المِصباحُ والسَّفينة دراسة في التشبيهِ البليغ في كتاب نهج البلاغة للإمام علي عليه السلام

اشارة

المِصباحُ والسَّفينة دراسة في التشبيهِ البليغ في كتاب نهج البلاغة للإمام علي عليه السلام

رقم الإيداع في دار الكتب والوثائق العراقية 1195 لسنة 2018

مصدر الفهرسة:

IQ-KaPLI ara IQ-KaPLI rda

رقم تصنيف: LC

BP38.09.T3 K48 2018

المؤلف الشخصي: خضير، عبد الهادي. - مؤلف.

العنوان: المصباح والسفينة: دراسة في التشبيه البليغ في كتاب نهج البلاغة

للامام علي (عليه السلام) /

بيان المسؤولية: تأليف الاستاذ الدكتور عبد الهادي خضير نيشان؛ تقديم السيد نبيل

الحسني الكربلائي.

بيانات الطبع: الطبعة الاولى.

بيانات النشر: كربلاء، العراق: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة،

2018 / 1439 للهجرة.

الوصف المادي: 192 صفحة؛ 24 سم.

سلسلة النشر: (العتبة الحسينية المقدسة؛ 479).

سلسلة النشر: (مؤسسة علوم نهج البلاغة، 149 سلسلة الدراسات والبحوث؛ 15).

تبصرة ببليوجرافية: يتضمن هوامش، لائحة المصادر الصفحات (187 - 189).

موضوع شخصي: الشريف الرضي، محمد بن الحسين، 359 - 406 للهجرة - نهج البلاغة.

موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة - 40

للهجرة - احاديث.

مصطلح موضوعي: التشبيه (بلاغة عربية).

مصطلح موضوعي: البلاغة العربية.

مؤلف اضافي: الحسنی، نبيل قدوري، 1965 - -- مقدم.

اسم هيئة اضافي: العتبة الحسينية المقدسة (كربلاء، العراق). مؤسسة علوم نهج البلاغة

- جهة مصدرة.

تمت الفهرسة قبل النشر في مكتبة العتبة الحسينية

ص: 1

اشارة

المِصباحُ والسَّفينة

دراسة في التشبيهِ البليغ

في كتاب نهج البلاغة للإمام علي عليه السلام

ص: 2

سلسلة الدراسات والبحوث

وحدة الدراسات العقدية

(15)

المِصباحُ والسَّفينة دراسة في التشبيهِ البليغ في كتاب نهج البلاغة للإمام علي (عليه السلام)

الاستاذ الدكتور عبد الهادي خضير نيشان

اصدار

مؤسسة علوم نهج البلاغة فی العتبة الحسینیة المقدسة

ص: 3

جميع الحقوق محفوظة للعتبة الحسينية المقدسة

الطبعة الأولى

1439 ه - 2018 م

العراق: كربلاء المقدسة - شارع السدرة

- مجاور مقام علي الاكبر (عليه السلام)

مؤسسة علوم نهج البلاغة

هاتف: 07728243600

07815016633

الموقع الالكتروني: www.inahj.org

الايميل: Inahj.org@gmail.com

تنويه:

إن الأفكار والآراء الواردة في هذا الكتاب تعبر عن

وجهة نظر كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن وجهة

نظر العتبة الحسينية المقدسة

ص: 4

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

«وَإِنَّهُ فِی أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِیٌّ حَكِيمٌ»

سورة الزخرف

الآية (4)

ص: 5

من أقوال الامام علي (عليه السلام)

«إنما مثلي بينكم مثل السراج في الظلمة يستضيء به من ولجها»

نهج البلاغة: 2/ 151

«بل اندمجت على مكنون علم لو بحت به لاضطربتم اضطراب

الأرشية في الطوى البعيدة» نهج البلاغة: 1/ 36

«وإنا لأمراء الكلام، وفينا تنبت عروقه، وعلينا تهدلت غونه»

نهج البلاغة: 2/ 254

«نحن شجرة النبوة ومحط الرسالة، ومختلف الملائكة ومعادن العلم

وينابيع الحكم» نهج البلاغة: 1/ 214

ص: 6

الاهداء

الى باب مدينة العلم سيدي. ... منك نستأذن. ...فقد قلت:

((نحن الشعار والأصحاب، والخزنة والأبواب، ولا تؤتى البيوت الا من أبوابها، فمن أتاها من غير أبوابها سُمي سارقاً)) نهج البلاغة: 2/ 58 إلا فأذن لنا بالدخول..

ص: 7

ص: 8

مقدمة المؤسسة

بسم الله الرحمن الرحيم .

الحمد لله على ما أنعم وله الشكر بما ألهم والثناء بما قدم، من عموم نعم ابتدأها وسبوغ آلاء أسداها، وتمام منن والاها، والصلاة والسلام على خير الخلق أجمعين محمد وآله الطاهرين.

أما بعد:

فلم يزل كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) منهلاً للعلوم من حيث التأسيس والتبيين ولم يقتصر الأمر على علوم اللغة العربية أو العلوم الإنسانية، بل وغيرها من العلوم التي تسير بها منظومة الحياة وإن تعددت المعطيات الفكرية، إلا أن التأصيل مثلما يجري في القرآن الكريم الذي ما فرط الله فيه من شيء كما جاء في قوله تعالى: «مَا فَرَّطْنَا فِی الْكِتَابِ مِنْ شَیْءٍ» (الأنعام: 38)، كذا نجد يجري مجراه فی قوله تعالى: «وَكُلَّ شَیْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِی إمِاَامٍ مُبيِنٍ» (يس: 12)، غاية ما في الأمر أن أهل الاختصاصات في العلوم كافة حينما يوفقون للنظر في نصوص الثقلين يجدون ما تخصصوا فيه حاضراً وشاهداً فيهما، أي في القرآن الكريم وحديث العترة النبوية (عليهم السلام) فيسارعون وقد أخذهم الشوق لإرشاد العقول إلى تلك السنن

ص: 9

والقوانين والقواعد والمفاهيم والدلالات في القرآن الكريم والعترة النبوية.

من هنا ارتأت مؤسسة علوم نهج البلاغة أن تتناول تلك الدراسات العلمية المختصة بعلوم نهج البلاغة وبسيرة أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) وفكره ضمن سلسلة علمية وفكرية موسومة ب(سلسلة الدراسات والبحوث) التي يتم عبرها طباعة هذه الكتب وإصدارها ونشرها في داخل العراق وخارجه بغية إيصال هذه العلوم إلى الباحثين والدارسين وإعانتهم على تبين هذا العطاء الفكري والانتهال من علوم أمير المؤمنين علي (عليه السلام) والسير على هديه وتقديم رؤى علمية جديدة تسهم في إثراء المعرفة وحقولها المتعددة.

وما هذه الدراسة التي بين أيدينا إلا واحدة من تلك الدراسات التي وفق صاحبها للغوص في بحر علم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، فقد أذن له بالدخول إلى مدينة علم النبوة والتزود منها بغية بيان أثر تلك المرويات العلوية. إذ جاءت هذه الدراسة لتكشف لنا عن أسلوب من أساليب البلاغة العربية وهو التشبيه البليغ متتبعة أثر هذا الأسلوب في كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) الزاخر بأنواع الأساليب البلاغية فجزى الله الباحث خير الجزاء فقد بذل جهده وعلى الله أجره والحمد لله رب العالمين السيد نبيل الحسني الكربلائي رئيس مؤسسة علوم نهج البلاغة

ص: 10

المقدمة

كلما قرأت كلاماً للإمام علي (عليه السلام) أو سمعت واحدة من حِكمه أو أقواله المأثورة التي يتداولها الناس في شؤون حياتهم اليومية المختلفة، تذكرت مقولة للرماني وهو يفسر في رسالته المعروفة «النكت في إعجاز القرآن» لماذا توقف القرآن الكريم في تحديه للعرب - وهم أهل الفصاحة وأرباب البلاغة - عند حدود الآتيان بسورة من مثله، ولم ينزل إلى أدنى من ذلك، اي الى الآية، فمعلوم ان القرآن الكريم تحدى العرب أن يأتوا بمثله أولاً، فقال سبحانه وتعالى «قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا» (الإسراء: 88) فلما عجزوا عن ان يأتوا بمثله، نزل في تحديه لهم إلى عشر سور، فقال تعالى «أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ» (هود/ 13).

ولكنهم عجزوا أيضا، فنزل في تحديه لهم إلى السورة الواحدة دون تحديد لعدد أياتها كثُرت أم قلَّت، فقال سبحانه «وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ» (البقرة/ 23) ثم كرر التحدي بالسورة في موضع آخر من القرآن الكريم، فقال سبحانه «أَمْ يَقُولُونَ

ص: 11

افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ» (يونس: 38) فلما عجزوا عن المجيء ولو بسورة واحدة من مثله، حق عليهم اعجاز القرآن. وحين وقف الرماني عند هذه القضية وحاول ان يفسر لماذا لم ينزل القرآن في تحديه للعرب الى مستوى الآية، قال كلاماً في غاية الأهمية، خلاصته: ان في كلام بعض بلغاء العرب ما يمكن ان يرتفع في بلاغته الى مستوى الآية القرآنية في حسنها وبلاغتها، واستشهد لذلك بقول الامام علي (عليه السلام): «قيمة كل أمرئ ما يحسن» فهذه المقولة للامام بما فيها من ايجاز في المعنى وعذوبة في اللفظ تقارب الآية القرآنية في بلاغتها، يقول الإمام الرماني» وظهور الاعجاز في الوجوه التي نبينها يكون باجتماع أمور يظهر للنفس ان الكلام من البلاغة في أعلى طبقة، وإن كان قد يلتبس فيما قلّ بما حسن جداً لايجازه وحسن رونقه وعذوبة لفظه وصحة معناه كقول علي (رضي الله عنه) «قيمة كل امرئ ما يحسن» فهذا كلام عجيب يغني ظهور حسنه عن وصفه، فمثل هذه الشذرات لا يظهر بها حكم فإذا انتظم الكلام حتى يكون كأقصر سورة أو أطول آية ظهر حكم الاعجاز، كما وقع التحدي في قوله تعالى «فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ» فبان الاعجاز عند ظهور مقدار السورة من القرآن»(1).

فأية بلاغة هذه التي أراد لها الله سبحانه وتعالى، أن تكون دون كلام الخالق، وفوق كلام المخلوق - باستثناء نبيه عليه وعلى آله افضل الصلوات والتسليم - وكيف يتأتى لنا نحن البشر أن نحيط بأقطار هذه البلاغة المعجزة أو أن نلُّم بأسرارها مهما أوتينا من العلم ومهما أجهدنا انفسنا في الغوص بأعماق هذا البحر العميق بحثا عن

ص: 12


1- النكت في اعجاز القرأن / 72. وقال الجاحظ كلاما قريبا من هذا وهو يقف عند مقولة الامام هذه. ينظر البيان والتبين: 1/ 83

جواهره الفريدة.

وبذا فمهما تعددت مناحي القول في كلام الامام علي )عليه السلام( ومهما تشعبت سواء في جوانبها الأدبية أو الفكرية أو العقائدية أو الاجتماعية أو التشريعية أو النفسية، يبقى هذا الكنز الثمين معينا لا ينضب، ويبقى القول في بلاغة الامام، مهما أوتينا من العلم، فوق طاقاتنا وأكبر من ان نحيط بها، ولا عجب، فقد ألهمه ربه من العلم ما نعجز عن ادراكه فضلا عن تحمله، وهو ما صرح به عليه السلام في قوله «بَلِ انْدَمَجْتُ عَلَی مَكْنُونِ عِلْم لَوْ بُحْتُ بِهِ لاَضْطَرَبْتُمُ اضْطِرَابَ الأَرْشِيَةِ في الطَّوِيِّ البَعِيدَة»(1). ولكن يبقى هذا النص العظيم حافزاً للدراسة والابداع، وتظل بلاغته كوكباً درّيا يستقطب انظار المتلهفين للمعرفة والطامحين لأن يرووا ظمأهم من هذا المعين العذب، وهكذا، كان لابد لنا من ان نقف على جانب مهم من جوانب الابداع في كلام الامام علي (عليه السلام) متمثلا بالصورة البلاغية في نهج البلاغة، وسعينا ان تكون دراستنا هذه متميزة من الدراسات التي سبقتنا في ذلك، وذلك بأنها ستكون - بأذنه تعالى - مفصلة أكثر ومتعمقة بشكل أوسع في وقوفها عند الانواع البلاغية للصورة التشبيهية البليغة كما توافرت في كتاب نهج البلاغة.

لا شك في أن قارئ كتابنا هذا سيجد دراسة للتشبيه البليغ لا تشبه سواها من الدراسات البلاغية لهذا اللون من التشبيه بضروبه الخمسة التي وجدنا لها حضورا بارزا في كلام الامام علي (عليه السلام) اذ لم يسبق ان صادفتنا دراسة تطبيقية للتشبيه البليغ بأنواعه المعروفة في نص شعري او نثري قديم او حديث في عموم تراثنا الشعري والنثري مشابهة لها، بما يدفعنا الى القول ان النص (النهجي) يستحق

ص: 13


1- نهج البلاغة:

منا، بل يوجب علينا، دراسة تحاول ان ترقى الى بلاغته المعجزة، وان تغوص عميقا فيه علنا نقتنص بعضا مما ضم من درر ثمينة نزين بها معارفنا ونرصع بها تاج العلم، وكي نجلي لقارئنا الكريم جوانب من اسرار تفرد هذا المبدع الكبير الذي كان خير مصباح يضيء للاسلام واهله سبيل النجاة.

وبوحي من هذه الحقيقة السافرة كان عنوان الكتاب (المصباح والسفينة) فأمامنا الامام علي (عليه السلام) هو المصباح، والسفينة هي اسلامنا العظيم، الذي منّ به الله علينا، وكيف تتأتى لنا النجاة ان لم تستبن السفينة طريقها، وسط بحر الضلالات المزلة، وأمواج البدع المهلكة؟ ومن غير الامام علي واهل بيته (عليهم السلام) جديرون بهذه المهمة الخطيرة، وقد انتدبهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كي يكونوا وكتاب الله ثقلي هذه الأمة، اذا ما تمسكت بهما فلن تضل أبدا.

أن اهل بيت النبوة، والأمام علي أولهم، امتداد لكتاب الخالق العظيم، واذا كان القرآن الكريم قد بلغ الكمال بنزول آخر آياته، وأتم على الناس نعمة الباري يوم تمت سوره، فإن من نعم الله على المسلمين وخلقه أجمعين أن جعل الامام وذريته النهايات المفتوحة التي أراد بها الله للأسلام وأهله ان يواكبا مسيرة الحياة وتطورها، فهذا الثقل الاصغر يستقي علمه من الثقل الأكبر، وبهدي علمهم تسير سفينة الاسلام صوب بر الأمان.

ضم الكتاب تمهيداً وخمسة فصول:

جاء التمهيد للتعريف بالتشبيه البليغ وأنواعه التي وجدنا نماذج لها في كتاب نهج البلاغة، فكانت ستة انواع من أنواعه السبعة المعروفة، حيث لم نجد للنوع

ص: 14

المعروف ب (التشبيه البليغ بأسلوب القصر والحصر) سوى نموذج واحد ورد في كتاب الأمام علي (عليه السلام) ألى قثم بن العباس وهو عامله على مكة يوصيه خيراً بالناس اذ يقول مخاطباً عامله «ولا يكن لك الى الناس سفيرٌ إلا لسانك، ولا حاجب إلا وجهك» (نهج البلاغة: 3/ 139) فقد شبه وجهه بالسفير في الجزء الأول من العبارة ثم شبهه بالحاجب في جزئها الثاني تشبيهاً بليغاً قائماً على النفي ب (لا) والحصر ب (إلا).

كما كانت نماذج النوع المعروف ب (التشبيه البليغ بأسلوب الحال) قليلة جداً عرضنا بعضاً منها في التمهيد. وبذا كانت فصول الكتاب خمسة بحسب أنواع التشبيه البليغ التي دارت بكثرة في كلام الامام علي (عليه السلام) في كتاب نهج البلاغة.

وبعد. ...

فلا يعدو هذا الكتاب المتواضع أن يكون نهلة حاولنا ان نتحصل عليها من هذا المورد العذب، على كثرة قصاده، علنا نوفق في ان نروي ظمأنا وظمأ آخرين يسعون الى رشفة من سلسبيله العذب. ...

والله الموفق أولا وآخراً المؤلف بغداد - 2016

ص: 15

ص: 16

التمهيد التشبيه البليغ، مفهومه وأنواعه

التشبيه البليغ هو التشبيه الذي حذفت منه أداة التشبيه ووجه الشبه، وهو أوجز انواع التشبيه واكثرها اثارة للذهن، لان الاكتفاء من التشبيه، بطرفيه (المشبه والمشبه به) فقط، فيه من المبالغة الشيء الكثير، ذلك لأنه يرفع المشبه الى مستوى المشبه به حتى يبدوان وكأنهما نظيران ولا تفاضل بينهما، وهي مبالغة كبيرة، ذلك لان التشبيه يقوم على قاعدة مؤداها ان المشبه به أقوى من المشبه في وجه الشبه وأوضح منه، وانما يؤتى به لتوضيح المشبه وترسيخه في الأذهان، ولو كان المشبه هو المشبه به - كما تقتضيه صيغة التشبيه البليغ - لما قامت الحاجة الى التشبيه أصلا، ولكن المبالغة في قوة الشبه هي التي تستدعي هذه الصيغة من التشبيه، فتعمل على تحفيز الخيال وترسيخ الصورة في الذهن.

تتباين درجة الخيال في التشبيه البليغ بتباين تركيب اسلوبه إذ يمكن للتشبيه البليغ أن يأتي بصيغ اسلوبية مختلفة(1) استطعنا ان نرصد منها في نهج البلاغة الأنواع الآتية:

1- المشبه والمشبه به مبتدأ وخبر، أو ما أصله مبتدأ وخبر، فمن الاول قول

ص: 17


1- ينظر كتابنا: الوان من التشبيه في الشعر العربي / 59 - 62

الأمام في فضل أهل البيت (عليهم السلام): «نَحْنُ الشِّعَارُ وَالأَصْصحَابُ، وَالْخَزَنَةُ وَالأًبْوَابُ، [وَلاَ] تُؤْتَى الْبُيُوتُ إِلاَّ مِنْ أَبْوَابِهَا، فَمَنْ أَتَاهَا مِنْ غَيْرِ أَبْوَابِهَا سُمِّيَ سَارِقاً»(1). فقد شبه الامام (عليه السلام) نفسه وأهل بيته بالشعار (وهو ما يلي البدن من الثياب) اشارة الى انهم بطانة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والأقرب إليه نسباً ومعيشة وعلماً، ثم شبههم تشبيها بليغا ثانيا بالخزنة والأبواب، فهم خزنة علم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهم أبواب دخول مدينة علمه كما قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) نفسه " انا مدينة العلم وعلي بابها "(2) وكيف يتأتى لكائن من كان ان يلج هذا المدينة الفاضلة إن لم يمر على خزنتها ليتحصل على موافقتهم ورضاهم، ثم يقومون هم بفتح الابواب له، فإن لم يكن هذا طريقه، فهو سارق حتما ويحق عليه القصاص. جاء التشبيه البليغ في العبارة باسلوب المبتدأ والخبر (نحن الشعار) ثم عطف على المشبه به الاول مشبهين بهما آخرين (الخزنة والابواب) ويتوضح من خلال هذا التشبيه جمال الصورة التي رسمها الامام (عليه السلام) لعلاقة أهل البيت بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فضلا عن هذا التأكيد المتأتي من صيغة المبتدأ و خبره، فالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) واهل بيته (عليه السلام) شيء واحد، لا انفصام بينهما ولا يتم أحدهما الا بالآخر، شأن المبتدأ والخبر. ومن هذا التشبيه أيضا قوله في وصف القرآن الكريم: «وَكِتَابُ اللهِ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ، نَاطقٌ لاَ يَعْيَا لِسَانُهُ، وَبَيْتٌ لاَ تُهْدَمُ أَرْكَانُهُ، وَعِزٌّ لاَ تُهْزَمُ أَعْوَانُهُ»(3).

شبه الامام كتاب الله ثلاثة تشبيهات بليغة باسلوب المبتدأ والخبر فهو (ناطقٌ) و

ص: 18


1- نهج البلاغة: 2/ 58
2- المستدرك على الصحيحين: 3/ 137
3- نهج البلاغة: 2/ 22

(بيتٌ) و (عزٌّ)، وكي يزيد المعنى قوة و وضوحاً رشح الامام تشبيهاته الثلاثة، أي قوّاها، بذكر لازمة من لوازم المشبه به بعد كل تشبيه، فحين شبه القرآن بالانسان الناطق، رشحه بقوله (لا يعيى لسانه) وحين شبهه بالبيت، رشحه بالقول (لا تهدم أركانه) وحين شبهه ثالثة بالعز، رشحه بعبارة (لا تهزم أعوانه)، وكل عبارة من هذه العبارات الثلاث أكدت المعنى المراد من التشبيه ورسخته في ذهن السامع. أما النوع الثاني وهو (ما أصله مبتدأ وخبر) فهو ما كان في أصل الكلام باسلوب المبتدأ والخبر، ولكن دخلت عليه واحدة من نواسخ الابتداء فغيرت من صيغته، ومن هذا قول الامام في خطبته المشهورة في الحث على الجهاد وبيان فضله: «أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ الجِهَادَ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الجَنَّةِ، فَتَحَهُ اللهُ لِخَاصَّةِ أَوْلِيَائِهِ»(1) فأصل التشبيه (الجهاد باب من أبواب الجنة) ولكن الرغبة في تأكيد المعنى وتقويته في نفوس سامعيه دعت الامام الى ادخال (ان) المؤكدة عليه، وهكذا اجتمعت ثلاثة أمور في هذه العبارة اعطت للمعنى الذي يريده الامام في الحث على الجهاد والاقدام عليه، قوة وتجسيداً تمثلا بدخول (ان) المؤكدة، وصيغة التشبيه البليغ بما فيها من مبالغة وتأكيد، ثم ترشيح المشبه به (باب) بأن جعله من أبواب الجنة، ثم أكده كذلك بقوله (فتحه) ولذلك صار الجهاد بابا حقيقياً يأتمر بأمر الخالق سبحانه حيث لا يفتحه الا لخاصة أوليائه.

ومن هذا الاسلوب في التشبيه ما جاء في كلام للامام وهو يصف حال المتقين الذين يدخلون الجنة، في معيشتهم الدنيوية، فيقول: «وَكَانَ لَيْلُهُمْ فِی دُنْيَاهُمْ نَهَاراً، تَخَشُّعاً وَاسْتِغفَاراً، وَكَانَ نَهَارُهُمْ لَيْلاً، تَوَحُشّاً وَانَقِطَاعاً»(2) فهؤلاء المتقون الذين

ص: 19


1- م.ن: 1/ 63
2- م.ن: 2/ 155

سيقوا الى الجنة زمرا، ما فازوا بها الا بأن اشتروا آخرتهم بدنياهم، فقد صار ليلهم في دنياهم نهاراً إذ يقضونه في الصلاة والتعبد خشية من الله واستغفاراً له مما قد يقعون فيه من ذنوب في شؤون حياتهم اليومية وبذا لم يعد الليل وقتا للنوم إنما للتخشع والاستغفار، أما نهارهم فقد صار ليلاً اذ انقطعوا عن الدنيا وملذاتها وانصرفوا عن مباهجها، مستوحشين نافرين خوف ان تؤدي بهم الى المعاصي والآثام. ويلاحظ دخول (كان) الناقصة على التشبيه فصار المشبه (ليلهم) و (نهارهم) اسماً لها، وصار المشبه به (نهاراً) و (ليلاً) خبراً لها.

2- المشبه والمشبه به في تركيب إضافي، نلمس فيه المشبه به مضافاً إلى المشبه، ولعل هذه الصيغة من التشبيه البليغ أكثرها مبالغة وأشدها تأكيداً للتشبيه، ذلك ان قاعدة التشبيه الراسخة هي ان المشبه به هو الأتم في وجه الشبه، وهو (الأصل) فيه، ولكن يجري، بحسب صيغة التشبيه البليغ باسلوب التركيب الأضافي، إضافة المشبه به إلى المشبه، بما يبدو وكأنه جزء منه أو تابع له، وهذه هي الغاية في المبالغة، إذ لم تقف المبالغة عند حدود جعل المشبه والمشبه به نظيرين، كما مر في صيغة المبتدأ والخبر، وإنما تشتد المبالغة حدّ ان تجعل المشبه به تابعاً للمشبه وكأن وجه الشبه أرسخ وأقوى في المشبه، منه في المشبه به. وقد دار هذا اللون من التشبيه البليغ على لسان الامام (عليه السلام) كثيراً في نهج البلاغة ومن ذلك قوله في وصف بعض أهل زمانه: «قَدْ خَاضُوا بِحَارَ الْفِتَنِ، وَأَخَذُوا بِالْبِدَعِ دُونَ السُّنَنِ»(1) فقوله (بحار الفتن) تشبيه بليغ باسلوب التركيب الاضافي، فالأصل فيه تشبيه الفتن بالبحار بجامع العظمة والخطر المؤديان الى الهلاك اي (الفتن بحار) ثم جرى اضافة المشبه به

ص: 20


1- م.ن: 2/ 57

(بحار) الى المشبه (الفتن) فصار التشبيه (بحار الفتن) وفي هذا قوة للتشبيه وتعظيم للمعنى الذي أراده الامام في التحذير من الفتن وما تؤديه باتباعها من الوقوع في الهلاك والموت بعد غرقهم فيها، وبذا يأتي التشبيه في غاية الايجاز ولكنه في الوقت نفسه في غاية المبالغة والتأكيد، فلنا ان نتصور هذه الفتن التي تعصف بالناس وقد استحالت بحاراً طامية يخوض فيها الجاهلون دون علم ودراية حتى تغرقهم فيها فيستوون في قاعها حتى كأن لا وجود لهم ولا أثر، شأن البحار التي تبتلع السفن والناس فلا تُرى منهم بقية. ومن هذا التشبيه كذلك قوله وهو يصف ابليس (لعنه الله) في اعتراضه على الله سبحانه في خلقه لآدم ورفض السجود له «فَعَدُوُّ اللهِ إِمَامُ الْمُتَعَصِّبِينَ، وَسَلَفُ الْمُسْتَكْبِرِينَ، الَّذِي وَضَعَ أَسَاسَ الْعَصَبِيَّةِ، وَنازَعَ اللهَ رِدَاءَ الْجَبْرِيَّةِ، وَادَّرَعَ لِبَاسَ التَّعَزُّزِ، وَخَلَعَ قِنَاعَ التَّذَلُّلِ»(1). في العبارة ثلاثة تشبيهات بليغة، جاءت كلها باسلوب التركيب الاضافي هي (رداء الجبرية) و (لباس التعزز) و (قناع التذلل)، وفيها جميعا اضيف المشبه به الى المشبه، ففي التشبيه الاول شبهت الجبرية بالرداء وفي الثاني شُبّه التعزز باللباس وفي الثالث شُبّه التذلل بالقناع. ..

وبلاغة التشبيه في التشبيهين الاول والثاني متأتية من تشبيه الجبرية والتعزز بالرداء واللباس الذي يشتمل الانسان ويغطي غالب جسمه، وكذلك هو ابليس حين خلع رداء الرضوخ لله سبحانه وتعالى وتردى بدلاً منه التعزز لباساً، كما انه كشف عن وجهه الحقيقي بعدما تقنع قبلاً بالتذلل لله والخضوع لمشيئته، ولكنه لسوء طويته وفساد نفسه فشل في أول امتحان أجراه الخالق له كي يفضحه امام نفسه ويجبره على ان يضع عن وجهه قناع التذلل ويكشف عن وجهه الحقيقي في قبحه وكراهة منظره.

ص: 21


1- م.ن: 2/ 162

3- المشبه به مفعول به: كقول الامام (عليه السلام) في واحدة من عظاته، وهو يصف المؤمن بصفات منها «كابَرَ هَوَاهُ، وَكَذَّبَ مُناهُ، جَعَلَ الصَّبْرَ مَطِيَّةَ نَجَاتِهِ، والتَّقْوَى عُدَّةَ وَفَاتِهِ»(1) ففي العبارة تشبيهان بليغان بطريقة المفعول به وهو قوله (جعل الصبر مطية نجاته) و (التقوى عدة وفاته) إذ المشبه في كل تشبيه منهما هو المفعول به الاول للفعل (جعل) وهما (الصبر) و (التقوى) والمشبه به في كليهما هو المفعول به الثاني وهما (مطية نجاته) و (عدة وفاته).

ولا شك في ان صورة التشبيه الاول المتمثلة في تحول الصبر الى مطية يمتطيها الانسان كي تبلغ به النجاة من النار صورة معبرة ومكتنزة بالمعاني الظاهرة والخفية منها، فهي تعبر عن قوة ايمان الانسان وقدرته على تذليل الصبر - على مرارته - حتى يستحيل ظهراً يمتطيه، فهو بدل ان يُذل بالانقياد الى شهواته أو الرضوح لمصاعب الحياة، يقلب الصورة ليقهر بأيمانه الصبر، فكأن صراعه ليس مع الشهوات او المصاعب انما مع الصبر، فإذا غلبه صار له مطية ذليلة تنجيه من العذاب، وكذلك هي الصورة في التشبيه الثاني حيث تستحيل التقوى الى عدة وزاد يحملها عند وفاته حين يخرج خاليا ومفلساً من كل ما كان له في الحياة الدنيا، الا التقوى فهي خير زاد له وعدة.

ومن هذا الباب قوله واعظاً أيضا ومزهداً بالدنيا وبهرجها: «وَلَبِئْسَ المَتْجَرُ أَنْ تَرَى الدُّنْيَا لِنَفْسِكَ ثَمَناً، وَمِمَّا لَكَ عِنْدَ اللهِ عِوَضاً»(2) فالعبارة قائمة على التشبيه البليغ بطريقة المفعول به، حيث صارت (الدنيا) مفعولاً به اول للفعل (ترى) وهي

ص: 22


1- م.ن: 1/ 122
2- م.ن: 1/ 73 - 74

المشبه، و(ثمنا) و (عوضا) مفعولاً به ثانيا وهما مشبهان بهما. فأية تجارة خاسرة هذه التي يبيع الانسان فيها نفسه كي يشتري حياة زائلة تقاس بالايام والسنين ويترك حياة الخلد في جنات النعيم، وأي عقل هذا الذي يعد ما يجده في حياته الدنيا عوضا كافيا عما سيجازيه الله في حياته الثانية انها بلا شك لبئس المتجر كما قال الإمام.

4- المشبه والمشبه به مربوطان بحرف الجر، سواء تقدم المشبه أو المشبه به، وهو من الانواع الكثيرة الاستعمال، الدائرة حتى في كلامنا الدارج، كما في قولنا " شعر من ذهب أو قلب من حجر "، ولكن قلّما يلتفت الى هذا النوع من التشبيه دارسو الصورة البلاغية. وقد دار هذا التشبيه على لسان الامام (عليه السلام) كما توضح لنا من دراسة النهج، ومن ذلك قوله يصف أولئك الذين يتصدون للحكم أو الفتيا وهم ليسوا أهلاً لها فهم متشبهون بالعلماء وليسوا علماء. . يقول: «حَتَّى إِذَا ارْتَوَى مِنْ مَاء آجِن، وَأكْثَر مِن غَيْرِ طَائِل، جَلَسَ بَيْنَ النَّاسِ قَاضِياً ضَامِناً لِتَخْلِيصِ مَا التَبَسَ عَلَی غيْرِهِ (10)، فَإِنْ نَزَلَتْ بِهِ إِحْدَى المُبْهَمَاتِ هَيَّأَ لَها حَشْواً رَثّاً مِنْ رَأْيِهِ، ثُمَّ قَطَعَ بِهِ»(1) فقد شبه رأي هذا المتعالم، لفساده وقلة نفعه، بالحشو الذي لا فائدة منه وكي يؤكد ابتذال هذا الرأي وتفاهته وصفه بأنه (رثٌّ) أي متهرئ ليس له من الحجة والمنطق ما يقويه أو يدفع الآخرين الى التصديق به. فالتشبيه البليغ جاء في قوله «حشواً رثاً من رأيه» اي ان رأيه كالحشو الرث، وبذلك نلاحظ الربط بين المشبه (رأي) والمشبه به (حشو رث) بحرف الجر (من) وبتقدم المشبه به على المشبه.

ص: 23


1- م.ن: 1/ 48

ومن هذا التشبيه قول الامام مخاطبا أنصاره وهو يحثهم على مقاتلة أصحاب معاوية في صفين: «فَالَمَوْتُ في حَيَاتِكُمْ مَقْهُورِينَ، وَالْحَیَاةُ في مَوْتِكُمْ قَاهِرِينَ»(1) فقد شبه حياة المقهورين الأذلاء بالموت في قوله (فالموت في حياتكم مقهورين)، كما شبه موت القاهرين المنتصرين بالحياة في قوله (والحياة في موتكم قاهرين) حثاً لهم وتحفيزاً على رفض الظلم والقهر، والاستشهاد دفاعاً عن الكرامة التي هي الحياة الحقيقية، اما حياة الذل فانها موت ولكن أيُّ موت؟ إنه موت الذل والمهانة. و في كلا التشبيهين جرى ربط المشبه به (الموت) و (الحياة) بالمشبه (حياتكم مقهورين) و (موتكم قاهرين) بحرف الجر (فی).

5- المشبه به حال من المشبه، كقول الامام (عليه السلام) في وصف الايمان:

«إنَّ الاْيمَانَ يَبْدُو لُمْظَةً فِی الْقَلْبِ، كُلَّمَ ازْدَاد الاْيمَانُ ازْدَادَتِ الُّلمْظَةُ»(2) فقد شبه الامام ولادة الايمان في قلب الانسان باللمظة أي القدحة، التي يشتد توهجها ويزداد نورها بزيادة الإيمان، اي ان الانسان يستطيع ان يجعل قلبه عامراً بنور الايمان ممتلئاً بالخير كلما ازداد تقوى وقرباً من الله سبحانه بزيادة الايمان الذي يولد لمظة ثم يزداد بعدها.

ومنه قوله كذلك «ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ نُوراً لاَ تُطْفَأُ مَصَابِيحُهُ، وَسِرَاجاً لاَ يَخْبوُ تَوَقُّدُهُ، وَبَحْرا لا يُدْرَكُ قَعْرُهُ، وَمِنْهَاجا لا يُضِلُّ نَهْجُهُ، وَشُعَاعا لا يُظْلِمُ ضَوْؤُهُ، وَفُرْقَاناً لاَ يُخْمَدُ بُرْهَانُهُ، وَتِبْيَاناً لاَ تُهْدَمُ أَرْكَانُهُ، وَشِفَاءً لاَ تُخْشَى أَسْقَامُهُ، وَعِزّاً لاَ

ص: 24


1- م.ن: 1/ 96
2- م.ن: 3/ 213

تُهْزَمُ أَنْصَارُهُ، وَحَقّاً لاَ تُخْذَلُ أَعْوَانُهُ»(1) فقد تتابعت المشبهات بها بأسلوب الحال من المشبه (الكتاب) اي القرآن الكريم فكانت (نوراً) و (سراجاً) و (بحراً) و (منهاجاً) و (شعاعاً) و (فرقاناً) و (تبيانا) و (شفاء) و (عزاً) و (حقاً) مذيلة جميعها بجمل هي بمثابة (ترشيح) اي تقوية لكل مشبه به من هذه المشبهات بها وبما يناسبه من الصفات الملحقة به... (نوراً لا تطفأ مصابيحه) و (سراجاً لا يخبو توقده). .. الخ 6- المشبه به مصدر مبين للنوع أي مفعول مطلق، وهذا اللون من التشبيه هو الذي سنبدأ به فصول هذا الكتاب.

ص: 25


1- م.ن: 2/ 202 - 203

ص: 26

الفصل الأول التشبيه البليغ بأسلوب المفعول المطلق

تتمثل البنية التركيبية للتشبيه البليغ باسلوب المفعول المطلق بأن يكون المشبه فعلاً، يراد من التشبيه ايضاح طبيعته أو مقداره أو بيان حاله أو تزيينه أو تقبيحه....

الى غير ذلك من أغراض التشبيه فيأتي المشبه به بصيغة المصدر لذلك الفعل مبينا نوعه (اي مفعولاً مطلقاً) كما في قولنا: «انتشر الفساد في هذه الايام انتشار النار في الهشيم»، فالمشبه الذي يراد ايضاح صورته وتقدير مقداره في نفوس السامعين هو (انتشار الفساد)، والمشبه به، الأقوى في وجه الشبه، والأرسخ في الأذهان لشيوعه ومعرفة الجميع به، الذي يمكن ان يكون مقياساً لادراك المشبه (كيفية انتشار الفساد ومقداره)، هو (انتشار النار في الهشيم) تعبيرا وتجسيدا لانتشار الفساد السريع واتيانه على كل شيء، كما تفعل النار في الهشيم اليابس، في سرعة الانتشار والقضاء عليه وتحويله الى رماد لا قيمة له. فالتشبيه من حيث النوع تشبيه بليغ لحذف أداته ووجه الشبه، واقتصاره على طرفيه فحسب، المشبه وهو (انتشار الفساد) والمشبه به وهو (انتشار النار في الهشيم)، والعلاقة بين المشبه والمشبه به هي علاقة الفعل بمصدره (انتشر انتشار) وهو مفعول مطلق لأنه جاء مبينا لنوعه بعد اضافته الى الحال التي أريد منها زيادة المشبه وضوحاً وتوكيداً.

ص: 27

ورد هذا اللون من التشبيه كثيرا، سواء في القرآن الكريم، أو في الشعر والنثر العربيين قديما وحديثا، فمما ورد منه في القرآن الكريم قوله تعالى: «وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ» (النمل / 88) وقوله تعالى: «فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ» (الواقعة/ 55) وقوله تعالى: ﴿يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ» (محمد/ 20) وقوله تعالى: «فَأَخَذْناَهُمْ أخْذَ عَزِيزٍ مُّقْتَدِرٍ» (القمر/ 42).

كما كان حضوره في الشعر العربي قديما، فها هو يرد في معلقة امرئ القيس وهو يصف صعوده الى مخدع حبيبته، فيقول:

سموتُ إليها بعدما نام أهلُها سموَ حَبابِ الماءِ حالاً على حالِ(1) فقد أدرك الشعراء ما في هذا اللون من التشبيه من جمال وقدرة على تجسيد المعاني وتمثيلها للسامعين، سواء في هذا التناغم الصوتي المتولد من التكرار الاشتقاقي في لفظ الفعل ومصدره، أو من خلال التشبيه الذي يصنعه خيال الشاعر وهو يلتقط مشبها به قريبا منا حدّ الألفة ولكن لم يرد في أذهاننا ان نجعل منه تمثيلا أو تجسيداً لحال أخرى، وهكذا يجتمع في هذا التشبيه أهم عنصرين من عناصر نجاحه، وهما المقاربة والمناسبة من جهة والغرابة والطرافة من جهة أخرى.(2) وهو ما يمكن ان نتلمسه كذلك في قول المتنبي وهو يصف شعب بوان، حيث استثمر هذا اللون من التشبيه في نقل صورة جميلة لصوت الماء وهو يرتطم بالحصى. .. فيقول:

وأمواهٍ تصل بها حصاها صليلَ الحَلي في أيدي الغواني(3)

ص: 28


1- شرح ديوان امرئ القيس / 140
2- ينظر كتابنا: النقد البلاغي عند العرب: 364 - 389
3- العرف الطيب / 600

فنحن لم نزر شعب بوان، ولم نسمع خرير الماء فيه، ولكن الصورة التي صنعها خيال المتنبي من خلال تشبيه صليل الماء وهو يصطدم بالحصى، بالرنين العذب المنبعث من اصطدام الحلي في ايدي الفتيات الجميلات، جعلنا نتحسس جمال هذا الخرير، ثم نصاب بعدوى الشاعر وهو يعيش حالة الانتشاء واللذة بما يراه ويسمعه، فصرنا نشاركه طربه لهذه الموسيقى الجميلة التي حركت خياله.

وحين عدنا الى كتاب نهج البلاغة للامام علي (عليه السلام) وحاولنا الوقوف على وجوه الصورة البلاغية في هذا السفر العظيم ولا سيما التشبيه منها استوقفنا هذا الاستعمال الكثير لهذا اللون من التشبيه في خطب الامام ورسائله، حتى استطعنا ان نرصد ما يزيد على أكثر من سبعين موضعا جاء فيه التشبيه البليغ، باسلوب المفعول المطلق، مما حفزنا على البدء به، في أول دراسة لنا في وجوه الصورة البلاغية في النهج. ولما كانت البنية التركيبية لهذا اللون من التشبيه البليغ واحدة وهي صيغة الفعل ومصدره، آثرنا ان تكون دراستنا له بحسب الاغراض البلاغية التي خرج اليها في كلام الامام، ولا سيما ان نهج البلاغة بكل أجناسه النثرية سواء في خطبه أو رسائله أو وصاياه أو حكمه، قد غلب عليه طابع النصح والارشاد لما كان يستشعره الامام من حاجة أهل زمانه واللاحقين لهم لمثل ذلك، وسيكون ترتيب هذه الاغراض بحسب بروزها في الصور التشبيهية وكثرتها وهي:

ص: 29

1- بيان مقدار حال المشبه: وذلك حين " يكون المشبه معروف الصفة، قبل التشبيه، معرفة إجمالية، ولكن الغرض هو تحديد مقدار هذه الصفة، قوة أو ضعفاً، زيادة أو نقصاناً، وضوحاً أو غموضاً "(1) ولا غرابة بعد ذلك ان يكون هذا الغرض هو الأبرز بين أغراض التشبيه في نهج البلاغة، لأن الإمام بحاجة الى توضيح معانيه وتأكيدها في نفوس سامعيه، حيث لا تنفع المعرفة العامة أو المجملة، بل لابد من تحديد الاشياء تحديداً دقيقاً، وإكساء المعاني رداء الحقيقة حتى تتجسد أمام سامعيه فيعونها ويتأثرون بها علّها تغير ما في نفوسهم لما يريد لهم الامام من خير وصلاح.

ومن ذلك ما جاء في إحدى خطبه وهو يقرّع أصحابه لتخاذلهم في مقاتلة معاوية وأصحابه، مستغرباً من تكالب أهل الباطل في الدفاع عنه، وتخاذل انصاره وهم أهل الحق عن نصرته، يقول: «صَاحِبُكُمْ يُطِيعُ اللهَ وَأَنْتُمْ تَعْصُونَهُ، وَصَاحِبُ أَهْلِ الشَّامِ يَعْصِ اللهَ وَهُمْ يُطِيعُونَهُ، لَوَدِدْتُ وَاللهِ أَنَّ مُعَاوِيَةَ صَارَفَني بِكُمْ صَرْفَ الدِّينَارِ باِلدِّرْهَمِ، فَأخَذَ مِنِّي عَشَرَةً مِنكْکُمْ وَأَعْطاَنِی رَجُلا مِنْهُمْ»(2) ايُّ مفارقة هذه التي آلمت الإمام هذا الألم حتى جعلته يرتضي هذه التجارة الخاسرة حين يستبدل الدرهم بالدينار، فيود لو ان معاوية قايضه بأصحابه فأعطى الامامُ عشرة من أصحابه لقاء واحد من أصحاب معاوية، إن الإمام في غاية الألم والتحسر وهو يرى الحق بلا ناصر ولا معين، ويرى الباطل وقد كثر أنصاره ومعينوه بل استماتوا في القتال دونه، فهم يعرفون أن صاحبهم (معاوية) يعصي الله ولكنهم يطيعونه، وهو

ص: 30


1- علم اساليب البيان / 186
2- نهج البلاغة: 1/ 189

الامام الحق ويطيع الله، ولكن اتباعه يعصونه، وكي يعبر الإمام عن زهده بهؤلاء الاتباع المتخاذلين واستصغاره لشأنهم، كان التشبيه البليغ باسلوب المفعول المطلق (صارفني بكم صرف الدينار بالدرهم) كي يقرر لهم مقدار حالهم في أنفسهم أولاً، وفي نفس الإمام ثانياً.

وفي كلام له (عليه السلام) واصفاً نفسه، وما وهبه الله من علم رباني خصَّه به، إذ لا يقوى على حمله سواه من البشر، يقول: «وَاللهِ لاَبْنُ أَبي طَالِب آنَسُ بالمَوْتِ مِنَ الطِّفْلِ بِثَدْي أُمِّهِ، بَلِ انْدَمَجْتُ عَلَی مَكْنوُنِ عِلْم لَوْ بُحْتُ بِهِ لاَضْطَرَبْتُمُ اضْطِرَابَ الأَرْشِيَةِ في الطَّوِيِّ البَعِيدَةِ»(1). فالعبارة قائمة على التشبيه سواء في جزئها الأول، وهو يقرر شجاعته، وعدم خشيته من الموت، إيماناً، وليس تهوراً، او جهلاً، أو جزعاً من الحياة أو شقاء بها، ولكن لأنه يعرف ما ينتظره من خير ونعيم في حياته الثانية، بعد ان رأى مكانه في الجنة بين الأنبياء والصديقين والشهداء، وهكذا فهو لا يجزع من الموت بل يأنس به أنس الطفل الرضيع بثدي أمه، فالجنة ملاذه ومكانه الآمن الذي يفزع إليه كما يفزع الطفل الى صدر أمه حيث الأمان والراحة والزاد والشراب.

وكذا الحال في جزء العبارة الثاني الذي جاء متمماً لمعنى العبارة في جزئها الأول وقائماً على التشبيه كذلك، ولكن كان التشبيه هذه المرة بليغاً باسلوب المفعول المطلق، وهو يصف ما استودعه الله من علم وما خصه به من نور رباني، يجعله زاهداً بهذه الدنيا وما فيها، ولكنه لا يقوى على البوح به لهم، لأنه يعرف ثقل هذه الأمانة التي حَمَّلها الله إياها، بما ليس في مقدور أحد من البشر سواه تحملها، فما إن

ص: 31


1- م.ن: 1/ 36

يسمعوا بما لديه من علم حتى تأخذهم رعدة شديدة ويضطربون اضطراب الحبل الطويل في البئر البعيدة الغور، وهو إن يبح لهم بشيء مما خُصّ به من علم الهي، فسوف تأخذهم الرجفة وتضطرب حواسهم واعضاؤهم فلا يقوون على تحمل ما يسمعون. .. وكي يبين الإمام لسامعيه حالهم فيما لو باح لهم بعلمه، حرص على ان تكون عناصر المشبه به من مفردات حياتهم اليومية كي يتجسد المعنى أمام أعينهم ويتبينوا مقدار اضطرابهم فكانت صورة الحبال الطويلة التي تضطرب في البئر البعيدة، تعبيرا عن قوة هذا الاضطراب وشدته، وهي صورة ألفوها واعتادوا رؤيتها كل يوم في حياتهم، بما يرسخ المعنى في نفوسهم.

