاحب المقام مقامه الذي حد له فكيف يجوز أن يعبد من بهذه الصفة وهو عبد مربوب ﴿وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ﴾ حول العرش ننتظر الأمر والنَّهي من اللّه تعالى وقيل القائمون صفوفا في الصلاة.. صفوف الملائكة في السماء كصفوف أهل الدنيا في الأرض وصافون بأجنحتنا في الهواء للعبادة والتسبيح»(2).

«والجميل في هذه العبارة أنّ الملائكة هي التي تتحدّث عن نفسها: ﴿وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ﴾ وتضيف ملائكة الرَّحمن: وإنَّنا جميعًا مصطفون عند اللّه في انتظار أوامره، ﴿وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ﴾ وإنَّنا جميعًا نسبِّحه، وننزِّهه عمَّا لا يليق بساحة كبريائه ﴿وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ﴾ نعم، نحن عباد اللّه، وقد وضعنا أرواحنا على الأكف بانتظار سماع أوامره، إنَّنا لسنا أبناء اللّه، إنَّنا ننزِّه الباري عزَّ وجلَّ من تلك المزاعم الكاذبة والقبيحة وإنَّنا منزعجون ومشمئزِّون من خرافات وأوهام المشركين، في الحقيقة أنَّ الآيات المذكورة أعلاه أشارت إلى ثلاث صفات من صفات الملائكة، الأولى: هي أنَّ لكلِّ واحد منهم مقامًا معيَّناً ومشخَّصًا ليس له أن يتعدَّاه، والثانية: هي أنّم مستعدُّون دائمً لإطاعة أوامر

ص: 190


1- (1) تفسير غريب القرآن: فخر الدين الطريحي: 396 .
2- (2) تفسير مجمع البيان: الطبرسي: 8 / 297 .

اللّه سبحانه وتعالى وتنفيذها في عالم الوجود، وهذا الشيء مشابه لما ورد في سورة الأنبياء ﴿وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ﴾ [الأنبياء/ 26 - 27 ]، والثالثة: أنَّهم يسبِّحون اللّه دائمًا وينزِّهونه عمَّا لا يليق بساحة كبريائه»(1).

يتبين مما تقدم إذن أن في كلام الإمام علي علیه السلام دلالة واضحة على أن الصَّافين هي صفة من صفات الملائكة يصطفون عبادة وطاعة للّه تعالى وقد جاء ذكرهم في القرآن الكريم بلفظ الصَّافين والصَّافات فقد كانت أغلب التَّفسيرات تدل على أنَّهم الملائكة في حال اصطفافهم لعبادة اللّه تعالى.

وهذا المشهد يصور الملائكة أولئك المخلوقات الذين رفعهم وشرفهم اللّه تعالى وأعلى شأنهم حتى قال عنهم في القرآن الكريم:

﴿وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ﴾ [الأنبياء/ 19 ]، عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون أي أنَّهم على ما لهم من شأن عند اللّه تعالى إلا أنَّهم لا يستكبرون عن عبادته تعالى بل ولا يملون ولا يفترون ولا يتوقفون أبدًا «أنَّهم مع جلالة قدرهم وعلو أمرهم يعبدون اللّه ويذكرونه، وفائدته أنَّكم إن استكبرتم عن عبادته فمن هو أعظم حالًا منكم لا يستكبر منها»(2).

وتجدر الإشارة إلى أن هذه الآيات كقوله تعالى:

(فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ﴾ [فصلت/ 38] وقال:

ص: 191


1- (1) تفسير الأمثل: مكارم الشيرازي: 14 / 426 - 427 .
2- (2) مجمع البيان: الطبرسي: 4 / 420 .

﴿يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ﴾ [الأنبياء/ 20 ]، أنَّ ذلك لا يختص بالملائكة فقط وإنَّما يشمل الأنبياء والرسل والأئمة(1).

وهذا المشهد المتكامل كله يعبر عن أهمية مرتبة الصلاة وهي الأعظم في العبادة وهو من جهته يعبر عن المرتبة الأعلى للملائكة.

وفي قوله علیه السلام :

«وَمُسَبِّحُونَ لا يَسْأَمُونَ » قد يعبر عن معنيين هما: التسبيح خلال الصلاة أو التسبيح بعد الصلاة وهذا كله مهما ابتعد لا يتجزأ عن الصلاة لأن المشهد عبَّر عن بعض أركان الصلاة متلازمة مع التسبيح، فعند التأمل في قول الإمام علیه السلام وفي وصفِهِ للملائكة وكأنه يريد أن يصل إلى ساحل بحر من الخيال فيجعلنا نتصورهم كلًّ بحسب تصوره الخاص وكل يرسم لذلك صورة في مخيلته وإن

لم نستطع الوصول إلى كنهه ولكن يظهر هنا رقي الإمام وإبداعه في التعبير بل ويجعله متناسق السياق والمعنى مع القرآن الكريم، إذ تراه يصف الملائكة ويقول مسبحون وكأن اسمهم المسبحون أو أنهم اختُصُوا بهذه العبادة بل مستمرين في التسبيح كما كان ذلك واضحًا في قول الإمام علیه السلام .

فقول الإمام عن الملائكة لا يسأمون وارد في قوله تعالى:

(فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ)[فصلت/ 38 ] ومعناه: «أي لا يَمُلُّون ولا يَفْتُرُون»(2). وقوله عز وجل:

﴿إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ﴾[الأعراف/ 206 ]، ثم يقول علیه السلام :

ص: 192


1- (1) ظ: تفسير الميزان: الطباطبائي: 20 / 65 ، ظ: تفسير القمي: القمي: 1 / 254
2- (2) تفسير مجمع البيان: الطبرسي: 9 / 25 .

«وصافُّون لا يتزايلون، ومسبِّحون لا يسأمون»(1) (يعني أنَّ بعضًا منهم ساجد لا يرفع رأسه من السجود ليركع، ومنهم من هو راكع لا يقوم من ركوعه، ومنهم صافّون للعبادة لا يتفارقون من مكانهم، ومنهم مسبحون لا يملُّون من تسبيحهم، كما قال سبحانه وتعالى حكاية عنهم:

﴿وَمَا مِنَّا إلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ * وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ * وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ﴾ إشارة إلى تفاوت مراتبهم ودرجاتهم في العبادة، أي ما منَّا أحدٌ إلَّا له مقام معلوم في العبادة والمعرفة والانتهاء إلى أمر اللّه في تدبير العالم، وإنَّا لنحن الصافُّون في أداء الطَّاعة ومنازل الخدمة، وإنَّا لنحن المسبِّحون المنزِّهون اللّه عمَّا لا يليق به، وقيل: إنَّ المراد بالصَّافين هم القائمون صفوفًا في الصَّلاة، وعن الكلبي صفوف

الملائكة في السماء كصفوف أهل الدُّنيا في الأرض، وعن الجبائي المعنى صافون بأجنحتنا في الهواء للعبادة والتَّسبيح، والمراد بالمسبحين هم القائلون سبحان اللّه على وجه التعظيم للّه تعالى)(2).

وفي قوله تعالى:

(وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ﴾ [الأنبياء/ 19 ]، أي لا يضعفون ولا يعيون وقيل لا يعجزون (3).

ثمَّ يصفهم الإمام بصفات أخر فيقول علیه السلام :

ص: 193


1- (1) نهج البلاغة: 1 / 38 – 40 .
2- (2) منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة: حبيب اللّه الخوئي: 247 / 6.
3- (3) ظ: تفسير القمي: 2 / 68 ، ظ: التبيان: الطوسي: 7 / 238 ، ظ: تبيين القرآن: محمد الشيرازي:2/ 323.

«لا يغشاهم نوم العين ولا سهو العقول»(1)، فهاتان الصفتان تدلان على استمرارية العبادة من الملائكة للّه تعالى، ثم يقول علیه السلام :

«ولا فترة الأبدان»(2) فقال تعالى:

﴿يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ﴾ [الأنبياء/ 20] الفترة وهي أي لا يملون من العبادة ولا يتركونها بل هم دائمون عليها(3) لا يفترون: أي لا يضعفون عن التَّسبيح قيل جُعل لهم التَّسبيح كما جعل لكم النفس في السهولة(4).

«﴿وَمَنْ عِندَهُ﴾ هم الملائكة، والمراد أنهم مكرمون، منزلون–لكرامتهم عليه–منزلة المقرّبين عند الملوك على طريق التمثيل والبيان لشرفهم وفضلهم على جميع خلقه، فإن قلت: الاستحسار مبالغة في الحسور، فكان الأبلغ في وصفهم أن ينفي عنهم أدنى الحسور، قلت: في الاستحسار بيان أنّ ما هم فيه يوجب غاية الحسور وأقصاه، وأنهم أحقاء لتلك العبادات الباهظة بأن يستحسروا فيما

يفعلون ﴿يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ﴾ [الأنبياء/ 20 ]، أي: تسبيحهم متصل دائم في جميع أوقاتهم، لا يتخلله فترة بفراغ أو شغل آخر»(5).

«﴿لَا يَفْتُرُونَ﴾ بمنزلة التفسير لقوله تعالى: (ولا يستحسرون) أي لا يأخذهم عيٌّ وكلال بل يسبِّحون الليل والنَّهار من غير فتور، والتسبيح بالليل والنهار كنايةً عن دوام التسبيح من غير انقطاع، يصف تعالى حال المقربين من

ص: 194


1- (1) نهج البلاغة: 1 / 38 – 40 .
2- (2) نهج البلاغة: 1 / 38 – 40 .
3- (3) ظ: التبيان: الطوسي: 7 / 231 .
4- (4) تفسير مجمع البيان: الطبرسي 7 / 77 – 78 .
5- (5) الكشاف: الزمخشري: 2 / 566 .

عباده والمكرمين من ملائكته أنَّهم مستغرقون في عبوديته مُكِبُّون على عبادته لا يشغلهم عن ذلك شاغل ولا يصرفهم صارف، وكأنَّ الكلام مسوق لبيان خصوصية مالكيته وسلطنته المذكورة في صدر الآية»(1).

