فی رحاب الایمان

اشارة

سرشناسه : مدرسی، محمدتقی، - 1945

عنوان و نام پديدآور : فی رحاب الایمان/ محمدتقی المدرسی

مشخصات نشر : تهران: مدرسی، 1417ق. = 1376.

مشخصات ظاهری : [303] ص

شابک : بها:5000ریال

موضوع : ایمان (اسلام)

رده بندی کنگره : BP225/م 4ف 9 1376

رده بندی دیویی : 297/464

شماره کتابشناسی ملی : م 76-1423

ص: 1

اشارة

بسم الله الرحمن الرحیم

ص: 2

فی رحاب الایمان

محمدتقی المدرسی

ص: 3

ص: 4

المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.

الايمان وما يرادفه من كلمات في سائر اللغات أحلى نعت يوصف به البعض فيكنّ لهم الناس احتراما ويثنون عليهم بأسمى ثناء.

من منا لايحب ان ينعت بهذه الصفة، ومن منا من لايدعيها صادقا ام غير صادق؟

ولكنا حين نقيّم الاخرين تقييما موضوعيا فاننا لن نجود بهذه الصفة الا على البعض وهم لاريب الاقلون.

اما سائر الناس فان أخفّ نعت يحصلون عليه منا هو ان اكثر اهتماماتهم شخصية، واثقل نعت انهم ذاتيون أنانيون.

فياترى هل تبحث عن برنامج يجعلك في مصاف المؤمنين حقا؟

ص: 5

انها قمة سامقة لايبلغها الانسان بالتمني والادعاء، ولكن بالجد والاجتهاد. فهل تتطلع الى بلوغها، وهل انت مستعد لبذل الثمن الغالي في سبيل تحقيق هذا

التطلع؟

اذن تعال نستعرض في صفحات هذا الكتاب كلمات مضيئة عن الايمان، وهي في الأصل أحاديث روحية القاها سماحة آية الله المدرسي في مناسبات شتى. والحديث حين يكون عن الايمان فمن الافضل ان يأتي عفويا لاتكلف فيه ولا تعسف.

تعال نعيش لحظات سعيدة في رحاب الايمان حيث السكينة في القلب، والبصيرة في الحياة، والفلاح في العيش، والعاقبة الحسنى..

واذا ألقينا سمعنا شاهدين ومستريحين الى احاديث الايمان، داعين الله ان يتم نورنا؛ فان الرجاء ان نحصل على افضل نعمة في نهاية المطاف، هي نعمة زيادة الايمان.

وفي الختام؛ الكتاب مجرد ذكرى، وانما قلبك المنفتح هو الشرط الأهم للاستفادة منه، والله المستعان وعليه التكلان.

مكتب آية الله المدرسي

1 / ربيع الاول / 1417 ه

ص: 6

الباب الأول: من هدى الإيمان

اشارة

ص: 7

ص: 8

الفصل الأول الايمان ينبوع القيم الالهية

اشارة

الايمان هو ينبوع سائر القيم الالهية، وجذر شجرة سائر القيم والاحكام والشرائع، والسؤال المهم المطروح في هذا المجال هو: كيف يستطيع الانسان ان ينمّي ويزيد من ايمانه بالله عز وجل وكيف تتوهج حقيقة الايمان في القلب حتى تتجسد في صورة قيم مثلى، وأخلاق سامية تقود حياة الانسان الى حيث يريد الله، والى حيث يتطلع الانسان بفطرته من الهدى والفلاح؟

قبل ان اجيب على هذا السؤال لابد ان امهد للاجابة بتمهيد هو ان الايمان لم يذكر في القرآن الكريم إلا مقرونا بعلاماته وآياته وبالتالي بالافعال التي تنبع منه. فليس ايمانا ذلك الايمان الذي لايفيض بالقيم، فهو اقرار في القلب، وشهادة باللسان، وحركة بالاعضاء والجوارح. فاذا كان هنا اقرار في القلب، فلابد ان يظهر هذا الاقرار، ولامناص من ان تظهر حقيقته على جوارح الانسان.

ص: 9

الايمان مقترن بالفضائل:

ولذلك فان القرآن الكريم لايحدثنا عن الايمان الا ويقرنه بمجموعة من الفضائل، تقف الصلاة على رأسها كقوله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ (المؤمنون / 21). ثم يأتي بعد ذلك الانفاق في سبيل الله؛ فكلما زاد الانسان اهتماما بالصلاة، زاد انفاقا في سبيل الله عز وجل في جميع الابعاد، وارتفع ايمانا وازداد يقينا. ومن هنا فان الذي يدعي انه مؤمن ثم لايخشع في صلاته، ولاينفق مما رزقه الله فان ادعاءه هذا كاذب، وهو مجرد تمن، والجنة لايمكن ان تنال بالأماني ابدا.

وعندما يحدثنا القرآن الكريم عن الجنة والنار، وعن يوم القيامة فانه يحدثنا عن ميزان عدل يأخذ بنظر الاعتبار مثقال الذرة: فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ (الزلزال / 87)، فالحديث هنا هو حديث عن العدل، والقسط، وعمل يقاس بالمثقال، فليست القضية عبثا، ولا هي امان، والايمان ليس ادعاء، فلكل حق حقيقة والايمان لابد ان تكون له حقيقة تدل عليه، ولابد ان يتجلى في العمل.

واعود هنا الى السؤال الذي طرحته من قبل وهو: كيف ينمي الانسان جوهرة الايمان في نفسه؟، لقد عبّرت الاحاديث عن الايمان بأنه (الروح) لان الروح هي التي تزود الانسان بالحركة والنشاط، ولكي ينمو الايمان يجب ان تنمو سائر الفضائل

؛ اي ان الانسان يجب ان لايختار بين الفضائل، فالذي يريد ان يجسد في نفسه الايمان عليه ان يكون بحيث يسلم نفسه لكل شيء يقدمه في سبيل الله تعالى.

ص: 10

من تجليات الايمان:

1 الطاعة: وعلى سبيل المثال فان (الطاعة) هي ابرز معاني وتجليات الايمان؛ اي الطاعة لله وللرسول وأولي الامر. والطاعة تمتلك ابعادا؛ فقد يطيع الانسان فيما يشتهيه، ويخالف الاوامر فيما لايرغب فيه ولا يريده، كما كان حال بني اسرائيل. فقد كانوا اذا جاءهم رسول بما تهواه انفسهم اطاعوه، واذا جاءهم الرسول بما لاترغب فيه انفسهم استكبروا وعصوا، وهذه الطاعة ليست هي المطلوبة

وقد يطيع الانسان امر مولاه بما يخالف هواه (اي هوى هذا الانسان) ولكن في بعض الامور كالانفاق في سبيل الله مثلا، اما اذا أمره بالجهاد بنفسه ودمه فتراه غير مستعد، وهذه طاعة غير مقبولة هي الاخرى.

ان الطاعة المفروضة تتمثل في ان يكون الانسان مستعدا لتنفيذ الاوامر في اي وقت حتى وان عاش الى آخر حياته دون ان يؤمر من قبل قيادته بالجهاد لان انتظار الفرج يعتبر من اهم الاعمال في الشريعة المقدسة بالنسبة الى الامة المرحومة، فالذي ينتظر الفرج، وينتظر ان ترتفع الراية بيد صاحبها الحقيقي فانه يكون قد حدّث نفسه بالجهاد والشهادة؛ اي ان هذا الانسان مستعد في اية لحظة لأن يحمل سلاحه، ويدخل ساحة الجهاد، ويستشهد بين يدي امام زمانه، وهذا هو معنى الانتظار الذي هو اكثر الاعمال ثوابا عند الله عز وجل، لان الانسان المستعد يكون في اعلى درجات الرحمة الالهية.

2 ذكر الله: ومن تجليات الايمان الاخرى ذكر الله؛ اي ان يكون الانسان حاسا وشاعرا بهيمنة الله عليه، واحاطته به، وانه ليس بعيدا عن مقام

ص: 11

ربه، ولذلك فان ذكر الله تعالى ليس ان يلهج لسان الانسان بالكلمات، وانما هو التوجه والالتفات بعد النسيان. اما ان يكون قلب الانسان لاهيا وغافلا عندما يتحرك لسانه بالذكر فانه سوف يعبر عن لاشيء. ولذلك جاء في الاحاديث ضرورة ذكر الله عند المعصية، فاذا كنت على سبيل المثال جالسا في مجلس من مجالس البطالين صدفة، وسمعت رجلا يذكر آخر بسوء فان عليك في هذه الحالة ان تذكر الله سبحانه، لان الكلام السوء الذي سمعته هو معصية، وعليك ان تذكر الله عند المعصية، فلابد اما ان تدافع عن ذلك الرجل، واما ان تقوم من مجلسك، وتعترض على هذه الجلسة التي يعصى الله عز وجل فيها.

وبالاضافة الى ذلك فان علينا ان نذكر الله عند الطاعة ايضا، فعندما يأتيك رجل ويدعوك الى الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، او المساهمة في عمل خيري، فقد ذكر الله تعالى لك، فاذا خفق قلبك، ووجلت نفسك، وجرى الدم في عروقك فانت مؤمن حقا كما يقول عز من قائل: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ ءَايَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (الانفال / 2)، اما اذا شعرت بالخمول، والتقاعس، والتكاسل فهذا يعني انك لاتعتبر رضوان الله وحبه غنيمة، بل تعتبرهما خسارة. فالغنيمة عندك ان تذكر عند الناس، لا ان تذكر عند الله. وهكذا ان الايمان الحقيقي لم يتجسد في نفسك بعد.

وقد يتجسد ذكر الله سبحانه وتعالى عند المصيبة، فالمصائب تهون عند ذكر الله، وعلى سبيل المثال فان الامام الحسين (عليه السلام) وفي اصعب

ص: 12

لحظات مصيبته؛ اي عندما اصيب بابنه الرضيع، كان يأخذ الدم من نحر ابنه المذبوح ويرميه الى السماء قائلا: "هون علي ما نزل بي انه بعين الله" ،فمادام

الانسان يذكر الله جلت قدرته فان مصائبه ستهون كلها، لان الله شاهد

وناظر، وعالم بما يجري، وهو الذي سيأخذ بثأره من الظالمين.

وهناك ذكر الله عند التفكير والذي يعتبر من اعظم الذكر؛ فعندما يفكر الانسان، ويقدر عليه ان يذكر الله، ولايفكر باهوائه، ولايدع وساوس شيطانه تستحوذ عليه، بل عليه ان يفكر في الطريق المستقيم لا ان يكون تقديره قائما على اساس الهوى. ولذلك فان القرآن الكريم عندما يحدثنا عن الصالحين يقول: فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُولُواْ الاَلْبَابِ (الزمر / 1817).

ولذلك فان هذا الذكر ينمي في الانسان روح الايمان، والله عز وجل يأمرنا في آيات عديدة بذكره، فهو يقول عن المؤمنين الذين يبتعدون عن الظنون، والوساوس الشيطانية: إِلاَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً (الشعراء / 227)، فهؤلاء مستثنون من حكم الله على الشعراء، فالله تعالى عندما يحدثنا عنهم يقول: وَالشُّعَرَآءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ (الشعراء / 226224)، الا انه يستدرك قائلا: إِلاَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا...، فصفات المؤمنين من الشعراء انهم آمنوا وعملوا الصالحات؛ اي ان ايمانهم لم يكن بالتمني،

بل كان ايمانا حقيقيا.

ثم يقول تعالى: وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرا؛ اي انهم لم ينجرفوا في تيار

ص: 13

الاوهام، والتخيلات بل قالوا الحق. وفي موضع آخر يصف تعالى المؤمنين قائلا: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ (آل عمران / 191)، وقد اوّلت هذه الاية بالصلاة، اما تفسيرها فهو ان الانسان المؤمن يذكر الله دائما في جميع الاحوال؛ فهو في الحركة يعمل، وفي الجلوس ينمي علاقاته مع الآخرين، وفي النوم يفكر، فهو يذكر الله عز وجل في كل هذه الحالات.

ان الصلاة ذكر، هذا لايعني ان على الانسان ان لا ينشغل بعد الفراغ من صلاته عن ذكر الله كما يشير الى ذلك تعالى في قوله الكريم: رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاَةِ (النور / 37)، فالصلاة انما شرعت لذكر الله: وَأَقِمِ الصَّلاَةَ لِذِكْرِي (طه / 14)، وبعد الصلاة على الانسان ان يذكر الله ايضا: فإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاَةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِكُمْ. (النساء / 103)

وعند مواجهة الاعداء يجب على الانسان المؤمن ان يذكر ربه، فبذكر الله تطمئن القلوب، وبذكره يتحقق مفهوم التوكل. يقول تعالى: يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللّهَ كَثِيراً (الانفال / 45).

ومن المعلوم ان الانسان خطّاء، والذي يدعي انه منزه عن الخطأ، فان ادعاءه هذا هو بحد ذاته اكبر خطأ لانه يجعله في حالة من التكبر والتجبر والطغيان. واذا ما اخطأ الانسان فان عليه ان يذكر الله لكي يمنحه اولا القوة والقدرة على مقاومة

الشيطان الذي يدعوه الى ان يذنب المرة بعد الاخرى، ولكي ثانيا لايصاب باليأس والقنوط، لان اليأس بحد ذاته جريمة، وخطيئة

ص: 14

كبرى، ولذلك يقول سبحانه عن المؤمنين: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (آل عمران / 135).

وحتى عندما نرتكب الذنوب الصغيرة فان علينا ان نستغفر الله تعالى لان

الانسان اذا احدث ذنبا ثم لم يستغفر خالقه فان هذا الذنب سيتحول الى نقطة سوداء في قلبه، واذا بالذنوب تتراكم عليه، واذا بقلبه يموت ويصبح قاسيا. وفي آية اخرى يقول عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَآئِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواَ (الاعراف / 201)؛ اي ذكروا الله، وذكروا انفسهم: فإِذَا هُم مُبْصِرُون. (الاعراف / 201)

أساس الايمان:

ومن هنا فان ذكر الله تعالى شأنه هو احد اعمدة العودة الى الايمان، والصلاة هي من ابعاد ذكر الله، والصلاة بحقيقتها هي عمود الدين كما جاء في الحديث اي انها اساس الايمان، وركن علاقة الانسان بالله ورمزها، وهي معراجه الى الله، ولغة التخاطب بين العبد وربه. فهي في الواقع محور لسائر القيم لانك ان كنت خاشعا في اللحظة التي تصلي فيها فانك تعود الى فطرتك وطهرك ونقائك.

وعندما يقول الرسول (صلى الله عليه وآله): "...يا علي إنما منزلة الصلوات الخمس لأمتي كنهر جار على باب أحدكم، فما ظن أحدكم لو كان في جسده درن ثم اغتسل في ذلك النهر خمس مرات في اليوم أكان يبقى في جسده

ص: 15

درن؟ فكذلك والله الصلوات الخمس لأمتي " (1).

فان المقصود ان الصلاة الحقيقية هي التي يرجع فيها الانسان الى نقاء فطرته.

وطهرها، والقرآن الكريم عندما يحدثنا عن الصلاة يضيف اليها كلمة

(الاقامة) كقوله تعالى: وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ أو وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ والاقامة تعني ان يؤدي الانسان الصلاة بكل ابعادها، وآدابها، وشروطها، ومحتوياتها، وهذه الصلاة هي التي تؤدي الى زيادة الايمان عند الانسان. ولذلك فان النبي (صلى الله عليه وآله) يعتبر هذه الصلاة اهم تحفة يجب على الانسان ان يعتز بها، كما يشعر بذلك قوله (صلى الله عليه وآله):" وقرة عيني الصلاة "،فالصلاة كانت احب شيء عنده (صلى الله عليه وآله).

ونحن اذا وصلنا الى مرحلة بحيث احببنا الصلاة، وارتاحت انفسنا اليها، وشعرنا بأنها خفيفة علينا وليست ثقيلة، واذا راينا ان قلوبنا تندفع الى ان تتهيأ للصلاة بمجرد ان يتناهى الى اسماعنا نداء (حي على الصلاة)، فلنعرف ان الله جل وعلا قد من علينا، ولم يجعل بيننا وبينه حجابا، وانه يحبنا، لانه عندما يحب احدا فانه يجذبه اليه، ويدعوه، ويستضيفه، اما اذا لم يضمر الله تعالى لك

الحب فانه سوف لايردك. إلا إذا ألححت عليه في ان يرفع الحجاب بينك وبينه لان" من اكثر طرق الباب أوشك ان يسمع الجواب".

وإذا لم نكن في مثل تلك الحالة من حب الصلاة والارتياح لها، فان علينا ان41

ص: 16


1- بحار الانوار ج 79 ص 220 رواية 41

لانيأس، وان نحاول معرفة السلبيات الروحية والسلوكية التي نعاني منها، والتي لاتجعل صلاتنا تصبح صلاة حقيقية. وعلى هذا فان الصلاة معراج المؤمن، وخير موضوع، وعمود الدين، وخصوصا عندما يؤدي الانسان الصلاة بشروطها

الاجتماعية.

الصلاة أول هدف:

وعندما يبين لنا القرآن الكريم مواصفات المجتمع الايماني، فانه يذكر ان اقامة الصلاة يجب ان تكون اول هدف لهم: الَّذِينَ إِن مَكَّنَّاهُمْ فِي الاَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاَةَ وءَاتَوُا الزَّكَاةَ (1 الحج / 41)، وفي موضع آخر يقول عنهم عز وجل: وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاَةِ (الانبياء / 73)، فالهدف الاول للائمة الذين يهدون بأمر الله يتمثل في اقامة الصلاة.

وفي ايام الجمعة، والاعياد يتواصل المؤمنون، ويتلاقون، وتكون الصلاة هي محور التفاهم بينهم كما يقول تعالى: يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (الجمعة / 9)، وعلى هذا فان لقاء المؤمنين يكون حول مائدة الصلاة، فهي التي تجمعهم.

ان هذه الصلاة تجعل الانسان في حالة عروج دائم، فاذا اردنا ان نتحدث مع الله جل وعلا فان علينا ان نقيم الصلاة، ونقرأ القرآن، وهناك البعض من المؤمنين يجمعون بين الامرين وخصوصا في صلاة النوافل، وهذه فكرة لطيفة

ص: 17

وخصوصا في ليالي شهر رمضان المبارك، فاذا كانت لديك فكرة ان تصلي الف ركعة طيلة شهر رمضان فبأمكانك ان تقسمها بين الليل والنهار، واثناء كل صلاة بأمكانك ان تمسك القرآن بيدك لتقرأ آيات منه.

وقد فسرت الآية: فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرءَانِ (المزمل / 20)، تقرأ القرآن اثناء الصلاة، وفي هذه الحالة وفي نفس الوقت الذي تؤدي فيه الصلاة سيكون باستطاعتك ان تختم القرآن في صلاتك؛ اي ان تتبادل الحديث مع الله سبحانه وتعالى.

***

ص: 18

الفصل الثاني: الايمان مفتاح فهم الحقائق الكبرى

اشارة

القرآن الكريم بما يضم من سور وآيات بينات يقدم الجواب الصريح والواضح على حقيقة يتجاهلها الانسان، ويحتجب عنها وعن معرفتها والتفاعل معها رغم وضوحها، الا وهي حقيقة الايمان وتجلياته، والتي يقف على النقيض منها الكفر وابعاده.

أصل كل خير:

ان الايمان هو اصل كل خير، وقاعدة كل قيمة سامية، وينبوع كل فضيلة مثلى، ولعل الغاية الاسمى للايمان هي ان يخرج الانسان من اطار الذات، وحدود الأنا الضيقة، الى التفكير والاحساس بالآخرين، وبتعبير آخر؛ فان الايمان يتجسد ويخرج الى الواقع عندما يشعر الانسان بأخيه الانسان، فعندما يخرج من الاطار الضيق للنفس الى عالم الاحساسبالآخرين، وحينما يعيش الحقائق الآخرى

ص: 19

الخارجة عن الذات، ويستوعبها، ويهتدي اليها فحينئذ يصح ان يقال عنه انه مؤمن.

الله ينبوع الحقائق:

والحق تعالى هو ينبوع الحقائق الاخرى، ومصدرها، وهو حقيقة الحقائق، فكل حق وحقيقة، بل وكل واقع ووجود انما هو من عنده سبحانه وبخلقه وتدبيره وهيمنته، ولذلك كان رأس الايمان الايمان بالله ووحدانيته ومطلقيته، ومن هذه البؤرة الايمانية تشع سائر أشعة الأيمان الاخرى، وتمتد ابعادها.

ولعل ابرز هذه الابعاد الايمانية الايمان باسمائه الحسنى، فمعرفته تعالى تتمثل في ان نعرفه بأسمائه بعد ان استحالت معرفة كنهه، ذلك لان عقل الانسان ومهما تسامى وارتفع بالعلم والمعرفة لايمكن ان يسمو الى معرفة ذات الرب التي هي غيب الغيوب، فهو عز وجل لاتبلغه الادراكات مهما سمت وان كانت ادراكات الانبياء، والصديقين، والملائكة، فليس هناك من موجود منح العقل، والادراك،

والبصيرة بمستطيع ان يبلغ معرفة الذات الالهية، وكل محاولة في هذا المجال تهبط بصاحبها الى حضيض الزندقة؛" من تفكر في ذات الله تزندق".

ان قصارى ما يستطيعه العقل ان يعرف الخالق عز وجل باسمائه الحسنى، وصفاته وآلائه العليا، وبما صنعت يده من وجود وخلائق، فهو تعالى تمكن معرفته مثلا بالرحمة، والعزة، والقوة، والحكمة، والعظمة، وبكونه سميعا بصيرا، خبيرا قادرا على كل شيء وهكذا الحال بالنسبة الى جميع اسمائه وصفاته.

ص: 20

مبدأ السنن الالهية:

ومن هنا لم تكن دعوة الله الا من خلال اسمائه الحسنى، فبعد معرفة هذه

الاسماء تتسنى لنا معرفة السنن التي اقام بها الله الكون والوجود، وهذه السنن هي حقائق تتعلق بتلك الاسماء الحسنى، والآلاء العليا، فعندما نعلم ان الله جل شأنه رحيم فلابد ان ندرك ان من سننه (الرحمة)، فلا يدع ظالما في هذه الحياة يستمر في ظلمه للناس مادام الله ارحم الراحمين، ولانه تعالى كذلك فليس من المعقول ان يتغاضى عن دعوة مظلوم، او اجابة الداعي اذا دعاه.

وهكذا فان الاسماء التي يدعى بها الله سبحانه هي مبدأ السنن الالهية، ومن بين هذه السنن سنة استجابة الدعاء، فكما ان الله كتب على نفسه الرحمة، فقد اخذ على نفسه ايضا عهدا بأن يستجيب دعوة الداعي اذا دعاه كما يقول عز وجل: وَإِذَا سَاَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَاِنِّي قَرِيبٌ اجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِيْ وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (البقرة / 186).

ومن سنة الرحمة ننتقل الى الحديث عن سنة اخرى هي سنة الحكمة النابعة من كون الله تعالت قدرته حكيما، فلو ان احدا طلب من الله ان يحول ما على الارض من جبال الى نيران، فاستقبل القبلة، وجثا امامها، وراح يدعو ويدعو بصوت شجي لايام وليال لما استجاب تعالى لدعائه رغم انه ارحم الراحمين، ويجيب دعوة الداعين، لانه في نفس الوقت حكيم عليم، فمشيئة الله القائمة على حكمته وعلمه هي فوق مشيئة العباد، فليس من العدل ان تتحول جبال هذه الارض الى نيران بناء على رغبة عبد من العباد.

ص: 21

بيان الايمان وتجلياته:

ويبدو ان سورة (يونس) اختصت في بيان الايمان وتجلياته، مقابل الكفر

ومفرداته.. ففي بداية هذه السورة الكريمة يقول تعالى: الر تِلْكَ ءَايَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (يونس / 1)، فالحكمة هي رأس الايمان، ورأس الايمان هو مخافة الله سبحانه، فمن خلال معرفة ان الله حكيم، نعرف سنة من سننه وهي الحكمة، وانطلاقا من هذه السنة ندرك ان ليس كل دعاء قابلا للاستجابة من قبل الله تعالى فهو لا يستجيب لكل دعاء وان كان قادرا على ذلك بسبب مقتضى حكمته. وحتى في موضوع هلاك طاغية ما فاننا قد لانلمس استجابة الدعاء، فقد يؤخر عز وجل هلاكه الى اجل مسمى لايعلمه الا هو، فلا يهلكه لمجرد ان نسجد له تعالى داخرين، وندعو من اجل هلاكه متضرعين، لحكمة اقتضاها الخالق، وقد حجبت عنا، فلو انه عز وجل استجاب كل دعوة دون الحكمة ولمجرد ان يدعو العبد لما استقر هذا الكون والوجود، ولما جرت بقية السنن الالهية في مجراها الذي وضعه الله لها.

والله سبحانه كثيرا ما تغيب حكمته عن كثير من عباده في امور الحياة في حين انه اعلم بمصلحة الانسان سواء كان فردا ام جماعة، ولذلك كان لزاما علينا ان نبحث عن الحكمة الالهية في الامور التي ندعو الله فيها فلا يستجيب لنا، فهو سبحانه وضع كثيرا من الامور والحقائق في موازينها، وضمن معادلات هي جوهر الكثير من السنن الالهية. وفي كتابه المجيد نجد الاشارة الى هذه الموازين والمعادلات منها قوله: فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ (الزلزال / 87) وقوله: وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى * وَأَنَّ

ص: 22

سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (النجم / 4039) وقوله: إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لاَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا. (الاسراء / 7)

تقاسم الحقوق مع الاخرين:

وعلى هذا فلاننا نؤمن بالله فاننا نؤمن ايضا باسمائه الحسنى، ولاننا نؤمن بهذه الاسماء فاننا نؤمن بالسنن التي تفيض من هذه الاسماء وتنبعث عنها، ومن ثم فان هذا الايمان بالله يؤدي الى الايمان بالخلق والوعي والاحساس بهم، ذلك لان الخلق لم يتوقف علينا نحن بالذات، فكما اننا مخلوقون لله فان الاخرين ايضا مخلوقون من قبله، ولذلك ينبغي بناء العلاقة الاجتماعية على هذا الاساس داخل المجتمع والامة، فكما يحب احدنا ان ينال حقوقه من الاخرين، فان هؤلاء الاخرين ينتظرون ان نؤدي لهم ما علينا من حقوق، فعندما نعترف بالاخرين، ونعي حقوقهم فان هذا يعني اننا قد آمنا بهم، فلابد ان نتقاسم معهم الحقوق، والجهود والاتعاب في هذه الحياة.

وهذه الخصيصة خصيصة الايمان بالاخرين هي التي اعطت الحضارة الاسلامية وجهها المشرق في صدر الاسلام، حيث سادت ثلث ارجاء المعمورة. فالثروة لم تتكدس، والحقوق كانت توزع بشكل عادل، فطبيعة النظام الاسلامي تأبى ان تتكدس الثروة، ويكتنز الذهب والفضة، كما ان المجاميع التي كانت تدخل في رحاب الاسلام، كانت تتحول مباشرة الى جزء لايتجزأ من الحضارة الاسلامية. فاذا ما اعتنقت قرية من القرى النائية في اطراف الدولة الاسلامية الدين الاسلامي. بادر ابناؤها الى كفالة بعضهم البعض، فيتقاسمون العيش سوية،

ص: 23

ويتعاونون في اطار من الاخوة والمحبة، وفي ظل القرآن، والرسالة المحمدية التي آمنوا بها، وبذلك ينعدم الفقر بينهم تدريجيا، وتذوب الثروات المكدسة لدى القلة من المجتمع.

ان الايمان بالله تعالى يجعل الانسان المؤمن يتعدى حدود معرفته لحق الغير في الحياة الى معرفة حق سائر الاحياء من حيوانات ونباتات في نيل نصيبها ورزقها من الحياة، ولعلنا سمعنا الحديث الشريف الذي يقول:" رأيت في النار صاحب الهرة تنهشها مقبلة ومدبرة، كانت أوثقتها ولم تكن تطعمها ولا ترسلها تأكل من خشاشة الأرض"(1) ، وفي رواية اخرى تظهر بوضوح السلوك العملي الرحيم للاسلام ان رسول الله (صلى الله عليه وآله) استيقظ يوما من نومه فوجد قطة قد نامت على طرف ردائه، فأبى ان يفسد عليها لذة نومها، فقطع ذلك الجزء من ردائه، ونهض من مكانه تاركا القطة تستغرق في نومها دون ان يزعجها.

المؤمن يحترم كل شيء:

ان حقوق الانسان بل وحقوق كل كائن حي يدب على هذه الارض هي ذات جذور واصالة في الرؤية الاسلامية، فأيمان الانسان بالآخرين، نابع من ايمانه بأنهم خلق الله تعالى. وكذلك الحال بالنسبة الى كل ما يدب على هذه البسيطة فان له حقا في الحياة مادام مخلوقا لله، ولذلك فان المؤمن يعيش وهو يحترم كل شيء؛ فلا يعبث، ولايفسد، ولايبذر، ويحترم ويقدر كل نعمة انعم الله بها عليه.

ص: 24


1- بحار الانوار ج 61 ص 268 رواية 30

فالايمان بالله الذي يتعدى الى الايمان الشمولي بكل ماهو خارج الذات الانسانية، هذا الايمان يصوغ شخصية الانسان المؤمن، وسلوكيته، وتعامله مع الحياة والمجتمع. وفي القرآن الكريم اشارات الى مثل هذا السلوك من ذلك قوله

عز وجل في الايات التالية:

وَلاَ تَمْشِ فِي الاَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الاَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً (الاسراء / 37)

فَاَتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ (الروم / 38)

وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (الاسراء / 35)

هذا في حين نجد الانسان الكافر يعيش في حيز الأنا وحب الذات، وهو مستعد لتدمير كل شيء من اجل ان يضمن مصلحته الخاصة. ونحن اليوم نلمس، ونسمع عن التدهور البيئي بسبب الحضارة الأنانية الكافرة، فحتى الطبيعة لم تسلم من يد

هؤلاء العابثين بالاضافة الى البشر والاحياء، فهم ينهشون لحوم المسلمين، والمستضعفين في مختلف بقاع الارض كذئاب مفترسة.

لقد بات انسان اليوم يتأوه ألما، ويتحسر على تلك العصور السابقة التي سادت فيها حضارة الايمان التي نشرت السعادة والامن والسلام في ارجاء المعمورة، وراح يلعن هذه الحضارة رغم ما فيها من التطور والتقدم التكنولوجي الذي لم ينتفع به

بقدر ما ذاق من وباله، وويلاته.

صحيح انها حضارة قامت على التطور التكنولوجي الذي اختصر الزمان والمكان، ولكنها حضارة ساقطة في حقيقتها لانها تفتقر الى الايمان بالله

ص: 25

تعالى، فهي حضارة الانانية، والتغطرس، وعبادة المادة والشهوات.

وهكذا فان الايمان بالله يعني الايمان بأسمائه وسننه وبما خلق وبرأ في هذا الكون والطبيعة، وعندما ننمي في انفسنا هذا الايمان الشمولي فانه سيخرجنا من زنزانة

الذات، واطار الانانية الضيق الى الرحاب الواسعة للحقيقة.

ومن الابواب التي يخرج الانسان من خلالها من اطار ذاته الى عالم الايمان والاحساس بالاخرين، باب الانفاق، والعفو، وكظم الغيظ، وباب الشجاعة، والبذل، والتضحية، والتوكل... وغيرها من الابواب التي تصوغ حياة الانسان الاجتماعية في اطار ايماني من المحبة والسلام والوئام والاخوة.

صفات الانسان الكافر:

والانسان الذي يأبى على نفسه التحرر من ضيق الذات، وسجن الانانية، لضعف ايمانه بالله تعالى لابد ان يتحول شيئا فشيئا الى شخص جبان، لئيم، عدواني

الطباع، مغرور متكبر، يملأه العجب بنفسه، وهذه هي صفات الانسان الكافر بالله سبحانه، ومثل هذه الصفات اشارت اليها سورة (يونس) كعناوين، ودلالات على الكافرين، فيقول عز من قائل في هذه السورة:

هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَآءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللّهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الاَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ *

إِنَّ فِي اخْتِلاَفِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لاَيَاتٍ لِقَوْمٍ

يَتَّقُونَ (يونس / 65).

ثم ينتقل السياق الكريم ليعرض سلوك الكافرين: إِنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا

ص: 26

وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَاَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ ءَايَاتِنَا غَافِلُونَ * اوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (يونس / 87)؛ فالانسان الكافر الذي يعيش اسير الذات، والدنيا، وشهواتها ويعبدها، ويطمئن اليها انما هو غافل عن آيات الله، وغفلته هذه تؤدي الى ان يتسافل، ويسقط في حضيض الموبقات والجرائم، والفساد والافساد في الارض.

خصائص المؤمنين:

بعد ذلك يعرض لنا السياق القرآني الصورة الايمانية قائلا: إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُم بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الاَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ وءَاخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (يونس / 109)، فالايمان هو بمثابة المصباح يهدي الى كل خير

وفضيلة، والمؤمن بالله عز وجل يمثل كيان سلم، وامن، ومحبة، ووحدة، وايثار، لايظلم ولايخون ولايؤثر نفسه على الاخرين، ولا يستبد برأيه، ولايعتدي على حقوق الآخرين، ولايفسد في الارض، وهو مسالم حتى مع الطبيعة التي حوله، ولايقدم على عمل دون ان يأخذ بنظر الاعتبار هدفا نبيلا ساميا يرتجي منه نفعه ونفع العباد، ويجد ويعمل ويبني ويساهم في تشييد صرح الحضارة الالهية الايمانية، وهذه هي صفات الانسان المؤمن بأسماء الله وسننه، فكل همّه اشاعة الصلاح في المجتمع، ونشر المحبة والطمأنينة والسلام.

ص: 27

كل المخلوقات تسبح لله:

ان الارض والسماء بأجرامها وكواكبها تتحدث مع رب العالمين كما تصرح بذلك الآية الكريمة: ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَآءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ (فصلت / 11)، وقد ورد في الروايات كيف ان كل بقعة يعبد الله عليها ستشهد للانسان المؤمن، بل ان الاكثر من ذلك ان الارض التي يدفن فيها تارك الصلاة تصرخ، وتئن من وجوده، وفي احدى الآيات القرآنية يخاطب الرب الجليل جبال الارض، ويطلب منها ان تؤوب مع داود: يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ َ (سبأ / 10)، فعندما كان هذا النبي يسبح لله كانت الجبال تسبح معه والطير، والحق ان كل مخلوق يسبح لله ولكننا لا نفقه هذا التسبيح: وَإِن مِن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ (الاسراء / 44).

نظرة المؤمن الى الطبيعة

وبناء على كل ما مضى فان نظرة الانسان المؤمن الى الطبيعة هي نظرة سلام وحب وصلاح وخير وتعاون مع اخوته من بني جنسه، ومع الطبيعة وموجوداتها، في حين يقف الانسان الكافر على النقيض في نظرته للحياة والوجود حوله، فهي نظرة انانية، عدوانية، تستعر فيها نيران الشر والافساد. ومن خلال هاتين النظرتين المتناقضتين يتضح التنافي الحاد بين الحضارتين؛ الاسلامية الايمانية،

والجاهلية الكافرة.

ومن المناسب هنا ان نذكر قولا لامام المتقين، وامير المؤمنين (عليه السلام)

ص: 28

يا حبذا لو كتب بأحرف من ذهب على مداخل المحاكم وعملت به، وهو قوله (عليه السلام):

"لو اعطيت الاقاليم السبعة وافلاكها على ان اعصي الله في نملة اسلبها جلب شعيرة ما فعلت ذلك".

والامام (عليه السلام) عندما نطق بهذه الدرر فأنما كانت تنبعث من ضمير مؤمن حي مسلم لله رب العالمين، وعارف حق المعرفة بحقوق الاخرين عليه،

وواجباته ازاءهم، وعلينا نحن ايضا ان نتشبه قدر الامكان بهذا النموذج الاسمى في العدل والقسط.

وبكلمة واحدة فان الايمان من شأنه ان يخرج الانسان من ذاته الضيقة الى عالم الايمان بالحقائق الاخرى، والتسليم لها، واحترامها، وبالتالي فانه رأس كل فضيلة وينبوع كل خير، ومصدر كل قيمة مثلى، ومبدأ سام في الحياة.

***

ص: 29

الفصل الثالث: الايمان جوهر الرسالة وحقيقة الدين

اشارة

لاشك ان اثقل ما في ميزان العبد يوم القيامة هو الايمان، فهو قيمة القيم، واصل الفرائض، والهدف الاسمى للانسان الكامل في الحياة.

ترى ما هو الايمان، وهل يمكن للانسان ان يتعرف عليه؟ الجواب بالايجاب، ولكن لكل حقيقة منهاجا معينا، فليس كل شيء يعرف بطريقة واحدة وانما السبيل الى معرفة كل شيء يتحدد عبر طبيعته، والايمان بما انه روح وعزم وارادة فان معرفته لا يمكن ان تكون بالسبل المعروفة التي نتعرف بها على الحقائق المشهودة عينا.

والطريق الى معرفة الايمان انما هو بمعرفة اسمائه وصفاته وعلاماته، وبتعبير اخر فان السبيل الى معرفة الايمان لا يكون الا عبر معرفة حقائقه وتجلياته والواقع الذي يصنعه هذا الايمان، ولذلك فاننا عندما نتدبر في آيات الذكر الحكيم التي تنطلق عادة من الايمان، وتنتهي اليه، ونتساءل عن حقيقة الايمان، فان القرآن يجيبنا عن

ص: 30

ذلك من خلال بيان علامات الانسان المؤمن وصفاته فيقول عز من قائل: قَدْأَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ

اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (المؤمنون / 41).

وهكذا فان الحديث عن الايمان هو حديث عن تجلياته، وعن تلك الصفات المثلى التي تتجلى في حياة الانسان المؤمن، ويتسم المؤمنون بها، ومن هنا فان من الممكن ايضا التعرف على حقيقة الايمان بالاسلوب المعين لمعرفة الحقائق المجردة مثل حقيقة العلم، والروح، والارادة، والعقل وسائر الانوار الالهية التي منحها الله عز وجل للانسان.

كما واننا لن نستطيع سبيلا الى معرفة رب هذه الانوار، وخالقها الله ذي العرش سبحانه وتعالى الا عبر معرفة آياته واسمائه، فلا يمكن معرفة الله بمعرفة ذاته لاننا سنبقى عاجزين طويلا وطويلا عن معرفة اسم من اسماء الله، ثم لا نستطيع التعرف على ابعاده، فكيف بمعرفة رب العباد بذاته والذي لا تدركه الابصار، وهو يدرك الابصار.

تجليات الايمان في الحياة:

وهكذا فان للايمان تجليات كثيرة وهي ليست بعيدة عن حياة وسلوك المؤمنين لان الايمان هو حركة للانسان، وقبل ان نتعرف على تجليات الايمان لابد ان نختصر الحديث حول جوهره وروحه، والملاحظ ان التعبير الدقيق عن الايمان في الاحاديث

الشريفة هو (الروح)، كما ان التعبير الدقيق ايضا عن كل نصر وتأييد الهي للبشر في مجال العصمة، وفي مجال توفيق العبد هو (روح القدس)؛

ص: 31

اي التأييد بروح القدس.

ان كلمة الروح تعني ذلك الافق الذي هو اعلى واسمى من افق المادة، والقرآن الكريم يطلق كلمة (الروح) على حقيقة الايمان، وعزم الارادة، وبهذا العزم؛ اي بالقرار الذي يتخذه الانسان في داخله لكي يكون مؤمنا، والذي يكون في اقل من ثانية واحدة، تتجسد حقيقة الايمان من جانب البشر، او حركة الانسان وسعيه نحو الايمان.

اما ذلك العزم فانه لا يتم ولا يكتمل ولا يثمر إلا بتوفيق الله عز وجل، فبعد ان يتحرك الانسان ويسعى نحو الايمان بعزم الارادة؛ اي بلحظة من الارادة واتخاذ القرار، يأتيه حينئذ التوفيق الالهي كما قال تعالى: وَمَا تَشَآؤُونَ إِلآَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ (الانسان / 30)؛ فالانسان لا يكون مؤمنا الا بتوفيق الله، لان الايمان روح منه تعالى تعطى للانسان، واذا ما وصل الانسان الى مستوى الروح (روح الايمان) فان تحولا عظيما سيحدث في نفسه، هذا التحول الذي يعتبر حسب ما يبدو لي اعظم تحول في الخليقة.

وعلى سبيل المثال فلننظر الى الشمس، سنرى ان جوهرها لم يتغير منذ ان خلقها الله والى الان، ربما تغير مظهرها، وربما تغيرت كتلتها وحرارتها، ولكن جوهرها لم يتغير ابدا وسوف لن يتغير... وهكذا الحال بالنسبة الى سائر المخلوقات فان جوهرها

هو هو لا يتغير، ولكن شيئا وحيدا هو الذي يتغير جوهره من دون سائر المخلوقات الا وهو روح الانسان التي هي الحقيقة الوحيدة التي من الممكن ان يتغير جوهرها.

ص: 32

الايمان اساس القيم:

ان جوهر الانسان يتمثل في انه بشر مخلوق ضعيف محدود يتغير ويتحول حتى يكون كما قال عنه الله سبحانه وتعالى في حديث قدسي: عبدي اطعني تكن مِثلي او مَثَلي اقول للشيء كن فيكون، وتقول للشيء كن فيكون، وهذا الجوهر انما يتغير بالايمان، ولذلك فاننا عندما نقرا آيات القرآن الكريم نجد انه قبل ان يبين اية قيمة من القيم يبدأ بالحديث عن الايمان، وعلى سبيل المثال فاننا اذا تدبرنا في سورة هود التي تحدثنا عن رسالة الانبياء (عليهم السلام) الى الامم، نجد انها تنقسم وتتشعب ضمن مجاميع من الايات، وكل مجموعة هي خلاصة عن رسالة نبي من الانبياء ابتداء من رسالة الله جل وعلا الى نبينا الاعظم محمد (صلى الله عليه وآله) خاتم النبيين وسيد المرسلين حيث تفتتح هذه السورة الكريمة بها في الاية الثانية، ومن ثم سائر الانبياء (عليهم السلام).

وعندما نقرأ هذه المجاميع من الايات نجد في بداية كل منها تذكرة بالله سبحانه وتعالى، ثم بيانا لسائر القيم التي امر الله البشر بالالتزام بها، ومثل هذه التذكرة نجدها في كل سورة تتحدث عن رسالات الانبياء من مثل سورة الشعراء، هذه السورة التي جاءت هي الاخرى ضمن مجاميع من الايات كل مجموعة تحدثنا عن رسالة نبي من الانبياء كالنبي نوح، وصالح، وشعيب (عليه السلام)

وسائر الانبياء، وكل مجموعة تحدثنا عن رسالة الله تعالى الى نبي من الانبياء، وهذه الرسالة تتغير حسب ظروف تلك الامة

التي بعث النبي اليها، وحاجتها الى مجموعة معينة من القيم والانظمة.

وفي فاتحة هذه المجموعة من الايات يكون الحديث حول الله جل

ص: 33

وعلا ورسالته، ففي سورة هود مثلا نجد هذه الاية:

أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنَّنِي لَكُم مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (هود / 2) وهذه الاية هي ثانية آيات هذه السورة، فهي تبتدء هكذا: الر كِتَابٌ احْكِمَتْ ءَايَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ * أَلاَّ تَعْبُدُوا (هود / 1 2) وهكذا فان هذه الاية تمثل محتوى هذا الكتاب، ومحتوى رسالة الله التي ارسلت الى النبي (صلى الله عليه وآله) عبر القرآن الكريم.

ثم تتوالى بعد ذلك الايات الكريمة فيقول تعالى: وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُم مَتَاعاً حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِن تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ * إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (هود / 43).

وفي الاية السادسة والعشرين تطالعنا حقيقة مشابهة، ففي هذه الاية نقرأ حول نوح (عليه السلام): وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلىَ قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ * أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (هود / 2625) وهنا نلاحظ تكرار نفس الحقيقة رغم ان التعبير عنها اختلف بعض الشيء، فهناك "نَذِيرٌ مُبِين" وهنا "إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ" ،فالحقيقة واحدة، والنذير ايضا ينذر بعذاب اليم.

وهذا ايضا هو محتوى رسالة شيخ المرسلين نوح (عليه السلام) حيث تتسلسل بعد هذه الاية ايضا مجموعة من القيم في قوله تعالى: فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَراً مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا.. (هود / 27) الى اخر الايات التي تحدثنا عن بقية مبادىء وبصائر الله

ص: 34

سبحانه وتعالى الى النبي نوح (عليه السلام).

وفي الاية الخمسين من سورة هود نجد هذه الاية الكريمة: وإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ وهنا نلاحظ ان نفس الفكرة قد تكررت، وفي الاية (61) من هذه السورة ايضا يأتي الحديث حول قوم ثمود، والنبي صالح (عليه السلام) الذي ارسله الله تعالى اليهم فيقول عز من قائل: وإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ

وفي الاية الرابعة والثمانين من نفس السورة يدور الحديث حول مدين، والرسول الذي بعث الى مدين كان شعيبا حيث يقول عز وجل عنه: وإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ (هود / 84) فالحديث يدور اولا حول الايمان والتوحيد، وعن خلوص العبادة لله سبحانه وتعالى ثم عن سائر الحقائق.

وفي سورة الاسراء يذكرنا تعالى بمجموعة متكاملة من القيم الحياتية، وقد خصصت هذه السورة تقريبا للحديث عن مسؤولية الانسان في الحياة، وتبتدئ هذه الآيات وتختتم بفكرة التوحيد، فالحديث يتركز حول الامر ببر الوالدين، وايتاء ذي القربي حقه، وعدم التبذير، والنهي عن قتل الاولاد، والنهي عن الزنا وما الى ذلك من حقائق، ولكن هذه الايات تبدأ بهذه الكلمة: لاَ تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً ءَاخَرَ

فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَّخْذُولاً * وَقَضَى رَبُّكَ الاَّ تَعْبُدُوا إِلآَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً (الاسراء / 2322) ثم تأتي الآيات الاخرى لتحدثنا عن بقية القيم، الى ان تنتهي بنفس الفكرة التوحيدية فيقول تعالى: ذَلِكَ مِمَّا

ص: 35

أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً ءَاخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَّدْحُوراً (الاسراء / 39).

ومن هنا فقد جرت على لسان بعض المفسرين كلمة جميلة تقول اننا اذا اختصرنا كل القرآن فالمختصر المركز له هو كلمة التوحيد (لا اله الا الله)، واذا ما اردنا ان نبسط هذه الكلمة ونشرحها فانها ستصبح القرآن كله، فاختصار القرآن هو كلمة التوحيد، وتفصيل كلمة التوحيد هو القرآن الكريم، ومن هنا ندرك اننا اذا اردنا ان نصل الى مفتاح فهم الدين والفلاح والهدى فلابد ان نفهم ونعرف حقيقة الايمان، ونسعى من اجل ايجادها في انفسنا، فالايمان عندما ينعكس على قلب الانسان، وعندما يعمر قلب الانسان بنوره فحينئذ ستكون نتيجة وخلاصة ما يحدث في هذا القلب.

الهدى والفلاح غاية المؤمن:

وعن هذا الانسان يقول الله تعالى شأنه: أُوْلئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ (البقرة / 5) اي ان خلاصة ما يحصل الانسان عليه من خلال الايمان يمكن ان يوجز في كلمتين هما (الهدى والفلاح)، فالهدى يعني معرفة الحقائق، وما يتصل بروح الانسان وعقله ووعيه، واما الفلاح فيتصل بجسد الانسان وحياته ومعيشته، والمؤمن على هدى من الناحية العقلية، ويمتلك وضوح رؤية وبصيرة ومعرفة بالحقائق، ومن الناحية الحياتية يمتلك الفلاح؛ اي انه يتمتع بأعلى

درجات السعادة الا وهي الفلاح، لان الفلاح يمثل ذروة السعادة، فالانسان قد يكون سعيدا، فقد جاء في الحديث الشريف: "من سعادة المرء

ص: 36

المسلم الزوجة الصالحة، والمسكن الواسع، والمركب البهي، والولد الصالح" (1) وهذا من سعادة الانسان، ولكن هل يكتفي المؤمن بهذه الاربعة فقط؟ طبعا لا، فهو يحاول ان يصل الى اعلى درجات السعادة، وحب الله تعالى من الدرجات العلى للسعادة والايمان في نفس الوقت.

اننا نقرأ على سبيل المثال في سورة المائدة هذه الآيات الكريمة: يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (المائدة / 54) والان لنحاول ان نتدبر في هذه الآية الكريمة، انها تقول انه قد تحدث ظروف ارتداد في الامة فيما يتعلق بالمسلمين الضعاف الايمان، على ان الخطاب هنا ليس موجها لعامة الناس، ولا المسلمين وانما للمؤمنين الذين يمثلون اعلى درجات المسلمين؛ اي ان هناك ظروفا صعبة تجعل الانسان المؤمن يرتد عن دينه ارتدادا كاملا.

وفي ظروف الارتداد والتراجع والهزيمة هذه تجد رجالا وصلوا الى القمة، والله سبحانه يأتي بهم لمعالجة ظروف الارتداد، ومن صفاتهم الاساسية ان الله يحبهم، ويحبونه؛ اي انهم وصلوا الى مرحلة العلاقة المتبادلة بينهم وبين الله جلا وعلا، فتجاوزت علاقة المصالح المشتركة، وعلاقة الجنة والنار، حتى وصلت الى القمة؛

اي علاقة الحب المتبادل، ومثل هؤلاء تجدهم على طراز مختلف تماما عن الاخرين، فالانسان نجده عادة يخضع للقوة، ولكن هؤلاء يقاومونها، ونحن نجد الامام امير المؤمنين (عليه السلام) يعبر عن هذه35

ص: 37


1- بحار الأنوار ج 73 ص 155 رواية 35

الفكرة بوضوح في قوله: "القوي العزيز عندي ضعيف ذليل حتى آخذ الحق منه، والضعيف الذليل عندى قوي عزيز حتى آخذ الحق له" ؛اي ان العلاقة لاتكون علاقة القوة والضعف، بل هي علاقة الحق، لان الانسان الكافر ذليل في رؤية المؤمن مهما كان قويا.

قمم شامخة في رحاب الايمان:

وبالطبع فان هؤلاء هم القمم الشامخة في رحاب الايمان، والله تعالى يصفهم قائلا: أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (المائدة / 54) وهذه الذروة هي الفلاح لان الانسان لايقتنع، ولايكتفي بأن يحصل على حياة هانئة، بل يطلب من الله تعالى دائما ان يكون موته قتلا في سبيله، فهو لايريد الموت الطبيعي، بل يريد الشهادة، ومثل هذا الانسان يمتلك طموحا وتطلعا اعلى، فهو يريد مجاورة النبي (صلى الله عليه وآله) واهل بيته (عليهم السلام) في الجنة.

وعلى هذا فان الفلاح قمة من قمم الايمان، او ذروة من ذرى السعادة البشرية، والمؤمنون حقا هم المفلحون لان الله عز وجل يقول بشأنهم: أُوْلئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ (البقرة / 5).

***

ص: 38

الفصل الرابع: الايمان مصدر الأمل والتفاؤل

اشارة

يعتبر اليأس من جنود الشيطان واحابيله، ولكن المؤمنين يطردون اليأس بالأمل، ويدفعون ما يقذفه الشيطان في قلوبهم بنظرة الى رحمة الله الواسعة.

لقد كنا ذرات تائهة ثم اودعنا في اصلاب آبائنا، وكنا في بعض المراحل مضغا ثم اصبحنا اطفالا صغارا، وكنا ضعفاء فقوانا الله وحفظنا من المكاره، فلماذا لا نذكر رحمة الله؟ ومتى غيّر عادة الاحسان حتى نبحث عن غيره؟ انه يأتينا في كل لحظة، ويدعونا الى نفسه، وهو الذي خلق دارا لضيافته هيأ فيها كل اسباب الرفاه والسعادة، فلنفكر في هذه السعادة.

ثم ان الله عز وجل لم يكتف بذلك بل بعث الدعاة اليه تلو الدعاة، والرسائل بعد الرسائل، فهل علمنا ان القرآن هو بطاقة دعوة لنا الى الجنة، يقول الله تعالى

فيها لكل واحد منا: عبدي اني احبك، وقد خلقتك للبقاء لا للفناء، ولأرحمك لا لأعذبك، ولأدخلك جنتي، وفيها سأعطيك ملكا كبيرا،

ص: 39

ونعمة واسعة، وحياة خالدة فماذا تريد اكثر من ذلك؟

ان اقل اصحاب الجنة شأنا بأمكانه ان يضيف اهل الدنيا كلهم على مائدة واحدة في بيته، وقد خلق الله عز وجل هذه الجنة للانسان المؤمن المتقي: تِلْكَ الدَّارُ الاَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الاَرْضِ وَلاَ فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (القصص / 83) فالذي يريد الاخرة لابد ان لا يستعلي، ولا يطلب الفساد في الدنيا، فالذي خلق الجنة رحيم بنا، ويضمر الحب لنا.

أحسنوا الظن بالله:

فلا يخدعنا الشيطان ويسلب منا الأمل، وفي هذا المجال يروى "عن أنس انه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله):" لايموتن أحدكم حتى يحسن ظنه بالله عز وجل فان حسن الظن بالله عز وجل ثمن الجنة"(1) ، كما روي عن العالم عليه السلام انه قال: "والله ما اعطي مؤمن قط خير الدنيا والاخرة الا بحسن ظنه بالله عز وجل، ورجائه منه، وحسن خلقه، والكف عن اغتياب المؤمنين، وأيم الله لايعذب الله مؤمنا بعد التوبة والاستغفار الا ان يسوء الظن بالله، وتقصيره من رجائه لله، وسوء خلقه، ومن اغتيابه للمؤمنين، والله لايحسن ظن عبد مؤمن بالله الا كان الله عند ظنه به، لان الله عز وجل

كريم يستحي ان يخلف ظن عبده ورجائه. فأحسنوا الظن بالله وارغبوا اليه وقد قال الله عز وجل:" الظانين بالله ظن السوء عليهم دائرة السوء"(2).

ص: 40


1- موسوعة بحار الانوار ج 67 ص 385
2- موسوعة بحار الانوار ج 68 ص 145

وحتى لو ارتكب احدنا كل الفواحش، وترك كل الحدود فان عليه مع ذلك ان لا ييأس من رحمة الله لان يأسه سيكون اشد من ذنوبه.

فلنزدد أملا بالله، وخشوعا له، وتضرعا اليه، ولنكثر من تلاوة القرآن الكريم الذي يخاطبنا قائلا: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَآئِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فإِذَا هُم مُبْصِرُونَ (الاعراف / 201)، فالشيطان يدور حول قلب الانسان، ويحاول ان يجد منفذا، ولكن المؤمنين يتذكرون، وتتصل قلوبهم بالله سبحانه وتعالى، فيطردون الشيطان، ويحددون مواقع الضعف في نفوسهم.

هذا في حين ان غير المتقين على العكس من ذلك تماما، فهم يستمرون في الغي: وإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ (الاعراف / 202)، فالشيطان يمني الانسان دائما، فيقول له على سبيل المثال انك لم تتزوج بعد وعندما تتزوج ستصبح انسانا كاملا، او انك لم تذهب الى الحج بعد وعندما تحج ستتحول الى انسان ممتاز... وهكذا يظل الانسان يبحث دوما عن فرصة جديدة للهداية في حين ان فرص الهداية موجودة في ارجاء الحياة.

بصائر تسقط الحجب:

والقرآن الكريم هو بصيرة بل بصائر تفتح اعيننا، فتسقط الحجب عن عقولنا، وتنفتح منافذ قلوبنا على الحقيقة كما يقول عز وجل: قُلْ إِنَّمَآ اتَّبِعُ مَايُوحَى إِلَيَّ مِن رَبِّي هَذَا بَصَآئِرُ مِن رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْءَانُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (الاعراف / 204203)؛ أي تدبروا في آياته، وتحسسوا ما فيه من تجليات هذا الكلام الالهي الذي لو وضع

ص: 41

على الجبال لتصدعت على عظمتها لانها لا تستطيع تحمل تجلي الله.

ثم يقول عز من قائل: وَاذْكُر رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ.. (الاعراف / 205) اي اذكر ربك في كل الاوضاع والاحوال، وصل قلبك بمصدر الخير؛ بالانيس الحبيب القريب.

يروى ان رجلا جاء الى رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقال له: يا رسول الله هل ربنا بعيد فنناديه ام قريب فنناجيه؟

وهنا ياتي الوحي الى قلب رسول الله (صلى الله عليه وآله) مجيبا اياه: وَإِذَا سَاَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَاِنِّي قَرِيبٌ اجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِيْ وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (البقرة / 186). فالله جلت قدرته قريب منا بل هو اقرب الينا من حبل الوريد كما يقول الامام علي (عليه السلام): "وان الراحل اليك قريب المسافة".

ولنحاول ان نتصل بالله في جميع الاوقات "بالغدو والاصال" وان لا نكون من الغافلين، فالغفلة سبب لسقوط الانسان، فهو كمن يمشي على حافة جبل شاهق، ومجرد غفلة بسيطة تكفي لان يهوي من هذا الشاهق.

ان الشيطان يسعى في كل لحظة لان يسقط الانسان، فلابد من الحذر والانتباه على طول الخط: وَلا تَكُن مِنَ الْغَافِلِين (الاعراف / 205).

الدعاء مخ العبادة:

ثم يقول عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لاَيَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (الاعراف / 206)، وربما تعني هذه الاية انهم لا

ص: 42

يستكبرون عن دعائه، لان الدعاء هو مخ العبادة، وهو رمز التضرع، وعلينا ان نطلب من الله، فهو غني رحيم، ولتكن ادعيتنا واسعة فليس من المستبعد ان يستجيب لنا الله مهما كانت طلباتنا، فنبي الله سليمان (عليه السلام) دعا ربه: قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لاَ يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي (ص / 35)، وزكريا (عليه السلام) قال: رَبِّ لاَ تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (الانبياء / 89) فوهب الله له ولدا رغم انه كان طاعنا في السن، وكانت زوجته عاقرا.