وفي واحدة من خطبه الوعظية يستثمر الامام (عليه السلام) هذا اللون من التشبيه استثماراً واضحاً في تقرير معانيه في نفوس سامعيه، في ايراد اكثر من مشبه به لبيان مقدار حال المشبه وتوضيحه يقول: «فَوَاللهِ لَوْ حَنَنْتُمْ حَنِينَ الْوُلَّهِ الْعِجَالِ، وَدَعَوْتُمْ بِهَدِيلِ الْحَمَامِ، وَجَأَرْتُمْ جُؤَارَ مُتَبَتِّلِی الرُّهْبَانِ، وَخَرَجْتُمْ إِلَی اللهِ مِنَ الاْمْوَالِ وَالاْوْلاَدِ، الْتمَسَ الْقُرْبَةِ إِلَيْهِ فِی ارْتِفَاعِ دَرَجَة عِنْدَهُ، أوغُفْرَانِ سِيِّئَة أَحْصَتْهَا كُتُبُهُ، وَحَفِظَتْهَا رُسُلُهُ، لَكَانَ قَليِلا فَيمَا أرْجُو لَكُم مِنْ ثَوَابِهِ، وَأخَافُ عَلَيْکُمْ مِنْ عِقَابِهِ»(1)، في العبارة تشبيهان بليغان جاءا بطريقة المفعول المطلق وهما (حننتم حنين الوله العجال) و (جأرتم جؤار متبتل الرهبان) تعبيراً عن شدة الاستغفار وعمق الدعاء إلى الله سبحانه وتعالى بأن يغفر لهم ذنوبهم التي وقعوا بها، فإن هذا كله ليس كافيا، بل هو قليل قياساً بما يريده لهم الامام من ثواب عند الله ومن خوف عليهم من عقابهم على هذه الذنوب. وبذا كان المشبه به الاول (حنين الوله العجال) غاية

ص: 32


1- م.ن: 1/ 97 - 98

في الحنين كما تمثل في حنين النوق التي (ولهت) أي فقدت ولدها وصارت تتعجل لقاءها بشوق ولهفة، وكذا المشبه به الثاني (جأرتم جؤار مثبتل الرهبان) فإنه الغاية في التبتل الى الله والدعاء له فالرهبان قد اعتزلوا الحياة وانقطعوا للعبادة والصلاة، حتى صاروا مثلا في التبتل الى الله والدعاء باسمه على امتداد الليل والنهار بعد أن وهبوا حياتهم لعبادة الله والتقرب إليه بالصلاة والدعاء، ولا شك في ان الامام أراد ان يقول لسامعيه انكم لو بلغتم الغاية في الوله والتبتل فان ذلك قليل قياساً بما أريده لكم أو أخافه عليكم، فكان التشبيهان البليغان بطريقة المفعول المطلق وسيلته في بيان هذا الحال.

وفي خطبته التي تسمى (القاصعة) التي يذم بها ابليس اللعين في تكبره وعدم خضوعه لحكم خالقه، يحذر الناس من سلوك طريقته والاقتداء بأفعاله، فيقول:

«فَاللهَ اللهَ فِی عَاجِلِ الْبَغْيِ، وَآجِلِ وَخَامَةِ الظُّلْمِ، وَسُوءِ عَاقِبَةِ الْكِبْرِ، فَإنَّهَا مَصْيَدَةُ إِبْلِيسَ الْعُظْمَى، وَمَكِيدَتهُ الْكُبْرَى، الَّتِي تُسَاوِرُ قُلُوبَ الرِّجَالِ مُسَاوَرَةَ السُّمُومِ الْقَاتِلَةِ»(1) فحين اراد الامام استحضار مقدار الضرر الذي يصيب الناس حين يتخلقون بأخلاق ابليس، وكي يردعهم عن متابعته في سوء خلقه لا سيما الكبر، لم يكتف بتشبيه هذا الكبر بالمصيدة العظمى والمكيدة الكبرى لأبليس تشبيها بليغا بطريقة ما أصله مبتدأ وخبر، بل استعان بالتشبيه البليغ بأسلوب المفعول المطلق، في تشبيه ثالث وصف فيه طريقة نفاذ هذه العادة السيئة العاقبة الى قلوب الرجال ثم فتكها بها فتكاً يأتي عليها دون عجز أو خطأ، وذلك في قوله (تساور قلوب الرجال مساورة السموم القاتلة) فجسد لهم ذلك بتشبيه (تساورها) اي انتشارها وعملها

ص: 33


1- م.ن: 2/ 173

في القلوب بعمل السموم القاتلة التي تدخل الاجسام دون ان نشعر بها حتى اذا انتهت الى القلوب فتكت بها وأدت بأصحابها الى الموت السريع، فما أراد الامام تقريره في نفوس سامعيه هو ان الكبر سم قاتل يتسلل الى قلوبنا دون ان نشعر به حتى اذا انتشر فيها خربها وادى بها الى الموت.

وفي موعظة للامام علي (عليه السلام) يحث فيها الناس على الصلاة ويبين فضلها عند الله، وما تعود به من نفع عليهم يقول: «تَعَاهَدُوا أَمْرَ الصَّلاَةِ، وَحَافِظُوا عَلَيْهَا، وَاسْتَكْثِرُوا مِنْهَا، وَتَقَرَّبُوا بِهَا، فَإِنَّهَا كَانَتْ عَلَی الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً... وَإِنَّهَا لَتَحُتُّ الذُّنُوبَ حَتَّ الْوَرَقِ، وَتُطْلِقُهَا إِطْلاَقَ الرِّبَق»(1) فهو يستحضر في حديثه هذا عن فضل الصلاة تشبيه النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) الصلاة بالماء الجاري الذي يغتسل منه المسلم خمس مرات فلا يبقى بعدها من ذنوبه شيء، وتأتي الصورة التي رسمها الامام عبر التشبيه البليغ باسلوب المفعول المطلق مستمدة منها ومتممة لها، إذ إنها تحت الذنوب (أي تقشرها) حتى يظهر جوهر المؤمن صافيا بريئاً من كل عيب كحتنا للاوراق حتى يظهر عود الشجرة مستقيما، ناعما، أملس، براقا.

ولم يكتف بذلك حتى زاد هذا المعنى تأكيداً حين أردف تشبيهه السابق بتشبيه آخر لا يقل عنه طرافة وجمالاً حين شبه فضل الصلاة في اطلاق المرء من ذنوبه وتحريره من أدرانه باطلاق (الربق) اي العروة من الحبل لتصبح حرة متخلصة من أسرها فكان التشبيهان صورة نفسية رائعة لأحساس المؤمن بالرضا والسعادة وهو يتحرر من ذنوبه ومن الاحساس بأنه اسيرها أو حتى عبد لها. ولا سبيل الى ذلك كله الا بالصلاة.

ص: 34


1- م.ن: 2/ 204

ويخطب الامام في الناس يستحثهم على قتال معاوية وأصحابه، ولكنه مدرك تماماً حقيقة أصحابه، وفساد دخليتهم، واختلاف أمرهم، وعصيانهم لأوامره، حتى بدا عاجزاً، ولا رأي له. .. يقول: «غُلِبَ وَاللهِ الْمُتَخَاذِلُونَ! وَأيْمُ اللهِ إِنِّی لَاَظُنُّ بِكُمْ أنْ لَوْ حَمِسَ الْوَغَى، وَاسْتَحَرَّ الْمَوْتُ، قَدِ انْفَرَجْتُمْ عَنِ ابْنِ أَبِی طَالِب انْفِرَاجَ الرَّأْسِ»(1) فهو يدرك ان هؤلاء الناس، حوله، ماداموا في أمن وسلام، فإذا اشتد أوار الحرب، واستشعروا دنو الموت منهم، انفضوا من حوله، وفارقوه فراقا لا رجعه فيه، وحتى يوضح لهم مقدار يأسه من نصرتهم، ويقينه أنهم خاذلوه، شبه انفراجهم عنه ساعة اللقاء بانفراج الرأس عن الجسد تشبيهاً بليغاً باسلوب المفعول المطلق، وفي هذا التشبيه ما فيه من دلالة على بشاعة فعلتهم وقباحة موقفهم، فالرأس حين ينفرج عن الجسد يعني الموت المحتم، وبعدها لا تنفع اعادة الوضع الى ما كان عليه، فالحياة لا تعود الى الجسد بعودة الرأس إليه، وكأني بالإمام يريد أن يقرر في نفوس أصحابه ان تخليهم عن نصرته، وعجزهم عن مقاتلة عدوهم، وتركه يلاقي عدوه وحده، نجاة بأنفسهم، ليس هلاكا له وحده فحسب، بل هو هلاك لهم أيضاً فما نفع الجسد بلا رأس، وماذا يمكن ان تفعلوا اذا وقع المحظور وغزاكم عدوكم، وادركتم صواب كلامي بعد فوات الأوان، هل تراه يعيد الحياة اليكم؟ وما نفع الندم ساعة إذ، وبذا كان التشبيه البليغ باسلوب المفعول المطلق أداة الامام في استحضار كل هذه المعاني وتقريرها في نفوس أصحابه، فالتشبيه لم يقتصر على بيان حال المشبه (الناس في تخاذلهم وتهربهم من قتال عدوهم)، وقت الكلام فحسب وإنما تعدى ذلك الى قابل الايام وما سيحل بهم إن لم يأخذوا بكلام امامهم، ويلاحظ على بنية الخطاب ان الامام أشار الى نفسه بالكنية (ابن ابي طالب)

ص: 35


1- م.ن: 1/ 79

وكأنه بذلك يريد ان يذكّر الناس من هو؟ وما صلته ببيت النبوة وما قدمه أهل بيته من فضل للناس أجمعين إذ أخرجوهم من الظلمات الى النور حين شرفهم الله بأن بعث الله نبيه إليهم من هذا البيت الطاهر الشريف، فهل بعد ذلك من شك في ان الحق مع علي، وعلي مع الحق؟.

ومن التشبيهات البليغة باسلوب المفعول المطلق التي جاءت على لسان الامام علي (عليه السلام) لبيان مقدار الم شبه قوله:

1- «يَرِدُونَهُ وُردَ الاَنْعَامِ، وَيأْلَهُونَ إِلَيْهِ وُلُه الحَمَامِ» (النهج: 1/ 21).

2- «فَأَبَيْتُمْ عَلَّیَ إِبَاءَ الْمُخَالِفِينَ، المُنَابِذِينَ» (1 / 83).

3- «فَعَطَفَ عَلَيْهَا عَطْفَ الضَّرُوسِ، وَفَرَشَ الأَرْضَ بِالرُّؤُوسِ» (2 / 30).

4- «فَلاَ تَنْفِرُوا مِنَ الْحَقِّ نِفَارَ الصَّحِيحِ مِنَ الاَجْرَبِ، وَالْبَارِئ مِنْ ذِي السَّقَمِ» (2 / 43).

5- «فَكَأَنَّكُمْ بَالسَّاعَةِ تَحْدُوكُمْ حَدْوَالزَّاجِرِ بِشَوْلِهِ» (2 / 66).

6- «وَأَتَوَكَّلُ عَلَی اللهِ تَوَكُّلَ الانَابَةِ إلَيْهِ» (2 / 78).

7- «يُفْضِ كَإفْضَاءِ الدِّيَكَةِ، وَيَؤُرُّ بِمَلاَقِحِهِ أَرَّ الْفُحُولِ الْمُغْتَلِمَةِ في لضِّرَابِ» (2 / 88).

8- «قَوَّضُوا مِنَ الدُّنْيَا تَقْوِيضَ الرَّاحِلِ، وَطَوَوْهَا طَيَّ الْمَنَازلِ.» (2 / 110).

9- «وَقَامَتِ النِّيَّةُ مَقَامَ إِصْلاَتِهِ لِسَيْفِهِ» (2 / 156).

10- «وَاعْلَمُوا أَنَّ دَارَ الْهِجْرَةِ قَدْ أقَلَعَتْ بِأَهْلِهَا وَقَلَعُوا بِهَا، وَجَاشَتْ جَيْشَ الْمِرْجَلِ» (3 / 3).

11- «وَلا تَدْنُ مِنَ الْقَوْمِ دُنُوَّ مَنْ يُريدُ أَنْ يُنْشِبَ الْحَرْبَ، وَلا تَباَعَدْ منهم تَباَعُدَ مَنْ يَهَابُ الْبَأْسَ» (3 / 15).

ص: 36

12- «وَالْفُرْصَةُ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ، فَانْتَهِزُوا فُرَصَ الْخَيْرِ» (3 / 155).

13- «فَيَعِيشُ فِی الدُّنْيَا عَيْشَ الْفُقَرَاءِ، وَيُحَاسَبُ فِی الاْخِرَةِ حِسَابَ الاَغْنِيَاءِ» (3 / 180).

*** 2- تقييح المشبه والتنفير منه: وذلك حين يراد الذم، أو التحقير لصرف السامع عن أمر عليه اجتنابه، لأن في الإقدام عليه أو الاتصاف به ضرراً أو مذمة له.

وهذا الغرض بارز في خطب الامام علي (عليه السلام) ووصاياه ورسائله ولا سيما في التحذير من الدنيا ومفاتنها ودعوته للانصراف عنها، بتقبيح ملذاتها ومغرياتها، أو في تحذيره للناس من التكاسل في أمر من أمور الدنيا والدين، كمقاتلة العدو، أوالانجرار الى الفتن أو عصيان أولي الأمر، ساعيا من ذلك كله الى حث الناس على التمسك بدينهم، ونبذ خلافاتهم، والتخلق بخلق الاسلام.

ومن خطبه التي يحذر فيهاالناس من الركون الى الدنيا والارتهان الى ملاذها والاغترار بنعيمها قوله: «أَلاَ وَإِنَّ هذِهِ الدُّنْيَا الَّتِي أَصْبَحْتُمْ تَتَمَنَّوْنَهَا وَتَرْغَبُونَ فِيهَا، وَأَصْبَحَتْ تُغْضِبُكُمْ وَتُرْضِيكُمْ،... وَهِيَ وَإِنْ غَرَّتْكُمْ مِنْهَا فَقَدْ حَذَّرَتْكُمْ شَرَّهَا، فَدَعُوا غُرُورَهَا لِتَحْذِيرِهَا، وَأَطْمَعَهَا لِتَخْوِيفِهَا، وَسَابِقُوا فِيهَا إِلَی الدَّارِ الَّتي دعِيتُمْ لَها، وَانْصَرِفُوا بِقُلُوبِكُمْ عَنْهَا، وَلا يَخِنَّنَّ أَحَدُكُمْ خَنيِنَ الأمَةِ عَلَی مَا زُوِىَ عَنْهُ مِنْهَا»(1) يحاول الامام قدر ما يستطيع ان يقنع الناس ان هذه الدنيا فانية، وان ملذاتها زائلة، وانما جعلها الله داراً مؤقتة نتزود منها للدار الدائمة حيث الجنة بنعيمها

ص: 37


1- م.ن: 2/ 106

الذي لا يفنى ولا يزول، وهو يدرك جيداً ان مهمته صعبة جداً، فالدنيا، بمفاتنها، والحياة، بملذاتها، توقظان غرائز الانسان وتحفزانه للتمتع بهما، وليس يسيراً أن تطلب من أهلها ترك هذا كله، والقبول بالقليل القليل منها، ولذا نجده يحاول استثمار طاقات اللغة في بلاغة عالية تتمكن من القلوب كي ترسخ فيها هذه المعاني، فكانت الصورة التشبيهية التي رسمها للمتباكين على الدنيا وقلة حظوظهم منها، ممثلة بالأَمَة التي تبكي فتخن أي تصدر صوت أنينها من أنفها، في صورة قبيحة ومنفرة لهذا البكاء المزعج، ولا شك في ان اختيار الامام للأمة مشبهاً به دون سواها من النساء يأتي موافقا لا لغرض تقبيح الصورة فحسب، بل لتصوير هؤلاء المتباكين على الدنيا وملذاتها بصورة الأمة، فهم ليسوا عبيداً للذاتهم، رجالاً، وانما أمات، وبذلك نزع منهم أبرز ما يعتز به العربي من صفاته وهي (الرجولة) فهو يريد القول لهم ان مقياس الرجولة هو مغالبة النفس وأهوائها، والصبر على الحرمان من الدنيا ومغرياتها، والا فإن أحدكم اذا ما تباكى على الدنيا وما فاته منها كان كالأمة التي تخنُّ على ما حرمت منه. كما يلاحظ على العبارة دقة التعبير في قول الامام (وانصرفوا بقلوبكم عنها) فهو يدرك جيداً ان الانصراف الحقيقي عن الدنيا وملاذها لا يكون باشاحة الوجه عنها أو تجاهلها، وانما بنزع ذلك من أعماق النفس الانسانية، اي من القلوب، لأنها متى تحررت من هواها وأهوائها، تحرر أصحابها من أَسْر الدنيا، وسعوا إلى الآخرة.

ومن هذا ايضا قوله مخاطباً اتباعه، بعد ان عصوا أمره ورضوا بالتحكيم في صفين، مخدوعين بحيلة معاوية واتباعه، ولم يستمعوا الى نصيحته وتحذيره، «فَإِنَّ مَعْصِيَةَ النَّاصِحِ الشَّفِيقِ الْعَالِمِ الْمُجَرِّبِ تُورِثُ الْحَسْرَةَ، وَتُعْقِبُ النَّدَامَةَ، وَقَدْ كُنْتُ

ص: 38

أَمَرْتُكُمْ في هذِهِ الْحُكُومَةِ أَمْرِي، وَنَخَلْتُ لَكُمْ مَخزُونَ رَأْيِي، لَوْ كَانَ يُطَاعُ لِقَصِير أَمْرٌ! فَأَبَيْتُمْ عَلَیَّ إِبَاءَ الْمُخَالِفِينَ الْجَفَاةِ، وَالمُنَابِذِينَ الْعُصَاةِ»(1). فعلى الرغم من علم الامام بهذه الخديعة التي لجأ اليها معاوية وأصحابه بعد أن تيقنوا من هزيمتهم في صفين، حين رفعوا المصاحف على الرماح طلباً للتحكيم، وعلى الرغم من تحذيره أتباعه من الوقوع في هذا الفخ، إلّا انه اضطر الى أن ينصاع لرأي اتباعه، بعد ان رأى منهم مخالفتهم لرأيه وإباءهم الأخذ بمشورته، فكان خروجهم على رأيه خروج العاصي المتمرد، والجاني المتهرب، بما آلم الامام ألماً عميقاً وهو يرى هذا التمرد وهذا العصيان ممن يفترض بهم طاعته والامتثال لأمره، فأراد ان يقول لهم إن اباءهم لم يكن مجرد خلاف في الرأي أو تباين في وجهات النظر، وانما كان إباء المخالفين الجناة، والمنابذين العصاة، تقبيحاً لهذه المخالفة واستبشاعاً لهذه المنابذة، فكان التشبيه البليغ باسلوب المفعول المطلق خير وسيلة في ابلاغ معاني الامام وأحاسيسه إلى من يفترض فيهم انهم اتباعه ومطيعوه ويلاحظ في كلام الامام اشارته الى قصة قصير وتحذيره لمولاه جذيمة الأبرش في عدم الأمن للزباء ملكة الجزيرة واجابتها لدعوتها إياه بالزواج منها، إذ قتلته بعد ذلك فذهب قوله «لا يطاع لقصير أمر» مثلاً استعان به الامام كي يؤكد لأتباعه انهم سيندمون على قبولهم التحكيم ندماً كبيراً، ولكن بعد فوات الأوان، وهذا ما كان.

ولعلنا لا نغالي اذا ما قلنا إن أغلب صور التقبيح التي جاءت على وفق هذا التشبيه في كلام الامام علي (عليه السلام) جاء في وصفه سلوك أصحابه معه في صراعه مع باطل معاوية واتباعه، فقد خالفوه الرأي في التحكيم، وتقاعسوا عن

ص: 39


1- م.ن: 1/ 81

قتال عدوهم، وصاروا يختلقون الحجج في التهرب من لقائه، ويفرون من دعوة الامام لقتاله، حتى اننا لنحس هذا الألم الممض الذي كان يعانيه الأمام، وما استولى على نفسه من شعور باليأس من الظفر بعدوه، بعد أن خذله أصحابه، حتى بدا عاجزاً، وهو القوي المقتدر، وصوره أعداؤه خائفاً من اللقاء، وهو الشجاع الذي تشهد له سوح القتال بمواقف أقرب الى الأساطير منها الى الوقائع الحقيقية، وظهر وكأنه بلا رأي وهو الذي خصه الله بعلم لا يقوى ان يحمله سواه من البشر، وانما صار إلى ما صار إليه لضعف اتباعه وتفرقهم، وعدم امتثالهم لأوامره ونصائحه، فها هو يصف حال هؤلاء الاتباع في صوره غاية في القبح والكره، حين يدعوهم لقتال اتباع معاوية، ولكنهم يتهربون من اللقاء ويفرون مختبئين في بيوتهم، يقول:

«كَمْ أُدَارِيكُمْ كَمَ تُدَارَى الْبِكَارُ الْعَمِدَةُ، وَالثِّيَابُ الْتَدَاعِيَةُ! كُلَّما حِيصَتْ مِنْ جَانِب تَهَتكَّکَتْ مِنْ آخَرَ، كُلَّما أَطَلَّ عَلَيْکُمْ مَنْسِرٌ مِنْ مَناَسِرِ أَهْلِ الشَّامِ أَغْلَقَ كُلُّ رَجُل مِنْکُمْ بَابَهُ، وَانْجَحَرَ انْجِحَارَ الضَّبَّةِ في جُحْرِهَا، وَالضَّبُعِ فِی وِجَارِهَا».(1) فالعبارة معبرة أحسن التعبير عن ألم الامام مما يراه من اتباعه، فهم عاقون له،جاحدون لفضله عليهم، فبدل ان يطيعوه ويداروه، صار هو الذي يداريهم ويرأف بهم، كما يُراعى الجملُ الذي أصيب سنامه من الركوب، ثم يرسم لهم صورة في غاية الدقة لماهم عليه من ضعف وخور، حين شبههم بالثياب المتهرئة، التي كلما خيطت من جانب تهتكت من جانب آخر، ثم عاد ليرسم لهم صورة في غاية القباحة وهم يتهربون من مقاتلة عدوهم، متخاذلين عن نصرة إمامهم، بل هم متقاعسون حتى عن الدفاع عن أنفسهم وحٌرمهم وديارهم، فلا يملك الا ان يقرعهم تقريعا

ص: 40


1- م.ن: 1/ 113

شديداً، ويستحضر في أذهانهم قباحة فعلهم، وهم يفرون من المواجهة ويسارعون بالاختباء في بيوتهم، وكأن في ذلك أمنهم وسلامتهم، وهم في ذلك انما يفعلون فعل الضبة حين يطلبها صائدها فتنجحر في جحرها هربا منه، وفعل الضبع حين تختبئ في وجارها طمعا في السلامة، وهم يعرفون جيداً لماذا اختار الامام هذين الحيوانين مشبها به لفعلتهما هذه، وذلك انهما من أنتن الحيوانات وأقذرها، كما ان فعلهما هذا لا ينجيهما من صائدهما على الرغم من اختبائهما، لأنه لا يزال يطلبهما حتى يظفر بهما فيقتلهما، وهكذا هم هؤلاء المتخاذلون، يرون ان سلامتهم في الهرب من القتال والاختباء في منازلهم، ولكن الموت ملاقيهم، وشتان بين موت ياتي بعز وكرامة في ساحة القتال، وموت يذل به صاحبه ويلحق به وبأهله العار والشنار لأنه قتل وهو مختبئ في داره.

وفي واحدة من أجرأ الصور وأشدها دلالة على القبح يحاول الامام أن يبدي لأتباعه المتخاذلين عن نصرته، الفارين من قتال عدوهم، مقدار ابتذالهم وانحطاط هممهم، في محاولة أخيرة لهز هؤلاء الاتباع هزّاً عنيفا علّه يوقظ في نفوسهم بقية من حمية أو عرقا من رجولة يقول: «يَا أَشْبَاهَ الِاْبِلِ غَابَ عَنْهَا رُعَاتُهَا! كُلَّمَ جُمِعَتْ مِنْ جَانِب تَفَرَّقَتْ مِنْ آخَرَ، وَاللهِ لَكَأَنِّی بِكُمْ فِيَما إخالُ: لَوْ حَمِسَ الْوَغَى، وَحَمِيَ الضِّرَابُ، قَدِ انْفَرَجْتُمْ عَنِ ابْنِ أَبي طَالِب انْفِرَاجَ الْمَرْأَةِ عَنْ قُبُلِهَا»(1) فلا شك في ان الصورة التي رسمها التشبيه البليغ باسلوب المفعول المطلق لأنفراج هؤلاء عن الأمام وتخاذلهم أمام عدوهم بقوله (انفرجتم عن ابن أبي طالب انفراج المرأة عن قُبُلها) صورة في غاية الكراهة والقبح، ولكنها صادقة في التعبير عن دناءة أهل

ص: 41


1- م.ن: 1/ 189

الكوفة وعجزهم عن ملاقاة عدوهم، فهم ليسوا رجالاً يفعلون فعلهم، ولا هم نساء حرائر صائنات لعرضهن وشرفهن، انما هم نساء عاهرات لا تملك أحداهن حين يداهمها خطر الا ان تقدم عرضها وشرفها ثمنا لبقائها حية أو سلامتها من الأذى. انها صورة معبرة عن ابتلاء الإمام بمن ينصره ويلتف حوله في السلم، فإذا حانت ساعة اللقاء أو اشتدت حمى الوغى تفرقوا عنه، وأباحوا حرماتهم لعدوهم نجاة بأنفسهم.

ويصرح الامام علي (عليه السلام) باستقباحه هرب مصقلة بن هبيرة الشيباني، وكان قد ابتاع سبي بني ناجية من عامل أمير المؤمنين وأعتقه، فلما طالبه بالمال هرب الى معاوية في الشام، فيقول: «قَبَّحَ اللهُ مَصْقَلَةَ! فَعَلَ فِعْلَ السَّادَةِ، وَفَرَّ فِرَارَ الْعَبِيدِ! فَمَ أَنْطَقَ مَادِحَهُ حَتَّى أَسْكَتَهُ، وَلاَ صَدَّقَ وَاصِفَهُ حَتَّى بَكَّتَهُ»(1) فالتشبيه البليغ باسلوب المفعول المطلق جاء تعبيراً عن مفارقة كبيرة لفعلين يصدران عن شخص واحد، أحدهما يدل على نبل وكرم وهو افتداؤه الأسرى بشرائهم وعتقهم، والآخر يدل على ضعة ودناءة وهو الهرب الى معسكر الاعداء تهربا من دفع ما بذمته من مال، ففي الأولى فعلَ فعل السادات وفي الثانية فر فرار العبيد، فما كاد مادحه ينطق إشادة به، حتى ألقمه حجراً بهربه المذل، فاستحق من الامام هذا الاستقباح وهذه الكراهة.

وفي صورة تشبيهية معبرة للامام يقبّح فيها فعل بني أميةِ، وهم يريدون سرقة تراث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ويساومون الامام عليه، يؤكد صلابته في دينه، وثباته على ايمانه، إذ يثور غاضبا لله ولدينه فيقول: «إِنَّ بَنِي أُمَيَّةَ لَيُفَوِّقُونَني

ص: 42


1- م.ن: 1/ 91

تُرَاثَ مُحَمَّد تَفْوِيقاً صلى الله عليه وآله لاَنْفُضَنَّهُمْ نَفْضَ اللَّحَّام الْوِذَامَ التَّرِبَةَ»(1).

والوذام جمع وذمة وهي القطعة من الكرش أو الكبد تقع في التراب فتنفض، ولا شك في ان تشبيه بني أمية بقطعة الكرش او الكبد الممرغة بالتراب فيه ما فيه من تقبيح لهم واستهانة بقدرهم، وفيه كذلك تعبيرعن الشدة في الأخذ، وقدرة عظيمة من الأمام على نفضهم وهزهم هزاً عنيفا، كما ينفض القصاب هذه القطعة من اللحم كي ينظفها مما علق بها من تراب، وهكذا سيكون فعل الامام بهم اذا ما تمادوا في غيهم وظلوا على ضلالتهم.

ومن هذا الباب قوله مخاطبا عمرو بن العاص مقبحا فعله في متابعته معاوية ومناصرته إياه طمعا في غنائم تافهة ومكاسب دنيئة، فخسر دنياه وآخرته، يقول:

«فَإِنَّكَ جَعَلْتَ دِينَكَ تَبْعاً لِدُنْيَا امْرِىء ظَاهِر غَيُّهُ، مَهْتُوك سِتْرُهُ، يَشِينُ الْكَرِيمَ بِمَجْلِسِهِ، وَيُسَفِّهُ الْحَلِيمَ بِخِلْطَتِهِ، فَاتَّبَعْتَ أَثَرَهُ، وَطَلَبْتَ فَضْلَهُ، اتِّبَاعَ الْكَلْبِ لِلضِّرْغَامِ، يَلُوذُ إلَی مَخَالِبِهِ، وَيَنْتَظِرُ مَا يُلْقَى إِلَيْهِ مِنْ فَضْلِ فَرِيسَتِهِ، فَأَذْهَبْتَ دُنْيَاكَ وَآخِرَتَكَ»(2). ويقينا ان هذه الصورة الرائعة لذل عمرو بن العاص ودناءته في متابعته لمعاوية، قد جسدت قباحة فعله وخور عزيمته حين ارتضى لنفسه ان يأكل ما يفضل من طعام غيره، شأن الكلب الذي لا يقوى على الافتراس فيتابع الأسد متابعة الذليل، كي يلتقط ما فضل من فريسته، يسد به رمقه، وهذه الصورة المعبرة لا تؤخذ بجزئياتها وانما في تشبيهها حالةُ بحالةٍ، فإذا أراد الإمام تشبيه عمرو بن العاص بالكلب وهو مستحق لهذا الوصف، لا يريد تشبيه معاوية بالأسد، لأن أفعاله لا ترقى الى مكانة هذا الحيوان الذي صار رمزاً للشجاعة والمهابة والعز، أو

ص: 43


1- م.ن: 1/ 123
2- م.ن: 3/ 71

لعل المراد منه هنا هو قدرته على الافتراس فحسب، وهكذا هو معاوية لا تكاد تلوح غنيمة أو منفعة الا وأجهز عليها، حلالاً كانت ام حراما.

إن الصورة التي رسمها التشبيه البليغ باسلوب المفعول المطلق (فاتبعت أثره وطلبت فضله اتباع الكلب للضرغام، يلوذ الى مخالبه، وينتظر ما يلقى إليه من فضل فريسته) أظهرت عمرو بن العاص في أقبح أحواله وقد ارتضى لنفسه، وقد عجز عن ان يكون هو المبادر أو القائد، ان يكون تابعا ذليلاً، نهازاً للفرص، لا يفعل ما يريد، وانما ينتظر من الآخرين ان يفعلوا كي يعتاش على فضلاتهم، فهو (يلوذ بمخالبهم) لأنه أعجز من ان يكون له فعل، فخسر بذلك دنياه وآخرته، أما دنياه فلأنه لم يحقق ما تمناه أو اراده وإنما قنع بالقليل الذي يلقيه إليه معاوية، فعاش ذليلاً تابعاً، وأما آخرته فلأنه عرف الحق وانحرف عنه متابعة للباطل، فلم يحظ بخير الدنيا ولا أمل له في خير الآخرة.

ومن تشبيهات الامام البليغة الأخرى التي خرجت لهذا الغرض:

1- «لاَ يَدْرِي أَصَابَ أَمْ أَخْطَأَ...لَمْ يَعَضَّ عَلَی العِلْمِ بِضِرْس قَاطِع، يُذرِي الرِّوَايَاتِ إذْراءَ الرِّيحِ الَهشِيم» (1 / 49).

2- «فَمَ يُدْرَكُ بِكُمْ ثَارٌ، وَلا يُبْلَغُ بِكُمْ مَرَامٌ، دَعَوْتُكُمْ إِلَی نَصْرِ إِخْوَانِكُمْ فَجَرْجَرْتُمْ جَرْجَرَةَ الْجَمَلِ الاْسَرِّ، وَتَثَاقَلْتُمْ تَثَاقُلَ الْنِّضْوِ الاْدْبَر» (1 / 86).

3- «وَكَأَنِّی أَنْظُرُ إِلَيْكُمْ تَكِشُّونَ كَشِيشَ الضِّبَابِ لاَ تَأْخُذُونَ حَقّاً، وَلاَ تَمْنَعُونَ ضَيْماً» (2 / 4).

4- «أَيُّهَا النَّاسُ، لَوْ لَمْ تَتَخَاذَلُوا عَنْ نَصْرِ الْحَقِّ، وَلَمْ تَهِنُوا عَنْ تَوْهِينِ الْبَاطِلِ، لَمْ

ص: 44

يَطْمَعْ فِيكُمْ مَنْ لَيْسَ مِثْلَكُمْ، وَلَمْ يَقْوَ مَنْ قَوِيَ عَلَيْكُمْ، لكِنَّكُمْ تِهْتُمْ مَتَاهَ بَنِي إسْرَائِيلَ» (2 / 96).

5- «سُيُوفُكُمْ عَلَی عَوَاتِقِكُمْ تَضَعُونَهَا مَوَاضِعَ البَراءةِ وَالسُّقْمِ، وَتَخْلِطُونَ مَنْ أَذْنَبَ بِمَنْ لَمْ يُذْنِبْ» (2 / 11).

6- «فَوَاللهِ لَقَدْ ظَهَرَ الْحقُّ فَكُنْتَ فيِهِ ضَئِيلاً شَخْصُكَ، خَفِيّاً صَوْتُكَ، حَتَّى إِذَا نَعَرَ الْبَاطِلُ نَجَمْتَ نُجُومَ قَرْ نِ الْمَاعِزِ» (2 / 137).

7- «أَسْرَعْتَ الْكَرَّةَ، وَعَاجَلْتَ الْوَثْبَةَ، وَاخْتَطَفْتَ مَا قَدَرْتَ عَلَيْهِ مِنْ أَمْوَالِهِمُ الْمَصُونَةِ لِاَرَامِلِهِمْ وَأَيْتَامِهِمُ، اخْتِطَافَ الذِّئْبِ الاَزَلِّ دَامِيَةَ الْمِعْزَى الْكَسِيرَةَ» (3 / 158).

8- «وَمَنْ زَاغَ سَاءَتْ عِنْدَهُ الْحَسَنَةُ وَحَسُنَتْ عِنْدَهُ السَّيِّئَةُ وَسَكِرَ سُكْرَ الضَّلاَلَةِ» (3 / 158).

***

ص: 45

3- بيان حال المشبه: ويعني هذا ان حال المشبه غير معلومة، أو إنه غير محدد الصفة، فيأتي التشبيه لبيان هذا الحال أو تحديد صفته، من خلال المشبه به لكون صفته أو حاله معلومتين لدى المخاطب، ولا سيما ان المشبه به في هذا اللون من التشبيه (المفعول المطلق) يكاد يكون حالاً من فاعل الفعل الذي يمثل المشبه. ومثال ذلك قول الامام علي (عليه السلام) وهو يتكلم على خلق الله سبحانه للسموات والأرض وموجوداتهما أول التكوين: «ثُمَّ أَنْشَأَ سُبْحَانَهُ رِيحاً اعْتَقَمَ مَهَبَّهَا، وَأَدَامَ مُرَبَّهَا، وَأَعْصَفَ مَجْرَاها، وَأَبْعَدَ مَنْشَاهَا، فَأَمَرَها بِتَصْفِيقِ المَاءِ الزَّخَّارِ، وَإِثَارَةِ مَوْجِ البِحَارِ، فَمَخَضَتْهُ مَحْضَ السِّقَاءِ، وَعَصَفَتْ بهِ عَصْفَهَا بِالفَضَاءِ»(1) فقد اراد الامام ان يبين لسامعيه حال الكون في أول الخلق، وهو حال نجهله جهلاً تاماً، فكان لابد له من التماس مشبه به معروف عند سامعيه ألفوا حاله وعرفوا صفته، فصور أمر الله سبحانه للريح كي تصفق الماء وتثير الموج كي تمخضه وتعصف به ليخرج زبده، فتكون منه سمواته السبع، فشبّه مخضَ الريح لماء البحار بمخض السقاء بما فيه من لبن كي تخرج زبدته، وعصفها به بعصفها بالفضاء الذي لا أجسام فيه، وبذلك تكون في أشد حالات عصفها لعدم وجود مانع يمنعها، أو يحد من سرعتها. وبذا كان التشبيهان البليغان بطريقة المفعول المطلق (فمخضته مخض السقاء) و (عصفت به عصفها بالفضاء) خير وسيلة لبيان حال المشبه المجهول عند السامعين بعد ان استحضر في أذهانهم مخض السقاء، وعصف الريح بالفضاء ومقايسة ذلك بعصف الريح بالماء امتثالاً لأمر الله كي يبدع الكون.

ومن كلام له يصف فيه فرح الناس بخلافته، وتزاحمهم على مبايعته زحاماً

ص: 46


1- م.ن: 1/ 11

شديداً، اذ يقول «فَتَدَاكُّوا عَلَّیَ تَدَاكَّ الاْبِلِ الْهِيمِ يَوْمَ وِرْدِهَا، قَدْ أَرْسَلَهَا رَاعِيهَا، وَخُلِعَتْ مَثَانيِهَا، حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُمْ قَاتلِيَّ، أَوْ بَعْضُهُمْ قَاتِلُ بَعْض لَدَيَّ»(1). فقد أراد الامام ان يذكّر الناس بكيفية مبايعتهم له، وتقاتلهم لتناول يده الشريفة عهداً على الوفاء والمتابعة، ولكنهم اليوم يخرجون عن طاعته ولا يمتثلون لكلامه في كل ما يأمرهم به، فكان التشبيه البليغ باسلوب المفعول المطلق (فتداكوا علي تداك الابل يوم ورودها) وسيلته في تذكيرهم بتزاحمهم زحاماً شديداً كما تتزاحم الأبل العطاش يوم ورودها على الماء، وحتى يعظّم هذا التزاحم في شدته وكثرته قال (قد ارسلها راعيها) أي انها انطلقت بلا راع يردعها أو يهش عليها، وتأكيداً لهذا المعنى قال (وخلعت مثانيها) أي فكت معاقلها، فلا شيء يحول بينها وبين الماء، فاندفعت، لعطشها الشديد، متزاحمة يدفع بعضها بعضا كي تصل قبل غيرها الى الماء وهكذا كان هؤلاء الاتباع في تدافعهم وتكالبهم على المبايعة، حتى ظن الامام أنهم قاتلوه بتكالبهم وتزاحمهم، أو ان بعضهم يقتل بعضا في حضرته. وفي كل ذلك انما يعّرض الامام باتباعه، ويذكرهم بما كانوا عليه أول البيعة وما أصبحوا عليه اليوم.

وفي حال مشابهة لما تقدم يذكّر الامام في خطبة له سامعيه، بما كان عليه المسلمون في عهد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث يلتفون حوله يقاتلون آباءهم وأبناءهم وأخوانهم وأعمامهم، دفاعاً عن دينهم ونبيهم، على ماكانوا يشعرون به من ألم وما كانوا يحسونه من غصة، ولكن ذلك لم يزدهم الا ايماناً وصبراً على القتال طمعاً بالنصر أو الشهادة حيث يقول واصفا حال أولئك الابطال:

ص: 47


1- م.ن: 1/ 99 وقد كرر الأمام وصف هذا الموقف في خطبة أخرى ينظر م.ن: 2/ 249

«وَلَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ مِنَّا وَالاْخَرُ مِنْ عَدُوِّنا يَتَصَاوَلاَنِ تَصَاوُلَ الْفَحْلَيْنِ، يَتَخَالَسَانِ أَنْفُسَهُمَا، أيُّهُمَا يَسْقِي صَاحِبَهُ كَأْسَ المَنُونِ»(1). فهذا التشبيه، شأن كل التشبيهات السابقة، منتزع من البيئة العربية وموجوداتها، فحين يدب العراك بين فحلين من الجمال، وتحتد المنازلة ويشتد العراك، يبدأ كل فحل بالدوران حول صاحبه يحد النظر إليه ثم يهجم عليه بكل ما أوتي من قوة وعنف، فهذه الصورة التي ألفها السامع العربي، صارت وسيلته لمعرفة حال الفارسين المتقاتلين أحدهما مسلم يدافع عن دينه ونبيه، والآخر مشرك يدافع عن نفسه ومعتقده، يحد أحدهما النظر الى الآخر كي ينزل الرعب في قلبه فيبادر الى قتله قبل ان يعاجله خصمه بذلك. لقد أسهم التشبيه البليغ باسلوب المفعول المطلق في بيان حال المسلمين الأوائل في قتالهم الصادق، الشديد الخالص لوجه الله، فكان نصرهم بمشيئته ومباركته، بعد أن رأى صدقهم في ذلك، وهو ما أكده الامام بقوله " فلما رأى الله صدقنا أنزل بعدونا الكبت وأنزل علينا النصر ".

ويحذر الامام اتباعه من الفتنة التي دبت بين المسلمين، وجعلتهم فرقا، بعد وحدتهم، وأضعفتهم بعد قوتهم، ولذا سماها (ضلالة) فقال: «رَايَةُ ضَلاَلة قَدْ قَامَتْ عَلَی قُطْبِهَا، وَتَفرَّقَتْ بِشُعَبِهَا... تَعْرُكُكُمْ عَرْكَ الاَدِيمِ، وَتَدُوسُكُمْ دَوْسَ الْحَصَيدِ، وَتَسْتَخْلِصُ الْمُؤْمِنَ مِنْ بَيْنِكُمُ اسْتَخْلاصَ الطَّيْرِ الْحَبَّةَ الْبَطِينَةَ مِنْ بَيْنِ هَزِيلِ الْحَبِّ»(2). قامت الصورة في هذا المقطع من خطبة الإمام على تشبيهات بليغة ثلاثة، جاءت كلها باسلوب المفعول المطلق (تعرككم عركَ الأديم) و (تدوسكم دوسَ الحصيد) و (تستخلص المؤمن من بينكم استخلاص الحبة البطينة من بين هزيل

ص: 48


1- م.ن: 1/ 100
2- م.ن: 1/ 207 - 208

الحب) وغرضها جميعا واحد هو بيان حال المشبه فإذ أراد الامام من سامعيه ان يستشعروا الخطر القادم اليهم ويشركهم فيما كان يخافه من عواقب هذه الفتنة المضلة للجميع، وكي يجسد في أعينهم ما ستفعله بهم إذ ستفركهم بشدة وتدوسهم، ثم تطحنهم جميعا، اختار هذه التشبيهات الثلاثة المعبرة عما يخشاه الامام على أمته من عواقب الفتن التي ستحكهم حتى يعفون عفاء الجلد المتهرئ، وتدوسهم كما يداس الحصيد كي تتكسر العودان وتزال القشور فيظهر جوهركم، حينها تنبذ الحبة الضعيفة والمصابة وسواها من هزيل الحب، ولا يبقى الا المؤمن الصادق الايمان، ولكن هل ينجو هذا بنفسه؟ كلا، فان هذه الفتنة ستستخلص هذه الحبة البطينة لنفسها كي تطحنها برحاها، وبذلك فلا خلاص لأحد من هذه الفتنة القاتلة التي لا تترك أحداً، فالجميع سيقعون صرعى في رحاها التي لا ترحم وبذا كانت الصورة التي رسمها الامام عبر تشبيهاته الثلاثة تجسيداً لما سيؤول إليه حال المسلمين، ان لم يتنبهوا على الفتنة ودعاتها، ويستمعوا للحق وأهله من الربانيين العارفين بالله وحقه، وهم أهل بيت النبوة عليهم السلام.

وفي خطبته (القاصعة) الطويلة، يتحدث في جانب منها عن اخلاق النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وكيف رباه خالقه فأحسن تربيته، مذكراً الناس بموضعه هو من رسول الله، وأنه تربى في حجره، يضمه الى صدره، ويكنفه في فراشه، ويمضغ الشيء ثم يلقمه فمه، ويزيد قائلاً «وَلَقَدْ كُنْتُ أَتَّبِعُهُ اتِّبَاعَ الْفَصِيلِ أَثَرَ أُمِّهِ، يَرْفَعُ لي فِی كُلِّ يَوْم عَلَماً مِنْ أخْلاقِهِ، وَيَأْمُرُني بِالاقْتِدَاءِ بِهِ»(1)، وبذا كان الامام عليه السلام تربية الخالق جلَّ وعلا، فإذ ربى سبحانه رسوله فأحسن تربيته،

ص: 49


1- م.ن: 2/ 182

ربى النبي علياً، فأحسن تربيته، فكان ربانيا في خَلْقه وخُلُقه، وسيرته شاهدة بذلك.

كان التشبيه البليغ باسلوب المفعول المطلق، خالق هذه الصورة التي التقطها الامام من مفردات حياة العرب اليومية، كي يجسد لهم حاله وهو يقتدي برسول الله ويتابعه متابعة الظل، وهي صورة (الفصيل) وهو ولد الناقة في متابعة أمه حيث تسير كي يتعلم منها شؤون حياته اليومية ويسايرها فيما تفعله، وهكذا كان الامام في اقتدائه برسول الله ومتابعته في كل ما يقوله ويفعله، متابعة أرادها الله كي يتشرَّبها الامام علي ثم تتسرب في بنيه من بعده، فيبقى الدين عزيزاً وعظيماً، كما أنزله الله على نبيه.

وفي كلام للامام يتحدث فيه عن حادثته المشهورة مع أخيه عقيل، حين شكى له سوء حال عياله، وكان الامام قد رأى ذلك بنفسه، فاستماحه صاعاً من القمح كي يطعمهم، نجد هذا الموقف الثابت للامام في خشية الله، وعدم التفريط بأموال المسلمين، حتى لأقرب الناس إليه وهو يرى حاجاتهم وعوزهم، يقول: «وَاللهِ لَقَدْ رَأَيْتُ عَقِيلاً وَقَدْ أمْلَقَ حَتَّى اسْتماحَنِي مِنْ بُرِّكُمْ صَاعاً... فَأَصْغَيْتُ إِلَيْهِ سَمَعِي، فَظَنَّ أَنِّ أَبِيعُهُ دِينِي، وَأَتَّبِعُ قِيَادَهُ، مُفَارِقاً طَرِيقِي، فَأَحْمَيْتُ لَهُ حَدِيدَةً، ثُمَّ أَدْنَيْتُهَا مِنْ جِسْمِهِ لِيَعْتَبِرَ بِهَا، فَضَجَّ ضَجِيجَ ذِي دَنَف مِنْ أَلَمِهَا، وَكَادَ أَنْ يَحْتَرِقَ مِنْ مِيسَمِهَا، فَقُلْتُ لَهُ: ثَكِلَتْكَ الثَّوَاكِلُ، يَا عَقِيلُ ! أَتَئِنُّ مِنْ حَدِيدَة أَحْمَاهَا إِنْسَانُهَا لِلَعِبِهِ، وَتَجُرُّنِی إِلَی نَار سَجَرَهَا جَبَّارُهَا لِغَضَبِهِ!»(1). ايُّ ايمان هذا، يملأ القلب حتى لا يدع فيه مجالاَ لأدنى الأدنياء، وأيه خشية هذه، تكتنف العقل فتجعله مرتهنا لله في كل

ص: 50


1- م.ن: 2/ 243 - 244

خطوة يخطوها، إنه الامام علي وحده الذي استولى عليه حب الله، وباع روحه وحياته ثمنا لرضاه، ولا قيمة لزعل الخلق وانفضاضهم عنه لما يفعل ما دام ما يفعله حقا من حقوق الله، وفي القيام به رضاه عنه.

لقد رقَّ الإمام لكلام أخيه، وهو صادق فيما قاله عن عياله، فقد رأى الامام ذلك بنفسه، وربما كان لعقيل وعياله حق فيما سألوا الامام، ولكن خشية الله أحق، وكي يوقع الأمام هذه الخشية في نفس أخيه قام ما قام به، فكانت ردة فعل عقيل ان «ضج ضجيجَ ذي دنف «أي صاح صيحة المريض الذي اشتد به الألم، والحديدة المحمية لم تلامس جسده بعد، وانما دنت منه فحسب، فكان سؤال الامام الرائع المفحم لعقيل، ولكل من يعرف هذا الخبر: هذا رد فعلك لنار بسيطة أشعلها بشر للهوه، فكيف بنار الخالق العظيمة التي اوقدها لغضبه؟.

ومن التشبيهات البليغة بأسلوب المفعول المطلق التي جاءت بيانا لحال المشبه في كتاب نهج البلاغة قول الامام:

1- «انْظُرُوا إِلى الدُّنْيَا نَظَرَ الزَّاهِدِينَ فِيهَا، الصَّادِفِينَ عَنْهَا» (1 / 197).

2- «لَقَدْ فَلَقَ لَكُمُ الْاَمْرَ فَلْقَ الْخرَزَةِ، وَقَرَفَهُ قَرْفَ الصَّمْغَةِ» (1 / 208).

3- «وَصَالَ الدَّهْرُ صِيَالَ السَّبُعِ الْعَقُورِ» (1 / 208).

4- «وَهَامَتْ دَوَابُّنَا، وَتَحَيَّرَتْ في مَرَابِضِهَا، وَعَجَّتْ عَجِيجَ الثَّكَالَ عَلَی أَوْلاَدِهَا» (1 / 225).