القسم الثاني من الملائكة هم الأمناء يقول علیه السلام «ومنهم أمناءُ على وحيه»(2) ﴿مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ﴾ [التكوير/ 21 ] ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ﴾ [الشعراء/ 193 ]، وألسنة إلى رسله، ومختلفون بقضائه وأمره.

«قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله و سلم لجبرائيل علیه السلام ما أحسن ما أثنى عليك ربك ﴿ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ﴾ [التكوير/ 20 - 21 ] فما كانت قوتك وما كانت أمانتك فقال أما قوتي فإني بعثت إلى مداين لوط وهي أربع مداين في كل مدينة أربعمائة ألف مقاتل سوى الذراري فحملتهم من الأرض السفلى حتى سمع أهل السماوات أصوات الدجاج ونباح الكلاب ثم هويت بهن فقلبتهن وأما أمانتي فإني لم أومر بشيء فعدوته إلى غيره»(3).

عن الإمام أبي عبد اللّه علیه السلام في قوله:

﴿ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ﴾ [التكوير/ 20 ] قال علیه السلام :

«يعني جبرئيل قلت: قوله ﴿مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ﴾ [التكوير/ 21 ]، قال: يعني رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله و سلم هو المطاع عند ربِّه الأمين يوم القيامة»(4).

وقد رويت هذه الرواية بطرق مختلفة تؤدي إلى المضمون نفسه.

ص: 195


1- (1) تفسير الميزان: الطباطبائي: 14 / 265
2- (2) نهج البلاغة: 1 / 38 .
3- (3) تفسير مجمع البيان: الطبرسي: 10 / 252
4- (4) بحار الأنوار: المجلسي: 9 / 248 .

ثمَّ القسم الثالث وهم الحفظة على العباد وقد وصفهم الإمام علیه السلام :

«وَمِنْهُمُ اَلْحَفَظَةُ لِعِبَادِهِ »(1) الذين جاء ذكرهم في آيات متفرقة من القرآن الكريم:

﴿وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِه وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً﴾ [الأنعام/ 61 ]،

(وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ﴾ [الانفطار/ 10]،

﴿إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ﴾ [الطارق/ 4].

أما الأصناف الأخرى التي أشار إليها الإمام علیه السلام هي:

«وَمِنْهُمُ اَلثَّابِتَةُ فِي اَلْأَرَضِينَ اَلسُّفْلَی أَقْدَامُهُمْ وَاَلْمَارِقَةُ مِنَ اَلسَّمَاءِ اَلْعُلْيَا أَعْناَقُهُمْ وَاَلْخَارِجَةُ مِنَ اَلْأَقْطَارِ أَرْكَانُهُمْ وَاَلْمُنَاسِبَةُ لِقَوَائِمِ اَلْعَرْشِ أَكْتَافُهُمْ نَاكِسَةٌ دُونَهُ أَبْصَارُهُمْ»(2).

وقد أشارت الآيات الكريمة إلى أصناف أخر من الملائكة، فمنهم الحافين حول العرش:

﴿وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الزمر/ 75 ]، وحملة العرش:

(الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ﴾ [غافر/ 7] وغيرهم.

الأمور التكوينية في كلام الإمام علیه السلام :

ص: 196


1- (1) نهج البلاغة: 1 / 38 .
2- (2) نهج البلاغة: 1 / 39 .

ضمَّ كلام الإمام علي علیه السلام وصف يوم القيامة وبعض الأحداث التي تحصل في ذلك اليوم ومنها ما يحصل للأرض والجبال ومن ثم إخراج الناس للحساب فيكونون على فريقين، إذ يقول الإمام علیه السلام في أحد أدعيته الواردة في الصحيفة العلوية:

«فأرَّجَ أرضَهم، وأرْجَفَها، وزلزلَها، وقلعَ جبالَها ونَسَفَها وسیَّرها، وركَّب بعضها بعضًا من هيبتِه وجلالِه، وأخرجَ من فيها فجدَّدهم بعد بلائِهم، وجمعهم بعد تفريقهم، يريدُ أن يُحْصِيَهم ويميِّزهم، فريقًا في ثوابه وفريقًا في عقابه فخلَّدَ الأمرَ لأبدِهِ دائمًا خيرَهُ و شرَّهُ، ثمَّ لم ينسَ الطَّاعةَ من المطيعين، ولا المعصيةَ من العاصين، فأرادَ عز وجل أنْ يجازيَ هؤلاء، وينتقمَ من هؤلاء»(1) ، وقد ورد هذا المقطع في خطبة له علیه السلام بألفاظ متقاربة:

«وَأَرَجَّ اَلْأَرْضَ وَأَرْجَفَهَا وَقَلَعَ جِبَالَهَا وَنَسَفَهَا وَدَكَّ بَعْضُهَا بَعْضاً مِنْ هَيْبَةِ جَلاَلَتِهِ وَمَخُوفِ سَطْوَتِهِ وَأَخْرَجَ مَنْ فِيهَا فَجَدَّدَهُمْ بعد أخْلاَقِهِمْ وَجَمَعَهُمْ بَعْدَ تَفَرُّقِهِمْ ثُمَّ مَيَّزَهُمْ لِمَا يُرِيدُ مِنْ مَسْأَلَتِهِمْ عَنْ خَفَايَا اَلْأَعْمَلِ وَخَبَايَا اَلْأَفْعَالِ وَجَعَلَهُمْ فَرِيقَيْنِ أَنْعَمَ عَلَی هَؤُلَاءِ وَاِنْتَقَمَ مِنْ هَؤُلَاءِ»(2).

إذ تتجلى في هذا الدعاء المبارك مقاطع تصويرية لبعض أمور الكون التي وردت في القرآن الكريم إذ يصف علیه السلام الأرض بالارتجاج في قوله علیه السلام :

«وأرَجَّ الأرض، وأرْجَفَها، وزلزلَها، وقلعَ جبالَها ونَسَفَها» ومعنى ذلك «أي حرَّكها مع رجيج وصوت، و(رَجَّ) لغة القرآن، وأرجفها: جعلها مضطربة،

ص: 197


1- (1) الصحيفة العلوية: الأبطحي: 42 – 43 .
2- (2) نهج البلاغة: 240 – 241 .

ونسفها: قلعها»(1)، ويأتي الارتجاج بمعنى التزلزل أيضا «أرَجَّ الأرض: زلزلها تقول: رُجَّت الأرض وأرَجَّها اللّه ويجوز رجَّها، وقد روي رجَّ الأرض بغير همزة وهو الأصح وعليه ورد القرآن ﴿إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا﴾ [الواقعة/4]»(2).

استعمل الإمام علیه السلام في هذا القول لفظة قرآنية وهي (أرَجَّ) وهي لغة القرآن الكريم كما في قول ابن أبي الحديد الآنف الذكر التي جاءت من رجَّ التي في قوله تعالى:

﴿إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا﴾ [الواقعة/ 4]، إذ تظهر المماثلة بين سياق الدعاء وسياق القرآن الكريم ولا سيما المعنى، فقد ذهب الطوسي في معنى الآية الكريمة:

﴿إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا﴾: «زُلزلت الأرض زلزالًا »(3)، أي حُرِّكَت حركةً شديدةً وتَزلزلت زلزالًا شديدًا، أي رَجفت بإماتة من على ظهرها من الأحياء وتُرجُّ بما فيها كما يُرجُّ الغربال بما فيه أي تُرج بإخراج من في بطنها من الموتى(4)، وينقلنا هذا المعنى إلى قوله تعالى:

(إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا﴾ [الزلزلة/ 1- 2].

ولفظة (أرجف) التي جاءت من الأصل اللغوي (رجف)(5)، فمن مشتقاتها الواردة في القرآن الكريم ترجف والرَّاجفة والرَّجفة جاءت في قوله تعالى:

ص: 198


1- (1) منهاج البراعة: الراوندي: 2 / 467 .
2- (2) شرح نهج البلاغة: ابن أبي الحديد: 36 / 15 .
3- (3) التبيان: الطوسي: 9 / 475 .
4- (4) ظ: تفسير مجمع البيان: الطبرسي: 9 / 323 .
5- (5) ظ: لسان العرب: ابن منظور: 9 / 112 – 113 ، مادة (رجف).

(يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا﴾ [المزمل/ 14 ] وقوله تعالى:

﴿يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ﴾ [النازعات/ 6]، وقوله تعالى:

(فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ﴾ [الأعراف/ 78 ، 91 ]،

(فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ) [الأعراف/ 155 ]،

(فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ﴾ [العنكبوت/ 37 ].

(يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا﴾ [المزمل/ 14 ]، تبدو واضحة في كون الارتجاف مختصًا بالأرض ومعنى ترجف الأرض: تتزلزل وتتحرك باضطراب شديد(1)، أمَّا الرَّاجفة فذُكِرَتْ لها معان عدة ومنها أنَّ الرَّاجفة هي الأرض تنشق بأهلها(2)، فالرَّجف حركة الشيء من تحت غيره بترديد واضطراب، وهي الزلزلة العظيمة أي إنَّ الأرض تتزعزع (3). وقيل هي «النفخة الأولى التي يموت فيها جميع الخلائق والراجفة صيحة عظيمة فيها تردد واضطراب كالرَّعد إذا تمخض»(4).

الرَّاجفة إذن تكون بمعنى تزلزلُ الأرض وبمعنى الصَّيحة والنَّفخة، ومن الممكن أنَّ يكون المعنى الأول أقربها وأصحها بدليل أنَّ هذه اللفظة جاءت في

ص: 199


1- (1) ظ: التبيان: الطوسي: 10 / 166 ، ظ: التفسير الأصفى: الكاشاني: 2 / 1368
2- (2) ظ: تفسير القمي: 2 / 403
3- (3) ظ: التبيان: الطوسي: 10 / 253 .
4- (4) تفسير مجمع البيان: الطبرسي: 10 / 228 .

آية أخرى تصف الأرض ﴿يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ﴾ [المزمل/ 14]، وكذلك في كلام الإمام علیه السلام :

«أرج الأرض وأرجفها»(1) .