ان هذه اشياء غير محالة على الله جل وعلا، فعلينا عندما نطلب منه ان لا نطلب قليلا، بل علينا ان نطلب منه طلبات عظيمة من شأنها ان تسهم في نمونا الروحي وتكاملنا، وقبل كل ذلك يجب ان نطهر انفسنا من رواسب الذنوب التي ما تزال متراكمة على قلوبنا، فاذا بنا لا نستفيد الاستفادة المثلى من صلاتنا، هذه الصلاة التي يقول عنها رسول الله (صلى الله عليه وآله): "قرة عيني الصلاة".

كما وعلينا ان نكثف من الممارسات العبادية المستحبة لكي نكون مؤهلين للدخول الى الجنة، والفوز بدرجاتها العليا، من مثل الالتزام بأداء صلاة الليل، وتلاوة القرآن الكريم، صحيح ان الجنة هي رحمة الله الواسعة، ولكن هناك حسابات معينة فيها.

الخضوع لله تعالى:

فلندع الله سبحانه، وليكن املنا به عظيما، ولتكن همتنا عالية، وعلينا ان نعلم ان المؤمنين يسجدون لله ولا يسجدون لغيره، وعند التسبيح ينزهون الله

ص: 43

ويقدسونه ولا يقدسون احدا غيره كما يقول تعالى:

وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (الاعراف / 206)، انهم لا يذهبون الى الحكام والملوك لكي يقدسوهم، ولا يخضعون لهذا وذاك، رغم انه ليس من السهولة بمكان ان لا يخضع الانسان لصاحب سلطان، او ثروة، فمن الطبيعي ان الانسان يكون ضعيفا امام اغراء الثروة، وكذلك الحال بالنسبة الى السلطان، ولكن المؤمن الحقيقي لا يتأثر بذلك ابدا.

وفي هذا المجال يروي لنا التأريخ ان الحاكم الاموي سليمان بن عبد الملك بعث رسولا الى احد العلماء والفقهاء في المدينة المنورة ليخطب ابنته لابنه الوليد، وعندما قابل الرسول ذلك العالم قال له "لقد اصابك شرف عظيم، ونعمة كبيرة، فقال العالم: وما هو؟، فقال: لقد اتيت من قبل الخليفة الذي يمتلك ثلاثين بلدا في العالم الاسلامي لكي اخطب ابنتك لابنه، واما المهر فاننا سنجعلها في كفة ونجعل

في الكفة الاخرى الذهب والفضة والاحجار الكريمة بقدر وزنها، ونعطيه مهرا لها، فما كان من ذلك العالم التقي الورع الا ان قال: حدثنا رسول الله (صلى الله عليه وآله) ان الدنيا لا تعدل عند الله جناح بعوضة، وماذا يملك سليمان بن عبد الملك من هذا الجناح، اذهب فان الله سبحانه وتعالى يقول: وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ (التكوير / 98)، فتعجب الرسول وقال: وما شأن هذه الاية بأبنتك؟ فقال العالم: وهل تريد وادا اخطر من هذا الوأد، لقد كان الجاهليون يئدون بناتهم تحت التراب، فهل تريد مني ان ائد ابنتي واجعلها في الفساد والرذائل، وادفعها في قصور الملوك؟

ص: 44

وهكذا فان هذا هو الايمان الحقيقي؛ الايمان الذي يدفع صاحبه الى ان يتحدى الطغاة والجبابرة، ولا يتنازل عن عقائده ومبادئه خشية وخوفا منهم، وهذا الايمان هو الذي يبعث الامل في النفس الانسانية، ويجعلها تتغلب على العقبات، والصعاب التي تقف في مقدمتها تلك التي يضعها الشيطان الرجيم في طريق الانسان المؤمن.

***

ص: 45

الفصل الخامس: الايمان زادنا في الصعاب

اشارة

بين الانسان والحقائق حجاب من الكفر، فالكفر يعني لغة الستر، ومن هنا سمي الفلاّح (كافرا) لانه يستر الحبة تحت التراب، وهكذا الحال بالنسبة الى الانسان الكافر فهو يحجب عن نفسه الحقائق بالاوهام والتمنيات، وهذه هي اعقد مشكلة يواجهها الانسان، واخطر عقبة لابد ان يجتازها البشر لكي يتصلوا بالحقائق بشكل مباشر.

الكافر لا يستوعب الحقائق:

ان قلب الانسان الكافر لا يستوعب الحقائق، فصدره ضيق محدود، ونظراته محدودة، ولذلك فانه يتعجب اذا جاءه منذر: بَلْ عَجِبُوا أَن جَآءَهُم مُنذِرٌ مِنْهُمْ

فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ * ءَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (ق/ 32).

ص: 46

افلا يرى هذا الكافر انه كان ترابا فخلقه الله انسانا سويا، فكيف يكون رجعه بعيدا؟ ان الله تعالى يقرر ان الشيء الاهم هو احاطته علما بكيان الانسان، وبمن يموت، ويحيا، وبكل خلية في بدن الانسان تنمو او تنقص:

قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ * بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (ق / 54).

فالانسان عندما يكذب بالحق لايجد الا الباطل، والباطل لا يعطي الانسان سكينة ولا اطمئنانا، ولا ثقة، فالذي لم يبلغ الحق تراه ابد الدهر في تردد وقلق وحرج لا يعرف ماذا يصنع، فالامور مختلطة ومتشابهة ومظلمة بالنسبة اليه.

اما ذلك الانسان الذي خرق حجاب الكفر، وعاش مع الحقائق مباشرة بحيث ينظر من خلالها الى كل شيء في هذا الوجود، فهو ينظر الى وجه الله سبحانه وتعالى ويشاهد تلك الحقائق التي عجز الفلاسفة والمفكرون عن الوصول اليها.

ولننظر الى الفرق الشاسع بين نظرة الانسان العادي الى السماء، ونظرة الانسان المؤمن، فالاول لعله يلهي نفسه بتعداد طائفة من النجوم، في حين ان الانسان المؤمن عندما ينظر في السماء، ويرى النجوم التي تزينت بها، فيعلم ان كل نجمة منها تقع ضمن منظومة شمسية، وان بعض هذه النجوم البعيدة عنا التي من الصعب علينا ان نراها بأعيننا هي شموس اكبر من شمسنا مئات بل الوف المرات... عندما يرى الانسان المؤمن كل هذه الايات المعجزة الباهرة يسجد لربه قائلا:

رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (آل عمران / 191).

وهكذا فانه من خلال نظرة واحدة الى هذه النجوم، والى ما وراءها، والى قوة

ص: 47

ومتانة خلقها، يتصل قلبه بكل الحقائق، وبالهدف الذي خلق الخلق من اجله وبالحكمة التي وراء هذا الخلق.

وحينئذ يتفتح قلب هذا الانسان، وينشرح صدره بالايمان، فلا يعبأ بالمصائب والمآسي والكوارث، لانه يعلم ان الله عز وجل يحيط علما بكل ذلك وقدرة، فهو القادر على ان يفرجها عنه.

وهناك من الناس من يمتلك الصبر، ولكن صبره هذا محدود، فهو يصبر على مصيبة دون الاخرى، اما الانسان المؤمن فانه يملك معدن الصبر، فكلما استخرج منه بقي هذا المعدن ثابتا ولذلك نقرأ في الدعاء المأثور:" اللهم صلي على محمد وآل محمد وهب لي ثبات اليقين، ومحض الاخلاص، وشرف التوحيد، ودوام الاستقامة، ومعدن الصبر، والرضا بالقضاء والقدر".

الايمان معدن الصبر

فما هو معدن الصبر يا ترى؟ انه الايمان بالتأكيد، فأسقط ما بينك وبين الحقائق من حجب الكفر والجحود، ودع قلبك ينطلق في رحاب الحقيقة، ثم انظر الى هذه الحقيقة نظرة مباشرة لكي تحصل على معدن الصبر.

عن حفص بن غياث انه قال: قال ابو عبد الله عليه السلام: يا حفص ان من صبر صبر قليلا، وان من جزع جزع قليلا ثم قال: عليك بالصبر في جميع أمورك، فان الله عز وجل بعث محمدا صلى الله عليه واله وسلم فأمره بالصبر والرفق، فقال: وَاصْبِرْ

عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً * وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُوْلِي النَّعْمَةِ (المزمل / 10 11) وقال تبارك وتعالى: ادْفَعْ بِالَّتِي

ص: 48

هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَآ إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَآ إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (فصلت / 3534).

فصبر (صلى الله عليه وآله) حتى نالوه بالعظائم، ورموه بها، فضاق صدره فأنزل الله عز وجل عليه وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ (الحجر / 9897) ثم كذبوه ورموه فحزن لذلك فأنزل الله عز وجل: قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَيُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِاَيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ * وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِن قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَاكُذِّبُوا وَاُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا (الانعام / 3433).

فألزم النبي عليه الصلاة والسلام نفسه الصبر، فتعدوا فذكروا الله تبارك وتعالى وكذبوه فقال: قد صبرت في نفسي وأهلي وعرضي ولا صبر لي على ذكر الهي فأنزل الله عز وجل: وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُغُوبٍ * فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ (ق / 38 39) فصبر في جميع احواله ثم بشر في عترته بالائمة، ووصفوا بالصبر فقال جل ثناؤه: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِاَيَاتِنَا يُوقِنُونَ (السجدة / 24).

فعند ذلك قال صلى الله عليه وآله:" الصبر من الايمان كالرأس من الجسد "،فشكر الله عز وجل ذلك له، فأنزل الله عز وجل: وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرآئِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَاكَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ (الاعراف / 137) فقال صلى الله عليه واله: انه بشرى وانتقام، فأباح الله عز

وجل له قتال المشركين فأنزل الله فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ (التوبة / 5)،

ص: 49

وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُم (البقرة / 191) فقتلهم الله على أيدي رسول الله عليه الصلاة والسلام وأحبائه، وجعل له ثواب صبره مع ما ادخر له في الاخرة، فمن صبر واحتسب لم يخرج من الدنيا حتى يقر الله عينه في اعدائه مع ما يدخر له في الاخرة.

القرآن بصائر:

والقرآن الكريم هو بصائر؛ بمعنى انه يفتح اعيننا على الحقائق بصورة مباشرة، ولذلك قيل ان الدين هو تجربة شخصية؛ اي ان تبحث عنه وتصل اليه بجهودك الشخصية، والقرآن الكريم يقرر ان الدين تبصرة: تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (ق / 8).

ويستأنف تعالى قائلا: وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَآءِ مَآءً مُبَارَكاً فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ * وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (ق / 109) فلننظر الى النخل؛ كيف ترتفع الى السماء الى ما يقرب من عشرين مترا، وتسحب الماء من باطن الارض، ولنتأمل العناقيد المتدلية منها، وكيف نضجت ثمارها مع بعضها البعض بهذا الشكل الهندسي اللطيف.

وبناء على ذلك فاننا بحاجة الى زاد الايمان في كل الاحوال سواء عشنا المشاكل ام لم نعشها، وسواء دخلنا الصراعات ام لم ندخلها، فنحن نحتاج اليه في الدنيا، وفي مسيرتنا الطويلة بعد الموت.

وهكذا فان الطريق الممتد امامنا طويل، ونحن بحاجة الى زاد يتمثل في اعمالنا التي قد لا نثق بها، ومعرفتنا بالله سبحانه وتعالى واملنا به، وفي هذا المجال يروى عن الامام الصادق (عليه السلام) أنه قال:" أن الله لا يستجيب دعاء بظهر

ص: 50

قلب ساه، فاذا دعوت فأقبل بقلبك ثم استيقن الاجابة"(1). فللانسان لسان ينطق بذكر الله، ولكن قلبه شارد هنا وهناك، فاذا قلت: يا الله، ودعوته، واسقطت الشركاء بينك وبين ربك، فحينئذ يقول تعالى للعبد: لبيك عبدي لبيك.

ونحن نحتاج الى زاد الايمان في الظروف العادية فما بالك بالظروف الصعبة، فنحن اليوم نعيش التحديات، ونعيش الصراع الحاسم، ونمر بعصر استثنائي، ففي كل يوم تستشهد طائفة من رفاق جهادنا، فحياتنا مليئة بالمشاكل والصعاب، ونحن في احوج ما نكون الى المعنويات، والايمان بالله تعالى يقف في طليعة هذه المعنويات.

ثوار القيم وثوار الظروف:

وفي هذا المجال: اي مجال الجهاد، نوعان من الناس كلاهما يقومون بالثورة، ويتحدون، ويخوضون الصراع، ولكنهم يختلفون عن بعضهم في صفة واحدة؛ فهناك ثوار القيم، وهناك ايضا ثوار الظروف، فقد يرى البعض ان شعلة الثورة قائمة، فيحشر نفسه فيها، وهؤلاء يسمونهم (ثوار الظروف)، وهناك البعض الاخر الذين هم ثوار القيم، فنراهم منذ البدء يؤمنون بالله ويكفرون بالطاغوت، ذلك لان

الكفر بالطاغوت جزء من الايمان بالله الذي يعني رفض الطاغوت، والجبت، والشركاء، والانداد، ومن هذا المنطلق يبدأ الانسان المؤمن تحركه.

ولنفترض ان كل الناس قد خضعوا للطاغوت فان هذا لا يعني ان يلوذ الانسان

ص: 51


1- موسوعة بحار الانوار ج 90 ص 305

بالسكوت بل يجب عليه ان يحاربه بمفرده، لان هذا هو منطلق ايمانه فالمؤمنون كافرون بالطاغوت في كل الاحوال سواء انتصروا ام فشلوا.

ومع كل ذلك فان كل الظروف الصعبة التي نمر بها من شأنها ان تقربنا من النصر وتقرب اعداءنا من الهزيمة، ولابد ان تبقى حربنا المقدسة مع طواغيت الارض مشتعلة حتى ييأس الكفار من ان ينالوا من ديننا وقيمنا، وارادتنا، وحينئذ سينهزمون نفسيا، ويولون الادبار، لاننا نمتلك (زاد الايمان) الذي يمثل قوتنا العظمى في مواجهة تكالب اعداء الله علينا، هذه القوة التي ينبغي علينا ان لا نستهين بها مطلقا لانها تمثل الخلفية المنيعة والقوية للقوة المادية المتمثلة في العدة والسلاح.

***

ص: 52

الفصل السادس: الايمان طريق الاستقامة

اشارة

ان اعظم وسام يشرف الله تعالى به الانسان هو ذلك الوسام الذي وعد بمنحه للمستقيمين على الطريقة؛ فالذين استقاموا يعطيهم الله عز وجل درجة هي من اختصاص الانبياء (عليهم السلام)، لان ميزتهم هي انهم يؤيدون بالوحي، ويهتدون بعلم الله، وينظرون بنوره، ويمنحون درجة الامن في حياتهم الدنيا كما يمنحونها في الاخرة، والى ذلك يشير قوله تعالى: فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (البقرة / 38)، وهذه الميزة يتفضل الله سبحانه بها على المستقيمين على الطريقة بعد الانبياء، ذلك لانه تعالى يقول:

إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلآَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ (فصلت / 30).

والاستقامة هي الدرجة الرفيعة العليا التي لا يصل اليها الا القليل من الناس، ويؤيد ذلك الحديث المروي عن النبي (صلى الله عليه وآله) والذي يقول فيه:

ص: 53

"الناس هالكون الا العالمون، والعالمون هالكون الا العاملون، والعاملون هالكون الا المخلصون، والمخلصون على خطر عظيم".

فحتى الذي يخلص لله عمله، ويبلغ درجة الاخلاص الرفيعة يكون على خطر عظيم لانه لا يعلم كيف ستنتهي عاقبة امره، ولا يدري هل سيموت مؤمنا ام ينحرف قبل وفاته.

ومن الناس من انحرف قبيل وفاته فمات بعيدا عن الله، بعيدا عن الجنة والرحمة، ولذلك كانت وصية الانبياء (عليهم السلام) لابنائهم متمثلة في قوله تعالى: فَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُم مُسْلِمُونَ (البقرة / 132)، وهذا هدف عظيم يجب ان يتبناه الانسان في حياته؛ وهو ان يحرص على ان لا يموت الا وهو مسلم، لان الحصول على الجنة هو اعظم الاهداف، وهذا الهدف لا يمكن ان يتحقق الا بعد ان تختم حياة الانسان بالحسنى.

ولكن كيف نحقق هذا الهدف الذي يأتي بعد الايمان من ناحية الاهمية، الا وهو هدف الاستقامة الذي اشار اليه تعالى في سورة فصلت قائلا: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا (فصلت / 30).

مواجهة التحديات بالتوكل:

وسورة هود التي تبين تحديات الامم الماضية للرسل، وكيف انهم واجهوا تلك التحديات الكبيرة بالتوكل على الله سبحانه، هذه السورة تتضمن في خواتيمها

حكمة تعبر عن محتواها ومغزاها متمثلة في قوله عز من قائل: فَاسْتَقِمْ كَمَآ امِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ (هود / 112)، وفي هذا المجال يروى

ص: 54

عن النبي (صلى الله عليه وآله) ان احد اصحابه تعجب عندما رأى كثرة الشيب في رأسه الكريم رغم ان سنه كان بين الاربعين والخمسين، فقال (صلى الله عليه وآله) له: "شيبتني سورة هود".

وهكذا فان رسول الله (صلى الله عليه وآله) المؤيد بالوحي، والذي كان نبيا وآدم ما بين الطين والتراب، والذي اخذ الله تعالى ميثاق الايمان برسالته من كل النبيين، هذا النبي كان يهتز عندما يسمع قوله عز وجل: فَاسْتَقِمْ كَمَآ امِرْتَ.

ومن هنا نستنتج ان الطريق طويل، والعقبات كثيرة، والامتحانات والفتن عظيمة، واننا يجب ان لا نغتر بأنفسنا، بل علينا ان نثبت على هذه الطريقة الى نهاية اعمارنا، ولقد كنا نسمع الخطباء وهم يرددون من فوق المنابر قول النبي (صلى الله عليه وآله): "يأتي زمان على امتي القابض فيه على دينه، كالقابض على جمرة من نار".

ولكننا لم نكن ندرك مغزى هذا القول حتى وقعت حوادث في هذا الزمان، ورأينا كيف ان الكفار استولوا على البلاد، وحرموا على الناس اقامة الشعائر الدينية، ثم اكتشفنا حينئذ ان المستقيم على دينه، والمحافظ عليه هو اصعب حالا من القابض على جمرة من نار.

وبناء على ذلك؛ كيف أغتر بنفسي، وامنيها بان تكون نهايتي سعيدة من دون التوكل على الله، والثقة به، والاعتماد عليه، ولتكن لنا في هذا المجال اسوة حسنة في

ائمتنا (عليهم السلام)، فعن ابن ابي يعفور قال: سمعت أبا عبد الله الصادق (عليه السلام) يقول وهو رافع يده الى السماء: رب لا تكلني الى نفسي

ص: 55

طرفة عين ابدا لا أقل من ذلك ولا أكثر قال: فما كان بأسرع من أن تحدر الدموع من جوانب لحيته ثم أقبل علي فقال: يا أبن أبي يعفور ان يونس بن متى وكله الله عز وجل الى نفسه أقل من طرفة عين فأحدث ذلك الذنب، قلت: فبلغ به كفرا اصلحك الله قال: لا ولكن الموت على تلك الحال هلاك.(1)

وسام الاستقامة:

وهكذا فان اعظم وسام هو وسام الاستقامة الذي منحه الله جل شأنه للذين يستقيمون على الطريقة، فهؤلاء تتنزل عليهم الملائكة تترى، كما يقول تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلآَئِكَةُ (فصلت / 30).

والسؤال المهم المطروح في هذا المجال هو: كيف نستقيم على الدرب؟

وقبل ان اجيب على هذا السؤال لابد ان اقدم له بتفسير معنى (الايمان)؛ هذه الكلمة التي شاعت وتكررت في القرآن الكريم، والاحاديث الشريفة، فما هو الايمان، وما هي اركانه وشروطه، وكيف نحقق الايمان الحق في انفسنا؟

ان الايمان يتجلى عندما يخير الانسان بين هوى النفس والحق فيختار الحق ويذعن له وخصوصا عندما يكون هذا الحق مخالفا لهواه، وعلى هذا فاننا نقف ازاء ظاهرة مهمة هي ظاهرة الايمان، واختيار الحق على الهوى، وعادة ما تبدأ خيارات الانسان بين الحق وهوى النفس بسيطة ليتقدم في الايمان تدريجيا حتى يصل الى

ص: 56


1- الكافي ج 2 ص 581

مستوى الاستقامة، وعلى العكس من ذلك فان الذين يختارون الهوى فانهم يتنزلون درجة بعد اخرى حتى يصلوا الى درجة اسفل السافلين.

والامتحان في مدرسة الله تعالى لايكون حسب اختيار الانسان وهذه الامتحانات تتدرج في الصعوبة حتى يصبح الانسان قريبا من درجة الانبياء، اي درجة الذين يستقيمون على الطريقة، اما عندما يسقط هذا الانسان في الامتحان الالهي فانه ينزل درجة الى الاسفل.

وبالطبع فان بامكان الانسان ان لا يسقط، وان يهديه الله تعالى في لحظة من اللحظات كما حدث للحر بن يزيد الرياحي الذي سقط في الامتحان الاول عندما لم ينضم الى جبهة الحق في عهد مسلم، ولم يترك الكوفة مثلا لكي لا يضطر الى الاشتراك في الحرب ضد الامام الحسين (عليه السلام) لانه كان ضابطا كبيرا يرغب في ان يحصل على مفخرة في هذه الحرب، وهكذا اشترك في البدء في الحرب ضد ابي عبد الله (عليه السلام) وجعجع بأهل بيت الرسالة، ولكنه في لحظة من اللحظات صعد بشكل مفاجىء وسريع فانتقل من اسفل السافلين، الى اعلى عليين بفضل الله سبحانه وتعالى.

ومن الثابت ان الانسان كلما سقط درجة فانه يبتلى بامتحان اخر فيسقط درجة اخرى حتى يصل الى ادنى المستويات كما يقول تعالى: ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ

أَسَآءُوا السُّوأَى أَن كَذَّبُوا بِاَيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ (الروم / 10) اي ان الانسان الذي يرتكب المعاصي، ويسقط في دركات العصيان دركة فدركة، فان هذا الانسان ينتهي به الامر الى الكفر بكل شيء.

وعلى هذا فان علينا ان نكون حذرين، فاذا اذنبنا الذنب الاول فان علينا

ص: 57

الاعتراف به، وان لا نبرره لاننا لو بررناه فان حالنا سيزداد سوء، وعلى سبيل المثال فان الانسان المسلم الذي يترك الصلاة، ويبرر تركه لها بان الله لم يوفقه بعد لهذا الطريق رغم انه يعلم ان الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، فان مثل هذا الشخص احسن حالا من ذلك الذي يبرر تركه للصلاة بانها ليست واجبة اساسا، فمثل هذا التبرير هو أسوء من ترك الصلاة، ذلك لان الانسان عندما يترك الصلاة وهو مقتنع بوجوبها فان من الممكن ان يهديه الله عز وجل في يوم من الايام، اما الذي ينكر الصلاة فان الامل بهدايته بعيد.

اول مراحل الايمان:

ولذلك فان الانسان يجب ان لايعتبر نفسه معصوما من الخطأ، فكل انسان يخطأ، والاعتراف بالخطأ هو بمثابة ارتقاء اولى درجات التوبة الا وهي الندم، فالندم يأتي بعد الاعتراف بالذنب داخليا، ولذلك فان من المفروض بالانسان ان يستشعر الندم اولا ثم يتوب الى الله، ويصلح عمله، فاذا ترك الصلاة فليقضها، واذا اخذ اموال الناس فليرجعها اليهم، وبهذا الاسلوب يمحي الانسان آثار الذنوب من نفسه، ويضمن النجاح في الامتحانات الالهية، اما الانسان الذي لا يتوب الى الله، فان

الذنب سيتكرس في قلبه، ويكون من الصعب عليه ان يزيل هذا الذنب لان نفسه سيحيط بها المرض.

وهنا توجد فكرة استوحيتها من آيات سورة الحديد التي هي من غرر سور القرآن الكريم شريطة ان تكون لنا آذان واعية؛ هذه الفكرة تتمثل في ضرورة ان يستشعر الانسان المؤمن الخشوع في قلبه كما يقول تعالى: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ

ص: 58

ءَامَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلاَ يَكُونُوا كَالَّذِينَ اوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الاَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ (الحديد / 16).

والمهم في سورة الحديد المباركة ان القرآن الكريم يصرح ان كل ما في الوجود يسبح لله وينزهه، فهو تعالى لا يشبه شيئا، ولا يمكن ان تتصوره الاوهام، فهو نور ولكن لا كالنور الذي نعرفه.

وهو المقتدر المهيمن: لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ (الحديد / 5)، ومن آيات ملكه انه يخلق الشجرة من الحبة الصغيرة، ويجعل الانسان السوي من نطفة تافهة، واذا شاء سلب منه روحه فاذا هو جثة هامدة: يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (الحديد / 2)، وبناء على ذلك فان الله جل وعلا على كل شيء قدير، فقد خلق الفيل والحوت بعظمتهما، وخلق ايضا الذبابة والبعوضة على صغرهما في حين ان هذين الحيوانين الصغيرين مثل ذينك الحيوانين الضخمين في اجهزتهما، فسبحان الله الذي يخلق ما لا يمكن للانسان ان يتصوره.

ثم يستأنف تعالى قائلا: هُوَ الأَوَّلُ وَالأَخِرُ (الحديد / 3) ففي المرحلة الاولى من يوم القيامة يكون الموت عاما وشاملا من خلال اسرافيل الذي يميت بنفخة صوره كل شيء حي، وهنا يبقى شيء واحد حي غير الله تعالى الا وهو اسرافيل نفسه، وفي هذه اللحظات يأتي الخطاب من الخالق عز وجل لاسرافيل: من هو باق؟ فيجيب: عبدك الذليل اسرافيل، وحينئذ يقول له تعالى: مت، فيموت وينتهي، وحينئذ ينطلق النداء من الواحد القهار لمن الملك اليوم؟ فيدوي هذا النداء في الارض والسماء، وفي الوجود والعدم ولا من

ص: 59

مجيب، حتى يجيب تعالى نفسه قائلا: لله الواحد القهار.

ويستمر السياق القرآني الكريم قائلا: هُوَ الأَوَّلُ وَالأَخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَآءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ (الحديد / 43).

فاذا نزلت قطرة من السماء الى الارض فان الله سبحانه يعلم بها، وكذلك يحيط علما حتى بالنبتة الصغيرة التي تخرج من الارض.

مفهوم الاستخلاف:

ويقول عز وجل بعد ذلك مشير الى مفهوم (الاستخلاف): وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ ءَامَنُوا مِنْكُمْ وَأَنفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (الحديد / 7)، ترى ماذا يعني "الاستخلاف" ؟للجواب على هذا السؤال نقول ان

هناك نظرية ترى ان الانسان له الحق في ان يمتلك وهي نظرية (هيجل) في الارادة، هذه النظرية التي يتبناها النظام الرأسمالي والتي تقول ان الانسان مادام مريدا، فان هذه الارادة تعطيه الحق في ان يمتلك، وهذه هي نظرية الحق المستنبط من الارادة، وقد انبثقت منها في علم الاقتصاد نظرية (آدم سميث) الخاصة بالاقتصاد الحر، وفي علم القانون ترى هذه النظرية ان (العقد) هو شريعة المتعاقدين، وفي السياسة هناك نظرية (جان جاك روسو) التي يقول فيها ان النظام السياسي قائم على العقد الاجتماعي.

وهذه النظريات كلها تدور حول محور واحد هو (ارادة الانسان)، وهنا من

ص: 60

حقنا ان نتساءل: ترى هل جئنا نحن بهذه الارادة التي نمتلكها، ام ان الله تعالى هو الذي اعطانا اياها؟، في هذا المجال يصرح القرآن الكريم قائلا: وَمَا تَشَآؤُونَ إِلآَّ أَن يَشَآءَ اللَّه (الانسان / 30)، وبناء على ذلك فانني لست المالك الحقيقي، فروحي بيده عز وجل فان قبضها واصبحت تحت التراب، فهل يمكنني بعد ذلك ان ادعي الملك؟ فهل يملك شيئا من هو تحت التراب؟

واستنادا الى ذلك فان الانسان لا يملك شيئا، ومادام كذلك فان الله جلت قدرته هو المالك المقتدر، كما ان علاقتنا بالمال هي مجرد علاقة الاستخلاف الذي يعني اننا مفوضون في المال الذي رزقنا به حسب القانون الموجود، تماما كما نرى ذلك في العلاقة بين الموكل والوكيل.

الانفاق مفهوم عام:

وفي هذه الاية: وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ (الحديد / 7) ليست هنا اشارة صريحة الى ان الانفاق يجب ان يكون من المال حتما، فالانسان ربما لا يملك المال، بل قد يمتلك مثلا اللسان الطيب، وعلى هذا الاساس فان اللسان من الممكن ان يكون رأس مال استطيع ان استثمره في سبيل الله من خلال استخدامه في طريق الخير، واستعماله في الاصلاح بين الناس كما يقول الحديث الشريف: "اصلاح ذات البين افضل من عامة الصلاة والصيام".

وهكذا الحال بالنسبة الى (الجاه) مثلا فان باستطاعتي ان اوظفه، و (انفقه) في سبيل الخير العام: كأن استغله في جمع التبرعات للفقراء، وبناء المساجد، والاصلاح بين الناس.

ص: 61

وبالاضافة الى ذلك فان الانسان قد يمتلك العلم، ومن المعلوم ان زكاة العلم هو نشره بين الاخرين، واخراج هذا النور من قلوبنا ليستضيء به الناس، وربما يتذرع الواحد منا في هذا المجال بأنه ليس عالم دين، وانه لم يضع لحد الان عمامة على رأسه، وفي هذه الحالة فان الناس سوف يستهزؤون به اذا ما قدم العلم والنصح لهم، في حين ان الامر على العكس من ذلك تماما، فالانسان الذي ينفق من علمه سوف يزداد علما، فكلما اعطى هذا الانسان شيئا في سبيل الله عز وجل كلما رفع من شان صاحبه، ونمى ما يعطيه.

وتأسيسا على كل ما سبق فان القضية كلها تتلخص في كلمة واحدة هي ان الانسان يجب ان يعرف ان كل ما في يده من مال، وجاه، وعلم، ورئاسة.. انما هو مستخلف فيه، وان عليه ان يتخذه طريقا لمرضاة الله جل شأنه.

واذا ما ترسخ هذا الاسلوب لدى الانسان فستحصل عنده الاستقامة التي توجب عليه ان يجعل كل قدراته، وممتلكاته وسيلة للتقرب الى الله تعالى، وحينئذ ستنتهي حياة هذا الانسان بالحسنى التي يشير اليها قوله عز من قائل:

فَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُم مُسْلِمُونَ (البقرة / 132).

والا فان الانسان الذي يرى ان كل شيء هو ملك له وحده دون الاخذ بنظر الاعتبار كون الملك الحقيقي لله عز وجل، مثل هذا الانسان يسقط في الامتحانات الالهية الواحد تلو الاخر حتى يكون مصداقا لقوله تعالى: ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (التين / 5).

***

ص: 62

الفصل السابع: الايمان منطلق تحمل المسؤلية التغيرية

اشارة

كما ان الشمس هي مصدر انبعاث كل نور، واصل كل طاقة كامنة كانت ام ظاهرة، فكذلك الحال بالنسبة الى الايمان بالله جل وعلا، الذي يقتضي الايمان

بالقدرة والهيمنة والتدبير الالهي، فهو اي الايمان مصدر سيادة كل قيمة خيرة، واصل وينبوع كل فضيلة في حياة الانسان.

وبالايمان بالله تعالى تنطلق المسيرة الفكرية في الجادة السوية، وينتظم النشاط الذهني، ويضاء العقل فيغدوا محملا للنور الالهي الذي به تشرق سبل الحياة، وتتفتح امامها الآفاق الحضارية. ذلك لان الله جلت قدرته هو مصدر كل نور، فهو نور السماوات والارض مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَاَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لاَّ شَرْقِيِّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ (النور / 35)

وعندما يؤمن الانسان بالله سبحانه ويضاء عقله، ويشرق فكره بالنور

ص: 63

الالهي، فان سائر معارفه عن الحياة سوف تتمحور حول منهاج صائب سليم. فمعرفة الخالق هي نور القلب، والمؤمن انما ينظر الى الحياة، ويلج ابوابها، و يتحرك في رحابها بهدى من ذلك النور الالهي. فبه يكتشف مجاهل واسرار الحقائق، ويتوصل اليها، ويعرف كنهها بمقدار ما تسمح له طاقته العقلية، وبدرجة قوة النور الالهي الذي يعمر قلبه وذهنه.

الحدود الواسعة للمعرفة:

وهذه المعرفة لا تتوقف عند مظاهر الاشياء، لان هذه الظواهر هي وسيلة العقل المؤمن لكشف الحجب، ومعرفة ما قدر الله تعالى لاوليائه من الغيوب. فكما انه تعالى شأنه علام الغيوب، وعالم الغيب والشهادة، فكذلك المؤمن فبما تفضل

عليه ربه من نور من عنده تعالى فانه يعلّمه، ويوحي اليه، ويطلعه على بعض انباء غيبه كما يقول القرآن الكريم:

ذَلِكَ مِنْ أَنْبَآءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ (آل عمران / 44)

وعلم الغيب يعني علم ما وراء الظاهر، وعلى سبيل المثال فان النار تحرق وهذا هو الظاهر منها الذي تدركه الحواس مباشرة، ولكن لماذا تحرق؟ ان هذا هو الغيب الذي يكمن وراء حقيقة الاحراق الظاهرة.

ولعل من ابرز الحقائق المغيبة التي استطاع العقل بالنور الالهي ان يكشف الحجاب عنها هو التساؤل الفلسفي العام الذي اجتهد الفلاسفة والحكماء واهل الكلام في سبيل الاجابة عنه، وهو: ماهي الحكمة، وماهي الفلسفة من هذه الحياة التي نحياها؟ وما الهدف من ورائها؟

ص: 64

ان الحقائق تكشف للانسان المؤمن عن ما وراءها من المغيبات مادام ينظر اليها بنور العقل الالهي المنبعث من بؤرة الايمان بالله تعالى اما الانسان العادي البسيط فانه ينظر الى الاحداث، والظواهر المحيطة به نظرة سطحية عابرة. فلا يكلف نفسه عناء الكشف عن القوانين، والحقائق الخفية الكامنة وراءها؛ فهو على سبيل المثال عندما يستقل واسطة نقل ما، كأن تكون دابة، او سيارة، او طائرة لتنقله من مكان الى آخر، فانه ينظر اليها نظرة عادية بسيطة كبساطته، فلا تعدو عنده سوى وسيلة تنقله من مكان لآخر فحسب. في حين ان الانسان المؤمن ينظر اليها على انها اداة مسخرة له باذن الله تبارك وتعالى ولذلك نجده يردد قوله تعالى وهو ينظر اليها:

سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ * وَإِنَّآ إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ (الزخرف / 13 14)

وهكذا فان نظرة المؤمن لا تقف عند ظاهر الاشياء، او مرحلة من مراحلها، بل هي نظرة الى سلسلة ممتدة، وجواهر باطنة تقوده الى ربه، وتقربه اليه تعالى. وبتعبير موجز فان النظرة الايمانية هي نظرة جوهرية تستمد عمقها، وتستلهم حكمتها من نور الله العظيم، وهذه النظرة المنطلقة من الايمان هي التي جعلت المؤمن يعيش الشعور العميق بالمسؤولية تجاه كل شيء في الوجود، والمسؤولية هذه هي احدى أهم الحقائق التي ينبغي البحث عنها وتحملها.

العلم المغيب:

وهذا ما نلمسه في القرآن الكريم، حيث وضع حقيقة مسؤولية الانسان عن حياته ضمن منظومة من آيات الله تعالى في الطبيعة إذ يقول جل وعلا:

ص: 65

اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ انثَى وَمَا تَغِيضُ الاَرْحَامُ (الرعد / 8). فهذه حقيقة عجز العلم الذي بلغ ما بلغه من عظيم التطور والتقدم والرقي في معلوماته وامكانياته وتكنلوجيته عن التوصل اليها. فالمسألة لا تتوقف على كون الجنين ذكرا أو انثى، بل ان حديث العلم الالهي الذي يعكسه القرآن في هذه الآية يمتد الى اكثر من ذلك؛ فمما يريد تبيانه من علم مغيب على الانسان في هذا الصدد هو: هل ان هذا الذي سيولد في المستقبل سيكون سعيدا أم شقيا، مؤمنا أم كافرا، بطلا ام جبانا، وماذا سيكون في طبعه ونفسيته... وما الى ذلك من الموروثات، حتى أحصيت

عدد الاحتمالات التي سيخرج بواحد منها بثلاثمائة ألف مليار احتمال، فانظر كم هو هائل هذا الرقم، فأنّى للعلم مهما تقدم، وتطور ان يحدد هذا الاحتمال الواحد بين ذلك العدد الكبير؟

ان هذا هو الذي تعنيه الآية الكريمة، فعلم كهذا يبقى مغيبا عن الانسان، ويبقى علمه عند الله جلت قدرته وحسب، ولذلك فمن المستحيل ان يولد اثنان متشابهان في كل الصفات والطباع. والمراد بقوله تعالى: وَمَا تَغِيضُ الاَرْحَامُ، هو حالة عدم انعقاد النطفة؛ اي عدم تخصيب بيضة المرأة، وهو ما نسميه اليوم ب (العقم) الذي قد يكون بسبب احد الزوجين؛ فاما ان تحدث الحالة الطبيعية، وهي كون الوليد واحدا، او الحالات الشاذة وهي حالات العقم او "غيض الرحم" ،او حالات تعدد الاجنة، وهو ما يشير اليه سبحانه في قوله: وَمَا تَزْدَادُ.

ثم يعقب جل وعلا ذكر هذا العلم المغيب عن الانسان بذكر التقدير الالهي للاشياء فيقول عز من قائل: وَكُلُّ شَيْءٍ

ص: 66

عِندَهُ بِمِقْدَارٍ (الرعد / 8)؛ اي ان الله حدد لكل نوع من الموجودات مجالا معينا في الحجم، والكيفية، والوزن، واللون، والقوة وما الى ذلك من الصفات، وهذا هو التقدير الالهي للاشياء. ولذلك كان هذا العلم المغيب، والتقدير المقدر من اختصاص بارئ الوجود وحسب، لا يوازيه ولا يبلغ حده كائن في هاتين الخصيصتين (العلم و التقدير)، ولذلك فانه وحده عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ (الرعد / 9).

أشعة الايمان:

والمؤمن لا يعرف نفسه، ولا يدرك ويبصر حقائق الطبيعة والكون وعموم الوجود الا اذا انعكست في قلبه اشعة الايمان، وعرف شيئا من صفات الله واسمائه، واقتبس قبسا من نوره، والى هذا المعنى يشير القرآن الكريم في قوله:

سَوَآءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَن جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفِ بِالَّيْلِ وَسَارِبُ بِالنَّهَار (الرعد / 10).

فقد يجتمع اثنان ثم يدخل الشيطان بينهما فيكون ثالثهما، فيتحدثان بما تملي عليهما اهواؤهما من الغيبة والبهتان والافتراء على الابرياء بما ليس فيهم، وينسيان او يغفلان عن ان الله سبحانه يسمع ويرى ما يدور بينهما، وما يوسوس لهما الشيطان.

وفي هذا المجال يروى ان امرأة العزيز عندما راودت يوسف عليه السلام عن نفسه وطلبت منه ما طلبت، فتشت عن استار غطت بها صنما كان في غرفتها، فلما سألها يوسف عن ذلك قالت له: من العيب ان ارتكب الاثم امام

ص: 67

هذا الصنم، فاستنكر يوسف عليه السلام قولها وقال لها: ترين فعلتك عيبا امام صنم لا يشعر ولا يبصر ولا يعقل ولا تجدينها عيبا امام الله سبحانه وتعالى؟!

وللاسف هناك من أضحت نفوسهم ترتاح لسماع حديث الغيبة وما فيها من بهتان وافتراء غافلين عن ان الله جل وعلا معهم اينما كانوا يسمع ويرى

بالاضافة الى علمه بما تخفيه الصدور، وما ترتكبه الاعين من خيانة. فهذا الذي يتخذ الليل ستارا، ويتسلل من مكان الى آخر أليس الله تعالى بعارف الى اين

يذهب، وماذا في نيته ان يفعل، وكيف يفكر، وماهو هدف تخطيطه وعمله؟ فهل غفل هذا الانسان عن ان الله معه في كل سكناته، وحركاته، وانه انما يتحرك، ويمشي، ويأكل، ويشرب، وينام بحوله وقوته تعالى، وحتى في مشيه فانه سخّر له من الملائكة من يحفظونه مما كتب من الاقدار المقدرة كما يقول تعالى:

لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ (الرعد / 11)

وعلى هذا فان هناك مجموعة من الحقائق تذكرنا بها الآيات السابقة في السياق وهي؛ الاحاطة الالهية، والعلم الغيبي بنا منذ كنا نطفا في الارحام، ثم تطورنا حتى صرنا اجنة وقدر لنا نوعنا الجنسي، ثم احاطته تعالى بنا في الحياة منذ طفولتنا وصبانا حتى نغدو شبابا فرجالا او نساءا. وعلى طول هذه الرحلة الزمنية كنا محفوفين بمن يحفظنا من الاقدار التي لا تنفك تواجهنا بين الفينة والاخرى، ثم ان الله جلت قدرته محيط بسرائرنا، وخفايا انفسنا، ويعلم ما تكنه صدورنا كما يشير الى هذه الحقيقة في قوله:

ص: 68

يَعْلَمُ خَآئِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (غافر / 19)

ترى ما الهدف من ذلك، ومن الذي يتولى مسؤولية ادراك هذه الحقائق ومعرفتها؟

مسؤولية التغيير الكبرى:

القرآن الكريم نفسه يجيبنا على هذا التساؤل في قوله: إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِاَنفُسِهِمْ (الرعد / 11). وهنا يدق القرآن على وتر المسؤولية الحساس، ويقلد الانسان الوسام الاعلى بتحميله مسؤولية التغيير الكبرى التي بها يتبدل وجه التاريخ الحضاري. فالله سبحانه كرم الانسان بأن اعطاه، وسخر له كل ما في الكون والطبيعة، وأوكل به من يحفظه من مخاطر الحياة واقدارها، وعوارض الوجود، وكل ذلك ان يتحمل هذا المخلوق المكرم المحفوظ المسؤولية، ويأخذها على عاتقه، وهذه هي الامانة الالهية المعنية في القرآن الكريم بقوله:

اِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الاِنسَانُ (الاحزاب / 72)

فهو سبحانه اعطى الانسان، وسخر له كل شيء، لكنه جعل مهمة التغيير من مسؤولية الانسان في الاطار الحضاري، سواء كانت مسؤولية فردية أم جماعية. فاذا ما ارتكب خطأ ما، او اقترف ذنبا ما ففسد بذلك واقعه ثم اراد ان يغير هذا الواقع ويصلحه بالتوبة، والعمل الاصلاحي فان بامكانه ذلك، ولا مفر له من الحساب والعقاب في هذه الدنيا او غدا في الآخرة ان هو أبى تغيير واقعه

ص: 69

الفاسد.

وهكذا فلا مفر للذي يرتكب اثما او جرما ما من نيل العقاب ان هو لم يتب ويصلح ما فسد من امره، ويكفر عن جرمه وجريرته، والا فأين من الممكن ان

يهرب؟ انه ان هرب من محكمة العباد في هذه الدنيا فمن اين له ان يهرب من محكمة الله سبحانه الذي لابد ان يجازيه في هذه الدنيا أو في الآخرة؟

عواقب التملص من المسؤولية:

وبعد ان يوضح الخالق جلت قدرته مسؤولية التغيير، يحذر من مغبة وعواقب التنصل ان لم يعمل المجتمع بمسؤولياته: وَإِذَآ أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِن دُونِهِ مِن وَالٍ (الرعد / 11)

ان الواقع المرير الذي عاشه ويعيشه المسلمون في هذه الوهلة الزمنية، وكل هذه الآلام والمعاناة والمآسي التي نراها في العالم الاسلامي والمستفحلة في بعض بقاعه.. كل ذلك يعود الى التهرب والتنصل عما القي على عواتقنا من مسؤوليات، سواء كانت فردية ام جماعية. فلقد صار ديدننا وللاسف الشديد هو هذا التهرب والتملص من حمل اعباء المسؤولية التغييرية الكبرى التي القاها الله تعالى على عاتقنا.

وللاسف فان كل واحد منا يلقي بمسؤولية التقصير في العمل، واداء الواجب على صاحبه او جماعة غير جماعته، او ربما يلقيها على اشياء وامور غريبة نبرر بها عجزنا وتقاعسنا الذي هو السبب الرئيس في تخلفنا وتردينا الحضاري. فغدا أمرنا كأمر البشرية في الجاهلية الاولى عندما كانوا يعزون اسباب انهيارهم الحضاري الى

ص: 70

الطبيعة، فراحوا يتشاءمون من كائنات وظواهر الطبيعة، وهذا ما عبر عنه القرآن الكريم ب (الطائر) في قوله: قَالُوا طَآئِرُكُم مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ (يس / 19)، ولذلك فقد نزل عليهم القرآن الكريم، ودعاهم الى تغيير واقعهم الفاسد مذكرا اياهم بسنة التغيير التي لا تقبل التبدل والتحويل والمتمثلة في قوله:

إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِاَنفُسِهِمْ.

اهمية المسؤولية الجماعية:

والتركيز القرآني هنا هو حول المسؤولية الجماعية سواء كانت في اطار جماعة او شعب او امة. صحيح ان المسؤولية الفردية لها وقعها المؤثر في حركة التغيير، الا ان المسؤولية الجماعية اكثر تأثيرا على حركة التغيير الحضاري، لذلك جاءت دعوة القرآن الى التغيير على صعيد الجماعة والامة، وهو ما عبر عنه ب (القوم).

ولعل حركة التغيير الحضاري لا تستمد إلا من النهوض الجماعي، وتحمل الجمع (القوم) لمسؤوليتهم التاريخية في هذه الحركة؛ اي ان كل فرد لابد ان يتحمل قسطه من عبئ هذه المسؤولية الكبرى. فهذا العبئ لا يقع على شخص ما دون الآخرين او حتى على جماعة ما دون الجماعات الأخرى في اطار الامة؛ فالسفينة عندما تخرق فان جميع راكبيها سوف يتعرضون للغرق دون استثناء، ولذلك فان كل شخص فيها مسؤول عن منع هذا الخرق، واصلاحه في حال وقوعه، واذا ما قام الجميع بمسؤولياتهم في ردمه، نجت السفينة، ونجوا هم ايضا، لان كلنا راع وكلنا مسؤول عن رعيته.

ص: 71

وهكذا فاذا وقعت حوادث وكان بامكان فرد واحد ان يحول دون وقوع حادث ما فليعمل بمسؤوليته بمجرد احساسه به وبما يصدر من خطر في حال الاهمال. ومع ذلك فان هذا لا يعني الاهمال والتغاضي من قبل الآخرين، بل لابد للجميع ان يكونوا مستعدين للتصدي لمثل هذه المسؤولية، وان كانت حاجة التصدي حاجة كفائية من الممكن ان يسدها فرد او مجموعة افراد.

ان الله سبحانه وتعالى عندما أمرنا في كتابه بطاعته، والدعوة اليه، وان نعمل بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، فانما اراد لنا جميعا ان نتحمل مسؤولياتنا في الحياة الاجتماعية، ومردودات هذا التوجه المسؤول تعود بالنفع على الجميع، وتحول دون انتشار مختلف الوان الفساد والانحراف الاجتماعي الذي اذا ما غض الطرف عنه فإنه سيستشري و يستفحل أمره، ويصبح من الصعب ان لم نقل من المستحيل ازالته، والقضاء عليه لاننا لم نتحمل المسؤولية الجماعية في التغيير.

***

ص: 72

الفصل الثامن: شمولية الرؤية لدى الانسان المؤمن

اشارة

من صفات الانسان المؤمن شمولية الرؤية ومواجهة غرور الجهل بينما الفاقد للايمان تكون نظرة تجزيئية لانه يزعم انه عليم بكل شيء بسبب غروره الداخلي. فاعتراف الانسان بجهله هي الخطوة الاولى نحو المعرفة.

ان شمولية الرؤية لدى الانسان المؤمن تؤثر على مختلف ابعاد حياته، وتؤدي دورا أساسيا في تطويرها حيث انها تلغي التناقضات الموهومة بينها. بينما نجد البعض يزعم ان حياته هي كتلة من التناقضات بسبب رؤيته المحدودة، فاذا انشغل بعمل اجتماعي تراه يفقد القدرة في ادارة أسرته، واذا اهتم بأسرته اهمل المسؤولية الاجتماعية، واذا اهتم بالدنيا ترك الاخرة وبالعكس.

ونحن كمؤمنين نحمل رسالة الى الناس علينا ان لا ننشغل بالعمل الاجتماعي عن تزكية النفس، ولا بتزكية النفس عن العمل الاجتماعي، بل لنحاول ان نقر التوازن في حياتنا بين جميع الجوانب، ونعطي لكل جانب حقه.

ص: 73

وفي هذا المجال لابد ان نقول ان العمل الاجتماعي لايمكن ان ينفصل عن العمل السياسي، فهذان العملان يتكاملان مع بعضهما ليكونا الحياة الفاضلة، لان الانسان المؤمن لايرى بين هذين الجانبين اي تناقض مطلقا، ولنا في هذا الصدد أسوة حسنة، وقدوة صالحة بعلمائنا الاعلام فقد كانوا في نفس الوقت الذي يدرسون فيه الموضوعات الفقهية، يتحدثون عن القضايا السياسية العالمية، ويبعثون بالرسائل والخطابات الى المؤتمرات والرؤساء، وفي ذات الوقت كانوا ينشغلون بالتعبد والتهجد ليلا ليستمدوا الروح والحيوية من خالقهم. فالانسان من دون الاتصال بالله تعالى ومن غير نوره يتحول الى موجود تافه، فنراه يفقد الثقة بنفسه وينهار من الداخل ويكون مصداقا لقوله عز وجل: نَسُوا اللَّهَ فَاَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ (الحشر / 19) فالانسان الذي ينسى ربه انما يحكم على نفسه بالانتحار المعنوي، في حين ان الاتصال بالله والتوكل عليه والثقة به كل ذلك يجعل للحياة معنى ومضمونا.

نظرة هرمية:

وهكذا فان المؤمن يستقبل برحابة صدر وبقدر كبير من الحيوية كل حادثة تقع في حياته فتراه ايجابيا على طول الخط، لان التناقض سينعدم من حياته، ولانه يرى الحياة كلها في حالة هرمية متدرجة تقع معرفة الله تبارك وتعالى في قمتها.

ان هذه النظرة الهرمية التي يقع الايمان بالله والتسليم له في قمتها، ثم تنحدر لتشمل العالم كله سوف تؤدي الى ان يمتلك الانسان المؤمن رؤية تكاملية، ولذلك فانه لايعاني من مشكلة التناقض بين الوسيلة والهدف؛ فالوسيلة تبقى عنده جسرا

ص: 74

الى الهدف، ولايمكن ان تتحول في اي حال من الاحوال الى هدف بحد ذاته.

واذا ما تحولت الوسائل عند الانسان الى اهداف فحينئذ تظهر لديه حالة من الشرك تغزو قلبه، ولابد ان يحذر منها؛ وعلى سبيل المثال فانه اذا انتمى الى تنظيم ما فان عليه ان يحذر اشد الحذر من ان يحول هذا التنظيم الذي هو وسيلة الى هدف. وهكذا الحال بالنسبة الى الاعتبارات المادية الاخرى فانها كلها تبقى محترمة في حدود كونها وسيلة، فاذا تحولت الى هدف فانها ستكون صنما يعبد من دون الله تعالى، وهذه الصنمية هي التي تدفع المؤمنين الى ان يضرب بعضهم بعضا فتنشأ لديهم الحالة التي يشير اليها القرآن الكريم في قوله: وَلاَ تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً (الروم / 3231).

الاختلاف شرك:

وبناء على ذلك فان هذه اختلافات ان دلت على شيء فانما تدل على النظريات الشركية والصنمية التي تتحجر على الوسائل ولا تنطلق نحو الهدف الاكبر، وهذه الاختلافات هي التي تسبب تمزق الامة وبعث اسباب الشقاق فيها، وقد لعن القرآن الكريم بصريح القول الاشخاص الذين يثيرون هذه الاختلافات، وأمر نبيه (صلى

الله عليه وآله وسلم) ان يتبرأ منهم في قوله: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ (الانعام / 159).

وفي مجال بعث روح التفاؤل والايجابية لدى الانسان لكي لايبتلى بالنظرات السلبية في الحياة التي تسبب حدوث الاختلافات بين ابناء الامة، يقول عز من

ص: 75

قائل: مَن جَآءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا (الانعام / 160)، فمن خلال هذه الاية يريد القرآن الكريم ان يذكرنا بان على الانسان ان لايبحث عن الكمال المطلق لان هذا الكمال مقتصر على الخالق جل وعلا، ولاننا بشر فان السلبيات قد تطغى على حياتنا، ولذلك فقد شرع الله تعالى قانون الاثابة على الحسنة بعشرة امثالها، والمجازاة على السيئة بواحدة مثلها: وَمَن جَآءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لايُظْلَمُونَ (الانعام / 160).

ثم يستأنف السياق القرآني الكريم مبينا الهدف النهائي الذي يسعى الانسان المؤمن من أجل تحقيقه: قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ امِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (الانعام / 163162).

ان هذه الرؤية التي تزودنا بها هذه الاية الكريمة هي التي تعلمنا كيف نتعامل مع المجال الاجتماعي والسياسي والحركي... فالانسان المؤمن بامكانه ان يقتبس من هذه الرؤية وهو يعمل في مجال الاجتماع او السياسة دون ان يشغله هذا العمل عن اهدافه الرئيسية، وتنفيذ مخططه الستراتيجي الذي وضعه لنفسه.

فلنربط اذن الفروع بالاصول، وفي هذه الحالة سنكون قريبين من الهدف دائما؛ اي اننا سنخطو خطوات سريعة نحو الهدف الاكبر الا وهو تحرير عقولنا من التبعية والثقافات التبريرية والافكار اللامسؤولة كما سيكون بامكاننا دفع الجماهير المسلمة الى الامام وانشاء جيل يتصدى للجهل والتخلف والتبعية.

***

ص: 76

الباب الثاني: حقيقة الإيمان

اشارة

ص: 77

ص: 78

الفصل الاول: المفهوم الحقيقي للإيمان

اشارة

سنتحدث عن شخصية ابراهيم (عليه السلام) الاب الروحي لرحلة الحج الالهية، وامام الموحدين، ومحطم اصنام المشركين، هذا الرجل الذي بدأ مسيرة التوحيد لابد ان نتحدث عنه، ونتعرف على قصته، ونوجد علاقة روحية حميمة بيننا وبين شخصيته الكريمة.

ان ابراهيم (عليه السلام) ليس بعيدا عنا، فهو ذلك الرجل الذي له الحق علينا بعد النبي محمد (صلى الله عليه وآله)، فاذا كنا اليوم نتجه الى الكعبة، ونكبّر، ونسعى من اجل تحطيم الاوثان، والاصنام في نفوسنا ومجتمعاتنا فالفضل في ذلك يعود الى ابراهيم (عليه السلام) الذي كان اول شخص بادر الى ذلك.

والسؤال المطروح هنا: ما الذي ينبغي ان نفهمه من شخص ابراهيم الخليل (عليه السلام)، وكيف يتجلى هذا الشخص في آيات الذكر الحكيم؟ وكيف يجب ان نجعله قدوة لنا؟

ص: 79

سلبيات النظرة التجزيئية:

قبل كل شيء ارى من الضروري ان ابين حقيقة ان نظرتنا الى الاشياء هي نظرة تجزيئية، فعندما تدخل على سبيل المثال في قاعة فانك توجه نظرك الى المقاعد والى سائر الاشياء الموجودة فيها، وبعبارة اخرى الى جزئيات هذه القاعة، ولكنك بحاجة الى ان تلقي نظرة كلية عامة الى ما في القاعة، وهذه النظرة هي التي تمنحك القدرة على التفكير والتخطيط.

وهكذا لا يكفي ان ننظر الى الجزئيات، وحتى اذا بقينا ننظر اليها لمدة طويلة فاننا لن نحصل على معرفة الحقيقة، لان الجزئيات مرتبطة في النهاية باطار كلي واحد.

وهكذا الحال بالنسبة الى نظرتنا الى الايمان، فنحن نعلم ان الانسان المؤمن يقوم بالواجبات الدينية، ويجتنب المحرمات والنواهي ليشكل بمجموعه صفات ايجابية نعرفها عن الانسان المؤمن، ولكن مشكلتنا اننا نجمد على هذه الجزئيات؛ فنقول ان الصدق هو علامة الايمان وكذلك الحال بالنسبة الى الصلاة والصوم.

اننا نعرف كل ذلك لاننا تعودنا على ان ننظر الى الامور نظرة جزئية، مقتصرة على المفردات والجوانب، والابعاد المختلفة، ولكننا لم نستطع ان نستلهم من مجموع الجزئيات تصورا كليا عن الحقيقة لاننا لم نفهم حقيقة الايمان.

ان الايمان روح، وهو صفة كامنة في القلب، ويتجلى عبر الصلاة والصيام والزكاة والحج وما الى ذلك من فرائض دينية، وعلينا ان نعرف هذه الروح، ونعبر من خلال تلك المفردات الى العمق. وعلى سبيل المثال فاذا رأينا في

ص: 80

حديقة جزء من شجرة كبيرة وارفة، ورأينا مرة ساقها، ومرة جذورها، ومرة اخرى ثمارها فان علينا ان نكوّن في انفسنا تصورا عاما ومشتركا عن هذه الشجرة؛ فالثمار المتدلية من الاغصان بين الاوراق وعلى الساق، وتحتها تلك الجذور لابد ان تكون في الذهن تصورا عاما.