5- «ثم أخرجُ في كتيبة أتبع أخرى، أتقلقل تَقَلْقُلَ القدِح في الجفير الفارغ» (1 / 231).

6- «فَأَقْبَلْتُمْ إِلَیَّ إِقْبَالَ الْعُوذِ الْمَطَافِيلِ عَلَی أَوْلاَدِهَا، تَقُولُونَ: الْبَيْعَةَ الْبَيْعَةَ» (2 / 28).

ص: 51

7- «وَانْتَظَرْنَا الْغِيَرَ انْتِظَارَ الْمُجْدِبِ الْمَطَرَ» (2 / 54).

8- «يَمْشِی مَشْیَ الْمَرِحِ الْمُخْتَالِ» (2 / 90).

9- «وَنَسْتَعِينُ بِهِ اسْتِعَانَةَ رَاج لِفَضْلِهِ، مُؤَمِّل لِنَفْعِهِ» (2 / 125).

10- «ثُمَّ تَدَاكَكْتُمْ عَلَیَّ تَدَاكَّ الِاْبِلِ الْهِيمِ عَلَی حِيَاضِهَا يَوْمَ وِرودِهَا» (2 / 149).

11- «وَاخْتَارَ مِنْ خَلْقِهِ سُمَّاعاً أَجَابُوا إِلَيْهِ دَعْوَتَهُ، وَصَدَّقُوا كَلِمَتِهُ، وَوَقَفُوا مَوَاقِفَ أَنْبِيَائِهِ» (1 / 21).

***

ص: 52

4- تقرير حال المشبه، وتمكينه في ذهن السامع، وذلك بابراز المشبه في صورة أقوى وأوضح من خلال مشبه به قريب الى نفس السامع ومما أحسه وعرف حاله، فيزيد المشبه بذلك وضوحاً ورسوخاً في النفس. وفي هذا الغرض كان التشبيه في قوله مخاطباً أصحابه الذين أتعبوه في تمردهم على طاعته وعصيانهم لأوامره، حتى بدا عاجزاً وهو القوي، وساكتا وهو الحق، فيما صار معاوية مقتدراً، وهو الضعيف، وصائلاً وهو الباطل، لا لشيء، سوى طاعة اتباع هذا له طاعة عمياء، وتوحدهم حوله، واختلاف اتباع الامام، وخروجهم عن أوامره. .. يقول: «أَيَّتُهَا النُّفُوسُ الْمُخْتَلِفَةُ، وَالْقُلُوبُ الْمُتَشَتِّتَةُ، الشَّاهِدَةُ أَبْدَانُهُمْ، وَالْغَائِبَةُ عَنْهُمْ عُقُولُهُمْ، أَظْأَرُكُمْ عَلَى الْحَقِّ وَأَنْتُمْ تَنْفِرُونَ عَنْهُ نُفُورَ الْمِعْزَى مِنْ وَعْوَعَةِ الْاَسَدِ! هَيْهَاتَ أَنْ أَطْلَعَ بِكُمْ سَرَارَ الْعَدْلِ، أَوْ أُقِيمَ اعْوِجَاجِ الْحَقِّ»(1).

واضح من كلام الامام شقاؤه بأصحابه الذين خذلوه في كل ما كان يدعوهم إليه، حتى صار عاجزاً عن إقامة العدل، أو تقويم اعوجاج الباطل، فهو كلما (أظأرهم) أي عطفهم على الحق ودلّم عليه، نفروا منه، ولكي يقرر في نفوسهم مقدار هذا النفور في شدته وسرعته، شبهه تشبيها بليغا باسلوب المفعول المطلق بنفور المعزى عند سماعها زئير الأسد، فهم فزعون من الحق، خائفون من دعوته، وكأن فيه هلاكهم، متيقنون من موتهم، يقين المعزى بهلاكها حين ترى الأسد مائلاً أمامها يزمجر تهيؤاً لافتراسها، إنها صورة مؤلمة بكل ما فيها ليس في هؤلاء الاتباع الذين عصوا الامام فحسب، بل في غياب عقولهم حين يخافون الحق هذا الخوف، فلم يعد أحدهم رجلاً، بل صار معزة يطير قلبها لمجرد سماعها زئير

ص: 53


1- م.ن: 2 / 18

الأسد، وبذا كانت صورة الامام - على ما تحمله من سخرية وتقريع - مجسدة لفزع هؤلاء الاتباع ومقدار خشيتهم من نداء الحق، ولا غرابة فقد قال الخالق سبحانه «وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ» (المؤمنون/ 70). وفي موقف مناقض لما تقدم، يرسم لنا الامام في خطبة له صورة للمتقين، الصادقين في ايمانهم، الذين اشتروا آخرتهم بدنياهم، ويصف حالهم في الليل، وهم يمضونه في الصلاة وتلاوة القرآن «وَأَمَّا النَّهَارَ فَحُلَمَاءُ عُلَمَاءُ، أَبْرَارٌ أَتْقِيَاءُ، قَدْ بَرَاهُمْ الْخَوْفُ بَرْيَ الْقِدَاحِ، يَنْظُرُ إِلَيْهمُ الْنَّاظِرُ فَيَحْسَبُهُمْ مَرْضَی، وَمَا بِالْقَوْمِ مِنْ مَرَض»(1).

فهؤلاء المؤمنون يخشون الله خشية عظيمة، وهذه الخشية جعلتهم يهجرون الحياة وملذاتها، وينصرفون للعبادة والتقوى، وهكذا ضعفت أجسادهم، بعد ان براها خوف الله بري السهام التي تنحت بحجر الثقاف حتى تستوي ملساء، مستقيمة، نحيفة، رقيقة، اذا وقع عليهم نظر الناظر حسبهم مرضى، وما هم مرضى، ولكن زهدهم بحياتهم، واستكثارهم من التعبد، جعلهم كذلك.

وبذا قرر الامام واحدة من صفات الاتقياء، الصادقين في ايمانهم، العاكفين على صلاتهم المكثرين من قراءة القرآن، وهي نحافة أجسامهم وبريها بري السهام الرقيقة، فكانت صورته التشبيهية عبر التشبيه البليغ باسلوب المفعول المطلق (قد براهم الخوف بري القداح) وسيلته البليغة في تقرير هذه الصفة في نفس الذي سأله من أصحابه، ان يصف له المتقين حتى كأنه ينظر إليهم.

وفي موضوعه الأثير الذي كان الامام دائم الكلام عليه، والوعظ به، وهو تحذير الناس من الاغترار بالدنيا، والانقياد لمباهجها، نجده يستعمل هذا اللون

ص: 54


1- م.ن: 2 / 187

من التشبيه لتقرير حال هذه الدنيا في تغيرها وتقلب أحوالها بأهلها، فيشبهها بالسفينة التي تسير في عرض البحر والبحرُ هادئً رهؤ، ومن عليها فرح مطمئن، ولكن سرعان ما تهب الريح لتعصف بها فتميد بمن عليها، وتنقلب لتغرق كل من فيها. يقول: «وَأُحَذِّرُكُمُ الدُّنْيَا، فإِنَّهَا دَارُ شُخُوص، وَمَحَلَّةُ تَنْغِيص، سَاكِنُهَا ظَاعِنٌ، وَقَاطِنُهَا بَائِنٌ، تَميِدُ بِأَهْلِهَا مَيَدَانَ السَّفِينَةِ تَقْصِفُهَا الْعَوَاصِفُ فِی لَجُجِ الْبِحَارِ، فَمِنْهُمُ الْغَرِقُ الْوَبِقُ وَمِنْهُمُ النَّاجِي عَلى مُتُونِ الْاَمْوَاجِ، تَحْفِزُهُ الرِّيَاحُ بِأَذْيَالَهِا، وَتَحْمِلُهُ عَلى أَهْوَالَهِا، فَمَا غَرِقَ مِنْهَا فَلَيْسَ بِمُسْتَدْرَك، وَمَا نَجَا مِنْهَا فَإِلى مَهْلَك»(1)، إنها صورة مخيفة للدنيا، تجعلنا نحن السامعين نرى أنفسنا في لجة البحر وقد انقلبت بنا السفينة وتشتت الناس بين غارق هالك، وناج يحاول ان يقاوم الموج كي يدرك الساحل، وآخر متشبث بما بقي من السفينة عله ينجو، ولكن لا نجاة لأي منا فالموت محتوم وهو نهاية كل حي، ولعل سبب هذه القسوة في الوصف والرعب الذي تخلفه هذه الصورة فينا، هوان الامام يدرك جيداً ان الدنيا مغرية لأهلها بملذاتها، والنفس الانسانية مجبولة على حب الراحة والدعة، وتميل الى ما يسعدها ويبهجها، وبذا فان مهمة الامام ليست يسيرة وهو يحاول ان يصرف الناس عن هذا كله، ويقنعهم انه الى زوال، وان عليهم ان يصرفوا أنظارهم عنه، ويشخصوا بأبصارهم الى آخرتهم، لأنها الدار الدائمة، والمحلة الباقية، نعيمها خالد، وسعادتها لا تزول، وبذا لابد له من ان يستجمع بلاغته وخياله وما آتاه الله من علم، كي يقرر في نفوس سامعيه حال هذه الدنيا في تذبذبها وزوالها. وهو ما تأتى له عبر التشبيه البليغ بأسلوب المفعول المطلق (تميد بأهلها ميدان السفينة تقصفها العواصف في لجج البحار) ثم يمضي بعد ذلك في رواية مصير هؤلاء الركاب وهلاكهم، وهو في حقيقة الأمر إنما

ص: 55


1- م.ن: 2 / 195 - 196

يقرر في نفوس الناس حالهم في هذه الدنيا.

ويكرر هذا المعنى في صورة تشبيهية أخرى لا تقل جمالاً وتأثيراً من سابقتها، فيقول: «فَإِنَّهَا مَنْزِلُ قُلْعَة، وَلَيْسَتْ بِدَارِ نُجْعَة، قَدْ تَزَيَّنَتْ بَغُرُورِهَا، وَغَرَّتْ بِزِينَتِهَا، دَارُهَا هَانَتْ عَلَی رَبِّهَا، فَخَلَطَ حَلاَلَها بِحَرَامِهَا، وَخَيْرَهَا بِشَرِّهَا، وَحَيَاتَهَا بِمَوتِهَا، وَحُلْوَهَا بِمُرِّهَا، لَمْ يُصْفِهَا اللهُ لِاَوْلِيَائِهِ، وَلَمْ يَضِنَّ بِهَا عَلَی أَعْدَائِهِ، خَيْرُهَا زَهِيدٌ، وَشَّرُهَا عَتِيدٌ، وَجَمْعُهَا يَنْفَدُ، وَمُلْكُهَا يُسْلَبُ، وَعَامِرُهَا يَخْرَبُ. فَمَا خَيْرُ دَار تُنْقَضُ نَقْضَ الْبِنَاءَ، وَعُمُر يَفْنَى فَنَاءَ الزَّادِ، وَمُدَّة تَنْقَطِعُ انْقِطَاعَ السَّيْرِ»(1) فالتشبيهات البليغة الثلاثة (تنقض نقضَ البناء) و (عمر يفنى فيها فناءَ الزاد) و (مدة تنقطع انقطاعَ السير) كلها جاءت باسلوب المفعول المطلق، كي تقرر معنى واحداً يريد الامام ان يثبته في نفوس سامعيه، هو ان هذه الحياة الدنيا فانية، وان حياتنا فيها مهما امتدت سنواتها فإنها قصيرة، لا تكاد تذكر اذا ما قيست بالحياة الآخرة التي جعلها الله خالدة بكل نعيمها وملذاتها، أما هذه الدنيا فكل شيء فيها الى زوال، وكي يقنع الامام الناس بما يقول صور لهم هذه الحياة بصورة البناء الجميل الرائع الذي يبهرنا و يخطف أبصارنا، ولكن سرعان ما ينقض ليعود ركاماً من أحجار وتراب، ولا جمال فيه، ولا قيمة له، وهذا العمر الذي نحياه مصيره الى نفاد وانتهاء لاننا نأكل منه كل يوم شأن زاد المسافر الذي يتناقص يوما بعد يوم حتى ينتهي، وهذه المدة التي تمثل حياتنا، مصيرُها الى انقطاع كالسير الذي ينقطع بك فجأة فلا تستطيع بعدها حراكاً، انها صور ثلاث متلاحقة يكمل بعضها بعضا كي يقرر للناس حال الدنيا بل حالهم هم فيها، علّهم يغفلون عنها وعن مغرياتها فهي

ص: 56


1- م.ن: 1 / 220 - 221

ساس كل بلاء، والداء الذي ليس له دواء، سوى التذكير بسرعة فنائها وزوالها.

ويميز الامام علي (عليه السلام) بفكره الثاقب، وعلمه العظيم، بين علم أهل بيت النبوة، وهم العلماء الحق، لأنهم ربانيون في هذا العلم، وأدعياء العلم، ممن عرفوا منه شيئا وغابت عنهم أشياء، الذين حفظوا العلم ولكن لم يعقلوه، مشيراً إلى كثرة هؤلاء، وقلة أولئك، ولكن شتان ما بين الفريقين، يقول واصفا أهل بيت النبوة: «هُمْ دَعَائِمُ الِاْسْلاَمِ، وَوَلاَئِجُ الاْعْتِصَامِ، بِهِمْ عَادَ الْحَقُّ فِی نِصَابِهِ، وَانْزَاحَ الْبَاطِلُ عَنْ مُقَامِهِ، وَانْقَطَعَ لِسَانُهُ عَنْ مَنْبِتِهِ، عَقَلُوا الدِّينَ عَقْلَ وِعَايَة وَرِعَايَة، لاَ عَقْلَ سَمَاع وَرِوَايَة، فَإِنَّ رُوَاةَ الْعِلْمِ كَثِيرٌ، وَرُعَاتَهُ قَلِيلٌ»(1).

فهذا التمييز الدقيق الذي أقامه الامام بين رعاة العلم ورواته، هي معضلة زماننا هذا، كما كانت معضلة زمن الامام، ولعلها سبب كل ما نعيش فيه من فوضى في كثير من جوانب حياتنا اليوم، هو هؤلاء الذين تصدروا مجالس الوعظ والفتيا، وهم ليسوا أهلاً لذلك لأن حفظ الشرائع، وترديد الاحكام، لا يغني الحياة، ولا يجعل الدين مواكبا لمسيرة الإنسان، انما الطريق الصحيح هو تحكيم العقل، لوعي الدين وعيا حقيقياً، أي استخلاص جوهره، وتشذيبه من كل ما علق به من قشور زائفة حجبت هذا الجوهر المكنون، وهذا موقوف على أهل بيت النبوة، فهم رعاة هذا الدين ووعاته، فهموه حق فهمه، ورعوه حق رعايته، لذا لا نجد عندهم اختلافاً فيه، ولا حياداً عنه، ظاهرهم كباطنهم، وصمتهم كنطقهم، منهم يؤخذ الدين الحق، وبهم يقتدى، فكل علم إليهم مرجعه.

لقد استطاع الامام بكلام موجز، ومن خلال التشبيه البليغ باسلوب المفعول

ص: 57


1- م.ن: 2 / 260 وكرر هذا التشبيه في موضع آخر من النهج ينظر: - 3 / 172

المطلق، ان يقرر كل هذه المعاني بقوله «عقلوا الدين عقلَ وعاية ورعاية، لا عقل سماع ورواية» فكان كلاماً في غاية الايجاز ولكنه ضم بين دفتيه معاني كبيرة تؤلف فيها الكتب.

ومن صور الامام التشبيهية الاخرى التي خرجت لتقرير حال المشبه من خلال التشبيه البليغ المفعول المطلق:

1- «وَالَّذِي بَعَثَهُ بِالحَقِّ لَتُبَلْبَلُنَّ بَلْبَلَةً، وَلَتُغَرْبَلُنَّ غَرْبَلَة، وَلَتُسَاطُنَّ سَوْطَ القِدْرِ، حَتَّى يَعُودَ أَسْفَلُكُمْ أَعْلاَكُمْ، وَأَعْلاَكُمْ أَسْفَلَكُمْ» (1 / 43).

2- «كَأَنَّ بِكِ يَاكُوفَةُ تُمَدِّينَ مَدَّ الْاَدَيمِ الْعُكَاظِيِّ، تُعْرَكِينَ بِالنَّوَازِلِ، وَتُرْكَبِينَ بِالزَّلاَزِلِ، وَإِنَّی لاَعْلَمُ أَنَّهُ مَاأَرَادَ بِكِ جَبَّارٌ سُوءاً إِلاَّ ابْتَلاَهُ اللهُ بِشَاغِل، وَرَمَاهُ بِقَاتِل» (1 / 92 - 93).

3- «فَاتَّقُوا اللهَ تَقِيَّةَ ذِي لُبٍّ شَغَلَ التَّفَكُّرُ قَلْبَهُ، وَأَنْصَبَ الْخَوْفُ بَدَنَهُ» (1 / 138).

4- «وَنُؤْمِنُ بِهِ إِيمَانَ مَنْ عَايَنَ الْغُيُوبَ، وَوَقَفَ عَلَی الْمَوْعُودِ» (1 / 222).

5- «بَيْنَ أَهْلِ مَحَلَّة مُوحِشِينَ، وَأهْلِ فَرَاغ مُتَشَاغِلِينَ، لاَيَسْتَأْنِسُونَ بِالْاَوْطَانِ، وَلاَ يَتَوَاصَلُونَ تَوَاصُلَ الْجِيْرَانِ» (2 / 247).

6- «فَإِنكَ مُتْرَفٌ قَدْ أَخَذَ الشَّيْطَانُ مِنْكَ مَأْخَذَهُ، وَبَلَغَ فِيكَ أَمَلَهُ، وَجَرَى مِنْكَ مَجْرَى الرُّوحِ وَالدَّمِ» (3 / 12).

7- «جَعَلَ اللهُ مَا كَانَ مِنْ شَكْوَاكَ حطّاً لِسَيِّئَاتِكَ، فَإِنَّ الْمَرَضَ لاَ أَجْرَ فِيهِ، وَلكِنَّهُ يَحُطُّ السَّيِّئَاتِ، وَيَحُتُّهَا حَتَّ الْاَوْرَاقِ» (3 / 162).

8- «اعْقِلُوا الْخَبَرَ إِذَا سَمِعْتُمُوهُ عَقْلَ رِعَايَة لاَ عَقْلَ رِوَايَة، فَإِنَّ رُوَاةَ الْعِلْمِ كَثِيرٌ، وَرُعَاتَهُ قَلِيلٌ» (3 / 171).

***

ص: 58

5- تزيين المشبه ومدحه، للترغيب فيه، وحث الناس على الاتصاف بصفاته، وذلك بذكر مشبه به تستحسنه النفوس، أجمعت العقول غلى فضله، وعرف الناس محاسنه فرغبوا فيه، فتجرى موازنة ومقايسة بينهما، تميل بعدها النفوس الى المشبه، وترغب العقول بالتحلي بصفاته.

ولعل هذا الغرض من أغراض التشبيه هو الأقل وروداً في كتاب نهج البلاغة، ذلك انه في جملته، هو كتاب في الوعظ والتزهيد في الحياة الدنيا والإعراض عن مفاتنها والتذكير بأنها فانية ومباهجها زائلة، والتمسك بأهداب الدين للنجاة بالنفس مما قد ينتظرها من عذاب الآخرة، ولذا كان المدح والتزيين غرضا قليل الظهور فيما أثر من خطب الامام وكتبه ووصاياه.

ومن هذا الغرض قوله في وصف الحج، وتحبيبه الى الناس، وحثهم عليه «وَفَرَضَ عَلَيْكُمْ حَجَّ بَيْتِهِ الحَرَامِ، الَّذِي جَعَلَهُ قِبْلَةً لِلْاَنَامِ، يَرِدُونَهُ وُرُودَ الاَنْعَامِ، وَيأْلَهُونَ إِلَيْهِ وُلُوهَ الحَمَامِ»(1).

فقد أراد الامام علي (عليه السلام) أن يزين الحج في نفوس سامعيه ويصور الناس وهم يقدمون الى الكعبة، هاربين من الدنيا وشرورها الى حيث بيت الله الحرام كي تستقر النفوس وتسكن، وتلقي بأعبائها في فنائه فتستريح، فهي عطشى لهذا اللقاء، تأتيه متلهفة ضامئة له، شأن الانعام التي ترد مناهل الماء العذب كي تطفئ ظمأها منه، فالناس في كل زمان محتاجون للشعور بالأمان والسلام، يريدون ان يتحرروا من أسر هذه الدنيا والهرب من شرورها، وليس أبرَّ من بيت الله ملاذاً يلجأون إليه، فيجدون فيه راحتهم فهم (يألهون) أي يفزعون إليه ويلوذون به، كما

ص: 59


1- م.ن: 1 / 21

تلوذ الحمائم الى اعشاشها ومواطن سكنها.

وفي خطبة أخرى يستذكر الامام الرعيل الأول من المسلمين، ويحبب لنا صورتهم، وهم يتهافتون الى الموت تهافت الفراش على النور دفاعاً عن دينهم، وذباً عن نبيهم، بعد ان عرفوا الاسلام فوعوه، وقرأوا القرآن فأحكموه، فيقول في حسرة واضحة: «أين القوم الذين دعوا الى الاسلام فقبلوه، وقرأوا القرآن فأحكموه، وهيجوا الى القتال فولهوا وَلَه اللقاحِ إلى أولادها، وسلبوا السيوف أغمادها، وأخذوا بأطراف الأرض زحفاً زحفاً وصفاً صفاً»(1).

فالإمام يستذكر بألم تلك الثلة من المسلمين الاوائل، وصدق ايمانهم حين ينطلقون للقتال فرحين مستبشرين، لا يبشرون بالأحياء ولا يعزون بالشهداء لأن الشهادة كانت غايتهم ورضا الله مناهم، فيما يقارن حالهم بحال اتباعه من حوله الذين يستسهلون طريق الشيطان، فيحلون عقدة الايمان، حتى صار أحدهم اذا دعي للقتال دفاعاً عن الحق أخذته الرجفة وحاصت عيناه بحثا عن مهرب، أما اولئك المسلمون الحق فها هي صورتهم حبيبة الى النفوس، قريبة من القلوب، فهم لصدق إيمانهم وثبات عقيدتهم وحبهم لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يفزعون الى الموت فزع الناقة التي كانت قد فارقت أولادها وعادت اليهم مشتاقة ولهة، فكان التشبيه البليغ باسلوب المفعول المطلق وسيلة ناجحة في رسم مثال جميل وصورة محببة لاولئك المسلمين الأوائل، علّ هؤلاء يقتدون بهم.

وفي واحدة من عظاته المأثورة التي توجه بها الى صاحبه الأشعت بن قيس معزيا إياه بولد له، وحاثاً إياه على الصبر والسلو، يقول: «إن صبرتَ صبرتَ صبرَ

ص: 60


1- م.ن: 1 / 234

الأكارم، وإلاّ سلوتَ سلوَ البهائم»(1) لقد جمع الامام في وصيته هذه، غرضين أولهما التحبيب والتزيين وثانيهما التقبيح والتكريه، فهو يذكرّ الأ شعت ان المصيبة مهما عظمت لا بد لها من ان تخف بمرور الأيام، فيسلو الانسان وتهدأ نفسه ولكن الفرق كبير بين من يحمل نفسه على الصبر احتساباً وايماناً، ومن تجبره الايام عليه، فيسلو سلو البهائم، فصبر الانسان على قضاء الله وقدره من كريم الشيم، ولذا حث الامام عليه، فيما حذّر من السلو الذي تأتي به الأيام لأن شأن الانسان فيه شأن الحيوانات التي تتناسى ما يمر بها من مصائب أو آلآم.

ونجد غرض التحبيب واضحاً في كلام للإمام وهو يصف لأصحابه ما كان عليه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من بساطة في العيش وتواضع في السلوك، فيقول: «ولقد كان صلى الله عليه وآله وسلم، يأكل على الأرض، ويجلس جلسةَ العبد، ويخصف بيده نعلَهُ، ويرقع بيده ثوبَهُ، ويركب الحمارَ العاري، ويُرْدِفُ خَلْفَه... فأعرض عن الدنيا بقلبه، وأمات ذكرها من نفسه»(2).

فهو صوّر ما كان عليه النبي من تواضع، وما كان يتصرف به من شؤون حياته اليومية، كواحد من أبسط الناس، لا لشيء الا لأنه طلق الدنيا وزينتها، وأمات ذكرها من قلبه، كي يعلمنا كيفية الاقتداء به والحذو حذوه، وبذا لم تكن صورة الامام الا صورة واقعية استمدت كل عناصرها من أحداث يومية عايشها كثير من الصحابة، ورأوها بأعينهم، وانما أوردها الامام هنا للتذكير والدعوة للأقتداء بما كان عليه سيد الخلق من بساطة وتواضع، ولعل في قول الامام عبر التشبيه

ص: 61


1- م.ن: 3 / 252
2- م.ن: 2 / 74 - 75

باسلوب المفعول المطلق (ويجلس جلسة العبد) ما يؤكد هذه المعاني فقد خص العبد دون سواه من الناس، كي يستحضر معاني الخشوع والبساطة والتذلل لله، فإذا كان هذا حاله وهو سيد الخلق، ومن غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فكيف تراها تكون جلستنا نحن المحمّلين بالذنوب، السائلين المغفرة، والساعين لرضا الله، أنها صورة تحث الجميع على الاقتداء بسلوك رسول الله واسلوب حياته، كي نتقرب من الله، ونكسب عفوه وغفرانه بمحاولة الاقتداء بسنة رسوله.

ص: 62

الفصل الثاني التشبيه البليغ بأسلوب التركيب الاضافي

اشارة

يظل للتشبيه البليغ موقعه المتميز بين أنماط الصورة التشبيهية المختلفة، لما له من قدرة على تجسيد المعاني وتجسيمها بصورة هي أدنى في صياغتها الفنية والتركيبية إلى الاستعارة منها الى التشبيه، ذلك ان حذف أداة التشبيه ووجه الشبه، والاكتفاء من التشبيه بركنيه الاساسيين (المشبه والمشبه به) من شأنه أن يلغي الحدود الفاصلة بين المشبه والمشبه به، أي إنه يلغي تفاوتهما في وجه الشبه، وهو مبنى التشبيه، لأن فاعليه التشبيه، وفنيته، متأتيتان من عقد صلة بين أمرين، يكون المعنى المقصود (وجه الشبه) في أحدهما (المشبه به) أوضح وأقوى منه في الآخر (المشبه)، وهو في المشبه بحاجة الى اثبات وتوضيح، وهكذا تكون هذه الصلة المعقودة بينهما، وسيلتنا في تأكيد المعنى وإيضاحه في المشبه من خلال خلق هذه المشابهة بين المشبه والمشبه به.

ولكن التشبيه البليغ (يتحايل) على هذه القاعدة، بل يخرقها حين يجعل الطرفين (المشبه والمشبه به) في مرتبة واحدة، أي إنه يرفع (الناقص) في وجه الشبه وهو المشبه الى مستوى (التام) في وجه الشبه وهو المشبه به، حتى كأن لا فرق بينهما، وهذه (مغالطة) فكرية، لأن الأمر لو كان هكذا في حقيقته، لما احتجنا إلى التشبيه،

ص: 63

ولما استعان القائم بالتشبيه، بالمشبه به، كي يحقق ما يريده من تشبيهه.

وربما كا هذا وراء التباس الأمر على كثير من البلاغيين العرب، وهم يداخلون بين التشبيه البليغ والاستعارة حدّ الخلط بينهما(1)، ولا سيما في نوع من أنواعه السبعة التي يأتي عليها(2)، وهو التشبيه البليغ باسلوب التركيب الإضافي، الذي لا يزال كثير من دارسي الأدب والبلاغة، إلى اليوم، يختلط في أذهانهم بالاستعارة، فحين يسمع مثلا قول أبي تمام:

كشفت قناع الشعر عن حرِّ وجهِه *** وطيرتُهُ عن وكرِهِ وهو واقع(3) يسارع إلى القول: إن قوله (قناع الشعر) استعارة، إذ ليس للشعر قناع، وإنما أثبت له القناع على سبيل الاستعارة، بجامع التخفي ومخالفة الحقيقة، وحين نسأل عن طرفي التشبيه، أي المشبه والمشبه به وما الذي حُذف منهما؟ لكون الاستعارة كما حدها أهل البلاغة «هي ان تذكر أحد طرفي التشبيه وتريد به الطرف الآخر»(4) ستكون الإجابة يقينا: إنه شبه الشعر بالقناع، فكما ان الانسان يخفي وجهه عن الناس بالقناع، فإن هذا يتستر بالشعر كي يموه على الناس حقيقته، ويواري عنهم جوهره، وبذا يتوضح من الجواب ان المشبه (الشعر) والمشبه به (القناع) مذكوران في الكلام، ولم يحذف أحدهما - وهو شرط الاستعارة كما تقدم من التعريف - فيمكن لنا القول - مطمئنين - إن قوله (قناع الشعر) هو تشبيه، لا

ص: 64


1- ينظر كتابنا: ألوان من التشبيه في الشعر العربي / 62 - 73
2- ينظر م.ن / 58 - 62
3- شرح الصولي لديوان ابي تمام: 3 / 63
4- مفتاح العلوم / 174

استعارة، فقد جرى تشبيه الشعر بالقناع، (الشعر قناع)، وهو تشبيه بليغ باسلوب المبتدأ والخبر، ثم جرت اضافة المشبه به (قناع) إلى المشبه (الشعر) فصار التشبيه (قناع الشعر) وهو ما يعرف بالتشبيه البليغ بأسلوب التركيب الاضافي «فيكون تشبيها على حد (لجين الماء) فيما مرّ لا استعارة»(1)، على حد قول القزويني وهو يعلق على قول أبي تمام في بيته الذائع الذي أثار كثيرا من النقد عليه:

لا تسقني ماءَ الملامِ فإنني *** صبٌ قد استعذبتُ ماءَ بكائيا فهو يشير في قوله (لجين الماء) الى التشبيه البليغ بأسلوب التركيب الاضافي في قول ابن خفاجة الاندلسي:

والريح تعبث بالغصون وقد جرى *** ذهب الأصيل على لجين الماء(2) وفي هذا الضرب من التشبيه، مبالغة كبيرة، إذ لا يكتفي الشاعر - او المشبّه عموما - بجعل المشبه والمشبه به في مرتبة واحدة، وبأسلوب المبتدأ والخبر: (الشعر قناع) كما في المثال المتقدم، وهي مبالغة، كما ذكرنا، لأنها تجعل ما وجه الشبه فيه ناقص (المشبه)، بمنزلة ما وجه الشبه فيه تام وهو (المشبه به) وكأن لا تفاوت بينهما، ولكنه عمد إلى اضافة المشبه به، وهو (الأصل) في قوة الشبه، الى المشبه وهو (الفرغ) فيها، حتى صار كأنه فرع منه أو تابع له، فمعروف ان المضاف يكملّه، ويعرّفه، المضاف إليه، بل يتمم معناه، وبذا تنقلب قاعدة التشبيه في هذا اللون منه، فبعد ان كان من المفترض ان يوضح المشبه به، المشبه ويقرّبه إلى الأذهان، لكون وجه الشبه فيه أتم واوضح، صار المشبه هو أداة تعريف المشبه به بعد أن أضيف إليه.

ص: 65


1- الايضاح: 2 / 314
2- ديوان ابن خفاجة: 11

وحين بحثنا في كلام الإمام علي (عليه السلام) في كتاب نهج البلاغة، وجدنا لهذا اللون من التشبيه حضوراً لافتاً فيه، وفي مختلف المناسبات التي ورد فيها كلام الإمام: وعظا أو نصحاً، تهديداً أو تخويفاً، أخباراً أو تذكيراً، وفي ضروب التعبير التي جاءت في النهج، خطبة أو رسالة، حكمة أو قولاً مأثورا.

ولا شك في ان المشبه به في هذا اللون من التشبيه يمثل صورة الأديب التي التقط مادتها من موجودات حياته وبيئته، حين تدخل عالم احساسه وخياله، فتتفاعل مع نفسه ووجدانه، تعمقها قوة تفكيره وخصوبة معانيه، بل خصوصية نظرته الى الأشياء، ورؤيته العميقة لها، وهو يلمح بينها صلات لا نتنبه نحن عليها ولكن حين يتنبه هو عليها، ثم يصوغها صياغة فنيه مؤثرة، فإنها توقظ أحاسيسنا وتحفز خيالنا كي نصاب بالعدوى التي أصابت المبدع، فننظر الى الاشياء بمنظاره، وعلى وفق رؤيته الابداعية التي تمخضت عن تفاعل ذاته بين المرأي والمتخيل، بل يمكن القول إنه صراع بين واقع لا يزال يجتذب الأديب إليه بموجوداته وحقائقه، وعالم مثالي تدفعه إليه نزعته الابداعية المتطلعة الى عبور هذا الواقع الى عوالم يكون فيها الخيال حاضراً لتشكيل معانيه تشكيلاً فنيا خاصا هو ما ندعوه ابداعاً وتفرداً.

.. ان الاديب في عمله هذا انما يكشف لنا عن خصوصية نظرته إلى الاشياء، بل خصوصية تجربته معها، بما يميزه من الآخرين أصحاب النظرة الكسولة والتقليدية لها، اما الاديب المبدع فان يد الخيال عنده تمس هذه الاشياء، فتلقي عليها من سحره وفنيته ما يعيد خلق العلاقات بينها، إن لم يُعد خلقها من جديد، فتبدو لنا وكأننا نراها لأول مرة، أو اننا لم نفهمها قبلا حق فهمها.

ولذا ستكون دراستنا لهذا اللون من التشبيه في كلام الامام علي (عليه السلام)

ص: 66

بحسب موارد صورته التي استمدها من بيئته والاشياء في محيطه، لاننا نكشف بذلك عن قدرة الامام (عليه السلام) على التنبه على هذه الموجودات والموارد التي حوله وكيفيه استثماره لها، في صنع صوره، أي المشبه به الذي يكون انبناء الصورة التشبيهية عليه، فمع ان المشبه هو أصل التعبير أو اصل المعنى الذي يريد الامام الكلام عليه، أو ما يمكن ان نسميه (الموضوع) أو (المناسبة)، إلّا ان المشبه به - وإن كان من عناصر الطبيعة وموجودات الحياة، فانه يعكس لنا دلالات هذه الأشياء في ذهن المبدع، وما يمثله حضورها في ذهنه وخياله، بما يعكس اهتمامات الأديب، ويكشف عن حقيقة نظرته الى الاشياء، في توافقها واختلافها، بل صراعها في دواخل نفسه وعقله، بما يجعلها موضوعاً يستقطب خياله ومشاعره، فتتفاعل مع ذاته، كي تولد على يديه صوراً جديدة نابضة بالحياة والحركة. .. فنستشعر كينونتها الجديدة في عالم الابداع والخيال. وبذا يمكن ان نقسم موارد الصورة التشبيهية في كلام الامام علي (عليه السلام) في التشبيه البليغ باسلوب التركيب الاضافي على ما يأتي:

1- الملابس والحلي وما يتصل بها:

تبدو الصورة التشبيهية التي استمد الامام علي (عليه السلام) مادتها من هذا المجال، أكثرها دورانا في تشبيهاته البليغة بأسلوب التركيب الاضافي، بما قد يكون دليلاً على حيوية هذا الجانب الانساني وحضوره في فكر الامام، لكونه العنصر الأبرز والاوضح في الانسان، ولا يحتاج ادراكه او التنبه عليه، الى فكر عميق أو مطاولة في الاختبار، بل يكفي النظر وحده لتلمسه ومعرفة كينونته، فضلا عن دلالة أخرى ستراها واضحة عند استثمار الامام لمفردات هذا المجال في التشبيه، وهي

ص: 67

دلالاتها على التغير والتبدل، وكذلك تمويه الحقيقة واخفائها، فكان من الطبيعي ان تكثر عناصر هذا المجال في كلام الامام لاثبات المعاني في نفوس سامعيه من خلال حقائق حياتهم اليومية وموجوداتها، بما يسهّل رسوخها في نفوسهم، فغاية التشبيه الاساسية هي تحويل المعاني المجردة الى محسوسات يدركها الجميع، على تفاوت مداركهم ومعارفهم - تكون دليلاً او برهاناً على صواب المعاني وصدقها، ففي خطبة الامام «القاصعة» نجده يذم ابليس (لعنه الله) على استكباره، وتركه السجود لادم (عليه السلام) والامتثال لأمر خالقه، فكان أول من أظهر العصبية وتبع الحمية، يقول الامام: «فعدو الله إمام المتعصبين، وسلف المتكبرين، الذي وضع أساس العصبية ونازع الله رداء الجبرية، وادّرع لباس التعزز، وخلع قناع التذلل»(1).

ففي العبارة تشبيهات ثلاثة، بليغة بأسلوب التركيب الاضافي وهي (رداء الجبرية) و (لباس التعزز) و (قناع التذلل) وكلها من مجال الألبسة وما يتصل بها، وجاءت مناسبة تمام المناسبة للدلالة على هذا التبدل السريع والمفاجئ من ابليس تجاه خالقه، من الطاعة الى العصيان، ومن الخضوع الى التجبر، ومن التذلل الى التكبر، وليس أنسب من الملابس في سرعة تغيير مظهر الانسان، او الكشف عن جوهره عند خلعها، للدلالة على هذه المعاني، فها هو ابليس يخلع ما كان يتزيا به ويخفي به حقيقته ويتخذه قناعاً ليستر به قبحه وعصيانه، يخدع به من يراه، ولكن لا يخدع الله خالقه، فهو أعرف بما في نفسه، ولكن أجرى له هذا الاختبار كي يفضحه أمام من لا يعرفه، او كان مخدوعاً بما يرتديه من أقنعة، وهكذا جاء التشبيه الاول

ص: 68


1- نهج البلاغة: 2 / 162

(رداء الجبرية) تشبيها بليغا باسلوب التركيب الاضافي حيث شبه (الجبرية) اي الخضوع لله بالرداء بجامع التغطية والستر والشمول، أي انه كان يلبس الخضوع لله رداء يشتمله من أعلاه حتى اسفله كي يستر به تمرده وعصيانه، حيث يستطيع ان يغيره متى ما شاء، وهذا ما حصل حين تمرد على أمر الله ورفض السجود لآدم، وجاء التشبيه باضافة المشبه به (الرداء)( إلى المشبه (الجبرية) تأكيداً بأن هذا الرداء الذي كان يرتديه ابليس قد نسجه وخاطه ابليس من الجبرية، التي صارت أصلاً، يمكن ان تخاط منها أشياء كثيرة، ولكن ابليس خاط منها رداءه حتى يتلبسه ويخفي وراءه حقيقة عصيانه وتكبره. وكذا الحال في التشبيه الثاني (لباس التعزز) اذ شبه التعزز باللباس، الذي لا يختلف عن التشبيه السابق في صورته ودلالته ولا يخفى هذا التقابل الرائع بين قول الامام في وصف ابليس... (نازع الله رداء الجبرية) وقوله (وادّرع لباس التعزز)، فإذ نازع ابليس خالقه منازعة اي «جاذبه»(1) (8) كان لابد له من ارتداء لباس جديد فكان التعزز هو ذلك الرداء، وهكذا قاد هذان الفعلان القبيحان من ابليس، إلى نتيجة حتمية هي خلع (قناع التذلل)، فجاء التشبيه البليغ الثالث وباسلوب التركيب الاضافي ايضا ومن حقل الملابس كذلك موافقة لما تقدمه واستكمالاً للصورة، فبعد النزع والتدرّع، سقط قناع التذلل الذي كان يرتديه ابليس وظهر على حقيقته، متمرداً، متكبراً، عاصياً... لقد كان تذلل ابليس لخالقه قناعاً يخفي به عصيانه وتجبره، وهو ما جسده التشبيه البليغ (قناع التذلل) اي التذلل كالقناع ولكن باضافة المشبه به (قناع) الى المشبه (التذلل).

وفي واحدة من مواعظ الامام علي (عليه السلام) بعدم الاغترار بالدنيا

ص: 69


1- مختار الصحاح / 654

ومباهجها، والاعتبار من أهل المقابر، وما آلت إليه حالهم بعد عزهم وأنسهم، فلو نطقوا بما صاروا إليه لقالوا «كلحت الوجوه النواظر، وخوت الأجسام النواعم، ولبسنا أهدام البلى»(1). نجد استثماراً للملابس في ابتداع صورة قد تبدو أقرب الى المفارقة منها الى المنطق، وذلك في قوله (أهدام البلى) ذلك ان البلى هو الفناء والعدم، والأهدام (الملابس) مرتبطة بالوجود والحياة، ولكن الغاية التي أرادها الامام من تشبيهه البلى بالملابس حاضرة في ذهنه ذلك انه لم يرد ان الفناء قد تلبسهم حتى شمل كل أجسامهم، فحسب، ولكنه اراد ان يخلق مقابلة خفية بين ملابس العز والترف التي كانوا يرتدونها في حياتهم الدنيا، وما ارتدوه بعد الممات، وإذا كانت تلك الملابس مرهونة بزمن يسير، هو زمن ارتدائها - فان هذه خالدة لا يمكن لأحد ان يضعها عن جسده، لانها نخرت الجسد واحالته ترابا، ولا تخفى علينا هذه الدقة المتناهية في اختيار لفظة (اهدام) دون سواها وجعلها مشبها به للبلى الذي صار هو المشبه، ذلك ان «الهِدم بالكسر الثوب البالي والجمع أهدام»(2) فالتوافق واضح بين الاهدام والبلى، فهذه هي حال الناس جميعا بعد دفنهم، حيث يستحيل حسنهم قبحا، ونضارتهم جفافا، ونعومتهم هباء بعد ان يدب البلى فيهم حتى يأتي على اجسادهم كلها شأن الملابس التي تغطي الجسم كله.

ومما يتصل بالملابس كذلك، من صور التشبيه البليغ باسلوب التركيب الاضافي، قول الامام (عليه السلام) واصفا حال الناس يوم النشور، حين يبعثون من قبورهم «مهطعين إلى معاده، رعيلاً صموتا، قياما صفوفا، ينفذهم البصر

ص: 70


1- نهج البلاغة: 2 / 234
2- مختار الصحاح / 692

ويسمعهم الداعي، عليهم لبوس الاستكانة، وضرع الاستسلام والذلة»(1) حيث جرى تشبيه الاستكانة بالملابس بجامع التغطية والاشتمال، فالصورة لمشهد من مشاهد يوم البعث، حيث ينشر الناس من قبورهم، صفوفا، صامتين، يساقون إلى خالقهم حيث يوفيهم حسابهم، فلابد من ان يأخذهم الخوف وتعلوهم الذلة وتتلبسهم الاستكانة، وهكذا جاء التشبيه البليغ (لبوس الاستكانة) مجسداً لحال الناس وقد فزعوا من يوم الحساب بعد ان بعثوا من قبورهم لا شيء يسترهم، فلا بأس في ان تكون الاستكانة لباسهم الذي يسترهم عند خالقهم.

وأمثلة هذا التشبيه في كلام الامام علي (عليه السلام) من هذا المورد كثيرة منها:

1- «سترنی عنكم جلباب الدين» 34/1.

2- «واستخرجهم من جلابيب غفلتهم» 52/2.

3- «ولا استطاعت جلابيب سواد الحنادس ان ترد ما شاع في السموات من تلألؤ نور القمر» 126/2.

4- «قد خلع الله عنهم لباس كرامته، وسلبهم غضارة نعمته» 177/2.

5- «قد خلع سرابيل الشهوات» 150/1.

6- «وألبسهم سرابيل القطران ومقطعات النيران» 213/1 .

7- «متسربلين سربال الموت» 40/3.

8- «فهي تبتهج بزينة رياضها وتزدهي بما ألبسته من ريط ازاهيرها» 176/1.

9- «فمن تركه رغبة عنه ألبسه الله ثوب الذل، وشملة البلاء» 63/1.

ص: 71


1- نهج البلاغة: 1 / 132

2- الماء وما يتصل به:

لاشك في ان دلالة الماء في الذهن العربي واضحة، كثيرة الدوران في كلامهم شعراً ونثراً، في كونه رمزاً للحياة والخير والعطاء في دلالته الايجابية، أو في كونه رمزاً للموت والهلاك المحتوم في دلالته السلبية.

وبذا كان من الطبيعي ان يكون لهذا المورد حضوره في تشبيهات الامام علي (عليه السلام) البليغة وهو يستمد عناصر صورته من بيئته التي يعيش فيها ويعيش فيها من يوجه كلامه إليهم، فتأتي صوره قطعة من حياتهم، تنسجها مفردات حياتهم اليومية ولكن بطريقة جديدة توقظ خيالهم وتحرك تفكيرهم، كي يتنبهوا على المعاني باسلوب جديد يرسخ كينونتها في نفوسهم. فالبحر واحد من موجودات حياة العرب التي ارتبطت في اذهانهم بالموت المحتوم، الذي لا تكون النجاة فيه الا لمن هيأ سفنه القوية القادرة على الصمود بوجه امواجه المهلكة، وهكذا نجد الأمام يخاطب الناس بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) فيقول: «ايها الناس شقوا أمواج الفتن بسفن النجاة، وعرّجوا عن طريق المنافرة وضعوا تيجان المفاخرة، أفلح من نهض بجناح، أو استسلم فأراح»(1).

ها هو الامام يرسم لمستمعيه صورة مرعبة لما يمكن ان يحل بهم اذا ما ركبوا طريق الفتن، واستسلموا لما يراد بهم من ورائها ولم يعدّوا عدتهم للنجاة منها، وبذا كانت صورة البحر وأمواجه المتلاطمة المهلكة هي المعادل الموضوعي للفتن التي عصفت بالمسلمين ايام الامام، فدعاهم - ناصحا - ان يشقوا هذه الفتن (الأمواج) بسفن النجاة، وبذا تكاملت عناصر الصورة، فحين تكون الفتن امواجاً متلاطمة تغرق كل من يستسلم لها، لابد من ان يكون سبيل النجاة منها سفنا تضمن لراكبيها

ص: 72


1- نهج البلاغة: 1 / 35

السلامة منها. ..

كانت صورة البحر في أمواجه الطاغية المهلكة وسيلة الامام (عليه السلام) في تجسيد معانيه، بل مخاوفه من هذه الفتن التي عصفت بالمسلمين في أيامه، فكان تشبيهه لها بالامواج التي تغمر كل شيء، وتدمر كل من يركبها لتتركه حطاماً وركاماً، والعقلاء وحدهم من يعدون العدة لاجتياز هذه الامواج وشقها، ولا يكون ذلك الا بالنجاة منها بسفن الفطنة والذكاء باجتناب اسبابها ودواعيها، فهي امتحان عسير لصدق ايمانهم ورجاحة عقولهم، لان حياتهم اللاحقة انما هي نتاج حسن موقفهم من هذه الفتن المغرقة، فأما نجاة أو هلاكاً. وعاد الامام (عليه السلام) ليؤكد هذا المعنى في تشبيه آخر، يكاد يكون هو التشبيه السابق نفسه، في قوله مذكراً بما أصاب السابقين من بلاء اذ «قد خاضوا بحار الفتن، وأخذوا بالبدع دون السنن»(1)، فأتسع تشبيهه هنا ليشمل البحر كله لا أمواجه فحسب، وليكون مورده في صنع صورته المفزعة لأهوال الفتن وبلائها، فقوله (بحار الفتن) تشبيه بليغ باسلوب التركيب الاضافي، وأصله الفتن كالبحار، ولعل السؤال قد يفرض نفسه هنا، لم شبّه الامام الفتن بالأمواج في خطبته السابقة، فيما شبه الفتن نفسها بالبحار في هذه الخطبة، فما الفرق بين الموضعين الذي تطلب هذا التعبير مع ان الغرض واحد، وهو التحذير من شر الفتن والحث على اجتنابها، وعدم الخوض بها، ونرى ان الفرق بين التشبيهين جاء مناسباً لاختلاف الحالين اللذين خطب فيهما الامام، ففي التشبيه الأول، كان يخاطب المسلمين ويتحدث إليهم مباشرة وهو يحذرهم من الفتنة التي بدأت تعصف بهم، وبذا تكون الأمواج هي المشبه به الأقوى والقادر على ادخال الفزع في نفوسهم، فلهم ان يتصوروا حالهم

ص: 73


1- نهج البلاغة: 2 / 57

وقد داهمتهم أمواج البحر العاتية واحدة تلو الأخرى، لا تدع لهم فرصة الخلاص أو تمهلهم وقتا لتوفير أسباب النجاة، وهكذا حثهم على تهيئة اسباب النجاة منذ وقتهم هذا قبل فوات الأوان، اما في هذه الخطبة الثانية فقد شبّه الفتن بالبحار وهو يتحدث عن السابقين الذين استسلموا للفتن وأخذوا بالبدع دون السنن، فغرقوا فيها، وبذا يكون البحر هو المشبه به الأنسب للاغراق والهلاك كما ان البحر بعد ان يغرق السفن والناس ويبتلعهم، يعود هادئا، كأن شيئاً لم يكن وهكذا هي الفتن لا تهدأ ولا تسكن الا بعد ان تغرق كل من تابعها وخاض فيها. .. وبذا يتوضح الفرق الدلالي بين التشبيهين، على تقارب معنييهما.