فقد جاء في بيان قوله علیه السلام :

«أرجفها جعلها راجفة أي مرتعدة مُتَزَلْزِلَة رجفتِ الأرض والرَّجفان الاضطراب الشَّديد وسمي البحر رَجَّافًا لاضطرابه»(2)، وهو مطابق لمعناها في القرآن الكريم، أما معنى الرجفة في الآيات الثلاث فجاءت بمعنى «الزَّلزلة العظيمة والحركة الشَّديدة »(3) وقيل الرَّجفة: «أي الصَّيحة»(4).

فيتبين من كلام الإمام علیه السلام أن الارتجاج والارتجاف والتزلزل هذه الحالات كلها تكون في الأرض فهي معانٍ تصور مشهدًا عجيبًا وحالًا من أحوال الأرض غير الطبيعية وذلك في يوم القيامة، وهو ما وجدته مناظرًا أو مصورًا لهذا المعنى وهو موجودٌ في آيات أخر تتحدث عن يوم القيامة كما في بداية سورة الزلزلة المباركة.

ثم يقول الإمام علیه السلام :

«وقلع جبالها ونسفها وسيرها»(5) «تسيِّير الجبال تصيِّيرها هباءً

ص: 200


1- (1) نهج البلاغة: 240 .
2- (2) شرح نهج البلاغة: ابن أبي الحديد: 36 / 15 .
3- (3) التبيان: الطوسي: 4 / 555 .
4- (4) مجمع البيان: الطبرسي: 4 / 293 .
5- (5) الصحيفة العلوية: الأبطحي: 42 .

وسرابًا»(1)، في هذا المقطع إخبار عن حال الجبال في ذلك اليوم الحقّ بلحاظ ما جاء في القرآن الكريم بما يخص مصير الجبال في يوم القيامة إذ تظهر لنا أنَّ الجبال ستطويها مراحل متعاقبة، تبدأ حركتها من:

(وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا﴾ [الطور/ 10 ] ثمَّ تُمل وتُدك:

(وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً﴾ [الحاقة/ 14 ]، فتكون تلالًا من الرِّمال المتراكمة:

(يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا﴾ [المزمل/ 14 ]، فتصبح كأصواف منفوشة:

(وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ﴾ [القارعة/ 5]، فتتحول غبارًا متناثرًا في الفضاء:

(وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا * فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا﴾ [الواقعة/ 5- 6]، ولا يبقى منها أخيرًا إلا الأثر، كما أشارت لذلك الآية أعلاه، وكأنَّه يلوح في الأفُق، ويصبح سطح الأرض مستويًا بعد أن تُمحى الجبال من فوقها:

(يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا * فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا﴾ [طه/ 110 ](2).

«وقلعَ جبالَا ونَسَفَها وسَیَّرها»(3) وقوله تعالى:

(وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ﴾ [المرسلات/ 10 ] نَسْفُ الجبال إذهابُا... والنسف تحريك الشيء بما يخرج ترابه وما اختلط به مما ليس منه، ومنه سمي المنسف ونسف الحبوب كلها تجري على هذا الوجه، وقوله: ﴿نُسِفَتْ﴾ من قولهم:

ص: 201


1- (1) التبيان: الطوسي: 10 / 281 .
2- (2) ظ: تفسير الأمثل: الشيرازي: 19 / 342 .
3- (3) الصحيفة العلوية: الأبطحي: 42 .

أنسفتُ الشيء إذا أخذتُه بسرعة(1)، (وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ﴾ «أي قُلِعَت من مكانها كقوله سبحانه: ﴿يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا﴾ وقيل نُسفت أُذهبت بسرعة حتى لا يبقى لها أثر في الأرض»(2).

«ونسفها: قلعها من أصولها، «يُريدُ أن یُحْصِيَهم ويميِّزهم»(3) ميَّزهم أي فصل بينهم فجعلهم فريقين سعداء وأشقياء ومنه قوله تعالى:

(وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ﴾ [يس/ 59] أي انفصلوا من أهل الطاعة»(4).

في قوله تعالى:

(إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا﴾ [الزلزلة/ 1] ﴿زِلْزَالَهَا﴾ يعني أنَّ الأرض بأجمعها تهتز في ذلك اليوم خلافًا للزلازل العادية الموضعية عادةً أو أنَّها إشارة إلى الزلزلة المعهودة، أي زلزلة يوم القيامة، و(الأثقال) ذكر المفسِّرون لها معاني عدة قيل إنَّها البشر الذين يخرجون من أجداثهم على أثر الزلزال كما جاء في قوله سبحانه:

(وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ﴾ [الانشقاق/ 4]، وقيل إنَّها الكنوز المخبوءة التي ترتمي إلى الخارج، وتبعث الحسرة في قلوب عُبَّاد الدنيا، ويحتمل أيضًا أن يكون المقصود إخراج المواد الثقيلة الذائبة في باطن الأرض، وهو ما يحدث في أثناء البراكين والزلازل، فإنَّ الأرض في نهاية عمرها تدفع ما في أعماقها إلى الخارج

ص: 202


1- (1) التبيان: الطوسي: 10 / 217 .
2- (2) تفسير مجمع البيان: الطبرسي: 10 / 204 .
3- (3) الصحيفة العلوية: الأبطحي: 42 .
4- (4) شرح نهج البلاغة: ابن أبي الحديد: 36 / 15 .

على أثر ذلك الزلزال العظيم، في ذلك الجو المليء بالرهبة والفزع، تصيب الإنسان دهشة ما بعدها دهشة فيقول في ذعر: ما لهذه الأرض تتزلزل وتلقي ما في باطنها ؟، (وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا﴾ [الزلزلة/ 3] وأهم من ذلك أنّ الأرض:

(يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا﴾ [الزلزلة/ 4] تحدِّث بالصَّالح والطَّالح، وبأعمال الخير والشر، ممَّا وقع على ظهرها، ﴿يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ) [الزلزلة/ 6]، (أشتات) جمع (شتّ) على وزن شطّ، وهو المتفرق والمبعثر، أي إنَّ النَّاس يردون ساحة المحشر متفرقين مبعثرين، وقد يكون التفرق والتبعثر لورود أهل كلّ دين منفصلين عن الآخرين أو قد يكون لورود أهل كلّ نقطة من نقاط الأرض بشكل منفصل، أو قد يكون لورود جماعة بأشكال جميلة مستبشرة، وجماعة بوجوه عبوسة مكفهرة إلى المحشر، أو إن كلّ اُمّة ترد مع إمامها وقائدها كما في قوله تعالى:

(يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ﴾ [الإسراء/ 71]، أو أن يُحشر المؤمنون مع المؤمنين والكافرون مع الكافرين، الجمع بين هذه التفاسير ممكن تمامًا لأنَّ مفهوم الآية واسع، قوله تعالى:

(لِیُرَوْا أَعْمَالَهُمْ﴾ ليروا جزاء أعمالهم، أو ليروا صحيفة أعمالهم وما سجل فيها من حسنات وسيئات أو المشاهدة الباطنية، بمعنى المعرفة بكيفية الأعمال أو أنَّا تعني (تجسم الأعمال) ورؤية الأعمال نفسها، ثمَّ ينتقل الحديث إلى جزاء أعمال المجموعتين المؤمنة والكافرة، الصالحة والطالحة ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ [الزلزلة/ 7- 8] رؤية الأعمال أي هي رؤية جزاء الأعمال، أو صحيفة الأعمال، أو العمل نفسه يوم القيامة حتى إذا

ص: 203

عمل ما وزنه ذرة من الذرات يَرَهُ(1).

كأنَّ كلام الإمام في الدعاء والخطبة في محتواه قراءة في هذه السورة جاءت بلسان مدَّكر خبير بعد أن يُسِّر القرآن للذكر فكان الإمام علیه السلام خير متدبر في القرآن الكريم وهو الذي نهل تفسيره من رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله و سلم واللغة طوع بنانه فكان منه أن تبدو بعض مقاطع الدُّعاء والخطبة متناسقة الفحوى مع بعض آيات هذه السّورة المباركة في أعلاه، إذ يسرد الإمام علیه السلام في كلامه من أحداث يوم القيامة بترتيب مقارب لآيات السورة، وذلك ببيان صور من الأحداث الهائلة المفزعة التي ترافق نهاية هذا العالم وبدء البعث والنشور، إذ يقول الإمام علیه السلام ثم وصل الأمر إلى الأرض ثم تكلم عن ارتجاجها وارتجافها وتزلزلها وهنا تخبر السورة عن تزلزل الأرض و من ثم إخراج أثقالها وقد ذكرت التفاسير بأنهم الأموات يخرجون من الأرض و الإمام يقول أخرج من فيها... وجمعهم بعد تفريقهم، وقد جاء في السورة ﴿يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ﴾ [الزلزلة/ 6] أشتات أي أنَّهم متفرقون، ليروا أعمالهم إلى نهاية السورة الكريمة يوضح كيفية محاسبة الناس على أعمالهم وقِسمَتَهُم فريقين من عَمِلَ الخير يَرَهُ ومن عَمِل الشر يَرَهُ أيضا «وجمعهم بعد تفريقهم، يريد أن يحصيهم ويميِّزهم، فريقًا في ثوابه وفريقًا في عقابه فخلد الأمر لأبده دائمًا خيره وشره، ثمَّ لم ينسَ الطَّاعة من المطيعين، ولا المعصية من العاصين، فأراد عز وجل أن يجازي هؤلاء، وينتقم من هؤلاء»(2).

هذه الآيات الكريمة تذكر أصناف الملائكة وأعمالهم وعباداتهم المستمرة للّه

ص: 204


1- (1) ظ: تفسير الأمثل: مكارم الشيرازي: 20 / 375 .
2- (2) الصحيفة العلوية: الأبطحي: 42 – 43 .

عز وجل من غير ملل ولا سأم، وبعض الأصناف كان قد أشار إليها الإمام علیه السلام في كلامه وفي مقطع الخطبة آنف الذكر، ممَّا يتجلى بوضوح قدرة الإمام علیه السلام على الربط العجيب في كلامه بالقرآن الكريم.