وهكذا الحال بالنسبة الى الايمان، فالقرآن الكريم في آيات شتى يطلب منا ان نفهم حقيقة الايمان لكي نبحث عنه في انفسنا، فالصلاة مثلا ليست هي الايمان بل هي تعبير عنه، فهو شيء آخر يجعلك تصلي، وعلى ضوء هذه الحقيقة فانني اذا صليت ولكني لم اجاهد في سبيل الله، او صليت وجاهدت في سبيل الله تعالى ولكن لم اطع القيادة التي امر الله باطاعتها، فاني في هذه الحالة لا اعد مؤمنا، لان الايمان لا يتجزأ بل هو شيء واحد وكتلة واحدة لا يمكن ان تتجزأ.

فقد اصلي لانني متعود على الصلاة، وقد اذهب الى القتال ولكن بحثا عن الشهرة، وقد ادعو الناس الى الصلاح فأسجن واعتقل ولكن ليس انطلاقا من الايمان وانما بدوافع اخرى، فاذا كنت مؤمنا في الصلاة، والحج، والزكاة وفي كل جوانب حياتي فان كل هذه الممارسات انما هي تعبير عن تلك الروح الموجودة في داخل قلبي.

المثال الحقيقي للايمان:

واذا ما راجعنا الايات القرآنية المتعلقة بأبراهيم (عليه السلام) نرى ان القرآن الكريم بعد ان يبين لنا عمل ابراهيم وابنه اسماعيل (عليه السلام) يقرر ان

ص: 81

ابراهيم كان من عباده المؤمنين، وكأنه تعالى يريد ان يفهمنا من خلال هذه الواقعة حقيقة الايمان من خلال بيان مثله وانموذجه.

ان هذا الانموذج يتمثل في شخص واحد تحدى مجتمعا فاسدا بأجمعه، فمن الصعب عليك ان تخالف انسانا واحدا في فكرة وخصوصا اذا كان بينك وبينه احترام متبادل كأن يكون المربي والكافل لك وكنت تعيش في بيته ومن نعمته وفضله، كما كان الحال بالنسبة الى ابراهيم (عليه السلام) مع ابيه (آزر) الذي كان في الحقيقة عمه بالنسب، واباه بالتبني.

لقد خالف ابراهيم (عليه السلام) المجتمع كله، وبحث عن طريقة لصرفهم عن نفسه، والتحايل عليهم من خلال العمل السري كما يروي لنا ذلك القرآن الكريم في قوله تعالى: فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ * فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ (الصافات / 8988) وذلك من خلال تظاهره بالمرض، وربما اراد ابراهيم (عليه السلام) ان يقول لهم انه مريض حسب ترهاتهم، وما يدعونه من العلم بالنجوم، فالمقصود من السقم هنا هو الجهل، فحسب نظرتهم فان ابراهيم لم يكن سقيما في ذلك الوقت، ولكنه سيصبح كذلك، ولذلك فقد اذعنوا لكلامه.

ومع كل ذلك فقد خرج ابراهيم في يوم العيد متوكلا على الله تعالى، ثم اخذ بيده المعول وكسر الاصنام، ثم استهزأ منهم بان وضع المعول على رأس كبير الاصنام وسؤاله اياهم: اسألوهم ان كانوا ينطقون، فتحداهم بالاستهزاء، ومقاومة كل

جبروتهم، وكأنه كان يعمل مسندا بجيش جبار في حين انه كان فتى لم يتجاوز سن الحلم الا بقليل.

ص: 82

ايمان التحدي:

ترى ما الذي يريد ان يقوله لنا القرآن الكريم من خلال هذه القصة؟، انه يريد ان يمنحك ايها الفتى، وايتها الفتاة المسلمة الثقة بالنفس، وحقيقة الايمان الذي يدفع صاحبه الى التحدي، ومقارعة الطغاة دون ان يخشى في الله لومة لائم، فنحن نجد من حولنا المفاسد، والانحرافات والواجب علينا ان نقف ضدها وضد من يشيعها.

ومن اجل القضاء على الانحراف في مجتمعاتنا فاننا بحاجة الى انسان مستعد لان يضحي بنفسه في سبيل ايقاف هذا الانحراف، فقد نجد الالاف المؤلفة من الناس يغمرهم الانحراف، وهنا تجد نفسك بحاجة الى ان تقف وحدك لتقاوم هذا الانحراف وان كلفك ذلك التضحية بنفسك الا انك بالتالي ستوقف هذا الانحراف او تؤخر وتعرقل على الاقل مسيرة الفساد والانحراف في المجتمع.

وفي الحقيقة فان هذه هي روح الايمان، والله تعالى يريد ان يبين لنا ان ابراهيم (عليه السلام) كان من عباده المؤمنين لانه كان يتمتع بهذه الروح الكبيرة، والثقة العظيمة، وذلك التوكل المطلق على الله عز وجل.

ولننظر ايضا الى الموقف الذي بدر من اسماعيل (عليه السلام) عندما قال له ابوه: يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ (الصافات / 102) ففي بعض الاحيان يكون المنام هو وسيلة الوحي للانبياء (عليهم السلام) لانهم معصومون، ولكي

يمتحن الله تعالى ايمان الابن الشاب، كما امتحن من قبل اباه عندما قاوم الشرك وهو ما يزال في ريعان الشباب، فما كان من الابن الا ان قال دون اي تردد: يَآ أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ.. (الصافات / 102)، فلم يقل لابيه ان

ص: 83

مارآه هو مجرد اضغاث احلام، ولم يقل: اني مستعد للقتل والذبح شريطة ان تسأل عن تعبير رؤياك بل قال له على الفور: يَآ أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَآءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (الصافات / 102)

وهذا هو الايمان الحقيقي، ففي يوم يتجلى هذا الايمان في مقاومة المجتمع الفاسد، وفي يوم اخر يتجسد في الخضوع للقيادة الرسالية والامتثال لاوامرها، فأسماعيل (عليه السلام) كان يعرف ان اباه نبي فكان يمتثل لاوامره من هذا المنطلق لا لانه والده.

ان الايمان هو التحدي، والتسليم والرضا، ويضرب القرآن الكريم مثلين للايمان من خلال تحدي ابراهيم، وتسليم اسماعيل، فلا يوجد هناك اي فرق بين هذين الايمانين.

الروح الحقيقية للايمان:

ونحن في ايام الحج من كل سنة نعيش ايام ابراهيم الخليل (عليه السلام)، وبعبارة اخرى؛ ايام التمثل بشخصية هذا النبي العظيم، فلابد ان نبحث عن تلك الحقيقة في انفسنا، وان لا نكتفي بالجزئيات والمظاهر، فمن الممكن على سبيل المثال ان تكون الصلاة بالنسبة اليك عادة خيرة، ولكن هذه الصلاة ليست كل الايمان، بل ان الايمان يتجلى عندما تخالف عاداتك.

ومن الممكن ايضا ان تكون قد عشت في بيت مؤمن، ولكنك لم تتعرض لامتحانات صعبة، فمثل هذه الحياة لا تدل على الايمان، بل انه يتجسد عندما تتعرض للامتحانات، وعندما تخالف شهواتك.

ص: 84

وعلى هذا يجب علينا ان نبحث عن الروح الحقيقة للايمان، لننميها في انفسنا، لكي نقاوم ضغوط الشيطان، وسلبيات النفس الامارة بالسوء وذلك من خلال التعمق في قصة ابراهيم واسماعيل (عليهما السلام) بل وقصة كل الشخصيات الرسالية التي قاومت الضغوط وتحدتها.

ان الايمان يتجلى في يوم صمودك وتحديك للاغراء، لان تحدي الاغراء اصعب بكثير من تلقي العذاب في قعر السجون، فهناك الكثير من الناس كانوا يعانون العذاب في السجون ولكنهم اصبحوا فيما بعد وزراء واعوانا للحكام الظالمين، فتحملوا السجن، ولكنهم لم يتحدوا الاغراء.

ان هذه الدروس والعبر هي التي يجب ان نستلهمها من قصة ابراهيم واسماعيل (عليهما السلام)، ومن حياة نبينا محمد (صلى الله عليه وآله) والائمة (عليهم السلام)، فعلينا ان نعرف ما وراء سلوكهم وسيرتهم، ونستغل معرفتنا هذه في طريق قيامنا بمهامنا الرسالية ثم نبحث على ضوء ذلك عن حقيقة الايمان في نفوسنا.

***

ص: 85

الفصل الثاني: الايمان حقيقته وشروطه

اشارة

عندما يفسد قلب الانسان، وتتزعزع روح الايمان الحق في نفسه، فان فراغا هائلا سوف يحس به يتمثل في الشعور العميق بالخوف، والقلق، والضيق، فاذا بهذا الانسان يخاف من المستقبل، ويخشى الموت، ويتهيب المجهول، فان حصل على شيء فانه يقلق ويضطرب لكي لا يفقده، وان لم يحصل عليه بحث عنه عسى ان تكون فيه النجاة، والسعادة، والفلاح.

عندما يغيب الايمان:

ان هذا الفراغ الكبير الذي يشعر به قلب الانسان الفاقد للايمان يدفعه الى البحث عن إله، ويدفعه كذلك نحو الحرص، وقد ورد في الروايات ان ابن آدم يشيب وتشيب معه خصلتان؛ الحرص، وطول الأمل؛ فحتى قبيل وفاته تراه يبحث عن دينار اكثر، لان المال الذي يحصل عليه يتحول بالنسبة اليه الى وبال، فهو يبحث

ص: 86

عن طريقة يحافظ بها على هذا المال فيزداد خوفا بدل من ان يعطيه الغنى الأمن، ويجري وراء السلطة عسى ان تمنحه شيئا من الراحة والاطمئنان.

ان هذا هو حال القلب الذي يفقد الايمان، ولذلك نرى فرعون عندما اراد ان يحاج موسى (عليه السلام) قال له: أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الاَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي. (الزخرف / 51)

فقد اتكأ على امواله وملكه ليدعي انه اله، وهذا ما يكشف عن طبيعته المفرغة من الايمان بالله، والاعتماد على النفس، وهذه هي حالة الكفر الصريحة.

ومع ذلك فان هناك حالة اخرى هي حالة الكفر المبطن، والايات التالية من سورة (التوبة) ربما تعالج هذه الحالة في النفس البشرية؛ اي حالة النفاق والشرك الخفي، وفي المقابل فاننا اذا شعرنا بقوة الايمان في نفوسنا واحسسنا بالاطمئنان والسكينة، فاننا سوف لن نبحث عن السلطة لان الايمان اشد قوة منها، وهكذا الحال بالنسبة الى سائر المظاهر الدنيوية الاخرى، وحنيئذ نكون قد بلغنا مرحلة من مراحل الايمان الحق الذي هو الايمان المستقر، والا فان هذا الايمان سيكون مستودعا لاننا اوتيناه لفترة معينة ثم يستعاد بعد ذلك منا قبيل الموت.

وقد يكون (العلم) هو الشيء الاخر الذي يبحث عنه الانسان، ونقصد به العلم الذي يقول تعالى عن اصحابه: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً (الجمعة / 5)، فهذا العلم يتحول الى هدف بعد ان كان وسيلة، وهو ذريعة يتذرع بها الانسان للتهرب من مسؤوليات الايمان، والجهاد في سبيل الله، فهناك من يبحث عن كتاب يطالعه لكي يهرب من الدخول في ساحات الجهاد، ويجلس في زاوية ولسان حاله يقول: ما أحسن

ص: 87

الزوايا والخبايا عندما يهرب اليها الانسان من مواجهة مشاكل المجتمع.

الايمان يعني التسليم:

ان مطالعة الكتاب لا يمكن ان يتحول الى ايمان، فالايمان يعني التسليم المطلق لله سبحانه وتعالى، وهذا الايمان قد يتجسد في يوم من الايام بطلب العلم، وفي احيان اخرى في طلب الرزق، او حمل السلاح ضد الاعداء.

ان الايات القرآنية تصور الانسان الفاقد للايمان برجل ألقي من السماء الى الارض فأما ان يتخطفه الطير، او تهوي به الريح في مكان سحيق. وفي مواضع اخرى يشبه القرآن الكريم الانسان الذي يفقد الايمان بالذي يجعل الله قلبه ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء.

واذا ما كان احدنا في صحراء واسعة، وكان الظلام يسود هذه الصحراء بحيث لا يرى شيئا، فانه سيعيش الظلام المطلق، وفي نفس الوقت الضيق المطلق، اما اذا اشرقت الارض وأضيئت فحينئذ سيعيش في رحاب الحقائق.

وهكذا الحال بالنسبة الى الايمان عندما يسلب من الانسان فانه سيعيش حالة البحث عن عمل سهل يعوض به عن العمل الحقيقي الذي هو الايمان كمن يبني مسجدا ليغطي به على اكله للمال الحرام وانتماءاته وولاءاته الغير مشروعة. فبدلا من ان يحصل على الثواب، يتحول بناء المسجد بالنسبة اليه وسيلة للفرار من الايمان لا لجوء اليه. وفي هذا المجال يقول القرآن الكريم: مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللّهِ (التوبة / 17)؛ فالمشرك الذي يرى ان هناك الها غير الله يعبد في الارض او السماء لا ينبغي له ان يعمر المسجد لانه سيشهد

ص: 88

على نفسه بالكفر، وهذا ما يشير اليه عز وجل في قوله بعد الاية السابقة:... شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِم بِالْكُفْرِ اوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ * إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ ءَامَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الاَخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وءَاتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ (التوبة / 1817).

اننا في كثير من الاوقات نمني انفسنا بالايمان، في حين انه ليس بالتمني بل يحتاج الى سكينة ووقار، وان لا يخاف الانسان لومة لائم، ولا بطشا من سلطة.

وهكذا فاننا للاسف نلجأ الى بعض الاعمال القشرية فرارا من العمل الحقيقي، وكل واحد منا معرض لهذه المشكلة، فالانسان الذي يضخم الشيء الصغير، ويبحث عن القشور انما يعوض بذلك عن حالة انعدام المسؤولية في نفسه، وهذا ما يشير اليه القرآن الكريم في قوله عن المؤمن الحقيقي: وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ (التوبة / 18).

ثم يقول تعالى: فَعَسَى اوْلَئِكَ أَن يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (التوبة / 18)، وفي نهاية الايات التي اشرنا اليها في سورة التوبة جاءت ايضا كلمة (الهداية)، فلنحاول ان نربط بينها وبين تلك.

المقياس الحقيقي للايمان:

بعد ذلك يقدم لنا السياق الكريم المقياس الحقيقي للايمان في قوله: أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَآجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ ءَامَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الاَخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ (التوبة / 19)، والملاحظ هنا ان الله عز وجل جعل في الايات السابقة (الخشية من الله فقط) هو مقياس الايمان، وهنا يجعل هذا المقياس

ص: 89

(الجهاد في سبيله)؛ فقد يدعي الانسان انه مؤمن، مقيم للصلاة، ومعمر للمساجد، ولكنه لا يجاهد في سبيل الله، ومثل هذا المنطق يرفضه القرآن الكريم، فالجهاد في سبيل الله شيء، والعمل شيء اخر، فالاخير قد يدل على الايمان، وقد لايدل عليه، اما الجهاد فانه دليل وعلامة الايمان التي لا تقبل الشك لان الانسان غير المؤمن لا يمكن ان يجاهد كما يشير الى ذلك قوله تعالى: لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (التوبة / 19)، ومن الملاحظ ان القرآن يقول في الاية السابقة: فَعَسَى اوْلَئِكَ أَن يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ وهنا يقول: لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ وبناء على ذلك فان الذي لا يعمل بالجهاد الحق ليس بمؤمن، وليس بمهتد.

والانفاق في الاسلام لا يشمل الاموال فحسب بل يجب ان يتعداه الى النفس كما يقول عز وجل: الَّذِينَ ءَامَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدَوا فِي سَبِيلِ اللّهِ بِاَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ (التوبة / 20)، فهناك من الناس من يبذل امواله ولكنه ليس مستعدا ابدا للتضحية بنفسه في حين ان القرآن الكريم يصرح بأن الذي يجمع بين هذين الانفاقين؛ انفاق المال، وانفاق النفس هو الذي سيفوز بالدرجات العلى عند الله تعالى:... أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّهِ وَاُوْلَئِكَ هُمُ الْفَآئِزُونَ (التوبة / 20).

فالفائز ليس من يطعم الحجيج او يسقيهم، ولا من يعمر المساجد، بل هو الذي يجاهد بماله ونفسه، وهذا الانسان يبشره الله بالرحمة والرضوان، والجنات: يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ (التوبة / 21).

ص: 90

صحيح ان عملية الجهاد تعتبر من العمليات الصعبة على النفس الانسانية ولكن جزاءها في المقابل سيكون عظيما جدا، وهذا الجزاء مؤلف من الرحمة، والرضوان، والخلود في الجنان: خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً إِنَّ اللّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (التوبة / 22).

لا مجاملة في الايمان:

اما المقياس الثالث والاخير فهو القدرة على جعل النفس بمنجاة من تأثير العلاقات الاجتماعية في لحظة الصفاء الروحي وهذا ما يشير اليه عز وجل في قوله: يَآ

أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لاتَتَّخِذُوا ءَابَآءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَآءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِنكُمْ فَاُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (التوبة / 23)، وهنا يؤكد تعالى على ان الاباء، والاخوان وكل من نرتبط به بعلاقة قرابة كالزوجة، والابناء، والعشيرة انما هم جزء من العلاقات الاجتماعية التي من الممكن ان تتحول الى حجاب بين الانسان، وبين الايمان الحق.

وهنا بالاضافة الى ذلك الاموال التي قد تقف هي الاخرى حائلا بين الانسان وربه: وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم (التوبة / 24)، فالانسان الكافر يحب المال، ولا يضمر الحب لله جل شأنه اما المنافق فانه يخلط في قلبه بين حب الله، وحب المادة، مفضلا الحب الاخير على الاول وهذه هي المشكلة، والانسان معرض للفتنة والامتحان في هذا المجال فان خيّر بين الجهاد في سبيل الله تعالى وبين البقاء مع امواله ثم اختار البقاء فان هذا يعني ان امواله احب اليه من الله،

ص: 91

وفي هذه الحالة يحذر الخالق عز وجل مثل هذا المجتمع المتقاعس، الملتصق بالماديات قائلا: فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (التوبة / 24).

الجهاد منبع الايمان:

وهكذا فان الايمان الحق لا يمكن ان نحصل عليه من الكتب، او الاموال، او السلطة، بل ان منبعه الاول والاخير هو الجهاد في سبيل الله جلت قدرته وعدم خشية احد سواه، وجعل العلاقات كلها؛ العلاقة بالمال، والاولاد، والعشيرة، وبكل شيء تحت مظلة العلاقة بالله.

ان كل واحد منا يمني نفسه بأن يكون مؤمنا خالصا طاهرا زكيا، ولكن الذين يحصلون على الهداية هم القلة، فلنحاول ان نكون منهم: وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُور (سبأ / 13)؛ اي من المؤمنين المجاهدين، الشاكرين لله نعمه وآلائه، والمستعدين لان يضحوا بأموالهم وانفسهم في سبيل الله، فهذه هي الدرجة العليا من الايمان الذي نصبو اليه.

***

ص: 92

الفصل الثالث: شروط الايمان

اشارة

من الحجب التي تحجب الانسان عن وعي القرآن، واستيعاب حقائقه، والارتفاع الى مستوى بصائره، حجاب (التبعيض). فهناك قسم من الناس اذا جاءهم ما يوافق اهواءهم وشهواتهم اخذوا به، واذا عرض عليهم ما يخالف هذه الاهواء والشهوات تركوه، وهؤلاء لايؤمنون بالحق، ولايدورون معه اينما دار، بل يؤمنون بأهوائهم فانى دارت وسارت داروا معها وساروا اليها، وهؤلاء لايمكن ان نطلق عليهم صفة الايمان لان الانسان المؤمن لايفرق بين حق وآخر، ولانه يؤمن بالحق فانه يبحث عنه، ولانه يبحث عنه فان الله تعالى يهديه اليه، كما يشير الى ذلك القرآن الكريم في قوله: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا (العنكبوت / 69)

فليس كل انسان يهتدي بل يهتدي من اراد وسعى وكان اهلا للهداية، واما من اراد ان يهتدي لمجرد اللعب، او ان يشبع طموحه العلمي فان مثل هذا الانسان

ص: 93

لن يصل الى الهداية، بل ان الله سبحانه سيضله عن الطريق، ويمنع عنه سبل الهداية، ويمده في غيه الى يوم القيامة، كما يقول عز من قائل: وَمَن كَانَ فِي هذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الاَخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً (الاسراء / 72) وهؤلاء يقولون يوم القيامة: رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً (طه / 125) فيأتيهم الجواب من البارئ عز وجل: كَذَلِكَ أَتَتْكَ ءَايَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى (طه / 126)

الهداية أعظم نعمة

والهداية هي افضل واعظم نعمة اذا اراد الانسان ان يطبق الحقيقة التي يهتدي اليها. فالذي يصلي دون ان يأخذ بنظر الاعتبار هذه النعمة، لايمكنه ان يعرف احكام الصلاة وهو ان عرف عنها شيئا فهو شيء ظاهر، ولكنه غافل عن حقيقتها، ومن هنا يجب علينا ان نتلقى القرآن الكريم على اساس الايمان به كله لا على اساس التبعيض؛ فآية تعجبنا وتنسجم مع مصالحنا واهوائنا، واخرى لانؤيدها لانها تخالف هذه المصالح والاهواء، فعندما يكون هوى الانسان في اتجاه معين فانه سوف لايرى الا هذا الاتجاه، اما الانسان المؤمن حقا فيقول: ءَامَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِندِ رَبِّنَا (آل عمران / 7) فهو يتلقى القرآن بصدر رحب، وقلب متفتح، ونفس مطمئنة، فلا يأخذ بجزء منه دون الآخر.

ان ما مضى كان مقدمة وتمهيدا لبيان حقيقة ان الاسلام ليس مجرد صلاة وزكاة. ففيه احكام وفروع اخرى، وهنا نعود الى القرآن؛ هذا الحبل الموصل بين السماء والارض لنجد الجواب في سورة المائدة حيث خلاصة التعاليم التي

ص: 94

تحتاج اليها المجتمعات البشرية، علما ان كلمة (المائدة) تعني الحضارة، والمدنية، لان التقدم والرفاه والسعادة والفلاح كل ذلك يدور حول مائدة السماء. فالمائدة لاتعني مجرد الطعام بل الاجتماع حول الخير والبركة، فهي سورة الحضارة الانسانية، والحضارة الالهية التي ترعاها السماء باحكامها، وقيمها، وتعاليمها.

والقرآن الكريم يحدثنا في هذه السورة حول واجبات المؤمنين، والله عز وجل يقول في بداية هذه الايات المباركة: يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلّهِ (المائدة / 8). وهذا يعني ان ما يأتي بعد هذا الخطاب هو من شروط الايمان، وان الانسان الذي لايطبق هذا الشرط لايدخل ضمن دائرة الايمان، وكلمة (القوام) هي صيغة مبالغة ل (القيام)، ولذلك فاننا نطلق هذه الصفة على العباد الزهاد الذين يقضون الليل بالصلاة، ويصومون النهار؛ اي ان هذه الصفة يجب ان تكون صفة دائمة وملازمة لكم ايها المخاطبون.

معنى القيام لله:

والقيام لله يعني ان نعمل له سبحانه وتعالى لان الانسان يقوم عندما يتحرك، فالقيام يعني ان ينشط الانسان ويتحرك، وعندما نقول "اقامة الصلاة" فهذا يستلزم ان نجعل الصلاة قائمة وكاملة.

والمؤمنون قوامون لله سبحانه وتعالى، فهم لايعرفون الجلوس والكسل في حياتهم بل هم ممتلئون حركة ونشاطا وهمة في سبيل الله، ومصطلح (القيام لله) يصدق على كل انسان يقوم بعمل في سبيل الله، ولكن القيام له درجات،

ص: 95

والدرجة العليا منه اقامة القسط بحيث ان الامام العادل الذي يعدل في الرعية، فلا يدع الناس بظلم بعضهم بعضا، ولايدع في المجتمع منكرا الا وهدمه، ولا معروفا الا اقامه، هذا الامام العادل اذا نام ليلة واحدة فان نومه افضل من عبادة سنة كما يصرح بذلك الحديث الشريف.

الشهادة بالقسط

ثم يقول تعالى: شُهَدَآءَ بِالْقِسْطِ (المائدة / 8) وهذه صفة اخرى؛ وهي اقامة العدل في المجتمع، اي ان يكون الانسان عدوا للظالم فيقف ضده، ومدافعا عن المظلوم اينما وجده كما يقول امير المؤمنين (عليه السلام) مخاطبا الحسنين عليهما السلام ومن ورائهما كل المؤمنين الى يوم القيامة: "كونا للظالم خصما وللمظلوم عونا" وهذه هي وصيته (عليه السلام) في اللحظات الاخيرة من حياته.

اما الصفة الثالثة فتتمثل في قوله سبحانه: وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَانُ قَوْمٍ عَلَى الاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى (المائدة / 8)، فاذا ما وصلنا الى مراكز حساسة فلنحاول ان نقيم العدالة، وان نشهد بالقسط ولو على انفسنا، ونحن اذا درسنا هذه التعاليم فاننا سندرك ان الله عز وجل الذي يأمرنا بالصلاة قائلا: أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْءَانَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْءَانَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً (الاسراء / 78) يأمرنا باقامة العدل في المجتمع قائلا: يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَآءَ بِالْقِسْطِ (المائدة / 8)

ص: 96

واذا ما اخذ المجتمع المسلم القرآن بكل تفاصيله فلا يختار آية دون اخرى، بل يلتزم بجميعها، ويجعلها برنامج في حياته، فان الكثير من المشاكل التي يعاني منها مجتمعنا الان سوف تحل.

وهكذا فان الخطوة الاولى نحو الاصلاح تبدأ من المجتمع، لان كل فرد فيه يقوم بدور، وفي كثير من الاحيان تبدأ المشاريع الخيرية على شكل اعمال محدودة

ومتواضعة، ولكن الله عز وجل سرعان ما يبارك فيها، واذا بعشرات الآلاف من البشر ينعمون بفضل هذه المشاريع، فما كان لله ينمو.

هذا في الجانب الاجتماعي، اما في جانب العدالة واقامتها، فان المجتمع الذي يطبق هذه الكلمة الالهية شُهَدَآءَ بِالْقِسْطِ (المائدة / 8) لايمكن ان ينتشر فيه الظلم، فالانسان الظالم لايصبح جبارا في الارض بشكل مباشر، فهو في البداية يبدأ بظلم عائلته، وجيرانه، وشريكه واذا ما بادر المجتمع الى الاخذ على يده فان دائرة هذا الظلم سوف لاتتسع، ولاتصل الى الآخرين.

ونحن يجب ان نربي مجتمعنا على اساس الشهادة بالقسط، واقامة العدل، وبالطبع فان الانسان يعتقد ان محاولته لاقامة العدل سوف تؤدي الى تعرضه للمضايقة، ومخالفة المجتمع له، في حين ان هذا التصور مغلوط كما يصرح بذلك قول الامام علي (عليه السلام): "الا وان الامر بالمعروف والنهي عن المنكر لايقربان اجلا ولا يقطعان رزقا".

فليدافع كل واحد منا عن قيمه واصالته فنحن لم نأت الى هذه الدنيا لننغمس في ملاذها بل لنحقق رسالة فيها، فمن القبيح ان نرى شخصا مظلوما ثم نسكت، فالانسان يجب ان يكون شاهدا بالقسط، وعندما تنمو هذه الصفة في المجتمع،

ص: 97

صفة القسط والعدالة والدفاع عن المظلوم، فان العدالة سوف تسود هذا المجتمع في كل جوانبه.

وللاسف فان الاسلام الحقيقي قد انحسر عن المجتمع، والاسلام الموجود هو اسلام موجز قد اقتطعنا مجموعة من احكامه حسب اهوائنا، وبحيث لايضر بمصالحنا. اما

الاسلام الذي يتضمنه القرآن فهو لا وجود له بيننا وان كان له وجود فهو اسلام مختار على معيار الهوى في حين انه كل لايتجزأ.

تطبيق القرآن ضمانة النهوض:

ونحن اذا اردنا ان نعيد للاسلام مجده فلابد ان نطبق القرآن كله، لا ان نغيره، ونبدله حسب اهوائنا، فخطاب يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلّهِ (المائدة / 8) موجه الينا نحن الذين ندعي الايمان، وان علينا ان نفكر في كيفية تطبيقه والا فلنسأل الفقيه الشرعي، ومن هنا اؤكد ان من واجب كل انسان مؤمن يريد ان تكون عاقبته على خير ان يراجع فقيها يسأله عن كيفية تطبيق هذه الايات الكريمة على نفسه، ثم يبادر بعد ذلك الى الانتماء الى هيئة، او تجمع، او مؤسسة خيرية، فلا يجوز لنا ان ندعي الايمان ثم لانجسده بعمل في سبيل الله تعالى تطبيقا لقوله: يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلّهِ (المائدة / 8)

والمهم في كل ذلك ان ننضم الى اي مشروع خيري، وان لانثير الاشكاليات حول هذا التجمع او ذاك فالشيطان يحاولان يزرع الوساوس في قلوبنا ليصدنا عن عمل الخير.

***

ص: 98

الفصل الرابع: عناصر الايمان الرئيسية

اشارة

قال الله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ ءَايَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (الانفال / 2).

يحدثنا القرآن الكريم في هذه الآية عن ثلاثة عناصر رئيسية للايمان ومعطيين من معطياته فأما العناصر الرئيسية فهي: الوجل، وزيادة الايمان من خلال تلاوة الايات القرآنية، والتوكل، واما المعطيات فهما الصلاة، والانفاق من الرزق.

والوجل يمثل كما نفهم من الايات القرآنية حالة نفسية تضطرب النفس فيها، وتدعو الانسان الى ان يمضي بعمله الصالح قدما الى الامام، وقد عبر الامام علي (عليه السلام) عن هذه الحقيقة في قوله: "قلب المؤمن بين اصبعين من اصابع الرحمن" ،وقوله (عليه السلام) ايضا: "المؤمن من اذا وزن يأسه ورجاؤه لا يرجح احدهما على الاخر".

ص: 99

حقيقة الوجل:

ومع ذلك فان هذا التبسيط لا يكفينا لمعرفة حقيقة مفهوم (الوجل)، ومن اجل معرفة ذلك علينا ان نعلم ان الانسان المؤمن يختلف عن المنافق او الكافر اختلافا

جذريا في نوعية تلقيه للاحداث، ذلك لان كل انسان في الحياة لابد ان يبدي ردود افعال امام الاحداث التي تقع حوله والتي يستقبلها الانسان بقلبه، او من خلال جوارحه، فيظهر ردود فعل معينة امامها.

والبعض من الناس تكون ردود افعالهم متسمة بالسلبية، والانطواء، والبعض بالايجابية المطلقة والشجاعة، والبعض الاخر بالتهور وعدم التخطيط، والفوضى، وهذه الاقسام الثلاثة ربما تضاف اليها اقسام اخرى من ردود فعل الانسان تجاه الاحداث.

مجرد امتحانات:

والمؤمن كما قلنا يختلف عن غيره في نوعية ردود الفعل التي يبديها ازاء الاحداث، وهذا هو الفارق الاساسي بين الانسان المؤمن وغيره، وعلى سبيل المثال فان المؤمن يعتبر الاحداث السلبية في حياته مجرد امتحانات تدفع به الى الصمود والصبر، ويرى الاحداث الايجابية في حياته على انها امتحانات ايضا مصاغة بشكل نعم ان هذه النوعية من تلقي الاحداث تدفع بالانسان المؤمن الى العمل والحركة في جميع الاحوال سواء كانت الاحداث التي يواجهها سلبية ام ايجابية؛ فهو عامل عندما يصاب بمصيبة، وعامل ايضا حينما تسبغ عليه نعمة، فالعمل هو العمل، والصمود هو الصمود، والشخصية هي الشخصية مهما

ص: 100

اختلفت الاحداث. في حين ان الانسان المنافق يرى في الحدث السلبي يأسا ونهاية، ويصف لنا القرآن الكريم هذه الحالة في قوله تعالى: وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوساً (الاسراء / 83).

ويصف القرآن الكريم الانسان المؤمن قائلا: الَّذِينَ إِذَآ أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلّهِ وإِنّآ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (البقرة / 156)، فالمؤمن الذي يصاب بمصيبة ما لا ينظر الى هذه المصيبة من خلال اطار ضيق، بل ينظر اليها بمنظار كوني فيقول: إِنَّا لِلّهِ وإِنّآ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، اي ان هذه المصيبة طفيفة وصغيرة بالنسبة الى حياتي، ثم ان هذا الحدث وغيره أعتبره بسيطا بالنسبة الى مبتدئي ومنتهاي، فحدث الموت اكبر من هذا الحدث، وحدث الابتداء ونعمة الوجود اعظم منه، فوجود الانسان هو نعمة مسبوغة على الانسان لا تعادلها اية نعمة اخرى، فلا مبرر اذن لليأس والقنوط.

والقرآن الكريم يبين لنا ان شخصية الانسان المؤمن تختلف عن شخصية الانسان المنافق، والكافر، ويعبر تعالى عن هذه الحقيقة قائلا: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ والوجل هو حالة نفسية للانسان المؤمن تجعله يعيش دائما حالة التعادل بين الخوف والرجاء سواء كانت الاحداث سلبية ام ايجابية.

النموذج الامثل:

وقد تجسدت هذه الحالة كأحسن ما يكون في شخصية نبينا محمد (صلى الله عليه وآله) الذي كان رجاؤه وأمله ان يظهر الله تعالى دينه على العالم كله،

ص: 101

فكان امله ورجاءه في مكة المكرمة بمقدار أمله ورجائه في المدينة المنورة، كما كان في نفس الوقت يحذر ويخشى من ان لا يظهر الدين سواء في مكة ام في المدينة.

ترى لماذا يعيش الانسان المؤمن هذه الحالة؟ الجواب: لانه لا يستمد عناصر الخوف والرجاء في حياته من الواقع المادي بل يستمد عناصرهما من الواقع الغيبي، فيدرك ان كل ما في الدنيا من خير زائل كله لانه نعمة من الله عز وجل والنعمة كما تعطى تؤخذ، واذا ما وجد الشر فانه يعرف ان هناك قوة غيبية فوق هذا الشر تمكنه من ان يقضي على هذا الشر في خلال لحظات، ولذلك فان النعم لا تغره، كما ان النقم لا تيئسه، لانه استمد عناصر رجائه من قدرة الله سبحانه وتعالى، واستمد عناصر خوفه من نقمة الله، وغضبه، وقدرته على ان يسلب النعم خلال لحظة واحدة.

وهكذا فان المعادلات تتغير جميعا خلال لحظة. وقد اشار الى ذلك تعالى في قوله عن مباغتة الكافرين بالعذاب: فَاَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُم مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيثُ لاَ يَشْعُرُونَ (النحل / 26).

وهكذا الحال بالنسبة الى النصر والفرج فانهما يأتيان الى المؤمنين من حيث لا يشعرون ايضا: وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ (الطلاق / 32).

صامد في كل الحالات:

ولذلك فان رد فعل الانسان المؤمن ازاء الاحداث لا يخضع للحدث السلبي كما ولا تغره الاحداث الايجابية، فلا تخدعه اي من الحالتين، فحالة الخداع والغرور هي حالة الافتقار الى الشخصية والرؤية، اما الحالة المعاكسة لها فهي حالة ضعف

ص: 102

الارادة امام الاحداث السلبية، فالانسان المؤمن هو الانسان الوحيد الذي يستطيع المحافظة على ذاته، وعدم الانهيار امام الاحداث التي تقع امامه، فهو يحافظ على توازنه سواء سلب منه شيء ام اوتي شيئا.

والى هذه الصفة يشير القرآن الكريم في قوله: لِكَيْلاَ تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُوا بِمَآ ءَاتَاكُمْ (الحديد / 23)، وفي تفسير هذه الاية يقول الامام الصادق (عليه السلام): "لا يكتمل ايمان امرء حتى يكون مثلا لهذه الاية" ،وفي نفس المعنى يقول ايضا (عليه السلام): "المؤمن اشد من الجبل وقلبه اقوى من زبر الحديد، فقيل له (عليه السلام): وكيف يابن رسول الله؟ قال: ينال من الجبل ولا ينال منه".

فالمعول قد يكسر احجار الجبل، ولكن هذا المعول نفسه لا يمكن ان ينال من شخصية الانسان المؤمن والمثال على ذلك مؤمن آل فرعون، هذا المؤمن الذي كان يكتم ايمانه، فلما احس به فرعون امر ان يعرض الى عذاب لا يستطيع الانسان العادي احتماله، فهرأوا جلده عن طريق القصب المفتت الذي شدوه بجسده العاري، واخذوا يسحبونه قصبة قصبة بحيث كان جلده يتقطع مع القصب ثم قطعوا يديه ورجليه، وثبتوه في اربعة مسامير على الارض ثم قتلوه واحرقوه، وذروا برماده في الهواء، ومع ذلك فقد كان هذا الانسان المؤمن الصابر يقول وهو يعاني مرارة التعذيب: يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (يس / 2726).

ولذلك فان هذا الانسان المؤمن لم ينهار امام التعذيب، لانه اقوى من الجبل، واقوى من الحديد، وهذا هو معنى الوجل، والاضطراب القلبي الذي يجعل

ص: 103

الانسان يعيش مترددا بين الخوف والرجاء.

والسؤال المطروح هنا هو: هل حالة التردد هذه هي حالة سلبية لدى الانسان المؤمن؟ وجوابا على ذلك نقول: كلا، فالانسان المؤمن يدرك ان الله تعالى حكيم، ولانه يمتلك هذه الصفة فانه لا يمكن ان ينتقم من احد عبثا، ولا يمكن ان يفضل شخصا على اخر بدون مقياس، فالمؤمن يعرف ان المصاعب هي طريقه الى تحقيق النعمة، وان السهولة والراحة هما الطريق الى النقمة، وهو يعرف ايضا ان الدنيا دار ابتلاء وامتحان، وعندما لا يجد الانسان نفسه في الدنيا مبتلى بامتحان، ولا يجد نفسه تحت وطأة نقمة او نعمة لابد له ان يعرف انه اخذ يفشل في الامتحان.

ففي اليوم الذي يجد فيه الانسان المؤمن نفسه امام صعوبة فانه يؤنس نفسه، وكذلك الحال اذا ما واجه نعمة، فهو يعيش حالة التأنيب الدائم والمستمر لنفسه، اما اذا وجد نفسه يوما غير خائف ولا وجل من الله تعالى فانه ينصب بالتأنيب على نفسه ايضا معتقدا ان الله تعالى قد وكله الى نفسه، واخذ يستدرجه لكي ينسى الاخرة.

وعلى هذا فان الانسان المؤمن يوقن ان حكمة الله تأبى ان ينتقم من احد، او ينعم على احد بدون عمل؛ فان كان المؤمن خائفا فان خوفه هذا سيدفعه الى العمل الصالح، واذا كان راجيا فان رجاءه سيدفع به ايضا الى العمل، فهو اساسا خائف وراج في نفس الوقت.

فعن الامام الصادق (عليه السلام) أنه قال: "ارج الله رجاء لا يجرئك على

ص: 104

معاصيه وخف الله خوفا لا يؤيسك من رحمته"(1).

وعنه (عليه السلام):" لا يكون المؤمن مؤمنا حتى يكون خائفا راجيا ولايكون خائفا راجيا حتى يكون عاملا لما يخاف ويرجو"(2).

وبعد فان هذه الروح هي التي تحث الانسان المؤمن على القيام بالعمل في سبيل الله تعالى، وهذا هو معنى الوجل الذي هو احد العناصر الرئيسية الداخلة في تركيب الشخصية الايمانية.

زيادة الايمان:

اما العنصر الثاني فيتمثل في (زيادة الايمان)، فالانسان الذي يرى آيات الله ونعمه في السماوات والارض ثم لا يزداد ايمانه فانه انسان غير مؤمن، كما اشار الى ذلك تعالى في قوله: وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ ءَايَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً.

وليس من الضروري ان تكون الايات هنا هي الايات القرآنية، فقد تتجسد آيات الله عز وجل في كل ما في الكون من مظاهر القدرة، والجمال، والروعة، والمؤمن اذا تليت عليه آيات الله زادت من ايمانه، اما الانسان الذي لا يزداد ايمانا فهو غير مؤمن، وليحاول ان يفتش لنفسه عن اسم اخر ك (الكافر) او (المنافق) او (المشرك)، المهم انه انسان غير مؤمن!

ص: 105


1- موسوعة بحار الانوار ج 67 ص 384
2- موسوعة بحار الانوار ج 67 ص 365

التوكل على الله:

اما العنصر الثالث والاخير فهو التوكل على الله تعالى: وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ وقد جاءت الاشارة الى هذه الصفة في آية اخرى هي: الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا.. (فصلت / 30) وانا ارى ان صفتي الاستقامة والتوكل يمثلان صفة واحدة؛ فالتوكل هو مبعث الاستقامة، والاستقامة بدورها هي نتيجة التوكل.

***

ص: 106

الفصل الخامس: العلم والايمان جناحا التقدم

اشارة

لقد زود الله سبحانه وتعالى الانسان بجناحين يمكنه بهما التحليق أنى شاء، ألا وهما العلم والايمان. فعندما يكتمل نموهما يكون الانسان حينئذ أهلا للتكامل، والسمو، والتقدم سواء على الصعيد الفردي ام الاجتماعي، ذلك لان تكامل الانسان مرهون بتكامل ايمانه وعلمه.

حقيقة الايمان:

يا ترى فما هو الايمان، وكيف يتكامل الانسان بالعلم والمعرفة؟

ربما يمكننا ان نعرف الايمان بأنه الخروج من زنزانة النفس الأمارة بالسوء، والتحرر من اغلال الهوى، وقيود الشهوات، وانعتاقه من شح النفس وبخلها، وانطلاقه اي الانسان في رحاب الحق.

ص: 107

والايمان هو تحول نوعي في صميم النفس البشرية يعمل على اخراجها من اطارها الضيق المحدود نحو آفاق الآخرين، لتعيش تطلعاتهم وهمومهم، بالاضافة الى تطلعات النفس وهمومها. فالانسان الذي يحيى اجواء الايمان نجده يعيش هموم اخوته، ويكافح من أجل احقاق حقوقهم، ولا يؤطر تطلعاته فيجعلها انانية متوقفة على حقوقه، ومصالحه.

واصل الايمان هو اعتراف الانسان، وتسليمه باكبر الحقائق، ألا وهي حقيقة الالوهية المطلقة، ومنه يتفرع التسليم بحقائق الوجود الاخرى. ولذلك فان الكافر بالله عز وجل لا يؤمن بحقيقة اخرى، و لا يعتقد بشيء آخر، ذلك لان الله سبحانه اكبر شهادة من كل شيء؛ فعندما يكفر الانسان بالشمس الساطعة ونورها، ولا يؤمن بوجودها، فكيف نتوقع منه ان يؤمن بوجود شمعة صغيرة اذا ما اوقدتها له ليبصر بنورها؟ فالذي لا يرى النور الساطع لا يمكنه رؤية البصيص منه.

ولذلك كان اول الايمان معرفته جل شأنه. فان تعرف ربك، وتسلم له وتعتقد به، فانك تكون قد بلغت قمة الايمان.

الخروج من أسر الذات:

ولكي تنفتح امام الانسان آفاق الايمان فان عليه ان يخرج نفسه من أسر انانيتها، والا فان البقاء في سجن النفس يدفع الانسان الى التجبر، والتكبر، وحب الذات. ولذلك فان عليه ان يستشعر في اعماق نفسه انه لا يعيش لوحده، وانه ليس هو اله هذا الكون، بل ان هناك الها عظيما، وربا قادرا عليما هو

ص: 108

المهيمن والمسيطر، وهو الذي لا اله إلا هو، وهو الجبار المتكبر..

وفي القرآن الكريم كثيرا ما تطالعنا المقارنة بين الايمان بالله سبحانه وبين ان ينطوي الانسان في حياته على هوى الذات، وفي ذلك يقول تعالى: وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (النازعات / 40 41). فخشية الله عز وجل وهوى النفس يقفان على طرفي نقيض، ولا يمكن الجمع بينهما؛ فالقلب المعمور بالايمان لا يمكنه ان يتعلق بهوى النفس الا إذا تزلزل الايمان فيه لسبب من الاسباب. فالهوى هو حجاب الايمان، وهو في الحقيقة اكبر عثرة، واعظم حائل دون سير الانسان نحو ربه، ودون تكامله من خلال التقرب اليه سبحانه، ولذلك فان الذي يختار طريق الايمان والتقوى، عليه اولا ان يزيل من قلبه حب الانا، ويتخلص من هوى النفس.

الايمان نور الدارين:

والايمان هو نور الدارين؛ فهو نور في الدنيا، وبه يميز المؤمن بين الحق والباطل، وبين الظلم والعدل، وبين الخطأ والصواب. في حين ان ذلك الذي يتبع هوى نفسه، وشهواته فان جميع الامور سوف تختلط عليه، ولذلك جاء في الدعاء الشريف:

اللهم أرني الحق حقا فأتبعه، والباطل باطلا فأجتنبه، ولا تجعله عليَّ متشابها فاتبع هواي بغير هدى منك.

وفي الحقيقة فان الذين لا يؤمنون حق الايمان، ويتبعون الهوى والشهوات هم

ص: 109

عمي في قلوبهم. ومن المعلوم ان عمى القلب هو اشد واسوء من

عمى العين، لانه يورث العمى في الآخرة ايضا كما يشير الى ذلك تعالى في قوله: وَمَن كَانَ فِي هذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الاَخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً (الاسراء / 72). فالذي لا يبصر الحقائق في هذه الدنيا رغم ما أوتي من اسباب الرؤية والابصار لايمكنه ان يبصرها غدا في الآخرة، بل انه سيزداد عمى، وفقدانا لهذه البصيرة، اللهم الا عندما تتكشف له الحقائق وعندها لا ينفعه الايمان كما يصرح بذلك العلي القدير في قوله:

يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ ءَايَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ ءَامَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً (الانعام / 158).

اما الانسان المؤمن فان له يوم القيامة نورا ساطعا في وجهه يضيء له طريقه، فيبصر به الصراط المستقيم من بعيد، وله نور يشع من جوانبه، في حين ان الملائكة والنبيين والمؤمنين يحيونه، ويسلمون عليه كما يؤكد عليذلك القرآنالكريمفي قوله:

يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِاَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الاَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (الحديد / 12).

الايمان أماننا في الآخرة:

وبهذا الأمن والاطمئنان يقتحم المؤمنون ساحة المحشر الرهيبة المخيفة ذات الهول والفزع الاكبر، آخذين طريقهم الى ما بشروا به من النعيم الأبدي، حيث الانهار

ص: 110

باختلاف مشاربها، وحيث الاطعمة الفاخرة التي لا تنعدم لذتها، وحيث الفاكهة التي ما رأتها عين.. وما الى ذلك مما تشتهيه الانفس، وتلذ به الأعين، وتطيب له النفوس والقلوب.

وبشرى هذا النعيم يتلقاها الانسان المؤمن حيث تتوافد عليه الملائكة من كل جانب، كل منهم يحمل له بشارة من بشارات النعيم الخالد الابدي الذي ليس له حد ولا نهاية. وهذا هو اعظم ما يعيشه الانسان من تطلع في قلبه، الا وهو النزوع الى الخلود. فكل انسان ينزع الى الخلد ويبحث عنه، ولعل جل ما يبذله الانسان ويكدح له هو الاستمرار في الحياة لكي يتنعم بها ما أمكنه. فحب الخلود هو الذي يدفع الانسان نحو التحرك والنشاط، وبهذه الحركة والنشاط يفر من الموت وسكراته.

وبناء على ذلك فمن طبيعة الانسان انه يروم الخلود في الارض، ويفر من الموت واسبابه، ولكن ليس كل ما يرومه الانسان هو في مصلحته، وإن كان الأمر يتعلق بالحياة والخلود فيها.

ومع ذلك فان طول العمر هو مبعث للانسان على الملل والضجر من الحياة، فنحن كثيرا ما نجد الذين يعمرون يجزعون من هذه الحياة. فما الذي يجده الانسان في حياته غير المشاكل، والمتاعب، والمصاعب؟ فالسعادة فيها لا تستغرق سوى سويعات قلائل تمر كالحلم.

الموت بين المؤمنين والكفار:

ومن الحقائق الثابتة في هذا المجال ان الله تبارك اسمه يسهل امر الموت على

ص: 111

المؤمن فلا يقبض روحه حتى يرضيه؛ اي ان الله يبعث للمؤمن عندما تحل ساعة اجله ملائكة تزين له الموت، فيرضى به، ويسلم الامانة مطمئنا رغم صعوبة انتزاع الروح من بدن الانسان.

اما الكافرون والمنافقون فان موتهم هو بداية عذاب الحسرة الى يوم القيامة كما يصرح بذلك تعالى في قوله:

يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَآءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ (الحديد / 13).

فمن اين للمنافق العودة الى هذه الدنيا؟ ولعل المقصود هنا بالباب الشفاعة والله اعلم، فهناك من تكون درجة نفاقه ضئيلة فتشمله الشفاعة حينئذ، وهناك الذين طبعوا على النفاق، واسودت قلوبهم به، فلا تنفعهم شفاعة الشافعين.

التبرير خداع الذات:

ثم يقول تعالى واصفا حال المنافقين في يوم القيامة من خلال الحوار الذي يدور بينهم وبين المؤمنين: يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَآءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ (الحديد / 14). فالانسان كثيرا ما يخدع نفسه، ويحدثها بأمور واهية باطلة، ويحاول اقناعها بما ليس فيه من الحق والصواب بمختلف التبريرات التي يختلقها في مخيلته، واوهامه، ولذلك يقول عز من قائل: يُخَادِعُونَ

ص: 112

اللّهَ وَالَّذِينَ ءامَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلآَّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (البقرة / 9)

وهذه هي فتنة النفس وبعدها يأتي التربص اي؛ ترك العمل، وتأجيله، واتخاذ التسويف سلوكا تجاه المسؤولية، والتكليف الشرعي. علما ان التسويف هو احد اسلحة الشيطان الخفية، وللتخلص من هذا الداء على المؤمن ان يكون مثابرا، ومسارعا في الخيرات، واداء ما عليه من الفرائض، والواجبات، والمسؤوليات الشرعية تجاه اسرته ومجتمعه وامته.

ويلي التربص كما نرى في الآية السابقة الريبة والشك، فاذا ما ترك التربص أثره في نفس الانسان فانه سيصبح عرضة لداء الريبة والشك حتى في الامور الواضحة البينة. علما ان هاتين الصفتين الذميمتين هما من حبائل الشيطان والذي يسعى من أجل ان يلقيها على قلب الانسان ليوقعه في فخ النفاق الى درجة انه يبدأ يشك حتى في وجوب الفرائض الدينية كالصلاة والصوم والحج وما الى ذلك.

وبعد التسويف والوقوع في حبائل الريبة، يزداد الانسان انزلاقا في مهاوي النفاق بأن يعلل نفسه بالآمال الخادعة، ويمنيها بالاماني الكاذبة كما يقول تعالى: وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ ومن امثلة ذلك ان يؤمل العاصي نفسه بالمغفرة، وما وسع من الرحمة الالهية فلا تجده يسارع الى التوبة، ويعجل بها، فيتساهل في المبادرة اليها حتى يفاجئه الأجل وقد خسر كل فرصة في حياته، والى هذا المعني يشير تعالى في قوله:

وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَآءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ

والغرور هو مجموعة من العوامل الشيطانية التي تعمل على تأخير

ص: 113

الانسان، وابعاده عن مسيرة الايمان التكاملية التي توصله الى رضا الله ورحمته ومغفرته.

الايمان والعلم اساس كل حضارة:

وهنا نعود لنؤكد على ان جناحي التكامل، والسمو الانساني نحو العلى والتقدم والفوز بالرضا الالهي هما الايمان والعلم؛ فما من حضارة بنيت بناء رصينا، وازدهرت، وسمت في آفاق التاريخ إلا على اساس ذينك الجناحين؛ العلم والايمان. وفي مقابل ذلك فان التدهور، والخراب، والدمار كل ذلك سوف يحل بالحضارة عندما ينحرف ابناؤها عن تلك المسيرة، ويتداعى عندهم ركنا الايمان والعلم، فتتهاوى هذه الامة الى الارض، وتصبح ضحية للوحوش المفترسة الجائعة. وهذا هو مصير كل امة يفقد ابناؤها ذينك الجناحين، فان مصيرها سوف لا يكون سوى

التدهور، والتخلف والسقوط فتغدو لقمة سائغة في افواه جبابرة الارض المستكبرين، والطامعين.

والدليل على ذلك هو حال امتنا الاسلامية في القرون الاخيرة؛ فقد ضعف ايمان ابنائها، وتركوا علمهم، فتخلفوا عن الركب الحضاري ولم يعودوا قادرين على مواجهة هذا الهجوم الشرس للناهبين والطامعين، وصاروا ضحية وفريسة لكل من هب ودب من الشرق والغرب. فابناء الامة عندما انحرفوا عن الطريق الرسالي؛ طريق العلم والايمان، فان الامة تخلفت حضاريا ورساليا، وخارت قواها بعد ان انعدمت اسباب القوة الحقيقية فيها. وقد صدق النبي (صلى الله عليه وآله) عندما قال: "من لا معاد له لا معاش له" ،وعندما قال ايضا: "من لم يهتم

ص: 114

بأمور المسلمين فليس بمسلم" ،فالانسان المسلم الذي لا يهتم بأمور اخوانه، وابناء امته يمحى اسمه من قائمة المسلمين، فعندما ينقضي نهارك وتبيت ليلتك وانت غير مبال بما يجري على اخوانك المسلمين سواء القريبين منهم اليك او البعيدين ولا يتحرق قلبك عليهم فاعلم ان الملائكة سوف لا تدون اسمك في قائمة المسلمين في ذلك اليوم.

وهنا تبرز اهمية الفكرة التي بحثناها وهي الأخذ بسلاحي العلم والايمان لكي نخرج مما نحن فيه من حال متدهورة متخلفة تكاد تمسخ هويتنا، ووجودنا، ورسالتنا في الحياة. ونحن لو أخذنا بهذين العنصرين لكانا لنا الجناحين اللذين نسمو بهما نحو الرفعة والازدهار والتقدم، لنبرز مرة اخرى بين امم الارض، ولا نعود بحاجة الى ان

نمد يد الاستجداء الى هذه الدولة او تلك فضلا عن ان نتحول الى القصعة التي تتداعى الامم عليها.

وهكذا فلابد لنا من ان نتوكل على الله تبارك وتعالى، ونعمل بعلمنا وايماننا لكي نبلغ اهدافنا السامية المنشودة التي تضمن لنا العزة والكرامة في الحياة الدنيا، والرضوان، والنعيم، والخلود، والتمتع بالنعم التي لا حصر لها ولا زوال في الدار الآخرة.

***

ص: 115

الفصل السادس: خصائص الفئة المؤمنة

اشارة

عندما تقاتل فئة فئة اخرى فانهما قد تكونان كلاهما ضالتين تدخلان النار، وقد تكون احداهما مؤمنة والاخرى كافرة.

وفي هذه الحالات من القتال والصراع فان كل فريق يدعي بأنه هو الفئة الناجية التي تدخل الجنة دون الفئات الاخرى، ولابد ان يدعي كل فريق انه هو الذي يمثل الارادة الالهية فوق الارض. حتى هتلر الذي أحرق العالم بأسلحته، كان يدعي انه يدافع عن الصليب، وان الله تعالى قد بعثه منقذا للبشرية، وهكذا الحال بالنسبة الى طغاة العالم الاخرين.

وهكذا فان كل فئة كانت تبحث عن تبرير لاعمالها، والتبرير جاهز عند الانسان، فهو يغلف اعماله بغطاء جذاب من التوجيه الذاتي، او الخداع الذاتي الذي يخدع به نفسه، ويحاول ان يخدع به الاخرين.

ومع ذلك فان هذه الادعاءات ليست هي المقياس، بل المقياس الحقيقي ان

ص: 116

تثبت اخلاصك، وقدسية رسالتك عبر البرامج الالهية الموجودة في القرآن الكريم، فاذا استطعت ان تثبت انك مع الحق لا مع نفسك، فسيكون بمقدورك ان تثبت كونك من ضمن الفئة المختارة المؤمنة.

وفي سورة آل عمران التي خصصت فيما يبدو لي لبيان الوحدة المبدئية بين ابناء الرسالات الالهية، وخصوصا بين ابناء الامة الاسلامية، وضرورة الاعتصام بحبل الله، وعدم التفرق، في هذه السورة المباركة يشير سبحانه وتعالى الى ان هناك صراعا بين فئتين؛ فئة مؤمنة، وفئة كافرة، ولكن الفئة المؤمنة سوف تنتصر بأذن الله.

فلسفة الصراع:

ولكن سرعان ما يبين القرآن الكريم فلسفة الصراع وخلفياته واسبابه، والبرامج الاساسية التي لابد ان يثبت اي طرف من طرفي الصراع صحة مقولته واسلوبه عبرها لاعبر الادعاء والزعم، فلنتأمل السياق القرآني التالي:

قَدْ كَانَ لَكُمْ ءَايَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَاُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُم مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَآءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لاُوْلِي الأَبْصَارِ * زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَآءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَاَبِ * قُلْ اؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِن ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْاْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللّهِ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالعِبَادِ * الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَآ إِنَّنَآ ءَامَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا

ص: 117

عَذَابَ النَّارِ * الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ (آل عمران / 1713).

فهذا السياق يصور لنا فئتين التقتا على ارض المعركة لينشب بينهما صراع دموي هو قمة الصراع الاجتماعي، وبتعبير اخر؛ نهاية المطاف للصراعات الاجتماعية. وبعد ذلك يحدثنا القرآن الكريم عن حب الشهوات لانه لابد ان يكون طرفا في الصراع بين فئتين، فلا يمكن ان تلتقي فئتان على ارض المعركة في سبيل الله، ولا يمكن ان تتحارب طائفتان مسلمتان، وتستمران على اسلامهما ثم تدخلان كلاهما

الجنة، فلابد ان يحدو باحدى الطائفتين الى ارض المعركة حب الشهوات، ولابد ان تكون الذات محورا لاحدى الطائفتين او لكلتيهما.

والقرآن الكريم يحدثنا عن هذا الصراع فيقول: قَدْ كَانَ لَكُمْ ءَايَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا ثم لا يلبث ان يقول: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ ليبين ان هذا الحب الذي زينه الشيطان للناس هو اساس الصراع.