وكما يمكن للماء ان يكون رمزاً للموت والهلاك، كما مرّ في التشبيهين السابقين (الامواج) و (البحار) يمكن ان تجتمع دلالتان متناقضتان للماء، أحداهما تعبيراً عن الخير، والاخرى عن الشر، وهذه حقيقة الماء، ان لم نقل حقيقة كثير من اشياء الحياة، وموجودات الكون، فقد تكون مصدراً للخير والسعادة، إذا ما أحسن استعمالها وتوجيهها، أو قد تكون جالبة للشر والبلاء، اذا ما أسيء التصرف بها، وهو ما نجده مجتمعا في قول الامام علي (عليه السلام) وهو يحذر من الدنيا وفتنتها «لم يكن امرؤ منها في حَبْرَة إلا أعقبتها عبرة، ولم يلق في سرائها بطناً، الا منحته من ضرائها ظهراً، ولم تطله فيها ديمة رخاء، إلا هتنت عليه مزنة بلاء»(1)...

فها هو المطر، يتلون بوجهين، فيمكن ان يكون (ديمة رخاء) حيث يستحيل الرخاء الى ديمة تجود بخيرها ورزقها على الناس والأرض، ويمكن ان تكون (مزنة بلاء) حيث يأتي البلاء بشكل مزنة تغطي بشرّها كل مكان تهطل فيه، وهذان التشبيهان البليغان اللذان جاءا باسلوب التركيب الاضافي، فيهما فضلا عن هذا

ص: 74


1- نهج البلاغة: 1 / 216

التشبيه المجسد للمعنى الذي أراده الأمام للتنبيه على وجهين للدنيا، أحدهما تخدع به الناس، والثاني تعاقبهم به على انخداعهم وضلالتهم، وجه آخر من وجوه البلاغة، ذلك هو دقة الامام علي (عليه السلام) في اختيار الألفاظ الدالة على المعاني المناسبة للمقام، فقد استعمل لفظ (ديمة) مع الرخاء في قوله (ديمة رخاء) فيما استعمل لفظ (مزنة) مع البلاء في قوله (مزنة بلاء)، مع ان كليهما بمعنى السحابة، ولكن بالعودة الى معاجم اللغة نجد ان «الديمة: المطر الذي يدوم دوما»(1) وهذا موافق جداً لاعتقاد هؤلاء المغرورين بالدنيا وزينتها، اذ هم يعتقدون ان نعيمها دائم ورخاءها لا ينقطع، وبذا كان لفظ (ديمة) موافقاً لاعتقادهم هذا، وهو سبب غفلتهم عن حقيقة الدنيا في تقلب أحوالها، اذ هم يعتقدون وهم في بحبوحة العيش ورغد الحياة، ان رخاءها دائم، وظلها ظليل، وكذلك الحال في لفظ (مزنة) فإنها تعني «السحابة البيضاء»(2) وقد جاء استعمالها موافقا لحال هؤلاء ومايريده الأمام من تنبيههم عليه، فهم مخدوعون، يرون السحابة البيضاء فيفرحوا بها ويأنسوا لمنظرها، فإذا هي تمطر عليهم بلاء ومصائب، وهذا هو شأن الدنيا في نعيمها الخادع، وزينتها الزائفة.

ويستثمر الامام دلالة لفظ (جداول) في الذهن العربي في كونها مورداً للماء العذب، وما يرمز إليه من الخير والنعيم، ليصنع تشبيهه البليغ باسلوب التركيب الاضافي، وهو ينبه سامعيه، على نعم الخالق عليهم، بارساله نبي الرحمة محمد (صلى الله عليه واله وسلم) حيث يقول: «فانظروا الى مواقع نعم الله، حين بعث إليهم رسولاً، فعقد بملته طاعتهم، وجمع على دعوته ألفتهم، كيف نشرت النعمة

ص: 75


1- العين: 1 / 6 - 8
2- مختار الصحاح / 623

عليهم جناح كرامتها، واسالت لهم جداول نعيمها»)(1). .. ففي قوله (جداول نعيمها) تشبيه بليغ بأسلوب التركيب الاضافي حيث شبه النعيم بالجداول، التي تأتيهم به من موارد عدة، و وجوه شتى، ومن هنا تتوضح لنا دقة الامام في اختيار ألفاظه في تشبيهاته البليغة كي تكون أكثر دلالة على المعنى، وأوفى في التعبير عن المراد، فلا شك في ان الجداول متعددة ومصادر مياهها مختلفة، وهكذا هي وجوه النعمة التي انعم الله بها على عباده من الناس بعامة والمسلمين بخاصة حين بعث فيهم نبي الهدى محمداً (صلى الله عليه واله وسلم) فهذه النعم كثيرة متنوعة لا تحد بوجه واحد، ولا تحصر في مورد وحيد، انما هي نعم كثيرة وعظيمة، مواردها شتى، وجداولها متعددة. وفي حث الامام الناس على الدعاء وسؤال الله سبحانه، الذي دعا عباده الى سؤاله بالدعاء، كي يستجيب لهم يقول (عليه السلام): «ثم جعل مفاتيح خزائنه بما أذن لك فيه من مسألته، فمتى شئت استفتحت بالدعاء أبواب نعمته، واستمطرت شآبيب رحمته»(2) فأي كرامة أعطاها الله سبحانه لعباده، حين أوكل اليهم خزائن الارض والسماء وجعلها تحت تصرفهم، تأتمر بأمرهم وتجود بالخير لهم، ولا يكلفهم هذا سوى الدعاء كي تفتح هذه الخزائن أبواب نعمتها لهم، فما ان يصدق بالمرء في توجهه لخالقه وسؤاله بالدعاء ان يرزقه حتى تتفتح له أبواب النعم، وتنهمر عليه شأبيب الرحمة، وهكذا كان التشبيه البليغ باسلوب التركيب الاضافي (شأبيب رحمته) اذ شبه الرحمة بالشآبيب التي تنهمر على الناس انهمار الماء في خيره وعطائه.

ويكتب الامام (عليه السلام) كتابا للأشتر النخعي لما ولاه على مصر، يرشده

ص: 76


1- نهج البلاغة: 2 / 179
2- م. ن: 3 / 54

فيه، كيف يسوس الناس سياسة صحيحة بعد ان اضطرب أمر محمد بن ابي بكر (رضي الله عنه) وهو «أطول عهد وأجمع كتبه للمحاسن»))) وفيه يقول: «أملكْ حمية أنفك، وسورة حَدِّك، وسطوة يدك، وغرب لسانك، واحترس من كل ذلك بكف البادرة، وتأخير السطوة، حتى يسكن غضبك فتملك الاختيار»(1) فالامام يقدم درساً اخلاقيا ليس لعامله الاشتر النخعي فحسب، بل لنا جميعاً بأن نمسك انفسنا عند الغضب، ولا نتخذ قراراتنا وقته، لأنا لا نملك خياراً سوى الانقياد لهذا الغضب، أما إذا تروينا قليلاً حتى تذهب عنا سورة الغضب، فأننا نستطيع ان نعالج الأمر بأكثر من طريقة وأكثر من خيار، سواء بالقول أو الفعل، وهو عين ما نخطئ به عند غضبنا اذ لا نأمن ان يصدر عنا قول أو فعل نندم عليه، وهو ما عبر عنه الامام بقوله (سطوة يدك) و (غرب لسانك) والتشبيه البليغ باسلوب التركيب الاضافي واضح في قوله الثاني (غرب لسانك) حين شبه اللسان بالغرب وهي «الدلو العظيمة»(2)، ولا يخفى علينا هذا التوافق الرائع بين الدلو واللسان، في الجامع بينهما، فإذا يغترف الدلو من البئر ماء، نراه بعد ان كان غائبا عنا، كذلك فان اللسان يغترف من دواخل الأنسان ما كمن فيها، كي يطلعنا عليه فأية بلاغة معجزة هذه التي يبهرنا بها الامام علي (عليه السلام) في كلامه، وأي عمق لهذا البحر الذي كلما ازددت غوصاً فيه، زادت جواهره تلألؤاً، ودرره بهاء.

ص: 77


1- م.ن: 3 / 121
2- مختار الصحاح / 470

3- الظلام والضياء وما يتصل بهما:

كان لابد لهذه الثنائية الأزلية، الظلام والضياء، من ان يكون لها مكانها في صور الامام عليه (عليه السلام) التشبيهية، ولا سيما انهما حقيقتان كونيتان، تتعاقبان، صانعتين يومنا، بل حياتنا، ألفناهما وعرفناهما بداهة، وبذا فإن استثمارهما، وما يتفرع منهما، وما يمت إليهما بسبب، سيكون وسيلة ناجعة في تقرير المعاني وترسيخها في نفوس السامعين - إذ تكون المشبهات بها، وهي أدلة الامام وبراهينه، لتأكيد أفكاره وآرائه، قريبة من نفوسهم، يعيشون تفاصيلها، ويتلمسون صدقها، وبذا تكون المقايسة بين المشبه، (ما يريده الامام من معان وأفكار)، والمشبه به، (ما اتخذه مادة لصوره)، أقرب إلى كونها بديهية، أو حقيقة لا جدال حولها. ففي واحدة من خطبه التي يحث فيها الناس على العودة الى فطرتهم التي فطرهم الله عليها، والى قلوبهم التي حين خلقها الله سبحانه، عقدها على طاعته، قبل ان تغريهم العاجلة بآجنها وتصرفهم عن الآخرة وصافيها، يقول: «اين العقول المستصبحة بمصابيح الهدى، والابصار اللامحة الى منار التقوى»(1)... فلم تأت دعوة الامام هذه مرسلة، أو كلاماً خلواً من الأدلة والبراهين التي تحرك العقول، وتجعل الافهام تنجذب إلى ما يدعو إليه ولا سيما انها دعوى تأتي بالضد مما تشتهيه النفس الانسانية التي جُبلت على حب النعيم والميل الى الراحة والدعة، وتلبية دعوة الغرائز، وتطمين حاجات النفس التي لا تعرف الاكتفاء، ولان فعل هذه في النفوس كبير، كان لابد للامام من أن يأتي بتشبيهاته مشفوعة بما يقويها ويرسخها في العقول، وهكذا جاء التشبيهان البليغان باسلوب التركيب الاضافي (مصابيح

ص: 78


1- نهج البلاغة: 2 / 37

الهدى) و (منار التقوى) حيث صارت الهداية مصباحاً يضيء للعقول المسترشدة طريقها نحو النجاة، وصارت التقوى مناراً يهدي كل تائه ضل طريقه وسط بحر الحياة المتلاطم، ولذلك يتتابع التشبيهان ليتم أحدهما الآخر، فإذ يستضيء الناس بمصابيح الهدى، لا بد لهم من ان يبصروا منار التقوى، كي يفوزوا ويفلحوا.

وقد تكرر التشبيه بالمصباح في مواضع أخرى من النهج، تأكيداً للمعنى العميق للهداية وكونها ضياء ينير الطريق لنا، ومن ذلك قول الامام: «عباد الله، ان من أحب عباد الله إليه عبداً أعانه الله على نفسه فاستشعر الحزن، وتجلبب الخوف، فزهر مصباح الهدى في قلبه، وأعد القِرى ليومه النازل به»(1) فقوله (مصباح الهدى) جرى تشبيه الهدى فيه بالمصباح، ولكن اين مكان هذا المصباح، انه القلب، حيث يودع الله ضياء في قلوب من أحب ان يهديهم من عباده، فما ان ينير هذا المصباح (الهدى) حتى يستشعر هذا العبد خشية الله ويأخذه الحزن، ويحيط به الخوف، فيعد عدته ليوم رحيله، حيث لا ينفع المرء لا مال ولا بنون الا من أتى الله بقلب مضيء.

وقريب من هذا قول الامام في خطبة له في صفة السماء: «ثم علق في جوها فلكها، وناط بها زينتها: من خفيات دراريها ومصابيح كواكبها»(2) ففي قوله (مصابيح كواكبها) شبه الكواكب بالمصابيح تشبيهاً بليغاً بأسلوب التركيب الاضافي.

ومما يرتبط بحقل الضياء الدلالي، البرق، بوصفه مصدراً للضياء والنور، اذ ورد في قول الامام الذي لا يكاد يخرج عما تكلم عليه في التشبيهات السابقة من ضرورة الاهتداء وسلوك سبيل النجاة، يقول: «فتحَّر من أمرك ما يقوم به

ص: 79


1- م. ن: 1 / 149 - 150
2- م.ن: 1 / 167

عذرك، وتثبت به حجتك، وخذ ما يبقى لك مما لا تبقى له، وتيسر لسفرك، وشم برق النجاة، وارحل مطايا التشمير»(1)، قوله (برق النجاة) تشبيه بليغ باسلوب التركيب الاضافي، حيث شبه النجاة بالبرق، فكما ان الناس يستبشرون بالبرق، ويأملون بعده المطر، فكذلك على المرء ان يستعد لآخرته، فتكون النجاة مسعاه الذي ينقذه يوم الحساب، ولعل استعمال البرق هنا مشبها به فضلا عن توافقه مع قول الامام (شم) التي تستعمل عند العرب مرتبطة بالبرق والمطر، فانها مناسبة ايضا للمقام حيث جاءت بعد قول الامام «إذا رجفت الراجفة وحقت بجلائلها القيامة»(2) حيث يكون يوم القيامة، فتنكسف الشمس، وينخسف القمر، فلا ضياء، ولا نور، فيأتي البرق منقذاً ينير لك، سريعا، بعض سبيلك، وهكذا هي النجاة برق خاطف في خضم ظلام دامس.

وهكذا هو العلم أيضا، شانه الهدى، مصباح ينير للناس طريقهم فيقودهم نحو الخير والمحبة والسلام، وهو ما جاء في حديث الامام علي (عليه السلام) وهو يحث الناس على اتخاذهم إماماً يقتدون به، ويستضيئون بعلمه، حتى تكون فيه نجاتهم، يقول: «الا وان لكل مأموم إماماً يقتدي به ويستضيء بنور علمه»(3) فقوله (نور علمه) تشبيه بليغ بأسلوب التركيب الاضافي، ولو شبه الامام النور بالعلم تشبيها بليغا باسلوب المبتدأ والخبر فقال (العلم نور) لكان هذا تشبيهاً شائعا وكلاماً مألوفاً، قد لا يثير في النفس ما يثيره التشبيه نفسه عندما جاء باسلوب التركيب الاضافي حيث أضيف المشبه به (نور) الى المشبه (علم) إذ لم يعد العلم نوراً

ص: 80


1- نهج البلاغة: 2 / 243
2- م.ن: 2 / 242
3- م.ن: 3 / 78

فحسب، كما تقتضيه صيغة المبتدأ والخبر، وانما صار العلم أصلاً ومصدراً لأمور شتى، شأن القمر، منها النور والاشراق والجمال، وأخرى كثيرة يتفاوت الناس في الاهتداء إليها بتفاوت حظوظهم من البلاغة، وباختلاف أحوالهم وقدراتهم المعرفية والذهنية بل أمزجتهم كذلك، وهذا هو مبعث جمال الصورة البيانية حين توقظ خيال قارئها، وتفتح أبواب التأويل أمامه مشرعة. بحسب ماتهيأ له من أسباب قوة الخيال، واكتمال عناصر التذوق والادراك، فيزداد تأثره بما يسمع بزيادة وعيه بأبعاد الصورة الفنية وتجلياتها.

وقريب من هذا قول الامام (عليه السلام) وهو يعظ الناس ويحذرهم، من البدع التي لا سند لها من السنة المتبعة، ولا فيها حجة جلية تقويها في نفوس السامعين، فإن من يتابع هذه البدع أعمى «ومن لم ينفعه الله بالبلاء والتجارب لم ينتفع بشيء من العظة، وأَتاه التقصير من أمامه، حتى يعرف ما أنكر وينكر ما عرف، فان الناس رجلان: مُتَّبعٌ شرعة، ومُبتَدع بدعَةٌ، ليس معه من الله برهان سنة، ولا ضياء حجةً»(1) فهذا الانسان، صاحب البدعة، يضل الناس ويخدعهم لأن أقواله لا يشفعها (برهان سنة) ولا (ضياء حجة)، وبذا تتوضح لنا أهمية هذين التشبيهين البليغين اللذين جاءا بأسلوب التركيب الاضافي في توكيد المعنى وتقريره في نفوس السامعين، فالسنة برهان، ومن هذا الذي لا يؤمن بالسنة وهي المصدر الثاني للتشريع في الاسلام، فإن لم تكن هناك سنة، فلابد من حجة وهذه ضياء لا ينكره الا من حرم نعمة البصر والبصيرة، وبذلك فان الامام يقرر باسلوب النفي، أهمية أن يكون ما يدعو له صاحب الرأي أو الدعوة مسنداً بالسنة أو مدعماً بحجة

ص: 81


1- م.ن: 2 / 115

كي تقبل دعوته ولا يرد رأيه. وهو ما أكده الامام (عليه السلام) عبر تشبيه بليغ آخر بالاسلوب نفسه في قوله وهو يتحدث عن بديع خلقة الخفاش «وكيف عشيت أعينها عن ان تستمد من الشمس المضيئة نوراً تهتدي به في مذاهبها، وتصل بعلانية برهان الشمس الى معارفها»(1) فهذه الخفافيش التي صارت دليلًا على لطائف صنعة الباري، وعجائب حكمته، يقبضها الضياء، ويبسطها الظلام، وعشيت أعينها عن الشمس فما عادت تنتفع بنورها الذي يجعل ما تراه يقينا وبرهانا، فجاء التشبيه البليغ باسلوب التركيب الاضافي (برهان الشمس) توكيداً لهذا المعنى في جعل الشمس برهاناً لمعارفنا وتثبتاً ويقيناً لما تدركه حواسنا.

واذا كان النور والضياء والشمس، وكل ما يتصل بها، هي وسائلنا للاستهداء والوصول إلى اليقين الذي تحتاجه نفوسنا، فإن الظلام وما يرتبط به، ويمت إليه بسبب، تكون سببا في الضلالة والخروج عن طريق الحق. .. وبذا كانت تشبيهات الامام علي (عليه السلام) تستمد من هذا الحقل، معاني الجهل والضلالة والضياع، يقول: «الا وقد أمعنتم في البغي، وأفسدتم في الأرض، مصارحة لله بالمناصبة، ومبارزة للمؤمنين بالمحاربة، فالله الله في كبر الحمية، وفخر الجاهلية فإنه ملاقح الشناَن، ومنافح الشيطان، التي خدع بها الأمم الماضية، والقرون الخالية، حتى أعنقوا في حنادس جهالته، ومهاوي ضلالته»(2).

فالامام يحذر سامعيه من التخلق بأخلاق الجاهلية من حمية في الباطل، وتفاخر كاذب بالأنساب، فان ذلك من عمل الشيطان، خدع به الأمم السابقة، والأقوام

ص: 82


1- م.ن: 2 / 60 - 61
2- م.ن: 2 / 165 - 166

التي خلت، فتركهم في ظلمات الجهالة ومهاوي الضلالة، كي يسلس له قيادهم، ويسهل عليه اصطيادهم، ولأن هاتين الصفتين (حمية الجاهلية) و (التفاخر بالأنساب) راسختان في نفوس الاعراب، كان لابد للامام من توكيد معانيه في نفوس سامعيه كي يستل من نفوسهم شأفة هذا الداء الدوي، فكان التشبيهان البليغان باسلوب التركيب الاضافي (حنادس جهالته) و (مهاوي ضلالته) وسيلته المثلى في تجسيد معانيه، فقد صارت الجهالة حندساً، والضلالة مهاوي، وماذا سيكون عليه مصير الانسان إذا سار بغير نور ولا بصيرة، ثم هوى في أعماق سحيقة من التخلف والضياع، فهو لا يدري اين وقع، ولا كيف السبيل الى الخروج من هذه الهاوية، انها صورة مفزعة للضلالة والضياع اللذين يقود المرء نفسه إليهما، اذا ما أزلّه الشيطان عن أخلاق الاسلام، وآثر عليها قيم الجاهلية الجهلاء.

وقريب من هذا قوله (عليه السلام) في خطبة له يحث الناس فيها على التقوى، والتوبة والعمل الصالح، قبل ان ينقضي أجلهم، وتنقطع من هذه الدنيا حياتهم، ولا يملكون لحياتهم الأخرى ما يكون زاداً لهم وعدة... يقول: «فإن الموت هادم لذاتكم، ومكدّر شهواتكم، ومباعد طياتكم، زائرٌ غير محبوب، وقرنٌ غير مغلوب، وواتر غير مطلوب، قد أعلقتكم حبائله، وتكنفتكم غوائله، وأقصدتكم معابله، وعظمت فيكم سطوته، وتتابعت عليكم عدوته، وقلّت عنكم نبوته، فيوشك ان تغشاكم دواجي ظلله، واحتدام علله، وحنادس غمراته»(1)، فقد جعل ظلل الموت دواجي، وغمراته حنادس، بطريقة التشبيه البليغ بأسلوب التركيب الاضافي، إذ أضاف المشبه به (دواجي) و (حنادس) الى المشبه (ظلله) و (غمراته)، وفي كلا

ص: 83


1- م.ن: 2 / 250 - 251

التشبيهين استثمر الإمام معكوس الضياء ومقلوب النور، وهما (الدواجي) و (الحنادس) لتفزيع سامعيه من رهبة الموت وليستحضر في نفوسهم ظلام القبر، فالموت سلطان تغشى سطوته الجميع، لا يفلت أحد من دواجي ظلله، أو ينجو من حنادس غمراته، ولا سبيل للنجاة من هذا كله إلا بتقديم العمل الصالح، فهو وحده من ينير للانسان طريقه وسط ظلام الموت الدامس.

والاستار والحجب إذ تمنع النور، وتحجب الضياء، فإنها يقينا ستمنع الرؤية، وتعوق الادراك، فنحن موقوفون في معارفنا على ما تدركه حواسنا، فإذا ضرب بيننا وبين الاشياء، أستار أو حجب، نقص الادراك، وهو ما استثمره الامام علي (عليه السلام) خير استثمار وهو يذكر في كلام طويل، ابتداء خلق السماء والأرض، وخلق العرش العظيم، والملائكة الحافين به وهم انواع «منهم الثابتة في الأرض السفلى أقدامهم، والمارقة من السماء العليا أعناقهم، والخارجة من الاقطار أركانهم، والمناسبة لقوائم العرش أكتافهم، ناكسة دونه أبصارهم، متلفعون تحته بأجنحتهم، مضروبة بينهم وبين من دونهم حجب العزة، وأستار القدرة، لا يتوهمون ربهم بالتصوير ولا يجرون عليه صفات المصنوعين، ولا يحدونه بالأماكن، ولا يشيرون إليه بالنظائر»(1) فهي بلا شك، صورة مرعبة لهؤلاء الملائكة الذين أوكل الله سبحانه إليهم حفظ العرش، فهم جبارون في هيئاتهم، متميزون في خواصهم لا يرون مَنْ فوقهم، وهو الخالق العظيم فقد ضربت بينهم وبينه حجب عظيمة، وأستار عصية على الاختراق تلك هي (حجب العزة) و (أستار القدرة) فأي حجب هذه، وأية أستار تلك، إنها عزة الخالق جلَّ شأنه، وقدرة العظيم

ص: 84


1- م.ن: 1 / 13

سبحانه، وبذا فهم لا يقوون حتى على تصوره في أوهامهم، أو يجرون عليه صفات مخلوقاته، فلا مكان يحويه، ولا زمان يشتمله، فهو الواحد الأحد، العزيز الصمد، ليس له نظير ولا شبيه، ولا يقوى كائن من كان على توهمه أو تخيله.

ومثل هذا قوله (عليه السلام) يصف الخالق العظيم وهو يناجيه بالقول «لم ينته إليك نظر، ولم يدركك بصر، أدركت الابصار، وأحصيت الأعمار، وأخذت بالنواصي والأقدام، وما الذي نرى من خلقك، ونعجب له من قدرتك، ونصفه من عظيم سلطانك، وما تغيّب عنا منه، وقصرت أبصارنا عنه، وانتهت عقولنا دونه، وحالت ستور الغيوب بيننا وبينه، أعظم»(1) فقوله (ستور الغيب) تشبيه بليغ بأسلوب التركيب الأضافي حيث شبه الغيب بالستور، التي تحول بيننا وبين ادراك عظمة الخالق أو منتهى قدرته، فسلطانه عظيم، وتنتهي عقولنا دون ادراك حدود قدرته، فلا نملك بعد ذلك كله الا التسليم له والرضا بقدره.

ومن التشبيهات البليغة التي جاءت في حقل الظلام قوله عليه السلام: «قد أمهلوا في طلب المخرج، وهدوا سبيل المنهج، وعُمّروا مهلَ المستعتب وكُشف عنهم سَدَفُ الِّريب»(2) وقوله كذلك: «وغمضُت مداخلُ العقول في حيث لا تبلغه الصفات لتناول علم ذاته، ردعها وهي تجوب مهاوي سَدَف الغيوب»(3) فقوله (سدف الريب) في الأولى و (سدف الغيوب) في الثانية، تشبيه بليغ باسلوب التركيب الاضافي.

ص: 85


1- م.ن: 2 / 71
2- م.ن: 1 / 133
3- م.ن: 1 / 161

4- السلاح والسلطان وما يتصل بهما:

وما يجمع مواد هذا المورد هو القوة والشدة والهيبة، ولأن المفردة الأولى الدالة على القوة عند العرب هي السيف، لم تكن تشبيهات الامام علي (عليه السلام) البليغة باسلوب التركيب الاضافي، لتخلو من هذا الرمز البارز و ما يحمله من معاني الحسم والشدة والموت. .. إلى كثير من الدلالات التي يجيد الامام استثمارها في توكيد ما يريده في نفوس سامعيه، فها هو يحث اصحابه على القتال محذراً إياهم من الفرار من المواجهة طلبا للنجاة فيقول: «وأيمُ الله لئن فررتم من سيف العاجلة، لا تسلموا من سيف الآخرة، وأنتم لهاميم العرب، والسنام الاعظم.

ان في الفرار موجدة الله، والذل اللازم، والعار الباقي»(1)... فالتشبيهان البليغان باسلوب التركيب الاضافي هما قوله (سيف العاجلة) و (سيف الآخرة) حيث شبه الامام العاجلة والآخرة بالسيف، ولا تخفى دلالة السيف في الذهن وارتباطها هنا بالسطوة والقوة، وهو ما أراده الامام من تشبيه العاجلة والاخرة بالسيف، فكلاهما متسلط، لا يرحم ففي الاولى أراد ما يلحق الفار من القتال من عار وذل يلازمانه طوال حياته، وهو ما كشف عنه في آخر النص، وأما سيف الآخرة، فهو غضب الله وعذابه لمن تخاذل عن نصرة دينه والذب دون كلمة الحق، وهو ما أكده بقوله (موجدة الله) أي غضبه. .. ويلاحظ تكرار المشبه به (السيف) في الحالين المتقابلين وهما (العاجلة) و (الآخرة) وإنما أراد الامام من ذلك ان يقول لهم ان ما ستلاقونه معادل لما فررتم منه هذا بذاك، وما دامت الحال هكذا، فما مكسبكم من الفرار، وكيف سيكون حالكم وقد خسرتم دنياكم وآخرتكم.

ص: 86


1- م.ن: 2 / 5 - 6

وفي واحدة من حكم سيد الحكمة عند العرب، نجد استثمار الامام علي (عليه السلام) للسيف في دلالته على التسلط والقتل إذ يقول: «من نظر في عيب نفسه اشتغل عن عيب غيره، ومن رضي برزق الله لم يحزن على ما فاته، ومن سلَّ سيف البغي قُتل به»(1) فهذه الدرر الثلاث من حكم الامام، وإن بدت مختلفة في تعبيراتها، فإن مغزاها واحد، والحكمة المستخلصة منها واحدة، وهي ان يقبل الانسان بما قدره الله له، ولا ينظر الى ما قسم به الله لغيره، سواء أكان ابتلاء أم رزقاً، فمن شغلته عيوب نفسه وحاول جهده اصلاحها، وخلاصها مما ابتلاه الله به من نواقصها، لم يلتفت إلى عيوب الآخرين، لا لأنشغاله بها فحسب، بل لادراكه ان هذه هي سنة الله في خلقه، فالكمال لله وحده، فكما ان في الآخرين عيبا، فلنفسه كذلك عيوبها، وكذلك من قنع بما اعطاه الله، عاش سعيداً، لا يحزن لما فاته لأنه يدرك جيداً انه لم يكن مقسوما له انما لغيره، ثم تأتي الحكمة الثالثة تتويجاً لما تقدمها، فليس المراد بالبغي هنا - كما نرى - الاعتداء الجسدي أو التسلط القهري، وانما كل ظلم يقع على الآخرين منك، سواء بقول أو عمل أو موقف، وبذا تدخل الحكمتان السابقتان في لب هذه الحكمة، فالنظر في عيوب الاخرين والتشاغل بها عن عيوب النفس هو بغي، لأنك تنتقص الآخرين وتنسى نفسك، وكذا من مدّ نظره إلى ما في ايدي الآخرين ونسي نفسه، أو نسي ما وهبه الله وأسبغ عليه من نعم، وراح يتحسر فقط على ما فاته، فانه باغ وجاحد لأنعم الله سبحانه، وفي كل ذلك يرتد البغي على صاحبه سواء أكان غيبة أو حسداً أو جحوداً أو تسلطا، فكلها مردودة على صاحبها فيهلك بها، وبذا تتوضح لنا أهمية (السيف) ومناسبته للمعنى في اتخاذه مشبهاً به بقول الامام (سيف البغي) إذ جعل البغي سيفا، والسيف كما هو معلوم

ص: 87


1- م.ن: 3 / 235

بحدين، واحد باتجاهك والآخر باتجاه من تسله عليه، وهكذا هو البغي، فكما يؤذي قبيلك، فانه يعود بالأذى عليك، فأي حكمة عميقة هذه، واي دلالات تتناسل عبر تشبيه، قد يبدو بسيطا ومباشراً، ولكنه عميق لدى العقول التي تحسن القرآءة والتوجيه.

ومما يقع في دائرة السلاح ومجاله، (السهم) وهو من اسلحة القتال القديمة والشائعة، ودلالاته مرتبطة في الذهن بالقتل، وقد وردت هذه اللفظة في خطب الامام وعموم كلامه، ومن ذلك قوله في خطبته (القاصعة): «فاحذروا عباد الله عدو الله ان يُعديكم بدائه، وأن يستفزكم بندائه، وان يُجلب عليكم بخيله ورجله، فلعمري لقد فوق لكم سهم الوعيد، واغرق لكم بالنزع الشديد»(1) فبالتناص الواضح مع القرآن الكريم يحذر الامام سامعيه من ابليس اللعين، الذي لم يكتف بعصيان أمر خالقه بالسجود لأدم، بل راح يتوعد بني الانسان بحرفهم عن الايمان واشغالهم بالدنيا ولذاتها عن طاعة الله، وبذلك يشاركونه في معصية الخالق، وهو ما أوضحه الامام بقوله (فاحذروا. .. ان يعديكم بدائه) وهو ما توعدهم به أمام الله، وهكذا جاء التشبيه البليغ باسلوب التركيب الاضافي (سهم الوعيد) تذكيرا لبني آدم بما كان قد توعدهم ابليس به، فوعيده سهم قاتل يصوبه الى قلوب من تبعه منهم، بعد أن يغويهم بالدنيا واطماعها، وهذه الاطماع والملذات تنفذ الى قلوب أهل الدنيا واتباعها، وبذا تتوضح لنا دلالة أخرى من دلالات استعمال السهم مشبها به، فهو ليس رمزاً للقتل فحسب، بل هو كذلك دليل على سرعة النفاذ والاختراق والوصول الى القلب، وهكذا هي وسائل ابليس اللعين في اغواء

ص: 88


1- م.ن: 2 / 163

الناس وحرفهم عن الايمان والزهد بالدنيا ومتاعها، لا لشيء الا ليثبت لخالقه، ان الانسان ليس أكرم منه حتى يسجد له، وبذا يتوضح لنا معنى آخر من معاني عصيان بني آدم لأوامر الله ونواهيه، وهو أنهم ينصرون بذلك ابليس ويقوون حجته في جداله مع خالقه، ويسوغون له عصيانه أوامر الله له بالسجود لأدم، فما أغرب سلوك بني أدم هذا، الله يفضلهم على كل ما خلق، ويأمر بسجودهم جميعا لادم، وهم ينحازون لمن تكبّر عليهم، وينصرونه في دعواه ضدهم؟!!.

وفي واحدة من عظاته الجليلة، وفي موضوعه الأثير الذي لا يمل الحديث فيه، والتذكير به، وهو قصر هذه الحياة الدنيا وحتمية انتهائها، فلا خلود للانسان فيها، انما خلوده في الحياة الآخرة، والموت نهاية محتومة لكل الناس، يؤكد الامام أن ليس في مقدور أحد من بني البشر، مهما علت منزلته سواء في الدنيا، أو عند خالقه، ان ينجو من سهمه ولو كان بمقدور أحد من البشر ان يجد لدافع الموت عنه سبيلا «لكان ذلك سليمان بن داود عليه السلام، الذي سخر له ملك الجن والإنس مع النبوة وعظيم الزلفة، فلما استوفى طُعمته واستكمل مدته، رمته قسي الفناء بنبال الموت»(1) فجاء التشبيهان البليغان (قسي الفناء) و (نبال الموت) معبرين أوفى تعبير عن شدة الموت وتسلطه على كل انسان، مهما آتاه الله من خير، وما خصه به من عظيم المنزلة وكبير العطاء، فالموت فارس متمرس وسلطان ذو سطوة، أدواته الفناء الذي جعله قوساً يبريه حتى يرمي به الاحياء بالموت الذي صار نبله الذي يطلقه على الجميع، بلا تمايز أو تفريق فالكل سواسية أمامه، وهو انما ينفذ فيهم أمر خالقهم. ..

ص: 89


1- م.ن: 2 / 128

وبذا كانت الصورة التشبيهية التي خلقها التشبيه البليغ بأسلوب التركيب الإضافي ترجماناً لهذه السطوة وهذا التمكن، وتجسيدا ماديا لمعنى الموت والفناء.

وما زلنا في أجواء القتال والمعارك، وكيفية استثمار الامام علي (عليه السلام) لمواد هذا المورد في بناء صوره الفنية، لكونها عناصر جوهرية في حياة العرب سواء قبل الاسلام أو بعده، وهو الذي ألف المعارك، ودخل ساحاتها يافعا، مقارعاً خصومه من اعداء الاسلام وأهله متصديا حين ينكص الجميع فلا تملك القلوب والابصار الا ان تتعلق بهذا الفتى الذي يبرز لمتحديه متيقنا من نصر الله له، فهو الايمان كله، يتصدى ويبرز للشرك كله، فما هي الا لحظات حتى يهوي الباطل على يديه مضرجا بدمائه، لتتعالى صيحات التكبير، وتهلل النفوس، لهذا الفتى الذي آثره الله دون سواه، كي يكون الفيصل بين الحق والباطل، ودليله في نصرة عباده المؤمنين. .. وبذا كانت أجواء القتال حاضرة في ذهنه، حية في وجدانه، يستمد منها ما يعينه في ساحات اخرى لقتاله، سلاحه فيها ليس السيف والرمح، انما الألفاظ والمعاني، ساحة يقارع فيها بلسانه كما كان يجندل الابطال بسيفه، فلا بأس في ان يستعير من تلك الساحات الى هذه وان تكون مواد صورته الفنية، هي مواد صورته القتالية، ولا غرابة فهو فارس السيف كما هو فارس الكلم، فها هو يعلم الناس فضل الصلاة على النبي (صلى الله عليه واله وسلم)، مذكراً إياهم بمنة الله عليهم به، فيقول: «اللهم داحي المدحوات، وداعم المسموكات.. اجعل شرائف صلواتك ونوامي بركاتك على محمد عبدك ورسولك: الخاتم لما سبق، والفاتح لما انغلق، والمعلن الحق بالحق، والدافع جَيْشَات الاباطيل، والدامغ صولات

ص: 90

الأضاليل»(1) فاستثمر الامام بعض مواد هذا المورد في قوله (جيشات الأباطيل) و (صولات الأضاليل) وهما تشبيهان بليغان باسلوب التركيب الاضافي حيث صارت الاباطيل جيشات، وهو غليان القدر، والاضاليل صولات، وكان لهما ان تنتصرا فتحرفا الناس عن الايمان، ولكن مشيئة الله سبحانه في هداية الناس، ولطفه بهم، هيأ للناس من أنفسهم نبيا اصطفاه لهم، يسل سيف الايمان فيدفع به هذه الاباطيل التي تجيش، والاضاليل التي تصول، فينقذهم مما كان لهم ان يقعوا فيه.

ومن المورد نفسه، وفي موضوعه الدائم التذكير به، وهو الموت وحتميته، نقرأ للامام قوله: «أولئكم سلف غايتكم، وفرّاط مناهلكم، الذين كانت لهم مقاوم العز، وحلبات الفخر، ملوكاً وسُوَقاً، سلكوا في بطون البرزخ سبيلا، سلطت الأرض عليهم فيه، فأكلت من لحومهم، وشربت من دمائهم، فاصبحوا في فجوات قبورهم جماداً لا ينمون، وضماراً لا يوجدون»(2) فقوله (مقاوم العز) و (حلبات الفخر) تشبيهان بليغان باسلوب التركيب الإضافي، حيث شبه العز بالمقاوم والفخر بالحلبات، ثم تأكيدا للمعنى ومبالغة فيه، اضيف المشبه به الى المشبه، فصار العز مقاوم والفخر حلبات، فاستحالت المعنويات المجردة الى ماديات محسوسة، وتجسد اللامرئي موجودات يعرفها العربي، ويتيقنها بحواسه كل يوم، لترسخ بذلك المعاني في نفسه وتتأكد في وجدانه.

ومما يرتبط بالسلطان والجاه مما استثمره الامام علي (عليه السلام) في بناء صوره

ص: 91


1- م.ن: 1 / 116 - 117
2- م.ن: 2 / 232

التشبيهية قوله واعظاً: «ايها الناس، شقوا أمواج الفتن بسفن النجاة، وعرّجوا عن طريق المنافرة، وضعوا تيجان المفاخرة»(1)... فصارت المفاخرة تاجا يضعها على رأسه من دعا بالفتنة او سعى إليها وهو تصوير دقيق لحال المفاخر، وهو يطلق لسانه بمفاخرة كاذبة قوامها بهرج هذه الدنيا وزائفها، وبذا جاء التشبيه البليغ (تيجان المفاخرة) كي يرسخ في نفوس السامعين ان هذه المفاخرة زائفة زائلة، شأن التاج الذي لا يثبت على رأس واحد، انما تتناقله الرؤوس، وسرعان ما يعرى منه من تفاخر بارتدائه، وهكذا هي المفاخر بالدنيا وبهرجها من جاه أو مال أو حسب، فكلها الى زوال، شأن السلطان، وبذا تتوضح «المقاربة والمناسبة» في تشبيهات الامام، وهما مقياس نقدي مهم في جودة التشبيهات عند العرب(2)، ويعنون بهما مقاربة المشبه به للمشبه ومناسبته له من حيث المعنى المشترك بينهما، الذي عقدت عليه المشابهة، فكان التاج خير مشبه به يوضح وجهي المفاخرة: الايجابي - عند المفاخِر - والسلبي في الواقع وحقيقة الأمر.

ومثل هذا، وإن كان في غرض آخر غير هذا الغرض، قول الامام واصفا أخاً له في الله «كان لي فيما مضى أخ في الله وكان يعظمه في عيني صغرُ الدنيا في عينه، وكان خارجاً من سلطان بطنه، فلا يشتهي مالا يجد، ولا يُكثر إذا وجد»(3). فقد جسد الامام سطوة البطن وسلطانها على النفوس، حين جعلها سلطانا عبر تشبيه بليغ جاء باسلوب التركيب الاضافي (سلطان بطنه) معبراً عن قوة شهوة الطعام وتحكمها في كثير من البشر، الا من رحم ربي فخرج عن هذا السلطان، وهكذا

ص: 92


1- م.ن: 1 / 35
2- ينظر كتابنا: النقد البلاغي عند العرب / 364
3- نهج البلاغة: 3 / 223

تأتي الألفاظ دالة على هذه السطوة وهذا التحكم، فلم يكتف الامام بأن جعل البطن سلطانا، وانما امتدح أخاه هذا لخروجه من هذا السلطان بكل ما تعنيه كلمة (خروج) من تمرد وثورة، فهو خلاف المألوف ومناقضة للشائع، فقد صار الناس عبيدأً لشهواتهم وأولها بطونهم، التي حبب الامام (عليه السلام) الخروج منها، ورسم لنا بعبارة موجزة ولكنها غنية سبيل هذا الخروج عن هذا السلطان الجائر، وذلك بأن لا نشتهي مالا نجد، ولا نكثر مما نجد، فلخص بكلمتين عظيمتين سبيل تحررنا من هذا السلطان المستعبد الذي يقودنا إلى المهالك.

5- الحيوان والنبات ومظاهر الطبيعة الأخرى:

ما تزال الطبيعة بكل عناصرها رافداً مهماً من روافد الصورة عند أي بليغ، شاعراً كان أم ناثراً، فمظاهر الطبيعة المختلفة هي موجودات حياتنا، وتشكل مورداً مهماً من موارد ثقافتنا، بل انها تصوغ شخصيتنا وتتدخل في نمو خيالنا ورؤانا، فلا غرابة ان يستمد المبدع عناصر صورته الابداعية من هذا الرافد الذي لا ينضب.

هذه الطبيعة بعناصرها ومظاهرها كانت حاضرة في ذهن الامام علي (عليه السلام) وهو يشكل صوره التشبيهية ولا سيما البليغة منها بأسلوب التركيب الاضافي، فيتخذ منها مشبها به يكون برهانه لتقرير معانيه في نفوس السامعين، ومن ذلك قوله في وصف النبي محمد (صلى الله عليه واله وسلم): «اختاره من شجرة الأنبياء، ومشكاة الضياء، وذؤابة العلياء، وسُرّة البطحاء ومصابيح الظُلمة، وينابيع الحكمة»(1) فقوله (شجرة الانبياء) تشبيه بليغ بأسلوب التركيب الأضافي،

ص: 93


1- م.ن: 1 / 206

حيث شبّه الانبياء بالشجرة الوارفة، التي تطرح أطيب ثمارها وأزكاها، وهم انبياء الله ورسله الى خلقه، ثم تأتي ارادة الله في اصطفاء المصطفى (عليه السلام) من بين هذه الثمار الطيبة، ولك ان تتصور نفسك وانت تقف تحت شجرة طيبة تنبت فاكهة مباركة، تشتهي ثمارها النفوس، وتنجذب لمرآها العيون، ثم تبدأ بالاختيار، فاليقين انك ستمد كفك نحو أزكاها وأحلاها، وما أعجبك منظرها ومرآها، ووقعت في نفسك وقلبك موقعا، لم تبلغه غيرها من الثمار، على طيبها وجمالها، وهكذا كان اختيار النبي المختار محمد المصطفى (عليه وعلى آله افضل الصلاة والتسليم) ثم كانت نعمة الخالق الكبرى علينا، حين آثرنا بهذا الاختيار، وخصنا بهذا الاصطفاء، فأي أمة هذه التي آثرها الخالق سبحانه بما آثره هو واختاره، انها نعمة أنعمها الله على هذه الأمة، وخصها بها دون باقي الأمم. وبذا تتوضح لنا أهمية اختيار هذا المشبه به (الشجرة) لعقد الصلة بينه وبين المشبه (الانبياء) واغناء التشبيه بكل هذه المعاني وايجازها بلفظين اثنين فقط، قادرين على استثارة كل هذه المعاني والدلالات العظيمة.

وفي خطبة أخرى للامام علي (عليه السلام)، وفي وصف نبي الرحمة محمد (صلى الله عليه وسلم) نجده يتخذ من مظاهر الطبيعة ما يساعده في توضيح معانيه وتقريرها في نفوس متلقيه، فيقول: «وأشهد ان لا إله الا الله شهادة ايمان وإيقان، وإخلاص وإذعان. وأشهد ان محمداً عبده ورسوله أرسله واعلام الهدى دارسة، ومناهج الدين طامسة، فصدع بالحق، ونصح للخلق»(1) فالتشبيه البليغ في قوله (اعلام الهدى) جاء بطريقة التركيب الاضافي، بعد ان شبّه الهدى بالاعلام

ص: 94


1- م.ن: 2 / 193

(الجبال) ثم أضاف المشبه به الى المشبه، تأكيداً لما يريده من معنى هو ان الهداية، كالجبال واضحة، راسخة، ولكن الجاهلية الجهلاء، والعصبية الحمقاء، درست (محت) هذه الاعلام، وطمست منهج التوحيد الذي جاء به النبي ابراهيم (عليه السلام) ونصبه مناراً لمن يريد ان يهتدي، فكان لابد من نبي مبعوث يحيي في نفوس البشر جميعاً وأولهم العرب سنة ابراهيم (عليه السلام) في عبادة الواحد الأحد ونبذ عبادة الاصنام والأوثان، فالشرائع موجودة، واعلام الهدى شامخة، ولكن شيوع الجاهلية طمس هذا كله، وهو ما أكده قوله (ومناهج الدين طامسة) فسنة النبي ابراهيم (عليه السلام) في التوحيد ونبذ عبادة الاصنام موجودة ولكنها مطموسة، وهي بارزة بروز الجبال، ولكن افعال الجاهليين درستها.

وكما كانت الأشجار والجبال من مظاهر الطبيعة التي أعلنت عن حضورها في صور الامام علي (عليه السلام) التشبيهية، كان لابد للحيوان، من أن يكون له نصيب منها، فيكون الحيوان ودلالاته حاضرة لتجسيد المعاني ونقلها من عالم التصور إلى عالم الحس، ومن المتخيل إلى الملموس، فتطمئن النفوس لصدق هذه المعاني، وتزداد العقول وعيا بما يريده الامام من كلامه، كما في قوله (عليه السلام) في وصية رائعة له كتبها الى ولده الامام الحسن (عليه السلام) بعد انصرافه من صفين:

«وأعلم يقينا أنك لن تبلغ أملك، ولن تعدو أجلك، وانك في سبيل من كان قبلك، فخفض في الطلب، وأجمل في المكتسب، فانه ربَّ طلب قد جرَّ الى حرب فليس كل طالب بمرزوق... وأياك ان توجف بك مطايا الطمع، فتوردك مناهل الهلكة»(1) فقوله (مطايا الطمع) تشبيه بليغ بأسلوب التركيب الاضافي استثمر فيه الامام ما

ص: 95


1- م.ن: 3 / 56 - 47

استقر في النفوس والأذهان من دلالة الحيوان الذي يمتطى كي يوصل الناس الى غاياتهم، فيسهل عليهم مسيرهم ويهوّن عليهم مصاعب الطريق، ولكن حين يكون هذا الحيوان الذي يمتطى هو الطمع، فإن ما كان يسراً سيكون عسرا، وما كانت النفوس تفرح بالوصول إليه، سيكون مورد هلاكها، وليس أدل على ذلك من قوله (مناهل الهلكة) وهو تشبيه بليغ آخر بأسلوب التركيب الاضافي حيث شبّه الهلكة بالمناهل وهي موارد المياه، ولا تخفى دلالة التشبيه هنا على الخيبة والخسران فإذ يأتي الانسان هذه المناهل بعد كل ما عاناه من أهوال الطريق ومصاعبه أملاً في الارتواء، فاذا به يجد حتفه عندها، وبذا يتعاضد التشبيهان البليغان ويتآصران في اتمام الصورة التي أراد الامام من ورائها تنفير النفوس من الطمع، فان مصير الطامع الهلكة.