ص: 205

ص: 206

المبحث الثالث : كلام الإمام علي علیه السلام في أمور أخلاقية متفرقة

الزهد.

من درر الإمام علیه السلام أن جعل معنى الزهد بين كلمتين بين عدم الحزن والندم على ما فات وعدم الفرح بما هو آت، وقد استخلص الإمام هذا من القرآن الكريم إذ يقول علیه السلام :

«الزُّهد ثروة، والورع جنة، وأفضل الزهد، إخفاء الزهد، الزهد يخلق الأبدان و جدد الآمال ويقرب المنية ويباعد الأمنية من ظفر به نصب ومن فاته تعب، ولا كرم كالتَّقوى ولا تجارة كالعمل الصالح ولا ورع كالوقوف عند الشبهة ولا زهد كالزهد في الحرام، الزهد كله بين كلمتين، قال اللّه تعالى:

(لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ﴾ [الحديد/ 23 ]، فمن لم يأسَ على الماضي ولم يفرح بالآتي فقد أخذ الزهد بطرفيه، أيها الناس الزهادة قصر الامل، والشكر عند النعم والورع عند المحارم فإن عزب ذلك عنكم فلا يغلب الحرام صبركم، ولا تنسوا عند النعم شكركم

ص: 207

فقد اعذر اللّه اليكم بحجج مسفرة ظاهرة، وكتب بارزة العذر واضحة»(1).

ترك الكذب.

قال الإمام علي علیه السلام :

«لا يصلح من الكذب جدٌّ ولا هزل ولا أنْ يَعِدَ أحدكم صبيهُ ثمَّ لا يفي له، والكذبَ يهدي إلى الفجور، والفجور يهدي إلى النَّار، وما يزال أحدكم يكذب حتَّى يقال كذب وفجر، وما يزال أحدكم يكذب حتى لا يبقى في قلبه موضع أبرة صدقٍ فيسمَّى عند اللّه كذابًا»(2) ، «الصدق سيف اللّه في أرضه وسمائه أينما

ص: 208


1- (1) روضة الواعظين: الفتال النيسابوري: 434 .
2- (3) الأمالي: الصدوق: 505 .

هوى به يَقُدْهُ فإذا أردت أن تعلم أصادق أنت أم كاذب؟ فانظر في صدق معناك وعقد دعواك وعيرهما بقسطاس من اللّه تعالى كأنَّك في القيامة قال اللّه تعالى:

(وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ﴾ [الأعراف/ 8]، فإذا اعتدل معناك يفوز دعواك ثبت لك الصدق وأدنى حدِّ الصِّدق أنْ لا يخالف اللِّسان القلب ولا القلب اللسان ومثلُ الصَّادق الموصوف بما ذكرناه كمثل النازع لروحه إن لم ينزع فماذا يصنع»(1).

صلة الرَّحم.

عن الإمام علي علیه السلام قال:

«إنَّ أحدكم ليغضبُ فما يرضى حتى يدخل به النَّار، فأيَّما رجلٌ منكم غضب على ذي رحمه فليَدنُ منه، فإنَّ الرَّحم إذا مستها الرَّحم استقرت، وإنَّا متعلقة بالعرش تنتقض انتقاض الحديد، فتنادي اللهم صِل من وصلني، واقطع من قطعني»(2) ، وذلك قول اللّه في كتابه:

(وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء/ 1]، ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ﴾ قيل في معناه قولان: أحدهما: أنَّه من قولهم أسألك باللّه أن تفعل كذا وأنشدك باللّه وبالرَّحم ونشدتك اللّه والرحم، وعلى هذا يكون قوله تعالى: (وَالْأَرْحَامَ﴾ عطفًا على موضع قوله تعالى: ﴿بِهِ﴾ والمعنى إنَّكم كما تعظمون اللّه بأقوالكم فعظموه بطاعتكم إيِّاه، والآخر: أن معنى ﴿تَسَاءَلُونَ بِهِ﴾ تطلبون حقوقكم وحوائجكم فيما بينكم به

ص: 209


1- (1) مصباح الشريعة: منسوب للإمام الصادق: 1 / 14 .
2- (2) بحار الأنوار: المجلسي: 70 / 265 .

(وَالْأَرْحَامَ﴾ معناه واتَّقوا الأرحام أن تقطعوها(1).

الفرح وأنواعه.

الفرح نوعان مذموم ومحمود، فالفرح الذي كره من المؤمنين وقد نهى اللّه عنه في القرآن الكريم ولا يحبُّه للمؤمنين هو الفرح بمتاع الدنيا وزينتها نعيمها الزائل، والحكمة من كراهة الفرح بنعيم الدنيا؛ لأنَّه يشغل الإنسان ويلهيه عن الآخرة ويجعل منه أشرًا بطرًا، فبدل الفرح على المؤمن شكر اللّه تعالى وذكره.

جاء النهي عن الفرح وأن اللّه تعالى لا يحب الفرحين في الآية التي تحدثت عن قارون وقد آتاه اللّه تعالى من الكنوز ما آتاه فنهُيَ عن الفرح ﴿إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ﴾ [القصص/ 76 ]، فُسِّر الفرح بالبطر وهو لازم الفرح والسُّرور المفرط بمتاع الدُّنيا فإنَّه لا يخلو من تعلق شديد بالدُّنيا ينسي الآخرة ويورث البطر والأشر، ولذا قال تعالى:

﴿وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ﴾ [الحديد/ 23 ]، وعلَّل النَّهي بقوله:

﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ﴾(2)، وهذا الفرح مذموم وباطل، وقد يكون الفرح ممدوحًا ومطلوبًا في بعض الأحيان، كما تفيد الآيتان من سورة الروم في قوله تعالى:

﴿وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ﴾ [الروم/ 4- 5]، إذ يتمُّ التَّفريق بين

ص: 210


1- (1) ظ: تفسير مجمع البيان: الطبرسي: 3 / 5.
2- (2) ظ: تفسير الميزان: الطباطبائي: 16 / 38 .

الموردين بوساطة القرائن(1).

والفرح من النوع الأول هو الذي جاء النهي عنه في كلام الإمام علي علیه السلام إذ يقول الإمام مبيِّناً عن أي الفرح قد نهى اللّه والحكمة منه، إذ يقول علیه السلام :

«أوحى اللّه تبارك وتعالى إلى موسى علیه السلام لا تفرح بكثرة المال، ولا تدع ذكري على كلِّ حال، فإنَّ كثرة المال تنسي الذنوب، وترك ذكري يقسي القلوب»(2)، وعنه علیه السلام أيضًا:

«والفرح مكروه عند اللّه عزَّ وجلَّ»(3).

فالأفضل للعباد الانشغال بذكر اللّه وشكره، قال الإمام علي علیه السلام :

«جمع الخير في ثلاث خصال، في النظر، والسكوت، والكلام، فكل نظر ليس فيه اعتبار فهو سهو، وكل سكوت ليس فيه فكرة فهو غفلة، وكل كلام ليس فيه ذكر فهو لغو فطوبى لمن كان نظره عبرًا، وسكوته فكرًا، وكلامه ذكرًا، وبكى على خطيئة، وأمن الناس شره»(4).

التحية بالسلام.

قال تعالى:

(وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا﴾ [النساء/ 86 ]، ويقول الإمام علي علیه السلام في الحث على إفشاء السلام:

«لا تَغضبوا ولا تُغضبوا، أفشوا السَّلام وأطيبوا الكلام وصلُّوا باللَّيل والنَّاس نيام تدخلوا الجنة بسلام، ثمَّ تلا قول اللّه:

﴿السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ﴾ [الحشر/ 23 ]، وقال علیه السلام :

السَّلام سبعون حسنة تسع وستون للمبتدِئ وواحدة للرَّاد»(5).

معنى (حين).

«سُئل الإمام الصادق علیه السلام عمَّن نذر أن يصوم حينًا ولم يسمِّ شيئًا بعينه؟ فقال:

كان الإمام علي علیه السلام يلزمه أن يصوم ستة أشهر، ويتلو قول اللّه عزَّ وجلَّ:

ص: 211


1- (1) ظ: تفسير الأمثل: الشيرازي: 15 / 321 .
2- (2) الخصال: الصدوق: 39 .
3- (3) بحار الأنوار: المجلسي: 69 / 91 .
4- (4) مشكاة الأنوار: علي الطبرسي: 1 / 41 .
5- (2) مشكاة الأنوار: علي الطبرسي: 345 – 346 .

(تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا﴾ [إبراهيم/ 25 ]، وذلك في كل ستة أشهر»(1) وأن الإمام علياً علیه السلام قال في رجل نذر أن يصوم زمانًا، قال:

«الزمان خمسة أشهر، والحين ستة أشهر » لأن اللّه عزَّ وجلَّ يقول:

(تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا﴾ [إبراهيم/ 25 ](2).

روي أن رجلًا سأل أبا بكر عن الحين، وكان نذر ألَّا يكلم زوجته حيناً، فقال أبو بكر: إلى يوم القيامة لقوله تعالى:

﴿وَمَتَاعٌ إِلَی حِينٍ﴾ [البقرة/ 36 ]، فسأل عمراً فقال: أربعين سنة لقوله تعالى:

(هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ﴾ [الإنسان/ 1]، فسأل عثمان فقال: سنة لقوله تعالى:

(تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ﴾ [إبراهيم/ 25 ]، فسأل عليًا فقال علیه السلام :

«إنْ نذرتَ غدوةً فتكلمْ عشيةً وإنْ نذرتَ عشيةً فتكلمْ بكرةً لقوله تعالى:

﴿فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ﴾ [الروم/ 17 ]، ففرح الرَّجل وقال الرَّجل: اللّهُ أعلمُ حيثُ يجعل رسالاته»(3).

الأكل والشرب.

قال الإمام علیه السلام :

ص: 212


1- (1) وسائل الشيعة: العاملي: 10 / 389 .
2- (2) المصدر نفسه: 10 / 388.
3- (3) بحار الأنوار: المجلسي: 101 / 244 – 245 .

«اشربوا ماء السماء، فإنَّه يطهر البدن ويدفع الأسقام قال اللّه تعالى:

﴿وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ﴾ [الأنفال/11]»(1).

(يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾ [الأعراف/ 31] «قوله تعالى: ﴿وكُلُوا وَاشْرَبُوا﴾ صورته صورة الأمر، ومعناه إباحة الأكل والشرب، وقوله تعالى: ﴿وَلا تُسْرِفُوا﴾ نهيٌ عن الإسراف، وهو الخروج عن حد الاستواء في زيادة المقدار، أو الخروج عن

الحلال إلى الحرام، أو الخروج مما ينفع إلى ما يضر، وقيل: الزيادة على الشبع فالإسراف والاقتار مذمومان، وقوله تعالى: ﴿إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾ معناه يبغض المسرفين، لأنَّه ذمٌّ لهم، ولو كان بمعنى لا يحبهم ولا يبغضهم لم يكن ذمًّا لهم ولا مدحًا، وقيل: من لا يحبه اللّه فهو يبغضه ويعاديه»(2).

(وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا﴾ [الفرقان/ 67 ]، اختلف في معنى الإسراف(3)، فقيل: هو النفقة في المعاصي والإقتار(4)، الإمساك عن حق اللّه تعالى وقيل السرف مجاوزة الحد في النفقة والإقتار التقصير عما لا بدَّ منه، سُئل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله و سلم عن ذلك فقال:

ص: 213


1- (1) بحار الأنوار: المجلسي: 59 / 97 .
2- (2) التبيان: الطوسي: 4 / 387 .
3- (3) «سرف: السَّرف والإسْرافُ مُجاوزةُ القَصْدِ وأَسرفَ في ماله عَجِلَ من غير قصد وأَما السَّرفُ الذي نَهَى اللّه عنه فهو ما أُنْفِقَ في غير طاعة اللّه قليلًا كان أَو كثيرًا والإسْرافُ في النفقة التبذيرُ، لسان العرب: 9 / 148 )) (سرف).
4- (4) قتر: القُتْر: الرُّمْقةُ في النفقة، واقتر الرجل، فهو مُقتِرٌ إذا أقل فهو مُقِلُّ، ظ: العين: الفراهيدي: 1/ 392 ، مادة قتر، ظ: لسان العرب: ابن منظور: 5 / 73 (قتر).

«من أعطى في غير حق فقد أسرف ومن منع عن حق فقد قتر»(1)، روي عن الإمام علي علیه السلام أنَّه قال:

«ليس في المأكول والمشروب سرف وإن كثر»(2)، ﴿وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا﴾ [الفرقان/ 67 ]، أي وكان إنفاقهم بين الإسراف والإقتار لا إسرافًا يدخلون به في حد التبذير ولا تضيِّيقًا يصيرون به في حد المانع لما يجب وهذا هو المحمود والقوام من العيش ما أقامك وأغناك وهو العدل والاستقامة(3)، وقال أبوعبد اللّه علیه السلام القوام هو الوسط ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا﴾ [الفرقان/ 67 ]، واختلفوا في (السرف) في النفقة، فقال قوم: كلّ ما أُنفق في غير طاعة اللّه، فهو سرفٌ، لقوله تعالى:

﴿إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ﴾ [الإسراء/ 27 ]، وقال الإمام علي علیه السلام:

ليس في المأكول والمشروب سرف وإن كثر، وقيل: الإسراف في الحلال فقط، لأنَّ الحرام لا يجوز الانفاق فيه ولو ذرة، ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا﴾ أي لم يخرجوا عن العدل في الانفاق، ﴿وَلَمْ يَقْتُرُوا﴾ أي لم يقصِّوا عن العدل في الانفاق(4).

روي أنَّ الإمام علياً علیه السلام أُتي بخبيص(5) فأبى أن يأكله فقالوا له: أ تحرِّمه؟ قال: لا ولكنِّي أخشى أن تتوق إليه نفسي فأطلبه ثم تلا هذه الآية ﴿أذْهَبْتُمْ

ص: 214


1- (1) زبدة البيان: الأردبيلي: 410 .
2- (2) بحار الأنوار: المجلسي: 66 / 261 .
3- (3) ظ: تفسير مجمع البيان: الطبرسي: 7 / 279 .
4- (4) التبيان: الطوسي: 7 / 498 .
5- (5) الَخبِيصُ الحَلْواءُ المَخْبُوصةُ، لسان العرب: 7 / 20 ، مادة (خبص).

طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا﴾ [الأحقاف/20]»(1).

ومن خطبة له علیه السلام يقول فيها:

«ولو شئت لتسربلتُ بالعبقري المنقوش من ديباجكم ولأكلتُ لباب البرِّ بصدور دجاجكم ولشربتُ الماء الزلال برقيق زجاجكم، ولكنِّي أصدق اللّه جلَّت عظمته إذ يقول:

(مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ﴾ [هود/15]»(2).

وقد حرم الإسلام أكل السحت وقد ذكر في القرآن الكريم، وفي معنى السحت جاء بيان ذلك عن الإمام علي علیه السلام في قوله تعالى:

(أَكَّالوُنَ للِسُّحْتِ﴾ [المائدة/ 42 ]، قال:

«هو الرجل يقضي لأخيه الحاجة ثم يقبل هديته»(3)، وفي أنواع السحت قال الإمام علي علیه السلام :

«من السحت ثمن الميتة، وثمن الكلب، ومهر البغي، والرشوة في الحكم، وأجر الكاهن»(4).

وعنه علیه السلام أنَّه قال:

«من السُّحت الهدية يلتمس بها مهديها ما هو أفضلُ منها، وذلك قول اللّه تعالى:

ص: 215


1- (1) الأمالي: المفيد: 134 .
2- (2) الأمالي: الصدوق: 719 .
3- (3) بحار الأنوار: المجلسي: 101 / 273 .
4- (4) الخصال: الصدوق: 329 .

﴿وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ﴾ [المدثر/6]»(1).

فقد ميَّز الإمام علي علیه السلام بيْن معنى الحين في نذر الصِّيام ومعناها في نذر عدم الكلام، وهذا من مساحات الاطمئنان والأرض الصُّلبة التِّي وضعنا أقدامنا عليها لتوظيف كلام الإمام علي علیه السلام في فهم أعظم نص في الوجود.

في ختام هذا الفصل يتضح كيف استعرض الإمام علي علیه السلام صورًا لم تكن تحيط بفكرنا، إذ نجدها في آيات متفرقة من القرآن الكريم، فعمد الإمام إلى جمعها وعرضها في مشهد متكامل، فكان هذا أقرب للمعنى القرآني الكريم.

ص: 216


1- (1) دعائم الإسلام: النعمان: 2 / 327 .

الخاتمة

اشارة

ص: 217

ص: 218

الخاتمة

بعد هذه الوقفة المباركة مع كلام الإمام علي علیه السلام عبر فصول البحث التي اشتملت على خطبه وأدعيته وأحاديثه علیه السلام أسفرت هذه الوقفة عن مجموعة نتائج مثَّلت عُصارة الجهد المتواضع الذي جُمِعَ في صفحات هذه الرسالة.

ولعلَّ من أهم تلك النتائج ما يتمثَّل بالنقاط الآتية:

عبَّر الإمام عن مبادئ العقيدة الإسلامية أصدق التعبير؛ فأوضح بعضًا من الصفات الإلهية التي تحار العقول في فهمِ كنهها، فضلاً عمَّا أوضحه من أصول الدين الأخُر؛ لأنَّه ألصق بالقرآن، وألصق بالنبي محمَّد صلی اللّه علیه و آله و سلم الذي أُنزِل عليه القرآن الكريم.

بیَّن الإمام نكتًا دقيقة قد لا يُتنبَّه إليها بسهولة، ومن بينها ما بيَّنه في معنى (حين) لأحد السائلين وقد نذر أن لا يكلم زوجته حيناً فبیَّن له الإمام علیه السلام معنى (حين) قائلاً : إنْ نذرتَ غدوةً فتكلمْ عشيةً وإنْ نذرتَ عشيةً فتكلمْ بكرةً واستدل الإمام بالآية الكريمة:

﴿فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ﴾ [الروم: 17]، وبهذا فقد كان الإمام لا يكتفي بتفسيره للأحكام الفقهية وحسب، بل كان يقف على دقائق

ص: 219

الأمور مستلهمً تلك المعاني من القرآن الكريم.

من خصائص كلامه علیه السلام أنَّه يجمع فيه بين آياتٍ متفرقة ليصل إلى معنى واحد يقود إلى فهمٍ دقيق للمعنى القرآني، كحكمِهِ علیه السلام بعدم رجم المرأة التي وضعت لستة أشهر.

وكان علیه السلام يستعمل الآية القرآنية الواحدة في أكثر من موضع وموقف، وبذلك لا تكون الآية مختصة بمعنى واحد فحسب بل إنَّ الإمام يؤوِّلها إلى أكثر من معنى.

كانت لغةُ الإمامِ لغةً قرآنيةً ساعدت في الوصول إلى فهمِ كثيرٍ من الألفاظ والآيات القرآنية، إذ كان الإمام يكثر في كلامه من استعمال اللفظ القرآني والنصوص القرآنية.

وقف الإمام على الفروق اللغوية الدقيقة للمعنى القرآني للألفاظ القرآنية بموجب استعماله للفظ، فكان الفرق واضحًا لديه، وعن طريق هذا الفرق أمكننا التوصُّل إلى المعنى القرآني للآيات الكريمة التي تضمَّنت تلك الألفاظ.

الصور التي استعرضها الإمام علي علیه السلام لم نكُن لنُحيطَ بها بفكرنا، ولا سيَّما أنَّ القرآن الكريم قد ذكر أجزاءها في مواضع متعدِّدة وآيات متفرقة، فعمدَ علیه السلام بما يمتلكه من أدواتٍ تفسيرية إلى لملمة تلك الجزئيات وعرضها في مشهدٍ متكاملٍ فكان ذلك أقرب لفهم المعنى القرآني المراد.