مواصفات الفئة المؤمنة:

وبعد ذلك يذكر القرآن صفات الفئة المؤمنة التي تدعي وتثبت ادعاءها عبر برامج عملية وذلك في قوله تعالى: الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَآ إِنَّنَآ ءَامَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ فاذا كنا من هذه الطائفة فحينئذ سيكون بامكاننا ان ندعي اننا فئة مؤمنة، وان صراعنا هو صراع بين الحق والباطل، وان لم نكن فلابد ان يكون حب الذات قد داخلنا، وامتزج مع اهدافنا، وعبدنا الهوى،

ص: 118

واتخذناه الها من دون الله.

وهنا يبرز لنا محوران؛ محور الهوى، ومحور الهدى. محور الذات، ومحور الله عز وجل، فعندما نقف امام ربنا خمس مرات في كل يوم هاتفين: الله اكبر، فان هذا يعني اننا نسقط بهذه الكلمة اصنام ذاتنا، فالله هو اكبر من ذواتنا، ولابد ان نتمحور حول قيم الخالق وليس حول الشهوات الذاتية، وهكذا الحال عندما ننطق بشهادة التوحيد فان هذه الشهادة تستوجب منا ان نحطم اصنام انفسنا قبل كل شيء، وهذا يعني ان ندرك

اننا لسنا آلهة، ولسنا مقدسين، ولسنا مصداقا لكل حقيقة، واننا لا نستطيع ان نقول ان الحق معنا يدور حيثما درنا، فالرجال يعرفون بالحق، ولا يعرف الحق بالرجال.

ان من الخطأ الفظيع ان يصبح الانسان قديسا في نفسه، فعندما تركع وتسجد وتقول (سبحان ربي العظيم وبحمده) او (سبحان ربي الاعلى وبحمده)، فان هذا يعني انك لست مقدسا بل الله هو القدوس، وعندما نعتبر الله وحده هو الرب القدوس المنزه، وحينما نسبحه كما تسبح له السماوات والارض فحينئذ سنبدأ في مسيرة تكاملية نحو اهدافنا المقدسة.

سلسلة المعرفة في الاسلام:

اننا بمعرفة الله سبحانه وتعالى نعرف الرسول، وبمعرفة الرسول نعرف الامام كما يصرح بذلك الدعاء الشريف التالي:

"اللهم عرفني نفسك فانك ان لم تعرفني نفسك لم اعرف نبيك، اللهم عرفني رسولك فانك ان لم تعرفني رسولك لم اعرف حجتك، اللهم عرفني حجتك فانك ان لم تعرفني حجتك ضللت عن ديني".

ص: 119

وهنا تكمن نقطة البدء، والله تعالى يصرح ان هناك في الصراع فئتين؛ فئة تقدس ذاتها، وتحب شهواتها، وتبدأ من الانا، وفئة اخرى على العكس من ذلك تماما. ومن ابرز صفات هذه الفئة المؤمنة ما يشير اليه عز وجل في قوله: الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَآ إِنَّنَآ ءَامَنَّا اي؛ اننا آمنا بك، ولم نؤمن بأنفسنا، او بأي صنم مهما كان اسمه او لونه، فالاسماء تتعدد ولكن المحتوى واحد، فالصنم يتشكل بأشكال مختلفة، ولكن جميع الاصنام منشأها الذات.

ثم ان هؤلاء المؤمنين لا يقدسون ذواتهم، بل يدعون ربهم قائلين: فَاغْفِرْ لَنَا، فيعترفون بذنوبهم، فالذين يعتقدون انهم خير من الاخرين لا يمكن ان يفلحوا، وفي هذا المجال يروى عن الامام الصادق (عليه السلام) انه قال: "لا يكون المؤمن مؤمنا حتى يكون كامل العقل، ولا يكون كامل العقل حتى يكون فيه عشر خصال، الخير منه مأمول، والشر منه مأمون، يستقل كثير الخير من نفسه، ويستكثر قليل الخير من غيره، ويستكثر قليل الشر من نفسه، ويستقل كثير الشر من غيره.

لا يتبرم بطلب الحوائج قبله، ولا يسأم من طلب العلم عمره، الذل أحب اليه من العز، والفقر أحب اليه من الغنا، حسبه من الدنيا قوت، لا يلقى أحدا الا قال: هو خير مني وأتقى.

انما الناس: رجل خير منه واتقى، وأخر شر منه وادنى، فاذا لقي الذي هو خير منه (واتقى) تواضع له ليلحق به، واذا لقي الذي هو شر منه وأدنى قال: لعل شر هذا ظاهر وخيره باطن، فاذا فعل ذلك علا وساد أهل زمانه"(1).96

ص: 120


1- موسوعة بحار الانوار ج 64 ص 296

ومثل هذا الحديث يستدعي تساؤلا هو: نحن لا نرى انفسنا افضل من الاخيار الطيبين، بل اننا نشك في كوننا من الناس الطيبين، ولكننا نرى انفسنا احسن من الاشرار، فكيف؟ في هذه الحالة علينا ان نقول ان عاقبتهم ربما بخير فيما تسوء عاقبتنا.

ترى هل من السهل ان يكون الانسان صابرا في البأساء والضراء وحين البأس، وعند طغيان الشهوات، وهل من السهل ان يصدق الانسان في عمله وقوله؟ لنجرب

الصدق يوما واحدا، ولنحاول ان لا نكذب، وسنرى كم من الصعب على الانسان الغارق في هواه وشهواته ان يستقيم على الصدق.

ثم يستأنف تعالى قائلا: الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ، فقلوب هؤلاء المؤمنين المجاهدين خاضعة وخاشعة، فلنرجع الى انفسنا، ولنقيمها بمدى خضوع قلوبنا، فهناك شيطان مارد يخدعنا، ويثير فينا دائما الانانيات، والكبرياء الذاتية، فلنقهر هذا الشيطان من خلال البرنامج الروحي التالي الذي يشير اليه القرآن الكريم قائلا: وَالْقَانِتِين وَالْمُنفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ.

فحينما تنام العيون، وتسكت الاصوات، وتهدأ الحركة، ينبعث الانسان المؤمن بأيمانه الصادق من فراشه، ويقف امام الله تعالى ودموعه تجري وقلبه يرتجف، وفرائصه ترتعد، قائلا:" من انا؟ وكيف اواجه ربي بهذه الذنوب التي احملها على ظهري؟ ومن ينقذني من نار جهنم حيث لا عشيرة، ولا قبيلة، ولا شعارات، ولا اسماء، ولعناوين، ولا تجمعات؟ وحينئذ يغسل هذا الانسان ذنوبه، ويرسم استراتيجيته، ويقهر نفسه الامارة بالسوء.

ص: 121

واذا وجدت هذه الفئة المؤلفة من هكذا مؤمنين فلنعلم انها هي الفئة التي بشرها الله جل وعلا في كتابه العزيز بالنصر عندما قال: يَرَوْنَهُم مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَآءُ.

لنراجع انفسنا:

فلنحمل عبء الرسالة الاسلامية التي هي رسالة الوحدة بالدرجة الاولى، وعلى كل واحد منا ان يراجع نفسه قبل ان يراجع الاخرين، ويحاسبها قبل ان يحاسبهم، وان لا يستكثر ما قدمه، ولا يصيبه الغرور والكبرياء، ولا يضخم في المقابل اخطاء الاخرين من خلال اتباع المنهج التربوي الروحي الذي اوضحه الخالق عز وجل في الايات السابقة حول الكيفية التي من خلالها نصبح الفئة المؤمنة المخلصة التي تقاتل في سبيل الله تعالى، وتخوض الصراع من اجل وجهه الكريم دون الفئات الاخرى التي تدفعها الاهواء والشهوات لخوض الصراع، هذه الاهواء والشهوات التي يقف في مقدمتها حب الذات والانا والدوافع الذاتية الضيقة.

***

ص: 122

الفصل السابع: عقبات في طريق الايمان

اشارة

ما هي الحجب والموانع التي تمنع الانسان من التزود الذاتي بالايمان، وما هي العقبات النفسية التي تعترض طريق الايمان، ولماذا نرى البعض من الناس يتبعون منهج الايمان، والبعض الاخر يضلون حتى يصل بهم الامر الى الكفر بالله؟

اننا اذا عرفنا انفسنا، وعرفنا العقبات النفسية التي تعترض طريق تقدمنا فاننا سوف نستطيع اصلاح انفسنا، فمن عرف نفسه فقد عرف ربه.

الايمان درجات:

وقبل ان نجيب على تلك التساؤلات لابد من كلمة نمهد بها للجواب وهي؛ ان الايمان ليس قيمة مطلقة بل هو متدرج، فمن الممكن ان يكون للانسان ايمان بسيط لا يضيء الا بوصة واحدة من قلبه، كما ويمكن ان يكون هذا الايمان

ص: 123

كايمان الرسول (صلى الله عليه وآله)، او أمير المؤمنين (عليه السلام)؛ هذا الايمان الذي لم يضيء كل مساحة قلبي هاتين الشخصيتين العظيمتين فحسب، وانما اضاء العالم على مر الاجيال، وسيظل مضيئا.

وعلى هذا فان الايمان ليس درجة واحدة، فكل واحد منا من الممكن ان يكون مؤمنا. وقد صرحت الروايات في هذا المجال ان درجات الايمان تتفاوت من انسان

لاخر، وان هذا التفاوت يظهر بصورة جلية في يوم القيامة بسبب اختلاف الناس فيما بينهم في مدى طاعتهم لله سبحانه وتعالى ومدى مقاومتهم، وصبرهم على المصائب والمحن التي تمر بهم في ذات الله.

وهكذا فان الايمان مؤلف من مراتب ودرجات، والموانع التي تحول الانسان دون ان يصبح مؤمنا هي تلك الموانع التي تمنع الانسان من ان يرتفع من درجة ايمانية الى درجة ايمانية اعلى واكثر ارتفاعا.

عقبات الايمان النفسية:

وعلى سبيل المثال؛ لماذا لم يصبح (ابو لهب) مؤمنا، ولماذا لم يتبع الرسول (صلى الله عليه وآله)؟ انها العقبات النفسية، هذه العقبات هي التي تعترض طريقنا وتمنعنا من ان نصبح مثل سلمان الفارسي او ابي ذر الغفاري، او عمار، وغيرهم ممن سبقونا في الجهاد، والتضحية.

ان الموانع والعقبات النفسية هي التي تمنع الكفار من ان يصبحوا مؤمنين، وهي التي تمنعنا نحن من ان نرتفع في درجات الايمان عاليا، في حين ان اعمارنا تعتبر فرصة ثمينة يجب علينا ان نسارع خلالها الى الحصول على درجات الايمان؛ فنرتقي

ص: 124

من درجة الشاكرين الى درجة الصابرين، ومن هذه الدرجة الى درجة المجاهدين،

ومن درجة المجاهدين الى مرتبة الشهداء.

وهذه الدرجات يجب علينا ان نطويها في حياتنا، ونربي انفسنا عليها حتى نصل الى قمة القمم، فما هي الموانع والعقبات التي تعترض طريقنا؟، في رأيي ان العقبة

الكأداء الوحيدة التي تقف حجر عثرة في طريقنا، هي الاوهام الباطلة لا غير. فالخداع الذاتي الباطل هو الذي يقف وراء كفر الكافرين، واذا استطاع الانسان التغلب على اوهامه وغروره وخداعه الذاتي، فانه سيستطيع التغلب على كل عقبات الايمان، وبالتالي فانه سيصل الى قمة قمم الايمان.

وتفسير ذلك يمكننا ان نجده فيما يلي:

الخير كله في الايمان:

اذا اردنا نحن وكل العقلاء في العالم ان نتعمق في الايمان بشكل صحيح فاننا سنصل الى هذه الحقيقية، فالايمان فيه الخير كله في الدنيا والاخرة، وهذه الحقيقية لا تحتاج الى دليل لاثباتها، ومع ذلك فاني ساستدل عليها متسائلا: لماذا لا يؤمن الانسان اذا عرف انه سيحصل على الخير كله في الدنيا والاخرة من خلال الايمان؟

ان البعض يقولون جوابا على هذا التساؤل ان الكفار لا يؤمنون بسبب شهواتهم، في حين انني لا أأيد هذا التفسير، فالانسان المؤمن من الممكن ان يتمتع بلذائذ الدنيا، ويتنعم فيها اكثر من الانسان الكافر والمنافق.

وهناك طائفة اخرى تقول في تفسير عدم ايمان الانسان الكافر انه اذا آمن

ص: 125

فسيصبح ذليلا، في حين ان عكس ذلك هو الصحيح، فالايمان هو الذي يعطي الانسان العزة كما يقول تعالى: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ (المنافقون / 8).

فلماذا لا يؤمن الانسان مادام الخير كله، والحرية، والعزة، ونعم الحياة الدنيا والاخرة فيه؟ ان هناك شيئا هو الوهم، فمن الذي يزرع الوهم في قلب الانسان؟ انه الشيطان الذي يأتي ويزرع الاوهام الباطلة المرة بعد الاخرى، فللشيطان ملايين الشتائل من الوهم، وعلى الانسان ان يزود نفسه ب (جرافة) روحية يجرف بها هذه الاوهام الباطلة، ويطهر قلبه منها، لكي يفيض نور الايمان عليه، ويضيء كل ابعاد حياته.

ومن اجل ان نصور كيف يزرع الشيطان الاوهام الباطلة في قلب الانسان، نضرب المثال التالي: افترض انك اردت ان تصلي صلاة الليل بعد ان سمعت عما تقدمه للانسان من فوائد جمة في الدنيا والاخرة، فتوقت الساعة، ومن ثم تنام وانت مصمم على اداءها، وعندما يرن جرس الساعة تنهض من نومك، واذا بالشيطان يزرع الاوهام في قلبك، فيوسوس لك مثلا بان لديك اعمالا في الصباح سوف لا تستطيع ان تؤديها اذا ما اديت صلاة الليل لانك سوف لا تستطيع النهوض مبكرا من النوم... وهكذا يخدعك الشيطان بالاوهام التي يزينها لك، ويقدمها في لباس معقول، فاذا بك تستسلم لهذا الشيطان، فتنام ثانية، ولكنك مع كل ذلك قد تنهض متأخرا، فتفوتك صلاة الفجر ايضا، لتنصب باللوم والتقريع على نفسك.

ص: 126

ارادة الحياة تهب الحياة:

واذا ما تغلبت على هذه الاوهام، واستيقظت، وردعت الشيطان من خلال المبادرة الى الوضوء، واداء صلاة الليل، فان هذه الصلاة ستمنحك ارادة قوية في الحياة،

بالاضافة الى استطاعتك الذهاب الى عملك في وقت مبكر، واداء جميع اعمالك، كما يشير الى ذلك الحديث الشريف:

"ما ضعف بدن عما قويت عليه النية".

فقوة العزيمة هي التي تعطي الانسان القوة في الجسم، وارادة الحياة هي التي تنفخ في الانسان روح الحياة، وهذه الكلمات انما اقولها لكي نعرف ان الوهم وحده هو الذي يمنعنا من الارتفاع في درجات الايمان، في حين ان ارادة الحياة هي التي تهب الحياة، وارادة القوة هي التي تمنح القوة... وهكذا.

ونحن نلاحظ كدليل على ما قلناه ان الرؤساء والملوك والقادة الكبار ومن اشبههم انهم عندما يعزلون من مناصبهم فانهم يستسلمون الى الموت بسرعة، في حين انهم يعمرون عندما يكونون في مناصبهم، وقد كشفت الدراسات العلمية في هذا المجال ان هؤلاء عندما يكونون في مناصبهم فان اردة الحياة تكون قوية في نفوسهم، وعندما يعزلون تضعف هذه الارادة فيهم، فيستسلمون للمرض وبالتالي للموت.

وفي مجال اخر اثبتت الدراسات بعد بحث دقيق ان الذين ينتحرون بتناول المواد السامة، فان ارادة الموت تسهم في القضاء عليهم اكثر من تلك المواد نفسها، فالكمية التي كانت موجودة في اجسامهم من المواد السامة لم تكن كافية للقضاء عليهم بسرعة، فماتوا لانهم فقدوا الاحساس بالحياة.

كما واثبتت التجارب ان الانسان المصاب بمرض سرطان مثلا من الممكن

ص: 127

ان يكون له امل في الحياة اذا ما كانت فيه ارادة الحياة، واذا ما غمره الاحساس بانه قادر على ان يعيش في هذه الحياة لوجود الامل في نفسه.

وهكذا فان ارادة الحياة تساعد الانسان على ان ينتصر، ويتغلب على الكثير من المشاكل في حياته، فارادة الحياة هي التي تعطي الحياة للانسان لا مظاهر الحياة نفسها، وعلى سبيل المثال فعندما لا يؤدي احدنا صلاة الليل تراه في صباح اليوم التالي اكثر كسلا، واقل نشاطا وانتاجا من ذلك الذي يؤدي هذه الصلاة.

لا غنى عن الايمان:

وللاسف فان البعض يقول ان علينا ان نؤدي خدمة اجتماعية بدلا من ان نصلي، في حين ان هذا التصور مغلوط فلو لم يتزود الانسان بالايمان فانه سوف لا يستطيع ان يقدم اية خدمة اجتماعية.

البعض يوجب دراسة العلم، ومطالعة الكتب لان تفكر ساعة خير من عبادة سبعين سنة، فدراسة العلم هي التي تجعل الانسان ناجحا في الحياة، والملائكة تبسط اجنحتها لطالب العلم، والمخلوقات تستغفر له حتى الحيتان في البحر.

ان هذا صحيح كله، ولكن كيف يستطيع الانسان متابعة مسيرته العلمية؟ فتحصيل العلم هو من اصعب الامور، فكيف يستطيع الانسان ان يطلب العلم الى اخر مستوياته؟ انه يستطيع ذلك من خلال الايمان، وهذا الايمان يمكننا الحصول عليه بواسطة اداء العبادات واجبة كانت ام مستحبة.

وعلى هذا فان درجات الايمان كثيرة، وعلينا ان نصل الى الدرجات والمراتب الرفيعة منه، والسبب الوحيد الذي لا يدعنا نصل الى هذه الدرجات

ص: 128

هو الوهم والمخاوف الباطلة، والغرور المزيف، فكيف نستطيع التغلب على هذه العقبات؟ اننا نستطيع ذلك من خلال تنمية (الظن الحسن) في نفوسنا،

من هذا المجال يقول تعالى: الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُلاَقُوا رَبِّهِمْ وَاَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (البقرة / 46).

والظن هو الوهم والخيال، فاذا جاءنا الشيطان، وضخم لنا صعوبة من صعوبات الحياة كأن يوسوس لنا بعدم المشاركة في الجهاد بحجة اننا سنفقد حياتنا، ونقع في الاسر... فان هذا وهم في مقابل الوهم الذي في نفوسنا، ولكي نقضي على هذا الوهم فان علينا ان نتصور الجنة، والثواب الجزيل الذي اعده الله تعالى لمن يجاهد في سبيله.

الجهاد طريقنا الى الجنة:

ان الجهاد جسر يوصلنا الى الجنة، فلماذا لا نعبر هذا الجسر؟ ان الشيطان اذا جاءنا والقى في روعنا ان لا نصلي صلاة الليل بذريعة اننا سنتعب، ونتأخر عن اعمالنا، ولا ننشغل بتجارتنا وما الى ذلك من تبريرات واهية فان علينا من اجل ان ندفع هذه الوسوسة عن قلوبنا ان نتصور انفسنا ممددين في قبور مظلمة، ممتلئة بالديدان، وعندما نعيش مثل هذا التصور فاننا سنقتلع الوهم الذي زرعه الشيطان في نفوسنا، وبالتالي فاننا سنستطيع ازالة العقبات التي تعترض طريقنا للوصول الى الدرجات العليا من الايمان.

***

ص: 129

الفصل الثامن: التكذيب بالحق بداية الانحراف

اشارة

من ضمن التساؤلات الاساسية التي يطرحها القرآن الكريم التساؤل عن كيفية هلاك الامم السابقة، وهو يقدم لنا الاجابات الشافية على هذا التساؤل المرة بعد الاخرى، ففطرة الله جل جلاله قائمة على اساس نجاة الانسان، وعلى اساس انه خلق ليكون اكرم مخلوق على وجه البسيطة، فقد سخرت له الشمس والقمر والطبيعة من حوله، وخلق في احسن تقويم.

النجاة في الفطرة:

وعلى هذا فان نجاة الانسان هي الحالة الفطرية التي تقتضيها سنن الله، فلماذا اذن انحرف المنحرفون، وما هو دور الشيطان، والنفس الامارة وما هي الغرائز والشهوات التي تضل الانسان، وتحرفه عن الصراط المسقيم؟

ص: 130

من الملفت للنظر عند التدبر في القرآن الكريم انه يحدثنا عن الامراض والعوامل التي تؤدي الى الانحراف لكي نتقيها، ونحمي انفسنا من شرورها، وعلى سبيل المثال فان

بحث معرفة الشيطان هو بحث عميق وواسع ومتنوع في القرآن الكريم، ومما يؤسف له هو اننا لم نتطرق الى هذا الموضوع الهام كثيرا رغم ان الشيطان هو عدونا المبين، وهو الذي اقسم ان يغوي الانسان بكل طريقة ممكنة، ومع ان هذا العدو يجري منا مجرى الدم في عروقنا، ويأتينا من كل جانب؛ من بين ايدينا، ومن خلفنا، وعن اليمين والشمال، وبأساليب مختلفة الا ان هذه القضية الهامة لا تشكل موضوعا هاما في احاديثنا وبحوثنا، فنحن لانلتفت الى هذا العدو الخطير الذي اضل اناسا كثيرين جدا.

ان علينا ان نبحث عن المصائب والويلات التي سببها الشيطان على هذه الارض؛ فلماذا هلكت عاد، ولماذا أبيدت ثمود، ولماذا طغى فرعون وأغرق، ولماذا خسف الله بقارون وداره الارض؟... ان هذه البحوث القرآنية وغيرها هي الاهم، لان الانسان عندما يبعد نفسه عن اسباب وعوامل المرض والخطر فانه سيستطيع الاستمرار في الحياة، وفطرة الحياة تدعو الانسان الى الاستقامة. فلنبحث على سبيل المثال في الضلالة وجذورها؛ فلماذا نرى الانسان وعلى الرغم من ان الله تعالى خلقه في أحسن تقويم، واودع في ضميره الفطرة النقية، ووهب له نور العقل، وارسل اليه رسله تترى، وآياته متتابعات، وجعل العبر التي لاتحصى تحيط به... لماذا نراه يتخذ سبيل الغواية، وينحرف عن الطريق؟

في اكثر من موضع ومقام يحدثنا القرآن الكريم عن الضلالة الاولى، ونحن اذا

ص: 131

استطعنا ان نعي هذه الضلالة، ونكتشف العامل الاخطر لها فاننا سنحصل على المفتاح الرئيسي للسعادة.

ان الضلالة الاولى تأتي من كون الناس على نوعين: نوع يستقبل الحق ويسلم له، ويستوعبه، ونوع يكفر ويكذب به، والنوع الاول هو الذي يستقبل الحق بمجرد ان يقتنع ان من الافضل له ان يتقبل الحق ويؤمن به، وهذا هو الايمان؛ اي ان تكون عند الانسان حالة القناعة، والخضوع للحق والاسلام له بمجرد التوصل اليه، وحينئذ وبمجرد ان يصل الانسان الى هذه الدرجة تتضح امامه جميع الحقائق، لان الحجاب سيسقط، والعقل سيغمره النور لان الانسان المؤمن ينظر بنور الله تعالى.

ولكن هذا الانسان بمجرد ان يكذب بالحق فان كل تلك الايات والعلامات والمعالم الموضوعة على طريق الحق ستختفي عنه كما اشار الى ذلك عز وجل في قوله: بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ (ق / 5)، فالانسان يبقى في حالة عمى، وضلالة فلا هو مهتد ولا هو منحرف حتى يأتيه الحق عبر الرسول: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً (الاسراء / 15).

التكذيب بالحق يخلط الحقائق:

والرسول يأتي بكل وضوح ومعه الادلة البينة، فيقدم رسالته الى هذا الانسان، وحينئذ يختلف الناس؛ ففريق منهم يصدق به، ويرى انه هو الصادق الأمين، وهذا الفريق يهديه الله سبحانه وتعالى كما يشير الى ذلك في قوله: إِنَّهمْ فِتْيَةٌ ءَامَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (الكهف / 13)، فيهتدي هذا الانسان دون ان

ص: 132

يواجه اية مشكلة.

اما الفريق الآخر فيبدأ السير المعاكس، فيكذب بالحق، وبمجرد ان يكذب به تختلط عليه الحقائق كلها، فيستنتج سلسلة من الافكار الباطلة، والتبريرات والاعذار الواهية، وبالتالي يصنع وينسج حول نفسه شرنقة يعيش في داخلها، وفي هذا المجال يقول عز من قائل: بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (ق / 5)، اي مختلط.

واذا كان الرسول ليس حقا فما هو اذن؟، لقد قالوا عنه انه شاعر، ومجنون، وكاهن، فاختلط عليهم الامر، وتبعثرت عندهم المقاييس فلم يعرفوا ماذا يقولون، فما هو القرآن اذن؟ هناك من المستشرقين الذين يحاولون تفسير الوحي من لا يمتلك رأيا واضحا ومحددا يفسربه ذلك التحول الذي حدث في الجزيرة العربية خلال فترة قصيرة.

ان كل واحد منهم يقدم تفسيرا مختلفا، وتفاسيرهم وتحليلاتهم متناقضة بمجموعها، فقد ترى المؤرخ الواحد يكتب في كتابين تفسيرين مختلفين لانهم كما يقول القرآن الكريم: فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ، فهم لا يريدون ان يعترفوا بالحق. والباطل كما هو معلوم لا يمكن ان يثبت، فموازين العقل، والطبيعة، والتأريخ ترفض الباطل، لذلك نراهم يتنقلون من باطل الى اخر.

الطبيعة تدل على الله:

ولو ان هؤلاء لم يكونوا قد كذبوا بالحق لكانت الطبيعة المحيطة بهم كافية لاقناعهم بالمعاد والبعث كما يقول عز وجل: أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَآءِ فَوْقَهُمْ

ص: 133

كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ (ق / 6) فهذه السماء التي هي كالسقف المرفوع الذي يحفظ الارض من النيازك، ومن الاشعة الضارة، من الذي بناها، ورفعها، واتقن صنعها؟

ان هذه الايات واضحة ليس فيها اي لبس، والله تعالى يوجه انظار الناس اليها دائما وذلك في مثل قوله: أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَآءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا، وهو عز وجل لم يبنها باتقان ورصانة فحسب بل زينها ايضا بالكواكب فاذا هي زينة في الليل، وحلية في النهار، فالشمس تبعث شعاعها الباهر، والقمر يبث ذلك الشعاع الفضي الجميل، والنجوم انتشرت في الفضاء لتشكل لوحة سماوية بديعة بحيث لا تتعب الانسان عندما ينظر اليها.

ثم انك لا ترى في هذه السماء أية ثغرات ومنافذ: مَا لَهَا مِن فُرُوجٍ وان ثقبا واحدا حدث في طبقة الاوزون بالغلاف الجوي اليوم جعل العالم يعيش في حيرة، فاذا الثلوج تذوب، ودرجة الحرارة تزداد، واذا بالاشعة الكونية الضارة تتسرب، وفي الحقيقة فان الانسان هو السبب في حدوث هذا الثقب.

ويستأنف تعالى قائلا: وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (ق / 7)، ومع ذلك فان كل هذه الحقائق تخفى على المكذبين، فتعمى بصائرهم، ويفقدون القدرة على الفهم والتقدير في حين ان هذه الحقائق كانت وما زالت تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (ق / 8)، فالعبد المنيب القلب، المستعد لتقبل الحقائق لا ينظر الى شيء الا ويهتدي من خلاله الى الحقائق الكبرى، واسماء الله وسننه في الكون، والحياة الاخرة التي في انتظارنا، فيتضح كل شيء لهذا الانسان المؤمن.

ص: 134

وعلى هذا فان من اهم الاعمال التي يجب ان نقوم بها ان ننمي في انفسنا روح التقبل، وننتزع منها حالة الكبر، خصوصا وان هذه الحالة مغروسة في داخلنا، وهي تعادل الجهل، وظلم الانسان لنفسه كما يقول عز وجل: إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً (الاحزاب / 72)، وهي تلتصق بأعماق طبيعة الانسان، وانا لا اسميها (فطرة)، لان طبيعة الانسان ظلمانية، وعاجزة، ومحدودة، وجاهلة وظالمة، وهذه الطبيعة يجب ان تتبدل، وقد كلف الله سبحانه الانسان بتغييرها؛ فمن الناس من يحقق هذه المسؤولية في نفسه، ومنهم من يرفضها.

ان طريق قبول الحق يمر بالكفر، وطريق التصديق هو التكذيب؛ فلو لم تكفر بالطاغوت لما كان بامكانك ان تؤمن بالله، ولو لم تكذب بالضلالة لما كان بمقدورك ان تصدق بالهداية، كما يقول عز من قال: فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى (البقرة / 256).

الكفر بالانداد ثمن الايمان:

ومن الحقائق التي يجب علينا ان نعرفها هي ان الانسان لا يكون مؤمنا الا بعد ان يكون مستعدا لدفع ثمن الايمان، فالايمان يمثل اغلى قيمة، وارفع درجة، واثقل حسنة في ميزان الانسان، فهو شرط قبول العمل الصالح كما يقول تعالى: وَمَنْ أَرَادَ الاَخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ.. (الاسراء / 19) فاذا كنت تريد الاخرة فان مجرد التمني لا يكفي: لَيْسَ بِاَمَانِيِّكُمْ وَلآ أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ (النساء / 123).

وبالاضافة الى ذلك فان مجرد السعي هو الاخر لا يكفي بل يجب ان تكون هناك

ص: 135

ارادة وسعي وايمان، وعلى هذا فان الايمان هو شرط قبول العمل، ولابد ان ندفع ثمنه، وثمنه هو الكفر بالانداد؛ اي ان لا نجعل لله سبحانه ندا، فعندما نقول (الله) فان هذه الكلمة تعني انه هو الاكبر، والاسمى، والاعلى، له الحمد، فلا نقرن هذه الكلمة بشيء اخر، فعلى الانسان ان لا يجعل لربه ندا، وان لا يساوي الشركاء به فان اكثر الناس انما يدخلون النار لانهم اتخذوا شركاء له تعالى.

والقرآن الكريم يبين لنا هذه الحقيقة في قوله تعالى: فَلاَ تَجْعَلُوا لِلّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (البقرة / 22)، لان الله لا ند له، وقديما قال نمرود: أَنَا احْيِي وَاُمِيتُ (البقرة / 258)، ولكن ابراهيم (عليه السلام) قال له: فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ (البقرة / 258) فكانت النتيجة: فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ (البقرة / 258)، لقد كان نمرود سلطانا ذا قدرة، ولكنه اكتسب القدرة من الله، لان قدرته ليست ذاتية لكي يحق له ان يجعل نفسه مع الله تعالى، كما يشير الى ذلك في قوله: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالْسَّمَآءَ بِنَآءً وَأَنْزَلَ مِنَ الْسَّمَآءِ مَاءً فَاَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلاَ تَجْعَلُوا لِلّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (البقرة / 22)؛ أي هل الذي انت تعتقد به من دون الله قادر على ان يبني السماء، ويفرش الارض، وينزل من السماء ماء، ويستخرج من الارض رزقا؟

وفي آية اخرى يقول عز وجل: وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَندَاداً لِّيُضِلُّوا عَن سَبِيلِهِ (ابراهيم / 30) فهم انما ضلوا عن سبيل الله لانهم جعلوا له اندادا، ومن هذه الاية نفهم ان معنى (الند) هو الذي يتبع من دون الله سبحانه وتعالى، لان

ص: 136

القرآن الكريم يبين هذه الحقيقة في قوله: وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقَالَ الضُّعَفَآءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِن شَيءٍ (ابراهيم / 21)، فهم اي الضعفاء اتبعوا الانداد في الدنيا، وعندما يحل يوم القيامة يقولون للذين اتبعوهم: اين جزاء اتباعنا لكم، وهل تستطيعون ان تحملوا عنا اوزارنا؟ فيقول المتبعون: لَو هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ (ابراهيم / 21)، فهم ايضا سيردون نار جهنم، وكيف يمكن ان ينقذ من في النار غيره؟: سَوَآءٌ عَلَيْنَآ أَجَزِعْنَآ أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَحِيصٍ (ابراهيم / 21).

وبعد هذه الاية يقول جل شأنه: وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَندَاداً لِّيُضِلُّوا عَن سَبِيلِهِ (ابراهيم / 30)، وقد وردت هذه الاية في سورة ابراهيم، اما في سورة البقرة فقد جاءت بالشكل التالي: وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا أَشَدُّ حُبَّاً لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ انَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً وَاَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ * إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوْا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ (البقرة / 166165).

محور حركة المؤمن:

ان الحديث يدور في الايات السابقة عن الانداد ايضا، وذم اتباعهم، فالله تعالى يحذر الانسان من اتباع احد سواه؛ اي ان المؤمن يكون في داخل نفسه حالة ان محور حركته هو الايمان بالله لا شيء اخر، وبالتالي فان كل شيء يعود في نظره الى رب العالمين، اما الامور الاخرى فتأتي في الدرجة الثانية.

وفي آيات اخرى ايضا، يشير تعالى الى الاتباع عند الحديث عن الند، كما

ص: 137

نرى في هذه الاية الكريمة من سورة الزمر: وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَاداً لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّار (الزمر / 8) وفي الاية الثامنة من هذه السورة يقول عز من قائل: وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُواْ إِلَيْهِ مِن قَبْلُ (الزمر / 8)، ثم يقول عز وجل عن الذين كفروا: رَبَّنَآ أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلاَّنَا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا (فصلت / 29).

فالحديث هنا اذن يدور حول المتبعين اي؛ الانداد، ومن هنا ندرك اننا اذا اردنا ان نخلص الايمان فعلينا ان نكفر بالانداد، وان نلغي من حياتنا كل تمحور، وسلطة، وهيمنة، وجاذبية، ان لم تكن متصلة بالله سبحانه وتعالى، في هذه الحالة يصفو الايمان، ويكتمل التصديق، وتتضح الحقائق. فالايمان هو حالة في النفس تدفع الانسان الى الرضوخ للحق، ونحن لا نستطيع ان نحصل عليها الا من خلال رفض الباطل، فاذا رفضناه فحينئذ سنذعن للحق.

***

ص: 138

الفصل التاسع: البشرى عقبى المؤمنين

اشارة

اذا اردنا ان نعرف قيمة شيء ما فلابد ان ندرس نهايته وعاقبته. ونحن اذا اردنا ان نعرف قيمة الايمان، او مدى خسارة الانسان الكافر، فلابد من ان ندرس النهايات فعند دراستها نعرف حقيقة الاشياء.

ومن المعلوم ان عاقبة الايمان تتمثل في حياة مطمئنة يكللها الفلاح والسعادة، والعاقبة الحسنى، وفي يوم القيامة الحشر مع الانبياء والشهداء والصالحين، وجنة عرضها كعرض السماوات والارض، ورضوان من الله اكبر، وهذه هي فائدة الايمان للانسان.

اما الكفر فعاقبته قلق في النفس، وحياة نكدة، وضلال وعمى، وعاقبة سوء، وموت مؤلم، وقبر ملؤه النار، وحشر فيه الهول، وفي يوم القيامة النار الملتهبة والخزي، واللعن من الله تعالى.

ص: 139

المقياس الحقيقي:

وعندما ننظر نظرة سطحية الى الناس من حولنا فاننا لا نستطيع ان نعرف قيمتهم الحقيقية من خلال ظواهرهم الا اذا استندنا الى مقياس حقيقي وهو ان نقيس الامر بمقياس اعمق وحينئذ سنكتشف ان هذا الانسان في الجنة وانه محبوب من قبل الله عز وجل، وفي حين نرى الانسان الاخر يعيش في الجحيم منذ الان كما يقول سبحانه: وإِنَّ جَهَنَّمَ لَمحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (التوبة / 49)، فقلبه مليء بالتوتر والقلق والحقد، وفي المقابل نجد الانسان الاول ذا قلب مطمئن بالايمان كما يقول تعالى: أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (الرعد / 28) وبين هذا الانسان وذاك بعد المشرقين.

وعن اولياء الله يقول القرآن الكريم: أَلآ إِنَّ أَوْلِيَآءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (يونس / 62).

وكلمة (الولي) تعني المحب النصير القريب، وهناك معان عديدة وشتى لهذه الكلمات، ولكننا عندما نتعمق فيها نرى انها منطلقة من (الولاية) التي تأتي من تقارب الناس الى بعضهم، واولياء الله هم الذين يكونون عند الله تبارك وتعالى، والذين هم تحت ولايته، وفي حصنه وكهفه، وهم الذين لا خوف عليهم، ولا هم يحزنون.

وفي هذا المجال يروى ان ابن الاشعث جاء في ليلة من ليالي شهر رمضان الى الامام علي (عليه السلام) وطلب منه ان يتصالح مع معاوية ولكن الامام (عليه السلام) رفض، وحينئذ حذر ابن الاشعث الامام من ان هناك مؤامرة لقتله فغضب (عليه السلام) وقال: "أبالموت تهددني؟! والله ان ابا تراب آنس

ص: 140

بالموت من الطفل الرضيع بثدي امه، انا لا ابالي أوقعت على الموت ام وقع الموت عليَّ" ،وهذا هو النموذج الاسمى لاولياء الله، والقلب المطمئن حقا، فكل انسان مؤمن مستعد لاستقبال ملك الموت، ولذلك نجد ان موتهم هو موت الرحمة. قيل للصادق (عليه السلام): صف لنا الموت، قال (عليه السلام): "للمؤمن كأطيب ريح يشمه فينعس لطيبه وينقطع التعب والالم كله عنه"(1).

الفرحة الكبرى:

وهذه هي النفس المطمئنة التي لا يعتريها الخوف لانها تعرف مصيرها، وتوقن انها ستدخل على رب كريم، فالذين عرفوه، وآمنوا به، واطاعوه انما يفعلون ذلك في الدنيا والاخرة فينتقلون من دار ضيافة الى دار ضيافة اخرى التي هي دار الضيافة الحقيقية فالدنيا هي بمثابة السجن للمؤمنين، وهم يتطلعون دوما الى الانتقال للاخرة ليرون الفرحة الكبرى، فرحة الالتقاء بالله تعالى.

وهؤلاء المؤمنون لا يمكن ان يندموا او يحزنوا لان خطهم كان خطا مستقيما، فهم منذ اللحظة التي فتحوا فيها اعينهم على نور الدنيا قالوا: إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً وَمَآ أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (الانعام/ 79) فلماذا يحزنون وصلاتهم تأتيهم في صورة انسان جميل يبشرهم بالجنة، ولماذا يندمون وقد كان صومهم جُنة من النار، وانفاقهم في سبيل الله مضاعفا؟

وفي الاية التالية لقوله تعالى: أَلآ إِنَّ أَوْلِيَآءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (يونس / 62) يقول القرآن الكريم ذاكرا شرطين لاولياء الله: الَّذِينَ

ص: 141


1- موسوعة بحار الانوار ج 9 ص 153.

ءَامَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (يونس / 63)، والملاحظ اننا عندما ندرس الايات القرآنية نجد ان صفات المؤمنين تتشابه مع صفات المتقين؛ ففي سورة البقرة يقول عز من قائل عن المتقين: ذَلِكَ الكِتَابُ لاَرَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلمُتَّقِينَ * الَّذِينَ ُيؤْمِنُونَ بِالغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (البقرة / 32) هذه الصفات هي نفسها الصفات المثبتة للمؤمنين في قوله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ (المؤمنون / 21).

وهنا يتبادر الى الاذهان السؤال التالي: هل هناك فرق بين الايمان والتقوى ام انهما يمثلان مفهوما واحدا؟ وللاجابة على هذا السؤال نقول ان حقيقة الايمان، وحقيقة التقوى تمثلان حقيقة واحدة، ولكن المنظور في الايمان الجانب العقيدي، وفي التقوى الجانب العملي، فهما مفهومان متلازمان لا يمكن ان يوجد احدهما دون وجود الاخر.

بشرى للمؤمنين:

وعلى هذا فان القرآن الكريم يبين ان البشرى في الحياة الدنيا هي للذين آمنوا، واستمروا على ايمانهم عبر مسيرة التقوى، وهنا نتساءل: لماذا لم يقل القرآن: لهم النعم في الحياة الدنيا، بل قال: "لهم البشرى" ،وما هو الفرق بين (النعمة) و (البشرى)؟ وجوابا على ذلك نقول: ان الانسان لا يعرف عادة قيمة (النعمة) فهو لا يستفيد منها الاستفادة المثلى، ولكن المؤمنين يعرفون قيمتها، ولذلك استخدم القرآن الكريم مصطلح (البشرى)؛ اي ان للمؤمنين المعرفة بالنعم، ولذلك نقرأ في الدعاء: "اللهم اني اسألك العافية، والشكر على

ص: 142

العافية" ،فالانسان الذي لا شكر له على العافية لا يمكن ان ينعم بها، اما الانسان الذي يؤدي واجب الشكر على هذه النعمة فان العافية ستنعكس على روحه، لان الروح هي التي تشكر، والشكر هو عافية لها، ولذلك يقول عز وجل: لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الاَخِرَةِ (يونس / 64).

ان قلب الانسان المؤمن مفرغ من الاحقاد، وهو ينعم براحة البال، وطمأنينة النفس، على عكس قلب الانسان البعيد عن الله، والذي تراه في حالة اضطراب وقلق دائمين، فالانسان المؤمن نراه ينهض من نومه في جوف الليل لينشغل بالعبادة، ويدعو لاخوته المؤمنين، ويطلب لهم الخير والصلاح قائلا: وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا رَبَّنَآ إِنَّكَ رَؤوفٌ رَحِيمٌ (الحشر / 10) وقائلا: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً (نوح / 28).

وهكذا فان الانسان المؤمن يعيش في هذه الدنيا حالة الانسجام والوئام، فهو يضمر الحب للناس، والطبيعة الى درجة انه لا يؤذي حتى الحيوانات، فهو ليس انسانا عدوانيا بل ان قلبه مفعم بحب المجتمع، وهذه هي البشرى التي يراها في الدنيا.

ومع ان الايمان عظيم ذو قيمة عليا، وان له عشرة آثار رئيسية اشرنا اليها فيما مضى، الا انه ليس من السهولة ان يدعيه الانسان، فثمن الايمان عظيم وهو ان يسلم الانسان أمره الى الله جلت قدرته، ويخضع له في جميع اموره، واذا ما وصل الى هذه الحالة، حالة التسليم المطلق لرب العالمين، وان لا يرى شيئا اخر معه، ولا يخلط بين الحق والباطل، فحينئذ يمكننا ان نقول انه قد وصل الى حقيقة الايمان.

حقيقة الايمان:

فالانسان المؤمن هو الذي يخضع للخالق وحده، اما اذا خضع للمادة ايضا فهو

ص: 143

مشرك، وحال المشرك كحال الكافر، فليس لي ان اضع الشعب او الوطن او المجتمع او اي اعتبار مادي اخر مع الله تعالى، واذا ما وصلنا الى هذه المرحلة من الايمان، وجعلنا كل القيم في حياتنا تحت مظلة الايمان لامعها فاننا سنكون قد آمنا بالله حق ايمانه، ولا يكون مثلنا كمثل (عمر بن سعد) الذي خذل الامام الحسين (عليه السلام) وحاربه لانه كان يخشى ان تسلب الحكومة الاموية امواله منه فأصبح مثالا للنفس المنحطة الخاسئة.

وهكذا فان على الانسان المؤمن ان يكون حذرا من الاختبارات التي ينزلها الله عز وجل عليه، فليس هناك مجال للتسويف في مسألة الايمان بل ليحاول كل واحد منا ان يعقد العزم على ان يبقى على اصالته اذا ما خير بين الايمان وبين الدنيا، فلا مساومة على الايمان والعقيدة، فهما اعظم القيم، ولنستمر في الدفاع عنهما لكي تتجسد فينا حقيقة الايمان.

واذا ما فعلنا ذلك فان الله سبحانه سوف يمنحنا القوة، فعندما نرفض القيم المادية، سيؤيدنا الخالق، ويثبتنا، وينصرنا في الحياة الدنيا، ويوم يقوم الاشهاد، كما قال عز وجل: إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ ءَامَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الاَشْهَادُ (غافر / 51)؛ اي ان الخالق سبحانه ينصر عباده في الحياة الدنيا، ولكن الاجواء قد تكون مغبرة في بعض الاحيان وقد يسمع الانسان بعض الكلمات السلبية، وقد يوسوس له الشيطان، فلابد ان ينتبه الى كل ذلك لكي لا يسقط في هذا الاختبار.

***

ص: 144

الباب الثالث: السبيل الى حقائق الايمان

اشارة

ص: 145

ص: 146

الفصل الاول: السبيل الى حقائق الإيمان

اشارة

كيف نستطيع ان نعرف الايمان بحقائقه، وكيف يمكن ان نجد سبيلا الى هذه الحقيقة التي تعتبر ذروة القيم، وسنام الفضائل الالهية؟

لكي نتوصل الى الاجابة الصحيحة عن هذا السؤال لابد من بيان عدة حقائق:

1 ان الهدف من التعابير والكلمات التي ينطق بها الوحي، او الاحاديث المأثورة، انما هو الاشارة الى المعاني الواقعية لها، ولذلك نجد ان الكلمات تتنوع، والاشارات الى الحقائق تتغير في حين ان الحقيقة واحدة؛ فالكلمات القرآنية قد تعبر عن حقيقة واحدة بأساليب شتى، والذين يتخذون من الكلمات حقائق موضوعية لا جسرا الى الحقائق التي تعبر عنها تلك الكلمات، هم الذين يضربون الالفاظ بعضها ببعض سواء جاءت في القرآن، الكريم ام في الاحاديث الشريفة.

ص: 147

في حين ان اولئك الذين يتخذون من الكلمات جسورا يعبرون الى الحقائق من خلالها، يكتشفون انها تتكامل، وان هذه الالفاظ انما يدعم بعضها بعضا، وتفسر احداها الاخرى، وخصوصا الحقائق الكبرى كحقيقة التوحيد، والرسالة، والبعث والنشور... هذه الحقائق الكبرى التي من الصعب على الانسان ان يبلغها، ويتعرف عليها لضخامتها، وانتشارها، وتشعبها، وبالتالي لتجلياتها العديدة في مختلف شؤون الحياة البشرية.

في مثل هذه الحقائق يجب ان لاتتخذ الكلمات كموضوعة نفكر في حروفها، وفي ذات الالفاظ التي توجد ضمنها، بل يجب ان نعتبر هذه الكلمات المختلفة كلها جسرا الى ذلك المعنى. وعلى سبيل المثال؛ ماهو الايمان، وكيف يبلغ الانسان ذروته؟، انه ليس حقيقة بسيطة صغيرة وجانبية، فهو يدخل في كل جزيئة من جزيئات حياة الانسان، وفي كل مفردة من مفردات سلوك البشر، ولذلك لايمكننا ان نعبر عن الايمان بكلمة، بل يجب ان يكون التعبير عن الايمان ومحتواه والحقيقة التي يمثلها مختلفا متنوعا لكي يستقبل الانسان هذه الحقيقة من كل الجوانب والابعاد، ويتعرف عليها من كل الزوايا.

2 ان علينا عندما نستمع الى آية كريمة او حديث مأثور او نجد في الحياة آية من آيات الله تعالى ان نبذل جهدا كبيرا للارتفاع الى مستواها. فمن الصعب على الانسان ان يفهم الحقائق الكبرى الا من خلال تحول في ذاته، اما اولئك الذين يريدون ان ينزلوا مستوى الحقيقة الى مستواهم فهم مخطئون عادة لان الحقيقة مرتفعة بذاتها، وعلينا ان نرتفع اليها لا ان ننزلها الى مستوانا.

ص: 148

الايمان مغادرة الذات:

بعد هاتين المقدمتين ندخل في صلب الموضوع ونتساءل مرة اخرى؛ ماهو الايمان؟ للجواب على هذا السؤال نقول؛ الايمان هو ان يخرج الانسان من ذاته وهواه وشهواته ومصالحه الى رحاب الحق؛ اي ان يسلم الانسان للحق طواعية ومن دون اكراه، فالايمان ليس علما وليس عملا، بل هو علم وعمل، فعندما يلتقي العلم بالعمل، وعندما تلتقي بصيرة الانسان بسلوكه، في لحظة الالتقاء هذه يحدث ما نسميه ب (الايمان)، فالصلاة مثلا من دون قناعة لاتمثل الايمان، والقناعة من دون الصلاة لاتصدر عن الايمان ايضا.

وعلى هذا فان لحظة التلاقي بين بصيرة الانسان ورؤيته وبين حركته وسلوكه، هذه اللحظة هي التي نعبر عنها ب (الايمان)، فالايمان هو تسليم الانسان لله عز وجل ولكل الحقائق التي يأمرنا بها، فالايمان لايمكن ان يتجزأ لانه في الواقع حالة التسليم والذوبان والانقياد لان الانسان لايملك نفسين ولا قلبين حتى يؤمن هذا القلب بشيء، ويؤمن القلب الآخر بشيء آخر.

ولايضاح هذه الحقيقة نضرب المثال التالي: لنفرض ان هناك انسانا يبعّض الدين، اي يأخذ منه ما يوافق مصالحه واهوائه وشهواته، فهل هذا الانسان مؤمن حقا ام لا؟ اننا لو تمعنا في سلوكه لوجدنا انه يؤمن بشيء واحد هو المصالح والشهوات، اما الشيء الآخر وهو الدين فانما يؤمن به تبعا لتلك المصالح والشهوات، فهو اذن يؤمن بنفسه كما يقول تعالى: أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ (الفرقان / 43)، فهو يعبد نفسه، ومن الخطأ ان نقول ان هذا الانسان مؤمن بالله عز وجل، لانه لايؤمن بالخالق الا اذا اقتضت مصالحه،

ص: 149

فهو يؤمن بمصالحه هذه في الحقيقة.

الله هو الحق:

ولذلك نجد القرآن الكريم يصف اولئك الذين عبدوا مع الله اثنين، فقالوا انه تعالى ثالث ثلاثة، يصفهم بالكفر، ذلك لانهم عندما ادعوا الايمان فانهم لم يؤمنوا في الحقيقة برب السماوات والارض، وبمن يملك الملكوت، والقاهر فوق عباده، والعزيز المقتدر، بل آمنوا بشيء موهوم ليس هو الله سبحانه، لان الله هو الحق، ويعبر القرآن الكريم عن ذلك قائلا: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلهٍ إِلآَّ إِلهٌ وَاحِدٌ (المائدة / 73).

وعندما يحدثنا القرآن الكريم عن المصلين الذين هم في صلاتهم ساهون فانه لايبارك لهم مطلقا بل يقول: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ (الماعون / 54)، اي ان كل ما هناك من حقائق سيئة هي لمثل هذا الرجل لانه ساه عن صلاته، ومن هنا نجد ان القرآن الكريم عندما يحدثنا عن العبادة فانه يجعلها ملتصقة بالتوحيد، لان العبادة تعني الخضوع، والتسليم، والذوبان، وعندما تعني هذه الكلمة هذه المعاني وأن يعطي الانسان قياده لله سبحانه وتعالى فلا يمكن ان يتجزأ لانه اذا جزء نفسه في هذه الحالة مطيعا الله في بعض الامور، وعاصيا له في امور اخرى فان عبادته ودينه ليسا مقبولين.

العبادة هي التسليم والخضوع:

وعلى هذه فان العبادة هي في حقيقتها الخضوع للواحد لان معناها التسليم

ص: 150

والخضوع، ومعناها بالتالي قبول القيادة التي لايمكن ان تتجزأ، ومن هنا نجد الآيات القرآنية عندما تحدثنا عن العبادة فانها تركز الحديث حول خلوص هذه العبادة لله تعالى. فعندما نتمعن في قراءة القرآن الكريم عن رسالة الانبياء نجد ان هذه الرسالات لم تكن من اجل اثبات وجود الله بل من اجل التذكرة به كقوله تعالى وَذَكِّرْهُم بِاَيَّامِ اللَّهِ (ابراهيم / 5).

وعلى هذا فان محور الصراع بين الانبياء والكفار والجهلة من قومهم لم يكن حول اثبات الله وانما حول اثبات وحدانيته بشكل عملي، فالقرآن الكريم لايطلب مجرد الاعتقاد وحده بل يقول: أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ (هود / 26)، وهذه رسالة نبينا الاعظم (صلى الله عليه وآله) التي تكررت في كل الآيات القرآنية، كقوله عز وجل: وَمَآ امِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ (البينة / 5)، وقوله: أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (هود / 26)، وقوله: وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أنَّهُ لآ إِلَهَ إِلآَّ أَنَاْ فَاعْبُدُونِ (الانبياء / 25)، وهذه هي الرسالة الحقيقية للانبياء، ولكن هذه الرسالة بحاجة الى بلورة كما قلنا لانها من الحقائق الكبرى، وهذه الحقائق لاتفهم الا من خلال كل تجلياتها.

وعلى سبيل المثال فانك لن تستطيع ان تتعرف على الشمس من خلال كوة صغيرة في غرفتك دخل منها بصيص من اشعة الشمس، ولكنك عندما تنطلق في رحاب الارض، وتجد السهول والتلال والجبال والبحار كلها مضاءة بنور الشمس فحينئذ تختلف الحالة، وكذلك الحال بالنسبة الى الحقائق الكبرى فمن الصعب على الانسان ان يفهمها من خلال آية من آياتها، او اسم من اسمائها، بل لابد ان

ص: 151

نستوعبها من جميع اطرافها، ومن هنا فان حديث القرآن الكريم حول حقيقة التوحيد هو حديث شيق متنوع ذو ابعاد مختلفة.

ترى لماذا لم نستوعب بعد حقيقة التوحيد رغم آياتها الواضحة، ودلالاتها البينة، اي ان بصيرة التوحيد، والايمان، والعبودية الخالصة لله تعالى، هذه البصائر الاساسية لايزال يكتنفها شيء من الغموض في وعينا، رغم انها رسالة القرآن واساسه؟

الجواب: لان هناك حجابا نفسيا بيننا وبين هذه الحقائق، فالانسان عندما يريد ان يفهم هذه الحقائق يخشى ان يفرض عليه الالتزام بأمور كثيرة، والانسان يتهرب عادة من الالتزام والمسؤولية لذلك تراه لايحاول ان يستمع الى القرآن بوعي وتدبر. فمن طبع الانسان التكبر والتعالي والتهرب من المسؤولية، وعلى سبيل المثال فانه على الرغم من انه يشاهد الاموات ينقلون الى مثواهم الاخير في كل يوم تقريبا، وقد يفقد من لم يكن يفكر بفقدانهم، الا انك مع كل ذلك تجده غافلا بالنسبة الى هذه الحقيقة، فيبقى يتصور داخليا انه لن يموت، فمع ان الموت حقيقة فاننا لانصدق بها.

وهكذا الحال بالنسبة الى الحقائق الاخرى، والقرآن يسعى من اجل ان يعرفنا على ابعادها وزواياها، ومن جملة هذه الابعاد والزوايا قوله تعالى: مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فماذا يعني الاخلاص في الدين؟ ان هذه الكلمة ليست الا تفسيرا لقوله تعالى: وَمَآ امِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ لان معنى العبادة لله هو خلوص الدين، وخلوص الدين يعني خلوص التسليم، وان نجعل السلطة والتشريع والقيادة خالصة لله سبحانه وتعالى؛ اي ان لاتكون عندنا ازدواجية

ص: 152

في الولاء، وتعددية في القيادة.

كلمة التوحيد محور وحدتنا:

وفي آية اخرى اكثر صراحة يدعو القرآن الكريم البشرية وخصوصا الالهيين من البشر، يدعوهم الى كلمة سواء، وارضية واحدة يشترك فيها كل المؤمنين بالله بطريقة او بأخرى، ففي سورة آل عمران يقول تعالى: قُلْ يَآ أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلِمَةٍ سَوَآءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ (آل عمران / 64)، لكي تصبح هذه الكلمة محورا لوحدتنا، فما هي هذه الكلمة؟، يقول عز وجل: اَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَيَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللّهِ (آل عمران / 64)، وفي الحقيقة فان هذه ثلاث كلمات في حين ان القرآن الكريم يقول عنها انها كلمة واحدة، فهي في الواقع كلمة واحدة مطروحة من ثلاث زوايا، اي ان كلمة اَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ نجد تفسيرها في الكلمة الثانية حيث يقول تعالى: وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً اما تفصيل هذه الكلمة فنجده في قوله عز من قائل: وَلاَيَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللّهِ.

وتفصيل ذلك ان عبادة الله تعني الخضوع له، وهذا الخضوع يتنافى بطبعه مع الاشراك بالله، فالذي يشرك بالخالق لايمكن ان يخضع له بل يخضع لما يشرك به، اما اذا ادعى شخص انه لايشرك بالله شيئا ثم يخضع للطاغوت، ويتخذ اربابا من دون الله، فهذا الانسان لايمكنه ان يدعي انه موحد، فالذي يتبع سلطة غير الهية ينطوي اتباعه على الشرك الخفي.

وهكذا فان عبادة الله تتجلى وتتبلور باخلاص العبودية له وعدم الشرك به،

ص: 153

وفي عدم قبول ولاية غير ولايته، وقيادة لاتنبعث من قيادة الله عز وجل وولايته، ولذلك فان الاسلام عندما امر البشرية ان تتبع طريق التوحيد فانه ذكر لهذا التوحيد شروطا؛ فانت عندما تتبع قيادة غير الهية، واماما ما انزل الله به من سلطان، وتخصع لقوة مادية في الارض فكيف يمكن ان تعتبر نفسك موحدا وعابدا لله جل شأنه في حين انك لم تخلص الدين له؛ اي لم تخلص العبودية في الحياة لله في سلوكك، وقيادتك.

ومن هنا ندرك ان الايمان، هذه الحقيقة الكبرى، لابد ان ينبسط ضمن حقائق وتجليات اخرى نستطيع ان نفهمها، ومن هذه الحقائق العبادة فهي بدورها لاتعني مجرد السجود او الركوع او التبتل فهذه مظاهر من مظاهرالعبادة التي تعني فيما تعني عدم الاشراك بالله، وان يتخذ الانسان دينه خالصا لله جلا وعلا، وهذا يستلزم بدوره ان لا يتخذ بعضنا بعضا اربابا من دون الله.