وعاد الامام (عليه السلام) ليؤكد هذا المعنى للمطايا في تشبيه آخر، من كلام له، يحث فيه الناس على التزود من هذه الدنيا الفانية، بما ينفعهم في حياتهم الباقية، فيقول: «فتحرّ من أمرك ما يقوم به عُذرك، وتثبت به حجتك، وخذ ما يبقى لك مما لا تبقى له، وتيسَّ لسفرك، وشم برق النجاة، وارحل مطايا التشمير»(1) فقوله (مطايا التشمير) تشبيه بليغ بأسلوب التركيب الأضافي، أراد به الامام أن يحثّ سامعيه على استغلال الحياة الدنيا واستثمارها في التهيؤ ليوم الحساب، ورسم لنا الطريقة المثلى في استبدال الباقي بالفاني، ونبذ مالا نبقى له، كي يبقى لنا، وذلك بانفاق مالنا في هذه الدنيا الفانية في وجوه البرّ والاحسان ليصبح بذلك رصيدنا الزائل رصيدا دائما ينفعنا يوم الحساب، فالسفر قريب، والفراق محتوم، وليس

ص: 96


1- م.ن: 2 / 243

لنا الا ان نتهيأ لسفرنا، ونعد همتنا للرحيل بأن نضع عليها رحلنا شأن المطايا قبل شروعها بالمسير.

ومن مظاهر الطبيعة الاخرى التي وردت في تشبيهات الامام علي (عليه السلام) (النار) و (الريح) فقد وردتا مشبهين بهما في قوله محذرا من الكبر والتكبر:

«ولا تكونوا كالمتكبر على ابن أُمه من غير ما فضل جعله الله فيه سوى ما ألحقت العظمة بنفسه من عداوة الحسد، وقدحت الحمية في قلبه من نار الغضب، ونفخ الشيطان في أنفه من ريح الكبر»(1) فالتشبيهان البليغان بأسلوب التركيب الاضافي (نار الغضب) و (ريح الكبر) جاء المشبهان بهما (نار) و (ريح) عنصرين من عناصر الطبيعة، وقد وافقا ما أراد الامام في تشبيه الغضب بالنار، والكبر بالريح، فكما ان النار لا تبقي شيئاً مما تأتي عليه، فكذلك الغضب مدمر لكل ما يطاله، فالمعنى الجامع بين المشبه (الغضب) والمشبه به (النار) هو الاستعار والتدمير، أما تشبيه الكبر بالريح فهو في غاية الموافقة بين المشبه (الكبر) والمشبه به (الريح) لأن الكبر فراغ، كما ان الريح فراغ، والكبر مخرب كما ان الريح مخرب، واي ريح هذه التي وراءها الشيطان ينفثها من حقده وحسده لبني آدم كي تتلبس نفسه وتتمظهر في هيئته بهذا الانف المتكبر المتعالي، الذي يدفع صاحبه الى رفع رأسه كبراً وخيلاء، حتى لا يعود يرى ما تحت قدميه، فيسهل تعثره وسقوطه.

ومما يمكن ان يدخل ضمن مواد هذا المورد قوله (عليه السلام) حاثا على التقوى: «أوصيكم، عباد الله، بتقوى الله، فأنها الزمام والقوام، فتمسكوا بوثائقها، واعتصموا بحقائقها، تؤول بكم الى أكنان الدّعة وأوطان السعة، ومعاقل الحرز،

ص: 97


1- م.ن: 2 / 165

ومنازل العز، في يوم تشخص فيه الابصار»(1) فقد توالت التشبيهات البليغة باسلوب التركيب الاضافي في قوله (أكنان الدعة) و (اوطان السعة) و (معاقل الحرز) و (منازل العز) حيث المشبهات بها مستمدة من الطبيعة: (اكنان) و (اوطان) و (معاقل) و (منازل) يجمعها كلها ان فيها دلالة على الاستقرار والاقامة وكذلك هي التقوى تبعث في النفس طمأنينة وهدوءاً، في يوم أحوج ما يكون فيه الانسان الى ذلك، الا وهو يوم القيامة حيث تشخص فيه الابصار وتظلم فيه الانحاء، وتخرس فيه الألسن، فلا شفيع ولا خليل، ولا ناصر ولا معين، غير تقوى الله فهي زادك لمعادك.

ونختم مواد هذا المورد بكلام الامام (عليه السلام) في تبيان صواب نهجه وصدق ايمانه، وما عليه قبيله (معاوية) من ضلالة وخسران، يقول: «فانفذوا عليَّ بصائركم، ولتصدق نياتكم في جهاد عدوكم، فو الذي لا اله إلا هو إني لعلى جادة الحق، وانهم لعلى مزلة الباطل»(2) فقوله (جادة الحق) و (مزلة الباطل) تشبيهان بليغان باسلوب التركيب الاضافي حيث شبه الحق بالجادة، فيما شبه الباطل بالمزلة، وهما كذلك حقيقة، فطريق الحق واصل مأمون، ومزلة الباطل منقطعة مهلكة، ولا تخفى دلالة المزلة على الخداع والتمويه، وكذلك هو الباطل قد يكون مغريا لمن يتبعه، حاثا اياه للسير فيه، ولكن ما ان يشرعوا بذلك حتى تزل بهم أقدامهم نحو الهاوية، وهو مصير معاوية ومن تابعه في مزلته.

ص: 98


1- م.ن: 2 / 194 - 195
2- م.ن: 2 / 197 - 198

6- الحبل وما يتصل به:

من موارد الصورة التشبيهية التي تكررت في كلام الامام علي (عليه السلام) الحبل، بدلالته على الاجتماع والاتحاد وعدم التفرق، ويقينا انه يستمد هذه الدلالة من الآية القرآنية الكريمة «وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَ تَفَرَّقُوا» (ال عمران: 103)، فهو ربيب القرآن ومن تربى عليه من أول الوحي حتى اكتمال الدين واتمام النعمة على بني ادم بهذا الدين القويم، وما ترسخ في الذهن العربي من دلالات الحبل وايحاءاته بمعان أجاد الامام توظيفها في الجوانب السلبية أو الايجابية مما كان يدعو إليه. ومن ذلك قوله (عليه السلام) من كلام له بعد انصرافه من صفين وتصويره ما آل إليه حال المسلمين، بعد هذه الفتنة الملعونة: «والناس في فتن انجذم فيها حبل الدين، وتزعزعت سواري اليقين، واختلف النجر، وتشتت الأمر، وضاق المخرج وعمي المصدر، فالهدى خامل، والعمى شامل، عُصي الرحمن، ونصر الشيطان»(1) فلا شك في ان الصورة التي رسمها الامام للمجتمع الاسلامي بعد واقعة صفين صورة قاتمة، مؤلمة، مفزعة، ولكنها هي الحقيقة، فقد القت الفتنة بظلالها، وترك الناس الدين، وتابعوا أهواءهم، انفرط عقد الايمان وغلبت الجاهلية الجهلاء، عميت الابصار عن الحق وهو واضح، وغمت العقول عن الصواب، وهو راجح، دب الخلاف، وعمت الفرقة، فتزعزع الايمان، وانحل عقد الدين، ودب الشك في النفوس، وهو ما جسده التشبيهان البليغان باسلوب التركيب الاضافي (حبل الدين) و (سواري اليقين) فالدين حبل يجب الاعتصام به، واليقين دعامة هذا الدين وعموده، ولكن ضعف الايمان وفساد النفوس، وايثارها

ص: 99


1- م. ن: 1 / 23

عاجل الدنيا على عظيم ثواب الآخرة، جذم هذا الحبل المتين الذي جمعهم بعد فرقة وجعلهم قوة بعد ذلك الضعف، وزعزع يقين الناس الذي كان عمود توحيدهم ووحدتهم، وهكذا يتعاضد التشبيهان لأتمام المعنى وتوكيده، فإذ كان الدين حبلاً يشد المسلمين الى بعضهم، كان اليقين عمودهم الذي لا يتزعزع، فتسير سفينة المسلمين بأمان وثقة، ولكن الشيطان وانصاره ضلوا عن هذا السبيل وأضلوا الناس، فكان ما كان من تفرق كلمة المسلمين وتشتتهم فرقا واحزاباً، وكأنهم حنّوا الى جاهليتهم الأولى، وعموا عن طريق الهدى.

وقريب من هذا، بل يكاد يكون نفسه، قوله (عليه السلام) من خطبته (القاصعة) وهو يصف نفسه: «وإني لمن قوم لا تأخذهم في الله لومة لائم: سيماهم سيما الصديقين، وكلامهم كلام الأبرار، عُمَّار الليل ومنار النهار، متمسكون بحبل القرآن، يحيون سنن الله وسنن رسوله، لا يستكبرون ولا يعلون، ولا يغلون ولا يفسدون، قلوبهم في الجنان، واجسادهم في العمل»(1) لعل اول ما يلاحظ على هذا القول، الأدب العالي والمتفرد في الخطاب، فالإمام يتحدث عن واقعة محددة به، ومقصورة عليه، وهي كونه أول من صدق النبي محمد (صلى الله عليه واله وسلم) حين كذّبه الآخرون وقالوا عنه انه ساحر كذاب، وهو اول من آزره وآمن به يوم انفض الجميع من حوله، ولكن انظر كيف عمم في الخطاب ولم يخص، وكيف اشرك الآخرين في فضل هو أولى به، فقال: «واني لمن معشر» ثم بدأ بسرد صفات هي له، وسمات هو صاحبها، فكل ما قرره في كلامه من أمور كان هو المبادر بها، ثم تابعه فيها من تابعه، ولكن خلقه القويم وأدبه الرفيع، منعاه من ان يخص نفسه

ص: 100


1- م.ن: 2 / 148

بهذه الصفات التي اكتسبت منه فصارت سنة المؤمنين الصادقين، فكان التشبيه البليغ في قوله (حبل القرآن) قريباً جداً من قوله السابق (حبل الدين) فاذ جعل الدين حبلاً هناك، جعل القرآن حبلاً كذلك هنا، وحقيقة الأمر انهما شيء واحد، فالدين هو القرآن، والقرآن هو الدين.

ومن المواضع الأخرى التي استثمر فيها الامام (عليه السلام) دلالة الحبل على الاجتماع والوحدة قوله، مخاطبا أهل زمانه: «الا وانكم قد نفضتم أيديكم من حبل الطاعة، وثلمتم حصن الله المضروب عليكم باحكام الجاهلية، وإن الله - سبحانه - قد أمتنّ على جماعة هذه الأمة فيما عقد بينهم من حبل هذ الألفة، التي ينتقلون في ظلها، ويأوون إلى كنفها، بنعمة لا يعرف أحد من المخلوقين لها قيمة، لانها أرجح من كل ثمن، وأجلّ من كل خطر»(1). فقد تكرر التشبيه بالحبل في موضعين وهما قوله (حبل الطاعة) و (حبل هذه الألفة) وفي كليهما دلالته على الاجتماع والوحدة واضحة، هما الجامع بين الطاعة والحبل في التشبيه الاول والألفة والحبل في التشبيه الثاني.

وكما ان دلالة الحبل على الاجتماع والاتحاد يمكن ان تكون نافعة حين يكون هذا الاجتماع في الخير والفلاح، كذلك يمكن ان يكون هذا الاجتماع على الضلالة والانحراف عن طريق الصواب، كما جاء في كلام الامام وهو ينفي عن نفسه أموراً يرى انها لا تليق بمن يتصدى لإمارة المؤمنين وقيادتهم فيقول: «أأقنع من نفسي بان يقال امير المؤمنين ولا أشاركهم في مكاره الدهر؟ أو أن اكون أسوة لهم في حشوبة العيش. فما خُلقت ليشغلني أكل الطيبات كالبهيمة المربوطة همها علفها... أو اترك

ص: 101


1- م.ن: 2 / 179 - 180

سدى وأهمل عابثا، أو أجر حبل الضلالة، او أعتسف طريق المتاهة»(1) ان الامام في كلامه السابق انما يلخص ما يجب ان يكون عليه من أمرّه المؤمنون عليهم، وكيف هو سلوكه في حياته معهم، وهم يتخذونه قدوة لهم، وإماماً يقتدون به، ولكن أنظر لهذا الامام الرائع وهو يقلب المعادلة، فيصبح أمير المؤمنين هو المقتدي بهم، يشاركهم مكاره الدهر ويقاسمهم خشونة العيش، يأكل مما يأكلون، ويلبس مما يلبسون، فهو يربأ بنفسه أن يكون مدعاة للريبة والشك في الحياة الدنيا، أو أن يقف موقف المقصر أمام خالقه يوم الحساب، بأن تغويه السلطة أو تغريه مفاتنها كي يسير في طريق الضلالة او يضل في طريق المتاهة، وبذا جاء التشبيه في قوله (حبل الضلالة) معبراً عن معنى الانقياد والخضوع، فهذه الدنيا وملاذها، حبل يشدنا إلى الضلالة فحذار ان ننقاد لها شأن البهيمة التي تربط بالحبل، لا تكترث له ما دامت عليقتها عندها... وبذا تكون دلالة الحبل هنا على الخضوع للشهوات والانقياد للملذات، بما لا يناسب الانسان الذي نذر نفسه لله ولدينه.

وقد تحضر دلالة الحبل في صور الامام التشبيهية ولكن بلفظ مرادف هو (ربق) ومعناها «حبل فيه عدة عرى تشد به البهم»(2)، كما في قوله واصفا الملائكة وحالهم في طاعة الله: «فحنوا بطول الطاعة اعتدال ظهورهم، لم يُنْفِذ طولُ الرغبة إليه مادة تضرعهم، ولا أطلق عنهم عظيمُ الزلفة ربقَ خشوعهم»(3)، فقوله (ربق خشوعهم) تصوير رائع لتذلل هؤلاء الملائكة لخالقهم، ورضاهم بالعبودية له، وحده، وخشوعهم لعظيم سلطانه، فهم على الرغم من قربهم من العرش

ص: 102


1- م.ن: 3 / 8
2- مختار الصحاح / 231
3- نهج البلاغة: 1 / 170

واحاطتهم به، لم تحدثهم أنفسهم بالخروج عن طاعته - على ما فعله ابليس اللعين - فهم حافون بالعرش، قائمون بأمره يشدهم خشوعهم بأقوى الصلات وأمتنها إلى خالقهم، وهكذا تكون لفظة (ربق) هنا أكثر توفيقا من لفظة (حبل) لان الأولى تزيد على الثانية بهذه العرى التي تقوي الرباط وتمتنه، كما ان فيها معنى التوحد في هذا الخشوع فالحبل الذي يربط هؤلاء الملائكة واحد ولكن هي عروة لكل واحد منهم يشد بها وحده كي ينتظم الجميع بعد ذلك ويتساووا في خدمة رب العرش العظيم، فرحين بهذا الواجب، متنعمين بهذه الزلفى، ولا يدور في ذهن أحدهم التحرر من هذا الخشوع وهذه العبودية.

ومن التشبيهات البليغة باسلوب التركيب الاضافي التي وردت في كلام الامام علي (عليه السلام) في نهج البلاغة:

1- «يحرزون الارباح في متجر عبادته» 21/1.

2- «الحمد لله الذي بطن خفيات الأمور، ودلت عليه اعلام الظهور» 94/1.

3- «أیهما يسقي صاحبه كأس المنون» 100/1.

4- «فصمداً صمداً حتى ينجلي لكم عمود الحق» 111/1.

5- «أم هذا الذي أنشأه في ظلمات الارحام وشغف الاستار» 140/1.

6- «ماتحا في غرب هواه» 141/1.

7- «وقد رجوتك دليلا على ذخائر الرحمة و كنوز المغفرة» 181/1.

8- «فاتقوا سكرات النعمة، واحذروا بوائق النقمة، وتثبتوا في قتام العشوة» 50/2.

9- «و لباس شعار الخوف، و دثار السيف، وانما هم مطايا الخطيئات و زوامل

ص: 103

الآثام». 69/2 - 70.

10- «واعتقكم من ربق الذل، و حلق الضيم» 70/2.

11- «وأقام اعلام الهدى، و منار الضياء وجعل أمراس الاسلام متينة، وعُرى الايمان وثيقة» 139/2.

12- «ولا تقتحموا ما استقبلتم من فور نار الفتنة» 150/2.

13- «في حومة ذل، و حلقة ضيق، و عرصة موت، و جولة بلاء» 165/2 .

14- «فقطعوا علائق الدنيا، واستظهروا بزاد التقوى» 210/2.

15- «فأنهم جماع من شعب الجور والخيانة» 150/3.

16- «مَن أحد سنان الغضب لله قوي على قتل اشداء الباطل» 194/3.

ص: 104

الفصل الثالث التشبيه البليغ بأسلوب المبتدأ والخبر

اشارة

وما أصله مبتدأ وخبر لا شك في أن جمال الصورة الفنية متأتٍ من تفردها، أي خصوصية الأديب في التقاط عناصرها من موجودات بيئته وأشياء حياته ثم تشكيلها تشكيلاً فنياً خاصاً به، أي إنها لم ترد عند سواه، ولم يقو خيال غير خياله على التنبه على عناصرها وبنائها بناء فنياً يثير خيال سامعيه، ويدفعهم إلى تحسس جمال ما أنتج والتأثر به.

وهذه ليست مهمة يسيرة، لأنها في أدنى صعوباتها تستلزم من الأديب، ان يحوّل (الخاص) الى (عام) أي ان يجعل ماتأثرت به ذاته من معان، وما انفعل له وجدانه من مشاعر، وما شكله خياله من صور، موضوعاً عاماً له القدرة على كسب السامعين إلى ما يقول، حتى لتكاد تكون تجاربهم الخاصة تقليداً لتجربته هو، مهما اختلفت أذواقهم وتعددت أمزجتهم وتفاوتت ثقافاتهم، وتباينت أفكارهم، وهو ما سماه تولستوَي (العدوى)(1)، وبهذه الطريقة فقط، يمكن ان تتوحد تجربة المبدع والمتلقي، الى درجة يشعر معها المتلقي أنه هو صاحب هذا العمل الابداعي، لا المبدع نفسه.

ص: 105


1- فن الشعر / د. احسان عباس / 32

ويقيناً إن ذلك لا يتأتى كذلك من قدرته على ارتياد آفاق الخيال، من خلال صور مبتكرة فحسب، فهذا كله لا يحقق التأثر المطلوب في نفس المتلقي، ما لم يأت من خلال بناء لغوي متماسك، يمتاز بالتوحد والانسجام، على الرغم من انه نتاج انفعالات مضطربة، ومشاعر متصارعة، عانى المبدع كثيراً كي يشذبها، ليقدمها أخيراً في بناء فني يمتاز بالجمال والوضوح والانسجام.

إن صهر المعاني، وكذلك المشاعر والأحاسيس في بودقة الصورة، إنما يمثل امتزاجا فريداً بين ما هو عقلي وما هو خيالي، أي بين ما هو واقعي، حد اليقين والرسوخ، وما هو متخيل حد الغرابة والندرة، بما جعل الصورة الفنية الناجحة في ذائقة النقد العربي القديم، تلك التي تجمع (المقاربة والمناسبة) الى (الغرابة والطرافة)(1)، على تنافرهما - في الظاهر - بل تناقضهما، ولكن الاديب المتمكن هو الذي يخلق الانسجام والتناسب بينهما، وهو يحيل المعنويات إلى محسوسات، ويجعل المجردات موجودات متجسدة في اتساق وتآلف بين الحسي والعقلي، ولكن هذا لا يمنع من ان تكون الغلبة لجانب الحس فتكون الصورة (حسية)، أو ان ينشط الخيال والتجريد فتكون الصورة (عقلية).

وحين شرعنا بدراسة الصورة التشبيهية في كتاب نهج البلاغة للامام علي (عليه السلام)، كان التشبيه البليغ بأنواعه هو المتصدر في بناء هذه الصورة، ليس بكَم هذه التشبيهات الكبير فحسب، بل بالألوان المتميزة التي جاءت بها هذه الصورة التشبيهية، وهكذا كانت لنا وقفتان سابقتان عند لونين من ألوان هذه الصورة في نهج البلاغة، اختصت احداهما بالتشبيه البليغ بأسلوب المفعول المطلق، والأخرى

ص: 106


1- ينظر: النقد البلاغي عند العرب / 364 - 389

بالتشبيه البليغ بأسلوب التركيب الاضافي، فيما نحاول هنا أن نسبر أغوار لون ثالث من ألوان هذه الصورة، وهو التشبيه البليغ باسلوب المبتدأ والخبر، وما أصله مبتدأ وخبر.

والتشبيه البليغ باسلوب المبتدأ والخبر وما أصله مبتدأ وخبر، هو أكثر أساليب التشبيه البليغ شيوعاً، حتى في الدارج من كلام الناس، ناهيك عن كلام الأدباء - شعراً ونثراً، إذ يقوم على حذف ركنين من أركان التشبيه وهما أداة التشبيه ووجه الشبه، وأطلاق التشبيه بجعل المشبه مبتدأ والمشبه به خبراً له أو إدخال إحدى نواسخ الابتداء عليهما مثل (كان) وأخواتها أو (إن) واخواتها فيصبح المشبه اسماً لها والمشبه به خبراً لها، كما لو وصفت شخصاً بالشجاعة مشبها إياه بالأسد اذ تقول (فلان أسدٌ) أو تزيده توكيداً بادخال (إن) على الجملة فتقول (إن زيداً اسدٌ) أو تتكلم عليه بصيغة الماضي فتقول (كان زيدٌ أسداً).

وتتأتى جمالية هذا اللون من التشبيه من صيغته الموجزة، حيث الاكتفاء بالمشبه والمشبه به في إجراء التشبيه، فضلا عن المبالغة التي تحملها هذه الطريقة في الربط بين المشبه والمشبه به، إذ تصبح العلاقة بينهما علاقة مبتدأ بخبره، فحين نقول (زيدٌ اسدٌ) يبدو الكلام وكأن ليس فيه تشبيه وانك تخبر عن (أسدية) زيد وكأنها حقيقة راسخة فيه كما لو قلت (زيد رجل)، وفي هذا مبالغة واضحة لأنك رفعت المشبه - وهو الناقص في وجه الشبه - إلى مستوى المشبه به - وهو التام في وجه الشبه - أي اننا في قولنا السابق جعلنا (الشجاعة) التي خُص بها الأسد حتى صار هو مضرب المثل بها، هي ذاتها شجاعة زيد، حتى كأن لا فرق بينهما وهذه (مغالطة) فكرية، فلو كانت شجاعة زيد هي شجاعة الأسد نفسها، لما كنا في حاجة لعقد صلة المشابهة

ص: 107

بينهما، ولكن مبالغتنا في تصوير شجاعة زيد هي التي اقتضتنا اختيار التشبيه البليغ بأسلوب المبتدأ والخبر، وسيلة فنية لابراز المعنى بطريقة جديدة لها القدرة على تحريك الذهن وفقا لقدرة المبدع على التقاط مشبه به يكون مثالاً للمعنى الذي يريد التعبير عنه ليربطه بالمشبه بطريقة المبتدأ والخبر كما تقدم.

ولأن أحداً قبلنا لم يدرس هذا اللون من التشبيه في كتاب نهج البلاغة بالتخصيص الذي سندرسه على وفقه في بحثنا هذا، ارتأينا ان نبحث في الوان الصورة التشبيهية البليغة باسلوب المبتدا والخبر وما اصله مبتدأ وخبر على وفق تقسيم اجترحناه نحن، نشعر انه سيكون أكثر طرافة وجدة، وأعمق فنية وفائدة من الطرق المتبعة في دراسة التشبيه عموماً والتشبيه البليغ خصوصاً، مما شاع عند باحثين آخرين، بحثوا في الصورة التشبيهية في نهج البلاغة. بحثاً عاماً مجملاً، فكانت دراستنا هذه بحسب طبيعة الصورة المتحققة عبر هذا اللون من التشبيه، فقسمناها على ضروب خمسة هي:

1- الصورة المثالية.

2- الصورة المتوترة.

3- الصورة المتقابلة.

4- الصورة الجدلية.

5- الصورة التجريدية.

ص: 108

1- الصورة المثالية:

ونعني بها الصورة التي تستحضر في الذهن حالة مثالية تكون انموذجاً ترسخ في أعماق النفس الانسانية عموماً والعقل العربي خصوصاً، وارتبطت لديهما بموروثات دينية أو قومية أو اجتماعية أو تاريخية، أثرت في النفوس واستقرت في أعماق الوجدان، نماذج لقيم أو مفاهيم أو مبادئ، يحاول الأديب ان يرسخ مفاهيمها في نفوس سامعيه، فيلجأ الى الاستعانة بهذه الصور أو الحالات، كي يقيم علاقة مقايسة بينها وبين ما يدعو إليه، وما يريد ترسيخه في نفوس متلقيه، من معان أو افكار أو آراء أو مشاعر، فتأتي الصورة التشبيهية بمشبه به ترسخ مدلوله في الأذهان، كي يكون برهانا أو دليلاً على صواب ما يدعو إليه.

واذا كان من بديهيات التشبيه، ان يكون وجه الشبه - وهو المعنى المشترك بين المشبه والمشبه به - أقوى وأوضح في المشبه به منه في المشبه، حتى تصح المقايسة بينهما، وهو مبدأ عام في أغلب أنواع التشبيه - يستثنى من ذلك المعكوس او (المقلوب)، فإن ما يميز الصورة المثالية في التشبيه البليغ باسلوب المبتدأ والخبر وما اصله مبتدا وخبر، انها تتخذ من المشبه به ما يمكن ان نسميه (الرمز) أو (الانموذج الأعلى)، أي صار مثالاً في معناه الذي اقترن به أو القيمة التي ارتبطت باسمه، كما ارتبط اسم (حاتم) بالكرم و (عنترة) بالشجاعة، وهكذا. .. أي ان المشبه به في هذه الصور لا يقف عن حدود تفوقه في وجه الشبه على المشبه ولكن يمكن القول انه واحد من نماذج خالدة تتوارثها الأجيال أو هو منتزع من حالات تخطت مدى الحواس أو الوعي، واستقرت في أعماق العقل الجمعي للناس، أو في لاوعيهم، على انها نماذج عليا أو

ص: 109

خالدة في كينونتها وتشكيلها(1). ومن ذلك قول الامام علي (عليه السلام) في خطبة له يصف بها أهل بيت النبوة (عليهم افضل الصلاة والتسليم) «نحنُ شجرة النبوة، ومحطُّ الرسالة، ومُخْتَلفُ الملائكة، ومعادنُ العلم، وينابيع الحِكَم»(2).

فهذه الصورة الرائعة التي رسمها الامام لأهل بيت النبوة، تتخطى الحواس، لتصل أعماق النفس الانسانية، وتوقظ العقل، كي يتنبه على حقيقة هذه العترة النموذج التي اصطفاها الله من خلقه كافة كي يكون منها رسوله المختار وذريته الأطهار، وبذا تأتي الصورة التشبيهية البليغة بأسلوب المبتدأ والخبر، مقتبسة من موروث ديني وقيمي انساني، استقر في النفس العربية في طبقات اللاوعي بصورة نماذج عليا، تكون نموذجاً للقيم الرفيعة والخصال الحميدة، فكان المشبه واحداً وهو مبتدأ (نحن) أي أهل البيت (عليهم السلام) فيما تتابعت المشبهات بها، اخباراً للمبتدأ (المشبه) تعكس دلالتها صورة نموذجية لكل جانب من جوانب المعنى الذي أراد الامام اثباته لهم: (شجرة النبوة)، (محط الرسالة)، (مختلف الملائكة)، (معادن العلم)، (ينابيع الحكم) بعضها مقتبس من الموروث الديني: (شجرة النبوة) (محط الرسالة) (مختلف الملائكة) بكل ما تعنيه هذه الصور وما تعكسه من مشاعر صافية وعواطف طاهرة في تقويمها لأهل البيت، أما بعضها الآخر فمقتبس من موروث قيمي اجتماعي (معادن العلم)، (ينابيع الحكم)، وكأني بالامام علي (عليه السلام) أراد ان تلّم صورته بأطراف القيم أو طرفيها البارزين، الديني والدنيوي، فعلى عظمة الموروث الديني وتأثيره الكبير في النفس وتعلقه بأصفى المشاعر الانسانية وأرقها وأصدقها، فإن القيم الدنيوية السامية (العلم والحكمة)

ص: 110


1- ينظر الصورة الفنية في شعر أبي تمام / 156
2- نهج البلاغة: 1 / 214

لا يقلان مكانة عما تقدمهما إن لم نقل انهما من مستلزماتها، فالعلم والحكمة هما اللذان يقودان للايمان الصادق المتين، ولكن تبقى الاولوية لقيم الدين وبذلك تقدمت التشبيهات النموذجية المعبرة عن الدين على التشبيهات النموذجية المعبرة عن قيم الدنيا.

ومثل المثال السابق، بل يكاد يكون ذاته قول الامام ايضا واصفاً أهل بيت النبوة وهو يحث الناس على التمسك بهم والاهتداء بهديهم «فأين يتاه بكم، بل كيف تعمهون؟ وبينكم عترة نبيكم، وهم أزمة الحق، وأعلام الدين، وألسنة الصدق، فأنزلوهم بأحسن منازل القرآن، وردوهم ورود الهيم العطاش»(1) فخطاب الامام المستوحى من الحديث النبوي الشريف المشهور الذي يؤكد عدم ضلالة الأمة بعد تمسكهم بكتاب الله وعترة نبيه، اللذين تركهما النبي (صلى الله عليه وأله وسلم) آماناً لهم ومصابيح هدى لن يضلوا معهما أبداً، هذا الخطاب جاء بصورة مثالية عبر تشبيه بليغ باسلوب المبتدأ والخبر (هم أزمة الحق، وأعلام الدين، وألسنة الصدق) اذ تتابعت المشبهات بها (أزمة الحق) (أعلام الدين) (ألسنة الصدق) اخباراً للمشبه (المبتدأ) هم، اي عثرة النبي (عليه وعلى آله افضل السلام) لتثير في نفوس سامعيه مشاعر سامية وحبا فطريا لهذه العثرة النقية المصطفاة، كي تكون بينهم أزمة للحق (أي مقاود له) وأعلاماً للدين (أي جبالاً) وألسنة للصدق، فيرتفع هذا الحب من كونه غريزة ساذجة، أو ميلاً عابراً، إلى عاطفة سامية ترتفع بالنفس الانسانية كي تسمو في أجواء روحانية وعوالم أثيرية تطهر النفس، وتنقيها من أدران نزواتها ورغباتها لتحلق في عوالم الروح في لحظات نورانية ومشاعر قدسية تبعث على الراحة والطمأنينة.

ص: 111


1- م. ن: 1 / 152 - 153

وليس بعيداً عن أذهاننا تلك الصورة الرائعة والخالدة في الأذهان التي رسمها الامام علي (عليه السلام) وهو يحث على الجهاد (ويدعو الناس) إليه في واحدة من خطبه المشهورة «أما بعد فان الجهاد باب من أبواب الجنة، فتحه الله لخاصة أوليائه، وهو لباس التقوى، ودرع الله الحصينة، وجُنَّته الوثيقة»(1) فلا أعظم عند الله من الجهاد في سبيله، حيث يجود المسلم بنفسه وكل ما يملك دفاعاً عن دينه ومقدساته، فلابد من أن يكون الخطاب الذي يحث عليه قادراً على ان يوقظ في النفس أعظم المشاعر وأطهرها، وان يبعث في الروح قوة عظيمة ترتفع بها عن مغريات الحياة وأسباب اللهو فيها، وهي عظيمة الأثر في النفس الانسانية، تنحاز إليها فطرة، وتستلذها غريزة، فكان لابد من أن تأتي الصورة قوية، محفزة، توقظ ما استقر في الاذهان من صور مثالية، احتفظ بها العقل الجمعي وانحدرت إليه من موروثه الديني، يحييها هذا الخطاب المتفرد كي تقفز إلى خيالاتهم مشفوعة بانفعالات رفيعة ترتفع بنفوسهم في سماء روحانية صافية، وبذا جاء التشبيه البليغ بأسلوب ما أصله مبتدأ وخبر (ان الجهاد باب من أبواب الجنة) ثم تتابعت التشبيهات البليغة باسلوب المبتدأ والخبر (وهو لباس التقوى) و (درع الله الحصينة) و (جُنته الوثيقة) مؤكدة ذلك المعنى ولكن عبر صور جديدة لا تقل مثالية عن الصورة الأولى، فالجنة هي النموذج الأعلى لكل ما تطمح إليه النفس الانسانية عامة، والمسلمون خاصة، وحتى لا يفهم من كلام الامام ان هذه الجنة مقصورة على المجاهدين جعل الجهاد باباً من أبواب الجنة ذلك ان للجنة أبواباً كثيرة، والاعمال التي تقود إليها مختلفة، والجهاد واحد من هذه الأبواب، وفي كلام أشبه ما يكون ترشيحاً وتقوية لهذه المثالية في الصورة، يقول الامام (فتحه الله لخاصة أوليائه) فهذا الباب ليس متاحاً

ص: 112


1- م. ن: 1 / 63

للجميع، والمحظوظون الذين خصهم الله بهذه النعمة من يتاح لهم الظفر بهذه الغنيمة، فقد يأتي زمان لا يكون فيه جهاد، وبذلك ينغلق امام ابناء ذلك الزمان باب من أبواب الجنة، كما ان من لا يريد الله ان يخصه بهذا الامتياز العظيم، قد لا يشرح قلبه للجهاد فيحرم هذه النعمة التي لا يظفر بها إلا خاصة اوليائه، فكأن التشبيهات اللاحقة جاءت كي ترسم صورة هؤلاء الخاصة من أولياء الله فقد جعل الجهاد (لباس التقوى) أي انهم التقاة الذين أسبغ الله عليهم هذا اللباس المتميز، وهم محفوظون بحفظ الله وحصنه حين قال (و درع الله الحصينة) يحفظون دين الله ويحصنونه بأرواحهم وأموالهم، فيكون جهادهم هذا درعاً لهم من النار، وحصنا يحميهم من كل عذاب، و (جنة وثيقة) ترد عنهم كل سوء وشر. .. سواء في الحياة الدنيا أو في الحياة الآخرة ساعة الحساب، وبهذا تصبح الصورة التشبيهية المثالية، محاورة مع العقل، واثارة للخيال، فهي بالقدر الذي تقنعهم بقوة منطقها وصواب حجتها، تحرك في أعماق نفوسهم صورة الجنة التي يحلمون بالوصول إليها، وها هو الامام يسلمهم مفتاحاً لباب من أبوابها.

ونلمس نموذجاً آخر للصورة التشبيهية المثالية، في حديث للامام علي (عليه السلام) وهو يصف النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وكيف اختاره الله من شجرة الانبياء، فأخرجه من افضل المعادن منبتاً وأعز الأرومات مغرساً «فهو إمام من اتقى، وبصيرة من اهتدى، سراج لمع ضوؤه، وشهاب سطع نوره، وزند برق لمعه، سيرته القصد، وسنته الرشد، وكلامه الفصل، وحكمه العدل»(1) فقد تتابعت التشبيهات البليغة باسلوب المبتدأ والخبر (هو امام من اتقى) و (بصيرة من

ص: 113


1- م. ن: 1 / 186

اهتدى) و (سراج لمع ضوؤه) و (شهاب سطع نوره) و (زند برق لمعه) و (سيرته القصد) و (سنته الرشد) و (كلامه الفصل) و (حكمه العدل) وفي كل واحد منها تجد المشبه به هو (المثال) أو الغاية في الوصف، فهناك المتقون، ولكن النبي (صلى الله عليه واله وسلم) هو امامهم، وهناك المهتدون ولكنه هو بصيرتهم التي تهديهم الى طريق الهداية، وهو السراج اللامع الضوء والشهاب الساطع النور، وهو الزند الذي توقد منه النار، وقد برق لمعه، وكذلك فان سيرته هي القصد، وسنته هي الرشد، وكلامه الذي ليس بعده كلام لأنه فصل الخطاب، وحكمه غاية كل حكم وهي العدل وبذلك اكتملت الصورة النموذجية العليا للنبي، التي أراد لها الله ان تكون كذلك، وما كلام الامام علي إلا وصف لما هو عليه هذا النبي المختار من شجرة النبوة المختارة.

وكما يمكن للصورة التشبيهية ان تكون مثالاً ايجابياً يهدف الامام من ورائه الى خلق نموذج جدير بالاقتداء والاحتذاء، لانها تجسد معاني الخير والمحبة والسلام، يمكن ان تكون هذه الصورة مثالاً سلبيا جديراً بالتجنب والأزدراء، فمعروف دلالة (الشيطان) على كل ما هو قبيح وشرير وفاسد، في نفس كل انسان، فهو المثال الاعلى لكل الشرور والعصيان والتجبر وكل المعاني المسترذلة مما يفسد حياة الأنسان، بل يدمرها إذا ما استولى على نفسه، وبذا استثمر الامام علي (عليه السلام) هذه المعاني القارة في النفس الانسانية عن الشيطان، وهو يشبه معاوية به حينما أراد ان يحذّر زياد بن أبيه من خديعته له وهو يحاول ضمه إليه في معسكره الذي يناوئ به الامام، فيخاطبه في كتاب وجهه إليه قائلاً: «وقد عرفت ان معاوية كتب إليك يستزل لبَّكَ ويستفل غربك، فاحذره، فانما هو الشيطان، يأتي المؤمن

ص: 114

من بين يديه ومن خلفه، وعن يمينه وعن شماله ليقتحم غفلته، ويستلب غرته»(1) فواضح ان الامام علي في مقام التحذير والتبيه من هذا المخادع الكبير، الذي خبره، وعرف خبث نفسه، وفساد طويته، وكيف يعمد الى ان يستزل الآخرين، ويغريهم كي يلحقوا به ليساندوه في باطله ويناصروه في غيّه وكفره وليس هنالك صورة مثالية لكل هذه المعني، من خبث و دهاء وغواية، وتجسدها بجلاء، من صورة الشيطان يقرنها بهذا المشبه (معاوية) وبطريقة تحمل من التأكيد ما يقوّي رسوخ هذا التشابه بل تجذره بينهما كما يتجلى في (ان) المؤكدة وضمير الفصل (هو) فضلا عن التشبيه البليغ، ثم ما جاء بعد التشبيه من جمل اشبه بالترشيح لهذا التشبيه في قوله «يأتي المؤمن من بين يديه ومن خلفه، وعن يمينه وعن شماله، ليقتحم غفلته، ويستلب غرته» حتى بات القارئ يحار لهذا التداخل العميق الذي خلقه الامام بين (معاوية) و (الشيطان) حتى عادا شيئا واحداً، فكلاهما يستزل العقول، ويحرف النفوس فيصور لها الباطل حقا موقظا فيها كل نوازع الشر وغرائز الحيوان حتى يخرجهم من انسانيتهم فيسهل عليه قيادهم ويحقق بهم الشر الذي سيقدم عليه، بعد ان توطن نفسه وملك عليه لبه.

ولايغيب عن بالنا (ال العهدية) التي ألحقها الامام بالمشبه به، فلم يقل (فانما هو شيطان) وانما قال (الشيطان) وكأنه يخبر زياداً وغيره ممن يمكن ان يستزلهم ايضا، ان معاوية هو الشيطان الذي تعرفونه، والذي حذركم ربكم منه، وتحتفظون في أذهانكم وعقولكم بصورة خالدة له، يجب عليكم ان لا تنسوها.

ص: 115


1- م. ن: 3 / 77

وفي واحدة من وصاياه للامام الحسن (عليه السلام)، بعد انصرافه من موقعه صفين، نجد الصور التشبيهية ولا سيما البليغة، تتتابع متربعة على عرش الصورة الفنية في عبارات الامام، ونخص بالحديث هنا ما جاء منها باسلوب المبتدأ والخبر وما أصله مبتدأ وخبر، وهو يقبح صورة الدنيا، ويحذّر من اتباعها، المتهالكين على لذائذها ومتعها بحلالها وحرامها، فتأتي تشبيهاته غاية في تقبيح هؤلاء المغويين بها المنساقين لغرائزهم «فانما أهلها كلابٌ عاوية، وسباع ضارية، يهر بعضُها بعضاً، ويأكل عزيزُها ذليلَها، ويقهر كبيرُها صغيرَها، نَعمٌ معلَّقة، وأخرى مهملة قد أضلت عقولها، وركبت مجهولها»(1). فهل هناك صورة ابلغ من هذه الصور المتلاحقة وهي تبين حال أهل الدنيا في صراعهم على ملذاتها، وتقاتلهم فيما بينهم طمعاً بمتعها، هذا الصراع وهذا التقاتل اللذان يحيلان أهل الدنيا ألى كلاب عاوية، يهر بعضها بعضا، كل منهم يحاول ان يمنع غيره من إلتقاط جيفها، كي يحوزها لنفسه، اما إذا أوتي قوة وسطوة فإنه يستحيل الى سبع ضارٍ يفترس صاحبه كي يجهز على ما بيده، لا لشيء الا لشعوره بقوته وعزته، وضعف قبيله وذلته، فيأكل القوي الضعيف ويقهر الكبير الصغير، فقد ضلت عقولهم وباتوا أنعاماً يفترس المطلق منها ما كان مقيداً، ركبت طريق الشهوة وهي لا تدري الى اين ينتهي بها. .. انها بلا شك صورة مثالية للجانب السلبي من هذه الدنيا وأهلها إذا ما انقادوا لغرائزهم وانساقوا وراء شهواتهم، وبذا نجحت الصورة في تقبيح الناس وتنفيرهم من ان يتهالكوا على الدنيا وما فيها، وهي تصورهم بصورة الكلاب مرة والسباع مرة أخرى، بل هم بهائم فقدت عقولها وركبت اهواءها، انها صورة مثالية للناس حين يتخلون عن انسانيتهم وتنطفئ في نفوسهم جذوة الايمان، وتنقطع علاقتهم

ص: 116


1- م. ن: 3 / 55

بخالقهم ويعيشون لأنفسهم فحسب تحركهم غرائزهم وترهنهم رغباتهم.

وتتتالى وصايا الامام علي لولده الحسن (عليهما السلام)، وإنما هو يخاطب في الحقيقة كل ذي لب، يريد ان ينهل من معين هذا العلم، ويستمد شيئا من نور قبسه، فها هو الامام يضيء جهالاتنا بواحدة من أنواره الربانية كي يعلمنا دروساً حياتية، بعبارات ليست تقريرية جافة وانما بصورة تشبيهية تضج جمالاً وفنية، تؤثر في نفوس سامعيه وتدفعهم للتفكير العميق فيها، فيقول ناصحاً «وإياك واتكالك على المنى فإنها بضائع الموتى»(1)، فعبارة الامام هذه التي يصدق عليها قول الجاحظ عن عبارة اخرى للامام أيضا «وأحسن الكلام ما كان قليله يغنيك عن كثيره، ومعناه في ظاهر لفظه، وكان الله عز وجل قد ألبسه من الجلالة، وغشاه من نور الحكمة على هذه الطريقة، ونفذت من قائلها على هذه الصفة، أصحبها الله من التوفيق، ومنحها من التأييد، ما لا يمتنع معه من تعظيمها صدور الجبابرة، ولا يذهل عن فهمها معه عقول الجهلة»(2) لقد حملت عبارة الامام على ايجازها، من المعاني ما يمكن أن تؤلف فيها كتب، وتدور فيها نقاشات، وتقام لها المواسم والمؤتمرات، فهي دروس وعبر لو اتخذها الناس - ولا سيما الشباب منهم - شعاراً، لنفضوا عنهم غبار الكسل وشمروا عن سواعد الجدّ والعمل، فلا تصنع الحياة بالأماني، ولا يشاد المستقبل بالاحلام، وليس حيّاً من يجلس في انتظار الفرصة المواتية فهذه بضاعة الموتى، لأن من يرهن نفسه إليها يموت ولا يحقق شيئاً مما يتمناه، فإن تمنيت فاعمل كي تثبت أنك حي، ثم لا تلبث بعد جدك واجتهادك ان ترى نفسك وقد حققت أمانيك ووصلت إلى أهدافك. إن الصورة التشبيهية التي

ص: 117


1- م. ن: 3 / 58 - 59
2- البيان والتبيين: 1 / 83

جاءت عبر التشبيه البليغ باسلوب ما أصله مبتدأ وخبر (فانها - اي المنى - بضائع الموتى) صورة نموذج لمن يرهن نفسه للمنى، دون أن يبادر لتحقيقها، فكأنما هو أعدم الحياة، والحياة هي العمل، والكسل هو الموت بعينه، انها قيمة حياتية عليا، ابدع الامام في صياغتها بوجهها السلبي، أي في حال فقدانها وسلوك طريق الكسل والتواني، إنها معادلة تختزل جدلية الحياة والعمل، وبعكسه الموت والكسل، ولعل أروع ما في هذه الحكمة انها جاءت على لسان امام عرف بتقواه وزهده بالدنيا وما فيها، ولكن ذلك لم يمنعه من تقرير حكمة الخالق سبحانه حين جعل الانسان خليفته في الأرض كي يعمرها ويبث الحياة فيها، ولا سبيل لذلك سوى العمل، فبالجد والاجتهاد تكون حياة الانسان.

2- الصورة المتوترة:

يمكن تعريف الصورة المتوترة بأنها الصورة التي تعكس جدلاً داخل نفس منشئها - شاعراً كان او ناثراً - اي ان «يأتي المعنى الذي يخلقها مترشحاً من امتزاج الوعي الشديد للذات بما حولها، وبذلك فإن الفنان الذي يخلق هذه الصورة - كما يقول كير كجورد هو الفنان الذي يجري في دمه الاحساس العميق بالخدعة الكبرى للحياة»(1) وهل هناك ذات أعظم من ذات الامام علي (عليه السلام) يمكن ان ينطبق عليها هذا الوصف، فقد عاش حياته خصما عنيداً لهذه الحياة الزائلة، لم يهادنها يوماً، ولم تستهوه ملذاتها ومباهجها، ولم يخدع بكل مظاهرها واغراءاتها، بل عاش يقارعها بكل ما أوتي من شجاعة وحكمة، ولا تزال هي تحاول ان تستزله وتستدرجه بما تبذله له، ولكنه ظل يقظا لألاعيبها، فلم يرضها، أو ينغمس فيها،

ص: 118


1- ألوان من التشبيه / 36 وقول كير كجورد من / المفارقة / 136

وبذا تسامى فوق كل ما يحيط به، وظل متمسكاً بموقفه منها، وهو الذي كان بإمكانه ان يصيب ما شاء من لذائذها، وان يحوز لنفسه ما يحلم به غيره ويفني عمره كي يواتيه بعض طيباتها، فكان فرداً في موقفه، أحس غربته عن كل ما حوله، حين وجد كل من حوله لا يوافقونه في رأيه بهذه الحياة، وأتعبه نصحه وتبصيره لهم، فما يراه هو من وجهها الكالح لا يرونه هم وما يعرفه عما سيؤول إليه آخرها، عاجزون هم عن أدراكه، فلم يتهيأ لهم ما تهيأ له من علم رباني، وقفه الله له، وليسوا انداداً له في عزيمته وصدق إيمانه كي يمتثلوا لما يريده منهم، فقد قصروا عن وعيه، واستبقوا الدنيا ومباهجها، وعجزوا عن استشراف مآلها، وهكذا ظل يعيش حياته توتراً دائما بين ما يطمح اليه، وما هو سائد في مجتمعه، بين حلمه المنشود وواقعه المتردي، بين ما يدعو اليه، وما يريده الآخرون منه، وهكذا ظل يعيش غربة روحية عميقة، وظل من حوله سادرين في غيّهم، حتى اذا فارقهم، وانتهى أمرهم الى ما انتهى إليه من تشتت وضياع بعد غيابه عنهم، تبينوا الرشد، وعرفوا حقيقة ما كان يحذرهم منه، وما كان يريده لهم، ولكن بعد فوات الأوان.