ص: 220

المصادر

اشارة

ص: 221

ص: 222

ثبت المصادر والمراجع

القرآن الكريم

الاحتجاج: أبو منصور أحمد بن علي بن أبي طالب الطبرسي، تعليقات وملاحظات السيد محمد باقر الخرسان، منشورات طبع في مطابع النعمان - النجف الأشرف: حسن الشيخ إبراهيم الكتبي: 1386 ه- - 1966 م.

إرشاد القلوب المنجي من عمل به من أليم العقاب: الحسن بن أبي الحسن محمد الديلمي (من أعلام القرن الثّامن)، تحقيق: السَّيد هاشم الميلاني، النا ر: دار الأسوة للطباعة والنشر التابعة لمنظمة الأوقاف والشؤون الخيرية، الطبعة الثانية 1424 ه-.

الأصفى في تفسير القرآن: محمد محسن الفيض الكاشاني (ت 1091 ه-)، تحقيق: محمد حسين درايتي، محمد رضا نعمتي، مركز النشر التابع لمكتب الإعلام الإسلامي: الأبحاث والدراسات الإسلامية، قم المقدسة – الطبعة الأولى، 1418 ه-.

الألفين في إمامة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب علیه السلام: العلامة الحلي جمال الدّين الحسن ابن يوسف المطهر: مكتبة الألفين - الكويت، 1405 ه- - 1985 م.

الإلهيات على هدى الكتاب والسنة والعقل: الشيخ جعفر السبحاني، الناشر: الدار الإسلامية للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت – لبنان، الطبعة الأولى، 1409 ه-.

الأمالي: الصدوق أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين القمِّي (ت 381 ه-)، تحقيق:

ص: 223

قسم الدراسات الإسلامية، الناشر: مركز الطباعة والنشر في مؤسسة البعثة، مؤسسة البعثة – قم، الطبعة: الأولى، 1417 ه-.

الأمالي: الطوسي أبو جعفر محمد بن الحسن (ت 460 ه-)، تحقيق: قسم الدراسات الإسلامية – مؤسسة البعثة، الناشر: دار الثقافة – قم المقدسة، الطبعة الأولى: 1414 ه-.

الأمالي: المفيد أبو عبد اللّه محمد بن محمد بن النعمان العكبري البغدادي (ت 413 ه-)، تحقيق: علي أكبر غفاري، منشورات جماعة المدرسين في الحوزة العلمية، قم المقدسة، الناشر: المطبعة الإسلامية، 1403 ه-.

الأمثل في تفسير كتاب اللّه المنزل: العلامة الشيخ ناصر مكارم الشيرازي، الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، الطبعة الأولى 1426 ه-.

الانتصار: العاملي، الناشر: دار السيرة – بيروت، الطبعة: الأولى، 1420 ه- - 2000 م.

أوائل المقالات في المذاهب والمختارات: أبو عبد اللّه محمد بن محمد بن النعمان العكبري البغدادي الملقب بالشيخ المفيد (ت 413 ه-)، الناشر: دار المفيد، بيروت – لبنان، الطبعة الثانية: 1414 ه-.

الإيمان والكفر في الكتاب والسنة: الشيخ جعفر السبحاني، د. ط.

بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار: العلامة محمد باقر المجلسي (ت 1111 ه-)، الناشر: مؤسسة الوفاء، بيروت – لبنان، الطبعة الثانية، 1403 ه-.

البرهان في أصول الفقه: أبو المعالي عبد الملك بن عبد اللّه بن يوسف الجويني(ت 478 ه-)، تحقيق: د. عبد العظيم محمود الديب، الناشر: الوفاء - المنصورة – مصر، الطبعة الرابعة، 1418 ه-.

بصائر الدرجات في فضائل آل محمد (عليهم السلام): أبو جعفر محمد بن الحسن بن فروخ الصفار (ت 290 ه-)، تقديم وتعليق وتصحيح العلامة: ميرزا محسن، الناشر: مؤسسة الأعلمي - مطبعة الأحمدي، طهران - 1404 ه-.

ص: 224

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة: محمد تقي التستري، الناشر: مؤسسة نهج البلاغة، 1367 ه-.

التبيان في تفسير القرآن: أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي (ت 460 ه-)، تحقيق و تصحيح: أحمد حبيب قصير العاملي، الناشر: مكتب الإعلام الإسلامي، دار إحياء التراث العربي، الطبعة الأولى، 1209 ه-.

تبيين القرآن: السيد محمد الحسيني الشيرازي، الناشر: دار العلوم، بيروت – لبنان، الطبعة الثالثة، 2003 م.

التسهيل لعلوم التنزيل: أبو عبد اللّه محمد يدعى القاسم بن أحمد بن جزى الكلبي الغرناطي (ت 741 ه-)، الناشر: دار الكتاب العربي، لبنان، الطبعة الرابعة 1403 ه-.

التعريفات: علي بن محمد الشريف الجرجاني (ت 816 ه-)، الناشر: دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان، الطبعة الأولى، 1403 ه-.

تفسير الصَّافي: المولى محسن الفيض الكاشاني (ت 1091 ه-)، صححه وقدَّم له وعلَّق عليه العلامة الشيخ حسين الأعلمي، الناشر: مكتبة الصدر طهران، المطبعة: مؤسسة الهادي، قم المقدسة، الطبعة الثانية 1416 ه-.

تفسير العيَّاشي: أبو النضر محمد بن مسعود بن عياش السلمي السمرقندي المعروف بالعياشي، تصحيح وتحقيق وتعليق: السيد هاشم الرسولي المحلاتي، تصدر لطبعه ونشره السيد محمود الكتابي وأولاده صاحب المكتبة العلمية الإسلامية، طهران.

تفسير القرآن العظيم: أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي (ت 774 ه-) تحقيق: سامي بن محمد سلامة، الناشر: دار طيبة للنشر والتوزيع، الطبعة: الثانية 1420 ه- - 1999 م.

تفسير القمي: أبو الحسن علي بن إبراهيم القمي (ت 329 ه-)، تحقيق: تصحيح وتعليق وتقديم: السيد طيب الموسوي الجزائري، الناشر: مؤسسة دار الكتاب للطباعة والنشر - قم المقدسة - إيران، الطبعة: الثالثة، 1404 ه-.

ص: 225

التفسير الكبير أو مفاتيح الغيب: أبو عبد اللّه محمد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي الرازي الملقب بفخر الدِّين الرازي (ت 606 ه-).

تفسير نور الثقلين: الشيخ عبد علي بن جمعة العروسي الحويزي (ت 1112 ه-): تقديم: السيد محمد حسين الطباطبائي، تحقيق تصحيح وتعليق السيد هاشم الرسولي المحلاتي: مؤسسة اسماعيليان - قم – إيران، الطبعة الرابعة 1412 ه-.

تهذيب الأحكام في شرح المقنعة للشيخ المفيد (رضوان اللّه عليه): أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي (ت 460 ه-) تحقيق وتعليق: السيد حسن الموسوي الخرسان، الناشر: دار الكتب الإسلامية - طهران، الطبعة: الرابعة، المطبعة: خورشيد، 1365 ه-.

التوحيد: أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي الصدوق (ت 381 ه-): تحقيق: السيد هاشم الحسيني الميلاني، منشورات جماعة من المدرسين في الحوزة العلمية – قم المقدسة.

ثواب الأعمال وعقاب الأعمال: أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي الصدوق (ت 381 ه-): الناشر: دار الرضا – قم المقدسة، الطبعة الثانية، 1368 ه-.

جامع الأخبار أو معارج اليقين في أصول الدِّين: محمد بن محمد السبزواري (القرن 7ه-)، تحقيق: علاء آل جعفر الناشر: مؤسسة آل البيت علیهم السلام لإحياء التراث، الطبعة الأولى، 1410 ه-.

الجامع لأحكام القرآن: أبو عبد اللّه محمد بن أحمد بن أبي بكر القرطبي (ت 671 ه-)، تحقيق وتصحيح: أحمد عبد العليم البردوني، الناشر: دار إحياء التراث العربي - بيروت – لبنان، 1405 ه-.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن: أبو جعفر محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الآملي الطبري (ت 310 ه-)، المحقق: أحمد محمد شاكر، الناشر: مؤسسة الرسالة، الطبعة: الأولى، 1420 ه- - 2000 م.

جمهرة اللغة: محمد بن الحسن بن دريد أبو بكر، تحقيق: رمزي منير بعلبكي، الناشر: دار العلم للملايين، الطبعة الأولى، 1987 م.

ص: 226

حاشية مجمع الفائدة والبرهان: محمد باقر الوحيد البهبهاني (ت 1205 ه-)، تحقيق: مؤسسة العلامة المجدد الوحيد البهبهاني، الناشر: منشورات مؤسسة العلامة المجدد الوحيد البهبهاني المطبعة: أمير، الطبعة: الأولى، 1417 ه-.

حياة النفس: أحمد الاحسائي: تحقيق وتعليق: توفيق ناصر البوعلي، الطبعة: الأولى 1420 ه-، بيروت – لبنان.

الخصال: أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي الصدوق (ت 381 ه-)، صححه وعلق عليه: على أكبر الغفاري، منشورات: جماعة المدرسين في الحوزة العلمية، قم المقدسة، الطبعة الثانية 1403 ه-.

الدر المنثور في التفسير بالمأثور: جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي (ت 911 ه-)، الناشر: دار المعرفة، بيروت – لبنان.

الدرر الملتقطة في تفسير الآيات القرآنية: العلامة المحقق محمد اسماعيل بن الحسين بن محمد رضا المازندراني الخواجوئي (ت 1173 ه-) تحقيق: السيد مهدي الرجائي، الناشر: دار القرآن الكريم.

دعائم الإسلام وذكر الحلال والحرام والقضايا والأحكام: القاضي أبو حنيفة النعمان بن محمد التميمي المغربي (ت 363 ه-)، تحقيق: آصف بن علي أصغر فيضي الناشر: دار المعارف - القاهرة، سنة الطبع: 1383 ه- - 1963 م.

روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني: شهاب الدِّين محمود بن عبد اللّه الحسيني الآلوسي (ت 1270 ه-)، دار إحياء التراث العربي، بيروت - لبنان.