***

ص: 154

الفصل الثاني: الطاعة من الحقائق الايمانية

اشارة

ماهو برنامج التكامل الذي يوصي به القرآن الكريم، وكيف يمكننا ان نعرج الى الله سبحانه وتعالى، ونزكي انفسنا، ونطهر قلوبنا؟

ان الانسان لا يمتلك الا فرصة واحدة لاحداث هذا التحول، فهناك في الاخرة ملايين السنين في انتظارنا لا نعرف كيف سنعيشها، فمن استطاع ان يغير نفسه او ما فيها في هذه الفرصة القصيرة استطاع ان يعيش في سعادة وفلاح خلال تلك السنين الطويلة، بل ذلك العمر الخالد.

ابرز برامج القرآن:

وتعتبر الطاعة من ابرز برامج القرآن الكريم في موضوع التكامل والتسامي، والتحول الذاتي، وهي من ابرز تجليات الايمان بل الصورة الاخرى لحقيقة الايمان؛ فهو في حقيقته يمثل خروج الانسان من سجن الذات وان يوق الانسان

ص: 155

شح نفسه حسب تعبير القرآن الكريم، ويعيش مع الحقائق، لا ان يعيش في وساوسه واهوائه وشهواته وانانياته بل يحيا مع هذا المهرجان العظيم في الحياة الا وهو مهرجان الايمان.

ان كل شيء حق، وانا ايضا حق ولكن بقدري، والايمان هو ان يعيش الانسان هذا الحق، وان يعترف به، ويكيف نفسه معه، اما الانسان الكافر فانه لا يعيش الا ذاته، ولا يؤمن ولا يعترف ولا يقر بشيء الا بنفسه، في حين ان الانسان يجب ان يعيش مع الحقائق وان يأخذ بنظر الاعتبار غيره، وفي هذا المجال يقول احد علماء التربية الغربيين انه يكفي الانسان عندما يدرك ويبلغ سن الرشد ان يعطى له مجهر وتلسكوب، فبالاول يرى الاجرام المتواضعة، والمتناهية في الصغر، وبالثاني يرى الاجرام الفضائية المتناهية في الكبر، وهذا العالم يقترح ان ينظر الانسان في المجهر ليرى في الجانب الاخر قطرة من نطفته ليكتشف اي شيء كان، ثم يوضع امامه جهاز اخر ينظر من خلاله الى هذه الآفاق الواسعة، ليدرك من كان، وكيف اصبح، وما هو حجمه بالنسبة الى هذا الفضاء اللامتناهي؟

ان الانسان لو عرف ذلك لتراجع الى حقيقته، واعترف انه ليس وحيدا في هذا العالم، وان هناك اخرين فيه، وهكذا فان اهم حقائق الايمان ان يقف الانسان عند حجمه الطبيعي، وحينئذ ينزاح عنه ذلك التضخم، والغرور، والتكبر، ليعيش في

واقعه، وضمن اطار حجمه الطبيعي، والقرآن الكريم يبين لنا كيف يمكننا ان نعيش واقعنا من خلال الايمان، فكيف نؤمن، وما هي علامة الايمان؟

ص: 156

الطاعة والايمان صنوان لا ينفصلان:

ان الطاعة كما قلنا هي من ابرز علائم الايمان، ولذلك فان القرآن الكريم يربط دائما بين الطاعة والايمان من مثل قوله تعالى: قُلْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ فإِن تَوَلَّواْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِين (آل عمران / 32)، وعلى هذا فان هاوية الكفر تقع في الطرف الاخر من الطاعة، فحذار من ان نقع في هذه الهاوية السحيقة، فالطاعة تستدر الرحمة لانها علامة الايمان، والايمان هو الرحمة الالهية.

وفي سورة آل عمران يقول عز وجل في هذا المجال: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (آل عمران / 132)، فاذا ما رأينا العذاب يحيط بمجتمع ما فان علينا ان نعلم ان هذا المجتمع لا يؤدي فروض الطاعة لله ورسوله، وقد جاءت كلمة (الله) قبل (الرسول) للدلالة على ان طاعة الرسول هي من طاعة الله، وان طاعة الله عز وجل لا تتحقق الا بطاعة الرسول، اما العصيان ففيه النهاية والعاقبة السوء كما يشير الى ذلك عز من قائل في قوله: وَأطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا (المائدة / 92)، اي انكم ان تركتم الطاعة لله والرسول فان هناك مصائب وويلات علينا ان نحذرها.

وفي آية اخرى يقول تعالى: قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوْا فإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَا حُمِّلْتُمْ (النور / 54)، فالتحميل هو المسؤولية الكبيرة التي يصعب على الانسان اداؤها، وقد حمل الله سبحانه وتعالى رسوله مسؤولية ابلاغ الرسالة الينا، وهنا تنتهي مسؤوليته (صلى الله عليه وآله) لتبدأ مسؤوليتنا نحن، فاذا سمعنا الرسول ينادي فعلينا ان نستجيب: رَبَّنَآ إِنَّنَا

ص: 157

سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِِيمَانِ أَنْ ءَامِنُوا بِرَبِّكُمْ فَاَمَنَّا (آل عمران / 193)، فدور الانسان يتمثل في الاستجابة للرسول: اسْتَجِيبُوا لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ (الانفال / 24).

الرسول ليس بسلطان:

وللاسف فان البعض لا يبادرون الى الاستجابة للرسول عندما يدعوهم، فيقدمون ويختلقون الاعذار الواهية التافهة، في حين ان الرسول ليس مسؤولا او وكيلا عنا، ولا يريد ان يفرض علينا نفسه، فهو ليس بسلطان لان السلطان يريد ان يتحكم فينا بأي شكل من الاشكال، ولذلك نجده يتوسل بكافة الوسائل لكي يحافظ على قدرته وسلطته، اما الرسول فانه ليس هكذا، فهو مبلّغ، يتلو القرآن: وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْءَانَ (النمل / 92)، فَذَكِّرْ بِالْقُرْءَانِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ (ق / 45) فهو لا يتجاوز دوره التذكير، والانذار، والبشارة، ولذلك يقول تعالى: فَإِن تَوَلَّوْا فإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ اي ما حمل من تبليغ الرسالة: وَعَلَيْكُم مَا حُمِّلْتُمْ من الاستجابة لهذه الرسالة؛ فكل عليه ان يؤدي واجبه.

وفي آية اخرى يصرح القرآن الكريم بان طاعة الرسول هي شرط لقبول الاعمال الصالحة، فاذا كان هناك شخص يصلي، ويصوم، ويحج، ويؤدي كافة الاعمال والواجبات الثابتة ولكنه لا يستجيب للرسول في المسائل الحياتية التي امر بها كأن يقول "حسبنا كتاب الله" ،فان الله جل وعلا يقول بشأنه: وَمَآ ءَاتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا (الحشر / 7)،

ص: 158

كما ان الاعمال الصالحة التي قام بها سوف تحبط وتذهب ادراج الرياح: وَقَدِمْنَآ إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً (الفرقان / 23).

وفي سورة محمد (صلى الله عليه وآله) يقول تعالى: يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ (محمد / 33)؛ اي ان من لا يطيع الله والرسول سواء في المتغيرات من الشريعة او الثوابت، او الاوامر التبليغية فان اعماله كلها سوف تذهب سدى.

نوعان من الاوامر

ومن آية في القرآن الكريم جاءت في سورة (المجادلة) نستنتج ان في الاسلام نوعين من الاوامر؛ نوعا في الثوابت، ونوعا في المتغيرات، ومثال النوع الاول: الصلاة، والصوم، والحج، والزكاة... اما المتغيرات فهي التي تتصل بتحولات الحياة مثل: اقامة الجمعة، والجماعة، وقيادة الحرب، والقضاء... وهذان النمطان من الاوامر الالهية كجناحي طائر ان بطل احدهما بطل الاخر، وفي هذا المجال يقول سبحانه: فَاَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَءَاتُوا الزَّكَاة َوَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ (المجادلة / 13) فالصلاة والزكاة هما نموذجان للاوامر الثابتة؛ اي الثوابت من الشريعة الاسلامية،

في حين ان طاعة الله والرسول هي محور الاوامر الولائية والقيادية المتصلة بالولاية الالهية لكون احدهما يكمل الاخر.

ونحن اذا اطعنا الله، واطعنا الرسول فان عاقبة الطاعة هذه ستكون على عكس عاقبة العصيان؛ فكما ان عاقبة العصيان تتمثل في بطلان الاعمال، فان عاقبة الطاعة هي قبول الاعمال الصالحة، وليس هذا فحسب بل ان الاعمال الصالحة اذا

ص: 159

كانت تعاني من بعض الثغرات فان هذه الثغرات سوف تسد وتردم بفضل طاعة الله والرسول وشفاعته، فتقبل هذه الاعمال، ولذلك يقول جلت قدرته في سورة الحجرات: وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لاَ يَلِتْكُم مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (الحجرات / 14) اي لا ينقص من اعمالنا شيئا لان الله غفور رحيم.

اقسام الطاعة:

والطاعة على اقسام؛ فهناك طاعة فرض، وهناك طاعة حب وولاء، والقرآن الكريم يريد ان ينمي في الانسان الطاعة المثلى الا وهي طاعة الحبيب لمن يحبه، فالاسلام يريد لنا ان نحب الرسول وآله، وقد اهتم بهذا الجانب الولائي اهتماما شديدا بهدف تنمية روح الطاعة العفوية التي تنبع من ضمير الانسان وداخله ووجدانه، وهذا ما يشير اليه عز وجل في قوله: قُلْ إِن كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (آل عمران / 31)، وهذه الاية تدل على نوع من انواع الطاعة وهو الطاعة الحقيقية.

ان الارتباط بين طاعة الله وطاعة الرسول هو ارتباط عضوي، فمشكلة البشر في الاساس لا تكمن في العلاقة مع الله في الظاهر، فمن من الناس لا يعترف بوجود الله؟ وحتى الكفار حينما تسألهم: من خلق السماوات والارض؟ يقولون: خلقهن العزيز الحكيم، فليست هناك مشكلة في الاعتراف بوجود الله، ولكن المشكلة الحقيقية هي ان الناس لا يريدون هذا الايمان متمثلا في طاعة

ص: 160

الرسول فيقولون: أَبَشَراً مِنَّا وَاحِداً نَتَّبِعُهُ (القمر / 24) وهذا هو الامتحان الصعب، وقد مر ابليس من قبل بهذا الامتحان ولكنه سقط فيه، فأبليس قال لرب العزة، اعفني من السجود لادم لحظتين، وسأسجد لك الفي عام، ولكن الله تعالى قال: لاحاجة لي بالسجود، انا اريد طاعة.

محور المجتمع الاسلامي:

ولذلك يقول سبحانه وتعالى: مَن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً (النساء / 80)، وهنا يكرر مرة اخرى ذات الفكرة وهي ان الرسول ليس مسؤولا عنا، فمن اراد ان يتولى فليتول، فالمهم ان يبلغ الرسول الرسالة، ثم يبين الله عز وجل بعد ذلك معنى الطاعة للرسول، فهي ليست الطاعة الظاهرية التي يبيت الانسان وراءها عصيان الرسول، بل هي الطاعة النابعة من نية خالصة، وفي هذا المجال يقول تعالى: وَيَقُولُونَ طَاعةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَآئِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَاَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً (النساء / 81).

ان طاعة الرسول تعتبر محورا للمجتمع الاسلامي، فهذا المجتمع يقوم على اسس من مثل اساس ولاية الله، واساس الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، واقامة الصلاة وايتاء الزكاة... فهذه كلها اسس بناء المجتمع الاسلامي الشامخ، ولكن هذا البناء برمته يقوم على اساس الاسس الا وهو الطاعة، فلو سلبنا الطاعة من هذا البناء لانهار مرة واحدة.

ص: 161

ثم يستأنف عز وجل قائلا: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَولِيَآءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ اوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمْ اللّهُ (التوبة / 71)، فالمؤمنون يتولى بعضهم بعضا، ويحب احدهم الآخر، ويتبادلون التأييد والنصرة، وهذه الولاية قائمة على قيم هي المذكورة في الآية السابقة، ومن هذه الآية نستنتج ان طاعة الرسول (ص) هي محور بناء المجتمع الاسلامي.

الطاعة فرض على الجميع

اننا عندما نتدبر في آيات القرآن الكريم نجد انه يضيء كل زوايا الموضوع الذي يتناوله، فلا يدع جانبا منه الا ويشبعه بحثا وبيانا لانه كتاب بلسان عربي مبين، يعرب عن الحقائق بوضوح، وهناك في هذا المجال فكرة خاطئة انتشرت لدى بعض الامم المتخلفة تقول ان الطاعة مفروضة على الرجال، اما النساء فعليهن ان يكتفين بطاعة اولياء امورهن من آبائهن، او ازواجهن، والقرآن الكريم يرفض هذا التصور، ويقرر ان الطاعة مفروضة على الجميع رجالا كانوا ام نساء، ولا دخل للعلاقات في هذا المجال، فهذه العلاقات مرتبطة بالدنيا لا بالآخرة، فعندما يقوم الانسان يوم

القيامة لرب العالمين تنقطع العلاقات والأنساب بين البشر: فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلآ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ (المؤمنون / 101)؛ فالانسان يهرب في يوم القيامة حتى من زوجته وابيه وابنه وجماعته.

ولذلك يقول الحديث الشريف: "لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق" ،والقرآن الكريم يشير الى هذه الحقيقة في قوله عن النساء: وَأَقِمْنَ الصَّلاَةَ

ص: 162

وَءَاتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ (الاحزاب / 33)، وقد قلت فيما سبق ان اهم محورين لثوابت الشريعة الاسلامية هما: الصلاة والزكاة، وان اهم محور للمتغيرات هو طاعة الله والرسول.

الطاعة واثرها في التكامل:

ان طاعة الله والرسول تنفعان الانسان في قضية هي من ابرز القضايا التي يحتاجها الانسان الا وهي قضية التكامل؛ فاذا اراد الانسان الكمال، واذا اراد ان يحدث تغير حقيقي في ذاته فعليه ان يلتزم جانب الطاعة، لان الكبر والغرور هما اعظم حجاب بين الانسان وبين الخلق الرفيع، فكل انسان يضمر ما اظهره فرعون، وقد وجد فرعون فرصة ان يدعي الربوبية، فكل واحد منا يملك في داخله فرعونا؛ فاعط الانسان الولاية، وضع كرسيا تحته، واجمع حوله عدة اشخاص، فانك سترى انه سينسى نفسه، ويدعي الربوبية كما ادعاها فرعون من قبل!

وتعتبر سورة التغابن من السور المهمة في القرآن الكريم، وهذه السورة تبين للانسان كيفية عدم وقوعه في (الغبن) يوم القيامة، لان هذا اليوم هو يوم الغبن،

ففيه يتأسف الانسان ويندم على ما فرط في الدنيا نتيجة لغفلته وخصوصا في ليالي وساعات شهر رمضان المبارك، فالشقي من حرم رضوان الله في هذا الشهر، ولقد بعنا هذا الشهر بالكلام التافه، واللغو، واللهو، فكانت النتيجة ان غُبنّا في ذلك اليوم، فندمنا ولات حين مندم، ولذلك فان هذه السورة تقدم لنا برنامجا للتسامي والتكامل فما هو هذا البرنامج؟

ص: 163

بنود برنامج التكامل:

يقرر تعالى ان في هذا البرنامج عدة امور اهمها محوران:

1 انتزاع حب الدنيا من القلب، او ان يكون حب الدنيا في الدرجة الثانية على الاقل بعد حب الآخرة.

2 الطاعة؛ فاذا استطعنا ان نوجد في داخلنا روح الطاعة، والاستجابة، وننتزع من انفسنا الكبر والغرور والانانية والذاتية فاننا نكون بذلك قد بدأنا رحلة الصعود والنمو، رحلة التخلص من الكبر، والعجب، والتفاخر بالمظاهر المادية، فان كان لدينا فخر فلنؤخره الى يوم الحساب عندما ترجح اعمالنا الصالحة على السيئة.

وفي آيات اخرى من هذه السورة المباركة يقول تعالى: يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلاَدِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ (التغابن / 14)، فقد يربي الانسان في بيته ذئابا فاذا به يعمل، ويتعب نفسه دون ان يحصل على نتيجة بل انه قد يربي انسانا يسلب منه دينه ودنياه، وبالطبع فان المقصود ليس كل الزوجات،

والاولاد، ولكن الله تعالى يطلب من الانسان ان لايسترسل، ولا يطيع زوجته واولاده على حساب قيمه ومبادئه خصوصا وان حب الازواج والاولاد مترسخ في نفوسنا، وهذه فتنة لنا كما يقول تعالى: إِنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ (التغابن / 1615).

ص: 164

التقوى أفضل برنامج:

والقرآن الكريم يشير هنا الى البرنامج الروحي والتربوي الذي على الانسان ان يلتزم به بقوله: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ؛ اي ان علينا ان نلتزم بالتقوى ما استطعنا الى ذلك سبيلا، وهذا هو المحور الاول في البرنامج التربوي.

اما المحور الثاني فيتمثل في قوله تعالى: وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا، وربما يقول احدنا متذرعا في هذا المجال انه لم يقرأ، ولم يفهم، ولم يدر ما قاله الله، وما تحدث به النبي (صلى الله عليه وآله)، وكيف خطط الاسلام، وبرمج القرآن. وفي هذه الحالة علينا ان نتعلم، ونتفقه، والا فلماذا منحنا الله عز وجل نعمة الابصار، والسماع، والفهم، والادراك المتمثلين في العقل؟، لقد اعطاها لنا لنتعلم.

ثم يستأنف السياق القرآني الكريم قائلا: وَأَطِيعُوا وَأَنفِقُوا خَيراً لأَنفُسِكُمْ (التغابن / 16) واذا ما قمنا بهذا العمل، واستطعنا ان نتقي الله، ونسمع، ونطيع، وننفق فستكون النتيجة هي ما يشير اليه تعالى في قوله: وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (التغابن / 16)؛ اي ستكون النتيجة ان نخرج من

شح ذاتنا، هذه الشرنقة المحيطة بنا، لننطلق الى رحاب الفلاح الذي يمثل ذروة السعادة في الدنيا والآخرة.

***

ص: 165

الفصل الثالث: حقائق حول الايمان

اشارة

ان النظريات العلمية التي تحاول كشف الحجب والاسرار عن بدء الحياة، وكيفية سيرها نحو التطور والتكامل فوق هذه الارض، خرجت لنا بنتيجة هي زبدة النتائج؛ وهي انها كشفت لنا جانبا من سنة الله سبحانه في تطور الحياة وتكاملها.

ولو افترضنا ان هذا التطور والتكامل يمثلان نظرية متكاملة، تتناول مختلف ابعاد الحياة فان هذا الافتراض لا يتنافى مع خلاصة الفلسفة الالهية، اي وجود الحي القيوم المهيمن على التطور، والحاجة المآسة اليه.

حاجة دائمة:

والبشر على مر تأريخهم ورغم ما خاضوه من صراعات ومعتركات فكرية بين

ص: 166

فلاسفتهم وعلمائهم ومفكريهم لم يستطيعوا ان يخرجوا بنظرية رغم انهم قد حاولوا ذلك مرارا تثبت عدم حاجة الانسان الماسة والفطرية الى البارىء الخالق القيوم، والمدبر المهيمن، هذه الحاجة التي نعيشها دائما، ونحس بها جميعا في كل لحظة من لحظات عمرنا.

ومع ذلك فان تلك النظريات العلمية تبقى مكملة للنظرية الدينية، او بعبارة اخرى؛ الجناح الاخر الذي يستطيع الانسان به وبالدين ان يحلق ويسمو في آفاق المعرفة.

ومع كل ذلك فانه ما يزال هناك لغز غامض يشكل حجر عثرة امام كل نظرية علمية تبحث في هذا المضمار؛ هو سر تكون الحياة، ونشأتها الاولى، وفي هذا المجال استطاع العلماء من خلال اختباراتهم وتحليلاتهم وضع نظريات تفسر نشأة الارض، واصلها، وكيف انها انفصلت عن امها الشمس، ثم كانت الزلازل الهائلة، والتقلبات الحرارية اسبابا لتكون الجبال والبحار والسهول ومختلف التضاريس الارضية.

وهذه النظريات قد تكون صائبة او خاطئة مادامت نظريات لاحقائق وقوانين مجزوما بصحتها، ولكن على فرض صحتها يبقى السؤال الذي حير العلماء، واتعبهم، ولم يجدوا الجواب الشافي له وهو: كيف تكونت الخلية الاولى وحسب ادعاء ان اصل الحياة هو مجرد خلية بسيطة؟ ثم كيف دبت الحياة في هذه الخلية؟ ويبقى ايضا السؤال عن سر الاسرار وهو: ما هو كنه هذه الحياة وما هي حقيقتها؟ وهذا ما عجز العلم عن الاجابة عليه الى يومنا هذا رغم الخطوات الهائلة الجبارة التي خطاها

ص: 167

في مضمار التقدم.

نعمة ربانية:

هذا في حين ان القرآن الكريم يؤكد على هذه الحقيقة دائما فيقول: وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ (الحج / 66)، فمن اين لنا الحياة لولا هذه النعمة الربانية المتمثلة في جعل الميت حيا، والحي ميتا؟ اننا نرى الانسان يجمع الاموال، ويظلم الناس، ويركض ويلهث وراء الدنيا كي يبقى خالدا ما امكنه لكنه لابد من ان يصطدم يوما بصخرة الاجل، وهو ما كتبه الله تعالى الذي قهر عباده بالموت والفناء مهما بلغوا من العظمة والقوة والمنعة، ومهما جمعوا من اموال وثروات.

ان المجهولات الكثيرة مازالت تلف آفاق العلم الواسعة وخاصة في مجال الطب، والاحياء، وعلى سبيل المثال لا الحصر فان علماء الطب والبيولوجيا يقفون اليوم حيارى امام معرفة اسرار مرض السرطان او المسمى ايضا بمرض فساد الخلية؛ فما

هي اسباب هذا الفساد، ثم كيف تنتقل حالة الفساد هذه من خلية الى اخرى فتنتشر في العضو، او النسيج المصاب؟ ان هذا هو مالا يعرفونه، واذا ما قالوا شيئا فهو مجرد حدس وتخمين.

سر الحياة:

وعلى هذا فان سر الحياة في الخلية الواحدة ما زال غير مكشوف لحد الان فضلا عن سرها في الوجود الانساني، والحلقة المفقودة بين الانسان والقرد باقية من ايام

ص: 168

"دارون" وحتى يومنا هذا، وليس لها حل سوى ما بينه، وصرح به القرآن الكريم اذ يقول بشأن كيفية خلق آدم: فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (الحجر / 29).

فالقرآن الكريم يؤكد ان هناك تحولا نوعيا في حركة تكامل الحياة، وقد دخل هذا التحول في بناء الانسان، فهو وجد كما ان الحياة هي الاخرى وجدت بنفخة الهية وربانية.

وهنا لابد من ان ابين حقيقة مهمة للغاية وهي ان الحياة تكاملت بصورة تدريجية وطبيعية في الاحياء المختلقة ابتداء من ذات الخلية الواحدة، وحتى اللبائن المتطورة، في حين ان التكامل في الانسان جعله الله عز وجل بصورة قفزة نوعية؛ اي ان الله منحه قفزة نوعية ثم اوكل اليه امر التكامل العقلي. فالانسان عندما خلق لم يخلق بالمواصفات التي تمتلكها بقية الحيوانات، والتي تؤهلها لمواجهة ظروف البيئة الطبيعية.

ميزة العقل:

على ان الانسان خلق بميزة خاصة تفوق جميع الميزات وهي العقل، فلقد منح الانسان العقل الذي به واجه الطبيعة، وظروفها القاسية، بل انه كيفها لصالحه، وبهذا العقل طار الى رحاب الفضاء، وبه طوى المسافات الهائلة، وسبق الزمن، وانشأ الحضارات العريقة، والعمران الهائل على الارض.

وهكذا فقد خلق الانسان متكامل الخلقة، وفي احسن تقويم، ومنذ تلك اللحظة خوطب ان لابد لك ايها الانسان من ان تبلغ درجة الكمال بعد ان

ص: 169

اعطيت الكمال الجسمي، وان تتعلم وتفهم وتبصر وتدرك وتسمو بعقلك لكي تبلغ الكمال ما امكنك، كما يشير الى ذلك قوله تعالى: اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأََكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (العلق / 43). فالانسان ليس كالحيوان الذي لا حاجة له الى القراءة والكتابة والتعلم، فكل ما يملكه الحيوان من معرفة انما هو ذاتي فطري، في حين ان الانسان عليه ان يقرأ ويكتب ويتابع ويبحث لكي يتعلم ويفهم. فالمعرفة والعلم ليس امرا فطريا وغريزيا لدى الانسان، بل يتحصل ب (القلم) الذي يشير اليه عز وجل في قوله: الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (العلق / 54).

ومن عجائب دماغ الانسان رغم حجمه الصغير انه يتسع لما لا نهاية له من العلم والمعلومات، ومهما عمّر الانسان، وبلغ من درجات العلم والمعرفة فان دماغه لا يكون قد استنفد طاقاته في تحصيل العلم والمعرفة، وهذه الحقيقة يشهد بها العلماء الكبار فهم يؤكدون ان الانسان حين يموت لم يكن قد استثمر من طاقاته العقلية سوى واحد بالمائة فقط.

دنيا التحديات:

أليس حريا بنا بعد ذلك ان نستخدم هذه الطاقات الهائلة الكامنة في ادمغتنا، واذا تسنى لنا هذا الاستخدام فكيف يمكن ان يكون؟

الجواب على هذا التساؤل نجده في نظرية التحدي والاستجابة للتحدي والتي مفادها ان الانسان يكون في البدء خاملا من حيث الطاقة العقلية والتفكير، ولكنه حالما يصطدم بظروف الحياة المختلفة تبدأ طاقات عقله بالتفتح، فالانسان منذ ان

ص: 170

اعطي العقل، وراح هذا العقل يتفتح على الحياة كي يخوض غمار ظروفها المختلفة، كان عليه ان يتحدى الزمن والظروف الصعبة، والمشاكل المحيطة به لكي تنمو قابلياته، وتتفتح افكاره، ولذلك كانت دنيانا هذه هي دنيا التحديات والافعال وردود الافعال، دنيا لا بقاء فيها الا للمتطور والمتفوق.

والى يومنا هذا ما يزال هناك من البشر من يعيشون حياة بدائية؛ يكتسون بأوراق الشجر، ويصطادون الحيوانات بالرماح وربما يأكلون لحومها نية. في حين نجد ان هناك شعوبا استطاعت ان تغزو الفضاء بعقولها، وتصل الى القمر، وتصنع العقول الالكترونية، والفرق والاختلاف هو ان البشر البدائيين لم يستجيبوا للتحدي بعد، في حين عاش ذلك الانسان المتفتح عقليا حالة التطور والتقدم فتيسرت له سبل الحياة، واضمحلت امام قوته العقلية الجبارة كل الصعوبات، والظروف القاسية.

وهكذا فان الحياة انما هي لمن يستطيع ان ينمي ويطور نفسه وينهض بوضعه الى ما هو افضل، ومن هنا لا يجوز لنا ان نلعن الزمن، ولنلعن بدلا من ذلك جمودنا وتقصيرنا والروح اللامسؤولة فينا. فكل منا مسؤول عن نفسه، فاذا طوّر احدنا نفسه فان الغير سوف لا يستطيع السيطرة عليه. فلغة التحدي والاستجابة للزمن وتحولاته هي اللغة التي يجب ان نتحدث ونتسم بها، وهي اللغة التي يجب ان يفهمها كل مسلم في امتنا، ذلك لان الله جل وعلا حين خلق الدنيا، واوجد الحياة، جعل لحركتها وسيرها سنّة التطور والتكامل، فاذا ما واكب الانسان هذه المسيرة في الحياة فهذا هو المطلوب، ولكنه لو شاء ان يبقى مكتوف الايدي ازاء التطور والتحول نحو الافضل فلابد ان يصبح ضحية اولئك الذين

ص: 171

سبقوا الزمن ليتسلطوا على مقدراته وامكانياته.

ان الاسلام لا يخاطب الطاغية بل يخاطب المظلوم الذي يرزح تحت جور هذا الطاغية، ويطلب منه ان لا يسكت لكي لا يقع فريسة الظلم، فهو يخاطبه قائلا: لا تكن عبد غيرك وقد خلقك الله حرا. فلندع التأسف، والبكاء الذي عشناه طيلة هذه السنين، فالاحرى والاولى بنا ان نجتمع ونفكر في كيفية علاج مشاكلنا، وتغيير نفوسنا، والبدء بتأريخ جديد مشرق في حياتنا، فالله سبحانه هدانا الى الطريق في القرآن، ومنحنا العقل، فلنحمل جميعا اعباء مسؤوليتنا الكبرى، ولنجدد الهمم والعزائم.

همٌّ

وعندما يحمل الانسان قضية كبرى فانه يحمل في نفس الوقت هما عظيما، على ان الله عز وجل سوف لا يتركه وحيدا بل سيعينه عندما يرى فيه الجد والعزم والطموح والتطلع، اما عندما يخلق الانسان لنفسه نظرية، او مجموعة نظريات لا تمت بأدنى صلة الى الدين والحضارة، فعليه ان لا يتوقع العون والامداد الالهي الغيبي، لانه سيكون في هذه الحالة موضع سخط الله.

فلنكن جديين، ولنتحل بالروح الطموحة المثابرة، وهذا هو القرآن الكريم يدعونا في سورة البلد المباركة الى احداث هذا الانقلاب، والتغيير في انفسنا، حيث يبدأ سبحانه هذه السورة بالقسم قائلا: لآ أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (البلد / 1) والمراد بالبلد هنا البلد الحرام، وربما كل بلد وحضارة. فالتعبير هنا ليس اعتباطيا، فكل بلد او حضارة بحاجة الى مقومات حضارية، فالحضارة لا

ص: 172

تخرج الى الوجود تلقائيا بل بفعل عوامل ومقومات معينة.

ثم ينتقل السياق قائلا: وَأَنتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ (البلد / 32) ومن المعلوم ان الولادة لاتتم الا بعد تحمل التعب والارهاق، والله سبحانه يقسم بالبلد الذي لم يوضع فيه حجر على اخر إلا بصعوبة.

ثم يستمر السياق الكريم ليؤكد الحقيقة السابقة: لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ (البلد / 4) فالانسان محاط بالصعاب والمعاناة والتحديات والالام الكثيرة، فلقد خلقه الله واحاطه بهذه الظروف ليظهر حقيقة معدنه، وليجعل منه بطلا في ساحة الصراع،

ولذلك كان لابد للانسان من ان يجهد عقله، ويوسع آفاق فكره، ويبعث الحركة المستمرة، والنشاط في عقله، بل ويشحن بالحركة والهمة كل وجوده وكيانه.

ثم يتساءل السياق مذكرا: أَيَحْسَبُ أَن لَن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (البلد / 5) فقد يتصور الانسان انه في امان من تلك الصعاب والتحديات في حين ان هذا الامان لن يحصل عليه الا بقوته بعد التوكل على الله، وبهذين الشرطين الاساسيين ينال الانسان الامن والعافية.

وبعد ذلك يقول عز من قائل مؤنبا، ومذكرا ببعض النعم العظيمة التي وهبها للانسان: أَلَمْ نَجْعَل لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (البلد / 108) فلماذا اعطي الانسان العينان، ألرؤية الطريق المستقيم أم السقوط في الهاوية؟ وكذلك الحال بالنسبة الى اللسان والشفتين وفوق كل ذلك العقل الذي خص بنعمة الاختيار والحرية، ترى من اجل اي شيء اعطي

ص: 173

الانسان كل هذه النعم، أليس من اجل ان يقتحم ويخوض غمار هذه الحياة؟ كما يشير الى ذلك قوله جل شأنه: فَلاَ اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَآ أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (البلد / 11 12).

والقرآن في هذه الاية يضرب مثلا يستثير به همة الانسان؛ فهو عندما يريد ان يتسلق جبلا فلابد له من اقتحام العقبات التي تعترض طريقه، بأن يجتهد ويستجمع قواه ويهيء نفسه لهذا الاقتحام، وكذلك الحال بالنسبة الى الانسان الذي يريد ان يحيى في هذه الدنيا حياة الايمان، فمثل هذه الارادة ليست كلمة يرددها اللسان بل هي اعتقاد في القلب يتجسد عملا وبذلا وعطاء.

إقتحام الصعاب ثمن الجنة:

ان الايمان هو حيوية وفاعلية وروح اقتحامية وتحد، والله سبحانه عندما خلق الجنة والنعيم وما فيهما من ملذات لا يمكن ان يتصورها العقل، لم يخلقها الا لذوي الهمم، والعزم الراسخ، والابطال الذين يقتحمون الصعاب. اما الجبناء المنهزمون فليس لهم نصيب يذكر من هذا النعيم. فالذين يمنون انفسهم ويعيشون على هذه التمنيات لا يشمون حتى نسيم الجنة، فلابد من دفع الثمن الا وهو اقتحام العقبات: إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِاَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ (التوبة / 111).

ففيما مضى كانت قيمة العبد كقيمة اثاث المنزل ومن العقبات التي يشير اليها القرآن الكريم هي تحرير العبيد فَكُّ رَقَبَةٍ (البلد / 13) يشترى ويباع، وتمنع حريته بكل اشكالها، ولذلك فان انقاذ هذا العبد، وعتقه، واطلاق حريته كان

ص: 174

يعد من الاعمال العظيمة عند الله، وفي مواضع عدة من القرآن شهادات على عظمة هذا العمل وثوابه الجزيل، كما كان دأب ائمتنا (عليهم السلام) في نيل الثواب اللجوء الى هذه الوسيلة.

اما اليوم حيث تبدلت الظروف، وتغيرت معها سبل استعباد الناس، فان الناس لا يستعبدون كأفراد بل كجماعات وشعوب تسترقها مجموعة من الحكام الطغاة، ونحن بأمكاننا ان نساهم بتضحياتنا، وبذل اموالنا، ودمائنا في انقاذ شعوب الارض المستعبدة والمضطهدة من نير الطغاة وتسلطهم واستغلالهم.

ثم ينتقل السياق الكريم قائلا: أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَنِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ (البلد / 1614) وهذه صورة ومجالات اخرى يتقرب بها الانسان الى ربه، وينال بها رضاه، ولكن السعي في الخير والخيرات لا ينتهي الى هذا الحد بل يجب الاستمرار فيه كما يشعر بذلك السياق التالي: ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (البلد / 17)

ان الصبر والتواصي به يعتبران من القضايا البالغة الاهمية، والبعض للأسف يقوم من حيث يشعر او لا يشعر اثناء عمله وحركته الجهادية بنشر الروح السلبية المثبطة في المجتمع، والقرآن هنا ينهى عن هذه الحالة من خلال الامر بالتواصي بالصبر، ولذلك ينبغي على الانسان المجاهد ان يوصي اخوانه بالصبر في احلك الظروف، والى اخر خطوة في المسيرة الجهادية، ويشجعهم على الثبات والاستقامة.

ثم بعد الصبر تأتي المرحمة والتواصي بها؛ اي التواصي بالتراحم والمودة

ص: 175

بين الناس، والعطاء والايثار من اجلهم في ايام السلم. ثم يواصل السياق مسيره ليبين درجة هؤلاء الذين يعملون بهذه المجموعة من الوصايا، ويجسدونها في واقعهم المعاش فيقول تعالى: أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (البلد / 18)

مصير اصحاب المشأمة:

ثم يتوالى السياق الكريم ليصف الصنف الثاني من الناس، والذين هم في صفاتهم، وسلوكهم يقفون في الضد من الصنف الاول: وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِاَيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ

الْمَشْأَمَةِ * عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ (البلد / 2019) فالذين يطعنون بعمل الاخرين وجهادهم، ويكذبونهم، ويدّعون ان رسالتهم انما هي مجموعة دعايات وخرافات وأساطير، فانهم سيدخلون دهاليز تتأجج فيها نيران حامية حيث تغلق عليهم الابواب.

وفي الحقيقة فان حديث اهل جهنم حديث طويل عريض كما يفصله القرآن في الكثير من سوره وآياته، ومن تلك الصور التي يألم الانسان لسماعها هي انهم ينادون خازن النار مالكا فيقولون: يَامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ (الزخرف / 77) فلا يجيبهم ويبقون على هذا الحال سبعين الف سنة، وبعد كل هذه الفترة الطويلة يأتي الجواب من مالك فيقول: قَالَ إِنَّكُم مَّاكِثُونَ (الزخرف / 77).

ثم يطلبون من خازن النار ان يأذن لهم بالبكاء على انفسهم، فيستأذن مالك ربه لهم، فيأذن لهم الله، فيشرعون بالبكاء، ويبقون على هذه الحالة آلافا اخرى من

ص: 176

السنين، ثم يفصل كل واحد منهم عن الاخر، ويوضع في غرفة من غرف جهنم، وتوصد عليهم الابواب، فلا يتكلمون فيما بينهم، ولا يكلمون مالكا، ولا احدا من الخلق، فينساهم الناس، وينساهم الخالق، وهذا هو المراد منقوله تعالى في الاية السابقة:

عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ (البلد / 20).

***

ص: 177

الفصل الرابع: من وحي الايمان

اشارة

من المعلوم انه لا ارادة فوق ارادة الله تقدست اسماؤه، ولا يمكن لأية حادثه ان توقف مشيئته المطلقة في الكون، وقد اقتضت ارادته ان يظهر دين الحق على الدين كله، ولما كانت الأمور لاتجري الا وفق اسبابها فقد شاءت الارادة الالهية ان تتمثل هذه الاسباب في المؤمنين الذين سيتحقق بإذن الله على ايديهم ظهور الدين الحق.

صفات المؤمنين:

اشارة

وسنحاول فيما يلي وبالاستناد الى الآيات القرانية ان نذكر صفات هؤلاء المؤمنين عبر النقاط التالية:

ص: 178

1 التقوى:

وفي هذا المجال يقول عز من قائل: وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (الفتح / 26)، وقد جاءت هذه الصفة في مقابل الصفة التي اشار اليها تعالى في قوله: إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ (الفتح / 26)، فقد كان الجاهليون ينتصرون بدافع الحمية لذويهم سواء كانوا ظالمين أم مظلومين، اما التقوى فانها تدعونا الى ان نمد ايدينا لنتضامن مع كل انسان هو في مستوى التقوى أيا كان انتماؤه القومي.

2 الشدة مع الكفار، واللين مع المؤمنين:

فالانسان المؤمن يتعامل مع الكافرين تعاملا حديا، ومن جهة اخرى نراه يعتمد الرحمة والتسامح والايثار مع اخوانه المؤمنين كما يشير الى ذلك تعالى في قوله: أَشِدَّآءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ (الفتح / 29).

والرحمة ليست الا درجة رفيعة من الشفقة، واذا ما ارتفعت العلاقة من المستوى العاطفي الى العقلي عبر عنها ب (الرحمة)، فان اراد الواحد منا ان يمت الى الايمان بصلة فلابد من ان يعقد مع اخوته المؤمنين صلة الرحمة؛ فيسهر على مصالحهم، ويفكر في آلامهم ومشاكلهم، ويعيش واقعهم.

3 العبادة المتواصلة، وابتغاء رضوان الله:

ويشير عز وجل الى هذه الصفة في قوله: تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً

ص: 179

يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً (الفتح / 29)، فالمؤمنون ومن اتبع سيرتهم وانتهج نهجهم تجدهم دائما في حالة ركوع وسجود لله وحده لا من اجل الرياء بل من اجل ان يطلبوا الفضل والرضوان من بارئهم.

4 الانتصار للحق:

ان المؤمن الحقيقي هو الذي ينتصر لله ورسوله، وينتزع الحق من الغاصبين له، وهو الذي يضع يده على الزناد وجبهته على التراب وقلبه متصل برب العزة.

حقائق مهمة:

وفي هذا الصدد اي في صدد ضرورة ان يتمتع الانسان المؤمن بالمواصفات السابقة لابد من التذكير بحقائق مهمة هي:

اولا: تحقيق الاستقلال الحقيقي:

وهذا الاستقلال لايمكن تحقيقه الا بالايمان، لان الانسان الفاقد للايمان ليس بمقدوره ان يقاوم ضغوط الحياة وإرهاب الطغاة، وبالتالي فانه يعجز عن الحفاظ على استقلاله لانه في هذه الحالة سيحاط بالهزيمة من كل جانب، فالاستقلال

الحقيقي لايتحقق الا من خلال العمل الجاد، والسعي الدؤوب النابعين من الأمل، والثقة بالنفس، وعدم الاستهانة بالطاقات والقدرات التي نتمتع بها.

ص: 180

ثانيا: السرعة واختصار الزمن:

من المعلوم اننا نعيش اليوم في عصر يتميز بالسرعة والتسابق من اجل تحقيق

التقدم العلمي، كما اننا نعيش عصرا يقتضي من المجتمع البشري التعاون والتضامن من أجل تحقيق المصالح المشتركة.

وللأسف فان هناك طائفة من الناس ماتزال تقبع في اوكار فكرية تعود الى الماضي في حين اننا لابد ان نعرف قيمة الزمن الذي نعيشه، ونضع نصب اعيننا قول الامام علي (عليه السلام): "من لم يكن في زيادة كان في نقصان ومن كان في نقصان فالموت اولى به" ،فان كنا في حالة نقصان فان الذلة والمسكنة سوف تلازماننا.

ثالثا: استغلال الفن في التبليغ:

ان هناك افقين للتقدم؛ احدهما يشمل التقدم العلمي، والآخر هو الفن الذي يعتبر اداة فاعلة من ادوات نشر الفكر الرسالي.

وللأسف فاننا نعيش اليوم حالة شحة الفن الرسالي؛ فأين هو الشعر الذي يلهم حماس الجماهير، وأين المسرح الذي ينبغي ان يدافع عن قضايا المظلومين، واين القصة، وكتب الاطفال....؟

ان في ارجاء العالم الاسلامي عشرات الآلاف من القصص المأساوية والبطولية التي تصلح لان تكون مادة قيمة لتغذية الاعمال الفنية، وبامكانها ان تعطي زخما حضاريا للأمة الاسلامية، فالفن يجب ان يدخل اليوم ساحة الصراع ضد الجاهلية، وان يتحول الى سلاح لتوعية الجماهير، وتنبيهها الى المخاطر المحدقة

ص: 181

بها، والمؤامرات التي يحوكها ضدها اعداء الاسلام، وبالتالي فانه يجب ان يكون سلاحا لتوعية الجماهير واستنفارها، ووسيلة لبناء صرح الاستقلال الذي يعتبر بدوره جزء لايتجزأ من صرح التوحيد الشامخ الذي تتميز به الرسالة الاسلامية.

***

ص: 182

الفصل الخامس: الصفات المثلى للمؤمنين

اشارة

إِنَّ الَّذِينَ هُم مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُشْفِقُونَ * وَالَّذِينَ هُم بِاَيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لاَ يُشْرِكُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَآ ءَاتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * اوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ * وَلاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ

(المؤمنون / 57 62)

الآيات القرآنية الكريمة الآنفة الذكر تحوي بين طياتها صفات مثلى لا يبلغها إلا المؤمنون، بل الصديقون منهم فقط؛ ذلك لان للكمال درجات ومراحل، والقليل من الناس يتمكنون من الوصول الى بعضها.

ص: 183

من معاجز الايمان:

ومن معاجز الايمان، وآيات الصدق في رسالات الله عز وجل، وبالتالي آيات ودلائل صدق رسل الله الى البشرية، انهم استطاعوا ان يصنعوا أناسا بلغوا أعلى مراحل الايمان، ووصلوا الى أسمى درجات الصفات الحسنى. وعلى سبيل المثال فان تربية رسول الله (صلى الله عليه وآله)، لشخص كالامام علي (عليه السلام) كانت آية وحجة على صدق الرسالة، ولذلك قرر بعض العلماء ان عليا (عليه السلام) كان معجزة النبي (صلى الله عليه وآله)، بالاضافة الى ان النبي نفسه كان اعجاز الرسالة الالهية، وان حياته الشخصية منها والاجتماعية والسياسية تعتبر من أسمى آيات الكمال والجمال والجلال.

ونحن عندما نتلو بعض آيات القرآن الكريم التي تستعرض صفات المؤمنين العليا، فان البعض من أصحاب العقول الضيقة يزعم انها مجموعة تمنيات لا تتحقق إلا في عالم الاحلام، ولكننا لو عدنا الى التاريخ، وقرأنا سيرة الانبياء العظام، والأئمة الاطهار (عليهم السلام)، والعلماء، والصالحين، فاننا سوف لا نعرف فقط صدق هذه الآيات وانما نزداد ايضا ايمانا وتصديقا برسالات الله سبحانه وتعالى التي صنعت هذه النماذج العظيمة.

الخشية من الخالق:

وفي هذا المجال مجال استعراض الصفات المثلى للمؤمنين يقول سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ هُم مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُشْفِقُونَ؛ اي ان قلوبهم وجلة، ونفوسهم ملأى بالخوف، حيث قد انتشرت في ارجائها الخشية من

ص: 184

الله سبحانه وتعالى.

وقد ورد في هذا المضمار عن الحرث بن المغيرة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت له: ما كان في وصية لقمان؟ قال (عليه السلام): "كان فيها الاعاجيب، وكان اعجب ما كان فيها ان قال لابنه: خف الله خيفة لو جئته ببر الثقلين لعذبك، و ارج الله رجاء لو جئته بذنوب الثقلين لرحمك".

معرفة الله:

ومن المعلوم ان هذا المستوى من الرجاء والخشية من رب العالمين انما هو ناجم من معرفة الله، ونحن عندما لا نتحسس في انفسنا خشية الباري تعالى فلأننا لم نؤت معرفته، ولم نصل في معرفتنا به الى أدنى حدودها، اما العارفون بالله، الذين تمكنوا من الوصول الى ذلك النور البهي، فانهم لا يتكلفون الخشية لانها تصبح جزء من ذاتهم.

ومن يعرف جلال الله، وعظمته، وقدرته، واسماءه الحسنى، ويتصل قلبه بنوره، فانه لا يسعه الا ان يذوب في العبادة ذوبانا، فيشتاق الى اداء الصلاة اشتياق يعقوب الى يوسف، ذلك لان قلبه المليء بمعرفة الله جل جلاله لا يدعه يسكن ويركن الى هذه الدنيا الدنية، وبناء على ذلك فان تهجده في الليل، وصومه عن ملذات الدنيا، وزهده، ورغبته في الآخر كل ذلك يصبح جزء لا يتجزأ من ذاته.

وهذه الحالة تنسجم مع طبيعة المعرفة، وبالتالي فانها تمثل سنة الله في معرفة الانسان بربه، ولذلك نرى الآية الكريمة تصف المؤمنين بالاشفاق.

ص: 185

الايمان والتوحيد

ثم يقول عز من قائل: وَالَّذِينَ هُم بِاَيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ.

فاذا ابصروا آية من آيات الله فانهم لا يمرون عليها مرور البسطاء، ولا يعرضون عنها اعراض الجاهلين، بل يتعمقون فيها، وينظرون من خلالها الى وجه الله الكريم.

وتوحيد الله سبحانه عند هؤلاء المؤمنين لا يعني مجرد الامتناع عن السجود للاصنام، بل ان له آفاقا اخرى. فهم لا يحبون احدا إلا في الله، ولا يبغضون آخر إلا في الله. وهذه المعادلة تتسع عندهم لتشمل الابتعاد عن حالات الطاعة، والخضوع للآخرين، حتى تصل الى حد ابتعادهم عن مختلف انواع الضغوط والشهوات التي تعترضهم في حياتهم، وهو ما تشير اليه الآية القرآنية القائلة: وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لاَ يُشْرِكُون، وقد ورد في هذا المجال عن ابي العباس قال: "سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن أدنى ما يكون به الانسان مشركا فقال: من ابتدع رأيا فأحب عليه او أبغض عليه".

استصغار العطاء:

ثم يقول عز من قائل: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَآ ءَاتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ.

فمن الصفات الحسنة لدى المؤمن انه ينظر دائما وأبدا الى ان عطاءه قليل بالنسبة الى الجزاء الذي ينتظره، ثم من يقول ان عطاءه مقبول، وان ما عمله في سبيل الله قد اجتاز كل الحجب والحواجز التي يجب ان تمر الاعمال بها؟

ص: 186

وعلى سبيل المثال فان الصلاة تمر كما جاء في الروايات عبر سبعين حجابا ومركز تدقيق لينظر في حقيقتها، وقد ورد عن الامام الباقر عليه السلام في هذا الصدد قوله: "ان من الصلاة لما يقبل نصفها وثلثها وربعها وخمسها الى العشر، وان منها لما يلف كما يلف الثوب الخرق فيضرب بها وجه صاحبها، وانما لك من صلاتك ما اقبلت عليه بقلبك" ،ولذلك فان الانسان المؤمن لا يجد في عمله ما يتناسب مع رحمة الله وعظمته حتى وان سهر الليالي في التبتل، واجهد نفسه في طاعة الله.

المسارعة في الخيرات

ويذكر لنا تعالى صفة اخرى من صفات اولئك المؤمنين فيقول: اُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ.

فالمؤمنون الذين يعيشون خشية الله في قلوبهم، ويمتازون بروحية الاشفاق خشية ان لا تقبل حسناتهم، تراهم يسارعون في الخيرات، ويتسابقون مع الآخرين في القيام بالاعمال الصالحة، وتقديم العون الى الآخرين، وارضاء الخالق جل جلاله لانهم يعيشون دوما حالة الخوف والرجاء التي هي افضل دافع للانسان لفعل

الخيرات، وطاعة الخالق، وضمان له من الدخول في نار جهنم، ومفتاحه للدخول في جنات النعيم حيث رضا الخالق تعالى، والتمتع بنعمه الأبدية.

***

ص: 187

الفصل السادس: المؤمن وحب الله

اشارة

يعيش الانسان في حالة بحث دائم عن شيء اجمل من كل جميل، واسمى من كل سام، واقوى من كل قوي، فهو يبحث عن ضالته هذه منذ ان يولد، او على الاقل منذ ان يميز يمينه عن شماله حتى يلتحق بالرفيق الاعلى.

ويخيل للانسان ان ضالته هذه تتمثل في المال فيجهد نفسه في سبيل ان يحصل عليه ولكنه لا يلبث ان يكتشف ان المال ليس ضالته، فهو لم يستطع ان يشبع غروره،

ولم يملأ فراغه، فيزعم هنا ان المزيد من هذا المال كفيل بأن يشبع نهمه حتى يغدو شرها لا يشبعه شيء.

وقد يتصور الانسان ان القوة هي الهدف الذي ينشده، او ان الشهرة هي ضالته، حتى يكتشف في نهاية المطاف انها ضلالة وليست ضالة، حتى يعرف ربه، ويكنّ الحب له من دون تلك المظاهر المادية، وحينئذ يملأ هذا الحب قلبه،

ص: 188

ونفسه، وكل الفراغات التي يعاني منها حتى لا يجد في نفسه ذرة من الفراغ.

ومن المعلوم ان حبين لا يمكن ان يجتمعا في قلب واحد، فالذي يحب الله لا يحب شيئا اخر الا في سبيل الله وفي ذاته، والذي يجد ربه، ويصل الى مستوى حبه فانه مهما بحث لن يجد هناك شيئا يمكن ان يملأ فراغه لان قلبه قد ملىء حبا لله تعالى.

فقد روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) انه قال: "بكى شعيب (عليه السلام) من حب الله عز وجل حتى عمي، فرد الله عز وجل عليه بصره، ثم بكى حتى عمي فرد الله عليه بصره، ثم بكى حتى عمي فرد الله عليه بصره، فلما كانت الرابعة أوحى الله اليه: يا شعيب الى متى يكون هذا؟ ابدا منك؟ ان يكن هذا خوف من النار فقد أجرتك، وان يكن شوقا الى الجنة فقد أبحتك؛ فقال: الهي وسيدي انت تعلم اني مابكيت خوفا من نارك، ولا شوقا الى جنتك، ولكن عقد

حبك على قلبي فلست أصبر او أراك، فأوحى الله جل جلاله اليه: اما اذا كان هذا هكذا فمن أجل هذا سأخدمك كليمي موسى بن عمران (عليه السلام)"(1).

ولابد ان نعلم في هذا المجال ان الحب والبغض عمليتان اراديتان، واذا ما رسمنا خطة لحبنا وبغضنا، فاننا سنحب او نبغض حسب هذه الخطة التي رسمتها لنا عقولنا، والا فان حبنا سيتجه الى شهواتنا وهكذا الحال بالنسبة الى بغضنا، وهذه هي مشكلة الانسان.0.

ص: 189


1- بحار الانوار ج 12 ص 380.

التزامات حب الله:

وهنا يتبادر الى الذهن السؤال المهم التالي: ماذا نفعل لكي نحب، وماذا ينبغي علينا لو أحببنا ربنا كما تقول الاية الكريمة: وَالَّذِينَ ءَامَنُوا أَشَدُّ حُبَّاً لِلَّهِ (البقرة / 165)

اما كيف يحب الانسان ربه، فلابد من ان يذكره ذكرا كثيرا لكي يتعلق قلبه به، وحتى يرفع عن قلبه هذا غشاوة الشهوات والغفلة وزينة الحياة الدنيا، وحينئذ سيفيض الله عز وجل على قلبه من حبه ما يشاء، فاذا كان الانسان اعمى فهل ينفعه النور، واذا كان اصم فهل يصل اليه النداء الالهي، فالحجاب لا يدع الانسان يرى الله تعالى واذا ما زال هذا الحجاب فان كل شيء سيتضح لديه، وسيرى الحقيقة كما هي، ويوقن بها وكأنه يلمسها بيديه، كما قال الامام علي (عليه السلام): "لو كشف لي

الغطاء ما ازددت يقينا" ،وكما قال (عليه السلام) عندما سأله سائل: هل رأيت ربك؟ فقال (عليه السلام): ما كنت لاعبد ربا لم أره، فقال: هل رأيته بعينيك؟ فأجاب (عليه السلام): ويحك لا تدركه الابصار وهو يدرك الابصار، ولكن رآه المؤمنون ببصيرة الايمان والقلوب.

ان الانسان مجبول ومفطور على حب من احسن اليه، افلم يحسن الله الى الانسان، و هل غيّر عنه عادة الاحسان هذه، و هل دعاه فلم يجبه، و متى استغاث به فلم يغثه؟

ص: 190

تذكرة وقرب:

ان على العبد ان يتذكر نعم الله عليه، وهذه التذكرة من شأنها ان تزيده قربا من الله حتى يصل الى مرحلة المحبين، فانظر ايها الانسان وتذكر من خلال التأمل في خلق السموات والارض، والجبال كيف نصبت: أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَآءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (الغاشية / 2017)

اننا لو غيرنا مواضع هذه الجبال كيلو مترا واحدا لأختل توازن الارض، فقد وضعها الله سبحانه على عظمتها في مواقعها، والانسان المؤمن ينظر الى مظاهر الطبيعة فيرى فيها عظمة الله وقدرته اللامتناهية، وكلما خطا خطوة على الارض سبح الله، واثنى عليه، ووحده، وبالتالي فانه سيزداد حبا لله، ومعرفة به، فهو

عندما ينظر الى الاشياء فانه لا ينظر اليها كأشياء جامدة وميتة، بل وكأنها تحدثه بحمد الله.

وعندما يخلد الانسان المؤمن الى النوم، يفكر كيف استولت عليه حالة اللاوعي، وتراخت اعصابه، ونال قسطا من الراحة، وعندما ينهض يردد قائلا: سبحان الله، فقد كان من الممكن ان تسلب منه الروح الى الابد لان النوم هو الموت الاصغر، انه ينهض فيتذكر الحياة، ويتذكر انه ما يزال باقيا، ويتذكر في نفس الوقت ان ربه هو الذي احياه، وهو الذي سوف يميته.

وبهذا الاسلوب يزداد حبا لله، وبتعبير اخر؛ يزداد معرفة بالله، فهو عندما يعرف ربه يزداد حبا له.

ص: 191

آثار حب الله:

وهنا نجيب عن التساؤل الثاني: عندما تجد ربك، وتحبه، وتصبح اشد حبا له فماذا سيحدث في حياتك، وما هي الاثار التي سيتركها هذا الحب عليك؟

لاشك ان من ضمن هذه الاثار ان الراحة النفسية، والاطمئنان الروحي سيغمرانك اثناء الصلاة، فتصبح بالنسبة اليك حضورا عند رب العالمين، وعند حبيبك وانيسك، فالقلب يناجيه تعالى، واللسان يلهج بذكره، والنفس تنبض في اعمق اعماقك بالتكلم معه جل وعلا.

عندما ذهب موسى (عليه السلام) الى الشجرة ليأخذ منها النار، اندلعت بأسم الله سبحانه وتعالى فقال له عز من قائل: وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَامُوسَى

(طه / 17)، وهنا نسي موسى زوجته التي كانت تعاني آلام المخاض في البر، في حالة الضياع، ونسي نفسه وماضيه، ومستقبله، ووقف ليحدث ربه: قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَاَرِبُ اخْرَى (طه / 18)، فبدأ يحدث ربه ملتذا بهذا الحديث.

وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقف للصلاة الوقفات الطويلة حتى يقول اصحابه انه لا يصلي، ثم يركع ويطيل الركوع حتى يقول من حوله انه لا يركع... فكان قلبه (صلى الله عليه وآله) يلتهب حبا لله، ويشتعل ايمانا به ان صح التعبير.

ولذلك نرى ان المؤمنين الحقيقيين هم: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (آل عمران / 191).

ص: 192

لقد كانت افضل الساعات عند الامام الحسين (عليه السلام) تلك التي يلتقي فيها ربه اثناء الصلاة، ورغم ان جراح الدنيا وهمومها كانت تنزف في قلبه ولكنه كان يردد قائلا: "بسم الله، وبالله، وفي سبيل الله" ،فنهاية الشوق، ونهاية الامنيات والاحلام لدى الانسان المؤمن ان يلتقي بربه، فهو آنس بالموت من الطفل بثدي امه.