وبذا كان وعيه العميق بما يدور حوله، وادراكه العميق لكنه الاشياء، وحقيقتها، دون الانخداع بمظاهرها، هو الذي يدعوه لتحذير الاخرين من قصور نظرهم، وتنبيههم على الخدعة الكبرى للحياة الدنيا، وما زال دائم التقبيح لصورتها، فقد تمثلت لعينيه بصورة غانية لعوب تستغوي الضعفاء وعديمي الارادة كي يقعوا في حبائلها، حتى اذا تيقنت من سقوطهم في اشراكها تنكرت لهم، وأرتهم وجهها الحقيقي الذي كان خافيا عنهم، يقول: «والدنيا كاسفة النور، ظاهرة الغرور، .

.. فهي متجهمة لأهلها، عابسة في وجه طالبها، ثمرها الفتنة، وطعامها الجيفة،

ص: 119

وشعارها الخوف، ودثارها السيف، فاعتبروا، عباد الله»(1) جلّ لنا ان الامام استثمر طاقات اللغة في خلق صورة منفرة للحياة الدنيا، كي تؤثر معانيه في سامعيه، وهو يعرف جيداً صعوبه مهمته هذه، لأن كلامه هذا لا ينسجم وأهواء سامعيه، وما تراه اعينهم من متع ولذائذ في هذه الدنيا، فهم مشدودون بأقوى الاسباب إليها، طامعون بملاذها، ولا سبيل أمامه سوى أن يبلغ الغاية في خلق صور قبيحة وقارعة للدنيا، تزلزل عقولهم، وتحرك دواخلهم كي ينصرفوا عن أهوائهم، وهكذا صوّر لهم الدنيا بصورة الشمس ولكنها كاسفة النور، وهذه المفارقة غاية في الدقة في تصوير الدنيا التي تبدو زاهية بمتعها وجمالها ولكنها متجهمة عابسة في حقيقتها، وقد ركبها الغرور فتعالت على طالبيها، حتى تستنزف قواهم في السعي اليها، فهي لا ترضى منهم بغير الذل والانقياد لها كي ترضي غرورها هذا، وهي أبداً متجهمة في وجه طالبيها كي تضطرهم إلى مزيد من التهالك والسقوط، وإذا كانت الاستعارة قد تسيدت الصور المتقدمة، فان التشبيه البليغ باسلوب المبتدأ والخبر يأتي بعدها مكملاً لأركان هذه الصورة، مضيفا اليها مزيداً من معاني النفور والاستكراه اذ «ثمرها الفتنة» و «طعامها الجيفة» و «شعارها الخوف» و «دثارها السيف» بما يجلي هذا التوتر الحاد بين ذات الامام علي (عليه السلام) وعدوته اللدود (الدنيا) ويفسره لمن لم يعرف سبب هذا التقاطع الحاد بينهما، حد العداء، فأي بينة يريدها المشككون أقوى من كون ثمرة هذه الدنيا الفتنة، فبعد كل ما يبذله طالب الدنيا من جهد ووقت وسقي ورعاية، وصبر وانتظار وترقب حتى ينال ثمرة ذلك كله، فلا تكون الثمرة غير الفتنة بكل ما تحمله هذه اللفظة من دلالات على الخيبة والخسران، ثم يأتي التشبيه الثاني مكملاً لما تقدمه، بل صادماً أكثر منه

ص: 120


1- نهج البلاغة: 1 / 155 - 156

حين تقدم الدنيا طعامها للساعين اليها، فإذا هو لا يعدو كونه جيفة، فهل بينكم يا اهل الدنيا من يقوى - مهما بلغ به الجوع - على أكل الجيف؟ وهكذا هما التشبيهان الثالث والرابع يكملان جوانب الصورة، فبعد الثمر والطعام، يأتي الملبس، فاذا شعارها - وهو ما يلي البدن من الملابس - الخوف وكأني بالامام يريد القول إن أول ما يتحصله طالب الدنيا من عطاياها هو الخوف، فهو الأقرب الى جسده قرابة (الشعار) منه، فإذا اراد مزيداً من الدفء، كان (دثارها) - وهو الذي يكون فوق (الشعار) - السيف، بكل دلالاته على الهلاك والموت، وفي هذين التشبيهين الاخرين تتجلى بلاغة رائعة، قلّ نظيرها لا يمكن ان يصل اليها الا ملهم كالامام علي (عليه السلام) إذ جعل الخوف شعاراً والدثار سيفاً، فمعلوم ان الدثار - اي الملابس الداخلية - لا تبدو لناظرها، انما يبدو الشعار، وهكذا هو صاحب الدنيا يعيش في خوف دائم لا يكون ظاهراً لنا ولكن حين يلاقي حتفه بسبب تهالكه على الدنيا يكون ذلك واضحا يراه الجميع وهكذا هي الملابس الخارجية بادية بينة، كما ان تقدم الخوف بالذكر على السيف له غاية بلاغية لا تقل فرادة عما سبق، ذلك ان الخوف يتقدم السيف، كما ان الشعار يتقدم الدثار. .. فهل من بلاغة يمكن ان تتأتى لمخلوق، كما تأتت للامام في عموم كلامه، وخصوص صوره هذه، فليس لنا الا الاعتراف بأنها بلاغة معجزة فحسب.

وتتوالى صور الامام المنفرة من الدنيا، الكاشفة لحقيقتها، وكأنه يستشعر خطورة ما أنيط به من مسؤولية توعية الناس، وتبصيرهم حتى لا يخدعوا بالمظاهر، ويقعوا فريسة أهوائهم ورغباتهم، وبذا يتجلى التوتر الحاد الذي يخلقه وعي ذات الامام الشديد بما حولها، واحساسه العميق بالخدعة الكبرى للحياة، بما جعله

ص: 121

العدو اللدود لها، فلم يعرف عنه، انه هادنها، أو سايرها، حتى كأنه جاء الى هذه الحياة ليختلف معها، فتطور وعيه هذا الى توتر دائم بينه وبين محيطه، وهو يحس غربة داخل محيطه الذي يحيى فيه، فلا يجد أمامه من سبيل الا ان يطلق صرخاته بمن حوله منبهاً ومحذراً فإن هذه «الدنيا دارُ منى لها الفناء، ولأهلها منها الجلاء، وهي حلوة خضرة، وقد عَجِلَت للطالب، والتبست بقلب الناظر، فارتحلوا عنها بأحسن ما بحضرتكم من زاد»(1)، ثم ينتقل الى الناس أنفسهم ليبصرهم بحقيقة حالهم «أيها الناس إنما انتم في هذا الدنيا غرض تنتضل فيه المنايا، مع كل جُرعة شَرَق، وفي كل أكلة غصص»(2) فان اقامتهم قصيرة، ورحيلهم مؤكد «فأنتم غرض لنابل، وأكلةٌ لآكل، وفريسة لصائل»(3) وبذا تتضافر الصور التشبيهية البليغة باسلوب المبتدأ والخبر وما اصله مبتدأ وخبر لتعبر عن احساسه العميق بالألم والضيق حدّ البرم بهؤلاء الذين يغطون في غفلتهم عن حقيقة حالهم في هذه الدنيا وهو يراها انها «دار منى لها الفناء «والناس فيها» غرض تنتضل فيه المنايا «اي ان الناس هدف تترامى فيه المنايا اي تتسابق بسهام عدة فمنهم من تدركه قتيلا، ومنهم من تجعله غريقا، وثالث مريضا، وهكذا. .. ناهيك عن طمع أهل الدنيا ببعضهم، فليست المنايا وحدها من ترشقهم بسهامها، فهنالك نابل منهم (أنتم غرض) له أي هدفه، و (انتم أكلة) أي لقمة لمن يروم ابتلاعكم، و (فريسة لصائل) يريد ان يبدي شجاعته وقدرته، فلا يجد أنسب منكم مطمعا لما يريده. إنها صور مجسدة للتوتر الحاد في ذات الامام علي (عليه السلام) المتأتي من تجاهل الآخرين لما

ص: 122


1- نهج البلاغة: 1 / 91
2- م.ن: 2 / 38
3- م. ن: 1 / 42

يدعوهم إليه وجهلهم بما يراد بهم، وبذا كان المشبه به في كل الصور المتقدمة أشبه ما يكون معادلاً موضوعيا لما تفجر في نفسه بازاء كل هذا الذي يراه ويعيش فيه.

ومما يمكن ان يعدَّ من الصور المتوترة، قول الامام علي (عليه السلام) للعباس بن عبد المطلب وأبي سفيان بن حرب، حين خاطباه في ان يبايعاله بالخلافة، بما يفصح عن ذات تتقدم كل ذات، وعقل يسبق بوعيه كل عقل، فقد خصّه خالقه بعلم لا يقوى غيره على حمله، فجاء زهده بما عرضاه عليه تأكيداً لوعيه الشديد بذاته أولاً وبمن حوله ثانيا، فقد أدرك الخدعة الكبرى لهذه الحياة، ولا غرابة ان يكون متسامياً مثاليا فيما يريده لنفسه وللاخرين، ليعيش توتراً شديداً بين الذات والموضوع، بين ما يطمح به ويسعى إليه، وما يطمع به الآخرون ويحلمون به فيجيبهما جواباً يوضح هذا التوتر الدائم داخل ذاته فيقول: «هذا ماءٌ آجن، ولقمة يغصُّ بها آكلها، ومجتني الثمرة لغير وقت إيناعها كالزارع بغير أرضه، فإن أقُلْ يقولوا: حرص على الملك، وإن أسكتْ يقولوا: جزع من الموت، هيهات بعد اللَّتيا والتي، والله لابن أبي طالب آنسُ بالموت من الطفل بثدي أمه، بل اندمجت على مكنون علم لو بحت به لاضطربتم اضطراب الأرشية في الطوى البعيدة»(1) إن كلام الامام السابق يجلي ما انطوت عليه نفسه من ذات احست احساساً عميقا بواقعها، ولكنها لم تذب فيه، بل تسامت فوقه فقد وعى الامام واقعه، وحاول ان يقي ذاته والآخرين، مما يراد بهم جميعا، ولكنهم لم يسموا سموه ولم يلمس منهم تجاوبا لما يدعوهم إليه فارتد الى ذاته يجعل منها عالمه المثالي الذي يحلم به، وهذا هو شأن المفكر المثالي أو المصلح العظيم حين يعجزه الآخرون عن تحقيق ما يرغب فيه،

ص: 123


1- م. ن: 1 / 35 - 36

وبذا جاءت الصور التشبيهية البليغة في مفتتح كلامه صادمة وهي تشبيه الخلافة بالماء الراكد الذي فسد ولم يعد تستسيغه النفس على ظمأها، واللقمة التي يغص بها آكلها فلا يجد فيها لذة ولا شبعاً، ولابد لمن رامهما بعد ذلك من رميهما من فمه، اذ لا فائدة ترتجى منهما، والسلامة في اجتناب هذا الذي يعرض عليه (الخلافة) لأنه - بما حباه الله من علم - يعرف ما سيأول إليه الحال إذا تسلمها، وهذا ما حدث حين لم يجد بداً من القبول بها، بعد ذلك، فكان ما كان. وبهذا العلم النوراني الذي خصه الله سبحانه به، ها هو يستشرف المستقبل، بل يذكر على وجه اليقين ما يراد بالمسلمين وما يسعى اليه بنو أمية من آثارتهم الفتنة بينهم، بل قرر على بينه وثقة ما سيصيب بني أمية أنفسهم من سوء أعمالهم بعد ان يغتصبوا الخلافة ممن هم أهل لها، وبنو أمية هم آخر من يستحقها، فيقول محذرا المسلمين، مما أقدموا عليه بمتابعة معاوية واتباعه «أصفيتم بالأمر غير أهله، وأوردتموه غير مورده، وسينتقم الله ممن ظلم: مأكلاً بمأكل، ومشرباً بمشرب: من مطاعم العلقم، ومشارب الصبر والمقر، ولباس شعار الخوف، ودثار السيف، انما هم مطايا الخطيئات، وزوامل الآثام، فأقسم ثم أقسم لتنخمنها أميةُ من بعدي كما تلفظ النخامة ثم لاتذوقها ولاتطعم بطعامها ابداً ماكرَّ الجدیدان»(1).

فأي صورة مرعبة رسمها الامام، عبر تشبيهاته، لحال المسلمين اذا ما تولى بنو أمية أمرهم، من شيوع الفتنة ودبيب الفساد، وتفرق كلمتهم، فقد آثروا بني أمية بالخلافة وهم ليسوا أهلاً لها، ولا لهم أسبقية في الاسلام تسوغ لهم حيازتها، ولا صدق ايمان يضمن حسن سيرتهم في الأمر، بل هم كما عبر الامام (مطايا الخطيئات)

ص: 124


1- م. ن: 2 / 69 - 70

و (زوامل الآثام) أي دواب لا تحمل سوى الخطايا، وأوعية لا تحوي غير الآثام، فكأني به يذكرهم بسلفهم (حمالة الحطب) فها هم يحملون الاثام والخطايا تقض ظهورهم وترهق حياتهم الدنيا، ثم تأول الى ذنوب سيحاسبون عليها يوم القيامة أشد الحساب، وبذا خسروا دنياهم وآخرتهم... إنها صورة معبرة عن هذا التوتر الحاد الذي تعيش فيه ذات الامام، وهو يرى ما لا يراه غيره، ويستشرف من وقته، ما سيأول إليه حال الناس وهم يخدعون بوعود بني أمية الكاذبة وشعاراتهم الزائفة، بل انه يخبرهم - متيقنا - كيف ان هذه الخلافة التي سعوا لها سعيها، ولم يتوانوا عن ارتكاب أكبر الكبائر في الوصول إليها، سوف لا يهنأون بها، ولن تدوم لهم، بل سيلفظونها من أفواههم، لفظهم للنخامة التي تكاد تقطع عليهم انفاسهم، فيخرجونها منهم تخلصا منها، راضين من الغنيمة بالإياب، وهذا ما كان، اذ لم تدم في ايديهم غير سنوات لا تذكر - بعمر الزمن - لينتزعها منهم بنو مروان، ولن تعود فيهم أبداً بعد ذلك.

3- الصورة المتقابلة:

هي الصورة التي يكون المعنى الباعث لها، قائما على التضاد بين طرفين متضادين، هما - في الغالب - صورة من صور الثنائيات المتقابلة (المتضادة) في الحياة.

والفكر العميق هو وحده القادر على ادراك حقيقة هذا الوجود القائم على هذه الثنائية الضدية، وان هذا التقابل أو التضاد لا يعني - ضرورة - التنافر، فقد يكون هذا في ظاهر الأمور، أو عند النظرة الساذجة للأشياء، لأن وجود الضد - في كثير من الأحيان - لازمة لوجود الضد الآخر، وصراع الأضداد هو سمة الوجود، بل جدليته، وما وجود الأنسان وحياته بما يتهددها من أخطار منذ ساعة الولادة حتى

ص: 125

ساعة الأجل، وصراعه فيها لتأكيد ذاته ووجوده، الا أبرز مثال لهذه التقابلية اللازمة. والامام علي (عليه السلام) بما يملكه من فكر نافذ، وعلم مخصوص به، صرح في أكثر من موضع انه غير قادر على البوح به للآخرين، لانهم لا يقوون على حمله، هو خير من يحسن أدراك هذه الجدلية الفكرية للحياة، وموجودات الكون، فلا غرابة بعد ذلك ان يجيد صناعة هذا اللون من الصور المتقابلة، فهو وحده القادر على فك رموزه المستعصية على غيره، وان يمنح من حوله بعض ما أتاه الله من علم وحكمة، عبر صور تشبيهية أراد لها ان تكون وسيلة اتصاله بمن يريد لهم ان يتابعوه، وان يتفهموا بعمق ما يريده لهم، وما يطمح ان يكونوا عليه.

وبذا جاءت الصورة المتقابلة في باب التشبيه البليغ بأسلوب المبتدأ والخبر وما أصله مبتدأ وخبر، طريقة تقصدها الامام لا لترسيخ المعنى وتأكيده في نفوس سامعيه فحسب، وإنما لإثارة عقولهم وتحفيزها للتدبر والتفكر، لأن المعنى اذا تلقته النفس، بأسلوب المفارقة، أو التنافر المفضي الى التوافق والانسجام سيحرك العقول، بل سيهزها هزاً عنيفا، فتخلع رداء الكسل، وتنفض عنها غبار الرتابة، وهي تتلقى الأشياء ببرود واستسلام، ولما كانت الصورة التي يقدمها الأمام، إطاراً لمعانيه، صوراً عقلية في طرفها الأول الذي يمثل المشبه، مشفوعة بحجة منطقية، أو برهان حسي، هو المشبه به، فإن عقل السامع مضطر إلى ان يدقق النظر في هذه الثنائية التقابلية، وان يقوّم المعنى المترشح عنها، ليستقر في ذاته قناعة راسخة، غير قابلة للجدال أو النسيان. ..

فها هو الامام يقيم هذه التقابلية، وهو يحث الناس على التقوى هذا الموضوع الأثير لديه، القريب إلى نفسه، وهو يراها (التقوى) دواء لكل داء يمكن ان تبتلى

ص: 126

به النفس الإنسانية، فلا شيء يذل الانسان ويورده موارد التهلكة، غير حبه للحياة الدنيا، وتهالكه على ملذاتها ومتعها، والمسلمون إنما أصابهم ما أصابهم، من تفرق كلمتهم، وتضييع دينهم، وانشغالهم بالفتنة عن كل ما يصلح أحوالهم إنما ذاك لزهدهم بدينهم، بدل زهدهم بدنياهم، فكان لابد له من ان يجري هذه المقابلة بين ما باعوه، وما شروه، بين كان يريد لهم الله سبحانه ان يكونوا عليه، وما ساقوا هم أنفسهم إليه، كي يوقظهم من غفلتهم، ويرعووا. .. يقول «اعلموا، عباد الله، أن التقوى دار حصن عزيز، والفجور دار حصن ذليل: لا يمنع أهله، ولا يحرز من لجأ إليه ألا وبالتقوى تقطع حُمَة الخطايا، وباليقين تدرك الغاية القصوى»(1) جاءت الصورة التشبيهية في عبارة الامام السابقة، قائمة على هذا التقابل الحاد بين التقوى والفجور، والتضاد المفارق بين سبيليهما، وحتى يجسد الامام هذا التقابل الأزلي بينهما، وينتزع من نفوس سامعيه ما استودعته من حب الدنيا ونعيمها، ويرسم لها طريق نجاتها مما انتهت إليه، شبّه التقوى والفجور تشبيها بليغا باسلوب ما أصله مبتدأ وخبر، بالدار الحصينة، ولكن أولاهما تفضي إلى العز، فيما تنتهي ثانيتهما إلى الذل، فإن التقوى دار حصن عزيز، والفجور دار حصن ذليل، فكان التوكيد ب (ان) تعبيراً عما في نفوس سامعيه من شك فيما يدعوهم إليه، فهم يرون - لقصر نظرهم - ان أصحاب المال والجاه، والساعين للدنيا سعيها، هم الأعزة والاسياد، وبذا كان خطاب الامام لهم، منسجما مع ما كان قد استقر في عقولهم من وهم وشك، فجاءت (ان) لتأكيد المعنى، كما يلاحظ تشبيه الامام للتقوى والفجور بالدار الحصينة، دون ان يخص الحصانة بالتقوى - كما يقتضي منطق الكلام وسياقه، وانما ذلك لان الامام خاطب سامعيه بما استقر في نفوسهم وما أطمأنت إليه

ص: 127


1- م. ن: 2 / 66 - 67

عقولهم، من أن الفجور هو الدار الحصينة التي تعزهم وتمنحهم الجاه والسلطان - على ماذكرنا - لقد أراد الامام علي (عليه السلام) ان يخاطب سامعيه بمنطقهم أولاً ثم يعمد الى زحزحة قناعاتهم هذه، فأيدهم أولا بأن الفجور دار وانها حصينة، ولكنها تقود الى الذل، الذي تعيشون فيه، لا العز الذي تحلمون به، فهو يريد أن يصدمهم بقناعاتهم، ويقارعهم بحججهم، مبينا وقوعهم في الوهم، وانسياقهم للغفلة، وهو ما يؤكده تعقيبه على التشبيه الثاني دون الاول، فحين جعل التقوى (دار حصن عزيز) لم يعلل، ولم يعقب، لأن برهانها واضح ونورها ساطع حتى في نفوس من وجه خطابه إليهم، فهم يعرفون ذلك جيداً ولكنهم منساقون لغرائزهم وشهواتهم، فاحتاج التشبيه الثاني إلى تعقيب يوقفهم على حقيقة حالهم، وهكذا قال (لا يمنع أهله، ولا يحرز من لجأ إليه) عاد بعدها لتوكيد معنى التقوى بطريق العكس والتبديل، اي اذا كان الفجور ما يقودكم الى الخطايا، ويقطع عليكم السبل، فليس لكم إلا التقوى التي يقطع بها المؤمنون (حُمة الخطايا) أي إبرتها - على سبيل الاستعارة المكنية تشبيها لها بالزنبور أو العقرب -، وليس غير اليقين، اي الأسلام الصادق - يمكن ان تدركوا به غاياتكم القصوى. وهو ما عاد الامام لتوكيده في تشبيه آخر لا يقل جمالاً أو عمقا عن سابق قوله، فيقول في نسق الصورة ذاته «إيها الناسُ إنما الدنيا دارُ مجاز والآخرة دارُ قرار، فخذوا من ممركم لمقركم»(1).

ويعود ليؤكد هذا المعنى الذي ظل عمره يدعو إليه، وهو ضرورة الزهد بالدنيا سعيا للآخرة، محذراً من مظاهرها الخادعة، فكل ما تبذله للساعين إليها مموه كاذب، بل هو مقابله المضاد، تخفّى به كي يستهوي ضعاف النفوس والعقول، ممن يأخذون الأمور بظواهرها ولا يفطنون الى جواهرها وحقائقها، يقول ناصحاً

ص: 128


1- م. ن: 2 / 209

ومحذراً: «وكونوا عن الدنيا نزّاها، وإلى الآخرة ولاّهاً، ولا تضعوا من رفعتْه التقوى، ولا ترفعوا من رفعتْه الدنيا. .. حالها انتقال، ووطأتها زلزال، وعزها ذلٌ وجدُّها هزلٌ، وعلوُّها سفلٌ»(1).

وهكذا تتتابع الصور المتقابلة، كي تكون أشبه بالموازنات العقلية يقيمها الامام بين الظاهر والباطن، بين ما يعتقده اصحاب الدنيا، وما هو خاف عن عيونهم وعقولهم التي أعمتها المطامع، فكانت الصور التشبيهية البليغة باسلوب المبتدأ والخبر وما أصله مبتدأ وخبر محاجة عقلية، وجدالاً منطقياً، وبتضاد معنوي واضح هو وسيلة الامام في استهداف قناعات سامعيه، لصرفهم عما تورطوا فيه، فيدعوهم أولاً بأن يكونوا (عن الدنيا نزاها)، (والى الآخرة ولاها)، وهما صورتان متقابلتان تقابلت فيهما الألفاظ على سبيل الطباق بين (الدنيا والآخرة) و (نزاهاً وولّاها) ولكن هذا التقابل في ظاهر ألفاظ العبارتين لا في حقيقة المعنى الكامن وراءهما، فهما في المستوى العميق للمعنى متفقتان تمام الاتفاق، فمن زهد في الدنيا، لابد له من ان يكون ولها بالآخرة، فحبه لأخرته وسعيه للفوز بها، هو الذي جعله زاهداً بالدنيا وملاذها. وكذلك الحال في العبارتين التاليتين لهما (لا تضعوا من رفعته التقوى، ولا ترفعوا من رفعته الدنيا) حيث يتصدر طباق الايجاب (تضعوا، ترفعوا) هاتين الجملتين، راسماً صورتين أخريين للتقابل الظاهري، والتوافق العميق بينهما، فمن رفعته التقوى جدير بالرفعة، ويوصينا الامام بأن لا نضعه عن منزلته، ومن رفعته الدنيا، فان علينا ان لا نوافق الدنيا في فعلها فنرفعه تماشيا معها وامتثالاً لأمرها، بل نطبق عليه مقياس التقوى الذي قوّمنا به صاحب التقوى،

ص: 129


1- م. ن: 2 / 158 - 159

فنضعه عن مكانته الرفيعة التي وضعته فيها الدنيا، وبذلك يتضح التوافق الكبير بين هاتين الصورتين المتقابلتين في الظاهر، المتوافقتين في الحقيقة والجوهر، ثم تأتي الصور المتقابلة متلاحقة، متدفقة، مؤكدة باسلوب المبتدأ والخبر: (عزها ذل، جدها هزل، علوها سفل) انه تقابل رائع بين الظاهر والباطن، بين من أعدم البصيرة والرشد فخدعته القشور، ومن أكرمه الله بأن رفع الحجب عن بصره وبصيرته فرأى اللب، فانكشف للفهم عقله، وسبرت بصيرته حقائق الاشياء وأدرك هذا التقابل بين ما تبديه لهم الدنيا، وما يريده لهم الامام، فكانت صور الامام قائمة على التضاد المفضي الى المفارقة التي تسيدت هذه المقابلات الثنائية الفريدة في صياغتها ومعانيها.

وفي واحدة من حكمه الموجزة، التي يصف فيها نفسه، موازنا - بصورة خفية - بينه وبين معاوية، وبين من تبعه، ومن تابع معاوية، ويستثمر الامام علي (عليه السلام) التشبيه البليغ بأسلوب المبتدا والخبر في خلق صورة متقابلة، يرسم فيها لاتباعه ما هم عليه بمتابعته ومشايعته، وما عليه اتباع معاوية في تركهم الدين وآخرتهم، وسعيهم للدنيا والمال، يقول: «أنا يعسوب المؤمنين، والمال يعسوب الفجار»(1) انها موازنة بطريق التقابل بين الدين والدنيا، بين الايمان والفجور، بين من يقود مريديه إلى الجنة، ومن يودي باتباعه إلى النار، لقد وضع الامام نفسه في تقابل، بل تقاطع مع المال، فلا يمكن ان يجتمعا أبدأً، ولا ان يلتقيا في يوم، فقد زهد بالدنيا، ولم تفلح يومأُ في ان تغويه أو تحرفه عن المسار الذي اختطه لنفسه، بعد ان أدرك حقيقتها وعرفها.

ص: 130


1- م. ن: 3 / 229

وهكذا جاء التشبيه البليغ بأسلوب المبتدأ والخبر (انا يعسوب المؤمنين) أي ان المؤمنين يتبعونني كما تتبع النحل يعسوبها اي رئيسها، أما أصحاب الدنيا فإنهم يتبعون (المال) الذي أراد به معاوية وما كان يبذله من أموال لمن ينضم إلى حلفه، وهؤلاء هم الفجار، لأنهم باعوا دينهم لدنياهم، عرفوا الحق وآمنوا به، ولكن ما أن برق المال في عيونهم حتى عميت بصائرهم، وانساقوا وراء شهواتهم، فكان التقابل بين الصورتين التشبيهيتين صارخا في كل مفرداتها، الامام علي (عليه السلام) بكل ما يمثله من رسوخ في الدين، أصلا ومعتقداً، في مقابل معاوية وما يمثله من عداء للاسلام وأهله، ماضيا وحاضراً، وحتى لو أخذنا العبارة على ظاهرها وقلنا (الامام والمال) فهما ضدان لا يلتقيان مطلقا، لما قدمنا من موقف الامام من الدنيا، ثم هذا التقابل الحاد بين المؤمنين والفجار، ويلاحظ ان المشبه به (يعسوب) جاء واحداً في التشبيهين، وكأني بالامام علي (عليه السلام) يتقصد هذا المشبه به دون سواه لدلالته المعبرة في هذا السياق، فجموع النحل تتبع يعسوبها وهي تصنع العسل، ولكن شتان بين عسل الآخرة وعسل الدنيا، عسل يؤدي الى النجاة والفلاح، وما يتصوره أهل الدنيا أنه عسل، ولكنه يسوقهم إلى النار، فضلا عما يتصف به النحل من روح الجد والمثابرة وهكذا هم المؤمنون الساعون إلى الجنة، وكذلك هم الفجار وهم يهلكون انفسهم وحياتهم سعياً للمال والجاه، ولكن شتان بين السعيين.

وتترقى الحكمة لدى سيد الحكمة، حتى تصبح هي الحياة، والسمع والبصر، فيدعو الناس في واحدة من خطبه، بل من عظاته الانسانية الخالدة، الى التحلي بها، والنهل من معينها، فلا معنى لحياة من أعدمها، يعيش بغيرها أعمى وأصم، بل

ص: 131

هو ميت وإن بدت عليه سمات الكائن الحي، ذلك ان الحكمة «هي حياة للقلب الميت، وبصر للعين العمياء، وسمع للأذن الصماء، وريَّ للظمآن، وفيها الغنى كلُّه والسلامة»(1)، فهذه الصور المتتابعة وباسلوب التقابل جاءت وافية في تقرير المعاني في نفوس السامعين كي يتلمسوا معه المعنى العميق للحكمة كما تبينه صانع الحكمة، فهذا المفكر المثالي والمصلح العظيم يريد ان يشرك سامعيه ببعض ما آتاه الله من العلم والفهم، فيدعوهم الى واحدة من سبل نجاتهم وفلاحهم في هذه الدنيا، وهي الحكمة فهي حياة للقلب الميت، وبصر للعين العمياء، وسمع للأذن الصماء، بل هي ريٌّ للنفوس الظمأى للعلم والمعرفة، وعلى الرغم من ان كلام الامام جاء على سبيل المجاز في قوله (القلب الميت) و (العين العمياء) و (الاذن الصماء) و(الظمآن) لأنه لم يرد معانيها الحقيقية انما المبالغة في وصف القلب الذي لا يعي ولا يفهم فهو بمنزلة القلب الميت، وكذا العين التي لا تبصر حقائق الاشياء، والأذن التي لا تدرك حقائق ما تسمع، والفهم الذي لا يجد ضالته من العلم والايمان الصادقين، على الرغم من ذلك نلاحظ تداخل المجاز مع التشبيه البليغ بترابط جدلي يكمل أحدهما الآخر ليسهما في خلق هذه الصور المتقابلة المعبرة خير تعبير عن أهمية الحكمة ودورها في حياة الناس. وبالطريقة نفسها في تتابع الصور المتقابلة باسلوب التشبيه البليغ نجد للامام حديثا رائعاً، يصور فيه هذه العلاقة المتسامية بين العبد وربه، إذ ما بنيت على الحب، فحين يحب العبد ربه، حبا خالصاً لوجهه، لاخوفا من ناره، ولا طمعا في جنته، بل لأنه وجده حقا، وأهلاً للعبادة، كما كان كذلك الامام نفسه فإن

ص: 132


1- م. ن: 2 / 23

الله سيبادله الحب بالحب، وسينعم عليه بنعم لا تحصى، ليس أقلها ان هذا العبد سيضيء هذا الحب قلبه، وتزداد بصيرته وسيقلع من نفسه كل هم سوى هم واحد هو رضا الحبيب عليه وبذا «صار من مفاتيح أبواب الهدى، ومغاليق أبواب الردى،.

.. فهو من اليقين على مثل ضوء الشمس... مصباح ظلمات، كشّاف عَشاوات، مفتاح مبهمات، دفّاع معضلات، دليل فلوات، يقول فيُفهم، ويسكت فيسلم»(1) في النص السابق يتداخل التشبيه مع الاستعارة تداخلاً عجيباً، كي يرسما صورة تحيل العقلي المجرد الى صورة حسية، يكاد يتلمس السامع معانيها، فتتفتح بصيرته ويتوثب ذهنه لتقبل هذه المعاني النورانية التي تجود بها قريحة أفاض الله عليها من هدايته وعلمه، كي ترسم للناس سبل الهداية والرشاد، حيث يتخلى الانسان عن طينته البشرية، ويصبح كما أراد له الله (مصباح ظلمات) و (كشاف عشوات) و (مفتاح مبهمات) و (دفاع معضلات) و(دليل فلوات) بل (صار من مفاتيح ابواب الهدى) و (مغاليق ابواب الردى). .. في صور متقابلة، زادت المعنى جمالاً وتأكيداً، حيث تنشر الاستعارة سحرها، ويلامس التشبيه المعاني بطريقة خاصة، ليجعلا منها غذاء للعقل والروح.

وبتناص واضح مع القرآن الكريم ولا سيما قوله تعالى «الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا» [الكهف / 46] يخلق الامام علي (عليه السلام) واحدة من صوره المتقابلة عن طريق التشبيه البليغ باسلوب ما اصله مبتدأ وخبر، وهو يعظ اتباعه ويحذرهم من حسد بعضهم بعضا، فيما يخص الله بعضهم من رزق في المال والأهل ولا سيما اذا كان مع هذا الرزق،

ص: 133


1- م. ن: 1 / 150 - 151

دِيْن وحَسَب مَنَّ الله بهما على عبده هذا فيقول «إن المال والبنين حرث الدنيا، والعمل الصالح حرث الآخرة، وقد يجمعها الله لأقوام، فاحذروا من الله حذركم من نفسه، واخشوه خشية ليست بتعذير»(1) فالتقابل بين المال والبنين من جهة، والاعمال الصالحة من جهة أخرى، ليس تقابلاً حقيقياً أي في أصل وجود الاشياء، ولكن حكمة الامام وقدرته على استثمار اللغة وطاقاتها في المواضع التي تستدعي ذلك هما اللذان جعلا الامام - استهداء بالآية القرآنية السابقة - يخلق حالة التقابل هذه بينهما، فليس - ضرورة - ان يكون المال والبنون متضادين مع العمل الصالح، بل يمكن ان يكونا هما السبيل المفضي إليه سواء بالصدقات أو بالولد الصالح الذي يدعو لأبيه كما آثر عن النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولكن الامام خلق هذا التقابل حين جعل المال والبنين حرث الدنيا والعمل الصالح حرث الآخرة فساوى بينهما في الظاهر، ولكن قابل بينهما حين قابل بين الحياة الدنيا، والحياة الآخرة، ولما كانت الحياة الآخرة هي الأبقى وهي الأسمى، مالت الكفة لصالحها لتميل معها قلوب مستمعيه، فيصرفهم عما يمكن ان يشغلهم عن دينهم، بالتطلع لمن منَّ الله عليهم بزينة الحياة الدنيا، فمن فاتته هذه الزينة، فليعمل وليجد لزينة هي الأبقى والأدوم.

ص: 134


1- م. ن: 1 / 56 - 57

4- الصورة الجدلية:

يمكن تعريف الجدل بأنه «عبارة عن دفع المرء خصمه عن فساد قوله - بحجة أو شبهة - وهو لا يكون الا بمنازعة غيره»(1)، وبوحي من هذا المعنى للجدل، يمكن ان نضع تعريفا للصورة الجدلية بأنها الصورة القائمة على معنى من معاني المنازعة أو الخلاف مع الآخر، - سواء أكان حقيقياً أم افتراضيا - في قضية، غالبا ما تكون عناصرها خارج ذات الأديب، اي لا تخصه هو، إلا بقدر تأثر ذاته بها كي يعبر عنها، أي ان المعنى الذي خلق الصورة ليس موقفاً ذاتياً أو انفعالياً من المبدع، إنما هو موقف فكري يقوم على قياس منطقي من شأنه ان يفند رأياً ويرجح رايا آخر.

وهذا النوع من الصور التشبيهية يحتاج الى خبرة لغوية متميزة ومرونه عالية في التفكير، وقدرة خاصة على إلباس ما هو منطقي رداء فنيا، لتأتي الصورة محافظة على عقلانية المعنى ومنطقيته من جهة، وجمال الخيال وابداعه من جهة اخرى، اي بعبارة أوضح ان لا يجور العقل على الفن، فيأتي الكلام تقريريا جافاً، ولايجور الفن على المنطق فتصبح الصورة شكلا فنيا فحسب.

ولا شك في ان الامام علي (عليه السلام) بما خصه الله به من علم، وما له من تمرس في اللغة وأساليبها، وما يحمله من روح شاعرة لها القدرة على تحسس مواطن الجمال والعذوبة في التعبير، كان خير صانع لهذا اللون من الصور التي يتناوب فيها العقل والخيال في ثنائية فريدة لا يقدر عليها الا الافذاذ من أهل الفكر والأدب.

في واحدة من وصاياه إلى أصحابه، نجد الامام علي (عليه السلام) يكسي معانيه صوراً جدلية، تكون أدلة ساطعة، وبراهين واضحة، ترسخ المعاني التي يريدها في

ص: 135


1- الكليات: 2 / 172

نفوسهم، كي يزدادوا ايمانا على ايمانهم، ويتمسكوا بالتقوى، فوق تمسكهم، يقول: «إن الله سبحانه وتعالى - لا يخفى عليه ما العباد مقترفون في ليلهم ونهارهم، لطف بهم خُبراً، وأحاط به علماً، أعضاؤكم شهوده، وجوارحكم جنوده، وضمائركم عيونه، وخلواتكم عيانه»(1).

يتضح تتابع الصور التشبيهية البليغة باسلوب المبتدأ والخبر: (اعضاؤكم شهوده) و (جوارحكم جنوده) و (ضمائركم عيونه) و (خلواتكم عيانه) وكأن الامام يدير جدلاً مع أصحابه، فإذ قدّم لهم علم الله واحاطته بما يقترفونه في ليلهم وما يجترحونه في نهارهم، بل معرفته بكل صغيرة وكبيرة من شؤون حياتهم، يتصور ان هناك من تحدثه نفسه، أو يوسوس الشيطان في خلده: وكيف يتأتى لله كل ذلك على كثرة خلقه، وتعدد مخلوقاته؟ فيأتي الجواب حجة دامغة، وبرهانا مسكتاً، بعد ان تصبح اعضاؤنا شهوداً له على ما فعلنا، وجوارحنا جنوداً تخبره بما اقترفنا، وحتى ضمائرنا المخفية تصبح عيونا له سبحانه، ومهما حاولنا الاختلاء بعيداً عن الناس فإن خلوتنا هذه هي عيانه سبحانه ويقينه، في كل صوره الجدلية هذه انما ينهل من معين القرآن الثر، وآياته التي تشهد بصدق ما قاله الامام، مثل قوله تعالى «يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ» [النور/ 24] كل ذلك بصور بيانية تثير الخيال وتحرك النفوس، وهي ترى اعضاءها وقد استحالت شهوداً للخالق لا تنطق بغير الحق، وجوارحها وقد تجسدت جنوداً في طاعة بارئها لا تعصي له امراً، وضمائرها المختفية في أعماق النفس وقد صارت هي بذاتها عيونا ترقب ما بداخلها، واما خلوتها فقد انقلبت عيانا له بإذنه تعالى تعرض له كل ما أردنا اخفاءه.

ص: 136


1- نهج البلاغة: 2 / 206

وتبقى الفتنة التي أحاطت بالمسلمين ايام الخليفة عثمان بن عفان (رض) وامتدت إلى ايام خلافة الامام علي (عليه السلام) واحدة من أكثر الموضوعات حضوراً في فكر الامام وفيما ترك لنا من كلامه البليغ سواء أكان خطباً أم وصايا أم كتباً، فقد رافقته شطراً كبيرا من حياته الشريفة، واشتدت زمن خلافته، وهو يدرك جيداً مَنْ وراءها، وماذا يراد منها، والى ماذا يهدف أصحابها، فكان دائم التحذير منها، مجليا حقيقتها، ومنبها على ما ينتظر المسلمين اذا ما وقعوا فريسة لها فكانت موضوعه الذي شغل فكره وحياته فصرفته عما كان يريده من خير للاسلام والمسلمين، ليتفرغ لمعالجتها ومحاربة دعاتها واصلاح ما يفسده عليه اتباعها والساعون وراءها، فهو يستشرف مستقبل الايام ويدرك على سبيل اليقين ما سيأول إليه أمر المسلمين بعد وقوعهم فيها، فأعلن غضبه منها، حتى صار يسميها باسماء هي دلالة على ما يعرفه عنها، فها هو يسميها (الضلالة) وهو يقول:

«رأيت ضلالة قد قامت على قطبها، وتفرقت بُشعبها، تكيلكم بصاعها، وتخبطكم بباعها، قائدها خارج عن الملة، قائم على الضلة. .. فإذا كان ذلك كان الولد غيظاً، والمطر قيظاً، . .. وكان أهل ذلك الزمان ذئابا، وسلاطينه سباعاً، وأوساطه أكالاً، وفقراؤه أمواتاً... وصار الفسوق نسباً والعفاف عجباً»(1).

يلاحظ في النص السابق استثمار الامام للصورة التشبيهية البليغة في مجادلة أولئك الذين يوشكون ان يقعوا في الفتنة، ممن غاب عن بالهم بشاعة حالها، وفساد طوية دعاتها، ممن خرجوا عن الملة الاسلامية، وسعوا في الضلالة، تحقيقاً لمآربهم الدنيوية، دون اعتبار لما سيحل بالناس عند وقوعها، وهنا تأتي أدلة الامام حججا، اثبتت الايام صدقها، وصواب ما حذرهم الامام من شرورها فاذا كانت، (كان

ص: 137


1- م. ن: 1 / 207 - 209

الولد غيظا) اي بدل ان يكون الولد، باراً بأبيه، مطيعا له، يسوء حاله وتفسد طويته، فيعق أبويه فيكون غيظا لهما، (ويكون المطر قيظا) لعدم فائدته، لأن الناس سيكونون منصرفين عما ينفعهم إلى ما يضرهم، منشغلين عن نعم الله وبرّه بهم، إلى ما أغواهم به الشيطان كي يفتك بهم. وحتى يزيد الامام الحال بشاعة، ويفحم كل من يتهاون أو يتكاسل في التصدي لما يحذرهم منه وهي الفتنة ومساوئها، رسم صوراً متتابعة لأهل ذلك الزمان الذين تغلبهم فيه الفتنة، وتستولي على قلوبهم الضلالة، اذ يصير (أهل ذلك الزمان ذئابا) و (سلاطينه سباعاً) و (أوساطه أكالاً) و (فقراؤه أمواتاً) و (الفسوق نسباً) و (العفاف عجباً)...

فأي زمان سيء هذا، وأية عيشة سوء هذه التي يحياها أبناؤه وقد استحالت بلادهم غابة يجول فيها أهلها ذئاباً، ويقودها سلاطينها سباعاً، ويرتع عامتها أُكّالاً، وتضيع القيم، والاخلاق فلا نسب غير الفسوق، ومن تمسك بالعفاف صار عجبة زمانه انه الخوض في بحار الفتنة، تتقاذف بأهلها أمواج الشرّ ذات اليمين وذات الشمال لتطحنهم طحناً، وتفركهم فركاً، ولا ناجي منهم، فهم جميعا مغرقون.

وفي عظة من عظاته، يوصي اتباعه بتجنب الظلم، وهو يجعله على ثلاثة أنواع:

ظلم لا يغفر، وهو الشرك بالله، وظلم يغفر، وهو ظلم العبد نفسه عند بعض الهنات، وظلم لا يترك، وأما هذا «فظلم العباد بعضهم بعضا، القصاصُ هنالك شديد، ليس هو جرحاً بالُدى، ولا ضرباً بالسياط، ولكنه ما يستصغر ذلك معه»(1).

ص: 138


1- م. ن: 2 / 116

فتحذير الامام اتباعه من مغبة الظلم، يؤدي الى جدل افتراضي معهم، ولا سيما في النوع الثالث منه، فالنوع الأول لا جدال حوله، فقد نصت عليه الآية القرآنيةالكريمة «وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ» [لقمان/ 13] والنوع الثاني مغفور، لأنه هين، اذ لا ضرر فيه للآخرين، فلا جدال فيه، ولكن النوع الثالث هو موضع الجدل، ذلك ان السؤال سيقوم في ذهن السامعين، هل هو بمرتبة الشرك بالله، فيكون بعقوبته أو هو بمنزلة ظلم العبد لنفسه فيكون مغفورا، أو ان هناك من سيقطع انه لا يمكن ان يرقى الى مرتبة الشرك، فيكون عقابه هينا، عند رب العالمين، وكي يمنع الامام عقول سامعيه من عقد مثل هذه المقايسات من جانب، ولكي يكرّه في نفوسهم ظلم بعضهم بعضا، من جانب آخر، صور لهم قصاص رب العالمين لهذا النوع من الظلم يوم الحساب، بطريقة المقايسة المنفية عبر التشبيه البليغ بأسلوب ما أصله مبتدا و خبر في قوله (ليس هو جرحاً بالمدى ولا ضربا بالسياط) فهذه العقوبات الدنيوية تستصغر وتهون اذا ما قيست بقصاص رب العالمين وعقابه لمن ظلم أخاه الأنسان، فكانت صورتاه برهانين يحسم بهما جدله مع المشككين، أو المترددين في قبول عظته، وتحذيره هذا.

وهو ما عاد ليؤكده في عظة أخرى له، مقبحاً صورة الظلم والبغي والكبر، وسوء عاقبتها جميعا في الدنيا والآخرة، اذ يقول: «فالله الله في عاجل البغي، وآجل وخامة الظلم، وسوء عاقبة الكِبْر فإنها مصيدة ابليس العظمى ومكيدته الكبرى»(1). فأي تقبيح للظلم وهو يجعله مصيدة ابليس العظمى، بل مكيدته الكبرى، فحبائل الشيطان التي يصطاد بها من الناس اتباعاً له، ليست مقصورة

ص: 139


1- م. ن: 2 / 173

على متع الدنيا وملذاتها المعروفة من مال ونساء ومحرمات أخرى كثيرة، ولكن يمكن ان تكون مصيدته الكبرى، حين يحبب للناس الظلم، اي ظلم بعضهم بعضا، ويجعلهم يستمرئون بغيهم بعضهم بعضا، وتكبرهم على من هم دونهم، لما يجدون في نفوسهم من لذة في سلوكهم هذا، وهو يحقق لهم الشعور بالتسلط والنفوذ، فشأنها شأن الملذات المحرمة والمتع المستكرهة، بل ان الامام حذّر منها أكبر تحذير، حين أفصح عن طريقة سريان هذه اللذة في النفوس، بقوله «تساور قلوب الرجال مساورة السموم القاتلة»(1) فقد لا يشعرون بخطرها، ولا يتنبهون على وخامتها، الا بعد ان تكون قد سرت في دمائهم وتمكنت من نفوسهم، فلن تترك أحدهم عندها الا وهو ميت لا محالة، فلله درك أيها الامام العظيم، وانت تنصب نفسك عدواً لابليس، هو يغوي، وانت تحذر، هو يتفنن في الخداع، وانت تبدع في الكشف والاظهار، هو ينصب المكائد والمصائد، وانت تفسد عليه خططه والاعيبه، بفضح حيله وأساليبه، فلا غرابة بعد هذا كله اذا ما أغوى اتباعه كي يتخلص منك، فتخلو له الساحة، ويجول بها وحده، ويعلو فيها صوته، متمثلاً بصورة اتباع له، سعوا للدنيا سعيها فأصابوامنها حظاً، ولكنهم خسروا آخرتهم خسرانا مبيناً.

ص: 140


1- م.ن

5- الصورة التجريدية:

ونعني بها تلك الصورة التي تقوم على معانِ ذهنية مجردة «إما من عقد مماثلة بين معنيين. .. وإما من تحول الحس الى معنى»(1) مع التذكير بأن هذا اللون من الصور ليس غالبا على كلام الامام علي (عليه السلام)، وكذلك هو في تراثنا الأدبي - شعراً ونثراً - ذلك انه يخالف ما درج عليه الذوق العربي من تحبيذ الصورة التي تنقل ما هو ذهني مجرد الى حسي، لانها تقربه من الادراك، وتقدم المعاني بصورة حسية يسهل تلقيها وفهمها، لان «العلم الأول أتى النفس أولاً من طريق الحواس والطباع ثم من جهة النظر والروية، فهو اذن أمسّ بهاً رحماً، وأقوى لديها ذمما»(2) كما صرح بذلك عبد القاهر الجرجاني.