روضة الواعظين: الشيخ العلامة محمد بن الفتال النيسابوري (ت 508 ه-)، تقديم: العلامة السيد محمد مهدي السيد حسن الخرسان، منشورات الرضي قم – إيران.

رياض المسائل: السيد علي الطباطبائي (ت 1231 ه-)، ، تحقيق: مؤسسة النشر الإسلامي، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي - قم المشرفة، 1422 ه-، الطبعة الأولى.

زبدة البيان في أحكام القرآن: أحمد بن محمد المحقق الأردبيلي: (ت 993 ه-)، تحقيق

ص: 227

وتعليق: محمد الباقر البهبودي، الناشر: المكتبة المرتضوية لإحياء الآثار الجعفرية – طهران.

شرائع الإسلام في مسائل الحلال والحرام: جعفر بن الحسن الهذلي المحقق الحلي (ت 676 ه-) تحقيق مع تعليقات: السيد صادق الشيرازي، الناشر: دار الاستقلال - طهران المطبعة: أمير – قم، الطبعة الثانية 1409 ه-.

شرح ابن عقيل: بهاء الدين عبد اللّه بن عقيل الهمداني المصري، (ت 769 ه-)، الناشر: المكتبة التجارية الكبرى بمصر، الطبعة: الرابعة عشرة، 1384 - 1964 م.

شرح أصول الكافي: محمد صالح المازندراني (ت 1081 ه- )، تعليق: الميرزا أبو الحسن الشعراني، الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت - لبنان، المطبعة: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة: الأولى 1421 ه- - 2000 م.

شرح دعاء الصباح: الشيخ حسن مكي الخويلدي: الناشر: دار المصطفى (ص) لإحياء التراث، الطبعة الأولى 1423 ه-.

شرح دعاء كميل: عز الدِّين الجزائري، الناشر: بيروت، الطبعة الثالثة، 1410 ه- - 1989 م.

شرح نهج البلاغة: أبو حامد عز الدين بن هبة اللّه بن أبي الحديد المدائني (ت 656 ه-)، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، الناشر: دار إحياء الكتب العربية - عيسى البابي الحلبي وشركاه، الطبعة: الأولى 1378 ه- - 1959 م.

الصحاح في اللغة: إسماعيل بن حماد الجوهري (ت 393 ه-)، تحقيق: أحمد عبد الغفور العطار، الناشر: دار العلم للملايين - بيروت - لبنان، الطبعة: الرابعة، 1407 ه- - 1987 م.

صحيح البخاري (الجامع الصحيح المختصر): أبو عبد اللّه محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة البخاري، تحقيق: د. مصطفى ديب البغا، الناشر: دار ابن كثير، اليمامة – بيروت، الطبعة الثالثة، 1407 ه- – 1987 م.

ص: 228

صحيح مسلم (الجامع الصحيح المسمى صحيح مسلم): أبو الحسين مسلم بن الحجاج بن مسلم القشيري النيسابوري، الناشر: دار الجيل - دار الأفاق الجديدة – بيروت.

الصحيفة السجادية الجامعة لأدعية الإمام علي بن الحسين عليهما السلام: الإمام زين العابدين السجاد علیه السلام ،تحقيق: محمد باقر الموحد الأبطحي الأصفهاني: الناشر مؤسسة الإمام المهدي علیه السلام، مؤسسة الأنصاريان، قم المقدسة، الطبعة الأولى 1411 ه-.

الصحيفة العلوية المباركة الجامعة لأدعية الإمام علي بن أبي طالب علیه السلام: محمد باقر الموحد الأبطحي الأصفهاني: الناشر: مؤسسة التاريخ العربي، بيروت – لبنان، الطبعة الأولى 1432 ه- - 2011 م.

العقائد من نهج البلاغة: محسن علي المعلم، الناشر: دار الهادي، الطبعة الأولى، 1420 ه- - 1999 م.

عقائد الإمامية: الشيخ محمد رضا المظفر (ت 1381 ه-)، تحقيق: حامد حفني داوود، الناشر: انتشارات أنصاريان، إيران – قم المقدسة، د.ط.

علل الشرائع: أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن موسى بن بابويه القمي الصدوق (ت 381 ه-)، تحقيق: تقديم: السيد محمد صادق بحر العلوم الناشر: منشورات المكتبة الحيدرية ومطبعتها - النجف الأشرف، 1385 - 1966 م.

العمدة (عمدة عيون صحاح الأخبار في مناقب إمام الأبرار): الحافظ يحيى بن الحسن بن البطريق الأسدي الحلي (ت 600 ه-)، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، 1407 ه-.

عوالي اللآلي العزيزية في الأحاديث الدينية: الشيخ المحقق محمد بن علي بن إبراهيم الأحسائي (ت 880 ه-) تحقيق وتقديم: السيد شهاب الدين النجفي المرعشي، الحاج آقا مجتبى العراقي المطبعة: سيد الشهداء - قم، الطبعة الأولى، 1403 ه- - 1983 م.

العين: أبو عبد الرَّحمن الخليل بن أحمد الفراهيدي (ت 170 ه- أو 175 ه-)، تحقيق:د. مهدي المخزومي، ود. إبراهيم السامرائي، الناشر: مؤسسة دار الهجرة، الطبعة الثانية،

ص: 229

إيران 1409 ه-.

غاية المرام وحجة الخصام في تعيين الإمام من طريق الخاص والعام: هاشم البحراني الموسوي التوبلي، تحقيق: السيد علي عاشور، الناشر: مؤسسة التاريخ العربي، الطبعة الأولى 2001 م.

الغدير في الكتاب والسنة والأدب: الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي (ت 1392 ه-) الناشر: دار الكتاب العربي - بيروت – لبنان، الطبعة الرابعة، 1397 ه- - 1977 م.

غرر الحكم ودرر الكلم أو (حكم الإمام علي عليه السلام): عبد الواحد بن محمد الآمدي التميمي، عني بترتيبه وتصحيحه: العلامة الشيخ حسين الأعلمي، الناشر: منشورات مؤسسة الأعلمي للمطبوعات الطبعة: الأولى 2002 م.

غريب القرآن: فخر الدين الطريحي (ت 1085 ه-)، تحقيق وتعليق: محمد كاظم الطريحي، الناشر: انتشارات زاهدي – قم المقدسة.

الغيبة: أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي (ت 460 ه-)، تحقيق: الشيخ عباد اللّه الطهراني، الشيخ علي أحمد ناصح، الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية - قم المقدسة، الطبعة المحققة: الأولى 1411 ه-.

الفتاوى الميسرة: السيد عبد الهادي السيد محمد تقي الحكيم، وفق فتاوى السيد علي الحسيني السيستاني، المطبعة: مطبعة الفائق الملونة، الطبعة: الثالثة، سنة الطبع: 1417 ه- - 1997 م.

الفرق بين الفرق: عبد القاهر البغدادي، تحقيق: محمد الخشت، الناشر: مكتبة ابن سينا.

الفروق اللغوية: أبو هلال العسكري (ت 395 ه-)، تحقيق: مؤسسة النشر الإسلامي، الناشر: مؤسسة النشر الاسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، الطبعة: الأولى1412 ه-.

ص: 230

الفصول المختارة: أبو عبد اللّه محمد بن محمد بن النعمان العكبري البغدادي الشيخ المفيد (ت 413 ه-)، تحقيق: السيد نور الدين جعفريان الأصبهاني، الشيخ يعقوب الجعفري، الشيخ محسن الأحمدي، الناشر: دار المفيد للطباعة والنشر والتوزيع بيروت - لبنان، الطبعة: الثانية 1414 ه- - 1993 م.

القاموس المحيط: محمد بن يعقوب الفيروز آبادي (ت 817 ه-)، جمعه: الشيخ نصر الهوريني، الناشر: دار العلم للجميع، بيروت – لبنان.

الكافي (الأصول من الكافي): أبو جعفر محمد بن يعقوب بن إسحاق الكليني الرازي (ت 328 ه- أو 329 ه-): تصحيح وتعليق: علي أكبر غفاري، الناشر: دار الكتب الإسلامية - طهران، الطبعة الثالثة 1388 ه-.

كتاب الكليات: أبو البقاء أيوب بن موسى الحسيني الكفومي، تحقيق: عدنان درويش، محمد المصري، الناشر: دار الرسالة، بيروت 1419 ه- - 1998 م.

كشاف اصطلاحات الفنون والعلوم: محمد علي الفاروقي الحنفي التهانوي (ت 1158 ه-)، تحقيق: علي دحروج، الناشر: مكتبة لبنان ناشرون – بيروت، الطبعة الأولى، 1996 م.

الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل: أبو القاسم جار اللّه محمود بن عمر الزمخشري (ت 538 ه-)، الناشر: شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر، الطبعة الأخيرة، 1385 ه- - 1966 م.

كشف الغمة في معرفة الأئمة: أبو الحسن علي بن عيسى بن أبي الفتح الإربلي (ت 693 ه-) الناشر: دار الأضواء - بيروت - لبنان، الطبعة: الثانية، 1405 ه- - 1985 م.

كشف المحجة لثمرة المهجة: رضي الدِّين علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن طاووس الحسني الحسيني (ت 664 ه-)، الناشر: المطبعة الحيدرية - النجف 1370 ه-- 1950 م.

كمال الدِّين وتمام النعمة: محمد بن على بن الحسين بن بابويه القمي الصدوق

ص: 231

(ت 381 ه-)، تصحيح وتعليق: علي أكبر الغفاري، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، 1405 ه-.

كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال، علاء الدِّين علي بن حسام الدين المتقي الهندي (ت 975 ه-)، تحقيق: الشيخ بكري حياني، الشيخ صفوة السقا، الناشر: مؤسسة الرسالة - بيروت – لبنان، 1409 - 1989 م.

كنز الفوائد: أبو الفتح محمد بن علي الكراجكي (ت 449 ه-)، الناشر: مكتبة المصطفوي – قم المقدسة، المطبعة: غدير، الطبعة الثانية، 1369 ه-.