والامام علي (عليه السلام) انفلق رأسه، وتفجر الدم منه على اثر الضربة المسمومة التي وجهها اليه عدو الله، ومع ذلك نسي آلامه هذه وهتف قائلا: "فزت ورب الكعبة".

ان هذا هو الحب الحقيقي لله عز وجل، فلماذا نخشى المحن، والمصائب، والالام؟ لنكن كما كان يوسف (عليه السلام) عندما فضّل السجن على معصية الله قائلا: رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ (يوسف / 33).

والامام السجاد (عليه السلام) كان يقف في الصلاة فلا يتحرك ويناجي ربه قائلا: "الهي من ذا الذي ذاق حلاوة مناجاتك فرام منك بدلا".

الجسر الى النعيم:

الانسان المؤمن يحب كل شيء اذا كان في سبيل الله تعالى، وحتى النار فانها بالنسبة اليه جنة اذا كان فيها مرضاة الخالق، وبالطبع فانه عز وجل سيدخلهم جنانه الفسيحة حيث النعم الابدية، فلنبذل الجهد في تزكية انفسنا من اجل الوصول الى الجنة التي يعطى فيها الانسان المؤمن اربعين الف مدينة كل مدينة

ص: 193

فيها اربعون الف قصر، وكل قصر يختلف عن الاخر، وفي كل واحد اربعون الف غرفة، وفي كل غرفة اربعون الف سرير ومائدة يستطيع صاحبها ان يستضيف عليها اهل الجنة جميعا.

وربما كانت هذه الارقام هي ارقام الدنيا، فنحن لا نستطيع ان نستوعب ارقام الخلود التي لا نهاية لها، ولكن يكفي ان اقول ان الانسان المؤمن عندما يريد ان ينتقل من مملكته الواسعة في الجنة الى سائر الممالك فان هناك عشرات الملايين من الخدم

والملائكة، والحور العين، والاولاد المخلدين يقومون بخدمته في مركبه حيثما يتحرك..

وقد روي في هذا المجال ان المؤمنين يتحركون كلهم في ليالي الجمعة كل واحد من مدينته في الجنة فيتوجهون في البدء الى مقر رسول الله (صلى الله عليه وآله) لزيارته، ثم يذهبون الى العرش فيعطيهم الله عز وجل نعما جديدة كل ليلة جمعة، ويزيدهم معرفة، ورضا به، واطمئنانا في انفسهم، وهذا يعني انه اعظم نعمة يتلقاها المؤمنون في يوم القيامة هي زيارة عرش الخالق، لان الصلاة، والصوم، والمناجات وسائر العبادات كانت احب شيء الى نفوسهم في الدنيا.

وفي المقابل فان اعظم عذاب هو هجران الله سبحانه، ففي يوم القيامة يأتي النداء أن ممنوع على اي انسان ان يردد اسم الله، وهذه اعظم مصيبة من الممكن ان يبتلي بها الانسان، ولذلك يقول اصحاب النار: يَامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ (الزخرف / 77) فهم لا يقولون (يا رب) لان الحديث المباشر مع الله تعالى ممنوع عليهم، فيتوسلون الى خازن النار ان يسمح لهم بالتحدث مع الله بشكل مباشر.

ص: 194

وقد جاء في دعاء الافتتاح: "اذنت لي في دعائك ومسألتك فأسمع يا سميع مدحتي، واجب يا رحيم دعوتي، واقل يا غفور عثرتي" ،فأين نحن من هذه النعمة؟ وما قيمة الدنيا وما فيها في مقابل رضوان الله سبحانه وتعالى؟

في جوار الله:

ان المؤمن يعيش في جوار الله ليس في الاخرة فحسب وانما في الدنيا ايضا كما يصرح بذلك الدعاء الشريف: "وعذته من هجرك وقلاك وبوأته مقعد الصدق في جوارك، وخصصته بمعرفتك، واهلته لعبادتك، ووهبت قلبه لارادتك" ،فالانسان المؤمن لا يفعل شيئا الا بارادة الله عز وجل، فان قلت له: اين تذهب؟ قال لك: حيث يشاء الله، وان سألته ماذا تريد ان تفعل في المستقبل؟ اجابك: ما يقرره لي الله سأقوم به، وهذا هو الحب الحقيقي: الذي يصبح بالنسبة الى الانسان سجية، وفطرة طبيعية.

وهذا الحب هو الذي يدفع الانسان الى ان يعمل في سبيل مرضاة الخالق، وان يهون على نفسه كل مصيبة ومحنة مادامت في ذات محبوبه، ومادامت من شأنها ان تقربه اليه، وتجعله يفوز برضوانه، ونعيمه، كما ان هذا الحب هو الذي يجعل الانسان المؤمن متميزا عن الاخرين، مجتبى من قبل الله تعالى شأنه من بين الملايين من البشر، وهذه درجة عظيمة لا يمكن ان يبلغها الانسان الا من خلال تنمية خصلة الحب الالهي في ذاته.

***

ص: 195

الفصل السابع: الوعي القرآني سلم الايمان

اشارة

لما كان القرآن الكريم هو التجلي الاعظم للنور الالهي في الحياة البشرية فان مستوى استيعابه يختلف من انسان لاخر، وهو يتناسب مع عقلية الانسان، ونضجه الفكري، ولذلك فان طاقة الانسان العقلية، ومستواه الفكري، وقوة ادراكه كل ذلك هو الذي يحدد مدى استقباله وتلقيه للنور الالهي.

وفي سورة (الجاثية) المباركة التي يقول تعالى في الايات الاولى منها: حم (1) تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنْ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّ فِي السَّمَوَاتِوَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3) وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4) وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5) تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ (الجاثية / 61).

ص: 196

في هذه الايات الكريمة يؤكد الخالق المرة تلو الاخرى على ان الايات الالهية ليس بمقدور الجميع استيعابها وفهمها، لان الذي يغلق نوافذ بيته، ويسدل الستائر لا يمكنه الاستضاءة بنور الشمس؛ فالايات اذن ليست لكل الناس بل هي للمؤمنين الواعين الذين بلغوا مستوى الادراك والفهم، فارتقوا به سلم الايمان والتقوى.

فالايات اذن في السماوات والارض، ثم في النفس الانسانية والاحياء والموجودات التي تدب على هذه الارض، ثم تليها آيات الطبيعة المختلفة من حركة،

وجاذبية، وقوانين طبيعية، ونزول الامطار، وهبوب الرياح، وما ينجم عنها من مظاهر الحياة فهي ايضا آيات لقوم يعقلون.

أعظم صفة:

وبناء على ذلك فان هذا الكتاب الالهي المقدس الذي هو خاتم الكتب السماوية، هو مظهر لتجلي العزة الالهية، والحكمة الربانية، كما نستشف ذلك من بداية السياق المبارك: تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنْ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ، ومنه نستنتج كذلك ان القرآن يتصف هو الاخر بهذين الصفتين "العزة والحكمة".

ولعل اسمى ما يمكن ان يبلغه الانسان في حركته التكاملية في الحياة هو هاتان الصفتان العظيمتان؛ فهو يبغي القوة والعزة في نفس الوقت ينشد الحكمة، وعندئذ يمكنه تطبيق هذه الحكمة في شؤونه الحياتية من خلال تلك العزة والقوة.

ولتقريب هذه الحقيقة الى الذهن نقول ان الحكمة هي بمثابة العين الباصرة، والعزة هي القدم، وعند السعي والنشاط نحتاج الى الاثنين معا؛ أي الى قدم

ص: 197

نركض بها، وعين نبصر بها الطريق، ونحن لو استعرضنا الحياة وما يحيط بها لوجدناها قائمة على هاتين الصفتين.

والعزة هي اعلى وارفع صفات القدرة والتمكن في حين ان الحكمة تمثل اسمى مراحل ودرجات العلم والمعرفة والفكر والتنظيم، والقرآن الكريم كما قلنا هو تجل

لهاتين الصفتين الالهيتين، ونحن ان لم نكن بمستوى تلقي واستيعاب هذا النور الالهي فانى لنا الانتفاع منه، وكيف نستلهم من هذا القرآن وآياته البينات؟

ان القرآن الكريم يستعرض الايات في السماوات والارض ثم يقرر انها لكل الناس شريطة ان يبلغوا المستوى الاستيعابي والادراكي المطلوب، والا فانها موجهة الى خاصة من الناس هم اولئك الذين بلغوا المستوى المطلوب وهم المؤمنون الذين يتمتعون بقابلية التلقي والفهم، والذين يخشعون للايات فهم يعيشون حالة التسليم والتقبل.

من هو المؤمن:

ان المؤمن هو ذلك الانسان الذي آمن بالرسالة، والقرآن والايات الالهية، وهو بأيمانه هذا باستطاعته ان يتغلب على هوى النفس وشهواتها، فقد تمكن من نفسه، وترفع عن ذاته، فملك زمامها، فالذي يوجهه في حركته وسعيه هو العقل، والطاقة التي تسيره هي الارادة، فالعقل اذن هو مطية المؤمن، والارادة قوته، وبناء على ذلك فان الايات موجهة للمؤمنين.

ومن ذلك نستنتج اننا بحاجة الى امرين مهمين هما؛ الايمان وهو الاخذ بزمام

ص: 198

النفس والسيطرة على شهواتها، واليقين وهو الانسجام والعيش باستقرار وطمأنينة مع الحقائق والتبصر بها والانشداد اليها. والانسان عندما يخضع نفسه ويسيرها وفق العقل فانه سيصبح مؤمنا، وبعد هذه المرحلة يتحرك في المسار التكاملي نحو الحقائق الرفيعة، وحين يقترب منها يكون قد بلغ درجة اليقين.

على ان هذا اليقين وحده لا يكفي، وهذا ما نراه في استمرار السياق القرآني وانتقاله الى عرض جديد: وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ.

اذن فاليقين هو ضياء ينبعث على قلب الانسان، وهذا الضياء قد تتلقاه بعض القلوب لفترة، ثم يبدأ بالانحسار عنها شيئا فشيئا حيث تهبط درجة اليقين، وفي المقابل نجد ان هناك قلوبا تحتفظ بهذا الضياء ليبقى فيها طاقة كامنة مخزونة؛ فالقلوب الاولى هي كأرض ملساء، او صخرة صلدة لا تحتفظ بالمطر اذا ما هطل عليها، في حين ان الثانية مثلها كمثل الارض الطيبة الخصبة تمتص ماء المطر، وتحتفظ به ليبعث فيها الروح والحياة.

قريبون من الحقائق ولكن!

والذي اراه اننا في دنو من الحقائق الساطعة، وقريبون من الحقيقة العظمى، وعلى مقربة من الله سبحانه خالق كل ما في الكون من الحقائق، وواضع سننها، كما يشير الى ذلك دعاء ابي حمزة الثمالي: "وان الراحل اليك قريب المسافة، وانك لا تحتجب عن خلقك الا ان تحجبهم الاعمال دونك".

ص: 199

اننا تحت نظر الله جل وعلا اينما كنا، وهو يشاهدنا، ويراقبنا، بل هو معنا اينما كنا: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ (الحديد / 4)، ولكننا نحن البعيدون عنه، لاننا نفتقر الى ذلك الاتصال الروحي، وهذه هي المفارقة؛ فالاله قريب، وهو يجيب دعوة الداعي اذا دعاه، ولكن النقص فينا لبعدنا، وغفلتنا، واحتجابنا.

فلكي نرى الحقائق فاننا بحاجة الى النور الذي يوصلنا اليه تعالى فالحقائق قريبة منا ولكننا نحن المحجوبون عن رؤيتها، وتحسسها، ومن الظلم الذاتي ان نعيش عشرات السنين في بعد وجهل لحقيقة النفس، وحقائق الايات الالهية المتناثرة في هذا الكون الرحيب، وفي هذه الحالة سنصبح في ضلال وتيه عن الحقيقة العظمى المرتفعة فوق كل الحقائق الا وهي حقيقة الرب المتعالي.

انه من الظلم بالنفس حقا ان نكون في بعد عن الحقائق وربها في حين لا يعوزنا الا ضغطة بسيطة على زر صغير لينبلج نور الصباح فنرى من خلاله كل شيء، وندخل عالم الاسرار الذي نجهله، ونلمس كل صغيرة وكبيرة من الحقائق، وهذه الضغطة على مفتاح النور تتمثل في الارادة والعزم اللذين من شأنهما ان يرفعا الانسان من أسفل سافلين الى الدرجات العلى، وأعلى عليين، فلكي يخرج الانسان نفسه من عمق الحالة السلبية الى علو الحالة الايجابية فانه بحاجة الى عزمة واحدة.

وعلى هذا فاننا بحاجة ماسة الى ان نخلق في انفسنا الهمة، والعزيمة للولوج في عالم الحقائق، فالى متى نبقى بعيدين وغرباء عنه، والى متى نبقى في حالة فرار من هذا العالم النيّر الوهاج الذي يدعونا البارىء تعالى الى الدخول فيه،

ص: 200

والاستلهام من اشعاعاته الربانية؟

الدعاء وزوال المعاناة:

ان الشيطان الرجيم هو الذي يجعلنا نفر بعيدا عن رياض هذا العالم، فهو يوسوس في صدورنا ليحجب عن اسماعنا وانظارنا تلك الدعوة الالهية المفتوحة، وليس هذا الموقف غريبا ولا عجيبا من ابليس اللعين الذي اقسم ان يقف لابن آدم بالمرصاد ليصده عن ابتغاء ورؤية الحقائق الالهية، فهو عدو الانسان اللدود، فينبغي ان لا نعير اذنا صاغية لهذا العدو اللدود لانه قد يأتي بأدلة مضلة، واسباب وعناوين وهمية كاذبة يتفنن في بثها الى الصدور، فيخيل الينا انها صادقة مقنعة، وحسب التعبير القرآني فان الشيطان يزين لنا الامور والاعمال فيصدنا عن الحقائق.

فلنتوجه الى ربنا بالدعاء، ولندعه كما علمنا: رَبَّنَآ ءَاتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الاَخِرَةِ حَسَنَةً (البقرة / 201) وبذلك تطيب لنا الدنيا، ونطمئن برزقها، ونضمن في نفس الوقت الاخرة، ونعيمها الابدي، وربما لا ياكل احدنا كما يأكل الاخرون، فقد يكون طعامه قليلا ولكن الايمان بالحقائق العلوية سيملأه اطمئنانا، ورضا وسكينة، ويمنحه القناعة باليسير من الرزق، بل اكثر من ذلك فان اليقين بالحقائق الالهية، والايمان الراسخ بها يخففان عن الانسان المعاناة والالام في اشد الظروف قسوة.

والدليل على ذلك المؤمنون الذين عذبوا في السجون، والانبياء، والاولياء، والصالحون؛ فقد سجن يوسف (عليه السلام) من قبل، وسجن نبي الله

ص: 201

دانيال وقدم طعاما للاسود الجائعة، وكذلك كان حال الامام الكاظم (عليه السلام)؛ هذا الامام الهمام الذي كان قلبه نابضا بالعزة، متصلا بنور الله عز وجل حتى اصبحت الطوامير التي سجن فيها معابد يعبد فيها خالقه، ويتهجد

بأسمه المبارك، بل انه (عليه السلام) كان يشكر الله ويحمده كثيرا، ويثني عليه ثناء طويلا لانه تعالى اتاح له فرصة لعبادته، حتى غدا هذا الامام مثالا وقدوة للمؤمنين الرساليين الصابرين في ذات الله.

الرحلة الى عالم الحقائق:

وهكذا علينا ا ن نعقد العزم، ونخطو نحو عالم الحقيقة، فالخطوات الواسعة تبدأ بخطوات صغيرة متواضعة، والتوجه الى عالم الحقيقة الكبرى، والى الله سبحانه ورحابه الكريمة بحاجة الى مجموعة من المساعي الصغيرة، كأن يبدأ احدنا هذه الرحلة مثلا من خلال تعزيز الاصرة باخوانه ومد جسور العلاقات الروحية معهم، وجعل لسانه يلهج بذكر الله العظيم، وترويض نفسه على القناعة والرضا والتسليم وفعل الخيرات قدر المستطاع، وتدريب النفس على الطاعات والمستحبات.

وعلى سبيل المثال فعندما نتحدث ليكن حديثنا هذا حديث خير يبعث المسرة في قلوب اخواننا المؤمنين، ولنراقب ألسنتنا وما يخرج منها من الفاظ، ولتكن كلماتنا طيبة حتى نصل الى المستوى الذي امر به تعالى حيث يقول: وَقُل لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ (الاسراء / 53)، وأيانا والاسترسال في الامور؛ كأن نسترسل في كلامنا، وتصرفاتنا، ومواقفنا، بل علينا ان نفكر مرارا بما

ص: 202

نريد ان نفعله، ونأخذه، فعندما نصادف مثلا طعاما او مالا او سبيلا حراما او كل ما يشتبه امره علينا فعلينا ان نتجنبذلك كله دون ان تأخذنا في الحق لومة لائم.

لا تأجيل في عمل الخير:

وعلينا ان نعلم انه لا تأجيل ولا تأخير في السعي نحو مرضاة الله سبحانه، فعلينا ان نبدأ منذ هذه اللحظة؛ أي منذ لحظة العودة الى الوعي، واليقظة الروحية، كأن نعمل على مشاركة اخواننا في همومهم، والمساهمة في رفع المشاكل عنهم، والسعي في قضاء حوائجهم، والمبادرة الى السؤال عن حاجاتهم واحوالهم، فقد لا نعلم ان بعضهم قد يبيت الليالي على الجوع، ويصبح وهو يتحسر على رغيف العيش، وفي هذا المجال يقول الامام الصادق (عليه السلام): "ان الرجل ليسألني الحاجة فأبادر بقضائها مخافة ان يستغني عنها فلايجد لها موقعا اذ جاءته" ،فان لم يكن بامكاننا قضاء حوائج اخواننا فلنظهر لهم الحب على الاقل، ولنتبسم في وجوههم، وندخل السرور والبهجة الى قلوبهم.

ولنعلم في هذا المجال ان القضية ليست قضية مال او نفس، فالله جل شأنه غني عن العالمين، بل ان المهم هو استئصال حالة الشح والبخل من النفس، هذا الشح الذي اصبح مرضا اصاب الكثير منا، ونحن بحاجة الى علاجه، وتدريب النفس وترويضها بالصلاح والطاعة.

فلنحاول ان نميت في انفسنا تلك الحالات النفسية القبيحة كالشح، والانانية، والكبرياء، والغرور، ولنكن كرماء، متواضعين لله، وان لا نكتفي بما

ص: 203

نعمله من الصالحات والخيرات لمجتمعنا، وامتنا، ولنبتعد كل البعد عن الاخلاقيات الفاسدة التي تؤدي الى الانحراف، والضلال كالغيبة والكذب والنميمة والاحتيال.. ولنكن محبين لاخواننا، مظهرين التودد لهم.

ثم وايانا والابتلاء بآفة الحسد، هذه الافة الاجتماعية التي لو شاعت فانها ستؤدي بالمجتمع الى الانهيار والاضمحلال، فهي ليست مسألة هينة بل انها تمثل حالة عميقة الجذور في القلب، تكدر النفس الانسانية وهي آخر ما يستأصل من الصفات السيئة في القلب والنفس، وهذا الاستئصال يكون من خلال حب الاخرين، وتمني الخير لهم، والبذل من اجل سعادتهم بعد غلق المنافذ والابواب التي قد يدخل من خلالها الشيطان الى النفس، فيبث وساوسه، ويفسد القلب، ويميت الروح المحبة للخير في اعماق الانسان.

ولنحاول من الان فصاعدا ان نتعب انفسنا، واجسامنا في الله ولو لساعة واحدة من ساعات يومنا البالغة اربعا وعشرين ساعة، ولنؤد في هذه الساعة عملا يعرق له جبيننا وذلك من اجل راحة المؤمنين، وتسهيل امورهم، وقضاء حوائجهم.

وما اجمل وقع مثل هذا العمل في النفس، واعظم اجره عند الله سبحانه وتعالى مهما كان بسيطا، ومهما بدا صغيرا، بدل ان نصرف الساعات الطويلة في ممارسة الاعمال التي لا تجدي نفعا كبيرا، والتي نقوم بها لالهاء انفسنا، وقضاء اوقات فراغنا لا من اجل الله جلت قدرته.

ان تلك الخطوات البسيطة التي ذكرنا قسما منها فيما سبق هي درجات علينا ان نرتقيها نحو السمو، والتكامل، والاقتراب من الحقيقة العليا، وهي تبعث في

ص: 204

القلب حالات الطمأنينة، وتقوي الايمان وتدعمه وتوثق عراه، ثم تتبعها بعد ذلك سلسلة من الاعمال اكبر واعظم واكثر عمقا ترفعنا نحو عالم اليقين والتكامل، والسمو العقلي.

لا نور كنور القرآن:

ان القلب الذي لا يهتدي بنور القرآن، واشعاع آياته المباركة، ولايهتدي بمن ينطقون عن القرآن، فمثل هذا القلب لا يمكن ان يجد الحقيقة ابدا، فلا نور ولا هدي كنور القرآن وهديه: تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ.

فالقرآن الكريم هو النور والضياء، وهو السراج الوهاج، فعندما لا تلتجىء ارواحنا الى هذا السراج ونوره فهل هناك سراج غيره يهدينا الى عالم الهدى والايمان، وهل هناك حديث او موعظة او نصيحة تسمو على القرآن؟!

حاشا لله، ولكلامه العظيم: إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ * لِمَن شَآءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ (التكوير / 2827).

***

ص: 205

الفصل الثامن: السبيل الى البصيرة الايمانية

اشارة

الانسان يعيش في ظلمات نفسه، والله سبحانه وتعالى لايهديه سبيلا الا اذا اسلم نفسه له وزكاها، وعكف على تنمية مواهبه الخيرة، فالعين مثلا هي نعمة الله للانسان فبها يبصر طريقه، والاذن هي ايضا نعمة عظيمة بها يستمع الانسان الى ما في الحياة من اصوات مختلفة، والحس هو الآخر من نعم الله سبحانه على الانسان فمن خلاله يكيف نفسه مع الطبيعة من حوله، والوسط الاجتماعي الذي يعيش فيه.

ويبقى القلب اكبر نعمة، واعظم منة الهية على الانسان، وقد يبقى هذا القلب مغلقا وعلى الانسان ان يفتح رموز نفسه وابوابها لكي يستقبل قلبه رحمة الله كما يشتير الى ذلك عز وجل في قوله: وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ

ص: 206

مَن دَسَّاهَا (الشمس / 107).

فالقلب مصدر الاستلهام، وهو مستودع الخير، ولكل قلب اذنان كما جاء ذلك في حديث شريف، ينفث الشيطان من احداهما سمومه ووساوسه، وفي

الاذن الاخرى تبث الملائكة الهدى، والبصائر الحقة، والانسان مخير بين الاستماع بأيهما شاء، وحتى الله سبحانه وتعالى جعل مشيئته تابعة لمشيئة الانسان في هذا المجال، فهو بأمكانه الاستماع باذنه اليمنى حيث تهديه الملائكة الى الحق، كما ان بأمكانه الاستماع باليسرى حيث تخدعه الشياطين، وتقوده الى الضلالة.

الانسان هو المسؤول:

والمسؤولية في كل ذلك تقع على الانسان وحده، فهو المسؤول اولا واخيرا؛ فله الاجر والثواب ان شاء ان يستمع باذنه اليمنى، وعليه العقاب اذا اختار الاستماع باليسرى: وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا.

وفي الحقيقة فان الهام النفس فجورها وتقواها هو نعمة الهية كبرى، اما تزكية النفس او دسها فهذا يرتبط بارادة الانسان وقراره، والله عز وجل اودع في هذا الكون، وفي انفسنا آيات ظاهرة وباطنة لاتحصى، ومنحنا القدرة على اكتشافها، والاعتبار بها، والاهتداء من خلالها اليه سبحانه.

ولكن من عرف الله وحده ولم يشرك به بالرغم من غزارة الايات وعظمتها؟ فالكثير من الناس مشركون، فمن لايعبد الاصنام الظاهرة، تراه يعبد الطاغوت او هواه، او اي شيء آخر.

ان آيات الله كثيرة ولكن المشكلة وجود عقبة امامنا علينا ان نتجاوزها، وهذه

ص: 207

العقبة تفصلنا عن رؤية آيات الله تعالى، وعن الاعتبار بها. فالناس يملكون الاعين ولكن القليل منهم يمتلك البصيرة، كما انهم يمتلكون الاذان ولكن القليل منهم يمتلك السمع، ولذلك يقول عز وجل: أَوَمَن كَانَ مَيْتاً فَاَحْيَيْنَاه (

الانعام / 122)، فالانسان الميت لايكيف نفسه مع ما حوله، وينفصل عن الوسط الاجتماعي والطبيعي المحيط به، وهو في الحقيقة انسان ميت لان الذي لايمتلك الايمان لايمكن ان يكون متمتعا بالبصيرة، والقرآن الكريم يشبه هذا الانسان بمن يعيش في الظلمات: كَمَن مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَاكَانُوا يَعْمَلُونَ (الانعام / 122).

كيف نشرح صدورنا للايمان:

ثم يقول عز وجل: فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ (الانعام / 125)، وفي تعريف الاسلام يقول الامام علي (عليه السلام): "لانسبن الاسلام نسبة لم ينسبها احد من قبلي ولن ينسبها احد من بعدي؛ الاسلام هو التسليم" ،والقرآن الكريم يصرح في الاية السابقة ان من يريد الله ان يشرح صدره للاسلام فانه سيفتح ابواب قلبه وصدره لكي لايعيش داخل اطار نفسه، وفي سجن ذاته، ولكي ينطلق الى الاسلام؛ اي الى التسليم لله حتى تكون صلاته ونسكه وحياته ومماته لله رب العالمين، فاذا به مؤمن بقضاء الله وقدره وشريعته واحكامه.. فان حدثت هذه الحالة في نفس الانسان فحينئذ ينشرح صدره، ويخرج من ذاته، ويدخل في النور.

وفي غير هذه الحالة سيبقى الانسان يعيش في الظلمات، فالانسان يولد في

ص: 208

الظلمة ولابد ان يسعى لكي يخرج منها، لان الله تعالى خلقه في احسن تقويم، ولكنه يسقط في اسفل سافلين بسبب جهله، وظلمه لنفسه، وتربيته الفاسدة؛ اي

انه يهبط الى الحضيض وعليه ان يعود من جديد الى القمة، وهي الفطرة التي ولد عليها الانسان. فكل مولود انما يولد على الفطرة، ولكنها لاتبقى معه، فأبواه كما جاء في الحديث الشريف هما اللذان يهودانه او ينصرانه او يمجسانه. فلابد له من ان يشق طريق العودة الى الله سبحانه لكي يكون من الذين استثناهم الخالق من الهابطين الى اسفل سافلين والذين يقول عنهم: إِلاَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ (العصر / 3).

وفي الحقيقة فان هؤلاء المؤمنين العاملين الصالحات هم القلة من الناس كما يقول تعالى: وَمَآ ءَامَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ (هود / 40)، والقران الكريم يفسر لنا هذه الظاهرة بقوله: كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَاكَانُوا يَعْمَلُونَ فالمجتمع والفرد لهما عادات من الصعب الاقلاع عنها، والخير عادة كما ان الشر عادة ايضا، ولكن المشكلة ان اغلب الناس متعودون على الشر؛ فالكسل وحب الراحة والرئاسة كلها عادات يزينها الشيطان للانسان.

وعلى سبيل المثال فان القصص القرآنية لم توجه الينا للتسلية، فقصة ابراهيم (عليه السلام) مثلا هي موجهة الينا بالدرجة الاولى، وقصته تبدأ بالحديث عن رحلته الى الله عز وجل، فقد عبد النجمة اولا ثم افلت فأقلع عن عبادتها، وهكذا الحال بالنسبة الى القمر والشمس حتى وصل الى مرحلة توحيد الله، ومن هذه القصة نستفيد ان على الانسان ان يتساءل في كل مرحلة عن مدى صحة

ص: 209

اعماله لكي يصل الى الحقيقة، وفي هذا المجال يقول تعالى: وَلاَ تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً * إِلآَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لاَِقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَداً (الكهف / 2423).

وهكذا فان اعمالنا يجب ان لاتفصلنا عن الله، فهي حجاب بين الانسان وربه الا اذا جعلها خالصة لوجهه.

عقبتان في طريق الايمان:

اما الوسيلة الثانية، والسبب الآخر لانتشار الفساد فقد كشف عنه عز وجل في قوله: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا (الانعام / 123)؛ اي وجود مكر المجرمين الاكابر، وهم الان يتمثلون في الحكام المضلين، والصحفيين المأجورين، والعلماء الفسقة، وهؤلاء يشكلون مصدر المكر والضلال، فهم يقومون بالمكر، ويتآمرون على الجماهير، ويفسدون ضمائرهم.

وهذه الاية تعني ان على كل انسان ان يتحدى عقبتين اساسيتين في حياته؛ العقبة الاولى هي عقبة الظلمات، والثانية عقبة اكابر المجرمين، وقد اشار تعالى الى العقبة الاولى في قوله: كَمَن مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَاكَانُوا يَعْمَلُونَ، والى العقبة الثانية في قوله: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِاَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ.

وعلى الرغم من ان هؤلاء المجرمين يحسبون انفسهم عقلاء الا ان الله يصرح

ص: 210

بأنهم ليسوا منعدمي العقل فحسب، بل انهم عديمو الشعور.

ان بعض الناس يتمنون ان يصبحوا مؤمنين بأن ينزل الله عليهم ملكا يهديهم، في حين ان القرآن بين ايديهم، وآياته الكريمة من شأنها ان ترشدهم، وعنهم يقول عز وجل: وَإِذَا جَآءَتْهُمْ ءَايَةٌ قَالُوا لَن نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَآ اوتِيَ رُسُلُ اللّهِ (الانعام / 124)، فان كان قلب الانسان لايخشع حين الاستماع الى القرآن، وحين الصلاة والدعاء فهذا دليل على ان الله لم يغفر للانسان اعماله السيئة، وبذلك تكون هذه الاعمال حاجزا يحجبه عن ربه.

ومن الايات الاخرى لمعرفة النفس تلك التي يشير اليها عز وجل في قوله: فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ (الانعام / 125)، فالانسان المؤمن ذو قلب منشرح، ولايجد في نفسه شحا، فسنته العفو والاحسان الى الناس، وهدفه خدمة المجتمع. فهو يعيش دائما في اطمئنان نفسي، ولكن الكافر تجده دائما منقبض النفس، شحيحا بخيلا منغلقا كأنما يصعّد في السماء. وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَاَنَّمَا يَصَّعَدُ فِي السَّمآءِ.

ثم يستأنف عز وجل قائلا:

كَذلِكَ يَجْعَلُ اللّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَيُؤْمِنُونَ.

السبيل الى تزكية النفس:

وهنا ينتقل القرآن الكريم الى الحديث عن تزكية النفس، وازالة الحجب عنها من خلال التوبة الى الله جلت قدرته، فاذا كانت نفس الانسان منطوية على الحسد وحب الذات وحب الرئاسة والراحة والتفكير في الانانيات، فان هذه

ص: 211

النفس لايمكنها ان تستقبل رضوان الله، وتستجيب وتكون مؤهلة له.

ان على الانسان ان يزكي نفسه لكي تكون نفسه هذه كالينبوع الصافي، وكالمنظار الشفاف الذي ينظر من خلاله الى كل شيء. فالانسان المؤمن ينظر بنور الله عز وجل، والله يزيده نورا على نور، وهذا هو الصراط المستقيم، والطريق القويم الذي من شأنه ان يوصلنا الى اهدافنا، وتطلعاتنا الحقيقية في أقصر فترة ممكنة.

والانسان بحاجة دوما الى التذكر والتذكير والاعتبار. فالطبيعة من حولنا تدعونا الى الله، وآياته مكتوبة ومنقوشة في السماوات والارض وفي انفسنا، ولكننا للاسف الشديد محجوبون عنها بأعمالنا السيئة وذنوبنا وغفلتنا وبالصفات الرذيلة المعششة في نفوسنا، وعلينا ان نصلح انفسنا ونستغفر الله سبحانه وتعالى من سيئات اعمالنا لنتصل دون اي حجاب بآيات الله، ويتحول كل ما حولنا الى مركز اشعاع لنور الايمان في قلوبنا.

***

ص: 212

الفصل التاسع: الايمان بالله والمواقف العملية

اشارة

من المعلوم ان الكفر والايمان هما ممارستان عمليتان مختلفتان شدة وضعفا، فهناك من هو كافر الى ابعد الحدود، وهناك من هو مؤمن تتجسد فيه الدرجات الايمانية العليا، والناس بينهما متدرجون في درجات مختلفة كما يشير الى ذلك ما روي عن أبي عمرو االزبيري، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قلت له: ايها العالم أخبرني أي الأعمال أفضل عند الله؟ قال: مالا يقبل الله شيئا الا به، قلت: وما هو؟ قال: "الايمان بالله الذي لا اله الا هو أعلى الأعمال درجة وأشرفها منزلة، وأسناها حظا، قال: قلت: ألا تخبرني عن الايمان؟ أقولٌ هو وعمل أم قول بلا عمل؟ فقال: الايمان عمل كله، والقول بعض ذلك العمل بفرض من الله بيّن في كتابه، واضح نوره ثابتة حجته، يشهد له به الكتاب، ويدعوه اليه، قال: قلت صفه لي جعلت فداك حتى أفهمه قال: الايمان حالات، ودرجات، وطبقات، ومنازل: فمنه التام المنتهى تمامه، ومنه الناقص البين

ص: 213

نقصانه، ومنه الراجح الزائد رجحانه.

قلت: ان الايمان ليتم وينقص ويزيد؟ قال: نعم، قلت: كيف ذلك؟ قال: لان الله تبارك وتعالى فرض الايمان على جوارح ابن آدم، وقسمه عليها، وفرقه فيها، فليس من جوارحه جارحة الا وقد وكلت من الايمان بغير ما وكلت به أختها فمنها قلبه الذي به يعقل ويفقه ويفهم، وهو أمير بدنه الذي لا ترد الجوارح ولا تصدر الا عن رأيه وأمره، ومنها عيناه اللتان يبصر بهما، وأذناه اللتان يسمع بهما، ويداه اللتان يبطش بهما، ورجلاه اللتان يمشي بهما، وفرجه الذي الباه من قبله، ولسانه الذي ينطق به، ورأسه الذي فيه وجهه، فليس من هذه جارحة الا وقد وكلت من الايمان بغير ما وكلت به أختها بفرض من الله تبارك وتعالى اسمه، ينطق به الكتاب لها، ويشهد به عليها.

ففرض على القلب غير ما فرض على السمع، وفرض على السمع غير ما فرض على العينين، وفرض على العينين غير ما فرض على اللسان، وفرض على اللسان غير ما فرض على اليدين وفرض على اليدين غير ما فرض على الرجلين، وفرض على الرجلين غير ما فرض على الفرج، وفرض على الفرج غير ما فرض على الوجه.

فأما ما فرض على القلب من الايمان فالاقرار والمعرفة والعقد والرضا والتسليم بان لا اله الا الله وحده لاشريك له إلها واحدا لم يتخذ صاحبة ولا ولدا، وان محمدا عبده ورسوله صلوات الله عليه وآله، والاقرار بما جاء من عند الله من نبي او كتاب، فذلك ما فرض الله على القلب من الاقرار والمعرفة وهو عمله وهو قول الله عز وجل إِلاَّ مَنْ اكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ

ص: 214

بِالْكُفْرِ صَدْراً (النحل / 106) وقال أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (الرعد / 28) وقال يَآ أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا ءَامَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ (المائدة / 41) وقال وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ (البقرة / 284) فذلك ما فرض الله عز وجل على القلب من الاقرار والمعرفة وهو عمله وهو رأس الايمان.

وفرض الله تعالى على اللسان القول والتعبير عن القلب بما عقد عليه وأقر به قال الله تبارك وتعالى اسمه وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً (البقرة / 83) وقال: وَقُولُوا ءَامَنَّا بِالَّذِي انزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (العنكبوت / 46) فهذا ما فرض الله تعالى على اللسان وهو عمله.

وفرض على السمع أن يتنزه عن الاستماع الى ما حرم الله، وان يعرض عما لايحل له مما نهى الله عز وجل عنه، والاصغاء الى ما أسخط الله عز وجل فقال في ذلك وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ انْ إِذَا سَمِعْتُمْ ءَايَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ (النساء / 140) ثم استثنى الله عز وجل موضع النستيان فقال: وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (الانعام / 68) وقال فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُولُواْ الاَلْبَابِ (الزمر / 1817) وقال عز وجل قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (المؤمنون / 41) وقال وَإذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَآ

ص: 215

أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ (القصص / 55) وقال وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً (الفرقان / 72) فهذا ما فرض الله على السمع من الايمان ان لايصغي الى ما لايحل له وهو عمله، وهو من الايمان.

وفرض على البصر ان لاينظر الى ما حرم الله عليه، وان يعرض عما نهى الله عنه مما لايحل له وهو عمله، وهو من الايمان، فقال الله تبارك وتعالى قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يُغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ (النور / 30) فنهاهم من ان ينظروا الى عوراتهم، وان ينظر المرء الى فرج أخيه، ويحفظ فرجه من أن يُنظر إليه، وقال وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنّ (النور / 31) من ان ينظر احداهن الى فرج اختها، وتحفظ فرجها من ان يُنظر اليها، وقال: "كل شيء في القرآن من حفظ الفرج، فهو من الزنا إلا هذه الاية فانها من النظر"(1).

ثم نظم ما فرض على القلب واللسان والسمع والبصر في آية اخرى فقال: وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلآ أَبْصَارُكُمْ وَلاَ جُلُودُكُمْ (فصلت / 22) يعني بالجلود الفروج والافخاذ، وقال وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ الْسَّمْعَ وَالْبَصَرَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً (الاسراء / 36) فهذا ما فرض الله على العينين من غض البصر عما حرم الله وهو عملهما، وهون.

ص: 216


1- وذلك لان حفظ الفرج ههنا قد قرن بغض البصر, فصار كل واحد منهما قرينة متممة للمراد من الاخر نافية لاطلاقه, على حد صنعة الاحتباك كما في قوله تعالى:" الله الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا (غافر / 61) ومثله قوله تعالى: "هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا" (يونس / 67) فان تقدير الايتين: جعل لكم الليل مظلما لتسكنوا فيه والنهار مبصرا لتبتغوا فيه من فضله. وهكذا هنا تقدير الاية: قل للمؤمنين يغضوا أبصارهم من فروج المؤمنين ويحفظوا فروجهم من أبصار المؤمنين.

من الايمان.

وفرض الله على اليدين ان لا يبطش بهما الى ما حرم الله وان يبطش بهما الى ما أمر الله عز وجل وفرض عليهما من الصدقة وصلة الرحم والجهاد في سبيل الله والطهور للصلوات فقال: يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ (المائدة / 6) وقال فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَآ أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنَّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا (محمد / 4) فهذا ما فرض الله على اليدين لان الضرب من علاجهما.

وفرض على الرجلين ان لايمشي بهما الى شيء من معاصي الله، وفرض عليهما المشي الى ما يرضي الله عز وجل فقال: وَلاَ تَمْشِ فِي الاَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الاَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً (الاسراء / 37) وقال: وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الاَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (لقمان / 19) وقال فيما شهدت الأيدي والأرجل على انفسهما وعلى أربابهما من تضييعهما لما أمر الله عز وجل به وفرضه عليهما الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَآ أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (يس / 65) فهذا ايضا مما فرض الله على اليدين وعلى الرجلين، وهو عملهما، وهو من الايمان.

وفرض على الوجه السجود له بالليل والنهار في مواقيت الصلاة فقال يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (الحج / 77) فهذه فريضة جامعة على الوجه واليدين والرجلين، وقال في موضع آخر وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ اللَّهِ أَحَداً (الجن / 18)

ص: 217

وقال فيما فرض على الجوارح من الطهور والصلاة بها، وذلك ان الله عز وجل لما صرف نبيه (صلى الله عليه واله وسلم) الى الكعبة عن البيت المقدس فأنزل الله عز وجل وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ (البقرة / 143) فسمى الصلاة ايمانا، فمن لقي الله عز وجل حافظا لجوارحه، موفيا كل جارحة من جوارحه ما فرض الله عز وجل عليها لقي الله تعالى مستكملا لايمانه، وهو من أهل الجنة. ومن خان في شيء منها، او تعدى ما أمر الله عز وجل فيها، لقي الله عز وجل ناقص الايمان.

قلت: قد فهمت نقصان الايمان وتمامه فمن أين جاءت زيادته، فقال: قول الله عز وجل وإِذَا مَآ انْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً فَاَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ (التوبة / 125124) وقال: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَاَهُم بِالْحَقِّ إِنَّهمْ فِتْيَةٌ ءَامَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (الكهف / 13) ولو كان كله واحدا لا زيادة فيه ولا نقصان، لم يكن لاحد منهم فضل على الاخر. ولاستوت النعم فيه، ولاستوى الناس، وبطل التفضيل ولكن بتمام الايمان دخل المؤمنون الجنة، وبالزيادة في الايمان تفاضل المؤمنون بالدرجات عند الله وبالنقصان دخل المفرطون النار.(1)

قال: قلت له: ان للايمان درجات ومنازل، ويتفاضل المؤمنون فيها عند الله؟ قال: نعم، قلت: صفه لي رحمك الله حتى أفهمه، قال: ان الله سبق بين المؤمنين كما يسبق بين الخيل يوم الرهان، ثم فضلهم على درجاتهم في السبق37

ص: 218


1- الكافي ج 2 ص 23 37

اليه، فجعل كل امرء منهم على درجة سبقه، لاينقصه فيها من حقه، ولايتقدم مسبوق سابقا ولا مفضول فاضلا، تفاضل بذلك أوائل هذه الأمة وأواخرها، ولو لم يكن للسابق الى الايمان فضل على المسبوق، اذن للحق آخر هذه الامة أولها، نعم ولتقدموهم اذا لم يكن لمن سبق الى الايمان الفضل على من أبطأ عنه، ولكن بدرجات الايمان قدم الله السابقين، وبالابطاء عن الايمان أخر الله المقصرين لأنا نجد من المؤمنين من الاخرين من هو أكثر عملا من الاولين، واكثرهم صلاة وصوما وحجا وزكاة وجهادا وانفاقا، ولو لم يكن سوابق يفضل بها المؤمنون بعضهم بعضا عند الله، لكان الاخرون بكثرة العمل مقدمين على الاولين ولكن أبى الله عز وجل ان يدرك آخر درجات الايمان اولها ويقدم فيها من أخر الله، او يؤخر فيها من قدم الله. قلت: أخبرني عما ندب الله عز وجل المؤمنين اليه الى الاستباق فقال: قول الله عز وجل سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِن رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَآءِ وَالأَرْضِ اعِدَّتْ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ (الحديد / 21) وقال: وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (الواقعة / 1110) وقال وَالسَّابِقُونَ الاَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالاَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بإِحْسَانٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ (التوبة / 100) فبدأ بالمهاجرين الاولين على درجة سبقهم، ثم ثنى بالانصار، ثم ثلث بالتابعين لهم باحسان، فوضع كل قوم على قدر درجاتهم ومنازلهم عنده.

ثم ذكر ما فضل الله عز وجل به اولياءه بعضهم على بعض، فقال عز وجل: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُم مَن كَلَّمَ اللّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ (البقرة / 253) الى آخر الاية، وقال: وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ

ص: 219

عَلَى بَعْضٍ (الاسراء / 55) وقال انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلاَخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً (الاسراء / 21) وقال هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ (آل عمران / 163) وقال وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ (هود / 3) وقال الَّذِينَ ءَامَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدَوا فِي سَبِيلِ اللّهِ بِاَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّهِ (التوبة / 20) وقال وَفَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرَاً عَظِيماً * دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً (النساء / 9695) وقال: لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ اوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا (الحديد / 10) وقال يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ اوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ (المجادلة / 11) وقال ذَلِكَ بِاَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلا يَطَأُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ (التوبة / 120) وقال وَمَا تُقَدِّمُوا لاَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللّهِ (البقرة / 110) وقال فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ (الزلزلة / 87) فهذا ذكر درجات الايمان ومنازله عند الله عز وجل ".(1)

الايمان قوة لا تقهر:

وهكذا فان الغالبية العظمى من الناس ما تزال تعيش تحت طبقات متراكمة، وحجب كثيفة، ولا يحاولون استنشاق الهواء الطلق، والعيش في الدفء الذي

ص: 220


1- الكافي ج 2 ص 42 40 / موسوعة بحار الانوار / ج 66 ص 23 29

يعطيه الايمان للانسان، ولو جرب الواحد منا ان يكون مؤمنا صادقا في المواقف الصعبة التي يواجهها لادركنا حينئذ ان الايمان قوة لا يمكن ان تقهر، وانه حرية لا تحد، وأفق لا ترى له نهاية، وانه هو الحياة الحقيقية، وان مانعيشه الان ما هو الا موت محدود اي ان حياتنا بسيطة ساذجة ومحدودة للغاية.

والقرآن الكريم يريد ان يحمل الانسان الى الافق الاعلى الذي هو افق الايمان، ولو اننا تدبرنا في آية من آياته الكريمة، ونظرنا الى ما حولنا في الكون من خلال بصائره النيرة، وتسلحنا بضيائه ونوره لاستطعنا ان ننتفع بهذا الكتاب العظيم، ونعيش اللحظات الايمانية او بالأحرى الحياة الايمانية.

ان نظرتنا الى الكون يحددها ايماننا او كفرنا، والعالم المحيط بنا ليس الا آية من آيات الله عز وجل بل اني اكاد اقول ان الانسان المؤمن هو الذي يرى العالم، وان الانسان الكافر لا يرى شيئا، فالانسان المؤمن يعتقد بحقانية الكون بنور الايمان، ويؤمن بصدق نفسه، ويثق انه موجود، اما الانسان المشرك فانه لا يؤمن بنفسه لانه لا يؤمن بالله تعالى، فالذي يخضع للهوى لا يؤمن بنفسه، والذي يستسلم لضغط الارهاب، وينقاد لرياح المجتمع لا يمكن ان يؤمن بنفسه، فمن آمن بنفسه، ووثق بأنه انسان حي، وكيان مستقل كيف يسمح لنفسه ان يكون نجما في افق الاخرين، وكيف يسمح لنفسه ان يكون ريشة في مهب الرياح الاجتماعية، وكيف يستسلم الذي تذوق حلاوة مناجاة الله سبحانه وتعالى ويرضى لنفسه ان يناجي البشر ويخضع لهم؟!

ان المؤمنين الحقيقيين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم، ولا يستبد بهم غرور القوة، ولا يبطرهم طغيان الاستغناء،: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ

ص: 221

قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماوَاتِ وَالأَرْضِ (آل عمران / 191)، فالانسان الذي لا يفكر لا يساوي شيئا لان الفكر هو ميزة الانسان، والمؤمن هو الذي يدرك ان الكون لم يخلق باطلا في حين ان الانسان الكافر لا يدرك هذه الحقيقة.

الايمان بصيرة:

وبالاضافة الى ذلك فان الايمان بصيرة، ومن لا يمتلك هذه البصيرة لا يمتلك معرفة وعلما، ولا يؤمن بوجود الكون كما كان حال الاغريق الذين قالوا قبل اربعة الاف عام ان الكون وهم، وانه مجرد ظلال للمرايا ليس الا، فصرحوا بحقيقة كفرهم، وانطبق عليهم قوله عز وجل: إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالاَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً (الفرقان / 44)، فالانسان الجاهل لا يفهم لان عدم الفهم من طبيعة الجهل، والكافر لا يفهم ولا يفقه شيئا والدليل على ذلك ان القرآن الكريم من بدايته الى نهايته يؤكد على ان الكفار والمشركين لا يعقلون، ولا يفقهون، ولا يشعرون، ولا يعلمون، وان على اعينهم غشاوة، وفي قلوبهم مرض، وانهم صم بكم عمي.

ان الكفر ليس حالة بعيدة عنا بل هو على درجات وقد تكون بعض هذه الدرجات في انفسنا، فلنحاول ان لا ندعي الايمان ونحن بعيدون عن آيات القرآن، بل لنحاول ان نجسد علامات الايمان في انفسنا، وفي هذا المجال يروى ان رجلا جاء الى الامام الصادق (عليه السلام) فقال له: يابن رسول الله كيف اعرف انني مؤمن؟ فقال له الامام (عليه السلام):" اعرض نفسك على

ص: 222

القرآن "،فالقرآن الكريم هو الذي يحدد هل نحن مؤمنون ام لا؟ لانه قد وضع مقاييس ثابتة للايمان في آيات كثيرة منها قوله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ ءَايَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (الانفال / 2)، وقوله: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ (المؤمنون / 21) فلنعرض انفسنا على كتاب الله فانه هو الفرقان والميزان.

وللأسف فاننا نعيش في وهم وضلال فنعتقد اننا مؤمنون، واننا نعرف الدنيا في حين اننا جاهلون في الحقيقة، وعن هؤلاء يقول القرآن الكريم: وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَاَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ اوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (الحشر / 19)، فان كان الواحد منا عادلا فلماذا يذنب، ويغتاب، ويتهم، وينطق بالبذيء من القول، ويسيء الظن، ولماذا لا يجاهد في سبيل الله تعالى، والقرآن الكريم يقول: وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِه (الحج / 78) ويقول ايضا: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ (التغابن / 16).

وهكذا فان الانسان الفاسق المشرك يجهل في حين ان الانسان المؤمن يدرك الحياة، ويعيش في النور، اما الانسان الظالم فهو يعيش في الظلام، وكلما ازداد كفرا ازداد ظلاما وجهلا وبعدا عن الحقائق الموجودة في الكون.

الايمان في القرآن الكريم:

وفي سورة الانعام المباركة نقرأ الايات التالية التي تبين لنا الحقائق الكونية، ودور الايمان في فهمها:

ص: 223

الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ * هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِن طِينٍ ثُمَّ قَضَى أجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِندَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ * وَهُوَ اللّهُ فِي السَّماوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ * وَمَا تَأْتِيهِم مِنْ ءَايَةٍ مِنْ ءَايَاتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ * فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَآؤُاْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ * أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِمْ مِن قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمآءَ عَلَيْهِم مِدْرَاراً وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ فَاَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً ءَاخَرِينَ (الانعام / 61)

واستنادا الى هذه الايات الكريمة سنوضح بعض الامثلة تأييدا لما سبق ان ذكرناه، ان الله سبحانه وتعالى يقول:" الحمد لله "هذه الكلمة العظيمة التي لو نطقها الانسان بصدق لعاشت كل جوارحه وجوانحه البهجة والسرور والانفتاح، فعندما يتمتم الانسان بهذه الكلمة لابد ان ينشرح صدره، ويعيش ذكر نعم الله عليه كنعمة الابصار، والسمع، والعافية، والامن وملايين النعم الاخرى التي لا يمكن ان تعد وتحصى.

ثم يقرر تعالى اننا محدودون بأجل معين من قبل ومن بعد، وأجل معلق على رأس الانسان، واخر ينتظره في نهاية المطاف ومن الممكن ان ينزل عليه في اية لحظة، والاجل الذي يحل في نهاية المطاف هو الذي لا يخطىء، فمن الممكن ان يخطىء الاجل المعلق؛ فقد تمرض وتذهب الى الطبيب لتستعمل العقاقير الطبية ثم يعافيك الله عز وجل، ولكن المرض اذا كان خطيرا كالسرطان فان الطبيب لا يستطيع ان يفعل لك شيئا لان معرفته محدودة بتأخير اجل الانسان، واذا كان

ص: 224

الاجل حتميا فان فكر الطبيب سيقف عاجزا.

الشك نوع من الكفر:

وهكذا فان الانسان محاط بالفناء واحتمالات الموت، ومع ذلك تراه يشك في كل لحظة بل ويعيش الشك، وهذا نوع من الكفر، فعلى الرغم من انه يقرأ القرآن تراه يشك ويجادل في حين ان الله هو الله في السموات والارض، ويعلم سركم وجهركم، ويعلم ما تكسبون، وَمَا تَأْتِيهِم مِنْ ءَايَةٍ مِنْ ءَايَاتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ، فالايات تتوالى علينا الواحدة بعد الاخرى، والشمس تشرق على اعيننا ولكننا لا نستطيع ان نرى منها شيئا لان عيوننا عمياء.

ثم يستأنف عز وجل قائلا: فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَآؤُاْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ فمشكلة الانسان ان حياته ليست محدودة بهذه الدنيا، وانه باق سيرى عاقبة ما كان يستهزىء به.

وهنا يتسع الافق، وينعكس هذا الاطار الايماني على عالم السياسة، فالانسان المؤمن ينظر الى هذا العالم من خلال بصيرة الايمان، وفي هذا المجال يقول القرآن الكريم: أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِمْ مِن قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمآءَ عَلَيْهِم مِدْرَاراً وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ فَاَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً ءَاخَرِينَ.

ان الغربيين يعتقدون وهذا الاعتقاد هو جزء من حضارتهم بل اصبح اليوم فلسفة لا يمكنهم ان يتخلفوا عنها ان حضارتهم لا تنتهي، وان قوتهم لا تقهر،

ص: 225

وان اساطيلهم تستطيع ان تنفذ في كل مكان، وهذه هي المشكلة الكبرى رغم ان عوامل الفناء والانقراض تحيط بحضارتهم المزيفة من مثل مرض (الايدز) الذي انتشر بينهم بشكل مرعب، فبماذا يغترون؟!

ومثل هذه الحوادث هي عبرة لهم ولنا، وكل واحد منا لابد ان يتجه صوب نفسه، ويحاول اصلاحها وتنمية المواهب الايمانية فيها لكي نصل الى حقيقة الايمان.

***

ص: 226

الباب الرابع: تجليات الإيمان

اشارة

ص: 227

ص: 228

الفصل الاول: التكامل الايماني فلسفة الحياة

اشارة

مسيرة حياة الانسان منذ ولادته وحتى موته الطبيعي هي مسيرة تكاملية، وسرعة نموه وتكامله المادي وما يتخلل ذلك من تطور في ابعاد حياته تختلف من زمن لاخر، فمسيرة النمو مستمرة، وحين يتوقف النمو المادي للانسان، يبدأ من حيث هذه النهاية نموه المادي غير المباشر.

من النقص الى الكمال:

وعلى سبيل المثال فان جوارح الطفل تنمو وتشتد، فاذا بلغ مبلغ الرجال وتوقف نموه الجسمي، فان فكره يستمر في نموه وتطوره حتى يبلغ عمرا ينتكس فيه نموه الفكري ايضا ولكن الذي يبقى ينمو فيه هو طموحه المادي فتراه يتوسل بكل وسيلة يزيد من خلالها امواله واعتباراته المادية.

وعلى هذا فان حياة الانسان هي رحلة من النقص الى الكمال، ومن العدم الى

ص: 229

الوجود، ومن العجز الى القدرة او بتعبير اشمل؛ من الحالة السلبية الى الحالة الايجابية من وجوده المادي.

وهنا يبرز السؤال المهم التالي: ترى اهذه هي فلسفة الحياة، وهل لاجل هذا الهدف خلق الانسان؟ واذا كان هذا هو الهدف من وجوده فلماذا يموت اذن؟ ولماذا يقرع الموت باب وجود الانسان فيقيم ذلك الجدار الصلد الفاصل بينه وبين وجوده الدنيوي العريض الذي صنعه لنفسه بعد ما خاض من تحديات مضاعفة، وعقبات كأداء منذ ساعة ولادته وحتى لحظة موته؟

الجواب بالنفي طبعا، حاشا لله الذي خلق الوجود والكون فأتقنهما، وشرع لذلك الشرائع والمناهج العظمى ان يكون عابثا ولاعبا في خلق يخلقه، ويربيه وينميه ليعطيه نصيبه من الوجود ثم ليميته في لحظة ما، ولو جاز لاحد غير الله ان يفعل ذلك من الادميين لوصف فعله هذا بالعبث واللعب فما بالك بالله سبحانه وتعالى!.

اذن فما معنى الموت بعد الحياة، والعدم بعد الوجود، والفناء بعد الاحياء، والله عز وجل يقول: وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفإِيْن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ * كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً (الانبياء / 3534) فما هي فلسفة الموت وحكمته التي يتحطم على صخرتها هيكل الفلسفة المادية للحياة؟

ان جواب كل ذلك وتفسيره لا يمكن ان نجدهما الا من خلال الايمان باستمرار الرحلة التكاملية للانسان في الجانب المعنوي لا في اطار التكامل المادي المنقطع لا

ص: 230

محالة، فبالاضافة الى الجانب التكاملي المادي هناك الجانب التكاملي الروحي او المعنوي، فالنمو موجود في كلا الجانبين، ولكن لابد من توقفه في الجانب الاول، واستمراره في الجانب الثاني حتى فيما بعد الموت؛ اي ان ثماره في الحياة الدنياستؤتي اكلها في عوالم ما بعد الحياة، فالحياة الاخرة لا تكون الا لمن ارادها، وسعى لها سعيها وهو مؤمن، فالرحلة المعنوية لابد لها من ثمن يدفعه الانسان في حياته الدنيا كي يستمر به السير نحو السمو الاخروي.

وتتجلى الخسارة الكبرى لذلك الانسان الذي طاف في رحلته الحياتية في حدود المادة واطرها، ويعي مدى هذه الخسارة عندما تدق ساعة اجله، ويدنو منه هادم اللذات، وفي هذه اللحظة العصيبة يتذكر الانسان ماقدمه في حياته، فلا يبقى زاد لهذا الانسان المداهم بالموت يدفع عنه عناء ومصاعب السير الجديد الى الاخرة سوى العمل، وهذا الزاد هو الذي يضمن سلامة مسيرة الانسان من النقص الى الكمال سواء في حياته ام فيما بعد موته.

ترى هل انتبهنا ووعينا كم نحن منصرفون الى مشاغل وهموم حياتنا المادية؟ فنحن نسعى ونلهث، ونتشاجر ونتقاتل، ونحب ونكره من اجل تحقيق طموحات مادية لا تقف عند حد، فحاجاتنا ومشاكلنا اليومية لا تنتهي، وكل منا ينشد يوما افضل من امسه، وغدا احسن من يومه في الاهداف والطموحات المادية، وهكذا فان كل تفكيرنا يجري مع التيار المادي الجارف الذي يجرفنا منذ اللحظات الاولى من حياتنا حتى غدا الواحد منا اسير دوامة التفكير والهوس المادي!