وحين عدنا الى الصور التجريدية في نهج البلاغة، وجدناها تتسم بسمة خاصة بها، تبدو فيها وقد خرجت عما قررناه في الفقرة السابقة فعلى الرغم من ان الذوق العربي قد اعتاد الصور التشبيهية التي تنقل المعنوي الى الحسي، ولم يستحسن منها ما جاء بعكس ذلك اي ما ينقل الحسي الى المعنوي، أو ما يبقي ما هو معنوي على حاله، لارتباط ذلك عندهم بوضوح المعنى، وسرعة تلقيه، الا اننا وجدنا ان الصور التجريدية المتحصلة من تشبيهات الامام البليغة باسلوب المبتدأ والخبر وما أصله مبتدأ و خبر، خرجت على هذا العرف، وصارت صور المعاني التي قدمت بها لا تقل وضوحاً وجمالاً عن الألوان الاخرى من الصور المتقدمة، ولا شك في ان بلاغة الامام المتميزة، وقدرته الفذة على صوغ المعاني وتقديمها في صور جديدة

ص: 141


1- الصورة الفنية في شعر أبي تمام / 159
2- اسرار البلاغة / 109

مبهرة، من شأنها ان تحيل التجريد تجسيداً، والذهني من المعاني حقيقة، تكاد تتلمسها العقول قبل الحواس. ومن ذلك قول الامام (عليه السلام) في موضوعه الأثير الذي لم يأل جهداً في التذكير به والتنبيه عليه، وهو التحذير من الانخداع بالدنيا، والانسياق إلى لذائذها، لأنها مزلة الشيطان، وشركه الذي يتصيد به نفس الإنسان، إذ «الشيطان موكَّلٌ به: يزين له المعصية ليركبها ويمنيه التوبة ليسوفها، حتى تهجم منيته عليه أغفل ما يكون عنها، فيالها حسرة على ذي غفلة أن يكون عمره عليه حجة»(1).

فالتجريد واضح في تشبيه العمر بالحجة تشبيها بليغا باسلوب ما اصله مبتدأ و خبر، لدخول (كان) على المشبه (العمر) والمشبه به (حجة) فيكون الأول اسماً لها والثاني خبراً لها، ولكن السؤال: هل ان هذا التجريد الذي ابقى طرفي الصورة ذهنيين مجردين، قد انتقص من جمال الصورة أو فاعليتها، وهل ان في ذلك ما أخلّ بمبدأ وضوح الصورة وتقبلها؟ ان قارئ عبارة الامام هذه سيتلمس جمالاً في العبارة لم تنتقص منه تقريريتها التي جاءت أدنى الى الحجاج العقلي منها الى فنية التصوير، بل ان المعنى سيزداد رسوخا في نفسه، وسيرتدع لما صوره له الامام من حال سيكون عليها وهو يقف بين يدي خالقه، وهو يسائله عن عمره فيم أمضاه، وكيف ان هذه المهلة التي مدها في عمره والتي زين له الشيطان فيها تسويف التوبة، هي ذاتها ستكون حجة على عصيانه وغفلته، لانه لم يحسن استثمارها كي تكون زاداً له في يوم حسابه، لقد استطاعت الصورة - على تجريديتها - ان تنقل متلقيها الى اجواء المحاكمات التي سمع بها او المناظرات التي ربما شهد بعضا منها، وادرك ما

ص: 142


1- نهج البلاغة: 1 / 107

هو موقف المتهم حين تكون الحجة عليه أقوى من ان يقدر على ردها أو التشكيك بها.

وفي الموضوع نفسه، وبالطريقة نفسها، نجد الامام علي (عليه السلام) يقرب المعاني الى النفوس، مع ان صوره ما تزال ذهنية مجردة، لم يكسها ثوب المحسوسات، ولم يعطها شكل الملموسات، وهو يقول «والمغبون من غبن نفسه، والمغبوط من سلم له دينه، والسعيد من وعظ بغيره، والشقي من انخدع لهواه. واعلموا ان يسير الرياء شرك، ومجالسة أهل الهوى منساة للايمان و ضرمحة للشيطان»(1) فقد تضمنت موعظته صورتين تشبيهيتين بليغتين بأسلوب ما أصله مبتدأ و خبر هما (ان يسير الرياء شرك) و (مجالسة أهل الهوى منساه للايمان ومحضرة للشيطان) كانت الاولى منهما تجريدية طرفاها معنيان مجردان، هما المشبه (يسير الرياء) والمشبه به (شرك) اما الثانية فقد قلب فيها الامام قاعدة التشبيه حيث أحال المحسوس (مجالسة اهل الهوى) وهو المشبه إلى معقول (منساة للايمان ومحضرة للشيطان)، ولكن ظلت للصورتين فاعليتهما في تجسيد المعاني التي يريدها الامام، وهو ان ينبه سامعيه من المؤمنين ويحذرهم حتى اليسير من الرياء، هو ان تعمل العمل الصالح محبة به ولكن في نفسك رغبة في ان يراك الناس، وانت تفعله، اذ عدّه بمنزلة الشرك اي شبهه به، ذلك انك في الحالين لا يكون عملك خالصا لوجهه تعالى، بل خلطت، مع رضا الله، رضا نفسك وغيرك، فهل أكثر من هذا وضوحأ وأثراً في النفس؟!!.

اما في التشبيه الثاني، فقد استطاع الامام ان يحيل المادي (مجالسة أهل الهوى) إلى ذهني (منساة للايمان ومحضرة للشيطان) وعلى الرغم من ان هذا قلب لقاعدة التشبيه الذهبية في قلب الذهني أو المعنوي الى حسي، ولكننا نرى في التشبيه هذا،

ص: 143


1- م. ن: 1 / 149

بلاغة قد لا تتوضح سريعا لقارئه، ذلك ان مجالسة أهل الهوى - وهو فعل ملموس يخفي وراءه ضرراً غير ملموس، وهو الوقوع في الإثم وارتكاب المعاصي، بما يجعل القائم به، وكأنه قد فقد إيمانه، أو كأنه غير مؤمن أصلا، وهكذا جاء المشبه به (منساة) اي موضعا لنسيانه وداعية الذهول عنه، بعد ان تستهويه هذه المجالس، فيبدو غافلاً عما سيصيبه من سيئاتها، فهو - كما يبدو - في غيبوبة ذهنية، عن حقيقة ملموسة يحياها في جلسته هذه. وما قيل في هذا المشبه به (منساة الايمان) يقال في المشبه به الثاني (محضرة للشيطان) الذي ابدع الامام في التشبيه به بطريق التقابل مع المشبه به الاول (منساة الإيمان) و (حضور الشيطان).

وبالبراعة نفسها يربط الامام علي (عليه السلام) بين معنيين ذهنيين بمشبه به، يقتضي المعنى والسياق انه ذهني ايضا، ولكن هو في حقيقته منتزع من تجربة حسية، تجعل التشبيه البليغ باسلوب ما أصله مبتدأ وخبر، وما فيه من معان ذهنية، أقرب الى الصورة الحسية الملموسة، وهو ما جاء في أحدى خطبه قائلاً: «ان الوفاء توأم الصدق، ولا أعلم جُنَّة أوقى منه»(1)، فالوفاء والصدق معنيان ذهنيان، ولكن الصورة المتحصلة من التشبيه البليغ هي اقرب الى التجسيد منها الى التجريد، حين جعل الوفاء توأماً للصدق يولد معه، وينشآن سوية، وبينهما أكثر من وشيجة وسبب، بل يكان يكون أحدهما هو الآخر لشدة تقاربهما من بعضهما، وفي ذلك يقرر الامام في نفوس سامعيه حقيقة أخلاقية عظيمة نتلمسها من تجارب حياته وخبرته بالناس والحياة، فاراد ان يؤكد هذه الجدلية بين الصدق والوفاء، فلم يجد أوفق من صورة التوأم كي تجسد لسامعيه هذه المعاني وتدفعهم للايمان بما يقوله لهم.

ص: 144


1- م. ن: 1 / 88

وتتواتر للامام تشبيهات أخرى بالاسلوب نفسه والغايات نفسها كقوله «والهوى شريك العناء»(1) وقوله «العفاف زينة الفقر، والشكر زينة الغنى»(2) و «فقد الأحبة غربة»(3) وكلها حكم بليغة كساها الامام رشاقة في التعبير وجمالًا في التصوير كي يسهل حفظها وتداولها بين الناس، قوانين للخلق الرفيع والاداب المحبذة يرددها الناس فتشيع على السنتهم فتستفيد منها القلوب الواعية والأذهان الصافية.

وفي خطبة للامام يوصي المؤمنين بالاقبال على الحكمة، والتزود منها والمعرفة بها، فهي عنده من صفات المؤمن وسماته «قد لبس للحكمة جُنَّتها، وأخذها بجميع آدابها: من الاقبال عليها، والمعرفة بها، والتفرغ لها، وهي عند نفسه ضالته التي يطلبها، وحاجته التي يسأل عنها»(4) جاء طرفا التشبيه في قوله عن الحكمة (هي ضالته التي يطلبها) معنيين ذهنيين وكذلك في التشبيه الثاني (وحاجته التي يسأل عنها) بما جعل الصورة تجريدية محضة ولكنها لم تغمض المعنى أو تشيك طريق السامع إليه، بل على العكس من ذلك جاءت الصورة بمنتهى الوضوح والمباشرة، ولكن دون ان تسقط في تقريرية مبتسرة، فصورة البدوي الذي يخرج باحثاً عن ناقته الضالة ما زالت حية في نفوس سامعيه بما يجعلهم يقيمون مقارنة بينها وبين ما يدعوهم إليه الامام من سعي نحو الحكمة، فكما ان ذاك البدوي ما زال يسأل كل من صادفه عن (ضالته) أو (حاجته) فكذلك حال المؤمن الصادق الايمان في سعيه نحو الحكمة كي يتم بها ايمانه، ويقوم بها سيرته بين أخلاطه ومشاركيه في

ص: 145


1- م. ن: 3 / 62
2- م.ن: 3 / 165
3- م.ن
4- م.ن: 2 / 129

هذه الحياة الدنيا.

ومثل هذا حديثه عن شهادة (ان لا اله الا الله وحده لا شريك له) ومكانتها في الاسلام وفي نفوس المسلمين، يقول: «فإنها عزيمة الايمان، وفاتحة الإحسان، ومرضاة الرحمن، ومدحرة الشيطان»(1)، فالشهادة أو النطق بها هي قول مسموع، اي انها حسية، ولكن جرى تشبيهها باربعة مشبهات بها كلها عقلية (عزيمة الايمان) و (فاتحة الاحسان) و (مرضاة الرحمن) و (مدحرة الشيطان) فكانت صورة تشبيهية بليغة تجريدية، ولكن المعنى المتحصل منها جميعا، يكاد يكون ملموساً باليد، ومرئيا بالعين، فقد لامست عبقرية الامام حواشي المعنى فأحالته صورة تتناوب فيها الحواس مع العقل من جهة والخيال والفن من الجهة الأخرى كي تتكامل أركان الصورة ناطقة بالعظة التي تمس حنايا الروح فتحملها على التصديق بما يدعوهم الامام اليه ويحثهم عليه من التمسك بالشهادة وسيلة للنجاح والنجاة في الدنيا والآخرة.

ولابد لنا في ختام هذه السياحة الفكرية في الصورة التشبيهية البليغة باسلوب المبتدأ والخبر أو ما اصله مبتدأ و خبر في كتاب نهج البلاغة، والوقوف تفصيلاً عند ألوان هذه الصورة في كلام الامام علي (عليه السلام) من التذكير بأن تقسيم هذه الصورة الاقسام الخمسة التي بحثناها على وفقها، ليس تقسيما حديا أو قاطعا بين هذه الضروب الخمسه لها، اي ان الحدود بين هذه الاقسام ليست حصينة، ذلك ان معانيها متداخلة مع بعضها، بما يسمح بتداخل الصور الناتجة عنها، ولكننا حاولنا - ان نجعل منها أنماطاً متمايزة من بعضها خدمة للبحث وتنويعاً لمباحثه.

ص: 146


1- م. ن: 1 / 22

الفصل الرابع التشبيه البليغ بأسلوب المفعول به

تقوم آلية هذا الضرب من التشبيه على استعمال الأفعال التي تتعدى إلى مفعولين، كي تقوم مقام أداة التشبيه، حيث يكون المشبه هو المفعول به الأول، والمشبه به هو المفعول به الثاني، كقوله تعالى «الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاء بِنَاء» [البقرة / 22] وقوله تعالى «مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء» [الشورى / 52] ومنه في الشعر قول أبي تمام:

فإنك إن تساجلني تجدني *** لرأسك جندلاً ولفيك تربا(1).

وقول أبي الطيب المتنبي:

يرون من الذعر صوت الرياحِ *** صهيلَ الجياد وخفقَّ البنود(2) .

ففي الآية الأولى تعدى الفعل (جعل) الى المفعول به الاول (الارض) وهو المشبه، والى المفعول به الثاني (فراشاً) وهو المشبه به، اي صارت الارض كأنها فراش، وكذلك حال الجملة الثانية المعطوفة عليها (والسماء بناء) حيث صارت

ص: 147


1- ديوان ابي تمام: 3 / 73
2- العرف الطيب / 71

السماء كالبناء، اما في الآية الثانية فقد تعدى الفعل (جعل) الى مفعولين أيضا هما (الكتاب) وهو المشبه و (نورا) وهو المشبه به اي شَبهت الآية الكريمة القرآن بالنور الذي يهدي به الله من يشاء.

أما في بيت أبي تمام فان الفعل (وجد) تعدى الى مفعولين الاول هو الضمير (ياء المتكلم) وهو المشبه، والثاني (جندلاً) وعطف عليه مفعولاً آخر هو (تربا) وكلاهما مشبه به، فيما تعدى الفعل (رأى) في بيت المتنبي الى مفعولين الأول منهما هو (صوت الرياح) وهو المشبه، والثاني (صهيل الخيل) وعطف عليه قوله (خفق البنود) وكلاهما مشبه به ايضا.

ولعل بلاغة هذا الضرب من التشبيه متأتية من قدرة الأفعال المتعدية إلى مفعولين على التحويل والتصيير، أي الانتقال بالشيء من حالة إلى أخرى، كما في قوله تعالى «وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا» [الفرقان/ 23] إذ تكمن براعة الصورة القرآنية وجمالها الآخاذ في تحويل المعنوي (ما عملوا) إلى حسي (هباء منثورا) وهي دقائق التراب(1)، فيما تنطوي الآية على مفارقة عجيبة تكمن في ان الآية على الرغم من تحويلها ما هو عقلي (ما عملوا) الى ما هو حسي (هباء منثورا) إلا ان المعنى المتحصل من التشبيه هو انتفاء المنفعة وضياع الفائدة، أي تحويل المتيقن منه عند أصحابه، وهو أعمالهم التي قاموا بها وتيقنوا من جدواها، الى هباء منثور، أي عدم وفناء، فكانت معادلة عجيبة في ان يتحول اليقين العقلي الى مادي ملموس، ثم يصبح هذا المادي المحسوس فراغاً وخسارة. ومثل هذا

ص: 148


1- مختار الصحاح / 689

في تحويل المعنوي الى مادي عبر الافعال المتعدية الى مفعولين قوله تعالى «اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ» [المجادلة / 16] إذ قام الفعل اتخذ بتحويل ايمان هؤلاء الكافرين وحلفهم إلى (جُنَّة) اي كل ما يُجن خلفه من دروع أو متاريس(1)، فاعطى للتشبيه قوة وللمعنى توكيدا، بل استحال المعنى صورة تكاد تكون مرئية للسامعين ومن هنا تأتي بلاغة هذا الضرب من التشبيه إذ تبدو فيه العبارة وكأنها عبارة حقيقية ولا تشبيه فيها، فقد تماهى التشبيه بعد ان دخلت على العبارة أفعال التعدية، التي بدت متسلطة على الاشياء ولها القدرة على تغيير طبيعتها وتحويلها من حالة الى أخرى.

وحين عدنا الى كتاب (نهج البلاغة) للإمام علي (عليه السلام) وجدنا حضوراً لافتا لهذا الضرب من التشبيه البليغ في كلام الامام سواء في خطبه أو رسائله أو وصاياه، وعند استقرائنا لهذه النصوص التي تضمنت هذا التشبيه، ظهر ان أكثر الافعال المتعدية الى مفعولين وروداً فيها هو الفعل (جعل) ثم الفعل (رأى) يليه الفعل (اتخذ) فضلا عن ورود افعال اخرى ولمرة واحدة وهي (حسب) و (عدّ) و (رجى) و (دعا) و (رفع). وهكذا سيكون تناولنا لهذه النصوص المباركة بحسب هذا الورود.

في واحدة من خطب الإمام التي يذكر فيها ابتداء خلق السماء والأرض، وكذلك خلق آدم، يذكر فيها ايضا الحج هذه الفريضة والركن الرابع من أركان الاسلام بعد شهادة لا اله الا الله والصلاة والصوم ثم الحج ثم الزكاة، يتناول

ص: 149


1- ينظر م.ن / 114

الامام هذه الفريضة مبيناً توق النفس المسلمة الى هذه البقعة المباركة وما تستشعره من راحة واطمئنان وهي تلوذ بها لوذ الحمائم، ثم يعرج على حكمة الخالق وما أودعه سبحانه من منفعة للمسلمين في حجهم بيت الله الحرام، يقول «وفرض عليكم حج بيته الحرام، الذي جعله قبلة للأنام، يردونه ورود الانعام، ويألهون إليه وله الحمام، جعله سبحانه علامة لتواضعهم لعظمته، واذعانهم لعزته، واختار من خلقه سمّاعاً أجابوا غليه دعوته، وصدقوا كلمته ووقفوا موقف أنبيائه، وتشبهوا بملائكته المطيفين بعرشه، يحرزون الارباح في متجر عبادته، ويتبادرون عند موعد مغفرته، جعله سبحانه وتعالى للاسلام علما، وللعائذين حرما»(1)...

تتتابع الصور التشبيهية بضروبها المختلفة كي ترسم صوراً مجسدة للمعاني التي يريد الامام ترسيخها في نفوس سامعيه، وتنبيههم عليها، فإذ أرأد أن يصور توق النفس المسلمة الى بيت الله الحرام وشوقها لحط الرحال عنده، جاء بالتشبيه البليغ باسلوب المفعول المطلق (يردونه ورود الانعام) و (يألهون اليه وله الحمام) وهما صورتان في غاية الجمال والعمق للتعبير عن شدة الشوق وعظم الرغبة بالوصول الى بيت الله، فهم يردون البيت كما ترد الانعام موردها كي ترتوي منه بعد ان أخذ بأكبادها العطش، فحاجتهم لورود البيت كحاجة الانعام لورود الماء، وهم ولهون به وله الحمام التي لن تجد راحتها ولا أمانها الا في أعشاشها، حتى إذا أتم الامام معاني الحج كما يراها المسلمون أنفسهم، انتقل الى معان أخرى للحج كما أرادها الله، أي كما اقتضت ذلك حكمته العظيمة، فكان التشبيه البليغ بإسلوب المفعول به وسيلته في تجسيد هذه المعاني بقوله (جعله علامة لتواضعهم لعظمته) أي ان

ص: 150


1- نهج البلاغة: 1 / 21

الحج هو الدليل أو العلامة على تواضع المسلم مهما علا جاهه أو ارتفع منصبه، فإنه في حرم البيت لا يملك الا ان يخلع كل زينة الحياة الدنيا ويقف أمام خالقه عاريا الا من ملابس الاحرام التي يتساوى في لبسها كل المسلمين على تفاوت أقدارهم واختلاف منازلهم، ثم توالت التشبيهات كي تكمل جوانب أخرى من الصورة (ووقفوا موقف أنبيائه) و (تشبهوا بملائكته المطيفين بعرشه) ولتضيف معاني قد لا ترد في أذهان كثيرين منّا وهم يطوفون حول البيت، فكم منا من تنبه على ما تنبه عليه الامام علي (عليه السلام) حين جعل المسلمين في طوافهم هذا انما هم يتشبهون بملائكة الله المحيطين بعرشه، الطائفين حوله، يسبحون بحمده بكرة وأصيلا، ثم يأتي تشبيهان بليغان آخران باسلوب المفعول به وهما قوله (جعله علما) و (للعائذين حرما) كي يكمل بذلك عناصر هذه الجدارية الرائعة للحج وهي ترسم صورة للطائفين بالبيت الحرام بملابس الاحرام، يرددون تراتيل العبادة والخشوع، في سفرة روحانية تطهر النفس من كل أدران الدنيا وأوساخها، فلا غرابة بعد ذلك ان يكون هذا البيت أو ان يريده الله سبحانه للمسلمين علماً اي جبلاً يدل على دولة الاسلام وأهله، كما يكون حرماً لمن يعوذ به يجد فيه الراحة والأمان، فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج، انما هي العبادة والاستغفار والتذلل لله سبحانه، ونعم التجارة هي.

وفي عظة من عظاته العظيمة التي يريد بها اصلاح أمور المسلمين، وتوجيههم الى دينهم، وهدايتهم لما فيه خيرهم وصلاحهم، يقول: «رحم الله امرءاً سمع حُكما فوعى، ودعى الى رشاد فدنا، وأخذ بحُجزة هادٍ فنجا، راقب ربه، وخاف ذنبه. .. كابر هواه، وكذّب مناه، جعل الصبر مطية نجاته، والتقوى عدة وفاته،

ص: 151

ركب الطريقة الغراء، ولزم المحجة البيضاء»(1).

فهو يحث على اغتنام الدنيا للتزود للآخرة، ويدعو الى مخالفة النفس ورغباتها، والتزام سبيل الحق ومنهج العدل، ويؤكد الالتزام بخصلتين عظيمتين طالما ذكرهما في خطبه ووصاياه ودعا الى التحلي بهما والتخلق بما يوجبانه وهما الصبر والتقوى اللذان جاء توكيدهما بالتشبيه البليغ بإسلوب المفعول به في قوله (جعل الصبر مطية نجاته) و (التقوى عدة وفاته) ففي العبارة الأولى شبّه الصبر بالمطية المخصصة للنجاة، وفي الثانية شبّه التقوى بالعدة حين الوفاة وفي كلا التشبيهين تظهر براعة الامام في خلق صورة تشبيهية تحمل فضلا عن جمال الصورة عمقا في المعنى وطرافة في التعبير، فقد صوّر الصبر وكأنه مطية يمتطيها طالب النجاة، وفي هذا مفارقة تنم على فكر عميق ونظر عارفة بحقائق الاشياء، فهذا الصبر الذي يبدو عصيا على التحمل، وشديداً على النفس لا سيما فيما تريده وترضاه أو بالضد من ذلك فيما تكرهه وتنفر منه، كيف تحول الى (مطية) أي ظهر نركبه فنوجهه كيف نشاء، وحيث نريد، شأن الدابة الذلول التي تنقاد لراكبها، فهل أعمق من هذا إبلاغ لقيمة الارادة القوية القادرة على قلب المعادلات المتداولة حدّ البداهة، فبدل ان ترضخ لاهوائنا وننقاد لرغائبنا، يمكننا اذا ما ذللنا صبرنا وطوعناه لما نريد أن نقلب المعادلة فنصبح أسياد نفوسنا وسلاطين أهوائنا، حتى إذ انتقل الامام الى الخصلة الثانية (التقوى) لم يخرج في تصويرها عما دارت عليه معانيه، بل انها تكمل الركن الآخر من الصورة، فإذ ركب الصابر مطيته واستعد للسفر، لابد له من عدة يتزود بها كي تعينه على مصاعب رحلته، وليس أفضل من التقوى عدة يبادر

ص: 152


1- م.ن: 1 / 122

بها الأجل قبل حلوله - إنها صورة تشبيهية عميقة تحرك العقول والقلوب، وترسخ المعاني في النفوس وتجعلها عصية على التجاوز أو النسيان.

ولا يزال الامام علي (عليه السلام) دائم الشكر لله على نعمة الاسلام، التي مَنّ بها على عباده فأنقذهم من ضلالات الجهل وأضاء لهم دروب النجاة والفوز العظيم، يقول: «الحمد لله الذي شرع الاسلام فسهّل شرائعه لمن ورده، وأعزّ أركانه على من غالبه فجعله أمناً لمن علقه وسلْماً لمن دخله، وبرهاناً لمن تكلم به، وشاهداً لمن خاصم به، ونوراً لمن استضاء به، وفهما لمن عقل، ولبّاً لمن تدبر، وآية لمن توسم، وتبصرة لمن عزم، وعبرة لمن اتعظ، ونجاة لمن صدق، وثقة لمن توكل، وراحة لمن فوّض، وجنة لمن صبر»(1).

فقد استثمر الامام الفعل (جعل) في خلق موازنات عقلية بين من أنعم الله عليه بمنة الاسلام، ومن فاتته رحمته ونعمته الكبرى هذه، فلم يدرك هذه الشريعة السمحاء والمحجة البيضاء، واذا كانت صورة هذا المحروم من نعمة الاسلام لم تتبد في الصورة صريحة، فإن طريقة صياغة العبارة التشبيهية مذيلة بما يمكن ان ندعوه (قيداً) أو (شرطاً) بقوله (لمن) توضح الصورة المقابلة والعميقة للصورة المذكورة أو الظاهرة وهكذا توالت المفاعيل الثانية للفعل (جعل) بعد ان استوفى مفعوله الاول وهو الهاء المرتبط به والعائد على الاسلام، فكانت كلها مشبهات بها متلوة بشرط أو قيد يتم معناها ويستحضر في الذهن الصورة المقابلة الغائرة في البنية العميقة للعبارة، فقوله (أمنا لمن علقه) تستحضر في الذهن (الخوف لمن لم يتعلق

ص: 153


1- م.ن: 1 / 202 - 203

به) وقوله (سلما لمن دخله) تستدعي (حربا لمن لم يدخله) وهكذا تتابعت المفاعيل الثواني مشبهات بها، يُشير كل واحد منها الى نِعمة من نعم الله التي منّ بها على أهل الاسلام دون سائر الأديان، فكانت المشبهات بها: (برهانا لمن تكلم به) و (شاهداً لمن خاصم به) و (نوراً لمن استضاء به) و (فهماً لمن عقل) و (ولبّاً لمن تدبر) و (آية لمن توسم) و (تبصرة لمن عزم) و (عبرة لمن اتعظ) و (نجاة لمن صبر) لتشمل نعيم الدنيا والآخرة، فيما يبني النفس ويقويها، ويرسم لها طريق الحق لينجيها، بما يوجب حمد الله حمداً كثيراً على نعمة الاسلام.

ولما كان الاسلام نعمة كبيرة أفاض الله بها على عباده، فلا أقل من أن يعبر المسلمون عن شكرهم لله على هذه النعمة، بطاعته والامتثال لأوامره واجتناب نواهيه، هذه الطاعة يجب ان تعم كل شؤون حياتهم، بل هي شغلهم الشاغل، الذي يسم كل ما يقولونه وما يفعلونه، وكان لابد للامام علي (عليه السلام) الذي أمضى حياته بل أفناها في طاعة الله، فكانت منتهى رغبته، وقصد سبيله، من أن يحث الناس على طاعة الله، فيقول وكأنه يعبر عن تجربته هو في تقوى الله، وما كان يحسه وهو يصارع نفسه وأهواءها، والدنيا ومباهجها كي يظفر بحلاوة الايمان، ولذة العبودية لله وحده «فاجعلوا طاعة الله شعاراً دون دثاركم، ودخيلاً دون شعاركم، ولطيفاً بين أضلاعكم، وأميراً فوق أموركم ومنهلاً لحين ورودكم، وشفيعاً لدرك طلبتكم وجُنَّة ليوم فزعكم، ومصابيح لبطون قبوركم، وسكناً لطول وحشتكم، ونَفَساً لكُرَب موطنكم»(1).

ص: 154


1- م.ن: 2 / 198 - 199

تأتي الصور التشبيهية البليغة باسلوب المفعول به متتابعة، كي تجسد لنا نظرة الامام الخاصة لمعنى طاعة الله، وموقعها في نفسه، وكيف أنه جعلها مدار اهتمامه، ومناط تفكيره، فيخاطب الناس بلهجة الامام الآمر الناصح المنبه على الغفلة والنسيان، والمحذر من التواني والخذلان، فيأمرهم بأن يجعلوا طاعة الله (شعاراً دون دثاركم) أي هي الأدنى إليكم من كل ما ترتدونه، فالشعار ما يلي البدن من الثياب، ثم يأتي بعدها الدثار، وأراد عبر هذا التعبير الكنائي ان يجعل الناس طاعة الله هي الاقرب الى نفوسهم وقلوبهم، وان يراعوا الله فيما يقولون ويفكرون، وقيما يأكلون ويلبسون، ثم يأتي التشبيه الثاني استكمالاً للصورة الاولى وهو (دخيلا دون شعاركم) اي الأدخل والأَمسَّ للجسد، بعدها يتبعهما التشبيه الثالث (لطيفا بين اضلاعكم) تتميماً للمعنى، وبتعبير كنائي أيضا يوضح وجوب صون هذه الطاعة والمحافظة عليها باطباق الأضلاع عليها، كما أطبقت على القلب رعاية وحفظا له مما قد يؤذيه، فهو اساس الحياة.

وبعد أن استوفى الامام علي (عليه السلام) عبر تشبيهاته الثلاثة الأولى، (الداخل) أي دواخل النفس الانسانية، انتقل بعدها الى (الخارج) أي الحياة وأمورها، فطلب من سامعيه ان يجعلوا طاعة الله (أميراً فوق اموركم) فجاء التشبيه البليغ مقرونا بالجناس ليرسما صورة تلتذ لها النفس ويطرب لها السمع، مجسدة منزلة طاعة الله بين أمور حياتهم التي شغلوا بها، فهي (الأمير) على هذه (الأمور)، ثم عليكم ان تجعلوها كذلك (منهلاً حين ورودكم) أي نبعا عذباً لا تزالون تستقون منه حتى يحين موعد ورودكم المنهل العذب الذي أعدّه الله لعباده المخلصين يوم القيامة، وحينها ستكون كذلك لكم (شفيعا لدرك طلبتكم) و (جُنَّة ليوم فزعكم) وقبلها

ص: 155

(مصابيح لبطون قبوركم) و (سكنا لطول وحشتكم) و (نَفَساً لكرب موطنكم) وهكذا تتابعت المشبهات بها تجسيداً للمعاني العظيمة لطاعة الله هذه الطاعة التي هي في حقيقتها نعم أخرى يسبغها الله على عباده الذين استشعروا حلاوة الايمان، وعشقوا طاعة الله، فطابت حياتهم بها، وستؤنسهم في وحشة قبورهم، وستكون شفيعاً لهم يوم حسابهم.

ومن الأفعال الأخرى المتعدية لمفعولين الفعل (اتخذ) الذي جاء ثانيا في نسبة وروده في التشبيهات البليغة باسلوب المفعول به بعد الفعل (جعل)، ومن ذلك قول الامام علي (عليه السلام) في خطبة له يشير فيها الى طلحة والزبير وما آل إليه أمرهما «اتخذوا الشيطان لأمرهم مِلاكا، واتخذهم له أشراكا، فباض وفرّخ في صدورهم، ودبَّ ودرج في حجورهم، فنظر بأعينهم، ونطق بألسنتهم، فركب بهم الزلل وزين لهم الخطل، فعل من قد شركه الشيطان في سلطانه، ونطق بالباطل على لسانه»(1).

إن من يتعمق العبارات السابقة، يجد فيها صورة مرعبة للنفس الانسانية، اذا ما ضلت طريق الحق، وأخذتها أهواؤها في دروب الزلل والخطل، بعد أن استولى الشيطان على صاحبها، واتخذه هذا لأمره مِلاكا، سيتملك كل حواسه وأفكاره، فيغيب الشيطان في كينونته الجسدية، ليتمثل في صورة هذا الأدمي الذي يستحيل الى شرك من أشراك الشيطان يتصيد به أناساً آخرين على شاكلتهم بعد ان باض وفرخ في صدورهم، ثم إذا تربى في حجورهم، تلبسهم فنظر بأعينهم ونطق بألسنتهم،

ص: 156


1- م.ن: 1 / 37

هذه اللوحة المخيفة للانسان (الشيطان) استهل الامام بناءها بصورتين تشبيهيتين بليغتين باسلوب المفعول به في قوله (اتخذوا الشيطان لأمرهم ملاكاً، واتخذهم له أشراكا) في تقابل رائع وتمازح بين الفن والمنطق، فالصورة الثانية هي النتيجة المنطقية للصورة الاولى التي صارت سببا لها، فإذ اتخذ هؤلاء من الشيطان ملاكا لأمرهم، من الطبيعي والمنطقي ان يكونوا هم له أشراكا، فلا يمكن للشيطان ان يتبدى لنا الا في صورة أناس باعوا أنفسهم له، فصاروا هم صورته وهيأته التي تدور بين الناس سعياً لحرفهم عن الحق، وقيادهم نحو الباطل، فهو ينظر بأعينهم وينطق بألسنتهم في شراكة عجيبة بينهم وبين الشيطان، يؤكد الامام أنهم من بدأها بقوله (اتخذوا) فهم المبادرون وهم الساعون نحوه، فمن المنطقي ان يتخذهم الشيطان له أشراكا، فهم جنوده الأوفياء وأصفياؤه المخلصون، وعند انعام النظر في الصورة السابقة تتضح مفارقة عظيمة، ربما غابت عن بال هؤلاء الضالين المضلين وهي انهم حين يتصيدون الضالين والمنحرفين، ممن هم على سبيلهم وشاكلتهم، يعتقدون أنهم يكسبون هؤلاء لانفسهم فهم اتباعهم، ولكن الامام لطمهم لطمة عّلها توقظ ما تبقى من عقولهم وهي أن هؤلاء انما هم اتباع الشيطان لا اتباعكم، وهم جنوده لا جنودكم يأتمرون بأمره لا أمركم، ومتى وجدوا منفعتهم لدى آخرين انحرفوا عنكم الى هؤلاء وتركوكم، فما أبورها تجارة، وما افسدها شراكة، حين تبيع نفسك للشيطان، فتتحمل أنت أثام من اضللتهم وخطاياهم وذنوبهم، ويكسب الشيطان بآثامك وخطاياك وليس لك في كل ما سعيت غير الخيبة والخسران.

وفي المعنى نفسه، بل في تأكيدٍ واضح لما تقدم، يحذر الامام من هؤلاء الذين صاروا جنوداً للشيطان وأشراكاً له، يحرفون الناس بعقوقهم وفسوقهم، وكأنه

ص: 157

يستكمل صورته السابقة لهم فيقول: «ولا تطيعوا الأدعياء الذين شربتم بصفوكم كدرهم، وخلطتم بصحتكم مرضهم، وأدخلتم في حقكم باطلهم، وهم أساس الفسوق، وأخلاس الحقوق، اتخذهم إبليس مطايا ضلال، وجنداً بهم يصول على الناس، وتراجمة ينطق على ألسنتهم استراقاً لعقولكم، ودخولاً في عيونكم، ونفثاً في اسماعكم، فجعلكم مرمى نبله، وموطئ قدمه، ومأخذ يده»(1).

لا تختلف هذه الصورة التي رسمها الامام لاتباع الشيطان، وما يقومون به خدمة لسيدهم، كثيراً عن الصورة المتقدمة، ولكن الامام هنا زاد في الحط منهم وتشنيع حالهم وتقبيح فعلهم، فإذ جعلهم هناك أشراكاً للشيطان، صاروا هنا مطايا لإبليس زيادة في تقبيح صورهم، وتنفير الناس من سلوكهم، اذ جعلهم مطايا للضلال، فأبليس اللعين اتخذ منهم مطايا له، بكل ما توحي به كلمة (مطايا) من احتقار واذلال، ثم اضافها الى لفظة (ضلال) ليذكر ان المطايا قد تكون مصدر خير ونفع للناس وهي تنقلهم وأغراضهم من مكان الى آخر، ولكن هؤلاء الذين امتطاهم الشيطان انما يسعون في الشر وافساد الناس، فهو يملك أمرهم يوجههم حيث شاء وليس لهم إلا الامتثال لأمره شأن المطية يوجهها راكبها حيث شاء.

ثم يستكمل الصورة بالقول ان ابليس قد اتخذهم (جنوداً بهم يصول على الناس) فهم مأمورون بأمره ولا يعدون كونهم أدوات بيد ابليس ويلاحظ تقديم شبه الجملة (بهم) على الفعل (يصول) ليؤكد اختصاصهم بهذا العمل القبيح ورسوخه في ذواتهم، ثم يتبعها بصورة ثالثة (تراجمة ينطق بألسنتهم)، كي يسرق

ص: 158


1- م.ن: 2 / 166 - 167

عقول السامعين ويحرف ابصارهم عن طريق الحق، وينفث في اسماعهم نداء الشر والعدوان، ولا يملك الامام بعد هذا كله الا ان يحذر سامعيه عبر صوره التشبيهية البليغة وباسلوب المفعول به ايضا في قوله (فجعلكم مرمى نبله، وموطئ قدمه، ومأخذ يده) فماذا يمكن ان يتبقى للانسان من آدميته اذا استولى على نفسه ابليس فصار هدفه الذي يصوب سهامه نحوه، حتى اذا تيقن من وقوعه في حبائله، أخذه بيده وداسه بقدمه، اذ لم يعد عنده شيئا جديراً بالاهتمام والتقدير.

وإذ قبّح الامام صورة اتباع الشيطان كل هذا التقبيح، وحذر الناس منهم ومن الاعيبهم بصور لا تقل شناعة عما تقدمها، كان لابد له من أن يرسم لسامعيه طريق الخلاص من شراك ابليس وجنوده، وأن يحدد لهم كيف يمكن لهم ان يعصموا أنفسهم من الانزلاق في مهاوي الباطل، فيقول «واعتمدوا وضع التذلل على رؤوسكم، وإلقاء التعزز تحت أقدامكم، وخلع التكبر من أعناقكم، واتخذوا التواضع مسلحة بينكم وبين عدوكم: ابليس وجنوده»(1).

فالتواضع هو سبيل المؤمنين لدحر الشيطان واتباعه، وتذللهم لبعضهم هو سلاحهم في هزيمته والخلاص من ضلالات جنوده، وهو ما جاء عبر الكنايات والاستعارات والتشبيهات التي ساهمت في بناء العبارات السابقة بقوله (واعتمدوا وضع التذلل على رؤوسكم) كناية عن اتخاذ التذلل تاجا يتباهى به المؤمنون الصادقون، وفي صورة مقابلة لهذه ومؤكدة لمعناها يأتي قوله (والقاء التعزز تحت أقدامكم) استصغاراً للعز الكاذب واستحقاراً للتكبر الفارغ، الذي يستعبد

ص: 159


1- م.ن: 2 / 165

أصحابه، وهو ما عبرت عنه الصورة الثالثة (وخلع التكبر من أعناقكم) حيث تداخلت فيها الاستعارة (خلع التكبر) مشفوعة بالمجاز المرسل (اعناقكم) مع الكناية المتحصلة من العبارة بتمامها لتعطي صورة من صور التحرر من وساوس الشيطان والاعيبه بنبذ التكبر وعدم الاتصاف به، لتأتي بعد هذا كله الصورة التشبيهية البليغة باسلوب المفعول به (اتخذوا التواضع مسلحة بينكم وبين عدوكم:

ابليس وجنوده) حيث شبّه التواضع بالمسلحة أي «الثغر أو المرقب»(1) الذي يتخذه الجنود مكانا للدفاع عن بلدهم وأرضهم، فكما ان الثغر أو المسلحة هي أولى مصدات العدو التي تقف في وجه غاراته فكذلك هو التواضع أول ما يواجه به المؤمنون عدوهم الشيطان واتباعه، كي يهزموهم ولا يمكنوهم من أنفسهم.

وفي كلام آخر للامام علي (عليه السلام) يصلح ان يكون استكمالاً لصورة المؤمنين الزاهدين الذين نبذوا التكبر واستصغروا التعزز وأخلصوا وجههم لله سبحانه، يقول واصفا هؤلاء «طوبى للزاهدين في الدنيا الراغبين في الآخرة، أولئك قوم اتخذوا الأرض بساطاً وترابها فراشاً، وماءها طيباً، والقرآن شعاراً والدعاء دثاراً، ثم قرضوا الدنيا قرضاً على منهاج المسيح»(2).

فالصورة التشبيهية البليغة بطريقة المفعول به اتكأت على الفعل (اتخذ) كي تعطي أوصاف هؤلاء الزاهدين بالدنيا، الراغبين عن مباهجها ولذائذها، رغبة في الآخرة، وطمعا في رضوان الله عنهم، فهم قد (اتخذوا الأرض بساطا) و (ترابها فراشاً) تعبيراً عن بساطة عيشهم، ونبذهم ألوان ترفها، حتى أنهم اتخذوا من الماء

ص: 160


1- مختار الصحاح / 308
2- نهج البلاغة: 3 / 173 - 174

وحده طيبا لهم يتطيبون به تقربا الى الله، بعدها تأتي صورتان كنائيتان لا تقلان جمالاً عما تقدمهما من كنايات بقوله (والقرآن شعاراً والدعاء دثارا) اذ ان هؤلاء الزاهدين صاروا يقرأون القرآن سراً للاعتبار بمواعظه والتفكر بدقائه، دون ان يتفاخروا بعملهم هذا، أو يجاهروا به تطاولاً وتمايزاً من سواهم، وهو ما عبر عنه بتشبيهه القرآن بالشعار، وهو ما يلي الجسد من الملابس، فيما تأتي الصورة المقابلة لهذه الصورة بجعل الدعاء دثاراً وهو ما ظهر من الملابس، فهؤلاء الزاهدون اذ يخفون قراءتهم للقرآن، يجهرون بالدعاء، لأن في الدعاء، اظهاراً للضعف والمسكنة وحاجة العبد إلى ربه، و به تروض النفس كي تذل وتعتبر.

وفي عظة من عظاته العظيمة يوجه الامام نقداً لاذعاً لأهل زمانه وقد اختلت عندهم القيم حتى صار الغدر دليلا على الكياسة والذكاء ووسموا أهله بحسن الحيلة والفطنة، يقول: «إن الوفاء توأم الصدق، ولا أعلم جُنَّة أرقى منه. ولا يغدر من علم كيف المرجع، ولقد اصبحنا في زمان قد اتخذ أكثر أهله الغدر كَيْساً، ونسبهم أهل الجهل فيه الى حسن الحيلة، مالهم؟ قاتلهم الله! قد يرى الحُوَّل القُلُّبُ وجه الحيلة ودونه مانع من أمر الله ونهيه فيدعها رأي عين بعد القدرة عليها وينتهز فرصتها من لا حريجة له في الدين»(1).

فالتشبيه البليغ باسلوب المفعول به في قوله (اتخذ أكثر أهله الغدر كيساً) أي جعلوه من العقل وحسن الحيلة، فهم لضعف ايمانهم، وصغر عقولهم صاروا يمتدحون الغدر وأهله، فيعجب الامام لمنطقهم هذا، ويذكرهم بأن أهل البصر

ص: 161


1- م.ن: 1 / 88

والذكاء - وهو في مقدمتهم - هم الأقدر على سلوك طريق الحيلة والغدر للوصول الى مرادهم، ولكن خشية الله والخوف من معصيته يمنعانهم من اللجوء إليه وهم قادرون عليه، وقوفا عند حدود الله، ولكن من لا دين له ينتهز مثل هذه الفرص، ولعل سلوك الامام مع معاوية وسلوك هذا الأخير معه خير مثال على ما يقرره الامام علي (عليه السلام) في هذا الموضع.

وللفعل (رأى) حضور في تشبيهات الامام علي (عليه السلام) البليغة باسلوب المفعول به، ومن ذلك قوله في واحدة من خطبه التي عدت من خطب الملاحم، إذ يخاطب فيها الناس، بل يقّرعهم لما يراه من انقيادهم الى الفتنة، دون تفكر أو تعمق في عواقبها وفواجعها، وانسياقهم وراء من خرج عن الملة وسلك طريق الضلالة، لايريد بهم الا السوء ولايؤدي بهم الا الى الهلاك، فيصرخ من أعماقه هادراً: «ما لي أراكم اشباحاً بلا أرواح؟ وأرواحاً بلا اشباح. ونسّاكاً بلا صلاح. وتجاراً بلا أرباح، وأيقاظاً نُوّماً، وشهوداً غيَّبا، وناظرة عمياء، وسامعة صماء، وناطقة بكماء، رأيت ضلالة قد قامت على قطبها وتفرقت بشعبها، تكيلكم بصاعها، وتخبطكم بباعها، قائدها خارج عن الملة. قائم على الضلة»(1).

لقد تضافرت وجوه بلاغية عدة في المقولة السابقة، كي تحيلها الى صخرة صماء يقرع بها رؤوس سامعيه، علّها توقظهم من غفلتهم، وتعيد إليهم رشدهم، بعدما لاحظ انهم سادرون في غيهم عميت أبصارهم عما يراد بهم، وصكت مسامعهم عن نداء الحق، وهكذا توجت العبارة بالاستفهام الاستنكاري الذي يحمل معنى

ص: 162


1- م.ن: 1 / 207

التقريع والتبكيت (مالي أراكم) تلته سلسلة التشبيهات البليغة باسلوب المفعول به المعتمدة على الفعل (ارى) الذي افاد العلم لا الرؤية البصرية، كي يأتي متوافقا وحال السامعين الذي يرون بابصارهم ولكن عميت بصائرهم، ويسمعون بآذانهم ولكن صُمّت عقولهم، فكان التداخل العجيب بين المفارقة والتشبيه البليغ، خير تجسيد لألم الامام ومعاناته مما يراه والفرق بينه وبين ما يراه سامعوه، بين ما يعتقدونه هم، وبين ما يراد بهم، بين الأمور في ظواهرها الخادعة وحقائقها الخافية، فكان لابد للامام من استنفار كل طاقات اللغة وامكاناتها كي يزلزل قناعات سامعيه ويوقظ ما تبقى من حواسهم ومداركهم علهم يتداركون انفسهم، وهكذا جاء اسلوب العكس والتبديل في اول كلامه ترجمانا لما يريده الامام منهم، وذلك في قوله (اشباحاً بلا ارواح) و (ارواحاً بلا اشباح) فهم على حاليهم اللذين وجدهم عليهما غير نافعين، وعليهم عكسهما وتبديلهما بحال أخرى هي اجتماع الارواح بالاشباح، كي تتم الصورة، وتستكمل الخلقة، وبغير هذه الحال لا يكون هناك فلاح.

ثم تتتابع المفارقات: (نساكا بلا صلاح) و (تجاراً بلا أرباح) و (أيقاظا نوما) و (شهوداً غيبا) و (ناظرة عمياء) و (سامعة صماء) و (ناطقة خرساء) كي تعري سامعيه، وتجلي لهم حقيقة حالهم وهم يناصرون الفتنة (الضلالة) التي قامت بينهم، ويتابعون قائدها في خروجه عن الملة، وركوبه الضلالة، فهم يرون بلا روية ويسمعون بلا وعي، وينطقون بلا صوت، فحالهم عجب، وسكوتهم عليه أعجب، وليس لهم من سبيل للنجاة غير إفاقتهم، وصحوتهم من غيّهم، واستبدال حال أخرى بحالهم، فلكل غيبة إياب، ولكل أجل كتاب.

ص: 163

إن النص السابق يؤكد هذه البلاغة المعجزة التي تتدفق من ينبوع الحكمة، إمام الأمة، وهو يتحسس عظم المسؤولية الملقاة على عاتقه، وهو ملزم بقيادة أُمته خير قيادة والسير بها نحو شاطئ الخير والسلام، بأن يتصدى لكل المارقين من ابنائها، الساعين نحو هلاكها واهلاكها، فكان لابد له من ان يحشد كل امكانات اللغة وطاقات البلاغة، كي يوقظ العقول التي غُيبت والأبصار التي عميت والاسماع التي صمت، والألسن التي خرست، وحينها سيكون قد أدى الرسالة وبلغ الأمانة، وأبرأ ذمته تجاه خالقه يوم الحساب.