لسان العرب: محمد بن مكرم بن منظور الأفريقي المصري (ت 711 ه-)، الناشر: دار صادر – بيروت، الطبعة الأولى.

مباني تكملة المنهاج: السيد أبو القاسم الموسوي الخوئي، (ت 1411 ه-)، المطبعة العلمية - قم المقدسة، الطبعة الثانية، 1396 ه-.

مجمع البحرين: الشيخ فخر الدِّين الطريحي (ت 1085 ه-)، تحقيق: السيد أحمد الحسيني الناشر: مكتب النشر الثقافة الإسلامية، الطبعة الثانية، 1408 ه-.

مجمع البيان في تفسير القرآن: أبو علي الفضل بن الحسن الطبرسي (ت 548 ه-)، قدم له: السيد محسن الأمين العاملي، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، الطبعة الأولى: بيروت – لبنان 1415 ه-.

المحاسن: أحمد بن محمد بن خالد البرقي (ت 274 ه-)، تحقيق: تصحيح وتعليق: السيد جلال الدين الحسيني (المحدث)، الناشر: دار الكتب الإسلامية - طهران 1370 ه-.

محاضرات في الإلهيات، الشيخ جعفر السبحاني، تلخيص: الشيخ علي الرباني الكلبايكاني، الناشر: مؤسسة الإمام الصادق علیه السلام، قم المقدسة – إيران.

المحيط في اللغة: الصاحب إسماعيل بن عباد، تحقيق: الشيخ محمد حسن آل ياسين،الناشر: عالم الكتب، الطبعة الأولى 1994 م.

مختار الصحاح: الرازي محمد بن أبي بكر بن عبد القادر (ت 721 ه-)، تحقيق وضبط

ص: 232

وتصحيح: أحمد شمس الدين، الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت - لبنان، الطبعة: الأولى، 1415 ه- - 1994 م.

مدخل إلى علم النص ومجالات تطبيقه: محمد الأخضر الصبيحي، الناشر: الدار العربية للعلوم ناشرون – منشورات الاختلاف.

مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول: الشيخ محمد باقر المجلسي (ت 1111 ه-)، تقديم: السيد مرتضى العسكري، إخراج ومقابلة وتصحيح: السيد هاشم الرسولي، الناشر: دار الكتب الإسلامية، الطبعة الثانية.

المراجعات: السيد عبد الحسين شرف الدين الموسوي (ت 1377 ه-)، تحقيق وتعليق: حسين الراضي، الطبعة الثانية، بيروت، 1402 ه- - 1982 م.

المزار: محمد بن مكي العاملي الجزيني المعروف بالشهيد الأول (ت 786 ه-)، تحقيق ونشر: مدرسة الإمام المهدي علیه السلام قم المقدسة، الطبعة الأولى، 1410 ه- .

مسالك الإفهام إلى تنقيح شرائع الإسلام: زين الدِّين بن علي العاملي الشهيد الثاني (ت 965 ه-)، تحقيق ونشر: مؤسسة المعارف الإسلامية، الطبعة: الأولى 1413 ه-.

مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل: ميرزا حسين النوري الطبرسي (ت 1320 ه-)، تحقيق: مؤسسة آل البيت علیهم السلام لإحياء التراث ، الناشر: مؤسسة آل البيت علیهم السلام لإحياء التراث بيروت، الطبعة المحققة الأولى 1408 ه-.

مستدرك سفينة البحار: الشيخ علي النمازي الشاهرودي (ت 1405 ه-) تحقيق وتصحيح: الشيخ حسن بن علي النمازي، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، 1418 ه-.

مسند أحمد: أحمد بن حنبل: أبو عبد اللّه أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني (ت 241 ه-)، الناشر: دار صادر، بيروت – لبنان.

مسند الإمام علي علیه السلام: العلامة السيد حسن القبنجي، تحقيق: الشيخ طاهر السلامي، الناشر: مؤسسة الأعلمي بيروت – لبنان، الطبعة الأولى، 1421 ه-.

ص: 233

مشكاة الأنوار في غرر الأخبار: علي الطبرسي (ت: في القرن 7ه-)، تحقيق: مهدي هوشمند، الناشر: دار الحديث، الطبعة: الأولى 1418 ه-.

مصباح الشريعة: المنسوب للإمام الصادق علیه السلام (استشهد 148 ه-) الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات بيروت - لبنان، الطبعة الأولى، 1400 ه- - 1980 م.

المصباح المنير في غريب الشرح الكبير: أحمد بن محمد بن علي الفيومي ثم الحموي أبو العباس (ت 770 ه-)، الناشر: المكتبة العلمية – بيروت.

المعالم الجديدة للأصول (دروس تمهيدية في علم الأصول المعالم الجديدة للأصول): محمد باقر الصدر (ت 1400 ه-): الناشر: مكتبة النجاح – طهران، الطبعة الثانية، مطبعة النعمان - النجف الأشرف، 1395 ه- - 1975 م.

معجم ألفاظ الفقه الجعفري: الدكتور أحمد فتح اللّه، مطابع المدوخل – الدمام، الطبعة الأولى 1415 ه-.

معجم لغة الفقهاء: محمد رواس القلعجي، حامد صادق قنيبي، الناشر: دار النفائس للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت - لبنان، الطبعة: الثانية، 1408 ه- - 1988 م.

معجم مقاييس اللغة: أبو الحسين أحمد بن فارس زكريا (ت 395 ه-)، تحقيق: عبد السلام محمد هارون، نشر وطبع: مكتبة الإعلام الإسلامي 1404 ه-.

المعجم الوسيط: مجمع اللغة العربية بالقاهرة (إبراهيم مصطفى، وأحمد الزيات، وحامد عبد القادر، ومحمد النجار)، الناشر: مكتبة الشرق الدولية، الطبعة الرابعة،1425 ه- - 2004 م.

المفردات في غريب القرآن: أبو القاسم الحسين بن محمد الراغب الأصفهاني (ت 502 ه-)، الناشر: دفتر نشر الكتاب ،الطبعة: الثانية، 1404 ه-.

من لا يحضره الفقيه: أبو جعفر محمد بن على بن الحسين بن بابويه القمي الصدوق (ت 381 ه-)، تحقيق وتصحيح وتعليق: علي أكبر الغفاري، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، الطبعة الثانية.

ص: 234

مناقب آل أبي طالب: الإمام الحافظ ابن شهر آشوب مشير الدِّين أبو عبد اللّه محمد بن السروي المازندراني، تحقيق وتصحيح وشرح ومقابلة: لجنة من أساتذة النجف الأشرف، الناشر: المكتبة الحيدرية - النجف الأشرف 1376 ه- - 1956 م.

منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة: الخوئي ميرزا أحمد حبيب اللّه الهاشمي (ت 1324 ه-)، الناشر: المكتبة الإسلامية - طهران، المطبعة الإسلامية الطبعة الرابعة.

منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة: الراوندي قطب الدِّين أبو الحسين سعيد بن هبة اللّه، تحقيق: السيِّد عبد اللطيف الكوهكمري، الناشر: منشورات مكتبة آية اللّه العظمى المرعشي النجفي، الطبعة الأولى 1406 ه-.

موسوعة أحاديث الإمام علي علیه السلام: اللجنة العليا للتحقيق في مؤسسة نهج البلاغة، الناشر: مؤسسة نهج البلاغة – طهران، الطبعة الأولى، 1416 ه-.

موسوعة الإمام علي بن أبي طالب علیه السلام في الكتاب والسنة والتاريخ: محمد الريشهري وبمساعدة: السيد محمد كاظم الطباطبائي، السيد محمود الطباطبائي، تحقيق: مركز بحوث دار الحديث، الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر، المطبعة: دار الحديث، الطبعة الثانية 1425 ه-.

ميزان الحكمة: محمد الريشهري، تحقيق: دار الحديث، نشر وطبع: دار الحديث، الطبعة الأولى.

الميزان في تفسير القرآن: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي (ت 1412 ه-)، الناشر: جماعة المدرسين في الحوزة العلمية: قم المقدسة.

نهاية الوصول في دراية الأصول: صفي الدين محمد بن عبد الرحيم الهندي (ت 715 ه-)، تحقيق: صالح سلمان اليوسف، سعد سالم السويح، الناشر: المكتبة التجارية بمكة المكرمة، الطبعة الأولى، 1415 ه-.

نهج البلاغة: وهو مجموع ما اختاره الشريف الرضي من كلام سيدنا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب علیه السلام، تحقيق وشرح: الشيخ محمد عبده، الناشر: دار الذخائر، مطبعة النهضة، قم - إيران، الطبعة: الأولى، 1412 ه-.

ص: 235

نهج السعادة في مستدرك نهج البلاغة: محمد باقر المحمودي، الناشر: مؤسسة التضامن الفكري – بيروت، المطبعة: مطبعة النعمان - النجف الأشرف، الطبعة: الأولى 1386 ه- - 1966 م.

وسائل الشيعة (تفصيل وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة): الشيخ محمد بن الحسن الحر العاملي (ت 1104 ه-)، تحقيق: مؤسَّسة آل البيت علیهم السلام لإحياء التُّراث، الناشر: مؤسّسة آل البيت علیهم السلام لإحياء التُّراث قم المشرفة، الطبعة الثانية 1414 ه-.

البحوث:

الد لالات التفسيرية في شواهد نهج البلاغة القرآنية: الدكتور عدي جواد الحجار، مجلة كلية الفقه، السنة 2013 م، الإصدار: 18 ، الناشر: جامعة الكوفة.

صورة النبي الأكرم صلی اللّه علیه و آله و سلم في نهج البلاغة (دراسة في ضوء منهج الأسلوبية التطبيقية): ناجح جابر الميالي، الناشر: مؤسسة علوم نهج البلاغة: الطبعة الأولى 1435 ه- - 2014 م.

ص: 236

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
هَلْ یَسْتَوِی الَّذِینَ یَعْلَمُونَ وَالَّذِینَ لَا یَعْلَمُونَ
الزمر: 9

عنوان المکتب المرکزي
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.