بلى، اننا غافلون وبعيدون كل البعد عن اجواء السعادة الحقيقية الاصيلة التي لا يستشعرها، ويتنعم بها سوى اولئك الذين يعيشون في عوالم النور الروحية

ص: 231

والمعنوية، والذين ينظرون الى الحياة بمنظار التدبر والتبصر فيعطون جانبها الروحي والمعنوي حقه، وعلى هذا فليس من الصحيح ان نجعل من هذا العمر مطية التقاتل من اجل بهارج الحياة وزخارفها المادية، بل علينا ان نعطي المعنويات حقها، ونسعى ونهتم بها بنفس الحجم من السعي والاهتمام بالماديات ان لم نفقه، ولنخلق في انفسنا تلك الحوافز التي تدعونا الى تطوير معنوياتنا، وتهذيب الجانب الروحي من انفسنا.

فلماذا اذن لا نعيش اماني الغد الاخروي في يومنا هذا قبل حسرة الغد وامانيه الخائبة عندما يقول الواحد منا حيث لا ينفع الندم والاسى: يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (الفجر / 24).

القرآن مفتاح السعادة

ان التفكير في انفسنا ومآلها في القيامة هو الذي يدفعنا الى القيام بالعمل الحقيقي الخالد، ومفتاح التوجه في رحلة الايمان الصادقة، والخروج من سراب وزيف التيار المادي هو القرآن الذي يعتبر حبل الله، ورسالته الينا، واللجوء اليه بالعبادة وتزكية النفس، فلماذا قلة الاهتمام بالقرآن حتى بين حملة الرسالة، والدعاة اليها وطلبة العلم الذين يفترض بهم ان يكونوا اول الداعين الى القرآن؟

السبب الذي اراه هو هروبنا من المسؤولية، وتخلينا عنها؛ فنحن لا نرغب في متابعة رحلة الايمان المعنوية، فنهرب ونخشى ونتهيب منها، ذلك لاننا ربما لا نكن الحب الحقيقي لبارئنا وخالقنا، فالذي يحب الله تعالى لابد ان يحب امرين، فان

انا فينا فنحن نضمر الحب لله، واذا ما وجدنا انفسنا عازفة عنهما، فلنعرف اننا ما زلنا بعيدين عن حب الله، والتقرب اليه، وابتغاء مرضاته، وهذان

ص: 232

الامران هما:

1 مدى تعلقنا بالقرآن الذي هو حديث الله المباشر معنا.

2 مدى حبنا للصلاة التي هي بدورها تمثل حديثنا المباشر نحن مع الله.

فلابد من هذين الامرين اذا كنا حقا نود ان نكون قريبين من ربنا المليك المقتدر ونكون عنده في مقعد صدق، فالله سبحانه وتعالى يقول: وَأَقِمِ الصَّلاَةَ لِذِكْرِي (طه / 14)، فالقرآن هو حديث الله الينا، يكلمنا، ويأمرنا، وينهانا، وينصحنا، ويوصينا.

إننا نسمع النداء تلو النداء من الله: ان حي على الصلاة، حي على الفلاح، حي على خير العمل، ولكننا للاسف لا نعير اهتماما جديا لهذا النداء الذي يطرق آذاننا، ويملأ اسماعنا ليل نهار، فترانا مشغولين منهمكين في امور الدنيا التي لا تنتهي، او نثرثر في احاديث قد لا يكون لله فيها رضى.

مسؤوليتنا في تدبر القرآن:

وكذلك عندما نسمع هاتف الله سبحانه في القرآن فاننا لا ننصت اليه، ولا نعطي آذانا صاغية لهذا النداء المقدس الذي يطلب منا بصريح العبارة ان ننصت اليه: وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْءَانُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (الاعراف / 204)

ان التدبر في القرآن الكريم مطلوب من المؤمنين في كل الاحوال سواء كانوا علماء ام لم يكونوا، فلا ينبغي اهمال موضوع التدبر في القرآن والخير كله فيه، فمن خلال كتاب الله يعرف الله، وتعرف احكامه وشرائعه واوامره ونواهيه.

وفي حديث مروي عن امير المؤمنين (عليه السلام) انه سئل: أأنزل الله

ص: 233

تعالى شيئا غير القرآن؟ فقال (عليه السلام): "الا ان يؤتى عبد فهما في كتاب الله" فكتاب الله اذن يحوي كل شيء ولكن المطلوب فهمه.

ومن المؤسف ان نرى كل هذه الاهتمامات بدروس العلوم الدينية المختلفة من فقه، واصول، ولغة وغير ذلك، في حين لا يعار اي اهتمام بدرس التدبر في القرآن، والسبب في ذلك ان بيننا وبين هذا الدرس المهم حاجزا نفسيا، وهذا يعني اننا قد فشلنا في رحلتنا المعنوية، وعلينا ان نعترف بهذا الفشل قبل ان نضطر الى الاعتراف به في وقت يفوت فيه الاوان فنقول: يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (الفجر / 24) و رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ (المؤمنون / 10099).

وفشلنا هذا هو سبب لسائر انواع الفشل التي ابتلينا بها، وعدم فهمنا للقرآن ربما يكون هو السبب في تأخرنا، وانتكاسنا، وتراجعنا فضلا عن ان نتقدم في الرحلة الايمانية الى الله تعالى.

والقرب من الله ليس وقفا على الاستزادة في العلم، والفقه، والخطابة، والادب. فقد يكون احدنا عالما فقيها وخطيبا معروفا ولكنه بعيد عن ربه؛ اي ليست لديه رغبة في كثرة التعبد والتدبر في كتاب الله؛ فاذا فقد الانسان هذين الخصلتين فحينئذ

سوف لا ينفعه علمه وتفقهه كما يشير الى ذلك الحديث الشريف: "من ازداد علما ولم يزدد تواضعا ما ازداد عن الله إلا بعدا".

زاد الرحلة التكاملية

وهكذا لن يبقى للانسان ما يحمله في رحلته التكاملية العظيمة من النقص الى

ص: 234

الكمال، ولن يبقى له مما ينفعه في هذه الرحلة سوى زاد المعنويات الذي يؤمنه من خلال ذينك المصدرين؛ العبادة الواعية، والتدبر القرآني.

اننا قد نكون مبتلين بكثير من الصفات والعادات التي تدل على ضعف ايماننا وذلك لاثر البيئة، والحياة المادية التي نعيش فيها، وهذه الظاهرة السلبية لهي دليل من ادلة ضعف ايماننا هذا الضعف الذي لا يمكن التكفير عنه الا بالتوبة، او ترويض النفس على ما يقوى به ايمانها ويعززه كالصوم وسائر العبادات.

وفي هذا المجال لابد من الاهتمام بامور اخوتنا المؤمنين وان لم تربطنا بهم صلة رحم، فالايمان والعقيدة هما الرابط، والرحم الذي يوصل بين ابناء الامة الواحدة، كما يؤكد على هذا المعنى الحديثان الشريفان التاليان:

"من بات ولم يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم".

"كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته".

فلنعش اذن آلام، ومصائب اخواننا المعذبين المضطهدين في سائر بقاع العالم الاسلامي، ولنحول مشاعرنا ازاءهم الى عمل وحركة تسهم في تقديم العون لهم، والتخفيف عن مصائبهم ما استطعنتا الى ذلك سبيلا.

وللاسف فان الكثير منا اصبح اليوم يتراجع عن الفكر الالهي الرحب ليدخل في اطر الفكر الضيق، وحدود العصبية والحمية، وعندما نبحث عن سبب هذا التراجع نجده كامنا في تبدل الحافز الايماني، وتحوله الى نوع اخر من الحوافز، ففي البدء كان حافز المسيرة الايمان والورع والتقوى وحب الاخرين، والعمل، والتضحية في سبيل الله جل وعلا اما الان فان الحافز اصبح ماديا كالبيت، والاهل، والجماعة، او الحزب، والعشيرة التي ننتمي اليها.

ص: 235

وفي السابق كان العاملون ينظرون الى ربهم جاعلين مرضاته هدفهم وغايتهم في عملهم وجهادهم ليكونا خالصين لوجه الله، اما اليوم فقد غدت المصلحة الذاتية او الحزبية هي الهدف الذي طالما نهانا عنه كتاب الله، وحذرنا منه كرارا، فهذا الكتاب العزيز لم يدع امرا دون بيان، واشارة، وتأكيد، ولكننا نحن الذين نحجب انفسنا عن القرآن.

وتعتبر ظاهرة الحمية والتعصب من الظواهر الخطيرة، وعلينا ان نمعن النظر في هذه القضية التي ينهى عنها القرآن الكريم، ويحذرنا منها قائلا: إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ (الفتح / 26) فالحمية تعني روح التعصب والتحزب التي نهى الله عنها، واوصى ان تحل محلها روح التقوى:.. فَاَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى (الفتح / 26).

وعلى مدى الف واربعمائة عام حاول الاسلام ان يمتص الحمية الجاهلية، ويقضي عليها، وينتزعها من نفوس المسلمين وافكارهم.

عوامل التكامل المعنوي

وهكذا فان التكامل المادي يسير سيرا طبيعيا، اما التكامل المعنوي فلابد له لكي يسير السير التصاعدي المرجو نحو الكمال، من عوامل يجب ان تتوفر لدى الانسان المؤمن؛ كالتدبر في كتاب الله، والاخلاص في العبادة والاكثار من الممارسات العبادية كالصوم، واداء النوافل وخصوصا صلاة الليل، فهذه العبادات هي التي تبعدنا عن الشيطان الذي يتربص بنا الدوائر كي يسرق منا ما بلغناه من درجات الايمان فيحولنا من بعد الايمان هذا كفارا والعياذ بالله.

ص: 236

فلابد للمؤمنين من ان يكون ميزانهم الهيا في حياتهم؛ اي ان تكون كل مواقفهم، وسلوكياتهم، وحركاتهم وحبهم وبغضهم، وجهادهم وكلمتهم خالصة لوجهه تعالى ولو ان جمعا صغيرا تكامل عبر هذا النهج فهذا يعني انهم قد واصلوا رحلتهم المعنوية الى الله، وغيروا انفسهم، فكلما اصطدموا بصدمات، وتعثروا بعثرات، واكتشفوا نواقصهم، وأصلحوها بالايمان، وعلاقتهم بالله، فانهم سيغلبون، وتحصل لهم السيادة على هذا العالم، لان الله عز وجل هو الغالب؛ كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِي (المجادلة / 21).

وهكذا فان المحن، والفتن، والتحديات التي نعيشها اليوم انما هي تمحيص لنا من قبل البارىء تعالى لكي يعلم مدى صدق ايماننا، واخلاصنا له، وينكشف المعدن النقي من الشائب، ويتميز الذي عمل وتحرك من اجل الله حقا ممن يبتغي في

حركته وسعيه المصالح والمطامع الدنيوية، والقضايا الشخصية والحزبية التي تمثل العصبية المؤدية باصحابها الى النار كما يصرح بذلك الحديث الشريف: "من تعصب او تُعصب له دخل النار".

فلا نخدعن انفسنا بما نقدمه من التبريرات التي نغطي بها مظاهر الحمية التي تبدو منا، فلقد اكمل الله سبحانه الحجة علينا، وكفى بالقرآن حجة علينا؛ فمن فتح بصيرته واهتدى فانما يفعلذلك لنفعه وخيره، ومن لم يأبه بهذا الحديثفلاحديثمن بعده ينفعه.

ان عاقبة عدم التدبر في القرآن قد تكون وخيمة غدا يوم القيامة. فبالاضافة الى حرمان الانسان المهمل للقرآن من ريح الجنة ونعيمها، فانه سيكون عرضة لعذابين؛ عذاب عدم تدبره في القرآن، وعذاب عدم العمل به وتطبيقه في حياته،

ص: 237

فهل ينفعنا بعد ذلك ما نخدع به انفسنا بما نقدمه من تبريرات لا اساس لها؟

واذا ما انتبه المؤمنون الى هذه القضية الحساسة وتجنبوها، فسيحدونا الامل بأن تنبعث طلائع تمثل الخط الايماني الصادق، وتتفاعل مع القرآن ومع نهج الرسول (صلى الله عليه وآله) واهل بيته الذين هم ثقل الكتاب وعدله، وتترفع عن الخلافات المادية والحزبية والدنيوية وينذرون انفسهم لله تعالى ويكونون ممن قال فيهم الله: فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ (المائدة / 54).

ومثل هذا الامل ليس بخيال يعاش، بل هو ممكن بقوة الهمم والعزائم، والتصميم بعد التوكل على الله، واغلاق كل الابواب والمنافذ التي يدخل منها الشيطان الى النفس، ليحول دون نهوضها باعباء المسؤولية الرسالية.

ان لنا في السابقين الذين باعوا مبادئهم بثمن بخس، وارتبطوا بحكومات الجور والظلم من مثل النصارى لعبرة، ونحن ينبغي علينا ان نكسب الناس بالحق، ونجمعهم على الحق، وان خمسة يجتمعون على الحق افضل من خمسة ملايين يجمعهم امر باطل، او خلط بين حق وباطل.

***

ص: 238

الفصل الثاني: الصبر آية الايمان

اشارة

حالات الاضطرار عند الانسان هي افضل الحالات التي يمكن ان تتخذ معراجا للنفس البشرية لتصل الى مصد ر النور، والى معرفة الله سبحانه وتعالى، فعندما يضطر الانسان تتمزق امام عينيه كل الحجب التي صنعتها الغفلة والشهوات، ويتصل قلبه بمصدر القوة وينبوعها، بمن يستطيع ان ينقذه ولا منقذ سواه.

وهذه الحالات التي تصيب الانسان كفرد وكمجتمع تستهدف العروج بروحه الى الخالق عز وجل، فهو يرحم عباده لكي لا يغفلوا عنه، ولا يحرموا لذة مناجاته، ولا يبيتوا على حالة الكفر به دون ان يتذوقوا حلاوة الاتصال به، فيبتليهم تعالى ببعض هذه المشاكل والاخطار لتلوذ قلوبهم به، ويبتليهم بالمرض يوما، وبالفقر يوما، وبخطر داهم من الطبيعة يوما اخر.

ص: 239

وفي حالة تعرض الانسان الى مثل هذه الابتلاءات عليه ان ياخذ بنظر الاعتبار الوصايا التالية لكي يحول هذه الابتلاءات الى مدرسة تزكي نفسه، وتصقل روحه، وترفع من درجة ايمانه.

1 ان يتذكر هذه الابتلاءات، ويستشعرها طيلة ايام حياته، فان كنت الان قوي الجسم معافى فاحمد الله، وتذكر تلك الايام التي كنت فيها بحاجة ماسة الى الله تعالى، وتذكر تلك اللحظات التي كنت تناجي فيها ربك، فلابد ان تكون قد مررت بمثل هذه اللحظات؛ لحظات الخوف، والهلع، والابتلاء بالمحن، فتذكر هذه اللحظات، واشكر الله جلت قدرته.

ان هناك الكثير ممن ينسون الله عز وجل، ولا يذكرون الا الشركاء من دونه، فيقولون: ان الطبيب الفلاني هو الذي عالجنا، وان الدواء الفلاني هو الذي شفانا

، ولكنهم يقولون عند المرض: يا ألهنا!، وبعد ان يشفوا يتكبرون على ربهم، ولا يرضون حتى ان يعترفوا بان الله هو الذي شافاهم.

2 الاعتبار بمعاناة الاخرين: فلنذهب مثلا الى المقابر، ولنتذكر ان الراقدين فيها كانوا في يوم من الايام احياء مثلنا، ثم انقطعت آمالهم، وطموحاتهم وهم تحت التراب، فلا يستطيعون ان يقوموا بعمل، ولا ان يعودوا الى دار الدنيا رغم انهم يتمنون من اعماق قلوبهم ذلك.

ولنزر المستشفيات، ولنحمد الله على عافيتنا وسلامتنا لكثرة ما نرى من مرضى تعج المستشفيات بهم، واذا ما وقعت انظارنا على صاحب بلاء فلنحمد الله على معافاته لنا، وان رأينا انسانا اعمى، او اصم، او اعرج... فلنتوجه الى الله جل ثناؤه ولنحمده على اننا معافون، وعلينا ان نحذر من ان نقول هذا

ص: 240

الكلام شامتين لان من يشمت باخوانه لا يموت الا بعد ان يبتلى بمثل ما ابتلوا به.

3 تذكر انك لست بعيدا عن منطقة الخطر، فأنت غافل عن الاخطار المحدقة بك؛ فمن الممكن ان تكون هناك جلطة في دمائك تسبح في العروق المختلفة، ومن الممكن ان تصل هذه الجلطة الى قلبك لتصاب بسكتة قلبية.

ان هناك الكثيرين ممن كانوا يحسبون انهم لا يموتون، وانهم اقوياء، ولكن خطرا بسيطا استطاع ان يقضي عليهم، ولذلك على الواحد منا ان يتذكر دائما انه ليس بمنجى من الاخطار، ويجب على الانسان ان يطلب الحفظ والحراسة من الله تعالى لا من الموت فحسب، او الاصابة بالحوادث المختلفة، بل من خطر اعظم واكبر الا وهو خطر الوقوع في الضلالة، والسقوط في حبائل الشيطان الذي يبحث

عن اية ثغرة في نفس الانسان ليضله، فان كانت هذه الضلالة في آخر لحظة من عمر الانسان، فانه والعياذ بالله سيدخل النار خالدا فيها.

اسلوب الشكران:

ترى كيف نشكر الله على نعمه؟ القرآن الكريم ينبئنا بذلك قائلا: أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُم مِنْ ءَايَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لاَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (لقمان / 31).

وهذا هو المعنى الحقيقي لشكر النعمة؛ وهو ان يتذكر الانسان انها من الله تعالى، وفي هذا المجال يروى عن ابي عبد الله (عليه السلام) قال: اوحى الله عز وجل الى موسى (عليه السلام) يا موسى اشكرني حق شكري فقال: يا

ص: 241

رب فكيف اشكرك حق شكرك وليس من شكر اشكرك به الا وانت انعمت به علي؟ قال يا موسى الان شكرتني حين علمت ان ذلك مني.

فالشكر هو ان نعلم ان الله يحفظنا من كل الاخطار. يقول سبحانه وتعالى: وَإِذَا غَشِيَهُم مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُاْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِاَيَاتِنَآ إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (لقمان / 32) فالموج كان يأتيهم وكأنه سحب متراكمة، ولذلك كانوا يرجعون الى الله، ويستغيثون به لينقذهم منه، وعلى هذا فان بعض الناس يكونون مع الله في الشدة، ويستمرون معه في حالة الرخاء، ولكن هناك اناسا لا يتذكرون ايام الرخاء، وكلمتا

(ختار كفور) تستعملان في مقابل (صبار شكور) فالانسان الذي يشكر الله يبقى في حالة الخوف والرجاء.

واذا كنا دعاة الى الله، ومبلغين لرسالاته دون ان نخشى احدا غيره، فحينئذ ينبغي ان نقوم بدور من يقرب ويحبب الناس الى الله، ويزين لهم الايمان به، ولنعلم ان الايمان هو اكبر النعم، وان الله جل وعلا قد هدانا اليه، وهو لا يريد جزاء، بل يتوجب علينا ان نتعرف عليه ونؤمن به.

وفي كثير من الاحيان نتذكر كثيرا من الادعية فنفهم منها ومن الصلاة الجانب الترهيبي فقط، وعلى سبيل المثال فان الانسان يخشى من ان لا يصلي لكي لا يعتبر من تاركي الصلاة، وكذلك الحال بالنسبة الى مانع الخمس والزكاة، فالجميع يعلمون ان تارك الصلاة، ومانع الزكاة والخمس يدخلون النار، ولذلك فان الناس يتذكرون هذا الجانب الترهيبي، في حين ان من الواجب ان يتذكروا الجانب الترغيبي ايضا لاننا عندما نقول "اشهد ان لا اله الا الله" فاننا في هذه الحالة لابد

ص: 242

ان نقول (الحمد لله) لانه تعالى اعطانا القدرة على ان نتحرر من ربقة الشهوات، واستعباد الطغاة، واصحاب المال والجاه، وهذه هي الحرية التي هي افضل نعمة منَّ الله بها علينا.

وعندما يدعونا الله عز وجل للايمان به فانما لكي يحررنا، ويجعل شخصياتنا تتكامل، وبالتالي لكي يشرفنا بلقائه، وذكره شرف للذاكرين، وحمده غنى للحامدين، فنحن الذين ننتفع بالايمان والله غني عن العالمين.

الصبر فائدة ايمانية

ومن ابرز فوائد الايمان "الصبر" ،لان الانسان الذي ابتلي بمرض، ثم انقذه الله منه فان من المفروض فيه ان يشكر الله على انقاذه، واذا ما ابتلي بالمرض مرة اخرى فانه يحمد الله لانه خلال فترة الصحة لم ينس ذكره، واستمر قلبه في الاتصال برب العالمين، فالانسان المؤمن صبور رغم ان المشاكل كثيرة، وانها تحطم قوة الانسان، ولكننا نرى المؤمن لايزداد بعد مواجهة المشاكل الا صلابة وصمودا لانه يعيش دوما مع الله، والذي يعيش مع الله لا يخاف احدا.

والانسان الصبور هو الذي يتمتع بملكة التفوق على المشاكل، فهناك الكثير من الناس سرعان ما تهزمهم المشاكل لجزعهم منها، وفي هذا الصدد يقول الامام علي (عليه السلام): "اذا خفت من امر فقع فيه" فالكثير من الناس وبسبب خوفهم ترى ان الطاغوت يتسلط عليهم، ولكن الانسان المؤمن تراه على العكس من ذلك رابط الجأش، صابرا، قوي الايمان.

والمسلمون اليوم انما انهاروا لانهم انهزموا نفسيا، والحرب كما هو معلوم

ص: 243

انما هي صراع وارادة، والمؤمن لا يمكن ان ينهزم نفسيا، وهذه اعظم نعمة يمنحها الله سبحانه اياه، اذ لا يجعله عبدا لغيره، ولا يجعله ينهزم امام الاخرين، ويفقد استقلاله، فهو يمتلك الاستقامة، ونحن عندما نفقد صفة الصبر في انفسنا فاننا سنخسر صفة الاستقامة، وحينئذ لابد ان نشك في ايماننا.

وعلى سبيل المثال فان السجن هو شرف للانسان المؤمن الرسالي، وقد سجن كثير من انبياء الله من مثل يوسف (عليه السلام) الذي قال: رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ

مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ (يوسف / 33) ودانيال (عليه السلام) سجن في بئر، وهكذا الحال بالنسبة الى ائمتنا (عليهم السلام).

وعلى الانسان المؤمن عندما يلقى في السجن ان لا يخضع للسجان، فالسجان يجوعك من اجل ان يخضعك، ويعذبك ليذلك، فتحمل الجوع، والالم والعذاب وابق صامدا، فنحن ما انهزمنا الا لاننا لا نمتلك الايمان الكافي، والا لكنا قد هزمناهم.

والحركات الاسلامية ليست مسؤولة عن توعية الناس سياسيا، او اخلاقيا، او تربية الكوادر والكفاءات فحسب، وانما هي مسؤولة ايضا عن اعادة الناس الى حضيرة الايمان، ولابد لكل انسان رسالي اليوم ان يكون سلوكه، وقوله، وتصرفاته وكل ابعاد حياته مذكرة بالله عز وجل.

الأمور بيد الله:

والفقيه هو المؤمن الحقيقي الذي يذكّرك منظره بالله، فقلبه خاشع، ونفسه مطمئنة، وهو صابر شكور، فلو استطعنا ان نعود الى حضيرة الايمان فان كرامتنا

ص: 244

ستعود الينا وكذلك حريتنا، فالامور جميعا بيد الله جل ثناؤه فلنصلح ما بيننا وبين الله ليصلح تعالى كل امورنا سواء ما بيننا وبين الناس، او ما بيننا وبين الطبيعة، او ما بيننا وبين النفس الامارة بالسوء.

فلماذا اذن لا يؤمن الانسان بالله وهو الذي يعلم متى تقوم الساعة، ومتى ينزل الغيث، وماذا في الارحام، وماذا سنفعل غدا، ومتى نموت؟ ان هذه العلوم

الخمسة متصلة برب العالمين لا يعلمها الا هو، وانت ايها الانسان جاهل بها، وحتى لو رسمت لنفسك برنامجا لكافة الدقائق واللحظات القادمة من حياتك فانك سترى انك لا تستطيع تطبيق هذا البرنامج بدقة لوقوع حوادث لم تكن في حسبانك، ولكنها كانت في حسبان الله تعالى الذي يعلم الغيب، وما تكسبه النفس غدا. يقول جلت قدرته: إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الاَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (لقمان / 34).

***

ص: 245

الفصل الثالث: الابتلاء مدرسة الايمان

اشارة

للدنيا ظاهر وباطن، واكثر الناس لا يرون الا ظاهرا من الحياة الدنيا، ولكنهم عن باطنها غافلون، والذين يؤمنون بهذه المعادلة التي تحكم الخليقة يمثلون فئة قليلة، ومع ذلك فان هذا الايمان لم يصل بعد الى مرحلة اليقين، بل يبقى مجرد تسليم قلبي لهذه الحقيقة دون رؤيتها ودون التعمق فيها.

وهكذا فان الناس يقرون بالسنتهم ان الدار الاخرة هي دار البقاء، ويعلمون ان الدنيا هي دار الغرور والبلاء، ودار معروفة بالغدر، كما ويدركون ان الدنيا مزرعة الاخرة، وان ما كسب الانسان في هذه الدنيا سوف يكون وبالا عليه الا ما قدمه من عمل صالح.

ومع ذلك يبقى هذا العلم علما فوقيا لا يخالط افئدتهم، ولا يتوغل في اعماقهم، فهم بحاجة الى اختراق هذا الحجاب السميك الموضوع على عين الانسان والذي لا يدعه يرى حقيقة الدنيا.

ص: 246

ترى كيف نخترق هذا الحاجز، وكيف نفهم حقيقة الدنيا، وكيف تصبح هذه الدنيا عندنا بمثابة الجيفة التي تتكالب عليها الكلاب المسعورة؟

الفتنة هي الطريق الى ذلك، فهي التي تمحص الانسان، وتطهر قلبه من العلاقات المادية الفوقية، وتصفي نفسه من رواسب الشرك، ومن التعلق بالدنيا. والفتنة تعني من الناحية اللغوية وضع المعدن في النار لكي يصفو مما لحق به من الشوائب، اما فتنة

الانسان فتعني انه يمثل معدنا ذهبيا خالصا ولكن رواسب من الدنيا اختلطت به، من مثل حب الشهرة، والمال، والاهل والاولاد.. هذه الرواسب اختلطت بمعدن الانسان.

ولذلك فان الانسان المؤمن لابد ان يدخل في نار الابتلاءات والمشاكل لكي يصبح قلبه خالصا من كل العلائق المادية، وهذه الحقيقة اشار اليها تعالى في قوله: الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا ءَامَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ (العنكبوت / 21).

الايمان الخطوة الاولى

وهكذا فان مجرد الايمان لا يكفي، فادعاء الايمان هو الخطوة الاولى، اما الخطوة الثانية فتتمثل في ارتداء جلباب البلاء، واقتحام غمار الفتن، فتترى عليك قطع البلاء كالليل المظلم، وتنتقل من بلاء الى بلاء، ومن صعوبة الى صعوبة، وان خرجت من كل ابتلاء سليما فانك ستطهر، وترتفع درجة.

ولقد ابتلي نبينا ابراهيم (عليه السلام) مرة حينما القي في النار، واخرى عندما امر بذبح ابنه، وثالثة عندما اسكن هو وذريته في واد غير ذي زرع عند بيت الله المحرم، وفي كل مرة ابتلي فيها كان يرتفع درجة حتى اتخذه الخالق

ص: 247

تعالى خليلا، وهكذا الحال بالنسبة الى الانسان المؤمن فهو لا يمكن ان يحصل على درجات الايمان دون ثمن، وفي هذا المجال يروى عن سيدنا ونبينا محمد (صلى الله عليه وآله) انه قال: "اعلموا ان من كان من قبلكم كان يمشط بامشاط

الحديد" ؛اي ينتزع لحمه بمشط من الحديد، ثم ينشر بالمنشار، ويرمى به في النار الملتهبة.

وفي رسالة من الامام ابي عبد الله الصادق (عليه السلام) الى اصحابه، جاء فيها: "فاتقوا الله ايتها العصابة الناجية ان اتم الله لكم ما اعطاكم به فانه لايتم الأمر حتى يدخل عليكم مثل الذي دخل على الصالحين قبلكم وحتى تبتلوا في انفسكم واموالكم وحتى يستذلوكم ويبغضوكم، وحتى يحملوا عليكم الضيم فتحملوه منهم، تلتمسون بذلك وجه الله والدار الاخرة، وحتى يكذبوكم بالحق، ويعادوكم فيه، ويبغضكم عليه، فتصبروا على ذلك منهم، ومصداق ذلك كله في كتاب الله الذي انزله جبرئيل (عليه السلام) على نبيكم، سمعتم قول الله عز وجل لنبيكم (صلى الله عليه وآله): فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِل لَهُمْ (الاحقاف / 35) ثم قال: وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِن قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَاكُذِّبُوا وَاُوذُوا (الانعام / 34) فقد كذب نبي الله والرسل من قبله واوذوا مع التكذيب بالحق، فان سركم أمر الله فيهم الذي خلقهم له في الأصل أصل الخلق من الكفر الذي سبق في علم الله ان يخلقهم له في الاصل، ومن الذين سماهم الله في كتابه في قوله وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ (القصص / 41) فتدبروا هذا واعقلوه ولاتجهلوه، فانه من يجهل هذا وأشباهه مما افترض الله عليه في كتابه مما أمر الله به ونهى عنه ترك دين الله

ص: 248

وركب معاصيه، فاستوجب سخط الله فأكبه الله على وجهه في النار"(1).

خط البلاء ممتد:

وعندما يقول تعالى: أَحَسِبَ النَّاسُ فانه يقصد ان هناك الكثير من الناس يتصورون ويزعمون ان الايمان هو مجرد لقلقة لسان، اوعلى الاقل مجرد ممارسات عبادية يقوم بها الانسان، ولكن الحقيقة تقول ان خط الابتلاء والفتنة ممتد من آدم الى قيام الساعة، وما جرى على المؤمنين سابقا، لابد ان يجري عليهم لاحقا كما يقول عز من قائل: وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ (العنكبوت / 3).

والايمان على نوعين؛ ايمان مستودع، وآخر مستقر، والايمان المستودع هو ايمان كاذب، ايمان الذين يؤمنون بشروط مسبقة، فيقول احدهم انا مؤمن ولكن بشرط ان لا يمسني وبيتي واهلي سوء، ولا اتعرض لاذى. اما الانسان الذي يستقر في قلبه النوع الثاني من الايمان فيقول: انا مؤمن بدون شرط وقيد، وفي كل الظروف، ومثل هذا الانسان عندما يدخل السجن مثلا يقول: انا لله وانا اليه راجعون، هذا ما وعدنا الله ورسوله... فيدخل بروحية المؤمن، ويتلوى تحت سياط الجلادين، ولكن ايمانه بالله عز وجل ينمو ويتسامى، فيدخل السجن مؤمنا عاديا ليخرج منه مؤمنا من الدرجة الاولى.

وهذا الانسان يعلم علم اليقين ان هذه المشاكل لابد ان تزول، وان الذين سببوها زائلون لا محالة، وهذه الحقيقة يبشرنا بها القرآن الكريم في آيات عديدة

ص: 249


1- موسوعة بحار الانوار ج 75 ص 213

كقوله تعالى: وَلِكُلِّ امَّةٍ أَجَلٌ (الاعراف / 34) له تعالى: قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً.. (الطلاق / 3) وهكذا فان كل حاكم محكوم في النهاية

وفي هذا المجال يروى ان هارون الرشيد بعث ذات مرة رجلا الى الامام موسى بن جعفر (عليه السلام) وكان سجينا عنده، فقال له الرسول: ابن عمك امير المؤمنين يبلغك السلام ويقول نعفو عنك ولكن بشروط معينة، فما كان من الامام (عليه السلام) الا ان اجاب قائلا: كل يوم يمر فانه يقربني الى الجنة خطوة، ويقربه الى النار خطوة، وسنلتقي عند الله.

وهكذا فان اجل الظالمين محدود، بل ان الله تعالى يطول اعمار المجاهدين رغم انوف الطغاة.

الجهاد لصالح الانسان:

ويبين لنا الله عز وجل حقيقة ان الجهاد لابد ان ينتهي لصالح الانسان في النهاية فيقول جل شأنه: وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ (العنكبوت / 6)، فالله هو الغني عن العالمين، فهو لايحتاج الى جهادنا بل نحن الذين نحتاج الى هذا الجهاد لانه يرفعنا درجات عنده سبحانه وتعالى.

ترى ماذا يعني الجهاد، وماذا تعني الفتنة؟ ففي كثير من الاحيان تجري على السنتنا بعض المصطلحات والمفاهيم دون ان ندرك حقيقتها؛ اي اننا ننطق بالكلمات المجردة دون ان نحولها الى حقائق واقعية خارجية تعبر عنها، ولذلك فان القرآن الكريم كلما ذكر لنا حقيقة ضرب عليها مثلا.

وفي هذا المجال يقرر تعالى ان اول من عليك ان تكون مستعدا لمجاهدته في حياتك يتمثل في ابويك كما يشير الى ذلك القرآن الكريم في قوله: وَإِن

ص: 250

جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَآ (العنكبوت / 8) فالمشكلة الاولى التي يواجهها الانسان هي مشكلته مع ابويه، ولقد تجلت هذه المشكلة عند

ابراهيم (عليه السلام) عندما عارض اباه وفي الحقيقة فان هذه هي المرحلة الاولى من الجهاد.

اما المرحلة الثانية فتتمثل في الجهاد ضد توجهات المجتمع، وهذه المرحلة يشير اليها تعالى في قوله: وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ ءَامَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَآ اوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِن جَآءَ نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ (العنكبوت / 10) واذا توقفنا قليلا عند قوله تعالى: جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ لاكتشفنا ان العذاب الدنيوي هو عذاب محدود لان وقته محدود، في حين ان عذاب الله عز وجل ليس كذلك بل هو عذاب ممتد لاينتهي.

بين الابتلاء الدنيوي والاخروي

وهكذا فان على الانسان المؤمن ان يضع نصب عينيه دائما انه لابد ان يواجه المصاعب، وان هذه المصاعب هي اقل بكثير من العذاب الذي سيواجهه الجلاد يوم القيامة، وكما يقول الحديث الشريف فان يوم المظلوم اشد على الظالم من يوم الظالم على المظلوم، فالظالم يسلط عليك سوطا، ولكن الله تعالى سيسلط عليه في الاخرة مقامع من حديد بحيث ان واحدا منها لو سقط على الجبال لتفتتت، فكيف بالانسان؟

ان استشعار هذه الحقيقة يمنحنا الصبر والصمود، ويفهمنا ان للدنيا ظاهرا وباطنا، وفيسورة العنكبوت التي اوردنا الايات السابقة منها اشارات واضحة الى هذه الحقيقة.

ص: 251

ومن ابرز ما ينبغي ان يبتعد عنه الانسان هو حب الرئاسة والشهرة في الدنيا، فهذا الحب متعمق في ذات الانسان، ولذلك فان الله تعالى لم يخرج آدم وحواء من

الجنة الا لانهما استسلما لهذا الحب حيث قال لهما الشيطان مخاطبا آدم (عليه السلام): فَوَسْوَسَ إِلَّيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَآ ادَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لاَّ يَبْلَى (طه / 120).

ولذلك فان اكثر الناس انما يدخلون النار بسبب حب الرئاسة اما بصورة مباشرة، او بصورة غير مباشرة، وذلك من خلال طواغيت الارض ومن يحوم حولهم لان الذين يحبون الرئاسة يدخلون اتباعهم في نار جهنم.

والى ذلك يقول الله عز وجل: تِلْكَ الدَّارُ الاَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الاَرْضِ وَلاَ فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (القصص / 83) والمقصود بالمتقين هنا الذين يتجاوزون حاجز حب الشهرة والرئاسة، وفي هذا المجال يروى عن الامام الصادق (عليه السلام) ان دموعه كانت تتساقط عندما يسمع هذه الاية فيقول: ذهبت والله الاماني عند هذه الاية.

وللاسف فان بعض الناس يتصورون انهم من اهل الجنة، ولكنهم عندما يجدون فرصة للعلو في الارض، والشهرة نراهم لايستطيعون مقاومة حب الرئاسة، وفي رأيي فان الكثير من الناس يتعرضون للسجون، ولملاحقة السلطات الارهابية، فيصمدون امام الصعوبات، ولكن حب الرئاسة يبقى في قلوبهم مع ذلك.

واذا ما استطعنا ان نصل الى مستوى اخراج حب الدنيا من قلوبنا، فاننا سنستطيع في الواقع ان نخترق الحاجب الفاصل بيننا وبين الدنيا، فنرى هذه الدنيا على حقيقتها، ولانكتفي بالنظر الى ظاهرها.

ص: 252

وعلى علماء الدين بالذات ان يربوا انفسهم منذ اللحظات الاولى من دراستهم العلمية على نبذ الرئاسة، وعدم الاستسلام لشهوتها.

وفي هذا المجال يروى عن الامام الصادق (عليه السلام) ان رجلا سأله: يا ابن رسول الله هل الارواح خلقت قبل الاجساد، أم الاجساد هي التي خلقت قبل الارواح؟، فقال الامام (عليه السلام): بلى، خلقت الارواح قبل الابدان بألفي عام، فقال الرجل: اين كانت هذه الارواح؟، فقال الامام (عليه السلام) كانت حرة في هذا الفضاء، فقال الرجل: يا ابن رسول الله فلماذا جيء بها الى هذه الدنيا اذا كان الامر هكذا؟، فأجاب الامام (عليه السلام): ان الارواح احست بالتكبر وهي في الملكوت الاعلى، فاراد الله عز وجل ان ينتزع منها هذا الفتنة فأدخلها الدنيا.

وهكذا فان في قلوبنا الكثير من العلو، والتكبر، ولابد ان نتعرض للمشاكل، والهجرة، والابتلاءات لكي نتطهر من تلك الصفات السلبية. فاذا سمعت ان فلانا يتكلم عليك فلا تغضب، واعتبر مثل هذا الكلام بمثابة هدية قدمت اليك، فكلامهم اما ان يكون صادقا فتبادر الى اصلاح نفسك، واما ان يكون كاذبا فتتطهر بذلك من الذنوب لان الذين يغتابونك هم الذين سيتحملون ذنوبك.

انموذج الصمود:

ثم ان الانسان كثيرا ما ينجرف في تيار الغرور فيأتي كلام الناس ليسقط غروره هذا، ولقد كان سليمان (عليه السلام) اعظم ملك في التاريخ، ولكنه مع ذلك تلقى النصيحة وهو يعيش ذروة عظمته وقدرته، فقد كان في تلك اللحظات يحمل على بساط ريحه مائة الف مقاتل من الجن والانس، وكان يصبح في بعلبك،

ص: 253

ويدخل عليه الظهر في المدائن، ويغشيه وقت العصر في بلاد الجبل، وفي الليل يعود الى مكانه، ومع كل مظاهر العظمة والقوة هذه مر على بيت النمل، فقالت نملة: يَآ أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لاَيَشْعُرُونَ (النمل / 18)، وعندما نطقت النملة بكلامها هذا سمعها سليمان بما اوتي من قدرة على فهم منطق الحيوان، فأمر جيشه كله بالتوقف، وقال: لايجوز ان نؤذي هذا النمل، دعوهم يدخلون مساكنهم بأمن.

والقرآن يضرب لنا هذا المثل ليفهمنا ان حضارة السماء يجب ان تكون هكذا، فحتى الحشرات والمخلوقات التي نتصور انها تافهة يجب ان تشعر فيها بالامن والاطمئنان، وقد كان سليمان (عليه السلام) من اكثر الانبياء تواضعا وزهدا، يعيش على كد يمينه وعرق جبينه، ولا يأكل مطلقا من بيت المال، ومع كل ذلك كان هذا النبي العظيم يطمح في ان يصل الى مستويات اعلى، فكان يدعو ربه قائلا: وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ (النمل / 19).

ولنسأل انفسنا الآن: اين اصبح ملك سليمان؟ لقد تحول الى هذه الاطلال التي نراها في بعلبك وفلسطين.

ان هذه الدروس والعبر التي نستخلصها من هذه القصص والاخبار التأريخية يجب ان ندرك من خلالها ان الدنيا ليست لنا، واننا يجب ان نخلص اعمالنا لله عز وجل، فكل شيء هالك الا وجهه الكريم، وكل شيء فان الا الاعمال الصالحة التي نقدمها لآخرتنا من خلال اجتياز الامتحانات والابتلاءات الالهية بنجاح.

***

ص: 254

الفصل الرابع: الايمان بالله مصدر الحرية

اشارة

من المعلوم ان الله سبحانه وتعالى ارادنا ان نتحرر من عبادة كل شيء سواه لا لأننا نعبده فحسب، وانما ليضمن لنا حريتنا، فعبادة الله تعالى ليست خضوعا فقط وانما تحد ايضا، وثورة على الطواغيت جميعا.

الله مصدر الحرية

وهنا لابد ان نضع نصب اعيننا ان الحرية من الله، فبدونه لا يمكن ان تحدث حرية، وبدون هذه الحرية لا يمكن ان نؤمن بالله عز وجل، بل ان الاله الذي لا يأمرنا بالحصول على الحرية، ولا ينقذنا من عبادة الاصنام، والذي نؤمن به دون ان نقول لا اله غيره، هذا الاله غير موجود اساسا، وان من العبث ان نبحث عنه.

وهكذا فاننا اذا اردنا ان نؤمن بالله، فعلينا منذ البدء ان نؤمن بالحرية، واذا

ص: 255

اردنا ان نؤمن بالحرية فلابد ان نؤمن قبل ذلك بالثورة، واذا اردنا ان نؤمن بهذه الثورة فلابد ان نرفع انفسنا الى مستواها؛ اي الى مستوى الارادة، والتضحية،

والعطاء، وتحطيم جميع القيم الباطلة، وحينئذ سنستطيع الوصول الى الثورة، واذا وصلنا الى الثورة فان هذا يعني اننا قد حصلنا على الحرية، واذا ما حققنا الحرية فاننا سنصل حينئذ الى الله تعالى.

اما ان اعبد الله، ثم اتخذ له شريكا، فانا كافر لأنه لا شريك له. فالاله الحقيقي لا يمكن ان يعيش في نفسي مع الاصنام، فالقلب الواحد لا يمكن ان يعيش فيه الله تعالى وحب الدنيا في نفس الوقت، والنفس الواحدة لا يمكن ان يعيش فيها الخالق عز وجل مع الاصنام، والجبت، وطواغيت الارض، بل ان مثل هذا الاله غير موجود اساسا، وانا في الحقيقة اخدع نفسي اذا قلت اني اعبد الله ثم اعطي قيمة لأي شيء غير الله، وغير ما منحه الله القيمة.

وقد نستغرب حينما نسمع مثل هذا الكلام ونقول: لماذا لا نعرف الله، ونحن نصلي ونصوم ونمتثل لاوامره؟ وللجواب على ذلك اقول: لاننا عندما نقف للصلاة لا نكون كالذين قال عنهم ربنا تعالى: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ (المؤمنون / 21)، وبصراحة فاننا لسنا مؤمنين، ولا نعرف الهنا الحقيقي حق معرفته، فالاله الحقيقي يفسره لنا القرآن الكريم في قوله: وإِلَهُكُمْ إِلهٌ وَاحِدٌ لآ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (البقرة / 163).

ثم يبين لنا القرآن الكريم من هو هذا الاله الذي ظهرت آثاره وآياته في

ص: 256

الكون قائلا: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيلِ وَالنَّهَارِ.. (البقرة / 164)، ومجيء هذه الاية في هذا الموضع بالذات يفسر لنا ما سبق

وان قلناه من ان الاله الحقيقي هو اله السماوات والارض، الاله الذي يتجلى لنا حتى في السفن وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ (البقرة / 164)، وفي تقلب الرياح: وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ (البقرة / 164)، وفي كل آية من آيات هذا الكون ان كان للناس عقل يدركون به هذه الايات، ويستدلون بها على وجود الخالق تعالى.

ومع ذلك فان من الناس من هم عبيد الانداد، كما يصرح بذلك تعالى قائلا: وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ (البقرة / 165) في حين ان من يحب الانداد لا يمكن ان يحب الله عز وجل، وبالتالي فان الهه ليس الها واحدا.

القوة لله جميعا:

ثم يقول تعالى: وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ انَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً وَاَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (البقرة / 165).

فلماذا تحبون الشركاء والانداد؟ هل ليعطوكم القوة، والقوة عند الله، ومادامت عند الله فهي موجودة فيكم انتم ايضا مادمتم مؤمنين به تعالى، فالقرآن الكريم يصرح ان الذي يحب الشركاء ليس حرا، وليس ثائرا وطموحا ومتطلعا.

ويستمر السياق القرآني الكريم قائلا: إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوْا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ (البقرة / 166).

ص: 257

فكل انسان يزعم في حياته ان تركه لمسؤولياته في الحياة انما هو بسبب حبه للناس، وخضوعه لهم، فكل واحد منا يعتقد ان الناس سبب من اسباب رحمة الله علينا، ويزعم ان الشخص الفلاني هو سبب عطاء الله له، وسبب انقاذه، في حين ان القرآن يرفض هذا المنطق قائلا: وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ، فالناس لا يمثلون حتى الاسباب، فالانسان عندما يفكر في الاعتماد على غير الله تعالى، وعلى غير ما اعطاه الله من قوى وقدرات، فحينئذ تبدأ انحرافاته الكبرى، ويستعبد، ولا يستطيع ان يخرج من اسر العبودية، واذا لم يتحرر فانه سوف لا يعبد الله، لان الهنا هو اله الحرية.

ويستمر القرآن الكريم في هذه التوجيهات القيمة قائلا: وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ انَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ (البقرة / 167) وهكذا تتحول اعمالهم الى حسرات وعبث، ويخلدون في النار: وَمَا هُم ْبِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (البقرة / 167).

ثم يوجه سبحانه خطابه الى المؤمنين قائلا: يَآ أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً (البقرة / 168)، ومع ذلك فان اكثر الناس يضيقون على انفسهم، ويحرمونها من متع الحياة التي احلها الله تعالى لهم، بسبب عبادتهم للدنيا، وتقديسهم، وخضوعهم للعادات الخرافية، والتقاليد الخاطئة، ولذلك فان القرآن الكريم يأمرنا بأن نخرق هذه التقاليد، وان نتفاعل مع الحياة، فالحياة حرة، ونحن خلقنا احرارا، فمجرد جهلنا لواقع الحياة، وحبنا للانداد، وعدم معرفتنا بأن القوة لله جميعا، هو الذي يمنعنا من التمتع بالحياة الحقيقية.

ويستأنف تعالى قائلا: وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ (البقرة / 168)

ص: 258

فالشيطان يصدنا عن التمتع الصحيح بلذائذ الحياة من خلال الافكار الخرافية، والتقيدات الخاطئة، والزيادة في الدين والغلو فيه. من هنا جاء التحذير القرآني في عدم تتبع خطوات الشيطان لانه يأمر بالفحشاء، والافتراء على الدين: إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَآءِ وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (البقرة / 169).

ثم يقول تعالى: وإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَآ انْزَلَ اللّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ ءَابَآءَنَا أَوَلَوْ كَانَ ءَابَآؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَيَهْتَدُونَ (البقرة / 170) والعجيب اننا نلاحظ هنا مفارقة عجيبة من مفارقات الانسان فقد منع من ان يتبع اهواءه فاذا به يتبع اهواء آبائه، ومنع من ان يترك دينه من اجل لذاته، واذا به يترك حياته ولذاته من اجل لذات الاخرين، وهنا يوبخه الله تعالى قائلا: "اولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون" ،فالانسان في مثل هذه الحالات يتوهم انه يجب ان يسير على ما سار عليه السابقون.

ويستمر القرآن الكريم في توبيخه لهذا النمط من الناس قائلا: وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَآءً وَنِدَآءً صُمٌّ بُكْمٌ عُميٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ (البقرة / 171) فحال هؤلاء كحال من يسمع صوتا ما، فيجيبه بنفس الصوت دون ان يعرف معناه، او يتكلم بكلام لا يعرف مدلوله، وهدفه.

والملاحظ ان القرآن الكريم قد خاطب هؤلاء بكلمة (مشركين)، ولكنه الان يصعد من حدة مخاطبته ليصفهم بأنهم كفارا؛ فهم لا يعتقدون بالله، لان الاله الذي نتخذ معه اندادا غير موجود، والاله الذي نجعل معه الاباء لا وجود له ايضا.

ص: 259

والقرآن الكريم يشبه هؤلاء الكافرين بأنهم يصيحون صياحا يشبه النعيق، فهم لا يفهمون ما يقولون إِلاَّ دُعَآءً وَنِدَآءً، وهم صُمٌّ بُكْمٌ عُميٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ.

والملاحظ ان القرآن الكريم اكثر في هذه الايات من استخدام كلمة (العقل)، ومشتقاتها، وكأنه يريد ان يقول للانسان انك عاقل، ومسؤول، وحر، فلماذا لا تتحرك؟ فالقرآن هو كتاب الحرية، والاله الذي نعبده هو اله التحرر، والتحرر لا يمكن الا بالثورة، والثورة لا تتحقق الا عندما نعرف قيمتنا، وقيمة ربنا تعالى.

ونحن لا نتحرر بسبب الجبن المسيطر على نفوسنا، ولاننا لا نعرف ان وراءنا ربا قويا ضمن لنا حريتنا، وان الهنا هو اله القوة جميعا كما يقول تعالى: اَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً (البقرة / 165)، فلو كنا نعرف قيمة انفسنا، وان معنا اله الحرية، والقدرة، والعطاء، ومن بيده ملك السماوات والارض، وتصريف الرياح، والفلك، لعرفنا انفسنا، ولاصبحنا اقوياء.

وخلاصة القول اننا لا يمكن ان نعبد الله عز وجل حق عبادته الا بعد ان نكفر بالطواغيت وكل الانداد، لان الاله الحقيقي لا يمكن ان يتعايش مع الانداد، ثم ان الله تعالى لا يحررنا من عبادة الطواغيت والانداد فحسب، وانما يضمن لنا بالاضافة الى ذلك حريتنا من خلال الاعتقاد بان القوة لله جميعا.

***

ص: 260

الفصل الخامس: الايمان في مواجهة خطط الشيطان

اشارة

عندما اسجد رب العزة لآدم ملائكته الا ابليس الذي ابى واستكبر، اقسم هذا الاخير على ان يغوي ابناء آدم، ويهديهم الى سواء الجحيم، وبذلك تحدى ابليس ربه. وقد بين الله عز وجل ان عباده سوف يتحدون أبليس بدورهم، رغم ان للشيطان خططا عديدة ابرزها خمس خطط سنذكرها فيما يلي يستخدمها لاغراء بني آدم، انتقاما منهم، ولوجود عداوة قديمة بينه وبينهم.

وفي هذا المجال يقول عز من قائل مخاطبا الشيطان اللعين: وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُم بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الاَمْوَالِ وَالاَوْلاَدِ وَعِدْهُمْ وَمَايَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً * إِنَّ عِبَادي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً (الاسراء / 6564).

ص: 261

خطط ابليس الخمس:

ومن خلال هذا السياق القرآني الكريم اشار عز وجل الى خطط أبليس وهي كما نلاحظ خمس خطط نذكرها فيما يلي:

1 الخطة الاعلامية التضليلية التي يشير اليها عز وجل في قوله: وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُم بِصَوْتِكَ، وهذه الخطة تسبق كل الخطط الاخرى لاسباب هي انها تستخدم قبل اية خطة اخرى، ولانها اوسع استخداما واكثر انتشارا، ولان ابليس يضل عباد الله بصوته واساليبه، وما الموسيقى والغناء، وادوات الطرب الا اسلوب من الاساليب الشيطانية.

2 الاساليب الارهابية الخبيثة التي تستخدمها دوائر أبليس دائما، وهي التي يشير اليها عز وجل في قوله: وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ؛ اي من خلال الارهاب عبر القوة الظاهرة وهي (الخيل).

3 محاولة ربط شهوات الانسان بخططه وتضليلاته متمثلة في السعي من اجل افساد النظام الاقتصادي والبرامج الاجتماعية، هذه الخطط التي يعبر عنها القرآن الكريم في قوله: وَشَارِكْهُمْ فِي الاَمْوَالِ وَالاَوْلاَدِ؛ اي ان أبليس يخطط للاقتصاد، فيشارك الناس في اموالهم، ويخطط لافساد التربية، والنظام الاجتماعي فيشارك الناس في اولادهم.

4 محاولة اغراء الانسان، وترغيبه، وعرض المستقبل الكاذب امامه وَعِدْهُمْ وَمَايَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورا.

5 استخدام القوة الباطنة، اي ما نطلق عليه اليوم تعبير (الطابور الخامس) وهذا ما يشير اليه عز وجل في كلمة (رجل) في قوله: وَأَجْلِبْ

ص: 262

عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ.

ومع كل ذلك فان الله سبحانه وتعالى يقول: إِنَّ عِبَادي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً، فعباد الله الذين يتصلون بربهم، ويتمسكون بحبله، ويعتصمون بكتابه ورسوله، ويتوكلون عليه، ويثقون بوعده، لايمكن للشيطان ان يضلهم؛ فلا اعلامه، ولا افساده للنظام الاقتصادي، والتربوي، ولا غروره بقادر على ان ينكب عباد الرحمن عن الصراط المستقيم.

والايات التالية تبين لنا مثلا اعلى للاستقامة التي تحدى عباد الله المخلصون بها أبليس وهي:

وَإِن كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الاَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وإِذاً لاَّ يَلْبَثُونَ خِلاَفَكَ إِلاَّ قَلِيلاً * سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً * أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْءَانَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْءَانَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً * وَمِنَ الَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحمُوداً * وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِي مِن لَدُنكَ سُلْطَاناً نَصِيراً * وَقُلْ جَآءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً (الاسراء / 8176)

النبي (صلى الله عليه وآله) المثل الأعلى:

ان رسول الله (صلى الله عليه وآله) قائدنا وقدوتنا، والذي كلما تضيق بنا مذاهب الحياة، وتتراكم على قلوبنا هموم الدنيا، نعود اليه لنلتمس من سيرته ضوء،

ومن حياته قبسا، ومن احاديثه نورا لكي نقاوم مشاكلنا، ونلتمس طريقنا المستقيم بين الطرق الملتوية. هذا الرسول العظيم واجه الخطط الشيطانية،

ص: 263

فالشيطان ليس فقط ابليس الذي استكبر على ربه بل كل من يتبعه هو أبليس مصغر سواء كان جنيا أم أنسيا.

وقبل ان نشرع بتفسير الايات السابقة هناك فكرة يشير اليها القرآن الكريم بين الحين والاخر وهي ان وجود الانسان في هذه الدنيا انما هو لتجربة ارادته، فقد يتساءل البعض: لماذا سلط الله تعالى علينا ابليس هذا الشيطان الماكر، والعدو اللدود الخبيث المحيط بنا، والجاري بعروقنا مجرى الدم؛ فهو يضلنا في كل طريق، ويترصدنا في كل مكان، ويتبعنا اتباع الظل؟

هذا الشيطان الذي اعطاه الله عز وجل قدرة السيطرة الظاهرية علينا عبر هذه الخطط الماكرة لماذا سلط علينا؟ الجواب هو ان الله لو لم يسلط علينا ابليس، ولم يأمرنا بتحديه لما كان بين الانسان وبين ادنى الحيوانات اي فرق، ولما سخر الله لنا الطبيعة، واسجد الملائكة لابينا آدم، وجعل الكون في خدمتنا؛ فالفرق بيننا وبين الحيوانات اننا مريدون، ومسؤولون، واصحاب امانة، وعلى هذا فان مجيئنا الى هذه الدنيا انما كان لكي نجرب ارادتنا، وننتصر على انفسنا، ونصرع هوانا.

ان الانسان الذي يهرب من مسؤوليات مجتمعه لا يمكن ان يدعي انه قد جرب ارادته، بل يجب ان يعيش في وسط الارهاب، ويتحدى التضليل، ويخوض التجارب القاسية المرة، وكلما كانت المشاكل المحيطة بالانسان اكبر، كلما كان هذا الانسان اعظم، ونبينا (صلى الله عليه وآله) هو الشاهد الاكبر على هذه الحقيقة،

يقول تعالى: وَإِن كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لاَتَّخَذُوكَ خَلِيلاً (الاسراء / 73).

ص: 264

وهكذا فان الخطة الاولى لابليس كانت التضليل وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُم بِصَوْتِكَ وقد حاول الكفار والمشركون تضليل رسول الله (صلى الله عليه وآله) بخططهم الاعلامية الخبيثة، فقالوا له: انك لو اتبعت سيرتنا، ولم تمس آلهتنا بسوء، وسمحت لاصنامنا ان تبقى فاننا سوف نتبعك، فقد كان فوق احد الجبال القريبة من الكعبة الشريفة صنم تقدسه قريش، وتؤمن به، فعرضوا على النبي (صلى الله عليه وآله) ان يحطم كل الاصنام الا هذا الصنم لكي يميلوا الى دينه.

واهل الطائف قدموا الى رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقالوا له: سوف نسلم لك، ونتبعك دون حرب علما انهم كانوا يمثلون قوة هائلة في الجزيرة العربية ولكن بثلاثة شروط هي: ان لا ندفع الزكاة، ونصلي صلاة بدون ركوع وسجود، ولا نحطم صنم اللات لمدة سنة واحدة لكي نأخذ النذور والقرابين التي يؤتى بها الى هذا الصنم!

ولكن رسول الله (صلى الله عليه وآله) رفض بكل حدية هذه الشروط؛ ففي الاسلام لا توجد صلاة بدون ركوع وسجود، والزكاة هي حقوق الناس، والاصنام يجب ان تكسر كلها بدون استثناء، وعندما سمعوا جواب رسول الله (صلى الله عليه وآله) لم يسلموا، ورجعوا كافرين، وبقوا على هذه الحالة لعدة سنوات حتى جرد النبي (صلى الله عليه وآله) جيشا جرارا اليهم، فحاصر ديارهم حتى اسلموا.