وبالضد من هؤلاء المغويين الضالين في دروب الفتنة، الذين عميت ابصارهم، وصكت أسماعهم، وخرست ألسنتهم، فعادوا اشباحاً بلا أرواح، لا لشيء إلا لأنهم باعوا أنفسهم للشيطان، واستحبوا الكفر على الايمان، على الطرف المقابل لهم ياتي عباد الله المخلصون الذي باعوا ذاتهم لله واخلصوا له النية، فخصهم الله برحمته، فناجاهم في فكرهم، وكلمهم في ذات عقولهم، فاستصبحوا بنور يقظة في الابصار والاسماع والأفئدة، واكثروا من ذكر الله فلم تشغلهم عنه تجارة ولا بيع، يأمرون بالقسط ويأتمرون به، وينهون عن المنكر ويتناهون عنه، فكأنما قطعوا الدنيا الى الآخرة وهم فيها فشاهدوا ما وراء ذلك «فلو مثلتهم لعقلك في مقاومهم المحمودة، ومجالسهم المشهودة، وقد نشروا دواوين أعمالهم، وفرغوا لمحاسبة أنفسهم على كل صغيرة وكبيرة أمروا بها فقصروا عنها، أو نهوا عنها ففرطوا فيها...

«لرأيت أعلام هدى، ومصابيح دجى، قد حفت بهم الملائكة وتنزلت عليهم

ص: 164

السكينة، وفتحت لهم أبواب السماء، وأعدت لهم مقاعد الكرامات»(1).

فقوله «لرايت أعلام هدى، ومصابيح دجى «تشبيهان بليغان باسلوب المفعول به، عبر الفعل (رأى) الذي تعدى الى مفعولين الاول هو (المشبه) وهم هؤلاء الأصفياء، عباد الله الذين منّ الله عليهم بالعلم والبصيرة، يهديهم ويهدي بهم باقي خلقه، وعامة عباده، والثاني هو (المشبه به) وهما قوله (اعلام هدى) و (مصابيح دجى) فهم كالجبال يهتدى بهم الى طريق الحق والخير و كالمصابيح ينيرون لأخوانهم طريقهم بعد أن لفها الظلام وأحاطت بهم الدياجي، وهما تشبيهان يكمل أحدهما الآخر، فبعد ان ترى الجبال أمامك وتطمئن الى وجهتك وقد تبينت طريق الرشاد، تنير المصابيح سبيلك كي تسير واثقا بخطوتك، متيقنا من سلامتك، تعرف وقع خطوك، وتستبين صواب وجهتك. .. انهم عباد الله الذين اضاء الله ابصارهم واسماعهم وافئدتهم كي يبشروا بالطريق اليه سبحانه.

وفي خطبة من خطبه، يحذر الامام علي (عليه السلام) الناس من مسايرة أهل الباطل، الذين يطلبون حقاً ليس لهم، ويرجون جاها هم ليسوا أهلا له، ولذا ترى أحدهم وقد أصلت سيفه، وأعلن شره، وجلب خيله ورجله «قد اشرط نفسه، وأوبق دينه، لحطام ينتهزه، أو مقنب يقوده، أو منبر يفرعه، ولبئس المتجر أن ترى الدنيا لنفسك ثمناً وممّا لك عند الله عوضا»(2). فهذا الذي يطلب الأمارة وما هي من حقه، لا يملك الا ان يستل سيفه مهدداً من لا يسمعون لسلطان جائر، ولا يتبعون طالب دنيا وجاه، فقد هيأ نفسه وأعدها للشر والفساد وأهلك دينه طمعا

ص: 165


1- م.ن: 2 / 238 - 239
2- م.ن: 1 / 73 - 74

بدنياه، فيلتفت اليه الامام موبخا اياه على هذه التجارة البائرة والمقايضة الخاسرة، بأن جعله يرى الدنيا ثمنا لنفسه، وعوضا لما عند الله، اي استبدلها بنفسه وبالجنة، فبانت خسارة تجارته، وبؤس مبادلته، فهل تستحق الدنيا ان يدفع أحدنا نفسه ثمنا لها، او ان يستبدل ما فيها من حطام بما عند الله من نعيم لا يزول، فأين عطاء الدنيا من عطاء خالقها، وكيف يرضى استبدال المحدود بالمطلق؟ انها حقا بئس المتجر.

وتتواتر أفعال تتعدى الى مفعولين كي تقوم عليها الصورة التشبيهية البليغة باسلوب المفعول به، في كلام الامام علي (عليه السلام) ومن ذلك الفعل (رجى) الذي تضمنه واحد من أدعية الامام وهو يعبر عن انقطاعه عن مديح الآدميين، والثناء على المربوبين المخلوقين، لانهم معادن الخيبة ومواضع الريبة، فيقول: «اللهمَّ ولكل مثن على من أثنى عليه مثوبة من جزاء، أو عارفة من عطاء، وقد رجوتك دليلاً على ذخائر الرحمة وكنوز المغفرة»(1).

فقوله الأخير (رجوتك دليلا على ذخائر الرحمة وكنوز المغفرة) تشبيه بليغ بأسلوب المفعول به، فقد تعدى الفعل (رجى) الى مفعولين، الأول هو الخالق سبحانه وتعالى وهو المشبه، والثاني هو (دليل) وهو المشبه به، حيث جلّ الدعاء ما كان يأمله الامام من عبادته لله، والانقطاع اليه بالرجاء دون سواه من مخلوقاته، فهو لم يرجه لطمع دنيوي أو عطاء زائل كما يفعل كثيرون حين يتوجهون بالدعاء إلى خالقهم، انما هو يرجو خالقه ان يكون له دليلاً على ذخائر الرحمة وكنوز المغفرة، انه عابد مثالي، وزاهد ليس له شبيه، فقد طلق الدنيا، بل ناصبها العداء، فلم يعد

ص: 166


1- م.ن: 1 / 181

فيها ما يغريه أو يدعوه لسؤال خالقه أن يوفقه إليه، لقد هجر كنوزها إلى كنوز أكبر وأبقى، ونبذ ذخائرها طمعا بذخائر حقة، تنفعه يوم لا ينفع مال ولا بنون، لقد توجه بقلبه وعقله نحو خالقه يخصه بالدعاء والثناء لا لشيء الا ليفتح ذهنه وقلبه الى سبل توصله الى ذخائر رحمة الله وكنوز مغفرته، انه يتوسل بخالقه إليه، كي يزداد قرباً منه وتعظم طاعته له، انها علاقة خاصة بين العبد وخالقه، قد لا يفهمها الا من أخلص وجهه لله، وغاية ما يتمناه رضا خالقه عنه. .. يقول «وبي فاقة إليك لا يجبر مسكنتها الا فضلك، ولا ينعش من خلتها الا منَّك وجودك، فهب لنا في هذا المقام رضاك، وأغننا عن مد الايدي إلى سواك»(1).

وبوحي من هذا الادراك المتميز لما يجب ان تكون عليه علاقة العبد بخالقه، نجده دائم التحذير لاتباعه والناس أجمعين من الارتهان للدنيا، والانخداع بمظاهرها، وضرورة الاتعاظ بمن سبقنا ممن واتته اسبابها، فتطاول وتفاخر، وتهادى وتمادى، حتى اذا ادركته منيته، ووسد التراب، تساوى بغيره، ممن تفاخر عليهم، وجاور من كان يتطاول عليهم، يقول: «فبئست الدار لمن لم يتهمها ولم يكن فيها على وجل منها، فاعلموا - وانتم تعلمون - بأنكم تاركوها، وظاعنون عنها، واتعظوا فيها بالذين قالوا (من أشدُّ منا قوة) حُلوا إلى قبورهم، فلا يدعون ركبانا، وأنزلوا الأجداث، فلا يدعون ضيفانا، وجعل لهم من الصفيح أجنانٌ ومن التراب أكفان، ومن الرفات جيران»(2).

ص: 167


1- م.ن
2- م.ن: 1 / 218 - 219

فالصورتان التشبيهيتان البليغتان في قوله (فلا يدعون ركبانا) و (لا يدعون ضيفانا) وباسلوب المفعول به جاءتا معبرتين عن الخيبة والخسران اللذين آل إليهما مصير أولي البأس والقوة، وكيف تغير الحال بهم فبعد أن كانوا يحملون على المراكب الفارهة مبجلين مكرمين، ها هم يحملون الى قبورهم ولا يدعون ركبانا لأنهم لم يختاروا مركبهم هذا وليس لهم الخيار في توجيهه - كما كان شأنهم في الحياة الدنيا - وبعد أن كان اتباعهم يتبارون في استضافتهم، والمفاخرة بالنزول عندهم، ها هم ينزلون قبورهم فلا يعبأ بهم أحد، بل انهم لا يدعونهم ضيوفا لانها دار قرارهم ومستقرهم، وسرعان ما ينفض دافنوهم التراب عن ايديهم ليعودوا الى حياتهم، وقد نسوهم وتشاغوا عنهم بأمور حياتهم، أما هم فقد صار الصفيح لهم أجنانا أي قبوراً والتراب أكفانا والرفات جيرانا، فجاءت هذه الصور البليغة الثلاث لتكمل جوانب أخرى من الصورة التي رسمها الامام لخيبة هؤلاء المغترين بالدنيا ونعيمها المطمئنين لما نالوه من جاه وعز، دون أن يدركوا ان ذلك كله إلى زوال.

وفي كتاب للامام علي (عليه السلام) وجه به إلى عبد الله بن عباس بعد مقتل محمد بن أبي بكر، نلمس هذا المكانة المتميزة لمحمد بن أبي بكر من نفس الامام، وما يمثله استشهاده من فجيعة وخسران، لواحد من رجالات الامام الصادقين في الذب عن الاسلام واهله، يقول: «أما بعد، فإن مصر قد افتتحت ومحمد بن ابي بكر رحمه الله قد استشهد، فعند الله نحتسبه، ولداً ناصحاً، وعاملاً كادحاً، وسيفا قاطعا، وركنا دافعا»(1) فتوالي المفعولات الثواني للفعل (احتسب) وهي المشبهات بها للمفعول به الاول (المشبه) وهو محمد بن ابي بكر، تجلي المكانة المتميزة لهذا

ص: 168


1- م.ن: 3 / 67

الشهيد عند الامام لعظم شأنه وشأن ما قدمه للاسلام والمسلمين، فقد عدّه الامام أولاً ولداً ناصحاً له، ثم هو عامل كادح، وثالثة صار سيفا قاطعا للشرك وأهله، ورابعة ركنا دافعا يذب عن الاسلام وأهله بعد ان ثبت على الايمان وصار حصنا حصينا يحمي من يلتجئ إليه، حتى جاد بحياته ثمنا لهذا الايمان الصادق والعقيدة الحقة. وفي جزء من خطبة الامام علي (عليه السلام) الطويلة المسماة (القاصعة) يصف وصفاً رائعاً هذه العلاقة المتميزة بينه وبين رسول الله محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، وكيف تعهده بالرعاية وخصه بالعناية، فقد «وضعني في حجره وأنا ولد يضمني إلى صدره، ويكنفني في فراشه، ويمسني جسده، ويشمني عَرْفَه، وكان يمضغ الشيء ثم يلقمنيه. .. ولقد كنت أتبعه اتباع الفصيل إثر أمه، يرفع لي في كل يوم من أخلاقه علماً، ويأمرني بالاقتداء به»(1).

فالصورتان التشبيهيتان البليغتان في ختام العبارة السابقة رسمتا لوحة فنية مؤثرة، لهذه العلاقة الروحانية بين النبي محمد (صلى الله عليه آله وسلم) وابن عمه الامام علي (عليه السلام) وهو يتعهده طفلاً صغيراً يجلسه على حجره في نهاره، ويضمه في فراشه الى صدره ليلاً، تعبيرا عن عميق محبته له، فهو ولده الذي يحرص على ان يطعمه بعد ان يمضغ اللقمة في فمه، شأن الوالد الرؤوف والأم الرؤوم اللذين يريان في ولدهما امتدادهما وبقاء نسلهما بعد تلبية نداء خالقهما، جاءت الصورة البليغة الأولى باسلوب المفعول المطلق (اتبعه اتباع الفصيل إثرأمه)

ص: 169


1- م.ن: 2 / 182

والثانية باسلوب المفعول به (يرفع لي في كل يوم من أخلاقه علما) وهل هناك قبلة للأخلاق يمكن ان يقتدى بها أعظم من رسول الله وهو الذي «قرن الله به، صلى الله عليه واله، من لدن ان كان فطيماً أعظم مَلك من ملائكة يسلك به طريق المكارم، ومحاسن اخلاق العالم، ليله ونهاره»(1) كما يقرر ذلك الامام نفسه، فما له بعد ذلك غير أن يتخذ من جبل الأخلاق هذا قدوة يقتديها، ونبراساً يهتدي به، فلا غرابة بعد هذا كله اذا جاء الامام علي (عليه السلام) ربيب النبوة، ورديف الرسالة، فقد رأى وحي الرسالة وشم ريح النبوة وهو يدرج صبيا في بيت النبي وخديجة وثالثهما هو... لقد استشرف النبي، مستقبل الاسلام وأدرك الدور الذي سينهض به ابن عمه وما سيتحمل من اعباء هذه الأمة، وهكذا أعدّة لدوره هذا، فهو امتداده الطبيعي، الذي سيخلفه في قيادة هذه الأمة ويتم ما بدأه هو، لتكتمل على يديه صورة الأمة كما ينبغي لها ان تكون، وكما أرادها لها الله يوم بعث نبيه.

وخير ما نختم به مبحثنا هذا، مقولة الامام الرائعة، وهو يصف حال من يتابع أهل بيت النبوة، ويحبهم حبا صادقاً في الله بريئاً من كل غاية أو منفعة، فيقول:

«من أحبنا أهلَ البيت فليستعد للفقر جلباباً»(2). فقد أوضح ما يوجبه هذا الحب على من أخلص النية في حب آل البيت، وأول ذلك التنكر للدنيا والزهد بملاذها ومتعها، فلا يتوافق حب أهل البيت، وحب الدنيا، ولا يجتمعان في قلب مؤمن صادق الايمان، فقد اتخذ اهل البيت الدنيا عدواً، وتنكروا لكل مباهجها ولذائذها، فكيف سيكون التقرب لهم بغير مواساتهم بحالهم، والتخلق بأخلاقهم، وليس

ص: 170


1- م.ن
2- م.ن: 3 / 176

أدل على هذا الحب من خلع رداء الزينة والبهجة واتخاذ الفقر جلبابا يكسي محبي أهل البيت في الدنيا، أما في الآخرة فإن كسوتهم التي لا تبليها الايام ولا ينال منها طول العهد هي رضا الله عنهم، ومجازاتهم عن هذا الحب بالجنة ونعيمها الذي لا يزول.

ص: 171

ص: 172

الفصل الخامس التشبيه البليغ بحرف الجر

هو لون آخر من ألوان التشبيه البليغ، شاع في النصوص الابداعية، شعراً ونثراً، حتى تسلل الى كلام الناس الدارج كقولهم «شَعْر من ذهب «و «قلب من حجر «تشبيها للشعر بالذهب، والقلب بالحجر تشبيها بليغا محذوفا منه ركناه: اداة التشبيه ووجه الشبه، وجرى ربط المشبه بالمشبه به بحرف الجر (من).

وعلى كثرة دوران هذا اللون من التشبيه في كلام الادباء، وكلام عامة الناس، وعلى الرغم من الاشارة إليه في كتب البلاغة بوصفه ضربا من ضروب التشبيه البليغ، الا ان أحداً لم يتصد لدراسته، إذ لم تصادفنا دراسة تطبيقية له عند أحد من الشعراء أو الكتاب سواء اكان من القدماء أم المحدثين ونعتقد ان دراستنا له في شعر نزار قباني كانت من الدراسات الرائدة في بابها(1).

واذ تقوم ألية هذا التشبيه على الربط بين المشبه والمشبه به بحرف الجر، فإنه يمكن للمشبه ان يتقدم على المشبه كما في الأمثلة السابقة حيث شبه الشعر بالذهب والقلب بالحجر، أو ان يتقدم المشبه به على المشبه كما في قولنا (عاصفة من التصفيق)

ص: 173


1- ينظر كتابنا: ألوان من التشبيه في الشعر العربي، الفصل الثالث ص 111

بتشبيه التصفيق بالعاصفة، وكقول أبي الطيب المتنبي:

سحابٌ من العقبان يزحف تحتها *** سحابٌ إذا استسقى سقته صوارمهُ(1).

بتشبيه العقبان بالسحاب، وبتقدم المشبه به على المشبه.

ومما ورد من هذا التشبيه في القرآن الكريم قوله تعالى «سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ» [ابراهيم / 50] فقد شبه القطران - وهو النفط الاسود - بالسرابيل للكافرين، «فتطلى به جلود أهل النار حتى يعود طلاؤه لهم كالسرابيل وهي القمص لتجتمع عليهم الاربع، لذع القطران وحرقته، واسراع النار في جلودهم، واللون الوحش، ونتن الريح»(2).

ومنه كذلك قوله تعالى «بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ» [الواقعة/ 18] إذ جرى تشبيه الكأس بالماء المعين صفاء ورقة، بربط المشبه (كأس) بالمشبه به (معين) بحرف الجر (من)، وقد وقف ابن ناقيا عند هذا التشبيه في كتابه (الجمان في تشبيهات القرآن)، معبراً عن اعجابه بهذه المناسبة بين المشبه والمشبه به قائلاً «على ان احسن ما وصف من هذه الحال ما ورد من التشبيه في الآية لوقوع المناسبة بين هذا الجنس وبين الماء الذي هو غاية في الرقة واللطافة»(3).

ولا تتأتى المبالغة في هذا اللون من التشبيه، من حذف اداة التشبيه ووجه الشبه، والاكتفاء من أركان التشبيه بركنيه الاساسيين وهما المشبه والمشبه به فحسب، بل

ص: 174


1- العرف الطيب / 289
2- الكشاف: 2 / 308
3- الجمان في تشبيهات القرآن / 367

ان طريقة الربط بينهما من خلال حرف الجر، تعطي التشبيه دلالة، أقوى على المبالغة، فحين نقول (قلب من حجر) لم تعد العلاقة علاقة مشابهة فحسب بين القلب والحجر، كما في قولنا (قلب حجر)، ولكن يصبح (الحجر) جنساً، أو جوهراً للمشبه (القلب) فتقوى المبالغة ويتأكد المعنى بعد ان يصبح الحجر مادة خلق منها القلب أو نحت منها وصار هو بعضا منها. ذلك ان من معاني (من) بيان الجنس(1)، وبذا صار الحجر مادة وجنساً للمشبه (القلب) فكأنه خلق منه، ولم تعد العلاقة بينهما علاقة مشابهة فحسب.

وخلال استقرائنا لضروب التشبيه البليغ في كتاب نهج البلاغة للامام علي (عليه السلام) لم نعدم أن نجد عدداً من التشبيهات البليغة بحرف الجر في بعض من نصوصه، وهي وإن كانت قليلة قياساً بالضروب المتقدمة التي مرّ ذكرها، ولكن ما اهتدينا إليه منها جاوز الاثني عشر نصا، بما ألزمنا الوقوف عندها ودراستها،استكمالاً لضروب الصورة التشبيهية البليغة في نهج البلاغة.

في واحدة من مقولاته الرائعة يتحدث الامام عمن يتصدى للحكم بين الناس وهو ليس لذلك بأهل، يلتمس له موضعا بين جهّال الأمة، يوحي للآخرين انه عالم فينتهز افتتان الناس بجهلهم وعماهم في فتنتهم فيعدو الى غايته من التصدر فيهم والسيادة عليهم «حتى إذا ارتوى من آجن، واكتنز من غير طائل، جلس بين الناس قاضياً ضامنا لتخليص ما التبس على غيره، فإن نزلت به إحدى المبهمات هيأ لها حشواً رثا من رأيه، ثم قطع به، فهو من لبس الشبهات في مثل نسج العنكبوت»(2).

ص: 175


1- الجنى الداني / 315
2- نهج البلاغة: 1 / 48 - 49

فالتشبيه البليغ بحرف الجر جاء في قول الامام مقوماً رأي هذا الجاهل المتصدي للفتيا بلاعدة ولا علم (حشواً رثا من رأيه) إذ شبه رأيه بالحشو الرث وبطريقة الربط بين المشبه (رأيه) والمشبه به (حشواً رثا) بحرف الجر (من). وتتجلى لنا قوة التشبيه وتأكيده في هذا التشبيه، عند المقارنة بين ايراده بطريقة حرف الجر، كما جاء في كلام الامام، وايراده بالتشبيه البليغ باسلوب المبتدأ والخبر، فيما لو قال الامام (رأيه حشو رث)، ففي هذا التركيب لم تعدُ العلاقة بين المشبه (رأيه) والمشبه به (حشو رث) سوى علاقة مشابهة اي المساواة بينهما، اما في عبارة الامام فالمبالغة في فساد هذا الراي ورثاثته أقوى، ذلك ان رأي هذا الدعي، المتحذلق، صار أصلاً للحشو والرثاثة، وهو حين يحكم أو يفتي دون علم أو دراية، انما يظهر لنا في كلامه ما انطوت عليه نفسه وفكره من رثاثة، فكأنها صارت معينا لهذا الحشو ولهذه الرثاثة، وهو انما يمتاح من الآجن الذي انطوت عليه نفسه، وهو مازاده تأكيداً وجمالاً، في الدلالة والتعبير في التشبيه الذي ختم عبارته السابقة (فهو من لبس الشبهات في مثل نسج العنكبوت) فهو واهٍ، متداعٍ، مكشوف، تصور أنه يرتدي ثيابا ولكنها لا تستره ولا تحميه، وهكذا هي آراؤه وفتاواه يعتقد انها تستر ما انطوت عليه نفسه من جهل وضلالة ولكنها بالضد مما اعتقده، هي التي تفضحه وتعريه أمام الناس.

وفي الموضوع نفسه، وبالطريقة نفسها نجد كلاماً آخر للامام في كتاب نهج البلاغة، إذ يقول: «وآخر قد تسمى عالماً وليس به، فاقتبس جهائل من جُهّال، وأضاليل من ضُلّل، ونصب للناس شركا من حبائل غرور، وقول زور»(1)، فهذا الجاهل المتعالم، والغبي المتفاهم، لا يفقه شيئاً، وليس له عقل يعصمه من

ص: 176


1- م.ن: 1 / 152

الوقوع في الضلالة، ولأنه كذلك فإنه يصدّق كل ما يقال له فيؤمن بجهالات الجهال، ويتابع ضلالات المضللين، ويبدأ بنشر ارائه الفاسدة، وفتاواه الباطلة، فيكون كالشرك المنصوب للايقاع بالآخرين في مهاوي الذنوب العظيمة والجرائم الكبيرة، وهو ما جاء عبر التشبيه البليغ بحرف الجر (شركا من حبائل غرور، وقول زور) حيث شبه الغرور وقول الزور بالشرك بالربط بين المشبهين (الغرور) و (قول الزور) بالمشبه به (شرك) بحرف الجر (من) وهذه الطريقة في ايراد الصورة التشبيهية أحالت هذا الجاهل الضال الى منجم للغرور ومعدن لقول الزور، يصنع منهما ما يشاء من شراك يتصيد بها من لا يفقه من الدين شيئا، معتقداً انه طلب حاجته عند صاحبها، وسأل سؤاله عند ابن بجدتها، وهذا المسؤول في حقيقة أمره انما «قد حمل الكتاب على آرائه، وعطف الحق على أهوائه، يُؤمّن من العظائم، ويهّون كبير الجرائم، يقول «أقف عند الشبهات» وفيها وقع، «واعتزل الشبهات «وبينها اضطجع، فالصورة صورة إنسان، والقلب قلب حيوان، لا يعرف باب الهدى فيتبعه، ولا باب العمى فيصد عنه»(1). على حد وصف الامام له.

وبوحي من هذه التقابلية الغريبة التي جعلت الامام علي (عليه السلام) بأزاء معاوية، حيث قابل الحق كله، الباطل جله، واصطدم الدين بالدنيا، واعترضت الضلالة طريق الهدى، وانطلاقا من مفارقة عجيبة أدمت قلب الامام علي (عليه السلام) وهو يرى التفاف أهل الباطل، حول صاحبهم - معاوية - على ضلالته، واستماتتهم في الدفاع عنه وعن ضلالاته، وتفرق أصحاب الحق عن الامام على عصمته من الخطأ والزلل، وتوانيهم في النهوض لقتال الباطل وأهله، وتشتتهم

ص: 177


1- م.ن

واختلاف كلمتهم، بوحي من ذلك كله تتفجر الثنائيات المتقابلة على لسان الامام بهيئة صور هي تجسيد لذهول الامام لما يرى، وامتلاء جوفه قيحا من سلوك أصحابه معه، فيقول لما غلب أصحاب معاوية أصحابه على شريعة الفرات بصفين ومنعوهم الماء: «قد استطعموكم القتال فأقِرّوا على مذلة، وتأخير مَحلَّة، أو روّوا السيوفَ من الدماء تُروْوا الماءَ فالموت في حياتكم مقهورين، والحياة في موتكم قاهرين»(1) لم يكن ما قاله الامام استنهاضا لأصحابه للقتال من أجل الماء فحسب، إنما آلمه ان يتمكن الباطل وأهله، ويستخذي الحق واهله، أن يستميت الغواة الضالون، وان يتكاسل رجال الحق المهتدون، وهكذا تضافرت المقابلة مع المفارقة كي ترسما لنا صورة رائعة لما يريده الامام من أصحابه، بل ما يريده لهم، وهو ما رسمه التشبيه البليغ بحرف الجر رسما رائعاً ومعبراً في قوله (فالموت في حياتكم مقهورين، والحياة في موتكم قاهرين) وهو يشبه حياة المقهور بالموت، وفي الطرف المقابل موت القاهر، بالحياة، إنها فلسفة الحياة كما يريدها العظماء لأهلهم وأنصارهم، إنها طراز معيشتهم التي يحلمون بها لهم ولاتباعهم وهكذا تتصادم الأضداد، الموت - الحياة، حياتكم - موتكم، مقهورين - قاهرين) وبصيغة التنافر والتقابل فلا يمكن ان تكون هناك حياة مع موت الذل، ولا يكون هناك موت مع حياة العز، فما ان يكون أحد الحالين إلا ويتلاشى قبيله، وبذا تبدى لنا الامام علي (عليه السلام) وكأنه أطلق يد أصحابه للاختيار بين بديلين، ولكن من ينعم النظر في العبارة السابقة يجد ان هذا هو المعنى المتحصل من ظاهر العبارة، أو هو راي من لم يسبر أغوار النص، أما حقيقة العبارة في بنيتها العميقة فإنها قيدّت اصحاب

ص: 178


1- م.ن: 1 / 96

الامام بقيد لا يمكنهم الفكاك منه، فمن منهم سيجرؤ بالقبول بحياة الذل التي هي الموت بعينه، ومن منهم يرفض موت العز، وهو الحياة في ابهى معانيها، وبهذه الطريقة الفريدة وضع الامام اتباعه أمام مسؤوليتهم التأريخية وهم يتصدون للباطل وأهله، ويهزمون الضلالة واتباعها، وهم في قتالهم هذا انما يعيدون للاسلام هيبته، وللحق مكانته، ويمنعون أنفسهم واجيالهم اللاحقة لهم من ان يزيغوا عن الصراط المستقيم الذي هداهم الله إليه وشرفهم دون باقي الخلق به، الا وهو طريق النور والهداية، طريق الاسلام.

وتتداخل الاستعارة مع التشبيه البليغ بحرف الجر في واحدة من خطب الامام علي (عليه السلام) بشكل مثير، ليخلقا صورة خاصة قد لا نجدها كثيراً في كلام سواه من البلغاء، وذلك في قوله مخاطباً اتباعه «ألم أعمل فيكم بالثقل الأكبر؟ وأترك فيكم الثقل الأصغر، وركزت فيكم راية الإيمان، ووقفتكم على حدود الحلال والحرام وألبستكم العافية من عدلي، وفرشتكم المعروف من قولي وفعلي، وأريتكم كرائم الاخلاق من نفسي»(1) تبدأ العبارة باستفهام تقريري لا يخلو من التوبيخ والتقريع لهؤلاء الذين نسوا أو تناسوا حقائق راسخة وأموراً بادية واضحة، فتصرفوا مع أمير المؤمنين تصرف الشاك المرتاب، فكان لابد له من تقريعهم، ولابأس من تذكيرهم بما نسوه أو تناسوه، وأول هذه الأمور يستمد أرجحيته وقوته من قول النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) «تركتُ فيكم الثقلين، كتاب الله وعترتي، أهل بيتي «وهو يستفهم منهم استفهاماً مفعماً بالتعجب: (ألم أعمل فيكم بالثقل الأكبر) أي القرآن الكريم، ثم أردفه بالاستفهام

ص: 179


1- م.ن: 1 / 153

الآخر (وأترك فيكم الثقل الأصغر) أي ولديه (عليهما السلام) كي تتخذوهما وذريتهما قدوة لكم ولابنائكم من بعدكم، ثم تتابعت الاستفهامات باسلوب العطف (وركزت فيكم راية الايمان) و (وقفتكم على حدود الحلال والحرام) و (ألبستكم العافية من عدلي) و (فرشتكم المعروف من قولي وفعلي) وفي الأستفهامين الآخيرين يتجلى جمال الصورة الاستعارية بتداخلها مع التشبيه البليغ بحرف الجر، حيث شبه في الأول منهما العدل بالعافية (العافية من عدلي) اي عدلي كالعافية لكم، ثم جاءت الاستعارة المكنية لتجعل من هذه العافية رداءً أو لباساً يلقيه الامام على اتباعه كي يشتملهم ويغطيهم، ويبدوا به للناس في أبهى حالاتهم وأحسن صورهم شأن الملابس الزاهية الجميلة، اما في الاستفهام الآخر فقد شبّه فيه قوله وفعله بالمعروف في قوله (وفرشتكم المعروف من قولي وفعلي) ثم بنى الكلام على سبيل الاستعارة المكنية حيث شبه المعروف بالفرش، ثم حذف المشبه به وجاء بلازمة من لوازمه وهي قوله (فرشتكم)، وكأن التشبيه الثاني جاء مكملاً للتشبيه الأول، فإذ كساهم الامام بخير كسوة عاد ليحسن فراش اتباعه، كي تبدو عليهم نعمته في كل أحوالهم، في قيامهم وقعودهم، فيما يظهرون به بين الناس، وفيما ينعمون به في مجالسهم وأماكن اقامتهم، وبذلك تكون الصورة المتحصلة من الاستعارة والتشبيه البليغ بحرف الجر قد أدت دورها تاماً في جمال العرض وتأكيد المعنى، فحققت ما كان يريده الامام منها.

ولان نبينا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) هو مدينة العلم، ولان الامام علي (عليه السلام) هو بابها، فأنى لنا، إذن، ان ندخل هذه المدينة العامرة من غير ان نلج بابها، فها هو الامام يأخذنا الى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كي نتعرف

ص: 180

عليه من خلال وصفه له فيقول «بعثه والناس ضُلّالٌ في حيرة، وخابطون في فتنة، قد استهوتهم الأهواء واستزلتهم الكبرياء، واستخفتهم الجاهلية الجهلاء، حيارى في زلزال من الأمر، وبلاء من الجهل، فبالغ صلى الله عليه وآله وسلم في النصيحة، ومضى على الطريقة، ودعا الى الحكمة والموعظة الحسنة»(1).

تضمن وصف الامام السابق تشبيهين بليغين بحرف الجر هما قوله (حيارى في زلزال من الأمر) و (بلاء من الجهل) فقد شبه في الاول الأمر، اي الحال التي كان عليها الناس قبل بعثة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالزلزال وفي الثاني شبه الجهل بالبلاء، وفي كليهما ربط المشبه بالمشبه به بحرف الجر (من)، فصور لنا ما كان عليه حال الناس في جاهليتهم الأولى، فهم حائرون في ضلالاتهم، خابطون في فتنتهم، يتصارعون فيما بينهم لاختلاف أهوائهم، ويتقاتلون فيقتل بعضهم بعضا طمعا بما لديهم، وهكذا فهم حيارى شأن من زلزلت الأرض تحت قدميه فهو لا يستبين طريق الخلاص وسبيل النجاة، وجهلهم بلاء شاع بينهم فلم ينج منه أحدٌ منهم، حتى شملهم الله برحمته فبعث فيهم نبيه المختار المصطفى كي يدعوهم الى الحكمة والموعظة الحسنة.

ص: 181


1- م.ن: 1 / 186 - 187

وينبري هذا الزاهد الكبير بالدنيا ومتعها، الى التحذير منها، ومن أساليبها في حرف الناس عن الايمان، بعد ما حفّت بالشهوات وتزينت بالغرور، وتحلّت بالآمال، ذلك انها لن تدوم لأحد، ولن يأمن أحد فجيعتها، فهي لن تعطي بلا ثمن، وأغلى ما يمكن ان يكون ثمنها لها، ان يشتريها أحدنا بآخرته، فقد استبدل الزائل بالدائم، ورضي بالقليل العاجل عوضا عن الكثير الآجل، فيقول محذراً «فبئست الدار لمن لم يتهمها ولم يكن فيها على وجلٍ منها، فاعلموا - وانتم تعلمون - بأنكم تاركوها، وظاعنون عنها، واتعظوا فيها بالذين قالوا: (من أشدُّ منا قوة) حملوا الى قبورهم فلا يدعون ركبانا، وأنزلوا الأجداث، فلا يدعون ضيفانا وجُعل لهم من الصفيح أجنانٌ، ومن التراب أكفانٌ، ومن الرفات جيرانٌ»(1).

في النص السابق ثلاثة تشبيهات بليغة بحرف الجر هي (من الصفيح أجنان) و (من التراب أكفان) و (من الرفات جيران) شبّه في الأول منها، الأرض التي أرادها بقوله (الصفيح) بما يستجن خلفه من الدروع وغيره كي تحمي صاحبها، وفي الثاني جعل التراب أكفانا على سبيل التشبيه، وفي الثالث جعل الرفات جيرانا، وجرى ربطها جميعا بحرف الجر (من)، فكانت صوراً ثلاثا تعبر عن مآل أولئك الذين كانوا متكبرين في الدنيا، طغاة، لا يرون أحداً يدانيهم في قوتهم وبطشهم، فماذا كانت نتيجتهم؟ لقد كانوا يتخذون الأعوان والسلاح جُّنة لهم تحميهم، واليوم لا يحميهم غير صفيح الأرض، اي وجهها، بعد ان صاروا تحته، وكانوا يتطاولون على الناس ويتفاخرون بلباسهم وزينتهم، فإذا كفنهم التراب ولا شيء غيره، وكانوا لا يجاورون الا من هو على شاكلتهم ومناسب لمقامهم، فها هم اليوم

ص: 182


1- م.ن: 1 / 218 - 219

لا جيران لهم سوى رفات الموتى الذين سبقوهم في ترك الدنيا الفانية. .. انها صور معبرة عن افلاس هؤلاء المتجبرين في الدنيا، وفشل تجارتهم يوم اشتروها بنعيم الآخرة، واليوم آن لهم ان يدفعوا الثمن وحينها ستتجلى لهم الحقيقة التي صَمّوا أسماعهم عن سماعها واغلقوا بصائرهم عن تقبلها أو الأخذ بها.

ولم ينس هذا الزاهد الكبير، الذي يحثّ على الزهد بالدينا وبهرجها، واستثمارها من أجل الآخرة ونعيمها، ان من واجبه وهو أمير المؤمنين، ان يوجه عماله في سياستهم للرعية، وان يحاسبهم على ما يبدر منهم، مما لا يرضاه الناس في تعامل أولي الأمر معهم، كالغلظة او الاحتقار أو الجفوة، وما يجب عليهم وقد ولاهم الله أمور من هم تحت أمرتهم، عامة وأهل الذمة - من ظل على دينه ولم يتخذ الاسلام ديناً - خاصة فسياسة هؤلاء سياسة خاصة، والتعامل معهم يكون بطريقة معتدلة، أي ان لا يقربوهم جداً حتى يفضلوا المسلمين، ولا ان يقصوا، لانهم أهل عهد و ذمة. .. يقول مخاطبا بعض عماله وقد بلغه عنه ما لا يرضاه منه «أما بعد، فان دهاقين أهل بلدك شكوا منك غلظة وقسوة واحتقاراً وجفوة، ونظرتُ فلم أرهم أهلاً لأن يدنوا لشركهم، ولا ان يقصوا ويجفوا لعهدهم، فالبس لهم جلبابا من اللين تشوبه بطرف من الشدة، وداول لهم بين القسوة والرأفة، وامزج لهم بين التقريب والادناء، والابعاد والاقصاء، إن شاء الله»(1).

لقد حرصنا على ايراد نص الكتاب كاملاً لما فيه من ترجمة أمينة لسياسة الامام للناس جميعا، بما فيهم أهل الذمة، الذين صاروا رعايا لدولة الاسلام، وهم على

ص: 183


1- م.ن: 3 / 21 - 22

دياناتهم، دون اكراههم على ترك دياناتهم، وانما هم أحرار فيما يعتنقون، ولكن من الطبيعي ان لا يكون شأنهم شأن المسلمين الموحدين الذين آمنوا بالله ورسوله، وجاهدوا وقاتلوا فضحوا بأنفسهم وأموالهم لاعلاء كلمة (لا اله الا الله، محمد رسول الله) فيما لم ينبذ اولئك شركهم، ولم يذبوا عن دولة الاسلام، ولكن يبقى لهم حق المواطنة، وحق الرعاية وحفظ حقوقهم وتأمينهم على أنفسهم وأعراضهم وأموالهم، أي ان يسلك معهم منهجاً وسطاً، فلا يدنيهم الوالي كل الإدناء لانهم مشركون، ولا يبعد عنهم كل البعد، لأنهم رعاياه وهو مسؤول عنهم، وتجسيداً لهذه السياسة الوسطية المعتدلة، جاء تشبيه الامام البليغ بحرف الجر في قوله مخاطبا عامله (فالبس لهم جلباباً من اللين تشوبه بطرف من الشدة) اذ شبّه اللين بالجلباب وربط بينهما بحرف الجر (من) بتقدم المشبه به (جلباب) على المشبه (اللين) وتقدم الفعل (إلبس) بما يشبه (الترشيح) لهذا التشبيه اي التعضيد والتقوية، فكأن اللين صار جلبابا يلبس حقيقة وكذا في قوله (عليه السلام) (بطرف من الشدة) حيث شبه الشدة بطرف الرداء اي حواشيه، لتكتمل بذلك كل عناصر الصورة التي أدت معنى الاعتدال والوسطية في معاملة هؤلاء، ولا يغيب عن بالنا دلالة هذا المشبه به (الجلباب) ومناسبته لهذا المعنى تمام المناسبة، ذلك ان سلوك العامل مع هؤلاء الدهاقين اي (الأكابر) هو اسلوب في التعامل وليس منهجاً ثابتا، كما هي الحال مع المسلمين ذلك ان ولاء هؤلاء لدولة الاسلام يظل موضع شك وارتياب، لأنهم لم يؤمنوا بالاسلام وأهله، ولكنهم دخلوا تحت رعايتهم اضطراراً، وبذلك فإن التعامل معهم بهذه الطريقة موقوف على سلوكهم ومواقفهم من المسلمين ودولتهم، فمتى ما رضوا بحكومة الاسلام وساروا فيها سيرة حسنة كانوا أهلاُ

ص: 184

للمعاملة الحسنة، وإن نكثوا عهدهم وخرجوا عن عهدهم الذي عاهدوا المسلمين عليه فلا ذمة لهم وهكذا يكون (الجلباب) هو الأكثر موافقة ومناسبة لهذه الحال، لأنه مما يسهل خلعه واستبدال آخر غيره به، وهكذا هي معاملة أهل الذمة هؤلاء.

ولا يني الامام علي (عليه السلام) يكرر وعظه ونصحه لاتباعه، ولكل من يسمعه، فهو أمير المؤمنين جميعا، يستشعر مسؤوليته هذه، الدينية والدنيوية، كيف لا وقد جعله رسول الله محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وذريته الطيبين الطاهرين الثقل الثاني بعد كتاب الله، الثقل الاول، بهم يتبينون سبيل الرشد، وبمتابعتهم تكون النجاة، وهكذا نجده في النهج يقول ويكرر، ينصح ويؤكد، يوجه ويرشد، يحذر ويمني كي يكمل المشوار الذي بدأه رسول الله، وتركه ذمة في أعناق من يأتون من بعده، أهل بيته، وأصحابه السائرين على نهجه، فنجده يخاطب الناس جميعا بقوله:

«عباد الله، أحذروا يوماً تفحص فيه الأعمال، يكثر فيه الزلزال، وتشيب فيه الأطفال. اعلموا عباد الله، ان عليكم رصداً من أنفسكم، وعيونا من جوارحكم، وحُفّاظَ صدقِ يحفظون اعمالكم وعدد انفاسكم، لا تستركم منهم ظلمة ليل داج، ولا يكنكم منهم باب ذو رتاج، وان غداً من اليوم قريب»(1).

ضم النص السابق تشبيهين بليغين بحرف الجر هما قوله (رصداً من أنفسكم)(2) و (عيونا من جوارحكم) فقد شبّه في الأول النفوس بالرصد وهو جمع راصد اي

ص: 185


1- م.ن: 2 / 67 - 67
2- ومثله قوله (عليه السلام): «وأقام رصداً من الشهب الثواقب «م.ن: 1 / 166

الرقيب الذي لا يغفل عمن يراقبه ويسجل عليه كل ما يقوم به، وفي الثاني شبّه الجوارح أي اعضاءهم بالعيون التي تلحظ كل شاردة وواردة لهم، فتسجلها عليهم، حتى تنطق بها بين يدي الله سبحانه، يوم الحساب بشهادة الصدق، التي لا سبيل لردّها فهي اعتراف ممن قام بالفعل، وتسليم ممن اقترف الذنب، فكيف يتأتى لأحدكم الدفاع عن نفسه بتكذيب نفسه، انها صور مستمدة من معين القرآن الكريم وآياته التي أكدت في أكثر من موضع وأكثر من آية، ان اعضاءنا جميعا، بل جلودنا كذلك ستنطق شاهدة على ما اقدمنا عليه في حياتنا الدنيا، فكيف لنا ان نتستر فيما نقترف، ومن أين لنا مكان لا تشهده جوارحنا، كي نستكن فيه بلا رقيب، ان علينا من أنفسنا رقيبا، لا يغفل عما نأتي، ولا يخطئ فيما يدوّن، من أول عهدنا بالدنيا حتى آخره، والنهاية لكل منا قريبة وإن خالها بعيدة.

ص: 186

المصادر والمراجع

1- القرآن الكريم.

2- اسرار البلاغة للشيخ الامام عبد القاهر الجرجاني، تحقيق ه. ريتر دار الكتاب للتراث.

3- ألوان من التشبيه في الشعر العربي / الاستاذ الدكتور عبد الهادي خضير نيشان، دار الفراهيدي للنشر والتوزيع، الطبعة الاولى 2010.

4- الايضاح في علوم البلاغة / جلال الدين محمد بن عبد الرحمن المعروف بالخطيب القزويني، تحقيق لجنة من اساتذة الأزهر، طبعة بالأوفست مكتبة المثنى، بغداد.

5- البيان والتبيين / أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ، تحقيق د. عبد السلام محمد هارون، مكتبة الخانجي للطباعة والنشر والتوزيع، مطبعة المدني، الطبعة الخامسة 1405 ه - 1985 م.

6- الجمان في تشبيهات القرآن / ابن ناقيا البغدادي، تحقيق د. احمد مطلوب و د. خديجة الحديثي، دار الجمهورية - بغداد 1387 ه - 1968 م.

7- الجنى الداني في حروف المعاني / حسن بن قاسم المرادي، تحقيق طه محسن، مؤسسة دار الكتاب للطباعة والنشر، جامعة الموصل، 1396 ه - 1976 م.

8- ديوان ابن خفاجة، دار صادر - بيروت.

ص: 187

9- شرح ديوان امرئ القيس ومعه اخبار المراقسة واشعارهم، تأليف حسن السندوبي، مطبعة الاستقامة بالقاهرة.

10- شرح الصولي لديوان أبي تمام / دراسة وتحقيق خلف رشيد نعمان، وزارة الاعلام - الجمهورية العراقية، الطبعة الاولى ج 3 1982 م.

11- الصورة الفنية في شعر ابي تمام / الدكتور عبد القادر الرباعي جامعة اليرموك / الدراسات الأدبية واللغوية (1) إربد الأردن 1980 م.

12- العرف الطيب في شرح ديوان أبي الطيب، الشيخ ناصيف اليازجي، صوب نصوصه وضبطها له د. فاروق الطباع، شركة دار الارقم بن أبي الارقم للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت - لبنان.

13- علم اساليب البيان / الدكتور غازي يموت، دار الأصالة للطباعة والنشر 14- فن الشعر / د. احسان عباس، دار بيروت للطباعة والنشر، بيروت 1955 م.

15- كتاب العين للخليل بن أحمد الفراهيدي / تحقيق د. مهدي المخزومي و د. ابراهيم السامرائي، تصحيح الاستاذ اسعد الطيب، الطبعة الاولى باقري - قم 1414 ه.

16- الكشاف للزمخشري، طبعة البابي الحلبي، القاهرة 1348 ه - 1948 م.

17- الكليات / الكفوي، ابو البقاء أيوب بن موسى، وضع فهارسه د. عدنان درويش و محمد المصري، 1975 م.

18- مختار الصحاح / محمد بن ابي بكر بن عبد القادر الرازي، دار الكتاب العربي - بيروت - دمشق الطبعة الاولى 1967 م.

ص: 188

19- المستدرك على الصحيحين / الحاكم النيسابوري، ابو عبد الله محمد بن عبد الله، دراسة وتحقيق مصطفى عبد القادر عطا، منشورات محمد علي بيضون، دار الكتب العلمية - بيروت الطبعة الثانية 1422 ه - 2002 م.

20- المفارقة / نبيلة ابراهيم / مجلة فصول، المجلد السابع، العددان الثالث والرابع، ابريل سبتمبر 1987 م.

21- مفتاح العلوم / ابو يعقوب يوسف بن أبي بكر محمد بن علي السكاكي، ط 1، مطبعة البابي الحلبي واولاده بمصر 1356 ه - 1937 م.

22- النقد البلاغي عند العرب الى نهاية القرن السابع للهجرة / ا.د عبد الهادي خضير نيشان، دار الفراهيدي للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى 2013 بغداد.

23- النكت في اعجاز القرآن / الرماني، ضمن كتاب «ثلاث رسائل في اعجاز القرآن» حققها وعلق عليها محمد خلف الله أحمد ومحمد زغلول عبد السلام، دار المعارف بمصر.

24- نهج البلاغة، مجموع ما اختاره الشريف الرضي من كلام امير المؤمنين ابي الحسن علي بن ابي طالب / شرحه الشيخ محمد عبده، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد المكتبة التجارية الكبرى، مطبعة الاستقامة.

ص: 189

ص: 190

المحتويات

مقدمة المؤسسة...7

المقدمة...11

التمهيد (التشبيه البليغ، مفهومه وأنواعه)...17

الفصل الأول (التشبيه البليغ بأسلوب المفعول المطلق)...27

الفصل الثاني (التشبيه البليغ بأسلوب التركيب الاضافي)...63

1- الملابس والحلي وما يتصل بها:...67

2- الماء وما يتصل به:...72

3- الظلام والضياء وما يتصل بهما:...78

4- السلاح والسلطان وما يتصل بهما:...86

5- الحيوان والنبات ومظاهر الطبيعة الأخرى:...93

6- الحبل وما يتصل به:...99

الفصل الثالث (التشبيه البليغ باسلوب المبتدأ والخبر وما أصله مبتدأ وخبر)...105

1- الصورة المثالية:...109

2- الصورة المتوترة:...118

3- الصورة المتقابلة:...125

ص: 191

4- الصورة الجدلية:...135

5- الصورة التجريدية:...147

الفصل الرابع (التشبيه البليغ بإسلوب المفعول به)...147

الفصل الخامس (التشبيه البليغ بحرف الجر)...173

المصادر والمراجع...187

ص: 192

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
هَلْ یَسْتَوِی الَّذِینَ یَعْلَمُونَ وَالَّذِینَ لَا یَعْلَمُونَ
الزمر: 9

عنوان المکتب المرکزي
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.