جبل أشم:

وهكذا فان الانسان المؤمن كالجبل الاشم، على ان الجبل ينال منه، والانسان

ص: 265

المؤمن لا يمكن ان ينال منه. فالاعداء قد يعرضوا عليك ان تغير من دينك، ومبادئك، واسلوبك لكي يؤمنوا بك، في حين ان هذا من عمل الشيطان. فالشيطان لا يأمرك مرة واحدة بعدم الصلاة، والصوم بل يحرفك شيئا فشيئا، وهذا التضليل الاعلامي يجب ان يقاومه الانسان.

ثم يقول تعالى: وَلَوْلآ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً (الاسراء / 74) صحيح اننا ضعفاء امام تضليل أبليس واغوائه، ولكن لماذا نقوم كل يوم في الصلاة داعين: اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ (الفاتحة / 6)، ولماذا نقول في الدعاء: اللهم لا تكلنا الى انفسنا طرفة عين ابدا؟ لان الانسان ينهار امام الاعلام المضلل بدون الاعتصام بحبل الله، فالاعلام الشيطاني ليس هينا، وحتى في عهد آدم فان اول من بدأ بتضليل البشر، واستخدام الوسائل الاعلامية الخبيثة ضده كان ابليس حيث اقسم لآدم وزوجه قائلا: وَقَاسَمَهُمَآ إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (الاعراف / 21)

وآنذاك لم يكن آدم يتصور ان شخصا يمكن ان يحلف بالله سبحانه كاذبا، ولكنه لم ينتبه الى الخطة الاعلامية لابليس، ومنذ ذلك اليوم وحتى عصرنا الحاضر فان اساليب الشيطان في حالة تطور كلما تطور وعينا، فعلينا ان لا نكون غافلين، بل لنتوكل على الله، ونثق به، واذا ما خضع شخص لشرك الاعلام الشيطاني فسوف ينتهي لان الانسان هو الذي ينهي نفسه. فالشيطان يريد لك ان تذهب الى

النار من خلال تضليلك، فعندما يتغير المقود الى الاتجاه الخاطىء فان الانسان سيذهب بنفسه الى النهاية السوداء، وهذا ما يشير اليه تعالى في قوله: إِذاً لاََذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا

ص: 266

نَصِيراً (الاسراء / 75).

اما الخطة الثانية التي استخدمها الشيطان وجنوده ضد النبي (صلى الله عليه وآله) فقد اشار اليها جل وعلا في قوله: وَإِن كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الاَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وإِذاً لاَّ يَلْبَثُونَ خِلاَفَكَ إِلاَّ قَلِيلاً * سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً، وتتمثل هذه الخطة كما قلنا في ارهاب الانسان واخراجه من بلده.

المؤمنون بركة الارض:

ولقد حاول الكفار والمشركون ان يخرجوا رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ولو انهم افلحوا في ذلك لنزل عليهم العذاب وهذه هي سنّة الله في التأريخ، فأي بلد يخرج الطغاة المؤمنين منه فان العذاب سينزل عليه، لان المؤمنين هم بركة الارض، والله سبحانه وتعالى انما يمنع العذاب عن امة من الامم لوجود المؤمنين فيها كما يقول جل ثناؤه: وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (الانفال / 33)، فالمؤمنون هم اركان الارض، واوتادها، وهذه حقيقة يمكننا ان نلاحظها في كل دروس التأريخ.

وهنا من حقنا ان نتساءل: كيف نقاوم الارهاب؟، فالارادة ضعيفة، والنفس تنهار امام ضربات الجلادين، والشهوات تمارس الضغط على الانسان، والهجرة

صعبة؟ الجواب يأتينا من القرآن الكريم عبر قوله تعالى: أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْءَانَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْءَانَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً ونحن نعلم الفرق بين (الصلاة) و (اقامة الصلاة)؛ فالثانية تعني الصلاة الحقيقية التي امرنا بها، الصلاة التامة، والكاملة في شروطها، الصلاة التي

ص: 267

يستشعر الانسان فيها الخضوع، ونؤديها في اوقاتها، ونتوجه فيها، وحينئذ يمنحنا الله تعالى القدرة على مقاومة الشيطان.

وهكذا فاننا اذا اردنا مقاومة الارهاب فان علينا ان نتهجد الى الله سبحانه وتعالى لان القرآن الكريم يقول: نَافِلَةً لَّكَ؛ أي ان هذا التهجد هو فضيلة لك لانك القائد الرسالي الذي يقاوم هذا الضغط الهائل، ويقف امام تيار الفساد، وزخم الفساد الشيطاني، ونحن نستطيع ان نصل الى هذه المرحلة بارادتنا، وفي نفس الوقت فان هذه الارادة بحاجة الى مضاء، وعزم وقوة، وكما ان الجسم يحتاج الى طعام، فان الارادة هي الاخرى بحاجة الى زاد، وزادها هو صلاة الليل كما يقول عز من قائل: وَمِنَ الَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحمُوداً.

الصدق في مواجهة الفساد:

ثم يقول تعالى: وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِي مِن لَدُنكَ سُلْطَاناً نَصِيراً، والصدق هو السبيل الى مقاومة خطة الشيطان المتمثلة في اشاعة الفساد الاقتصادي والتربوي والتي اشار اليها تعالى في

قوله: وَشَارِكْهُمْ فِي الاَمْوَالِ وَالاَوْلاَدِ، فمقاومة الافساد الاقتصادي لا تتيسر الا من خلال إلتزام الصدق.

والصدق هذا يبدا من انفسنا، فعندما نكون صادقين في اعمالنا، وعندما نجعل واجباتنا اكثر من حقوقنا، ومما نطلبه ونتوقعه من الاخرين، فان انتاجنا سيكون اكثر من استهلاكنا، وعطاءنا اكثر من اخذنا، ففي هذه الحالة سنقدس العمل،

وندرك انه امانة في اعناقنا، وحينئذ سوف لا نخدع، ولا نخون، ولا نغش، ولا نكذب، وسوف يسود الصلاح النظام الاقتصادي والتربوي.

ص: 268

وعندما يريد احدنا ان يعمل عملا ويدخل فيه فلابد ان يعمله بصدق، واذا اراد الخروج منه فليخرج منه بصدق، فلا يترك العمل ناقصا، واذا ما سادت فينا هذه الحالة فحينئذ، سنحصل على الاستقلال السياسي والقوة والنصر، اما المجتمع الكسول الخامل الذي لا يبحث الا عن الحقوق قبل الواجبات، وعن الاخذ قبل العطاء، وعن الجمود قبل الحركة فان الله تعالى لا يمكن ان ينصره، ويمنحه القوة.

ثم يقول تعالى مشيرا الى خطة اخرى من خطط الشيطان: وَعِدْهُمْ وَمَايَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً، فالشيطان يعد بالغرور كاذبا، والمؤمن الحقيقي لا يركن الى هذه الوعود الكاذبة، فالصدق عند الله وحده، وعندما يطبق المؤمن هذا البرنامج الالهي، فان الله سبحانه وتعالى سيتفضل عليه بالعزة، والمنعة، والقوة، ويكون من ضمن العباد الذين يقول عنهم القرآن الكريم: إِنَّ عِبَادي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً، لان هؤلاء العباد اعدوا امام

كل عمل شيطاني قوة رحمانية تقاومه، وامام كل كيد من مكائد الشيطان خططا استوحوها من القرآن وبصائره.

***

ص: 269

الفصل السادس: المؤمن بين صلابة الموقف وتزكية النفس

اشارة

الانسان بأمس الحاجة لان تتكون عنده بصيرة نافذة في الحياة، فلابد ان يكون على اطلاع ومعرفة بالحقائق الكبرى المتعلقة بحياته؛ مثل ماهية هذه الحياة، والعلة من وراء وجودها ووجوده، والى اين يتجه في خضمها؟، ولعل الانسان يعيش على جهل في اغلب هذه الحقائق، في حين انه لابد له من معرفتها وادراكها كي تنكشف امامه سائر الحقائق، والامور المهمة الاخرى.

وليس المهم في هذا المجال ان يعلم الانسان ظاهر الشيء، بل المهم الاحاطة علما بجوهر الشيء، وعمق حقيقته. فلابد لي ولك من الاطلاع على جوهر الحقائق، وفهم اسرارها. ولو نظرنا الى اسلوب القرآن في الطرح والبيان، لاكتشفنا ان بيانه لفلسفة الحياة يسبق بيانه لحقيقة البلاء، ووقوعه على المؤمنين، فهو يحث الانسان على التعمق في فهم ومعرفة ماهية الحياة، وعلة وجودها، والغاية منها.

ص: 270

يقول تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ (آل عمران / 185)؛ فان شئت الاحاطة بشيء او حقيقة ما فلابد ان تبحث عن بدايتها او نهايتها، ولكن اغلب الناس يبحثون عن البداية ولا يهتمون بالنهاية، اما العقلاء، والحكماء، واولو الالباب والابصار فتجدهم يتقصون نهاية الحقائق، فهم حين يريدون ان يسلكوا طريقا فانهم لا يسلكونه الا بعد ان يعلموا الى اين سيوصلهم، فان علموا انه سيوصلهم الى ما يبتغون ويرمون، سلكوه حينئذ متوكلين على الله تعالى، والا تركوه وراحوا يبحثون عن طريق اخر يحقق غايتهم، ويوصلهم الى هدفهم.

ولذلك فان القرآن الكريم دأب على بيان الخاتمة التي تنتهي اليها هذه الحياة الدنيا قبل ان يتطرق الى ايضاح طبيعة هذه الدنيا وخصائصها، وكل ما يتعلق بها من حقائق وظواهر، فالموت هو خاتمة الحياة الدنيا، ولذلك ينبه القرآن الى هذه الحقيقة، ويؤكد على اهميتها، ولو ان الانسان عرف، ووعى، واستوعب حقيقة الموت، وانه صائر اليه لا محالة وان عمّر ما عمّر نوح (عليه السلام)، او ملك ما كان لسليمان (عليه السلام) لفهم، وتبصر الطريقة المثلى للسلوك والتعامل مع هذه الحياة، ومع غيره من بني الانسان.

حقيقة الحقائق:

وعلى الرغم من مرارة الموت، الا انه يمثل حقيقة جميلة وصادقة فلو وضع الانسان هذه الحقيقة في لوحة، وحملها ليطوف بها العالم كله بأديانه، ومذاهبه، وطوائفه، ثم سأل الناس عن رأيهم فيها لقالوا انها حقيقة الحقائق، وجوهر وخلاصة الفلسفات، فهي حقيقة واضحة مختصرة لا لبس فيها ولا غموض،

ص: 271

فكل وجود لابد من ان يصير الى الموت والفناء. واذا كان البعض يموتون وهم رقود فانهم لا يموتون كذلك في الحقيقة بل لابد من ان يستيقظوا ولو للحظات لكي يذوقوا طعم المنية قبل ان يصادر وجودهم. لذلك لو اراد الانسان ان يدرك ويفهم فلسفة الحياة والوجود وحقيقة هذه الدنيا، فعليه ان يذهب الى المقابر، ويزور المغتسل وينظر بتأمل كيف ان هذا الانسان الذي كان بالامس يحادثه، ويجالسه، ويأكل، ويشرب معه، اصبح اليوم جثة هامدة باردة، يصب عليه الماء من كل جانب، ويقلب يمنة ويسرة كما تقلب الخشبة اليابسة!

اننا لو ادركنا حقيقة المنتهى، وكيف يسدل الستار على هذا الوجود، فاننا سندرك بعد ذلك الحقائق الاخرى المتعلقة بالحياة وطبيعتها. فلو فهم الانسان حقيقة الموت، هانت لديه المصائب، وذابت امامه جبال العسر والمشاق، لانه سيعيش بامل الاخرة، ونيل نصيبه منها، فيعيش عندئذ حياته سعيدا في ظل القناعة والتواضع والرضا بما رزقه الله وانعم عليه وان كان قليلا يسيرا.

وفي حياة ائمتنا (عليهم السلام) صور رائعة لهذا الايمان الصادق، تركوها لنا لاقتفائها والاقتداء بها. فالامام زين العابدين (عليه السلام) كان حين يجلس على

الارض، يجلس القرفصاء فلا يستوي في جلوسه، او يجلس جلسة القائم، بل كان يجلس متواضعا ثم يدعو قائلا: "اللهم ارزقنا التجافي عن دار الغرور".

وهكذا فان معرفة النهاية لابد وان تهدينا الى معرفة البداية، والمسلك الصحيح في الحياة كما يقول تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ اجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ (آل عمران / 185)، فاذا ما عمل الانسان في دنياه خيرا، وجد فيها الخير. واذا ابتغى الشر وعمل به، فلا يجد الا كل ما هو شر وسيء.

ص: 272

بل ان عامل الخير لا يجد الخير في دنياه فحسب، بل سيلقى ما هو اكثر منه خيرا وجزاء حسنا في الاخرة عند ربه الكريم.

الفوز العظيم:

فلا يحزنك او يؤلمنك ان انت عملت خيرا ثم لم يمدحك الناس عليه، او يشكروك مادام هذا العمل لا يمكن ان يضيع عند الله سبحانه وتعالى الذي سيعطي الاجر الحقيقي، وفي نفس الوقت فان الذي يعمل الشر والسوء والعدوان في دنياه، عليه ان لايستعجل جزاءه، وان لا يسخر ان هو لم يلق هذا الجزاء في دنياه. ذلك لانه سيجد ما عمله حاضرا امامه يوم القيامة، فينال عقابه الاوفى، ويصيبه سوء ما عملت يداه. فالمهم اذن ان ينجو الانسان من النار، ويستطيع اجتياز الصراط وهذا هو الفوز العظيم كما يقول تعالى بعد الاية السابقة: فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَاُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَآ إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ (آل عمران / 185).

مسمرون في النار:

والملفت للنظر في هذا التعبير القرآني البليغ استخدامه لكلمة (زحزح)، وكأن الله تعالى اراد الاشارة الى انه ليس من السهولة ان ينتقل المسيء من النار الى الجنة، فأولئك الذين يدخلون نار جهنم يسمرون فيها فيصبح من الصعب اقتلاعهم منها. فالانسان عندما يولد في هذه الدنيا فكأنه يولد في مهد من نار، فعليه ان يكد ويتعب ويعمل في سبيل زحزحة روحه من نار جهنم،

ص: 273

وادخالها في الجنة والنعيم السرمدي، وهذا هو الفوز المبين. وإلا فان الذي يحب الدنيا، ويوليها اهتماما اكثر مما تستحقه، ويدوس القيم، والمبادىء، والمثل السامية من اجل دنياه، فانه سيخسر الاثنين، الحياة الدنيا، والاخرة، وهذا هو الخسران المبين. فهو مهما اهتم بدنياه، واضمر لها الحب والعبادة، فانها لابد ان ترفسه يوما وتلفظه الى جهنم. فالدنيا لا يمكن ان تفي يوما لاصحابها المغرورين بها: وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَآ إِلا مَتَاعُ الْغُرُور.

أطأ بعرجتي في الجنة:

فليكن هدفنا في الحياة الدنيا كهدف المؤمنين الصالحين والمتقين الصادقين وهو ان ننقذ انفسنا من نار جهنم، ونسمو بها عاليا الى رحاب الجنة، ونعيمها الخالد.

فقد روي انه: كان عمرو بن الجموح رجلا أعرج فلما كان يوم أحد وكان له بنون أربعة يشهدون مع النبي (صلى الله عليه وآله) المشاهد أمثال الأسد أراد قومه أن يحبسوه وقالوا: أنت رجل أعرج ولا حرج عليك وقد ذهب بنوك مع النبي (

صلى الله عليه وآله) قال: بخّ يذهبون الى الجنة وأجلس انا عندكم؟ فقالت هند بنت عمرو بن حرام امرأته: كأني أنظر إليه مولّيا قد أخذ درقته وهو يقول: اللهم لا تردني الى أهلي، فخرج ولحقه بعض قومه يكلمونه في القعود فأبى وجاء الى رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال: يا رسول الله إن قومي يريدون أن يحبسوني هذا الوجه، والخروج معك، والله إني لأرجو أن أطأ بعرجتي هذه في الجنة، فقال له: أما أنت فقد عذرك الله ولاجهاد عليك، فأبى، فقال النبي (صلى الله عليه وآله) لقومه وبنيه: "لا عليكم أن لاتمنعوه، لعل الله

ص: 274

يرزقه الشهادة" فخلّوا عنه، فقتل يومئذ شهيدا، قال: فحملته هند بعد شهادته وابنها خلاد وأخاها عبد الله على بعير، فلما بلغت منقطع الحرّة برك البعير، فكان كلما توجهه الى المدينة برك، وإذا وجهته الى أحد أسرع، فرجعت الى النبي (صلى الله عليه وآله) فأخبرته بذلك، فقال (عليه السلام): إن الجمل لمأمور، هل قال عمرو شيئا؟ قالت: نعم، إنه لما توجه الى أحد استقبل القبلة ثم قال: اللهم لاتردني إلى أهلي وارزقني الشهادة، فقال (عليه السلام): "فلذلك الجمل لايمضي إن منكم يا معشر الأنصار من لو أقسم على الله لأبره، منهم عمرو بن الجموح"(1)

وفي كربلاء يتقدم (جون) وهو مولى ابي ذر (رض)، فيقف امام ابي عبد الله الحسين (عليه السلام)، فيقول له الامام: يا جون انما انت طلبتنا للسلامة، فاذهب فأنت حر لوجه الله، فما كان جوابه (رض) الا ان خاطب امامه الحسين (عليه السلام) قائلا: يا ابن رسول الله، ان ريحي لنتن، وان لوني لاسود، وان نسبي

للئيم، فتنفس عليَّ بالجنة، فأذن له الحسين (عليه السلام) بالجهاد معه، فاقتحم الميدان، وقاتل قتال الابطال حتى استشهد، ليدخل الجنة.

الهدف الأسمى:

وهكذا فان على الانسان ان يبحث عن هدفه في الحياة، ولا يدع ايام عمره الطويلة، وما اوتي من فرص عديدة تمر دون اغتنامها في عمل الخيرات

ص: 275


1- بحار الانوار ج 20 ص 130

والصالحات، فتنقضي كلها دون ان يشعر، وحينئذ لا تنفعه الحسرات، والندم على ما فات. فليصح الانسان من غفلته، ولينهض ويرتفع بعمله وعطائه الى الهدف الاسمى وهو الجنة والرضوان. والوصول الى هدف كهذا لا يمكن ان يكون الا بالعمل والعطاء والاخلاص لله عز وجل، والا فان مآل اكثر الناس سيكون الى جهنم، كما يقول تعالى: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ (الاعراف / 179)

فلنطهر قلوبنا من شياطين الكسل والاهمال والتبرير وطول الامل، فالشياطين انما يريدون اغواءنا ليكون مصيرنا الى النار معهم، واحدى وسائلهم بث الكسل، وانواع التبرير، والتغرير بطول الاعمار وكثرة الاموال، وتزيين حب الدنيا وشهواتها، وملاذها الزائلة، والاهواء الضالة. وهذه هي وسائل واساليب الشيطان وجنوده في اغواء الانسان واسقاطه في هاوية جهنم، ونارها الحامية.

ولو ادرك الانسان حقيقة كون الحياة الدنيا غرورا، فانه سيعلم حنيئذ سر الابتلاء الالهي له. فالله سبحانه يحب عباده المؤمنين المتقين، ولكن لماذا كانت مسالك

هؤلاء المؤمنين مليئة بالاشواك والمعاناة والالام بدل ان تكون معبدة، مفعمة بالورود والرياحين؟ السر في ذلك انه تعالى يحب المؤمنين، ويريد سعادتهم، ولكن عز وجل لا يحب الدنيا وقد كرهها لعباده المؤمنين لعلمه الازلي انها لا تتلاءم مع مقامهم الرفيع، فكل ما لهم من هذه الدنيا ان يتزودوا منها ما ينفعهم لاخرتهم، فالدنيا مزرعة الاخرة عند المؤمنين، وهي مسلك وممر، وليست دار مقر.

ص: 276

حقيقة الابتلاء وانواعه:

ثم ينتقل السياق الكريم لعرض حقيقة الابتلاء وانواعه بشيء من التفصيل فيقول تعالى: لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ (آل عمران / 186) فالبلاء هو جلباب الانسان المؤمن، فاذا اختار الانسان الايمان والولاء لله تعالى فليلبس جلباب البلاء، لكون هذا البلاء يحيط بالمؤمن من كل جانب كما يحيط الجلباب بجسده، واول ما يكون البلاء والتمحيص في الاموال، فمن خلالها يمتحن الانسان ليعرف مدى بذله، وعطائه. من بخله وحرصه، فعلى المؤمن ان يضحي بماله اولا، فان لم يضح به اليوم فانه سوف لا يكون مستعدا لان يضحي بنفسه ودمه في سبيل الله عندما يحمى الوطيس.

ثم يكشف السياق عن نوع اخر من البلاء في قوله تعالى: وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذينَ اوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيراً (آل عمران / 186) فالانسان المؤمن قد لا يجد حائلا في نفسه يمنعه من ان يدفع بماله او نفسه في سبيل الله، ولكن قد يبقى يواجه مشكلة اخرى وهي حديث الناس وما فيه

من افتراء وسخرية واهانة وما الى ذلك، والقرآن الكريم يشير هنا الى هذه المشكلة، ويدعو المؤمنين الذين يبتلون بهذا النوع من البلاء الى الصبر على حديث الناس، وكلامهم الفارغ، وان تكون لديهم الصلابة، والتريث والحلم، فلا يعيروا اهمية لتلك الاقاويل، ولا يثبطنهم كلام الاخرين.

الحسين (عليه السلام) اسوة الصابرين:

ولتكن لنا في هذا المجال اسوة حسنة بأبي عبد الله الحسين (عليه السلام) عندما

ص: 277

اتهموه، ونعتوه بانواع النعوت الباطلة، ولقد فرحوا كثيرا بمقتله، ولسنوات بعد شهادته (عليه السلام) كانوا يشتمون اباه أمير المؤمنين (عليه السلام) في مساجدهم، ولكن هل كان لهم ما ارادوه من وراء نيلهم من أهل بيت العصمة والطهارة (عليهم السلام)، أم هم الذين اصبحوا محط لعن الامة، ونقمتها؟. لقد مضى أهل البيت (عليهم السلام) على نهجهم، وقالوا كلمة الحق التي مازالت تدوي في الافاق الى يومنا هذا، وبذلوا الجهود من اجل ان تكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الكافرين السفلى، فسلكوا طريقهم بكل شجاعة، لا يخافون في الله لومة لائم.

المؤمن يصارع الفتن:

ان الهدف من بياننا لطبيعة الدنيا وحقيقتها ان يقوى عودنا، وتترسخ عزائمنا، وتتعزز هممنا كما يقول تعالى: وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ (آل عمران / 186)، فلا يهون عزمنا، ولا يثبطنا قول العاطلين

الكسالى، واللاهين العابثين، ولنكن رجالا اقوياء كزبر الحديد، لا تهزهم الحوادث. فلابد للانسان المؤمن من ان يجتاز الامتحانات الصعبة الواحد تلو الاخر، وان يمحص في ايمانه، وعقيدته، واستقامته، ويخوض المعتركات، ويتحمل الاشواك والالام والمحن، ويصارع الفتن. فلابد للمؤمنين من ان يجتازوا بنجاح، ويخرجوا منتصرين من انواع التمحيص، والبلاء، ومن ذلك الاتهامات، والافتراءات والتقولات وما شابه ذلك من اساليب الحرب النفسية.

ص: 278

أهل الكتاب والمواثيق الالهية:

ثم ينقل السياق صورة عن اهل الكتاب، وعدم التزامهم بالمواثيق التي اخذت عليهم: وإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ اوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ (آل عمران / 187)، فقد كان من المفروض في أهل الكتاب والمتوقع منهم ان يؤيدوا المسلمين ويدعموهم مادام المسلمون يدعون الى الله، فأهل الكتاب من نصارى ويهود هم اهل رسالة، وينبغي عليهم ان يدافعوا عن الرسالات السماوية التي يختتمها الاسلام، ولكننا نراهم على مر التأريخ يجمعون كل قواهم لمحاربة الرسالة الاسلامية، فقد كتموا الحق عن الناس، ولم يطلعوهم عليه وهم أدرى به، كل ذلك من اجل مصالح ومطامع دنيوية استحبوها، وضحوا بمبادئهم وقيمهم وقدسية علمهم من اجلها، ولكن هل ستخلد لهم هذه المنافع الشخصية؟

مرحلة التصدي:

ثم ينتقل السياق ليؤكد هذه الحقيقة قائلا: لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَآ أَتَواْ وَيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلاَ تَحْسَبَنَّهُم بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (آل عمران / 188).

ان الصلابة في هذه المرحلة هي في غاية الاهمية لان هذه المرحلة هي مرحلة التصدي، المرحلة التي نبرهن فيها على صدق ايماننا، واستقامتنا، فالايمان لا يعني ان نردد آيات من القرآن، ونؤدي ظاهر العبادات، بل الايمان معدنه عند البأس، والشدائد، وحينئذ تتبين حقيقة الانسان وجوهره، وزيف ادعائه من

ص: 279

صدقه، كما يشير الى ذلك قوله تعالى: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ ءَامَنَ بِاللّهِ وَالْيَومِ الاَخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَاتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ الْسَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَاتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَآءِ وَالضَّرَّآءِ وَحِينَ الْبَأْسِ اوْلَئِكَ الَّذِين َصَدَقُوْا وَاُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (البقرة / 177).

اعمدة الايمان واركانه:

فمن اعمدة الايمان ان يصبر الانسان في البأساء والضراء، وحين المعترك والمواجهة، ومن الصفات الاخرى تزكية النفس، والكتمان والخفية في عمل الخيرات والصالحات، وان لا يجعل الانسان عمله وجهده عرضة لآفة الرياء المدمرة. فالرياء محرقة الجهود الخيرة، فعلى الانسان المسلم ان يعمل بشكل بحيث لو عملت يده

اليمنى الخير، جهلته يده اليسرى، وهذا هو ديدن نبينا الاكرم وأهل بيته عليهم السلام في عمل الخيرات والصالحات.

وعلى هذا فان القرآن الكريم يحذر من المراءاة، وافشاء عمل الخير من اجل الجاه والسمعة والشهرة، لان كل ذلك سيتحول الى وبال على الانسان خصوصا وان الرياء هو نمط من انماط الشرك بالله تعالى، فأصحاب مثل هذه الاعمال التي يذيعون بها في كل مكان، هم اقرب ما يكونون من نار جهنم. لان اعمالهم هذه كانوا يهدرونها بالشهرة، وطلب الجاه والسمعة، فلم يستبقوا منها ما يقيهم شر عذاب يوم القيامة، ولذلك قال تعالى: لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ

ص: 280

بِمَآ أَتَواْ وَيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلاَ تَحْسَبَنَّهُم بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ.

وحقا فان هذه الاية من الايات ذات الوقع المؤثر على الانسان، ولذلك فان من الضروري للانسان المؤمن ان يطرد ما تبقى في نفسه من ذرات الرياء الذي يهدد عمله الصالح بالاحباط، وهذا جانب مهم من جوانب تزكية النفس.

ومن هنا يتضح لنا ان الانسان المؤمن بحاجة الى خصلتين هما في غاية الاهمية لصيانة ايمانه وعقيدته وعمله من الخلل والضعف والاحباط وهما: الصلابة والاستقامة اللذان يعتبران من عوامل النصر المهمة وبلوغ الاهداف الالهية، وليس هذا النصر وقفا على الساحة السياسية او العسكرية بل يتجسد اولا في الانتصار على النفس الامارة بالسوء، وعلى الشيطان ووساوسه. فالنصر الحقيقي هو بلوغ الجنة، ونيل الرضا الالهي، ففي ذلك ضمان خلوص الاعمال لله سبحانه. فالشيطان

يستفز الانسان المؤمن، ويستهين بما قدمه او يقدمه من اجل الايقاع به في شرك الرياء. ولذلك فان على المؤمن ان يحذر من هذه الاستفزازات الشيطانية بأن يكتم عمله الصالح، ويصبر على اقوال المتقولين وتخرصاتهم، وليعلم ان الله عز وجل يدافع عنه، ويحرسه بغايته ولطفه، ويوفقه الى ما فيه الخير والعاقبة الحسنة.

***

ص: 281

الفصل السابع: الشخصية الايمانية والطاعة الواعية

اشارة

هناك ثلاثة نماذج من الناس؛ فمنهم من جبل على التمرد والفوضى فهم لا يحبون الطاعة، ولا يرغبون في النظام، ومنهم من تعود الطاعة المطلقة فهو يطأطىء رأسه

دوما للقوي، ومن الناس من يعتدل في سلوكه فهو مطيع تمام الطاعة عندما تكون لله وبأمره، اما عندما تكون الطاعة للقوة الشيطانية فانك تجده متمردا من الطراز الاول.

وهذه النماذج الثلاثة منتشرة بين الشعوب والمجتمعات، ولكننا قد نجد احد هذه النماذج هو الطاغي على النماذج الاخرى، فهناك بعض الشعوب ولاسباب تأريخية وعوامل عديدة اخرى لا تميل الى الانضباط بل تراها مشغوفة بالتمرد، والفوضى، فتأريخها حافل بالعصيان والتمرد والفوضى، واذا ما حدث وان انضبطت وقبلت الطاعة فانها لفترة مؤقتة سرعان ما تعود بعدها الى تلك الحالة من الفوضى.

ص: 282

تسليم مطلق:

وهكذا فان بعض الشعوب قد فطرت في الاغلب على التسليم المطلق، في حين ان هناك شعوبا اخرى جبلت على التمرد، وهذه الحالة اي؛ حالة العصيان والفوضى هي من اخطر الحالات التي تعاني منها بعض الشعوب لانها لا تسبب فقط العصيان والتمرد ضد الانظمة الظالمة، وانما قد تسبب ايضا التشرذم، والاختلاف والتمزق حتى في اطار المؤسسات الشرعية الدينية، ولا يمكن لاي شعب او مجموعة ان تنمو وتتحرر وتتطور اذا كانت تعاني من هذه الحالة السلبية، ذلك لان التقدم يحتاج الى النظام، فلو كان الانسان يعيش لوحده، او لو كان كل منا يريد ان يعيش منفردا بدون أسر او تجمعات، لما تطورت الانسانية في اي بعد من ابعادها، لان الانسان مدني بالطبع.

وهكذا فان هذه الحضارات، والتقدم العلمي الهائل انما كان نتيجة للنظام فمن دونه لا يمكن للانسان ان يقدم شيئا، ورسالات الله تعالى لم تأت لتزرع الفوضى بين الناس انما جاءت لترسخ النظام، ونحن نعلم ان كثيرا من الاحكام الشرعية والدينية انما جاءت لتربية النفس الانسانية وترويضها على قبول الطاعة والنظام.

وعلى سبيل المثال فان من ابرز اهداف الصلاة ايجاد حالة الطاعة، والانقياد عند الانسان، لان الانسان الذي يخضع لله، ويسجد له فانه يربي نفسه في الحقيقية على التسليم للحق، والاذعان للنظام والقانون الشرعي العادل، ولذلك نرى ان

الصلاة هي من اصعب العبادات على الانسان لانه متكبر وظالم بطبعه في حين ان الصلاة تربيه على حالة الطاعة والتسليم، وكذلك الحال بالنسبة الى

ص: 283

الصوم فان هدفه ايجاد حالة التقوى في نفس الانسان ومن المعلوم ان جزء منها يربي الانسان على الطاعة والقبول بالواجبات، ونفس الكلام يقال عن الحج فهو ايضا قد شرّع من اجل تحقيق هذا الهدف. فأحد ابرز اهداف الحج ايجاد حالة التكامل والتكافل بين ابناء المجتمع، والاذعان للنظام الاجتماعي.

طقوس مفرغة من الروح:

لعل الكثير من الواجبات التي نمارسها اليوم اصبحت مفرغة من الروح والاهداف. فنحن على سبيل المثال نؤدي الصلاة دون ان نعي انها جاءت من اجل تزكية انفسنا، وتنمية ملكة التقوى فيها كما يقول تعالى: إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَآءِ وَالْمُنكَرِ (العنكبوت / 45)، كما ان الهدف من الخمس والزكاة ازالة الفقر، واقامة النظام الاقتصادي العادل في المجتمع.

ان كل هذه الواجبات ربما نلتزم بها ولكن من دون الوصول الى اهدافها، وحتى بالنسبة الى الواجبات الاخلاقية فانها هي الاخرى استهدف من الايصاء بها ايجاد الطاعة والانضباط في المجتمع؛ فالهدف من الصدق مثلا هو خلق الثقة المتبادلة بين الناس، كما ان السبب في حرمة الكذب تمزيقه للمجتمع، وزرعه سوء الظن، والشكوك، والغيبة بين ابناء المجتمع.

وهكذا فان جميع الواجبات والمحرمات تستهدف تأسيس مجتمع منظم متكامل، ولكن بعض الشعوب تراها للاسف تتمسك بتلك الحالة البدائية؛ حالة الجهل والجاهلية، فتجدها في حالة تمرد دائم.

ص: 284

ظل الله وظل الشيطان:

بالاضافة الى ذلك فان هناك صفة تقابل صفة التمرد والعصيان الا وهي صفة الخضوع المطلق، والتسليم الكلي، وقد حاول السلاطين زرع هذه الثقافة في نفوس الناس من خلال اشاعة فكرة ان السلطان هو ظل الله في الارض، في حين ان السلطان اذا كان شرعيا، ومن عند الله حقا فان امره هو امر الله، وبيعته بيعة لله، كما يقول عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ (الفتح / 10)

اما اذا كان السلطان جائرا، يأمر بالمنكر وينهى عن المعروف، ويظلم الناس، ويشيع الفاحشة، ويعيث في الارض فسادا، فهو ليس ظل لله تعالى، بل هو ظل للشيطان، وتمثال له. فنحن عندما نقرأ القرآن الكريم فاننا نستعيذ بالله من الشيطان سواء كان من الجن ام من الانس كما يأمرنا بذلك الخالق عز وجل في سورة الناس: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ * مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ * الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ * مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ.

ان هذا النوع من الطاعة للسلاطين الظلمة الذين يدّعون زورا وبهتانا انهم ظل الله في الارض، ليس طاعة لله بل هو طاعة للشيطان، فهذه الطاعة العمياء، والخضوع المطلق بأسم الله تعالى وبأسم مقدسات الاسلام هما في الواقع من ابرز اعمال

الشيطان بل من اخطرها. فهؤلاء الطغاة يبثون بين الناس فكرة ان من ملك بالسيف فهو خليفة الله، اي؛ ان من يقتل الناس لكي يتحكم بهم فمن حقه ان يصبح خليفة الله! وعلى هذا الاساس فان نمرود وفرعون وكل طغاة التأريخ هم خلفاء الله!

ص: 285

محاولة تبرير الطغيان:

ان هؤلاء الظالمين انما يفعلون ذلك لكي يبرروا طغيان يزيد، والخلفاء الامويين والعباسيين الذين كان بعضهم لا يهنأ بطعام الا بعد ان يقتل عبدا من عباد الله، وينظر الى هذا الانسان وهو يتخبط في دمائه، والبعض الاخر كانوا يشربون الخمر في جماجم الناس الابرياء، فكيف يمكن ان يكونوا ظل الله في الارض وهو تعالى ابعد ما يكون عن الظلم: وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (فصلت / 46) وعرشه على جلاله وعظمته يهتز لبكاء طفل يتيم، او لدعوة مظلوم؟!

ان هذه الافكار الباطلة المنحرفة زرعت للاسف الشديد في نفوس بعض الناس حالة التسليم، والخنوع المطلق. وهي ظاهرة مغلوطة هي الاخرى، والحل المعقول ان نفتش عن طريق وسط، طريق عادل، وهو ان يكون تمردنا موجها الى الشيطان، وطاعتنا لله سبحانه، ولمن امر الله بطاعته، وهذا السلوك هو في الواقع من اعلى درجات الايمان عند الانسان، فلابد ان نربي في نفوس شعوبنا حالة الطاعة هذه ولكن ليس لكل انسان بل الطاعة لمن امر الله بطاعته.

وقد بين القرآن الكريم كيف كان العرب في جاهليتهم، فقد كانوا يعيشون في البوادي والصحارى وكانوا مجبولين على التمرد والعصيان والعنف بحكم البيئة التي كانوا يعيشون فيها، ولكن الاسلام صنع من هذا المجتمع المتمرد امة واحدة كانت

خير امة اخرجت للناس بفضل تعاليمه السامية، وبفضل قوله سبحانه: اِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (الاحزاب / 45)، ثم يقول عز وجل مبينا الشروط التي شرطها للايمان بالرسول: لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ

ص: 286

وَتُوَقِّرُوهُ (الفتح / 9)، فلابد ان نؤمن بالله ثم نؤمن برسوله لانه مرسل من عند الله. وقد اختلف المفسرون في ضمير الهاء الموجود في الفعلين (تعزروه) و (توقروه) هل يعود الى الله ام الى الرسول، وانا ارى انه يعود الى كليهما لان من وقّر وعزّر الرسول فقد وقر وعزر الله تعالى، ومن نصر الله فقد نصر رسوله، ومن نصر الرسول فقد نصر الله وهذه من البلاغة القرآنية، لان الخط واحد، ولان طاعتنا لله هي في الحقيقة طاعة للرسول والعكس صحيح.

تسلسل الطاعة في الاسلام:

وهكذا الحال بالنسبة الى امتدادات الرسول (صلى الله عليه وآله) فطاعتنا لامام زماننا الامام الحجة (عجل الله فرجه الشريف) هي طاعة للرسول وبالتالي فانها طاعة لله عز وجل لانه امر بطاعته. كما ان طاعتنا لنائب الامام الفقيه العادل هي طاعة للامام نفسه، وللرسول. فالرويات التي جاءت لتشيد بدور العلماء، وتبين منزلتهم السامية عند الله، لا يكاد العقل يصدقها لولا انها تنسجم مع الخط العام لرسالات الله، وعلى سبيل المثال فقد جاء في رواياتنا ان النظر الى العالم عبادة لان الله تعالى يريد ان يكون هذا العالم موقرا ومحترما في المجتمع الاسلامي، ولكي تتشكل في الامة القيادة الرشيدة وتسد الطريق امام القيادات الباطلة الظالمة، ولذلك فان القرآن الكريم يقول: إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ (الفتح / 10)

واذا ما بايعنا العالم، وانتمينا الى الخط الرسالي الصحيح فاننا سنكون قد بايعنا الله ورسوله في الحقيقة، واما اذا نكثنا عهدنا فان وزر ذلك سيقع علينا بالدرجة

ص: 287

الاولى كما يقول عز وجل: فَمَن نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَن أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (الفتح / 10) علما ان كلمة (العظيم) قليلة الورود في القرآن الكريم، فلابد ان نتصور اي اجر عظيم سنحصل عليه اذا ما بايعنا القيادة الرشيدة.

وهكذا فان من الواجب علينا ان نعيش حالة الطاعة لمن يستحقون ان تبذل لهم فروض الطاعة، علما اننا نعيش الان دور بناء قوتنا الذاتية، وبناء انفسنا، فعلينا العمل بما اوجب الله علينا من طاعة اوليائه، والتمرد على اعدائه؛ اي الطاعة من جهة، والرفض من جهة اخرى لكي نضمن بذلك حياة هنيئة سعيدة تحت حكم الله سبحانه وتعالى حيث لا ظلم، ولا طغيان، وحيث لا مجال للطغاة الجبابرة ان يتحكموا في مصائر الناس، وينهبوا مقدراتهم وثرواتهم، ويحرفوهم عن المسيرة الالهية الصحيحة.

***

ص: 288

الفصل الثامن: الايمان والمجتمعات المزدوجة

بصورة عامة هناك ثلاث مراحل يمر بها المجتمع:

1 مرحلة الرواد الذين يفجرون طاقاتهم الايمانية، ويبثون في روح المجتمع الثقة بالنفس، والتوكل على الله، وهؤلاء هم الانبياء الذين يذكرنا الله تعالى بهم ليبين لنا صفاتهم الانسانية، ومنها الصفة التي يشير اليها قوله سبحانه: إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءَايَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً (مريم / 58).

2 مرحلة الجيل الذي يرث الكتاب، والحضارة، ولا يلتزم بهما بشكل عملي كما كان الرواد يلتزمون بهما؛ فالايمان موجود بينه ولكنه ليس ايمان التحدي بل ايمان التبرير. كما ان الطقوس والشعائر الدينية قائمة بين اوساطه، ولكنها

ص: 289

محوّرة. ويشير تعالى الى هذه المرحلة في قوله: فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاَةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً (مريم / 59).

اولئك الرجال الذين يخلقون المجتمع اللاأبالي، واللامسؤول، والمجتمع القشري الفارغ، ولكنهم يرتبطون بجيل الرواد بشكل ظاهري.

3 مرحلة اولئك الرجال الذين يخالفون الواقع الفاسد ويتوبون الى الله ويتحملون مسؤوليتهم الشرعية. والى هؤلاء يشير تعالى في قوله: إِلاَّ مَن تَابَ وءَامَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَاُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ شَيْئاً (مريم / 60)

ان هذه المراحل الثلاث: مرحلة القيادة، ومرحلة عدم الشعور بالمسؤولية، ومرحلة التوبة و العودة الى صفاء ونقاء الرسالة، تنطبق على كل مجتمع. فقد تجد في المجتمع الواحد اناسا يحتلون دور الرواد، واخرين يتمثل فيهم الدور الثاني؛ دور اولئك الذين لا يأخذون من الكتاب سوى رسمه، ومن الدين الا اسمه، ومن الطقوس الا قشورها وظاهرها، كما ونجد الى جانبهم التائبين الذين يحاولون العودة الى المصادر الاولى لمبادئهم.

وانت ايها الانسان المسلم تعيش اليوم في مجتمع مزدوج الشخصية، مجتمع تجد فيه ذلك الشاب الثائر الصادق في ايمانه والذي لا تجد بينه وبين قلبه حجابا من نفاق، ولا بين قوله وعمله حجابا من التبرير، فتجده اذا وعد وفى، واذا قال صدق، واذا

عمل اتقن. في حين تجد الى جانب هذه الفئة من المؤمنين، فريقا يدّعون الايمان ولكنهم يكذبون في ادعائهم هذا. ويصلّون ولكنهم لا يؤدون تلك

ص: 290

الصلاة التي امر بها الله عز وجل؛ فيصلون صلاة فارغة، لا تنهى عن الفحشاء والمنكر في سلوكهم.

والى جانب هاتين المجموعتين، تجد شخصيات قيادية رائدة تستطيع ان تتحمل المسؤولية، وتقود سفينة الامة الى شاطىء النجاة، وهذا هو جيل الاولياء الذي يجسد دور الانبياء.

وبطبيعة الحال فان القليل منا يختار ان يكون وليا من اولياء الله تعالى، فهذا الاختيار هو طموح عال بحاجة الى جهود جبارة رغم ان من حق الانسان المسلم ان يتمنى ان يكون في مصاف الصديقين والحواريين كأبي ذر الغفاري، وسلمان الفارسي، ومالك الاشتر، وحبيب بن مظاهر.. وغيرهم من اولئك الصديقين الذين كانوا اقل درجة من الائمة (عليهم السلام).

لاحدود لكمال الانسان:

ان الله عز وجل لم يغلق الابواب في وجه الانسان، ولم يخلقه بحيث لا يمكنه ان يصل الى هذه المراتب العالية، فان باستطاعته ان يصل الى المستويات الايمانية الرفيعة من خلال التوكل على الله جلت قدرته، وتربية روح الطموح والتطلع في نفسه، فاذا هدف وصل الى ما يريد، والله سبحانه وتعالى سيؤيده بالتوفيق والنصر، شريطة ان تبدأ الخطوة الاولى من الانسان نفسه كما يشير الى ذلك تعالى في قوله:

وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ مَّرَدّاً (مريم / 76)

ص: 291

أي ان الاهتداء يبدأ من ذات الانسان ثم يزيده الله هدى، فالخطوة الاولى لابد ان تكون من الانسان، ثم تأتي الخطوات الاخرى من الله عز وجل، فان لم يستطيع الوصول الى المستوى السابق فليكن على الاقل من الذين يقول عنهم القرآن الكريم: إِلاَّ مَن تَابَ وءَامَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً.

اما اذا كان الانسان يعيش في مجتمع اللامبالاة ثم لم يتبرأ من صفاتهم واعمالهم وتبريراتهم، فان هذا الانسان لابد ان يحشر مع هذا المجتمع، ويعتبر منه. ولننظر في هذا المجال الى دقة القرآن الكريم في التعبير، فهو يحدثنا عن الانبياء؛ اولئك الذين انعم عليهم من ذرية آدم، ثم يحدثنا عن جيل عدم الشعور بالمسؤولية قائلا: فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاَةَ ثم يقول بعد ذلك: إِلاَّ مَن تَابَ وءَامَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً، وبعبارة اخرى فان الانسان عندما يولد في المجتمع اللامسؤول واللاأبالي والمجتمع المنطوي على ذاته والتبريري فانه يحشر مع هذا المجتمع، وان سيئات وخطايا هذا المجتمع سوف تلاحقه، وسيكون مسؤولا عنها الا اذا تاب، والتوبة تعني الانفصال، اي ان يجعل الانسان بينه وبين هذا المجتمع سدا، وحاجزا.

فالانسان الذي يتوب هو مؤمن ولكنه تعالى يقول: إِلاَّ مَن تَابَ لان هذا الانسان مؤمن في ظاهره؛ فهو يصلي ويصوم ولكن ايمانه ايمان سطحي،

ولذلك لابد ان يتوب اولا ويكفر بالايمان القشري، والشهوات التي حولت الدين الى مجموعة مراسم وطقوس وتقاليد مفرغة من المحتوى.

ص: 292

وفقهاؤنا يؤكدون في رسائلهم العملية على ان الانسان المسلم اذا اخذ ايمانه من باب التقليد فانه سوف لا يقبل منه، فلا يمكن للانسان ان يقلد احدا في اصول الدين، فلابد له ان يفهم ضرورات الدين ولا بأس ان يقلد في سائر الامور.

وللاسف فان الكثير منا ما يزال ايمانه تقليديا، فهو يقدس التقليد اكثر من تقديسه للدين نفسه، فالجزء الاكبر من افكارنا تجده مختلطا بالتبرير واختلاق الاعذار، ولذلك فان القرآن الكريم جاء ليزيل من نفوسنا هذه الحالة التبريرية، فيبين ان الانسان مسؤول عن نفسه، وان اي عذر لا يمكن ان ينفعه، ويرفع عنه هذه المسؤولية: بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (القيامة / 1514)

الدين اداة الارادة والعقل:

وهكذا فان الدين هو اداة الارادة، واداة العقل في مقاومة شهوات النفس، واكتشاف ما فيها من انحرافات، اما الدين الذي يصبح جزء من النفس المليئة بالشهوات، والدين الذي يكرس السلبيات في نفس الانسان، والدين الذي لا يستطيع الانسان ان يختار الحق على الباطل، فما قيمته؟، انه دين اللامسؤولية، والتبريرية.

وفي مقابل ذلك يستعيد الدين قيمته اذا ما حذفنا من انفسنا صفة التبرير، فيصبح مقياسا وملاكا يمكن الاعتماد عليهما، وازاء هذه المبادرة سيدخلنا الله تعالى

الجنة دون ان نظلم شيئا، فكل شيء بمقدار عنده، ولا تتصور انه تعالى من الممكن ان ينسى موقفا صغيرا من مواقف التحدي كان قد بدر منك، فاذا كنت

ص: 293

على سبيل المثال مشتركا في جلسة ودية، فرأيت ان احد المشتركين في هذه الجلسة انبرى ليغتاب صديقا غائبا، ثم وقفت لتدافع عنه، فان هذا هو موقف تحد وان بدا بسيطا، ولكنه لايمكن ان ينسى عند الله سبحانه وتعالى: وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً (مريم / 64)، فاعمال الانسان مقدرة ومحسوبة، ومحفوظة في كتاب لا يضل ولا ينسى.

ثم يقول تعالى: جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً (مريم / 61)، وقد روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) في تفسير قوله عز وجل يَوْمَ نحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْداً (مريم / 85) انه قال ما مضمونه: ان الوفد لا يكون الا راكبا، ولا يكون الا جامعا، اي لا يمكنك ان تقول (جاء الوفد) اذا اتت اليك مجموعة من الحفاة، بل يجب ان يكونوا اناسا محترمين راكبين على مراكب، ثم ان (الوفد) لا يكون متشكلا من افراد بل من مجموعات، وهكذا فان هؤلاء المؤمنين (الوفد) يخرجون من قبورهم وهم اشد بياضا من الثلج، ووجوههم تتلألأ نورا، مرتدين ملابس من سندس واستبرق، ثم يؤتى لهم بأفراس الجنة يركبون عليها، فتطير بهم الى باب الجنة، وعند هذا الباب يجدون الى يمينهم حوضا، والى يسارهم حوضا اخر، وفوقهم شجرة تظللهم بحيث ان الورقة الواحدة من هذه الشجرة تستطيع ان تظلل مائة الف انسان، فيجلسون تحت هذه الشجرة الوارفة الظلال، ثم يشربون من الحوض الاول، فتذهب عنهم

جميع آلام الدنيا واسقامها واوساخها واغلالها. وتتطهر قلوبهم من الحسد الذي هو اخبث امراض الدنيا. ثم يشربون من الحوض

ص: 294

الاخر الذي فيه ماء الحياة، فلا يموتون ابدا، وحينئذ يحشر هؤلاء المتقون الى خازن الجنة وفدا، فيصر الباب صريرا تسمعه الحور العين في قصورها، فيستبشرون بقدوم المؤمنين، ثم يدخلون الجنة، ويقفون تحت ساق العرش، فيخاطبهم الرب تعالى قائلا: "سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار... الى اخر الحديث الشريف"

جسر العاقبة الطيبة:

وهكذا فان الانسان المسلم اذا اتخذ من الدين محورا لحياته، وتحدى من خلاله الصعوبات، والشهوات، والتبريرات الشيطانية فان الله سبحانه وتعالى سيعد له هذه العاقبة الطيبة التي يصفها قائلا: جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً * لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً إِلاَّ سَلاَماً وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً (مريم / 6261) والسلام هنا قد يكون من الملائكة، ومن المؤمنين بعضهم لبعض، وقد يكون من الله رب العالمين.

والذي يتقي في الدنيا الاسباب المؤدية الى الدخول في نار جهنم، فان الله تعالى سيورثه في الاخرة الجنة: تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيّاً (مريم / 63).

ان امامنا مشاكل وصعوبات تتطلب منا الصبر، ولذلك يقول تعالى فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ (مريم / 65)، والله عز وجل رحيم بالانسان،

ولكن الانسان يتبع الشيطان، ونحن مهددون في حياتنا بالنفاق من خلال ترك الصلاة، او افراغها من محتواها. فالالتزام بالدين يعد امرا صعبا،

ص: 295

ولكن من السهل ان يستسلم الانسان للاهواء والنفاق والازدواجية، واذا تركنا الله تعالى اوكلنا الى انفسنا، ومنع عنا عصمته، فنهبط الى ادنى المستويات حيث جاذبية الارض والشهوات، وبالطبع فانني لا اريد ان اقول هنا ان الانسان يستطيع خلال لحظة واحدة ان يتخلص من كل رواسب المجتمع الفاسد؛ المجتمع الذي يدعي الاسلام ولكنه يترك الواجبات، ويترك الجهاد، ويخضع للطغاة، فمن الصعب ان يتخلص الانسان من آثار مثل هذا المجتمع، ولكنني اريد ان اقول ان علينا ان نجعل مسيرتنا في جهة التخلص من التبرير، وعدم الشعور بالمسؤولية.

وعلى سبيل المثال فلنحاول منذ اليوم ان نضبط مواعيدنا، وان لا نتأخر عنها ولو دقيقة واحدة، وان نطهر انفسنا من حالة الكذب من خلال تثبيت الصدق في نفوسنا وان كان مخالفا لمصالحنا، وهكذا الحال بالنسبة الى الصفات الايجابية الاخرى فان علينا ان ننميها في داخلنا من خلال تغيير العادات السيئة الى عادات حسنة، لتكون عاقبتنا الجنة ان شاء الله.

***

ص: 296

الفصل التاسع: الايمان اساس المجتمع الفاضل

اشارة

عندما ينبعث الانسان وينطلق في حياته من بصيرة ايمانية فانه سيصوغ حياته هذه وفقا لمناهج الرسالة التي يدعم بعضها بعضا؛ فهي عبارة عن منظومة متماسكة الاجزاء، ولو اهتم الانسان بها ككل وآمن بجميع ما انزل على قلب الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) قلبا وعملا فسيكون بمقدوره تطبيق الرسالة وادعاء الايمان، والا فان مجرد التسليم الظاهر والنطق بالشهادتين لايعني ان الانسان قد دخل في حقيقة الايمان.

وهكذا فان الاسلام هو بداية الطريق، فمن عمل بالمبادئ الاولية، والأسس التمهيدية للاسلام فانه يكون قد وضع قدمه على الجادة الصحيحة لتصديق الايمان، وهذا التصديق انما يكون من خلال جعل الواحد منا نفسه مؤمنا صادقا في جميع

الجوانب وان نحول تجمعاتنا الى تجمعات ايمانية صادقة في جميع الابعاد. وهنا يكمن سر نجاح الانسان المؤمن الصادق في مواجهة الفساد المنتشر في

ص: 297

مجتمعه. هذا السر المتمثل في تكامل ايمانه؛ فالصلاة على سبيل المثال تنهى عن الفحشاء والمنكر، وعندما ينتهي الانسان عن هاتين الصفتين ويتقي ربه، فانه سينمّي ملكة الصبر في نفسه. وعندما يكون صابرا فانه سيتحول الى انسان مستقيم على الطريقة، وحينئذ ستكون دعوته صادقة، ويجد الاخرون في اعماله وتحركاته الصدق والوفاء والاخلاص ولذلك فانهم سيصدقونه.

وبهذا الاسلوب يتشكل التجمع الايماني، فعندما يكون هذا التجمع بعيدا عن الفحشاء والمنكر، والاعتداء والظلم، وبالتالي بعيدا عن التحزب والاقليمية، فانه سيكون مجتمعا فاضلا قادرا على ان يكون البديل عن المجتمع الفاسد.

توجيهات قرآنية:

وفي هذا المجال جاءت توجيهات اخلاقية قيمة في سورة الحجرات كقوله تعالى: يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلاَ نِسَآءٌ مِن نِسَآءٍ عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ (الحجرات / 11) وقوله يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ (الحجرات / 12)

وقد تضمنت هذه السورة الكريمة اعظم علامات الايمان، وابرز صفات التجمع الايماني، وفي المقابل فقد ذكرت صفات الخروج عن الدين والفسوق؛ فتعالي البعض

على البعض الآخر وادعاؤه العصمة والتزكية واتهام الآخرين بالفساد والتحزب، كل ذلك يمثل اسلوبا يتناقض مع روح القرآن فليس من الصحيح مطلقا ان يستغل الانسان مواهبه ومركزه الاجتماعي او السياسي في توجيه التهم

ص: 298

الى الآخرين والنيل من شخصياتهم، فالقضية هي قضية مقاييس الهية، ولايمكن لكل انسان ان يدعيها، فهناك القضاء، وهناك القوانين الدينية والحدود الشرعية.

وفي هذا المجال قد يكون هناك انسان يخالفني في الرأي ولكنه لم يرتكب الذنوب والموبقات والفواحش، وفي هذه الحالة ليس من الصحيح ان نبادر الى توجيه التهم الباطلة الى بعضنا البعض، ونتخذ من المنابر والوسائل الاعلامية وسيلة للتهجم، فقد نهتنا الشريعة عن هذا السلوك نهيا بالغا الى درجة ان الحديث القدسي الشريف يقول في هذا الصدد: "من اهان لي وليا فقد بارزني بالمحاربة".

وعلى المؤمنين ان يتذكروا في هذا المجال انهم اذا ارادوا الصمود امام هجمات الشيطان، ووساوس النفس الأمارة بالسوء، وضغوط المجتمع الفاسد، والحكومات الطاغية الظالمة، فان عليهم ان يلتزموا بالمستحبات بالاضافة الى الواجبات، لان المستحبات هي الوسيلة للمحافظة على الواجبات.

فلنتجه الى الله سبحانه وتعالى فهو نصير المستضعفين، ومغيث المستغيثين، ومجيب الداعين..

وهنا لابد من التأكيد ان على الانسان المؤمن ان يخضع جميع جوانب حياته للاحكام والتعاليم الالهية، وان يهتم بالفقه. فمن اولويات عمل الانسان المؤمن ان يدرس وبعمق الجانب العملي من الفقه لانه يريد تطبيق الاسلام على نفسه ودعوة

الآخرين اليه، وهذا الهدف لانستطيع ان نحققه الا من خلال الالتزام بحدود الله وتنمية ملكة التقوى في انفسنا.

وهكذا فان علينا ان نطهر انفسنا من جميع الصفات السلبية لكي نستطيع ان

ص: 299

نكوّن المجتمع الايماني النموذجي، ونكون مستعدين لتطبيق الاسلام. اما اذا كانت قلوبنا مليئة بالأحقاد على الآخرين، والاستهزاء بهم، والتعالي عليهم، والتعصب ضدهم... فان مثل هذه الظواهر السلبية سوف تخرج الايمان من قلوبنا.

وهذه الوصايا الاخلاقية، والارشادات التربوية التي يزودنا بها القرآن الكريم، فهو ينهانا عن الاستهزاء ببعضنا البعض والغيبة وسوء الظن والتجسس على الآخرين، فان كانت حياتنا مليئة بهذه الصفات الذميمة فان سبب ذلك عدم طهارة قلوبنا، فلنعمل اذن من أجل تطهيرها وتزكيتها من خلال المواظبة على الممارسات العبادية وإشاعة الاجواء الايمانية والالتزام بالمستحبات لكي يتكامل ايماننا ونخرج من مرحلة الاسلام لندخل مرحلة الايمان الحقيقي الصادق.

***

ص: 300

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
هَلْ یَسْتَوِی الَّذِینَ یَعْلَمُونَ وَالَّذِینَ لَا یَعْلَمُونَ
الزمر: 9

عنوان المکتب المرکزي
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.